الأهداف والمبادئ السیاسیة لنهضة الإمام الحسین علیه السلام

اشارة

مصدر الفهرسة: IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda

رقم تصنیف LC: BP41.5.T3 2017

المؤلف الشخصی: التمیمی، قیصر.

العنوان: الأهداف والمبادئ السیاسیة لنهضة الإمام الحسین علیه السلام .

بیان المسؤولیة: تألیف: الشیخ قیصر التمیمی؛ الإشراف العلمی: مؤسسة وارث الأنبیاء للدراسات التخصصیة فی النهضة الحسینیة.

بیانات الطبعة: الطبعة الأولی.

بیانات النشر: النجف، العراق: مؤسسة وارث الأنبیاء للدراسات التخصصیة فی النهضة الحسینیة، 1438ه- - 2017م.

الوصف المادی: 279 صفحة.

سلسلة النشر: قسم الشؤون الفکریة والثقافیة - مؤسسة وارث الأنبیاء للدراسات التخصصیة فی النهضة الحسینیة.

تبصرة عامة: تم نشر هذه البحوث فی مجلة الإصلاح الحسینی.

تبصرة ببلیوغرافیة: یتضمن هوامش، لائحة المصادر: الصفحات (253-271).

تبصرة المحتویات:

موضوع شخصی: الحسین بن علی علیه السلام ، الإمام الثالث، 4-61 هجریاً - نظریته فی الإصلاح.

موضوع شخصی: الحسین بن علی علیه السلام ، الإمام الثالث، 4-61 هجریاً - نظریته فی السیاسة.

موضوع شخصی: الحسین بن علی علیه السلام ، الإمام الثالث، 4-61 هجریاً - الدور السیاسی والاجتماعی.

مصطلح موضوعی: واقعة کربلاء، 61 هجریاً - أسباب ونتائج.

مصطلح موضوعی: واقعة کربلاء، 61 هجریاً - شبهات وردود.

مصطلح موضوعی:

مصطلح موضوعی:

مصطلح موضوعی جغرافی:

مؤلف اضافی: العتبة الحسینیة المقدسة، قسم الشؤون الفکریة والثقافیة - مؤسسة وارث الأنبیاء للدراسات التخصصیة فی النهضة الحسینیة.

مؤلف هیئة اضافی: الإصلاح الحسینی (مجلة: النجف).

--------------------------------------------------------------------------------------------------------------

تمت الفهرسة قبل النشر فی مکتبة العتبة الحسینیة المقدسة

رقم الإیداع فی دار الکتب والوثائق ببغداد (1762) لسنة (2017م)

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 5

ص: 6

مقدّمة المؤسّسة

إنّ نشر المعرفة، وبیان الحقیقة، وإثبات المعلومة الصحیحة، غایاتٌ سامیة وأهدافٌ متعالیة، وهی من أهمّ وظائف النُّخب والشخصیات العلمیة، التی أخذت علی عاتقها تنفیذ هذه الوظیفة المقدّسة.

من هنا؛ قامت الأمانة العامة للعتبة الحسینیة المقدسة بإنشاء المؤسّسات والمراکز العلمیة والتحقیقیة؛ لإثراء الواقع بالمعلومة النقیة؛ لتنشئة مجتمعٍ واعٍ متحضّر، یسیر وفق خطوات وضوابط ومرتکزات واضحة ومطمئنة.

وممّا لا شکّ فیه أنّ القضیة الحسینیة - والنهضة المبارکة القدسیة - تتصدّر أولویات البحث العلمی، وضرورة التنقیب والتتبّع فی الجزئیات المتنوّعة والمتعدّدة، والتی تحتاج إلی الدراسة بشکلٍ تخصّصی علمی، ووفق أسالیب متنوّعة ودقیقة، ولأجل هذه الأهداف والغایات تأسّست مؤسّسة وارث الأنبیاء للدراسات التخصّصیة فی النهضة الحسینیة، وهی مؤسّسة علمیّة متخصّصة فی دراسة النهضة الحسینیة من جمیع أبعادها: التاریخیة، والفقهیة، والعقائدیة، والسیاسیة، والاجتماعیة، والتربویة، والتبلیغیة، وغیرها من الجوانب العدیدة المرتبطة بهذه النهضة العظیمة، وکذلک تتکفّل بدراسة سائر ما یرتبط بالإمام الحسین علیه السلام .

وانطلاقاً من الإحساس بالمسؤولیة العظیمة الملقاة علی عاتق هذه المؤسّسة المبارکة؛ کونها مختصّة بأحد أهمّ القضایا الدینیة، بل والإنسانیة، فقد قامت بالعمل علی

ص: 7

مجموعة من المشاریع العلمیة التخصّصیة، التی من شأنها أن تُعطی نقلة نوعیة للتراث، والفکر، والثقافة الحسینیة، ومن تلک المشاریع:

1- قسم التألیف والتحقیق: والعمل فیه جارٍ علی مستویین:

أ - التألیف، والعمل فیه قائم علی تألیف کتبٍ حول الموضوعات الحسینیة المهمّة، التی لم یتمّ تناولها بالبحث والتنقیب، أو التی لم تُعطَ حقّها من ذلک. کما ویتمّ استقبال الکتب الحسینیة المؤلَّفة خارج المؤسّسة، ومتابعتها علمیّاً وفنّیاً من قبل اللجنة العلمیة، وبعد إجراء التعدیلات والإصلاحات اللازمة یتمّ طباعتها ونشرها.

ب - التحقیق، والعمل فیه جارٍ علی جمع وتحقیق التراث المکتوب عن الإمام الحسین علیه السلام ونهضته المبارکة، سواء المقاتل منها، أو التاریخ، أو السیرة، أو غیرها، وسواء التی کانت بکتابٍ مستقل أو ضمن کتاب، تحت عنوان: (الموسوعة الحسینیّة التحقیقیّة). وکذا العمل جارٍ فی هذا القسم علی متابعة المخطوطات الحسینیة التی لم تُطبع إلی الآن؛ لجمعها وتحقیقها، ثمّ طباعتها ونشرها. کما ویتم استقبال الکتب التی تم تحقیقها خارج المؤسسة، لغرض طباعتها ونشرها، وذلک بعد مراجعتها وتقییمها وإدخال التعدیلات اللازمة علیها وتأیید صلاحیتها للنشر من قبل اللجنة العلمیة فی المؤسسة.

2- مجلّة الإصلاح الحسینی: وهی مجلّة فصلیة متخصّصة فی النهضة الحسینیة، تهتمّ بنش-ر معالم وآفاق الفکر الحسینی، وتسلیط الضوء علی تاریخ النهضة الحسینیة وتراثها، وکذلک إبراز الجوانب الإنسانیة، والاجتماعیة، والفقهیة، والأدبیة، فی تلک النهضة المبارکة.

ص: 8

3- قسم ردّ الشبهات عن النهضة الحسینیة: ویتمّ فیه جمع الشبهات المثارة حول الإمام الحسین علیه السلام ونهضته المبارکة، ثمّ فرزها وتبویبها، ثمّ الرد علیها بشکل علمی تحقیقی.

4 - الموسوعة العلمیة من کلمات الإمام الحسین علیه السلام : وهی موسوعة تجمع کلمات الإمام الحسین علیه السلام فی مختلف العلوم وفروع المعرفة، ثمّ تبویبها حسب التخصّصات العلمیة، ووضعها بین یدی ذوی الاختصاص؛ لیستخرجوا نظریات علمیّة ممازجة بین کلمات الإمام علیه السلام والواقع العلمی.

5 - قسم دائرة معارف الإمام الحسین علیه السلام : وهی موسوعة تشتمل علی کلّ ما یرتبط بالنهضة الحسینیة من أحداث، ووقائع، ومفاهیم، ورؤی، وأسماء أعلام وأماکن، وکتب، وغیر ذلک من الأُمور، مرتّبة حسب حروف الألف باء، کما هو معمول به فی دوائر المعارف والموسوعات، وعلی شکل مقالات علمیّة رصینة، تُراعی فیها کلّ شروط المقالة العلمیّة، ومکتوبةٌ بلغةٍ عص-ریة وأُسلوبٍ سلس.

6 - قسم الرسائل الجامعیة: والعمل فیه جارٍ علی إحصاء الرسائل الجامعیة التی کُتبتْ حول النهضة الحسینیة، ومتابعتها من قبل لجنة علمیة متخصّصة؛ لرفع النواقص العلمیة، وتهیئتها للطباعة والنشر، کما ویتمّ إعداد موضوعات حسینیّة تصلح لکتابة رسائل وأطاریح جامعیة تکون بمتناول طلّاب الدراسات العلیا.

7 - قسم الترجمة: والعمل فیه جارٍ علی ترجمة التراث الحسینی باللغات الأُخری إلی اللغة العربیّة.

8 - قسم الرصد: ویتمّ فیه رصد جمیع القضایا الحسینیّة المطروحة فی الفضائیات، والمواقع الإلکترونیة، والکتب، والمجلات والنشریات، وغیرها؛ ممّا یعطی رؤیة واضحة حول أهمّ الأُمور المرتبطة بالقضیة الحسینیة بمختلف أبعادها، وهذا بدوره

ص: 9

یکون مؤثّراً جدّاً فی رسم السیاسات العامّة للمؤسّسة، ورفد بقیّة الأقسام فیها، وکذا بقیة المؤسّسات والمراکز العلمیة بمختلف المعلومات.

9 - قسم الندوات: ویتمّ من خلاله إقامة ندوات علمیّة تخصّصیة فی النهضة الحسینیة، یحض-رها الباحثون، والمحقّقون، وذوو الاختصاص.

10 - قسم المکتبة الحسینیة التخصصیة: حیث قامت المؤسسة بإنشاء مکتبة حسینیة تخصّصیة تجمع التراث الحسینی المطبوع.

11 - قسم الموقع الإلکترونی: وهو قسم مؤلّف من کادر علمی وفنّی؛ یقوم بن-شر وعرض النتاجات الحسینیة التی تصدر عن المؤسسة، کما ویتکفل بتغطیة الجنبة الإعلامیة للمؤسسة ومشاریعها العلمیة.

12 - قسم المناهج الدراسیة: ویحتوی علی لجنة علمیة فنیة تقوم بعرض القضیة الحسینیة بشکل مناهج دراسیة علی ناشئة الجیل بالکیفیة المتعارفة من إعداد دروس وأسئلة بطرق معاصرة ومناسبة لمختلف المستویات والأعمار؛ لئلا یبقی بعیداً عن الثورة وأهدافها.

13 - القسم النسوی: ویتضمن کادراً علمیاً وفنیاً یعمل علی استقطاب الکوادر العلمیة النسویة، وتأهیلها للعمل ضمن أقسام المؤسسة؛ للنهوض بالواقع النسوی، وتغذیته بثقافة ومبادئ الثورة الحسینیة.

وهناک مشاریع أُخری سیتمّ العمل علیها قریباً إن شاء الله تعالی.

مجلّة الإصلاح الحسینی

ومن بین أبرز المشاریع التی أنشأتها هذه المؤسسة المبارکة هو إصدار مجلّة فصلیة متخصصة فی النهضة الحسینیة، تحمل عنوان وشعار وهدف وغایة ومنهج وفکر وهدایة (الإصلاح الحسینی) وقد احتوت علیٰ المقالات العلمیة التحقیقیة الرصینة،

ص: 10

وقد اتفقت مجموعة من المقالات فی تناول موضوع واحد من جهات مختلفة وبأسالیب متعدّدة، فکان من المناسب - بل والضروری - أن تجمع هکذا أبحاث فی کتاب واحد حتیٰ تُلملم أطراف البحث الواحد وتعم الفائدة المطلوبة، فکان من الأُمور المهمة التی عملت علیها المؤسسة فی قسم مجلّة الإصلاح الحسینی هو إصدار سلسلة مؤلّفات بعنوان کتاب المجلة.

وهذا الکتاب الذی بین یدیک عزیزی القارئ هو الکتاب الثالث من هذه السلسلة، والذی یحمل عنوان: (الأهداف والمبادئ السیاسیّة لنهضة الإمام الحسین علیه السلام )؛ تألیف: الشیخ قیصر التمیمی - رئیس تحریر مجلة الإصلاح الحسینی - وقد تمَّ نشر هذه البحوث فی أعداد سابقة من المجلة مع مجموعة من الإضافات الجدیدة التی تفضل بها الکاتب مشکوراً.

وهذا الکتاب قد تناول جنبة مهمّة وحیویّة من جوانب النهضة الحسینیّة المبارکة حیث سلط الضوء علی مجموعة من الأهداف السیاسیّة لنهضة کربلاء، مع الترکیز علی أسباب قلة البحوث التحلیلیة حول تلک الأهداف.

وفی الختام نتمنّی للمؤلِّف دوام السداد والتوفیق لخدمة القضیة الحسینیة، ونسأل الله تعالی أن یبارک لنا فی أعمالنا، إنّه سمیعٌ مجیبٌ.

اللجنة العلمیة فی

مؤسسة وارث الأنبیاء

للدراسات التخصصیة فی النهضة الحسینیة

ص: 11

ص: 12

تمهید

کثیرة هی الغایات والأهداف والأسباب التی دعت الإمام الحسین علیه السلام للقیام بوجه الطغاة والخروج علی واقع المسلمین المنحدر والمتدهور آنذاک، وقد کُتبت جملة وافرة من البحوث والمقالات لإحصاء واستقصاء تلک الدوافع والغایات، وأُحصیت فی هذا المجال أهداف غیبیّة ورسالیّة واجتماعیّة وسیاسیّة وغیر ذلک.

لکنّنا نلمس فی الوقت ذاته تفریطاً وإهمالاً واضحاً - عن قصد أو من دون قصد - فی مجال دراسة وتحلیل الدوافع السیاسیّة فی المشروع الحسینی، فلا نری الضوء مسلّطاً علیها فی البحوث والدراسات العلمیة والتخصّصیة، مع أنّها تشغل حیّزاً کبیراً فی نصوص النهضة الحسینیّة وتراثها.

والنقطة التی نهتمّ بدراستها فی هذا الکتاب - بعد التعرّف علی أهمّ الأهداف السیاسیّة للنهضة الحسینیّة - هی الوقوف علی أهمّ الأسباب لإهمال أو ضمور البحوث التحلیلیّة والکتابات العلمیّة حول الدوافع السیاسیّة فی حرکة الإمام الحسین علیه السلام ، ولیس غرضنا الأساس هو الولوج مفصّلاً فی تحدید تلک الدوافع أو تفسیرها أو الاستدلال علیها، ولکنّنا مع ذلک سنعرض للقارئ الکریم - فیما یلی من الفصل الأوّل - لقطات سریعة وموجزة عن الأهداف والمبادئ الحسینیّة السیاسیّة مع بعض شواهدها؛ لتشکیل صورة إجمالیّة ننطلق من خلالها فی الفصول الّلاحقة لمعرفة الأسباب المتنوّعة للتغافل والإعراض عن الدراسات التحلیلیّة فی هذا المجال.

ص: 13

ص: 14

الفصل الأوّل: نصوص ووثائق الأهداف السیاسیّة لنهضة الإمام الحسین علیه السلام

اشارة

الفصل الأوّل

نصوص ووثائق الأهداف السیاسیّة

لنهضة الإمام الحسین علیه السلام

ص: 15

ص: 16

إنّ الذی نعتقده - بنحو الإجمال - هو أنّ من الأهداف الأساسّیة والمحوریّة لخروج الإمام الحسین علیه السلام ما یلی:

أولاً: الإطاحة بالنظام الحاکم وإسقاط الحکومة الأمویّة الظالمة؛ لعدم شرعیتها، ولخروجها وانحرافها عن جادّة الدین القویم.

ثانیاً: إعلاء معالم الدین، والتصدّی للظلم والجور والفساد، ونصرة المظلومین، والأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، والعمل فی إطار التغییر والإصلاح الاجتماعی، وتطبیق الشریعة الإسلامیة، وإجراء الحدود الإلهیة، والالتزام بالقوانین والأحکام الشرعیة.

ثالثاً: إقامة حکم الله فی الأرض، وتشکیل حکومة الإسلام الشرعیّة بقیادة خلیفة الله فی خلقه، الواجد لجمیع شرائط الإمامة والقیادة، وذلک «بدافع من أداء المسؤولیة المُلقاة علی عاتق المعصومین علیهم السلام »؛ لأنّ الخلافة واستلام الحکم والسطلة حقّهم المشروع، و«هو الطریق الشرعی بالنسبة للمعصوم لإقامة حکم الله فی الأرض»((1)).

ص: 17


1- )[1]( السَّیِّد محمود الهاشمی، الثَّورة الحسینیَّة دراسة فی الأهداف والدوافع، مجلة المنهاج، السنة الثامنة، ربیع 1424ه-/2003م.

هذه هی الأهداف السیاسیة الکبیرة والخطیرة والحسّاسة، التی کُتبت شعاراً بارزاً ونصّاً واضحاً علی لوحات ولافتات النهضة الحسینیّة، وهی التی أثارت حفیظة الدولة الأُمویة وأقضّت مضاجع الساسة والحُکّام علی مرّ الزمان.

وتندرج أیضاً تحت تلک الأهداف الکلّیة أهداف سیاسیة ثانویة وتفصیلیّة، سنشیر إلی أهمّها فی ثنایا ما یأتی من بحوث وعناوین.

والشواهد والأدلّة علی تلک الأهداف السیاسیة کثیرة جدّاً، ذَکر جانباً منها بعض الباحثین((1))، ونستعرض فیما یلی بعضها بنحو الإجمال:

أولاً: نصوص الإصلاح

لقد بیَّن الإمام الحسین علیه السلام - فی مطلع فجر نهضته المبارکة - أنّ من أهدافها إصلاح الأُمّة وتوعیتها، وإرجاعها إلی صوابها واستقامتها، بعد أن انحرفت وشطّ بها حُکّامها عن طریق الهدایة، وکذا رفع الظلم والجور عنها، وإشاعة العدل والقسط فیها، وإلزامها بالحدود والأحکام والفرائض الإلهیة.

وهذه کلّها مبادئ وأهداف سیاسیة لا یمکن إنجازها والقیام بها من دون التصادم والمواجهة مع السلطات الحاکمة والظالمة آنذاک، ولا یمکن اختزالها بکونها أهدافاً اجتماعیة ودینیّة فحسب.

والنصوص المُصرّحة بذلک کثیرة ومتنوّعة:

منها: شعار النهضة الخالد الذی رفعه الإمام علیه السلام فی منطلق نهضته، حینما قال: «... وَأَنّی لَمْ أَخْرُجْ أشِراً وَلا بَطِراً، وَلا مُفْسِداً وَلا ظالِماً، وَإِنَّما خَرَجْتُ لِطَلَبِ الإصْلاحِ فی أُمَّةِ جَدّی صلی الله علیه و آله ، أُریدُ أَنْ آمُرَ بِالمَعْرُوفِ وَأَنْهی عَنِ المُنْکَرِ، وَأَسیرَ بِسیرَةِ جَدّی صلی الله علیه و آله وَأبی عَلیِّ

ص: 18


1- )[1]( المصدر السابق.

بْنِ أَبی طالِب علیه السلام ، فَمَنْ قَبِلَنی بِقَبُولِ الحَقِّ فَاللهُ أَوْلی بِالحَقِّ، وَمَنْ رَدَّ عَلَیَّ هذا أَصْبِرُ، حَتّی یَقْضِیَ اللهُ بَیْنی وَبَیْنَ القَومِ بِالحَقِّ، وَهُوَ خَیْرُ الحاکِمینَ»((1)).

ولا شکّ أنّ من أهمّ الأعمال والإنجازات فی سیرة جدّه وأبیه سلام الله علیه التصدّی للأُمور السیاسیة، وتشیید وبناء معالم الحکومة الإسلامیة، کما أنّ الإصلاح فی الأُمّة والأمر بالمعروف والنهی عن المنکر بشکلٍ مطلق لا یتیسّر من دون القیام بأعباء السلطة والحکم.

ومنها: ما رُوی عنه علیه السلام أنّه قال: «اللّهُمَّ، إِنَّکَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ یَکُنْ ما کانَ مِنّا تَنافُساً فی سُلْطان، وَلاَ الِتماساً مِنْ فُضُولِ الحُطامِ؛ وَلکِنْ لِنُرِیَ المَعالِمَ مِنْ دینِکَ، وَنُظْهِرَ الإصْلاحَ فی بِلادِکَ، وَیَأمَنَ المَظْلُومُونَ مِنْ عِبادِکَ، وَیُعْمَلَ بِفَرائِضِکَ وَسُنَنِکَ وَأَحْکامِکَ، فَإِنْ لَمْ تَنْصُرُونا وَتُنْصِفُونا قَوِیَ الظَّلَمَةُ عَلَیْکُمْ، وَعَمِلُوا فی إِطْفاءِ نُورِ نَبِیِّکُمْ، وَحَسْبُنَا اللهُ وَعَلَیْهِ تَوَکَّلْنا وَإِلَیْهِ أَنَبْنَا وَإِلَیْهِ المَصیرُ»((2)).

یُعدّ هذا النص من غرر ودُرر النصوص المنسوبة إلیه علیه السلام ، وقد تضمّن مجموعة من الأهداف السیاسیة للنهضة المبارکة، وهی:

أولاً: إنّ النهضة لم تکن من أجل التنافس الشخصی علی السلطة والحکم، ولا لأجل نیل المنافع الدنیویّة والفئویّة الضیِّقة.

ثانیاً: إنّ من أهداف النهضة إعلاء معالم الدین وشعائره.

ثالثاً: إظهار الإصلاح فی البلاد.

رابعاً: محاربة الظلم ونصرة المظلومین.

ص: 19


1- )[1]( المجلسی، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص329.
2- )[2]( ابن شعبة الحرّانی، الحسن بن علی، تحف العقول: ص239.

خامساً: توجیه الأُمّة نحو الالتزام بالشریعة الإسلامیة، والعمل بالفرائض والسنن والأحکام الإلهیة.

سادساً: مطالبة الأُمَّة بالإنصاف من نفسها لنصرة أهل البیت علیهم السلام ، وشدّ أزرهم، وإضعاف جانب أعدائهم؛ لئلّا یعمل الأعداء علی إطفاء نور الله تعالی ونور نبیّه الأکرم صلی الله علیه و آله .

وهذه کلّها تُعدّ من أهمّ وأبرز المبادئ السیاسیة للنهضة والثورة، کما هو واضح.

ثانیاً: إرسال مسلم بن عقیل إلی الکوفة

لقد أرسل الإمامُ الحسین علیه السلام إلی الکوفة - فی أوائل أیام النهضة - ابنَ عمّه وثقته من أهل بیته مسلم بن عقیل؛ للتفاوض مع أهلها وأخذ البیعة منهم، حاملاً إلیهم کتاب الحسین علیه السلام الذی تضمّن کلّ مبادئ الثورة والتغییر السیاسی والاجتماعی؛ حیث کتب فیه علیه السلام إلی أهل الکوفة بعد مراسلتهم إیاه: «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحیمِ، مِن حُسَیْنِ بْنِ عَلیّ إِلیَ المَلأ مِنَ المُؤْمنینَ وَالمُسْلِمینَ، أَمّا بَعْدُ، فَإِنَّ هانِئاً وَسَعیداً قَدِما عَلَیَّ بِکُتُبِکُمْ - وَکانا آخِرَ مَنْ قَدِمَ عَلَیَّ مِنْ رُسُلِکُمْ - وَقَدْ فَهِمْتُ کُلَّ الَّذی اقْتَصَصْتُمْ وَذَکَرْتُم، وَمَقالَةَ جُلِّکُمْ: إِنَّهُ لَیْسَ عَلَیْنا إِمامٌ فَأَقْبِلْ؛ لَعَلَّ الله أَنْ یَجْمَعَنا بِکَ عَلَی الهُدی وَالحَقِّ. وَقَدْ بَعَثْتُ إِلَیْکُمْ أَخی وَابْنَ عَمّی وَثِقَتی مِنْ أَهْلِ بَیْتی [مُسْلِمَ بْنَ عَقیل] وَأَمَرْتُهُ أَنْ یَکْتُبَ إِلَیَّ بِحالِکُمْ وَأَمْرِکُمْ وَرَأیِکُمْ، فَإِنْ کَتَبَ إِلَیَّ: أَنَّهُ قَدْ أَجْمَعَ رَأْیُ مَلَئِکُمْ، وَذَوِی الفَضْلِ وَالحِجی مِنْکُمْ، عَلی مِثْلِ ما قَدِمَتْ عَلَیَّ بِهِ رُسُلُکُمْ، وَقَرَأْتُ فی کُتُبِکُمْ؛ أَقْدِمُ عَلَیْکُمْ وَشیکاً إِنْ شاءَ اللهُ، فَلَعَمْری، مَا الإْمامُ إِلّا العامِلُ بِالکِتابِ، وَالآخِذُ بِالقِسْطِ، وَالدّائِنُ بِالحَقِّ، وَالحابِسُ نَفْسَهُ عَلی ذاتِ الله، وَالسَّلامُ»((1)).

ص: 20


1- )[1]( الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج4، ص262.

وقد أمره الإمام علیه السلام «بتقوی الله، وکتمان أمره واللطف»، وبعد أن نزل مسلم بن عقیل الکوفة، وقرأ علی أهلها کتاب الحسین علیه السلام وهم یبکون، بایعه ثمانیة عشر ألفاً؛ «فکتب مسلم إلی الحسین بن علیّ علیه السلام یخبره ببیعة ثمانیة عشر ألفاً»((1))، ویحثُّه علی القدوم.

ولا شکّ أنّ هذه کلّها خطوات سیاسیّة وعسکریّة مهمّة لنیل السلطة، وإقامة الحکم الإلهی بقیادة خلیفة الله فی الأرض.

وکتاب الإمام علیه السلام واضح فی أنّه إنّما أرسل مسلم بن عقیل لتلبیة طلب أهل الکوفة، وأخذ البیعة منهم؛ لیکون خلیفة هدًی لهم وإماماً علیهم، وقد أکّد علیه السلام هذا المطلب الکوفی بقوله لاحقاً: «مَا الإْمامُ إِلّا العامِلُ بِالکِتابِ، وَالآخِذُ بِالقِسْطِ، وَالدّائِنُ بِالحَقِّ، وَالحابِسُ نَفْسَهُ عَلی ذاتِ الله»، ویتمثّل ذلک بشخصه المبارک؛ لأنّه الإمام المعصوم، الحائز علی جمیع الکمالات، والعامل بکلّ تلک الأُمور والفرائض.

وقد تضمّنت کتب أهل الکوفة - التی استجاب لها الإمام الحسین علیه السلام - ملامح الثورة والتغییر ولغة السلاح وعسکرة المجتمع للخروج بوجه النظام الأُموی الفاسد؛ حیث کتبوا إلیه علیه السلام بعد هلاک معاویة: «الحمد لله الذی قصمَ عدوّک الجبّار العنید، الذی انتزی علی هذه الأُمّة؛ فابتزَّها أمرها، وغصبها فیئها، وتأمّر علیها بغیر رضًی منها... إنّه لیس علینا إمام، فأقبِلْ لعلّ الله أن یجمعنا بک علی الحقّ، والنعمان بن بشیر فی قصر الإمارة لسنا نجمع معه فی جمعة، ولا نخرج معه إلی عید، ولو قد بلغنا أنّک أقبلت إلینا أخرجناه حتی نُلحِقه بالشام»((2)). وفی رسالة أُخری کتبوا: «فإنّ الناس ینتظرونک لا رأی لهم غیرک»((3)). وفی نصٍّ ثالث: «فأقدِمْ علی جندٍ لک مجنّدة»((4)).

ص: 21


1- )[1]( الفتّال النیسابوری، محمد بن الحسن، روضة الواعظین: ص173.
2- )[2]( المفید، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص37.
3- )[3]( الفتال النیسابوری، محمد بن الحسن، روضة الواعظین: ص173.
4- )[4]( المصدر السابق.

ولا شکّ أنّ هذا التحرّک وحالة التجاوب (الحسینی/الکوفی) المتبادل، یُعدّ فی لغة السیاسة - بل أبجدیّاتها - شروعاً فی الانقلاب علی السلطة الحاکمة؛ حیث تضمّنت خطوات ومشاهد ساخنة، وخطابات سیاسیة بالغة الخطورة وحساسّة للغایة، وقد سجّلها التاریخ وثیقة خالدة للثورة، وشاهداً کبیراً علی الحرکة السیاسیّة الواسعة والأُسلوب العسکری المنظّم والمدروس فی مفاصل وآفاق النهضة الحسینیّة.

ثالثاً: أقوال الإمام الحسین علیه السلام وتصریحاته ومکاتباته ورسائله السیاسیّة

اشارة

لقد احتوت نصوص النهضة وتراثها أقوالاً للإمام علیه السلام ، وتصریحات ومکاتبات ورسائل سیاسیّة مناهضة للحکم الأُموی الفاسد، وداعیة الأُمّة لدعم ومساندة مشروع الخلافة والإمامة الإلهیّة، المتمثّل بشخصه المبارک، وهی کثیرة ومتنوّعة المضامین، وجدیرة بالدراسة والتحقیق، فمنها:

أ: رسائله علیه السلام إلی أهل الکوفة

وهی رسائل عدیدة، قد أشرنا إلی بعضها فی نصٍّ سابق، ومن تلک الرسائل أیضاً ما کتبه علیه السلام إلی أهل الکوفة، بعد أن حثّه مسلم بن عقیل علی القدوم والمجیء إلیها؛ حیث کتب فیها علیه السلام : «أَمّا بَعْدُ، فَإنَّ کِتابَ مُسْلِم بْنِ عَقیل جاءَنی یُخْبِرُنی فیهِ بِحُسْنِ رَأْیِکُمْ، وَاجْتِماعِ مَلَئِکُمْ عَلی نَصْرِنا، وَالطَّلَبِ بِحَقِّنا، فَسَأَلْتُ اللهَ أَنْ یُحْسِنَ لَنَا الصُّنْعَ، وَأَنْ یُثیبَکُمْ عَلی ذلِکَ أَعْظَمَ الأجْرِ، وَقَدْ شَخَصْتُ إِلَیْکُمْ مِنْ مَکَّةَ یَومَ الثُّلاثاءِ لِثَمان مَضَیْنَ مِنْ ذِی الحَجَّةِ یَوْمَ التَّرْوِیَةِ، فَإِذا قَدِمَ عَلَیْکُمْ رَسُولی فَاکْمِشُوا((1)) أَمْرَکُمْ وَجِدُّوا؛ فَإِنّی قادِمٌ عَلَیْکُمْ فی أَیّامی هذِهِ إِنْ شاءَ اللهُ»((2)).

ص: 22


1- )[1] (کمش: أسرع ومضی فی أمره بعزم. اُنظر: الجوهری، إسماعیل بن حماد، الصحاح: ج3، ص1018.
2- )[2]( الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج4، ص297.

فالإمام علیه السلام بکتابه هذا قد حیّی فی أهل الکوفة حسن رأیهم واجتماع ساداتهم وکبرائهم علی نصرة أهل البیت علیهم السلام ، والمطالبة بحقّهم الشرعی فی الخلافة الإلهیّة وقیادة الأُمَّة وإدارة شؤونها بالقسط والعدل والمساواة.

ثمّ حثّهم علیه السلام أیضاً علی أن یُهیّئوا الأرضیة الصالحة والظروف المناسبة لذلک التحرّک، وأن یمضوا فی أمرهم هذا، ویُسرعوا فی إتمامه وإنجازه بعزمٍ وجدٍّ واجتهاد، وأخبرهم بأنّه سیُلبّی دعوتهم، وأنّه قادم إلیهم فی الأیام القلیلة المقبلة.

وما نفهمه من هذا النصّ هو أنّ الإمام علیه السلام یستنهض أهل الکوفة، ویُشجّعهم ویحثّهم علی الشروع فی تنظیم وتشکیل معالم الحکومة المقبلة، وأن یمضوا فی أمرهم بعزم، وأمرهم هو - کما تقدّم - عبارة عن طرد والی الکوفة وحاکمها من قِبَل الأُمویین (النعمان بن بشیر)، والبیعة له علیه السلام حاکماً وإماماً وقائداً لحرکتهم ومسیرتهم، وتشکیل قوّة عسکریة وجنود مجنّدة لمواجهة قادة الشام وجیوشها.

وهذا یکشف عن طبیعة التحرّک السیاسی المنظّم الذی بدأه الإمام علیه السلام مع أهل الکوفة، والذی اتّسع وظهر حتی بلغ صداه الشام.

ب: مکاتباته علیه السلام إلی أشراف البصرة ووجهائها

بعث الإمام علیه السلام فی إطار حرکته ونهضته مجموعة من الکتب إلی أشراف البصرة ووجهائها، یحثّهم علی طاعته وامتثال أوامره؛ حیث کتب فیها: «وَأَنَا أَدْعُوکُمْ إِلی کِتابِ اللهِ وَسُنَّةِ نَبیِّهِ صلی الله علیه و آله ؛ فَإِنَّ السُنَّةَ قَدْ أُمیتَتْ، وَإِنَّ البِدْعَةَ قَدْ أُحیِیَتْ، وَإِنْ تَسْمَعُوا قَوْلی وَتُطیعُوا أَمْری أَهْدِکُمْ سَبیلَ الرَّشادِ»((1)).

ص: 23


1- )[1]( الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج4، ص266.

وهذه دعوة صریحة منه علیه السلام إلی إطاعة أوامره، والعمل علی إقامة حکم الله فی الأرض فی ضوء الکتاب والسنَّة، بقیادة الخلیفة الشرعی المنصوب من قِبَل الله تعالی.

وهذا ما فهمه یزید بن مسعود النهشلی حینما قرأ کتاب الإمام الحسین علیه السلام ؛ فخاطب قومه قائلاً: «وهذا الحسین بن علیّ، ابن بنت رسول الله صلی الله علیه و آله ، ذو الشرف الأصیل، والرأی الأثیل، له فضلٌ لا یوصف، وعلمٌ لا یُنزف، وهو أوْلی بهذا الأمر؛ لسابقته وسنّه وقِدَمِه وقرابته، یعطف علی الصغیر، ویحنو علی الکبیر؛ فأکرمْ به راعی رعیَّة، وإمام قوم وجبت لله به الحجّة، وبلغت به الموعظة، فلا تعشوا عن نور الحقّ، ولا تسکعوا فی وهدة الباطل، فقد کان صخر بن قیس انخذل بکم یوم الجمل؛ فاغسلوها بخروجکم إلی ابن رسول الله ونصرته، والله، لا یُقصِّر أحد عن نصرته إلّا أورثه الله الذلّ فی ولده، والقلّة فی عشیرته، وها أنا ذا قد لبست للحرب لامَتَها، وادّرعت لها بدرعها، مَن لم یُقتل یمُت، ومَن یهرب لم یفت، فأحسنوا - رحمکم الله - ردَّ الجواب»((1)).

ومن کلامه هذا نفهم بوضوح أنّ الکتاب الذی بعثه الإمام علیه السلام إلی أهل البصرة، کان یدعوهم فیه إلی نصرة ولی الأمر، والدفاع عن حریم الإمامة الإلهیة، وإقامة حکم الله فی الأرض بقیادته علیه السلام ؛ لأنّه الأحقّ والأجدر بذلک.

ثمّ کتب النهشلی إلی الإمام الحسین علیه السلام فی جواب کتابه: «بسم الله الرحمن الرحیم، أمّا بعدُ، فقد وصل إلیّ کتابک، وفهمت ما ندبتنی إلیه ودعوتنی له، من الأخذ بحظّی من طاعتک والفوز بنصیبی من نصرتک، وإنّ الله لم یُخلِ الأرض قطّ من عامل علیها بخیر، أو دلیل علی سبیل نجاة، وأنتم حجّة الله علی خلقه، وودیعته فی أرضه، تفرّعتم من زیتونة

ص: 24


1- )[2]( ابن طاووس، علیّ بن موسی، اللهوف فی قتلی الطفوف: ص27.

أحمدیّة هو أصلها، وأنتم فرعها، فأقْدِمْ سُعدت بأسعد طائر؛ فقد ذلّلتُ لک أعناق بنی تمیم...»((1)).

إنّ هذا الکلام من النهشلی یکشف عن أُفقه الواسع، وقراءته السیاسیة الدقیقة للأحداث، وفهمه العمیق لمضامین الکتاب الذی بعثه له الإمام الحسین علیه السلام ؛ حیث فهم منه وجوب البیعة والطاعة والنصرة لحجّة الله علی خلقه؛ فأبدی استعداده لذلک، وهیّأ الناس وجیّش الجیوش، ثمَّ دعا الإمام علیه السلام للقدوم وتولّی الأمر.

ج: أقواله وأحادیثه علیه السلام فی طریقه إلی الکوفة

وهی کثیرة جدّاً، نذکر منها للاستشهاد علی سبیل الإیجاز:

قوله علیه السلام لعبد الله بن مطیع العدوی حینما سأله عن سبب قدومه إلی الکوفة: «إِنَّ أَهْلَ الکُوفَةِ کَتَبُوا إِلَیَّ یَسْأَلُونَنی أَنْ أَقْدِمَ عَلَیْهِمْ؛ لِما رَجَوا مِنْ إِحْیاءِ مَعالِمِ الحَقِّ وَإِماتَةِ البِدَعِ»((2)).

وهذا النصُّ صریحٌ أیضاً فی کون تولّی الخلافة والقیادة لإدارة شؤون البلاد، وإحیاء معالم الحقّ فیها، والقضاء علی الباطل وإماتة البدع، من أهمّ الأهداف التی دعت الإمام علیه السلام للقیام بنهضته الإصلاحیة.ومن ذلک أیضاً قوله علیه السلام مخاطباً جیش الحرّ بن یزید الریاحی: «أَمّا بَعْدُ، أَیُّهَا النّاسُ، فَإِنَّکُمْ إِنْ تَتَّقُوا وَتَعْرِفُوا الحَقَّ لأِهْلِهِ یَکُنْ أَرْضی لله، وَنَحْنُ أَهْلُ البَیْتِ وَأَوْلی بِوِلایَةِ هذَا الأَمْرِ عَلَیْکُمْ مِنْ هؤُلاءِ المُدَّعینَ ما لَیْسَ لَهُمْ، وَالسّائِرینَ فیکُمْ بِالجَوْرِ وَالعُدْوانِ»((3)).

ص: 25


1- )[1]( المصدر السابق: ص27- 28.
2- )[2]( الدینوری، أحمد بن داود، الأخبار الطوال: ص246.
3- )[1] (الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج4، ص303.

وخاطبهم أیضاً قائلاً: «أَلا وَإِنَّ هؤُلاءِ قَدْ لَزِمُوا طاعَةَ الشَّیْطانِ، وَتَرَکُوا طاعَةَ الرَّحْمنِ، وَأَظْهَرُوا الفَسادَ، وَعَطَّلُوا الحُدُودَ، وَاسْتَأْثَرُوا بِالفَیءِ، وَأَحَلّوُا حَرامَ اللهِ، وَحَرَّمُوا حَلالَهُ، وَأَنَا أَحَقُّ مَنْ غَیَّرَ. قَدْ أَتَتْنی کُتُبُکُمْ، وَقَدِمَتْ عَلَیَّ رُسُلُکُمْ بِبَیْعَتِکُمْ أَنَّکُمْ لا تُسْلِمُونی وَلا تَخْذُلُونی؛ فَإِنْ تَمَّمْتُمْ عَلیَّ بَیْعَتَکُمْ تُصیبُوا رُشْدَکُمْ، فَأَنَا الحُسَیْنُ بْنُ عَلِیٍّ، وَابْنُ فاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللهِ صلی الله علیه و آله ، نَفْسی مَعَ أَنْفُسِکُمْ، وَأَهْلی مَعْ أَهْلیکُمْ، فَلَکُمْ فِیَّ أُسْوَةٌ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَنَقَضْتُمْ عَهْدَکُمْ، وَخَلَعْتُمْ بَیْعَتی مِنْ أَعْناقِکُمْ، فَلَعَمْری، ما هِیَ لَکُمْ بِنُکْر»((1)).

وفی نصٍّ آخر قال علیه السلام : «وَأَنَا أَحَقُّ مِنْ غَیْری بِهذاَ الأَمْرِ؛ لِقَرابَتی مِنْ رَسُولِ اللهِ صلی الله علیه و آله »((2)).

إنّ هذه النصوص الشریفة قد استوعبت مجموعة من المبادئ والأهداف السیاسیّة المهمّة، التی ابتنت علیها النهضة الحسینیّة المبارکة، نؤشِّر فیما یلی بعضها بنحو الإجمال:

1- إنّ أهل البیت علیهم السلام هم الأحقّ والأوْلی بالخلافة والولایة علی الناس من ولاة الجور الحالیین، وهم بنو أُمیّة وولاتهم.

2- وجوب معرفة هذا الحقّ، والدفاع عنه، وانتزاعه من أیدی الطغاة، والعمل علی وضعه فی أهله ومحلّه، وهم أهل البیت علیهم السلام .

3- إنّ الإمام الحسین علیه السلام هو الأحقّ والأجدر بالعمل علی تغییر الحکم، وإقامة الحکومة الإلهیة العادلة، ورفع الظلم والجور والفساد، وتطبیق الشریعة الإسلامیة، وإجراء الحدود والأحکام الشرعیة، وتحسین الظروف المعیشیّة والاقتصادیّة، بتقسیم الفیء والموازنة المالیة بالقسط بین الناس.

ص: 26


1- )[2]( المصدر السابق: ج4، ص304.
2- )[3]( ابن أعثم الکوفی، أحمد، الفتوح: ج5، ص81 -82.

4- تذکیر أهل الکوفة بکتبهم، وبیعتهم له علیه السلام ، وحثّهم علی الاستمرار والثبات علیها، وأن فی ذلک رشدهم وصلاح أمرهم، کما حذّرهم أیضاً من نقض البیعة والتنصّل عنها.

5- إنّ الخلافة القائمة المتمثّلة بیزید بن معاویة، لیست شرعیّة، وهی خلافة جور وعدوان، ینبغی الخروج علیها لإسقاطها.

إنّ هذه الأُمور وغیرها کلّها أُسس ومبادئ مهمّة ساهمت فی رسم خارطة التغییر السیاسی آنذاک؛ ینبغی بحثها ودراستها والتدقیق فیها.

د: أقواله وأحادیثه علیه السلام فی کربلاء

وهی أقوال وأحادیث کثیرة أیضاً، من جملتها قوله علیه السلام لعمر بن سعد، قائد الجیش الأُموی: «فاتْرُک هؤُلاءِ وَکُنْ مَعی؛ فَإِنَّی أقْرّبُک إلی اللهِ}»((1)). وکان ذلک فی إطار التفاوض مع ابن سعد؛ لکی یثنیه عن الحرب والقتال، بل یدعوه هو وجیشه - کما فی بعض النصوص اللاحقة - للانضواء تحت رایة الإصلاح الحسینیّة.

ولک أن تتصور النتائج وما سیحدث لو أنّ ذلک الجیش الکبیر بقادته وجنوده قد سمع الموعظة، وعاد إلی رُشده وصوابه، وانضمّ إلی حرکة الإمام الحسین علیه السلام ونهضته!

ومن ذلک أیضاً قوله علیه السلام لجیش عمر بن سعد: «وَاللهِ، ما أَتَیْتُکُمْ حَتّی أتَتْنی کُتُبُ أَماثِلِکُمْ بِأَنَّ السُّنَّةَ قَدْ أُمیتَتْ، وَالنِّفاقَ قَدْ نَجِمَ، وَال-حُدُودَ قَدْ عُطِّلَتْ؛ فَأَقْدِمْ لَعَلَّ اللهَ یُصْلِحُ بِکَ الأُمّةَ»((2)).

إذن؛ بموجب هذا النص یکون الحسین علیه السلام قد خرج لإقامة حکم الله فی الأرض، وقیادة الأُمَّة الإسلامیة إلی ما فیه رشدها وصلاحها.

ص: 27


1- )[1]( المصدر السابق: ج5، ص92.
2- )[1]( الذهبی، محمد بن أحمد، سیر أعلام النبلاء: ج3، ص301.

وکذا قوله علیه السلام لهم: «تَبّاً لَکُمْ أَیَتُهَا الجَماعَةُ وَتَرْحاً وَبُؤُساً لَکُمْ! حینَ اسْتَصْرَخْتُمُونا وَلهینَ، فَأَصْرَخْناکُمْ مُوْجِفینَ، فَشَحِذْتُمْ عَلَیْنا سَیْفاً کانَ فی أَیْدینا، وَحَمَشْتُمْ عَلَیْنا ناراً أَضْرَمْناها عَلی عَدُوِّکُمْ وَعَدُوِّنا، فَأَصْبَحْتُمْ إِلْباً عَلی أَوْلِیائِکُمْ»((1)).

هذه المواقف والنصوص المتضافرة وغیرها الکثیر، قد صدرت کلّها فی إطار البُعد السیاسی للنهضة، وهی تکشف بوضوح عن کون الأهداف السیاسیّة من أهمّ الدوافع التی دعت الإمام الحسین علیه السلام لأن یخرج وینتفض بوجه الطغاة من بنی أُمیَّة وأعوانهم.

وإنّنا من هذا المنطلق واستناداً إلی هذه الرؤیة ندعوا العلماء والکتَّاب والباحثین والمفکّرین للتوجّه إلی هذا التراث الشریف، والنظر إلیه بجدّیة وموضوعیة، والعمل علی جمعه وتنظیمه وفهرسته ودراسته والتدقیق فی مضامینه ومحتویاته، للخروج بأبحاث ونتائج وتوصیات تُناسب تراث تلک النهضة المبارکة، وترسم لنا خارطة طریق فی سبیل الثورة والتغییر والانقلاب علی الحکومات الفاسدة والظالمة. خصوصاً ونحن الیوم بحاجة ماسّة إلی مثل هذا التراث، لما نعیشه من متغیّرات وتحوّلات سیاسیّة فی أغلب البلدان العالمیّة والعربیة والإسلامیة.

وأمّا البحث فی علل وأسباب الإهمال والإعراض عن مثل هذا التراث الحسینی، المرتبط بالدوافع والأهداف السیاسیة للنهضة الحسینیّة، وضمور البحوث العلمیّة والتحلیلیّة فی هذا المجال، فقد کان هو الباعث الأساس لکتابة هذه السطور، وهو ما سوف یطالعه القارئ الکریم فی الفصول الّلاحقة لهذا الکتاب إن شاء الله تعالی.

ص: 28


1- )[2]( الطبرسی، أحمد بن علی، الاحتجاج: ج2، ص24.

خلاصة الفصل الأوّل

استعرضنا فی هذا الفصل أهمّ الأهداف السیاسیّة للنهضة الحسینیّة، کالإطاحة بالنظام الأُموی، وإعلاء کلمة الله، وإقامة حکم الله فی الأرض. ثمّ بیّنا جملة من الشواهد والأدلّة علی تلک الأهداف السیاسیّة، استناداً إلی أقوال وخُطَب ومواقف وتحرّکات الإمام الحسین علیه السلام ، وکان منها: نصوص الإصلاح، وإرسال مسلم بن عقیل إلی الکوفة، ورسائله علیه السلام إلی أهل الکوفة والبصرة، وأقواله وتصریحاته وخُطَبه علیه السلام فی مکّة المکرّمة، وفی طریقه إلی العراق، وحینما استقرّ فی کربلاء. وقد کشفت هذه الشواهد بمجموعها عن کون الأهداف السیاسیّة من أهمّ الدوافع التی دعت الإمام الحسین علیه السلام لأن یخرج وینتفض بوجه الطُغاة من بنی أُمیَّة.

ص: 29

ص: 30

الفصل الثانی: الأسباب والمبررات العَقَدیّة للتفریط بالأهداف والمبادئ السیاسیة للنهضة الحسینیّة

اشارة

الفصل الثانی

الأسباب والمبررات العَقَدیّة

للتفریط بالأهداف والمبادئ السیاسیة للنهضة الحسینیّة

(إشکالیّة: منافاة الأهداف السیاسیة لعِلْم الإمام علیه السلام وعصمته)

ص: 31

ص: 32

أشرنا فی الفصل الماضی إلی أهمّ الأهداف والدوافع السیاسیّة للنهضة الحسینیّة، وکان الباعث الأساس لذلک هو الوقوف علی أهمّ الأسباب التی أدّت إلی الإهمال والضمور فی دراسة وتحلیل تلک الأهداف فی المشروع الحسینی، مع أنّها تشغل حیّزاً کبیراً فی نصوص وتراث النهضة الحسینیّة.

وقد عرضنا للقارئ الکریم لقطات سریعة وموجزة عن أهمّ الأهداف والمبادئ الحسینیّة السیاسیّة مع بعض شواهدها؛ وذلک بغیة تشکیل صورة إجمالیّة ننطلق من خلالها لمعرفة أسباب التغافل والإعراض عن الدراسات التحلیلیّة فی هذا المجال.

وکان من جملة تلک الأهداف السیاسیّة المهمّة التی استعرضناها:

1- الإطاحة بالنظام الحاکم وإسقاط الحکومة الأُمویّة الظالمة؛ لعدم شرعیتها.

2- إعلاء معالم الدین، والتصدّی للظلم والجور والفساد، ونصرة المظلومین، والأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، والعمل فی إطار التغییر والإصلاح الاجتماعی، وتطبیق الشریعة الإسلامیّة، وإجراء الحدود الإلهیّة، والالتزام بالقوانین والأحکام الشرعیّة.

3- إقامة حکم الله فی الأرض، وتشکیل حکومة الإسلام الشرعیّة.

ص: 33

وخلصنا إلی کون هذه الأهداف من أهمّ الدوافع التی دعت الإمام الحسین علیه السلام لأن یخرج وینتفض بوجه الطغاة، وهی التی أثارت حفیظة الدولة الأُمویّة وأقضّت مضاجع الساسة والحُکّام علی مرّ الزمان.

ولکننا وجدنا شریحة واسعة - ممَّن کتب حول أهداف النهضة الحسینیّة - حاولت إسقاط تلک الأهداف العظیمة من القائمة، وبنت علی أنّ الحسین علیه السلام إنمّا خرج لیستشهد فحسب! «وأنّ الله سبحانه وتعالی قد عهد للإمام الحسین علیه السلام وأمره - عن طریق النبی صلی الله علیه و آله - بتنفیذ مشروع ینتهی باستشهاده واستشهاد مَن معه، وجمیع ما حدث من مآسٍ وفجائع»((1))، وأنّ هذه الشهادة المبارکة والعملیّة الاستشهادیّة الربّانیّة هی الغایة الکبری التی تترتّب علیها المصالح الإلهیّة الغیبیّة وإصلاح المجتمع، فلیس فی النهضة برمّتها إلّا دمٌ لا بدّ أن یُراق، دمٌ زکیّ طاهر کدم الحسین بن علیّ سلام الله علیه ، یستیقظ علی صوته ضمیر الأُمّة، وتهتزّ لصرخته عروش الظالمین، وتُحفظ به «شجرة الإسلام التی کادت أن تجفّ لولا أن سقاها بذلک الدم الطاهر»((2))، وهذا هدفٌ عظیمٌ وکبیرٌ وسامٍ، وقد تحقّق بالفعل حینما قُتل الحسین علیه السلام ((3)).

وقد وجدنا أنّ بعض الأعاظم من الأعلام قد صرّح بأنّ الإمام الحسین علیه السلام لم یُبالِ بسلامته ولا سلامة مَن معه، فضلاً عن أن یکون ساعیاً لتحقیق النصر العسکری، بل کان علیه السلام یُمهِّد لشهادته، ویهیّئ الظروف لمصرعه، ویُعین الأعداء علی قتله!! حیث یقول: «کانت نتیجة اتّفاقه علیه السلام مع الحرّ أن وصل إلی مکان بعید عن الکوفة،

ص: 34


1- ([1]) الطباطبائی الحکیم، محمد سعید، فاجعة الطف: ص14.
2- ([2]) القره غولی، کاظم، إقدام المعصوم علی ما فیه قتله المعلوم: ص226.
3- ([3]) أشار بعض الباحثین إلی مَن تبنّی هذه النظریة قدیماً وحدیثاً، فلاحظ: حماسه حسینی، تحلیلی درباره أهداف قیام إمام حسین (باللغة الفارسیة) الأُستاذ مهدی مهریزی: ص27 وما یلیها.

قریب من نهر الفرات، حیث الماء والزرع والقری، وحیث یسهل تجمّع الجیوش لقتاله، ویصعب أو یتعذّر علی من یرید نصره الوصول إلیه»((1)).

ویقول أیضاً (حفظه الله) بعد استعراض جملة من النصوص والشواهد لإثبات هذا الرأی: «فإنّ ملاحظة هذه الأُمور بموضوعیّة وإنصاف تشهد بتصمیمه علیه السلام علی أن یصل إلی موضع مصرعه الذی وعد به، وعدم تشبّثه بأسباب السلامة، فضلاً عن أن یسعی للانتصار العسکری»((2)).

ونحن وإن کنا لا ننکر ما أفادهK، ولکن لا نرتضی منه حصر أهداف النهضة الحسینیّة بالشهادة، وما ترتّب علیها من آثار إیجابیّة ومظاهر للصحوة الإسلامیّة.

وفی الحقیقة، تتوزَّع تلک الأسباب والإشکالیات بین العقدیة والتراثیة والتاریخیة، ومنها ما یرتبط بالواقع الذی نعیشه، ونحاول فی هذا الفصل أن نستعرض بنحو الإیجاز واحدة أهمّ الأسباب والإشکالیات العقدیّة التی أدّت إلی التغاضی عن الأهداف السیاسیّة للنهضة الحسینیّة، وهی إشکالیّة: (منافاة الأهداف السیاسیّة لعلم الإمام وعصمته)، ومن ثَمّ إیراد بعض الحلول والإجابات الموجزة عن هذه الإشکالیّة:

إشکالیّة: منافاة الأهداف السیاسیّة لعلم الإمام وعصمته

إنّ من أهمّ الأسباب التی تُطرح عادةً للتشکیک فی الأهداف السیاسیّة للنهضة الحسینیّة هو کونها تتنافی مع علم الإمام وعصمته المطلقة؛ وذلک باعتبار أنّ الإمام الحسین علیه السلام لو کان خروجه لأجل إسقاط الحکم الأُموی وإقامة حکم الله فی الأرض - مع أنّه سوف لا یتحقّق له هذا الهدف فی علم الله تعالی - فإنّ معنی ذلک أنّ الإمام علیه السلام لم یکن عالماً بمصیره ومصیر نهضته، وهذا ما لا یقبله أحد ممَّن یؤمن بإمامته وولایته،

ص: 35


1- ([1]) الطباطبائی الحکیم، محمد سعید، فاجعة الطف: ص33.
2- ([2]) المصدر السابق: ص36.

فهو ولیّ الأمر المحیط بعلم الکتاب الذی فیه تبیان کلّ شیء، وهو عَیْبَةُ علم الله وخازن وحیه، العالم بالمنایا والبلایا ومصیر الأُمم علی مرّ الدهور والعصور، فکیف لا یعلم بمصیره؟!

حتی قال بعض الباحثین: «الحسین علیه السلام خرج وهو علی بیّنةٍ من أمره، وما یصیر إلیه هو وأنصاره وأهل بیته ممَّن یبقی معه، وإنّما خرج امتثالاً لأمرٍ أمره به أبوه وجدّه عن السماء، وملاحظةً منه للمصالح التی ستترتّب علی هذا الخروج المبارک... وإنّی لا أمیل إلی تبنّی النظر القائل: إنّه علیه السلام سار إلی الکوفة؛ لأنّ ظواهر الأُمور کانت تحکی عن أنّه سیصیر إلی نصرٍ مؤزّر علی جیش أعدائه، یؤول إلی أن تأخذ الإمامة دورها من خلال التصدّی المباشر للحکم وقیادة الأُمّة... وکیف کان، فإنّ الحسین علیه السلام عالم بکلّ ذلک باطناً وظاهراً، ومع ذلک سار إلی محلّ قتله»((1)).

ثمّ یضیف قائلاً: «فمن خصائص شهادة الحسین علیه السلام أنّه أقدم علی ما یکون فیه شهادته... بل إنّ الحسین علیه السلام أخذ النساء لتُؤسر وقد تعلّقت بذلک الإرادة الإلهیّة... التی علم بها الإمام قبل التحرّک»((2)).

إذن کان الحسین علیه السلام یعلم علم الیقین بأنّه مقتولٌ شهید، والنصوص المتضافرة شاهدةٌ علی ذلک، کما سیأتی.

فکیف یخرج الإمام علیه السلام - والحال هذه - لإقامة حکم الله تعالی؟! ولو خرج علیه السلام للعمل علی تحقیق مثل هذا الهدف لکان منافیاً لعصمته؛ إذ لا یعقل أن یخرج المعصوم الحکیم لأهداف وغایات غیر ممکنة ولا قابلة للحصول والتحقّق فی أرض الواقع، بل هی تتقاطع وتتنافی مع الإرادة والمشیئة الإلهیّة.

ص: 36


1- ([1]) القره غولی، کاظم، إقدام المعصوم علی ما فیه قتله المعلوم: ص204- 205.
2- ([2]) المصدر السابق: ص207- 208.

الإجابة عن هذه الإشکالیة: علم المعصوم بمستقبل الأحداث لا یتنافی مع إمکانیّة التغییر الإلهی

اشارة

ما ینبغی الالتفات إلیه قبل الإجابة هو: أنّنا نقبل تماماً حدیث الشهادة وأهدافها، ولکن ما نرفضه هو إسقاط الأهداف السیاسیّة من رصید الثورة، والاقتصار علی الدم الحسینی الطاهر کهدفٍ وحید لها.

ونکتفی فی مقام الإجابة عن هذه الإشکالیة بذکر إجابتین بنحو الإجمال:

الإجابة الأُولی: علم الإمام وحقیقتا البداء والقضاء

إنّ المعصومین من أئمّة أهل البیت علیهم السلام مع علمهم الواسع بکلّ ما خلق الله تعالی، فهم عَیْبَة علم الله}، ومخزن الأسرار والمعارف الإلهیة، ولکنهم علیهم السلام مع ذلک کلّه لا یقطعون ولا یجزمون علی الله تعالی بشیء؛ لأنّهم یعلمون بأنّه تبارک وتعالی یداه مبسوطتان، وقدرته واسعة، ومشیئته الذاتیة حاکمة علی کلّ شیء، فله أن یُغیّر ما یشاء بما یشاء کیف یشاء.

وهذا ما یرتبط إجمالاً بفکرتی البداء والقضاء: فإنّ البداء تارة یکون علی مستوی الوقوع والتحقّق الخارجی الفعلی، ونَطلُق علیه اصطلاح (البداء الوقوعی)، وأُخری یکون علی مستوی إمکانیة الوقوع والتحّقق، ونصطلح علیه (البداء الإمکانی)((1)).

أمّا علی المستوی الأوّل من البداء، فقد یکون مختصّاً بعالَم المحو والإثبات فما دون، وعلم أهل البیت علیهم السلام فی مراتبه العلیا هو أعلی وأشرف من ذلک بما لا یُحصی ولا یُقاس.

وأمّا علی المستوی الثانی، فإنّ لله المشیئة فی کلّ علم مخلوق، ولعلّ هذا هو تفسیر أنّ أوّل ما خلق الله المشیئة، لأنّها تبدأ کصفة ذاتیة للنور الأوّل، ثمّ تتنزّل فی عوالم

ص: 37


1- ([1]) مرادنا من الإمکان هنا الإمکان العام.

الوجود، فکلّ علم أفاضه الله علی خلقه فی أیِّ مرتبة من مراتب الخلقة تکون له تعالی فیه المشیئة الفعلیّة المخلوقة، وفوق ذلک کلّه المشیئة الإلهیّة الذاتیّة التی هی عین الذات المقدّسة وحاکمة علی کلِّ شیء.

ومن هنا؛ نجد أنّ أهل البیت علیهم السلام لأجل علمهم بذلک - ولقدرة الله الواسعة علی تغییر کلّ شیء - لا یجزمون علیه تعالی بشیءٍ أبداً.

وللتوضیح أکثر نقول: إنّ صفة المشیئة کصفة العلم، من الصفات الإلهیة التی تنقسم إلی ذاتیة هی عین الذات((1))، وفعلیة منسوبة إلی الذات الإلهیة وإلی فعلها((2))، وهذه المشیئة الإلهیة الفعلیة، تُعدّ من الصفات الذاتیة لأوّل مخلوق خلقه الله تعالی، وهو العقل والنور الأوّل، الذی هو نور محمد صلی الله علیه و آله وآل محمد علیهم السلام ، وبالنور الأوّل والمشیئة الفعلیة الأُولی خلق الله کلّ خیر، یبتدئ بالنزول من عوالم الغیب العلیا، فیتجلّی قلماً ولوحاً وعرشاً وکرسیّاً، وهکذا یستمرّ بالنزول حتی ینتهی بعالمنا الدنیوی المادّی.

والبحث هنا فی الأعمّ من المشیئة الذاتیة لله تعالی - التی هی عین ذاته المقدّسة - ومن المشیئة الفعلیة المخلوقة، والمشیئة الفعلیة الأُولی حاکمة علی ما دونها من المخلوقات، بالتبدیل والتغییر والتحویل، فمنها البداء والإبداء، وهذه حکومة إلهیة کبری جعلها الله تعالی للنور الأوّل، ما فوقها حکومة، إلّا حاکمیة الله تعالی، والله} حاکمٌ بمشیئته الذاتیة علی النور الأوّل ومشیئته؛ ومن هذا تعرف أنّ جمیع الأُمور محکومة بالمشیئة الإلهیة الذاتیة، فلا یخرج عن إرادة الله ومشیئته الذاتیة إمکانیة تغییر الأشیاء وتبدیلها.

ص: 38


1- ([1]) تُعدّ هذه المسألة من المسائل الخلافیة جدّاً، وقد کثرت فیها الأقوال والآراء، وما ذکرناه هنا هو ما نختاره فی هذه المسألة الشائکة والمعقّدة.
2- ([2]) هذا ما نتبنّاه فی المسألة، ولا نؤمن بأنّ الصفات الفعلیة عین الفعل، کما علیه مشهور المعاصرین، ونؤمن أیضاً بأنّ أغلب الصفات المعروفة تنقسم إلی ذاتیة وفعلیة: کالخالقیة، والرازقیة، والرحمانیّة، والرحیمیة، والجوادیّة، والرؤوفیّة، وغیرها، علی خلاف ما هو المعروف والمشهور أیضاً.

ونقول أیضاً: إنّ الأُمور الکائنة بحسب قدَرِها وقضائها ووقوع البداء فیها علی مراحل وأقسام، وهی بنحو الإجمال کالتالی:

1- ما یکون له مقادیر وشرائط محدّدة قد قدّرها الله تعالی، ولکن من دون أن یصل بتلک المقادیر والشرائط إلی مرحلة القضاء، فلم یُقض به بعدُ، وهذا القسم هو المعروف فی أکثر النصوص والکلمات بوقوع البداء فیه، ومعروفیّته بذلک من جهة أنّه الأکثر عرضة للبداء والتغییر، حیث تکون جهات البداء والتغییر فیه کثیرة جدّاً، فقد یکون التغییر من جهة استبدال المقادیر وتغییرها، وقد یکون من جهة اختلاف أنواع العلل أو تخلّفها، وقد یکون من جهة أُمور حاکمة علی علله، کما قد یکون أیضاً من جهة حیادیته تجاه المشیئة الإلهیة الفعلیة، بالإضافة إلی حاکمیة المشیئة الإلهیة الذاتیة علیه، فدائرة البداء فیه أوسع.

وقد یُسمّی العالم الذی تتغیّر فیه الأُمور بهذا المعنی بعالم المحو والإثبات؛ لما یُمحی فیه من مقادیر ویثبت فیه من مقادیر أُخری مختلفة.

ومجال صناعة المستقبل وتحدید ما ینبغی أن یکون علیه القدر فی الآتی، مفتوح علی مصراعیه ومن جمیع جوانبه فی هذا العالم، فهو قدر ومصیر بید البشر دراسته وتغییره وتحویله، وهو ما اصطلحنا علیه عنوان (البداء الوقوعی).

2- ما یصل إلی مرحلة القضاء، ولکن لا یکون قضاؤه محتوماً، وتکون جهات البداء فیه أقلّ وأضیق دائرة من جهات القسم السابق؛ حیث تکون المقادیر والشرائط تامّة ومقضیّاً بها، فلا تغییر ولا بداء من جهتها، مع احتمال التغییر من الجهات والجوانب الأُخری، کالعلل أو ما یکون حاکماً علیها أو من جهة المشیئة الإلهیّة الفعلیّة والذاتیّة، فیقع فیه البداء من جهاته الأُخری، دونما جهة المقادیر، من قبیل إحراق النبی إبراهیم علیه السلام بالنار، الذی تمّت جمیع مقادیره وشرائطه، ولکن علّة الإحراق والاحتراق

ص: 39

وهی النار لم تؤثِّر أثرها بأمر الله تعالی، فاستطاع إبراهیم علیه السلام أن یقرّر مصیره، وأن یصنع لنفسه بإیمانه واعتقاده مستقبلاً جدیداً، حیث تمرّد علی المستقبل الذی رسمه له الطغاة.

ولکن قابلیة التغییر فی هذا القسم أضیق دائرة وأبعد وقوعاً من القسم السابق کما ذکرنا، ویقع هذا النحو من التغییر أیضاً فی عالم المحو والإثبات فما دون، ونُسمّی إمکانیة حصول البداء فیه أیضاً ب-(البداء الوقوعی).

3- ما یصل إلی مرحلة القضاء، ویکون قضاؤه محتوماً، ولکنّه من القضاء المحتوم الذی قد یُردّ ویُبدّل، وتکون جهات البداء والتغییر المستقبلی فیه أضیق دائرةً وأشدّ بُعداً من القسم السابق؛ لأنّ ردّه وتبدیله لا من جهة شرائطه ولا من جهة اختلاف أو تخلّف علله، وإنّما من جهة أُمور أُخری قد تکون حاکمة علی علله، من قبیل: الصدقة، والدعاء، وصلة الرحم، وغیرها من الأُمور التی قد تردّ القضاء وإن أُبرم إبراماً، وکذلک قد یتغیّر من جهة المشیئة الإلهیة. وهذا النحو من التغییر أیضاً یکون فی عالم المحو والإثبات، وهو أیضاً من أشکال وصور البداء الوقوعی.

4- ما یصل إلی مرحلة القضاء، ویکون قضاؤه محتوماً، ودرجة الحتم فیه غیر قابلة للردّ والتغییر والتبدیل، ولکن مع ذلک کلّه یبقی لله فیه المشیئة، فلیس هناک سبب للتغییر إلّا من جهة المشیئة الإلهیة، فقد یشاء الله تعالی التغییر وقد لا یشاء، ولم تستقر المشیئة الإلهیة الفعلیة - لحکمة - علی طرفٍ معین، سلباً أو إیجاباً، وذلک من قبیل الوعید الإلهی بالعذاب یوم القیامة، فلا بداء فیه إلّا من جهة المشیئة الإلهیة الفعلیة، وکذا الذاتیة، فیبقی أمل التغییر فیه مفتوحاً، ولکنه بعید جدّاً، یکاد ألّا یقع، وهو معنی حتمیته، مضافاً إلی کونه حتمیّاً بالنسبة إلی ما دون المشیئة الفعلیّة العلیا، وبلحاظ هذه الحتمیة نُسمّی البداء فیه ب-(البداء الإمکانی)، وموضعه أعلی من عالم المحو والإثبات بمراتب.

ص: 40

5- ما یصل إلی مرحلة القضاء ویکون قضاؤه محتوماً، ودرجة الحتم فیه غیر قابلة للردّ والتغییر، وقد شاء الله تعالی ألّا یُغیره، فهو تعالی قد أعمل مشیئته الفعلیة بعدم التغییر، وهذا هو ما یُسمّی بالمیعاد الذی لا خُلف له، من قبیل الوعد بإدخال الأنبیاء والأولیاء والصالحین إلی الجنة.

ولکن هذا القسم أیضاً یبقی محکوماً بالمشیئة الإلهیّة الذاتیّة، وبلحاظ محکومیته بهذه المشیئة یکون البداء فیه إمکانیاً أیضاً، والإمکان کما هو معلوم لا یستلزم الوقوع.

من ذلک کلّه یتّضح: أنّ جمیع الأشیاء والمخلوقات یطالها البداء وإمکانیة التغییر، ولکن دوائر ذلک البداء تختلف بحسب مرتبة المخلوق ودرجته فی عالم الخلقة، فحتی علم المخلوق الأوّل ومشیئته محکومتان بالمشیئة الإلهیّة وإمکانیة التغییر کما بیّنا.

وبهذا البیان نختلف مع ما ذکره العلّامة الطباطبائی فی رسالة علم النبی صلی الله علیه و آله والإمام علیه السلام ، حیث یؤکِّد فیها علی أنّ علم المعصومین علیهم السلام لا یحتمل البداء ولا التغییر أبداً، وجعل ذلک هو السبب والعلّة فی عدم تأثیر علمهم فی أفعالهم علیهم السلام ؛ حیث قال: «علمهم بالحوادث علمٌ بها بما أنّها واجبة التحقّق، ضروریة الوقوع، لا تقبل بداءً ولا تحتمل تخلّفاً کما فی الأخبار، والعلم الذی هذا شأنه لا أثر له فی فعل الإنسان»((1)). ونحن قد عکسنا الأمر تماماً، وأثبتنا أنّ علمهم علیهم السلام لکونه محکوماً بالمشیئة الإلهیّة الذاتیّة، فهو مفتوح علی جمیع الاحتمالات، وقابل للتغییر والتبدیل، فلا ینبغی الاستسلام لنتائجه،بل لا بدّ من مواصلة المسیر، والعمل بالوظائف والتکالیف التی تتناسب مع عالمنا، ویبقی بید الله تعالی إمکانیة التبدیل والتغییر.

ص: 41


1- ([1]) الطباطبائی، محمد حسین، مجموعة رسائل العلّامة الطباطبائی: ص385 - 386.

وفی ضوء ما بیّناه من تفصیل؛ یتّضح - فی محلّ بحثنا - أنّ الإمام الحسین علیه السلام مع علمه الواسع بمُلک وملکوت السماوات والأرض، لکنّه لا یجزم علی الله تعالی بشیء؛ لأنّ له} إمکانیة البداء، وبیده تحویل وتغییر کلّ شیء، وهو علیه السلام یعلم فی هذه الحالة بأنّه لیس علیه إلّا القیام بوظیفته المکلّف بها، وعواقب الأُمور الحتمیة وخواتیمها النهائیة بید الله تعالی، وله تعالی القدرة والمشیئة فی أن یُغیر مجاری الأُمور ویقلب المعادلة ویجعل النصر العسکری حلیف الإمام الحسین علیه السلام ، فیُقام علی یده المبارکة حکم الله تعالی فی الأرض، وهذا هو الجانب الذی ألمحنا إلی کونه مرتبطاً بالأُمّة، ولکن الأُمّة قد أساءت التصرّف، ورفضت التغییر، وتنکّرت للإصلاح الحسینی.

ویشهد لما بیّناه - من عدم وجود علم مخلوق مستقبلی قطعیّ بالنسبة إلی المشیئة الإلهیة - طوائف کثیرة من نصوص النهضة الحسینیّة وتراثها:

منها: ما یرویه ابن شهر آشوب فی المناقب عن مسیر الإمام الحسین علیه السلام إلی العراق، حیث یقول: «فلما نزل شقوق((1)) أتاه رجل، فسأله عن العراق، فأخبره بحاله، فقال: إنّ الأمر لله یفعل ما یشاء، وربّنا تبارک کلّ یوم فی شأن، فإن نزل القضاء، فالحمد لله علی نعمائه، وهو المستعان علی أداء الشکر، وإن حال القضاء دون الرجاء، فلم یبعد مَن الحقُّ نیّتُه»((2)).وفی نصّ الفتوح لابن أعثم الکوفی: «وسار الحسین حتی نزل الشقوق، فإذا هو بالفرزدق بن غالب الشاعر قد أقبل علیه، فسلّم، ثمّ دنا منه فقبَّل یده، فقال الحسین: من أین أقبلت یا أبا فراس؟ فقال: من الکوفة یا بن بنت رسول الله. فقال: کیف خلّفت أهل

ص: 42


1- ([1]) شُقوق: جمع شِق أو شَق، وهو الناحیة، منزل بطریق مکّة بعد موضع واقصة من جهة الکوفة. اُنظر: الحموی، یاقوت بن عبد الله، معجم البلدان: ج3، ص356.
2- ([2]) ابن شهر آشوب، محمّد بن علیّ، مناقب آل أبی طالب: ج3، ص246.

الکوفة؟ فقال: خلّفت الناس معک وسیوفهم مع بنی أُمیّة، والله یفعل فی خلقه ما یشاء! فقال: صدقت وبررت، إنّ الأمر لله یفعل ما یشاء، وربّنا تعالی کلّ یوم هو فی شأن، فإن نزل القضاء بما نحبّ؛ فالحمد لله علی نعمائه وهو المستعان علی أداء الشکر، وإن حال القضاء دون الرجاء، فلم یعتد مَن کان الحقُّ نیّتُه»((1)).

وهذا النصّ الشریف صریح فیما بیناه؛ إذ إنّه واضح فی أنّ کلّ الأُمور والحوادث متوقّفة علی المشیئة الإلهیّة، ولم یجزم الإمام علیه السلام علی الله تعالی بشیء، فقد ینزل القضاء الإلهی بما یحبّه ویرجوه، وهو النصر وإقامة حکم الله فی الأرض، وهذه نعمة إلهیة عظیمة تستحقّ الحمد والشکر، وإن حال القضاء دون الرجاء، واستُشهد علیه السلام ، فإنّه شهید الحقّ والحقیقة، ولیس معتدیاً أو بعیداً عن الله تعالی، بل هو حیّ عنده یُرزق.

ومنها: قول الإمام الحسین علیه السلام فی طریقه إلی الکوفة: «أما والله، إنّی لأرجو أن یکون خیراً ما أراد الله بنا قُتلنا أم ظفرنا»((2)).

إذن؛ کانت حسابات الإمام الحسین علیه السلام - بموجب هذا النصّ - مفتوحةً علی کلا الاحتمالین، النصر أو الشهادة، ولیست المسألة محتومة ولا محسومة بالشهادة کما قد یُصوّره البعض؛ فیبقی الأمر بید الله تعالی یفعل ما یشاء ویقضی ما یرید، وإن کانت الإرادة والمشیئة الإلهیّة ستکون متطابقة مع ما علم به الإمام الحسین علیه السلام من أمر الشهادة کما سیأتی.

ص: 43


1- ([1]) ابن أعثم الکوفی، أحمد، الفتوح: ج7، ص71.
2- ([2]) الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج4، ص306.

نعم؛ الخیر والبرکة والمصلحة والحُسن فی کلا الاحتمالین (النصر أو الشهادة)، وینبغی ألّا نختلف فی هذا الأمر.

ومنها: قول الإمام الحسین علیه السلام للطرماح بن عدی، بعد أن قدّم له النصیحة بعدم الذهاب إلی الکوفة، والاحتماء بقبیلة طی: «جزاک الله وقومک خیراً، إنّه قد کان بیننا وبین هؤلاء القوم قولٌ لسنا نقدر معه علی الانصراف، ولا ندری علامَ تنصرف بنا وبهم الأُمور فی عاقبهِ»((1)).

وفی نصٍّ آخر - وبالمضمون نفسه - ینقله ابن نما الحلّی: «إنّ بینی وبین القوم موعداً أکره أن أخلفهم، فإن یدفع الله عنّا فقدیماً ما أنعم علینا وکفی، وإن یکن ما لا بدّ منه ففوز وشهادة إن شاء الله»((2)).

وهذان النصّان قریبان فی مضمونهما من النصّ السابق، فإنْ دفع الله تعالی الخطر وحظی الإمام علیه السلام بالنصر، فهو من نعمه وکرمه جلّ شأنه، وإن کان المصیر هو القتل والموت الذی لا مفرّ منه، فهو فوزٌ بالشهادة فی سبیل الحقّ. ثمّ یُعلّق الإمام علیه السلام ذلک کلّه علی المشیئة الإلهیّة، وهذا هو ما بیّناه فی مستهلّ کلامنا.

الإجابة الثانیة: تعدّد مراتب علم المعصوم بحسب تنوّع عوالم وجوده

تُثبت الآیات والروایات المتضافرة عظمة شخصیة الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله والمعصومین من أهل بیته علیهم السلام ، وأنّها شخصیات کبیرة وضخمة وممتدّة فی عمود عوالم الخلقة، من أوّل مخلوق وهو النور الأوّل، ومروراً بالعوالم المتنزّلة (القلم، واللوح، والعرش، والکرسی،

ص: 44


1- ([1]) المصدر السابق: ص307.
2- ([2]) ابن نما الحلّی، جعفر بن محمد، مثیر الأحزان: ص28.

