موسوعة ردّ الشبهات الفقهیة المعاصرة (الحدود)

اشارة

عنوان و نام پدیدآور:موسوعة ردّ الشبهات الفقهیة المعاصرة (الحدود)/ تالیف اللجنةالعلمیه [مرکز فقهی ائمه اطهار (ع)]؛ اشراف محمدجواد الفاضل اللنکرانی؛ باهتمام محمدمهدی الجواهری؛ قسم التحقیق والنشر فی مرکز فقه الایمه الاطهار علیهم السلام.

مشخصات نشر:قم: : مرکز فقهی ائمه اطهار (ع)= 1394 -

مشخصات ظاهری:2ج.

فروست:لیتفقهو فی الدین؛170، 171.

شابک:دوره 978-600-388-003-0: ؛ 180000 ریال: ج.1 978-600-388-004-7: ؛ 180000 ریال: ج.2 978-600-388-005-4: ؛ ج.3 978-600-388-086-3: ؛ ج.4 978-600-388-087-0: ؛ ج.5 978-600-388-088-7:

یادداشت:عربی.

یادداشت:ج 3-5 (چاپ اول: 1396 ) (فیپا) .

یادداشت:کتابنامه.

موضوع:فقه جعفری -- رساله عملیه

موضوع:*Islamic law, Ja'fari -- Handbooks, manuals, etc.

موضوع:حدود (فقه)

موضوع:Hadd punishment (Islamic law)

شناسه افزوده:فاضل لنکرانی، محمدجواد، 1341 -

شناسه افزوده:Fadhil Lankarani, Muhammad Jawad

شناسه افزوده:جواهری، محمدمهدی، 1903 - 1997م.

شناسه افزوده:مرکز فقهی ائمه اطهار (ع)

رده بندی کنگره:BP183/9/م826 1394

رده بندی دیویی:297/3422

شماره کتابشناسی ملی:3807867

ص :1

الجز الاول

هویة الکتاب

إشراف آیة الله الشیخ محمّد جواد الفاضل اللنکرانی(دام ظلّه)

موسوعة ردّ الشبهات الفقهیة المعاصرة (الحدود)

الجزء الأوّل

تألیف

جمع من الباحثین

باهتمام

الشیخ محمّد مهدی الجواهری

قسم التحقیق والنشر فی مرکز فقه الأئمة الأطهار علیهم السلام

ص:2

هویة الکتاب

الحدود

الجزء الأول

تألیف: جمع من الباحثین

الإخراج الفنی: ضیاء قاسم الخفّاف

الطبعة الأُولی - 2000 نسخة

شابِک (ردمک):

سنة الطبع:

المطبعة:

* جمیع الحقوق محفوظة للمؤلف *

ص:3

ص:4

تقدیم: آیة الله الشیخ محمّد جواد الفاضل اللنکرانی (دامت برکاته)

یترتّب علی کلّ عمل قبیح یرتکبه الإنسان العدید من الآثار السلبیة منها آثار وضعیة متضمنّة لحیثیة قهریة وتکوینیة، ومنها آثار اعتباریة متضمّنة لحیثیة جزائیة وعقابیة.

وقد أکدّ الإسلام علی ضرورة اجتناب الجرائم الاجتماعیة، وأکدّ علی مراعاة التقوی فی جمیع الأصعدة، وحدّد لبعض هذه الجرائم جملة من الروادع الوقائیة التی یُطلق علیها فی الفقه «الحدود» و«التعزیرات».

ولا تتعلّق هذه العقوبات بالإنسان نفسه بل تشمل حقوق الآخرین، فالمعاصی التی یرتکبها الإنسان ولا تمس حقوق الآخرین لیست موضوعاً للحدود، فموضوع الحدود یشمل ما یترتّب علی حقوق الآخرین کالزنا واللواط والسرقة والقذف والردّة العلنیة وغیرها من الجرائم الاجتماعیة.

وهذا الموضوع یکشف بأنّ الإرادة الأوّلیة للشارع المقدّس لیست وضع العقوبات لجمیع المعاصی والمحرّمات، بل الجرائم التی لا تتحدّد ولا تنحصر فی دائرة الفرد أوالمال أو العرض أو العقیدة الخاصّة، فهی مشمولة

ص:5

لهذه الإرادة، وفی خصوص الارتداد أیضاً، فإن لم یُظهر الإنسان ارتداده، فلایشمله أیّ حدّ أو تعزیر.

ولکنّه إذا أظهرالعقیدة الفاسدة المتضمّنة لبث السموم والآثار الاجتماعیة المدمّرة فسیکون عمله هذا نوعاً من أنواع التحدّی والمواجهة للدین والمتدینین، ففی هذه الحالة جعل الشارع الحدود لتکون الرادع والزاجر عن ارتکاب هذه الخروقات التی تتضمّن التعدّی علی حقوق الآخرین.

ویرفض الشارع المقدّس أیضاً فی موارد إثبات الجریمة التشبّث بأسهل الطرق وأبسطها، بل یشدّد علی إثبات ما یلزم به الحدّ بلزوم شهادة أربعة عدول مثلاً، ویلاحظ قاعدة درء الحدود عند الشبهات، کما قال رسول الله صلی الله علیه و آله: «ادرؤوا الحدود بالشبهات»(1) ، فإنّ منهج الإسلام یوجب نفی استحقاق الحدّ قدر الإمکان، ولیس للدین إصرار علی إثبات مایوجب الحدّ بصورة عشوائیة وغیر منضبطة.

فلم یکن قرار الشارع المقدّس فی الدین الإسلامی علی زیادة الحدود و إقامتها وإشاعتها فی المجتمع، بل اکتفی بمقدار الضرورة وأقل قدر ممکن.

ویجد کلّ منصف بأنّ الحدود من أبرز مصادیق الرحمة الإلهیة والرأفة بالمجتمعات، فلا یوجد صاحب عقل سلیم یقبل التعاطف مع

ص:6


1- (1) من لا یحضره الفقیه 4:74، ح 5146.

الجانی ویهمل أمن المجتمع بأسره، ولا یوجد صاحب عقل سلیم یتقبّل بقاء غدّة سرطانیة فی الجسم علی الرغم من وجود الشدّة والقسوة فی تطهیر الجسد منها جرّاء العملیة الجراحیة، کما لایوجد عقل سلیم یقبل بقاء الجراثیم فی الجسم ویسمح لها بحریّة الانتشار والعبث بالصحة کما تشاء.

فمن یری صرامة الحدود التی تضعها القوانین الدستوریة والعقوبات الصارمة لمن یتجاوز الخطوط الحمراء وینتهک القوانین من قبیل قانون الإخلال بالأمن العام أو تسریب المعلومات فی الحرب والتی تؤدّی إلی الهزیمة فی الحرب، ویجد أنّ حکمها هو الإعدام أو الحبس الأبدی؛ فإنّه لن یعترض علی الدین ولا یتّهم الدین بالتشدّد، وقد قال تعالی: وَ لَکُمْ فِی الْقِصاصِ حَیاةٌ یا أُولِی الْأَلْبابِ 1 فالحدود هی الرادع عن الوقوع والزاجر عن ارتکاب الجریمة فی الدائرة الاجتماعیة.

وقد قام الفقهاء بالبحث الحثیث وبذل الجهود الکبیرة فی مجال ردّ الشبهات الفقهیة من خلال بیان المنهجیة فی القواعد والبحث الفقهی.

وتعتبر القضایا المعاصرة التی تَطرح نفسها فی الساحة من أهم الأمور التی ینبغی التصدّی لها فی المجتمعات الإسلامیة، فتُعطی القضایا الفقهیة المعاصرة نوعاً من الاهتمام بهذه البحوث من أجل ردع الإشکالیات الواقعیة والمیدانیة تجاه نظم الحیاة الإنسانیة، وعدم الوقوف جانباً إزاء مواجهة

ص:7

التیارات المخالفة التی تواجه الدین، ولابد من لفت الأنظار إلی مدی أهمیة المراکز التی تقوم بهذه المهمّة، حیث تشکّل ثقلاً وعنصراً مهمّاً فی معالجة القضایا الحدیثة والشبهات ذات الأثر السلبی علی المجتمع، وتتجلّی مدی أهمیة هذه المراکز فی معالجة القضایا العصریة التی تتعلّق بإصلاح المجتمع والتعزیز من استقراره والحفاظ علی کیانه.

ومن هذا المنطلق وإیماناً بهذه الفکرة وغیرها من الأهداف لإثراء الفقه والأصول قام سماحة المرجع الکبیر الوالد آیة الله الشیخ محمّد الفاضل اللنکرانی قدس الله سره بتأسیس مرکز فقه الأئمة الأطهار علیهم السلام، وکان یری سماحته ضرورة إنشاء هذا المرکز للبحوث الفقهیة الاجتهادیة الشاملة ومعالجتها للقضایا المعاصرة والوقوف بوجه الشبهات، وقد قام المرکز منذ فترة نشأته لحدّ الآن بدراسات مختلفة فی بحوث قیّمة أبرزها موسوعة فقه الأطفال.

وتتجلّی مهمّة هذا المرکز فی إبراز شمولیة الشریعة الإسلامیة فی کافة جوانب شؤون الإنسان بتطبیق الأحکام الشرعیة، وکونها قادرة علی حلّ المسائل المعاصرة التی یؤدّی الجهل بها إلی إشکالیة عدم قدرة الدین علی مواکبة الحیاة المعاصرة وعدم تحقّق الرؤیة الحقّة للدین ومدی شمولیته لکلّ الأزمنة، وأبراز سمة التجدّد فی الأحکام الشرعیة وملائمتها للاختلافات الزمنیة فی کلّ عصر.

ونحن فی هذا المقام نحاول أن نضع تلک الشبهات تحت المجهر لما

ص:8

تحظی من أهمیة بالغة فی تأثیرها المباشر علی المجتمع الإسلامی، بحیث إنّها تتأرجح بین مؤیّد لها ومخالف یجعل البحث ذات أهمیة کبری یکون نتیجة الفکر المؤیّد عدم الاعتماد والتزلزل فی الجانب الدینی.

وقد قام مرکز فقه الأئمّة الأطهار علیهم السلام بتأسیس لجنة خاصّة قامت خلال سنوات عدیدة برصد وجمع وتنظیم أکبر نطاق ممکن من الشبهات الفقهیة المثارة فی مختلف المواضیع؛ وذلک لامتلاک الرؤیة الشاملة والإحاطة الکاملة حول ما یثار فی هذا الصعید کمرحلة تمهیدیة، ثمّ القیام بدرء هذه الشبهات والإجابة علیها لإغناء فقه الأئمة الأطهار علیهم السلام وتقویة مبانیه وتمتین أسسه.

وقد شمل هذا الرصد جمیع المجالات العلمیة والفکریة والثقافیة، وتمّ تنظیم هذه الشبهات فی حقول متعددة، منها الشبهات العلمیة الجدیرة بالبحث والدراسة والشبهات غیر العلمیة المثارة من منطلق بعض الرذائل النفسیة تعبیراً عن العداوات والأحقاد الکامنة فی بعض النفوس المریضة.

وقد کشف لنا هذا الرصد إحصائیة دقیقة للجهات الفردیة والاجتماعیة المهتمّة بإثارة الشبهات، وتمّ الکشف عن الجهات التی تعمل وفق مخطط مدروس، وتمّ تمییزها عن الجهات التی تعمل بشکل عفوی وغیر مقصود فی إثارة الشبهات، فهنالک جهات تعمل بشکل متعمّد لإثارة هذه الشبهات فی مختلف المجالات کالمقالات والرسائل والأطروحات الجامعیة.

کما أنّ هذا الرصد الشامل کشف لنا کمّیة اهتمام مختلف الجهات

ص:9

بالمواضیع الفقهیة، فالشبهات الفقهیة المعاصرة کما تبیّن حالة الإحصاء تکشف أنّ الفکر الغربی له النصیب الأوفر فی هذا المجال، وذلک لأنّ الثورة الفکریة التی اجتاحت الغرب دفعته لرؤیة جدیدة تبلورت لدیهم نتیجة ردود الأفعال التی عاشها الغرب ضدّ التیار الدینی، فحاول المتأثّرون بهذا التیار تطبیق هذه الرؤیة علی المفاهیم الإسلامیة من دون لحاظهم للاختلافات المبنائیة بین الدین المسیحی والدین الإسلامی.

وعموماً فقد حاولت لجنة جمع الشبهات الفقهیة بتوسیع نطاق رصدها للشبهات المثارة من الدائرة الإسلامیة لتشمل الدوائر غیر الإسلامیة ولا سیما دوائر الفکر الغربی.

وقد حاولت لجنة الإجابة علی الشبهات الفقهیة ترجمة جمیع هذه الشبهات حسب مبانی الفقه الشیعی لئلا نقع فی فخ التیارات المعاکسة التی تحاول خلط الأوراق لتصطاد بالماء العکر، ونظراً للحاجة الاجتماعیة وحسب الأولویات المطلوبة حاولت هذه اللجنة الإجابة أوّلاً علی الشبهات المثارة حول الحدود فکانت ثمرة ذلک هذین المجلدین، واستمر العمل بعد ذلک فی موضوع الشبهات المثارة حول المرأة وحقوقها.

وفی الختام لایفوتنی أن أتقدّم بجزیل الشکر والتقدیر لفضیلة حجة الإسلام الشیخ محمّد مهدی الجواهری - وفقه الله لکلّ خیر - حیث أخذ علی عاتقه مهمّة هذا المشروع وتأسیسه ومتابعة تقدّمه حتّی ظهرت هذه الموسوعة القیّمة للوجود نتیجة جهوده المبارکة.

ص:10

کما أشکر مدیر المرکز سماحة حجة الإسلام والمسلمین الشیخ محمّد رضا الفاضل الکاشانی (دامت توفیقاته)، وأشکر مسؤول معاونیة البحوث فی المرکز الدکتور مهدی المقدادی (دام عزّه).

وأسأل الله تبارک و تعالی أن یتقبّل منّا هذا العمل ویجعله ذخراً لیوم لا ینفع فیه مال ولا بنون إلّا من أتی الله بقلب سلیم.

محمّد جواد الفاضل اللنکرانی

مرکز فقه الأئمة الأطهارعلیهم السلام

20 ذی القعدة 1435

ص:11

ص:12

المقدّمة

عندما نمشی فی طریق و نری أمامنا لوحة مکتوب علیها «ممنوع التقدّم - حقل الغام» لا نشعر بالتذمّر والاستیاء، ولا نقول بأنّ من وضع اللوحة قد حدّ من حرّیتنا و منعنا من التقدّم فی الطریق، بل نشعر بالارتیاح، و نری بأنّ من وضع اللوحة یستحق الشکر والتقدیر؛ لأنّه أراد إنقاذنا من الوقوع فی الهلکة، وهذه الرؤیة هی الرؤیة الصحیحة لفهم حدود شرع الله، فإنّها «لا تحدّ من حرّیتنا» بل هی «ضمان لسلامتنا»، وقد قال تعالی: وَ تِلْکَ حُدُودُ اللّهِ وَ مَنْ یَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ 1 .

وقد اتّخذ الدین الإسلامی الحنیف جملة من القوانین لضمان أمن المجتمع والمحافظة علی سلامته ونقائه، وذلک بتشریع بعض الأحکام الرادعة والعقوبات الصارمة تجاه من یتجاوز الخطوط الحمراء المحددّة شرعاً بحسب خطورتها علی الحیاة الفردیة والاجتماعیة.

ومن أبرز مظاهر الردع التی جعلها الشارع هی «الحدود»، حیث لم یقبل فیها أیّ تسامح وتساهل للحفاظ علی سلامة الحیاة الاجتماعیة، فقد جعل الشارع حدّاً للسرقة حفاظاً علی أموال الناس، وجعل حدّاً للزنا حفاظاً علی أعراض الناس وعدم اختلاط المیاه وصحة النسب، وجعل حدّاً للردّة

ص:13

حفاظاً علی سلامة الفکر الدینی من التضعیف والانهیار، وجعل حدّاً للقذف حفاظاً علی کرامة الإنسان وصیانة المجتمع من انتشار الافتراءات والتهم وزعزعة الثقة المتبادلة بین الناس.

ولا یستهدف التشریع فی هذا المجال الانتقام من مرتکب الجریمة، بل یستهدف تطبیق القوانین الشرعیة التی جعلها الشارع لمصلحة المجتمع واستقراره.

ویعتبر تشریع الحدود من أبرز مصادیق اهتمام الشارع بأمور المجتمع لاستئصال حالات الطغیان وزعزعة النظام والإخلال بالأمن الفردی والاجتماعی.

أولیس من العقلانیة أن نقطع العضو المصاب بالسرطان لسلامة الجسم؟!

أولیس من الصحیح قطع العضو المصاب بمرض السکّر لئلا یسری المرض إلی سائر الجسم رأفة بالمریض؟!

فعملیة تقنین الحدود - فی الواقع - تشبه فی أقصی حالاتها قطع العضو الفاسد من منطق الرحمة بکیان المجتمع من التلوّث والانهیار نتیجة الاضطراب الحاصل من عدم مراعاة الموازین والقیم الدینیة وأهمّها الأخلاقیة.

وحرصاً علی سلامة المجتمع من الفساد اتّخذ الشارع المقدّس هذا النوع من الأحکام الرادعة لئلا یعمّ الفساد وینتشر فی سائر کیان المجتمع.

ولیس الهدف من وراء الحدود هو مطلق إیذاء مرتکب الجریمة فقط، بل الهدف هو الردع والزجر عن ارتکاب مثل هذه الأمور، فمن اعتدی علی حقوق الآخرین فهو فی الحقیقة مخلّ بأمن وسلامة المجتمع، فلابد من

ص:14

الوقوف بوجهه بکلّ قوّة ومنعه من الإضرار بالمجتمع.

وقد ارتفعت هتافات إزاء القوانین الإلهیة لتغییر الصورة وقلب الموازین وخلق الصورة المزیّفة التی تحمل فی طیاتها الکثیر من الأباطیل، ولتصوّر الحدود الإلهیة بأنّها أحکام قد مضی وانقضی وقتها فلا مجال لها فی العالم الحضاری الجدید! فقالوا: إنّ الحدود أحکام منافیة للرأفة والرحمة الإلهیة، ولا تتناسب مع الحریة الفردیة والاجتماعیة، بل تنافی حقوق الإنسان!

ولیست هذه الاعتراضات جدیدة بل قدیمة، وأثارها البعض بشکل متعمّد أو غیر متعمّد نتیجة وجود مرض فی قلوبهم أو نتیجة ضیق أفق رؤیتهم للأمور، وتبعاً لذلک باتت هذه الشبهات تطرح بین الحین والآخر بثوب جدید وطابع غیر علمی.

وتعتبر أحکام الحدود - فی یومنا هذا - من أکثر الأحکام التی جُعل لمواجهتها الحیّز المهمّ فی أوساط المجتمع الغربی، وحاول أعداء الإسلام جعلها الذریعة لتشویه صورة الإسلام الصافیة النقیة بحجة تنافیها مع حقوق الإنسان وکونها غیر منسجمة مع التنویر والتحضّر والحداثة، ولکن هؤلاء المعترضین أهملوا حقّ الله وحقّ المجتمع، ونظروا للأمور من منظار ضیّق ومن دون مراعاة المصلحة الإلهیة والمصلحة العامة.

ولقد انبری للأفکار الغربیة المبتنیة علی المبانی الإلحادیة واللبرالیة من یروّج لها ویتعاطف معها عن طریق نشرها بذریعة إرادة الإصلاح والتنویر ومواکبة العصر.

ص:15

وقد ساهم هؤلاء فی خدمة أعداء الإسلام بشعارات تحمل فی طیاتها جملة من الشعارات البرّاقة کالحریة، وهکذا وجد الفکر الغربی طریقه إلی أفکار المتأثّرین به وعشعش فی أذهان من باعوا آخرتهم بدنیاهم ووقعوا فی أوحال الرذیلة والهوی.

وتسرّبت هذه الأفکار الضیقة إلی المسلمین الذین تحوّلوا إلی أداة لبث هذه الشبهات فأصبح هؤلاء ممن یفسّرون الدین بأهوائهم ویختارون ما یشاؤون فیؤمنون ببعض الکتاب ویکفرون ببعض.

وقد حاول البعض ممن یصف نفسه بالمفکّر الإسلامی إثارة الشبهات حول الأحکام الإسلامیة من قبیل الرجم وقطع الید وإجراء الحدود. وهذه الشبهات فی الواقع لیست جدیدة، بل هی الشبهات القدیمة فی ثوبها الجدید، وقد أجاد علماؤنا الکرام بالإجابة عنها سابقاً جزاهم الله خیراً.

وما قمنا به - فی الواقع - هو الإجابة عن الشبهات الجدیدة التی باتت أکثر إثارة فی الآونة الأخیرة.

وکانت المرحلة التمهیدیة للعمل هی القیام بتأسیس لجنة علمیة من الأساتذة والمحقّقین للقیام بجمع الشبهات الفقهیة وفرز الشبهات حسب الأولیة، وجمع المصادر المهمّة التی یحتاج إلیها الباحث فی بحثه الفقهی من الکتب الفقهیة القدیمة والمعاصرة.

وبعد هذه المراحل تمّ إعطاء کلّ شبهة للباحث المتخصّص لیقوم بالإجابة عن هذه الشبهة فی مقال واحد.

ص:16

شکر وتقدیر:

أتقدّم بجزیل الشکر والامتنان لسماحة آیة الله الشیخ محمّد جواد الفاضل اللنکرانی (دامت برکاته) لاهتمامه بالبحوث الفقهیة المعاصرة ودعمه لهذا المشروع وإشرافه علیه.

وأتقدّم بجزیل الشکر والتقدیر لسماحة الشیخ علاء الحسّون (دامت توفیقاته) للمساندة التی تلقّیتها منه فی جمیع مراحل المشروع تنظیماً ومراجعة.

کما أشکر جمیع أعضاء اللجنة العلمیة وجمیع الباحثین الذین ساهموا فی کتابة البحوث للردّ علی الشبهات الفقهیة المخصّصة فی هذا المجال، والمذکورة أسماؤهم فی بدایة کلّ مقال.

وأشکر فضیلة الشیخ عبد الله الخزرجی (زید عزّه) حیث تلقّی علی عاتقه مهمّة تقویم نصوص المقالات.

وفی الختام أسأل الله أن یوفّقنا لمواصلة العمل فی صعید الإجابة عن الشبهات الفقهیة، حیث إنّ المشروع مستمر ویتمّ الآن الإجابة عن الشبهات الفقهیة المرتبطة بالمرأة، ومن الله التوفیق.

محمّد مهدی الجواهری

مسؤول قسم موسوعة ردّ الشبهات الفقهیة

مرکز فقه الأئمة الأطهارعلیهم السلام

محرّم الحرام 1436 ه -

ص:17

ص:18

القسم الأوّل: قتل المرتد

ص:19

ص:20

مشروعیة إقامة الحدود الإسلامیة فی زمان الغیبة

بقلم: آیة الله الشیخ محمّد جواد الفاضل اللنکرانی (دامت برکاته)

اشارة

من الخصائص المهمّة جدّاً فی الدین الإسلامی والتی تکون مؤثّرة فی جامعیة هذا الدین، هو بیان الجرائم والذنوب وعرض الحالات الغیر طبیعیة الشخصیة والاجتماعیة، مع ذکر الآثار الدنیویة والأخرویة لها.

ویترتّب علی کلّ عمل قبیح فی الإسلام، والذی یعدّ من مصادیق الذنوب آثار دنیویة مهمّة وعقوبات أخرویة، ولبعض هذه الآثار الدنیویة حیثیّة وضعیة، وبعبارة أخری: لها حیثیّة قهریة وتکوینیة، ولبعضها الآخر حیثیّة عقابیة.

وکما وردت توصیات فی الإسلام بضرورة اجتناب المعاصی، والتأکید فی کافة المجالس والاجتماعات علی التقوی والتدین والخوف من الله، کذلک حدّدت لبعض الذنوب عقوبات یُطلق علیها فی الفقه الحدود والتعزیرات.

ص:21

وفی هذه العقوبات أربع نقاط، نعبّر عنها «بالشاخص»:

1 - یعلم بقلیل من التأمّل أنّ کافة الحدود تجری فی موارد لیس شخص الإنسان بمفرده هو المقصود، بل الجریمة تتحقق بالارتباط مع فعل إنسانٍ بالنسبة إلی مالٍ أو شخصٍ أو جمعٍ آخر.

فالمعاصی الشخصیة من قبیل الکذب أو الغیبة التی فیها عمل فرد واحد فقط دون فعل أو مال أو عرض الآخر، فهی لیست موضوعاً للحدود، وأمّا فی موارد من قبیل الزنا، اللواط، السرقة والقذف، فیطرح فیها الحدود الإلهیة.

هذا الموضوع یکشف عن أنّ الإرادة الأوّلیة للشارع المقدّس لیست هی وضع عقوبات لکافة القبائح والمحرّمات والذنوب، بل الجرائم التی لا تتحدد ولا تنحصر فی دائرة الفرد والمال والعرض أو العقیدة الخاصّة لشخصٍ، فهی مشمولة لهذه الإرادة.

وحتّی فی خصوص الارتداد، فإذا لم یظهره شخص وبقی فی ذهنه، فلیس علیه عقوبة دنیویة أو حدّ،

وأمّا إذا أظهره - وهو نوع تحدّ ومواجهة للدین والمتدینین، وتخریب وهدم لعقائدهم - فیطرح مسألة الحدّ.

2 - ینبغی الالتفات إلی هذه النقطة الهامّة ألا وهی أنّه طبقاً لقانون «الدرء»، «وادرؤوا الحدود عن المسلمین ما استطعتم»(1) ، وطبقاً لنقل الشیخ

ص:22


1- (1) سنن الترمذی 2:438، ح 1447.

الصدوق رحمه الله: قال رسول الله صلی الله علیه و آله: «ادرؤوا الحدود بالشبهات»(1) ، فإنّ منهج الإسلام یقتضی نفی استحقاق الحدّ بالنسبة للأفراد قدر الإمکان، ولیس لهذا الدین إصرار علی إثبات الجرم وبتبعه إقامة الحدود المترتبة علیه. کما یرفض فی موارد إثبات الجرم الطرق السهلة والبسیطة، حتّی أنّه فی بعض الصور یری لزوم شهادة أربعة رجال عدول.

3 - الشاخص الآخر هو الموارد التی جُعلت بعنوان العفو فی اختیار الحاکم الشرعی أو القاضی الجامع للشرائط.

4 - الشاخص الآخر هو أنّه بناء علی بعض الروایات ینتفی استحقاق الحدّ فی حال الجهل بالحرمة أو الحکم، علی سبیل المثال: روی فی صحیحة الحلبی عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال: «لو أنّ رجلاً دخل فی الإسلام وأقرّ به، ثمّ شرب الخمر وزنی وأکل الربا ولم یتبیّن له شیء من الحلال والحرام لم أقم علیه الحدّ إذا کان جاهلاً، إلّا أن تقوم علیه البینة أنّه قرأ ال سورة التی فیها الزنا والخمر وأکل الربا، وإذا جهل ذلک أعلمته وأخبرته، فإن رکبه بعد ذلک جلدته وأقمت علیه الحدّ»(2).

وماورد أیضاً فی القاعدة العامّة: «أیّ رجل رکب أمراً بجهالة فلا شیءعلیه»، وهی شاملة للشبهات الحکمیة والموضوعیة، وشاملة للجاهل القاصر والمقصّر.

ص:23


1- (1) من لا یحضره الفقیه 4:74، ح 5146.
2- (2) وسائل الشیعة 28:32، ح 34141.

طبعاً هذه النقطة واضحة أنّه لیس من الضروری علم المجرم بوجود الحدّ ومقداره، بل علیه أن یعلم فقط بأنّ هذا العمل حرام، وفی هذه الحال یستحق الحدّ وإن لم یعلم بوجود الحدّ الشرعی والعقوبة فی مثل هذا الفعل الحرام.

وبناء علی هذه الشواخص الأربعة یتّضح أنّ استحقاق الحدّ لا یتحقق بسهولة، بل هو ممکن بعد حصول شروط وأمور.

وبعبارة أخری: لم یکن قرار الشارع المقدّس فی الدین الإسلامی علی زیادة الحدود و إقامتها وإشاعتها فی المجتمع، بل اکتفی بمقدار الضرورة وبالأقل اللازم.

وبعد اتّضاح هذه الخصوصیات ینبغی القول: إنّ النزاع القائم فی بحث إجراء الحدود هو أنّ إقامة الحدود هل هو من مختصّات عصر حضور المعصوم علیه السلام الذی ینبغی فیها استئذانه أو أنّه یشمل زمان الغیبة أیضاً؟

وهل هناک احتمال أنّه فیما لو کان إجراء الحدود من الأحکام الخاصّة بعصر حضور المعصوم علیه السلام أن نقول: إنّ الأئمة المعصومین علیهم السلام أذنوا إذناً عامّاً للفقهاء جامعی الشرائط بأنّ لهم الولایة علی هذا الأمر؟

کما أنّه من الممکن أن نعتقد بالنسبة لعصر الحضور أنّ الأئمة علیهم السلام أذنوا بإقامة الحدود فیما یتعلّق بالآخرین.

فی بحث القضاء صرّح الفقهاء بأنّ للقاضی الولایة علی الحکم، وبعبارة أخری: القضاء ونفوذه من مصادیق الولایة. وعلی هذا، ففی إقامة الحدود ینبغی وجود جهة الولایة وبدونها لا یحقّ لأحد إقامتها، وحینئذ

ص:24

فالبحث فی أنّه هل أُعطیت هکذا ولایة للفقهاء جامعی الشرائط فی زمان الغیبة أو أنّه مختص بالإمام المعصوم علیه السلام ومن دون حضوره وإذنه لا یمکن إقامة هذه الحدود؟

بعد اتّضاح محل النزاع، واضح أنّه فی مقام الاستدلال یلزم إقامة الدلیل علی الاشتراط والاختصاص، فإن کان هناک دلیل واضح یدلّ علی اختصاص هذا الأمر بالإمام المعصوم علیه السلام فنقول بالاختصاص، وإن لم یکن هناک دلیل علی هذا الاختصاص، فبعد إثبات الولایة المطلقة للفقیه الجامع للشرائط تکون أصالة عدم الاشتراط حاکمة فی هذا المورد.

وهذا المطلب مسلّم أنّ إثبات الحدّ یجب أن یکون تحت نظر الحاکم الشرعی، ولکن البحث فی أنّه فی الموارد التی بحسب الظاهر أصل الجریمة مع الخصوصیات والشرائط ثابتة للأفراد العادیین هل لهؤلاء الأفراد الحقّ فی الحکم وإجراء الحدّ؟

وبعبارة أخری: لا یمکن القبول بالملازمة بین مسألة الإثبات ومسألة إقامة الحدّ، یعنی: لا ریب أنّه فی مورد إثبات الحدّ یجب أن یکون هذا الأمر عند الحاکم المجتهد، ولکن لا ملازمة فی أن یکون منفّذ الحدّ مجتهداً أیضاً.

ملازمة مشروعیة القضاء مع مشروعیة التنفیذ:

هل هناک ملازمة بین مشروعیة القضاء فی زمان الغیبة مع مشروعیة تنفیذ الحدود؟

ص:25

فی عبارات الفقهاء المعتقدین بجواز إقامة الحدود فی زمان الغیبة هکذا یأتی عادة: کما أنّ الحکم والقضاء من شؤون الفقاهة، فکذلک إجراء الحدود.

وکأنّ هذه الملازمة موجودة فی ارتکاز الفقهاء، والظاهر أیضاً هو وجود الملازمة الشرعیة والعادیة، والسبب هو أنّ القضاء إن کان مشروعاً ولکن لم یکن تنفیذ الحدود مشروعاً، لزم لغویة القضاء فی بعض الموارد.

وببیان آخر: هناک إطلاق فی أدلة مشروعیة القضاء حتّی بالنسبة إلی الموارد التی فیها حدود إلهیة، فإن لم نعتقد بمشروعیة تنفیذ الحدود فی زمان الغیبة فیلزم منه إدخال التخصیص أو التقیید فی هذه الأدلة.

وبعبارة أخری: عدم مشروعیة تنفیذ الحدود، إمّا یستلزم لغویة مشروعیة القضاء فی بعض الموارد أو أنّ علینا الالتزام بالتخصیص أو التقیید فیها، ولا یمکن الالتزام بکلا الأمرین، وعلی هذا فیمکن قبول الملازمة بینها. نعم، یمکن القول بعدم الملازمة بین مشروعیة الإفتاء وتنفیذ الحدود.

الملازمة بین نظریة ولایة الفقیه ومشروعیة تنفیذ الحدود:

ورد فی عبارات بعض المحققین الکرام(1): أنّ المخالفة مع جواز إقامة الحدود فی زمان الغیبة لا یعنی إنکار نظریة ولایة الفقیه؛ لوجود نسبة

ص:26


1- (1) السید مصطفی المحقق الداماد، قواعد الفقه، القسم الجزائی: 291.

العموم والخصوص من وجه فی اصطلاح المناطقة بین هذین البحثین.

فمن الممکن أنّ أشخاصاً لا یقولون بنظریة ولایة الفقیه بالمعنی الرائج ولکن یعتقدون أنّ الفقهاء الجامعین للشرائط یمکنهم القضاء وإقامة الحدود، و آیة الله الخوئی رحمه الله من هذه المجموعة.

ومن الممکن أن یقول شخص بولایة الفقیه ولکن لا یسرّی حدود اختیارات الفقیه إلی إقامة الحدود أو الجهاد مع الکفّار، کالمحقق الکرکی.

ویمکن أن لا یقول بهما أحد، کالمرحوم آیة الله السید أحمد الخوانساری و آیة الله الشیخ عبد الکریم الحائری.

ویمکن أن یقول البعض بکلا النظریتین، کالإمام الخمینی رحمه الله وعدد کثیر من الفقهاء المعاصرین والقدماء.

وفی رأینا أنّ هذا الکلام قابل للنقاش؛ لأنّه یبتنی علی نظریة ولایة الفقیه المطلقة، وینبغی أن یُسأل هل هناک ملازمة بین هذه النظریة ومسألة تنفیذ الحدود أو لا؟

وفی الجواب یجب أن نقول: لاشک فی وجود مثل هذه الملازمة وإلّا لزم خلاف الفرض، وزوال عنوان الإطلاق.

طبعاً ینبغی القول هنا: إنّ خلطاً قد حصل بین مطلبین:

الأوّل: هل أنّ لازم مسألة الولایة المطلقة هو جواز إقامة الحدود فی زمان الغیبة أم لا؟

ص:27

الثانی: کم هو عدد أقوال کبار العلماء؟

الکاتب المحترم قد التفت إلی المطلب الثانی والحال أنّ البحث فی الملازمة متعلّق بالمطلب الأوّل.

وهناک ملازمة واضحة بین قبول ولایة الفقیه المطلقة ومشروعیة إقامة الحدود، إلّا إذا أقیم دلیل خاص علی عدم المشروعیة فی زمان الغیبة، وفی هذه الصورة، فی الوقت الذی ینبغی قبول الولایة المطلقة من حیث الفتوی، ینبغی العمل أیضاً بالدلیل الخاص علی فرض قبوله، ولکن مع قطع النظر عن وجود الدلیل الخاص، فلا تردید فی هذه الملازمة.

وینبغی الالتفات إلی هذه النقطة وهی: أنّ عمومیة وإطلاق ولایة الفقیه یشمل تنفیذ الحدود أیضاً بشکل قاطع، ومن هذا المنظار تکون المسألة أعلی وأهم من عنوان الملازمة.

وبعبارة أخری: یعدّ تنفیذ الحدود أحد مصادیق العنوان العام لولایة الفقیه المطلقة، وفی هذه الصورة التعبیر بالملازمة یکون تعبیراً مسامحیاً.

الآراء الموجودة فی المسألة:

فی هذا البحث بنحو عام هناک أربعة آراء:

أ: الجواز مطلقاً.

ب: عدم الجواز مطلقاً.

ج: التفصیل فی موارد الجواز، وسیأتی توضیحه.

ص:28

د: التردید والتوقف فی المسألة.

والقائلون بالجواز والتفصیل هم علی خمسة أقسام:

القول الأوّل: جواز إقامة الفقیه الجامع للشرائط الحدود مطلقاً، وعدم جواز إقامة الحدود لغیر الفقیه إلّا المولی بالنسبة لمملوکه.

یستفاد هذا القول من کلمات الشهید الثانی رحمه الله فی المسالک(1) ، والروضة البهیة(2).

القول الثانی: جواز إقامة الفقیه الحدود مطلقاً، وعدم الجواز لغیر الفقیه وإن کان مالکاً، یستفاد هذا الرأی من کلمات المقنعة(3) ، والمراسم(4) ، وکتاب الکافی لأبی الصلاح الحلبی(5) ، والمرحوم العلّامة فی المختلف(6).

القول الثالث: جواز إقامة الحدود للموالی فقط، وعدم الجواز لغیرهم مطلقاً(7).

ص:29


1- (1) مسالک الإفهام 3:105.
2- (2) الروضة البهیة فی شرح اللمعة الدمشقیة 2:419.
3- (3) المقنعة: 810.
4- (4) المراسم العلویة فی الأحکام النبویة: 263.
5- (5) الکافی فی الفقه: 421.
6- (6) مختلف الشیعة فی أحکام الشریعة 4:463.
7- (7) قبل هذا القول المرحوم ابن إدریس فی بحث الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر فی الصفحة 24 من المجلد الثانی لکتاب السرائر.

القول الرابع: هو نفس القول الثالث مع إضافة جواز إقامة الحدود للآباء والأزواج(1).

القول الخامس: جواز إقامة الحدود للفقیه والآباء والأزواج والموالی، وعدم الجواز لغیرهم(2).

ولدراسة هذه الأقوال بصورة أفضل یلزم التأمّل فی بعض عبارات الفقهاء، فننقل فی البدایة العبارات الصریحة فی جواز تنفیذ الحدود فی زمان الغیبة، ثمّ نتناول بالتحلیل عبارات الشیخ الطوسی، ابن إدریس والمحقق الحلی رحمهم الله.

دراسة عبارات الفقهاء فی مسألة جواز تنفیذ الحدود فی زمان الغیبة

اشارة

بعض أهم الرؤی المطروحة فی هذا المضمار هی:

1 - الشیخ المفید رحمه الله:

«أمّا إقامة الحدود فهو إلی سلطان الإسلام والمنصوب من قبل الله تعالی، وهم أئمة الهدی من آل محمّد علیهم السلام، ومن نصّبوه لذلک من الأمراء والحکام، وقد فوّضوا النظر فیه إلی فقهاء شیعتهم مع الإمکان»(3).

ص:30


1- (1) قبل هذا الرأی الشیخ الطوسی فی بحث الأمر بالمعروف من کتاب النهایة.
2- (2) نسب هذا القول للکثیر من الفقهاء، ومضافاً إلی المشروعیة والولایة فی إقامة الحدود، فی بعض کلمات الفقهاء طرحت مسألة لزوم مساعدة الناس أیضاً.
3- (3) المقنعة: 810.

ویبدو أنّ الشیخ المفید رحمه الله هو أوّل من صرّح بإمکان إقامة الفقهاء للحدود فی زمان الغیبة.

2 - سلار رحمه الله:

ویکتب سلّار فی کتاب المراسم: «فقد فوّضوا علیهم السلام إلی الفقهاء إقامة الحدود والأحکام بین الناس بعد أن لا یتعدّوا واجباً... وقد روی أنّ للإنسان أن یقیم علی ولده وعبده الحدود إذا کان فقیهاً ولم یخف من ذلک علی نفسه، والأوّل أثبت»(1).

ویستفاد من خلال التدقیق فی کلمات سلّار أنّ مراده هو أنّ القول الأوّل - یعنی: جواز إقامة الحدود مطلقاً - أثبت من حیث الأدلة، وأنّ مستنده قوی جدّاً، ویری القول الثانی - یعنی: جواز إقامة الحدّ علی الولد والعبد حتّی فی زمان حضور الإمام علیه السلام - وإن کان مقتضی إطلاق الروایة غیر أثبت، ودلیله الاستناد إلی روایة لا یمکن الاعتماد علیها کثیراً. وسیأتی توضیح هذا القول بنحو أکثر تفصیلاً فی کلمات بعض آخر من القدماء.

وبعد الشیخ المفید یعدّ سلّار رحمه الله الشخصیة الثانیة التی أفتت بمشروعیة إقامة الحدود فی زمان الغیبة.

3 - أبو الصلاح الحلبی رحمه الله:

أورد أبو الصلاح الحلبی فی الکافی: «تنفیذ الأحکام الشرعیة والحکم

ص:31


1- (1) المراسم العلویة: 263.

بمقتضی التعبّد فیها من فروض الأئمة علیهم السلام المختصة بهم دون من عداهم ممّن لم یؤهلوه لذلک، فإن تعذّر تنفیذها بهم علیهم السلام وبالمأهول لها من قبلهم لأحد الأسباب لم یجز لغیر شیعتهم تولّی ذلک، ولا التحاکم إلیه، ولا التوصّل بحکمه إلی الحقّ، ولا تقلیده الحکم مع الاختیار، ولا لمن لم یتکامل له شروط النائب فی الحکم من شیعته... فمتی تکاملت هذه الشروط فقد أذن له فی تقلّد الحکم وإن کان مقلّده ظالماً متغلباً، وعلیه متی عرض لذلک أن یتولاه، لکون هذه الولایة أمراً بمعروف ونهیاً عن منکر، تعیّن فرضها بالتعریض للولایة علیه»(1).

وبناء علی هذا الکلام فمن کانت له شرائط النیابة عن الأئمة المعصومین علیهم السلام یعدّ مأذوناً من قبل الأئمة علیهم السلام فی تقلّد الحکم وتنفیذه وإقامته.

وینبغی الالتفات إلی أنّه فی هذا الکلام عُبّر عن إقامة الأحکام ب - «التنفیذ».

کما أنّه یستفاد من مجموع کلماته أنّه یری أنّ الولایة فی القضاء والتنفیذ هما من مصادیق الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر.

4 - ابن زهرة رحمه الله:

قد بیّن فی البدایة شرائط القاضی ثمّ أورد فی النهایة: «ویجوز للحاکم

ص:32


1- (1) الکافی: 421-423.

أن یحکم بعلمه فی جمیع الأشیاء من الأموال والحدود والقصاص وغیر ذلک»(1).

واشترط فی متولّی القضاء عدّة شروط، هی:

1 - أن یکون عالماً بالحقّ فی الحکم

2 - عادلاً

3 - کامل العقل

4 - حسن الرأی

5 - ذا حلم وورع

6 - قوّة علی القیام بما فوّض إلیه.

ویمکن استفادة تنفیذ الحدود من الشرط السادس.

5 - ابن سعید رحمه الله:

یقول ابن سعید فی الجامع للشرائع: «ویتولّی الحدود إمام الأصل أو خلیفته أو من یأذنان له فیه»(2).

ویستفاد من مجموع هذه العبارات بوضوح أنّ تنفیذ الحدود جائز ومشروع فی زمان الغیبة.

ص:33


1- (1) غنیة النزوع: 436.
2- (2) الجامع للشرائع: 548.
6 - الشیخ الطوسی رحمه الله:

أورد الشیخ الطوسی فی النهایة: «أمّا إقامة الحدود فلیس یجوز لأحد إقامتها إلّا لسلطان الزمان المنصوب من قبل الله تعالی أو من نصّبه الإمام لإقامتها، ولا یجوز لأحد سواهما إقامتها علی حال، وقد رخص فی حال قصور أیدی أئمة الحقّ وتغلّب الظالمین أن یقیم الإنسان الحدّ علی ولده وأهله وممالیکه، إذا لم یخف فی ذلک ضرراً من الظالمین وأمن بوائقهم، فمتی لم یأمن ذلک لم یجز له التعرّض لذلک علی حال. ومن استخلفه سلطان ظالم علی قوم، وجعل إلیه إقامة الحدود، جاز له أن یقیمها علیهم علی الکمال، و یعتقد أنّه إنّما یفعل ذلک بإذن سلطان الحقّ لا بإذن سلطان الجور، ویجب علی المؤمنین معونته وتمکینه من ذلک، مالم یتعدّ الحقّ فی ذلک، وما هو مشروع فی شریعة الإسلام، فإن تعدّی فیما جعل إلیه الحقّ فی ذلک، لم یجز له القیام به، ولا لأحد معونته علی ذلک، اللهم إلّا أن یخاف فی ذلک علی نفسه، فإنّه یجوز له حینئذ أن یفعل ذلک فی حال التقیة ما لم یبلغ قتل النفوس، فأمّا قتل النفوس فلا یجوز فیه التقیة علی حال، وأمّا الحکم بین الناس والقضاء بین المختلفین فلا یجوز ذلک أیضاً إلّا لمن أذن له السلطان الحقّ فی ذلک، وقد فوّضوا ذلک إلی فقهاء شیعتهم فی حال لا یتمکّنون فیه من تولّیه بنفوسهم، فمن تمکّن من إنفاذ حکم أو إصلاح بین الناس أو فصل بین المختلفین فلیفعل ذلک، وله بذلک الأجر والثواب»(1).

ص:34


1- (1) النهایة: 300-301.

ویمکن تلخیص کلام المرحوم الشیخ بالشکل التالی:

1 - إقامة الحدود الشرعیة فی زمان حضور المعصوم علیه السلام تجوز فقط للإمام المعصوم علیه السلام أو من نصّبه الإمام نصباً خاصاً، ولا یجوز لسواهما إقامتها.

2 - الترخیص فی حال قصور أیدی أئمة الحقّ المعصومین علیهم السلام وتغلّب الظالمین، أن یقیم الإنسان الحدّ علی ولده وأهله وممالیکه، إذا لم یخف فی ذلک ضرراً من الظالمین وأمن بوائقهم.

3 - من استخلفه سلطان ظالم علی قوم، وجعل إلیه إقامة الحدود، جاز له أن یقیمها علیهم علی الکمال، و یعتقد أنّه إنّما یفعل ذلک بإذن سلطان الحقّ لا بإذن سلطان الجور، ویجب علی المؤمنین معونته وتمکینه من ذلک، مالم یتعدّ الحقّ فی ذلک، وما هو مشروع فی شریعة الإسلام، فإن تعدّی فیما جعل إلیه الحقّ فی ذلک، لم یجز له القیام به، ولا لأحد معونته علی ذلک، اللهم إلّا أن یخاف فی ذلک علی نفسه، فإنّه یجوز له حینئذ أن یفعل ذلک فی حال التقیة.

4 - الحکم بین الناس والقضاء بین المختلفین، لا یجوز إلّا لسلطان الحقّ، وقد فوّضوا ذلک إلی فقهاء شیعتهم، فمن تمکّن من الفقهاء من إنفاذ حکم أو إصلاح بین الناس أو فصل بین المختلفین فلیفعل ذلک، وله بذلک الأجر والثواب.

فتکون النتیجة هی:

ص:35

أوّلاً: یستفاد من کلام الشیخ رحمه الله فی النهایة أنّه لا یمکن للفقیه إقامة الحدود ابتداء، ولا یحقّ له إقامتها.

ثانیاً: من استخلفه سلطان ظالم علی قوم، جاز له أن یقیمها وإن لم یکن فقیهاً، مالم یتعدّ الحقّ فی ذلک.

ثالثاً: هنالک فرق بین القضاء وإقامة الحدود.

رابعاً: یعتقد الشیخ رحمه الله أنّه رخص الشارع للإنسان إقامة الحدّ علی ولده وأهله وممالیکه.

والأمر الذی نؤکّد علیه هو أنّ کثیراً من الفقهاء نسبوا القول بجواز إقامة الحدود فی زمان الغیبة إلی الشیخ الطوسی رحمه الله، فقد نسب ابن فهد الحلّی رحمه الله فی کتابه المهذّب البارع هذا القول إلی الشیخ رحمه الله فی النهایة، وجزم العلّامة رحمه الله فی التذکرة والمنتهی بذلک، فقال: «وجزم به الشیخان»، ونسب الشهید الثانی رحمه الله فی المسالک هذا القول إلی الشیخ الطوسی رحمه الله وجماعة.

ولکن المستفاد من عبارة الشیخ رحمه الله فی النهایة أنّه لا یمکن نسبة القول بالجواز إلی المرحوم الشیخ.

نعم، لو کانت کلمة«إنفاذ الحکم» بمعنی إجراء الحکم، فیمکن فی هذه الحالة نسبة هذا القول إلی الشیخ رحمه الله.

قال المرحوم السید محمّد باقر الشفتی فی رسالته: «إنّ المخالف بل

ص:36

المتوقّف فی المسألة غیر ظاهر، عدا ما یظهر من العبارة السالفة من شیخ الطائفة فی النهایة...»(1).

استفاد ابتداء من عبارة الشیخ رحمه الله فی النهایة المخالفة لجواز إقامة الحدود، ولکن بعد ذلک یکتب أنّه یستفاد من عبارة: «وقد فوّضوا ذلک إلی فقهاء شیعتهم» أنّ التنفیذ وکذا الحکم فوّض لفقهاء الشیعة.

وإنّما یصح هذا الکلام فیما لو أرجعنا المشار إلیه «ذلک» إلی التنفیذ والحکم معاً، والحال أنّ ظهوره الأوّلی هو الحکم والقضاء فقط ولا یشمل التنفیذ.

نعم، یمکن استفادة هذا القول بوضوح من عبارة المرحوم الشیخ فی المبسوط، فهو یقول فی المبسوط: «للسید أن یقیم الحدّ علی ما ملکت یمینه بغیر إذن الإمام علیه السلام... عندنا وعند جماعة... وأمّا الحدّ لشرب الخمر فله أیضاً إقامته علیهم عندنا؛ لما رواه علی علیه السلام أنّ النبی صلی الله علیه و آله قال: أقیموا الحدود علی ما ملکت أیمانکم، وهذا عامّ، وأمّا القطع بالسرقة فالأولی أن نقول له ذلک لعموم الأخبار... أمّا القتل بالردة فله أیضاً ذلک لما قدمناه... ومن قال للسید إقامة الحدّ علیهم أجراه مجری الحاکم والإمام وکلّ شیء للإمام أو الحاکم إقامة الحدّ به من إقرار وبینة وعلم فللسید مثله»(2).

ص:37


1- (1) إقامة الحدود فی هذه الأعصار: 135.
2- (2) المبسوط 8:11-12.

لقد صرّح المرحوم الشیخ فی هذه العبارة أنّه کلّ شیء للحاکم الشرعی بالنسبة لإقامة الحدود فللسید مثله، وبعبارة أخری: جواز إقامة الحدود للمولی لیس استثناء، بل عدّ المولی بمنزلة الحاکم، وفی النتیجة، ینبغی أن یعتبر الشیخ رحمه الله هذه النسبة إلی نفس الحاکم من المسلّمات.

وکذلک من عبارة الشیخ رحمه الله فی الخلاف حیث صرّح بجواز حکم الحاکم فی کافة الموارد بعلمه، فی الأموال والحدود والقصاص، ثمّ کتب: «من فعل ما یجب به الحدّ فی أرض العدو من المسلمین، وجب علیه الحدّ إلّا أنّه لا یقام علیه الحدّ فی أرض العدو، بل یؤخّر إلی أن یرجع إلی دار الإسلام»(1) ، یستفاد بوضوح جواز إقامة الحاکم للحدود.

والنتیجة: أنّ الشیخ الطوسی رحمه الله فی المبسوط والخلاف یعتقد بشکل واضح بجواز إقامة الحدود فی زمان الغیبة، وأمّا فی کتاب النهایة فإنّه یمکن عدّ المرحوم الشیخ بتوجیه أنّه من مؤیدی هذه النظریة.

7 - ابن إدریس رحمه الله:

کتب ابن إدریس رحمه الله: «الأقوی عندی أنّه لا یجوز له أن یقیم الحدود إلّا علی عبده فحسب، دون ما عداه من الأهل والقرابات؛ لما قد ورد فی العبد من الأخبار، واستفاض به النقل بین الخاصّ والعام»(2).

ص:38


1- (1) کتاب الخلاف 5:522، المسألة 9.
2- (2) السرائر 2:24.

هذا الکلام هو أوّل خلاف بین ابن إدریس رحمه الله مع المرحوم الشیخ فی هذا البحث، فإنّ ابن إدریس یری جواز إقامة الحدّ للمولی علی العبید فقط وأمّا بالنسبة لبقیة الموارد کالأهل والأقارب فلا یجوّز إقامة الحدود، علی خلاف الشیخ رحمه الله الذی یری جواز إقامة الحدود فی الموارد الثلاثة.

ثمّ تابع ابن إدریس کلامه فقال: «وقد روی أنّ من استخلفه سلطان ظالم علی قوم، وجعل إلیه إقامة الحدود جاز له أن یقیمها علیهم علی الکمال، ویعتقد أنّه إنّما یفعل ذلک بإذن سلطان الحقّ لا بإذن سلطان الجور، ویجب علی المؤمنین معونته وتمکینه من ذلک، ما لم یتعدّ الحقّ فی ذلک، وما هو مشروع فی شریعة الإسلام... قال محمّد بن إدریس مصنف هذا الکتاب: والروایة أوردها شیخنا أبوجعفر فی نهایته، وقد اعتذرنا له فیما یورده فی هذا الکتاب - أعنی النهایة - فی عدّة مواضع، وقلنا: إنّه یورده إیراداً من طریق الخبر، لا اعتقاداً من جهة الفتیا والنظر»(1).

یعتقد ابن إدریس أنّ الشیخ رحمه الله أورد هذا المطلب - أنّ من استخلفه سلطان ظالم علی قوم، وجعل إلیه إقامة الحدود، جاز له أن یقیمها علیهم علی الکمال - من طریق الخبر لا اعتقاداً من جهة الفتیا والنظر؛ لأنّ إجماع الأصحاب والمسلمین قائم علی أنّه:

أوّلاً: لا یجوز إقامة الحدود.

ص:39


1- (1) المصدر نفسه: 24-25.

ثانیاً: المخاطب فی آیات وأدلة الحدود، هم الأئمة علیهم السلام والحکّام الذین یعملون بإذنهم، ولا صلاحیة لغیرهم للتعرّض لهذه الأمور، ولا یرفع الید عن الإجماع بالخبر الواحد.

ثمّ قَبِل ابن إدریس رحمه الله فی نهایة العبارة نظریة الشیخ رحمه الله بالنسبة للحکم والقضاء بین الناس.

وطبقاً لکلام ابن إدریس رحمه الله الشیخ الطوسی رحمه الله لا یوافق علی إقامة الحدود حتّی فی مورد استخلاف السلطان الظالم لشخص، وابن إدریس رحمه الله موافق مع الشیخ الطوسی رحمه الله إلّا فی إقامة الحدود علی الأهل والقرابات.

واستنتج جماعة من الفقهاء من کلمات ابن إدریس رحمه الله أنّه لا یوافق علی إقامة الحدود فی زمان الغیبة، قَبِل هذا المطلب الصیمری فی غایة المرام(1) وابن فهد رحمه الله فی المهذّب البارع(2) والفاضل المقداد فی التنقیح(3).

وأمّا المرحوم السید محمّد باقر الشفتی فقد رفض فی رسالته هذه النتیجة معتقداً بأنّ ما فهمه هؤلاء الفقهاء یطابق بعض عباراته، ولکن لو لاحظنا عباراته الأخری فسنصل إلی نتیجة أخری هی: أنّه من الموافقین لإقامة الحدود فی زمان الغیبة، وحتّی أنّه یؤکد ویصرّ علی هذه النظریة أیضاً.

ص:40


1- (1) غایة المرام 1:547.
2- (2) المهذّب البارع 2:329.
3- (3) التنقیح الرائع 1:596.

وقد عقد المرحوم ابن إدریس فی آخر السرائر فصلاً تحت عنوان «تنفیذ الأحکام»، ویکتب المرحوم الشفتی: أنّه یستفاد من عبارة آخر السرائر وعبارة أخری له بوضوح أنّ ابن إدریس رحمه الله لا یخالف الشیخ الطوسی فی مسألة جواز إجراء الأحکام، وأنّ نسبة المخالفة معه غیر مطابقة للصواب والصحة، ویکتب المرحوم الشفتی: « وأنت إذا تأمّلت فی العبارات المذکورة تعلم أنّ ما عزوه إلی ابن إدریس من منعه إقامة الحدود من الفقهاء فی هذه الأزمنة غیر مقرون بالصحّة، وأنّ الداعی لتلک النسبة الجمود ببعض کلماته من دون تأمّل فی السابق علیه واللاحق به»(1).

ثمّ نسب مطلباً أهم لابن إدریس فکتب یقول: «بل الذی یظهر من مجموع کلماته التی أوردناها فی المقام وغیرها أنّ إصراره فی الجواز فوق کلام المجوّزین»(2).

وأورد المرحوم ابن إدریس فی آخر السرائر: «صحة التنفیذ تفتقر إلی معرفة من یصحّ حکمه ویمضی تنفیذه، فإذا ثبت ذلک، فتنفیذ الأحکام الشرعیة والحکم بمقتضی التعبّد فیها من فروض الأئمة علیهم السلام، المختصّة بهم... فمتی تکاملت هذه الشروط (شروط النیابة عن الإمام) فقد أذن له فی تقلّد الحکم، وإن کان مقلّده ظالماً متغلباً.

ص:41


1- (1) إقامة الحدود فی هذه الأعصار: 144.
2- (2) إقامة الحدود فی هذه الأعصار: 144.

وعلیه متی عرض لذلک أن یتولّاه لکون هذه الولایة أمراً بمعروف ونهیاً عن منکر، تعیّن غرضهما بالتعریض للولایة علیه... والتمکّن من أنفسهم لحدّ أو تأدیب تعیّن علیهم، ولا یحلّ لهم الرغبة عنه»(1).

وفی هذه العبارة عدّة شواهد واضحة علی مدّعی المرحوم الشفتی:

1 - تصریح ابن إدریس رحمه الله فی صدر العبارة أنّه إذا تعذّر تنفیذ الحکم من جانب المعصوم علیه السلام یجب الرجوع إلی شخص له شروط النیابة عن الأئمة علیهم السلام - وهو العلم بالحقّ فی الحکم الذی یرجع إلیه - ومأذون فی الحکم والتنفیذ.

2 - أورد فی ذیل العبارة أنّ من استخلفه سلطان ظالم فی الحکم والتنفیذ فهو فی الحقیقة نائب عن ولی الأمر علیه السلام، وهو قد أذن له «لثبوت الإذن منه ومن آبائه علیهم السلام لمن کان بصفته فی ذلک»، بل یستفاد من عبارة: «ولا یحلّ له القعود عنه» أنّه لا یقول بالجواز فحسب، بل یعتقد بالوجوب أیضاً.

3 - جاء فی ذیل العبارة أیضاً: «فهو فی الحقیقة مأهول لذلک بإذن ولاة الأمر علیهم السلام، وإخوانه فی الدین مأمورون بالتحاکم وحمل حقوق الأموال إلیه، والتمکّن من أنفسهم لحدّ أو تأدیب».

فی هذه العبارة: أوّلاً: بیان لصلاحیة من له شروط النیابة للحکم والتنفیذ.

ص:42


1- (1) السرائر 3:537-539.

وثانیاً: المؤمنون مأمورون بالرجوع إلیه فی المسائل والخصومات، فإذا رأی لزوم حدّ فعلیهم أن یهیئوا نفوسهم لهذا الحدّ أو التأدیب.

وأوضح من هذه العبارة المطلب الذی أورده فی آخر کتاب السرائر فی مقام الاستدلال علی أنّ الحاکم یمکن أن یعتمد علی علمه فی کافة الأشیاء والأمور، فقال: «فأمّا ما یوجب الحدود، فالصحیح من أقوال طائفتنا وذوی التحصیل من فقهاء عصابتنا أنّهم لا یفرّقون بین الحدود وغیرها من الأحکام الشرعیّات، فی أنّ للحاکم النائب من قبل الإمام أن یحکم فیها بعلمه، کما أنّ للإمام ذلک، مثل ما سلف فی الأحکام التی هی غیر الحدود؛ لأنّ جمیع ما دلّ هناک هو الدلیل هاهنا، والمفرّق بین الأمرین مخالف مناقض فی الأدلة»(1).

وکتب أنّه ذهب بعض أصحابنا إلی التفصیل بین الإمام وغیر الإمام؛ لأنّ الإمام معصوم من الخطأ، وغیره لیس بمعصوم، وإقامة الحدود لیست واجبة علی غیر الإمام، بل هی من فروض الإمام المعصوم.

وقال ابن إدریس رحمه الله فی ردّ هذه الجماعة: «فأمّا قوله: إقامة الحدود لیست من فروضه، فعین الخطأ المحض عند جمیع الأمّة؛ لأنّ الحکّام جمیعهم هم المعنی - ون بقوله تعالی: وَ السّارِقُ وَ السّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَیْدِیَهُما2 ،

ص:43


1- (1) السرائر 3:545.

وقوله:

الزانیة و الزانی فاجلدوا کل واحد منهما مئة جلدة (1)»(2).

وعلی ضوء هذه العبارة، یری أنّ المخاطب فی هذه الآیات الشریفة هم جمیع الحکّام، المعصوم منهم وغیر المعصوم، والنتیجة: یکون تنفیذ الحدود فریضة لجمیع الحکّام.

8 - العلامة الحلی رحمه الله:

وکتب المرحوم العلّامة فی التذکرة: «وهل یجوز للفقهاء إقامة الحدود فی حال الغیبة؟ جزم به الشیخان؛ عملاً بهذه الروایة (إقامة الحدود إلی من بیده الحکم)، کما یأتی أنّ للفقهاء الحکم بین الناس، فکان إلیهم إقامة الحدود، ولما فی تعطیل الحدود من الفساد»(3).

ویستفاد من هذه العبارة أنّ المرحوم العلّامة یقبل الرأی المنسوب إلی الشیخ رحمه الله. وفی منتهی المطلب أیضاً أورد ما ذکره فی التذکرة، فهو ابتداء توقّف بالنسبة لفتوی الشیخ الطوسی رحمه الله والشیخ المفید رحمه الله، ثمّ قال بعد ذلک مباشرة: «وهو قویّ عندی»(4).

ص:44


1- (1) سورة النور: 2.
2- (2) السرائر 3:546.
3- (3) تذکرة الفقهاء 9:445.
4- (4) منتهی المطلب 2:995.

وذکر فی التحریر نظیر ما ذکره فی المنتهی، فقال: «وهو قویّ عندی»(1).

وأورد فی القواعد أیضاً: «أمّا إقامة الحدود، فإنّها للإمام خاصة أو من یأذن له، ولفقهاء الشیعة فی حال الغیبة ذلک»(2).

وجاء فی إرشاد الأذهان: «وللفقیه الجامع لشرائط الإفتاء إقامتها، والحکم بین الناس»(3).

ویکتب أیضاً فی تبصرة المتعلمین: «وللفقهاء إقامتها حال الغیبة مع الأمن، ویجب علی الناس مساعدتهم»(4).

فی هذه العبارة مضافاً إلی ماذکره أنّ الفقهاء لهم الولایة فی إقامة الحدود طرح مسألة لزوم مساعدة الناس.

ویکتب أیضاً فی مختلف الشیعة: «والأقرب عندی جواز ذلک للفقهاء... والعجب أنّ ابن إدریس ادّعی الإجماع فی ذلک مع مخالفة مثل الشیخ وغیره من علمائنا»(5).

9 - الشهید الأوّل رحمه الله:

وکتب الشهید الأوّل رحمه الله فی کتاب الدروس فی بحث الأمر بالمعروف: «والحدود والتعزیرات إلی الإمام ونائبه ولو عموماً، فیجوز فی حال الغیبة

ص:45


1- (1) تحریر الأحکام 2:242.
2- (2) قواعد الأحکام 1:525.
3- (3) إرشاد الأذهان 1:353.
4- (4) تبصرة المتعلمین: 90.
5- (5) مختلف الشیعة 4:463-464.

للفقیه - الموصوف بما یأتی فی القضاء - إقامتها مع المکنة، وتجب علی العامة تقویته»(1).

فهو فی هذه العبارة کما أنّه یری أنّ إقامة الحدود هی من اختیارات الفقیه فی زمان الغیبة، یری مسألة لزوم التقویة علی عموم الناس أیضاً.

10 - المحقق الثانی رحمه الله:

قال المحقق الثانی رحمه الله فی حاشیة الشرائع: «القول بالجواز - مع التمکّن من إقامتها علی الوجه المعتبر والأمن من الضرر له ولغیره من المؤمنین ومن ثوران الفتنة - لا یخلو من قوّة»(2).

11 - الشهید الثانی رحمه الله:

والمرحوم الشهید الثانی فی المسالک بعد قول صاحب الشرائع: «وقیل: یجوز للفقهاء العارفین إقامة الحدود فی حال الغیبة»، یقول: «هذا القول مذهب الشیخین رحمهما الله وجماعة من الأصحاب، وبه روایة عن الصادق علیه السلام فی طریقها ضعف، ولکن روایة عمر بن حنظلة مؤیّدة لذلک،

فإنّ إقامة الحدود ضرب من الحکم، وفیه مصلحة کلیة، ولطف فی ترک المحارم، وحسم لانتشار المفاسد، وهو قویّ»(3).

ص:46


1- (1) الدروس الشرعیة 2:47.
2- (2) حیاة المحقق الکرکی وآثاره 11:212.
3- (3) مسالک الإفهام إلی تنقیح شرائع الإسلام 3:107-108.
12 - الفاضل المقداد رحمه الله:

بعد أن نقل الفاضل المقداد رحمه الله عبارة النافع فی التنقیح الرائع، وذکر أنّ القائل بجواز إقامة الحدود فی زمان الغیبة هما الشیخان، قال: «واختار العلّامة قول الشیخین محتجاً:

1) إنّ تعطیل الحدود یفضی إلی ارتکاب المحارم، وانتشار المفاسد، وذلک مطلوب الترک فی نظر الشارع.

2) ما رواه عمر بن حنظلة عن الصادق علیه السلام فی حدیث طویل یقول فیه: ینظران إلی من کان منکم ممن قد روی حدیثنا ونظر فی حلالنا وحرامنا».

ثمّ قال: «وهذا یؤیده العمومات والنظر، أمّا العمومات فقوله صلی الله علیه و آله وسلم: العلماء ورثة الأنبیاء، ومعلوم أنّهم لم یرثوا من المال شیئاً، فیکون وراثتهم العلم أو الحکم. والأوّل تعریف المعرّف فیکون المراد هو الثانی، وهو المطلوب.

وقوله صلی الله علیه و آله وسلم: علماء أمتی کأنبیاء بنی إسرائیل، ومعلوم أنّ أنبیاء بنی إسرائیل لهم إقامة الحدود.

وأمّا النظر فهو أنّ المقتضی لإقامة الحدّ قائم فی صورتی حضور الإمام وغیبته، ولیست الحکمة عائدة إلی مقیمه قطعاً، فتکون عائدة إلی مستحقّه أو إلی نوع المکلّفین، وعلی التقدیرین لابدّ من إقامتها مطلقاً»(1).

ص:47


1- (1) التنقیح الرائع لمختصر الشرائع 1:596-597.

ونقل المرحوم الصیمری فی غایة المرام والمرحوم ابن فهد فی المهذّب البارع القولین دون ترجیح لأحدهما.

وفی غایة المرام فی ذیل عبارة الشرائع یعنی: «وقیل: یجوز للفقهاء العارفین إقامة الحدود فی حال غیبة الإمام»، یقول: «هذا قول الشیخ وابن الجنید وسلّار»(1).

وجاء فی المهذّب البارع أیضاً: «للفقهاء إقامة الحدود علی العموم، وهو مذهب الشیخ وأبی یعلی»(2).

وکتب المرحوم المحقق فی شرائع الإسلام فی مورد النهی عن المنکر: «ولو افتقر إلی الجراح أو القتل، هل یجب؟ قیل: نعم، وقیل: لا، إلّا بإذن الإمام، وهو الأظهر.

ولا یجوز لأحد إقامة الحدود إلّا للإمام مع وجوده أو من نصبه لإقامتها، ومع عدمه، یجوز للمولی إقامة الحدّ علی مملوکه.

وهل یقیم الرجل علی ولده وزوجته؟ فیه تردّد...

وقیل: یجوز للفقهاء العارفین إقامة الحدود فی حال غیبة الإمام، کما لهم الحکم بین الناس مع الأمن من ضرر سلطان الوقت، ویجب علی الناس مساعدتهم علی ذلک.

ص:48


1- (1) غایة المرام فی شرح شرائع الإسلام 1:547.
2- (2) المهذّب البارع فی شرح المختصر النافع 2:329.

ولا یجوز أن یتعرّض لإقامة الحدود، ولا للحکم بین الناس إلّا عارف بالأحکام، مطّلع علی مآخذها، عارف بکیفیة إیقاعها علی الوجوه الشرعیة»(1).

وفی کتاب المختصر النافع یوجد نظیر هذا المطلب أیضاً، جاء فیه: «وکذا قیل: یقیم الفقهاء الحدود فی زمان الغیبة إذا أمنوا، ویجب علی الناس مساعدتهم»(2).

وإن کان یستفاد من عبارة المرحوم المحقق فی کتابیه المخالفة، ولکن لا یبعد أن نقول: بما أنّه ذکر قولهم بعنوان «قیل»، ولم یذکر ردّاً، لذا من حیث المجموع نستفید التوقّف من کلامه، والمرحوم آیة الله السیّد أحمد الخوانساری فی مدارک الأحکام، والمرحوم آیة الله السید الخوئی فی مبانی تکملة المنهاج اعتبرا المحقق رحمه الله من المتوقّفین فی هذه المسألة.

نعم، وإن کان قد تردد وتوقّف فی مباحث الأمر بالمعروف، إلّا أنّه قال بالجواز فی مباحث الحدود من الشرائع، فقال: «یجب علی الحاکم

إقامة حدود الله تعالی بعلمه کحدّ الزنا»(3).

ویکتب فی بحث حدّ اللواط: «و یحکم الحاکم فیه بعلمه إماماً کان أو غیره علی الأصح»(4).

ص:49


1- (1) شرائع الإسلام فی مسائل الحلال والحرام 1:259-260.
2- (2) المختصر النافع فی فقه الامامیة: 115.
3- (3) شرائع الإسلام فی مسائل الحلال والحرام 4:940.
4- (4) المصدر نفسه: 941.

وهذه العبارة صریحة فی أنّ غیر الإمام المعصوم أیضاً علیه أن یعمل بعلمه فی القضاء.

ومن الفقهاء الذین توقّفوا فی هذه المسألة صاحب کشف الرموز، فهو یقول: «أمّا الفقهاء فقد جزم الشیخان بأنّ فی حال الغیبة ذلک مفوّض إلیهم إذا کانوا متمکّنین، ولنا فیه نظر»(1).

خلاصة ونتیجة الأقوال:

1 - القائلین بجواز إقامة الحدود فی زمان الغیبة هم: الشیخ المفید، سلّار، أبو الصلاح الحلبی، ابن زهرة، ابن سعید، الشیخ الطوسی، فقد صرّح بذلک فی کتاب المبسوط والخلاف وفی کتاب النهایة بتوجیه العبارة، وکذلک ابن إدریس بالنظر إلی مجموع کلماته، وخاصّة عباراته فی آخر السرائر، وهو ظاهر عبارات العلّامة فی التذکرة، وصریحه فی التحریر والقواعد والإرشاد والتبصرة والمختلف، والشهید الأوّل فی الدروس، والمحقق الثانی فی الحاشیة علی الشرائع، والشهید الثانی فی المسالک، والفاضل المقداد فی التنقیح.

2 - القائل بعدم الجواز المرحوم آیة الله السیّد أحمد الخوانساری.

3 - المتوقّفون هم: الصیمری فی غایة المرام، ابن فهد فی المهذّب

ص:50


1- (1) کشف الرموز 1:434.

البارع، المحقق فی الشرائع والمختصر النافع.

بعد وضوح الأقوال فی هذه المسألة، من اللازم الالتفات إلی هذا المطلب فی البدایة وهو: هل أنّ إقامة الحدود فی زمان الغیبة بحاجة إلی دلیل؟ أم تخصیصه بحضور المعصوم علیه السلام بحاجة إلی دلیل؟

الظاهر بعد وجود الإطلاقات والعمومات الواردة فی الحدود، وبعد قبول أصل نیابة الفقهاء عن الأئمة المعصومین علیهم السلام، فإنّ ما هو بحاجة إلی دلیل هو اختصاص هذا الأمر بالمعصوم علیه السلام، وإذا لم نعثر علی دلیل یدلّ علی الاختصاص، فإنّ هذا المقدار - یعنی: عدم الدلیل علی اختصاص إقامة الحدود بالإمام المعصوم علیه السلام - کاف فی مشروعیة هذا الأمر فی زمان الغیبة.

تحلیل أدلة القائلین بعدم الجواز:

بعد ذکر الأقوال من اللازم تحلیل أهم الأدلة، ومن هنا فی البدایة نبحث عن أدلة المانعین من إقامة الحدود فی زمان الغیبة، وهی:

الدلیل الأوّل: ادّعاء البعض الإجماع فی هذه المسألة.

کتب المرحوم آیة الله السیّد أحمد الخوانساری فی جامع المدارک: «وأمّا إقامة الحدود فی غیر زمان الحضور وزمان الغیبة فالمعروف عدم جوازها، وادّعی الإجماع فی کلام جماعة علی عدم الجواز، إلّا للإمام أو المنصوب من قبله»(1).

ص:51


1- (1) جامع المدارک 5:411.

الجواب: عدم صحة هذا الدلیل؛ لأنّه وکما ذکرنا عبارات القدماء فی المباحث السابقة، فإنّ المستفاد بوضوح من کثیر من العبارات، جواز إقامة الحدود فی زمان الغیبة، وحتّی لو لم نستفد الجواز من عبارة الشیخ رحمه الله فی النهایة، ولم یُقبل التوجیه الذی ذکرناه سابقاً، ولکنّه صرّح فی کتاب المبسوط والخلاف بالجواز.

نعم، یستفاد من کلمات ابن إدریس رحمه الله أیضاً إجماع الأصحاب والمسلمین علی عدم جواز إقامة الحدود فی زمان الغیبة.

ولکن ینبغی الالتفات إلی أنّ المرحوم ابن إدریس وإن اعتقد فی بعض العبارات بعدم الجواز، ولکنّه أفتی بالجواز فی عبارات أخری من کتاب السرائر، وأصرّ علی ذلک أیضاً.

وقد أوضحنا هذا البحث جیداً فی تحلیل کلمات ابن إدریس رحمه الله.

وبناء علی هذا، یمکن أن یُستنتج أنّ الإجماع فی الطرف الآخر من

المسألة، یعنی: إجماع الفقهاء علی جواز إقامة الحدود فی زمان الغیبة.

الدلیل الثانی: إذا کان إقامة الحدود من مصادیق الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، فمن الممکن قبول جوازه فی زمان الغیبة، ولکنّه لا یعدّ من مصادیق هذا العنوان، بل هو عنوان مستقل کما أنّ عنوان إقامة صلاة الجمعة وعنوان القضاء والحکم بین الناس عنوان مستقل، ولا علاقة له بالأمر بالمعروف والنهی عن المنکر.

ص:52

وبعبارة أخری: إذا کان إقامة الحدود من مصادیق هذا العنوان، فإنّ إطلاقات أدلة لزوم الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر تشمله أیضاً فی جمیع الأزمنة، وأمّا إذا لم یکن من مصادیق هذا العنوان، فلا دلیل عندنا علی مشروعیته.

ومن الواضح احتیاج هذا العمل إلی دلیل شرعی، ولا یمکن لأحد أن یحتمل عدم احتیاجه إلی دلیل شرعی.

الجواب: هذا الدلیل مخدوش أیضاً؛ لأنّه:

أوّلاً: إنّنا سنوضّح عند ذکر أدلة جواز إقامة الحدود فی زمان الغیبة، أنّ لهذا الأمر أدلة واضحة وعدیدة، ویمکننا استفادة الجواز من تلک الأدلة جیّداً، سواء کان هذا العمل من مصادیق الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر أو لا.

ثانیاً: إذا صرفنا النظر عن هذه الأدلة، واعتقدنا أنّها من مصادیق الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، فإنّ مجرد هذا الأمر لا یکفی فی الجواز، ولربما تقیّد إطلاقات أدلة الأمر بالمعروف بأدلة من قبیل الإجماع وغیره.

وبعبارة أخری: من الممکن أن یعدّ هذا العمل من مصادیق الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، ولکنّه فی نفس الوقت لایعتقد بالجواز، ولایری هذا المصداق جائزاً.

ثالثاً: هناک فروق عدیدة بین عنوان النهی عن المنکر وعنوان إقامة الحدود، وبعضها کالتالی:

ص:53

1 - یلزم فی إقامة الحدود إحراز استحقاق الحدّ الشرعی عند القاضی الجامع للشرائط (یعنی: المجتهد العادل)، وهذا الأمر مشکل ودقیق جدّاً، بخلاف النهی عن المنکر فإنّه فی تشخیص المنکر یکفی علم الناهی بأنّ هذا العمل حرام فی الشریعة.

2 - یمکن فی النهی عن المنکر أن تکون مسألة احتمال التأثیر فی فاعل المنکر شرطاً، أمّا فی بعض الحدود، فإنّ تنفیذها یستلزم القضاء علی من یجری علیه الحدّ، وحینئذ لا یبقی موضوع لاحتمال التأثیر.

3 - هناک تفاوت بین الآثار التی ذکرت فی الروایات لإقامة الحدود، والآثار المذکورة للنهی عن المنکر، واختلاف الآثار کاشف عن اختلاف هذین الموضوعین.

الدلیل الثالث: ورد فی بعض کلمات الفقهاء أنّ الحدود ترافق الإیذاء والإیلام والقتل، وهذه الأمور لا تجوز لغیر النبی والإمام المعصوم علیه السلام، أو المنصوب بالنصب الخاص، ذکر هذا المطلب فی کلمات المرحوم آیة الله السیّد أحمد الخوانساری قدس سره.

الجواب: أوّلاً: هذا الکلام أوّل النزاع والاختلاف، ونقول: لماذا هذه الأمور غیر جائزة لغیر النبی والمعصوم علیه السلام؟

ثانیاً: لوسلّمنا أنّ هذه الأمور وبشکل عام إقامة الحدود ممکن بالنصب الخاص، فعلینا أن نقبل أنّها ممکنة بالنصب العام أیضاً.

ص:54

وبعبارة أخری: إذا اعتقدنا بأنّ أصل مشروعیة إقامة الحدود بحاجة إلی حضور المعصوم علیه السلام، وأثبتنا هذا الأمر بالدلیل، فلیس فی هذه الصورة بحث أصلاً، أمّا إذا اعتقدنا کون مجرد الإیذاء والإیلام مانعاً من جواز إقامة الحدود، فنقول فی الجواب: إذا اعتقدنا بإمکان النصب الخاص فی هذا المورد فی زمان المعصوم علیه السلام، فلازمه جواز و إمکان أصل مشروعیته فی زمان الغیبة أیضاً، وهذه العناوین لا یمکن أن تکون مانعة عن ذلک.

الدلیل الرابع: المراد من الخطاب فی آیات الحدود، هو النبی صلی الله علیه و آله والأئمة المعصومین علیهم السلام.

وقال القطب الراوندی رحمه الله فی فقه القرآن فی ذیل الآیة: اَلزّانِیَةُ وَ الزّانِی فَاجْلِدُوا کُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ 1 : «والخطاب بهذه الآیة وإن کان متوجّهاً إلی الجماعة، فالمراد به الأئمّة بلا خلاف؛ لأنّ إقامة الحدود لیس لأحد إلّا الإمام أو من نصبه الإمام»(1).

وقال المرحوم الطبرسی أیضاً: «هذا خطاب للأئمّة ومن یکون منصوباً للأمر من جهتهم؛ لأنّه لیس لأحد أن یقیم الحدود إلّا الأئمة وولاتهم بلا خلاف»(2).

ص:55


1- (2) فقه القرآن 2:372.
2- (3) مجمع البیان فی تفسیر القرآن 7:219.

وکتب الفاضل المقداد رحمه الله أیضاً فی کنز العرفان: «والخطاب هنا وفی قوله: فَاجْلِدُوا للأئمة والحکّام»(1).

وقال المرحوم الفاضل الإسترآبادی فی آیات الأحکّام: «والخطاب لحکام الشرع من النبی والأئمة علیهم السلام وولاتهم، فیجب علیهم إقامة الحدود علی کلّ امرأة زنت ورجل زنی»(2).

الجواب:

أوّلاً: ظاهر هذه الآیات الشریفة أنّها فی مقام بیان أصل تنفیذ الحدود وبیان مقدارها، ولیست بصدد بیان المنفّذ لإقامة الحدود.

ثانیاً: ظاهر الخطاب فی الآیة عام، ولا قرینة علی أنّ المراد بذلک خصوص النبی صلی الله علیه و آله وأوصیائه علیهم السلام.

کتب ابن إدریس فی السرائر: «لأنّ الحکّام جمیعهم هم المعنیّون بقوله تعالی: وَ السّارِقُ وَ السّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَیْدِیَهُما...»3,4 .

وکأنّ القطب الراوندی والطبرسی رحمهما الله ومن خصص هذا

ص:56


1- (1) کنز العرفان 2:341.
2- (2) سورة النور، ذیل الآیة 2، نقلاً عن السید محمّد باقر الشفتی، إقامة الحدود فی هذه الأعصار: 55.

الخطاب بأشخاص محددین، قد سلّموا ابتداء بعدم جواز إقامة الحدود لغیر هذه المجموعة، ثمّ فسّروا الخطاب بهکذا تفسیر، والحال أنّه فی تفسیر الآیة الشریفة أو تحلیل الخطاب لا یمکن العمل بهذا النحو، و علی فرض أنّ هذا المطلب مسلّم، علینا أن نقیّد أو نخصص إطلاق وعموم الخطاب.

ویستفاد من مجموع الأدلة وقرینة مناسبة الحکم والموضوع أنّ الخطاب موجّه إلی من لهم صلاحیة الحکم والقضاء، ومثل هذه المجموعة یمکنها إقامة الحدود أیضاً.

وعلی هذا، الآیة مختصة بمجموعة خاصة، ولکن لا دلیل عندنا علی أنّ المجموعة المذکورة هی خصوص النبی صلی الله علیه و آله والأئمة المعصومین علیهم السلام.

ومن جهة أخری، لا یمکن القول بأنّ مخاطب الآیة هم جمیع الحکّام، ولو لم یکن لهم صلاحیة الحکم، والنتیجة: لا یبدو ما اعتقده ابن إدریس رحمه الله صحیحاً.

ثالثاً: یمکن أن یقال: إن کان مقصود الله عزّوجل حقیقة مجموعة خاصة، فمن اللازم بیان ذلک، وعدم البیان وذکر الاختصاص بمجموعة وزمان خاص، هو بنفسه دلیل واضح علی لزوم إقامة الحدود فی أوساط المسلمین فی جمیع الأزمنة إلی یوم القیامة.

ومن هذه الجهة، یمکن عدّ عموم الخطاب فی هذه الآیات من أدلة القائلین بجواز تنفیذ الحدود فی زمان الغیبة، ویمکن استفادة لزوم معاضدة ومسایرة کافة المسلمین فی إقامة الحدود، وقد قلنا فی المباحث المتقدّمة

ص:57

عند بیان الأقوال: إنّه کما یلزم علی المتصدّی لإقامة الحدود هذا الأمر، یلزم علی الناس أیضاً مسایرته ومعاضدته فی ذلک.

رابعاً: علی مبنی الإمام الخمینی قدس سره فی مباحث الأصول، علینا أن نفسّر هکذا خطابات علی أنّها خطابات عامة وقانونیة، وفی النتیجة: لا یُنظر إلی مخاطب معیّن ومحدد، ولا یکون الشارع المقدّس فی مثل هذه الخطابات فی مقام تقنین وتعیین الوظیفة لمخاطب أو لجماعة خاصّة(1).

والنتیجة: أنّ کافة أدلة المعتقدین بعدم الجواز مخدوشة.

وقد بیّنا فی المباحث السابقة أنّه یکفی فی جواز مشروعیة إقامة الحدود فی زمان الغیبة عدم العثور علی دلیل یدلّ علی اختصاص الحکم بالمعصوم علیه السلام، لکن من جهة أنّه من المناسب أن یطمئن الفقیه أکثر، علیه أن یبحث ویدقق فی أدلة القائلین بالجواز أیضاً.

بیان أدلة القائلین بالجواز:

تمسّک القائلون بجواز إقامة الحدود فی زمان الغیبة بأدلة متعددة، مضافاً إلی مؤیّدات ذکروها لمدّعاهم، فمن اللازم ذکرها وتحلیلها جمیعاً.

ص:58


1- (1) للتحقیق فی بحث الخطابات القانونیة والعامة التی تعتبر من أهم الإبداعات الأصولیة للإمام الخمینی، ومؤثّرة فی کافة الأبحاث الفقهیة من البدایة وحتّی النهایة. راجع: أبحاث خارج الفقه للمؤلّف، للعام الدراسی 90-89 من العدد 93 إلی 106 الموجود فی موقع المعلومات للمؤلّف أیضاً.

قال صاحب الجواهر رحمه الله: «فمن الغریب وسوسة بعض الناس فی ذلک (أی: فی جواز تنفیذ الحدود فی زمان الغیبة) بل کأنّه ما ذاق من طعم الفقه شیئاً، ولا فهم من لحن قولهم ورموزهم أمراً... وبالجملة فالمسألة من الواضحات التی لا تحتاج إلی أدلة»(1).

ومع ذلک، استدلّ لهذه النظریة بعشرة أدلة، سنتعرّض لها بالتحلیل والدراسة.

الدلیل الأوّل: الإجماع:

الشهرة بل إجماع الفقهاء علی جواز إقامة الحدود فی زمان الغیبة، وفی المطالب المتقدّمة حللنا کلمات الفقهاء، وأوضحنا أنّ کثیراً منهم صرّحوا بالجواز، وإن کان یظهر من بعض عبارات الشیخ الطوسی وابن إدریس رحمهما الله المخالفة، لکن یستفاد الجواز من البعض الآخر من کتب المرحوم الشیخ و عبارات أخری لابن إدریس رحمه الله. وعلی هذا، یمکن قبول إجماع القدماء علی هذه النظریة.

کتب صاحب الجواهر رحمه الله: «بل لا أجد فیه خلافاً، إلّا ما یحکی عن ظاهر ابنی زهرة وإدریس، ولم نتحققه، بل لعلّ المتحقق خلافه، إذ قد سمعت سابقاً معقد إجماع الثانی منهما، الذی یمکن اندراج الفقیه فی

ص:59


1- (1) جواهر الکلام 21:397.

الحکّام عنهم... کما أنّ ما فی التنقیح من الحکایة عن سلّار أنّه جوّز الإقامة مالم یکن قتلاً أو جرحاً کذلک أیضاً»(1).

ویضاف إلی ذلک، أنّ کافة المعتقدین بجواز القضاء والحکم بین الناس فی زمان الغیبة، علیهم أن یلتزموا بجواز إقامة الحدود، ونحن نعبّر عنه بالإجماع الضمنی أو التقدیری.

وبعبارة أخری: یوجد فی الواقع وفی تقدیر وفی ضمن الإجماع علی جواز القضاء والحکم هکذا إجماع أیضاً.

الدلیل الثانی: مقبولة عمر بن حنظلة:

اشارة

استدلّ صاحب الجواهر بهذا الدلیل علی جواز إقامة الحدود فی زمان الغیبة، وعدّ إقامة الحدّ من مصادیق کلمة الحکم الموجود فی هذه الروایة، وقال: «المراد من الحکم علیه، إنفاد ما حکم به لا مجرد الحکم من دون إنفاذ»(2).

ذکر المشایخ الثلاثة (الکلینی، الصدوق، الشیخ الطوسی رحمهم الله) هذه الروایة فی کتبهم.

فرواها المرحوم الکلینی فی کتاب العقل والجهل فی باب اختلاف

ص:60


1- (1) جواهر الکلام 21:394.
2- (2) المصدر نفسه 21:395.

الحدیث(1) ، وفی باب کراهیة الارتفاع إلی قضاة الجورفی کتاب القضاء فی فروع الکافی(2) ، ورواها الشیخ الصدوق رحمه الله فی باب الاتفاق علی العدلین فی الحکومة فی کتاب القضایا والأحکام فی من لا یحضره الفقیه(3) ، والشیخ الطوسی فی باب القضایا والأحکام(4).

وأمّا الحدیث علی ما رواه الکافی: «محمّد بن یعقوب عن محمّد بن یحیی عن محمّد بن الحسین عن محمّد بن عیسی عن صفوان بن یحیی عن داود بن الحصین عن عمر بن حنظلة قال: سألت أبا عبد الله علیه السلام عن رجلین من أصحابنا بینهما منازعة فی دین أو میراث، فتحاکما إلی السلطان وإلی القضاة، أیحلّ ذلک؟ قال: من تحاکم إلیهم فی حقّ أو باطل فإنّما تحاکم إلی الطاغوت، وما یحکم له فإنّما یأخذ سحتاً وإن کان حقّاً ثابتاً؛ لأنّه أخذه بحکم الطاغوت، وقد أمر الله أن یکفر به، قال الله تعالی: یُرِیدُونَ أَنْ یَتَحاکَمُوا إِلَی الطّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ یَکْفُرُوا ، قلت: فکیف یصنعان؟ قال: ینظران إلی من کان منکم ممن قد روی حدیثنا، ونظر فی حلالنا وحرامنا، وعرف أحکامنا، فلیرضوا به حاکماً، فإنّی قد جعلته علیکم حکماً، فإذا حکم بحکمنا فلم یقبله منه، فإنّما استخف بحکم الله، وعلینا ردّ، والرادّ علینا

ص:61


1- (1) الکافی 1:67، ح 10.
2- (2) الکافی 7:412، ح 5.
3- (3) من لا یحضره الفقیه 3:8، ح 3233.
4- (4) تهذیب الأحکام 6:301، ح 52.

الرادّ علی الله، وهو علی حدّ الشرک بالله. قلت: فإن کان کلّ رجل اختار رجلاً من أصحابنا، فرضیا أن یکونا الناظرین فی حقّهما، واختلفا فی ما حکما، وکلاهما اختلفا فی حدیثکم؟ قال: الحکم ما حکم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما فی الحدیث وأورعهما، ولا یلتفت إلی ما یحکم به الآخر، قال: قلت: فإنّهما عدلان مرضیان عند أصحابنا، لا یفضّل واحد منهما علی الآخر، قال: فقال: ینظر إلی ما کان من روایتهم عنّا فی ذلک الذی حکما به المجمع علیه من أصحابک، فیؤخذ به من حکمنا، ویترک الشاذّ الذی لیس بمشهور عند أصحابک، فإنّ المجمع علیه لا ریب فیه».

وأمّا سند الروایة فقد عدّ البعض هذه الروایة صحیحة، وآخرون موثّقة، وقسم آخر حسنة، وبعض حسنة کالموثوقة، وبعض آخر ضعیفة؛ لذا ینبغی تحلیل سند هذه الروایة علی نحو الإجمال.

«محمّد بن یحیی العطار ومحمّد بن الحسین» ثقتان، ولا بحث فی وثاقتهما.

«صفوان بن یحیی» ثقة أیضاً، وهو فی الوثاقة والجلالة أهم من«صفوان بن مهران»؛ لکونه من أصحاب الإجماع.

وأمّا «محمّد بن عیسی» فإن کان المقصود «محمّد بن عیسی الأشعری»، فالذی یستفاد من عبارة النجاشی والعلّامة رحمهما الله أنّه ثقة، وقد صرّح کبار العلماء کالمرحوم الشهید الثانی فی المسالک بأنّه ثقة(1).

ص:62


1- (1) مسالک الإفهام 12:31.

أمّا إذا کان المراد «محمّد بن عیسی بن عبید بن یقطین»، فقد ضعّفه البعض کالشیخ الصدوق وأستاذه ابن الولید والشیخ الطوسی والمحقق الحلی رحمهم الله، قال المرحوم الشیخ الطوسی فی الفهرست: «محمّد بن عیسی بن عبید الیقطینی ضعیف»(1).

وفی المقابل، وثّقه کبار علماء الرجال أیضاً، کالکشی رحمه الله فی الرجال، والنجاشی رحمه الله، والمرحوم العلّامة فی الخلاصة وفی کتبه الفقهیة أیضاً، والمرحوم المیرداماد فی الرواشح، والمجلسی رحمه الله فی الوجیزة.

وأمّا منشأ تضعیف المضعّفین فهو ما جاء فی کلام ابن الولید، إلّا أنّ هذا الکلام لا یدلّ علی ضعفه(2) ، بل یدلّ علی أنّ ما ینقله محمّد بن عیسی بن عبید من کتب یونس لا یمکن الاعتماد علیه؛ والسبب فی ذلک هو: أنّ ابن الولید یعتقد فی إجازة الروایة أنّ علی شیخ الإجازة أن یقرأ علی تلمیذه تمام الکتاب، ویفهمه التلمیذ أیضاً. وفی عصر یونس کان محمّد بن عیسی حدیث السن فلهذا لا اعتبار لإجازة یونس له.

وعلی کلّ حال، الموثِّقون هم أکثر وأعرف بالرجال، ولا اعتبار لکلام المضعّفین فی قبالهم، سیّما مع التوضیح المتقدّم. وعلیه فسواء کان «محمّد

ص:63


1- (1) الفهرست: 216 رقم 611.
2- (2) فی ما یخص وثاقة وعدم وثاقة «محمّد بن عیسی بن عبید الیقطینی»، هناک تحقیق مفصّل للمؤلّف فی المجلس 73 من درس خارج الفقه بتاریخ 1389/12/11، علی الراغبین مراجعة موقع المعلومات www.Fazeilankarani.ir للحصول علیه.

بن عیسی» هو الأشعری أو عبید بن الیقطینی، فکلاهما ثقة.

وأمّا «داود بن الحصین»، فقد وثّقه النجاشی رحمه الله، وقال: «داود بن الحصین الأسدی، مولاهم، کوفی، ثقة»(1).

أمّا الشیخ الطوسی رحمه الله فلم یمدحه ولم یقدحه فی الرجال عند بیان أصحاب الإمام الصادق علیه السلام، إلّا أنّه صرّح عند ذکر أصحاب الإمام الکاظم علیه السلام أنّه واقفی، فکتب: «داود بن الحصین واقفی»(2) ، وکذلک توقّف المرحوم العلّامة فیه فی الخلاصة، فقال: «الأقوی عندی التوقّف فی روایته»(3). ومنشأ کلام المرحوم العلّامة هو کلام الشیخ رحمه الله، وبما أنّه عند تقابل کلام الشیخ والنجاشی یقدّم کلام النجاشی، لذا ینبغی الأخذ بکلامه.

مضافاً إلی أنّه لا منافاة بین الواقفیة و الوثاقة، فعلی هذا الظاهر وثاقة «داود بن الحصین».

وأمّا «عمر بن حنظلة» فاعتبره الشیخ الطوسی رحمه الله فی الرجال تارة من أصحاب الإمام الباقرعلیه السلام، وأخری من أصحاب الصادق علیه السلام، وأضاف إلیه الواو عند ذکر اسمه، یعنی: «عمرو»، ولم یذکر له مدحاً أو ذماً، ولم یذکر له النجاشی و العلّامة رحمهما الله اسماً. والخلاصة: أنّه لم یذکر له توثیق فی الأصول الرجالیة.

ص:64


1- (1) رجال النجاشی: 159 رقم 421.
2- (2) رجال الطوسی: 336 رقم 5007.
3- (3) خلاصة الأقوال: 345 رقم 1.

نعم، وثّقه الشهید الثانی فی الرعایة، و یمکن استفادة توثیقه أیضاً من بعض الروایات، منها:

1 - فی باب وقت صلاة الظهر والعصر فی کتاب الکافی روی عن الإمام الصادق علیه السلام بالنسبة إلی عمر بن حنظلة: «إذن لا یکذب علینا»(1). یدلّ هذا التعبیر بوضوح علی وثاقته. نعم، ورد فی سند هذه الروایة«یزید بن خلیفة» وهو غیر موثق.

ونقل الشیخ حسن ابن الشهید الثانی رحمهما الله فی کتاب منتقی الجمان عن والده: «ووجدت بخطه رحمه الله فی بعض مفردات فوائده ما صورته: عمر بن حنظلة غیر مذکور بجرح ولا تعدیل، ولکن الأقوی عندی أنّه ثقة؛ لقول الصادق علیه السلام فی حدیث الوقت: إذن لا یکذب علینا. والحال أنّ الحدیث الذی أشار إلیه ضعیف الطریق، فتعلّقه به فی هذا الحکم مع ما علم من انفراده به غریب»(2).

نعم، لو اعتقدنا کفایة روایة صفوان - الذی هو من أصحاب الإجماع - عن یزید بن خلیفة فی توثیقه، فبإمکاننا توثیقه أیضاً.

2 - فی روایة أخری نقلت فی التهذیب، أنّه علیه السلام قال له: «أنت رسولی إلیهم»(3).

ص:65


1- (1) الکافی 3:275، ح 1.
2- (2) منتقی الجمان 1:19.
3- (3) تهذیب الأحکام 3:16، ح 57.

وتستفاد وثاقة عمر بن حنظلة من هذه الروایة بوضوح.

3 - نقل الکلینی فی کتاب الکافی عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال لعمر بن حنظلة: « یاعمر، لا تحملوا علی شیعتنا، وارفقوا بهم، فإنّ الناس لا یحتملون ما تحملون»(1).

یستفاد من هذه الروایة المرتبة الاعتقادیة لعمر بن حنظلة عند الإمام الصاق علیه السلام.

مضافاً إلی هذه الأمور، فإنّ روایة الأجلّاء عنه، کزرارة وابن أبی عمیر وأمثالهما، کافیة فی وثاقته.

قال الإمام الخمینی رضوان الله علیه فی کتاب البیع: «مع أنّ الشواهد الکثیرة المذکورة فی محلّها، لو لم تدلّ علی وثاقته، فلا أقلّ من دلالتها علی حسنه»(2).

وعبّر صاحب مشارع الأحکام فی تحقیق مسائل الحلال والحرام عن هذه الروایة بالحسنة أیضاً.

والنتیجة: أنّ هذه الروایة معتبرة سنداً، وهی تحمل عنوان الموثّقة أو الحسنة، وعبّر البعض عنها کصاحب الفوائد المدنیة بالصحیحة(3).

ص:66


1- (1) الکافی 8:334، ح 522.
2- (2) کتاب البیع 2:638.
3- (3) الفوائد المدنیة: 303.

وعلی کلّ حال، اعتبر الکثیر من کبار العلماء هذه الروایة بأنّها مقبولة، کالشیخ الأنصاری والنائینی رحمهما الله فی المکاسب والبیع وفی منیة الطالب، والمحقق الأصفهانی قدس سره فی بحوث فی الأصول وحاشیة المکاسب.

وکتب المرحوم المجلسی رحمه الله فی روضة المتقین: «کما یفهم من مقبولة عمر بن حنظلة التی علیها مدار العلماء فی الفتوی والحکم»(1).

وکتب المحقق الخوانساری رحمه الله أیضاً فی مشارق الشموس: «ثمّ هذه الروایة معمول علیها بین الأصحاب عملاً ظاهراً، وقبول الخبر بین الأصحاب مع عدم الرادّ له یخرجه إلی کونه حجّة، فلا یعتدّ إذن بمخالف فیه»(2).

وتمسک المرحوم المیرزا القمی قدس سره فی مسألة وجوب أخذ الجزیة فی زمان الغیبة بهذه المقبولة أیضاً، وقال: «فهو أمّا الفقیه العادل النائب عنه بالأدلة مثل مقبولة عمر بن حنظلة»(3).

وبناء علی هذا، یمکن القول: إنّه عبّر الکثیر من کبار العلماء عن هذه الروایة بالمقبولة.

نعم، تردد المرحوم المحقق الخوئی فی بعض الکتب فی کون الأصحاب تلقّوا هذه الروایة بالقبول.

ص:67


1- (1) روضة المتقین فی شرح من لا یحضره الفقیه 1:20.
2- (2) مشارق الشموس 3:210.
3- (3) رسائل المیرزا القمی 1:258.

ولکن کما ذکر، عمل المتقدّمون والمتأخّرون من فقهاء الإمامیة علی طبق هذه الروایة، وحتّی فی کتاب فقه الرضا عبّر عن هذه الروایة بالمقبولة.

ومضافاً إلی هذه الجهات، فإنّ مضمون الروایة یوجب الوثوق بالصدور.

بیان الاستدلال بالروایة:

استفاد البعض من هذا الحدیث الشریف منصب ومشروعیة القضاء فی المرافعات والمنازعات وقبول شخص لیکون حَکماً. وبعبارة أخری: استفاد مشروعیة الحکم والقضاء عند المرافعة إلی الحاکم.

والمجموعة الثانیة استفادت مشروعیة القضاء والإفتاء بنحو عام، سواء کان هناک مرافعة أم لا.

والمجموعة الثالثة استفادت - مضافاً إلی جعل منصب القضاء والإفتاء - من هذه الروایة جعل الولایة العامة للفقهاء فی زمان الغیبة.

ومن المجموعة الأولی یمکن الإشارة إلی المرحوم المحقق الخوئی، قال فی المستند فی شرح العروة الوثقی فی کتاب الصوم: «وغیر خفی أنّ المقبولة وإن کانت واضحة الدلالة علی نصب القاضی ابتداء، ولزوم اتّباعه فی قضائه، حیث إنّ قوله علیه السلام: «فلیرضوا به حکماً» بعد قوله: «ینظران من کان منکم...» کالصریح فی أنّهم ملزمون بالرضا به حکماً، باعتبار أنّه علیه السلام قد

ص:68

جعله حاکماً علیهم، بمقتضی قوله علیه السلام: «فإنّی قد جعلته حاکماً» الذی هو بمثابة التعلیل للإلزام المذکور.

إلّا أنّ النصب المزبور خاص بمورد التنازع والترافع المذکور فی صدر الحدیث، بلا فرق بین الهلال وغیره، کما لو استأجر داراً أو تمتع بامرأة إلی شهر، فاختلفا فی انقضاء الشهر برؤیة الهلال وعدمه، فترافعا عند الحاکم وقضی بالهلال، فإنّ حکمه حینئذ نافذ بلا إشکال.

وأمّا نفوذ حکمه حتّی فی غیر مورد الترافع، کما لو شککنا أنّ هذه اللیلة أوّل رمضان لیجب الصوم أو أوّل شوال لیحرم من غیر أیّ تنازع وتخاصم، فلا تدلّ المقبولة علی نفوذ حکم الحاکم حینئذ إلّا بعد ضمّ مقدّمة ثانیة: وهی أنّ وظیفة القضاة لم تکن مقصورة علی حسم المنازعات فحسب، بل کان المتعارف والمتداول لدی قضاة العامة التدخّل فی جمیع الشؤون التی تبتلی بها العامة، ومنها: التعرّض لأمر الهلال، حیث إنّهم کانوا یتدخّلون فیه بلا ریب، وکان الناس یعملون علی طبق قضائهم فی جمیع البلدان الإسلامیة. فإذا کان هذا من شؤون القضاء عند العامة، وثبت أنّ الإمام علیه السلام نصب شخصاً قاضیاً، فجمیع تلک المناصب تثبت له بطبیعة الحال، فلهذا القاضی ما لقضاة العامة، ومنه الحکم فی الهلال، کما هو المتعارف فی زماننا هذا تبعاً للأزمنة السابقة، لما بین الأمرین من الملازمة الخارجیة حسبما عرفت.

ولکنک خبیر بأنّ هذه المقدّمة أیضاً غیر بیّنة ولا مبیّنة، لعدم کونها من

ص:69

الواضحات الوجدانیات، فإنّ مجرّد تصدّی قضاة العامة لأمر الهلال خارجاً لا یکشف عن کونه من وظائف القضاء فی الشریعة المقدّسة، حتّی یدلّ نصب أحد قاضیاً علی کون حکمه فی الهلال ماضیاً بالدلالة الالتزامیة، ولعلّهم ابتدعوا هذا المنصب لأنفسهم کسائر بدعهم، فلا یصحّ الاحتجاج بعملهم بوجه، بعد أن کانت الملازمة المزبورة خارجیة محضة، ولم یثبت کونها شرعیة.

وملخّص الکلام فی المقام: أنّ إعطاء الإمام علیه السلام منصب القضاء للعلماء أو لغیرهم لم یثبت بأیّ دلیل لفظی معتبر لیتمسّک بإطلاقه»(1).

واستمر فی حدیثه معتقداً أنّ القضاء واجب کفائی، ومن الأمور التی یتوقّف علیها حفظ النظام، وجعل القدر المتیقن من ذلک هو الفقیه والمجتهد.

الإشکال فی هذه النظریة: المرحوم المحقق الخوئی قدس سره وإن لم یستفد الولایة فی القضاء بنحو مطلق، والولایة العامة من مقبولة عمر بن حنظلة، ولکنه قبل کلا العنوانین من جهة الأمور الحسبیة، وبقطع النظر عن هذا المطلب، فهذه النظریة قابلة للإشکال والمناقشة؛ لأنّه:

أوّلاً: من المسلّمات عند الفقهاء أنّ المورد لا یکون مخصصاً. وفی هذه الروایة، وإن کان مورد السؤال هو التنازع والمرافعة، ولکنّه فی

ص:70


1- (1) المستند فی شرح العروة الوثقی، کتاب الصوم (موسوعة الإمام الخوئی) 22:85-86.

الجواب جعل منصب الحکم والقضاء بنحو عام، ولا یمکن أن یخصص أو یقیّد مورد السؤال کلیة وعموم الجواب.

ثانیاً: إنّ ما استنکره الإمام علیه السلام فی جوابه بشدّة هو الحکم الصادر من قبل الطاغوت، فهو باطل ولا یجوز الأخذ به، بل یجب أخذ الحکم من أشخاص متّصفین بصفات مذکورة فی الروایة، وفی هذا الأمر، لیس هناک أیّ خصوصیة للتنازع والمرافعة.

ثالثاً: یستفاد من جواب الإمام علیه السلام أنّ مورد السؤال من مصادیق لزوم الرجوع إلی من یعرف الحلال والحرام بنحو کامل، وله الفقاهة والاجتهاد، وفی الحقیقة ما ذکر فی الروایة من صفات، هی کلّها من شرائط المجتهد والفقیه.

وقد استفاد الشهید الأوّل رحمه الله من هذه الروایة فی الذکری(1) ثلاثة عشر شرطاً، وهی:

1 - الإیمان. التعبیر ب - «من کان منکم» خطاب مرتبط بالشیعة الإمامیة الاثنی عشریة، فلا یعم الزیدیة أو الإسماعیلیة وسائر الفرق أیضاً، فهؤلاء لا یمکنهم أن یتصدّوا منصب القضاء.

2 - العدالة.

3 - العلم بالکتاب الإلهی، یعنی: القرآن.

ص:71


1- (1) ذکری الشیعة 1:42-43.

4 - العلم بسنّة النبی صلی الله علیه و آله، والأئمة المعصومین علیهم السلام.

5 - العلم بالإجماع.

6 - العلم بالکلام.

7 - العلم بالأصول.

8 - العلم باللغة والنحو والصرف والمنطق.

9 - العلم بالناسخ والمنسوخ، والمحکم والمتشابه، والظاهر والمؤوّل.

10 - العلم بالجرح والتعدیل، ویکفی فی هذا الأمر شهادة الأوّلین والقدماء.

11 - العلم بمقتضی اللفظ من حیث اللغة والعرف والشرع.

12 - فهم المعنی، عند تجرّد اللفظ من القرینة، وعند اقتران اللفظ بالقرینة.

13 - أن یکون حافظاً، بمعنی: أنّه أغلب علیه من النسیان.

هکذا شخص یمکن أن یکون مصدراً للقضاء والحکم، ولا خصوصیة للمرافعة والتنازع.

رابعاً: لا فرق فی الاستخفاف بحکم الله بین أن یکون هناک تنازع أو لا.

خامساً: یستفاد من هذا الحدیث النهی عن الرجوع إلی حاکم طاغوت فی جمیع الأزمنة، کما یستفاد هذا المطلب من الآیة الشریفة، فإذا

ص:72

حرم الرجوع إلی الطاغوت فی جمیع الأزمنة، لزم التفکیر بالبدیل المناسب الذی لیس فیه عنوان الطاغوت فی جمیع الأزمنة.

وعلی کلّ حال، لاشک أنّه یستفاد من التعابیر الواردة فی هذه الروایة، وکذا من مجموع الجواب عنوان العام، ولا خصوصیة فیه للتنازع والمرافعة.

قال المرحوم آیة الله الشیخ مرتضی الحائری قدس سره فی شرح العروة: «إنّ الإرجاع إلی العارفین بالأحکام وإن کان فی مورد المخاصمة، إلّا أنّ الظاهر أنّ المورد من باب الاحتیاج إلی رأی العالم، ولیس موجباً للاختصاص، ولیس الحکم المفروض فی هذه الروایات منحصراً بالاختلاف فی الموضوعات، حتّی یقال بالاختصاص من تلک الجهة... إطلاق التعلیل الوارد... مقتضاه جعل العارف بالأحکام قاضیاً وحاکماً مطلقاً، من غیر فرق بین صورة المخاصمة وغیرها»(1).

فقد استفاد من هذه الروایة خلاف ما علیه المحقق الخوئی رحمه الله، فالشخص العارف بالأحکام له عنوان القاضی والحاکم، ولا فرق بین التنازع والمرافعة إلیه وغیره.

ومن المجموعة الثانیة یمکن عدّ صاحب العناوین الفقهیة، حیث کتب: «وهذه الأخبار (مقبولة عمر بن حنظلة ومشهورة أبی خدیجة) أیضاً لا تقتضی الولایة إلّا فی الفتوی والقضاء، ولا تدلّ علی کونه ولیاً مطلقاً له التصرّف کیف شاء. نعم، تدلّان علی اعتبار حکمهم وفتواهم کما استدلّ

ص:73


1- (1) شرح العروة الوثقی 1:43.

بهما الأصحاب، مع ما فیهما من البحث والإشکال»(1).

فقد استفاد من روایة عمر بن حنظلة حجیة الفتوی والقضاء فقط، سواء کانت مرافعة أو لا.

وردّ المرحوم کاشف الغطاء هذا المطلب، فقال: «لأنّ تسلیم منصب القضاء والإفتاء مما یؤذن بتبعیة المناصب بطریق أولی، وما ورد فی نصب الأئمة علیهم السلام بعض أصحابهم قیماً علی أموال الأیتام دلیل علی جواز الولایة فی غیرها؛ لأنّ ولی المال یتولّی غیره... علی أنّ مقبولة عمر عامّة للترافع وغیره؛ لقوله علیه السلام: فاجعلوه حاکماً»(2).

فیعتقد کاشف الغطاء قدس سره: أنّ الشارع المقدّس إذا جعل للفقیه منصب القضاء والإفتاء، فبطریق أولی یجب أن تکون له الولایة فی الأمور الأخری أیضاً، یعنی: بطریق أولی یجب أن یکون قادراً علی التصرّف فی الأمور الأخری.

ویبدو أن لا أولویة فی ذلک، بل ینبغی النظر إلی أنّه هل التعلیل والتعابیر الواردة فی مقبولة عمر بن حنظلة، مضافاً إلی جعل منصب القضاء یمکن استفادة الولایة العامة والمطلقة للفقیه منها بحیث یکون قادراً علی التصرّف فی جمیع أمور الناس أو لا؟

ص:74


1- (1) العناوین الفقهیة 2:570.
2- (2) أنوار الفقاهة، کتاب النکاح: 26.

أشکل المرحوم آیة الله الشیخ مرتضی الحائری قدس سره فی مباحث الخمس علی استفادة الولایة المطلقة علی جمیع أمور المسلمین سواء القضائیة وغیرها من روایة عمر بن حنظلة، وقال: «لا یستفاد قطعاً من تلک الروایة الشریفة الولایة المطلقة لهم کولایة الناس علی أموالهم وأنفسهم، فیکشف بتلک الولایة أنّ الله تعالی والإمام راضیان بتصرّفاتهم علی وفق ما یظنون من المصلحة فی الأموال کولایة الأب والجدّ علی أموال الصغار، وهذا لأمرین:

أحدهما: قوله علیه السلام: «فإذا حکم بحکمنا» فحرمة الردّ متوقّفة علی أن یکون حکمه علی طبق حکم الإمام علیه السلام.

ثانیهما: إنّ موضوع جعل الحکومة هو معرفة حلالهم وحرامهم، لا عدالتهم وکفایتهم حتّی یصلح لجعل الحکومة»(1).

فهو یعتقد أنّه لا تستفاد الولایة العامة من هذه الروایة، وأقام قرینتین وشاهدین:

الأولی: إنّ التعبیر ب -: «إذا حکم بحکمنا» قرینة علی أنّه لیس له الولایة العامة بأیّ صورة یرید أن یتصرّف بها، بل إذا حکم بحکمنا فردّه حرام. إذن، فی الموارد التی لا یحکم بها طبقاً لحکمنا، فردّه لا إشکال فیه.

الثانیة: إنّ موضوع جعل الحکومة معرفة الحلال والحرام، ولا دور

ص:75


1- (1) کتاب الخمس: 835.

لعدالتهم و کفایتهم فی هذا الأمر.

وینبغی أن یقال حول إشکال المرحوم الحائری:

أوّلاً: کلامه هذا یخالف ما أورده فی شرح العروة، والمطلب الصحیح هو ما ذکره فی شرح العروة، المبنی علی أنّ تعلیل «قد جعلته علیکم حاکماً» یستفاد منه الولایة المطلقة.

ثانیاً: لا یثبت أیّ من الشاهدین مدّعاه؛ لأنّ من یعتقد بوجود الولایة العامة للفقیه دون اختصاصه بأمر القضاء، یعتقد أیضاً أنّ حکم الفقیه فی کلّ مورد هو حکم الإمام علیه السلام، بمعنی لزوم التبعیة.

وبعبارة أخری: التعبیرات الموجودة فی هذه الروایة تدلّ علی أنّ الفقیه والحاکم إن حکم بحسب الظاهر طبقاً لموازیننا فینبغی تبعیته، وإن کانت النتیجة لا تنطبق مع نظر الأئمة المعصومین علیهم السلام، ولکن بهذا المقدار لو حکم فی إطار وطبقاً لمعاییر الأئمة المعصومین علیهم السلام، فینبغی التبعیة عن هذا الحکم.

وبعبارة ثالثة: لم یکن محطّ نظر الإمام علیه السلام فی هذه الروایة الصحة الواقعیة لحکم وقضاء الفقیه، بل کان محطّ نظره هو الصحة الظاهریة ولزوم التبعیة، والقائلین بالولایة العامة لا یدّعون الصحة الواقعیة أبداً.

ومن المجموعة الثالثة یمکن ذکر المرحوم کاشف الغطاء والإمام الخمینی رحمه الله، کتب الإمام الخمینی قدس سره فی کتاب الاجتهاد والتقلید فی الاستدلال بمقبوله عمر بن حنظلة: «و مما یدلّ علی أنّ القضاء بل مطلق الحکومة للفقیه، مقبولة عمر بن حنظلة، وهی مع اشتهارها بین الأصحاب والتعویل علیها فی

ص:76

مباحث القضاء مجبورة من حیث السند، ولا إشکال فی دلالتها»(1).

ثمّ تابع کلامه فاستفاد من ثلاثة تعبیرات وردت فی الروایة شرط الفقاهة والاجتهاد للحاکم والولی، وقد اهتمّ اهتماماً بالغاً للآیة المشار إلیها فی الروایة، فقال: المراد من الأمانات فی الآیة إِنَّ اللّهَ یَأْمُرُکُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلی أَهْلِها2 الأمانة الخَلقیة (أی: أموال الناس) وکذلک الأمانة الخالقیة (أی: الأحکام الشرعیة)، والمقصود من ردّ الأمانة هو تنفیذ الأحکام الإلهیة کما هی علیه، وأیضاً بالنسبة إلی الآیة الشریفة وَ إِذا حَکَمْتُمْ بَیْنَ النّاسِ أَنْ تَحْکُمُوا بِالْعَدْلِ قال: المراد بالحکم فی هذه الآیة لیس القضاء، بل المراد الحکومة، فالخطاب فی الآیة إلی من یمسک زمام أمور الناس، ولیس الخطاب للقضاة، والقضاء أحد أقسام الحکومة.

وعلی ضوء هذه الآیة الشریفة، ینبغی أن یبتنی کلّ أمر من أمور الحکومة علی موازین القسط والعدل، وأن تکون کافة شؤون الحکومة سواء القضاء أو جعل القوانین و تنفیذها، علی أساس العدل.

والنتیجة هی استفادة الإطلاق والعموم من مقبولة عمر بن حنظلة، دون تخصیصها بمسألة القضاء، فتعم تنفیذ الأحکام أیضاً.

تنبیه: من الضروری الالتفات إلی هذه النقطة وهی: أنّنا لو فرضنا أنّ

ص:77


1- (1) الرسائل، الاجتهاد والتقلید 2:104.

المقبولة واردة فی خصوص القضاء، ولا یستفاد منها الولایة العامة، مع ذلک یمکن أن نقول: إنّ هذه الروایة یمکنها أن تکون دلیلاً للقائلین بجواز إقامة الحدود فی زمان الغیبة؛ لأنّ القاضی إذا حکم، ولکن لم یکن له إقامة الحدود، فهذا سبب للاستخفاف بالقضاء والحکم؛ وقد ورد النهی الشدید فی هذه الروایة بمسألة الاستخفاف.

وبعبارة أخری: إذا رفض شخص فرضاً الملازمة بین مشروعیة القضاء وإقامة الحدود، یمکنه الاستناد إلی تعبیر «الاستخفاف» الوارد فی هذه الروایة، ویستفید الجواز بل لزوم إقامة الحدود.

وبعبارة أوضح: یمکن القول بأنّ القضاء الذی لیس فیه ضمانة التنفیذ، أمر موهون وفاقد للفائدة.

إشکال: قد یتوهّم شخص(1) أنّ مقبولة عمر بن حنظلة تدلّ علی جعل منصب القضاء فی زمان حضور المعصوم علیه السلام، یعنی: تدلّ علی أنّ الإمام الصادق علیه السلام نصب من اتّصف بهذه الشرائط بالنسبة إلی زمانه.

الجواب: أوّلاً: مقتضی هذا الإشکال هو أنّ هذا الجعل مختص بزمان الإمام الصادق علیه السلام، ولا یشمل زمان الأئمة الآخرین علیهم السلام.

ثانیاً: لازم هذا الإشکال هو أنّ حرمة التحاکم والرجوع إلی الطاغوت منحصر أیضاً بزمن حضور المعصوم علیه السلام، ولا یشمل الأزمنة الأخری.

ص:78


1- (1) روض الجنان فی شرح إرشاد الأذهان 2:771.

ثالثاً: جواب الإمام علیه السلام وخاصة مع التعلیل الذی ذکر فیه وأیضاً مع الالتفات إلی خصوصیات الجواب والشرائط المهمة المذکورة، قضیة حقیقیة شاملة لجمیع الأزمنة إلی یوم القیامة.

والنتیجة النهائیة هی: أنّه یستفاد بوضوح من المقبولة جواز تنفیذ الحدود من قبل الفقیه الجامع للشرائط فی زمان الغیبة.

ویری المرحوم الشهید الثانی أنّ إقامة الحدود هی ضرب ومصداق من الحکم فی «فإذا حکم بحکمنا»، وقال: «فإنّ إقامة الحدود ضرب من الحکم»(1).

وعلیه، فما أورده المحقق الخوانساری رحمه الله فی جامع المدارک بأنّه لا ظهور للمقبولة فی مسألة تنفیذ الحدود، غیر مقبول.

وقد استفاد صاحب الجواهر رحمه الله من قوله علیه السلام: «فإنّی قد جعلته علیکم حاکماً» الولایة العامة، فقال: کما أنّ للمنصوب الخاص ولایة عامة بالنسبة لأطراف النزاع کافة، فکذلک الفقیه والمجتهد له هذه الولایة أیضاً. وهو کالشهید الثانی رحمه الله یری أنّ تنفیذ الحدّ من مصادیق «حکم بحکمنا»، وقال: «إنّ المراد من الحکم علیه إنفاذ ما حکم به لا مجرد الحکم من دون إنفاذ»(2).

الدلیل الثالث: مقبولة أبی خدیجة:

الدلیل الثالث للقائلین بجواز تنفیذ الحدود فی زمان الغیبة هو مشهورة

ص:79


1- (1) مسالک الإفهام 3:108.
2- (2) جواهر الکلام 21:395.

أو مقبولة أبی خدیجة.

نقل عن أبی خدیجة روایتین، نذکر هنا ما رواه المرحوم الصدوق فی من لا یحضره الفقیه: الصدوق بإسناده عن أحمد بن عائذ بن حبیب الأحمسی البجلی الثقة عن أبی خدیجة سالم بن مکرم الجمّال قال: قال أبو عبد الله جعفر بن محمّد الصادق علیه السلام: «إیاکم أن یحاکم بعضکم بعضاً إلی أهل الجور، ولکن انظروا إلی رجل منکم یعلم شیئاً من قضایانا فاجعلوه بینکم، فإنّی قد جعلته قاضیاً، فتحاکموا إلیه»(1).

هذه الروایة صحیحة سنداً، وسند المرحوم الصدوق إلی أحمد بن عائذ صحیح أیضاً.

استفاد المرحوم صاحب الجواهر من هذه الروایة جواز ومشروعیة إقامة الحدود فی زمان الغیبة(2).

لکن المرحوم آیة الله السید أحمد الخوانساری قال: النظر فی هذه الروایة إلی المحاکمات، ولا یستفاد منها إقامة الحدود فی عصر الغیبة(3).

ولکن کما ذکرنا فی الاستدلال بمقبولة عمر بن حنظلة، أنّنا إذا استفدنا أصل مشروعیة القضاء من هذه الروایة، فلابدّ من استفادة مشروعیة

ص:80


1- (1) من لا یحضره الفقیه 3:2، ح 3216.
2- (2) جواهر الکلام 21:396.
3- (3) جامع المدارک 5:412.

إقامة الحدود أیضاً، بلحاظ أنّ إقامة الحدود من شؤون وفروع القضاء.

الدلیل الرابع: التوقیع الشریف

ورد فی التوقیع الشریف: «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فیها إلی رواة أحادیثنا، فإنّهم حجّتی علیکم وأنا حجّة الله علیکم»(1).

قال صاحب الجواهر رحمه الله: «هذه الروایة أشدّ ظهوراً فی إرادة کونه حجّة فیما أنا فیه حجّة الله علیکم، ومنها إقامة الحدود، بل ما عن بعض الکتب «خلیفتی علیکم» أشدّ ظهوراً، ضرورة معلومیة کون المراد من الخلیفة عموم الولایة عرفاً»(2).

وأشکل المرحوم المحقق الخوانساری فی الاستدلال بهذه الروایة فقال: «لعدم معلومیة المراد من الحوادث؛ لاحتمال کون اللام للعهد فی کلام السائل، واستفادة الولایة العامة من جهة التعبیر بأنّهم «خلیفتی علیکم» مشکلة؛ لاضطراب المتن فی الروایة»(3).

ویمکن المناقشة فی کلامه، فإنّه لو تمّ التدقیق فی تعبیر: «فإنّهم حجّتی علیکم وأنا حجّة الله»، فلا یمکن القول: إنّ الإمام المعصوم علیه السلام له عنوان الحجّة فی بعض الحوادث، وهذا العموم فی التعلیل، ینفی احتمال عهدیة

ص:81


1- (1) الاحتجاج 2:470.
2- (2) جواهر الکلام 21:395.
3- (3) جامع المدارک 5:412.

اللام؛ لعدم الحاجة فی العهد إلی التمسک بهذا الدلیل بنحو عام.

وعلیه، فظاهر هذا التعبیر هو: أنّ کلّما کان الإمام المعصوم علیه السلام فیه حجّة فالفقیه حجّة فیه أیضاً.

فعلی هذا، یمکن الاستفادة من التعابیر المذکورة فی الجواب، أنّ احتمال کون اللام للعهد غیر صحیح، ولا ینبغی الالتفات لهذا الاحتمال.

الدلیل الخامس: روایة سلیمان

«روی سلیمان بن داود المنقری عن حفص بن غیاث، قال: سألت أبا عبد الله علیه السلام من یقیم الحدود، السلطان أو القاضی؟ فقال: إقامة الحدود إلی من إلیه الحکم»(1). رواه الشیخ الطوسی أیضاً فی موضعین من کتاب التهذیب(2).

أمّا سند الحدیث: قال المرحوم الصدوق فی المشیخة: «وما کان فیه عن سلیمان بن داود المنقری، فقد رویته عن أبی رضی الله عنه عن سعد بن عبد الله عن القاسم بن محمّد الأصبهانی عن سلیمان بن داود المنقری»(3).

لا کلام فی جلالة والد الشیخ الصدوق و«سعد بن عبد الله».

ص:82


1- (1) من لا یحضره الفقیه 4:71، ح 5135.
2- (2) تهذیب الأحکام 6:314، ح 78؛ 10:155 ح 52.
3- (3) من لا یحضره الفقیه 4:467.

أمّا «القاسم بن محمّد الأصبهانی» الذی هو «القاسم بن محمّد القمی»، فقد قال المرحوم النجاشی: «القاسم بن محمّد القمی یعرف ب - «کاسولا» لم یکن بالمرضی، له کتاب نوادر»(1).

ونقل العلّامة رحمه الله فی الخلاصة عن ابن الغضائری: «حدیثه یعرف تارة وینکر أخری، ویجوز أن یخرج شاهداً»(2).

ویستفاد من مجموع هذه التعابیر: عدم الاعتماد علی «القاسم بن محمّد»، وإن لم یستفاد عدم عدالته أیضاً.

أمّا «سلیمان بن داود»، فقد ذکره المرحوم العلّامة وابن داود فی القسم الثانی من کتبهما الرجالیة - الذی هو فی ذکر المجروحین ومن توقّفا فیه - وأیضاً نقلا عن ابن الغضائری تضعیف هذا الشخص. کتب المرحوم العلّامة فی الخلاصة: «قال ابن الغضائری: إنّه ضعیف جدّاً، لا یلتفت إلیه، یوضع کثیراً علی المهمات»(3).

نعم، وثّقه المرحوم النجاشی، والظاهر من عبارة الشیخ الطوسی رحمه الله فی الفهرست أیضاً عدم الضعف، بل یستفاد الاعتماد علی کتابه.

أمّا «حفص بن غیاث» فیری کثیر من علماء الرجال أنّه عامی

ص:83


1- (1) رجال النجاشی: 315 رقم 863.
2- (2) الخلاصة: 389.
3- (3) الخلاصة: 352؛ رجال ابن داود: 459.

المذهب، بل صرّح الکشی فی الرجال(1) ، والمرحوم الشیخ الطوسی فی الرجال والفهرست بأنّه عامی المذهب.

لکن یستظهر من بعض الروایات فی الکافی فی الأصول والروضة خلاف هذا المطلب.

ولکن علی کلّ حال، ادّعی الشیخ الطوسی رحمه الله إجماع الطائفة الإمامیة علی العمل بروایاته، والاعتماد علی کتابه.

والنتیجة: أنّ هذه الروایة وإن کانت مورد إشکال وضعف من جهة بعض الرواة، إلّا أنّ عمل الأصحاب بها، وتلقّیها بالقبول، یمکن عدّها معتبرة.

بیان کیفیة الاستدلال بالروایة: یشمل عنوان «من إلیه الحکم» المعصوم علیه السلام فی زمان الحضور والفقیه الجامع للشرائط فی زمان الغیبة.

وعلیه، فالروایة تدلّ جیداً علی جواز ومشروعیة إقامة الحدود فی زمان الغیبة.

وبعبارة أخری: یستفاد من جواب الإمام علیه السلام أنّ تنفیذ الحدود فی زمان حکومة السلطان الجائر أو السلطان غیر المشروع، لیس للسلطان، ولا للقاضی المنصوب من قِبله، بل لمن له أمر الحکم والقضاء، وذاک هو الإمام المعصوم علیه السلام فی زمان الحضور والفقیه فی زمان الغیبة.

ص:84


1- (1) اختیار معرفة الرجال 2:688 رقم 733.

وقد صرّح المرحوم المحقق الخوئی: أنّ المراد من قوله علیه السلام: «من إلیه الحکم» فی زمان الغیبة هم الفقهاء(1).

وفی مقابله المرحوم المحقق الخوانساری فی جامع المدارک فبالإضافة إلی الخدشة فی سند هذا الحدیث، قال: القاضی له عنوان «من له الحکم» لا عنوان «من إلیه الحکم» فکتب: «وأمّا خبر حفص... فیشکل التمسک به؛ لأنّ القاضی له الحکم من طرف المعصوم، ولا یقال: إلیه الحکم»(2).

ویمکن المناقشة فی هذا المطلب؛ لأنّه:

أوّلاً: الظاهر أنّه جعل الاستدلال مبنیّاً علی أنّ جواب الإمام علیه السلام ینطبق علی عنوان القاضی الموجود فی الروایة، وثمّ نقول: إنّ عنوان القاضی موجود أیضاً فی الفقیه، مع أنّنا بیّنا أنّ الإمام علیه السلام فی الحقیقة قال فی الجواب: إنّ إقامة الحدود لا علاقة له بالسلطان، ولا بالقاضی المنصوب من قِبله، بل له علاقة بمن تعلّقت به مشروعیة الحکومة، فمن لیس له صلاحیة الحکومة، لا هم، ولا المنصوبین من قبلهم له صلاحیة إقامة الحدود.

ثانیاً: لوقبلنا أنّ عنوان الحکم فی جواب الإمام علیه السلام هو القضاء، فإنّ قوله: إنّ هناک فرقاً بین عنوان: «من له الحکم»، و«من إلیه الحکم»، یفتقد

ص:85


1- (1) مبانی تکملة المنهاج 1:226.
2- (2) جامع المدارک 5:411.

إلی الدلیل، وفرق بلا فارق، فإنّ لقاضی الشرع أیضاً عنوان«من له الحکم»، و کذلک عنوان«من إلیه الحکم».

وبعبارة أخری: قاضی الشرع باعتباره له صلاحیة إصدار الحکم، فهو«من له الحکم»، وباعتبار آخر، بما أنّه یرجع إلیه فی إصدار الحکم، فهو«من إلیه الحکم».

فالاستدلال بهذه الروایة صحیح وتام، ولا تردید فی ظهوره فی المقصود من حیث الدلالة.

الدلیل السادس: عدم جواز تعطیل الحدود

یستفاد من روایات عدیدة عدم جواز تعطیل الحدود مطلقاً، ولا فرق فی ذلک بین زمان المعصوم علیه السلام وغیره، والموارد التالیة من جملة هذه الروایات:

1 - روی فی مستدرک الوسائل باب وجوب إقامتها بشروطها عن النبی صلی الله علیه و آله: «أنّه نهی عن تعطیل الحدود، وقال: إنّما هلک بنو إسرائیل؛ لأنّهم کانوا یقیمون الحدود علی الوضیع دون الشریف»(1).

نهی فی هذه الروایة عن تعطیل الحدود مطلقاً.

ویعلم منه أنّه لا ینبغی ترک هذا الأمر فی أیّ زمان من الأزمنة،

ص:86


1- (1) مستدرک الوسائل 18:7، ح 2.

وخاصة فی إشارته فی ذیل الروایة إلی قوم بنی إسرائیل، وهلاکهم؛ لأنّهم کانوا یقیمون الحدود علی الناس الضعفاء من الناحیة المالیة والاعتباریة، دون إقامتها علی الشرفاء.

ویعلم من هذا المطلب: أنّ إقامة الحدود علی کلّ مرتکب للجریمة وفی کلّ زمان وإن کان قبل الإسلام أمر مطلوب.

2 - «عن علی علیه السلام أنّه کتب إلی رفاعة: أقم الحدود فی القریب یجتنبها البعید، لا تطلّ الدماء، ولا تعطّل الحدود»(1).

أمر علیه السلام فی هذه الروایة بأحد الواجبات التی یجب إقامتها فی کلّ زمان، ولیس لنا أن نقول: إنّه علیه السلام بهذا الکلام أجاز بصورة خاصة إقامة الحدود لرفاعة.

3 - «وعنه علیه السلام أنّه قال: من وجب علیه الحدّ أقیم، لیس فی الحدود نظرة»(2).

ورد فی هذه الروایة بصورة مطلقة وعامة، أنّ الذی یلزم أن یُجری علیه الحدّ فحتماً یجب إقامة الحدّ علیه، ولیس فیه أیّ قید بالنسبة إلی إجازة المعصوم علیه السلام.

وبعبارة أخری: إذا ثبت لزوم الحدّ عند القاضی والحاکم، فلا یحقّ له

ص:87


1- (1) دعائم الإسلام 2:442، ح 1541.
2- (2) المصدر نفسه 2:443، ح 1545.

تعطیل الحدّ أو تأخیره.

فالمستفاد من هذه الروایة بناء علی هذا هو: أنّ الشرط الوحید والمهم لإقامة الحدود هو إثباتها.

4 - «وعن رسول الله صلی الله علیه و آله: أنّه نهی عن الشفاعة فی الحدود، وقال: من شفع فی حدّ من حدود الله لیبطله، وسعی فی إبطال حدود الله تعالی، عذّبه الله یوم القیامة»(1).

5 - یستفاد من بعض الروایات: أنّه یجب إقامة الحدود الإلهیة فی حال ثبوتها، ولا یحقّ حتّی للمعصوم علیه السلام تأخیرها أو إبطالها.

«عن علی علیه السلام أنّه أخذ رجلاً من بنی أسد فی حدّ وجب علیه لیقیمه علیه، فذهب بنو أسد إلی الحسین بن علی صلی الله علیه و آله یستشفعون به، فأبی علیهم، فانطلقوا إلی علی علیه السلام فسألوه، فقال: لا تسألونی شیئاً أملکه إلّا أعطیتکموه، فخرجوا مسرورین، فمرّوا بالحسین علیه السلام فأخبروه بما قال، فقال: إن کان لکم بصاحبکم حاجة فانصرفوا، فلعلّ أمره قد قضی، فانصرفوا إلیه، فوجدوه علیه السلام قد أقام علیه الحدّ، قالوا: ألم تعدنا یا أمیر المؤمنین؟ قال: لقد وعدتکم بما أملکه، وهذا شیء لله لست أملکه»(2).

6 - «روی المرحوم الکلینی فی کتابه الشریف الکافی روایة صحیحة:

ص:88


1- (1) دعائم الإسلام، ح 1546.
2- (2) المصدر نفسه، ح 1547.

عن علی بن إبراهیم عن أبیه عن ابن محبوب عن علی بن حمزة عن أبی بصیر عن عمران بن میثم أو صالح بن میثم عن أبیه، قال: أتت امرأة مجحّ أمیر المؤمنین علیه السلام فقالت: یا أمیر المؤمنین، إنّی زنیت فطهّرنی، طهّرک الله، فإنّ عذاب الدنیا أیسر من عذاب الآخرة الذی لا ینقطع، فقال لها: مما أطهّرک؟ فقالت: إنّی زنیت، فقال لها أو ذات بعل أنت أم غیر ذلک؟ فقالت: بل ذات بعل، فقال لها: أفحاضراً کان بعلک إذ فعلت ما فعلت أم غائباً کان عنک؟ فقالت: بل حاضراً، فقال لها: انطلقی فضعی ما فی بطنک، ثمّ ائتینی أطهّرک، فلمّا ولّت عنه المرأة فصارت حیث لا تسمع کلامه، قال: اللهم إنّها شهادة، فلم تلبث أن أتته، فقالت: قد وضعت فطهّرنی، قال: فتجاهل علیها، فقال: أطهّرک یا أمة الله مماذا؟ فقالت: إنّی زنیت فطهّرنی، فقال: وذات بعل إذ فعلت ما فعلت؟ قالت: نعم، قال: وکان زوجک حاضراً أم غائباً؟ قالت: بل حاضراً، قال: فانطلقی وارضعیه حولین کاملین کما أمرک الله، قال: فانصرفت المرأة فلمّا صارت منه حیث لا تسمع کلامه، قال: اللهم إنّها شهادتان، قال: فلمّا مضی حولان، أتت المرأة فقالت: قد أرضعته حولین، فطهّرنی یا أمیر المؤمنین، فتجاهل علیها وقال: أطهّرک مماذا؟ فقالت: إنّی زنیت فطهّرنی، قال: وذات بعل أنت إذ فعلت ما فعلت؟ فقالت: نعم، قال: وبعلک غائب عنک إذ فعلت ما فعلت أو حاضر؟ قالت: بل حاضر، قال: فانطلقی فاکفلیه حتّی یعقل أن یأکل ویشرب، ولا یتردّی من سطح، و یتهوّر فی بئر، قال: فانصرفت وهی تبکی، فلمّا ولّت فصارت إلی حیث لا

ص:89

تسمع کلامه، قال: اللهم إنّها ثلاث شهادات، قال: فاستقبلها عمرو بن حریث المخزومی، فقال لها: ما یبکیک یا أمة الله؟ وقد رأیتک تختلفین إلی علی تسألینه أن یطهّرک؟ فقالت: إنّی أتیت أمیر المؤمنین علیه السلام فسألته أن یطهّرنی، فقال: اکفلی ولدک حتّی یعقل أن یأکل ویشرب، ولا یتردّی من سطح، ولا یتهوّر فی بئر، وقد خفت أن یأتینی الموت ولم یطهّرنی، فقال لها عمرو بن حریث: ارجعی إلیه فأنا أکفله، فرجعت فأخبرت أمیر المؤمنین علیه السلام بقول عمرو، فقال لها أمیر المؤمنین علیه السلام وهو متجاهل علیها: ولم یکفل عمرو ولدک؟ فقالت: یا أمیر المؤمنین، إنّی زنیت فطهّرنی، فقال: وذات بعل أنت إذ فعلت ما فعلت؟ قالت: نعم، قال: أفغائباً عنک کان بعلک إذ فعلت ما فعلت أم حاضراً؟ فقالت: بل حاضراً، قال: فرفع رأسه إلی السماء وقال: اللهم إنّه قد ثبت لک علیها أربع شهادات، وإنّک قد قلت لنبیک فیما أخبرته من دینک: یا محمّد، من عطّل حدّاً من حدودی فقد عاندنی، وطلب بذلک مضادّتی، اللهم فإنّی غیر معطّل حدودک، ولا طالب مضادّتک، ولا مضیع لأحکامک...»(1).

یستفاد من هذا الحدیث أنّ تعطیل الحدود الإلهیة، مضافاً إلی أنّه من المحرمات الإلهیة، بل من أشدّ المحرمات، فإنّه سبب للمخالفة والضدّیة مع الله تعالی، نظیر ما ورد فی حرمة الربا فی أنّ مرتکبه یعلن الحرب مع الله

ص:90


1- (1) الکافی 7:185، ح 1.

تعالی، فمن یرید تعطیل الحدود الإلهیة، فهو یعلن عن معاندته ومضادّته لله تعالی.

ویستفاد من هذا الحدیث سیّما مع التشدید الوارد فی ترک إقامة الحدود، أنّ إقامة الحدود لا تختص بزمان الحضور، وقد أورد المرحوم صاحب الجواهر هذه الروایة، کمؤید وشاهد علی مدّعاه، فقال: «الظاهر فی العموم لکلّ زمان»(1).

7 - ورد فی بعض الروایات النهی عن إبطال الحدود الإلهیة بین الناس: روی یزید الکناسی عن الإمام الباقر علیه السلام أنّه قال: «ولا تبطل حدود الله فی خلقه، ولا تبطل حقوق المسلمین بینهم»(2).

ورد فی هذا الحدیث بنحو مطلق وعام عدم جواز إبطال أو تعطیل الحدود الإلهیة فی الخلق، کما أنّه لا تبطل حقوق المسلمین بینهم.

ومن الواضح أنّ خلق الله غیر منحصر بالخلق فی خصوص زمان المعصوم علیه السلام.

الدلیل السابع: الحکمة فی إقامة الحدود:

قال صاحب الجواهر رحمه الله: «المقتضی لإقامة الحدّ قائم فی صورتی

ص:91


1- (1) جواهر الکلام 21:396.
2- (2) وسائل الشیعة 28:20، ح 1.

حضور الإمام وغیبته، ولیست الحکمة عائدة إلی مقیمه قطعاً، فتکون عائدة إلی مستحقّه أو إلی نوع من المکلّفین، وعلی التقدیرین، لا بدّ من إقامته مطلقاً بثبوت النیابة لهم فی کثیر من المواضع علی وجه یظهر منه عدم الفرق بین مناصب الإمام أجمع، بل یمکن دعوی المفروغیة منه بین الأصحاب، فإنّ کتبهم مملوة بالرجوع إلی الحاکم، المراد به نائب الغیبة فی سائر المواضع»(1).

بیّن رحمه الله فی هذه العبارة عدّة نقاط مهمّة:

الأولی: المقتضی لإقامة الحدود موجود فی زمان حضور المعصوم علیه السلام وفی غیبته.

الثانیة: لیست الحکمة فی إقامة الحدود عائدة إلی مقیمها قطعاً، بل عائدة إلی مستحقّها أو إلی نوع المکلّفین.

الثالثة: یستفاد من کلمات الفقهاء فی کثیر من الموارد عدم الفرق بین مناصب الإمام علیه السلام أجمع، وهذا الأمر مفروغ عنه بین الأصحاب، فإنّ کتبهم مملوة بالرجوع إلی الحاکم، والمراد به نائب الإمام علیه السلام.

فهو فی الحقیقة استفاد العموم عن طریق بیان الحکمة فی تنفیذ الحدود.

ذکر المرحوم السید الخوئی نظیر هذا المطلب علی أنّه دلیل، فقال: «إنّ

ص:92


1- (1) جواهر الکلام 21:396.

إقامة الحدود إنّما شرّعت للمصلحة العامة، ودفعاً للفساد وانتشار الفجور والطغیان بین الناس، وهذا ینافی اختصاصه بزمان دون زمان، ولیس لحضور الإمام علیه السلام دخل فی ذلک قطعاً، فالحکمة المقتضیة لتشریع الحدود، تقضی بإقامتها فی زمان الغیبة کما تقضی بها فی زمان الحضور»(1).

إشکال المحقق الخوانساری:

أشکل المرحوم المحقق الخوانساری علی هذا الدلیل، فقال: «لازم ما ذکر وجوب إقامة الحدود فی کلّ عصر من دون حاجة إلی نصب المعصوم، بل اللازم تصدّی عدول المؤمنین بل فسّاقهم مع عدم التمکّن للمجتهدین»(2).

وبعبارة أخری: یجب أن یکون إقامة الحدود واجباً مستقلاً وغیر مشروط، وحتّی فی فرض عدم التمکّن من المجتهدین واجدی الشرائط وعدول المؤمنین، یمکن للفسّاق أیضاً التصدّی لإقامة الحدود الشرعیة، کحفظ القصّر والغیّب.

الجواب: هنا عدّة إشکالات علی ما تفضّل به:

أوّلاً: المفروض فی محلّ النزاع هو: أنّ تنفیذ الحدود الشرعیة یکون بعد التشخیص الصحیح لها، وهذا مختص بالعارفین بالأحکام الشرعیة

ص:93


1- (1) مبانی تکملة المنهاج 1:224.
2- (2) جامع المدارک 5:412.

والحدود الإلهیة.

وبعبارة أخری: أن یکون لهم القدرة علی الاستنباط، وعلی هذا، لا یقتضی هذا الدلیل أبداً أنّ غیر العارفین بهذا الأمر لهم إقامة الحدود.

ثانیاً: قیاس إقامة الحدود علی مسألة حفظ أموال الغائبین أو الولایة علی المحجورین غیر صحیح؛ لأنّ حفظ الأموال والولایة علی المحجورین لا یحتاج إلی شخص عارف بالأحکام الإلهیة.

ومن جهة أخری: إن لم تؤدّ هذه الأمور بشکل صحیح، فلیس فیه مفسدة مهمّة، خلافاً للحدود الإلهیة، فإن أُقیمت علی ید غیر العارف بها، فیلزم من ذلک مفسدة مهمّة، ویمکن فی هذا الفرض أن نقول: إنّه یلزم نقض الغرض، لذا لأجل تحقق الغرض من إقامة الحدود یجب أن یقیم الحدود من کان عارفاً بالحلال والحرام والأحکام الإلهیة.

ثالثاً: إنّ ما ذکر فی الدلیل السابع، هوعدم دخالة حضور المعصوم علیه السلام فی تحقق الغرض من إقامة الحدود، وهذا لا یعنی تصدّی کلّ أحد لذلک، وهذا کما لو قلنا: بعدم شرطیة الإمام المعصوم علیه السلام فی إقامة صلاة الجماعة، فهذا لا یعنی أن یتصدّی کلّ أحد لصلاة الجماعة.

والنتیجة: لا شک فی أنّ إقامة الحدود یجب أن تکون بید جماعة خاصّة؛ لأنّه فی غیر هذه الحالة، یلزم الهرج والمرج، ونقض الغرض، ویلزم من وجوده عدمه.

ص:94

فالبحث کلّه هو فی أنّ هذه الفئة الخاصّة هل هی خصوص الإمام المعصوم علیه السلام والمنصوبین من قِبله أم یعمّ المنصوبین بالنصب العام أیضاً؟

الدلیل الثامن: انتشار المفاسد فی حال تعطیل الحدود

تعطیل الحدود یؤدّی إلی ارتکاب المحرمات الإلهیة وانتشار الفساد، وترک مثل هذا الأمر مطلوب للشارع، وانتشاره مبغوض له.

ذکر المرحوم صاحب الجواهر هذا المطلب کمؤید مستقل، لکن یمکن عدّه مکمّلاً للدلیل المتقدّم.

إشکال: یمکن أن یقال: إنّ لتحقق الغرض من إقامة الحدود، أو الحدّ من انتشار الفساد واتّساع الجریمة، طرقاً عقلائیة أخری، یمکن من خلالها اتّخاذ عقوبات خاصة لها فی کلّ زمان، فلا یتوقّف مثل هذا الغرض الهام علی إقامة الحدود.

الجواب: ینبغی فی الجواب الالتفات إلی عدّة نقاط:

أوّلاً: إنّ بعض الأمور التی فی الشریعة هی موضوع للحدود الإلهیة، قد لا یعتبرها العقلاء فی بعض الأزمنة جرماً، کما یشاهد حالیاً فی بعض البلدان أنّ بعض المفاسد الشنیعة کالزنا واللواط، قد اتّخذت طابعاً قانونیاً ورسمیاً، ولا تعتبر جرماً إلّا فی بعض الموارد.

ثانیاً: ادّعاؤنا الهام هو لزوم الاعتماد علی الحدود الشرعیة، وتنفیذ الموارد التی فرض لها الشارع عقوبة معیّنة.

ص:95

وبعبارة أخری: أنّ للشارع غرضاً لا یتحقق من دون تحقق الحدود الإلهیة.

الدلیل التاسع: الروایات الدالة علی الترغیب بإقامة الحدود

یظهر من بعض الأحادیث الترغیب علی أصل إقامة الحدود، ونشیر هنا إلی نموذجین منها:

1 - فی الحدیث الموثّق، یروی حنان بن سدیر عن أبیه أنّ الإمام الباقر علیه السلام قال: «حدّ یقام فی الأرض أزکی فیها من مطر أربعین لیلة وأیامها»(1).

2 - «روی السکونی عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال: «قال رسول الله صلی الله علیه و آله: إقامة حدّ خیر من مطر أربعین صباحاً»(2).

وقد ورد مثل هذه التعابیر فی بعض الروایات الأُخری: «لإقامة الحدّ لله أنفع فی الأرض من القطر أربعین صباحاً»(3).

یستفاد من مجموع هذه الروایات أنّ لإقامة الحدّ آثاراً وضعیة ومهمّة فیما یخصّ الناس والمجتمع، بحیث یکون خیراً من مطر أربعین لیلة وأیامها، فکیف نقول: إنّ مثل هذا الأمر مع هذه الفوائد الجمّة للمجتمع أنّه مختصّ بزمان حضور المعصوم علیه السلام؟!

ص:96


1- (1) الکافی 7:174، ح 1.
2- (2) المصدر نفسه، ح 3.
3- (3) المصدر نفسه، ح 2.

الدلیل العاشر: بعض المؤیّدات

مضافاً إلی ما ذکر من الأدلة، یمکن أن نذکر هذا المطلب باعتباره مؤیداً وشاهداً، فإنّه کما ورد فی بعض الروایات - وقد أفتوا علی ضوئها أیضاً - أنّه من رأی رجلاً یزنی بزوجته، یجوز له قتلهما معاً، هذا المطلب یؤیّد عدم اشتراط حضورالمعصوم علیه السلام، ولا یمکن قبول أنّه مستثنی عن شرطیة حضور المعصوم علیه السلام.

وإن تجاوزنا هذه الأدلة جمیعاً، فمن الواضح أنّه لو کان حضور المعصوم علیه السلام شرطاً فی إقامة الحدود، کان من اللازم فی هذا الأمر العظیم أن یصرّح بشرطیته، وکان بحاجة إلی بیان.

وبعبارة أخری: بعد أن کان للأدلة إطلاق واضح بالنسبة لإقامة الحدود، فلو کان هذا القید منذ البدایة، کان من اللازم التصریح به.

ویستفاد من مجموع هذه الأدلة بوضوح، الاطمئنان بأنّ إقامة الحدود لا یختص بحضور المعصوم علیه السلام، بل یعمّ جمیع الأزمنة، وإن کان یجب أن یکون مقیمها عارفاً بالأحکام والحلال والحرام، یعنی: مجتهداً جامعاً للشرائط.

نقد مقالة ((نظریة إقامة الحدود)

نشیر فی الخاتمة إلی بعض الملاحظات حول مقالة «نظریة إقامة الحدود» للمحقق المحترم الدکتور السیّد مصطفی المحقق الداماد دامت برکاته فی کتاب قواعد الفقه، القسم الجنائی.

ص:97

توضیح رأی الکاتب:

ذکر الکاتب فی الصفحة 292 من هذا الکتاب فی البند الثالث، ما ملخّصه:

1 - الإسلام مجموعة ذو أبعاد تربویة، أخلاقیة، اجتماعیة، إداریة، بل أبعد من ذلک، هو ذو نظام شرعی وحقوقی یسمّی«الشریعة».

2 - هناک انسجام وترابط کامل بین هذه الأبعاد، وهناک طرق متعددة لتربیة البشر وتعالیمهم، وإلی جانب ذلک، هناک عقوبات وضعت للمخالفین الذین تمّت الحجّة علی تربیتهم.

3 - لأجل تنفیذ کافة الأبعاد ینبغی تحقق جمیع الشرائط، ومن أهمّها فی المعتقد الشیعی الإمامی الاثنی عشری الحقّ هو: وجود الإنسان الکامل علی رأس إدارة النظام والمجتمع.

ونتیجة الأمور الثلاثة هی أنّه بافتقاد الشرط الثالث - یعنی: وجود الإنسان الکامل - ستواجه إقامة الحدود الشرعیة تردیداً؛ لأنّ هذه العقوبات یکون لها معنی فی الحالات التی یستقبل مرتکبی الجرائم أذی المجازاة الحاصل من القرارات الصادرة برضا کامل دون أدنی تردید.

والشاهد علی هذا المطلب، التعبیر ب - «طهّرنی طهّرک الله» الذی ورد فی بعض الروایات، فهل یمکن لمن ارتکب عملاً شنیعاً أن یرضی نفسه لأجل تجنّبه العذاب الإلهی أن یقرّ عند من لا یعرفه، ولا یعلم ما هو عمله، وکیف

ص:98

یقضی لیله إلی الصباح؟!

ومع وجود هذا الاحتمال، وهوأن یکون المرجع القضائی الجالس علی دفّة القضاء، علی الرغم من اختصاصه العلمی ومعرفته الفنیة مصاباً بفساد الأعمال، وبعد أیام یُحکم علیه لنفس هذا الجرم أو نظائره.

وذکر فی معرض کلامه الحدیث المفصّل عن أمیر المؤمنین علیه السلام الذی أشرنا إلیه، واستفادة نقطتین منه:

الأولی: أنّ المعصوم علیه السلام وحده قادر علی تشخیص الشرائط الزمانیة الخاصة، وأمّا الفقهاء العادیّون، فهم عاجزون عن تشخیص مثل ذلک، مثلاً: ألا یکون إقامة الحدّ الشرعی فی زماننا علی الزوجة التی تعصی من أجل إشباع أبنائها، بسبب سجن زوجها، دفعاً لهذه الأسرة نحو الفساد والضیاع؟! ألا ندفع فی هذه الحالة الفاسد بالأفسد؟!

لقد قرر الإمام علی علیه السلام فی هذا الخصوص، بعدم إقامة الحدّ حفاظاً علی الطفل الرضیع، فهل أنّ الفقهاء العادیین مجازون أن یتّخذوا قراراً خاصاً فی هذه الموارد؟

الثانیة: جاء فی هذه الروایة: «أن لا یقیم الحدّ من لله علیه حدّ»، وبموجب هذا الأصل الشرعی، انصرف الجمیع، فهل أنّ شرائط زماننا أفضل أم شرائط زمان علی علیه السلام؟!

وأجاب فی الخاتمة علی هذا السؤال، وهو إذا عطّلت الحدود، فماذا

ص:99

یصنع بمرتکبی الجرائم؟ هل یطلق سراحهم؟

فأجاب: کلا، بل ینبغی استبدال عقوبة الحدّ بعقوبة التعزیر، یعنی: قیام الحکومة الإسلامیة بتعزیره مع رعایة مصالح الزمان، المکان، الشخص المرتکب للمعصیة، وسائر الجوانب الاجتماعیة.

ومن الواضح أنّ العقوبات التعزیریة أوّلاً: تتغیّر بحسب الزمان والمکان والأوضاع والأحوال الاجتماعیة.

وثانیاً: العقوبات الحدّیة کالإعدام، الرجم، قطع الید، وأمثالها، لها تبعات ثقیلة خلافاً للتعزیر.

هذا خلاصة کلامه فی «نظریة إقامة الحدود».

نقد وتحلیل

فی نقد الرأی المطروح ینبغی ذکر عدّة نقاط:

1 - یتّضح من کافة ما ذکره المؤلّف المحترم أنّه کان یسعی منذ البدایة أن یطوی طریقاً یزیل به مائدة الحدود الإلهیة تماماً، ویوسّع من أسلوب آخر ینسجم مع ما شاع عن حقوق الإنسان، والحال أنّ الاستنباط الفقهی والاجتهاد الصحیح المطابق لموازین الاستدلال، لا یمکّن الفقیه قبل تناول الأدلة أن یجعل النتیجة فی ذهنه مفروغاً عنها ومسلّم بها، ومن ثمّ یستنتج النظریة من الأدلة، ویشاهد هذا المطلب بوضوح فی أسلوب ومنهج

ص:100

الاجتهاد الجواهری وفقاهة الفقهاء الأُصلاء والکبار، کالشیخ الأنصاری والآخوند الخراسانی والسیّد الیزدی وأمثالهم رحمهم الله.

2 - قد صرّح فی بدایة کلامه أنّ هذه النقطة لیس لها جنبة فقاهتیّة.

والسؤال هو: لماذا تریدون أن تصلوا من نقطة غیر فقاهتیّة إلی نتیجة فقهیة؟ وهل مثل هذا الأمر ممکن؟!

3 - لاشک فی أنّ للدین الإسلامی أبعاداً مختلفة، ونظاماً منسجماً ومترابطاً، ولا شک أیضاً فی أنّ حضور الإنسان الکامل فی رأس هذا الهرم، سبب فی التحقق الصحیح لجمیع هذه الأبعاد.

ولکن کیف یمکن إثبات هذا المطلب وهو إذا لم یکن الإنسان الکامل حاضراً فینبغی التوقّف أو التردد فی إقامة الأحکام الإسلامیة؟

وإذا أردنا أن نسیر فی هذا الطریق، فلازمه تعطیل الکثیر من الشؤون والأحکام الإسلامیة، ومن جملتها، أن نتردد أیضاً فی منصب القضاء والأمر بالمعروف والنهی عن المنکر وتشکیل الحکومة الإسلامیة، وأن نضع بالمرّة کافة الأحکام الإسلامیة الاجتماعیة والسیاسیة جانباًً!

4 - فی العبارة المذکور أورد المؤلّف المحترم: تقبّل مرتکبی الجرائم أذی المجازاة الحاصل من القرارات الصادرة برضا کامل دون أدنی تردید.

هذا المطلب غیر صحیح بوجه من الوجوه؛ لعدم وجود أیّ دلیل وشاهد علی هذا المعنی، وحتّی فی زمان المعصومین علیهم السلام لا یوجد أیّ

ص:101

قرینة وشاهد علی هذا المدّعی، ولیس کلّ من نُفّذت بحقّهم الحدود الإلهیة، قد تحمّلوها برضا کامل.

والعجب هو أنّه قد تخیّل أنّه إذا فی بعض الموارد امرأة أو شخص عبّر ب - «طهّرنی»، ففی جمیع الموارد کان کذلک! وأساساً هنا یطرح سؤال وهو: کیف یکون اعتقاد من نفّذ فی حقّه العقوبة دخیلاً فی صحة ومشروعیة إقامة الحدود؟! هذا المطلب لا شاهد له من الشرع ولا مؤید له من العقل والعقلاء.

وأیضاً الکلام الذی یقول: کیف یمکن لمن ارتکب عملاً شنیعاً أن یُرضی نفسه لأجل تجنّبه العذاب الإلهی أن یقرّ عند من لا یعرفه، ولا یعلم ما هو عمله، وکیف یقضی لیله إلی الصباح؟ فی غایة التعجب.

فهل أنّ الشروط المقررة للقاضی کالعدالة والاجتهاد غیر کافیة ظاهراً؟ وفی التعزیرات التی قبلها أخیراً کیف یحلّ هذا الإشکال؟ ونفس هذا الإشکال جار فی موارد التعزیرات أیضاً.

5 - أشار واستشهد فی معرض بیان مطالبه إلی کلام أمیر المؤمنین علیه السلام، حیث قال علیه السلام: «لا یقیم الحدّ من لله علیه حدّ، فمن کان لله حدّ علیه مثل ما له علیها، فلا یقیم علیها الحدّ». وینبغی القول بالنسبة لهذا المطلب:

أوّلاً: کان من المناسب له أن ینظر إلی صدر هذه الروایة، حیث إنّ

ص:102

أمیر المؤمنین علیه السلام طرح مسألة حرمة تعطیل الحدود، وجعل نفسه من الذین لا یعطّلون الحدود الإلهیة.

ثانیاً: هناک اختلاف فی أنّ من لله علیه حدّ هل یمکنه أن یقیم الحدّ أو لا.

فقد ذکر المرحوم المحقق فی الشرائع القول بعدم الجواز بعنوان «قیل».

والقول الثانی وهو الکراهة، قد نسبه المرحوم صاحب الریاض إلی ظاهر الأکثر، بل إلی المشهور، وادّعی فی أثناء الکلام الاتّفاق علی ذلک(1).

ونسبه المرحوم الفاضل الهندی أیضاً فی کشف اللثام إلی ظاهر جمیع الفقهاء(2).

مضافاً إلی وجود روایات مختلفة فی المسألة، ولا یمکن الاکتفاء بروایة أمیر المؤمنین علیه السلام.

نعم، هناک من یعتقد من الفقهاء وکبار العلماء بهذا الرأی بنحو الفتوی أو الاحتیاط، قال المرحوم الوالد المحقق آیة الله العظمی الحاج الشیخ محمّد الفاضل اللنکرانی رضوان الله علیه بعد ذکر الروایات: «فالأحوط بملاحظة ما ذکرنا - لو لم یکن أقوی - هو عدم إقامة الحدّ ممّن کان علیه حدّ مطلقاً أو خصوص الحدّ المماثل»(3).

ص:103


1- (1) ریاض المسائل 10:76.
2- (2) کشف اللثام 2:404.
3- (3) تفصیل الشریعة فی شرح تحریر الوسیلة، کتاب الحدود: 245.

ثالثاً: حتّی لوسلّم مثل هذا الشرط، فعدم وجوده لیس موجباً لعدم مشروعیة أصل إقامة الحدّ فی زمان الغیبة.

وبعبارة أخری: علی المؤلّف المحترم إقامة الدلیل علی عدم مشروعیة إقامة الحدّ زمان الغیبة. وأمّا المطلب الذی ذکره، فلا یثبت هذا المدّعی، کما لو فرضنا عدم وجود المجتهد المطلق فی زمانٍ، واشترطنا فی القضاء الاجتهاد المطلق، فلا یعنی هذا الأمر عدم مشروعیة القضاء فی زمان الغیبة.

وبعبارة فنّیة: حتّی لو قبلنا هذا الشرط، فلیس هو شرط المشروعیة، بل شرط لتحقق العمل فی الخارج، نظیر الفرق المذکور بین شرط الوجوب والواجب.

فیکون المعنی هو مشروعیة إقامة الحدود الإلهیة فی زمان الغیبة، وعدم اختصاصه بالإمام المعصوم علیه السلام، ولکن مقیم الحدّ، ینبغی أن یتصف بعدم استحقاقه الحدّ.

6 - قال المؤلّف المحترم بعد ذکر الحدیث: فمن غیر المعصومین علیهم السلام یمکنه تشخیص المصالح الشخصیة والشرائط الزمانیة الخاصة؟ ثمّ أشار إلی أنّ الإمام علی علیه السلام قرر فی هذا الخصوص، بعدم إقامة الحدّ حفاظاً علی الطفل الرضیع.

وینبغی القول بالنسبة لهذا المطلب:

أوّلاً: لم یکن قرار الإمام علیه السلام هو لحفظ الطفل الرضیع فقط، بل کان

ص:104

بصدد أن لا تثبت هذه الجریمة شرعاً، ولا تتحقق الإقرارات الأربعة.

وبعبارة أخری: وإن کان مسألة الطفل الرضیع فی الروایة ذریعة للتأخیر، والآن أیضاً یمکن للفقهاء أن یفتون بذلک، ولکن هذا لا یعنی أنّه علیه السلام امتنع عن إقامة الحدّ بسبب هذا الأمر، بل عمل کذلک لأنّ جهات إثبات الجریمة لم تکتمل شرعاً، وعندما اکتملت الإقرارات الأربعة، لم یتأخّر فی إقامة الحدّ.

ولو کان زعم المؤلّف المحترم صحیحاً، فقد تکفّل عمرو بن حریث بحضانة هذا الولد فی هذه الروایة، مع عدم الشک لدی کلّ عاقل فی أنّ الأم هی الأولی فی حضانة وتربیة ولیدها من غیرها، ولو کان الإمام علیه السلام مراعیاً للمصالح والشرائط الزمانیة والمکانیة الخاصة، فینبغی رعایة هذه الجهة أیضاً.

