أصول إستنباط العقائد فی نظریة الإعتبار

اشارة

پدیدآور: سند، محمد

محرر: تمیمی، علی

محرر: رضوی، محمد حسن

موضوع: حسن و قبح عقلی- اعتباریات

زبان: عربی

تعداد جلد: 2

ناشر: الأمیرة

مکان چاپ: بیروت- لبنان

سال چاپ: 1433 ه. ق

ص :1

المجلد 1

اشارة

ص :2

ص :3

ص :4

ص :5

ص :6

ص :7

ص :8

تقدیم

بسم اللّه الرحمن الرحیم

الحمد للّه ربّ العالمین وصلّی اللّه علی محمّد وآله الطاهرین ولعنة اللّه علی أعدائهم أجمعین.

أمّا بعد، فإنّ لمسألة التحسین والتقبیح العقلیّین خصوصیّات، تحتلّ المسألة مع ملاحظتها مکانة خاصّة، فتارة تعدّ من المسائل الکلامیّة وأخری من المسائل الاُصولیّة وثالثة من مبادئ المسائل الأخلاقیّة.

فبما أنّها تقع فی طریق معرفة فعله سبحانه من حیث الجواز والإمتناع - حسب حکمته البالغة - تعدّ مسألة کلامیّة وتترتّب علیها ثمرات.

وبما أنّها صغری لقاعدة الملازمة بین حکمی العقل والشرع، یعدّ البحث عن الموضوع من المبادئ الأحکامیّة التی یبحث فیها عن عوارض الأحکام الخمسة، والبحث عن الملازمة من المسائل الاُصولیّة التی لها دورها فی إستنباط کثیر من الأحکام العملیّة.

وبما أنّ الإعتقاد بالحسن والقبح الذاتیّین هو الدّعامة الوحیدة أو الأهمّ للدّعوة

ص:9

إلی محاسن الأخلاق أو الکفّ عن مساوئها، تعدّ من مبادئ مسائل علم الأخلاق ولولا القول بالحسن والقبح الذاتیّین لما صحّ البحث عن الفضائل والرذائل فی نطاق وسیع.

فهذه الجهات الثلاث أعطت لمسألة الحسن والقبح مکانة مرموقة یبحث عنها العلماء، کلّ حسب اختصاصه ویطلب کلّ منها منشودته الضالة.

ولأجل ما لها من أهمیّة قد تعرّض لها - مبسوطاً - شیخنا الأستاذ المحقّق الفقیه سماحة آیة اللّه الشیخ محمّد سند البحرانی - أدام اللّه أیام إفاداته - فی مبحث العقائد والأصول بنطاق واسع.

ولمّا رأیتها طویلة الذیل، مترامیة الأطراف، أحببت أن أفردها وأُفصّلها عن سائر المباحث العقائدیّة والأصولیّة التی قمت بتحریرها من أبحاث شیخنا الأستاذ.

وقد تمّ - بحمد اللّه - تحریر هذه الرسالة وبسط القول فیها مع کثرة إشتغالاتی وأرجو من القرّاء الکرام، لو خطر ببالهم أنّ فی بیان بعض المطالب وتوضیحه نحو قصور واضطراب أن یسندوا ذلک إلیّ لا إلی شیخنا الأستاذ - مدّ ظلّه العالی - حیث إنّ مبانیه کانت عالیة وبراهینه علی إثبات مقاصده قویّة، ولکنّها فی مقام التقریر تتنزّل وتتقدّر بقدر إستفادة المقرّر واستعداده، وأسأل اللّه سبحانه وتعالی أن یعصمنی من النقص والزلل، وهو حسبی، إنّه نعم المولی ونعم النصیر.

قم المقدّسة 1417 ه

محمّد حسن الرضوی

ص:10

قبل الخوض فی المقصود نبحث فی أمور:

الأمر الأوّل: فی تقسیم العقل إلی العقل النظری والعملی

یعرّف العقل النظری بأنّه القوّة التی تدرک القضایا الباحثة عن الواقع بما هو واقع ولا ترتبط بعمل الفاعل المختار، شأنها الإدراک فقط ولها رأس مال تنطلق منه البدیهیّات أو الفطریّات، ویصل منهما الإنسان إلی النظریّات.

ولا یخفی أنّ العقل النظری الذی ینطلق من البدیهیّات هو معصوم فی بدیهیّاته،(1) أما فی نظریّاته قد یخطئ ولا یمکن أن یستعصم نظریّاته إلّا بالرجوع إلی البدیهیّات.

ص:11


1- (1) . حتّی أنّه عبّر العلماء بأنّ إدراک العقل لهذا المقدار من البدیهیّات نوع من الإلهام لأنّ حقیقة إدراک العقل للبدیهیّات - کما حرّر فی الفلسفة - بتوسّط الإلهام الغیبی.

ثم إنّه ربّما لم یتوصّل العقل البشری إلی إثبات مطلب من المطالب الإعتقادیّة فی قرن من القرون، ثمّ فی زمان لاحق یثبت ذلک أحد الأعلام بالبرهان العقلی، فیتوحش من ذکر البرهان من لا خبرة له بدعوی أنّه کیف لم یقم البرهان فی تلک القرون التی سبقت وبعد ذلک یتوصّل إلیه؟

ولکن بعد التأمّل یتّضح أنّه لا وجه للإستیحاش؛ وذلک لأنّ العقل یتنبّه بتوسّط سلسلة قافلة التکامل البشری إلی دلیل برهانی علی أمر من المعارف، لم یکن روّاد المعقول تمکّنوا من إقامة ذلک الدلیل والمهمّ النظر إلی صحّة المقدّمات التی یستدلّ بها، أمّا صرف أنّ القدماء لم یستطیعوا إقامة البرهان فهو أشبه بالمزاح.

وأمّا تعریف العقل العملی، فقد قیل إنّه القوّة المدرکة للقضایا التی ینبغی أن یقع العمل علیها تمییزاً له عن العقل النظری.

هل العقل العملی یغایر النظری أو یتحد معه؟

قال جماعة من الفلاسفة المتکلّمین بأنّ العقل العملی هو عین النظری إلّاأنّ هذه القوّة الواحدة بلحاظ المدرک تنشعب إلی النظری والعملی وإلّا لیس شأن العقل إلّاالإدراک.

وذهب جماعة أخری إلی أنّ العقل العملی یمتاز عن النظری بأنّ العملی قوّة أخری غیر قوّة العقل النظری، وهی قوّة باعثة عمّالة، لا أنّه فقط قوّة مدرکة.

والصحیح هو القول الثانی وعلیه الفارابی وأفلاطون وسقراط. بل ابن سینا فی بعض کلماته وإن کان فی بعض عبائره فی الإشارات یذهب إلی الأوّل.

والدلیل علی تغایر العقل النظری مع العقل العملی وجهان:

الأوّل: لا ریب فی أنّ من کمالات الإنسان سیطرة عقله علی القوی المادون،

ص:12

فإذا کان من کمالات الإنسان أن تخضع القوی المادون لقواه العقلیّة فیحنئذٍ تکون قواه العقلیّة المادون متأثّرة من العقل وللعقل نوع عمل فیها، فکیف ینفی ویقال إنّ العقل لیس شأنه إلّاالإدراک.

وبعبارة أخری: ما قرره وبرهنه الفلاسفة فی الحکمة العملیّة من أنّ کمال الموجود الإنسانی تخضّع القوی المادون لقوّة العقل العملیّة، یدلّ علی أنّ العقل عمّال فی ما دونه ولذا إذا کان الإنسان فی طریقه إلی الدرکات - لا الکمالات - فعقله هو الأسیر للقوی المادون أو منفعل عنها ومتأثّر بها.

وبعبارة ثالثة: إنّ القاعدة الفلسفیّة فی معرفة النفس وهی إثبات تعدّد قوی النفس باختلاف آثار وأفعال النفس، فکلّما شوهدت فی النفس أفعال وآثار مختلفة فیدلّ علی اختلاف المؤثّر، مثلاً إذا رُئی فی النفس إدراک حسّی، فهذا یدلّ علی قوّة إدراکیّة حسّیة فی النفس وإذا رُئی عن النفس شوق أو إدراک لمعنی وهمی، فهو یدلّ علی وجود القوّة الوهمیة؛ لأنّ سنخها یختلف مع سنخ الإدراک الحسّی، فإثبات قوی النفس یتمّ بتوسّط رؤیة معالیل متعدّدة فی النفس، وفی المقام أیضاً نری غیر الإدراک العقلی تأثیر العقل فی ما دونه أو تأثّر المادون عنه والتأثّر بلا تأثیر لا معنی له، فللإدراکات العقلیّة نوع فعل فی ما دونها، إذا کان الإنسان فی صراط التکامل.

الثانی: وقع بحث بین المناطقة والفلاسفة قدیماً وحدیثاً فی أنّه ما الفارق بین العلم التصدیقی والعلم التصوری وهل الحکم هو من أجزاء القضیّة المصدّق بها باعتبار أنّ التصدیق لا یتعلّق إلّابالقضیّة ولا یتعلّق بالصور الإفرادیّة، أم لا؟

والمنهج السائد فی المقام هو نظریّة صدر المتألّهین وهو أنّ التصدیق لیس إلّا الصورة الموجبة للإذعان، فکلّ من التصور والتصدیق هو تصوّر بالمعنی

ص:13

الأعمّ، غایة الأمر أنّ تلک الصورة التی فی التصدیق أیضاً صورة إدراکیّة إلّاأنّها توجب الإذعان. فالتصدیق لیس إلّاتصوّراً موجباً للإذعان.

ثمّ بنی علی ذلک أنّ الإذعان والحکم لیس جزءاً للقضیّة؛ لأنّ التصدیق هو صورة موجبة للإذعان حسب الفرض. فالإذعان لیس هو التصدیق، بل هو أثر التصدیق ولیس جزءاً للقضیّة. فهو فعل من أفعال النفس؛ حیث إنّ النفس بعد أن تتصوّر الموضوع والمحمول والنسبة بینهما وهذا المقدار لا زال مجرّد تصوّر، ثمّ إذا انقلب إلی تصوّر موجب للإذعان فإنّها تقوم بأخذ الموضوع ودمجه مع المحمول، وعندها تدمج الموضوع بالمحمول فی صورة واحدة وهو حکم النفس.

فتکون القضیّة التی هی متکوّنة من کافّة الأجزاء کمقدّمة إعدادیة للنفس لأن تقوم بفعلها وهو الدمج بین الموضوع والمحمول. وهذا هو الإذعان. والنفس لا تقدّم علی الإدماج بین الصور إلّاإذا أذعنت بالإرتباط بین الصور. وهذا الدمج لا یختصّ بالقضایا الحسّیة أو الوهمیّة، بل حتی فی القضایا العقلیّة. وهذا فعل عقلانی ونوع من الفعل للقوّة العاقلة؛ لأنّ الذی یقوم بدمج الصور العقلیّة لیس هو القوی المادون ومن ذلک یظهر أنّ من شؤون العقل الحکم أیضاً ولیس شأنه الإدراک فقط.

فالعقل آمر وناهٍ تکوینی طبعاً لا إنشائی؛ لأنّ الذی یؤثّر فی ما دونه فهو یبعث ما دونه - ویکون آمراً تکوینیاً لا إنشائیاً قد یحرّک وقد لا یحرّک - عند من تکون فطرته سلیمة تنقاد درجاته المادون لدرجات المافوق.

«فالعقل ما عبد به الرحمن واکتسب به الجنان» کما فی قول الکاظم علیه السلام فی حدیثه المعروف لهشام بن الحکم.

ویمکن أن یقال بأنّ العقل العملی هو وجود برزخی بین العقل النظری والقوی

ص:14

المادون، فلا یرتبط العقل النظری بالقوی المادون مباشرة وإنّما بتوسّط العقل العملی.

فالعقل النظری یدرک قضایا ذات نمطین: قضایا عملیّة فی الحسن والقبح وقضایا نظریّة لا ترتبط بالحسن والقبح، مثل «أنّ الوجود الإمکانیّ المادّی متناه».

وکمال العقل العملی أن ینقاد للعقل النظری، إذا کان ما یدرکه العقل النظری من قضایا صادقة ولو کان العقل یذعن بقضایا کاذبة، فلیس ذلک من کمال العقل بل من درکاته.

بقیت نکتة وهی أنّ الإیمان لیس إدراکاً صرفاً وإنّما هو إذعان، أی هو فعل العقل العملی ولیس هو فعل العقل النظری. ولذلک میّزنا بین الفحص والإدراک والإیمان؛ حیث قلنا بأنّ الفحص هو إستعداد العقل النظری وحرکة الفکر لأجل الإستلهام من العوالم العلویّة، والإدراک هو حضور صور المدرکات فی العقل النظری، والإیمان هو فعل العقل العملی ولذلک قلنا بأنّ الوجوب الشرعی والإلزام التشریعی بالإیمان وحتی بالتوحید لیس بدوری ولا ینحصر وجوبه بالعقل؛ لأنّ الدور إنّما یلزم لو کان وجوب الإدراک شرعیّاً، وأمّا إذا کان وجوب الإیمان فی المعارف شرعیّاً فلا یلزم الدور؛ لأن الإدراک یتمّ بإلزام العقل بالفحص وأمّا وجوب الإیمان فی التوحید وغیره من الأصول الإعتقادیّة فتشریعیّ، ووجهه أنّ أفعال النفس العملیّة ولو المتعلّقة بالعقلیّات هی موضوع الترغیب والترهیب والبشارة والإنذار والوعد والوعید، کی تقدّم النفس علی فعل الکمال وترک النقص.

ص:15

ص:16

الأمر الثانی: اعتباریّة الحسن والقبح وتولّد شبهتین

وفی ذیل التعریف المشهور للعقل العملی ینشأ الحدیث عن الحسن والقبح.

والمعروف أنّ الأشاعرة ینفون کون الحسن والقبح عقلیّین وإنّما هما اعتباریّان بجعل العقلاء واعتبارهم، بخلاف متکلّمی الإمامیّة، فیثبتون أنّ الحسن والقبح عقلیّان تکوینیّان فطریّان.

وأهمیّة هذا البحث من جهة ابتناء کثیر من مباحث علم الکلام علی نظریّة الحسن والقبح العقلیین، فإذا کانا اعتباریّین فلن تکون أدلّتهم واستدلالاتهم برهانیّة بل خطابیّة شعریّة.

وهذا الحدیث یثار بلغة جدیدة، لا سیّما وأنّه عدّة من الفلاسفة الإمامیّة من عهد ابن سینا إلی یومنا هذا یذهبون إلی أنّ مواد الحسن والقبح العقلیّین مأخوذة من المشهورات لا من الیقینیّات. فلیس لها واقع وراء تطابقهم، یعنی أنّها لیست تکوینیّة بل إعتباریّة. وهذا نوع من الإعتراف من الفلاسفة بعدم تکوینیّة الحسن والقبح العقلیّین وإنّ الأدلّة التی تثار منهما لیست من الأدلّة البرهانیّة.