وأُم الکتاب و... والمحو والإثبات وغیرها) إلی أن یستقرّ وجودهم الطاهر فی هذا العالم المشهود، فهم علیهم السلام النور الأوّل فی مرتبة أوّل مخلوق، وهم القلم فی عالم القلم، واللوح فی عالم اللوح، والعرش فی مرتبة العرش، والکرسی فی الکرسی، وهم المحو والإثبات فی عالم المحو والإثبات، وهم الوجودات المادّیة المشهودة المقدّسة فی عالمنا هذا.

وتختلف صفاتهم وأسماؤهم وخصائصهم الوجودیة المقدّسة باختلاف العوالم التی تتجلّی فیها وجوداتهم وشخصیاتهم الطاهرة، فحیاتهم وعلمهم وقدرتهم وسائر صفاتهم وأسمائهم - وهم فی منزلة النور الأوّل - تختلف عمّا لهم من تلک الأسماء والصفات فی عالم القلم؛ لأنّ ما فی النور الأوّل أجلّ وأقدس وأعظم ممّا هو فی القلم، فما فی القلم رقیقة الحقیقة التی فی النور الأوّل، وهکذا الحال حینما تتنزّل عوالم الوجود فی مراتبها الدنیا، فما فی القلم أعظم ممّا هو فی اللوح، وما فی اللوح أعظم ممّا فی العرش، وهکذا...

وعلمهم علیهم السلام الذی لا یعزب عنه شیء هو علمهم الذاتی فی النور الأوّل، وهو عین ذاتهم النوریة الأحدیّة القدسیة، وهذا العلم لا حاکم علیه بالتغییر والتبدیل إلّا المشیئة الإلهیة الذاتیة، ثمّ یبدأ هذا العلم بالتنزّل والتجلّی للعوالم الأدنی، وعندما یصل إلی عالم المحو والإثبات یُصبح علماً متغیّراً ومحکوماً بالعوالم الأعلی والإرادات والمشیئات الفوقانیة المحیطة به، فیقع فیه البداء والتحویل، والتبدیل والتغییر.

وعلی هذه المرتبة العلمیّة - فی عالَم المحو والإثبات - تُحمَل أغلب الروایات التی تُثبت وقوع البداء فی علومهم علیهم السلام التی أخبروا بها أصحابهم وأتباعهم، من قبیل الروایة المعتبرة والمشهورة التی یرویها الکلینی، بسنده عن أبی عبد الله الصادق علیه السلام ،قال: «مرّ یهودی بالنبی صلی الله علیه و آله ، فقال: السام علیک. فقال رسول الله صلی الله علیه و آله : علیک. فقال أصحابه: إنما سلّم علیک بالموت! قال: الموت علیک! قال النبی صلی الله علیه و آله : وکذلک رددت. ثمّ قال النبی صلی الله علیه و آله : إنّ هذا الیهودی یعضّه أسود فی قفاه فیقتله. قال: فذهب الیهودی فاحتطب حطباً کثیراً فاحتمله، ثمّ لم یلبث أن انصرف، فقال له رسول الله صلی الله علیه و آله : ضعه. فوضع

ص: 45

الحطب، فإذا أسود فی جوف الحطب عاضٌّ علی عود، فقال: یا یهودی، ما عملت الیوم؟ قال: ما عملت عملاً إلّا حطبی هذا احتملته، فجئت به، وکان معی کعکتان فأکلت واحدة وتصدّقت بواحدة علی مسکین. فقال رسول الله صلی الله علیه و آله : بها دفع الله عنه. وقال: إنّ الصدقة تدفع میتة السوء عن الإنسان»((1))، فما أخبر به النبی صلی الله علیه و آله لم یکن کذباً ولا جهلاً ولا خطأ، وإنّما أخبر أصحابه بمعلومة من عالم المحو والإثبات أو ممّا هو دونه، وهذه المرتبة العلمیة مشروطة ومحکومة بما فوقها، وقابلة للتغییر والتبدیل کما بیّنا، ویبقی النبی الأکرم صلی الله علیه و آله فی عوالم القلم واللوح وأُمّ الکتاب عالماً بالنتائج النهائیة الثابتة غیر المحکومة بشیء، إلّا بالمشیئة الإلهیة الذاتیّة.

وهکذا الحال أیضاً بالنسبة إلی المرتبة والدرجة العلمیة لهم علیهم السلام فی عالمنا المشهود، والتی سُمّیت قدیماً فی کلمات علمائنا بالعلم العادی للمعصوم، فإنّ هذه المرتبة العلمیة أیضاً یقع فیها البداء والتغییر والتبدیل، وعلی هذه النتیجة تُحمَل طوائف کبیرة وکثیرة من الروایات التی تتحدّث عن علومهم علیهم السلام العادّیة، من قبیل المعتبرة المشهورة التی یرویها الکلینی أیضاً بسنده عن عبد الحمید بن سعید، قال: «بعث أبو الحسن علیه السلام غلاماً یشتری له بیضاً، فأخذ الغلام بیضة أو بیضتین فقامر بها، فلمّا أتی به أکله، فقال له مولی له: إنّ فیه من القمار. قال: فدعا بطشت فتقیّأه»((2)).

ویترتّب علی هذا البیان فهم طبیعة ما یفعله المعصوم فی عموم حیاته الیومیّة، فیُقدِم علی الجهاد فی لهوات الحرب، ویُثاب علیه بأعظم الثواب، بل یعدل قتاله وجهاده عبادة الثقلین، وکذا یخشی المعصوم الله} أکثر من غیره، حتی یُغمی علیه فی الصلاة، ویرهق من کثرة العبادة؛ لأنّه الأعلم بقدرته تعالی علی تغییر کلّ شیء، وتحویل

ص: 46


1- ([1]) الکلینی، محمد بن یعقوب، الکافی: ج4، ص5.
2- ([2]) المصدر السابق: ج5، ص123.

المخلوقات من حال إلی آخر، فیبکی ویدعو ویتضرّع؛ لئلّا یُخرجه الله تعالی من واسع رحمته، وألّا یُدخله النار، وألّا ینتزع منه نعمته وفضله وعطاءه و... وهو یدرک أنّه تعالی قادر علی ذلک کلّه، ومشیئته حاکمة فی جمیع تلک الأُمور.

وبما بیّناه أیضاً تتّضح حقیقة علمهم علیهم السلام الإشائی فی هذا العالم، وأنّهم متی شاؤوا أن یعلموا علموا أو أعلموا((1))، فواحدة من معانیه الصحیحة أنّهم علیهم السلام وهم فی هذه النشأة المادّیة متی ما أرادوا الاتّصال بوجوداتهم القُدسیة فی العوالم العلیا فإنّهم قادرون علی ذلک، فینهلون علوماً من تلک العوالم متی شاؤوا، وتکون المرتبة العلمیة المقیّدة بمشیئتهم علیهم السلام هی مرتبة علمهم فی هذا العالم، ولیس المقصود تقیید العلم بالمشیئة فی جمیع مراتبهم العلمیّة بجمیع عوالمهم القدسیة، وإن کان جمیعها مقیّد بالمشیئة الإلهیّة الذاتیّة.

قال العلّامة الطباطبائی فی رسالة له حول علم النبی الأکرم صلی الله علیه و آله والإمام علیه السلام بالغیب: «وأمّا الأخبار، فقد تکاثرت عن النبی صلی الله علیه و آله وأئمّة أهل البیت علیهم السلام ؛ أنّ نور النبی صلی الله علیه و آله أوّل ما خلقه الله، وأنّ نورهم ونور النبیّ صلی الله علیه و آله واحد، وأنّ الله آتاه علم ما کان وما یکون وما هو کائن وحْیَاً، وأنّهم علیهم السلام أخذوه عنه صلی الله علیه و آله بالوراثة. وقد ورد فی بعضها - وسیاقه سیاق التفسیر لسائرها - أنّهم علیهم السلام إذا شاؤوا علموا وإذا لم یشاؤوا لم یعلموا.ویتحصّل به: أنّ لهم بحسب مقام نورانیتهم علماً بالفعل بکلّ شیء، وأمّا بحسب الوجود العنصری الدنیوی، فهم إذا شاؤوا علموا بالاتّصال بمقام النورانیة بإذن الله، وإذا لم یشاؤوا لم یعلموا؛ وعلی هذا یُحمَل ما ورد فی بعض القَصص والسِیَر المأثورة عنهم ممّا ظاهره أنّهم ما کانوا علی علم بما کان یستقبلهم من الحوادث، فلا تغفل»((2)).

ص: 47


1- ([1]) اُنظر: المصدر السابق: ج1، ص258 وما بعدها.
2- ([1]) الطباطبائی، محمد حسین، مجموعة رسائل العلّامة الطباطبائی: ص385 - 386.

بعد هذا البیان الموجز لحقیقة علم المعصومین علیهم السلام وشخصیاتهم المقدّسة فی العوالم المختلفة، نقول:

ینبغی علینا أن لا نُحجِّم شخصیّة الإمام الحسین علیه السلام الإلهیّة الضخمة بمستوی واحد من عوالم الوجود؛ لأنّ شخصیته علیه السلام ممتدّة فی تلک العوالم المتنوّعة، فالإمام علیه السلام فی مرتبة القلم واللوح وأُم الکتاب لا یتغیّر علمه، ولا تطاله ید البداء من الناحیة الوقوعیّة، وإن أمکن فیه التغییر من جهة المشیئة الإلهیّة الذاتیّة، وهو علیه السلام فی مرتبة المحو والإثبات قد یتغیّر علمه وقوعاً، وکذا الحال فی هذا العالم الدنیوی؛ حیث تکون علومه علیه السلام فی عالمنا متغیّرة ومشروطة بمشیئة العوالم العلیا، وهذا أمر طبیعی ومقبول کما بیّنا.

والحاصل: إنّنا لا نری فی ضوء ما بیّناه أیّ مشکلة عقدیّة فی أن یسیر الإمام الحسین علیه السلام فی نهضته للإصلاح بموجب معطیات الواقع وظروف المرحلة، وبما یتناسب مع مرتبة علمه ووجوده المقدّس فی هذا العالم الأرضی، بتزاحماته ومتغیّراته، وملابساته المادیّة الدنیویّة، فینهل من علوم الوحی والمغیّبات علی قدر ما یتناسب ویتماشی مع طبیعة عالمنا الدنیوی. ولا یسیر فی ضوء علوم الغیب فی عوالم الوجود العلیا بتمامها((1))، فیعمل علیه السلام بموجب وجوده الأرضی، لا بموجب عوالمه الأُخری، وإن کانت له علیه السلام درجات سماویّة علیا تتسنّم علیاء النور الأوّل.

ولعلّ العبارة المعروفة عن السیِّد المرتضی - فی کتابه تنزیه الأنبیاء - ترمی إلی ما ذکرناه؛ حیث یقول فی صدد التوفیق بین المواقف الحسنیّة والمواقف الحسینیّة: «وهذا

ص: 48


1- ([1]) بل نعتقد باستحالة ذلک، لکونه خُلف الفرض، بالإضافة إلی کونه مخالفاً للسنن الإلهیّة فی عالم الخلقة، فکیف یکون اللوح قلماً والعرش لوحاً والمادّی مجرّداً فی آن وفرض واحد؟!

[أی الإمام الحسین علیه السلام ] لمّا قوی فی ظنّه النصرة ممّن کاتبه ووثق له، ورأی من أسباب قوّة نُصّار الحقِّ وضعف نُصّار الباطل؛ ما وجب معه علیه الطلب والخروج»((1)).

وکذا قول المفید: «فأمّا علم الحسین علیه السلام بأنّ أهل الکوفة خاذلوه، فلسنا نقطع علی ذلک؛ إذ لا حجّة علیه من عقل ولا سمع»((2)).

وهذا ما قد یُسمّیه البعض بعلم الظاهر، أو العلم العادی للمعصوم، کما أشرنا.

ولا یتنافی هذا البیان أبداً مع النصوص الآتیة التی تؤکّد علم الإمام علیه السلام بما سیجری علیه وعلی صحبه وأهل بیته من القتل والسبی؛ لأنه:

أولاً: قد أشرنا إلی أنّ هذا العلم الغیبی محکوم بالإرادة والمشیئة الإلهیّة، فلا یقین مطلق من جمیع الجهات بوقوع ذلک وإن کان محتوماً؛ لأنّ الحتم نسبی، کما أوضحنا.

وثانیاً: ذکرنا بأنّ الإمام علیه السلام إنّما یتعامل فی هذا العالم بما یتناسب معه من درجات العلم، ولا یتعامل فیه بما یتناسب مع العوالم الأُخری من درجات ومراتب علمیّة متفاوتة.

ص: 49


1- ([2]) الشریف المرتضی، علی بن الحسین، تنزیه الأنبیاء: ص175.
2- ([3]) المفید، محمد بن محمد، المسائل العکبریة: ص71.

خلاصة الفصل الثانی

تعرّضنا فی هذ الفصل لواحدة من أهمّ الإشکالیّات العقدیّة، وهی إشکالیّة منافاة الأهداف السیاسیّة لعلم الإمام وعصمته، وذلک باعتبار أنّ الإمام الحسین علیه السلام لو کان خروجه لأجل إسقاط الحکم الأُموی وإقامة حکم الله فی الأرض، فإنّ معناه أنّه لم یکن عالماً بمصیره ومصیر نهضته، وهذا ما لا یقبله أحد ممّن یؤمن بإمامته علیه السلام .

وقد أجبنا عن هذه الإشکالیّة بإجابتین کلیّتین، تحدّثنا فی الأُولی عن الرابطة الوثیقة بین مبدأ علم الإمام وبین عقیدتی البداء والقضاء والقدر، وتبیّن أنّ الإمام الحسین علیه السلام مع علمه الواسع بمُلک وملکوت السماوات والأرض، لا یجزم علی الله تعالی بشیء، وهو علیه السلام یعلم فی هذه الحالة بأنّه لیس علیه إلّا القیام بوظیفته المکلّف بها، ولله تعالی القدرة والمشیئة فی أن یُغیِّر مجاری الأُمور ویقلب المعادلة باتّجاه النصر العسکری.

وتحدّثنا فی الإجابة الثانیة حول تعدّد مراتب علم المعصوم بحسب تنوّع عوالم وجوده، وتبیّن أنّه لا ضیر فی أن یسیر الإمام الحسین علیه السلام فی نهضته للإصلاح بموجب معطیات الواقع وظروف المرحلة، وبما یتناسب مع مرتبة علمه ووجوده المقدّس فی هذا العالم الأرضی، بکلّ تزاحماته ومتغیّراته، ولا یسیر فی ضوء علوم الغیب فی عوالم الوجود العلیا.

ص: 50

الفصل الثالث: الأسباب والمبررات التراثیّة للتفریط بالأهداف والمبادئ السیاسیة للنهضة الحسینیّة

اشارة

الفصل الثالث

الأسباب والمبررات التراثیّة

للتفریط بالأهداف والمبادئ السیاسیة للنهضة الحسینیّة

(إشکالیة: خروج الإمام الحسین علیه السلام بأمرٍ إلهیٍّ للشهادة)

ص: 51

ص: 52

اعتمد بعض المنکرین للأهداف السیاسیّة للنهضة علی بعض النصوص والروایات التی تؤکِّد علی أنّ الإمام الحسین علیه السلام مقتول لا محالة، وأنّه إنّما خرج لیستشهد، کما أنّه کان مأموراً بذلک.

إشکالیة: خروج الإمام الحسین علیه السلام بأمرٍ إلهیٍّ للشهادة

نحاول فیما یلی - لبیان هذه الإشکالیّة - أن نستعرض بعض تلک النصوص المشار إلیها مع بیان کیفیّة الاستدلال بها علی دعوی المنکرین، ثمّ ننتقل بعد ذلک إلی الإجابة عنها بنحو عام:

منها: إخبارات النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام المتواترة والمتنوعة - عن جبرئیل عن الله تعالی - بمقتل الإمام الحسین علیه السلام فی کربلاء، وأنّه مأمور بذلک من قِبَل الله}، وهی کثیرة جدّاً، مرویّة من طُرق الفریقین، ولا داعی لاستعراضها((1)).

ص: 53


1- ([1]) اُنظر علی سبیل المثال: ما جمعه المجلسی فی البحار بهذا الصدد: ج44، ص223 وما بعدها.

ویدّعی أصحاب هذه الإشکالیة: أنّ تلک الطوائف من الروایات والنصوص النبویّة الشریفة تکشف بوضوح عن کون القضیة الحسینیّة معلومة النتائج ومحسومة سلفاً، والحسین علیه السلام یعلم علم الیقین - عن طریق هذه الإخبارات الوحیانیّة - بأنّه خارج لیُقتل، لا لینتصر ویُقیم حکم الله فی الأرض.

ومنها: ما رواه الصدوق فی الأمالی، حینما استعرض مسیر الإمام الحسین علیه السلام إلی الکوفة، حیث قال: «ثمّ سار حتی نزل الرهیمة((1))، فورد علیه رجل من أهل الکوفة، یُکنّی أبا هرم، فقال: یا بن النبیّ، ما الذی أخرجک من المدینة؟ فقال: ویحک یا أبا هرم! شتموا عرضی فصبرت، وطلبوا مالی فصبرت، وطلبوا دمی فهربت، وایْمُ الله، لیقتُلنّی، ثمّ لیُلبسنّهم الله ذُلّ-لاً شاملاً، وسیفاً قاطعاً، ولیُسلِّطنّ علیهم مَن یذلّهم»((2)).

فالإمام الحسین علیه السلام یشرح مظلومیته لهذا الرجل الکوفی، ویُقسم له بأنّ بنی أُمیّة سیقتلونه لا محالة، ومَن کانت هذه حاله کیف یُتصور أنّه قد خرج لإسقاط الحکم الأُموی واستلام مقالید الحکم؟!

ومنها: ما رواه ابن قولویه فی کامل الزیارات، عن أبی عبد الله، عن أبیه، عن جدّه، عن الحسین بن علیّ سلام الله علیه ، قال: «والذی نفس حسین بیده، لا ینتهی بنی أُمیّة مُلکُهم حتی یقتلونی، وهم قاتلی»((3)).

وهذا النصّ أیضاً صریح بأنّ الإمام الحسین علیه السلام کان عالماً علماً یقینیّاً بأنّه مقتول، وأنّ بنی أُمیّة هم الذین سیرتکبون جریمة قتله، وقد أقسم الإمام علیه السلام علی حصول ذلک.

ص: 54


1- ([1]) الرهیمة: ضیعة أو عین ماء قرب الکوفة.
2- ([2]) الصدوق، محمد بن علی، الأمالی: ص218.
3- ([3]) ابن قولویه، جعفر بن محمد، کامل الزیارات: ص156.

ومنها: قوله علیه السلام لأُمّ سَلَمة حینما نصحته بألّا یخرج إلی العراق: «إنّی - والله - مقتول کذلک، وإن لم أخرج إلی العراق یقتلونی أیضاً، وإن أحببت أن أُریکِ مضجعی ومصرع أصحابی. ثمّ مسح بیده علی وجهها؛ ففسح الله عن بصرها حتی أراها ذلک کلّه، وأخذ تربةً فأعطاها من تلک التربة أیضاً فی قارورة أُخری، وقال علیه السلام : إذا فاضتا دماً فاعلمی أنی قُتلت»((1)).

ویُکرِّس هذا النصّ أیضاً مضامین النصوص السابقة، وهی القَسم بأنّه علیه السلام مقتول من دون شک، وأنّه سوف یُقتل علی کلّ حال، توجّه للکوفة أم لم یتوجّه.

ومنها: قوله علیه السلام أیضاً لأُمّ سَلَمة: «یا أُمّاه قد شاء الله} أن یرانی مقتولاً مذبوحاً ظلماً وعدواناً، وقد شاء أن یری حرمی ورهطی ونسائی مشرّدین، وأطفالی مذبوحین مظلومین، مأسورین مقیَّدین، وهم یستغیثون، فلا یجدون ناصراً ولا مُعیناً»((2)).

إذن؛ النتیجة معلومة، والمشیئة الإلهیّة قد تعلّقت سلفاً بأن یُقتل الحسین علیه السلام ظلماً وعدواناً، وأن یُلاقی رهطُه وحرمه وأطفاله علیه السلام آلام الأَسر والظلم والقتل، ولا یلوح فی الأُفق أیّ هدف سیاسی قابل للتحقّق علی أرض الواقع آنذاک.

ومنها: ما رواه الصفار فی البصائر بسنده، عن حمزة بن حمران، عن أبی عبد الله علیه السلام ، قال: «ذکرنا خروج الحسین وتخلُّفَ ابن الحنفیة عنه، قال: قال أبو عبد الله: یا حمزة، إنّی سأحدّثک فی هذا الحدیث، ولا تسأل عنه بعد مجلسنا هذا: إنّ الحسین لما فصل متوجهاً، دعا بقرطاس وکتب: بسم الله الرحمن الرحیم من الحسین بن علیّ إلی بنی هاشم، أمّا بعد، فإنّه مَن لحق بی منکم استُشهد معی، ومَن تخلَّف لم یبلغ الفتح. والسلام»((3)).

ص: 55


1- ([1]) الراوندی، قطب الدین، الخرائج والجرائح: ج1، ص253- 454.
2- ([2]) المجلسی، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص331 - 332.
3- ([3]) الصفار، محمد بن الحسن، بصائر الدرجات: ص501.

فالطریق الحسینی طریق شهادة وتضحیة، وأصحاب الفتح هم الشهداء، لا القادة السیاسیّون.

ومنها: خطبته علیه السلام المشهورة التی قال فیها: «الحمد لله، وما شاء الله، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله، وصلّی الله علی رسوله وسلّم، خُطّ الموت علی ولد آدم مخطّ القلادة علی جید الفتاة، وما أولهنی إلی أسلافی اشتیاق یعقوب إلی یوسف، وخیْرَ لی مصرع أنا لاقیه، کأنّی بأوصالی یتقطّعها عُسلان الفلوات، بین النواویس وکربلا، فیملأنّ منّی أکراشاً جوفاً وأجربةً سغباً»((1)). فکان الحسین علیه السلام یری تفاصیل ما سیجری علیه من القتل والهتک والسلب، فکیف یُعقل أن یخرج ساعیاً لإقامة الحکومة الإلهیّة علی هذه الأرض؟!

ومنها: ما أخرجه الکلینی بسنده عن أبی عبد الله الصادق علیه السلام ، فی حدیث طویل حول الوصیة ومیراث النبوّة وخواتیم الأوصیاء، جاء فیه قوله علیه السلام : «فلمّا تُوفّی الحسن ومضی، فَتَحَ الحسین علیه السلام الخاتم الثالث، فوجد فیها أنْ قَاتِلْ فاقتُل وتُقتَل، واخرُج بأقوام للشهادة، لا شهادة لهم إلّا معک. قال: ففعل علیه السلام »((2)). فالوصایة الحسینیّة مختومة بالقتل، لا بالقیادة والحکم والرئاسة.

«وذلک بمجموعه یکشف عن أنّه علیه السلام قد أقدم علی تلک النهضة عالِ-ماً بمصیره»((3)).

هذه هی أهمّ النصوص والأحادیث التی تُذکر - عادة - لإثبات أنّ الإمام الحسین علیه السلام کان عالماً علماً قطعیاً بأنّه مقتول مسلوب، وأنّه إنّما خرج طلباً للشهادة؛ لیکون فاتحاً ومنتصراً بدمه الطاهر، ولم یخرج لإسقاط حکمٍ جائر وإقامة حکومة إلهیّة عادلة((4)).

ص: 56


1- ([1]) المجلسی، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص366 - 367.
2- ([2]) الکلینی، محمد بن یعقوب، الکافی: ج1، ص279 - 280.
3- ([3]) الطباطبائی الحکیم، محمد سعید، فاجعة الطف: ص26.
4- ([4]) وقد أحصی بعض العلماء مجموعة من النصوص الأُخری التی لا تخرج عن مضمون ما أحصیناه. اُنظر: الطباطبائی الحکیم، محمد سعید، فاجعة الطف: ص16- 46.

ویتحصّل من مجموعها ما یلی:

أوّلاً: إنّ الإمام الحسین علیه السلام کان عالماً علم الیقین بمقتله علی کلّ حال، وکان عالماً أیضاً بتفاصیل ما سیجری علیه.

ثانیاً: إنّ القضیّة الحسینیّة معلومة النتائج ومحسومة سلفاً، عن طریق الإخبارات الوحیانیّة، فالحسین علیه السلام خرج لیستشهد، لا لینتصر ویُقیم حکم الله فی الأرض.

ثالثاً: إنّ المشیئة الإلهیّة قد تعلّقت بشهادة الحسین علیه السلام وشهادة وُلده وأصحابه وسبی عیاله.

رابعاً: إنّ الفتح الحسینیّ فتح بالمظلومیة والشهادة، لا بالقیادة.

وفی ضوء هذه النتائج قرّر بعض الباحثین شطب الأهداف السیاسیّة من قائمة أهداف النهضة الحسینیّة.

الإجابة عن هذه الإشکالیة: علم المعصوم ومشیئة الله تعالی الفعلیّة لا تعنی حسم الأُمور

اشارة

بغضّ النظر عن البحث فی أسانید هذه النصوص ومدلولاتها، فإنّ إجابتنا عن هذه الإشکالیة تعتمد علی ما بیّناه وأوضحناه فی الإجابة عن الإشکالیة السابقة؛ لأنّها تبتنی أیضاً علی استیضاح العلاقة بین البداء والقضاء وبین مراتب ودرجات علم المعصوم، وفیما یرتبط بالمقام نؤشّر الإجابات التالیة:

الإجابة الأُولی: علم الحسین علیه السلام بشهادته لا یتنافی مع الأهداف السیاسیّة للنهضة

إنّ علم الإمام الحسین علیه السلام المسبق بشهادته ومقتله لا یتقاطع أبداً مع ما ذکرناه من المبادئ السیاسیّة للنهضة، وذلک لوجهین:

الوجه الأوّل: إنّ هذا العلم - کما بیّنا - مهما کان قطعیّاً ومحتوماً ومأخوذاً من علوم النور الإلهی الأوّل، فإنّه یبقی محکوماً بالإرادة والمشیئة الإلهیّة الذاتیّة، ویبقی علماً وقطعاً نسبیّاً بالنسبة إلی ما دونها، وتبقی الحتمیّة فیه حتمیّة بالنسبة إلی العوالم

ص: 57

الأدنی، فهو علم قطعی وقضاء حتمی لا یتأثّر ولا یتبدّل ولا یتغیّر بما دونه من العوالم الوجودیّة، لکنه قابل للتغییر والتبدیل إذا لوحظ منسوباً إلی المشیئة الإلهیّة الذاتیّة؛ لأنّها حاکمة علی کلّ شیء، وهذا هو ما أسمیناه بالبداء الإمکانی فی علوم ومعارف النور الأوّل((1)).

وحینئذٍ نقول: إنّ علم الإمام الحسین علیه السلام بمقتله وشهادته حتی لو کان یقینیّاً وقطعیّاً وحتمیّاً، بل حتی لو کان انکشافاً حضوریّاً ومشاهدة لما سیقع فی مستقبل الأیام، فإنّ حصوله ووقوعه فی عمود التسلسل الزمنی یظل محکوماً بالمشیئة الإلهیّة الذاتیّة، وهذا هو معنی ما ذکرناه: من أنّ المعصوم لا یجزم علی الله بشیء، فقد تنقلب المعادلة وتتغیّر الأُمور، وتختلف الحسابات إذا شاء الله تعالی ذلک.

ویبقی علی الإمام الحسین علیه السلام أن یعمل بتکلیفه ووظیفته الإلهیّة، وإلی الله ترجع الأُمور کلّها، ومن وظائفه علیه السلام وتکالیفه الإلهیّة الثابتة بالنصوص المتضافرة - کما ألمحنا إلیه فی الفصل السابق - هو محاربة الحکومة الأُمویّة الظالمة، والعمل علی إسقاطها، وإقامة حکم الله فی الأرض، وتشکیل الدولة الإلهیة العادلة، وعلمه علیه السلام المحکوم بالمشیئة لا یُغیِّر من واقع تلک الوظیفة شیئاً، وقد یتمّ تحقیقها وإنجازها فی أرض الواقع إذا شاء الله تبارک تعالی.

ولا ننسی أنّ ذلک کلّه تابع لإرادة الأُمّة، إذا اختارت التغییر وانقلبت علی حکّامها الظالمین والمتجبّرین، وکثیراً ما کان یربط الإمام الحسین علیه السلام نهضته المبارکة بإرادة الأُمّة والوعود والعهود والمواثیق التی قطعتها علی نفسها، وکان یحترم المواثیق الکوفیّة، علّها تؤتی أُکُلَها وتُغیّر الموازین وتقلب المعادلات، لو سارت الأُمور بالاتّجاه الصحیح.الوجه الثانی: ما أشرنا إلیه سابقاً: من أنّ الإمام الحسین علیه السلام بوجوده الأرضی المقدّس إنّما یتعامل فی هذا العالم الدنیوی بما یتناسب معه من درجات العلم والمعرفة،

ص: 58


1- ([1]) ویفتح لنا هذا البیان باباً مهمّاً من أبواب نظریّة المعرفة الدینیّة والوحیانیّة.

ولا یتعامل فیه أبداً بالعلوم العُلیا التی تُناسب العوالم الأُخری، وإن کان عالماً بها ومطّلعاً علیها بوجوده ومقامه الملکوتی الأعلی، لا بوجوده الأرضی، فالعلم بما فی العالم العُلْوی إنما یناسب ذلک العالم، ولا یعنی الجری بمقتضاه فی عالمنا الدنیوی، بل لعالمنا علومه المتغیرة والمحدودة التی تناسبه کما بیّنا، وهذه هی طبیعة التفاوت فی خصائص وصفات عوالم الخلقة.

الإجابة الثانیة: المشیئة الإلهیّة الفعلیّة لا تعنی حسم الأُمور

صرّحت بعض النصوص المتقدّمة بکون المشیئة الإلهیّة قد تعلّقت بشهادة الإمام الحسین علیه السلام ، وشهادة وُلده وأصحابه، وسبی عیاله ظلماً وعدواناً؛ حیث قال علیه السلام : «قد شاء الله} أن یرانی مقتولاً مذبوحاً ظلماً وعدواناً، وقد شاء أن یری حرمی ورهطی ونسائی مشرّدین، وأطفالی مذبوحین مظلومین، مأسورین مقیّدین، وهم یستغیثون فلا یجدون ناصراً ولا معیناً». وقد استُنتج من ذلک کون الشهادة والسبی أمراً محسوماً، ولا معنی فی هذه الحال لوجود أهداف سیاسیّة للنهضة.

ولکن فی مقام الإجابة عن ذلک نقول: لقد بیّنا - مفصّلاً - بأنّ المشیئة الإلهیّة تنقسم إلی مشیئة ذاتیّة هی عین الذات الأحدیّة المقدّسة، ومشیئة فعلیّة منسوبة إلی الذات الإلهیّة وإلی أفعالها ومخلوقاتها، والذی یُفهم من هذا النصّ الشریف أنّ المشیئة الإلهیّة المذکورة فیه هی المشیئة الفعلیّة؛ وذلک لما ذُکر فیه من تعلّقها بالشهادة والسبی، والمشیئة الفعلیّة هی التی تُعیّن جانباً علی حساب جانب آخر، أی تختار طرفاً بالفعل وهو الشهادة والسبی دون الأطراف الأُخری المحتملة.

وأمّا المشیئة الذاتیّة، فهی مطلقة وواسعة ومفتوحة علی جمیع الاحتمالات وکافّة الأطراف المتصوّرة، فکلّ شیء ممکن وقابل للحصول والتحقّق بالنسبة إلیها.والمشیئة الفعلیّة بجمیع مراتبها وعلی اختلاف وتنوّع عوالمها الوجودیّة محکومة بالمشیئة الإلهیة الذاتیّة، فهی قابلة للتغییر والتبدیل إذا نُسبت إلی إرادة ومشیئة الذات الإلهیّة، فالعلم بها لا یعنی أبداً أنّ أمر الشهادة والسبی محسوم، وأنّ احتمال النصر

ص: 59

والظفر مفقود، بل یبقی رجاء الإصلاح موجوداً، وأمل التغییر قائماً، وفی ضوئه خرج الإمام الحسین علیه السلام للإصلاح، وهو القائل کما تقدّم: «إنّ الأمر لله یفعل ما یشاء، وربّنا تبارک کلّ یوم فی شأن، فإن نزل القضاء؛ فالحمد لله علی نعمائه، وهو المستعان علی أداء الشکر، وإن حال القضاء دون الرجاء؛ فلم یبعد مَن الحقُّ نیّتُه».

والحاصل: إنّ المشیئة الإلهیّة الفعلیّة التی أخبر عنها الإمام الحسین علیه السلام ، لا تغلق الأبواب أمام إمکانیة تحقیق النصر العسکری، ولا تُلغی الأمل والرجاء فی إصلاح الأُمّة وإسقاط الحکومة الظالمة، وإقامة حکومة إسلامیّة عادلة بدیلة عنها؛ ولذا خرج الحسین علیه السلام بأمل ورجاء تحقیق وإنجاز تلک الأهداف والمصالح والغایات السامیة.

وفی نهایة المطاف، ینبغی أن نُمیّز بین النصوص الصادرة فی أوائل أیام النهضة، وبین ما صدر فی نهایاتها، حینما أصبح الإمام الحسین علیه السلام علی مشارف الکوفة، وبعد انقلاب أهلها؛ لأنّ ما صدر فی الأیام الأخیرة کان أقرب إلی الشهادة من النصر. وجملة من النصوص التی ذکرت فی هذه الإشکالیة، هی من نصوص الأیام واللحظات الأخیرة للنهضة((1)).

یضاف إلی ذلک کلّه: أنّ النصوص المذکورة فی هذه الإشکالیة، لا یخلو أکثرها من المناقشات السندیّة والدلالیّة، کما هو واضح، لکننا أعرضنا عن ذکرها لکفایة ما استعرضناه من أجوبة((2)).وبما بیّناه تتّضح الإجابة أیضاً علی جملة من الإشکالات والنقوض التی أوردها بعض المحقّقین من الأعلام علی الأهداف السیاسیّة للثورة الحسینیّة((3)).

ص: 60


1- ([1]) اُنظر تفاصیل هذه النقطة: صالحی نجف آبادی، شهید جاوید (الشهید الخالد): الفصل الثانی، ص110 - 186.
2- ([2]) قام بعض المحققین بالمتابعة التفصیلیة لأسانید ومدالیل تلک النصوص. اُنظر: المصدر السابق: ص367 - 438.
3- ([1]) اُنظر: الصدر، محمد، أضواء علی ثورة الحسین علیه السلام : ص92 - 93.

خلاصة الفصل الثالث

تعرّضنا فی هذ الفصل لواحدة من أهمّ الإشکالیّات التراثیة، التی أدّت إلی شطب الأهداف السیاسیّة من قائمة أهداف النهضة الحسینیّة، وهی إشکالیّة أنّ خروج الإمام الحسین علیه السلام کان بأمر إلهیٍّ للشهادة، وقد أوردنا شواهد ونصوص هذه الإشکالیّة بشیءٍ من التفصیل، وأجبنا عن هذه الإشکالیّة بإجابات، کانت حصیلتها أنّ علم المعصوم ومشیئة الله تعالی الفعلیّة لا تعنی حسم الأُمور، ولا یتقاطع ذلک أبداً مع ما یُذکر من المبادئ السیاسیّة للنهضة الحسینیّة.

ص: 61

ص: 62

الفصل الرابع: الأسباب والمبررات التاریخیّة للتفریط بالأهداف والمبادئ السیاسیّة للنهضة الحسینیّة

اشارة

الفصل الرابع

الأسباب والمبررات التاریخیّة

للتفریط بالأهداف والمبادئ السیاسیة للنهضة الحسینیّة

القسم الأوّل: (إشکالیّة: کون الخروج لإسقاط الأنظمة الحاکمة

لم یکن سبیلاً ومنهجاً فی سیرة الأئمّة علیهم السلام )

ص: 63

ص: 64

القسم الأوّل: (إشکالیّة: کون الخروج لإسقاط الأنظمة الحاکمة لم یکن سبیلاً ومنهجاً فی سیرة الأئمّة علیهم السلام )

کان التاریخ ولا زال اللاعب الأساس فی رسم معالم الکثیر من المعارف الدینیّة والإسلامیّة، وانسیاقاً مع هذا النوع من التأثیر أدرج مجموعة من العلماء والباحثین الأحداث التاریخیّة التی أحاطت بالنهضة الحسینیّة فی قائمة الأسباب المانعة من الالتزام بوثائق ومستندات أهدافها السیاسیّة.

ونحن قد تعرّضنا فی الفصلین الماضیین لبعض الأسباب والمبرّرات التی دعت جملة واسعة من أُولئک العلماء والباحثین لإنکار الأهداف السیاسیّة للنهضة الحسینیّة، فذکرنا منها الأسباب العقدیّة والتراثیة، وأجبنا عنهما بما یتناسب مع الآفاق العامّة للبحث، ونحاول فی هذا الفصل أیضاً أن نستعرض واحدة من أهمّ الأسباب والمبرّرات التاریخیّة التی أدّت لإنکار تلک الأهداف.

ص: 65

إشکالیّة: کون الخروج لإسقاط الأنظمة الحاکمة لم یکن سبیلاً ومنهجاً فی سیرة الأئمّة علیهم السلام

إنّ الإشکالیّة التاریخیّة المطروحة فی عنوان هذا الفصل ملخّصها هو: أنّ کلّ الأئمّة المعصومین علیهم السلام بعد وفاة النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله - باستثناء الإمام الحسین علیه السلام فی موقفه الأخیر - لم یُسجّل لهم التاریخ موقفاً سیاسیّاً یُمثّل جانباً من جوانب الثورة والانقلاب والخروج علی السلطات غیر الشرعیّة لإسقاطها وإقامة الحکومة الإسلامیّة الإلهیّة العادلة بقیادة خلیفة الله فی أرضه.

فأمیر المؤمنین علیّ بن أبی طالب علیه السلام قد بقی جلیس داره زمناً طویلاً، ولم یرصد له التاریخ تحرکاً سیاسیّاً أو تخطیطاً عسکریّاً لإسقاط النظام الحاکم آنذاک، بل کان مستشاراً دینیّاً وقانونیّاً وسیاسیّاً لذلک النظام فی کثیر من القضایا المهمّة والمفصلیّة، وحینما جاءه المسلمون یبایعونه علی الخلافة - بعد مقتل عثمان - اعتذر فی بدایة الأمر عن قبول بیعتهم، وطلب منهم أن یلتمسوا غیره، وشارطهم علی أنّه سیکون داعماً للحکومة التی یختارونها، ولعلّ أسباب ذلک هو أنّ الأُمّة قد انحرفت بعد نبیِّها عن مسارها الصحیح الذی اختطَّه لها، ولم یبقَ بالإمکان فرصة إصلاحها بإقامة حکومة إلهیّة علی ید الخلیفة المعصوم، باستثناء ما سیقوم به المهدیّ علیه السلام . وحتی بعد قبوله علیه السلام استلام السلطة کان یعلم من أوّل الأمر بفشل مشروع الإصلاح، ولم یکن هدفه من ذلک تحقیق ما اندفعت الجماهیر له وتخیّلته ممکناً، من إصلاح الأوضاع العامّة، أو تعدیل مسار السلطة فی الإسلام. وإنّما کان الدافع الأساس هو عهد النبی صلی الله علیه و آله له بالقیام بالأمر إذا وجد أنصاراً.

کذلک الإمام الحسن علیه السلام ، حیث اضطرّ لترک الخلافة وتسلیمها لمعاویة بن أبی سفیان، وبغضّ النظر عن الحدیث فی ظروف ومبرّرات ذلک، فهو علیه السلام فی نهایة المطاف قد تنازل عن الخلافة لحساب معاویة، ما یعنی أنّ الأُمّة لا زالت غیر مؤهَّلة لتشکیل حکومة إسلامیة عادلة.

ص: 66

والإمام الحسین علیه السلام لم یتحرّک أیضاً بعد أخیه الحسن علیه السلام للقیام بالثورة والانقلاب لإقامة دولة الإسلام، لا فی زمان معاویة ولا زمان ابنه یزید، وهو إنّما خرج أخیراً لطلب الشهادة بأمر إلهیٍّ، لمّا حوصر وضاقت علیه الأرض بما رحبت.

والصورة أوضح وأجلی بالنسبة إلی سائر الأئمّة المعصومین علیهم السلام ، من زمن إمامة علیّ بن الحسین زین العابدین علیه السلام ، إلی زمن الإمام الحسن بن علیّ العسکری علیه السلام ، والفترة التی أعقبتها حینما غاب ابنه المهدیّ علیه السلام ، حیث لا نجد فی فصول سیرتهم علیهم السلام أیّ تحرّک باتّجاه التغییر السیاسیّ أو الانقلاب العسکری، بل کانوا یأمرون أصحابهم بالجلوس والسکون والالتزام بالهدنة وانتظار الفرج علی یدیّ القائم من آل محمد علیهم السلام ، خصوصاً فی زمن الإمام الصادق علیه السلام ، مع أنّ فرصة التغییر السیاسیّ کانت کبیرة جدّاً فی فترة إمامته علیه السلام .

روی الکلینی بسنده عن عبد الحمید الواسطی، عن أبی جعفر الباقر علیه السلام ، قال: «قلت له: أصلحک الله! لقد ترکنا أسواقنا انتظاراً لهذا الأمر، حتی لیوشک الرجل منّا أن یسأل فی یده؟ فقال: یا [أبا] عبد الحمید! أتری مَن حبس نفسه علی الله لا یجعل الله له مخرجاً؟ بلی والله، لیجعلَنّ الله له مخرجاً، رحم الله عبداً أحیا أمرنا» ((1)).

وروی النعمانی فی الغیبة بسنده عن عبد الرحمن بن کثیر، قال: «کنت عند أبی عبد الله علیه السلام یوماً وعنده مهزم الأسدی، فقال: جعلنی الله فداک، متی هذا الأمر الذی تنتظرونه،فقد طال علینا؟ فقال: یا مهزم، کذب المتمنّون، وهلک المستعجلون، ونجا المسلمون، وإلینا یصیرون»((2)).

ص: 67


1- ([1]) الکلینی، محمد بن یعقوب، الکافی: ج8، ص270 - 273.
2- ([1]) النعمانی، محمد بن إبراهیم، الغیبة: ص204.

وهذا کلّه یکشف عن أنّ منهج الأئمّة علیهم السلام وسیرتهم بعد النبی الأکرم صلی الله علیه و آله لم یکن قائماً علی التدبیر والتخطیط لإسقاط الأنظمة الظالمة فی زمانهم، واستبدالها بالحکومة الإلهیّة العادلة. بل إنّ سیرتهم علیهم السلام وسیرة أتباعهم قد جرت علی مبدأ السکوت والجلوس والانتظار والترقّب، إلی أن یأذن الله بأمره؛ وذلک لأنّ الأُمّة قد فقدت قابلیة الإصلاح والتغییر حینما انحرفت عن مبدأ الإمامة والخلافة الإلهیّة بعد وفاة نبیّها الأکرم صلی الله علیه و آله ، فأضحی الإصلاح وإرجاع السلطة فی الإسلام إلی مسارها الصحیح متعذّراً، بعد الانحراف الکبیر الذی تورّطت به الأُمّة، وکان الأئمّة علیهم السلام یعلمون بذلک من الیوم الأوّل للانحراف، وإن لم یتسنّ لهم التصریح به والتأکید علیه إلّا بعد فاجعة الطف.

وحینئذٍ یکون الإیمان بثبوت أهداف سیاسیّة انقلابیّة وثوریّة للنهضة الحسینیّة، ممّا یتنافی مع المنهج الصحیح والتوجّه العام والسیرة العملیّة المعروفة لأئمّة أهل البیت علیهم السلام ، فی کیفیّة تعاملهم مع السلطات غیر الشرعیّة، الحاکمة فی زمانهم، حیث کانت قائمة علی مبدأ المهادنة وعدم التصدّی لمواجهة الحاکم، مع أنّ بعض تلک السلطات قد لا یقلّ ظلماً وجوراً وتهتّکاً عن حکومة یزید بن معاویة.

الإجابة عن هذه الإشکالیّة: النهضة والإصلاح والتغییر السیاسی فی منهج وسیرة أهل البیت علیهم السلام

نعتقد بأنّ هذه الإشکالیّة والرؤیة المجتزأة فی تحدید سیرة ومواقف المعصومین علیهم السلام تجاه السلطات الحاکمة فی زمانهم، غیر واقعیّة ولا مطابقة لأُسلوبهم فی التعامل مع طبیعة الواقع الدینی والاجتماعی والتقلّبات السیاسیّة والاضطرابات الأمنیّة والاقتصادیّة والمذهبیّة التی عایشوها آنذاک. وللوقوف علی حقیقة الأمر نقول:

إنّنا وبشکل صریح وواضح نرفض هذه الإشکالیة من الأساس، ولا نقبل بفکرة أنّ الأئمّة علیهم السلام لم یسعوا علی الإطلاق لاستلام الحکم وإصلاح الأُمور وبناء

ص: 68

دولة الحقّ والعدل بعد وفاة النبی الأکرم صلی الله علیه و آله . بل نعتقد بأنّ سیرتهم کانت قائمة علی العکس من ذلک، حتی بعد انحراف الأُمّة عن مسارها الصحیح فی مسألة الإمامة والخلافة، خصوصاً فی الفترة التی سبقت شهادة الإمام الحسین علیه السلام ، والتاریخ والنصوص الدینیّة المتضافرة خیر شاهد ودلیل علی ما ندّعی، ولنأخذ جولة سریعة حول أهمّ الأحداث والنصوص الواردة فی هذا الإطار ضمن البحوث التالیّة((1)):

ص: 69


1- ([1]) کان من المفروض أن ننطلق من نصوص وشواهد المبادئ السیاسیّة للنهضة المحمّدیة المبارکة؛ لکونها مبدأ التأسیس للحکومة الإسلامیّة، وتمثّل انعطافة کبیرة وعظیمة جدّاً فی بناء الحکومة الإلهیّة العالمیّة بصورة عامّة، فهی امتداد لحکم الله فی الأرض، وتأسیس لحکومة الإسلام، وتأتی الحرکة السیاسیّة للمعصومین من أهل البیت علیهم السلام فی إطار حرکة ذلک الحزب الإلهیّ الممتدّ من آدم خلیفة الله فی أرضه إلی نبیِّنا الأکرم صلی الله علیه و آله خاتم الأنبیاء. لکننا ترکنا البحث فی هذه النقطة؛ لأنّ بحثها یطول کثیراً ویتجاوز دائرة هذه البحوث الموجزة، ولأنّ صاحب الإشکالیة یفترض أنّ الظرف والموقف اختلف، قبل انحراف الأُمّة وبعد انحرافها، وإن کنّا لا نرتضی ذلک بشکل مطلق.

ص: 70

المبحث الأوّل: المبادئ السیاسیّة للنهضة العلویّة

اشارة

نعتقد بأنّ الإمام علیّ بن أبی طالب علیه السلام قد سعی بقوّة وبشکل جادّ للقیام بنهضة تصحیحیّة شاملة، کما سعی أیضاً بالسبل المتاحة والمشروعة لاستلام السلطة والخلافة وإقامة حکم الله فی الأرض بعد وفاة النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله ، والشواهد التاریخیّة والروائیّة علی ذلک کثیرة جدّاً، ومستفیضة نصّاً ومعنًی، نذکر فیما یلی بعضها:

الشاهد الأوّل: الحرکة السلمیّة لإسقاط الحکومة غیر الشرعیّة

لقد واصل الإمام علیّ علیه السلام رفضه واستنکاره لخلافة أبی بکر، ومقاطعتها، وامتناعه عن أداء البیعة، وتحصّنه هو وأهل بیته وأتباعه فی بیت فاطمة (سلام الله علیها)، والمطالبة المستمرّة بحقّه المشروع بالخلافة وقیادة الأُمّة، واعتبار ما حصل انقلاباً علی الشرعیة.

یقول علیه السلام فی إحدی خطبه حول هذه النقطة بالخصوص: «وقال قائل: إنّک علی هذا الأمر یا بن أبی طالب لحریص. فقلت: بل أنتم - والله - لأحرص وأبعد، وأنا أخصّ وأقرب، وإنّما طلبت حقّاً لی، وأنتم تحولون بینی وبینه، وتضربون وجهی دونه... اللّهم، إنّی أستعینک علی قریش ومَن أعانهم، فإنّهم قطعوا رحمی، وصغّروا عظیم منزلتی، وأجمعوا علی منازعتی أمراً هو لی» ((1)).

وقد شکّل ذلک العصیان المدنی والسیاسی اللافت خطراً شدیداً علی تشکیلة الحکومة الجدیدة، واعتبره قادة الحرکة الانقلابیة توهیناً وإضعافاً لهیبة الخلافة والدولة

ص: 71


1- ([1]) نهج البلاغة: ص246.

فی نفوس عامّة المسلمین، ما استدعی منهم إصدار التوجیهات والأوامر بالتحرّک العسکری لقمع المعارضة، وإعلان حالة الطوارئ، وفرض الأحکام الجاهلیّة اللاعرفیّة، التی انتهکت حرمة البیت النبویّ الطاهر، وتجاوزت علی البضعة النبویّة الشریفة بالضرب والتعنیف، وقد وقعت فی أکثر من مناسبة مشادّات کلامیة ومناوشات بین أفراد فی المعارضة وبین قیادات حکومیّة وعسکریّة فی الحزب الحاکم((1)).

هذه وغیرها من الأحداث - فی سیاق الحرکة السلمیّة العلویّة للمطالبة بالحقوق الدینیّة والسیاسیّة - کوّنت رؤیة واضحة لدی الرأی العام تجاه الخلافة القائمة وعدم شرعیتها. وهذا خیر شاهد علی التدخّل المباشر من قِبَل المعصوم فی صناعة القرار السیاسیّ وتعیین نظام الحکم والسلطة، ولکن بالطرق السلمیّة.

الشاهد الثانی: الحرکة الثوریّة لإسقاط الحکومة غیر الشرعیّة

لقد ترأّس الإمام علیّ علیه السلام حرکة ثوریّة لإدارة دفّة التغییر السیاسی والحکومی، واتّخذ خطوات میدانیة بقیادته الحکیمة لإسقاط خلافة الانقلاب السقیفی، الفاقد للأهلیة والکفاءة فی قیادة الأُمّة الإسلامیّة، وهنالک نصوص تاریخیة وروائیة کثیرة جدّاً، یمکن رصدها وتتبّعها لفهم معالم وآفاق هذه النهضة العلویّة الرائدة، وتفصیل الکلام فی هذه النقطة قد یخرجنا عن هدف هذا الکتاب، ولکننا نحاول التأشیر علی بعض مشاهد وصور تلک النهضة إجمالاً، فمن ذلک علی سبیل المثال:

1- ما رواه الخصیبی فی کتابه الهدایة الکبری، بسنده عن الإمام الحسن علیه السلام ، حینما عاتبوه علی صُلحه مع معاویة، وترکه الخلافة له - کما سیأتی - فأجابهم قائلاً: «لو أنّی فی

ص: 72


1- ([1]) اُنظر تفصیل ذلک: الطبرسی، أحمد بن علی، الاحتجاج: ج1، ص131.

ألف رجل، لا والله إلّا مائتی رجل، لا والله إلّا فی سبع نفر لما وسعنی ترکه، ولقد علمتم أنّ أمیر المؤمنین دخل علیه ثقاته حین بایع أبا بکر، فقالوا له مثلما قلتم لی، فقال لهم مثلما قلت لکم، فقام سلمان والمقداد وأبو ذر وعمار وحذیفة بن الیمان وخزیمة بن ثابت وأبو الهیثم مالک بن التیهان، فقالوا: نحن لک شیعة ومن ورائنا شیعة لک، مصدِّقون الله فی طاعتک. فقال لهم: حسبی بکم. قالوا: وما تأمرنا؟ قال: إذا کان غداً فاحلقوا رؤوسکم واشهروا سیوفکم وضعوها علی عواتقکم وبکّروا إلیّ؛ فإنّی أقوم بأمر الله ولا یسعنی القعود عنه. فلمّا کان من الغد بکّر إلیه سلمان والمقداد وأبو ذر وقد حلقوا رؤوسهم وأشهروا سیوفهم وجعلوها علی عواتقهم، ومعهم عمار بن یاسر... فلمّا قعدوا بین یدیه علیه السلام نظر إلیهم... فقال: اغمدوا سیوفکم، فو الله، لو تمّ عددکم سبعة رجال لما وسعنی القعود عنکم»((1)).

فهذا النصّ صریح فی أنّ من الوظائف المصیریّة والأوامر الإلهیّة التی کان یری الإمام علیّ علیه السلام ضرورة القیام بها - بعد رحیل الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله - هو النهوض والتحرّک المسلّح لإسقاط الخلافة المنتحلة، والتصدّی لإقامة أمر الله وحکمه فی الأرض بإمامته وقیادته علیه السلام ، وقد أعطی الأوامر والتوجیهات اللازمة فی هذا المجال، وکان یکفیه للخروج وتحقیق الأهداف فی ذلک الحین سبعة من الرجال المخلصین، المضحّین لدینهم ومبادئهم. لکنه علیه السلام لم یجتمع لدیه حتی هذا العدد القلیل من الأعوان والأنصار، وهو ما اضطرّه للبیعة واستبعاد الخیار العسکری.

2- خطبته علیه السلام المشهورة فی مسجد النبی الأکرم صلی الله علیه و آله ، حینما تخاذلت الأُمّة فی الدفاع عن حقّه بالإمامة والخلافة، یقول فیها علیه السلام ، بعد تقدیم الحمد والثناء لله تعالی، والصلاة علی الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله : «أیُّها الأُمّة التی خُدعت فانخدعت، وعرفت خدیعة مَن

ص: 73


1- ([1]) الخصیبی، الحسین بن حمدان، الهدایة الکبری: ص193.

خدعها فأصرّت علی ما عرفت، واتّبعت أهواءها، وضربت فی عشواء غوایتها، وقد استبان لها الحقّ فصدّت عنه»، فی إشارة واضحة منه علیه السلام إلی أنّ خلافة السقیفة کانت خدعة مفضوحة بفکرتها ورجالاتها وتشکیلتها، وأنّ الخدعة انکشفت للأُمّة بالجهود السلمیّة التی بذلها علیه السلام ، فظهرت بذلک معالم الحقّ والحقیقة، ولکن الأُمّة تخاذلت، واتّبعت أهواءها، وصدّت عن الحقّ، ونامت علی وسائد الخدیعة والذلّ.

ثمّ یواصل علیه السلام کلامه فی تعنیف الأُمّة وتوبیخها علی تضییعها هذا الحقّ الإلهیّ، الذی فیه صلاح البلاد والعباد والسعادة فی الدارین، إلی أن یقول علیه السلام : «أما والله، لو کان لی عدّة أصحاب طالوت أو عدّة أهل بدر - وهم أعداؤکم - لضربتکم بالسیف حتی تؤولوا إلی الحقّ وتنیبوا للصدق، فکان أرتق للفتق، وآخذ بالرفق، اللّهم فاحکم بیننا بالحقّ وأنت خیر الحاکمین»، فکان الإمام علیه السلام علی استعداد تامّ لخوض حرب شاملة، هدفها إسقاط الحکم الفاسد وإرجاع الحقّ لأهله، ویؤکِّد بشکل واضح وصریح علی أنّ المصلحة فی ذلک، وأنّه لا مصلحة فی المهادنة والسکوت. ولکن لا حرب بلا جیش، ولا صولة بیدٍ جذّاء!!

ثمّ خرج علیه السلام من المسجد، فمرّ بحظیرة فیها نحو من ثلاثین شاة، فقال: «والله، لو أنّ لی رجالاً ینصحون لله}ولرسوله بعدد هذه الشیاه لأزلت ابن آکلة الذبان عن ملکه. فلمّا أمسی بایعه ثلاثمائة وستّون رجلاً علی الموت، فقال لهم أمیر المؤمنین علیه السلام : اغدوا بنا إلی أحجار الزیت محلّقین، وحلّق أمیر المؤمنین علیه السلام ، فما وافی من القوم محلّقاً إلّا أبو ذر والمقداد وحذیفة بن الیمان وعمار بن یاسر، وجاء سلمان فی آخر القوم، فرفع یده إلی السماء، فقال: اللّهم إنّ القوم استضعفونی کما استضعفت بنو إسرائیل هارون»((1)). ومضمون النصّ واضح لا یفتقر إلی التعلیق. ویظهر منه أنّه علیه السلام کان یجلس لاستقبال المبایعین علی

ص: 74


1- ([1]) الکلینی، محمد بن یعقوب، الکافی: ج8، ص32 - 33.

التضحیة والقتال فی سبیل الحقّ، وقد أقنع - بکلامه وخُطبه وتحرّکاته الواسعة - مجموعة کبیرة من الصحابة، قادرة علی التغییر وصناعة المستقبل بما یتوافق مع الإرادة الإلهیّة، لولا الخیانة والخذلان.

3- ما یروی عن سلیم بن قیس، أنّه قال: «سمعت علیّاً یوم الجَمَل ویوم صفِّین یقول: إنّی نظرت فلم أجد إلّا الکفر بالله، والجحود بما أنزل الله، بمعالجة الأغلال فی نار جهنّم، أو قتال هؤلاء، ولم أجد أعواناً علی ذلک. وإنّی لم أزل مظلوماً منذ قُبض رسول الله صلی الله علیه و آله ، ولو وجدت قبلُ الناس أعواناً علی إحیاء الکتاب والسنّة کما وجدت الیوم لنا لم یسعنی القعود»((1)).

فکان البحث جاریاً عن الأعوان والأنصار مُنذ قبض رسول الله صلی الله علیه و آله ، وما کان یسع علیّاً علیه السلام القعود عن حقّه، لولا الید الجذّاء وتخاذل الشعب وفقدان الناصر. والنصّ یُشیر بوضوح إلی أنّ هناک نهضة علویّة تستهدف إحیاء الکتاب والسنّة، والتغییر الثوری المسلّح، ولکنّها نهضة لم ترَ النور بسبب تخاذل الأُمّة وتقاعسها عن الحقّ. کما أنّ النصّ واضح أیضاً، فی کون الجلوس عن الحقِّ، ومهادنة الطغاة، مع وجود الأعوان والأنصار، من الأُمور التی تستلزم لصاحبها الکفر بالله، والجحود بکتابه، واستحقاق الدخول إلی نار جهنّم، فهی من الکبائر بامتیاز.

4- یواجه الإمام علیه السلام فی هذا النصّ قیادات الحزب الحاکم فی مسجد رسول الله صلی الله علیه و آله ، ویُصارحهم بأبعاد حرکته السیاسیّة الثوریّة التی کانت تؤرّقهم آنذاک، ویخاطبهم علیه السلام بالقول: «ولو کنت فی أربعین رجلاً، لفرقت جماعتکم، فلعن الله قوماً بایعونی ثمّ خذلونی»((2)).

ص: 75


1- ([1]) القمی، سدید الدین شاذان، الروضة فی فضائل أمیر المؤمنین علیه السلام : ص204.
2- ([2]) الطبرسی، أحمد بن علی، الاحتجاج: ج1، ص109.

فکان هناک تخطیط عسکری من قِبَله علیه السلام ، وبیعة له علی التحرّک المسلّح لإسقاط النظام، وکاد أن ینجح الأمر لولا الخذلان، ولعلّ نظام الحکم الانقلابی قد بلغ من القوّة والاستحکام ما احتاج فیه الإمام علیه السلام لزیادة سقف الأعوان والمؤیدین من سبعة رجال إلی الأربعین رجلاً.

5- فی مضمون آخر ذی صلة، أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله قال لعلیٍّ علیه السلام - بعد أن کشف له طموحات القوم ومخططاتهم ورغبتهم الجامحة فی تولّی السلطة والحکم -: «إنّ وجدت علیهم أعواناً فجاهدهم ونابذهم، وإن أنت لم تجد أعواناً، فبایع واحقن دمک». فقال علیّ علیه السلام مخاطباً مجلس الشیوخ!!: «أما والله، لو أنّ أُولئک الأربعین رجلاً الذین بایعونی وفوا لی لجاهدتکم فی الله»((1)).

فلم تکن وصیة النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله لعلیّ علیه السلام هی السکوت والقعود عن حقّه بشکل مطلق وفی جمیع الأحوال، وإنّما جعل ذلک ظرفاً اضطراریّاً ومشروطاً بعدم وجود المؤیِّدین والأعوان، وأنّ علیه أن یسعی لتکوین قوّة فدائیة ضاربة؛ یستعین بها لتقویم الانحراف الذی ظهرت معالمه فی الأُمّة، ویظهر من کلامه علیه السلام أنّه قد عمل فعلاً بالفرض الأوّل من الوصیة، فاستنصر الناس وتهیّأ للجهاد وجمع الأعوان، وعبّأهم للقتال، وأنّ هناک أربعین رجلاً من الأصحاب - فی أقلّ التقادیر - قد بایعوه بالفعل علی الجهاد لإسقاط نظام الحکم، ولکنّهم خذلوه، فاضطر للسکوت والمهادنة.

6- وهناک نصّ روائی یُبیِّن طبیعة التحرّک والتخطیط العلویّ لجمع الأعوان، وکسب الأنصار، والتأکید علی ضرورة التحشید البشری والعسکری؛ للخروج علی الخلافة غیر الشرعیّة، وهو ما شاهده سلمان، ورواه توصیفاً وتوثیقاً لتلک المرحلة الحسّاسة؛ إذ یقول: «فلمّا کان اللیل حمل علیّ فاطمة علی حمار، وأخذ بید ابنیه الحسن

ص: 76


1- ([1]) الهلالی، سلیم بن قیس، کتاب سلیم بن قیس: ص155.

والحسین، فلم یدع أحداً من أهل بدر من المهاجرین ولا من الأنصار إلّا أتی منزله وذکر حقّه ودعاه إلی نصرته، فما استجاب له من جمیعهم إلّا أربعة وأربعون رجلاً، فأمرهم أن یُصبحوا بکرة محلّقین رؤوسهم، معهم سلاحهم، وقد بایعوه علی الموت، فأصبح ولم یوافه منهم أحد غیر أربعة»((1)).

لقد احتشدت فی هذا النصّ معانٍ ومضامین بالغة الخطورة والأهمّیة، تحکی آفاق وأُسلوب وآلیات النهضة العلویّة للتغییر، تلک النهضة التی أقعدها خذلان الأُمّة وضعف إرادتها، حیث حمل علیه السلام ثقل النبوّة وحرم الله ورسوله وأهل بیته الطاهرین، وخرج بهم فی هیئة وکیفیّة خاصّة، وبشیء من السریّة والخفاء والکتمان؛ وذلک بغیة إقناع الأُمّة بحقّه، ودعوة الناس لنصرته، ومبایعته علی الموت والجهاد فی سبیل الله؛ لتصحیح المسار الذی لا زال فی بدایات الانحراف والضلال، وقد اختار للتغییر والتصحیح الأُسلوب العسکری المسلّح؛ لخطورة الموقف، وضرورة الإصلاح.

نکتفی بهذا القدر من النصوص والإیضاحات، ویمکننا أن نجمل مفاصل هذه النهضة العلویّة المبارکة بعد وفاة النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله فی النقاط التالیة:

1- کان الإمام علیّ علیه السلام یعلم بواقع المؤامرة؛ حیث أخبره النبی صلی الله علیه و آله بذلک، وأطلعه علی ما یُضمره القوم من مطامع وشهوات تجاه الزعامة والحکم.

2- إنّ النبی صلی الله علیه و آله قد أوصی علیّاً علیه السلام ، فی حال تفاقمت الأُمور، وانقلب القوم علی الشرعیّة السماویّة، بأن یسعی لتشکیل قوّة عسکریّة مسلّحة لوأد الفتنة وإفشال المؤامرة، وإکمال مسیرة بناء الدولة الإسلامیّة العادلة؛ فکان الخروج المسلّح للتغییر من الوظائف الإلهیّة، بأمر مباشر من النبیّ صلی الله علیه و آله .

ص: 77


1- ([1]) الطبرسی، أحمد بن علی، الاحتجاج: ج1، ص107.

3- کذلک أوصی النبیّ صلی الله علیه و آله علیّاً علیه السلام بالجلوس والسکوت واستبعاد الخیار العسکری إن لم یجد ما یکفی من الأتباع والمؤیّدین، ویُفهم من النصوص الواردة فی هذا المجال أنّ خیار السکوت کان خیاراً اضطراریّاً، وعلاجاً طوارئیّاً فی أسفل قائمة الحلول، ولم یکن هو الأصل فی التأسیس لکیفیّة مواجهة السلطات والحکومات الفاسدة والمنحرفة.

4- ابتدأت الحرکة العلویّة بشکل سلمی؛ لکشف خیوط المؤامرة والخدیعة والشعارات المزیّفة، متمثّلة فی بدایة الأمر بالمقاطعة والاستنکار والمطالبة بالحقّ ورفض البیعة والعمل علی کشف الأوراق، وقد نجحت هذه الحرکة السلمیّة فی فضح المؤامرة ورجالاتها أمام الرأی العام، وأضحی المسلمون علی بیّنة من أمرهم، یعلمون أنّ الحقّ مع علیّ علیه السلام ، لا مع غیره. واستشعاراً بخطورة هذه الحرکة اتّخذت الحکومة القائمة تدابیر أمنیّة صارمة لإسکات هذا الصوت المعارض، والمطالب بحقوقه المشروعة.

5- کانت الحرکة والنهضة العلویّة المبارکة تحمل شعارات التغییر والإصلاح، وإحقاق الحقّ، والدفاع عن الدستور الإسلامی (الکتاب والسنّة النبویّة)، وإقامة حکم الله فی الأرض.

6- بعد أن جُوبه الخیار السلمی بالعنف الحکومی، وارتسمت الصورة الواضحة للخلافة غیر المشروعة، وعملاً بالوصیّة النبویّة الشریفة، سعی الإمام علیه السلام بشکل جادّ ومتکرّر لاستنهاض الأُمّة وتحشید المسلمین وإقناعهم بضرورة تبنّی الخیار العسکری لاسترجاع الحقوق وردع البغاة والطامعین والمتسلّقین علی أکتاف المسلمین، وأنّ الخروج المسلّح لتحقیق الإرادة الإلهیّة أصلح للأُمّة من المهادنة والسکوت علی الباطل، بل یُعدّ هذا الأمر من الکبائر مع إمکانیّة التغییر.

ص: 78

ویظهر من بعض النصوص أنّه علیه السلام قد تحرّک بهذا الاتجاه مراراً وتکراراً، وحاول استنهاض الأُمة فی ظروف ومناسبات مختلفة. کل ذلک بتدبیر خاص ومدروس ومُتقن، مُحاطاً بدرجة عالیة من السرِّیة والخفاء والکتمان، وفی وفد مفاوض إلهی رفیع المستوی، ضمّ أهل الکساء والمباهلة وآیة التطهیر.

7- أصابت تلک الجهود المبارکة أهدافها، وأسفرت عن تشکیل جیش متکامل، وقوّة عسکریّة کبیرة قادرة علی التغییر، وقد بایعوا الإمام علیه السلام علی الجهاد فی سبیل الله والموت بین یدیه. وصرّح علیه السلام فی أکثر من موقف بأنّه مستعدّ لخوض حرب عامّة وشاملة ضدّ کلّ مَن یقف بوجه الإصلاح والتغییر، واسترجاع الحقوق المسلوبة، وإقامة حکم الله فی الأرض، ولیس ذلک إلّا لخطورة الموقف وحساسیّة المرحلة.

8- أصدر الإمام علیه السلام لأتباعه مجموعة من التوجیهات والأوامر والتدابیر السیاسیّة والأمنیّة، کان من جملتها المحافظة علی سریّة الحرکة إلی حین مجیء ساعة الحرب، وأن یکونوا علی استعداد کامل للمواجهة، وأن یحلقوا رؤوسهم؛ لیتمیّزوا بالهیئة والشکل عن غیرهم، ویُوحوا لأعدائهم بأنّهم مستمیتون فی سبیل مبادئهم، ویُدخلوا فی قلوبهم الرعب، وقد أمرهم علیه السلام بالإبکار مصبحین واضعین سیوفهم علی أکتافهم، إما التغییر أو الموت.

9- لکن المؤسف فی الأمر هو أنّ الأُمّة قد تخاذلت فی أداء وظائفها، وتخاذل المؤیّدون وتراجعوا تدریجیّاً عن بیعتهم، اتّباعاً للهوی، وطلباً للسلامة الدنیویّة علی حساب الدین ومصلحة الإسلام.

10- اضطرّ الإمام علیه السلام بعد الخذلان للبیعة والمهادنة، وحینما استدعاه الحزب الحاکم للبیعة تحت طائلة العنف والتهدید، صارحهم بحرکته السیاسیّة وتخطیطه العسکری، الذی کان کثیراً ما یؤرِّقهم ویُخیفهم، وقد أطلعهم بشکل واضح علی أنّه

ص: 79

کان عازماً علی استئصالهم وإقصائهم عن سدّة الحکم، لولا تقاعس وخذلان الناس والأعوان.

وحاصل ما ذکرناه فی هذه النقطة وسابقتها: أنّ هناک نهضة إصلاحیّة وتصحیحیّة منظّمة، قادها الإمام علیّ علیه السلام ، حملت شعارات: التغییر، وإحیاء الکتاب والسنّة، والدفاع عن الشرعیّة الإلهیة، وإسقاط الخلافة المبتدعة والخارجة عن القانون، وإقامة حکومة الإسلام بقیادة علویّة ربّانیّة. ولکن النجاح لم یُکتب لهذه النهضة المبارکة بسبب سوء اختیار الأُمّة المتخاذلة، وفقدان الأنصار المؤمنین بالنهضة وقائدها.

الشاهد الثالث: التصدّی الفعلی لتسلّم مقالید الحکم والسلطة

تسنّم أمیر المؤمنین علیه السلام وبشکل مباشر ورسمی کرسی الخلافة، وإدارة شؤون الدولة الإسلامیّة، بعد مقتل عثمان وإقدام أغلب الصحابة والمسلمین علی مبایعته، وقد رسم للسیاسة صورة رائعة، وأعطی رؤیة متکاملة حول نظام الحکومة الإسلامیّة، فکان ولازال علیّ بن أبی طالب علیه السلام الحاکم الأبرز والأمثل والأعدل فی تاریخ الحکومات الإسلامیة والعالمیة، وقد صُنِّفت حول شخصیّته السیاسیة المحنّکة وحکومته الرائدة الکتب والبحوث والدراسات، وانتُخبت أقواله ومواقفه وسیرته مع الرعیة والولاة والحکومات والأنظمة غیر الإسلامیة مصدراً ومنهاجاً عالمیاً فی الأُمم المتحدة، ولازال المفکّرون من القرّاء والدارسین لهذه الشخصیة العظیمة علی أعتاب سُلّم المجد العَلَویّ، ولازالت جمیع الدول والحکومات مدعوّة لدراسة أبعاد الحکومة والقیادة العلویّة والاقتداء بها للخروج من أزماتها الدولیّة والمحلّیّة.

وقد حملت هذه الحکومة الإلهیة فی جنباتها کلّ خیر للأُمّة الإسلامیة وللإنسانیّة جمعاء، وتضمّنت من الأقوال والنصوص والمواقف والشواهد ما یکرِّس وبشکل

ص: 80

واضح وجلی کلّ ما ادّعیناه فی هذه الإجابة الأُولی، من أنّ سیرة المعصومین علیهم السلام قائمة علی التخطیط لبناء دولة الحقّ واستلام مقالید الحکم.

وکم یُعجبنی أن أستعرض هنا بعض الفصول السیاسیة الضخمة فی حیاة علیّ علیه السلام ، من قبیل ما یرتبط بإعلان الدستور (الکتاب والسنّة)، وتحدید الرؤیة الإسلامیّة السیاسیة تجاه الحکم ومبادئه وعلاقته بالدین والسماء، وتشکیل حقائب الحکومة الصالحة وتعیین وظائفها التنفیذیّة، وبناء الدولة الکریمة، واختیار الولاة والقضاة والموظفین والعمّال، وتنظیم الموازنة المالیّة والاقتصادیّة، وإنشاء منظومة الحقوق ودوائر ودور الرعایة الاجتماعیة، ورفع رایة الإصلاح والتغییر والتطویر، والاهتمام بالتنمیة البشریّة، ومحاربة الفساد بکلِّ أشکاله، ودعم التسلیح العسکری، وتعبئة الجبهات ضد الأعداء علی کافّة الأصعدة، وغیر ذلک من روائع الموسوعة السیاسیّة العَلَویّة. ولکنه یطول بذلک المقام، وتتّسع دائرة هذا الفصل بما یخرجنا عن نقطة البحث؛ ولذا نکتفی بأصل الفکرة فی هذا الشاهد، وهی مسألة التصدّی الفعلی لاستلام الحکم والتأسیس لمعالم الحکم الإسلامی؛ فإنّه خیر شاهد علی أنّ قیادة الأُمّة بالحقّ دینیّاً وسیاسیاً من الأُمور المتیسِّرة والممکنة حتی بعد انحرافها فی الحُقب الماضیة، وأنّ ذلک من الوظائف الموکلة للإمام المعصوم علیه السلام ، إذا أحسنت الأُمّة اختیارها، ووقفت إلی جانبه، وقدّمت الدعم البشری لحکومته الإلهیّة.

وأمّا قصّة رفض الإمام علیّ علیه السلام للخلافة وامتناعه عن استلام الحکم والسلطة بعد مقتل عثمان، لمّا انهال علیه الناس للبیعة، فلیست أسبابها عدم أهلیة الأُمّة لقیادة المعصوم فی بناء الدولة وتشکیل الحکم الإسلامی، وإلّا کان من المفترض رفض الخلافة علی أیّة حال، فقبوله علیه السلام یکشف عن أهلیّة الأُمّة لذلک لو أحسنت

ص: 81

اختیاراتها((1))، وإنّما أراد علیه السلام بذلک الرفض والامتناع عن قبول الخلافة فی بدایة الأمر أن یسجّل استنکاراً واعتراضاً علی الذین توجّهوا لغیره بعد وفاة النبی صلی الله علیه و آله ، وأقرّوا بخلافته بسوء اختیارهم، من دون أن یتحلّی ذلک الغیر بأیّ صفة من مواصفات العلم والحلم والحکمة والقدرة علی قیادة المجتمع، فمنعوه علیه السلام حقّه الطبیعی والمشروع فی تولّی الخلافة ظلماً وعدواناً. وینضاف إلی ذلک أیضاً الظرف الحرج والحساس جدّاً الذی کانت تمرّ به الأُمّة بعد مقتل الخلیفة عثمان؛ حیث کان سیُتّهم بدمه کلّ مَن یجلس فی مکانه لتولّی الخلافة، وسیتحمّل المتصدّی أیضاً أعباء الإرث الثقیل للفساد المستشری الذی تورّطت به الحکومة السابقة، علی کافّة الأصعدة وفی جمیع المستویات، وهذا ما حصل بالفعل.

ومن مجموع ما بیّناه إجمالاً یتّضح: أنّ سیرة أمیر المؤمنین علیه السلام ومواقفه وأقواله وتحرّکاته عموماً کانت قائمة علی تبنّی الرؤیة السیاسیّة، والتدخّل العسکری، والتصدّی للإصلاح والتغییر، وإقامة حکم الله فی الأرض، ولکن سکوته علیه السلام عن ذلک فی فترة معیّنة من حیاته المبارکة کان سببه الأساس هو الاضطراب والتردّد والتخاذل من قِبل الأُمّة والمجتمع الإسلامی بصورة عامّة. وهذا ما اختلفت ظروفه وشرائطه فی زمن الإمام الحسین علیه السلام ، فاختلفت فی ضوئه الصورة والنتائج، کما سیتبیّن.

ص: 82


1- ([1]) المراد من الأهلیة هی القابلیة الفعلیة والإمکان الوقوعی، بمعنی أنّ فی الأُمّة قابلیّة وإمکانیّة الإصلاح الوقوعی والفعلی بقیادة المعصوم فی المجال السیاسی، وهی مبتنیة علی التسلیم بانحراف الأُمّة بعد نبیّها عن مسارها الصحیح، وسوف نبیّن لاحقاً بأنّ البحث عن الأنصار والأعوان مترتّب علی إمکانیة التغییر، فلولا ذلک لما سعی المعصومون من أهل البیت علیهم السلام لتشکیل قوّة مسلّحة تستهدف التغییر والإصلاح السیاسی. فالسعی لجمع الأعوان المخلصین لمبادئ التغییر یستلزم أهلیّة الأُمّة لذلک، وخذلان الأعوان والأنصار لا یستلزم أبداً سقوط تلک الأهلیّة والقابلیّة فی الأُمّة.