ثانیاً: لو کانت مسألة إقامة الحدود بالالتفات إلی شرائط الزمان والمکان ورعایة مصالح الأشخاص مطروحة، فعلیکم أن تلتزموا أنّه فی زمان حضور المعصوم علیه السلام أیضاً کانوا یعملون بهذا الأصل فهل تلتزموا أنّه إذا ثبت الحدّ واستحقاقه فی زمان المعصوم علیه السلام، کان للأئمة علیهم السلام تعطیل أو تغییر ذلک؟

الجواب واضح تماماً من الناحیة الفقهیة والروائیة.

ذکرنا فی هذا البحث، فی الدلیل السادس لجواز إقامة الحدود فی

ص:105

زمان الغیبة، أنّ أمیر المؤمنین علیه السلام قال: «لقد وعدتکم بما أملکه، وهذا شیء لله لست أملکه».

7 - ذکر فی تلخیص المطلب: أنّ کلا نظریتی«الموافقین والمخالفین لإقامة الحدود فی زمان الغیبة» مستندة إلی استدلالات فقهیة، ولم یتّضح أیهما فی الأکثریة أو الأقلیة.

مع أنّنا أثبتنا فی هذه الرسالة أنّ رأی أکثر المتقدّمین والمتأخّرین یقوم علی أساس إقامة الحدود، حتّی أنّه صرّح المرحوم صاحب الجواهر: بأنّ هذه المسألة إجماعیة.

8 - وذکر أیضاً: أنّ لنظریة التعطیل توجیهاً اجتماعیاً. ویمکن القول هنا:

أوّلاً: أنّنا لسنا ملزمین بالتوجیه الاجتماعی، ففی الفقه أحکام لیس لها توجیه اجتماعی واضح بحسب الظاهر، کنجاسة الکافر والمشرک.

ثانیاً: من أین شخّصتم أنّ لتعطیل الحدود فی جمیع الأزمنة والأمکنة توجیهاً اجتماعیاً صحیحاً؟!

وکتب: أنّه فی فرض عدم إقامة الحدود، تحلّ التعزیرات الشرعیة محلّها، ویرتبط کمّها وکیفها بقرار الحاکم.

ویبدو أنّ کثیراً من الإشکالات التی هی فی ذهن المؤلّف المحترم فیما یتعلّق بالحدود، هی أیضاً موجودة فیما یتعلّق بالتعزیرات، وکأنّ المؤلّف کان اهتمامه فی نفی حدودٍ من قبیل الإعدام و الرجم، مع أنّ بعض

ص:106

المراکز الغربیة توصّلت الیوم إلی هذه النتیجة وهی أنّ الإعدام ضروری للمجتمع فی بعض الموارد.

وبناء علی الإشکالات التی ذُکرت، لا یمکن قبول مطالبه. نعم، ینبغی الالتفات إلی هذه النقطة وهی: أنّه بعد إثبات أصل مشروعیة إقامة الحدود فی زمان الغیبة، فلو واجه بعضها مشاکل، وکانت الشرائط بنحو یترتب علی إجرائها مفاسد أهم، فعلی الفقیه فی هذه الحالة، العمل علی طبق قاعدة «الأهم فالأهم» أو«دفع الأفسد بالفاسد»، کما یعمل فی سائر موارد التزاحم بهذه القواعد، ولکن هذا لا یعنی عدم مشروعیة إقامة الحدود فی زمان الغیبة بنحو مطلق.

وبعبارة أخری: مسألة مشروعیة إقامة الحدود فی زمان الغیبة هی حکم أوّلی، ولکن بالالتفات إلی العناوین الثانویة یمکن بل یلزم تغییرها، والعمل علی طبقها.

ص:107

ص:108

فهرس مصادر

مقال مشروعیة إقامة الحدود الإسلامیة فی زمان الغیبة

1 - الاحتجاج، أحمد بن علی الطبرسی (ت 548)، الناشر: نشر مرتضی - مشهد، سنة الطبع 1403 ه -.

2 - اختیار معرفة الرجال المعروف برجال الکشی، محمّد بن الحسن الطوسی (ت 460)، تصحیح وتعلیق: میرداماد الإسترابادی، تحقیق: السید مهدی الرجائی، الناشر: مؤسسة آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث، سنة الطبع 1404.

3 - إرشاد الأذهان إلی أحکام الإیمان، العلّامة الحلی (ت 726)، تحقیق: الشیخ فارس الحسون، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الأولی 1410 ه -.

4 - إقامة الحدود فی هذه الأعصار، السیّد محمّد باقر الشفتی الگیلانی (ت 1260)، الناشر: دفتر انتشارات إسلامی - قم، سنة الطبع 1427 ه -.

5 - أنوار الفقاهة، حسن بن جعفر کاشف الغطاء (ت 1262)، الناشر: مؤسسة کاشف الغطاء - النجف الأشرف، سنة الطبع 1422 ه -.

ص:109

6 - کتاب البیع، الإمام الخمینی (ت 1410)، تحقیق ونشر: مؤسسة تنظیم ونشر آثار الإمام الخمینی - طهران، الطبعة الأولی 1421 ه -.

7 - تبصرة المتعلمین فی أحکام الدین، العلّامة الحلی (ت 726)، الناشر: وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامی، الطبعة الأولی 1411 ه -.

8 - تحریر الأحکام الشرعیة علی مذهب الإمامیة، العلّامة الحلی (ت 726)، تحقیق: الشیخ إبراهیم البهادری، الناشر: مؤسسة الإمام الصادق علیه السلام - قم، الطبعة الأولی 1420 ه -.

9 - تذکرة الفقهاء، العلّامة الحلی (ت 726)، تحقیق ونشر: مؤ سسة آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث - قم، الطبعة الأولی 1419 ه -.

10 - تفصیل الشریعة فی شرح تحریر الوسیلة (کتاب الحدود)، الشیخ محمّد الفاضل اللنکرانی (ت 1428)، تحقیق ونشر: مرکز فقه الأئمة الأطهار علیهم السلام - قم، الطبعة الثانیة 1422 ه -.

11 - التنقیح الرائع لمختصر الشرائع، مقداد بن عبد الله السیوری الحلی ( 826)، تحقیق: السید عبد اللطیف الکوهکمری، الناشر: مکتبة آیة الله العظمی المرعشی - قم، سنة الطبع 1404 ه -.

12 - تهذیب الأحکام، محمّد بن الحسن الطوسی (ت 460)، تحقیق وتعلیق: السید حسن الخرسان، الناشر: دار الکتب الإسلامیة - طهران، الطبعة الثالثة 1364 ش.

ص:110

13 - الجامع للشرائع، یحیی بن سعید الحلی (ت 690)، تحقیق وتخریج: جمع من الفضلاء، إشراف: الشیخ جعفر السبحانی، الناشر: مؤسسة سید الشهداء العلمیة - قم، سنة الطبع 1405 ه -.

14 - جامع المدارک فی شرح المختصر النافع، السیّد أحمد الخوانساری (ت 1405)، تعلیق: علی أکبر الغفاری، الناشر: مکتبة الصدوق - طهران، الطبعة الثانیة 1405 ه -.

15 - جواهر الکلام فی شرح شرائع الإسلام، الشیخ محمّد حسن النجفی (ت 1266)، تحقیق وتعلیق: الشیخ عباس القوچانی، الناشر: دار الکتب الإسلامیة - طهران، الطبعة الثالثة 1362 ش.

16 - حیاة المحقق الکرکی وآثاره، المحقق الکرکی (ت 940)، تحقیق: محمّد الحسون، الناشر: منشورات الاحتجاج - طهران، سنة الطبع 1423 ه -.

17 - خلاصة الأقوال فی معرفة الرجال، العلّامة الحلی (ت 726)، تحقیق: جواد القیومی، الناشر: مؤسسة الفقاهة، الطبعة الأولی 1417 ه -.

18 - کتاب الخلاف، محمّد بن الحسن الطوسی (ت 460)، تحقیق: السید علی الخراسانی والسید جواد الشهرستانی والشیخ مهدی نجف، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الثانیة 1420 ه -.

ص:111

19 - کتاب الخمس، الشیخ مرتضی الحائری (ت 1406)، تحقیق: محمّد حسین أمر اللهی، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الأولی 1418 ه -.

20 - الدروس الشرعیة فی فقه الإمامیة، محمّد بن مکی العاملی الشهید الأوّل (ت 786)، تحقیق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الأولی.

21 - دعائم الإسلام، القاضی النعمان المغربی (ت 363)، تحقیق: آصف بن علی أصغر فیضی، الناشر: دار المعارف - القاهرة، الطبعة الثانیة.

22 - ذکری الشیعة فی أحکام الشریعة، محمّد بن جمال الدین مکی العاملی الشهید الأوّل (ت 786)، تحقیق ونشر: مؤسسة آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث - قم، الطبعة الأولی 1419 ه -.

23 - رجال ابن داود، تقی الدین الحسن بن علی بن داود الحلی (ت 707)، الناشر: جامعة طهران - طهران، سنة الطبع 1342 ه -.

24 - رجال الطوسی، محمّد بن الحسن الطوسی (ت 460)، تحقیق: جواد القیومی الإصفهانی، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الأولی 1415 ه -.

25 - رجال النجاشی، أحمد بن علی بن العباس النجاشی (ت 450)،

ص:112

تحقیق: السید موسی الشبیری الزنجانی، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الخامسة 1416 ه -.

26 - الرسائل، الإمام روح الله الخمینی (ت 1410)، مع تذییلات: السید مجتبی الطهرانی، الناشر: مؤسسة إسماعیلیان، سنة الطبع 1385 ه -.

27 - رسائل المیرزا القمی، أبو القاسم الگیلانی (ت 1231)، الناشر: مکتب الإعلام الإسلامی - قم، سنة الطبع 1427 ه -.

28 - الروضة البهیة فی شرح اللمعة الدمشقیة، زین الدین بن علی العاملی الشهید الثانی (ت 965)، تحقیق وتعلیق: السید محمّد کلانتر، الناشر: منشورات مکتبة الداوری - قم، الطبعة الأولی 1410 ه -.

29 - روضة المتقین فی شرح من لا یحضره الفقیه، محمّد تقی المجلسی (ت 1070)، نمّقه وعلّق علیه: السید حسین الموسوی الکرمانی والشیخ علی بناه الإشتهاردی، الناشر: بنیاد فرهنک إسلامی حاج محمّد حسین کوشانپور.

30 - روض الجنان فی شرح إرشاد الأذهان، زین الدین بن علی العاملی الشهید الثانی (ت 965)، تحقیق: مرکز الأبحاث والدراسات الإسلامیة، الناشر: بوستان کتاب - قم، الطبعة الأولی 1422 ه -.

31 - ریاض المسائل فی بیان الأحکام بالدلائل، السید علی الطباطبائی (ت 1231)، الناشر: دار الهادی - بیروت، الطبعة الأولی 1412 ه -.

ص:113

32 - السرائر الحاوی لتحریر الفتاوی، ابن إدریس الحلی (ت 598)، تحقیق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الثانیة 1410 ه -.

33 - سنن الترمذی، محمّد بن عیسی بن سورة الترمذی (ت 279)، تحقیق وتصحیح: عبد الرحمن محمّد عثمان، الناشر: دار الفکر - بیروت، الطبعة الثانیة 1403 ه -.

34 - شرائع الإسلام فی مسائل الحلال والحرام، المحقق الحلی (ت 676)، تعلیق: السید صادق الشیرازی، الناشر: انتشارات استقلال - طهران، الطبعة الثانیة 1409 ه -.

35 - شرح العروة الوثقی، الشیخ مرتضی الحائری (ت 1406)، تحقیق: محمد حسین أمر اللهی الیزدی، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الأولی 1425 ه -.

36 - العناوین الفقهیة، السید میر عبد الفتاح الحسینی المراغی (ت 1250)، تحقیق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الأولی 1418 ه -.

37 - غایة المرام فی شرح شرائع الإسلام، الشیخ مفلح الصیمری من أعلام القرن التاسع الهجری، تحقیق: الشیخ جعفر الکوثرانی العاملی، الناشر: دار الهادی - بیروت، الطبعة الأولی 1420 ه -.

38 - غنیة النزوع إلی علمی الأصول والفروع، السید حمزة بن علی بن

ص:114

زهرة الحلبی (ت 585)، تحقیق: إبراهیم البهادری، الناشر: مؤسسة الإمام الصادق علیه السلام - قم، الطبعة الأولی 1417 ه -.

39 - فقه القرآن، سعید بن هبة الله الراوندی (ت 573)، تحقیق: السید أحمد الحسینی، الناشر: مکتبة آیة الله العظمی النجفی المرعشی - قم، الطبعة الثانیة 1405 ه -.

40 - الفهرست، محمّد بن الحسن الطوسی (ت 460)، تحقیق: جواد القیومی، الناشر: مؤسسة نشر الفقاهة، الطبعة الأولی 1417 ه -.

41 - الفوائد المدنیة، محمّد أمین الإسترابادی (ت 1033)، تحقیق: الشیخ رحمة الله الرحیمی الأراکی، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الأولی 1424 ه -.

42 - قواعد الأحکام، العلّامة الحلی (ت 726)، تحقیق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الأولی 1413 ه -.

43 - قواعد الفقه، السید مصطفی المحقق الداماد، الناشر: مرکز نشر علوم إسلامی - طهران، سنة الطبع 1379 ش.

44 - الکافی، محمّد بن یعقوب الکلینی (ت 329)، تصحیح وتعلیق: علی أکبر الغفاری، الناشر: دار الکتب الإسلامیة - طهران، الطبعة الخامسة 1363 ش.

45 - الکافی فی الفقه، أبو الصلاح الحلبی (ت 447)، تحقیق: رضا

ص:115

الأستادی، الناشر: مکتبة الإمام أمیر المؤمنین علی علیه السلام العامة - إصفهان.

46 - کشف الرموز فی شرح المختصر النافع، الفاضل الآبی (ت 690)، تحقیق: علی پناه الإشتهاردی وحسین الیزدی، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، سنة الطبع 1408 ه -.

47 - کشف اللثام عن قواعد الأحکام، محمّد بن الحسن الإصفهانی المعروف بالفاضل الهندی (ت 1137)، الناشر: مکتبة آیة الله العظمی المرعشی النجفی - قم، سنة الطبع 1405 ه -.

48 - کنز العرفان فی فقه القرآن، المقداد بن عبد الله السیوری (ت 826)، تعلیق: الشیخ محمّد باقر شریف زاده، الناشر: المکتبة الرضویة - طهران، سنة الطبع 1385 ه -.

49 - مبانی تکملة المنهاج، السید أبو القاسم الموسوی الخوئی (ت 1413)، المطبعة العلمیة - قم، الطبعة الثانیة 1396 ه -.

50 - المبسوط فی فقه الإمامیة، الشیخ محمّد بن الحسن الطوسی (ت 460)، تصحیح وتعلیق: محمّد باقر البهبودی، الناشر: المکتبة المرتضویة لإحیاء آثار الجعفریة، سنة الطبع 1351 ش.

51 - مجمع البیان فی تفسیر القرآن، الفضل بن الحسن الطبرسی من أعلام القرن السادس الهجری، تحقیق وتعلیق: لجنة من العلماء، الناشر: منشورات الأعلمی للمطبوعات - بیروت، الطبعة الأولی 1415 ه -.

ص:116

52 - المختصر النافع فی فقه الإمامیة، المحقق الحلی (ت 676)، الناشر: قسم الدراسات الإسلامیة فی مؤسسة البعثة - طهران، الطبعة الثالثة 1410 ه -.

53 - مختلف الشیعة فی أحکام الشریعة، العلّامة الحلی (ت 726)، تحقیق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الأولی 1413.

54 - المراسم العلویة فی الأحکام النبویة، حمزة بن عبد العزیز الدیلمی (ت 448)، تحقیق: السید محسن الأمینی، الناشر: المعاونیة الثقافیة للمجمع العالمی لأهل البیت علیهم السلام، سنة الطبع 1414 ه -.

55 - مسالک الإفهام إلی تنقیح شرائع الإسلام، زین الدین بن علی العاملی الشهید الثانی (ت 965)، تحقیق ونشر: مؤسسة المعارف الإسلامیة - قم، الطبعة الأولی 1413 ه -.

56 - مستدرک الوسائل ومستنبط المسائل، میرزا حسین النوری الطبرسی (ت 1320)، تحقیق ونشر: مؤسسة آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث، الطبعة الثانیة 1409 ه -.

57 - المستند فی شرح العروة الوثقی (موسوعة الإمام الخوئی)، تقریر بحث السید الخوئی للبروجردی، الناشر: مؤسسة إحیاء آثار الإمام الخوئی - قم، الطبعة الثانیة 1426 ه -.

58 - مشارق الشموس فی شرح الدروس، السید حسین بن محمّد الخوانساری (ت 1098).

ص:117

59 - المقنعة، محمّد بن محمّد النعمان العکبری البغدادی الملقب بالشیخ المفید (ت 413)، تحقیق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الثانیة 1410 ه -.

60 - منتقی الجمان فی الأحادیث الصحاح والحسان، الحسن بن زین العابدین الشهید الثانی (ت 1011)، تصحیح وتعلیق: علی أکبر الغفاری: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الأولی 1362 ش.

61 - منتهی المطلب، العلّامة الحلی (ت 726)، طبعة حجریة.

62 - من لا یحضره الفقیه، محمّد بن علی بن الحسین بن بابویة القمی (ت 381)، تصحیح وتعلیق: علی أکبر الغفاری، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الثانیة.

63 - المهذّب البارع فی شرح المختصر النافع، أحمد بن محمّد بن فهد الحلی (ت 841)، تحقیق: الشیخ مجتبی العراقی، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، سنة الطبع 1411 ه -.

64 - النهایة فی مجرد الفقه والفتاوی، محمّد بن الحسن الطوسی (ت 460)، الناشر: قدس محمّدی - قم.

65 - وسائل الشیعة إلی تحصیل مسائل الشریعة، محمّد بن الحسن الحر العاملی (ت 1104)، تحقیق ونشر: مؤسسة آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث - قم، الطبعة الثانیة 1414 ه -.

ص:118

اعتبار قبول الإسلام بعد البلوغ فی تعریف المرتد الفطری

اشارة

بقلم: الشیخ محمّد مهدی الجواهری

أُثیرت فی الآونة الأخیرة حول مسألة الارتداد العدید من الشبهات والإشکالیات الفقهیة، ودار جدل واسع حول مصداقیة الحکم المطروح فی هذا المجال جملة وتفصیلاً، وتمحور البحث حول مخالفة هذا الحکم لحریة العقیدة وعدم انسجامه مع قوله تعالی: لا إِکْراهَ فِی الدِّینِ 1 ، وقوله تعالی: أَ فَأَنْتَ تُکْرِهُ النّاسَ 2 .

ومن هذا المنطلق تتّضح ضرورة دراسة الموضوع لیتسنّی للباحث معرفة الملابسات التی وقع فیها الکثیر نتیجة التأثیر السلبی للفکر الغربی الذی تمحور حول حریّة الرأی والتعبیر والعقیدة، وهو من أخطر أنواع الغزو الفکری حیث یقوم بتمریر مصطلحات لا تقبل فی ظاهرها النقاش والجدل.

وللأسف الشدید لوحظت المسألة من منظار حقّ الإنسان من الناحیة

ص:119

المادیة والظاهریة من دون ملاحظة حقّه من الناحیة المعنویة والأخرویة، بل من دون ملاحظة حقّ العباد کمجموعة حتّی دفعت بهم إلی الانجراف فی تیّار منحرف أدّی بهم إلی منعطفات خطیرة کانت نتیجتها الإجحاف فی حقّ الإنسان مع لحاظ الأهداف التی خلقه الله لأجلها.

ومن الإشکالیات المطروحة فی هذا المجال هی عدم معرفة المستشکل لحدود المرتد الفطری واعتبار أنّها تنافی الحریة فی اختیار العقیدة، فلابدّ من تبیین معنی المرتد الفطری وهذا ما تناولناه فی بدایة هذا البحث.

معنی الارتداد:

المعنی اللغوی:

(الردّة) فی اللغة تعنی رجوع الشیء، و المرتد یُطلق علی الراجع من الإسلام إلی الکفر.(1)

وورد فی المنجد: «ارتدّ الشیء ردّه وطلب ردّه إلیه واسترجعه، وارتدّ علی أثره أو عن طریقه: رجع، وارتدّ عن دینه: حاد، وارتدّ عن هبته: ارتجعها، وارتدّ إلی الصواب: عاد».(2)

ص:120


1- (1) انظر: معجم مقاییس اللغة 2:386، لسان العرب 4:153-155، المعجم الوسیط 1:388.
2- (2) المنجد: 254.

وذکر الراغب فی مفردات القرآن: «الردّ صرف الشیء بذاته أو بحالة من أحواله، یُقال: رددته فارتدّ، والارتداد والردّة الرجوع فی الطریق الذی جاء منه، لکنّ الردّة تختص بالکفر والارتداد یستعمل فیه وفی غیره».(1)

فالارتداد فی اللغة هو الرجوع والخروج عن الشیء.

المعنی الاصطلاحی:

وأمّا المعنی الاصطلاحی عند الفقهاء، فالمرتد: «هو الذی یکفر بعد الإسلام»(2) ، وورد فی صحیحة محمّد بن مسلم «قال: سألت أبا جعفر علیه السلام عن المرتد، فقال: من رغب عن الإسلام وکفر بما أنزل الله علی محمّد صلی الله علیه و آله بعد إسلامه...».(3)

فالمستفاد من الأحادیث الشریفة کون المرتد هو الخارج عن الإسلام، ولهذا ذکر السید الخوئی فی تعریف المرتد أنّه: «عبارة عمّن خرج عن دین الإسلام».(4)

ومن أهم البحوث المطروحة فی هذا المجال هو الکلام حول المرتد

الفطری وحدوده، ولابدّ من تسلیط الضوء علی الفقرة الثانیة من التعریف وهی

ص:121


1- (1) المفردات فی غریب القرآن: 192.
2- (2) شرائع الإسلام 4:188.
3- (3) الکافی 7:153، ح 4، التهذیب 10:136 ح 1، وسائل الشیعة 28:323، ح 2.
4- (4) مبانی تکملة المنهاج (ضمن موسوعة السید الخوئی) 41:391.

(بعد الإسلام)، فقد وقع الخلاف بین الفقهاء حول معنی الإسلام هل هو الإسلام الحقیقی، أی: الإسلام الذی ینتج من قبول الإنسان بعد البلوغ أو أنّ المراد منه الإسلام الحکمی الذی حکم به الصبی قبل البلوغ تبعاً لأبویه أو أحدهما؟ فلو قلنا بالقول الأوّل فسیکون من لم یقبل الإسلام بعد البلوغ خارجاً عن تعریف المرتد أو مشروطاً بالتوبة، وعلی القول الثانی یدخل تحت تعریف المرتد الفطری. وسنذکر أقسام المرتد، وسنتطرّق إلی بحث المرتد الفطری.

أقسام المرتد:

المرتد علی قسمین: ملّی وفطری

المرتد الملّی: من کان أبواه کافرین وولد علی الکفر، ثمّ أسلم بعد بلوغه، ثمّ ارتدّ بعد إسلامه.

والمرتد الفطری: من نشأ وأحد أبویه مسلم، ثمّ ارتدّ بعد ذلک.

ولا یخفی أنّ بعض الفقهاء ذکروا فی تعریف المرتد الفطری قید اتّصافه بالإسلام بعد البلوغ (أی: قبوله للإسلام)، ولم یذکره آخرون.

وقد اختلفت عبارتهم حول تعریف المرتد الفطری فعرّفه قسم بمن نشأ وأحد أبویه مسلم، وعرّفه آخرون بإضافة قید قبوله الإسلام بعد البلوغ، فجعلوا قبول الإسلام بعد البلوغ شرطاً فی تحقّق الارتداد، وجعل آخرون قبول الإسلام وإنکاره بعده مقتضی لتحقّق الارتداد.

ویترتّب علی کلّ من التعاریف ما یلی:

ص:122

التعریف الأوّل: یشمل هذا التعریف کلّ من نشأ وأحد أبویه مسلم، ثمّ ارتدّ بعد ذلک وإن بلغ ولم یقبل الإسلام.

التعریف الثانی: کلّ من نشأ وأحد أبویه مسلم، ثمّ بلغ وقبل الإسلام، ثمّ ارتدّ بعد ذلک. فیشمل من قبل الإسلام بعد البلوغ بمعنی أنّ قبول الإسلام بعد البلوغ شرط فی تحقّق الارتداد، فإنّه یستتاب، فإن تاب فهو وإلاّ قُتل.

التعریف الثالث: کلّ من نشأ وأحد أبویه مسلم، ثمّ بلغ وقبل الإسلام، ثمّ ارتدّ بعد ذلک. فهذا التعریف یشمل ما إذا بلغ وقَبِل الإسلام، بمعنی أنّ قبول الإسلام مقتضی لتحقّق الارتداد، فمن بلغ ولم یقبل الإسلام لیس بمرتد أصلاً، فتعبیرنا له بالمرتد مسامحة فهو کافر ولیس بمرتد.

وسنقوم من خلال هذه الدراسة الموجزة بالبحث حول سبب بیان هذه الإضافة عند البعض، وسبب إعراض البعض عنها فی تعریف المرتد الفطری.

إذن یوجد فی تعریف المرتد الفطری قولان:

القول الأوّل: اعتبار قبول الإسلام بعد البلوغ

ألف: اعتبار قبول الإسلام بعد البلوغ فی تحقّق معنی المرتد الفطری، أی: یشترط فی المولود من أبوین مسلمین أو أحدهما أن یقبل الإسلام بعد البلوغ لیصح وصفه بالمرتد الفطری بعد ارتداده عن الإسلام.

ب: اعتبار قبول الإسلام بعد البلوغ فی تحقّق معنی المرتد الفطری،

ص:123

أی: مقتضی تحقّق معنی الارتداد هو قبول الإسلام بعد البلوغ.

القول الثانی: عدم اعتبار قبول الإسلام بعد البلوغ فی تحقّق معنی المرتد الفطری، أی: لا یشترط فی المولود من أبوین مسلمین أو أحدهما أن یقبل الإسلام بعد البلوغ لیصح وصفه بالمرتد الفطری بعد ارتداده عن الإسلام.

وسنستعرض فیما یلی أقوال الفقهاء فی هذا المجال:

أقوال العلماء حول اعتبار قبول الإسلام بعد البلوغ:

القول الأوّل: اعتبار قبول الإسلام بعد البلوغ

ربّما یتوهّم البعض مما سنذکره من الأقوال أنّ مورده هو ولد المرتد ولا دخل له فی المرتد الفطری، ولکن لا یخفی انتفاء وجود الفرق بین حکم المرتد الفطری وولد المرتد کما سیأتی بیانه، وقد قال المحقّق الأردبیلی: (إنّ المرتد من کفر بعد الإسلام، والمتبادر منه الإسلام الحقیقی لا حکمه مثل الولادة من المسلم، وإلاّ یلزم التکرار فی ذکر حکم ولد المرتد بالتناقض والتنافی بین حکمهم فی المرتد الفطری بالقتل من غیر استتابة، وبین الحکم بأنّ ولده الذی ولد حال إسلامه وانعقد فی تلک الحال إذا أنکر الإسلام بعد البلوغ یستتاب، وهو ظاهر.)(1)

ص:124


1- (1) مجمع الفائدة 13:329

1 - الشیخ الطوسی (ت 436 ه -):

ذکرالشیخ الطوسی فی الخلاف وفی النهایة فی تعریف المرتد الفطری أنّه «مرتد عن فطرة الإسلام».(1)

ولم یتعرّض الشیخ فی تعریف المرتد إلی قبول الإسلام وعدمه بعد البلوغ، ولکن ذکر فی إسلام الصبی وولد المرتد ما یدل علی اعتبار وصف الإسلام فی البلوغ، حیث قال: «قد ذکرنا أنّ إسلام الصبی معتبر بشیئین بإسلام غیره وبنفسه، وقد ذکرنا أنّ إسلامه بغیره علی ثلاثة أضرب: إسلام بالأبوین أو أحدهما، وإسلام بالسابی، بالدار دار الإسلام، فأمّا إسلامه بوالدیه أو بأحدهما فإنّه یصح، ویکون مسلماً ظاهراً و باطناً؛ لأنّا حکمنا بإسلام أبویه ظاهراً وباطناً، فإذا بلغ نظرت فإن وصف الإسلام صحّ إسلامه، وإن وصف الکفر کان مرتداً یستتاب، فإن تاب وإلّا قُتل».(2)

2 - العلّامة الحلّی (ت 726 ه -):

قال العلّامة فی التحریر: «المرتد عن الإسلام هو الراجع عنه إلی الکفر، وهو قسمان: مَنْ وُلد علی فطرة الإسلام، وهو المرتد عن فطرة».(3)

وقال العلّامة فی إرشاد الأذهان وتحریر الأحکام والقواعد أنّه من بلغ

ص:125


1- (1) الخلاف 4:333؛ النهایة فی مجرد الفقه والفتاوی: 524.
2- (2) المبسوط 3:343.
3- (3) تحریر الأحکام 5:389.

من أولاد المسلمین ووصف الکفر یستتاب، حیث قال: «الطفل تابع لأحد أبویه فی الإسلام الأصلی والمتجدّد، فإن بلغ وامتنع عن الإسلام قُهر علیه، فإن امتنع کان مرتداً».(1)

وقال فی تحریر الأحکام: «یُحکم بإسلام الطفل إن کان أحدُ أبویه مسلماً فی الأصل، وکذا لو تجدّد إسلامُهُ قبل بلوغ الطفل، ولو تجدّد إسلام الأب بعد بلوغ الطفل لم یتبعه فی الإسلام، وإنّما یتبعه لو أسلم أحد الأبوین حال صغر الولد فإن بلغ الولد حینئذ فامتنع عن الإسلام قُهِرَ علیه، فإن أصرّ کان مرتداً».(2)

وقال فی القواعد: «المطلب الثانی: حکمه فی ولده، إذا علق قبل الردّة فهو مسلم، فإن بلغ مسلماً فلا بحث، وإن اختار الکفر بعد بلوغه استتیب، فإن تاب وإلّا قُتل».(3)

3 - المحقّق الأردبیلی (ت 993 ه -):

قال المحقّق الأردبیلی: «قوله: «وولد المرتد الخ»، أی: ولد المسلم الذی حصل قبل ارتداده، بحکم المسلم بمعنی أنّه طاهر، وأنّه لو قتله مسلم یقتل به، سواء قتله قبل البلوغ أو بعده قبل اتّصافه بالکفر ونحو ذلک لا فی

ص:126


1- (1) إرشاد الأذهان 2:127.
2- (2) تحریر الأحکام 5:59.
3- (3) قواعد الأحکام 3:576.

کلّ الأحکام حتّی فی أنّه مسلم فطری، فیلزم قتله بعد البلوغ إن أنکر الإسلام أو شیئاً منه مما یرتد به المسلم، بل بعد البلوغ والعقل إن أظهر الإسلام صار مسلماً حقیقیاً وخرج عن کونه بحکم المسلم، وإن أنکر أو قال أو فعل شیئاً لو فعله مسلم لارتدّ به وحُکم بکفره وارتداده، یستتاب، فإن تاب قبل توبته وصار کمن لا ینکر، وإلّا قُتل مثل المرتد الملّی، فحکمه حکم الملّی لا الفطری...

وأمّا قتل المسلم به سواء کان قبل بلوغه وإسلامه أو بعده ما لم یحکم بکفره بعد بلوغه، فکأنّه للإجماع، ولظاهر أنّ ولد المسلم حکمه حکم المسلم فی نحو ذلک، ولعموم: الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد، ومن اعتدی علیکم فاعتدوا علیه بمثل ما اعتدی علیکم، وأمثال ذلک، فلا یلزم منه کون حکم المرتد الفطری فیه کما عرفت».(1)

4 - الفاضل الهندی (ت 1137 ه -):

وقد صرّح الفاضل الهندی فی کشف اللثام باشتراط قبول الإسلام فی المرتد الفطری حیث قال: « فی حقیقة « المرتد» وهو الّذی یکفر بعد الإسلام سواء کان الکفر قد سبق إسلامه أو لا... « المرتد إن کان» ارتداده « عن فطرة» الإسلام « وکان ذکراً بالغاً عاقلاً» وذکر الوصفین للتنصیص، وإلّا فلا ارتداد لغیرهما « وجب قتله، ولو تاب لم یقبل توبته» والمراد به:

ص:127


1- (1) مجمع الفائدة والبرهان 13:328.

من لم یحکم بکفره قطّ، لإسلام أبویه أو أحدهما حین ولد، ووصفه الإسلام حین بلغ».(1)

«أمّا المرتد فإن کان عن فطرة» الإسلام بأن انعقد حال إسلام أحد أبویه أو أسلم أحد أبویه وهو طفل ثمّ بلغ ووصف الإسلام کاملاً ثمّ ارتدّ « قسمت ترکته حین ارتداده بین ورثته المسلمین» إن کانوا « وتبین زوجته، وتعتدّ عدّة الوفاة وإن لم یقتل، و» ذلک کلّه لأنّه « لا یقبل توبته»، بل یجب قتله حین ارتدّ فینزّل منزلة المیّت».(2)

وأعقب القول فی ولد المرتد واشترط قبول الإسلام منه بعد البلوغ، حیث قال: «حکمه فی ولده» أی: ما یترتّب علی ارتداده من أحکام ولده، و« إذا» ولد أو « علق قبل الردّة فهو مسلم» حکماً، ولذا لو ماتت الأُمّ مرتدة وهی حامل به دفنت فی مقابر المسلمین، وإن قتله قاتل قبل البلوغ اقتصّ منه. « فإن بلغ مسلماً فلا بحث، وإن اختار الکفر بعد بلوغه استتیب» وإن حکم له بالإسلام من العلوق ولم یتحتّم قتله. وإن ظنّ أنّه ارتدّ عن فطرة، فإنّه لیس کذلک، إذ لا یتحقّق الارتداد عن فطرة إلاّ إذا کان وصف الإسلام بعد البلوغ کما عرفت».(3)

«والطفل تابع لأحد أبویه فی الإسلام» کما مرّ فی الأمانات « فلو کان

ص:128


1- (1) کشف اللثام 10:658-661.
2- (2) المصدر السابق 9:358.
3- (3) المصدر السابق 10:669.

أحدهما مسلماً فهو بحکمه وإن کان الآخر کافراً، وکذا لو أسلم أحد أبویه» بعد کفره « تبعه» الولد فی الإسلام، فالولد الصغیر الّذی یحکم بإسلامه یرث ویورث بحسب الإسلام، وکذا إذا بلغ مجنوناً. « فإن بلغ فامتنع من الإسلام قُهر علیه» ولم یقرّ علی الکفر؛ لأنّه مرتد، خلافاً لبعض العامّة، « فإن أصرّ» علی الکفر « کان مرتداً» أی: حکم علیه بحکم المرتدین من القتل أو الضرب».(1)

5 - العاملی (ت 1226 ه -):

قال فی مفتاح الکرامة: « وأمّا المرتد عن فطرة، فقد عرّفه فی عدّة مواضع من « کشف اللثام» بأنّه من انعقد حال إسلام أحد أبویه أو أسلم أحد أبویه وهو طفل، ثمّ بلغ ووصف الإسلام کاملاً ثمّ ارتدّ، قال: وإنّما فسّرناه بما ذکرنا لنصّهم علی أنّ من وُلد علی الفطرة فبلغ فأبی الإسلام استتیب، قال: لأنّه لا عبرة بعبارته ولا باعتقاده قبل البلوغ.

قلت: ممّن نصّ علی الاستتابة الشیخ فی « المبسوط» فی المقام وغیره.

ویدل علیه أنّ الأدّلة الدالة علی حکم الفطری إنّما تدل علی من کان مسلماً مولوداً من مسلمین أو من مسلم وکافر و أسلم إسلاماً حقیقیاً بأن بلغ و أظهر الإسلام ثم ارتدّ».(2)

ص:129


1- (1) المصدر السابق 9:357.
2- (2) مفتاح الکرامة 17:576

6 - صاحب الجواهر (ت 1266 ه -):

قال صاحب الجواهر بعد ذکر عبارة الشرائع: « فی المرتد، وهو الذی یکفر بعد الإسلام»: « و» کیف کان ف« له» أی: المرتد « قسمان: الأوّل من وُلد علی الإسلام» لأبویه أو أحدهما، وهو المسمّی بالفطری.

وفی کشف اللثام المراد به من لم یحکم بکفره قطّ لإسلام أبویه أو أحدهما حین وُلد ووصفه الإسلام حین بلغ، وظاهره کغیره اعتبار الولادة علی الإسلام، بل اعتبار وصف الإسلام لو بلغ، فلو بلغ کافراً لم یکن مرتداً عن فطرة، وکأنّه أخذ القید الثانی ممّا تسمعه فی بعض النصوص من الرجل والمسلم ونحوهما مما لا یصدق علی غیر البالغ، بل لیس فی النصوص إطلاق یوثق به فی الاکتفاء بصدق الارتداد مع الإسلام الحکمی، ولعلّه لا یخلو من قوّة...

وبالجملة فلا خلاف ولا إشکال فی فطریة من انعقد ووُلد ووصف الإسلام عند بلوغه وأبواه مسلمان بل أو أحدهما ولو الأم ثمّ ارتدّ، حتّی لو ارتدّ أبواه بعد انعقاده، نعم لو انعقد منهما کافرین لم یکن فطریاً وإن أسلم أبواه أو أحدهما عند الولادة، فإنّ له حالاً سابقاً محکوماً بکفره، فلم تکن فطرته عن الإسلام بخلاف الأوّل.

ومن الغریب ما فی رسالة الجزائری من أنّ المدار علی الولادة لا الانعقاد، ولعلّ منشأ الوهم النصوص المزبورة المراد منها أصل الخلقة لا خصوص التولّد المذکور فیها المبنی علی غلبة اتّحاد الولادة مع الانعقاد أو

ص:130

علی غلبة تولّده بعد انعقاده، فهو حینئذ ولد حال الانعقاد ولو مجازاً، وحینئذ فیکفی فی فطریته ذلک وإن ارتدّ أبواه عند الولادة، کما أنّه لا یکون فطریاً مع انعقاده منهما کافرین وإن أسلما عند الولادة، إنّما الکلام فی اعتبار وصف الإسلام عند البلوغ وعدمه، وقد عرفت ظهور ما حضرنا من النصوص وتعرف إن شاء الله زیادة ترجیح له أیضاً، والله العالم».(1)

وقال فی ولد المرتد: «وولده» قبل الارتداد «بحکم المسلم» استصحاباً لحاله السابق الذی لا دلیل علی تغیّره بارتداد الأب، بل لو انعقد بإسلام أحد أبویه حُکم بإسلامه، ولذا لو ماتت الأم مرتدة وهی حامل به تُدفن فی مقابر المسلمین، «فإن بلغ مسلماً فلا بحث، وإن اختار الکفر بعد بلوغه استتیب، فإن تاب وإلّا قتل» لکونه بحکم المرتد عن ملّة، وإن انعقد أو ولد وأبواه مسلمان بناء علی اعتبار وصف الإسلام بعد البلوغ فی الردّة عن فطرة والفرض عدمه، بل فی کشف اللثام الظاهر أنّ ولد المسلم والمسلمین أیضاً إذا بلغ کافراً استتیب ولو وُلد هو وأبواه علی الفطرة، وقد نصّ علیه فی لقطة المبسوط».(2)

7 - السید الحکیم (ت 1390 ه -):

قال السید الحکیم فی المستمسک: «المحکی عن القواعد وغیرها - بل ربّما نفی الخلاف فیه - تفسیر المرتد الفطری بمن انعقد وأبواه أو أحدهما

ص:131


1- (1) جواهر الکلام 41:602.
2- (2) جواهر الکلام 41:616.

مسلم، والمصرّح به فی النصوص کونه من وُلد علی الإسلام، الظاهر فی کونه محکوماً بالإسلام حین الولادة، کما أنّ الظاهر منها أنّه یعتبر فی تحقّق الارتداد مطلقاً أن یصف الإسلام بعد البلوغ ثمّ یکفر، فلو ولد بین مسلمین فبلغ کافراً، لم یکن مرتداً فطریاً، کما هو الظاهر من محکی کشف اللثام، بل عن جماعة - منهم الشیخ و العلّامة - التصریح بأنّ من بلغ من ولد المسلمین فوصف الکفر یُستتاب، فإن تاب وإلّا قُتل، فلم یجروا علیه حکم المرتد الفطری. ولکن مقتضی ما ذکرنا عدم إجراء حکم المرتد مطلقاً؛ لعدم تحقّق الإسلام حقیقة منه، ومجرّد کونه محکوماً بالإسلام حال الولادة لا یجدی فی صدق الارتداد؛ لقصور دلیل الإسلام الحکمی عن النظر إلی مثل ذلک».(1)

تنبیه: إنّ مبنی السید الحکیم یختلف عن مبنی سائر العلماء فی هذا المجال، حیث یری أنّ قبول الإسلام بعد البلوغ لیس شرطاً فی تحقّق الارتداد کما یری الآخرون، بل یری أنّ من لم یقبل الإسلام ولم یصفه بعد البلوغ لا اقتضاء لاتّصافه بالمرتد، فصدق الارتداد متوقّف علی تحقّق الإسلام الحقیقی ووصفه بعد البلوغ، فالفرق بین مبنی السید الحکیم ومبنی غیره هو الفرق بین المقتضی والشرط.

8 - الشیخ الفاضل اللنکرانی (ت 1428 ه -):

قال الشیخ الفاضل اللنکرانی فی شرح تحریر الوسیلة: «هل یُعتبر فی

ص:132


1- (1) مستمسک العروة الوثقی 2:121.

المرتد الفطری إظهار الإسلام بعد البلوغ أم لا؟ وبعبارة أخری: هل یُعتبر فیه أن یکون مسلماً بالأصالة أو یکفی الإسلام الحکمی التبعی الثابت إلی زمان البلوغ؟ فلو انعقدت نطفته علی الإسلام وبلغ واختار الکفر من دون سبق الإسلام لا یکون مرتداً فطریاً علی الأوّل، ویکون علی الثانی، ظاهر التعریف بل صریحه هو الأوّل».(1)

أدلة القول الأوّل:

الدلیل الأوّل:

الظاهر من الروایات الواردة فی المرتد کونه من بلغ وقبل الإسلام، وذلک بقرینة ورود الرجل والمسلم مما لا یمکن أن نحمله علی غیر البالغ، وذلک لعدم ترتّب أحکام الارتداد علی المسلم بالتبع، فظاهر المسلم الوارد فی الروایات هو المسلم بالأصالة لا بالتبع، وکلّ من قبل الإسلام بعد البلوغ یصدق علیه المسلم بالأصالة.

فمن جملة الروایات:

صحیحة الحسین بن سعید قال: قرأت بخطّ رجل إلی أبی الحسن الرضا علیه السلام: رجل ولد علی الإسلام ثمّ کفر وأشرک وخرج عن الإسلام، هل یستتاب أو یقتل ولا یستتاب؟ فکتب علیه السلام: یقتل.(2)

ص:133


1- (1) تفصیل الشریعة فی شرح تحریر الوسیلة: 689.
2- (2) وسائل الشیعة 28:325، ح 6.

وصحیحة علیّ بن جعفر سأل أخاه علیه السلام: عن مسلم ارتدّ، قال: یقتل ولا یستتاب، قلت: فنصرانیّ أسلم ثمّ ارتدّ عن الإسلام؟ قال: یستتاب فإن رجع وإلّا قتل.(1)

وصحیحة برید العجلی أنّه سئل أبو جعفر علیه السلام عن رجل شهد علیه شهود أنّه أفطر من رمضان ثلاثة أیّام، قال: یُسأل هل علیک فی إفطارک إثم؟ فإن قال: لا، فإنّ علی الإمام أن یقتله، وإن قال: نعم، فإنّ علی الإمام أن ینهکه ضرباً.(2)

وعن محمّد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر علیه السلام عن المرتد فقال: من رغب عن الإسلام وکفر بما أنزل الله علی محمّد صلی الله علیه و آله بعد إسلامه فلا توبة

له، وقد وجب قتله، وبانت امرأته منه، فلیقسم ما ترک علی ولده.(3)

ففی قوله: « رغب» إشعار بالمسلم الحقیقی وإن شمل الملّی، أی: أنّ الرجوع لازم لقبول الإسلام وقبول الإسلام لا یتحقّق فی الصبی وغیر البالغ لعدم الاعتبار بعبارته کما سیأتی، مضافاً إلی قوله: (کفر بعد إسلامه).

وفی قبال هذه الروایات روایات أخری عبّرت عن ترک الإسلام والرکون إلی الکفر فیمکن أن یُقال: إنّها مطلقة تشمل البالغ وغیر البالغ، حیث لم یرد فیها کلمة الرجل، منها:

ص:134


1- (1) الاستبصار 4:254، ح 8.
2- (2) وسائل الشیعة 10:248، ح 1.
3- (3) المصدر السابق 26:27، ح 5.

مرفوعة عثمان بن عیسی أنّه کتب إلی أمیر المؤمنین علیه السلام عامل له: إنّی أصبت قوماً من المسلمین زنادقة، وقوماً من النصاری زنادقة، فکتب إلیه: أمّا من کان من المسلمین ولد علی الفطرة ثمّ تزندق فاضرب عنقه ولا تستتبه، ومن لم یولد منهم علی الفطرة فاستتبه، فإن تاب وإلّا فاضرب عنقه، وأمّا النصاری فما هم علیه أعظم من الزندقة.(1)

وعن عمّار الساباطی قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام یقول: کلّ مسلم بین مسلمَین ارتدّ عن الإسلام وجحد محمّداً صلی الله علیه و آله نبوّته وکذّبه فإنّ دمه مباح.(2)

ولعلّ هذا الخبر هو الأصل فی تعریف المسالک کما سیأتی بیانه.

قال صاحب الجواهر: «وکأنّه أخذ القید الثانی [ أی: وصفه الإسلام حین بلغ] مما تسمعه فی بعض النصوص من الرجل والمسلم ونحوهما مما لا یصدق علی غیر البالغ».(3)

وذکر بعض الروایات الواردة فی المقام وقال: «قد عرفت سابقاً أنّ ما حضرنا من النصوص ظاهر فی الحکم بردّة من وصف الإسلام عن فطرة، بل هو الموافق لمعنی الارتداد الذی هو الرجوع».(4)

ص:135


1- (1) المصدر السابق 28:333، ح 5.
2- (2) المصدر السابق 28:324، ح 3.
3- (3) جواهر الکلام 41:603.
4- (4) المصدر السابق 41:617.

وقال الشیخ الفاضل اللنکرانی: «هل یعتبر فی المرتد الفطری إظهار الإسلام بعد البلوغ أم لا؟ وبعبارة أخری: هل یعتبر فیه أن یکون مسلماً بالأصالة أو یکفی الإسلام الحکمی التبعی الثابت إلی زمان البلوغ؟ فلو انعقدت نطفته علی الإسلام وبلغ واختار الکفر من دون سبق الإسلام لا یکون مرتداً فطریاً علی الأوّل، ویکون علی الثانی، ظاهر التعریف بل صریحه هو الأوّل لما یستفاد من الروایات الواردة فی الباب:

منها: المرفوعة المتقدّمة، المشتملة علی قوله علیه السلام: « أمّا من کان من المسلمین ولد علی الفطرة ثمّ تزندق»، فإنّ ظاهرها تأخّر التزندق عن کونه مسلماً، وقد عرفت أنّ المراد به هو المسلم بالأصل... وعلیه فلا ینبغی الإشکال فیما ذکر. هذا فی المرتد الفطری).(1)

منها: موثّقة عمّار الساباطی قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام یقول: کلّ مسلم بین مسلمَین ارتدّ عن الإسلام وجحد محمّداً صلی الله علیه و آله نبوّته وکذّبه فإنّ دمه مباح لمن سمع ذلک منه، وامرأته بائنة منه یوم ارتدّ، ویقسّم ماله علی ورثته، وتعتدّ امرأته عدّة المتوفّی عنها زوجها، وعلی الإمام أن یقتله ولا یستتیبه».(2)

تنبیه:

الارتداد لا یکون إلّا من البالغ، فلا یصح إطلاق المرتد علی غیر

ص:136


1- (1) تفصیل الشریعة فی شرح تحریر الوسیلة: 690.
2- (2) المصدر السابق: 689.

البالغ؛ وذلک لأنّ الارتداد جحود، والجحود یکون من البالغ؛ لأنّ غیر البالغ لایتصوّر فیه الجحود، فلایقال للصبی أو الممیّز: أنّه جحد، فهذه قرینة علی أنّ المراد من قوله علیه السلام ارتدّ فی هذه الروایة هو الارتداد بعد البلوغ، فلابدّ حینئذ من تحقّق الإسلام الحقیقی بقرینة تحقّق الارتداد الحقیقی منه، فلا یقال: إنّه بمجرد البلوغ یتّصف بالإسلام، فکما ستعرف لاحقاً أنّ اتّصافه بالإسلام الحکمی لا یجدی نفعاً، والعبرة هو الاتّصاف بالإسلام الحقیقی.

الدلیل الثانی:

ضعف الإسلام الحکمی عن النهوض إلی درجة الإسلام الحقیقی فی روایات المرتد، وذلک لکون الإسلام الحکمی دلّ الدلیل علیه، وأنّه قید زائد، وإنّما یفید الإسلام الحکمی فی إثبات بعض الأحکام قبل البلوغ، فإثبات ما یتعلّق بالإسلام الحکمی بعد البلوغ یحتاج إلی دلیل وإلّا فیقتصر علی المورد المتیقن، أی: الأحکام التی تترتب علی الصبی قبل البلوغ؛ لأنّه خلاف الأصل، والأصل عدم التبعیة، فکلّ مورد شک فی شمولیة الإسلام الحکمی إلیه یحکم بعدم شمولیته له.

قال الفاضل الهندی: «والتولّد من المسلم إنّما یفیده لحوق حکم الإسلام به».(1)

أی: الإسلام الحکمی یکون له قدرة علی ترتّب بعض أحکام الإسلام

ص:137


1- (1) کشف اللثام 10:669.

علیه، فلا یترتب علیه ما یترتب علی أحکام المسلم بالأصالة.

وقال المحقّق الأردبیلی: «ولأنّ الظاهر أن لا خلاف فی أنّ حکمه إمّا حکم الفطری أو الملّی، ولا دلیل علی الأوّل فیکون حکمه حکم الثانی، بل لو لم یکن أمثال ذلک لکان القول بعدم ذلک الحکم أیضاً متعیّناً؛ إذ لا یلزم من وجود حکم فی مسلم، وجوده فیمن هو بحکمه إلّا أن یثبت علیه دلیل آخر غیر ذلک، فافهم».(1)

وقال صاحب الجواهر: «ولا دلیل یدل علی الاکتفاء بالإسلام الحکمی».(2)

وقال السید الحکیم: «مقتضی ما ذکرنا عدم إجراء حکم المرتد مطلقاً؛ لعدم تحقّق الإسلام حقیقة منه، ومجرد کونه محکوماً بالإسلام حال الولادة لا یجدی فی صدق الارتداد؛ لقصور دلیل الإسلام الحکمی عن النظر إلی مثل ذلک».(3)

الدلیل الثالث:

منافات القول بعدم اعتبار وصف الإسلام بعد البلوغ لحقیقة المرتد لغة.

ص:138


1- (1) مجمع الفائدة والبرهان 13:329.
2- (2) جواهر الکلام 41:617.
3- (3) مستمسک العروة الوثقی 2:122.

قال العاملی فی مفتاح الکرامة: « لأنّ المتبادر من المرتد مَن کفر بعد إسلام، والمتبادر من الإسلام الإسلام الحقیقی لا التبعی الحکمی».(1)

وقال المحقّق الأردبیلی: «فإنّ المرتد من کفر بعد الإسلام، والمتبادر منه الإسلام الحقیقی لا حکمه مثل الولادة من المسلم وإلّا یلزم التکرار فی ذکر حکم ولد المرتد، بل التناقض والتنافی بین حکمهم فی المرتد الفطری بالقتل من غیر استتابة، وبین الحکم بأنّ ولده الذی ولد حال إسلامه وانعقد فی تلک الحال إذا أنکر الإسلام بعد البلوغ، یستتاب، وهو ظاهر».(2)

وقال صاحب الجواهر: « ولکن فی المسالک تبعاً لما عن القواعد تفسیر الفطری بمن انعقد وأبواه أو أحدهما مسلم بل ربما نفی الخلاف فیه، بل ظاهره فی ما یأتی المفروغیة من ذلک من غیر اعتبار وصف الإسلام عند البلوغ، وهو مع أنّه مناف لحقیقة المرتد لغة لیس فی ما حضرنا من النصوص دلالة علیه حتّی الإطلاق»،(3) وقال: «قد عرفت سابقاً أنّ ما حضرنا من النصوص ظاهر فی الحکم بردّة من وصف الإسلام عن فطرة، بل هو الموافق لمعنی الارتداد الذی هو الرجوع».(4)

ص:139


1- (1) مفتاح الکرامة 17:577.
2- (2) مجمع الفائدة والبرهان 13:329.
3- (3) جواهر الکلام 41:603.
4- (4) المصدر السابق 41:617.

الدلیل الرابع:

لو شککنا فی دلالة الادلة للإسلام الحقیقی أو الحکمی یکون الأصل هو عدم کون المرتد فطریاً، فلو شک فی کون المرتد فطریاً أم لا یرجع إلی الأصل.

قال العاملی فی مفتاح الکرامة بعد فرض تسلیم کلام الشهید فی المسالک: «سلّمنا وما کان لیکون لکنّ الموجب هو الأصل».(1)

وقال المحقّق الأردبیلی: «فحکمه حکم الملّی لا الفطری للاحتیاط فی الدماء والأصل».(2)

وقال صاحب الجواهر: «ولا أقلّ من الشک، والأصل عدم ثبوت أحکام الفطری».(3)

الدلیل الخامس:

التمسک بقاعدة الحدود تدرأ بالشبهات، وذلک أنّ المرتد المشکوک کون حکمه القتل أو لا، فیحکم بعدم کونه مرتداً فطریاً للقاعدة، وبالتإلی لا یحکم بقتله، ولا یخفی أنّ الشبهة هنا عامّة تشمل شبهة المکلّف وشبهة الحاکم أیضاً.

ص:140


1- (1) مفتاح الکرامة 17:578.
2- (2) مجمع الفائدة والبرهان 13:328.
3- (3) جواهر الکلام 41:617.

قال صاحب الجواهر: «مضافاً إلی درء الحد بالشبهة».(1)

الدلیل السادس:

الرجوع فی موارد الشک إلی أدلّة الاحتیاط فی الدماء، وما نحن فیه مورده، ولا أقل من کونه مورداً للشک فیرجع فیه إلی أدلّة الاحتیاط فی الدماء.

وعلّق العاملی فی مفتاح الکرامة بعد ذکر کلام الشهید فی المسالک قائلاً: « قال فی « المسالک» - عند قولهم فیمن علق قبل ارتداد أبیه، أنّه إن بلغ مسلماً فلا بحث، وإن اختار الکفر بعد بلوغه استتیب وإن حکم له بالإسلام من العلوق ولم یتحتّم قتله - ما نصّه: بأنّ القواعد تقضی بأنّ المنعقد حال إسلام أحد أبویه یکون ارتداده عن فطرة ولا تُقبل توبته، وما وقفت علی ما أوجب العدول عن ذلک هنا، ولو قیل بأنّه یلحقه حکم المرتد عن فطرة کان متوجّهاً، وهو الظاهر من الدروس؛ لأنّه أطلق کون السابق علی الارتداد مسلماً، ولازمه ذلک، انتهی.

قلت: قد عرفت مراد القوم فلا تناقض ولا عدول، ومراد الدروس کمراد غیره أنّه بحکم المسلم، علی أنّ قولهم لا یحتاج إلی الموجب بل المحتاج إلیه ما قاله، سلّمنا وما کان لیکون لکنّ الموجب هو الأصل والاحتیاط فی الدماء».(2)

ص:141


1- (1) جواهر الکلام 41:617.
2- (2) مفتاح الکرامة 17:577.

وقال المحقّق الأردبیلی: «فحکمه حکم الملّی لا الفطری للاحتیاط فی الدماء».(1)

وقال صاحب الجواهر: « والاحتیاط فی الدم، والله العالم».(2)

تنبیه: الظاهر أنّ الفرق بین هذا الدلیل والدلیل الرابع هو أنّ الاحتیاط فی الدماء أمارة حاکمة، وأمّا الدلیل الرابع فهو أصل عملی، أی: أنّه قاعدة أصولیة فلا یثبت الحکم مباشرة، بل من باب التوسیط.

الدلیل السابع:

عدم الاعتبار بعبارة الصبی واعتقاده، فلو أنّ الصبی ارتدّ حال صباه لم یحکم علیه بالارتداد، فکذلک لا یحکم علیه بالإسلام لو قبله، فعبارة الصبی لا اقتضاء فیها للقبول؛ لأنّه لا یفهم ما یقول ولا یدرک، فإن قلت: إنّ الصبی الممیز یدرک ما یقول إذاً فیه اقتضاء، قلت: إنّ أدلّة حدیث الرفع رفعت حکماً عبارة الصبی الممیز أیضاً.

قال الفاضل الهندی: «إذ لا عبرة بعبارته ولاباعتقاده قبله».(3)

الدلیل الثامن:

کون المرتد حقیقة شرعیة، والمقطوع منها کون المرتد الفطری من

ص:142


1- (1) مجمع الفائدة والبرهان 13:328.
2- (2) جواهر الکلام 41:617.
3- (3) کشف اللثام 10:669.

کان مسلم حقیقة وارتدّ عن الإسلام، ولا یدخل فیها من کان إسلامه حکمیاً ومشکوک الحکم.

قال العاملی فی مفتاح الکرامة: «ولا ریب أنّ المرتد حقیقة شرعیّة لیس معنیً لغویّاً ولا عرفیّاً، والمقطوع من معنی الفطری ما رجّحناه ومعیار الحقیقة موجود فیه، ولعلّه لم یبق بعد إلیوم فی المراد من المرتد الفطری إشکال، ولا تلتفت إلی ما فی التذکرة وجامع المقاصد وظاهر الدروس بعد اتّضاح السبیل ووضوح الدلیل».(1)

الدلیل التاسع:

الرجوع إلی بعض الروایات الدالة علی الاستتابة المطلقة فی حال الشک، فیکون هناک عموم فوقانی وهو الاستتابة یرجع إلیه فی حالة الشک کما نحن فیه.

قال المحقّق الأردبیلی: « وعموم بعض الأخبار الدالة علی الاستتابة مطلقاً».(2)

الدلیل العاشر:

التناقض بین حکم من لم یعتبر قبول الإسلام بعد البلوغ شرطاً فی تحقّق الارتداد وبین حکمهم فی ولد المرتد، حیث اعتبروا هناک قبول

ص:143


1- (1) مفتاح الکرامة 17:580.
2- (2) مجمع الفائدة والبرهان 13:328.

الإسلام بعد البلوغ ولم یعتبروه فی المرتد.

قال العاملی فی مفتاح الکرامة: «إنّ المستفاد من الأخبار وکلام الأصحاب ما ذکرنا؛ لأنّ المتبادر من المرتد من کفر بعد إسلام، والمتبادر من الإسلام الإسلام الحقیقی لا التبعی الحکمی، وإلّا لزم التناقض الّذی أشار إلیه فی «المسالک» کما ستسمعه، وذلک لحکمهم فی المرتد الفطری بالقتل من غیر استتابة، وحکمهم بأنّ ولده الّذی ولد حال الإسلام وانعقد فی تلک الحال إذا أنکر الإسلام بعد البلوغ یستتاب».(1)

القول الثانی: عدم اعتبار قبول الإسلام بعد البلوغ

1 - العلّامة الحلّی (ت 726 ه -):

قال فی تذکرة الفقهاء: «لا شک فی أنّ الولد یحکم له بالإسلام إذا کان أبواه أو أحدهما مسلماً بالأصالة أو تجدد إسلامه حال علوق الولد، فإذا بلغ ووصف الإسلام تأکّد ما حکم به وانقطع الکلام، وإن أعرب الکفر فهو مرتد عن فطرة یقتل فی الحال».(2)

2 - المحقّق الکرکی (ت 940 ه -):

قال فی جامع المقاصد: «انفصال النطفة من مسلم موجب للإسلام

ص:144


1- (1) مفتاح الکرامة 17:577.
2- (2) تذکرة الفقهاء 2:274.

قطعاً، حتّی أنّه لو بلغ الولد فأظهر الکفر کان مرتداً؛ لأنّه جزء من مسلم حقیقة».(1)

3 - الشهید الثانی (ت 966 ه -):

قال فی المسالک: «ثمّ إن بلغ وأعرب بالإسلام فلا بحث، وإن أظهر الکفر فقد أطلق المصنف - رحمه الله - وغیره استتابته، فإن تاب وإلّا قتل. وهذا لا یوافق القواعد المتقدّمة من أنّ المنعقد حال إسلام أحد أبویه یکون ارتداده عن فطرة، ولا تقبل توبته، وما وقفت علی ما أوجب العدول عن ذلک هنا. ولو قیل بأنّه یلحقه حینئذ حکم المرتد عن فطرة کان وجهاً، وهو الظاهر من الدروس؛ لأنّه أطلق کون الولد السابق علی الارتداد مسلماً، ولازمه ذلک».(2)

4 - السید الخوئی (ت 1413 ه -):

قال السید الخوئی: «إنّ من ولد علی الفطرة هل یشترط فی الحکم بکونه مرتداً فطریاً أن یظهر الإسلام بعد البلوغ ثمّ یرتد؟ أو أنّه إذا لم یظهر الإسلام بل أظهر الکفر قبل البلوغ وبلغ کافراً أیضاً یعدّ مرتداً فطریاً باعتبار أنّه مولود بین مسلمین أو أنّ أحد أبویه مسلم؟

ذکر کاشف اللثام - علی ما نسبه إلیه صاحب الجواهر قدس سره - أنّه یعتبر

ص:145


1- (1) جامع المقاصد 6:120.
2- (2) مسالک الإفهام 15:28.

فی الارتداد الفطری أن یکون مسلماً بعد بلوغه، فإذا کفر بعد ذلک یحکم علیه بأحکام المرتد الفطری.

وأمّا إذا فرضنا أنّه بلغ کافراً، ولو فرضنا أنّه متولّد من مسلمین أو من مسلم واحد إلّا أنّه کفر قبل بلوغه وبلغ کافراً ولم یظهر الإسلام بعد بلوغه لا یحکم علیه بأحکام المرتد الفطری.

وقوّاه صاحب الجواهر قدس سره باعتبار أنّه لیس هنا مطلق یشمل ما إذا بلغ الولد کافراً، فهذا غیر مشمول ظاهراً للمرتد الفطری لعدم الإطلاق، فإنّ الموضوع هو ( الرجل) أو ( المسلم) الظاهر فی کونه بالغاً، فإذا کان مسلماً وهو بالغ ثمّ رجع إلی الکفر فهذا هو المرتد الفطری، وأمّا إذا کان حال بلوغه کافراً ولم یسبق کفره بالإسلام حال البلوغ فهذا لیس من المرتد الفطری.

هذا الذی ذکره قدس سره لا یمکن المساعدة علیه، فإنّه لا إشکال فی أنّ الارتداد لابدّ أن یکون حال البلوغ ولابدّ من أن یکون رجلاً، وإلّا فلا اعتبار بارتداد الصبی علی ما تقدّم، إلّا أنّ الإطلاق یشمل ما إذا بلغ کافراً أیضاً، فلو فرضنا أنّه مولود بین مسلمین ومحکوم بالإسلام إلّا أنّه بعد ما کبر وصار صبیاً ممیزاً کفر - وقلنا: إنّه لا أثر لذلک لا یحکم بارتداده قبل بلوغه - واستمرّ کفره إلی أن بلغ، صحیحة الحسین بن سعید بل غیرها غیر قاصرة الشمول لمثل ذلک، یصح أن یقال: إنّ هذا رجل مولود علی الإسلام، وقد کفر بما أنزل اللَّه علی محمّد صلی الله علیه و آله، وحکمه القتل.

ص:146

فالذی یعتبر هو أن یکون الکفر بعد البلوغ، وأمّا أن یکون قبل ذلک مسلماً وهو بالغ لم یذکر فی شیء من هذه الأدلّة.

إذاً اعتبار الإسلام بعد البلوغ ثمّ الکفر لم یدل علیه دلیل، والصحیح ما ذهب إلیه المشهور من عدم اعتبار هذا القید، فکلّ من کان محکوماً بالإسلام من أوّل ولادته إذا کفر بعد بلوغه - وإن لم یسلم بعد البلوغ - یحکم بأنّه مرتد فطری.(1)

أدلة القول الثانی:

الدلیل الأوّل:

استدلّ الشهید الثانی فی المسالک علی عدم اعتبار قبول الإسلام بعد البلوغ بعموم الروایات الواردة فی المقام، حیث قال: « لعموم الأدلة السابقة، وصحیحة محمّد بن مسلم، عن الباقر علیه السلام: « من رغب عن الإسلام وکفر بما أنزل علی محمّد صلی الله علیه و آله بعد إسلامه، فلا توبة له، وقد وجب قتله، وبانت منه امرأته، ویقسّم ما ترک علی ولده»، وروی عمّار عن الصادق علیه السلام قال: «کلّ مسلم بین مسلمین ارتدّ عن الإسلام، وجحد محمّداً نبوّته، وکذّبه، فإنّ دمه مباح لکلّ من سمع ذلک منه، وامرأته بائنة منه یوم ارتدّ، فلا تقربه، ویقسّم ماله بین ورثته، وتعتد امرأته عدّة المتوفّی عنها زوجها، وعلی الإمام أن یقتله ولا یستتیبه».(2)

ص:147


1- (1) محاضرات السید الخوئی فی المواریث: 177.
2- (2) مسالک الإفهام 15:23.

یرد علیه:

أوّلاً: لا نسلّم هذا الظهور الذی ادّعاه الشهید، بل العکس أظهر؛ إذ إنّ معنی من رغب، أی: ترک الإسلام الحقیقی، وهو إنّما یکون بعد البلوغ لا استمرار الإسلام الحکمی، وکذا قوله علیه السلام: کفر بعد إسلامه؛ إذ إنّ الظاهر من الإسلام الإسلام الحقیقی وبالأصالة لا الحکمی، وبقرینة إرادة الکفر الحقیقی فلابدّ من کون إرادة الإسلام هو الإسلام الحقیقی.

ثانیاً: وجود روایات أخری فی المقام قد تقدّمت تدل علی خلاف مدّعی الشهید الثانی، ولهذا أشار صاحب الجواهر بعد نقل کلام الشهید حیث قال: «لکن قد عرفت سابقاً أنّ ما حضرنا من النصوص ظاهر فی الحکم بردّة من وصف الإسلام عن فطرة، بل هو الموافق لمعنی الارتداد الذی هو الرجوع».(1)

الدلیل الثانی:

الإطلاقات المستفادة من الروایات الواردة فی المقام تشمل ما إذا بلغ الطفل کافراً، فیکون حکم المرتد الفطری هو القتل بعد البلوغ لو أنکر الإسلام، ولا یشترط قبوله الإسلام بعد البلوغ، بل إنّ قبول الإسلام بعد البلوغ لم یدل علیه دلیل.

قال السید الخوئی: «إلّا أنّ الإطلاق یشمل ما إذا بلغ کافراً أیضاً، فلو

ص:148


1- (1) جواهر الکلام 41:617.

فرضنا أنّه مولود بین مسلمین ومحکوم بالإسلام إلّا أنّه بعد ما کبر وصار صبیاً ممیزاً کفر - وقلنا: إنّه لا أثر لذلک لا یحکم بارتداده قبل بلوغه - واستمرّ کفره إلی أن بلغ، صحیحة الحسین بن سعید بل غیرها غیر قاصرة الشمول لمثل ذلک، یصح أن یقال: إنّ هذا رجل مولود علی الإسلام، وقد کفر بما أنزل الله علی محمّد صلی الله علیه و آله، وحکمه القتل.

فالذی یعتبر هو أن یکون الکفر بعد البلوغ، وأمّا أن یکون قبل ذلک مسلماً وهو بالغ لم یذکر فی شیء من هذه الأدلّة.

إذاً اعتبار الإسلام بعد البلوغ ثمّ الکفر لم یدل علیه دلیل، والصحیح ما ذهب إلیه المشهور من عدم اعتبار هذا القید، فکلّ من کان محکوماً بالإسلام من أوّل ولادته إذا کفر بعد بلوغه - وإن لم یسلم بعد البلوغ - یحکم بأنّه مرتد فطری.

تحصّل من مجموع ما تقدّم: أنّه من کان محکوماً بالإسلام من الأوّل ولم یسبق منه کفر إذا ارتدّ بعد ذلک فهو مرتد فطری».(1)

یرد علیه:

أوّلاً: لا نسلّم بکون الروایات الواردة فی المقام لها إطلاق یشمل صورة ما لو بلغ الطفل ولم یقبل الإسلام؛ إذ الروایات منصرفة عن هذه

ص:149


1- (1) محاضرات السید الخوئی فی المواریث: 177.

الصورة، وذلک بقرینة مناسبة الحکم وهو القتل والموضوع وهو الارتداد؛ لأنّ مقتضی ذلک أنّ القتل للمرتد الفطری مورده الارتداد عن الإسلام الحقیقی، فلا معنی لأن یقتل من لم یسمّ مسلماً إلّاحکماً وتبعاً، فإنّ تسمیة الصبی مسلماً حکماً هو للتسهیل والامتنان، فلا یُلحق هذا الامتنان القتل الذی هو خلاف الامتنان. مضافاً إلی ما تقدّم من کون معنی الروایات الواردة فی المقام توافق مفهوم الارتداد لغة وهو الرجوع عن الإسلام الحقیقی.

ثانیاً: القول بأنّ الإسلام الحکمی کافی فی کون من بلغ ولم یقبل الإسلام فهو مرتد فطری أوّل الکلام؛ إذ إنّ البالغ لا یحکم بأحکام غیر البالغ، والحکم بکفایة الإسلام الحکمی للبالغ حکم علیه بأحکام الطفل، وتقدّم أنّ الإسلام الحکمی قاصر عن النظر إلی هذه الصورة، إذ غایة ما یمکن أن یترتب علیه بعض الأحکام التبعیة کالدفن فی مقابر المسلمین والحکم بالطهارة.

الدلیل الثالث:

استصحاب الحالة السابقة، حیث کون الابن تابع للأب فی الإسلام، فیشک بعد البلوغ أنّ حالته السابقة وهی تبعیته فی الإسلام باقیة أم لا؟ فیستصحب حکمه السابق وهو تبعیته فی الإسلام.

قال الشهید الثانی: « لانعقاده تابعاً لأبیه فی الإسلام، فیستصحب حکمه».(1)

ص:150


1- (1) مسالک الإفهام 15:28.

یرد علیه:

الإشکال لیس فی استصحاب تبعیته لأبیه، ولکن الکلام فی إجراء أحکام الإسلام الحقیقی للإسلام التبعی، فاستصحاب التبعیة لو سلّم به لایجدی نفعاً؛ لأنّ الکلام فی إجراء الأحکام الثابتة للإسلام الحقیقی علی من هو محکوم بالإسلام الحکمی، فلیس الشک فی إجراء أحکام الإسلام الحکمی حتّی یستصحب.

الدلیل الرابع:

مخالفة الحکم بکونه مرتداً ملّیاً للقواعد فی المرتد، حیث تدل القواعد علی کون المنعقد من أبوین أو أحدهما حال الإسلام یکون ارتداده عن فطرة.

قال الشهید الثانی: « ثمّ إن بلغ وأعرب بالإسلام فلا بحث، وإن أظهر الکفر فقد أطلق المصنف - رحمه الله - وغیره استتابته، فإن تاب وإلّا قتل. وهذا لا یوافق القواعد المتقدّمة من أنّ المنعقد حال إسلام أحد أبویه یکون ارتداده عن فطرة، ولا تقبل توبته، وما وقفت علی ما أوجب العدول عن ذلک هنا».(1)

یرد علیه:

أورد المحقّق الأردبیلی علی کلام الشهید أنّه:

ص:151


1- (1) مسالک الإفهام 15:28.

أوّلاً: لیس مخالفاً للقواعد.

ثانیاً: ما قاله الشهید یحتاج إلی موجب ودلیل.

ثالثاً: أنّ الشهید حمل کلام القدماء علی کون الارتداد یکون قبل قبول الإسلام، لکن حمله غیر صحیح.

قال المحقّق الأردبیلی: «فلا یرد قول شرح الشرائع: « وهذا لا یوافق القواعد المتقدّمة؛ إذ إنّ المنعقد حال إسلام أحد أبویه یکون ارتداده عن فطرة، ولا یقبل توبته، وما وقفت علی ما أوجب العدول عن ذلک هنا، ولو قیل بأنّه یلحقه حینئذ حکم المرتد عن فطرة کان متوجّهاً، وهو الظاهر من الدروس؛ لأنّه أطلق کون الولد السابق علی الارتداد مسلماً، ولازمه ذلک انتهی».

إذ قلنا: یحتمل أن یکون مرادهم أنّه مع کونه ولد فی الإسلام بلغ وأسلم ثمّ ارتدّ، لما مر، ولو کان المراد ما قاله یکون هذا نقیضاً صریحاً لما ذکروه أوّلاً؛ لأنّهم ذکروا أنّه مرتد فطری علی ما زعمه، وقد ذکروا حکمه من وجوب قتله وعدم استتابته.

وأنّ قوله: « ما وقفت علی ما أوجب الخ» غیر جید، لما مر من الموجب، مع أنّه لا یحتاج إلی موجب بل المحتاج إلی الموجب ما قاله: من لحوق حکم الفطری، فإنّه غیر معلوم کونه فطریاً، لما مر من احتمال مرادهم، وإن لم یکن صریحاً فلا شک أنّه محتمل فیحمل علیه فیحتاج إلی موجب غیر ذلک.

ص:152

علی أنّک قد عرفت ما فی معنی الفطری ودلیل حکمه، فإثبات مثل هذا الحکم مع مخالفة الأصحاب له، إذ کاد أن یکون إجماعیاً، فإنّ الموجود فی العبارات التی رأیناها خلاف ذلک بعید جدّاً، لما مر.

علی أنّه قال من قبل بوجود الأدّلة المعتبرة لمذهب ابن الجنید وهو الاستتابة مطلقاً.

وأنّه لا مقتضی لتقییدها بغیر الفطری سوی الشهرة ومعلوم عدم حجّیتها، بل عدمها فیما نحن فیه، فإنّ المشهور استتابة ولد المرتد، بل لم یعلم خلافه.

وأنّ قول الدروس: فالظاهر أنّه مثل قول غیره من أنّه بحکم المسلم، وأطلق علیه المسلم بناء علی ظاهر الحال، أو لأنّه بحکم المسلم قبل البلوغ عندهم وقد صرّحوا بذلک، فلیس لازمه حکم الفطری، فتأمل».(1)

نتیجة البحث:

تبیّن من خلال البحث: أنّ الحکم علی ارتداد من بلغ ولم یقبل الإسلام وکونه فطریاً مشکل وخلاف الاحتیاط فی الدماء، فیتعیّن أن یقال بعدم کونه مرتداً أصلاً؛ إذ المرتد من خرج عن الإسلام أو من بدّل دینه، ولا یصدق علی من کان محکوماً بالإسلام الحکمی والتبعی بأنّه بدّل دینه، مضافاً إلی کون الحکم علیه بأنّه مرتد ملّی أیضاً خلاف الأصل إذ حَکمنا

ص:153


1- (1) مجمع الفائدة والبرهان 13:329.

باعتبار قبول الإسلام، فمن لم یقبله یکون کافراً؛ لأنّه لم یتصف بالإسلام حتّی نبحث عن کونه ارتدّ عن ملّة أو عن فطرة.

وما توصّلنا إلیه هو مقتضی الأصل، والموافق للّغة، ولا أقل من الشک فی المقام، فالرجوع إلی الاحتیاط وقاعدة درء الحدود بالشبهات هی المرجع فی مثل هذه الأمور.

ص:154

فهرس مصادر

مقال اعتبار قبول الإسلام بعد البلوغ فی تعریف المرتد الفطری

1 - إرشاد الأذهان إلی أحکام الإیمان، العلّامة الحلی (ت 726)، تحقیق: الشیخ فارس الحسون، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الأولی 1410 ه -.

2 - الاستبصار فیما اختلف من الأخبار، محمّد بن حسن الطوسی (ت 460 ه -)، تحقیق و تعلیق: السید حسن الخرسان، الناشر: دار الکتب الإسلامیة - طهران، الطبعة الرابعة 1363 ه -.

3 - تحریر الأحکام الشرعیة علی مذهب الإمامیة، العلّامة الحلی (ت 726 ه -)، تحقیق: الشیخ إبراهیم البهادری، الناشر: مؤسسة الإمام الصادق علیه السلام، الطبعة الأولی 1420 ه -.

4 - تذکرة الفقهاء، العلّامة الحلی (ت 726)، الناشر: منشورات المکتبة المرتضویة لإحیاء الآثار الجعفریة.

5 - تفصیل الشریعة فی شرح تحریر الوسیلة، الشیخ محمّد الفاضل

ص:155

اللنکرانی (ت 1428)، تحقیق و نشر: مرکز فقه الأئمة الأطهار علیهم السلام - قم، الطبعة الثانیة 1422 ه -.

6 - تهذیب الأحکام، محمّد بن الحسن الطوسی (ت 460)، تحقیق وتعلیق: السید حسن الخرسان، الناشر: دار الکتب الإسلامیة - طهران، الطبعة الثالثة 1364 ش.

7 - جامع المقاصد فی شرح القواعد، المحقق الکرکی (ت 940)، تحقیق و نشر: مؤسسة آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث، الطبعة الأولی 1408 ه -.

8 - جواهر الکلام فی شرح شرائع الإسلام، محمّد حسن النجفی (ت 1266)، تحقیق وتعلیق: الشیخ عباس القوچانی، الناشر: دار الکتب الإسلامیة - طهران، الطبعة الثانیة 1365 ش.

9 - الخلاف، محمّد بن الحسن الطوسی (ت 460)، تحقیق: جماعة من المحققین، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی، سنة الطبع 1407 ه -.

10 - شرائع الإسلام فی مسائل الحلال والحرام، المحقق الحلی (ت 676) تعلیق: السید صادق الشیرازی، الناشر: انتشارات استقلال - طهران، الطبعة الثانیة 1409 ه -.

11 - قواعد الأحکام، العلّامة الحلی (ت 726)، تحقیق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الأولی 1413 ه -.

12 - الکافی، محمّد بن یعقوب الکلینی (ت 328)، تصحیح و تعلیق:

ص:156

علی أکبر الغفاری، الناشر: دار الکتب الإسلامیة، الطبعة الخامسة 1363 ش.

13 - کشف اللثام عن قواعد الأحکام، محمّد بن الحسن الإصفهانی المعروف بالفاضل الهندی (ت 1137)، تحقیق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الأولی 1416 ه -.

14 - لسان العرب، محمّد بن مکرم بن منظور ( ت 711)، الناشر: أدب حوزة، تاریخ النشر 1405 ه -.

15 - مبانی تکملة المنهاج (ضمن موسوعة السید الخوئی)، السید الخوئی (ت 1413)، الناشر: مؤسسة إحیاء آثار الإمام الخوئی، سنة الطبع 1422 ه -.

16 - المبسوط فی فقه الإمامیة، محمّد بن الحسن الطوسی (ت 460)، تصحیح وتعلیق: السید محمّد تقی الکشفی، الناشر: المکتبة المرتضویة لإحیاء آثار الجعفریة، سنة الطبع 1387 ه -.

17 - مجمع الفائدة والبرهان، المحقق أحمد الأردبیلی (ت 993)، تصحیح و تعلیق: مجتبی العراقی و علی بناه الإشتهاردی وحسین الیزدی الإصفهانی، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم.

18 - محاضرات السید الخوئی فی المواریث، السید محمّد علی الخرسان، الناشر: مؤسسة السبطین صلی الله علیه و آله العالمیة - قم، الطبعة الأولی 1424 ه -.

19 - مسالک الإفهام إلی تنقیح شرائع الإسلام، الشهید الثانی (ت 966)،

ص:157

تحقیق ونشر: مؤسسة المعارف الإسلامیة، الطبعة الأولی 1413 ه -.

20 - مستمسک العروة الوثقی، السید محسن الطباطبائی الحکیم (ت 1390)، الناشر: منشورات مکتبة المرعشی النجفی - قم، سنة الطبع 1404 ه -.

21 - معجم مقاییس اللغة، أحمد بن فارس بن زکریا (ت 395)، تحقیق وضبط: عبد السلام محمّد هارون، الناشر: مکتبة الإعلام الإسلامی، سنة الطبع 1404 ه -.

22 - المعجم الوسیط.

23 - مفتاح الکرامة فی شرح قواعد العلّامة، السید محمّد جواد الحسینی العاملی (ت 1226)، تحقیق وتعلیق: الشیخ محمّد باقر الخالصی، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الأولی 1419 ه -.

24 - المفردات فی غریب القرآن، الحسین بن محمّد المعروف بالراغب الإصفهانی (ت 502)، الناشر: دفتر نشر الکتاب، الطبعة الثانیة 1404 ه -.

25 - المنجد فی اللغة.

26 - النهایة فی مجرد الفقه والفتاوی، محمّد بن الحسن الطوسی (ت 460)، الناشر: انتشارات قدس محمّدی - قم.

27 - وسائل الشیعة إلی تحصیل مسائل الشریعة، محمّد بن الحسن الحر العاملی (ت 1104)، تحقیق ونشر: مؤسسة آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث - قم، الطبعة الثانیة 1414 ه -.

ص:158

حکم قتل المرتد وسابّ النبی صلی الله علیه و آله فی القرآن الکریم

اشارة

بقلم: الشیخ رافد التمیمی

مدخل:

إنّ من الأحکام الجزائیة الثابتة فی الإسلام هو حکم قتل المرتد وسابّ النبی صلی الله علیه و آله، فقد جاءت فی ذلک الأدلة العدیدة التی تثبت ذلک الحکم، من روایات - حتّی ادّعی التواتر - وإجماع وسیرة، وغیرها، إلّا أنّ البعض راح یشنّع علی هذا الحکم؛ لعدم انسجامه مع ذوقه وفهمه وإدراکه، ولغایات - ربما شخصیة - أُخری، مستعیناً لذلک بإنکار الأدلة وقلب بعض الحقائق أو عرضها بشکل ناقص.

ومن بین تلک الإشکالات: أنّ هذا الحکم لیس له أصل قرآنی، بل وإنّ الآیات المحکمة فی القرآن الکریم تخالف هذا الحکم، وقد استعرض بعض الآیات الموافقة وناقش فی دلالتها، ثمّ استعرض بعض الآیات المخالفة، وأثبت أنّ الحکم المذکور یخالف تلک الآیات.

وفی الحقیقة أنّ کلام هذا المستشکل ینحل إلی دعویین:

ص:159

الأولی: أنّه لا یوجد أصل قرآنی لحکم قتل المرتد وسابّ النبی صلی الله علیه و آله، ولا توجد آیات توافق هذا الحکم.

الثانیة: أنّ هذا الحکم یخالف مجموعة من الآیات القرآنیة المحکمة.

وبناء علی هذین الدعویین سوف یکون بحثنا علی قسمین:

الأوّل: فی بیان الآیات القرآنیة التی ادّعی أنّها توافق حکم القتل والنقاش المذکور فیها.

الثانی: فی بیان الآیات التی ادّعی أنّها تخالف ذلک الحکم.

مقدّمة منهجیة فی الموافقة والمخالفة للکتاب ومورد تطبیقها:

قبل الدخول فی بیان الآیات القرآنیة لابدّ من ذکر مقدّمة منهجیة لها التأثیر الکبیر علی سیر البحث، وهی: ما المقصود من موافقة الکتاب ومخالفة الکتاب؟

یعتبر البحث عن الموافقة والمخالفة للکتاب العزیز من مهمّات المباحث الأصولیة التی تعددت فیها الآراء وتنوّعت الأقوال، وأساس البحث یعود إلی بعض الروایات التی جاءت عن المعصومین علیهم السلام، بهذا الصدد وهی علی طائفتین:

الطائفة الأولی: ما جاء فی الموافقة والمخالفة بصورة مطلقة، أی: أنّ ما وافق الکتاب هو الحجة، وأمّا ما لم یوافق الکتاب، أو خالفه فهو زخرف

ص:160

ولا یؤخذ به، وهذه الطائفة أیضاً علی نوعین:

النوع الأوّل: ما دلّ علی الإرجاع إلی الکتاب وسنّة الرسول صلی الله علیه و آله القطعیة.

النوع الثانی: ما دلّ علی الإرجاع إلی خصوص الکتاب.

الطائفة الثانیة: ما جاء فی مورد التعارض بین الأخبار، أی: أنّه إذا تعارض الخبران، واستحکم واستقر بینهما التعارض، فإنّه یؤخذ بما وافق القرآن وما لم یکن مخالفاً له، فهذه الروایات لیست مطلقة، وإنّما مختصة بباب التعارض.

وإلیک نماذج من تلک الروایات:

1 - عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد بن خالد، عن أبیه، عن النضر بن سوید، عن یحیی الحلبی، عن أیوب بن الحر، قال:« سمعت أبا عبد الله علیه السلام یقول:

«کلّ شیء مردود إلی الکتاب والسنّة، وکلّ حدیث لا یوافق کتاب الله فهو زخرف»(1)

2 - عن أحمد بن محمّد بن عیسی، عن ابن فضّال، عن علی بن عقبة، عن أیوب بن راشد، عن أبی عبد الله علیه السلام، قال:

«ما لم یوافق من الحدیث

ص:161


1- (1) الوسائل 27:111، ح 33347.

القرآن فهو زخرف»(1) .

3 - قال فی الوسائل:« قال الکلینی فی أوّل الکافی:

اعلم یا أخی! أنّه لا یسع أحد تمییز شیء مما اختلفت الروایة فیه عن العلماء علیهم السلام برأیه إلّا علی ما أطلقه العالم بقوله: اعرضوهما علی کتاب الله عزّ وجل فما وافق کتاب الله عزّ وجل فخذوه، وما خالف کتاب الله فردّوه»(2) .

4- سعید بن هبة الله الراوندی فی (رسالته) التی ألّفها فی أحوال أحادیث أصحابنا وإثبات صحتها، عن محمّد، وعلی ابنی علی بن عبد الصمد، عن أبیهما، عن أبی البرکات علی بن الحسین، عن أبی جعفر ابن بابویه، عن أبیه، عن سعد بن عبد الله عن أیوب بن نوح، عن محمّد ابن أبی عمیر، عن عبد الرحمن بن أبی عبد الله قال:

قال الصادق علیه السلام: إذا ورد علیکم حدیثان مختلفان فاعرضوهما علی کتاب الله، فما وافق کتاب الله فخذوه، وما خالف کتاب الله فردّوه»(3) .

5 - وعنه عن أبیه، عن سعد بن عبد الله، عن یعقوب بن یزید، عن محمّد بن أبی عمیر، عن جمیل بن درّاج، عن أبی عبد الله علیه السلام قال:

ص:162


1- (1) الوسائل 27:110، ح 33345.
2- (2) الوسائل 27:112، ح 33352.
3- (3) الوسائل 27:118، ح 33362.

الوقوف عند الشبهة خیر من الاقتحام فی الهلکة، إنّ علی کلّ حقّ حقیقة، وعلی کلّ صواب نوراً، فما وافق کتاب الله فخذوه، وما خالف کتاب الله فدعوه»(1) .

6 - الحسن بن محمّد الطوسی فی (الأمالی) عن أبیه، عن المفید، عن جعفر بن محمد، عن محمّد بن یعقوب، عن علی بن إبراهیم، عن محمّد بن عیسی، عن یونس، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبی جعفر علیه السلام - فی حدیث - قال:

« انظروا أمرنا وما جاءکم عنّا، فإن وجدتموه للقرآن موافقاً فخذوا به، وإن لم تجدوه موافقاً فردّوه»(2) .

7 - وعن محمّد بن یحیی، عن عبد الله بن محمّد، عن علی بن الحکم، عن أبان بن عثمان، عن عبد الله بن أبی یعفور قال: وحدّثنی الحسین بن أبی العلاء أنّه حضر ابن أبی یعفور فی هذا المجلس قال:

«سألت أبا عبد الله علیه السلام عن اختلاف الحدیث یرویه من نثق به، ومنهم من لا نثق به، قال: إذا ورد علیکم حدیث فوجدتم له شاهداً من کتاب الله أو من قول رسول الله صلی الله علیه و آله، وإلّا فالذی جاءکم به أولی به» . ورواه البرقی فی (المحاسن) عن علی بن الحکم مثله(3).

ص:163


1- (1) الوسائل 27:119، ح 33368.
2- (2) الوسائل 27:120، ح 33370.
3- (3) الوسائل 27:110، ح 33344.

إلی غیر ذلک من الأخبار التی وردت بهذا الصدد.

وقد وقع کلام طویل الذیل فی هذه الأخبار؛ لأنّ هذه مسألة من مهمّات مسائل علم الأصول، والتی لها تأثیر کبیر فی ترجیح بعض الأخبار علی بعض، والأخبار المتعارضة کثیرة، من هنا وقع بحث موسّع فی أسناد هذه الأخبار، وتشخیص المعتبر منها من غیره، کما وقد وقعت أبحاث دلالیة عدیدة فی تحدید المراد من الموافقة والمخالفة، ومعرفة النسبة بین هذه الأخبار وبقیة الأخبار العلاجیة، وأبحاث دقیقة أخری.

ومن الواضح أنّ الأخبار العلاجیة خارجة عن محلّ بحثنا؛ لأنّها ترتبط بحالة التعارض بین الخبرین، ومحلّ بحثنا عن مطلق الموافقة والمخالفة، وهی التی تسمّی بأخبار العرض.

مفاهیم ثلاثة:

وفی مقام البحث عن هذه الأحادیث - أحادیث العرض - تبرز ثلاثة مفاهیم لابدّ من التدقیق فیها، ومعرفة الآراء حولها، لما له دخل فی بحثنا ومبتغانا کما سیتبیّن لاحقاً.

المفهوم الأوّل: أنّ الخبر الموافق للکتاب هو الحجة، أی: أنّ الخبر الذی یصح الاعتماد علیه والعمل به هو الخبر الذی له موافق وعلیه شاهد من کتاب الله. وقد وقع نقاش طویل الذیل فی إثبات هذا المعنی، وفی تفسیره تفسیراً مقبولاً، حیث إنّه لا یمکن قبوله بظاهره؛ لأنّه لو قبلناه کذلک

ص:164

فسوف تسقط الآف الأخبار عن الحجیة أوّلاً، ولاستلزم أن تکون جمیع الأحکام الشرعیة موجودة فی القرآن الکریم بجزئیاتها ثانیاً، وکلا الأمرین واضح البطلان؛ للقطع والیقین بعدم ذلک، الناتج هذا القطع والیقین من الأدلة القطعیة الکثیرة، والتی من أهمها الوجدان.

من هنا اتّجه البحث الأصولی فی التعامل مع هذا المفهوم - وهو مفهوم الموافقة - إلی أحد أمرین:

الأوّل: فی قبول معنی الموافقة، وتوجیه ذلک المعنی.

إنّ مَن قَبِل معنی الموافقة حاول أن یوجّه ذلک المعنی بما لا یخالف الیقین والقطع المتقدّم، بأن یقال: إنّ المقصود بالموافقة هو أن یوجد فی القرآن بعض الإطلاقات والعمومات التی یمکن أن یندرج تحتها معنی ذلک الخبر، ولو بعض الإطلاقات التی تفید الإباحة والتوسعة، وبناء علی ذلک فلا یتوقّف تحقق الموافقة علی وجود جزئیات الأحکام الشرعیة، بل العمومات والإطلاقات تکفی لتحقق الموافقة.

إذن من قَبِل الموافقة فقد قبلها بهذا التوجیه لا بما یخالف القطع والیقین المتقدّم.

الثانی: فی الإشکال علی معنی الموافقة الظاهر من الحدیث.

قد ذکرت بعض الإشکالات علی معنی الموافقة الظاهر من الحدیث، أی: بمعنی أن یکون لکلّ خبر جزئی موافقاً من الکتاب الکریم.

ص:165

منها: أنّ الفائدة من إثبات حجیة خبر الواحد هو إثبات حجیة أحکام أخبار الآحاد التی لا توجد فی القرآن؛ لأنّ التی توجد فی القرآن یکفیها دلیلة وجودها فی القرآن، فإذا قلنا: إنّ الأخبار التی لا توجد فی القرآن لیست بحجة فهذا معناه بطلان حجیة الأخبار مطلقاً، وبما أنّ هذا الخبر بنفسه من أخبار الآحاد، فیلزم منه عدم حجیته، وما یلزم من حجیته عدم حجیته فهو باطل، فهذا المعنی باطل.

قال السید الصدر فی البحوث:« إنّ مفادها عرفاً فی حکم إلغاء حجیة خبر الواحد مع کونها أخبار آحاد، ولا یمکن الاستناد فی إلغاء حجیة خبر الواحد إلی خبر واحد.

أمّا کون مفادها بحکم الإلغاء فباعتبار أنّها وإن دلّت علی عدم حجیة خصوص ما لیس علیه شاهد من الکتاب الکریم، إلّا أنّ ذلک مساوق عرفاً لإلغاء الخبر مطلقاً، فإنّ الغرض العرفی من جعل الحجیة للخبر إثبات ما لا یوجد علیه دلیل مسلّم من کتاب أو سنّة قطعیة به. وأمّا أنّ خبر الواحد لا یستند إلیه فی إلغاء حجیة خبر الواحد؛ فلأنّه یستلزم الخلف کما هو واضح. وهذا الاعتراض صحیح لا دافع له»(1).

إلی غیر ذلک من الإشکالات التی ذکرت فی المقام.

المفهوم الثانی: عدم موافقة الخبر للکتاب، أی: أنّ الخبر الذی لا

ص:166


1- (1) بحوث فی علم الأصول 7:319.

یکون موافقاً للکتاب فهو غیر حجة، ولا یصح الاعتماد علیه، ومن الواضح أنّ عدم الموافقة لا یقصد منه عدم الموافقة حتّی لما لا یوجد فی القرآن الکریم؛ وذلک لنفس السبب المتقدّم بالقطع والیقین، وإنّما المقصود عدم الموافقة لما هو موجود فی القرآن، فالمسألة لیست من باب السالبة بانتفاء الموضوع، وإنّما هی من باب السالبة بانتفاء المحمول، أی: أنّ الخبر الذی لا یوافق ما موجود فی القرآن فهو لیس بحجة، لا أنّ الخبر الذی لا یوافق القرآن بسبب عدم الوجود فی القرآن لیس بحجة، وإلّا لکان فی قوّة الموافقة.

ومعنی لا یوافقه هو عدم الانسجام معه بأیّ وجه کان، وهو أن یکون بینهما تباین، وأمّا لو کان بینهما مثل العموم والخصوص، أو الإطلاق والتقیید، أو الحکومة، أو أیّ واحد من وجوه الجمع العرفی، فإنّها تعتبر وجوهاً للموافقة عرفاً.

قال السید الصدر:« فی تحدید المراد مما لا یوافق الکتاب، فهل یراد منه المخالفة مع الکتاب بأن یکون هنالک تعرّض من الکتاب ولا یوافقه الحدیث، أو یعم ما إذا لم یکن الکتاب متعرّضاً لذلک الموضوع أصلاً، فیکون عدم موافقة الحدیث معه من باب السالبة بانتفاء الموضوع؟

لا ینبغی الإشکال فی أنّ المستظهر عرفاً هو الأوّل؛ لأنّ جملة ما لا یوافق الکتاب وإن کانت قضیة سالبة، وهی منطقیاً أعم من السالبة بانتفاء الموضوع والسالبة بانتفاء المحمول، إلّا أنّ المتفاهم العرفی منها هو السالبة

ص:167

بانتفاء المحمول بأن یکون عدم الموافقة للکتاب مع وجود دلالة کتابیة»(1).

المفهوم الثالث: مخالفة الحدیث للکتاب، فإنّ الحدیث الذی یخالف الکتاب یسقط عن الحجیة، ومن الواضح هنا أنّ المخالفة إنّما تصدق لما هو موجود فی الکتاب.

ثمّ إنّ المخالفة تارة تکون بنحو التباین، وأخری لا، فإن کانت بنحو التباین فهی تفید فی إبطال حجیة ذلک الخبر، وأمّا إن لم تکن کذلک وکان هناک وجهاً للجمع العرفی فلا یضر فی حجیة الخبر؛ لأنّ وجوه الجمع العرفی لا تعتبر مخالفة.

وهذا خلاصة الکلام فی هذه المسألة، وإلّا فهناک أبحاث کثیرة وقعت فی هذا الصدد سواء علی مستوی الدلالة والإشکالات ورفع الإشکالات، أو علی مستوی السند والتوثیقات، ونحن أخذنا بمقدار الحاجة.

أصل الإشکال:

بعد هذه المقدّمة المهمّة فی المقام، نرجع إلی أصل البحث، حیث قلنا: إنّ البحث ینحل إلی دعویین:

الأولی: أنّ لا یوجد أصل قرآنی لقتل المرتد وسابّ النبی صلی الله علیه و آله.

الثانیة: أنّ حکم قتل المرتد وسابّ النبی صلی الله علیه و آله یخالف بعض الآیات

ص:168


1- (1) بحوث فی علم الأصول 7:316.

القرآنیة المحکمة.

الدعوی الأولی: لا یوجد أصل قرآنی لحکم قتل المرتد وسابّ النبی صلی الله علیه و آله .

إنّ الکلام عن وجود أصل قرآنی لحکم قتل المرتد وسابّ النبی صلی الله علیه و آله یمکن أن یطرح علی مستویین:

المستوی الأوّل: وجود آیات قرآنیة تدلّ علی حکم قتل المرتد وسابّ النبی صلی الله علیه و آله.

یبحث فی هذا المستوی عن مقدار دلالة بعض الآیات القرآنیة علی هذا الحکم، أی: هل یمکن أن یثبت حکم قتل المرتد وسابّ النبی صلی الله علیه و آله من القرآن وحده أو لا یمکن ذلک؟

وفی المقام ذکرت عدّة آیات قرآنیة ادّعی الاستدلال بها علی ذلک الحکم، قال الشیخ الطوسی فی باب المرتد:« قال الله تعالی: وَ مَنْ یَکْفُرْ بِالْإِیمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَ هُوَ فِی الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِینَ ، وقال: إِنَّ الَّذِینَ آمَنُوا ثُمَّ کَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ کَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا کُفْراً لَمْ یَکُنِ اللّهُ لِیَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِیَهْدِیَهُمْ سَبِیلاً ، وقال تعالی: وَ مَنْ یَرْتَدِدْ مِنْکُمْ عَنْ دِینِهِ فَیَمُتْ وَ هُوَ کافِرٌ فَأُولئِکَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِی الدُّنْیا وَ الْآخِرَةِ وَ أُولئِکَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِیها خالِدُونَ ، فدلّت هذه الآیات کلّها علی خطر الارتداد. فإذا ثبت أنّها محرمة فمن ارتّد عن الإسلام لم یخل من أحد أمرین: إمّا أن یکون رجلاً أو امرأة، فإن کان رجلاً قتل

ص:169

لإجماع الأمّة، وروی عن النبی صلی الله علیه و آله.. »(1).

إنّ المتأمّل فی ظاهر الآیات المتقدّمة یجد أنّها لا تدلّ علی الحکم المذکور؛ وذلک لأنّ هذه الآیات بصدد بیان عظم الجریمة المرتکبة، وأنّ فاعلها سوف تذهب أعماله هباء منثوراً، وأنّ له فی الآخرة الخسران والعذاب وجهنم وبئس المصیر، وهذا لا یدلّ علی الحکم المتقدّم بوجه.

نعم، إنّ المتأمّل فی کلام الشیخ الطوسی یجد أنّه لا یرید الاستدلال بهذه الآیات، وإنّما ذکرها تمهیداً للحکم، فهو بصدد بیان خطورة الارتداد وبشاعته، ومدی موقف القرآن الرافض له، ثمّ بعد ذلک استدلّ علی حکم المرتد بالإجماع والروایات والأدلة الأخری.

من هنا لا نتوقّف کثیراً فی هذا المستوی، فإنّه لا توجد آیة واضحة الدلالة علی حکم قتل المرتد وسابّ النبی صلی الله علیه و آله، ولکن هذا لا یعنی أنّه لا یوجد ما یوافق ذلک الحکم فی القرآن ویؤیّده، فإنّ الموافقة غیر الدلالة، وهذا ما سیأتی فی المستوی الثانی.

المستوی الثانی: وجود آیات قرآنیة توافق وتؤیّد الحکم المذکور.

إنّ المفهوم من الحکم المذکور أنّ الشخص الذی یرتدّ عن دینه الإسلام فإنّ حکمه هو القتل، وهذا یعنی أنّه لا حرمة لدمه ولا کرامة لشخصه؛ لأنّه ارتکب أمراً عظیماً استحقّ علیه العقاب الدنیوی، وکذا من

ص:170


1- (1) المبسوط 7:281.

سبّ النبی الأعظم صلی الله علیه و آله. فإذا تأمّلنا فی الآیات القرآنیة نجدها تنسجم مع هذه الرؤیة وتوافقها، والیک بعض الآیات القرآنیة:

الأولی: قوله تعالی: وَ مَنْ یَکْفُرْ بِالْإِیمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَ هُوَ فِی الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِینَ 1 .

فهذه الآیة تشیر إلی من یکفر بعد الإیمان بأنّه سوف یحبط عمله، ونتیجته الخسران الأبدی، وهذا یدلّ علی أنّ هکذا شخص لا قیمة له، ولا یستحق الاحترام والتقدیر، وهذا ینسجم ویؤیّد المعنی المتقدّم فی الحکم المذکور. فهذه الآیة وإن کانت لا تدلّ علی نفس الحکم المتقدّم ولکنها تنسجم مع حقیقته، من سلب احترام ذلک الشخص، والإخبار عن عاقبته المذلّة.

الثانیة: قوله تعالی: وَ مَنْ یَرْتَدِدْ مِنْکُمْ عَنْ دِینِهِ فَیَمُتْ وَ هُوَ کافِرٌ فَأُولئِکَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِی الدُّنْیا وَ الْآخِرَةِ وَ أُولئِکَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِیها خالِدُونَ 2 .

دلالة هذه الآیة نفس ما تقدّم فی السابقة حیث تخبر بأنّ هؤلاء المرتدّین لا قیمة لأعمالهم، وأنّها هباء منثوراً، وأنّ عاقبتهم سیّئة ومذلّة، وأنّهم خالدون فی النار وهو أسوء عاقبة وأذلّ مآل.

الثالثة: قوله تعالی: قُلْ یا أَهْلَ الْکِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنّا إِلاّ أَنْ آمَنّا بِاللّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَیْنا وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَ أَنَّ أَکْثَرَکُمْ فاسِقُونَ* قُلْ هَلْ أُنَبِّئُکُمْ بِشَرٍّ مِنْ

ص:171

ذلِکَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللّهُ وَ غَضِبَ عَلَیْهِ وَ جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَ الْخَنازِیرَ وَ عَبَدَ الطّاغُوتَ أُولئِکَ شَرٌّ مَکاناً وَ أَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِیلِ 1 .

فهذا عقاب دنیوی علی الذین غضب الله علیهم وهو عقاب دنیوی أشدّ من القتل، والذین کفروا - وخصوصاً الکفر بعد الإیمان - فإنّ الله قد لعنهم وغضب علیهم فی مواطن عدیدة من القرآن الکریم، قال تعالی: فَلَعْنَةُ اللّهِ عَلَی الْکافِرِینَ 2 ، وقال تعالی: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ یَکْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللّهُ بَغْیاً أَنْ یُنَزِّلَ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلی مَنْ یَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلی غَضَبٍ وَ لِلْکافِرِینَ عَذابٌ مُهِینٌ 3 . فإنّه إذا جمعنا بین الآیات القرآنیة الکریمة نخرج بنتیجة واضحة فی المقام، وهو أنّ الذین لعنهم الله وغضب علیهم قد عاقبهم عقوبة دنیویة شدیدة وهی تحویلهم إلی قردة وخنازیر، ومن الواضح فإنّ المسخ أشدّ من القتل، وبما أنّ المرتد قد کفر بعد الإیمان فهو إذن من الملعونین ومن المغضوب علیهم، فلو کان عقابهم المسخ لکانوا یستحقون ذلک، فالحکم علیهم بالقتل حینئذ أمر طبیعی وینسجم مع الرؤیة القرآنیة لهؤلاء. وهذا الجمع إن لم نقل إنّه دلیل، فلا أقّل من أنّه مؤیّد واضح للحکم المذکور.

إلی غیر ذلک من الآیات القرآنیة التی بهذا الصدد، والتی تثبت أشدّ

ص:172

العقوبات للکافرین ولمن یرتد عن دینه، سواء العقوبات الدنیویة أو الأخرویة، وهذا ینسجم تمام الانسجام والموافقة مع حکم المرتد وقتل سابّ النبی صلی الله علیه و آله.

إذن: فهناک مجموعة من الآیات القرآنیة توافق حکم قتل المرتد وسابّ النبی صلی الله علیه و آله، وبذلک یثبت بطلان ما ادّعی من أنّه لا یوجد أصل قرآنی للحکم المذکور، والمقصود من الأصل - علی الأقل - هوالموافقة.

الدعوی الثانیة: أنّ حکم قتل المرتد وسابّ النبی صلی الله علیه و آله

یخالف بعض الآیات القرآنیة

أُدّعی فی المقام أنّ هناک مجموعة من الآیات القرآنیة تخالف الحکم المذکور، وقد قسّمها صاحب الإشکال إلی قسمین: ما یرتبط بحکم سابّ النبی صلی الله علیه و آله، وما یرتبط بالمرتد، وسوف نستعرض الآیات التی استدلّ بها فی المقام، ثمّ نجیب عنها واحدة واحدة.

الآیات المرتبطة بحکم سابّ النبی صلی الله علیه و آله:

قد قسّم المستشکل الآیات التی تخالف حکم سابّ النبی صلی الله علیه و آله إلی طائفتین:

الطائفة الأولی: الآیات التی تعرّضت لمسألة إیذاء النبی صلی الله علیه و آله.

الآیة الأولی: قوله تعالی: یَا أَیُّهَا النَّبِیُّ إِنّا أَرْسَلْناکَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً

ص:173

وَ نَذِیراً*وَ داعِیاً إِلَی اللّهِ بِإِذْنِهِ وَ سِراجاً مُنِیراً*وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِینَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللّهِ فَضْلاً کَبِیراً*وَ لا تُطِعِ الْکافِرِینَ وَ الْمُنافِقِینَ وَ دَعْ أَذاهُمْ وَ تَوَکَّلْ عَلَی اللّهِ وَ کَفی بِاللّهِ وَکِیلاً (1).

وجه الاستدلال:

قد قیل فی وجه الاستدلال بهذه الآیة: إنّ الآیة تأمر الرسول بترک أذیّة الکفّار له، أی: لا یتوجّه لها، ولا یتّخذ موقفاً منها، وکأنّها لم تکن، وذلک من خلال التوکّل علی الله تعالی، ومن أبرز مصادیق الأذیّة هو السبّ، وهذا یدلّ علی أنّه لا یوجد حکم جزائی لمن یسبّ النبی؛ لأنّه إذا کان النبی مکلّفاً بترک أذاهم له فمن باب أولی أنّ غیره مکلّف بذلک، فإذا حکمنا بقتل سابّ النبی فإنّه حکم یخالف القرآن، وما خالف القرآن فهو باطل.

الردّ علی الاستدلال:

یمکن المناقشة فی الاستدلال المتقدّم بأمور:

الأمر الأوّل: قد تقدّم الکلام فی صدر البحث عن معنی المخالفة التی یسقط بموجبها الخبر عن الحجیة، حیث قلنا هناک: إنّ المخالفة التی تکون بنحو المباینة هی التی تسقط الخبر عن الحجیة، وأمّا إذا کانت المخالفة من النوع التی یجمع بین المتخالفین فیها بأحد وجوه الجمع العرفی فلا تکون ضارة؛ لأنّ العرف لا یری مخالفة حقیقیة فی البین، وهذا من الأمور التی

ص:174


1- (1) سورة الأحزاب: 45 -- 48.

اتّفق علیها العلماء وأصحاب الفن، لذلک نجد عشرات العمومات القرآنیة والإطلاقات القرآنیة قد خُصّصت وقُیّدت، وهو أمر شائع جدّاً، ولا یرتاب فیه متعلّم فضلاً عن عالم. وفی المقام فإنّ بین حکم سابّ النبی وبین أذیّته هی نسبة العام والخاص، فإنّ الأذیّة أمر عام مطلق، وأمّا السبّ فهو أمر خاص؛ لأنّه نوع أذیّة خاصّة، ومن هنا فلا توجد أیّ مخالفة بین الأمرین، فیبطل الاستدلال المتقدّم.

الأمر الثانی: أنّ هذه الآیات نزلت فی مکة، أی: قبل الهجرة النبویة(1) ، وهذا یعنی أنّها نزلت فی بدایات البعثة، وإذا کان الأمر کذلک فیرد الإشکال علی الاستدلال المتقدّم من جهتین:

الأولی: أنّ هذه الآیات تتحدّث عن زمان وجود الرسول فی مکة وفی وسط المشرکین، أی: عندما کان المسلمون ضعفاء، ویعذّبون ویقتلون من قبل المشرکین، فلم یکن لهم حول ولا قوّة، وفی هذه الفترة کان المشرکون یؤذون النبی کثیراً، فجاءت هذه الآیات تسلیة للرسول صلی الله علیه و آله، وتقوی عزیمته وتوکّله، وتخبره بأن لا یتوجّه إلی أذیّة المشرکین له ویترکها خلفه ویمضی فی عمله وتبلیغ دعوته، وهذا المعنی هو الظاهر من الآیة المبارکة، وأین هذا المعنی من المعنی الذی استدلّ به المنکر لحکم قتل المرتد وسابّ النبی؟!

ص:175


1- (1) انظر: تفسیر القمی 2:194.

الثانیة: بما أنّ هذه الآیات نزلت فی بدایات البعثة فهذا یعنی أنّ هناک جملة کبیرة من الأحکام لم تتنزّل بعد، وکم من أمر عام قد خصّ أو نسخ فیما بعد.

الأمر الثالث: أنّ المعنی الظاهر من الآیة لا یمسّ الاستدلال المتقدّم أصلاً؛ وذلک لأنّ الآیة بصدد تقویة عزیمة الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله، وناظرة إلی حالته المعنویة، فإنّ الله تعالی یقول لعبده محمّد صلی الله علیه و آله: لا علیک بأذیّة الکفّار واترکها وراء ظهرک، کلّ ذلک بالاستعانة وبالتوکّل علی الله، فالآیة ناظرة إلی الرسول صلی الله علیه و آله ولیست ناظرة إلی حکم المشرکین أصلاً. وهناک ردود أخری یمکن أن تذکر فی المقام أعرضنا عنها مخافة الإطالة.

والنتیجة: أنّ الآیة المبارکة بعیدة کلّ البعد عن حکم قتل المرتد وسابّ النبی صلی الله علیه و آله.

الآیة الثانیة: قوله تعالی: لَتُبْلَوُنَّ فِی أَمْوالِکُمْ وَ أَنْفُسِکُمْ وَ لَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِینَ أُوتُوا الْکِتابَ مِنْ قَبْلِکُمْ وَ مِنَ الَّذِینَ أَشْرَکُوا أَذیً کَثِیراً وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِکَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ1 .

وجه الاستدلال:

إنّ الآیة المبارکة تعرّضت إلی إیذاء المشرکین وأهل الکتاب

ص:176

للمؤمنین، فقالت: إنّکم سوف تسمعون أذیّة کثیرة، وقد أمرتهم بالصبر والاستقامة، وأنّ ذلک من عزم الأمور، ومن الواضح فإنّ سبّ النبی صلی الله علیه و آله من مصادیق تلک الأذیّة اللسانیة، وعلیه فالجواب الشرعی لتلک الأذیّة هو الصبر والاستقامة، ولا یجوز التخطّی عن هذا الحکم الإلهی، فلا یجوز لهم الردّ بالمثل فضلاً عن الأشد، وبما أنّ حکم القتل یخالف الصبر، ویعتبر ردّاً أشدّاً، فهو یخالف هذه الآیة المبارکة، وما خالف القرآن فهو باطل وزخرف.

الردّ علی الاستدلال:

إنّ الاستدلال المتقدّم بدرجة من الضعف والرکّة بحیث لا یستحقّ الرد، ولکن مع ذلک سوف نذکر بعض الردود فی المقام:

الأوّل: ما تقدّم فی الردّ الأوّل علی الاستدلال المتقدّم فی الآیة السابقة، حیث إنّ هذه الآیة عامّة وسبّ النبی أمر خاص، فوجوه الجمع العرفی ظاهرة هنا.

الثانی: أنّ الآیة تتکلّم عن أذیّة المشرکین وأهل الکتاب للمؤمنین، وتأمر المؤمنین بالصبر والتحمّل وعدم الجزع والتضجّر، فهی تتکلّم عن المؤمنین، ولا علاقة لها بحکم هؤلاء المؤذین، فهی لیست فی مقام البیان من هذه الجهة أصلاً.

الثالث: أنّ الآیة المبارکة تشیر إلی إخبار وتشجیع، ولا علاقة لها بالحکم الشرعی الفرعی.

ص:177

الرابع: من قال إنّ قتلهم أشد من فعلهم الذی هو السب؟!

والنتیجة: أنّ الآیة المبارکة بعیدة کلّ البعد عن الاستدلال المتقدّم.

الآیة الثالثة: قوله تعالی: إِنَّ الَّذِینَ یُؤْذُونَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللّهُ فِی الدُّنْیا وَ الْآخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِیناً1 .

وجه الاستدلال:

إنّ الآیة القرآنیة تعرّضت لمن یؤذی الله تعالی والرسول صلی الله علیه و آله، وبیّنت أنّهم ملعونون فی الدنیا والآخرة، وأنّ لهم عذاباً مهیناً، ولم تتعرّض الآیة لحکم القتل، وهذا معناه أنّها لا تریده؛ لأنّ مفاد الإطلاق أنّ ما لا یقوله لا یریده، وبما أنّ السبّ من مصادیق الأذیّة، إذن فحکمه هو مجرد اللعن، ولا توجد عقوبة دنیویة له، فالحکم بالقتل یخالف هذه الآیة.

الردّ علی الاستدلال:

أقول: والاستدلال المتقدّم کما تری فی الوهن والضعف:

فأوّلاً: أنّ الآیة لیست فی مقام البیان من جهة الحکم الشرعی، فالتمسّک بالإطلاق باطل جدّاً؛ لأنّه فرع البیان.

وثانیاً: لو تنزّلنا وقبلنا الإطلاق فوجوه الجمع ظاهرة فی المقام أیضاً.

وثالثاً: نسأل هذا السؤال: وهو هل أنّ هذه الآیة وشدّتها ووعیدها

ص:178

تنسجم مع قتل هؤلاء الذین یؤذون الله والرسول، أو أنّها تنسجم مع مسامحتهم والسکوت عنهم؟

وهناک آیات أخری استدلّ بها فی المقام:

منها: قوله تعالی: وَ مِنْهُمُ الَّذِینَ یُؤْذُونَ النَّبِیَّ وَ یَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَیْرٍ لَکُمْ یُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ یُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِینَ وَ رَحْمَةٌ لِلَّذِینَ آمَنُوا مِنْکُمْ وَ الَّذِینَ یُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِیمٌ 1 .

ومنها: قوله تعالی: وَ مِنْهُمْ مَنْ یَقُولُ ائْذَنْ لِی وَ لا تَفْتِنِّی أَلا فِی الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِیطَةٌ بِالْکافِرِینَ 2 .

وقد أعرضنا عن بیان وجه الاستدلال بهذه الآیات والردّ علیها لهزالة وسذاجة الاستدلال بها فی المقام کما فی سابقاتها، فلا نطیل الکلام فی الردّ علی مثل هذه الدعاوی التی تفتقر إلی الدلیل، کما وأنّ هناک ردوداً أخری کانت قابلة لأن تطرح فی المقام أعرضنا عنها للسبب المتقدّم، ولو أنّ هذا المستشکل أتعب نفسه فی تعلّم المقدّمات من دروس الحوزة لکان أفضل له من تسوید هذه الصفحات.

الطائفة الثانیة: الآیات التی تعرّضت لخلق النبی صلی الله علیه و آله.

إنّ هناک مجموعة من الآیات القرآنیة التی تعرّضت لبیان خلق الرسول

ص:179

العظیم صلی الله علیه و آله، وهی تخالف حکم قتل سابّ النبی صلی الله علیه و آله، من تلک الآیات:

الأولی: قوله تعالی: وَ إِنَّکَ لَعَلی خُلُقٍ عَظِیمٍ 1 .

الثانیة: قوله تعالی: وَ ما أَرْسَلْناکَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِینَ 2 .

الثالثة: قوله تعالی: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَ لَوْ کُنْتَ فَظًّا غَلِیظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِکَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شاوِرْهُمْ فِی الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَکَّلْ عَلَی اللّهِ إِنَّ اللّهَ یُحِبُّ الْمُتَوَکِّلِینَ 3 .

الرابعة: قوله تعالی: لَقَدْ جاءَکُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِکُمْ عَزِیزٌ عَلَیْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِیصٌ عَلَیْکُمْ بِالْمُؤْمِنِینَ رَؤُفٌ رَحِیمٌ 4 .

وجه الاستدلال:

إنّ الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله صاحب خلق عظیم، وأنّه جاء لیتمّم مکارم الأخلاق، وقد بعثه الله تعالی رحمة للعالمین، یحمل همومهم، ویستغفر لهم، ویعفو عن مذنبهم، ویتجاوز عن مسیئهم، وإلّا فلو کان خلق الرسول صلی الله علیه و آله غیر ذلک لانفضّ الناس من حوله، ولا أمکنه أن یؤلّف قلوب الناس علی

ص:180

الإسلام، ولما أمکنه أن ینشر الإسلام بهذا الشکل، فالرسول الأعظم صلی الله علیه و آله یحبّ الناس ویعشقهم.

إذن فالرسول صاحب خلق عظیم، وهو رحمة للعالمین، وهو صاحب قلب عطوف ورحیم، وهو صاحب عفو وتسامح.

فإذا کان الرسول بهذه الصفات فإنّه لا ینسجم مع الحکم بقتل سابّه صلی الله علیه و آله؛ لأنّ حکم القتل هذا خلاف أخلاق وحقیقة الرسول الوجودیة، بل هو أمر ینسجم مع الحکّام الظلمة الذین یقتلون من یتعرّض لهم، إذن فالحکم المتقدّم یخالف هذه الآیات، فهو باطل وزخرف.

الردّ علی الاستدلال:

یمکن الردّ علی هذا الاستدلال الهزیل جدّاً بعدّة أمور، نذکر منها:

أوّلاً: إذا کانت أخلاق الرسول صلی الله علیه و آله تمنع من مثل هذه الأحکام، فنقول: کیف سمحت الأخلاق الإلهیة بمثل هذه الأحکام، مع أنّ رحمة الله لا تقاس برحمة أحد من خلقه، إلّا أن یدّعی هذا المستشکل خلاف ذلک - ولیس ببعید عنه - فإنّ الله تعالی یأمر فی کتابه وفی آیات عدیدة بالقتل والقتال، قال تعالی: اَلَّذِینَ آمَنُوا یُقاتِلُونَ فِی سَبِیلِ اللّهِ وَ الَّذِینَ کَفَرُوا یُقاتِلُونَ فِی سَبِیلِ الطّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِیاءَ الشَّیْطانِ إِنَّ کَیْدَ الشَّیْطانِ کانَ ضَعِیفاً1 ،

ص:181

وقال تعالی: وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِباطِ الْخَیْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّهِ وَ عَدُوَّکُمْ وَ آخَرِینَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ یَعْلَمُهُمْ وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ شَیْ ءٍ فِی سَبِیلِ اللّهِ یُوَفَّ إِلَیْکُمْ وَ أَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ 1 ، وقال تعالی: إِنَّ اللّهَ اشْتَری مِنَ الْمُؤْمِنِینَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ یُقاتِلُونَ فِی سَبِیلِ اللّهِ فَیَقْتُلُونَ وَ یُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَیْهِ حَقًّا فِی التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِیلِ وَ الْقُرْآنِ وَ مَنْ أَوْفی بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَیْعِکُمُ الَّذِی بایَعْتُمْ بِهِ وَ ذلِکَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِیمُ 2 . إلی غیر ذلک من الآیات القرآنیة التی أشارت إلی الأمر بالقتل والقتال، فلو کان کلّ قتل خلاف الأخلاق والرحمة لما أمر الله تعالی به.

ثانیاً: لو کانت الآیات التی ذکرها تخالف حکم القتل للزم أن یکون هناک تناقضاً بین تلک الآیات والآیات الآمرة بالقتل والقتال.

ثالثاً: أنّ هناک آیات قرآنیة أمرت الرسول صلی الله علیه و آله بقتل المشرکین أشدّ القتل، قال تعالی: فَإِمّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِی الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ یَذَّکَّرُونَ 3 . فالآیة المبارکة تأمر الرسول بأن یقتل الکفّار بطریقة بحیث من یراها یهرب من المعرکة.

وهنا نقول: إن کان مطلق القتل یخالف الرحمة وأخلاق الرسول صلی الله علیه و آله،

ص:182

إذن فهذه الآیات تخالف تلک الآیات ویکون القرآن متناقضاً، وإن کان هناک نوع من القتل هو الذی یستلزم المخالفة مع الرحمة والأخلاق ونوع لیس کذلک، فلیکن حکم قتل الساب مما لیس کذلک، وبالحقیقة نرجع إلی الدلیل، فإن کان هناک دلیل فلا مخالفة، وإن لم یکن فالمخالفة موجودة، لا أنّ نفس المخالفة تبطل الدلیل، فاستدلال المستدل دوری، وهو باطل.

رابعاً: أنّ الحکمة هی وضع الشیء فی موضعه، فإعمال الرحمة فی غیر موضع الرحمة خلاف الحکمة والأخلاق، والمدّعی: أنّ سابّ النبی صلی الله علیه و آله لا یستحقها بالأدلة العدیدة علی ذلک من خلال الروایات والإجماع وغیرهما من الأدلة، فالاستدلال بأنّ هذا الحکم یخالف الأخلاق لا دلیل علیه، ویعتبر استدلالاً دوریاً أیضاً.

خامساً: أنّ هناک آیات عدیدة أمرت بالقتل والقصاص والجلد والقطع ومختلف الحدود، وقد تواتر النقل عند عامّة المسلمین بأنّ الرسول صلی الله علیه و آله قد نفّذ تلک الأحکام، فهل أنّها تخالف خلق الرسول وکونه رحمة للعالمین؟!

وهناک وجوه کثیرة لردّ الاستدلال المتقدّم، إلّا أنّه استدلال لا یستحق کلّ تلک الردود، وخصوصاً أنّ الکلام الضعیف تتکثر الردود علیه.

الآیات المرتبطة بحکم المرتد:

قد قسّمت الآیات المرتبطة بهذا الشأن إلی أربع طوائف:

الطائفة الأولی: ما یرتبط بنفی الإکراه فی الدین.

ص:183

الآیة الأولی: قال تعالی: لا إِکْراهَ فِی الدِّینِ قَدْ تَبَیَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَیِّ فَمَنْ یَکْفُرْ بِالطّاغُوتِ وَ یُؤْمِنْ بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَکَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقی لاَ انْفِصامَ لَها وَ اللّهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ 1 .

وجه الاستدلال:

إنّ الآیة المبارکة تحتمل النفی والنهی، فالنفی یعنی أنّ الله تعالی ینفی أن یکون أمر الدین بالإکراه، والنهی عن إجبار أحد لکی یدخل فی الدین، ونفی الإجبار فی أمر الدین یعنی أنّ کلّ شخص له الحریة فی هذا المجال، وهذا لازمه الحریة فی أمرین: فی أمر الدخول فی الدین، وفی أمر الخروج عنه، فإذا خیّر الشخص بین دین خاص وبین القتل، فهذا إکراه وإجبار علی الدین الخاص، وهو مخالف للآیة المبارکة التی نهت عن ذلک، إذن فالحکم المذکور یخالف القرآن الکریم، فهو باطل وزخرف.

الآیة الثانیة: قوله تعالی: وَ لَوْ شاءَ رَبُّکَ لَآمَنَ مَنْ فِی الْأَرْضِ کُلُّهُمْ جَمِیعاً أَ فَأَنْتَ تُکْرِهُ النّاسَ حَتّی یَکُونُوا مُؤْمِنِینَ 2 .

وجه الاستدلال:

إنّ الله تعالی کان بإمکانه إجبار الناس علی الإیمان إلّا أنّه لا یرید

ص:184

ذلک، وإنّما یرید الإیمان عن اختیار وبدون إکراه وإجبار، وإلّا لکان أمر الدین عبثیاً، کما أنّ الثواب والعقاب والجنّة والنار سوف تکون عبثیة. من هنا استفهم علی نبیّه صلی الله علیه و آله بالاستفهام الإنکاری بأن أنت ترید أن تجبر الناس علی الإیمان؟!

ومن الواضح أنّ إجبار الناس للبقاء علی الإیمان هو إکراه منفی بالآیة المبارکة أیضاً؛ لأنّها تشمل النهی عن الإکراه للدخول فی الدین، کما وتشمل النهی عن الإکراه فی عدم الخروج عن الدین، وحکم قتل المرتد إکراه علی عدم الخروج، فهو ینافی الآیة المذکورة، فهو باطل وزخرف.

الآیة الثالثة: قوله تعالی: فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِینَ کَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراکَ إِلاّ بَشَراً مِثْلَنا وَ ما نَراکَ اتَّبَعَکَ إِلاَّ الَّذِینَ هُمْ أَراذِلُنا بادِیَ الرَّأْیِ وَ ما نَری لَکُمْ عَلَیْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّکُمْ کاذِبِینَ*قالَ یا قَوْمِ أَ رَأَیْتُمْ إِنْ کُنْتُ عَلی بَیِّنَةٍ مِنْ رَبِّی وَ آتانِی رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّیَتْ عَلَیْکُمْ أَ نُلْزِمُکُمُوها وَ أَنْتُمْ لَها کارِهُونَ 1 .

وجه الاستدلال:

إنّ النبی نوح علیه السلام فی محاججته مع قومه یقول لهم: أنا لا أستطیع أن ألزمکم الحقّ وأنتم له کارهون، بل لابدّ أن یکون الإیمان عن رضا وقبول وقناعة، والنتیجة أنّه إذا کان النبی لا یحقّ له الإجبار علی ذلک فمن باب

ص:185

أولی أنّه لا یحقّ لغیره الإجبار علی الدین، وحکم قتل المرتد إجبار علی البقاء فی الدین، فهو خلاف الآیة المذکورة.

النتیجة:

إنّ الطائفة الأولی تنهی عن الإکراه فی الدین، وحکم قتل المرتد إکراه فی الدین، فهو یخالف القرآن الکریم، فهو زخرف وباطل.

الردّ علی الاستدلال المتقدّم:

یمکن الردّ علی ما تقدّم من استدلال بأمور:

الأمر الأوّل: أنّ جمیع الآیات المتقدّمة إنّما هی ناظرة إلی حالة الدخول فی الدین، أی: لا یوجد إجبار علی اعتناق دین معیّن، والسبب فی ذلک هو وضوح الرشد من الغی، فمادام هذا الوضوح موجوداً فلا داعی أصلاً للإکراه علی الدین، هذا بالإضافة إلی أنّ الإجبار علی الدخول فی الدین لا فائدة منه، فهدف الآیة بیان أنّ الدین الذی یبتنی علی الإکراه لا فائدة منه، وأمّا حکم قتل المرتد بالشرائط المذکورة فی محلّها فهو عقاب علی الخروج من الدین، والفرق بین الدخول والخروج کبیر.

الأمر الثانی: لو سلّمنا وجود إطلاق فی الآیة یشمل الدخول والخروج فی الدین، فإنّه یمکن تخصیص ذلک وإخراج الخروج عن الدین عن مفاد الآیة ببرکة أدلة حکم قتل المرتد، وهذا لیس من مخالفة القرآن فی شیء، فهو وجه عرفی عقلائی، فلا تنافی بین الأمرین.

ص:186

الأمر الثالث: أنّ الآیة بصدد بیان أنّه إذا کان هناک طریق هدایة وطریق غوایة فلا إکراه علی أحدهما، فکلّ شخص مخیّر فی انتخاب ما یرید، وأمّا بعد أن یحصل الانتخاب فالآیة ساکتة عن ذلک، فیمکن أن یکون أیّ حکم فی المقام، فلا تنافی أیضاً.

الأمر الرابع: أنّ الإنسان مختار فی انتخابه وأفعاله الاعتقادیة ما لم یؤدّ إلی الفتنة، فإنّ معها لا یترک ذلک الشخص واختیاراته، بل یجبر علی أمور تمنع من الفتنة، قال تعالی: وَ قاتِلُوهُمْ حَتّی لا تَکُونَ فِتْنَةٌ وَ یَکُونَ الدِّینُ لِلّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاّ عَلَی الظّالِمِینَ 1 ، ومن الواضح أنّ الدخول فی الدین ثمّ الخروج منه من أعظم الفتن التی تروّج للشک فی الدین، وتزلزل عقائد الناس، وتمنع من دخول الغیر فیه.

فإن قلت: بناء علی الجواب المتقدّم أنّه إذا لم تکن هناک فتنة من الخروج فی الدین فلا یقتل المرتد؟

قلت: إنّ المدّعی أنّ الدخول الصحیح فی الدین والرسمی والعلنی یوجب أن یکون الخروج منه کذلک فتنة دائماً.

فإن قیل: إنّ هناک موارد لا تنطبق علیها تلک العناوین؟

قلت: الانطباق وعدم الانطباق بحث آخر لا علاقة له ببحث ثبوت

ص:187

أصل الأحکام الشرعیة.

الأمر الخامس: أنّ شأن نزول الآیات یخالف الاستدلال المتقدّم، فأمّا الآیة الأولی فقد قیل فی شأن نزولها أحد أمرین: الأوّل:« عن ابن عباس فی قوله تعالی: لا إِکْراهَ فِی الدِّینِ قال: کانت المرأة من الأنصار لا یکاد یعیش لها ولد، فتحلف لئن عاش لها ولد لتهودنّه، فلمّا أجلیت بنو النضیر إذا فیهم أناس من الأنصار، فقالت الأنصار: یا رسول الله أبناؤنا، فأنزل الله تعالی: لا إِکْراهَ فِی الدِّینِ ، قال سعید بن جبیر: فمن شاء لحق بهم، ومن شاء دخل فی الإسلام»(1).

الثانی: عن مجاهد:«لا إِکْراهَ فِی الدِّینِ قال: کان ناس من الأنصار مسترضعین فی بنی قریظة، فأرادوا أن یکرهوهم علی الإسلام، ف نزلت: لا إِکْراهَ فِی الدِّینِ قَدْ تَبَیَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَیِّ »(2).

ومن الواضح فإنّ شأن النزول بعید عن وجه الاستدلال المتقدّم.

فإن قلت: إنّ المورد لا یخصص الوارد، و الآیة مطلقة فتشمل موردنا.

قلت: نعم، هذا الوجه لا یصلح بمفرده للجواب، ولکنه یصلح کمؤیّد قوی لما ذکرناه فی الأوجه المتقدّمة، خصوصاً الأوّل والثانی.

ص:188


1- (1) أسباب نزول الآیات: 52، وأنظر المیزان 2:351.
2- (2) جامع البیان 3:23، واُنظر المیزان 2:351.

الطائفة الثانیة: ما یرتبط بحریة اختیار الهدایة أو الضلالة فی الدنیا.

الآیة الأولی: قال تعالی: وَ قُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّکُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْیُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْیَکْفُرْ إِنّا أَعْتَدْنا لِلظّالِمِینَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَ إِنْ یَسْتَغِیثُوا یُغاثُوا بِماءٍ کَالْمُهْلِ یَشْوِی الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَ ساءَتْ مُرْتَفَقاً1 .

وجه الاستدلال:

إنّ الله تعالی ترک الاختیار للناس فی شأن الإیمان والکفر، فمن شاء أن یؤمن بالدین الحقّ ومن شاء أن یکفر، وقد تعرّضت الآیة القرآنیة لمجرد العقوبة الأخرویة، ولم تتطرّق إلی العقوبة الدنیویة، وهذا یعنی أنّ الإنسان حر فی اختیار معتقده، ولا عقوبة دنیویة له، وبناء علی ذلک فالحکم مورد البحث سوف یخالف القرآن الکریم؛ لأنّه عقوبة دنیویة لا یریدها القرآن الکریم.

وهناک آیات أخری ذکرت فی المقام بنفس وجه الاستدلال المتقدّم:

منها: قوله تعالی: قُلْ یا أَیُّهَا النّاسُ قَدْ جاءَکُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّکُمْ فَمَنِ اهْتَدی فَإِنَّما یَهْتَدِی لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما یَضِلُّ عَلَیْها وَ ما أَنَا عَلَیْکُمْ بِوَکِیلٍ 2 .

ص:189

ومنها: قوله تعالی: إِنّا أَنْزَلْنا عَلَیْکَ الْکِتابَ لِلنّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدی فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما یَضِلُّ عَلَیْها وَ ما أَنْتَ عَلَیْهِمْ بِوَکِیلٍ 1 .

ومنها: قوله تعالی: إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِی حَرَّمَها وَ لَهُ کُلُّ شَیْ ءٍ وَ أُمِرْتُ أَنْ أَکُونَ مِنَ الْمُسْلِمِینَ* وَ أَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدی فَإِنَّما یَهْتَدِی لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِینَ 2 .

فهذه الآیات تدلّ علی حریة المعتقد، وأنّه لا إکراه فی ذلک، وأنّ کلّ إنسان مخیّر بین طریق الهدایة والغوایة، ولیس علیه عقوبة إلّا العقوبة الأخرویة.

الردّ علی الاستدلال:

یمکن الردّ علی الاستدلال المتقدّم بأمور، منها:

أوّلاً: أنّ الآیات المبارکة لیست بصدد بیان الحکم الشرعی، وإنّما هی بصدد بیان أنّ الإنسان مختار، وأنّ عاقبة اختیاره إمّا الجنّة وإمّا النار، فهذه الآیات فی حقیقتها تصلح للردّ علی من یدّعی الجبر وسلب الاختیار، فجاءت الآیات تبیّن حقیقة الأمر، وأنّ الإنسان هو المسؤول الوحید عن أفعاله، فلا یحمّل غیره أخطاءه، ولا یتحمّل هو أخطاء الغیر، وأین هذا

ص:190

المعنی عمّا نحن فیه؟!

فلا یصح التمسّک بالإطلاق أصلاً.

وثانیاً: لو سلّم ذلک فإنّه مقیّد بالأدلة الدالة علی حکم القتل.

وثالثاً: أنّ التعرّض للعقوبة الأخرویة فقط، لا یعنی أنّه لا توجد عقوبة دنیویة، فلا ترابط ولا ملازمة بین الأمرین، وإلاّ لو کان الأمر کما یدّعی للزم أن یکون هناک تناقض فی القرآن؛ وذلک لأنّ الله تعالی یقول: وَ مَنْ یَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِیها وَ غَضِبَ اللّهُ عَلَیْهِ وَ لَعَنَهُ وَ أَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِیماً1 ، فهل یعنی هذا أنّ القاتل العمدی لا عقوبة دنیویة له؛ لأنّ الآیة لم تشر إلی ذلک؟! فلو کان الجواب بالإیجاب وأنّه لا عقوبة دنیویة له فهذا خلاف قوله تعالی: وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِی حَرَّمَ اللّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِیِّهِ سُلْطاناً فَلا یُسْرِفْ فِی الْقَتْلِ إِنَّهُ کانَ مَنْصُوراً2 . وإن کان یوجد تخصیص فی المقام فلماذا أغفله المستدل عن الآیات السابقة؟! وقد تقدّم فیما مضی أنّ القرآن بیّن بعض العقوبات الدنیویة للکفرة والمرتدین، والتی هی أشدّ من القتل.

وهناک وجوه أخری تصلح للردّ علی الاستدلال المتقدّم، أعرضنا عنها

ص:191

للکفایة فیما ذکرناه من الردود، ولهزالة أصل الاستدلال المتقدّم.

الطائفة الثالثة:

أنّ وظیفة الرسول البیان والإبلاغ لا الإجبار.

قال تعالی: فَذَکِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَکِّرٌ* لَسْتَ عَلَیْهِمْ بِمُصَیْطِرٍ .(1)

وقال تعالی: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما یَقُولُونَ وَ ما أَنْتَ عَلَیْهِمْ بِجَبّارٍ فَذَکِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ یَخافُ وَعِیدِ .(2)

وقال تعالی: وَ ما أَرْسَلْناکَ إِلاّ مُبَشِّراً وَ نَذِیراً*قُلْ ما أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاّ مَنْ شاءَ أَنْ یَتَّخِذَ إِلی رَبِّهِ سَبِیلاً .(3)

إلی غیر ذلک من الآیات التی ذکرت فی المقام، ووجه الاستدلال فیها لا یختلف کثیراً عن الاستدلال بالآیات السابقة، فالطریقة نفس الطریقة، والنتیجة نفس النتیجة.

وأمّا الردّ علیها فهو یتّضح أیضاً من الردود علی الطوائف السابقة، حیث إنّ الاستدلال نفس الاستدلال، بل وأوهن منه فی بعض الآیات.

الطائفة الرابعة: لا توجد مجازاة دنیویة للمرتد.

قال تعالی: یَسْئَلُونَکَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِیهِ قُلْ قِتالٌ فِیهِ کَبِیرٌ وَ صَدٌّ

ص:192


1- (1) سورة الغاشیة: 21--22.
2- (2) سورة ق: 45.
3- (3) سورة الفرقان: 56--57.

عَنْ سَبِیلِ اللّهِ وَ کُفْرٌ بِهِ وَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ إِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَکْبَرُ عِنْدَ اللّهِ وَ الْفِتْنَةُ أَکْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَ لا یَزالُونَ یُقاتِلُونَکُمْ حَتّی یَرُدُّوکُمْ عَنْ دِینِکُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَ مَنْ یَرْتَدِدْ مِنْکُمْ عَنْ دِینِهِ فَیَمُتْ وَ هُوَ کافِرٌ فَأُولئِکَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِی الدُّنْیا وَ الْآخِرَةِ وَ أُولئِکَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِیها خالِدُونَ 1 .

وقال تعالی: وَ مَنْ یَبْتَغِ غَیْرَ الْإِسْلامِ دِیناً فَلَنْ یُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِی الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِینَ*کَیْفَ یَهْدِی اللّهُ قَوْماً کَفَرُوا بَعْدَ إِیمانِهِمْ وَ شَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَ جاءَهُمُ الْبَیِّناتُ وَ اللّهُ لا یَهْدِی الْقَوْمَ الظّالِمِینَ*أُولئِکَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَیْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ وَ الْمَلائِکَةِ وَ النّاسِ أَجْمَعِینَ*خالِدِینَ فِیها لا یُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَ لا هُمْ یُنْظَرُونَ*إِلاَّ الَّذِینَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِکَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِیمٌ*إِنَّ الَّذِینَ کَفَرُوا بَعْدَ إِیمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا کُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَ أُولئِکَ هُمُ الضّالُّونَ*إِنَّ الَّذِینَ کَفَرُوا وَ ماتُوا وَ هُمْ کُفّارٌ فَلَنْ یُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْ ءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَ لَوِ افْتَدی بِهِ أُولئِکَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِیمٌ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِینَ 2 .

وقوله تعالی: إِنَّ الَّذِینَ آمَنُوا ثُمَّ کَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ کَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا کُفْراً لَمْ یَکُنِ اللّهُ لِیَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِیَهْدِیَهُمْ سَبِیلاً3 .

ص:193

إلی غیر ذلک من الآیات التی استدلّ بها علی عدم وجود مجازاة دنیویة للمرتد.

وأمّا وجه الاستدلال فهو واضح من خلال ما تقدّم من طریقة استدلال المستدلّ، فالاستدلال هنا لا یختلف عمّا تقدّم.

وأمّا الجواب عنه فیظهر جلیاً مما تقدّم، بل هو هنا أوضح لأمور ظاهرة من الآیات المبارکة.

وخلاصة الجواب عن جمیع الآیات: أنّ المستدلّ إمّا لا یعرف طرق الاستدلال الفقهی وإمّا یتغافل عنها وإمّا أنّه لا یفهم الآیات بالشکل المستقیم والظاهر منها، لذلک استنتج نتائج بعیدة جدّاً عن منطوق ومفهوم الآیات المبارکة، وکأنّ الاستدلال الفقهی بهذه السذاجة والبساطة، فسمح لنفسه بالاستنباط والاستدلال ونفی مسلّمات ومشهورات الشریعة المقدّسة، فلو کان استدلاله علمیاً، وعلی وفق القواعد والأصول لکان محترماً حتّی وإن کان مردوداً.

النتیجة:

تبیّن مما تقدّم أنّه قد ثبت أنّ حکم المرتد وسابّ النبی صلی الله علیه و آله له مؤیّدات وموافقات عدیدة من الآیات القرآنیة، وأنّ الموافقة للقرآن لا تعنی وجود حکم تفصیلی فی القرآن یوافق حکم الخبر، وإلّا لما کانت هناک فائدة من الخبر أصلاً، بل تعنی الانسجام والموافقة الکلیة للأهداف

ص:194

العامّة، کما تقدّم تفصیله.

وقد ثبت أیضاً أنّ جمیع الآیات التی ادّعی أنّها تخالف ذلک الحکم، لا تخالفه فی الواقع، فإمّا أنّها غریبة عن الاستدلال أصلاً، وإمّا أنّها تنسجم معه بأحد وجوه الجمع العرفی.

والنتیجة النهائیة: أنّ أدلة حکم قتل المرتد وسابّ النبی صلی الله علیه و آله لا تخالف القرآن، بل وتنسجم معه وتوافقه.

ص:195

ص:196

فهرس مصادر

مقال حکم قتل المرتد وسابّ النبیّ صلی الله علیه و آله فی القرآن الکریم

1 -أسباب نزول الآیات، علی بن أحمد الواحدی، نشر: مؤسسة الحلبی، سنة الطبع 1388 ه -.

2 -بحوث فی علم الأصول، السید محمود الهاشمی، تقریرات بحث السید محمّد باقر الصدر، نشر: مرکز الغدیر، الطبعة الثانیة 1417 ه -.

3 -تفسیر القمی، علی بن إبراهیم القمی، تصحیح: السید طیب الجزائری، نشر: مؤسسة دار الکتاب - قم الطبعة الثالثة 1404 ه -.

4 -جامع البیان فی تأویل آی القرآن، محمّد بن جریر الطبری، ضبط و تخریج: صدقی جمیل العطار، نشر: دار الفکر - بیروت، سنة الطبع 1415 ه -.

5 -المبسوط، الشیخ الطوسی، صححه و علّق علیه: السید محمّد تقی الکشفی، نشر: المکتبة المرتضویة، سنة الطبع 1387.

6 -المیزان فی تفسیر القرآن، العلّامة الطباطبائی، نشر: مؤسسة الأعلمی، الطبعة الأولی 1417 ه -، بیروت - لبنان.

7 -وسائل الشیعة، الحرّ العاملی، نشر و تحقیق: مؤسسة آل البیت علیه السلام لإحیاء التراث - قم - 1414 ه -.

ص:197

ص:198

حجّیة الخبر الواحد فی الأمور المهمّة

(قتل المرتد وسابّ النبی صلی الله علیه و آله أنموذجاً)

اشارة

بقلم: الشیخ رافد التمیمی

مدخل:

إنّ من المباحث المهمّة فی أصول الفقه الإسلامی هو البحث عن حجّیة خبر الواحد، وقد عقدت فی هذه المسألة الأبحاث الکثیرة والمتنوّعة، وهی معروفة عند أصحاب هذا الفن، بل وعند مطالعیه أیضاً، من قبیل: البحث عن معنی حجّیة خبر الواحد، والبحث عن سعة دائرة تلک الحجیة، والبحث عن أدلتها والإشکالات التی قد توجّه إلیها.

وفی بحثنا هذا نرید أن نسلّط الضوء علی إحدی المسائل المرتبطة ببحث حجّیة خبر الواحد، وهی البحث عن حجّیة خبر الواحد فی الأمور المهمّة، أی: أنّ الخبر الواحد مع تسلیم حجّیته فهل أنّ تلک الحجّیة شاملة للأمور المهمّة أو أنّ الحجّیة مقیّد جریانها والعمل بها بالأمور غیر المهمّة فقط؟

وهذه الجهة التی نحن بصدد عرضها والبحث عن الثابت منها، قلما نجد من تطرّق إلیها من الأعلام، الأمر الذی قد جرّأ البعض إلی إنکار

ص:199

حجّیة الخبر الواحد فی الأمور المهمّة، وادّعی أنّه إذا قام خبر واحد ثقة علی موضوع مهم فهو غیر حجّة فیه ولا یصح العمل به، من غیر أن یبیّن المسائل التی تترتب علی هذه الدعوی، بل راح مکتفیاً بالتمسّک بوجدانه الشخصی الذی ربما یراه هو الوجدان لکلّ العقلاء.

سیر البحث:

من هنا سوف نتطرّق فی بحثنا هذا إلی مجموعة من المسائل المترابطة، إذا ما نقّحت وحلّت بشکل جید فسوف تظهر النتیجة من هذا البحث بشکل واضح، وتکون هناک إجابات وافیة للسؤال المتقدّم إن شاء الله تعالی.

ولذلک سیکون سیر بحثنا کالآتی:

1 - معنی حجّیة خبر الواحد.

2 - أدلة حجّیة الخبر الواحد من حیث الشمول والإطلاق.

3 - المائز بین المهم وغیر المهم، وما هو القانون؟ ومن هو المقنن فی ذلک؟

4 - شمول حجّیة خبر الواحد للمهم وغیر المهم.

5 - القیمة المضاعفة للخبر الواحد المعتضد بالقرائن.

6 - المعنی المقصود من الاحتیاط فی الدماء والأعراض والأموال، وهل أنّ هذا ینافی حجّیة خبر الواحد فی هذه الأمور المهمّة؟

7 - خاتمة البحث وأهم النتائج.

ص:200

المبحث الأوّل: معنی حجّیة خبر الواحد:

إنّ البحث عن معنی الحجّیة فی قولنا: خبر الواحد حجّة، له ارتباط وثیق بما نحن فیه وما نحن بصدد بحثه؛ وذلک لأنّ صلب البحث هو عن معرفة أنّ هذه الحجّیة التی أثبتها الأصولیون لخبر الواحد هل تشمل الأمور المهمّة أیضاً أو لا تشملها؟

فلابدّ إذن من معرفة حقیقة هذه الحجّیة وأبعادها، ویترتب علی ذلک بشکل منطقی معرفة حقیقة خبر الواحد، وأنّه من أیّ أنواع الأدلة التی تدلّ علی الحکم الشرعی. من هنا کان لزاماً معرفة حقیقة هذا الدلیل، فنقول:

إنّ خبر الواحد هو من الأمارات التی بحثت فی علم الأصول بشکل مفصّل کما قدمنا، فإنّ علم الأصول فی بحثه عن الحکم الظاهری یتطرّق إلی نوعین من تلک الأحکام: الأوّل: الأمارات، والثانی: الأصول العملیة، وأنّ کلّ واحد من هذین النوعین له مصادیق متعددة، لیس المحل محل بحثها أو حتّی التطرّق إلیها، وإنّما نتطرّق إلی موضع الحاجة، فإنّ من بین أهم تلک المصادیق للنوع الأوّل الذی هو الأمارات هو خبر الواحد، لذلک فقد أثبت علماء الأصول بما لا مزید علیه أنّ خبر الواحد من الأمارات علی الحکم الشرعی. إذن لابدّ من معرفة الأمارة حتّی یمکن معرفة خبر الواحد الذی هو أحد أفرادها.

ص:201

معنی الأمارة:

الأمارة فی اللغة هی عبارة عن العلامة أو ماشابهها، قال الجوهری فی الصحاح:« قال الأصمعی: الأمار والأمارة: الوقت والعلامة»(1) ، وقال أبو زید:« الأمارة والأمار: الوقت الذی یلقاک فیه صاحبک»(2) ، قال أبو هلال العسکری فی الفروق اللغویة:« الفرق بین الأمارة والعلامة: أنّ الأمارة هی العلامة الظاهرة، ویدلّ علی ذلک أصل الکلمة وهو الظهور»(3) ، قال ابن منظور فی لسان العرب:« وکلّ علامة تعد أمارة، وتقول: أمارة ما بینی وبینک، أی: علامة»(4).

ومن مجموع کلمات اللغویین نستخلص أنّ أهمّ معنی لکلمة أمارة، والذی تستعمل فیه أکثر من غیره هو العلامة، فالأمارة علی الشیء الدلالة علیه، أی: التی تدلّک علی الشیء وتکشف عنه، وهذا هو المعنی الذی یقصده الأصولیون من کلمة الأمارة فی اصطلاحهم، مع قید وهو فیما إذا لم یکن هذا الکشف وهذه الدلالة بصورة تامّة وکاملة.

ص:202


1- (1) صحاح الجوهری 582:2.
2- (2) غریب الحدیث 1:93.
3- (3) الفروق اللغویة: 70.
4- (4) لسان العرب 4:32، واُنظر: النهایة فی غریب الحدیث لابن الأثیر 1:67، معجم مقاییس اللغة لأبی الحسن أحمد بن فارس 139:1، تاج العروس للزبیدی 6:34، القاموس المحیط للفیروزآبادی 1:365، مجمع البحرین للطریحی 1:103.

لذلک فإنّ معنی الأمارة اصطلاحاً هو ذلک، قال الشیخ المظفر فی أصول الفقه:« وإنّما مدلول الأمارة الحقیقی هو کلّ شیء اعتبره الشارع لأجل أنّه یکون سبباً للظن کخبر الواحد والظواهر»(1) ، وقال السید الشهید الصدر فی الحلقات:« تنقسم الأحکام الظاهریة إلی قسمین: أحدهما: الأحکام الظاهریة التی تُجعل لإحراز الواقع، وهذه الأحکام تتطلّب وجود طریق ظنّی له درجة کشف عن الحکم الشرعی، ویتولّی الشارع الحکم علی طبقه بنحو یلزم علی المکلّف التصرّف بموجبه، ویسمّی الطریق بالأمارة»(2) ، وقال الشیخ الإیروانی:« والثابت فی الأمارات له خاصّیة النظر إلی الواقع، ویحاول إحرازه، فخبر الثقة إذا قال: صلاة الجمعة واجبة، ینظر إلی الواقع لإحرازه»(3).

فتحصّل: أنّ الأمارة هی الطریق الذی له درجة ونسبة معیّنة من الکشف عن أحکام الشارع، أی: هی العلامة التی تدلّ الناس علی أحکام الشریعة، وهذه قضیّة کادت أن تتّفق علیها کلمات الأصولیین، ولم یقع اختلاف بیّن فیما بینهم، وبما أنّ خبر الواحد هو المصداق الأبرز للأمارة فحقیقته إذن أنّه هو علامة للواقع وکاشف عنه.

ص:203


1- (1) أصول الفقه 2:20.
2- (2) دروس فی علم الأصول 2:22.
3- (3) الحلقة الثالثة فی أسلوبها الثانی 1:77.

معنی الحجّیة فی الأمارة:

بعد أن عرفنا ما هی وظیفة خبر الواحد، وما هی حقیقته، وسبب تسمیته بالأمارة، یأتی البحث عن أنّ هذه الأماریة والکاشفیة هل هی حجّة أو لا؟ وقبل إثبات ذلک سوف نستعرض معانی اعتبار وحجّیة الأمارة، وهذا البحث وإن کان حقّه التأخیر عن بحث أدلة حجّیة الأمارة وأدلة حجّیة خبر الواحد، إلّا أنّه قدمناه لأنّنا سوف نثبت أنّ أیّ معنی کان للحجّیة الذی بنی علیه العلماء من خلال فهمهم للأدلة الدالة علی اعتبار خبر الواحد فهو یفید فی دفع الإشکال الآتی، وإثبات المعنی الشامل لحجّیة خبر الواحد الذی یعمّ الموضوعات المهمّة وغیرها.

المجعول فی باب الأمارات:

وقعت أبحاث عدیدة فی بیان حقیقة الأمارة بعد إعطاء الشارع لها الاعتبار والحجیّة, تولّدت منها عدّة نظریات, سنتطرّق إلی بیان کلّ نظریة وأهم ما قیل فیها.

الأولی: جعل الحکم المماثل

وهی النظریة التی نُسبت إلی المشهور، وهی تعنی: أنّه إذا دلّنا طریق ظنّی علی حکم شرعی مثل أن یأتی خبر ثقة ویقول: إنّ صلاة الجمعة واجبة، فمعنی قول الشارع خذ بخبر الثقة الذی هو أمارة: أنّی جعلت حکماً شرعیاً یماثل ما أخبر به الثقة، وهو وجوب صلاة الجمعة، فالشارع یجعل

ص:204

حکماً مماثلاً لما أخبر به الثقة، وأدّت إلیه الأمارة.

قال الشیخ الإیروانی:« إنّ الأمارة إذا قالت: صلاة الجمعة واجبة مثلاً، جعل الشارع وجوباً ظاهریاً لصلاة الجمعة، فکلّ ما تقول الأمارة یجعل الشارع مماثله، ویُسمّی هذا المسلک بمسلک جعل الحکم المماثل»(1).

ونَسَبَ هذا الرأی إلی المشهور الأصفهانی فی نهایة الدرایة(2) ، والسید الخوئی فی کتاب الاجتهاد والتقلید، حیث قال:« وأمّا بناءً علی ما نُسِبَ إلی المشهور من الالتزام بجعل الحکم المماثل علی طبق مؤدّی الأمارات... »(3).

معنی المماثلة:

ذُکِرَ للمماثلة معنیان:

الأوّل: وهو أن تکون المماثلة بین حکم الشارع ومؤدّی الأمارة، أی: یجعل الشارع حکماً یماثل ما أخبر عنه الثقة مثلاً، وهو ما تقدّم عن الشیخ الإیروانی، وعلی ما یظهر من نقل السید الشهید عن المحقق النائینی(4) ، وغیره(5).

ص:205


1- (1) الحلقة الثالثة فی أسلوبها الثانی 1:63.
2- (2) نهایة الدرایة 1:287.
3- (3) الاجتهاد والتقلید: 243.
4- (4) انظر: دروس فی علم الأصول 2:17.
5- (5) انظر: حاشیة علی کفایة الأصول للحجّتی، تقریرات بحث البروجردی 2:58.

الثانی: وهو أن یکون الحکم الظاهری یماثل الحکم الواقعی، وهو ما اختاره الأصفهانی فی نهایة الدرایة، حیث قال:« فلأنّ المماثلة إمّا أن یلاحظ بین الحکم المماثل الظاهری والحکم الواقعی، أو بین الحکم الظاهری ومؤدّی الخبر، فإن کان الأوّل کما هو التحقیق؛ لأنّ جعل الحکم المماثل بعنوان إیصال الواقع بعنوان آخر، فلا محالة یجب... »(1).

وکیف کان فقد واجه هذا الرأی - أی: جعل الحکم المماثل - إشکالات عدیدة، منها ما ذکره السید الخوئی قدس سره فی کتاب الاجتهاد والتقلید، قال:« ذکرنا فی محلّه أنّ جعل الحکم المماثل فی موارد الطرق والأمارات مّما لا أساس له، لما أشرنا إلیه من أنّ الحجّیّة إمضائیة، ولا یعتبر العقلاء جعل الحکم المماثل فی شیء من الحجج، وإنّما یتعاملون معها معاملة العلم فحسب»(2).

یعنی أنّ دور الشارع فی قضیّة حجّیة الأمارة إمضائی، أی: عندما وجد طرقاً عند العقلاء یعملون علی طبقها، ورآها صحیحة، أمضاها لهم ووافقهم علیها، وعندما نرجع إلی العقلاء نجدهم لا یعتبرون أنّ فی هذا الطریق حکماً یماثل ما أدّت إلیه الأمارة.

وهذا المبنی وإن نُسِبَ إلی المشهور، ولکن یندر القائل به فی الأزمان

ص:206


1- (1) نهایة الدرایة 2:204، وانظر: بدایة الوصول لآل الشیخ راضی 8:111، علی ما یظهر منه.
2- (2) الاجتهاد والتقلید: 244، وانظر: زبدة الأصول للروحانی 3:350.

المتأخّرة، الأمر الذی یعکس استحکام الإشکالات الواردة علیه.

الثانیة: جعل المؤدّی والمصلحة السلوکیة

وهذه نظریة الشیخ الأنصاری، قال فی فرائد الأصول:« وحیث انجرّ الکلام إلی التعبّد بالأمارات الغیر العلمیة، فنقول فی توضیح هذا المرام وإن کان خارجاً عن محل الکلام: إنّ ذلک یتصوّر علی وجهین: الأوّل: أن یکون ذلک من باب مجرّد الکشف...، الثانی: أن یکون ذلک لمدخلیّة سلوک الأمارة فی مصلحة العمل وإن خالف الواقع، فالغرض إدراک مصلحة سلوک هذا الطریق التی هی مساویة لمصلحة الواقع أو أرجح منها».

ثمّ قال:« وأمّا القسم الثانی فهو علی وجوه...، الثالث: أن لا یکون للأمارة القائمة علی الواقعة تأثیر فی الفعل الذی تضمّنت الأمارة حکمه، ولا تحدث فیه مصلحة، إلاّ أنّ العمل علی طبق تلک الأمارة، والالتزام به فی مقام العمل علی أنّه هو الواقع، وترتیب الآثار الشرعیة المترتبة علیه واقعاً یشتمل علی مصلحة، فأوجبه الشارع».

ثمّ قال:« ومعنی وجوب العمل علی طبق الأمارة وجوب ترتیب أحکام الواقع علی مؤدّاها من دون أن یحدث فی الفعل مصلحة علی تقدیر مخالفة الواقع»(1).

وقال أیضاً فی حدیثه عن العمل بالظن الخبری:« أن یجب العمل به

ص:207


1- (1) فرائد الأصول 1:112.

لأجل أنّه یحدث فیه بسبب قیام تلک الأمارة مصلحة راجحة علی المصلحة الواقعیة التی تفوت عند مخالفة تلک الأمارة للواقع، کأن یحدث فی صلاة الجمعة بسبب إخبار العادل بوجوبها مصلحة راجحة علی المفسدة فی فعلها علی تقدیر حرمتها واقعاً»(1).

وقد تبیّن من خلال کلمات الشیخ الأنصاری أنّ المقصود هو أنّ جعل الشارع مؤدّی الأمارة حجّة، وتنزیله له منزلة الواقع هو من جهة الآثار والأحکام المترتّبة علیه، وأنّ السلوک علی طبق الأمارة فیه مصلحة تعوّض المصلحة الفائتة فیما إذا خالفت الأمارة الواقع، کما إذا قالت الأمارة بالإباحة وکان الواقع الإلزام، هذا کلّه مع انحفاظ الواقع وبقائه علی ما هو علیه من مصلحة ومفسدة.

قال السید الروحانی فی المنتقی - عند تعرّضه لإحدی المسائل -:« وقد أورد علیه المحقق النائینی رحمه الله بأنّ هذا إنّما یتمّ بناء علی السببیة التی یلتزم بها المصوّبة وأهل الخلاف، لا السببیّة التی یلتزم بها أهل الحقّ والمخطَّئة المعبّر عنها بالمصلحة السلوکیة، فإنّ ما ذکره لا یصحّ مطلقاً بناءً علیها، وذلک لأنّ الواقع یبقی علی ما هو علیه من المصلحة بعد قیام الأمارة، ولا یکون مؤدّی الأمارة ذا مصلحة بنفسه»(2).

ص:208


1- (1) المصدر السابق 1:109.
2- (2) منتقی الأصول 2:70.

قال الشیخ الفیاض فی المباحث الأصولیة:« القول الثالث: ما ذکره شیخنا الأنصاری قدس سره من السببیة بمعنی المصلحة السلوکیة، ونقصد بها کون المصلحة فی نفس سلوک الأمارة، وتطبیق العمل علیها، ولهذا تختلف هذه المصلحة باختلاف السلوک سعة وضیقاً، فإن کان سلوکها فی أوّل الوقت فمصلحته تفی بمصلحة أوّل الوقت فحسب، وإن کان سلوکها فی تمام الوقت فمصلحته تفی بمصلحة تمام الوقت»(1).

وقد ناقش بعض المحققین هذا المبنی وأشکل علیه(2) ، کما أنّه قد دافع عنه بعض آخر وأیّده(3).

الثالثة: جعل الحجّیّة

وهو مبنی الشیخ الخراسانی فی الکفایة، قال فی معرض ردّه علی الإشکالات عن التعبّد بالظن:« إنّ ما ادّعی لزومه إمّا غیر لازم أو غیر باطل، وذلک لأنّ التعبّد بطریق غیر علمی إنّما هو بجعل حجّیّته، والحجّیّة المجعولة غیر مستتبعة لإنشاء أحکام تکلیفیة بحسب ما أدّی إلیه الطریق، بل إنّما تکون موجبة لتنجّز التکلیف به إذا أصاب، وصحّة الاعتذار به إذا

ص:209


1- (1) المباحث الأصولیة 3:430.
2- (2) انظر: القواعد الفقهیة للبجنوردی 6:45، منتهی الأصول للبجنوردی 2:18، أنوار الهدایة للإمام الخمینی 1:194، وغیرها.
3- (3) انظر: منتقی الأصول للحکیم, تقریرات بحث الروحانی 4:189.

أخطأ»(1).

فالشارع أعطی الاعتبار للأمارة من جهة أنّها یصحّ الاحتجاج بها عند الإصابة، ویصحّ الاعتذار بها عند الخطأ، فهی لا تعنی وجود حکم شرعی تکلیفی علی طبقها، بل مجرّد المنجّزیّة والمعذّریّة.

وقد نسب بعض الأعلام هذا المبنی وهذا الرأی للشیخ الخراسانی تحت عنوان جعل الحجّیة(2) ، ونسبه إلیه بعض آخر تحت عنوان جعل المنجّزیّة والمعذّریّة(3).

وهذا الرأی لم یسلم من الإشکالات والانتقادات، فقد وجّهت إلیه عدّة اعتراضات من قبل بعض الأعلام(4).