بل ینجم من هذا إشکال آخر وإثارة علی الشریعة الإسلامیّة، حیث إنّ

ص:17

الشریعة الإسلامیّة مشتملة علی قوانین وتشریعات وتلک القوانین والتشریعات - کما یعترف المتکلّمون - أساسها عقلی، وإنّ الأحکام الشرعیّة ألطاف فی الأحکام العقلیّة، وأنّ الأحکام الشرعیّة لو علم بها العقل بملاکاتها لحکم بها.

وواضح أنّ تلک الأحکام فی الشریعة غالبها أحکام عملیّة حتی الأفعال الجانحیّة، والأحکام الإعتقادیّة وإن لم تکن جارحیّة فهی أیضاً ممّا ینبغی فعلها أو لا ینبغی فعلها.(1)

فالبنیة التحتیّة للأحکام الشرعیّة الفرعیّة والأصلیّة الإعتقادیّة هی أحکام عقلیّة من العقل العملی وهی حسن فعل شیء وقبحه. فإذا کان الحسن والقبح اعتباریّین ولیسا بتکوینیّین ولا الدلیل المرکّب منهما برهانیاً، وإذا کان أیضاً الإعتبار بید المعتبر، لا ثبات له، لعدم رجوعه إلی حقیقة واقعیّة وراء تطابق العقلاء وإنّما هو تابع لنظره. فالشریعة - والعیاذ باللّه الحقّ - لا ثبات لها، بل تدور مدار التطابق العقلائی المتغیّر حسب الأزمان والأمکنة. فالشبهة الزاعمة أنّ الشریعة دائمة التغیّر، لها انبساط وإنقباض، متولّدة من هذا القول؛ لأنّ أساس الشریعة مبتن علی الأحکام العقلیّة وإن کان لا یستکشفها العقل إلّابنحو الإجمال وبنحو الإنّ، إلّاأنّ البناء والأساس علی ذلک غیر ثابت. فالشریعة مبتنیة علی غیر الثابت وسیأتی البرهان علی بدیهیّة الحسن والقبح.

ص:18


1- (1) . إنّ قضایا العقل العملی فیها ارتباط بالعمل، بمعنی ینبغی أن یفعل أو لا ینبغی، ولکن المراد من الفعل أعم من الجانحی والجارحی ولذلک فإنّ الإذعان فی القضایا النظریّة عمل للعقل العملی.

الأمر الثالث: منشأ الإشتباه

قد اشتهرت النسبة إلی الفلاسفة أنّهم یقولون: إنّ الحسن والقبح من المواد المشهورة لا من المواد الیقینیّة. وهذه النسبة تتبّعناها تاریخیاً، فوجدنا أنّ النسبة خاطئة، نعم النسبة صحیحة فی الجملة من عهد ابن سینا إلی یومنا هذا وأمّا ما قبل ابن سینا فالنسبة خاطئة.

فالفلسفة الهندیّة التی ربّما تعدّ من أقدم الفلسفات البشریّة والکتاب الذی یعدّ مصدراً لهذه الفلسفة - کتاب (اوپانیشادها) وهو باللغة الهندیّة القدیمة ویقصد به (السرّ الأکبر) وهو جامع لتاریخ الفلسفة الهندیّة ومرادهم من السرّ الأکبر هو اللّه عزّ وجلّ - یستفاد منه أنّهم یذهبون إلی أنّ الحسن والقبح لیسا من المشهورات، بل من الفطریّات البدیهیّة.

وأمّا ابن سینا حیث إنّه عدّ الترجمان للفلسفة المتقدمة علیه، أی أنّ غالب کتبه وضعها لبیان مبانی المشّائین، إلّاأنّ ترجمته فی هذا الموضع لا تخلو إمّا عن الغفلة أو عن نوع من التحریف؛ حیث إنّه تتبّعنا رسائل أفلاطون وسقراط وأرسطو الذین هم روّاد الفلسفة الیونانیّة ووجدنا أنّهم قائلون بأنّ الحسن والقبح

ص:19

العقلیّین تکوینیّان لا أنّهما من المشهورات وکذلک الفارابی فی عهد الفلسفة الإسلامیّة ذهب إلی هذا فی کتابه المنطقیّات، إلّاأنّه لمّا وصلت النوبة إلی ابن سینا عدل عن ذلک من دون إشارة وتنبیه إلی ما سبقه من الأقوال.

وسبب ذلک غفلة من تأخّر عنه؛ لأنّ المعروف عن أکثر کتبه مثل الإشارات والشفاء والنجاة أنّها موضوعة لترجمة وبیان مبانی القدماء من المشّائین، والذی یأتی بعده لا یلتفت إلی أنّ هذه المسألة خلافیّة لعدم إشارة ابن سینا إلی ذلک، لشدّة الثقة العلمیّة بابن سینا.

وابن سینا مع کونه مترجماً لما سبق، إذا أراد أن یثیر رأیاً جدیداً من نفسه - سواء فی هذه الکتب المعدّة لترجمة مبانی القدماء من الفلاسفة أو فی غیرها - فإنّه ینبّه إلی أنّ هذا ممّا وفّقه اللّه للإستدلال علیه، وأمّا إذا لم ینبّه إلی أنّه هذا رأی مختصّ به، فقارئ هذه الکتب من الفلاسفة المتأخّرة کالشیخ الإشراق والخواجة وصاحب حکمة العین والفخر والملّا صدرا یتبادر إلیهم أنّ هذا قول القدماء. وهو فی کتاب الإشارات فی مبحث النفس ذکر أنّهما من المشهورات والآراء المحمودة التی لا واقع لها وراء تطابق العقلاء وإنّما هی باعتبار العقلاء فقط. ولو أنّه نبّه إلی هذا الرأی فی مثل کتاب التعلیقات أو حکمة الشرقیّین اللذین هما کتابان موضوعان لأجل آرائه الخاصة، لعُلم أنّ هذا الرأی یختصّ به ولا ینسحب إلی الفلاسفة القدماء ولکن حیث إنّه وضعه فی الکتب المعدّة لترجمة مبانی الفلسفة القدیمة فأوجب ذلک مثل هذا الإیهام.

أمّا سبب عدول ابن سینا عن مبنی القدماء؟

فهو مغالطة أبی الحسن الأشعری وهو متقدّم قرابة قرنین علی ابن سینا؛ إذ المدرسة الأشعریّة الکلامیّة قد أحدثت مغالطة - کما سیأتی - وهی التفکیک

ص:20

بین معانی الحسن والقبح؛ حیث إنّها ذکرت لهما معانی: منها الذمّ والمدح، والکمال والنقص، والملائم وغیر الملائم، والمنافر وغیر المنافر. وهذه المعانی حیث إنّ الأشعری لا یستطیع أن ینکرها فتوصل إلی إنکار معنی آخر للحسن والقبح وهو المدح والذم وقال: إنّ هذا المعنی لا یلازم ولا هو عین بقیّة معانی الحسن والقبح ولا یحکم بهما العقل المجرّد.

فابتدأت المدرسة الأشعریّة فی إنکار الحسن والقبح بمعنی المدح والذم وأثارت التفکیک بین معانی الحسن والقبح، ثمّ وصلت النوبة إلی ابن سینا، فوجد أنّ مذهب المدرسة الکلامیّة هو علی التفکیک وحیث إنّ الفلسفة الإسلامیّة فی کثیر من المسائل التی أضافتها هی بالتأثّر من علم الکلام، فکان ذلک مدعاة وسبباً لاشتباه الأمر لدی ابن سینا.

ولأجل الإختلاف بین الفلاسفة والمدرسة الأشعریّة یُری التدافع أو التناقض فی کلمات ابن سینا فی کتبه. مثلاً فی منطق الإشارات حینما یعرّف المشهورات، یمثّل لها بالحسن والقبح ویعرّفها بأنّها الآراء المحمودة التی تطابق علیها العقلاء ولیس وراء تطابقهم شیء، فلا یمکن إقامة البرهان علیها. وکذلک فی منطق الشفاء والنجاة تعرّف المشهورات بذلک.

وهذا التعریف للمشهورات والتمثیل بالحسن والقبح أرسل إرسال البدیهیّات عند من تأخّر عن ابن سینا وجذّر عقیدة أنّ الحسن والقبح لیسا تکوینیّین إلّاأنّ له کلمات أخری مناقضة لذلک، کما صرّح فی النمط الثالث من الإشارات فی الطبیعیات فی مبحث النفس بأنّ أحکام العقل العملی هی بالإستعانة بالعقل النظری وقضایاه إمّا أوّلیّات أو مشهورات أو ظنّیّات. وهذا نوع إعتراف بأنّ قضایا العقل العملی التی فیها الحسن والقبح یمکن أن یبرهن علیها ویستدلّ علیها؛

ص:21

لأنّ بعض مواده موجبة جزئیّة تکون أوّلیّات فیمکن أن یبرهن لها؛ إذ الأوّلیّات قسم من الیقینیّات.

وعبّر هناک بأنّه یمکن إقامة البرهان علیها وإن کانت هی فی نفسها لیست مدلّلة بالبرهان. وله عبارة أخری فی إلهیّات الشّفاء فی فصل یفسّر فیه کیفیّة استجابة الدّعاء فی أواخر الکتاب أو کیفیّة التأثیر والتأثّر فی الحالات الشرعیّة الموجودة لدی الناس، وقال: «إنّ بعض المتفلسفة یسفّه عمل الناس وهو باطل؛ لأنّ أکثر ما فی أیدی الناس من قضایا الحسن والقبح هی قضایا حقّة یمکن إقامة البرهان علیها». وهذا تعبیر مناقض لتعریف الحسن والقبح والمشهورات بأنّها التی لیس لها واقع غیر صرف تطابق العقلاء.

والخواجة حیث اهتمّ بکلمات ابن سینا وشرح کتبه وکتب الرازی، کان علی إلتفاتٍ مّا فی الجملة، حیث قال: «یمکن إقامة البرهان» وإن کان هو فی بعض عباراته الأخری یطلق القول بأنّهما من المشهورات ولا واقع وراء تطابق آراء العقلاء.

والشیء إذا لم یکن له واقع وراء آراء العقلاء، فکیف یمکن إقامة البرهان علیه ولو علی نحو الموجبة الجزئیة؟ فبین العبائر نوع تدافع وتهافت. وأن التعریف الصحیح للمشهورات هی التی یتطابق علیها العقلاء من دون القید المزبور، کما ذکر ذلک الفارابی فی المنطقیّات.

ومنذ عهد ابن سینا إلی زمن ملّا صدرا ظلّت الکلمات متذبذبة علی التفصیل تارة بین نمط من المشهورات لا واقع لها ونمط یمکن إقامة البرهان علیها. وتارة أخری علی إطلاق القول بعدم إمکان إقامة البرهان علیها، تبعاً لتذبذب کلمات ابن سینا.

ص:22

وبعد صدر المتألّهین - عدا الحکیم اللاهیجی فی گوهر مراد، والسبزواری فی شرح الأسماء الحسنی - ذهب الفلاسفة إلی أنّهما إعتباریّان مطلقاً ولا یمکن إقامة البرهان علیه مطلقاً وتبعهم الکمپانی والعلاّمة الطباطبائی والمظفّر، إعتماداً علی بعض عبارات ابن سینا المطلقة.

والنسبة الصحیحة للفلاسفة أنّهم یذهبون إلی أنّهما من البدیهیّات إلی عهد الفارابی، ثمّ تبدّل إلی أنّ بعضها بدیهیّات وبعضها محلّ کلام وتردید، ثمّ تبدّل فی العهد المتأخّر إلی أنّها قضایا إعتباریّة محضة ولا یمکن إقامة البرهان علیها.

إلّاأنّ السبزواری واللاهیجی تنبّها إلی أنّ الفلاسفة قائلون ببدیهیّة الحسن والقبح وتکوینیّتهما وأنّ تعبیر الفلاسفة وتمثیلهم للمشهورات بالحسن والقبح لیس من باب أنّهما من المشهورات فقط، بل من باب إمکان اندراج القضیّة الواحدة فی قسم من أقسام المواد فی الحین الذی تندرج أیضاً من حیثیّة أخری فی قسم آخر منها. فقضیّة الحسن والقبح من حیثیّةٍ هی من المشهورات ومن حیثیّة أخری هی من الیقینیّات.

وهذا ما نبّه علیه الفارابی فی منطقیاته مثل قضیّة (اللّه واحد) من حیث قبول العامّة لها، تکون من المقبولات ومن حیث إقامة البرهان النظری علیها، تکون من الفطریّات أو البرهانیّات النظریّة.

ص:23

الأسباب التی أوجبت دعوی ابن سینا هذه المغالطة

اشارة

إنّ الأسباب التی دعت ابن سینا لأن ینسب ذلک إلی الفلاسفة هی ثلاثة:

السبب الأوّل

ما ذکرنا من مشاهدة المدرسة الکلامیّة الأشعریّة الرائجة عند الأکثر أنّهم فکّکوا بین معانی الحسن والقبح، فقد أنکر الأشعری کون الحسن والقبح بمعنی المدح والذم هو عین بقیّة المعانی. وهذا الإنکار یخیّل ویوهم أنّ الحسن والقبح لیسا بدیهیّین، وإلّا فکیف ینکرهما جماعة من المتکلّمین، فلو کانا بدیهیّین لأذعن لها الکلّ، فمن ثمّ أدرجهما فی المشهورات.

ولا یخفی أنّ هذه المغالطة لم یبتکرها الأشعری، بل بدأت من السفسطیّین فی الیونان وأشار إلیها سقراط فی کتبه؛ حیث قال: إنّه طرأت علی مُدن الیونان سابقاً حروب متعددة، فأوجبت الضعف المالی والإجتماعی والمحن الشدیدة علی المجتمع الیونانی. وهذه المحن بدورها ولّدت للمجتمع الیونانی التفکیر فی سبب الإبتلاء بهذه المحن وبدأت حواجز بین الطبقة الثریّة وبقیّة الطبقات، حیث إنّهم

ص:24

یستفیدون من الفُرص أکثر ما یمکن.