المبحث الثانی: المبادئ السیاسیّة للنهضة الحسنیّة

اشارة

نعتقد أیضاً بأنّ الإمام الحسن علیه السلام قد تصدّی بشکلٍ واضح وصریح لإکمال صروح المسیرة الربانیّة والنهضة الإصلاحیّة بعد شهادة أبیه أمیر المؤمنین علیه السلام ، وقد باشر فی التأسیس لإقامة دولة إلهیّة إسلامیّة عادلة بإمامته وقیادته علیه السلام ، فی إطار نهضة تغییریّة إصلاحیّة واسعة الأبعاد، والحدیث فی هذه النقطة یطول أیضاً، وشواهده الروائیة والتاریخیة کثیرة جدّاً ومستفیضة، وجدیرة بالدراسة والبحث والتدقیق، ولکن سنقتصر علی اقتطاف بعضها؛ للتدلیل علی ما نقول:

الشاهد الأوّل: الخطابات السیاسیّة والقیادیّة

والأبرز فی هذا المجال خطبته علیه السلام صبیحة اللیلة التی دُفن فیها أمیر المؤمنین علیه السلام ، حیث استعرض أثناء مراسم العزاء والتأبین المسیرة الدینیّة والإیمانیّة والاجتماعیّة والسیاسیّة والجهادیّة والقیادیّة التی حفلت وتمیّزت بها حیاة أبیه علیّ بن أبی طالب علیه السلام ، ثمّ انتقل بعد ذلک مباشرةً للتعریف بشخصیته المبارکة، وأنّه الامتداد الطبیعی للبیت النبویّ والعلویّ، وأنّه الکفؤ والأهل والأحقّ باستلام زمام الأُمور وتولّی قیادة الأُمّة، قال علیه السلام : «أیُّها الناس، مَن عرفنی فقد عرفنی، ومَن لم یعرفنی فأنا الحسن بن علیّ، وأنا ابن النبیّ، وأنا ابن الوصی، وأنا ابن البشیر، وأنا ابن النذیر، وأنا ابن الداعی إلی الله بإذنه، وأنا ابن السراج المنیر، وأنا من أهل البیت الذی کان جبریل ینزل إلینا ویصعد من عندنا، وأنا من أهل البیت الذی أذهب الله عنهم الرجس وطهَّرهم تطهیراً، وأنا من أهل البیت الذی

ص: 83

افترض الله مودّتهم علی کلّ مسلم»((1)). «ولقد حدّثنی حبیبی جدِّی رسول الله صلی الله علیه و آله أنّ الأمر یملکه اثنا عشر إماماً من أهل بیته وصفوته، ما منّا إلّا مقتول أو مسموم»((2)).

فانتسب الحسن علیه السلام إلی جدّه وأبیه، وعرّف نفسه بمواریث النبوّة والوصایة والمُلک والإمامة وهدایة الأُمّة والدعوة إلی الله}، وأکّد علی أنّ مودّة أهل البیت علیهم السلام فرض واجب علی کافة المسلمین، وأنّ المعصومین من أهل البیت علیهم السلام هم أئمّة الخلق وساداتهم بالحقّ.

وقد فهم الحاضرون من هذه النُّبذة التعریفیّة أنّه علیه السلام قد عرض نفسه الکریمة لتولّی الخلافة والحکم وقیادة الدولة الإسلامیّة خلفاً لأبیه أمیر المؤمنین علیه السلام ؛ ولذا نهض عبد الله بن عباس مباشرة یدعو الحاضرین لمبایعة الحسن علیه السلام ، قائلاً: «معاشر الناس، هذا ابن نبیّکم ووصی إمامکم فبایعوه. فاستجاب له الناس، وقالوا: ما أحبّه إلینا! وأوجب حقّه علینا! وتبادروا إلی البیعة له بالخلافة... فرتّب علیه السلام العمال وأمّر الأُمراء، وأنفذ عبد الله بن العباس (رضی الله عنه) إلی البصرة، ونظر فی الأُمور»((3)).

ثمّ إنّه علیه السلام خطب الناس بعد البیعة قائلاً: «نحن حزب الله الغالبون، وعترة رسوله الأقربون، وأهل بیته الطیبون الطاهرون، وأحد الثقلین اللذین خلّفهما رسول الله صلی الله علیه و آله فی أُمّته، والتالی کتاب الله، فیه تفصیل کلّ شیء، لا یأتیه الباطل من بین یدیه ولا من خلفه، فالمعوّل علینا فی تفسیره، لا نتظنّی تأویله، بل نتیقّن حقائقه، فأطیعونا، فإنّ طاعتنا مفروضة؛ إذ کانت بطاعة الله (عزّ وجلّ) ورسوله مقرونة» ((4)). ویُمثّل هذا الخطاب التاریخی إعلاناً رسمیّاً رئاسیّاً لثالث حکومة إلهیّة فی الإسلام بقیادة المعصوم من حزب

ص: 84


1- ([1]) الحاکم النیسابوری، محمد بن عبد الله، المستدرک علی الصحیحین: ج3، ص172.
2- ([2]) القمی، علی بن محمد، کفایة الأثر: ص162.
3- ([3]) المفید، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص8 - 9.
4- ([4]) المفید، محمد بن محمد، الأمالی: ص349.

واحد، هو حزب الله الغالب، ویجب علی الأُمّة السمع والطاعة لأوامر وتوجیهات هذا الحزب الإلهی المبارک.

وکان الحسن علیه السلام یؤکّد دائماً علی حقّه الشرعی وأحقیّته بالخلافة والحکم، ویُطالب باسترجاع هذا الحق فی مواضع کثیرة، ومناسبات مختلفة، حتی قال له معاویة - بعد واحدة من خطبه علیه السلام البلیغة التی ألهبت مشاعر المجتمع الشامی -: «أما إنّک - یا حسن - قد کنت ترجو أن تکون خلیفة ولست هناک. فقال الحسن علیه السلام : أما الخلیفة فمَن سار بسیرة رسول الله صلی الله علیه و آله وعمل بطاعة الله (عزّ وجلّ)، لیس الخلیفة مَن سار بالجور وعطّل السُّنن واتّخذ الدنیا أمّاً وأباً»((1)). وفی خطبة أُخری أیضاً فی مجلس معاویة یقول علیه السلام : «أصبحت قریش تفتخر علی العرب بأنّ محمداً منها، وأصبحت العرب تفتخر علی العجم بأنّ محمداً منها، وأصبحت العجم تعرف حقّ العرب بأنّ محمداً منها، یطلبون حقّنا، ولا یردّون إلینا حقّنا»((2)). هو المنطق ذاته وذات الشعارات التی حملتها النهضة الحسینیّة المبارکة، ولکن الدور والقرار والمشهد السیاسی قد یختلف باختلاف ظروف الواقع الإسلامی المتقلّب والمتردّی.

الشاهد الثانی: التصدّی لمباشرة شؤون الخلافة والحکم

حیث تولّی علیه السلام وبشکل مباشر إدارة شؤون الحکومة والدولة الإسلامیّة، ففی ضوء النصّ السابق ل-مّا بویع الحسن علیه السلام وأعلن تولّیه الأمر وقیادته للأُمّة، بادر مباشرة لتشکیل الحکومة وتعیین الحقائب الوزاریّة وتخصیص وتشخیص سائر الأُمور التنفیذیّة والمالیّة ذات العلاقة، فرتّب العمال وأمّر الأُمراء ونظر فی الأُمور. وکتب لمعاویة یأمره بطاعته والانقیاد لأوامره، ویقول له: «إنّ علیّاً لما توفّاه الله ولّانی المسلمون

ص: 85


1- ([1]) الطبرسی، أحمد بن علی، الاحتجاج: ج1، ص419.
2- ([2]) ابن شهر آشوب، محمد بن علی، مناقب آل أبی طالب: ج3، ص178.

الأمر بعده، فاتّق الله یا معاویة، واُنظر لأُمّة محمد صلی الله علیه و آله ، ما تحقن به دماءها وتصلح به أمرها»((1)). وفی نصٍّ آخر مماثل یقول فیه علیه السلام : «فالیوم فلیتعجّب المتعجّب من توثّبک - یا معاویة - علی أمر لست من أهله... إنّ علیّاً ل-مّا مضی لسبیله... ولّانی المسلمون الأمر بعده... فدع التمادی فی الباطل، وادخل فیما دخل فیه الناس من بیعتی؛ فإنّک تعلم أنّی أحقّ بهذا الأمر منک عند الله وعند کلّ أوّاب حفیظ، ومَن له قلب مُنیب. واتّق الله ودع البغی، واحقن دماء المسلمین، فو الله، ما لک خیر فی أن تلقی الله من دمائهم بأکثر ممّا أنت لاقیه به، وادخُل فی السلم والطاعة، ولا تُنازع الأمر أهله ومَن هو أحقّ به منک، لیُطفئ الله النائرة بذلک، ویجمع الکلمة، ویُصلح ذات البین، وإن أنت أبیت إلّا التمادی فی غیّک سرت إلیک بالمسلمین فحاکمتک، حتی یحکم الله بیننا وهو خیر الحاکمین»((2)).

وقد تضمّنت هذه النصوص والمکاتبات التاریخیّة المهمّة معالم الرؤیة السیاسیّة الثاقبة والمتمیّزة للإمام الحسن علیه السلام إزاء التأسیس للدولة العادلة، والتصدّی لمحاربة البغاة والمفسدین والإرهابیین القتلة، الطامحین فی إقامة دولة داعشیة أُمویّة تکفیریّة، بقیادة معاویة بن أبی سفیان، تُبنی هیاکلها علی جماجم المسلمین، تُکفّرهم وتقتات من دمائهم. ولا بأس بالتنصیص علی أهمّ ما جاء فیها؛ لارتباطها بواقعنا المعاش:

1- معاویة الذی انخرط فی حزب (بیعة المسلمین) المزعومة لأشیاخه، وبنی مجده علی أنقاض ورفات خلفاء تلک البیعة، یبدأ الإمام الحسن علیه السلام بإلزامه بما ألزم به نفسه،

ص: 86


1- ([1]) ابن أبی الحدید المعتزلی، عبد الحمید بن محمد، شرح نهج البلاغة: ج16، ص24 - 25. وفی لفظ الإربلی فی کشف الغمّة: «فإنّ أمیر المؤمنین علیّ بن أبی طالب ل-مّا نزل به الموت ولّانی هذا الأمر من بعده، فاتّق الله یا معاویة، واُنظر لأُمّة محمد صلی الله علیه و آله ما تُحقَن به دماؤهم، وتُصلَح به أُمورهم»: الإربلی، علی بن أبی الفتح، کشف الغمّة فی معرفة الأئمّة: ج2، ص192. وفی هذا النصّ نسب الإمام الحسن علیه السلام تولیته الأمر لأمیر المؤمنین علیه السلام ، فهو الذی ولّاه الأمر ولیست الأُمّة، والأُمّة لیست من وظائفها إلّا البیعة للمعصوم، وهذا أنسب بالرؤیة العقدیّة فی مذهب الإمامیّة.
2- ([2]) ابن أبی الحدید المعتزلی، عبد الحمید بن محمد، شرح نهج البلاغة: ج3، ص34.

فها هی بیعة المسلمین قد تمّت له علیه السلام بما لا ینقص عن مبایعة السابقین، وعلی معاویة أن یُذعن ویخضع وینقاد لولایته وخلافته الإسلامیة الشرعیة، وأن یلتزم الجانب السلمی فی التعاطی مع هذا الأمر.

2- یواصل الإمام علیه السلام التأکید علی حقّه فی قیادة الأُمّة، وأنّه من الحقوق المعلومة والثابتة، التی لا تفتقر إلی بیعة مَن بایع أو طاعة مَن یطیع، وإنّما البیعة والطاعة من آلیات وسبل تفعیل ذلک الحقّ الإلهی، یُشیر إلی هذا المعنی قوله علیه السلام : «فإنّک تعلم أنّی أحقّ بهذا الأمر منک عند الله، وعند کلّ أوّاب حفیظ، ومَن له قلب منیب... ولا تنازع الأمر أهله ومَن هو أحقّ به منک». ویؤکّد علیه السلام علی أنّ خیر الأُمّة صلاحها فی إرجاع الحقّ لأهله، حیث یقول: «لیُطفئ الله النائرة بذلک، ویجمع الکلمة، ویصلح ذات البین».

3- التأکید علی عدم أهلیة معاویة للمنصب الحساس الذی یشغله، وعلیه أن یتنحّی عن منصبه، وأنّه ینبغی أن تکون الأهلیة والکفاءة هی المعیار الأساس فی تولّی المناصب السیادیّة والحکومیّة.

4- الدعوة إلی السلم، والطاعة، وتقوی الله، والانقیاد للشرعیّة، وتوحید الکلمة، وإطفاء الإرث العدوانی الثقیل، وتوخّی الإصلاح وصلاح الأُمّة، وترک البغی والتمادی فی الغیّ والباطل، وعدم منازعة أهل الحقّ فی حقّهم، وحقن دماء المسلمین، والتزام مبدأ التداول السلمی للسلطة.

5- وقد ختم الإمام علیه السلام کتابه لمعاویة بالتهدید ولغة السلاح والقتال إن أبی معاویة التعامل بالطرق السلمیة والدبلوماسیة، قائلاً: «وإن أنت أبیت إلّا التمادی فی غیّک، سرت إلیک بالمسلمین فحاکمتک، حتی یحکم الله بیننا وهو خیر الحاکمین».

ص: 87

ثمّ إنّه علیه السلام قام بتجییش الجیوش وتحشیدها والرفع من معنویاتهم، وخرج الجیش الإسلامی بقیادته لقتال البغاة - معاویة وأتباعه بعد أن رفضوا دعوته للطاعة والسلم - وقد زاد فی عطاء الجیوش وتجهیزهم وتسلیحهم((1)). والحدیث فی هذه النقطة بالخصوص یتّسع ویطول، ونحن الیوم بأمسّ الحاجة لدراسة معالم وأبعاد السیاسة الحسنیّة المبارکة، ومعرفة دورها فی التعامل مع الأزمات الاجتماعیّة والسیاسیّة والأمنیّة والعسکریّة، التی واجهها المجتمع الإسلامی، قبل الالتجاء إلی الموافقة علی عقد الهدنة مع معاویة. وسوف نتجنّب الولوج فی هذه النقطة أیضاً رعایةً للإیجاز والاختصار.

الشاهد الثالث: فقدان الناصر وخذلان الأُمّة

هناک مجموعة کبیرة جدّاً من الأحادیث والنصوص التاریخیة، الواضحة والصریحة فی أنّ الخروج المسلّح ضد معاویة وإسقاط حکمه وإقامة حکم الله فی الأرض، کان هو الحلّ الأمثل والأفضل، بل هو المتعیّن مع وجود الأنصار المؤمنین بنهضة الإصلاح والتغییر، کما أشرنا آنفاً إلی بعض تلک النصوص. وقد سار الإمام الحسن علیه السلام بشکل عملی لإنجاز هذه المهمّة العسکریّة المصیریّة والحسّاسة، فخرج بالجیوش لیختبر نیّاتهم وطاعتهم، ففشلوا فی الاختبار فشلاً ذریعاً((2)).

وکان الحسن علیه السلام کثیراً ما یُهدِّد معاویة بالجیش الإسلامی، ویضع الخیار العسکری دائماً علی طاولة المداولة والمفاوضات، برجاء أن ینهض الجیش بهذه المهمّة والمسؤولیّة الحسّاسة، کما تقدّمت الإشارة إلی ذلک فی نصٍّ سابق، وهو ما جاء أیضاً

ص: 88


1- ([1]) اُنظر تفصیل ذلک فی المصادر التالیة: ابن شهر آشوب، محمد بن علی، المناقب: ج3، ص194- 195. ابن أبی الحدید المعتزلی، عبد الحمید بن محمد، شرح نهج البلاغة: ج16، ص30 وما بعدها. المجلسی، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص33 وما بعدها.
2- ([2]) هناک تفاصیل مؤلمة حول هذه النقطة، یمکن ملاحظتها فی أغلب الکتب التاریخیة والروائیة.

بشکل صریح فی کتابٍ بعثه لمعاویة بعد أن نفّذ علیه السلام عقوبة الإعدام بحق شخصین منافقین من جواسیس معاویة، یقول فیه: «أمّا بعد، فإنّک دسست إلیّ الرجال کأنّک تحبّ اللقاء، وما أشکّ فی ذلک، فتوقّعه إن شاء الله»((1)).

ولکن التاریخ یرسم صورة مختلفة للجیش الإسلامی آنذاک، فکان وللأسف جیشاً متداعیاً، خائر القوی، منهزماً ومکسوراً من الناحیة الإیمانیّة والنفسیة والإعلامیّة، خائفاً مهزوزاً متململاً من کثرة الحروب وطول أمدها وامتداد تاریخ المسیرة الجهادیّة، قد وضع الدنیا وزینتها أمام طموحاته وأمانیه، وجعل التضحیة فی سبیل الدین والمبادئ آخر ما یفکّر فیه ویهتمّ به، وسجّل انهزامات متتالیة فی شتّی المیادین، حتی کاد هذا الجیش الضعیف المخترق والمکشوف أن یُسلِّم الحسن علیه السلام أسیراً بید معاویة، وهذا ما صرّح به الإمام علیه السلام فی محضر معاویة، حینما خطب الناس قائلاً: «أیُّها الناس، إنّ معاویة زعم أنّی رأیته للخلافة أهلاً، ولم أرَ نفسی لها أهلاً، وکذب معاویة، أنا أوْلی الناس بالناس فی کتاب الله، وعلی لسان نبی الله، فأُقسم بالله، لو أنّ الناس بایعونی وأطاعونی ونصرونی لأعطتهم السماء قَطْرَها، والأرض برَکَتَها، ول-مّا طمعتَ فیها یا معاویة، وقد قال رسول الله صلی الله علیه و آله : ما ولّت أُمّةٌ أمرَها رجلاً قطّ وفیهم مَن هو أعلم منه إلّا لم یزل أمرهم یذهب سفالاً، حتی یرجعوا إلی ملّة عَبَدة العجل... وقد ترکت الأُمّةُ علیّاً علیه السلام وقد سمعوا رسول الله صلی الله علیه و آله یقول لعلیّ علیه السلام : أنت منّی بمنزلة هارون من موسی غیر النبوة، فلا نبی بعدی. وقد هرب رسول الله صلی الله علیه و آله من قومه، وهو یدعوهم إلی الله، حتی فرّ إلی الغار، ولو وجد علیهم أعواناً ما هرب منهم، ولو وجدت أنا أعواناً ما بایعتک یا معاویة. قد جعل الله هارون فی سعة حین استضعفوه وکادوا یقتلونه، ولم یجد علیهم أعواناً، وقد

ص: 89


1- ([1]) أبو الفرج الأصفهانی، علی بن الحسین، مقاتل الطالبیین: ص33.

جعل الله النبی صلی الله علیه و آله فی سعة حین فرّ من قومه، ل-مّا لم یجد أعواناً علیهم، وکذلک أنا وأبی فی سعة من الله، حین ترکتنا الأُمّةُ وبایعت غیرنا ولم نجد أعواناً. وإنّما هی السُّنن والأمثال یتّبع بعضها بعضاً»((1)) .

وأمّا أنصاره والمحیطون به، فقد تحدّث هو علیه السلام عنهم قائلاً: «یزعمون أنّهم لی شیعة، ابتغوا قتلی، وانتهبوا ثقلی، وأخذوا مالی... والله، لو قاتلت معاویة لأخذوا بعنقی حتی یدفعونی إلیه سلماً. فو الله، لأن أسالمه وأنا عزیز خیر من أن یقتلنی وأنا أسیره أو یمنّ علیّ، فتکون سُبّةً علی بنی هاشم إلی آخر الدهر»((2)).

وفی نصٍّ آخر یقول علیه السلام : «أما والله، ما ثنانا عن قتال أهل الشام ذلّة ولا قلّة، ولکن کنّا نقاتلهم بالسلامة والصبر، فشیب السلامة بالعداوة، والصبر بالجزع، وکنتم تتوجّهون معنا ودینکم أمام دنیاکم، وقد أصبحتم الآن ودنیاکم أمام دینکم، وکنّا لکم وکنتم لنا، وقد صرتم الیوم علینا... وإن معاویة قد دعا إلی أمر لیس فیه عِزٌّ ولا نصفة، فإن أردتم الحیاة قبلناه منه، وأغضضنا علی القذی، وإن أردتم الموت، بذلناه فی ذات الله، وحاکمناه إلی الله. فنادی القوم بأجمعهم: بل البقیة والحیاة»((3)).

وفی نصٍّ ثالث یؤنِّب أنصاره علی الاختراقات الخطیرة والخیانات العسکریّة التی انتشرت فی جیشه ومعسکره، حیث یقول علیه السلام : «ویلکم! والله، إنّ معاویة لا یفی لأحد منکم بما ضمنه فی قتلی، وإنّی أظنّ أنّی إن وضعت یدی فی یده فأسالمه لم یترکنی أدین لدین جدّی صلی الله علیه و آله وإنّی أقدر أن أعبد الله (عزّ وجلّ) وحدی، ولکنّی کأنّی أنظر إلی أبنائکم واقفین علی أبواب أبنائهم یستسقونهم ویستطعمونهم بما جعله الله لهم، فلا یسقون

ص: 90


1- ([1]) الطبرسی، أحمد بن علی، الاحتجاج: ج2، ص8.
2- ([2]) المصدر السابق: ج2، ص10.
3- ([3]) الدیلمی، الحسین بن أبی الحسن، أعلام الدین فی صفات المؤمنین: ج2، ص292.

ولا یطعمون، فبُعداً وسحقاً لما کسبته أیدیکم (ﯸﯹﯺﯻﯼﯽ). فجعلوا یعتذرون بما لا عُذرَ لهم فیه» ((1)).

ویقول أیضاً علیه السلام فی مقام بیان سبب تسلیمه الخلافة لمعاویة: «والله، ما سلّمت الأمر إلیه، إلّا أنّی لم أجد أنصاراً، ولو وجدت أنصاراً لقاتلته لیلی ونهاری، حتی یحکم الله بینی وبینه»((2)).

وبهذا الکلام کان الحسن علیه السلام یستقبل مَن یعاتبه من أصحابه فی مسألة الصُلح والهدنة، فمن ذلک ما تقدمّت الإشارة إلیه فی ملامح النهضة العلویّة، حیث أجاب علیه السلام حِجر بن عدی الطائی بالقول: «والله، یا حجر! لو أنّی فی ألف رجل، لا والله إلّا مائتی رجل، لا والله إلّا فی سبع نفر لما وسعنی ترکه... وتالله، یا حجر! إنّی لعلی ما کان علیه أبی أمیر المؤمنین لو أطعتمونی» ((3)).

وبنفس المضمون ما روی عن علی بن محمد بن بشیر الهمدانی، قال: «خرجت أنا وسفیان بن لیلی، حتی قدمنا علی الحسن المدینة، فدخلنا علیه، وعنده المسیب بن نجبة وعبد الله بن الوداک التمیمی، وسراج بن مالک الخثعمی، فقلت: السلام علیک یا مذلّ المؤمنین! قال: وعلیک السلام، اجلس، لستُ مذلَّ المؤمنین، ولکنی معزُّهم، ما أردت بمصالحتی معاویة إلّا أن أدفع عنکم القتل، عندما رأیت من تباطؤ أصحابی عن الحرب، ونکولهم عن القتال»((4)).

ویُعقّب السیِّد المرتضی علی مثل هذه النصوص قائلاً: «لأن المجتمعین له من الأصحاب وإن کانوا کثیری العدد، فقد کانت قلوب أکثرهم دغلة غیر صافیة، وقد کانوا

ص: 91


1- ([1]) الصدوق، محمد بن علی، علل الشرائع: ج1، ص221.
2- ([2]) الطبرسی، أحمد بن علی، الاحتجاج: ج2، ص12.
3- ([3]) الخصیبی، حسین بن حمدان، الهدایة الکبری: ص193.
4- ([4]) الدینوری، أحمد بن داود، الأخبار الطوال: ص221.

صبوا إلی دنیا معاویة... فأظهروا له علیه السلام النصرة، وحملوه علی المحاربة والاستعداد لها طمعاً فی أن یورِّطوه ویسلِّموه، فأحسّ بهذا منهم قبل التولّج والتلبّس، فتخلّی من الأمر، وتحرّز من المکیدة»((1)).

ونستنتج من مجموع هذه النصوص المتضافرة الأُمور التالیة:

1- إنّ الإمام الحسن علیه السلام کان عازماً علی السیر قُدماً فی تولّی شؤون الخلافة الإلهیّة، والاستمرار فی بناء الحکومة العادلة وتشیید صرح الدولة الإسلامیّة الکریمة.

2- کان یری علیه السلام أنّه هو المؤهّل والأوْلی والأحقّ فی تولّی الحکم وقیادة الأُمّة فی کتاب الله وعلی لسان رسول الله صلی الله علیه و آله ، قبل بیعة الناس له، وأنّ علی معاویة أن یطیعه ویخضع لحکمه الإلهی العادل کما تقدّم، وأنّ الناس لو أطاعوه وبایعوه ونصروه لأعطتهم السماء قطرَها، والأرض برکتَها.

3- إنّه علیه السلام کان عازماً علی محاربة الفساد والقضاء علیه بشتّی الوسائل والسُبل المشروعة، وابتدأ علیه السلام بمحاولة القضاء علی حکومة معاویة بن أبی سفیان، التی کانت تمثّل أبرز مظاهر الفساد، وتشغل مساحة جغرافیة کبیرة وواسعة ومهمّة فی کیان الدولة الإسلامیّة. فاختار علیه السلام الحلّ العسکری والخروج المسلّح لاستئصال جذور الشجرة الخبیثة والغدّة الأُمویّة التی ابتُلی بها المجتمع الإسلامی، وکان عدد الجیش وعدّته کافیین لبلوغ هذه الغایة، ولکن الأُمّة عصت أوامره وخذلته وتقاعست عن الجهاد فی سبیل الله، وقدّمت المصالح الشخصیة والرغبات الفردیّة الخاصّة، علی سعادة البشریّة ورقیّها وصلاح أمرها.

4- إنّه علیه السلام لو وجد أعواناً وأنصاراً لما بایع معاویة، ولقاتله لیله ونهاره، وأنّ العزّة والنصرة والکرامة بقتاله والقضاء علیه، ولم تکن المصلحة أبداً فی الصلح لو اختارت

ص: 92


1- ([1]) المرتضی، علی بن الحسین، تنزیه الأنبیاء: ص221 - 222.

الأُمّة طریق الجهاد، بل کان فی الصلح ذلّة ومهانة لهم وللأجیال الّلاحقة، فاختار القوم العیش بالذلّ وفضّلوا الحیاة الرخیصة وقدّموها علی خیار العزّة والإباء والنصر، فبایعت الأُمّة معاویة خاضعة خاسئة، وأُجبر الحسن علیه السلام علی قبول الصلح وفی العین قذی؛ لیُلملم ما تبقّی للمؤمنین من العزّة والکرامة، فبُعداً وسُحقاً لما کسبته أیدی الأُمّة المتخاذلة، وسیعلم الذین ظلموا أیّ منقلب ینقلبون.

5- کانت هناک مؤامرات تُحاک لیلاً ونهاراً، وخیانات وانقلابات عسکریّة متوالیة، هدفها القضاء علی خلافة الحسن علیه السلام ، والتجاوز علی شخصه الکریم، ونهب تراثه وتسلیبه، وتسلیمه لمعاویة لیری فیه رأیه، إما القتل أو الإذلال، فکان الصلح خیاراً مُرّاً لا مناص منه.

الشاهد الرابع: ما تضمّنته بنود الصُلح والهدنة مع معاویة

إنّ الإمام الحسن علیه السلام قد صالح معاویة علی «أنّ له ولایة الأمر بعده، فإن حدث به حدث فللحسین»((1))، ویُعدّ هذا البند من البنود المهمّة التی تصدّرت القائمة، وتکرّر ذکرها فی خُطب الإمام الحسن علیه السلام بعد توقیعه علی کتاب الصلح، وهذا ما یکشف وبوضوح عمّا نروم إثباته، من أنّ الإمام الحسن علیه السلام کان ینظر إلی الحکم الإلهی والقیادة الربانیّة علی ید المعصوم فی هذه الأرض من الفرائض التی یجب النهوض بها، ولکنها کانت وللأسف فاقدة لشروطها المرتبطة بواقع الأُمّة، ومتی ما تحقّقت الشروط کان علی الإمام المعصوم أن ینهض للقیام بدولة الحقّ والعدل.

ویُضاف إلی ذلک أیضاً البنود الأُخری التی تضمّنت روح التدخل السیاسی من قِبل المعصوم؛ لسدّ منافذ الفساد والانحراف فی الحکومات غیر الکفوءة، من قبیل ما یرتبط بالقضایا الأمنیة العامّة، وترک تتبّع الناس وقتلهم علی المذهب والهویة والانتماء،

ص: 93


1- ([1]) ابن عنبة، أحمد بن علی، عمدة الطالب فی أنساب آل أبی طالب: ص67.

واحترام رموز الأُمّة وقادتها، والمحافظة علی أموال الشعب وصرفها فی مستحقّیها، وغیرها من البنود الأُخری.

الشاهد الخامس: التهدید والإنذار المتواصل

کان الإمام الحسن علیه السلام دائماً ما یوجّه التهدید والإنذار لمعاویة، بأنّه یراقب المشهد السیاسی عن کثب، وأنّه سیعمل علی دراسة الأُمور مجدّداً، وإعادة النظر فی قرار الصلح، والانقلاب علیه بإلغائه، فی حال تفاقمت الأُمور، وتدهورت الأوضاع الأمنیّة والاجتماعیّة، واستشری الفساد، وتعرّض المسلمون عموماً وأتباع أهل البیت علیهم السلام علی وجه الخصوص للسوء والاضطهاد والمطاردة من قِبل السلطة الظالمة.

ویمکننا أن نستشعر ذلک بوضوح فی ردٍّ له علیه السلام علی إساءةٍ واعتداء فی الکلام علی شخصه الکریم من قِبل عمرو بن العاص فی مجلس معاویة، یقول فیه علیه السلام : «یا معاویة، لا یزال عندک عبد راتعاً فی لحوم الناس، أما والله، لو شئت لیکونن بیننا ما تتفاقم فیه الأُمور وتحرج منه الصدور»((1)).

وفی نصّ آخر طویل ومفصّل، یردّ فیه علیه السلام بقوّة علی کلام مُسیء تحدّث به مروان بن الحکم فی مجلس معاویة، فأذهل بکلامه علیه السلام الحضور، وأسکت الطغاة وألجم أفواههم وألقمها حجراً، حیث یقول: «ثمّ تزعم أنّی ابتُلیت بحلم معاویة. أما والله، لهو أعرف بشأنه وأشکر لنا إذ ولّیناه هذا الأمر، فمتی بدا له، فلا یغضین جفنه علی القذی معک، فو الله، لأعنفنّ أهل الشام بجیش یضیق فضاؤه((2))، ویستأصل فرسانه، ثمّ لا

ص: 94


1- ([1]) المرعشی، شهاب الدین، شرح إحقاق الحق: ج11، ص244، نقلاً عن البیهقی فی کتابه المحاسن والمساوی.
2- ([2]) وفی لفظ آخر: «فو الله، لأثخننّ أهل الشام بجیش یضیق عنها فضاؤها». الخوئی، حبیب الله، منهاج البراعة: ج19، ص153.

ینفعک عند ذلک الروغان والهرب»((1)). إنّ هذا المنطق العاصف والقوی والمرعب لطواغیت الأُمّة، یکشف وبوضوح عن أنّ الإمام الحسن علیه السلام قد مهّد الأُمور لتنفیذ ما یقول، وعمل علی التأسیس لقاعدة شعبیة عریضة وواسعة فی المجتمع الإسلامی، وهیأها للتغییر والانقلاب، فی حال تطلّب الأمر ذلک، ولکنه علیه السلام کان ملزماً بالصلح. وهناک شواهد للتدلیل علی هذه الحقیقة أعرضنا عن ذکرها خوف الإطالة.

ص: 95


1- ([1]) المرعشی، شهاب الدین، شرح إحقاق الحق: ج11، ص222، نقلاً عن البیهقی فی کتابه المحاسن والمساوی.

ص: 96

المبحث الثالث: المبادئ السیاسیّة للنهضة الحسینیّة

کان هذا العنوان بالخصوص هو الموضوع الأساس الذی دعانا لتدوین أبحاث هذا الکتاب، وقد عرضنا فی الفصول الماضیة جملة من الشواهد والنصوص فیما یرتبط بالتدلیل علی المبادئ والأهداف السیاسیة للنهضة الحسینیّة المبارکة، وذکرنا من ضمن تلک الشواهد: حرکة التغییر ونصوص الإصلاح الحسینی، ومواقف الإمام الحسین علیه السلام وأقواله وتصریحاته ومکاتباته ورسائله السیاسیة إلی أهل الکوفة والبصرة وغیرهما، مضافاً إلی أقواله وأحادیثه وخطبه علیه السلام فی طریقه إلی الکوفة وفی فترة تواجده بکربلاء.

واستنتجنا من مجموع تلک الشواهد أنّ الإمام الحسین علیه السلام قد قام بنهضة إصلاحیّة عامّة وشاملة، کان من أهمّ أهدافها: الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، والتصدّی للظلم والجور والفساد، ونصرة المظلومین والمضطهدین، والإطاحة بالنظام الأُموی ال-مُستبِدّ، وإرجاع الحقّ إلی أهله، وإقامة حکم الله فی الأرض، وتشکیل حکومة إلهیة بقیادة خلیفة الله فی خلقه، وتطبیق مبادئ الشریعة الإسلامیة، وحفظ الحرّیات الدینیّة والإنسانیّة المشروعة، وأداء الحقوق والواجبات الدینیّة والاجتماعیّة، وإجراء الحدود، وتنفیذ القوانین، والعمل بالأحکام الشرعیّة.

وقد تهیّأت کافّة السبل والأسباب والعوامل لانتصار هذه النهضة النوراء، وبزوغ الفجر الحسینی الصادق، وإقامة الحقّ والعدل فی ربوع البلاد، وذلک من زوایا وجهات مختلفة ومتنوّعة، منها:

ص: 97

1- هلاک معاویة، الذی أحکم قبضته علی الناس بالظلم والقتل والجور وانتهاک الحرمات.

2- انقضاء مدّة الهدنة وأمد الصلح الحسنی، الذی التزم به الحسین علیه السلام مع وجود معاویة فی سدّة الحکم((1)).

3- ضعف الحکومة الأُمویة المتمثّلة بیزید المتهتک الطائش.

4- سأم الناس وامتعاضهم الشدید من الحکم الأُموی الجائر، الذی تجاوز کلّ القیم الإسلامیة والبشریة، وأرهق الأُمّة بصنوف الاضطهاد والإرهاب، من القتل والتشرید والتجویع، والتضییق الخانق للحریات الدینیة والفکریّة والاجتماعیّة والسیاسیّة.

5- اشتیاق المسلمین وحنینهم للعدالة العلویّة الضائعة.

6- المنزلة المتمیزة والمقام الرفیع الذی یشغله الإمام الحسین علیه السلام فی نفوس المسلمین.

7- وجود الشخصیّة القویّة والمؤهلة لقیادة الأُمة.

8- توفّر القدر الکافی من الأعوان والأنصار، الذین بایعوا الإمام الحسین علیه السلام علی الخلافة والجهاد والنصر وبذل النفس والتفانی بین یدیه، بنوایا حقیقیة وصادقة، اختبرها السفیر الحاذق والرائد الفطن والثقة من أهل البیت مسلم بن عقیل علیه السلام ، وعکسها بأمانة تامّة علی الإمام علیه السلام ، فی کتاب یحمل بشائر التغییر، ویدعوه للإسراع فی القدوم إلی العاصمة العلویّة هادیاً مهدیّاً.

وهذا ما لم یتوفر لأمیر المؤمنین علیه السلام بعد وفاة النبی الأکرم صلی الله علیه و آله ، ولا للحسن علیه السلام حینما اضطر للصلح مع معاویة کما ألمحنا سابقاً. بل سبق أیضاً التصریح بأنّهما سلام الله علیه

ص: 98


1- ([1]) اُنظر: الدینوری، أحمد بن داود، الأخبار الطوال: ص222.

سیخرجان للتغییر والانقلاب علی السلطات غیر الشرعیّة لو اجتمع لهما العدد المطلوب من الأتباع والأنصار، وقد حُدّد ذلک العدد فی بعض النصوص بسبعة من المضحّین، أو بأربعین، بحسب اختلاف الظرف وطبیعة الموقف، وهذا العدد من الأبطال وأکثر منه قد التفّ حول الحسین علیه السلام فی کلّ الظروف، قبل حادثة کربلاء وحین وقوعها.

یُضاف إلی ذلک کلّه تردّی الأوضاع السیاسیة والاجتماعیة والدینیّة وتدهورها وانحدارها بما لا یترک مجالاً للجلوس والسکوت؛ وفی ضوء هذا وذاک اختلفت المرحلة وتغیّرت الأوضاع وتحرکت ریاح الثورة والتحریر، فتوجّهت أنظار الأُمّة لمنقذها، فأصبح الإمام فی قطب دائرة المسؤولیة السیاسیّة، وتوجّب علیه الخروج لإسقاط النظام الظالم وإقامة الحکومة الإلهیة العادلة.

وأمّا لماذا لم تُحقّق النهضة الحسینیّة المبارکة هذا النوع من الأهداف السیاسیّة؟ ولماذا لم یحصل التغییر السیاسی والحکومی، ولم تسقط دولة بنی أُمیّة؟ ولماذا لم تُشرق الأرض بصبح العدالة الحسینیّة؟ ولماذا انقلبت الظروف وتغیّرت إلی مأساة وثأر تطلبه السماء؟ فلهذا کلّه شأن آخر وحدیث مستأنف، نتمنّی أن نحظی بفرصة أُخری لبحثه ودراسته دراسة مفصّلة.

اتّضح إلی هنا: أنّ الانقلاب علی الحکومات الظالمة والفاسدة، والعمل علی إسقاطها وإقامة حکم الله فی الأرض، هو المنهج الإلهی والسبیل القویم الذی سار علیه سادة الخلق وأئمّة الهدی علیهم السلام بعد وفاة النبی الأکرم صلی الله علیه و آله . والإمام الحسین علیه السلام قد اتّخذ ذات المواقف العلویّة والحسنیّة، ولکنّ اختلاف الظروف والشرائط والأحداث هو الذی غایر فی فوارق الصورة وملامح المشهد.

ص: 99

ص: 100

المبحث الرابع: مواقف وأقوال الأئمّة علیهم السلام من ذرّیة الحسین علیه السلام بعد شهادته

نعم؛ نحن نعتقد بأنّ منهج وأُسلوب التعامل مع السلطات الحاکمة قد تغیّر بعد شهادة الإمام الحسین علیه السلام مباشرة، وکان السبب الرئیس فی ذلک هو انکفاء الأُمّة وفقدان الأعوان والأنصار المؤهّلین لرفع رایة الإصلاح والتغییر بما یناسب الوقت والمرحلة، والنصوص والشواهد التاریخیة والروائیة الدالّة علی ذلک کثیرة ومتضافرة، نکتفی بالإشارة إلی بعضها:

منها: ما تحدّث به الإمام زین العابدین علیه السلام مع أهل الکوفة، حینما أبدوا استعدادهم لمبایعته والقتال بین یدیه لإسقاط حکومة یزید بن معاویة، بعد أن ألهب مشاعرهم بخطاب حول مأساة کربلاء، یحرق القلوب، یقول فیه: «أنا ابن مَن انتهکت حرمته، وسُلبت نعمته، وانتُهب ماله، وسُبی عیاله، أنا ابن المذبوح بشطِّ الفرات، من غیر ذحل ولا ترات، أنا ابن مَن قُتل صبراً، وکفی بذلک فخراً»، ثمّ توجّه إلی الناس قائلاً: «رحم الله امرئاً قبل نصیحتی وحفظ وصیتی»، فأجابوه بأجمعهم: «نحن کلّنا یا بن رسول الله سامعون مطیعون، حافظون لذمامک، غیر زاهدین فیک، ولا راغبین عنک، فمرنا بأمرک یرحمک الله، فإنّا حرب لحربک، وسلم لسلمک، لنأخذن یزید لعنه الله، ونبرأ ممّن ظلمک». فأجابهم علیه السلام بما یُحدّد وبوضوح الموقف السیاسی الإلهی تجاه الأُمّة المتخاذلة فی ظل الحکومات الظالمة، قائلاً: «هیهات هیهات! أیُّها الغَدَرَة ال-مَکَرة! حِیل بینکم وبین شهوات أنفسکم، أتریدون أن تأتوا إلیّ کما آتیتم آبائی من قَبل؟! کلّا وربّ الراقصات، فإنّ الجرح ل-مّا یندمل»، ثمّ انتقل لتحدید الوظیفة الفعلیّة لهذه الأُمّة الضعیفة، قائلاً:

ص: 101

«ومسألتی أن تکونوا لا لنا ولا علینا»((1)). فکانت هذه المرحلة العصیبة والحساسة بعد شهادة الحسین علیه السلام أدنی ما تتطلّبه هو تحیید الأُمّة من الناحیة السیاسیّة، فی ظل التخاذل الکبیر، الذی وصفته السیدة زینب‘ فی الموقف ذاته، مخاطبة أهل الکوفة بقولها: «خوّارون فی اللقاء، عاجزون عن الأعداء، ناکثون للبیعة، مضیّعون للذمّة»((2)).

ومنها: قول الإمام الباقر علیه السلام : «إذا اجتمع للإمام عدّة أهل بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر، وجب علیه القیام والتغییر»((3)). وهذا یکشف بجلاء عن أنّ الأُمّة لا زالت مؤهّلة للنهضة والتغییر فی زمان الإمام الباقر علیه السلام ، والمشکلة فی توفّر الأنصار، واستمرّت الحال کذلک فی زمن المعصومین من ذریّته علیهم السلام . کما أنّ النصّ صریح أیضاً فی أنّ القیام والتغییر السیاسی من الأُسس الدینیّة والأهداف الحیویّة التی یرصدها ویُتابعها کلّ إمام، متابعة میدانیّة وبشکل متواصل، ومتی ما تحقّقت الشرائط والظروف المناسبة، خرج للتغیر وإقامة حکم الله فی الأرض.

ومنها: ما هو المشهور والمروی عن مأمون الرقی، قال: «کنت عند سیِّدی الصادق علیه السلام ، إذ دخل سهل بن حسن الخراسانی، فسلّم علیه، ثمّ جلس، فقال له: یا بن رسول الله، لکم الرأفة والرحمة، وأنتم أهل بیت الإمامة، ما الذی یمنعک أن یکون لک حقّ تقعد عنه، وأنت تجد من شیعتک مائة ألف یضربون بین یدیک بالسیف؟! فقال له علیه السلام : اجلس یا خراسانی رعی الله حقّک. ثمّ قال: یا حنفیة، أسجری التنور. فسجرته حتی صار کالجمرة، وابیضّ علوه، ثمّ قال: یا خراسانی، قم فاجلس فی التنور، فقال الخراسانی: یا سیِّدی یا بن رسول الله، لا تعذبنی بالنار! أقِلنی أقالک الله. قال: قد أقلتک، فبینما نحن

ص: 102


1- ([1]) ابن طاووس، علی بن موسی، اللهوف فی قتلی الطفوف: ص92 - 93.
2- ([2]) المفید، محمد بن محمد، الأمالی: ص322.
3- ([3]) القاضی المغربی، النعمان بن محمد، دعائم الإسلام: ج1، ص342.

کذلک، إذ أقبل هارون المکّی ونعله فی سبّابته، فقال: السلام علیک یا بن رسول الله. فقال له الصادق: القِ النعل من یدک واجلس فی التنّور. قال: فألقی النعل من سبابته ثمّ جلس فی التنور، وأقبل الإمام یحدِّث الخراسانی حدیث خراسان، حتی کأنّه شاهد لها، ثمّ قال: قم یا خراسانی واُنظر ما فی التنور. قال: فقمت إلیه فرأیته متربعاً، فخرج إلینا وسلّم علینا، فقال له الإمام: کم تجد بخراسان مثل هذا؟ فقلت: والله، ولا واحداً. فقال علیه السلام : لا والله، ولا واحداً، أمّا إنّا لا نخرج فی زمان لا نجد فیه خمسة معاضدین لنا، نحن أعلم بالوقت»((1)). فکان التغییر السیاسی والقیام بنهضة إصلاحیّة فی الأُمّة من المرتکزات المتأصّلة فی نفوس الشیعة والموالین لأهل البیت علیهم السلام ، وکان الإمام علیه السلام علی درایة تامّة بمتطلّبات المرحلة، ومن أهمّ متطلباتها وجود الأنصار المؤیِّدین والمخلصین لدینهم وإمامهم، الذین یحملون ما یحمله هارون المکِّی من تسلیم وإخلاص وتفانٍ بین یدی إمامه وقائده وسیِّده الصادق علیه السلام ، وهذا ما لم یظفر به أحد من الأئمّة المعصومین، إلّا الإمام الحسین علیه السلام ، فخرج بأهله وأصحابه المخلصین؛ لطلب الإصلاح والتغییر.

ومنها: ما روی عن عبد الله بن بکیر، عن أبی الحسن موسی بن جعفر علیه السلام ، قال: «یا بن بکیر، إنّی لأقول لک قولاً قد کانت آبائی علیهم السلام تقوله: لو کان فیکم عدّة أهل بدر لقام قائمنا، یا عبد الله، إنّا نداوی الناس ونعلم ما هم، فمنهم مَن یصدقنا المودّة یبذل مهجته لنا، ومنهم مَن لیس فی قلبه حقیقة ما یظهر بلسانه، ومنهم مَن هو عین لعدونا علینا، یسمع حدیثنا، وإن أُطمع فی شیء قلیل من الدنیا، کان أشدّ علینا من عدونا»، ثمّ شرع علیه السلام باستعراض الأوصاف والخصائص المطلوبة فی أنصار النهضة والتغییر، قائلاً: «ینتظرون أمرنا ویرغبون إلی الله أن یروا دولتنا، لیسوا بالبذر المذیعین، ولا بالجفاة المرائین، ولا بنا مستأکلین، ولا بالطمعین، خیار الأُمّة، نور فی ظلمات الأرض، ونور فی ظلمات

ص: 103


1- ([1]) ابن شهر آشوب، محمد بن علی، مناقب آل أبی طالب: ج1، ص363.

الفتن، ونور هدًی یُستضاء بهم، لا یمنعون الخیر أولیاءهم، ولا یطمع فیهم أعداؤهم، إن ذُکرنا بالخیر استبشروا وابتهجوا واطمّأنت قلوبهم وأضاءت وجوههم، وإن ذُکرنا بالقبح اشمّأزت قلوبهم واقشعرّت جلودهم وکلحت وجوههم، وأبدوا نصرتهم وبدا ضمیر أفئدتهم، قد شمّروا فاحتذوا بحذونا وعملوا بأمرنا، تعرف الرهبانیة فی وجوههم، یصبحون فی غیر ما الناس فیه، ویمسون فی غیر ما الناس فیه، یجأرون إلی الله فی إصلاح الأُمّة بنا، وأن یبعثنا الله رحمة للضعفاء والعامّة، یا عبد الله، أولئک شیعتنا، وأولئک منّا، أولئک حزبنا وأولئک أهل ولایتنا»((1)). إذن هذه هی المواصفات الحقیقیّة لحزب أهل البیت علیهم السلام ، والذی یطمحون لتشکیله وإصلاح الأُمّة به، ولکنه لم یجتمع هذا الحزب الإلهی بتلک الخصائص کما أشرنا، إلّا تحت قیادة الإمام الحسین علیه السلام ، فنهض بالأمر.

ومنها: ما روی عن عبد العظیم الحسنی، قال: قلت لمحمد بن علیّ بن موسی علیهم السلام : «یا مولای، إنّی لأرجو أن تکون القائم من أهل بیت محمد، الذی یملأ الأرض قسطاً وعدلاً کما مُلئت ظلماً وجوراً. فقال علیه السلام : ما منّا إلّا قائم بأمر الله، وهادٍ إلی دین الله، ولکن القائم الذی یُطهِّر الله به الأرض من أهل الکفر والجحود، ویملأ الأرض قسطاً وعدلاً، هو الذی یخفی علی الناس ولادته، ویغیب عنهم شخصه... یجتمع إلیه من أصحابه عدّة أهل بدر: (ثلاثمائة وثلاثة عشر) رجلاً من أقاصی الأرض... فإذا اجتمعت له هذه العدّة من أهل الإخلاص، أظهر الله أمره، فإذا کمل له العقد وهو: (عشرة آلاف) رجل، خرج بإذن الله، فلا یزال یقتل أعداء الله حتی یرضی (عزّ وجلّ)»((2)).

ومن هنا؛ نجد أنّ النصوص الکثیرة والمتضافرة قد نصّت علی محوریة أصحاب الإمام المهدی علیه السلام فی مسألة شرائط الظهور وقیام دولة المعصوم الإلهیة العالمیة العادلة.

ص: 104


1- ([1]) الطبرسی، أحمد بن علی، مشکاة الأنوار: ص128.
2- ([2]) الصدوق، محمد بن علی، کمال الدین وتمام النعمة: ص377 - 378.

کما ورد ذلک فی کلام الإمام الصادق علیه السلام ، حیث یقول: «کأنّی أنظر إلی القائم علیه السلام علی منبر الکوفة، وحوله أصحابه ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، عدّة أهل بدر، وهم أصحاب الألویة، وهم حکّام الله فی أرضه علی خلقه»((1)).

ثمّ إنّ هناک مواقف سیاسیة کثیرة ومتنوّعة صدرت من الأئمّة علیهم السلام فی أزمنة ومراحل مختلفة، جمیعها یؤکّد ما بیّناه، من أنّ الأصل فی حرکة المعصوم هو الإصلاح والتغییر السیاسی وإقامة الدولة الإلهیّة، وأنّ هذا من الأُمور الممکنة والمتیسّرة، إلّا فی حال فقدان الشرائط التی یتطلّبها التغییر، وأهمّها توفّر الأنصار واستعداد الأُمّة لذلک، ومن تلک المواقف السیاسیّة علی سبیل المثال:

1- الدعم السرّی المتواصل لکثیر من الحرکات الثوریّة، التی کانت تخرج لمقارعة الطغاة والدفاع عن حقوق المظلومین والمضطهدین.

2- العمل بشکل دؤوب ومتواصل لبناء المجتمع الإیمانی الصالح المتماسک والقویّ والقادر علی إدارة شؤونه بشکل ذاتی ومستقلّ.

3- تکریس فکرة مقاطعة الجبت والطاغوت فی نفوس أتباع أهل البیت علیهم السلام ، وأنّ الحکومات القائمة باطلة وغیر شرعیّة ومُفسدة فی الأرض، وأنّ الحکومة التی ینبغی ترقّبها والاستعداد لها هی حکومة المعصوم، القائمة علی أُسس العدالة والقسط.

4- المنع من التحاکم للجبت والطاغوت، وتغذیة المجتمع الإیمانی بالفقه الفردی والاجتماعی والأخلاقی والاقتصادی والسیاسی وغیر ذلک، ممّا یُغنی الشیعة عن الاحتیاج لأروقة الحکّام والسلاطین.

5- ترسیخ عقیدة المهدی، التی تمثّل فکرة مقاطعة ومقارعة الطغاة، والسعی لإقامة حکم الله فی الأرض.

لکننا أعرضنا عن البحث التفصیلی فی جمیع هذه المواقف والأدوار والسیاسات المتنوعة، طلباً للاختصار وبما یُناسب طبیعة البحث وأهدافه.

ص: 105


1- ([1]) المصدر السابق: ص672 - 673.

نتائج البحث

أوّلاً: إنّ الأُمّة کانت مؤهّلة للإصلاح والتغییر السیاسی بقیادة المعصوم، حتی بعد الانحراف عن الحقّ الذی تورّطت به الأُمّة بعد وفاة النبی الأکرم صلی الله علیه و آله .

ثانیاً: إنّ المنهج القویم والأصل فی حرکة المعصومین علیهم السلام هو القیام والنهوض لمقارعة الظالمین، والعمل علی إسقاط الحکومات الباطلة والفاسدة، والتخطیط لإقامة حکم الله فی الأرض، ولکن مع توفّر الشرائط ومقوّمات الخروج، والتی من أهمّها وجود الأعوان والأنصار، المؤمنین بالفکرة، والمخلصین لها.

ثالثاً: لقد توفّرت کافّة الشرائط المطلوبة للنهوض فی الفترة الزمنیّة لإمامة الحسین علیه السلام ، فنهض للتغییر والإصلاح فی الأُمّة، ولکن الخذلان بعد ذلک هو الذی أدّی إلی النتیجة المأساویة.

رابعاً: تُعدّ المهادنة للسلطات الفاسدة من الکبائر، ولا یُصار إلیها إلّا فی حال الضرورة القصوی، وحینما تتقطّع کافة السُّبل للتغیر والإصلاح.

خامساً: إنّ للأئمّة علیهم السلام أدوارهم المختلفة بحسب اختلاف الوقائع والظروف المتلوّنة والمتغیّرة التی یعیشونها، ومنها نستلهم الشرعیّة والنهج الصحیح، ولیس من الصائب تغلیب دور علی حساب الآخر، فلو ثبت أنّ الخروج لإسقاط السلطة الظالمة من مبادئ النهضة الحسینیّة، فلیس لنا التشکیک فی ذلک عطفاً علی أدوار بعض الأئمّة علیهم السلام فی ظروف خاصّة مغایرة ومختلفة، عاشوها فی فترة إمامتهم، فالأهداف الإلهیة متنوّعة والأدوار مختلفة.

سادساً: إنّ هناک نهضة علویّة ونهضة حسنیّة ونهضة حسینیّة، تعاقبت وتسلسلت فی مسار واحد، واستهدفت استئصال الأنظمة الفاسدة، والانقلاب علیها، وإقامة حکم الله فی الأرض، وکان الأئمّة من وُلد الحسین علیهم السلام یسعون لذلک النحو من التغییر، ویأملون فی تحقیقه لإصلاح الأُمّة، ولکن من دون جدوی، فاضطرّوا بشکل طارئ للقبول بالمهادنة، والجلوس عن حقّهم. هذا، ونسأل الله تعالی العفو والمعافاة فی الدنیا والآخرة.

ص: 106

خلاصة الفصل الرابع

استعرضنا فی هذا الفصل واحدة من أهمّ الأسباب والمبرّرات التاریخیة لإنکار المبادئ والأهداف السیاسیة للنهضة الحسینیّة، وهی أنّ الأئمّة المعصومین علیهم السلام بعد النبی صلی الله علیه و آله ما عدا الإمام الحسین علیه السلام لم یسجِّل لهم التاریخ موقفاً سیاسیّاً یدعو إلی الثورة والخروج علی السلطات الحاکمة، وأجبنا عن هذه الإشکالیة من خلال عرض مجموعة من الشواهد التاریخیة والروائیة من حیاة الأئمّة علیهم السلام التی تُثبت عکس ذلک، فابتدأنا بعرض أهمّ الشواهد التاریخیّة للمبادئ السیاسیّة للنهضة العلویّة، ومن ثمّ ذکرنا أهمّ الشواهد الدالّة علی الأهداف السیاسیّة للنهضة الحسنیّة، ثمّ أشارنا لأهمّ المبادئ السیاسیّة لنهضة الإمام الحسین علیه السلام ، مع بیان وتوضیح للسبل والأسباب التی ساعدت علی انتصار هذه النهضة، وعرضنا بعدها مواقف الأئمّة علیهم السلام من ذریّة الحسین علیه السلام فی المجال ذاته، فتبیّن من ذلک کلّه أنّ الانقلاب علی الحکومات الظالمة والعمل علی إسقاطها هو المنهج الذی سار علیه أئمّة أهل البیت علیهم السلام ، ولکن عدم توافر الشروط الملائمة حال دون ذلک.

وخلصنا إلی جملة من النتائج، أهمّها: أنّ الأُمّة کانت مؤهّلة للإصلاح السیاسی بقیادة أهل البیت علیهم السلام عبر انتهاج مبدأ النهوض لمقارعة الحکومات وإسقاطها وإقامة حکم الله فی الأرض، وقد توافر للحسین علیه السلام فی عصره کافة الشروط المطلوبة للنهوض؛ فنهض بالأمر، إلّا أنّ الخذلان بعد ذلک أدّی إلی حصول المأساة، وأنّ الأئمّة علیهم السلام بعده کانت لهم أدوارهم المختلفة حسب ما تهیّأ لهم من ظروف وأسباب.

ص: 107

ص: 108

الفصل الخامس: الأسباب والمبررات التاریخیّة للتفریط بالأهداف والمبادئ السیاسیّة للنهضة الحسینیّة - القسم الثانی

اشارة

الفصل الخامس

الأسباب والمبررات التاریخیّة

للتفریط بالأهداف والمبادئ السیاسیة للنهضة الحسینیّة

القسم الثانی: (إشکالیّة: إنّ معالم الانتصار العسکری لا تلوح فی الأُفق)

ص: 109

ص: 110

تحدّثنا فی الفصول الماضیة حول الأسباب الداعیة لاستبعاد الأهداف السیاسیّة للنهضة الحسینیّة، واستعرضنا منها العقدیّة والتراثیّة والتاریخیّة، ونرید أن نتحدّث فی هذا الفصل أیضاً بخصوص واحدة من أهم الأسباب التاریخیّة الأُخری التی دعت بعض الباحثین للتخلّی عن الهدف السیاسی للنهضة، وهو ما یُطرح عادة فی إطار الحدیث عن فقدان التکافؤ العسکری بین الجبهتین، جبهة الحسین علیه السلام والجبهة الأُمویّة الحاکمة. وتُشکّل هذه الفکرة إشکالیّة معقّدة، انجرفت بتأثیرها مجملُ البحوث والدراسات الحسینیّة باتجاه هدفیّة الموت والشهادة المحتومة، حیث یتمّ التأکید دائماً علی أنّ ذلک هو الهدف السیاسی الوحید للنهضة. فتعالوا معی لنقرأ فیما یلی هذه الإشکالیّة التاریخیّة فی ضوء کلمات العلماء والباحثین، ثمّ ننتقل بعد ذلک لمناقشتها:

إشکالیّة: إنّ معالم الانتصار العسکری لا تلوح فی الأُفق

یُعدّ هذا السبب التاریخی من الأسباب الرئیسة التی دعت جملة وافرة من العلماء والباحثین للتخلّی عن الأهداف السیاسیّة للنهضة الحسینیّة المبارکة بشکل واضح

ص: 111

وصریح، وحاصل هذا السبب هو: أنّ الانتصار السیاسی والعسکری لم یکن مُتاحاً للإمام الحسین علیه السلام آنذاک، ولا لاحت معالمه فی الأُفق، ولم یکن یحتمله واقع الأُمّة والسلطة آنذاک؛ إذ لم یکن هناک أیّ تکافؤ عسکری بین جبهة الحسین علیه السلام وبین الجبهة الأُمویّة، من حین إعلانه علیه السلام الرفض لبیعة یزید فی المدینة المنورة وحتی الشهادة فی کربلاء، فعلی طول الخط الزمنی لمراحل النهضة کان یزید هو الأقوی والأکفأ والأکثر سطوة وهیمنة وقدرة من الناحیة السیاسیّة والعسکریّة والمیدانیّة، بل لا مجال أبداً للمقایسة والمقارنة بین الجانبین من هذه الناحیة، فیزید - وریث الحکم الأُموی - یُمسک الأرض، ویجلس علی کرسی الخلافة الإسلامیّة، ویقود جیشاً نظامیّاً مسلّحاً منتشراً فی أرجاء الولایات الإسلامیّة، وهذا ما لم یکن متوفِّراً للإمام الحسین علیه السلام ، فلا تمتلک النهضة جناحاً عسکریّاً قادراً علی الوقوف بوجه النظام الحاکم.

وقد کانت هذه الحقیقة المیدانیّة واضحة ومعلومة لدی الجمیع، فالصحابة والتابعون وغیرهم من عقلاء القوم وذوی الخبرة منهم - کما سیأتی - کانوا یعلمون بأنّ الحرکة الحسینیّة لا تمتلک مقوّمات التفوّق والنصر السیاسی والعسکری، ومَن قَبْلهم کان الحسین علیه السلام عالماً بذلک بدءاً وختاماً، علماً غیبیّاً، وأیضاً من خلال دراسته المیدانیّة للظرف والمرحلة؛ ولذا لم یکن ذلک هو الهدف من نهضته المبارکة، وإنّما کان الهدف إسقاط شرعیة الحکومة الفاسدة السوداء بمعارضة حمراء مصبوغة بدم المذبوح بکربلاء.

یقول السیِّد محمد باقر الصدر قدس سره فی حدیثه عن دوافع النهضة الحسینیّة: «وفی هذه اللحظة الحاسمة من تاریخ الحکم الإسلامیّ دقّت ساعة السخاء فی أُذنی الحسین، تؤذنه بأنّها لحظة التضحیة والشهادة، لا لکسب السلطة عملیّاً واستردادها من الغاصبین، فإنّ ذلک لم یکن لیؤمّل فی تلک الظروف التی درسها الحسین علیه السلام جیّداً، وفهمها عن آبائه جیّداً

ص: 112

أیضاً، بل لتُسفر دولة المعارضة بلون أحمر من الدم، ولون أسود قاتم من الظلم، فینتزع بذلک عنها الطابع الإسلامیّ الذی کانت تدّعیه، ویضع هذا الطابع علی الدولة التی أرادها الإسلام للمسلمین»((1)).

ویقول السیِّد حسن الشیرازی فی حدیثه عن الحرکة الحسینیّة: «وخاض فی معرکة عَلم منذ الخطوة الأُولی أنّه سیخسرها إلی الأبد، ولکن الإسلام سیربحها حتّی الأبد»((2)).

کذلک یقول الشیخ الآصفی فی هذا المجال: «کانت ثورة الإمام الحسین علیه السلام وقیامه (خروجاً) علی یزید و(مقاومةً مسلّحة)، تتبعها تضحیة مأساویّة فجیعة نادرة فی تاریخ الإسلام، ولم تکن (حرباً نظامیّة عسکریّة) تستهدف إسقاط النظام.

ووعی هذه الحقیقة ضروری فی فهم ثورة الحسین علیه السلام ، فلم یکن یری الحسین علیه السلام أنّ بإمکان أنصاره من العراق والحجاز أن یقاوموا جیش بنی أُمیّة، ولا أن یصفو له العراق، ولا أن یُقاوم أهل العراق إرهاب بنی أُمیّة وإغرائهم، فما کان لیصفو فی أحسن الأحوال للإمام من العراق غیر قلّة قلیلة من شیعته یخرج بهم علی یزید، وکان الإمام علیه السلام یعلم بهذه الحقیقة ویفهمها جیّداً.

إذن، لم یکن الإمام یطلب فتحاً عسکریّاً، وإنّما کان یطلب فی خروجه تحریک ضمائر المسلمین، وإثارة الضمائر والنفوس والعواطف والعقول بفعل المأساة المفجعة، التی واجهها الحسین علیه السلام علی ید جیش بنی أُمیّة فی کربلاء»((3)).

ص: 113


1- ([1]) الصدر، محمد باقر، مجلّة النشاط الثقافی، النجف، العدد الثامن، السنة الأُولی، 1958م: ص427.
2- ([2]) الشیرازی، حسن، مجلّة الأخلاق والآداب، کربلاء، العدد السادس، السنة الرابعة، 1384ﻫ: ص213.
3- ([3]) الآصفی، محمد مهدی، فی رحاب عاشوراء: ج1، ص294.

ویقول أیضاً فی موضع آخر: «ونحن لا نشکّ فی أنّ الإمام لم یکن یطلب فی ثورته الشهیرة، وخروجه علی یزید بن معاویة إسقاط النظام الأُموی عسکریّاً، والاستیلاء علی السلطة»((1)).

والذی یؤکّد هذه الحقیقة، وهی أنّ الحسین علیه السلام لم یخطِّط أبداً لانقلاب مسلّح، ولم یخرج بهدف النصر السیاسی والعسکری، هو «أنّ الظروف التی أحاطت بنهضته المبارکة، وخروجه من مکّة إلی العراق، کانت لا تناسب انتصاره عسکریّاً، ولا أقل من أنّها کانت تقتضی مزیداً من الاحتیاط والتأنّی، ولو من أجل العائلة المخدّرة؛ کما یشهد بذلک إجماع آراء مَن نصحه، فإنّهم ذکروا لتوجیه آرائهم أُموراً لا تخفی علی کثیر من الناس، فضلاً عنه علیه السلام . ویبدو مدی وضوح الخطر علیه فی خروجه للعراق، وقوّة تصمیمه علیه السلام علیه مع ذلک، من محاورة ابن عباس معه... وإنّما کان علیه السلام یُبرّر خروجه بدعوة أهل الکوفة له، وکثرة کتبهم إلیه - بنحو قد یوحی بأنّ هدفه الانتصار العسکری - ؛ لأنّ عامّة الناس، وکثیراً من خاصّتهم لا یستوعبون أنّ هدفه علیه السلام من الخروج هو الإصحار والإعلان عن عدم شرعیّة السلطة فی موقف یحرجها ویستثیرها، وإن ترتّب علی ذلک التضحیة بنفسه الشریفة وبمَن معه، وانتهاک حرمتهم وحرمة عائلته الکریمة»((2)).

مجموعة من الشواهد والقرائن لإثبات هذه الرؤیة

اشارة

لقد ذُکرت فی المقام مجموعة من الشواهد والقرائن للتدلیل علی أنّ النصر والتغییر العسکری لم یکن متیّس-راً للحسین علیه السلام ، وأنّه لم یُشکّل هدفاً من أهداف الحرکة الحسینیّة فی کلّ خطواتها ومراحلها، ونحاول فیما یلی إجمال أهمّ تلک الشواهد والقرائن ضمن العناوین التالیة:

ص: 114


1- ([1]) المصدر السابق: ج1، ص270.
2- ([2]) الطباطبائی الحکیم، محمد سعید، فاجعة الطف: ص37 - 38.

1- انعدام التوازن فی القوی وفقدان التکافؤ العسکری

أشرنا فی مُستهلّ حدیثنا إلی ما قد یُدّعی فی المقام، من أنّ الواقع المیدانی للأُمّة والسلطة لا یدع مجالاً لاحتمال انتصار الحرکة الحسینیّة عسکریّاً؛ وذلک لانعدام التکافؤ العسکری بین الجبهتین، وهذا أمرٌ واضح جدّاً؛ لأنّ یزید بن معاویة هو الحاکم الفعلی للبلاد بعد هلاک أبیه، بیده السلطة والأرض والمال والرجال، وهو الذی تنقاد لأوامره الجیوش الإسلامیّة، ویُطیعه القادة والولاة وسائر المؤسّسات والدوائر الحکومیّة، بالإضافة إلی الکثیر من رؤساء القبائل ووجهائها.

وهذا ما لم یکن متاحاً للإمام الحسین علیه السلام ، وهو ما اضطرّه للإسراع بالخروج من المدینة إلی مکّة، ومنها إلی العراق، فلم یکن له علیه السلام «أعوان یعتمد علیهم فی حرکته وخروجه فی غیر العراق. فقد کانت مصر والحجاز بعیدتین کلّ البعد عن ظروف الثورة والحرکة، وکانت الشام القاعدة المتینة التی ینطلق منها یزید بن معاویة، ویحتمی بها فی حمایة ملکه وسلطانه. ولم یکن هوی أهل العراق معه من غیر شیعته، فقد کان الإمام یعلم جیداً أنّ من غیر الممکن الاعتماد علی الکثرة من أهل العراق، فهم مع الطرف المنتصر، ومن الخیر له ألّا یلتحقوا به، فإنّهم سوف ینفرطون عن جیشه کما انفرطوا عن جیش أخیه الحسن علیه السلام من قبل، أو أسرع وأیسر من ذلک، ویفتّون فی عضده وعضد أصحابه وشیعته، ویتخلّون عنه فی أحرج ساعات المعرکة، ولا یبقی له فی ساحة المعرکة غیر شیعته، الذین ثبتوا من قبل فی جیش أخیه الحسن علیه السلام ، وهم قلّة لا یکوّنون قوّة عسکریّة تصمد أمام جیوش الشام». بل یمکن القول بأنّ فرصة الانتصار العسکری فی عصر الإمام الحسین علیه السلام أضعف بکثیر منها فی زمن الإمام الحسن علیه السلام ، «ولم تکن تجربة الإمام الحسن علیه السلام بعیدة عن الحسین، ولم یکن الإمام الحسین علیه السلام بأقدر من أخیه فی تجمیع قوّة عسکریّة لضرب سلطان بنی أُمیّة وإسقاط النظام، إن لم تکن ظروف الحسین علیه السلام أسوأ من ظروف أخیه الحسن. فقد استقرّ لبنی أُمیّة السلطان، وامتدّ نفوذهم، وعمل معاویة بدهائه المعروف فی

ص: 115

تحکیم أُصول حکم بنی أُمیّة، وامتداد نفوذهم، وشراء الضمائر ونشر الرعب والإرهاب فی أجواء المعارضة، واکتساح الأکثریة، التی یتحکّم فیها الإرهاب والإغراء، ویمیلون دائماً إلی الجهة المنتصرة القویّة فی الساحة... فلم یکن یصفو - إذن - للإمام الحسین من القوّة العسکریّة غیر ما صفا لأخیه الحسن علیه السلام من قَبل، وهم الثابتون من شیعته وموالیه، ولا یمکن أن یفکّر الإمام - بکلّ تأکید - أن یجازف بهذه القوّة المحدودة لإسقاط النظام الأُموی الرهیب، بعد أن أخفقت محاولة أخیه الإمام الحسن علیه السلام ، فی ظروف أحسن من ظروفه، وبقوّة عسکریّة أقوی من الجیش الذی کان یعدّه له العراق بعد موت معاویة»((1)).

2- تصریحات الإمام الحسین علیه السلام

هناک مجموعة من الأقوال والتصریحات الثوریّة التی صدرت عن الإمام الحسین علیه السلام فی عصر النهضة وحرکة الإصلاح، استدلّ بها جملة من العلماء والباحثین لإثبات ما یعتقدون به، من أنّ التغییر والنصر العسکری المسلّح لم یکن مُتاحاً، کما لم یکن أیضاً من دوافع وأهداف الحرکة الحسینیّة، وأنّ الإمام علیه السلام کان یعلم یقیناً بأنّ الشهادة والتصفیّة الجسدیّة المأساویّة هی المصیر المحتوم والنتیجة المحسومة لحرکته وثورته، وکان دائماً ما یخبر الناس بمصرعه ومصرع أصحابه، وما سیجری علیه وعلی أهل بیته من المصائب والمآسی، ولا مجال أبداً للتفوّق العسکری والنصر المسلّح، فهو علیه السلام خارج لینتصر بدمه، لا بسیفه.

وقد استعرضنا فی فصلٍ سابق مجموعة من تلک النصوص والأقوال، وأجبنا عن الاستدلال بها فی ضوء الإطار العام الذی نفهمه من مقامات ومراتب علم الإمام المعصوم، لکنّنا سوف نستذکر أهم تلک النصوص وأوضحها؛ ونبحثها من الزاویة

ص: 116


1- ([1]) الآصفی، محمد مهدی، فی رحاب عاشوراء: ج1، ص270 - 273.

التاریخیّة والمیدانیّة المرتبطة بمحلّ البحث، لنری أنّ الحسین علیه السلام هل کان یتحدّث من حین انطلاق النهضة بروح ونفس الموت والشهادة والهزیمة العسکریّة، أم لا؟

وسوف نختار من تلک النصوص ما فیه دلالة أو إلماح إلی استبعاد فکرة النصر والتغلّب العسکری، ولا نورد النصوص التی اکتفت بالتأکید علی حتمیّة القتل والشهادة؛ لأنّنا قد أجبنا عن هذه الحیثیّة بشی من التفصیل فی بحوث ماضیة.

وسنحاول أیضاً أن ننتقی أهمّ تلک النصوص وأوضحها، ونتوخّی التسلسل الزمنی التقریبی لصدورها؛ لتأثیر ذلک فی طبیعة الإجابة کما سیأتی، والنصوص هی:

النصّ الأوّل: ما رواه الطبری فی دلائل الإمامة، عن الأعمش، قال: «قال لی أبو محمد الواقدی وزرارة بن جلح: لقینا الحسین بن علی سلام الله علیه قبل أن یخرج إلی العراق بثلاث لیالٍ، فأخبرناه بضعف الناس فی الکوفة، وأنّ قلوبهم معه وسیوفهم علیه، فأومأ بیده نحو السماء، ففُتحت أبواب السماء ونزل من الملائکة عدد لا یحصیهم إلّا الله، وقال: لولا تقارب الأشیاء وحبوط الأجر لقاتلتهم بهؤلاء، ولکن أعلم علماً أنّ من هناک مصعدی((1))، وهناک مصارع أصحابی، لا ینجو منهم إلّا ولدی علیّ»((2)).

یکتسب هذا النصّ أهمیّته من جهة زمانه وظرف صدوره؛ لأنّه صدر فی حیاة مسلم بن عقیل، وبعد وصول تقریره الإیجابی الذی رفعه للإمام الحسین علیه السلام ، یطلب منه القدوم إلی الکوفة، والنصّ صدر أیضاً فی فترة ضعف التواجد الأُموی فی العراق، ومع ذلک کلّه یصرّح الإمام الحسین علیه السلام بأنّه لیس من طلّاب النصر العسکری، وأنّه لا یعتمد فی حرکته ونهضته علی دعم أهل الکوفة له فی مواجهة طغاة الشام، ولو کان هذا

ص: 117


1- ([1]) فی المصادر الأُخری بلفظ (مصرعی).
2- ([2]) الطبری، محمد بن جریر، دلائل الإمامة: ص182.

هو هدفه لقاتلهم بالملائکة، فلم تکن غایته إلّا السعی لمصرعه ومصارع أصحابه، والسیر إلی البقعة المقدّسة التی یرتقی منها إلی الله تعالی، وینال فیها مقاماً لا یناله إلّا بالشهادة، فلا وجود لمفردة النصر العسکری فی قاموس النهضة، ولم یکن جیش الکوفة مؤهّلاً لذلک أصلاً، بل کان جیشاً ضعیفاً متهاویاً، ولاؤه العسکری لبنی أُمیّة، کما نصّ علی ذلک الواقدی وزرارة فی حدیثهم هذا، والإمام علیه السلام قد أقرّهم علی رؤیتهم وتشخیصهم الدقیق للموقف الکوفی، ولم یُنکر علیهم ما ذکروه فی أهل الکوفة.

النصّ الثانی: خطبته علیه السلام المعروفة حینما عزم علی الخروج إلی العراق، حیث قام خطیباً فی الناس، فقال: «خُطَّ الموت علی ولد آدم مخطّ القلادة علی جید الفتاة، وما أولهنی إلی أسلافی اشتیاق یعقوب إلی یوسف، وخیر لی مصرعٌ أنا لاقیه، کأنّی بأوصالی تقطّعها ذئاب الفلوات((1)) بین النواویس وکربلاء، فیملأنّ منّی أکراشاً جوفاً، وأجربة سغباً، لا محیص عن یوم خطّ بالقلم، رضی الله رضانا أهل البیت، نصبر علی بلائه ویُوفّینا أجور الصابرین... مَن کان باذلاً فینا مهجته، وموطِّناً علی لقاء الله نفسه، فلیرحل معنا، فإنّی راحل مصبحاً إن شاء الله»((2)).

فالحسین علیه السلام یُعلن فی هذا الخطاب التاریخی «علی مسمع من جموع الحجّ المتوافدة من الربوع الإسلامیّة، من أنّه ماضٍ إلی الموت... فهل مَن ینوی القیام بثورة مسلحة یتحدّث بهذه اللغة؟! لا؛ وإنّما یتحدّث بلغة مختلفة، ویتوجّه إلی الناس قائلاً: (سنضرب، سنقتل، سننتصر ونبید العدو). لکن الحسین کان یتوجّه إلی الناس بقوله: إنّ الموت زینة للمرء کحلیة الفتاة، ثمّ یُغادر مکّة إلی الموت!!»((3)).