ص:210


1- (1) کفایة الأصول: 319.
2- (2) انظر: نهایة النهایة للغروی الإیروانی، تقریرات بحث الخراسانی 1:5، 2:12، تنقیح الأصول للطباطبائی، تقریرات بحث العراقی: 247، نهایة الأفکار للبروجردی، تقریرات بحث العراقی 3:75، لمحات الأصول للإمام الخمینی، تقریرات بحث البروجردی: 475، بدایة الوصول فی شرح کفایة الأصول لآل الشیخ راضی 5:176، زبدة الأصول للروحانی 3:98، وغیرها.
3- (3) انظر: بدایة الوصول فی شرح کفایة الأصول لآل الشیخ راضی 6:369، أجود التقریرات للخوئی، تقریرات بحث النائینی 76:2، محاضرات فی أصول الفقه للفیاض، تقریرات بحث الخوئی 1:36، مصباح الأصول للبهسودی، تقریرات بحث الخوئی 2:36.
4- (4) انظر: کتاب الاجتهاد والتقلید للغروی، تقریرات بحث الخوئی: 126، نهایة الدرایة للأصفهانی 2:188، أجود التقریرات للخوئی، تقریرات بحث النائینی 76:2.

الرابعة: جعل الطریقیة

عُرِفَ هذا المبنی فی الأوساط العلمیة بمبنی الشیخ النائینی، ونسبه إلیه أکثر من تکلّم عنه، وقد تپناه کثیر من تلامذة الشیخ، وهذا المبنی یعدّ الآن من المبانی المعروفة والمشهورة، والتی علیها کثیر من العلماء والمحققین.

قال الشیخ النائینی فی أجود التقریرات:« الثالثة: أنّه لیس معنی حجّیة الطریق مثلاً تنزیل مؤدّاه منزلة الواقع، ولا تنزیله منزلة القطع حتّی یکون المؤدّی واقعاً تعبّداً، أو یکون الأمارة علماً تعبّداً، بداهة أنّ دلیل الحجّیّة لا نظر له إلی هذین التنزیلین أصلاً، وإنّما نظره إلی إعطاء صفة الطریقیة والکاشفیة للأمارة، وجعل مالیس محرزاً حقیقة محرزاً تشریعاً»(1).

قال السید الخوئی فی المحاضرات:« وذلک لأنّ الثبوت التعبّدی - بناء علی ما سلکناه - عبارة عن إعطاء الشارع صفة الطریقیة والکاشفیة لشیء، وجعله علماً للمکلّف شرعاً بعدما لم یکن کذلک»(2).

وقال أیضاً فی مصباح الأصول: «ثمّ إنّ الصحیح فی باب الأمارات هو القول بأنّ المجعول هو الطریقیة والکاشفیة، لا القول بأنّ المجعول هو المنجزیّة والمعذّریّة»(3).

ص:211


1- (1) أجود التقریرات 12:2.
2- (2) محاضرات فی أصول الفقه 1:36.
3- (3) مصباح الأصول 2:37، وانظر: فوائد الأصول للکاظمی، تقریرات بحث النائینی 3:17، منتهی الأصول للبجنوردی 2:19.

وهذا الرأی واجه عدّة إشکالات ومناقشات أیضاً(1).

وقد بیّن الشیخ الفیاض هذه النظریات، وذکر نظریّة أخری تپناها هو، قال فی المباحث الأصولیة:« وأمّا الکلام فی المرحلة الثالثة...، فیقع فی مقامات ثلاث: المقام الأوّل: فی بیان حجّیة الأمارات...، أمّا الکلام فی المقام الأوّل ففیه تفسیران للحجّیّة:

أحدهما: الطریقیة والکاشفیة للأمارات بدون أن تکون دخیلة فی الواقع أصلاً.

وثانیهما: السببیة والموضوعیة للأمارات التی لها تأثیر فی الواقع.

وأمّا التفسیر الأوّل ففیه أقوال:

القول الأوّل: أنّه لا جعل ولا مجعول فی باب الأمارات أصلاً، وإنّما هو إمضاء وتقریر من الشارع لما بنی علیه العقلاء من العمل بإخبار الثقة علی أساس ما فیها من النکتة المبررة لذلک البناء، وهو أقربیّتها إلی الواقع من غیرها، وهذا القول هو الصحیح علی تفصیل یأتی فی محلّه إن شاء الله.

القول الثانی: ما ذهبت إلیه مدرسة المحقق النائینی قدس سره من أنّ المجعول فی هذا الباب إنّما هو الطریقیة والعلم التعبدی، فحالها حال العلم

ص:212


1- (1) انظر: البحث فی رسالات عشر للقدیری: 152، لمحات الأصول للإمام الخمینی، تقریرات بحث البروجردی: 475، أنوار الهدایة للإمام الخمینی 1:204.

الوجدانی من هذه الناحیة، فإن کانت مطابقة للواقع فقد أدرک الواقع بماله من ملاک، وإلّا فقد فات الواقع عنه کذلک.

القول الثالث: أنّ المجعول فی باب الأمارات الحکم الظاهری المماثل للحکم الواقعی فی صورة مطابقتها للواقع، والمخالف فی صورة عدم مطابقتها له، وهذا الحکم الظاهری المجعول حکم طریقی لا شأن له غیر تنجیز الواقع عند الإصابة، والتعذیر عند الخطأ.

القول الرابع: أنّ المجعول فی هذا الباب هو المنجّزیّة والمعذّریّة، وقد اختار هذا القول المحقق الخراسانی قدس سره.

... وأمّا التفسیر الثانی ففیه أیضاً أقوال:

القول الأوّل: السببیة المنسوبة إلی الأشاعرة...

القول الثانی: السببیة المنسوبة إلی المعتزلة...

القول الثالث: ما ذکره شیخنا الأنصاری قدس سره من السببیة بمعنی المصلحة السلوکیة، ونقصد بها کون المصلحة فی نفس سلوک الأمارة، وتطبیق العمل علیها»(1).

إنّ تقسیم الشیخ الفیاض هذا وإن اختلف عن ترتیبنا إلّا أنّ حقیقة النظریات کما ذکرناها.

ص:213


1- (1) المباحث الأصولیة 3:427.

وقد أضاف السید الروحانی فی المنتقی نظریة أخری، وهی جعل نفس الحجّیّة، ونسبها إلی المحقق الأصفهانی(1).

والمستخلص من جمیع النظریات المتقدّمة أنّ خبر الواحد هو أحد الطرق التی استخدمها الشارع فی إیصال أوامره ونواهیه لعموم المکلّفین، بحیث یمکن للمولی أن یحتج علی عبده بتلک الأحکام الواصلة من هذا الطریق، کما ویمکن للعبد أن یعتذر من المولی بهذه الأحکام أیضاً، هذا علی أقل تقدیر فی النظریات المتقدّمة، وأمّا إذا بنینا علی مسلک الطریقیة - الذی هو المشهور فی الأزمان المتأخّرة - وأنّ أماریة خبر الواحد تعنی أنّها طریق معتبر إلی الواقع فالأمر أوضح، وکذا الحال علی مبنی جعل الحکم المماثل، وعلی مبنی المصلحة السلوکیة.

المبحث الثانی: أدلة حجّیة خبر الواحد:

أقیمت أدلّة عدیدة علی حجّیة خبر الواحد، ولعلّ هذه المسألة من أکثر المسائل التی أثیر الجدل والنقاش حولها، ولکن تسالم الفقهاء واستقرّ رأیهم علی حجّیة خبر الواحد، وقد استدلّ علی ذلک تارة بالآیات القرآنیة، وأخری بالروایات، وثالثة بالعقل، ورابعة بالإجماع.

الآیات القرآنیة:

استدلّ علی حجّیة خبر الواحد بآیات عدیدة، منها:

ص:214


1- (1) انظر: منتقی الأصول 4:181.

آیة النبأ، وهی قوله تعالی: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِنْ جاءَکُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَیَّنُوا أَنْ تُصِیبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلی ما فَعَلْتُمْ نادِمِینَ 1 .

وجه الاستدلال:

ذُکِرَتْ عدّة وجوه لتقریب الاستدلال بهذه الآیة علی حجّیة خبر الواحد، أهمّها:

الاستدلال بمفهوم الشرط، وبیانه:

أنّه قد تقرّر فی محلّه أنّ للشرط مفهوماً، یعنی أنّ الجملة الشرطیة کما لمنطوقها حجّیة واعتبار کذلک لمفهومها هذه الرتبة، مثاله: إذا قال المولی لعبده: إن جاء زید فأکرمه، فمنطوق الکلام أنّ إکرام زید واجب عند مجیئه، ومفهوم الکلام أنّ زیداً إذا لم یأت فإکرامه غیر واجب.

وفی هذه الآیة کذلک، فإن منطوق الآیة: أنّ الفاسق إذا جاء بخبر فیجب التبیّن، أی: لا یصحّ الاعتماد علی خبر الواحد الفاسق، بل لابدّ من التبیّن والتحقق فی خبره.

ومفهوم هذا الکلام: أنّ خبر الواحد العادل الذی هو یقابل الفاسق، لا یجب التبیّن فیه؛ لأنّ التبیّن واجب لخبر الواحد الفاسق، وإذا لم یجب التبیّن

لخبر الواحد العادل فهو یعنی حجّیّته، وصحّة الاعتماد علیه.

ص:215

فخبر الواحد العادل حجّة.

ومن الآیات: آیة النفر، وهی قوله تعالی: فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ کُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِیَتَفَقَّهُوا فِی الدِّینِ وَ لِیُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَیْهِمْ لَعَلَّهُمْ یَحْذَرُونَ 1 .

وجه الاستدلال:

إنَّ وجوب الحذر من الإنذار واجب مطلقاً، یعنی سواء أفاد العلم أم لا، وعدم إفادة العلم هو معنی خبر الواحد، ووجوب الحذر یلازم الحجّیّة، وإلّا إذا لم یکن حجّة، ولم یکن معتبراً، فلا معنی للحذر منه.

وهاتان الآیتان من أهمّ الآیات التی استدلّ بها علی حجّیة خبر الواحد، وقد وقع نقاش کثیر حولهما فلم یتمَّم دلالتهما علی الحجّیّة بعض الأصولیین، لاسیّما المتأخّرین.

وهناک آیات أخری استدلّ بها علی حجّیة خبر الواحد، ولکن تسالموا - تقریباً - علی عدم دلالتها علی حجّیة خبر الواحد، منها آیة الکتمان، وهی قوله تعالی: إِنَّ الَّذِینَ یَکْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَیِّناتِ وَ الْهُدی مِنْ بَعْدِ ما بَیَّنّاهُ لِلنّاسِ فِی الْکِتابِ أُولئِکَ یَلْعَنُهُمُ اللّهُ وَ یَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ 2 .

تقریب الاستدلال بها:

ص:216

إنّ إظهار ما أنزل الله واجب، وکتمه حرام، وهو یلزم القبول من الطرف الآخر، وإلّا لصار وجوب الإظهار لغواً, وبمقتضی الإطلاق یثبت أنّ القبول واجب سواء کان الإظهار یفید العلم أو لا، فالإظهار الذی یکون بخبر الواحد یجب قبوله، وهو معنی الحجّیّة.

ومن الآیات: آیة الذکر أو السؤال، وهی قوله تعالی: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِکَ إِلاّ رِجالاً نُوحِی إِلَیْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّکْرِ إِنْ کُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ 1 .

تقریب الاستدلال:

إنّ السؤال فی هذه الآیة واجب، فهو یعنی وجوب قبول الجواب والخبر، ووجوب القبول مطلق، فیشمل حتّی حالة عدم حصول العلم من الجواب، وهو مفاد حجّیة خبر الواحد.

وغیرها من الآیات التی استدلّ بها علی حجّیة خبر الواحد، لم نذکرها لما تقدّم ذکره من التسالم علی عدم تمامیتها علی الحجّیّة.

قال النائینی فی أجود التقریرات - بعد أن ذکر آیة النبأ و آیة النفر -:« وأمّا بقیّة الآیات التی استدلّ بها علی حجّیة خبر الواحد - کآیة الکتمان والسؤال والإیمان - فعدم دلالتها علی حجّیة الخبر فی غایة الوضوح، فلا حاجة إلی التعرّض لها أصلاً»(1).

ص:217


1- (2) أجود التقریرات 3:196.

الدلیل الروائی علی حجّیة خبر الواحد:

هناک أخبار عدیدة استدلّ بها علی حجّیة خبر الواحد، قسّمها علماء الأصول إلی طوائف:

الطائفة الأولی: تصدیق الإمام لبعض الروایات التی عرضت علیه، وصدّق رواتها، وهم آحاد.

الطائفة الثانیة: إطلاق الروایات التی دلّت علی لزوم الأخذ بما ورد عنهم, والتسلیم والانقیاد له.

الطائفة الثالثة: ما ورد من الحثّ علی نقل الحدیث وحفظه.

الطائفة الرابعة: ما ورد فی إرجاع الأئمّة علیهم السلام الناس لبعض الأشخاص المعیّنین.

الطائفة الخامسة، ما ورد فی الثناء علی المحدّثین والرواة.

وهناک طوائف عدیدة أحصاها السید البروجردی فی جامع أحادیث

الشیعة، وأوصلها إلی ( 15) طائفة(1).

ومن الواضح فإنّ الاستدلال بهذه الأخبار علی حجّیة خبر الواحد غیر

ص:218


1- (1) انظر: جامع أحادیث الشیعة 254:1، وقد ذکر الشیخ الأنصاری أربع طوائف للروایات، وتبعه علی ذلک الشیخ النائینی والسید الخوئی، انظر: فرائد الأصول 297:1، أجود التقریرات 3:197، مصباح الأصول 2:191.

صحیح، إلّا إذا ثبت منها التواتر؛ لأنّ مع عدم ثبوت التواتر فستبقی أخبار آحاد، والکلام الآن فی حجّیة أخبار الآحاد، ولا یمکن أن تثبت حجّیة نفسها، إذن لابدّ أن یثبت التواتر من هذه الأخبار حتّی یصحّ الاستدلال بها علی حجّیة خبر الواحد.

تواتر الأخبار علی حجّیة خبر الواحد:

ینقسم التواتر إلی ثلاثة أقسام:

الأوّل: التواتر اللفظی، وهو أن ینقل جماعة یمتنع تواطؤهم علی الکذب لفظاً واحداً بعینه کخبر (من کنت مولاه فعلی مولاه).

الثانی: التواتر المعنوی، وهو أن ینقل جماعة یمتنع تواطؤهم علی الکذب معنیً واحداً بألفاظ متعدّدة، کما نقلت لنا أخبار الإمام علی علیه السلام فی الحروب الدالّة علی شجاعته.

الثالث: التواتر الإجمالی، وهو ورود مجموعة من الروایات المختلفة التی یقطع بصدور بعضها عن أحد المعصومین علیهم السلام.

وقد وقع الاختلاف فی ثبوت القسم الثالث، وهو التواتر الإجمالی، حیث ذهب الشیخ النائینی إلی عدم وجود التواتر الإجمالی أصلاً، أی: لا یوجد من أقسام التواتر إلّا القسم الأوّل والثانی، ولا معنی للتواتر الإجمالی، قال فی أجود التقریرات - بعد أن بیّن التواتر الإجمالی -:« ولکنّه لا یخفی أنّ الأخبار إذا بلغت من الکثرة ما بلغت فإن کان بینها جامع یکون الکل

ص:219

متّفقاً علی نقله، فهو راجع إلی التواتر المعنوی، وإلّا فلا وجه لحصول القطع بصدق واحد منها بعد جواز کذب کلّ واحد منها فی حدَّ نفسه، وعدم ارتباط بعضه ببعض، فالحقّ هو انحصار التواتر فی القسمین الأوّلین لا غیر»(1).

وقد أشکل السید الخوئی - بعد أن ذکر کلام الشیخ النائینی المتقدّم -:« وفیه: أنّ احتمال الکذب فی کلّ خبر بخصوصه غیر قادح فی التواتر الإجمالی؛ لأنّ احتمال الصدق والکذب فی کلّ خبر بخصوصه لا ینافی العلم الإجمالی بصدور بعضها، وإلّا لکان مانعاً من التواتر المعنوی واللفظی أیضاً؛ إذ کلّ خبر فی نفسه محتمل للصدق والکذب»(2).

ولکن الظاهر أنّ الحقّ مع الشیخ النائینی، وذلک لعدّة أمور:

الأمر الأوّل: أنّ هذه الطوائف إن کان بینها جامع مشترک هو الذی أدّی بالعلماء إلی جمعها تحت طوائف معیّنة فی موضوع واحد وتحت عنوان: (طوائف الأخبار الدالّة علی حجّیة خبر الواحد) مثلاً، فهذا الجامع المشترک هو المعنی الذی اشترکت فیه هذه الطوائف، وهو الاشتراک المعنوی.

وإن لم یکن هناک معنی مشترک بین هذه الطوائف فأوّلاً: لماذا جمعها علماء الأصول تحت بحث واحد, وتحت عنوان واحد، وأطلق علیها اسم

ص:220


1- (1) أجود التقریرات 3:197.
2- (2) مصباح الأصول 2:193.

الطوائف الدالّة علی حجّیة خبر الواحد؟

وثانیاً: إذا لم یکن هناک معنی مشترک بینها فلماذا لم یدرج علماء الأصول روایات الصلاة والصیام فی ضمنها مثلاً؟

وبعبارة أخری: ما هو العامل الذی أدّی إلی جمع هذه الروایات بالخصوص، وما هو العامل الذی أخرج غیر هذه الروایات من هذا البحث؟

فإن کان هناک عامل مشترک فهو الاشتراک المعنوی، أی: التواتر المعنوی، وإن لم یکن فجمعها عبث بلا مبرّر.

الأمر الثانی: أنّ الإشکال الذی أشکل به السید الخوئی علی الشیخ النائینی غیر وارد؛ وذلک لأنّ فی التواتر اللفظی والمعنوی نرفع الید عن احتمال ضعف کلّ واحد من الأخبار؛ لأنّ الجمیع یصبّ فی مصبّ واحد, ویقوّی بعضها بعضاً، أمّا فی مثل التواتر الإجمالی المُدّعی، فلا توجد نقطة تصبّ فیها الأخبار بحیث یقوّی بعضها الآخر، فإذا جئنا إلی الحدیث الأوّل نجده لا یدعم الحدیث الثانی أصلاً، وکذا الثانی بالنسبة للثالث وهکذا، فکیف نخرج بنتیجة واحدة معیّنة، ونقول: إنّ الأخبار دلّت علیها؟!

الأمر الثالث: وهو تعقیب علی الأمر الثانی، لعلّ قائلاً یقول: إنّ هذه الأخبار تشترک بأصل الصدور، أی: نقطع بصدور واحدة منها لا علی التعیین.

نقول: یرد علیه:

أوّلاً: أنّ هذا المعنی الذی دلّت علیه هذه الروایات وهو أصل صدور

ص:221

واحد، إمّا دلّت علیه بالمطابقة أو بالتضمّن أو بالالتزام، وهذه الثلاثة کلّها من مختصّات الدلالة المعنویة، کما هو رأی السید الخوئی وغیره(1).

وثانیاً: معنی أصل صدور واحد هو المعنی المشترک فیما بین الروایات، وهو معنی التواتر المعنوی أی: تواتر معنی صدور واحدة من الروایات جزماً.

وثالثاً: مع کون صدور روایة واحدة لا علی التعیین تواتر معنوی، فهو لا یفیدنا فی المقام أصلاً؛ وذلک لأنّه تدخل فیه جمیع روایات الفقه؛ لأنّها مشترکة فی هذا المعنی، فلعلّ الروایة الصادرة مرتبطة بأبواب الفقه، ولا علاقة لها بموضوعنا هذا, لا من قریب ولا من بعید.

وهذا بحث واسع لیس المحل محلّه أو التوسّع فیه، ذکرنا ما تقدّم استطراداً وبمقدار ما یرتبط ببحثنا، أو أکثر بقلیل.

التواتر المعنوی لبعض هذه الطوائف:

ذهب الشیخ النائینی إلی أنّ بعض هذه الطوائف متواتر معناً علی حجّیة خبر الثقة، قال فی أجود التقریرات:« ولا یخفی أنّ أخصّ تلک الأخبار مضموناً هو الأخبار الدالّة علی جواز العمل بخبر الثقة...، بل یمکن أن یقال: إنّ خصوص الأخبار الدالّة علی جواز العمل بخبر الثقة متواتر،

ص:222


1- (1) مصباح الأصول 192:2.

مضافاً إلی احتفاف بعضها بالقرینة القطعیّة من جهة اعتماد الأصحاب علیها، فیکون جواز العمل به مقطوعاً لا محالة»(1).

ولکن خالف هذا الرأی السید الخوئی، ولم یثبت من أقسام التواتر إلّا التواتر الإجمالی، قال فی مصباح الأصول:« فتحصّل أنّ التواتر الإجمالی فی هذه الطوائف الأربع من الأخبار غیر قابل للإنکار»(2).

ولم یثبت السید الشهید الصدر التواتر أصلاً، قال - بعد أن عرض طوائف الروایات -:« وهکذا یتّضح أنّ هذه الطوائف لا دلالة فی شیء منها علی المطلوب، وبعد إفرازها لا تبقی لدینا أکثر من خمس عشرة روایة مّما قد تتمّ دلالتها علی الحجّیّة، وهو عدد لا یبلغ حدّ التواتر»(3).

نعم، ذکر السید الشهید بعض القرائن التی قد توجب حصول

الاطمئنان بصدور بعض الروایات بخصوصها.

وکیف کان فحتّی بناءً علی وجود أصل التواتر الإجمالی، أی: ثبوت الکبری، مع فرض تحققه فی هذه الحالة أیضاً، أی: ثبوت الصغری، لا تثبت حجّیة خبر الثقة، بل تثبت حجّیة خبر الثقة الإمامی العادل؛ وذلک لأنّ الاستدلال بالتواتر الإجمالی، یعنی صدور واحدة من الروایات التی ضمن

ص:223


1- (1) أجود التقریرات 199:3.
2- (2) مصباح الأصول 193:2.
3- (3) بحوث فی علم الأصول 389:4.

هذه الطوائف، وبما أنّ هذه الروایة غیر معروفة فلابدّ أن نأخذ بجمیع خصوصیات الروایات وشرائطها التی جعلتها للأخذ بخبر الواحد.

نعم، هناک طریق فنّی یمکن سلوکه للوصول لحجّیّة خبر الواحد الثقة، وهو: أن تثبت حجّیة خبر الواحد الثقة العدل الإمامی من خلال التواتر الإجمالی، ثمّ إن وجد خبر واحد جمیع رواته فیهم هذه الصفة، ومضمونه الأخذ بخبر الواحد، فهذا الخبر یکون حجّة لأجل التواتر الإجمالی، وهو بنفسه یکون حجّة للأخذ بخبر الثقة.

وقد وقع اختلاف بین الأصولیین فی:

أوّلاً: فی ما هو القدر المتیقّن من الطوائف المتقدّمة؟

وثانیاً: أنّه هل یوجد خبر فی جمیع رواته هذه الخصوصیات(1) ؟

الدلیل العقلی علی حجّیة خبر الواحد:

قُرّر الدلیل العقلی بوجوه:

منها: أنّه یوجد علم إجمالی بصدور کثیر من الأخبار عن المعصوم علیه السلام، ولا یوجد احتمال أنّ جمیعها موضوعة، وبما أنّه جهد

ص:224


1- (1) وللتفصیل انظر: کفایة الأصول للخراسانی: 346، أجود التقریرات للخوئی، تقریرات بحث النائینی 3:199، بحوث فی علم الأصول للهاشمی، تقریرات بحث الصدر 384:4، مصباح الأصول للبهسودی، تقریرات بحث الخوئی 193:2، وغیرها.

العلماء أنفسهم فی جمع هذه الأخبار وتهذیبها، فمقتضی الاحتیاط هو الأخذ والعمل بالروایات والأخبار التی جمعت فی الکتب المعتبرة التی رواتها ثقات.

وبقیّة الأوجه العقلیة أیضاً تعتمد علی کبری منجّزیة العلم الإجمالی، وهو أنّ لنا علماً إجمالیاً بصدور بعض هذه الأخبار، والاحتیاط یقتضی - بحکم العقل - العمل بأخبار الثقات الموجودة.

وقد وقع البحث بین الأعلام فی أمرین:

الأمر الأوّل: فی تمامیة هذا الدلیل، حیث ذهب الشیخ الأنصاری(1) والسید الشهید الصدر(2) إلی عدم تمامیّته، بینما ذهب الشیخ الآخوند الخراسانی(3) ، والسید الخوئی(4) إلی تمامیّته.

الأمر الثانی: بناءً علی تمامیة هذا الدلیل فهل النتائج المترتّبة علیه نفسها النتائج المترتّبة علی ثبوت الحجّیّة؟

فمن الواضح أنّ نتیجة هذا الدلیل هو ثبوت الاحتیاط لا الحجّیّة، ومع ثبوت الاحتیاط هل تترتّب آثار الحجّیّة من تقدیم الأمارات علی الأصول مثلاً؟

ص:225


1- (1) فرائد الأصول 1:297.
2- (2) بحوث فی علم الأصول 421:4.
3- (3) کفایة الأصول: 350.
4- (4) مصباح الأصول 2:206.

وقعت أبحاث عدیدة فی هذا المجال، راجعها فی محلّها(1).

دلیل الإجماع علی حجّیة خبر الواحد:

وقد قرّر دلیل الإجماع بوجوه:

الوجه الأوّل: الإجماع المنقول عن الشیخ الطوسی.

الوجه الثانی: الإجماع القولی من العلماء علی حجّیة خبر الواحد, عدا السید المرتضی وابن إدریس وابن زهرة، وخلافهم لا یضر؛ لأنّهم معلوموالنسب.

الوجه الثالث: الإجماع القولی من قبل جمیع العلماء حتّی السید المرتضی ومن تبعه بدعوی أنّهم لم یقبلوا حجّیة خبر الثقة لانفتاح باب العلم عندهم، أمّا مع الانسداد کما هو الآن, فهم سوف یقبلوا حجّیة خبر الثقة.

الوجه الرابع: الإجماع العملی من جمیع العلماء علی العمل بالأخبار الموجودة.

الوجه الخامس: الإجماع العملی من قبل المتشرّعة من زمن الصحابة

ص:226


1- (1) انظر: فرائد الأصول للشیخ الأنصاری 1:297، کفایة الأصول للخراسانی: 349، أجود التقریرات للخوئی، تقریرات بحث النائینی 3:203، بحوث فی علم الأصول للهاشمی، تقریرات بحث الصدر 4:409، مصباح الأصول للبهسودی، تقریرات بحث الخوئی 2:203، معارج الأصول للمحقق الحلی: 203، معالم الأصول للشیخ حسن: 262، أصول الفقه للمظفر 69:2 وغیرها.

إلی زماننا هذا، فیکون کاشفاً عن رضا المعصوم علیه السلام، وهو الإمضاء(1) ، وهذا الوجه هو دلیل السیرة الآتی.

وقد ذکرت إشکالات عدیدة علی الوجوه الأربعة الأولی، ولم یتمّم العلماء دلالتها علی حجّیة خبر الواحد.

دلیل السیرة علی حجّیة خبر الواحد:

نعم، أتمّ دلیل علی حجّیة خبر الواحد هو دلیل السیرة، وهو تارة یقرّب بالسیرة المتشرّعیة، وأخری بالسیرة العقلائیة.

السیرة العقلائیة علی حجّیة خبر الواحد:

والدلیل یعتمد علی مقدّمتین:

الأولی: قد استقرّ بناء العقلاء علی العمل بخبر الواحد الثقة، وجرت سیرتهم علی ذلک.

الثانیة: أنّ الشارع لم یردع عنها؛ إذ لو لم یقبل بها لردع عنها، ولو ردع لوصل إلینا الردع، وبما أنّه لم یصل فهو لم یردع عنها، فهو راض بها.

السیرة المتشرّعیة علی حجّیة خبر الواحد:

وهو نفس التقریب المتقدّم إلّا أنّه بدل جریان سیرة العقلاء نقول:

جریان سیرة المتشرّعة من أصحاب المعصومین علیهم السلام.

ص:227


1- (1) انظر: مصباح الأصول للبهسودی، تقریرات بحث الخوئی 2:195.

جریان سیرة المتشرّعة من أصحاب المعصومین علیهم السلام.

وقد ارتضی السید الخوئی دلیل السیرة العقلائیة علی حجّیة خبر الواحد، قال فی مصباح الأصول:« ومّما استدلّ به علی حجّیة الخبر الإجماع، وتقریره من وجوه...، الوجه الخامس: الإجماع العملی من جمیع المتشرّعة من زمن الصحابة إلی زماننا هذا علی ذلک، فیکون کاشفاً عن رضا المعصوم علیه السلام.

ثمّ قال: وأمّا الوجه الخامس ففیه: أنّ عمل المتشرّعة من أصحاب الأئمة علیهم السلام والتابعین بخبر الثقة وإن کان غیر قابل للإنکار...، إلّا أنّه لا یکشف عن کون الخبر حجّة تعبّدیة؛ لأنّ عمل المتشرّعة بخبر الثقة لم یکن بما هم متشرّعة، بل بما هم عقلاء، فإنّ سیرة العقلاء قد استقرّت علی العمل بخبر الثقة فی جمیع أمورهم، ولم یردع عنها الشارع، فإنّه لو ردع عن العمل بخبر الثقة لوصل إلینا، کما وصل منعه عن العمل بالقیاس, مع أنّ العامل بالقیاس أقلّ من العامل بخبر الثقة بکثیر، وقد بلغت الروایات المانعة عن العمل بالقیاس إلی خمسمائة روایة تقریباً، ولم تصل فی المنع عن العمل بخبر الثقة روایة واحدة، فنستکشف من ذلک کشفاً قطعیاً أنّ الشارع قد أمضی سیرة العقلاء فی العمل بخبر الثقة.

فتحصّل مّما ذکرنا: أنّ العمدة فی دلیل حجّیة الخبر هی السیرة العقلائیة الممضاة عند الشارع، ولا یرد علیه شیء من الإشکال»(1).

ص:228


1- (1) مصباح الأصول 2:194.

وقد ارتضی السید الشهید الصدر کلا السیرتین فی الدلالة علی حجّیة خبر الواحد الثقة، قال فی البحوث:« وقد ذکر الشیخ الأعظم قدس سره فی الرسائل وجوهاً عدیدة لتقریب الإجماع، أوجهها تقریبه بالسیرة، فنقتصر علیها فی المقام، وهی تارة تقرّب کسیرة متشرّعیة، وعمل أصحاب الأئمة علیهم السلام، وأخری کسیرة العقلاء وعملهم.

فهنا تقریبان تقدّم نظیرهما فی بحث حجّیة الظواهر، وبیان منهجة الاستدلال بکلّ منهما، ولذلک نوجز فی المقام تلک النکات ضمن تطبیقه علی خبر الثقة»(1) ، إلی آخر ما یذکره من تقریر السیرتین.

مقدار دائرة الحجّیّة:

وقع الکلام فی مقدار دائرة الحجّیّة، أی: أنّه لیس کلّ خبر واحد حجّة، بل هناک شروط أخری لابدّ أن تتوفّر فی خبر الواحد حتّی یکون کذلک، وهذه الشروط تختلف حسب الأدلّة الدالّة علی حجّیة خبر الواحد، وبما أنّ أهمّ دلیل علی ذلک هو دلیل السیرة، وهی منعقدة علی خبر الواحد الثقة فالحجّیّة تثبت لخبر الواحد الثقة علی أقل تقدیر، قال السید الخوئی:« فتحصّل مّما ذکرناه فی المقام أنّ العمدة فی حجّیة الخبر هی السیرة, ولا یرد علی الاستدلال بها شیء من الإشکالات، ولا یخفی أنّ مقتضی السیرة

ص:229


1- (1) بحوث فی علم الأصول 4:395.

حجّیة الصحیحة والحسنة والموثوقة، فإنّها قائمة علی العمل بهذه الأقسام الثلاثة»(1).

والنتیجة من جمیع ما تقدّم: هو أنّ هناک مجموعة من الأدلة علی حجّیة خبر الواحد الثقة، وإن اختلف العلماء فی نوع وکم تلک الأدلة، فبعض تمسّک بدلیل قرآنی وروائی وسیرة عقلائیة ومتشرعیة وعقل وإجماع، وبعض تمسّک بدلیل قرآنی وسیرة، وثالث تمسّک بدلیل روائی وسیرة، وهکذا نجد أنّ الدلیل المشترک بین الجمیع هو دلیل السیرة الممضاة، إلّا أنّ هذا لا یعنی أنّ السیرة هی الدلیل الوحید علی حجّیة خبر الواحد الثقة، کما یتوهّمه البعض.

المبحث الثالث: معنی المهم وغیر المهم، ومن هو الحاکم فی ذلک ؟ وما هو المیزان ؟

سنتطرق فی هذا البحث إلی ثلاث نقاط:

النقطة الأولی: معنی المهم وغیر المهم، والمائز بینهما

إنّ البحث عن المهم وغیر المهم یکون علی مستویین:

المستوی الأوّل: البحث فی ضمن حدود الدین والشریعة المقدّسة

ص:230


1- (1) مصباح الأصول 2:200.

وهذا أیضاً تارة یکون فی ضمن العقائد، وأخری فی ضمن الأحکام:

العقائد: فإنّ العقائد الدینیة تصنّف إلی عقائد أصلیة وأساسیة وإلی عقائد فرعیة، ومن الواضح فإنّ العقیدة الأصلیة أهم من الفرعیة.

ویکون المائز بینهما بعدّة أمور: فتارة یکون من خلال الدلیل ونوعیته، وأخری من خلال أساسیة تلک العقیدة لکثیر من العقائد الأخری، من قبیل: عقیدة التوحید فهی أصل للکثیر من العقائد، أو مثل عقیدة العدل، أو مثل عقیدة النبوة وهکذا، ومن الواضح فإنّ عقیدة التوحید أهم من مثل العقائد الجزئیة فی یوم القیامة، وهذا لا یعنی أنّ تلک العقائد غیر مهمّة کما یوهمه العنوان، وإنّما المقصود أنّ بعضها أهم من بعض، فالأصح هنا أن یکون التقسیم بین الأهم والمهم.

الأحکام: وکذا الحال فی الشریعة والأحکام فإنّها تقسّم إلی خمسة أقسام، ومن الواضح فإنّ الواجب أهم من المستحب، والمستحب أهم من المباح، وکذا الأمر فی جهة الحرمة والکراهة.

فإن قلت: إنّ هناک بحثاً مفاده أنّ بعض المستحبات أهم ملاکاً من

الواجبات، کما فی زیارة الإمام الحسین علیه السلام والحج - إن لم نقل بوجوب الزیارة - وعلیه لا یکون الواجب أهم ملاکاً من المستحب دائماً.

أقول: لو کان الأمر کما ذکر - وهو غیر بعید - فغایته الأهمیة علی نحو المقتضی لا علی نحو المجموع، فلربما یکون ملاک المستحب أهم من

ص:231

ملاک الواجب إلّا أنّ هناک مانعاً یمنع من تقنین وجوب هذا الملاک، وعلیه یکون الأمر الواجب هو الأهم من جهة العمل والجری علی طبقه وإن کان ذلک المستحب أهم ملاکاً فی نفسه.

ویمکن تصوّر المهم والأهم فی کلّ نوع من الأحکام الخمسة؛ لأنّها علی مراتب أیضاً وبعضها متفرّع علی بعض، فمن الواضح أنّ وجوب الصلاة أهم من وجوب الجهر بالقراءة فی أولیین المغرب والعشاء، کما أنّ حرمة قتل النفس المؤمنة أهم من حرمة سرقة مال یسیر، کما أنّ استحباب زیارة الأئمة علیهم السلام أهم من استحباب شرب الماء عن جلوس لیلاً، وهکذا الحال فی کثیر من الأحکام.

ثمّ هل أنّ النسبة بین تلک الأحکام هی الأهم والمهم دائماً أو أنّها یمکن أن تکون بین المهم وغیر المهم؟

والجواب: إن کانت الأحکام بین الوجوب والاستحباب والحرمة والکراهة فهی دائماً بین الأهم والمهم؛ لأنّ أحکام الله تعالی کلّها مهمّة، وهذا واضح.

وأمّا الإباحة فهی إن کانت اقتضائیة فیمکن أن یقال فیها ماتقدّم؛ لأنّه سوف تکون من أحکام الله تعالی، وإن قلنا: إنّها لیست کذلک فأمکن القول: إنّها غیر مهمّة فی بعض الموارد، ولا نقول دائماً؛ لأنّه ربما تکون المهمّیة أو حتّی الأهمیة فی إطلاق العنان للمکلّفین.

ص:232

ثمّ إنّ المائز بین المهم والأهم أو بین المهم وغیره، تارة یکون من خلال کثرة الثواب، أو من خلال شدّة العقاب، أو من خلال نص الدلیل الشرعی، أو من خلال الارتکاز المتشرّعی، أو من خلال محوریة ذلک الحکم، وهکذا.

المستوی الثانی: البحث علی ضوء إدراکات العقلاء

إنّ اهتمامات ومهمّات العقلاء یمکن تنویعها إلی نوعین:

النوع الأوّل: الاهتمامات والمهمّات المتفاوتة والمتغیرّة، وهی تتفاوت طولاً وعرضاً

أمّا عرضاً: فلربما یکون أمر ما مهمّاً جدّاً عند بعضهم ولا یکون کذلک عند غیرهم، وإن کانوا یعیشون فی زمن واحد وفی أماکن متقاربة نوعاً ما، وهذا یخضع لعدّة عوامل لها التأثیر الکبیر علی اهتمامات العقلاء وتحدید الأولیات عندهم، ومن تلک العوامل: العامل الدینی فإنّه یفصل العاقل المتدین عن غیره بأمور کثیرة، حتّی أنّ بعضها یصل إلی طرفی نقیض علی مستوی الرؤیة الکونیة وعلی مستوی الأیدلوجیات والأفعال، فإنّه ربما تصل الحالة بالعاقل المتدین إلی أن یضحّی بنفسه وبکلّ ما یملک من أجل العقیدة بینما یری العاقل غیر المتدین هذا الفعل سفاهة وجهلاً.

ومن العوامل أیضاً عامل البیئة والموروث الثقافی الذی یحمله کلّ فرد فی داخل مجتمع معیّن، حیث إنّ هذه الحالة تؤثّر کثیراً علی اهتمامات

ص:233

کلّ شخص وتمیّزها عن اهتمامات آخر لا یعیش فی تلک الأجواء ولیس له تلک الموروثات، من قبیل اهتمام شخص فی مجتمع ما بطریقة لبسه ومأکله وطریقة تعامله مع ضیفه یختلف عن شخص آخر یعیش فی مجتمع آخر.

إلی غیر ذلک من العوامل التی تتشکّل بتبعها الأعراف والعادات والتقالید.

وأمّا طولاً: فإنّه نجد أنّ بعض الاهتمامات کانت عند قوم ما تجری بطریقة معیّنة، إلّا أنّها تغیّرت بمرور الزمن عندهم أو عند أبنائهم وأحفادهم، لمثل العوامل المتقدّمة وغیرها، ولیس المحلُ محلَّ بحث تلک العوامل.

النوع الثانی: الاهتمامات الثابتة

وهی تلک الاهتمامات التی ثبت علیها العقلاء بما هم عقلاء مهما اختلفت الأمکنة والأزمنة والثقافات والدیانات، فإنّ هناک بعض القضایا وجدنا أنّها محلّ اهتمام العقلاء علی اختلافهم وتنوّعهم، من قبیل: حسن العدل وقبح الظلم، فکلّ عدل أینما کان وکیفما کان فإنّ العقلاء یحسّنونه، وکلّ ظلم أینما کان وکیفما کان فإنّ العقلاء یقبّحونه، والأدلة علی ذلک عدیدة، ویکفیها الوجدان تقدّماً.

الأهم والمهم وغیر المهم:

إنّ التقسیم فی أهمیة الأحکام والموضوعات لیس تقسیماً ثنائیاً - کما قد یوهمه البعض بأن تقسّم الأمور إلی مهم وغیر مهم وإنّما المسألة لها أقسام کثیرة؛ لأنّ الأهمیة من الأمور النسبیة؛ لأنّه ربما یکون أمر مهمّاً

ص:234

بالنسبة لما فوقه وأهم بالنسبة إلی ما تحته، وهذا أمر موجود فی الأمور الدینیة والأمور العقلائیة، ومثاله فی الدین والشریعة: أن یکذب الإنسان لحفظ النفس المؤمنة، فإنّ ترک الکذب وإن کان مهمّاً إلّا أنّ حفظ النفس المؤمنة أهم، ثمّ إنّه لو خیّر بین الکذب لحفظ النفس المؤمنة أو الکذب لحفظ نفس النبی، فإنّ الثانی هو الأهم، فیکون الکذب لحفظ النفس المؤمنة أهم بالنسبة إلی ترک الکذب، ویکون مهمّاً بالنسبة إلی حفظ نفس النبی.

ومثاله عند العقلاء: أن یخیّر إنسان بین هلاک واحد أو هلاک عشرة، فمن الواضح فإنّ هلاک العشرة أهم من الواحد، ثمّ یخیّر بین هلاک هؤلاء العشرة وبین هلاک مئة، فمن الواضح هلاک المئة أهم.

وکذا نری أنّ موضوع المهم والأهم من الأمور النسبیة عند الشرع وعند العقلاء.

النقطة الثانیة: الحاکم فی تحدید المهم

إنّ الحاکم فی الأمور الدینیة والشرعیة هو الله تعالی، لأنّه صاحب الشرع وهو العالم بالملاکات وخفایا الأمور، فإنّ غیره لایمکنه ذلک أصلاً؛ لأنّه لا اطّلاع له علی تلک الأمور، فالحاکم الوحید فی تحدید الأهم والمهم هو الحقّ تعالی، فهو الذی یحدد الأولویات، وهو الذی یعیّن النسب بین الموضوعات، فلربما أمر بحفظ النفس ولربما أمر ببذل النفس، ولربما أمر بالقتال ولربما أمر بالصلح، فکلّ شیء مرتبط بإرادته ومشیئته جلّ وعلا، وحتّی ما أوکله من الموضوعات إلی العرف فإنّه بأمره تعالی وغیر خارج

ص:235

عن سلطانه التشریعی وتحدیده للأهم والمهم.

وأمّا الحاکم فی قضایا العقلاء فهو العقل، ولیس المقصود العقل الفلسفی البرهانی الدقیق، وإنّما هو العقل العقلائی، هذا طبعاً فی الاهتمامات الثابتة، وأمّا غیرها فإنّ الحاکم عوامل کثیرة ومتعددة کما تقدّمت الإشارة إلیها.

النقطة الثالثة: المیزان فی تحدید الأهم والمهم

من الواضح أنّ المیزان فی الأمور الشرعیة بید الشارع الأقدس، ولا یحقّ لأحد التدخّل فی ذلک، فلربما یری العبد أنّ المصلحة علی خلاف الحکم الإلهی إلّا أنّه لا یحقّ له المخالفة والتغییر ما دام أنّ لله تعالی حکماً واضحاً فی تلک الواقعة، وذلک یعود لخفاء المصالح والمفاسد الواقعیة التی تعتمد علیها الأحکام الشرعیة.

وأمّا الأمور العقلائیة: فإنّ ما کان متغیّراً منها فإنّ المیزان فیها عدّة أمور تبعاً لعوامل التغیّر المتقدّمة، وأمّا ما کان ثابتاً منها فمیزانه العقل والفطرة، بدون تعقید وتشویش.

شبهة وإشکالیة البحث: خبر الواحد لیس حجّة فی الأمور المهمّة

یعتقد أصحاب هذه الشبهة أنّ خبر الواحد لا یکون حجّة فی الأمور المهمّة، أی: لا یمکن الاعتماد علی خبر الواحد فی تحدید حکم الأمور

ص:236

المهمّة، من قبیل: أنّه لا یمکن الاعتماد علی خبر یثبت وجوب قتل المرتد أو سابّ النبی صلی الله علیه و آله؛ لأنّ هذا الحکم جاء من طریق الخبر الواحد، وبما أنّ هذا الموضوع یرتبط بالأمور المهمّة؛ لأنّه فیه قتل ودماء فخبر الواحد لیس حجّة هنا، ولا یمکن الاعتماد علیه.

دلیل أصحاب هذا الرأی:

استدلّ أصحاب هذا الرأی علی مدّعاهم بما یلی: أنّ الدلیل التام والوحید علی حجّیة خبر الواحد هو السیرة العقلائیة الممضاة من قبل الشارع، وإذا کان الأمر کذلک فلابدّ من الرجوع إلی تلک السیرة لمعرفة أنّ العقلاء فی أیّ الموارد یجرون هذه السیرة، لأنّه لا یجوز التعدّی عن الموارد التی یجری فیها العقلاء تلک السیرة، فالإمضاء لتلک السیرة من قبل الشارع یکون بالمقدار الذی یرتضیه العقلاء، وإذا رجعنا إلی الموارد التی یجری فیها العقلاء تلک السیرة نجدهم أنّهم یجرونها فی الأمور غیر المهمّة، ولا یجرونها فی الأمور المهمّة؛ لأنّ خبر الواحد الثقة فی مثل هذه الأمور لا یورث الاطمئنان، وبما أنّ حکم قتل المرتد وسابّ النبی صلی الله علیه و آله من الأمور المهمّة إذن فلا تجری السیرة فیهما، والنتیجة سقوط حجّیة خبر الثقة فی هذه الموارد من الأساس، لعدم جریان السیرة العقلائیة فی مثل هذه الأمور أصلاً، وإذا سقطت السیرة فی هذه الأمور لا یبقی أیّ دلیل علی شمول حجّیة خبر الواحد للأمور المهمّة.

ص:237

جواب الشبهة:

المبحث الرابع: شمول حجّیة خبر الواحد للأمور المهمّة وغیر المهمّة:

بعد أن تقدّم الکلام عن معنی حجّیة خبر الواحد، وعن أدلة تلک الحجّیة، وعن الأمور المهمّة وغیر المهمّة عند الشارع وعند العقلاء، مع بیان الشبهة المطروحة فی المقام، یصل الکلام إلی النقطة المهمّة من هذا البحث والتی من أجلها عقدنا هذه الدراسة، وهی شمول حجّیة خبر الواحد الثقة للأمور المهمّة وغیر المهمّة.

استفهام وبیان:

ربما یقال: إنّ الأمور غیر المهمّة لا یستحقّ البحث عنها أصلاً، وإنّما الکلام عن الأمور المهمّة، وهذا المقدار من حجّیة خبر الواحد هو القدر المتیقّن، وعلیه لا فائدة من هذا البحث بل العنونة بهذا الشکل عنونة خاطئة، فحتّی الشبهة المطروحة لا موضوعیة لها أصلاً.

وفی مقام البیان عن هذا الاستفهام نقول: إنّ هذا الاستفهام یمکن أن یرقی لأن یکون إشکالاً، فالحقّ کما قیل، ولکن عنونّا هذا المبحث بهذا الشکل بناء علی الشبهة المتقدّمة من أنّ حجّیة خبر الواحد لا تشمل الأمور المهمّة، فحقّ العنوان أن یکون کالآتی: شمول حجّیة خبر الواحد للأمور الخطیرة وغیر الخطیرة، والخطیرة هی الأمور الشدیدة الأهمیة، أی: أنّها

ص:238

علی درجة عالیة من الأهمیة سواء عند الشارع أو عند العقلاء، وهذا أیضاً یدخل ضمن النسبیة التی تقدّم الکلام عنها فی الأهم والمهم.

المدّعی المطلوب إثباته:

إنّ المدّعی أنّ حجّیة خبر الواحد تشمل الأمور المهمّة والخطیرة، کما تشمل الأمور الأقل أهمیة والأمور غیر الخطیرة، فإنّ حجّیة خبر الواحد یمکن الاعتماد علیها فی الأمور الجزئیة مثل شکّیات الصلاة، أو تحدید صیغة معیّنة لعقد البیع مثلاً، أو تحدید الوظیفة عند الشک فی الرکعات وأمثال هذه الأحکام، کما وأنّها معتبرة حتّی فی مثل الدماء والأعراض، فإنّه یمکن أن یثبت حکم قتل المرتد وسابّ النبی صلی الله علیه و آله مثلاً بالخبر الواحد الثقة.

أدلة الشمول:

هناک أدلة عدیدة تثبت شمول حجّیة خبر الواحد الثقة للأمور المهمّة والخطیرة:

الدلیل الأوّل: ما تقدّم من معنی الحجّیة للخبر الواحد الثقة علی جمیع المبانی فی تفسیر معنی الحجّیة، سواء کانت بمعنی الطریقیة أو الحکم المماثل أو التزاحم الحفظی أو غیرها، فهی تعنی أنّ حقیقة الأمارة والتی تستنتج من دلیل حجّیة خبر الواحد تشمل الأمور المهمّة والخطیرة وغیرها.

ص:239

فإنّ قلت: إنّ هذا مصادرة علی المطلوب؛ لأنّ الکلام عن أصل ثبوت الحجّیة للأمور الخطیرة والمهمّة، والبحث عن معانی الحجّیة یکون بعد ثبوتها، فکیف تثبتونها من خلال معانی وحقیقة الحجّیة؟

نعم، لو ثبتت الحجّیة للأمور المهمّة والخطیرة فهی تثبت بجمیع معانی الحجّیة المتقدّمة.

قلت: إنّ ثبوت أصل الحجّیة للخبر الواحد الثقة مما لا إشکال فیه، فهو محلّ اتّفاق خصوصاً عند متأخّری العلماء، والمقصود من هذا الدلیل هو إثبات أنّ معانی الحجّیة المتقدّمة لا تمنع من شمول الأمور الخطیرة والمهمّة، وحینئذ فلا فرق بین الأمور الخطیرة وغیرها من هذه الجهة.

الدلیل الثانی: أنّ الأدلة التی أقیمت علی حجّیة خبر الواحد کانت علی أنواع کما تقدّم، فإنّ منها ماهو آیة قرآنیة، ومنها ما هو روایة، ومنها ما هو معتمد علی السیرة العقلائیة والسیرة المتشرعیة، ومنها الإجماع، ومنها العقل، فما کان منها معتمداً علی دلیل لفظی فإنّه یمکن حینئذ التمسّک بإطلاق ذلک الدلیل وشموله للأمور المهمّة وغیر المهمّة، فإنّ الإطلاق حجّة.

فإن قلت: إنّ هذا الجواب یفید علی رأی من یری أنّ بعض الأدلة اللفظیة تامّة الدلالة علی حجّیة خبر الواحد، لا علی جمیع المبانی.

قلت: هذا یکفی لإبطال شبهة المستشکل ولو علی نحو القضیة

ص:240

الجزئیة، حتّی یتبیّن مقدار الشبهة المثارة حول الموضوع.

الأدلة اللفظیة لیست فی مقام البیان:

یعود المستشکل ویشکل علی هذا الجواب بإشکال واهٍ جدّاً، حاصله:

حتّی لو تمّ بعض الأدلة اللفظیة علی حجّیة خبر الواحد فهی لیست بحجّة من هذه الجهة، أی: من جهة شمولها للأمور المهمّة وغیر المهمّة؛ وذلک لأنّ هذا الشمول فرع الإطلاق، والإطلاق فرع أن یکون المتکلّم فی مقام البیان من هذه الجهة، والأمر لیس کذلک؛ لأنّ المتکلّم فی مقام البیان من جهة أصل الحجّیة لا أنّه فی مقام بیان موارد الحجّیة.

والنتیجة: حتّی لو تمّت تلک الأدلة اللفظیة فهی لا تدلّ علی حجّیة خبر الواحد فی الأمور المهمّة.

الجواب:

إنّ الإشکال المتقدّم من الغرابة بمکان؛ فإنّه یجاب علیه:

أوّلاً: أنّه لو تمّت الأدلة اللفظیة علی حجّیة خبر الواحد فإنّ القدر المتیقّن منها هو الإطلاق من هذه الجهة؛ وذلک لأنّ الدلیل أساساً أقیم وجیئ به لبیان الأماکن التی یصح التمسّک بها بخبر الواحد، فإذا أطلق الدلیل ذلک فهذا معناه أنّ المتکلّم یرید جمیع الموارد.

وبعبارة أخری: أنّ هدف المتکلّم من آیة النفر أو النبأ أو ما شابههما -

ص:241

بناء علی تمامیة الدلالة علی المطلوب، کما هو المفترض - هو بیان لحجّیة خبر الواحد، وأنّه یصح الاعتماد علیه فی الأحکام الشرعیة، وتحدید الموضوعات والطرق التی یرتضیها الشارع، فالمتکلّم فی صمیم البیان وإلّا لما کان هناک معنی لبیان حجّیة طریق معیّن من دون بیان موارده.

وثانیاً: لو تمّت الأدلة اللفظیة الشرعیة علی الحجّیة، فإنّ تحدید المهم وغیر المهم بید الشارع حینئذ، وبما أنّ هذا أمر خارج عن تشخیص العقلاء فالمرجع الوحید فیه هو الشارع، فإن جاء دلیل علی موضوع معیّن فهو فیه حجّة وهو یدلّ علی أهمیته، وإلّا لکان علی الشارع أن یبیّن، فإذا لم یبیّن لکان نقضاً للغرض، تعالی الشارع عنه علوّاً کبیراً، فلا یحقّ لأیّ عاقل أنّ یدّعی أنّ هذا الموضوع الشرعی مهم أو غیر مهم إلّا ببیان الشارع نفسه.

فإن قلت: إنّ الشارع نفسه قد اهتمّ بموارد الدماء والأعراض والأموال أکثر من غیرها.

قلت: هذا ما سیأتی بیانه والجواب عنه إن شاء الله.

الدلیل الثالث: أنّ هناک اتّجاهین فی حجّیة خبر الواحد الثقة:

الأوّل: مبنی الوثاقة، وهو یعنی أنّه متی ما تحققت الوثاقة من شخص فإنّ خبره یکون معتبراً ویصح الاعتماد علیه؛ لأنّ حجیّته تعبدیة ملزمة ولا یصح ترکها.

ص:242

وبناء علی هذا المبنی فمتی تحققت الوثاقة تحققت الحجّیة مع غض الطرف عن الأمر الذی جاء به هذا الثقة فسواء کان أمراً مهماً أو کان غیر مهم فهذا الخبر الثقة حجّة، ولا یصح ترکه وترک العمل به إلّا بحجّة أخری أقوی من تلک الحجّة.

وعلیه فبناء علی هذه الرؤیة لحجّیة خبر الواحد فأساس الإشکال غیر وارد؛ لأنّ الإشکال مبنی علی حصول الاطمئنان والوثوق، وهذا المبنی یقول: إنّ حجّیة خبر الواحد تعبدیة ملزمة حتّی لو لم یحصل الوثوق بالصدور.

الثانی: مبنی الوثوق، وهو یعنی أنّ خبر الواحد الثقة لایکون حجّة إلّا إذا أورث الوثوق والاطمئنان بالصدور، وحینئذ وعلی هذا المبنی یکون النقاش مع المستشکل صغرویاً، أی: فی حصول الاطمئنان من خبر الواحد الثقة فی الأمور المهمّة والخطیرة وعدم حصول ذلک، فنقول:

إذا مارجعنا إلی العقلاء قدیماً وحدیثاً نجدهم یعتقدون بأنّ أحد أهم قرائن الوثوق والاطمئنان هو خبر الثقة، لذلک نجدهم یعوّلون کثیراً ویعملون بمضمون أخبار الثقات، فهذه حالة نجدها عندهم أنّهم یعتمدون علی أخبار الثقات فی مختلف مجالاتهم الحیاتیة سواء فی الأمور الخطیرة وغیرها، فنجد أنّهم یعتمدون علی خبر الثقة فی حربهم وصلحهم وبیعهم وشرائهم وترتیب برامجهم وإعداد متطلبات ذلک، جمیع ذلک مبتن علی أخبار الثقات، ومانجده الیوم فی أجهزة المخابرات والاستخبارات فی

ص:243

الدول من اعتمادهم وبناء سیاساتهم علی خبر ثقاتهم شاهد حی علی ماندّعیه.

نعم، إنّ الجهة التی یدقق فیها العقلاء هی جهة إثبات وثاقة هذا المخبر وإمکان الاعتماد علیه، فبعد أن یثبت ذلک فإنّ العقلاء یعتمدون علی هذا الخبر بلاتوقّف، فإن کان هناک إشکال فی العمل فی بعض أخبار الثقات فهو من جهة عدم إحراز الاطمئنان، وعدم الاطمئنان الحاصل مع وجود خبر الثقة إنّما یکون لأجل بعض المعارضات لذلک الخبر، لا لأجل عدم حجّیة الخبر الواحد الثقة فی الأمور المهمّة، وإلّا فمع إحراز الوثوق والاطمئنان وعدم المعارض أو مضعّف آخر، لایتوقّف العقلاء فی العمل بخبر الثقة.

والتوقّف فی خبر الواحد الثقة لأجل بعض المعارضات لایقتصر علی الأمور المهمّة، بل هو جار فی الأمور غیر المهمّة وغیر الخطیرة أیضاً.

النتیجة: أنّه علی مبنی الوثاقة فلا موضوعیة للإشکال من الأساس، وأمّا علی مبنی الوثوق والاطمئنان فاعتماد العقلاء حاصل سواء فی الأمور المهمّة وغیر المهمّة، وإن کان ثمّة إشکال فهو یعود إلی حصول الاطمئنان أو عدمه، وهذا لایفرّق فیه بین الأمور الخطیرة وغیر الخطیرة.

الدلیل الرابع: وهو دلیل استنتاجی نستفیده من تطبیقات الشریعة المقدّسة لحجیّة خبر الواحد الثقة.

عندما نراجع الشریعة المقدّسة وکیفیة ثبوت الأحکام الشرعیة نجد أن

ص:244

لحجّیة خبر الواحد مساحة واسعة جدّاً فی ذلک، مما یجعلنا نقطع بأنّ هناک مجموعة کبیرة من الأحکام الشرعیة الأساسیة - وإن شئت فعبّر عنها بالأمور الخطیرة والمهمّة - قد ثبتت بخبر الواحد الثقة، ولازم هذا الکلام أنّ الشارع أمضی السیرة العقلائیة التی تجری فی الأمور المهمّة وغیر المهمّة، وإلّا فإن لم تکن السیرة قائمة علی الأمور المهمّة فکیف أجری الشارع تلک السیرة فی أغراضه التی هی مهمّة علی کلّ حال، بل وحتّی فی أغراضه الأهم، فهذا یدلّ بالدلالة الالتزامیة علی موارد جریان السیرة عند العقلاء.

وعلیه فإنّ البحث عن الأهمیة الشرعیة یکون له دخل فی الموضوع لا کما ادّعاه البعض، وبذلک یتبیّن أیضاً العلاقة والملازمة بین الأهمیة عند العقلاء والأهمیة عند الشرع، وسذاجة رأی من أنکر ذلک.

الدلیل الخامس: أنّ السیرة بکلا قسمیها من العقلائیة والمتشرعیة قد دلّت علی حجّیة خبر الواحد الثقة، فإن تمّمنا الإشکال المتقدّم فإنّما هو بناء علی السیرة العقلائیة، وأمّا بناء علی السیرة المتشرعیة فلا یرد الإشکال؛ وذلک لأنّ أهم الأمور عند المتشرعة هو إطاعة المولی فی أحکامه الشرعیة، فإذا أجروا تلک السیرة فی هذه الأمور، فهو دلیل واضح علی أنّ السیرة قائمة علی العمل بخبر الواحد الثقة حتّی فی الأمور المهمّة والخطیرة.

الدلیل السادس: لو تنزّلنا عن جمیع ما تقدّم فإنّ ما ذکره المستشکل لیس له مصداق واضح فی الشریعة المقدّسة، بیان ذلک:

إنّ مما اتّفق علیه الجمیع وأقرّ به المستشکل أیضاً: أنّ خبر الواحد

ص:245

الثقة المعضود ببعض القرائن حجّة بلا إشکال عند الجمیع سواء فی الأمور المهمّة أو غیر المهمّة، من قبیل: موافقة الخبر للکتاب، أو للإجماع، أو للشهرة، أو کان معتضداً ببعض الأخبار الأخری، أو علیه السیرة المتشرعیة، أو ما شاکل من هذه الأمور، وإذا رجعنا إلی الأحکام الشرعیة فی الأمور المهمّة والخطیرة نجدها لا تخلو عن تلک المعاضدات أو بعضها، فعلی سبیل المثال: ما نجده فی حکم المرتد وسابّ النبی صلی الله علیه و آله، فإنّ الحکم هو القتل، وهذا الحکم علیه الإجماع، ومعه الشهرة، وفیه أخبار کثیرة، حتّی ادّعی فیه التواتر، کما وعلیه السیرة المتشرعیة، وهکذا الأمر فی موارد القصاص والدیات وما شاکل من الأمور المهمّة.

فما صوّره المستشکل غیر موجود أساساً؛ لأنّه نفسه قد استعرض الإجماع واستعرض الشهرة واستعرض الأخبار العدیدة علی ذلک الحکم، ثمّ یصوّر - تدلیساً وکذباً - أنّ مثل حکم قتل المرتد وسابّ النبی صلی الله علیه و آله ماهو إلّا خبر واحد، والخبر الواحد لا یصح الاعتماد علیه فی مثل هذه الأمور، فنفی حکماً شرعیاً علیه الأخبار والإجماع والشهرة والسیرة بهذه البساطة والسذاجة والصلافة.

فإن قلت: إنّ المستشکل قد ناقش فی الإجماع والشهرة وأمثال ذلک من القرائن.

قلت: لو لم یناقش لکان کلّ منها دلیلاً بعینه وله اعتباره المستقل، فکلامنا معه فی هذا الدلیل مع الأخذ بنظر الاعتبار تلک المناقشات وقبولها،

ص:246

فإنّ عدم اعتبار کلّ دلیل بعینه لا یعنی أنّ هذا الدلیل لا یصلح لأن یکون شاهداً وعاضداً لدلیل آخر، وهو قد قَبِل أنّ خبر الواحد الثقة إذا کان محفوفاً بالقرائن فهو معتبر وتام.

الاحتیاط فی الدماء والأعراض والأموال:

یعود المستشکل من جدید ویردد إشکالاً آخر فی المقام، حاصله: لو سلّمنا أنّ حجّیة خبر الواحد تشمل الأمور المهمّة إلّا أنّها لا تشمل مثل الدماء والأعراض والأموال الخطیرة؛ وذلک لأنّ الفقهاء قد أسسوا قاعدة مضمونها (أصالة الاحتیاط فی الدماء والأعراض والأموال الخطیرة)، واحتاطوا فی هذه الموارد ما لم یحتاطوا فی غیرها، وهذا یعنی أنّ هذه الموارد تحتاج إلی یقین، ولا یکفی فیها الخبر الواحد، من هنا فلا یمکن إثبات حکم المرتد وسابّ النبی صلی الله علیه و آله لمجرد وجود خبر واحد.

جواب الإشکال: موارد وحقیقة هذه القاعدة

إنّ المستشکل قد وقع فی خلط کبیر؛ إذ إنّه لم یمیّز بین تطبیقات وموارد القاعدة المذکورة وبین ما نحن فیه، لذلک سنورد علیه مجموعة من الملاحظات عساها تکون منبّهات لما غفل عنه إذا لم یکن قد تغافل.

فنقول: إنّ من تتبع کلمات الفقهاء واستدلالاتهم الفقهیة یجد أنّ حقیقة هذه القاعدة تقتضی أن تطبّق فی موارد خاصّة، منها:

أوّلاً: جریان هذه القاعدة عادةً فی تشخیص الموضوعات الخارجیة،

ص:247

وتحدید موارد العنوانین الانطباقیة، فهی ترتبط بالإثبات الخارجی، وهذا غریب عمّا نحن فیه.

ثانیاً: أنّ هذه القاعدة تجری فی تلک الموارد مع عدم وجود دلیل معتبر یدلّ علی حکم تلک الموارد، وإلّا فمع وجود الدلیل لا قائل بالاحتیاط، ومع اعتبار دلیل الأمارة فلا تجری هذه القاعدة بلا إشکال.

ثالثاً: أنّ هذه القاعدة تجری مع وجود دلیلین معتبرین متعارضین لایمکن الجمع بینهما، فیرجّح ماکان موافقاً لهذه القاعدة؛ لأنّه مقتضی الاحتیاط.

رابعاً: أنّ هذه القاعدة تجری فی مواردها فی حالة عدم وضوح الدلیل أو إجماله أو شک فی شموله لتلک الموارد مع کون هذا الدلیل مخالفاً للاحتیاط.

خامساً: أنّ هذه القاعدة تجری عادة فیما لو کان جریان الأصول کالبراءة والتخییر مثلاً علی خلاف الاحتیاط، ففی مثل هذه الحالة تقدّم أصالة الاحتیاط لأجل موارد الدماء والأعراض والأموال الخطیرة، وهذا المورد هو الأکثر استعمالاً لهذه القاعدة.

سادساً: أنّ هذه القاعدة تجری فی حالة بقاء الشک لا فی حالة انعدامه، والمفروض أن لا شک فی حالة وجود دلیل معتبر، فلا مورد لها علی جمیع المبانی فی معنی الحجّیة التی تقدّم بیانها فی بدایة البحث.

ص:248

سابعاً: أنّ هذه القاعدة تعتبرأصلاً فی قبال بقیة الأصول، ومن الواضح فإنّ الأصول لاتجری إلّا مع غیاب الدلیل علی الحکم الشرعی، قال فی الجواهر:« ولانعرف له وجهاً إلّا الاحتیاط فی الدماء الذی لایعارض الأدلة»(1) ، وقال اللنکرانی فی تفصیل الشریعة:« إنّ مسألة الاحتیاط فی الدماء لایبقی لها مجال مع وجود الدلیل علی خلافها»(2).

وبذلک یتبیّن الخلط الذی وقع فیه المستشکل، فإنّ قاعدة الاحتیاط هذه لایبقی لها مورد مع وجود الدلیل المعتبر علی ثبوت الحکم الشرعی، هذا بالإضافة إلی أنّ تطبیقاتها خارج عمّا نحن فیه، فلا یوجد أیّ تنافی بین هذه القاعدة وبین حجّیة خبر الواحد الثقة، فإنّ بینهما طولیة لاعرضیة.

الخاتمة:

وفی الخاتمة نذکّر القارئ الکریم بأهم الأبحاث التی تطرّقنا إلیها: فقد استعرضنا أهم معانی الأمارة وأهم معانی الحجّیة، کما وقد استعرضنا أهم أدلة حجّیة خبر الواحد، وذکرنا بعض الإشکالات علی بعض الأدلة بشکل مختصر، ثمّ تطرّقنا إلی بیان مسألة الأهمیة والمهمّیة، وأنّها مسألة نسبیة، کما وقد استعرضنا الحاکم والمائز فی مسألة الأهمیة، وما یرتبط بذلک، ثمّ استعرضنا الشبهة فی المقام من أنّ خبر الواحد لیس حجّة فی الأمور

ص:249


1- (1) جواهر الکلام 42:204.
2- (2) تفصیل الشریعة (القصاص): 192.

المهمّة، وبیّنا أنّها لا تستند إلی دلیل علمی، ثمّ تطرّقنا إلی قاعدة الاحتیاط فی الدماء والأعراض وکیفیة تشبّث المستشکل بها، وبیّنا اشتباهه وخلطه فی المقام.

فثبت من جمیع ما تقدّم أنّ خبر الواحد الثقة حجّة مطلقاً فی الأمور الأشدّ أهمیة والمهمّة وغیر المهمّة.

ص:250

فهرس مصادر

مقال حجّیة الخبر الواحد فی الأمور المهمّة (قتل المرتد وساب النبیّ صلی الله علیه و آله أنمودجاً)

1 - الاجتهاد و التقلید، الشیخ الغروی، تقریرات بحث السید الخوئی، نشر: مؤسسة إحیاء آثار الإمام الخوئی، الطبعة الثالثة 1428 ه -، قم - إیران.

2 - أجود التقریرات، السید الخوئی، تقریرات بحث النائینی، تحقیق و نشر: مؤسسة صاحب الأمر، الطبعة الأولی 1419 ه -، قم - إیران.

3 - أصول الفقه، الشیخ محمّد رضا المظفر، نشر: مکتب الإعلام الإسلامی، الطبعة الثانیة 1415 ه -، قم - إیران.

4 - أنوار الهدایة، الإمام الخمینی، تحقیق و نشر: مؤسسة تنظیم و نشر آثار الإمام الخمینی، الطبعة الأولی 1413 ه -، قم - إیران.

5 - البحث فی رسالات عشر، محمّد حسن القدیری.

6 - بحوث فی علم الأصول، محمود الهاشمی، تقریرات بحث السید محمّد باقر الصدر، نشر: مؤسسة دائرة المعارف للفقه الإسلامی طبقاً لمذهب أهل البیت علیهم السلام، الطبعة الثالثة 1426 ه -، قم - إیران.

ص:251

7 - بدایة الوصول فی شرح کفایة الأصول، محمّد طاهر آل الشیخ راضی، تصحیح: محمّد عبد الحکیم، الطبعة الأولی 1425 ه -، قم - إیران.

8 - تاج العروس فی جواهر القاموس، السید محمّد مرتضی الحسینی الزبیدی، تحقیق: علی شیری، نشر: دار الفکر، سنة الطبع 1414 ه -، بیروت - لبنان.

9 - تفصیل الشریعة فی شرح تحریر الوسیلة، الشیخ الفاضل اللنکرانی، تحقیق و نشر: مرکز فقهی ائمه أطهار علیهم السلام، الطبعة الأولی 1421 ه -، قم - إیران.

10 - تنقیح الأصول، محمّد رضا الطباطبائی، تقریرات بحث العراقی، سنة الطبع 1371 ه -، النجف الأشرف - العراق.

11 - جامع أحادیث الشیعة، السید حسین البروجردی، سنة الطبع 1399، قم - إیران.

12 - جواهر الکلام، الشیخ محمّد حسن النجفی، مراجعة و تصحیح: رضا جعفر مرتضی العاملی و محمّد علی حاتم، نشر: دار إحیاء التراث العربی، الطبعة الأولی 1430 ه -، بیروت - لبنان.

13 - حاشیة علی کفایة الأصول، الحجتی، تقریرات بحث البروجردی.

14 - الحلقة الثالثة فی إسلوبها الثانی، الشیخ باقر الإیروانی، نشر: المحبین للطباعة والنشر، الطبعة الأولی 2007 م، قم - إیران.

15 - دروس فی علم الأصول، السید محمّد باقر الصدر، نشر: مؤسسة النشر الإسلامی، قم - إیران.

ص:252

16 - زبدة الأصول، السید صادق الحسینی الروحانی، نشر: مدرسة الإمام الصادق علیه السلام، الطبعة الأولی 1412 ه -، قم - إیران.

17 - الصحاح، إسماعیل بن حماد الجوهری، تحقیق: أحمد عبد الغفور عطار، نشر: دار العلم للملایین، الطبعة الأولی 1376 ه -، القاهرة - مصر.

18 - غریب الحدیث، إبراهیم بن إسحاق الحربی، تحقیق: سلیمان بن إبراهیم بن محمّد، نشر: دار المدینة، الطبعة الأولی 1405 ه -، المملکة العربیة السعودیة.

19 - فرائد الأصول، الشیخ الأنصاری، تحقیق: لجنة تحقیق تراث الشیخ الأعظم، الطبعة الأولی 1419 ه -، قم - إیران.

20 - الفروق اللغویة، أبو هلال العسکری، تحقیق و نشر: مؤسسة النشر الإسلامی، الطبعة الأولی 1412 ه -، قم - إیران.

21 - فوائد الأصول، الکاظمی، تقریرات بحث النائینی، تعلیق: آغا ضیاء الدین العراقی، نشر: مؤسسة النشر الإسلامی، سنة الطبع 1404 ه -، قم - إیران.

22 - القاموس المحیط، الفیروز آبادی.

23 - القواعد الفقهیة، البجنوردی، تحقیق: محمّد حسین الدرایتی و مهدی المهریزی، نشر: الهادی، الطبعة الأولی 1419 ه -، قم - إیران.

24 - کفایة الأصول، الشیخ محمّد کاظم الخراسانی، تحقیق و نشر: مؤسسة النشر الإسلامی، الطبعة التاسعة 1425 ه -، قم - إیران.

ص:253

25 - لسان العرب، ابن منظور الإفریقی، نشر: أدب الحوزة، سنة الطبع 1405 ه -، قم - إیران.

26 - لمحات الأصول، الإمام الخمینی، تقریرات بحث البروجردی، تحقیق و نشر: مؤسسة تنظیم و نشر آثار الإمام الخمینی، الطبعة الأولی 1421 ه -، قم - إیران.

27 - المباحث الأصولیة، الشیخ إسحاق الفیاض، نشر: مکتب الشیخ الفیاض، الطبعة الأولی.

28 - مجمع البحرین، فخر الدین الطریحی، نشر: مرتضوی، الطبعة الثانیة 1362 ش، طهران - إیران.

29 - محاضرات فی أصول الفقه (ضمن موسوعة السید الخوئی)، الشیخ الفیاض، تقریرات بحث الخوئی، نشر: مؤسسة إحیاء آثار الإمام الخوئی، الطبعة الثالثة 1428 ه -، قم - إیران.

30 - مصباح الأصول (ضمن موسوعة السید الخوئی)، البهسودی، تقریرات بحث الخوئی، نشر: مؤسسة إحیاء آثار الإمام الخوئی، الطبعة الثالثة 1428 ه -، قم - إیران.

31 - معارج الأصول، المحقق الحلّی، إعداد: محمّد حسین الرضوی، نشر: مؤسسة آل البیت علیهم السلام، الطبعة الأولی 1403 ه -، قم - إیران.

32 - معالم الأصول (معالم الدین و ملاذ المجتهدین)، الشیخ حسن بن الشهید الثانی، تحقیق و نشر: مؤسسة النشر الإسلامی، قم - إیران.

33 - معجم مقاییس اللغة، أحمد بن فارس.

ص:254

34 - منتقی الأصول، السید عبد الصاحب الحکیم، تقریرات بحث السید محمّد الروحانی، الطبعة الثانیة 1430 ه -، قم - إیران.

35 - منتهی الأصول، حسن بن علی أصغر الموسوی البجنوردی.

36 - المیزان فی تفسیر القرآن، العلّامة الطباطبائی، نشر: مؤسسة الأعلمی، الطبعة الأولی 1417 ه -، بیروت - لبنان.

37 - نهایة الأفکار، البروجردی، تقریرات بحث العراقی، نشر: مؤسسة النشر الإسلامی، سنة الطبع 1405 ه -، قم - إیران.

38 - نهایة الدرایة فی شرح الکفایة، الشیخ محمّد حسین الإصفهانی، نشر و تحقیق: مؤسسة آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث، الطبعة الثانیة 1429 ه -، بیروت - لبنان.

39 - النهایة فی غریب الحدیث، ابن الأثیر، تحقیق: طاهر أحمد الزاوی و محمود محمّد الطناحی، نشر: مؤسسة إسماعیلیان، الطبعة الرابعة 1364 ش، قم - إیران.

40 - نهایة النهایة تعلیقة علی الکفایة، الغروی الإیروانی، تقریرات بحث الشیخ محمّد کاظم الخراسانی.

ص:255

ص:256

نظرة فی روایات المرتد وسابّ النبی صلی الله علیه و آله

اشارة

بقلم: الدکتور الشیخ حکمت الرحمة

مقدّمة

من الأحکام المعروفة، بل المجمع علیها بین وعلماء الطائفة علماء المسلمین هو وجوب قتل المرتد، وعمدة ما یُستدلّ به علی ذلک هو الروایات الواردة فی الموضوع، غیر أنّ هناک رأیاً آخر بدأ یظهر فی الساحة یری عدم تمامیة الحکم المذکور، بدعوی عدم وجود الأدلة الکافیة علیه، خصوصاً أنّه یعدّ من الأحکام الخطیرة لتعلّقه بأرواح الناس وأنفسهم، وإنّ عمدة ما یستدلّ به علی ذلک هو خبر الآحاد، وهو لا یصلح أن یکون دلیلاً کافیاً فی هکذا أمر خطیر، وأنّ دعوی تواتر الروایات علی ذلک هی دعوی جزافیة لا واقع لها، وأنّ أکثر الروایات الواردة فیه هی روایات ضعیفة سنداً، وحینئذ لا یمکن الجزم بصدور هذا الحکم من الشارع المقدّس، خصوصاً أنّ الواقع العملی فی فترة النبی وزمان الأئمة علیهم السلام، لم یشهد حکماً بقتل المرتد.

ونحن هنا لسنا بصدد الإفتاء أو بیان الحکم الشرعی فی مسألة المرتد، فإنّ ذلک من شأن المختصّین بهذا الفن، لکن حیث إنّ عمدة الاستدلال

ص:257

علی هذا الحکم هو الروایات، وأنّ الفریق الآخر یعترف بوجود الروایات أیضاً، لکنّه ینکر تواترها، ویری أنّ خبر الآحاد لا یصلح دلیلاً یحتجّ به علی هذا الحکم الخطیر؛ لذا ستترکز هذه المقالة علی النظر فی الروایات وأسانیدها بصورة علمیة مجردة، لنری هل یمکن الجزم بصدور هذا الحکم من الشارع، أم أنّ عمدة الاستدلال فی المقام یتوقّف علی حجیّة خبر الواحد؟

وأمّا ما یتعلّق بخبر الواحد، وهل هو حجّة مطلقاً حتّی فی الأمور الخطیرة؟ فهو لیس من موضوع مقالتنا هذه.

وما قیل فی المرتد قیل فی سابّ النبیّ صلی الله علیه و آله أیضاً؛ لذا سنتناول فی مقالتنا هذه، روایات الارتداد، ثمّ نتلوها بروایات سابّ النبی صلی الله علیه و آله.

لکن قبل أن نستعرض الروایات الواردة فی حکم المرتد، کان لا بدّ من إشارة إجمالیة إلی تعریف المرتد، وبیان أقسامه، من دون الدخول فی تفاصیل ذلک.

المرتد وأقسامه

المراد من المرتد هو من خرج عن دین الإسلام، وهو قسمان:

الأوّل: المرتد الفطری

وهو الذی ولد علی الإسلام من أبوین مسلمین أو من أبوین أحدهما مسلم، علی خلاف بینهم فی تحقق ذلک بمجرد انعقاد النطفة، أم لا بدّ من الولادة خارجاً.

ص:258

الثانی: المرتد الملّی

وهو من أسلم عن کفر ثمّ ارتدّ ورجع إلیه.

الروایات الواردة فی حکم المرتد:

هناک روایات عدیدة وردت لبیان هذا الحکم، أدرجت تحت عنوان: حدّ المرتد، لکنّ بعضها أجنبی عن المقام، لذا سنذکر الروایات التی نری دلالتها علی المطلوب، وسنقتصر هنا علی الروایات التی وردت فی الکتب الأربعة فقط، وأمّا الروایات الأخری فسنشیر إلی بعضها بعد هذه الروایات، وإلی بعضها الآخر أثناء الجواب علی الإشکالات، إن شاء الله تعالی، وهذه الروایات هی:

1 - صحیحة الحسین بن سعید، قال: «قرأت بخط رجل إلی أبی الحسن الرضا علیه السلام: رجل ولد علی الإسلام، ثمّ کفر وأشرک وخرج عن الإسلام، هل یستتاب أو یقتل ولا یستتاب؟ فکتب علیه السلام: یقتل»(1).

وهذه الروایة من حیث السند صحیحة، فالحسین بن سعید ثقة إمامی جلیل القدر، وطریق الشیخ إلیه صحیح، ومن حیث الدلالة فهی صریحة فی أنّ المرتد الفطری یقتل بدون استتابة، بل یمکن القول: إنّ هناک أمراً ارتکازیاً عند السائل وهو القتل للمرتد، لکن الشک کان فی وجوب استتابته قبل القتل أم لا، والإمام أقرّه علی ارتکازه هذا وأمر بقتله.

ص:259


1- (1) تهذیب الأحکام 10:139.

2 - صحیحة محمّد بن مسلم، عن الباقر علیه السلام: «من رغب عن الإسلام، وکفر بما أنزل علی محمّد صلی الله علیه و آله بعد إسلامه، فلا توبة له، وقد وجب قتله، وبانت منه امرأته، ویقسّم ما ترک علی ولده»(1).

وهذه الروایة من حیث السند صحیحة، رواتها من الإمامیة الثقات، ومن حیث الدلالة فهی صریحة فی وجوب قتل المرتد، والظاهر منها هو المرتد الفطری، أی: الذی ولد علی الإسلام؛ إذ لا یبعد أنّ المراد من عبارة (رغب عن الإسلام) أی: بعد أن کان مسلماً ثمّ ارتدّ، لا أنّه کان کافراً ثمّ أسلم ثمّ ارتدّ، فشمولها لهذا الفرد یحتاج إلی قرینة إضافیة؛ ولذا وجدنا عدّة من الفقهاء جعلوا هذه الروایة من أدلّة وجوب قتل المرتد الفطری ولم یروا إطلاقها(2).

ویؤکّد ما ذکرناه من اختصاص الروایة بالفطری ما سیأتی من صحیح علی بن جعفر عن أخیه، قال: « سألته عن مسلم ارتدّ؟ قال: یقتل ولا یستتاب، قلت: فنصرانی أسلم ثمّ ارتدّ عن الإسلام؟ قال: یستتاب فإن رجع وإلّا قتل»(3) ، فنلاحظ أنّ السائل حین أطلق کلمة (مسلم ارتدّ) أجابه الإمام عن الفطری، ممّا یدلّ علی ظهور ذلک فی المسلم بالولادة، وغیر شامل لمن

ص:260


1- (1) الکافی 7:256.
2- (2) انظر مثلاً: مسالک الإفهام 15:23، الحدائق الناظرة 24:28، غنائم الأیام: 372، مستند الشیعة 19:41.
3- (3) الاستبصار 4:254.

کان کافراً ثمّ أسلم.

وأمّا إذا لم نقبل هذا الظهور، فالروایة مطلقة فی وجوب قتل کلّ مرتد سواء أکان فطریّاً أم ملیّاً، وتقیّد بالفطری للروایات الأخری، وهو الذی ذهب إلیه عدّة من الفقهاء کالسیدین الحکیم(1) والخوئی(2).

وکیف ما کان فالروایة صریحة فی وجوب قتل المرتد، وإن کان ثمّة خلاف فهو فی إطلاقها أو اختصاصها بدواً بالفطری.

3 - صحیحة محمّد بن مسلم، عن أبی جعفر علیه السلام فی حدیث قال: «ومن جحد نبیّاً مرسلاً نبوّته، وکذّبه، فدمه مباح...»(3).

فالروایة من حیث السند صحیحة، رواها الشیخ الصدوق عن الحسن بن محبوب، عن أبی أیوب عن محمّد بن مسلم، وکلّهم من الإمامیة الثقات، وطریق الشیخ الصدوق إلی ابن محبوب صحیح، فالروایة صحیحة السند، ومن حیث الدلالة فهی تبیح دم کلّ جاحد ومکذّب للنبوّة، وهو مرتدّ بلا إشکال، لکنها مطلقة من حیث نوع المرتد، فتشمل الفطری والملّی علی السواء، کما أنّه قد یقال: إنّها لا تشمل کلّ أنواع الارتداد، بل تتقیّد بالارتداد الحاصل عن طریق جحد النبوّة، أو ما کان أولی من ذلک کإنکار الباری سبحانه و تعالی.

ص:261


1- (1) مستمسک العروة الوثقی 2:116.
2- (2) مبانی تکملة المنهاج 1:327.
3- (3) من لا یحضره الفقیه 4:104.

لکن یمکن الإجابة عن ذلک، بأنّ حصول الارتداد یتوقّف فی حقیقته علی إنکار النبوّة وتکذیب الرسالة، وما لم یؤدِّ إلی ذلک فلا یمکن الحکم علیه بالارتداد.

4 - صحیحة علی بن جعفر، عن أخیه موسی علیه السلام قال: «سألته عن مسلم تنصّر؟ قال: یقتل ولا یستتاب، قلت: فنصرانی أسلم ثمّ ارتدّ عن الإسلام؟ قال: یستتاب فإن تاب وإلّا قتل»(1).

وهذه الروایة صحیحة من حیث السند، رجالها إمامیة ثقات من الأجلّاء، وصریحة من حیث الدلالة بوجوب قتل المرتد الفطری دون استتابة، بخلاف المرتد الملّی، وبهذه الروایة تقیّد الروایات المطلقة، سواء الدالة علی قتل المرتد مطلقاً أو الدالة علی الاستتابة ثمّ القتل.

5 - صحیحة ابن محبوب: علی بن إبراهیم، عن أبیه، عن ابن محبوب، عن غیر واحد من أصحابنا، عن أبی جعفر وأبی عبد الله صلی الله علیه و آله: «فی المرتد یستتاب فإن تاب وإلّا قتل»(2).

وهذه الروایة مطلقة تشمل المرتد الفطری والملّی، فتحمل علی إرادة المرتد الملّی بقرینة صحیحة علی بن جعفر المتقدّمة.

وقد یناقش بصحّة هذه الروایة بالإرسال تارة، وبوجود إبراهیم بن

ص:262


1- (1) الکافی 7:257، تهذیب الأحکام 10:138.
2- (2) الکافی 7:256.

هاشم تارة أخری، وکلاهما مدفوعان، فأمّا إبراهیم بن هاشم، فلم یقدح فیه أحد، وهو أوّل من نشر حدیث الکوفیین فی قم، وذکر السید ابن طاووس الإجماع علی وثاقته، وبیّن السید الخوئی عدّة وجوه تفید وثاقته(1) ، فلا ینبغی التوقّف فی صحّة مرویاته.

وأمّا الإرسال فهو مدفوع أیضاً، فإنّ الراوی هو ابن محبوب وهو من الأجلّاء، وقد ذکر أنّه نقل الخبر عن غیر واحد من أصحابنا، أی: أنّه نقلها عن جمع عن الإمامین الباقر والصادق صلی الله علیه و آله فلا أقلّ من الاطمئنان بوثاقة واحد من هؤلاء، فالروایة صحیحة ولا غبار علیها.

6 - موثقة عمّار الساباطی، عن الصادق علیه السلام: «کلّ مسلم بین مسلمَین ارتدّ عن الإسلام، وجحد محمّداً نبوّته، وکذّبه، فإنّ دمه مباح لکلّ من سمع ذلک منه، وامرأته بائنة منه یوم ارتدّ، فلا تقربه، ویقسّم ماله بین ورثته، وتعتدّ امرأته عدّة المتوفّی عنها زوجها، وعلی الإمام أن یقتله ولا یستتیبه»(2).

والروایة معتبرة سنداً، وعمار الساباطی فطحی ثقة، والطریق إلیه صحیح، والروایة صریحة فی وجوب قتل المرتد الفطری من دون استتابة.

7 - صحیحة هشام بن سالم، عن أبی عبد الله علیه السلام قال: «أتی قوم أمیر المؤمنین علیه السلام فقالوا: السلام علیک یا ربّنا! فاستتابهم فلم یتوبوا، فحفر لهم

ص:263


1- (1) معجم رجال الحدیث 1:291.
2- (2) الکافی 6:174--7:258.

حفیرة أوقد فیها ناراً وحفر حفیرة إلی جانبها أخری وأفضی بینهما، فلمّا لم یتوبوا ألقاهم فی الحفیرة وأوقد فی الحفیرة الأخری حتّی ماتوا»(1).

وهذه الروایة أیضاً صحیحة من جهة السند، رواها الکلینی تارة عن علی بن إبراهیم عن أبیه عن ابن أبی عمیر، وأخری عن محمّد بن یحیی عن أحمد بن محمّد عن ابن أبی عمیر.

وأمّا من حیث الدلالة فهی صریحة فی أنّ القتل یکون بعد الاستتابة، فتقیّد بما تقدّم، وتکون مختصّة بالمرتد الملّی.

لکن قد یقال: إنّ هذه الروایة واردة فی الغلو، فهؤلاء غالوا فی أمیر المؤمنین وجعلوا منه إلهاً، فحکم بقتلهم، فهی أجنبیة عن الارتداد.

لکن ربّما یقال فی مقام الجواب: إنّ الروایة وإن وردت فی الغلو، إلّا أنّ حکم القتل غیر ناظر إلی الغلو منفرداً وإن لم یؤدّ إلی الکفر، فالحکم بالقتل فی الروایة أعلاه لإشراکهم بالله واعتقادهم بألوهیة الإمام علی علیه السلام، لا للغلو منفرداً ومن دون أن یؤدّی إلی الشرک والارتداد.

8 - موثقة موسی بن بکر، عن الفضیل بن یسار، عن الصادق علیه السلام: «أنّ رجلین من المسلمین کانا بالکوفة، فأتی رجل أمیر المؤمنین علیه السلام فشهد أنّه رآهما یصلیان لصنم، فقال: ویحک لعلّه بعض من یشتبه علیه أمره، فأرسل رجلاً فنظر إلیهما وهما یصلیان لصنم، فأتی بهما، فقال لهما: ارجعا، فأبیا،

ص:264


1- (1) الکافی 7:257.

فخدّ لهما فی الأرض خدّاً، فأجج ناراً وطرحهما فیه»(1).

والروایة لم یتکلّم فی سندها إلّا من جهة موسی بن بکر الواسطی، لکن التحقیق یقتضی أنّه واقفی ثقة، وتدلّ علی وثاقته وجوه عدیدة، کروایة الأجلّاء عنه، وتصریح صفوان بأنّ کتاب موسی بن بکر مما لا یختلف فیه أصحابنا، وتصحیح ابن طاووس لروایة هو فی سندها، واعتماد جعفر بن سماعة علی روایته، وغیرها، والسید الخوئی وإن ناقش فی بعض الوجوه إلّا أنّه انتهی إلی وثاقة الرجل(2).

9 - موثقة موسی بن بکر، عن الفضیل بن یسار، عن الصادق علیه السلام قال: «إنّ رجلاً من المسلمین تنصّر، فأتی به أمیر المؤمنین علیه السلام فاستتابه، فأبی علیه، فقبض علی شعره، ثمّ قال: طئوا یا عباد الله، فوطئ حتّی مات»(3).

ورجال السند کلّهم من الإمامیة الثقات باستثناء موسی بن بکر وهو واقفی ثقة، فالسند معتبر، وأمّا الدلالة فلا بدّ من تقییدها بالمرتد الملّی لما تقدّم من صحیحة علی بن جعفر وغیرها.

10 - روایة مسمع بن عبد الملک، عن أبی عبد الله علیه السلام، عن أمیر المؤمنین علیه السلام قال: «المرتد تعزل عنه امرأته، ولا تؤکل ذبیحته، ویستتاب

ص:265


1- (1) تهذیب الأحکام 10:140.
2- (2) معجم رجال الحدیث 20:33.
3- (3) الکافی 7:256.

ثلاثة أیام فإن تاب وإلّا قتل یوم الرابع»(1).

وهذه الروایة ضعیفة السند بأکثر من واحد، لکن یدلّ علی مضمونها ما سیأتی من روایة السکونی.

11 - روایة السکونی، عن جعفر بن محمّد، عن أبیه، عن آبائه علیهم السلام: «أنّ المرتد عن الإسلام تعزل عنه امرأته، ولا تؤکل ذبیحته، ویستتاب ثلاثاً فإن رجع وإلّا قتل یوم الرابع إذا کان صحیح العقل»(2).

وهذه الروایة لا تخلو من کلام فی السند أیضاً؛ لأنّ فی طریق الشیخ إلی السکونی، الحسین بن یزید النوفلی، ولم یرد فی حقّه توثیق، اللهم إلّا بناء علی ما یتپناه السید الخوئی من وثاقة رجال کامل الزیارات فیکون الرجل ثقة، وتکون الروایة معتبرة.

ثمّ إنّ الروایة لا تدلّ علی القتل المباشر، بل بعد الاستتابة، فلا بدّ من حملها علی المرتد الملّی بقرینة ما تقدّم.

12 - روایة علی بن حدید، عن جمیل بن دراج وغیره، عن أحدهما صلی الله علیه و آله: «فی رجل رجع عن الإسلام، قال: یستتاب فإن تاب وإلّا قتل، قیل لجمیل: فما تقول: إن تاب ثمّ رجع عن الإسلام؟ قال: یستتاب، قیل: فما تقول: إن تاب ثمّ رجع؟ قال: لم أسمع فی هذا شیئاً، ولکنه عندی بمنزلة الزانی الذی یقام

ص:266


1- (1) الکافی 7:258، تهذیب الأحکام 10:134.
2- (2) من لا یحضره الفقیه 3:149.

علیه الحد مرتین ثمّ یقتل بعد ذلک، وقال: روی أصحابنا أنّ الزانی یقتل فی المرة الثالثة»(1).

ورجال سند هذه الروایة کلّهم من الإمامیة الثقات سوی علی بن حدید، فإنّه مختلف فیه، فعلی القول بأنّه إمامی ثقة تکون الروایة صحیحة السند، وعلی القول بتضعیفه تکون الروایة ضعیفة، وأمّا دلالتها فهی صریحة فی القتل بعد الاستتابة، ولا بدّ من حملها علی المرتد الملّی لما تقدّم.

13 - ما رواه فی الکافی عن محمّد بن سالم، عن أحمد بن النضر، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبی عبد الله علیه السلام قال: «أتی أمیر المؤمنین صلوات الله علیه برجل من بنی ثعلبة قد تنصّر بعد إسلامه فشهدوا علیه، فقال له أمیر المؤمنین علیه السلام: ما یقول هؤلاء الشهود؟ قال: صدقوا وأنا أرجع إلی الإسلام، فقال: إمّا إنّک لو کذّبت الشهود لضربت عنقک، وقد قبلت منک ولا تعد، فإنّک إن رجعت لم أقبل منک رجوعاً بعده»(2).

وهذا الخبر ضعیف، فعمرو بن شمر ضعّفه النجاشی، ومحمّد بن سالم مشترک.

14 - معتبرة ابن أبی یعفور قال: «قلت لأبی عبد الله علیه السلام: إنّ بزیعاً یزعم أنّه نبی، فقال: إن سمعته یقول ذلک فاقتله، قال: فجلست له غیر مرّة فلم

ص:267


1- (1) الکافی 7:256.
2- (2) الکافی 7:257.

یمکنی ذلک»(1).

والروایة معتبرة سنداً، رجالها من الإمامیة الثقات، باستثناء ابن فضّال فإنّه فطحی ثقة، وأمّا الدلالة فمن الظاهر أنّ ادّعاء النبوّة یلازم الارتداد، فهو إمّا منکر لنبوّة النبی محمّد، أو منکر للثابت فی أنّه خاتم النبیین، فیکون الحکم بقتله لکونه مرتدّاً.

15 - خبر الحارث بن المغیرة قال: قلت لأبی عبد الله علیه السلام: «أرأیت لو أنّ رجلاً أتی النبی صلی الله علیه و آله فقال: والله ما أدری أنبی أنت أم لا، کان یقبل منه؟ قال: لا، ولکن کان یقتله، إنّه لو قبل ذلک منه ما أسلم منافق أبداً»(2).

وهذا الخبر ضعیف من الجهة السندیة، فیه عبد الرحمن الأبزاری الکناسی وهو مجهول، وأمّا من حیث الدلالة فالظاهر أنّ القتل لکون الشک فی النبوّة یوجب الارتداد.

16 - صحیحة برید العجلی قال: «سئل أبو جعفر علیه السلام عن رجل شهد علیه شهود أنّه أفطر من شهر رمضان ثلاثة أیام، فقال: یسأل هل علیک فی إفطارک إثم؟ فإن قال: لا، فإنّ علی الإمام أن یقتله، وإن هو قال: نعم، فإنّ علی الإمام أن ینهکه ضرباً»(3).

ص:268


1- (1) الکافی 7:258.
2- (2) الکافی 7:258.
3- (3) الکافی 7:259.

والروایة صحیحة سنداً، رجالها کلّهم إمامیة ثقات، وأمّا دلالتها فمن خلال التفصیل المذکور فیها یتّضح أنّ الحکم بالقتل کان بسبب ارتداده وانکاره أحد الضروریات الإسلامیة، ولذا فلو قال: إنّه علیه إثم، فهو معتقد بالحکم الشرعی فلا یقتل بل یعزر، فالروایة وإن لم تصرّح بالارتداد لکنها ظاهرة فی أنّ إیجاب القتل علیه کان بسبب الارتداد، وإنکار ضرورة من ضروریات الإسلام.

17 - محمّد بن یحیی، عن أحمد بن محمّد بن عیسی، عن ابن محبوب، عن صالح بن سهل، عن کردین، عن رجل، عن أبی عبد الله وأبی جعفر صلی الله علیه و آله قال: «إنّ أمیر المؤمنین علیه السلام لما فرغ من أهل البصرة أتاه سبعون رجلاً من الزط فسلّموا علیه وکلّموه بلسانهم فردّ علیهم بلسانهم، ثمّ قال لهم: إنّی لست کما قلتم، أنا عبد الله مخلوق، فأبوا علیه و قالوا: أنت هو، فقال لهم: لئن لم تنتهوا وترجعوا عما قلتم فیّ، وتتوبوا إلی الله عزّ وجل لأقتلنّکم، فأبوا أن یرجعوا ویتوبوا، فأمر أن تحفر لهم آبار فحفرت ثمّ خرق بعضها إلی بعض، ثمّ قذفهم فیها، ثمّ خمّر رؤوسها، ثمّ أُلهبَت النار فی بئر منها لیس فیها أحد منهم فدخل الدخان علیهم فیها فماتوا»(1).

وهذه الروایة من جهة السند ضعیفة بالإرسال، وبصالح بن سهل، ومن جهة الدلالة فإنّها ناظرة للغلو، والکلام فیها هو ما تقدّم فی صحیحة هشام

ص:269


1- (1) الکافی 7:259.

بن سالم، من أنّ القتل کان نتیجة الشرک الناشئ من الغلو، ولم یکن لمطلق الغلو وإن لم یوجب شرکاً، والله أعلم.

18 - مرفوع عثمان بن عیسی: «کتب عامل أمیر المؤمنین علیه السلام إلیه أنّی أصبت قوماً من المسلمین زنادقة، وقوماً من النصاری زنادقة، فکتب إلیه: إمّا ما کان من المسلمین ولد علی الفطرة ثمّ تزندق فاضرب عنقه ولا تستتبه، ومن لم یولد علی الفطرة فاستتبه فإن تاب وإلّا فاضرب عنقه، وأمّا النصاری فما هم علیه أعظم من الزندقة»(1).

وهذا السند ضعیف کما هو واضح، فقد رفعه عثمان بن عیسی إلی علی علیه السلام ولم یذکر سنده، وأمّا من حیث الدلالة فهی تبیّن أنّ من کان مسلماً بالفطرة ثمّ تزندق تضرب عنقه دون استتابة، وهو موافق لما تقدّم من الروایات الصحیحة.

19 - حسنة أو صحیحة أبی بکر الحضرمی، عن أبی عبد الله علیه السلام قال: «إن ارتدّ الرجل المسلم عن الإسلام بانت منه امرأته کما تبین المطلقة ثلاثاً، وتعتد منه کما تعتد المطلقة، فإن رجع إلی الإسلام وتاب قبل أن تتزوّج فهو خاطب ولا عدّة علیها منه له، وإنّما علیها العدّة لغیره، فإن قتل أو مات قبل انقضاء العدّة اعتدّت منه عدّة المتوفّی عنها زوجها، وهی ترثه فی العدّة، ولا یرثها إن ماتت وهو مرتد عن الإسلام»(2).

ص:270


1- (1) تهذیب الأحکام 10:139، الکافی 7:153.
2- (2) تهذیب الأحکام 9:373.

والروایة معتبرة السند، رجالها إمامیة ثقات، علی کلام فی الحضرمی، وروایته تدور بین الحسنة والصحیحة.

وأمّا من حیث الدلالة فهذه الروایة وإن لم تکن صریحة فی حکم المرتد من حیث القتل أو عدمه، إلّا أنّ فیها إشارة قویة إلی وجوب قتله؛ ذلک أنّ الإمام قال: فإن قتل أو مات، فلا یوجد فی البین ما یبرر ذکر القتل سوی أنّ حکم المرتد هو القتل، وإلّا فکان یمکن للإمام أن یقتصر علی کلمة مات، فهی وافیة فی المطلوب المراد بیانه، فیستشعر من الروایة أنّ حکم المرتد هو القتل، لکنها تبیّن حکمه فیما لو تاب ولم یقم حکم المرتد علیه، والله أعلم.

کما یستفاد من هذه الروایة فی خصوصها أنّ المرتد الفطری تقبل منه التوبة ظاهراً وواقعاً، والله أعلم بحقائق الأمور.

لکن یمکن القول أیضاً: إنّ الروایة ناظرة إلی المرتد الملّی، وعرفنا سابقاً أنّه یستتاب، وحینئذ فإنّ هذه الروایة تقرر أنّه لو تاب ورجع إلی الإسلام جاز له الزواج بها من دون أن تکون لها عدّة منه... لکن یبقی حینئذ ذکر القتل فی متن الروایة محلّ تأمّل؛ لأنّ فرض القتل هنا بعد رجوعه للإسلام، فلا مبرر لذکره وعطفه علی الموت، فبعد توبته وعودته للإسلام یسقط عنه حکم القتل، فیبقی ذکر القتل وعطفه علی الموت غیر مبرر عقلائیاً.

20 - صحیحة أبی عبیدة، عن أبی عبد الله علیه السلام قال: «العبد إذا أبق من موالیه ثمّ سرق لم یقطع وهو آبق؛ لأنّه مرتد عن الإسلام، ولکن یدعی إلی

ص:271

الرجوع إلی موالیه والدخول فی الإسلام، فإن أبی أن یرجع إلی موالیه قطعت یده بالسرقة ثمّ قتل، والمرتد إذا سرق بمنزلته»(1).

وهذه الروایة صحیحة السند، وهی صریحة من حیث الدلالة فی أنّ حکم المرتد هو القتل، فإنّها وإن کانت واردة فی الآبق، إلّا أنّ الروایة نزّلت الآبق منزلة المرتد، وبیّنت أنّ حکم المرتد هو القتل بعد أن یدعی إلی الإسلام ثانیة.

21 - موثقة أبی الطفیل: «أنّ بنی ناجیة قوماً کانوا یسکنون الأسیاف، وکانوا قوماً یدّعون فی قریش نسباً، وکانوا نصاری فأسلموا، ثمّ رجعوا عن الإسلام، فبعث أمیر المؤمنین علیه السلام معقل بن قیس التمیمی، فخرجنا معه، فلمّا انتهینا إلی القوم، جعل بیننا وبینه أمارة، فقال: إذا وضعت یدی علی رأسی فضعوا فیهم السلاح، فأتاهم فقال: ما أنتم علیه؟ فخرجت طائفة فقالوا: نحن نصاری فأسلمنا لا نعلم دیناً خیراً من دیننا، فنحن علیه، قالت طائفة: نحن کنّا نصاری ثمّ أسلمنا ثمّ عرفنا أنّه لا خیر من الدین الذی کنّا علیه، فرجعنا إلیه، فدعاهم إلی الإسلام ثلاث مرات فأبوا، فوضع یده علی رأسه، قال: فقتل مقاتلیهم، وسبی ذراریهم، قال: فأتی بهم علیاً علیه السلام فاشتراهم مصقلة بن هبیرة بمئة ألف درهم فأعتقهم، وحمل إلی علی علیه الصلاة والسلام خمسین ألفاً فأبی أن یقبلها، قال: فخرج بها فدفنها فی داره

ص:272


1- (1) تهذیب الأحکام 10:142، الکافی 7:259.

ولحق بمعاویة، قال: فأخرب أمیر المؤمنین علیه السلام داره وأجاز عتقهم»(1).

وهذه الروایة معتبرة سنداً، رجالها ثقات بعضهم غیر إمامیة، علی کلام فی بعضهم غیر مضر، والتحقیق یقتضی أنّ الروایة معتبرة، وأبو الطفیل من خواصّ أمیر المؤمنین علیه السلام، والنظر فی سیرته ومواقفه، وما ینقله من رواة فی فضائل أمیر المؤمنین وأهل البیت علیهم السلام دلیل علی ذلک.

وأمّا من حیث الدلالة فهی تدلّ علی أنّ المرتد الملّی یدعی إلی الإسلام، فإن أبی قتل.

22 - صحیحة عبّاد بن صهیب، عن الإمام الصادق علیه السلام قال: «المرتد یستتاب فإن تاب وإلّا قتل، قال: والمرأة تستتاب فإن تابت وإلّا حبست فی السجن وأضر بها»(2).

والروایة صحیحة السند، رجالها من الإمامیة الثقات، ودلالتها صریحة فی وجوب القتل لکن بعد الاستتابة.

روایات أخری:

من الواضح أنّنا اقتصرنا فی ما مضی علی ذکر الروایات الواردة فی الارتداد أو المرتبطة به ارتباطاً مباشراً کمدّعی النبوّة أو المغالی لحدّ الشرک، مع أنّنا لم نستعرض جمیع الروایات الواردة فی ذلک، فإنّ هناک

ص:273


1- (1) وسائل الشیعة 28:329، تهذیب الأحکام 10:139.
2- (2) التهذیب 10:144.

روایات أخری فی الغلو ومدّعی النبوّة لم نذکرها فی بحثنا، کما أنّنا لم نتطرّق لذکر أیّ طائفة أخری من الروایات التی یمکن التمسّک بها فی المقام أیضاً، أو لا أقل تنفع کشاهد ومؤیّد للروایات المتقدّمة، من قبیل: ما دلّ علی عدم وجوب قتل المرأة إذا ارتدّت، والذی یستبطن ضمناً وجوب قتل الرجل؛ إذ لا معنی لاستثناء المرأة مع عدم وجوب قتل کلیهما، ومن قبیل: ما دلّ علی أنّ مرتکب الکبیرة یقتل بعد الإصرار علیها، فإنّه یوجب قتل المرتد أیضاً فی الجملة.

وکذلک لم نستعرض روایات أهل السنّة فی وجوب قتل المرتد، من قبیل: ما ورد عندهم فی البخاری وغیره عن ابن عباس عن النبی صلی الله علیه و آله أنّه قال: «من بدّل دینه فاقتلوه»، والذی روی عن ابن عباس بطریقین عن عکرمة تارة وأنس أخری، کما أنّ له شواهد من حدیث معاویة بن حیدة، وأبی هریرة، وعائشة، ومعاذ بن جبل، ومرسل الحسن البصری، وأکثر هذه الشواهد صحیحة عندهم(1) ، ومن قبیل: ما روی عنه صلی الله علیه و آله أنّه قال: « لا یحلّ دم مسلم إلّا من إحدی ثلاث، کفر بعد إیمان، أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغیر نفس».

قال الشافعی: «وهذا حدیث لا یشکّ أهل العلم بالحدیث فی ثبوته عن النبی صلّی الله علیه وسلم»(2). وغیر ذلک من الروایات العدیدة عندهم.

ص:274


1- (1) انظر: الألبانی، إرواء الغلیل 8:124--125.
2- (2) الشافعی، اختلاف الحدیث: 532.

والمتحصّل أنّ الروایات التی سقناها فی حکم المرتد مؤیّدة بطوائف أخری، ومتّفقة فی الجملة مع ما ورد عند أهل السنّة بطرق متکثرة فی وجوب قتل المرتد.

خلاصة ونتائج لما تقدّم:

ابتدأنا البحث بذکر اثنین وعشرین روایة، وقفنا علیها فی المرتد من الکتب الأربعة فقط، وهذه الروایات حسب ما أوضحنا فإنّها تدلّ مجتمعة علی وجوب قتل المرتد، غایة الأمر أنّها اختلفت فی توقیت حکم القتل هل یکون مشروطاً بالاستتابة أم یکون مباشرة؟ ومن خلال ما عرضناه من أنّ بعض الروایات أوضحت أنّ حکم المرتد الفطری هو القتل دون استتابة، وبعضها أوضحت أنّ حکم المرتد الملّی هو القتل بعد الاستتابة، وبعضها فصّلت الأمر بین الملّی والفطری بما ذکرنا، یتّضح أنّ الروایات المطلقة فی وجوب القتل أو فی وجوب الاستتابة قبل القتل لا بدّ أن تقیّد بما ذکرنا، فیحمل بعضها علی الفطری والآخر علی الملّی.

ونحن لسنا هنا فی مقام الإفتاء وبیان الحکم الشرعی فی المرتد الفطری والملّی، بل کان غرضنا الوقوف علی الروایات الواردة فی حکم المرتد، وتبیّن إلی الآن أنّ الروایات والبالغ عددها ( 22) روایة، کلّها مجمعة ومتّفقة علی وجوب القتل.

وأمّا أسانید هذه الروایات، فقد اتّضح أنّ بعضها صحیح وبعضها معتبر وبعضها ضعیف.

ص:275

أمّا الصحیح فبلغ عشر روایات وهی:

1 - صحیحة الحسین بن سعید.

2 - صحیحة محمّد بن مسلم الواردة فی الکافی.

3 - صحیحة محمّد بن مسلم الواردة فی الفقیه.

4 - صحیحة علی بن جعفر.

5 - صحیحة ابن محبوب.

6 - صحیحة هشام بن سالم.

7 - صحیحة برید.

8 - صحیحة أبی بکر الحضرمی.

9 - صحیحة أبی عبیدة.

10 - صحیحة عباد بن صهیب.

وأمّا خبر جمیل بن دراج، فإن بنینا علی وثاقة وعدالة علی بن حدید فتکون الروایة صحیحة أیضاً، ویبلغ عدد الروایات الصحیحة إحدی عشرة روایة.

نعم، تقدّم أنّ هناک کلاماً فی أبی بکر الحضرمی، وأنّ روایته تدور بین الحسنة والصحیحة، فتکون الروایات الصحیحة دائرة بین التسعة والأحد عشر.

ص:276

وأمّا الروایات المعتبرة الأخری فهی بین خمسة إلی سبعة وهی:

1 - موثقة عمّار الساباطی.

2 - موثقة موسی بن بکر فی التهذیب.

3 - موثقة موسی بن بکر فی الکافی.

4 - معتبرة ابن أبی یعفور.

5 - موثقة أبی الطفیل.

وأمّا خبر السکونی، فإن قلنا بوثاقة النوفلی فتکون الروایة موثقة أیضاً، ویکون العدد ستة، کما أنّ روایة الحضرمی إذا لم نقل بصحّتها فهی حسنة فتضاف إلی هذه الروایات ویکون مجموعها سبع روایات.

وفی الجملة فإنّ الروایات المقبولة بین الصحیحة والموثقة والحسنة یکون مجموعها خمس عشرة روایة، من دون حساب خبر جمیل بن دراج ولا خبر السکونی، وإلّا فالمجموع یکون سبع عشرة روایة، وتبقی خمس روایات ضعیفة وهی:

1 - خبر مسمع.

2 - خبر جابر.

3 - خبر الحارث.

4 - مرسلة کردین (مسمع بن عبد الملک).

5 - مرفوعة عثمان.

ص:277

وإذا ما أضفنا خبر جمیل بن دراج وخبر السکونی فسیکون الضعیف سبعة.

والمتحصل أنّ عدد الروایات المحتج بها یدور بین 15-17 روایة، والروایات الضعیفة یدور عددها بین 5-7، وینتج من ذلک:

1 - أنّ عدد الروایات المحتج بها هو ثلثا عدد الروایات الواردة فی المقام، أی: هی أکثر من الضعیفة بمقدار الضعفین تقریباً.

2 - أنّ هذا العدد من الروایات الصحیحة والمعتبرة، مع إضافة الروایات الضعیفة إلیه، ومع الأخذ بعین الاعتبار الطوائف الأخری التی ذکرناها، وکذلک ورود الکثیر من الروایات فی طرق أهل السنّة، خصوصاً مع تصریح الشافعی حول حدیث: «لا یحلّ دم مسلم إلّا من إحدی ثلاث، کفر بعد إیمان...» بأنّه لا یشکّ أهل العلم بالحدیث فی ثبوته عن النبی صلی الله علیه و آله، فهذا العدد مع بقیة الطوائف ومع روایات أهل السنّة، إن کان یمثّل تواتراً معنویاً أو إجمالیّاً، فحینئذ تکون المسألة مسلّماً بها، ولا نقاش أو جدال حولها، أو لا یمثّل تواتراً کما یدّعی، فلا أقلّ حینئذ من القول باستفاضة الروایات عند الفریقین، ومعه أیضاً یحصل الاطمئنان بصدورها من الشارع.

وقد أشار بعض فقهائنا إلی مسألة استفاضة الروایات:

قال المحقق البحرانی بعد حکمه بقتل المرتد: «والأخبار بما ذکرنا من حکم المرتد الفطری متظافرة»(1).

ص:278


1- (1) الحدائق الناضرة 24:28.

کما أنّ السید بحر العلوم ذکر بعض هذه الأخبار ثمّ عبّر عنها بعد ذلک بالأخبار المستفیضة(1).

ومن الواضح أنّ نظرهم کان إلی روایات الطائفة الشیعیة دون غیرها.

3 - لو لم نقبل بالتواتر ولا بالاستفاضة، فلنری هل یمکن إعمال عنایة معیّنة نتمکّن معها من الجزم أو الاطمئنان بصدور هذا الحکم من الشارع أو لا؟ وهذه العنایة تقوم علی أساس ملاحظة أسانید الروایات واحدة واحدة، إذ من المعلوم أنّ الحکم الشرعی المتلقّی من الشارع إمّا أن یحصل لنا العلم بصدوره فیکون حجّة أو نطمئن بصدوره فیکون حجّة أیضاً بلا حاجة إلی تعبّد یوجب علینا العمل به، أو لا یحصل لنا أحد هذین الأمرین فحینئذ نحتاج إلی تعبّد من الشارع، ومنه یظهر أنّ من ینفی حجیّة خبر الواحد إنّما ینفیها بما هی موجبة للظن لا بما هی موجبة للعلم أو الاطمئنان؛ لأنّ حجّیتهما ذاتیة وغیر مجعولة من الشارع حتّی نناقش فی دلیلیة ذلک.

وعندئذ إذا تمکنّا أن نعمل عنایة معیّنة توجب العلم أو الاطمئنان بصدور الحکم من الشارع، فیجب العمل به حینئذ ولا یخدش بکونه خبر آحاد.

وهذه العنایة هی ما أشار إلیها السید الشهید الصدر قدس سره عند بحثه عن حجیّة خبر الواحد، إذ من المعروف أنّ الاستدلال بخبر الواحد علی حجیّة خبر الواحد یوجب الدور المنطقی وهو باطل، إذ العمل بخبر الواحد

ص:279


1- (1) بلغة الفقیه 4:218.

یتوقّف علی کونه حجّة، فکیف یستدلّ به علی حجیّة خبر الواحد؟!

من هنا حاول السید الشهید قدس سره التخلّص من هذا الدور، وإمکانیة الاستدلال بخبر الواحد علی حجیّة خبر الواحد، وذلک عن طریق إعمال عنایة معیّنة، وهی ملاحظة سند خبر الآحاد الدال علی حجیّة خبر الآحاد، فهل رواته من الإمامیة الأجلّاء الأعیان بحیث تطمئن النفس بصدور ما ینقلونه؟ فحینئذ یکون الخبر وإن کان آحاداً إلّا أنّه یوجب الاطمئنان والاطمئنان حجیّته ذاتیة، فلا یکون الاستناد حینئذ إلی خبر الواحد المفید للظن.

والخبر الذی ذکره السید الشهید قدس سره هو ما رواه الکلینی عن محمّد بن عبد الله الحمیری ومحمّد بن یحیی العطار جمیعاً عن عبد الله بن جعفر الحمیری، قال: اجتمعت أنا والشیخ أبو عمرو - عثمان بن سعید - عند أحمد بن إسحاق... ثمّ أخذ السید الشهید قدس سره یبیّن جلالة قدر هؤلاء الرواة، وانتهی إلی الاطمئنان بصدق هؤلاء، وصدور الروایة عن الإمام علیه السلام(1).

ونقول حینئذ: إذا کان السید الشهید قدس سره یری إمکانیة حصول الاطمئنان من خبر واحد رواته من أجلّاء الإمامیة، فما بالک بثمان أو عشر من الروایات الصحیحة، تدعمها ست من الروایات الموثقة، فضلاً عن الطرق الضعیفة التی تزید الطرق قوّة کما هو معروف، فلا شکّ حینئذ من الاطمئنان بصدور الحکم من الشارع، وتضائل نسبة الخطأ والاشتباه، فضلاً

ص:280


1- (1) انظر: بحوث فی علم الأصول، تقریرات الهاشمی 4:389--392.

عن الکذب، بنسبة معتدّ بها.

ویتحصّل ممّا ذکرنا أنّ وجود هذا العدد من الروایات بین الصحیح والموثق والضعیف یوجب الاطمئنان بصدور هذا الحکم من الشارع، فحتّی لو لم نقل بالتواتر أو الاستفاضة الموجبة للاطمئنان بصدور الحکم من الشارع من دون مراجعة الأسانید، فإنّ الاطمئنان حاصل بعد مراجعة الأسانید وضمّ بعضها إلی بعض.

4 - من خلال ما تقدّم اتّضح بأنّنا لم نورد أیّ روایة تدلّ علی تطبیق حکم الارتداد فی زمن النبی، إذ لم نعثر علی ذلک سوی بعض المراسیل التی أوردها الطبرسی فی احتجاجه، وعدّة من الأخبار التی وردت فی کتب أهل السنّة، وقد تکفّل السید الأردبیلی جمعها فی کتابه الحدود مع تصریحه بأنّ القتل فیها لم یکن منصباً علی الارتداد الفکری فقط، بل إنّ بعضهم ارتکب أعمالاً جنائیة، وأنّ بعضهم لم یدخل فی الإسلام قط (1) ، والظاهر صحّة ما قاله، لذا لم نجدد مبرراً للخوض فی هذا الموضوع.

وأمّا ما یتعلّق بتطبیق حکم الردّة فی عهد الأئمة علیهم السلام، فقد تقدّمت روایات عدیدة عن الإمام علی علیه السلام تدلّ علی ذلک، منها الصحیحة ومنها المعتبرة ومنها الضعیفة، وهذه الروایات بعضها وردت فی الارتداد وبعضها فی الغلو، وعرفنا سابقاً أنّ قتل المغالین لکونهم أشرکوا وأصبحوا مرتدّین

ص:281


1- (1) راجع تفاصیل ذلک فی: کتاب الحدود 4:5 وما بعدها.

لا لمحض الغلو وإن لم یوجب الکفر، وهذه الروایات تقدّمت بالأرقام:

(7-8-9-17-18-21)، وستأتی روایة الوسائل الصحیحة فی قتل عبد الله بن سبأ، وغیرها من الروایات الضعیفة الأخری.

وأمّا فی زمن بقیّة الأئمة علیهم السلام فلم نقف علی حکم فی ذلک سوی معتبرة ابن أبی یعفور الدالة علی أمر الإمام الصادق علیه السلام بوجوب قتل مدّعی النبوّة، وقد عرفنا أنّ القتل فی ذلک هو للارتداد لا غیر، کما سیأتی أنّ هناک خبراً عن الإمام العسکری علیه السلام یأمر فیه بقتل أحد الغلاة، کما أنّ هناک أخباراً أخری فی الغلاة لم یسعفنا الوقت للوقوف علیها.

ثمّ لا بدّ أن ننبه أنّ عدم ثبوت تطبیق لهذا الحکم فی زمن النبی صلی الله علیه و آله أو الأئمة علیهم السلام لا یعنی عدم ثبوت الحکم خارجاً، فیکفی فی الثبوت وجود الروایات الصحیحة والمعتبرة الدالة علیه.

نعم، لربّما یناقش فی اختصاص هذا الحکم فی ذلک الزمن الذی لم یقو فیه الإسلام بعد، وأنّ الارتداد یوجب وهن وضعف الإسلام، لکنّ هذا مطلب آخر غیر دعوی عدم ثبوت الأخبار فی ذلک، علی أنّ وجود الروایات الصحیحة الصادرة فی عهد الأئمة علیهم السلام یدلّک علی عموم الحکم وعدم اختصاصه فی زمن معیّن والله أعلم.

إشکالات علی روایات قتل المرتد:

بعد أن أوضحنا فیما تقدّم أنّ الروایات فی قتل المرتد أکثرها صحیحة

ص:282

سنداً ومتعاضدة بطوائف أخری، لا بدّ أن نقف قلیلاً مع ما یمکن أن یتمسّک به فی دحض هذه الروایات وعدم إمکانیة التمسّک بها:

الإشکال الأوّل:

قیل ما حاصله: إنّ الکثیر من روایات قتل المرتد أوردها الشیخ الکلینی رحمه الله، فقد أورد ( 23) روایة، وبعض هذه الروایات لم یُتعرّض فیها لحکم المرتد، بل تعرّضت للغلو وادّعاء النبوّة وسبّ النبی، ولم یبق سوی ( 15) روایة، وبضمیمة روایة الغلو یکون المجموع ( 18) روایة، ومن هذه ال - ( 18) توجد ثلاث روایات لم تتعرّض لحکم القتل، فلم یتبق سوی ( 15) روایة تعرّضت لحکم القتل.

وفی الجملة فإنّ أکثر روایات الکافی فی الباب ضعیفة السند، فقد تعرّض لها الشیخ المجلسی فی مرآة العقول، وهو مع تساهله فی التصحیح نسبة مع بقیة الفقهاء، فلم یصحّح منها إلّا القلیل، فقد کانت خلاصة حکمه علی الروایات کالآتی:

الروایة السابعة فی الکافی: مرسل.

الروایة ( 4، 13، 14): مجهول.

الروایة ( 5، 8، 23): ضعیف.

الروایة ( 2، 6، 15، 16، 17): ضعیف علی المشهور.

الروایة ( 3، 18، 20، 21): حسن.

ص:283

الروایة ( 1): حسن کالصحیح.

الروایة ( 10، 12): موثق.

الروایة ( 22): موثق کالصحیح.

الروایة ( 9، 11، 12): صحیح.

ثمّ خلص المستشکل إلی أنّ ثلاث روایات صحیحة فقط عند المجلسی مع تساهله، وإذا أضفنا إلیها الموثقة والموثقة کالصحیح والحسن کالصحیح، یکون المجموع سبع روایات فقط، وتکون ( 16) روایة ضعیفة سنداً، أعم من (المرسل، المجهول، الضعیف، الضعیف علی المشهور، الحسن).

فیکون ثلثا روایات الکافی الواردة فی الباب ضعیفة، فدعوی أنّ أکثر الروایات صحیحة هی دعوی باطلة.

الجواب:

أوّلاً: لا نسلّم بدعوی أنّ المجلسی فی تعلیقه علی الکافی کان متساهلاً فی التصحیح والتضعیف بالمقارنة مع بقیة الفقهاء، بل الظاهر أنّه کان مجتهداً کغیره، وافق الفقهاء ببعض أحکامه، واختلف معهم فی غیرها، فضعّف ما صحّحوه، أو صحّح ما ضعّفوه، فلا یظهر منه التساهل إطلاقاً کما سیأتی بیانه عند ملاحظة أحکامه علی الروایات محلّ البحث، وحینئذ فاعتبار المجلسی معیاراً فی المسألة لا وجه له إطلاقاً.

ص:284

ثانیاً: لو قبلنا أحکام المجلسی السندیة علی الروایات محلّ البحث، فلا ننتهی إلی نتیجة أنّ ثلثی الروایات ضعیفة؛ لأنّ المجلسی وغیره من علماء الفقه والأصول یرون أنّ الحدیث الحسن من الأحادیث المعتبرة، ولم نسمع یوماً بأنّ الحدیث الحسن من قسم الضعیف، إذ من الواضح أنّ التقسیم الرباعی للأحادیث جاء فی وقت متأخّر، والمتقدّمین کانوا یقسّمون الحدیث إلی الصحیح والضعیف اعتماداً علی القرائن، حتّی جاء زمن العلّامة وابن طاووس وتمّ فیه تقسیم الحدیث إلی أربعة أقسام: الصحیح والحسن والموثق والضعیف، وبناء علی تقسیمهم فقد أدرجوا الحسن فی القسم المقبول المعتبر لا المردود، فکیف تمّ احتساب أربع روایات حسنة عند المجلسی من القسم الضعیف؟! فبضمیمة هذه الروایات الأربع یکون مجموع الروایات المعتبرة (إحدی عشرة روایة من مجموع 23 روایة) وهی نسبة النصف تقریباً.

وهذا العدد من الروایات المعتبرة بکافة أنواعها من الصحیح والموثق والحسن لا یبعد معه حصول الوثوق بصدور الحکم من الشارع کما أشرنا إلیه سابقاً؛ إذ إنّ خبر الواحد الثقة یفید الظنّ کما هو معلوم، فکلّما ازداد عدد المخبرین الثقات ازدادت نسبة الوثوق بالصدور وقلّ معها احتمال الکذب أو الخطأ، کما أنّ خبر الواحد الضعیف لا یعنی معه الجزم بعدم صدور الحکم، بل یوجب الاحتمال؛ لأنّ الضعیف مشکوک الصدور لا مقطوع بعدمه کما هو بدیهی ومعروف لکلّ طلّاب العلم، فوجود الأخبار الضعیفة مع المعتبرة یوجب زیادة الوثوق بصدور الحدیث لا العکس.

ص:285

ثالثاً: نحن لا نتّفق مع جمیع الأحکام التی ذکرها المجلسی علی الروایات محلّ البحث، فمثلاً روایة ابن أبی یعفور المرویة فی الکافی، قال عنها المجلسی: مجهول! مع أنّ الروایة موثقة ولا یوجد فی رواتها أحد المجاهیل، بل کلّ رواتها من الإمامیة الثقات الأجلّاء سوی ابن فضّال وهو ثقة، فلعلّ الشیخ المجلسی قدس الله نفسه قد سها قلمه الشریف حین حکم علی سندها بالجهالة؛ ولذا فقد صرّح جملة من العلماء بأنّ الروایة موثقة أو معتبرة، منهم الخونساری(1) والمحقق الخوئی(2) والسید محسن الأمین العاملی(3) والسید صادق الروحانی(4).

وکذلک الروایة الثامنة من الکافی، وهی روایة هشام بن سالم، فهی صحیحة ولیست ضعیفة، ورواتها من أجلّاء الإمامیة، فقد رواها الکلینی عن محمّد بن یحیی عن أحمد بن محمّد عن ابن أبی عمیر عن هشام بن سالم، فتضعیف المجلسی لها من غرائب الأمور، وقد صرّح بصحّتها المحقق الأردبیلی(5) والسید الکلبایکانی(6) ، والأمر بیّن ظاهر بأدنی تأمّل فی سندها.

ص:286


1- (1) جامع المدارک 7:112.
2- (2) مبانی تکملة المنهاج 1:266.
3- (3) أعیان الشیعة 3:564.
4- (4) فقه الصادق 25:477.
5- (5) مجمع الفائدة 13:324.
6- (6) کتاب الطهارة: 355.

وکذلک روایة موسی بن بکر، وهی الروایة الثانیة فی الکافی، فهی لیست ضعیفة، بل موثقة؛ لأنّ موسی ثقة علی عدّة من المبانی کما أشرنا سابقاً، ولذا نری توثیقه والعمل علی روایته عند عدّة من الفقهاء کالمیرزا القمّی(1) والمحقق الخوئی(2) والشیخ الفیاض(3) والسید الحائری(4) ، بل إنّ المجلسی بنفسه تراجع عن حکمه هذا فی کتابه الآخر ملاذ الأخیار، وقال عن هذه الروایة: ضعیف کالموثق(5).

فبضمیمة هذه الروایات إلی ما سبق، یتّضح أنّ أربع عشرة روایة معتبرة سنداً من الروایات الواردة فی خصوص الکافی فقط.

وأمّا بقیّة أحکام الشیخ المجلسی علی الروایات فهی أیضاً غیر منسجمة مع التحقیق العلمی ولا مع آراء العلماء، فعبّر عن أربع روایات بالحسنة مع أنّ التحقیق یقتضی أنّها صحیحة، وکذلک عبّر عن روایة بالموثق کالصحیح والتحقیق یقتضی أنّها صحیحة، وعبّر عن خبر بأنّه حسن کالصحیح والتحقیق أنّه صحیح، وهکذا فإنّ التحقیق لا یتوافق مع الکثیر من أحکام الشیخ المجلسی، وبذلک یتبیّن أنّ أکثر روایات الکافی صحیحة

ص:287


1- (1) جامع الشتات 4:424.
2- (2) معجم رجال الحدیث 20:33.
3- (3) تعالیق مبسوطة علی العروة الوثقی 6:12.
4- (4) القضاء فی الفقه الإسلامی: 555.
5- (5) ملاذ الأخیار 16:272.

من الجهة السندیة.

رابعاً: أنّ الاستدلال بالروایات غیر مقتصر علی ما ورد فی الکافی فقط، فقد وردت روایات أخری صحیحة لم یذکرها الکافی، والعبرة بمجموع الروایات من الکتب المختلفة، ولا اعتماد علی روایات کتاب بعینه، وقد عرفنا أنّ أکثر الروایات التی أوردناها صحیحة أو معتبرة سنداً.

خامساً: فیما یتعلّق بعدد الروایات المتعلّقة بالمرتد، فی خصوص ما ذکره الکافی من الروایات التی عددها ثلاث وعشرون روایة، فهناک روایة تتعلّق بالسبّ ونحن لم نوردها هنا، وهناک روایة تتعلّق بإفطار شهر رمضان ونحن لم نوردها هنا أیضاً، وهناک روایتان تتعلّقان بالصبی إذا شبّ واختار الشرک ولم یبیّن فیهما حکم المرتد ونحن لم نذکرهما هنا أیضاً، وهناک روایة تتعلّق بزندیق شهد علیه عدلان ونحن لم نذکرها أیضاً.

نعم، أدخلنا روایة من شکّ فی النبی، ومن زعم أنّه نبی؛ ذلک لشمولهما للمرتد، فحکم القتل توجّب علیهما؛ لأنّهما ارتدّا بادّعاء النبوّة أو الشک فی النبی.

فلو تنزّلنا وأخرجناهما من البحث أیضاً، وهما معتبرة ابن أبی یعفور وخبر الحارث فسیبقی فیما ذکرناه من الروایات عشرون روایة، أربع عشرة روایة من الکافی، والبقیة من غیره، ولا تتغیّر المحصّلة النهائیة التی خرجنا بها سوی أنّ الروایات الموثقة تنقص واحدة، والروایات الضعیفة تنقص

ص:288

واحدة، وتبقی الروایات الصحیحة علی حالها، فیکون عندنا عشر روایات صحیحة، وأربع معتبرة، وست ضعیفة. ومن العشر الصحیحة سبع فی الکافی، ومن الأربع المعتبرة اثنان فی الکافی، فتکون الروایات المحتج بها فی الکافی بعد التنزّل وحذف ادّعاء النبوّة والشک فی النبی تسعاً من مجموع أربع عشرة روایة.

علی أنّه کما أشرنا أنّنا لا نسلّم بخروج هذه الروایات عن محلّ البحث، فهما من المصادیق الواضحة للارتداد.

ونشیر أیضاً أنّه مع احتساب مدّعی النبوّة مرتداً سیزداد عدد الروایات أیضاً؛ لأنّ هناک خبرین آخرین فی الوسائل لم نوردهما فیما تقدّم، وهما خبر أبی بصیر وخبر ابن فضّال(1).

الإشکال الثانی:

قیل ما حاصله: إنّ مجموع روایات وجوب قتل المرتد فی کتاب وسائل الشیعة ومستدرک الوسائل والتی جمعت الکتب الأربعة وغیرها هی إحدی وعشرون روایة، والادّعاء بأنّ أکثر هذه الروایات صحیح السند مجانب للصحة وخلاف التحقیق، فالروایات الصحیحة علی أحسن الأحوال تکون ستاً لا أکثر، ومع إضافة الموثقة والمعتبرة تکون الروایات المقبولة عند العلماء ثمان روایات، أربع منها فی الکافی وهی: روایة علی بن جعفر

ص:289


1- (1) وسائل الشیعة 28:337-338.

عن الإمام الکاظم علیه السلام، وروایة محمّد بن مسلم عن الإمام الباقر علیه السلام، وروایة الحسن بن محبوب عن الإمامین الباقر والصادق صلی الله علیه و آله، وروایة عمار الساباطی عن الإمام الصادق علیه السلام، وأربع روایات فی غیر الکافی وهی: روایة الحسین بن سعید عن الإمام الرضا علیه السلام، وروایة محمّد بن مسلم عن الإمام الباقر علیه السلام، وروایة عباد بن صهیب عن الإمام الصادق علیه السلام، وروایة السکونی عن الإمام الصادق علیه السلام.

وأمّا ما تبقّی من الروایات الثلاث عشرة فثمان منها مرسلة، وخمس ضعیفة، یعنی أقل من ثلث الروایات صحیح فقط.

الجواب:

أوّلاً: أنّ هذا الإشکال یحمل فی داخله تناقضاً واضحاً مع ما ذکره فی إشکاله الأوّل، إذ ذکر هنا أنّ مجموع الروایات هو ( 21) روایة منها ثمان مراسیل، بینما قال فی إشکاله الأوّل أنّ روایات الکافی المتعلّقة بالارتداد هی 15 روایة، وبإضافة ما ورد فی الغلاة تکون ثمان عشرة روایة، ثلاث منها لم یذکر فیها حکم المرتد فبقی منها ( 15) روایة، فنحن إذا أسقطنا له روایات الغلو الثلاث أیضاً من باب التنزّل، لبقی ( 12) روایة من الکافی، وحتّی یکون مجموع الروایات ( 21) روایة، فسنکون بحاجة إلی ( 9) روایات فقط من بقیّة الکتب، فإذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أنّ کلّ روایات هذا الباب من الکافی فیها مرسلة واحدة، وقد أسقطها المستشکل من الحساب لعدم بیان حکم المرتد فیها، فستکون الاثنا عشرة روایة فی الکافی

ص:290

کلّها غیر مرسلة، وإذا ما أضفنا أنّ المستشکل صرّح باعتبار أربع روایات من الفقیه والتهذیب، صار عندنا ( 16) روایة غیر مرسلة، وبقی من مجموع الروایات ال - ( 21) خمس فقط، فلا ندری کیف عثر المستشکل علی ثمان مراسیل من مجموع خمس؟!

إنّ الحوار فی هکذا أمور لا بدّ أن یکون علمیّاً وخاضعاً للأدلة، لا أن تکون النتیجة محسومة مسبقاً ومن ثمّ نحاول لیَ عنق الدلیل باتّجاهها.

ونحن هنا لا ننکر وجود روایات مرسلة فی الموضوع - سنذکرها لاحقاً - لکن نقول: إنّ العدد الذی ذکره فی روایات الکافی مع الأربع المعتبرة الأخری لا یناسب أنّ عدد المراسیل ثمان من إحدی وعشرین، إذ لا معنی أن یسقط مجموعة من روایات الکافی مع اعترافه بدلالتها علی القتل، ویأتی بروایات المراسیل من کتاب دعائم الإسلام، ثمّ یقول: إنّ المجموع ( 21) روایة ومنها ثمان مراسیل، فإنّ فیه نوعاً من عدم الأمانة العلمیة.

ولیته بیّن بالأرقام ما هی الثمانی المرسلة، وما هی الخمس الضعیفة، وأیّ روایات عنده تدخل فی المرتد وأیّ منها لا تدخل، حتّی یکون الحوار بصورة أدّق.

ثانیاً: ظهر ممّا قدمناه أعلاه - فی الخلاصة والنتائج - أنّ الروایات الصحیحة فی الکتب الأربعة فقط هی عشر، والمعتبرة أربع، فیکون المجموع أربع عشرة روایة، ولیس ثمانی کما یدّعی، فهو لم یذکر صحیحة هشام بن سالم ولا صحیحة برید ولا صحیحة الحضرمی ولا غیرها ممّا قدمناه.

ص:291

کما أنّنا فیما سبق قد توقّفنا فی معتبرة السکونی المرویة فی الفقیه، وهو هنا عدّها من المعتبرات، فسوف تزداد نسبة الروایات المعتبرة واحدة!

والخلاصة أنّ کلّ من یراجع أسانید الروایات سیصل إلی نتیجة مغایرة لما ذکره المستشکل بدون شک وریب.

ثالثاً: نحن فیما سبق اقتصرنا علی نقل الروایات من الکتب الأربعة؛ إذ هی المحور الأساس الذی تدور علیه روایات الفقه، وانتهینا إلی صحّة واعتبار أکثر تلک الروایات، فلا بأس أن نذکر بقیة الروایات مع ضعف أکثرها للتأیید والاستئناس لیس إلّا، ولبیان أنّ عدد الروایات مجتمعة هو أکثر من ( 21) بکثیر، وإلیکم ذلک:

1 - محمّد بن عمر بن عبد العزیز الکشی فی (کتاب الرجال) عن محمّد بن قولویه، عن سعد بن عبد الله، عن محمّد بن عثمان العبدی، عن یونس بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن سنان، عن أبیه، عن أبی جعفر علیه السلام قال: «إنّ عبد الله بن سبأ کان یدّعی النبوّة، وکان یزعم أنّ أمیر المؤمنین علیه السلام هوالله - تعالی عن ذلک - فبلغ أمیر المؤمنین علیه السلام فدعاه فسأله، فأقرّ وقال: نعم، أنت هو، وقد کان ألقی فی روعی أنّک أنت الله وأنا نبی، فقال له أمیر المؤمنین علیه السلام: ویلک قد سخر منک الشیطان، فارجع عن هذا ثکلتک أمّک وتب، فأبی، فحبسه واستتابه ثلاثة أیام فلم یتب، فأخرجه فأحرقه بالنار»(1).

ص:292


1- (1) وسائل الشیعة 28:336.

وهذه الروایة ضعیفة من الجهة السندیة، لجهالة محمّد بن عثمان العبدی وسنان والد عبد الله بن سنان.

2 - وعنه، عن سعد، عن یعقوب بن یزید، ومحمّد بن عیسی جمیعاً، عن ابن أبی عمیر، عن هشام بن سالم، قال: «سمعت أبا عبد الله علیه السلام یقول - وهو یحدّث أصحابه بحدیث عبد الله بن سبأ، وما ادّعی من الربوبیة لأمیر المؤمنین علیه السلام - فقال: إنّه لما ادّعی ذلک فیه استتابه أمیر المؤمنین علیه السلام فأبی أن یتوب، فأحرقه بالنار»(1).

هذه الروایة صحیحة لا شائبة فی سندها، وکلّهم من الإمامیة الثقات، وهی تدلّ علی أنّ الإمام علی علیه السلام أحرق عبد الله بن سبأ لمغالاته فی الإمام وادّعائه ربوبیّته.

3 - وعن الحسین بن الحسن بن بندار، عن سهل بن زیاد - فی حدیث - «أنّ أبا الحسن العسکری علیه السلام کتب إلی بعض أصحابنا فی کتاب فی حقّ الغلاة، قال: وإن وجدت من أحد منهم خلوة فاشدخ رأسه بالصخرة».(2)

وهذه الروایة ضعیفة من الجهة السندیة أیضاً.

1 - مرسل الدعائم عن علی علیه السلام: «وروینا عن علی صلوات الله علیه أنّه أمر بقتل المرتد، قال: من ولد علی الإسلام فبدّل دینه قتل ولم یستتب، ومن

ص:293


1- (1) وسائل الشیعة 28:336.
2- (2) وسائل الشیعة 28:337.

کان علی غیر دین الإسلام فأسلم ثمّ ارتدّ یستتاب ثلاثة أیام، فإن تاب وإلّا قتل، وإن کانت امرأة حبست حتّی تموت أو تتوب»(1).

2 - ما ورد فی الجعفریات: أخبرنا عبد الله، أخبرنا محمّد، حدّثنی موسی قال: حدّثنا أبی، عن أبیه، عن جدّه جعفر بن محمّد، عن أبیه، عن جدّه علی بن الحسین: «أنّ علیاً رفع إلیه رجل نصرانی أسلم ثمّ تنصّر، فقال علی علیه السلام: أعرضوا علیه الهوان ثلاثة أیام، وکلّ ذلک یطعمه من طعامه، ویسقیه من شرابه، فأخرجه یوم الرابع، فأبی أن یسلم، فأخرجه إلی رحبة المسجد فقتله، وطلب النصاری جثته بمئة ألف فیه، فأبی علیه السلام، فأمر به فأحرق بالنار، وقال: «لا أکون عوناً للشیطان علیهم»(2).

3 - مرسل الدعائم عن علی علیه السلام، أنّه قال فی حدیث: «ومن کان علی غیر دین الإسلام وأسلم ثمّ ارتدّ، فإنّه یستتاب ثلاثة أیام فإن تاب وإلّا قتل»(3).

4 - مرسل الدعائم عن علی علیه السلام: «أنّه کان یستتیب المرتد إذا أسلم ثمّ ارتدّ، ویقول: إنّما یستتاب من دخل دیناً ثمّ رجع عنه، فأمّا من ولد فی الإسلام فإنّا نقتله ولا نستتیبه»(4).

ص:294


1- (1) دعائم الإسلام 1:398.
2- (2) المستدرک 18:165.
3- (3) المستدرک 18:165.
4- (4) المستدرک 18:163.

5 - ما ورد فی الجعفریات: أخبرنا عبد الله، أخبرنا محمّد، حدّثنی موسی قال: حدّثنا أبی، عن أبیه، عن جدّه جعفر بن محمّد، عن أبیه، عن جدّه: «أنّ علیاً کان یستتیب الزنادقة، ولا یستتیب من ولد فی الإسلام، ویقول: إنّما نستتیب من دخل فی دیننا ثمّ رجع عنه، أمّا من ولد فی الإسلام فلا نستتیبه»(1).

6 - مرسل الدعائم: «روینا عن رسول الله صلی الله علیه و آله، قال: «من بدّل دینه فاقتلوه»(2).

7 - مرسل الدعائم عن أبی عبد الله، عن أبیه، عن آبائه: «أنّ أمیر المؤمنین علیهم السلام کان لا یزید المرتد علی ترکه ثلاثاً یستتیبه، فإذا کان الیوم الرابع قتله من غیر أن یستتاب، ثمّ یقرأ: إِنَّ الَّذِینَ آمَنُوا ثُمَّ کَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ کَفَرُوا الآیة».

ورواه فی الجعفریات: بالسند المتقدّم، عنه علیه السلام مثله، وفیه: «قتله بغیر توبة»(3).

8 - مرسل الدعائم عن علی علیه السلام: «أنّه أتی بمستورد العجلی، وقد قیل: إنّه قد تنصّر وعلّق صلیباً فی عنقه، فقال له قبل أن یسأله، وقبل أن یشهد

ص:295


1- (1) المستدرک 18:163.
2- (2) المستدرک 18:163.
3- (3) المستدرک 18:166.

علیه: ویحک یا مستورد، إنّه قد رفع إلیّ أنّک قد تنصّرت، ولعلک أردت أن تتزوّج نصرانیة، فنحن نزوّجک إیاهما، قال: قدوس قدوس، قال: فلعلک ورثت میراثاً من نصرانی، فظننت أنّا لا نورّثک، فنحن نورثک، لأنّا نرثهم ولا یرثوننا، قال: قدوس قدوس، قال: فهل تنصّرت، کما قیل؟ فقال: نعم، تنصّرت، فقال أمیر المؤمنین علیه السلام: الله أکبر، فقال المستورد: المسیح أکبر، فأخذ أمیر المؤمنین علیه السلام بمجامع ثیابه، فأکبه لوجهه فقال: طؤوه عباد الله، فوطؤوه بأقدامهم حتّی مات»(1).

9 - دعائم الإسلام عن أمیر المؤمنین علیه السلام: «أنّه أتاه قوم فقالوا: أنت إلهنا وخالقنا ورازقنا وإلیک معادنا، فتغیّر وجهه، وارفضّ عرقاً، وارتعد کالسعفة، تعظیماً لجلال الله وخوفاً منه، وقام مغضباً، ونادی لم حوله، وأمرهم فحفروا حفیراً، وقال: لأشبعنّک الیوم شحماً ولحماً، فلمّا علموا أنّه قاتلهم قالوا: إن قتلتنا فأنت تحیینا، فاستشاط غضباً علیهم وأمر بضرب أعناقهم، وأضرم لهم ناراً فی ذلک الحفیر فأحرقهم، وقال:

لما رأیت الیوم أمراً منکراً أضرمت ناری ودعوت قنبراً»(2)

10 - دعائم الإسلام عنه علیه السلام:« أنّه أتی بالزنادقة من البصرة، فعرض علیهم الإسلام واستتابهم فأبوا، فحفر لهم حفیراً وقال: لأشبعنّک الیوم شحماً

ص:296


1- (1) المستدرک 18:164.
2- (2) المستدرک 18:170.

ولحماً، ثمّ أمر بهم فضربت أعناقهم، ثمّ رماهم فی الحفیر، ثمّ أضرم علیهم ناراً فأحرقهم، وکذلک کان یفعل بالمرتد ومن بدّل دینه، وأمر بإحراق نصرانی ارتدّ، فبذل النصاری فی جثّته مئة ألف درهم، فتأبّی علیهم، وأمر به فأحرق بالنار، وقال: وما کنت لأکون عوناً للشیطان علیهم، ولا ممن یبیع جثة کافر، ولما أحرق (صلوات الله علیه) الزنادقة الذین ذکرنا، وکان أمر قنبراً بحرقهم، قال:

لما رأیت الیوم أمراً منکراً أضرمت ناری ودعوت قنبراً»(1)

11 - ما رواه الشیخ الجلیل الحسین بن عبد الوهاب المعاصر للمفید رحمه الله فی کتاب عیون المعجزات، نقلاً من کتاب الأنوار تألیف أبی علی الحسن بن همام: حدّث العباس بن الفضل، قال: حدّثنا موسی بن عطیة الأنصاری، قال: حدّثنا حسان بن أحمد الأزرق، عن أبی الأحوص، عن أبیه، عن عمار الساباطی، قال: «قدم أمیر المؤمنین علیه السلام المدائن، فنزل بإیوان کسری، وکان معه دلف بن مجیر منجم کسری، فلمّا زال الزوال، قال لدلف: - قم معی إلی أن قال -: ثمّ نظر إلی جمجمة نخرة، فقال لبعض أصحابه: خذ هذه الجمجمة وکانت مطروحة، وجاء إلی الإیوان وجلس فیه، ودعا بطست وصب فیه ماء، وقال له: دع هذه الجمجمة فی الطست، ثمّ قال علیه السلام: أقسمت علیک یا جمجمة، أخبرینی من أنا؟ ومن أنت؟ فنطقت الجمجمة

ص:297


1- (1) المستدرک 18:167.

بلسان فصیح، وقالت: أمّا أنت، فأمیر المؤمنین، وسیّد الوصیین، وأمّا أنا، فعبد الله وابن أمة الله کسری أنوشیروان.

فانصرف القوم الذین کانوا معه من أهل ساباط إلی أهالیهم، وأخبروهم بما کان وبما سمعوه من الجمجمة، فاضطربوا واختلفوا فی معنی أمیر المؤمنین علیه السلام، وحضروه، وقال بعضهم فیه مثل ما قال النصاری فی المسیح، ومثل ما قال عبد الله بن سبأ وأصحابه [فقال له أصحابه:] فإن ترکتهم علی هذا کفر الناس، فلمّا سمع ذلک منهم، قال لهم: ما تحبون أن أصنع بهم؟ قال: تحرقهم بالنار، کما أحرقت عبد الله بن سبأ وأصحابه، فأحضرهم وقال: ما حملکم علی ما قلتم؟ قالوا: سمعنا کلام الجمجمة النخرة، ومخاطبتها إیاک، ولا یجوز ذلک إلّا لله تعالی، فمن ذلک قلنا ما قلنا، فقال علیه السلام: ارجعوا إلی کلامکم وتوبوا إلی الله، فقالوا: ما کنّا نرجع عن قولنا، فاصنع بنا ما أنت صانع، فأمر أن تضرم لهم النار فحرقهم، فلمّا احترقوا، قال: اسحقوهم واذروهم فی الریح، فسحقوهم وذروهم فی الریح، فلمّا کان الیوم الثالث من إحراقهم دخل إلیه أهل الساباط وقالوا: الله الله فی دین محمّد صلی الله علیه و آله، إنّ الذین أحرقتهم بالنار، قد رجعوا إلی منازلهم أحسن ما کانوا، فقال علیه السلام: ألیس قد أحرقتموهم بالنار، وسحقتموهم وذریتموهم فی الریح؟! قالوا: بلی، قال: أحرقتهم أنا، والله أحیاهم، فانصرف أهل ساباط متحیرین»(1).

ص:298


1- (1) المستدرک 18:169.

12 - وروی الشیخ شاذان بن جبرئیل القمی فی کتاب الفضائل: بإسناده عن أبی الأحوص، ما یقرب منه، وفی آخره: «فسمع بذلک أمیر المؤمنین علیه السلام، وضاق صدره فأحضرهم، وقال: یا قوم، غلب علیکم الشیطان، إن أنا إلّا عبد الله، أنعم علیّ بإمامته وولایته ووصیة رسوله صلی الله علیه و آله، فارجعوا عن الکفر، فأنا عبد الله وابن عبده، ومحمّد صلی الله علیه و آله خیر منّی، وهو أیضاً عبد الله، وإن نحن إلّا بشر مثلکم، فخرج بعضهم من الکفر وبقی قوم علی الکفر ما رجعوا، فألحّ علیهم أمیر المؤمنین علیه السلام بالرجوع فما رجعوا، فأحرقهم بالنار، وتفرّق منهم قوم فی البلاد، وقالوا: لولا أنّ فیه الربوبیة ما کان أحرقنا فی النار»(1).

وکما اتّضح فإنّ کلّ هذه الروایات ضعیفة سوی الخبر الثانی المروی عن الکشی فی قتل عبد الله بن سبأ، لکنها تنفع مؤیّدات وشواهد للروایات المعتبرة المتقدّمة، وتزید من نسبة الوثوق والاطمئنان.

الإشکال الثالث:

قیل: إنّ دعوی تواتر الروایات الواردة فی حکم المرتد هی دعوی جزافیة، فالتواتر لا بدّ فیه من الکثرة العددیة التی یمتنع معها التواطؤ علی الکذب، فکیف نقطع بالصدور مع وجود أکثر من ثلثی الروایات ضعیفة بین مرسل مجهول وضعیف، فحتّی عدد ( 21) لو فرضنا باعتبارها جمیعاً، فهی لا توجب العلم إلّا عند القطّاع، وقطع القطّاع لیس بحجّة علی غیره.

ص:299


1- (1) المستدرک 18:170.

الجواب:

أوّلاً: لا بدّ من التنبیه أنّ المستشکل لم یکن دقیقاً فی معرفة الاصطلاحات، فمن الملاحظ أنّه خلط بین التواتر وحصول العلم، فکلّ تواتر یفید العلم، لکن لیس کلّ ما یفید العلم هو متواتر، لذا فإنّ العلم الحاصل من التواتر هو ذلک العلم الحاصل من مجرد الکثرة من دون ملاحظة خصوصیة الأفراد، فلا معنی لقوله: کیف نحصل علی التواتر من روایات فیها مضافاً للصحیح المراسیل والمجاهیل والضعفاء، فالخبر المتواتر هو ذلک الخبر المفید للعلم من دون ملاحظة حال المخبرین لکثرتهم التی یؤمن معها من التواطؤ علی الکذب، ولذا فإنّ من المعلوم عند علماء الفریقین أنّ الخبر المتواتر یعمل به من دون ملاحظة آحاد إسناده.

من هنا یمکن القول: إنّ وجود کثرة من الأخبار عند الطائفة الشیعیة، ومثلها عند الطائفة السنیّة، مع اختلاف العقیدة والرؤی والأفکار، یوجب الاطمئنان بالصدور، ویستبعد معه إمکانیة التواطؤ علی الکذب.

ثانیاً: أنّ محلّ البحث کما لا یخفی هو إرادة تحصیل العلم أو الاطمئنان بالصدور، والتواتر أحد طرق الحصول علی ذلک لیس إلّا، فمع التشکیک بالتواتر یمکن دعوی الاطمئنان بالصدور بما ذکرناه سابقاً من ملاحظة عدد الأسانید الصحیحة والموثقة والضعیفة، فکلّما کان ازداد عدد الروایات الصحیحة والمعتبرة ازدادت نسبة الاطمئنان بالصدور، وکلّما کثرت معها الروایات ولو الضعیفة ازدادت النسبة أکثر؛ لما ذکرناه من أنّ

ص:300

الضعیف لا یساوق العدم ولا یجزم معه بعدم الصدور، بل یوجب الشک واحتمال الصدور، فهو یزید فی نسبة الوثوق بصدور الروایة.

وحینئذ فلا یبعد دعوی حصول الاطمئنان بما ذکرناه من الروایات، خصوصاً أنّ نسبة الصحیح والمعتبرة فیها تجاوز ثلثی الروایات، وقد عرفنا أنّ الشهید الصدر قدس سره حاول الحصول علی الاطمئنان من روایة واحدة رواتها من الأجلّاء الأعیان من الطائفة، فدعوی أنّ وجود ( 21) روایة معتبرة لا یوجب العلم إلّا للقطّاع، هی دعوی جزافیة مجانبة للصواب.

الروایات الواردة فی حکم سابّ النبی صلی الله علیه و آله:

1 - صحیحة هشام بن سالم: علی بن إبراهیم، عن أبیه، عن ابن أبی عمیر، عن هشام بن سالم، عن أبی عبد الله علیه السلام: «أنّه سأل عمّن شتم رسول الله صلی الله علیه و آله فقال: یقتله الأدنی فالأدنی قبل أن یرفعه إلی الإمام»(1).

وهذه الروایة صحیحة السند، علی کلام بسیط فی إبراهیم بن هاشم، باعتبار عدم وجود توثیق صریح فیه، وقد أشرنا سابقاً إلی أنّ التحقیق یقتضی وثاقته.

علی أنّه لو تنزّلنا عن القول بصحّة الروایة، فلا شک من القول بحسنها، ولذا فإنّ غالب الفقهاء ما بین القول بالصحّة أوالحسن، وننبّه مجدّداً هنا بأنّ

ص:301


1- (1) الکافی 7:259.

الحدیث الحسن لیس من قسم الضعیف کما یدّعی بعض المستشکلین، بل هو من قسم الحدیث المعتبر، وهو ما علیه العلماء من زمن التقسیم الرباعی وإلی یومنا هذا.

وعلی کلّ حال، فقد صرّح عدد من المحققین بصحّة هذه الروایة، منهم: السید الخونساری(1) والسید الخوئی(2) والشیخ المنتظری(3) ، بل علی الظاهر أنّها صحیحة عند کلّ من یری وثاقة إبراهیم بن هاشم، وهم کُثر.

وأمّا الدلالة فإنّ لفظة (یقتله) ظاهرة فی الوجوب، کما أنّ الروایة صریحة فی عدم وجوب تولّی القتل من قبل الإمام.

2 - صحیحة محمّد بن مسلم: علی بن إبراهیم، عن أبیه، عن حماد بن عیسی، عن ربعی، عن محمّد بن مسلم، عن أبی جعفر علیه السلام قال: «إنّ رجلاً من هذیل کان یسبّ رسول الله صلی الله علیه و آله فبلغ ذلک النبیّ صلی الله علیه و آله فقال: من لهذا، فقام رجلان من الأنصار فقالا: نحن یا رسول الله، فانطلقا حتّی أتیا عربة(4) فسألا عنه، فإذا هو یتلقّی غنمه، فلحقاه بین أهله وغنمه فلم یسلّما علیه، فقال: من أنتما وما اسمکما؟ فقالا له: أنت فلان بن فلان؟ فقال: نعم، فنزلا وضربا عنقه، قال

محمّد بن مسلم: فقلت لأبی جعفر علیه السلام: أرأیت لو أنّ رجلاً الآن سبّ

ص:302


1- (1) جامع المدارک 7:109.
2- (2) تکملة منهاج الصالحین 1:264.
3- (3) دراسات فی ولایة الفقیه 1:144.
4- (4) المراد منها أحد النواحی قرب المدینة.

النبیّ صلی الله علیه و آله أیقتل؟ قال: إن لم تخف علی نفسک فاقتله»(1).

والروایة صحیحة السند، وإبراهیم بن هاشم ثقة، وبقیة رجالها إمامیة ثقات.

وأمّا من حیث الدلالة فلا شکّ فی وجوب قتل سابّ النبی صلی الله علیه و آله فیها، لکن هل یقع لکلّ أحد أم لا بدّ من إذن السلطان؟ فحیث إنّ النبی هو القائد السیاسی فی وقته، وهو أمر بقتله، فقد یقال: إنّه لا یمکن أن نستفید من الروایة جواز قتله لکلّ أحد.

نعم، ما ورد فی ذیل الروایة من کلام الإمام الباقر علیه السلام، یظهر منه وجوب القتل لکلّ أحد، لکنّه مشروط بعدم الخوف علی النفس.

3 - روایة علیّ بن جعفر: عدّة من أصحابنا، عن سهل بن زیاد، عن علی بن أسباط، عن علی بن جعفر قال: أخبرنی أخی موسی علیه السلام قال: «کنت واقفاً علی رأس أبی حین أتاه رسول زیاد بن عبید الله الحارثی - عامل المدینة - فقال: یقول لک الأمیر: انهض إلیّ، فاعتلّ بعلّة، فعاد إلیه الرسول فقال: قد أمرت أن یفتح لک باب المقصورة فهو أقرب لخطوک، قال: فنهض أبی واعتمد علیّ ودخل علی الوالی، وقد جمع فقهاء أهل المدینة کلّهم، وبین یدیه کتاب فیه شهادة علی رجل من أهل وادی القری قد ذکر النبی صلی الله علیه و آله فنال منه، فقال له الوالی: یا أبا عبدالله انظر فی الکتاب، قال: حتّی

ص:303


1- (1) الکافی 7:267.

أنظر ما قالوا، فالتفت إلیهم فقال: ما قلتم؟ قالوا: قلنا: یؤدَّب ویضرب ویعزَّر (یعذَّب) ویحبس، قال: فقال لهم: أرأیتم لو ذکر رجلاً من أصحاب النبی صلی الله علیه و آله ما کان الحکم فیه؟ قالوا: مثل هذا، قال: فلیس بین النبی صلی الله علیه و آله وبین رجل من أصحابه فرق؟! فقال الوالی: دع هؤلاء یا أبا عبدالله لو أردنا هؤلاء لم نرسل إلیک، فقال أبو عبدالله علیه السلام: أخبرنی أبی أنَّ رسول الله صلی الله علیه و آلهقال: الناس فیَّ اسوة سواء، من سمع أحداً یذکرنی فالواجب علیه أن یقتل من شتمنی ولا یرفع إلی السلطان، والواجب علی السلطان إذا رفع إلیه أن یقتل من نال منّی، فقال زیاد بن عبیدالله: أخرجوا الرجل فاقتلوه بحکم أبی عبدالله علیه السلام»(1).

والروایة فی سندها سهل بن زیاد، وهو محلّ خلاف، فبعضهم یری ضعفه، وبعضهم یری وثاقته، وبعضهم یری صحّة أحادیثه فی خصوص الکافی باعتبار أنّ الکلینی انتقی روایاته انتقاءً، ولیس هنا محلّ تفصیل ذلک.

وأمّا من حیث الدلالة فهی صریحة فی وجوب قتل سابّ النبی صلی الله علیه و آله من دون أن یرفع إلی السلطان.

4 - خبر الحسن بن علی الوشاء: الحسین بن محمّد، عن علی بن محمّد (معلی بن محمّد علی ما فی التهذیب)(2) ، عن الحسن بن علی الوشاء قال:

ص:304


1- (1) الکافی 7:266-267.
2- (2) التهذیب 10:85.

سمعت أبا الحسن علیه السلام یقول: «شتم رجل علی عهد جعفر بن محمّد صلی الله علیه و آله رسول الله صلی الله علیه و آله، فأتی به عامل المدینة، فجمع الناس، فدخل علیه أبو عبد الله علیه السلام وهو قریب العهد بالعلّة وعلیه رداء له مورد، فأجلسه فی صدر المجلس، واستأذنه فی الاتکاء، وقال لهم: ما ترون؟ فقال له عبد الله بن الحسن والحسن بن زید وغیرهما: نری أن یقطع لسانه، فالتفت العامل إلی ربیعة الرأی وأصحابه، فقال: ما ترون؟ فقال: یؤدّب، فقال له أبو عبد الله علیه السلام: سبحان الله فلیس بین رسول الله صلی الله علیه و آله وبین أصحابه فرق»(1).

وهذه الروایة ضعیفة من الجهة السندیة، فإنّ فی سندها معلی بن محمّد، وقد قال فیه النجاشی: مضطرب الحدیث والمذهب، وقال ابن الغضائری: یعرف حدیثه وینکر، ویروی عن الضعفاء، ویجوز أن یخرج شاهداً.

وبنی السید الخوئی صلی الله علیه و آله علی وثاقته، فقال بعد أن ذکر الأقوال فی حقّه، وأنّه ورد فی تفسیر القمی وکامل الزیارات: «الظاهر أنّ الرجل ثقة یعتمد علی روایاته، وأمّا قول النجاشی من اضطرابه فی الحدیث والمذهب فلا یکون مانعاً عن وثاقته، أمّا اضطرابه فی المذهب فلم یثبت کما ذکره بعضهم، وعلی تقدیر الثبوت فهو لا ینافی الوثاقة، وأمّا اضطرابه فی الحدیث فمعناه أنّه قد یروی ما یعرف، وقد یروی ما ینکر، وهذا أیضاً لا ینافی الوثاقة، ویؤکّد ذلک قول النجاشی: وکتبه قریبة. وأمّا روایته عن

ص:305


1- (1) الکافی 7:266.

الضعفاء علی ما ذکره ابن الغضائری، فهی علی تقدیر ثبوتها لا تضر بالعمل بما یرویه عن الثقات، فالظاهر أنّ الرجل معتمد علیه»(1).

کما یری بعض آخر اعتبار روایاته لکونه من مشایخ الإجازة، کالسید صادق الروحانی(2).

وکیف ما کان فإنّ الرجل مختلف فیه، فعدّة علی تضعیفه، وعدّة علی توثیقه.

وأمّا من حیث الدلالة فهذه الروایة تدور حول نفس قصّة الروایة السابقة، إلّا أنّه لم یذکر فیها حکم سابّ النبی صلی الله علیه و آله، واقتصرت علی اعتراض الإمام علیه السلام علی ما ذکروه من أحکام، وکیف أنّهم لم یفرّقوا فی الحکم بین سابّ الصحابی وسابّ النبی صلی الله علیه و آله، وفیها دلالة قویة علی أنّ حکم سابّ النبی صلی الله علیه و آله أقوی مما ذکروه فی الروایة من آراء، ولا یبعد إرادة القتل؛ لأنّ ما ذکروه فی الروایة هو قطع اللسان أو التأدیب، وقد اعترض الإمام علیه السلام علی کلیهما؛ لأنّ ذلک یساوی بین الرسول وأصحابه.