فقالوا: إنّ المعتقدات الدینیّة هی التی جرّت إلینا هذه المحن ومن ثمّ سری التفکیر الخاطئ إلی أنّ الثوابت الأخلاقیّة والقیم الصحیحة أیضاً هی السبب الآخر فی ذلک. لکی لا تبقی لدیها حواجز عن إستغلال وامتصاص طاقات الطبقات الاُخری حسب تعبیر سقراط والتاریخ یعید نفسه، فإنّ الرأسمالیّة الغربیّة والإقطاع العالمی ینهج نفس المنهج حالیاً. وقالوا: لا معنی لکون الدولة إلهیّة ودینیّة والدولة لیست من الدین، بل هی تعاقد المجتمع وأنّ القانون العادل والحقوق أفکار تخیّلتها طبقة ضعیفة لتسخیر الطبقة الثریّة وکذلک الأخلاق یبثّها رجال الدین لأجل تسخیر بقیّة الطبقات. فقامت الطبقة الثریّة بتربیة خطباء لأجل انتشار هذه العقائد وکانوا متمیّزین ببیان ساحر مع قوّة الجدل والمغالطة، فأسّسوا عدّة مدارس خاصّة لأجل هذا وربّوا فیها علی هذا المنهج أعداداً کثیرة.

ثم بدأوا فی التشکیک فی حسن وقبح الأفعال الذاتیّین وأنکروه وقالوا: إنّ حسن وقبح الأفعال إنّما هی بحسب المصالح للأشخاص والطبقات وأنّهما لیسا ببدیهیّین، بل هما جعلیّان إخترعتهما طبقات أخری من رجال الدین أوالضعفاء لاستثمار الطبقة الثریّة وأنّ الحسن والقبح لا أساس لهما.

وأکثر مناظرات سقراط لکسر شوکتهم حتی ساوموه علی أمر معیّن کی یتنازل عن موقفه ورأیه. فبدایة التشکیک فی هذه القضیّة هو من السفسطیّین، فالفلاسفة الیونانیّین یطلقون علی من ینکر الحسن والقبح العقلی إسم السفسطی.

السبب الثانی

هو ما بنی علیه ابن سینا فی تعریف العقل العملی، حیث جعل العقل العملی عین العقل النظری، وأنّ الإختلاف بینهما إعتباری، لأنّ العقل لیس شأنه

ص:25

إلّا الإدراک ولیس شأنه الأمر والنهی التکوینی، ولیس شأنه الفعل فی النفس.

وإنّ الفرق بین العقل النظری والعملی فی المدرک، وأنّ العقل إذا أدرک شیئاً لا یرتبط بالعمل یقال عقلاً نظریّاً، وإذا أدرک شیئاً یرتبط بالعمل ممّا ینبغی أن یفعل یسمّی عقلاً عملیّاً، لم یصوّر للعقل تدخّل فی عملیّات النفس. فالعملیّات لیست إلّاعادات وتأدیبات. والقضایا التی یبتنی علیها العمل لیست قضایا برهانیّة؛ إذ لا تدخّل للعقل فیها وهذا علی خلاف مذهب الفارابی والیونانیّین وبقیّة المدارس الفلسفیّة القدیمة العریقة حیث إنّهم میّزوا بین قوّة العقل النظری والعملی کما بیّناه سابقاً.

السبب الثالث

وهو أمر خفی وخطِر وله بحث مستقلّ مع غضّ النظر عن بحث الحسن والقبح وهو أنّ أرسطو ذهب إلی أنّ البرهان علی قسمین: البرهان العیانی الذی یقام علی الجزئیات والحال أنّ ابن سینا ألغی هذا القسم من البرهان من أساسه واقتصر علی القسم المعروف ولذلک ذکر فی شرائط البرهان أن تکون القضایا کلّیة دائمة ونحو ذلک، لکنّها لیست شرائط للقسم الأوّل. وقد نبّه علی ذلک الفارابی فی منطقیّاته.

ص:26

محور النزاع

إنّ محور النزاع بین الأشاعرة والإمامیّة والاُصولیّین والاخباریّین، والاُصولیّین بعضهم مع البعض الآخر هو فی الحسن والقبح، بمعنی صحّة المدح والذمّ علی فعل الناشئین من إدراک القوّة العاقلة - العقل العملی - لتوافق واعتبار العقلاء علی ذلک لغرض حفظ النظام وحفظ النوع باعتبار أنّ الفعل یشتمل علی مصلحة عامّة أو مفسدة عامّة.

وأمّا الحسن والقبح اللّذان یقعان وصفاً للأفعال ومتعلّقاتها بمعنی الکمال والنقص، أو الملائم والمنافر، کحسن العدل بمعنی أنّه کمال وملائم فلا خلاف فیه فی أنّه واقعی تکوینی. کذا لا خلاف فی واقعیّة الحسن والقبح بمعنی حبّ الکمال والملائم وبغض النقص والمنافر، ومثله لا خلاف فی العلاقة التکوینیّة بین مجموعة من الأفعال وبین ما یلزمها من صور حسنة أو بذیئة أخرویّة وهو المسمّی (بتجسّم الأعمال) - الثابت بالبرهان والنقل القطعی (کتاباً وسنّة) - ومدّعی الإصفهانی فی محور النزاع فی قبال مجموعة من المتکلّمین والاُصولیّین، أنّ هذه القضایا من المشهورات من قسم الآراء المحمودة والتأدیبات الصلاحیّة من

ص:27

دون أن یکون لها جذر تکوینی فی حین أنّ آخرین قالوا بتکوینیّتهما.

وبعبارة أخری: الإصفهانی والمظفّر - تبعاً له - یصوّران النزاع بینهم وبین الأُصولیّین بالشکل التالی:

إنّ هناک إعتباراً وتوافقاً للمدح والذمّ لبعض الأفعال بسبب ما تحتویه هذه الأفعال من کمال ونقص ومصلحة ومفسدة. وهذا الإعتبار العقلائی لا خلاف فی وجوده، إنّما الخلاف فی أنّه البدایة وأنّ المدح والذمّ یتولّد به أو أنّه یسبقه إدراک عقلی واعتبار فلسفی نفس أمری، علی أساسه تمّ اعتبار العقلاء وتوافقهم.

وبعبارة ثالثة: مدح وذمّ العقلاء - لا المدح والذمّ فی نفسه - هل هو ذو بعد واحد وهو الإعتبار العقلائی - الذی هو إعتبار أصولی، یصطلح علیه فی المنطق بالمخیّلات، بمعنی الذی لا واقع له ولا منشأ إنتزاع واقعی - أو أنّه ذو بعدین، بعدٌ منه تکوینی واقعی وآخر منبثق منه إعتباری عقلائی.

الإصفهانی والمظفّر تبعاً لابن سینا والطوسی علی الأوّل وأنّ المدح والذمّ من العقلاء کظاهرة وکحکم إنّما هو ولید إعتبار وفرضیّة وإیجاد العقلاء.

ص:28

نظریّة الحکیم الفقیه الشیخ الإصفهانی قدس سره

اشارة

ص:29

ص:30

نظریّة الحکیم الفقیه الشیخ الإصفهانی قدس سره

قال فی کتاب النهایة فی کون العقاب علی المعصیة لکونها هتکاً لحرمة المولی وظلماً علیه:

«وهذا الحکم العقلی من الأحکام العقلیّة الداخلة فی القضایا المشهورة المسطورة فی علم المیزان فی باب الصناعات الخمس، وأمثال هذه القضایا ممّا تطابقت علیه آراء العقلاء لعموم مصالحها وحفظ النظام وبقاء النوع بها.

وأمّا عدم کون قضیّة حسن العدل وقبح الظلم بمعنی کونه بحیث یستحقّ علیه المدح أو الذمّ من القضایا البرهانیّة، فالوجه فیه: أنّ مواد البرهانیّات منحصرة فی الضروریّات السّتّ، فإنّها:

إمّا أوّلیّات، ککون الکلّ أعظم من الجزء وکون النفی والإثبات لا یجتمعان.

أو حسّیّات، سواء کانت بالحواسّ الظاهرة المسمّاة بالمشاهدات، ککون هذا الجسم أبیض أو هذا الشیء حلواً أو مرّاً؛ أو بالحواسّ الباطنة

ص:31

المسمّاة بالوجدانیّات وهی الاُمور الحاضرة بنفسها للنفس، کحکمنا بأنّ لنا علماً وشوقاً وشجاعة.

أو فطریّات، وهی القضایا التی قیاساتها معها، ککون الأربعة زوجاً لأنّها منقسمة بالمتساویین وکلّ منقسم بالمتساویین زوج.

أو تجربیّات، وهی الحاصلة بتکرّر المشاهدة، کحکمنا بأنّ سقمونیا مسهل.

أو متواترات، کحکمنا بوجود مکّة لإخبار جماعة یمتنع تواطؤهم علی الکذب عادة.

أو حدسیّات موجبة للیقین، کحکمنا بأنّ نور القمر مستفاد من الشمس للتشکّلات البدریّة والهلالیّة وأشباه ذلک.

ومن الواضح أنّ إستحقاق المدح والذمّ بالإضافة إلی العدل والظلم لیس من الأوّلیّات بحیث یکفی تصوّر الطرفین فی الحکم بثبوت النسبة، کیف وقد وقع النزاع فیه من العقلاء؟

وکذا لیس من الحسّیّات بمعنییها کما هو واضح، لعدم کون الإستحقاق مشاهداً ولا بنفسه من الکیفیّات النفسانیّة الحاضرة بنفسها للنفس.

وکذا لیس من الفطریّات؛ إذ لیس لازمها قیاساً یدلّ علی ثبوت النسبة.

وأمّا عدم کونه من التجربیّات و المتواترات و الحدسیّات ففی غایة الوضوح. فثبت أنّ أمثال هذه القضایا غیر داخلة فی القضایا البرهانیّة بل من القضایا المشهورة.

وأمّا حدیث کون حسن العدل وقبح الظلم ذاتیاً فلیس المراد من الذاتی ما هو المصطلح علیه فی کتاب الکلّیات، لوضوح أنّ إستحقاق المدح والذمّ

ص:32

لیس جنساً ولا فصلا للعدل والظلم؛ ولیس المراد منه ما هو المصطلح علیه فی کتاب البرهان لأنّ الذاتی هناک ما یکفی وضع نفس الشیء فی صحة انتزاعه منه، کالإمکان بالإضافة إلی الإنسان مثلاً، وإلّا لکان الإنسان فی حدّ ذاته إمّا واجباً أو ممتنعاً.

ومن الواضح بالتأمّل أنّ الإستحقاق المزبور لیس کذلک لأنّ سلب مال الغیر مثلاً مقولة خاصّة بحسب أنحاء التصرف، وبالإضافة إلی کراهة المالک الخارجة عن مقام ذات التصرّف ینتزع منه أنّه غصب وبالإضافة إلی ترتّب إختلال النظام علیه بنوعه وهو أیضاً خارج عن مقام ذاته ینتزع منه أنّه مخلّ بالنظام وذو مفسدة عامّة فکیف ینتزع الإستحقاق المتفرّع علی کونه غصباً وکونه مخلّاً بالنظام عن مقام ذات التصرّف فی مال الغیر؟

بل المراد بذاتیّة الحسن والقبح کون الحکمین عرضاً ذاتیاً بمعنی أنّ العدل بعنوانه والظلم بعنوانه یحکم علیهما باستحقاق المدح والذمّ من دون لحاظ اندراجه تحت عنوان آخر، بخلاف سائر العناوین فإنّها ربّما تکون مع حفظها معروضاً لغیر ما یترتّب علیه لو خلّی ونفسه کالصدق والکذب، فإنّهما مع حفظ عنوانهما فی الصدق المهلک للمؤمن والکذب المنجی للمؤمن یترتّب استحقاق الذمّ علی الأوّل بلحاظ اندراجه تحت الظلم علی المؤمن، ویترتّب استحقاق المدح علی الثانی لاندراجه تحت عنوان الإحسان إلی المؤمن، وإن کان لو خلّی الصدق والکذب ونفسهما یندرج الأوّل تحت عنوان العدل فی القول والثانی تحت عنوان الجور فضلاً عن سائر الأفعال التی فی نفسها لا تندرج تحت عنوان ممدوح أو مذموم».(1)

ص:33


1- (1) . نهایة الدرایة فی شرح الکفایة 28/3-32.

وقال أیضاً فی موضع آخر:

«بیان حقیقة الأحکام العقلیّة المتداولة فی الکتب الکلامیّة والاُصولیّة.

فنقول ومن اللّه التوفیق: أنّ القوّة العاقلة کما مرّ مراراً شأنها التعقّل وفعلیّتها فعلیّة العاقلة کما فی سائر القوی الظاهرة والباطنة، ولیس لها ولا لشیء من القوی إلّافعلیّة ما کانت القوّةُ واجدةً له بالقوّة، وأنّه لیس للعاقلة بعث وزجر وإثبات شیء لشیء؛ بل شأنها تعقّل ما هو ثابت من ناحیة غیر الجوهر العاقل، وأنّ تفاوت العقل النظری مع العقل العملی بتفاوت المدرکات، من حیث إنّ المدرک ممّا ینبغی أن یعلم أو ممّا ینبغی أن یؤتی به أو لا یؤتی به. فمن المدرکات العقلیّة الداخلة فی الأحکام العقلیّة العملیّة المأخوذة من بادئ الرأی المشترک بین العقلاء المسمّاة تارة بالقضایا المحمودة وأخری بالآراء المشهورة کقضیّة حسن العدل والإحسان وقبح الظلم والعدوان؛ وقد بیّنّا فی مبحث التجرّی من مباحث القطع فی کلام مبسوط برهانی أنّ أمثال هذه القضایا لیست من القضایا البرهانیّة فی نفسها وأنّها فی قبالها.

ونزیدک هنا: أنّ المعتبر عند أهل المیزان فی المواد الأوّلیّة للقضایا البرهانیّة المنحصرة تلک المواد فی الضروریّات السّتّ مطابقتها للواقع ونفس الأمر. والمعتبر فی القضایا المشهورة والآراء المحمودة مطابقتها لما علیه آراء العقلاء، حیث لا واقع لها غیر توافق الآراء علیها.

قال الشیخ الرئیس فی الإشارات: «ومنها: الآراء المسمّاة بالمحمودة، وربّما خصّصناها باسم المشهورة، إذ لا عمدة لها إلّاالشهرة، وهی آراء لو خلّی الإنسان وعقله المجرّد ووهمه وحسّه لم یؤدّب بقبول قضایاها

ص:34

والإعتراف بها، ولم یمل الإستقراء بظنّه القویّ إلی حکمٍ لکثرة الجزئیّات، ولم یستدع إلیها ما فی طبیعة الإنسان من الرحمة والخجل والأنفة والحمیّة وغیر ذلک، لم یقض بها الإنسان طاعة لعقله أو وهمه أو حسّه، مثل حکمنا أنّ سلب مال الإنسان قبیح، وأنّ الکذب قبیح لا ینبغی أن یقدم علیه»(1) إلی آخر کلامه.

وعبّر عنها أخیراً بأنّها من التأدیبات الصلاحیّة، وجعل منها ما تطابق علیه الشرائع الإلهیّة.

ومنها: الناشئة عن الخلقیّات والإنفعالات.