ص: 118


1- ([1]) فی المصادر الأُخری: عُسلان الفلوات.
2- ([2]) ابن طاووس، علی بن موسی، اللهوف فی قتلی الطفوف: ص126.
3- ([3]) شریعتی، علی، الشهادة: ص86.

إذن، هذا الخطاب الشریف واضح «فی أنّ الإمام علیه السلام کان یُعدّ أصحابه لنهضة کبیرة، قوامها التضحیة والدم والشهادة، ولا یطمح فیها إلی أیِّ نصر عاجل. فها هو یبدأ خطابه مع أصحابه بالموت الذی یطوّق ابن آدم، کما تطوِّق القلادة جید الفتاة. ثمّ یخبر عن مستقبل هذه الحرکة المأساویة، فیقول: (کأنّی بأوصالی تقطّعها عسلان [ذئاب] الفلوات). ثمّ یطلب النصرة من المسلمین، ولکن بهذه الطریقة الفریدة: (فمَن کان باذلاً فینا مهجته، موطّناً علی لقاء الله نفسه فلیرحل معنا). إنّ الإمام لا یشیر فی هذه الخطبة إلی أیّ هدف عسکری بالمعنی المعروف فی الأعمال العسکریة، وإنّما یُعِدّ أصحابه لتضحیة مأساویة دامیة، ویطلب من الذین یرافقونه فی هذه الرحلة أن یُعدّوا أنفسهم للقاء الله ولبذل المهج فی سبیل الله»((1)).

النصّ الثالث: وهو الکتاب المعروف والمشهور، الذی کتبه الإمام الحسین علیه السلام لأخیه محمد بن الحنفیة وبقیّة بنی هاشم فی المدینة، وذلک بعد انصرافه من مکّة متوجّهاً إلی العراق مباشرة، جاء فیه: «أمّا بعد؛ فإن مَن لحق بی استُشهد، ومَن لم یلحق بی لم یُدرک الفتح، والسلام»((2)).

بعد أن اکتسب قرار الخروج إلی العراق درجته القطعیّة، وأصبح قراراً مُعلَناً، تتناقله وسائل الإعلام المکّی، بعث الإمام الحسین علیه السلام بکتابه هذا إلی بنی هاشم فی المدینة، یعدهم بنصر من الله وفتح قریب، ویحثّهم علی الالتحاق برکب الفاتحین، ویرغّبهم بالنعیم ورفاهیّة العیش معه، ولکنّه نصرٌ بالقتل فی سبیل الله، وفتحٌ إلهی فی الدعوة إلی الله بحجم الفداء والتضحیة، ونعیمٌ بمقامات الشهادة ودرجاتها الرفیعة

ص: 119


1- ([1]) الآصفی، محمد مهدی، فی رحاب عاشوراء: ج1، ص274.
2- ([2]) ابن قولویه، جعفر بن محمد، کامل الزیارات: ص157.

عند الله تبارک وتعالی. ولم یتضمّن الکتاب أیّ إشارة أو تلمیح إلی إمکانیّة النصر والفتح العسکری المسلّح.

النصّ الرابع: خطبته علیه السلام المشهورة، التی خطب بها أصحابه بمنزل ذی حسم((1))، جاء فیها قوله علیه السلام : «لیرغب المؤمن فی لقاء الله محقِّاً، فإنّی لا أری الموت إلّا شهادة((2))، ولا الحیاة مع الظالمین إلّا برماً»((3)). فالرکب الحسینی سائر للقاء الله بالشهادة، والخلاص من الحیاة البائسة فی ظلّ هیمنة الطغاة والظالمین.

النصّ الخامس: ما رواه الصدوق فی معرض حدیثه حول مسیر الإمام الحسین علیه السلام إلی الکوفة، حیث قال: «ثمّ سار حتی نزل الرهیمة((4))، فورد علیه رجل من أهل الکوفة، یُکنّی أبا هرم، فقال: یا بن النبی، ما الذی أخرجک من المدینة؟ فقال: ویحک یا أبا هرم، شتموا عرضی فصبرت، وطلبوا مالی فصبرت، وطلبوا دمی فهربت، وأیم الله لیقتُلنّی، ثمّ لیلبسنّهم الله ذلاً شاملاً، وسیفاً قاطعاً، ولیُسلّطنّ علیهم مَن یذلّهم»((5)).

ص: 120


1- ([1]) ورد فی أکثر المصادر وأصحّها أنّ هذه الخطبة کانت فی کربلاء، وبعد نزول جیش عمر بن سعد فیها، وبعد أن أیقن الإمام علیه السلام بالموت. اُنظر: القاضی المغربی، النعمان بن محمد، شرح الأخبار: ج3، ص150. ابن شهر آشوب، محمد بن علی، مناقب آل أبی طالب: ج3، ص224. الطبرانی، سلیمان بن أحمد، المعجم الکبیر: ج3، ص114. الذهبی، محمد بن أحمد، تاریخ الإسلام: ج5، ص12. وغیرها من المصادر. وقد احتمل بعضهم أنّ الإمام خطب بهذه الخطبة فی موضعین، وهو مستبعد جدّاً، والشواهد تؤیِّد کونها فی کربلاء، کما یظهر ذلک أیضاً من حدیث أصحابه معه بعد الخطبة.
2- ([2]) اللفظ المشهور والوارد فی المصادر الأُخری هو (سعادة)، اُنظر المصادر السابقة.
3- ([3]) الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج4، ص305.
4- ([4]) الرهیمة: ضیعة أو عین ماء قرب الکوفة، ویظهر من الصدوق فی الأمالی أنّ ذلک کان قبل خروج الحرّ الریاحی لملاقاة الحسین علیه السلام ، حیث یقول: «وبلغ عبید الله بن زیاد (لعنه الله) الخبر، وأنّ الحسین علیه السلام قد نزل الرهیمة، فأسری إلیه الحر بن یزید فی ألف فارس». الصدوق، محمد بن علی، الأمالی: ص218. ولکنه خلاف التحدید الجغرافی لمنازل مسیر الحسین علیه السلام فی طریقه إلی الکوفة، فإنّ الرهیمة منزل متأخّر بمسافة طویلة عن الموضع الذی التقی به الحرّ بالإمام الحسین علیه السلام ، وهو منزل (شراف) قبل بلوغ منزل (ذو حسم).
5- ([5]) الصدوق، محمد بن علی، الأمالی: ص218.

فالحسین علیه السلام محاصَر من قِبل السلطة الأُمویّة، وسوف یُقتل علی کلّ حال، وقد اختار له الله تعالی القتل والشهادة فی کربلاء؛ لأنّ ذلک هو الأفضل له وللأُمّة فی علم الله تعالی.

والمتحصّل من مجموع هذه النصوص والشواهد: أنّ الإمام الحسین علیه السلام کان مُقدِماً «عن علمٍ ووعی علی تضحیة مأساویّة نادرة، بنفسه وأهل بیته وأصحابه؛ لیهزّ ضمیر الأُمّة الخامل، ویبعث فی نفوسهم الحرکة وروح التضحیة والإقدام... ولم یکن یفکِّر فی عمل عسکری علی الإطلاق لمواجهة سلطان بنی أُمیّة»((1)).

وبعبارة أکثر تأثیراً: لقد ترک الحسین علیه السلام «مدینته وخرج من بیته نافضاً یدیه من الحیاة، مختاراً الموت، حیث کان لا یملک فی مواجهة عدوّه سوی هذا السلاح العظیم (الموت)، وبهذا السلاح واجه العدو وفضحه وهتک أقنعته، وهو إن لم یکن فی مقدوره قهر العدو وهزیمته فی ساحة القتال، ففی مقدوره - عبر الموت - أن یفضح هذا العدو. إنّه کإنسان أعزل وحید وفی نفس الوقت مدرک لمسؤولیّته، لم یکن یملک إلّا سلاحه الواحد: تلک المیتة الحمراء!»((2)).

3- الخروج العلنی ضد السلطة

لا ریب فی أنّ الإمام الحسین علیه السلام قد رفض خلافة یزید والبیعة له بصورة معلنة، وکذلک کان خروجه المناهض لسلطان بنی أُمیّة خروجاً علنیّاً فی کلّ أحداثه ومراحله، ولم تکن هذه الحقیقة خافیة علی أحد فی ذلک الحین، وفی هذا الضوء یحقّ لنا أن نتساءل: «هل کان لسیاسیٍّ واعٍ یعیش فی ظلِّ السلطة الأُمویّة القادرة، وتحت قبضة حکمها، وفی قلب قواعدها، أن یأخذ الموقف التالی: ینتفض بلد (الکوفة) ضدّ السلطة المرکزیّة، فیوجّه دعوته إلی الحسین، طالباً منه النصرة والقیادة، ویلبّی الحسین الدعوة، مظهراً قبوله لقیادة

ص: 121


1- ([1]) الآصفی، محمد مهدی، فی رحاب عاشوراء: ج1، ص276 - 277.
2- ([2]) شریعتی، علی، الشهادة: ص112.

تلک الانتفاضة، ثمّ یُعلِن جهراً وبشکل رسمی أنّه متوجّه إلی البلد الثائر، ثمّ یصطحب نساءه وأطفاله وبنی أخیه ورجاله، تضمّهم جمیعاً قافلة ضخمة، تتحرّک من بلد فی قبضة العدو، قاطعة مئات الکیلومترات إلی مکّة، حیث تتواجد قوّة کبری لهذا العدو... ثمّ یُعلن من مکّة وأمام کلّ هؤلاء: أنّه یرید الکوفة، ثمّ یتوجّه من غرب الجزیرة، قاطعاً القطر الشرقی للدولة، إلی العراق قاصداً الکوفة مرکز الثورة والانتفاضة.. هل کان لسیاسیٍّ واعٍ معارض، وقائد ثورة معادیة، تتوفّر له فرصة الخروج إلی أرض ثورته ومیدانها، حیث تنتظره القواعد الثوریة التی سیقاتل من مواقعها، لکی یقضی علی السلطة ویُطیح بنظامها ویقوّض أرکانها، هل کان یخرج بهذا الشکل العلنی السافر، أم أنّه یحیط أمره بالکتمان، وهو الشیء البدیهی؟ وهل کانت السلطة لتسمح له بالخروج والوصول إلی جنده ورجاله وقواعده وأسلحته، وتترکه یقطع الفیافی والصحاری علناً وتحت نظرها، فلا تقاتله أو تعتقله أو تُبیده؟! مثل هذا الرجل السیاسی والقائد الثائر لا یفعل ذلک.. لکن الحسین بالعکس تماماً فعل ذلک! لقد أعلن: لن أبایع وسوف أغادر مهاجراً إلی الموت! قالها جهراً علی مسمع من السلطة والناس، وخرج سافراً علی مرأی من السلطة والناس، لم یتکتّم، بل لم یتخفّ»((1)).

4 - نصائح الصحابة والتابعین والمحبّین بترک الخیار العسکری

حینما أعلن الإمام الحسین علیه السلام قرار خروجه إلی العراق؛ تلبیة لنداء أهل الکوفة واستغاثتهم، اعترض طریقه مجموعة کبیرة من الناصحین والمشفقین، ونصحوه بالتریّث والتراجع عن قراره، وقد استشرفت نصائحهم مستقبل الثورة ومصیر الحرکة الحسینیّة، حیث اجتمعت کلمة الناصحین علی أنّ الکوفة لا تصلح کقاعدة رصینة

ص: 122


1- ([1]) المصدر السابق: ص86 - 88.

للتغییر، وأنّه لا یمکن أبداً الاعتماد علی أهلها لإسقاط الحکم الأُمویّ عسکریّاً؛ لأنّهم أهل غدر ومکر، لا یُوفون بوعودهم وعهودهم، وأنّهم سینقلبون بسیوفهم علی الحسین علیه السلام ، وسینتهی الواقع السیاسی والعسکری بجریمة الإبادة الجماعیّة، وهذا ما حصل بالفعل، ممّا یعنی أنّ ما ترتب من نتائج مأساویّة علی الحرکة الحسینیّة کان أمراً واضحاً، أدرکه عقلاء القوم وساستهم قبل حدوثه، واستقبلوه وعاینوه بشکل واضح، اعتماداً علی رؤیتهم ومعایشتهم لأحداث الساعة آنذاک، فلم یکن هناک أیّ احتمال لطرح فرضیّة النصر العسکری الحسینی علی سلطان بنی أُمیّة، وهذا ما لم یکن خافیاً علی الحسین علیه السلام ؛ إذ کانت المعطیات لدیه واضحة، وکان یُدرک بأنّه لا یمتلک أیّ قاعدة عسکریّة یمکن الاعتماد علیها لتحقیق الانتصار السیاسی المسلّح، ما یعنی أنّ ذلک لم یکن هو الهدف من القیام بوجه الطغاة، وإنّما کان الهدف هو الشهادة بصورة مأساویة؛ لفضح الأُمویین وأذنابهم، وتعریتهم أمام الرأی العام للمسلمین، وإسقاط دولتهم وحکومتهم الظالمة والفاسدة بدم الشهادة.

ولعلّ من أهمّ تلک النصائح: ما جاء فی حدیث عبد الله بن عبّاس، الذی عایش الواقع الکوفی فی فترة خلافة أمیر المؤمنین والإمام الحسن سلام الله علیه ، حیث خاطب الإمام الحسین علیه السلام بالقول: «قد بلغنی أنّک ترید العراق، وإنّهم أهلُ غَدر، وإنّما یدعونک للحرب، فلا تعجل... إنّهم مَن خَبَرتَ وجرّبت، وهم أصحاب أبیک وأخیک، وقتلتک غداً مع أمیرهم، إنّک لو قد خرجت فبلغ ابن زیاد خروجک استنفرهم إلیک، وکان الذین کتبوا إلیک أشَدّ من عدوّک»((1)).

ص: 123


1- ([1]) المسعودی، علی بن الحسین، مروج الذهب: ج3، ص54 - 55.

ومن النصائح المهمّة أیضاً المرویّة فی هذ المجال نصیحة أبی بکر بن عبد الرحمن بن الحارث، ومن جملة ما جاء فیها قوله: «کان أبوک أقدم سابقة، وأحسن فی الإسلام أثراً، وأشدّ بأساً، والناس له أرْجی، ومنه أسمع وعلیه أجمع، فسار إلی معاویة والناس مجتمعون علیه، إلّا أهل الشام، وهو أعزّ منه، فخذلوه، وتثاقلوا عنه، حرصاً علی الدنیا، وضنّاً بها، فجرَّعوه الغیظ وخالفوه، حتی صار إلی ما صار إلیه من کرامة الله ورضوانه، ثمّ صنعوا بأخیک بعد أبیک ما صنعوا، وقد شهدْتَ ذلک کلّه ورأیته، ثمّ أنت ترید أن تسیر إلی اللذین عَدَوا علی أبیک وأخیک تقاتل بهم أهل الشام وأهل العراق ومَن هو أعدّ منک وأقوی، والناس منه أخوف، وله أرجی، فلو بلغهم مسیرک إلیهم لاستطغوا الناس بالأموال، وهم عبید الدنیا، فیقاتلک مَن وعدک أن ینصرک، ویخذلک مَن أنت أحبّ إلیه ممّن ینصره، فاذکر الله فی نفسک»((1)). ویمثّل هذا النصّ دراسة واعیة ومتکاملة حول الوضع السیاسی والعسکری الذی کان قائماً آنذاک، وأنّه لا مجال للتغییر، وقد جازاه الإمام الحسین علیه السلام خیراً علی رأیه هذا.

إذن، کانت هذه النصائح وغیرها تمثّل رؤی صائبة ودراسات واعیة، خلصت إلی انعدام التکافؤ العسکری بین الجبهتین، وکان الحسین علیه السلام أعلم بذلک من ناصحیه، الذین لم یُدرکوا أنّ هدف الخروج - وهو فضح الطغاة بدم الشهادة - لا یعتمد علی التفوّق عسکریّاً، بل الأمر علی العکس تماماً، وهو علیه السلام ما کان یرید أن یصارحهم بذلک؛ «ولذا کان علیه السلام یبدو علیه الإحراج مع کثیر من ناصحیه من أهل الرأی والمعرفة، الذین یعتمدون المنطق فی موازنة القوی. وأقوی ما کان یعتذر به، ممّا یصلح لأن یُقنع الناس، أنّه علیه السلام خرج من مکّة خشیة أن تُهتک به حرمتها وحرمة الحرم...»((2)).

ص: 124


1- ([1]) المصدر السابق: ج3، ص56.
2- ([2]) الطباطبائی الحکیم، محمد سعید، فاجعة الطف: ص39.

هذه هی أهمّ الشواهد والقرائن التی طُرحت فی المقام، وبها أُغلق ملف التغییر الثوری المسلّح فی الحرکة الحسینیّة، فلم یکن الإمام علیه السلام یخطِّط لتوجیه ضربة عسکریّة لإسقاط النظام الحاکم.

الإجابة عن هذه الإشکالیة: الحرکة العسکریّة المسلحة ومحوریّتها فی البرنامج السیاسی للنهضة الحسینیّة

نحاول فیما یلی مناقشة الإشکالیة من وجهین، فنجیب عنها أوّلاً من خلال طرح رؤیتنا المعاکسة حول الموضوع بصورة عامّة، ثمّ ننتقل بعد ذلک وبصورة تفصیلیّة للردّ علی القرائن والشواهد السابقة التی استُدلّ بها لإثبات صحّة مضمون هذه الإشکالیّة التاریخیّة، فیقع حدیثنا فی إطار الإجابتین التالیتین:

الإجابة الأُولی: رؤیتنا العامّة حول الحرکة العسکریّة المسلّحة ومحوریّتها فی البرنامج السیاسی للنهضة

فی البدایة ینبغی الاعتراف بأنّ الحدیث حول هذا الموضوع لا یخلو من حساسیة وخطورة معرفیّة؛ وذلک لارتباطه المباشر بالجانب العقدی؛ لأنّنا نتحدّث عن إمام معصوم بأعلی وأرفع درجات العصمة المطلقة، عالم بالغیب والشهادة، یحمل أهداف السماء ومبادئها، وارث الأنبیاء والرسل والأوصیاء، والصفوة من أهل البیت علیهم السلام ، فکیف یقود انقلاباً عسکریّاً مسلّحاً تکون نتائجه عکسیّة ومأساویّة؟! وکیف یخرج رجلٌ محارب وقائد عسکری إلی أعدائه بخطاب الموت والشهادة، ویحمل معه نساءه وأطفاله، وثلّة قلیلة من أهل بیته، وبصورة سافرة ومُعلنة، یطوف بهم الفیافی والبلدان، ویقطع المسافات الطویلة فی صعید مکشوف، أمام هیمنة وطغیان النظام الحاکم؟! وکیف یعتمد فی إسقاط حکم متجبّر، قویّ ومستقرّ، علی وعود وعهود من مجتمع وجیش عُرف بالتخاذل والغدر والمکر والخیانة؟! ألا یتنافی ذلک کلّه مع علم الإمام وعصمته؟! ألا یکشف أیضاً عن سوء التخطیط وضعف التدبیر العسکری والإخفاق

ص: 125

فی دراسة معطیات الواقع؟! ثمّ کیف یکون ابن عباس وأضرابه أدقّ وأصوب فی قراءة المستقبل من الإمام الحسین علیه السلام ؟!

هذه التساؤلات وغیرها تضعنا أمام مسؤولیة تاریخیّة وعقدیّة کبیرة، فعلینا أن نتوخّی الدقّة والحذر إذا کنّا نعتقد بأنّ الحسین علیه السلام قد استهدف بخروجه الانقلاب المسلّح والتغییر العسکری للسلطة، فی ظروف - کما نری - کانت مُهیّأة للنصر وبناء الدولة العادلة!!

المصادرات والأُصول الموضوعة

فی مقدّمة البحث وقبل الشروع فی الإجابة أجد نفسی ملزماً بالتذکیر ببعض الأُمور التی لا ینبغی أن نختلف فیها، أو هی أُصول موضوعة تبتنی علی معطیات الأبحاث الماضیة:

1- إنّ الدوافع والأهداف لخروج الإمام الحسین علیه السلام کثیرة ومتنوّعة بتنوّع أبعاد النهضة واختلاف مراحلها؛ فهناک دوافع تکلیفیّة تتطلّب محاربة الظلم والفساد عن طریق الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، وقد کان هذا الدافع یُشکّل بُعداً ممتداً راسماً للحرکة الحسینیّة المبارکة فی طول مسیرتها. کما أنّ هناک أیضاً دوافع رسالیة، قد تستهدف الحفاظ علی مقام الإمامة وشخص الإمام فی المراحل الأُولی للنهضة، وهذا ما حصل بالخروج من المدینة کخروج موسی علیه السلام ، وقد تستهدف تلک الدوافع الرسالیّة أیضاً الحفاظ علی مبادئ الرسالة الإلهیة وجهود الأنبیاء والمرسلین فی الأُمّة ولو بدم الشهادة فی مراحل لاحقة ومتأخّرة، وهذا ما حصل فی نهایة المطاف. ومن الدوافع أیضاً ما یرتبط بالغیب، کالمقام المحمود عند الله الذی لا یناله الإمام الحسین علیه السلام إلّا بالشهادة.

ص: 126

هذه الأهداف وغیرها ترتبط جمیعها بطبیعة التنوّع المرحلی والأبعاد المتعدّدة والآفاق الواسعة للنهضة، ولیس من الموضوعیة تطویقها بدائرة ضیّقة ومحدودة.

ومن الأهداف التی نؤمن بها أیضاً فی بعض مراحل النهضة هی الأهداف السیاسیّة، ومنها التخطیط للانقلاب العسکری، وتحریک الأُمّة باتّجاه التغییر المسلّح لنظام الحکم الأُمویّ، وهذا ما حصل بالفعل - کما سنُبیّن - فی مرحلة التواصل مع القواعد الشعبیّة والقوات المسلّحة فی العراق.

2- إنّ النهضة فی مراحلها الأخیرة قد فقدت القدرة علی التفوّق العسکری وإمکانیّة التغییر المسلّح؛ وذلک بعد التقلّبات والأحداث المتسارعة فی المنطقة، والتغییر المفاجئ فی المواقف، وانقلاب الجیش الکوفی واصطفافه مع مرتزقة آل أبی سفیان، فوقع سیف الحسین علیه السلام بید أعدائه، وأضحی احتمال التغییر منعدماً.

3- إنّ الإمام المعصوم عالم بالغیب، ومطّلع علی عواقب الأُمور، ولکن ذکرنا فی فصلٍ سابق بأنّ هذا العلم قابل للتغییر والتبدیل، ومحکوم بقانون البداء الإلهی العام، وموقوف علی قرارات المشیئة الإلهیة الفعلیّة، وکذا المشیئة الذاتیّة المطلقة والحاکمة علی کلّ شیء. فالعلم بالغیب لا یمنع المعصوم من النهوض بالأُمّة لتحقیق النصر والإصلاح، حتی وإن کانت مقادیر الغیب لا تُضیء هذه الأهداف ولا تکشف عن طبیعة مکوّناتها، فیخرج المعصوم وینهض بالأُمّة لتغییر مقادیر الغیب نحو الأفضل. ولو کان علم الغیب مانعاً، وکانت مقادیره محسومة النتائج، لما خرج النبی الأعظم صلی الله علیه و آله فی معرکة أُحد طلباً للنصر، ولما خرج أمیر المؤمنین علیه السلام فی معرکة صفّین للقضاء علی معاویة!!

إذا اتّضحت هذه الأُمور المهمّة، واستحضرناها بصورة واعیة، ننتقل إلی بیان المناقشة التفصیلیّة لتلک الإشکالیّة التاریخیّة فی إطار العنوان التالی:

ص: 127

القوّات المسلّحة الحسینیّة کانت هی الأقوی والأکفأ فی العراق (دراسات میدانیّة)

اشارة

إنّ المعطیات التاریخیّة لعصر النهضة تکشف لنا بوضوح أبعاد ومدیات التحرّک السیاسی آنذاک، وتُنبِّئنا بأنّ التواجد الحسینی کان هو الأقوی والأکفأ فی العراق، وأنّ التواجد الأُموی فی هذه المنطقة بات ضعیفاً للغایة بعد هلاک معاویة، وکانت التوقّعات والدراسات المیدانیّة کلّها تشیر إلی أنّ الحسین علیه السلام هو المتفوِّق عسکریّاً، وأنّه سوف ینتصر علی أعدائه فی الکوفة، فیما لو سارت الأُمور فی سیاقاتها الصحیحة والمخطِّط لها، وهذا ما صرّح به السیّد المرتضی حینما قال فی حدیثه حول الحرکة الحسینیّة: «إنّ أسباب الظفر بالأعداء کانت لائحة متوجّهة، وإنّ الاتفاق السیّء عکس الأمر وقلبه، حتی تمّ فیه ما تمّ» إلی أن یقول: «وهذا [أی الإمام الحسین علیه السلام ] لما قوی فی ظنّه النصرة ممّن کاتبه ووثق له، ورأی من أسباب قوّة أنصار الحقّ وضعف أنصار الباطل، ما وجب علیه الطلب والخروج»((1)).

وتمتلک هذه الرؤیة التاریخیّة مجموعة کبیرة من الوثائق والحقائق الدامغة، التی

لا یمکن تأویلها أو إنکارها أو التشکیک فیها، ونختار منها فیما یلی - للتدلیل علی ما ندّعی - ثلاث دراسات میدانیّة، کلّها تؤکّد تلک الرؤیة الإیجابیّة تجاه تفوّق الحرکة الحسینیّة المسلّحة فی الکوفة:

الأُولی: دراسة کبار القادة العسکریین فی الجیش الإسلامی

کان المجتمع الکوفی فی تواصل دائم ومستمرّ مع الحسین علیه السلام فی حیاة معاویة، وبعد هلاکه علم أهل الکوفة بأنّ الحسین علیه السلام قد أعلن رفضه إعطاء البیعة لیزید بن معاویة، وأنّه خرج فی إثر ذلک من المدینة واستقرّ فی مکّة المکرّمة، وأنّ ذاته المقدّسة

ص: 128


1- ([1]) المرتضی، علی بن الحسین، تنزیه الأنبیاء: ص229 - 230.

وحیاته الشریفة لا زالت مهدّدة بالخطر من قِبل السلطات الأُمویة الجائرة، فأثارهم هذا الواقع المریر والمؤسف الذی یعیشه ریحانة رسول الله صلی الله علیه و آله ، وأحسّوا من أنفسهم بأنّهم شیعته وأقرب الناس إلیه وأولاهم بالنصرة وحمایة إمامهم وابن بنت نبیّهم، فاجتمعوا فی منزل (سلیمان بن صُرد الخزاعی) یتدارسون الأمر لاتّخاذ الموقف المناسب، وکان (سلیمان بن صُرد) أوّل مَن افتتح الحدیث فی هذا الموضوع قائلاً: «إنّ معاویة قد هلک، وإنّ حسیناً قد تقبّض علی القوم ببیعته، وقد خرج إلی مکّة، وأنتم شیعته وشیعة أبیه [وقد احتاج إلی نصرتکم الیوم]((1))، فإن کنتم تعلمون أنّکم ناصروه ومجاهدو عدوه فاکتبوا إلیه»((2)). فأجابوه جمیعهم بالإیجاب والقبول والترحیب، وأجمعوا علی أنّهم الأَولی والأجدر باحتضان النهضة الحسینیّة المبارکة، وأنّهم مستعدّون وقادرون علی تقدیم الدعم الکامل لإنجاحها وتطبیق مبادئها الإلهیّة، فقرّروا أن یرفعوا بذلک کتاباً وتقریراً مفصّلاً للإمام علیه السلام ، یؤکّدون فیه جاهزیّتهم واستعدادهم للمواجهة والتضحیة فی سبیل النهضة وإمامها. وقد تضمّن تقریرهم هذا دراسة مفصّلة ومتکاملة، یذکرون فیها أسباب وموجبات التفوّق البشری والعسکری الذی یحظون به فی المنطقة عموماً، وفی الکوفة علی وجه الخصوص.

وهنا ینبغی أن نقف متأمّلین فی مضمون هذه الدراسة المیدانیّة المهمّة، التی دوّنها ووضعها بین یدی الإمام الحسین علیه السلام مجموعة من کبار الشیعة المخلصین من ذوی الخبرة العالیة، وخیرة القادة العسکریین فی الجیش الإسلامی، الذین خاضوا الحروب

ص: 129


1- ([1]) ما بین المعقوفتین بلفظ: ابن أعثم الکوفی، أحمد، الفتوح: ج5، ص27.
2- ([2]) الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج4، ص261.

والتجارب العسکریّة المتنوّعة فی میادین القتال، وخصوصاً فی الحروب والمعارک العلویّة لمواجهة الجیش الأُموی فی الشام.

لقد کان محتوی تلک الدراسة ومضمونها هو أنّ الکوفة مهیأة - من الناحیة الاجتماعیة والعقدیّة والسیاسیّة والعسکریّة - لاحتضان النهضة الحسینیّة، جاء ذلک

- کما أشرنا - بعد مؤتمر واجتماع موسّع لکبار الشیعة ووجهائها، حیث تمّ فیه تداول الأوضاع العامّة، وأحداث الساعة، والتحوّلات السیاسیّة التی تمرّ بها البلدان الإسلامیّة، والموقف الذی ینبغی اتّخاذه فی الظرف الحالی؛ وبعد المداولات قرّر المؤتمرون بأنّ الکوفة قادرة علی التغییر العسکری للسلطة، وأنّ خیر مَن یقود هذا التغییر نحو الأفضل والأصلح هو الحسین بن علیّ سلام الله علیه ، فبعثوا له کتباً ورسائل کثیرة ومتوالیة، تتضمّن دراسة دقیقة للواقع الکوفی والاستعداد التام لإنجاح النهضة، ومن جملة ما جاء فیها کما فی کتاب الفتوح لابن أعثم وغیره: «إلی الحسین بن علیّ، من سلیمان بن صرد((1))، والمسیب بن نجبة((2))، وحبیب بن مظاهر((3))، ورفاعة بن شداد((4))، وعبد الله بن

ص: 130


1- ([1]) الخزاعی: کان من صحابة رسول الله صلی الله علیه و آله ، وکان من وجوه الشیعة البارزین فی الکوفة، وکان أمیر المیمنة علی الرجّالة یوم صفِّین، وقد ولّاه أمیر المؤمنین علیه السلام علی منطقة الجبل، ومدح صلابته فی الدین، وقاد ثورة التوّابین، وقُتل شهیداً.
2- ([2]) الفزاری: أدرک رسول الله صلی الله علیه و آله ، وشهد معرکة القادسیة وفتوح العراق، شارک مع الإمام علی علیه السلام فی معارکه، وقُتل شهیداً مع التوّابین.
3- ([3]) الأسدی: کان من خیار أصحاب الإمام علیّ علیه السلام ومن خاصّته وحَمَلة علومه، شهد معه حروبه: الجَمَل وصفِّین والنهروان، ثمّ کان من أصحاب الإمام الحسن علیه السلام ، وبقی فی الکوفة بعد الصلح، وکان یحفظ القرآن ویحیی لیالیه فی تلاوته، وکان علی میمنة معسکر الحسین علیه السلام ، واستُشهد معه یوم عاشوراء، وهدّ مقتله الحسین علیه السلام ، ووقف علیه وامتدحه حینما سقط شهیداً.
4- ([4]) البجلی: کان من خیار أصحاب الإمام علیّ علیه السلام ، ومن الشجعان المقدّمین، شهد معه صفِّین، وهو قاضیه علی الأهواز، وکان فقیهاً قارئاً شاعراً، وأمیراً علی بجیلة، قاتل مع التوّابین، وقُتِل شهیداً مع المختار.

وال((1))، وجماعة شیعته من المؤمنین، أمّا بعدُ، فالحمد لله الذی قصم عدوّک... نحن مقاتلون معک وباذلون أنفسنا من دونک، فأقبل إلینا فرحاً مسروراً، مأموناً مبارکاً، سدیداً وسیّداً، أمیراً مطاعاً، إماماً خلیفة علینا مهدیّاً، فإنّه لیس علینا إمام ولا أمیر، إلّا النعمان بن بشیر، وهو فی قصر الإمارة وحید طرید، لیس یُجتمع معه فی جمعة، ولا یُخرج معه إلی عید، ولا یؤدّی إلیه الخراج، یدعو فلا یُجاب، ویأمر فلا یطاع، ولو بلغنا أنّک قد أقبلت إلینا أخرجناه عنّا حتی یلحق بالشام، فأَقدِمْ إلینا، فلعلّ الله أن یجمعنا بک علی الحق»((2)). ثمّ ألحقوه بکتاب آخر یؤکِّدون فیه بأنّ «الناس ینتظرونک، ولا رأی لهم فی غیرک، فالعجل العجل»((3)).

هذا هو رأی خمسة من کبار الشیعة وقادتها، وهو أیضاً رأی عموم الشیعة، وفیهم هانئ بن عروة، وعبد الله بن سبع الهمدانی، وقیس بن مسهّر الصیداوی، وعابس بن أبی شبیب الشاکری، وعبد الرحمن بن عبد الله الأرحبی، وعمارة بن عبید السلولی، وهانئ بن هانئ السبیعی، ومسلم بن عوسجة، وسعید بن عبد الله الحنفی، وغیرهم من وجهاء الشیعة وثقاتها، وفیهم مَن نال مقام الشهادة مع الإمام الحسین علیه السلام فی کربلاء.

وقد احتوی هذا النصّ التاریخی البالغ الأهمیّة علی مجموعة من الحقائق المیدانیّة التی تُمثّل صمّام أمان لانتصار النهضة وإصلاح الأُمّة، وهی ما یلی:

ص: 131


1- ([1]) التیمی: کان من خیار أصحاب الإمام علی علیه السلام ، وکان جلیل القدر ومن کبار الشیعة فی الکوفة، وکان من رؤساء التوّابین وشهدائهم.
2- ([2]) ابن أعثم الکوفی، أحمد، الفتوح: ج5، ص27 - 28.
3- ([3]) الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج4، ص262.

1- إدراک المواطنین الکوفییّن لمبادئ النهضة وإیمانهم بها، واشتیاقهم لإمام زمانهم وقائد مسیرتهم الحسین علیه السلام ، واستعدادهم التام للجهاد والقتال والتضحیة فی هذا السبیل.

2- إنّ الحسین علیه السلام سیکون آمناً فی الکوفة علی نفسه وأهله وخاصّته وذویه، وسیکون قادراً علی تحقیق وتفعیل مبادئ النهضة والتغییر فی الأُمّة.

3- إنّ وجود السلطة الحاکمة ضعیف جدّاً فی الکوفة، فهی لا تملک فیها شیئاً من مقوّمات القدرة، وتفتقر للدعم البشری والمالی والعسکری، ولیس لها فی نفوس الناس هیبة ولا وقار ولا سُلطان.

4- إنّ الوجود الضعیف للسلطة الحاکمة فی الکوفة، والمتمثِّل بالنعمان بن بشیر وجهازه الحکومی، یمکن عزله والقضاء علیه متی شاء الإمام الحسین علیه السلام ذلک.

وهذا کلّه یعنی أنّ انتصار النهضة الحسینیّة فی الکوفة أمرٌ مفروغ عنه بحسب المقاییس السیاسیّة والعسکریّة، ومن هنا طالبوا الإمام علیه السلام بالإسراع فی القدوم علیهم. هذه هی رؤیة السیاسیّین والمجاهدین الخُلّص من شیعة أهل البیت علیهم السلام بالنسبة للواقع الکوفی الذی یُعایشونه عن کثب ومتابعة جادّة ومسؤولة.

ولا شکّ أنّ هؤلاء القادة السیاسیین والمجاهدین المخلصین من الشیعة هم الأکثر تماسّاً بمجتمعهم، والأقرب لمحلّ الحدث، والأعرف بمتغیّرات ومستجدّات الواقع الکوفی من غیرهم، وهؤلاء هم الذین انتصر بجهادهم وجهودهم وتضحیاتهم أمیر المؤمنین علیه السلام فی مُجمل حروبه ومعارکه، ومدحهم مراراً بهذا الشأن، وقد کان رأیهم بالإجماع أنّ الحسین علیه السلام لو جاءهم سیُحقّق أهدافه وینتصر علی أعدائه، وأنّهم فی الکوفة یُشکّلون قوّة بشریّة وعسکریّة مسلّحة کافیة للوقوف بوجه الطغاة، وإسقاط حکومة الجور والظلم والفساد، وإقامة الحکومة الربانیّة العادلة بقیادة الإمام المعصوم.

ص: 132

ونحن لا نجد أیّ مبرر عقلائی لإغفال هذه الآراء المسؤولة والدراسات المیدانیّة، والمبادرة لتقدیم وتفضیل بعض الآراء الأُخری المخالفة لها، والمبتنیة علی معطیات ومعلومات سابقة وقدیمة جدّاً، مُستقاة فی الغالب من الموقف الکوفی المتخاذل فی أواخر خلافة أمیر المؤمنین علیه السلام ، وفی فترة خلافة الحسن علیه السلام ، أی مُنذ عشرین عاماً، کما هو الحال فی رأی ابن عباس، حینما أشار علی الحسین علیه السلام بعدم الخروج إلی الکوفة؛ لأنّ سکّانها أهل غدر ومکر. ابن عباس الذی ابتعد عن الواقع الکوفی أکثر من عشرین عاماً بعد الصلح مع معاویة، کیف یُقدَّم رأیه علی رأی سلیمان بن صرد الخزاعی وحبیب بن مظاهر ومسلم بن عوسجة وعابس الشاکری وأمثالهم، ممّن عایش أحداث الکوفة بآلامها وآمالها والمستجدّات فیها؟!

وأمّا کون النتیجة النهائیة للنهضة جاءت متطابقة مع تکهّنات ابن عبّاس، فهذا لا یصلح أبداً لأن یکون مبرّراً لتصحیح رأیه وتخطئة آراء الآخرین، کما سننبّه علی ذلک لاحقاً.

الثانیة: دراسة مسلم بن عقیل

بعد مرور (ستّة وثلاثین) یوماً علی تواجد الحسین علیه السلام فی مکّة المکرّمة، وفی العاشر من شهر رمضان بدأت کُتُب الشیعة من أهل الکوفة ورسلهم تتوالی علی الإمام علیه السلام وبشکل متواصل، وکانت الرُسُل والوفود الکوفیة تنتظر الردّ، وتتمنّی أن یکون إیجابیّاً، وبقی الإمام علیه السلام أیّاماً لا یتحدّث مع أحد فی الموضوع، ویتریّث فی الأمر، ویستمهلهم لدراسة الموضوع واستخارة الله تبارک وتعالی بهذا الشأن، وبعد الإلحاح والطلب الحثیث لمعرفة الجواب والقرار النهائی «قام الحسین علیه السلام فتطهّر وصلّی رکعتین بین الرکن والمقام، ثمّ انفتل من صلاته وسأل ربَّه الخیر فیما کتب إلیه أهل الکوفة، ثمّ جمع

ص: 133

الرسُل، فقال لهم: إنّی رأیت جدّی رسول الله صلی الله علیه و آله فی منامی وقد أمرنی بأمرٍ وأنا ماضٍ لأمره، فعزم الله لی بالخیر، إنّه ولیُّ ذلک والقادر علیه إن شاء الله تعالی»((1)). ثمّ أخبرهم بأنّه سیبعث موفوداً عنه «لیعرف طاعتهم وأمرهم، ویکتب إلیه بحالهم ورأیهم»((2)). وقام باستدعاء ابن عمّه مسلم بن عقیل، وکلّفه بمهمّة استطلاع ودراسة الملف الکوفی، قائلاً له: «قد رأیتُ أن تسیرَ إلی الکوفة، فتنظر ما اجتمع علیه رأی أهلها، فإن کانوا علی ما أتتنی به کُتُبهم، فعجّل علیّ بکتابک؛ لأُسرع القدوم علیک، وإن تکن الأُخری، فعجّل الانصراف»((3)). وأمره کذلک «بتقوی الله وکتمان أمره واللطف»((4))، وأن یدعو الناس إلی طاعته، وخذلان آل أبی سفیان. وکتب علیه السلام إلی أهل الکوفة کتاباً مفصّلاً، ومن جملة ما جاء فیه قوله: «وإنّی باعث إلیکم بأخی وابن عمّی وثقتی من أهلی (مسلم بن عقیل)؛ لیعلم لی کنه أمرکم، ویکتب إلیَّ بما یتبیّن له من اجتماعکم، فإن کان أمرکم علی ما أتتنی به کتبکم، وأخبرتنی به رُسُلُکم، أسرعتُ القدوم علیکم إن شاء الله»((5)). وأمرهم أن ینهضوا بالأمر بقیادة ابن عمّه، وأن یبایعوه وینصروه إلی حین قدومه علیه السلام .

وقد باشر مبعوث الحسین علیه السلام فور وصوله الکوفة بأداء مهمّته بأحسن وجه، وقام بدراسة الأوضاع الاجتماعیّة والسیاسیّة والعسکریّة من کلّ جوانبها وبصورة دقیقة وتفصیلیّة، وعلی درجة عالیة من السریّة والکتمان، کما أمره الإمام علیه السلام ، وبمدّة قاربت الأربعین یوماً إلی حین اتّخاذ القرار النهائی وبشکل إیجابی، وکان من أهمّ إنجازات

ص: 134


1- ([1]) الکوفی، أحمد بن أعثم، الفتوح: ج5، ص30.
2- ([2]) البلاذری، أحمد بن یحیی، أنساب الأشراف: ج3، ص159.
3- ([3]) الدینوری، أحمد بن داود، الأخبار الطوال: ص230.
4- ([4]) المفید، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص39.
5- ([5]) الدینوری، أحمد بن داود، الأخبار الطوال: ص230.

هذه الفترة تشکیل قوّة عسکریّة ضخمة مضحّیة، یفوق عددها الثمانیة عشر ألف رجل من الشیعة، کلّهم قد بایعوه علی الجهاد والقتال والنصر أو الموت بین یدیه.

وبموجب ذلک کلّه، وفی ضوء المعطیات المیدانیّة الوافرة التی یطول الحدیث باستعراضها، کان الرأی الذی تشکّل لدی مسلم بن عقیل - الثقة المأمون والعالم النبه والأقرب من مکان الحدث وزمانه - واضحاً وصریحاً فی أنّ الأجواء مهیّأة تماماً لاستلام السلطة، وأنّ الدعم البشری والعسکری کافٍ لتحقیق النصر وقیام دولة العدل والإیمان، وأنّ الحسین علیه السلام لو تحرّک نحو الکوفة فإنّه سیتولّی القیادة والحُکم فیها بیُسرٍ وعافیة. وفی ضوء هذه المعطیات أبرق إلیه کتاباً یقول فیه: «أمّا بعدُ، فإنّ الرائد لا یکذب أهله، وقد بایعنی من أهل الکوفة ثمانیة عشر ألفاً، فعجّل الإقبال حین یأتیک کتابی، فإنّ الناس کلّهم معک، لیس لهم فی آل معاویة رأی ولا هوی، والسلام»((1)).

والحاصل: إنّ الحسین علیه السلام کان ینتظر التقریر الذی سیرفعه مبعوثه إلی الکوفة الثقة العالم الأمین مسلم بن عقیل، فإن کان سلبیّاً امتنع عن الخروج إلیهم، وإن کان إیجابیّاً وعلی طبق مضمون کتبهم وأقوال رُسُلِهم، خرج إلیهم لإقامة حکم الله فی الأرض، وهذا ما أکّده علیه السلام فی کتابه لأهل الکوفة کما فی تذکرة الخواص: «فإن کتب إلیّ أنّه قد اجتمع رأی ملئکم وذوی الحجا منکم علی مثل ما قدمت رسلکم قدمتُ علیکم، وإلّا لم أُقدم»((2)). فخروج الحسین علیه السلام إلی الکوفة لم یکن قدراً محتوماً وقضاءً ناجزاً علی کلّ حال، بل کان قراراً موقوفاً علی وجود قوّة عسکریّة کافیة للقیام المسلّح بوجه الحکم الأُموی المستبدّ، وکان تحدید هذا الأمر موکولاً إلی ما یتوصّل إلیه المبعوث

ص: 135


1- ([1]) الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج4، ص281.
2- ([2]) سبط ابن الجوزی، یوسف بن فرغلی، تذکرة الخواص: ص244.

الحسینی من خلال دراسته المیدانیّة لمجمل الأوضاع فی الکوفة، وکانت النتیجة الإیجابیّة التی رُفعت إلی الحسین علیه السلام هی الباعث الأساس الذی دعاه للخروج إلی الکوفة، ولو کانت النتیجة سلبیة وغیر مُطمئنة تجاه الوضع الکوفی، فإنّ الحسین علیه السلام لا یخرج إلی الکوفة أبداً.

وفی هذا الضوء نفهم مضمون کلام الإمام الحسین علیه السلام حینما خاطب معسکر عمر بن سعد فی کربلاء قائلاً: «تَبّاً لَکُمْ أَیَّتُهَا الجَماعَةُ وَتَرْحاً وَبُؤُساً لَکُمْ! حینَ اسْتَصْرَخْتُمُونا وَلهینَ، فَأَصْرَخْناکُمْ مُوْجِفینَ، فَشَحِذْتُمْ عَلَیْنا سَیْفاً کانَ فی أَیْدینا، وَحَمَشْتُمْ عَلَیْنا ناراً أَضْرَمْناها عَلی عَدُوِّکُمْ وَعَدُوِّنا، فَأَصْبَحْتُمْ الباً عَلی أَوْلِیائِکُمْ»((1)). فإنّ هذا النصّ الشریف صریح فی أنّ الکوفة کانت منذ فترة قریبة تُشکّل قوّة عسکریّة کبیرة مؤهّلة للانقلاب العسکری، وکان أمرُ هذه القوّة بید الإمام الحسین علیه السلام ، وکانت أهدافها مواجهة الأعداء والقضاء علی التواجد الأُموی فی المنطقة، وإقامة حکم الله فی الأرض، لکن الخذلان وسوء الاختیار الذی أدّی إلی وضع ذلک السیف الحسینی الکوفی بید الأعداء، کان هو السبب الأساس لتغیّر الأوضاع السیاسیّة، وانقلاب معادلات القوی العسکریّة.

ونستنتج من مجمل هذا العرض والدراسة المیدانیّة للواقع الکوفی الأُمور التالیّة:

1- إنّ الأمر النبویّ الذی وُجِّه للحسین علیه السلام فی المنام، هو وجوب الخروج إلی الکوفة بهدف التغییر السیاسی، وتحریک عجلة المقادیر الإلهیة، وإسقاط الحکم الأُموی عسکریّاً، وأن یوطّن الإمام علیه السلام نفسه علی کلّ الاحتمالات، فقد شاء الله تعالی فی ضوء

ص: 136


1- ([1]) الطبرسی، أحمد بن علی، الاحتجاج: ج2، ص24.

معطیات الواقع أن یخرج الحسین علیه السلام للإصلاح والتغییر، حتی لو أدّی خروجه إلی الشهادة والقتل بصورة مأساویة، فإمّا النصر أو الشهادة.

2- إنّ مسلم بن عقیل کان مأُموراً بالاستقرار فی الکوفة، والتعامل مع أهلها بهدوء ولطف وتحمّل، وأن یُرسِل کتاباً للإمام علیه السلام یدعوه فیه للمجیء إلی الکوفة، فیما لو وجد الأُمور علی ما یُرام، وهو مأُمور أیضاً فی مرحلة لاحقة بالتبلیغ المعلن للنهضة الحسینیّة، وشنّ حملة إعلامیّة مضادّة علی الحکم الأُموی الفاسد، والعمل علی تهیئة الظروف والأجواء للقیام المسلّح تمهیداً للنهضة إلی حین مجیء الحسین علیه السلام ، کما جاء ذلک صریحاً فی کتابه لأهل الکوفة: «فقوموا مع ابن عمّی وبایعوه وانصروه ولا تخذلوه»((1)).

3- إنّ مسلم بن عقیل کان مأُموراً بالانصراف سریعاً وترک الکوفة، فیما لو وجد الأُمور علی غیر ما یُرام، وحینها سیترک الحسین علیه السلام الخیار الکوفی، ویُسقطه من حسابات النهضة.

4- کانت دراسة مسلم بن عقیل لمجمل الأوضاع فی الکوفة إیجابیّة وباعثة علی الاطمئنان، وبذلک کتب للحسین علیه السلام ، یدعوه للإسراع بالخروج والإقبال علی الکوفة، وفی هذا الضوء أعلن الإمام علیه السلام قرار الخروج إلی الکوفة متوکّلاً علی الله تعالی، وموطّناً نفسه علی النصر أو الشهادة.

5- انفتحت النهضة فی مراحلها الوسطی علی فرضیّة النصر المسلّح وإمکانیة التفوق العسکری، وکانت النهضة فی هذه المرحلة سرّیة للغایة، ویمکن تحدیدها بثلاثة

ص: 137


1- ([1]) ابن أعثم الکوفی، أحمد، الفتوح: ج5، ص31.

أشهر تقریباً، من حین التواصل مع أهل الکوفة (العاشر من شهر رمضان) وحتی لحظة اتخاذ قرار الخروج من مکّة المکرّمة (الثامن من شهر ذی الحجّة).

وفی بدایات هذه المرحلة الحسّاسة کان الحسین علیه السلام لا ینفتح مع أحد بالحدیث حول الشأن الکوفی، إلی أن اتّخذ قرار التواصل معهم، وقد أمر مبعوثه إلیهم بالتزام الکتمان والسریّة التامّة، وهذا ما حصل بالفعل، فقد کان دخول مسلم بن عقیل إلی الکوفة واستقراره فیها بشکل سرّی، ولم یطّلع علی ذلک إلّا المقرّبون والمأمونون من الشیعة، وحتی البیعة کانت تؤخذ سرّاً وبالخفاء، ففی الأمالی الشجریّة: «کان الحسین علیه السلام قدّم مسلم بن عقیل یبایع له فی السرّ إلی الکوفة»((1)). وفی هذا الضوء سارت الأُمور، ففی شرح الأخبار: «کان مسلم بن عقیل قد بایع له جماعة من أهل الکوفة فی استتارهم»((2)). وفی نصٍّ ثالث: «ولم یزل مسلم بن عقیل یأخذ البیعة من أهل الکوفة، حتی بایعه منهم ثمانیة عشر ألف رجل فی ستر ورفق»((3)).

إذن؛ کانت النهضة فی مرحلة الانقلاب والتغییر العسکری للسلطة مُحاطة بالتعتیم التامّ والسریّة المطلقة، ولا نستبعد أن یخفی ذلک أیضاً علی الشخصیات المعروفة والبارزة فی مکّة والمدینة، من أمثال: عبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبیر ومحمد بن الحنفیّة وغیرهم، وهذا ما یظهر بوضوح من حدیثهم مع الإمام علیه السلام لحظة إعلان قرار خروجه من مکّة إلی الکوفة فی السادس أو السابع من شهر ذی الحجة، حیث فوجئوا بالقرار واعترضوا علیه بناءً علی ما لدیهم من معطیات قدیمة جدّاً حول المجتمع الکوفی، وهذا ما استقربه أیضاً السیّد المرتضی فی قوله: «لعل ابن عباس لم یقف

ص: 138


1- ([1]) الشجری، یحیی بن الحسین، الأمالی الشجریّة: ج1، ص167.
2- ([2]) القاضی المغربی، النعمان بن محمد، شرح الأخبار: ج3، ص143.
3- ([3]) الدینوری، أحمد بن داود، الأخبار الطوال: ص235.

علی ما کوتب به من الکوفة، وما تردّد فی ذلک من المکاتبات والمراسلات والعهود والمواثیق»((1)).

ونحن نری بأنّ مسلم بن عقیل هو الأَحقّ والأجدر بالحدیث حول أهل الکوفة؛ لأنّه کان الأعلم بالواقع الکوفی من ابن عباس وغیره، ممّن ابتعدوا کثیراً عن الأحداث والوقائع والتطورات الکوفیّة، وقد خالفهم فی رؤیتهم، وقرّر بأنّ الکوفة علی استعداد تامّ لاستقبال النهضة، وفی هذا الضوء قرّر الحسین علیه السلام أیضاً الخروج ونَقْل النهضة إلیها، تارکاً خلفه الآراء القدیمة والبالیة، والتی هو أعلم بها من أصحابها.

کتاب الإمام الحسین علیه السلام إلی رؤساء البصرة وأشرافها

الذی یظهر من مجموع النصوص التاریخیّة الواردة فی توثیق هذه المرحلة من النهضة، أنّ الإمام الحسین علیه السلام بعد أن استوثق من موقف أهل الکوفة، أرسل کتاباً عاجلاً إلی رؤساء أهل البصرة وأشرافها، «یدعوهم فیه إلی نصرته والقیام معه فی حقّه»((2))، والطاعة والانقیاد لأوامره، ومن جملة ما جاء فی الکتاب قوله علیه السلام : «وأنا أدعوکم إلی کتاب الله وسنّة نبیّه، فإنّ السنّة قد أُمیتت، وإنّ البدعة قد أُحییت، وإنّ تسمعوا قولی وتطیعوا أمری أهدکم سبیل الرشاد»((3)). وکان یزید بن مسعود النهشلی ممّن أُرسل إلیهم الکتاب، فعقد علی إثره مؤتمراً عامّاً جمع بنی تمیم وبنی سعد، وأخذ منهم البیعة والموافقة علی نصرة الحسین علیه السلام فی نهضته، وکتب بذلک کتاباً مفصّلاً للإمام علیه السلام یخبره فیه باستعدادهم التام لتقدیم الدعم العسکری للنهضة، ویقول فیه: «وصل کتابک، وفهمت ما ندبتنی إلیه ودعوتنی له، من الأخذ بحظّی من طاعتک والفوز بنصیبی من

ص: 139


1- ([1]) المرتضی، علی بن الحسین، تنزیه الأنبیاء: ص230.
2- ([2]) ابن أعثم الکوفی، أحمد، الفتوح: ج5، ص37.
3- ([3]) الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج4، ص266.

نصرتک... فأَقدِم سُعدت بأسعد طائر، فقد ذلّلت لک أعناق بنی تمیم، وترکتهم أشدّ تتابعاً فی طاعتک من الإبل الظماء لورود الماء یوم خمسها وکظها، وقد ذلّلت لک رقاب بنی سعد». فلمّا قرأ الحسین علیه السلام الکتاب، قال: «آمنک الله یوم الخوف، وأعزّک وأرواک یوم العطش الأکبر»((1)).

وما نرید قوله هنا: هو أنّه سوف لا یبقی أیّ مُبرّر لإرسال هذا الکتاب لو لم یکن الإمام علیه السلام ساعیاً للنصر ومُطمئناً بإمکانیّة تشکیل قوّة عسکریّة قادرة علی إسقاط النظام الأُموی فی العراق، فأیّ معنی یبقی لهذا الکتاب لو کان الحسین علیه السلام ساعیاً لأجله وقدره المحتوم، وخارجاً لنیل مقام الشهادة مظلوماً بید أعدائه؟! ألم یکن من الأجدر لتحصیل هذا الهدف هو السکوت وترک الاستنصار کی ینال علیه السلام غایته سریعاً؟!

إذن؛ کان الحسین علیه السلام - وبموجب مکاتباته السیاسیّة - یری بأنّ التغییر العسکری المسلّح للسلطة أمرٌ ممکن، وکان یدعو الناس ویستنصرهم لذلک، بل إنّ مکاتباته ورسائله کلّها (للکوفة والبصرة وغیرهما) کانت تؤذن بإمکانیة انتصار الثورة سیاسیّاً وعسکریّاً.

وکان یری الحسین علیه السلام أیضاً - بموجب هذا الکتاب - أنّ الکوفة ستکون انطلاقة أُولی لانضمام سائر الولایات والبلدان الإسلامیّة الأُخری إلیها، ودخولها تحت سلطة الخلافة الإلهیّة العادلة.

ص: 140


1- ([1]) ابن طاووس، علی بن موسی، اللهوف فی قتلی الطفوف: ج4، ص28.

الثالثة: دراسة أزلام النظام الحاکم

لم تکن تلک القراءة الحسینیّة الإیجابیة للواقع الکوفی خافیة علی مرتزقة یزید وجواسیسه، حیث أحسّوا بالخطر، وعلموا یقیناً بأنّ الأوضاع لو بقیت علی ما هی علیه، فإنّ الحسین علیه السلام هو المنتصر لا محالة، وأنّ مسلم بن عقیل یسیر بجدّ وجدارة عالیة باتّجاه حسم الأُمور لصالح النهضة، فبادروا بإرسال الکتب والنصائح والنُذر إلی طاغیة الشام، یخبرونه بخطورة الموقف، وأنّ الکوفة ستخرج من نطاق حکمه وسلطانه، وأنّ التواجد الحسینی أضحی هو الأقوی والأکفأ فی المنطقة، ومن جملة ما دوّنوه فی کتبهم قولهم: «أمّا بعدُ، فإنّ مسلم بن عقیل قد قدم الکوفة، وقد بایعه الشیعة للحسین بن علی، وهم خلقٌ کثیر، فإن کان لک فی الکوفة حاجة، فابعث إلیها رجلاً قویّاً ینفذ فیها أمرک، ویعمل فیها بعملک من عدوک»((1)). وفی کتابٍ آخر: «فإنّ یکن لک فی سلطانک حاجة، فبادر إلیه مَن یقوم بأمرک»((2)).

وهکذا استشعر یزید الخطر الکبیر الذی یُهدّد مُلکه وسلطانه، وبادر إلی الاستشارة العاجلة فی هذا الأمر، وکان القرار بعد المداولة الجادّة هو الإسراع فی العمل علی التغییر الحکومی بما یناسب خطورة المرحلة، فوقع الاختیار علی السفّاح المجرم عبید الله بن زیاد لیتولّی أمر الکوفة، فبعث إلیه کتاباً مفصّلاً وعاجلاً یحثّه فیه علی مسک الملف الکوفی فوراً، ویخبره بأنّ مسلم بن عقیل قد نزل فی الکوفة یجمع الجموع للحسین بن علیّ، «وقد اجتمع إلیه خلق کثیر من شیعة أبی تراب»((3))، ویأمره بالتوجّه مسرعاً إلی الکوفة، ویخاطبه قائلاً: «فالعجل العجل، والوحا الوحا»((4))، «إن کان لک

ص: 141


1- ([1]) ابن أعثم الکوفی، أحمد، الفتوح: ج5، ص35.
2- ([2]) الدینوری، أحمد بن داود، الأخبار الطوال: ص231.
3- ([3]) ابن أعثم الکوفی، أحمد، الفتوح: ج5، ص36.
4- ([4]) المصدر السابق: ج5، ص37.

جناحان، فطر إلی الکوفة»((1))، «وشدَّد علیه فی تحصیل مسلم وقتله»((2))، وأن یبعث إلیه برأسه، «وأن یتیقّظ فی أمر الحسین بن علی، ویکون علی استعداد له»((3))، «فأقبل عبید الله بن زیاد علی الظّهر سریعاً، حتی قدم الکوفة»((4))، وفعل ما فعل بأهلها من الجرائم ما یملأ بطون التاریخ.

ولقد بلغ بیزید الخوف والاضطراب من التحرّک (الکوفی/الحسینی) مبلغاً عظیماً، فوجّه کتاباً مفصّلاً لابن عباس، یُخبره بذلک، ویُطالبه بإقناع الحسین علیه السلام ألّا یتواصل مع أهل الکوفة، وألّا یخرج إلیهم، حیث یقول: «بلغنی أنّ رجالاً من شیعته من أهل العراق یُکاتبونه ویُکاتبهم، ویُمنّونه الخلافة ویُمنّیهم الإمارة... فألقه واردده عن السعی فی الفرقة، وردّ هذه الأُمّة عن الفتنة، فإن قبل منک وأناب إلیک فله عندی الأمان والکرامة الواسعة»((5)). وما یلمسه القارئ بوضوح فی هذا الکتاب، هو عبارات التخوّف الشدید من أبعاد الحرکة الحسینیّة وارتباطها بالواقع الکوفی.

إنّ هذه الدراسة المیدانیّة لمعالم التقدّم الحسینی فی الکوفة، والاضطراب والخوف الشدیدین، والتحرّک السریع لتدارک الموقف، والقرارات الحاسمة التعسّفیة، وترقّب النتائج علی حذر ویقظة تامّة، کلّ ذلک یکشف وبوضوح عن صحّة وواقعیة الدراسة التی رفعها مسلم بن عقیل للإمام الحسین علیه السلام ، وأنّ الإمام علیه السلام قد تحرّک بالاتجاه الصحیح وقرأ الواقع کما ینبغی، واتخذ القرارات المناسبة علی بصیرة من أمره، ودرایة تامّة بمجریات الأُمور. وهذا ما کان یجهله ابن عبّاس وغیره فی مکّة والمدینة.

ص: 142


1- ([1]) الذهبی، محمد بن أحمد، سیر أعلام النبلاء: ج3، ص299.
2- ([2]) ابن طاووس، علی بن موسی، اللهوف فی قتلی الطفوف: ج4، ص28.
3- ([3]) البلاذری، أحمد بن یحیی، أنساب الأشراف: ج2، ص78.
4- ([4]) ابن سعد، محمد، ترجمة الإمام الحسین علیه السلام من الطبقات الکبری: ص65.
5- ([5]) سبط ابن الجوزی، یوسف بن فرغلی، تذکرة الخواص: ص237.

وأمّا انکفاء النهضة بعد ذلک، وتطابق النتائج النهائیة مع آراء بعض الناصحین من أمثال ابن عباس وغیره، فلا یحمل أیّ دلالة علی أنّ رؤیتهم تجاه الواقع الکوفی الفعلی کانت هی الصحیحة، وأنّ تلک النتائج کانت معلومة ومحسومة فی رأی عقلاء القوم، وأنّ الحسین علیه السلام کان علی یقین من ذلک، وإنّما خرج لنیل الشهادة وفضح الظلمة والمفسدین. لیس فی آرائهم ونصائحهم أیّ دلالة علی شیء من ذلک، وإنّما نعتقد بأنّ الحسین علیه السلام قد خرج فی ضوء معطیات صحیحة وصائبة فی نظر ذوی الخبرة والقادة المیدانیین، وهی تُوصله - لو سارت الأُمور بمسارها الصحیح - إلی تحقیق النصر العسکری وإقامة الحکومة العادلة، وتبقی النتائج النهائیة وعواقب الأُمور موکولة إلی الله تعالی.

ونظیر ذلک ما هو مذکور مفصّلاً فی کتب التاریخ حول خروج النبی’ إلی القتال فی معرکة أُحد((1))، حیث خرج’ من المدینة لمواجهة مشرکی مکّة، وذلک فی ضوء معطیات وتقاریر ورؤی واستشارات صحیحة وموضوعیّة أدلی بها کبار الصحابة من ذوی الرأی والخبرة، وأکّدوا بأنّ الخروج من المدینة لمواجهة الأعداء هو الأسلم، وستکون نتیجته النصر علی طغاة مکّة، ولکن فی المقابل کان رأی عبد الله بن أُبیّ المنافق هو البقاء فی المدینة، وعدم الخروج منها، والتحصّن فیها، ومقاتلة المشرکین علی طریقة حرب الشوارع، وأنّ الخروج سیُعرِّض المسلمین للهزیمة والقتل. والنبی الأکرم’ فی نهایة المطاف أعرض عن رأی ابن أُبیّ، وأخذ برأی الحمزة وکبار الصحابة من المهاجرین والأنصار، وحرّض المسلمین علی القتال، «وأمرهم بالجدّ والجهاد، وأخبرهم أنّ لهم النصر ما صبروا»((2))، ولکن کانت النتائج متطابقة مع رأی ابن

ص: 143


1- ([1]) اُنظر علی سبیل المثال: الواقدی، محمد بن عمر، المغازی: ج1، ص199 وما بعدها.
2- ([2]) المصدر السابق: ج1، ص213.

أُبی، حیث خسر المسلمون المعرکة، وقُتل خیرة رجالات الإسلام، وأُصیب النبی’ بجروح بالغة، فهل هذا یعنی أنّ رأی المنافق ابن أُبی کان صائباً؟! وأنّ القرار الذی اتّخذه النبی صلی الله علیه و آله کان مخطئاً؟! کلا، بل کان قرار النبی’ هو الصائب؛ لأنّه مبتنٍ علی مبررات موضوعیة تکون نتیجتها النصر لو التزم المسلمون بالصبر والخطط القتالیة وتوجیهات القادة المیدانیین فی المعرکة، ولکن وقع ما وقع من تقصیر المقاتلین فی وظائفهم؛ ما أدّی إلی الهزیمة، ولکن یبقی قرار النبی الأکرم’ صائباً، وإن تطابقت النتائج مع رأی ابن أُبی. وهکذا الحال بالنسبة إلی سائر المعارک التی تکون من هذا القبیل، نظیر ما جری فی معرکة صفِّین وغیرها. والذی یُصحّح الموقف هو السیر فی ضوء الدراسات والمبرّرات الموضوعیّة، وتبقی المقادیر النهائیّة بید الله تبارک وتعالی.

والنتیجة: إنّ الرؤیة التی نؤمن بها ونعتقد بأنّها مطابقة للمعطیات التاریخیّة والمیدانیّة فی ذلک الحین، هی کون التغییر السیاسی للسلطة والانقلاب العسکری المسلّح لاستلام الحکم، من أهمّ دوافع وأهداف النهضة الحسینیّة المبارکة، ولکنّه کان یُشکّل حقبة خاصّة من تاریخها، ومرحلة معیّنة ومصیریّة من مراحلها، ابتدأت بعد استقرار الإمام علیه السلام فی مکّة المکرّمة وحینما بدأ التواصل مع المجتمع الکوفی، وانتهت حینما انقلب الناس علی عهدهم وبیعتهم، وقُتل السفیر مسلم بن عقیل، وحوصر الحسین علیه السلام فی الأراضی العراقیّة، حینها أصبحت الشهادة کرامة الأولیاء، وعزّ الأُباة والمصلحین، وفتحاً مبیناً لکلّ الأحرار والشرفاء، وهدفاً سامیاً وحیداً أسقط الأقنعة الدینیّة المزیّفة التی احتمی بها الظلمة والطغاة والمفسدون.

الإجابة الثانیّة: الردّ التفصیلی علی القرائن والشواهد لإنکار هدفیّة النصر العسکری

من مجموع ما تقدّم یتّضح الردّ علی الشواهد والقرائن السابقة، التی ساقها جملة من العلماء والباحثین؛ للتدلیل علی أنّ الانتصار السیاسی والعسکری لم یکن مُتاحاً ولا

ص: 144

یحتمله واقع النهضة الحسینیّة فی کلّ مراحلها، وکانت عبارة عن أربعة شواهد أساسیّة کما سبق:

أمّا بالنسبة إلی الشاهد الأوّل: وهو انعدام التوازن فی القوی وفقدان التکافؤ العسکری، فقد تبیّن أنّ ذلک لا یُمثّل واقع النهضة بتمام مراحلها؛ لأنّ الجبهة الحسینیّة کانت هی الأقوی والأکفأ فی فترة التواصل والتخطیط والتنظیم (الکوفی/الحسینی) کما تبیّن مفصّلاً. نعم، تراجعت القوّة العسکریّة لجبهة النهضة فی مراحلها الأخیرة، وذلک حینما انهار الواقع الکوفی أمام التحدّیات، وأصبحت الشهادة حینذاک هدفاً وحیداً، ومقاماً إلهیاً رفیعاً خالداً بخلود اسم الحسین علیه السلام .

وأمّا بالنسبة إلی الشاهد الثانی، والذی یُمثّل مجموعة من النصوص والتصریحات للإمام الحسین علیه السلام ، فالنصّ الأوّل وهو ما رواه الطبری عن الواقدی وزرارة بن جلح، فالإجابة علی الاستدلال به من وجوه:

1- إنّ قولهما: «فأخبرناه بضعف الناس فی الکوفة، وأنّ قلوبهم معه وسیوفهم علیه»، إنّما یُمثِّل رأیهما وقراءتهما الخاصّة عن الواقع الکوفی، بناءً علی مُعطیات لا یُعلم أساسها ومستندها، وهی قراءة تتقاطع تماماً مع دراسة ورؤیة مسلم بن عقیل وکبار القادة المخلصین من ذوی الخبرة والتاریخ الجهادی، حیث قرأوا الواقع الکوفی بصورة إیجابیّة ومختلفة کما تقدّم مفصّلاً، ولیس من الموضوعیّة أبداً ترک هذه الرؤیة الناضجة والقائمة علی أُسس علمیّة ومیدانیّة، والاعتماد علی قول ورأی شخصین لا نعلم مدی خبرتهم ولا حجم تواصلهم المیدانی مع مستجدّات الواقع الکوفی، مع احتمال تأثّرهما بالأحداث والمعطیات القدیمة حول المجتمع الکوفی، کما هو حال سائر الناصحین والمشفقین من أمثال عبد الله بن عباس.

2- إنّ قولهما فی فرض موضوعیّته واستناده لمعطیات علمیّة ومیدانیّة، إنّما یکون - فی أحسن الأحوال - عاملاً مضعِّفاً للمضمون الإیجابی الذی رفعه مسلم بن

ص: 145

عقیل للحسین علیه السلام حول الواقع الکوفی، ولا یُسقطه عن الاعتبار من رأس. فیبقی الخروج إلی الکوفة مُبتنیاً علی مبرّراته الموضوعیّة والعقلائیّة، ویکون خروج الحسین علیه السلام بدافع النصر العسکری أو الشهادة خروجاً علی طبق الموازین العسکریّة المعتبرة فی مواجهة العدو.

3- إنّ قول الحسین علیه السلام : «لولا تقارب الأشیاء وحبوط الأجر لقاتلتهم بهؤلاء [الملائکة]، ولکن أعلم علماً أنّ من هناک مصعدی، وهناک مصارع أصحابی». المقصود منه - بحسب الظاهر - أنّ الإمام علیه السلام لا یبحث عن النصر العسکری المحتوم والمحسوم، ولو کان یستهدف تحقیق النصر عسکریّاً بتلک الصورة لقاتل بنی أُمیّة بالملائکة وحسم الموقف، ولکنه یُرید انتصاراً قائماً علی إرادة الأُمّة واختیارها، وهذا النصر لیس قطعیّاً ولا محسوماً، وإنّما تتغیر مقادیره وإراداته السماویّة تبعاً لواقع الأُمّة ومجریات الأُمور، وشاء الله تعالی أن یخرج الحسین علیه السلام علی کلّ حال، فإمّا أن ینال انتصاراً عسکریّاً مؤزّراً، أو ینتصر ویفوز بدم الشهادة العظمی، وکانت وقائع هذا النصر الأخیر حاضرة ومشهودة فی مخزون علم الغیب الحسینی، ولکنه علم غیبیّ محکوم بالبداء والتبدیل والإرادة والمشیئة الإلهیّة، کما شرحنا ذلک مفصّلاً فی فصلٍ سابق.

النصّ الثانی: وهو الخطبة المعروفة التی خطبها الحسین علیه السلام حینما عزم علی الخروج إلی العراق، والتی مطلعها: «خُطَّ الموت علی ولد آدم مخطّ القلادة علی جید الفتاة...»، فإنّه لا علاقة له بالموضوع أبداً؛ لأنّ کلّ قائد میدانیّ مُقبل علی مواجهة عسکریة مع جبهة شرسة لا تؤمن بالمبادئ الإنسانیّة، فضلاً عن الإسلامیّة، لا بدّ أن یخرج هو وأنصاره وجیشه موطّنین أنفسهم علی الموت والشهادة کخیار أخیر، وهذه هی حال القادة والجیوش فی سوح القتال، فالحسین علیه السلام لا یقول: أنا خارج کی أموت، بل هو علیه السلام خارج لینتصر عسکریّاً أو یموت، وکم فرق بین المبدأین؟! وهذا هو مغزی قوله علیه السلام :

ص: 146

«مَن کان باذلاً فینا مهجته، وموطّناً علی لقاء الله نفسه، فلیرحل معنا». وکان إعلان خروجه علیه السلام إلی الکوفة هو بذاته إعلان للهدف العسکری المسلّح فی مواجهة السلطة؛ ولذلک حاول الجهاز الحکومی فی مکّة أن یثنی الإمام علیه السلام عن قرار خروجه، لکنّهم لم یُفلحوا.

النصّ الثالث: وهو قوله علیه السلام لبنی هاشم فی المدینة: «مَن لحق بی استُشهد، ومَن لم یلحق بی لم یُدرک الفتح». فهو أیضاً کمضمون النصّ السابق، ومفاده: إنّ مَن یلتحق به علیه السلام ینبغی علیه أن یوطّن نفسه علی الموت والشهادة، وإلّا فسوف لا یُدرک الفتح ولا یشهد ربیع النصر الإلهی، ولا یحظی بإحدی الحُسنیین: إمّا النصر المسلّح أو الشهادة.

النصّ الرابع: قوله علیه السلام : «لیرغب المؤمن فی لقاء الله محقّاً، فإنّی لا أری الموت إلّا شهادة، ولا الحیاة مع الظالمین إلّا برماً». والإجابة عن الاستدلال بهذا النصّ من وجوه:

1- إنّ هذا النصّ لو فُرض کون تاریخ ومحلّ صدوره هو فترة تواجد الرکب الحسینی فی منزل ذی حسم، کما ورد فی تاریخ الطبری، فهذا معناه أنّ الأوضاع قد تغیّرت، وأنّ الحسین علیه السلام قد وقع فی قبضة عدوّه، وهم الحرّ وجیشه، وفی هذا الظرف انتقلت النهضة إلی مرحلة هدفیّة الشهادة، ومن الطبیعی حینئذٍ أن یصدر فی هذه المرحلة نصّ بهذا المضمون وبهذه اللهجة الاستشهادیّة.

2- إنّ أغلب المصادر المعتبرة تؤکّد علی صدور هذا النصّ والخطاب الشریف فی خصوص أرض کربلاء، وفی لیلة العاشر من المحرّم تحدیداً علی ما فی بعض المصادر، وحینئذٍ یکون صدوره بتلک اللهجة الاستشهادیّة أمراً طبیعیّاً جداً، ولا علاقة له بمحلّ البحث.

3- بغضّ النظر عن تاریخ ومحلّ الصدور، فإنّ هذا النصّ لا یتقاطع مع رؤیتنا حول الموضوع، ولا یُثبت أبداً أنّ الشهادة هدفاً وحیداً للنهضة؛ لأنّه یتحدّث عن أفضیلة الشهادة بعزّ وکرامة، علی العیش بالذلّ فی ظلّ الظالمین، وهو أمرٌ مسلّمٌ لا شک

ص: 147

فیه، ومن الطبیعی أن نجده فی قاموس رجل کالحسین علیه السلام . وهذا لا ینفی الأهداف السیاسیة والعسکریة للنهضة أبداً، وکما یُقال: إثبات شیء لا ینفی ما عداه.

النصّ الخامس: قوله علیه السلام لرجل من أهل الکوفة حینما نزل الرهیمة: «وأیمُ الله لیقتُلنّی، ثمّ لیلبسنّهم الله ذلاً شاملاً، وسیفاً قاطعاً، ولیُسلّطن علیهم مَن یذلّهم». ففی مقام الإجابة عن الاستدلال به نقول: إنّ الصحیح هو کون (الرهیمة) من المنازل القریبة جدّاً من کربلاء، فالنصّ صادر فی مرحلة هدفیة الشهادة، ولا ضیر فی صدوره بهذه الصراحة.

وأمّا بالنسبة إلی الشاهد الثالث: والذی کان حاصله أنّ خروج الحسین علیه السلام لمناهضة السلطة الأُمویّة کان خروجاً علنیّاً فی کلّ أحداثه ومراحله، وهذا لا یتناسب مع کونه علیه السلام یستهدف الإطاحة بالنظام الحاکم عسکریّاً. فقد اتّضحت الإجابة عنه مفصّلاً، حیث أثبتنا بأنّ النهضة فی مرحلة استهدافها للتغییر المسلّح لنظام الحکم کانت سرّیة للغایة، ولم تکن علنیّة، حتی یصحّ ما یؤکّد علیه الدکتور شریعتی فی مجمل حدیثه حول النهضة الحسینیّة، من أنّ الخروج الحسینی المعلن لا یتناسب إلّا مع اختیار الشهادة هدفاً.

وأمّا بالنسبة إلی الشاهد الرابع: وهو مجموعة نصائح الصحابة والتابعین والمحبّین بترک الخیار العسکری، والتراجع عن قرار الخروج إلی الکوفة.. فإنّه أیضاً قد تبیّنت الإجابة عنه مفصّلاً، وتبیّن أنّها کانت نصائح مُبتنیة علی معطیات قدیمة جدّاً، ولا یمکن اعتمادها عقلائیاً فی تحدید مسار النهضة، خصوصاً مع وجود رؤی حدیثة ومعتبرة، وقائمة علی أُسس ومعطیات میدانیّة لأحداث الساعة، تُفید بأنّ الخروج إلی الکوفة هو الخیار الأصلح والأصحّ، وأنّ النصر العسکری مضمون فی ظلّ الظروف الحالیّة.