5 - خبر علی بن حدید: محمّد بن عمر الکشی فی (کتاب الرجال)، عن محمّد بن قولویه، عن سعد بن عبد الله، عن محمّد بن عبد الله المسمعی، عن علی بن حدید، عن أبی الحسن الأوّل علیه السلام فقال: «إنّی

ص:306


1- (1) معجم رجال الحدیث 19:280.
2- (2) فقه الصادق 1:139.

سمعت محمّد بن بشیر یقول: إنّک لست موسی بن جعفر الذی هو إمامنا وحجّتنا - إلی أن قال -: فقلت له: إذا سمعت ذلک منه أولیس حلال لی دمه؟ مباح کما أبیح دم السبابّ لرسول الله صلی الله علیه و آله والإمام؟ قال علیه السلام: نعم حلّ والله، حلّ والله دمه، وأباحه لک ولمن سمع ذلک منه - إلی أن قال -: فقلت: أرأیت إذا أنا لم أخف أن أغمر بذلک بریئاً ثمّ لم أفعل ولم أقتله ما علیّ من الوزر؟ فقال: یکون علیک وزره أضعافاً مضاعفة من غیر أن ینقص من وزره من شیء»(1).

والروایة فیها علی بن حدید، وقد تقدّم أنّه محلّ خلاف، والأکثر علی ضعفه.

وأمّا من حیث الدلالة فهی صریحة فی جواز قتله لمن سمعه، وعدم وجوب رفعه للسلطان.

6 - الفضل بن الحسن الطبرسی بإسناده فی (صحیفة الرضا علیه السلام) عن آبائه، عن رسول الله صلی الله علیه و آله قال: «من سبّ نبیّاً قتل، ومن سبّ صاحب نبیّ جلد»(2).

والروایة ضعیفة من الناحیة السندیة، وأمّا من حیث الدلالة فهی صریحة فی وجوب قتل سابّ کلّ نبیّ.

ص:307


1- (1) وسائل الشیعة 28:217.
2- (2) وسائل الشیعة 28:213.

وقد ذهب بعض الفقهاء کالسید صادق الروحانی إلی أنّ هذا الحدیث وإن کان ضعیفاً إلّا أنّه منجبر بالفتوی.

علی أنّ صاحب الوسائل ذکر ثمانین طریقاً إلی الکتاب، کلّها تنتهی إلی أربعة رواة، وهم: أحمد بن عامر الطائی، وداود بن سلیمان القزوینی، وعلی بن مهدی بن صدقة، وأحمد بن عبد الله الهروی الشیبانی، وهؤلاء الأربعة لم یرد فی أحدهم توثیق، سوی أنّ علی بن مهدی وقع فی إسناد کامل الزیارات، ونقل عن الطائی أنّه کان مؤذّناً لأبی محمّد ولأبی الحسن(1).

فعند ملاحظة عدم وجود تضعیف فی أیّ من هؤلاء الأربعة، فالنفس تتأرجح بین قبول الکتاب أو عدمه، ولا شک فی صلاحیة روایاته کشواهد ومؤیّدات لغیرها.

ومن حیث الدلالة فهی ظاهرة فی وجب قتل السابّ لکلّ شخص.

7 - مرسل فقه الرضا علیه السلام: «وروی أنّه من ذکر السیّد محمّداً صلی الله علیه و آله أو واحداً من أهل بیته الطاهرین علیهم السلام بالسوء وبما لا یلیق بهم أو الطعن فیهم وجب علیه القتل»(2).

والروایة ضعیفة سنداً، لعدم ثبوت نسبة کتاب فقه الرضا إلیه علیه السلام، فیکون حکمه الإرسال، وإن ذهب جماعة إلی ثبوته کالمجلسیین

ص:308


1- (1) انظر: أصول علم الرجال للداوری 1:493-494.
2- (2) فقه الرضا لعلی بن بابویه: 285.

والبهبهانی وصاحب الریاض والمحدّث البحرانی(1).

والروایة من حیث الدلالة صریحة فی وجوب القتل، من دون بیان من یتولّی أمر ذلک.

8 - مرسل دعائم الإسلام: عن جعفر بن محمّد صلی الله علیه و آله: «أنّه سئل عن رجل تناول علیاً علیه السلام، فقال: إنّه لحقیق أن لا یقیم یوماً، ویقتل من سبّ الإمام کما یقتل من سبّ النبی صلی الله علیه و آله»(2).

والروایة ضعیفة سنداً، فمع أنّ الکتاب کان مشهوراً فی زمان الدولة الفاطمیة، إلّا أنّه لا طریق إلیه، وقد ذهب الشیخ الداوری تبعاً لصاحب البحار إلی أن روایات الکتاب صالحة للتأیید والتأکید(3). وظاهرة دلالةً فی وجوب قتل سابّ النبی، من دون بیان من یتولّی أمر ذلک.

9 - مرسل دعائم الإسلام: عن أبی جعفر محمّد بن علی صلی الله علیه و آله أنّه قال: «من سبّ النبی صلی الله علیه و آله فلیقتل ولم یستتب»(4).

والروایة ضعیفة بالإرسال، وأمّا من حیث الدلالة فهی ظاهرة فی وجوب قتل سابّ النبی، من دون بیان حیثیة القاتل.

ص:309


1- (1) انظر: أصول علم الرجال للداوری 2:81-92.
2- (2) دعائم الإسلام 2:459--460.
3- (3) أصول علم الرجال للداوری 1:260.
4- (4) دعائم الإسلام 2:459.

10 - مرسل دعائم الإسلام: قال أبو عبد الله جعفر بن محمّد صلی الله علیه و آله: «من تناول النبی صلی الله علیه و آله فلیقتله الأدنی فالأدنی، قیل له: قبل أن یرفع إلی الوالی، قال: نعم، یفعل ذلک المسلمون إن أمنوا الولاة علی أنفسهم»(1).

والروایة ضعیفة بالإرسال، وأمّا من حیث الدلالة فهی تتفق فی الدلالة مع صحیحة هشام بن سالم من عدم وجوب تولّی القتل من قبل السلطان.

11 - ما رواه الشیخ الطوسی فی أمالیه بسنده، عن أمیر المؤمنین علیه السلام، قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله: «من سبّ نبیاً من الأنبیاء فاقتلوه، ومن سبّ وصیاً فقد سبّ نبیاً»(2).

والروایة ضعیفة سنداً، فیها إسماعیل بن علی الدعبلی، وهو ضعیف، ورماه ابن الغضائری بالکذب، وعلی بن علی بن رزین مجهول.

خلاصة ونتائج:

ذکرنا فیما تقدّم إحدی عشرة روایة تدلّ علی وجوب قتل سابّ النبی صلی الله علیه و آله، وبعضها صرّح بجواز ذلک لکلّ شخص، وبعضها أجمل الأمر من هذه الجهة، والروایات الدالة علی وجوب قتله من غیر إذن الوالی هی خمس روایات: صحیحة هشام بن سالم، وصحیحة محمّد بن مسلم، وروایة علی بن جعفر، وخبر علی بن حدید، ومرسل الدعائم الذی أوردناه برقم( 10).

ص:310


1- (1) دعائم الإسلام 2:459.
2- (2) الأمالی: 365.

وقد عرفنا أنّ روایة علی بن جعفر غیر مجزوم بضعفها للاختلاف فی سهل بن زیاد، ومثلها خبر علی بن حدید للاختلاف فیه، کما عرفنا أنّ روایات الدعائم صالحة للتأیید والتأکید.

کما أنّ الروایات الست الأخری التی ذکرناها فهی مؤیّدة فی الجملة لوجوب القتل، خصوصاً أنّ روایة صحیفة الرضا علیه السلام لها أربع طرق، وخبر الوشاء محلّ خلاف للاختلاف فی معلّی.

وفی الجملة فإنّ بناءً علی حجیّة خبر الواحد حتّی فی الأمور الخطیرة، فلا شکّ فی وجوب الحکم بقتل سابّ النبی صلی الله علیه و آله فی الجملة، بل لا یبعد ثبوت ذلک لکلّ شخص ومن دون رجوع إلی الوالی. وأمّا لو قصرنا حجّیة خبر الواحد علی غیر ذلک فللتأمّل مجال کبیر؛ إذ لا یمکن دعوی حصول التواتر أو الاطمئنان بالصدور من خلال هذه الروایات مع ما عرفت من الاختلاف فیها.

أمّا دعوی من استشکل علی ذلک، بأنّ صحیحة هشام بن سالم تحمل علی أنّها قضیّة فی واقعة، فهذا بعید؛ ذلک لأنّ الحکم غیر مقصور علی هذه الروایة، فإنّ الروایات الضعیفة وإن لم تکن حجّة فإنّها مؤیّدة للحکم أعلاه، علی أنّ روایة محمّد بن مسلم صحیحة أیضاً.

وأمّا القول بأنّ روایة هشام ومحمّد بن مسلم محکومة بالضعف؛ لأنّه من قسم الحسن، فقد تقدّم الجواب علیه، بأنّ الکثیر یذهب إلی وثاقة

ص:311

إبراهیم بن هاشم أوّلاً، ولأنّ الحسن من القسم المقبول المحتج به عند العلماء ولیس من قسم الضعیف.

تنبیهان:

الأوّل: ما دلّ علی سبّ أحد الأئمة علیهم السلام:

تقدّم أنّ الروایات الواردة فی قتل سابّ النبی صلی الله علیه و آله هی أخبار آحاد، لا یمکن معها دعوی الاطمئنان، فضلاً عن العلم بالصدور، والاستدلال بها مبنی علی حجّیة خبر الواحد حتّی فی الأمور الخطیرة، غیر أنّ هناک عدّة روایات وردت فی حکم سابّ أحد الأئمة علیهم السلام، وهی توجب القتل أیضاً، فإن أمکن الاستدلال بهذه الروایات علی سابّ النبی بدعوی الأوّلیّة، فتکون هذه الطائفة مکمّلة لتلک وتزداد نسبة الوثوق بالصدور، وإن قلنا عدم إمکان ذلک، فتکون هذه الروایات أجنبیة عن المقام.

الثانی: هل السابّ یعدّ مرتدّاً

تقدّم أنّ الروایات فی المرتد عدیدة، والصحیح والمعتبر فیها کثیر، وحینئذ نقول: إن کان سبّ النبی یوجب الارتداد، فتکون کلّ روایات الارتداد تدلّ علی وجوب قتل سابّ النبی أیضاً، وتکون الروایات الخاصّة متعاضدة مع روایات الارتداد فی وجوب هذا الحکم، وإن قلنا بعدم الارتداد بالسبّ، فستبقی هذه الطائفة أخبار آحاد.

وهناک جملة من العلماء صرّحوا بأنّ السبّ یوجب الارتداد:

ص:312

قال المفید: «ومن سبّ رسول الله أو أحداً من الأئمة فهو مرتد عن الإسلام، ودمه هدر»(1).

قال فی المسالک: «وفی إلحاق باقی الأنبیاء بذلک قوّة؛ لأنّ کمالهم وتعظیمهم علم من دین الإسلام ضرورة، فسبّهم ارتداد ظاهر»(2).

وقال فی الریاض: «وفی إلحاق باقی الأنبیاء بهم علیهم السلام وجه قوی؛ لأنّ تعظیمهم وکمالهم قد علم من دین الإسلام ضرورة، فسبّهم ارتداد»(3).

لکن حینئذ لا بدّ من تقیید القتل بالفطری دون الملّی لما تقدّم فی المرتد.

هذا آخر ما أردنا تحریره فی هذه المقالة، ولم تکن سوی نظرة فی الروایات المتعرّضة للارتداد وسبّ النبی صلی الله علیه و آله، وهی عرضة للخطأ والصواب، فما کان فیها من صواب فهو من الله سبحانه، وما کان فیها من خطأ فلقصوری فی ذلک، وکلّ الخیر والبرکة بأصحاب التحقیق، أن یصحّحوا ما أخطأنا فیه، إذ الغرض هو تکامل المعرفة، سعیاً نحو معرفة الحقیقة والرکون إلیها.

ص:313


1- (1) المقنعة: 743.
2- (2) مسالک الإفهام 14:453.
3- (3) ریاض المسائل 13:537.

ص:314

فهرس مصادر

مقال روایات قتل المرتد وسابّ النبیّ صلی الله علیه و آله

1 - اختلاف الحدیث، محمّد بن إدریس الشافعی.

2 - إرواء الغلیل، ناصر الدین الألبانی، إشراف: زهیر الشاویش، الطبعة الثانیة 1405 ه -، الناشر: المکتب الإسلامی - بیروت.

3 - الاستبصار، الشیخ الطوسی، تحقیق وتعلیق: السید حسن الموسوی الخرسان، الطبعة الرابعة 1363 ش، الناشر: دار الکتب الإسلامیة - طهران.

4 - أصول فی علم الرجال، مسلم الداوری، الطبعة الثانیة 1426 ه -، الناشر: مؤسسة المحبین.

5 - أعیان الشیعة، السید محسن الأمین العاملی، تحقیق وتخریج: حسن الأمین، الناشر: دار التعارف للمطبوعات - بیروت.

6 - الأمالی، الشیخ الطوسی، تحقیق: قسم الدراسات الإسلامیة - مؤسسة البعثة، الطبعة الأولی 1414 ه -، الناشر: دار الثقافة للطباعة والنشر والتوزیع - قم.

ص:315

7 - بحوث فی علم الأصول، محمود الهاشمی، تقریرات السید محمد باقر الصدر، الطبعة الثالثة 1417 ه -، الناشر: دائرة معارف الفقه الإسلامی - قم.

8 - بلغة الفقیه، محمّد آل بحر العلوم، شرح وتعلیق: السید محمد تقی آل بحر العلوم، الطبعة الرابعة 1403 ه -، الناشر: منشورات مکتبة الصادق - طهران.

9 - تعالیق مبسوطة علی العروة الوثقی، الشیخ الفیاض، الناشر: انتشارات محلاتی.

10 - تهذیب الأحکام، الشیخ الطوسی، تحقیق: السید حسن الموسوی الخرسان، الطبعة الثالثة 1364 ش، الناشر: دار الکتب الإسلامیة - طهران.

11 - جامع الشتات، المیرزا القمی، تصحیح: مرتضی رضوی، الطبعة الأولی 1371 ش، الناشر: انتشارات کیهان.

12 - جامع المدارک، السید أحمد الخوانساری، تعلیق: علی أکبر الغفاری، الطبعة الثانیة 1405 ه -، الناشر: مکتبة الصدوق - طهران.

13 - الحدائق الناضرة، المحقق البحرانی، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة.

14 - دراسات فی ولایة الفقیه، الشیخ المنتظری، الطبعة الأولی 1408 ه -، الناشر: المرکز العالمی للدراسات الإسلامیة.

ص:316

15 - دعائم الإسلام، القاضی النعمان المغربی، تحقیق: آصف بن علی أصغر فیضی، الطبعة 1383 ه -، الناشر: دار المعارف - القاهرة.

16 - ریاض المسائل، السید علی الطباطبائی، تحقیق: مؤسسة النشر الإسلامی، الطبعة الأولی - 1412 ه -، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة.

17 - غنائم الأیام، المیرزا القمی، تحقیق: عباس تبریزیان، المساعدان: عبد الحلیم الحلی، السید جواد الحسینی، الطبعة الأولی 1417 ه -، الناشر: مرکز النشر التابع لمکتب الإعلام الإسلامی.

18 - فقه الحدود والتعزیرات، السید عبد الکریم الأردبیلی، مؤسسة النشر لجامعة المفید 1421 ه -.

19 - فقه الرضا، علی بن بابویه القمی، تحقیق: مؤسسة آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث، الطبعة الأولی 1406 ه -، الناشر: المؤتمر العالمی للإمام الرضا علیه السلام - مشهد المقدسة.

20 - فقه الصادق، السید صادق الروحانی، الطبعة الثالثة 1412 ه -، الناشر: مؤسسة دار الکتاب - قم.

21 - القضاء فی الفقه الإسلامی، السید کاظم الحائری، الطبعة الأولی 1415 ه -، الناشر: مجمع الفکر الإسلامی.

22 - الکافی، الشیخ الکلینی، تصحیح وتعلیق: علی أکبر الغفاری، الطبعة الخامسة 1363 ش، الناشر: دار الکتب الإسلامیة - طهران.

ص:317

23 - کتاب الطهارة، محمّد هادی المقدس، تقریر أبحاث السید الکلبایکانی، الناشر: دار القرآن الکریم للعنایة بطبعه ونشر علومه - قم.

24 - مبانی تکملة منهاج الصالحین، السید الخوئی، الطبعة الثانیة 1396 ه -، المطبعة العلمیة - قم المقدسة.

25 - مجمع الفائدة والبرهان، المحقق الأردبیلی، تحقیق: الحاج آغا مجتبی العراقی والشیخ علی پناه الإشتهاردی والحاج آغا حسین الیزدی، الناشر: منشورات جماعة المدرسین فی الحوزة العلمیة فی قم المقدسة.

26 - مسالک الإفهام، الشهید الثانی زین الدین بن علی العاملی، تحقیق: مؤسسة المعارف الإسلامیة، الطبعة الأولی 1413 ه -، الناشر: مؤسسة المعارف الإسلامیة - قم.

27 - مستدرک الوسائل، المیرزا النوری، تحقیق: مؤسسة آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث، الطبعة الأولی 1408 ه -، الناشر: مؤسسة آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث - بیروت.

28 - مستمسک العروة الوثقی، السید محسن الحکیم، سنة الطبع 1404 ه -، الناشر: منشورات مکتبة آیة الله العظمی المرعشی النجفی - قم.

29 - مستند الشیعة، تحقیق: مؤسسة آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث، الطبعة الأولی 1415 ه -، الناشر: مؤسسة آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث - قم.

ص:318

30 - معجم رجال الحدیث، السید الخوئی، الطبعة الخامسة 1413 ه -.

31 - المقنعة، الشیخ المفید، تحقیق: مؤسسة النشر الإسلامی، الطبعة الثانیة 1410 ه -، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة.

32 - ملاذ الأخیار، محمّد باقر المجلسی، تحقیق: السید مهدی الرجائی، الطبعة الأولی، الناشر: مکتبة آیة الله المرعشی - قم المشرفة.

33 - من لا یحضره الفقیه، الشیخ الصدوق، تصحیح وتعلیق: علی أکبر الغفاری، الطبعة الثانیة، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة.

34 - وسائل الشیعة، الحر العاملی، تحقیق: مؤسسة آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث، الطبعة الثانیة 1414 ه -، الناشر: مؤسسة آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث بقم المشرفة.

ص:319

ص:320

الإجماع علی قتل المرتدّ وسابّ النبی صلی الله علیه و آله

اشارة

بقلم: الدکتور الشیخ حکمت الرحمة

مقدّمة

بعد أن تعرّضنا فیما مضی من مبحث إلی الروایات الدالّة علی قتل المرتدّ وسابّ النبی صلی الله علیه و آله, رأینا من المناسب أن نستعرض جملة من أقوال علماء الإمامیة فی الحکم المذکور, وسنقسّم کلّ مبحث - أی: مبحث المرتدّ ومبحث سابّ النبی صلی الله علیه و آله - إلی قسمین, یتضمّن الأوّل مجموعة من الکلمات المتضمّنة دعوی الإجماع أو الناقلة له, ویتضمّن الثانی ذکر جملة من کلمات علماء الإمامیة فی الحکم المذکور.

کلمات العلماء فی الإجماع علی قتل المرتدّ:

نَقَل أو ادّعی الإجماع علی قتل المرتدّ جملة من علماء الإمامیة, منهم علی سبیل المثال:

1 - الشیخ المفید (ت: 413 ه -) فی کتاب الحدود من مقنعته, قال: «ومن استحلّ المیتة أو الدم أو لحم الخنزیر ممن هو مولود علی فطرة

ص:321

الإسلام، فقد ارتدّ بذلک عن الدین، ووجب علیه القتل بإجماع المسلمین... ومن کان علی ظاهر الملّة ثمّ استحلّ بیع الخمور و... استتیب منه، فإن تاب وراجع الحقّ لم یکن علیه سبیل، وإن قام علی استحلال ذلک کان بحکم المرتدّ عن الدین الذی یجب علیه القتل کوجوبه علی المرتدّین»(1).

2 - الشیخ الطوسی (ت: 460 ه -) فی الخلاف, قال:« المرتدّ علی ضربین: أحدهما: ولد علی فطرة الإسلام من بین مسلمَین، فمتی ارتدّ وجب قتله، ولا تقبل توبته، والآخر: کان کافراً فأسلم ثمّ ارتدّ، فهذا یستتاب، فإن تاب وإلّا وجب قتله... دلیلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم»(2).

وقال فی النهایة:« ومن استحلّ المیتة أو الدم أو لحم الخنزیر ممن هو مولود علی فطرة الإسلام، فقد ارتدّ بذلک عن الدین، ووجب علیه القتل بالإجماع... »(3).

کما أنّه تعرّض فی المبسوط للحکم المذکور, فقال:« فمن ارتدّ عن الإسلام لم یخل من أحد أمرین: إمّا أن یکون رجلاً أو امرأة، فإن کان رجلاً قتل لإجماع الأمّة»(4).

3 - ابن زهرة الحلبی (ت: 585 ه -) فی غنیته, قال عن المرتدّ: «هو علی

ص:322


1- (1) المقنعة: 800.
2- (2) الخلاف 5:353.
3- (3) النهایة: 713.
4- (4) المبسوط 7:281.

ضربین: أحدهما: أن یکون مولوداً علی فطرة الإسلام، والثانی: أن یکون إسلامه بعد کفر. فالأوّل تبین زوجته منه فی الحال، ویقسّم ماله بین ورثته، ویجب قتله من غیر أن یستتاب، بدلیل إجماع الطائفة... والثانی: هو المرتدّ عن إسلام حصل بعد کفر؛ (فإنّه) یستتاب، فإن رجع إلی الإسلام کان العقد ثابتاً بینه وبین زوجته، فإن أسلم ثمّ ارتدّ ثانیة، قتل من غیر أن یستتاب...»(1).

4 - ابن إدریس (ت: 598 ه -) فی السرائر, قال:« ومن استحلّ المیتة أو الدم أو لحم الخنزیر ممن هو مولود علی فطرة الإسلام، فقد ارتدّ بذلک عن الدین، ووجب علیه القتل بالإجماع. وکذا ینبغی أن یکون حکم من استحلّ شرب الخمر من غیر استتابة للمولود علی فطرة الإسلام. وما قلناه من استتابته، فمحمول علی غیر المولود علی فطرة الإسلام، بل علی من کان کافراً ثمّ أسلم ثمّ استحلّ ذلک، فهذا یستتاب، فإن تاب وإلّا ضربت عنقه»(2).

وقد ذکر حکم المرتدّ فی موضع آخر ولم یتعرّض للإجماع, فقال عقیب کتاب اللعان: «فأمّا المرتدّ عن الإسلام فعلی ضربین: فإن کان مسلماً ولد علی فطرة الإسلام، فقد بانت منه امرأته فی الحال، وقسّم ماله بین ورثته، ووجب علیه القتل من غیر أن یستتاب.... فإن کان المرتدّ ممّن قد أسلم عن کفر ثمّ ارتدّ استتیب، فإن عاد إلی الإسلام کان العقد ثابتاً بینه

ص:323


1- (1) غنیة النزوع: 380-381.
2- (2) السرائر 3:477.

وبین امرأته، وإن لم یرجع کان علیه القتل...»(1).

5 - علی بن محمّد القمی (من علماء القرن السابع) فی جامع الخلاف والوفاق, قال عن المرتدّ:« وهو علی ضربین: أحدهما: أن یکون مولوداً علی فطرة الإسلام، والثانی: أن یکون إسلامه بعد کفره. فالأوّل تبین زوجته منه فی الحال، ویقسّم ماله بین ورثته، ویجب قتله من غیر أن یستتاب، وتعتدّ زوجته عدّة الوفاة... والثانی هو المرتدّ عن إسلام حصل بعد کفر فهذا یستتاب، فإن رجع إلی الإسلام کان العقد ثابتاً بینه وبین زوجته، فإن أسلم ثمّ ارتدّ ثانیة قتل من غیر أن یستتاب... لنا بعد إجماع الإمامیة ما رووه من قوله علیه السلام: من بدّل دینه فاقتلوه»(2).

6 - الفاضل الهندی (ت: 1137 ه -) فی کشف اللثام, قال بعد ذکره لوجوب قتل المرتدّ:« ودلیله الإجماع کما فی الخلاف»(3).

7 - الشیخ یوسف البحرانی (ت: 1186 ه -) فی الحدائق, قال:« لا خلاف بین الأصحاب (رضوان الله علیهم) فی أنّ من ترک الصلاة مستحلّاً ترکها فإن کان ممن ولد علی فطرة الإسلام فإنّه یقتل من غیر استتابة؛ لأنّه مرتدّ لإنکاره ما علم ثبوته من الدین ضرورة، ومن حکم المرتدّ الفطری

ص:324


1- (1) السرائر 2:707.
2- (2) جامع الخلاف والوفاق: 499.
3- (3) کشف اللثام عن قواعد الأحکام 10:661.

القتل وإن تاب»(1).

8 - الشیخ محمّد حسن صاحب الجواهر (ت: 1266 ه -), قال بعد أن ذکر جملة من أحکام المرتدّ منها القتل:« بلا خلاف معتدّ به أجده فی شیء من الأحکام المزبورة، بل الإجماع بقسمیه علیها للنصوص المذکورة»(2).

کلمات العلماء فی قتل المرتدّ:

بعد أن ذکرنا مجموعة من الکلمات فی الإجماع علی قتل المرتدّ, لا بأس أن نورد کلمات أخری لعلماء الإمامیة تنصّ علی الحکم المذکور:

1 - قال الشیخ الصدوق (ت: 381 ه -):« واعلم أنّ کلّ مسلم ابن مسلم إذا ارتدّ عن الإسلام وجحد محمّداً - صلی الله علی وآله وسلم - نبوّته وکذّبه، فإنّ دمه مباح لکلّ من سمع ذلک منه، وامرأته بائنة منه یوم ارتدّ فلا تقربه، ویقسّم ماله علی ورثته، وتعتدّ امرأته عدّة المتوفّی عنها زوجها، وعلی الإمام أن یقتله إن أتوا به، ولا یستتیبه»(3).

2 - قال أبو الصلاح الحلبی (ت: 447 ه -):« وإذا ارتدّ المؤمن وکان ولد علی الفطرة قتل علی ردّته، وإن کان ذمیاً أو کافراً غیره أسلم بعد کفر عرضت علیه التوبة، فإن رجع إلی الحقّ وإلّا قتل، فإن أسلم هذا المرتدّ ثمّ

ص:325


1- (1) الحدائق 11:14.
2- (2) جواهر الکلام 41:605.
3- (3) المقنع: 474.

ارتدّ ثانیة قتل علی ردّته»(1).

3 - قال القاضی ابن البرّاج (ت: 481 ه -): «وإذا ارتدّ المسلم بانت منه زوجته، وکان علیها أن تعتدّ عدّة المتوفّی عنها زوجها، ویقسّم میراثه بین مستحقّیه من ورّاثه، ویقتل من غیر أن یستتاب»(2).

وقال:« والمرتدّ عن دین الإسلام علی ضربین: أحدهما: أن یکون مولوداً علی فطرة الإسلام، والآخر: یکون قد أسلم بعد کفر ثمّ ارتدّ بعد هذا الإسلام، فإن کان مسلماً مولوداً علی فطرة الإسلام ثمّ ارتدّ، فقد بانت منه زوجته فی الحال، وقسّم ماله بین ورثته، وقتل من غیر أن یستتاب، وکان علی زوجته أن تعتدّ عدّة المتوفّی عنها زوجها. وإن کان ممن أسلم بعد کفر ثمّ ارتدّ استتیب، فإن عاد إلی الإسلام کان العقد بینه وبین زوجته ثابتاً، وإن لم یعد إلی الإسلام قتل»(3).

4 - قال قطب الدین الراوندی (ت: 573 ه -) عقیب مبحث اللعان: «وعندنا أنّ المرتدّ علی ضربین: فإن کان مسلماً ولد علی فطرة الإسلام فقد بانت منه امرأته فی الحال، وقسّم ماله بین ورثته، ووجب علیه القتل من غیر أن یستتاب، وتعتدّ زوجته عدّة المتوفّی عنها زوجها. وإن کان المرتدّ ممن کان أسلم عن کفر ثمّ ارتدّ استتیب، فإن عاد کان عقد زوجته ثابتاً، وإن لم

ص:326


1- (1) الکافی فی الفقه: 311.
2- (2) المهذّب 2:160.
3- (3) المصدر نفسه 2:314.

یرجع کان علیه القتل، وإن هرب إلی دار الحرب تعتدّ زوجته ثلاثة أشهر»(1).

5 - قال ابن حمزة الطوسی (من علماء القرن السادس):« وأمّا المرتدّ فضربان: أحدهما: یکون مولوداً علی فطرة الإسلام، فإذا ارتدّ قسّم ماله علی ورثته المسلمة، وقتل إن ظفر به علی کلّ حال، فإن لحق بدار الحرب وکسب مالاً کان لوارثه المسلم بعد موته. والآخر: لا یکون مولوداً علی فطرة الإسلام، فإن ظفر به وتاب کان ماله له، وإن لم یتب قتل»(2).

6 - قال أبو المجد الحلبی (من علماء القرن السادس):« فأمّا من أظهر الارتداد وإن لم یدخل فی حکم البغاة فإنّه إن کان فی الأصل کافراً فأسلم ثمّ ارتدّ بعد إظهاره الإسلام یستتاب ثلاثاً، فإن تاب وإلّا قتل. وإن کان مسلماً لا عن شرک، بل ممن ولد علی الفطرة ونشأ علی إظهار کلمة الإسلام، ثمّ أظهر الارتداد بتحلیله ما حرّم الشرع أو تحریمه ما حلله، فإنّه یقتل من غیر استتابة»(3).

7 - قال المحقق الحلّی (ت: 676 ه -):« فی المرتدّ وهو الذی یکفر بعد الإسلام، وله قسمان: الأوّل: من ولد علی الإسلام، وهذا لا یقبل إسلامه لو رجع، ویتحتم قتله، وتبین منه زوجته، وتعتدّ منه عدّة الوفاة، وتقسّم أمواله

ص:327


1- (1) فقه القرآن 2:204.
2- (2) الوسیلة: 395.
3- (3) إشارة السبق: 144.

بین ورثته وإن التحق بدار الحرب، أو اعتصم بما یحول بین الإمام و بین قتله.... القسم الثانی: من أسلم عن کفر ثمّ ارتدّ فهذا یستتاب، فإن امتنع قتل... »(1).

8 - قال ابن سعید الحلّی (ت: 690 ه -) فی جامع الشرائع: «والمسلم - وولد(2) بین المسلمین - إذا ارتدّ فدمه مباح لکلّ من سمع ذلک منه، ولا یستتاب. فإن کان أسلم عن کفر ثمّ ارتدّ استتیب، فإن لم یتب قتل بالسیف، أو یلقی فیوطأ بالأرجل، ولم تؤکل ذبیحته»(3).

9 - قال العلّامة الحلّی (ت: 726 ه -) فی الإرشاد:« والمرتدّ إمّا عن فطرة، وهو: المولود علی الإسلام، فهذا یجب قتله، ولا تقبل توبته، وتعتدّ فی الحال زوجته عدّة الوفاة، وتنتقل ترکته إلی ورثته. وأمّا عن غیر فطرة، وهو: من أسلم عن کفر ثمّ ارتدّ، فیستتاب ثلاثة أیام، فإن تاب قبلت توبته»(4).

وقال فی التحریر:« المرتدّ عن الإسلام هو الراجع عنه إلی الکفر، وهو قسمان: من ولد علی فطرة الإسلام، وهو المرتدّ عن فطرة، وهذا لا یستتاب، ولا تقبل توبته لو تاب، بل یجب قتله فی الحال، وتبین زوجته حال ارتداده، وتعتدّ عدّة الوفاة، وتقسّم أمواله بین ورّاثه وإن التحق بدار الحرب، أو هرب

ص:328


1- (1) شرائع الإسلام 4:961-962.
2- (2) أی: وقد ولد بین مسلمین.
3- (3) الجامع للشرائع: 567-568.
4- (4) إرشاد الأذهان 2:190.

من الإمام بحیث لا یقدر علیه، أو اعتصم بما یحول بینه وبینه. الثانی: من أسلم عن کفر ثمّ ارتدّ، فهذا یستتاب، فإن امتنع من العود إلی الإسلام قتل... »(1).

10 - قال الشهید الأوّل (ت: 786 ه -):« وأمّا أحکام المرتدّ: فهی إمّا فی النفس أوالمال أو الولد أو الزوجیة، فالأوّل: وجوب القتل إن کان رجلاً مولوداً علی فطرة الإسلام؛ لقول رسول الله صلی الله علیه و آله: من بدّل دینه فاقتلوه، ولا تقبل منه التوبة ظاهراً، وفی قبولها باطناً وجه قوی. وإن أسلم عن کفر ثمّ ارتدّ لم یقتل، بل یستتاب بما یؤمّل معه عوده، وقیل: ثلاثة أیام للروایة، فإن لم یتب قتل، واستتابته واجبة عندنا»(2).

11 - قال الشهید الثانی (ت: 965 ه -) بعد أن ذکر عدّة روایات فی وجوب قتل المرتدّ الفطری:« وهذا الحکم بحسب الظاهر لا إشکال فیه، بمعنی تعیّن قتله، وأمّا فیما بینه وبین الله تعالی فقبول توبته هو الوجه»(3).

تنبیهات وشبهات مثارة:

الأوّل: تبیّن فیما مضی أنّ عدداً کبیراً من علماء الإمامیة من المتقدّمین والمتأخّرین ذکر الإجماع علی وجوب قتل المرتدّ, کما اتّضح من مجموع الکلمات أعلاه أنّ هذا الحکم علیه أساطین المذهب فی العصور والأزمنة

ص:329


1- (1) تحریر الأحکام 5:839.
2- (2) الدروس 2:52.
3- (3) مسالک الإفهام 15:24.

المختلفة, وهذا یدلّ علی أنّ الحکم المذکور کان بمستوی من الوضوح الذی لا جدال ولا خلاف فیه.

الثانی: لم یکن غرضنا الأساس من نقل کلمات الإجماع هو التمسّک به کدلیل مستقل علی وجوب قتل المرتدّ؛ لوضوح کثرة الروایات فی ذلک, فیحتمل قویّاً استناد کلمات المجمعین إلیها,, فالإجماع إن لم یکن مدرکیّاً فهو محتمل المدرکیّة, وکلاهما لیس بحجّة.

نعم، یستفاد من الإجماع أنّ أساطین وفقهاء الطائفة قد فهموا من متون الروایات الحکم أعلاه, ولم یتوقّفوا فی ذلک.

علی أنّ ذلک لا یعنی طرح الإجماع المذکور جملة وتفصیلاً, فهو مؤیّد ومقوّی للحکم المذکور، خصوصاً أنّه یشمّ من بعض أقوالهم أنّهم جعلوا الإجماع دلیلاً مستقلاً فی قبال الروایات, فمثلاً نلاحظ أنّ الشیخ الطوسی یقول فی الخلاف:« دلیلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم»، فقد جعل الإجماع دلیلاً مستقلاً فی قبال الروایات, وقال فی المبسوط:« فإن کان رجلاً قتل لإجماع الأمّة»، فقد جعل دلیل الحکم هو إجماع الأمّة.

وکذلک ابن زهرة, فقد قال:« ویجب قتله من غیر أن یستتاب، بدلیل إجماع الطائفة»، فقد جعل الدلیل هو إجماع الطائفة, ولیس الروایات, وهکذا فی کلمات بعضهم الآخر, فإنّ المتأمّل فی الکلمات أعلاه یجد أنّ بعضها استندت إلی الإجماع کدلیل مستقل فی قبال الروایات.

ص:330

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ ما استشکله البعض من أنّ صاحب الجواهر أوضح علّة الإجماع وهی الروایات، حیث قال:« بل الإجماع بقسمیه علیها للنصوص المذکورة» لا ینفع فی المقام, بعد أن أوضحنا عدّة کلمات تستند للإجماع کدلیل مستقل وخصوصاً کلمات الشیخ الطوسی وابن زهرة، فالاستناد إلی کلمات صاحب الجواهر والسکوت عن کلمات المتقدّمین لیس من التحقیق العلمی فی شیء.

الثالث: قیل بأنّ الإجماع غیر متحقق فی المقام, وذلک لوجود بعض المخالفین من المتأخّرین وإن کان عددهم قلیلاً.

وفی الحقیقة, أنّ هذا الإشکال لا نصیب له من الصحّة؛ إذ العمدة فی الإجماع هو إجماع المتقدّمین، ولا عبرة بالمخالف إن کان من المتأخّرین, وهذا المطلب محقق ومعروف فی علم الأصول, یقول السید الصدر قدس سره فی بعض بحوثه الفقهیة:« إنّ هذا الوجدان غیر موجود، لا عندنا فحسب، بل حتّی عند من استدلّ بالإجماع ممن هو قبل صاحب الجواهر، وأقرب بمئات السنین إلی عصر الفقهاء الأقدمین الذین هم المعیار فی قیمة الإجماع وکاشفیته... »(1) ، فهو یصرّح بان المعیار فی قیمة الإجماع هم الفقهاء الأقدمون, بل یتعدّی إلی أبعد من ذلک ویری أنّ مخالفة بعض المتقدّمین غیر ضارة أیضاً وفق شروط معیّنة, یقول قدس سره فی ذلک:« وقد

ص:331


1- (1) بحوث فی شرح العروة الوثقی 3:320.

أشرنا مراراً إلی أنّ الجانب الکیفی مهم فی تقییم الخلاف المضر بانعقاد الإجماع، ولیست الأهمیة للجانب الکمی فقط؛ لأنّ دلالة الإجماع علی الحکم لیست تعبدیة، وإنّما هی علی أساس جمیع القرائن التی تقتضی کشفه عن ارتکاز مسلّم وتلقّ واضح للحکم من أیدی الأئمة والرواة. فإذا وجد مخالفون قلائل فلا بدّ أن تدرس نوعیّتهم، فإذا کانوا من القدماء الواقعین فی خطّ التسلسل العلمی، والمتفاعلین درساً أو تدریساً وأخذاً وإعطاء مع الوسط الفقهی الإمامی عموماً کان خلافهم مضرّاً، أو مساعداً علی الإضرار بکشف الإجماع؛ لأنّ ما یترقّب أن یکشف عنه من ارتکاز وتلقّ مسلّم إنّما یفترض فی ذلک الوسط، وأمّا إذا کانوا بعیدین عن ذلک الوسط غیر متغلغلین فیه بتلک الدرجة فلا تکون لخلافهم قیمة معتدّ بها»(1).

الرابع: نودّ أن نبیّن هنا نقطة مهمّة وحسّاسة وهی أنّ المستشکل أراد أن یطیح بالإجماع باعتباره مدرکیاً وأنّ مدرکه هو الروایات, وحاول أیضاً إثبات أنّ الروایات أخبار أحاد, وبضمیمة أنّ خبر الواحد فی الأمور الخطیرة لیس بحجّة, فلا یبقی حینئذ دلیلاً معتدّاً به علی الحکم المذکور.

ولنا أن نقول فی ذلک: إنّ الإجماع المذکور لو فرضناه مدرکیاً وکان مستنداً للروایات, فهل کان مستنداً للروایات بما هی أخبار آحاد أم مستنداً للروایات بما هی أخبار متواترة؟

ص:332


1- (1) المصدر نفسه 3:322.

فإن کان الأوّل وأنّ المجمعین قد استندوا إلی خبر الآحاد، دلّ ذلک بوضوح علی تمسّکهم بخبر الواحد حتّی فی الأمور الخطیرة, وبمعنی آخر أنّ الإجماع متحقق علی التمسّک بخبر الواحد فی الأمور الخطیرة, ومعه یثبت الحکم المذکور.

وإن کان الثانی وأنّ کلمات المجمعین قد استندت إلی الأخبار بما هی متواترة, دلّ ذلک علی أنّ أساطین الطائفة بل إجماعهم علی أنّ روایات قتل المرتدّ هی روایات متواترة، ومعه یثبت الحکم المذکور أیضاً.

وحینئذ فإن کان الإجماع تعبدیاً فقد ثبت علی ضوئه وجوب قتل المرتدّ, وإن کان مدرکیّاً فهو یثبت إمّا تمسّک الطائفة بخبر الآحاد وإن کان فی الأمور الخطیرة, أو یثبت أنّ الروایات فی قتل المرتدّ متواترة, وعلی کلا الاحتمالین یثبت الحکم محلّ النزاع.

کلمات العلماء فی الإجماع علی قتل سابّ النبی صلی الله علیه و آله:

نقل أو ادّعی جملة من علماء الإمامیة الإجماع علی قتل سابّ النبی صلی الله علیه و آله, منهم:

1 - السید المرتضی (ت: 436 ه -) فی انتصاره, قال:« ومما کان الإمامیة منفردة به القول بأنّ من سبّ النبی صلی الله علیه و آله مسلماً کان أو ذمیاً قتل فی الحال... دلیلنا علی صحة ما ذهبنا إلیه - بعد الإجماع المتردد - أنّ سبّ النبی صلی الله علیه و آله

ص:333

وعیبه والوقیعة فیه ردّة من المسلم بلا شک, والمرتدّ یقتل»(1).

2 - ابن زهرة فی غنیته (ت: 585 ه -), قال:« ویقتل من سبّ النبی صلی الله علیه و آله وغیره من الأنبیاء أو أحد الأئمة علیهم السلام، ولیس علی من سمعه فسبق إلی قتله من غیر استئذان لصاحب الأمر سبیل، کلّ ذلک بدلیل إجماع الطائفة»(2).

3 - الشهید الثانی (ت: 965 ه -) فی المسالک بعد ذکره لکلام المحقق فی قتل سابّ النبی صلی الله علیه و آله:« هذا الحکم موضع وفاق، وبه نصوص... »(3).

4 - الفاضل الهندی (ت: 1137 ه -) فی کشف اللثام, قال:« وسابّ النبی صلی الله علیه و آله أو أحد الأئمة علیهم السلام یقتل اتّفاقاً، متظاهراً بالکفر أو الإسلام، فإنّه مجاهرة بالکفر، واستخفاف بالدین وقوامه»(4).

5 - السید علی الطباطبائی صاحب الریاض (ت: 1231 ه -), قال:« قتل من سبّ النبی صلی الله علیه و آله وکذا من سبّ أحد الأئمة علیهم السلام بلا خلاف، بل علیه الإجماع فی کلام جماعة، وهو الحجّة; مضافاً إلی النصوص المستفیضة»(5).

6 - الشیخ صاحب الجواهر (ت: 1266 ه -), قال بعد ذکره لوجوب قتل

ص:334


1- (1) الانتصار: 482.
2- (2) غنیة النزوع: 428.
3- (3) مسالک الإفهام 14:452.
4- (4) کشف اللثام 10:544.
5- (5) ریاض المسائل 13:536.

سابّ النبی صلی الله علیه و آله:« بلا خلاف أجده فیه، بل الإجماع بقسمیه علیه، مضافاً إلی النصوص... »(1).

7 - السید أحمد الخوانساری (ت: 1405 ه -) فی مدارکه, قال:« أمّا جواز قتل السابّ للنبی صلی الله علیه و آله، بل وجوب قتله فهو مجمع علیه»(2).

8 - السید صادق الروحانی (معاصر) فی فقه الصادق, قال بعد أن ذکر وجوب قتل سابّ النبی صلی الله علیه و آله أو أحد الأئمة علیهم السلام وحلّیة ذلک لکلّ أحد:« بلا خلاف فی شیء من تلکم, بل الإجماع بقسمیه علی الجمیع»(3).

کلمات العلماء فی قتل سابّ النبی صلی الله علیه و آله:

بعد أن ذکرنا مجموعة من الکلمات فی الإجماع علی قتل سابّ النبی صلی الله علیه و آله, لا بأس أن نورد کلمات أخری لعلماء الإمامیة تنصّ علی الحکم المذکور:

1 - قال الشیخ الصدوق (ت: 381 ه -):« ومن سبّ رسول الله صلی الله علیه و آله أو أمیر المؤمنین علیه السلام أو أحد الأئمة صلوات الله علیهم فقد حلّ دمه من ساعته»(4).

ص:335


1- (1) جواهر الکلام 41:432.
2- (2) جامع المدارک 7:109.
3- (3) فقه الصادق 25:475.
4- (4) الهدایة: 296.

2 - قال الشیخ المفید (ت: 413 ه -):« ومن سبّ رسول الله صلی الله علیه و آله أو أحداً من الأئمة علیهم السلام فهو مرتدّ عن الإسلام، ودمه هدر، یتولّی ذلک منه إمام المسلمین... »(1).

3 - قال أبو الصلاح الحلبی (ت: 447 ه -):« ومن سبّ رسول الله صلی الله علیه و آله أو أحد الأئمة من آله أو بعض الأنبیاء علیهم السلام فعلی السلطان قتله، وإن قتله من سمعه من أهل الإیمان لم یکن للسلطان سبیل علیه»(2).

4 - قال الشیخ الطوسی (ت: 460 ه -):« ومن سبّ رسول الله صلی الله علیه و آله أو واحداً من الأئمة علیهم السلام صار دمه هدراً، وحلّ لمن سمع ذلک منه قتله، ما لم یخف فی قتله علی نفسه أو علی غیره، فإن خاف علی نفسه أو علی بعض المؤمنین ضرراً فی الحال أو المستقبل، فلا یتعرّض له علی حال»(3).

5 - قال ابن إدریس (ت: 598 ه -):« ومن سبّ رسول الله صلی الله علیه و آله أو واحداً من الأئمة علیهم السلام صار دمه هدراً، وحلّ لمن سمع ذلک منه قتله، ما لم یخف علی نفسه الضرر... »(4).

6 - قال المحقق الحلّی (ت: 676 ه -) فی المختصر:« یقتل من سبّ النبی صلی الله علیه و آله وسلّم وکذا من سبّ أحد الأئمّة علیهم السلام ویحلّ دمه لکلّ سامع إذا أمن»(5).

ص:336


1- (1) المقنعة: 743.
2- (2) الکافی فی الفقه: 416.
3- (3) النهایة: 730.
4- (4) السرائر 3:532.
5- (5) المختصر النافع: 221.

وقال فی الشرائع:« من سبّ النبی صلی الله علیه و آله جاز لسامعه قتله، ما لم یخف الضرر علی نفسه أو ماله، أو غیره من أهل الإیمان، وکذا من سبّ أحد الأئمة علیهم السلام »(1).

7 - قال یحیی بن سعید الحلّی (ت: 690 ه -) فی جامعه:« والناس سواء فیمن سمعوه یسبّ النبی صلی الله علیه و آله أو علی بن أبی طالب علیه السلام وجب علیهم قتله، إلّا أن یخافوا علی أنفسهم، فإن رفعوه إلی سلطان وجب علیه قتله»(2).

وقال فی نزهة الناظر:« ومن سبّ رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم أو أحداً من الأئمّة فدمه هدر لکلّ من سمع ذلک منه»(3).

8 - قال علی بن محمّد القمی (من علماء القرن السابع):« من سبّ النبی أو غیره من الأنبیاء أو أحداً من الأئمّة علیهم السلام یقتل، ولیس علی من سمعه فسبق إلی قتله من غیر استئذان صاحب الأمر سبیل»(4).

9 - قال العلّامة الحلّی (ت: 726 ه -) فی التبصرة:« ویقتل من سبّ النبی علیه السلام أو واحداً من الأئمة علیهم السلام، ویحلّ لکلّ سامع قتله مع أمن الضرر»(5).

ص:337


1- (1) شرائع الإسلام 4:948.
2- (2) الجامع للشرائع: 567.
3- (3) نزهة الناظر فی الجمع بین الأشباه والنظائر: 156.
4- (4) جامع الخلاف والوفاق: 588.
5- (5) تبصرة المتعلمین: 249.

وقال فی التحریر:« من سبّ النبی صلی الله علیه و آله أو أحد الأئمة علیهم السلام وجب قتله، ولو عرّض بالسبّ عزّر، وکذا لو عرّض بالشتم»(1).

وقال فی المنتهی:« من سبّ الإمام وجب قتله عندنا خاصّة، وکذا سابّ النبی صلی الله علیه و آله؛ لأنّه کافر بذلک مرتدّ فیجب قتله»(2).

10 - قال المحقق الأردبیلی (ت: 993 ه -):« الدلیل علی قتل من سبّ النبی صلی الله علیه و آله معلومیة وجوب تعظیمه من الدین ضرورة، والذی یسبّه منکر لذلک ویفعل خلاف ما علم من الدین ضرورة، مثل: رمی المصحف فی القاذورات، وإهانة الله، وإهانة الدین والإسلام، والعبادات، وشعائر الله. ونقل فی شرح الشرائع أنّ جواز قتل السابّ محلّ وفاق. وتدلّ علیه النصوص،... »(3).

11 - قال السید علی الطباطبائی صاحب الریاض (ت: 1231 ه -):« یقتل من سبّ النبی صلی الله علیه و آله، وکذا من سبّ أحد الأئمة علیهم السلام، ویحلّ دمه لکلّ سامع إذا أمن»(4).

12 - قال الإمام الخمینی (ت: 1408 ه -):« من سبّ النبی صلی الله علیه و آله - والعیاذ بالله - وجب علی سامعه قتله، ما لم یخف علی نفسه أو عرضه أو نفس

ص:338


1- (1) تحریر الأحکام 2:237.
2- (2) منتهی المطلب 1:919.
3- (3) مجمع الفائدة 13:170.
4- (4) ریاض المسائل 13:24.

مؤمن أو عرضه، ومعه لا یجوز، ولو خاف علی ماله المعتدّ به أو مال أخیه کذلک جاز ترک قتله، ولا یتوقّف ذلک علی إذن من الإمام علیه السلام أو نائبه»(1).

13 - قال السید الخوئی (ت: 1413 ه -):« یجب قتل من سبّ النبی صلی الله علیه و آله علی سامعه، ما لم یخف الضرر علی نفسه أو عرضه أو ماله الخطیر ونحو ذلک، ویلحق به سبّ الأئمة علیهم السلام وسبّ فاطمة الزهراء علیها السلام، ولا یحتاج جواز قتله إلی الإذن من الحاکم الشرعی»(2).

تنبیهات:

الأوّل: اتّضح ممّا تقدّم أنّ عدداً کبیراً من علماء الإمامیة قد ذکر الإجماع علی وجوب قتل سابّ النبی صلی الله علیه و آله, کما عرفنا من مجموع الکلمات أعلاه أنّ أساطین المذهب وفی مختلف الأزمنة والعصور ینصّون علی الحکم المذکور, وهذا یدلّ علی أنّ الحکم المذکور کان بمستوی من الوضوح الذی لا خلاف ولا جدال فیه.

الثانی: کما تقدّم سابقاً فی المرتدّ بأنّ الغرض لیس التمسّک بالإجماع المذکور کدلیل مستقل علی وجوب قتل المرتدّ، فکذلک الکلام فی وجوب قتل سابّ النبی صلی الله علیه و آله؛ لوجود الروایات فی ذلک, فیحتمل قویّاً استناد کلمات المجمعین إلیها, فالإجماع إن لم یکن مدرکیّاً فهو محتمل

ص:339


1- (1) تحریر الوسیلة 2:477.
2- (2) تکملة منهاج الصالحین: 43.

المدرکیة, وکلاهما لیس بحجّة.

نعم، یستفاد من الإجماع أنّ أساطین وفقهاء الطائفة قد فهموا من متون الروایات الحکم أعلاه, ولم یتوقّفوا فی ذلک.

علی أنّ ذلک لا یعنی طرح الإجماع المذکور جملة وتفصیلاً, کما مرّ فی المرتدّ فهو مؤیّد ومقوّی للحکم المذکور، خصوصاً أنّه یظهر من بعض أقوالهم أنّهم جعلوا الإجماع دلیلاً مستقلاً فی قبال الروایات, فمثلاً نلاحظ السید المرتضی یقول:« دلیلنا علی صحة ما ذهبنا إلیه - بعد الإجماع المتردد - أنّ سبّ النبی صلی الله علیه و آله وعیبه والوقیعة فیه ردّة من المسلم بلا شک, والمرتدّ یقتل»، ویقول ابن زهرة:« کلّ ذلک بدلیل إجماع الطائفة»، وهکذا بقیّة الکلمات، فإنّ الظاهر منها أنّهم جعلوا الإجماع دلیلاً مستقلاً, بل حتّی صاحب الجواهر یستفاد منه ذلک, فقد قال:« بل الإجماع بقسمیه علیه، مضافاً إلی النصوص»، فقد جعل الإجماع دلیلاً مستقلاً فی قبال النصوص.

ومن الغریب أنّ المستشکل قد تمسّک بکلام صاحب الجواهر فی جعل الإجماع علی قتل المرتدّ مدرکیّاً, حینما جعل مستند المجمعین هو الروایات, لکنّه هنا غض الطرف عن کلام صاحب الجواهر ولم یشر إلیه.

وکیف ما کان فما قدّمناه هناک فی قتل المرتدّ من أنّه لو کان مدرکیّاً فهو یدلّ علی إجماع علماء الشیعة علی التمسّک بخبر الواحد فی الأمور الخطیرة, أو أنّ الروایات متواترة علی قتل سابّ النبی صلی الله علیه و آله, وکلاهما یثبت الحکم المذکور.

ص:340

وحینئذ فإن کان الإجماع تعبدیاً فقد ثبت علی ضوئه وجوب قتل سابّ النبیّ صلی الله علیه و آله, وإن کان مدرکیّاً فهو یثبت إمّا تمسّک الطائفة بخبر الآحاد وإن کان فی الأمور الخطیرة, أو یثبت أنّ الروایات فی قتل سابّ النبیّ صلی الله علیه و آله متواترة, وعلی کلا الاحتمالین یثبت الحکم محلّ النزاع.

الثالث: تقدّم فی أکثر من قول أنّ سبّ النبیّ صلی الله علیه و آله ارتداد, وحینئذ فعین ما تقدّم من الکلام فی الإجماع علی قتل المرتدّ یأتی هنا بعینه, ولا نری حاجة للتکرار.

ص:341

ص:342

فهرس مصادر

مقال الإجماع علی قتل المرتدّ وسابّ النبیّ صلی الله علیه و آله

1 - إرشاد الأذهان, العلّامة الحلّی, تحقیق: الشیخ فارس الحسون, الطبعة: الأولی, سنة الطبع: 1410 ه -, الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة.

2 - إشارة السبق, أبو المجد الحلبی, تحقیق: الشیخ إبراهیم البهادری, الطبعة: الأولی, سنة الطبع: 15 شعبان المعظم 1414 ه -, الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة.

3 - الانتصار, السید المرتضی, تحقیق: مؤسسة النشر الإسلامی, سنة الطبع: شوال المکرم 1415 ه -, الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة.

4 - تبصرة المتعلّمین, العلّامة الحلّی, تحقیق: السید أحمد الحسینی والشیخ هادی الیوسفی, الطبعة: الأولی, سنة الطبع: 1368 ش, الناشر: انتشارات فقیه, طهران.

5 -

ص:343

تحریر الأحکام, العلّامة الحلّی, تحقیق: الشیخ إبراهیم البهادری, الطبعة: الأولی, سنة الطبع: 1420 ه -, الناشر: مؤسسة الإمام الصادق علیه السلام.

6 - تحریر الوسیلة, الإمام الخمینی, الطبعة: الثانیة, سنة الطبع: 1390 ه -, المطبعة: مطبعة الآداب, النجف الأشرف, الناشر: دار الکتب العلمیة.

7 - تکملة منهاج الصالحین, السید الخوئی, الطبعة: الثامنة والعشرون, سنة الطبع: ذو الحجة 1410 ه -, المطبعة: مهر, قم.

8 - جامع الخلاف والوفاق, علی بن محمّد القمی, تحقیق: الشیخ حسین الحسینی البیرجندی, الطبعة: الأولی, المطبعة: پاسدار إسلام, قم, الناشر: انتشارات زمینه سازان ظهور إمام عصر عجل الله تعالی فرجه الشریف.

9 - جامع المدارک, السید أحمد الخوانساری, تعلیق: علی أکبر الغفاری, الطبعة: الثانیة, سنة الطبع: 1405 ه -, 1364 ش, الناشر: مکتبة الصدوق, طهران.

10 - الجامع للشرائع, یحیی بن سعید الحلّی, تحقیق: جمع من الفضلاء, إشراف: الشیخ جعفر السبحانی, سنة الطبع: محرم الحرام 1405 ه -, الناشر: مؤسسة سید الشهداء العلمیة.

11 - جواهر الکلام, الشیخ محمّد حسن النجفی, تحقیق وتعلیق:

ص:344

الشیخ عباس القوچانی, الطبعة: الثانیة, سنة الطبع: 1365 ش, المطبعة: خورشید, الناشر: دار الکتب الإسلامیة, طهران.

12 - الحدائق الناضرة, المحقق البحرانی, الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة.

13 - الخلاف, الشیخ الطوسی, سنة الطبع: 1407 ه -, الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة.

14 - الدروس, الشهید الأوّل محمّد بن مکی العاملی, تحقیق: مؤسسة النشر الإسلامی, الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة.

15 - ریاض المسائل, السید علی الطباطبائی, تحقیق: مؤسسة النشر الإسلامی, الطبعة: الأولی, سنة الطبع: رمضان المبارک 1412 ه -, الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة.

16 - السرائر, ابن إدریس الحلّی, الطبعة: الثانیة, سنة الطبع: 1410 ه -, مطبعة مؤسسة النشر الإسلامی, الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة.

17 - شرائع الإسلام, المحقق الحلّی, مع تعلیقات: السید صادق الشیرازی, الطبعة: الثانیة, سنة الطبع: 1409 ه -, الناشر: انتشارات استقلال, طهران.

18 -

ص:345

شرح العروة الوثقی, محمّد باقر الصدر, الطبعة: الأولی, سنة الطبع: 1391 ه - 1971 م, مطبعة الآداب, النجف الأشرف.

19 - غنیة النزوع, ابن زهرة الحلبی, تحقیق: الشیخ إبراهیم البهادری, الطبعة: الأولی, سنة الطبع: 1417 ه -, الناشر: مؤسسة الإمام الصادق علیه السلام.

20 - فقه الصادق, السید صادق الروحانی, الطبعة: الثالثة, سنة الطبع: 1412 ه -, الناشر: مؤسسة دار الکتاب, قم.

21 - فقه القرآن, قطب الدین الراوندی, تحقیق: السید أحمد الحسینی, الطبعة: الثانیة, سنة الطبع: 1405 ه -, الناشر: مکتبة آیة الله العظمی النجفی المرعشی.

22 - الکافی, أبو الصلاح الحلبی, تحقیق: رضا أستادی, الناشر: مکتبة الإمام أمیر المؤمنین علی علیه السلام العامّة, أصفهان.

23 - کشف اللثام عن قواعد الأحکام, الفاضل الهندی, تحقیق: مؤسسة النشر الإسلامی, الطبعة: الأولی, سنة الطبع: 1416 ه -, الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة.

24 - المبسوط, الشیخ الطوسی, تصحیح وتعلیق: السید محمّد تقی

ص:346

الکشفی, سنة الطبع: 1387, المطبعة: المطبعة الحیدریة, طهران, الناشر: المکتبة المرتضویة لإحیاء آثار الجعفریة.

25 - مجمع الفائدة والبرهان, المحقق الأردبیلی, تحقیق: الحاج آغا مجتبی العراقی والشیخ علی پناه الإشتهاردی والحاج آغا حسین الیزدی, الناشر: منشورات جماعة المدرسین فی الحوزة العلمیة فی قم المقدّسة.

26 - المختصر النافع, المحقّق الحلّی, الطبعة: الثالثة, سنة الطبع: 1410 ه -, الناشر: قسم الدراسات الإسلامیة فی مؤسسة البعثة, طهران.

27 - مسالک الإفهام, الشهید الثانی زین الدین بن علی العاملی, تحقیق: مؤسسة المعارف الإسلامیة, الطبعة: الأولی, سنة الطبع: 1413 ه -, الناشر: مؤسسة المعارف الإسلامیة, قم, إیران.

28 - المقنع, الشیخ الصدوق, تحقیق: لجنة التحقیق التابعة لمؤسسة الإمام الهادی علیه السلام, سنة الطبع: 1415 ه -, المطبعة: اعتماد, الناشر: مؤسسة الإمام الهادی علیه السلام.

29 - المقنعة, الشیخ المفید, تحقیق: مؤسسة النشر الإسلامی, الطبعة: الثانیة, سنة الطبع: 1410 ه -, الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة.

30 - منتهی المطلب, العلّامة الحلّی, تحقیق: قسم الفقه فی مجمع

ص:347

البحوث الإسلامیة, الطبعة: الأولی, سنة الطبع: 1412 ه -, المطبعة: مؤسسة الطبع والنشر فی الآستانة الرضویة المقدّسة, الناشر: مجمع البحوث الإسلامیة, إیران, مشهد.

31 - المهذّب, ابن البراج الطرابلسی, إعداد: مؤسسة سید الشهداء العلمیة, إشراف: جعفر السبحانی, سنة الطبع: 1406 ه -, الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة.

32 - نزهة الناظر فی الجمع بین الأشباه والنظائر, یحیی بن سعید الحلّی, تحقیق: السید أحمد الحسینی ونور الدین الواعظی, سنة الطبع: 1386 ه -, المطبعة: الآداب, النجف الأشرف.

33 - النهایة, الشیخ الطوسی, الناشر: انتشارات قدس محمدی, قم.

34 - الوسیلة, ابن حمزة الطوسی, تحقیق: الشیخ محمّد الحسون, الطبعة: الأولی, سنة الطبع: 1408 ه -, الناشر: منشورات مکتبة آیة الله العظمی المرعشی النجفی, قم.

35 - الهدایة, الشیخ الصدوق, تحقیق: مؤسسة الإمام الهادی علیه السلام, الطبعة: الأولی, سنة الطبع: 1418 ه -, المطبعة: اعتماد, قم, الناشر: مؤسسة الإمام الهادی علیه السلام.

ص:348

الروایات الدالة علی وجوب قتل ساب النبی صلی الله علیه و آله

اشارة

بقلم: الشیخ علی حمود العبادی

الشبهة:

إنّه لا توجد روایات تدلّ علی وجوب قتل سابّ النبی صلی الله علیه و آله إلّا بعض الآحاد من الروایات الضعیفة.

الجواب:

المقدّمة:

إنّ جریمة سبّ النبی صلی الله علیه و آله من الجرائم التی تناولها الفقهاء فی مباحث الحدود، وانتهی البحث إلی الاتّفاق بین أعلام الطائفة علی وجوب قتل سابّ النبی صلی الله علیه و آله، وقد استدلّ فقهاؤنا الأعلام علی ذلک بعدّة أدلة، منها الروایات الصحیحة والصریحة الدالة علی ذلک.

إلّا أنّ الشیء الذی یستدعی الالتفات هو محاولة البعض التشکیک فی هذا الحکم الإلهی، مدّعیاً عدم وجود روایات دالة علی وجوب قتل سابّ

ص:349

النبی صلی الله علیه و آله، إلّا بعض روایات الآحاد التی لا تنهض بالدلالة علی هذا الحکم.

لکن لیس المهم المدّعیات وما یرفعه أیّ مستشکل من متبنّیات، وإنّما المهم هو طبیعة الأدلة التی یقیمها علی صحة موقفه ومتبنّیاته.

وعلی هذا الأساس انبثقت هذه المقالة لتشقّ طریقها مستضیئة بأنوار أهل البیت علیهم السلام للردّ علی هذه الشبهة.

ولأجل أن یتّضح الجواب علی هذه الشبهة بشکل واضح، لابدّ أن تنطلق منهجة البحث من استعراض الأدلة الدالة علی جواز قتل سابّ النبی صلی الله علیه و آله، مع التأکید علی أنّ هذا الحکم مما طفحت به النصوص الروائیة التی أضاءت المشهد بأروع بیان، کاشفةً عنه بأدقّ وجه، لذا یکتسب هذا البحث الهیکلیة التالیة:

المبحث الأوّل: الروایات الدالة علی جواز قتل سابّ النبی صلی الله علیه و آله

المبحث الثانی: الأدلة الأخری الدالة علی جواز قتل سابّ النبی صلی الله علیه و آله

المبحث الأوّل: الروایات الدالة علی جواز قتل سابّ النبی صلی الله علیه و آله

وهذه الروایات یمکن تصنیفها إلی عدّة طوائف:

الطائفة الأولی: الروایات الواردة فی خصوص وجوب قتل سابّ النبی صلی الله علیه و آله

وهذه الروایات کما یلی:

1 - عن علی بن إبراهیم، عن أبیه، عن ابن أبی عمیر، عن هشام بن

ص:350

سالم، عن أبی عبد الله علیه السلام أنّه سئل عن شتم رسول الله صلی الله علیه و آله فقال: (یقتله الأدنی فالأدنی قبل أن یرفع إلی الإمام).(1)

الروایة صحیحة السند، وقد عبّرعنها بالصحیحة کلّ من السید الخونساری فی جامع المدارک(2) والسید الخوئی(3) وغیرهم.

ودلالتها واضحة، فإنّ الجملة الخبریة الواقعة فی مقام الطلب تدلّ علی الوجوب، وعلی هذا الأساس فإنّ الصحیحة تدلّ علی وجوب قتل سابّ النبی صلی الله علیه و آله.

2 - عن علی بن إبراهیم، عن أبیه، عن حماد بن عیسی، عن ربعی، عن محمّد بن مسلم، عن أبی جعفر علیه السلام قال: (إنّ رجلاً من هذیل سبّ رسول الله صلی الله علیه و آلهفبلغ ذلک النبی صلی الله علیه و آله، فقال: من لهذا؟ فقال رجلان من الأنصار: نحن یا رسول الله، فانطلقا حتّی أتیا عربة، فسألا عنه، فإذا هو یتلقّی غنمه، فقال: من أنتما؟ ما اسمکما؟ فقالا له: أنت فلان بن فلان؟ فقال: نعم، فنزلا فضربا عنقه، قال محمّد بن مسلم: فقلت لأبی جعفر علیه السلام: أرأیت لو أنّ رجلاً سبّ النبی صلی الله علیه و آله أیقتل؟ قال: إن لم تخف علی نفسک فاقتله)(4).

ص:351


1- (1) الکافی 7:259، الباب 7 من أبواب حد المرتد، ح 1.
2- (2) جامع المدارک 7:107.
3- (3) تکملة مبانی المنهاج 1:264.
4- (4) الکافی 7:266، باب النوادر، ح 33، وسائل الشیعة 28:213 الباب 25 من أبواب القذف، ح 3.

والروایة صحیحة السند، کما عبّر بذلک السید الخونساری(1) والسید الخوئی(2) وغیرهم، وهی واضحة الدلالة وصریحة فی وجوب قتل سابّ النبی صلی الله علیه و آله إذا أمن علی نفسه.

3 - عن الحسین بن محمّد، عن علی بن محمّد، عن الحسن بن علی الوشاء قال: سمعت أبا الحسن علیه السلام یقول: (شتم رجل علی عهد جعفر بن محمّد صلی الله علیه و آله رسول الله صلی الله علیه و آله، فأتی به عامل المدینة فجمع الناس، فدخل علیه أبو عبد الله علیه السلام وهو قریب العهد بالعلة وعلیه رداء له مورد، فأجلسه فی صدر المجلس، واستأذنه فی الاتّکاء، وقال لهم: ما ترون؟ فقال له عبد الله بن الحسن والحسن بن زید وغیرهما: نری أن یقطع لسانه، فالتفت العامل إلی ربیعة الرأی وأصحابه فقال: ما ترون؟ قال: یؤدّب، فقال أبو عبد الله علیه السلام: سبحان الله فلیس بین رسول الله صلی الله علیه و آله بین أصحابه فرق؟!).(3)

4 - الکلینی عن عدّة من أصحابنا، عن سهل بن زیاد، عن علی بن أسباط، عن علی بن جعفر قال أخبرنی أخی موسی علیه السلام، قال: کنت واقفاً علی رأس أبی حین أتاه رسول زیاد بن عبید الله الحارثی عامل المدینة

ص:352


1- (1) جامع المدارک 7:112.
2- (2) تکملة مبانی المنهاج 1:264.
3- (3) الکافی 7:266، باب النوادر، ح 30، وسائل الشیعة 28:211، الباب 25 من أبواب القذف، ح 1.

فقال: یقول لک الأمیر: انهض إلیّ، فاعتلّ بعلة، فعاد إلیه الرسول فقال: قد أمرت أن یفتح لک باب المقصورة فهو أقرب لخطوک، قال: فنهض أبی واعتمد علیّ ودخل علی الوالی، وقد جمع فقهاء المدینة کلّهم وبین یدیه کتاب فیه شهادة علی رجل من أهل القری قد ذکر النبی صلی الله علیه و آله فنال منه، فقال له الوالی: یا أبا عبد الله انظر فی الکتاب، قال: حتّی أنظر ما قالوا، فالتفت إلیهم فقال: ما قلتم؟ قالوا: قلنا: یؤدّب ویضرب ویعزر ویحبس، قال: فقال لهم: أرأیتم لو ذکر رجلاً من أصحاب النبی صلی الله علیه و آله ما کان الحکم فیهم؟ قالوا: مثل هذا، قال: فلیس بین النبی صلی الله علیه و آله وبین رجل من أصحابه فرق؟! فقال الوالی: دع هؤلاء یا أبا عبد الله، لو أردنا هؤلاء لم نرسل إلیک، فقال أبو عبد الله علیه السلام: أخبرنی أبی أنّ رسول الله صلی الله علیه و آلهقال: الناس فیّ أسوة سواء، من سمع أحداً یذکرنی فالواجب علیه أن یقتل من شتمنی ولا یرفع إلی السلطان، والواجب علی السلطان إذا رفع إلیه أن یقتل من نال منّی، فقال زیاد بن عبید الله: أخرجوا الرجل واقتلوه بحکم أبی عبد الله).(1)

وهی واضحة الدلالة علی وجوب قتل سابّ النبی صلی الله علیه و آله، کما هو واضح من قوله علیه السلام: (من سمع أحداً یذکرنی فالواجب علیه أن یقتل...).

5 - وفی فقه الرضا علیه السلام روی أنّه من ذکر السید محمّداً صلی الله علیه و آله أو واحداً من أهل بیته الطاهرین علیهم السلام بالسوء، وبما لا یلیق بهم، أو الطعن فیهم صلوات

ص:353


1- (1) الکافی 7:266، باب النوادر، ح 32، وسائل الشیعة 28:212، الباب 25 من أبواب القذف، ح 2.

الله علیهم وجب علیه القتل)(1). وهی صریحة الدلالة علی وجوب قتل سابّ النبی صلی الله علیه و آله.

الطائفة الثانیة: الاستدلال بالروایات الدالة علی وجوب قتل سابّ الإمام علیه السلام

من الأدلة التی تساق لإثبات وجوب قتل سابّ النبی صلی الله علیه و آله هی تلک الروایات الدالة علی وجوب قتل سابّ الإمام علیه السلام، ومن ثمّ تدلّ علی وجوب قتل سابّ النبی صلی الله علیه و آله بأحد وجهین:

الوجه الأوّل: الأولویة، لما ثبت فی محلّة من أفضلیة النبی صلی الله علیه و آله علی جمیع خلقه بما فیهم الأئمة الأطهار والأنبیاء علیهم السلام، فاذا ثبت وجوب قتل سابّ الإمام علیه السلام، ثبتت لرسول الله صلی الله علیه و آلهبالأولویة القطعیة.

الوجه الثانی: أنّ حکم النبی صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام واحد، وهذا ما ذکره السید الخوئی بقوله: (لما علم من الخارج بالضرورة أنّ الأئمة علیهم السلام والصدیقة الطاهرة علیها السلام بمنزلة نفس النبی صلی الله علیه و آله، وأنّ حکمهم علیهم السلام حکمه صلی الله علیه و آله، وکلّهم یجرون مجری واحد)(2) ، مضافاً إلی عدم القول بالفصل بین النبی صلی الله علیه و آله وبین غیره من الأئمة علیهم السلام الذین سبّهم سبّه أیضاً کما ذکره صاحب الجواهر(3)

ص:354


1- (1) الفقه المنسوب للإمام الرضا: 285.
2- (2) مبانی تکملة المنهاج 2:265.
3- (3) جواهر الکلام 21:344.

ومن الروایات الدالة علی وجوب قتل سابّ أحد الأئمة علیهم السلام:

1 - عن محمّد بن یحیی، عن أحمد بن محمّد، عن علی بن الحکم، عن هشام بن سالم قال: قلت لأبی عبد الله علیه السلام: ما تقول فی رجل سبابة لعلی علیه السلام؟ قال: فقال: حلال الدم والله لولا أن یعم بریئاً، قال: قلت: فما تقول فی رجل مؤذ لنا؟ قلت: فی ماذا؟ قلت: فیک، یذکرک، فقال لی: له فی علی علیه السلام نصیب؟ قلت: إنّه لیقول ذلک ولا یظهره، قال: لا تعرض له).(1)

والروایة صحیحة السند، کما عبّر بذلک المحقق الأردبیلی فی مجمع الفائدة(2) وصاحب الجواهر(3) والسید الخوانساری(4) والسید الخوئی(5) ، وهی واضحة الدلالة علی أنّ سابّ الإمام علیه السلام یجب قتله، کما هو صریح قوله علیه السلام: (حلال الدم) أمّا النهی الوارد فیها بقوله لهشام: (لا تعرض له) فهو للتقیة، أی: خوف الإمام علیه السلام علی هشام.

2 - روایة العامری قال: قلت لأبی عبد الله علیه السلام: أیّ شیء تقول فی

ص:355


1- (1) الکافی 7:269، باب النوادر، ح 42، وسائل الشیعة 28:215، الباب 27 من أبواب القذف، ح 1.
2- (2) مجمع الفائدة 13:172.
3- (3) جواهر الکلام 41:435.
4- (4) جامع المدارک 7:110.
5- (5) تکملة مبانی المنهاج 1:265.

رجل سمعته یشتم علیاً علیه السلام ویبرأ منه؟ فقال لی: (والله هو حلال الدم...).(1)

3 - روایة زرارة عن أبی جعفر علیه السلام قال: (من قعد فی مجلس یسبّ فیه إمام من الأئمة یقدر علی الانتصاف فلم یفعل، ألبسه الله عزّ وجل الذلّ فی الدنیا، وعذّبه فی الآخرة).(2)

والمراد من الانتصاف: هو الانتقام. وفی القاموس: (انتصف منه: استوفی حقّه منه کاملاً حتّی صار کلّ علی النصف سواء. وتناصفوا: أنصف بعضهم بعضاً).(3)

والانتصاف أن یقتله إذا لم یخف علی نفسه أو عرضه أو ماله أو علی مؤمن آخر.

4 - روایة علی بن حدید قال: سمعت من یسأل أبا الحسن الأوّل علیه السلام، فقال: إنّی سمعت محمّد بن بشیر یقول: إنّک لست موسی بن جعفر الذی هو إمامنا وحجّتنا بیننا وبین الله تعالی، فقال: لعنه الله - ثلاثاً - أذاقه الله حرّ الحدید، قتله الله أخبث ما یکون من قتلة، فقلت له: إذا سمعت ذلک منه أو لیس حلال لی دمه؟ مباح کما أبیح دم السباب لرسول الله صلی الله علیه و آله والإمام؟

ص:356


1- (1) تهذیب الأحکام 10:86، الباب 6 من أبواب الحدود، ح 100، وسائل 28:216، الشیعة، الباب 27 من أبواب القذف، ح 3.
2- (2) الکافی 2:379، باب مجالسة أهل المعاصی، ح 15، وسائل الشیعة 16:262 الباب 38 من أبواب الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، ح 10.
3- (3) القاموس المحیط 3:201.

قال: نعم حلّ والله، حلّ والله دمه، وأباحه لک ولمن سمع ذلک منه، قلت: أو لیس ذلک بسابّ لک؟ قال: هذا سباب لله، وسباب لرسول الله صلی الله علیه و آله، وسباب لآبائی، وسبابی، وأیّ سبّ لیس یقصر عن هذا ولا یفوقه هذا القول، فقلت: أرأیت إذا أنا لم أخف أن أغمر بذلک بریئاً ثمّ لم أفعل ولم أقتله ما علیّ من الوزر؟ فقال: یکون علیک وزره أضعافاً مضاعفة من غیر أن ینقص من وزره شیء، أما علمت أنّ أفضل الشهداء درجة یوم القیامة من نصر الله ورسوله بظهر الغیب، وردّ عن الله وعن رسوله صلی الله علیه و آله).(1)

قال السید الکلبایکانی فی تعلیقه علی هذه الروایة: (یستفاد من لحن الروایة وتعبیرات الإمام علیه السلام الشدیدة أنّ هذا الشخص - محمّد بن بشیر - کان یعرف الإمام موسی بن جعفر علیه السلام، وأنّه هو الإمام وهادی الرشاد وحجّة الله علی العباد، وإنّما کان بصدد التشکیک بین الناس وصرف القلوب عنه صلوات الله علیه)(2).

5 - محمّد بن علی بن الحسین، عن أبیه، عن سعد، عن أحمد بن محمّد، عن علی بن الحکم، عن سیف بن عمیرة، عن داود بن فرقد قال: فقلت لأبی عبد الله علیه السلام ما تقول فی قتل الناصب؟ فقال: حلال الدم، ولکن أتقی علیک، فإن قدرت أن تقلب علیه حائطاً أو تغرقه فی ماء لکی لا یشهد علیک فافعل...).(3)

ص:357


1- (1) وسائل الشیعة 28:217، الباب 27 من أبواب حد السحق والقیادة، ح 6.
2- (2) الدر المنضود فی أحکام الحدود 2:252.
3- (3) وسائل الشیعة 28:217، الباب 27 من أبواب القذف، ح 5.

والروایة صحیحة السند، کما عبّر بذلک صاحب الحدائق(1) والسید الخوانساری(2) والسید الخوئی.(3)

ووجه الدلالة ما تقدّم من أنّ الأئمة علیهم السلام بمنزلة نفس النبی صلی الله علیه و آله، وأنّ حکمهم علیهم السلام حکم النبی صلی الله علیه و آله، وکلّهم یجرون مجری واحد، وهو من البدیهیات التی تعلو علی البرهنة والاستدلال.

قال صاحب الجواهر فی ذیل هذه الروایة: (ولا ینافی ذلک ما فی خبر أبی الصباح الطویل، وحاصله أنّه استأذنه فی قتل جعد بن عبد الله جاره لوقوعه فی علی علیه السلام، فقال: (قد نهی رسول الله صلی الله علیه و آله عن القتل یا أبا الصباح، إنّ الإسلام قیّد الفتک، ولکن دعه فستکفی بغیرک)(4) الذی لا

ص:358


1- (1) الحدائق الناضرة 18:156.
2- (2) جامع المدارک 7:112.
3- (3) تکملة مبانی المنهاج 1:265.
4- (4) تتمة الخبر کما فی الکافی: إنّ لنا جاراً من همدان یقال له: الجعد بن عبد الله، وهو یجلس إلینا - إلی أن قال - فخبطته: (خبطت الشجر: ضربتها بالعصا لیسقط ورقها) حتّی أقتله، قال: فقال: یا أبا الصباح هذا الفتک، وقد نهی رسول الله صلی الله علیه و آله عن الفتک، یا أبا الصباح إنّ الإسلام قیّد الفتک، ولکن دعه فستکفی بغیرک، قال أبو الصباح: فلمّا رجعت من المدینة إلی الکوفة لم ألبث بها إلّا ثمانیة عشر یوماً، فخرجت إلی المسجد فصلّیت الفجر، ثمّ عقبت فإذا رجل یحرکنی برجله، فقال: یا أبا الصباح، البشری، فقلت: بشّرک الله بخیر، فما ذاک؟ فقال: إنّ الجعد بن عبد الله بات البارحة فی داره التی فی الجبانة فأیقظوه للصلاة فإذا هو مثل الزق المنفوخ میتاً، فذهبوا یحملونه فإذا لحمه یسقط عن عظمه، فجمعوه فی نطع فإذا تحته أسود، فدفنوه) الکافی 7:375، ح 16.قوله: الإسلام قیّد الفتک، قال الجزری: الإیمان قیّد الفتک، وهو أن یأتی الرجل صاحبه وهو غار غافل فیشّد علیه فیقتله.

جابر له الممکن حمله علی أنّه روی ذلک للخوف علیه أو غیره ممن هو بریء؛ لأنّه رأی شدّة عزمه علی القتل، کما یظهر من بعض ما فی الخبر المزبور)(1).

6 - عن جعفر بن محمّد صلی الله علیه و آله أنّه سئل عن رجل تناول علیاً علیه السلام فقال: (إنّه لحقیق أن لا یقیم یوماً واحداً، ویقتل من سبّ الإمام علیه السلام کما یقتل من سبّ النبی صلی الله علیه و آله)(2) ، وهی واضحة الدلالة فی وجوب قتل سابّ الإمام علیه السلام.

مضافاً إلی أنّه یمکن الاستدلال علی وجوب قتل سابّ النبی صلی الله علیه و آله بالروایات الدالة علی وجوب قتل منکر فضائل النبی صلی الله علیه و آله، بتقریب أنّ منکر فضائله صلی الله علیه و آله من مصادیق السبّ.

ومن الروایات الدالة علی وجوب قتل منکر فضائل النبی صلی الله علیه و آله ما روی عن مطر بن أرقم قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام یقول: (إنّ عبد العزیز بن عمر الوالی بعث إلیّ فأتیته وبین یدیه رجلان قد تناول أحدهما صاحبه فمرش وجهه، فقال: ما تقول یا أبا عبد الله فی هذین الرجلین؟ قلت: وما قالا؟ قلت: قال أحدهما: لیس لرسول الله صلی الله علیه و آله فضل علی أحد من بنی أمیة فی الحسب، وقال الآخر: له الفضل علی الناس کلّهم فی کلّ خیر، وغضب الذی نصر رسول الله صلی الله علیه و آله فصنع بوجهه ما تری، فهل علیه شیء؟ فقلت له: إنّی أظنک

قد سألت من حولک فأخبروک، فقال: أقسمت علیک لما قلت،

ص:359


1- (1) جواهر الکلام 41:436.
2- (2) دعائم الإسلام 2:460، وسائل الشیعة 19:17، الباب 22 من أبواب الدیات، ح 1.

فقلت له: کان ینبغی لمن زعم أنّ أحداً مثل رسول الله صلی الله علیه و آله فی الفضل أن یقتل ولا یستحیی، قال: فقال: أو ما الحسب بواحد؟ فقلت: إنّ الحسب لیس النسب، ألا تری لو نزلت برجل من بعض هذه الأجناس فقراک فقلت: إنّ هذا الحسب؟ فقال: أو ما النسب بواحد؟ قلت: إذا اجتمعا إلی آدم فإنّ النسب واحد، إنّ رسول الله صلی الله علیه و آلهلم یخلطه شرک ولا بغی، فأمر به فقتل)(1).

ودلالة هذه الروایة واضحة، وعلیه فإنّ کلّ شخص یساوی بین رسول الله صلی الله علیه و آله وغیره - لا سیما من بنی أمیة - فی الفضل والکرامة یجب قتله.

هل یجب إذن الإمام فی قتل سابّ النبی صلی الله علیه و آله ؟

الظاهر عدم توقف وجوب قتل سابّ النبی صلی الله علیه و آله علی إذن الإمام؛ لدلالة صحیحة هشام بن سالم وکذا ظاهر روایته أو صحیحته الأخری الواردة فی سبّ علی علیه السلام، وکذا صحیحة محمّد بن مسلم المتقدّمة، حیث سأل فی آخرها أبا جعفر علیه السلام: أرأیت لو أنّ رجلاً سبّ النبی صلی الله علیه و آله أیقتل؟ قال علیه السلام: (إن لم تخف علی نفسک فاقتله)، وکذا صحیحة داود بن فرقد المتقدّمة الواردة فی الناصب، حیث قال: (فإن قدرت أن تقلب علیه حائطاً أو تغرقه فی ماء لکی لا یشهد به علیک فافعل)(2).

ص:360


1- (1) الکافی 7:269، باب النوادر، ح 15، وسائل الشیعة 28:214، الباب 26 من أبواب حد القذف، ح 1.
2- (2) الکافی 7:266، باب النوادر، ح 33، وسائل الشیعة 28:217، الباب 27 من أبواب القذف، ح 5.

نعم، ذهب الشیخ المفید(1) و العلّامة فی المختلف إلی عدم جواز القتل بدون إذن الإمام، وذکر العلّامة وجه ذلک: لأنّه حدّ، والمستوفی للحدود هو الإمام(2) ، وروایة أبی عاصم السجستانی أنّ أبا عبد الله بن النجاشی سأل أبا عبد الله علیه السلام فقال: (إنیّ قتلت ثلاثة عشر رجلاً من الخوارج کلّهم سمعتهم یبرأ من علی بن أبی طالب علیه السلام، فقال: لو کنت قتلتهم بأمر الإمام لم یکن علیک فی قتلهم شیء، ولکنک سبقت الإمام، فعلیک ثلاثة عشر شاة تذبحها بمنی وتصدّق بلحمها لسبقک الإمام ولیس علیک غیر ذلک)(3).

وأورد السید الکلبایکانی علی ذلک: (بأنّ هذه الروایة علی خلاف مطلوبهم أدل، فإنّ من المعلوم أنّ کفارة قتل النفس أو دیته لیس شاة، فأمره علیه السلام بذبح الشاة بمنی والتصدّق بلحمها لأجل ترک المستحب الصادر منه، وهو سبقته علی الإمام فی قتل الخوارج، وکان ینبغی له أن یستأذن الإمام فی ذلک)(4).

وممّا تقدّم یتّضح أنّ وجوب قتل سابّ الإمام علیه السلام مما دلّت علیه

ص:361


1- (1) ا لمقنعة: 743.
2- (2) مختلف الشیعة 9:451.
3- (3) وسائل الشیعة 29:230، الباب 22 من أبواب الدیات، ح 2.
4- (4) الحدود والتعزیرات 1:286.

الروایات الصحیحة والصریحة، ومن ثمّ تدلّ علی وجوب قتل سابّ النبی صلی الله علیه و آله بالوجوه المتقدّمة.

ومن الواضح أن لا فرق فی السابّ للنبی صلی الله علیه و آله بین المسلم والکافر فی وجوب قتله، کما صرّح بذلک فی المسالک(1) والریاض(2) والجواهر(3) ، واستدلّ علی ذلک بإطلاق النص والفتوی، مضافاً إلی خصوص ما ورد عن علی علیه السلام: (أنّ یهودیة کانت تشتم النبی صلی الله علیه و آله وتقع فیه، فخنقها رجل حتّی ماتت، فأبطل رسول الله دمها)(4).

نعم، إذا سبّ النبی صلی الله علیه و آله ثمّ أسلم ففی وجوب قتله تأمّل، فإنّ الإسلام یجبّ ما قبله.

الطائفة الثالثة: الاستدلال بالروایات الدالة علی وجوب قتل سابّ سائر الأنبیاء علیهم السلام

یمکن الاستدلال علی وجوب قتل سابّ نبیّنا صلی الله علیه و آله بما دلّ علی وجوب قتل سابّ باقی الأنبیاء علیهم السلام بالأولیة القطعیة؛ لما ثبت من أفضلیة

ص:362


1- (1) مسالک الإفهام 14:455.
2- (2) ریاض المسائل 13:538.
3- (3) جواهر الکلام 41:439.
4- (4) السنن الکبری 9:200، کتاب الجزیة، باب یشترط علیهم أن لا یذکروا رسول الله صلی الله علیه و آله إلاّ بما هو أهله.

نبیّنا صلی الله علیه و آله علی جمیع الأنبیاء والأولیاء علیهم السلام.

ومن الروایات الدالة علی وجوب قتل سابّ باقی الأنبیاء ما ورد عن الفضل بن الحسن الطبرسی بإسناده فی (صحیفة الرضا علیه السلام) عن آبائه، عن رسول الله صلی الله علیه و آله قال: (من سبّ نبیّاً قتل، ومن سبّ صاحب نبی جلد)(1).

وهذا الحدیث منجبر بفتوی المشهور علی وفق مضمونه کما ذکر السید الروحانی.(2)

وروی الشیخ الطوسی بسنده، عن أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب علیه السلام، عن رسول الله صلی الله علیه و آله، أنّه قال: (من سبّ نبیّاً من الأنبیاء فاقتلوه)(3).

وقد ادّعی الإجماع علی وجوب قتل سابّ سائر الأنبیاء علیهم السلام.

قال السید ابن زهرة فی الغنیة: (ویقتل من سبّ النبی صلی الله علیه و آله وغیره من الأنبیاء أو أحد الأئمة علیهم السلام... کلّ ذلک بدلیل إجماع الطائفة).(4)

نعم، ذهب البعض کصاحب المسالک بأنّ وجوب قتل من سبّ أحد من الأنبیاء علیهم السلام غیر نبیّنا صلی الله علیه و آله من باب الارتداد، حیث قال: (إنّ وجوب قتل سابّ سائر الأنبیاء علیهم السلام من باب الارتداد).(5)

ص:363


1- (1) وسائل الشیعة 28:213، الباب 27 من أبواب القذف، ح 4.
2- (2) أنظر فقه الصادق 25:476.
3- (3) الأمالی: 365.
4- (4) غنیة النزوع: 428.
5- (5) مسالک الإفهام 3:76.

نطوی هذه الفقرة بملخص یفید أنّ الروایات المستفیضة صریحة الدلالة علی وجوب قتل سابّ النبی صلی الله علیه و آله.

المبحث الثانی: الأدلة الأخری علی وجوب قتل سابّ النبی صلی الله علیه و آله

بعدما استوفی الدلیل الروائی بروحه البرهانیة وعناصره الاستدلالیة تغطیة المسألة من جمیع الجوانب، ومن ثمّ یغنی عن إقامة دلیل آخر، لکنّا لم نهمل الأدلة الأخری التی تدلّ علی وجوب قتل سابّ النبی صلی الله علیه و آله.

ومن أهم الأدلة التی یمکن سوقها علی ذلک هو إجماع الطائفة علی وجوب قتل سابّ النبی صلی الله علیه و آله، کما یتّضح من البحث الآتی.

الإجماع علی وجوب قتل سابّ النبی صلی الله علیه و آله:

عند إجراء مسح میدانی لکلمات الفقهاء سواء المتقدّمین أو المتأخّرین والمعاصرین، نجد أنّهم قد أجمعوا علی وجوب قتل سابّ النبی صلی الله علیه و آله عند الأمن من الضرر.

وقد صرّح بهذا الإجماع عدد من الأعلام:

قال السید المرتضی: (دلیلنا علی صحة ما ذهبنا إلیه بعد الإجماع...).(1)

وقال صاحب المسالک: (هذا الحکم موضع وفاق).(2)

ص:364


1- (1) الانتصار: 483.
2- (2) مسالک الإفهام 14:452.

وفی هذا المسار یقول صاحب کشف اللثام: (سابّ النبی صلی الله علیه و آله أو أحد الأئمة علیهم السلام یقتل اتّفاقاً).(1)

أمّا السید ابن زهرة فی الغنیة فإلیک عبارته: (ویقتل من سبّ النبی صلی الله علیه و آله وغیره من الأنبیاء أو أحد الأئمة علیهم السلام... کلّ ذلک بدلیل إجماع الطائفة).(2)

وفی نصّ آخر لصاحب الریاض یقول فیه: (یقتل من سبّ النبی صلی الله علیه و آله وکذا من سبّ أحد الأئمة علیهم السلام بلا خلاف، بل علیه الإجماع فی کلام جماعة، وهو الحجّة مضافاً إلی النصوص المستفیضة)(3).

وقال صاحب الجواهر: (بلا خلاف أجده فیه، بل الإجماع بقسمیه علیه).(4)

وقول آخر للسید الخونساری یقول فیه: (أمّا جواز قتل السابّ للنبی صلی الله علیه و آله، بل وجوب قتله فهو مجمع علیه).(5)

وقال السید الکلبایکانی: (أمّا سابّ النبی صلی الله علیه و آله فالإجماع علی جواز بل وجوب قتله).(6)

ص:365


1- (1) کشف اللثام عن قواعد الأحکام 10:544.
2- (2) غنیة النزوع: 428.
3- (3) ریاض المسائل 13:536.
4- (4) جواهر الکلام 41:432.
5- (5) جامع المدارک 7:107.
6- (6) الحدود والتعزیرات 1:278.

وقال السید محمّد صادق الروحانی: (یقتل من سبّ النبی صلی الله علیه و آله أو واحداً من الأئمة علیهم السلام ویحلّ لکلّ سامع قتله مع أمن الضرر بلا خلاف فی شیء من تلکم، بل الإجماع بقسمیه علی الجمیع)(1).

وکذلک صرّح بالإجماع علی وجوب قتل سابّ النبی صلی الله علیه و آله کلّ من الشیخ محمّد جواد مغنیة فی فقه الإمام الصادق علیه السلام(2) والشیخ علی آل کاشف الغطاء فی النور الساطع فی الفقه النافع(3) والسید شهاب الدین المرعشی النجفی فی القصاص علی ضوء القرآن والسنّة(4) ، والشیخ جواد التبریزی فی أسس الحدود والتقریرات(5) والشیخ فاضل اللنکرانی فی تفصیل الشریعة علی تحریر الوسیلة(6) وغیرهم.

ومن تأمّل فی هذه الإجماعات المنقولة والمحصّلة لفقهاء الإسلام الشیعة فی جمیع الأعصار من قدماء ومتأخرین ومعاصرین، یقطع بأنّ حکم سابّ النبی صلی الله علیه و آله هو القتل، بل بالاستناد إلی هذه الإجماعات - مضافاً إلی إجماع السنّة کما سیأتی - یستطیع القول بأنّ هذا الحکم من ضرورات دین

ص:366


1- (1) فقه الصادق 25:474.
2- (2) فقه الإمام الصادق 6:77.
3- (3) النور الساطع فی الفقه النافع 1:476.
4- (4) القصاص علی ضوء القرآن والسنّة 1:277.
5- (5) أسس الحدود والتقریرات: 257.
6- (6) تفصیل الشریعة فی شرح تحریر الوسیلة، باب النجاسات وأحکامها: 403.

الإسلام، ولذا ادّعی البعض علی وجود إجماع المسلمین وعلماء جمیع المذاهب والطوائف الإسلامیة.

حکم سابّ النبی صلی الله علیه و آله عند فقهاء أهل السنّة:

اختلف فقهاء أهل السنّة فی حکم سبّ النبی صلی الله علیه و آله علی قولین:

القول الأوّل: یقتل من دون استتابة.

قال القرطبی: (روی أنّ رجلاً قال فی مجلس علی رضی الله عنه: ما قُتل کعبُ بن الأشرف إلّا غدراً، فأمر علیٌ بضرب عنقه.

[ثمّ قال القرطبی]: قال علماؤنا: هذا یُقْتَل ولا یُستتاب إن نَسَبَ الغدر للنبی صلی الله علیه وسلم)

ثمّ قال: (وممن قال ذلک مالک واللیث وأحمد وإسحاق، وهو مذهب الشافعی).(1)

وقال ابن قدامة - وهو علی مذهب أحمد بن حنبل -: (أمّا من سبّ الله سبحانه و تعالی ورسوله فروی القاضی عن أحمد أنّه قال: لا توبة لمن سبّ رسول الله صلی الله علیه وسلم)(2). وفی کتاب الدر المختار علی متن تنویر الأبصار فی مذهب أبی حنیفة فی باب حکم سابّ الأنبیاء ما نصّه: (والکافر

ص:367


1- (1) الجامع لأحکام القرآن 8:82.
2- (2) الشرح الکبیر علی متن المقنع 10:90.

بسبّ نبی من الأنبیاء فإنّه یقتل حدّاً ولا تقبل توبته(1) مطلقاً، ولو سبّ الله تعالی قبلت؛ لأنّه حقّ الله تعالی، والأوّل حقّ عبد لا یزول بالتوبة)(2).

وفی ردّ المحتار علی الدر المختار لابن عابدین ما نصّه: (قال ابن سحنون المالکی: أجمع المسلمون علی أنّ شاتمه] أی: شاتم النبی صلی الله علیه و آله[ کافر، وحکمه القتل، ومن شک فی عذابه وکفره کفر).(3)

روی القاضی عیاض المالکی فی الشِّفا بتعریف حقوق المصطفی: (سأل الرشید مالکاً فی رجلٍ شتم النبی صلی الله علیه و آله،.. فغضب مالک وقال: یا أمیرَ المؤمنین، ما بقاء الأمَّة بعد شتْم نبیّها؟! منْ شتم الأنبیاء قتل).(4)

وقال النووی فی المجموع: (نقل ابن المنذر الاتّفاق علی أنّ من سبّ النبی صلی الله علیه و آله صریحاً وجب قتله، ونقل أبو بکر الفارسی أحد أئمة الشافعیة فی کتاب الإجماع أنّ من سبّ النبی صلی الله علیه و آله بما هو قذف صریح کفر باتّفاق العلماء، فلو تاب لم یسقط عنه القتل؛ لأنّ حدّ قذفه القتل وحدّ القذف لا یسقط بالتوبة، وخالفه القفال فقال: کفر بالسب فسقط القتل بالإسلام)(5).

ص:368


1- (1) المراد بعدم قبول توبته عدم إعفائه من القتل، ولیس المراد أنّه لا یصح دخوله فی الإسلام، بل إن أقلع عن الکفر وتشهّد صح دخوله فی الإسلام بالإجماع.
2- (2) الدر المختار شرح تنویر الأبصار فی فقه مذهب الإمام أبی حنیفة النعمان 4:416.
3- (3) حاشیة ردّ المحتار 4:417.
4- (4) الشفا بتعریف حقوق المصطفی 2:224.
5- (5) المجموع شرح المهذّب 19:427.

القول الثانی: إنّه کافر مرتد، ویقتل بعد استتابته، أی: الطلب منه الرجوع عن ذلک والدخول فی دین الإسلام بالشهادتین إن لم یتب، فإن تاب ودخل فی الإسلام فلا یقتل.

قال فی حاشیة ردّ المحتار: (رأیت فی کتاب الخَراج لأبی یوسف ما نصّه: وأیّما رجل مسلم سبّ رسول الله صلی الله علیه وسلم أو کذّبه أو عابه أو تنقّصه فقد کفر بالله تعالی، وبانت منه امرأته، فإن تاب وإلّا قتل...)(1).

وبهذا یتّضح أنّ حکم سابّ النبی صلی الله علیه و آله عند أهل السنّة هو القتل، ومنه یتبیّن اتّفاق المسلمین علی وجوب قتل سابّ النبی صلی الله علیه و آله، وإن ذهب البعض إلی وجوب قتله من دون استتابة، وبعض أنّه یقتل بعد استتابته.

النتیجة:

فی النهایة نبادر إلی تکثیف أبرز عناصر البحث المتقدّم فی ملخّص یفید أنّ الحکم بوجوب قتل سابّ النبی صلی الله علیه و آله دلّت علیه الروایات الصحیحة، التی تحتشد فیها الدلالات علی إثبات المطلوب، وأشبعته إشباعاً رائعاً، ودلالة هذه النصوص الروائیة تلتقی مع إجماع المسلمین قدیماً وحدیثاً، وإن وقع الخلاف عند أهل السنّة فی أنّه کافر مرتد یستتاب، ویقتل إن لم یتب، أم أنّه یقتل من دون استتابة.

ص:369


1- (1) حاشیة ردّ ا المحتار 4:419.

وعلی ضوء ما سلف وتأسیساً علیه نقول: لا یوجد أیّ مبرر ومسوّغ لإلقاء هذه الشبهات والدعوات التی یبدیها البعض، والتی تقول بعدم وجود حکم شرعی معتبر علی وجوب قتل سابّ النبی صلی الله علیه و آله.

ص:370

فهرس مصادر

مقال الروایات الدالّة علی وجوب قتل ساب النبی صلی الله علیه و آله

1 - أسس الحدود والتقریرات، الشیخ جواد التبریزی، قم مکتب المؤلّف 1417 ه -.

2 - الأمالی، لشیخ الطائفة أبی جعفر محمّد بن الحسن الطوسی رحمه الله، الطبعة الأولی 1414 ه -، تحقیق: قسم الدراسات الإسلامیة - مؤسسة البعثة، نشر: دار الثقافة - قم.

3 - الانتصار، الشریف المرتضی، تحقیق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامی، سنة الطبع 1415 ه -.

4 - تفصیل الشریعة فی شرح تحریر الوسیلة، الشیخ الفاضل اللنکرانی، قم المقدسة، 1409 ه -.

5 - تفصیل وسائل الشیعة إلی تحصیل مسائل الشریعة، الشیخ محمّد بن الحسن الحر العاملی المتوفی سنة 1104 ه -، تحقیق: مؤسسة آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث.

6 - تکملة مبانی المنهاج، السید أبو القاسم الموسوی الخوئی، مطبعة

ص:371

الآداب - النجف الأشرف.

7 - تهذیب الأحکام فی شرح المقنعة، محمّد بن الحسن الطوسی المتوفی سنة 460 ه -، تحقیق: السید حسن الموسوی الخرسان، نشر: دار الکتب الإسلامیة - طهران.

8 - الجامع لأحکام القرآن، محمّد بن أحمد الأنصاری القرطبی، دار إحیاء التراث العربی بیروت - لبنان، 1405 ه -.

9 - جامع المدارک فی شرح المختصر النافع، السید أحمد الخوانساری، علّق علیه: علی أکبر الغفاری، الناشر: مکتبة الصدوق، الطبعة الثانیة 1405 ه -.

10 - جواهر الکلام فی شرح شرائع الإسلام، الشیخ محمّد حسن النجفی، تعلیق وتصحیح: محمود القوچانی، الناشر: دار الکتب الإسلامیة، الطبعة السادسة.

11 - حاشیة ردّ المحتار علی الدر المختار شرح تنویر الأبصار فی فقه مذهب الإمام أبی حنیفة النعمان، محمّد أمین الشهیر بابن عابدین، دار الفکر للطباعة والنشر والتوزیع، 1415 ه -.

12 - الحدائق الناظرة فی أحکام العترة الطاهرة، المحدّث الشیخ یوسف البحرانی، مؤسسة النشر الإسلامی التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة.

ص:372

13 - الحدود والتعزیرات، تقریرات بحث السید الأستاذ آیة الله الحاج السید محمّد رضا الموسوی الکلبایکانی، الطبعة الأولی.

14 - دعائم الإسلام، القاضی النعمان بن محمّد بن منصور بن أحمد بن حیون التمیمی المغربی، تحقیق: آصف بن علی أصغر فیضی، الطبعة الثانیة، دار المعارف - القاهرة.

15 - ریاض المسائل، السید علی الطباطبائی، تحقیق: مؤسسة النشر الإسلامی التابعة لجماعة المدرسین بقم المقدسة، الطبعة الأولی 1422 ه -.

16 - السنن الکبری، أحمد بن الحسین بن علی البیهقی، دار الفکر.

17 - الشرح الکبیر علی متن المقنع، عبد الرحمن بن أبی عمر محمّد بن أحمد ابن قدامة المقدسی، دار الکتاب العربی للنشر والتوزیع.

18 - الشفا بتعریف حقوق المصطفی، القاضی أبی الفضل عیاض الحیصبی، مذیلاً بالحاشیة المسماة مزیل الخفاء عن ألفاظ الشفاء، أحمد بن محمّد بن محمّد الشمنی، دار الفکر للطباعة والنشر والتوزیع.

19 - غنیة النزوع، ابن زهرة الحلبی، التحقیق: الشیخ إبراهیم البهادری، بإشراف: سماحة العلامة جعفر السبحانی، الطبعة الأولی 1417 ه -، مؤسسة الإمام الصادق علیه السلام للتحقیق والتألیف - قم المقدسة.

ص:373

20 - فقه الإمام الصادق علیه السلام، محمّد جواد مغنیة، قم المقدسة، مؤسسة أنصاریان 1421 ه -.

21 - فقه الصادق، السید محمّد صادق الحسینی الروحانی، الطبعة الثالثة 1414 ه -، نشر: مؤسسة دار الکتاب - قم المقدسة.

22 - الفقه المنسوب للإمام الرضا (علیه السلام)، تحقیق: مؤسسة آل البیت (علیهم السلام) لإحیاء التراث - قم المشرفة، نشر: المؤتمر العالمی للإمام الرضا (علیه السلام) - مشهد المقدس، الطبعة الأولی 1406 ه -.

23 - القاموس المحیط، الفیروز آبادی.

24 - القصاص علی ضوء القرآن والسنّة، قم المقدسة، مکتبة آیة الله العظمی المرعشی النجفی.

25 - الکافی، محمّد بن یعقوب بن إسحاق الکلینی الرازی، نشر: دار الکتب الإسلامیة - طهران، الطبعة الثالثة 1388.

26 - کشف اللثام عن قواعد الأحکام، محمّد بن الحسن الإصفهانی (الفاضل الهندی)، تحقیق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامی، الطبعة الأولی 1424 ه -.

27 - مجمع الفوائد والبرهان فی شرح إرشاد الأذهان، المقدس الأردبیلی، مؤسسة النشر الإسلامی.

ص:374

28 - المجموع شرح المهذّب، محیی الدین بن شرف النووی، دار الفکر للطباعة والنشر والتوزیع.

29 - مختلف الشیعة، الحسن بن یوسف بن المطهر الأسدی (العلّامة الحلی)، تحقیق: مؤسسة النشر الإسلامی التابعة لجماعة المدرسین بقم المقدسة، الطبعة الأولی 1413 ه -.

30 - مسالک الإفهام إلی تنقیح شرائع الإسلام، زین الدین بن علی العاملی قدس سره (الشهید الثانی)، تحقیق ونشر: مؤسسة المعارف الإسلامیة.

31 - المقنعة، أبو عبد الله محمّد بن محمّد بن النعمان العکبری البغدادی الملقب بالشیخ المفید، مؤسسة النشر الإسلامی التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة، الطبعة الثانیة.

32 - الموسوعة الاستدلالیة فی الفقه الإسلامی، السید محمّد الحسینی الشیرازی، الطبعة الثانیة، دفتر العلوم - بیروت 1409 ه -.

33 - النور الساطع فی الفقه النافع، الشیخ علی کاشف الغطاء، مطبعة الآداب 1381 ه -.

ص:375

ص:376

هل قتل المرتد ینافی الحریّة فی العقیدة ؟

اشارة

بقلم: الشیخ علی حمود العبادی

بیان الشبهة: یقول المستشکل: إنّ قتل المرتد عن الإسلام ینافی حریة العقیدة، فالإنسان ولد حرّاً، بل حریة الإنسان هی واحدة من خاصّیات التکریم الإلهی.

جواب الشبهة: عدم وجود حریة مطلقة

لکی یتّضح الجواب بشکل واضح لابدّ أوّلاً من بیان معنی الحریة:

لا یخفی أنّ مفهوم الحریة من المفاهیم المأنوسة والمتداولة بین الناس، إلی الحدّ الذی یمکن عدّه من المفاهیم البدیهیة التی تعلو علی البیان والتوضیح.

لکن فی الوقت ذاته حینما یوضع هذا المفهوم علی طاولة التحقیق یظهر أنّه أمر مجهول، وتتبلور مجموعة من المصادیق المشتبهة غیر المعروفة.

ولذا قُدّمت تعریفات مختلفة، ولا نرید الخوض فی هذه التعریفات،

ص:377

وإنّما نکتفی بتعریف الحریة من وجهة النظر الإسلامیة وعلی لسان الشیخ الجوادی الآملی، حیث یقول:« الحریة من المنظور الإسلامی عبارة عن التحرر عن عبودیة وإطاعة غیر الله تعالی».(1)

وإذا تبیّن ذلک فنقول: إنّ الحریة المطلقة لا وجود لها فی الحضارات الإنسانیة؛ لأنّ الحریة المطلقة هی مفسدة مطلقة؛ إذ الحریّة المطلقة تعنی الإباحیة المطلقة فی جمیع المجالات، والإباحیة المطلقة تعنی ممارسة الفساد بکلّ أشکاله وألوانه من قبل أفراد المجتمع، وهی عودة إلی قانون (میکیافیلی) اللئیم الذی یتبنّی مقولة:) الغایة تبرر الوسیلة)، فکم من جریمة وعبودیة تمارس باسم الحریّة، إذا أزعجک الجار وعاتبته، تجده بدل أن یعتذر یبادرک بالقول: (إنّه حرّ)، وکأنّ المطلوب منک أن تکون عبداً لحریته.

وإذا کانت حریتی ستؤدّی إلی الإضرار بالآخرین فهذه لیست حریّة، وإنّما هی تح - رر من کلّ القیم الأخلاقیة، فالحریة الصحیحة هی أنّ حریتک تنتهی عندما تبدأ حریة الآخرین، وهذه هی الحریة المسؤولة.

فحریة الرأی والتعبیر المهذّب، وحریة الاعتقاد الدینی، وغیرها من الحریات یجب أن تمارس فی ظلّ معاییر اجتماعیة، أخلاقیة، قانونیة، وإلاّ أصبحنا نعیش شریعة الغاب.

وبهذا یتّضح أنّ الحریة المطلقة أمر یرفضه جمیع العقلاء.

ص:378


1- (1) فلسفة حقوق بشر: 189.

ومن هنا نجد أنّ الإسلام یدعو إلی حریة مسؤولیة، إلی حریة تکریمیة مهذّبة، وفیما یلی بعض الأمثلة التی تمثّل شاهداً محکماً علی محدودیة الحریة للإنسان فی الشریعة الإسلامیة:

أ - التعدّی علی أموال الآخرین ونفوسهم وأعراضهم

فقد جاء فی مورد التعدّی علی نفوس الآخرین: وَ لَکُمْ فِی الْقِصاصِ حَیاةٌ یا أُولِی الْأَلْبابِ 1 .

کما جاء فی مورد التعدّی علی أموال الآخرین: وَ السّارِقُ وَ السّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَیْدِیَهُما2 .

أمّا فی الموارد التی لا یتحقّق فیها شرط من شروط قطع الید، فإنّ الفقهاء متّفقون علی أنّ للحاکم الشرعی تعزیز السارق.

وأمّا التعدّی علی أعراض الآخرین فإنّه موجب لاستحقاق الحدّ أو التعزیز، فقد شرّعت عقوبة ثمانین جلدة علی توجیه الإهانة للمسلم علی شکل القذف کما قال تعالی: وَ الَّذِینَ یَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ یَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِینَ جَلْدَةً وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَ أُولئِکَ هُمُ الْفاسِقُونَ 3

ص:379

ومع التأمّل فی هذه الآیة الشریفة، وفی الروایات المعتبرة الواردة فی البابین: الثانی والثالث من أبواب حدّ القذف من کتاب وسائل الشیعة(1) یلاحظ أنّ هذا الحکم هو مورد اتّفاق جمیع الفقهاء.

أمّا إذا کانت الإهانة للمسلم علی شکل آخر غیر القذف، فإنّ ذلک یکون موجباً للتعزیز، کما بیّن ذلک المحقّق الحلّی فی کتابه الشرائع، حیث یقول:« کلّ تعریض بما یکرهه المواجه، ولم یوضع للقذف لغةً ولا عرفاً، یثبت به التعزیز لا الحد»(2).

وقد ادّعی صاحب الجواهر الإجماع علی ذلک وقال: (بلا خلاف أجده فیه بیننا)(3).

قد خصّص صاحب الوسائل باباً لذلک أسماه (باب أنّ من سبّ وعرّض ولم یصرّح بالقذف فلا حدّ علیه، وعلیه التعزیز)(4) ، ونحن نکتفی هنا بذکر أنموذج من هذه الروایات، وهو ما ینقله عبد الرحمن بن أبی عبد الله - أحد الرواة الموثّقین - بسند صحیح؛ حیث یقول:« سألت أبا عبد الله علیه السلام عن رجل سبّ رجلاً بغیر قذف یعرّض به هل یجلد؟ قال: علیه تعزیز»(5).

ص:380


1- (1) وسائل الشیعة 28:175-178.
2- (2) شرائع الإسلام فی مسائل الحلال والحرام 4:945.
3- (3) جواهر الکلام فی شرح شرائع الإسلام 41:410.
4- (4) وسائل الشیعة 28:202.
5- (5) وسائل الشیعة 28:202، ح 1.

والنتیجة هی أنّ واحداً من حدود الحریة الإنسانیة فی الحیاة مع الآخرین - من الناحیة الفقهیة - هو أن لا یتعدّی علی نفوس الآخرین وأموالهم وأعراضهم؛ لأنّ أیّ حرکة - سواء علی شکل کلام أم کتابة - توجب ذلّ وتعدّ ممنوعة، وللحاکم الشرعی مواجهتها بشکل قاطع علی صورة إجراء الحدود أو التعزیزات.

ب - التعدّی علی حقوق الآخرین

فی مختلف أبواب المعاملات - فی حقّ القبض والإقباض فی البیع والإجارة وأمثال ذلک، وحقّ إعمال الخیارات، إلی حقّ المطالبة بالمنافع المستوفاة، وضمان التالف، وحقّ النفقة، وحقّ الحضانة و... - إذا أراد أحد طرفی المعاملة أن یتجاهل حقّ الطرف الآخر فیها أو یتجاوزه فإنّ الحاکم الشرعی - باتّفاق الفقهاء - مطالب بإجباره علی الوفاء بتعهّداته ووظائفه الشرعیة، وإعادة الحقّ للطرف المقابل.

وأمّا حدود حریة الإنسان قبال حقوق الحیوانات فلیس الإنسان محدود الحریة أمام حقوق الآخرین ممن یعیشون معه فحسب، بل إنّه کذلک أمام حقوق الحیوانات، ومن هنا - وباتّفاق الفقهاء - فالإنسان الذی لا یوصل الماء والعلف لحیواناته المملوکة له، للحاکم الشرعی إجباره إمّا علی بیع هذا الحیوان أو ذبحه أو تأمین الطعام له.

یقول المحقّق الحلّی فی کتابه الشرائع:« وأمّا نفقة البهائم المملوکة

ص:381

فواجبة سواء کانت مأکولة أم لم تکن، والواجب القیام بما تحتاج إلیه، فإن اجترأت بالرعی وإلّا علفها، فإن امتنع أجبره الحاکم علی بیعها أو ذبحها إن کانت تقصد للذبح أو الإنفاق».(1)

ویعلّق صاحب الجواهر عند نقله هذه العبارة فیقول:« فإن تعذّر إجباره ناب الحاکم فی ذلک عنه علی ما یراه».(2)

ویقول الإمام الخمینی قدس سره حول هذا الموضوع:« ولو امتنع المالک من الإنفاق علی البهیمة، ولو بتخلیتها للرعی الکافی لها، أجبر علی بیعها أو الإنفاق علیها أو ذبحها، إن کانت مما یقصد اللحم بذبحها».(3)

ج - مزاحمة الآخرین

لم یعط النظام الإسلامی - من وجهة النظر الفقهیة - أیّ شخصٍ الحقّ فی الاستفادة من حریاته إذا ما سببت إیجاد نوع من المزاحمة للآخرین، سواء کانوا مسلمین أم أهل ذمة، وحتّی المالک الذی یتصرّف فی ملکه موقعاً المزاحمة علی الآخرین لیس له حقّ التصرّف هذا من الناحیة الفقهیة، والحاکم الشرعی مسؤول عن المواجهة بقاطعیة مع هذا النوع من ممارسة الحریة، ومن ثَمّ تحدید حریة ذلک الإنسان.

ص:382


1- (1) شرائع الإسلام 2:575.
2- (2) جواهر الکلام 31:395.
3- (3) تحریر الوسیلة 2:477.

ویمثّل الحدیث النبوی المعتبر:« لا ضرر ولا ضرار فی الإسلام»(1) شاهداً محکماً علی نفی حریة الإنسان فی الموارد التی یتسبّب فیها بمضایقة حقّ الآخرین.

والملاحظ هنا أنّ شأن صدور (لا ضرر ولا ضرار) هو أنّ سمرة بن جندب الذی یستفید من حریته سوء الاستفادة، ویدخل منزل المسلم فجأة ومن دون إعلام مسبق، رافعاً شعار (احترام الملکیة)، وبذلک یکون موجباً لأذیة الأنصاری وعائلته ومزاحمتهم.

فإنّ رسول الله صلی الله علیه و آله وبجملته الراقیة والقیّمة:« لا ضرر ولا ضرار» یصدر حکماً عملیاً - کحاکمٍ للمسلمین - بلزوم قلع العذق، ومع قلعه یتمّ إعدام الأرضیة الموجبة لوقوع الأذیة والمزاحمة للآخرین.

وبناءً علیه، فالمراد الأصلی لهذه الروایة هو نفی شرعیة الحریّة المؤدّیة إلی مزاحمة الآخرین من قبل سمرة بن جندب، وإن کان یمکن أیضاً استفادة احترام حریة الرجل الأنصاری وعائلته فی محیطه المنزلی - والتی هدّدها التصرّف الوقح من قبل سمرة - منها، إلاّ أنّه من الواضح أنّ ضرورة هذا النوع من الحریة هو مما اتّفق علیه جمیع الباحثین حول هذا الموضوع، وهو من الوضوح بحیث إنّه لا یحتاج إلی الاستدلال وتقدیم البرهان.

ص:383


1- (1) وسائل الشیعة 26:14، ح 10.

د - التظاهر بالمنکرات

اشارة

من الموارد الأخری التی تحدّ من حریة الإنسان شرعاً، التظاهر بالمنکرات فی المحیط الاجتماعی، وذلک لأنّ الشارع بالإضافة إلی أنّه قد منع ارتکاب هذه المنکرات علی المستوی الفردی، فإنّه قد حرّم التظاهر بها أیضاً علی المستوی الاجتماعی، بل إنّ الحاکم الشرعی مسؤول هو الآخر عن المواجهة الجادّة مع ذلک التظاهر بأشکال متنوّعة، ومن ثَمّ فهو مسؤول عن الحدّ من حریة الفرد هنا.

ومع التتبع والبحث الشامل - من هذه الناحیة - یمکن العثور علی ثلاث مجموعات من التظاهر بالمنکرات هی:

1 - التظاهر ببعض المنکرات الموجبة للحدّ

قال صاحب العروة:« من أفطر فیه مستحلاً عالماً عامداً، یعزّر بخمسة وعشرین سوطاً، فإنّ عاد عزّر ثانیاً، فإن عاد قتل علی الأقوی، وإن کان الأحوط قتله فی الأربعة.(1) وقد وافق جمیع الفقهاء - فی تعلیقاتهم علی العروة - علی هذه الفتوی أیضاً.

وهناک جملة من الروایات الصحیحة الدالة علی ذلک، إلاّ أنّنا لیس هدفنا هنا إعطاء المستند الشرعی، وإنّما الهدف هو توضیح الممنوعیة والمحدودیة الموجودة أمام بعض الحریات من وجهة النظر الفقهیة.

ص:384


1- (1) العروة الوثقی 3:521.

أنموذج آخر من المنکرات المشابهة للموارد المذکورة التی ورد فیها التعزیر هو موضوع العلاقة غیر الشرعیة بین الرجل والمرأة، فإنّه بالرغم من حرمة أیّ نوع من أنواع التجسّس هنا، إلاّ أنّه فی الحالات التی یثبت فیها أنّ هناک خلوة بین الرجل والمرأة الأجنبیین فإنّ للحاکم الشرعی تعزیرهما، ففی موثقة أبی بصیر عن الإمام الصادق علیه السلام:« إذا وجد الرجل مع امرأة فی بیت لیلاً، ولیس بینهما رحم، جلدا».(1)

وفی هذا المجال یقول المحقّق الحلّی:« کلّ من فعل محرّماً، أو ترک واجباً، فللإمام تعزیره بما لا یبلغ الحدّ، وتقدیره إلی الإمام»(2).

وقال الإمام الخمینی قدس سره:« من ترک واجباً أو ارتکب حراماً فللإمام علیه السلام ونائبه تعزیره، بشرط أن یکون من الکبائر، والتعزیر دون الحدّ، وحدّه بنظر الحاکم».(3)

2 - مخالفة المقررات الحکومیة، وعدم مراعاة مصلحة النظام

إنّ ضرورة حفظ نظام المجتمع لیست فریضة إلهیة فقط، وإنّما هی أمر عقلائی وعقلی، ومجرّد التوجّه إلیها یوجب التصدیق بها.

وفی نظر العقل والشرع، فإنّ أیّ نوع من أنواع الحریة یمکن أن یوجّه

ص:385


1- (1) وسائل الشیعة 28:146.
2- (2) شرائع الإسلام 4:949.
3- (3) تحریر الوسیلة 2:478

ضربة إلی نظام الأمّة - خصوصاً النظام الإلهی - سوف یکون ممنوعاً، ومن هنا وفی إطار الحریة العقلائیة والشرعیة، فإنّ باب أیّ نوع من المخالفة لمقرّرات حفظ النظام - سواء من طرف المواطنین أم من طرف متولّی الأمور، وبدءاً من دفع الضرائب ورعایة قوانین السیر، إلی وظائف المسؤولین أمام من هم أرفع منهم مسؤولیة، وخلاصة کافة المقررات القانونیة - مقفلة.

إنّ محدودیة حریّة المواطنین قبال المقررات لیست من مختصّات الحکومة الإسلامیة، وإنّما هی محلّ تأکید وقبول شدیدین من کافّة أنظمة الحکم فی العالم؛ ومن هنا فإنّ الفقهاء العظام والمراجع الکرام یجیبون علی الاستفتاءات الواردة إلیهم حول مخالفة المقرّرات الحکومیة بأنّ مخالفة المقرّرات الحکومیة لیس بجائز، أو مخالفة المقرّرات التی یتوقّف علیها حفظ النظام حرام(1).

3 - إهانة المقدّسات

للمقدّسات مقام رفیع، وهتک هذه الحرمة حرام، ولا یمکن تجویزه تحت أیّ عنوان، وهذا الأمر لیس منحصراً بالمدرسة الإسلامیة، بل یمکن القول: إنّ إهانة المقدّسات أمر منکر وغیر مقبول لدی کافّة الأمم والمجتمعات، کما یحصل فی قباله مواجهة جادّة، ویقف باب الحریّة أمامه.

ص:386


1- (1) المکاسب المحرمة 2:203.

ومن المقدّسات فی الشریعة الإسلامیة خاتم الأنبیاء النبی الأکرم محمّد صلی الله علیه و آله، وعترته المعصومین علیهم السلام، والأنبیاء الإلهیین علیهم السلام، والقرآن الکریم، والکتب السماویة، والکعبة، وفی الرتب الأخری تأتی المساجد والأماکن المقدّسة. وهنا یمنع الفقهاء جمیعاً أیّ نوع من أنواع الحریة المطلقة بالنسبة إلی هذه المقدّسات حتّی من قبل الإنسان غیر المعتقد بها.

وبلا شک فإنّ اتّفاق الفقهاء علی هذا الحکم معتمد علی نصوص معتبرة، وهی التی جمعها صاحب الوسائل تحت عنوان: (باب قتل من سبّ النبی صلی الله علیه و آله أو غیره من الأنبیاء علیهم السلام)(1) ، وفی باب آخر بعنوان: (باب قتل من سبّ علیاً علیه السلام أو غیره من الأئمة علیهم السلام ومطلق الناصب مع الأمن)(2) کما تقدّم فی الجواب علی الشبهة السابقة.

أمّا إذا کانت إهانة رسول الله صلی الله علیه و آله أو أحد الأئمة علیهم السلام أو الصدّیقة الکبری علیها السلام - والعیاذ بالله - علی شکل آخر غیر السبّ، فإنّ فاعل ذلک مستحق للتعزیر حتماً.

إنّ لزوم وقوف حاکم الشرع بجدّیة هنا، ولو وصل الأمر إلی القتل، لیس مختصّاً بهؤلاء العظماء علیهم السلام، بل إنّه جار فی أیّ أمر یعدّ من الناحیة الفقهیة من المقدّسات کالإنسان المؤمن، أو الشعائر المذهبیة المعروفة.

ص:387


1- (1) وسائل الشیعة 28:212.
2- (2) وسائل الشیعة 28:215.

وأساساً میزان القداسة من الناحیة الفقهیة هو فی عدّ الإهانة لذلک الشیء فعلاً محرماً فی واحد من المصادر الفقهیة، أو جعل تعظیمه وتقدیره واجباً.

النتیجة:

تبیّن مما تقدّم أنّ الحریة المطلقة أمر مرفوض من قبل الشارع والعقلاء، وعلی هذا الأساس فإنّ قتل المرتد - کما ثبت فی محلّه - لا ینافی الحریّة الفکریة أو حریة الاعتقاد کما یقول المستشکل؛ لأنّ حریة الاعتقاد لا یمکن أن تکون مطلقة، بل لابدّ أن تکون مقیّدة بقیود وحدود، ومن جملة هذه الحدود عدم خروج المسلم من الإسلام، لا سیّما إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ الشارع المقدّس لم یبادر فی بدایة الأمر إلی العبادة أو التدیّن أو الاعتقاد، بل کان دعوة إلی العلم لرفع عوائق الاعتقاد الصحیح، وکان أمراً بالقراءة الواعیة فی صفحة الکون لإزالة موانع حریة العقیدة، وجمع أدوات الیقین من أجل تأسیس بناء عقائدی متین مدی الحیاة ملؤه القناعة الرصینة، حیث نجد أنّ الشریعة الإسلامیة تتیح مجالاً واسعاً لحریة العقل والقلب والضمیر، وتشرع أبوابها بما یکفی لتحصیل الیقین، ثمّ یکون القرار بالاختیار المسؤول عن رغبة ومحبّة.

ولئن کان اللجوء السیاسی حقّاً شبه عادی فی الوقت الراهن، وبشروط مختلفة ولأغراض دبلوماسیة أکثر منها إنسانیة، فإنّنا لم نسمع بعد فی غیر شرعة الإسلام بحقّ الإجارة العقائدیة: وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِکِینَ اسْتَجارَکَ

ص:388

فَأَجِرْهُ حَتّی یَسْمَعَ کَلامَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ 1 ، ویظلّ المشرک مدّة ضیافة السماع بمعزل عن الإرهاب الإعلامی المضاد، وبمنأی عن عناکب الأفکار المسبقة، وفی حمایة المجیر إلی أن یبلغ مثواه متمتّعاً بحریة أخلی الإسلام ساحتها من جمیع المکبلات.

وفرق بین من لم یدخل الإسلام وبین المرتد، فإنّ المرتد ألزم نفسه بالاعتقاد العلمی الحرّ، وأشهد الله والناس علیه حتّی آخوه مسلماً، وبعد ردّته یکون متحدّیاً المجتمع الإسلامی ومقدّساته، وهاتکاً لمنظومة الاعتقاد.

وهذا ما نلمسه واضحاً فی عمل العقلاء، فأیّ حزب یبقی فی صفوفه من انشقّ عنه، وأیّ جیش أو حکم عسکری یبقی فی صفوفه آبقاً؟! بل أیّة دولة (تستوطن) خالعاً جنسیتها؟! والسؤال ذاته مطروح علی منظمة الدفاع عن حقوق الإنسان: هل تحتفظ حقّاً إدارتها بعضویة من یکفر بمیثاقها؟!

فإذاً ثبت الإجماع علی منطقیة هذا المعیار، فضلاً عن رحمة الاستتابة التی لم تتوفر عند هؤلاء؛ لتخلّفهم الإنسانی عن الإسلام، فِلَم الکیل بمکیالین؟!

مضافاً إلی أنّا لو استقرأنا دساتیر وقوانین الشعوب نجد أنّ عقوبة خیانة الوطن هی القتل، ومن الواضح أنّ الإسلام هو وطن المسلم، والمقصود من کونه وطناً لیس الحدود المکانیة، بل إنّ کلّ من تشهّد الشهادتین فهو مسلم

ص:389

ووطنه الإسلام، أی: أنّ جمیع بلاد الإسلام هی وطن للمسلمین جمیعاً، وعلیه فإنّ الارتداد عن الإسلام یعدّ خیانة للوطن، ولا غرابة فی توجیه العقوبة لمن یخون وطنه.

وبهذا یتّضح أنّ قتل المرتد لا ینافی الحریة الفکریة؛ لأنّ الحریة - سواء کانت فکریة أم غیرها - لا بدّ أن تکون مقیّدة بحدود وضوابط، ومن حدود الحریّة الفکریة وحریة المعتقد فی الإسلام هو أنّه لا یجوز له الخروج والارتداد عنه.

ص:390

فهرس مصادر

مقال هل قتل المرتد ینافی الحریّة فی العقیدة؟

1 - تحریر الوسیلة، الإمام الخمینی قدس سره، مطبعة الآداب فی النجف الأشرف، الطبعة الثانیة 1390 ه -.

2 - تفصیل وسائل الشیعة إلی تحصیل مسائل الشریعة، الفقیه المحدث الشیخ محمّد بن الحسن الحر العاملی، تحقیق: مؤسسة آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث.

3 - جواهر الکلام فی شرح شرائع الإسلام، الشیخ محمّد حسن النجفی، تحقیق وتعلیق وتصحیح: محمود القوچانی، نشر: دار الکتب الإسلامیة، الطبعة السادسة.

4 - شرائع الإسلام فی مسائل الحلال والحرام، المحقّق الحلّی، الطبعة الثانیة 1409 ه -، الناشر: انتشارات استقلال - طهران.

5 - العروة الوثقی، السید محمّد کاظم الطباطبائی الیزدی، مؤسسة النشر الإسلامی التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة.

ص:391

6 - فلسفة حقوق بشر، آیة الله جوادی آملی، الناشر: دار الإسراء.

7 - المکاسب المحرمة، الإمام الخمینی قدس سره، مع تذییلات لمجتبی الطهرانی، محرم الحرام - 1381 ه -، مؤسسة إسماعیلیان للطباعة والنشر و التوزیع - قم.

ص:392

هل قتل المرتد ینافی آیة: لاَ إِکْرَاهَ فِی الدِّینِ ؟

اشارة

بقلم: الشیخ علی حمود العبادی

یقول المستشکل: علی ضوء قوله تعالی: لا إِکْراهَ فِی الدِّینِ یتبیّن عدم جواز الدخول إلی الإسلام بالإکراه والإجبار؛ لأنّ الإنسان حرّ فی اعتقاده، وعلی هذا الأساس یقول المستشکل: لا یجوز قتل المرتد الذی یخرج عن الإسلام؛ لأنّ الحکم بقتل المرتد ینافی حریة الاعتقاد التی تشیر إلیه الآیة المبارکة.

جواب الشبهة: لکی یتّضح الجواب علی هذه الشبهة، لابدّ من تحدید محلّ النزاع فی حریة الاعتقاد.

تعیین محل النزاع فی حریة الاعتقاد:

تنقسم الحریة إلی قسمین:

الأوّل: الحریة التکوینیة للإنسان

فالإنسان حرّ تکویناً فی أفعاله وتفکیره، کما تشیر إلیه جملة من النصوص القرآنیة بعناوین مختلفة.

ص:393

الحریة التکوینیة للإنسان فی القرآن الکریم:

1 - حریة الإنسان فی اختیار الهدایة والضلال.

کقوله تعالی: إِنّا هَدَیْناهُ السَّبِیلَ إِمّا شاکِراً وَ إِمّا کَفُوراً1 .

وقوله: قَدْ جاءَکُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّکُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ عَمِیَ فَعَلَیْها وَ ما أَنَا عَلَیْکُمْ بِحَفِیظٍ 2 .

وقوله: قُلْ یا أَیُّهَا النّاسُ قَدْ جاءَکُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّکُمْ فَمَنِ اهْتَدی فَإِنَّما یَهْتَدِی لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما یَضِلُّ عَلَیْها وَ ما أَنَا عَلَیْکُمْ بِوَکِیلٍ 3 .

وقوله: وَ قُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّکُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْیُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْیَکْفُرْ4 .

2 - حریة واختیار الإنسان فی کسب أفعاله الجسمیة والقلبیة، الحسنة أو السیّئة.

کما یشیر إلیه قوله تعالی: لا یُؤاخِذُکُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِی أَیْمانِکُمْ وَ لکِنْ یُؤاخِذُکُمْ بِما کَسَبَتْ قُلُوبُکُمْ وَ اللّهُ غَفُورٌ حَلِیمٌ 5 .

ص:394

وقوله: فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما کُنْتُمْ تَکْسِبُونَ 1 .

وقوله: کُلُّ امْرِئٍ بِما کَسَبَ رَهِینٌ 2 .

وقوله: أُولئِکَ لَهُمْ نَصِیبٌ مِمّا کَسَبُوا وَ اللّهُ سَرِیعُ الْحِسابِ 3 .

وقوله: وَ تُوَفّی کُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَ هُمْ لا یُظْلَمُونَ 4 .

وقوله: ثُمَّ تُوَفّی کُلُّ نَفْسٍ ما کَسَبَتْ وَ هُمْ لا یُظْلَمُونَ 5 .

وفی بعض آخر من الآیات الکریمة تمّ إسناد فساد الإنسان فی الأرض إلی نفسه، وهو أمر یحکی بشکل واضح عن البعد الاختیاری والانتخابی للإنسان، والحریة التکوینیة له.

قال تعالی: فَلَمّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ یَبْغُونَ فِی الْأَرْضِ بِغَیْرِ الْحَقِّ یا أَیُّهَا النّاسُ إِنَّما بَغْیُکُمْ عَلی أَنْفُسِکُمْ مَتاعَ الْحَیاةِ الدُّنْیا ثُمَّ إِلَیْنا مَرْجِعُکُمْ فَنُنَبِّئُکُمْ بِما کُنْتُمْ تَعْمَلُونَ 6 .

وقوله: وَ مَنْ یَکْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما یَکْسِبُهُ عَلی نَفْسِهِ وَ کانَ اللّهُ عَلِیماً حَکِیماً*

ص:395

وَ مَنْ یَکْسِبْ خَطِیئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ یَرْمِ بِهِ بَرِیئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِیناً1.

وقوله: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا عَلَیْکُمْ أَنْفُسَکُمْ لا یَضُرُّکُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَیْتُمْ إِلَی اللّهِ مَرْجِعُکُمْ جَمِیعاً فَیُنَبِّئُکُمْ بِما کُنْتُمْ تَعْمَلُونَ 2 .

3 - ترتّب الثواب والعقاب علی أعمال الإنسان.

هناک جملة من النصوص القرآنیة ترتّب الثواب والعقاب علی أعمال الإنسان نفسه الحسنة أو السیّئة فی الدنیا والآخرة، وهذا دلیل محکم علی حریته التکوینیة؛ لأنّ الثواب والعقاب لا معنی معقولاً لهما أبداً إذا رتّبا علی صادرٍ علی نحو الجبر، بل إنّ ذلک یعدّ محالاً بالنسبة للمثیب والمعاقب الحکیم کالله تعالی.

ومن النصوص القرآنیة التی تشیر إلی هذا المعنی قوله تعالی: فَکُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَیْهِ حاصِباً وَ مِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّیْحَةُ وَ مِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَ مِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَ ما کانَ اللّهُ لِیَظْلِمَهُمْ وَ لکِنْ کانُوا أَنْفُسَهُمْ یَظْلِمُونَ 3 .

وقوله: مَنْ یَعْمَلْ سُوءاً یُجْزَ بِهِ وَ لا یَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللّهِ وَلِیًّا وَ لا نَصِیراً* وَ مَنْ یَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ مِنْ ذَکَرٍ أَوْ أُنْثی وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِکَ یَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ

ص:396

وَ لا یُظْلَمُونَ نَقِیراً1 .

وقوله: ظَهَرَ الْفَسادُ فِی الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ بِما کَسَبَتْ أَیْدِی النّاسِ لِیُذِیقَهُمْ بَعْضَ الَّذِی عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ یَرْجِعُونَ 2 .

وقوله: اَلْیَوْمَ تُجْزی کُلُّ نَفْسٍ بِما کَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْیَوْمَ إِنَّ اللّهَ سَرِیعُ الْحِسابِ 3 .

4 - عدم سلطنة الشیطان علی الإنسان.

یخاطب الشیطان یوم القیامة أولیاءه ویبرّئ نفسه، وینفی ممارسته أیّ نوع من الأعمال الإجباریة معهم، ویری أنّ اتّباعهم له إنّما کان نتیجة لحریتهم واختیارهم.

قال تعالی: وَ قالَ الشَّیْطانُ لَمّا قُضِیَ الْأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَکُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَ وَعَدْتُکُمْ فَأَخْلَفْتُکُمْ وَ ما کانَ لِی عَلَیْکُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاّ أَنْ دَعَوْتُکُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِی فَلا تَلُومُونِی وَ لُومُوا أَنْفُسَکُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِکُمْ وَ ما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِیَّ إِنِّی کَفَرْتُ بِما أَشْرَکْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظّالِمِینَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِیمٌ 4 .

وفی الحقیقة إذا لم یکن الإنسان فی اتّباعه للشیطان - کبقیة أعماله -

ص:397

حرّاً ومختاراً، وإنّما کان - کما تقول الأشاعرة - مجبوراً، فأیّ معنی لاستجابته دعوة الشیطان حینئذٍ؟! وکیف یمکن قبول توجیه اللوم له علی اتّباعه هذا؟!

الحریة التکوینیة للإنسان فی الروایات الشریفة:

استفاضت الروایات التی تطرح البعد الاختیاری للإنسان، وتبیّن خصوصیة الاختیار التکوینی فی الأعمال والأفکار، بل إنّها تبلغ التواتر، وتجنّباً لتوسعة البحث نقتصر علی ذکر بعض النماذج منها:

قال أمیر المؤمنین علیه السلام:« إنّ الله سبحانه أمر عباده تخییراً لا جبراً، ونهاهم تحذیراً، وکلّف یسیراً.(1)

ویقول أیضاً ضمن رسالته إلی الإمام المجتبی علیه السلام: لا تکن عبد غیرک وقد جعلک الله حرّاً.(2)

وینقل الإمام الرضا علیه السلام عن أبیه عن جدّه الصادق علیه السلام: من زعم أنّ الله یجبر عباده علی المعاصی، أو یکلّفهم ما لا یطیقون، فلا تأکلوا ذبیحته، ولا تقبلوا شهادته، ولا تصلّوا وراءه، ولا تعطوه من الزکاة شیئاً.(3)

وفی ذلک کنایة عن أنّه بهذا التفکیر یکون قد خرج عن الإسلام.

ص:398


1- (1) نهج البلاغة، شرح الشیخ محمّد عبده 4:18.
2- (2) تحف العقول: 78.
3- (3) بحار الأنوار 5:12.

وفی روایة أخری بیّن المفضّل عن الإمام الصادق علیه السلام مسلک العدلیة النافی للجبر المطلق، مثبتاً الحدّ الوسط بینهما علی الشکل الآتی:« لا جبر ولا تفویض ولکن أمر بین أمرین».(1)

الثانی: الحریة التشریعیة للإنسان

وهی عبارة عن حریة الإنسان من منظور الشرع ونظامه التقنینی، بمعنی أنّ الإنسان المُنعّم بالحریة التکوینیة فی أفعاله، وکذلک فی إذعانه وإنکاره القلبیین، فإنّ هذا الإنسان لیس حرّاً فی نظام الحیاة من الناحیة القانونیة والشرعیة، وإنّما هناک واجبات وتکالیف متوجّهة إلیه، ویجب علیه امتثالها.

إذن فالإنسان لا یجوز له - متجاهلاً الأحکام الإلهیة - ارتکاب أیّ منکر من المنکرات.

وإذا تبیّن معنی الحریة التکوینیة والتشریعیة یتّضح أنّ موضع النزاع هو الحریة التشریعیة، بمعنی أنّ الإنسان المسلم لا یجوز له الارتداد عن الإسلام، ومن الواضح أنّ عدم جواز الخروج من الإسلام هو حکم شرعی مقیّد لحریة الإنسان التشریعیة، ولا ربط له بالحریة التکوینیة؛ لأنّ الحریة التکوینیة موطنها القلب، ولا سلطة لأحد علی قلب الإنسان، فقوله تعالی: لا إِکْراهَ فِی الدِّینِ مرتبط بالحریة التکوینیة لا التشریعیة.

ص:399


1- (1) الأصول من الکافی 1:160.

بعد بیان المراد من الحریة التکوینیة والتشریعیة تبیّن أنّ الشبهة القائلة بأنّ قتل المرتد یتنافی مع قوله تعالی: لا إِکْراهَ فِی الدِّینِ تبتنی علی أن یکون المراد من الإکراه فی الدین متعلّقاً بالحریة التشریعیة لا التکوینیة، ببیان أنّ الآیة المبارکة تقول: لا یجوز لأحد مهما کان أن یکره آخر للدخول فی الإسلام أو البقاء علیه، وعلی هذا الأساس یقول المستشکل: إنّ المرتد حرّ فی تصرّفه، ولا أحد یکرهه علی البقاء فی الإسلام، ولذا فإنّ الحکم بقتل المرتد یتنافی مع حریته التشریعیة التی تشیر إلیه الآیة المبارکة.

إلاّ أنّ استفادة إرادة الحریة التشریعیة من قوله تعالی: لا إِکْراهَ فِی الدِّینِ غیر تام.

توضیح ذلک: إنّ قوله تعالی: لا إِکْراهَ فِی الدِّینِ فیه احتمالان:

الأوّل: أنّها فی مقام الإخبار والحکایة عن أمر خارجی.

الثانی: أنّها بصدد إنشاء حکم تکلیفی أو وضعی وتشریعه.

أمّا المراد من الدین فی الآیة المبارکة، ففیه احتمالان أیضاً:

الاحتمال الأوّل: أن یکون المراد من الدین هو مجموعة القوانین الشرعیة.

الاحتمال الثانی: المراد من الدین هو خصوص معنی الأصول الاعتقادیة الدینیة.

ص:400

وإذا تبیّن ذلک فنقول: إنّ فی تفسیر الآیة المبارکة وجهان:

الوجه الأوّل: إذا قلنا: إنّ الدین عبارة عن مجموعة من القوانین الشرعیة، فإنّ الآیة - بلا شک - سوف تکون بمعنی أنّه لا یوجد فی المقرّرات المقدّسة الإسلامیة أیّ نوع من أنواع الحکم الإکراهی؛ وذلک لأنّ کلمة (الإکراه) جاءت نکرة کما أنّها وقعت فی سیاق النفی، فهی مفیدة للعموم علی أساس القواعد البلاغیة، سواء قلنا: إنّ عدم الإکراه فی الآیة هو الإخبار أو الإنشاء.

الوجه الثانی: إذا قلنا: إنّ المراد من الدین هو خصوص الأصول الاعتقادیة الدینیة، فیکون المراد من لا إِکْراهَ فِی الدِّینِ هو إخبار عن واقعیة تکوینیة وخارجیة، وهی أنّ الإنسان له حریة تکوینیة فی مجال الاعتقادات والتصدیقات الذهنیة، وعلیه تکون الآیة المبارکة لا إِکْراهَ فِی الدِّینِ بصدد تفهیم أنّ الدین - الذی روحه هو ذلک الإیمان بالأصول الاعتقادیة - لا یتحمّل الإکراه، ولا طریق للجبر إلیه تکویناً.

ولا شک أنّ الصحیح هو الوجه الثانی وهو أنّ قوله تعالی: لا إِکْراهَ فِی الدِّینِ بصدد الإخبار عن حقیقة تکوینیة، مفادها أنّ الإنسان له حریة تکوینیة فی مجال الاعتقادات، ولا طریق للجبر إلی إکراه الإنسان علی الاعتقاد والإیمان بقضیة معیّنة.

ولأجل توضیح ذلک نقرّبه بمثال: وهو أنّ الإنسان وإن کان مختاراً فی

ص:401

أعماله ونشاطاته الجسمیة، إلاّ أنّه یمکن إجباره علی عمل معیّن؛ وذلک لأنّ الجبر لیس مستحیلاً فی دائرة الأفعال الإنسانیة الجسمانیة الظاهریة، فمن الممکن أن یجبر علی ضرب الیتیم ظلماً أو یجبر علی ترک عمله ونحو ذلک من الموارد التی یشارکها فی المضمون ذاته.

ولکن یستحیل أن یجبر الإنسان علی الاعتقاد والإیمان بمسألة اعتقادیة؛ إذ لا یمکن لأیّ إنسان ممارسة الإجبار علی التصدیق القلبی والإیمان الاعتقادی بشیء ما. نعم، من الممکن أن یجبر إنسان علی الاعتراف بأنّ اللیل حاصل الآن فی ظرف رؤیته للشمس، إلاّ أنّه یری دائماً فی أعماق قلبه وروحه أنّ مقولته باطلة ومستحیلة حتّی لو أذعن لها بالجبر والتهدید.

وعلی هذا الأساس فإنّ المسائل الاعتقادیة لن تکون قابلةً للإجبار والإکراه، سواء کانت حقةً أم باطلة، وإعمال الجبر فی الاعتقادات القلبیة محال؛ لأنّ الاعتقاد والإیمان بقضیة معیّنة یعتمد دائماً علی الاختیار والانتخاب، ذاک الاختیار المبتنی علی مقدّمات یمکن أن تکون مقارنة للصحة، ویکون الإذعان الحاصل منها صحیحاً مطابقاً للواقع، کما یمکن أن تکون غیر تامّة، ومن ثَمّ یکون التصدیق الحاصل منها باطلاً.

وعلی هذا الضوء یتّضح أنّ لا إِکْراهَ فِی الدِّینِ لیس أبداً بصدد بیان إنشاءٍ تشریعی، وإنّما فی مقام الحکایة عن واقعیة خارجیة تکوینیة تسمّی الحریة التکوینیة الإنسانیة فی الأمور الاعتقادیة والتصدیقات القلبیة، بحیث یصبح المقصود من اَلدِّینِ فی الآیة مجموعة الأصول الاعتقادیة

ص:402

(التوحید، النبوّة، الإمامة...)، لا کافّة القوانین الشرعیة.

ومن الواضح أنّ ذهنیة الإنسان فیما یرتبط بالأصول الاعتقادیة لا تخلو من حالتین: فإمّا أن تکون - أی: الأصول الاعتقادیة - واضحة ومبرهناً علیها بحیث یقبلها من أعماق قلبه بلا شک، ویذعن لها مختاراً، أو أنّها من وجهة نظره مبهمة وغیر تامّة، ولا أقل مشکوکة، بحیث إنّه لا یعتقد بها قطعاً، وفی کلتا الصورتین یبدو الإکراه والإجبار غیر ممکنین؛ وذلک أنّه مع الأخذ بعین الاعتبار النقطة سالفة الذکر، فإنّه لا مجال للإکراه أصلاً فی المسائل الاعتقادیة والتصدیقات الذهنیة، ومن هنا فهی لا تقبل الإجبار مطلقاً، فالشخص الذی علی أثر الشبهات لا یقبل بوجود الله تعالی ولا یعتقد به، لا یمکن إجباره علی التصدیق والإیمان القلبی بوجوده، وإن کان یمکن علی أثر قوّة قاهرة إجباره علی الاعتراف اللسانی بذلک، إلاّ أنّه من المستحیل أن یذعن لذلک من أعماق قلبه.

وبناء علیه فالمراد من الآیة الشریفة: لا إِکْراهَ فِی الدِّینِ - لا سیما مع النظر إلی جملة قَدْ تَبَیَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَیِّ - هو أنّه لا یمکن فی مجال الدین - والذی تمثّل أصوله الاعتقادیة: التوحید، النبوّة، الإمامة... أساسه - ممارسة الإجبار، ومن هنا فإذا أردنا أن نجعل عند الطرف الآخر المخاطب لنا إیماناً قلبیاً بالدین نابعاً من أعماق الروح، فإنّنا مجبورون علی جعل رشد الدین وکماله شفافاً وواضحاً أمامه قَدْ تَبَیَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَیِّ .

وهذا الوجه هو ما ذهب إلیه جملة من الأعلام:

ص:403

قال الشیخ الطبرسی فی ذکر أحد محتملات تفسیر الآیة:« إنّ المراد لیس فی الدین إکراه من الله، ولکن العبد مخیّر فیه، لأنّ ما هو دین فی الحقیقة هو من أفعال القلوب إذا فعل لوجه وجوبه. فأمّا ما یکره علیه من إظهار الشهادتین فلیس بدین حقیقة، کما أنّ من أکره علی کلمة الکفر لم یکن کافراً. والمراد الدین المعروف وهو الإسلام، ودین الله الذی ارتضاه».(1)

وقال العلّامة الطباطبائی:« وفی قوله تعالی: لا إِکْراهَ فِی الدِّینِ نفی الدین الإجباری؛ لما أنّ الدین وهو سلسلة من المعارف العلمیة التی تتبعها أخری عملیة یجمعها أنّها اعتقادات، والاعتقاد والإیمان من الأمور القلبیة التی لا یحکم فیها الإکراه والإجبار، فإنّ الإکراه إنّما یؤثّر فی الأعمال الظاهریة والأفعال والحرکات البدنیة المادیة، وأمّا الاعتقاد القلبی فله علل وأسباب أخری قلبیة من سنخ الاعتقاد والإدراک، ومن المحال أن ینتج الجهل علماً، أو تولّد المقدّمات غیر العلمیة تصدیقاً علمیاً، فقوله: لا إِکْراهَ فِی الدِّینِ إن کان قضیة إخباریة حاکیة عن حال التکوین أنتج حکماً دینیاً بنفی الإکراه علی الدین والاعتقاد، وإن کان حکماً إنشائیاً تشریعیاً کما یشهد به ما عقّبه تعالی من قوله: قَدْ تَبَیَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَیِّ ، کان نهیاً عن الحمل علی الاعتقاد والإیمان کرهاً، وهو نهی متک علی حقیقة تکوینیة، وهی التی مرّ بیانها أنّ الإکراه إنّما یعمل ویؤثّر فی مرحلة الأفعال البدنیة دون الاعتقادات القلبیة.

ص:404


1- (1) مجمع البیان فی تفسیر القرآن 2:163.

وقد بیّن تعالی هذا الحکم بقوله: قَدْ تَبَیَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَیِّ ، وهو فی مقام التعلیل، فإنّ الإکراه والإجبار إنّما یرکن إلیه الآمر الحکیم والمربّی العاقل فی الأمور المهمّة التی لا سبیل إلی بیان وجه الحقّ فیها...، وأمّا الأمور المهمّة التی تبیّن وجه الخیر والشر فیها، وقرر وجه الجزاء الذی یلحق فعلها وترکها فلا حاجة فیها إلی الإکراه، بل للإنسان أن یختار لنفسه ما شاء من طرفی الفعل وعاقبتی الثواب والعقاب، والدین لمّا انکشفت حقائقه واتّضح طریقه بالبیانات الإلهیة الموضّحة بالسنّة النبویة، فقد تبیّن أنّ الدین رشد والرشد فی اتّباعه، والغی فی ترکه والرغبة عنه، وعلی هذا لا موجب لأن یکره أحد أحداً علی الدین.

وهذه إحدی الآیات الدالة علی أنّ الإسلام لم یبتن علی السیف والدم، ولم یفت بالإکراه والعنوة علی خلاف ما زعمه عدّة من الباحثین من المنتحلین وغیرهم أنّ الإسلام دین السیف»(1).

وقال السیّد الخوئی:« الحقّ: أنّ المراد بالإکراه فی الآیة ما یقابل الاختیار، وأنّ الجملة خبریة لا إنشائیة، والمراد من الآیة الکریمة هو بیان ما تکرر ذکره فی الآیات القرآنیة کثیراً، من أنّ الشریعة الإلهیة غیر مبتنیة علی الجبر... وإنّما مقتضی الحکمة إرسال الرسل، وإنزال الکتب، وإیضاح الأحکام لیهلک من هلک عن بیّنة ویحیا من حی عن بیّنة، ولئلا یکون للناس

ص:405


1- (1) المیزان فی تفسیر القرآن 2:343.

علی الله حجّة، کما قال تعالی: إِنّا هَدَیْناهُ السَّبِیلَ إِمّا شاکِراً وَ إِمّا کَفُوراً1 .

وحاصل معنی الآیة أنّ الله تعالی لا یجبر أحداً من خلقه علی إیمان ولا طاعة، ولکنّه یوضّح الحقّ یبیّنه من الغی، وقد فعل ذلک، فمن آمن بالحقّ فقد آمن به عن اختیار، ومن اتّبع الغی فقد اتّبعه عن اختیار، والله سبحانه وإن کان قادراً علی أن یهدی البشر جمیعاً - ولو شاء لفعل - لکن الحکمة اقتضت لهم أن یکونوا غیر مجبورین علی أعمالهم، بعد إیضاح الحقّ لهم وتمییزه عن الباطل... »(1).

ویؤیّد هذا المعنی هو أنّ سبب نزول الآیة، کما عن ابن عباس:« کانت المرأة من الأنصار لا یکون لها ولد تجعل علی نفسها لئن کان لها ولد لتهودنّه، فلمّا أسلمت الأنصار قالوا: کیف نصنع بأبنائنا؟ ف نزلت هذه الآیة: لا إِکْراهَ فِی الدِّینِ »(2).

وقال ابن عربی فی تفسیر قوله تعالی: لا إِکْراهَ فِی الدِّینِ :« الدین فی الحقیقة هو الهدی المستفاد من النور القلبی، اللازم للفطرة الإنسانیة، المستلزم للإیمان الیقینی، کما قال تعالی: فَأَقِمْ وَجْهَکَ لِلدِّینِ حَنِیفاً فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِی فَطَرَ النّاسَ عَلَیْها لا تَبْدِیلَ لِخَلْقِ اللّهِ ذلِکَ الدِّینُ الْقَیِّمُ 4 ، والإسلام الذی

ص:406


1- (2) البیان فی تفسیر للقرآن، 309.
2- (3) السنن الکبری 6:304.

هو ظاهر الدین مبتن علیه، وهو أمر لا مدخل للإکراه فیه. والدلیل علی أنّ باطن الدین وحقیقته الإیمان، کما أنّ ظاهره وصورته الإسلام ما بعده قَدْ تَبَیَّنَ ، أی: تمیّز اَلرُّشْدُ مِنَ الْغَیِّ بالدلائل الواضحة لمن له بصیرة وعقل، کما قیل: قد أضاء الصبح لذی عینین»(1)

وقال الزمخشری: لا إِکْراهَ فِی الدِّینِ أی: لم یجر الله أمر الإیمان علی الإجبار والقسر ولکن علی التمکین والاختیار، ونحوه قوله تعالی: وَ لَوْ شاءَ رَبُّکَ لَآمَنَ مَنْ فِی الْأَرْضِ کُلُّهُمْ جَمِیعاً أَ فَأَنْتَ تُکْرِهُ النّاسَ حَتّی یَکُونُوا مُؤْمِنِینَ أی: لو شاء لقسرهم علی الإیمان ولکنه لم یفعل وبنی الأمر علی الاختیار، قَدْ تَبَیَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَیِّ قد تمیّز الإیمان من الکفر بالدلائل الواضحة»(2).

إن قلت:

لماذا لا یکون المراد من عدم الإکراه فی الآیة بمعنی الإنشاء، أی: أنّه لا یوجد فی المقررات المقدّسة الإسلامیة أیّ نوع من أنواع الحکم الإکراهی؛ وذلک لأنّ کلمة (الإکراه) جاءت نکرة کما أنّها وقعت فی سیاق النفی، فهی مفیدة للعموم علی أساس القواعد البلاغیة؟

الجواب: أنّ کثیراً من الموضوعات فی مختلف جوانب الفقه المتفرّقة ممتزجة بالإکراه والإجبار وبشکل مسلّم، سواء فی باب العقوبات کالحدود

ص:407


1- (1) تفسیر ابن عربی 2:105.
2- (2) الکشاف عن حقائق التنزیل وعیون الأقاویل فی وجوه التأویل 1:390.

والدیات و القصاص، أم فی أبواب المعاملات کالبیع والإجارة والمضاربة والمساقاة والمزارعة والدَین والقرض والرهن والنکاح والطلاق.

فإذا لم یکن ثمة إکراه فی الدین فکیف نوجّه إجبار الزوجة التی أسلمت حدیثاً عن الانفصال من زوجها الکافر؟ وما هو میزان إجراء الحدود والتعزیرات علی الإفطار فی شهر رمضان أو أکل الربا؟ وإذا لم یکن هناک إکراه فی الدین فلماذا تمنع تجارة کتب الضلال؟! ومن أیّة جهة ینفّذ القتل - بوصفه عقوبة - علی المرتد الفطری؟ وأساساً ما هو معیار النهی والمواجهة العملیة مع العصاة؟ ألیس الجمع بین هذا النمط من الأحکام وبین آیة لا إِکْراهَ فِی الدِّینِ یستبطن نوعاً من التناقض؟!

وبهذا یتّضح أنّ الآیة المبارکة لا إِکْراهَ فِی الدِّینِ لا تنافی قتل المرتد؛ لأنّها واردة فی مقام الاختیار بأنّه لا مجال للإکراه فی المسائل الاعتقادیة والتصدیقات الذهنیة؛ إذ إنّ وجوب قتل المرتد حکم شرعی مرتبط بالدائرة الشرعیة ومقیّد لحریة الإنسان الشرعیة، ولا ربط له بالآیة المبارکة الواردة فی الاختیار عن أنّ الاعتقاد والإیمان من الأمور القلبیة التی لامجال فیها للإکراه والإجبار.

ص:408

فهرس مصادر

مقال هل قتل المرتد ینافی آیة لا إکراه فی الدین؟

1 - بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، الشیخ محمّد باقر المجلسی، مؤسسة الوفاء بیروت - لبنان، الطبعة الثانیة المصححة 1403 ه -.

2 - تحف العقول عن آل الرسول صلی الله علیهم، أبو محمّد الحسن بن علی بن الحسین بن شعبة الحرانی، الطبعة الثانیة 1404 - ه -، مؤسسة النشر الإسلامی التابعة لجماعة المدرسین.

3 - تفسیر ابن عربی، تحقیق: الشیخ عبد الوارث محمّد علی، الطبعة الأولی 1422 ه -، دار الکتب العلمیة - بیروت.

4 - السنن الکبری، أحمد بن شعیب النسائی، تحقیق: عبد الغفار سلیمان البنداری وسید کسروی حسن، دار الکتب العلمیة بیروت - لبنان، الطبعة الأولی 1411 ه -.

5 - الکافی، محمّد بن یعقوب بن إسحاق الکلینی الرازی، تعلیق: علی أکبر الغفاری، نشر دار الکتب الإسلامیة.

ص:409

6 - الکشّاف عن حقائق التنزیل وعیون الأقاویل فی وجوه التأویل، جار الله محمود بن عمر الزمخشری الخوارزمی، مکتبة ومطبعة مصطفی البابی الحلبی وأولاده بمصر، الطبعة الأخیرة 1385 ه -.

7 - مجمع البیان فی تفسیر القرآن، الفضل بن الحسن الطبرسی، منشورات مؤسسة الأعلمی للمطبوعات بیروت - لبنان، الطبعة الأولی.

8 - المیزان فی تفسیر القرآن، السیّد محمّد حسین الطباطبائی، مؤسسة النشر الإسلامی - قم المشرفة.

9 - نهج البلاغة، خطب الإمام علی علیه السلام، شرح الشیخ محمّد عبده، نشر: دار المعرفة للطباعة والنشر بیروت - لبنان.