وقال العلّامة الطوسی فی شرح کلامه: «ومنها أی المشهورات کونه مشتملاً علی مصلحة شاملة للعموم، کقولنا العدل حسن وقد یسمّی بعضها بالشرائع غیر المکتوبة، فإنّ المکتوبة منها ربّما یعمّ الإعتراف بها، وإلی ذلک أشار الشیخ بقوله وما تطابق علیه الشرائع الإلهیّة.

ومنها: کون بعض الأخلاق والإنفعالات مقتضیة لها، کقولنا الذبّ عن الحرم واجب، وإیذاء الحیوان لا لغرضٍ قبیح - إلی أن قال: - والآراء المحمودة هی ما تقتضیه المصلحة العامّة، أو الأخلاق الفاضلة»(2) إلی آخره.

وسلک هذا المسلک العلاّمة قطب الدین صاحب المحاکمات(3) فذکر أیضاً

ص:35


1- (1) . الإشارات والتنبیهات 219/1.
2- (2) . شرح الإشارات والتنبیهات 221/1.
3- (3) . المصدر المتقدّم / 219، حاشیة رقم 2.

أنّ هذا القسم من المشهورات من التأدیبات التی یکون الصلاح فیها، کقولنا العدل حسن والظلم قبیح، وما تتطابق علیه الشرائع، کقولنا الطاعة واجبة، وإمّا خلقیّات وانفعالیّات کقولنا کشف العورة قبیح ومراعاة الضعفاء محمودة، إلی آخره.

وتوضیح ذلک بحیث یکون کالبرهان علی صحّة ما ذکروه هو: أنّ کون العدل والإحسان مشتملاً علی مصلحة عامّة ینحفظ بها النظام وکون الظلم والعدوان مشتملاً علی مفسدة عامّة یختلّ بها النظام - ولذا عمّ الإعتراف بهما من الجمیع - أمر مدرک بحسب تفاوت أفراد الإحسان والإساءة من حیث تعلّقهما بما یناسب قوّة من القوی وکذا کون کلّ عاقل محباً لنفسه ولما یرجع إلیه وجدانی یجده کلّ إنسان من نفسه وکذا کون کلّ مصلحة ملائمة للشخص، وکلّ مفسدة منافرة له أیضاً وجدانی یجده کلّ إنسان عند مساس المصلحة والمفسدة، فلا محالة یحب الإحسان ویکره الإساءة وهذا کلّه من الواقعیّات، ولا نزاع لأحد فیها.

إنّما النزاع فی حسن العدل وقبح الظلم بمعنی صحّة المدح علی الأوّل وصحّة الذمّ علی الثانی، والمدّعی ثبوتهما بتوافق آراء العقلاء لا ثبوتهما فی الفعل علی حدّ اشتماله علی المصلحة والمفسدة.

ومن الواضح أنّ اقتضاء الفعل المحبوب والفعل المکروه للمدح والذمّ علی أحد نحوین إمّا بنحو إقتضاء السبب لمسبّبه والمقتضی لمقتضاه أو بنحو إقتضاء الغایة لذی الغایة.

فالأوّل فی ما إذا أساء إنسان إلی غیره فإنّه بمقتضی ورود ما ینافره علیه وتألّمه منه ینقدح فی نفسه الداعی إلی الإنتقام منه والتشفّی من الغیظ

ص:36

الحاصل بسببه بذمّه وعقوبته. فالسببیّة للذمّ هنا واقعیّة وسلسلة العلل والمعلولات مترتّبة واقعاً.

والثانی فی ما إذا کان الغرض من الحکم بالمدح والذمّ حفظ النظام وبقاء النوع بلحاظ إشتمال العدل والإحسان علی المصلحة العامّة، والظلم والعدوان علی المفسدة العامّة.

فتلک المصلحة العامّة تدعو إلی الحکم بمدح فاعل ما یشتمل علیها وتلک المفسدة تدعو إلی الحکم بذمّ فاعل ما یشتمل علیها، فیکون هذا التحسین والتقبیح من العقلاء موجباً لانحفاظ النظام ورادعاً عن الإخلال به.

وما یناسب الحکم العقلائی الذی تصحّ نسبته إلی الشارع بما هو رئیس العقلاء هو القسم الثانی دون الأوّل الذی لا یناسب الشارع بل لا یناسب العقلاء بما هم عقلاء، وهو الذی یصحّ التعبیر عنه بالتأدیبات الصلاحیّة.

فإنّ الحکم بالمدح والذمّ علی العدل والظلم موجب لما فیه صلاح العامّة، دون المدح والذمّ المترتّب علیهما لداعٍ حیوانی، فإنّهما لا یترتّب علیهما مصلحة عامّة، ولا یندفع بهما مفسدة عامّة.

فالإقتضاء بهذا المعنی لیس محلّ الکلام وثبوته وجدانی. والإقتضاء بالمعنی الثانی هو محلّ الکلام بین الأشاعرة وغیرهم وثبوته منحصر فی الوجه المشار إلیه مراراً من أنّ حفظ النظام وبقاء النوع المشترک بین الجمیع محبوب للجمیع، وخلافه مکروه للجمیع، وهو یدعو العقلاء إلی الحکم بمدح فاعل ما فیه المصلحة العامّة وذمّ فاعل ما فیه المفسدة العامّة.

وعلی ما ذکرنا فالمراد بأنّ العدل یستحقّ علیه المدح والظلم یستحقّ علیه

ص:37

الذمّ هو أنّهما کذلک عند العقلاء وبحسب تطابق آرائهم، لا فی نفس الأمر، کما صرّح به المحقّق الطوسی قدس سره حیث قال: «إنّ المعتبر فی الضروریّات مطابقتها لما علیه الوجود والمعتبر فی هذا القسم من المشهورات کون الآراء علیها مطابقة».(1)

وقال المحقّق الطوسی قدس سره فی مورد آخر: «وذلک لأنّ الحکم إمّا أن یعتبر فیه المطابقة للخارج أو لا، فإنّ اعتبر وکان مطابقاً قطعاً فهو الواجب قبولها، وإلّا فهو الوهمیّات، وإن لا یعتبر فهو المشهورات»(2) إلی آخره.

وعلیه فمن الغریب ما عن المحقّق الحکیم السبزواری فی شرح الأسماء من دخول هذه القضایا فی الضروریات وأنّها بدیهیّة وأنّ الحکم ببداهتها أیضاً بدیهی، وأنّ جعل الحکماء إیّاها من المقبولات العامّة التی هی مادّة الجدل لا ینافی ذلک؛ لأن الغرض منه التمثیل للمصلحة والمفسدة العامّتین المعتبر فیه قبول عموم الناس لا طائفة مخصوصین. وهذا غیر منافٍ لبداهتها، إذ القضیّة الواحدة یمکن دخولها فی الیقینیّات والمقبولات من جهتین، فیمکن إعتبارها فی البرهان والجدل بإعتبارین بهذه الأحکام من العقل النظری بإعانة من العقل العملی کما لا یضرّ إعانة الحسن فی حکم العقل النظری ببداهة المحسوسات.

هذا وقد سبقه إلی کلّ ذلک بعینه المحقّق اللاهیجی فی بعض رسائله الفارسیّة. لکنّک قد عرفت صراحة کلام الشیخ الرئیس والمحقّق الطوسی

ص:38


1- (1) . شرح الإشارات 221/1.
2- (2) . المصدر المتقدّم / 213.

والعلّامة قطب الدین صاحب المحاکمات فی خلاف ما ذکره، وأنّه لیس الغرض مجرّد التمثیل.

وأمّا دخول القضیّة الواحدة فی الضروریّات والمشهورات فهو صحیح، لکنّه لا فی مثل ما نحن فیه؛ بل مثاله کالأوّلیّات التی یحکم بها العقل النظری ویعترف بها الجمیع؛ فمن حیث الأوّلیّة یقینیّة برهانیّة ومن حیث عموم الإعتراف مشهورة بالمعنی الأعمّ.

قال الشیخ الرئیس فی الإشارات: «فأمّا المشهورات: فمنها أیضاً هذه الأوّلیّات ونحوه ممّا یجب قبولها لا من حیث إنّه یجب قبولها، بل من حیث عموم الإعتراف بها»(1) ثمّ ذکر بعده المشهورات بالمعنی الأخصّ وقد ذکرنا عین عبارته سابقاً. وأمّا تنظیر إعانة حکم العقل النظری بإعانة الحسّ له؛ فالجواب عنه: إن أرید بالعقل العملی نفس القوّة المدرکة فلیس شأنها إلّاالإدراک، وثبوت المدرک لیس من ناحیة الجوهر العاقل وقد عرفت نحو ثبوت الحسن والقبح فلا یقاس بثبوت المحسوس فی الخارج.

وإن أرید بالعقل العملی نفس المعقولات أی الآراء المحمودة والمقدّمات المقبولة، فإطلاق العقل علیها فی کتب الکلام شائع؛ حیث یقولون هذا ما یوجبه العقل أو یردّه العقل أی تلک الآراء والمقدّمات. فحینئذٍ لا شهادة له علی شیء، لما عرفت من نحو ثبوت هذه الاُمور المعقولة وأنّها لیست من الضروریّات بل من غیرها.

ولا یخفی علیک أنّ عدم کون هذا القسم من المشهورات من الضروریّات

ص:39


1- (1) . الإشارات والتنبیهات 219/1.

لا یوجب دخولها فی المظنونات، کیف والمظنونات یقابلها فی التقسیم، بل الفرق بین هذه المشهورات المتوافقة علیها آراء العقلاء والبرهانیّات الضروریّة أنّها - أی الضروریّات - تفید تصدیقاً جازماً مع المطابقة لما فی الواقع، وهو المعبّر عنه بالحقّ والیقین؛ بخلاف هذا القسم من المشهورات، فإنّها تفید تصدیقاً جازماً ولا یعتبر مطابقتها لما فی الواقع، بل یعتبر مطابقتها لتوافق آراء العقلاء علیها، فافهم ولا تغفل.

وممّا ذکرنا فی تحریر محلّ النزاع تعرف أنّ ثبوت العلاقة اللزومیّة بین الأفعال الحسنة والأعمال القبیحة والصور الملائمة والمنافرة فی الآخرة - کما یکشف عنها الکشف الصحیح والنصّ الصریح - خارج عن محلّ النزاع، فإنّ الکلام فی التحسین والتقبیح بمعنی استحقاق المدح والذمّ عند العقلاء المشترک بین مولی الموالی وسائر الموالی.

فالإیراد علی الأشاعرة بثبوت العلاقة اللزومیّة علی النهج المزبور عن المحقّق المذکور خارج عن محلّ الکلام ومورد النقض والإبرام، وإن کان صحیحاً فی باب إجراء الثواب والعقاب، بل فی باب الإستحقاق والإقتضاء بالتأمّل أیضاً، لکنّه بمعنی آخر من الإستحقاق.

وأمّا ما عن شیخنا العلاّمة (1)(رفع اللّه مقامه) فی فوائده فی تقریب عقلیّة الحسن والقبح من «أنّ الأفعال بذواتها أو بخصوصیّاتها متفاوتة سعة وضیقاً کمالاً ونقصاناً بالإضافة إلی القوی ومنها القوّة العاقلة، فإنّه یلائمها بعض الأفعال فیعجبها أو منافرة لها فیغربها، وأنّ إنبساطها وإنقباضها أمر

ص:40


1- (1) . أستاذه «صاحب الکفایة رحمه الله»

وجدانی، وهما بالضرورة یوجبان صحّة المدح والقدح فی الفاعل إذا کان مختاراً» علی تفصیل ذکره قدس سره، فمورد المناقشة من وجهین:

أحدهما: ما أفاده قدس سره من الإلتذاذ والتألّم والإستعجاب والإستغراب للقوّة العاقلة علی حدّ سائر القوی کیف وهی رئیسها. وذلک لما مرّ منّا من أنّ القوّة العاقلة لا شأن لها إلّاإدراک المعانی الکلّیة، والتذاذ کلّ قوّة وتألّمها إنّما یکون بإدراک ما یناسب المدرک أو یضادّه؛ مثلاً إلتذاذ الحواسّ الظاهرة بتکیّف الحاسّة بالکیفیّة الملموسة الشهیّة أو الحلاوة أو الرائحة الطیّبة أو النغمة المطربة، وتألّمها بعکس ذلک؛ کما أنّ إلتذاذ القوّة المتخیّلة بتخیّل اللذات الحاصلة أو المرجوّة الحصول، وتألّمها بإدراک أضدادها.

وأمّا لذّة العاقلة بما هی عاقلة فبأن یتمثّل لها ما یجب تحصیله من الکمالات من أنواع المعارف والمطالب الکلّیة النافعة فی نظام أمور دینه ودنیاه وآخرته، وتألّمها بفقدها مع القدرة علی تحصیلها وإهمالها؛ فإن فقد ما هو کمال للقوّة العاقلة یؤلمها دون ما هو أجنبی عنها. وإدراک الظلم الکلّی والعدل الکلّی بتجریدهما عن الخصوصیّات ودخولهما فی المعقولات المرسلة إن لم یکن کمالاً للقوّة العاقلة لم یکن نقصاً لها حتی یؤلمها.

وبالجملة أفراد الإحسان أو الإسائة خارجاً کلّ منهما له مساس بقوّة من القوی وعند نیله خارجاً یحصل لتلک القوّة انبساط من نیل الإحسان خارجاً أو إنقباض من نیل الإسائة، سواء کان مستحقّاً لذلک الإحسان أو لتلک الإسائة أم لا.

وهذا أمر واقعی، ولا دخل له بإدراک القوّة العاقلة لکلّی الإحسان وکلّی

ص:41

الإسائة فهو نظیر نیل القوّة الذوقیّة للحلو أو المُرّ، وإدراک القوّة العاقلة لکلّی الحلو والمُرّ، فإنّ الأوّل هو الموجب للإنبساط والإنقباض ممّا هو حلو أو مُرّ دون الثانی.

وأما إدراک الإحسان الجزئی أو الإسائة الجزئیّة بقوّة الخیال أو الوهم، فمع کونه أجنبیّاً عن القوّة العاقلة بما هی قوّة عاقلة لیس تأثیره فی الإنقباض والإنبساط من جهة إشتمالها علی مصلحة عامّة أو مفسدة عامّة، بل یؤثّر تصوّر الإحسان إلیه إعجاباً وإنبساطاً وإن لم یستحقّ إحساناً، وکذا تصوّر الضرب والشتم یؤثّر فی إنقباضه وتألّمه وإن کان مستحقّاً لهما، وتصوّر ورودهما علی الغیر وإن کان یؤلمه، لکنّه یسبب الرقّة وشبهها، لا من جهة کونه ذا مفسدة عامّة.

ومنه یظهر أنّ حمل کلامه قدس سره علی مطلق الإدراک لتصحیح التأثیر فی الإلتذاذ والتألّم لا یجدی شیئاً ولا یوجب کون الإستعجاب والإستغراب بالملاک الذی هو محلّ الکلام.