ص: 148

وبذلک کلّه یتّضح: أنّ الحسین علیه السلام قد خرج إلی الکوفة یستهدف الفوز بإحدی الحسنین: إمّا النصر العسکری أو الشهادة، فی ظل ظروف وقراءات ودراسات میدانیّة دقیقة، تُشیر کلّها إلی أنّ فرصة النصر العسکری وإقامة حکم الله فی الأرض کانت هی الأقرب للتحقّق والوقوع، وهی فرصة اختصّ بها الحسین علیه السلام من بین الأئمّة المعصومین علیهم السلام ، وقد استثمرها بما لا مزید علیه، لکن الأُمّة أخلفت وعودها، وخانت مبادءها، وتنازلت عن کرامتها، فوقف قائدها وحیداً، وضحّی بدمه فی مشهد محفور فی ذاکرة التاریخ، ومخلّد فی السماوات. فسلامٌ علی الحسین یوم وُلِدَ ویوم استُشهد ویوم یُبعث حیّاً.

ص: 149

خلاصة الفصل الخامس

تطرّقنا فی هذا الفصل إلی واحدةٍ من أهمّ الرؤی المطروحة فی مجال النهضة الحسینیّة، ألا وهی الرؤیة الداعیة إلی إبعاد الأهداف السیاسیّة عن حرکة الإمام الحسین علیه السلام ، ونحن إذ نؤمن بالرؤیة المعاکسة حاولنا أن نثبت هذه الرؤیة، وذلک بعد عرضنا للرؤیة الأُولی.

إنّ أهمّ ما ذُکر لإثبات الرؤیة الأُولی یکمن فیما یلی:

1- فقدان التکافؤ العسکری بین طرفی الصراع، فإن کفّة المیزان العسکری کانت تمیل إلی جبهة الحاکم الأُموی؛ وعلیه فإنّ الانتصار العسکری والسیاسی لم یکن مُتاحاً للإمام علیه السلام ، ولم یکن وارداً فی حساباته أصلاً.

ولکن قلنا: إنّ عدم التکافؤ العسکری لم یکن یمثّل واقع النهضة بکلّ مراحلها؛ فإنّ الدراسات المیدانیة التاریخیّة تثبت تفوّق القوات المسلحة الحسینیّة فی الکوفة، وهذا ما شخّصه کبار القادة العسکریین فی الکوفة والذین أعلنوا استعدادهم للمواجهة والمضی فی سبیل تحقیق أهداف الثورة المبارکة.

2- تصریحات الإمام الحسین علیه السلام الدالّة علی علمه مسبقاً بالمصیر المحتوم الذی سیلاقیه. وأجبنا: بأنّه لا تلازم معرفی بین ما ذُکر وبین عدم إرادة الهدف السیاسی زیادة علی ذلک، خصوصاً وأنّ الکثیر من تلک التصریحات کانت فی المرحلة الأخیرة من النهضة.

3- الخروج العلنی ضدّ السلطة والذی یتناقض مع کون الثائر ذا حنکة سیاسیة واعیة، وبما أنّ ذلک لا یتصوّر فی الحسین علیه السلام ؛ فعلیه یلزم کون أهدافه غیر سیاسیّة.

ص: 150

إلّا أنّ ذلک فی الحقیقة لم یکن من المراحل الأولی للثورة، فالثورة کانت سرّیة، حتی تمّ الإعلان عنها فی مراحل متأخّرة.

4- توجیه النصائح من قِبل الصحابة والتابعین بترک الخیار العسکری وهذا إن دلّ علی شیء فإنّما یدلّ علی دراسة واعیة بواقع الحال الذی کانت تعیشه السلطة المتجبّرة والأُمّة المغلوبة علی أمرها.

وأجبنا: بأنّ قول بعض الناصحین کان یبتنی علی معطیات قدیمة خاصّة بأصحابها، وهی قراءة تتقاطع تماماً مع قراءة کبار القادة المخلصین والمجاهدین المیدانیین.

وعلیه فقد خلص الکلام إلی أنّ الهدف السیاسی والتحرّک العسکری کان منشوداً فی الحرکة الحسینیّة المبارکة، خصوصاً فی مراحلها الأُولی إلی حیث انحسرت القوّة بسبب القهر والظلم والاضطهاد، حتی أصبحت الشهادة الهدف الأسمی فی المرحلة الأخیرة للنهضة.

ص: 151

ص: 152

الفصل السادس: الأسباب والمبرّرات الزمکانیّة للتفریط بالأهداف والمبادئ السیاسیّة للنهضة الحسینیّة

اشارة

الفصل السادس

الأسباب والمبررات الزمکانیّة

للتفریط بالأهداف والمبادئ السیاسیة للنهضة الحسینیّة

(إشکالیّة: الفصل بین القیادتین الدینیّة والسیاسیّة فی عصر الغَیبة)

ص: 153

ص: 154

نؤکّد مرّة أُخری بأنّ الذی دعانا للنّظر والتحّدیق فی الملامح السیاسیّة للنهضة الحسینیّة، ما قد نلمسه واضحاً من التهمیش والإقصاء لهذا النوع من الأهداف فی واقع الأُمّة وحیاة الشعوب، فی الوقت الذی کان من المفترض أن تُسهم تلک النهضة المبارکة فی رسم المعالم الاجتماعیّة والسیاسیّة لمحیط أُمّتنا الإسلامیّة والإنسانیّة بشکل عامّ، وأن نستلهم من مسیرتها الرائدة مناهج التطویر والتغییر السیاسی والاجتماعی، وأسالیب معارضة الطغاة والمفسدین، والعمل علی إسقاط الأنظمة الجائرة، والتحرّک فی سبیل تشیید الحضارة الإنسانیّة وبناء حکومة (بشریّة/إسلامیة) عادلة.

لکن الذی أَذهلَنا وآسفنا کثیراً أنّنا وجدنا الرؤیة معکوسة تماماً، حیث تمّ التنظیر بشکل علمی ومنهجی لإقصاء النهضة الحسینیّة فی أهمّ أهدافها، فلا علاقة لها أبداً بالتخطیط لبناء الدولة الإسلامیّة، ولا محاربة الأنظمة الفاسدة لإسقاطها، وإنّما کانت عملیّة استشهادیّة، هدفها فضح الطغاة، وعتادها المأساة، وسلاحها الدم! وکم یؤلمنا ما یُقال: «إنّ قَتْلَ الحسین علیه السلام بتلک الصورة البشعة والمأساویّة کان أنفع للإسلام من استلامه

ص: 155

الحکم وقیادة الأُمّة»!! وقد أسلفنا مراراً وتکراراً بأنّ لهذه الرؤیة أسبابها ومبرّراتها، واستعرضنا للمناقشة فیما مضی طائفة من تلک الأسباب، ونحاول فی هذا الفصل أن نناقش سبباً جدیداً مرتبطاً بحاضر الأُمّة الإسلامیّة ومستقبلها.

إشکالیّة: الفصل بین القیادتین الدینیّة والسیاسیّة فی عصر الغَیّبة( أسباب زمکانیّة)

اشارة

من الأسباب المهمّة التی أدّت بالعلماء والباحثین إلی إهمال الأهداف السیاسیّة للنهضة الحسینیّة - وخصوصاً هدفیّة إقامة حکومة إلهیّة بقیادة المعصوم - هو الاعتقاد بفقدان الأثر والفائدة العملیّة لهذا النوع من الأهداف فی زمن الغیبة، انطلاقاً من دعوی اختصاصها بزمان حضور المعصوم وتواجده المیدانی والمُعلَن فی أوساط الناس، وبما یراه مناسباً من الآلیات والأسباب والشرائط لإقامة وتشیید معالم الدولة العادلة، بل ادُّعی أیضاً: بأنّ النّصوص المستفیضة تنهی المؤمنین فی عصر الغیبة عن التحرّک السیاسی والخروج المسلّح لإسقاط الحکومات والأنظمة الظالمة والمستبدّة فی سبیل إقامة الحکم الإسلامی، إمّا لأجل أنّ الظروف غیر مؤاتیة لتحقیق ذلک الهدف، ولا طاقة للمؤمنین علی النصر وإقامة الحکم، ولو بشهادة الغیبة نفسها، فنهاهم الله تعالی عن التحرّک والسعی لتحصیله، وإمّا للنّصوص الخاصّة کما سیأتی. ویُعدّ هذا الرأی من الآراء المهمّة فی الفقه الشیعی، وقد تبنّاه مشهور فقهائنا حینما تعرّضوا لمبحث ولایة الفقیه.

إذاً؛ حتی لو سلّمنا وآمنّا بالأهداف السیاسیّة للنهضة الحسینیّة بکافّة أشکالها وألوانها، فإنّه لا داعی - فی هذا الفرض - لبحثها ودراستها والنظر فی وثائقها ونصوصها؛ ذلک لأنّها لا تنتمی لمکوّنات بیئتنا وواقعنا المعاش، ولا تُسهم فی تصمیم وإنتاج المشهد السیاسی فی الظرف الحالی. وقد کرّست هذه الرؤیة الفقهیّة البدایة

والمنطلق للإیمان بفکرة فصل القیادة الدینیّة عن القیادات السیاسیّة والحکومیّة فی مثل

ص: 156

زماننا، وهذه هی الحقیقة التی نعیشها الیوم فی بعض بلداننا الإسلامیّة شئنا أم أبینا! ویؤسفنا القول: بأنّنا أصبحنا فی ظلّ هذا الواقع التفکیکی المزکوم لا نستطعم النکهات السیاسیّة والاجتماعیّة فی تشکیلة الحرکة الحسینیّة. وأصبح من العبث فی زماننا الحاضر الخوض فی منظومة المعطیات المضمونیة والدلالیة للنصوص الدینیّة والتاریخیة التی تتحدّث عن قیادة الشعوب وسیاسة البلدان، ومن أهمّ منابع تلک المنظومة جملة وافرة من الأحداث والنّصوص والوثائق فی ملفّات الثورة الحسینیّة، والتی یراها باحثون وقائع تاریخیة وتراثیة عدیمة الفائدة والتأثیر فی وقتنا الحاضر.

وتعتمد هذه الرؤیة علی مجموعة من الأفکار والشواهد والتحلیلات التی یُعتقد أنّها تدفع باتّجاه تعطیل الفکر والتراث السیاسی المرتبط بمکافحة المفسدین والإطاحة بهم وتشکیل الحکومة المهنیّة العادلة، ونستعرض فیما یلی بصورة موجزة أهمّ ما استُدل به فی هذا المجال بما یتناسب ومساحة هذا الفصل، مع الالتفات إلی کونها مجموعة شواهد متداخلة ومترابطة، فصّلناها فی نقاط متسلسلة تنظیماً للبحث:

1- فکرة فصل الاختصاص الدینی عن المنهج السیاسی

لا نتحدّث تحت هذا العنوان حول ما یُعرف لدی العلمانیین واللیبرالیین وبعض الإسلامیین من فصل الدین عن السیاسة بشکل مطلق، وإنّما حدیثنا عمّا یؤمن به الکثیر من العلماء والباحثین من فصل الاختصاص الدینی وتراثه ورجالاته عن مجالات السلطة ومفاصل الحکومة والدولة فی عصرنا الحاضر، حیث یری البعض بأنّه لا یحقّ للمنظومة الدینیّة بمناهجها وکوادرها أن تشترک فی تنظیم وإدارة الجهاز الحکومی (تشریعاً وقضاءً وتنفیذاً)، بل لا یحقّ لها مطلقاً إتلاف الوقت وهدر الطاقات والجهود بهدف التأسیس العَقَدی وتشیید البناء الفکری والتنظیر العلمی فی المجال السیاسی بکلّ حقوله وتخصّصاته المختلفة والمتنوّعة، وأضحی فی نظر البعض أنّ من الممنوع

ص: 157

أکیداً علی أبناء الحوزة العلمیّة - التی تمثّل الاختصاص الدینی - أن یعملوا علی صناعة التکنقراط السیاسی، أو تشکیل الأحزاب والمنظّمات، أو إنشاء المؤسّسات ومراکز الدراسات السیاسیّة فی أوساطهم وأروقتهم العلمیّة، کما یشهد علی ذلک طبیعة مناهجنا الدراسیة والعلوم التی نتلقّاها فی کثیر من حوزاتنا ومحافلنا العلمیّة، وکذلک التوصیات الکثیرة التی نسمعها باستمرار من العلماء الأعلام بضرورة التزام المناهج التقلیدیّة المتّبعة حالیاً، وخطورة الخروج عن هذا الإطار العام والمألوف، والتأکید علی أنّ الانشغال بدراسة علوم الإدارة والسیاسة والاجتماع والخوض فی نصوصها وتراثها الدینی وواقعها البشری یتقاطع مع فضیلة العالم ومنزلته العلمیّة واجتهاده المرتقب. ویتمسّک أصحاب هذه النظرة بسیرة کبار العلماء الماضین، وظواهر بعض النصوص الدینیّة التی سنُشیر إلیها فی جملة من الشواهد اللّاحقة.

إذاً؛ بناءً علی هذه الرؤیة لا داعی لأن نشغل أنفسنا ونهدر طاقاتنا العلمیّة بدراسة وتحلیل التراث السیاسی فی الإسلام، وخصوصاً التراث الحسینی المرتبط بهذا الجانب، بل لعلّ الانشغال به یُعاکس الاتّجاه العلمی والمسار التخصّصی فی أهمّ الحقول الدینیّة، ویقف حائلاً أمام الإنتاج الدینی النوعی والاجتهادی الذی تضطلع به الحوزة العلمیة، فیما یرتبط ب-(علم الفقه والإفتاء) وما یُحیط به من علوم تکمیلیّة.

2- خصائص العصمة والإمامة

وممّا قد یُدّعی فی هذا المجال أیضاً: هو أنّ حرکة المعصومین من أئمّة أهل البیت علیهم السلام السیاسیّة لاستلام مقالید الحکم وقیادة الأُمّة - فی فرض ثبوتها - تُعدّ من خصائص عصمتهم ومقام إمامتهم الربانیّة، ولا یصلح الاقتداء بهم والتأسّی بسیرتهم فی هذه الموارد والامتیازات الخاصّة، ولعلّ السبب الرئیس فی ذلک کونهم علیهم السلام إنّما یتحرّکون سیاسیّاً بأمر من الله تعالی فی سبیل إقامة معالم الدولة الإلهیّة العادلة، التی

ص: 158

تبتنی علی أُسس وقواعد القانون السماوی المعصوم والمنزّه عن الخطأ والخطل والجهل والنقصان، وتُصاغ مفرداتها فی إطار الأحکام الواقعیة المتکاملة التی تقود الإنسان باتّجاه ما یریده الله تعالی منه علی هذه الأرض، وفی ضوء هذه النظرة یتبیّن أنّ حرکة المعصوم لاستلام السلطة والحکم من التکالیف والمهامّ المختصّة بمقامه الإلهی، ولا یجری هذا الحکم علی عموم الأُمّة وعلمائها، خصوصاً فی فترة غیاب المعصوم عن المشهد السیاسی؛ لأنّ غیر المعصوم لا یمتلک القدرة ولا القابلیّة علی إقامة تلک الدولة الإلهیّة العادلة والمستقیمة، ویعضد هذه الفکرة أیضاً طائفة من الشواهد والنصوص کما سنذکر لاحقاً. ومن هذا المنطلق یتّضح السبب فی عدم الفائدة والجدوی من تجشّم عناء التأسیس للبحوث والدراسات السیاسیّة المعتمدة علی التراث الدینی بشکل عام، وتراث النهضة الحسینیّة فی مجاله السیاسی بصورة خاصّة.

3- کُلّ رایة تُرفع قَبل قیام المهدی فهی رایة ضلال

تمسّک القائلون بالفرق بین خصائص عصرنا وأحداث العصر الحسینی بمجموعة من النصوص والروایات، التی تُصرِّح بضلال وبطلان کُلّ رایة تُرفع أو دولة تُقام قبل قیام المهدی علیه السلام ، حتی لو کان أصحابها وأتباعها من الدعاة لدین الحقّ، فلا یحقّ لأحد من المؤمنین الیوم أن ینخرط فی العمل السیاسی بهدف الوصول إلی السلطة وتشکیل حکومة إسلامیّة، ولا یصح أبداً الاقتداء بالنهضة الحسینیّة ومبادئها لبلوغ هکذا أهداف ممنوعة ومنهیّ عن السعی لتحصیلها فی زماننا.

ومن جملة تلک النصوص التی قد تدعم بظاهرها هذه الفکرة، ما رواه النعمانی فی الغیبة بسنده عن أبی جعفر الباقر علیه السلام أنّه قال: «کلّ رایة تُرفع قبل رایة القائم صاحبها

ص: 159

طاغوت»((1)). وما رواه الکلینی عن أبی بصیر، عن أبی عبد الله الصادق علیه السلام ، قال: «کلّ رایة تُرفع قَبل قیام القائم فصاحبها طاغوت یُعبد من دون الله}»((2)).

ومن الواضح أنّ موضوع هذه النصوص ونظائرها هو رفع الرایة قَبل قیام القائم علیه السلام ، وهو مفهوم یتضمّن الدعوة لتحقیق الأهداف والغایات التی یدعو إلیها صاحب الرایة، والتی هی تعبیرٌ آخر عن إقامة حکومة إسلامیة، فتکون هذه النصوص دالّة بوضوح علی التحریم والنهی عن رفع الرایة وإقامة الحکومة مطلقاً إلی حین الظهور، وذلک بمقتضی کون صاحبها طاغوت یُعبد من دون الله}. وإیماننا بأنّ الحسین علیه السلام خرج لإسقاط الحکم الأُموی واستبداله بالحکم الإلهی، لا یسمح لنا بالسعی لتکرار هذه التجربة مع وجود مثل هذه النصوص والمضامین الحاکمة بطاغوتیة کلّ مَن یسعی لاستلام السلطة باسم الدین والمذهب الحقّ.

4 - الروایات الآمرة بالجلوس والناهیة عن الخروج علی السلطات الظالمة

کذلک استدلّ المانعون عن التأسّی والاهتداء بالأهداف السیاسیّة للنهضة الحسینیّة ببعض الروایات الظاهرة فی الأمر بالسکوت والجلوس، والنهی عن الخروج والانقلاب علی الحکومات والأنظمة الظالمة فی زمان الصدور، ویجری ذلک فی زماننا أیضاً تمسّکاً بالإطلاق، وهذا یعنی أنّ خروج الحسین علیه السلام حتّی لو کان بهدف الإطاحة بحکم بنی أُمیّة وإقامة دولة العدل بقیادته الحکیمة، مع ذلک لا ینبغی لنا التحرّک فی هذا الإطار وبنفس الأُسلوب تأسّیاً به علیه السلام ؛ للنصوص الخاصّة الصریحة فی لزوم السکون وعدم التحرّک والخروج إلی حین تحقّق علامات الظهور وقیام المهدی علیه السلام .

ص: 160


1- ([1]) النعمانی، محمد بن إبراهیم، الغیبة: ص114- 115.
2- ([2]) الکلینی، محمد بن یعقوب، الکافی: ج8، ص295.

ومن جملة هذه النصوص ما رواه الکلینی بسنده عن عیص بن القاسم، قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام یقول: «علیکم بتقوی الله وحده لا شریک له، واُنظروا لأنفسکم، فوالله، إنّ الرجل لیکون له الغنم فیها الراعی، فإذا وجد رجلاً هو أعلم بغنمه من الذی هو فیها یُخرجه ویجیء بذلک الرجل الذی هو أعلم بغنمه من الذی کان فیها، والله، لو کانت لأحدکم نفسان یُقاتِل بواحدة یُجرّب بها، ثمّ کانت الأُخری باقیة تعمل علی ما قد استبان لها، ولکن له نفس واحدة إذا ذهبت فقد - والله - ذهبت التوبة، فأنتم أحقّ أن تختاروا لأنفسکم، إن أتاکم آتٍ منّا فاُنظروا علی أیِّ شیء تخرجون، ولا تقولوا: خرج زید، فإنّ زیداً کان عالماً وکان صدوقاً، ولم یدْعُکم إلی نفسه، وإنّما دعاکم إلی الرضا من آل محمد صلی الله علیه و آله ، ولو ظهر لوفی بما دعاکم إلیه، إنّما خرج إلی سلطان مجتَمِعٍ لینقضه، فالخارج منّا الیوم إلی أیّ شیء یدعوکم؟ إلی الرضا من آل محمد صلی الله علیه و آله ؟ فنحن نُشهدکم أنا لسنا نرضی به، وهو یعصینا الیوم ولیس معه أحد، وهو إذا کانت الرایات والألویة أجدر أن لا یسمع منّا، إلّا مَن اجتمعت بنو فاطمة معه، فوالله، ما صاحبکم إلّا مَن اجتمعوا علیه، إذا کان رجب فأقبلوا علی اسم الله، وإن أحببتم أن تتأخّروا إلی شعبان فلا ضیر، وإن أحببتم أن تصوموا فی أهالیکم فلعلّ ذلک یکون أقوی لکم((1))، وکفاکم بالسفیانی علامة»((2)).

ص: 161


1- ([1]) نحن قد بیّنا مفصّلاً فی کتابنا (قصّة السفیانی) بأنّ شهر رجب هو زمان خروج السفیانی، وأنّ الروایات المتضافرة الواردة عن أهل البیت علیهم السلام تحثّ المؤمنین علی تجنّب فتنة السفیانی فی الأشهُر الأُولی، ثمّ القیام والخروج علیه بعد ذلک، وهذا یعنی أنّ هذه الروایة تتحدّث عن الزمان الذی سیخرج فیه السفیانی، وهی تدعو المؤمنین إلی التریُّث فی الخروج مدّة الشهر أو الشهرین أو الثلاثة أشهُر، حتی تحین الفرصة المناسبة لمناهضته والخروج علیه تحت رایة الیمانی، وهذا هو الذی نفهمه من قوله علیه السلام : «وإن أحببتم أن تتأخّروا إلی شعبان فلا ضیر، وإن أحببتم أن تصوموا فی أهالیکم فلعلّ ذلک أن یکون أقوی لکم»، وکلّ هذا یتناسب تماماً مع کون خروج القائم فی یوم عاشوراء، أی: بعد ستّة أشهُر من خروج السفیانی، وبعد ثلاثة أشهُر تقریباً من خروج المؤمنین تحت رایة الیمانی.
2- ([2]) الکلینی، محمد بن یعقوب، الکافی: ج8، ص264.

ومفاد هذه الروایة - بقرینة الاستثناء فیها «إلّا مَن اجتمعت بنو فاطمة معه» - هو أنَّ أیَّ خارج خروجاً عسکریّاً مُسلّحاً لإسقاط الأنظمة الحاکمة وإقامة حکومة داعیة إلی الرضا من آل محمد صلی الله علیه و آله ومتحدّثة بالنیابة عنه، فإنّها غیر مرضیّة عند أهل البیت علیهم السلام ، ولا یجوز الخروج معها، إلّا إذا کانت الدعوة بقیادة مَن اجتمع معه بنو فاطمة، وهو المهدی علیه السلام ؛ فیشمل النهی فیها کلّ خارج سوی المهدی علیه السلام .

مضافاً إلی أنّ الظاهر من صدر الروایة أنّها فی مقام الإرشاد إلی مَن یصحّ الخروج معه شرعاً، ولیست فی مقام بیان الحکم التکلیفی، وهذا یعنی أن أیّ شخص غیر المهدی علیه السلام فهو فاقد لصلاحیة إقامة الدولة العادلة، ولا یصحّ تنصیبه إماماً وقائداً لهذا الغرض.

ومن تلک النصوص أیضاً ما رواه الکلینی بسنده عن أبی عبد الله الصادق علیه السلام أنّه قال لسدیر الصیرفی: «یا سدیر، الزم بیتک، وکن حِلساً من أحلاسه، واسکن ما سکن اللیل والنهار، فإذا بلغک أنّ السفیانی قد خرج فارحل إلینا ولو علی رجلک»((1)). ومضمونها صریح فی وجوب الجلوس والسکون وعدم التحرّک سیاسیّاً إلی حین مجیء علامات الظهور، وأبرزها خروج السفیانی.

ولعلّ السبب المعقول وراء هذا النوع من الأوامر والنواهی هو الظرف الخاص والمختلف فی عصر الغیبة، حیث لا یجب علی المؤمنین السعی لاستلام الحکم وإدارة الأُمّة؛ لعجزهم وعدم قدرتهم علی تحقیق هذا الأمر بالشکل المطلوب، کما یشهد لذلک نفس غیبة الإمام المهدی علیه السلام ، «فلو کانت إقامة الحکم الإسلامی ممکنة وواجبة، کان أجدر الناس بذلک هو الإمام صاحب الزمان، فهو إنّما غاب لأنّه لم تکن من الوظیفة الیوم إقامة الحکم، ولم تکن الظروف مؤاتیة لذلک»((2)). ویؤیِّد ذلک قول الإمام

ص: 162


1- ([1]) المصدر السابق: ج8، ص264-265.
2- ([2]) الحائری، کاظم، ولایة الأمر فی عصر الغیبة: ص61. وقد تصدّی سماحته للإجابة عن هذه الشبهة فی المصدر ذاته.

الصادق علیه السلام المتقدِّم بشأن الحرکة العسکریّة المسلّحة لزید بن علیّ: «إنّما خرج إلی سلطان مجتَمِعٍ لینقضه». فالظاهر منه أنّ قوّة السلطان واجتماع أمره هو السبب فی فشل ثورة زید بن علیّ، کما نبّه علی ذلک المجلسی فی مرآة العقول، حیث یقول: «قوله علیه السلام : (إلی سلطان مجتَمِعٍ) أی: فلذلک لم یظفر»((1)).

وحینئذٍ؛ لا یبقی أیّ معنًی للتأسّی بالإمام الحسین علیه السلام فی حرکته السیاسیّة والعسکریّة باتّجاه تشکیل حکومة العدل الإلهی فی زماننا، لاختلاف التکالیف والأحکام باختلاف الظرف والمرحلة.

5 - سیرة المعصومین علیهم السلام بعد الحسین علیه السلام علی ترک السعی لإقامة حکومة إسلامیة

یستدلّ الکثیر من الباحثین علی فکرة الاختلاف فی المرحلة والمسؤولیّة بین واقعنا والواقع الحسینی بسیرة المعصومین علیهم السلام بعد شهادة الحسین علیه السلام ، وهی سیرة قائمة علی اعتزال العمل السیاسی والعسکری، وترک السعی لإقامة حکومة إسلامیّة، وهو أمر واضح یلمسه أیّ باحث حینما یُطالع تاریخ وسیرة الأئمّة علیهم السلام من الفترة التی زامنت إمامة علیّ بن الحسین زین العابدین علیه السلام إلی حین غیبة الإمام الثانی عشر علیه السلام . وهذا یعنی أنّ الحرکة الحسینیّة المسلّحة لتغییر السلطة مرهونة بزمانها ومرحلتها، ولا یحقّ لنا تکرار التجربة فی زماننا، تمسّکاً وتأسّیاً بالسیرة الحاکمة للمعصومین علیهم السلام بعد عصر النهضة.

الإجابة عن هذه الإشکالیّة: الحکومة الإسلامیّة وولایة الفقیه فی ظل المبادئ السیاسیّة للنهضة الحسینیّة

اشارة

لا زالت هذه الإشکالیّة من الملفات المفتوحة والمطروحة مفصّلاً فی الأبحاث العقدیّة والفقهیّة، ولا زال العلماء والفقهاء یتداولونها فی بحوثهم بشکل جادّ وموضوعی، خصوصاً فی الآونة الأخیرة، وقد ترکّزت البحوث فی هذا المجال حول مسألة (الحکومة الإسلامیّة وولایة الفقیه) فی معناها وأدلّتها وأبعادها وحدودها

ص: 163


1- ([1]) المجلسی، محمد باقر، مرآة العقول: ج26، ص258.

ومعطیاتها وآثارها، والبحث فی هذا الملفّ بتفاصیله والآراء والنظریات المطروحة فیه موکول إلی الدراسات الفقهیّة العلیا المعمّقة ذات الصلة، وهناک نظریات مختلفة ومتفاوتة تتراوح بین القول بولایة الفقیه المطلقة والشاملة لکلّ مفاصل الحیاة الاجتماعیّة والسیاسیّة والإداریّة وغیرها، وبین القول بولایة الفقیه الحسبیة والخاصّة ببعض الأُمور المنصوص علیها فی التراث الدینی، ونحن هنا لا نرید الخوض فی هذه المسألة وأبحاثها الطویلة نسبیّاً، ولکنّنا نحاول فیما یلی أن نُشیر بنحو الإجمال إلی بعض النقاط المهمّة والمفصلیّة، التی تُکرّس الدور المؤثّر والفاعل للأهداف السیاسیّة للنهضة الحسینیّة فی أوضاعنا الراهنة:

أوّلاً: نظریة الحکومة الإسلامیّة وولایة الفقیه المطلقة

لا شکّ فی أنّ واحدة من النظریات الفقهیّة المهمّة والمطروحة فی المقام هی نظریّة الحکومة الإسلامیّة وولایة الفقیه المطلقة فی عصر الغیبة، وقد تبنّاها وأسّس لها جملة من العلماء والباحثین، وتعرّضوا فی بحوثهم العقدیّة والفقهیّة بشکل تفصیلی لحدودها وأدلّتها وشواهدها، وضرورتها العقلیّة والدینیّة، وموقعها المتمیّز فی منظومة الشریعة الإسلامیّة، وتصدّوا للردّ مفصّلاً علی تلک الإشکالیّة الرافضة للنظریّة بکلّ وجوهها المتقدّمة، وقد باتت هذه النظریّة تحت ظلِّ ورعایة حشد من الفقهاء والمجتهدین منهجاً ودستوراً عامّاً یحکم نظام الجمهوریّة الإسلامیّة فی إیران بما یناهز الأربعة عقود، ولا زالت ساریة المفعول إلی یومنا هذا.

وفی ضوء هذه النظریّة - وهذا المبنی الفقهی والعقدی المتمیّز والمقبول لدی الکثیر من فقهاء الطائفة - ینبغی أن تکون الأهداف السیاسیّة والعسکریّة لنهضة الإمام الحسین علیه السلام هی الأساس والرائد الأوّل فی مجال مقارعة الطغاة ومحاربتهم، وإسقاط أنظمتهم الظالمة وحکوماتهم الفاسدة، والعمل علی تشکیل حکومة الإسلام العادلة

ص: 164

فی مجتمعاتنا الإسلامیّة، وهذا ما کان یُنادی ویهتف به دائماً مؤسِّس جمهوریّة إیران الإسلامیّة الإمام الخمینی قدس سره ، حتی اشتُهر عنه القول: «بأنّ کلّ ما لدینا من عاشوراء»، وکان یقول أیضاً قدس سره : «إنّ ثورتنا هی امتداد لنهضة الحسین علیه السلام وشعاع من أشعتها»((1)).

وکان یری قدس سره أنّ الولایة والحکومة الإسلامیّة من أهمّ الأهداف الأساسیّة لتشریع الدین الإسلامی، ویعتقد قدس سره بأنّ «للإسلام نظاماً وتشریعاً فی کافة الشؤون الحیویّة للإنسان والمجتمع البشری عامّة، ولا بدّ لنا أن نعتقد جزماً بأنّ الإسلام یعنی الحکومة، وأنّ قوانین هذه الحکومة هی الأحکام الإسلامیّة التی نزل التشریع بها بهدف تعمیم ونشر العدالة، وتلبیة الحاجات الفردیة والاجتماعیة والثقافیة والسیاسیّة والاقتصادیّة والأُسریّة»((2)) ((3)).

وقد قطعت هذه النظریّة فی الآونة الأخیرة شوطاً کبیراً فی الفکر الشیعی، وتمَّ طرحها وعرضها والتأسیس لها بشکل متکامل، وبصورة علمیّة ومنهجیّة، وعلی الموازین الفقهیّة والاجتهادیّة، وحاول المؤمنون بهذه النظریّة مناقشة وردّ کُلّ الرؤی والشبهات المناهضة لها، وتأمّلوا کثیراً فی الروایات التی قد یظهر من بعضها المنع عن

ص: 165


1- ([1]) فی حدیث له قدس سره مع جمع من علماء طهران، بتاریخ: 21/9/1979.
2- ([2]) منهجیة الثورة الإسلامیّة (مقتطفات من آراء وأفکار الإمام الخمینی قدس سره ): ص175.
3- ([3]) ویری قدس سره بأنّ ولایة الفقیه فی زمن الغیبة تعنی: الحکومة السیاسیّة وإدارة البلاد وتطبیق التشریعات والقوانین الإلهیة الإسلامیّة، وکذا الإشراف العام علی دوائر الدولة الإسلامیّة، وتعیین الولاة والقضاة وجبایة الأموال والضرائب والحقوق والثروات وإنفاقها فی مواردها، وتجییش الجیوش والدفاع عن بیضة الإسلام وثغور المسلمین، وإحقاق الحقّ وإرساء العدالة الاجتماعیة، ومحاربة الطغاة والظالمین، وکلّ ما کان یقوم به الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله والأئمّة الهداة علیهم السلام من تطبیق للنظام الإسلامی فی جمیع المجالات. ویری قدس سره أیضاً بأن ذلک کلّه من أهمّ الواجبات والوظائف الملقاة علی عاتق العلماء والفقهاء العدول والأکفّاء، وبهذه الرؤیة وضع قدس سره الحوزة العلمیّة والعلماء والفقهاء أمام مسؤولیة کبیرة وخطیرة، حیث فرض لهم منصب القیادة والریادة للمجتمع فی جمیع المیادین، وهی أمانة ثقیلة، تجعل الحوزة العلمیّة والعلماء أمام تحدٍّ کبیر، ودور ریادی ینبغی دراسته ووضع أُسسه ومبادئه، وإعطاء خطّة متکاملة تبتدئ من النظریّة وتنتهی بالتطبیق علی أرض الواقع.

إقامة حکومة إسلامیّة فی زمن الغیبة، إمّا من حیث الطریق والسند، أو من حیث الدلالة والمضمون، بما فی ذلک الشواهد التی أوردناها لتأیید الإشکالیة المطروحة فی هذا الفصل. ومن هذا المنطلق وتحت ظلّ هذه النظریّة تبقی الأهداف السیاسیّة لنهضة الإمام الحسین علیه السلام مصدراً عقدیّاً وتشریعیّاً لکلّ ثورة ونهضة تصحیحیّة تسعی للإطاحة بالطغاة وحکوماتهم الفاسدة، واستبدالها بحکومة إلهیّة إسلامیّة تقوم علی أساس العدالة والقسط والاستقامة.

ثانیاً: فکرة المشارکة السیاسیّة والاجتماعیّة (الولایة الحسبیة)

بعیداً عن نظریة الحکومة وولایة الفقیه المطلقة، فإننا نعتقد - علی أقلّ تقدیر - بأنّ الدین عموماً والشریعة الإسلامیّة الحقّة علی وجه الخصوص شریک أساس فی تنظیم وتقنین حیاة الناس، وإدارة المجتمع، وقیادة الأُمّة، وممارسة وظیفة الحکم والقضاء، وتصحیح مسارات العملیّة السیاسیّة والاجتماعیّة بشکلٍ عام، ومجاهدة الأعداء والغُزاة، والوقوف بوجه الظلم والظالمین، والدفاع عن حقوق المظلومین والمضطهدین، وحمایة الضعفاء والفقراء، ورعایة القاصرین والمحتاجین، وغیر ذلک ممّا یرتبط بحفظ النظام العام وإتیان ما لا یرضی الشارع الأقدس بتفویته، وهذا هو ما نفهمه من معنی ولایة الفقهاء والمؤمنین الحسبیّة والخاصّة، التی یتبنّاها مشهور فقهائنا.

نعم، قد تختلف مساحتها وشرائطها سعة وضیقاً من فقیه لآخر بحسب اختلاف الأدلّة والمبانی الفقهیة الاجتهادیّة.وهذا ما نلمسه بوضوح تامّ حینما نطالع کلمات وآراء الفقهاء - قدیماً وحدیثاً - فی هذا المجال، وللوقوف علی شواهد هذه الحقیقة - التی تکاد أن تکون إجماعیّة - ننتقی - علی سبیل المثال - بعض الأقوال والآراء الفقهیّة فی هذه المسألة:

ص: 166

یقول الشیخ المفید قدس سره فی کتابه المقنعة: «وللفقهاء من شیعة الأئمّة علیهم السلام أن یُجمّعوا بإخوانهم فی الصلوات الخمس، وصلوات الأعیاد، والاستسقاء، والکسوف، والخسوف، إذا تمکنوا من ذلک، وأمنوا فیه من معرّة أهل الفساد. ولهم أن یقضوا بینهم بالحق، ویُصلحوا بین المختلفین فی الدعاوی عند عدم البیّنات، ویفعلوا جمیع ما جُعل إلی القضاة فی الإسلام؛ لأنّ الأئمّة علیهم السلام قد فوّضوا إلیهم ذلک عند تمکّنهم منه بما ثبت عنهم فیه من الأخبار، وصحّ به النقل عند أهل المعرفة به من الآثار»((1)). وقریب من هذا المضمون ما ذکره الشیخ الطوسی فی النهایة((2))، وابن إدریس الحلّی فی السرائر((3))، والمحقّق الحلّی فی الشرائع((4))، والعلّامة الحلّی فی القواعد((5))، والشهیدان فی اللمعة وشرحها((6)).

ویقول الفیض الکاشانی قدس سره فی المفاتیح: «وبالجملة فوجوب الجهاد، والأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، والتعاون علی البرّ والتقوی، والإفتاء والحکم بین الناس بالحقّ، وإقامة الحدود والتعزیرات وسائر السیاسات الدینیّة من ضروریات الدین، وهی القطب الأعظم فی الدین والمهمّ الذی بعث الله له النبیین، ولو تُرکت لعُطّلت النبوّة، واضمحلّت الدیانة، وعمّت الفترة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، وخرب البلاد،وهلک العباد، نعوذ بالله من ذلک... وکذا إقامة الحدود والتعزیرات وسائر السیاسات الدینیّة، فإن للفقهاء المأمونین إقامتها فی الغیبة بحقّ النیابة عنه علیه السلام ، إذا أمنوا الخطر علی أنفسهم، أو أحد من المسلمین علی الأصح، وفاقاً للشیخین والعلّامة وجماعة؛ لأنّهم

ص: 167


1- ([1]) المفید، محمد بن محمد، المقنعة: ص811.
2- ([2]) الطوسی، محمد بن الحسن، النهایة: ص301 - 302.
3- ([3]) ابن إدریس الحلی، محمد، السرائر: ج3، ص335 - 337.
4- ([4]) المحقق الحلّی، جعفر بن الحسن، شرائع الإسلام: ج1، ص259.
5- ([5]) العلّامة الحلی، الحسن بن یوسف، قواعد الأحکام: ج1، ص525 - 526.
6- ([6]) الشهید الثانی، زین الدین بن علی، الروضة البهیة: ج2، ص417.

مأذونون من قِبَلهم علیهم السلام فی أمثالها، کالقضاء والإفتاء وغیرهما، ولإطلاق أدلّة وجوبها، وعدم دلیل علی توقّفه علی حضوره علیه السلام »((1)).

وأیضاً یقول الشیخ کاشف الغطاء قدس سره فی حدیثه عن أحکام الجهاد وأقسامه وشرائطه: «وإذا لم یحضر الإمام - بأن کان غائباً أو کان حاضراً ولم یُتمکّن من استئذانه - وجب علی ال-مُجتهدین القیام بهذا الأمر. ویجب تقدیم الأفضل أو مأذونه فی هذا المقام، ولا یجوز التعرّض فی ذلک لغیرهم، وتجب طاعة الناس لهم، ومَن خالفهم فقد خالف إمامهم. فإن لم یکونوا، أو کانوا ولا یمکن الأخذ عنهم ولا الرجوع إلیهم، أو کانوا من الوسواسیین الذین لا یأخذون بظاهر شریعة سیّد المرسلین، وجب علی کلّ بصیر صاحب رأی وتدبیر - عالم بطریقة السیاسة، عارف بدقائق الرئاسة، صاحب إدراک وفهم وثبات وجزم وحزم - أن یقوم بأحمالها، ویتکلّف بحمل أثقالها، وجوباً کفائیاً مع مقدار القابلین، فلو ترکوا ذلک عُوقبوا أجمعین»((2)).

ویقول المولی النراقی قدس سره فی حدیثه عن ولایة الفقیه: «کُلّ فعل متعلّق بأُمور العباد فی دینهم أو دنیاهم ولا بدّ من الإتیان به ولا مفرّ منه، إمّا عقلاً أو عادة من جهة توقُّف أُمور المعاد أو المعاش لواحد أو جماعة علیه، وإناطة انتظام أُمور الدین أو الدنیا به. أو شرعاً من جهة ورود أمر به أو إجماع، أو نفی ضرر أو إضرار، أو عُسر أو حرج، أو فساد علی مسلم، أو دلیل آخر، أو ورود الإذن فیه من الشارع، ولم یجعل وظیفته لمعیّن واحد أو جماعة ولا لغیر معیّن - أی: واحد لا بعینه - بل عُلم لا بدّیة الإتیان به أو الإذن فیه، ولم یُعلَم المأمور به ولا المأذون فیه، فهو وظیفة الفقیه، وله التصرّف فیه، والإتیان به»((3)). ثمّ استدلّ علی ذلک کلّه بإجماع الفقهاء.

ص: 168


1- ([1]) الفیض الکاشانی، محمد محسن، مفاتیح الشرائع: ج2، ص50.
2- ([2]) کاشف الغطاء، جعفر، کشف الغطاء: ج4، ص333.
3- ([1]) النراقی، أحمد بن محمد مهدی، عوائد الأیام: ص536.

وفی کتاب الجواهر: «الولایة للقضاء أو النظام والسیاسة أو علی جبایة الخراج أو علی القاصرین من الأطفال أو غیر ذلک أو علی الجمیع، من قِبَل السلطان العادل أو نائبه، جائزة قطعاً، بل راجحة؛ لما فیها من المعاونة علی البرّ والتقوی، والخدمة للإمام، وغیر ذلک، خصوصاً فی بعض الأفراد، وربما وجبت عیناً»((1)).

وفی موضع آخر منه: «لولا عموم الولایة لبقی کثیر من الأُمور المتعلّقة بشیعتهم معطّلة. فمن الغریب وسوسة بعض الناس فی ذلک، بل کأنّه ما ذاق من طعم الفقه شیئاً، ولا فهم من لحن قولهم ورموزهم أمراً، ولا تأمّل المراد من قولهم: إنّی جعلته علیکم حاکماً وقاضیاً وحجّة وخلیفة. ونحو ذلک؛ ممّا یظهر منه إرادة نظم زمان الغیبة لشیعتهم فی کثیر من الأُمور الراجعة إلیهم»((2)).

ویقول المحقق النائینی قدس سره بصدد بیان حدود وأبعاد ولایة الفقیه: «لو بنینا علی عموم ولایة الفقیه ببرکة دلالة مقبولة ابن حنظلة، فلا إشکال فی أنّ له الولایة علی کلّ ما عُلِم بأنّه من وظائف القضاة، أو عُلِم بأنّ تصدّیه من وظائف الولاة، أو کان مشکوکاً. فله جبایة الخراج والمقاسمة فضلاً عن مطالبة الأخماس والزکوات، وله التصدّی لإقامة الجمعة؛ بناءً علی أن تکون إقامتها من وظائف الولاة، وأنّه مع تصدّیه لإقامتها تجب علی کلّ مَن یتمکّن حضورها وجوباً عینیّاً، وکذلک له التصدّی لإقامة الحدود والتعزیرات وأمثالهما ممّا یُشکّ فی کونه من وظیفة القضاة أو الولاة»((3)).

هذه باقة منتقاة من کلمات وآراء الأعلام من فقهائنا (قدّس الله أسرارهم)؛ ویتجلّی منها بوضوح أبعاد وآفاق الرؤیة والفکرة التی أشرنا إلیها فی مستهلّ

ص: 169


1- ([2]) النجفی، محمد حسن، جواهر الکلام: ج22، ص155.
2- ([3]) المصدر السابق: ج21، ص397.
3- ([1]) النائینی، محمد حسین، کتاب المکاسب والبیع: ج2، ص338.

هذه الإجابة، وهی کون الدین الإسلامی شریکاً رئیساً للإنسان فی إدارة وتنظیم وبناء الحیاة الاجتماعیّة والسیاسیّة، ولا یسمح الدین أبداً للناس أن ینفردوا فی بناء حیاتهم وحضاراتهم البشریّة اعتماداً علی عقولهم وأفکارهم ومیولهم وغرائزهم المادیّة فحسب، بل یتحتّم علیهم أن یستعینوا بمزدوج المنتوج الدینی والمنتوج البشری؛ لرسم المناهج والسُّبل والسیاسات الصحیحة التی تُسهم فی الارتقاء بواقع بلدانهم وبناء وتشیید مجتمعاتهم الصالحة والآمنة والمتحضّرة.

وفی ضوء هذه الرؤیة نستکشف مدی أهمیّة الأهداف السیاسیّة للنهضة الحسینیّة وأثرها ودورها الفاعل فی حاضر الأُمّة ومستقبلها؛ کونها تُمثّل مصدراً ومنهلاً عقدیّاً وتشریعیّاً مؤثّراً ومُلهماً للشعوب والبلدان الإسلامیّة، وعلی کلّ فرد مسلم یؤمن بالحسین علیه السلام أن یحمله فکراً ومنهجاً وأُسلوباً فی الحیاة.

ومن هذا المنطلق؛ یتوجّب علی الأُمّة الإسلامیّة بکافّة أطیافها أن تستلهم من المدرسة الحسینیّة الخالدة دروس العزّة والإباء والتضحیّة والفداء والعظمة، وتتفاخر وتقتدی بالحسین الذی أرعب الطغاة، وأقضّ مضاجعهم، وأسقط عروشهم، وزلزل الأرض تحت أقدامهم.

وینبغی للأُمّة أیضاً أن تستلهم من الحسین علیه السلام شارات الکرامة؛ لتخرج بکبریائها وشموخها ثائرة منتفضة علی فراعنة عصرها، رافضة لحکوماتهم الجائرة وأنظمتهم الفاسدة، وأن تتعلّم الأُمّة من وحی أهداف نهضته: کیف تُخطط سیاسیّاً وعسکریّاً للانقلاب علیهم والإطاحة بهم واستبدالهم بالنظام الأصلح؟ وکیف تتحرّک إلی الأمام لتجعل الدین مصدراً مهمّاً من مصادر مجدها وشموخها وعظمتها؟

وعلیها أن تبحث فی الحسین علیه السلام عن عزّتها وکرامتها المهدورة، وتصنع من مبادئ نهضته المبارکة مجتمعاً قویّاً رصیناً متلاحماً، لا یرضی بالذلّ والظلم والفساد، حسینیّاً

ص: 170

فی منهجه ومبادئه وأهدافه وغایاته، ولا معنی لأن یُقال - بعد هذا الحدیث -: إنّ الأهداف السیاسیّة للنهضة الحسینیّة لا تنتمی لمکوّنات بیئتنا وواقعنا ال-مُعاش، ولا تُسهم فی تصمیم وإنتاج المشهد السیاسی فی زماننا الحاضر!!

ثالثاً: الحضور الحسینی المتمیّز فی الأوضاع الراهنة

إنّ مجتمعاتنا الشیعیّة الیوم هی مجتمعات (حسینیّة/کربلائیّة) بامتیاز، بکلّ مضامینها ومظاهرها، وکلّنا یشاهد ویری کیف أن دم الحسین علیه السلام یرسم بألوان الحریّة والإباء والکرامة لوحة بلداننا وصورة أجیالنا، ویبنی بلَبِنات العزّة والشموخ صروح مجدنا ومعالی حضارتنا، بل أضحی حسین الخلود حضارة الإنسان التی نتفاخر بشرف الانتماء إلیها، وقد تعلّمنا من الحسین کیف نُقارع الأنظمة والحکومات الفاسدة، فانتصرنا وأقمنا حکومة الإسلام فی دولة إیران العزیزة، وتعلّمنا من الحسین کیف نواجه طاغیة العراق بعزیمة واستبسال، فانتصرنا وأذقناه ذلّ العار والهوان، وتعلّمنا من الحسین کیف نکون أحراراً فی الدفاع عن دیننا وأعراضنا وأوطاننا، فانتصرنا نصراً مؤزّراً، وها هم أبناء الحسین علیه السلام وأحبابه وشیعته یُسطّرون الیوم أروع ملاحم البطولة والتضحیة والفداء فی الدفاع عن تُراب ومقدّسات عراقنا الحبیب، وها هم یکتبون فی هذه المرحلة الحسّاسة تاریخاً ومستقبلاً جدیداً، ناصعاً مشرقاً، ینتمی لکربلاء الصمود، فسلامٌ وتحیّةٌ من الله لهم وهم یقفون جبالاً شامخة فی مواجهة ظلام الکفر والفساد والتخلّف والطغیان المتمثّل بما یُسمّی بأوباش (داعش) ومَن یقف خلفهم من الظلامیین والتکفیریین والخونة والمتآمرین. وها هی الشعوب المؤمنة بالحسین علیه السلام ومبادئ نهضته المبارکة کانت ولا زالت تسیر فی رَکْبِه قُدماً، وتنبض مسیرتهم بالخیر العطاء وعنفوان الحیاة، وکان ولا زال حُکّام الجور والطغاة یرتجفون خوفاً وهلعاً من صدی الصوت الحسینی الهادر (هیهات منّا الذلّة).

ص: 171

وفی إطار هذه الملاحم العظیمة، ونحن نعیش هذه الانتصارات المتوالیة للسیاسات والمبادئ الحسینیّة تحت إشراف علمائنا الأعلام والمرجعیّة الرشیدة، فإنّی لا أفهم أبداً ما قد یُقال: بأنّ المؤمنین لا یمتلکون مقوّمات النصر علی الطغاة فی زمن الغیبة!!

کلّا! وألف کلّا! فإنّ المؤمنین قد انتصروا، وهم یعیشون الیوم فی نعیم دولة الحسین علیه السلام وحضارته المترامیة الأطراف، فالمبادئ السیاسیّة للنهضة الحسینیّة بکلّ أبعادها باتت وأصبحت هی الطاقة الخلّاقة التی تُحرّک حاضر الأُمّة باتّجاه صناعة مستقبل واعد وکریم.

رابعاً: مناقشة شواهد ونصوص الإشکالیّة

لا نرید بهذا العنوان الولوج مفصّلاً فی الردّ والإجابة عن الشواهد التی سیقت لتأیید تلک الإشکالیّة الزمکانیّة؛ لأن هذا الأمر موکول للبحوث التخصصیّة والاجتهادیّة الفقهیّة والعقدیّة المطروحة فی مسألة ولایة الفقیه والحکومة الإسلامیّة، وقد ذُکرت أجوبة کثیرة ومتنوّعة وتفصیلیّة للردّ علی تلک الشواهد الروائیّة والتاریخیّة، یستطیع الباحث ملاحظتها فی مظانِّها، ولکننا سوف نُشیر بنحو الإجمال إلی بعض الإجابات والتعلیقات المختصرة، فنقول:أوّلاً: إنّ المضمون الذی بیّناه واستعرضناه فی الشاهد الأوّل بعنوان (فکرة فصل الاختصاص الدینی عن المنهج السیاسی)، کان ولا زال یُمثّل هاجساً کبیراً لدی کثیر من العلماء والأساتذة والباحثین فی الاختصاص الدینی، ویمنعهم من محاولة التفکیر الجادّ فی إقحام علوم السیاسة والاجتماع کمناهج علمیّة تخصصیّة فی جدول مدرستنا الدینیّة الاجتهادیّة؛ ممّا أدّی إلی إلغائها وإقصائها بشکل کامل من منظومة مناهجنا

ص: 172

الدراسیّة التقلیدیّة فی کثیر من حوزاتنا العلمیّة، مع أنّ لهذه العلوم الإنسانیّة مساحة واسعة وتراثاً ضخماً فی موروثنا الدینی والإسلامی.

وفی الحقیقة: إنّ مُدارسة ومناقشة هذا الأمر تفصیلاً لا تحتمله سیاقات بحثنا الموجز، لکنّنا نغتنمها فرصة لندعو العلماء والأساتذة والفضلاء لإعادة النظر فی هذا القرار أو العرف المناهجی الذی أصبح شبه نافذ ومعمول به فی دروسنا وکراسی اختصاصاتنا الدینیّة الرسمیّة، ونحن نری الیوم ضرورة التغییر والتطویر فی هذا المجال، خصوصاً فی أوضاعنا الراهنة التی یتعذّر فیها التنصّل والابتعاد عن الواقع الاجتماعی والسیاسی لعالمنا المعاصر، فإن کُنّا من المؤمنین بنظریة الحکومة الإسلامیّة وولایة الفقیه، فالحاجة إلی دراسة مثل هذه العلوم دراسة دینیّة اختصاصیّة اجتهادیّة لا تفتقر إلی البیان، وإن کُنّا لا نؤمن بهذه النظریّة، فإنّ إجماع الفقهاء - کما تقدّم - قائم علی الإیمان بولایة الفقیه الخاصّة والحسبیّة، وضرورة أن یکون الاختصاص الدینی شریکاً قویّاً ومؤثِّراً فی مجال السیاسة والاجتماع، وهذا هو الدور المصیری والحسّاس الذی تقوم به مرجعیّاتنا الرشیدة الیوم فی کثیر من البلدان والأمصار، وهو ما یتطلّب منّا أن نکون شرکاء أقویاء، وأن نُساهم فی إدارة شأننا السیاسی والاجتماعی عن معرفة ودرایة تامّة بالتراث الدینی وواقع الحیاة ومتطلّبات العصر والمرحلة.

وحینذاک؛ یُصبح التراث السیاسی للنهضة الحسینیّة علی وجه الخصوص من أهمّ مصادرنا التشریعیّة والعقدیّة المؤثِّرة فی رسم معالم مشارکتنا السیاسیّة والاجتماعیّة، ولا مبرّر أبداً لإهمال وتهمیش هکذا تراث مهمّ ومفصلیّ وحساس.

ثانیاً: إنّ ما ادُّعی فی محتوی الشاهد الثانی، من کون حرکة المعصومین من أئمّة أهل البیت علیهم السلام السیاسیّة لاستلام مقالید الحکم وقیادة الأُمّة، تُعدّ من خصائص عصمتهم ومقام إمامتهم الربانیّة، ولا یصلح الاقتداء والتأسّی بهم فی مثل هذه الموارد. فإنّه لا

ص: 173

یمتلک هذا الادّعاء أیّ دلیل ناهض لإثباته، بل الأدلّة المتضافرة علی خلافه، والفقهاء قدیماً وحدیثاً یؤکّدون فی بحوثهم الأُصولیّة والفقهیّة علی أنّ النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله وأهل بیته المعصومین علیهم السلام هم قدوة وأُسوة فی کلّ أفعالهم وتحرّکاتهم الفردیة والاجتماعیّة والسیاسیّة، إلّا ما أخرجه الدلیل الخاصّ، وهو قلیل ونادر جدّاً، من قبیل جواز التزوّج بأکثر من أربعة بعقد دائم ووجوب صلاة اللیل فی حقّ النبی صلی الله علیه و آله ، وأما ما دون ذلک فإنّ منهجهم علیهم السلام فی الحیاة هو سبیلنا ومنهجنا، ولکن بشرطها وشروطها، ومن شروطها الضروریّة العمل الجادّ علی وضع البحوث والدراسات والمناهج التخصصیّة الاجتهادیّة؛ لتحدید ما یتطلّبه الواقع والمرحلة، وما ینطبق علیه من منهج أهل البیت علیهم السلام وسیرتهم المتنوّعة بتنوّع واقعهم الذی عایشوه آنذاک، وواحدة من المصادر المهمّة فی هذا المجال سیرة الحسین علیه السلام ونهجه السیاسی فی نهضته المبارکة.

ثالثاً: یعتمد الشاهدان الثالث والرابع - کما تقدّم - علی جملة من النصوص والروایات الشریفة، التی یُستظهر منها الأمر بالجلوس والنهی عن التخطیط للخروج علی الحکومات الفاسدة بهدف إسقاطها واستبدالها بحکومة إسلامیّة عادلة، وهناک أجوبة وردود مفصّلة لمناقشة الاستدلال بمضامین هذه النصوص، مطروحة فی البحوث الاجتهادیّة الفقهیّة حول مسألة الحکومة الإسلامیّة وولایة الفقیه، لا نرید الخوض فی تفاصیلها، لکننا بنحو الإجمال نقول:

1- بالنسبة إلی النصوص المتقدّمة الدالّة علی أنّ کلّ رایة تُرفع قبل قیام القائم علیه السلام فصاحبها طاغوت یُعبد من دون الله. فقد أُجیب عن الاستدلال بها من وجوه کثیرة، ولعلّ أوضحها وأتقنها: هو أنّ المقصود بالرایة التی وقعت موضوعاً فی هذه النصوص - بمناسبات الحکم والموضوع - هی التی یکون صاحبها داعیاً الناس إلی نفسه فی قبال رایة الحقّ، وهی رایة القائم علیه السلام ، وأمّا مَن تکون رایته فی سبیل إسقاط رایات وحکومات الباطل والظلم، وإقامة الحقّ وإرجاعه إلی أصحابه الشرعیین، وتسلیم

ص: 174

الرایة إلی القائم علیه السلام فی حال ظهوره، فهکذا رایة غیر مشمولة بتلک النصوص، وذلک بقرینة وصف صاحب الرایة الباطلة بالطاغوت وأنّه یُعبد من دون الله، وهو ما یُعطی معنی الصنمیّة والدعوة إلی الذات، الذی «یناسب فرض کون خروجه لنفسه، لا بنیّة تسلیم الأمر إلی الإمام المعصوم لو حضر»((1)). وقد ناقش بعض أساتذتنا الأجلّاء فی تمامیّة هذه الإجابة، وتفصیل البحث موکول إلی محلّه((2)).

2- أما بالنسبة إلی النصوص الآمرة بالجلوس والسکون، والناهیة عن الخروج علی السلطات الظالمة، فأهمّها وأصحّها روایة عیص بن القاسم المتقدّمة، وقد أُجیب عن الاستدلال بها فی المقام بوجوه عدیدة، أتقنها ما أجاب به بعض المحقّقین فی کتابه (دراسات فی ولایة الفقیه)، من أنّ الروایة ناظرة إلی خروج مَن یخرج داعیاً إلی نفسه، کما هو شأن الخارجین فی زمان صدور النصّ، ولیست ناظرة إلی مَن یخرج داعیاً إلی الإمام علیه السلام ؛ وذلک بقرینة التفریق فی الروایة بین خروج زید وخروج غیره، وقد امتدح الإمام علیه السلام خروج زید وأثنی علیه؛ معلِّلاً ذلک بأنّه لم یخرج داعیاً لنفسه وإنّما خرج داعیاً إلی الرضا من آل محمد صلی الله علیه و آله ، فیُفهم منه أنّ الخروج الآخر المنهی عنه وغیر المرضی لدی الإمام علیه السلام هو الخروج مع مَن یخرج مستقلاً عن الإمام وداعیاً لنفسه؛ إذ لا فرق بینه حینئذٍ وبین الحکومة القائمة آنذاک، فکلٌّ منهما یدعو إلی نفسه.

یقول قدس سره : «الصحیحة لا تدلّ علی عدم وجوب الدفاع وعدم جواز الخروج، بل تدلّ علی أنّ الداعی إلی الخروج قد تکون دعوته باطلة، بأن یدعو إلی نفسه مثلاً مع عدم استحقاقه لما یدّعیه، کمَن یدّعی المهدویة مثلاً کذباً. وقد تکون دعوته حقّه، کدعوة زید بن علیّ بن الحسین مثلاً، حیث دعا الناس لنقض السلطنة الجائرة وتسلیم الحقّ إلی أهله،

ص: 175


1- ([1]) الحائری، کاظم، ولایة الأمر فی عصر الغیبة: ص70.
2- ([2]) أُستاذنا الأجلّ سماحة آیة الله الشیخ هادی آل الشیخ راضی (حفظه الله ورعاه)، حیث طرح عدّة تأمّلات حول مضمون هذه الإجابة فی مجلس درسه الشریف حینما تعرّض لمبحث ولایة الفقیه.

أعنی: المرضی من آل محمد... فالصحیحة تُمضی قیام زید، وتدلّ علی جواز القیام للدفاع عن الحقّ... ولا خصوصیة لزید قطعاً، وإنّما الملاک هدفه فی قیامه وصلاحیته لذلک. فالقیام لنقض الحکومة الفاسدة الجائرة مع إعداد مقدماته جائز، بل واجب. ولو ظفر زید لوفی بما دعا إلیه من إرجاع الحکومة إلی المرضیّ من آل محمد، کما نطق به الخبر»((1)).

ونحن نعتقد أیضاً بأنّ الروایة - بقرینة کون صدرها فی مقام الإرشاد إلی مَن یصحّ الخروج معه شرعاً - ظاهرة فی أنّ المجتمع الشیعی من صلاحیاته اختیار من یُمثّله ویُدیر شؤونه من ذوی العلم والخبرة والقدرة، فلا بأس أن یتصدّی من العلماء الأجدر والأکفأ إذا اختارهم الناس لذلک الشأن، ویتحرّکوا حینئذٍ بالنیابة عن المجتمع الشیعی فی ضوء تعالیم أهل البیت علیهم السلام ، ویجتنبوا الحدیث والتحرّک باسم الرضا من آل محمد، فتُمثِّل حرکتهم التنفیذیّة والإداریّة إرادة ورضا المجتمع الإیمانی، لا إرادة ورضا المعصوم مباشرة.

وأمّا روایة سدیر الصیرفی، فقد حملها بعض المحقّقین علی القضیّة الخارجیّة وموردها الخاصّ وهو سدیر نفسه، فسدیر هو المنهی عن الخروج مع الخارجین، وهو المأمور بالسکون والجلوس فی بیته؛ وذلک لخصوصیّة فی شخصیته العاطفیّة والمزاجیّة المتقلّبة، وقد أورد قدس سره جملة من الشواهد والمؤیّدات لفرض خصوصیّة المورد، فلاحظ((2)) ((3)).

رابعاً: إنّ التمسّک بسیرة المعصومین علیهم السلام بعد شهادة الإمام الحسین علیه السلام ، ودعوی کونها قائمة علی اعتزال العمل السیاسی والعسکری، وترک السعی لإقامة حکومة

ص: 176


1- ([1]) المنتظری، حسین علی، دراسات فی ولایة الفقیه: ج1، ص206 - 207.
2- ([1]) المصدر السابق: ج1، ص229 - 232.
3- ([2]) ولشیخنا الأُستاذ (حفظه الله) مناقشة تفصیلیّة لهذا الوجه أیضاً، ذکرها فی مجلس الدرس، فی مبحث ولایة الفقیه.

إسلامیة، فی غیر محلّه تماماً؛ فإنّهم علیهم السلام مع کلّ المصاعب والظروف الحرجة والخانقة التی عاشوها فی زمن الأُمویین والعباسیین، کانوا شرکاء فاعلین ومؤثِّرین وحاضرین باستمرار فیما عایشوه من أحداث وتقلّبات فی واقعهم الاجتماعی والسیاسی، وکانوا علیهم السلام یتحرّکون فی هذه الدائرة بصورة فاعلة ومتواصلة بما کان یسمح به النظام الاستبدادی والدکتاتوری الذی عایشوه آنذاک، وتاریخهم وسیرتهم المبارکة خیر شاهد علی ما نقول، ویکفینا ذلک مبررّاً للخوض فی مُدارسة الملف السیاسی والاجتماعی للمعصومین علیهم السلام علی اختلاف مراحله ومواقفه، ابتداءً من زمن النبی الأکرم صلی الله علیه و آله ، ومروراً بأحداث النهضة الحسینیّة، وانتهاءً بزمان غیبة المعصوم الثانی عشر.

ص: 177

خلاصة الفصل السادس

تعرّضنا فی هذا الفصل لإشکالیة جدیدة أدّت لإقصاء النهضة الحسینیّة فی أهدافها السیاسیّة، وهی إشکالیة الفصل بین القیادتین الدینیّة والسیاسیّة فی عصر الغیبة، وتعتمد علی جملة من القرائن والشواهد التاریخیّة والتراثیّة، ذکرنا منها: فکرة فصل الاختصاص الدینی عن المنهج السیاسی، ودعوی أنّ الحرکة السیاسیّة للمعصومین من أئمّة أهل البیت علیهم السلام من خصائص عصمتهم وإمامتهم، والنصوص الدالّة علی أنّ کلّ رایة تُرفع قبل قیام القائم علیه السلام فصاحبها طاغوت یُعبد من دون الله تعالی، والروایات الآمرة بالجلوس والناهیة عن الخروج علی السلطات الظالمة، وادّعاء کون سیرة المعصومین علیهم السلام بعد شهادة الحسین علیه السلام قائمة علی ترک السعی لإقامة حکومة إسلامیة. ثمّ انتقلنا بعد ذلک للإجابة عن هذه الإشکالیّة وشواهدها فی إطار العناوین التالیة: نظریة الحکومة الإسلامیّة وولایة الفقیه المطلقة، وفکرة المشارکة السیاسیّة والاجتماعیّة (الولایة الحسبیة)، والحضور الحسینی المتمیِّز فی الأوضاع الراهنة، ثمّ انتقلنا لمناقشة شواهد ونصوص الإشکالیّة بصورة خاصّة. وخلصنا إلی کون المبادئ السیاسیّة للنهضة الحسینیّة من أهمّ مصادر حرکتنا السیاسیّة والاجتماعیّة فی عصرنا الحاضر.

ص: 178

الفصل السابع: سیاسة الإمام الحسین علیه السلام فی مواجهة الإرهاب الحکومی

اشارة

الفصل السابع

سیاسة الإمام الحسین علیه السلام

فی مواجهة الإرهاب الحکومی

ص: 179

ص: 180

مدخل

کان ولا یزال العنف المجتمعی یتصدّر قائمة التحدّیات الصعبة، ویمثّل التحدّی الأشهَر والأبرز علی الإطلاق، ولا زال یقف حائلاً أمام الجهود الإنسانیة المتواصلة التی تُبذل باستمرار لإرساء معالم التعایش السلمی بین بنی البشر فی قریة أرضیّة آمنة موحّدة؛ ولأنّ العنف طبع غرائزی متجذّر فی تکوین الإنسان وترکیبته السیکولوجیة المعقّدة ((1)) - ولأنّه فتّاک، سریع الاشتعال، شدید الانفجار، عالیة ألسنة لهبه ونیرانه، تحرق الأخضر والیابس - کان وسیبقی العبء الأکبر والهمّ الأثقل الذی یشغل تفکیر الهداة والمصلحین بمختلف ألوانهم وتوجّهاتهم، وفی شتّی بقاع الأرض وأصقاعها، مع أنّهم لا یطمعون أبداً بالقضاء علیه بقدر ما یسعون جاهدین للحدّ من انتشاره وتفشّی مظاهره بشکل مُفرط فی الأوساط الموبوءة بداء العنف.

وهناک من العنف المضادّ ما هو مبرّر ومقبول لدی العقلاء من البشر، فالإنسان بحاجة إلی شیء من غریزة الحزم والغلظة والعنف یدافع بها عن النفس والعرض

ص: 181


1- ([1]) نعتقد بأنّ الإنسان - فی تعاطیه مع مجتمعه - کائن مُعقّد، متشکّل ومتضادّ فی طباعه، فهو مُستخدم ومدنی بالطبع، وهو محبّ ومُبغض بالطبع، رؤوف رحیم وشدید عنیف بالطبع، وهکذا. وهو بحث مفصّل موکول إلی علم النفس الاجتماعی (social psychology).

والوطن والثروة والحیاة، ویقف ببطولة وبسالة أمام أطماع الغزاة والمعتدین، وتوسّعهم الهمجی علی حساب الآخرین. لکن هناک أیضاً من العنف ما هو مرفوض وغیر مبرّر ولا مقبول، تستنکره الفطرة الإنسانیّة السلیمة، وله درجات وأشکال متنوّعة ومتفاوتة، قد تبدأ بکلمة جارحة، وتنتهی أو لا تنتهی بحروب عالمیة طاحنة.

وقد أُطلق فی العقود الأخیرة مصطلح الإرهاب (Terrorism) علی بعض أشکال العنف وأنواعه غیر المبرّرة، ولیس هدفنا فی هذا الفصل دراسة کلّ ما یُسمّی إرهاباً فی عصرنا الحاضر، فهذا ما لا یسعه بحث أو کتاب، وهو همُّ الإنسانیّة الأکبر الذی ملأ بطون الکتب وشغل بالَ الباحثین والمفکّرین، لابثین فی فهمه ودراسته أحقاباً طویلة من الزمن الماضی والحاضر، فأضحی الإرهاب شبح العصر المرعب، وعُقدت لمعرفة هیولاه المؤتمرات والقِمَمُ العالمیّة، وکُتبت البحوث والقوانین والمعاهدات الأُممیّة والدولیّة؛ لقوننة هذا الطراز الخاصّ من العنف ووضعه فی أُطره وسیاقاته الواضحة؛ ما أنتج تراثاً ضخماً متضارباً متلاطم الأمواج، مفقود السواحل، لا یمکن أن یُحصر بکلمات مختصرة فی محدودة هذا البحث الموجز.

ومن هذا المنطلق؛ سندرس صنفاً خاصّاً من أصناف العنف الإرهابی فی ضوء کلمات الإمام الحسین علیه السلام ونهضته المبارکة، وهو ما یُسمّی ب-(الإرهاب الحکومی) أو (الإرهاب السیاسی) أو (إرهاب الدولة)، ولعلّ هذا الصنف من الإرهاب هو أبرز ما واجهه الإمام الحسین علیه السلام فی حرکته وثورته الإصلاحیّة. وقد أحطنا أقطار حدیثنا فی هذا الموضوع بأسوار المبحثین التالیین:

ص: 182

المبحث الأوّل: الإرهاب الحکومی فی اللغة والاصطلاح

أولاً: الإرهاب

الأصل اللغوی فی مادة الإرهاب: (رهب)، وقد نصّ جملة من اللغویین علی أنّ معناه لغةً: الخوف والفزع. ویکون معنی الإرهاب المشتقّ من ذلک الأصل: هو إخافة الناس وإفزاعهم. قال ابن منظور فی لسانه: «رَهِبَ، بالکسر، یَرْهَبُ رَهْبةً ورُهْباً، بالضم، ورَهَباً، بالتحریک، أَی: خافَ. ورَهِبَ الشیءَ رَهْباً ورَهَباً ورَهْبةً: خافَه... وأرْهَبَه ورَهَّبَه واستَرْهَبَه: أَخافَه وفَزَّعه. واسْتَرْهَبَه: اسْتَدْعَی رَهْبَتَه حتی رَهِبَه الناسُ؛ وبذلک فُسّ-ر ق-وله}: ﴿ﯝ ﯞﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦﯧﯨ﴾؛ أَی: أَرْهَبُوهم»((1)). وقال الزبیدی فی تاجه: «والإرْهَابُ بالکَسْرِ: الإِزعاجُ والإِخَافَةُ»((2)).

ویؤکِّد الزمخشری علی الجانب القلبی والنفسی فی مفردة الإرهاب، ویجعله هو الأساس فی مضمون هذه المفردة ومؤدّاها، ولیست الإخافة فی مؤدّی الإرهاب إلّا سبباً لحصول تلک الحالة النفسیّة، وهی حالة القشعریرة والاضطراب والانزعاج والفزع والرعب النفسی الحاصل بالتخویف، ویتضمّن أیضاً عنصر المفاجأة، إذ یقول: «رهَبْتُه، وفی قلبی منه رهبة، ورَهَب ورهبوت، وهو رجل مرهوب، عدوّه منه مرعوب...

ص: 183


1- ([1]) ابن منظور، محمد بن مکرم، لسان العرب: ج1، ص436 - 437.
2- ([2]) الزبیدی، محمد مرتضی، تاج العروس: ج2، ص43.

وأرهبته ورهّبته واسترهبته: أزعجت نفسه بالإخافة. وتقول: یقشعرّ الإرهاب. إذا وقع منه الإرهاب»((1))؛ فیکون تعریف الإرهاب بالإخافة والتخویف من تعریف الشیء بالعلّة والسبب. ولعلّ هذا هو مراد الراغب الأصفهانی أیضاً حینما قال: «الرَّهْبَةُ والرُّهْبُ: مخافة مع تحرّز واضطراب»((2)). وفی ضوء هذه الرؤیة یکون الإرهاب أقرب إلی مفردة الفزع من مفردة الخوف؛ لأنّ الخوف هو مجرّد: «توقّع الضرر المشکوک فی وقوعه»((3))، وأمّا الفزع فهو: «مفاجأة الخوف عند هجوم أمر، وهو انزعاج القلب بتوقّع مکروه عاجل»((4)).

ثمّ إنّ صاحب کتاب الفروق اللغویة أضاف عنصراً آخر لمؤدّی الإرهاب، وهو عنصر الاستمراریّة والدوام، إذ یقول: «الرهبة طول الخوف واستمراره؛ ومن ثَمَّ قیل للراهب: راهب؛ لأنّه یُدیم الخوف، والخوف أصله من قولهم: جمل رهب إذا کان طویل العظام مشبوح الخَلق والرهابة»((5)). ونسجاً علی هذا الرأی اختار بعض المحقّقین «أنّ الأصل الواحد فی هذه المادّة: هو الخوف المستمرّ المستدیم»((6)). ولکن اتّضح أنّ الخوف والإخافة بمنزلة السبب لمؤدّی الإرهاب، ومؤدّاه المطابقی والحقیقی هو: حالة من الفزع والانزعاج والرعب النفسی المفاجئ، ولا تخلو هذه الحالة - بحسب العادة - من عنصر الاستمراریّة والدوام، ولعلّه من هذه الزاویة أضاف العسکری هذا العنصر فی فروقه.

ص: 184


1- ([1]) الزمخشری، محمود بن عمر، أساس البلاغة: ص385.
2- ([2]) الراغب الأصفهانی، الحسین بن محمد، مفردات ألفاظ القرآن: ص366.
3- ([3]) أبو هلال العسکری، الحسن بن عبد الله، معجم الفروق اللغویة: ص226.
4- ([4]) المصدر السابق: ص404.
5- ([5]) المصدر السابق: ص261.
6- ([6]) مصطفوی، حسن، التحقیق فی کلمات القرآن الکریم: ج4، ص241.

والحاصل فی تعریف الرَّهَب والإرهاب لغةً: هو حالة من الانزعاج والفزع والرُّعب القلبی والنفسی المفاجئ، الناتج عن الإزعاج والإخافة الصادرة عن الغیر، وهی لا تخلو عادةً من عنصر الاستمراریّة والدوام.

وبهذا المعنی اللغوی استُعملت مادّة الإرهاب فی القرآن الکریم، کما فی قوله تعالی:«یَا بَنِی إِسْرَائِیلَ اذْکُرُوا نِعْمَتِیَ الَّتِی أَنْعَمْتُ عَلَیْکُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِی أُوفِ بِعَهْدِکُمْ وَإِیَّایَ فَارْهَبُونِ » ((1))، وفیه مطالبة بالخشیة والفَرَق والفزع النفسی من انتقام الله تعالی ونزول عقابه وغضبه. وقوله تعالی: «وَلَمَّا سَکَتَ عَنْ مُوسَی الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِی نُسْخَتِهَا هُدًی وَرَحْمَةٌ لِلَّذِینَ هُمْ لِرَبِّهِمْ یَرْهَبُونَ »((2)). وأیضاً قوله سبحانه: «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَیْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّکُمْ وَآخَرِینَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ یَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَیْءٍ فِی سَبِیلِ اللَّهِ یُوَفَّ إِلَیْکُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ »((3))، أی: تُدخلون حالة من الفزع والرعب فی نفوس وقلوب أعداء الله وأعداء المؤمنین. وقوله}:«قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْیُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِیمٍ »((4))، فالسَّحَرة أدخلوا الرعب والفزع فی قلوب الناس بعجائب وغرائب سحرهم.

وأیضاً «فی حدیث (الدعاء رغبة ورهبة إلیک) الرهبة: الخوف والفزع... وفی حدیث بهز بن حکیم: (إنّی لأسمع الراهبة). هی الحالة التی تُرهِب، أی: تُفزع وتُخوّف»((5)).