ص:410

الفهرس

تقدیم: آیة الله الشیخ محمّد جواد الفاضل اللنکرانی (دامت برکاته) 5

المقدّمة 13

شکر وتقدیر 17

القسم الأوّل

قتل المرتد

مشروعیة إقامة الحدود الإسلامیة فی زمان الغیبة

بقلم: آیة الله الشیخ محمّد جواد الفاضل اللنکرانی (دامت برکاته)

ملازمة مشروعیة القضاء مع مشروعیة التنفیذ 25

الملازمة بین نظریة ولایة الفقیه ومشروعیة تنفیذ الحدود 26

الآراء الموجودة فی المسألة 28

دراسة عبارات الفقهاء فی مسألة جواز تنفیذ الحدود فی زمان الغیبة 30

1 - الشیخ المفید رحمه الله 30

2 - سلار رحمه الله 31

3 - أبو الصلاح الحلبی رحمه الله 31

4 - ابن زهرة رحمه الله 32

5 - ابن سعید رحمه الله 33

6 - الشیخ الطوسی رحمه الله 34

ص:411

7 - ابن إدریس رحمه الله 38

8 - العلامة الحلی رحمه الله 44

9 - الشهید الأوّل رحمه الله 45

10 - المحقق الثانی رحمه الله 46

11 - الشهید الثانی رحمه الله 46

12 - الفاضل المقداد رحمه الله 47

خلاصة ونتیجة الأقوال 50

تحلیل أدلة القائلین بعدم الجواز 51

بیان أدلة القائلین بالجواز 58

الدلیل الأوّل: الإجماع 59

الدلیل الثانی: مقبولة عمر بن حنظلة 60

بیان الاستدلال بالروایة 68

الدلیل الثالث: مقبولة أبی خدیجة 79

الدلیل الخامس: روایة سلیمان 82

الدلیل السادس: عدم جواز تعطیل الحدود 86

الدلیل السابع: الحکمة فی إقامة الحدود 91

الدلیل الثامن: انتشار المفاسد فی حال تعطیل الحدود 95

الدلیل التاسع: الروایات الدالة علی الترغیب بإقامة الحدود 96

الدلیل العاشر: بعض المؤیّدات 97

ص:412

نقد مقالة ((نظریة إقامة الحدود) 97

توضیح رأی الکاتب 98

نقد وتحلیل 100

اعتبار قبول الإسلام بعد البلوغ فی تعریف المرتد الفطری

بقلم: الشیخ محمّد مهدی الجواهری

اعتبار قبول الإسلام بعد البلوغ فی تعریف المرتد الفطری 119

معنی الارتداد 120

المعنی اللغوی 120

المعنی الاصطلاحی 121

أقسام المرتد 122

حکم قتل المرتد وسابّ النبی صلی الله علیه و آله فی القرآن الکریم

بقلم: الشیخ رافد التمیمی

الآیات المرتبطة بحکم سابّ النبی صلی الله علیه و آله 173

الآیات المرتبطة بحکم المرتد 183

حجّیة الخبر الواحد فی الأمور المهمّة

(قتل المرتد وسابّ النبی صلی الله علیه و آله أنموذجاً)

بقلم: الشیخ رافد التمیمی

المبحث الأوّل: معنی حجّیة خبر الواحد 201

معنی الأمارة 202

معنی الحجّیة فی الأمارة 204

ص:413

المجعول فی باب الأمارات 204

الآیات القرآنیة 214

تواتر الأخبار علی حجّیة خبر الواحد 219

التواتر المعنوی لبعض هذه الطوائف 222

الدلیل العقلی علی حجّیة خبر الواحد 224

دلیل الإجماع علی حجّیة خبر الواحد 226

دلیل السیرة علی حجّیة خبر الواحد 227

مقدار دائرة الحجّیّة 229

المبحث الثالث: معنی المهم وغیر المهم، ومن هو الحاکم فی ذلک؟ 230

الأهم والمهم وغیر المهم 234

دلیل أصحاب هذا الرأی 237

المبحث الرابع: شمول حجّیة خبر الواحد للأمور المهمّة وغیر المهمّة 238

استفهام وبیان 238

المدّعی المطلوب إثباته 239

أدلة الشمول 239

الأدلة اللفظیة لیست فی مقام البیان 241

الاحتیاط فی الدماء والأعراض والأموال 247

نظرة فی روایات المرتد وسابّ النبی صلی الله علیه و آله

بقلم: الدکتور الشیخ حکمت الرحمة

المرتد وأقسامه 258

ص:414

الروایات الواردة فی حکم المرتد 259

إشکالات علی روایات قتل المرتد 282

الروایات الواردة فی حکم سابّ النبی صلی الله علیه و آله 301

الإجماع علی قتل المرتدّ وسابّ النبی صلی الله علیه و آله

بقلم: الدکتور الشیخ حکمت الرحمة

کلمات العلماء فی الإجماع علی قتل المرتدّ 321

کلمات العلماء فی قتل المرتدّ 325

تنبیهات وشبهات مثارة 329

کلمات العلماء فی الإجماع علی قتل سابّ النبی صلی الله علیه و آله 333

کلمات العلماء فی قتل سابّ النبی صلی الله علیه و آله 335

الروایات الدالة علی وجوب قتل ساب النبی صلی الله علیه و آله

بقلم: الشیخ علی حمود العبادی

هل یجب إذن الإمام فی قتل سابّ النبی صلی الله علیه و آله؟ 360

الإجماع علی وجوب قتل سابّ النبی صلی الله علیه و آله 364

حکم سابّ النبی صلی الله علیه و آله عند فقهاء أهل السنّة 367

هل قتل المرتد ینافی الحریّة فی العقیدة؟ 377

هل قتل المرتد ینافی الحریّة فی العقیدة؟

بقلم: الشیخ علی حمود العبادی

أ - التعدّی علی أموال الآخرین ونفوسهم وأعراضهم. 379

ب - التعدّی علی حقوق الآخرین 381

ص:415

ج - مزاحمة الآخرین 382

د - التظاهر بالمنکرات 384

1 - التظاهر ببعض المنکرات الموجبة للحدّ 384

2 - مخالفة المقررات الحکومیة، وعدم مراعاة مصلحة النظام 385

3 - إهانة المقدّسات 386

هل قتل المرتد ینافی آیة: لا إِکْراهَ فِی الدِّینِ ؟

بقلم: الشیخ علی حمود العبادی

الأوّل: الحریة التکوینیة للإنسان 393

الحریة التکوینیة للإنسان فی القرآن الکریم 394

الحریة التکوینیة للإنسان فی الروایات الشریفة 398

الثانی: الحریة التشریعیة للإنسان 399

الفهرس 411

ص:416

الجز الثانی

اشارة

عنوان و نام پدیدآور:موسوعة ردّ الشبهات الفقهیة المعاصرة (الحدود) الجز الثانی/ تالیف اللجنةالعلمیه [مرکز فقهی ائمه اطهار (ع)]؛ اشراف محمدجواد الفاضل اللنکرانی؛ باهتمام محمدمهدی الجواهری؛ قسم التحقیق والنشر فی مرکز فقه الایمه الاطهار علیهم السلام.

مشخصات نشر:قم: : مرکز فقهی ائمه اطهار (ع)= 1394 -

مشخصات ظاهری:2ج.

فروست:لیتفقهو فی الدین؛170، 171.

شابک:دوره 978-600-388-003-0: ؛ 180000 ریال: ج.1 978-600-388-004-7: ؛ 180000 ریال: ج.2 978-600-388-005-4: ؛ ج.3 978-600-388-086-3: ؛ ج.4 978-600-388-087-0: ؛ ج.5 978-600-388-088-7:

یادداشت:عربی.

یادداشت:ج 3-5 (چاپ اول: 1396 ) (فیپا) .

یادداشت:کتابنامه.

موضوع:فقه جعفری -- رساله عملیه

موضوع:*Islamic law, Ja'fari -- Handbooks, manuals, etc.

موضوع:حدود (فقه)

موضوع:Hadd punishment (Islamic law)

شناسه افزوده:فاضل لنکرانی، محمدجواد، 1341 -

شناسه افزوده:Fadhil Lankarani, Muhammad Jawad

شناسه افزوده:جواهری، محمدمهدی، 1903 - 1997م.

شناسه افزوده:مرکز فقهی ائمه اطهار (ع)

رده بندی کنگره:BP183/9/م826 1394

رده بندی دیویی:297/3422

شماره کتابشناسی ملی:3807867

ص :1

هویة الکتاب

الحدود

الجزء الثانی

تألیف: جمع من الباحثین

باهتمام: الشیخ محمّد مهدی الجواهری

الإخراج الفنی: ضیاء قاسم الخفّاف

الطبعة الأُولی - 2000 نسخة

شابِک (ردمک):

سنة الطبع:

المطبعة:

* جمیع الحقوق محفوظة للمؤلف *

ص:2

ص:3

ص:4

حکم قتل المرتد (شبهات وردود)

بقلم: آیة الله الشیخ محمّد جواد الفاضل اللنکرانی (دامت برکاته)

اشارة

قال الإمام أمیر المؤمنین علی علیه السلام:

«وقد ترون عهود الله منقوضة فلا تغضبون، وأنتم لنقض ذمم آبائکم تأنفون»(1).

أصدر الإمام الخمینی (رضوان الله تعالی علیه) حکماً یقضی بارتداد سلمان رشدی، ولزوم قتله وإهدار دمه، ثمّ أصدر مرجع الشیعة الکبیر سماحة آیة الله العظمی الحاج الشیخ محمّد الفاضل اللنکرانی قدس سره من بعده حکماً یقضی بلزوم قتل رافق تقی وإهدار دمه؛ لصدق عنوان الارتداد وسبّ النبی صلی الله علیه و آله.

وقد وصلتنی أخیراً مجموعة من الرسائل، جاء أحدها من أحد

ص:5


1- (1) نهج البلاغة، الخطبة: 106.

الأشخاص ممن له تاریخ طویل وباع فی الحوزة العلمیة، وله مؤلّفات عدیدة أیضاً، ورد فیها بعض النقاط العلمیة والإشکالات الفقهیة حول حکم قتل المرتد، ولم تکن هذه أموراً جدیدة، بل هی إشکالات قدیمة.

لقد کنت أتوقّع من هذا الشخص أن یطرح نقاطاً جدیدة وأموراً مستحدثة فی میدان البحث والنقاش، لتکون أبحاثاً جادّة.

کما أعتذر عن عدم الإجابة علی أیّ من الرسائل الواردة بنحو مستقل، فارتأیت أن أجیب بجواب عام وشامل، آملاً أن یکون لکلّ من له قلب أو سمع رهن الدین والمنطق والاستدلال لیعثروا علی الحقیقة، ویذعنوا لها، فیسلّموا تسلیماً.

وأری من اللازم هنا أن أشیر إلی هذه النکتة وهی: أنّ کلّ إنسان مؤمن أو مسلم لا یسرّ لانحراف إنسان آخر أو لسوء عاقبته، ولا یسرّ لقتل إنسان بما هو إنسان أبداً، بل إنّ ما یوجب السرور والفرح هو تطبیق أحکام الله والطاعة لأوامره.

والنقطة الهامّة التی وردت فی عبارات الأئمة المعصومین علیهم السلام، وخاصّة الإمام الحسین علیه السلام باعتبارها أحد أهم أهداف الدین وغایاته هی: إقامة الحدود الإلهیة التی تمّ التأکید علیها، ویستتبعها برکات مادیة ومعنویة عدیدة، روی القطب الراوندی فی لبّ اللباب عن النبی الأکرم صلی الله علیه و آله أنّه قال: «حدّ یقام فی الأرض أزکی من عبادة ستین سنة»(1).

ص:6


1- (1) مستدرک الوسائل 9:18 ح 10 نقلاً عن لبّ اللباب.

وأقول بکلّ صراحة لکلّ المسلمین والبشریة قبل بیان الجواب التفصیلی: بأنّ وجوب قتل المرتد هو من جملة الأحکام التی لم یتردد فیها أحد من الفقهاء من المتقدّمین والمتأخّرین، وهی محلّ وفاق الشیعة والسنّة أیضاً، وقد تردد عدد قلیل جدّاً من العلماء فی الأعوام الأخیرة، لا یتجاوز عددهم أصابع الید الواحدة، ولا یمکن مقارنتهم بمئات الفقهاء العظماء من القدماء والمتأخّرین. إنّ هذا الحکم الذی سنفصح عنه بالتوضیح حکم ضروری، وأهل الاجتهاد یعلمون أنّه لا سبیل للاجتهاد فی الضروریات.

إنّنا نعلن للجمیع وبصوت عال، وبکلّ اعتزاز وفخر أنّ الذی له قیمة وحقیقة هو قانون الله، ولا قیمة لأیّ قانون ومنشور أمامه، ولا یمتلک أیّ أحد أو جماعة صلاحیة التشریع، بل الله وحده هو القادر علی سنّ القوانین للبشر، وعلی المسلمین فی العالم أن یعلموا أنّ وجوب قتل المرتد قانون إلهی مسلّم به، تمّ تنفیذه فی عصر الرسول صلی الله علیه و آله وأمیر المؤمنین علیه السلام والعصور التی تلتهما.

وسنبیّن بشکل موجز هنا المحاور العلمیة المختلفة فی هذا البحث، و یمکن تصنیفها وبشکل مضغوط إلی ستة محاور، وهی کما یلی:

المحور الأوّل: قتل المرتد المستفاد من القرآن.

المحور الثانی: قتل المرتد المستفاد من الروایات.

المحور الثالث: قتل المرتد ومسألة إشاعة الفوضی.

ص:7

المحور الرابع: هل أنّ حکم قتل المرتد موجب لوهن الدین؟

المحور الخامس: هل إقامة الحدود مشروط بحضور المعصوم علیه السلام؟

المحور السادس: هل یتنافی وجوب قتل المرتد مع رحمة النبی صلی الله علیه و آله ورأفته؟

المحور الأوّل: قتل المرتد المستفاد من القرآن

1 - ظنّ البعض أنّ حکم قتل المرتد لا یستند إلی أیّ ثوابت ونصوص قرآنیة، بل صرّحوا أکثر من ذلک: أنّ هذا الحکم یتعارض مع روح القرآن، ویبدو أنّ هذا التصوّر کان قد نشأ فی أوساط بعض أهل السنّة، ونبیّن هنا مقدّمة وهی: صحیح أنّه لا یوجد آیة فی القرآن الکریم تصرّح بوجوب قتل المرتد، وإن أردنا الاستدلال بکتاب الله وحده علی وجوب قتل المرتد، وترک الروایات والإجماع بل الضرورة، فسیکون الاستدلال صعباً ومشکلاً، ولکن ینبغی التوجّه إلی عدّة مطالب:

المطلب الأوّل: ألم یستدلّ فقیه أو مفسّر فی طول التاریخ لهذا الحکم بالقرآن الکریم؟ تشیر عبارات المنکرین لحکم الارتداد لهذا المطلب، وهو أنّه لم یستدلّ أحد من أصحاب الرأی والنظر فی طول التاریخ بالقرآن الکریم علی وجوب قتل المرتد، وتنشأ هذه الذهنیة من عدم الدقّة الکاملة فی الآیات القرآنیة من قبل بعض هؤلاء المخالفین، أو قلّة اطّلاع البعض، أو الضعف العلمی لآخرین منهم.

ص:8

ولإیضاح هذا المطلب ینبغی القول:

الإیضاح الأوّل: یمکن أن یستفاد من الآیة الشریفة 54 من سورة البقرة استحقاق المرتد للقتل، قال تعالی: (وَ إِذْ قالَ مُوسی لِقَوْمِهِ یا قَوْمِ إِنَّکُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَکُمْ بِاتِّخاذِکُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلی بارِئِکُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَکُمْ ذلِکُمْ خَیْرٌ لَکُمْ عِنْدَ بارِئِکُمْ) .

اتّجه کثیر من بنی إسرائیل بعد النجاة من جیش فرعون، والغلبة علیهم، وذهاب موسی إلی طور سیناء لأخذ الألواح، إلی عبادة عجل السامری، فخرجوا عن التوحید، فقال لهم موسی علیه السلام:

یا قوم، إنّکم ظلمتم أنفسکم بسبب هذا الانحراف، فتوبوا إلی بارئکم، فاقتلوا أنفسکم.

والمراد من هذا القتل لیس قتل النفس ومحاربة النفس والأهواء الشهوانیة، بل المراد القتل الحقیقی الذی یعنی إزهاق الروح، ومن الواضح أنّ مسألة القتل تمّ طرحها من قبل الله تبارک وتعالی؛ وسبب ذلک هو ارتداد بنی إسرائیل بعد مشاهدتهم کلّ تلک المعاجز والآیات الإلهیة.

ویستفاد من الآیة الشریفة:

أوّلاً: أنّ الارتداد بین الیهود موضوع للقتل، وعقوبة هذا الفعل هو القتل.

ثانیاً: مع ملاحظة إجراء استصحاب أحکام الشرائع السابقة یمکن إثبات هذا الحکم فی الشریعة الإسلامیة أیضاً، وترک مسألة النسخ. نعم، إن

ص:9

لم یرتض أحد هذا الاستصحاب فعلیه الاکتفاء بالأمر الأوّل، وهذا المقدار کاف لتقریب المدّعی.

ذکر الألوسی فی تفسیر روح المعانی: « توبتهم هو القتل، إمّا فی حقّهم خاصّة، أو توبة المرتد مطلقاً فی شریعة موسی علیه السلام»(1).

وروی فی ذیل الآیة عن علی علیه السلام:

أنّ بنی إسرائیل سألوا موسی علی نبیّنا وآله وعلیه السلام، فقالوا: «یا موسی، ما توبتنا؟ قال: یقتل بعضکم بعضاً، فأخذوا السکاکین، فجعل الرجل یقتل أخاه وأباه وابنه لا یبالی من قتل حتّی قتل منهم سبعون ألفاً، فأوحی الله إلی موسی، مرهم فلیرفعوا أیدیهم، فقد غفرت لمن قتل، و تبت علی من بقی»(2).

أمّا النقطة المتبقّیة هنا فهی أن نقول: إنّ هذه الآیة الشریفة موردها عبادة العجل والارتداد الجماعی والفئوی، وعلیه فلا یمکن استفادة حکم الارتداد الشخصی منها. نعم، یمکن بقرینة(فَتُوبُوا) استفادة أن تکون التوبة واجبة بنحو مستقل علی کلّ أحد منهم ویکون حکم وجوب القتل لارتداد کلّ واحد منهم مستقلاً، والنتیجة أنّ ارتداد کلّ شخص هو موضوع لاستحقاق القتل.

الإیضاح الثانی: قال الفخر الرازی فی التفسیر الکبیر فی ذیل الآیة 217

ص:10


1- (1) روح المعانی 260:1.
2- (2) الدر المنثور فی التفسیر بالمأثور 305:4.

من سورة البقرة: (وَ مَنْ یَرْتَدِدْ مِنْکُمْ عَنْ دِینِهِ فَیَمُتْ وَ هُوَ کافِرٌ فَأُولئِکَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِی الدُّنْیا وَ الْآخِرَةِ وَ أُولئِکَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِیها خالِدُونَ) : «أمّا حبوط الأعمال فی الدنیا فهو أنّه یقتل عند الظفر به، ویقاتل إلی أن یظفر به، ولا یستحق من المؤمنین موالاة، ولا نصراً ولا ثناء حسناً، وتبین زوجته منه، ولا یستحق المیراث من المسلمین»(1).

من الواضح أنّ الفخر الرازی استفاد هذه الأحکام من إطلاق حبط الأعمال فی الدنیا، ویشمل إطلاقه أیضاً الشهادتین والإسلام الذی کان یجعله سابقاً فی دائرة الطهارة والاحترام بما فیه احترام دمه، فبحبط الأعمال یسقط کلّ ما قام به - لفظاً وعملاً - عن الاعتبار.

روی فی بعض الروایات المعتبرة عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال: «شهادة أن لا إله إلّا الله، والتصدیق برسول الله صلی الله علیه و آله، به حقنت الدماء، وعلیه جرت المناکح والمواریث»(2).

مفهوم هذه الروایة هو أنّه مع عدم الشهادة لم تکن الدماء محقونة، وتنتفی المناکح والمواریث.

وقال المرحوم المحقق الخوئی فی التنقیح: «ورد فی غیر واحد من الروایات من أنّ المناط فی الإسلام وحقن الدماء والتوارث وجواز النکاح إنّما

ص:11


1- (1) التفسیر الکبیر 40:6.
2- (2) الکافی 25:2، ح 1.

هو شهادة أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّداً رسوله، وهی التی علیها أکثر الناس»(1).

ولعلّ الشیخ الطوسی من هذه الجهة أفتی بأنّ المسلم لو حجّ ثمّ ارتدّ فحجّه باطل، ولو کنّا نحن وإطلاق هذه الآیة الشریفة فالحقّ مع الشیخ الطوسی.

وینبغی أن نجیب فی هذا الاستدلال علی سؤالین:

السؤال الأوّل: لو قال أحد: إنّ معنی حبط الأعمال فقط هو بطلان الأعمال من حیث الأجر والثواب الأخروی، ولا ملازمة له مع العقوبة والجزاء الدنیوی.

فنقول فی الجواب: إنّ هذا بعید عن الإنصاف؛ لأنّ الله سبحانه وتعالی جعل کلّ الأعمال کالعبادات مثل الصلاة والصوم، والنکاح أیضاً، وسائر الأمور التی لها صبغة دینیة، وکذلک الشهادة علی الإسلام والتوحید والنبوّة جعلها باطلة و منتفیة بسبب الارتداد، و جعل بطلانها فی الدنیا والآخرة معاً، ولازم هذا المطلب أن نقول: إنّ حبط الأعمال فی الدنیا بمعنی العقوبة والجزاء الدنیوی.

وبعبارة أخری: لیس المقصود من حبط الأعمال فقط إسقاط أعمال البر التی لها أجر أخروی، حتّی نقول: إنّ الحبط یعنی عدم ترتّب الأجر الأخروی علی الأعمال، بل الحبط بمعنی أنّه لم یقم بأیّ عمل، ولیس له أیّ

ص:12


1- (1) التنقیح فی شرح العروة الوثقی 78:3.

شهادة، وأنّ ما کان سبباً لاحترامه لحدّ الآن یمکن اعتباره کالعدم، وبانتفائه فلا یبقی له احترام، ونفس عدم الاحترام موضوع لاستحقاق العقوبة والجزاء فی هذه الدنیا.

وبعبارة أخری: لو سلّمنا أنّ الآیة الشریفة وإطلاق حبط الأعمال فی الدنیا لا ظهور لهما فی خصوص القتل، ولکن نعتقد أنّ أصل العقوبة والجزاء الدنیوی هو معنی مطابقی أو لازم عادی لها، فادّعاء المخالفین لوجوب قتل المرتد بأنّ القرآن الکریم لم یبیّن أیّ عقوبة وجزاء دنیوی للمرتد، ولا آیة تدلّ بالصراحة أو بالظهور علی هذا الأمر، مخدوش بهذا الاستدلال.

ورد فی تفسیر کنز الدقائق: «لبطلان ما تخیّلوه وفوات ما للإسلام من الفوائد الدنیویة»(1) ، فهو أیضاً فهم فوات الفوائد الدنیویة من الآیة، وهذه لها ملازمة عادیة بالعقوبة والجزاء الدنیوی، یعنی: حبط العمل فی الدنیا والآخرة، فله هذا المعنی الواسع.

وبالنسبة لشرب الخمر والزنا وبعض المحرّمات الأخری ورد التعبیر فی الروایات بحبط العمل، أمّا التعبیر بحبط العمل فی الدنیا والآخرة فظاهراً لم یرد إلّا فی الارتداد، ویشمل إطلاقه مثل هذه الآثار.

السؤال الثانی: قیّدت هذه الآیة المبارکة بلفظ «الموت»، فقال جلّ

ص:13


1- (1) کنز الدقائق 321:2.

وعلا: (فَیَمُتْ وَ هُوَ کافِرٌ) ، ولهذا القید ظهور فی أنّ حبط الأعمال فی الدنیا والآخرة یکون عند ارتداد الشخص، وبقاء الارتداد حتّی وفاته، ومغادرة الدنیا وهو علی حالة الکفر. فلا یستفاد من الآیة الشریفة أنّ مجرد الارتداد سبب لحبط الأعمال، وترتّب الآثار الدنیویة والأخرویة.

الجواب: أوّلاً: ذکر فی بعض آیات القرآن الکریم أنّ مجرد الشرک والارتداد بلا قید الموت سبب لحبط الأعمال، کقوله تعالی: (وَ لَوْ أَشْرَکُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما کانُوا یَعْمَلُونَ)1 ، وقوله تعالی: (وَ مَنْ یَکْفُرْ بِالْإِیمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ)2 ، وقد ثبت فی محلّه من مباحث علم الأصول: عدم سریان قاعدة حمل المطلق علی المقیّد فی الموارد التی یکون العنوانان مثبتین، ولیس بینهما تنافی، و النتیجة: أنّ الآیة محلّ البحث تبیّن مصداقاً من مصادیق المرتد، وأمّا عنوان الموت فی حال الکفر فلا خصوصیة له فی مطلوب ومقصود الله تعالی.

ثانیاً: لو سلّمنا فی هذا المورد بسریان قاعدة المطلق والمقید، فیکون هذا فی حال ما لو کان القید عنواناً احترازیاً، ولکن یمکن أن یقال: إنّ هذا القید کنایة عن عدم التوبة، یعنی: شمول هذه الأحکام لمن ارتدّ ولم یتب بعد ذلک.

ص:14

ثالثاً: إذا أردنا وضع هذه الکلمات بعنوان القید فلا یکون معنی لعنوان الحبط فی الدنیا، مع أنّ للآیة الشریفة ظهور فی أنّ المرتد فی هذه الدنیا مشمول لحبط الأعمال. فحتّی یکون لعنوان الحبط فعلیة، علینا أن نقول: إنّ تمام الملاک هو الارتداد وعدم التوبة، وإن قلنا: إنّه لا یمکن الحکم علیه إلی حین الموت و وصول الأجل، فلا معنی حینئذ لحبط الأعمال فی الدنیا.

الإیضاح الثالث: قال شمس الدین السرخسی فی کتابه المبسوط فی باب المرتدین: «والأصل فی وجوب قتل المرتدین قوله تعالی: (أَوْ یُسْلِمُونَ) ، قیل: الآیة فی المرتدین»(1). فهو استدلّ بالآیة 16 من سورة الفتح لوجوب قتل المرتدین.

الإیضاح الرابع: ذکر الشهید الثانی فی مسالک الإفهام بعد عدّه الردّة من أفحش أقسام الکفر وأغلظها حکماً، فأشار إلی آیتین یظهر منه الاستدلال بذلک، هما قوله تعالی: (وَ مَنْ یَرْتَدِدْ مِنْکُمْ عَنْ دِینِهِ فَیَمُتْ وَ هُوَ کافِرٌ فَأُولئِکَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِی الدُّنْیا وَ الْآخِرَةِ)2 ، وقوله تعالی: (وَ مَنْ یَبْتَغِ غَیْرَ الْإِسْلامِ دِیناً فَلَنْ یُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِی الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِینَ)3 ، ثمّ تمسّک بالنبوی الشریف: «لا یحلّ دم امرئ مسلم إلّا بإحدی ثلاث: کفر بعد إیمان،

ص:15


1- (1) المبسوط 98:10.

أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغیر نفس»(1)(2) ، والظاهر أنّه استفاد من الآیتین لزوم القتل وإن لم یصرّح بذلک.

الإیضاح الخامس: مضافاً إلی إطلاق حبط الأعمال، یمکن استفادة المدّعی أیضاً من قوله تعالی: (وَ الْفِتْنَةُ أَکْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ)3 . وفی تفسیر لفظ «الفتنة» الوارد فی الآیة قولان: ففسرها البعض بالکفر، والبعض الآخر بالارتداد، یعنی: الفتنة هی ارتداد یتبعه الکفّار، یریدون به إرجاع المسلمین عن دینهم، وهی أشدّ بکثیر من قتل ذلک الشخص (الحضرمی) الذی تشیر إلیه الآیة الشریفة.

وعلی هذا، الفتنة اسم مصدر لا مصدر، فیکون الارتداد أسوأ وأشدّ وأقبح بکثیر من القتل الاعتیادی. ألا یمکن استفادة جواز قتل المرتد من هذا التعبیر؟ فإذا استتبع القتل الاعتیادی جواز قتل القاتل شرعاً وعقلاً وعقلائیاً بعنوان القصاص، فکیف بالارتداد الذی هو أشدّ بکثیر منه لا یمکن أن یمتلک قابلیة استتباعه هذا الجواز؟!

التفتوا إلی أنّنا لا نرید استفادة فعلیة وجوب القتل من الآیة الشریفة، بل إنّ هذا المقدار وهو أن یکون الارتداد له قابلیة أن یصبح موضوعاً لاستحقاق القتل، فأیّ استبعاد فی جواز قتل المرتد المستفاد من کلام

ص:16


1- (1) سنن أبی داود 366:2 ح 4502.
2- (2) مسالک الإفهام 22:15.

النبی صلی الله علیه و آله أو الأئمة المعصومین علیهم السلام - کما سنشیر إلیه لاحقاً - المتّخذ من هذه الآیة الکریمة؟!

وینبغی الالتفات هنا إلی أنّ کلّ ارتداد هو فتنة حسب هذه الآیة، فلا ینبغی تصوّر أنّ بعض أنواع الارتداد فتنة، وبعضه لیس فتنة، وأنّ ما عبّرت به الآیة الشریفة عن الارتداد بلفظ«الفتنة» إنّما هو حکایة عن عمق القبح فی هذا الأمر.

الإیضاح السادس: مضافاً إلی ما تقدّم، یمکن الاستدلال بآیة أخری من القرآن، وهو قوله تعالی: (إِنَّما جَزاءُ الَّذِینَ یُحارِبُونَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ یَسْعَوْنَ فِی الْأَرْضِ فَساداً أَنْ یُقَتَّلُوا أَوْ یُصَلَّبُوا) .(1)

قال الشیخ الطوسی فی المبسوط: «وقال قوم: المراد بها المرتدون عن الإسلام إذا ظفر بهم الإمام عاقبهم بهذه العقوبة؛ لأنّ الآیة نزلت فی العرینیین؛ لأنّهم دخلوا المدینة فاستوخموها فانتفخت أجوافهم واصفرّت ألوانهم»(2).

وهم قوم أسلموا ثمّ مرضوا فلم یقدروا علی البقاء فی المدینة، فأمرهم النبی صلی الله علیه و آله أن یخرجوا إلی لقاح إبل الصدقة، فیشربوا من ألبانها وأبوالها، ففعلوا ذلک فصحّوا، فقتلوا الراعی وارتدّوا، واستاقوا الإبل، فبعث النبی

ص:17


1- (1) سورة المائدة: 33.
2- (2) المبسوط 47:8.

عشرین رجلاً فی طلبهم، فأخذهم وقطع أیدیهم وأرجلهم، وسمل أعینهم، وطرحهم فی الحرة، حتّی ماتوا، وکان ذلک لأجل الارتداد.

ورد فی حاشیة کتاب التاج الجامع للأصول الوارد فی أحادیث النبی صلی الله علیه و آله بعد ذکر هذه القضیة: أنّ شأن نزول هذه الآیة هم المرتدون، وهذا نظر جمهور العلماء سلفاً وخلفاً(1).

الإیضاح السابع: الدلیل الآخر حسب بعض الروایات الواردة عن أمیر المؤمنین علیه السلام فی استشهاده بالآیة 137 من سورة النساء لبیان حکم قتل المرتد، فقد ورد فی کتاب دعائم الإسلام عن الإمام الصادق علیه السلام عن آبائه الکرام علیهم السلام:

«أنّ علیاً علیه السلام کان لا یزید المرتد علی ترکه ثلاثة أیام یستتیبه، فإذا کان الیوم الرابع قتله من غیر أن یستتاب، ثمّ یقرأ: (إِنَّ الَّذِینَ آمَنُوا ثُمَّ کَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ کَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا کُفْراً لَمْ یَکُنِ اللّهُ لِیَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِیَهْدِیَهُمْ سَبِیلاً)2 .(2)

الاستشهاد بهذه الآیة دلیل واضح علی استفادة الإمام علیه السلام وجوب قتل المرتد بنحو من الآیة الشریفة. ویمکن أن لا یتّضح لنا کیفیة الاستدلال، ولکن المعلوم هو أنّهم فهموا أصل وجوب القتل من الآیة الشریفة. نعم، یحتمل استفادة ذلک من إطلاق عنوانی عدم المغفرة الإلهیة - یعنی: لا فی

ص:18


1- (1) التاج الجامع للأصول 19:3.
2- (3) دعائم الإسلام 479:2، ح 1716.

الدنیا ولا فی الآخرة - وعدم الهدایة الإلهیة.

وإذا قیل: إنّ الآیة الشریفة تدل علی عدم قبول توبة مثل هؤلاء الأشخاص فقط.

فنقول فی الجواب: إنّ هناک ملازمة بین هذا العنوان، یعنی: عدم قبول التوبة، ومسألة القتل؛ لأنّه لیس عندنا فی الفقه مورد واحد لا یقبل فیه توبة المجرم، ومع ذلک یترک ذلک الشخص علی حاله.

ونتیجة النقاط المذکورة: هو ادّعاء البعض ظهور آیاتٍ من القرآن الکریم فی لزوم معاقبة المرتد و قتله، وأنّ المنتقدین لهذا الحکم عندما یقولون: إنّ الآیة إمّا أن تکون نصّاً أو الخبر القطعی نصّاً بعید عن الفقاهة والاجتهاد.

وواضح لکافّة أهل النظر: أنّ من أهم مباحث علم الأصول هو إثبات حجیة الظواهر الأعم من ظاهر القرآن الکریم والروایات.

وثبت أیضاً لدی الأصولیین: أنّ إطلاق الألفاظ هو أحد مصادیق الظواهر، ولم یر عالم لحدّ الآن لزوم النص فی استنباط الأحکام.

وعلی کلّ حال، لا یمکن القطع بنفی الاستدلال بالقرآن الکریم علی قتل المرتد، وإن کان الاستدلال بذلک وحده مشکلاً.

وبعبارة أخری: إن دلّت الروایات بوضوح علی الحکم، فبإمکاننا استفادة التأیید من هذه الآیات علی الأقل.

المطلب الثانی: الذین یدّعون عدم ملائمة مثل هذا الحکم مع روح

ص:19

القرآن، فینبغی أن یجیبوا:

أوّلاً: کیف یکون لهم مثل هذه الدعوی الکبری؟! فادّعاء معرفة روح القرآن أمر ثقیل وعسیر جدّاً، ومثل هذا المطلب خارج عن أسلوب الاستدلال أصلاً.

وبعبارة أخری: أنّکم تمسّکتم بشیء لا یمکن الأخذ به، وفی المقابل یمکننا ادّعاء ملائمة هذا الحکم مع روح القرآن، وعلی کلّ التمسّک بروح دلیل لا روح له لا ینفع ذلک أیّ طرف من الأطراف.

ثانیاً: لو دققنا فی الآثار المترتبة علی المرتد فی القرآن الکریم، فسنفهم جیداً استحقاق المرتد للعقوبة الدنیویة الشدیدة، ففی القرآن الکریم ذکر ثمانیة آثار للمرتد:

الأثر الأوّل: حبط الأعمال فی الدنیا والآخرة.

الأثر الثانی: أنّه فی الآخرة من الخاسرین، ولیس أمامه طریق للخلاص.

الأثر الثالث: لن یغفر الله له أبداً.

الأثر الرابع: سلب التوفیق الإلهی منه، قال تعالی: (کَیْفَ یَهْدِی اللّهُ قَوْماً کَفَرُوا بَعْدَ إِیمانِهِمْ)1 .

الأثر الخامس: دخوله فی جهنّم.

الأثر السادس: خلوده فی نار جهنّم.

ص:20

الأثر السابع: الشیطان یزیّن لهم أفعالهم القبیحة والسیّئة، و یبتلیهم بطول الأمل.

الأثر الثامن: علی المرتد لعنة الله والملائکة والناس أجمعین إلی یوم القیامة، قال تعالی: (أُولئِکَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَیْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ وَ الْمَلائِکَةِ وَ النّاسِ أَجْمَعِینَ)1 .

وهذه الآثار تدلّ علی کون الارتداد ذنباً فی نظر القرآن الکریم، بل ذنب ومعصیة کبیرة، وأنّه من أشدّ الکبائر أیضاً.

وهل یمکن قبول أنّ استحقاق أشدّ العقوبة والجزاء الدنیوی للمرتد لا یلائم روح القرآن، مع وجود هذه الآثار الشدیدة الأخرویة وبعضها الدنیویة؟! إنّ من یتحدّث عن الحریة واحترام أیّ نوع من الأفکار وعقائد الآخرین، کیف یوجّه هذه الآثار الأخرویة الشدیدة للارتداد؟!

وبعبارة أخری: بناء علی هذه الرؤیة، لیس للارتداد قابلیة أن یکون موضوعاً للعقوبة والجزاء الدنیوی، ولا صلاحیة له بأن یکون موضوعاً للعقوبة والجزاء الأخروی. وهؤلاء یطرحون الارتداد تحت عنوان حریة الفکر، وأنّه حقّ بشری، وحینئذ فلا یمکن تصوّر أیّ قبح فیه، ومع عدم القبح لا یکون له قابلیة العقوبة الدنیویّة ولا الأخرویة.

والنتیجة: علیهم أن ینکروا العقوبات الأخرویة للارتداد أیضاً.

ص:21

وإن قلتم: إنّنا نقبل القبح فی نفسه، فحینئذ أیّ استیحاش لهم من العقوبة الدنیویة.

إذن یمکن أن یقال بوجود ملازمة قهریة وعادیة بین الآثار الشدیدة المذکورة للمرتد فی القرآن الکریم، مع عقوبته ومجازاته الدنیویة، وما ورد عن النبی الأکرم صلی الله علیه و آله والأئمة المعصومین علیهم السلام فی قتل المرتد مستفاد من هذه الملازمة، أیّ: أنّهم استفادوا هذه الملازمة من آیات الارتداد.

المطلب الثالث: ینبغی السؤال ممن یرفع صوته عالیاً ویطرح مسألة خلو القرآن الکریم للجزاء الدنیوی بالنسبة للمرتد هل تقبلون الحدود الأخری التی صرّح بها القرآن الکریم؟ فهل تقبلون حدّ الزنا والسرقة والمحارب والمفسد فی الأرض المصرّح به فی القرآن الکریم؟ ومن المسلّم أنّ من یرفع شعار الحریة ویتّخذ منشور حقوق الإنسان معلماً له، ویبدی رأیه فی ذلک فهؤلاء ینکرون مثل هذه الحدود أیضاً. وإن لم ینکروها فعلیهم أن یوضّحوا کیف یقبلوها وینکرونها فی المرتد؟! مع أنّ الارتداد أقبح وأشنع بکثیر من الزنا و السرقة.

المطلب الرابع: أوّلاً: حتّی لو قبلنا عدم إشارة القرآن الکریم لاستحقاق المرتد للعقوبة والجزاء الدنیوی، إلّا أنّ هذا لا یوجّه أیّ ضربة لهذا الحکم؛ لأنّ کثیراً من الأحکام الفقهیة لم ترد فی القرآن الکریم، فهناک آلاف الأحکام فی مسألة الصلاة والزکاة والحج و... لم ترد فی القرآن الکریم.

ص:22

ثانیاً: لا یمکن تصوّر حقیقة للقرآن الکریم منفصلة عن کلام النبی صلی الله علیه و آله والأئمة المعصومین علیهم السلام، فلا یمکن الوصول إلی حقیقة القرآن الکریم دون مراجعة سنّة النبی الأکرم صلی الله علیه و آله والأئمة الطاهرین علیهم السلام، قال الله تعالی: (وَ أَنْزَلْنا إِلَیْکَ الذِّکْرَ لِتُبَیِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَیْهِمْ) ، (1) فینبغی أن یکون بیان القرآن من قبل النبی صلی الله علیه و آله وأهل البیت علیهم السلام، وقال الله تعالی: (وَ ما آتاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ)2 . یعنی: أنّ علی المسلمین متابعة ما بیّنه النبی صلی الله علیه و آله بعنوان أنّه تفسیر إلهی أو بأیّ عنوان آخر. وبناء علی هذا لو قال النبی صلی الله علیه و آله فی حدیث أو أحادیث بوجوب قتل المرتد فإنّ العمل به فی الحقیقة عمل بالقرآن، ویصدق هذا الأمر أیضاً بالنسبة للأئمة المعصومین علیهم السلام الذین هم القرآن الناطق، والمفسّر الحقیقی للقرآن.

والالتفات إلی حدیث الثقلین والتعبیر بقوله: «لن یفترقا» یوضّح المطلب لأهل الفهم والنظر تماماً، وحسب هذا التعبیر لا انفصال بین القرآن الحقیقی و العترة، ولیس له قابلیة الانفکاک، کما أنّ العترة الحقیقیة لا تنفصل عن القرآن، ولیس لها قابلیة الانفصال، وعلی ضوء حدیث الثقلین فالاستدلال بالقرآن دون التوجّه والالتفات إلی الروایات والأخبار وبالعکس، باطل ومردود.

ص:23


1- (1) سورة النحل: 44.

المحور الثانی: قتل المرتد المستفاد من الروایات

بعد دراسة أدلة لزوم قتل المرتد من منظار القرآن الکریم ینبغی دراسة هذا المطلب بإجمال من منظار الروایات.

المخالفون لقتل المرتد لهم عدّة شبهات أو توهّمات بالنسبة للروایات:

التوهّم الأوّل: ندرة الروایات الدالة علی وجوب قتل المرتد.

التوهّم الثانی: أنّ هذه الروایات معنونة بالخبر الواحد، وبما أنّ الدلیل المهم لحجیة الخبر الواحد هو بناء العقلاء، فلو راجعنا بناءهم فلا نراهم یعملون فی الأمور المهمّة - کالقتل - بالخبر الواحد.

أمّا الجواب عن التوهّم الأوّل:

ألف: ذکر بحث المرتد فی الفقه والروایات فی خمسة موارد:

کتاب الطهارة، کتاب النکاح، کتاب الصید والذباحة، کتاب الإرث، وکتاب الحدود فی حدّ المرتد، فلو راجع الإنسان بنحو الإجمال ما ورد من روایات فی هذه الکتب المذکورة فی مورد المرتد، لفهم بوضوح أنّ عدد الروایات الواردة فی المرتد قد تجاوزت العشرین روایة.

فقد روی المرحوم ثقة الإسلام الکلینی فی کتاب الکافی ( 256/7) باب حدّ المرتد، ثلاثاً وعشرین روایة، وأکثر هذه الروایات صحیحة، واستدلّ بها الفقهاء فی الأبواب الخمسة المذکورة، وهذه الروایات مضافاً إلی صحة سندها متحقق فیها مبنی المحققین فی حجیّة الخبر الواحد وهو

ص:24

الوثوق بالصدور، ومما لا شک فیه بلوغ هذه الروایات حدّ التواتر المعنوی والإجمالی.

وقد قبل الفقهاء العظام فی موارد أخری فی الفقه مع وجود عشر روایات علی الأقل فی موضوع واحد عنوان التواتر، فکیف الأمر إذا بلغت الروایات ثلاثاً وعشرین روایة، وإذا وصلت الروایة حدّ التواتر فلا حاجة بعد ذلک إلی دراسة السند، وهذا أمر واضح ومسلّم به عند الفقهاء.

ب: لایمکن للفقیه فی عملیة الاستنباط والاستدلال بالروایات النظر إلی بعض الروایات، بل علیه تحلیل ودراسة کافّة الطوائف المتعلّقة بالموضوع، فإذا درسنا موضوع المرتد فی الروایات، فسنواجه عدّة طوائف:

الطائفة الأولی: الروایات الدالة علی وجوب قتل المرتد صریحاً:

ألف: صحیحة محمّد بن مسلم، قال: سألت أبا جعفر علیه السلام عن المرتد، فقال: «من رغب عن الإسلام، و کفر بما أنزل الله علی محمّد صلی الله علیه و آله بعد إسلامه، فلا توبة له، وقد وجب قتله، وبانت منه امرأته، ویقسّم ما ترکه علی ولده»(1).

ب: الحدیث الخامس من هذا الباب، وهی صحیحة جمیل بن دراج عن أحدهما علیهم السلام:

فی رجل رجع عن الإسلام، قال علیه السلام: «یستتاب، فإن تاب وإلّا قتل»(2). صرّح فی هذا الحدیث بأصل استحقاق قتل المرتد.

ص:25


1- (1) الکافی 256:7، ح 1.
2- (2) المصدر نفسه، ح 5.

ج: الحدیث العاشر من هذا الباب، عن الإمام الکاظم علیه السلام قال: سألته عن مسلم تنصّر، قال: «یقتل ولا یستتاب»(1).

د: الحدیث الحادی عشر من هذا الباب، عن عمار الساباطی قال: سمعت أبا عبدالله علیه السلام یقول: «کلّ مسلم بین المسلمین ارتدّ عن الإسلام، وجحد محمّداً نبوّته، وکذّبه، فإنّ دمه مباح لکلّ من سمع ذلک منه»(2).

ه -: عن عبد الله بن أبی یعفور قال: قلت لأبی عبد الله علیه السلام:

إنّ بزیعاً یزعم أنّه نبی، فقال علیه السلام: «إن سمعته یقول ذلک فاقتله»(3).

و: ما ورد فی کتب أهل السنّة عن النبی الأکرم صلی الله علیه و آله فی حکم وجوب قتل المرتد أیضاً.

روی فی کتاب التاج الجامع للأصول فی أحادیث الرسول عن النبی الأکرم صلی الله علیه و آله أنّه قال: «لا یحلّ دم امرئ مسلم یشهد أن لا إله إلّا الله، وأنّی رسول الله، إلّا بإحدی ثلاث: النفس بالنفس، والثیّب الزانی، والمفارق لدینه التارک للجماعة»(4) ، ثمّ قال: روی البخاری ومسلم والنسائی وأبو داود والترمذی هذه الروایة.

ص:26


1- (1) المصدر نفسه، ح 10.
2- (2) المصدر نفسه، ح 11.
3- (3) المصدر نفسه، ح 13.
4- (4) التاج الجامع للأصول 17:3-18.

وقد صرّحت هذه الروایة عن النبی صلی الله علیه و آله بجواز قتل الإنسان فی ثلاثة موارد، منها: من فارق دینه وارتدّ.

ثمّ نقل عن عکرمة: أنّ علی بن أبی طالب علیه السلام قتل جماعة رجعوا عن الإسلام.

وروی فی کافّة کتب حدیث أهل السنّة عدا صحیح مسلم عن ابن عباس، عن النبی صلی الله علیه و آله أنّه قال: «من بدّل دینه فاقتلوه»(1).

الطائفة الثانیة: الروایات الواردة فی خصوص المرأة المرتدة، وهی تدلّ علی عدم جواز قتلها، وتؤکّد علی عدم قتل المرأة إذا ارتدّت، وتدلّ هذه الروایات جیداً علی أنّ هذا هو استثناء من حکم المرتد، وأنّ أصل وجوب قتل المرتد أمر مسلّم به.

الطائفة الثالثة: الروایات الدالة علی الحکم بالقتل علی أصحاب الکبائر إن تکرر منهم صدور الکبیرة، ولاشکّ فی أنّ الارتداد من الذنوب الکبیرة، بل هو من أشدّ الکبائر. واتّفق الفقهاء علی أنّ المرتد إن لم یقتل فی المرّة الأولی فیجب قتله فی المرّة الثالثة أو الرابعة، واستدلّوا فی هذا المورد بروایة عن الإمام الکاظم علیه السلام أنّه قال: «أصحاب الکبائر یقتلون فی الثالثة»(2). نعم، کما أنّ الزانی إن أقیم علیه الحدّ ثلاث مرّات، فارتکب

ص:27


1- (1) مجمع الزوائد 261:6.
2- (2) عوالی اللئالی 356:2، ح 33.

ذلک الفعل مرّة رابعة فینبغی قتله، کذلک الأمر فی مسألة الارتداد، کما صرّح جمیل بن دراج بذلک أیضاً فی الحدیث الخامس من هذا الباب.

والمقصود هو أنّ علی الفقیه أن یلتفت إلی هذه الجهة أیضاً، فإذا لم یکن لدینا فرضاً روایة تدلّ بصراحة علی لزوم قتل المرتد، أمکننا التمسّک بهذا النوع من الروایات الدالة علی قتل المرتد ولو فی حال التکرار أیضاً.

الطائفة الرابعة: الروایات الدالة علی أنّ الشهادة علی التوحید ونبوّة النبی الأکرم صلی الله علیه و آله توجب حقن الدماء وحفظها وصحة النکاح والمواریث، والمفهوم من هذه الروایات هو أنّ عدم الشهادة مساوق لانتفاء حقن الدماء، قال المرحوم المحقق الخوئی فی التنقیح: «ورد فی غیر واحد من الروایات من أنّ المناط فی الإسلام وحقن الدماء والتوارث وجواز النکاح إنّما هو شهادة أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّداً رسوله»(1).

ونتیجة هذه الطائفة هو انتفاء سبب حقن الدماء عمّن ارتدّ.

الطائفة الخامسة: الروایات الدالة علی أنّ أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب علیه السلام أجری فی موارد حکم المرتد علی بعض الأشخاص.

الروایة الأولی: عن أمیر المؤمنین علیه السلام:

«أنّه أتی بمستورد العجلی، وقد قیل: إنّه تنصّر وعلّق صلیباً فی عنقه، فقال له قبل أن یسأله، وقبل أن یشهد علیه: ویحک یا مستورد، إنّه قد رفع إلیّ أنّک تنصّرت، ولعلّک أردت أن

ص:28


1- (1) التنقیح فی شرح العروة الوثقی 78:3.

تتزوّج نصرانیة، فنحن نزوّجک إیاها، قال: قدوس قدوس، قال: فلعلّک ورثت میراثاً من نصرانی، فظننت أنا لا نورثک، فنحن نورثک؛ لأنّا نرثهم ولا یرثوننا، قال: قدوس قدوس، قال: فهل تنصّرت کما قیل؟ فقال: نعم، تنصّرت، فقال أمیر المؤمنین علیه السلام: الله أکبر، فقال المستورد: المسیح أکبر، فأخذ أمیر المؤمنین علیه السلام بمجامع ثیابه، فأکبّه لوجهه، فقال: طئوه عباد الله، فوطؤوه بأقدامهم حتّی مات»(1).

الروایة الثانیة: عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال: «أتی قوم أمیر المؤمنین علیه السلام فقالوا: السلام علیک یاربّنا، فاستتابهم فلم یتوبوا، فحفر لهم حفیرة وأوقد فیها ناراً، وحفر حفیرة أخری إلی جانبها وأفضی بینهما، فلمّا لم یتوبوا ألقاهم فی الحفیرة وأوقد فی الحفیرة الأخری حتّی ماتوا»(2).

فلینتبه إلی أنّ مثل هذا الغلو هو من مصادیق الارتداد.

الروایة الثالثة: روی عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال: « أتی أمیر المؤمنین صلوات الله علیه برجل من بنی ثعلبة قد تنصّر بعد إسلامه فشهدوا علیه، فقال له أمیر المؤمنین علیه السلام:

ما یقول هؤلاء الشهود؟ قال: صدقوا، وأنا أرجع إلی الإسلام، فقال: أما إنّک لو کذّبت الشهود لضربت عنقک وقد قبلت منک فلا تعد، فإنّک إن رجعت لم أقبل منک رجوعاً بعده»(3).

ص:29


1- (1) مستدرک الوسائل 163:18، ح 22396.
2- (2) الکافی 257:7، ح 8.
3- (3) المصدر نفسه، ح 9.

الظاهر من هذه الروایات وقوع مثل هذه الموارد فی زمن حکومة أمیر المؤمنین علیه السلام، وقد أجری الإمام علیه السلام الحد فی موارد عدیدة، ولا قرینة عندنا تدلّ علی أنّ صدور الأحکام فی مثل هذه القضایا هی قضایا خاصّة وخارجیة، أو ما اصطلح علیه أنّها قضیة فی واقعة، بل إنّ ظاهر هذه الروایات یدلّ علی کون أمیر المؤمنین علیه السلام فی مقام تطبیق الحکم الکلی علی المصداق.

وروی فی کتب أهل السنة أنّ النبی صلی الله علیه و آله أصدر حکماً بقتل جماعة ارتدّوا عن الإسلام، وقد أشرنا سابقاً إلی هذا فی هذه الرسالة، وراجع أیضاً التاج الجامع للأصول فی أحادیث الرسول(1).

ألا یمکن الاستنتاج بوضوح من مجموع هذه الطوائف أنّ المرتد محکوم بالقتل فی الإسلام؟ ثمّ ألا یمکن فهم مسألة وجوب قتل المرتد من الروایات الواردة فی تقسیم أمواله بین ورثته، واعتداد زوجته عدّة الوفاة بمجرد الارتداد؟

والظاهر أنّ من ینکر قتله ینکر هذه الأحکام أیضاً، یعنی: أوّلاً: أنّهم لا یعتبرون الإسلام سبباً لحفظ الدماء وحرمتها.

ثانیاً: إنکارهم بینونة زوجته.

ثالثاً: رفضهم تقسیم أمواله.

ص:30


1- (1) التاج الجامع للأصول 17:3-18.

رابعاً: اعتقادهم حلیة ذبیحته.

ویلزمهم أن ینکروا جمیع الأحکام الثابتة للمرتد فی الفقه، ولا یمکنهم أن ینکروا وجوب القتل فقط ویقبلون الباقی.

وفی رأینا لا یبقی مجال للشک - مع وجود هذه الطوائف المتعددة - فی أنّ وجوب قتل المرتد هو من الأحکام المسلّم بها والقطعیة فی الدین الإسلامی. وینبغی الالتفات إلی أنّ هذه الروایات لم تنقل عن أمیر المؤمنین علیه السلام وزمن حکومته فحسب أو خصوص زمن حکومة النبی صلی الله علیه و آله، لکی یحتمل أنّ وجوب قتل المرتد هو حکم سیاسی أو حکم مقید بزمن خاص، بل روی ذلک عن الأئمة المعصومین علیهم السلام کالإمام الباقر والصادق والکاظم والرضا علیهم السلام أیضاً.

ویکشف هذا الأمر عن أنّ حکم المرتد حکم دائمی ومستمر إلی یوم القیامة، وبیّنت هذه الروایات حکم المرتد علی نحو القضیة الحقیقیة والقاعدة الکلّیة.

أمّا الجواب عن التوهّم الثانی، وهو ما قیل: إنّ روایات قتل المرتد خبر واحد، ولا حجیة للخبر الواحد فی الأمور الخطیرة، فنقول:

أوّلاً: اتّضح أنّ روایات وجوب قتل المرتد هی فی حدّ التواتر المعنوی أو الإجمالی، وأنّها مفیدة للقطع.

ثانیاً: علی فرض کونها خبراً واحداً، فنقول فی الجواب: لا فرق فی

ص:31

حجیة الخبر الواحد بین الأمور الخطیرة وغیر الخطیرة، وهذا هو رأی کثیر من فحول وأعاظم الفقهاء والأصولیین، فقد عمل الفقهاء سواء المتقدّمین أو المتأخرین من أوّل الفقه إلی آخره بالخبر الواحد الوارد فی الدماء وغیر الدماء، الأموال وغیر الأموال، العبادات وغیرها، السیاسات وغیرها، وتشهد کتبهم الفقهیة بذلک. وقد بحثنا فی أبحاث خارج الأصول فی بحث حجیة الخبر الواحد هذا المورد بالتفصیل، وهو موجود علی موقعنا الإلکترونی(1).

ثالثاً: صرّح الشیخ الطوسی فی بحث وجوب قتل المرتد أنّ إجماع الأمّة الإسلامیة علی ذلک، یعنی: لیس إجماع الشیعة والسنّة وحدهم، بل إجماع الأمّة کلّها علی ذلک، وهذا التعبیر یجعل هذا الحکم فی مرتبة الحکم الضروری، إذن لیس مستند هذا الحکم هو الخبر فقط، بل یضمّ إلیه وجود مثل هذا الإجماع أیضاً.

رابعاً: ما هو ملاکنا فی الفصل بین الأمور الخطیرة عن غیر الخطیرة؟ فقد استدلّ بأخبار الآحاد فی مباحث الخمس والزکاة المتعلّقة بأموال الناس.

فهل أنّ تعیین تکلیف هذا الحجم الکبیر من الأموال لا یشمله عنوان الأمور الخطیرة؟! ففی باب الزکاة الذی هو أمر قرآنی مسلّم، لم تبیّن الشرائط والخصوصیات لدفع الزکاة فی أیّ آیة من القرآن، وأنّه فی أیّ الموارد یعطی العشر؟ وأیّها یعطی الواحد من عشرین؟ فقد ثبت ذلک وحده

ص:32


1- (1) دروس خارج الأصول للعام الدراسی 87-88، الدرس 77، بتاریخ 1387/1/16 ش.

بالخبر الواحد. ولم یثبت الذبح لملیونی حاجّ فی منی إلّا بالخبر الواحد «لاذبح إلّا فی منی»، ولم یعمل الفقهاء بالخبر الثقة بعنوانه، بل هناک شروط أخری مطروحة، کعمل الفقهاء وخاصّة المتقدّمین منهم، وکذا عدم وجود المعارض، وبناء علی هذا أیّ إشکال فی العمل بخبر الواحد الثقة فی الأمور المهمّة مع وجود مثل هذه الشروط؟! إذ مثل هذه الشروط متوفرة فی روایات قتل المرتد.

خامساً: ما تسمعوه فی الفقه من احتیاط الفقهاء فی مورد الدماء والفروج والأموال فقد أثبتنا فی محلّه أنّ کثیراً منهم لم یفتوا بوجوب الاحتیاط، بل أفتوا بشدّة الرجحان والاستحباب الشدید(1).

سادساً: إذا لم یدلّ خبر من الأخبار أو طوائف الروایات والآیات أو الإجماع بصورة مستقلة علی المدّعی، فلا شک أنّها بمجموعها توجب اطمئنان الفقیه بالحکم.

المحور الثالث: هل قتل المرتد إشاعة للفوضی ؟

استعرضت بعض البحوث والدراسات مسألة إشاعة الفوضی أو تشجیع المؤمنین علی نقض القوانین، وذکروا أنّ إثبات وتنفیذ أیّ حکم وخاصّة الأحکام التی تتعلّق بأرواح الناس إنّما هو مختص بالمحاکم الصالحة.

ص:33


1- (1) راجع التلقیح الصناعی للمؤلّف.

وهنا عدّة نقاط تخصّ هذا الموضوع، وهی:

النقطة الأولی: إذا ثبت وأحرز ارتداد شخص فی المحاکم الصالحة فهل یجوز قتله باعتقاد هؤلاء الکتّاب أم لا؟ الظاهر أنّ إشکال هؤلاء الأشخاص علی أصل الحکم، فحتّی لو ثبت الموضوع فی المحاکم الصالحة فهؤلاء لا یعتقدون بهذه العقوبات.

النقطة الثانیة: لایوجد فقیه أو مرجع تقلید یحتفظ لنفسه حقّ القول بمثل هذه النظریة قبل إحراز موضوع الارتداد بالنسبة لشخص معین، وإذا أصدر الإمام الخمینی رضوان الله علیه مثل هذا الحکم فی حقّ المرتد سلمان رشدی فقد کان بعد إحراز الموضوع عنده تماماً، وکذلک فتوی آیة الله العظمی الفاضل اللنکرانی قدس سره بالنسبة إلی «رافق تقی» کانت بعد أن ترجمت مطالب هذا الشخص کراراً، وصدرت هذه الفتوی بعد إحراز الموضوع، فهل أنّ الفقیه الجامع للشرائط مع الشرائط العدیدة المذکورة فی محلّها لا یمکنه إحراز الموضوع؟! ألیست فلسفة تشکیل المحاکم هو إحراز الموضوع؟! وهل أنّ المحکمة تشرّع حکماً وقانوناً أم أنّها تنفّذ وتطبّق القانون؟! وهل أنّ المراحل الثلاث البدویة الاستئناف والمحکمة العلیا لها خاصیة أخری غیر الإحراز الصحیح للموضوع؟!

النقطة الثالثة: السؤال الأصلی هو أنّه أیّ محکمة عندکم هی المحکمة الصالحة؟ هل لکونها لا تصدر أحکاماً تتطابق مع الشعارات الخدّاعة لحقوق الإنسان تکون غیر صالحة؟! وعلیه فینبغی أن تخدشوا فی أکثر الأحکام

ص:34

الإسلامیة الصادرة عن هذه المحاکم! أم أنّ المحاکم الصالحة هی المحاکم الکفوءة التی تعمل علی تطبیق القوانین الشرعیة المعتبرة علی المصادیق؟ یعنی: المحاکم التی تعمل و تطبّق القرارات والضوابط الشرعیة.

ومن الواضح أنّ تطبیق هذه الأحکام علی ید الفقیه تکون بنحو أحسن وأدق، فإنّ الفقیه یطبّق حکم الله بالنسبة لمورده ومصداقه بدقّة کاملة وبشکل صحیح، وهذا أحد شؤون الفقاهة. والقضاء منصب مهم لرسول الله صلی الله علیه و آله والأئمة الطاهرین علیهم السلام والفقهاء جامعی الشرائط بحیث یعتبر فیه توفّر شرط الاجتهاد، إذ لا یمکن لغیر المجتهد أن یتصدّی منصب القضاء فی الإسلام حسب الحکم الأولی.

النقطة الرابعة: هل أنّ نفس الحکم إشاعة للفوضی أم تنفیذه؟

وبعبارة أخری: هل أنّهم یشکلون علی الحکم أم علی کیفیة التنفیذ؟ ألیس وجوب قتل المرتد قانوناً إلهیاً؟ ألا یعدّ الاعتماد علی وثائق وموازین حقوق الإنسان الحالیة نقضاً حقیقیاً للقانون فیما لو استلزم نفیاً لحکم الله ومانعاً من تنفیذه؟ وهل نترک أحکام الله جانباً فی عصرنا الراهن فنتوجّه صوب الشعارات الظاهریة ومعطیات حقوق الإنسان؟ ألیس هذا هو أسوأ أسلوب فی نقض أهم وأقوی قانون، وأقبح أسلوب لإیجاد الهرج والمرج؟! وهل ترغیبنا للبشر علی تنفیذ أحکام دین الله صحیح أم ترغیبنا للمنشور العالمی لحقوق الإنسان؟! وهل أنّ المنشور العالمی لحقوق الإنسان الذی أهدی الحریة للمثلیین قادر علی ضمان سعادة البشریة؟! وعلی کلّ حال

ص:35

فعلی المستشکلین إمّا قبول الإسلام أو المنشور العالمی لحقوق الإنسان، والجمع بینهما مستحیل.

فإن قالوا: یجب علینا أن نفسّر الإسلام فی العصر الراهن بما یتطابق وهذا المنشور. قلنا: وهذا فی الحقیقة نفی للإسلام. والعجب مِن بعض مَن یقلق لنقض منشور حقوق الإنسان إلّا أنّ الغیرة الدینیة لیس فقط لاتغضبهم، بل تجعلهم یدافعون عن أشخاص هم أنفسهم یعترفون بأکاذیب هؤلاء!

یقول علی بن أبی طالب علیه السلام:

«وقد ترون عهود الله منقوضة فلا تغضبون! وأنتم لنقض ذمم آبائکم تأنفون! وکانت أمور الله علیکم ترد، وعنکم تصدر، وإلیکم ترجع، فمکّنتم الظلمة من منزلتکم، وألقیتم إلیهم أزمّتکم، وأسلمتم أمور الله فی أیدیهم، یعملون بالشبهات، ویسیرون فی الشهوات»(1).

هذا ما قاله أمیر المؤمنین علیه السلام فی بیان أسباب سقوط الأمّة الإسلامیة وانحطاطها، وانحراف أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله، والعارفین بالدین عن مسیر الحق، وفی الإشارة کفایة لأهله.

النقطة الخامسة: هناک ضوابط وشروط واضحة لتنفیذ الحدود حتّی بالنسبة للمنفّذ لها فی الإسلام، ولا ینبغی الغفلة عن أنّ المصلحة تقتضی أحیاناً أن یکون المنفّذ عموم الناس، یعنی: أنّ الناس کافة مکلّفون

ص:36


1- (1) نهج البلاغة، الخطبة: 106.

ومسؤولون عن تنفیذ حکم خاص، ففی مورد المرتد وسابّ النبی صلی الله علیه و آله خوطب کافة المسلمین بهذا التکلیف، وفلسفة هذا هو أن یعلم الجمیع القبح الشدید للمرتد عند الله، واستحقاقه هذا الحکم منه، لیکون عبرة للجمیع، وهناک نوع وقایة ودفاع مشروع عن کیان الإسلام فی حکم المرتد وسابّ النبی صلی الله علیه و آله، إذ لا یسمح الإسلام الذی أصوله وفروعه مطابقة مع العقل والمنطق أن ینکر شخص الدین وأحقیّة الدین بعد إحرازه، أو یستهین بأقدس المقدّسات وهو الوجود المبارک لرسول الله صلی الله علیه و آله.

ولیس المقصود فی مثل هذا الحکم جذب الآخرین إلی الإسلام لکی نقول: إنّ هذا الحکم مانع من إقبال الآخرین للإسلام، بل هو حصن حصین یحفظ کلّ المسلمین من التعرّض والإضرار بالدین بواسطة أنفسهم، وهذا الحکم یمنع الإنسان المسلم من تسریع الخروج عن الدین ویدعوه إلی التفکیر والتأمل فیه أکثر. ومن جهة أخری: الکفّار فی طول التاریخ استفادوا من حربة الارتداد لضرب الإسلام فسدّ الله تعالی هذا الطریق أمامهم إلی الأبد.

النقطة السادسة: قالوا: من لوازم صدور فتوی القتل وحکم إعدام المرتد وسابّ النبی صلی الله علیه و آله تشویه صورة الإسلام والتشیع والفقاهة بالعنف والقتل وعدم سعة الصدر... نعم، إذا أراد أحد تعریف الإسلام عن هذا الطریق فقط دون ذکر خصوصیات وشرائط هذا الحکم، وبعبارة أخری: لو طرح ظاهراً منه و أغفل سائر الجزئیات، فربما یکون له مثل هذا اللازم. وأمّا

ص:37

إذا قیل للبشریة: إنّ المنطق والعقل هما الحاکمان فی الإسلام، وإذا کان لشخص سؤال فی بعض الموارد، وخاصّة فی أوساط المسلمین، فعلی ضوء مدرسة أهل البیت علیهم السلام، هناک أشخاص وحجج منصبون من قبل الله تعالی یمکن مراجعتهم وأخذ الإجابة علی أسئلتهم، فإن لم یفعل ذلک وعاند فرأی نفسه فجأة من المعاندین وأظهر إنکاره بین الناس، فقد حددت له هکذا عقوبة.

والحقیقة أنّ الارتداد یعدّ نوعاً من الفوضی فی الدین، والذین یکتبون استناداً إلی الهرج والمرج لِمَ لا ینتبهون إلی هذه الحقیقة؟! لقد کان حکم لزوم قتل المرتد وسابّ النبی صلی الله علیه و آله فی صدر الإسلام إلی عصرنا الحاضر، ولم یکن فی أیّ زمان من الأزمنة سبباً لتشویه صورة الإسلام. نعم، منذ أن ادّعت البلدان المستعمرة حقوق الإنسان، وفی الواقع بدأت مخالفتها للإسلام، و صرخت بوجه هذا الحکم وقالت: ما هذا الحکم؟ انتهی هذا الاعتراض المرافق للأغراض والدواعی والتبلیغات السیّئة وغیر الصحیحة بالنسبة للدین إلی أن تکون أحکام الإسلام معارضة مع حکم العقل والحریة و الکرامة.

فلماذا نکون نحن المسلمین سذّج ونخدع بهذه العناوین ببساطة؟! فیوم یقولون بعدم انسجام أحکام الإسلام مع العقل، ویوم آخر یقولون بأنّ الإسلام یتعارض مع الحریة، ویوم ثالث یطرحون الکرامة الإنسانیة وعدم رعایتها.

ص:38

ومن الواضح أنّه لا ینبغی فی القضاوة جعل حکم جزئیٍ وذلک فی جانبه الظاهری ملاکاً للحسن والقبح، وبعبارة أخری: لیس من اللازم طرح مسألة الحسن والقبح فی متعلّق حکم خاص، بل یلزم الأخذ بالملاک فی المجموع وبالنسبة إلی النوع، فینبغی النظر إلی المجموع ثمّ الحکم والقضاوة.

فلماذا تحترمون إنکار وعناد شخص ذاق حقائق الدین ولمسها، وأقیمت له الآیات والبینات، ولکن ترون أنّ استحقاق عقوبته أسلوب عنیف وغیر منطقی؟!

وهل من أنکر الشمس فی رابعة النهار له قیمة عندکم؟! لماذا ترون الارتداد نوعاً من الفکر وتعدّون مخالفته ساحة لصراع الأفکار والرؤی؟! الارتداد إنکار للحقیقة غیر القابلة للإنکار.

ذکروا لزوم الدخول فی مجال الفکر بالمنطق والجدال بالتی هی أحسن والاستدلال القوی، هذا أمر صحیح، إلّا أنّ السؤال هنا هو لو أنکر شخص نفس هذا الأسلوب فکیف تواجهونه؟

ولو أنکر شخص الواضحات، وکان إنکاره هذا خطراً علی الآخرین، فما هو حکم العقل هنا؟

الإنسان المرتد مریض، ومرضه - یعنی: إنکاره عن هوی وحب للدنیا - موجب لسرایته إلی الآخرین ومجموع الدین، فلابدّ من معاقبة هکذا إنسان.

ص:39

وأشار المستشکلون إلی الآیة الشریفة: (ادْعُ إِلی سَبِیلِ رَبِّکَ بِالْحِکْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ...)1 ، فهل انصافاً تشمل هذه الآیة المرتد؟ وما هی نسبة هذه الآیة مع آیات الارتداد؟ ألم یلاحظوا قول الله تعالی فی آیات الارتداد: إنّ المرتد هو من لم تشمله الهدایة والغفران الإلهی؟ فمن واجهه الله بهذه الغلظة والشدّة أتشمله مثل هذه الآیة الشریفة؟! إنّ من الواضح أنّ هذه الآیة متعلّقة بمن لم یقع علی الصراط المستقیم الإلهی، فینبغی وضعه علی الصراط المستقیم، أمّا من کان فی طریق الله عزّوجل، وأراد مخالفته عن هوی وعناد فلا یکون مشمولاً لهذه الآیة الشریفة. فهل یمکن عدّ من ارتکب جریمة القتل مشمولاً للآیة الشریفة، والقول بلزوم العمل مع القاتل بأحد هذه الطرق الثلاثة؟! لکنّی لا أری عاقلاً یحتمل هذا المعنی، وهو أن یتعامل مع من سعی إلی قتل الناس وقتل منهم مجموعة کبیرة بالحکمة والموعظة الحسنة والجدال بالتی هی أحسن.

لقد أوضحنا سابقاً أنّ حکم المرتد لیس لجذب الآخرین إلی الإسلام، بل هو عقوبة متعلّقة بالمسلمین أنفسهم، وذلک لعدم سریان مؤامرات الکفّار إلی الآخرین.

لکن الأمر المهم هنا هو: أنّه لتعریف الإسلام ینبغی بیان جامعیة الدین فی کافّة الأبعاد، أی: ترویج العقل والعلم والأخلاق والتدخّل فی الشؤون

ص:40

الاجتماعیة والسیاسیة وتدبیر المجتمع، هذه هی طرق تعریف الدین الإسلامی، لماذا لا تبیّنوا عدم شمولیة مثل هذا الحکم - یعنی: وجوب القتل - فی مورد الکافر الأصلی الذی بقی من البدایة إلی النهایة علی کفره؟

المحور الرابع: هل هذا الحکم وهن للدین ؟

قالوا: إنّ صدور مثل هذه الفتوی سبب لوهن الدین، والسؤال هو: ما هو ملاک الوهن فی الدین؟ توجد هنا أربعة احتمالات ینبغی تحلیل کلّ منها علی حدة:

ألف: أن نقول: العمل الذی یرفضه عقلاء العالم فی کافّة الأزمنة والأمکنة ولا یقبلونه هو مصداق الوهن، فنقول فی هذا الفرض:

أوّلاً: العقلاء فی کلّ زمان ومکان لا یرتضون إهانة أحد بمقدّسات ملیار ونیف إنسان ویرونه مستحقاً للعقوبة، وکلّما کان المستهان به أو المنکر له أشدّ قداسة فاستحقاقه للعقوبة یکون أشد، وإذا کانت إهانته سبباً للانحراف أو استغلال العدو، وأراد تخریب أصل الدین أو إضعافه، یرون لزوم مواجهته بحزم وجدیة.

ثانیاً: لو فرض عدم استحقاق المرتد و سابّ النبی صلی الله علیه و آله للعقوبة فی نظر العقلاء، فنقول: لقد خطّأهم الشارع فی هذا المورد، واعتبر من أسلم ثمّ أراد الارتداد، أنّه یستحق العقاب الشدید، أمّا الکافر الأصلی الذی أراد البقاء علی کفره فلا یری استحقاقه للعقاب الدنیوی.

ص:41

وهذه القاعدة العامّة وهی أنّ للشارع أن یخطّئ العقلاء فی بعض الموارد أمر یعلمه کلّ مطلّع علی الفقه والأصول، ولا مخالف فی ذلک. نعم، لا یمکن للشارع أن یخطّئ حکم العقل أبداً، وهذا هو أحد موارد افتراق العقل والعقلاء، الذی بحث بصورة مفصّلة فی أبحاث خارج الأصول.

ب: أن یکون ملاک الوهن هو العمل الذی لا یطابق طبع الإنسان، مع کراهیته له، فنقول فی هذا الفرض: لا یکره طبع أیّ إنسان مجازاة المرتد و سابّ أشرف الکائنات وأطهرها، وهذا أمر واضح.

ج: أن نقول: إنّ معیار الوهن هو أیّ عمل أو قول لا یطابق رغبة غیر المتدینین، فتکون نتیجة هذا الفرض: أنّ أغلب أحکام الإسلام فی العبادات والعقوبات والمعاملات و السیاسات، بل بعض الأخلاقیات موهونة، وینبغی أن نعتقد بأنّ الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر تدخّل سافر فی شؤون الآخرین وباعث للوهن، و أیضاً بأنّ الجهاد والشهادة فی سبیل الله سبب للوهن.

د: ملاک الوهن کلّ عمل یفتقد التوجیه العقلی أو النقلی. ویبدو أنّ هذا الفرض هو المعنی الصحیح للوهن.

وقد أوضحنا فی هذا البحث التوجیه العقلی البیّن لحکم قتل المرتد وسابّ النبی صلی الله علیه و آله، والأدلة النقلیة أیضاً دالة علی ذلک. ومن الناحیة العقلیة فإنّ إنکار الخالق والمالک الذی کلّ وجود الإنسان منه موضوع لاستحقاق

ص:42

العقاب الدنیوی، و العقل یدرک أنّ الله تعالی یمکنه جعل هذا الحکم للإنسان الذی مخلوقه، وعلی فرض الجعل لا یری أیّ قبح فی ذلک.

وبعبارة أخری: السؤال الأصلی فی هذا البحث هو: هل یمکن من الناحیة العقلیة أن یجعل الله تعالی هذا الحکم؟

مال بعض منکری حکم الارتداد إلی القول بهذا المطلب، مع أنّنا لو سلّمنا بأنّ کافّة الملاکات فی الأحکام العقلیة ترجع إلی حسن العدل وقبح الظلم - وقد تأمّل الإمام الخمینی رضوان الله علیه فی بعض أبحاثه الأصولیة فی ذلک - ففی جعل حکم وجوب قتل المرتد أو سابّ النبی صلی الله علیه و آله لا یری العقل أیّ قبح أو ظلم، ویقبل بأنّ الله تعالی باعتباره المالک الحقیقی للبشر لو حکم بمثل هذا الحکم لم یکن ظلماً من جهته، وهو حکم صحیح، والعقل یدرک هذا فی مقام الثبوت، ویقبل أصل استحقاق العقاب فیما یخصّ مقام الإثبات، وبحسب الأدلة النقلیة قد بیّن الشارع نوع الحکم.

أمّا النکتة الهامّة فی عنوان الوهن الذی غفلوا عنه فهو أنّ هذا العنوان عنوان ثانوی کالحرج والاضطرار والتقیة وأمثال ذلک، وقد ثبت فی محلّه عدم اعتبار مثل هذه العناوین فی کافّة الموارد والمصادیق، ففی التقیة مثلاً لو کان فیها دم فلا اعتبار للتقیة حینئذ، «إذا بلغت الدم فلا تقیة».

وفی مورد الوهن لا موضوعیة لهذا العنوان فی بعض الموارد، فمثلاً فی الموارد التی تطرح الشدّة والغلظة مع الکفّار أو قتل المشرکین والکفّار لا یتفوّه فقیه بعدم وجوب قتل المشرکین إذا أدّی إلی وهن الدین، ویصدّق

ص:43

هذا المطلب جیّداً کلّ مطّلع علی الفقاهة، وکذلک الأمر فی المرتد، فلا أثر لهذا العنوان أبداً. نعم، فی مثل حدّ الرجم إن أوجب وهناً للدین، أمکن تعطیله بشکل مؤقت، أمّا الحکم الذی فی ذاته وماهیته فیه المواجهة الشدیدة مع الکفّار والمنحرفین، ویأبی الکفّار والمشرکون عنه، وهو موجب لتنفّرهم و ابتعادهم، لا یمکن تحدیده بهذا العنوان.

المحور الخامس: هل إقامة الحدود مشروط بحضور المعصوم علیه السلام ؟

قالوا: یری کثیر من فحول الفقهاء أنّ تنفیذ الحدود والجهاد الابتدائی إنّما هو مشروط بحضور النبی صلی الله علیه و آله أو الإمام علیه السلام.

وفی رأینا أنّ هذا المطلب بعید عن التحقیق والواقع، والحقیقة عکس ذلک، فالمشهور من القدماء کالشیخ المفید (المقنعة 810)، و سلّار (المراسم 260)، وأبی الصلاح الحلبی (الکافی 421)، وابن زهرة (غنیة النزوع 436)، وابن سعید (الجامع للشرائع 548)، والشیخ الطوسی صریحاً فی کتاب المبسوط وبتوجیه قلیل فی کتاب النهایة (النهایة 301)، وکذلک العلامة صریحاً فی التحریر ( 242/2) والقواعد ( 525/1) والإرشاد ( 352/1) والتبصرة ( 90) والمختلف ( 478/4)، والشهید الأوّل فی الدروس ( 47/2)، والمحقق الثانی فی حاشیة الشرائع، والشهید الثانی فی مسالک الإفهام، والفاضل المقداد فی التنقیح الرائع: هو الاعتقاد بمشروعیة ذلک، وجوازه فی زمن الغیبة.

نعم، قد تستفاد المخالفة من بعض عبارات ابن إدریس فی السرائر،

ص:44

وبعض الفقهاء کالصیمری فی غایة المرام، وابن فهد فی المهذّب البارع استفادا هذه المخالفة. ولکن أورد المرحوم السید محمّد باقر الشفتی فی رسالة إقامة الحدود فی زمن الغیبة (ص 144) أنّه یستفاد من عبارات آخر کتاب السرائر أنّ ابن إدریس کالمشهور من الموافقین، ومن عباراته فی آخر الکتاب لم یستفد الجواز فحسب، بل إصراره علی الموافقة أیضاً.

والسؤال المطروح هنا هو: بأیّ دلیل یدّعی أنّ کثیراً من الفحول اشترطوا فی تنفیذ الحدود الإمام المعصوم علیه السلام؟ المحقق الحلّی فی الشرائع والمختصر من جملة المتوقّفین لا المخالفین، وعدّ المرحوم المحقق الخوئی والمحقق السیّد أحمد الخوانساری (قدس سرّهما)، المحقق الحلّی وابن إدریس من جملة المتوقّفین فی هذا الحکم. فمن هؤلاء الفحول المدّعَون؟! قال صاحب الجواهر وهو محور الفقاهة: «لا أجد فیه خلافاً إلّا ما یحکی عن ظاهر ابنی زهرة وإدریس، ولم نتحققه، بل لعلّ المتحقق خلافه»(1).

المحور السادس: هل یتنافی وجوب قتل المرتد مع رحمة النبی صلی الله علیه و آله ورأفته ؟

قالوا: أیّ تناسب فی هکذا فتاوی مع موازین نبی الرحمة صلی الله علیه و آله؟

أوّلاًً: هذه التعابیر والعبارات بعیدة کلّ البعد عن شأن الاجتهاد وصناعة الاستدلال الفقهی، فهی أشبه ما تکون بالشعار، مَثَلُ هذه الکلمات

ص:45


1- (1) جواهر الکلام 394:21.

من قبیل أن نقول: إذا کان الله أرحم الراحمین فلماذا خلق جهنم، ویعذّب البعض یوم القیامة؟

وعلیه فینبغی إنکار کافّة الحدود الإلهیة فی زمن الحضور وزمن الغیبة.

ثانیاً: ورد فی التاریخ أنّ فی زمن النبی صلی الله علیه و آله قد أُجری حکم الارتداد - أی: القتل - علی بعض الأشخاص(1) ، فکیف یوجّهون هذا العمل مع رحمة النبی صلی الله علیه و آله؟ وکیف یفسّرون قول الله تعالی: (أَشِدّاءُ عَلَی الْکُفّارِ رُحَماءُ بَیْنَهُمْ)2 ؟ فهل یرون أنّ المرتد بعد الارتداد داخل فی المسلمین والمؤمنین؟ فمن الواضح أنّه لیس کذلک. ألیس فی ثقافة القرآن المرتد أسوأ من الکافر؟!

ثالثاً: إنّ قتل المرتد سبب للرحمة لنوع المسلمین، وعدم معاقبته سبب لخسران مجتمع المسلمین، ولماذا یطرحون الرحمة بالنسبة إلی شخص خاص وفرد معیّن بصورة مستقلة، مع غض النظر عن الآخرین وعن الدین نفسه؟ وبعبارة أخری: لم یفسّر هؤلاء نبی الرحمة تفسیراً صحیحاً، فرسول الله صلی الله علیه و آله رحمة للبشریة ونوع الناس، ولیس لکلّ فرد علی حدة.

ص:46


1- (1) راجع کتاب التاج الجامع للأصول فی أحادیث الرسول 18:3-19، و بعض المصادر التاریخیة الأخری.

تنبیهات:

الأوّل: عدم اختصاص حکم الارتداد بالإسلام، بل تعرّضت له سائر الأدیان أیضاً، یستفاد هذا المطلب من قوله تعالی: (وَ لَقَدْ أُوحِیَ إِلَیْکَ وَ إِلَی الَّذِینَ مِنْ قَبْلِکَ لَئِنْ أَشْرَکْتَ لَیَحْبَطَنَّ عَمَلُکَ)1 .

وتدل الآیة المبارکة 54 من سورة البقرة علی ذلک أیضاً، وعلی ضوء تصریح القرآن الکریم أنّ الارتداد فی قوم موسی علیه السلام کان یستتبع استحقاق القتل، لذا الأحکام الجزائیة للارتداد لاتختص بالدین الإسلامی، بل فی بعض الأدیان والمذاهب الأخری کالیهودیة والمسیحیة الذی یرجع عن دینه فهو کافر ومرتد وتجب مجازاته(1).

الثانی: یستفاد من مجموع الأدلة أنّ الارتداد الباطنی لیس موضوعاً لوجوب القتل إن لم یظهر. نعم، إن أظهر ارتداده، وأعلن عن إنکاره حکم علیه بالقتل.

الثالث: یستفاد من القرآن الکریم أنّ الأحکام الدنیویة والأخرویة للمرتد تکون فی حالة معرفة وعلم الشخص بالإسلام، ثمّ إنکاره(مِنْ بَعْدِ ما تَبَیَّنَ لَهُمُ)3 ، فالشاک فی الدین أو المنکر له بسبب الإعلام السیّ ء

ص:47


1- (2) راجع العهد القدیم، سفر التوریة، التثنیة، الفصل 13؛ والعهد الجدید، رسالة إلی المسیحیین الیهود من أصل عبری، المادة 10، الجملة 26-32.

وتحریک الآخرین مستثنی من هذا الحکم. طبعاً فی هذه الموارد لبعض الفقهاء تأمّل ینبغی دراسته مفصّلاً فی محلّه، قال المرحوم آیة الله العظمی الفاضل اللنکرانی قدس سره فی جواب استفتاء: لا یمکن تنفیذ حکم المرتد علی من بلغ وصدق علیه عنوان الشاک فی الإسلام، بل ینبغی إمهالهم.

الرابع: هل لتوبة المرتد أثر فی رفع الآثار الدنیویة له أم لا؟ بحث مفصّل مذکور فی کتب الفقه والتفسیر.

إنّ فرضنا فی هذه الرسالة هو إذا ارتدّ شخص ولم یتب عن ارتداده فهو یستحق القتل، یعنی: عرضنا البحث فی القدر المتیقن.

الخامس: لزوم قتل المرتد من الناحیة الفقهیة والأولیّة لایحتاج إلی فتوی وحکم من مرجع التقلید، فلو تلاقی مسلم مع مرتد أمکن للمسلم إجراء هذا الحکم بالنظر الأولی الشرعی. روی عن عمار الساباطی أنّه قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام یقول: «فإنّ دمه مباح لمن سمع ذلک»(1). نعم، الاحتیاط یقتضی أن یکون بنظر المجتهد الجامع للشرائط.

السادس: ینبغی الانتباه إلی هذا الأمر وهو: ما الفرق بین المرتد ومن بقی علی کفره الأصلی؟ ولماذا لم تذکر للکافر المستمر فی کفره عقوبة القتل فی الإسلام؟ السر فی هذا المطلب یکمن فی أنّ من ارتدی ثوب الإسلام، ووضع نفسه فی دائرة المسلمین، فمع إظهار ارتداده یکون قد

ص:48


1- (1) الکافی 174:6، ح 1.

أعلن حربه علی الإسلام، ومن الطبیعی هنا مواجهته بشدّة، علی خلاف الکافر المستمر فی الکفر.

السابع: لأجل الخدشة فی وجوب قتل المرتد ورد فی بعض الکلمات: أنّ العلماء اختلفوا فی تعریف ضروری الدین.

فنقول فی الجواب: أوّلاً: ضروری الدین هو کلّ ما یکون محلّ وفاق بین الشیعة والسنّة، دون حاجة إلی الاستدلال حتّی الإجماع علی صحة ذلک.

ثانیاً: علی فرض الاختلاف فی معنی الضروری، إلّا أنّ هناک موردین قد بُیّنا فی الروایات بوضوح فی موضوع المرتد، وهما:

ألف: الخروج عن الإسلام، وإنکار نبوّة النبی صلی الله علیه و آله.

ب: تکذیب المعاد، ورد فی بعض الروایات أنّه جیء بزندیق إلی أمیر المؤمنین علیه السلام قد کذّب القیامة، فأمر علیه السلام بقتله.

إنّ إنکار نبوّة النبی صلی الله علیه و آله وکذا المعاد من أسباب الارتداد، فینبغی علیهم أن یقبلوا - علی الأقل - فی هذه الموارد حکم المرتد.

وبعبارة أخری: لیس لعنوان الضروری موضوعیة بنفسه، بل هو طریق للوصول إلی المصادیق، فلو أحرزت بعض المصادیق من خلال الروایات، فلا شک حینئذ فی لزوم تنفیذ حکم القتل فی ذلک المورد، سواء صدق عنوان الضروری علی هذه المصادیق أم لم یصدق.

الثامن: یظهر من بعض الشبهات أنّ هناک انتقاداً للأسلوب الاجتهادی

ص:49

الشائع فی الحوزات العلمیة، وینبغی بناءً علی بعض مبانی معرفة الإنسان والنظرة الکونیة وعلم تفسیر المتون أن یؤسس لطریقة جدیدة فی الاجتهاد. هل هذا الادّعاء صحیح أم لا؟ یتطلّب مجالاً مستقلاً و بحثاً آخر.

إنّ ما تعرّضنا لبیانه فی هذه الرسالة کان علی طبق الأسلوب الاجتهادی المألوف للفقهاء منذ ألف عام، وعلی ضوئه لا إشکال فی حکم وجوب قتل المرتد، وأنّ هذا الحکم لیس مؤقتاً، ولا سیاسیاً محضاً، وإن صحّ أن تکون فیه هذه الحیثیة أیضاً. والأسلوب المقترح من قبل البعض مستلزم لتغییر کثیر من أحکام الدین، ولیس نتیجته سوی اضمحلال الدین، واللجوء إلی القوانین المشرّعة من قِبل البشر، وبعبارة أخری: یستتبع ذلک اندراس تراث أهل البیت وفقه الأئمة الطاهرین علیهم السلام.

التاسع: وفی الخاتمة نری أنّ هذا البحث مفتوح، فإذا رأی الفقیه الجامع للشرائط المصلحة فی تأخیر تنفیذ حکم الله تعالی فی المرتد أو عدم تنفیذه أو کان فی موارد لهذا العنوان مصادیق کثیرة - فلو کان أُجری مثل هذا الحکم منذ البدایة لما تحقق هذا الفرض - فهل له أن یأمر بوقف تنفیذ هذا الحکم أم لا؟ ورد فی بعض روایات تنفیذ الحدود عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه: «لا یبطل حدّاً من حدود الله عزّوجل»(1) ، وعلی کلّ حال یحتاج هذا البحث إلی تأمّل ودقة أکثر.

ص:50


1- (1) الکافی 176:7، ح 13.

وأغتنم هذه الفرصة و أعلن بأنّ المرکز الفقهی للأئمة الأطهار علیهم السلام الذی هو مرکز تخصصی فی المسائل الفقهیة مستعد للبحث والمناظرة فی هذا الموضوع، وبإمکان الباحثین فی المجال الدینی والفقهی، الراغبین فی المشارکة بعیداً عن الضجیج السیاسی والتمایلات الغربیة، متابعة هذا الموضوع من خلال هذا الطریق.

وما ورد فی هذه الرسالة کان بحثاً موجزاً فی الدفاع عن حکم المرتد، ومن الواضح أنّ بحثه التفصیلی بحاجة إلی مجال أوسع.

وفّق الله الجمیع لفهم الحقیقة والعمل بها، وفهم الدین والعمل به إن شاء الله.

ص:51

ص:52

فهرس مصادر

مقال حکم قتل المرتد (شبهات وردود)

1 - التاج الجامع للأصول، منصور بن علی ناصف (ت بعد 1371).

2 - تفسیر روح المعانی، محمود بن عبد الله الآلوسی (ت 1270).

3 - التفسیر الکبیر، فخر الدین الرازی (ت 606)، الطبعة الثالثة.

4 - تفسیر کنز الدقائق وبحر الغرائب، محمّد بن محمّد رضا القمی المشهدی من أعلام القرن الثانی عشر، تحقیق: حسین درگاهی، الناشر: مؤسسة الطبع والنشر وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامی، الطبعة الأولی 1367 ش.

5 - التنقیح فی شرح العروة الوثقی (ضمن موسوعة السید الخوئی) (ت 1413)، تقریر: الشیخ علی الغروی، الناشر: مؤسسة إحیاء آثار الإمام الخوئی، الطبعة الثانیة 1426 ه -.

6 - جواهر الکلام فی شرح شرائع الإسلام، الشیخ محمّد حسن النجفی (ت 1266)، تحقیق و تعلیق: عباس القوچانی، الناشر: دار الکتب الإسلامیة - طهران، الطبعة الثالثة 1362 ش.

ص:53

7 - الدر المنثور فی التفسیر بالمأثور، جلال الدین عبد الرحمن ابن أبی بکر السیوطی ( ت 911)، الناشر: دارالمعرفة - بیروت.

8 - دعائم الإسلام وذکر الحلال والحرام والقضایا والأحکام عن أهل البیت علیهم السلام، النعمان بن محمّد المغربی ( ت 363)، تحقیق: آصف بن علی أصغر فیضی، الناشر: دار المعارف - القاهرة، سنة الطبع 1383 ه -.

9 - سنن أبی داود، سلیمان بن الأشعث السجستانی (ت 275)، تحقیق و تعلیق: سعید محمّد اللحام، الناشر: دار الفکر، الطبعة الأولی 1410 ه -.

10 - عوالی اللئالی العزیزیة فی الأحادیث الدینیة، ابن أبی جمهور الأحسائی (ت 880)، تحقیق: مجتبی العراقی، الطبعة الأولی 1403 ه -، قم.

11 - الکافی، محمد بن یعقوب الکلینی (ت 328)، تصحیح و تعلیق: علی أکبر الغفاری، الناشر: دار الکتب الإسلامیة - طهران، الطبعة الخامسة 1363 ش.

12 - المبسوط، شمس الدین السرخسی (ت 483)، الناشر: دار المعرفة - بیروت، سنة الطبع 1406 ه -.

13 - المبسوط فی فقه الإمامیة، محمّد بن الحسن الطوسی ( ت 460)،

ص:54

تصحیح و تعلیق: محمد باقر البهبودی، الناشر: المکتبة المرتضویة لإحیاء آثار الجعفریة، سنة الطبع 1351 ش.

14 - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، علی بن أبی بکر الهیثمی ( ت 807)، الناشر: دار الکتب العلمیة - بیروت، سنة الطبع 1408 ه -.

15 - مسالک الإفهام إلی تنقیح شرائع الإسلام، الشهید الثانی زین الدین بن علی العاملی (ت 965)، تحقیق و نشر: مؤسسة المعارف الإسلامیة - قم، الطبعة الأولی 1413 ه -.

16 - مستدرک الوسائل ومستنبط المسائل، میرزا حسین النوری الطبرسی (ت 1320)، تحقیق و نشر: مؤسسة آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث - بیروت، الطبعة الأولی 1408 ه -.

17 - نهج البلاغة، وهو مجموع ما اختاره الشریف الرضی من کلام أمیر المؤمنین علی علیه السلام، تحقیق: صبحی الصالح، الطبعة الأولی 1387 ه -، بیروت.

ص:55

ص:56

القسم الثانی: إقامة الحدود والتعزیرات

اشارة

ص:57

ص:58

هل یجوز إقامة الحدّ علی المذنب فی الدول غیر الإسلامیة ؟

اشارة

بقلم: الشیخ لؤی المنصوری

البحث فی مسألة ما لو ارتکب شخص ذنباً موجباً للحد فی أرض غیر إسلامیة وفی الروایات یعبّر عنها بأرض العدو فهل یقام علیه الحد أو یؤخّر إلی حین دخوله أرض المسلمین التی تجری فیها أحکام الشریعة؟

والبحث یقع فی نقطتین:

النقطة الأولی: هل ارتکاب الذنب فی أرض غیر إسلامیة موجب للحد؟

النقطة الثانیة: هل للحاکم إقامة الحد علی من ارتکب ذنباً فی أرض غیر إسلامیة أو یؤخّره إلی حین رجوعه للأرض الإسلامیة؟

أمّا النقطة الأولی فلم تتعرّض لها الأخبار وکلمات الفقهاء إلّا ضمناً کما سنلاحظ عند بحث النقطة الثانیة والسبب فی ذلک وضوح الأمر وأنّ المدار فی الذنب فعل الإنسان لا الأرض التی یرتکب الذنب فیها وبما أنّه ارتکب ذنباً موجباً للحد فیثبت فی حقّه وإن تأخّر العقاب لما بعد کما سیأتی.

ص:59

أضف إلی أنّ خبر أبی مریم وغیاث بن إبراهیم الآتیین یتضمّنان ثبوت الحد علی من ارتکبه فی أرض العدو، أی: الأرض غیر الإسلامیة. فالبحث کلّه منصبّ فی النقطة الثانیة.

النقطة الثانیة: ورد فی الأخبار أنّ الحد لا یقام علی مرتکبه فی أرض العدو سواء ارتکبه هنالک ابتداءً أم ارتکبه فی أرض الإسلام ومن ثمّ ذهب إلی هناک، ففی الخبر: «علی بن إبراهیم، عن أبیه، عن ابن فضال، عن یونس بن یعقوب، عن أبی مریم عن أبی جعفر علیه السلام قال: قال أمیر المؤمنین علیه السلام:

لا یقام علی أحد حد بأرض العدو».(1)

والروایة صحیحة السند لوثاقة رجالها وأبو مریم هو عبد الغفار بن القاسم الأنصاری.

وفی الخبر الآخر: «الحسین بن سعید، عن محمّد بن یحیی، عن غیاث بن إبراهیم، عن جعفر، عن أبیه، عن علی علیه السلام أنّه قال: لا أقیم علی رجل حداً بأرض العدو حتّی یخرج منها، مخافة أن تحمله الحمیة فیلحق بالعدو».(2)

ص:60


1- (1) الکافی 218:7، باب الأوقات التی یحد فیها من وجب علیه الحد.
2- (2) تهذیب الأحکام 40:10. وللروایة طریقان آخران ذکرهما الحر العاملی فقال: ورواه الصدوق فی (العلل) عن أبیه، عن سعد، عن أحمد بن محمّد، عن محمّد بن یحیی مثله. وباسناده عن محمّد بن الحسن الصفار، عن الحسن بن موسی الخشاب، عن غیاث بن إبراهیم، عن إسحاق بن عمار، عن جعفر، عن أبیه، عن علی علیهم السلام فی حدیث مثله. وسائل الشیعة 25:28.

والروایة معتبرة سنداً لوثاقة رواتها.

والخبر الأوّل مطلق لم یحدّد سبب النهی عن إقامة الحد، خلافاً للخبر الثانی فقد علل السبب وأنّه مخافة الالتحاق بأرض العدو فیما لو أُقیم علیه وهو بینهم.

آراء الفقهاء فی المسألة:

اختلفت الأقوال فی مسألة من ارتکب ذنباً موجباً للحد فی أرض غیر المسلمین، حیث ذهب جملة من الفقهاء إلی ثبوت الحکم وتأخیر إقامة الحد إلی حین الرجوع إلی أرض المسلمین، وذهب آخرون إلی وجوب إقامة الحد وعدم التوانی فیه؛ إذ لا نظر فی الحدود، ففی المسألة قولان:

القول الأوّل: وهو ما ذهب إلیه مشهور الفقهاء من عدم إقامة الحد فی الأرض غیر الإسلامیة، وإنّما یؤخّر إلی حین دخوله فیها تبعاً للنصوص المتقدّمة، قال الشیخ الطوسی: «من فعل ما یجب علیه به الحد فی أرض العدو من المسلمین، وجب علیه الحد، إلّا أنّه لا یقام علیه الحد فی أرض العدو، بل یؤخّر إلی أن یرجع إلی دار الإسلام.. دلیلنا علی وجوب الحد قوله تعالی: (الزّانِیَةُ وَ الزّانِی فَاجْلِدُوا کُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) ولم یفصّل، وقوله تعالی: (وَ السّارِقُ وَ السّارِقَةُ) ، وإنمّا أخّرناها لإجماع الفرقة علی ذلک».(1)

ص:61


1- (1) الخلاف 523:5.

وقال الفاضل الهندی: «.. (ولا) ینبغی کما فی المنتهی والتذکرة أن یقام حد (فی أرض العدو) کما نصّ أمیر المؤمنین علیه السلام فی خبر أبی مریم عن أبی جعفر علیه السلام (لئلاّ تلحقه غیرة وحمیّة فیلحق بهم) کما نصّ علیه فی خبر غیاث بن إبراهیم عن أبی عبد الله علیه السلام قال: قال أمیر المؤمنین علیه السلام:

لا أُقیم علی أحد حدّاً بأرض العدو حتّی یخرج منها؛ لئلاّ تلحقه الحمیّة فیلحق بالعدوّ».(1)

وفی الجواهر: «.. (ولا) یقام أیضاً (فی أرض العدو مخافة الالتحاق) کما نصّ علیه أمیر المؤمنین علیه السلام فی خبر أبی جعفر علیه السلام.

وقال الصادق علیه السلام فی خبر إسحاق: «لا تقام الحدود بأرض العدو؛ مخافة أن تحمله الحمیة فیلحق العدو»، ولا ریب فی کون ذلک فی حد الجلد»(2). ونصّ علی الحکم کثیر من العلماء کالشیخ المفید(3) والدیلمی(4) والقاضی ابن البراج(5) والطبرسی(6) وابن حمزة الطوسی(7) وابن إدریس(8)

ص:62


1- (1) کشف اللثام 465:10:
2- (2) جواهر الکلام 344:41.
3- (3) المقنعة: 781.
4- (4) المراسم العلویة: 255.
5- (5) المهذّب 529:2.
6- (6) المؤتلف من المختلف بین أئمة السلف 434:2.
7- (7) الوسیلة: 412.
8- (8) السرائر 457:3.

والمحقق الحلی(1) والصیمری(2) والعلامة الحلی(3) فی بعض کتبه والسید الخوانساری(4) والحر العاملی(5) والطباطبائی(6) والشریف الکاشانی(7) والسید الخوئی(8) والسید الکلبایکانی(9) وغیرهم.

والسبب فی ذلک کما صرّحت فیه الروایة من الحیلولة دون ذهابه إلیهم والتحاقه بدینهم، قال الشیخ التبریزی: «ظاهر کلام الماتن قدس سره لزوم الترک، وفی کلام جماعة یکره إقامة الحد فی أرض العدو، ولا یبعد التعیّن فیما احتمل التحاقه بالعدو، فإنّ الغرض من إقامة الحد تأدیبه ومنعه عن المنکر، وإقامته علیه فی أرض العدو فیما أوجب التحاقه بهم یوجب نقض الغرض».(10)

ص:63


1- (1) شرائع الإسلام 938:4.
2- (2) تلخیص الخلاف 274:3.
3- (3) تحریر الأحکام 193:2.
4- (4) جامع المدارک 42:7.
5- (5) هدایة الأمة إلی أحکام الأئمة 448:8.
6- (6) ریاض المسائل 502:15.
7- (7) تسهیل المسالک إلی المدارک: 16.
8- (8) القضاء والشهادات 217:2.
9- (9) الدر المنضود فی أحکام الحدود 389:1.
10- (10) تنقیح مبانی الأحکام (الحدود والتعزیرات): 124.

وأصحاب هذا الرأی اختلفوا فی مسألتین:

الأولی: فی تحدید معنی الجملة الواردة فی آخر الروایة: «مخافة أن تحمله الحمیة فیلحق بالعدو» وکیفیة تفسیرها؟

الثانیة: هل الحکم عام لکلّ الحدود أو مختص بغیر حد القصاص باعتبار انتفاء الموضوع بالقتل؟

أما النقطة الأولی فقد اختلفوا فیها، فبعضهم حملها علی أنّها علّة فی الحکم، فمع انتفائها یقام الحد فی أرض غیر إسلامیة وهو ما ذهب إلیه المحقق فی الشرائع فقال: « ولا فی أرض العدو مخافة الالتحاق»،(1) والسید الخوئی إذ قال: « وأمّا إذا لم یخف علیه ذلک فلا بأس من حدّه»،(2) وهو ظاهر کلّ من قیّد الحکم بخوف الالتحاق بالعدو.

إلاّ أنّ صاحب الجامع ناقش أمر التعلیل فقال: « وقد یقال: إطلاق المعتبرة الأولی یقید بالثانیة، والأظهر أن یکون ما ذکر من باب الحکمة من جهة أنّ المطلق لابدّ من بقاء الغالب فیه بعد التقیید لا الأقل ولا المساوی».(3)

وقد شرح السید الکلبایکانی العبارة المتقدّمة فقال: « وظاهر هذا التعلیل هو الإطلاق، فیفید أنّه لا یقام علیه الحد فی أرض الکفّار؛ لأنّ هذا

ص:64


1- (1) شرائع الإسلام 938:4.
2- (2) القضاء والشهادات 217:2.
3- (3) جامع المدارک 44:7.

الخوف حاصل لا أنّه لا یقام علیه إذا خیف علیه ذلک، ولذا قال بعض الأعاظم قدس سره: والأظهر أن یکون ما ذکر من باب الحکمة من جهة أنّ المطلق لابدّ فیه من بقاء الغالب فیه بعد التقیید لا الأقل ولا المساوی.

ومراده رحمه الله: أنّه لابدّ فی التقیید أن لا یخرج الأکثر حتّی لا یکون من باب تخصیص الأکثر.

أقول: الظاهر أنّه وإن لم یکن الالتحاق بنفسه محققاً إلّا أنّ خوف الالتحاق محقق نوعاً لهذا هو النجاشی الشاعر المخصوص لأمیر المؤمنین علیه السلام فقد شرب الخمر فی شهر رمضان، فضربه علیه السلام ثمانین، ثمّ حبسه لیلة، ثمّ دعا به من الغد فضربه عشرین لتجرّئه علی شرب الخمر فی شهر رمضان، وصار هذا سبباً لفراره وإقباله علی معاویة والالتحاق به، وعلی هذا فهذا الخوف محقق نوعاً، فیکون القید من القیود الواردة مورد الغالب وهو لا یقید الدلیل العام أو المطلق، وعلی هذا فیؤخّر الحد وإن لم یکن فی مورد خوف أصلاً».(1)

فالقید لیس وارداً علی الموضوع کی یقال بتقیید الروایة الأولی بالثانیة وإنّما وارد لبیان طبیعة الحکم، وأنّ من یقام علیه الحد فی أرض العدو عادة ما یؤدّی إلی التجائه إلیهم والالتحاق بهم وهو وإن تخلّف فی بعض الأفراد لکن فی الغالب یکون کذلک فلذلک لا یکون قیداً منوّعاً ولا علّة ینتفی

ص:65


1- (1) الدر المنضود فی أحکام الحدود 390:1.

الحکم بانتفائها بل الحکم جار فی کلّ الحالات.

ویبقی معرفة ما إذا کان القید منوّعاً أو وارداً مورد الغالب إلی استظهار عرفی یساعد علیه وهو ما سنذکره فی الأمر اللاحق.

هل قید الالتحاق منوّع أو وارد مورد الأغلب؟

قلنا: ذهب الأغلب إلی أنّ قید ( مخافة الالتحاق بالعدو) منوّع فعند الاطمئنان بعدم الالتحاق یجب إقامة الحد؛ لعدم جواز التوانی فیها بل یجب إقامتها علی الفور بخلاف البعض الآخر حیث ذهب إلی أنّ القید لیس منوّعاً وإنّما ورد مورد الغالب؛ لأنّ طبع الإنسان الهرب من العقوبة والوقوع فی المشقة والحد مشتمل علیه فإذا ما أقیم علیه حاول التخلص منه بشتّی الطرق، ولا أقل یکون حافزاً لفراره خارج دائرة الالتزام وهذا هو المقصود من الالتحاق، فالنجاشی حینما شرب الخمر مع سمعان بن هبیرة أبو سمال فی شهر رمضان، وضرب الحد وعقوبة هتک حرمة الشهر الکریم، التحق بمعاویة لعنه الله وأنشد شعراً فی ذمّ الإمام علیه السلام(1) مع أنّه کان شاعر الإمام

ص:66


1- (1) الکافی 216:7. والقصة ذکرها المترجمون للصحابی المعمّر سمعان بن هبیرة بن مساحق، قال ابن حجر: سمعان بن هبیرة بن مساحق بن بجیر بن أسامة بن نصر بن قعین بن الحارث بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزیمة الأسدی أبو السمال.. عاش مئة وسبعاً وستین سنة.. وقال المرزبانی فی معجمه: هو الذی شرب فی رمضان مع النجاشی الحارثی، فأقام الحد علی النجاشی، وهرب أبو السمال، وأنشد له فی ذلک شعراً قاله الإصابة 217:3. وترجم فی الإصابة 387:6 للنجاشی فقال: النجاشی الشاعر الحارثی اسمه قیس بن عمرو بن مالک بن معاویة بن خدیج بن حماس بن ربیعة بن کعب بن الحارث بن

فی صفین یرد علیهم بشعره.

فهل القید منوّع أو أنّه ورد لبیان الحالة الغالبة؟

کلا الاحتمالین له وجه إلّا أنّ حمله علی الغالب فیه مؤونة من الوضوح لدی المتلقّی أو الانصراف الخارجی، والمفروض أنّ المقام خال منها وما ذکر فیما تقدّم لا یمکنه أن یکون صارفاً للقید نحو الأغلب؛ وإنّما هی تتحدّث عن طبیعة الحد وهذا ما لا ینکر إذ إنّ الحد بطبعه مما یفر الإنسان منه ویحاول التخلّص والأفلات لکنه لا یلازم الخروج من الدین والفرار إلی أرض غیر المسلمین وإن وجد فی نفسه حزازة وامتعاض.

ص:67

وفرار النجاشی من معسکر الإمام علی علیه السلام لا ربط له بمورد البحث لحمل القید علی الغالب؛ لأنّ الحد أقیم علیه فی الکوفة وهی لیست أرضاً للعدو، بل هی عاصمة الخلافة الإسلامیة فالاستشهاد به خروج عمّا نحن فیه اللهم إلّا أن یقال بأنّ عنوان أرض العدو یشمل الأرض القریبة من أرضهم وهو کما تری، وعدم إقامة الحد علیه فیه مفسدة کبیرة تضع الإمام علیه السلام تحت طائلة التساؤل من التهاون فی الحدود ومحاباة أصحابه فیها وأهل الشام یتربّصون بالإمام کلّ حرکة وفعل للتشنیع وتشویه صورته أمام الرأی العام وإیراد الشکوک علیه بأنّه مداهن فی دم عثمان وإقامة الحد علی قاتلیه.

مضافاً إلی أنّ بعض المذنبین هم الذین یطلبون من الإمام إقامة الحد علیهم من أجل التطهیر، کالذی سرق وطلب من الإمام إقامة الحد علیه(1) ، وآخران زنیا وطلبا من الإمام تطهیرهما(2) ، وهذا یرجّح کون القید منوّعاً ولیس وارداً مورد الغالب لاختلاف الأشخاص فی تقبّلهم لتحمّل جریرة ذنبهم.

فما ذهب إلیه السید الخوانساری ورجّحه السید الکلبایکانی محلّ تأمّل، والصحیح أنّ القید منوّع ففی صورة الأمن من الفرار إلی العدو یقام الحد.

القول الثانی: وذهب جملة من الفقهاء إلی الحکم بالکراهة لعدم

ص:68


1- (1) مناقب آل أبی طالب 2.
2- (2) وسائل الشیعة 104:28، باب 16 من أبواب حدّ الزنا فی ثبوت الزنا بالإقرار أربع مرات لا أقل منها.

صحة الأخبار واستشعار التعلیل والالتزام بوجوب إقامة الحد وإن کان فی أرض غیر إسلامیة، قال الشهید الثانی: « الثانیة: یکره إقامة الحد فی أرض العدو وهم الکفّار؛ مخافة أن تحمل المحدود الحمیة فیلتحق بهم، روی ذلک إسحاق بن عمار عن الصادق علیه السلام:

«أنّ علیاً علیه السلام کان یقول: لا تقام الحدود بأرض العدو؛ مخافة أن تحمله الحمیة فیلتحق بأرض العدو». والعلّة مخصوصة بحد لا یوجب القتل».(1) واختاره المحقق الأردبیلی(2) وغیره.

وبیّن سیّد الریاض سبب حکمهم بقوله: « وظاهر العبارة ونحوها من عبائر الجماعة کون النهی هنا للحرمة، وصریح المسالک کونه للکراهة، کما یحکی عن ظاهر المنتهی والتذکرة؛ ولعلَّه لعدم صحّة الروایة، وإشعار التعلیل فیها بالکراهة».(3)

والتعلیل غیر صحیح بعد صحة الأخبار، وظاهر النهی الحرمة، ومعه لا معنی لحمله علی الکراهة فهذا القول لا یصح، والقول الأوّل هو الصحیح.

هل یخصّص الحد بغیر القتل؟

ذهب جملة من الفقهاء تبعاً للتعلیل الوارد فی الخبر إلی تخصیصه بغیر حد القتل، فإذا ما کان حدّاً لقتل فیقام علی الجانی وإن کان فی أرض

ص:69


1- (1) مسالک الإفهام 381:14.
2- (2) مجمع الفائدة والبرهان فی شرح إرشاد الأذهان 80:13.
3- (3) ریاض المسائل 502:15.

العدو، وهذا ما ذکره الشهید الثانی فی عبارته المتقدّمة والعلامة الحلی(1) وصاحب الجواهر(2) والسید الکلبایکانی(3) والسید الروحانی(4) وغیرهم، بینما ذهب آخرون إلی ثبوت الحکم فی مطلق الحد.

والصحیح أنّه مختص بالحدود غیر الموجبة للفوت، والتی یبقی المحدود حیاً بعد إقامتها؛ لوضوح التعلیل فی قوله: «مخافة أن تحمله الحمیة فیلحق العدو» بعد عدم تصورّها فی الحدود الموجبة للفوت کالقصاص.

ومنه یتّضح ما فی کلام البعض من قوله: « فإنّ الظاهر من حکایة قول أمیر المؤمنین علیه السلام أنّها لبیان الحکم وأنّ من شرائط الإقامة أن لا تکون فی أرض العدو. وکیف کان فلا إشکال فی المسألة.

ثمّ إنّ ظاهر المتن وإن کان الاختصاص بحدّ الجلد إلّا أنّ إطلاق الموثّقة الأولی التعمیم لحدّ القتل والرجم أیضاً، واختصاص الخبرین الآخرین بغیر القتل بقرینة التعلیل لا یوجب تخصیص إطلاقها، کما لا یخفی».(5)

فیه ما لا یخفی؛ لوضوح أنّ ظاهر الخبر التعلیل لا الشرط ولا یوجد

ص:70


1- (1) تحریر الأحکام 194:2.
2- (2) جواهر الکلام 344:41.
3- (3) تقریرات الحدود والتعزیرات 144:1.
4- (4) فقه الصادق 431:25.
5- (5) مبانی تحریر الوسیلة 258:2.

فی المقام إطلاق لحمل الأخبار علیه، وإنّما هی روایة واحدة نقلت تامّة مرّة وناقصة فی الأخری، وبعد تسلیم الإطلاق لا معنی للقول بالشمول لحد القتل والرجم مع التعلیل المتقدّم فلاحظ.

حکم المقیم فی الأرض غیر الإسلامیة:

والکلام المتقدّم کان فی غیر المقیم فی الدولة غیر الإسلامیة، وأمّا المقیمین فیها فهل یشملهم الحکم بحیث لا یقام علیه الحد إلی حین دخوله الأرض الإسلامیة أو یقام الحد علیه؟ بعد الفراغ عن جواز إقامته فیها.

بمراجعة الأخبار المتقدّمة والتعلیل الوارد فیها «مخافة أن تحمله الحمیة فیلحق العدو» نلاحظ أنّها تتحدّث عمّن یکون الحد وازعاً لأن یلتحق بالکفّار والخارجین عن قانون الدولة الإسلامیة، ومن یقیم عندهم ویرتکب ذنباً موجباً للحد لا یجری فی حقّه التعلیل المتقدّم، فإذا ما فرض أنّ الحاکم - سواء الإمام المعصوم أو نائبه الخاص والعام - له القدرة علی إقامته - والحدود لا یجوز تعطیلها وإبطالها - فعلیه أن یقیمه ولا یتوانی فی تأخیره.

وقد یقال: إنّ الأخبار نهت عن إقامة الحد فی أرض العدو من أجل الحفاظ علی المسلمین وسدّ المانع أمامهم من الالتحاق بالأعداء الذین لا یلتزمون بشرعیة ولا یتقیّدون بحدود معیّنة فمن باب الأولویة لا یجوز إقامة الحد علی المقیمین فی أرض العدو؛ کی لا یلتحقوا بهم ویلتجئوا إلی

ص:71

دینهم أو الاحتماء بهم فإنّهم أولی بالمراعاة ممن یکون هناک بنحو عرضی.

فإنّه یقال: یلزم منه الحکم بتعطیل الحدود فیمن یقیم فی الدول غیر الإسلامیة، وعدم جریانها فی حقّه، وهو مخالف لإطلاق نصوص الحدود وفوریتها، وعدم تقییدها من جهة الفرد أو المکان.

فالنصوص شاملة لکلّ زمان ومکان، خرج منه صورة التواجد بنحو طارئ فی أرض العدو وخاف الالتحاق بهم، فیبقی الباقی داخل فی عموم أحکام الحدود وعدم جواز تعطیلها أو تأخیرها مع الإمکان.

ص:72

فهرس مصادر

مقال هل یجوز إقامة الحد علی المذنب فی الدول غیر الإسلامیة؟

1 - الإصابة فی تمییز الصحابة، أحمد بن علی بن حجر العسقلانی (ت 852)، تحقیق وتعلیق: عادل أحمد عبد الموجود وعلی محمّد معوض، الناشر: دار الکتب العلمیة - بیروت، الطبعة الأولی 1415 ه -.

2 - تحریر الأحکام الشرعیة علی مذهب الإمامیة، العلّامة الحلی (ت 726)، تحقیق: الشیخ إبراهیم البهادری، إشراف: الشیخ جعفر السبحانی، الناشر: مؤسسة الإمام الصادق علیه السلام، الطبعة الأولی 1420 ه -.

3 - تسهیل المسالک إلی المدارک فی رؤوس القواعد الفقهیة، حبیب الله الشریف الکاشانی (ت 1340)، سنة الطبع 1404 ه -.

4 - تقریرات الحدود و التعزیرات، تقریر بحث السید الکلبایکانی (ت 1414).

ص:73

5 - تلخیص الخلاف وخلاصة الاختلاف، مفلح بن حسن بن رشید الصیمری من أعلام القرن السابع، تحقیق: السید مهدی الرجائی، إشراف: السید محمود المرعشی، الناشر: مکتبة آیة الله العظمی المرعشی النجفی - قم، الطبعة الأولی 1408 ه -.

6 - تنقیح مبانی الأحکام (الحدود والتعزیرات)، الشیخ جواد التبریزی (ت 1427)، الناشر: دار الصدیقة الشهیدة - قم، الطبعة الثالثة 1429 ه -.

7 - تهذیب الأحکام، محمّد بن الحسن الطوسی (ت 460)، تحقیق وتعلیق: السید حسن الخرسان، الناشر: دار الکتب الإسلامیة - طهران، الطبعة الثالثة 1364 ش.

8 - جامع المدارک فی شرح المختصر النافع، السید أحمد الخوانساری (ت 1405)، تعلیق: علی أکبر الغفاری، الناشر: مکتبة الصدوق - طهران، الطبعة الثانیة 1405 ه -.

9 - جواهر الکلام فی شرح شرائع الإسلام، الشیخ محمّد حسن النجفی (ت 1266)، تحقیق وتعلیق: الشیخ عباس القوچانی، الناشر: دار الکتب الإسلامیة - طهران، الطبعة الثانیة 1365 ش.

10 - الخلاف، محمّد بن الحسن الطوسی (ت 460)، تحقیق: جماعة من المحققین، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، سنة الطبع 1407 ه -.

ص:74

11 - الدر المنضود فی أحکام الحدود، تقریر بحث السید الکلبایکانی، الشیخ علی الکریمی الجهرمی، الناشر: دار القرآن الکریم - قم، الطبعة الأولی 1412 ه -.

12 - ریاض المسائل فی بیان أحکام الشرع بالدلائل، السید علی الطباطبائی (ت 1231)، تحقیق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الأولی 1412 ه -.

13 - السرائر الحاوی لتحریر الفتاوی، محمّد بن منصور بن أحمد بن إدریس الحلی (ت 598)، تحقیق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الثانیة 1410 ه -.

14 - شرائع الإسلام فی مسائل الحلال والحرام، المحقق الحلی (ت 676)، تعلیق: السید صادق الشیرازی، الناشر: انتشارات استقلال - طهران، الطبعة الثانیة 1409 ه -.

15 - فقه الصادق، السید محمّد صادق الروحانی، الناشر: مؤسسة دار الکتاب - قم، الطبعة الثالثة 1412 ه -.

16 - القضاء والشهادات، تقریر بحث السید الخوئی، الشیخ محمّد الجواهری، الناشر: منشورات مکتبة الإمام الخوئی - قم، الطبعة الأولی 1428 ه -.

17 - الکافی، محمّد بن یعقوب الکلینی (ت 328)، تصحیح وتعلیق:

ص:75

علی أکبر الغفاری، الناشر: دار الکتب الإسلامیة - طهران، الطبعة الخامسة 1363 ش.

18 - کشف اللثام عن قواعد الأحکام، محمّد بن الحسن الإصفهانی المعروف بالفاضل الهندی (ت 1137)، تحقیق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الأولی 1416 ه -.

19 - المؤتلف من المختلف بین أئمة السلف، فضل بن الحسن الطبرسی (ت 548)، تحقیق ومقابلة: جمع من الأساتذة، مراجعة: السید مهدی الرجائی، الناشر: مجمع البحوث الإسلامیة - مشهد، الطبعة الأولی 1410 ه -.

20 - مبانی تحریر الوسیلة، الشیخ محمّد المؤمن القمی، تحقیق ونشر: مؤسسة تنظیم ونشر آثار الإمام الخمینی، الطبعة الأولی 1422 ه -.

21 - مجمع الفائدة والبرهان فی شرح إرشاد الأذهان، المحقق أحمد الأردبیلی (ت 993)، تصحیح وتعلیق: مجتبی العراقی وعلی بناه الإشتهاردی وحسین الیزدی الإصفهانی، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم.

22 - المراسم العلویة فی الأحکام النبویة، حمزة بن عبد العزیز الدیلمی (ت 448)، تحقیق: السید محسن الحسینی الأمینی، الناشر: المعاونیة الثقافیة للمجمع العالمی لأهل البیت علیهم السلام، سنة الطبع 1414 ه -.

ص:76

23 - مسالک الإفهام إلی تنقیح شرائع الإسلام، زین الدین بن علی العاملی الشهید الثانی (ت 965)، تحقیق ونشر: مؤسسة المعارف الإسلامیة - قم، الطبعة الأولی 1413 ه -.

24 - المقنعة، محمّد بن النعمان العکبری البغدادی الملقّب بالشیخ المفید (ت 413)، تحقیق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الثانیة 1410 ه -.

25 - مناقب آل أبی طالب، محمّد بن علی بن شهرآشوب (ت 588)، تصحیح وشرح ومقابلة: لجنة من أساتذة النجف الأشرف، الناشر: المکتبة الحیدریة - النجف الأشرف، سنة الطبع 1376 ه -.

26 - المهذّب، القاضی عبد العزیز بن البراج الطرابلسی (ت 481)، إعداد: مؤسسة سید الشهداء العلمیة، إشراف: الشیخ جعفر السبحانی، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، سنة الطبع 1406 ه -.

27 - هدایة الأمة إلی أحکام الأئمة علیهم السلام، محمّد بن الحسن الحر العاملی (ت 1104)، تحقیق ونشر: مجمع البحوث الإسلامیة - مشهد، الطبعة الأولی 1412 ه -.

28 - وسائل الشیعة إلی تحصیل مسائل الشریعة، محمّد بن الحسن الحر العاملی (ت 1104)، تحقیق ونشر: مؤسسة آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث - قم، الطبعة الثانیة 1414 ه -.

ص:77

29 - الوسیلة إلی نیل الفضیلة، محمّد بن علی الطوسی المعروف بابن حمزة من أعلام القرن السادس، تحقیق: الشیخ محمّد الحسون، إشراف: السید محمود المرعشی، الناشر: مکتبة آیة الله العظمی المرعشی النجفی - قم، الطبعة الأولی 1408 ه -.

ص:78

حکم إبدال التعزیر بالغرامة المالیة وأثر ذلک فی التهاون بالجریمة

اشارة

بقلم: الشیخ لؤی المنصوری

موضوع البحث یتمحور حول ما إذا أراد الحاکم أن یضع غرامة مالیة معیّنة بدلاً من تعزیر الجانی، فهل یستطیع ذلک شرعاً أم لا؟ وهل له أثر فی الاستخفاف بالجرم؟

وفی البدء نبیّن العقوبات الشرعیة وکیفیة تشریعها.

العقوبات الشرعیة تنقسم إلی عدّة أقسام:

القسم الأوّل: الحدود المنصوصة فی النصوص الشرعیة وتکون حقّاً لله تعالی، کحدّ الزنا والسرقة وغیرها.

القسم الثانی: الحدود المنصوصة فی النصوص الشرعیة وهی من حقوق الناس، کالقصاص والقذف.

القسم الثالث: عقوبة التعزیر التی لم ینصّ علیها بمقدار معیّن.

أمّا القسم الأوّل: وهو ما کان الحد حقّاً لله تعالی، فالنصوص تصرّح بوجوب إقامته وعدم جواز ترکه، ففی الموثقة: «عن أحمد بن محمّد، عن

ص:79

عثمان بن عیسی، عن سماعة بن مهران، عن أبی عبد الله علیه السلام قال: من أخذ سارقاً فعفا عنه فذلک له، فإذا رفع إلی الإمام قطعه، فإن قال الذی سرق منه: أنا أهب له، لم یدعه الإمام حتّی یقطعه إذا رفعه إلیه، وإنّما الهبة قبل أن یرفع إلی الإمام، وذلک قوله تعالی: (وَ الْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ) فإذا انتهی إلی الإمام فلیس لأحد أن یترکه»(1) ، وفی الصحیح: «عدّة من أَصحابنا، عن سهل بن زیاد وعلی بن إبراهیم، عن أبیه جمیعاً، عن ابن محبوب، عن ابن رئاب، عن ضریس الکناسی، عن أبی جعفر علیه السلام قال: لا یعفی عن الحدود التی لله دون الإمام، فأمّا ما کان من حقّ الناس فی حد فلا بأس أن یعفی عنه دون الإمام»(2) ، وفی الصحیح الآخر: « عدة من أصحابنا، عن سهل بن زیاد ومحمّد بن یحیی، عن أحمد بن محمّد بن عیسی وعلی بن إبراهیم، عن أبیه جمیعاً، عن ابن محبوب، عن ابن رئاب، عن محمّد بن قیس، عن أبی جعفر علیه السلام:

قال کان لأمّ سلمة - زوجة النبیّ صلی الله علیه و آله - أمة فسرقت من قوم، فأتی بها النبیّ صلی الله علیه و آله، فکلمته أمّ سلمة فیها، فقال النبیّ صلی الله علیه و آله: یا أمّ سلمة هذا حدّ من حدود الله عزّ وجل لا یضیع، فقطعها رسول الله صلی الله علیه و آله».(3)

ومعتبرة طلحة بن زید: « الحسین بن سعید، عن محمّد بن یحیی، عن طلحة بن زید، عن جعفر قال: حدّثنی بعض أهلی أنّ شاباً أتی أمیر

ص:80


1- (1) الاستبصار 251:4.
2- (2) الکافی 252:7.
3- (3) الکافی 7:254.

المؤمنین علیه السلام فأقر عنده بالسرقة، قال: فقال له علیه السلام:

إنّی أراک شاباً لا بأس بهیئتک، فهل تقرأ شیئاً من القرآن؟

قال: نعم، سورة البقرة، فقال: فقد وهبت یدک لسورة البقرة، قال: وإنّما منعه أن یقطعه؛ لأنّه لم تقم علیه بیّنة».(1)

والنصوص فی مسألة عدم جواز العفو عن الحد المنصوص وهو حقّ لله تعالی متضافرة وکثیرة.

والفقهاء لهم تفصیل فی المقام، إذ قالوا: بأنّ الحد إن کان ثابتاً بالبیّنة فلا یجوز للإمام العفو، وإن کان ثابتاً بالإقرار جاز للإمام العفو بشرط توبة المقرّ، قال الشیخ المفید: « ومن زنی وتاب قبل أن تقوم الشهادة علیه بالزنی درأت عنه التوبة الحد، فإن تاب بعد قیام الشهادة علیه کان للإمام الخیار فی العفو عنه أو إقامة الحد علیه، حسب ما یراه من المصلحة فی ذلک له ولأهل الإسلام، فإن لم یتب لم یجز العفو عنه فی الحد بحال».(2)

وقال الشیخ الطوسی: « ومن زنی وتاب قبل قیام البیّنة علیه بذلک درأت التوبة عنه الحد، فإن تاب بعد قیام الشهادة علیه وجب علیه الحدّ، ولم یجز للإمام العفو عنه، فإن کان أقرّ علی نفسه عند الإمام ثمّ أظهر التوبة کان للإمام الخیار فی العفو عنه أو إقامة الحدّ علیه، حسب ما یراه من

ص:81


1- (1) تهذیب الأحکام 127:10.
2- (2) المقنعة: 777.

المصلحة فی ذلک، ومتی لم یتب لم یجز للإمام العفو عنه علی حال».(1)

وقال أبو الصلاح الحلبی: « فإن تاب الزانی أو الزانیة قبل قیام البیّنة علیه، وظهرت توبته وحمدت طریقته سقط عنه الحدّ، وإن تاب بعد قیام البیّنة فالإمام العادل مخیّر بین العفو والإقامة، ولیس ذلک لغیره إلّا بإذنه، وتوبة المرء سرّاً أفضل من إقراره لیحدّ».(2)

وقال ابن إدریس: « ومن زنی وتاب قبل قیام البیّنة علیه بذلک درأت التوبة عنه الحد، فإن تاب بعد قیام الشهادة علیه وجب علیه الحد، ولم یجز للإمام العفو عنه، سواء کان حدّه جلداً أو رجماً.

فإن کان أقرّ علی نفسه وهو عاقل حر عند الإمام، ثمّ أظهر التوبة، کان للإمام الخیار فی العفو أو إقامة الحد علیه، حسب ما یراه من المصلحة فی ذلک، هذا إذا کان الحد رجماً یوجب تلف نفسه، فأمّا إذا کان الحد جلداً فلا یجوز العفو عنه، ولا یکون الحاکم بالخیار فیه؛ لأنّا أجمعنا علی أنّه بالخیار فی الموضع الذی ذکرناه، ولا إجماع علی غیره، فمن ادّعاه وجعله بالخیار وعطّل حدّاً من حدود الله فعلیه الدلیل».(3)

وقال السید الطباطبائی: «.. ( ولو أقرّ) بحدّ ( ثمّ تاب) عن موجبه

ص:82


1- (1) النهایة: 696.
2- (2) الکافی فی الفقه: 407.
3- (3) السرائر 444:3.

(کان الإمام مخیّراً فی الإقامة) علیه أو العفو عنه مطلقاً ( رجماً کان أو غیره) بلا خلاف إلّا من الحلّی فخصّه بالرجم، قال: لأنّا أجمعنا أنّه بالخیار فی الموضع الذی ذکرنا، ولا إجماع علی غیره، فمن ادّعاه وجعله بالخیار وعطَّل حدّاً من حدود الله تعالی فعلیه الدلیل.

ورُدّ بأنّ المقتضی لإسقاط الرجم عنه اعترافه بالذنب، وهو موجود فی الحدّ؛ لأنّه إحدی العقوبتین، ولأنّ التوبة تسقط تحتم أشدّ العقوبتین، فإسقاطها لتحتّم الأُخری الأضعف أولی.

والأولی الجواب عنه بقیام الدلیل فی غیر الرجم أیضاً، وهو النصوص.

ففی الخبرین بل الأخبار: « جاء رجل إلی أمیر المؤمنین علیه السلام فأقرّ بالسرقة، فقال: أتقرأ شیئاً من القرآن؟ قال: نعم، سورة البقرة، قال: قد وهبت یدک لسورة البقرة، قال: فقال الأشعث: أتعطَّل حدّاً من حدود الله تعالی؟ فقال: وما یدریک ما هذا؟ إذا قامت البیّنة فلیس للإمام أن یعفو، وإذا أقرّ الرجل علی نفسه فذاک إلی الإمام إن شاء عفا وإن شاء قطع».

وقصور الأسانید مجبور بالتعدّد، مع عمل الأکثر، بل الکلّ عداه، وهو شاذٌّ کما صرّح به بعض الأصحاب.

وأخصّیة المورد مدفوع بعموم الجواب، مع عدم قائل بالفرق بین الأصحاب، مع ورود نصّ آخر باللواط متضمّناً للحکم أیضاً علی العموم من حیث التعلیل، وهو المرویّ عن تحف العقول، عن أبی الحسن الثالث علیه السلام - فی حدیث - قال: ((وأمّا الرجل الذی اعترف باللواط فإنّه لم تقم علیه

ص:83

البیّنة، وإنّما تطوّع بالإقرار عن نفسه، وإذا کان للإمام الذی من الله تعالی أن یعاقب عن الله سبحانه کان له أن یمنّ عن الله تعالی؛ أما سمعت قول الله تعالی: (هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِکْ بِغَیْرِ حِسابٍ) .

نعم، لیس فی شیء منها اعتبار التوبة، کما هو ظاهر الجماعة، ولعلّ اتّفاقهم علیه کافٍ فی تقییدها بها.

وظاهره کباقی النصوص والفتاوی قصر التخییر علی الإمام، فلیس لغیره من الحکَّام، وعلیه نبّه بعض الأصحاب، واحتمل بعضٌ ثبوته لهم أیضاً، وفیه إشکال، والأحوط إجراء الحدّ أخذاً بالمتیقّن؛ لعدم لزوم العفو.

ثمّ إنّ هذا فی حدود الله سبحانه.

وأمّا حقوق الناس، فلا یسقط الحدّ إلّا بإسقاط صاحبه، کما صرّح به بعض الأصحاب؛ ووجهه واضح، وفی بعض المعتبرة: « لا یعفی عن الحدود التی لله تعالی دون الإمام، فأمّا ما کان من حقّ الناس فی حدّ فلا بأس بأن یعفی عنه دون الإمام»).(1)

إلی غیرها من الکلمات الکثیرة حتّی قال جملة من الفقهاء بأنّ الحکم لا خلاف فیه.

تفریق الفقهاء بین البیّنة والإقرار:

فرّق الفقهاء فی العفو بین ما کان الحد ثابتاً بالبیّنة فلا یحقّ للإمام

ص:84


1- (1) ریاض المسائل 458:15.

العفو، وبینما کان ثابتاً بالإقرار فیجوز للإمام العفو، وهذا التفریق ذکروه تبعاً لورود النصّ المفرّق بین الأمرین، ففی معتبرة طلحة بن زید حیث علل الإمام علیه السلام الأمر فیها بقوله: «وإنّما منعه أن یقطعه لأنّه لم تقم علیه بیّنة»، وفی مرسلة البرقی: «عن بعض أصحابه، عن بعض الصادقین علیهم السلام قال: جاء رجل إلی أمیر المؤمنین علیه السلام فأقرّ بالسرقة، فقال له أمیر المؤمنین علیه السلام: أتقرأ شیئاً من کتاب الله؟ قال: نعم، سورة البقرة، قال: قد وهبت یدک لسورة البقرة، قال: فقال الأشعث بن قیس: أتعطل حدّاً من حدود الله؟ فقال: وما یدریک ما هذا؟ إذا قامت البیّنة فلیس للإمام أن یعفو، وإذا أقرّ الرجل علی نفسه فذلک إلی الإمام إن شاء عفا وإن شاء قطع»(1) ، وفی صحیحة مالک بن عطیة قال: « عن أبی عبد الله علیه السلام قال: بینما أمیر المؤمنین علیه السلام فی ملاء من أصحابه، إذ أتاه رجل فقال: یا أمیر المؤمنین علیه السلام إنّی أوقبت علی غلام فطهّرنی، فقال له: یا هذا امض إلی منزلک لعلّ مراراً هاج بک، فلمّا کان من غد عاد إلیه، فقال له: یا أمیر المؤمنین إنّی أوقبت علی غلام فطهّرنی، فقال له: اذهب إلی منزلک لعلّ مراراً هاج بک، حتّی فعل ذلک ثلاثاً بعد مرّته الأولی، فلمّا کان فی الرابعة قال له: یا هذا إنّ رسول الله صلی الله علیه و آله حکم فی مثلک بثلاثة أحکام فاختر أیهن شئت، قال: وما هنّ یا أمیر المؤمنین؟ قال: ضربة بالسیف فی عنقک بالغة ما بلغت، أو إهداب من جبل مشدود الیدین والرجلین، أو إحراق بالنار، قال: یا أمیر المؤمنین أیهن أشدّ علیّ؟ قال:

ص:85


1- (1) تهذیب الأحکام 129:10.

الإحراق بالنار، قال: فإنّی قد اخترتها یا أمیر المؤمنین، فقال: خذ لذلک أهبتک، فقال: نعم، قال: فصلّی رکعتین، ثمّ جلس فی تشهده، فقال: اللهم إنّی قد أتیت من الذنب ما قد علمته، وإنّی تخوّفت من ذلک فأتیت إلی وصی رسولک وابن عم نبیک فسألته أن یطهّرنی، فخیّرنی ثلاثة أصناف من العذاب، اللهم فإنّی اخترت أشدهن، اللهم فإنّی أسألک أن تجعل ذلک کفارة لذنوبی، وأن لا تحرقنی بنارک فی آخرتی، ثمّ قام - وهو باک - حتّی دخل الحفیرة التی حفرها له أمیر المؤمنین علیه السلام، وهو یری النار تتأجج حوله، قال: فبکی أمیر المؤمنین علیه السلام وبکی أصحابه جمیعاً، فقال له أمیر المؤمنین علیه السلام:

قم یا هذا فقد أبکیت ملائکة السماء وملائکة الأرض، فإنّ الله قد تاب علیک، فقم ولا تعاودن شیئاً مما فعلت».(1)

ص:86


1- (1) وسائل الشیعة 161:28. قال السید الهاشمی فی المقالات: 259: إلاَّ أنّ احتمال اختصاصها بحدّ اللواط لا دافع له، خصوصاً مع ملاحظة کون القتل کالرجم فی المحصن یرفع الید عنه بأقلّ سبب بخلاف الحدّ الذی هو دون النفس کالجلد والقطع، ولهذا لو جحد المقرّ بعد إقراره یرفع عنه الرجم دون الجلد، ومن هنا قیّد بعض الفقهاء کابن إدریس اختیار الإمام وحقّه فی العفو بما إذا کان الحدّ رجماً. هذا مضافاً إلی أنّ فی مورد الروایة فرض توبة المجرم، تلک التوبة التی أبکت الإمام والأصحاب وملائکة السماء والأرض، فلعلّ سقوط العقوبة کان بسببها، لا من ناحیة عفو الإمام، بل قد یقال بظهور ذیلها فی ذلک، حیث لم یبیّن فیه أنّ الإمام قد وهبه وعفا عنه، کما فی معتبرة طلحة. وفیه: أوّلاً: أنّ کون اختصاصها بحدّ اللواط لا دافع له أوّل الکلام، فکیف یجعله غیر مدفوع؟! فهو مصادرة علی المطلوب. وثانیاً: أنّ الحد ثبت علیه بإقرار تام، فلا یوجد أیّ سبب یدفع عنه الحد کالنکوص أو عدم اکتمال الإقرار، فلا یوجد فی الروایة سبب لرفع الید عن الحد سوی عفو

والروایة تدلّ بوضوح عن عفو الإمام عن الحد المرتبط بحقّ الله سبحانه وتعالی، فبعد إقرار الشخص أربع مرّات بأنّه ارتکب الفعل، وتمّ الأمر فی حقّه، وشروع الإمام بإقامة الحد ومن ثمّ توقّف، دلیل واضح علی أنّ حقّ العفو ثابت للإمام علیه السلام.

وأمّا قوله: « فإنّ الله قد تاب علیک» فلیس له مدخلیة فی أصل العفو، وإلّا لزم منه القول بلزوم العفو عند توبة من أقرّ بالحد، والمفروض أن لا قائل بذلک، بل یقولون بأنّ للإمام العفو عند ثبوت الحد بالإقرار.

ومما یدعم ذلک روایة تحف العقول: « عن أبی الحسن الثالث علیه السلام - فی حدیث - قال: وأمّا الرجل الذی اعترف باللواط فإنّه لم یقم علیه البینة، وإنّما تطوّع بالإقرار من نفسه، وإذا کان للإمام الذی من الله أن یعاقب عن الله کان له أن یمنّ عن الله؛ أما سمعت قول الله: (هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِکْ بِغَیْرِ حِسابٍ) ..».(1)

ص:87


1- (1) وسائل الشیعة 41:28. ومن الغریب ما ذکره مقرر بحث السید الخوئی حیث قال:

وهی وإن کانت مرسله: إلّا أنّه یمکن الاستشهاد بها فی المقام؛ لنظرها إلی الروایة المتقدمة، وهی صریحة فی حقّ الإمام بالعفو عن الحد الثابت بالإقرار بامتنان من الله سبحانه وتعالی علیه وعلی المذنبین.

قال السید الطباطبائی: «.. ( ولو أقرّ) بحدٍّ ( ثمّ تاب) عن موجبه ( کان الإمام مخیّراً فی الإقامة) علیه والعفو عنه ( رجماً کان أو غیره) بلا خلاف، إلّا من الحلّی فخصّه بالرجم».(1)

وقال فی الجواهر: « بلا خلاف أجده فی الأوّل، بل فی محکی السرائر الإجماع علیه، بل لعلّه کذلک فی الثانی أیضاً وإن خالف هو فیه، للأصل الذی یدفعه أولویة غیر الرجم منه بذلک، والنصوص المنجبرة بالتعاضد وبالشهرة العظیمة».(2)

ص:88


1- (1) ریاض المسائل 435:13.
2- (2) جواهر الکلام 293:41.

وقال فی تفصیل الشریعة: « لو أقرّ بما یوجب الحد ثمّ تاب کان للإمام علیه السلام عفوه أو إقامة الحدّ علیه رجماً کان أو غیره، ولا یبعد ثبوت التخییر لغیر إمام الأصل من نوّابه.

ویدلّ علی أصل الحکم النصوص الواردة فی المقام:

منها: روایة ضریس الکناسی، عن أبی جعفر علیه السلام قال: «لا یعفی عن الحدود التی لله دون الإمام، فأمّا ما کان من حقّ الناس فی حدٍّ فلا بأس بأن یعفی عنه دون الإمام».

فإنّ مقتضی الفقرة الأولی أنّ الإمام له أن یعفی عن الحدود التی لله، والقدر المتیقّن صورة ما إذا کان ثابتاً بالإقرار، ولیس له إطلاق یشمل صورة الشهادة أیضاً؛ لعدم کونها فی مقام البیان فی جانب الإثبات حتّی یتمسّک بإطلاقه، ولکن الإشکال فی سند الحدیث من جهة ضریس؛ نظراً إلی عدم ورود مدح ولا قدح فیه، ویمکن دفعه من جهة وقوع ابن محبوب فی السند، نظراً إلی کونه من أصحاب الإجماع.

ومنها: مرسلة أبی عبد الله البرقی، عن بعض أصحابه، عن بعض الصادقین علیهم السلام قال: «جاء رجل إلی أمیر المؤمنین علیه السلام فأقرّ بالسرقة، فقال له: أتقرأ شیئاً من القرآن؟ قال: نعم، سورة البقرة، قال: قد وهبت یدک لسورة البقرة، قال: فقال الأشعث: أتعطَّل حدّاً من حدود الله؟ فقال: وما یدریک ما هذا؟ إذا قامت البیّنة فلیس للإمام أن یعفو، وإذا أقرّ الرجل علی نفسه فذاک إلی الإمام إن شاء عفا وإن شاء قطع».

ص:89

وکون المورد هی السرقة لا یوجب اختصاص الضابطة المذکورة فی الذیل بها، وإن ورد فیها قوله علیه السلام:

«وإن شاء قطع»، فإنّ الظاهر أنّ المراد لیس خصوص القطع، بل إجراء الحدّ، قطعاً کان أو غیره، کما أنّه علی تقدیر خروج المورد وهی السرقة عن الضابطة المذکورة - کما سیأتی - لا یقدح ذلک فی التمسّک بالضابطة والعمل بها، فتدبّر.

ومنها: ما رواه الشیخ بإسناده عن الحسین بن سعید، عن محمّد بن یحیی، عن طلحة بن زید، عن جعفر علیه السلام قال: «حدّثنی بعض أهلی أنّ شاباً أتی أمیر المؤمنین علیه السلام فأقرّ عنده بالسرقة، قال: فقال له علیّ علیه السلام:

إنّی أراک شابّاً لا بأس بهیئتک، فهل تقرأ شیئاً من القرآن؟ قال: نعم، سورة البقرة، فقال: قد وهبت یدک لسورة البقرة، قال: وإنّما منعه أن یقطعه لأنّه لم یقم علیه بیّنة».

والظاهر اتّحادها مع الروایة السابقة، خصوصاً مع نقل الشیخ قدس سره لها بهذا السند، کما فی الوسائل، وإن جعلت فیها وفی بعض الکتب الفقهیة روایة أُخری لطلحة بن زید، قال فی الفهرست: (له، أی: لطلحة کتاب، وهو عامیّ المذهب إلّا أنّ کتابه معتمد).

ومنها: روایة الحسن بن علی بن شعبة فی تحف العقول، عن أبی الحسن الثالث علیه السلام - فی حدیث - قال: «وأمّا الرجل الذی اعترف باللواط فإنّه لم یقم علیه البیّنة، وإنّما تطوّع بالإقرار من نفسه، وإذا کان للإمام الذی

ص:90

من الله أن یعاقب عن الله کان له أن یمنّ عن الله؛ أمّا سمعت قول الله:

(هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِکْ بِغَیْرِ حِسابٍ) ».

إذا عرفت ما ذکرنا من روایات المسألة، فالکلام یقع فی أمور:

الأوّل: أنّه بملاحظة الروایات المذکورة لا مجال للخدشة فی أصل الحکم، وهو کون الإمام مخیّراً بین العفو وبین إجراء الحدّ فی الصورة المفروضة فی المسألة؛ لأنّه مضافاً إلی اعتبار بعض الروایات، بل کثیر منها لما ذکرنا، یکون استناد المشهور إلیها والفتوی علی طبقها - مع کونها مخالفة للأدلَّة الواردة فی الحدود، ولذا اعترض أشعث علی أمیر المؤمنین علیه السلام بأنّ ذلک یلزم تعطیل حدّ من حدود الله تعالی - یکون جابراً لضعفها علی تقدیره، فأصل الحکم ممّا لا إشکال فیه...».(1)

هل عفو الإمام فی صورة الإقرار مشروط بتوبة المقر؟

اشترط جملة من الفقهاء أنّ العفو یکون عن التائب دون غیره، فمن اقترف ذنباً موجباً للحد وأقرّ عند الإمام فله أن یعفو عنه بشرط توبته، قال الشیخ الطوسی: « ومن زنی وتاب قبل قیام البیّنة علیه بذلک درأت التوبة عنه الحدّ، فإن تاب بعد قیام الشهادة علیه وجب علیه الحدّ، ولم یجز للإمام العفو عنه، فإن کان أقرّ علی نفسه عند الإمام ثمّ أظهر التوبة کان للإمام

ص:91


1- (1) تفصیل الشریعة فی شرح تحریر الوسیلة: 111.

الخیار فی العفو عنه أو إقامة الحدّ علیه، حسب ما یراه من المصلحة فی ذلک، ومتی لم یتب لم یجز للإمام العفو عنه علی حال».(1)

وقال المحقق الحلی: « لو أقرّ بحدّ ثمّ تاب کان الإمام مخیّراً فی إقامته، رجماً کان أو جلداً».(2)

وقال الشهید الأوّل: « ولو أقرّ بحدّ ثمّ تاب تخیّر الإمام فی إقامته، رجماً کان أو غیره».(3)

وکذلک بقیة کلمات الفقهاء فی هذا الأمر، حیث اشترطوا التوبة فی موضوع العفو.

وقد استدلّ للمشهور بعدّة أدلة:

1 - التمسّک بمعتبرة مالک بن عطیة، حیث إنّه فرض فیها توبة المقرّ أیضاً، کما صرّح الإمام بذلک فی ذیلها، وحینئذ یقال بتقیید إطلاق روایة طلحة، وحملها علی فرض التوبة، من باب حمل المطلق علی المقیّد، فتثبت فتوی المشهور.

ویرد علیه: أنّه لم یرد فی الروایة أنّ العفو لأجل التوبة، وإنّما ورد وصف لحال المقرّ بالحد، وهو یبکی ویتضرّع إلی الله سبحانه وتعالی،

ص:92


1- (1) النهایة: 696.
2- (2) شرائع الإسلام 935:4.
3- (3) اللمعة الدمشقیة: 237.

والإمام رقّ لحاله وعفا عنه، وهذا لا یعنی أنّ العفو مشروط بالتوبة، ففرق بین العفو لأجل التوبة وبین اشتراط التوبة فی العفو، فالأوّل لا یثبت الشرطیة ویجوز العفو حتّی فی صورة عدم التوبة، بخلاف الثانی حیث یشترط التوبة فی العفو.

2 - دعوی تقیید إطلاق روایة طلحة بروایة تحف العقول المتقدّمة، حیث ورد فیها التعبیر بقوله: « وإنّما تطوّع بالإقرار من نفسه»، الظاهر فی حصول الندم والتوبة منه.

ویرد علیه: أنّها ضعیفة سنداً، ولا دلالة لها علی التقیید بالتوبة، وإنّما تعلل العفو لأجل الإقرار، وهو مورد العفو کما تقدّم، فلا شیء فیها یدلّ علی ما رامه المستدل باشتراط العفو بالتوبة.

3 - التمسّک بفحوی ما دلّ علی تقیید الشفاعة بظهور الندم والتوبة من المجرم، کما فی روایة السکونی، عن أبی عبد اللَّه علیه السلام قال: « قال أمیر المؤمنین علیه السلام:

لا یشفعنّ أحد فی حدّ إذا بلغ الإمام، فإنّه لا یملکه، واشفع فیما لم یبلغ الإمام إذا رأیت الندم، واشفع عند الإمام فی غیر الحدّ مع الرجوع من المشفوع له، ولا یشفع فی حقّ امرئ مسلم ولا غیره إلّا بإذنه»، حیث یقال: إنّ ظاهرها أنّ حقّ الشفاعة فی غیر الحدّ، وفیما لم یبلغ الإمام من الحدّ مختصّ بما إذا تاب المجرم، فکأنّه فی غیر مورد الندم والتوبة من المجرم لا یجوز إلّا إجراء العقوبة.

وأورد علیه فی المقالات قائلاً: « وفیه: أنّ ظاهرها أنّ الندم قید لنفس

ص:93

الشفاعة، لا لحقّ الشفاعة، فضلاً عن حقّ العفو للإمام، فالروایة ترید أن تمنع من الشفاعة بلا توبة وندم من المجرم؛ لأنّه لا یستحقّه حینئذ، بل قد یتجرّأ أکثر علی تکرار الجریمة، فلا ظهور فی الروایة فی اختصاص العفو بفرض توبة المقرّ، بل الروایة غیر ناظرة إلی مسألة الإقرار وحقّ العفو للحاکم فیه أصلاً، کما لا یخفی».(1)

وفیه: أنّ حقّ الشفاعة لا وجود له فی المقام لینفی عنه، والإمام یرید أن یرشد الشفعاء إلی الطریق الصحیح فیها، وهو صورة ندم المشفوع له، وفی غیرها لا یطلبون الشفاعة، فإذا کان الإمام یوصی الشفعاء بملاحظة الندم والتوبة فمراعاة الندم له من باب أولی، فلا أقل یستشعر من الروایة مدخلیة الندم فی المقام.

4 - التمسّک بصحیح ابن سنان، عن أبی عبد اللَّه علیه السلام قال: « السارق إذا جاء من قبل نفسه تائباً إلی اللَّه، وردّ سرقته علی صاحبها فلا قطع علیه»(2) ، حیث یقال: إنّ مقتضی الشرطیة فیه اشتراط التوبة من السارق زائداً علی مجیئه الذی قد یجعل کنایة عن إقراره.

وأورد علیه فی المقالات بقوله: « إلّا أنّ الروایة أجنبیّة عن مسألة العفو؛ لأنّها ظاهرة فی بیان حکم آخر، وهو سقوط الحدّ بالتوبة، حیث عبّر

ص:94


1- (1) مقالات فقهیة: 262.
2- (2) الکافی 220:7.

فیها بأنّه لا قطع علیه، وظاهره السقوط، ولهذا فرّع ذلک علی عنوان السارق بوجوده الواقعی الذی هو موضوع الحدّ، کما أنّ التعبیر بمجیئه لیس کنایة عن الإقرار، ولا عن المجیء إلی الحاکم، وإلّا لکان ینبغی أن یذکر ذلک، وإنّما المقصود بقرینة الذیل مجیئه إلی المسروق منه لیردّ علیه سرقته، فتکون الروایة ناظرة إلی حکم آخر، ولیس ناظرة إلی حکم الإقرار».(1)

وفیه: کیف لا تکون دلیلاً علی الإقرار وعدم المجیء إلی الحاکم مع ظهور الروایة فی الإقرار وإرجاع المسروق إلی صاحبه، فحمل الخبر علی خصوص الإرجاع دون الإقرار مخالف لظهور الروایة فی الأمرین معاً.

وعلیه فالروایة وإن کانت ناظرة إلی مسألة أخری - بناء علی ما ذکره - إلّا أنّ لها دلالة فیما نحن فیه، وهو مدخلیة التوبة فی العفو عن الحد.

ومن الاستشعار فی خبر السکونی وهذا الخبر - صحیحة ابن سنان - یقوی ما ذهب إلیه المشهور من اشتراط التوبة فی العفو.

والأمر لا یظهر له ثمرة إلّا فیما إذا قلنا بأنّ الحکم وهو العفو یسری من الإمام إلی الفقیه باعتباره من شؤون المنصب لا الذات المقدّسة للإمام، وإلّا فإذا حکمنا بعدم السریان فلا ثمرة فی المقام؛ لرجوع الأمر إلی تکلیف الإمام، وهو أمر مرتبط به صلوات الله وسلامه علیه.

ص:95


1- (1) مقالات فقهیة: 263.

وفی مقابل هذا القول هناک من ذهب إلی عدم اشتراط توبة المقر لأجل العفو عنه، قال مقرر بحث السید الخوئی: « وقیّد المشهور جواز عفو الإمام عمّن ثبت علیه الحد بإقراره، بما إذا تاب المقر عن فعله، وإلّا فلیس له أن یعفو.

ولا یعرف لذلک أیّ وجه؛ لأنّ ما دلّ علی جواز العفو للإمام، کمعتبرتی طلحة وضریس لیس فیهما ما یدلّ علی التوبة، فإن تمّ إجماع علی اعتبارها - ولا یتم - فبه وإلّا فلا وجه له، خصوصاً بعدما کان الوارد فی معتبرة ضریس کلمة الحدود، وهو جمع محلّی بالألف واللام یفید العموم، فله علیه السلام العفو عن الحدود علی الإطلاق، سواء کان المقر تائباً أم لا، کما أنّ إطلاقها یشمل أیضاً ما إذا ثبت الحد بالبیّنة إلّا أنّه لا بدّ من رفع الید عن ذلک؛ لما دلّ علی عدم العفو مع البیّنة، وخصوصاً أیضاً بعد ما کان الراوی فی روایة طلحة هو الإمام الصادق علیه السلام، فإنّه لو کان الراوی لها غیره عنه، لا هو عن أمیر المؤمنین علیه السلام لکانت قضیة شخصیة لا إطلاق فیها؛ لإمکان أن یکون المقر قد تاب، لکن بما أنّ الراوی هو الإمام، ولیست روایته نقل تاریخ فقط، بل فی مقام بیان الحکم الشرعی، وحیث إنّه فی مقام البیان ولم یتعرّض إلی الخصوصیة، فیستکشف الإطلاق.

علی أنّ فی ذیل هذه المعتبرة ورد قوله التعلیل بأنّ عدم القطع إنّما هو لأجل عدم قیام البیّنة، حیث قال علیه السلام:

«وإنّما منعه أن یقطعه لأنّه لم یقم علیه بیّنة»، وهو یکشف عن عدم مدخلیة التوبة فیه، وإلّا لذکرها معه.

ص:96

وأمّا ما یقال من أنّ ما ذکره فی تحف العقول من قوله علیه السلام: « وإنّما تطوّع بالإقرار من نفسه» دالّ علی التوبة؛ لأنّ التطوّع لا یکون إلّا مع التوبة، وإلّا فلا داعی یدعوه إلی الإقرار، فالتطوّع ملازم للتوبة، فلا یمکن قبوله؛ لضعف الروایة، فلا یمکن أن تکون مقیّدة لمعتبرتی طلحة وضریس.

علی أنّ ما ذکر إشعار لا دلالة، بل یمکن أن یکون إقراره لداع آخر غیر التوبة والندم علی الفعل».(1)

وقد عرفت دلالة الأخبار علی الاشتراط کما بینّا فی البحث فلاحظ.

وأمّا القسم الثانی: وهو الحدود المنصوصة فی النصوص الشرعیّة وهی من حقوق الناس، کالقصاص والقذف، فحقّ الإسقاط فیها یکون لصاحب الحقّ، فإذا تنازل صاحب الحقّ عن حقّه فلا یقام الحد علی المذنب، ففی خبر السکونی: « عن الصّادق علیه السلام، قال أمیر المؤمنین علیه السلام:

لا یشفعنّ أحد فی حدّ إذا بلغ الإمام، فإنّه لا یملکه، واشفع فی ما لم یبلغ الإمام إذا رأیت النّدم، واشفع عند الإمام فی غیر الحدّ مع الرّجوع من المشفوع له، ولا تشفع فی حقّ امرئ مسلم ولا غیره إلّا بإذنه».(2)

ویمکن الاستدلال بالآیة المبارکة: (وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِی حَرَّمَ اللّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِیِّهِ سُلْطاناً فَلا یُسْرِفْ فِی الْقَتْلِ

ص:97


1- (1) القضاء والشهادات، تقریر بحث السید الخوئی للجواهری 119:2.
2- (2) الکافی 254:7.

إِنَّهُ کانَ مَنْصُوراً) ، (1) حیث جعلت السلطنة للولی الذی هو صاحب الحق، وإذا ما کان السلطنة بیده فیستطیع التجاوز عنها والتنازل عن حقّه جمیعاً.

وعقد الحر العاملی باباً تحت عنوان: (یستحب للولی العفو عن القصاص، أو الصلح علی الدیة، أو غیرها)(2) ، مضافاً إلی إمکانیة الاستدلال بالروایات الواردة فی الأبواب الخاصّة، کالقصاص والقذف وغیرها.

قال العلّامة الحلی: « ولا یجب علیه قبول الدیة وإن بذل الجانی؛ لأنّ القصاص شُرّع للتشفّی ودفع الفساد، والدیة إنّما تثبت صلحاً، ولیس واجباً علیه تحصیل المال بإسقاط حقّه، وکذا له العفو عن القصاص مجّاناً بغیر عوض».(3)

وقال السید السبزواری: « الخامسة عشر: لو عفا المجنی علیه عن قصاص النفس أو دیتها یصح عفوه، وکذا لو عفا الوارث».(4)

وأمّا القسم الثالث: وهو التعزیرات فهی العقوبة غیر المقدّرة التی فرضها الشارع عند ارتکاب مخالفة، وأوکل تقدیرها إلی الحاکم، وعرّفها الشهید الثانی بقوله: « التعزیر لغة: التأدیب، وشرعاً: عقوبة أو إِهانة لا تقدیر

ص:98


1- (1) سورة الإسراء: 33.
2- (2) وسائل الشیعة 119:29.
3- (3) تذکرة الفقهاء 24:14.
4- (4) مهذّب الأحکام 54:29.

لها بأصل الشرع غالباً».(1)

وعرّفها فی الریاض بالتأدیب فقط من دون قید الغالب.(2)

وسبب التقیید بالغالب؛ لأنّ جملة أفراده کذلک، ولکن وردت الروایات بتقدیر بعض أفراده، فیذکر خمسة مواضع: کتعزیر المجامع زوجته فی نهار رمضان، فإنّه مقدّر بخمسة وعشرین سوطاً، ومن تزوّج أمة علی حرّة ودخل بها قبل الإذن، ضرب اثنا عشر سوطاً ونصفاً؛ ثمن حدّ الزانی، والمجتمعان تحت إزار واحد مجرّدین، مقدّر بثلاثین إلی تسعة وتسعین علی قول بحسب ما یراه الحاکم الشرعی، ومن افتضّ بکراً بإصبعه، فذهب الشیخ الطوسی إلی جلده من ثلاثین إلی سبعة وسبعین، وقال الشیخ المفید: من ثلاثین إلی ثمانین، ویری ابن إدریس الحلّی: من ثلاثین إلی تسعة وتسعین، والرجل والمرأة یوجدان فی لحاف واحد وإزار مجرّدین، فإنّهما یعزّران من عشرة إلی تسعة وتسعین، وفی الخلاف روی أصحابنا: فیه الحدّ، وفی غیره أُطلق التعزیر.

وربما یقال: لیس من هذه الموارد الخمسة مقدّر سوی الأوّلین، والثلاثة الباقیة یرجع الأمر فیها ما بین الطرفین إلی رأی الحاکم الشرعی بما یراه من المصلحة بحسب الزمان والمکان والفرد الذی یجری علیه الحدّ من القوّة والضعف.

ص:99


1- (1) مسالک الإفهام 325:14.
2- (2) ریاض المسائل 415:13.

وصاحب الجواهر علیه الرحمة یقول: کان الذی دعاه إلی تسمیة المقدّر المزبور تعزیراً مع أنّ له مقداراً هو اشتمال النصّ علی إطلاق التعزیر علیه.

وفیه بعد تسلیمه فی الجمیع إمکان منع إرادة ما یقابل الحدّ من التعزیر، ولعلَّه لذا ذکرها بعضهم فی الحدود، والأمر سهل.

یقول السید الکلبایکانی: « ووجه إضافة هذا القید هو ما تقدّم من وجود موارد قد عیّن فیها مقدار التعزیر کالحد بعد أنّ الأصل فیه عدم التقدیر، وذلک لورود الروایات بتقدیر بعض أفراده، وقد أحصاها فی المسالک وعدّها خمسة - إلی أن قال -: ولا یخفی أنّ أکثر هذه الموارد داخلة فی قاعدة التعزیر ومعیاره؛ وذلک لأنّه وإن ذکر وعیّن فیه طرفا هذا المقدّر إلّا أنّ الأمر فی اختیار ما بین الطرفین موکول إلی نظر الحاکم، وهذا غیر ما قدّر مقدار العقوبة معیّناً بلا زیادة أو نقصان، وبلا تخییر فی مراتب العقوبة الذی یسمّی بالحد اصطلاحاً».(1)

والنصوص الواردة فی تحدید التعزیر یشوبها الضعف والاختلاف، لذلک حاول الفقهاء التوفیق بین مفهوم التعزیر، وهو التأدیب المفوّض أمره إلی الحاکم، وبین ورود تحدید بعض التعزیرات ضمن النصوص، فلجأوا إلی مسألة تخییر الحاکم بین الطرفین، فمن جامع زوجته فی نهار شهر

ص:100


1- (1) الدر المنضود فی أحکام الحدود 21:1.

رمضان جلد خمس عشرة جلدة، معناه أنّ الحاکم مخیّر بین السوط الأوّل إلی السوط الخامس عشر، حیث یستطیع ضربه اثنین أو خمسة أو عشرة إلی الخمسة عشر، فالتخییر فی ضمن دائرة الخمسة عشر، بخلاف الحد المنصوص کحد الخمر مثلاً فیجلد الشارب ثمانین جلدة من دون تخییر للحاکم فیها.

وعلی کلّ حال یمکن القول بأنّ الحاکم له حقّ العفو عن التعزیر من خلال النصوص الواردة فی موارد مختلفة، ففی موثقة سماعة قال: « سألته عن شهود الزور قال: فقال: یجلدون حدّاً لیس له وقت، وذلک إلی الإمام ویطاف بهم حتّی یعرفهم الناس، وأمّا قول الله عزّ وجل: (وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً... * إِلاَّ الَّذِینَ تابُوا) قال: قلت: کیف تعرف توبته؟ قال: یکذّب نفسه علی رؤوس الناس حتّی یضرب ویستغفر ربّه، وإذا فعل ذلک فقد ظهرت توبته»(1) ، فأعطت الأمر إلی الإمام فی تنفیذ التعزیر فیمن شهد زوراً، ولم تلزمه بإجرائه، وإنّما جعلت الوقت مفتوحاً ولیس محدداً، وکذلک روایته الأخری والتی ورد فیها:

«ولکن سنضربه حتّی لا یعود یؤذی المسلمین»(2)، حیث أرجعت الأمر إلی الإمام وأنّه المتکفّل بالأمر.

ویدلّ علی ذلک أیضاً بعض الروایات الخاصّة، کمعتبرة السکونی المتقدّمة، حیث ورد فیها: « واشفع عند الإمام فی غیر الحدّ مع الرجوع من

ص:101


1- (1) الکافی 241:7.
2- (2) الکافی 263:7.

المشفوع له»، فإنّ هذه الجملة بعد قوله: « لا یشفعنّ أحد فی حدّ إذا بلغ الإمام، فإنّه لا یملکه» تدلّ بوضوح علی أنّ وجه صحة الشفاعة عند الإمام فی غیر الحدّ أنّه یملکه، والذی هو عبارة أخری عن أنّ الاختیار بیده، وجواز العفو منه إذا رأی المصلحة فیه.

وتدلّ علی ذلک أیضاً معتبرة سلمة، عن أبی عبد اللَّه علیه السلام قال:

«کان أسامة ابن زید یشفع فی الشیء الذی لا حدّ فیه، فأتی رسول اللَّه صلی الله علیه و آله بإنسان قد وجب علیه حدّ، فشفع له أسامة، فقال رسول اللَّه: لا تشفع فی حدّ»(1)، وهی واضحة الدلالة علی المطلوب؛ لأنّ الإمام علیه السلام وإن کان ینقل عن أسامة إلّا أنّ ذلک فی مقام بیان الحکم، فیکون مفاد إخباره علیه السلام أنّ الحکم الشرعی هو جواز الشفاعة فی الشیء الذی لا حدّ فیه، دون ما فیه الحدّ، فیتمسّک بإطلاقه فی کلتا الفقرتین.

فالتعزیر أمره بید الحاکم من جهة التقدیر - فی غیر المقدّرات - ومن جهة العفو وعدمه إذا ما لاحظ المصلحة فی ذلک.