ثانیهما: ما أفاده قدس سره من أنّ الملائمة والمنافرة للعقل توجبان بالضرورة صحّة المدح والذمّ؛ وذلک لما عرفت من أنّ دعوی الضرورة لا تصحّ إلّا بالإضافة إلی ما هو خارج عن محلّ الکلام، وهو تأثیرهما أحیاناً فی إنقداح الداعی إلی مجازاة الإحسان بجزاء الخیر ومجازاة الإسائة بجزاء الشرّ کما مرّ تفصیله.

وأمّا دعوی الضرورة بالنسبة إلی حکم العقلاء بصحّة المدح والذمّ فهی صحیحة لکنّها تؤکّد ما ذکرناه من أنّه لا واقعیّة لهما إلّابتوافق آراء العقلاء علیهما.

ص:42

وحیث عرفت حقیقة التحسین والتقبیح العقلیّین، فاعلم أنّ المراد بکونهما ذاتیّین أو عرضیّین لیس کونهما ذاتیّین بالمعنی المذکور فی باب الکلّیات الخمس ولا کونهما ذاتیّین بالمعنی المسطور فی کتاب البرهان، کما بیّنّا وجهها فی مبحث التجرّی مفصّلاً.

بل بمعنی عدم الحاجة إلی الواسطة فی العروض والحاجة إلیها، فمثل العدل والإحسان والظلم والعدوان - بنفسهما لا من حیث إندراجهما تحت عنوان آخر - محکومان بالحسن والقبح، بخلاف الصدق والکذب فإنّهما مع حفظ عنوانهما یوصفان بخلافهما.

نعم کونهما ذاتیّین لهما بمعنی آخر، وهو أنّهما لو خلّیا وطبعهما یوصفان بهما لاندراج الصدق تحت (العدل فی القول) واندراج الکذب تحت (الجور فی القول)، دون غیرهما ممّا لا یتّصف بشیء لو خلّی ونفسه، فراجع مبحث التجرّی.

وهذا بناءً علی کون الحسن والقبح من قبیل الحکم بالإضافة إلی موضوعه واضح، فکیف یعقل أن یکون الحکم المجعول منتزعاً عن مرتبة ذات موضوعه. وأمّا بناءً علی أنّهما من الاُمور الواقعیّة فهما من قبیل العرض غیر المفارق؛ والعرض المفارق والعرض مطلقاً لا یکون ذاتیّاً لموضوعه کما هو واضح.

کما أنّا ذکرنا غیر مرّة أنّ المراد من العلّیة والإقتضاء هو إقتضاء الموضوع لحکمه بنحو إقتضاء الغایة لذی الغایة، لا بنحو إقتضاء السبب لمسببه؛ بداهة أنّ الحکم لا یترشّح من موضوعه، بل السبب الفاعلی له هو الحاکم وإنّما الموضوع - لمکان الفائدة المترتّبة علی وجوده - یدعو الحاکم

ص:43

إلی الحکم علیه.

فبعض الموضوعات حیث إنّه یترتّب علیها - بنفسها - مصلحة عامّة أو مفسدة عامّة، تدعو العقلاء إلی الحکم بحسنها أو قبحها، ولا محالة لا یتخلّف الحکم عن موضوعه التامّ فیعبّر عنه بالعلّیة التامّة.

وبعضها حیث إنّه یترتّب علیها المصلحة العامّة أو المفسدة العامّة - لو خلّیت ونفسها - لاندراجها کذلک تحت عنوان محکوم بنفسه بالحسن والقبح فیعبّر عنه بالإقتضاء؛ لمکان اندراجه بلحاظ العوارض تحت عنوان آخر محکوم بضدّ حکم عنوانه لو خلّی ونفسه، وإلّا ففی الحقیقة لا علّیة ولا إقتضاء.

وحیث إنّ المصلحة العامّة قائمة بالعدل والمفسدة العامّة قائمة بالظلم، فالصدق بما هو عدل ذو مصلحة عامّة والکذب بما هو جور ذو مفسدة عامّة، لا أنّ الصدق مقتضٍ للمصلحة واندراجُه تحت عنوان العدل شرط لتأثیره فیها، وأنّ إهلاک المؤمن مانع عن تأثیره فی المصلحة العامّة؛ ولیست المعنونات بالإضافة إلی عناوینها مقتضیات بالنسبة إلی مقتضیاتها، حیث لا جعل ولا تأثیر ولا تأثّر بینها.

فاتّضح أنّه لا علّیة ولا إقتضاء حقیقة فی شیء من المراتب، لا من حیث العناوین ومعنوناتها، ولا من حیث المصالح والمفاسد العامّة بالنسبة إلی الصدق والکذب، ولا من حیث العناوین الذاتیّة والعَرَضیّة بالإضافة إلی الحسن والقبح العقلیّین، فتدبّر جیّداً».(1)

ص:44


1- (1) . نهایة الدرایة 333/3-343.

هذا هو الحقّ الذی لا محیص عنه، بناءً علی ما عرفت من حقیقة الحسن والقبح العقلیّین، وأنّ قضیّتهما داخلة فی القضایا المشهورة لا القضایا البرهانیّة وأنّ حقیقتهما بلحاظ توافق الآراء لا واقعیّة لهما غیر ذلک، فتدبّره جیّداً وإن کان خلاف ظاهر کلمات الاُصولیّین، بل غیر واحد من أهل المعقول، إلّاأنّ المتّبع هو البرهان».(1)

«نعم هنا وجوب عقلی بمعنی آخر غیر التحسین والتقبیح العقلائیّین، فإنّ بعض الأعمال - حیث إنّه یؤثّر فی کمال النفس وصقالة جوهرها لتجلّی المعارف الإلهیّة التی هی غایة الغایات من خلق الخلق - فلا محالة لا یری العقل بُدّاً منه. فالمراد باللزوم العقلی لیس هو البعث ولا التحسین والتقبیح العقلائیّین، بل الضرورة العقلیّة واللّابدیّة الفعلیّة، وهذا أیضاً أجنبی عمّا نحن فیه».(2)

ص:45


1- (1) . نهایة الدرایة 352/3.
2- (2) . المصدر المتقدّم / 353.

موازنة ما أفاده

إنّه رحمه الله قد أذعن بعدّة امور، بل وذکر البرهنة علیها:

الأوّل: إنّ القوّة العاقلة واحدة فی العقل النظری والعقل العملی؛ غایة الأمر الإختلاف فی المدرکات فنظریّة تارة وعملیّة اخری. وإذا کان الحال کذلک وکانت مدرکات العقل العملیّة کلّها قضایا من موادّ مشهورة غیر بدیهیّة، فکیف یمکن للعقل إقامة برهانٍ مّا فی هذا الباب؟ فلا بدّ مع هذا الإعتراف - تبعاً للشیخ الرئیس والخواجة نصیر الدین الطوسی - من إمکان إقامة البرهان علی بعضها من وجود بعض القضایا البدیهیّة فی هذا الباب وإلّا فکیف یتمکّن من إقامته.

ومن ثمّ ذکرنا فی ما تقدّم أنّ الشیخ الرئیس وإن کان أوّل من أبدی وأظهر الخلاف فی الحکم بالبداهة فی الحکماء - تبعاً لما أتی به الشیخ الأشعری من المغالطة فی الباب - إلّاأنّه مع إعترافه بإمکان إقامة البرهان علی بعض تلک القضایا فی باب العقل العملی، قد أقرّ لوجود موادّ بدیهیّة هی الأسّ فی الأقیسة البرهانیّة الممکن إقامتها فی هذا الباب؛ وبالتالی فهو لا یذهب إلی کون جمیع قضایا العقل العملی داخلة فی المشهورات فقط، بل بعضها داخل فی البدیهیّات

ص:46

أیضاً، وقد دلّلنا علی أنّ هذا مذهب الشیخ الرئیس من نصوص کلماته، فراجع.

الثانی: کون العدل مشتملاً علی المصلحة والکمال والظلم مشتملاً علی المفسدة والنقص، وأنّ الأوّل ملائم للقوّة بحسب کونه کمالاً لکلّ منها، والثانی منافر لها لکونه نقصاً لها؛ ولذلک یحبّ الإنسان العدل لما فیه من المصلحة العامّة، وینفر من الظلم لما فیه من المفسدة العامّة.

فمع هذا الإعتراف یلزمه تخطئة ما تابع فیه الشیخ الرئیس من أنّ قبح الظلم وحسن العدل إنّما یقضی بها الإنسان للإنفعال وللعادة التی نشأ علیها وتعوّد علیها من تکرار التأدیب؛ إذ الإعتراف المزبور یقضی بأنّ نفرة الإنسان من الظلم لحیثیّة واقعیّة فی فعل الظلم، وأنّ حبّ الإنسان للعدل لحیثیّة واقعیّة فی فعل العدل؛ لملائمة الکمال للقوی ومنافرة النقص لها، لا لکون ذلک انفعالاً، أو عادة موضوعة جعلیّة.

هذا وکذلک یلزمه الإعتراف بقبح الظلم وحسن العدل بالمعنی المتنازع علیه وهو صحّة المدح، فإنّ الذمّ حدّه الماهوی هو الإخبار بالنقص والشرّ والتوصیف به، والحدّ الماهوی للمدح هو الإخبار والثناء والتوصیف بالکمال والخیر.

فإذا کان الظلم مشتملاً فی نفس الأمر علی النقص والشر، فإنّ الذمّ علیه کان صادقاً مطابقاً للواقع، وإذا کان العدل مشتملاً فی نفس الأمر علی الکمال والخیر کان الحمد والمدح علیه صادقاً مطابقاً للواقع.

الثالث: کون آراء العقل العملی والمشهورات من التأدیبات الصلاحیّة والخلقیّات ویلزمه الإذعان بواقعیّة هذه القضایا؛ إذ أنّها واجدة للصلاح والمصلحة والکمال وکذلک کونه من الخلقیّات، حیث إنّ الکمالات الخلقیّة

ص:47

والشرور الخلقیّة حیثیّات واقعیّة، غیر معلولة لآراء العقلاء بما هی آراء توافقوا علیها من دون وجودها فی الواقع، کما هو الحال فی قضایا الحکمة العملیّة من کونها برهانیّة.

والعجب أنّه قدس سره یتابع الشیخ الرئیس فی کون الآراء المحمودة ناشئة من إقتضاء المصلحة العامّة أو الأخلاق الفاضلة وأنّها لذلک مشهورة غیر واقعیّة، مع إعترافه فی ضمن کلامه بأنّ إشتمال العدل علی المصلحة أمر واقعی وجدانی؛ وهو لا یتلائم مع نفی الواقعیّة عن الرأی القاضی بمدح العدل، أی توصیفه بالمصلحة العامّة. وهذا التهافت بعینه یثار علی الشیخ الرئیس والخواجه نصیر الدین قدس سره.

الرابع: کون الغرض من حکم العقلاء بمدح العدل وقبح الظلم هو حفظ النظام وبقاء النوع والمصلحة العامّة، یلزمه الإعتراف بترتّب کمالات واقعیّة علی ذلک الحکم مع کونه مشهوریّاً لا واقع له. فإذا کان الکمال الواقعی من أثر ذلک الحکم کان الحکم لا محالة واقعیّاً، وإن کان التأثّر بتوسیط الفعل العادل وبتوسط الإرادة المعلولة للإذعان بحسن الفعل، أی کماله. فالمدح وهو الإخبار والثناء علی الفعل بالکمال موجب لإذعان النفس وتولّد الإرادة والفعل ومن ثمّ المصلحة العامّة.

الخامس: ما ذکره من أنّ القطب، صاحب المحاکمات، قد سلک مسلک الشیخ الرئیس، وواضح لمن راجع نصوص کلمات القطب أنّه یذهب إلی أنّ آراء العقل العملی بعضها مستنبط من مقدّمات بدیهیّة - وهو مذهب الشیخ الرئیس أیضاً والخواجة نصیر الدین - کما أنّه یذهب إلی أنّ الحکماء قائلون بالحسن والقبح بالمعانی الثلاثة جمیعاً، فراجع.

السادس: ما ذکره من الفرق بین البدیهیّات والمشهورات المتّفق علیها فی آراء

ص:48

العقلاء، من أنّ الاُولی تطابق الواقع بخلاف الثانیة، مع إشتراکهما فی إیجاب کلّ منهما الجزم والتصدیق، والحال أنّها مبادئ الأشیاء العملیّة ولا یمکن أن تثبت أو تبطل بما هو أبین منها - کما نبّه علیه الفارابی - ولأنّ المتشکّک فیها لیس یؤمن أن یهوّن أمرها ویصیر من الأشرار الأردیاء الأخلاق غیر مشارک لأهل المدن.

وقد جعل هذا القسم من المشهورات هو الصادق الذی لا ینبغی التعرّض لإبطاله والتشکیک فیه.

السابع: ما ذکره من ثبت العلاقة اللزومیّة بین الأعمال الحسنة والأفعال القبیحة والصور الملائمة والمنافرة فی الآخرة، إلّاأنّه قد غایر بینه وبین إستحقاق المدح والذمّ، وخطّأ بذلک المحقّق السبزواری فی ذهابه إلی الوحدة بین الأمرین؛ لکنّه لم یتفرّد المحقّق المزبور بذلک، بل قد ذهب إلیه الحکیم الملّا صدرا الشیرازی وکذا الحکیم النراقی، فلاحظ.

هذا مع ما عرفت من أنّ الحدّ الماهوی للمدح والحمد هو التوصیف بالکمال وفی طرف الذمّ هو التوصیف بالنقص، فحینئذٍ لا انفکاک بین الأمرین، بل هما یقوّم أحدهما الآخر.

الثامن: ما ذکره من أنّ لذّة القوّة العاقلة هی بإدراک المعارف والمطالب الکلّیة النافعة فی نظام أمور دینه ودنیاه وآخرته، وأنّه لا شأن للعاقلة إلّاالإدراک للأمور الکلّیة ولیست علی حدّ شأن بقیّة القوی، فلیس إدراک العدل الکلّی أو الظلم یوجب إنقباضاً أو إنبساطاً؛ وأمّا إدراک الجزئیّ منهما فلیس التأثّر من القوّة العاقلة بل من القوی الأخری.

ففیه: إن کان إدراک المذکورات کمالاً للعاقلة، فلا بدّ من الإذعان بصدق تلک

ص:49

المدرکات وحقیقتها، کی یکون إدراکها کمالاً لها. وهذا یخالف ما تابع فیه الشیخ الرئیس من کون الشرائع الإلهیّة من التأدیبات الصلاحیّة من المشهورات التی لا واقع لها وراء الاتّفاق، مع أنّه قد تقدّم أنّ التأدیبات الصلاحیّة هی ما فیه مصلحة عامّة وکمال، فکیف تکون قضایاها غیر مطابقة للواقع؟

وأمّا اللذّة؛ فإن کان المراد بها ما هو من خواصّ القوی الشهویّة، فالمفروض أنّه فی العدل الجزئی مع الغیر لا نیل لها فیه وأمّا إرجاعه إلی الإنفعالیّات من الرأفة والرحمة فی النفس، فالإنفعالیّات لا محصّل لها إلّاأنّها آثار الملکات الخلقیّة الفاضلة أو الردیّة وهی کمالات أو درکات للنفس. فالملائم للخلق الفاضل کمال والمنافر له نقص وعلی العکس فی الخلق الردیء.