وفی مناجاة الإمام زین العابدین علی بن الحسین سلام الله علیه مع الله تعالی یقول: «وتلطّفت فی الترغیب، وبالغت فی الترهیب»((6))، أی: أدخلت الفزع فی قلوب الناس،

ص: 185


1- ([1]) البقرة: آیة40.
2- ([2]) الأعراف: آیة154.
3- ([3]) الأنفال: آیة60.
4- ([4]) الأعراف: آیة116.
5- ([5]) ابن الأثیر، المبارک بن محمد، النهایة فی غریب الحدیث والأثر: ج2، ص281.
6- ([6]) المشهدی، محمد بن جعفر، المزار: ص460.

عن طریق التهدید والوعید بالنار والعذاب وسوء المصیر، وهو ذات المعنی اللغوی

الذی قرّرناه. وبالمعنی ذاته ما جاء فی الحدیث أیضاً: «قد أرهب عمر بن الخطاب امرأة، فأُخمصت بطنها، فألقت جنیناً میتاً، فشاور علیّاً علیه السلام ، وحمل دیّة جنینها»((1)).

فتحصّل: أنّ النصّ الدینی کما استعمل مادّة الإرهاب فی معناه اللغوی بمعطیات ومواصفات وتطبیقات إیجابیة ومطلوبة دینیّاً، کذلک استعمله فی المعنی اللغوی بمعطیات ومواصفات وتطبیقات سلبیة ومرفوضة فی المقاییس الدینیّة، کما هو الحال فی الإرهاب الذی مارسه السَّحَرة لإدخال الرعب والفزع والخوف فی قلوب الناس، وکذا الإرهاب الذی مارسه عمر بن الخطاب بحقّ المرأة الحامل التی فقدت بسببه جنینها.

وأمّا الإرهاب فی معناه الاصطلاحی: فقد اختلفت وتضاربت فیه الأقوال والتعریفات بشکل واسع ومُفرط؛ ما أدّی ببعض الباحثین إلی الاعتقاد بعدم إمکانیة ضبط وتأطیر لفظ الإرهاب فی مفهوم ومعنی محدّد وواضح. وبنحو الإجمال والإیجاز نقول:

1- استعمل طائفة من الفقهاء الإسلامیین لفظ (الإرهاب) فی العنف القولی، من قبیل لعن وتوبیخ العُصاة والمذنبین من المسلمین؛ لیجتنبوا مواقعة الذنب والمعصیة((2))، وکذلک تعنیف القاضی لبعض المتخاصمین فی القضاء، إذا ظهرت له أمارات کذبه واحتیاله((3)). کما استعملوه أیضاً فی العنف الفعلی، ومن أمثلته: ممارسة أفعال الرعب والعنف والقوّة لإخافة وإرعاب الخصم والعدوّ، من قبیل حشد الخیول وضرب

ص: 186


1- ([1]) الماوردی، علی بن محمد، الأحکام السلطانیّة: ص347.
2- ([2]) اُنظر: الأمیر الصنعانی، محمد بن إسماعیل، سبل السلام: ج3، ص143. وأیضاً: الشوکانی، محمد بن علی، نیل الأوطار: ج6، ص363.
3- ([3]) اُنظر: الماوردی، علی بن محمد، الأحکام السلطانیة: ص83 - 93.

الطبول ونشر السلاح والرماح فی ساحات القتال والجهاد فی سبیل الله((1))؛ تطبیقاً لقوله تعالی: «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَیْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّکُمْ وَآخَرِینَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ یَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَیْءٍ فِی سَبِیلِ اللَّهِ یُوَفَّ إِلَیْکُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ »((2)). یقول الشوکانی مستنداً إلی هذه الآیة المبارکة: «الإرهاب للعدو إنّما یکون بالعَدد والمَدد، والعُدّة والشدّة، والسلاح المعدّ للکفاح»((3)).

ومن الجدیر بالذکر أنّ هذه المعانی والتطبیقات کلّها إیجابیة ومرغوب فیها بنظر الفقهاء، وبحسب مقاییسهم الاستنباطیّة فی الفقه الإسلامیّ، ولا تحمل فی مؤدّاها أیّ صفة سلبیّة من الصفات التی نحملها فی أذهاننا عن مفهوم الإرهاب فی وقتنا الحاضر.

نعم، هناک بعض العناوین والمضامین الفقهیّة ذات المدالیل السلبیّة أدرجها بعض الباحثین تحت عنوان الإرهاب، من قبیل: (البغی والخیانة، والسرقة والحرابة) وغیرها، وهی - مع قطع النظر عن المناقشة فی کونها إرهاباً أم لا - خارجة عن محلّ البحث. ولکن هناک أیضاً عناوین أُخری سلبیّة المضمون والتأثیر، قد تُحسب فی عداد الأعمال الإرهابیّة، وهی مرتبطة بمحلّ البحث - ستأتی الإشارة إلیها لاحقاً - من قبیل: (الظلم والقتل، والذبح والإحراق، والطغیان والعدوان) وأمثالها، وهی قد تکون فی الحقیقة من أهمّ أسالیب ووسائل ومظاهر العنف والإرهاب.

2- حاول جملة من الباحثین وفقهاء القانون المحدثین تعریف الإرهاب بالمثال، وتحدید معناه بذات الأفعال الإجرامیّة، وتجریم الأنشطة التی لا تختلف الآراء فی کونها أعمالاً إرهابیّة، سواء أسمَینا ذلک تعریفاً مادّیاً أم إحصاءً مصداقیّاً للعمل الإجرامی،

ص: 187


1- ([1]) اُنظر: الطوسی، محمد بن الحسن، الخلاف: ج4، ص204. وأیضاً: النووی، محیی الدین بن شرف، المجموع: ج15، ص497. والسرخسی، شمس الدین، المبسوط: ج10، ص19. والکاسانی، أبو بکر بن مسعود، بدائع الصنائع: ج7، ص126.
2- ([2]) الأنفال: آیة60.
3- ([3]) الشوکانی، محمد بن علی، السیل الجرّار: ج4، ص124.

فساقوا للتوضیح والبیان مجموعة من الأمثلة والممارسات التی ینطبق علیها عنوان الإرهاب، بل ذهب بعضهم إلی أنّ حقیقة الإرهاب ومحتواه لا تعدو ذلک النحو من التمثیل، فانصبّ جُلّ جهدهم علی بیان وإحصاء واستقصاء کلّ الأمثلة الفعلیة والمتصوّرة الحصول فی المستقبل، وصاغوا من ذلک مادّة قانونیة لمعرفة معنی الإرهاب وتحدید مضمونه ومحتواه، وقد أحصوا فی هذا المجال: جرائم القتل، والاغتیال، والإبادة، والاختطاف، واحتجاز الرهائن، وأعمال القرصنة، والتخریب، والسطو المسلّح، والإخلال بالنظام العام وأمثالها.

ویبقی باب الأمثلة مفتوحاً أمام الحوادث المتجدّدة فی عالمنا المتغیّر والمتطوّر. ولیس هناک أیّ ضرورة لوضع تعریف محدّد ماهویّ للأعمال الإرهابیّة، بل إنّ وضع «تعریف للعمل الإرهابی قد یُضیّق من دائرة جهود مکافحته، ویحصر هذه الجهود فی إطار التعریف المحدّد له؛ لتبقی دائماً ملزمة بالخضوع له»((1)). مضافاً «إلی أنّ الإرهاب کمصطلح فی حدّ ذاته غیر قابل للتعریف؛ لأنّ أیَّ محاولة لتعریفه لن تکون قادرة علی الإلمام بکافة صوره ومظاهره، وأیّ تعریف للإرهاب إمّا أن یکون عامّاً؛ وهو بذلک یحتاج إلی تفسیرات أُخری، أو أنّه محدّد وحصریّ، فیکون بذلک جامداً غیر قادر علی مسایرة التطوّر المستمرّ فی صور الإرهاب وأسالیبه المتزایدة باستمرار تزاید التطوّر العلمی فی شتّی المجالات»((2)). ومن هذا المنطلق آمن جملة من الباحثین بمبدأ النسبیة، و«أنّ مفهوم الإرهاب هو مفهوم نسبی متطوّر، یختلف من مکان إلی آخر، ومن شخص إلی آخر، ومن عقیدة أو فکر إلی آخر، وحسب الظروف المتغیّرة، رغم وجود بعض القواسم المشترکة؛ ولهذا من الصعب

ص: 188


1- ([1]) شرایریة، نادیة، إشکالیّة تعریف الإرهاب فی القانون الدولی: مجلّة التواصل فی العلوم الإنسانیّة والاجتماعیّة، العدد: 34، ص154.
2- ([2]) المصدر السابق.

أن نقول بوجود مفهوم واحد للإرهاب أو للجریمة السیاسیة أو للعنف السیاسی یمکن أن یقبل به الجمیع، أو یمکن أن یُرضی الکلّ؛ ولهذا نعترف أن لیس هناک تعریف محدّد واضح أو دقیق للفکر الإرهابی»((1)).

3- حاولت مجموعة أُخری من الباحثین وذوی الاختصاص فی المجال القانونی ضبط معنی الإرهاب فی تعریف قانونی ماهویّ، واضح ومحدّد وشامل، یحظی بالمقبولیّة العامّة فی المجتمع الدولی، بعیداً عن المهاترات والتوظیفات الفئویّة والسیاسیّة؛ إیماناً منها بإمکانیّة ذلک، بل ضرورته، وهو ما أکّد علیه قرار الجمعیة العامّة للأُمم المتّحدة المرقّم 42/159، الصادر بتاریخ 7 کانون الأول 1987، الذی یعترف بأنّ «فعّالیة محاربة الإرهاب یمکن تعزیزها من خلال وضع تعریف للإرهاب الدولی یحظی بإجماع عام»((2)).

وقد اختلفت الرؤی والأفکار إزاء هذه الحقیقة الغامضة والشائکة، وما زالت الآراء مختلفة حولها، وأنتج هذا الاختلاف الفکری تُراثاً بشریّاً غنیّاً، یکشف مدی قدرة الإنسان علی الإنتاج فی المجالات الفکریّة والعقدیّة والإنسانیّة، وهو تُراث کبیر وجدیر بالدراسة والبحث والتنقیب، وهذا ما لا یسعه بحثنا الموجز؛ ولذا سوف نقتصر علی إیراد أهم التعاریف بنظرنا، لنستخلص منها العناصر المرتبطة بمحلّ بحثنا، الذی نحاول تسلیط الضوء فیه علی ملامح حرکة الإمام الحسین علیه السلام فی مواجهة الإرهاب الحکومی الأُموی:

ص: 189


1- ([1]) د. منذر الفضل، دراسات حول القضیّة الکردیّة ومستقبل العراق: ص200.
2- ([2]) اُنظر: کمال مساعد، مقال علی جریدة البناء، العدد: 1836، تاریخ:21 /7/2015، بعنوان: کتاب «تعریف الإرهاب - نهایة المعاییر المزدوجة» للسفیرة عبیر ریاض طه.

التعریف الأوّل: ما جاء فی مؤتمر مدینة (وارسو) فی بولندا المنعقد عام1930م لتوحید القانون الجزائی، حیث عُرِّف الإرهاب بأنّه: «الاستعمال العمدی لکلِّ وسیلة قادرة علی إحداث خطر جماعی، ویُعتبر الرعب عنصراً أساسیّاً فی تکوین هذه الجریمة»((1)).

لقد تضمّن هذا التعریف الأُممی أربعة عناصر أساسیّة فی تحدید محتوی الإرهاب وبیان حقیقته، وهی:

1- استعمال وسیلة ذات خطورة إجرامیّة.

2- تعمّد استعمال تلک الوسیلة.

3- أنْ یُشکّل استعمال تلک الوسیلة خطراً جماعیّاً.

4- اعتبار الرعب عنصراً أساسیّاً فی تکوین الجریمة الإرهابیّة.

ولم تُؤخذ الأسباب والغایات والأهداف فی هذا التعریف عنصراً من عناصر تکوین مفهوم الإرهاب، وهو ما یتبنّاه ویختاره جملة من المختصّین والباحثین فی هذا المجال، إذ یؤکّدون علی ضرورة الفصل بین حقیقة الإرهاب ومعناه، وبین الدوافع والأهداف، وسیأتی التصریح بذلک فی تعریف لاحق.

التعریف الثانی: ما جاء فی اتّفاقیة جنیف لقمع ومعاقبة الإرهاب عام 1937م، من أنّ الإرهاب هو: «الأفعال الجنائیة الموجّهة ضدّ دولة مّا، ویکون غرضها أو نتیجتها إشاعة الرعب والذعر لدی شخصیّات أو جماعات معینة أو لدی عموم الجمهور»((2)).

واضح أنّ هذا التعریف یشترک فی جملة من عناصره مع التعریف السابق، مع إضافة العناصر التالیة:

ص: 190


1- ([1]) اُنظر: د. هیثم عبد السلام محمد، مفهوم الإرهاب فی الشریعة الإسلامیّة: ص25.
2- ([2]) اُنظر: نعمة علی حسین، مشکلة الإرهاب الدولی (دراسة قانونیّة): ص33.

1- أنْ تکون الأفعال الجنائیّة موجّهة ضدّ دولة معیّنة، وهذا ما یُضفی علی مفهوم الإرهاب مذاقاً سیاسیّاً، وهو مذهب طائفة کبیرة من فقهاء القانون.

2- قد یکون (الغرض والهدف) من ممارسة تلک الأفعال الإجرامیّة هو إثارة الرعب والهلع ذاته لدی الناس.

3- إنّ مفهوم الإرهاب یطال أیضاً الأعمال الإجرامیّة التی تُمارس بحقّ الشخصیّات ذات الحصانة والمکانة السیاسیّة أو الاجتماعیّة، وقد أُضیف هذا العنصر فی أعقاب أحداث اغتیال ملک یوغسلافیا ووزیر الخارجیّة الفرنسیّة فی فرنسا عام1934م، وهروب الفاعلین إلی إیطالیا ورفض الأخیرة تسلیمهم؛ بذریعة الفصل بین الجرائم السیاسیّة والجرائم الإرهابیّة.

التعریف الثالث: ما ورد فی معاهدة منظمة المؤتمر الإسلامی لمکافحة الإرهاب الدولی، من أنّ الإرهاب هو: «کلّ فعل من أفعال العنف أو التهدید به، أیّاً کان بواعثه أو أغراضه، یقع تنفیذاً لمشروع إجرامیّ فردیّ أو جماعی، ویهدف إلی إلقاء الرعب بین الناس وترویعهم، بإیذائهم، أو تعریض حیاتهم أو أعراضهم أو حریّتهم أو أمنهم أو حقوقهم للخطر، أو إلحاق الضرر بالبیئة أو بأحد المرافق والأملاک العامّة والخاصّة، أو احتلالها، أو الاستیلاء علیها، أو تعریض أحد الموارد الوطنیة أو المرافق الدولیّة للخطر، أو تهدید الاستقرار أو السلامة الإقلیمیة أو الوحدة السیاسیة أو سیادة الدول المستقلّة»((1)).

أضاف هذا التعریف عناصر أُخری مهمّة فی تحدید مضمون مفردة الإرهاب، وهی:

ص: 191


1- ([1]) اُنظر: جامعة منیسوتا، مکتبة حقوق الإنسان، معاهدة منظمة المؤتمر الإسلامی لمکافحة الإرهاب الدولی، اعتُمدت من قِبَل مؤتمر وزراء خارجیة دول المنظمة، المنعقد فی أواغادوغو، خلال الفترة من 28 حزیران/یونیو إلی 1 تموز/یولیو 1999.

1- إنّ من موارد الإرهاب أیضاً التهدید بممارسة العنف.

2- أنْ یمثِّل العنف أو التهدید به مشروعاً إجرامیّاً مُنظّماً لفرد أو جماعة، وهو ما قد یُسمّی فی بعض التعریفات ب-(الاستعمال المنظّم للعنف والجریمة).

3- لا یهمّ التعرّف علی نوع وطبیعة الدوافع والأغراض فی تحدید معنی الإرهاب، سواء کانت سیاسیّة أم لا، وهو أحد الآراء المهمّة والمطروحة بقوّة فی أروقة التشریعات القانونیّة للإرهاب.

4- أضاف هذا التعریف - علاوة علی مسألة الرعب والترویع - عنصر إیذاء الناس والاعتداء علی حقوقهم وحرّیّاتهم والإضرار بهم وبأملاکهم العامّة والخاصّة وتعریض الموارد الوطنیّة والمرافق الدولیّة للخطر، وکذلک تهدید الأمن والاستقرار والسلامة الإقلیمیة والوحدة السیاسیة وسیادة الدول المستقلّة؛ ما یُعطی صورة أوسع وأشمل لمعرفة طبیعة العمل الإرهابی، من دون تحدیده بالزوایا والأبعاد السیاسیّة.

التعریف الرابع: الإرهاب هو: «عملُ عنفٍ غیر قانونی»((1)).

أضاف هذا التعریف الموجز للإرهاب عنصر عدم الشرعیة والقانونیّة فی أعمال العنف، وأنّ العنف القانونی لا یسمّی إرهاباً.

التعریف الخامس: الإرهاب «هو: الأُسلوب أو الطریقة المستخدمة، والتی من طبیعتها إثارة الرعب، والفزع، بقصد الوصول إلی الهدف النهائی»((2)).

یُؤکّد هذا التعریف علی عنصرین أساسیّین فی تحدید مفهوم الإرهاب:

ص: 192


1- ([1]) اُنظر: وداد جابر غازی، (الإرهاب وأثره علی العرب)، مجلّة العرب والمستقبل، جامعة المستنصریّة: السنة الثانیة آیار 2004، ص55.
2- ([2]) د. إمام حسانین عطا الله، الإرهاب والبنیان القانونی للجریمة: ص123.

1- إنّ الإرهاب أُسلوب وطریقة یتّبعها الإرهابی فی عمله الإجرامی، من طبیعتها إثارة الرعب فی نفوس الناس، ولیس الإرهاب فکرة عقدیّة أو نظریّة علمیّة فحسب.

2- أن تکون ممارسة الأسالیب المرعبة بقصد الوصول إلی هدف محدّد ومعلوم، ولیس من الصحیح الإغماض عن طبیعة الهدف المقصود فی معرفة وتحدید معنی الإرهاب، وهذا من أهمّ العناصر التعریفیّة بنظر طائفة کبیرة أُخری من فقهاء القانون.

التعریف السادس: الإرهاب هو: «العملیات العنیفة المنسّقة، المادّیّة والمعنویّة، التی تحوی نوعاً من القهر؛ بُغیة تحقیق غایة معیّنة»((1)).

ما یُضیفه هذا التعریف هو: أنّ العنف المأخوذ فی معنی الإرهاب یشمل العنف المادّی والمعنوی، ولنا أن نتصوّر السحر وتحضیر الجن والتنویم المغناطیسی وأمثالها من جملة وسائل العنف المعنوی والروحی.

التعریف السابع: الإرهاب هو: «کلّ فعل یرمی إلی قلب الأوضاع القانونیّة أو الاقتصادیّة التی تقوم علی أُسسها الدولة»((2)).

إنّ هذا التعریف یجعل البُعد الغائی فی الفعل الإجرامی مقوِّماً لتحدید معنی الإرهاب، فالإرهاب حرکة انقلابیّة تسعی بالعنف لتغییر الدولة وقلب أوضاعها وشؤونها القانونیّة والاقتصادیّة، وهذا تحدید واضح لمعنی الإرهاب بأعمال العنف ذات الغایات والأهداف السیاسیّة.

هذه هی أبرز التعریفات وأهمّها فیما نعتقد، أوردناها لنستخلص منها أهمّ العناصر المختارة فی معنی ومفهوم مفردة الإرهاب اصطلاحاً، وبالنحو التالی:

ص: 193


1- ([1]) د. هیثم عبد السلام محمد، مفهوم الإرهاب فی الشریعة الإسلامیّة: ص26.
2- ([2]) اُنظر: عبد الناصر حریز، الإرهاب السیاسی (دراسة تحلیلیة): ص26.

1- إنّ الإرهاب یمثِّل طریقة وأُسلوباً ومنهجاً أیدیولوجیاً مخطّطاً له ومنظّماً ومستمرّاً وغیر قانونی فی ممارسة أعمال العنف والجریمة، بقیادة فرد أو جماعة أو حزب أو غیر ذلک. «فالعنف فی النشاط الإرهابی لا یمکن أن یُحدث أثره إلّا إذا کان مُنظّماً من خلال حملة إرهاب مستمرّة، أی: من خلال نشاط منسّق ومتّصل لعملیات أو مشروعات إرهابیة تؤدّی إلی خلق حالة من الرعب، فالفعل الإرهابی نفسه لا یُخیف إلّا ما یُهدّد بأفعال أُخری مستقبلیة، وحتّی العشوائیة فی أعمال الإرهاب مقصودة فی حدّ ذاتها؛ لکی تُعطی الانطباع بأنّ کلّ إنسان فی أیّ مکان معرّض لأن یکون الضحیة التالیة»((1)).

2- أن تکون أعمال العنف والوسیلة المستخدمة - مادّیة أو معنویّة - ذات طبیعة إجرامیّة وخطیرة، من شأنها أو یُقصد بها نشر الرعب فی المجتمع، وإثارة الفزع والخوف فی نفوس الناس الآمنین المسالمین، وزعزعة الأمن والسلم الوطنی والدّولی. ومن المتّفق علیه أنّ الرعب یُمثِّل عنصراً أساسیّاً فی تحدید حقیقة الإرهاب وتعریفه.

3- إنّ من الإرهاب أیضاً (التهدید) بممارسة أعمال العنف والرعب والترویع.

4- یُضاف إلی مسألة الرعب والترویع، عنصر إیذاء الناس والإضرار بهم وبأملاکهم العامّة والخاصّة، والاعتداء علی حقوقهم وحریّاتهم، وتعریض الموارد الوطنیّة والدولیّة للخطر، وأیضاً تهدید الأمن والاستقرار والسلامة الوطنیّة والإقلیمیة، أو تهدید الوحدة السیاسیة والوطنیّة أو سیادة الدول المستقلّة.

5- أن یکون الفاعل عالماً قاصداً متعمّداً لما یقوم به من أعمال إجرامیّة منظّمة.

6- أن یُشکِّل استعمال تلک الوسیلة خطراً جماعیّاً ومجتمعیّاً، سواء کان موجّهاً إلی دولة معیّنة بشعبها أو بحکومتها أو بأرضها ومواردها، أم کان موجّهاً إلی جماعة خاصّة

ص: 194


1- ([1]) خورشید علیکا، مقال بعنوان: إرهاب الدولة المنظّم، شبکة الأنترنت، موقع (مدارات کرد).

من الناس، تجمعهم لغة أو دین أو طائفة أو عرق أو أمثال ذلک، ویُضاف إلی ذلک الشخصیات المرموقة ذات الحصانة السیاسیّة أو الاجتماعیّة.

7- إنّ هناک بُعداً غائیاً فی التعریف، له دوره المهمّ والمؤثِّر فی معرفة حقیقة الإرهاب وتحدید معناه، سواء کانت الغایة هی نفس إخافة الناس وإرعابهم، أم کانت هناک غایات سیاسیّة معیّنة، أم کانت هناک غایات أُخری اجتماعیّة أو دینیّة أو طائفیة أو عنصریّة عرقیّة (نازیّة فاشیّة) أو غیر ذلک.

هذه هی أهمّ عناصر الإرهاب فی معناه الاصطلاحی المعاصر، وهو بهذه العناصر یُمثِّل ظاهرة خطیرة ومستنکرة عقلاً ونقلاً، ویجب علی العقلاء من البشر محاربتها والقضاء علیها. کما ینبغی الالتفات أیضاً إلی أنّ هذا المعنی الاصطلاحی للإرهاب یُعدّ مورداً وتطبیقاً من تطبیقات المعنی اللغوی کما هو واضح.

ثمّ إنّه لا یخفی علی القارئ الکریم بأنّ هناک جملة من المفردات الأُخری التی قد تکون أسباباً فاعلة ومؤثّرة، تُساهم بصورة مباشرة فی تکوّن ونشوء ظاهرة الإرهاب، کمفاهیم التطرّف والتعصّب والکراهیة ونحوها، أعرضنا عن بیانها وتعریفها؛ لخروجها عن محلّ البحث.

ثانیاً: السیاسة، الحکومة، الدولة

إنّ البحث فی معانی ومضامین هذه المفردات الحیویّة والحساسّة یُعدّ هو الآخر من أهمّ الأبحاث الشائکة والمعقّدة والمحتدمة، التی وقع فی تعریفها النزاع والاضطراب والتضارب والخلاف الشدید، وهذا أمر طبیعی ومعقول جدّاً؛ إذ کانت ولا زالت التطبیقات والمظاهر الیومیّة لمعانی هذه المفردات تُشکّل أهمّ مفاصل الحیاة البشریّة، لکنّنا نکتفی فی المقام بالبیان الإجمالی وبما یرتبط بمحلّ البحث، من معرفة المعنی اللغوی والاصطلاحی لهذه المفردات وبصورة موجزة:

ص: 195

السیاسة

السیاسة فی اللغة: هی القیام علی الشیء وتولّی أمره وإدامة تدبیره؛ لإصلاحه وتأدیبه وترویضه. والسیاسیّ: هو الذی یتولّی أُمور الناس ویرعاها، ویکون أمیراً علیهم؛ لیواصل تدبیر أُمورهم بالإصلاح والتأدیب والأمر والنهی((1)). و«الفرق بین السیاسة والتدبیر: أنّ السیاسة فی التدبیر المستمرّ، ولا یُقال للتدبیر الواحد: سیاسة، فکلّ سیاسة تدبیر، ولیس کلّ تدبیر سیاسة»((2)).

«وفی الحدیث: (کان بنو إِسرائیل یَسُوسُهم أَنبیاؤهم). أَی: تتولّی أُمورَهم، کما یفعل الأُمَراء والوُلاة بالرَّعِیَّة»((3)). وفی الحدیث أیضاً: «ثم فوّض إلی النبی صلی الله علیه و آله أمر الدین والأُمّة لیسوس عباده. کلّ ذلک من سُسْتُ الرعیة سیاسة: أمرتُها ونهیتُها»((4)).

وأمّا السیاسة فی اصطلاح الفقهاء والإسلامیین عموماً: فلا تبتعد کثیراً عن معناها اللغوی، فهی فی نظرهم: «استصلاح الخلق بإرشادهم إلی الطریق المنجی فی العاجل والآجل»، أو هی: «حیاطة الرّعیة بما یُصلحها لطفاً وعُنفاً»، أو هی: «ما کان فعلاً یکون معه الناس أقرب إلی الصلاح وأبعد عن الفساد»، أو «أنّها القانون الموضوع لرعایة الآداب والمصالح وانتظام الأموال»((5))، وغیرها من التعریفات التی یُراعی الفقهاء فیها المعنی اللغوی للسیاسة، کما هو واضح.

وأمّا السیاسة فی تعریفاتها المعاصرة: فقد اختلفت واضطربت معانیها بصورة لا یمکن الجمع والتوفیق بینها، لکنّنا نکتفی بهذا التعریف المتداول، وهو کون السیاسة

ص: 196


1- ([1]) اُنظر: ابن منظور، محمد بن مکرم، لسان العرب: ج6، ص108.
2- ([2]) أبو هلال العسکری، الحسن بن عبد الله، معجم الفروق اللغویة: ص288.
3- ([3]) ابن منظور، محمد بن مکرم، لسان العرب: ج6، ص108.
4- ([4]) الطریحی، فخر الدین، مجمع البحرین: ج4، ص78.
5- ([5]) اُنظر: محمود عبد الرحمن، معجم المصطلحات والألفاظ الفقهیة: ج2، ص308.

سُلطة تُعنی ب-(رعایة شؤون الدولة الداخلیّة والخارجیّة)((1) )، وهو أیضاً مُقتبَس من المعنی اللغوی لمفردة السیاسة، ولکن فی إطار الدّولة.

الحکومة

أصل الحکومة فی اللغة: هو المنع من وقوع الفساد والظلم. «ومن هذا قیل للحاکم بین الناس: حاکِمٌ؛ لأَنّه یَمْنَعُ الظالم من الظلم. قال الأَصمعی: أصل الحکومة ردّ الرجل عن الظلم، قال: ومنه سُمّیت حَکَمَةُ اللجام؛ لأَنّها تَرُدُّ الدابّة. وحَکَمَ الشیء وأَحْکَمَه، کلاهما: منعه من الفساد»((2)).

وأمّا الحکومة فی الاصطلاح المعاصر: فنختار من معترک التعاریف الاصطلاحیّة التعریف التالی: «الحکومة: هی الجهة التی تمتلک القوّة والسلطة الشرعیّة لفرض وتنفیذ الأحکام والقوانین؛ بهدف تنظیم الحیاة المشترکة بین الأفراد، والحفاظ علی الأمن والاستقرار والرفاهیة فی المجتمع»((3)).

الدَّولة

الدَّوْلة - بالفتح - فی اللغة: هی الانتقال إلی حالة الانتصار والغلبة علی العدّو، وموردها «فی الحرب أن تُدال إحدی الفئتین علی الأُخری، یُقال: کانت لنا علیهم الدَّوْلة. والجمع الدُّوَلُ. والدُّولة - بالضم - فی المال؛ یُقال: صار الفیء دُولة بینهم یَتَداوَلونه مَرّة لهذا ومرة لهذا، والجمع دُولات ودُوَلٌ»((4)). وجاء فی الحدیث: «ألا وإن للباطل جولة وللحقّ دولة»((5)).

ص: 197


1- ([1])اُنظر: موسوعة ویکیبیدیا، مفردة (سیاسة).
2- ([2])ابن منظور، محمد بن مکرم، لسان العرب: ج12، ص141 - 143.
3- ([3])اُنظر: مقال بعنوان: (تعریف الحکومة وأنواعها)، شبکة الأنترنت، موقع (السیاسة کوم).
4- ([4]) ابن منظور، محمد بن مکرم، لسان العرب: ج11، ص252.
5- ([5]) الحافظ البرسی، رجب، مشارق أنوار الیقین: ص261.

وأمّا فی الاصطلاح: فأوضح التعاریف وأخصرها، هو أنّ «الدولة: عبارة عن الشخصیّة المعنویّة التی ترمز إلی شعب - حُکّاماً ومحکومین - موحّد ومستقرّ علی رقعة جغرافیّة مُعیّنة، بحیث یکون لها سلطة سیاسیّة ذات سیادة»((1)).

ثالثاً: إرهاب الدولة/ السلطة: (الإرهاب: الحکومی/السیاسی)

لا نرید أن نتحدّث تحت هذا العنوان حول الإرهاب الدّولی، «وهو الإرهاب الذی تُمارسه دولة واحدة أو أکثر، عن طریق تسخیر إمکانیّاتها الدبلوماسیة أو العسکریة؛ لتحقیق هدف سیاسی، أو الاستیلاء علی مکتسبات أو ثروات غیرها من الدّول»((2))، فإنّه علی الرغم من أهمّیته القصوی وخطورته البالغة وابتلاء عالمنا المعاصر به، خارج عن محلّ بحثنا.

وإنّما یختصّ بحثنا بالسیاسات الدکتاتوریّة غیر الشرعیّة، والأعمال والممارسات الإرهابیّة والإجرامیّة والقمعیّة المنظّمة والشاملة والمدروسة، التی تُمارسها الدّولة والحکومة والسلطة بحقّ شعبها أو فئة خاصّة من الشعب، علی أساس التمییز السیاسی أو الاجتماعی أو العرقی أو الدینی أو الثقافی أو نحو ذلک، فتَعْمد إلی تسلیط أجهزتها ومنظمّاتها القمعیّة علی أفراد الشعب الأعزل؛ لتقوم باستخدام الوسائل الوحشیّة وممارسة ألوان الجرائم، والاعتقالات التعسّفیّة، والمحاکمات غیر العادلة والخطف والتغییب فی مطامیر السجون، والتعذیب والنفی والتهجیر والقتل السیاسی، والإعدامات العسکریّة والاستخباراتیّة والأمنیّة، ومصادرة الحقوق الإنسانیّة الأساسیّة بالقوّة، کلّ ذلک وأمثاله یقع خارج نطاق الشرعیّة الدستوریّة والقانون والقضاء العادل، الداخلی المحلّی والخارجی الأُممی، تستهدف من ذلک نشر الخوف

ص: 198


1- ([1]) اُنظر: موسوعة ویکیبیدیا، مفردة (الدولة).
2- ([2]) المرصد العربی للتطرّف والإرهاب، شبکة الأنترنت.

والقلق وإشاعة الرعب وعدم الأمان بین المواطنین المدنیین؛ لإخضاعهم أمام الأغراض والأهداف السیاسیّة والأیدیولوجیّة التی لا تتمکّن الدّولة من تحقیقها بالوسائل القانونیّة والمشروعة، من قبیل حمایة الطبقة الحاکمة، وإجبار الشعب علی طاعة الحکومة والانصیاع لأوامرها، والقضاء علی الأصوات والحرکات والأحزاب المعارضة والمطالبة بالتغییر، والانتقام منها، وضمان استمرار النظام السائد وسیطرته علی مقالید الحکم.

وقد یکون النظام الدکتاتوری قائماً علی أساس سلطة الفرد الحاکم أو العائلة الحاکمة، کما قد یکون قائماً أیضاً علی أساس عنصری أو قومی أو إثنی دینی، ولعلّ الأخطر من ذلک کلّه فی زماننا الحاضر دکتاتوریّة الحزب الواحد، «فحزبیة النظام وعسکرته یعنی: أنّ الحزب الحاکم هو الحزب الوحید فی الدّولة، ویُطلق علی هذا النظام: دکتاتوریة الحزب، فهو الذی یُسیّر أُمور الدّولة السیاسیة والاقتصادیة والاجتماعیة والعسکریة وکذلک الأمنیة، وتعنی حزبیة النظام أنّه لا یقبل بوجود معارضة سیاسیة له»((1)).

ویُعدّ الإرهاب الحکومی من الجرائم الدّولیة الخطیرة والمدمّرة فی کافّة الأبعاد والأصعدة الإنسانیّة، والاجتماعیّة والسیاسیّة، والاقتصادیّة والنفسیّة، والأمنیّة والدینیّة وغیرها، وحینما نطالع الجهود الکبیرة والمتواصلة التی بذلها ویبذلها الإنسان فی القرنین الأخیرین، انطلاقاً من المسؤولیّة التی یحملها تجاه بیئته ومجتمعه، نجد أنّ هناک تحرّکات ومساعی مستمرّة ومحاولات جادّة ومسؤولة لتحدید وتعریف هذا القسم الخطیر من الإرهاب، والسعی لمحاربته وتحجیمه والقضاء علیه، ونحاول فیما یلی وبإیجاز استعراض أهمّ التعریفات وأوضحها؛ للوقوف علی خصائص وأسباب وآثار

ص: 199


1- ([1]) حسین عوض، مقال بعنوان (إرهاب الدولة بین حزبیة النظام وعسکرته)، شبکة الأنترنت، موقع الحوار المتمدّن.

وأهداف الإرهاب والعنف الحکومی، مع الالتفات إلی أن الإرهاب الحکومی یُمثّل قسماً من أقسام مفهوم الإرهاب الکلّی الذی سبق تعریفه، فتنطبق علیه کافّة العناصر التی سبقت فی تعریف الإرهاب؛ ومن هنا نحن نبحث فی التعاریف التالیة عن الحیثیات والعناصر الإضافیّة الخاصّة بهذا النحو من الإرهاب، التی تُمیّزه عن الأقسام الأُخری، مع التنبیه أیضاً علی بعض العناصر الماضیة:

التعریف الأوّل: ما ورد فی دائرة المعارف الحدیثة، من أنّ: «الإرهاب من الوسائل التی یستخدمها الحکم الاستبدادی؛ لإرغام الجماهیر علی الخضوع والاستسلام لها، وذلک بنشر الذُّعر والفزع بینها»((1)). وهو وإن ذُکر فیها کتعریف لعموم الإرهاب، لکنّه من الواضح مختصّ بالإرهاب الحکومی، وقد تضمّن العناصر التعریفیّة التالیة:

1- إنّ إرهاب الحکومة یُمثِّل وسیلة من وسائل الحکم الاستبدادی.

2- إنّ إرهاب الحکومة یمثِّل أیضاً وسیلة إجرامیّة تنشر الذعر والفزع بین الجماهیر.

3- إنّ الغایة من ممارسة هذا النوع من الإرهاب هو إرغام الجماهیر علی الخضوع والاستسلام لنظام الحکومة الاستبدادیة.

التعریف الثانی: ما ذکره الدکتور أدونیس العکرة، من کونه: «منهج نزاع عنیف، یرمی الفاعل بمقتضاه وبواسطة الرهبة الناجمة عن العنف إلی تغلیب رأیه السیاسی، أو إلی فرض سیطرته علی المجتمع أو الدولة، من أجل المحافظة علی علاقات اجتماعیة عامّة، أو من أجل تغییرها أو تدمیرها»((2)). وهو وإن جاء أیضاً کتعریف عامّ لمفردة الإرهاب، لکنّه الأقرب إلی قسم الإرهاب الحکومی، وقد تضمّن العناصر التالیة:

ص: 200


1- ([1]) اُنظر: د. هیثم عبد السلام محمد، مفهوم الإرهاب فی الشریعة الإسلامیّة: ص26.
2- ([2]) العکرة، أدونیس، الإرهاب السیاسی، بحث فی أُصول الظاهرة وأبعادها الإنسانیة: ص93.

1- إنّه منهج وأُسلوب منظّم.

2- إنّه منهج عنیف یُوجب الرهبة فی نفوس الناس.

3- هدفه تغلیب الرأی السیاسی، وفرض السیطرة علی المجتمع، ومفاصل الدّولة، بما یتوافق مع الرؤیة السیاسیّة التی یتبنّاها الفاعل لجریمة الإرهاب.

وهذه عناصر أساسیّة تتوافر عادة فی الإرهاب الحکومی.

التعریف الثالث: إرهاب الدّولة المستبدّة هو: «الاستخدام المنتظم للعنف؛ لخلق مناخ عامّ من الخوف فی مجموعة من السکّان، لتحقیق هدف سیاسیّ معیّن، أو تثبیت سیاسة معیّنة مرفوضة شعبیّاً»((1)). یشترک هذا التعریف فی عناصره مع ما سبقه من تعریف، وهی ممارسة العنف المنتظم، وإدخال الرهبة والخوف فی نفوس الناس، وأنّ وراء ذلک أهدافاً سیاسیّة. ولکن مع إضافة کون تلک الأهداف السیاسیّة مرفوضة ومُستنکرة شعبیّاً.

التعریف الرابع: إرهاب السلطة الحاکمة هو: «انتشار أعمال العنف من جانب دولة ضدّ شعبها»((2)). یتمیّز هذا التعریف بالاختصار والإیجاز، مع فرض حیثیّة انتشار العنف ضدّ الشعب؛ ما یجعله ظاهرة مجتمعیّة متفشّیة.

التعریف الخامس: إنّ إرهاب الدولة: «هو أعمال العنف الإجرامیّة التی تُرتکب فی حقّ المدنیین الأبریاء، ویقوم بها أفراد أو أجهزة أو جماعات تنتسب إلی الکیان الرسمی للدّولة، أو تتمّ بمعرفة وموافقة السلطات العُلیا التی تُشرف علی هذه الأجهزة وتُصدر إلیها الأوامر، أو تغضّ الطرف عن هذه الأفعال مع علمها بوجودها من حیث تبعیّة الجزء للکلّ، أو تُوفّر لها الحمایة من أیِّ نوع»((3)). بالإضافة أیضاً إلی ما تضمّنه هذا التعریف من

ص: 201


1- ([1]) اُنظر: موسوعة ویکیبیدیا، مفردة (إرهاب الدولة).
2- ([2]) المصدر السابق.
3- ([3]) د. أحمد محمد المزعنن، مقال بعنوان (إرهاب الدولة والجریمة المنظمة)، شبکة الأنترنت، المرکز الفلسطینی للإعلام.

العناصر المشترکة مع التعریفات السابقة، وکون المجنیّ علیهم من المدنیین الأبریاء، تمّ الترکیز علی ذکر المنظّمات والأجهزة القمعیّة المختلفة التی تُباشر ممارسة الأفعال الإرهابیّة، کما هو مُفصّل فی نصّ التعریف، ویجمعها حیثیّة ارتباطها بالسلطات العُلیا الحاکمة، من جهة انتسابها إلیها، أو الإشراف علیها، أو حمایتها ورعایتها، أو نحو ذلک.

التعریف السادس: الإرهاب الحکومی هو: ما «إذا قامت الدولة من خلال أجهزتها القمعیّة بانتهاکات بلیغة لحقوق الإنسان، فی التعذیب والقتل، وضرب الشعب بالأسلحة الکیماویة والصواریخ، والإخفاء القسری، والإعدامات، والتعذیب للبشر، وإهدار حقوق الإنسان المعروفة فی الإعلان العالمی والمعاهدات الدّولیة، وفی التحریض علی العصیان أو دعم الأشخاص أو الجماعات، للقیام بتفجیرات ضدّ أهداف مُعیّنة، أو التدخّل فی شؤون دولة أُخری، تُعتبر الدّولة ممارِسة للإرهاب وراعیة للعنف السیاسی من خلال إشاعة الرعب والخوف، ومصادرة الحریّات الأساسیة»((1)). بعد ذکر العناصر المشترکة، من قبیل ممارسة العنف وإشاعة الرعب والخوف بین الناس، أضاف التعریف المذکور العناصر التالیة:

1- الاهتمام الخاصّ بتعداد الأفعال الإجرامیّة التی قد تُمارسها السلطة القمعیّة ضدّ شعبها.

2- إنّ من الإرهاب الحکومی إهدار حقوق الإنسان المعروفة فی الإعلان العالمی والمعاهدات الدّولیة.

3- إنّ من الإرهاب الحکومی أیضاً مصادرة الحرّیات الأساسیّة للشعب.

ص: 202


1- ([1]) د. منذر الفضل، دراسات حول القضیّة الکردیّة ومستقبل العراق: ص202.

التعریف السابع: إرهاب الدّولة عبارة عن: «تلک الأعمال الإرهابیة التی تقودها الدّولة من خلال مجموع الأعمال والسیاسات الحکومیة التی تستهدف نشر الرعب بین المواطنین؛ لإخضاعهم داخلیاً أو فی الخارج، بهدف تحقیق الأهداف التی لا تستطیع الدّولة ولا تتمکّن من تحقیقها بالوسائل المشروعة»((1)). أضاف هذا التعریف أیضاً عنصراً مهمّاً فی تعریف إرهاب الدّولة، وهو أنّ من جملة الأسباب التی تدفع السلطات الحکومیّة لممارسة العنف بحقّ شعبها، هو أنّ لها أهدافاً وغایات لا تتمکّن من تحقیقها بالوسائل المشروعة.

التعریف الثامن: إرهاب الدولة هو: «الاستعمال غیر الشرعی للقوّة والقمع اللذین تمارسهما دولة مّا، وذلک بحقّ بعض أو کلّ المواطنین، علی أساس التمییز السیاسی أو الاجتماعی أو العرقی أو الدینی أو الثقافی»((2)). أضاف هذا التعریف جملة من الأُسس التی قد یتمّ علی أساسها التمییز بین مکوّنات الشعب، وممارسة القمع والقوّة غیر الشرعیّة فی حقّ مکوّن دون آخر.

التعریف التاسع: الإرهاب الحکومی هو: «الإرهاب الذی تُمارسه الدّول والأنظمة الحاکمة ضدّ رعایاها أو ضدّ المعارضین لها، من أحزاب وأفراد، والإرهاب فی هذا القسم، یعنی: تجاوز القوانین الدّولیة والعرفیة التی تُنظّم علاقة الحاکم بالمحکوم، کأن تعتقل مجموعة من الأبریاء وتُعذّبهم من أجل إخافة المعارضین الحقیقیّین الذین ربما لم ینکشفوا بعد»((3)). أضاف هذا التعریف العناصر التالیة:

ص: 203


1- ([1]) عبد الناصر حریز، الإرهاب السیاسی (دراسة تحلیلیّة): ص174.
2- ([2]) اُنظر: کمال مساعد، مقال علی جریدة البناء، العدد: 1836، تاریخ:21 /07/2015، بعنوان: کتاب «تعریف الإرهاب - نهایة المعاییر المزدوجة» للسفیرة عبیر ریاض طه.
3- ([3]) اُنظر: السند، محمد، بحوث معاصرة فی الساحة الدولیّة: ص158.

1- قد یُقصد من ممارسة هذا النوع من الإرهاب تخویف المعارضة والکشف عن هویّتها؛ لإجبارها علی طاعة الحکومة.

2- یُحدّد هذا التعریف ما هو المقصود من عدم قانونیّة العنف الذی تمارسه الحکومة بحقّ شعبها، وأنّه عبارة عن تجاوز القوانین الدّولیة والعرفیة التی تُنظِّم علاقة الحاکم بالمحکوم.

التعریف العاشر: إرهاب الدّولة هو: «عنف منظّم ومتّصل، بقصد خلق حالة من الرعب والتهدید العام الموجّه إلی المعارضة (جماعة سیاسیّة)، والذی ترتکبه جماعة منظّمة أو حکومة أو نظام ضدّ شعبها بقصد تحقیق أهداف سیاسیة»((1)). فکون العنف منظّماً ومتّصلاً ومستمرّاً من العناصر الأساسیّة فی هذا التعریف.

وقد حدّدت منظمة العفو الدولیة الرئیسة أشکال إرهاب الدولة ب-: «الاحتجاز التعسّفی، والمحاکمات غیر العادلة، والتعذیب، والقتل السیاسی أو الإعدام خارج نطاق القضاء»((2)).

بعد أن طالعنا طائفة من التعریفات المختصّة بالإرهاب الحکومی، نحاول فیما یلی أن نستخلص منها أهمّ العناصر التی تُحدّد طبیعة هذا القسم من الإرهاب:

1- إنّ الإرهاب الحکومی الاستبدادی یُمثِّل منهجاً عنیفاً وأُسلوباً منظّماً، ووسیلة من الوسائل القمعیّة غیر القانونیّة، تنشر الذعر والفزع بین أفراد الشعب.

2- تُمارس الدّولة هذا النحو من الإرهاب بواسطة الأجهزة القمعیّة المرتبطة بها، إمّا من جهة انتسابها إلیها، أو الإشراف علیها، أو حمایتها ورعایتها، أو نحو ذلک.

ص: 204


1- ([1]) عزّ الدین، أحمد جلال، الإرهاب والعنف السیاسی: ص49.
2- ([2]) اُنظر: موسوعة وکیبیدیا، مفردة (إرهاب الدولة).

3- إنّ الغایة من ممارسة هذا النوع من الإرهاب هو تغلیب الرؤیة السیاسیة الحاکمة، المرفوضة والمستنکرة شعبیّاً، والتی لا تتمکّن الحکومة من تحقیقها بالوسائل المشروعة. ومن الغایات أیضاً فرض السیطرة علی المجتمع ومفاصل الدولة، وتخویف المعارضة وإرغام الشعب علی الخضوع والاستسلام للنظام الاستبدادی الحاکم.

4- إنّ من جملة الأُسس التی قد یتمّ علی أساسها التمییز بین مکوّنات الشعب، وممارسة القمع والقوّة غیر الشرعیّة فی حقّ مکوّن دون آخر، هی الأُسس السیاسیّة أو الاجتماعیّة أو العرقیّة أو الدینیّة أو الثقافیّة.

5- إنّ المراد من عدم قانونیّة العنف الذی تمارسه الحکومة بحقّ شعبها، هو تجاوز القوانین الدّولیة والعرفیة التی تُنظّم علاقة الحاکم بالمحکوم.

ثمّ إنّ الإرهاب الحکومی قد یکون نابعاً من الشعور بالقوّة المفرطة للسلطة، أو الشعور بالخوف من المعارضین، أو الشعور الزائف بمشروعیّة ما تقوم به من العنف والقمع بحقّ شعبها، أو نحو ذلک.

ویُعدّ هذا القسم من الإرهاب هو الأخطر والأکثر تدمیراً؛ للأسباب التالیة:

1- إنّ السلطة القمعیّة تمتلک المبررّات القانونیّة لممارسة إرهاب الدولة، بلا رقیب ولا مُساءلة من أحد، فتنطلق من مبدأ الحفاظ علی هیبة الدولة والأمن والنظام العامّ، لتسحق تحت ظلّ القانون معارضیها وکلّ مَن یُخالفها الرأی بوحشیة منقطعة النظیر، کما حدث ذلک بأبشع صوره فی عام1991م، حینما قمع النظام البعثی الجائر الشعب العراقی فی الوسط والجنوب بعد ثورة 15 شعبان، فی إبادة جماعیّة هی الأُولی من نوعها، إذ امتلأت السجون والمقابر الجماعیة بجثث الملایین من الأبریاء، الذین ما خرجوا إلا للمطالبة بحقوقهم الإنسانیّة المشروعة التی حرمهم منها النظام البعثی البائد.

ص: 205

2- سیطرة السلطة علی مصادر القوّة ومنابع القدرة، وعلی کافة الإمکانیات المتاحة فی داخل البلد وخارجه، وعلی النقیض من ذلک الشعب المضطهَد، فهو فی الغالب أعزل ومجرّد من السلاح ومصادر القوّة؛ ولذا ینتشر فی أوساطه القمع والاضطهاد والرعب بلا قیود أو حدود.

3- سیطرة السلطة علی وسائل الإعلام، وقدرتها علی ممارسة التضلیل الإعلامی بأبشع صوره، فترسم صورة مشرقة لإرهابها، وأُخری قاتمة سوداء لمعارضیها.

وفی نهایة المطاف لهذه الدّراسة المفهومیّة نقول: إنّه ممّا لا شکّ فیه أنّ الشریعة الإسلامیّة قد استنکرت وحاربت بشدّة هذا اللون الأسود من الإرهاب، بل نحن نعتقد بأنّ واحدة من أهمّ الأهداف الرئیسة لبعثة الأنبیاء وإرسال الرسل وإنزال الشرائع السماویّة هو الوقوف بوجه السلطات الظالمة والمستبدّة، التی مارست بحقّ شعوبها أشکال القمع والجریمة والفساد، وجعلتهم عبیداً لها، یعیشون ذلّ العبودیّة القاسیة، تفعل بهم ما تشاء، وتستغلّهم فیما تُرید، وتسومهم سوء العذاب والهوان، والاضطهاد والترویع، ومصادرة الأموال، وهتک الأعراض، والتشرید والتهّجیر، والقتل والإبادة بوحشیة مروّعة، لا یُتقِن صناعتها إلّا الطغاة والجبابرة من بنی البشر.

ولولا الدور الریادی والجهادی للأنبیاء والرسل والأوصیاء والشرائع السماویّة المتعاقبة، لما کنّا ننعم الیوم بجانب من الحریّة والحیاة الإنسانیّة. وهذا ما تؤکّده النصوص الدینیّة والآیات القرآنیّة المتضافرة، ولعلّ أبرز مثال قرآنی علی ما نقول، قصّة النبیّ موسی علیه السلام ؛ عندما أرسله الله تعالی إلی فرعون حینما علا وطغی وعاث

فی الأرض فساداً، ومارس أعنف وأقسی أشکال الإرهاب الحکومی بحقّ شعبه المضطهد من بنی إسرائیل، الذین کانوا یعیشون تحت وطأة سلطته القمعیّة الجائرة،

ص: 206

وکان یخاطبهم بملء فمه قائلاً:«وَقَالَ فِرْعَوْنُ یَا أَیُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَکُمْ مِنْ إِلَهٍ غَیْرِی فَأَوْقِدْ لِی یَا هَامَانُ عَلَی الطِّینِ فَاجْعَلْ لِی صَرْحًا لَعَلِّی أَطَّلِعُ إِلَی إِلَهِ مُوسَی وَإِنِّی لَأَظُنُّهُ مِنَ الْکَاذِبِینَ »((1))، فأمر الله} نبیّه موسی علیه السلام بالقول:«اذْهَبْ إِلَی فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَی »((2))، وقد أوضحت الآیات القرآنیّة الکثیرة مشاهد الاستبداد والطغیان والقمع والجور الذی کان یُمارسه فرعون بحقّ طائفة مستضعفة من رعایاه، وهم بنو إسرائیل، قال الله تعالی:«إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِی الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِیَعًا یَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ یُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَیَسْتَحْیِی نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ کَانَ مِنَ الْمُفْسِدِینَ »((3)). وأیضاً یقول تبارک وتعالی فی مخاطبة بنی إسرائیل:«وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَی أَرْبَعِینَ لَیْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ » ((4)). وبع-د أن ج-اء موسی علیه السلام بالبیّنات وأظهر الحج-ج والآیات الإلهیّة الواضحة، مارس فرعون أیضاً الإرهاب والرعب مرّة أُخری بوسائل معنویّة، وحاول أن یُخیف الناس ویردعهم عن الالتحاق بنبیّهم موسی علیه السلام عن طریق السحر، فانتدب لهذه المهمّة کبار السَّحَرة ومخضرمیهم؛ لیُلقوا بعظیم س-حرهم ومکرهم أمام الملأ العامّ، «وَأَوْحَیْنَا إِلَی مُوسَی أَنْ أَلْقِ عَصَاکَ فَإِذَا هِیَ تَلْقَفُ مَا یَأْفِکُونَ »((5))

، وحینما تجلّت الحقیقة للناس، وآمن السَّحَرة بإله موسی علیه السلام ، استمرّ فرعون بممارسة أسالیبه القمعیّة، واستنکر علی السَّحَرة إیمانهم بالله تعالی من دون أن یأذن لهم، وهدّدهم وتوعّدهم بأقسی أنواع العذاب والتنکیل، «قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَکُمْ إِنَّ هَذَا لَمَکْرٌ مَکَرْتُمُوهُ فِی الْمَدِینَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ »((6)).

ص: 207


1- ([1]) القصص: آیة38.
2- ([2]) طه: آیة24.
3- ([3]) القصص: آیة4.
4- ([4]) البقرة: آیة51.
5- ([5]) الأعراف: آیة117.
6- ([6]) الأعراف: آیة123.

وممّا یؤسَف له أنّ کبار السیاسیین وذوی الوجاهة الاجتماعیّة آنذاک کانوا من المؤیّدین والراضین بسیاسة الإرهاب

الفرعونیّة، بل کانوا من أشدّ المحرّضین علی قمع الأبریاء من بنی إسرائیل، یحکی ذلک قول الله تعالی:«وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَی وَقَوْمَهُ لِیُفْسِدُوا فِی الْأَرْضِ وَیَذَرَکَ وَآلِهَتَکَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْیِی نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ )»((1)). ولهذا کان موسی علیه السلام دائماً ما یُذکِّر بنی إسرائیل بواقعهم المریر الذی کانوا یعیشونه فی حکم فرعون، یُذکِّرهم بذلک حینما کانوا یکفرون بأنعُم الله وفضله علیهم، «وَإِذْ قَالَ مُوسَی لِقَوْمِهِ اذْکُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَیْکُمْ إِذْ أَنْجَاکُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ یَسُومُونَکُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَیُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَکُمْ وَیَسْتَحْیُونَ نِسَاءَکُمْ وَفِی ذَلِکُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّکُمْ عَظِیمٌ»((2)).

والآیات الکریمة فی هذا المجال کثیرة جدّاً، لا یسع المجال لذکرها، وأمّا النصوص التاریخیّة والروائیّة فی المقام، فهی فوق حدّ الإحصاء، وسنکتفی منها لاحقاً باستعراض النصوص والخطابات والمواقف الحسینیّة المبارکة المرتبطة بمحلّ البحث، والتی صدرت من الإمام الحسین علیه السلام حینما تصدّی لأخطر وأعتّی حکومة إرهابیة مستبدّة، مارست ألوان العنف وإرهاب السلطة بحقّ المسلمین والمواطنین فی بلاد الإسلام عموماً، تلک هی الحکومة الأُمویّة الجائرة. وکیف لا تکون مواقف وکلمات الحسین علیه السلام منهجنا القویم فی مواجهة إرهاب الحکومات الظالمة؟! وهو القائل لمعاویة بن أبی سفیان - بکلّ شجاعة وبسالة منقطعة النظیر - : «واعلم أنّ لله کتاباً لا یُغادر

ص: 208


1- ([1]) الأعراف: آیة127.
2- إبراهیم: آیة6.

صغیرة ولا کبیرة إلّا أحصاها، ولیس الله بناسٍ لک أخذک بالظنّة، وقتلک أولیاءه علی الشبهة والتهمة، وأخذک الناس بالبیعة لابنک، غلام سفیه یشرب الشراب ویلعب بالکلاب، ولا أعلمک إلّا خسرت نفسک، وأوبقت دینک، وأکلت أمانتک، وغششت رعیّتک، وتبوّأت مقعدک من النار، فبُعداً للقوم الظّالمین»((1)). وهذا ما سنترک تفصیله

للمبحث اللّاحق، حیث خصّصناه لکلمات وخطابات الإمام الحسین علیه السلام فی مواجهة ومعارضة ما عایشه من إرهاب حکومیّ أُمویّ جائر.

ص: 209


1- ([3]) البلاذری، أحمد بن یحیی، أنساب الأشراف: ج5، ص122.

ص: 210

المبحث الثانی: الإرهاب الحکومی الأُمویّ فی کلمات الإمام الحسین علیه السلام

اشارة

مارست الحکومات الأُمویّة - سیئة الصیت - أبشع ألوان القمع والإبادة والجریمة المنظّمة، وارتکبت أقسی صور العنف ومشاهد الإرهاب بحقّ المواطنین الأبریاء الآمنین فی مُختلف البلدان الإسلامیّة، وأضحت تلک السیرة السوداء لبنی أُمیّة من الثوابت والحقائق الواضحة، الغنیّة عن تجشّم عناء البحث والتنقیب فی منابع الإثباتات والوثائق التاریخیّة.

وعلی خطّ المواجهة وفی معترک الصراع بین الحقّ والباطل وقف الإمام الحسین علیه السلام بحزم؛ لیُعلن عن انطلاق نهضته الإصلاحیّة المبارکة، ویکشف للملأ العام أوراق الإرهاب الأُمویّ، الذی یستهدف سلب إرادة الأُمّة والاعتداء علی حریّتها وکرامتها ومعتقداتها الدینیّة. فکیف تصدّی الحسین علیه السلام لمحاربة هذا اللون من الإرهاب فی العصر الأُموی؟ هو التساؤل الذی نسعی للإجابة عنه فی هذا المبحث.

لکن ما یؤسفنی ویؤلمنی کثیراً هرطقة الأقلام المصنوعة من نفایات التاریخ، التی کانت ولا زالت تکتب سفهاً عن ازدهار الحیاة السیاسیة فی العصر الأُموی، خصوصاً فی زمن معاویة بن أبی سفیان وابنه الفاجر یزید، وتتّهم الحسین علیه السلام بالضعف فی علوم السیاسة وأُصول الحکم، وأنّ منهجه السیاسی الخاطئ والضعیف هو الذی قاده إلی مقتله ومصیره المأساوی. إنّ هذا النمط الأعوج فی التفکیر هو ما دعانا للکتابة والبحث فی إرهاب الحکم الأُموی، استناداً إلی النصوص والمواقف الحسینیّة الخالدة.

وقد وجدنا من تلک الأقلام العاریة عن أخلاق البحث العلمی أقلاماً تصنع مجداً أُمویاً لا یخطر فی بال معاویة ویزید، وتطعن فی حرکة الإصلاح العُظمی التی

ص: 211

قادها الإمام الحسین علیه السلام وضحّی فی سبیلها، وأکتفی فی المقام بمرور موجز علی صفحات رسالة بدرجة (ماجستیر)، کُتبت فی الجامعات السعودیة وطُبعت فی مطابعها، ونوقشت بتاریخ: 7/13/1413ه-، وأجیزت بتقدیر ممتاز، ووصفها ناشرها فی أعلی العنوان بأنها (من کنوز الرسائل العلمیّة)!! وجاءت تحت عنوان: (مواقف المعارضة فی عهد یزید بن معاویة)، ونکتفی فیما یلی بعرض جانب من الهذیان والتخریف الذی کتبه صاحب هذه الرسالة فی خصوص معارضة الإمام الحسین علیه السلام وطبیعة تعامله مع الحکم الأُموی، مع رعایة جانب الإیجاز والاختصار - ومَن أراد التفصیل فعلیه أن یُلاحظ أصل الرسالة - یؤکّد الکاتب فی مُجمل فصول رسالته علی:

أنّ الدّولة الأُمویّة قد تمیّزت بالحنکة والخبرة السیاسیّة العالیة، وخصوصاً فی زمن معاویّة، وأنّ من أهمّ المواقف السیاسیّة الحکیمة والصائبة فی تلک الفترة تنصیب معاویة ابنه یزید خلیفة علی المسلمین من بعده، ذلک حینما «أنس معاویة من ولده یزید حرصاً علی العدل وتأسّیاً بالخلفاء الراشدین»!! خصوصاً وأنّ یزید کان یمتاز عن غیره «بأعظم ما تحتاج إلیه الدّولة، أی: القوة العسکریةّ»!! «ومَن یضع نفسه مکان معاویة یُدرک الخطر المحدق بالأُمّة لو تُرک الأمر من غیر اختیار أو تُرک لأبناء علی بن أبی طالب أو غیره، فالفتنة المتربّصة بالأُمّة کانت تحتاج لامتداد حکم معاویة حتی تستقیم أُمور الأُمّة، ولم یکن بُدٌّ من اختیار ابن معاویة اجتهاداً من معاویة باستمرار عهده وحکمه أملاً فی موت الفتن»!! و«لمّا کانت العصبیّة والقوّة فی بنی أُمیّة، فقد أصبح تصرّف معاویة بتولیة یزید أمراً طبیعیاً، یُقرّه المنصفون ویحرص علیه العقلاء»!! ف- «معاویة اجتهد للأُمّة؛ خوفاً علیها من الانقسام والفتن»!! وکان تدبیره هذا «أضمن لسلامة الدّولة»، وإنّ هذا الأمر قد تمّ بعد استشارة أهمّ البلدان الإسلامیّة آنذاک؛ ولأجل الحفاظ علی وحدة الأُمّة وسلامتها «نظر معاویة إلی ابنه یزید علی أنّه المرشّح الذی سیحظی بتأیید أهل الشام الذین یُمثّلون

ص: 212

العامل الأقوی فی استقرار الدّولة»، فبدأ باستشارة أهل الشام؛ لأنّ «أهل الشام الذین انتصروا لقتل عثمان أثبتوا أنّهم أُناس مخلصون لمبادئهم وأهدافهم؛ ولهذا حقّق بهم معاویة بإرادة الله انتصاراته علی العراق»!! «فمعاویة طرح اسم المرشّح یزید واستشار المسلمین، فأجمع أهل الشام وکبار أهل العراق وباقی الأمصار علی قبوله، ولم یخالف إلّا بعض أهل المدینة لأسباب، بعضها فقهیة والأُخری شخصیّة، وقد عبّرت هذه المصالح الشخصیّة عن نفسها بصورة عملیة فی فترة لاحقة»، وکان من جملة ذوی المصالح الشخصیّة الحسین علیه السلام ؛ ولذا ترک معاویة استشارته فی هذا الأمر «ولعلّ السبب یعود إلی أنّ معاویة أدرک أن الحسین طالب رئاسة، وأنّ أهل العراق یکتبون للحسین یمنّونه بالخلافة من بعد معاویة»!! فتأثّر الحسین أمام «إغراءات زعماء أهل الکوفة له» ف-«لم یبقَ إلّا الحسین کان یُغرِّر به أهلُ الفتن فی حیاة معاویة، ونهاه الحسن عنهم»!! وحینما مانع الحسین من بیعة یزید لم یُبدِ سبباً واضحاً لممانعة البیعة!! ومع ذلک کلّه کان معاویة یوصی ولده یزید بالحسین، وقد کانت وصیّته «عن معرفة أکیدة... فهو السیاسی البارع الذی بلغت الدّولة فی عهده أوجها وقوّتها»!! وإنّ «یزید حاول أن یترسّم خُطی والده فی السیاسة ویکون حکیماً حتی آخر لحظة، وأن یعمل بوصیّة والده؛ وذلک بالرفق بالحسین ومعرفة حقّه وقرابته من رسول الله»!! وعلی طول الحرکة الحسینیّة المعادیة للحکومة الأُمویّة، یزید «کان یجنح إلی استخدام الرفق مع الحسین؛ لذا نجد یزید لم یُحرک ساکناً، واکتفی بمراقبة الموقف عن بُعد»!! وفی نهایة المطاف یختم هذا الکاتب بحثه حول التواصل الحسینی مع أهل الکوفة بالقول: «وفی نظری أنّ مسلم بن عقیل والحسین بن علی یجهلون کثیراً من أُمور السیاسة»!! وأنّ «ما قصده [الحسین] من تحصیل الخیر ودفع الشرّ لم یحصل منه شیء، بل زاد الشرّ بخروجه وقتله.. وهذا کلّه مما یُبیِّن أنّ ما أمر به النبیّ من الصبر علی

ص: 213

جور الأئمّة وترک قتالهم والخروج علیهم أصحّ الأُمور للعباد فی المعاش والمعاد، ومَن خالف ذلک مُتعمّداً أو مُخطئاً لم یحصل بفعله صلاح، بل فساد»!!((1)).

لا تستغرب عزیزی القارئ وأنت تطالع حماقة هذه السطور وصاحبها، ولا تستغرب حینما تقرأ فکراً مقلوباً منکوساً فی قعر عقول همجیّة عمیاء أُمویّة، فهؤلاء هم دواعش الفکر والعقیدة وصُنّاع فتاوی التکفیر، وبهذا الفکر الملغوم وأمثاله یُذبح یومیّاً أحبّاء الحسین علیه السلام وأتباعه. ولک أن تتصوّر کیف سیکتب هؤلاء الحمقی عن بطولات الخلیفة یزید!! لولا نهضة الحسین علیه السلام ، فشکراً للحسین علیه السلام علی تضحیته ودوره العظیم فی إحیاء العقول وتطهیرها من کنیف الفکر الأُموی.

ونحن نحاول فیما یلی أن نعرض الرؤیة الصحیحة تجاه النهج الحکومی الأُموی، وأسالیبه وممارساته القمعیّة بحقّ الأبریاء، وسُبل مواجهتها، من خلال النظر والتأمّل فی کلمات الإمام الحسین علیه السلام ومواقفه العظیمة؛ لیکون ردّاً واضحاً علی تفاهات وأدغال ما جاء فی الرسالة المذکورة ونظائرها من الکتب التی عبدت الطاغوت وسجدت أقلامها لبنی أُمیّة((2))، وقد دوّنا هذا المبحث فی إطار العناوین التالیة:

أولاً: عناصر الإرهاب الحکومی الأُمویّ فی کلمات الإمام الحسین علیه السلام

اشارة

ذکرنا فی المبحث الماضی مجموعة من العناصر الأساسیّة التی تُساهم فی تحدید حقیقة الإرهاب الحکومی بصورة عامّة؛ استناداً إلی بعض التعریفات الإنسانیّة والدینیّة لهذا النوع من الإرهاب، ونحاول فیما یلی أن نتلمّس أهمّ العناصر التی ذکرها

ص: 214


1- ([1]) اُنظر: الشیبانی، محمد بن عبد الهادی بن رزّان، مواقف المعارضة فی عهد یزید بن معاویة، دار طیبة للنشر والتوزیع، المملکة العربیة السعودیّة، الریاض، الطبعة الثانیة، 1430ه-/2009م.
2- ([2]) ستکون لدینا إن شاء الله تعالی ردودٌ تفصیلیّة مُحکمة لأمثال هذه الشبهات والمزاعم الباطلة، وذلک فی قسم الردود والإجابات عن الشبهات المثارة حول النهضة الحسینیّة، فی مؤسّسة وارث الأنبیاء للدراسات التخصصیّة فی النهضة الحسینیّة.

الإمام الحسین علیه السلام للتعریف بالإرهاب الأُموی، والتی استحقّ بموجبها المواجهة؛ لنری مدی التطابق بینها وبین العناصر الماضیة، مع ملاحظة نقاط الافتراق أو الإضافة إن وجدت:

العنصر الأوّل: ممارسة الأسالیب العنیفة والمنظّمة فی قمع الشعب

أشرنا فی المبحث السابق إلی أنّ من أهمّ العناصر التعریفیّة للإرهاب الحکومی کونه یُمثِّل أُسلوباً عنیفاً إیدیولوجیّاً مدروساً ومنظّماً، ویُعدّ وسیلة من الوسائل القمعیّة، ذات الطبیعة الإجرامیّة وغیر القانونیّة، تنشر الذعر والفزع والرعب بین أفراد الشعب الآمنین.

وهذا ما رصده الإمام الحسین علیه السلام وأعلنه بشکل واضح وصریح فی أقواله وخُطبه ومکاتباته ورسائله الخاصّة، حینما تصدّی لمواجهة الإرهاب الحکومی الأُمویّ، ونحاول فیما یلی أن نطالع بإیجاز بعض النصوص الحسینیّة المرتبطة بهذا العنصر الأساس والمهمّ من عناصر الإرهاب:

1- من الأسالیب الإجرامیّة المنظّمة وغیر القانونیّة التی انتهجتها الحکومة الأُمویّة لإخافة الناس وترویعهم، قتل الأبریاء بالظنّة والشبهة، وأخْذهم واعتقالهم وتعذیبهم لمجرّد الفِریة والتُّهمة، وتهجیرهم وتشریدهم من بلدانهم وأوطانهم، من دون أیّ دلیل شرعی أو مُستند قانونی لإدانتهم ومُعاقبتهم، وقد کان الإمام الحسین علیه السلام یستنکر هذا النهج الأُموی ویُدینه بأشدّ العبارات وأغلظها، خصوصاً فی مخاطباته ورسائله المتبادلة مع معاویة، فمن ذلک قوله علیه السلام : «وَاتَّقِ اللهَ یا مُعاوِیةُ! وَاعْلَمْ أَنَّ لِلّهِ کِتاباً لا یُغادِرُ صَغیرَةً وَلا کَبیرةً إِلّا أَحْصاها، وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَیْسَ بِناسٍ لَکَ قَتْلَکَ بِالظِّنّةِ،

ص: 215

وَأَخْذَکَ بِالتُّهْمَة»((1)). وفی نصٍّ آخر یقول علیه السلام : «وَلَیْسَ اللهُ بِناسٍ لأخْذِکَ بِالظِّنَّةِ، وَقَتْلِکَ أَوْلِیاءَهُ عَلَی التُّهَمِ، وَنَقْلِ أَوْلِیائِهِ مِنْ دُورِهِمْ إِلی دارِ الْغُرْبَة»((2)). ولا شکّ بأنّ ممارسة السلطة الحاکمة لأسالیب العنف المنظّمة والمتنوّعة، باعتقالها الناس وقتلهم وتهجیرهم واضطهادهم لمجرّد الظنّ والتّهمة، بلا مُستند ولا دلیل للإدانة، یُعدّ من أبرز عناصر الإرهاب الحکومی، المستنکر والمرفوض فی شریعة السماء وحکم العقلاء، والإمام الحسین علیه السلام قد أدان بکلامه هذا حکومة معاویة بن أبی سفیان لممارستها تلک الجرائم الإرهابیّة بحقّ الأبریاء من المواطنین الآمنین.

2- کانت هذه النصوص الآنفة الذکر قد صدرت استنکاراً من الإمام علیه السلام وإدانةً منه للأعمال الإجرامیّة والقمعیّة التی مارسها معاویة بحقّ المؤمنین الصالحین والأبریاء الآمنین من أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله وأصحاب علی بن أبی طالب علیه السلام وأتباعهما ومحبّیهما، الذین تمّ التخطیط لتصفیتهم وقتلهم علی المعتقد والهویّة الدینیّة، وهذا ما دوّنه الإمام الحسین علیه السلام فی رسالة شدیدة اللهجة، أجاب فیها علی کتاب أرسله إلیه معاویة، یهدّده فیه بالقتل والاغتیال إن استمرّ علی منهجه الصریح فی مواجهة السلطة الأُمویّة، ومن جملة ما جاء فیها قوله علیه السلام : «ألَسْتَ الْقاتِلَ حُجْرَ بْنَ عَدیٍّ أَخا کِنْدَةَ وَالمصَلّینَ الْعابِدینَ الَّذینَ کانُوا یُنْکِرُونَ الظُّلْمَ وَیَسْتَعْظِمُونَ الْبِدَعَ، وَلا یَخافُونَ فِی اللهِ لَوْمَةَ لائِم، ثُمّ قَتَلْتَهُمْ ظُلْماً وَعُدْواناً مِنْ بَعْدِ ما کُنْتَ أَعْطَیْتَهُمُ الأَیْمانَ المُغَلَّظَةَ، وَالْمَواثیقَ المُؤَکَّدَةَ، وَلا تَأْخُذَهُمْ بِحَدَث کانَ بَیْنَکَ وَبَیْنَهُمْ، وَلا بِإِحْنَة تَجِدُها فی نَفْسِکَ؟! أوَ لَسْتَ قاتِلَ عَمْرِو بْنِ الحَمْقِ صاحِبِ رَسُولِ اللهِ صلی الله علیه و آله الْعَبْدِ الصّالِحِ الَّذی أَبْلَتْهُ الْعِبادَةُ، فَنَحَلَ جِسْمُهُ، وَصَفَرَتْ لَوْنُهُ، بَعْدَ ما أَمَّنْتَهُ وَأَعْطَیْتَهُ مِنْ عُهُودِ اللهِ وَمَواثیقِهِ، ما لَوْ أَعْطَیْتَهُ طائِراً لَنَزَلَ إِلَیْکَ

ص: 216


1- ([1]) ابن قتیبة الدینوری، عبد الله بن مسلم، الإمامة والسیاسة: ج1، ص157.
2- ([2]) الطوسی، محمد بن الحسن، اختیار معرفة الرجال (رجال الکشی): ج1، ص257- 258.

مِنْ رَأْسِ الجَبَلِ، ثُمَّ قَتَلْتَهُ جُرْأَةً عَلی رَبِّکَ، وَاسْتِخْفافاً بِذلِکَ الْعَهْدِ... وَلَقَدْ نَقَضْتَ عَهْدَکَ بِقَتْلِکَ هؤُلاءِ النَّفَرِ الَّذینَ قَتَلْتَهُمْ بَعْدَ الصُّلْحِ وَالأَیْمانِ وَالْعُهُودِ وَالمَواثیقِ، فَقَتَلْتَهُمْ مِنْ غَیْرِ أَنْ یَکُونُوا قاتَلُوا وَقَتَلُوا، وَلَمْ تَفْعَلْ ذلِکَ بِهِمْ إِلّا لِذِکْرِهِمْ فَضْلَنا، وَتَعْظیمِهِمْ حَقَّنا، فَقَتَلْتَهُمْ مَخافَةَ أَمْر لَعَلَّکَ لَوْ لَمْ تَقْتُلْهُمْ مِتَّ قَبْلَ أَنْ یَفْعَلُوا، أَوْ ماتُوا قَبْلَ أَنْ یُدْرِکُوا»((1)).

والأسباب التی ذکرها الإمام الحسین علیه السلام لارتکاب معاویة تلک المجازر المدروسة والمنظّمة بحقّ المؤمنین الأبریاء، هی:

أوّلاً: إنّ هؤلاء المؤمنین کانوا یستنکرون الظلم والجور، الذی أضحی منتشراً ومستشریاً فی زمن معاویة، ویستعظمون البدع والمنکرات الاجتماعیّة - التی شاعت وذاعت فی ذلک الزمان - ویحاربونها بکلّ شجاعة وبسالة، من دون أن تأخذهم فی الله لومة لائم أو طغیان حاکم، وهذا ما یُثیر حفیظة معاویة، الذی بنی سیاسة حکمه وسلطانه علی غیر تلک الأخلاق والمثُل والقوانین الإنسانیّة والإسلامیّة، فانتهج القمع أُسلوباً لإسکات معارضیه.

ثانیاً: إنّ هؤلاء المؤمنین کانوا یُذکّرون الناس بفضل أهل البیت علیهم السلام ، ویُعظّمون حقّهم فی المجتمع بالطرق والأسالیب السلمیة، بلا قتل ولا قتال، ما جعل معاویة یخشاهم علی سلطانه؛ إذ قد تؤدّی هذه الحرکة التثقیفیّة والتوعویّة فی الأُمّة إلی ظهور الحقّ ورجوعه لأهله، وتسنّم أهل البیت علیهم السلام زعامة المسلمین، ولعلّ هذا هو الأمر الذی أبهمه الإمام الحسین علیه السلام فی آخر کلامه.