هل یجوز التعزیر بالغرامة المالیة؟

اتّضح من خلال ما تقدّم أنّ أمر التعزیر بید الحاکم الشرعی، فهو من یقدّره، ومن یقوم بإجرائه أو العفو عنه، بحسب ما یراه من المصلحة فی ذلک، إلّا أنّ البحث هنا یتمحور حول جواز التعزیر بالمال دون الضرب، فلو

ص:102


1- (1) وسائل الشیعة 43:28.

أنّ شخصاً اعتدی علی شخص آخر بأن سبّه أو نال منه، فللحاکم تأدیبه بأن یضربه ویردعه عن الفعل، أو کما تقول الروایة المتقدّمة:

«ولکن سنضربه حتّی لا یعود یؤذی المسلمین»، فهل یجوز أخذ المال منه بدلاً من ضربه، خصوصاً وأنّ الروایة عللت الضرب للردع عن الإیذاء أم أنّ التعویض المالی لا یجوز ویکون الأمر منحصراً بالضرب التأدیبی لا غیر؟ هذا ما وقع البحث فیه بین الفقهاء، وسوف نتعرّض للمسألة بشکل مفصّل بإذن الله تعالی.

قال الشیخ المنتظری: « هل یجوز التعزیر بالمال أیضاً بإتلافه أو أخذه منه أم لا؟

فیه وجهان: من أنّ الغرض ردع فاعل المنکر، وربّما یکون التعزیر المالی أوفی بالمقصود وأردع وأصلح له وللمجتمع، فیدلّ علی جوازه إطلاق أدلّة الحکومة، وربما یستأنس له أیضاً ببعض الأخبار الواردة فی موارد خاصّة.

ومن أنّ أحکام الشرع توقیفیّة، فلا یجوز التعدّی عما ورد فی باب الحدود والتعزیرات».(1)

وقد استدلّ لجواز التعزیر بالمال بعدّة أمور نذکرها تباعاً:

الأوّل: تحریق موسی علیه السلام للعجل المتّخذ إلهاً، قال تعالی: (وَ انْظُرْ إِلی

ص:103


1- (1) دراسات فی ولایة الفقیه 330:2.

إِلهِکَ الَّذِی ظَلْتَ عَلَیْهِ عاکِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِی الْیَمِّ نَسْفاً)1 ، وأحکام الشرائع السابقة یجوز استصحابها ما لم یثبت نسخها، والعجل کان قیّماً جدّاً صنعه السامری من مجموع حلیّ بنی إسرائیل.

الثانی: هدم مسجد ضرار وتحریقه مع مالیته، حیث وجّه رسول الله صلی الله علیه و آله مالک بن الدّجشم الخزاعی وعامر بن عدی علی أن یهدموه ویحرقوه، فجاء مالک فقال لعامر: انتظرنی حتّی أُخرج ناراً من منزلی، فدخل فجاء بنار وأشعل فی سعف النخل، ثمّ أشعله فی المسجد، فتفرّقوا وقعد زید بن حارثة حتّی احترقت البلیة، ثمّ أمر بهدم حایطه.(1) وروی أنّه بعث عمّار بن یاسر ووحشیّاً فحرّقاه، وأمر بأن یتّخذ کناسة یلقی فیها الجیف.(2)

الثالث: تهدید رسول اللّه صلی الله علیه و آله بتحریق بیوت التارکین للجماعات، ففی صحیحة ابن سنان، عن أبی عبد اللّه علیه السلام، قال: سمعته یقول:

«إنّ أناساً کانوا علی عهد رسول اللّه صلی الله علیه و آله أبطؤوا عن الصلاة فی المسجد، فقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله: لیوشک قوم یَدَعُون الصلاة فی المسجد أن نأمر بحطب فیوضع علی أبوابهم فیوقد علیهم نار فتحرق علیهم بیوتهم».(3)

ص:104


1- (2) تفسیر القمی 305:1.
2- (3) مجمع البیان 126:5.
3- (4) تهذیب الأحکام 25:3.

الرابع: الروایات الواردة فی تغریم المتاع مرّتین، فروی السکونی بسند لا بأس به، عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال:

«قضی النبیّ صلی الله علیه و آله فیمن سرق الثمار فی کمّه، فما أکل منه فلا شیء علیه، وما حمل فیعزر ویغرم قیمته مرّتین».(1)

والاستدلال به مبنیٌ علی کون تغریم القیمة مرّتین بیاناً للتعزیر، فیکون العطف تفسیریاً أو کونه متمماً له، وظاهر قوله: قضی النبی صلی الله علیه و آله أنّ الحکم کان حکماً ولائیاً منه صلی الله علیه و آله، لا حکماً فقهیاً.

الخامس: ما ورد فی تغریم من عذّب عبده قیمة العبد، ففی خبر مسمع بن عبد الملک، عن أبی عبد اللّه علیه السلام:

«أنّ أمیر المؤمنین علیه السلام رفع إلیه رجل عذّب عبده حتّی مات، فضربه مئة نکالاً، وحبسه سنة، وأغرمه قیمة العبد فتصدّق بها عنه»(2)، وفی روایة أخری عن أبی عبد اللّه علیه السلام:

«فی رجل قتل مملوکه، أنّه یضرب ضرباً وجیعاً، وتؤخذ منه قیمته لبیت المال»(3)، وفی روایة یونس عنه علیه السلام قال:

«سئل عن رجل قتل مملوکه، قال: إن کان غیر معروف بالقتل ضرب ضرباً شدیداً، وأخذ منه قیمة العبد ویدفع إلی بیت مال المسلمین».

السادس: جمیع موارد الکفارات الواردة من عتق الرقبة أو الصدقة بمال أو إطعام مسکین بمدّ أو إطعام ستّین مسکیناً أو إطعام عشرة مساکین

ص:105


1- (1) الکافی 230:7.
2- (2) الکافی 303:7.
3- (3) تهذیب الأحکام 236:10.

أو کسوتهم، حیث أنّها بأجمعها صرف المال، وتکون نوعاً من التأدیب والتعزیر وإن کانت أُموراً عبادیة یشترط فیها القربة، فیستأنس منها إمکان التعزیر بالمال.(1)

السابع: الاعتبار العقلی الموجب للوثوق بالحکم، بتقریب أنّ التعزیر لیس أمراً عبادیّاً تعبّدیاً محضاً شُرّع لمصالح غیبیّة لا نعرفها، بل الغرض منه هو تأدیب الفاعل وردعه، وکذا کلّ من رأی وسمع فیصلح بذلک الفرد والمجتمع، ولأجل ذلک فوّض تعیین حدوده ومقداره إلی الحاکم.

الثامن: الأولویة القطعیّة، فإنّ الإنسان کما یکون مسلّطاً علی ماله، فکذلک

یکون مسلّطاً علی نفسه وبدنه، بل هی ثابتة بالأولویّة القطعیّة، فإذا جاز نقض سلطنته علی بدنه وهتک حریمه بضربه وإیلامه بداعی الردع والتأدیب فلیجز نقض السلطة المالیة بطریق أولی، ولکن بهذا الداعی وبمقدار لابدّ منه لذلک، ویؤیّد ما ذکرناه استقرار سیرة العقلاء فی الأعصار المختلفة علی التغریم المالی فی کثیر من الخلافات.

وهذه الأمور بمجموعها تدلّ علی أنّ الغرامة المالیة مشروعة، وجاری التعامل بها فی مسائل متعددة من المسائل الفقهیة، وهذا یساعد فی مورد بحثنا من جهة أنّ التعزیر شرّع من أجل التأدیب والردع حتّی لا یتهاون

ص:106


1- (1) نظام الحکم فی الإسلام: 310.

الناس فی الحدود الإلهیة أو حقوق الناس، کما تشیر إلیه بعض الروایات کقوله علیه السلام:

«ولکن سنضربه حتّی لا یعود یؤذی المسلمین»، وفی روایة أخری

«ضربه ضرباً وجیعاً»(1)، فغرض الضرب التأدیب وعدم تکرار ما صدر منه والرجوع عن إیذاء المسلمین والنیل منهم أو التعرّض لهم، وإذا کان الغرض یتحقق بتغریمه وفرض عقوبة مالیة یرجع تحدیدها إلی تقدیر الحاکم ورؤیته، فلا مانع من ذلک والحکم بجواز التغریم المالی کعقوبة علی المخالفة الشرعیة.

قد یقال: إنّ فرض العقوبة المالیة یؤدّی إلی التهاون بالجریمة والاستخفاف بها، خصوصاً لدی الاغنیاء لوجود القدرة المالیة عندهم؟

والجواب: أنّ عقوبة التعزیر فرضت لأجل الردع والتأدیب للحفاظ علی انتظام المجتمع وعدم تعدّی بعضهم علی الآخر، وتقدیرها راجع إلی نظر الحاکم، فهو الذی یحدد مقدار الضرب أو یعفو عنه أساساً، فإذا ما لاحظ الحاکم أنّ الردع والتأدیب یتحقق من خلال فرض عقوبة مالیة معیّنة فیجوز له إقرار ذلک والعمل به؛ لأنّ الغرض هو إقرار النظام وعدم الإخلال به من قبل أفراد المجتمع بتجاوز البعض علی البعض الآخر، وهذا الغرض کما یتحقق بالضرب کذلک یتحقق بالغرامة المالیة وفرضها علی المعتدین لردعهم وکبح جنوحهم بالتمادی فی التعدّی والاستخفاف، وهذا بدوره لا یؤدّی إلی تمییع الجریمة والاستهانة بها من قبل المجرمین؛ لأنّ الغرض

ص:107


1- (1) الکافی 263:7.

قائم علی التأدیب والردع، فعلی الحاکم التحقق فی الأمر قبل القیام به، فإذا لاحظ أنّ الغرض یتحقق بالتغریم المالی فیجوز له إجراؤه والعمل به، وإن رأی أنّ الغرض لا یتحقق بالتغریم المالی فلا یجوز له العمل؛ لأنّ الردع لم یتحقق فلا معنی لأن یردع المذنب بأمر لیس برادع.

والإشکالیة ناشئة من وضع قانون عام للغرامة المالیة بشکل عام، وهذا ما یسبب فی بعض الأفراد التهاون والاستخاف بالجریمة والتعدّی علی حقوق الآخرین، خصوصاً عند بعض الأفراد المتموّلین، وهذه الإشکالیة صحیحة فی الجملة، والتخلّص منها یکون عن طریق إرجاع الأمر إلی تقدیر الحاکم الشرعی فی کلّ حالة یرد فیها تعدّ وخروج عن حدود الشریعة الإسلامیة مما یوجب التعزیر وتأدیب الفاعل، فإذا ما اشترطنا ذلک خرجنا من الإشکالیة المتقدّمة، وهی الاستخفاف بالحدود الشرعیة.

ص:108

فهرس مصادر

مقال حکم إبدال التعزیر بالغرامة المالیة وأثر ذلک فی التهاون بالجریمة

1 - الاستبصار فیما اختلف من الأخبار، محمّد بن الحسن الطوسی (ت 460)، تحقیق وتعلیق: السید حسن الخرسان، الناشر: دار الکتب الإسلامیة - طهران، الطبعة الرابعة 1363 ش.

2 - تذکرة الفقهاء، العلّامة الحلی (ت 726)، تحقیق ونشر: مؤسسة آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث - قم، الطبعة الأولی 1414 ه -.

3 - تفسیر القمی، علی بن إبراهیم القمی (نحو 329)، تصحیح وتعلیق: السید طیب الموسوی الجزائری، الناشر: مؤسسة دار الکتاب للطباعة والنشر - قم، الطبعة الثالثة 1404 ه -.

4 - تفصیل الشریعة فی شرح تحریر الوسیلة، الشیخ محمّد الفاضل اللنکرانی (ت 1428)، تحقیق ونشر: مرکز فقه الأئمة الأطهار علیهم السلام - قم، الطبعة الثانیة 1422 ه -.

5 - تهذیب الأحکام، محمّد بن الحسن الطوسی (ت 460)، تحقیق

ص:109

وتعلیق: السید حسن الخرسان، الناشر: دار الکتب الإسلامیة - طهران، الطبعة الثالثة 1364 ش.

6 - جواهر الکلام فی شرح شرائع الإسلام، الشیخ محمّد حسن النجفی (ت 1266)، تحقیق وتعلیق: الشیخ عباس القوجانی، الناشر: دار الکتب الإسلامیة - طهران، الطبعة الثانیة 1365 ش.

7 - دراسات فی ولایة الفقیه وفقه الدولة الإسلامیة، الشیخ المنتظری (ت 1430)، الناشر: المرکز العالمی للدراسات الإسلامیة - قم، الطبعة الأولی 1408 ه -.

8 - الدر المنضود فی أحکام الحدود، تقریر بحث السید الکلبایکانی، الشیخ علی الکریمی الجهرمی، الناشر: دار القرآن الکریم - قم، الطبعة الأولی 1412 ه -.

9 - ریاض المسائل فی بیان أحکام الشرع بالدلائل، السید علی الطباطبائی (ت 1231)، تحقیق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الأولی 1412 ه -.

10 - السرائر الحاوی لتحریر الفتاوی، محمّد بن منصور بن أحمد بن إدریس الحلی (ت 598)، تحقیق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الثانیة 1410 ه -.

11 - شرائع الإسلام فی مسائل الحلال والحرام، المحقق الحلی (ت 676)،

ص:110

تعلیق: السید صادق الشیرازی، الناشر: انتشارات استقلال - طهران، الطبعة الثانیة 1409 ه -.

12 - القضاء والشهادات، تقریر بحث السید الخوئی، الشیخ محمّد الجواهری، الناشر: منشورات مکتبة الإمام الخوئی - قم، الطبعة الأولی 1428 ه -.

13 - الکافی، محمّد بن یعقوب الکلینی (ت 328)، تصحیح وتعلیق: علی أکبر الغفاری، الناشر: دار الکتب الإسلامیة - طهران، الطبعة الخامسة 1363 ش.

14 - الکافی فی الفقه، أبو الصلاح الحلبی (ت 447)، تحقیق: رضا الأستادی، الناشر: مکتبة الإمام أمیر المؤمنین علی علیه السلام العامة - إصفهان.

15 - اللمعة الدمشقیة، الشهید الأوّل (ت 786)، الناشر: دار الفکر - قم، الطبعة الأولی 1411 ه -.

16 - مجمع البیان فی تفسیر القرآن، الفضل بن الحسن الطبرسی من أعلام القرن السادس، تحقیق وتعلیق: لجنة من العلماء والمحققین، الناشر: مؤسسة الأعلمی للمطبوعات - بیروت، الطبعة الأولی 1415 ه -.

17 - مسالک الإفهام إلی تنقیح شرائع الإسلام، زین الدین بن علی

ص:111

العاملی الشهید الثانی (ت 965)، تحقیق ونشر: مؤسسة المعارف الإسلامیة - قم، الطبعة الأولی 1413 ه -.

18 - مقالات فقهیة، السید محمود الهاشمی، الناشر: الغدیر للطباعة والنشر، الطبعة الأولی 1417 ه -.

19 - المقنعة، محمّد بن محمّد بن النعمان العکبری البغدادی الملقّب بالشیخ المفید (ت 413)، تحقیق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الثانیة 1410 ه -.

20 - مهذّب الأحکام فی بیان الحلال والحرام، السید عبد الأعلی السبزواری (ت 1414)، الناشر: مکتب آیة الله العظمی السید السبزواری، الطبعة الرابعة 1413 ه -.

21 - نظام الحکم فی الإسلام، الشیخ المنتظری (ت 1430)، تلخیص وتعلیق: لجنة الأبحاث الإسلامیة فی مکتبه، الطبعة الأولی 1380 ش.

22 - النهایة فی مجرد الفقه والفتاوی، محمّد بن الحسن الطوسی (ت 460)، الناشر: انتشارات قدس محمّدی - قم.

23 - وسائل الشیعة إلی تحصیل مسائل الشریعة، محمّد بن الحسن الحر العاملی (ت 1104)، تحقیق ونشر: مؤسسة آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث - قم، الطبعة الثانیة 1414 ه -.

ص:112

الأحکام التی توجب وهن الدین (قتل المرتد وساب النبی صلی الله علیه و آله إنموذجاً)

اشارة

بقلم: الشیخ رافد التمیمی

مقدّمة:

إنّ الدین الإسلامی قد اهتمّ بجمیع مفاصل الحیاة الإنسانیة، فقنّن القوانین، ووضع الأحکام التی تحدّد مسیرة هذا الکائن الحی العاقل، فجعل لکلّ تصرّف إنسانی حکماً معیّناً، وجعل لکلّ قوّة من قوی النفس قانوناً یحکمها، یحفظ حقوقها من جهة، ویمنعها من التجاوز علی حقوق غیرها، سواء ما یرتبط بالجانب الفردی أو الجانب الاجتماعی، من هنا کانت الأحکام الشرعیة تارة تمنع وأخری توجب وثالثة تحث ورابعة تبیح، وهکذا کانت الأحکام الشرعیة بین الحرمة والوجوب والاستحباب والکراهة والإباحة.

ومجموع هذه الأحکام تعتبر أحکام الدین، ولا یجوز تعدّیها، والعمل علی خلافها؛ لما یترتب علی ذلک من عقوبة أخرویة أو دنیویة أو کلیهما، وقد دار البحث فی الأوساط العلمیة من أنّه إذا صادف فی بعض الأحیان أنّ

ص:113

هناک أحکاماً أو فتاوی توجب وهن الدین، وتبرزه بصورة غیر لائقة بأهدافه وغایاته، فهل یستدعی ذلک تغییر تلک الأحکام؟ أو لا أقل من تعطیلها؟ أو لا یستدعی ذلک؟ فإن کان الجواب بالإیجاب فما هی آلیة ذلک؟ وإذا کان الجواب بالنفی فکیف یجاب عن إشکال الموهنیة؟ وفی هذا المقال سوف نتناول عیّنتین من الأحکام الشرعیة التی ادّعی أنّهما یوجبان وهن الإسلام، وأنّه لابدّ من تغییر حکمهما أو تعطیلهما، وهما: حکم قتل المرتد وقتل سابّ النبی صلی الله علیه و آله.

نقاط محوریة:

قبل الدخول فی بحث العیّنتین المتقدّمتین لابدّ من الإشارة إلی بعض النقاط المحوریة فی البحث، والتی من شأنها أن تضع النقاط علی الحروف، وتبیّن حقیقة الأمر بصورة أوضح، وتکشف الستار عن بعض الثوابت الإسلامیة التی لها مدخلیة مباشرة أو غیر مباشرة فی بحثنا هذا.

النقطة الأولی: الرحمة والغضب فی الدین الإسلامی

إنّ الدین الإسلامی هو دین الرحمة والرأفة والعطف والتسامح، وهذه حقائق قرآنیة روائیة واضحة جدّاً، فقرآننا قرآن الرحمة، ونبیّنا نبی الرحمة، ولکن کلّ هذا فی المورد الذی یستحقّ الرحمة، وفی قابل یقبل الرحمة والعطف والتسامح لا مطلقاً، من هنا نجد أنّ القرآن الکریم فی مواطن عدیدة هدد وأمر بالقتال والدفاع عن النفس وإیقاف المتجاوز عند حدّه،

ص:114

قال تعالی: (وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِباطِ الْخَیْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّهِ وَ عَدُوَّکُمْ)1 ، وقال تعالی: (قاتِلُوا الَّذِینَ لا یُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لا بِالْیَوْمِ الْآخِرِ وَ لا یُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ لا یَدِینُونَ دِینَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِینَ أُوتُوا الْکِتابَ حَتّی یُعْطُوا الْجِزْیَةَ عَنْ یَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ)2 ، وقال تعالی: (یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِینَ یَلُونَکُمْ)3 ، إلی غیر ذلک من الآیات القرآنیة التی تؤکّد أنّ هناک مواطن لا مجال للرحمة فیها والعطف، وهی فیما إذا کان الطرف المقابل لا یستحقّها، والتی یکون إجراؤها فیه ظلماً وقبیحاً لأنها وضع الشیء فی غیر موضعه، کما ونجد أنّ النبی الأعظم صلی الله علیه و آله قد خاض حروباً عدیدة، وأمر بقتل أناس مجرمین یستحقّون القتل، وبذلک یتبیّن أنّ الله تعالی کما هو غفور رحیم فهو شدید العقاب، فکما أنّ من أسمائه الرحمان والرحیم، کذلک من أسمائه المنتقم وشدید العقاب، وبذلک یتبیّن سذاجة من یقول: إنّ الأحکام التی تأمر بالقتل وما شاکل تتنافی مع رحمة الإسلام وتکون موهنة للإسلام، بل الصحیح أن یقال: إنّ أحکام القتل التی لیست فی محلّها هی التی توهن الإسلام، وبکلمة أخری نقول: إنّ استخدام القسوة فی موضع الرحمة یوجب وهن الإسلام، وکذا العکس، وأمّا استخدام القسوة فی محلّها، واستخدام الرحمة فی محلّها فهو أمر لابدّ منه، وهو منسجم مع

ص:115

مرتکزات الدین والفطرة والعقل السلیم، قال تعالی: (نَبِّئْ عِبادِی أَنِّی أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِیمُ * وَ أَنَّ عَذابِی هُوَ الْعَذابُ الْأَلِیمُ)1 .

النقطة الثانیة: حقیقة الحکم الظاهری

إنّ الأحکام الشرعیة تنقسم إلی قسمین: حکم واقعی وحکم ظاهری، والمقصود من الحکم الواقعی هو ذلک الحکم الذی یقطع بصدوره من المولی، وأنّه حکم الله فی لوح الواقع.

وأمّا الحکم الظاهری فهو ذلک الحکم الذی لا یقطع بنسبته إلی المولی تعالی؛ لأنّه أخذ فی موضوعه الشک، لذلک فإنّ الحکم الظاهری بما هو لیس بحجّة؛ لأنّه لا یعلم صدوره من المولی، ولکن قامت مجموعة من الأدلة علی اعتبار بعض الأحکام الظاهریة، فکانت تلک الأحکام حجّة ومعتبرة لا بنفسها وإنّما بدلیلها؛ لأنّ دلیلها قطعی، من قبیل: قیام الدلیل القطعی علی حجیة خبر الثقة، وحجیة الظهور، وما شاکل من هذه الأمارات، بل وحتّی الأصول العملیة التی هی اقل مرتبة من الامارات لیقام الدلیل القطعی علیها ایضاً، ولأجل ذلک اتّفق الفقهاء علی جواز نسبة الأحکام الظاهریة التی تکون من قبیل الأمارات إلی المولی تعالی، وهو ما یعرف عندهم بقیام الأمارة مقام القطع الطریقی، وبناء علی ذلک فإنّه لا یجوز مخالفة الحکم الظاهری، بحجة أنّه حکم ظاهری وأنّه لا یعلم نسبته

ص:116

إلی الله تعالی؛ لأنّ هذا خلط وتخبط بین نفس الحکم الظاهری وبین دلیله - وسیأتی بیان هذا الأمر أکثر عند الجواب عن بعض الإشکالات - فلا یرفع الید عن الحکم الظاهری إلاّ بحجة شرعیة أخری، وهذه الحجة الأخری إن کانت حکماً واقعیاً فقد انتفی الحکم الظاهری بانتفاء موضوعه، وإن کانت ظاهریاً فهو عمل بالحکم الظاهری أیضاً لا أنّه إبطال للحکم الظاهری، واختلاف المصداق لا یعنی الخروج عن الحکم الظاهری.

النقطة الثالثة: حکم المرتد وسابّ النبی صلی الله علیه و آله

من الأحکام التی اتّفق علیها الفقهاء فی أبحاثهم وفتاواهم هی قتل المرتد وقتل سابّ النبی صلی الله علیه و آله، فهی من المسائل الإجماعیة الواضحة فی الدین الإسلامی، والتی لم یخالف فیها أحد، وقد جاء فیها من الأخبار الکثیر حتّی ادّعی فیها التواتر الذی یوجب القطع بهذا الحکم، وأنّه من الأحکام الواقعیة فی الدین الإسلامی، قال الإمام الخمینی فی من سبّ الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله: «من سبّ النبی صلی الله علیه و آله - والعیاذ بالله - وجب علی سامعه قتله، ما لم یخف علی نفسه أو عرضه، أو نفس مؤمن أو عرضه، ومعه لا یجوز، ولو خاف علی ماله المعتد به أو مال أخیه کذلک جاز ترک قتله، ولا یتوقف ذلک علی إذن من الإمام علیه السلام أو نائبه، وکذا الحال لو سبّ بعض الأئمة علیهم السلام، وفی إلحاق الصدیقة الطاهرة علیها السلام بهم وجه، بل لو رجع إلی سبّ النبی صلی الله علیه و آله یقتل بلا إشکال»(1) ، وقال فی الارتداد: «ذکرنا فی المیراث

ص:117


1- (1) تحریر الوسیلة 429:2.

المرتد بقسمیه وبعض أحکامه، فالفطری لا یقبل إسلامه ظاهراً، ویقتل إن کان رجلاً، ولا تقتل المرأة المرتدة ولو عن فطرة، بل تحبس دائماً، وتضرب فی أوقات الصلوات، ویضیّق علیها فی المعیشة، وتقبل توبتها فإن تابت أخرجت عن الحبس، والمرتد الملی یستتاب فإن امتنع قتل، والأحوط استتابته ثلاثة أیام وقتل فی الیوم الرابع»(1) ، قال السیّد الخوئی فی من سبّ الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله: «یجب قتل من سبّ النبی صلی الله علیه و آله علی سامعه، مالم یخف الضرر علی نفسه أو عرضه أو ماله الخطیر ونحو ذلک، ویلحق به سبّ الأئمة علیهم السلام وسبّ فاطمة الزهراء علیها السلام، ولا یحتاج جواز قتله إلی الإذن من الحاکم الشرعی»(2) ، وقال فی الارتداد: «المرتد عبارة عمن خرج عن دین الإسلام، وهو قسمان: فطری وملی، الأوّل: المرتد الفطری هو الذی ولد علی الإسلام من أبوین مسلمین أو من أبوین أحدهما مسلم، ویجب قتله، وتبین منه زوجته، وتعتد عدّة الوفاة، وتقسم أمواله حال ردّته بین ورثته، الثانی: المرتد الملی وهو من أسلم عن کفر ثمّ ارتدّ ورجع إلیه، ولا تزول عنه أملاکه، وینفسخ العقد بینه وبین زوجته، وتعتد عدّة المطلقة إذا کانت مدخولاً بها»(3). إلی غیر ذلک من الفتاوی لکبار وعظماء الطائفة الحقّة ونفس هذا الحکم نجده عند فقهاء العامة أیضاً.

ص:118


1- (1) تحریر الوسیلة 445:2.
2- (2) مبانی تکملة المنهاج، موسوعة السید الخوئی 321:41.
3- (3) مبانی تکملة المنهاج، موسوعة السید الخوئی 391:41.
النقطة الرابعة: الوهن فی الدین

إنّ الکلام عن وهن الدین لابدّ من التطرّق فیه إلی بعض الأمور:

الأمر الأوّل: ما معنی وهن الدین؟

إنّ کلمة الوهن تعنی الضعف(1) ، فکلّ شیء یوجب ضعف الدین یعتبر أمراً موهناً ولابد من التحرّز عنه؛ لأنّ من الواضح جدّاً أنّ الهدف الأساس من سنّ الأحکام وتقنین القوانین إنّما یراد منه إعزاز الدین وتقویته ونشره؛ لأنّ الدین هو قانون ربّ العالمین وبعزّته یعتز المؤمنون، قال تعالی: (وَ لِلّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِینَ)2 . وجاء فی بعض الروایات عن الإمام الرضا علیه السلام من المنع عن الفرار فی الجهاد، معللاً ذلک بأنّه یوجب وهن الدین، قال علیه السلام:

«حرّم الله الفرار من الزحف؛ لما فیه من الوهن فی الدین، والاستخفاف بالرسل والأئمة العادلة»(2). فعنوان وهن الدین من العناوین التی توجب الاجتناب عما یحققها؛ لأنّه ضعف فی الدین، وهذا من الأمور الواضحة التی تکاد أن تکون اتّفاقیة بین المسلمین.

الأمر الثانی: من هو الذی یحکم بتحقق الوهن؟

هذا هو الأمر المهم فی مسألة تحقق الوهن، وأنّه کیف یکون أمراً مّا

ص:119


1- (1) مختار الصحاح: 377، تاج العروس 579:18.
2- (3) من لا یحضره الفقیه 565:3، واُنظر: عیون الأخبار 99:2، علل الشرائع 481:2.

موهناً للدین دون غیره؟ وکیف یکون شیئاً مّا فی مرحلة موهناً للدین وفی أخری لا یکون کذلک؟ ویترتب علی ذلک بشکل طبیعی أنّه یکون ممنوعاً فی حال موهنیته دون غیرها، من هنا وقع البحث فی من هو القاضی بتحقق الوهن؟

وفی مقام الجواب نقول: إنّ مفهوم الوهن فی الدین یعنی الضعف فیه، فهنا توجد إضافة فی الوهن وهی أنّه وهن فی الدین، وهذا یعنی أنّه لابدّ من معرفة الدین حتّی یعرف بتبعه الوهن والضعف فیه، فمن لا یعرف الدین لا یمکنه أن یحکم علی أمر مّا بأنّه موهن للدین أو لیس بموهن، وعلیه لابدّ أن یکون الحاکم بوهن الدین هو إنسان متخصص فی الدین، وهم فقهاؤنا العظام رحم الله الماضین وحفظ الباقین منهم، ومن هنا ینفتح البحث علی الکیفیة التی من خلالها یشخّص الفقیه تحقق وهن الدین من عدمه، وتحقق الأمور التی تؤدّی إلی وهن الدین، فنقول: إنّ الفقیه یصل إلی تلک النتیجة من خلال بعض الأمور والتی من أهمها العرف، وبحث العرف وما یرتبط به من المسائل الطویلة، لذلک لا نتعرّض لجمیع أبعادها، وإنّما نکتفی بقدر الحاجة، وهو ما معنی العرف؟ وما هی شرائطه وأقسامه؟

معنی العرف:

قد ذکر للعرف أکثر من معنی، أهمّها:

أوّلاً: «هی الحصیلة التی تتکوّن لدی الفقیه والباحث من خلال تواجده فی مجتمعه، ومن خلال مخالطته للآخرین طوال عمره بین الناس

ص:120

من دون التفات وعنایة بها، بل یتلقّی المسائل العرفیة بطریقة لا إرادیة، فهی أشبه بالدراسة الشخصیة للموارد العرفیة، فما یحکم به من أحکام علی الوقائع إنّما حکم بها لحکم العرف بها أیضاً».

ثانیاً: «أنّ مسألة العرف إنّما تستکشف بواسطة الاستقراء من قبل العالم والباحث حول مسألة معیّنة، لکن یجب أن یکون التنقیب حول الأعراف فی زمان سابق علی وصوله إلی مرحلة الابتلاء».

أقسام العرف:

ذکرت للعرف عدّة أقسام، نذکرها علی نحو العنونة:

الأوّل: العرف الصحیح والفاسد.

الثانی: العرف العام والخاص.

الثالث: العرف الحادث والمقارن والمتأخر.

الرابع: العرف المسلّم وغیر المسلّم.

الخامس: العرف القولی والعملی والارتکازی.

شرائط العرف:

لابدّ أن تتوفر عدّة شروط فی العرف حتّی یکون معتبراً ویصح الاعتماد علیه، وهی عبارة عن:

أوّلاً: أن یکون العرف مطّرداً أو غالباً.

ص:121

ثانیاً: أن یکون العرف عاماً.

ثالثاً: أن لا یعارض العرفَ تصریحٌ بخلافه من قبل المتکلّم أو المتصرّف.

رابعاً: أن یکون العرف موجوداً عند انشاء التصرّف.

خامساً: أن لا یکون العرف مخالفاً لأدلة الشرع.

سادساً: أن لا تکون المسألة العرفیة من المسائل التوقیفیة(1).

وهذا فی نفسه بحث موسّع لا مجال لطرقه هنا، ولکن نقول: إنّ الجهة التی یحقّ لها أن تحکم بتحقق الوهن هو الحاکم الشرعی المتصدّی لحفظ مصالح الدین وعموم المسلمین، وهذا أیضاً ضمن ضوابط معیّنة وشروط محددة لا کیفما کان؛ فإنّ الوهن هنا أضیف للدین فلابدّ إذن من تحقق ذلک بحکم من هو متخصص بالدین، وله معرفة أکثر من غیره بأحکام ربّ العالمین.

الإشکال الأوّل: موهنیة حکم قتل المرتد وسابّ النبی صلی الله علیه و آله للدین

بعد هذه النقاط المهمّة، والتی لها تأثیر بالغ علی بحثنا ندخل فی صلب الموضوع، ونبتدیء بهذا الإشکال: أنّ الحکم بقتل المرتد وسابّ النبی صلی الله علیه و آله - خصوصاً أنّه أوکل إجراء ذلک الحکم لمن سمعه - یوجب

ص:122


1- (1) انظر مقال: العرف والتقعید الأصولی، للشیخ صباح عباس الساعدی، المنشور فی العدد الأوّل من مجلة الإصلاح الحسینی.

وهن الدین، والدلیل علی ذلک أنّ الکثیر من العقلاء یرفضون مثل هذه الأحکام سواء من المتدیّنین أو من غیرهم، ولأجل ذلک فإنّ إجراء مثل هذه الأحکام یوجب تشویه صورة الإسلام، وإظهاره بشکل شرس ومتوحّش ومنفور، وهذا بعید عن رحمة الإسلام.

ثمّ علل صاحب الإشکال کلامه هذا بقوله: إنّ مثل هذه الأحکام الجزائیة کانت فی الزمان القدیم غیر موهنة، وأمّا الآن فهی کذلک، فعقلاء الأمس غیر عقلاء الیوم، ثمّ رتّب نتیجة علی ذلک بأنّ جمیع العقوبات الجسمیة، من قبیل: قتل القاتل، وقطع ید السارق، ورجم الزانی أو جلده، وأمثالها أصبحت أحکاماً منسوخة بحکم العقلاء؛ فهی موهنة للدین.

ثمّ أعطی هذا المستشکل بدائل جزائیة لتلک الجرائم، کأن تکون العقوبة مالیة مثلاً أو السجن.

جواب الإشکال:

قد أشار المستشکل إلی ثلاثة أمور:

1. إنّ مثل هذه العقوبات الجزائیة توجب وهن الدین، وتظهره بمظهر غیر لائق برحمته وعطفه وتسامحه.

2. إنّ الدلیل علی الموهنیة هو حکم الکثیر من العقلاء بأنّ مثل هذه العقوبات قد ولّی وقتها.

3. إنّ البدیل عن العقوبات الجزائیة لابدّ أن یکون عقوبة مالیة أو

ص:123

السجن مثلاً.

وقبل الدخول فی نقاش هذه الأمور الثلاثة لابدّ من الإشارة إلی نقطة مهمّة غفل عنها المستشکل، وهی:

التفریق بین أصل الحکم وبین إجراء الحکم

فإنّه تارة یدّعی أنّ أصل الإفتاء بالحکم هو الذی یوجب وهن الدین واضعافه، وأخری یدّعی أن تطبیق ذلک الحکم هو الذی یوجب الوهن، فإنّ هناک اختلافاً بین الأمرین.

أصل الحکم بالقتل یوجب الوهن:

إن کان قصد المستشکل هو أنّ أصل تلک الأحکام الجزائیة یوجب الوهن فی الدین، فیرد علیه:

أوّلاً: أنّ الأحکام الشرعیة من مختصّات الشارع الأقدس، ولا دخالة للعقلاء فی تحدید ذلک أو تغییره أو اقتراح حلول له، ف - «إنّ دین الله تعالی لا یصاب بالعقول»(1) ، فمهما تغیّرت آراء العقلاء فإنّ الأحکام الشرعیة تبقی ثابتة لا تتغیّر، واختلاف العقول والعادات والتقالید لا یؤثّر فیها شیئاً، ف - «حلال محمّد حلال أبداً إلی یوم القیامة، وحرامه حرام أبداً إلی یوم

ص:124


1- (1) کمال الدین: 324.

القیامة»(1) ، فلا علاقة للعقلاء ولا للعرف بتحدید الأحکام الشرعیة أو تغییرها، کما تقدّم ذلک عن الکلام عن العرف وشرائطه.

وإلّا فلو فتحنا الباب لمثل هذه الترّهات فلن یبقی من الدین شیء، فکلّ طائفة سوف تدّعی موهنیة بعض الأحکام، فالیوم الأحکام الجزائیة، وبالأمس أحکام العفة والحیاء ومخالطة المرأة للرجال، أو ضرورة التخلّص من مظاهر الدین؛ لأنّها تخالف روح التعایش وتبعث علی الکراهیة والتفرّق، وغداً ضرورة التخلّص من بعض العبادات؛ لأنّها توجب السخریة، أو تغییر بعض ممارسات الحجاج اللاعقلائیة، حتّی یصل الأمر إلی عبثیة الصوم وإسراف الخمس والزکاة و...، وبذلک یفقد الدین قیمته وحیویته وفائدته، ویتساوی المتدیّن مع غیره، وتتحد غایة الشیطان مع غایة الرحمن تحت هذه العناوین الواهیة.

إشکال وجواب:

الإشکال: ربما یقال: إنّ هناک مجموعة من الأحکام تعتبر من الأحکام المتغیّرة، وهذا یعنی أنّ لتلک الأحکام مدّة خاصّة ووقتاً معیّناً وشروطاً محددة بتغیّرها یتغیّر الحکم، وقد بحث هذا الأمر فی أبحاث مستقلة تحت عنوان الثابت والمتغیّر فی الدین، فلیس تغییر کلّ حکم هو التغییر المرفوض الذی تقدّم الإشکال علیه، بل إنّ هناک أحکاماً هی بذاتها متغیّرة، ولا تصلح لکلّ

ص:125


1- (1) الکافی 58:1.

زمان أو مکان، ولأجل ذلک فلربما تکون الأحکام الجزائیة من هذا القبیل، وأنّ تغیّرها لا یستدعی الإشکال المتقدّم.

وهذا الإشکال والتساؤل وإن لم یخطر ببال صاحب الإشکال المتقدّم إلّا أنّه حری بالطرح والإجابة.

الجواب: أنّ البحث عن الثابت والمتغیّر فی الدین من الأبحاث المهمّة والدقیقة، ولیس هنا مجال طرحها، ولکن نقول بصورة إجمالیة تفی بالغرض للجواب عن الإشکال المتقدّم: إنّ هناک قانوناً قاض بأنّ الأصل فی الأحکام هو الثبات، وأنّ هناک ضوابط وموازین لمعرفة الحکم الثابت من المتغیّر، وأنّ هذه الموازین اذا ما طبقناها فی المقام فسیظهر أنّ أکثر الأحکام الجزائیة والتی منها حکم قتل المرتد وسابّ النبی صلی الله علیه و آله من الأحکام الثابتة فی الدین.

الأصل فی الثابت والمتغیّر من الأحکام:

إنّ الأصل فی الأحکام هو الثبات، لا التغیّر، وعلی ذلک أدلة عدیدة، منها:

أوّلاً: الروایات، فإنّ هناک روایات عدیدة تثبت أنّ الأحکام الشرعیة ثابتة ولا تتغیّر، من قبیل الروایة المتقدّمة من أنّ حلال محمّد حلال مستمر وکذا حرامه، ومن قبیل قول الإمام الصادق علیه السلام:

«لأنّ حکم الله عزّوجل فی الأوّلین والآخرین وفرائضه علیهم سواء، إلّا من علة أو حادث یکون، والأوّلون والآخرون أیضاً فی منع الحوادث شرکاء والفرائض علیهم واحدة، یسأل الآخرون من أداء الفرائض عما یسأل عنه الأوّلون، ویحاسبون

ص:126

عما به یحاسبون»(1) ، وغیرها من الروایات.

ثانیاً: الإطلاق المقامی علی ثبات الأحکام وعمومها واستمرارها.

ثالثاً: ارتکاز المتشرّعة وعموم المسلمین علی استمرار الأحکام واشتراکها بین الجمیع.

رابعاً: أنّ تشریعات الأحکام علی نحو القضایا الحقیقیة إلاّ ما خرج بالدلیل، وهذا معنی الثبات.

خامساً: الاستصحاب، فلو شککنا فی تغیّر حکم ما نستصحب بقاءه.

إلی غیر ذلک من الأدلة والشواهد علی أنّ الأصل فی الأحکام هو الثبات، وأنّ الحکم المتغیّر یحتاج إلی قرینة قویة تخرجه من هذا الأصل، ومع عدم القرینة فالحکم بالثبات هو المتعیّن، وفی المقام فإنّه لا توجد أیّ قرینة علی أنّ أحکام القصاص والعقوبات الجزائیة من الأحکام المتغیّرة، بل إنّ القرائن والأدلة علی الخلاف، فإنّ هناک مجموعة من القرائن علی أنّ هذه الأحکام من الثابتات فی الدین.

موازین الثابت والمتغیّر:

هناک مجموعة من الموازین والقرائن التی تحدد الثابت من المتغیّر من الأحکام، وهی علی قسمین: قرائن خاصة وقرائن عامة:

ص:127


1- (1) الکافی 18:5.

أمّا العامة، فمنها:

أوّلاً: ثبات الموضوع، وهو یعنی أنّه إذا کان موضوع الحکم ثابتاً فإنّ الحکم یکون ثابتاً بتبعه ولا یتغیّر، وفی المقام فإنّ موضوع القصاص والعقوبات الجزائیة ثابت، فإنّ القتل هو القتل، والسرقة هی السرقة، وسبّ النبی هو سبّ النبی، لذلک حتّی صاحب الإشکال هنا لا یدّعی أنّ مرتکب هذه الجرائم لا یستحق العقوبة، بل هو یدّعی الاستحقاق إلّا أنّه غیّر نوع العقوبة، وهذا هو الذی لا یجوز؛ لأنّه مادام الموضوع ثابتاً فالحکم ثابت أیضاً، ولا یوجد أیّ مبرر لتغییره.

ثانیاً: ان لا یکون الموضوع بمتناول ید البشر بکلّ خصائصه وحیثیاته، بحیث لا یمکنهم التوصّل إلی جمیع خصوصیاته بمفردهم، فإذا کان الموضوع من هذا القبیل فإنّه لا یمکن الحکم بتغیّر الموضوع ما لم یتدخّل الشارع نفسه فی ذلک، وفی المقام فإنّ موضوعات القصاص وأحکامها أمور لیست بمتناول ید البشر، ولا یمکن للعقل البشری بمفرده أن یقف علی جمیع أبعادها وحیثیاتها، لأجل ذلک لا یحقّ لأحد تغییر تلک الأحکام، فما لم یغیّرها الشارع نفسه فهی أحکام ثابتة.

إلی غیر ذلک من القرائن العامة التی تعیّن الثبات علی التغیّر.

وأمّا القرائن الخاصة، فمنها:

أوّلاً: القرائن اللفظیة، بأن تکون هناک قرینة لفظیة تدلّ علی الثبات،

ص:128

کأن یکون نص الروایة مثلاً فیه تأبید، والقرائن فی روایات القصاص علی التأبید والثبات کثیرة جدّاً، فعلی سبیل المثال ما جاء فی حکم سابّ النبی، حیث قال أبو عبد الله علیه السلام:

«أخبرنی أبی أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله قال: الناس فیّ أسوة سواء من سمع أحداً یذکرنی فالواجب علیه أن یقتل من شتمنی ولا یرفع إلی السلطان، والواجب علی السلطان إذا رفع، إلیه الی أن یقتل من نال منّی»(1) ، فالروایة واضحة فی الثبات؛ لأنّ الناس فی هذا الحکم سواء.

ثانیاً: وجود الحکم فی القرآن والسنّة القطعیة، ومن الواضح الذی لا یختلف فیه اثنان أنّ الکثیر من الأحکام الجزائیة موجودة فی القرآن الکریم وفی آیات عدیدة کالقصاص، قال تعالی: (یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا کُتِبَ عَلَیْکُمُ الْقِصاصُ فِی الْقَتْلی الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ الْأُنْثی بِالْأُنْثی)2 ، والزنا قال تعالی: (الزّانِیَةُ وَ الزّانِی فَاجْلِدُوا کُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَ لا تَأْخُذْکُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِی دِینِ اللّهِ)3 ، والسرقة قال تعالی: (وَ السّارِقُ وَ السّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَیْدِیَهُما جَزاءً بِما کَسَبا نَکالاً مِنَ اللّهِ وَ اللّهُ عَزِیزٌ حَکِیمٌ)4 ، إلی غیر ذلک من الایات المبارکة، وهذا دلیل واضح جدّاً علی ثبات تلک الأحکام.

ثالثاً: صدور الحکم علی نحو القضیة الحقیقیة، ومن الواضح جدّاً أنّ

ص:129


1- (1) الکافی 266:7.

هناک مجموعة من روایات العقوبات الجزائیة صدرت علی نحو القضیة الحقیقیة کمعتبرة عمار الساباطی، حیث قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام یقول:

«کلّ مسلم بین مسلمین ارتدّ عن الإسلام وجحد محمّدا صلی الله علیه و آله نبوّته وکذّبه، فإنّ دمه مباح لمن سمع ذلک منه، وأمرأته بائنة منه یوم ارتد، ویقسّم ماله علی ورثته، وتعتد أمرأته عدّة المتوفی عنها زوجها...»(1). وفی الآیات القرآنیة الأمر أوضح.

رابعاً: وجود تلک الأحکام فی الشرائع السابقة، فإنّه دلیل علی استمرارها، وفی المقام فإنّ العقوبات الجزائیة الجسمیة کانت موجودة فی الشرائع السابقة، قال تعالی: (إِنّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِیها هُدیً وَ نُورٌ یَحْکُمُ بِهَا النَّبِیُّونَ الَّذِینَ أَسْلَمُوا لِلَّذِینَ هادُوا وَ الرَّبّانِیُّونَ وَ الْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ کِتابِ اللّهِ وَ کانُوا عَلَیْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النّاسَ وَ اخْشَوْنِ وَ لا تَشْتَرُوا بِآیاتِی ثَمَناً قَلِیلاً وَ مَنْ لَمْ یَحْکُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِکَ هُمُ الْکافِرُونَ * وَ کَتَبْنا عَلَیْهِمْ فِیها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ الْعَیْنَ بِالْعَیْنِ وَ الْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَ الْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَ السِّنَّ بِالسِّنِّ وَ الْجُرُوحَ قِصاصٌ)2 .

ولا نطیل الکلام فی هذا البحث فإنّ القرائن الکثیرة والشواهد العدیدة علی أنّ أکثر أحکام العقوبات الجزائیة فی الإسلام هی علی نحو القضایا الثابتة لا المتغیّرة، من هنا لا یحقّ لأیّ أحد تغییر تلک الأحکام أو نسخها

ص:130


1- (1) وسائل الشیعة 324:8، أبواب حد المرتد، ب 1، ح 3.

واستبدالها بأحکام جدیدة حسب الذوق والتشهی، ولعمری فإنّ هذا أسوء من قیاسات أبی حنیفة بکثیر، بل لو کان أبو حنیفة حیّاً لخجل من هذا الکلام السخیف.

ویرد علیه ثانیاً:

النقاش فی الصغری، فإنّ ما ادّعی من الوهن غیر ثابت، وذلک لأمور:

أوّلاً: أنّ الکثیر من المسلمین وهم الآن یشکّلون أکثر من خمسین دولة إسلامیة لا یرون أیّ وهن فی الأحکام الجزائیة فی الإسلام، بل یرون الأمر علی العکس، وأنّ هذه الأحکام ضروریة لاستقامة المجتمع وتحقیق العدالة الاجتماعیة، فهل أنّ هذه الدول وهذه المجتمعات لا تعدّ من العقلاء، فلا یحترم المستشکل رأیها؟!

ثانیاً: أنّ الکثیر من غیر المسلمین لا یرون أیّ بأس فی تنفیذ مثل أحکام الإعدام أو العقوبات البدنیة، فإنّ الکثیر من دول العالم غیر الإسلامی تعتقد وتنفّذ حکم الإعدام، فإنّ أکثر من عشرین ولایة إمریکیة مازالت تنفّذ حکم الإعدام وإلی یومنا الحاضر، هذا فضلاً عن بعض الدول الإفریقیة والآسیویة ودول أمریکا الجنوبیة، أفلا یعدّ هؤلاء من العقلاء بنظر المستشکل علی العقوبات الجزائیة البدنیة؟!

ثالثاً: أنّ نفس المستشکل اعترف أنّ الحکم بالوهن هو حکم کثیر من العقلاء لا أنّه حکم أکثر العقلاء فضلاً عن جمیعهم، فإذا کان الأمر

ص:131

کذلک فلماذا رجّح هذا المستشکل تلک الفئة القائلة بالوهن علی الفئة التی لا تقول بذلک؟ ألیس هذا تشهیاً واتّباعاً للرغبات النفسیة الشخصیة؟!

فإن قلت: لماذا انتم ترجّحون فئة العقلاء التی لا تری وهناً فی تلک الأحکام؟ فإنّ هذا أیضاً تشهی واتّباع للآراء الشخصیة، فما أشکلتم به علی صاحب الإشکال بنفسه یرد علیکم.

قلت: نحن لم نرجّح قولاً علی قول ولا فئة علی فئة، وإنّما رجّحنا حکم الله تعالی علی أحکام بعض الناس، لا أنّه رجّحنا حکم بعض الناس علی بعض.

رابعاً: أنّ مخالفة کثیر من عقلاء لأحکام الدین بصورة عامة فضلاً عن الأحکام الجزائیة أمر لیس بالجدید، فإنّ مثل هذه المخالفات کانت منذ القدم، وهذا هو القرآن یحدّثنا عن الإشکالات التی طرحتها الأقوام علی أنبیائها، والتی عبّر عنها القرآن الکریم بأنّ أکثرهم للحقّ کارهون، وأکثرهم لا یعلمون، فمادام ثبت أنّ هذه الأحکام هی الحق فلا یعتنی بمن خالفها، وهذا من واضحات الدین إلّا علی الذین عمیت أبصارهم وبصائرهم.

خامساً: أنّ مجمل شرائط الأخذ بالعرف العقلائی غیر متوفرة فی المقام کما هو واضح.

ویرد علیه ثالثاً:

إنّ مثل هذه الأحکام لا تخالف الرحمة الإسلامیة، ولا تظهر الإسلام

ص:132

بمظهر المتوحش الشرس؛ لأنّ هذه هی أحکام وقائیة جزائیة تکون تحت ظروف معیّنة، وفی حالة التجاوز علی الحقوق والأنفس والأعراض، فمن العدالة الإلهیة أن یقتص من الجانی بمثل ما ارتکب من جریمة، ومن الرحمة الإلهیة أن یؤخذ بحقّ المجنی علیه، ومن العلم الإلهی بحقائق الأمور تتعیّن العقوبات، فالرحمة الإلهیة لا تعارض العدل والقسط، بل إنّ نفس هذه الأحکام هی رحمة إذا ما نظرنا إلیها بعین المجنی علیه.

هذه ثلاث مناقشات علی المستشکل فیما إذا قصد أنّ الوهن متوجّه إلی نفس الأحکام الشرعیة الجزائیة.

تنفیذ الحکم یوجب الوهن:

وأمّا إن قصد أنّ الوهن ناتج من تنفیذ تلک الأحکام لا من نفس أصل تشریعها، فإنّه یرد علیه:

أوّلاً: أنّ إجراء وتنفیذ الأحکام الجزائیة لیس من قبیل الأحکام المتغیّرة، بل هو من الأحکام الثابتة، وما ذکرناه من القرائن والشواهد السابقة یأتی هنا.

ثانیاً: أنّ الکثیر من عقلاء الیوم لا یرون أیّ بأس أو توهین لمثل هذه الأحکام، بل الأمر علی العکس، وخصوصاً فی مثل إهانة الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله وسبّه، فقد انتفض العالم باجمعه علی الإهانة التی حصلت من خلال الفیلم المسئ للرسول صلی الله علیه و آله، وکانت الإدانة علی مستوی عالمی فضلاً

ص:133

عن عقلاء المسلمین، وکانت المطالبة بإنزال أشدّ العقوبات علی الفاعلین والمرتکبین لتلک الجریمة.

ثالثاً: أنّ فلسفة هذه الأحکام واضحة وهی تحقیق العدالة الاجتماعیة التی لا یستقیم المجتمع بدونها، ومن الواضح فإنّ العدل أمر مرغوب فیه عند العقلاء، ولأجل ذلک لا یعتنی بمن حصلت له شبهة تمنعه من قبول ذلک، وإلّا لو شرحنا وبیّنا لأیّ عاقل أنّ الإنسان الذی یقتل إنساناً بلا ذنب، ویعتدی علی عرضه وماله أنّه یستحق القتل، فمن البعید جدّاً أن یرفض هذا العاقل تلک العقوبة.

رابعاً: أنّه ربما یتم إیقاف تنفیذ مثل هذه الأحکام، ویکون ذلک لأسباب اضطراریة استثنائیة تحتم علی الفقیه - والفقیه وحده - أن یوقفها بشکل موقت، فلا یحقّ لأحد غیره اتّخاذ ذلک القرار، کما لا یحقّ له نفسه أن یبدّل الأحکام بشکل کلی، کلّ هذا ضمن شرائط محددة ومعیّنة.

خامساً: لو کانت العقوبة مالیة لوجدنا الاغنیاء یعیثون فی الأرض الفساد، کما حصل ذلک فی فترات من تاریخ البشریة، عند تسلّط الأغنیاء علی مقدّرات الأمور، ومن دون قانون محدد وواضح.

الإشکال الثانی: الأمر العقلائی مقدّم علی فتاوی الفقهاء

إنّ العقوبات الجزائیة الجسمیة قد نُهی عنها فی قانون حقوق الإنسان، وأصبحت تلک الأحکام من الأمور المرفوضة والمنفّرة والمنفورة، وهذا أمر

ص:134

عقلائی، وفی حال تعارض هذا الأمر مع فتاوی الفقهاء فإنّ الراجح هو الحکم العقلائی، والمرجوح هو حکم الفقهاء، وهذا المرجوح لیس هو حکم الله، فإنّ هذه الأحکام من الأحکام الظاهریة، وبناء علی مذهب العدلیة المخطئة فیمکن أن لا تکون تلک الفتاوی هی حکم الله، فإذا عارضها البناء العقلائی فیکون هو الراجح وهی المرجوح.

ثمّ أجاب المستشکل عن إشکال مقدّر حاصله: أنّ الأحکام الجزائیة الجسمیة من الأحکام الثابتة فی القرآن والسنّة فکیف یصح تغییرها تبعاً للعقلاء؟

فأجاب: أنّ هذه الأحکام أصلها موجود، ولم تکن موهنة فی تلک الأزمان، أمّا الیوم فبعد حکم العقلاء بموهنیتها فلابدّ من تغییرها، وعدم تغییرها إنّما هو فهم الفقهاء الخاطئ والمرجوح، وهذا لیس حکم الله.

الجواب عن الإشکال الثانی:

قد أشار المستشکل فی هذا الإشکال إلی ثلاث نقاط:

1. إنّ حکم العقلاء کما هو فی قانون حقوق الإنسان علی خلاف الأحکام الجزائیة البدنیة من القتل والقطع والرجم وما شاکل، وحکم العقلاء هذا مقدّم علی تلک الأحکام.

2. إنّ تلک الأحکام لیست هی أحکام الله الواقعیة، وإنّما هی أحکام ظاهریة تتبع رأی الفقیه.

3. لیس الإشکال علی أصل وجود الأحکام الجزائیة فی الإسلام، وإنّما الإشکال علی استمرارها بحکم الفقهاء.

ص:135

الجواب عن النقطة الأولی:

أمّا النقطة الأولی من الإشکال فیرد علیها:

أوّلاً: أنّ قانون حقوق الإنسان لا یمثّل آراء العقلاء جمیعاً، فإنّ من وضعه فئة خاصّة، وتحت ظروف خاصة، وقد روعیت فیه مصالح خاصة، وهذا أمر لیس محل بحثه هنا، ولیست هذه الأمور خفیة علی أحد. وهذا لا یعنی أنّه لا توجد مشترکات بین قانون حقوق الإنسان والأحکام الإسلامیة، فإنّ الإسلام دین الفطرة، وإنّما الکلام فیما إذا وقع تعارض بین قوانین حقوق الإنسان وبین قوانین الإسلام، فمن هو المقدّم؟ فتقدیم قانون حقوق الإنسان أوّل الکلام، بل لا یمکن قبوله لما سیأتی.

ثانیاً: أنّ الکثیر من البشر لم یقبلوا قانون حقوق الإنسان، ولم یعملوا بکلّ ما فیه، وإنّما عملوا بما ینسجم مع دینهم وتوجّهاتهم من ذلک القانون، فإنّ المسلمین لهم قوانین تختلف عن قوانین حقوق الإنسان، وکذا الهندوس والیهود، وحتّی الملاحدة والشیوعیین، فکیف یدّعی بعد ذلک ضرورة تغییر الأحکام الإسلامیة تبعاً لقانون حقوق الإنسان، وهو لیس محل اتّفاق عند أبناء البشر؟!

ثالثاً: أنّ قانون حقوق الإنسان یخالف الأحکام الإسلامیة فی مجموعة من الأمور، فلو قبلنا بهذه هنا للزم قبولها فی الجمیع، وهذا یعنی تغیّر الکثیر من الأحکام الإسلامیة الثابتة، کأحکام الإرث، والرجل والمرأة، ومسائل

ص:136

الزواج، والدیات، والحدود، إلی غیر ذلک. ولعمری إنّ هذا الرأی یجعلنا نترحّم علی أمثال أبی حنیفة.

الجواب عن النقطة الثانیة:

وأمّا النقطة الثانیة من الإشکال فیرد علیها:

أوّلاً: صحیح أنّ المذهب الجعفری مذهب مخطئة، وهو یعنی أنّ الأحکام الظاهریة یمکن أن لا تطابق الواقع، ولکن هذا لا یعنی أنّ الحکم الظاهری یمکن رفع الید عنه بسهولة، حیث تقدم منّا فی النقطة الثانیة فی حقیقة الحکم الظاهری أنّه لا یجوز رفع الید عن الحکم الظاهری إلّا بحجة شرعیة؛ لأنّ الحکم الظاهری قد ثبت بحجة قطعیة، لا یجوز تخطیها بدون دلیل أو برهان.

ثانیاً: قد ثبت فی محلّه أنّ الحکم الظاهری کالأمارات تقوم مقام القطع الطریقی، من هنا جاز إسناد مؤدّاها إلی المولی، ویصح أن یقال: إنّ هذا هو حکم الله، فمن یرید أن یثبت خلاف ذلک فعلیه البحث والتأصیل لأصول جدیدة خاصة به، علی أن تکون منسجمة وقائمة علی الدلیل والبرهان، لا علی الذوق والتشهی وشیء من الجهل والغفلة.

الجواب عن النقطة الثالثة:

وأمّا النقطة الثالثة من الإشکال فیرد علیها:

أوّلاً: أنّ ثبات الأحکام هو الأصل فی المسألة کما تقدّم بیانه، فمادام

ص:137

المستشکل یری تغیّرها علیه أن یبدی الدلیل علی ذلک.

ثانیاً: أنّ القرائن والشواهد تدل علی ثبات تلک الأحکام ودوامها، کما تقدّم.

ثالثاً: کان علی المستشکل أن یفرّق بین أصل الحکم وتنفیذه، حتّی لا یقع فی الخلط، کما تقدّم منّا بیان ذلک.

وبذلک یثبت بطلان دعوی الموهنیة کبری وصغری.

الإشکال الثالث: لا فرق بین حکم قتل المرتد وسابّ النبی صلی الله علیه و آله وبین حکم الرجم

قد صرّح مجموعة من الفقهاء أنّ اجراء حکم الرجم یعطّل فیما إذا کان إجراؤه موجباً لوهن الدین وتشویه صورة الإسلام، کما لو أنّ هذا الحکم لم یبیّن بشکله الصحیح وفلسفته الحکیمة، وکذلک الأمر فی بقیة الحدود، وعلیه فالمدّعی أنّ حکم قتل المرتد وسابّ النبی من هذا القبیل، فلابدّ أن یعطّل.

جواب الإشکال:

أوّلاً: من الواضح أنّ هذا الإشکال إنّما یکون فی دائرة تنفیذ الأحکام لا أصل تشریعها، بخلاف ما حاول أن یستفیده البعض من هذا الإشکال.

ثانیاً: أنّ هناک فرقاً بین قتل المرتد وبقیة الحدود، من جهة أنّ هذا الحکم بذاته وحقیقته إنّما أرید به ردع الکفّار والمتجاوزین علی الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله، ففی حقیقته یوجد الغضب والانتقام والتصدّی، ولأجل ذلک

ص:138

ان کان الوهن المدّعی سببه هو هذا، وأنّه یظهر الإسلام بغیر مظهر الرحمة، فإنّ هذا هو المطلوب من مثل هذه الأحکام، وإن کان المقصود الموهنیة بسبب شیء آخر - لأیّ سبب کان - فهذا یوجب تعطیل الحکم فی تلک الظروف خاصة فقط، لا أنّه یبدّل ویغیّر علی الدوام، ویعتبر منسوخاً بحکم العقلاء.

ثالثاً: أنّ تحدید الموهنیة وایقاف العمل بتنفیذ تلک الأحکام إنّما یکون بید الحاکم الجامع للشرائط، وبید الولی الفقیه، ولا یحقّ لأحد غیره التدخّل فی ذلک، فله الحقّ بإیقاف تنفیذ تلک الأحکام بحسب ما یراه من مصلحة، فالإشکال علی الفقهاء بعدم تغییرهم تلک الأحکام واضح البطلان جدّاً؛ لأنّ المستشکل إن کان منهم فهو یحکم بقناعته وخبرته وعلمه، ولیس کلامه حجّة علی غیره، إلّا إذا کان أمراً ولائیاً، وإن لم یکن هذا المستشکل من الفقهاء فقوله لیس بحجة حتّی علی نفسه فضلاً عن غیره، وما أجمل ما قیل: رحم الله أمرئاً عرف قدر نفسه.

والنتیجة: لو کانت هناک موهنیة بالفعل فإنّ تحدیدها والبتّ بها إنّما هو بید الفقیه الجامع للشرائط، لا أنّه أمر بید العقلاء یغیّرونه حسب أذواقهم وما یرونه من مصلحة.

فإن قلت: إنّ الفقیه من العقلاء فکیف تجیزون لعاقل واحد تغییر ذلک دون مجموعة من العقلاء؟

قلت: إنّ هذا الإذن للفقیه لیس بما أنّه من العقلاء فقط، بل بما أنّه

ص:139

خبیر بأمور الدین، وهو الموصی إلیه بالوصیة العامة من قبل الإمام المعصوم علیه السلام لإدارة أمور المجتمع الإیمانی، فالفقیه یعتبر النائب العام لولی الدین الذی هو الإمام المعصوم علیه السلام، فلأجل هذا المنصب جاز له تحدید مثل تلک الأمور، ومع ذلک لیس هو مطلق التصرّف، بل لابدّ له من مراعاة الشروط والقواعد فی ذلک.

الإشکال الرابع: ابتعاد الفقهاء عن موازین نبی الرحمة

إنّ السبب الذی أدّی بالفقهاء إلی الحکم بمثل قتل المرتد وسابّ النبی صلی الله علیه و آله هو ابتعادهم عن موازین وقوانین نبی الرحمة، وابتعادهم عن القرآن الکریم، وإلّا لو رجعوا إلی القرآن الکریم لوجدوا أنّ القرآن یکرّم الإنسان، فکرامة الإنسان قبل المعتقد(وَ لَقَدْ کَرَّمْنا بَنِی آدَمَ)1 ، لذلک لا یجوز قتله وإهانته؛ لأنّه خرج عن دین الإسلام بقناعته، فمثل هذه الأحکام تخالف روح الدین والقرآن، لذلک من الخطأ أن یستنبط حکم شرعی من بعض الآیات والروایات، بل لابدّ أن ینظر إلی مجموع الدین، ثمّ یکون الاستنباط.

فإن قلت: إنّ هذا الإشکال علی الإسلام إنّما جاء بعد الاستعمار وبحجة قانون حقوق الإنسان، فلابدّ أن لا یعتنی بقولهم؛ لأنّهم أعداء الدین وأعداء الشعوب الإسلامیة.

قلت: انظر لما قیل ولا تنظر لمن قال، فالحقّ أحقّ أن یتبّع وإن کان

ص:140

من الأعداء، فلیس کلّ شیء قاله المحتل المستعمر فهو مرفوض، بل عندهم علوم کثیرة یجب أن تؤخذ منهم وهذه منها، فإنّ حقوق الإنسان إنّما هو نتاج العقل البشری، وهو ملک الجمیع، وإن حاول البعض أن یستفید منه بشکل خاطئ.

جواب الإشکال:

قد أشار المستشکل إلی مجموعة قضایا، وهی:

1. إنّ موازین الفقهاء وخصوصاً المتأخرین منهم علی خلاف موازین نبی الرحمة صلی الله علیه و آله.

2. إنّ الرؤیة القرآنیة التی ابتعد عنها الفقهاء تکرّم بنی آدم، والحکم بالقتل لأجل المعتقد خلاف ذلک.

3. من الخطأ أن ینظر إلی الدین بما هو مجزأ، بل لابدّ أن ینظر إلیه کشیء واحد.

4. إنّ قانون حقوق الإنسان لابدّ أن یؤخذ به وإن کان من جاء به أناس کاذبون یریدون استخدامه فی غایات مرفوضة.

أمّا النقطة الأولی فهی لا تستحقّ الجواب أصلاً.

وأمّا النقطة الثانیة فإنّ القرآن قد کرّم بنی آدم بجنسهم لا کلّ فرد فرد، وإلّا فالآیات القرآنیة التی تذم وتلعن وتهین کثیرة، وذلک لمن یستحق الإهانة والذم واللعن، قال تعالی: (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَکْثَرَهُمْ یَسْمَعُونَ أَوْ یَعْقِلُونَ إِنْ

ص:141

هُمْ إِلاّ کَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِیلاً)1 ، وقال تعالی: (وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ کَثِیراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا یَفْقَهُونَ بِها وَ لَهُمْ أَعْیُنٌ لا یُبْصِرُونَ بِها وَ لَهُمْ آذانٌ لا یَسْمَعُونَ بِها أُولئِکَ کَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِکَ هُمُ الْغافِلُونَ)2 ، وقال تعالی: (إِنَّ الَّذِینَ یَکْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَیِّناتِ وَ الْهُدی مِنْ بَعْدِ ما بَیَّنّاهُ لِلنّاسِ فِی الْکِتابِ أُولئِکَ یَلْعَنُهُمُ اللّهُ وَ یَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ)3 فهل یعنی هذا أنّ القرآن یناقض نفسه؟! وهذا هو الذی بیّناه فی النقطة الأولی فی صدر البحث.

وأمّا النقطة الثالثة فهی حقّ، وعلیها العمل من قبل فقهائنا العظماء، فهم ینظرون إلی الدین بنظرة واحدة متکاملة، لذلک لا یحکمون بحکم ولا یستنبطون من آیة أو روایة إلّا بعد النظر فی معارضاتها ومخصصاتها ومقیداتها والعمومات الأخری والمرتکزات الدینیة، بل وحتّی العقلائیة والإطلاقات اللفظیة والمقامیة والقرائن المتصلة والمنفصلة إلی غیر ذلک، وأمّا اتّهامهم بخلاف ذلک فهو کذب وافتراء أو جهل مرکب.

وأمّا النقطة الرابعة فهی المصداق الأوضح لعنوان المصادرة، فإنّ الکلام فی بطلان فقرات ذلک القانون التی تعارض الأحکام الإسلامیة، فکیف تؤخذ صحتها أمرا مسلّماً؟!

ص:142

فهرس مصادر

مقال الاحکام التی توجب وهن الدین

1 - تاج العروس فی جواهر القاموس، السید محمّد مرتضی الحسینی الزبیدی، تحقیق: علی شیری، نشر: دار الفکر، سنة الطبع 1414 ه -، بیروت - لبنان.

2 - تحریر الوسیلة، الإمام الخمینی، نشر: مؤسسة النشر الإسلامی، الطبعة العاشرة 1425 ه -، قم - إیران.

3 - تکملة المنهاج (ضمن منهاج الصالحین)، السید الخوئی، نشر: مدینة العلم، الطبعة الثامنة والعشرون 1410 ه -.

4 - العرف والتقعید الأصولی، صباح عباس الساعدی، مجلة الإصلاح الحسینی، العدد الأول.

5 - علل الشرائع، الشیخ الصدوق، تقویم: السید محمّد صادق بحر العلوم، نشر: المکتبة الحیدریة، سنة الطبع 1385 ه -، النجف الأشرف - العراق.

ص:143

6 - عیون أخبار الرضا، الشیخ الصدوق، تصحیح و تعلیق: الشیخ حسین الأعلمی، نشر: مؤسسة الأعلمی، سنة الطبع 1404 ه -، بیروت - لبنان.

7 - الکافی، محمّد بن یعقوب الکلینی، صححه وعلّق علیه: علی أکبر الغفاری، نشر: دار الکتب الإسلامیة، الطبعة الخامسة 1363 ش، طهران - إیران.

8 - کمال الدین و تمام النعمة، الشیخ الصدوق، تصحیح و تعلیق: الشیخ علی أکبر الغفاری، نشر: مؤسسة النشر الإسلامی، سنة الطبع 1405 ه -، قم - إیران.

9 - مختار الصحاح، محمّد الرازی، ضبط و تصحیح: أحمد شمس الدین، نشر: دار الکتب العلمیة، الطبعة الأولی 1415 ه -، بیروت - لبنان.

10 - من لا یحضره الفقیه، الشیخ الصدوق، تحقیق و تصحیح: علی أکبر الغفاری، نشر: مؤسسة النشر الإسلامی، الطبعة الثانیة، قم - إیران.

11 - وسائل الشیعة، الحرّ العاملی، نشر و تحقیق: مؤسسة آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث، قم - إیران، 1414 ه -.

ص:144

حکم عقوبة الاتّجار بالإنسان الحر

اشارة

بقلم: الشیخ لؤی المنصوری

ذکر الفقهاء حدّ بیع الإنسان الحر - سواء کان کبیراً أم صغیراً - تبعاً لورود النصّ فیه إلّا أنّهم اختلفوا فی تعلیله، فهل یجری علیه حدّ السرقة أو حدّ الإفساد أو حدٌّ مستقلٌ عنهما أو لا یجری علیه الحد أصلاً؟ وعلی الاحتمالین الأوّل والثالث فالحد القطع، وعلی الاحتمال الثانی فاستشکل فی تحدیده من جهة ورود النص بالقطع ومن جهة التخییر فیه بین القتل وقطع الید والأرجل من خلاف والنفی، وعلی الاحتمال الرابع فلا قطع علیه وإن کان للحاکم تعزیره من أجل حسم الفساد والتأدیب.

وصور مسألة بیع الحر علی النحو التالی:

الأولی: أن یسرق حراً صغیراً ویبیعه.

الثانیة: أن یسرق حراً صغیراً ولا یبیعه.

الثالثة: أن یسرق حراً کبیراً ویبیعه.

الرابعة: أن یسرق حراً کبیراً ولا یبیعه.

ص:145

الخامسة: التواطؤ بینهما علی بیع أحدهما الآخر.

السادسة: أن یبیع الرجل زوجته.

وقبل نقل کلمات الفقهاء وأدلتهم نذکر الأخبار الواردة فی المقام لمعرفة صحتها من عدمها، ومن خلال دراستها تتضح أحکام صور المسألة:

الروایة الأولی: موثق السکونی: «عن علی بن إبراهیم، عن أبیه، عن النوفلی، عن السکونی، عن أبی عبد الله علیه السلام أنّ أمیر المؤمنین علیه السلام أتی برجل قد باع حراً فقطع یده».(1)

والروایة موثقة لحسن حال کلّ من الحسین بن یزید النوفلی وإسماعیل بن أبی زیاد السکونی.

وهی مطلقة من حیث کون الحر کبیراً أو صغیراً، وخالیة من لفظ السرقة.

الروایة الثانیة: خبر طریف: «محمّد بن یحیی، عن محمّد بن الحسین، عن حنان بن معاویة، عن طریف بن سنان الثوری قال: سألت جعفر بن محمّد علیهم السلام عن رجل سرق حرة فباعها؟ قال: فقال: فیها أربعة حدود: أمّا أوّلها فسارق تقطع یده، والثانیة إن کان وطأها جلد الحد، وعلی الذی اشتری إن کان وطأها وقد علم إن کان محصناً رجم، وإن کان غیر محصن جلد الحد، وإن کان لم یعلم فلا شیء علیه، وعلیها هی إن کان استکرهها

ص:146


1- (1) الکافی 229:7، باب حدّ من سرق حراً فباعه.

فلا شیء علیها، وإن کانت أطاعته جلدت الحد».(1)

والخبر ضعیف لجهالة کلّ من حنان بن معاویة وطریف بن سنان الثوری.

ومطلقة من حیث الکبر والصغر، وواردة بلفظ السرقة.

الروایة الثالثة: خبر سنان بن طریف: «محمّد بن علی بن محبوب، عن العبّاس بن موسی، عن یونس بن عبد الرحمان، عن سنان بن طریف قال: سألت أبا عبد الله علیه السلام عن رجل باع امرأته؟ قال: علی الرجل أن تقطع یده، وعلی المرأة الرجم إن کانت وطئت، وعلی الذی اشتراها إن وطأها وکان محصناً أن یرجم إن علم بذلک، وإن لم یکن محصناً ضرب مئة جلدة».(2)

والخبر حسن؛ لأنّ سنان بن طریف إمّا الهاشمی أو الثوری وکلاهما مقبول الروایة.(3)

ص:147


1- (1) تهذیب الأحکام 113:10.
2- (2) تهذیب الأحکام 113:10.
3- (3) تعلیقة علی منهج المقال: 197. ویحتمل قویاً أنّهما شخص واحد وإن ذکر أنّ أحدهم الثوری والآخر مولی بنی هاشم فاستبعد الاتّحاد، إلاّ أنّ هذا الاستبعاد ینتفی بملاحظة أنّ مولی لا تستلزم أنّه غیر عربی، کما کان یقال لابن مسعود: إنّه عبد آل محمّد صلی الله علیه و آله مع کونه عربیاً، قال الشیخ اللنکرانی: «ولا یخفی أنّ صاحب الوسائل حکی فی الباب الثامن والعشرین من أبواب حدّ الزنا روایتین عن الشیخ، إحداهما عن طریف بن سنان، والأُخری عن سنان بن طریف، مشتملتین علی مثل هذه الروایة الأخیرة، والظاهر اتّحاد الروایات الثلاث وعدم کونها متعدّدة، غایة الأمر وقوع الاشتباه فی الراوی کما لا یخفی».

وهو صریح فی الکبیر وفی عدم السرقة.

ویحتمل الاتّحاد مع ما تقدم لاتّحادهما فی الألفاظ والمعنی إلّا فی التقدیم والتأخیر.

الروایة الرابعة: «وعن أبی جعفر وأبی عبد الله علیهم السلام - کذلک قال صاحب الحدیث - عن أحدهما أنّه قال: فی الرجل یبیع امرأته؟ قال: تقطع یده، فإن کان الذی اشتراها علم بأنّها حرة فوطأها رجم إن کان محصناً، أو ضرب الحد إن لم یکن محصناً، وترجم هی إذا طاوعته».(1)

والخبر ضعیف السند لجهالة الراوی، وهو متّحد مع الحدیثین السابقین.

الروایة الخامسة: خبر النهدی: «علی بن إبراهیم، عن أبیه، عن محمّد بن حفص، عن عبد الله بن طلحة قال: سألت أبا عبد الله علیه السلام عن الرجل یبیع الرجل وهما حرّان، یبیع هذا هذا وهذا هذا، ویفرّان من بلد إلی بلد، فیبیعان أنفسهما ویفران بأموال الناس؟ فقال: تقطع یدیهما؛ لأنّهما سارقان أنفسهما وأموال الناس».(2)

والروایة ضعیفة السند عند المشهور لجهالة محمّد بن حفص.

وبعد احتمال الاتّحاد قویاً بین الأخبار الثلاثة - الثانیة والثالثة والرابعة -

ص:148


1- (1) دعائم الإسلام 467:2.
2- (2) الکافی 230:7.

مع ضعفها، وضعف الخبر الخامس فلا یبقی إلّا الخبر الأوّل وهو موثقة السکونی.

نعم، ذکروا أنّ الشهرة عاضدة لضعفها، قال فی الجواهر: «ودعوی ضعف النصوص المزبورة - ولا جابر لها سوی الشهرة المحکیة، وفی حصوله بها نوع مناقشة، سیّما مع رجوع الشیخ الذی هو أصلها عمّا فی النهایة - واضحة الفساد بعد تحقق الشهرة المزبورة علی القطع».(1)

وأضاف الشیخ اللنکرانی فی ردّ من شکک بالشهرة لرجوع الشیخ عنها فقال: «إنّ عبارة الخلاف لا یستفاد منها نفی القطع مطلقاً، بل غایة مفادها عدم ثبوت القطع من جهة السرقة التی یعتبر فیها المالیّة بمقدار النصاب».(2)

وفی کلامه نظر من جهة أنّ الشیخ نفی القطع وعلله بالإجماع والأخبار، ولم یذکر بائع الحر فی حدّ المحاربة فی کتاب الخلاف(3) ، وتعریفه المحاربة بأنّها «قطّاع الطریق الذین یشهرون السلاح، ویخیفون السبیل»(4) ، ولم یذکره کحدّ مستقل؛ یشهد علی نفی الشهرة علی القطع

ص:149


1- (1) جواهر الکلام 511:41. والظاهر أنّ کلامه ردّ علی سیّد الریاض، حیث قال الأخیر: «إلاّ أن تردّ بقصور أسانیدها، وعدم وضوح جابر لها عدا الشهرة المحکیّة، وفی حصوله بها نوع مناقشة، سیّما مع رجوع الشیخ الذی هو أصلها عمّا فی النهایة». ریاض المسائل 114:16.
2- (2) تفصیل الشریعة فی شرح تحریر الوسیلة: 550.
3- (3) الخلاف 457:5.
4- (4) المصدر السابق.

مطلقاً لا علی القطع من جهة السرقة خاصّة.

نعم، تبقی المناقشة الأُولی من أنّ رجوع الشیخ عن رأیه من نفی القطع لا یستلزم عدم تحقق الشهرة خارجاً، لکن یعارضه کلامه فی المبسوط: «إن سرق حراً صغیراً روی أصحابنا أنّ علیه القطع، وبه قال قوم، وقال أکثرهم: لا یقطع»(1) ، فلاحظ.

رأی الفقهاء فی المسألة:

اختلف الفقهاء فی تعلیل الحکم بقطع ید بائع الحر بعد الاتّفاق علی أصل الحکم، وفی المقام یوجد لدینا ثلاثة آراء، نذکرها مع أدلتها، وملاحظة ما یرد علیها، ثمّ نختار الراجح منها.

القول الأوّل: ذهب المشهور إلی ثبوت حدّ القطع فی سرقة الحر الصغیر وبیعه وإن اختلفوا فی تعلیله من جهة السرقة أو الفساد، قال الشیخ الطوسی: «إن سرق حراً صغیراً روی أصحابنا أنّ علیه القطع، وبه قال قوم، وقال أکثرهم: لا یقطع، ونصرة الأوّل قوله: (وَ السّارِقُ وَ السّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَیْدِیَهُما) ولم یفرّق».(2)

والتقیید بالصغیر ذکره جملة من الفقهاء، قال الشهید الثانی: «قیّده فی

ص:150


1- (1) المبسوط 31:8.
2- (2) المبسوط 31:8.

المبسوط بالصغر، وتبعه الأکثر»(1) ، منهم الطبرسی(2) ، وابن إدریس(3) ، وابن سعید(4) ، والصیمری(5) ، والعلّامة الحلی(6) ، والفاضل الهندی(7).

وتقیید الشیخ بیع الحر بالصغیر لم یظهر له وجه مع إطلاق موثقة السکونی وتصریح بقیّة الأخبار بالکبیر، قال الفاضل الهندی: «وقید الصغر ممّا فصّله الشیخ فی الخلاف والمبسوط وتبعه غیره، مع إطلاق الخبر الأوّل، وکون البواقی فی الکبیر؛ لأنّ الکبیر فی الأکثر متحفّظ بنفسه لا یمکن بیعه، وإلّا فالحکم عامّ کما نصّ علیه فی التحریر».(8) وعلی ذلک فلا وجه للتقیید.

والتعلیل بالتحفّظ یلائم الحکم بالقطع لأجل السرقة والإفساد، فلا یصح ما ورد فی الشرح: «وإطلاق المتن یقتضی عدم الفرق بین الصغیر والکبیر، وقیّده فی الأکثر بالأوّل، وتعلیل المتن (لفساده) یساعده الأوّل

ص:151


1- (1) مسالک الإفهام 502:14.
2- (2) المؤتلف من المختلف 408:2.
3- (3) السرائر 499:3.
4- (4) الجامع للشرائع: 562.
5- (5) تلخیص الخلاف 245:3.
6- (6) مختلف الشیعة 237:9.
7- (7) کشف اللثام 608:10.
8- (8) کشف اللثام 574:10.

زیادة علی إطلاق النص»(1) ؛ لأنّ التعلیل بالفساد لأجل الحد خروج من إشکالیة السرقة التی ستأتی، ولیست للسرقة.

والجهة الأخری تعلیلهم القطع لأجل الفساد لا السرقة حیث اختلفوا فیها، فذهب الشیخ فی النهایة والمحقق الحلی و العلّامة وابنه(2) وغیرهم إلی ثبوت الحد لأجل الفساد، وفی المقابل ذهب الفیض الکاشانی وغیره إلی القطع للسرقة قال: «والتعلیل بالإفساد یأباه.. وسیأتی أنّ حدّ المفسد لا یختص بالقطع، وأمّا الأخبار فمستفیضة بقطع ید سارق الحر مطلقاً، وتسمیته سارقاً بلا معارض».(3) وإن کان آخر کلامه محلّ تأمّل کما سیأتی.

وقال السید الهاشمی: «عنوان قطع الید اصطلاح لحدّ السرقة لا المحاربة أو الإفساد فی الأرض؛ إذ الثابت فیه القتل أو الصلب أو قطع الرجل والید من خلاف أو النفی، فحمل هذه الروایات علی إرادة تعمیم ذلک الحدّ لمن سرق حرّة فباعها أو باع امرأته أو حراً باعتبار کونه مفسداً واضح الفساد».(4)

والذی أدّی بالقائلین بالقطع أنّه لأجل الفساد عدم التوفیق بین القطع

ص:152


1- (1) الشرح الصغیر فی شرح المختصر النافع 380:3.
2- (2) النهایة 336:3، شرائع الإسلام 175:4، قواعد الأحکام 555:3، إیضاح الفوائد 520:4.
3- (3) مفاتیح الشرائع 93:2.
4- (4) مقالات فقهیة: 122.

وکونه حراً، لاشتراط الملکیة والنصاب المخصوص فی المسروق بینما الحر لیس مالاً فضلاً عن بلوغه النصاب، «فحیث لم یمکنهم حلّ الإشکال ودفعه حاولوا تعلیل ذلک، وبیان أنّ نکتته الإفساد لا السرقة»(1).

ثمّ أورد علیه بقوله: «مع أنّ الأولی فی دفع الإشکال أن یقال بأنّ دلیل شرطیة النصاب إنّما یقید ذلک فی خصوص الأموال المسروقة لا کلّ مسروق، فتبقی عمومات قطع السارق فی غیرها علی حجّیتها، وأیّاً ما کان فالحمل المذکور ممّا لا یمکن المساعدة علیه بوجه، علی أنّه لو فرض صحة هذا الحمل فغایته التعمیم للإفساد فی الأرض بالمعنی الذی ذکرناه، أی: التجاوز علی الأموال والأنفس ولو بغیر شهر السلاح والمحاربة، لا مطلق الإفساد فی المجتمع کما هو مدّعی القائل بالتعمیم».(2)

ویرد علیه:

أوّلاً: ما فهمه من عبارة الشیخ الطوسی من عدم تحقق النصاب فی سرقة الحر - صغیراً أو کبیراً - غیر صحیح؛ إذ إنّ النصاب فرع المالیة والشیخ ینکر مالیة الحر من الأساس، فالردّ علیه بتخصیص النصاب بالأموال دون غیرها لا یدفع الإشکال.

بمعنی أنّ عدم تحقق النصاب فی الحر لعدم المالیة، فتخصیص

ص:153


1- (1) مقالات فقهیة: 123.
2- (2) المصدر السابق.

النصاب بالأموال لا یجدی نفعاً فی انطباق الحکم علی الحر لبقاء عدم المالیة فیه، فتأمّل.

وثانیاً: أنّ القطع لأجل الفساد فرع تعمیمه لصورة التجاوز علی الأموال والأنفس بغیر شهر السلاح والمحاربة وهولا یتم فغریب، فإنّه إذا ما فرض التعمیم لغیر شهر السلاح وإبقاء عنوان التجاوز فأیّ معنی أوضح من بیع الإنسان فی الحکم بالتجاوز والتعدّی وتطبیق الإفساد علیه؟!

فلا معنی بقبول التعمیم ورفض الانطباق علی صورة البیع لوضوح صدقه بأدنی رویّة.

ثالثاً: مناسبات الحکم والموضوع لا تجری فی أغلب الأخبار الواردة فی المقام، کخبر عبد الله بن طلحة النهدی: «سألت أبا عبد الله علیه السلام عن الرجل یبیع الرجل وهما حرّان، یبیع هذا هذا وهذا هذا، ویفرّان من بلد إلی بلد، فیبیعان أنفسهما ویفرّان بأموال الناس؟ قال: تقطع أیدیهما؛ لأنّهما سارقا أنفسهما وأموال المسلمین»، وخبر سنان بن طریف قال: «سألت أبا عبد الله علیه السلام عن رجل باع امرأته؟ قال: علی الرجل أن یقطع یده، وعلی المرأة الرجم إن کانت وطئت، وعلی الذی اشتراها إن وطأها وکان محصناً أن یرجم إن علم بذلک، وإن لم یکن محصناً ضرب مئة جلدة»؛ لوضوح عدم تحقق سرقة أحدهما الآخر، وإنّما تواطا علی البیع بینهما، وکذلک بیع الزوجة ومع ذلک أجاب الإمام علیه السلام بأنّهما سرقا وحکم بالقطع، وهو لا ینسجم مع الاستخدام الفقهی للسرقة، وهذا یبطل قرینة مناسبة الحکم

ص:154

والموضوع التی ذکرها، قال السید الکلبایکانی: «یمکن أن یقال: إنّ التعبیر بالسرقة فی هذه الروایات ووجوب القطع علیه إنّما هو لأجل أخذه لأموال الناس بالخدعة والحیلة، وبیع ما لا یجوز بیعه لهم، وأخذ ثمنه منهم بغیر مشروع الذی حکمه بحسب هذه الأخبار أو المراد بالسرقة أنّ حکمه - أی: حکم عمله - حکم السرقة وإن لم یکن هو بحسب الاصطلاح سارقاً».(1)

رابعاً: تخصیص النصاب بالمال الذی ذکره لا یحلّ الإشکال؛ وذلک لوجود النصوص الخالیة عن ذکر السرقة ومع ذلک حکم بالقطع فیها أیضاً، فیبقی الإشکال الذی ذکروه علی حاله.

القول الثانی: ومن الإشکال فی المسألة وضعف الأخبار الواردة فیها عنوان السرقة التزم جملة من الفقهاء، کالسید الخوئی وجملة من تلامیذه باستقلالیة حدّ (بیع الحر) عن (حدّ السرقة والمحاربة) فقال: «الرابع عشر بیع الحر: من باع إنساناً حراً - صغیراً کان أو کبیراً، ذکراً کان أو أنثی - قطعت یده».(2) وجعله حدّاً مستقلاً عنهما؛ لمعتبرة السکونی عن أبی عبد الله علیه السلام قال: «إنّ أمیر المؤمنین صلوت الله علیه أتی برجل قد باع حراً فقطع یده»، المثبتة للقطع والخالیة من لفظ السرقة.

وهو وجه من وجوه الجمع بین الأخبار، بملاحظة الأخذ بالقدر المتّفق

ص:155


1- (1) تقریرات الحدود والتعزیرات 383:1.
2- (2) تکملة منهاج الصالحین: 51، مبانی تکملة المنهاج 384:41، منهاج الصالحین للشیخ الوحید الخراسانی 498:3.

علیه وهو القطع دون الخصوصیات الأخری، مع أنّ بعض العبارات کقوله: «تقطع أیدیهما؛ لأنّهما سارقا أنفسهما» لا یمکن أخذه کعنوان من عناوین السرقة التی علل بها القطع؛ إذ لا یمکن قطع ید الإنسان لأنّه سرق نفسه؛ لعدم إمکانیة تحقق السرقة للنفس خارجاً فلاحظ.(1)

قال الشیخ اللنکرانی: «ویمکن أن یقال، بل لعلَّه الظاهر: إنّ نفس عنوان بیع الحر یترتّب علیه الحکم بقطع الید فی الشریعة فی ردیف السرقة، من دون أن یکون من مصادیق الفساد».(2)

القول الثالث: وذهب آخرون إلی إنکار ثبوت الحد مطلقاً - سواء کان بعنوان السرقة أم الفساد - قال الشهیدین: « (الخامسة: لا یقطع سارق الحر وإن کان صغیراً)؛ لأنّه لا یعدّ مالاً، (فإن باعه قیل) والقائل الشیخ وتبعه العلّامة: (قطع) کما یقطع السارق، لکن لا من حیث إنّه سارق، بل (لفساده فی الأرض) وجزاء المفسد القطع، (لا حدّاً) بسبب السرقة.

ویشکل بأنّه إن کان مفسداً فاللازم تخیّر الحاکم بین قتله وقطع یده ورجله من خلاف إلی غیر ذلک من أحکامه لا تعیین القطع خاصّة.

وما قیل: من أنّ وجوب القطع فی سرقة المال إنّما جاء لحراسته،

ص:156


1- (1) وهذا لم یتعرّض له السید فی المقالات، ولم یذکره ولو علی نحو الاحتمال فی کلامه وهو غریب جدّاً، مع أنّه الوجه الراجح فی المسألة کما سیتّضح.
2- (2) تفصیل الشریعة فی شرح تحریر الوسیلة(الحدود): 551.

وحراسة النفس أولی فوجوب القطع فیه أولی لا یتم أیضاً؛ لأنّ الحکم معلّق علی مال خاص یسرق علی وجه خاص، ومثله لا یتم فی الحر، ومطلق صیانته غیر مقصودة فی هذا الباب کما یظهر من الشرائط، وحمل النفس علیه مطلقاً لا یتم، وشرائطه لا تنتظم فی خصوصیة سرقة الصغیر وبیعه دون غیره، من تفویته، وإذهاب أجزائه، فإثبات الحکم بمثل ذلک غیر جیّد، ومن ثمّ حکاه المصنف قولاً، وعلی القولین لو لم یبعه لم یقطع».(1)

وقال سیّد الریاض: «ظاهر جماعة التردّد فی المسألة، کالماتن فی الشرائع، والفاضل المقداد فی التنقیح، والشهیدین فی المسالک واللمعتین، وبه یتّجه ما فی الخلاف من عدم القطع؛ لحصول الشبهة الدارئة».(2)

وهؤلاء استندوا فی کلامهم إلی عدم تمامیة الأخبار، قال سیّد الریاض: «تردّ بقصور أسانیدها، وعدم وضوح جابر لها عدا الشهرة المحکیّة، وفی حصوله بها نوع مناقشة، سیّما مع رجوع الشیخ الذی هو أصلها عمّا فی النهایة».(3)

ومن جهة عدم إمکانیة إدراج الأمر تحت حدّ السرقة لتفرّعها عن

ص:157


1- (1) الروضة البهیة 251:9.
2- (2) ریاض المسائل 115:16، واختاره السید الإمام أیضاً قال: «مسألة 13: لو سرق حراً -- کبیراً أو صغیراً، ذکراً أو أنثی -- لم یقطع حدّاً، فهل یقطع دفعاً للفساد؟ قیل: نعم، وبه روایة، والأحوط ترک القطع وتعزیره بما یراه الحاکم».
3- (3) المصدر السابق.

الملکیة والنصاب الخاص، لا تحت حدّ الفساد لوضوح أنّ حکمه التخییر بین القتل أو القطع من خلاف أو النفی، فلذلک اختاروا الطعن فی الأخبار وردّها سنداً والتوقّف فی الحکم.

ویرد علیه: أنّ أصحاب هذا القول التزموا بصحة الأخبار، بل واستفاضتها، قال سیّد الریاض: «والنصوص به مستفیضة، منها القویّ»(1) ، فلا مسوّغ من ردّها والتوقّف فی الحکم بعد ورود النصّ به.

وعدم إمکانیة إدراجه تحت حدّ السرقة والإفساد لا یلازم ذلک؛ إذ یمکن الالتزام به کحدّ مستقل بعنوان بیع الحر، کما التزم به أصحاب القول الثانی.

والجنوح إلی الدرء بالشبهة بعد الاشتباه فی الحکم أو موضوعه، والمقام لیس منهما بعد تمامیة الأخبار، والالتزام بعدم حصر الحدود بعناوین محددة، وإنّما تثبت تبعاً للنصّ وهو تام فی المقام.

نعم، احتمل مقرر بحث السید الکلبایکانی: «أنّ هذه الأخبار المتقدّمة قد خصصت حکمه هنا بالقطع فقط دون سائر الأحکام المذکورة فی الآیة، وهذا الإشکال وجوابه لم یذکرهما الأستاذ».(2)

وهو کما تری من تفرّعه علی حصر الحدود فی أمور محددة، مع أنّه

ص:158


1- (1) ریاض المسائل 112:16.
2- (2) تقریرات الحدود والتعزیرات 383:1.

لا دلیل علیه، وصریح أخبار المقام ترتّب الحکم علی عنوان بیع الحر دون السرقة المجردة، والغفلة عمّا سبق فی کلام أستاذه: «لکن إذا صار من مصادیق هذه الآیة بیع الحر أو الحرة فلم لا یترتب علیه سائر أحکام الآیة من القتل أو الصلب أو النفی من الأرض ویترتّب علیه قطع الید فقط؟».(1)

فجعل سارق الحر مع بیعه من مصادیق الآیة یستلزم التطبیق؛ إذ لا معنی له مع التخصیص، ولعلّه لأجل ذلک لم یذکره السید.

الرأی المختار:

بعد عرض الروایات الواردة فی مسألة البحث والآراء المذکورة، یترجّح القول الثانی وهو ما ذهب إلیه السید الخوئی، وهو: من باع إنساناً حراً - صغیراً کان أو کبیراً، ذکراً کان أو أنثی - قطعت یده؛ لتمامیة خبر السکونی، وتأیید الأخبار الأخری، والشهرة المنقولة، وقد ورد فیها أنّ من باع إنساناً - حراً کبیراً کان أو صغیراً - وضع یده علیه عن طریق السرقة أو الغفلة أو النوم وغیرها فحدّه الشرعی القطع، ویؤیّدها بعض الأخبار التی لم یرد فیها لفظة السرقة، وأنّ الحکم مترتّب علی بیع الحر دون التقید بالسرقة، لذا لو سرق حراً ولم یبعه فلا قطع.

ویثبت الحکم فی الصورة الأولی والثالثة والخامسة والسادسة لتحقق

ص:159


1- (1) المصدر السابق.

العنوان، دون الصورة الثانیة والرابعة لعدم التحقق.

ویبقی شیء فی المقام وهو أنّ من حکم بالقطع لأجل السرقة أو الفساد فتحدید مکان قطع الید معلوم، وأمّا من حکم بالقطع بعنوان حدّ بیع الحر، فهل قطع الید کقطع ید السارق أم أنّه غیر ملزم بذلک؟

والجواب: أنّهم لم یتعرّضوا لتحدید مقدار القطع فی کلامهم، ولعلّه اعتمدوا علی الارتکاز الشرعی فی السارق، حیث تقطع أصابع یده الأربع من الید الیمنی، ویترک له الراحة والإبهام.

وکیف کان، فالذی یظهر بعد الحکم بکون القطع فی بیع الحر حدّاً مستقلاً، وعدم تحدید المقدار المقطوع، فالرجوع إلی العرف فیه، ولا یشترط أن یکون نفس المقدار الوارد فی السرقة؛ لأنّه لیس حدّ سرقة.

ص:160

فهرس مصادر

مقال حکم عقوبة الاتّجار بالإنسان الحر

1 - إیضاح الفوائد فی شرح إشکالات القواعد، فخر المحققین محمّد بن الحسن الحلی (ت 771)، تعلیق: السید حسین الموسوی الکرمانی والشیخ علی بناه الإشتهاردی والشیخ عبد الرحیم البروجردی، الطبعة الأولی 1387 ه -.

2 - تعلیقة علی منهج المقال، محمّد باقر الوحید البهبهانی (ت 1205).

3 - تفصیل الشریعة فی شرح تحریر الوسیلة، الشیخ محمّد الفاضل اللنکرانی (ت 1428)، تحقیق ونشر: مرکز فقه الأئمة الأطهار علیهم السلام - قم، الطبعة الثانیة 1422 ه -.

4 - تقریرات الحدود والتعزیرات، تقریر بحث السید الکلبایکانی (ت 1414).

5 - تکلمة منهاج الصالحین، السید الخوئی (ت 1413)، الناشر: مدینة العلم، الطبعة الثامنة والعشرون 1410 ه -.

6 - تلخیص الخلاف وخلاصة الاختلاف، مفلح بن حسن بن رشید

ص:161

الصمیری من أعلام القرن السابع، تحقیق: السید مهدی الرجائی، الناشر: مکتبة آیة الله العظمی المرعشی النجفی - قم، الطبعة الأولی 1408 ه -.

7 - تهذیب الأحکام، محمّد بن الحسن الطوسی (ت 460)، تحقیق وتعلیق: السید حسن الخرسان، الناشر: دار الکتب الإسلامیة - طهران، الطبعة الثالثة 1364 ش.

8 - الجامع للشرائع، یحیی بن سعید الحلی (ت 690)، تحقیق وتخریج: جمع من الفضلاء، إشراف: الشیخ جعفر السبحانی، الناشر: مؤسسة سید الشهداء العلمیة، سنة الطبع 1405 ه -.

9 - جواهر الکلام فی شرح شرائع الإسلام، الشیخ محمّد حسن النجفی (ت 1266)، تحقیق وتعلیق: الشیخ عباس القوچانی، الناشر: دار الکتب الإسلامیة - طهران، الطبعة الثانیة 1365 ش.

10 - الخلاف، محمّد بن الحسن الطوسی (ت 460)، التحقیق: جماعة من المحققین، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، سنة الطبع 1407 ه -.

11 - دعائم الإسلام وذکر الحلال والحرام والقضایا والأحکام عن أهل بیت رسول الله علیه وعلیهم أفضل السلام، النعمان بن محمّد بن منصور بن أحمد بن حیون التمیمی المغربی (ت 363)، تحقیق: آصف بن علی أصغر فیضی، الناشر: دار المعارف - القاهرة، سنة الطبع 1383 ه -.

ص:162

12 - الروضة البهیة فی شرح اللمعة الدمشقیة، زید الدین الجبعی العاملی الشهید الثانی (ت 965)، الناشر: داوری - قم، الطبعة الأولی 1410 ه -.

13 - ریاض المسائل فی بیان أحکام الشرع بالدلائل، السید علی الطباطبائی (ت 1231)، تحقیق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الأولی 1412 ه -.

14 - السرائر الحاوی لتحریر الفتاوی، محمّد بن منصور بن أحمد بن إدریس الحلی (ت 598)، تحقیق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الثانیة 1410 ه -.

15 - شرائع الإسلام فی مسائل الحلال والحرام، المحقق الحلی (ت 676)، تعلیق: السید صادق الشیرازی، الناشر: انتشارات استقلال - طهران، الطبعة الثانیة 1409 ه -.

16 - الشرح الصغیر فی شرح المختصر النافع، السید علی الطباطبائی (ت 1231)، تحقیق: السید مهدی الرجائی، الناشر: مکتبة آیة الله العظمی المرعشی النجفی - قم، الطبعة الأولی 1409 ه -.

17 - قواعد الأحکام، العلّامة الحلی (ت 726)، تحقیق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الأولی 1413 ه -.

18 - الکافی، محمّد بن یعقوب الکلینی (ت 328)، تصحیح وتعلیق:

ص:163

علی أکبر الغفاری، الناشر: دار الکتب الإسلامیة - طهران، الطبعة الخامسة 1363 ش.

19 - کشف اللثام عن قواعد الأحکام، محمّد بن الحسن الإصفهانی المعروف بالفاضل الهندی (ت 1137)، تحقیق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الأولی 1416 ه -.

20 - المؤتلف من المختلف بین أئمة السلف، الفضل بن الحسن الطبرسی (ت 548)، تحقیق ومقابلة: جمع من الأساتذة، مراجة: السید مهدی الرجائی، الناشر: مجمع البحوث الإسلامیة - مشهد، الطبعة الأولی 1410 ه -.

21 - مبانی تکملة المنهاج (ضمن موسوعة السید الخوئی)، السید الخوئی (ت 1413)، الناشر: مؤسسة إحیاء آثار الإمام الخوئی، سنة الطبع 1422 ه -.

22 - المبسوط فی فقه الإمامیة، محمّد بن الحسن الطوسی (ت 460)، تصحیح وتعلیق: السید محمّد تقی الکشفی، الناشر: المکتبة المرتضویة لإحیاء آثار الجعفریة، سنة الطبع 1387 ه -.

23 - مختلف الشیعة، العلّامة الحلی (ت 726)، تحقیق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الثانیة 1413 ه -.

24 - مسالک الإفهام إلی تنقیح شرائع الإسلام، زین الدین بن علی

ص:164

العاملی الشهید الثانی (ت 965)، تحقیق ونشر: مؤسسة المعارف الإسلامیة - قم، الطبعة الأولی 1413 ه -.

25 - مفاتیح الشرائع، محمّد محسن الفیض الکاشانی (ت 1091)، تحقیق: السید مهدی الرجائی، الناشر: مجمع الذخائر الإسلامیة، سنة الطبع 1401 ه -.

26 - مقالات فقهیة، السید محمود الهاشمی، الناشر: الغدیر للطباعة والنشر، الطبعة الأولی 1417 ه -.

27 - منهاج الصالحین، الشیخ الوحید الخراسانی.

28 - النهایة فی مجرد الفقه والفتاوی، محمّد بن الحسن الطوسی (ت 460)، الناشر: انتشارات قدس محمّدی - قم.

ص:165

ص:166

القسم الثالث: حدّ السرقة

اشارة

ص:167

ص:168

زراعة العضو المقطوع فی حدّ السرقة

اشارة

بقلم: الشیخ محمّد رضا السلامی

هذه المسألة لم تکن مطروحة فی الکتب الفقهیة لعلمائنا السابقین، بل لم تطرح إلّا مؤخّراً وبصورة جزئیة من قبل فقهائنا ومحققینا، بعد حصول التقدّم الکبیر فی علم الطب بقسمیه: زرع الأعضاء والطب التجمیلی.

فمن العسیر الحصول علی سابقة بحثیة فقهیة فی هذه المسألة، سوی مجموعة من المقالات والبحوث المختصرة.

ونحن لکی نعطی صورة إجمالیة کلّیة للجوانب الدخیلة فی تحدید الرأی الفقهی لهذه المسألة، سنطرح أوّلاً عناوین لبعض المسائل التی یتوقّف علیها البحث.

إنّ الموقف الفقهی من هذه المسألة، یتوقّف قبلاً علی تحدید من هوالمالک للعضو المقطوع أو من له حقّ الأولویة فیه، هل هو الشارع أو صاحب العضو؟ وهل هناک حکم فی الشریعة لکیفیة التعامل مع العضو المقطوع کدفنه مثلاً؟ أو أنّ أمر التعامل معه متروک للحاکم أو لصاحب العضو؟

ص:169

ثمّ یتوقّف لاحقاً علی أنّه هل یوجد فرق بین زرع نفس العضو المقطوع، أو زرع عضو انتزع من آخر، أو تمّ الحصول علیه من زراعة أنسجة بشریة بعملیة الاستنساخ، أو من أنسجة قابلة للنمو وتکوین العضو المقطوع، لو فرضنا حصول تطوّر فی علم الطب وعلم الأنسجة إلی هذا الحد.

والأقوال فی المسألة یمکن أن تکون ثلاثة: عدم الجواز مطلقاً، والجواز مطلقاً، أو بإجازة الحاکم. والسابقة المطروحة فی هذه المسألة من الجواز وعدمه تختص بمسألة القصاص عند الشیعة والسنّة، وسیأتی الإشارة إلیها فی ضمن الکلام عن الأدلة التی یمکن التمسّک بها فی استنباط حکم زرع العضو المقطوع بالحد.

حقّ الأولویة بالبدن وأعضائه:

اتّفق الکلّ تقریباً من الخاصّة والعامّة علی أنّ بدن الإنسان لا یملک بالملکیة الاعتباریة، وأنّه أمانة من قبل الله سبحانه وتعالی المالک الحقیقی للإنسان، واستدلّوا علی ذلک: بأنّ البدن لا مالیة له، وبحرمة بیع الحر وتملّکه.

ولکن الظاهر أنّه لم یناقش أحد فی حقّ الاختصاص أو الأولویة بالبدن وأعضائه بالنسبة لصاحب البدن، وأنّ الشریعة أعطته حقّ التصرّف وفق ضوابط وحدود، ومنعته من التصرّف علی نحو التعدّی والضرر،

ص:170

کالذی یؤدّی إلی التهلکة أو قطع العضو أو إتلافه، بل وقع الأخذ والرد فی حرمة مثل الجرح ومقداره لغایة غیر عقلائیة، وأنّ الناس غیر مسلّطین علی أبدانهم کما هم مسلّطون علی أموالهم.

وقد یکون ثبوت هذه الأولویة أو الاختصاص وجدانی فطری لا نقاش فیه، وإن استدلّ علیها السید الخوئی رحمه الله بالملکیة الذاتیة(1).

ولکن الکلام فی أنّ حقّ الاختصاص أو الأولویة هذا هل ینتفی فی حالة قطع العضو بحد أو قصاص ویتمحّض فیه حقّ الله أو لا؟ إذ قد یقال: إنّ الأمر بالقطع من قبل الشارع یقطع هذه الأولویة أو الملکیة الذاتیة.

وعلیه ربّما یقال: إنّ حکم جواز وصل العضو المقطوع بحد أو عدم جوازه، یتوقّف علی إثبات بقاء هذه الأولویة وحقّ التصرّف أو عدمها، فلو قلنا بعدم ثبوت حقّ الأولویة، وأنّ العضو المقطوع فی الحد یتمحّض حقّاً لله، فإنّه یترتّب علیه بالتالی عدم الجواز، ولا مجال للحکم بالجواز. نعم، لو قلنا: ببقاء حقّ الأولویة یمکن الکلام حینئذ علی الجواز نفیاً أو إثباتاً، استناداً إلی ما تفیده الأدلة الأخری التی یمکن وجودها فی البین.

ولکن یمکن أن یعترض علی هذا التوقّف، ویقال: إنّ أصل الکلام فی المسألة هو فی جواز مثل هذا الوصل أو عدم جوازه، سواء قلنا بثبوت الاختصاص والأولویة أو نفیهما، فإنّ فرض الجواز أو عدم الجواز یأتی

ص:171


1- (1) مصباح الفقاهة 7:2.

حتّی ولو قلنا بتمحّض الحقّ فی العضو لله، سواء قبل القطع أو بعده. فلو فرضنا ثبوت الجواز للوصل من خلال الأدلة، فإنّه سوف لا ینافیه القول بأنّ العضو المقطوع حقّ لله لا للعبد، فالسؤال هنا فی الأساس هو سؤال عن الحکم الشرعی فی إمکان وصل العضو أو لا؟

وعلی هذا ( أی: أنّ الأصل فی المسألة هو الحکم الشرعی بالجواز أو العدم) یمکن فرض المسألة فیما لو وُصِل عضو من آخر مکان العضو المقطوع بحد، أو تمکّن من تعویض العضو المقطوع بعملیة زراعة أنسجة معیّنة تنمو إلی العضو الصحیح، أو بعملیة تجمیل مثلاً.

ومن هنا لابدّ من إجالة النظر فی الأدلة التی یمکن أن یستدلّ بها علی الجواز أو عدمه:

الدلیل الأوّل:

قوله تعالی: (وَ السّارِقُ وَ السّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَیْدِیَهُما جَزاءً بِما کَسَبا نَکالاً مِنَ اللّهِ وَ اللّهُ عَزِیزٌ حَکِیمٌ)1 .

استدلّ القائل بجواز وصل وزرع العضو المقطوع بالحد، بأنّ الأمر المستفاد من هیئة الأمر فی الآیة(فَاقْطَعُوا) قد تمّ امتثاله بتحقّق القطع والإبانة؛ لأنّ الأمر لا یتعلّق إلّا بالطبیعی وهو یتحقّق بصرف الوجود، فإذا

ص:172

وُجِد تَمّ الامتثال للأمر، فإعادة قطع العضو مرة أُخری تحقیقاً للمنع فیما لو وصل وزرع یکون من الامتثال بعد الامتثال، وهو باطل، ولا دلیل عندنا علی المنع.

ولکن یمکن أن یقال: إنّ قطع العضو المعاد، لیس من باب الامتثال بعد الامتثال حتّی یحکم ببطلانه، وإنّما هو امتثال لأمر آخر وهو المنع (عدم جواز) من وصل العضو المقطوع بالحد، هذا فیما لو ثبت دلیل المنع المدّعی.

إذ قد یدّعی من یقول بالمنع بأنّ تحقق الامتثال أوّلاً لا یکون إلّا ابتداء واستدامة، فکأنّه یدّعی أنّ فی البین أمرین: الأوّل: تحقق القطع ابتداءً، الثانی: استدامة البینونة.

فإعادة قطع الموصول بعد إجراء الحد هو امتثال للأمر الثانی لا للأمر الأوّل حتّی یکون من باب الامتثال بعد الامتثال، أو فقل: إنّ بعد وصل العضو المقطوع لم یتم الامتثال للأمر کاملاً، فیعاد قطعه امتثالاً للأمر علی وجهه، ولیس امتثالاً بعد الامتثال.

والتحقیق فی الآیة:

إنّها رتّبت وجوب القطع علی السارق والسارقة بالفاء فی(فَاقْطَعُوا) وهو یتحقق بالإزالة والإبانة، ثمّ بیّنت أنّ القطع(جَزاءً بِما کَسَبا) ، أی: هو استحقاق لما کسبته أیدیهما، وجزاء مفعول لأجله یعود علی (اقطعوا)، أی: فاقطعوا للجزاء، ثمّ قالت الآیة: (نَکالاً مِنَ اللّهِ) أی: عقوبةً وتنکیلاً منه

ص:173

تعالی، ونکال مفعول لأجله ثانٍ (1) علی الترتیب، ولیس (جزاء) و (نکالاً) متساویان فی المعنی، وإنّما هما متباینان، ولذا لم یعطف (نکالاً) بحرف العطف علی (جزاء)، فلا یکونان مفعولین بالعرض، وإنّما بالترتیب، وهذا یفید زیادة فی المعنی، فکأنّه قال: فاقطعوهما للجزاء وجازوهما للنکال(2) ، فالنکال علّة للجزاء والجزاء علّة للقطع، وهذا أکثر فائدة فی معنی الکلام؛ لأنّ فیه زیادة.

ولکن الفقهاء والمفسّرین لم یبیّنوا الفائدة من المعنی الإضافی المراد هنا، وإنّما ذکروا أنّ النکال هو العقوبة، مع أنّ هذا المعنی قد تمّ استفادته والإشارة إلیه بقوله: (جَزاءً بِما کَسَبا) ، فالجزاء هو المجازاة والمجازاة علی السیئة لا تکون إلّا بالعقوبة، فأیّ فائدة فی تکرار بیان المعنی بلفظة (نکالاً) إذا کان معناها العقوبة، إذ کان یکفی لإفادة المعنی القول: جزاء بما کسبا من الله.

ومعنی النکال لیست العقوبة مجردة، وإنّما العقوبة بنحو أعظم وأشد، قال الفخر الرازی: فالنکال من العقوبة هو أعظم، حتّی یمتنع من سمع به عن ارتکاب مثل ذلک الذنب الذی وقع التنکیل به، وهو فی العرف یقع علی ما یفتضح به صاحبه ویعتبر به غیره(3) ، ونقل عن القفال: أنّه العقوبة الغلیظة

ص:174


1- (1) مجمع البیان 332:3، تفسیر سورة المائدة الآیة: 38، الکشاف 612:1.
2- (2) تفسیر الآلوسی 134:6، تفسیر أبی السعود 35:3.
3- (3) تفسیر الرازی 43:31، تفسیر سورة النازعات.

الرادعة للناس عن الإقدام علی مثل تلک المعصیة(1) ، وقال الفراهیدی فی کتاب العین: (النکال) اسم لما جعلته نکالاً لغیره إذا بلغه أو رآه خاف أن یعمل عمله(2) ، وفی الصحاح للجوهری: ویقال: نکل به تنکیلاً إذا جعله نکالاً وعبرة لغیره(3) ، وقال الطبرسی: النکال: الإرهاب للغیر(4).

فالآیة مورد البحث تفید فائدتین: القطع والإبانة، وهو جزاء ما اقترفته أیدیهما من السرقة، إضافة إلی أنّ هذا الجزاء لابدّ أن یکون علی وجه النکال والفضیحة، وهما لا یتحققان إلّا باستدامة الإبانة، إذ إنّ فیها تتحقق العبرة للغیر بحیث یرتدع عن فعل ما فعلاه، وتکون العقوبة بنحو أعظم وأشد، ویتمّ الإرهاب والفضیحة.

ومن قال بجواز الوصل بعد القطع، اکتفی من الآیة بالفائدة الأولی، ولم یلتفت إلی ما یفیده معنی النکال من العبرة والإرهاب والفضیحة.

فأیّ عبرة أو إرهاب أو فضیحة تکون بعد وصل الأصابع المقطوعة، خاصّة بعدما وصل إلیه علم الطب والتجمیل من تطوّر إلی حدّ یکون العضو المزروع أفضل وأکمل وأجمل من العضو المقطوع، کما هو الملاحظ من

ص:175


1- (1) تفسیر الرازی 112:3، تفسیر قوله تعإلی: (فجعلناها نکالاً لما بین یدیها...) الآیة 66 من سورة البقرة.
2- (2) کتاب العین 371:5 مادة (نکل).
3- (3) الصحاح 1835:5 مادة (نکل).
4- (4) مجمع البیان 249:1، تفسیر قوله تعإلی: (فَجَعَلْناها نَکالاً لِما بَیْنَ یَدَیْها...) الآیة 66 من سورة البقرة.

عملیات التجمیل، والأمر أوضح فیما لو أصبحت عملیة الزرع أسرع وأسهل، بحیث یرغب فیها الکثیر من أجل الحصول علی عضو أفضل وأجمل، فإنّ مجرد إبانة الأصابع ثمّ الحکم بجواز إعادتها ووصلها مرّة أخری، ینافی ظاهر الآیة من کون الجزاء نکالاً، ولا یبقی من أثر العقوبة إلّا ألم القطع، وحتّی الألم ینعدم باستعمال العقاقیر المخدّرة عند عملیة القطع، ولم نجد من الفقهاء من منع من استعمالها عند إجراء الحد.

الدلیل الثانی:

قوله تعالی: (الزّانِیَةُ وَ الزّانِی فَاجْلِدُوا کُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَ لا تَأْخُذْکُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِی دِینِ اللّهِ إِنْ کُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ الْیَوْمِ الْآخِرِ وَ لْیَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ)1 .

وموضع الاستدلال علی المنع من إعادة العضو المقطوع قوله تعالی: (وَ لا تَأْخُذْکُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِی دِینِ اللّهِ) علی اعتبار أنّ السماح بإعادة زرع العضو المقطوع من الرأفة الممنوعة فی الآیة، استدلّ بذلک قسم الأبحاث الشرعیة بدار الإفتاء المصریة فی مقالة بعنوان (نقل وزراعة الأعضاء).

ولکن الاستدلال بها علی المنع لا یتمّ إلّا بتعدیة الحکم بعدم الرأفة إلی عموم الحدود، ومنع اختصاصه بحد الزنا، وهذا ما لا دلیل علیه من

ص:176

نفس الآیة، فإنّ الضمیر فی قوله: (بهما) یعود علی الزانیة والزانی.

نعم، یحکم بالتعدیة لبقیة الحدود لمعتبرة(1) غیاث بن إبراهیم عن جعفر عن أبیه عن أمیر المؤمنین علیهم السلام فی قول الله عزّ وجل: (وَ لا تَأْخُذْکُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِی دِینِ اللّهِ) ، قال: فی إقامة الحدود، وفی قوله تعالی: (وَ لْیَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ) ، قال: الطائفة واحد(2).

ولظاهر بعض کلمات فقهاء الإمامیة من استشهادهم بالآیة فی عدم الشفاعة والتهاون والتفریط فی الحدود(3) ، وما یفهم من کلمات مفسّری العامّة من عمومها للحدود فی تفسیرهم للآیة(4).

ولکن وقع بحث لدی المفسّرین والفقهاء من العامّة فی المعنی المراد من الآیة، وأنّ عدم الرأفة المأمور بها، هل هو فی أصل إقامة الحدود أو فی کیفیة إقامتها؟ فذهب بعض إلی الرأی الأوّل، وبعض آخر إلی الثانی(5) ،

ص:177


1- (1) مبانی تکملة المنهاج 221:1، إعلام الناس لحضور إقامة الحد، جامع المدارک 7:53، کیفیة جلد الزانی.
2- (2) تهذیب الأحکام 150:10 ح 602 کتاب الحدود، باب من الزیادات.
3- (3) کشف اللثام 492:10، کتاب الحدود، المقصد الأوّل، لا کفالة فی الحد، ریاض المسائل 512:13، لا کفالة ولا شفاعة فی حد، القواعد والفوائد 127:1، القاعدة الثانیة، الفائدة الأولی.
4- (4) تفسیر القرآن للصنعانی 50:3، تفسیر ابن أبی حاتم 2518:8، معانی القرآن 4:495، تفسیر البیضاوی 173:4.
5- (5) المصنّف للصنعانی 367:7، باب (ولا تأخذکم بهما رأفة فی دین الله)، المصنّف لابن أبی شیبة 546:6 (فی قوله: ولا تأخذکم بهما رأفة فی دین الله)، جامع البیان 88:18، أحکام القرآن، 338:3، تفسیر الثعلبی 62:7.

ویمکن التمسّک بالإطلاق لیشمل عدم الرأفة فی أصل إقامة الحد وفی الکیفیة(1) ، وإن استدلّ بها الأصحاب علی عدم الرأفة فی کیفیة الضرب، وفی الروایات دلالة علیه(2) ، ولکنه لا یقیّد الإطلاق؛ لأنّه بیان لأحد الموارد، وشموله لأصل الإقامة بالأولویة، ومثله التمسّک بإطلاق قوله علیه السلام:

«إقامة الحدود» فی الروایة الشامل لأصل الإقامة وکیفیة الإقامة، وهو المستفاد من ظاهر روایة الدعائم(3).

وعلی کلّ حال، سواء کانت الآیة مطلقة أو تدلّ علی عدم الرأفة فی کیفیة إجراء الحد، فإنّ النقاش فی جواز الوصل بعد القطع وعدمه یدخل فیها بعد البناء علی عمومها لکلّ الحدود، لوضوح أنّ مورد الخلاف هنا هو فی الکیفیة، ولیس فی أصل إجراء الحد، فإنّ المستدلّ بالآیة علی المنع یدّعی بأنّ المنع من الوصل تطبیق للأمر بعدم الرأفة الوارد فی الآیة.

ولکن الحقّ والإنصاف، أنّ مورد الخلاف یرجع إلی أنّ مجرد الإبانة والفصل هل هو تمام الامتثال للحد أو أنّه لا یکون إلّا بالاستدامة؟ وهذا ما یجب الرجوع فی تحدیده إلی الآیة السابقة المارة الذکر لا إلی هذه الآیة، فإنّها تأتی فی مرتبة لاحقة بعد مرتبة تحدید نوع ومقدار الحد.

ص:178


1- (1) شرح أصول الکافی 98:8، نقلاً عن الفاضل الأردبیلی.
2- (2) إیضاح الفوائد 482:4، کتاب الحدود، فی کیفیة استیفاء الحد، المهذّب البارع 41:5، کتاب الحدود، کیفیة جلد الزانی، الکافی 183:7 ح 2، 3، باب صفة حد الزانی.
3- (3) دعائم الإسلام 451:2 ح 1580، کتاب الحدود.

وإلّا فالطرفان متّفقان علی عدم الرأفة فی حدّ القطع بعد تسلیم عموم الآیة لکلّ الحدود، ولکن السؤال فی ما هو الحد الذی لا یجوز الرأفة فیه، هل هو مجرد الإبانة أو مع الاستدامة؟ فإن کان ظاهر الآیة السابقة وجوب القطع علی الاستدامة سیکون الوصل منافیاً لأصل الامتثال، ویکون الأمر بعدم الرأفة نهیاً عن الرأفة فی أصل إقامة الحد.

الدلیل الثالث:

قوله تعالی: (تِلْکَ حُدُودُ اللّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَ مَنْ یَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُولئِکَ هُمُ الظّالِمُونَ)1 .

الحد: النهایة التی إذا بلغ المحدود له امتنع، وحدود الله ما حدّه الله وبیّنه لعباده، وأمرهم أن لا یتعدّوها ولا یقصروا عنها(1) ، والمراد منه فی الآیة أحکام الله من أوامره ونواهیه، فتدخل فیه الحدود بمعناها المصطلح، کما هو واضح، ومن هنا أورد الآیة العدید من الفقهاء فی کتاب الحدود استشهاداً منهم لعدم جواز تعدّی الحدود وتعطیلها(2).

ص:179


1- (2) تفسیر غریب القرآن للطریحی: 189.
2- (3) دراسات فی ولایة الفقیه وفقه الدولة الإسلامیة 368:2، الباب السادس، الفصل السادس، الجهة الثامنة: فی حکم من قتله الحد أو التعزیز أو التأدیب، المحلی لابن حزم 153:11، کتاب الحدود، هل تدرأ الحدود بالشبهات، و 162:11، کتاب الحدود، حد الممالیک، شرح مسند أبی حنیفة: 458، حد السارق.

کما أورد المحدّثون قول علی علیه السلام:

«إنّ الله حدّ حدوداً فلا تعتدوها، وفرض فرائض فلا تنقصوها» لنفس الغایة أیضاً(1). وکلّ ما حدّ الله تعالی فالإفراط فیه أو التفریط تعدٍّ.

وعلیه فللمستدل علی المنع من وصل العضو المقطوع، الاستناد إلی الآیة فی القول بعدم الجواز، باعتبار أنّ وصل العضو المقطوع بالحد تعدّی علی حدود الله وتعطیل لها.

ولکن فی المقابل، یمکن أن یستدلّ بها من یقول بجواز الوصل علی العکس، علی اعتبار أنّ المنع من الوصل أو إعادة القطع تجاوز وزیادة علی الحد، وهو من التعدّی أیضاً، فإنّ الزیادة علی الحد قد جاءت بهذا المعنی فی روایة العیاشی عن محمّد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام، فی قول الله تبارک وتعالی: (تِلْکَ حُدُودُ اللّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَ مَنْ یَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُولئِکَ هُمُ الظّالِمُونَ) ، فقال: إنّ الله غضب علی الزانی فجعل له جلد مئة، فمن غضب علیه فزاد فأنا إلی الله منه بریء، فذلک قوله(تِلْکَ حُدُودُ اللّهِ فَلا تَعْتَدُوها)2 ، والروایة غیر معتبرة للإرسال، فإنّ روایات تفسیر العیاشی محذوفة السند.

ص:180


1- (1) نهج البلاغة لمحمّد عبده 24:4(105)، من لا یحضره الفقیه 75:4 ح 5149، وسائل الشیعة 17:28، کتاب الحدود، باب عدم جواز تجاوز الحد وتعدیه، الأمالی للشیخ المفید: 159، المجلس العشرون، عوالی اللئالی 548:3 ح 15، باب الحدود.

ومن هنا یتبیّن أنّ مورد النزاع فی المسألة ابتداء هو فی تحدید مقدار الحد، وهل هو حصول القطع والإبانة ابتداء أو لا بدّ فیه من الاستدامة؟ فالواجب أوّلاً تحدید مقدار الحد، ثمّ نرتّب علیه بعد ذلک التعدّی من عدمه.

ولا یخلو الاستدلال بالآیة من الاشتباه فی المعنی المراد من حدود الله، والخلط بین کون المراد هو أوامره ونواهیه، وبین أنّ المراد هو الحدود المصطلح علیها فی الفقه.

ونفس الکلام یأتی فیما لو استدلّ بالآیات(مَنْ یَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ)1 ، (وَ مَنْ یَعْصِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِینَ فِیها)2 .

وکذا الاستدلال بالنهی النبوی عن تعطیل الحدود(1) ، وکلّ روایات النهی عن تعطیل الحدود والنقص منها والزیادة علیها(2).

فإنّ الواجب أوّلاً تحدید مقدار الحد، ثمّ البحث فی دخول التعدّی من عدمه.

الدلیل الرابع:

ما رواه فی التهذیب عن محمّد بن الحسن الصفار عن الحسن بن

ص:181


1- (3) المهذّب لابن البراج 517:2، کتاب الحدود، دعائم الإسلام 442:2، ح 1540.
2- (4) وسائل الشیعة 16:27، کتاب الحدود، باب عدم جواز تجاوز الحد وتعدیه.

موسی الخشاب عن غیاث بن کلوب عن إسحاق بن عمار عن جعفر عن أبیه علیه السلام: أنّ رجلاً قطع من بعض أُذن رجل شیئاً، فرفع ذلک إلی علی علیه السلام فأقاده، فأخذ الآخر ما قطع من أُذنه فردّه علی أُذنه بدمه، فالتحمت وبرئت، فعاد الآخر إلی علی علیه السلام فاستقاده، فأمر بها فقطعت ثانیة، وأمر بها فدفنت، وقال علیه السلام:

إنّما یکون القصاص من أجل الشین(1).

والروایة حسنة بالخشاب فإنّه لم یرد فیه توثیق، أو موثّقة بابن کلوب، فإنّه من العامّة عمل الأصحاب بروایاته، وهی منجبرة بعمل الأصحاب، واستدلّ بها البعض علی عدم جواز وصل العضو المقطوع فی الحد، ولکنها أوّلاً: ظاهرة فی مورد القصاص، وثانیاً: ورود التعلیل فی آخرها بأنّ المنع من أجل الشین والمماثلة، ولا مماثلة فی الحد.

وأمّا الاستدلال بالإجماع فی هذا المورد کما ذکره الشیخ فی الخلاف(2) ، فإنّ فیه إضافة إلی أنّه خاص بمورد القصاص، أنّه إجماع مدرکی للروایة، أو لما قالوا من وجوب الإزالة للنجاسة بعد أن حکموا بکونها میتة.

الدلیل الخامس:

ما رواه الصدوق فی (عیون أخبار الرضا علیه السلام) فیما کتب به إلی محمّد

ص:182


1- (1) تهذیب الأحکام 279:10، ح 1093 کتاب الدیات، باب القصاص.
2- (2) الخلاف 201:5، المسألة ( 72)، کتاب الجنایات.

بن سنان فی جواب مسائله فی العلل: حدّثنا محمّد بن علی ماجیلویه رحمه الله عن عمّه محمّد بن أبی القاسم عن محمّد بن علی الکوفی عن محمّد بن سنان، وحدّثنا علی بن أحمد بن محمّد بن عمران الدقاق ومحمّد بن أحمد السنانی وعلی بن عبد الله الوراق والحسین بن إبراهیم بن أحمد بن هشام المکتب رضی الله عنهم، قالوا: حدّثنا محمّد بن عبد الله الکوفی عن محمّد بن إسماعیل عن علی بن العباس، قال: حدّثنا القاسم بن ربیع الصحاف عن محمّد بن سنان، وحدّثنا علی بن أحمد بن عبد الله البرقی وعلی بن عیسی المجاور فی مسجد الکوفة وأبو جعفر محمّد بن موسی البرقی بالری رحمهم الله، قالوا: حدّثنا محمّد بن علی ماجیلویه عن أحمد بن محمّد بن خالد عن أبیه عن محمّد بن سنان، أنّ علی بن موسی الرضا علیه السلام کتب إلیه فی جواب مسائله:

«... وعلّة قطع الیمین من السارق؛ لأنّه یباشر الأشیاء بیمینه، وهی أفضل أعضائه وأنفعها له، فجعل قطعها نکالاً وعبرة للخلق، لئلا یبتغوا أخذ الأموال من غیر حلّها، ولأنّه أکثر ما یباشر السرقة بیمینه...» الروایة(1).

والروایة من ضمن مسائل محمّد بن سنان عن الرضا علیه السلام المعروفة، ولکن ابن سنان ضعیف جدّاً لا یعوّل علیه، ولا یلتف إلی ما تفرّد به، ووثّقه بعض المتأخرین والمعاصرین، لما ورد من روایات فیها مدح عظیم له، وأنّ

ص:183


1- (1) عیون أخبار الرضا 95:2 باب ( 33): فی ذکر ما کتب به الرضا علیه السلام إلی محمّد بن سنان.

ترکه کان من جهة اتّهامه بالغلو ولم یثبت.

وقد استدلّ علی المنع من الوصل، بقوله فی الروایة:

«فجعل قطعها نکالاً وعبرة للخلق»، وهو نفس المعنی المستدلّ به من الآیة الأولی المارّة الذکر.

ویمکن استفادة المنع من قوله تعلیلاً لقطع الیمین:

«لأنّه یباشر الأشیاء بیمینه، وهی أفضل أعضائه وأنفعها له»، فإنّ قطع الأنفع یوحی بأنّ القطع علی التأبید حتّی یحرم من أنفع الأعضاء، وکذا قوله فی الروایة:

«ولأنّه أکثر ما یباشر السرقة بیمینه»، یفهم أنّ القطع حرمان له من أکثر ما یباشر به السرقة، فلو کان المراد هو الإبانة فقط لا علی التأبید لما کان هناک کثیر فائدة لمثل هذه العلل، ولما بان الفرق بین قطع الیمین أو الیسار.

الدلیل السادس:

ما رواه الکلینی فی الکافی عن محمّد بن یحیی عن محمّد بن أحمد عن محمّد بن عیسی عن أحمد بن عمر الحلّال، قال: قال یاسر: عن بعض الغلمان عن أبی الحسن علیه السلام، أنّه قال: لا یزال العبد یسرق حتّی إذا استوفی ثمن یده، أظهرها الله علیه(1) ، ورواها الصدوق مرفوعة فی عیون أخبار الرضا علیه السلام، وفیها:

«إذا استوفی ثمن دیة یده»(2)، وفی الفقیه مرسلة، وفیها:

ص:184


1- (1) الکافی 260:7، ح 4، کتاب الحدود، باب النوادر.
2- (2) عیون أخبار الرضا علیه السلام 260:1، ح 36، باب ( 26): فیما جاء عن الإمام علی بن موسی علیهما السلام من الأخبار المتفرقة.

«إذا استوفی دیة یده»(1).

وهی عندی أوضح الروایات علی المنع من الوصل؛ لأنّ الإمام علیه السلام جعل المثمن للسرقة نفس الید لا القطع، واستیفاء هذا المثمن لا یکون إلّا بالتأبید، بل إنّ جعل السرقة وهی الثمن بمقدار دیة الید فی روایة الصدوق أوضح فی الدلالة، ولکن الروایة ضعیفة لا یمکن الاستدلال بها للإرسال، فهی عن بعض الغلمان ولا یعرف من هو.

ومع ذلک یمکن جعلها قرینة لفهم قوله تعالی فی آیة حدّ السرقة: (جَزاءً بِما کَسَبا) علی أنّ جزاء وثمن ما کسباه من السرقة، هو قطع الید تأبیداً، لا مجرد القطع فقط.

وتُنَزَّل الروایة منزلة المؤیّدات لما استظهرناه من آیة حدّ السرقة فیما مضی.

ومثلها فی الدلالة ما رواه الصدوق مرسلاً، والشیخ الطوسی عن البرقی مرسلاً أیضاً، وعن طلحة بن زید وهی معتبرة

«أنّ شاباً أقرّ بالسرقة عند أمیر المؤمنین علیه السلام، فقال له علی علیه السلام: إنّی أراک شاباً لا بأس بهئتک، فهل تقرأ شیئاً من القرآن؟ قال: نعم، سورة البقرة، فقال: قد وهبت یدک لسورة البقرة...» الروایة(2).

فإنّه علیه السلام وهب یده لسورة البقرة لا قطع یده.

ص:185


1- (1) من لا یحضره الفقیه 60:4، ح 5098.
2- (2) من لا یحضره الفقیه 62:4، ح 5106، الاستبصار 252:4، ح 954، 955، تهذیب الأحکام 127:10، ح 506، و 129:10، ح 516.

الدلیل السابع:

الفهم العرفی المرتکز فی الذهن بأنّ القطع علی التأبید، المتحصّل من مجمل ما یذکر فی الروایات لمقدار الحد وشروطه، هذا الفهم الذی یستشعر به وینسبق إلی ذهن کلّ من یقرأ الروایات، ویطّلع علی تفاصیلها، من التحدید الدقیق لموضع الحد، ومقدار السرقة بالربع دینار کحد فاصل، والسرقة من الحرز، وعدم وجود بدیل للحد من التعزیز أو الحبس، وعدم جواز النقصان أو الزیادة علی حدّ القطع، وغیر ذلک من التفاصیل الموجودة فی الروایات.

فمنها ما ورد من صدق اسم السارق علی کلّ من سرق شیئاً من مسلم، وهو عند الله سارق، ولکن لا یقطع إلّا فی ربع دینار، ثمّ قال علیه السلام:

«ولو قطعت أیدی السّراق فیما أقل هو من ربع دینار لألفیت عامة الناس مقطعین»(1).

ومنها قوله علیه السلام:

«لا یقطع السارق حتّی یقر بالسرقة مرّتین، فإن رجع ضمن السرقة ولم یقطع إذا لم یکن شهود»(2).

ومنها ما ورد من أنّ أمیر المؤمنین علیه السلام کان إذا قطع ترک الإبهام والراحة، فقیل له:

«یا أمیر المؤمنین ترکت علیه یده؟ قال: فقال لهم: فإن تاب فبأیّ شیء یتوضّأ؟...» الروایة(3).

ص:186


1- (1) الوسائل 243:28، أبواب حد السرقة.
2- (2) الوسائل 249:28، أبواب حد السرقة.
3- (3) الوسائل 253:28، أبواب حد السرقة.

ومثلها ما عن أبی جعفر علیه السلام قال:

«کان علی علیه السلام لا یزید علی قطع الید والرجل، ویقول: إنّی لأستحی من ربیّ أن أدعه لیس له ما یستنجی به أو یتطّهر به...» الروایة(1).

فإنّ التعلیل یدلّ علی التأبید، إلّا أن یعترض بصدق التعلیل فی ذلک الزمان، حیث لم یعرف زرع الأعضاء بعد.

ومثلها قول أبی عبد الله علیه السلام:

«إنّ القطع لیس من حیث رأیت یقطع، إنّما یقطع الرجل من الکعب، ویترک له من قدمه ما یقوم علیه ویصلّی ویعبد الله، قلت له: من أین تقطع الید؟ قال: تقطع الأربع الأصابع، ویترک الإبهام یعتمد علیها فی الصلاة، ویغسل بها وجهه للصلاة...» الروایة(2).

فلقائل أن یقول: لو کان القطع بما هو قطع، هو الحد، لما کان کبیر فرق بین قطع کلّ الکف أو قطع الأربع الأصابع، ولکن بما أنّ للقطع أثر التأبید، وَضَح الفرق بینهما بما علّله علی علیه السلام وأبی عبد الله علیه السلام.

ومنها ما عن أبی عبد الله علیه السلام قال:

«أُتی أمیر المؤمنین علیه السلام برجال قد سرقوا، فقطع أیدیهم، ثمّ قال: إنّ الذی بان من أجسادکم قد وصل إلی النار، فإن تتوبوا تجترونها وإن لم تتوبوا تجترکم»(3).

ص:187


1- (1) الوسائل 255:28، أبواب حد السرقة.
2- (2) الوسائل 257:28، أبواب حد السرقة.
3- (3) الوسائل 265:28، أبواب حد السرقة.

ومنها ما عن أبی عبد الله علیه السلام فی رجل أشل الید الیمنی أو أشل الشمال سرق، قال:

«تقطع یده الیمنی علی کلّ حال»(1).

فإنّ الحکم بجواز قطع الید الیسری الشلاء أولی من الحکم بجواز وصل الیمنی المقطوعة، ولکن مع ذلک قال الإمام علیه السلام:

«إنّ الیمنی تقطع علی کلّ حال».

ومنها ما عن أبی عبد الله علیه السلام قال:

«لا یقطع إلّا من نقب بیتاً أو کسر قفلاً»(2).

ومنها ما عن أبی عبد الله علیه السلام قال:

«یقطع سارق الموتی کما یقطع سارق الأحیاء»(3).

ومنها ما عن أبی عبد الله علیه السلام قال:

«النباش إذا کان معروفاً بذلک قطع»(4).

ومنها ما عن أبی جعفر علیه السلام فی صبی یسرق قال:

«إن کان له سبع سنین أو أقل رفع عنه، فإن عاد بعد سبع سنین قُطعت بنانه أو حُکّت حتّی تدمی، فإن عاد قطع منه أسفل من بنانه، فإن عاد بعد ذلک وقد بلغ تسع

ص:188


1- (1) الوسائل 266:28، أبواب حد السرقة.
2- (2) الوسائل 277:28، أبواب حد السرقة.
3- (3) الوسائل 279:28، أبواب حد السرقة.
4- (4) الوسائل 282:28، أبواب حد السرقة.

سنین قطع یده، ولا یضیع حدّ من حدود الله عزّ وجل»(1).

وغیرها من الروایات فی أبواب حدّ السرقة، وهی وإن کانت لا توحی بمفردها علی هذا الفهم العرفی بالتأبید، ولکن المجموع قد یستظهر منه ذلک، ویبقی الکلام فی صحة وقوع مثل هذا الفهم، إذ للنقاش فی انعقاده مجال واسع، بل ربما لا یخرج عن کونه قضیة ذوقیة شخصیة أو استحساناً لیس إلّا!!

الدلیل الثامن:

استدلّ علی المنع من وصل العضو المقطوع بالحد، بما ورد من الأمر بحسم الید المقطوعة بالزیت المغلی لینقطع النزف وتنسد العروق، کالنبوی المروی عند العامّة من أنّه صلی الله علیه و آله أُتی برجل قد سرق، فقال:

«اذهبوا فاقطعوه، ثمّ احسموه»(2) ، والعلوی المروی عندنا وعند العامة، من أنّ علیاً کان إذا قطع سارقاً حسمه بالزیت(3).

ص:189


1- (1) الوسائل 297:28، أبواب حد السرقة.
2- (2) مستدرک الحاکم 381:4، أحادیث قطع ید السارق، السنن للبیهقی 271:8، جماع أبواب قطع الید والرجل فی السرقة، سنن الدار قطنی 81:3، ح 3138، 3139، المبسوط للطوسی 36:8، فصل فی قطع الید والرجل فی السرقة، عوالی اللئالی 565:3، ح 77، باب الحدود.
3- (3) المبسوط للطوسی 36:8، فصل فی قطع الید والرجل فی السرقة، دعائم الإسلام 470:2، ح 1675 و، ح 1678، سنن البیهقی 271:8، جماع أبواب قطع الید والرجل فی السرقة، المصنّف لابن أبی شیبة 529:6، ح 5، حسم ید السارق.

وحمله بعض العامّة علی الوجوب لظاهر الأمر(1) ، ومن هنا استدلّ به من استدلّ علی المنع، وآخرون منهم علی أنّه لیس من الحد؛ لأنّه مداواة(2) ، وبهذا لا ینعقد للأمر ظهور فی الوجوب.

وأمّا أصحابنا فحملوه علی الاستحباب نظراً لمصلحة المقطوع، لا حقّاً لله وتتمة للحد(3) ، والظاهر أن لا خصوصیة فی الحسم، وإنّما لأنّه من المداواة فی ذلک الوقت، ویمکن أن یکون بغیرها، کما تدلّ علیه الروایات، وهو السائد فی هذا الوقت.

ففی الوسائل عن أبی عبد الله علیه السلام قال:

«أُتی أمیر المؤمنین علیه السلام بقوم سرّاق قد قامت علیهم البیّنة وأقرّوا، قال: فقطع أیدیهم، ثمّ قال: یا قنبر ضمّهم إلیک فداو کلومهم، وأحسن القیام علیهم، فإذا برأوا فأعلمنی...» الروایة(4).

فالحمل علی الاستحباب، وأنّ الحسم لیس من الحد، یمنع من الاستدلال بالروایة علی المنع من الوصل بعد القطع.

ص:190


1- (1) سبل السلام 24:4، ح 9، کتاب الحدود، نیل الأوطار 310:7، کتاب القطع فی السرقة، باب حسم ید السارق.
2- (2) المبسوط للسرخسی 127:16، کتاب الشهادات، باب من لا تجوز شهادته.
3- (3) شرائع الإسلام 957:4، فی أحکام حد السرقة، قواعد الأحکام 566:3، المقصد السادس: فی حد السرقة، الفصل الثالث: فی الحد، شرح اللمعة الدمشقیة 286:9، الفصل الخامس: فی السرقة، جواهر الکلام 542:41، بیان حد السرقة.
4- (4) الوسائل 300:28، ح 34823، أبواب حد السرقة، باب ( 30).

ثمّ إنّ الکلام یأتی فی جواز الوصل بعد الحسم أو عدم جوازه، خاصّة بعدما وصل إلیه الطب الحدیث وعلم التجمیل فی زماننا من تطوّر، ووضوح إمکان حصول ذلک حتّی لو حسمت الید.

الدلیل التاسع:

وأُستُدِلّ علی المنع أیضاً بما ورد فی النبوی من تعلیق ید السارق فی رقبته بعد القطع.

وهو ما رواه الترمذی: حدّثنا قتیبة، حدّثنا عمر بن علی المقدّمی، حدّثنا الحجاج عن مکحول عن عبد الرحمن بن محیریز، قال: سألت فضالة بن عبید عن تعلیق الید فی عنق السارق أمن السنّة هو؟ قال:

«أُتی رسول الله صلی الله علیه وسلم بسارق، فقطعت یده، ثمّ أمر بها فعُلّقت فی عنقه»(1).

والحدیث عندهم ضعیف بالحجاج بن أرطأة(2).

واستدلّوا به علی أنّ التعلیق فی العنق تحقیق للنکال، وردّ الکف (أی: وصلها) یمنع تحقیق النکال.

وفیه: أنّ المنع إذا کان لتحقیق النکال فإنّه مأخوذ من الآیة، والتعلیق

ص:191


1- (1) سنن الترمذی 4:3، ح 1471، المعجم الکبیر 300:18، عبد الله بن محیریز، مسند أحمد 19:6، مسند فضالة بن عبید الأنصاری، السنن الکبری للبیهقی 8:275، باب ما جاء فی تعلیق الید فی عنق السارق.
2- (2) نیل الأوطار 310:7، باب حسم ید السارق إذا قطعت واستحباب تعلیقها فی عنقه، تهذیب التهذیب 365] 172:2].

فی العنق إن قلنا باستحبابه مع ضعف الروایة، فإنّه مصداق من مصادیق النکال، لما فیه من الزجر والعبرة.

وقال أصحابنا باستحبابه(1) ، أخذاً بالحدیث وإن کان من طریق العامّة، علی قاعدة التسامح فی أدلة السنن، ولکنه مشکل لما فی ظاهر المتن المخالف للمقطوع عندنا من أنّ القطع للأصابع لا الید الظاهرة فی الکف علی قول العامّة.

والقول بالمنع یتوقّف علی القول بوجوب تعلیق الید، بل یبقی الکلام فی جواز الوصل أو المنع أیضاً بعد تعلیق الید فی العنق، أو جواز إجراء زرع لعضوٍ من آخر، أو زرع أنسجة بعملیة تجمیل حتّی لو قلنا بالوجوب.

الدلیل العاشر:

ما رواه الکراجکی مرسلاً فی الخرائج من أنّ علیاً علیه السلام قطع أسوداً أقرّ بالسرقة، فأخذ المقطوع یمدح أمیر المؤمنین فی الطریق، فسمعه الحسن والحسین علیهم السلام فأخبرا أمیر المؤمنین علیه السلام، فبعث إلیه من أعاده، وقال له:

«قطعتک وأنت تمدحنی؟! فقال: یا أمیر المؤمنین إنّک طهّرتنی، وإنّ حبّک قد خالط لحمی وعظمی، فلو قطّعتنی إرباً إرباً لما ذهب حبّک من قلبی،

ص:192


1- (1) المبسوط للطوسی 36:8، فصل فی قطع الید والرجل فی السرقة، مسالک الإفهام 527:14، الباب الخامس: فی حد السرقة، جواهر الکلام 542:41، استحباب تعلیق الید المقطوعة فی رقبة السارق.

فدعا له أمیر المؤمنین علیه السلام، ووضع المقطوع إلی موضعه فصح وصلح کما کان»(1).

ورواه ابن جریر فی نوادر المعجزات(2) ، وشاذان بن جبریل القمی فی الروضة والفضائل(3) مرفوعاً عن الأصبغ بن نباتة باختلاف، وفی المتن ما یخالف المقطوع به فی مذهب أهل البیت علیهم السلام من أنّ القطع کان من الرسغ.

والروایة علی ضعفها لم یعمل بها أحد من الفقهاء فی حکم الإقرار بالسرقة(4).

ثمّ إنّها لا تدلّ علی أکثر من جواز الوصل بعد القطع بإذن الإمام علیه السلام، بعد ثبوت السرقة بالإقرار، ولعل ذلک من باب أنّ له علیه السلام العفو عن الحد إذا ثبت بالإقرار دون البیّنة.

واستدلّوا علی ذلک بمعتبرة طلحة بن زید المرویة فی الاستبصار، قال: فأمّا ما رواه الحسین بن سعید عن محمّد بن یحیی عن طلحة بن زید عن جعفر، قال: حدّثنی بعض أهلی أنّ شاباً أتی أمیر المؤمنین علیه السلام فأقرّ عنده بالسرقة، قال: فقال له علی علیه السلام:

«إنّی أراک شاباً لا بأس بهیئتک، فهل تقرأ

ص:193


1- (1) الخرائج والجرائح 561:2، ح 19، فصل فی أعلام أمیر المؤمنین علیه السلام.
2- (2) نوادر المعجزات: 60، ح 26، الباب الأول: دلائل أمیر المؤمنین علیه السلام.
3- (3) الروضة فی فضائل أمیر المؤمنین علیه السلام: 225، ح 186، الفضائل: 172.
4- (4) جواهر الکلام 523:41، عدم ثبوت القطع بالإقرار مرة واحدة، فقه الصادق 25:523، بیان ما یثبت به السرقة.

شیئاً من القرآن؟ قال: نعم، سورة البقرة، فقال: فقد وهبت یدک لسورة البقرة، قال: وإنّما منعه أن یقطعه؛ لأنّه لم تقم علیه البینة»(1).

وبمرسلة أبی عبد الله البرقی التی رواها الشیخ فی التهذیب والاستبصار: ما رواه محمّد بن أحمد بن یحیی عن أبی عبد الله البرقی عن بعض أصحابه عن بعض الصادقین علیهم السلام، قال: جاء رجل إلی أمیر المؤمنین علیه السلام فأقرّ بالسرقة، فقال له أمیر المؤمنین علیه السلام:

«أتقرأ شیئاً من کتاب الله، قال: نعم، سورة البقرة، قال: قد وهبت یدک لسورة البقرة، قال: فقال الأشعث: أتعطّل حدّاً من حدود الله تعالی؟ فقال: وما یدریک ما هذا، إذا قامت البیّنة فلیس للإمام أن یعفو، وإذا أقرّ الرجل علی نفسه فذلک إلی الإمام إن شاء عفا وإن شاء قطع»(2).

وضعف السند لو کان - کما ادّعاه بعض - فهو مجبور بالشهرة وعمل الأصحاب، وعلیه فتوی الأشهر(3) ، وقیّدوه بالتوبة إجماعاً.

فإذا کان للإمام العفو بعد الإقرار والتوبة ابتداءً، کان له الإذن بالوصل بعد القطع بعدهما بالأولویة.

ص:194


1- (1) الاستبصار 252:4، ح 954.
2- (2) الاستبصار 252:4، ح 955، تهذیب الأحکام 129:10، ح 526.
3- (3) المقنع: 430، أبواب الحدود، باب الزنا واللواط، الکافی للحلبی: 412، حد السرقة، النهایة: 718، باب الحد فی السرقة، غنیة النزوع: 434، الفصل السادس: فی حد السرقة، جامع الخلاف والوفاق: 596، تبصرة المتعلمین: 251، حد السرقة، المختلف 212:9، حد السرقة، مجمع الفائدة 274:13.

وبذلک یفصّل القول بجواز الوصل بین إذن الإمام علیه السلام بعد الإقرار والتوبة وعدمه، ولو قلنا بالتعدی للفقیه الجامع للشرائط سواء علی مبنی الولایة العامّة أو الولایة فی إقامة الحدود، کان له الإذن علی الشرطین، بزرع العضو المقطوع، أو زرع عضو من آخر مکانه، أو زرع أنسجة بعملیة تجمیل، ولا یجوز له الإذن لو ثبتت السرقة بالبیّنة أو لم تثبت التوبة.

الدلیل الحادی عشر:

الاستدلال بنقض الغرض علی المنع من الوصل للعضو المقطوع، حیث إنّ جواز إعادة ما قطع من الید مفوّت للحکمة، وناقض للغرض من تشریع الحد، وهو الردع والزجر عن الفعل.

وبعبارة أُخری: أنّ المستشرف لروح الشریعة لابدّ له من الحکم بالمنع من زرع العضو المقطوع، فإنّ مبنی الشریعة علی المحافظة علی نظام وسلامة المجتمع الإسلامی، وهو لا یتمّ إلّا بتشریع العقوبات الرادعة والزاجرة، والتی منها القطع، وهذا علی الأقل یدعو للاحتیاط فی إجازة زرع العضو المقطوع بالحد.

الدلیل الثانی عشر:

الاستدلال علی المنع بما یستفیده العرف من مناسبات الحکم والموضوع، فإنّ الحکم بوجوب القطع جزاء للسرقة یناسبه الحکم بتأبید القطع.

ص:195

وهذا لا یخرج عن روح الاستدلال السابق، وفی استفادة الاحتیاط منه فی إعطاء الإجازة لزرع العضو المحدود.

الدلیل الثالث عشر:

الاستدلال علی المنع من وصل العضو المقطوع بالحد من جهة أنّ العضو المبان نجس؛ لأنّه أصبح من المیتة، ولا یجوز الصلاة فی النجس.

وهذا أوّلاً؛ لو سلّمنا به، لا یوجب المنع من الوصل بالأصالة، وإنّما یوجب المنع من باب الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر؛ لأنّه یکون مانعاً من الصلاة للنجاسة.

وثانیاً؛ إنّه موهون؛ لأنّ العضو المزروع لو التأم عضویاً ودبّت فیه الحیاة لصار جزءً من الحی، ویخرج بذلک عن المیتة ومن کونه محکوماً بالنجاسة.

الدلیل الرابع عشر:

التمسّک لجواز إعادة العضو المقطوع بأنّ حدّ السرقة هو حقّ الله، وحقوق الله تبنی علی المسامحة والإرفاق، فلا مناص من الرجوع إلی عدالة الإسلام وسماحته فی الحکم بالجواز، هذا ما استدلّ به عبد الرحمن فقیهی فی مقال له بعنوان (بیع الأعضاء الإنسانی).(1)

ص:196


1- (1) نشر فی مجموعة آثار کنکرة بررسی مبانی فقهی إمام خمینی/ مسائل مستحدثة: ( 1) مجموعة مقالات.

ولکن من الواضح أنّ المسامحة والإرفاق غیر مطلوب هنا فی هذا الحد، وإلّا لما ناسب أصل القطع، کما أنّه یتعارض مع الردع والزجر المنظور إلیه فی الشریعة من هذا الحد.

ثمّ إنّ هذا الأصل، أی: أصل المسامحة والإرفاق فی الإسلام، لا یمکن الاستناد إلیه إلّا بعد أن نفقد الدلیل علی عدم الجواز، ومنه الردّ والإجابة علی الظاهر المستفاد من آیة السرقة الآنفة الذکر أوّلاً.

الدلیل الخامس عشر:

أن یستدلّ علی المنع من الوصل، بأنّ فی السرقة جانباً من حقّ الناس، ولا یجوز المسامحة فی حقّ الناس، علی العکس من حقّ الله، إلّا إذا أجاز صاحب الحق، فیجوز عند ذلک الوصل، کما ذکره الدکتور الزحیلی فی بحثه المقدّم إلی المنظمة الإسلامیة للعلوم الطبیة فی الکویت.

ویمکن أن یستدلّ علی أنّ السرقة حقّ الناس، بما رواه الکلینی فی الکافی عن علی بن محمّد عن محمّد بن أحمد المحمودی عن أبیه عن یونس عن الحسین بن خالد عن أبی عبد الله علیه السلام، قال: سمعته یقول:

«الواجب علی الإمام إذا نظر إلی رجل یزنی أو یشرب الخمر أن یقیم علیه الحد، ولا یحتاج إلی بیّنة مع نظره؛ لأنّه أمین الله فی خلقه، وإذا نظر إلی رجل یسرق فالواجب علیه أن یزبره وینهاه ویمضی ویدعه، قلت: کیف ذاک؟ قال: لأنّ الحقّ إذا کان لله فالواجب علی الإمام إقامته، وإذا کان

ص:197

للناس فهو للناس»(1).

ولکن روی الشیخ الطوسی بإسناده عن الحسن بن محبوب عن أبی أیوب عن الفضیل، قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام یقول:

«من أقرّ علی نفسه عند الإمام بحقّ من حدود الله مرّة واحدة، حراً کان أو عبداً، أو حرة کانت أو أمة، فعلی الإمام أن یقیم الحد علیه للذی أقر به علی نفسه کائناً من کان إلّا الزانی المحصن - إلی أن قال -، فقال: إذا أقر علی نفسه عند الإمام بسرقة قطعه فهذا من حقوق الله، وإذا أقر علی نفسه أنّه شرب خمراً حدّه...» الروایة(2).

والتی یظهر منها أنّ السرقة حقّ من حقوق الله، وطریق الجمع هو أنّ فی حدّ السرقة جهتین: جهة حقّ الناس، وجهة حقّ الله، ولکن حقّ الناس مغلّب، لإطلاق النص الأوّل، وفتوی الأصحاب، کما ذکره صاحب الجواهر(3) ، ومن هنا کان للمسروق منه العفو وعدم المطالبة قبل الرفع إلی الحاکم فلا یقطع، وأمّا إذا رفعه فلیس له ذلک فیقطعه الحاکم.

ویدلّ علیه روایة سَرقِة رداء صفوان بن أمیة(4) ، وروایة سماعة بن مروان عن أبی عبد الله علیه السلام، قال:

«من أخذ سارقاً فعفا عنه فذلک له، فإذا رفع إلی الإمام قطعه، فإن قال الذی سرق له: أنا أهبه، لم یدعه الإمام حتّی

ص:198


1- (1) الکافی 262:7، ح 15، کتاب الحدود، باب النوادر، الاستبصار 216:4، ح 809.
2- (2) تهذیب الأحکام 7:10 ح 20، کتاب الحدود، باب حدود الزنا.
3- (3) جواهر الکلام 551:41، کتاب الحدود، حد السرقة، اللواحق، المسألة الرابعة.
4- (4) الکافی 251:7، ح 2، کتاب الحدود، باب العفو عن الحدود.

یقطعه إذا رفعه إلیه، وإنّما الهبة قبل أن یرفع إلی الإمام، وذلک قول الله عزّوجل: (وَ الْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ)

،فإذا انتهی الحدّ إلی الإمام فلیس لأحد أن یترکه»(1).

وعلیه فهذا الاستدلال یتمّ فی أصل إقامة الحد، وقبل الرفع إلی الحاکم، کما هو صریح الروایات، فإنّ لصاحب الحقّ أن یسقط حقّه ویعفو فلا یقطع السارق، ولا یتمّ فی کیفیة إجرائه أو تخفیفه، بل حتّی فی أصل إقامته بعد الرفع إلی الحاکم، فإنّه بعد الرفع یتمحّض حقّاً لله، فیجب علی الحاکم قطعه، ومن هنا لیس لصاحب الحقّ الإذن بزرع العضو المقطوع بعد أن لم یکن له العفو عن أصل الحد بعد الرفع للإمام، وعلیه فلابدّ من الرجوع إلی الأدلة الأُخری الدالة علی جواز عفو الإمام علیه السلام، ومن ثمّ جواز الإذن بالوصل أو عدمه.

ثمّ إنّ محل الکلام فی مسألة جواز الوصل بعد القطع هو فی کیفیة إجراء الحد ومقداره، من تحقق الحد بالقطع فقط أو بالاستدامة، لا فی أصل إقامة الحد حتّی یقال بجواز العفو من صاحب الحق، وبه یرجع إلی ظاهر آیة السارق والسارقة الآنفة الذکر.

ومما مضی من الأدلة والمناقشة فیها، یتبیّن أنّه لا مجال لمن یدّعی جواز الوصل لأن یتمسّک بأصل الإباحة، کما ادّعاه بعضهم(2) فی المسألة؛ لأنّ

ص:199


1- (1) الکافی 251:7، ح 1 کتاب الحدود، باب العفو عن الحدود.
2- (2) بیع الأعضاء الإنسانی لعبد الرحمن فقیهی (مجموعة آثار کنکرة بررسی مبانی فقهی إمام خمینی/ مسائل مستحدثة 364:1).

الأمر لا یصل إلی الأصل إلّا بعد انعدام الدلیل، بل کان الأولی لمن یرید التمسّک بالأصل أن یحکم بالاحتیاط مراعاة لدلیل نقض الغرض وروح الشریعة ودلیل مناسبات الحکم والموضوع (الدلیل الحادی عشر والثانی عشر).

ولکن الأمر لا یصل إلی التمسّک بأصل الاحتیاط؛ لظهور قوله تعالی: (نَکالاً مِنَ اللّهِ) فی آیة السارق والسارقة (الدلیل الأوّل) الدال علی المنع، وظهور قوله فی روایة طلحة بن زید:

«وهبت یدک لسورة البقرة» (الدلیل السادس).

نعم، یخصص الإطلاق فی الآیة والروایة بما ورد من تخییر الإمام علیه السلام فی العفو عن الحد عموماً أو حدّ السرقة خصوصاً بعد الإقرار والتوبة، الدال علی جواز إذنه بالوصل بعد القطع بالأولویة علی الشرطین (الدلیل العاشر).

ویعدّی الحکم إلی الحاکم الجامع للشرائط، إمّا بأدلة الولایة العامّة أو الولایة الخاصّة فی الحدود، أو باستظهار أنّ المراد من الإمام فی روایات العفو هو قائد الأمّة الإسلامیة، فیشمل الحاکم الشرعی الجامع للشرائط، مقابل من استظهر منها أنّه حقّ خاص للإمام علیه السلام فقط.

ودلیل المنع المستفاد من قوله تعالی: (نَکالاً مِنَ اللّهِ) ، وقوله فی الروایة:

«وهبت یدک لسورة البقرة» کما یشمل المنع من إعادة نفس العضو المقطوع، کذلک یشمل زرع عضوٍ من آخر، أو زراعة أنسجة بعملیة تجمیل، وکذا الإذن بالوصل من الإمام علیه السلام أو الحاکم یشمل جمیع الحالات أیضاً.

ص:200

فهرس مصادر

مقال زراعة العضو المقطوع فی حد السرقة

1 - أحکام القرآن، أحمد بن علی الرازی الجصاص، الناشر: دار الکتب العلمیة - بیروت، الطبعة الأولی 1415 ه -.

2 - الاستبصار فیما اختلف من الأخبار، محمّد بن الحسن الطوسی، تحقیق: السید حسن الخرسان، الناشر: دار الکتب الإسلامیة - طهران، الطبعة الرابعة 1363 ش.

3 - کتاب الأمالی، الشیخ المفید محمّد بن محمّد بن النعمان، تحقیق: علی أکبر غفاری، دار المفید للطباعة والنشر و التوزیع - بیروت، الطبعة الثانیة 1414 ه -.

4 - إیضاح الفوائد فی شرح إشکالات القواعد، ابن العلامة الحلی محمّد بن الحسن بن یوسف بن المطهر الحلی، الطبعة العلمیة بقم، الطبعة الأولی 1387 ه -.

5 - بیع الأعضاء الإنسانی، مقال لعبد الرحمن فقیهی، مجموعة آثار

ص:201

کنکره بررسی مبانی فقهی إمام خمینی، مسائل مستحدثة، مجموعة مقالات.

6 - تبصرة المتعلمین فی أحکام الدین، العلامة الحلی الحسن بن یوسف المطهر، تحقیق: السید أحمد الحسینی والشیخ هادی الیوسفی، الناشر: انتشارات فقیه - طهران، الطبعة الأولی 1368 ه - ش.

7 - تفسیر إرشاد العقل السلیم إلی مزایا القرآن الکریم (تفسیر أبی السعود)، القاضی أبی السعود محمّد بن العمادی، الناشر: دار إحیاء التراث العربی، بیروت - لبنان.

8 - تفسیر البیضاوی، البیضاوی، الناشر: دار الفکر - بیروت.

9 - تفسیر جامع البیان عن تأویل أی القرآن، محمّد بن جریر الطبری، الناشر: دار الفکر - بیروت، سنة الطبع 1415.

10 - تفسیر روح المعانی (تفسیر الآلوسی)، الآلوسی.

11 - تفسیر العیاشی، العیاشی أحمد بن مسعود بن عیاش، تحقیق: السید هاشم الرسولی المحلاتی، المکتبة العلمیة الإسلامیة - طهران.

12 - تفسیر غریب القرآن الکریم، الشیخ فخر الدین الطریحی، تحقیق: محمّد کاظم الطریحی، الناشر: انتشارات زاهدی - قم.

ص:202

13 - تفسیر القرآن العظیم، ابن أبی حاتم الرازی، تحقیق: أسعد محمّد الطیب، الناشر: دار الفکر، بیروت - لبنان، سنة الطبع 1424 ه -.

14 - تفسیر القرآن العظیم، عبد الرزاق الصنعانی، تحقیق: الدکتور مصطفی مسلم محمّد، الناشر: مکتبة الرشد للنشر والتوزیع، المملکة العربیة السعودیة - الریاض، الطبعة الأولی 1410 ه -.