هذا مع بنائه قدس سره علی أن لا شأن للعاقلة إلّاإدراک الکلّیات ولا شأن لها بالجزئیّات - کما حرّر ذلک فی برهان الإشارات والشفاء - لکنّه سیأتی فی العقل العیانی إمکان إقامة البرهان علی الجزئیّات به، وهو عبارة عن إستعانة العاقلة بالآلات والقوی الأخری المدرکة للجزئیّات.

التاسع: ما ذکره - من أنّ الداعی لدی العقلاء فی الحکم علی الأفعال بالحسن والقبح هو وجود المصلحة أو المفسدة العامّة - إعتراف بأنّ الحسن الحاکم به العقلاء هو مساوق، بل مصادق للمصلحة أو المفسدة، وکذا ما ذکره من أنّ فی حکمهم بالحسن والقبح بما هم عقلاء یتحفّظون علی المصلحة العامّة، لا بما لهم من شهوة التشفّی وحبّ الإنتقام، یثبت ذلک أیضاً. فمن الغریب بعد ذلک نفیه قدس سره التلازم بین الأمرین، مع أنّه قد عرفت أخذ أحدهما فی حدّ الآخر.

العاشر: ما أقرّ به - من الوجوب واللابدّیّة العقلیّة بین الأفعال وکمالات النفس

ص:50

وصقالتها وتجلّی المعارف الإلهیّة، علی تقدیر إرادة هذا المعنی منه، أو لابدّیّة الإتیان به العقلیّة، کی تتحقّق تلک الغایات، علی التقدیر الآخر المحتمل فی کلامه - هو الذی ذکره غیر واحد من الحکماء الأوائل من أنّ الحسن والقبح فی الأفعال، مضافین إلی حدّهما الماهوی المتقدّم، یفسّر بلوازم أخری من قبیل إنبغاء الفعل وعدم إنبغاء الفعل، وضرورة الفعل وإمتناعه، واللابدّیّة والبدّیّة.

ص:51

الإستدلال علی رأیه

اشارة

واستدلّ علی رأیه رحمه الله بأدلّة مختلفة:

الدلیل الأوّل
اشارة

إنها لو کانت تکوینیّة واقعیّة لکانت علاوة علی کونها یقینیّة - لا مشهورة - ذات واقع تطابقه، ومعه - لا بدّ أن تکون عرضاً خارجیاً - أو من الإعتبارات الفلسفیّة النفس الأمریّة المأخوذة من الواقع الخارجی، فی حین أنا لا نجد الفعل یتلوّن بالحسن والقبح بمعنی المدح والذمّ خارجاً، کتلوّن الجدار بالسواد والبیاض أو کتلوّن الموجود بالإمکان والوجوب.

مناقشة الدلیل الأوّل

إنّه قد تبلور الخلل فی ما ذکره قدس سره، حیث اتّضح أنّ التحسین والتقبیح عبارة عن القضیّة الذهنیّة الحاکیة عن الکمال الخارجی، ومن ثمّ فهما إعتباران فلسفیّان، لهما منشأ إنتزاع ولیسا إعتباراً أصولیاً صرفاً، ومن ثمّ کانا عرضاً علی الکمال والنقص التکوینی ومحمولاً علیه.

ص:52

الدلیل الثانی
اشارة

إن القیاس البرهانی یشترک مع الجدلی فی کونه جازماً، ولکنّه یتمیّز عنه فی اشتراط مطابقة موادّه للخارج، فی حین أن الجدلی یشترط مطابقة موادّه لاعتبارات وقرارات العقلاء من دون أن یکون لهذه الإعتبارات - الأصولیّة - تأصّل ومصداقیّة خارجاً.

وحینما نأتی إلی الحسن والقبح ونلاحظ أنّهما یتقوّمان بحکم واعتبار وتوافق العقلاء، حتّی یکون لهما وجود ممّا یکشف عن عدم وجود واقع لهما سوی ایجاد واعتبار العقلاء لهما.

هذا الدلیل ذکره فی مجال الردّ علی السبزواری، فإنّه برهن علی تکوینیّة الحسن والقبح بمعنی المدح والذمّ، ولم یکتف بذلک حتّی نسبه إلی الفلاسفة.

وإن ما یتراءی من کلامهم أنّهما من المشهورات صحیح، ولکنّه فی الوقت نفسه یصنّفونهما فی الضروریات والیقینیات، ولا یمنع من کون قضیّة واحدة تندرج تحت مادّتین من حیثیتین.

واستدلّ علی التکوینیّة بنظریّة تجسّم الأعمال.

وناقشه الإصفهانی: بأنا نقبل إندراج قضیّة واحدة تحت مادّتین کما فی مثل الکلّ أکبر من الجزء. ولکن قضیّة الحسن والقبح لا تندرج إلّافی المشهورات بالمعنی الأخصّ لما ذکرناه من الأدلّة علی الإعتبار البحت فیها.

وأمّا مسألة تجسّم الأعمال، فأنا نقبل العلاقة التکوینیّة إلّاأنّها خارجة عن محلّ النزاع.

ص:53

مناقشة الدلیل الثانی

أن کونه من المشهورات لا ینفی وجود واقع مطابق لها، وأن المغالطة بدأت من ابن سینا حیث نفی وجود مطابق حقّ فی المشهورات.

والصحیح ما ذکره القدماء إلی الفارابی من أن قسماً من المشهورات فی عین کونها مشهورة هی واقعیّة وبدیهیّة، وهی قسم الآراء المحمودة والتأدیبات الصلاحیّة التی تطابق علیها جمیع الآراء وفی کلّ الأزمنة.

وذلک: لما ذکره الفارابی من أنها لو کانت بالإعتبار والمواضعة لم یعقل مثل هذا الإتفاق علی مرّ التاریخ ومن الجمیع من دون أن یشذّ أحد، ممّا یعنی وجود سبب واقعی صارخ فی وضوحه وهو بداهتها؛ بالاضافة إلی أنها محمودة، والحمد حده الحکایة عن الکمال کما أسلفنا، ومن ثم فهو من الواقعی التکوینی والملاحظ لکلام الشیخ الرئیس یجد أنّه متناقض.

فتارة یعبّر أنّ هذه القضایا مشهورة.

وثانیة یعبّر أنّ العقل العملی یستقی من مشهورات وأولیّات، فإنه یعنی أن لبعضها حظّاً من الواقعیّة والبدیهیّة.

وثالثة یعبّر بإمکان البرهنة علی بعضها الذی یعنی واقعیّتها من جهة، ورجوعها إلی بدیهیّات من جهة أخری شأن کلّ نظریّ.

ورابعة یعبّر أنّ من یتوهّم أنّ کلّ ما فی أیدی الناس من حسن وقبح من مواضعتهم ولا حقّ یطابقه فهو متفلسف.

ص:54

الدلیل الثالث
اشارة

إنّنا نتساءل عن فلسفة إذعان واعتبار العقلاء واتّفاقهم علی المدح والذمّ؟

فالجواب: إنه لأجل تحقیق غایة عامّة وهی بسط الأمن والنظام ونشر المصلحة والقضاء علی المفسدة، فعلاقة الحسن والقبح مع الفعل علاقة الغایة وذی الغایة.

من هذه الإجابة قد یلتبس الحال فیتصوّر أنّ للحسن والقبح واقعیّة، بعد أن کانت الغایة المتوخّاة واقعیّة ولکن الصحیح أن الإجابة تدل علی اعتباریّتهما وعدم واقعیّتهما وخارجیّتهما خارج أفق توافق العقلاء، وذلک: لأن العقلاء من خلال المدح والذمّ یتوصّلون إلی الغایة ممّا یعنی أن هذا المدح والذمّ توجیهیّ تربویّ إصلاحیّ، وعالم التوجیه والتربیة لا ینسجم إلّامع الإعتبار.

فإنّه رحمه الله یصوّر أن العلاقة بین الفعل والمدح والذمّ علاقة الغایة وذی الغایة، ومن ثمّ فهو دلیل اعتباریّة المدح والذمّ مع الإیمان بعلاقة السببیّة أیضاً بین الفعل والمدح والذمّ وأنّ الأوّل سبب ومقتضی للثانی، ولکن هذه السببیّة ناشئة من دواعٍ حیوانیّة لا إنسانیّة عقلانیّة.

کما أنّه شدد النکیر علی الآخذ فی تصویره وجود ملائم ومنافر للقوة العاقلة وإستنتاجه من ذلک واقعیّة المدح والذمّ.

ص:55

مناقشة الدلیل الثالث

إنّ ما تقدّم من بیان حدّ المدح والذمّ وعلاقتهما التکوینیّة بالکمال والنقص، یتّضح منه أن علاقة الغایة وذی الغایة وإن کانت، لکنّها لا تعنی الإعتباریة وإنّما تعنی إستفادة العقلاء من هذه الظاهرة التکوینیّة فی مجال التوجیه.

فی الوقت نفسه لا نرتضی تصنیفه لحالات السببیّة أنّها من مناشئ حیوانیّة، إذ أن ظاهرة سببیّة الفعل للمدح والذمّ یمکن أن نجدها فی الکمّلین من البشر کالرسول الأعظم صلی الله علیه و آله ولا یعقل فی مثله أنّ ذمّه لظالمه حین یظلمه یکون بداعی الغریزة الحیوانیّة وإنّما بداعٍ عقلیّ محض یکون الفعل سبباً للمدح والذمّ، وهو دلیل عقلیّة المدح والذمّ حینئذٍ.

کما أنّنا نقبل مدّعی الآخوند إجمالاً فی وجود الملائم والمنافر فی القوّة العاقلة، وأنها لیست مختصّة بالقوی الحیوانیّة کما حاول أن یصوّره الإصفهانی.

وتوضیحه: إنّ البدایة المغلوطة والتی رسمت موقف الإصفهانی بالشکل الذی طرحه فی النقاط الثلاثة المشار إلیها أعلاه هی تصویره أنّ مهمّة قوّة العقل العملی هی الدرّاکیّة فقط من دون أن تکون قوّة عمّالة، فلا أمر ولا نهی ولا بعث ولا زجر تکوینیاً لها، وأن تقسیم العقل إلی نظریّ وعملیّ اعتباری، وأنّ قوّة العقل واحدة، وأن المدرکات هی التی تنقسم إلی ما من شأنه أن یعلم وما من شأنه أن یعمل.

ولکن الصحیح ما نظره المتقدّمون من الفلاسفة إلی الفارابی من أن قوّة العقل العملی قوّة عمّالة ونکتشف صحّة هذا التنظیر من مجموعة من المسلّمات التی اتّفق علیها الجمیع مع بعض التحقیقات الحدیثة:

ص:56

[أ] الجمیع سلّموا أن الإدراک یولّد إذعاناً.

[ب] کذا سلّموا أن الإذعان یولّد شوقاً.

[ج] وسلّموا أیضاً أن کمال الإنسان یکون بخضوع وتطویع وانصیاع قواه الدانیة لقواه العالیة.

[د] مع تسلیم الجمیع بأن الإنصیاع المذکور یتمّ بإدراک القوّة العاقلة واذعانها فیتولّد الشوق فی ما دون أو النفرة وهو البعث والزجر التکوینی.

[ه] لا یمکن أن یکون هذا الإذعان ولید معلول لواهمة أو لمخیّلة، لأن الإذعان کلّی، فلا یصدر إلّامن قوّة مجرّدة. فهو یحصل فی القضایا العقلیّة البحتة کالإذعان بوجود اللّه سبحانه.

[و] آخر التحقیقات یقول: إن العلم صرف الإدراک وهو یولّد الحکم، فالحکم فعل تقوم به النفس فی ظرف الإدراک الذهنی، فلیس هو من مقولة العلم، فاختلافهما سنخاً دلیل وجود قوّتین لا واحدة.

[ز] تسلیم الأعلام أن الإیمان من أشرف العلوم أو أشرف من العلوم لأنه علم وصل إلی حدّ التأثیر، فهو إدراک وعمل والإیمان یکون نتاج العقل؛ کما یذکر فی علم النفس الحدیث أن الإیمان مهما کان متعلّقه - ولو الحجر - من کمالات النفس البشریّة، والنفس التی لا تؤمن مریضة مذبذبة لا یمکن أن تحصل علی کمالاتها وإن بلغت من الإدراک ما بلغت.

من مجموع هذه النقاط یعرف أنها لا تنسجم مع نظریّة الإصفهانی التی تحصر دور العقل بالإدراک، وتصنّف الإنفعال والشوق والنفرة فی القوی الدانیة الحیوانیّة.

ص:57

فإنها وإن کانت کذلک ولکنها بدواعی عقلیّة، فهناک شهوة حیوانیّة منبعثة عن العقل، وغضب حیوانی منبعث عن رؤیة وعمل عقلی.

فالصحیح ما ذکره المتقدّمون من أن للعقل عملاً وبعثاً وزجراً وأمراً ونهیاً جنباً إلی جنب إدراکه.

ولکن الصورة لم تکتمل ومن ثمّ کانت بحاجة إلی مزید من الایضاح:

إن قوّة العقل النظری تمثّل درجة ومرتبة من مراتب النفس، تکون قابلاً ومحلاً وموضوعاً للإدراک، الذی یوجده فیها العقل المجرّد، وقوّة العقل العملی تمثّل درجة أدنی تکون قابلاً ومحلاً وموضوعاً للإذعان الذی هو فعل الدمج الذی یوجده فیها العقل النظری ومن ثمّ یتّضح أن هذه القوّة عمّالة فقط لا درّاکة فی قبال القوّة النظریّة التی هی درّاکة فقط لا عمّالة.

ونؤکّد أنّنا حینما نقول قوّة العقل النظریّ وقوّة العقل العملیّ لا نعنی إلّاالمحلّ القابل للإدراک فی الأوّل، والقابل لفعل النفس (الحکم) فی الثانی.

وحینما یقال عن الإدراک والحکم أنّهما فعلا القوّة النظریّة والعملیّة، لا یقصد منه أنّ القوّة النظریّة فاعل الإدراک وأنّ القوّة العملیّة فاعل الحکم، وإنّما یقصد أنّهما فعلان لهاتین القوّتین المطاوعتین، بمعنی أنّ الإدراک فعل القوّة النظریّة بنحو القبول وأمّا الفاعل فهو العقل المجرّد وأن الحکم فعل القوّة العملیّة المطاوعیّ بنحو القبول، وأمّا فاعله فهو القوّة النظریّة بواسطة الإدراک. والفعل المطاوعی نظیر التألّم الذی هو فعل النفس المتألّمة بنحو القبول ولکن فاعله وموجده هو الضارب.