وقد کان لهذه المسیرة الدامیة امتدادها الطبیعی فی حکومة یزید الجائرة، وفی وصف هذه الحقیقة التاریخیّة الواضحة یقول الإمام الحسین علیه السلام : «وَیَزیدُ رَجُلٌ فاسِقٌ، شارِبُ خَمْر، قاتِلُ النَّفْسِ المُحَرَّمَةِ، مُعْلِنٌ بِالْفِسْقِ، وَمِثْلی لا یُبایِعُ لِمِثْلِهِ»((2)).

ص: 217


1- ([1]) المصدر السابق: ص252 - 253.
2- ([2]) ابن أعثم الکوفی، أحمد، الفتوح: ج5، ص14.

3- کانت ملاحقة معاویة لشیعة أهل البیت علیهم السلام وأتباعهم - ومطاردتهم وترویعهم وتشریدهم وقتلهم تحت کلّ حجر ومدر - لمجرّد انتمائهم الدینی والمذهبی من الذائعات الواضحة، التی لا تحتاج إلی بیان أو برهان؛ وهذا ما نطالعه بصریح العبارة حینما خاطب الإمام الحسین علیه السلام فی زمن معاویة جمعاً من الصحابة والتابعین فی مکّة المکرّمة بالقول: «أَمّا بَعْدُ، فَإِنَّ هذَا الطّاغِیَةَ [معاویة] قَدْ فَعَلَ بِنا وَبِشیعَتِنا ما قَدْ رَأَیْتُمْ وَعَلِمْتُمْ وَشَهِدْتُمْ»((1)). ولا یخفی ما فی لفظ (الطاغیة) من معانی الشجب والإدانة والاستنکار لجرائم معاویة، بمحکم القول وجوامع الکلام.

ویؤکّد ذلک أیضاً مضمون الکتاب الذی بعثه أهل الکوفة للإمام الحسین علیه السلام بعد هلاک معاویة، حیث جاء فیه قولهم: «فالحمد لله الذی قصم عدوّک الجبّار العنید، الذی انتزی علی هذه الأُمّة، فابتزّها أمرها، وغصبها فیئَها، وتأمّر علیها بغیر رضیً منها؛ ثمّ قتل خیارها، واستبقی شرارها، وجعل مال الله دُولة بین جبابرتها وأغنیائها، فبُعداً له کما بعُدت ثمود»((2)).

4- کان الإمام الحسین علیه السلام وفی مناسبات کثیرة ینتقد خنوع الأصحاب والتابعین وأعیان الأُمّة وکبرائها، وینعی علیهم سکوتهم المذلّ عن الظلم والجور والاستبداد والإرهاب الأُمویّ، الذی یذهب ضحیّته الأبریاء والفقراء والمساکین فی أغلب البلدان الإسلامیّة، ومن جملة ذلک مخاطبته إیاهم بالقول: «فَأَسْلَمْتُمُ الضُّعَفاءَ فی أَیْدیهمْ، فَمِنْ بَیْنِ مُسْتَعْبَد مَقْهُور وَبَیْنَ مُسْتَضْعَف عَلی مَعیشَتِهِ مَغْلُوب... فَالأَرْضُ لَهُمْ شاغِرَةٌ، وَأَیْدیهِمْ فیها مَبْسُوطَةٌ، وَالنّاسُ لَهُمْ خَوَلٌ لا یَدْفَعُونَ یَدَ لامِس، فَمِنْ بَیْنِ جَبّار عَنید، وَذی سَطْوَة عَلَی الضَّعَفَةِ شَدید، مُطاع لا یَعْرِفُ المُبْدِئَ المُعیدَ. فَیا عَجَباً! وَما لی لا أَعْجَبُ وَالأَرْضُ مِنْ

ص: 218


1- ([1]) الهلالی، سلیم بن قیس، کتاب سلیم بن قیس: ص320.
2- ([2]) الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج4، ص261.

غاشٍّ غَشُوم ومُتَصَدِّق ظَلُوم، وَعامِل عَلَی الْمؤْمِنینَ بِهِمْ غَیْرِ رَحیم، فَاللهُ الْحاکِمُ فیما فیهِ تَنازَعْنا، وَالْقاضی بِحُکْمِهِ فیما شَجَرَ بَیْنَنا»((1)).

5- تحدّث الإمام الحسین علیه السلام کثیراً - وفی مواقف ومناسبات مختلفة - عن الأسالیب الإجرامیّة التی مارسها بحقّه جلاوزة یزید بن معاویة وأعوانه، حتی أضحی خائفاً یترقّب، غیر آمن علی نفسه الشریفة وعرضه وحرمه الطاهر وماله ومکانته الدینیّة والاجتماعیّة، یلاحقونه فی کلّ مکان، وقد أصدر یزید حکم الإعدام بحقّ الحسین علیه السلام إن لم یبایع((2))، فخرج من مدینة جدّه خائفاً یترقّب، وهو یقرأ حین خروجه((3)) قوله تعالی [حکایة عن خروج موسی وهجرته من مصر]: ﴿ﰈ ﰉﰊ ﰋ ﰌﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ﴾ ((4))، والنصوص الواردة عن الإمام الحسین علیه السلام فی هذه النقطة متواترة، فمنها علی سبیل المثال:

- قوله علیه السلام علی مشارف کربلاء: «اللّهُمَّ، إِنّا عِتْرَةُ نَبیِّکَ مُحَمَّد (صَلَواتُکَ عَلَیْهِ وآله)، قَدْ أُخْرِجْنا وَأُزْعِجْنا وَطُرِدْنا عَنْ حَرَمِ جَدِّنا، وَتَعَدَّتْ بَنُو أُمَیَّةَ عَلَیْنا، اللّهُمَّ فَخُذْ لَنا بِحَقِّنا وَانْصُرْنا عَلَی الْقَوْمِ الظّالِمینَ»((5)).

- وقوله علیه السلام لابن عباس: «یَا بْنَ عَبّاس! فَما تَقُولُ فی قَوْم أَخْرَجُوا ابْنَ بِنْتِ رَسُولِ اللهِ صلی الله علیه و آله مِنْ دارِهِ وَقَرارِهِ وَمَوْلِدِهِ، وَحَرَمِ رَسُولِهِ، وَمُجاوَرَةِ قَبْرِهِ، وَمَوْلِدِهِ، وَمَسْجِدِهِ، وَمَوْضِعِ مَهاجِرِهِ، فَتَرَکُوهُ خائِفاً مَرْعُوباً لا یَسْتَقِرُّ فی قَرار، وَلا یَأْوی فی مَوْطِن، یُریدُونَ فی ذلِکَ قَتْلَهُ

ص: 219


1- ([1]) ابن شعبة الحرّانی، الحسن بن علی، تُحف العقول: ص238 - 239.
2- ([2]) ابن أعثم الکوفی، أحمد، الفتوح: ج5، ص10.
3- ([3]) الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج4، ص254.
4- ([4]) القصص: آیة21.
5- ([5]) الخوارزمی، محمد بن أحمد، مقتل الحسین علیه السلام : ج1، ص337.

وَسَفْکَ دَمِهِ، وَهُوَ لَمْ یُشْرِکْ بِاللهِ شَیْئاً، وَلا اتَّخَذَ مِنْ دُونِهِ وَلیِّاً، وَلَمْ یَتَغَیَّرْ عَمّا کانَ عَلَیْهِ رَسُولُ الله؟!»((1)).

- وقوله علیه السلام فی یزید وجلاوزته: «إِنَّ هؤُلاءِ أَخافُونی»((2)).

- وقوله علیه السلام لأخیه محمد بن الحنفیة حینما ناشده البقاء فی مکّة: «یا أَخی، قَدْ خِفْتُ أَنْ یَغْتالَنی یَزیدُ بْنُ مُعاوِیَةَ فی الحَرَمِ، فَأَکُونَ الَّذی یُسْتَباحُ بِهِ حُرْمَةُ هذَا الْبَیْتِ»((3)).

- وأیضاً قوله علیه السلام لعبد الله بن عمر: «هَیْهاتَ یا بْنَ عُمَرَ! إِنّ الْقَوْمَ لا یَتْرُکُونی وَإِنْ أَصابُونی، وَإِنْ لَمْ یُصیبُونی فَلا یَزالُونَ حَتّی أُبایِعَ وَأَنَا کارِهٌ، أَوْ یَقْتُلُونی»((4)).

- وقوله علیه السلام لعبد الله بن الزبیر وجمع ممّن کان بحضرته: «وَاللهِ، لأَن أُقْتَلَ خارِجاً مِنها [مکّة] بِشِبْر أَحَبُّ إِلَیَّ مِنْ أَنْ أُقْتَلَ داخِلاً مِنْها بِشِبْر! وَأَیْمُ اللهِ، لَوْ کُنْتُ فی جُحْرِ هامَّة مِنْ هذِهِ الهَوامِّ لاَسْتَخْرَجُونی حَتّی یَقْضُوا فِیَّ حاجَتَهُمْ! وَاللهِ، لَیَعْتَدُنَّ عَلَیَّ کَمَا اعْتَدَتِ الْیَهُودُ فی السَّبْتِ»((5)).

- وحینما قال له الفرزدق: یا بن رسول الله، ما أعجلک عن الحجّ؟ أجابه علیه السلام بالقول: «لَوْ لَمْ أُعَجِّلْ لأُخِذْتُ»((6)).

- وأیضاً قوله علیه السلام لأبی هرّة الأزدی: «یا أَبا هِرَّةَ، إِنَّ بَنی أُمَیَّةَ أَخَذُوا مالی فَصَبَرْتُ، وَشَتَمُوا عِرْضی فَصَبَرْتُ، وَطَلَبُوا دَمی فَهَرَبْتُ، وَأَیْمُ اللهِ، یا أَبا هِرَّةَ، لَتَقْتُلُنِی الْفِئَةُ الْباغِیَةُ وَلَیُلْبِسُهُمُ اللهُ ذُلاً شامِلاً وَسَیْفاً قاطِعاً»((7)).

ص: 220


1- ([1]) ابن أعثم الکوفی، أحمد، الفتوح: ج5، ص24.
2- ([2]) المجلسی، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص368.
3- ([3]) ابن طاووس، علی بن موسی، اللهوف علی قتلی الطفوف: ص39.
4- ([4]) ابن أعثم الکوفی، أحمد، الفتوح: ج5، ص374.
5- ([5]) الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج4، ص289.
6- ([6]) المصدر السابق: ج4، ص290.
7- ([7]) ابن أعثم الکوفی، أحمد، الفتوح: ج5، ص71.

والإمام الحسین علیه السلام قد أکّد فی هذه النصوص وغیرها علی ثلاثة أُمور مهمّة فی هذا العنصر الأوّل من عناصر الإرهاب الحکومی:

الأوّل: إنّ الحکومة الأُمویّة قد مارست معه علیه السلام أُسلوب الجریمة المنظّمة والحرب النفسیّة المدروسة بمختلف أشکالها وطرقها، من قبیل محاولات الإخافة والتهدید وممارسة أعمال الرعب والإزعاج النفسی والبدنی.

الثانی: الهجرة القسریّة؛ لفقدان الأمن وعدم الاستقرار فی الوطن.

الثالث: المطاردة المستمرّة، وإصدار الحکم بالإعدام من دون إدانة بذنب أو جنایة، سوی رفض المبایعة لیزید.

ثمّ إنّ تلک المضایقات والتهدیدات والممارسات الإجرامیّة الکثیرة والمتواصلة قد خُتمت بفاجعة مؤلمة لا نظیر لها فی التاریخ، حین أقدمت الحکومة الأُمویّة علی قتل الإمام الحسین علیه السلام وأهل بیته وأصحابه وسبی عیاله وسلب أمواله وانتهاک حرمته، فی مشهد إرهابی دمویّ مُرعب. هذا، والحسین علیه السلام کان یُمثِّل الشخصیة الأولی فی الإسلام، ولیس علی وجه الأرض ابن بنت نبی غیره، فکیف حال سائر المسلمین المعارضین من أفراد الشعب؟! إنّ هذا یعنی أنّ مقتل الإمام الحسین علیه السلام قد رسم لنا صورة تعریفیّة بلیغة تشرح للأجیال طبیعة الأسالیب غیر الإنسانیّة التی کانت تُمارسها السلطات الجائرة آنذاک مع المواطنین الأبریاء. وفی هذه النقطة بالخصوص یقول علیه السلام : «یا أُمَّةَ السَّوْءِ! بِئْسَما خَلَّفْتُمْ مُحَمَّداً فی عِتْرَتِهِ، أَما إِنَّکُمْ لَنْ تَقْتُلُوا بَعْدی عَبْداً مِنْ عِبادِ اللهِ الصّالحین فَتَهابُوا قَتْلَهُ، بَلْ یَهُونُ عَلَیْکُمْ عِنْدَ قَتْلِکُمْ إِیّایَ»((1)).

وقد وقفت عقیلة الهاشمیین زینب ابنة علی سلام الله علیه فی بلاد الشام وقفة بطولة وشموخ، أدانت فیها إرهاب الطاغیة یزید بن معاویة فی مجلسه وعاصمته إدانة مباشرة،

ص: 221


1- ([1]) الخوارزمی، محمد بن أحمد، مقتل الحسین علیه السلام : ج2، ص39.

وحمّلته مسؤولیّة الجرائم البشعة التی اقترفها بحقّهم، فی خطبة طویلة عصماء، تقول فیها: «لعمری لقد نکأت القرحة واستأصلت الشأفة، بإراقتک دم سیّد شباب أهل الجنّة... اللّهم خذ بحقّنا، وانتقم من ظالمنا، واحلل غضبک علی من سفک دماءنا ونقض ذمارنا، وقتل حماتنا، وهتک عنّا سُدولنا»((1)). فأغلقت‘ بذلک الأبواب علی کلّ مَن یُحاول أن یبرّئ یزید من دم الحسین علیه السلام .

العنصر الثانی: تسلیط الأجهزة القمعیّة علی أفراد الشعب

من العناصر التعریفیّة الأُخری لمفردة الإرهاب الحکومی هی: ممارسة الدّولة والحکومة لهذا النحو من الإرهاب بواسطة الأجهزة القمعیّة المرتبطة بها، إمّا من جهة انتسابها إلیها، أو الإشراف علیها، أو حمایتها ورعایتها، أو نحو ذلک.

وهذا ما امتازت به الحکومات الأُمویّة المتعاقبة، وخصوصاً فی زمن معاویة، حیث سلّط عُتاة هذه الأُمّة وأجلافها الجفاة علی رقاب المسلمین، یسومونهم سوء العذاب، وهذا ما صرّح به الإمام الحسین علیه السلام فی کتابه إلی معاویة، حینما قال: «أوَ لَسْتَ المُدَّعی زیاداً فِی الإسْلامِ، فَزَعَمْتَ أَنَّهُ ابْنُ أَبی سُفْیانَ، وَقَدْ قَضی رَسُولُ اللهِ صلی الله علیه و آله : أنّ الولد للفراش، وللعاهر الحَجَر. ثُمَّ سَلَّطْتَهُ عَلی أَهْلِ الإسْلامِ یَقْتُلُهُمْ، وَیُقَطِّعُ أَیْدیَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلاف، وُیُصَلِّبُهُمْ عَلی جُذُوعِ النَّخْلِ؟! سُبْحانَ اللهِ - یا مُعاوِیَةُ - لَکَأنَّکَ لَسْتَ مِنْ هذِهِ الأُمَّةِ، وَلَیْسُوا مِنْکَ، أَوَ لَسْتَ قاتِلَ ال-حَضْرَمیّ الَّذی کَتَبَ إِلَیْکَ فیهِ زیادُ أَنّهُ عَلی دینِ عَلیٍّ؟! وَدینُ عَلیٍّ هُوَ دینُ ابْنِ عَمِّهِ صلی الله علیه و آله »((2)).

وفی نصٍّ آخر یخاطبه علیه السلام بالقول: «أَوَ لَسْتَ المُدَّعی زِیادَ بْنَ سُمَیَّةَ ال-مَوْلُودَ عَلی فِراشِ عُبَیْدِ ثَقیف.. ثُمَّ سَلَّطْتَهُ علَی الْعِراقَیْنِ، یَقْطَعُ أَیْدِی المُسْلِمینَ وَأَرْجُلَهُمْ، وَیُسَمِّلُ

ص: 222


1- ([1]) الطبرسی، أحمد بن علی، الاحتجاج: ج2، ص36.
2- ([2]) ابن قتیبة الدینوری، عبد الله بن مسلم، الإمامة والسیاسة: ج1، ص156.

أعْیُنَهُمْ وَیُصَلِّبُهُمْ عَلی جُذُوعِ النَّخْلِ، کَأَنّکَ لَسْتَ مِنْ هذِهِ الأُمَّةِ، وَلَیْسُوا مِنْکَ؟! أَوَ لَسْتَ صاحِبَ الحَضْرَمیّینَ الَّذینَ کَتَبَ فیهِمُ ابْنُ سُمَیَّةَ أَنَّهُمْ کانُوا عَلی دینِ عَلیّ علیه السلام ، فَکَتَبْتَ إِلَیْهِ: أن اقتل کلّ مَن کان علی دین علیّ. فَقَتَلَهُمْ وَمَثَّلَ بِهِمْ بِأَمْرِکَ؟!»((1)). وقد سبقه عثمان بن عفان إلی هذا الأمر، حیث ولّی المجرمین من بنی أُمیّة وغیرهم علی رقاب الناس، وکان ذلک هو السبب الرئیس فی ثورة المسلمین وانقلابهم علیه؛ ما أدّی إلی مقتله علی ید الثوار، فی سابقة هی الأُولی من نوعها، واستمرّ هذا النهج الأُمویّ فی زمن یزید، حینما سلّط عبید الله بن زیاد علی العراقین، والتاریخ شاهد علی الجرائم الکبری التی اقترفها ابن زیاد بحقّ الأبریاء من المؤمنین والصالحین فی البصرة والکوفة.

العنصر الثالث: غایات الإرهاب الحکومی

إنّ الغایة من ممارسة هذا النوع من الإرهاب هو تغلیب الرؤیة السیاسیّة الحاکمة، المرفوضة والمستنکرة شعبیّاً، والتی لا تتمکّن الحکومة من تحقیقها بالوسائل المشروعة. ومن الغایات أیضاً فرض السیطرة علی المجتمع ومفاصل الدّولة، وتخویف المعارضة وإرغام الشعب علی الخضوع والاستسلام للنظام الاستبدادی الحاکم.

ویؤکّد الإمام الحسین علیه السلام علی أنّ هذه الغایات کانت تدور فی رأس معاویة، وهی التی دفعته لممارسة أبشع مظاهر العنف والإرهاب الحکومی آنذاک، وقد تضمّنت النصوص السابقة وغیرها التصریح بمثل تلک الغایات، فکانت حکومة معاویة قائمة علی أساس الظلم واستحداث البدع والمنکرات فی الدین؛ لإضعاف المجتمع الإسلامی، فانتشرت فی زمانه ظاهرة الکذب والافتراء علی رسول الله صلی الله علیه و آله ، وإشاعة العقائد والأفکار الباطلة، ومقارفة کبائر المحرّمات، کشرب الخمر والزنا والغناء

ص: 223


1- ([1]) الطوسی، محمد بن الحسن، اختیار معرفة الرجال (رجال الکشی): ج1، ص253 - 256.

وغیرها، وکانت هذه الأهداف والغایات تستند إلی رؤیّة سیاسیّة مدروسة لدی قیادات الحکم الأُمویّ، فتصدّی لهذه الممارسات والسیاسات المنحرفة ثلّة من المؤمنین والصالحین «الَّذینَ کانُوا یُنْکِرُونَ الظُّلْمَ وَیَسْتَعْظِمُونَ الْبِدَعَ، وَلا یَخافُونَ فِی اللهِ لَوْمَةَ لائِم»، وکانت حرکتهم سلمیّة توعویّة محضة، فقتلهم معاویة «مِنْ غَیْرِ أَنْ یَکُونُوا قاتَلُوا وَقَتَلُوا»((1)).

کذلک کانت من الغایات الرئیسة فی سیاسة معاویة فرض السیطرة علی المجتمع ومفاصل الدولة، والحفاظ علی کرسیّ الحکم بأیّ ثمن، فکان یقتل الأبریاء الذین یُذکّرون الناس بفضل أهل البیت علیهم السلام وحقوقهم فی الأُمّة؛ شعوراً منه بأنّ ذلک قد یؤدّی لانقلاب مجتمعیّ ضدّ سلطته الجائرة کما أشرنا، وللحفاظ علی حکمه وقمع المعارضة وإسکات صوتها فی الأُمّة انتهج معاویة منهج القتل والعنف والإرهاب بحقِّ الشعب المقاوم، وهذا ما أکّده الإمام الحسین علیه السلام فی نصٍّ سابق، حیث قال: «وَلَمْ تَفْعَلْ ذلِکَ [القتل] بِهِمْ إِلّا لِذِکْرِهِمْ فَضْلَنا، وَتَعْظیمِهِمْ حَقَّنا، فَقَتَلْتَهُمْ مَخافَةَ أَمْر لَعَلَّکَ لَوْ لَمْ تَقْتُلْهُمْ مِتَّ قَبْلَ أَنْ یَفْعَلُوا، أَوْ ماتُوا قَبْلَ أَنْ یُدْرِکُوا»((2)).

ثمّ إنّ الإمام الحسین علیه السلام مع أنّه کان یُصرّح لحکومة معاویة مراراً وتکراراً بأنّ حرکته فی الأُمّة سلمیّة تثقیفیّة، ولیست عسکریّة مُسلّحة، کقوله لمعاویة: «وَما أُریدُ لَکَ حَرْباً وَلا عَلَیْکَ خِلافاً»((3))، مع ذلک کلّه کان معاویة یُرسل للحسین علیه السلام رسائل الوعید والتنکیل والتهدید بالقتل، وکان الإمام الحسین علیه السلام یُجیبه بالقول: «فَکِدْنی ما بَدا لَکَ، فَإِنّی أَرْجُو أَنْ لا یَضُرَّنی کَیْدُکَ فیَّ، وَأَنْ لا یَکُونَ عَلی أَحَد أَضَرَّ مِنْهُ علی نَفْسِکَ»((4)).

ص: 224


1- ([1]) المصدر السابق: ج1، ص252- 253.
2- ([2]) المصدر السابق: ج1، ص253.
3- ([3]) المصدر السابق: ج1، ص252.
4- ([4]) المصدر السابق: ج1، ص257.

ویقع فی السیاق ذاته ممارسة أعمال القمع والإکراه والعنف بهدف أخذ البیعة لیزید، وإجبار الإمام الحسین علیه السلام علی مبایعته، وفی هذا المجال یقول علیه السلام مخاطباً قبر جدّه الأکرم محمّد صلی الله علیه و آله : «لَقَدْ خَرَجْتُ مِنْ جَوارِکَ کُرْهاً، وَفُرِّقَ بَیْنی وَبَیْنَکَ حَیْثُ أَنّی لَمْ أُبایِعْ لِیَزیدَ بْنِ مُعاوِیَةَ»((1)).

ویقول علیه السلام أیضاً حینما هدّده عبید الله بن زیاد وخیّره بین القبول بالذلّ والخضوع للحکم الأُموی وبین القتل: «أَلا وَإِنَّ الدَّعِیَّ ابْنَ الدَّعیّ قَدْ تَرَکَنی بَیْنَ السِّلَّةِ وَالذِّلَّةِ، وَهَیْهاتَ لَهُ ذلِکَ مِنّی، هَیْهاتَ مِنَّا الذِّلَّة»((2))، ویکشف هذا النصّ عن أنّ من الغایات الأساسیّة التی کان یستهدفها الأُمویّون فی ممارستهم جرائم الإرهاب الحکومی، هو السعی لإذلال المعارضین أو القضاء علیهم.

العنصر الرابع: التمییز بین مکوّنات الشعب علی أُسس غیر قانونیّة

إنّ من جملة الأُسس التی قد یتمّ علی أساسها التمییز بین مکوّنات الشعب الواحد، وممارسة القمع والقوّة غیر الشرعیّة فی حقّ مکوّن دون آخر، هی الأُسس السیاسیّة أو الاجتماعیّة أو العرقیّة أو الدینیّة أو الثقافیّة أو المناطقیّة.

ولا شکّ فی أنّ من الأمثلة الواضحة للتمییز المناطقی والدینی والثقافی - وقمع مکوّن ومحاباة مکوّن آخر من منطلق تلک الأُسس الإثنیّة - هی تلک الأسالیب القمعیّة التی مارسها معاویة فی فترة حکمه، والتی اختصّت ببعض البلدان الإسلامیّة، وذلک حینما أقدم علی ترشیح زمرة من الأدعیاء المجرمین، وتسلیطهم علی المناطق التی لا تخضع لإرادته ونظامه السیاسی الفاسد، وتحتضن المعارضین والمناوئین والمقاومین

ص: 225


1- ([1]) الطریحی، فخر الدین، المنتخب: ص410. وبالمضمون ذاته: القندوزی، سلیمان بن إبراهیم، ینابیع المودّة: ج3، ص54.
2- ([2]) الطبرسی، أحمد بن علی، الاحتجاج: ج2، ص24.

لحکومته الظالمة وغیر الشرعیّة، کما هو حال العراقین: الکوفة، والبصرة، یقول الإمام الحسین علیه السلام فی وصف هذا العنصر من عناصر الإرهاب الحکومی: «ثُمَّ سَلَّطْتَهُ [زیاد ابن أبیه] علَی الْعِراقَیْنِ، یَقْطَعُ أَیْدِی المسْلِمینَ وَأَرْجُلَهُمْ، وَیُسَمِّلُ أعْیُنَهُمْ وَیُصَلِّبُهُمْ عَلی جُذُوعِ النَّخْلِ»((1))، ولم تکن أمثال هذه الجرائم الوحشیّة مألوفة آنذاک فی الشام ولا فی مکّة ولا المدینة ولا غیرها، بل کان النظام الأُموی یُمارسها فی خصوص العراق وأهله علی ید المجرم زیاد ابن أبیه، ومارسها أیضاً مع أتباع أهل البیت علیهم السلام ومحبّیهم خاصّة أینما وجدوا، کما فعل السفّاح بسر بن أرطاة مع المؤمنین من أهل مکّة والمدینة والیمن.

وأیضاً فیما یخصّ التمییز علی أُسس دینیّة وعقدیّة، یقول الإمام الحسین علیه السلام مخاطباً معاویة بن أبی سفیان: «أَوَ لَسْتَ صاحِبَ الحَضْرَمیّینَ الَّذینَ کَتَبَ فیهِمُ ابْنُ سُمَیَّةَ أَنَّهُمْ کانُوا عَلی دینِ عَلیّ علیه السلام ، فَکَتَبْتَ إِلَیْهِ: أن اقتل کلّ مَن کان علی دین علیّ. فَقَتَلَهُمْ وَمَثَّلَ بِهِمْ بِأَمْرِکَ؟!»((2)).

وأمّا التمییز فی النظام الأُمویّ علی أساس عرقی، فکان أوضح من أن یخفی، حیث اختصّت الأُسرة الحاکمة بالأموال والمناصب والمکانة الاجتماعیة، فی الوقت الذی یواجه سائر الناس حرماناً واضطهاداً وقمعاً بلا رحمة ولا شفقة، وفی إشارة إلی هذه الحقیقة یقول الإمام الحسین علیه السلام لمعاویة: «وَلَقَدْ فَضَّلْتَ حَتّی أَفْرَطْتَ، وَاسْتَأثرْتَ حَتّی أَجْحَفْتَ، وَمَنَعْتَ حَتّی مَحِلْتَ، وَجُزْتَ حَتّی جاوَزْتَ، ما بَذَلْتَ لِذی حَقٍّ مِنِ اسْمِ حَقِّهِ بِنَصیب، حَتّی أَخَذَ الشَّیْطانُ حَظَّهُ الأوفَرَ»((3)).

ص: 226


1- ([1]) الطوسی، محمد بن الحسن، اختیار معرفة الرجال (رجال الکشی): ج1، ص256.
2- ([2]) المصدر السابق.
3- ([3]) ابن قتیبة الدینوری، عبد الله بن مسلم، الإمامة والسیاسة: ج1، ص208.
العنصر الخامس: تجاوز القوانین الدّولیة والعرفیة

إنّ المراد من عدم قانونیّة العنف الذی تُمارسه الحکومة بحقّ شعبها، هو تجاوز القوانین الدّولیة والعرفیة والإنسانیّة التی تُنظّم علاقة الحاکم بالمحکوم.

ولا شک بأنّ ما أوردناه من أعمال للعنف والقمع والإرهاب، والتی مارسها النظام الأُموی الحاکم بحقّ الأبریاء من المواطنین الآمنین فی البلدان الإسلامیّة، والمأثورة فی کلمات الإمام الحسین علیه السلام ، منافیة بأجمعها للقوانین والمقرّرات الدّولیة والعرفیة والإنسانیّة، ولا شک أیضاً بأنّ العُرف البشری والقانون الدّولی یستنکر بشدّة:

1- ملاحقة الأبریاء واعتقالهم وتهجیرهم وإصدار أحکام الإعدام بحقّهم وقتلهم لمجرّد التُّهم والافتراءات الباطلة، ومن دون أیّ مُستند قانونیّ أو شرعیّ.

2- قمع المواطنین الآمنین المسالمین، وتصفیتهم بسبب انتمائهم الدینی والعقدی.

3- التمییز الاجتماعی والدینی والعِرقی والمناطقی الجائر وغیر المنصف بین مکوّنات الشعب.

4- تسلیط المرتزقة والأجهزة الإجرامیّة لقمع الأبریاء من أفراد الشعب.

5- فرض نظام الحکم الفاسد والجائر بالقوّة والإکراه.

6- إجبار المواطنین وإکراههم بالعنف والقوّة علی مبایعة الفاسدین وغیر المؤهّلین لإدارة شؤون الدّولة.

7- قمع کلّ أشکال المعارضة، بما فی ذلک المعارضة السلمیّة غیر المسلّحة.

8- نقض المعاهدات، وخرق المواثیق المبرمة مع الأطراف المعارضة، وعدم احترامها.

هذا وغیره من الجرائم التی ارتکبها النظام الأُمویّ الحاکم بحقّ الأبریاء، تنطبق علیها کلّ العناصر التعریفیّة للإرهاب الحکومی، وتُعدّ منافیة للقوانین والأعراف

ص: 227

البشریّة، وقد استنکرها وأدانها الإمام الحسین علیه السلام قدیماً بالقول الصریح والموقف الواضح والجریء.

ثانیاً: عناصر إضافیّة تعریفیّة للإرهاب الحکومی فی کلمات الإمام الحسین علیه السلام

اشارة

هناک مجموعة أُخری من العناوین المهمّة والعناصر التعریفیّة الإضافیّة لمفردة الإرهاب الحکومی، ذکرها الإمام الحسین علیه السلام فی سیاق استعراضه للعناصر التعریفیّة التی عُرِّف بها الإرهاب والعنف الحکومی فی زمانه، ووحدة السیاق مع ذکر العناصر السابقة تکشف بوضوح عن ارتباط هذه العناصر الجدیدة ارتباطاً وثیقاً بمحلّ البحث، لکننا مع ذلک لا نلمس الترکیز علیها فی التعاریف المتداولة لهذا الصنف من الإرهاب، وفیما یلی بیان موجز لأهمّ تلک العناصر المضافة فی کلمات الإمام علیه السلام :

1- الظلم والجور والعدوان

یُعدّ هذا العنوان - المرفوض والمستنکر فی المجالین الدینیّ والإنسانیّ - من العناوین العامّة والواسعة التی تستوعب فی سعتها مجموعة کبیرة من أعمال العنف والقمع غیر القانونی، ما قد یشمل بعمومه جملة من العناصر التعریفیّة الماضیة، بالإضافة إلی عناصر أُخری أهملتها تعاریف الإرهاب ستأتی الإشارة إلی بعضها لاحقاً. فکلّ حیف وجور وتجاوز وعدوان وسلب للحقوق العامّة والخاصّة یقع فی دائرة هذا العنوان العریض، وهو من العناوین المتکرّرة کثیراً فی کلمات الإمام الحسین علیه السلام ، فحیثما کان ینتقد بصورة مُعلنة ومباشرة رأس الحکم الأُمویّ ویُدین بشدّة کلّ مظاهر الإرهاب الحکومی التی یُعانی منها الشعب آنذاک، کان علیه السلام یُصرّح أیضاً بأنّ تلک المظاهر والممارسات واقعة تحت دائرة الظلم والجور والعدوان، وقد أشرنا سابقاً إلی بعض تلک النصوص الحسینیّة المبارکة، وکان منها ما ذکره علیه السلام فی ضمن توصیفه الجرائم البشعة التی مارسها معاویّة وعصاباته بحقّ أصحاب النبی الأکرم صلی الله علیه و آله وأمیر

ص: 228

المؤمنین علیه السلام ، حیث قال علیه السلام : «فَقَتَلْتَهُمْ ظُلْماً وَعُدْواناً»((1)). ومن ذلک أیضاً قوله علیه السلام مخاطباً الجیش الکوفی فی کربلاء: «وَنَحْنُ أَهْلُ البَیْتِ وَأَوْلی بِوِلایَةِ هذَا الأمرِ عَلَیْکُمْ مِنْ هؤُلاءِ الْمُدَّعینَ ما لَیْسَ لَهُمْ، وَالسّائِرینَ فیکُمْ بِالْجَوْرِ وَالْعُدْوانِ»((2)). ومنه أیضاً ما جاء فی حدیثه علیه السلام مع کبار الصحابة والتابعین فی مکّة المکرّمة، حیث یقول: «فَیا عَجَباً! وَما لی لا أَعْجَبُ وَالأرضُ مِنْ غاشٍّ غَشُوم ومُتَصَدِّق ظَلُوم، وَعامِل عَلَی الْمؤْمِنینَ بِهِمْ غَیْرِ رَحیم»((3)). وفی هذا المجال أیضاً استدلاله علیه السلام علی ضرورة الخروج لمواجهة طغیان الحکم الأُمویّ بقول النبی الأکرم صلی الله علیه و آله : «مَن رأی سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله، ناکثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله، یعمل فی عباد الله بالإثم والعدوان، فلم یُغیّر علیه بفعل ولا قول، کان حقّاً علی الله أن یُدخله مدخله»((4)).

وهذا هو ذات المنطق والمنهج الإلهی الوحیانی الذی نصّت علیه آیات القرآن الکریم، فإنّ الله} قد وصف الإرهاب والقمع الحکومی - الذی کان یمارسه فرعون وجلاوزته مع طائفة من الشعب - وهم بنو إسرائیل بالظلم، کما فی قوله تعالی:«کَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِینَ مِنْ قَبْلِهِمْ کَذَّبُوا بِآیَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَکْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَکُلٌّ کَانُوا ظَالِمِینَ »((5)). وفی نصٍّ قرآنی آخر یقول الله تعالی: «فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِی الْیَمِّ فَانْظُرْ کَیْفَ کَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِینَ »((6)). وحینما اضطرّ موسی للهجرة ومغادرة أراضی الحکومة الفرعونیّة، قال:«فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا یَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِی مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِینَ » ((7)).

ص: 229


1- ([1]) ابن قتیبة الدینوری، عبد الله بن مسلم، الإمامة والسیاسة: ج1، ص156.
2- ([2]) الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج4، ص303.
3- ([3]) ابن شعبة الحرّانی، الحسن بن علی، تُحف العقول: ص239.
4- ([4]) الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج4، ص304.
5- ([5]) الأنفال: آیة54.
6- ([6]) القصص: آیة40.
7- ([7]) القصص: آیة21.

وأیضاً فی المجال ذاته کلام:«وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِینَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِی عِنْدَکَ بَیْتًا فِی الْجَنَّةِ وَنَجِّنِی مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِی مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِینَ »((1)). فالظلم والجور من أهمّ العناوین العامّة والأجناس العالیة المعتبرة فی تعریف حقیقة الإرهاب الحکومی، وهو ما أکّد علیه الإمام الحسین علیه السلام فی کلامه السابق.

2- الفساد فی الأرض

إنّ هذا العنوان المهمّ هو أیضاً من العناوین التعریفیّة العامّة، الشاملة بعمومها لعدد وافر من العناصر والأمثلة والتطبیقات البیانیّة المؤثِّرة فی تعریف حقیقة ومعنی الإرهاب الحکومی، وهو کسابقه مُستنکر ومرفوض فی المستویین الشرعی والإنسانی، وقد أکّد الإمام الحسین علیه السلام علی خطورته وآثاره المدمِّرة فی سیاق استعراضه للعناصر التعریفیّة السابقة واستنکاره لجرائم العنف الأُمویّ بحقّ الأبریاء فی بلاد الإسلام، ومن تلک الموارد الکثیرة قوله علیه السلام بصدد فضح السیاسات الإجرامیّة للزمرة الأُمویّة الحاکمة: «إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لَزِمُوا طاعَةَ الشَّیْطانِ، وَتَرَکُوا طاعَةَ الرَّحْمنِ، وَأَظْهَروُا الْفَسادَ فی الأَْرْضِ، وَأَبْطَلُوا الحُدُودَ، وَشَرِبُوا الخُمُورَ، وَاسْتَأْثروُا فی أَمْوالِ الْفُقَراءِ وَالمساکینَ، وَأَنا أَوْلی مَنْ قامَ بِنُصْرَةِ دینِ اللهِ وَإِعْزازِ شَرْعِهِ وَالْجِهادِ فی سَبیلِهِ، لِتَکُونَ کَلِمَةُ اللهِ هِیَ الْعُلْیا»((2)).

وقد جاء أیضاً هذا العنصر التعریفی العامّ بشکل واضح وصریح ومتکرّر فی مواضع کثیرة من آیات القرآن الکریم، وخصوصاً فی مجال الحدیث عن الإرهاب الحکومی، ولعلّ من أهمّ الموارد البارزة فی المقام ما أشرنا إلیه من سیاسة فرعون القمعیّة واضطهاده لشعبه من بنی إسرائیل، وبهذا الصدد یقول الله تعالی: «إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِی الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِیَعًا یَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ یُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَیَسْتَحْیِی نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ کَانَ مِنَ الْمُفْسِدِینَ »((3)). ویقول تعالی أیضاً:«فَمَا آمَنَ لِمُوسَی إِلَّا ذُرِّیَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَی خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ

ص: 230


1- ([1]) التحریم: آیة11.
2- ([2]) سبط ابن الجوزی، یوسف بن فرغلی، تذکرة الخواص: ص217.
3- ([3]) القصص: آیة4.

وَمَلَئِهِمْ أَنْ یَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِی الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِینَ »((1)). وهذا یعنی أنّ عنوان (الفساد فی الأرض) هو الآخر معدود من الأجناس العالیة والعناوین العامّة المعتبرة فی تعریف مفردة الإرهاب الحکومی، وقد ذکره الإمام الحسین علیه السلام فی السیاق ذاته.

3- نقض العهود والمواثیق

إنّ من الطبیعی جدّاً أن تواجه الحکومات القمعیّة والأنظمة المستبدّة معارضة ومواجهة شدیدة من قبل طبقات الشعب الحرّة والواعیّة، وهذا ما واجهته بالفعل الحکومة الأُمویّة الظالمة، فالأحرار من الصحابة والتابعین والمؤمنین من أتباع أهل البیت علیهم السلام کان لهم صوتاً مرتفعاً وموقفاً حازماً مقاوماً بوجه الإرهاب الأُمویّ، وقد کان لهم تأثیرهم الواضح فی الأوساط الشعبیة المؤمنة، وهذا ما کان یخشاه معاویة کثیراً، وللقضاء علی تلک الأصوات المعارضة وإسکاتها مارس أبشع الجرائم الوحشیّة، وهذا ما اضطرّ المعارضة فی بعض الأحیان للدخول فی هُدنة مع السلطة، ومعاویة لخوفه الشدید من تفاقم هذه الحرکات المعارضة کان یُعطیهم الأمان والعهود والمواثیق والأیمان المغلّظة بعدم مطاردتهم أو التعرّض لهم، مُقابل جلوسهم وسکوتهم عن التعرّض لحکومته، ومع کلّ ذلک کان معاویة یخون عهده وینقض تلک المواثیق، وکأنّها لم تکن، فیغتال معارضیه ویقتلهم بدم بارد، وقد عُرف معاویة بهذا الأُسلوب وهذه الطریقة من زمن أمیر المؤمنین علیه السلام ، حینما خان عهده فی مسألة التحکیم المشهورة، وکذلک خیانته المعروفة لبنود صلحه مع الإمام الحسن علیه السلام . والإمام الحسین علیه السلام وفی

ص: 231


1- ([1]) یونس: آیة83.

سیاق ذکره لعناصر الإرهاب الحکومی یُشدّد علی مسألة نقض العهود والمواثیق، ویُدرجها فی العناصر التعریفیّة للإرهاب الحکومی الذی کان یمارسه معاویة بحقّ معارضیه، وقد أشرنا إلی بعض تلک النصوص الحسینیّة المبارکة فی البحث السابق،

والتی کان منها قوله علیه السلام : «فَقَتَلْتَهُمْ ظُلْماً وَعُدْواناً مِنْ بَعْدِ ما أعْطَیْتَهُمُ المَواثیقَ الْغَلیظَةَ، وَالْعُهُودَ المُؤَکَّدَةَ جُرْأَةً عَلَی اللهِ، وَاسْتِخْفافاً بِعَهْدِهِ»((1)). وأیضاً یقول علیه السلام فی نصٍّ آخر سابق: «ثُمّ قَتَلْتَهُمْ ظُلْماً وَعُدْواناً مِنْ بَعْدِ ما کُنْتَ أَعْطَیْتَهُمُ الاَْیْمانَ المُغَلَّظَةَ، وَالمَواثیقَ المُؤَکَّدَةَ، وَلا تَأْخُذَهُمْ بِحَدَث کانَ بَیْنَکَ وَبَیْنَهُمْ، وَلا بِإِحْنَة تَجِدُها فی نَفْسِکَ... وَلَقَدْ نَقَضْتَ عَهْدَکَ بِقَتْلِکَ هؤُلاءِ النَّفَرِ الَّذینَ قَتَلْتَهُمْ بَعْدَ الصُّلْحِ وَالأیْمانِ وَالْعُهُودِ وَالمَواثیقِ»((2)). وتُمثِّل هذه النقطة بالخصوص عنصراً مهماً من عناصر الإرهاب الحکومی، لم یتمّ الترکیز علیها فی التعریفات المتداولة فی العصر الحاضر.

4 - سرقة أموال الشعب والاستئثار بالفیء

إنّ سرقة الحکومات الفاسدة لأموال شعوبها - والسطو علی حقوقهم العامّة - کان ولا یزال یُمثِّل ظاهرة مألوفة فی کثیر من البلدان الإسلامیّة والعربیّة وغیرها من البلدان التی تحکمها أنظمة فاسدة ومُستبدّة ودکتاتوریّة، وتُعدّ هذه الظاهرة المقیتة والمدمّرة من أهمّ وأبرز أسباب انتشار الظلم والفقر والتخلّف والجریمة والخراب فی المجتمع؛ ولذا نری أنّ الإمام الحسین علیه السلام قد أدرج هذا العنصر الحسّاس فی ضمن العناصر التعریفیّة لمفردة الإرهاب الحکومی، فالحکومة التی تعتدی علی أموال شعبها حکومة إرهابیّة وداعمة للجریمة والإرهاب فی المجتمع، وتُعدّ هذه الفکرة التعریفیّة امتیازاً وسِبقاً معرفیّاً مُستفاداً من کلمات الإمام الحسین علیه السلام ، لم یُلتفت إلیها إلی هذه

ص: 232


1- ([1]) ابن قتیبة الدینوری، عبد الله بن مسلم، الإمامة والسیاسة: ج1، ص156.
2- ([2]) الطوسی، محمد بن الحسن، اختیار معرفة الرجال (رجال الکشی): ص252 - 253.

اللحظة، بالرّغم من سعة البحوث والدراسات فی هذا المجال، وبخصوص هذا العنصر المهمّ من عناصر الإرهاب الحکومی یقول الإمام علیه السلام - فی حدیثه مع معاویة، الذی استأثر بأموال المسلمین ومنعها مستحقّیها من الفقراء والمساکین -: «وَلَقَدْ فَضَّلْتَ

حَتّی أَفْرَطْتَ، وَاسْتَأثَرْتَ حَتّی أَجْحَفْتَ، وَمَنَعْتَ حَتّی مَحِلْتَ، وَجُزْتَ حَتّی جاوَزْتَ، ما بَذَلْتَ لِذی حَقٍّ مِنِ اسْمِ حَقِّهِ بِنَصیب حَتّی أَخَذَ الشَّیْطانُ حَظَّهُ الأَوْفَرَ»((1)). ویقول علیه السلام أیضاً فی المقام ذاته استنکاراً وإدانة للمنهج الأُمویّ الفاسد: «إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لَزِمُوا طاعَةَ الشَّیْطانِ... وَاسْتَأْثَروُا فی أَمْوالِ الْفُقَراءِ وَالمَساکینَ»((2)). وفی نصٍّ آخر یقول علیه السلام : «وَاسْتَأْثرُوا بِالْفَیءِ»((3)). وقد جاء هذا الشجب والاستنکار فی سیاق الحدیث عن إرهاب السلطة فی العصر الأُمویّ.

ولا شکّ فی أنّ الإمام الحسین علیه السلام یتّبع فی هذه الرؤیة الدقیقة ذات المنهجیّة القرآنیّة المبارکة؛ إذ أنّنا نلاحظ بأنّ القرآن الکریم قد تحدّث وبوضوح عن قصّة الفساد المالی لحکومة فرعون وملئه من المستکبرین فی سیاق إرهابهم وإجرامهم الحکومی مع شعبهم، حیث کانت الکابینة الفرعونیّة الحاکمة تستأثر بالأموال والامتیازات الخاصّة والعامّة، فی الظرف الذی یرزح الشعب فیه من بنی إسرائیل تحت خطوط الفقر والعوز والجوع والحاجة، وقد شکّل هذا العنصر بالخصوص أحد الموانع والعقبات الکبیرة التی تقف أمام الإصلاح المجتمعی الذی بُعث به موسی علیه السلام لقومه؛ ولذا طلب موسی علیه السلام من الله تعالی بصریح القول أن یُدمّر تلک الترسانة المالیّة الضخمة غیر الشرعیّة لفرعون وجلاوزته، والتی وظّفوها بإتقان للقضاء علی الحرکة الإصلاحیّة

ص: 233


1- ([1]) ابن قتیبة الدینوری، عبد الله بن مسلم، الإمامة والسیاسة: ج1، ص208.
2- ([2]) سبط ابن الجوزی، یوسف بن فرغلی، تذکرة الخواص: ص217.
3- ([3]) الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج4، ص304.

لموسی علیه السلام فی المجتمع، کما جاء النصّ علی ذلک فی قوله تعالی: «وَقَالَ مُوسَی رَبَّنَا إِنَّکَ آتَیْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِینَةً وَأَمْوَالًا فِی الْحَیَاةِ الدُّنْیَا رَبَّنَا لِیُضِلُّوا عَنْ سَبِیلِکَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَی أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَی قُلُوبِهِمْ فَلَا یُؤْمِنُوا حَتَّی یَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِیمَ »((1))، وقد استجاب الله تعالی دعوة نبیِّه قائلاً:«وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِینَ کَانُوا یُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِی بَارَکْنَا فِیهَا وَتَمَّتْ کَلِمَتُ رَبِّکَ الْحُسْنَی عَلَی بَنِی إِسْرَائِیلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا کَانَ یَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا کَانُوا یَعْرِشُونَ » ((2)). والتاریخ شاهد علی

أنّ هذا الترف والبذخ المالی المبنی علی أکتاف الفقراء کان من أبشع ألوان الإرهاب فی حکومة فرعون الفاسدة، استنکره القرآن الکریم وأدانه بشدّة، وحکومة معاویة قد مارست أیضاً هذا الصنف من أصناف الإرهاب الحکومی بصورة مفرطة، وفی المقابل واجه الإمام الحسین علیه السلام هذه الظاهرة الوبائیّة بحزم وقوّة، متِّبعاً فی ذلک ذات النهج الإلهی مع فرعون وحکومته الظالمة.

5- تنصیب غیر الکفوئین فی المناصب السیادیّة

إنّ هذا العنصر التعریفی المأثور فی کلمات الإمام الحسین علیه السلام هو الآخر من العناصر المهمّة والمؤثِّرة فی تحدید مفردة الإرهاب الحکومی، وتتجلّی أهمّیته أکثر عندما نطالع ما واجهته وتواجهه الشعوب والبلدان علی مرّ التاریخ، من کوارث إنسانیّة مدمّرة؛ نتیجة ترشیح عدیمی الکفاءة وتمکینهم من المناصب السیادیّة وتسلیطهم علی رقاب الناس، والإمام الحسین علیه السلام یری بأنّ من أمثلة الإرهاب الحکومی البارزة وضع غیر الکفوئین فی المناصب السیادیّة والحسّاسة، وهذا بالتحدید هو ما فعله معاویة حینما ولّی الفاسدین والمجرمین والمنحرفین علی مقدّرات وشعوب البلدان الإسلامیّة، من أمثال زیاد ابن أبیه وبسر بن أرطاة وغیرهما، وکذلک الحال بالنسبة إلی مسألة أخذ

ص: 234


1- ([4]) یونس: آیة88.
2- ([5]) الأعراف: آیة137.

البیعة بالخلافة وولایة العهد من بعده لولده یزید الفسق والفجور، وقد استنکر الإمام الحسین علیه السلام هذه الظاهرة الخطیرة وحذّر من تداعیاتها، وأدانها بشدّة فی مواقف ومناسبات کثیرة، والنصوص الواردة فی هذه النقطة بالخصوص متضافرة، فمن ذلک قوله علیه السلام لمعاویة: «أوَ لَسْتَ المُدَّعی زیاداً فِی الاِْسْلامِ... ثُمَّ سَلَّطْتَهُ عَلی أَهْلِ الإسْلامِ یَقْتُلُهُمْ»((1))، وأیضاً قوله علیه السلام فی مسألة أخذ البیعة لیزید: «لا أعْلَمُکَ إِلّا وَقَدْ خَسِرْتَ

نَفْسَکَ، وَبَتَرْتَ دینَکَ، وَغَشَشْتَ رَعِیَّتَکَ، وَأَخْرَبْتَ أَمانَتَکَ»((2))، وهکذا فی نصٍّ آخر یقول علیه السلام : «ثُمَّ وَلَّیْتَ ابْنَکَ وَهُوَ غُلامٌ یَشْرَبُ الشَّرابَ وَیَلْهُ بِالْکِلابِ، فَخُنْتَ أَمانَتَکَ وَأَخْرَبْتَ رَعیَّتَکَ، وَلَمْ تُؤَدِّ نَصیحَةَ رَبِّکَ، فَکَیْفَ تُوَلّی عَلی أُمّةِ مُحَمَّد صلی الله علیه و آله مَنْ یَشْرَبُ المُسْکِرَ، وَشارِبُ المُسْکِرِ مِنَ الْفاسِقینَ، وَشارِبُ المُسْکِرِ مِن الأَشْرارِ! وَلَیْسَ شارِبُ المُسْکِرِ بِأَمین عَلی دِرْهَم، فَکَیْفَ عَلیَ الأُمَّةِ؟!»((3)). وبالمضمون ذاته أیضاً قوله علیه السلام : «وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَیْسَ بِناسٍ لَکَ قَتْلَکَ بِالظِّنَّةِ، وَأَخْذَکَ بِالتُّهْمَةِ، وَإِمارَتَکَ صَبیّاً یَشْرَبُ الشَّرابَ، وَیَلْعَبُ بِالْکِلابِ، ما أَراکَ إِلّا قَدْ أَوْبَقْتَ نَفْسَکَ، وَأَهْلَکْتَ دینَکَ، وَأَضَعْتَ الرَّعیَّةَ»((4)). وحینما فشل معاویة فی إقناع کبار الصحابة والتابعین بخلافة یزید من بعده، واستشعر وعی الأُمّة ومعرفتها بعدم کفاءة ابنه لمنصب الخلافة وقیادة الأُمّة وإدارة شؤونها، حاول جاهداً أن یُوهم الناس البسطاء بأنّ ابنه هو الأصلح للأُمّة، وأنه یُتقن فنّ السیاسة وإدارة الدّولة، وعالم بشؤون الحکم والسلطة، وأقدم علی نشر هذه الأفکار بنفسه فی مکّة المکرّمة والمدینة المنوّرة، فتصدّی الإمام الحسین علیه السلام لردّه وردعه بکلام واضح وصریح، لا یدع أیّ مجال لما یزعمه ویدّعیه معاویة من مدیح لا یستحقّه ابنه یزید،

ص: 235


1- ([1]) ابن قتیبة الدینوری، عبد الله بن مسلم، الإمامة والسیاسة: ج1، ص156.
2- ([1]) الطوسی، محمد بن الحسن، اختیار معرفة الرجال (رجال الکشی): ج1، ص259.
3- ([2]) القاضی المغربی، النعمان بن محمد، دعائم الإسلام: ج2، ص133.
4- ([3]) ابن قتیبة الدینوری، عبد الله بن مسلم، الإمامة والسیاسة: ج1، ص157.

حیث خاطبه علیه السلام بالقول: «وَفَهِمْتُ ما ذَکَرْتَهُ عَنْ یَزیدَ مِنِ اکْتِمالِهِ وَسِیاسَتِهِ لاُِمَّةِ مُحَمَّد، تُریدُ أَنْ تُوهِمَ النّاسَ فی یَزیدَ، کَأَنَّکَ تَصِفُ مَحْجُوباً، أَوْ تَنْعِتُ غائِباً، أَوْ تُخْبِرُ عَمّا کانَ مِمَّا احْتَوَیْتَهُ بِعِلْم خاصٍّ، وَقَدْ دَلَّ یَزیدُ مِنْ نَفْسِهِ عَلی مَوْقِعِ رَأْیِهِ، فَخُذْ لِیَزیدَ فیما أَخَذَ بِهِ مِنَ اسْتِقْرائِهِ الْکِلابَ المُهارِشَةَ عِنْدَ التَّحارُشِ، وَالحَمامَ السُّبَّقَ لأِتْرابِهِنَّ، وَالقیّانِ ذَواتِ المَعازِفِ، وَضَربِ المَلاهی، تَجِدُهُ باصِراً، وَدَعْ عَنْکَ ما تُحاوِلُ، فَما أَغْناکَ أَنْ تَلْقیَ الله مِنْ وِزْرِ

هذَا الخَلْقِ بِأَکْثَرَ مِمّا أَنْتَ لاقیهِ»((1)). فالإمام الحسین علیه السلام قد استشرف خطورة تولیة یزید الفاسد علی شؤون هذه الأُمّة ومقدّراتها، وکان الأمر کما قاله علیه السلام ؛ إذ لم ترَ الأُمّة من یزید إلّا مزیداً من مظاهر القتل والظلم والدمار. وفی هذا السیاق أطلق الإمام الحسین علیه السلام کلمته المشهورة: «وَعَلَی الإسْلامِ السَّلامُ إِذْ قَدْ بُلِیَتْ الأُمَّةُ بِراع مِثْلِ یَزیدَ»((2)).

ولأنّ الحکم الأُمویّ المتمثِّل بحکم معاویة کان هو الأخطر علی الأُمّة الإسلامیّة - کما تبیّن من مُجمل العناصر الماضیة للإرهاب الحکومی بحقّ الشعب - خاطبه الإمام الحسین علیه السلام بالقول: «وَإِنّی لا أَعْلَمُ فِتْنَةً أَعْظَمَ عَلی هذِهِ الأُمَّةِ مِنْ وِلایَتِکَ عَلَیْها»((3)).

ثالثاً: المبادئ والأسالیب الحسینیّة العامّة فی مواجهة الإرهاب الحکومی

اشارة

لا نرید الخوض فی غمار هذا البحث علی سعته، وإنّما نسعی لقراءة کلمات الإمام الحسین علیه السلام الواردة فی هذا الشأن بالخصوص، واستطلاع ما ذکره علیه السلام من مبادئ وأسالیب عامّة لمواجهة مخاطر الإرهاب الحکومی، وفی هذا الإطار احتوی کلامه القدسی علی أفکار قیّمة وعناوین مهمّة، تفسح المجال واسعاً أمام المفکّرین والباحثین المختصّین بدراسة مظاهر العنف والإرهاب فی البلدان والمجتمعات، وتضع فی متناول

ص: 236


1- ([1]) المصدر السابق: ج1، ص160- 161.
2- ([2]) ابن أعثم الکوفی، أحمد، الفتوح: ج5، ص17.
3- ([3]) الطوسی، محمد بن الحسن، اختیار معرفة الرجال (رجال الکشی): ج1، ص257.

الشعوب المعارضة والرافضة لسیاسات حکوماتها القمعیّة المناهج الصحیحة والخطط المحکمة للوقوف بوجه جرائم السلطات الحاکمة ومکافحتها، ونستعرض فیما یلی بإیجاز أهمّ تلک المبادئ والأسالیب فی دائرة العناوین التالیة:

1- الصبر

لا شکّ فی أنّ الصبر قرین الأعمال والمشاریع الکبیرة، والحرکات الناجحة والمثمرة، وکلّما ازدادت ضخامة العمل والمشروع کان أصحابه أشدّ احتیاجاً وَفَاقةً إلی التحلّی بالصبر والتحمّل والثبات، ویُعدّ الصبر من أهمّ الصفات الأخلاقیّة والملکات النفسانیّة التی أوصی الله تعالی بها الأنبیاء والمرسلین والأوصیاء والمؤمنین کافّة، والآیات القرآنیّة والأحادیث الشریفة التی تعرّضت لهذه الصفة وحدودها ودرجاتها وأهمّیتها وشرائطها وآثارها فوق حدّ الحصر والإحصاء، ولا یسعنا المجال للخوض فی تفاصیل مبدأ الصبر ودوره المحوری فی تکامل الإنسان وبناء شخصیّته، لکنّنا نؤکّد هنا علی أنّ اختیار خطّ المعارضة ومنهج المواجهة مع السلطات الفاسدة والظالمة بحاجة إلی همّة عالیة ودرجات متقدّمة من التحمّل والصبر.

ولأنّ خطّ الأنبیاء الرسالی ومنهجهم الإصلاحی فی المجتمع کان یستدعی الوقوف بحزم وثبات بوجه الطغاة والمتسلِّطین الفاسدین من حکّام الظلم والجور، کان الله تعالی یُوصیهم ویأمرهم بالصبر کثیراً، ویُوصی نبیّه الأکرم صلی الله علیه و آله أن یحذو حذو الأنبیاء السابقین، ویتسلّح دائماً بهذه الصفة العظیمة، یقول الله تعالی مخاطباً نبیّنا الکریم محمّد صلی الله علیه و آله :«فَاصْبِرْ کَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ کَأَنَّهُمْ یَوْمَ یَرَوْنَ مَا یُوعَدُونَ لَمْ یَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ یُهْلَکُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ »((1)). وهکذا یخاطب الله تعالی المؤمنین

- الذین هم علی نهج الأنبیاء وخطِّ الرسالة - بالقول:«یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا اصْبِرُوا

ص: 237


1- ([1]) الأحقاف: آیة35.

وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّکُمْ تُفْلِحُونَ »((1)). وکان موسی علیه السلام أیضاً یُوصی قومه من بنی إسرائیل بالصبر والتحمّل والثبات؛ للوقوف بحزم وقوّة أمام أشرس إرهاب حکومی مارسه معهم الطاغیة فرعون والمستکبرون من قومه، یقول الله} بهذا الصدد:«وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَی وَقَوْمَهُ لِیُفْسِدُوا فِی الْأَرْضِ وَیَذَرَکَ وَآلِهَتَکَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْیِی نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ *قَالَ مُوسَی لِقَوْمِهِ اسْتَعِینُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ یُورِثُهَا مَنْ یَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِینَ »((2)). وقد أوصی الله تعالی بمبدأ الصبر ومدحه وحثّ علیه فی أکثر من مائة مورد فی القرآن الکریم، وأمّا الأحادیث فیعجز الباحث عن إحصائها، کلّ ذلک یؤکّد أهمّیة الصبر ومحوریّته فی الحرکات والمشاریع الإصلاحیة.

وکان من أبرز الشخصیات الإصلاحیّة الرائدة - التی عُرفت فی زمانها بمعارضتها الصریحة للفساد والإرهاب الحکومی - الصحابی الجلیل أبو ذر الغفاری (رضوان الله تعالی علیه)، وخصوصاً فی فترة خلافة عثمان بن عفان، حیث انحرفت خلافته کثیراً عن مبادئ الإسلام وأُصوله؛ ما أدّی إلی استیاء واسع فی الأوساط الشعبیّة، ومعارضة شدیدة للجهاز الحاکم وسیاسته الظالمة والمجحفة، وکان أبو ذرّ یقف فی الواجهة بقوّة وحزم مُعارضاً لاستبداد عثمان وولاته وتفرّدهم الجائر بالسلطة، وقد دفع ضریبة کبیرة إزاء منهجه المعارض وسیرته الرافضة والمقاومة للجور والظلم، وواجه فی سبیل ذلک مُختلف صنوف التعذیب والضرب والإهانة والتهجیر والطرد من مدینة رسول الله صلی الله علیه و آله ، حتی مات غریباً مظلوماً مهضوماً فی صحراء الربذة

ص: 238


1- ([2]) آل عمران: آیة200.
2- ([1]) الأعراف: آیة127- 128.

ورمضائها، وقصّته معروفة ومشهورة، وحینما أصدر الخلیفة عثمان قرار طرده وتهجیره خارج المدینة المنوّرة، خرج لمشایعته وتودیعه - فی مظاهرة سلمیّة - أمیر المؤمنین والحسن والحسین علیهم السلام ، ومعهم عقیل بن أبی طالب وعمّار بن یاسر، وقد حاولوا أن یخفّفوا عنه آلام العنف الذی واجهه فی حکم عثمان والغربة المؤلمة التی سیعیشها بقیّة حیاته، ضریبة مکافحته للإرهاب، ومن جملة ما تکلّم به الإمام الحسین علیه السلام فی هذا الموقف العصیب هو التأکید علی مسألة الصبر والتحمّل، وأنّ مواجهة الإرهاب

الحکومی ینبغی أن یکون مقروناً بملکة الصبر، ولا نصر إلّا مع الصبر، حیث خاطبه علیه السلام بالقول: «یا عَمّاهْ، إِنَّ الله تَبارَکَ وَتَعالی قادِرٌ أَنْ یُغَیِّرَ ما تَری، وَهُوَ کُلَّ یَوْم فی شَأن، إِنَّ الْقَوْمَ مَنَعُوکَ دُنْیاهُمْ وَمَنَعْتَهُمْ دینَکَ فَما أَغْناکَ عَمّا مَنَعُوکَ، وَما أَحْوَجَهُمْ إِلی ما مَنَعْتَهُمْ، فَعَلَیْکَ بِالصَّبْرِ؛ فَإنَّ الخَیْرَ فی الصَّبْرِ، وَالصَّبْرُ مِنَ الْکَرَمِ، وَدَعِ اَلجَزَعَ فَإنَّ الجَزَعَ لا یُغْنیکَ»((1)). وفی نصٍّ آخر قال علیه السلام : «فَاسْأَلِ الله الصَّبْرَ وَالنَّصْرَ، واسْتَعِذْ بِهِ مِنَ الجَشَعِ وَالجَزَعِ؛ فَإِنَّ الصَّبْرَ مِنَ الدّینِ وَالْکَرَمِ، وَإنَّ الجَشَعَ لا یُقَدِّمُ رِزْقاً، وَالجَزَعُ لا یُؤَخِّرُ أَجَلاً»((2)).

وکان الإمام الحسین علیه السلام یلهج دائماً بالصبر فی مواجهة الطغاة إلی لحظاته الأخیرة، حینما وقع علی تربة کربلاء، وبقی ثلاث ساعات من النهار ملطّخاً بدمه الشریف، رامقاً بطرفه إلی السماء وینادی: «یا إلهی، صبراً علی قضائک، ولا معبود سواک، یا غیاث المستغیثین»((3)). وفی زیارة الناحیة المقدّسة یُخاطبه الإمام المهدی بالقول: «وقد عجبتْ من صبرک ملائکة السماوات»((4)).

ص: 239


1- ([1]) الکلینی، محمد بن یعقوب، الکافی: ج8، ص207.
2- ([2]) الجوهری، أحمد بن عبد العزیز، السقیفة وفدک: ص79.
3- ([3]) القندوزی، سلیمان بن إبراهیم، ینابیع المودّة: ج3، ص82.
4- ([4]) المشهدی، محمد بن جعفر، المزار: ص504.
2- الشجاعة

«الشجاعة بنفسها ملکة یُقتدر بها علی خوض الأهوال، ومعارکة الأبطال، وتلزمها جرأة وقوّة قلب»((1)). وفی الحدیث عن الإمام الصادق علیه السلام : «جُبلت الشجاعة علی ثلاث طبائع، لکلّ واحدة منهن فضیلة لیست للأُخری: السخاء بالنفس، والأنفة من الذلّ،

وطلب الذکر، فإن تکاملت فی الشجاع کان البطل الذی لا یُقام لسبیله، والموسوم بالإقدام فی عصره»((2)).

ومن الواضح أنّ الوقوف بوجه الطغاة والظالمین ومواجهة الحکومات الإرهابیّة یتطلّب مستویات عالیة من ملکة الشجاعة والجرأة والإقدام، وواضح أیضاً أنّ صفات الضعف والخوف والجبن لا تتوافق أبداً مع اختیار طریق الرفض والمعارضة ومقاومة الأنظمة الاستبدادیّة الجائرة، الذی یتطلّب فی کثیر من الأحیان المواجهة المسلّحة والتضحیة بالغالی والنفیس، فالضعیف الخائف الجبان سُرعان ما یتراجع ویخضع أمام إرهاب السلطات القمعیّة؛ ولذا نری أنّ الله تعالی خاطب نبیّه موسی علیه السلام حینما أرسله للوقوف بوجه الطاغیة فرعون بالقول: «وَأَلْقِ عَصَاکَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ کَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّی مُدْبِرًا وَلَمْ یُعَقِّبْ یَا مُوسَی لَا تَخَفْ إِنِّی لَا یَخَافُ لَدَیَّ الْمُرْسَلُونَ »((3)).

وقد تجلّت الشجاعة والرجولة والبسالة بأوضح أشکالها وأعلی درجاتها فی کلمات أبی عبد الله الحسین علیه السلام ومواقفه الحازمة والحاسمة، وخصوصاً فی المراحل المتنوّعة لنهضته المبارکة، حیث سطّر علیه السلام علی صفحاتها أروع ملاحم البطولة والشجاعة والإقدام والتضحیة فی سبیل التغییر والإصلاح ومحاربة المفسدین، وکان من جملة تلک المواقف الصامدة والخالدة حدیثه الصریح والجریء مع الطاغیة معاویة،

ص: 240


1- ([5]) النراقی، أحمد بن محمد مهدی، مستند الشیعة: ج18، ص88.
2- ([1]) ابن شعبة الحرّانی، الحسن بن علی، تُحف العقول: ص322.
3- ([2]) النمل: آیة10.

الذی یُهدّده فیه ویتوعّده علیه السلام بالثورة ضدّه والخروج المسلّح لإسقاط حکومته إن لم یرتدع عن أعماله العدوانیّة والإجرامیّة تجاه الشعب، وقد سبقت الإشارة إلی مقاطع من حدیثه علیه السلام المناهض لظلم معاویة وحکومته الفاسدة، ومن ذلک أیضاً قوله علیه السلام لمعاویة: «وَإِنّی - وَاللهِ - ما أَعْرِفُ أَفْضَلَ مِنْ جِهادِکَ، فَإِنْ أَفْعَلْ فَإنَّهُ قُرْبَةٌ إِلی رَبّی، وَإنْ لَمْ

أَفْعَلْهُ فَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِدینی، وَأَسْأَلُهُ التَّوْفیقَ لِما یُحِبُّ وَیَرْضی»((1)). وحینما هلک معاویة وأمر یزید والیه علی المدینة أن ینتزع البیعة من الحسین علیه السلام طوعاً أو کرهاً، أجابه الإمام الحسین علیه السلام بکلمة ملؤها الرجولة والشهامة والبطولة، حینما قال: «یَزیدُ رَجُلٌ فاسِقٌ، شارِبُ خَمْر، قاتِلُ النَّفْسِ المُحَرَّمَةِ، مُعْلِنٌ بِالْفِسْقِ، وَمِثْلی لا یُبایِعُ لِمِثْلِهِ»((2))، وقال أیضاً علیه السلام : «وَاللهِ، لَوْ لَمْ یَکُنْ فِی الدُّنیا مَلْجَأٌ وَلا مَأْویً، لَما بایَعْتُ یَزیدَ بْنَ مُعاوِیَةَ أَبَداً»((3)). وفی ساحات البسالة والصمود والتضحیة قال علیه السلام : «مَنْ کانَ باذِلاً فینا مُهْجَتَهُ، وَمُوَطِّناً عَلی لِقاءِ اللهِ نَفْسَهُ فَلْیَرْحَلْ مَعَنا؛ فَإِنّی راحِلٌ مُصْبِحاً إِنْ شاءَ الله»((4)). وحینما عرض علیه ابن زیاد الخضوع له والبیعة لیزید وهو علیه السلام محاصر فی کربلاء، قال: «لا أُجیبُ ابْنَ زِیادَ بِذلک أَبَداً، فَهَلْ هُوَ إلّا المَوْتَ، فَمَرْحَباً بِهِ»((5)). ولا شکّ فی أنّ هذه هی قمّة الشجاعة والبطولة کما تقدّم عن الإمام الصادق علیه السلام ، ویقول أمیر المؤمنین علیه السلام : «معالجة النِّزال تُظهر شجاعة الأبطال»((6)).

ص: 241


1- ([1]) ابن قتیبة الدینوری، مسلم بن عبد الله، الإمامة والسیاسة: ج1، ص156.
2- ([2]) ابن أعثم الکوفی، أحمد، الفتوح: ج5، ص14.
3- ([3]) المصدر السابق: ج5، ص21.
4- ([4]) الأمین، محسن، لواعج الأشجان: ص70.
5- ([5]) الدینوری، أحمد بن داود، الأخبار الطوال: ص254.
6- ([6]) الواسطی، علی بن محمد، عیون الحکم والمواعظ: ص488.

وهکذا کان أصحاب الإمام الحسین علیه السلام فی قمّة الشجاعة والبطولة، وقد وصفهم هو علیه السلام لأُخته زینب‘ بالقول: «أَما وَاللهِ، لَقَدْ نَهَرْتُهُمْ وَبَلَوْتُهُمْ، وَلَیْسَ فیهِمُ إِلّا الأَشْوَسَ الأَقْعَسَ، یَسْتَأْنِسُونَ بِالمَنِیَّةِ دُونی اسْتِئْناسَ الطِّفْلِ بِلَبَنِ أُمِّهِ»((1)).

3- العزّة والإباء

العزّة التی تُقابلها الذلّة من الصفات الإلهیّة الذاتیّة العظیمة، وهی ثانیاً وبالتبع من صفات نبیّنا الأکرم صلی الله علیه و آله ومَن سار علی هُداه من المؤمنین، قال الله تعالی فی الردّ علی المنافقین:«یَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَی الْمَدِینَةِ لَیُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِینَ وَلَکِنَّ الْمُنَافِقِینَ لَا یَعْلَمُونَ»((2)). وهذا هو منهج الطغاة والمفسدین وطریقتهم فی التعامل مع الفقراء والمستضعفین، یسعون لإذلالهم وتحقیرهم والنیل من کرامتهم بشتّی الوسائل والسُّبل، لکنّ الله تعالی یُخبرنا بأنّ العزّة صفة وملکة نفسانیّة شامخة فی البشر، لا یمتلکها إلّا الأماثل من الأنبیاء والرُّسل وأتباعهم من المؤمنین والهداة والمصلحین، والمنافقون هم الأذلّاء الذین یخشون کلّ شیء، ویحسبون کلّ صیحة علیهم من الذلّة وشدّة الخوف.

ثمّ إنّ ملکة العزّة من أهمّ شرائط النصر فی مواجهة القمع وإرهاب السلطة وفسادها، ولا نصر ولا غلبة علی الأعداء إلّا مع صفات العزّة والکبریاء والکرامة، ویبقی الذلیل عبداً خانعاً خاضعاً للطغاة، لا نصیب له من الظفر والنصر والفوز علی عدوّه.

وقد تجلّت فی نهضة الإمام الحسین علیه السلام وثورته ضدّ الطغاة والمفسدین کلّ مظاهر العزّة والکرامة والإباء، وکانت کلماته علیه السلام ومواقفه الرشیدة طافحة بتلک الصفات

ص: 242


1- ([7]) لجنة الحدیث فی معهد باقر العلوم، موسوعة کلمات الإمام الحسین علیه السلام : ص493.
2- ([1]) المنافقون: آیة8.

الکریمة فی طول مسیرته الإصلاحیّة، کما فی قوله علیه السلام : «مَوْتٌ فی عِزٍّ خَیْرٌ مِنْ حَیاة فی ذُلٍّ»((1)). وقوله علیه السلام - حینما نزل أرض کربلاء وأحاطت به الأعداء -: «لِیَرْغَبَ الْمؤْمِنُ فی لِقاءِ اللهِ مُحِقّاً، فَإِنّی لا أَریَ المَوْتَ إِلّا شَهادَةً، وَلاَ الحَیاةَ مَعَ الظّالِمینَ إِلّا بَرَماً»((2)). وقوله علیه السلام

- حینما خیّروه فی کربلاء بین القتل أو الخضوع لابن زیاد وإعلان البیعة لیزید بن معاویة -: «أَلا وَإِنَّ الدَّعِیَّ ابْنَ الدَّعیّ قَدْ تَرَکَنی بَیْنَ السِّلَّةِ وَالذِّلَّةِ، وَهَیْهاتَ لَهُ ذلِکَ مِنّی! هَیْهاتَ مِنَّا الذِّلَّةُ»((3)). وحینما خاطبه قیس بن الأشعث بالقول: أو لا تنزل علی حکم بنی عمّک؟! أجابه علیه السلام قائلاً: «لا وَاللهِ، لا أُعْطیهِمْ بِیَدی إعْطاءَ الذَّلیلِ، وَلا أُقِرُّ إقْرارَ الْعَبیدِ»((4)). وهکذا أضحت هذه الکلمات المنیرة أناشید خالدة یُردّدها الأحرار والأُباة من مختلف الألوان والمذاهب والجنسیّات.

وقد بلغت العزّة والکرامة فی الحسین بن علیّ سلام الله علیه مبلغها حین أیقن بالقتل، وطلب ثوباً لا یرغب به أحد، یجعله تحت ثیابه، کی لا یُسلب منه، فجاءوه بتبّان((5))، فرفضه، وقال: «ذاکَ لِباسُ مَنْ ضُرِبَتْ عَلَیْهِ الِذّلة»((6))، وأخذ ثوباً آخر، فخرّقه وجعله تحت ثیابه.

4 - الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر (الإصلاح وتوعیة الأُمّة بالطرق السلمیّة)

لا شکّ فی أنّ کوارث المعارک والحروب هی أسوأ ما تواجهه البشریّة فی هذه الحیاة؛ لما تخلّفه من آثار الخراب والدّمار الشامل وهلاک الحرث والنسل، ومن هذا

ص: 243


1- ([2]) ابن شهر آشوب، محمد بن علی، مناقب آل أبی طالب: ج3، ص224.
2- ([3]) الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج4، ص305.
3- ([1]) الطبرسی، أحمد بن علی، الاحتجاج: ج2، ص24.
4- ([2]) الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم: ج4، ص323.
5- ([3]) السروال القصیر.
6- ([4]) ابن عساکر، علی بن الحسن، تاریخ مدینة دمشق: ج14، ص221.

المنطلق نفهم لماذا أنّ خوض الحروب والمواجهات المسلّحة مع العدو کانت هی الخیار الأخیر بید الهداة والمصلحین، فحیثما کان هناک مجالاً للسلم والهدنة والصلح، کان هو الحلّ الأسبق المتقدّم علی سائر الحلول العسکریّة، وهذه قاعدة سماویّة عامّة، یأمر الله

تعالی نبیّه الأکرم صلی الله علیه و آله ویُلزمه بها فی مسیرة إصلاح الأُمّة وهدایتها، یقول تعالی:«وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَکَّلْ عَلَی اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِیعُ الْعَلِیمُ »((1)).