15 - التفسیر الکبیر، الفخر الرازی، الطبعة الثالثة.

16 - تفسیر الکشاف عن حقائق التنزیل و عیون الأقاویل، أبوالقاسم محمود بن عمر الزمخشری، الناشر: شرکة مکتبة و مطبعة مصطفی البابی الحلبی و أولاده بمصر، سنة الطبع 1385 ه -.

17 - تفسیر مجمع البیان، أبو علی الفضل بن الحسن الطبرسی، الناشر: مؤسسة الأعلمی للمطبوعات - بیروت، الطبعة الأولی 1410 ه -.

18 - تهذیب الأحکام، أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسی، الناشر: دار الکتب الإسلامیة، الطبعة الثالثة، طهران.

19 - تهذیب التهذیب، أحمد بن علی بن حجر العسقلانی، الناشر: دار الفکر للطباعة والنشر و التوزیع، الطبعة الأولی 1404 ه -.

20 - جامع الخلاف والوفاق بین الإمامیة و بین أئمة الحجاز والعراق، علی بن محمّد بن محمّد القمی السبزواری، تحقیق: حسین الحسنی

ص:203

البیرجندی، الناشر: انتشارات زمینة سازان ظهور إمام عصر عجل الله تعالی فرجه الشریف، الطبعة الأولی.

21 - جامع المدارک فی شرح المختصر النافع، السید أحمد الخوانساری، الناشر: مکتبة الصدوق - طهران، الطبعة الثانیة 1355 ش.

22 - جواهر الکلام فی شرح شرائع الإسلام، محمّد بن حسن النجفی، تحقیق: الشیخ عباس القوچانی، الناشر: دار الکتب الإسلامیة، الطبعة الثالثة 1367 ش.

23 - الخرائج و الجرائح، قطب الدین الراوندی، تحقیق ونشر: مؤسسة الإمام المهدی عجل الله تعالی فرجه الشریف، الطبعة الأولی 1409 ه -.

24 - الخلاف، محمّد بن الحسن الطوسی، تحقیق: جماعة من المحققین، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی، سنة الطبع 1407 ه -.

25 - دراسات فی ولایة الفقیه و فقه الدولة الإسلامیة، الشیخ المنتظری، الناشر: منشورات المرکز العالمی للدراسات الإسلامیة، الطبعة الأولی 1408 ه -.

26 - دعائم الإسلام، القاضی أبی حنیفة النعمان، الناشر: دار المعارف - القاهرة، سنة الطبع 1387 ه -.

27 - الروضة البهیة فی شرح اللمعة الدمشقیة، الشهید الثانی زین

ص:204

الدین العاملی، تحقیق و تعلیق: السید محمّد کلانتر، الناشر: انتشارات داوری - قم، الطبعة الثانیة 1410 ه -

28 - الروضة فی فضائل أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه، شاذان بن جبرائیل القمی، تحقیق: علی الشکرچی، الطبعة الأولی 1423 ه -.

29 - ریاض المسائل، السید علی الطباطبائی، تحقیق و نشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الأولی 1412 ه -.

30 - سبل السلام، محمّد بن إسماعیل الکحلانی الصنعانی، جمع و تعلیق: محمّد عبد العزیز الخولی، الناشر: شرکة مکتبة و مطبعة مصطفی البابی الحلبی و أولاده بمصر، الطبعة الرابعة 1379 ه -.

31 - سنن الترمذی (الجامع الصحیح)، محمّد بن عیسی بن سورة الترمذی، تحقیق: عبد الوهاب عبد اللطیف، الناشر: دار الفکر للطباعة و النشر، الطبعة الثانیة 1403 ه -.

32 - سنن الدارقطنی، علی بن عمر الدار قطنی، علّق علیه: مجدی بن منصور بن سید الشوری، الناشر: دار الکتب العلمیة - بیروت، الطبعة الأولی 1417 ه -.

33 - السنن الکبری، أبو بکر أحمد بن الحسین بن علی البیهقی، الناشر: دار الفکر.

ص:205

34 - شرائع الإسلام فی مسائل الحلال و الحرام، المحقق الحلی نجم الدین جعفر بن الحسن، تعلیق: السید صادق الشیرازی، الناشر: انتشارات استقلال - طهران، الطبعة الثانیة 1409 ه -.

35 - شرح أصول الکافی، المولی محمّد صالح المازندرانی، الناشر: دار إحیاء التراث العربی - بیروت، الطبعة الأولی 1421 ه -.

36 - شرح مسند أبی حنیفة، الملا علی القاری، الناشر: دار الکتب العلمیة - بیروت.

37 - الصحاح، إسماعیل بن حماد الجوهری، تحقیق: عبد الغفور عطار، الناشر: دار العلم للملایین، الطبعة الرابعة 1407 ه -.

38 - عوالی اللئالی العزیزیة فی الأحادیث الدینیة، ابن أبی جمهور محمّد بن علی بن إبراهیم الإحسائی، تحقیق: آقا مجتبی العراقی، مطبعة سید الشهداء - قم، الطبعة الأولی 1403 ه -.

39 - کتاب العین، الخلیل بن أحمد الفراهیدی، تحقیق: الدکتور مهدی الخزومی و الدکتور إبراهیم السامرائی، الناشر: مؤسسة دار الهجرة - إیران، الطبعة الثانیة.

40 - عیون أخبار الرضا علیه السلام، الصدوق محمّد بن علی بن الحسین بن بابویه القمی، تصحیح و تعلیق: الشیخ حسین الأعلمی، الناشر: مؤسسة الأعلمی للمطبوعات - بیروت، سنة الطبع 1404 ه -.

ص:206

41 - غنیة النزوع إلی علمی الأصول والفروع، السید حمزة بن علی بن زهرة الحلبی، تحقیق: إبراهیم البهادری، الناشر: مؤسسة الإمام الصادق علیه السلام، الطبعة الأولی 1417 ه -.

42 - الفضائل، شاذان بن جبرائیل القمی، الناشر: منشورات المطبعة الحیدریة و مکتبتها فی النجف الأشرف، سنة الطبع 1381 ه -.

43 - فقه الصادق، السید محمّد صادق الروحانی، الناشر: مؤسسة دار الکتاب - قم، الطبعة الثالثة 1412 ه -.

44 - قواعد الأحکام، العلّامة الحلی الحسن بن یوسف بن المطهر، تحقیق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامی، الطبعة الأولی 1413 ه -.

45 - القواعد و الفوائد، محمّد بن مکی العاملی (الشهید الأوّل)، تحقیق: السید عبد الهادی الحکیم، الناشر: مکتبة المفید - قم.

46 - الکافی، محمّد بن یعقوب الکلینی، تصحیح: علی أکبر غفاری، الناشر: دار الکتب الإسلامیة - طهران، الطبعة الثالثة 1388 ش.

47 - الکافی فی الفقه، أبو الصلاح الحلبی، تحقیق: رضا الأستادی، مکتبة الإمام أمیر المؤمنین علی علیه السلام العامة - إصفهان.

48 - کشف اللثام عن قواعد الأحکام، محمّد بن الحسن الإصفهانی (الفاضل الهندی)، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الأولی 1416 ه -.

ص:207

49 - الکشف والبیان عن تفسیر القرآن (تفسیر الثعلبی)، الثعلبی، تحقیق: أبو محمّد بن عاشور، الناشر: دار إحیاء التراث العربی - بیروت، الطبعة الأولی 1422 ه -.

50 - مبانی تکملة المنهاج، السید أبوالقاسم الخوئی، مطبعة الآداب - النجف الأشرف.

51 - المبسوط، شمس الدین السرخسی، الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزیع - بیروت، سنة الطبع 1406 ه -.

52 - المبسوط فی فقه الإمامیة، محمّد بن الحسن الطوسی، علّق علیه: محمّد تقی الکشفی، الناشر: المکتبة المرتضویة لإحیاء آثار الجعفریة، سنة الطبع 1387 ه -.

53 - مجمع الفائدة و البرهان فی شرح إرشاد الأذهان، المولی أحمد الأردبیلی، تصحیح: آقا مجتبی العراقی و الشیخ علی پناه الإشتهاردی و آقا حسین الیزدی، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی.

54 - المحلی، علی بن أحمد بن سعید بن حزم، تحقیق: أحمد محمّد شاکر، الناشر: دار الفکر.

55 - مختلف الشیعة، العلامة الحلی الحسن بن یوسف بن المطهر، تحقیق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامی، الطبعة الأولی 1412 ه -.

56 - مسالک الإفهام إلی تنقیح شرائع الإسلام، الشهید الثانی زین

ص:208

الدین بن علی العاملی، تحقیق ونشر: مؤسسة المعارف الإسلامیة، الطبعة الأولی 1413 ه -.

57 - المستدرک علی الصحیحین وبذیله التخلیص للذهبی، أبو عبد الله الحاکم النیسابوری، إشراف: الدکتور یوسف عبد الرحمن المرعشی، الناشر: دار المعرفة - بیروت.

58 - مسند أحمد، أحمد بن حنبل، الناشر: دار الصادر - بیروت.

59 - مصباح الفقاهة، السید أبوالقاسم الخوئی، الطبعة الأولی المحققة، الناشر: مکتبة الداوری - قم.

60 - مصنّف ابن أبی شیبة، عبد الله بن محمّد بن أبی شیبة الکوفی العبسی، الناشر: دار الفکر - بیروت، الطبعة الأولی 1409 ه -.

61 - مصنّف الصنعانی، عبد الرزاق الصنعانی، تحقیق: حبیب الرحمن الأعظمی.

62 - معانی القرآن الکریم، أبو جعفر النجاشی، تحقیق: الشیخ محمّد علی الصابونی، الناشر: جامعة أم القری، معهد البحوث العلمیة و إحیاء التراث الإسلامی، الطبعة الأولی 1408 ه -.

63 - المعجم الکبیر، سلیمان بن أحمد الطبرانی، تحقیق: حمدی عبد المجید السلفی، الناشر: دار إحیاء التراث العربی، الطبعة الثانیة.

64 - المقنع، الصدوق محمّد بن علی بن الحسین بن بابویه القمی،

ص:209

تحقیق ونشر: لجنة التحقیق التابعة لمؤسسة الإمام الهادی علیه السلام، سنة الطبع 1415 ه -.

65 - من لا یحضره الفقیه، الصدوق محمّد بن علی بن الحسین بن بابویه القمی، تعلیق: علی أکبر غفاری، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الثانیة.

66 - المهذّب، عبد العزیز بن البراج الطرابلسی، تحقیق: مؤسسة سید الشهداء العلمیة، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی، سنة الطبع 1406 ه -.

67 - المهذّب البارع فی شرح المختصر النافع، العلامة أحمد بن محمّد بن فهد الحلی، تحقیق: الشیخ مجتبی العراقی، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، سنة الطبع 1407 ه -.

68 - نقل وزراعة الأعضاء، مقال لمصطفی عبد الکریم مراد، قسم الأبحاث الشرعیة بدار الإفتاء المصریة، 2009 م.

69 - النهایة فی مجرد الفقه والفتاوی، محمّد بن الحسن الطوسی، الناشر: انتشارات قدس محمّدی - قم.

70 - نهج البلاغة شرح محمّد عبدة، الشیخ محمّد عبدة، الناشر: دار الذخائر - قم.

71 - نوادر المعجزات، محمّد بن جریر بن رستم الطبری الشیعی،

ص:210

تحقیق ونشر: مؤسسة الإمام المهدی عجل الله تعالی فرجه الشریف، الطبعة الأولی 1410 ه -.

72 - نیل الأوطار من أحادیث سید الأخیار، محمّد بن علی الشوکانی، الناشر: دار الجیل - بیروت، سنة الطبع 1973 م.

73 - وسائل الشیعة إلی تحصیل مسائل الشریعة، الشیخ محمّد بن الحسن الحر العاملی، تحقیق ونشر: مؤسسة آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث، الطبعة الثانیة 1414 ه -.

ص:211

ص:212

شرطیة الحرز فی حکم قطع ید السارق

اشارة

بقلم: الشیخ رافد التمیمی

إنّ الفقه الإسلامی هو القانون الإلهی فی الدین الخاتم، الذی أنزله الله تعالی لإدارة الحیاة الفردیة والاجتماعیة للبشر، فإنّ الشریعة المقدّسة رسمت للإنسان الطریق القویم والمنهج المستقیم الذی یوصله إلی حیث الغایة من الخلق والهدف من وجود الکون علی مستویین:

المستوی الأوّل: وهو المستوی الفردی الذی یهتم بحیاة کلّ فرد وخصوصیاته، وطریقة تعبّده وتنسّکه من خلال تشریع الأحکام، من قبیل: الصلاة والصیام وأمثالهما. طبعاً، لا ینافی ذلک أن یکون لمثل هذه العبادات جنبة اجتماعیة أخری.

المستوی الثانی: وهو المستوی الاجتماعی، الذی یهتم بتنظیم حیاة الفرد بما هو أحد أفراد المجتمع الذین تحکمهم علاقات وتعاملات معیّنة، کمسائل البیع والإجارة والزواج وأمثالها من المعاملات الکثیرة.

ویصطلح علی المستوی الأوّل فی الفقه بالعبادات، وعلی المستوی الثانی بالمعاملات.

ص:213

وانطلاقاً من الرحمة الإلهیة والحکمة الربانیة فإنّ الشریعة المقدّسة لم تترک کبیرة ولا صغیرة إلّا وبیّنت حکمها أو لا أقل بیّنت الوظیفة العملیة التی علی المکلّف أن یتّبعها.

ثم إنّ من أهم المسائل الاجتماعیة التی أکّدت علیها الشریعة الإسلامیة، وبیّنت مفرداتها بدقّة، وعیّنت جزئیاتها بحساسیة متناهیة - کمّاً وکیفاً - هی مسائل الدیّات والحدود، أو ما یصطلح علیه بقانون العقوبات، أو القانون الجزائی، وهو فیما لو اعتدی شخص علی آخر سواء کان الاعتداء علی شخصه وذاته أو علی أملاکه ومتعلّقاته، فإنّ أیّ نوع من أنواع الاعتداء له غرامة، علی المعتدی أن یتحمّلها(وَ کَتَبْنا عَلَیْهِمْ فِیها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ الْعَیْنَ بِالْعَیْنِ وَ الْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَ الْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَ السِّنَّ بِالسِّنِّ وَ الْجُرُوحَ قِصاصٌ)1 .

طبعاً هذا غیر العقوبة الأخرویة التی تلازم الحرمة التکلیفیة فلم تترک الشریعة المقدّسة مثل هذه الأمور بدون تحدید وتقنین وإلّا لساد الاختلاف والفساد فی المجتمع.

إلّا أنّه بین فترة وأخری تثار بعض الإشکالات علی بعض القوانین الإسلامیة، وعادة ما تعود هذه الإشکالات والاعتراضات؛ إمّا إلی عدم

ص:214

اطّلاع المستشکل علی أبعاد المسألة وتفاصیلها، والناس أعداء ما جهلوا، وإمّا إلی عدم انسجام هذه الأحکام مع بعض الرؤی الشخصیة التی ترجع إلی الأهواء والقناعات الفردیة الذوقیة، وإمّا إلی العداء الذی تکنّه بعض النفوس لهذا الدین الحنیف، وإمّا إلی بساطة وسذاجة المستشکل.

ونحن لا نرید أن نغلق باب النقد والسؤال، ولکن نرید أن نقول: یجب أن لا یصل هذا السؤال إلی حدّ الإشکال، - فضلاً أن یصل إلی حدّ الإشکالیة - قبل الفحص والسؤال من أهل الخبرة والاختصاص.

إنّ من بین المسائل الفقهیة الجزائیة التی یشکل علیها هی مسألة قطع ید السارق، فإنّ الشریعة الإسلامیة حکمت أنّ من سرق مالاً من غیره تُقطع یده، وهذا الحکم - أی: حکم القطع - لا یکون إلّا إذا تحقّقت مجموعة من الشرائط، منها: البلوغ، والعقل، وارتفاع الشبهة، وأن لا یکون المال مشترکاً، وأن یبلغ ربع دینار ذهباً أو خُمسه، إلی غیرها من الشروط المذکورة فی محلّها من الکتب الفقهیة المختصة(1).

شرطیة الحرز:

ومن الشرائط المهمّة التی لا بدّ من توفّرها حتّی یمکن إجراء حکم القطع علی السارق هو: أن یکون المال محرزاً فی مکان معیّن وبطریقة

ص:215


1- (1) انظر موسوعة السیّد الخوئی 339:41، أسباب الحدود.

خاصّة، أی: مخبِّأً فی مکان ما ولیس بظاهر، وإلّا إذا لم یکن محرزاً فلا یمکن تطبیق هذا الحکم علی السارق حتّی لو توفّرت بقیة الشرائط.

الإشکالات الواردة علی هذا الشرط:

هناک مجموعة من الإشکالات ذکرت حول هذا الشرط، منها:

1 - إنّ لازم اشتراط أن یکون المال المسروق فی حرزٍ أنّ من سرق مالاً محرزاً فی مثل السیارة أو مالاً محرزاً فی أمتعة یحملها الحیوان فسیکون علیه القطع، ولکن لو سرق شخص نفس تلک السیارة بما فیها هذا المال المحرز، أو سرق ذلک الحیوان بما یحمل فلا یکون علیه القطع؛ وذلک لأنّ المال المسروق لیس محرزاً، وبناءً علی هذا کیف یمکن قبول إجراء حکم القطع علی النحو الأوّل من السرقة وعدم إجرائه علی النحو الثانی؟! وهذا یکشف عن وجود خلل فی هذا الحکم، وینبغی إعادة النظر فیه.

2 - إنّ الفقهاء عرّفوا السرقة التی فیها القطع هی: أخذ مال الغیر من حرزه، وبدون إذن صاحب المال...

ولکن هذا التعریف لا ینطبق علی مجموعة من الموارد المستحدثة، والتی تکثر فیها السرقات، بل لعلّ السرقة فی هذه العصور تتمحور حول هذه الموارد، من قبیل: السرقة من مواقع الإنترنت، والأنظمة المصرفیة (البنوک)، وشبکات الهواتف النقّالة، وأعضاء جسم الإنسان، وأمثال هذه الموارد التی لا ینطبق علیها التعریف المتقدّم، إذ إنّها لیست أموراً محرزة

ص:216

فی مکان معیّن، فکیف یمکن أن نتصوّر أنّ من سرق ربع دینار ذهباً من شخص فسیکون علیه القطع، ولکن من سرق الملایین من الحساب المصرفی لشخص آخر فلا یکون علیه القطع؟!

فهذا یکشف عن الخلل والإشکال فی هذه المسألة الفقهیة.

من هنا أخذ البعض یرتّب بعض النتائج، ویستخلص أنّ الفقه الإسلامی إذا لم یعط حلولاً لهذه الإشکالات فسیفقد صلاحیة إدارة المجتمع الإنسانی المعاصر، فإنّ احتیاجات البشر أصبحت متنوّعة ومستحدثة، ولا تنسجم مع الطرح الفقهی القدیم، بل راح البعض - وللأسف - یجزم بذلک، مع عدم متابعته للحلول التی یقدّمها الفقهاء بشکل دقیق وصحیح، وعدم مراجعته القنوات الخاصة التی تعنی بهذه الأمور.

وفی هذا المقال نرید أن نجیب عن هذه التساؤلات والإشکالات، من خلال عرض الأدلة الفقهیة والأدوات الاستنباطیة، مع عرض کلمات الفقهاء وأهل الفن والاختصاص؛ لمعرفة سلامة أو سقم ما یُدّعی من هذه الإشکالات علی شرطیة الحرز فی جواز قطع ید السارق.

الإجابة علی الإشکالات:

تعتبر مسألة شرطیة الحرز فی جواز قطع ید السارق من المسائل الإجماعیة فی الفقه، والتی لم یقع فیها أیّ اختلاف أو إشکال؛ وذلک تبعاً لمجموعة من الروایات الصحیحة المعتبرة التی نصّت أو أشارت إلی هذا

ص:217

الشرط - ویأتی ذکر الروایات بالتفصیل - وهذا الأمر لا کلام فیه، إلّا أنّ البحث وقع فی تعریف الحرز، وبیان معناه وحدوده، فعند مراجعة کلمات الفقهاء فی ذلک نجد بعض الاختلاف فیما بینهم.

تعریف الحرز:

قال الشیخ الطوسی فی النهایة: «الحرز هو کلّ موضع لم یکن لغیر المتصرّف فیه الدخول إلیه إلّا باذنه، أو یکون مقفلاً علیه، أو مدفوناً، فأمّا المواضع التی یطرقها الناس کلّهم، ولیس یختص بواحد دون غیره فلیست حرزاً، وذلک مثل الخانات والحمامات والمساجد والأرحیة وما أشبه ذلک من المواضع»(1).

قال فی الجواهر - بعد أن ذکر هذا التعریف عن الشیخ -: «عن المبسوط والتبیان والغنیة وکنز العرفان نسبته إلی أصحابنا، بل عن الأخیر الإجماع علیه صریحاً»(2).

وقد استشهد صاحب الریاض لهذا التعریف بمجموعة من الروایات.(3)

والمحصّل من هذا التعریف الذی علیه أکثر الفقهاء: إنّ هناک ثلاث

ص:218


1- (1) النهایة 320:3.
2- (2) جواهر الکلام 293:41.
3- (3) ریاض المسائل 104:16.

موارد للحرز یتحقّق معها حکم قطع ید السارق: الأوّل: فیما إذا سرق من مکان لا یحقّ له الدخول فیه إلّا بإذن. الثانی: أن یسرق مالاً مقفلاً علیه. الثالث: أن یسرق مالاً مدفوناً.

ولکن واجه هذا التعریف إشکالاً بأنّه غیر مانع من دخول الأغیار، فإنّ الفقرة الأولی منه تنطبق علی موارد لا یجوز فیها القطع، قال ابن إدریس فی السرائر:

«أمّا حدّه للحرز بما حده فغیر واضح؛ لأنّه قال: «والحرز هو کلّ موضع لم یکن لغیر المتصرّف فیه الدخول إلیه إلّا بإذنه»، وهذا علی إطلاقه غیر مستقیم؛ لأنّ دار الإنسان إذا لم یکن علیها باب، أو یکون علیها باب ولم تکن مغلقة ولا مقفلة، ودخلها إنسان وسرق منها شیئاً، لا قطع علیه بلا خلاف، ولا خلاف أنّه لیس لأحد الدخول إلیها إلّا بإذن مالکها، فلو کان الحدّ الذی قاله مستقیماً لقطعنا من سرق ما فی هذه الدار؛ لأنّه لیس لأحد دخولها إلّا بإذن صاحبها، فهی حرز علی حدّه رضی الله عنه»(1).

فالإشکال إذن علی المورد الأوّل من الموارد الثلاثة التی ذکرها الشیخ.

والإشکال واضح، ولأجل هذا الإشکال أضاف ابن حمزة قیداً للدخول بغیر إذن، وهو أن تکون الدار مغلقة أو مقفلة(2) ، فهذا تسلیم بالإشکال.

ولکن دافع العلّامة فی المختلف عن تعریف الشیخ الطوسی بحمل

ص:219


1- (1) السرائر 484:3.
2- (2) انظر جواهر الکلام 293:41.

کلامه علی الإذن التکوینی لا الإذن الشرعی، حیث قال: «ویحتمل أن یکون المراد بقوله:

«لیس لغیر المتصرّف الدخول فیه» سلب القدرة لا الجواز الشرعی».(1)

أی: أنّ الدار التی لم تقفل ولم تغلق فإنّ الإذن فی دخولها متحقّق؛ لأنّ الإذن بمعنی القدرة علی الدخول، ولیس الإذن معناه الإذن الشرعی، لذلک فإنّ من دخل داراً لم تقفل ولم تُغلق فإنّه دخلها بالإذن التکوینی، ومادام الإذن التکوینی موجوداً، فلا قطع علیه إن سرق من تلک الدار.

ولکن هذا لیس جواباً فی الحقیقة، بل هو تسلیم بالإشکال وتأویل لعبارة الشیخ الطوسی علی خلاف ظاهرها جدّاً، ومن المقطوع به أیضاً أنّ المراد هو الإذن الشرعی لا القُدرة، وإلّا فالإذن بمعنی القدرة متحقّق حتّی مع القفل والغلق وإلّا لما أمکن أن یسرق شیئاً أصلاً.

والجواب عن هذا الإشکال یتطلّب البحث عن حقیقة الحرز روائیاً؛ لأنّ الفیصل فی هذه المسألة هو الروایات، وسنستعرض ونبحث ما هو المستفاد منها، ثمّ نجیب عن هذا الإشکال وبقیة الإشکالات المتقدّمة.

التحقیق فی شرطیة الحرز:

إنّ شرط الحرز لم یُؤخذ بهذا اللفظ منقولاً إلّا فی مرسل ابن العلّامة

ص:220


1- (1) المختلف 216:9.

وابن فهد الحلی، حیث روی عن رسول الله صلی الله علیه و آله:

«لا قطع إلّا من حرز»(1)(2)، وکذا رواه مرسلاً فی العوالی.

وکذا ورد لفظ الحرز فی صحیحة محمّد بن مسلم الآتیة، إلّا أنّه لم یؤخذ لفظ الحرز فیها مستقلاً، من هنا کان لزاماً عرض الروایات الواردة فی هذا الصدد؛ لاستخراج المعنی المراد من هذا الشرط، ومعرفة حدوده بشکل صحیح، کما لابدّ من تسلیط الضوء علی الروایات المعارضة أیضاً، وإلّا لما صح التمسّک بأیّ نتیجة من دون حلّ التعارضات.

نستعرض هنا أوّلاً الروایات الموافقة، ثمّ نستعرض الروایات التی تعارضها، ثمّ نستخلص أهم النتائج المرتبطة بالمقام.

عرض الروایات فی المقام:

هناک مجموعة من الروایات التی جاءت فی هذه المسألة، نستعرضها مع بیان دلالاتها، ثمّ نستخلص أهم النتائج منها:

الروایة الأولی:

صحیحة أبی بصیر، قال: سألت أبا جعفر علیه السلام عن قوم اصطحبوا فی

ص:221


1- (1) إیضاح الفوائد 529:4، المهذّب البارع 97:5، وانظر عوالی اللئالی 568:3، مستدرک الوسائل 136:18.
2- (2) الکافی 228:7، التهذیب 110:10، الوسائل 276:28، ح 34749.

سفر رفقاء فسرق بعضهم متاع بعض؟

فقال:

«هذا خائن لا یقطع، ولکن یتبع بسرقته وخیانته.

قیل له: فإن سرق من منزل أبیه؟ فقال: لا یقطع؛ لأنّ ابن الرجل لا یُحجب عن الدخول إلی منزل أبیه، هذا خائن، وکذلک إن سرق من منزل أخیه أو أخته إن کان یدخل علیهم لا یحجبانه عن الدخول»(1).

وتدلّ هذه الروایة علی أنّ من کان مأذوناً فی الدخول ومقاربة الأموال إذا سرق فلا یقطع، وهذا معناه أنّه إذا لم یکن مأذوناً کذلک فعلیه القطع، إذن فالمال المحرز علیه القطع وإلّا فلا.

فإن قلت:

هذا استدلال بمفهوم الوصف وهو لم یثبت حجیّته.

قلت:

الاستدلال بهذه الروایة من خلال ثلاث فقرات:

الأولی: وهو الاستدلال بمفهوم الوصف، وهو المستفاد من الفقرة الأولی فی الروایة، وهذا یرد علیه الإشکال کما فی البحث الأصولی؛ إذ لا حجیّة فیه.

الثانیة: الاستدلال بمفهوم التعلیل، وهو المستفاد من الفقرة الثانیة فی

ص:222


1- (1) الکافی 228:7، التهذیب 110:10، الوسائل 276:28، ح 34749.

الروایة، وهو قوله علیه السلام:

«لأنّ ابن الرجل لا یحجب...»، وقد وقع اختلاف بین الأصولیین فی حجیّة هذا المفهوم، فلو سلّمنا عدم حجیّته، لا یمکن الاستدلال بهذه الفقرة أیضاً.

الثالثة: الاستدلال بمفهوم الشرط، وهو الاستدلال بالفقرة الأخیرة من الروایة، وهو قوله:

«إن کان یدخل علیهم لا یحجبانه عن الدخول» ومفهوم الشرط حجّة.

ولا یشکل علی هذا الاستدلال بأنّ الشرط هنا مسوق لتحقّق الموضوع، فإنّ عدم الدخول ینفی أساس الموضوع للسرقة، فهو کقولک: إن رزقت ولداً فاختنه.

لا یُشکل بهذا؛ لأنّ الشرط لیس کذلک، فإنّ الشرط لم ینصبّ علی الدخول بل علی الحجب، والمعنی: إن کان یدخل علیهم بدون حجب ومنع فهو لا یقطع، وإن کان یدخل علیهم مع الحجب والمنع فهو یقطع، والقرینة علی ذلک ظهور الروایة فی ذلک أوّلاً، وثانیاً: سیاق الروایة یدلّ علی ذلک أیضاً، فإنّ الفقرة السابقة علّلت هذا الحکم بأنّ ابن الرجل لا یحجب، فمصبّ الکلام علی الحجب، فلا یکون الشرط مسوقاً لتحقق الموضوع، وبذلک یتمّ الاستدلال.

الروایة الثانیة:

معتبرة السکونی، عن أبی عبد الله علیه السلام قال: قال أمیر المؤمنین علیه السلام:

ص:223

«کلّ مَدخل یُدخَل فیه بغیر إذن صاحبه فسرق منه السارق فلا قطع علیه، یعنی الحمامات والخانات والأرحیة»(1).

وزاد الفقیه: والمساجد(2).

وتدلّ هذه الروایة علی أنّ الأماکن التی لا تحتاج إلی إذن فی الدخول فلیس علی السارق منها القطع، ومعناه أنّ الأماکن التی تحتاج إلی الإذن فعلی السارق القطع، فهی صریحة بعدم القطع فی سرقة الأماکن العامّة، وبمفهومها علی جواز القطع فی غیر ذلک.

ولکن الإشکال علی هذه الروایة هو من جهة عدم ثبوت مفهوم الوصف.

الروایة الثالثة:

معتبرة السکونی، عن أبی عبد الله علیه السلام:

«لا یقطع إلّا من نقب بیتاً أو کسر قفلاً»(3).

دلالة هذه الروایة واضحة فی أنّ الذی ینقب بیتاً أو یکسر قفلاً فهو یقطع، وستأتی الإشارة لاحقاً إلی أنّ مفهوم الحصر سوف یعارض موارد القطع فی غیر النقب والکسر.

ص:224


1- (1) الکافی 231:7، الوسائل 276:28، ح 34750.
2- (2) من لا یحضره الفقیه 44:4، التهذیب 108:10.
3- (3) التهذیب 108:10، الاستبصار 243:4، الوسائل 277:28، ح 34751.

الروایة الرابعة:

مرسلة جمیل: فقد روی العیاشی عن جمیل عن بعض أصحابه عن أحدهما علیهم السلام قال:

«لا یقطع إلّا من نقب بیتاً أو کسر قفلاً»(1).

والکلام عن هذه الروایة کسابقتها إلّا أنّها ضعیفة من جهة السند.

الروایة الخامسة:

صحیحة الحلبی، قال: سألت أبا عبد الله علیه السلام عن رجل ثقب بیتاً فأُخِذَ قبل أن یصل إلی شیء؟ قال: «یعاقب، فإن أُخِذَ وقد أخرج متاعاً فعلیه القطع»(2).

دلالة هذه الروایة واضحة فی أنّ من ثقب بیتاً وأخرج الأموال المسروقة فعلیه القطع، وتکون هذه الروایة مقیّدة لإطلاق الروایات السابقة القائلة بأنّ من ثقب بیتاً یقطع، فهی تفید أنّ من ثقب بیتاً وأخرج الأموال فهو الذی یُقطع لا مطلقاً، وهناک روایات عدیدة أخری بهذا المضمون والمعنی.

الروایة السادسة:

معتبرة السکونی، عن أبی عبد الله علیه السلام قال: «أتی أمیر المؤمنین علیه السلام بطرار قد طرّ دراهم من کم رجل، قال: إن کان طرّ من قمیصه الأعلی لم

ص:225


1- (1) تفسیر العیاشی 319:1، الوسائل 277:28.
2- (2) الکافی 224:7، التهذیب 107:10، الوسائل 262:28، ح 34714.

أقطعه، وإن کان طرّ من قمیصه الداخل قطعته»(1).

تدلّ هذه الروایة علی أنّ السرقة من القمیص الأعلی لیس فیها قطع، وأمّا السرقة من القمیص الداخل والمحرز ففیها القطع، وهی واضحة الدلالة علی شرط الإحراز فی الحکم بالقطع.

الروایة السابعة:

صحیحة محمّد بن مسلم، قال: قلت لأبی عبد الله علیه السلام:

فی کم یقطع السارق؟

قال:

«فی ربع دینار...، قلت له: أرأیت من سرق أقل من ربع دینار هل یقع علیه حین سرق اسم السارق؟ وهل هو عند الله سارق فی تلک الحال؟ فقال: کلّ من سرق من مسلم شیئاً قد حواه وأحرزه فهو یقع علیه اسم السارق، وهو عند الله سارق، ولکن لا یقطع إلّا فی ربع دینار أو أکثر»(2).

تبیّن هذه الروایة أنّ السرقة تصدق فیما إذا أخذ مالاً من مسلم قد حواه وأحرزه، وأنّه تقطع یده إذا کان ما سرقه مقدار ربع دینار.

وهی واضحة الدلالة علی شرطیة الحرز فی القطع.

ص:226


1- (1) الکافی 226:7، التهذیب 115:10، الوسائل 270:28، ح 34737.
2- (2) الکافی 221:7، التهذیب 99:10، الاستبصار 238:4، الوسائل 243:28، ح 34658.
الروایات المعارضة:

هناک بعض الروایات التی قد تکون بظاهرها معارضة لبعض الروایات المتقدّمة:

منها: صحیحة الحلبی، عن أبی عبد الله علیه السلام قال: سألته عن الرجل یأخذ اللص یرفعه أو یترکه؟ فقال:

«إنّ صفوان بن أُمیة کان مضطجعاً فی المسجد الحرام، فوضع رداءه وخرج یهریق الماء، فوجد رداءه قد سرق حین رجع إلیه، فقال: من ذهب بردائی؟ فذهب یطلبه فأخذ صاحبه، فرفعه إلی النبی صلی الله علیه و آله، فقال النبی صلی الله علیه و آله: اقطعوا یده، فقال صفوان: أتقطع یده من أجل ردائی یا رسول الله؟ قال: نعم، قال: فأنا أهبه له، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله: فهلّا کان هذا قبل أن ترفعه إلیّ، قلت: فالإمام بمنزلته إذا رفع إلیه؟ قال: نعم»(1).

هذه الصحیحة تدلّ علی أنّ من سرق من المسجد فهو یقطع مع أنّ المساجد من الأماکن العامّة التی لا تحتاج إلی إذن فی الدخول، وهذا یعارض ما ثبت من الروایات المتقدّمة التی اشترطت فی القطع أن تکون السرقة من الأماکن التی تحتاج إلی إذن، وعفت عن الأماکن التی لیست کذلک، بل صرّحت بعدم القطع فی مثل المساجد والحمامات والأرحیة والخانات، وعلیه فلا یمکن الالتزام بالکلیة القائلة: إنّ فی السرقة من

ص:227


1- (1) الکافی 251:7، التهذیب 123:10، الاستبصار 251:4، الوسائل 39:28، ح 34161.

الأماکن التی تحتاج إلی إذن قطع، ولا قطع فی السرقة من الأماکن العامّة.

ومثل هذا الخبر ما رواه الصدوق مرسلاً فی الفقیه والخصال، قال:

«وکان صفوان بن أمیة بعد إسلامه نائماً فی المسجد، فسُرق رداؤه، فتبع اللص وأخذ منه الرداء، وجاء به إلی رسول الله صلی الله علیه و آله، وأقام بذلک شاهدین عدلین علیه، فأمر علیه السلام بقطع یمینه، فقال صفوان: یا رسول الله، أتقطعه من أجل ردائی؟ قد وهبته له، فقال علیه السلام: إلّا کان هذا قبل أن ترفعه إلیّ؟ فقطعه»(1).

فهذه المرسلة وسابقتها تمثّلان إشکالاً علی ما تقدّم.

الجواب عن الإشکال:

الجواب الأوّل: وهو ما ذکره الشیخ الصدوق فی الفقیه فی ذیل المرسلة، حیث قال:

«لا قطع علی من یسرق من المساجد والمواضع التی یدخل إلیها بغیر إذن، مثل: الحمامات والأرحیة والخانات، وإنّما قطعه النبی صلی الله علیه و آله؛ لأنّه سرق الرداء وأخفاه، فلإخفائه قطعه، ولو لم یخفه لعزّره ولم یقطعه»(2).

وقد فسّر صاحب الوسائل هذا الوجه بما هو خلاف ظاهر العبارة جدّاً، حیث أفاد أنّ سبب القطع هو إخفاء صفوان لثوبه، فالسارق سرق مالا

ص:228


1- (1) الفقیه 193:3، الخصال: 193، الوسائل 277:28، ح 34752.
2- (2) الفقیه 193:3.

ًمحرزاً، فقال بعد أن نقل عبارة الصدوق المتقدّمة:

«أقول: الظاهر أنّ مراده أنّ صفوان کان قد أخفی الرداء وأحرزه ولم یترکه ظاهراً فی المسجد»(1).

فعبارة الصدوق واضحة بأنّ قصده أنّ السارق هو الذی أخفی لا أنّ صفوان کان قد أخفی ثوبه.

والوجه فی هذا التوجیه الذی ذکره الشیخ الصدوق هو ما رواه مرسلاً عن أمیر المؤمنین علیه السلام قال: قال علی علیه السلام: «لا قطع فی الدغارة المعلنة وهی الخلسة، ولکنّی أُعزّره، ولکن یُقطع من یأخذ ویخفی»(2). وما رواه الکلینی بسند صحیح عن محمّد بن قیس عن أبی جعفر علیه السلام قال: «قضی أمیر المؤمنین علیه السلام فی رجل اختلس ثوباً من السوق، فقالوا: قد سرق هذا الرجل، فقال: إنّی لا أقطع فی الدغارة المعلنة، ولکن أقطع ید من یأخذ ثمّ یخفی».

فحمل الشیخ الصدوق القطع فی الروایة المتقدّمة علی أنّ السارق قد أخفی المال المسروق، ومن أخفی المال فعلیه القطع، لذلک قطعه الرسول صلی الله علیه و آله.

نقاش الجواب الأوّل.

یرد علی هذا الوجه أمور:

أوّلاً: إنّ هذا الحمل تبرّعی حتّی لو سلّمنا أنّه تقطع ید السارق إذا

ص:229


1- (1) الوسائل 277:28.
2- (2) الفقیه 406:5، ح 5117.

أخفی المال المسروق؛ إذ لا شاهد علی أنّ السارق قد أخفی المال المسروق فی روایة صفوان، فلا توجد أیّة إشارة فی الروایتین علی ذلک.

ثانیاً: إنّ القرائن تشیر إلی خلاف ذلک، حیث روی الصدوق فی الخصال أنّ صفوان وجد رداءه بید السارق، هذا قرینة علی أنّه لم یُخفه.

ثالثاً: إنّ ظاهر روایة الإمام علی علیه السلام أنّه لا یُقطع فیمن یسرق علناً ویُقطع فیمن یسرق خفیة، فالعلن والخفیة راجع إلی نفس عملیة السرقة، لا إلی المال المسروق، والشاهد علی ذلک قرینة المقابلة، حیث قال فی المقطع الأوّل:

«لا قطع فی الدغارة المعلنة»، فأرجع العلن إلی نفس الأخذ، وقال فی المقطع الثانی:

«ولکن یقطع من یأخذ ویخفی»، أی: یخفی الأخذ لا المأخوذ.

رابعاً: حتّی لو فرضنا أنّ السارق أخفی المال المسروق مع ذلک لا یقطع إذا لم یحرز شرط الحرز؛ لأنّ إخفاء المال المسروق لیس علّة تامة للقطع، بل هو أحد أجزاء العلة، أی: أنّه لا یؤثّر إلّا مع تحقّق بقیة الأجزاء، فإنّ هذا الشرط فی قبال السرقة العلنیة فیما هو ظاهر الروایتین المتقدّمتین.

الجواب الثانی عن الإشکال:

وهو ما ذکره الشیخ الحر فی الوسائل تفسیراً لعبارة الصدوق المتقدّمة، من أنّه یحتمل أن یکون صفوان قد أحرز ثوبه فی المسجد وأخفاه(1).

ص:230


1- (1) الوسائل 277:28.

ونقل هذا الوجه أیضاً صاحب الریاض عن بعض الأعلام واستحسنه(1).

وبذلک یکون قطع ید السارق علی طبق القاعدة وموافقاً لشرط الحرز.

نقاش الجواب الثانی:

إنّ هذا الجواب خلاف ظاهر الروایتین، أمّا الأولی فواضح؛ لأنّه ترک رداءه فی المسجد وخرج یهریق الماء، أو لا أقل من أنّه لا شاهد علی هذا الحمل.

وأمّا الثانیة فهو وإن قیل: إنّه کان نائماً فلعلّه وضعه تحته، إلّا أنّه لا شاهد علیه أیضاً، وکون الحرز مراعاة المال - کما قیل عن البعض - لا یفید فی المقام؛ لأنّه لا یصدق علی النائم عرفاً، کما هو واضح.

قال السیّد الخوئی: وهذه الصحیحة تدلّ علی أنّ الحدّ یثبت علی السارق من المسجد الحرام، وحملها علی السرقة من محرز فیه بعید.

الجواب الثالث عن الإشکال:

وهو ما ذکره السیّد الخوئی من أنّ هذا الحکم لا یبعد أن یکون من مختصّات المسجد الحرام، قال: فإن تمّ إجماع علی اشتراک المسجد الحرام مع غیره من المساجد فهو، وإلّا لم یبعد ثبوت الحدّ علی السارق من المسجد الحرام بخصوصه الذی جعله الله مثابة للناس وأمناً.

ص:231


1- (1) ریاض المسائل 579:13.

ومما یؤکّد ذلک - أی: کون مثل هذا الحکم من الأحکام الخاصّة بالمسجد الحرام - عدّة روایات: منها: صحیحة عبد السلام بن صالح الهروی عن الرضا علیه السلام - فی حدیث - قال: قلت له: بأیّ شیء یبدأ القائم منکم إذا قام؟ قال:

«یبدأ ببنی شیبة، فیقطع أیدهم؛ لأنّهم سرّاق بیت الله تعالی».

باعتبار أنّ قطع القائم علیه السلام أیدی بنی شیبة لیس مبنیاً علی قیام حدّ السرقة علیهم؛ نظراً إلی أنّ شرائط القطع فیهم غیر موجودة، بل هم من الخائنین لبیت الله، فیکون هذا من أحکام بیت الله الحرام دون غیره(1).

ولکن یمکن أن لا یکونوا خائنین؛ وذلک لأنّه لم یؤذن لهم من الأساس أصلاً ولیسوا ممن لا یحتاجون إلی إذن فیکون قطعهم علی طبق القاعدة.

فإن قلت: إنّ المساجد لا تحتاج إلی إذن فیکون القطع علی خلاف القاعدة، وهو خصوصیّة المسجد الحرام.

قلت: هذا عود إلی أوّل الکلام، ویحتاج لتبریر القطع إلی إثبات خصوصیة المسجد الحرام، ولا یکون شاهداً علی ذلک بنفسه.

نعم، احتمال الخصوصیة فی المسجد الحرام عرفی؛ وذلک لاختصاص المسجدین ببعض الأحکام دون غیرهما.

وإن أبیت عن احتمال الخصوصیة، فإنّ هذا الخبر لا یصلح لمعارضة

ص:232


1- (1) موسوعة السیّد الخوئی 347:41، مبانی تکملة المنهاج، الحدود.

الأخبار الکثیرة والعدیدة التی علیها رأی المشهور، بل علیه الإجماع، إلّا ما نُسب إلی العُمانی من أنّ السارق من الأماکن العامّة یقطع، مستشهداً بالخبر المتقدّم(1) ، وهو کما تری.

وبذلک لا تصلح هذه الروایة لمعارضة الروایات المتقدّمة.

ومن الروایات المعارضة:

معتبرة السکونی المتقدّمة

«لا یقطع إلّا من نقب بیتاً أو کسر قفلاً»، حیث إنّها تدلّ بمفهومها أنّه لا موجب للقطع إلّا هذان الأمران، وهذا یعارض ما ورد فی مثل الروایة الأولی والسادسة والسابعة المتقدّمة، حیث إنّنا أثبتنا القطع فی غیر هذین الموردین.

ولکن یجاب عن هذا الإشکال إمّا بعدم ثبوت مفهوم الحصر، وإمّا أنّ المفهوم لا یصلح لمعارضة المنطوق، فإنّ المنطوق یقدّم علیه بالأظهریة، أو بالنصیة؛ لأنّ ظهور المفهوم لم یصل إلی مرحلة اللازم البیّن بالمعنی الأخص الذی یقصد مستقلاً بالکلام کما هو ظاهر.

ومن الروایات المعارضة:

ما جاء فی حکم الطرار حیث إنّ الروایات فیه علی ثلاث طوائف(2):

ص:233


1- (1) انظر مسالک الإفهام 352:2.
2- (2) انظر الوسائل 270:28، أبواب حدّ السرقة، الباب 13، باب حکم الطرار.

الأولی: ما تقدّم ذکره من التفصیل بین ما کان الطر من القمیص الأعلی فلا قطع فیه، وبین ما کان من القمیص الأسفل ففیه القطع.

الثانی: ما جاء فی أنّ الطرار لا یقطع بقول المطلق.

الثالث: ما جاء فی أنّ الطرار یقطع بقول المطلق.

ومن الواضح فإنّ المعارضة محلولة بین هذه الطوائف الثلاثة بحمل المطلق علی المقیّد، فتکون الروایات المانعة من القطع بقول مطلق محمولة علی السرقة من القمیص الأعلی، والروایات المثبتة للقطع بقول مطلق محمولة علی السرقة من القمیص الأسفل.

المستفاد من الروایات فیما یرتبط بالمقام:

هناک مجموعة من الأمور إذا تحقّق واحد منها فإنّه یکون مجوّزاً للقطع، وهذا معناه أنّ کلّ واحد من هذه الموارد یعتبر حرزاً:

الأوّل: أن یکون المال فی بیت لا یجوز الدخول فیه إلّا بإذن من قبل المالک.

الثانی: أن یکون المال فی مکان مقفل.

الثالث: أن یکون المال فی مکان ینقب ویثقب.

الرابع: أن یکون المال فی مکان غیر ظاهر، بل داخل ومخفی.

الخامس: أن یکون المال فی حرز.

ص:234

ومن مجموع هذه الموارد تبیّن حدود الحرز والمقصود منه، فإنّ الملاحظ لهذه المصادیق التی أشارت إلیها الروایات یستظهر أنّ الحرز هو کلّ شیء یخفی ویخبئ، فإنّ کون المال فی مکان یحتاج إلی إذن، أو أنّه فی مکان مُغلق، أو أنّه فی مکان مُقفل، وغیرها من الموارد، کلّها تشیر إلی أنّ المال الذی یکون محجوباً عن الغیر إذا سرق ففیه القطع، وأمّا الأموال التی لیست کذلک فلا قطع فیها، وبذلک تبیّن أنّ الحقّ فی تعریف الحرز هو ما ذکره الشیخ الطوسی فی المبسوط، قال: «فإذاً ثبت أنّه لا قطع إلّا علی من سرق من حرز، احتجنا إلی تبیین الحرز، ومعرفته مأخوذة من العرف، فما کان حرزاً لمثله فی العرف ففیه القطع، وما لم یکن حرزاً لمثله فی العرف فلا قطع؛ لأنّه لیس بحرز»(1).

ثمّ یذکر مجموعة من المصادیق التی یری العرف أنّها فی الحرز، ومجموعة أخری من الموارد التی لا یراها العرف کذلک.

والذی یدلّ علی هذا المطلب أیضاً - بالإضافة إلی الروایات المتقدّمة التی أکّدت علی ذکر المصادیق والموارد مما یکشف عن عرفیة المسألة - صحیحة الحلبی عن أبی عبد الله علیه السلام أنّه قال:

«فی رجل استأجر أجیراً وأقعده علی متاعه فسرقه، قال: هو مؤتمن، وقال فی رجل أتی رجلاً وقال: أرسلنی فلان إلیک لترسل إلیه بکذا وکذا، فأعطاه وصدّقه، فلقی صاحبه،

ص:235


1- (1) المبسوط 22:8.

فقال له: إنّ رسولک أتانی فبعثت إلیک معه کذا وکذا، فقال: ما أرسلته إلیک، وما أتانی بشیء، فزعم الرسول أنّه قد أرسله وقد دفعه إلیه، فقال: إن وجد علیه بیّنة أنّه لم یرسله قطع یده، ومعنی ذلک أن یکون الرسول قد أقر مرّة أنه لم یرسله، وإن لم یجد بیّنة فیمینه بالله ما أرسلته، ویستوفی الآخر من الرسول المال، قلت: أرأیت إن زعم أنّه إنّما حمله علی ذلک الحاجة؟ فقال: یقطع؛ لأنّه سرق مال الرجل»(1).

وهذا یدلّ علی عرفیة الحرز فی المسألة، وإلّا من سرق بواسطة الکذب لا یصدق علیه أحد الموارد المتقدّمة التی أشارت إلیها الروایات، بل إنّ المنطبق علیه هو أنّه أخرج المال من حرزه عرفاً وإن لم یکسر قفلاً أو ینقب بیتاً، بل إنّ صاحب المال هو الذی أعطاه المال؛ لذلک حکم علیه الإمام علیه السلام بأنّه سارق ویستحق القطع.

ویؤیّد هذا المعنی أیضاً ما ورد من الروایات فی سرقة الضیف والمؤتمن، فقد عقد صاحب الوسائل باباً فی ذلک، وفیه مجموعة من الروایات المعتبرة(2).

وکذا ما ذکره من الروایات فی باب حکم سرقة العبد من مولاه(3).

ص:236


1- (1) الکافی 227:7، الفقیه 43:4، الوسائل 273:28، ح 34745.
2- (2) الوسائل 275:28، باب أنّه لا یقطع الضیف، ولکن یقطع ضیف الضیف.
3- (3) الوسائل 298:28.

وکذا باب أنّه لا قطع علی الأجیر الذی لا یحرز المال من دونه(1).

فهذه الموارد - وفیها مجموعة من الروایات - إن لم نقل أنّها تدلّ علی عرفیة الحرز، فإنّها تشیر إلیه وتؤیّد ما قلناه بقوّة.

ومن مجموع ذلک نستخلص أنّ الحرز شرط فی القطع، والذی یحدّد الحرز هو العُرف، فما کان عرفاً فی حرز ففیه القطع، ومالم یکن کذلک فلا قطع فیه.

قال فی الجواهر: «وعلی کلّ فمن شرطه أن یکون محرزاً بقفل أو غلق أو دفن أو نحوها مما یعدّ فی العُرف حرزاً لمثله؛ إذ لا تحدید فی الشرع للحرز المعتبر فی القطع نصّاً وفتوی، بل إجماعاً بقسمیه»(2)

قال السیّد الروحانی: فلا إشکال فی اعتبار کون المال محرزاً، وحیث لا تحدید شرعاً للحرز فیتعیّن الرجوع فیه إلی العرف(3).

الجواب علی الإشکالات المتقدّمة:

جواب إشکال ابن إدریس:

ما ذکره ابن إدریس فی السرائر من إشکال فإنّه یرد علیه نقضاً وحّلاً.

ص:237


1- (1) الوسائل 271:28.
2- (2) جواهر الکلام 293:41.
3- (3) فقه الصادق 286:39.

أمّا النقض: فإنّ القید الذی ذکره الشیخ فی النهایة هو عبارة عن مضمون الروایة الأولی المتقدّمة، حیث استفدنا شرطیة الإذن من مفهوم الشرط فیها، ومفهوم الشرط ثابت، وعلیه فسوف یکون الإشکال علی الروایة أیضاً لا فقط علی عبارة الشیخ.

وأمّا الحلّ: فإنّ التعریف الذی ذکره الشیخ فی النهایة تعریف للمصادیق - مع أنّه لم یذکر جمیع المصادیق فی الروایات - ولم یعط ضابطة کلّیة فی المقام، والضابطة الکلیة هی ما توصّلنا إلیه من خلال البحث المتقدّم، والتی أشار إلیها الشیخ فی المبسوط، وهی عُرفیة الحرز، من هنا فإنّ النقض الذی ذکره ابن إدریس لا نُسلّم به علی إطلاقه، بل إنّ السارق من تلک الدار لا یُقطع إذا لم یصدق علیه أنّه سرق من حرز عرفاً، وإلّا لو صدق علیه أنّه من حرز لحکم بقطع یده، وسوف یکون الإجماع المدّعی علی الخلاف.

جواب الإشکال الثانی:

وهو الإشکال الأوّل الذی ذکرناه فی صدر البحث من أنّه لا یمکن قبول أنّ من سرق مالاً محرزاً فی السیارة مثلاً فعلیه القطع، وأمّا من سرق نفس السیّارة فلا قطع علیه.

والجواب عن هذا الإشکال یتّضح أیضاً ممّا تقدّم، فإنّه بعد أن ثبُت أنّ الحرز یحدّده العرف، فأینما صدق الحرز جاز القطع وإلّا فلا، ففی المثال

ص:238

المذکور إن صدق أنّ المال المخبّئ فی السیارة فی حرز عرفاً فإنّ علی سارقه القطع وإلّا فلا، وکذا نفس السیارة فإن کانت عرفاً فی حرز فعلی سارقها القطع وإلّا فلا قطع علیه، ثمّ إنّ المال الذی أحرز فی السیارة غیر المحرزة عادة لا یصدق علیه أنّه فی الحرز، لذلک فلیس علی السارق القطع لا علی هذا المال ولا علی السیارة، وهذا لا یختص بهذا المورد، فإنّ من یعلم أنّ السرّاق سوف یحفرون هذا المکان جزماً، فإنّه لو دفن فیه شیئاً لا یصدق علیه أنّه أحرزه، وکما فی موارد القفل، مع أنّ هذه الأمور منصوصة فی الروایات، إلّا أنّه کما قلنا المدار علی الصدق العرفی، وهذا هو مدلول الروایات العدیدة المتقدّمة.

جواب الإشکال الثالث:

وأمّا ما أُشکل به فی صدر البحث أیضاً من أنّ تعریف السرقة لا یشمل مجموعة من الموارد التی تکثر فیها السرقات فی هذه الأیام، فإنّه لا أساس له؛ وذلک لانطباق التعریف علی مثل هذه المصادیق بحسب العرف الذی هو المناط فی المسألة وتحدید الحرز، فإنّ الحسابات المصرفیة، والبرمجیات الإلکترونیة جمیعها تحتوی علی رموز وأقفال وکلمات وأرقام سریّة، فهی مُقفلة عرفاً، وقد جاء النص علی أنّ الأمور المقفلة محرزة، وفیها القطع، ولیس المراد من القفل هو قطعة الحدید فی الأزمان القدیمة، وإنّما هو کلّ شیء یمنع من الدخول أو التصرّف فی شیء آخر، وهذه الأمور کلّها یصدق علیها أنّها مقفلة ومشفّرة، فمن تجاوز علیها یعتبر سارقاً.

ص:239

نعم، هناک بحث من جهة أخری وهو: أنّ مثل هذه الأمور هل یصدق علیها أنّها مال أولا، وهذا بحث آخر لا ربط له فی المقام، فهو بحث صغروی، ولا یؤثّر علی تعریف السرقة وحدودها وانطباقها العُرفی علی مثل هذه الموارد إذا ثبتت مالیّتها.

ولأجل خطورة المسألة ودقّتها، والمسائل المصیریة التی تترتب علیها نجد أنّ الروایات تشیر عادة إلی نفس المصادیق الخارجیة وتحدّد حکمها، وهو ما سار علیه فقهاؤنا فی رسائلهم العملیة.

قال السیّد الإمام: «أن یُخرج المتاع من الحرز بنفسه أو بمشارکة غیره، ویتحقّق الإخراج بالمباشرة کما لو جعله علی عاتقه وأخرجه، والتسبیب کما لو شدّه بحبل ثمّ جذبه من خارج الحرز...»(1)

إلی آخر الموارد التی یشیر إلیها السیّد الإمام.

وکذا قال السیّد الخوئی: «أن یکون المال فی مکان محرز، ولم یکن مأذوناً فی دخوله، ففی مثل ذلک لو سرق المال من ذلک المکان وهتک الحرز قطع، وأمّا لو سرقه من مکان غیر محرز، أو مأذون فی دخوله، أو کان المال تحت یده لم یقطع، ومن هذا القبیل المؤتمن إذا خان وسرق الأمانة...»(2)

ص:240


1- (1) تحریر الوسیلة 434:2.
2- (2) موسوعة السیّد الخوئی 345:41، أسباب الحدود السرقة.

إلی آخره من الموارد التی فیها القطع، والتی لیس فیها ذلک.

وجمیع هذا یکشف عن عرفیة المسألة، وأنّ منهجیة الشارع هی بیان الحکم عن طریق بیان المصادیق.

لذلک لیس من الصحیح الجمود علی الموارد المنصوصة ثمّ الإشکال بها علی عدم دخول الموارد المستحدثة، أو نفس الموارد المنصوصة إذا تغیّرت ظروفها وشرائطها.

ص:241

ص:242

فهرس مصادر

مقال شرطیة الحرز فی حکم قطع ید السارق

1 - الاستبصار، الشیخ الطوسی، تحقیق: السید حسن الخرسان، نشر: دار الکتب الإسلامیة، الطبعة الرابعة 1363 ش، طهران - إیران.

2 - إیضاح الفوائد فی شرح إشکالات القواعد، فخر المحققین ابن العلّامة الحلی، تعلیق: السید حسین الکرمانی و الشیخ علی الإشتهاردی و الشیخ عبد الرحیم البروجردی، الطبعة الأولی 1387، قم - إیران.

3 - تحریر الوسیلة، الإمام الخمینی، نشر: مؤسسة النشر الإسلامی، الطبعة العاشرة 1425 ه -، قم - إیران.

4 - تفسیر العیاشی، محمّد بن مسعود العیاشی، تحقیق: السید هاشم الرسولی المحلاتی، نشر: المکتبة الإسلامیة، طهران - إیران.

5 - تهذیب الأحکام، الشیخ الطوسی، تحقیق و تعلیق: السید حسن الخرسان، نشر: دار الکتب الإسلامیة، الطبعة الثالثة 1364 ش، طهران - إیران.

ص:243

6 - جواهر الکلام، الشیخ محمّد حسن النجفی، مراجعة و تصحیح: رضا جعفر مرتضی العاملی و محمّد علی حاتم، نشر: دار إحیاء التراث العربی، الطبعة الأولی 1430 ه -، بیروت - لبنان.

7 - الخصال، الشیخ الصدوق، تحقیق: علی أکبر الغفاری، نشر: مؤسسة النشرالإسلامی 1403 ه -، قم - إیران.

8 - ریاض المسائل، السید علی الطباطبائی، تحقیق و نشر: مؤسسة النشرالإسلامی، الطبعة الأولی 1410 ه -، قم - إیران.

9 - السرائر الحاوی لتحریر الفتاوی، ابن ادریس الحلی، تحقیق و نشر: مؤسسة النشر الإسلامی، الطبعة الثانیة 1410 ه -، قم - إیران.

10 - عوالی اللئالی، الشیخ محمّد الإحسائی، تحقیق: ألشیخ مجتبی العراقی، الطبعة الأولی 1403 ه -، قم - إیران.

11 - فقه الصادق، السید محمّد صادق الروحانی، نشر: منشورات الاجتهاد، الطبعة الرابعة 1429 ه -، قم - إیران.

12 - الکافی، محمّد بن یعقوب الکلینی، صححه وعلّق علیه: علی أکبر الغفاری، نشر: دار الکتب الإسلامیة، الطبعة الخامسة 1363 ش، طهران - إیران.

13 - مبانی تکملة المنهاج ( ضمن موسوعة السید الخوئی)، أبو القاسم الخوئی، نشر: مؤسسة إحیاء آثار الإمام الخوئی، الطبعة الثالثة 1428 ه -، قم - إیران.

ص:244

14 - المبسوط، الشیخ الطوسی، تصحیح و تعلیق: السید محمّد تقی الکشفی. نشر: المکتبة المرتضویة، سنة الطبع 1387 ه -، طهران - إیران.

15 - مختلف الشیعة، العلامة الحلّی، تحقیق و نشر: مؤسسة النشرالإسلامی، الطبعة الأولی 1412 ه -، قم - إیران.

16 - مسالک الإفهام، زین الدین بن علی العاملی (الشهید الثانی)، تحقیق و نشر: مؤسسة المعارف الإسلامیة، الطبعة الأولی 1413 ه -، قم - إیران.

17 - مستدرک الوسائل، المیرزا حسین النوری، تحقیق و نشر: مؤسسة آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث، الطبعة الأولی 1408 ه -، قم - إیران.

18 - من لا یحضره الفقیه، الشیخ الصدوق، تحقیق و تصحیح: علی أکبر الغفاری، نشر: مؤسسة النشر الإسلامی، الطبعة الثانیة، قم - إیران.

19 - المهذّب البارع فی شرح المختصر النافع، أحمد بن محمّد بن فهد الحلی، تحقیق: الشیخ مجتبی العراقی، نشر: مؤسسة النشر الإسلامی، سنة الطبع 1407 ه -، قم - إیران.

20 - النهایة، الشیخ الطوسی، نشر: انتشارات قدس محمّدی، قم - إیران.

21 - وسائل الشیعة، الحرّ العاملی، نشر و تحقیق: مؤسسة آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث، قم - إیران، 1414 ه -.

ص:245

ص:246

حکم تعدد السارقین لمال واحد

اشارة

بقلم: الدکتور الشیخ حکمت الرحمة

تضمّنت الشریعة الإسلامیة أحکاماً مختلفة، هدفها تهذیب الإنسان وتنظیم حیاته سواء کانت الفردیة أو الجماعیة، وامتدّت هذه الأحکام بصورة أفقیة لتشمل جمیع مناحی الحیاة، کما امتدّت بصورة عمودیة لتشمل جمیع الأزمان؛ إذ إنّ الشریعة لم تختص بوقت دون آخر، ولم تترک مسألة إلّا ووضعت لها حلولاً وأجوبة.

ومن الأحکام التی تعرّضت لها الشریعة الإسلامیة، والتی تتعلّق بالمجتمع والحفاظ علی أمنه واستقراره، هی تلک التی تعالج مسألة السرقة، فلم تترک المجتمع فریسة بید أصحاب النفوس الضعیفة، بل وضعت قوانین صارمة علی السارق، أهمّها قطع یده وفق ضوابط وشروط معیّنة، فلو تحققت هذه الشروط لکان حکم السارق هو القطع، ولو تخلّفت بعضها لتغیّر الحکم تبعاً للشرط المفقود، فقد یکون الحکم هو العفو أو التعزیر أو غیر ذلک ممّا هو مفصّل ومبسوط فی کتب الفقه، ولیس من غرضنا فی المقام أن نتناول أدلّة وشروط إقامة الحدّ بالنسبة للسارق المنفرد، بل نعتبر

ص:247

ذلک أصلاً مُسلّماً نبنی علیه بحثنا، وسیکون جلّ اهتمامنا بمسألة تعدّد السارق، فهل یکون الحکم هو الحکم أم هناک اختلاف وتفصیل؟

وقبل ولوج المسألة بتفاصیلها کان من اللازم بیان شروط إقامة الحدّ علی السارق المنفرد، من دون الدخول فی تفاصیل أدلّتها.

شروط الحدّ للسارق المنفرد:

ذکر الفقهاء عدّة شروط للسارق لا بدّ من توفّرها من أجل إقامة الحدّ علیه، وهی مجملاً:

1 - البلوغ.

2 - العقل.

3 - ارتفاع الشبهة، بأنْ لا یتوهّم أنّ المال الفلانی ملکه، فیتبیّن لغیره.

4 - أن لا یکون المال مشترکاً بینه وبین غیره، وکانت السرقة بمقدار حصّته أو أقل.

5 - أن یکون المال فی مکان محرز أو لم یکن مأذوناً فی دخوله.

6 - أن یکون المال المسروق بقدر النصاب، وهو ربع دینار علی المشهور، وقیل: خمس دینار، وهو الذی استظهره السیّد الخوئی(1).

ص:248


1- (1) مبانی تکملة المنهاج 293:1.

7 - أن لا یکون السارق والداً لصاحب المتاع.

8 - أنْ یأخذ المال سرّاً.

9 - أنْ لا یکون السارق عبداً لصاحب المال.

وغیر ذلک من الشروط (1) ، ولهم فیها تفاصیل، لا نرید إطالة البحث بها، إذ غرضنا هو بیان الحکم عند التعدّد مع توفّر تلک الشرائط.

صور المسألة:

الصورة الأولی: فیما لو قام جماعة بهتک الحرز والسرقة معاً، فهناک حالات:

الحالة الأولی: أنّهما سرقا معاً شیئاً بلغ نصابین، وفی هذه الصورة لا خلاف فی وجوب القطع.

قال ابن زهرة الحلبی: «وإذا سرق اثنان فما زاد علیهما شیئاً، فبلغ نصیب کلّ واحد منهم المقدار الذی یجب فیه القطع، قطعوا جمیعاً بلا خلاف، سواء کانوا مشترکین فی السرقة، أو کان کلّ واحد منهم یسرق لنفسه، وإن لم یبلغ نصیب کلّ واحد منهم ذلک المقدار، ولم یکونوا مشترکین، فلا قطع علی واحد منهم بلا خلاف»(2).

ص:249


1- (1) انظر: شرائع الإسلام 952:4-953، تکملة منهاج الصالحین، الخوئی: 45--47.
2- (2) غنیة النزوع: 433.

وبه قال الشافعی ومالک، وخالف أبو حنیفة، ذکر ذلک الشیخ الطوسی، وقال: «إذا نقب ثلاثة، وأخرج کلّ واحد منهم شیئاً، قوّم، فإن بلغ قیمته نصاباً وجب قطعه، وإن نقص لم یقطع. وبه قال الشافعی ومالک. وقال أبو حنیفة: أجمعُ ما أَخرَجوهُ وأُقوّمَهُ، ثمّ أفض علی الجمیع، فإنْ أصاب کلّ واحد منهم نصاباً قطعته، وإنْ نقص لم أقطعه.

دلیلنا: أنّ ما ذکرناه مجمع علیه، وما قالوه لیس علیه دلیل، والأصل براءة الذمة»(1).

الحالة الثانیة: أنّهما سرقا ما لم یبلغ النصاب، ولا خلاف فی هذه الصورة بعدم القطع، کما ذکرناه عن الشیخ الطوسی وابن زهرة سابقاً؛ لأنّ المنفرد لا یقطع فالمتعدّد من باب أولی.

الحالة الثالثة: أنّ ما سرقاه معاً بلغ النصاب أو زاد عنه، ولم یبلغ مقدار کلّ واحد منهما نصاباً، فهنا وقع الکلام، وفی هذه الصورة حالتان:

الحالة الأولی: إذا أخرج کلّ واحد منهما منفرداً ما لا یبلغ النصاب، فهنا یترتب علی کلّ واحد منهما حکم المنفرد، فلا قطع إذن. وذکر صاحب الجواهر أنّه لا خلاف فیه(2).

ص:250


1- (1) الخلاف 422:5.
2- (2) انظر: جواهر الکلام 546:41.

الحالة الثانیة: إذا أخرجاه معاً بعد أن هتکا الحرز، وکان المال أکثر من نصاب، لکن عند قسمته علیهم لا یبلغ نصیب کلّ واحد منهم نصاباً، فهنا وقع الکلام فی قولین:

الأوّل: ماعن الشیخ فی النهایة والمفید والمرتضی وجمیع أتباع الشیخ وجوب القطع، بل عن الانتصار والغنیة الإجماع علیه(1).

قال السیّد المرتضی فی الانتصار: «وممّا انفردت به الإمامیة القول: بأنّه إذا اشترک نفسان أو جماعة فی سرقة ما یبلغ النصاب من حرز قطع جمیعهم، وخالف باقی الفقهاء فی ذلک. دلیلنا علی صحة ما ذهبنا إلیه: الإجماع المتردد، وأیضاً قوله تعالی: (وَ السّارِقُ وَ السّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَیْدِیَهُما) ، والظاهر یقتضی أنّ القطع إنّما وجب بالسرقة المخصوصة، وکلّ واحد من الجماعة یستحق هذا الاسم، فیجب أنْ یستحق القطع»(2).

وقال ابن زهرة فی غنیته: «وإذا سرق اثنان فما زاد علیهما شیئاً، فبلغ نصیب کلّ واحد منهم المقدار الذی یجب فیه القطع، قطعوا جمیعاً بلا خلاف، سواء کانوا مشترکین فی السرقة، أو کان کلّ واحد منهم یسرق لنفسه، وإن لم یبلغ نصیب کلّ واحد منهم ذلک المقدار، ولم یکونوا مشترکین، فلا قطع علی واحد منهم بلا خلاف.

ص:251


1- (1) انظر: جواهر الکلام 546:41.
2- (2) الانتصار: 531.

وإن کانوا مشترکین فی ذلک، ففی إخراجه من الحرز قطعوا جمیعاً بربع ینار، بدلیل إجماع الطائفة، وأیضاً قوله تعالی: (وَ السّارِقُ وَ السّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَیْدِیَهُما) ؛ لأنّ ظاهره یقتضی أنّ وجوب القطع إنّما کان بالسرقة المخصوصة، وإذا استحق کلّ واحد منهم هذا الاسم، وجب أن یستحق القطع.

ویُحتجُّ علی المخالف بما رووه من الخبر المقدّم؛ لأنّه علیه السلام أوجب القطع فی ربع دینار فصاعداً، ولم یفصّل بین الواحد وبین ما زاد علیه(1) ، ومن أصحابنا من اختار القول: بأنّه لا قطع علی واحد من الجماعة حتّی یبلغ نصیبه المقدار الذی یجب فیه القطع علی کلّ حال، والمذهب هو الأول.(2)

الثانی: ما عن الشیخ فی الخلاف والمبسوط، والإسکافی والحلّی وعامّة متأخری الأصحاب عدم القطع، وعن الخلاف علیه الإجماع(3).

قال فی المبسوط: «إذا اشترکوا فی إخراجه، مثل أن حملوه معاً فأخرجوه، نظرتُ: فإنْ بلغت حصّة کلّ واحد نصاباً قطعناهم، وإنْ کانت أقلّ من نصاب فلا قطع، سواء کانت السرقة من الأشیاء الثقیلة کالخشب والحدید أو الخفیفة کالحبل والتکة و الثوب.

ص:252


1- (1) یشیر بذلک إلی ما رووه عن عائشة عن النبی: القطع فی ربع دینار فصاعداً. وقد ذکره فی: 430.
2- (2) غنیة النزوع: 433.
3- (3) انظر: جواهر الکلام 546:41.

وقال بعضهم: إن کانت السرقة من الأشیاء الثقیلة فبلغت قیمته نصاباً قطعوا وإن کان نصیب کلّ واحد منهم أقل من نصاب، وإن کان من الأشیاء الخفیفة فعن هذا القائل روایتان: إحداهما: مثل قول من تقدّم، والثانیة: کقوله فی الثقیل.

وقال قوم من أصحابنا: إذا اشترک جماعة فی سرقة نصاب قطعوا کلّهم»(1).

وقال فی الخلاف: «والأوّل [أی: عدم القطع] أحوط. دلیلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وأیضاً فما اعتبرناه مجمع علی وجوب القطع به، وما ذکروه لیس علیه دلیل، والأصل براءة الذمّة»(2).

أدلّة القولین:

أدلّة القول بالقطع:

استدلّ لهذا القول بأمور:

1 - مرسل الشیخ الطوسی، حیث قال:

«روی أصحابنا أنّه إذا بلغت السرقة نصاباً، وأخرجوها بأجمعهم، وجب علیهم القطع، ولم یفصّلوا».(3)

باعتبار أنّ ظاهر العبارة أنّ الأصحاب رووا ذلک عن أهل البیت علیهم السلام.

ص:253


1- (1) المبسوط 29:8.
2- (2) الخلاف 421:5.
3- (3) انظر: الخلاف 421:5.

2 - إطلاق نصوص سرقة النصاب، من قبیل قوله تعالی: (وَ السّارِقُ وَ السّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَیْدِیَهُما) لصدقها علی المجموع، فیدور الأمر بین عدم القطع، و القطع، وقطع أحدهما دون البقیة. وعدم القطع یستلزم منه سقوط الحدّ مع تحقق موضوعه وهو غیر صحیح، وقطع أحدهما دون غیره مستلزم للترجیح بلا مرجح، فیتعیّن الثانی، وهو القطع لجمیعهم.(1)

قال ابن زهرة الحلبی تبعاً للسیّد المرتضی فی تقریر الاستدلال بالآیة: (وَ السّارِقُ وَ السّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَیْدِیَهُما) : «لأنّ ظاهره یقتضی أنّ وجوب القطع إنّما کان بالسرقة المخصوصة، وإذا استحقّ کلّ واحد منهم هذا الاسم، وجب أن یستحق القطع»(2).

وقد أوضح المحقق الحلی الاستدلال بطریقة أخری فقال: «إنّما وجب علیهما القطع؛ لأنّ إخراج النصاب حصل من کلّ واحد منهما، فلیس إضافة ذلک الفعل إلی أحدهما بأولی من إضافته إلی الآخر، ولا یتقدّر التجزئة بحیث یضاف إخراج بعض منه إلی أحدهما دون صاحبه. ومثله: اثنان یشترکان فی قتل واحد عمداً، فالقصاص علی کلّ واحد منهما؛ لأنّ کلّ واحد قاتل نفساً، أی: النفس التی قتلها الآخر، إذ القتل متحقّق، ونسبته إلی أحدهما دون الآخر محال علی هذا التقدیر، ونسبته لا إلیهما أیضاً محال،

ص:254


1- (1) انظر: جواهر الکلام 546:41.
2- (2) غنیة النزوع: 433، الانتصار: 531.

فیتعیّن نسبته إلیهما، وکذا القول فی إخراج النصاب»(1).

3 - صحیح محمّد بن قیس عن أبی جعفر علیه السلام:

«قضی أمیر المؤمنین علیه السلام فی نفر نحروا بعیراً فأکلوه، فامتحنوا أیّهم نحر، فشهدوا علی أنفسهم أنّهم نحروه جمیعاً لم یخصوا أحداً دون أحد، فقضی علیه السلام أن تقطع أیمانهم»(2).

فالصحیح عامٌّ وشامل لصورة ما إذا کانت حصّة کلّ واحد نصاباً أو أقل.

4 - الإجماع، کما مرّ فی عبارة السیّد المرتضی وابن زهرة.

أدلّة القول بعدم القطع:

ویمکن أنْ یستدلّ لهذا القول بأمور:

1 - عدم تمامیّة الدلیل علی القطع، والأصل هو براءة الذمّة.

قال ابن إدریس فی السرائر: «والإجماع حاصل منعقد علی أنّه إذا بلغ نصیب کلّ واحد منهم مقدار ما یجب فیه القطع قطعوا، ولیس کذلک إذا نقص فإنّ فیه خلافاً، والأصل براءة الذمة، وترک إدخال الألم علی الحیوان»(3).

ص:255


1- (1) نکت النهایة، مطبوع ضمن (النهایة ونکتها) 331:3.
2- (2) من لا یحضره الفقیه 63:4.
3- (3) السرائر 493:3.

وقال الطوسی: «فما اعتبرناه مجمع علی وجوب القطع به، وما ذکروه لیس علیه دلیل، والأصل براءة الذمّة»(1).

2 - الإجماع المدّعی علی عدم القطع.

3 - قاعدة درء الحدود بالشبهات، والموضوع فی المتعدّد غیر بیّن وواضح، فیسقط معه الحدّ.

4 - عدم تحقّق موضوع الحکم، وهو سرقة النصاب من قبل الفرد الواحد بحسب المتبادر من الروایات، ومع انتفاء الموضوع ینتفی الحکم.

التحقیق فی المسألة:

من الواضح أنّ العمدة فی المسألة هو تحقیق أدلّة القول الأوّل، فمع عدم تمامیتها یصار إلی القول الثانی؛ لاقتضاء الأصل له، بل إنّ مجرد التشکیک واحتمالیة اختصاص القطع بالسارق المنفرد یوجب عدم القطع؛ لأنّ الحدود تُدرأ بالشبهات، فنقول:

1 - أمّا المرسل، فلم نعثر علی مَن ذکره غیر الشیخ فی الخلاف، وقد أرسله ولم یبیّن سنده، فهو ضعیف لا یمکن الاعتماد علیه، علی أنّه من غیر الواضح من عبارته أنّ هناک روایة نقلها الأصحاب، بل لعلّ مراده فتواهم بوجوب القطع، خصوصاً أنّه ذیّل نقله عنهم بقوله: ولم یفصّلوا.

ص:256


1- (1) الخلاف 421:5.

وکیف ما کان فإنّها إنْ کانت روایة فهی مرسلة، ودعوی انجبارها بعمل الأصحاب ضعیفة أیضاً، حتّی لو قلنا بانجبار الضعیف بالعمل؛ إذ من غیر الواضح استنادهم إلیه فی خصوصه، مع وجود ما ذکرناه من أدلّة أخری ادّعی دلالتها علی المدّعی، وخصوصاً أنّهم لم یوردوه فی کلماتهم.

2 - أمّا صحیحة محمّد بن قیس، فلا شک أنّها واردة فی السارق المتعدّد، لکن یمکن القول بأنّها أجنبیّة عن محل البحث؛ ذلک أنّهم سرقوا بعیراً، فلا یبعد أن تبلغ حصّة کلّ واحد منهم النصاب، فیقطع لأجل سرقته للنصاب لا لکونهم معاً سرقوا نصاباً، وإن لم نجزم بذلک فلا أقّل من أنّه احتمال معتدٌ به، فلا یمکن معه الاستدلال بالروایة علی قطع الجمیع.

علی أنّه یمکن القول: إنّها قضیّة فی واقعة، ولم تبیّن تفصیلاتها، فلا یمکن التمسّک بها.

3 - أمّا دعوی الإجماع، فلا یبعد کونه إجماعاً مدرکیّاً ولیس تعبدیّاً؛ لوجود النصوص فی المسألة، ولا أقلّ من کونه محتمل المدرکیة، فلیس بحجّة فی المقام، علی أنّ دعوی الإجماع هذه معارضة بدعوی الإجماع علی العدم.

4 - وأمّا إطلاق النصوص، فقد یُقال: إنّه لا یمکن التمسّک به؛ لأنّها ظاهرة ومنصرفة إلی الفرد الواحد السارق، بل لعلّ ذلک هو المتعارف فی ذلک العصر، فشمولها للمتعدّد فی النصاب الواحد فیه تأمّل کبیر، بل منع.

ص:257

فالذی یدور علیه البحث هو: هل أنّ المأخوذ فی لسان الأدلّة هو إخراج النصاب من حرزه، بغض النظر عن تعدّد الفاعل وانفراده، أم أنّ المأخوذ فیها هو قیام الفرد بإخراج النصاب من حرزه.

فإنْ استظهر الأوّل کان القول هو الأوّل؛ لتحقق شرائط القطع حینئذٍ، وهی إخراج النصاب من الحرز، وهو حاصل، فیجب قطع الجمیع.

وإنْ استظهر الثانی، فلا قطع ما لم یبلغ نصیب کلّ واحد نصاباً، فیتعیّن القول الثانی.

وإنْ احتمل الثانی فقط دون الاستظهار، فالقول الثانی هو المتعیّن أیضاً؛ لدرء الحدود بالشبهات.

فلا بدّ من ملاحظة الأدلّة فی ذلک، ومنها:

1 - قوله تعالی: (وَ السّارِقُ وَ السّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَیْدِیَهُما جَزاءً بِما کَسَبا نَکالاً مِنَ اللّهِ وَ اللّهُ عَزِیزٌ حَکِیمٌ) .(1)

فقد ادّعی ظهورها فی أنّ المعیار فی القطع هو صدق عنوان السارق علیه، والمشترک مع غیره یصدق علیه العنوان، فیقطع الجمیع.

لکن یمکن المناقشة فی ذلک بأنّ الآیة غیر متعرّضة لشرائط القطع، بل هی فی مقام بیان أصل الحکم فقط، وهو قطع ید السارق، فلم تتعرّض

ص:258


1- (1) سورة المائدة: 38.

للحرز، ولا إلی مقدار المال المسروق، ولا إلی تعیین المقدار المقطوع من الید، ولا غیر ذلک من الشرائط، فعنوان السارق لوحده غیر کاف فی القطع إلّا مع تحقق بقیّة الشرائط، وحیث إنّ الآیة غیر متعرّضة للشرائط، فلا یمکن التمسّک بإطلاقها من جهة عدم تحدید السارق بالواحد أو الأکثر، فهی لیست فی مقام البیان من هذه الجنبة.

ثمّ لو قلنا: إنّ الآیة مطلقة، فإنّها مطلقة من جهة بقیّة الشرائط، کتحدید الید، أو کون المال فی الحرز، أو مقدار النصاب، أو کون السارق لیس بابن المسروق ولا عبده، وما إلی ذلک من شروط، أمّا من جهة انفراد وتعدّد السارق فلعلّ ظهورها فی إرادة السارق الواحد أقوی من ظهورها فی إرادة عنوان السارق سواء کان المنفرد أو المتعدّد، أو لا أقلّ من الشک والتردّد فی شمولها للمتعدّد، والحدود تدرأ بالشبهات، فتأمّل.

2 - الروایات الواردة فی مسألة النصاب، ومنها:

صحیحة محمّد بن مسلم قال:

«قلت لأبی عبد الله علیه السلام: فی کم یقطع السارق؟ فقال: فی ربع دینار، قال: قلت له: فی درهمین؟ فقال: فی ربع دینار، بلغ الدینار ما بلغ، فقلت له: أرأیت من سرق أقل من ربع دینار هل یقع علیه حین سرق اسم السارق؟ وهل هو عند الله سارق فی تلک الحال؟ فقال: کلّ من سرق من مسلم شیئاً قد حواه وأحرزه فهو یقع علیه اسم السارق، وهو عند الله سارق، ولکن لا یقطع إلّا فی ربع دینار أو أکثر، ولو قطعت أیدی

ص:259

السّراق فیما هو أقلّ من ربع دینار لألفیت عامّة الناس مقطعین»(1).

فهذه الروایة تؤیّد ما ذکرناه من أنّ عنوان السارق لوحده غیر کاف فی القطع ما لم تتحقق بقیّة الشرائط، التی منها کون المال المسروق یبلغ نصاباً للفرد، کما هو ظاهر وبیّن من الروایة.

ومنها: معتبرة سماعة بن مهران عن أبی عبد الله علیه السلام قال: «قطع أمیر المؤمنین علیه السلام فی بیضة، قال: قلت: وما بیضة؟ فقال: بیضة قیمتها ربع دینار، قال: قلت: هو أدنی حدّ السارق؟ فسکت»(2).

فالروایة کسابقتها یظهر منها أنّ موضوع القطع، القطع علی السارق إذا بلغت سرقته النصاب.

وهکذا فإنّ الروایات الواردة فی مسألة السرقة، ظاهرة أو منصرفة إلی إرادة السارق المنفرد، ولا أقل من أنّ ذلک هو القدر المتیقن منها، وشموله لما عداه غیر بیّن، والحدود تدرأ بالشبهات، فلا یمکن المصیر إلی القول بالقطع.

وبالجملة فإنّ القاعدة المستفادة من الأدلة هی: أنّ السرقة الموجبة للقطع مأخوذ فیها سرقة النصاب بالنسبة لشخص واحد لا أکثر، وصدق عنوان السارق لوحده غیر کاف فی القطع ما لم یتحقق شرطه وهو بلوغ

ص:260


1- (1) الکافی 222:7، الاستبصار 238:4.
2- (2) تهذیب الأحکام 100:10، وسائل الشیعة 244:28.

حصّته النصاب، واشتراک جماعة فی إخراج ما قیمته النصاب یحقّق عنوان السارق علی کلّ منهما، إلّا أنّه لا یحقّق عنوان أنّ کلاًّ منهما سرق نصاباً، وإضافة النصاب إلی مجموعهما غیر کافیّة.

نعم، جاء فی دعائم الإسلام، عن علی علیه السلام، قال: «إذا اشترک النفر فی السرقة قطعوا جمیعاً»(1).

لکن الروایة مرسلة ضعیفة لا یمکن الاعتماد علیها، بل إنّ کتاب دعائم الإسلام برمّته غیر ثابت لمؤلّفه، فلا یمکن الاعتماد علی شیء فیه.

دلیل آخر:

قد یقال: إنّ عدم القطع فی السارق المتعدّد عند عدم بلوغ المسروق نصاباً لکلّ شخص إنّما هو مختص بالتعدّد الاتّفاقی، أمّا لو کان التعدّد من قبیل الشبکات الإرهابیة بحیث یخططون للسرقة ویقومون بها معاً، فهنا یمکن المصیر إلی وجوب قطعهم جمیعاً مع بلوغ مجموع المال نصاباً وإن لم یکن حصّة کلّ واحد منهم نصاباً، واستدلّ له بما یلی:

1 - إنّ عدم القطع یوجب انفتاح باب السرقة.

2 - إنّ ذلک یکون ذریعة إلی إسقاط الحدّ وارتکاب جرائم بشعة!(2)

ص:261


1- (1) دعائم الإسلام 476:2.
2- (2) الحدود، الأردبیلی 424:3، و 53:1--54.

والجواب: أنّ صورة المسألة فیما إذا أخرج اثنان أو أکثر ما قیمته نصاباً، ولم یبلغ حصّة کلّ واحد منهم نصاباً، ومنه یتّضح:

أوّلاً: أنّ ذلک لا یؤدّی إلی انفتاح باب السرقة للعصابات والشبکات الإرهابیة؛ إذ من النادر جدّاً أنْ تکون سرقاتهم بأقلّ من النصاب، والغالب أنّهم یقومون بسرقات کبیرة جدّاً، وإذا ما فکّروا أن تکون سرقتهم قلیلة کی ما یتخلّصوا من عقوبة القطع، فلعلّ ذلک یصبّ بمصلحة المالک لا بمصلحة السارق.

ثانیاً: أنّ الحدّ وإن کان عقوبة رادعة هدفه المحافظة علی أمن وأمان المجتمع، إلّا أنّ سقوطه لا ینفی العقوبة فهناک تعزیر قد یصل إلی السجن عدّة سنوات، وهناک ضمان للمال، فضلاً عن العقوبة الأخرویة التی هی أساس الردع عن ارتکاب المحرمات، فسقوط الحدّ لا یعنی القول بالحلیّة حتّی تتمکن الشبکات من القیام بأعمال سرقة خطیرة!

ثالثاً: کون ذلک ذریعة إلی إسقاط الحدّ لا یؤدّی إلی إثبات الحدّ؛ ذلک أنّ السارق المنفرد إذا سرق أقلّ من النصاب لم یکن علیه الحدّ، فلو کان السارق ذکیّاً، وأخذ یسرق مرّات متعدّدة ومن أماکن مختلفة، وفی کلّ مرّة یسرق أقلّ من النصاب، فهل نوجب علیه القطع فی أقلّ من النصاب حتّی لا یکون ذریعة إلی إسقاط الحدّ؟!

نتیجة البحث: اتّضح أنّ الأدلة علی القطع غیر تامّة، وحینئذٍ فإنّ القول بعدم القطع هو الأقوی، فإنّ موضوع القطع هو بلوغ المسروق لکلّ

ص:262

فرد حدّ النصاب، وهو منتفٍ فی المقام، فیثبت علیهم ما یثبت علی السارق المنفرد الذی لم یبلغ ما سرقه النصاب، ولا أقل من أنّ ظهور الروایات فی قطع المتعدّد غیر واضح، والحدود تدرأ بالشبهات، فلا قطع فی حال التعدّد إلّا فی حالة بلوغ حصّة کلّ واحد منهم نصاباً.

الصورة الثانیة: أحدهما هَتکَ الحرز والآخر قام بالسرقة: لو فرضنا أنّ شخصین قاما بالسرقة، فکانت وظیفة أحدهما هتک الحرز کما لو کسر الباب أو القفل، وأخذ الآخر الأموال، فهل یقام علیهما الحدّ أم لا؟

من خلال ملاحظة شروط القطع فإنّها تتضمّن أمرین مهمّین: أحدهما: هتک الحرز، والآخر: إخراج المال، أی: القیام بفعل السرقة، وفی المقام فإنّ الشرطین متحققان فی صورة الاشتراک، لکنّهما غیر متحققین فی صورة الانفراد، فالذی هتک الحرز، لم یخرج المال، فلا یصدق علیه عنوان السارق، والذی أخرج المال، أخرجه من غیر حرز، فلا یتحقق شرط القطع، فالظاهر أنّه لا قطع علیهما معاً.

لکن فی الحقیقة أنّ هذا الظهور لا یخلو من شائبة إشکال، ولعلّه یتمّ فی خصوص الهاتک للحرز؛ إذ إنّه لم یسرق فلا یثبت علیه سوی ضمان التخریب والتعزیر، أمّا الذی أخرج المال فقد قام بعملین:

أحدهما: إخراج المال وسرقته.

والثانی: دخول الدار بلا إذن من صاحبه، فنفس دخوله فی دار غیر

ص:263

مأذون له فیه، هو بمنزلة هتک الحرز أیضاً، فإنّ الدار مع کونها مبنیة ومعمّرة تعتبر بالنظر العرفی حرزاً، ولذا لو نام صاحب الدار وترک بابه مفتوحاً، وجاء سارق وأخذ المال، فلا یبعد ثبوت الحدّ علیه، لأنّ العرف یری أنّ السارق قام بأمرین، وهما: هتک الحرز المتحقق بدخول الدار بلا إذن، والآخر هو السرقة وإخراج المال.

بل فی الروایات الصحیحة ما یستظهر منه ذلک أیضاً، ففی صحیحة أبی بصیر قال:

«سألت أبا جعفر علیه السلام عن قوم اصطحبوا فی سفر رفقاء فسرق بعضهم متاع بعض، فقال: هذا خائن لا یقطع، ولکن یتبع بسرقته وخیانته، قیل له: فإن سرق من أبیه؟ فقال: لا یقطع؛ لأنّ ابن الرجل لا یحجب عن الدخول إلی منزل أبیه، هذا خائن، وکذلک إن أخذ من منزل أخیه أو أخته إن کان یدخل علیهم لا یحجبانه عن الدخول».

والشاهد فی الروایة أنّ السارق من أبیه أو أخیه لا یقطع؛ لأنّ الابن والأخ غیر محجوب عن الدخول، بل مأذون له فی ذلک، ومنه یظهر أنّ الذی یدخل بلا إذن فهو هاتک للحرز فیقطع.

وفی معتبرة السکونی عن أبی عبد الله علیه السلام قال:

«قال أمیر المؤمنین علیه السلام: کلّ مَدخَل یُدخَل فیه بغیر إذن صاحبه فسرق منه السارق فلا قطع فیه، یعنی الحمامات والخانات والأرحیة».(1)

ص:264


1- (1) انظر: تهذیب الأحکام 109:10، وسائل الشیعة 276:28.

والروایة هنا صریحة بمفهومها بأنّ المناط فی القطع هو الدخول بغیر إذن، وصریحة بمنطوقها بعدم القطع فی سرقة الأماکن العامّة التی لاتحتاج إلی إذن فی الدخول، فالروایات متوافقة مع النظر العرفی فی کون دخول البیوت بلا إذن یعدّ هتکاً للحرز.

وقال ابن زهرة:

«وروی أصحابنا: أنّ الحرز فی المکان هو الذی لا یجوز لغیر مالکه أو مالک التصرّف فیه دخوله إلّا بإذن، ویدلّ علی جمیع ذلک إجماع الطائفة».(1)

لکن لقائل أنْ یقول: إنّ هذا خروج عن فرض المسألة؛ إذ إنّ فرض المسألة هو إخراجه من غیر الحرز، فیکون النزاع فی المصداق.

والحقّ أنّه کذلک فالنزاع فی المصداق، فإنّه لو أخرج المال المنهتک لا یجب القطع لعدم تحقق الموضوع، لا فی الهاتک ولا فی السارق، ولذا لو فرضنا أنّ السارق بعد أنْ هتکوا له الحرز لم یدخل مکاناً غیر مأذون فیه، وتمکّن من إخراج الأموال، کما لو کان الشیء المحرز فی مکان عام، فهتکه شخص وسرقه آخر، فلا یبعد ثبوت الضمان والتعزیر علی کلیهما من دون القطع، والله العالم.

قد یقال: بأنّ المعتبر فی حدّ السرقة هو إخراج المال الذی أحرزه المالک، ولا یشترط أنْ یکون المخرج هاتکاً بنفسه، فیجب القطع حینئذٍ.

ص:265


1- (1) غنیة النزوع: 430.

فإنّه یقال: بأنّ الشرط هو إخراج المال مع کونه محرَزاً، من دون ملاحظة خصوصیة المحرِز، وفی الفرض أنّ الذی أخرج المال أخرجه وهو منهتک فلم یتحقق الشرط.

نعم، کلّ هذا فی غیر صورة الشبکات والعصابات المنظّمة التی یشترک أفرادها معاً بسرقة منظّمة، تُناط بکلّ فرد من أفرادها وظیفة معیّنة، فقد قیل بوجوب قطع الجمیع؛ لما تقدّم ذکره سابقاً من:

1 - أنّ عدم القطع یوجب انفتاح باب السرقة.

2 - أنّ ذلک یکون ذریعة إلی إسقاط الحدّ وارتکاب جرائم بشعة!(1)

لکن عرفنا سابقاً أنّه غیر تام؛ ذلک أنّ سقوط الحدّ لا یعنی سقوط العقوبة من التعزیر وردّ العین أو الضمان مع التلف، کما أنّ التحایل من أجل درء الحدّ لا یوجب ثبوت الحدّ، کما عرفنا ومثّلنا له بالسارق المنفرد الذی یسرق فی کلّ مرّة أقل من النصاب، فإنّه لا یقطع.

أمّا مسألة ارتکاب الجرائم البشعة، فلم یتّضح لنا وجهها، فإنْ کان المراد جرائم أخری غیر السرقة کالقتل مثلاً، فهذه جرائم أخری لها حکمها الخاص، وغیر متعلّقة بسقوط الحدّ عن السارق المتعدّد من عدمه، وإنْ کان المراد ارتکاب السرقات الکبیرة لأمنهم من عقوبة القطع، فهذا غیر تام أیضاً؛ لأنّ عدم الحدّ لا یعنی سقوط التعزیر والضمان، کما أنّ التعزیر

ص:266


1- (1) الحدود، الأردبیلی 53:1-54، و 424:3.

یتناسب مع نوع الجریمة وحجمها، فقد یصل إلی السجن عدّة سنوات أو غیر ذلک.

والغرض أنّ ما ذکر غیر کاف لوحده لأن یکون دلیلاً علی عدم سقوط الحدّ فی محلّ البحث.

ولکن مع ذلک فلا یبعد التعامل مع الشبکات معاملة السارق الواحد، لا لأجل أنّ التعدّد یعتبر ذریعة للتخلّص من القطع، ولا لأجل أنّ عدم القطع یؤدّی إلی انفتاح باب السرقة، بل لأنّ التعدّد فی هذه الصورة هو أخطر وأقوی حالة من المنفرد، فهذه الشبکة وإن کانت من أفراد متفرقة إلّا أنّها تعمل بمثابة العقل الواحد، وتنفّذ بطریقة واحدة، فهی أخطر بکثیر من السارق المنفرد، وإذا ما أدخلنا روح الشریعة والقرآن والروایات فی استنباط الحکم الشرعی، فمن الواضح أنّ الغرض والمقصد الأساس من قطع ید السارق هو حمایة أمن ونظام المجتمع، وتخویف وزجر أصحاب النفوس الضعیفة من القیام بفعل السرقة، وإلّا فسوف یتحوّل المجتمع إلی غابة، ویعیش الناس فی خوف واضطراب، ولا یسلمون علی أموالهم، وذلک یؤدّی إلی زعزعة نظام الناس، وتفشّی الجریمة بینهم، فإذا کان الحکم الذی یحقق هذا الغرض فی السارق المنفرد هو القطع، فبالمتعدّد إذا کانوا علی شکل شبکة یکون أولی وأوضح؛ لأنّهم یشکّلون خطورة غیر متناهیة علی المجتمع، ویسلبون الأمن والأمان من عیون الناس، کما أنّ إمکانیاتهم علی السرقة أقوی من إمکانیة الفرد، فلا یبعد حینئذ بعد تنقیح

ص:267

الغرض من قطع ید السارق أن تکون الأدلّة شاملة بروحها إلی هذه الصورة أیضاً.

لکن ینبغی الاقتصار فی هذه الصورة علی ما إذا کان المسروق یمثّل نصاباً لکلّ واحد منهم، وإلّا فللتوقف مجال کبیر؛ إذ عرفنا فیما سبق أنّ موضوع القطع هو الهتک وسرقة النصاب لکلّ فرد، ومع عدم تحقق الموضوع ینتفی الحکم.

ومن هنا لعلّه یتّضح حکم من یقوم بوضع الخطط والأفکار للسرقة، فإنّه إن کان ضمن شبکة وعصابة إجرامیة تقوم بالسرقة، فلا یبعد شموله بالقطع أیضاً، فیما إذا کانت أفکاره وخططه تتوقف علیها عملیة السرقة، أو کان لها الأثر الکبیر فی ذلک، من قبیل ما لو کان خبیراً فی فتح الأبواب وکسر أقفالها بطریقة لا یعرفها غیره، أو له خطط متینة وقویة فی إخراج الآلات الکبیرة والثقیلة من داخل البیت إلی خارجه، بحیث لو لا أفکاره لما تمکّنوا من فتح الباب والدخول، ولما تمکّنوا من إخراج المسروق من الدار، فلا یبعد أنّ العرف یراه أحد المنفّذین لعملیة السرقة، وقد عرفنا فیما تقدّم أنّ أفراد الشبکة یعاملون معاملة الفرد الواحد.

أمّا إذا کانت أفکاره غیر مؤثّرة فی تحقّق السرقة، فلا یبعد عدم شموله؛ لأنّ العرف لا یراه مشترکاً معهم حینئذ.

الصورة الثالثة: لو هتک الحرز جماعة، وأخرج المال بعضهم، فقد

ص:268

اتّضح ممّا سبق أنّ من اشترک فی الهتک والإخراج یتوجب علیه القطع، مع بلوغ المال حدّ النصاب لکلّ واحد من المخرجین؛ لتحقق شرط القطع، وهو الهتک وإخراج النصاب، وأمّا الذین اشترکوا فی الهتک فقط، فعلیهم نصیبهم من الضمان والتعزیر دون القطع؛ لعدم صدق اسم السارق علیهم. نعم، لو کانوا ضمن شبکة منظّمة فلا یبعد شمول جمیعهم بالقطع علی التفصیل المتقدّم.

الصورة الرابعة: فیما لو هتک الحرز اثنان أو جماعة، وقاموا بالسرقة، وبعضهم غیر متحققة فیه شرائط الحدّ، فهل یحدّ البقیة أم لا؟

اتّضح من الصور المتقدّمة، بأنّ المال إذا لم یبلغ نصاباً لکلّ فرد سقط الحدّ، أمّا لو بلغ المال نصاباً لکلّ واحد منهم فقد تحقّقت فی حقّه شروط السارق المنفرد فیحدّ لو تحققت باقی الشرائط، ویعامل الآخر بحسبه.

فلو کان الآخر غیر مکلّف مثلاً فیعفی فی الأولی أو الثانیة بحسب ما هو مفصّل من حکمه، وکذا لو کان أحد السّراق أب المسروق فیقطع الآخر، قال العلّامة: «ولو سرق الاثنان ما یبلغ قیمته نصف دینار قطعا، ولو کان أحدهما ممن لا قطع علیه کأبی المسروق منه، قطع الآخر»(1).

وبه قال مالک والشافعی، وذکروا أنّه إذا اشترک اثنان فی سرقة، وکان أحدهما ممن لا یجب علیه القطع کالصغیر غیر الممیز مع البالغ، أو

ص:269


1- (1) تحریر الأحکام 373:5.

المجنون مع العاقل البالغ، والأب مع الأجنبی، فیقطع البالغ وحده دون الصغیر والمجنون، وحجّتهما أنّ القطع امتنع عن الصغیر والمجنون لمعنیً یخصّه قائم فی نفسه فلا یتعدّاه لشریکه(1).

الصورة الخامسة: إذا کان للسارق حقٌّ فی المال فسرقه اقتصاصاً لحقّه، لکنّه ساعد غیره من السّراق، بحیث لو لا مساعدته لم یتمکّنوا من السرقة، فهل یجری علیه الحدّ أم لا؟

لا شکّ فی أنّ أخذ ماله اقتصاصاً لا یوجب الحدّ، کما لا شکّ فی وجوب الحدّ علی هؤلاء مع هتک الحرز وبلوغ قیمة کلّ واحد منهم النصاب.

أمّا صاحب الاقتصاص فهو مُعین ومساعد لهؤلاء بلا شک، لکن لا یلزمه القطع؛ لما تقدّم من أنّ الهاتک فی غیر الشبکات المنظّمة لا یجب علیه القطع، والقطع مختص بمن هتک وسرق، فلو کان الهاتک غیر السارق لم یُقطعا إجماعاً.

وفی الفرض فإنّ صاحب حقّ الاقتصاص أقصی ما قام به هو هتک الحرز أو مساعدتهم فیه، أمّا السرقة فهو قام بأخذ ماله، وهم قاموا بالسرقة.

نعم، لو فرضنا أنّهم أخرجوا مالاً واحداً له قیمة کبیرة بالسویة، کما لو حملوا ماکنة ذات ثمن عال وأخرجوها معاً، فهنا لا إشکال فی وجب القطع

ص:270


1- (1) التشریع الجنائی الإسلامی مقارناً بالقانون الوضعی، عبد القادر عودة 170:4.

علی الآخرین مع تحقّق النصاب لکلّ منهم، أمّا صاحب حقّ الاقتصاص، فإنْ کان بقیة المال بعد أخذ حقّه یبلغ نصاباً، فلا یبعد الحکم بقطعه أیضاً لسرقته نصاباً معهم، فهو قام بالهتک والسرقة.

وإنْ کان المال المتبقّی بعد أخذ حقّه لا یبلغ نصاباً، وکان نصیب رفقائه نصاباً لکلّ منهم، فالحکم بالقطع غیر متّضح، فلا ینبغی ترک الاحتیاط فی المسألة وعدم شموله بالقطع.

ص:271

ص:272

فهرس مصادر

مقال حکم تعدد السارقین لمال واحد

1 - القرآن الکریم.

2 - الاستبصار فیما اختلف من الأخبار، الشیخ الطوسی، تحقیق وتعلیق: السید حسن الموسوی الخرسان، الطبعة الرابعة 1363 ش، الناشر: دار الکتب الإسلامیة - طهران.

3 - الانتصار، السید المرتضی، تحقیق: مؤسسة النشر الإسلامی، سنة الطبع 1415 ه -، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة.

4 - تحریر الأحکام، العلّامة الحلی، تحقیق: الشیخ إبراهیم البهادری، الطبعة الأولی 1420 ه -، الناشر: مؤسسة الإمام الصادق علیه السلام.

5 - التشریع الجنائی الإسلامی مقارناً بالقانون الوضعی، عبد القادر عودة، الناشر: دار الکتب العلمیة.

6 - تکملة منهاج الصالحین، السید الخوئی، الطبعة الثامنة والعشرون 1410 ه -، المطبعة مهر - قم.

ص:273

7 - تهذیب الأحکام، الشیخ الطوسی، تحقیق: السید حسن الموسوی الخرسان، الطبعة الثالثة 1364 ش، الناشر: دار الکتب الإسلامیة - طهران.

8 - جواهر الکلام، الشیخ محمّد حسن الجواهری، تحقیق وتعلیق: الشیخ عباس القوچانی، الطبعة الثانیة 1365 ش، الناشر: دار الکتب الإسلامیة - طهران.

9 - الخلاف، الشیخ الطوسی، سنة الطبع 1407 ه -، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة.

10 - دعائم الإسلام، القاضی النعمان المغربی، تحقیق: آصف بن علی أصغر فیضی، سنة الطبع 1383 ه -، الناشر: دار المعارف - القاهرة.

11 - السرائر، ابن إدریس، الطبعة الثانیة 1410 ه -، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة.

12 - شرائع الإسلام، المحقق الحلی، مع تعلیقات: السید صادق الشیرازی، الطبعة الثانیة 1409 ه -، الناشر: انتشارات استقلال - طهران.

13 - غنیة النزوع، ابن زهرة الحلبی، تحقیق: الشیخ إبراهیم البهادری، الطبعة الأولی 1417 ه -، الناشر: مؤسسة الإمام الصادق علیه السلام.

ص:274

14 - فقه الحدود والتعزیرات، السید عبد الکریم الأردبیلی، نشر: مؤسسة النشر لجامعة المفید، 1421 ه -.

15 - الکافی، الشیخ الکلینی، تصحیح وتعلیق: علی أکبر الغفاری، الطبعة الخامسة، 1363 ش، الناشر: دار الکتب الإسلامیة - طهران.

16 - مبانی تکملة منهاج الصالحین، السید الخوئی، الطبعة الثانیة 1396 ه -، المطبعة العلمیة - قم المقدسة.

17 - المبسوط، الشیخ الطوسی، تصحیح وتعلیق: السید محمد تقی الکشفی، سنة الطبع 1387، الناشر: المکتبة المرتضویة لإحیاء آثار الجعفریة.

18 - من لا یحضره الفقیه، الشیخ الصدوق، تصحیح وتعلیق: علی أکبر الغفاری، الطبعة الثانیة 1404 ه -، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی التابعة لجماعة المدرسین بقم المشرفة.

19 - نکت النهایة، المحقق الحلی، تحقیق: مؤسسة النشر الإسلامی التابعة لجماعة المدرسین بقم، الناشر: مؤسسة تحقیقات ونشر معارف أهل بیت علیهم السلام.

20 - وسائل الشیعة، الحر العاملی، تحقیق: مؤسسة آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث، الطبعة الثانیة 1414 ه -، الناشر: مؤسسة آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث بقم المشرفة.

ص:275

ص:276

القسم الرابع: السجن والتعزیرات

اشارة

ص:277

ص:278

البحث فی السجن وأحکامه فی الشریعة

اشارة

بقلم: الشیخ لؤی المنصوری

قبل البدء بالبحث نستعرض المعنی اللغوی کی یتبیّن معناه ویکون البحث تامّاً من جمیع أطرافه.

معنی السجن لغة:

قال الخلیل: (الحبس والمحبس: موضعان للمحبوس)(1).

وقال الجواهری: (السجن: الحبس. والسجن بالفتح: المصدر. وقد سجنه یسجنه، أی: حبسه)(2).

وقال ابن منظور: (السجن: الحبس. والسجن بالفتح: المصدر.

سجنه یسجنه سجناً، أی: حبسه. وفی بعض القراءة: قال ربّ السجن أحبّ إلیّ.

ص:279


1- (1) کتاب العین 150:3.
2- (2) الصحاح 2133:5.

والسجن: المحبس... فمن کسر السین فهو المحبس وهو اسم. ومن فتح السین فهو مصدر سجنه سجناً. وفی الحدیث: ما شیء أحق بطول السجن من لسان.

والسجّان: صاحب السجن.

ورجل سجین: مسجون، وکذلک الأُنثی بغیر هاء، والجمع سجناء وسجنی)(1).

فالسجن: هو المکان المخصص لحبس الإنسان، والقائم علیه یسمّی سجّان.

المعنی الاصطلاحی للسجن:

لم یصطلح الفقه بشکل عام علی معنی جدید للسجن غیر المعنی اللغوی، فالسجن فی الفقه استخدم بنفس المعنی اللغوی.

تشریع السجن فی الإسلام:

توجد لدینا روایات وأخبار کثیرة فی تشریع أصل السجن فی الإسلام علی نحو الإجمال، وإن وقع الاختلاف فی مواردها، إلاّ أنّه علی نحو إلاجمال ثابت لا غبار علیه.

ص:280


1- (1) لسان العرب 203:13.

نورد فی مقدّمة البحث کلمات الفقهاء فی مشروعیة السجن بشکل عام فی الفقه الإسلامی:

قال الشیخ الطوسی فی الخلاف فی بحث حکم المرأة المرتدّة: «المرأة إذا ارتدّت لا تقتل، بل تحبس وتجبر علی الإسلام حتّی ترجع أو تموت فی الحبس»(1).

وقال فی کتاب الحدود: «شرع فی صدر الإسلام إذا زنت الثیب أن تحبس حتّی تموت، والبکر أن تؤذی وتوبخ حتّی تتوب»(2).

وقال ابن البراج: «والمرتدّة عن الإسلام لا یجب علیها القتل بل تستتاب، فإن لم تتب تحبس أبداً، وتضرب فی أوقات الصلاة، ویضیق علیها فی المطعم والمشرب»(3).

وقال ابن زهرة: «ولا تقتل المرتدّة، بل تحبس حتّی تسلم أو تموت فی الحبس، بدلیل إجماع الطائفة..»(4).

وقال ابن إدریس: «ولا تقتل المرتدّة، بل تحبس وإن کانت قد ارتدّت عن فطرة الإسلام حتّی تسلم أو تموت»(5).

ص:281


1- (1) الخلاف 351:5.
2- (2) المبسوط 2:8
3- (3) المهذّب 552:2
4- (4) غنیة النزوع: 381
5- (5) السرائر 207:2

وقال فی حکم النساء فی المحاربة: «وحکم النساء فی أحکام المحاربة حکم الرجال فی أنّهنّ یقتلن، ویعمل بهنّ ما یعمل بالرجال؛ لعموم قوله تعالی: (إِنَّما جَزاءُ الَّذِینَ یُحارِبُونَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ) ، بخلاف المرتدّة فإنّها لا تقتل بالردّة، بل تحبس أبداً، ویضیّق علیها فی المأکول والملبوس، وتضرب فی أوقات الصلاة، سواء کانت ارتدّت عن فطرة الإسلام أو عن إسلام تعقبه کفر»(1).

وقال المحقق الحلی: «والمرأة لا تقتل، بل تحبس، وتضرب أوقات الصلاة حتّی تتوب ولو کانت عن فطرة»(2).

وقال فی الشرائع: «ولا تقتل المرأة بالردّة، بل تحبس أبداً وإن کانت مولودة عن فطرة، وتضرب أوقات الصلاة»(3).

وقال ابن سعید الحلی: «والمرتدّة تحبس أبداً حتّی تتوب فی الحالین، وتضرب أوقات الصلاة»(4).

وقال العلاّمة الحلی: «والمرأة المرتدّة لا تقتل وإن کانت عن فطرة، بل تحبس دائماً، وتضرب أوقات الصلاة..»(5).

ص:282


1- (1) السرائر 532:3
2- (2) المختصر النافع: 256.
3- (3) شرائع الإسلام 962:4.
4- (4) الجامع للشرائع: 240.
5- (5) إرشاد الأذهان 190:2، وتحریر الأحکام 57:5.

وقال فی القواعد: «لو قدمت مسلمة فجاء زوجها یطلبها فارتدّت لم ترد؛ لأنّها بحکم المسلمة، فیجب أن تتوب أو تحبس، ویرد علیه المهر للحیلولة»(1).

وقال الشهید الأوّل: «والمرتدّة لا تقتل بالارتداد، ولکن تحبس، وتضرب أوقات الصلوات حتّی تتوب أو تموت، وکذلک الخنثی»(2).

وقال ابن فهد الحلی: «والمرأة لا تقتل بالردّة وإن کانت عن فطرة، بل تحبس، وتضرب أوقات الصلاة دائماً حتّی تتوب»(3).

وقال ابن طی: «والمرأة لا تقتل وإن کانت عن فطرة، بل تحبس، وتضرب أوقات الصلوات»(4).

وقال الشهید الثانی: «من ترک من المکلّفین الصلاة مستحلّاً، أی: معتقد حلّ ترکها، وکان التارک ممن ولد علی الفطرة الإسلامیة قتل من غیر استتابة؛ لأنّه مرتد... ولو کان امرأة لم تقتل بترکها، بل تحبس، وتضرب أوقات الصلاة حتّی تتوب أو تموت؛ لقول الباقر والصادق علیهم السلام:

المرأة إذا ارتدّت استتیبت، فإن تابت وإلاّ خلدت فی السجن»(5).

ص:283


1- (1) قواعد الأحکام 519:1.
2- (2) اللمعة الدمشقیة: 222.
3- (3) المهذّب البارع 345:4.
4- (4) الدرّ المنضود: 309.
5- (5) روضة الجنان: 354.

وقال القمّی فی جامع الخلاف: «ولا تقتل المرأة، بل تحبس حتّی تسلم أو تموت فی الحبس»(1).

موارد الحبس الواردة فی الشریعة الإسلامیة:

1 - المرأة المرتدّة عن الإسلام: حیث لاحظنا کلمات الفقهاء المتقدّم فی الاتّفاق علی حبسها وعدم قتلها، وسیأتی البحث عنها عند البحث فی الأخبار الواردة فیها.

2 - المختلس والطرار والنباش: حیث ورد أنّهم یحبسون، وسیجیئ بحث الأخبار فیهم.

3 - الحالق شعر المرأة: حیث ورد فی الأخبار أنّه یضرب ضرباً وجیعاً ویحبس.

4 - المؤلی إذا أبی أن یطلق أو یفیء: حیث ورد أنّه یحبس فی حظیرة.

5 - شارب الخمر فی شهر رمضان: حیث ورد عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه حبس شارب الخمر لیلة.

6 - من أمسک شخصاً من أجل أن یقتله: حیث ورد أنّ الإمام الصادق علیه السلام حکم بحبس الماسک.

7 - القاتل عمداً إذا لم یقتص منه: حیث یحقّ للحاکم حبسه.

8 - شاهد الزور: ورد أنّه یحبس.

ص:284


1- (1) جامع الخلاف والوفاق: 500.

9 - أمین السوق إذا خان: حیث ورد حبسه.

10 - من یلقن المجرم بما یضر الآخرین من المسلمین.

11 - من قتل عبده المملوک.

12 - من سرق فی الثالثة، أی: سرق سرقة ثالثة.

هذه الموارد التی وردت الأخبار والروایات أنّ حکمها الشرعی - سواء سبقها حد أو تعزیر - الحبس.

أدلة شرعیة الحبس فی الفقه الإسلامی:

یمکن تقسیم أدلة مشروعیة الحبس فی الشریعة الإسلامیة إلی:

1 - الکتاب.

2 - السنّة.

3 - الإجماع.

وسنبحث هذه الأدلة تفصیلاً.

الدلیل الأوّل: الاستدلال بالکتاب الکریم علی شرعیة الحبس:

استدل لمشروعیة الحبس بقوله تعالی: (إِنَّما جَزاءُ الَّذِینَ یُحارِبُونَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ یَسْعَوْنَ فِی الْأَرْضِ فَساداً أَنْ یُقَتَّلُوا أَوْ یُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَیْدِیهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ یُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ)1 ، فقد ورد فی تفسیر

ص:285

العیاشی عن أحمد بن الفضل الخاقانی من آل زرین قال فی خبر طویل: «قطع الطریق بجلولاء علی السابلة من الحجاج وغیرهم، وأفلت القطاع، فبلغ الخبر المعتصم، فکتب إلی العامل له کان بها: تأمر الطریق بذلک فیقطع علی طرف إذن أمیر المؤمنین، ثمّ ینفلت القطاع؟!...

فطلبهم العامل حتّی ظفر بهم، واستوثق منهم، ثمّ کتب بذلک إلی المعتصم، فجمع الفقهاء وابن أبی داود، ثمّ سأل الآخرین عن الحکم فیهم، وأبوجعفر محمّد بن علی الرضا علیه السلام حاضر.

فقالوا: قد سبق حکم الله فیهم فی قوله: (إِنَّما جَزاءُ الَّذِینَ یُحارِبُونَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ...) .

ولأمیر المؤمنین أن یحکم بأیّ ذلک شاء فیهم.

فالتفت إلی أبی جعفر علیه السلام فقال: ما تقول فیما أجابوا فیه؟ فقال: قد تکلّم هؤلاء الفقهاء، والقاضی بما سمع أمیر المؤمنین، قال: أخبرنی بما عندک، قال: إنّهم قد أضلّوا فیما أفتوا به، والذی یجب فی ذلک أن ینظر أمیر المؤمنین فی هؤلاء الذین قطعوا الطریق، فإن کانوا أخافوا السبیل فقط ولم یقتلوا أحداً ولم یأخذوا مالاً أمر بإیداعهم الحبس».(1)

قال السیّد الکلبایکانی: «وحاصل ما یستفاد من هذه الروایات الکثیرة المعمول بها عند الأصحاب أنّ المحارب إذا حارب الله ورسوله، وأخاف

ص:286


1- (1) تفسیر العیاشی 314:1.

السبیل، وقطع علی الناس الطریق، وقتل وأخذ المال، تقطع یده الیمنی ورجله الیسری.. وإذا لم یقتل ولم یأخذ المال، بل شهر السلاح وأخاف السبیل فقط فحکمه أن ینفی من الأرض بأن ینفی من مصر إلی مصر آخر، أو یودع فی السجن ویکفی شرّه عن الناس»(1).

ولکن الروایة ضعیفة السند؛ لأنّ أحمد بن الفضل لم یرد فی حقّه ذکر فی التراجم، والتفصیل بالحبس ورد فی هذه الروایة فقط.

أضف إلی أنّ هنالک جملة من الروایات الصحیحة التی بیّنت حکم المحارب وفصّلته ولم تذکر الأمر بالحبس، بل ذکرت النفی والتغریب من البلد إن أخاف المارّة ولم یقتل أو یسلب أموالهم، ففی الکافی بسنده عن عبید الله بن إسحاق المدائنی عن أبی الحسن الرضا علیه السلام قال: «سئل عن قول الله عزوّجل: (إِنَّما جَزاءُ الَّذِینَ یُحارِبُونَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ یَسْعَوْنَ فِی الْأَرْضِ فَساداً أَنْ یُقَتَّلُوا) الآیة، فما الذی إذا فعله استوجب واحدة من هذه الأربع؟

فقال: إذا حارب الله ورسوله وسعی فی الأرض فساداً فقتل قتل به، وإن قتل وأخذ المال قتل وصلب، وإن أخذ المال ولم یقتل قطعت یده ورجله من خلاف، وإن شهر السیف فحارب الله ورسوله وسعی فی الأرض فساداً ولم یقتل ولم یأخذ المال ینفی من الأرض، قلت: کیف ینفی وما حدّ نفیه؟

ص:287


1- (1) تقریرات الحدود والتعزیزات 24:2.

قال: ینفی من المصر الذی فعل فیه ما فعل إلی مصر غیره، ویکتب إلی أهل ذلک المصر أنّه منفی فلا تجالسوه ولا تبایعوه ولا تناکحوه ولا تؤاکلوه ولا تشاربوه، فیفعل ذلک به سنة..»(1).

وفی السند عبید الله بن إسحاق المدائنی، وهو مجهول لم یذکر بمدح ولا ذم.

وفی تفسیر القمی بسنده عن علی بن إبراهیم، عن أبیه، عن ابن أبی عمیر، عن جمیل بن دراج قال: «سألت أبا عبد الله علیه السلام عن قول الله عزّوجل: (إِنَّما جَزاءُ الَّذِینَ یُحارِبُونَ اللّهَ...) ، فقلت: أیّ شیء علیهم من هذه الحدود التی سمّی الله عزّوجل؟ قال: ذلک إلی الإمام إن شاء قطع، وإن شاء صلب، وإن شاء نفی، وإن شاء قتل.

قلت: النفی إلی أین؟ قال: ینفی من مصر إلی مصر آخر، وقال: إنّ علیاً علیه السلام نفی رجلین من الکوفة إلی البصرة»(2).

والروایة صحیحة الإسناد، إلاّ أنّها بیّنت الأمور المتقدّمة علی نحو التخییر، فکأنّما أخمد التقسیم فی الکلام، فهی لا تنافی التقسیم الوارد فی جملة من الأخبار.

ص:288


1- (1) الکافی 247:7، باب حدّ المحارب.
2- (2) الکافی 475:7.

والروایات فی هذا المعنی کثیرة جدّاً، ولم یرد فیها حبس للمحارب إن لم یقتل ولم یسلب المال، وهذا بخلاف ما ورد فی کلمات فقهاء العامّة حیث فسّروها بالحبس أیضاً.

قال الشیخ الطوسی: «المحارب هو الذی یجرد السلاح.. فمتی فعل ذلک کان محارباً. ویجب علیه إن قتل ولم یأخذ المال أن یقتل علی کلّ حال، وإن قتل وأخذ المال وجب علیه أوّلاً أن یردّ المال، ثمّ یقطع بالسرقة، ثمّ یقتل بعد ذلک ویصلب. وإن أخذ المال ولم یقتل ولم یجرح قطع، ثمّ نفی من البلد.. وکذلک إن لم یجرح ولم یأخذ المال وجب علیه أن ینفی من البلد الذی فعل فیه ذلک..»(1).

وقال ابن الصلاح الحلبی: «وإن لم یقتلوا ولم یأخذوا مالاً أن ینفیهم من الأرض، بالحبس أو النفی من مصر إلی مصر..»(2).

وقال ابن البراج ذاکراً التقسیم: «وإن لم یجرح ولا أخذ مالاً کان علیه النفی کما قدمناه»(3).

وکذلک قال المحقق الحلی فی المختصر(4) ، والشرائع(5) ، وابن سعید

ص:289


1- (1) النهایة: 720.
2- (2) الکافی فی الفقه: 252.
3- (3) المهذّب 553:2.
4- (4) المختصر النافع: 226.
5- (5) شرائع الإسلام 961:4.

فی جامع الشرائع(1) ، والفاضل الآبی(2) ، و العلّامة الحلی فی التحریر(3) ، وابن العلّامة فی إیضاح الفوائد(4) ، والشهید فی الدروس(5) ، وابن فهد فی المهذّب البارع(6) ، والشیخ جعفر فی کشف الغطاء(7) ، والسیّد الطباطبائی فی ریاض المسائل(8) ، والسیّد الخوانساری فی جامع المدارک(9) ، والسیّد الخوئی فی مبانی تکملة المنهاج(10).

فإذن الآیة لا یمکن الاستدلال بها علی الحبس فی بعض أقسام المحارب، وهو الذی لم یجن ولم یسرق. نعم، الخلاف فی أنّ هذه الأمور الأربعة علی نحو الترتیب أو التخییر، إلّا أنّه لا یضر فی مورد البحث.

الآیة الثانیة التی استدلّ بها علی مشروعیة الحبس قوله تعالی: (وَ اللاّتِی یَأْتِینَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِکُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَیْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْکُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِکُوهُنَّ

ص:290


1- (1) الجامع للشرائع: 241.
2- (2) کشف الرموز 587:2.
3- (3) تحریر الأحکام 381:5.
4- (4) إیضاح الفوائد 543:4.
5- (5) الدروس 60:2.
6- (6) المهذّب البارع 124:5.
7- (7) کشف الغطاء 419:2.
8- (8) ریاض المسائل 28:13.
9- (9) جامع المدارک 167:7.
10- (10) مبانی تکملة المنهاج 319:1.

فِی الْبُیُوتِ حَتّی یَتَوَفّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ یَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِیلاً)1 .

إذ ذکرت الآیة أنّ التی تقم علیها بیّنة الفاحشة تحبس فی البیت إلی أن تموت أو یجعل الله سبحانه وتعالی إلیها سبیلاً.

وفی تفسیر العیاشی عن الصادق علیه السلام:

«قوله: (وَ الَّذانِ یَأْتِیانِها مِنْکُمْ)

؟ قال: یعنی البکر إذا أتت الفاحشة التی أتتها هذه الثیب، (فَآذُوهُما)

،قال: تحبس»(1).

وفی تفسیر النعمانی بسنده عن أمیر المؤمنین علیه السلام قال: «کانت من شریعتهم فی الجاهلیة أنّ المرأة إذا زنت حبست فی بیت وأقیم بأودها حتّی یأتیها الموت..»(2).

قال الشیخ الطوسی: «فإذا ثبت أنّه فاحشة، فقد أمر الله تعالی بحبس من أتاها»(3) ، وقال فی المبسوط: «شرع فی صدر الإسلام إذا زنت الثیب أن تحبس حتّی تموت، والبکر أن تؤذی وتوبخ حتّی تتوب»(4).

وقال القطب الراوندی: «شرع الله تعالی فی بدو الإسلام إذا زنت الثیب أن تحبس حتّی تموت»(5).

ص:291


1- (2) تفسیر العیاشی 227:1.
2- (3) بحار الأنوار 6:90 المتضمّن لتفسیر النعمانی.
3- (4) الخلاف 386:5.
4- (5) المبسوط 2:8.
5- (6) فقه القرآن 367:2.

والآیة وقع خلاف فیها، هل هی منسوخة بآیة سورة النساء التی أثبتت الجلد للبکر والأحادیث التی أثبتت الرجم للثیب؟ إلّا أنّ الخلاف المتقدّم لا یضر فی مورد البحث؛ لأنّه علی کلا القولین فإنّ الشریعة أثبتت الحبس، سواء قلنا بالنسخ أم قلنا بأنّه حکم مؤقت. وهذا ما یغنینا فی مورد بحثنا.

لکن تبقی نقطة جدیرة بالملاحظة وهی: أنّ الآیة وإن أثبتت الحبس فی حقّ المرأة الزانیة إلّا أنّ هذا الحکم لم یستمر وارتفع وشرع بدله حکم آخر، فالآیة قاصرة فی الاستدلال علی مورد البحث.

والجواب: صحیح أنّ حکم الحبس فی البیوت غیر ثابت الآن، وأنّه ملغی فی الشریعة إلّا أنّه یثبت وجود تشریع للحبس فی الشریعة الإسلامیة، وهو کافٍ فی إثبات المطلوب.

الآیة الثالثة التی استدلّ بها علی مشروعیة الحبس قوله تعالی: (یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا شَهادَةُ بَیْنِکُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَکُمُ الْمَوْتُ حِینَ الْوَصِیَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْکُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَیْرِکُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِی الْأَرْضِ فَأَصابَتْکُمْ مُصِیبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَیُقْسِمانِ بِاللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِی بِهِ ثَمَناً وَ لَوْ کانَ ذا قُرْبی وَ لا نَکْتُمُ شَهادَةَ اللّهِ إِنّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِینَ)1 .

قال الشیخ الطبرسی: «المعنی تحبسونهما من بعد صلاة العصر؛ لأنّ

ص:292

الناس کانوا یحلفون بالحجاز بعد صلاة العصر لاجتماع الناس وتکاثرهم فی ذلک الوقت»(1).

وقال السیّد الطباطبائی: «أی: توقفونهما، والحبس: الإیقاف..»(2).

وقال الراغب الأصفهانی: «والحبس: مصنع الماء الذی یحبسه..»(3).

وقال ابن العربی: «وفی ذلک دلیل علی حبس من وجب علیه الحق، وهو أصل من أصول الحکومة، وحکم من أحکام الدین، فإنّ الحقوق المتوجّهة علی قسمین: منها ما یصح استیفاؤه معجلاً، ومنها ما لا یمکن استیفاؤه إلّا مؤجلاً، فإن خلی من علیه الحقّ وغاب واختفی بطل الحقّ وتوی، فلم یکن بد من التوثیق منه، فإمّا بعوض عن الحق، ویکون بمالیة موجودة فیه، وهی المسمّی رهناً، وهو الأولی والأوکد، وأمّا شخص ینوب منابه فی المطالبة والذمة، وهو دون الأوّل؛ لأنّه یجوز أن یغیب کغیبته ویتعذّر وجوده کتعذّره، ولکن لا یمکن أکثر من هذا، فإن تعذّرا جمیعاً لم یبق إلّا التوثق بحبسه حتّی تقع منه التوفیة لما کان علیه من حق، فإن کان الحقّ بدنیاً لا یقبل البدل کالحدود والقصاص ولم یتفق استیفاؤه معجلاً لم یبق إلّا التوثق بسجنه، ولأجل هذه الحکمة شرع السجن»(4).

ص:293


1- (1) مجمع البیان 440:3.
2- (2) تفسیر المیزان 196:6.
3- (3) المفردات فی غریب القرآن: 106.
4- (4) أحکام القرآن 242:2، وعنه القرطبی فی التفسیر 352:6.

وعلی العموم فهذه الآیة تثبت مشروعیة السجن، وأنّه مما شرع فی الشریعة الإسلامیة ولو بنحو الإجمال، بحیث یختلف عنه فی زماننا؛ لأنّ اختلاف المصادیق باختلاف الأزمنة لا یقتضی انتفاء أصل المفهوم وثبوته فی عمومها.

الدلیل الثانی: الاستدلال بالسنّة علی شرعیة الحبس:

بعد أنّ عرفنا مشروعیة أصل السجن فی الشریعة الإسلامیة - بنحو الإجمال - من القرآن الکریم، ننتقل إلی السنّة المطهرة، وننظر فی الأخبار الواردة فیه، وقد ادّعی تواتر الأخبار علی شرعیة السجن فی الشریعة الإسلامیة.

1 - روی الشیخ الطوسی بسنده عن الحسن بن محبوب عن عبد الله بن سنان عن أبی عبد الله علیه السلام قال: «جاء رجل إلی رسول الله صلی الله علیه و آله فقال: إنّ أمی لا تدفع ید لامس، قال: فاحبسها، قال: قد فعلت، قال: فامنع من یدخل علیها، قال: قد فعلت، قال: فقیّدها، فإنّک لا تبرها بشیء أفضل من أن تمنعها من محارم الله عزّوجل»(1).

والسند صحیح، والروایة صرّحت بحبس المرأة عن الوقوع فی المعاصی.

ص:294


1- (1) من لا یحضره الفقیه 72:4، ح 512.

2 - روی الکلینی بسنده عن محمّد بن یحیی عن أحمد بن محمّد عن ابن فضال عن عمار عن أبی عبد الله علیه السلام قال:

«أتی أمیر المؤمنین صلوات الله علیه برجل تکفل بنفس رجل فحبسه، فقال: اطلب صاحبک»(1).

وفی التهذیب بسنده عن إسحاق بن عمار عن جعفر عن أبیه علیهم السلام:

«أنّ علیاً علیه السلام أتی برجل کفل برجل بعینه فأخذ بالمکفول، فقال: احبسوه حتّی یأتی بصاحبه»(2).

3 - روی الکلینی بسنده عن حریز عن أبی عبد الله علیه السلام قال:

«سألته عن رجل قتل رجلاً عمداً، فرفع إلی الوالی، فدفعه الوالی إلی أولیاء المقتول لیقتلوه، فوثب علیهم قوم فخلّصوا القاتل من أیدی الأولیاء؟ فقال: أری أن یحبس الذین خلّصوا القاتل من أیدی الأولیاء حتّی یأتوا بالقاتل، قیل: فإن مات القاتل وهم فی السجن؟ قال: فإن مات فعلیهم الدیة، یؤدّونها جمیعاً إلی أولیاء المقتول»(3).

4 - وفی الوسائل بسنده عن الحلبی عن أبی عبد الله علیه السلام قال:

«قضی علی علیه السلام فی رجلین أمسک أحدهما وقتل الآخر، قال: یقتل القاتل، ویحبس

ص:295


1- (1) الکافی 105:5، ح 6، وفی من لا یحضره الفقیه 95:3 بسنده عن الأصبغ بن نباتة، وفی تهذیب الأحکام 209:6.
2- (2) تهذیب الأحکام 209:6 باب الکفالات والضمانات، وفی الوسائل 430:18 باب أنّ الکفیل یحبس حتّی یحضر المکفول أو ما علیه.
3- (3) الکافی 286:7، باب الرجل یخلّص من علیه القود.

الآخر حتّی یموت غماً کما حبسه حتّی مات غماً»(1)..

5 - وفی الکافی بسنده عن أبان بن عثمان عن زرارة عن أبی جعفر علیه السلام قال:

«کان علی صلوات الله علیه لا یزید علی قطع الید والرجل ویقول: إنّی لأستحی من ربّی أن أدعه لیس له ما یستنجی به أو یتطهّر به.

قال: وسألته إن هو سرق بعد قطع الید والرجل؟ فقال: استودعه السجن أبداً وأغنی عن الناس شرّه»(2).

وبنحوها عدّة روایات نقلها الشیخ الکلینی فی الباب، وفیها الصحیح والموثّق.

6 - وفی الکافی بسنده عن زرارة عن أبی جعفر علیه السلام فی رجل أمر رجلاً بقتل رجل فقتله؟ فقال:

«یقتل به الذی قتله، ویحبس الآمر بقتله فی السجن حتّی یموت»(3).

وفی مضمونها جملة من الأخبار، والتی تصرّح بحبس الآمر بالقتل، والروایة صحیحة الإسناد.

7 - روی الشیخ بسنده عن أبان عن الفضیل بن یسار قال: قلت لأبی جعفر علیه السلام:

عشرة قتلوا رجلاً فقال: «إن شاء أولیاؤه قتلوهم جمیعاً وغرموا

ص:296


1- (1) وسائل الشیعة 49:29، باب حکم من أمسک رجلاً فقتله آخر.
2- (2) الکافی 222:7، باب حدّ القطع وکیف هو.
3- (3) الکافی 285:7، باب الرجل یأمر رجلاً بقتل رجلٍ.

تسع دیات، وإن شاؤوا تخیّروا رجلاً فقتلوه وأدّت التسعة الباقون إلی أهل المقتول الأخیر عشر الدیة کلّ رجل منهم، قال: ثمّ إنّ الوالی یلی أدبهم وحبسهم»(1).

8 - وروی الشیخ الکلینی بسنده عن النوفلی عن السکونی عن أبی عبد الله علیه السلام قال:

«إنّ أمیر المؤمنین علیه السلام أتی برجل اختلس درّة من أذن جاریة، قال: هذه الدغارة المعلنة، فضربه وحبسه»(2).

9 - وفی الاستبصار بسنده عن حریز عن أبی عبد الله علیه السلام قال: «لا یخلد فی السجن إلّا ثلاثة: الذی یمسک علی الموت، والمرأة ترتد عن الإسلام، والسارق بعد قطع الید والرجل»(3).

10 - وأیضاً فی الاستبصار بسنده عن عباد بن صهیب عن أبی عبد الله علیه السلام قال:

«المرتد یستتاب فإن تاب وإلّا قتل، قال: والمرأة تستتاب فإن تابت وإلّا حبست فی السجن وأضر بها»(4).

11 - روی الشیخ بسنده عن زرارة عن أبی جعفر علیه السلام قال:

«کان علی علیه السلام لا یحبس فی السجن إلّا ثلاثة: الغاصب، ومن أکل مال الیتیم ظلماً، ومن اؤتمن علی أمانة فذهب بها، وإن وجد له شیئاً باعه، غائباً کان أو

ص:297


1- (1) تهذیب الأحکام 217:10، ح 854.
2- (2) الکافی 226:7، باب ما یجب علی الطرار والمختلس من الحد.
3- (3) الاستبصار 255:4، باب حدّ المرتد والمرتدة.
4- (4) الاستبصار 255:4، باب حدّ المرتد والمرتدة.

شاهداً»(1). والروایة صحیحة السند.

12 - وروی الشیخ الکلینی بسنده عن عمار عن أبی عبد الله علیه السلام قال:

«کان أمیر المؤمنین علیه السلام یحبس الرجل إذا التوی علی غرمائه، ثمّ یأمر فیقسم ماله بینهم بالحصص، فإن أبی باعه فیقسم، یعنی: ماله»(2).

والروایة صحیحة السند، وورد فی بابها أخبار کثیرة فی مسألة المماطلة فی الدین أو خیانة الأمانة.

13 - وفی کتاب الجعفریات بسنده عن الإمام علی علیه السلام قال:

«یجبر الرجل علی النفقة علی امرأته، فإن لم یفعل حبس».(3)

14 - روی الشیخ فی التهذیب بسنده عن محمّد بن قیس عن أبی جعفر علیه السلام قال:

«قضی أمیر المؤمنین علیه السلام فی ولیدة کانت نصرانیة فأسلمت وولدت لسیّدها، ثمّ إنّ سیّدها مات وأوصی بها عتاقة السریة علی عهد عمر، فنکحت نصرانیاً دیرانیاً، فتنصرت فولدت منه ولدین وحبلت بالثالث، قال: قضی أن یعرض علیها الإسلام، فعرض علیها فأبت، فقال: ما ولدت من ولد نصرانی فهم عبید لأخیهم الذی ولدت لسیّدها الأوّل، وأنا أحبسها حتّی تضع ولدها الذی فی بطنها..»(4). والروایة صحیحة السند

ص:298


1- (1) الاستبصار 47:3، باب من یجوز حبسه فی السجن.
2- (2) الکافی 102:5، باب النزول علی الغریم.
3- (3) مستدرک الوسائل 157:15.
4- (4) تهذیب الأحکام 143:10، باب حدّ المرتد والمرتدة.

15 - وروی الشیخ بسنده عن أبی مریم عن أبی جعفر علیه السلام قال:

«أتت امرأة أمیرالمؤمنین علیه السلام فقالت: إنّی فجرت، فأعرض بوجهه عنها، فتحوّلت حتّی استقبلت وجهه، فقالت: إنّی فجرت، فأعرض بوجهه عنها، ثمّ استقبلته فقالت: إنّی قد فجرت، فأعرض بوجهه عنها، ثمّ استقبلته فقالت: إنّی قد فجرت، فأمر بها فحبست وکانت حاملاً، فتربّص بها حتّی وضعت، ثمّ أمر بها بعد ذلک فحفر لها حفیرة فی الرحبة..»(1).

16 - روی الشیخ بسنده عن النوفلی عن السکونی عن أبی عبد الله علیه السلام قال:

«کان قوم یشربون فیکسرون فیتباعجون(2) بسکاکین کانت معهم، فرفعوا إلی أمیر المؤمنین علیه السلام فسجنهم، فمات منهم رجلان وبقی رجلان.

فقال أهل المقتولین: یا أمیر المؤمنین، أقدهما بصاحبینا..»(3).

17 - وروی الکلینی بسنده عن الحارث بن حضیرة قال: «مررت بحبشی وهو یستقی بالمدینة فإذا هو أقطع، فقلت له: من قطعک؟ قال: قطعنی خیر الناس، إنّا أخذنا فی سرقة ونحن ثمانیة نفر، فذهب بنا إلی علی بن أبی طالب علیه السلام فأقررنا بالسرقة، فقال لنا: تعرفون أنّها حرام؟ فقلنا: نعم، فأمر بنا فقطعت أصابعنا من الراحة وخلیت الإبهام، ثمّ أمر بنا فحبسنا فی

ص:299


1- (1) من لا یحضره الفقیه 30:4، ج 5016.
2- (2) بعج فلان بطن فلان بالسکین، أی: شقه وخضخضه فیه، کتاب العین 237:1.
3- (3) من لا یحضره الفقیه 118:4، باب فضل دیة الرجل علی دیة المرأة.

بیت یطعمنا فیه السمن والعسل حتّی برئت أیدینا..»(1).

18 - وروی الکلینی بسنده عن حماد عن أبی عبد الله علیه السلام قال:

«لا یخلد فی السجن إلّا ثلاثة: الذی یُمثّل، والمرأة ترتد عن الإسلام، والسارق بعد قطع الید والرجل»(2).

19 - روی الشیخ الصدوق بسنده عن عامر بن السمط عن الإمام علی بن الحسین علیه السلام:

«فی الرجل یقع علی أخته، قال: یضرب ضربة بالسیف بلغت منه ما بلغت، فإن عاش خلد فی الحبس حتّی یموت»(3).

20 - وروی الصدوق بسنده عن أحمد بن أبی عبد الله البرقی عن علی علیه السلام أنّه قال:

«یجب علی الإمام أن یحبس الفسّاق من العلماء، والجهّال من الأطباء، والمفالیس من الأکریاء»(4).

فهذه جملة من الأخبار الصحیحة الواردة فی شرعیة الحبس فی جملة من الموارد، والتی قدّمنا ذکر بعضها أثناء نقل الروایات، وهی متواترة وثابتة ومبیّنة بأنّ الحبس والسجن مما أقرّته وحکمت به الشریعة الإسلامیة فی باب الحدود، سواء حکم بالحبس ابتداء کما فی المرأة المرتدّة - عن فطرة أوملّة -، وکالذین یتضاربون بالسکاکین والأسلحة القاتلة بعد شربهم

ص:300


1- (1) الکافی 264:7، باب النوادر.
2- (2) الکافی 270:7، باب النوادر.
3- (3) من لا یحضره الفقیه 29:3، باب الحبس بتوجّه الأحکام.
4- (4) من لا یحضره الفقیه 31:3، باب الحبس بتوجّه الأحکام.

الخمر، أوحکمت به بعد إقامة الحدّ کمن زنی بأخته فحکمه القتل إلّا أنّه مع عدم موته أثناء إقامة الحدّ فینتقل حکمه إلی الحبس والخلود فیه.

الدلیل الثالث: الاستدلال بالإجماع علی شرعیة الحبس:

قام الإجماع عندنا علی أنّ بعض الحدود حکمها الحبس دون غیره، ومن تلک الموارد:

المورد الأوّل: المرأة المرتدّة حیث قام الإجماع علی أنّها لا تقتل بالردّة، بل تحبس إلی أن تتوب أو ترجع عن ردّتها.

قال السیّد عبد الله الجزائری: «وأنّ المرتدّ قسم واحد لا یقتل إلّا بعد الاستتابة والإصرار، وله إطلاق کثیر من الروایات المقیدة فی المشهور بالملّی. هذا کلّه فی الرجل المرتد.

وأمّا المرأة المرتدّة فلا قتل علیها قولاً واحداً، بل تستتاب فإن تابت عفی عنها، وإن أبت إلّا الإصرار خلدت فی الحبس..»(1).

وقال فی الجواهر: « (ولا تقتل المرأة بالردّة) إجماعاً بقسمیه ونصوصاً «بل تحبس دائماً وإن کانت مولودة علی فطرة، وتضرب أوقات الصلاة»(2).

وقال ابن زهرة: «ولا تقتل المرتدّة، بل تحبس حتّی تسلم أو تموت

ص:301


1- (1) تحفة السنیة: 34.
2- (2) جواهر الکلام 611:41.

فی الحبس، بدلیل إجماع الطائفة..»(1).

فهذه الموارد مما اتفق علیه العلماء تبعاً للنصوص الروائیة، ولم نر خلافاً بینهم فی ذلک.

المورد الثانی: حبس المؤلی زوجته والممتنع عن الفیء أو الطلاق: فالمرأة المؤلی علیها إذا رفعت أمرها للحاکم الشرعی، فحکمها الإمهال أربعة أشهر وبعدها یجبر علی الرجوع أو الطلاق وإلّا حبس.

قال فی تتمة الحدائق: «ولو امتنع من الأمرین حبس وضیّق علیه فی المطعم والمشرب علی وجه لا یمکنه الإقامة علیه والصبر عادة حتّی یفیء أو یطلق.. فإن أبی بعد ذلک إذا کان الأمر علیه إمام المسلمین وامتنع ضربت عنقه أو أضرم علیه النار فی الحضیرة التی حبس فیها. وهذا الحکم مجمع علیه فی الجملة، والأخبار به مستفیضة..»(2).

وقال فی الریاض: «.. (فإن امتنع) عن الأمرین (حبسه) الحاکم (وضیّق علیه فی المطعم والمشرب حتّی یکفّر ویفیء أو یطلق) بلا خلاف فیه إلّا الکفارة لوقوع الخلاف فیها.. ومستندهم هنا الأخبار»(3).

وقال فی الجواهر: «.. (وإن امتنع عن الأمرین) بعد مرافعة الحاکم

ص:302


1- (1) غنیة النزوع: 381.
2- (2) تتمة الحدائق الناضرة 79:1.
3- (3) ریاض المسائل 223:11.

(حبس وضیّق علیه حتّی یفیء أو یطلق) بلا خلاف أجده فیه»(1).

المورد الثالث: حبس الغریم إذا التوی علی غرمائه وامتنع فی دفع الدین لهم، فقد ادّعی الإجماع علی أنّ الحاکم له حقّ حبس الملتوی.

قال المحقق السبزواری: «إذا حلّ الأجل وتعذّر الأداء، وکان المرتهن وکیلاً فی البیع واستیفاء حقّه کان له ذلک.. وإلّا رفع أمره إلی الحاکم فیلزمه الحاکم بالبیع أو یبیع علیه؛ لأنّه ولی الممتنع، کما یفعل ذلک فی سائر الحقوق، کما روی عن أمیر المؤمنین علیه السلام ورواه جماعة عن أبی عبد الله علیه السلام قال: «کان أمیر المؤمنین علیه السلام یحبس الرجل إذا التوی علی غرمائه.. والظاهر عدم الخلاف فی جواز ذلک للحاکم»(2).

وقال فی الریاض: «.. (ولو التمس) من الحاکم (حبسه حبس) بلا خلاف..»(3).

المورد الرابع: حبس السارق فی الثالثة إلی حین الممات، وهو مما أجمع علیه فقهاء الإمامیة.

قال الشیخ الطوسی: «إذا سرق السارق بعد قطع الید الیمنی والرجل الیسری فی الثالثة خلد فی الحبس، ولا قطع علیه.. دلیلنا: إجماع الفرقة

ص:303


1- (1) جواهر الکلام 315:33.
2- (2) کفایة الأحکام 565:1.
3- (3) ریاض المسائل 86:13.

وأخبارهم»(1).

وقال فی الجواهر تحت شرح عبارة الشرائع: «فإن سرق ثالثة حبس دائماً» قال: «حتّی یموت أو یتوب، وأنفق علیه من بیت المال إن لم یکن له مال، ولا یقطع شیء منه بلا خلاف أجده فی شیء من ذلک نصاً وفتوی، بل یمکن دعوی القطع به من النصوص»(2).

المورد الخامس: من أمسک رجلاً وقتله آخر، یقتل القاتل ویحبس الممسک، وقد صرّحوا بأنّ هذا الحکم مجمع علیه.

قال الشیخ الطوسی: «روی أصحابنا أنّ من أمسک إنساناً حتّی جاء آخر فقتله أنّ علی القاتل القود، وعلی الممسک أن یحبس أبداً حتّی یموت.. دلیلنا: إجماع الطائفة وأخبارهم؛ لأنّهم ما رووا خلافاً لما بیّناه»(3).

وقال فی کشف اللثام: «ولو أمسک واحد وقتل آخر ونظر ثالث، قتل القاتل وخلد الممسک السجن أبداً؛ للإجماع»(4).

وقال فی الجواهر: «.. (ولو أمسک واحد وقتل الآخر، فالقود علی القاتل)؛ لأنّه مباشر (دون الممسک، لکن الممسک یحبس أبداً) بلا خلاف

ص:304


1- (1) الخلاف 436:5.
2- (2) جواهر الکلام 533:41.
3- (3) الخلاف 174:5.
4- (4) کشف اللثام 40:11.

أجده فی شیء من ذلک، بل عن الخلاف والغنیة الإجماع علیه، للمعتبرة والمستفیضة»(1).

المورد السادس: من أمر رجلاً بقتل رجل آخر، فقد حکی الإجماع علی أنّ المباشر یقتل والآمر یحبس.

قال الشهید الثانی: «.. (ولکن یحبس الآمر) دائماً (حتّی یموت) ویدلّ علیه مع الإجماع صحیحة زرارة عن الباقر علیه السلام..»(2).

وقال السیّد الطباطبائی: «ویحبس الآمر أبداً حتّی یموت فی المشهور، بل علیه الإجماع فی الروضة وغیرها..»(3).

وقال الشیخ المجلسی: «الحدیث.. صحیح، والحکمان مقطوع بهما فی کلام الأصحاب»(4).

المورد السابع: حبس الجانی فیما إذا کان ولی المجنی علیه صغیراً أو غائباً أو مجنوناً، فلا یقتص من القاتل حتّی یبلغ ولی الدم، حیث أفتی غالبیة الفقهاء بحبس الجانی إلی حین تحقق شروط الاقتصاص.

قال العلّامة الحلی: «وینبغی حبس الجانی إلی وقت بلوغه، ولو بلغ

ص:305


1- (1) جواهر الکلام 46:42.
2- (2) الروضة البهیة فی شرح اللمعة الدمشقیة 27:10.
3- (3) ریاض المسائل 41:14.
4- (4) مرآة العقول 35:24.

فاسد العقل تولّی الإمام استیفاء حقّه إجماعاً»(1).

المورد الثامن: حبس القاتل إذا هرب بعد أخذ الدیة منه، حیث قال العلّامة المجلسی: «وعمل بهما أکثر الأصحاب»(2).

المورد التاسع: حبس الکفیل إذا امتنع المکفول عن الحضور، وقد نصّ الفقهاء علی هذا الحکم، ولم یخالف فیه أحد، فقد نقل صاحب الحدائق أنّ الفقهاء أفتوا بمضمون الأخبار الصحیحة الواردة فی حبس الکفیل عند عدم حضور المکفول(3) ، وکذلک السیّد فی الریاض(4) ، ونقل فتوی جملة من الفقهاء فی الجواهر(5) ، وإن وقع الاختلاف فی التفاصیل إلّا أنّ أصل الحکم وهو ثبوت الحبس علی الکفیل متّفق علیه.

هذه جملة من الموارد التی صرّح الفقهاء بالإجماع فیها علی ثبوت حکم الحبس، وأنّه أحد الحدود الثابتة فی الشریعة الإسلامیة، مما یفهم منه أنّ حکم الحبس بنحو الإجمال ثابت فی جملة من الأحکام الشرعیة بنحو العقوبة الجزائیة علی ارتکاب المخالفة، کما فی المرأة المرتدّة أو المتباعجون بالحراب والأسلحة أو الحالق لشعر امرأة أو أمر شخصاً بقتل

ص:306


1- (1) تحریر الأحکام 453:4.
2- (2) روضة المتقین 416:10.
3- (3) الحدائق الناضرة 64:21.
4- (4) ریاض المسائل 600:8.
5- (5) جواهر الکلام 190:26.

شخص آخر حیث یحکم بحبس الآمر، أو کان تفویتاً لحقّ کمن أطلق قاتلاً وفوّت حقّ القصاص علی أولیاء الدم أو الکفیل إذا امتنع المکفول عن الحضور أو امتنع عن أداء الکفالة أو الملتوی ونحوها.

ومن خلال ما تقدّم نستخلص أنّ الحبس ثابت فی الشریعة الإسلامیة، وبالأدلة الثابتة من الآیات القرآنیة التی تقدّم ذکرها، وهی تثبت الحکم ولو بنحو الإجمال، وفی الأخبار المتواترة والبالغة من الکثرة حدّاً لا یستهان بها، سواء المعللة منها کما ذکر البعض، کقول الإمام علیه السلام فی جواب من سأله عن أمّه التی لا تدفع ید لامس، إذ أجاب بقوله: «فقیّدها فإنّک لا تبرها بشیء أفضل من أن تمنعها من محارم الله عزّوجل»(1) ، وبعض الأخبار ورد فی أحکام خاصّة لم یذکر فیها تعلیل، کأخبار الملتوی علی الغرماء والسارق فی الثالثة.

وکذلک قیام الإجماع علی ثبوت الحبس فی جملة من المسائل، والتی نقلنا جملة منها فی الصفحات السابقة.

فإذن مسألة الحبس بشکلها الإجمالی من مقررات وأحکام الشریعة الإسلامیة، بل هی من الأحکام التی قارن تشریعها بدایات الدین الإسلامی، کما فی حبس الأسری، حیث شرعت لهم أحکام معیّنة، وتعامل معهم النبی صلی الله علیه و آله علی ضوء التعالیم القرآنیة والأحکام التی سنّها وبیّنها صلوات الله وسلامه علیه.

ص:307


1- (1) من لا یحضره الفقیه 72:4.
حقوق السجین فی الإسلام:

وفی هذا البحث سنتعرّض إلی الحقوق والأحکام، أی: ما هی حقوق السجین التی یفترض بالحاکم توفیرها له، ویدخل فیه مکان الحبس وکیفیته، وکیفیة التعامل مع السجین.

والبحث الثانی فی الأحکام المفروضة والمجعولة فی الشریعة الإسلامیة للسجین.

والبحث یقع فی مطلبین:

المطلب الأوّل: مکان السجین:

عند الرجوع إلی الأحکام الشرعیة والروایات الواردة فی ذلک، نلاحظ أنّ الإسلام حینما شرع السجن وحکم به فی بعض الموارد کعقوبة معیّنة، فإنّ الهدف من ذلک هو ردع المسجون عن ظلمه للآخرین، وعدم الإخلال بالنظام الاجتماعی والحفاظ علی استقراره وإیجاد الأمن والأمان فیه، لذا فالسجن فی حقیقة الأمر مکان تربیة وتعلیم للمسجون، وتأهیل لرجوعه داخل المجتمع وهو معافی من العوائق النفسیة والجنون المفرط الذی یؤدّی إلی الإضرار بغیره وبنفسه، فالسجن مکان التربیة والتأهل حتّی یرجع الفرد إلی داخل بیئته وهو مؤهل للعیش کفرد من أفرادها، وهذا لا یتحقق من دون تهیئة الظروف الملائمة التی تساعد فی بناء شخصیة السجین واستقراره النفسی، لذا نلاحظ أنّ الإسلام أکّد علی تهیئة المکان الملائم والمناسب الذی یوفّر المستلزمات الضروریة والناجحة فی تحقیق الغایة التی بنی علی

ص:308

ضوئها السجن، قال فی أحکام السجون: «أن یکون بناء السجن مریحاً وواقیاً من الحر والبرد مما یتوفر معه راحة السجین، ومن هنا تری النبی صلی الله علیه و آله یحبس فی الدور الاعتیادیة التی یسکنها سائر الناس ویتوفر فیها النور والشعاع والسعة، فقد حبس الأسری المقاتلین الذین حکمهم القتل فی دور اعتیادیة، إذ فرّقهم فی بیوت الصحابة، وأحیاناً کان یحبسهم فی دار واحدة کما حبسهم فی دار امرأة من بنی النجار من الأنصار»(1).

وحکمت الشریعة بالضمان فیما لو فرّط السجّان فی مکان السجین أو مأکه أو ملبسه، فلو مات أو مرض أو تضرر بسبب ذلک فالسجّان ضامن فیما إذا قصّر فی حقّه، قال الشیخ الطوسی: «إذا أخذ صغیراً فحبسه ظلماً فوقع علیه حائط أو قتله سبع أو لسعته حیّة أو عقرب فمات کان علیه الضمان، وبه قال أبو حنیفة، وقال الشافعی: لا ضمان علیه. دلیلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وأیضاً طریقة الاحتیاط تقتضیه، وأمّا إذا مات حتف أنفه فلا ضمان علیه بلا خلاف»(2).

وهذا النصّ یوضّح لزوم کون مکان الحبس مؤمّناً من السقوط غیر الصالح للاستقرار، وأن لا تقتربه الوحوش المفترسة أو الحیّات والهوام المضرّة بالمسجون.

وصرّح بذلک أیضاً فی المبسوط قال: «إذا أخذ حرّاً فحبسه.. ومات

ص:309


1- (1) أحکام السجون: 117.
2- (2) الخلاف 161:5، جامع الخلاف والوفاق: 559.

بسببٍ، مثل أن لدغته حیّة أو عقرب أو قتله سبع أو وقع علیه حائط أو سقف فعلیه الضمان، وهذا الذی یقتضیه مذهبنا وأخبارنا»(1).

وقد وردت بذلک جملة من الأخبار، ففی الدعائم عن الإمام علی علیه السلام قال:

«ولا تحل بینه وبین من یأتیه بمطعم أو مشرب أو ملبس أو مفرش..»(2).

أضف إلی ذلک فإنّ القواعد الشرعیة الحاکمة فی الدین تقتضی اشتراک المحبوس فی الحقوق مع غیره بدون استثناء إلّا التضییق فی المحبس والمنع من ممارسة حریته، وهذا الأمر خرج بالدلیل والنصوص الثابتة فیبقی الباقی تحت عموم القاعدة من وجوب توفیر المکان الملائم والمریح، وتوفیر الملبس الشتوی والصیفی، وتوفیر الطعام والشراب الملائم بحاله، وعدم تعریض حیاته للخطر، وتوفیر الرعایة الصحیة الملائمة فیما إذا عرض علیه المرض أو احتمل إصابته به.

المطلب الثانی: فی حقوق المحبوس:

السجین باعتباره إنسان وفرد من المجتمع فله حقوق یتمتع بها وإن کان فی الحبس، حیث بیّنا أنّ الحبس لیس لأجل التشفّی أو عزل الفرد وإخراجه من دائرته التی یعیش فیها أو نفیه، وإنّما هو مکان تأهیل وبناء لشخصیته وعلاجها مما أصابها من الأمراض الموبئة التی أخرجتها عن حدّ

ص:310


1- (1) المبسوط 18:7، کشف اللثام 13:11.
2- (2) دعائم الإسلام 532:2.

التوازن إلی خطر یهدد ذاته وکیانه الأسری والاجتماعی، وبما أنّه مکان تأهیل وبناء لذا فإنّ الشریعة الإسلامیة فرضت جملة من الحقوق، من جهة کونه إنساناً یتمتع بحقّه منها، ومن جهة المساعدة علی البناء والتخلّص من الأمراض والأوبئة التی أصابته، وهنالک جملة من الحقوق سنوردها تبعاً لما ورد فی الأخبار والروایات.

1 - حقّ السجین فی المطعم والمشرب: ففی خبر الدعائم عن الإمام علی علیه السلام قال:

«ولا تحل بینه وبین من یأتیه بمطعم أو مشرب أو ملبس أو مفرش»(1). وهذا الأمر من المسلّمات فی الشریعة الإسلامیة، وقد قدّمنا ما ذکره الفقهاء حول ذلک، وأنّ الحابس إذا ما قصّر فی المأکل والمشرب ومکان الحبس یکون علیه الضمان.

2 - حقّه فی ملاقاة الآخرین: وهو ما ورد فی الخبر المتقدّم عن الدعائم فی رسالة الإمام علی علیه السلام حیث بیّن أنّه لا یحال بین السجین وبین ملاقاة الآخرین، ثمّ قال بعضهم: «أمّا القسمان الأوّلان، أعنی: ما یقع بداعی العقوبة حدّاً أو تعزیراً فیجوز بل یجب أن یضاف إلیه بعض العقوبات الأخر من القید والغل والضرب قبل الحبس أو فی الحبس، والتضییق فی المأکل والمشرب، وزیارة الأهل والعیال والأخوان وسائر الإمکانات إذا رأی الحاکم العادل البصیر به وبنفسیاته هذه الأمور فی تنبّهه وفی إصلاحه وتهذیبه»(2).

ص:311


1- (1) دعائم الإسلام 532:2.
2- (2) دراسات فی ولایة الفقیه 446:2.

إلّا أنّ هذا الأمر فیه نظر بل منع، حیث فی الأعم الأغلب یؤدّی إلی سوء تصرّف السجّان مع السجین بحجّة ردعه أو إصلاحه، مما یؤدّی إلی الإیقاع والإتیان بخلاف الغایة المقصودة.

أضف إلی أنّ ذلک یحتاج إلی دلیل ناص علیه، ونحن خرجنا بدلیل مخصص فی جواز الحبس، وأمّا بقیة الأمور فهی باقیة علی المنع.

ومسألة الردع والإصلاح وإن کانت ملاحظة فی طیّات الأخبار الواردة فی موارد الحبس إلّا أنّها تشیر وبوضوح إلی استخدام الأسالیب الإیجابیة للإصلاح دون السلبیة، کتعلیمهم وإخراجهم للترویح عن النفس، وزیارة الأهل والأقارب والأصدقاء، وغیر ذلک مما یلاحظ فیها الإیجاب، أمّا الضرب أو التضییق فهو لم یرد أو یستفاد من أیّة روایة فلا مبرر للحکم بجوازه.

ثم إنّ هنالک أموراً إیجابیة تحفز الحبس علی الارتداع، کالتخفیف من العقوبة والامتیازات المعنویة والمادیة، مما توجد حافزاً وباعثاً قویاً فی الإصلاح والاستقامة، یمکن الاستفادة منها بدلاً من استخدام أسالیب العنف والضیق ونحوها.

3 - حقّه فی التعلیم: منحت الشریعة الإسلامیة السجین الحقّ فی التعلیم، بل وإجبارهم علی ذلک إذا ما اقتضی الأمر ذلک یقول الفکیکی: «وفی مدوّنات الفقه الإسلامی بأنّ العبادات الشرعیة والآداب التهذیبیة والتعالیم القرآنیة والقراءة والکتابة کانت مرعیة ومحتمة فی النافع

ص:312

والمخیس، وکان أمیرالمؤمنین علیه السلام یؤدّب المسجونین المکلّفین بالنفعات - العصی - علی ترکهم الشعائر الدینیة..»(1).

1 - حقّ السجین فی اللقاء بزوجته: من حقوق السجین الالتقاء بزوجته، إذ إنّ الحاجة الجنسیة من الأمور الملازمة لطبیعة الإنسان، وهو بحاجة لها لا یمکنه الاستغناء عنها، لذا أجازت الشریعة لقاء السجین بزوجته، ففی الجعفریات بسنده عن جعفر بن محمّد علیه السلام عن جدّه عن الإمام علی علیه السلام:

«أنّ امرأة استعدت علیاً علیه السلام علی زوجها، فأمر علی علیه السلام بحبسه، وذلک الزوج لا ینفق علیها إضراراً بها، فقال الزوج: احبسها معی، فقال علی علیه السلام: لک ذلک، انطلقی معه»(2).

2 - حقّ السجین فی النظر فی أمره وتعجیل محاکمته: فقد ورد عن الإمام علی علیه السلام:

«أنّه کان یعرض السجون فی کلّ یوم جمعة، فمن کان علیه حدّ أقامه ومن لم یکن علیه حدّ خلّی سبیله»(3).

وفی الاستبصار بسند صحیح عن غیاث بن إبراهیم عن أبیه:

«أنّ علیاً علیه السلام کان یحبس فی الدین فإذا تبیّن له إفلاس وحاجة خلّی سبیله»(4).

وقد صرّح الفقهاء بذلک فی فتاویهم، قال الشیخ الطوسی:

«فإذا جلس

ص:313


1- (1) أحکام السجون: 134.
2- (2) مستدرک الوسائل 432:13.
3- (3) دعائم الإسلام 433:2.
4- (4) الاستبصار 47:3.