وبتعبیر آخر: الفعل المطاوعی هو المسبّب التولیدی ولکن بقید حلوله فی

ص:58

محلّ منفعل، وهو یکون فی صورة مطاوعة وانصیاع القوّة الدانیة للقوّة العالیة کانصیاع قوّة العقل العملیّ لقوّة العقل النظریّ، أما لو تمرّدت النفس فی هذه الدرجة وجمحت، فإن الفاعل للحکم والإذعان لیس قوّة العقل النظریّ، وإنّما قوّة أخری ومن هنا یحلّ الإنحراف فإن ذلک أحد أسبابه.

وبعد الالتفات إلی أنّ الإیمان باللّه هو الحکم والإذعان، تتّضح فلسفة وجود الحکم الشرعی الفقهی فی المسائل الإعتقادیّة الأصلیّة ودوره بلحاظ أثره من الترغیب والترهیب، فإنّه یؤثّر فی کبح جموح النفس المحلّ والقابل (قوّة العقل العملیّ) کی تقبل فعل القوّة العاقلة للإذعان فیها.

ومن ثمّ یتبلور أن الحکم الشرعیّ الفقهیّ لا یغنی عن الإدراک النظریّ فی العقیدة، ولیس بدلاً له فی فعل الإذعان وإیجاده فی النفس، إذ لا یتحقّق الإذعان ویستحیل بدون الإدراک، وتفصیل الکلام متروک إلی بحث الإمامة.

علی أیة حال، إذا حلّ فعل النفس وهو الإذعان وحلّ فی مرتبة من مراتب النفس، سیحصل الشوق إلی الفعل والذی هو أیضاً فعل مطاوعی یحلّ فی قوّة من قوی النفس الحیوانیّة، وتوجده قوّة العقل العملی بواسطة الإذعان.

من هذا العرض تبلورت مجموعة أمور:

[أ] القوّة العملیّة قوّة عمّالة لا درّاکة، أی أنّه یحلّ فیها فعل النفس وهو الحکم هو سنخ آخر غیر الإدراک وتکون فاعلة بواسطة فعلها للشوق والنفرة «البعث والزجر التکوینی».

[ب] إنّ المدرکات - التی قسّمها الإصفهانی إلی قسمین - تدخل جمیعاً فی القوّة النظریّة، فهی مدرکات القوّة النظریّة.

ص:59

[ج] مع مطاوعة القوّة العملیّة یکون فعلها الحال فیها معلول القوّة النظریّة بواسطة مدرکاتها، وإلّا فقدت هذه المیزة.

[د] دور الحکم الشرعی هو تطویع القوّة العملیّة لقبول فعل القوّة النظریّة.

ومنه اتّضحت العلاقة بینه وبین الإدراک.

[ه] السرّ فی تسمیة القوّة العملیّة بقوّة العقل العملی، لأنّه قوّة مجرّدة ذاتاً وفعلاً، إلّاأنّه لمّا کان فعلها الحال فیها وهو الحکم لیس إدراکاً قیّدت بالعملی تمییزاً لها عن القوّة الدرّاکة.

[و] اتّضح بعض الشیء طبیعة العلاقة بین العقل النظری والعملی، فإن القوّة الدرّاکة لا تستطیع التأثیر فی القوی المادون مباشرة، فاقتضت حکمة اللّه سبحانه وجود قوّة تتوسّط بین القوّة الدرّاکة والقوی الدانیة تستلم قضایاها من العقل النظری وتوجّه ما دونها من القوی.

ونضیف: إنّ القوّة الإدراکیّة أکثر تجرّداً من القوّة العملیّة، فإن الثانیة أقرب إلی النفس هویّة من الأولی، إذ النفس کما هو معروف مجرّد ذاتاً لا فعلاً.

ص:60

الدلیل الرابع
اشارة

علاقة الموضوع مع محموله فی القضایا لیست علاقة الفاعل للمحمول والحکم، وإنّما یکون فی القضایا العقلیّة بمثابة العلّة المادیّة الحاملة للحکم والفاعل هو العقل، مثل الأربعة زوج، فإن الحاکم بزوجیّة الأربعة هو العقل ولکن لیس حکماً عبطیاً وإنّما بسبب تحلیله للموضوع ووجدانه أنه ینقسم بمتساویین، فکان ذلک منشأ لحکمه.

وحین نأتی إلی قضیّة «العدل حسن» نجد أن الموضوع لا فاعل ولا مادّة أیضاً، أی لیست فیه صفة المدح فینتزعها العقل ویحکم بها علیه، ممّا یعنی أن فاعل الحکم هو العقلاء فهم الذین اعتبروه وأوجدوه.

مناقشة الدلیل الرابع

ولعلّ الدلیل کان وراء نظریّة العلّامة فی الإعتباریّات - والمناقشة نقضاً وحلّاً -:

النقض: إنّ کلّ القضایا بدون إستثناء موضوعها الذهنی ومحمولها من إنشاء الفاعل لا الخارج ومعه لا بدّ أن یلتزم بإنکار واقعیّتها، «فالأربعة زوج» لم یفعلها الخارج وإنّما أنشئت وأوجدت فی الذهن من قبل فاعل مّا علی حدّ «العدل حسن» من دون فرق.

الحلّ: إن المدار فی الواقعیّة وعدمها لیس علی الفاعل للموضوع والمحمول

ص:61

الذهنی وإنّما علی المطابقة للخارج وعدمها، فإنه هو مقیاس الواقعیّة وعدمها فقضیّة «الدفتر أحمر»، واقعیّة لوجود مطابق لها فی الخارج وإن کان الذی فعل الحمرة الذهنیّة (صورتها) غیر الخارج.

ص:62

الدلیل الخامس
اشارة

إنّ موادّ القیاس البرهانی منحصرة بالبدیهیّات الستّ المعروفة ولیس حسن العدل والمدح علیه وبعکسه قبح الظلم من أحدها، فیتعیّن أن یکون من القضایا المشهورة.

مناقشة الدلیل الخامس

کلّ ما سبق کان یصبّ فی إثبات واقعیّة وتکوینیّة الحسن والقبح، وأما بداهتها فلم یرکّز الحدیث عنها وإن مرّت الإشارة الیها بشکل سریع.

والدلیل علی البداهة یمکن أن یقولب ضمن نقاط:

1. التطابق فی کلّ زمن ومن الجمیع علی المدح والذمّ فی بعض الأفعال دلیل البداهة، وإلّا لم یعقل مثل هذا الاتفاق.

2. الکمال والنقص فی بعض الأفعال بدیهی، والمدح والذمّ یرجع إلیهما کما أسلفنا فهما بدیهیّان.

3. ذکر الأعلام أنّ الکلّیات العالیة التی تکون علّة تامّة للمدح والذمّ کالعدل والظلم مفاهیم فلسفیّة لا ماهویّة، وهی غالباً ما تکون بدیهیّة فالمدح والذمّ معلولهما بدیهی أیضاً.

ونحن لا نرید أن ندّعی بداهة المدح والذمّ فی کلّ الأفعال، وإنّما بداهتهما فی الکلّیات العالیة وکثیر من الکلّیات المتوسطة.

ص:63

الدلیل السادس
اشارة

لو کان الحسن والقبح تکوینیّین لما اختلف العقلاء فی حسن شیء وقبح آخر، فی حین أنا نری أن العقلاء من قطر آخر وفی زمن آخر یختلفون، ممّا یؤکّد جعلیّتهما ومن ثمّ خضوعهما للظروف والحاجات الإجتماعیّة.

مناقشة الدلیل السادس

1. إنّ الإختلاف یرجع إلی الإختلاف فی الإحراز والتشخیص والإدراک والذی یرجع بدوره إلی اختلاف العقول البشریّة وتفاوتها، ولیس بسبب عدم واقعیّة المدرک وعدم حقیقته.

فالإختلاف فی المدح والذمّ زماناً ومکاناً، علی حدّ الإختلاف فی سائر الحقائق العلمیّة، یرجع إلی قصور الإدراک البشری لا إلی تغیّر وعدم ثبات المدرک.

2. إنّ عناوین الأفعال الکمالیّة وعکسها تختلف بالنسبة إلی المدح والذمّ فبعضها یکون علّة للمدح والذمّ وأخری تکون مقتضیة للمدح والذمّ ما لم یمنع مانع وثالثة تکون لا بشرط، فإذا اندرجت فی عنوان حسن، ثبت لها المدح وإذا اندرجت فی عنوان قبیح، ثبت لها الذمّ وإن لم تندرج تحت أحدهما لم تکن حسنة ولا قبیحة ومن هنا یعرف أن الإختلاف والتغییر یکون فی القسم الثالث وشطر من القسم الثانی لا فی الحسن والقبح بشکل مطلق.

توضیح الفکرة أکثر: إن العقل العملی لا یتعاطی فی عمله الإدراکی

ص:64

مع الجزئیّات، وإنّما یختصّ بإدراک الکلّیات والکلّیات منها ما هو عامّ، ومنها ما هو متوسّط، والجزئیّات یتحدّد وضعها من خلال الکلّی المتوسّط - والذی هو بدوره یحسم أمره من خلال انتسابه إلی الکلّی العامّ - الذی ننتسب إلیه، لا من خلال ماهیّاتها الخاصّة فإذا کان الفعل الجزئی ضمن شروط معیّنة من زمان ومکان وغیرها یساهم فی تحصیل الکمال، إتّصف بالحسن لاندراجه تحت العناوین الکمالیّة، فلو تغیّرت الشروط وأصبح تأثیر الفعل عکسیّاً لاتّصف بالقبح ومن هنا لم تکن الجزئیّات ثابتة الحسن أو القبح - لعدم ثبوت الحسن أو القبح لها بماهیّاتها الخاصّة - وإنّما هی متغیّرة ومتلوّنة حسب طبیعة الظروف المحیطة بها.

وأمّا الکلّیات المتوسّطة فهی التی تقتضی الحسن والقبح بماهیّاتها النوعیّة شریطة عدم المانع من تأثیرها کالصدق والکذب وبالتالی فهی متغیّرة ولکن تغیّرها منتظم ومنضبط ولیست کسابقتها.

والکلّیات العامّة کالعدل والظلم علّة تامّة للمدح والذمّ وبالتالی فهی من الثوابت التی لا تتغیّر، بل لها تتحدّد وجهة الأفعال الکلّیة الأخصّ منها، کذا الجزئیّات.

ومن هذا العرض یتبلور وجود ثابت فی مدرکات العقل العملی وهو فی الحسن والقبح التکوینیین. ومن هذا العرض یتبلور أیضاً الضابطة فی حدود تغیّر الأحکام بحسب الزمان والمکان والذی یصاغ بصیاغة ثانیة:

الفرق بین الحکم الشرعی والمولوی، وما هی مساحة کلّ منهما

وصیاغة ثالثة: ما هو المتغیّر والثابت فی الشریعة؟

ص:65

وصیاغة رابعة: أین منطقة ولایة المعصوم وأحکام اللّه الثابتة؟

وصیاغة خامسة: ما هی منطقة الولایة التشریعیّة للمعصوم؟

وتفصیل الحدیث سیأتی لاحقاً إن شاء اللّه.

ص:66

الدلیل السابع
اشارة

والذی بلوره الشهید الصدر: إن معنی العدل هو إعطاء کلّ ذی حقّ حقّه، والظلم بعکسه، وهذا یعنی أنّهما عنوانان اعتباریّان جعلیّان، لأنّ الحقّ أمر اعتباری ومعه بالأولویّة یکون محمولهما - وهو الحسن والقبح - اعتباریّاً، إذ لا معنی لحمل شیء تکوینی علی موضوع اعتباری، کما لا یخفی.

مناقشة الدلیل السابع

قد تمّت الإشارة الیها فی مناقشة المرحوم الإصفهانی فی دعواه اعتباریّة العدل والظلم.

***

وینتهی الحدیث مع الإصفهانی وقد خلصنا إلی هذه النتیجة:

إن الحسن والقبح تکوینیّان واقعیّان وهما دائماً بمعنی الکمال والنقص؛ کذا التحسین والتقبیح بمعنی والذمّ أیضاً تکوینیّان، بل بدیهیّان مع إقرار شهرتهما فی الوقت نفسه وإنّ قوّة العقل العملی درجة أخری فی النفس غیر قوّة العقل النظری وهی عمّالة لا درّاکة مع عقلیّتها، وإن کانت المدرَکات - ما ینبغی أن یعلم وأن یُعمل - هی مدرکات قوّة واحدة وهی قوّة العقل النظری.

وذهب الإصفهانی إلی أن استحقاق العقوبة یقصد منه إستحقاق العقوبة الأخرویّة، وهی لیست من مدرکات العقل العملی بل هی تعبّد نقلی محض.

ص:67

وذلک لأنّ مناط إعتبار العقلاء للعقوبة إمّا أن یکون للتأدیب أو التشفّی أو المصلحة العامّة.

والأوّل: لا معنی له لمضیّ وقته وعدم وجود تکلیف فی الآخرة.

والثانی: غیر معقول بالنسبة للعقلاء فضلاً عن الشارع.

والثالث: یعتمد وجود نظام ومدنیّة واجتماع وهو مفقود فی الآخرة.

من زاویة أخری: إن العقاب الأخروی الذی دلّ النقل علیه توجد ثلاث نظریات فی تفسیره.

الأوّل: تجسّم الأعمال.

«إنّما هی أعمالکم تردّ إلیکم»، «ولا تجزون إلّاما کنتم تعملون» ولا طریق للعقل إلی معرفة الأعمال التی تکون سبباً تکوینیاً وذاتیاً للعقاب إلّامن طریق کشف الشارع ولذا قیل فی تفسیر کون النبی مبشّراً ونذیراً، أنّه یبشّر بما للعمل من صورة أخرویّة حسنة، وینذر بما للعمل من صورة سیّئة، ممّا لیس للعقل البشری احاطة به ومن ثمّ احتاج إلی متمّم ومکمّل وهو الوحی، فالعقوبة الأخرویّة سیر تکاملی للنفس البشریّة، علی حدّ المرض فی دار الدنیا، وهذا لا یمکن للعقل الإحاطة به بدون البشیر النذیر.

الثانی: إن العقوبة الأخرویّة جزائیّة بجعل من الشارع تشریعاً کما هو الحال فی العقوبات الجزائیّة الدنیویّة لدی الموالی العرفیّین وعلی هذا فهی تحدّد بجعل من الشارع.