وهذا هو الأصل الذی کان یحکم مسیرة الإمام الحسین علیه السلام الإصلاحیّة، حتّی اللحظات الأخیرة، فکان علیه السلام یری بأنّ: «الحَرْبَ شَرُّها ذَریعٌ، وَطَعْمُها فَظیعٌ، وَهِیَ جُرَعٌ مُسْتَحْساةٌ»((2)). وکان یؤکّد لمعاویة بأنّ حرکته فی الأُمّة سلمیّة توعویّة، ویکتب له قائلاً: «وَما أُریدُ لَکَ حَرْباً وَلا عَلَیْکَ خِلافاً»((3)).

وفی هذا الضوء کان علیه السلام ینطلق مُنطلقاً سلمیّاً فی توعیة الأُمّة وهدایتها إلی الحقّ، ویؤکّد کثیراً علی المبدأ القرآنی فی هدایة الناس، وهو مبدأ الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، حیث یقول علیه السلام بعد الاستشهاد بطائفة من الآیات القرآنیّة المبارکة: «وَقالَ:«وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِیَاءُ بَعْضٍ یَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَیَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْکَرِ وَیُقِیمُونَ الصَّلَاةَ وَیُؤْتُونَ الزَّکَاةَ وَیُطِیعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِکَ سَیَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِیزٌ حَکِیمٌ»((4))، فَبَدَأَ اللهُ بِالأَمْر بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْیِ عَنِ المُنْکَرِ فَریضَةً مِنْهُ؛ لِعِلْمِهِ بِأَنَّها إِذا أُدِّیَتْ وَأُقیمَتْ اسْتَقامَتِ الفَرائِضُ کُلُّها هَیِّنُها وَصَعْبُها؛ وَذلِکَ أَنَّ الأَْمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْیَ عَنِ المُنْکَرِ دُعاءٌ إِلَی الإِسْلامِ مَعَ رَدِّ المَظالِمِ، وَمُخالَفَةِ الظّالِمِ، وقِسْمَةِ الْفَیْءِ وَالْغَنائِمِ، وَأَخْذِ الصَّدَقاتِ مِنْ مَواضِعِها، وَوَضْعِها فی حَقِّها»((5)). وقد أطلق علیه السلام ذلک المبدأ الإلهی شعاراً حینما

ص: 244


1- ([1]) الأنفال: آیة61.
2- ([2]) المنقری، نصر بن مزاحم، وقعة صفِّین: ص115.
3- ([3]) الطوسی، محمد بن الحسن، اختیار معرفة الرجال (رجال الکشی): ج1، ص252.
4- ([4]) التوبة: آیة71.
5- ([5]) ابن شعبة الحرّانی، الحسن بن علی، تُحف العقول: ص237.

خرج لإصلاح الأُمّة، قائلاً: «وَأَنّی لَمْ أَخْرُجْ أشِراً وَلا بَطِراً، وَلا مُفْسِداً وَلا ظالِماً، وَإِنَّما خَرَجْتُ لِطَلَبِ الإصْلاحِ فی أُمَّةِ جَدّی صلی الله علیه و آله ، أُریدُ أَنْ آمُرَ بِالمَعْرُوفِ وَأَنْهی عَنِ المُنْکَرِ»((1)).

وکان هذا هو أُسلوبه ومنهجه علیه السلام فی مواجهة طغیان معاویة، یُرشده إلی الصلاح ویأمره بالتقوی ویعظه بعاقبة أمره، ویخاطبه قائلاً: «وَاتَّقِ اللهَ یا مُعاوِیةُ، وَاعْلَمْ أَنَّ لِلهِ کِتاباً لا یُغادِرُ صَغیرَةً وَلا کَبیرةً إِلّا أَحْصاها»((2)).

وحینما جمع الإمام الحسین علیه السلام کبار الصحابة والتابعین أیّام الحجّ فی مکّة المکرّمة قبل هلاک معاویة، حاول أن یشرح لهم أبعاد نهضته التصحیحیّة، ویُطلعهم علی أحقیّته ومنزلته الخاصّة فی الإسلام، فخاطبهم قائلاً: «وَإِنّی أُریدُ أَنْ أَسأَلَکُمْ عَنْ شَیْء، فَإِنْ صَدَقْتُ فَصَدِّقُونی وَإِنْ کَذِبْتُ فَکَذِّبُونی، وَأَسْأَلُکُمْ بِحَقِّ اللهِ عَلَیْکُمْ وَحَقِّ رَسُولِ اللهِ صلی الله علیه و آله وَقَرابَتی مِنْ نَبِیِّکُمْ لمّا سَیَّرْتُمْ مَقامی هذا، وَوَصَفْتُمْ مَقالَتی وَدَعَوْتُمْ أَجْمَعینَ فی أَمْصارِکُمْ مِنْ قَبائِلِکُمْ مَنْ أَمَنْتُمْ مِنَ النّاسِ»((3)). وشرع بعدها علیه السلام فی تفصیل الأدلّة الصریحة الدالّة علی فضل أهل البیت علیهم السلام ومنزلتهم وأحقیّتهم بالأمر والخلافة من غیرهم، والتذکیر بالمأساة التی تمرّ بها الأُمّة فی ظلّ الحکم الأُمویّ الجائر، محذِّراً من تفاقم الأزمة قائلاً: «فَإِنَّکُم إِلّا تَنْصُرُونا وَتُنْصِفُونا قَوِیَ الظَّلَمَةُ عَلَیْکُمْ، وَعَمِلُوا فی إِطْفاءِ نُورِ نَبِیِّکُمْ»((4)).

ولّما رفض علیه السلام البیعة لیزید - وأقدم علی تغییر الحکم فی الکوفة - شرح للناس حقیقة الأمر وبصّرهم به قائلاً: «لَعَمْری، مَا الإْمامُ إِلّا الْعامِلُ بِالْکِتابِ، وَالآْخِذُ بِالْقِسْطِ، وَالدّائِنُ بِالحَقِّ، وَالْحابِسُ نَفْسَهُ عَلی ذاتِ الله»((5)).

ص: 245


1- ([6]) المجلسی، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص329.
2- ([1]) ابن قتیبة الدینوری، عبد الله بن مسلم، الإمامة والسیاسة: ج1، ص157.
3- ([2]) الهلالی، سلیم بن قیس، کتاب سلیم بن قیس: ص320.
4- ([3]) ابن شعبة الحرّانی، الحسن بن علی، تُحف العقول: ص239.
5- ([4]) الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الأُمم والملوک: ج4، ص262.

وبالمنطق ذاته خاطب علیه السلام أهل الکوفة فی کربلاء قائلاً: «وَإِنْ أَنْتُمْ کَرِهْتُمُونا وَجَهِلْتُمْ حَقَّنا، وَکانَ رَأْیُکُمْ غَیْرَ ما أَتَتْنی کُتُبُکُمْ وَقَدِمَتْ بِهِ عَلَیَّ رُسُلُکُمْ انْصَرَفْتُ

عَنْکُمْ»((1)). فکان علیه السلام متمسِّکاً بالخیارات السلمیّة التوعویّة، رافضاً للخیار العسکری، ولم یکن لیبدأ القوم بقتال أبداً.

5- الهجرة فی سبیل الله

الهجرة فی سبیل الله واحدة من أهمّ المبادئ والأُصول القرآنیّة المؤثّرة فی مواجهة الإرهاب الحکومی، وذلک لأنّ الشعب المستضعف - الذی یرزح تحت ظلّ الحکومات والسلطات الإرهابیّة - لا یقوی أبداً علی المعارضة والسعی للإصلاح والتغییر، فیتحتّم علیه البحث عن ملاذ آمن لمواصلة مسیرته الجهادیّة؛ ومن هنا یدعو القرآن الکریم الشعوب المستضعفة للهجرة والعمل فی مقاومة الحکومات الجائرة من الخارج، وذلک لاکتساب القوّة والقدرة علی المواجهة، کما فی قول الله تعالی:«إِنَّ الَّذِینَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِکَةُ ظَالِمِی أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِیمَ کُنْتُمْ قَالُوا کُنَّا مُسْتَضْعَفِینَ فِی الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَکُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِیهَا فَأُولَئِکَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِیرًا » ((2)). ویمدح الله تعالی المهاجرین فی سبیله بالقول:«فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّی لَا أُضِیعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْکُمْ مِنْ ذَکَرٍ أَوْ أُنْثَی بَعْضُکُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِینَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِیَارِهِمْ وَأُوذُوا فِی سَبِیلِی وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُکَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَیِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِی مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ »((3))، وبالقول أیضاً:«وَالَّذِینَ هَاجَرُوا فِی اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِی الدُّنْیَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَکْبَرُ لَوْ کَانُوا یَعْلَمُونَ »((4)).

ص: 246


1- ([1]) المصدر السابق: ص303.
2- ([2]) النساء: آیة97.
3- ([3]) آل عمران: آیة195.
4- ([4]) النحل: آیة41.

ومن هذا المنطلق؛ أمر الله تعالی نبیّه الأکرم محمّد صلی الله علیه و آله بترک مکّة المکرّمة والهجرة مع أصحابه المؤمنین برسالته إلی بلد آمن ینطلق منه للعمل علی إصلاح الأُمّة ودعوة الناس إلی دین الله}، وبالفعل تحقّقت الإرادة الإلهیة، وجاء نصر الله والفتح من بلد الهجرة، المدینة المنوّرة، انطلاقاً إلی سائر البلدان الأُخری بما فیها مکّة المکرّمة، حاضنة الإرهاب الجاهلی آنذاک.

وهذا تماماً ما قام به الإمام الحسین علیه السلام حینما هاجر من المدینة إلی مکّة، ومنها إلی الکوفة، کلّ ذلک تحت وطأة الإرهاب الحکومی والمطاردة من قبل الجهاز الحاکم لبنی أُمیّة، فکانت هجرة الحسین علیه السلام الشرارة الأُولی التی فجّرت الثورة بوجه الطغاة إلی یومنا هذا.

6- الجهاد فی سبیل الله (الخیار العسکری المسلّح)

حینما تَفْقد المواعظ والکلمات أثرها، وتعجز الطرق السلمیّة والتوعویّة عن إیصال رسالتها، وتعمی الأبصار، وتفقد الآذان سمعها، وتُوضَع علی أبواب القلوب أقفالها، ویُصبح الباطل والمنکر معروفاً بین الناس، ویبیت الحقّ والمعروف منکراً مهجوراً لا یُعمل به، ویُمسی الدین مدروسة معالمه، منکوسة أعلامه، مطموسة سننه وأحکامه، حینها لا یبقی أمام الهداة والمصلحین وسیلة للهدایة والإصلاح سوی الخیار العسکری والجهاد المسلّح فی سبیل الله، وهذا هو المنهج والأُسلوب القرآنی فی رسم حدود التعامل مع جرائم الإرهاب الحکومی، ومن أمثلة ذلک الآیات القرآنیّة التی أذن الله تعالی فیها للمسلمین أن یقاتلوا ویجاهدوا فی سبیله، بعد استنفاذ کافّة الطرق التبلیغیّة والسلمیة فی التحاور مع طغاة قریش، کما فی قوله تعالی:«أُذِنَ لِلَّذِینَ یُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَی نَصْرِهِمْ لَقَدِیرٌ «الَّذِینَ أُخْرِجُوا مِنْ دِیَارِهِمْ بِغَیْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ یَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِیَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ یُذْکَرُ فِیهَا اسْمُ اللَّهِ کَثِیرًا وَلَیَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ یَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِیٌّ عَزِیزٌ »((1)).

ص: 247


1- ([1]) الحج: آیة39 - 40.

وکان هذا أیضاً هو ذات المنهج الحسینی المتبّع فی التعاطی مع الأزمات التی یمرّ بها المجتمع الإسلامی، جرّاء الأعمال الهمجیة والاعتداءات الإجرامیّة التی یُمارسها طغاة بنی أُمیّة مع الأبریاء، فکان علیه السلام یُهدّد معاویة صریحاً بالخیار العسکری إن استمرّ فی منهجه القمعی، حیث یُخاطبه بالقول: «وَإِنّی وَاللهِ، ما أَعْرِفُ أَفْضَلَ مِنْ جِهادِکَ، فَإِنْ

أَفْعَلْ فَإنَّهُ قُرْبَةٌ إِلی رَبّی»((1)). وهکذا فی المجال ذاته یقول علیه السلام حینما خرج ثائراً علی فساد یزید وإجرامه وطغیانه: «وَأَنا أَوْلی مَنْ قامَ بِنُصْرَةِ دینِ اللهِ وَإِعْزازِ شَرْعِهِ وَالْجِهادِ فی سَبیلِهِ، لِتَکُونَ کَلِمَةُ اللهِ هِیَ الْعُلْیا»((2)). وقد کان صموده علیه السلام فی کربلاء وجهاده فی سبیل الله إلی الرمق الأخیر خیر شاهد علی ما نقول.

7- التضحیة بکلّ شیء

التضحیة بالغالی والنفیس والتفانی فی سبیل الحقیقة والعدالة والنزاهة من أهمّ مقوّمات مواجهة الطغاة والمفسدین، فلا یهاب الموت ولا یخشی الفوت مَن یختار العیش فی عزّة وکرامة وإباء، وأمّا من یعتزّ بالعیش فی الدنیا والبقاء علی سطحها بأیّ ثمن، وینشغل بأمواله وأهله وعیاله، عزیزاً کان أم ذلیلاً، فإنّه لا یقوی أبداً علی سلوک سبیل المعارضة والمقاومة والنضال والمواجهة بشجاعة وجرأة وإقدام.

والتاریخ یشهد کیف تجلّت معالم التضحیة والفداء فی الثورة الحسینیّة بأوضح وأروع صورها؛ حیث ضحّی الإمام الحسین علیه السلام بکلّ ما یملک فی هذه الحیاة، نفسه الشریفة المقدّسة، وأهل بیته الطاهرین، وأصحابه الکرام المنتجبین؛ فهو المنادی فی الملأ حینما أعلن الثورة والخروج من مکّة إلی الکوفة فی خطبته المشهورة: «مَنْ کانَ باذِلاً فینا

ص: 248


1- ([1]) ابن قتیبة الدینوری، عبد الله بن مسلم، الإمامة والسیاسة: ج1، ص156.
2- ([2]) سبط ابن الجوزی، یوسف بن فرغلی، تذکرة الخواص: ص217.

مُهْجَتَهُ، وَمُوَطِّناً عَلی لِقاءِ اللهِ نَفْسَهُ، فَلْیَرْحَلْ مَعَنا؛ فَإِنّی راحِلٌ مُصْبِحاً إِنْ شاءَ اللّه»((1)). وهو القائل حقّاً وصدقاً حینما أحاطت به الأعداء: «أَلا وَإنَّی زاحِفٌ بِهذِهِ الأُسْرَةِ عَلی قِلَّةِ

الْعَدَدِ، وَکَثْرَةِ الْعَدُوِّ، وَخَذْلَةِ النّاصِرِ»((2)). فکان علیه السلام المثل الأعلی فی درب التضحیة والفداء، دفاعاً عن کرامة الإنسان وحرّیته.

8 - السعی لإقامة الحکومة العادلة

واحدة من أهمّ الأهداف المصیریّة والحسّاسة التی قد تسعی المعارضة لتحقیقها هی إسقاط الأنظمة الإرهابیة الظالمة، واستبدالها بنظام آخر عادل ونزیه وقویّ، یحفظ لأبناء الشعب حقوقهم بمختلف صنوفهم البشریّة وطبقاتهم الاجتماعیّة، وهذا بالتحدید ما سعی الإمام الحسین علیه السلام لتحقیقه حینما أجاب أهل الکوفة علی رسائلهم بالإیجاب، وبعث إلیهم ابن عمّه مسلم بن عقیل رسولاً عنه؛ لیُمهِّد له الأُمور، وقد أوصاه علیه السلام قائلاً: «وَادْعُ النّاسَ إِلی طاعَتی، وَاخْذُلْ-هُمْ عَنْ آلِ أبی سُفْیانَ»((3)). وقد فصّلنا الحدیث حول هذه النقطة بالخصوص فی مباحث سابقة، فلاحظ.

فتحصّل: أنّ من المبادئ والأهداف المهمّة للنهضة الحسینیّة مکافحة الإرهاب الحکومی الأُمویّ، الذی کاد أن یقضی علی الأُمّة الإسلامیّة، ویُهلک الحرث والنسل، لولا التضحیات الکبیرة التی قدّمها الإمام الحسین علیه السلام فی تلک النهضة المبارکة.

ص: 249


1- ([3]) الأمین، محسن، لواعج الأشجان: ص70.
2- ([1]) الطبرسی، أحمد بن علی، الاحتجاج: ج2، ص25.
3- ([2]) ابن أعثم الکوفی، أحمد، الفتوح: ج5، ص31.

خلاصة الفصل السابع

ذکرنا فی هذا الفصل بأنّ الإرهاب الحکومی هو أبرز ما واجهه الإمام الحسین علیه السلام فی حرکته الإصلاحیّة، وأوضحنا فی مبحثه الأوّل أبرز المفاهیم ذات الصلة، وهی:

1- مفهوم الإرهاب، أوضحنا معناه فی اللغة والاصطلاح، ثمّ استخلصنا أهمّ عناصره التعریفیّة.

2- مفاهیم (السیاسة، الحکومة، الدولة)، أوضحنا أیضاً معانیها اللغویّة والاصطلاحیة بإیجاز.

3- مفهوم الإرهاب الحکومی، أوردنا أبرز تعاریفه الاصطلاحیّة، واستخلصنا أیضاً أهمّ عناصره التعریفیّة، ثمّ أشرنا إلی أسباب نشوئه، وبیّنا آثاره المدّمرة علی المجتمع الإنسانی.

وخلُصنا إلی أنّ من أهم الأهداف الرئیسة لإنزال الشرائع السماویّة محاربة هذا اللون من الإرهاب، حیث وقفت بکلّ حزم وثبات بوجه السلطات المستبدّة، التی مارست بحقّ شعوبها أشکال القمع والجریمة. ولولاها لما کنّا ننعم الیوم بجانب من الحیاة الإنسانیّة الکریمة.

وأوردنا قصّة النبیّ موسی علیه السلام کأبرز مثال قرآنیّ علی تلک الجهود الإلهیّة، أرسله الله تعالی لیخلّص بنی إسرائیل من ظلم فرعون حینما طغی وعاث فی الأرض فساداً، ومارس أعنف وأقسی أشکال الإرهاب بحقّ شعبه المضطهد، الذین کانوا یعیشون تحت وطأة سلطته القمعیّة الجائرة.

ص: 250

وأمّا من النصوص التاریخیّة والروائیّة، فیختصّ بحثنا بالخطابات والمواقف الحسینیّة ذات الصلة، والتی صدرت من الإمام الحسین علیه السلام حینما تصدّی لأخطر وأعتی حکومة إرهابیة مستبدّة مارست ألوان العنف والإرهاب بحقّ المسلمین، تلک هی الحکومة الأُمویّة الجائرة.

ثم تحدّثنا فی المبحث الثانی عن الإرهاب الحکومی فی خصوص کلمات الإمام الحسین علیه السلام ، استنتجنا منه ما یلی:

1- إنّ الإمام الحسین علیه السلام قد استنکر فی أقواله وخطبه ورسائله وأدان بشدّة أهمّ عناصر الإرهاب الحکومی ومکوّناته، وهی: أولاً: ممارسة الأسالیب العنیفة والمنظّمة فی قمع الشعب ونشر الذعر والفزع وإثارة الرعب بین الناس. وثانیاً: تسلیط الأجهزة القمعیّة علی أفراد الشعب. وثالثاً: تحقیق الغایات الإجرامیة للإرهاب الحکومی، کتغلیب الرؤیة السیاسیة الحاکمة، وفرض السیطرة علی المجتمع ومفاصل الدّولة، وتخویف المعارضة وإرغام الشعب علی الخضوع والاستسلام للنظام الاستبدادی الحاکم. ورابعاً: التمییز بین مکوّنات الشعب علی أُسس إثنیة غیر قانونیّة، سیاسیّة أو اجتماعیّة أو عرقیّة أو دینیّة أو ثقافیّة أو مناطقیّة أو غیر ذلک. وخامساً: تجاوز القوانین الدّولیة والعرفیة والإنسانیّة التی تُنظّم علاقة الحاکم بالمحکوم.

2- إنّ هناک مجموعة أُخری من العناوین المهمّة والعناصر التعریفیّة لمفردة الإرهاب الحکومی، أضافها الإمام الحسین علیه السلام فی سیاق ذکر العناصر السابقة، ومن أهمّها: الظلم والجور والعدوان، والفساد فی الأرض، ونقض العهود والمواثیق، وسرقة أموال الشعب والاستئثار بالفیء، وتنصیب غیر الکفوئین فی المناصب السیادیّة.

3- إنّ کلامه علیه السلام ومواقفه الخالدة شکّلت منظومة من المبادئ والأسالیب العامّة فی کیفیّة مواجهة مخاطر الإرهاب الحکومی، ما یفسح المجال واسعاً أمام المفکّرین

ص: 251

والباحثین المعنیین بدراسة مظاهر العنف والإرهاب فی البلدان والمجتمعات، ویضع فی متناول الشعوب المعارضة المناهج الصحیحة فی الوقوف بوجه جرائم السلطات الحاکمة ومکافحتها، فکان من أهمّ تلک المبادئ والأسالیب: الصبر، والشجاعة، والعزّة والإباء، والأمر بالمعروف والنهی عن المنکر (الإصلاح وتوعیة الأُمّة بالطرق السلمیّة)، والهجرة فی سبیل الله، والجهاد فی سبیل الله (الخیار العسکری المسلّح)، والتضحیة بکلِّ شیء، والسعی لإقامة الحکومة العادلة.

والحمد لله ربّ العالمین

ص: 252

المصادر

المصادر

القرآن الکریم.

نهج البلاغة.

- أ -

1. الاحتجاج: أحمد بن علیّ بن أبی طالب الطبرسی (ت548ه-)، تعلیقات وملاحظات السیّد محمّد باقر الخرسان، نشر مطابع النعمان، النجف الأشرف.

2. الأحکام السلطانیّة: أبو الحسن علی بن محمد بن محمد بن حبیب البص-ری البغدادی، الشهیر بالماوردی (ت450ه-)، الناشر: دار الحدیث - القاهرة.

3. الأخبار الطوال: أحمد بن داود الدینوری (ت276ه-)، تحقیق عبد المنعم عامر، ط1، 1960م، القاهر، نشر دار إحیاء الکتب العربیة.

4. اختیار معرفة الرجال (رجال الکش-ی): أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسی (ت460ه-)، تحقیق وتصحیح وتعلیق: میر داماد الأسترآبادی، السیّد مهدی الرجائی، 1404ه-، نش-ر مؤسسة آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث.

الإرشاد فی معرفة حجج الله علی العباد: محمد بن محمد بن النعمان المفید (ت413ه-)، تحقیق مؤسسة آل البیت علیهم السلام لتحقیق التراث، ط2،

ص: 253

1. 1414ه -/1993م، نش-ر دار المفید للطباعة والنش-ر والتوزیع، بیروت - لبنان.

2. الإرهاب السیاسی (بحث فی أُصول الظاهرة وأبعادها الإنسانیة): أدونیس العکرة، ط2، 1993م، بیروت - لبنان.

3. الإرهاب السیاسی (دراسة تحلیلیة): عبد الناصر حریز، ط1، 1996م، الناشر: مکتبة مدبولی، القاهرة - مصر.

4. الإرهاب والبنیان القانونی للجریمة: د. إمام حسانین عطا الله، دار المطبوعات الجامعیة، سنة 2004م، الإسکندریة - مصر.

5. الإرهاب والعنف السیاسی: أحمد جلال عزّ الدین، ط1، 1986م، دار الحریة للصحافة والطباعة والنشر، القاهرة - مصر.

6. أساس البلاغة: جار الله محمود بن عمر الزمخش-ری (ت538ه-)، نشر دار ومطابع الشعب، القاهرة 1960م.

7. أضواء علی ثورة الحسین علیه السلام : محمد محمد صادق الصدر، تحقیق: کاظم العبادی، نش-ر: دار مکتبة البصائر، بیروت - لبنان، 1431ه-/2010م.

8. أعلام الدین فی صفات المؤمنین: الحسین بن أبی الحسن الدیلمی، ط2، 1988م، الناشر: مؤسسة آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث، قم - إیران.

9. إقدام المعصوم علی ما فیه قتله المعلوم: کاظم القره غولی، ط1، 1424ه-/2003م، انتشارات محبّین، قم - إیران.

ص: 254

1. الأمالی الشجریّة: یحیی بن الحسین بن إسماعیل الحسنی الشجری الجرجانی (ت499ه-)، تحقیق ومراجعة: محمد حسن إسماعیل، ط1، 1422ه/2001م، الناشر: دار الکتب العلمیة، بیروت - لبنان.

2. الأمالی: أبو جعفر محمد بن علی بن بابویه القمی الصدوق (ت381ه-)، تحقیق قسم الدراسات الإسلامیة، مؤسسة البعثة، ط1، 1417ه.ق، نش-ر مرکز الطباعة والنشر فی مؤسسة البعثة، طهران.

3. الإمامة والسیاسة: عبد الله بن مسلم بن قتیبة الدینوری (ت276ه)، تحقیق طه محمّد الزینی، نشر مؤسسة الحلبی للنشر والتوزیع.

4. أنساب الأشراف: أحمد بن یحیی البلاذری (ت279ه-)، تحقیق: الدکتور محمد حمید الله، 1959م، یخرجه معهد المخطوطات بجامعة الدول العربیة بالاشتراک مع دار المعارف بمصر.

- ب -

5. بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار: الشیخ محمد باقر المجلس-ی (ت1111ه-)، ط2، 1403ه/1983م، نشر مؤسسة الوفاء، بیروت - لبنان.

6. بحوث معاصرة فی الساحة الدولیّة: الشیخ محمد السند، ط1، 1428ه، المطبعة ستارة.

ص: 255

1. بدائع الصنائع فی ترتیب الشرائع: الإمام علاء الدین أبی بکر بن مسعود الکاسانی الحنفی الملقّب بملک العلماء (ت587ه-) ط1، 1409ه-/1989م، الناشر المکتبة الحبیبیة.

2. بصائر الدرجات الکبری فی فضائل آل محمّد علیهم السلام : محمّد بن الحسن بن فروخ الصفار (ت290ه-)، تحقیق الحاج میرزا محسن (کوچه باغی)، الناشر مؤسسة الأعلمی، طهران، طُبِع فی سنة 1362ه-.ش/1404ه-.ق.

- ت -

3. تاج العروس من جواهر القاموس: محمّد مرتض-ی الزبیدی(ت1205ه-)، تحقیق علیّ شیری، نش-ر دار الفکر للطباعة والنش-ر والتوزیع، 1994م/1414ه.

4. تاریخ الإسلام: شمس الدین محمد بن أحمد بن عثمان الذهبی (ت748ه)، تحقیق الدکتور عمر عبد السلام تدمری، الناشر دار الکتاب العربی، بیروت، ط2، 1409ه/1998م، دار الکتاب العربی.

5. تاریخ الأُمم والملوک: محمد بن جریر الطبری (ت310ه-) [قوبلت هذه الطبعة علی النسخة المطبوعة بمطبعة (بریل) بمدینة لیدن فی سنة 1879م]، راجعه وصحّحه وضبطه نخبة من العلماء الأجلّاء.

6. تاریخ مدینة دمشق: علی بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله الشافعی المعروف بابن عساکر (ت571ه-)، تحقیق علی شیری، نش-ر دار الفکر للطباعة والنش-ر والتوزیع، 1415ه/1995م، بیروت - لبنان.

ص: 256

1. تحف العقول عن آل الرسول’: أبو محمد الحسن بن علی بن الحسین بن شعبة الحرّانی (من أعلام القرن الرابع الهجری)، تحقیق علیّ أکبر الغفاری، ط2، 1404ه-.ق/1363ش، نشر مؤسسة النشر الإسلامی التابعة لجماعة المدرِّسین بقم المشرّفة - إیران.

2. التحقیق فی کلمات القرآن الکریم: الشیخ حسن المصطفوی، ط1، 1416ه-، ط1، 1416ه-، الناشر: مؤسسة الطباعة والنشر وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامی.

3. تذکرة الخواص: یوسف بن فرغلی المعروف بسبط بن الجوزی (ت654ه-)، ط1، 1425ه-/2004م، نشر دار العلوم للطباعة والنشر، بیروت - لبنان.

4. تنزیه الأنبیاء: أبو القاسم علی بن الحسین الموسوی المعروف بالشریف المرتضی (ت436ه)، ط2، 1409ه/1989م.

- ج -

5. جواهر الکلام: الشیخ محمد حسن النجفی (ت1266ه-)، تحقیق وتعلیق: الشیخ عباس القوچانی، ط2، 1365ه-.ش، المطبعة خورشید، الناشر: دار الکتب الإسلامیة - طهران.

ص: 257

- ح -

1. حماسه حسینی (تحلیلی درباره أهداف قیام إمام حسین) - باللغة الفارسیة -: الأُستاذ مهدی مهریزی.

- خ -

2. الخرائج والجرائح: قطب الدین الراوندی، الکتاب (ت573ه-)، تحقیق السید محمد باقر الموحد الأبطحی، ط1، ذی الحجة 1409ه-، قم، الناشر مؤسسة الإمام المهدی، قم المقدسة.

3. الخلاف: أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسی (ت460ه-)، تحقیق: جماعة من المحقّقین، مؤسسة النشر الإسلامی التابعة لجماعة المدّرسین بقم المشرفة، جمادی الآخرة 1407ه.

- د -

4. دراسات حول القضیّة الکردیّة ومستقبل العراق، د. منذر الفضل، ط2، 2004م، دار آراس للطباعة والنشر، أربیل - العراق.

5. دراسات فی ولایة الفقیه: حسین علی المنتظری، ط1، جمادی الثانیة 1408ه-، المطبعة: مکتب الإعلام الإسلامی، الناشر: المرکز العالمی للدراسات الإسلامیة، منشورات المرکز العالمی للدراسات الإسلامیة، قم - إیران.

ص: 258

1. دعائم الإسلام: أبو حنیفة النعمان بن محمد بن منصور بن أحمد بن حیون التمیمی المغربی المعروف بالقاضی المغربی، (ت363ه-)، تحقیق: آصف بن علی أصغر فیضی، الناشر: دار المعارف، القاهرة، 1383ه-/1963م.

2. دلائل الإمامة: محمد بن جریر الطبری (الشیعی)، (من أعلام القرن الرابع)، تحقیق قسم الدراسات الإسلامیة، مؤسسة البعثة، قم، ط1، 1413ه-، الناشر: مرکز الطباعة والنش-ر فی مؤسسة البعثة.

- ر -

3. الروضة البهیة: زین الدین بن علی (الشهید الثانی)، تحقیق: السید محمد کلانتر، ط1، 1386ه-/ط2، 1398ه-، الناشر: منشورات جامعة النجف الدینیة.

4. روضة الواعظین: محمد بن الحسن بن الفتّال النیسابوری (ت508ه-)، قدّم له العلّامة الجلیل السیّد محمد مهدی السید حسن الخرسان، منشورات الشریف الرضی، قم - إیران.

5. الروضة فی فضائل أمیر المؤمنین علیه السلام : سدید الدین شاذان بن جبرئیل القمی (ت660ه-)، تحقیق: علی الشکرچی، ط1، 1423ه.ق.

- س -

6. سبل السلام: محمد بن إسماعیل الصنعانی الأمیر (ت852ه-)، تحقیق ومراجعة: محمد عبد العزیز الخولی، الناشر: دار إحیاء التراث العربی، بیروت، ط4، 1379ه-.

ص: 259

1. السرائر: محمد بن منصور بن أحمد بن إدریس الحلی (ت598ه-)، تحقیق: لجنة التحقیق فی مؤسسة النشر الإسلامی التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة، ط1، 1410ه-، المطبعة: مطبعة مؤسسة النشر الإسلامی.

2. السقیفة وفدک: أحمد بن عبد العزیز الجوهری البصری البغدادی (ت323ه)، روایة عز الدین عبد الحمید بن أبی الحدید المعتزلی (ت656ه)، تحقیق: الدکتور الشیخ محمد هادی الأمینی، ط1، 1401ه/1980م، ط2، 1413ه/1993م، شرکة الکتبی للطباعة والنشر، بیروت - لبنان.

3. سیر أعلام النبلاء: شمس الدین محمد بن أحمد بن عثمان الذهبی (ت748ه-)، تحقیق شعیب الأرنؤوط، ط9، 1413ه-/1993م، نش-ر مؤسسة الرسالة، بیروت - لبنان.

4. السیل الجرّار المتدفق علی حدائق الأزهار: محمد بن علی بن محمد الشوکانی (ت1250ه-)، تحقیق ومراجعة: محمود إبراهیم زاید، ط1، 1405ه-، الناشر: دار الکتب العلمیة، بیروت - لبنان.

- ش -

5. شرائع الإسلام فی مسائل الحلال والحرام: أبو القاسم نجم الدین جعفر بن الحسن المعروف ب-(المحقّق الحلی)، تعلیق: السید صادق الشیرازی، ط2، 1409ه-، الناشر: انتشارات استقلال، طهران. المطبعة: أمیر، قم.

6. شرح إحقاق الحق: السید شهاب الدین النجفی، منشورات مکتبة آیة الله العظمی المرعشی النجفی، قم - إیران.

ص: 260

1. شرح نهج البلاغة: عبد الحمید بن محمد (ابن أبی الحدید المعتزلی) (ت656ه-)، تحقیق: محمد أبو الفضل إبراهیم، نش-ر دار إحیاء الکتب العربیة، 1378ه/1959م.

2. الشهادة: علی شریعتی، ط1، 1422ه-/2002م، الناشر: دار الأمیر للثقافة والعلوم، بیروت - لبنان.

3. شهید جاوید (الشهید الخالد): صالحی نجف آبادی، الناشر: أمیر فردا، المطبعة: هفدهم، 1382ش، طهران - إیران.

- ص -

4. الصحاح تاج اللغة وصحاح العربیة: إسماعیل بن حماد الجوهری (ت393ه-)، تحقیق: أحمد عبد الغفور عطار، دار العِلْم للملایین، ط4، 1407ه/1987م، بیروت - لبنان. ط1، 1376ه/1956م، القاهرة.

- ع -

5. علل الشرائع: أبو جعفر محمد بن علی بن الحسین بن بابویه القمی الصدوق (ت381ه-)، تحقیق وتقدیم: السیّد محمد صادق بحر العلوم، 1385ه-/1966م، منشورات المکتبة الحیدریّة ومطبعتها، النجف الأشرف.

6. عمدة الطالب فی أنساب آل أبی طالب: أحمد بن علی الحسینی (ابن عنبة)(ت828ه-)، تحقیق وتصحیح: محمد حسن آل الطالقانی، ط2، 1380ه-/1961م، منشورات المطبعة الحیدریّة، النجف الأشرف.

ص: 261

1. عوائد الأیام: أحمد بن محمد مهدی النراقی (1185- 1245ه )، تحقیق: مرکز الأبحاث والدراسات الإسلامیة، ط1، 1417ه-.ق/1375ش، الناشر: مرکز النشر التابع لمکتب الإعلام الإسلامی.

2. عیون الحکم والمواعظ: علی بن محمد اللیثی الواسطی (من أعلام القرن السادس)، تحقیق: الشیخ حسین الحسینی البیرجندی، ط1، طبع ونشر: دار الحدیث.

- غ -

3. الغیبة: أبو عبد الله محمد بن ابن إبراهیم بن جعفر الکاتب المعروف ب-(ابن أبی زینب النعمانی)، المتوفی حدود سنة (360ه)، تحقیق: فارس حسون کریم، ط1، 1422ه، منشورات أنوار الهدی، إیران - قم.

- ف -

4. فاجعة الطف (أبعادها ثمراتها توقیتها): السیِّد محمد سعید الطباطبائی الحکیم (دام ظله)، ط3، 2010م، الناشر: دار الهلال، النجف الأشرف.

5. الفتوح: أحمد بن أعثم الکوفی (ت314ه-)، تحقیق: علی شیری، ط1، 1411ه/1991م، نشر دار الأضواء للطباعة والنشر والتوزیع، بیروت - لبنان.

6. فی رحاب عاشوراء: محمد مهدی الآصفی، ط4، 1431ه-/2010م، الناشر: مجمع أهل البیت علیهم السلام ، النجف الأشرف - العراق.

ص: 262

- ک -

1. الکافی: أبو جعفر محمد بن یعقوب بن إسحاق الکلینی الرازی (ت328 /329ه-)، صحّحه وعلّق علیه: علیّ أکبر الغفاری، ط3، 1388ه-، نهض بمشروعه الشیخ محمد الآخوندی، الناشر: دار الکتب الاسلامیة مرتضی آخوندی، طهران - بازار سلطانی.

2. کامل الزیارات: أبو قاسم جعفر بن محمد بن قولویه القمی (ت367ه-)، تحقیق: الشیخ جواد القیومی، ط1، عید الغدیر 1417، الناشر: مؤسسة نشر الفقاهة.

3. کتاب المکاسب والبیع: میرزا محمد حسین الغروی النائینی (ت1355ه-)، (تقریر بحث النائینی للآملی)، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة.

4. کتاب سلیم بن قیس: سلیم بن قیس الهلالی الکوفی (من أعلام القرن الأوّل)، تحقیق: محمد باقر الأنصاری الزنجانی، ط1، 1422ه-/1380ش، المطبعة: نگارش، الناشر: دلیل ما، إیران، قم.

5. کشف الغطاء عن مبهمات الشریعة الغرّاء: الشیخ جعفر (کاشف الغطاء) (ت1228ه-)، تحقیق: عباس التبریزیان، محمد رضا الذاکری، وعبد الحلیم الحلی، ط1، 1422ه-/1380ش، المطبعة: مطبعة مکتب الإعلام الإسلامی، الناشر: مرکز انتشارات دفتر تبلیغات إسلامی.

ص: 263

1. کشف الغمّة فی معرفة الأئمّة: علی بن أبی الفتح الإربلی (ت693ه-)، ط2، 1405ه-/1985م، نشر: دار الأضواء، بیروت - لبنان.

2. کفایة الأثر فی النصّ علی الأئمّة الاثنی عشر: علیّ بن محمّد بن علیّ الخزاز القمّی الرازی (من أعلام القرن الرابع)، حقّقه العلم الحجّة السیِّد عبد اللطیف الحسینی الکوه کمری الخوئی، نشر بیدار، 1401ه، مطبعة الخیام - قم.

3. کمال الدین وتمام النعمة: أبو جعفر محمّد بن علیّ بن الحسین بن بابویه الصدوق القمی (ت381ه-)، تصحیح وتعلیق علیّ أکبر الغفاری، سنة الطبع 1405ه-/1363ش، نشر: مؤسسة النشر الإسلامی التابعة لجماعة المدرِّسین بقم المشرّفة.

- ل -

4. لسان العرب: محمد بن مکرم بن منظور المص-ری (ت711ه-)، نش-ر أدب الحوزة، قم - إیران، 1405ه/1363ق.

5. اللّهوف فی قتلی الطفوف: علی بن موسی بن جعفر بن طاووس (ت664ه-)، أنوار الهدی، إیران - قم.

6. لواعج الأشجان: السید محسن الأمین (ت137ه-)، سنة الطبع: 1331ه-، منشورات مکتبة بصیرتی، قم، مطبعة العرفان، صیدا.

ص: 264

- م -

1. المبسوط: شمس الدین السرخسی (ت483ه-)، سنة الطبع: 1406ه-/ 1986م، الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزیع، بیروت - لبنان.

2. مثیر الأحزان: نجم الدین جعفر بن محمد المعروف بابن نما الحلی (ت645ه-)، منشورات المطبعة الحیدریّة فی النجف، 1369ه/1950م.

3. مجمع البحرین: الشیخ فخر الدین بن محمد الطریحی (ت1085ه-)، تحقیق السیّد أحمد الحسینی، ط2، 1362ه-.ش، نشر مرتضوی، طهران.

4. المجموع: محیی الدین بن شرف النووی، (ت676ه-)، الناشر: دار الفکر، بیروت، سنة الطبع: 1997م.

5. مجموعة رسائل العلّامة الطباطبائی: محمد حسین الطباطبائی، تحقیق: الشیخ صباح الربیعی، ط1، 2007م، الناشر: مکتبة فدک لإحیاء التراث.

6. مرآة العقول فی شرح أخبار آل الرسول: محمد باقر المجلسی (ت1111ه-)، قدّم له: العلم الحجّة السیّد مرتضی العسکری، إخراج ومقابلة وتصحیح: السید هاشم الرّسولی، ط2، 1404ه-/1363ش، الناشر: دار الکتب الإسلامیة. المطبعة: مروی.

7. مروج الذّهب ومعادن الجوهر، علیّ بن الحسین بن علیّ المسعودی (ت346ه-)، دقّقها ووضعها وضبطها الأُستاذ یوسف أسعد داغر أمین، دار الکتب اللبنانیّة سابقاً، ط1، بیروت، 1385ه/1965م ط2، قم، دار الهجرة، 1404ه-/1363ش/1984م، نش-ر دار الهجرة قم - إیران.

ص: 265

1. المزار: محمد بن جعفر المشهدی، (من أعلام القرن السادس)، تحقیق جواد القیومی الأصفهانی، ط1، 1419ه-، مؤسسة النشر الإسلامی، نشر القیوم، قم - إیران.

2. المسائل العکبریة: محمد بن محمد بن النعمان المفید (ت413ه-)، تحقیق: علی أکبر الإلهی الخراسانی ط2، 1414ه-/1993م، الناشر: دار المفید للطباعة والنشر والتوزیع، بیروت - لبنان.

3. المستدرک علی الصحیحین: أبو عبد الله محمد بن عبد الله (الحاکم النیسابوری)(ت405ه-)، إشراف د. یوسف عبد الرحمن المرعشلی، الناشر دار المعرفة، بیروت - لبنان.

4. مستند الشیعة: أحمد بن محمد مهدی النراقی (ت1244ه-)، تحقیق: مؤسسة آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث، مشهد المقدسة، ط1، ربیع الأوّل 1415ه-، المطبعة: ستارة، قم، الناشر: مؤسسة آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث، قم.

5. مشارق أنوار الیقین: الحافظ رجب البرسی (ت813ه-)، تحقیق: السید علی عاشور، ط1، 1419ه-/1999م، الناشر: مؤسسة الأعلمی للمطبوعات، بیروت - لبنان.

6. مشکاة الأنوار فی غرر الأخبار: أبو الفضل علی بن الحسن الطبرسی (من أعلام القرن السابع)، ط1، نشر وطبع: دار الحدیث.

ص: 266

1. مشکلة الإرهاب الدولی (دراسة قانونیّة): نعمة علی حسین،ط1، 1984م، دار العربیة للطباعة، العراق - بغداد.

2. معجم البلدان، یاقوت بن عبد الله الحموی الرومی البغدادی (ت626ه-)، نش-ر: دار إحیاء التراث العربی، بیروت - لبنان، 1399ه/1979م.

3. معجم الفروق اللغویة: أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل بن سعید بن یحیی بن مهران (أبو هلال العسکری) (ت395ه-)، تحقیق: الشیخ بیت الله بیات، ط1، 1412ه-، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی التابعة لجماعة المدرّسین، قم.

4. المعجم الکبیر: سلیمان بن أحمد الطبرانی (ت360ه-)، حققه وخرّج أحادیثه: حمدی عبد المجید السلفی، ط2، نشر دار إحیاء التراث العربی، بیروت - لبنان.

5. معجم المصطلحات والألفاظ الفقهیة: محمود عبد الرحمن عبد المنعم (معاصر)، الناشر: دار الفضیلة للنشر والتوزیع والتصدیر.

6. مفاتیح الشرائع: محمد محسن (الفیض الکاشانی) (ت1091ه-)، تحقیق: السید مهدی الرجائی، سنة الطبع: 1401ه-، المطبعة: الخیام، قم، الناشر: مجمع الذخائر الإسلامیة.

7. مفردات ألفاظ القرآن: أبو القاسم الحسین بن محمد المعروف بالراغب الأصفهانی (ت425ه-)، تحقیق: صفوان عدنان داوودی، ط2، 1427ه-، المطبعة: سلیمان زاده، الناشر: طلیعة النور، قم.

ص: 267

1. مفهوم الإرهاب فی الشریعة الإسلامیّة: د. هیثم عبد السلام محمد، ط1، 1426ه-/2005م، الناشر: دار الکتب العلمیة، بیروت - لبنان.

2. مقاتل الطالبیین: علی بن الحسین أبو الفرج الأصفهانی (ت356ه-)، ط2، 1385ه-/1965م، نشر مؤسسة دار الکتاب للطباعة والنشر، قم - إیران.

3. مقتل الحسین علیه السلام : أبو المؤید الموفّق محمد بن أحمد الخوارزمی (ت568ه-)، تحقیق: الشیخ محمد بن طاهر السماوی، ط5، 1431ه-/2010م، نشر دار أنوار الهدی، قم.

4. المقنعة: محمد بن محمد بن النعمان المفید (ت413ه-)، ط2، تحقیق ونش-ر مؤسسة النش-ر الإسلامی، 1410ه.

5. مناقب آل أبی طالب: محمد بن علیّ بن شهر آشوب (ت588ه-)، قام بتصحیحه وشرحه ومقابلته علی عدّة نُسخ خطّیة لجنة من أساتذة النجف الأشرف، نش-ر محمد کاظم الکتبی صاحب المکتبة والمطبعة الحیدریّة، 1376ه/1956م، النجف الأشرف.

6. المنتخب: فخر الدین بن محمد الطریحی (ت1085ه-)، منشورات مؤسسة الأعلمی، بیروت - لبنان.

7. منهاج البراعة: میرزا حبیب الله الهاشمی الخوئی، عنی بتصحیحه وتهذیبه: السید إبراهیم المیانجی، ط4، منشورات دار الهجرة إیران - قم.

ص: 268

1. منهجیة الثورة الإسلامیّة مقتطفات من آراء وأفکار الإمام الخمینی قدس سره : مؤسسة نشر وتنظیم تراث الإمام الخمینی قدس سره ، ط1، 1996م، الناشر: مؤسسة نشر وتنظیم تراث الإمام الخمینی قدس سره ، طهران - إیران.

2. مواقف المعارضة فی عهد یزید بن معاویة: محمد بن عبد الهادی بن رزّان الشیبانی، ط2، 1430ه-/2009م، دار طیبة للنشر والتوزیع، المملکة العربیة السعودیّة - الریاض.

3. موسوعة کلمات الإمام الحسین علیه السلام : لجنة الحدیث فی معهد باقر العلوم علیه السلام ، ط3، 1416ه-/1995م، الناشر: دار المعروف للطباعة والنشر.

- ن -

4. النهایة فی غریب الحدیث والأثر: المبارک بن محمد مجد الدین ابن الأثیر (ت606ه-)، تحقیق طاهر أحمد الزاوی، محمود محمد الطناحی، ط4، 1364ش، نشر: مؤسسة إسماعیلیان للطباعة والنشر والتوزیع، قم - إیران.

5. النهایة فی مجرد الفقه والفتاوی: أبو جعفر محمد بن الحسن بن علی الطوسی (ت460ه)، انتشارات قدس محمدی، قم - إیران.

6. نیل الأوطار من أحادیث سید الأخیار: محمد بن علی بن محمد الیمانی الشوکانی (ت1255ه)، دار الجیل، 1973م، بیروت - لبنان.

ص: 269

- ه- -

1. الهدایة الکبری: الحسین بن حمدان الخصیبی (ت334ه-)، نشر: مؤسسة البلاغ للطباعة والنشر والتوزیع، بیروت - لبنان.

- و -

2. وقعة صفِّین: نصر بن مزاحم المنقری (ت212ه-)، تحقیق وشرح عبد السلام محمد هارون، ط2، 1382ه-، نش-ر المؤسسة العربیة الحدیثة للطبع والنش-ر والتوزیع، القاهرة.

3. ولایة الأمر فی عصر الغیبة: السید کاظم الحسینی الحائری، ط5، 1433ه-، الناشر: مجمع الفکر الإسلامی، المطبعة: شریعت، إیران.

- ی -

4. ینابیع المودّة لذوی القربی: سلیمان بن إبراهیم القندوزی الحنفی (ت1294ه-)، تحقیق: سیِّد علیّ جمال أشرف الحسینی، ط1، نش-ر دار الأُسوة للطباعة والنش-ر، تاریخ النش-ر، 1416ه-.

الصحف المجلات

5. جریدة البناء، العدد: 1836، تاریخ: 21/7/2015م، مقال بعنوان: (کتاب «تعریف الإرهاب - نهایة المعاییر المزدوجة» للسفیرة عبیر ریاض طه)، کمال مساعد.

6. مجلّة الأخلاق والآداب، کربلاء، العدد السادس، السنة الرابعة، 1384ﻫ: السید حسن الشیرازی.

ص: 270

1. مجلّة التواصل فی العلوم الإنسانیّة والاجتماعیّة، العدد: 34. (إشکالیّة تعریف الإرهاب فی القانون الدولی)، نادیة شرایریة.

2. مجلة المنهاج، السنة الثامنة، ربیع 1424ه-/2003م. (الثّورة الحسینیّة دراسة فی الأهداف والدوافع)، السیِّد محمود الهاشمی.

3. معاهدة منظمة المؤتمر الإسلامی لمکافحة الإرهاب الدولی، اعتُمدت من قِبَل مؤتمر وزراء خارجیة دول المنظمة، المنعقد فی أواغادوغو، خلال الفترة من 28 حزیران/یونیو إلی 1 تموز/یولیو 1999م، جامعة منیسوتا، مکتبة حقوق الإنسان.

مواقع الأنترنت

4. المرصد العربی للتطرّف والإرهاب.

5. المرکز الفلسطینی للإعلام، مقال بعنوان (إرهاب الدولة والجریمة المنظمة)، د. أحمد محمد المزعنن.

6. موسوعة ویکیبیدیا، مفردة (سیاسة).

7. موقع (السیاسة کوم)، مقال بعنوان: (تعریف الحکومة وأنواعها).

8. موقع (مدارات کرد)، خورشید علیکا، مقال بعنوان: (إرهاب الدولة المنظّم).

9. موقع الحوار المتمدّن، مقال بعنوان (إرهاب الدولة بین حزبیّة النظام وعسکرته)، حسین عوض.

10. موسوعة ویکیبیدیا، مفردة (إرهاب الدولة).

ص: 271

ص: 272

المحتویات

المحتویات

مقدّمة المؤسّسة. 7

تمهید. 13

الفصل الأوّل

نصوص ووثائق الأهداف السیاسیّة لنهضة الإمام الحسین علیه السلام

أولاً: نصوص الإصلاح. 18

ثانیاً: إرسال مسلم بن عقیل إلی الکوفة 20

ثالثاً: أقوال الإمام الحسین علیه السلام وتصریحاته ومکاتباته ورسائله السیاسیّة 22

أ: رسائله علیه السلام إلی أهل الکوفة 22

ب: مکاتباته علیه السلام إلی أشراف البصرة ووجهائها 23

ج: أقواله وأحادیثه علیه السلام فی طریقه إلی الکوفة 25

د: أقواله وأحادیثه علیه السلام فی کربلاء 27

الفصل الثانی

الأسباب والمبررات العَقَدیّة

للتفریط بالأهداف والمبادئ السیاسیة للنهضة الحسینیّة

(إشکالیّة: منافاة الأهداف السیاسیة لعِلْم الإمام علیه السلام وعصمته)

إشکالیّة: منافاة الأهداف السیاسیّة لعلم الإمام وعصمته 35

الإجابة عن هذه الإشکالیة: علم المعصوم بمستقبل الأحداث لا یتنافی مع إمکانیّة التغییر الإلهی. 37

الإجابة الأُولی: علم الإمام وحقیقتا البداء والقضاء 37

الإجابة الثانیة: تعدّد مراتب علم المعصوم بحسب تنوّع عوالم وجوده 44

خلاصة الفصل الثانی. 50

الفصل الثالث

الأسباب والمبررات التراثیّة

للتفریط بالأهداف والمبادئ السیاسیة للنهضة الحسینیّة

(إشکالیة: خروج الإمام الحسین علیه السلام بأمرٍ إلهیٍّ للشهادة)

إشکالیة: خروج الإمام الحسین علیه السلام بأمرٍ إلهیٍّ للشهادة 53

الإجابة عن هذه الإشکالیة: علم المعصوم ومشیئة الله تعالی الفعلیّة لا تعنی حسم الأُمور. 57

الإجابة الأُولی: علم الحسین علیه السلام بشهادته لا یتنافی مع الأهداف السیاسیّة للنهضة 57

الإجابة الثانیة: المشیئة الإلهیّة الفعلیّة لا تعنی حسم الأُمور. 59

الفصل الرابع

الأسباب والمبررات التاریخیّة

للتفریط بالأهداف والمبادئ السیاسیّة للنهضة الحسینیّة

القسم الأوّل: (إشکالیّة: کون الخروج لإسقاط الأنظمة الحاکمة لم یکن سبیلاً ومنهجاً فی سیرة الأئمّة علیهم السلام )

إشکالیّة: کون الخروج لإسقاط الأنظمة الحاکمة لم یکن سبیلاً ومنهجاً فی سیرة الأئمّة علیهم السلام ... 66

الإجابة عن هذه الإشکالیّة: النهضة والإصلاح والتغییر السیاسی فی منهج وسیرة أهل البیت علیهم السلام ... 68

المبحث الأوّل: المبادئ السیاسیّة للنهضة العلویّة 71

الشاهد الأوّل: الحرکة السلمیّة لإسقاط الحکومة غیر الشرعیّة 71

الشاهد الثانی: الحرکة الثوریّة لإسقاط الحکومة غیر الشرعیّة 72

الشاهد الثالث: التصدّی الفعلی لتسلّم مقالید الحکم والسلطة 80

المبحث الثانی: المبادئ السیاسیّة للنهضة الحسنیّة 83

الشاهد الأوّل: الخطابات السیاسیّة والقیادیّة 83

الشاهد الثانی: التصدّی لمباشرة شؤون الخلافة والحکم. 85

الشاهد الثالث: فقدان الناصر وخذلان الأُمّة 88

الشاهد الرابع: ما تضمّنته بنود الصُلح والهدنة مع معاویة 93

الشاهد الخامس: التهدید والإنذار المتواصل. 94

المبحث الثالث: المبادئ السیاسیّة للنهضة الحسینیّة 97

المبحث الرابع: مواقف وأقوال الأئمّة 101

نتائج البحث.. 106

الفصل الخامس

الأسباب والمبررات التاریخیّة

للتفریط بالأهداف والمبادئ السیاسیّة للنهضة الحسینیّة

القسم الثانی: (إشکالیّة: إنّ معالم الانتصار العسکری لا تلوح فی الأُفق)

إشکالیّة: إنّ معالم الانتصار العسکری لا تلوح فی الأُفق. 111

مجموعة من الشواهد والقرائن لإثبات هذه الرؤیة 114

1- انعدام التوازن فی القوی وفقدان التکافؤ العسکری.. 115

2- تصریحات الإمام الحسین علیه السلام ... 116

3- الخروج العلنی ضد السلطة 121

4 - نصائح الصحابة والتابعین والمحبّین بترک الخیار العسکری.. 122

الإجابة عن هذه الإشکالیة: الحرکة العسکریّة المسلحة ومحوریّتها فی البرنامج السیاسی للنهضة الحسینیّة 125

الإجابة الأُولی: رؤیتنا العامّة حول الحرکة العسکریّة المسلّحة ومحوریّتها فی البرنامج السیاسی

للنهضة 125

المصادرات والأُصول الموضوعة 126

القوّات المسلّحة الحسینیّة کانت هی الأقوی والأکفأ فی العراق (دراسات میدانیّة) 128

الأُولی: دراسة کبار القادة العسکریین فی الجیش الإسلامی. 128

الثانیة: دراسة مسلم بن عقیل. 133

الثالثة: دراسة أزلام النظام الحاکم. 141

الإجابة الثانیّة: الردّ التفصیلی علی القرائن والشواهد لإنکار هدفیّة النصر العسکری.. 144

الفصل السادس

الأسباب والمبرّرات الزمکانیّة

للتفریط بالأهداف والمبادئ السیاسیّة للنهضة الحسینیّة

(إشکالیّة: الفصل بین القیادتین الدینیّة والسیاسیّة فی عصر الغَیبة)

إشکالیّة: الفصل بین القیادتین الدینیّة والسیاسیّة فی عصر الغَیبة) أسباب زمکانیّة( 156

1- فکرة فصل الاختصاص الدینی عن المنهج السیاسی... 157

2- خصائص العصمة والإمامة 158

3- کُلّ رایة تُرفع قَبل قیام المهدی فهی رایة ضلال. 159

4 - الروایات الآمرة بالجلوس والناهیة عن الخروج علی السلطات الظالمة 160

5 - سیرة المعصومین علیهم السلام بعد الحسین علیه السلام علی ترک السعی لإقامة حکومة إسلامیة 163

الإجابة عن هذه الإشکالیّة: الحکومة الإسلامیّة وولایة الفقیه فی ظل المبادئ السیاسیّة للنهضة الحسینیّة 163

أوّلاً: نظریة الحکومة الإسلامیّة وولایة الفقیه المطلقة 164

ثانیاً: فکرة المشارکة السیاسیّة والاجتماعیّة (الولایة الحسبیة) 166

ثالثاً: الحضور الحسینی المتمیّز فی الأوضاع الراهنة 171

رابعاً: مناقشة شواهد ونصوص الإشکالیّة 172

الفصل السابع

سیاسة الإمام الحسین علیه السلام فی مواجهة الإرهاب الحکومی

مدخل. 181

المبحث الأوّل: الإرهاب الحکومی فی اللغة والاصطلاح.. 183

أولاً: الإرهاب.. 183

ثانیاً: السیاسة، الحکومة، الدولة 195

ثالثاً:إرهاب الدولة/ السلطة: (الإرهاب: الحکومی/السیاسی( 198

المبحث الثانی: الإرهاب الحکومی الأُمویّ فی کلمات الإمام الحسین علیه السلام ... 211

أولاً: عناصر الإرهاب الحکومی الأُمویّ فی کلمات الإمام الحسین علیه السلام ... 214

العنصر الأوّل: ممارسة الأسالیب العنیفة والمنظّمة فی قمع الشعب.. 215

العنصر الثانی: تسلیط الأجهزة القمعیّة علی أفراد الشعب.. 222

العنصر الثالث: غایات الإرهاب الحکومی. 223

العنصر الرابع: التمییز بین مکوّنات الشعب علی أُسس غیر قانونیّة 225

العنصر الخامس: تجاوز القوانین الدّولیة والعرفیة 227

ثانیاً: عناصر إضافیّة تعریفیّة للإرهاب الحکومی فی کلمات الإمام الحسین علیه السلام ... 228

1- الظلم والجور والعدوان. 228

2- الفساد فی الأرض... 230

3- نقض العهود والمواثیق. 231

4 - سرقة أموال الشعب والاستئثار بالفیء 232

5- تنصیب غیر الکفوئین فی المناصب السیادیّة 234

ثالثاً: المبادئ والأسالیب الحسینیّة العامّة فی مواجهة الإرهاب الحکومی. 236

1- الصبر. 237

2- الشجاعة 240

3- العزّة والإباء 242

4 - الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر (الإصلاح وتوعیة الأُمّة بالطرق السلمیّة) 243

5- الهجرة فی سبیل الله.. 246

6- الجهاد فی سبیل الله (الخیار العسکری المسلّح) 247

7- التضحیة بکلّ شیء 248

8 - السعی لإقامة الحکومة العادلة 249

المصادر. 253

المحتویات 273

ص: 273

الفصل الثانی

الأسباب والمبررات العَقَدیّة

للتفریط بالأهداف والمبادئ السیاسیة للنهضة الحسینیّة

(إشکالیّة: منافاة الأهداف السیاسیة لعِلْم الإمام علیه السلام وعصمته)

إشکالیّة: منافاة الأهداف السیاسیّة لعلم الإمام وعصمته 35

الإجابة عن هذه الإشکالیة: علم المعصوم بمستقبل الأحداث لا یتنافی مع إمکانیّة التغییر الإلهی. 37

الإجابة الأُولی: علم الإمام وحقیقتا البداء والقضاء 37

الإجابة الثانیة: تعدّد مراتب علم المعصوم بحسب تنوّع عوالم وجوده 44

خلاصة الفصل الثانی. 50

الفصل الثالث

الأسباب والمبررات التراثیّة

للتفریط بالأهداف والمبادئ السیاسیة للنهضة الحسینیّة

(إشکالیة: خروج الإمام الحسین علیه السلام بأمرٍ إلهیٍّ للشهادة)

إشکالیة: خروج الإمام الحسین علیه السلام بأمرٍ إلهیٍّ للشهادة 53

الإجابة عن هذه الإشکالیة: علم المعصوم ومشیئة الله تعالی الفعلیّة لا تعنی حسم الأُمور. 57

الإجابة الأُولی: علم الحسین علیه السلام بشهادته لا یتنافی مع الأهداف السیاسیّة للنهضة 57

الإجابة الثانیة: المشیئة الإلهیّة الفعلیّة لا تعنی حسم الأُمور. 59

ص: 274

الفصل الرابع

الأسباب والمبررات التاریخیّة

للتفریط بالأهداف والمبادئ السیاسیّة للنهضة الحسینیّة

القسم الأوّل: (إشکالیّة: کون الخروج لإسقاط الأنظمة الحاکمة لم یکن سبیلاً ومنهجاً فی سیرة الأئمّة علیهم السلام )

إشکالیّة: کون الخروج لإسقاط الأنظمة الحاکمة لم یکن سبیلاً ومنهجاً فی سیرة الأئمّة علیهم السلام ... 66

الإجابة عن هذه الإشکالیّة: النهضة والإصلاح والتغییر السیاسی فی منهج وسیرة أهل البیت علیهم السلام ... 68

المبحث الأوّل: المبادئ السیاسیّة للنهضة العلویّة 71

الشاهد الأوّل: الحرکة السلمیّة لإسقاط الحکومة غیر الشرعیّة 71

الشاهد الثانی: الحرکة الثوریّة لإسقاط الحکومة غیر الشرعیّة 72

الشاهد الثالث: التصدّی الفعلی لتسلّم مقالید الحکم والسلطة 80

المبحث الثانی: المبادئ السیاسیّة للنهضة الحسنیّة 83

الشاهد الأوّل: الخطابات السیاسیّة والقیادیّة 83

الشاهد الثانی: التصدّی لمباشرة شؤون الخلافة والحکم. 85

الشاهد الثالث: فقدان الناصر وخذلان الأُمّة 88

الشاهد الرابع: ما تضمّنته بنود الصُلح والهدنة مع معاویة 93

الشاهد الخامس: التهدید والإنذار المتواصل. 94

المبحث الثالث: المبادئ السیاسیّة للنهضة الحسینیّة 97

المبحث الرابع: مواقف وأقوال الأئمّة 101

نتائج البحث.. 106

ص: 275

الفصل الخامس

الأسباب والمبررات التاریخیّة

للتفریط بالأهداف والمبادئ السیاسیّة للنهضة الحسینیّة

القسم الثانی: (إشکالیّة: إنّ معالم الانتصار العسکری لا تلوح فی الأُفق)

إشکالیّة: إنّ معالم الانتصار العسکری لا تلوح فی الأُفق. 111

مجموعة من الشواهد والقرائن لإثبات هذه الرؤیة 114

1- انعدام التوازن فی القوی وفقدان التکافؤ العسکری.. 115

2- تصریحات الإمام الحسین علیه السلام ... 116

3- الخروج العلنی ضد السلطة 121

4 - نصائح الصحابة والتابعین والمحبّین بترک الخیار العسکری.. 122

الإجابة عن هذه الإشکالیة: الحرکة العسکریّة المسلحة ومحوریّتها فی البرنامج السیاسی للنهضة الحسینیّة 125

الإجابة الأُولی: رؤیتنا العامّة حول الحرکة العسکریّة المسلّحة ومحوریّتها فی البرنامج السیاسی

للنهضة 125

المصادرات والأُصول الموضوعة 126

القوّات المسلّحة الحسینیّة کانت هی الأقوی والأکفأ فی العراق (دراسات میدانیّة) 128

الأُولی: دراسة کبار القادة العسکریین فی الجیش الإسلامی. 128

الثانیة: دراسة مسلم بن عقیل. 133

الثالثة: دراسة أزلام النظام الحاکم. 141

الإجابة الثانیّة: الردّ التفصیلی علی القرائن والشواهد لإنکار هدفیّة النصر العسکری.. 144

ص: 276

الفصل السادس

الأسباب والمبرّرات الزمکانیّة

للتفریط بالأهداف والمبادئ السیاسیّة للنهضة الحسینیّة

(إشکالیّة: الفصل بین القیادتین الدینیّة والسیاسیّة فی عصر الغَیبة)

إشکالیّة: الفصل بین القیادتین الدینیّة والسیاسیّة فی عصر الغَیبة) أسباب زمکانیّة( 156

1- فکرة فصل الاختصاص الدینی عن المنهج السیاسی... 157

2- خصائص العصمة والإمامة 158

3- کُلّ رایة تُرفع قَبل قیام المهدی فهی رایة ضلال. 159

4 - الروایات الآمرة بالجلوس والناهیة عن الخروج علی السلطات الظالمة 160

5 - سیرة المعصومین علیهم السلام بعد الحسین علیه السلام علی ترک السعی لإقامة حکومة إسلامیة 163

الإجابة عن هذه الإشکالیّة: الحکومة الإسلامیّة وولایة الفقیه فی ظل المبادئ السیاسیّة للنهضة الحسینیّة 163

أوّلاً: نظریة الحکومة الإسلامیّة وولایة الفقیه المطلقة 164

ثانیاً: فکرة المشارکة السیاسیّة والاجتماعیّة (الولایة الحسبیة) 166

ثالثاً: الحضور الحسینی المتمیّز فی الأوضاع الراهنة 171

رابعاً: مناقشة شواهد ونصوص الإشکالیّة 172

ص: 277

الفصل السابع

سیاسة الإمام الحسین علیه السلام فی مواجهة الإرهاب الحکومی

مدخل. 181

المبحث الأوّل: الإرهاب الحکومی فی اللغة والاصطلاح.. 183

أولاً: الإرهاب.. 183

ثانیاً: السیاسة، الحکومة، الدولة 195

ثالثاً:إرهاب الدولة/ السلطة: (الإرهاب: الحکومی/السیاسی( 198

المبحث الثانی: الإرهاب الحکومی الأُمویّ فی کلمات الإمام الحسین علیه السلام ... 211

أولاً: عناصر الإرهاب الحکومی الأُمویّ فی کلمات الإمام الحسین علیه السلام ... 214

العنصر الأوّل: ممارسة الأسالیب العنیفة والمنظّمة فی قمع الشعب.. 215

العنصر الثانی: تسلیط الأجهزة القمعیّة علی أفراد الشعب.. 222

العنصر الثالث: غایات الإرهاب الحکومی. 223

العنصر الرابع: التمییز بین مکوّنات الشعب علی أُسس غیر قانونیّة 225

العنصر الخامس: تجاوز القوانین الدّولیة والعرفیة 227

ثانیاً: عناصر إضافیّة تعریفیّة للإرهاب الحکومی فی کلمات الإمام الحسین علیه السلام ... 228

1- الظلم والجور والعدوان. 228

2- الفساد فی الأرض... 230

3- نقض العهود والمواثیق. 231

ص: 278

مقدّمة المؤسّسة. 7

تمهید. 13

الفصل الأوّل

نصوص ووثائق الأهداف السیاسیّة لنهضة الإمام الحسین علیه السلام

أولاً: نصوص الإصلاح. 18

ثانیاً: إرسال مسلم بن عقیل إلی الکوفة 20

ثالثاً: أقوال الإمام الحسین علیه السلام وتصریحاته ومکاتباته ورسائله السیاسیّة 22

أ: رسائله علیه السلام إلی أهل الکوفة 22

ب: مکاتباته علیه السلام إلی أشراف البصرة ووجهائها 23

ج: أقواله وأحادیثه علیه السلام فی طریقه إلی الکوفة 25

د: أقواله وأحادیثه علیه السلام فی کربلاء 27

الفصل الثانی

الأسباب والمبررات العَقَدیّة

للتفریط بالأهداف والمبادئ السیاسیة للنهضة الحسینیّة

(إشکالیّة: منافاة الأهداف السیاسیة لعِلْم الإمام علیه السلام وعصمته)

إشکالیّة: منافاة الأهداف السیاسیّة لعلم الإمام وعصمته 35

الإجابة عن هذه الإشکالیة: علم المعصوم بمستقبل الأحداث لا یتنافی مع إمکانیّة التغییر الإلهی. 37

الإجابة الأُولی: علم الإمام وحقیقتا البداء والقضاء 37

الإجابة الثانیة: تعدّد مراتب علم المعصوم بحسب تنوّع عوالم وجوده 44

خلاصة الفصل الثانی. 50

الفصل الثالث

الأسباب والمبررات التراثیّة

للتفریط بالأهداف والمبادئ السیاسیة للنهضة الحسینیّة

(إشکالیة: خروج الإمام الحسین علیه السلام بأمرٍ إلهیٍّ للشهادة)

إشکالیة: خروج الإمام الحسین علیه السلام بأمرٍ إلهیٍّ للشهادة 53

الإجابة عن هذه الإشکالیة: علم المعصوم ومشیئة الله تعالی الفعلیّة لا تعنی حسم الأُمور. 57

الإجابة الأُولی: علم الحسین علیه السلام بشهادته لا یتنافی مع الأهداف السیاسیّة للنهضة 57

الإجابة الثانیة: المشیئة الإلهیّة الفعلیّة لا تعنی حسم الأُمور. 59

الفصل الرابع

الأسباب والمبررات التاریخیّة

للتفریط بالأهداف والمبادئ السیاسیّة للنهضة الحسینیّة

القسم الأوّل: (إشکالیّة: کون الخروج لإسقاط الأنظمة الحاکمة لم یکن سبیلاً ومنهجاً فی سیرة الأئمّة علیهم السلام )

إشکالیّة: کون الخروج لإسقاط الأنظمة الحاکمة لم یکن سبیلاً ومنهجاً فی سیرة الأئمّة علیهم السلام ... 66

الإجابة عن هذه الإشکالیّة: النهضة والإصلاح والتغییر السیاسی فی منهج وسیرة أهل البیت علیهم السلام ... 68

المبحث الأوّل: المبادئ السیاسیّة للنهضة العلویّة 71

الشاهد الأوّل: الحرکة السلمیّة لإسقاط الحکومة غیر الشرعیّة 71

الشاهد الثانی: الحرکة الثوریّة لإسقاط الحکومة غیر الشرعیّة 72

الشاهد الثالث: التصدّی الفعلی لتسلّم مقالید الحکم والسلطة 80

المبحث الثانی: المبادئ السیاسیّة للنهضة الحسنیّة 83

الشاهد الأوّل: الخطابات السیاسیّة والقیادیّة 83

الشاهد الثانی: التصدّی لمباشرة شؤون الخلافة والحکم. 85

الشاهد الثالث: فقدان الناصر وخذلان الأُمّة 88

الشاهد الرابع: ما تضمّنته بنود الصُلح والهدنة مع معاویة 93

الشاهد الخامس: التهدید والإنذار المتواصل. 94

المبحث الثالث: المبادئ السیاسیّة للنهضة الحسینیّة 97

المبحث الرابع: مواقف وأقوال الأئمّة 101

نتائج البحث.. 106

الفصل الخامس

الأسباب والمبررات التاریخیّة

للتفریط بالأهداف والمبادئ السیاسیّة للنهضة الحسینیّة

القسم الثانی: (إشکالیّة: إنّ معالم الانتصار العسکری لا تلوح فی الأُفق)

إشکالیّة: إنّ معالم الانتصار العسکری لا تلوح فی الأُفق. 111

مجموعة من الشواهد والقرائن لإثبات هذه الرؤیة 114

1- انعدام التوازن فی القوی وفقدان التکافؤ العسکری.. 115

2- تصریحات الإمام الحسین علیه السلام ... 116

3- الخروج العلنی ضد السلطة 121

4 - نصائح الصحابة والتابعین والمحبّین بترک الخیار العسکری.. 122

الإجابة عن هذه الإشکالیة: الحرکة العسکریّة المسلحة ومحوریّتها فی البرنامج السیاسی للنهضة الحسینیّة 125

الإجابة الأُولی: رؤیتنا العامّة حول الحرکة العسکریّة المسلّحة ومحوریّتها فی البرنامج السیاسی

للنهضة 125

المصادرات والأُصول الموضوعة 126

القوّات المسلّحة الحسینیّة کانت هی الأقوی والأکفأ فی العراق (دراسات میدانیّة) 128

الأُولی: دراسة کبار القادة العسکریین فی الجیش الإسلامی. 128

الثانیة: دراسة مسلم بن عقیل. 133

الثالثة: دراسة أزلام النظام الحاکم. 141

الإجابة الثانیّة: الردّ التفصیلی علی القرائن والشواهد لإنکار هدفیّة النصر العسکری.. 144

الفصل السادس

الأسباب والمبرّرات الزمکانیّة

للتفریط بالأهداف والمبادئ السیاسیّة للنهضة الحسینیّة

(إشکالیّة: الفصل بین القیادتین الدینیّة والسیاسیّة فی عصر الغَیبة)

إشکالیّة: الفصل بین القیادتین الدینیّة والسیاسیّة فی عصر الغَیبة) أسباب زمکانیّة( 156

1- فکرة فصل الاختصاص الدینی عن المنهج السیاسی... 157

2- خصائص العصمة والإمامة 158

3- کُلّ رایة تُرفع قَبل قیام المهدی فهی رایة ضلال. 159

4 - الروایات الآمرة بالجلوس والناهیة عن الخروج علی السلطات الظالمة 160

5 - سیرة المعصومین علیهم السلام بعد الحسین علیه السلام علی ترک السعی لإقامة حکومة إسلامیة 163

الإجابة عن هذه الإشکالیّة: الحکومة الإسلامیّة وولایة الفقیه فی ظل المبادئ السیاسیّة للنهضة الحسینیّة 163

أوّلاً: نظریة الحکومة الإسلامیّة وولایة الفقیه المطلقة 164

ثانیاً: فکرة المشارکة السیاسیّة والاجتماعیّة (الولایة الحسبیة) 166

ثالثاً: الحضور الحسینی المتمیّز فی الأوضاع الراهنة 171

رابعاً: مناقشة شواهد ونصوص الإشکالیّة 172

الفصل السابع

سیاسة الإمام الحسین علیه السلام فی مواجهة الإرهاب الحکومی

مدخل. 181

المبحث الأوّل: الإرهاب الحکومی فی اللغة والاصطلاح.. 183

أولاً: الإرهاب.. 183

ثانیاً: السیاسة، الحکومة، الدولة 195

ثالثاً:إرهاب الدولة/ السلطة: (الإرهاب: الحکومی/السیاسی( 198

المبحث الثانی: الإرهاب الحکومی الأُمویّ فی کلمات الإمام الحسین علیه السلام ... 211

أولاً: عناصر الإرهاب الحکومی الأُمویّ فی کلمات الإمام الحسین علیه السلام ... 214

العنصر الأوّل: ممارسة الأسالیب العنیفة والمنظّمة فی قمع الشعب.. 215

العنصر الثانی: تسلیط الأجهزة القمعیّة علی أفراد الشعب.. 222

العنصر الثالث: غایات الإرهاب الحکومی. 223

العنصر الرابع: التمییز بین مکوّنات الشعب علی أُسس غیر قانونیّة 225

العنصر الخامس: تجاوز القوانین الدّولیة والعرفیة 227

ثانیاً: عناصر إضافیّة تعریفیّة للإرهاب الحکومی فی کلمات الإمام الحسین علیه السلام ... 228

1- الظلم والجور والعدوان. 228

2- الفساد فی الأرض... 230

3- نقض العهود والمواثیق. 231

4 - سرقة أموال الشعب والاستئثار بالفیء 232

5- تنصیب غیر الکفوئین فی المناصب السیادیّة 234

ثالثاً: المبادئ والأسالیب الحسینیّة العامّة فی مواجهة الإرهاب الحکومی. 236

1- الصبر. 237

2- الشجاعة 240

3- العزّة والإباء 242

4 - الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر (الإصلاح وتوعیة الأُمّة بالطرق السلمیّة) 243

5- الهجرة فی سبیل الله.. 246

6- الجهاد فی سبیل الله (الخیار العسکری المسلّح) 247

7- التضحیة بکلّ شیء 248

8 - السعی لإقامة الحکومة العادلة 249

المصادر. 253

المحتویات... 273

ص: 279

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.