للقضاء فأوّل شیء ینظر فیه حال المحبسین فی حبس المعزول؛ لأنّ الحبس عذاب فیخلّصهم منه، ولأنّه قد یکون منهم من تم علیه الحبس بغیر حقّ»(1).

وقال المحقق فی الشرائع: «وأن یجلس للقضاء فی موضع بارز.. ثمّ یسأل عن أهل السجون ویثبت أسماءهم، وینادی فی البلد لیحضر الخصوم، ویجعل لذلک وقتاً، فإذا اجتمعوا أخرج اسم واحد واحد، ویسأله عن موجب حبسه، وعرض قوله علی خصمه، فإن ثبت لحبسه موجب أعاده، وإلّا أشاع حاله، بحیث إن لم یظهر له خصم أطلقه»(2).

3 - حقّ السجین فی الخروج ضمن دائرة السجن وخارجه: ففی خبر أمیر المؤمنین علیه السلام الذی أرسل رسالة إلی ابن هرثمة وکان علی سوق الأهواز جاء فیه:

«ومر بإخراج أهل السجن فی اللیل إلی صحن السجن لیتفرّجوا»(3).

وروی الشیخ فی تهذیب الأحکام عن عبد الرحمن بن سیابة - وعبد الله بن سنان کما فی روایة الصدوق (4)- عن أبی عبد الله علیه السلام قال:

«علی الإمام أن یخرج المحبسین فی الدین یوم الجمعة إلی الجمعة، ویوم العید إلی العید فیرسل معهم، فإذا قضوا الصلاة والعید ردّهم إلی السجن»(5).

ص:314


1- (1) المبسوط 91:8.
2- (2) شرائع الإسلام 864:4.
3- (3) دعائم الإسلام 532:2.
4- (4) من لایحضره الفقیه 31:3.
5- (5) تهذیب الأحکام 319:6.

وفی الجعفریات بسنده قال:

«إنّ علیاً علیه السلام کان یخرج أهل السجون من السجن فی دین أو تهمة إلی الجمعة فیشهدونها، ویضمنهم الأولیاء حتّی یردّونهم»(1).

واستظهر العلماء من ذلک أنّه عام شامل لکلّ مسلم مسجون، ولا خصوصیة لأهل الدین دون غیرهم.

4 - حقّه فی حضور الشعائر الدینیة العامّة ومشارکة المجتمع الإسلامی فیها: کما لاحظنا فی الأخبار التی نقلناها فی القسم السادس.

5 - نفقة السجین علی بیت المال: فقد ورد فی جملة من الأخبار منها الصحیح وغیره أنّ النفقة من بیت المال، ففی الوسائل بسنده عن أبی بصیر عن الإمام الصادق علیه السلام قال:

«.. إنّ علیاً علیه السلام کان یطعم من خلد فی السجن من بیت مال المسلمین»(2).

وفی صحیحة أبی بصیر عن الإمام الصادق علیه السلام قال:

«وأنفق علیه من بیت المال»(3).

6 - إذا کان مریضاً فلا یجوز حبسه: وقد أفتی بذلک جملة من الفقهاء منهم السیّد فی العروة، حیث قال:

«إذا کان المدیون مریضاً یضرّه

ص:315


1- (1) مستدرک الوسائل 27:6.
2- (2) وسائل الشیعة 92:15.
3- (3) من لا یحضره الفقیه 63:4.

الحبس یشکل جواز حبسه، کما أنّه لو کان له مانع آخر - کما إذا کان أجیراً للغیر أو کان علیه واجب - یکون الحبس منافیاً له»(1).

وکذلک السیّد الإمام فی تحریر الوسیلة(2).

وهذا الحکم مستند إلی قاعدة لا ضرر؛ لأنّ حبس المریض إضرار بحاله، وتفویت للهدف الذی من أجله شرع حکمه، فلذلک لا داعی لإیداع المریض فی السجن.

عرض بعض المؤخذات حول الحبس فی الشریعة الإسلامیة:

بعد أن استعرضنا الأدلّة لبیان تشریع الحبس فی الشریعة الإسلامیة، وموارد الحبس، وحقوق السجین، قد تطرح بعض الإیرادات حول الحبس ومشروعیته، وسنوردها هنا لبیان مدی قابلیتها وصحتها.

الإیراد الأوّل: إنّ تشریع الحبس مخالف لغرض وهدف الشریعة الإسلامیة؛ حیث إنّها جاءت رحمة ورأفة، ومن أجل تنظیم حیاة الإنسان، بینما الحبس ینافی ذلک کلّه، بل وقد یأتی بخلاف غرض وهدف الشریعة.

والجواب عن ذلک: إنّ الدین هدفه تنظیم حیاة الإنسان الفردیة والاجتماعیة، والتنظیم یحتاج إلی مراعاة جمیع الحدود والجوانب، فإذا ما

ص:316


1- (1) العروة الوثقی 63:6.
2- (2) تحریر الوسیلة 417:2.

کان النظم یتوقّف علی ردع الصائل والخارج عن الوضع الطبیعی بأن یوضع فی الحبس، والذی هو مکان للتأهّل والبناء، ولیس الغرض منه نفی المعتدی أو التشفی منه، فإذا ما کان الحبس من أجل هذا الأمر فهو من صمیم وذات الهدف الذی أرساه الشرع، فالمخمورین المتحاربین بالدمی والأسلحة یضر عدم اتّخاذ موقف شرعی منهم فی تنظیم الحیاة الاجتماعیة، ویعرض الأفراد للخطر، لأجل ذلک یتدخل الشرع فی الأمر ویقف موضحاً وطبیباً لأمثال هؤلاء، لیحفظ المجتمع من الخلل والتوازن، ویؤهّل هؤلاء الأفراد ویعیدهم إلی دائرتهم الاجتماعیة بعدما خرجوا منها بسبب أمثال هذا الأمر الطائش.

نعم، لاحظنا أنّ موارد السجن مختلفة فمنها من یسجن بسبب أمره بالقتل أو إطلاق قاتل والحیلولة دون القود منه، وهؤلاء واضح الأمر فیهم من أنّهم یسببون اختلال النظام، إلّا أنّ المدیون المعسر إلقاؤه فی الحبس یضر بحاله وبعائلته، فهو نوع إضرار.

والجواب عنه: إنّ الشریعة حکمت بسجن المدیون المماطل الذی لدیه القدرة علی تسدید دینه لکنه یماطل فی الدفع وإعطاء الحق، وأمّا المعسر فلا یسجن بل یکون فقیراً ویتکفّل الحاکم الشرعی بشؤونه والصرف علیه من بیت المال مع وجوده، ففی خبر الأصبغ بن نباتة عن أمیر المؤمنین علیه السلام:

«.. وقضی فی الدین أنّه یحبس صاحبه فإن تبیّن إفلاسه والحاجة فیخلی سبیله حتّی یستفید مالاً..»(1).

ص:317


1- (1) من لا یحضره الفقیه 28:3.

قال المحقق الأردبیلی: «لا خلاف علی الظاهر فی تحریم حبس المدیون.. علی تقدیر عدم ثبوت قدرته علی الأداء شرعاً..»(1).

وقال فی الحدائق: «لا یجوز حبس الغریم مع ظهور إعساره بموافقة الغریم أو قیام البیّنة أو علم الحاکم..»(2) ، وکذلک قال فی الریاض(3) ، والنراقی فی المستند(4) ، والجواهر(5) ، والشیخ الأنصاری(6) ، والسیّد بحر العلوم(7) ، والسیّد فی العروة الوثقی(8) ، والسیّد الخوانساری(9) ، والسیّد الخوئی(10) ، والسیّد الکلبایکانی(11) ، وغیرها من کلمات الفقهاء، والحکم لا یکاد یوجد له مخالف.

فإذن: لا خلاف أنّ المدیون المعسر لا یحبس؛ لأنّه إضرار بحاله وإجحاف به، ولا فائدة من حبسه، بل یرجع فی تسدید دیونه إلی بیت المال باعتباره أحد مستحقّیه.

ص:318


1- (1) مجمع الفائدة والبرهان 274:9.
2- (2) الحدائق الناضرة 412:20.
3- (3) ریاض المسائل 87:13.
4- (4) مستند الشیعة 177:17.
5- (5) جواهر الکلام 281:25.
6- (6) القضاء والشهادات: 196.
7- (7) بلغة الفقیه 257:3.
8- (8) العروة الوثقی 488:6.
9- (9) جامع المدارک 27:6.
10- (10) مبانی تکملة المنهاج 24:1.
11- (11) کتاب القضاء 294:1.

وأمّا المسجون فی الأحکام الأخری کالسارق فی الثالثة والمرتدّة والمتباعج بالحراب والخائن والذی أطلق محبوساً وجب علیه الحد، فهؤلاء یحبسون لإخلالهم بالنظام أو تفویتهم حقوق الآخرین، فلیس فی ذلک ظلم وإجحاف بحقّهم، بل الظلم یتحقق مع عدم معاقبتهم وتأدیبهم؛ لأنّه یؤدّی إلی إفساد المجتمع وإخلال النظم.

الإیراد الثانی: حبس المتّهم مع عدم وجود البیّنة، حیث ذهب جملة من الفقهاء تبعاً لبعض النصوص - والتی فیها المعتبر - أنّه یحبس ستة أیام أو ثلاثة أیام علی الخلاف، قال العلّامة الحلی: «مسألة: قال الشیخ فی النهایة: المتّهم بالقتل ینبغی أن یحبس ستة أیام، فإن جاء المدّعی ببیّنة أو فصل الحکم معه وإلّا خلی سبیله، وتبعه ابن البراج.

وقال ابن حمزة: یحبس ثلاثة أیام.

وقال ابن إدریس: لیس علی هذه الروایة دلیل یعضدها، بل هی مخالفة للأدلة..

ثمّ قال: والتحقیق أن نقول: إن حصلت التهمة للحاکم بسبب لزم الحبس ستة أیام؛ عملاً بالروایة وتحفظاً للنفوس عن الإتلاف، وإن حصلت لغیره فلا؛ عملاً بالأصل»(1).

ص:319


1- (1) مختلف الشیعة 306:9.

وهنا یرد الإشکال: إنّ حبس المتّهم - بمجرد التّهمة - مخالف لقاعدة الحریة، وأنّ المتّهم بریء حتّی تثبت إدانته، فکیف جوّزتم حبسه مع أنّه مخالف للقواعد والأصول الشرعیة؟!

والجواب: إنّ هذا الحکم مختلف فیه، فذهب جملة من الفقهاء إلی عدم ثبوت هذا الحکم؛ لأنّه تعجیل بعقوبة لم تثبت، ومخالف لأصل حریة الإنسان المقررة فی الشریعة، قال المحقق الحلی: «قیل: یحبس المتّهم بالدم ستة أیام فإن ثبتت الدعوی وإلاّ خلّی سبیله، وفی المستند ضعف، وفیه تعجیل لعقوبة لم یثبت سببها»(1) ، وکذلک قال العلّامة الحلی وفخر المحققین(2) والمحقق الأردبیلی(3) وصاحب الریاض(4) ، والسیّد الخوانساری(5).

فالمسألة خلافیة حیث ذهب جملة من الفقهاء إلی عدم جواز حبس المتّهم فی الدم من دون قیام بیّنة أو عدم واجدیتها للشرائط.

ثمّ ذهب جملة من الفقهاء إلی ثبوت هذا الحکم کالإمام الخمینی(6)

ص:320


1- (1) المختصر النافع: 291.
2- (2) المهذّب البارع 209:5.
3- (3) مجمع الفائدة والبرهان 215:14.
4- (4) ریاض المسائل 10:14.
5- (5) جامع المدارک 248:7.
6- (6) تحریر الوسیلة 533:2.

والسیّد الخوئی(1) والسیّد الروحانی(2) والشیخ الوحید الخراسانی(3).

وقد بیّن سبب الذهاب إلی هذا الحکم بأنّه وإن کان مخالفاً لأصل البراءة وتعجیل العقوبة قبل إثباتها إلّا أنّ الأخبار تخصصه، ومنها روایة السکونی عن الإمام الصادق علیه السلام والتی حکمت بالسجن ستة أیام(4) ؛ لأنّ مصلحة المحافظة علی الدماء وعدم تضییع حقوق الآخرین تستدعی التثبّت بالأمر والوقوف عنده حتّی یتبیّن الحال خلال المدّة التی ذکرت، وهی ستة أیام لا أکثر، وهذه المدّة لیست علی نحو الموضوعیة، بل هی زمان مضروب لتبیان الحال، فإذا ما أمکن معرفة الحال قبلها فیخلّی سبیله أیضاً.

نعم، تبقی مسألة تعویض المنافع الفائتة خلال هذه المدّة، فهل یجب تعویضها أم لا؟ ومن یدفع التعویض علی فرض ثبوته، الحاکم الشرعی أو المدّعی؟

وهذه المسألة اختلف فیها الفقهاء، ومال صاحب العروة إلی الضمان حیث قال: «إذا استأجره لقلع ضرسه ومضت المدّة التی یمکن إیقاع ذلک فیها، وکان المؤجر باذلاً نفسه استقرت الأجرة، سواء کان المؤجر حراً أو عبداً بإذن مولاه، واحتمال الفرق بینهما بالاستقرار فی الثانی دون الأوّل؛

ص:321


1- (1) مبانی تکملة المنهاج 123:2.
2- (2) فقه الصادق 110:26.
3- (3) منهاج الصالحین 533:3.
4- (4) وسائل الشیعة 160:29.

لأنّ منافع الحر لا تضمن إلّا بالاستیفاء لا وجه له.. مع أنّا لا نسلّم أنّ منافعه لا تضمن إلّا بالاستیفاء، بل تضمن بالتفویت أیضاً إذا صدق ذلک، کما إذا حبسه وکان کسوباً فإنّه یصدق فی العرف أنّه فوّت علیه کذا مقداراً»(1).

فتفویت المنافع کإتلافها، وحیث إنّ الإتلاف موجب للضمان فکذلک التفویت یکون موجباً له أیضاً.

وقاعدة: من أتلف مال الغیر فهو له ضامن، لنفی ضمان منافع الحر قاصرة عن ذلک؛ إذ إنّها لیست قاعدة واردة فی نصّ شرعی، وإنّما مأخوذة ومتصیّدة من عدّة أخبار، فلا یمکن الاتکاء علیها وشمولها لمنافع الحر، هذا أوّلاً.

وثانیاً: نفس منافع الحر ذات قیمة عند العقلاء، ولا معنی لقیمیتها إلّا کونها ذات قیمة مالیة، فتفویتها یوجب الضمان.

خصوصاً وأنّ الفقهاء قد صرّحوا بأنّ منافع الحر تقع مهراً، قال العلّامة فی المختلف: «یجوز أن یکون منافع الحر مهراً، مثل تعلیم القرآن أو شعر مباح أو بناء أو خیاطة ثوب وغیر ذلک مما له أجرة»(2).

فالمنافع لها مالیة وتقع مورداً لجملة من العقود فی الشریعة، مما یعنی اعتبارها ومالیتها، فتفویتها إضرار بصاحبها یستلزم ضمانها وتعویضها لصاحبها.

ص:322


1- (1) العروة الوثقی 41:5.
2- (2) مختلف الشیعة 132:7.

وهذا ما مال إلیه بعضهم حیث قال: «إن تمّ الإجماع والاتّفاق فلیس لنا کلام، وإلّا فالمسألة مشکلة من حیث إنّ الآخذ والحابس لشخص زید الذی کان صانعاً لما منعه من شغله وصنعته فقد فوّت علیه الفائدة التی کان یستفیدها لولا المنع، فیکون هو المفوّت لها عنه، وحکم الشارع بنفی الضمان ضرر علیه، ولا ضرر ولا ضرار فی الإسلام، خصوصاً إذا کان والمحبوس والممنوع مما لا معیشة له سواه، وکان إعاشته وإعاشة عیاله منحصراً به»(1).

الإیراد الثالث: لو ظهر أنّ القاضی حکم خطأً علی شخصٍ وتبیّن براءته بعد ذلک، فضمان أو جبران الخسارة الواردة علیه عند الخطأ إن کانت علی القاضی لزم منه تعطیل القضاء، وإن قلنا علی بیت المال لزم منه التهاون بأمر القضاء وعدم الدقة فیه.

والجواب: قد بیّنت الشریعة شروط القاضی وأنّه لابدّ أن یکون فقیهاً عادلاً عارفاً بموارد القضاء، وبصیراً ومطّلعاً علی أحکامه وشرائطه، فلا ینصّب لهذا المقام کلّ من أحبّ وأراد؛ لأنّ القضاء مما تقوم به معایش العباد وحیاتهم، وهو یضمن سیر استقرار الحیاة الاجتماعیة، لذا أکّدت الشریعة علی شرطیة العلم والمعرفة والعدالة والاستقامة، والأخبار فی ذلک متضافرة یمکن الرجوع إلیها(2).

ص:323


1- (1) الموجز فی السجن والنفی: 46 عن ذخیرة الصالحین 80:5.
2- (2) الکافی 428:7، باب النوادر.

والقاضی مهما کان متحرّیاً وعادلاً ومطّلعاً إلّا أنّه قد یخطأ فی الحکم فی بعض الأحیان، وإمّا ینشأ الخطأ من الاشتباه فی الحکم أو الاشتباه فی البیّنة کبیان فسق الشهود أو غیر ذلک من الأسباب الموجبة لنقض الحکم، وفی مثل هذه الحالة بیّنت الشریعة هذا الحکم، ففی خبر الأصبغ بن نباتة وأبی مریم عن الإمام علی علیه السلام قال:

«إنّ ما أخطأت القضاة فی دم أو قطع فهو علی بیت مال المسلمین»(1).

وخبر أبی مریم موثّق وخبر الأصبغ منجبر بالشهرة، بل ادّعی الإجماع علی ذلک، قال فی فقه الصادق: « (ولو) أقام الحاکم الحدّ بالقتل أو غیره مما یوجب الدیة، ثمّ (فسق الشهود فالدیة فی بیت المال) کغیره مما یخطأ فیه الحاکم، ولا یضمنها الحاکم ولا عاقلته بلا خلاف، ویشهد به خبر الأصبغ بن نباتة..»(2).

وهذا الأمر بنحو الإجمال من أنّ خطأ الحاکم علی بیت المال دون ماله، وتفصیل المسألة هو أنّ الفقهاء بحثوا حکم من مات فی الحدّ أو التعزیر أو التأدیب، وفصّلوا فی هذه الأقسام الثلاثة.

وبدأوا بالحد، وذکروا لا ضمان فی هذه الصورة؛ لوجود جملة من الأخبار فی ذلک، ففی صحیحة الحلبی عن أبی عبد الله علیه السلام قال:

«أیما رجل

ص:324


1- (1) وسائل الشیعة 226:27، الکافی 354:7، باب المقتول لا یدری من قتله.
2- (2) فقه الصادق 429:25.

قتله الحد أو القصاص فلا دیة له»(1).

وفی صحیحة زید الشحام قال:

«سألت أبا عبد الله علیه السلام عن رجل قتله القصاص هل له الدیة؟ قال: لو کان ذلک لم یقتص من أحد، ومن قتله الحد فلا دیة له»(2).

وتبعاً لذلک أفتی الفقهاء بذلک، قال الشیخ الطوسی: «إذا ضرب الإمام شارب الخمر ثمانین فمات لم یکن علیه شیء..»(3).

وقال المحقق: «من قتله الحد أو التعزیر فلا دیه له..»(4).

ولو استبان أنّ الحد المقام لیس بصحیح ومات المحدود سواء بالقصاص أو الرجم فالدیة علی بیت المال، قال المحقق فی الشرائع: «لو أقام الحاکم الحد بالقتل فبان فسوق الشاهدین کانت الدیة فی بیت المال، ولا یضمنها الحاکم ولا عاقلته»(5).

وعلّق الشهید فی المسالک بقوله: «لأنّ ذلک من خطأ الحاکم، وخطؤه فی بیت المال؛ لأنّه معدّ للمصالح، وکذا القول فی الکفارة»(6).

ص:325


1- (1) الکافی 291:7، باب من لا دیة له.
2- (2) الکافی 291:7، باب من لا دیة له.
3- (3) الخلاف 22:3.
4- (4) شرائع الإسلام 948:4.
5- (5) شرائع الإسلام 951:4.
6- (6) مسالک الإفهام 474:14.

وادّعی فی الجواهر الإجماع علیه فقال: «بلا خلاف أجده فیه إلّا ما یحکی عن ظاهر الحلبی من الضمان فی ماله، وهو واضح الضعف»(1).

وقال السیّد الکلبایکانی: «ولیس الضمان علی الحاکم ولا علی عاقلته؛ لأنّه یعتبر من خطأ الحاکم، وخطأ الحاکم من بیت المال المعدّ لمصالح المسلمین، وهو محسن فی عمله؛ لکونه فی مقام إصلاح الأمور، وحفظ النظام، وخدمة الدین، وإقامة الشعائر، وإجراء الأحکام، فالغرامة اللازمة علیه کانت علی بیت مال المسلمین، وبما ذکرناه یجمع بین الحقّین: حقّ المقتول وحقّ الحاکم القائم بأمور المسلمین»(2).

وقال السیّد الیزدی: «لو تبیّن خطأ الحاکم فی حکمه انتقض، وحینئذٍ فإن کان قبل العمل به فلا إشکال، وإن کان بعده فإمّا أن یکون فی قتل أو قطع، وإمّا أن یکون فی مال، ففی الأوّل إذا لم یکن مقصّراً ولاجائراً فی حکمه فلا قصاص علیه قطعاً، وتکون الدیة من بیت المال، لخبر الأصبغ بن نباتة: (ما أخطأت القضاة من دم أو قطع فعلی بیت مال المسلمین).

نعم، لو کان المحکوم له عالماً بفساد دعواه ومع ذلک أقدم علیها کان القصاص علیه... وأمّا إن کان حکم الحاکم عن جور أو تقصیر فی الاجتهاد أو فی مقدمات القضاء، وکانت الدعوی فی قتل أو قطع کان الضمان علیه

ص:326


1- (1) جواهر الکلام 472:41.
2- (2) الدر المنضود فی أحکام الحدود 402:2.

إلّا إذا کان المحکوم له ظالماً فی دعواه، وکان هو المباشر للقتل أو القطع، فحینئذٍ یکون القصاص علیه؛ لأنّ المباشر أقوی من السبب، وإن کان المباشر غیره بتسبیب منه فالمحکوم علیه أو ولیه مخیّر بین القصاص منه أو من الحاکم»(1).

فالأخبار والفتاوی قائمة علی أنّه إذا تبیّن خطأ الحاکم فی حکمه، ولم یکن مقصّراً، وفات المحل بموت أو قطع، فالدیة علی بیت المال ولیس علی القاضی ولا علی أهله. وهذا لیس فیه استهانة بالقضاء، ولا یؤدّی إلی الاستخفاف به؛ لأنّنا قدمنا أنّ القاضی یشترط فیه الاجتهاد والعدالة والضبط والبلوغ، وهی شرائط داخلیة تمنع القاضی من التعدّی فی عمله والاستخفاف به، وإذا ما ظهر تقصیر منه فی کیفیة الحکم أو البیّنة فالدیة علیه.

فالشریعة وضعته بین حدّین واضحین، بعد أن عیّنت صفاته وشروطه، الحدّ الأوّل: عدم الضمان مع عدم التقصیر، والحدّ الثانی: الضمان عند التقصیر، فلا یستطیع الاستخفاف فی القضاء؛ لأنّه سیکون ضامناً، ولا یترک العمل فی هذا المنصب؛ لأنّه مع جامعیة الشرائط والعمل ضمن الضوابط یکون قد عمل بوظیفته المحددة، فلا یضمن شیئاً فیما إذا أظهر الخطأ بعد ذلک.

هذا کلّه فی مسألة الحدود المقررة والمحددة فی الشریعة.

أمّا فی الحدود غیر المعیّنة کالتعزیر والتأدیب، فإن تعدّی بأن عزّر أو

ص:327


1- (1) العروة الوثقی 454:6، مسألة 39 لو تبیّن خطأ الحاکم فی حکمه.

ضرب أکثر من المقدار اللازم فتلف المضروب یضمن وإلّا فلا ضمان علیه.

قال الشیخ الطوسی: «إذا عزّر الإمام من یجب تعزیره أو من یجوز تعزیره - وإن لم یجب - فمات منه، لم یکن علیه شیء، وبه قال أبو حنیفة، وقال الشافعی: یلزمه دیته. وأین تجب؟ فیه قولان: أحدهما: - وهو الصحیح عندهم - علی عاقلته، والثانی: فی بیت المال، دلیلنا: أنّ الأصل براءة الذمة، وشغلها یحتاج إلی دلیل»(1).

وأیضاً قال فی المبسوط: «إذا عزّر الإمام رجلاً فأدّی إلی تلفه فلا ضمان علیه..»(2).

وقال المحقق فی الشرائع: «ومن قتله الحدّ أو التعزیر فلا دیة له. وقیل: تجب علی بیت المال، والأوّل مروی»(3).

نعم، یبقی الفرق بین الحدّ وغیره، وفی مسألة لزوم الاحتیاط والتثبّت فی التعزیر وعدم التعدّی عن المقدار اللازم، بل یکتفی بالحدّ الأدنی إن أمکن مع ملاحظة المصلحة، وإلّا فإن تعدّی إلی الأکثر مع عدم المراعاة وتضرر المعزَّر أو المؤدَّب فالضمان علی الحاکم من بیت المال مع الخطأ وعدم التقصیر، ومن ماله مع التعدّی والتقصیر.

ص:328


1- (1) الخلاف 493:5.
2- (2) المبسوط 245:3.
3- (3) شرائع الإسلام 951:4.

فهرس مصادر

مقال البحث فی السجن وأحکامه فی الشریعة

1 - أحکام السجون بین الشریعة والقانون، الشیخ أحمد الوائلی (ت 1424)، الناشر: مؤسسة أهل البیت علیهم السلام - بیروت.

2 - أحکام القرآن، ابن العربی (ت 543)، تحقیق: محمّد عبد القادر عطا، الناشر: دار الفکر للطباعة والنشر.

3 - إرشاد الأذهان إلی أحکام الإیمان، العلّامة الحلی (ت 726)، تحقیق: فارس الحسون، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الأولی 1410 ه -.

4 - الاستبصار فیما اختلف من الأخبار، محمّد بن الحسن الطوسی (ت 1460)، تحقیق وتعلیق: السید حسن الخرسان، الناشر: دار الکتب الإسلامیة - قم، الطبعة الرابعة 1363 ش.

5 - إیضاح الفوائد فی شرح إشکالات القواعد، فخر المحققین محمّد بن الحسن الحلی (ت 771)، تعلیق: السید حسین الکرمانی والشیخ علی پناه الاشتهاردی والشیخ عبد الرحیم البروجردی، الطبعة الأولی 1387 ه -.

ص:329

6 - بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، العلاّمة الشیخ محمّد باقر المجلسی (ت 1111)، تحقیق: السید إبراهیم المیانجی ومحمّد باقر البهبودی، الناشر: مؤسسة الوفاء - بیروت، الطبعة الثانیة 1403 ه -.

7 - بلغة الفقه، السید محمّد بحر العلوم (ت 1326)، شرح وتعلیق: السید محمّد تقی بحر العلوم، الناشر: مکتبة الصدوق - طهران، الطبعة الرابعة 1403 ه -.

8 - تحریر الأحکام الشرعیة علی مذهب الإمامیة، العلّامة الحلی (ت 726)، تحقیق: الشیخ إبراهیم البهادری، الناشر: مؤسسة الإمام الصادق علیه السلام، الطبعة الأولی 1420 ه -.

9 - تحریر الوسیلة، الإمام روح الله الخمینی (ت 1410)، الناشر: دار الکتب العلمیة، الطبعة الثانیة 1390 ه -.

10 - تحفة السنیة فی شرح نخبة المحسنیة، السید عبد الله الجزائری (ت 1173)، نسخة مخطوطة.

11 - تفسیر العیاشی، محمّد بن مسعود العیاشی (ت 320)، تحقیق: هاشم الرسولی المحلاتی، الناشر: المکتبة العلمیة الإسلامیة - طهران.

12 - تقریرات الحدود والتعزیرات، تقریر بحث السید الکلبایکانی (ت 1414).

ص:330

13 - تهذیب الأحکام، محمّد بن الحسن الطوسی (ت 460)، تحقیق وتعلیق: السید حسن الخرسان، الناشر: دار الکتب الإسلامیة - طهران، الطبعة الثالثة 1364 ش.

14 - جامع الخلاف والوفاق بین الإمامیة وبین أئمة الحجاز والعراق، علی بن محمّد بن محمّد القمی السبزواری من أعلام القرن السابع، تحقیق: حسین البیرجندی، الناشر: انتشارات زمینه سازان ظهور إمام عصر عجل الله تعالی فرجه الشریف، الطبعة الأولی 1379 ش.

15 - الجامع لأحکام القرآن، محمّد بن أحمد الأنصاری القرطبی (ت 671)، تصحیح: أحمد عبد العلیم البردونی، الناشر: دار إحیاء التراث العربی - بیروت.

16 - الجامع للشرائع، یحیی بن سعید الحلی (ت 690)، تحقیق وتخریج: جمع من الفضلاء، إشراف: الشیخ جعفر السبحانی، الناشر: مؤسسة سید الشهداء العلمیة، سنة الطبع 1405 ه -.

17 - جامع المدارک فی شرح المختصر النافع، السید أحمد الخوانساری (ت 1405)، تعلیق: علی أکبر الغفاری، الناشر: مکتبة الصدوق - طهران، الطبعة الثانیة 1405 ه -.

18 - جواهر الکلام فی شرح شرائع الإسلام، الشیخ محمّد حسن النجفی (ت 1266)، تحقیق وتعلیق: الشیخ عباس القوچانی، الناشر: دار الکتب الإسلامیة - طهران، الطبعة الثانیة 1365 ش.

ص:331

19 - الحدائق الناضرة فی أحکام العترة الطاهرة، الشیخ یوسف البحرانی (ت 1186)، تحقیق: الشیخ محمّد تقی الإیروانی، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم.

20 - الخلاف، محمّد بن الحسن الطوسی (ت 460)، التحقیق: جماعة من المحققین، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، سنة الطبع 1407 ه -.

21 - دراسات فی ولایة الفقیه وفقه الدولة الإسلامیة، الشیخ المنتظری (ت 1430)، الناشر: المرکز العالمی للدراسات الإسلامیة - قم، الطبعة الأولی 1408.

22 - الدر المنضود فی أحکام الحدود، تقریر بحث السید الکلبایکانی (ت 1414)، بقلم الشیخ علی الکریمی الجهرمی، الناشر: دار القرآن الکریم - قم، الطبعة الأولی 1412 ه -.

23 - الدر المنضود فی معرفة صیغ النیات والإیقاعات والعقود، زین الدین علی بن علی بن محمّد بن طی الفقعانی (ت 855)، تحقیق وتعلیق: محمّد برکت، الناشر: مکتبة مدرسة إمام العصر عجل الله تعالی فرجه الشریف العلمیة - شیراز، الطبعة الأولی 1418 ه -.

24 - الدروس الشرعیة فی فقه الإمامیة، الشهید الأوّل (ت 786)، تحقیق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الثانیة 1417 ه -.

ص:332

25 - دعائم الإسلام وذکر الحلال والحرام والقضایا والأحکام عن أهل بیت رسول الله علیهم السلام، النعمان بن محمّد التمیمی المغربی (ت 363)، تحقیق: آصف بن علی أصغر فیضی، الناشر: دار المعارف - القاهرة.

26 - الروضة البهیة فی شرح اللمعة الدمشقیة، زین الدین الجبعی العاملی الشهید الثانی (ت 965)، تحقیق: السید محمّد کلانتر، الناشر: منشورات مکتبة الداوری - قم، الطبعة الأولی 1410 ه -.

27 - روضة المتقین فی شرح من لا یحضره الفقیه، الشیخ محمّد تقی المجلسی (ت 1070)، تعلیق: السید حسین الکرمانی والشیخ علی پناه الاشتهاردی، الناشر: بنیاد فرهنگ إسلامی حاج محمّد حسین کوشانپور.

28 - روض الجنان فی شرح إرشاد الأذهان، زین الدین الجبعی العاملی الشهید الثانی (ت 965)، الناشر: مؤسسة آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث - قم.

29 - ریاض المسائل فی بیان أحکام الشرع بالدلائل، السید علی الطباطبائی (ت 1231)، تحقیق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الأولی 1412 ه -.

30 - السرائر الحاوی لتحریر الفتاوی، محمّد بن منصور بن أحمد إدریس الحلی (ت 598)، تحقیق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الثانیة 1410 ه -.

ص:333

31 - شرائع الإسلام فی مسائل الحلال والحرام، المحقق الحلی (ت 676)، تعلیق: السید صادق الشیرازی، الناشر: انتشارات استقلال - طهران، الطبعة الثانیة 1409 ه -.

32 - الصحاح تاج اللغة وصحاح العربیة، إسماعیل بن حماد الجوهری (ت 393)، تحقیق: أحمد عبد الغفور عطار، الناشر: دار الملایین - بیروت، الطبعة الرابعة 1407 ه -.

33 - العروة الوثقی، السید محمّد کاظم الطباطبائی الیزدی (ت 1337)، مع تعلیقات عدّة من الفقهاء العظام، تحقیق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الأولی 1417 ه -.

34 - کتاب العین، الخلیل بن أحمد الفراهیدی (ت 175)، تحقیق: مهدی المخزومی وإبراهیم السامرائی، الناشر: مؤسسة دار الهجرة - قم، الطبعة الثانیة 1409 ه -.

35 - عیون الحقائق الناظرة فی تتمة الحدائق الناضرة، الشیخ حسین البحرانی آل عصفور (ت 1216)، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الأولی 1410 ه -.

36 - غنیة النزوع إلی علمی الأصول والفروع، السید حمزة بن علی بن زهرة الحلبی (ت 585)، تحقیق: إبراهیم البهادری، الناشر: مؤسسة الإمام الصادق علیه السلام، الطبعة الأولی 1417 ه -.

ص:334

37 - فقه الصادق، السید محمّد صادق الروحانی، الناشر: مؤسسة دار الکتاب - قم، الطبعة الثالثة 1412 ه -.

38 - فقه القرآن، سعید بن هبة الله الراوندی (ت 573)، تحقیق: السید أحمد الحسینی، الناشر: مکتبة آیة الله العظمی النجفی المرعشی، الطبعة الثانیة 1405 ه -.

39 - کتاب القضاء، تقریر بحث السید الکلبایکانی بقلم السید علی المیلانی، سنة الطبع 1401 ه -.

40 - القضاء والشهادات، الشیخ مرتضی الأنصاری (ت 1281)، تحقیق: لجنة تحقیق تراث الشیخ الأعظم، الناشر: المؤتمر العالمی بمناسبة الذکری المئویة الثانیة لمیلاد الشیخ الأنصاری، الطبعة الأولی 1415 ه -.

41 - قواعد الأحکام فی معرفة الحلال والحرام، العلّامة الحلی (ت 726)، تحقیق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الأولی 1413 ه -.

42 - الکافی، محمّد بن یعقوب الکلینی (ت 328)، تصحیح وتعلیق: علی أکبر الغفاری، الناشر: دار الکتب الإسلامیة - طهران، الطبعة الخامسة 1363 ش.

43 - الکافی فی الفقه، أبو الصلاح الحلبی (ت 447)، تحقیق: رضا

ص:335

الأستادی، الناشر: مکتبة الإمام أمیر المؤمنین علی علیه السلام العامة - إصفهان.

44 - کشف الرموز فی شرح المختصر النافع، زین الدین أبو علی الحسن بن أبی طالب بن أبی المجد الیوسفی المعروف بالمحقق الآبی (ت 690)، تحقیق: الشیخ علی پناه الاشتهاردی وحسین الیزدی، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، سنة الطبع 1408 ه -.

45 - کشف الغطاء عن مبهمات الشریعة الغراء، الشیخ جعفر کاشف الغطاء (ت 1228)، الناشر: انتشارات مهدوی - إصفهان.

46 - کشف اللثام عن قواعد الأحکام، محمّد بن الحسن الإصفهانی المعروف بالفاضل الهندی (ت 1137)، تحقیق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الأولی 1416 ه -.

47 - کفایة الأحکام، محمّد باقر السبزواری (ت 1090)، تحقیق: الشیخ مرتضی الواعظی الأراکی، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الأولی 1423 ه -.

48 - لسان العرب، محمّد بن مکرم بن منظور (ت 711)، الناشر: نشر أدب الحوزة، سنة الطبع 1405 ه -.

49 - اللمعة الدمشقیة، الشهید الأوّل (ت 786)، الناشر: دار الفکر - قم، الطبعة الأولی 1411 ه -.

ص:336

50 - مبانی تکملة المنهاج، السید الخوئی (ت 1413)، الطبعة الثانیة 1396 ه -.

51 - المبسوط فی فقه الإمامیة، محمّد بن الحسن الطوسی (ت 460)، تصحیح وتعلیق: السید محمّد تقی الکشفی، الناشر: المکتبة المرتضویة لإحیاء آثار الجعفریة، سنة الطبع: 1387 ش.

52 - مجمع البیان فی تفسیر القرآن، الفضل بن الحسن الطبرسی من أعلام القرن السادس، تحقیق وتعلیق: لجنة من العلماء والمحققین، الناشر: مؤسسة الأعلمی للمطبوعات - بیروت، الطبعة الأولی 1415 ه -.

53 - مجمع الفائدة والبرهان فی شرح إرشاد الأذهان، المحقق أحمد الأردبیلی (ت 993)، تعلیق: مجتبی العراقی وعلی بناه الاشتهاردی وحسین الیزدی الإصفهانی، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم.

54 - المختصر النافع فی فقه الإمامیة، المحقق الحلی (ت 676)، الناشر: قسم الدراسات الإسلامیة فی مؤسسة البعثة - طهران، الطبعة الثالثة 1410 ه -.

55 - مختلف الشیعة، العلّامة الحلی (ت 726)، تحقیق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الأولی 1412 ه -.

56 - مرآة العقول فی شرح أخبار آل الرسول، الشیخ محمّد باقر

ص:337

المجلسی (ت 1111)، إخراج ومقابلة وتصحیح: السید هاشم الرسولی، الناشر: دار الکتب الإسلامیة - طهران، الطبعة الثانیة 1404 ه -.

57 - مسالک الإفهام إلی تنقیح شرائع الإسلام، الشهید الثانی (ت 965)، تحقیق ونشر: مؤسسة المعارف الإسلامیة - قم، الطبعة الأولی 1413 ه -.

58 - مستدرک الوسائل ومستنبط المسائل، الشیخ حسین النوری الطبرسی (ت 1320)، تحقیق ونشر: مؤسسة آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث - بیروت، الطبعة الأولی 1408 ه -.

59 - مستند الشیعة فی أحکام الشریعة، المحقق أحمد بن محمّد مهدی النراقی (ت 1245)، تحقیق ونشر: مؤسسة آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث، الطبعة الأولی 1415 ه -.

60 - المفردات فی غریب القرآن، الراغب الإصفهانی (ت 502)، الناشر: دفتر نشر الکتاب، الطبعة الثانیة 1404 ه -.

61 - کتاب من لا یحضره الفقیه، محمّد بن علی بن الحسین بن بابویه القمی (ت 381)، تصحیح وتعلیق: علی أکبر الغفاری، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، الطبعة الثانیة.

62 - منهاج الصالحین، الشیخ حسین الوحید الخراسانی، الناشر: مدرسة الإمام باقر العلوم علیه السلام.

ص:338

63 - المهذّب، عبد العزیز بن البراج الطرابلسی (ت 481)، إعداد: مؤسسة سید الشهداء العلمیة، إشراف: الشیخ جعفر السبحانی، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، سنة الطبع 1406 ه -.

64 - المهذّب البارع فی شرح المختصر النافع، أحمد بن محمّد بن فهد الحلی (ت 841)، تحقیق: الشیخ مجتبی العراقی، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم، سنة الطبع 1407 ه -.

65 - الموجز فی السجن والنفی فی مصادر التشریع الإسلامی، الشیخ نجم الدین الطبسی.

66 - المیزان فی تفسیر القرآن، السید محمّد حسین الطباطبائی (ت 1402)، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامی - قم.

67 - النهایة فی مجرد الفقه والفتاوی، محمّد بن الحسن الطوسی (ت 460)، الناشر: انتشارات قدس محمّدی - قم.

68 - وسائل الشیعة إلی تحصیل مسائل الشریعة، محمّد بن الحسن الحر العاملی (ت 1104)، تحقیق ونشر: مؤسسة آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث - قم، الطبعة الثانیة 1414 ه -.

ص:339

ص:340

الجهة المصدّرة للأحکام القضائیة والجهة المنفّذة لها

اشارة

بقلم: الشیخ رافد التمیمی

من الأبحاث القضائیة المهمّة فی الفقه الإسلامی هوالبحث عن الجهة التی یحقّ لها إصدار الأحکام الجزائیة والبت فی المنازعات والمرافعات، کما لا یقل أهمیّة عنه البحث عن الجهة المنفّذة لهذه الأحکام.

وأهمیة البحث عن الجهة المصدّرة للأحکام تظهر وتتجلّی علی مستویین: فتارة یبحث عن هذا الأمر فی حدود الفقه الإسلامی والشریعة المقدّسة، وأخری یکون البحث عنه من جهة القوانین الرسمیة القائمة فی الدول الإسلامیة وغیر الإسلامیة علی السواء.

ولأجل ذلک سوف یکون البحث عن مسألتین:

المسألة الأولی: الجهة التی یحقّ لها إصدار الأحکام وفق الشریعة الإسلامیة.

من الأمور الواضحة أنّه لا ولایة لأحد علی أحد، فلا یحقّ لشخص أن یحکم علی آخر إلّا وفق ظوابط معیّنة، وبدونها فالأصل عدم جواز ذلک.

ص:341

نعم، وفقاً للرؤیة الکونیة الإلهیة فإنّه من المسلّمات وجود الولایة للخالق تعالی، کما أنّه توجد الولایة للشخص المعصوم الذی یعتبر المولّی علی أمور الناس بإذن من الله تعالی. فالإنسان المعصوم نبیاً أو إماماً یحقّ له إصدار الأحکام القضائیة والجزائیة، وهذا یعتبر من الثوابت فی مختلف الدیانات السماویة، والمنطق والعقل یدعم ذلک، وهذا لا کلام لنا فیه. ولیس محلّاً للنقاش فی هذه الدراسة.

وإنّما الکلام فی فرض عدم وجود المعصوم، أو فقل: فی زمن الغیبة الکبری بناء علی المعتقد الشیعی والذی یدور بحثنا مداره، ففی مثل هذه الظروف یأتی السؤال: من یحقّ له إصدار الأحکام القضائیة؟ خصوصاً وأنّه لا بدّ من وجود قاض یحلّ النزاعات والتخاصمات، ویحفظ المصالح العامّة للمجتمع.

فالمسألة إذن بین أصلین مسلّمین:

الأول: حریة الإنسان، ولا ولایة لأحد علی آخر.

الثانی: ضرورة وجود قاض وحاکم یحلّ النزاعات والتخاصمات الواقعة من اصطدام المصالح الشخصیة للأفراد أو المجتمعات أو التجمّعات.

و هذا الأمر البیّن یحتّم علینا البحث عن هذه الجهة التی یحقّ لها تقلّد هذا المنصب، وتحتّم البحث عن الشروط المؤهِلّة لذلک.

القاضی المنصوب وقاضی التحکیم:

قبل الدخول فی بیان شرائط القاضی لا بدّ من تعریف نوعین من

ص:342

القضاة، فإنّ شرائط کلّ منهما تختلف عن الآخر:

الأوّل: قاضی التحکیم، وهو الذی ینتخبه الخصمان المتنازعان للحکم فیما بینهما، فیتراضیان بحکمه وقضائه.

وهذا النوع من التحکیم لیس من القضاء فی واقع الأمر، وإنّما هو من باب التحکیم والتراضی بین الطرفین، ولأجل ذلک لم یکن نفوذ حکمه من المسلّمات کما فی القاضی المنصوب، بل وقع البحث والاختلاف فی أنّ حکم قاضی التحکیم هل هو نافذ ولازم علی الطرفین مطلقاً، أو عدم ذلک مطلقاً، أو فی خصوص وقت رضاهما به دون غیره، أو علی خصوص الراضی به دون الرافض؟ أقوال فی المسألة:

قال المحقق فی الشرائع: «نعم، لو تراضی خصمان بواحد من الرعیة، وترافعا إلیه، فحکم بینهما لزمهما الحکم، ولا یشترط رضاهما بعد الحکم».(1)

قال فی الجواهر بعد أن نقل کلام المحقق المتقدّم: «لکن فی الروضة وغیرها فی اشتراط تراضی الخصمین بالحکم بعده قولان، بل فی بعض القیود أنّه للشیخ فی بعض أقواله، بل فی التحریر: ولو تراضی خصمان بواحد من الرعیة، وترافعا إلیه فحکم، لم یلزمهما الحکم...»(2)

ص:343


1- (1) شرائع الإسلام 861:4
2- (2) جواهر الکلام 23:40.

کما وقد وقع الاختلاف فی شرائط قاضی التحکیم، من أنّه هل یشترط فیه ما یشترط فی القاضی المنصوب، أو لا یشترط ذلک؟

قال فی الشرائع: «ویشترط فیه ما یشترط فی القاضی المنصوب عن الإمام...».(1)

وکذا قال فی المسالک.(2)

ولکن قال السیّد الخوئی: «وأمّا قاضی التحکیم فالصحیح أنّه لا یعتبر فیه الاجتهاد خلافاً للمشهور، وذلک لإطلاق عدّة من الآیات...، ولإطلاق الصحیحة المتقدّمة، وإطلاق صحیحة الحلبی...».(3)

وبناءً علی ما تقدّم من تعریف قاضی التحکیم وحقیقة أمره، فإنّه یکون من الواضح أنّ هذا النوع من القضاء أو فقل: «التحکیم» إنّما یختص بحقوق الناس الشخصیة الواقعة محّلاً للنزاع بین طرفین أو أطراف؛ لأنّ المناط فی هذا الحاکم هو رضا الأطراف المتخاصمة بحکمه، وهذه الأطراف لا معنی لرضاها فی غیر حقوقها الشخصیة، فلا یسری إلی حقوق الله تعالی أو حقوق المجتمع؛ إذ لیس لأحد التدخّل فی حقوق الله تعالی، کما فی الحدود والتعزیرات، فإنّه لا یحقّ لأحد البت بها إلّا القاضی

ص:344


1- (1) شرائع الإسلام 861:4.
2- (2) مسالک الإفهام 331:13.
3- (3) مبانی تکملة المنهاج، ضمن موسوعة السید الخوئی 12:41.

المنصوب من قبل الولی الحقیقی وهو الحقّ تعالی.

وهذا النوع من التحکیم خارج عن هذه الدراسة، والسبب فی ذلک واضح مما تقدّم بیانه، فلا نطیل.

الثانی: القاضی المنصوب

إنّ البحث عن القاضی المنصوب یکون فی عدّة أمور: فتارة یبحث عن أصل جواز نصب القاضی، وأخری یبحث عن شرائط القاضی المنصوب، وثالثة یبحث فی دائرة حکم القاضی المنصوب سعة وضیقاً.

الأمر الأوّل: فی البحث عن أصل جواز نصب القاضی

إنّ نفوذ حکم شخص علی آخر وإن کان خلاف الأصل إلّا أنّ هناک مجموعة من الأدلة تثبت جواز ذلک، بل تدلّ علی وجوبه وضرورته وجوباً کفائیاً:

الدلیل الأوّل: لزوم حفظ النظام

إنّ حفظ النظام الاجتماعی من أهمّ الواجبات العقلیة والشرعیة والعرفیّة، ومن أهمّ العوامل المؤدّیة لحفظ ذلک النظام هو وجود القاضی الذی یحلّ النزاعات، ویفک المخاصمات، ویحدد العقوبات والجزاءات، ولو لا ذلک لعمّ الهرج والمرج فی کافّة أرجاء المعمورة.

قال السیّد الخوئی: «القضاء واجب کفائی»، ثمّ قال معلّقاً علی ذلک: «وذلک لتوقّف حفظ النظام - المادی والمعنوی - علیه، ولا فرق فی ذلک

ص:345

بین القاضی المنصوب وقاضی التحکیم».(1)

الدلیل الثانی: مقبولة، بل صحیحة عمر بن حنظلة

قال: «سألت أبا عبد الله علیه السلام عن رجلین من أصحابنا بینهما منازعة فی دین أو میراث، فتحاکما إلی السلطان وإلی القضاة أیحلّ ذلک؟ قال: من تحاکم إلیهم فی حقّ أو باطل فإنّما تحاکم إلی الطاغوت...، قلت: فکیف یصنعان؟ قال: ینظران من کان منکم ممن قد روی حدیثنا، ونظر فی حلالنا وحرامنا، وعرف أحکامنا فلیرضوا به حکماً، فإنّی قد جعلته علیکم حاکماً، فإذا حکم بحکمنا فلم یقبل منه فإنّما استخفّ بحکم الله، وعلینا ردّ، والرادّ علینا الرادّ علی الله، وهو علی حدّ الشرک بالله...».(2)

فقد نصّ الإمام علیه السلام علی تنصیب القاضی، وضرورة اتّباع حکمه، فدلالة هذه الروایة واضحة علی المطلوب، بل نصّ فیه.

قال السیّد الخوئی: «إنّ قوله علیه السلام فیها: «فلیرضوا به حکماً»، بعد قوله: «ینظران من کان منکم» یدلّ علی أنّهم ملزومون بالرضا به حکماً نظراً إلی أنّه علیه السلام قد جعله حاکماً علیهم بمقتضی قوله: «فإنّی جعلته»، حیث إنّه تعلیل لإلزامهم بذلک.

فالنتیجة: أنّ الروایة تامّة من حیث الدلالة علی نصب القاضی ابتداء»(3).

ص:346


1- (1) مبانی تکملة المنهاج، ضمن موسوعة السید الخوئی 6:41.
2- (2) وسائل الشیعة 136:27، أبواب صفات القاضی ب 11، ح 1.
3- (3) مبانی تکملة المنهاج، ضمن موسوعة السید الخوئی 10:41.

وأمّا سند الروایة: فإنّ الکلام فیه یکون فی عمر بن حنظلة، ویبتنی القول بوثاقته من عدمها علی القول بتمامیة قاعدة أصحاب الإجماع أو المشایخ الثلاث؛ لأنّ هناک روایة تثبت اعتبار ابن حنظلة رواها یزید بن خلیفة، ویزید بن خلیفة لم یوثّق إلّا بروایة أصحاب الإجماع عنه کابن مسکان وصفوان بن یحیی ویونس بن عبد الرحمن. وهی من القواعد التی علیها العمل عند أکثر العلماء، هذا بالإضافة إلی أنّ هناک مجموعة من القرائن الأخری بمجموعها تدلّ علی وثاقة ابن حنظلة، فالروایة معتبرة من هذه الجهة.

الدلیل الثالث: معتبرة أبی خدیجة

قال: قال أبو عبد الله علیه السلام:

«إیّاکم أن یحاکم بعضکم بعضاً إلی أهل الجور، ولکن انظروا إلی رجل منکم یعلم شیئاً من قضایانا فاجعلوه بینکم، فإنّی قد جعلته قاضیاً فتحاکموا إلیه»(1).

أمّا دلالة هذه الروایة فهی فی قوله علیه السلام:

«فإنّی قد جعلته قاضیاً فتحاکموا إلیه» فإنّ الإمام علیه السلام وفق الشرائط التی ذکرها قد جعل ونصب القاضی، وأمر بالرجوع إلیه، فهذه دلالة واضحة علی المطلب.

ولکن أشکل السیّد الخوئی علی دلالة هذه الروایة بقوله: «ولکن الصحیح: أنّ الروایة غیر ناظرة إلی نصب القاضی ابتداء؛ وذلک لأنّ

ص:347


1- (1) وسائل الشیعة 13:27، أبواب صفات القاضی ب 1، ح 5.

قوله علیه السلام:

«فإنّی قد جعلته قاضیاً» متفرّع علی قوله علیه السلام:

«فاجعلوه بینکم» وهو القاضی المجعول من قبل المتخاصمین.

فالنتیجة: «أنّ المستفاد منها أنّ من جعله المتخاصمان بینهما حکماً هو الذی جعله الإمام علیه السلام قاضیاً، فلا دلالة فیها علی نصب القاضی ابتداء»(1).

ویجاب عنه بالحلّ والنقض:

أمّا النقض: فإنّ دلالة روایة أبی خدیجة نفس روایة عمر بن حنظلة، حیث إنّ ابن حنظلة هو الذی عرض قضیة التخاصم بین الاثنین، فنهی الإمام علیه السلام عن التحاکم إلی الطاغوت، وأمر بالرجوع إلی: «من کان منکم ممن روی حدیثنا...» وکذا الأمر فی روایة أبی خدیجة، حیث نهی الإمام علیه السلام عن الرجوع إلی أهل الجور، ثمّ أمر بالرجوع إلی: «انظروا إلی رجل منکم یعلم...» فلو کانت روایة أبی خدیجة لا تدلّ لکانت روایة ابن حنظلة کذلک، مع أنّ السیّد الخوئی تمم دلالة روایة ابن حنظلة کما أسلفنا.

وأمّا الحلّ:

أوّلاً: أنّ أمر الإمام علیه السلام فی الرجوع إلی الأصحاب فی المنازعة لم یکن متفرّعاً علی اختیار المتخاصین، وإنّما هو متفرّع علی أصل الخصومة.

ثانیاً: أنّ الإمام علیه السلام هو الذی أمر بالرجوع إلی أحد الأصحاب فی مسألة الخصومة، فحتّی لو فرّع قوله علیه السلام:

«فإنّی قد جعلته قاضیاً» علی ذلک

ص:348


1- (1) تکملة مبانی المنهاج، ضمن موسوعة السید الخوئی 11:48.

أیضاً لا یضر فی المقام؛ لأنّ کلا الأمرین - المفرّع والمفرّع علیه - صدرا من الإمام علیه السلام.

ثالثاً: لانُسلِّم بالتفریع أصلاً؛ لأنّ الفقرة الثانیة فیها أمر وهو ظاهر فی الوجوب.

هذا ویمکن الاستشهاد لهذا المطلب بمجموعة من الروایات الأخری، کما فی بعض التواقیع الصادرة عن الإمام الحجّة علیه السلام، من قبیل قوله علیه السلام:

«وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فیها إلی رواة حدیثنا، فإنّهم حجّتی علیکم، وأنا حجّة الله»(1).

الأمر الثانی: شرائط القاضی المنصوب

هناک مجموعة من الشرائط لابدّ من توفّرها فی القاضی حتّی یمکنه تقلّد هذا المنصب، والحکم، وفصل الدعاوی:

الشرط الأوّل: البلوغ.

وقد استدلّ علی شرطیة البلوغ بمجموعة من الأدلة:

منها: الإجماع، والأصل، وانصراف الأدلة عن الصبی، ومعتبرة أبی خدیجة المتقدّمة، ومقبولة ابن حنظلة، ومناسبة الحکم للموضوع، وربما یعدّ منها السیرة العقلائیة والمتشرعیة المتصلة بزمن المعصوم علیه السلام، ومنها:

ص:349


1- (1) وسائل الشیعة 140:27، أبواب صفات القاضی، ب 11، ح 9.

سلب فعل الصبی وعبارته، إلی غیر ذلک من الأدلة.

نعم، ذکرت عدّة مناقشات علی بعض هذه الوجوه(1) ، أو جمیعها(2) ، إلّا أنّ التسالّم یمنع من الأخیر وهو منع جمیع الوجوه.

الشرط الثانی: العقل.

ودلیله واضح.

الشرط الثالث: الذکورة

وقد استدلّ علی شرطیتها بوجوه:

منها: الإجماع، وصحیحة أبی خدیجة المتقدّمة، ومقبولة ابن حنظلة، والنبوی: «لا یفلح قوم ولیتهم امرأة»، والنبوی الآخر: «لیس علی المرأة جمعة...، ولا تولّی القضاء»، والنبوی الثالث: «لا تولّی المرأة القضاء، ولا تولّی الإمارة»، ومنها: انصراف أدلة القضاء عن المرأة، وغیر ذلک.

وقد ذکرت مجموعة من الملاحظات علی بعض الوجوه، راجعها فی المطولات الفقهیة(3) ، إلّا أنّ التسالم بین الفقهاء قدیماً وحدیثاً یثبت الشرطیة.

ص:350


1- (1) انظر: العروة الوثقی 416:6، فقه الصادق 16:25.
2- (2) انظر: کتاب القضاء لمحمّد الیزدی 39:1-42.
3- (3) انظر: مستند الشیعة 36:17، جواهر الکلام 14:40، العروة الوثقی 418:6.

الشرط الرابع: الإیمان

وقد استدلّ علیه بالإجماع، وعدّة روایات، منها: معتبرة أبی خدیجة المتقدّمة، ومقبولة عمر ابن حنظلة.

وقد استدلّ علی ذلک أیضاً بمثل قوله تعالی: (وَ لَنْ یَجْعَلَ اللّهُ لِلْکافِرِینَ عَلَی الْمُؤْمِنِینَ سَبِیلاً)1 ، إلّا أنّ المناقشة فی الاستدلال بهکذا آیات واضحة؛ إذ الکلام عن الإیمان الذی هو شرط هنا هو الولایة لأهل البیت علیهم السلام فی قبال أبناء العامّة، وأمّا الإیمان فی الآیة فهو فی قبال الکفر، فهو شامل لعموم المسلمین. نعم، هذه الآیة تدلّ علی شرطیة الإسلام.

الشرط الخامس: الاجتهاد

وقد استدلّ علی شرطیته بعدّة أدلة:

منها: الإجماع، ومنها: الخروج عن الأصل، وهو یعنی أنّ حکومة شخص علی آخر خلاف الأصل، ولا یخرج عن هذا الأصل إلّا فی القدر المتیقّن، والقدر المتیقّن هو حکومة المجتهد، ومنها: مجموعة من الآیات القرآنیة التی دلّت علی أنّ الحکومة لرسول الله صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام کآیة أولی الأمر، ولا یخرج عن هذه الآیات إلّا بإذنهم علیه السلام، ولم یأذنوا إلّا للمجتهدین، ومنها: مجموعة من الروایات کمعتبرة أبی خدیجة ومقبولة ابن حنظلة.

ص:351

وهناک مجموعة من الشرائط الأخری التی لا بدّ أن تتوفر فی القاضی، من قبیل: طهارة المولد، والعدالة، والعلم بأحکام القضاء، والحریة عند بعض الفقهاء، وقد ذکرت أدلة عدیدة علی هذه الشروط، وذکرت ضمنها نقاشات کثیرة، راجعها فی المطولات الفقهیة الاستدلالیة. وبحثها خارج عن هذه الدراسة.

النتیجة:

إنّ من توفّرت فیه الشروط المتقدّمة فإنّه یحقّ له تقلّد منصب القضاء، ویحقّ له إصدار الأحکام القضائیة الشرعیة، سواء کانت مرتبطة بحقوق الله تعالی من التعزیرات والحدود وغیرهما، أو کانت فی الدعاوی والمرافعات وفضّ النزاعات بین أفراد المجتمع، أی: ما یرتبط بحقوق الناس ومشاکلهم.

الأمر الثالث: فی سعة وضیق دائرة حکم القاضی المنصوب

إنّ ما تمّ إثباته إلی الآن أنّه إذا توفّرت مجموعة من الشرائط فی شخص معیّن فإنّه یحقّ له أن یکون قاضیاً، وهو المجتهد الجامع للشرائط، ولکن یبقی الکلام فی دائرة وحدود هذه الصلاحیة، فهل هذا الحقّ یثبت له بصورة مطلقة، أو أنّه توجد قیود تقیّد حکم القاضی وتمنعه من التعدّی فی بعض الحالات؟

وفی مقام الجواب عن هذا السؤال نقول: إنّ حکم القاضی لیس مطلقاً وفی کلّ وقت، وإنّما هو مقیّد فی حالتین، فإنّه تارة یقیّد القاضی فی نفس

ص:352

إصدار الحکم، وأخری یقیّد بنفس تصدّیه إلی هذا المنصب، فهنا نوعان من التقیید:

النوع الأوّل: أن یکون التقیید علی إصدار الحکم القضائی من قبل القاضی، وذلک فیما إذا کان هناک قاضی آخر قد أصدر حکماً فی واقعة معیّنة، فإنّه لا یجوز لقاض آخر أن یقضی فی هذه المسألة أو أن ینقض حکم الحاکم الأوّل.

وقد استدلّ علی ذلک:

أوّلاً: بأنّه لو جوّزنا حکم الحاکم الثانی ونقض حکم الأوّل فإنّه یلزم منه نقض الغرض الذی من أجله کان القضاء؛ وذلک لأنّ القضاة متفاوتون فی الفهم، وإدراک النصوص، والتعامل مع القضایا، فلو ترک أسبابه مفتوحة لما حلّت أکثر الدعاوی - خصوصاً بین المتخاصمین - إذ إنّ کلّ منهما یلتجئ لمن یکون حکمه فی صالحه، مع أنّ الغرض من جمیع ذلک هو فضّ الخصومة.

ثانیاً: أنّه یلزم من تجویز ذلک الهرج والمرج، والفساد الکبیر فی المجتمع، واختلال النظام؛ لأنّه لن ینصاع المحکوم والحال هذه إلی هذا الحکم، بل یتأمّل وینتظر من یأتی وینقض هذا الحکم، وهذا خلاف أهمّ الأدلة التی دلت علی أصل القضاء، وهو حفظ النظام العام، وحفظ المجتمع.

ثالثاً: الإجماع علی ذلک

ص:353

قال السیّد الخوئی: «لا یجوز الترافع إلی حاکم آخر بعد حکم الحاکم الأوّل، ولا یجوز للآخر نقض حکم الأوّل»، وقال معلّقاً علی ذلک: «بلا خلاف ولا إشکال، فإنّ حکم الحاکم نافذ علی الجمیع، سواء فی ذلک الحاکم الآخر وغیره»(1).

موارد جواز نقض الحکم الأوّل:

بعدما تقدّم من عدم جواز نقض الحکم الأوّل بوجه ربما یقال: إنّ هذا یعنی عصمة الحاکم والقاضی الأوّل وإلّا کیف یصحح حکمه بصورة مطلقة، ومن البدیهی أنّه غیر معصوم، وإذا کان کذلک فإنّه سوف یلزم وقوع الظلم فیما لو کان الحاکم الأوّل مخطئاً أو مشتبهاً أو متعمّداً ذلک فی حکمه، وسوف یلزم منه نقض الغرض أیضاً.

ولکن نقول: إنّ هناک بعض الحالات التی یجوز معها نقض حکم القاضی الأوّل، ومعها یندفع الإشکال المتقدّم وغیره من الشبهات:

الحالة الأولی: أن یتنبّه القاضی الأوّل نفسه إلی أنّ حکمه کان خاطئاً بسبب تعامله مع الأدلة والشواهد وما شاکل، وحینئذ یجوز نقض حکمه الأوّل والحکم من جدید حسب الشواهد المتوفّرة، وهذه الحالة وإن کانت هی من نفس القاضی الأوّل إلّا أنّها تعتبر نقضاً للحکم الأوّل.

ص:354


1- (1) مبانی تکملة المنهاج، ضمن موسوعة السید الخوئی 26:41.

الحالة الثانیة: فیما لو تنبّه قاض آخر لاشتباه القاضی الأوّل علی وجه لو تنبّه القاضی الأوّل لخطئه لتنبّه له - کما لو کان حکمه مخالفاً لما ثبت قطعاً من الکتاب والسنّة - فإنّه یجوز فی هذه الحالة أن ینقض القاضی الثانی حکم القاضی الأوّل، أو ینبّه القاضی الأوّل علی خطئه لینقضه بنفسه.

الحالة الثالثة: فیما لو ثبت أنّ القاضی الأوّل لم یکن أهلاً للقضاء حین قضائه - کما لو ثبت اختلال أحد الشروط المتقدّمة فی القاضی، خصوصاً المتّفق علیها - فإنّه یجوز حینئذ نقض حکمه وإصدار حکم جدید علی وفق الضوابط والشروط (1).

ویمکن استخلاص الضابطة من جمیع ذلک: بأنّه لابدّ أن لا یکون نقض القاضی الثانی لحکم الأوّل راجعاً إلی مسألة اجتهادیة أو ذوقیة أو لفهم خاص، بل لابدّ أن یکون راجعاً إلی مسألة واضحة جدّاً بحیث یصدق علی مخالفتها مخالفة الدلیل القطعی الواضح، الذی بحیث لو نبّه علیه القاضی الأوّل لَقَبِلَهُ ولم یتردد.

النوع الثانی: أن یکون التقیید لنفس تصدّی القاضی الجامع للشرائط للقضاء والحکم، وذلک فیما لو کان هناک ولی فقیه مبسوط الید، وله النفوذ

ص:355


1- (1) انظر فی ذلک: تکملة مبانی المنهاج ضمن موسوعة السید الخوئی 26:41، القضاء فی الفقه الإسلامی للسیّد الحائری: 791-800، آداب القضاء وأحکامه لمحمّد الیزدی: 125.

فی السلطة علی منطقة معیّنة من العالم، فإنّه هو الذی له الحقّ فی تعیین القضاة فی المحاکم الشرعیة والقانونیة.

ولتوضیح هذه النقطة من البحث لابدّ من تسلیط الضوء علی حالتین مرّ بها المجتمع الإیمانی (الشیعی) مدی العصور:

الحالة الأولی: وهی حالة تسلّط الحاکم الجائر علی مقدّرات الأمور وإدارة البلاد والحکم علیها، ففی مثل هذه الحالة فإنّ أیّ فقیه جامع للشرائط یحقّ له التصدّی لمنصب القضاء - وجوباً کفائیاً - ویکون هو الحاکم الشرعی الذی یجب علی المؤمنین الرجوع إلیه فی قضایاهم ونزاعاتهم، وقد تقدّمت الأدلة علی ذلک فی بحث شرائط القاضی وأدلة نصب القضاة، وهذا من المسائل الواضحة فی الفقه الإمامی، والذی علیه العمل والسیرة الشرعیة من زمن الأئمة علیه السلام وإلی یومنا هذا، فی کلّ مکان لیس للولی الفقیه العادل سلطة.

جاء فی مقبولة ابن حنظلة: «سألت أبا عبد الله علیه السلام عن رجلین من أصحابنا بینهما منازعة فی دین أو میراث فتحاکما إلی السلطان...؟، قال: من تحاکم إلیهم فی حقّ أو باطل فإنّما تحاکم إلی الطاغوت...، قلت: وکیف یصنعان؟ قال: ینظران من کان منکم ممن قد روی حدیثنا ونظر فی حلالنا وحرامنا...، فإنّی قد جعلته علیکم حاکماً...»(1) ، وکذا ما جاء فی صحیحة

ص:356


1- (1) وسائل الشیعة 136:27، أبواب صفات القاضی ب 11، ح 1.

أبی خدیجة المتقدّمة(1).

الحالة الثانیة: وهی حالة تسلّط الولی الفقیه العادل علی مقدّرات الأمور، وبسط یده الشریفة علی بلاد أو دولة معیّنة - کما هو الحال فی مثل الجمهوریة الإسلامیة حیث الولایة والسلطة للولی الفقیه العادل الجامع للشرائط، فهو الذی یصدر الأحکام ویعیّن القضاة - ففی مثل هذه الحالة یقع البحث والکلام فی أنّه هل یحقّ للمجتهد الجامع للشرائط إصدار الأحکام القضائیة من دون إذن الولی الفقیه أو لا یحقّ له ذلک؟

ومن الواضح أنّ محلّ البحث لیس فی قاضی التحکیم؛ لأنّه قد تقدّم أنّ تعیینه بید المتخاصمین - طبعاً مع تحقق بقیة الشرائط - وإنّما الکلام فی الأحکام الصادرة عن القاضی المنصوب، وحینئذ فالبحث ینحل إلی دعویین، نصیغهما بسؤالین:

الأوّل: هل یحقّ إصدار حکم القاضی من قبل مجتهد جامع للشرائط فی واقعة فیما لو کان للولی أو من نصّبه الولی الفقیه حکم فی هذه الواقعة، أو لا یحقّ له ذلک؟

الثانی: هل یحقّ إصدار حکم قضائی من قبل مجتهد جامع للشرائط فیما لو لم یکن للولی الفقیه أو من نصّبه حکم خاص فی هذه الواقعة؟

ص:357


1- (1) وسائل الشیعة 13:27، أبواب صفات القاضی ب 1 ص 5

الجواب عن السؤال الأوّل:

إنّ الجواب عن هذا السؤال قد اتّضح مما تقدّم فی البحث عن النوع الأوّل من تقیید حکم الحاکم بحکم حاکم شرعی آخر، فقد قلنا: إنّه لو کان لقاض جامع للشرائط حکم فی واقعة معیّنة فإنّه لا یجوز نقضه من قبل أیّ حاکم آخر، وفی المقام فإنّه لو کان هناک حکم للولی الفقیه أو من نصّبه الولی الفقیه فلا یحقّ لأیّ حاکم آخر إصدار الحکم فی تلک الواقعة.

وهذه المسألة من مسلّمات الفقه الإمامی، ولا کثیر بحث فیها، وقد تقدّمت الإشارة إلی أدلتها، ولا خصوصیة للولی الفقیه أو من نصّبه علی غیره. نعم، ربما یکون من باب أولی الأمر فی الولی الفقیه أو من نصّبه فی عدم جواز نقض حکمه.

الجواب عن السؤال الثانی:

فی هذا السؤال فرض عدم وجود حکم قضائی للولی الفقیه أو من نصّبه فی مسألة معیّنة، وهذا لابدّ من تقسیم الحوادث والوقائع، والنظر فی ماهیة وحقیقة کلّ منها، فإنّه تارة تکون تلک المسألة من القضایا الجزئیة البسیطة الشخصیة التی لا ترتبط ولا تؤثّر علی النظام العام ولا علی المجتمع بصورة عامّة، ففی مثل هذا الفرض لا یوجد أیّ مانع شرعی أو عقلانی أو عرفی من تصدّی الفقیه الجامع للشرائط لإصدار حکم فی هذه المسألة.

وتارة أخری تکون تلک المسألة مما تؤثّر فی النظام العام وفی

ص:358

المجتمع بصورة عامّة، کأن تکون من قبیل مسائل الجهاد، أو العلاقات الخارجیة العامّة، أو عقد المصالحات مع الدول الأخری، أو النظام الاقتصادی، وما شاکل هذه المسائل، وفی مثل هذه المسائل لا یصح إصدار حکم قضائی إلّا بإذن الولی الفقیه المبسوط الید علی تلک البلاد، باعتبار أنّه هو المسؤول الأوّل عن حفظ النظام العام ومجمل الأمور العامّة فی المجتمع.

وفی الواقع أنّ هذا لا یخرج عن دائرة الفرضیة إذا ما نظرنا إلیه نظرة عملیة واقعیة؛ لأنّه لیس فقط من المستبعد، بل مما لم یتحقق إلی الآن أن لا یکون للولی الفقیه فی مثل هذه المسائل المهمّة والمصیریة فی المجتمع رأی یحدد الموقف الشرعی من تلک المسائل، ومعه یندرج هذا القسم فی مجرد التصوّرات والفروض، وعلیه فینحصر الأمر فی القسم الأوّل وهی المسائل الجزئیة، فإنّه لا یوجد أیّ مانع من تصدّی الحاکم الشرعی لإصدار حکمها إذا لم یکن للولی الفقیه أو من نصّبه حکم فیها، والجواز هنا علی وفق القواعد والأصول.

ولا یفوتک فإنّ هذا غیر مسألة تنفیذ الأحکام وتطبیقها کإجراء الحدود والتعزیرات، فإنّ هذه المسألة سیأتی بحثها لاحقاً إن شاء الله تعالی.

دفع شبهة وردّ إشکال:

من خلال ما تقدّم یظهر الخلل فیما ادّعاه بعض المتفقّهین والمتطفّلین علی الأبحاث الفقهیة، من أنّه إذا صدر حکم من أحد الفقهاء الجامعین للشرائط مع وجود الولی الفقیه فی مورد لیس له فیه حکم فإنّه یلزم:

ص:359

أوّلاً: وجود مشکلة فی الولی الفقیه نفسه؛ لأنّه إمّا لیس جامعاً للشرائط لعدم اجتهاده وفقاهته، وإمّا الشک فی عدالته ابتداءً أو استدامة، وإمّا الشک فی تدبیره للأمور، وخلاصة الأمر أنّه غیر لائق لولایة الأمر.

ثانیاً: أنّ الفقیه الجامع للشرائط الذی أصدر الحکم القضائی فی هذه المسألة لا یؤمن بولایة الفقیه أساساً ولذلک أصدر الحکم حتّی مع کون هذا الولی الفقیه جامعاً للشرائط.

فیرید المستشکل أن یقول: إذا أصدر أحد الفقهاء حکماً فی مسألة لیس للولی الفقیه فیها حکم، فإنّه إمّا یلزم الخلل فی الولی الفقیه، وإمّا یلزم أنّ هذا الفقیه المصدر للحکم لا یؤمن بولایة الفقیه.(1)

ووجه الخلل فی الأمرین واضح، أمّا الأوّل: فإنّه لا یوجد أیّ دلیل یمنع من إصدار حکم قضائی من قبل الفقیه الجامع للشرائط مع عدم وجود حکم قضائی للولی الفقیه أو من نصّبه، إلّا فی الموارد الخاصّة التی تقدّمت الإشارة إلیها فی التفصیل المتقدّم بین المسائل الکبری والمسائل الجزئیة.

وأمّا الخلل فی الثانی: فإنّه لا توجد ملازمة بین إصدار حکم قضائی فی مسألة جزئیة لیس للولی الفقیه حکم فیها أو لمن نصّبه، وبین عدم الإیمان بولایة الفقیه أو عدم الاعتقاد بالولی الفقیه.

ص:360


1- (1) انظر: رسالة نقد مجازات مرتد وساب النبی صلی الله علیه و آله: 6، محسن کدیور، بالفارسی (راجع موقعه علی الإنترنت).

وأنا لا أعلم ما هذه الملازمات الجزافیة التی یدّعیها البعض ویطلقها بلا شاهد ولا دلیل.

وبذلک تبیّن أیضاً بطلان ما استشهد به لذلک، حیث ادّعی أنّ الولی الفقیه یفتی بأنّ إجراء الحدود فی زمن الغیبة من مختصّات الولی الفقیه، حیث إنّ هذه الفتوی واردة فی إجراء الأحکام القضائیة لا صدورها، وهذا ما سیأتی بحثه لاحقاً بشکل مستقل، فالمستشهد خلط بین الأمرین.

بل ادّعی أکثر من ذلک، وفرّع علی هذا القول نتیجة لا یمکن التفوّه بها، حیث ادّعی أنّه لا یحقّ للفقیه الجامع للشرائط أن یصدر حکماً شرعیاً علی أحد المواطنین فی دولة أخری؛ لأنّه نقض لحاکمیة تلک الدولة(1).

فإن کان قاصداً بکلامه هذا الحکم الأولی، فهذا ما لا یمکن قبوله بوجه، فأیّ حقّ هذا یثبت للدول الظالمة والغاصبة والجائرة، فهل أنّ دولة أمریکا مثلاً لها الحاکمیة الشرعیة علی تلک البلاد؟! أو هل لبعض الحکومات المسمّاة بالإسلامیة الحقّ والسلطة الشرعیة علی تلک البلاد، خصوصاً فی مثل دول الملوک والأمراء؟!

ألا یعلم هذا القائل أنّ الأرض وما علیها ملک لصاحب الزمان علیه السلام، وأنّه قد أعطی الحقّ فی القضاء للفقهاء الجامعین للشرائط، کما تقدّم إثبات ذلک.

ص:361


1- (1) انظر: رسالة نقد مجازات مرتد وساب النبی صلی الله علیه و آله: 7، محسن کدیور بالفارسی (راجع موقعه علی الإنترنت)..

وأمّا إن کان قصده أنّ ذلک لا یجوز بالحکم الثانوی، أی: أنّه یجوز للفقیه الجامع للشرائط إصدار الحکم کذلک ابتداءً، إلّا أنّه توجد ظروف ثانویة تمنع من ذلک، فیکون عدم الجواز حکماً ثانویاً، کما لو کانت هناک مفاسد اجتماعیة أو اقتصادیة أو سیاسیة تتولّد إثر ذلک الحکم فتتضرر الدولة الإسلامیة جرّاء ذلک، فإن کان هذا قصده، فهو صحیح فی نفسه إلّا أنّ هذا ما یحدده الفقیه الجامع للشرائط، وإلّا لما کان جامعاً للشرائط، وسوف یکون کلام المستشکل خلاف الفرض أساساً.

فلا یعدو هذا القول الکلام الفارغ الذی لا یستند علی أساس علمی واضح.

المسألة الثانیة: الشرع والقانون الرسمی

إنّ ما علیه الحال والنظام - خصوصاً فی الأزمان المتأخرة - هو وجود المحاکم الرسمیة القانونیة، المعدّة ضمن القانون الأساسی فی تلک الدول، فهذه المحاکم هی التی تبت فی القضایا والنزاعات وتصدر الأحکام القضائیة، وبناء علی ذلک فما هی النسبة وما هو وجه الجمع بین هذه المحاکم وبین قضاء الفقیه الجامع للشرائط؟

والکلام یقع تارة فی البحث عن حکم الحاکم الشرعی فی الدولة الغاصبة، وتحت حکم الحاکم الجائر، وأخری یکون الکلام فی الدولة العادلة وحکومة الولی الفقیه، فهنا فرضان:

ص:362

الفرض الأوّل: الحکومة الجائرة الغاصبة

إنّ المسألة واضحة فی هذا الفرض منذ زمن الأئمة علیهم السلام، فإنّهم قد بیّنوا الموقف الصحیح الذی علیه العمل والإفتاء، حیث أمروا علیهم السلام أتباعهم وشیعتهم بعدم التحاکم عند الحاکم الجائر، بل لابدّ من الرجوع إلی حاکم عادل مؤمن تتوفّر فیه مجموعة من الشرائط التی تؤهّله إلی التصدّی لمنصب القضاء، فقد جاء فی مقبولة ابن حنظلة: «من تحاکم إلیهم فی حقّ أو باطل فإنّما تحاکم إلی الطاغوت»، ثمّ قال علیه السلام:

«ینظران من کان منکم ممن قد روی حدیثنا، ونظر فی حلالنا وحرامنا، وعرف أحکامنا فلیرضوا به حکماً، فإنّی قد جعلته علیکم حاکماً...»، وکما دلّت علی ذلک أیضاً صحیحة أبی خدیجة المتقدّمة.

الفرض الثانی: الحکومة العادلة الشرعیة

وهو فرض وجود الحکومة العادلة - کما هو الحال فی الجمهوریة الإسلامیة - وفرض وجود الولی الفقیه، فهنا قد یدّعی أنّه لا یحقّ لأیّ جهة إصدار الأحکام إلّا إذا کانت من خلال محکمة صالحة منصوص علیها فی القانون الأساسی للدولة، ولأجل ذلک فإنّ حکم أیّ فقیه حتّی لو کان جامعاً للشرائط لا قیمة له، ما دام هو خارج القانون المدوّن ضمن القانون الأساسی.

ولأجل بیان الموقف الشرعی الفقهی من هذه الدعوة لابدّ من تفصیل

ص:363

الکلام فی أمرین، حتّی تتضح أبعاد هذه الدعوة، ویتّضح الجواب عنها والموقف الصحیح منها، وهما:

1 - فی معنی المحکمة الصالحة المقنّنة والمنصوص علیها ضمن نظام الدولة وقانونها الأساسی.

2 - فی بیان الفوارق بین الرسالة العملیة للفقهاء التی تعتبر قانون الحیاة الشرعیة فی مختلف المجالات، وبین قانون الدولة، وکیفیة تعیین الأحکام الشرعیة کبنود قانونیة.

الأوّل: فی معنی المحکمة الصالحة.

ربما یوهم البعض بکلامه أنّ المحکمة الصالحة عبارة عن مجموعة من الأفراد، وعدّة من الاختصاصات، تتابع مسألة قضائیة معیّنة، وتنظر فی جمیع جزئیاتها، خصوصاً مع الوضع الشائک والمعقّد فی هذه الأزمان فی المعاملات والقوانین الدولیة والأنظمة الاجتماعیة والاقتصادیة والسیاسیة الجدیدة، واتّساع دائرة النزاعات والصراعات بین الأفراد، والشرکات والمؤسسات المحلّیة منها والعالمیة، إلی غیر ذلک من الاندماج الکبیر الذی حصل فی مختلف قطاعات الحیاة الاجتماعیة.

ولأجل ذلک ادّعی هذا البعض أنّه لا یمکن للفقیه الجامع للشرائط - أساساً - أن یتصدّی لمثل هذه القضایا وهذه النزاعات، فلا یحقّ له أن یصدر الأحکام القضائیة علی مثل هذه الأمور، بل لابدّ أن یکون ضمن محکمة صالحة هی التی تبتّ فی هذه القضایا.

ص:364

وکما ادّعی هذا البعض أنّ إحراز موضوع الحکم لا یکون إلّا بعد تشکیل المحکمة، واستماع أدلة الطرفین أو الأطراف والوکلاء، وفحص البیّنة والیمین، وملاحظة الوثائق، وجمیع ما یرتبط بذلک. فالأمر یختلف عما کان فی السابق، حیث کانت الموضوعات بسیطة وسهلة ویمکن للفقیه إحراز الموضوع بسهولة وإصدار الحکم علیه، لذلک فإنّ فی هذه الأزمان المعقّدة لابدّ من إرجاع تشخیص الموضوع وإصدار الحکم علیه إلی المحکمة الصالحة، ولا یحقّ للفقیه إلّا إصدار الأحکام الشرعیة واستنباطها من أدلتها المقررة، ولا علاقة له بالقضاء.

هذا بالإضافة إلی أنّ اعتراض المتهم علی الحکم، وإرجاع الدعوة إلی محکمة التمییز لعرضها علی قاض آخر، کلّها أمور لم تلحظ فی الفقه أصلاً(1).

ملاحظة وبیان:

قبل بیان الجواب عن الدعاوی الجزافیة المتقدّمة لابدّ من التنویه علی أمر أغفله المستشکل، بل عمل علی تغییبه وهو: أنّ المحکمة الصالحة المدّعاة مهما تفرّعت أقسامها ومهما تعدد موظفوها، فهی تبقی حکومة القاضی الواحد، فمهما قسّم المستشکل ومهما فرّع إلّا أنّه لا یمکن أن یغیّر الواقع وحقیقة الأمر؛ إذ القاضی فی کلّ محکمة سواء کانت إسلامیة أو غیر إسلامیة إنّما هو قاض واحد هو الذی یصدر الحکم فی نهایة المطاف.

ص:365


1- (1) انظر: رسالة نقد مجازات مرتد وساب النبی صلی الله علیه و آله: 8.

نعم، هذا لا یمنع من وجود مستشارین معه أو مساعدین أو أهل خبرة یستعین بهم لکشف الموضوع.

وإذا أردنا أن نعبّر عن المحکمة الصالحة بطریقة أخری نقول: هو القاضی الجامع للشرائط التی تؤهّله لإصدار الأحکام القضائیة.

الجواب: لا فرق بین المحکمة الصالحة والفقیه الجامع للشرائط.

بعد هذه الملاحظة المتقدّمة تتّضح حقیقة الأمر، فإنّه لا فرق حینئذ بین المحکمة الصالحة والفقیه الجامع للشرائط؛ إذ کلا العنوانین یشترط فیه الفقاهة والخبرة والقدرة علی تشخیص الموضوع والقدرة علی إصدار الحکم، فلو کان الفقیه غیر قادر علی تشخیص الموضوع بشکله الدقیق فهو حینئذ غیر جامع للشرائط، ولا یحقّ له إصدار الحکم القضائی، وکذلک الحال فی القاضی فی المحکمة الصالحة، فإنّه لو اختلّ عنده أحد الشروط المعتبرة فإنّه لا یحقّ له إصدار الأحکام القضائیة، فالمسألة حینئذ لا ترتبط بعنوان المحکمة الصالحة وعدمه، وإنّما الموضوعیة لمسألة تحقق الشروط من عدمها، فکما أنّه یجب علی قاض المحکمة أن ینظر فی الدعوة ویستمع للطرفین والوکلاء والشهود وللأدلة المقدّمة، کذلک یجب ذلک علی الفقیه الجامع للشرائط، فالمسألة مسألة عنونة لا أکثر.

محکمة التمییز:

وأمّا ما ادّعی من أنّ محکمة التمییز غیر موجودة فی الفقه أصلاً فهی

ص:366

دعوة لا نصف قائلها إلّا بالسذاجة والبساطة، حیث إنّه قد تقدّم الکلام فی جواز نقض حکم الحاکم فی بعض الموارد، وهل یکون النقض إلّا من خلال النظر المجدد فی القضیة؟!

أو لا أقل أنّ جواز النقض یحتّم جواز النظر فی القضیة، ومحکمة التمییز لا تعنی الوجوب، بل هی علی حسب طلب أصحاب الدعوی.

فالغریب فی المسألة أنّ تغیّر الأسماء والمصطلحات یؤدّی إلی اختلاط الأوراق عند البعض، والارتباک الواضح فی دعاواهم، فإنّ من الصحیح أنّ مصطلح محکمة التمییز لیس موجوداً فی الفقه، إلّا أنّه لا یعنی أنّ حقیقته وروحه غیر موجودة.

والأغرب من ذلک أن یدّعی أنّ الفقیه لا یحقّ له إصدار الأحکام القضائیة؛ والسبب فی ذلک هو أنّ الفقیه وإن کان خبیراً فی الأحکام إلّا أنّه لیس خبیراً فی تحدید الموضوعات، ومن دون تحدید الموضوع لا یحقّ إصدار الحکم القضائی؛ لأنّ الحکم القضائی یختلف عن الحکم الشرعی؛ لأنّ الأوّل ناظر إلی وجود الموضوع فعلاً، فهو صادر علی نحو القضیة الجزئیة الخارجیة، وأمّا الثانی فهو لا یشترط فیه ذلک، فهو صادر علی نحو القضیة الحقیقیة.

و فی هذه الدعوی تأمّل کبیر؛ لأنّه إن کان معنی هذه الدعوی أنّ کلّ قضیة لا یحقّ له إصدار الأحکام القضائیة، فلازمه أنّه حتّی قاضی المحکمة لا یجوز له ذلک؛ لأنّ من أهمّ شرائطه الفقاهة.

ص:367

وإن کان معناها أنّ بعض الفقهاء لا یحقّ لهم ذلک، قلنا: هذا من المسلّمات المتّفق علیها، وهی أنّ بعض الفقهاء الذین لم تجتمع فیهم شرائط القضاء لا یحقّ لهم إصدار الأحکام القضائیة، ومن أهمّ تلک الشرائط عدم تحدید الموضوع.

فالکلام إذن فی اجتماع الشرائط من عدمها، ولا علاقة لذلک فی المحکمة أو فی تحدید الموضوع أو ما شاکل، فإن توفّرت الشرائط جاز لقاضی المحکمة الحکم، وکذا جاز للفقیه ذلک.

والإنصاف یقتضی أن لا نحمل کلام صاحب هذه الدعوی علی سوء القصد وعلی مجرد إثارة الشبهات والإشکالات، بل نحمله علی الجهل بمراد الفقهاء؛ إذ لعلّه فهم من کلماتهم أنّ کلّ فقیه یحقّ له القضاء حتّی لو لم تجتمع بقیة الشرائط.

الثانی: فی الفرق بین الرسالة العملیة (فتوی الفقیه) وقانون الدولة.

إنّ القوانین المعمول بها فی أغلب دول العالم الآن، هی إمّا وضعیة خالصة، وإمّا خلیط بین القانون الوضعی والقانون الدینی، والمقصود بالقوانین الوضعیة هی تلک القوانین التی وضعها البشر بأنفسهم تبعاً لما یرونه من المصلحة حسب العقل والعرف، وما یتناسب مع کلّ مجتمع أو دولة بالخصوص، لذلک نجد أنّ قانون کلّ دولة وکلّ مجتمع یختلف عن قانون الدولة الأخری والمجتمع الآخر، بل لا یکاد یتّفقان إلّا فی الموارد الکلیة العامّة التی علیها آراء البشر بصورة عامّة.

ص:368

هذا بالإضافة إلی القوانین العالمیة التی صوّتت علیها الدول فی جمعیة الأمم المتحدة.

وعلی هذا المنوال سارت أکثر الدول الإسلامیة، مع تطعیم قانونها الوضعی ببعض الأحکام الإسلامیة التی لا تخالف القانون الوضعی أساساً. والسبب فی ذلک إمّا عناداً للدین وتسلیماً لقدرة الشیاطین، وإمّا جهلاً بأحکام ربّ العالمین، حیث یعتقد البعض أنّ الدین الإسلامی لیس له قابلیة إدارة المجتمعات وحفظ النظام العام.

هذا الوضع القائم الیوم بعید کلّ البعد عن التعالیم الإسلامیة والقوانین الإلهیة؛ لأنّ الإسلام یؤکّد أنّ القانون الذی یجب اتّباعه وجعل الأمور تسیر علی وفق رؤاه وتعالیمه، هو قانون السماء وأحکام الله تعالی المتمثّلة بالقرآن الکریم وسنّة المعصومین محمّد صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام. من هنا کانت إطلالة الجمهوریة الإسلامیة بقیادة إمام الأمة إطلالة علی العالم المعاصر، من خلال تدوین القوانین التی لها القابلیة لإدارة شؤون المجتمع الإنسانی وتنظیم حیاة البشر بالاعتماد علی الشریعة الإسلامیة، فجاء قانون الجمهوریة الإسلامیة منبثقاً من داخل الفقه الإسلامی، فتلک القوانین تابعة لأحکام الإسلام التی یستنبطها الولی الفقیه الجامع للشرائط، لذلک فإنّ قانون الجمهوریة الإسلامیة لیس هو شیء وراء الفقه والرسالة العملیة، بل هما شیء واحد فی الحقیقة والمعنی وإن اختلفا فی الصیاغة والتدوین.

قال السیّد الإمام فی الجواب عن السؤال، ما هی نوعیة الحکومة التی

ص:369

تعیّنها بعد انتصار الثورة؟: حکومة الجمهوریة الإسلامیة، أمّا الجمهوریة فلأنّها تعتمد علی آراء أکثر الناس، وأمّا إسلامیة فلأنّ قانونها الأساس ودستورها هو قانون الإسلام؛ لأنّ الإسلام له قوانین فی مختلف الأبعاد، ولأجل ذلک لا تحتاج إلی قوانین أخری(1).

اختلاف القانون عن الرسالة العملیة:

نعم، یوجد اختلاف بین القانون الذی تسیر علیه الدولة وبین الرسالة العملیة من جهات:

الأولی: أنّ صیاغة عبارات الرسالة العملیة تختلف عن صیاغة البنود القانونیة؛ وذلک لأنّ الرسائل العملیة کتبت وهی ناظرة إلی الأحکام الشرعیة فقط، أیّ: تحدید الوظیفة الشرعیة للأفراد، وعلی المکلّف أن یرجع لتلک الرسائل ویأخذ حکمه منها بنفسه، والمسؤولیة علی المکلّف تکون أمام الله تعالی، فإن عمل بها فقد برئت ذمته وإلّا فلا، وأمّا القانون فإنّ صیاغته ناظرة إلی أمرین: الأوّل: بیان نفس الحکم والوظیفة، والثانی: بیان الموضوع الذی یطبّق علیه القانون بشکل دقیق، أو فقل: إنّ القانون ناظر إلی الحکم وإلی کیفیة تطبیق ذلک الحکم فی صیاغة القانون، وهذا ما یؤدّی إلی اختلاف صیاغة الحکم بین الرسالة العملیة والقانون.

ص:370


1- (1) صحیفة نور 21:4.

الثانیة: أنّ صیاغة القانون عادة ما تکون بشکل واضح بحیث یتّفق علی فهمه الجمیع - إلّا النادر القلیل - من خلال بیان تمام القیود التی لها دخل فی الحکم بلغة جدیدة عصریة بسیطة واضحة، فبمقدار ما یهتم بأصل الحکم یهتم بصیاغته وألفاظه التی تدلّ علیه، وأمّا فی الرسالة العملیة فإنّ الصیاغة لم تعط هذه الأهمیة بالشکل الکافی، لذلک نجد أنّ کثیراً من المسائل فی الرسائل العملیة تحتاج إلی شرح وبیان.

الثالثة: أنّ الرسائل العملیة تحتوی علی المهم من الأحکام الشرعیة، وهی تلک الأحکام التی تختص بالواجبات والمحرمات، وقلیل من المستحبات والمکروهات، وأمّا غیر ذلک فلم تولیه أهمیة؛ وذلک لأسباب عدیدة لعلّ من أهمها السبب الذی من أجله کتبت الرسائل العملیة، وهذا القسم من الأحکام فی الرسائل العملیة ینصب علی الحیاة الفردیة للناس والحیاة الاجتماعیة، حیث إنّه ینظّم حیاة الناس مع الله تعالی ومع بعضهم البعض.

وأمّا القانون فهو ینصب علی القضایا الاجتماعیة، بحیث یکون القانون منظّماً لتعاملات الأفراد فیما بینهم، ولا علاقة له بالممارسات الفردیة التی ترتبط بالإنسان مع ربّه وخالقه، أو ما یحدد قناعاته الشخصیة.

الرابعة: أنّ الرسالة العملیة ترکت مجالاً واسعاً للمباحات یکون تحدیدها وفق الاتّفاقات بین أفراد المجتمع، وذلک حسب الرؤیة الدینیة لمجموعة من القضایا، لذلک نجد أنّ الرسالة العملیة أغفلت هذه الأمور بالاکتفاء بالحکم بالإباحة.

ص:371

وأمّا القانون فباعتبار أنّه یراد منه تنظیم الحیاة الاجتماعیة وفق ما تقتضیه الظروف فإنّه یقنن هذه الأمور بالشکل الذی لا یخالف أحکام الإسلام وتعالیمه، من قبیل: قانون العسکر والجیش، فکون الجندی یخدم فی الجیش مدّة سنة أو سنتین أمر لم ینص علیه الشرع وإنّما جعله مباحاً، ولکن یأتی القانون ویحدد أنّ الفترة سنتان، فیکون القانون ملزماً للجمیع بناء علی التوافقات والشروط التی ألزم الشارع بکلیاتها، حیث إنّ المؤمنین عند شروطهم، وکذلک الأمر فی قانون المرور، وقانون الریاضة، والصحة، والصناعة، والطرق والمواصلات، ومختلف الوزارات والإدارات، فإنّ هذه المسائل لابدّ أن تبیّن وتحدد بشکل واضح ودقیق حتّی لا یقع الاختلاف بین أفراد المجتمع فی حقوقهم وواجباتهم الاجتماعیة التوافقیة المدنیة، فإنّه من الصحیح أنّ من حقّ العامل فی الدائرة أن یعمل ساعتین أو ست ساعات؛ لأنّ هذا أمر مباح، إلّا أنّ المقنّن یأتی ویقنن ست ساعات، ویجعل فی قبال ذلک الراتب الشهری، فهنا یکون العامل ملزماً بالحضور والعمل لست ساعات، فلو لم یحدد وقت العمل ولم یجعل کقانون یمکن الرجوع إلیه، فإنّه لا یمکن حلّ النزاعات وفق الدعاوی.

ولعلّ هذا الفرق من أهمّ الفوارق بین الرسالة العملیة وبین قانون الدولة.

الخامسة: أنّ الرسائل العملیة مختلفة الفتاوی والأحکام، وذلک تبعاً لاختلاف المجتهدین فی النظر والفهم والرأی، لذلک فإنّ الرسائل العملیة تمثّل عدّة قوانین واتّجاهات فکریة، وهذا أمر لا یضر فی المقام.

ص:372

وأمّا القانون فباعتبار أنّه ینظّم حیاة المجتمع ککل فلابدّ أن یکون بصیغة واحدة وبمضمون واحد ویحکم علی الجمیع وإلّا لما حصل النظم المطلوب فی المجتمع، لذلک فإنّ القانون لابدّ أن یمثّل رأی الولی الفقیه المبسوط الید، ومن ثمّ فإنّ اختلاف بعض بنود القانون الأساسی لبعض الرسائل العملیة لا یعنی مخالفة القانون للإسلام، وإنّما یعنی مخالفة رأی الولی الفقیه لتلک الرسائل.

فإن قلت: لو لم یکن هناک قانون، بل مجرد الرسائل العملیة، فهل یعنی هذا عدم انتظام حیاة المجتمع؟

قلت: لیس الأمر کذلک؛ لأنّه فی مورد النزاعات لا ینظر إلی تقلید الأفراد، بل إلی حکم الحاکم الشرعی الجامع للشرائط، وعلی الجمیع الإطاعة والتنفیذ، إذن لا بدّ من توحید الجهة فی مثل هذه المسائل، وخصوصاً المصیریة منها.

ومن خلال جمیع ذلک یتبیّن: أنّ الحاجة إلی القانون والدستور لا تعنی الاستغناء عن الرسالة العملیة، أو المعارضة معها، وأنّ وجود بعض البنود فی القانون دون الرسالة العملیة لا یعنی أنّ هذا القانون غیر إسلامی؛ لأنّ جمیع ما فی القانون لابدّ أن یکون تحت مظلّة الأحکام الإسلامیة العامّة والکلیة، والکلّ تحت مظلّة الحاکم الشرعی وهو الفقیه الجامع للشرائط.

ویتبیّن بذلک أیضاً: بطلان ما قیل: إنّ الفتوی الشرعیة لا قیمة لها إذا لم

ص:373

تکن قانوناً مصوّت علیه فی المحافل الرسمیة؛ وذلک لأنّ هذه الفتوی إن کانت من الأمور المتّفق علیها بین الفقهاء، فهی لابدّ أن تکون ضمن القانون - حسب الفرض -، وإن کانت من الولی الفقیه فهی قانون بحدّ ذاتها؛ لأنّ القانون یعتمد علی رأی الولی الفقیه أساساً، وأمّا إن کانت الفتوی مما اختصّ بها أحد الفقهاء غیر الولی الفقیه، فهی وإن لم تکن ذات قیمة قانونیة یستدلّ بها فی المحاکم الشرعیة وتکون حجّة علی الجمیع، إلّا أنّها ذات قیمة دینیة تکلیفیة بالنسبة إلی مقلّدی ذلک الفقیه، فهی حجّة ومعتبرة من هذه الجهة.

بحث تطبیقی فی المرتد وسابّ النبی صلی الله علیه و آله:

بعد هذا البحث المتقدّم - عن الجهة التی یحقّ لها إصدار الأحکام القضائیة والتصدّی لهذا المنصب الخطیر - نشیر إلی بعض الموارد التی استشکل فیها علی جواز إصدار الحکم علیها، من قبیل: الحکم بالقتل علی من سبّ النبی صلی الله علیه و آله، وعلی من ارتدّ عن الدین الإسلامی، فنقول:

إنّ الشریعة الإسلامیة بیّنت حکم المرتد وسابّ النبی صلی الله علیه و آله بشکل واضح، وأنّه إذا سبّ شخص النبی الأکرم صلی الله علیه و آله أو ارتدّ عن الدین الإسلامی الحنیف عن فطرة، فإنّ حکمه القتل، وفی هذه الحالة یحقّ للقاضی الشرعی إصدار الحکم علی الشخص الذی ثبت فی حقّه الارتداد أو السباب.

أدلة قتل المرتد أو سابّ النبی صلی الله علیه و آله:

هناک أدلة عدیدة تثبت أنّ حکم المرتد أو سابّ النبی صلی الله علیه و آله هو القتل،

ص:374

وسوف نذکر بعضها بشکل مختصر؛ لأنّ البحث فی هذه الدراسة یتمحور حول الجهة المصدّرة للحکم والجهة المنّفذة، وما نذکره هنا من الأدلة ما هو إلّا تتمیماً للفائدة.

أدلة قتل المرتد الفطری:

1 - خالإجماع، فقد انعقد إجماع الفقهاء علی ذلک.

2 - معتبرة عمار الساباطی، حیث قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام یقول:

«کلّ مسلم بین مسلمین ارتدّ عن الإسلام وجحد محمّداً صلی الله علیه و آله نبوّته وکذّبه، فإنّ دمه مباح لمن سمع ذلک منه، وامرأته بائنة منه یوم ارتدّ، ویقسّم ماله علی ورثته، وتعتدّ امرأته عدّة المتوفّی عنها زوجها...»(1).

3 - صحیحة الحسین بن سعید، قال: قرأت بخط رجل إلی أبی الحسن الرضا علیه السلام:

«رجل ولد علی الإسلام، ثمّ کفر وأشرک وخرج عن الإسلام، هل یستتاب؟ أو یقتل ولا یستتاب؟ فکتب علیه السلام: یقتل»(2).

4 - صحیحة علی بن جعفر عن أخیه أبی الحسن علیه السلام، قال:

«سألته عن مسلم تنصّر، قال: یقتل ولا یستتاب...»(3).

ص:375


1- (1) وسائل الشیعة 324:8، أبواب حد المرتد، ب 1، ح 3.
2- (2) وسائل الشیعة 325:28، أبواب حد المرتد، ب 1، ح 6.
3- (3) وسائل الشیعة 325:28، أبواب حد المرتد، ب 1، ح 5.

إلی غیر ذلک من الروایات العدیدة التی دلّت علی أنّ حکم المرتد الفطری هو القتل.

أدلة قتل سابّ النبی صلی الله علیه و آله:

1 - الإجماع واتّفاق الفقهاء علی ذلک.

2 - صحیحة هشام بن سالم، حیث روی عن أبی عبد الله علیه السلام أنّه سئل ممن شتم رسول الله صلی الله علیه و آله، فقال علیه السلام:

«یقتله الأدنی فالأدنی قبل أن یرفع إلی الإمام»(1).

3 - صحیحة محمّد بن مسلم، عن أبی جعفر علیه السلام قال: إنّ رجلاً من هذیل کان یسبّ رسول الله صلی الله علیه و آله...، فقلت لأبی جعفر علیه السلام:

أرأیت لو أنّ رجلاً الآن سبّ النبیّ صلی الله علیه و آله أیقتل؟ قال: «إن لم تخف علی نفسک فاقتله»(2).

إلی غیر ذلک من الروایات، وکذلک أُلحق بالنبی صلی الله علیه و آله الأئمة المعصومون وفاطمة الزهراء علیهم السلام، لروایات عدیدة، منها: صحیحة هشام بن سالم، قال: قلت لأبی عبد الله علیه السلام:

ما تقول فی رجل سبابة لعلی علیه السلام؟ قال: فقال لی: «حلال الدم والله لو لا أن تعم به بریئاً...»(3).

ص:376


1- (1) وسائل الشیعة 337:28، أبواب حد المرتد، ب 7، ح 1.
2- (2) وسائل الشیعة 213:28، أبواب حد القذف، ب 25، ح 4.
3- (3) وسائل الشیعة 215:28، أبواب حد القذف، ب 27، ح 1.

الجهة المصدّرة لحکم المرتد أو سابّ النبی صلی الله علیه و آله:

هنا لابدّ من تطبیق البحث المتقدّم، فهنا توجد ثلاثة فروض:

الفرض الأوّل: أن لا تکون هناک حکومة عادلة، ولا یوجد فقیه مبسوط الید، فإنّه حینئذ یجوز للحاکم الشرعی الجامع للشرائط إصدار هذا الحکم علی الشخص المرتد أو سابّ النبیّ صلی الله علیه و آله، وفقاً للضوابط المتقدّمة فی البحث، ولا یجوز نقض هذا الحکم من قبل أیّ فقیه وحاکم آخر، إلّا بما تقدّم استثناؤه.

الفرض الثانی: أن تکون هناک حکومة عادلة، وفیها الولی الفقیه الجامع للشرائط، وأن یکون للولی الفقیه حکم معیّن فی هذا المرتد أو سابّ النبی صلی الله علیه و آله، أو یکون الحکم من قبل القاضی الذی نصّبه الولی الفقیه، وحینئذ لا یجوز التصدّی لإصدار الحکم فی هذه المسألة من قبل قاض آخر، ولا یجوز نقض الحکم إلّا بما تقدّم استثناؤه.

الفرض الثالث: أن تکون هناک حکومة عادلة، وولی فقیه مبسوط الید، إلّا أنّه لا یوجد له أو لمن نصّبه حکم فی هذه المسألة الخاصّة، فإنّه یجوز لفقیه آخر جامع للشرائط قد ثبت عنده ارتداد ذلک الشخص أن یحکم علیه بالقتل، ولا یوجد أیّ مانع من إصدار هکذا حکم، کما تقدّم تفصیل ذلک.

الجواب عن بعض الإشکالات:

الإشکال الأوّل: أنّ فتوی الفقیه لیست قانوناً مدوّناً فلا قیمة لها، فلو أصدر أیّ فقیه حکماً بالارتداد علی شخص - غیر الولی الفقیه فی ضمن القانون - لا قیمة لهذا الحکم أصلاً.

ص:377

جواب الإشکال: أتصوّر قد اتّضح الجواب عن هذا الإشکال من خلال البحث المتقدّم، وأنّ فتوی الفقیه وإن لم تکن قانوناً إلّا أنّها حجّة شرعیة علی مقلّدی هذا المجتهد الجامع للشرائط، وهی وظیفة شرعیة ربما یقدّمها المشرّعة علی أیّ قانون آخر.

الإشکال الثانی: أنّ القانون الأساسی لم یعیّن مجازات المرتد وإن عیّنها فی سابّ النبی صلی الله علیه و آله، وعلیه فلا یجوز الحکم علی المرتد بالقتل من قبل فقیه آخر؛ لأنّه لا یحقّ الحکم إلّا للولی الفقیه أو من نصّبه.

جواب الإشکال: أوّلاً: أنّ الولی الفقیه - والذی هو المؤسس للجمهوریة الإسلامیة، والذی قد صیغت مجموعة من بنود القانون الأساسی وفق رسالته العملیة - قد أفتی بذلک، وقد أعمل ذلک الحکم خارجاً وفعلاً، حینما أصدر الفتوی الشهیرة بارتداد سلمان رشدی ولزوم قتله.

ثانیاً: حتّی لو فرض خلو القانون عن ذلک الحکم، فهذا لا یعنی عدم جواز إصدار هکذا حکم من قبل فقیه آخر جامع للشرائط، حیث تقدّم أنّه لا مانع من ذلک أصلاً، کما فی الفرض الثالث المتقدّم، وما تقدّم علیه.

الإشکال الثالث: أنّه مع التسلیم بوجود هکذا حکم، إلّا أنّه لا یحقّ لهذه المحاکم الموجودة إصدار هکذا حکم؛ وذلک لأنّ الکثیر من القضاة فیها لیسوا من الفقهاء، بل هم ممن درسوا القضاء بشکل فتوائی ثمّ عیّنهم الولی الفقیه فی تلک المناصب بالمباشرة أو بالواسطة، لذلک فلا یمکنهم تشخیص بعض المسائل الاجتهادیة، خصوصاً فی مثل الدماء وموضوع

ص:378

الارتداد، ولذلک یجب الاجتناب عن إصدار هکذا أحکام.

جواب الإشکال: أوّلاً: أنّه لیس جمیع القضاة فی تمام المحاکم هم کذلک، بل إنّ فیهم المجتهد الجامع للشرائط، وحینئذ یجوز إصدار تلک الأحکام.

ثانیاً: أنّ هؤلاء القضاة وإن کانوا غیر مجتهدین إلّا أنّهم منصوبون من قبل الولی الفقیه، وهذا معناه أنّهم یعملون باجتهاد وفتوی من نصّبهم التی هی علی شکل قانون مدوّن فی المحاکم، فالحکم الذی یصدر من هؤلاء هو فی الواقع حکم الفقیه الجامع للشرائط.

الجهة الثانیة من البحث: من یحقّ له تنفیذ الأحکام القضائیة

إنّ البحث عن الجهة التی یحقّ لها تنفیذ الأحکام القضائیة لا یقل أهمیة عن الجهة التی یحقّ لها إصدار تلک الأحکام، والبحث عن هذه الجهة یکون فی أمور:

الأمر الأوّل: فی أصل جواز إقامة الحدود والتعزیرات وتنفیذ الأحکام القضائیة فی زمن الغیبة الکبری.

إنّ المشهور بین الفقهاء هو جواز إقامة الحدود والتعزیرات فی زمن الغیبة الکبری، قال الشیخ المفید: «فأمّا إقامة الحدود فهو إلی سلطان الإسلام المنصوب من قبل الله تعالی، وهم أئمة الهدی من آل محمّد علیهم السلام، ومن نصّبوه لذلک من الأمراء والحکّام، وقد فوّضوا النظر فیه إلی فقهاء

ص:379

شیعتهم مع الإمکان، فمن تمکّن من إقامتها علی ولده وعبده، ولم یخف من سلطان الجور إضراراً به علی ذلک فلیقمها...، وکذلک إن استطاع إقامة الحدود علی من یلیه من قومه، وأمن بوائق الظالمین فی ذلک، فقد لزمه إقامة الحدود علیهم...»(1).

قال الدیلمی فی المراسم العلویة: «فقد فوّضوا علیهم السلام إلی الفقهاء إقامة الحدود والأحکام بین الناس بعد أن لا یتعدّوا واجباً ولا یتجاوزوا حدّاً، وأمروا عامّة الشیعة بمعاونة الفقهاء علی ذلک ما استقاموا علی الطریقة ولم یحیدوا»(2).

قال الشیخ الطوسی: «فأمّا إقامة الحدود فلیس یجوز لأحد إقامتها إلّا لسلطان الزمان المنصوب من قبل الله تعالی، أو من نصّبه الإمام لإقامتها، ولا یجوز لأحد سواهما إقامتها علی حال...، وأمّا الحکم بین الناس والقضاء بین المختلفین فلا یجوز أیضاً إلّا لمن أذن له سلطان الحقّ فی ذلک، وقد فوّضوا ذلک إلی فقهاء شیعتهم فی حال لا یتمکّنون فیه من تولّیه بنفوسهم...»(3).

قال السیّد الخوئی: «یجوز للحاکم الجامع للشرائط إقامة الحدود علی الأظهر»، ثمّ قال معلّقاً علی کلامه هذا: «هذا هو المعروف والمشهور بین

ص:380


1- (1) المقنعة: 810.
2- (2) المراسم العلویة فی الأحکام النبویة: 263.
3- (3) النهایة: 300.

الأصحاب، بل لم ینقل فیه خلاف إلّا ما حکی عن ظاهر ابنی زهرة وإدریس من اختصاص ذلک بالإمام أو بمن نصّبه لذلک، وهو لم یثبت. ویظهر من المحقق فی الشرائع والعلّامة فی بعض کتبه التوقّف»(1).

والمهم فی المقام هو الاستدلال علی ذلک، فقد استدلّ علیه بعدّة أدلة، منها:

الأوّل: أنّ أحد أهمّ الأدلة المتقدّمة فی تشریع أصل القضاء هو حفظ النظام العام وحفظ تماسک المجتمع، وهذه من مهمات الأهداف التی علیها سیرة العقلاء فضلاً عن الشریعة، وهذا هدف وغایة موجودة فی کلّ زمان لا تختص بزمن حضور الإمام المعصوم علیه السلام.

قال السیّد الخوئی: «فالحکمة المقتضیة لتشریع الحدود تقضی بإقامتها فی زمان الغیبة کما تقضی بها زمان الحضور»(2).

الثانی: إطلاق أدلة الحدود والتعزیرات، حیث إنّها لم تقیّد بزمان دون زمان، فکما تدلّ علی جواز ذلک فی زمن الحضور فهی تدلّ علیه فی زمن الغیبة. نعم، لیس الإطلاق بمعنی جواز إقامة ذلک لکلّ أحد، بل للقدر المتیقّن وهو الفقیه الجامع للشرائط، کما سیأتی بیانه.

الثالث: التوقیع الصادر عن الناحیة المقدّسة، وهو ما رواه إسحاق بن

ص:381


1- (1) مبانی تکملة المنهاج، ضمن موسوعة السید الخوئی 273:41.
2- (2) مبانی تکملة المنهاج، ضمن موسوعة السید الخوئی 273:41.

یعقوب، قال: سألت محمّد بن عثمان العمری رضی الله عنه أن یوصل لی کتاباً قد سُئلت فیه عن مسائل أشکلت علیّ، فورد التوقیع بخط مولانا صاحب الزمان علیه السلام:

«أمّا ما سألت عنه أرشدک الله وثبّتک من أمر...، وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فیها إلی رواة حدیثنا، فإنّهم حجّتی علیکم وأنا حجّة الله علیهم»(1).

ورواه الشیخ الطوسی بسنده عن محمّد بن یعقوب الکلینی عن إسحاق بن یعقوب(2).

أمّا الکلام عن سند هذا الحدیث فهو من جهة إسحاق بن یعقوب فقط، وقد أثبتنا اعتباره وإمکان الاعتماد علیه فی کتابنا زید بن علی علیه السلام(3).

فالسند تمام، وأمّا الدلالة فبإطلاق قوله علیه السلام:

«وأمّا الحوادث» فهی تدلّ علی لزوم الرجوع إلی الفقهاء من رواة أحادیثهم علیهم السلام.

الرابع: ما رواه حفص بن غیاث، قال: سألت أبا عبد الله علیه السلام قلت: من یقیم الحدود السلطان أو القاضی؟ فقال: «إقامة الحدود إلی من إلیه الحکم»(4) ، وبما أنّ الحکم فی زمن الغیبة قد ثبت أنّه للمجتهد الجامع

ص:382


1- (1) إکمال الدین وإتمام النعمة: 485.
2- (2) الغیبة للشیخ الطوسی: 290.
3- (3) زید بن علی علیه السلام: 180.
4- (4) تهذیب الأحکام 314:6.

للشرائط، فیثبت جواز إقامة الحدود فی زمن الغیبة أیضاً.

وأمّا السند فالإشکال فیه من جهة القاسم بن محمّد، فهو إمّا الجوهری وهو مجهول، وإمّا الإصفهانی المعروف بکاسولا، فقد نصّ النجاشی علی أنّه غیر مرضی(1) ، وإن ذکرت هناک بعض الشواهد لاثبات اعتباره(2) ، إلّا أنّها بمجموعها غیر ناهضة لإثبات ذلک.

وأمّا علی بن محمّد فهو ابن شیرة القاسانی، وهو ثقة معتبر وإن اضطربت کلمات الشیخ الطوسی فیه، حیث ضعّفه مرّة ووثّقه أخری.

الخامس: مقبولة عمر بن حنظلة المتقدّمة: «ینظران من کان منکم...، فإذا حکم بحکمنا فلم یقبل منه فإنّما استخفّ بحکم الله، وعلینا ردّ، والرادّ علینا، الرادّ علی الله...»، فهذه الفقرة من الروایة ناظرة إلی تنفیذ الأحکام القضائیة، وأنّها تکون تابعة لحکم الفقیه الذی جعله الإمام حاکماً بتعیین مطلق یمتد إلی سائر الأزمان، إلی غیر ذلک من الشواهد والأدلة التی تثبت جواز إقامة الحدود فی زمن الغیبة الکبری.

وأمّا ما استشهد به علی عدم جواز إقامة الحدود فی زمن الغیبة فهو ما روی عن الإمام الصادق علیه السلام عن آبائه عن علی علیه السلام أنّه قال: «لا یصلح

ص:383


1- (1) رجال النجاشی: 863] 315].
2- (2) انظر: الرسائل الرجالیة للکلباسی 220:3.

الحکم ولا الحدود ولا الجمعة إلّا بإمام»(1) ، فإنّه بالإضافة إلی الإشکال السندی، فإنّه باطل جزماً فی فقرته الأولی، حیث قد ثبت بأدلة قطعیة کثیرة أنّه یجوز، بل یجب إصدار الأحکام القضائیة فی زمن الغیبة، وکذا تبطل الفقرة الأخیرة، حیث إنّ الجمعة یجوز إقامتها فی زمن الغیبة فضلاً عمّن قال بوجوبها الإ علی رأی نادر جداً، هذا کلّه بناء علی أنّ المراد بالإمام هو الإمام المعصوم علیه السلام، مع أنّ الظاهر لیس کذلک، حیث ذهب الکثیر من العلماء إلی أنّ المراد هو الإمام العادل الذی لابدّ أن تتوفّر فیه شرائط إمام الجماعة، طبعاً بإضافة شرائط القضاء فی باب القضاء.

الأمر الثانی: فی شرائط المجری للأحکام.

هناک مجموعة من الشواهد والبراهین دلّت علی أنّ تنفیذ وإجراء الأحکام القضائیة لا یکون إلّا بید الفقیه الجامع للشرائط، منها:

الأوّل: أنّ الهدف من القضاء أساساً، وکذا تنفیذ الأحکام القضائیة هو حفظ النظام العام، وإبعاد المجتمع عن الفوضی والظلم والتعدّی علی حقوق الآخرین، من هنا فلو فوّض إجراء الأحکام لعموم الناس فإنّه یوجب اختلال النظام، والهرج والمرج، ولا یستقر حجر علی حجر، لذلک فلا مخرج من هذه الفوضی إلّا بتفویض الأمر للفقیه الجامع للشرائط، وهو القدر المتیقّن فی البین.

ص:384


1- (1) دعائم الإسلام 182:1، الجعفریات (الأشعثیات): 43، مستدرک الوسائل 402:17.

قال السیّد الخوئی بعد أن ذکر أدلة جواز إقامة الحدود فی زمن الغیبة: «وهذه الأدلة تدلّ علی أنّه لابدّ من إقامة الحدود، ولکنها لا تدلّ علی أنّ المتصدّی لإقامتها من هو، ومن الضروری أنّ ذلک لم یشرّع لکلّ فرد من أفراد المسلمین، فإنّه یوجب اختلال النظام، وأن لا یثبت حجر علی حجر...، فإذن لابدّ من الأخذ بالمقدار المتیقّن، والمتیقّن هو من إلیه الأمر، وهو الحاکم الشرعی»(1).

الثانی: صحیحة داود بن فرقد، قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام یقول:

«إنّ أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله قالوا لسعد بن عبادة: أرأیت لو وجدت علی بطن امرأتک رجلاً ما کنت صانعاً به؟ قال: کنت أضربه بالسیف، قال: فخرج رسول الله صلی الله علیه و آله فقال: ماذا یا سعد؟ فقال سعد: قالوا: لو وجدت علی بطن امرأتک رجلاً ما کنت صانعاً به؟ فقلت: أضربه بالسیف، فقال: یا سعد، فکیف بالأربعة شهود؟ فقال: یا رسول الله، بعد رأی عینی وعلم الله أن قد فعل؟ قال: أیّ والله بعد رأی عینک وعلم الله أن قد فعل، إنّ الله قد جعل لکلّ شیء حدّاً، وجعل لمن تعدّی ذلک الحدّ حدّاً»(2).

فهذه الصحیحة تدلّ علی أنّ إجراء الأحکام لا تکون إلّا من قبل وبإذن الحاکم الشرعی الجامع للشرائط حتّی وإن کان المکلّف یری بعینه

ص:385


1- (1) مبانی تکملة المنهاج، ضمن موسوعة السید الخوئی 273:41.
2- (2) وسائل الشیعة 14:28، أبواب مقدمات الحدود، ب 2، ح 1.

ومستیقن الحدث.

الثالث: روایة حفص بن غیاث، قال: سألت أبا عبد الله علیه السلام من یقیم الحدود، السلطان أو القاضی؟ فقال:

«إقامة الحدود إلی من إلیه الحکم»(1).

دلالة هذه الروایة واضحة علی المطلوب، حیث إنّ من إلیه الحکم هو الفقیه الجامع للشرائط، کما تقدّم بیانه، إلّا أنّ المشکلة فی هذه الروایة هو من جهة السند، حیث إنّ القاسم بن محمّد الواقع فی السند لم یوثّق إن کان هو الجوهری، وغیر مرضی إن کان هو الإصفهانی، کما تقدّم بیان ذلک.

الرابع: التوقیع الصادر عن الإمام الحجّة علیه السلام:

«وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فیها إلی رواة حدیثنا، فإنّهم حجّتی علیکم وأنا حجّة الله»(2).

بناء علی أنّ إقامة الحدود فی زمن الغیبة من تلک الحوادث، والسند تام کما قدّمناه.

إذن یتعیّن بذلک أنّ إجراء الحدود والتعزیرات فی زمن الغیبة إنّما هو بإشراف وبإذن الحاکم الشرعی الجامع للشرائط.

قال الشیخ المفید: «فأمّا إقامة الحدود فهو إلی سلطان الإسلام المنصوب من قبل الله تعالی، وهم أئمة الهدی من آل محمّد علیهم السلام، ومن

ص:386


1- (1) وسائل الشیعة 49:28، أبواب مقدمات الحدود، ب 28، ح 1.
2- (2) وسائل الشیعة 140:27، أبواب صفات القاضی ب 11، ح 9.

نصّبوه لذلک من الأمراء والحکّام، وقد فوّضوا النظر فیه إلی فقهاء شیعتهم مع الإمکان»(1).

قال العلّامة الحلی: «وهل یجوز للفقهاء إقامة الحدود حال الغیبة؟ جزم به الشیخان(2) ، وهو قوی عندی، ویجب علی الناس مساعدتهم علی ذلک»(3).

وقال فی التذکرة: «إنّ للفقهاء الحکم بین الناس، فکان إلیهم إقامة الحدود، ولما فی تعطیل الحدود من الفساد»(4).

قال الشهید الأوّل: «ویجوز للفقهاء حال الغیبة إقامة الحدود مع الأمن»(5).

إلی غیر ذلک من کلمات کبار الفقهاء وفتاواهم الدالة علی أنّ إقامة الحدود وتنفیذ الأحکام القضائیة لا تکون إلّا بید الفقیه الجامع للشرائط.

الأمر الثالث: فی إجراء الحدود والتعزیرات فی ظلّ حکومة الولی الفقیه.

بناء علی ما تقدّم من أنّ الجهة التی یحقّ لها تنفیذ الأحکام القضائیة

ص:387


1- (1) المقنعة: 810.
2- (2) أی: الشیخ المفید والشیخ الطوسی.
3- (3) تحریر الأحکام 242:2.
4- (4) تذکرة الفقهاء 445:9.
5- (5) اللمعة الدمشقیة: 75.

هی نفس الجهة التی یحقّ لها إصدار تلک الأحکام، أی: أنّ الشروط التی لابدّ أن تتوفّر هناک لابدّ أن تتوفّر هنا؛ حفاظاً علی نظم المجتمع ودفع المفاسد عنه، بالإضافة إلی الروایات المتقدّمة، من هنا نقول: إنّ الجهة المنفّذة للأحکام الشرعیة فی زمن الولی الفقیه الجامع للشرائط هی التی تکون مُعیَّنة ومأذونة من قبله، ولا یحقّ لأحد إجراء تلک الأحکام إلّا بإذنه، هذا فیما إذا کانت هناک جهة معیّنة من قبل الحکومة العادلة، وأمّا إذا لم یکن لها موقف واضح اتّجاه قضیة معیّنة لأیّ سبب کان فالأمر یرجع إلی الحاکم الجامع للشرائط، وبعبارة أخری: تبیّن أنّ الکلام المتقدّم فی الجهة التی یحقّ لها إصدار الأحکام القضائیة یأتی نفسه هنا، فالکلام الکلام.

الأمر الرابع: فی بعض مستثنیات قانون تنفیذ الأحکام القضائیة.

ثبت ممّا تقدّم أنّ الجهة التی یحقّ لها تنفیذ الأحکام القضائیة لابدّ أن تتوفّر فیها جمیع الشرائط المشروطة فی الجهة المصدّرة للأحکام، سواء بالمباشرة أو بالواسطة، ولکن هناک بعض الموارد المستثناة من هذه القاعدة، وهی مجموعة من الموارد التی نصّت الروایات علی جواز تنفیذ الحکم فیها من دون الحاجة إلی الرجوع إلی الفقیه الجامع للشرائط، بل یحقّ لکلّ مکلّف أن ینفّذ تلک الأحکام فی تلک الموارد، من تلک الموارد، الموردان محلّ البحث، نذکرهما ونذکر الأدلة علی استثنائها من تلک القاعدة، ونری هل أنّ تلک الأدلة تامّة أولا.

ص:388

المورد الأوّل: المرتد
اشارة

والمرتد علی قسمین: فهو إمّا ملّی، وهو الکافر الذی أسلم ثمّ کفر، وإمّا فطری، وهو الذی نشأ مسلماً وبلغ کذلک ثمّ کفر، لأبوین مسلمین أو لأحدهما.

والکلام فعلاً فی الرجل المرتد الفطری.

والکلام تارة عن حکم المرتد ووجوب قتله، وأخری فیمن ینفّذ هذا الحکم.

وجوب قتل المرتد:

هناک مجموعة من الأدلة دلّت علی أنّ المرتد یجب قتله، منها: الإجماع، ومنها: معتبرة عمار الساباطی، ومنها: صحیحة الحسین بن سعید، وصحیحة علی بن جعفر، وغیرهما، وقد تقدّم نقل هذه الروایات فیما مضی.

فمسألة قتل المرتد من القضایا الواضحة فی الشریعة الإسلامیة.

الجهة المنفّذة لحکم المرتد:

نصّت بعض الروایات علی أنّ المرتد یجوز قتله لمن سمع منه الارتداد، ولا حاجة للرجوع إلی الحاکم الشرعی.

الروایة الأولی: معتبرة عمار الساباطی، قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام یقول:

«کلّ مسلم بین مسلمین ارتدّ عن الإسلام، وجحد محمّداً صلی الله علیه و آله

ص:389

نبوّته وکذّبه فإنّ دمه مباح لمن سمع ذلک منه، وامرأته بائنة منه یوم ارتدّ...»(1).

فإنّ هذه الروایة ظاهرة فی المطلب، حیث إنّ الإمام علیه السلام جوّز قتل المرتد لمن سمع الارتداد من المرتد، وأنّ دمه مباح، وإباحة الدم تعنی أنّه یحقّ لأیّ شخص أن یقتله.

الروایة الثانیة: صحیحة محمّد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام قال:

«ومن جحد نبیّاً مرسلاً نبوّته وکذّبه فدمه مباح، قال: فقلت: أرأیت من جحد الإمام منکم ما حاله؟ فقال: من جحد إماماً من الله وبرئ منه ومن دینه فهو کافر مرتد عن الإسلام...، ودمه مباح فی تلک الحال»(2).

فإباحة الدم تقتضی عدم مراجعة الحاکم الشرعی فی ذلک.

وهذه الروایة مخصصة ومقیّدة لعمومات وإطلاقات أدلة ضرورة الرجوع إلی الحاکم الشرعی الجامع للشرائط فی تنفیذ الأحکام الشرعیة، التی تقدّم ذکرها.

إذن فحکم المرتد هو القتل فی الحال؛ لأنّه مهدور الدم. هذا ما یستظهر من الأدلة وسیأتی ذکر بعض الإشکالات علی ذلک والجواب عنها.

ص:390


1- (1) وسائل الشیعة 324:28، أبواب حد المرتد، ب 1، ح 3.
2- (2) وسائل الشیعة 323:28، أبواب حد المرتد، ب 1، ح 1.
المورد الثانی: سابّ النبی صلی الله علیه و آله

من الموارد التی لا یرجع فیها إلی الحاکم الشرعی فی تنفیذ الحکم هو لزوم قتل سابّ النبی صلی الله علیه و آله علی من سمع منه ذلک، فقد فوّض تنفیذ هذا الحکم لعموم الناس مع الأمن من الضرر، وکذا ألحقّ بالنبی صلی الله علیه و آله الأئمة وفاطمة الزهراء علیهم السلام. والمهم فی المقام هو عرض الأدلة الدالة علی ذلک، وهی:

الأوّل: إجماع علماء الطائفة - متقدّمیهم ومتأخّریهم - علی ذلک.

الثانی: صحیحة هشام بن سالم عن أبی عبد الله علیه السلام:

«أنّه سئل عمّن شتم رسول الله صلی الله علیه و آله، فقال علیه السلام: «یقتله الأدنی فالأدنی قبل أن یرفع إلی الإمام»(1).

وهذه الروایة صریحة فی المطلب، حیث صرّحت بعدم رفع هذا الأمر إلی أحد.

الثالث: صحیحة محمّد بن مسلم، عن أبی جعفر علیه السلام قال:

«إنّ رجلاً من هذیل کان یسبُ رسول الله صلی الله علیه و آله فبلغ ذلک النبی صلی الله علیه و آله...، قال محمّد بن مسلم: قلت لأبی جعفر علیه السلام: أرأیت لو أنّ رجلاً الآن سبّ النبی صلی الله علیه و آله أیقتل؟ قال: إن لم تخف علی نفسک فاقتله»(2).

ص:391


1- (1) وسائل الشیعة 337:28، أبواب حد المرتد، ب 7، ح 1.
2- (2) وسائل الشیعة 213:28، أبواب حد القذف ب 25، ح 3.

فإنّ الإمام الباقر علیه السلام قد أعطی کبری کلیة، وهی أنّ من سبّ النبی صلی الله علیه و آله یقتل مع عدم الخوف علی النفس.

الرابع: صحیحة هشام بن سالم، عن أبی عبد الله علیه السلام قال: قلت لأبی عبد الله علیه السلام:

ما تقول فی رجل سبابة لعلی علیه السلام؟ قال: فقال لی: «حلال الدم والله لو لا أن تعم به بریئاً، قال: قلت: لأیّ شیء یعم به برئیاً؟ قال: یقتل مؤمن بکافر»(1).

فقد جعلت الروایة سابّ علی علیه السلام حلال الدم، وهو عبارة أخری عن هدر دمه.

إلی غیر ذلک من الروایات التی دلّت علی تفویض إجراء حکم قتل من سبّ النبی صلی الله علیه و آله أو أحد المعصومین علیهم السلام إلی عموم الناس، مع الأمن من الضرر.

قال المرتضی فی الانتصار: «مما کان الإمامیة منفردة به: القول بأنّ من سبّ النبی صلی الله علیه و آله مسلماً کان أو ذمیاً قتل فی الحال»(2).

قال ابن زهرة: «ویقتل من سبّ النبی صلی الله علیه و آله وغیره من الأنبیاء أو أحد الأئمة علیهم السلام، ولیس علی من سمعه فسبق إلی قتله من غیر استئذان لصاحب

ص:392


1- (1) وسائل الشیعة 215:28، أبواب حد القذف، ب 27، ح 1.
2- (2) الانتصار: 480.

الأمر سبیل، کلّ ذلک بدلیل إجماع الطائفة»(1).

قال المحقق الحلی: «یقتل من سبّ النبی صلی الله علیه و آله، وکذا من سبّ أحد الأئمة علیهم السلام، ویحلّ دمه لکلّ سامع إذا أمن»(2).

وکذا قال فی الشرائع(3) ، وأیضاً الفاضل الآبی فی کشف الرموز(4) ، والعلّامة فی التبصرة(5) ، وغیرها من کلمات العلماء.

ولکن توجد روایة استظهر منها بعض العلماء اشتراط الاستئذان من الحاکم الشرعی الجامع للشرائط، وهی روایة عمار السجستانی، عن أبی عبد الله علیه السلام أنّ عبد الله بن النجاشی قال له - وعمار حاضر -: «إنّی قتلت ثلاثة عشر رجلاً من الخوارج کلّهم سمعته یبرء من علی بن أبی طالب علیه السلام، فسألت عبد الله بن الحسن فلم یکن عنده جواب وعظم علیه، وقال: أنت مأخوذ فی الدنیا والآخرة، فقال أبو عبد الله علیه السلام:

وکیف قتلتهم یا أبا بحیر؟ فقال: منهم من کنت أصعد سطحه بسلّم حتّی أقتله، ومنهم...، وقد استتر ذلک علیّ، فقال أبو عبد الله علیه السلام: لو کنت قتلتهم بأمر الإمام لم یکن علیک شیء فی قتلهم، ولکنک سبقت الإمام فعلیک ثلاثة عشر شاة

ص:393


1- (1) غنیة النزوع: 428.
2- (2) المختصر النافع: 221.
3- (3) شرائع الإسلام 948:4.
4- (4) کشف الرموز 567:2.
5- (5) تبصرة المتعلّمین: 249.

تذبحها بمنی، وتتصدّق بلحمها لسبقک الإمام، ولیس علیک غیر ذلک»(1).

إلّا أنّ هذه الروایة فیها مشکلة سندیة ودلالیة، حیث لا هی تامّة سنداً ولا واضحة الدلالة علی المطلوب، قال السیّد المرعشی النجفی: «ثمّ فی هذه الموارد حیث یقتل الساب، هل یشترط استئذان الحاکم أو یجوز أو یجب ذلک مطلقاً أم مع الأمن من الخوف؟

ذهب المشهور إلی عدم الاستئذان، کما هو ظاهر الروایات الشریفة، إلّا أنّ شیخنا المفید و العلّامة الحلی (قدس سرهما) قالا بالاستئذان من الإمام المعصوم علیه السلام أو نائبه الخاص أو العام کالفقیه الجامع للشرائط، ومستندهما روایة عمار السجستانی، إلّا أنّ السند فیه مجاهیل، والروایة متعرّضة للتبرّی، وکلامنا فی السبّ، وقد أعرض عنها الأصحاب، فللجمع یقال: بحملها علی الاستحباب، وربما کان اللازم احترام الإمام علیه السلام ومنه الاستئذان، فالمختار عدم وجوب الاستئذان فی قتل الساب لله ولرسوله والأمیر وفاطمة الزهراء والأئمة علیهم السلام»(2).

قال السیّد الإمام الخمینی: «من سبّ النبی صلی الله علیه و آله - والعیاذ بالله - وجب علی سامعه قتله، مالم یخف علی نفسه أو عرضه أو نفس مؤمن أو عرضه، ومعه لا یجوز، ولو خاف علی ماله المعتدّ به أو مال أخیه کذلک جاز ترک

ص:394


1- (1) وسائل الشیعة 230:29، باب دیة الناصب، ح 1.
2- (2) القصاص علی ضوء الکتاب والسنّة 332:1.

قتله، ولا یتوقف ذلک علی إذن من الإمام علیه السلام أو نائبه، وکذا الحال لو سبّ بعض الأئمة علیهم السلام»(1).

قال السیّد الخوئی: «یجب قتل من سبّ النبی صلی الله علیه و آله علی سامعه مالم یخف الضرر علی نفسه أو عرضه أو ماله الخطیر ونحو ذلک، ویلحق به سبّ الأئمة علیهم السلام وسبّ فاطمة الزهراء علیها السلام، ولا یحتاج جواز قتله إلی الإذن من الحاکم الشرعی»(2).

والنتیجة: أنّه تبیّن من خلال جمیع ما تقدّم أنّ سابّ النبی صلی الله علیه و آله أو أهل بیته علیهم السلام فإنّ حکمه القتل، ولا یرفع أمره إلی الحاکم الشرعی، فهذا المورد أحد الموارد المستثناة من القاعدة المتقدّمة، وهی ضرورة الرجوع إلی الحاکم الشرعی فی تنفیذ الأحکام القضائیة وإجراء الحدود الإلهیة.

وهناک موارد أخری لیس هنا محلّ بحثها، من قبیل: مدّعی النبوّة.

إشکالات وردود:

ذکرت فی المقام بعض الإشکالات علی تفویض إجراء وتنفیذ الأحکام القضائیة لعموم الناس.

الإشکال الأوّل: أنّ الحکم بإهدار دم المرتد لیس فیه إلّا روایة واحدة،

ص:395


1- (1) تحریر الوسیلة 429:2.
2- (2) تکملة منهاج الصالحین، المطبوع فی ذیل المنهاج: 43.

وفیها مشاکل سندیة ودلالیة.

الرد: تبیّن من خلال ما تقدّم أنّ هذا الإشکال عبارة عن دعوی لا أساس لها، ولا تصمد أمام البحث العلمی، حیث تقدّم أنّ هناک مجموعة من الروایات الصحیحة الدالة علی وجوب قتل المرتد، وأنّ دمه مباح لمن سمعه، کما فی صحیحة الحسین بن سعید، حیث سئل الإمام الرضا علیه السلام عن رجل ولد علی الإسلام ثمّ کفر وأشرک هل یستتاب، أو یقتل ولا یستتاب؟ فکتب علیه السلام: یقتل. وکما فی صحیحة عمار الساباطی، عن أبی عبد الله علیه السلام أنّ کلّ مسلم بین المسلمین ارتدّ عن الإسلام، وجحد محمّداً صلی الله علیه و آله نبوّته وکذّبه فإنّ دمه مباح لمن سمع ذلک منه، إلی غیر ذلک من الروایات، هذا بالإضافة إلی إجماع الطائفة علی ذلک.

الإشکال الثانی: أنّ تشخیص حقیقة الارتداد عن الإسلام، أو تشخیص المعنی واللفظ الذی یحقق سبّ النبی صلی الله علیه و آله من المسائل التخصصیة العلمیة التی لا یدرکها ویحیط بأبعادها إلّا أصحاب الاختصاص، فکیف یمکن أن یفوّض ذلک إلی عموم الناس؟! فإنّ مثل تشخیص أنّ المرتد الفطری هل هو الذی بلغ مسلماً أو أنّه یکفی أن یولد لأبوین مسلمین؟ وإذا کان تکفی الولادة فهی لأبوین مسلمین أو یکفی أحدهما؟ أو مثل أنّ منکر الضروری هل یعتبر مرتداً أو لا؟ وإذا کان یعتبر مرتداً فما هو معنی الضروری وحقیقته؟ وهکذا هناک مجموعة من المسائل الاجتهادیة التی لا یمکن أن تفوّض إلی عوام الناس، هذا بالإضافة إلی وقوع الاختلاف بین المجتهدین

ص:396

فی تحدید بعض الجزئیات المتقدّمة.

الرد: أوّلاً: أنّ هناک مجموعة من المسائل الاتّفاقیة الواضحة التی یفهمها کلّ شخص، من قبیل: الإنکار الصریح لأصل الإسلام، أو لأصل وجود الخالق، أو لبعض ضروریات الدین التی یعرفها حتّی غیر المسلمین بأنّها من أصل وأساسیات الدین الإسلامی، أو من قبیل: بعض الألفاظ التی تحقق السبّ والإهانة للرسول الأعظم صلی الله علیه و آله أو أحد أهل بیته علیهم السلام، فهذه موارد اتّفاقیة لا خلاف فیها ولا تحتاج إلی اجتهاد أو إعمال نظر.

ثانیاً: أنّ هذا الإشکال فیه خلط بین المفهوم والمصداق؛ وذلک لأنّه لیس المطلوب من المکلّف العادی أن یحدد مفهوم المرتد وشرائط الارتداد وما یحقق ذلک، وإنّما المطلوب من المکلّف هو تطبیق الحکم الشرعی علی موضوعه الخارجی، فإنّ المکلّف کما یأخذ أصل الحکم من الحاکم الجامع للشرائط کذلک یأخذ شروط ذلک الحکم وأبعاده المختلفة بحسب ما یراه المجتهد الذی قلّده، فإنّ المکلّف عند ما یرجع إلی مقلّده یجده یفتی بوجوب قتل المرتد وسابّ النبیّ صلی الله علیه و آله، ویجده یفتی بأنّ المرتد الفطری هو الذی ولد لأبوین مسلمین أو لأحدهما، وهو الذی أنکر ضروریاً من ضروریات الدین، وأنّ الضروری هو الذی یکون بمعنی کذا وکذا، فعند ما یری المکلّف أنّ جمیع هذه الشروط قد تحققت فی شخص معیّن، عندها یتحتم علیه تنفیذ ذلک الحکم الشرعی القضائی من دون الحاجة إلی الحاکم الشرعی والاستئذان منه، فعدم الرجوع إلی الحاکم الشرعی فی

ص:397

مجرد التنفیذ لا فی تحدید الحکم والمفاهیم والشروط.

الإشکال الثالث: أنّ الروایات التی تدلّ علی تفویض إجراء وتنفیذ الأحکام القضائیة إلی عموم الناس غیر معتبرة.

الرد: هذه دعوی لا تقل جزافیة عن سابقاتها، حیث تقدّم أنّ هناک مجموعة من الروایات الصحیحة والمعتبرة علی تفویض ذلک إلی عموم الناس، وقد تقدّم عرض تلک الروایات فی بحث المرتد وسابّ النبیّ صلی الله علیه و آله، بالإضافة إلی مجموعة من الروایات الأخری التی فوّضت ذلک إلی عموم الناس فی غیر هذین الموردین أیضاً، کما فی مدّعی النبوّة.

الإشکال الرابع: أنّ إجراء الحدود له ضوابط لابدّ من تحدیدها ومراعاتها حین التنفیذ، فمثلاً: هل یقتل المرتد أو الساب شنقاً أو رمیاً أو ضرباً أو بالسکین أو یفتک به کیفما اتّفق؟ فهذه أمور لا یتیسّر لعامّة الناس البت فیها.

الرد: لیس المطلوب من عامّة الناس الاجتهاد فی ذلک، بل یکفیهم التقلید والرجوع إلی المجتهد الجامع للشرائط فی کیفیة التنفیذ، فالکلام هنا نفس الکلام فی الردّ علی الإشکال الثانی المتقدّم.

الإشکال الخامس: أنّ تنفیذ حکم الإعدام والقتل من قبل عموم الناس فی مثل هذه الموارد، لو کانت فیه مصلحة فهی فیما سبق من الأزمان المتقدّمة، ولیست کذلک فی زماننا المعاصر، خصوصاً مع وجود وسائل

ص:398

الإعلام الحدیثة التی تنشر کلّ شیء، وهذا یؤدّی إلی وهن الدین.

الرد: أوّلاً: أنّ حلال محمّد صلی الله علیه و آله حلال إلی یوم القیامة وحرامه کذلک، فما کان فیه مصلحة سابقة ولم یأت دلیل آخر علی خلافه ولم ینط بالعرف والظروف الخارجیة فإنّ مصلحته باقیة.

ثانیاً: لا یوجد أیّ دلیل علی انتفاء المصلحة فی هذه الأزمان المتأخّرة، حیث تبقی هذه دعوی بلا دلیل.

ثالثاً: لو حکّمنا نظر الآخرین فی أحکام الدین لما کان هناک دین أصلاً، فقد أشکل أعداء الدین علی أوضح الأحکام الإسلامیة الاتّفاقیة بین المسلمین، کمسائل القصاص والحج والإرث وغیرها.

فلابدّ أن یکون المدار علی الدلیل فإن تمّ فهو وإلّا فلا، وقد تقدّم تمامیة ذلک.

الإشکال السادس: أنّ القتل والإعدام والخشونة لا تبعث علی الفکر والتدبّر، بل علی العکس فإنّها تؤدّی إلی التحجّر وعدم التفکّر، فهی یمکن أن تکون حافظة للدین فی فترات معیّنة إلّا أنّها تضرّ بالدین مستقبلاً وتنفّر الناس عنه.

الرد: أوّلاً: أنّ الدین دین الله تعالی وهو أدری بدینه، وأعلم بما ینفّر من الدین وما یرغّب فیه، وأعلم بما یحفظ الدین مما یضرّبه، فبما أنّ الدلیل قد تمّ علی ذلک فلا سبیل إلّا بالأخذ به.

ص:399

ثانیاً: أنّ الأمر علی العکس تماماً، فإنّ هذا الحکم - وخصوصاً جعل تنفیذه بید عموم الناس - یؤدّی إلی حفظ الدین، وسدّ الطریق علی من یرید الاستهانة بالدین، ویجعله دیناً خالیاً من البراهین المقنعة والأدلة القویة الواضحة بالدخول والخروج منه، اعتباطاً وتشهیاً أو بقصدٍ وخبث سریرةٍ.

ثالثاً: أنّ التاریخ یثبت خلاف ذلک، فإنّ الأحکام المتقدّمة لم تکن ولیدة الساعة، أو أنّها اکتشفت فی فترات متأخّرة، بل هی کانت منذ بدایات الإسلام الحنیف وما زالت إلی الیوم، ولم نر الإسلام قد تحوّل إلی دین تحجّر، بل هو باتّساع دائم، وفکر متّقد وحیویة علمیة وحریة فکریة.

وأمّا بعض الدعوات المغرضة من هنا وهناک فهی کانت وما زالت وستبقی، وهذه خطوات الشیطان یمنّی بها أولیاءه.

الإشکال السابع: أنّ تفویض إجراء حکم المرتد أو سابّ النبی صلی الله علیه و آله إلی عموم الناس یوجب اختلال النظام والهرج والمرج، حیث إنّه یمکن لأیّ شخص أن یقتل آخر ویدّعی أنّه ارتدّ فقتله، أو أنّه سبّ النبی صلی الله علیه و آله فأقام علیه الحد، وحینئذ لا یبقی حجر علی حجر، وإن قیل له: ما هو الدلیل علی ارتداده أو سبّه النبی صلی الله علیه و آله؟ فإنّه یقول: أنا سمعته، وأنتم أذنتم لی بقتله، فلا یوجد مائز بین الحقّ والباطل، فلا یمکن القول حینئذ بتفویض الحکم إلی عموم الناس.

الرد: أنّ من قتل شخصاً وادّعی أنّه مرتد أو سابّ للنبی صلی الله علیه و آله فهو لا یخرج عن أحد احتمالین:

ص:400

الاحتمال الأوّل: أن لا یکون القاتل متعرّضاً لأیّ ضرر بسبب قتله لهذا الشخص، وحینئذ لا فرق فی أنّه قتله لأجل الارتداد أو لأجل شیء آخر - إلّا فی جهة الثواب والعقاب الأخروی - أی: أنّه لو کان القاتل فی مأمن من الضرر فلا داعی لأن یقول: إنّه قتله لأجل ارتداده أساساً.

ولا فرق حینئذ بین أن تکون هناک بیّنة ودلیل علی الارتداد أو لم تکن، فلا یرد الإشکال فی هذه الحالة أساساً، وهو واضح، ولا حاجة لأن یدّعی القاتل أنّه قتله لأجل ارتداده، فإذا ادّعی ذلک فالقرائن علی صدقه.

الاحتمال الثانی: أن یکون القاتل متعرّضاً للضرر بسبب هذا القتل، فإن کان الضرر من الحاکم الجائر أو من عشیرة وعصبة المقتول بحیث لا ینفع معهم دلیل أو برهان علی ارتداد المقتول، فهنا لا یجوز القتل أساساً، حیث اشترطت الروایات الأمن من الضرر، وحینئذ لا یمکن أن نتصوّر أنّ القاتل یضع نفسه هذا الموضع ویدّعی أنّ المقتول کان مرتداً أو سابّاً للنبی صلی الله علیه و آله.

وأمّا إن کان الضرر من الحاکم العادل بحیث أقیمت الدعوی علی القاتل بأنّه قتل نفساً بغیر ذنب، فهنا لاتشفع له فتوی الفقیه بعدم لزوم الإذن من الحاکم الشرعی بقتل المرتد أو سابّ النبی صلی الله علیه و آله؛ وذلک لأنّ هذه الفتوی مقیّدة بعدم الضرر علی النفس، فلا تکون هی بنفسها رافعة للضرر المقیّدة هی به، فإنّه لو أقیمت علیه دعوی فإنّ القاضی یتعامل معها کما یتعامل مع بقیة الدعاوی بالبراهین والأدلة والشواهد الشرعیة، فإن لم تکن له حجّة فهو لیس بمأمن من الضرر والعقاب، وبذلک لا یمکن لأیّ شخص

ص:401

أن یقتل شخصاً آخر ثمّ یدّعی علیه أنّه ارتدّ أو سبّ النبی صلی الله علیه و آله، بل لابدّ أن یقیم الدلیل علی ذلک، وإلّا أقیم علیه الحد.

من هنا فلا یمکن استغلال فتوی الفقیه بعدم لزوم الإذن من الحاکم الشرعی لإقامة الحدّ علی المرتد وسابّ النبی صلی الله علیه و آله، وتطبیقها علی النوایا السیئة، وبذلک یتبیّن أنّ هذه الفتوی وهذا الحکم لا یبعث علی الهرج والمرج کما تصوّره البعض.

نعم، لو قتل شخص شخصاً بسبب الارتداد ثمّ لم یستطع إقامة البیّنة علی ذلک فأقیم علیه الحد، فإنّ هذا لا یعنی أنّه مذنب أمام الله تعالی، بل ربما یجازیه الله تعالی خیراً علی فعلته ونیّته بحسب الواقع، فعالَم الواقع غیر عالم البیّنات والشواهد والأدلة الذی هو حیّز دائرة الحکم والقضاء، وهو معنی النبوی المشهور: «إنّما أقضی بینکم بالبیّنات والأیمان... فأیما رجل قطعت له من مال أخیه شیئاً، فإنّما قطعت له به قطعة من النار»(1).

الإشکال الثامن: أنّ هدر دم المرتد وسابّ النبی صلی الله علیه و آله لیس هو حکم الله تعالی، وإنّما هو حکم الفقهاء.

الرد: أوّلاً: أنّ هناک مجموعة کبیرة من الروایات دلّت علی هدر دم هؤلاء، فإذا أضفنا إلیهما مثل مدّعی النبوّة حیث نصّت الروایات علی إهدار دمه، فإنّه یمکن أن نتمسّک بالتواتر المعنوی لتلک الأحکام، أو لا أقل من

ص:402


1- (1) وسائل الشیعة 232:27، باب أنّه لا یحلّ لمن أنکر حقاً، ح 1، والسند صحیح.

التواتر الإجمالی - علی القول به - وحینئذ سوف یکون هذا الحکم هو حکم الله تعالی قطعاً وواقعاً لا ظاهراً وظنّاً.

ثانیاً: ما هو المقصود من قول المستشکل أنّ هذا هو حکم الفقهاء؟

هل یقصد أنّه رأی شخصی للفقهاء اعتمدوا فیه علی أذواقهم وسلائقهم الشخصیة؟ فإن کان هذا هو قصده فهذه تهمة خطیرة لفقهاء الأمّة ککل، وعلی هذه الدعوی لا یبقی حجر علی حجر، وهو واضح البطلان. وأمّا إن کان قصده أنّ هذا حکم الفقهاء؛ لأنّه حکم ظاهری ظنّی، حیث اعتمدوا فیه علی حجیة الظهور وحجیة خبر الواحد، فإنّ هذا لا یصلح للإشکال أساساً؛ لأنّ الحکم الظاهری حجّة فی نفسه، وعلیه العمل، وقد دلّت الأدلة القطعیة علی ذلک، بل إنّ نفس هذا المستشکل یعتمد علی حجیة الظهور وحجیة خبر الواحد، بل لا مناص عنهما فی الفقه هذا أوّلاً.

وثانیاً: أنّ الأخبار فی مورد المرتد وسابّ النبی صلی الله علیه و آله وأمثالهما کثیرة، فقد ادّعی فیها التواتر - کما تقدّم - ولا أقل من الاستفاضة فهی أکثر من کونها خبر آحاد علی کلّ حال، وأمّا من جهة الدلالة فإنّ بعض تلک الأخبار صریحة فی المطلوب.

فإذا أردنا أن نحسن الظن بهذا المستشکل حملنا کلامه علی الجهل بالقواعد والأصول العلمیة.

ویتبیّن بذلک بطلان جمیع الإشکالات المزعومة فی المقام

ص:403

ص:404

فهرس مصادر مقال الجهة المصدّرة للأحکام القضائیة والجهة المنفّذة لها

1 - آداب القضاء و أحکامه، محمّد یزدی.

2 - الانتصار، السید المرتضی، تحقیق و نشر: مؤسسة النشر الإسلامی، سنة الطبع 1415 ه -، قم - إیران.

3 - النهایة، الشیخ الطوسی، نشر: انتشارات قدس محمّدی، قم - إیران.

4 - تحریر الأحکام، العلامة الحلّی، تحقیق: الشیخ إبراهیم البهادری، نشر: مؤسسة الإمام الصادق علیه السلام، الطبعة الأولی 1420 ه -، قم - إیران.

5 - تحریر الوسیلة، الإمام الخمینی، نشر: مؤسسة النشر الإسلامی، الطبعة العاشرة 1425 ه -، قم - إیران.

6 - تذکرة الفقهاء، العلامة الحلّی، تحقیق و نشر: مؤسسة آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث، الطبعة الأولی 1414 ه -، قم - إیران.

7 - تکملة منهاج الصالحین، السید الخوئی، نشر: مدینة العلم، الطبعة الثامنة والعشرون 1410 ه -، قم - إیران.

ص:405

8 - تهذیب الأحکام، الشیخ الطوسی، تحقیق و تعلیق: السید حسن الخرسان، نشر: دار الکتب الإسلامیة، الطبعة الثالثة 1364 ش، طهران - إیران.

9 - الجعفریات (الأشعثیات) محمّد بن الأشعث الکوفی، نشر: مکتب نینوی، طهران - إیران.

10 - جواهر الکلام، الشیخ محمّد حسن النجفی، مراجعة و تصحیح: رضا جعفر مرتضی العاملی و محمّد علی حاتم، نشر: دار إحیاء التراث العربی، الطبعة الأولی 1430 ه -، بیروت - لبنان.

11 - دعائم الإسلام، القاضی النعمان، تحقیق: آصف فیضی، نشر: دار المعارف، سنة الطبع 1963 م - 1383 ه -، القاهرة - مصر.

12 - رجال النجاشی، الشیخ أحمد بن علی النجاشی، نشر: مؤسسة النشر الإسلامی، الطبعة الخامسة 1416 ه -، قم - إیران.

13 - الرسائل الرجالیة، محمّد الکلباسی، تحقیق: محمّد حسین الدرایتی، نشر: دار الحدیث، الطبعة الأولی 1422 ه -، قم - إیران.

14 - رسالة نقد مجازات مرتد وسابّ النبیّ صلی الله علیه و آله، محسن کدیور، سنة الطبع 1390 ش.

15 - زید بن علی، الشیخ رافد التمیمی، نشر: مرکز الأبحاث العقائدیة، الطبعة الأولی 1429 ه -، قم - إیران.

ص:406

16 - شرائع الإسلام، المحقق الحلّی، تعلیق: السید صادق الشیرازی، نشر: انتشارات استقلال، الطبعة الثانیة 1409 ه -، طهران - إیران.

17 - صحیفة نور، الإمام الخمینی.

18 - العروة الوثقی، السید محمّد کاظم الیزدی، تحقیق و نشر: مؤسسة النشر الإسلامی، الطبعة الأولی 1417 ه -، قم - إیران.

19 - غنیة النزوع، ابن زهرة الحلبی، تحقیق: الشیخ إبراهیم البهادری، نشر: مؤسسة الإمام الصادق علیه السلام، الطبعة الأولی 1417 ه -، قم - إیران.

20 - الغیبة، الشیخ الطوسی، تحقیق: الشیخ عبد الله الطهرانی والشیخ علی أحمد ناصح، نشر: مؤسسة المعارف الإسلامیة، الطبعة الأولی 1411 ه -، قم - إیران.

21 - فقه الصادق، السید محمّد صادق الروحانی، نشر: منشورات الاجتهاد، الطبعة الرابعة 1429 ه -، قم - إیران.

22 - القصاص علی ضوء الکتاب والسنّة، السید عادل العلوی، تقریرات بحث السید المرعشی النجفی، نشر: مکتبة السید المرعشی، سنة الطبع 1415 ه -، قم - إیران.

23 - القضاء فی شرح العروة الوثقی، محمّد الیزدی.

ص:407

24 - القضاء فی الفقه الإسلامی، السید کاظم الحائری، نشر: مجمع الفکر الإسلامی، الطبعة الأولی 1415 ه -، قم - إیران.

25 - کشف الرموز، الفاضل الآبی، تحقیق: الشیخ علی پناه الإشتهاردی، والحاج آغا حسین الیزدی، نشر: مؤسسة النشر الإسلامی، سنة الطبع 1408 ه -، قم - إیران.

26 - کمال الدین و تمام النعمة، الشیخ الصدوق، تصحیح و تعلیق: الشیخ علی أکبر الغفاری، نشر: مؤسسة النشر الإسلامی، سنة الطبع 1405 ه -، قم - إیران.

27 - اللمعة الدمشقیة، محمّد مکی العاملی (الشهید الأوّل)، نشر: دار الفکر، الطبعة الأولی 1411 ه -، قم - إیران.

28 - مبانی تکملة المنهاج ( ضمن موسوعة السید الخوئی)، أبو القاسم الخوئی، نشر: مؤسسة إحیاء آثار الإمام الخوئی، الطبعة الثالثة 1428 ه -، قم - إیران.

29 - المختصر النافع، المحقق الحلّی، نشر: مؤسسة البعثة، الطبعة الثالثة 1410 ه -، طهران - إیران.

30 - المراسم العلویة فی الأحکام النبویّة، الشیخ حمزة الدیلمی، تحقیق: السید محسن الحسینی الأمینی، نشر: المعاونیة الثقافیة للمجمع العالمی لأهل البیت علیهم السلام، سنة الطبع 1414 ه -، قم - إیران.

ص:408

31 - مسالک الإفهام، زین الدین بن علی العاملی (الشهید الثانی)، تحقیق و نشر: مؤسسة المعارف الإسلامیة، الطبعة الأولی 1413 ه -، قم - إیران.

32 - مستدرک الوسائل، المیرزا حسین النوری، تحقیق و نشر: مؤسسة آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث، الطبعة المحققة الأولی 1408 ه -، قم - إیران.

33 - مستند الشیعة فی أحکام الشریعة، أحمد النراقی، نشر و تحقیق: مؤسسة آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث، الطبعة الأولی 1415 ه -، قم - إیران.

34 - المقنعة، الشیخ المفید، نشر و تحقیق: مؤسسة النشر الإسلامی، الطبعة الثانیة 1410 ه -، قم - إیران.

35 - النهایة، الشیخ الطوسی، نشر: انتشارات قدس محمّدی، قم - إیران.

36 - وسائل الشیعة، الحرّ العاملی، نشر و تحقیق: مؤسسة آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث، سنة الطبع 1414 ه -، قم - إیران.

ص:409

ص:410

الفهرس

حکم قتل المرتد (شبهات وردود)

بقلم: آیة الله الشیخ محمّد جواد الفاضل اللنکرانی (دامت برکاته)

المحور الأوّل: قتل المرتد المستفاد من القرآن 8

المحور الثانی: قتل المرتد المستفاد من الروایات 24

المحور الثالث: هل قتل المرتد إشاعة للفوضی؟ 33

المحور الرابع: هل هذا الحکم وهن للدین؟ 41

المحور الخامس: هل إقامة الحدود مشروط بحضور المعصوم علیه السلام؟ 44

المحور السادس: هل یتنافی وجوب قتل المرتد مع رحمة النبی صلی الله علیه و آله 45

القسم ثانی

إقامة الحدود والتعزیرات

هل یجوز إقامة الحدّ علی المذنب فی الدول غیر الإسلامیة؟

بقلم: الشیخ لؤی المنصوری

آراء الفقهاء فی المسألة 61

هل یخصّص الحد بغیر القتل؟ 69

حکم المقیم فی الأرض غیر الإسلامیة 71

ص:411

حکم إبدال التعزیر بالغرامة المالیة وأثر ذلک فی التهاون بالجریمة

بقلم: الشیخ لؤی المنصوری

تفریق الفقهاء بین البیّنة والإقرار 84

هل عفو الإمام فی صورة الإقرار مشروط بتوبة المقر؟ 91

هل یجوز التعزیر بالغرامة المالیة؟ 102

الأحکام التی توجب وهن الدین (قتل المرتد وساب النبی صلی الله علیه و آله)

بقلم: الشیخ رافد التمیمی

نقاط محوریة 114

النقطة الأولی: الرحمة والغضب فی الدین الإسلامی 114

النقطة الثانیة: حقیقة الحکم الظاهری 116

النقطة الثالثة: حکم المرتد وسابّ النبی صلی الله علیه و آله 117

النقطة الرابعة: الوهن فی الدین 119

معنی العرف 120

أقسام العرف 121

شرائط العرف 121

الإشکال الأوّل: موهنیة حکم قتل المرتد وسابّ النبی صلی الله علیه و آله للدین 122

التفریق بین أصل الحکم وبین إجراء الحکم. 124

أصل الحکم بالقتل یوجب الوهن 124

الأصل فی الثابت والمتغیّر من الأحکام 126

موازین الثابت والمتغیّر 127

ص:412

تنفیذ الحکم یوجب الوهن 133

الإشکال الثانی: الأمر العقلائی مقدّم علی فتاوی الفقهاء 134

الإشکال الثالث: لا فرق بین حکم قتل المرتد وسابّ النبی صلی الله علیه و آله 138

الإشکال الرابع: ابتعاد الفقهاء عن موازین نبی الرحمة 140

حکم عقوبة الاتّجار بالإنسان الحر

بقلم: الشیخ لؤی المنصوری

رأی الفقهاء فی المسألة 150

الرأی المختار 159

القسم الثالث

حدّ السرقة

زراعة العضو المقطوع فی حدّ السرقة

بقلم: الشیخ محمّد رضا السلامی

حقّ الأولویة بالبدن وأعضائه 170

شرطیة الحرز فی حکم قطع ید السارق

بقلم: الشیخ رافد التمیمی

شرطیة الحرز 215

الإشکالات الواردة علی هذا الشرط 216

تعریف الحرز 218

عرض الروایات فی المقام 221

الروایات المعارضة 227

المستفاد من الروایات فیما یرتبط بالمقام 234

ص:413

حکم تعدد السارقین لمال واحد

بقلم: الدکتور الشیخ حکمت الرحمة

شروط الحدّ للسارق المنفرد 248

أدلّة القول بالقطع 253

أدلّة القول بعدم القطع 255

القسم الرابع

السجن والتعزیرات

البحث فی السجن وأحکامه فی الشریعة

بقلم: الشیخ لؤی المنصوری

معنی السجن لغة 279

تشریع السجن فی الإسلام 280

موارد الحبس الواردة فی الشریعة الإسلامیة 284

أدلة شرعیة الحبس فی الفقه الإسلامی 285

حقوق السجین فی الإسلام 308

المطلب الأوّل: مکان السجین 308

المطلب الثانی: فی حقوق المحبوس 310

عرض بعض المؤخذات حول الحبس فی الشریعة الإسلامیة 316

الجهة المصدّرة للأحکام القضائیة والجهة المنفّذة لها

بقلم: الشیخ رافد التمیمی

القاضی المنصوب وقاضی التحکیم 342

موارد جواز نقض الحکم الأوّل 354

ص:414

محکمة التمییز 366

اختلاف القانون عن الرسالة العملیة 370

بحث تطبیقی فی المرتد وسابّ النبی صلی الله علیه و آله 374

أدلة قتل المرتد أو سابّ النبی صلی الله علیه و آله 374

أدلة قتل المرتد الفطری 375

أدلة قتل سابّ النبی صلی الله علیه و آله 376

المورد الأوّل: المرتد 389

وجوب قتل المرتد 389

الجهة المنفّذة لحکم المرتد 389

المورد الثانی: سابّ النبی صلی الله علیه و آله 391

الفهرس 411

ص:415

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.