الثالث: إنّ العقوبة الأخرویّة من مقتضیات مصلحة ذلک العالم، کالشرّ الموجود فی عالمنا، فإنّه شرّ نسبی ولکنّه ضرورة بالنسبة إلی العالم ککلّ،

ص:68

وهذه أیضاً لا ینالها العقل.

ونضیف إحتمالاً رابعاً:

وهو ما ذکره العرفاء من أنّ العقوبة من لوازم الأسماء کالقاهر، فی مقابل المثوبة، والجنة من لوازم أسماء أخری کالرحیم، ومن دون أن یلزم الجبر لفردٍ مّا علی القول بذلک.

وخلاصته

إنّ العقل لا یمکنه إدراک ثبوت العقوبة أو نفیها، بدلیل قوله تعالی: (وَ ما کُنّا مُعَذِّبِینَ حَتّی نَبْعَثَ رَسُولاً)1 ، التی تدلّ علی نفی الشأنیّة والإستحقاق قبل بعثة الرسل، فی الفترة بین رسول ورسول، فأصحاب الفترة الذین لم تصلهم الدعوة لا ینالهم عذاب بل ولا یستحقّون، وهذه الآیة المبارکة تدلّ وترشد إلی جهل العقل بتلک العوالم، وأن الذی یثبتها وینفیها هو الشرع.

ویؤکّد هذا الفهم الوسط الفلسفی الحدیث الذی یحدّ من مساحة حرکة العقل والعلم الحصولی بحدود عالم العقل، وأمّا العوالم التی هی فوق عالم التجرّد فلیس من شأن العقل إدراکها وکشفها بمعادلاته فلا بدّ أن تستقی من الوحی.

ص:69

هذه النظریّة نکتفی هنا بالنقض علیها - بتقریرها المشار إلیه هنا - والتی تشکل أولیات الردّ والنقد لا غیر:

النقض علی النظریّة

النقض الأوّل

الروایات المستفیضة والروایات الواردة فی تفسیر آیة (کانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِیِّینَ مُبَشِّرِینَ وَ مُنْذِرِینَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْکِتابَ بِالْحَقِّ)1 تحدّثنا أن أصحاب الفترة إذا کانوا من عبدة الأوثان یخلدون فی النار، فإنها تدلّ بالإلتزام علی أن المراد من الرسول هو الأعمّ من الرسول الباطنی - العقل - أو الظاهری.

ویؤکّد ذلک روایة الإمام الکاظم علیه السلام الواردة بهذا المضمون ومع ذلک نتساءل کیف کان للعقل دور فی فهم ما وراء العقل، ثمّ ما هو الفرق بین عبادة الأوثان والظلم، ومع إنکار فهم العقل نتساءل عن تفسیر الروایات المشار إلیها.

النقض الثانی

عوالم الآخرة وتفاصیلها وشؤونها لیست أعظم من العالم الربوبی، ومعرفة الربّ وصفاته مفتوحة للجمیع باتفاق الجمیع، مشفوعاً بدلالة الآیات والروایات.

فإذا کانت مثل هذه المعرفة تنال بالعقل، فکیف بعوالم أخری دونها فی الدرجة، هذا وإن کنّا نثبت للمعرفة العقلیّة حدوداً وما وراءها لا ینال إلّابقناة الوحی والتی هی عقل مطلق کما یأتی.

ص:70

وأما الجواب الحلّی فهو

[أ] إنّه لا مانع من إدراک العقل لاستحقاق العقوبة الأخرویّة تأدیباً للعبد فی عالم الدنیا، لوضوح تأثیر الترهیب فی تلک الدار علی سلوک العبد فی دار الدنیا، بل حتّی نفس ثبوت العقوبة الأخرویّة له دور فی تأدیب العبد وإعادته إلی جادّة الصواب أو عدم إنزلاقه فی المعصیة.

[ب] إنّ التشفّی الذی تنکر له المحقّق الإصفهانی لیس مرفوضاً بالنسبة للعقلاء بل وحتّی الشارع إذا کان عقلیاً بمعنی أن منشأه عقلی بحت لا غیر، کما ألفتنا إلی ذلک فی مناقشتنا السابقة.

ولتعمیق الفکرة نقول: إنّ العرفاء أشاروا إلی أنّ من لوازم الأسماء الجلالیّة - کالکبریاء والعظمة - القهر، ومن لوازم الأسماء الجمالیّة - کالرؤوف - الرحمة الخاصّة. وقد سبق أنّ الحقائق المدرکة بالعقل تکون سبباً فی التأثیر فی القوی الدانیة ولو لاحظنا هذه المدرکات من زاویة فاعلها لوجدنا أنها مفاضة من موجودات مجرّدة عقلیّة، وتنتهی هذه العلوم فی تصاعدها حتی تصل إلی مرتبة تکون بها من لوازم الصفات ومظاهرها ممّا یعنی أن الحقائق العقلیّة للمعصوم إنّما هی تنزّلات من حقائق فوقانیّة والبطش والغضب المتولد من الحقائق العقلیّة یکون تنزّلاً للغضب الإلهی وبهذا یفهم ما ورد عنهم علیهم السلام:

«إن رضا اللّه رضانا أهل البیت، وأن رضاه رضا أولیائه» وأنه عبارة عن أن نفوسهم مَجلی التنزّل السلیم من الحضرة الإلهیّة.

[ج] إنّه یمکن تصویر منشأ آخر لإعتبار العقلاء العقوبة واستحقاقها غیر ما ذکره الإصفهانی وهو: ما ألفتنا إلیه من أن المدح والذمّ تکوینیّان یحکیان الکمال والنقص. والعقل له القدرة علی اکتشاف الکمال والنقص فی الأفعال

ص:71

ولو بنحو مجمل؛ والتفصیلُ یتمّ ببیانات الشارع، ومعه یمکن درج فکرة الإستحقاق علی الفعل أو العقوبة فی النقص والذمّ الحاکی عن النقص المحمولین علی الفعل.

بل یمکن تصویر حسن الإستحقاق والعقوبة حتی علی مبنی إعتباریّة المدح والذمّ، وأن العقلاء هم یعتبرون حسن الإستحقاق الأخروی ولکن شریطة ضمّ الملازمة بین اعتبارهم واعتبار الشارع کی تثبت شرعیّة الإستحقاق بواسطة الإدراک العملی.

کما أن ما ذکره الإصفهانی من عجز العقل عن إدراک کنه العقوبة، مهما کان تفسیرنا لها وأنها تجسّم العمل، أو مصلحة ذلک العالم، نقبله علی مستوی تفاصیل العقوبات وکیفیّاتها، فإن العقل لا سبیل له إلی معرفتها منفصلاً عن الشارع، ولکن علی مستوی إدراک کلّی العقوبة بنحو التجسّم وغیره، فإنّ العقل یمکنه إدراکها واکتشافها ضمن إدراکه الکلّی أنّ حرکته باتجاه التجرّد وأن أفعاله تساهم فی صیاغة وجوده الصاعد المجرّد، وأنّ وجوده باقٍ لا فانٍ، فکلّ فعل له مردود تکوینی فی وجوده المجرّد، ویکون لهذا الإدراک أثر الترهیب والردع، وإن کان أخفّ بکثیر من معرفة الصورة الأخرویّة المترتّبة علی کلّ عمل، والتی لا سبیل إلی معرفتها إلّامن خلال الشارع.

ومن مجموع ما تقدم اتّضحت نقاط الخلل فی هذه النظریّة بتقریریها.

ویمکن أن نناقش النظریّة بنقاش عامّ هو: إنّ النظریّة حاولت أن تشلّ العقل فی إدراکه للمعاد، وأنه عاجز عن إدراک نتائج فعله فی الآخرة، وما ذاک إلّا لتقییدها إدراک العقل لکمال الفعل ونقصه بعالم المادّة، وأغفلت أن للکمال والنقص جنبتین مادّیة ومجرّدة، وأنّهما لیسا مؤقّتین وإنّما دائمیّان.

ص:72

نظریّة العلّامة الطباطبائی قدس سره

اشارة

ص:73

ص:74

نظریّة العلّامة الطباطبائی قدس سره

قال العلاّمة الطباطبائی فی رسالة الإعتباریات ما مضمونه فی المقالة الأولی منها، فی الفصل الأوّل، حیث أقام برهاناً علی أن الفاعل الإرادی لا تنطلق إرادته إلّا من أمر إعتباری - أی أنّ الإنسان لا یفعل الفعل إلّابعد إذعان بأمر إعتباری دائماً - واستدلّ علی هذا المدّعی بأنّه: لو کان الشیء موجوداً فی الخارج لما أوجب حرکة الإنسان، لأن الموجود فی الخارج لا یسعی الإنسان لتحصیله، لأنه من باب تحصیل الحاصل وإنّما یسعی الإنسان دائماً لتحصیل ما لیس بحاصل. فإذا کان کذلک فلا بدّ أن ما یسعی لتحصیل غیر موجود، أی لا بدّ من الإذعان بقضیّة إعتباریّة یسعی الفاعل الإرادی لایجاد الفعل لأجلها.

فبیّن أنّ الحاجة إلی الإعتبار ضروریّة وأنّ أفعال الإنسان متولّدة من إرادته المنبثقة من القضایا الإعتباریة، حیث أن قضایا الحسن والقبح عملیّة فتندرج فی عموم القاعدة المزبورة، فیدلّ علی إعتباریّتهما. فدعوی العلاّمة هی أنّ الإرادة تنطلق دائماً من جهات اعتباریّة لا حقیقیّة.

ومن هنا تکمن الحاجة إلی الإعتبار؛ حیث إنّ إرادة الإنسان وأفعاله الإرادیّة

ص:75

لا تنوجد إلّابتوسّط الإذعان بقضایا إعتباریّة، ومن ثمّ تمسّ الحاجة إلی الإعتبار.

والإرادة قد تکون مسخّرة للقوی العاقلة وقد تکون للقوی الغضبیة أو الشهویة وهذا بحث آخر ولکنها تنطلق دائماً من غایات إمّا کاملة خیّرة أو ردیئة.

والعلّامة یذکر فی رسالة الإعتباریّات ما مضمونه:

المقدمة الأُولی

إنّ الإنسان فی نفسه وکلّ فاعل إرادی وکلّ موجود یتکامل بالإرادة، لا بدّ أن یحصل کماله عبر إرادته، مثلاً: الحیوان إذا جلس ولم یستحصل علی الغذاء وما یلزمه لمعیشته سوف لن یتکامل، بخلاف الموجودات الطبیعیّة الأخری کالنباتات والمعادن؛ لأنّ تکاملهم لیس مرتبطاً بالإرادة، وأمّا الموجود الذی فعله بإرادته کماله رهین بإرادته، ولا بدّ أن یتکامل بتوسّطها.

المقدمة الثانیة

هذا الفعل الإرادی کیف یصدر عن الإرادة؟ فإنّ الفاعل الإرادی لو أذعن واعتقد أن الشیء موجود فی الخارج، فهذا لا یبعث الشوق ولا یولّد الإرادة، بل لا بدّ أن لا یکون الشیء موجوداً فی الخارج کی لا یکون تحصیلاً للحاصل.

مثلاً الجواهر الموجودة فی الخارج لا تنبعث لتحریک الإرادة، ومن ثمّ رکّز العلّامة علی أنّ المقدّمة الثانیة هی بدایة نشوء الإعتبار؛ حیث إنّ الإنسان إنّما تنطلق إرادته من قضایا غیر حقیقیّة، أی قضایا مؤدّاها غیر موجودة؛ والقضایا ذات المؤدّی غیر الموجودة هی الإعتبار. ومن ههنا اتّضح لزوم الحاجة

ص:76

إلی الإعتبار، فإذن القضایا الإعتباریّة هی محرّکة للإرادة دائماً سواء الإرادة الحیوانیّة أو الإنسانیّة، فلیس الإعتبار مخصوصاً بالإنسان، بل الإعتبار یعمّ حتّی الحیوانات؛ لأنّ الحیوانات أیضاً تتکامل عبر أفعالها، وأفعالها لا تصدر إلّامن إرادتها، وإرادتها لا تصدر إلّامن قضایا غیر موجودة أی إعتباریّة.

القوی الواهمة فی الحیوان تخلق الإعتبار - حسب ما یدّعی العلاّمة - ونحن لا نوافقه فی ذلک کما سیأتی، وأوّل قضیّة إعتباریّة، قد یکون العقل العملی استخرجها والتفت إلیها، هی تلک القضیّة التی نشأت من باب التمثیل وإلّا ربّما کان أسبق من هذه القضیّة قضیّة إعتباریّة أخری، من إدراک الإنسان لأعضائه بأنها ضروریّة له، وانتساب أعضائه إلی نفسه لازمة له، فسلطنته علی أعضائه وأفعاله نسبة حقیقیّة ضروریّة ولیست خیالیّة. ثمّ بعد ما یصیبه الجوع وکان قد أکل ووجد الأکل فی معدته وقد سبّب الشبع، فالجوع یولّد للإنسان نوع إلتفات ولحاظ بأنّه کما أنّ نسبة أعضائی نسبة ضرورة، فنسبة الأکل أیضاً نسبة الضرورة، کی یندفع ألم الجوع ویتحقّق الشبع. وهذه أوّل خدیعة خدعت بها الفطرة البشریّة من أنها أخذت النسبة الضروریّة من قضیّة حقیقیّة وهی نسبة الأعضاء للإنسان وأخذت هذه النسبة وجعلتها بین موضوع ومحمول لیس بینهما نسبة ضروریّة.

هذه المقدّمة استبدلها بعض المحقّقین بمقدّمة أخری وهی أنّه لیست الخدیعة کما بلورها العلاّمة، بل الخدیعة هی قضیّة أخری وهی شعور النفس أنّ حاجات البدن هی حاجات للروح، لا کما بیّن العلّامة بعنوان النسبة الضروریّة، بل بجعل الحاجات والکمالات التی للبدن حاجات للروح تنسبها إلی نفسها وتجعلها ضروریّة لها.

ص:77

وإنّ تفسیر هبوط الحقیقة الآدمیّة إلی الأرض هی هبوطها فی الإدراک، بدل أن تعتنی النفس بنفسها فی حاجیات الروح، هبطت فی جهة الإدراک وجعلت البدن جزء حقیقة نفسها. فلذلک جعلت کمالات وحاجات البدن حاجات لنفسها.

فأوّل خدیعة هی جعل البدن جزءاً من الروح؛ فمن ثمّ جعل کمالات البدن کمالات للروح. طبعاً هذا الهبوط للروح فی الإدراک نوع من التکامل ولکن إذا لم ترجع الروح إلی کمالاتها واشتغلت دائماً بالبدن، فحینئذٍ سوف یکون تسافلاً.

ثمّ أنّ العلّامة - علی أی حال - یذکر أن أوّل قضیّة إعتباریّة وخدیعة ارتکبتها الروح هی تلک النسبة الضروریّة التی أخذت من قضیّة حقیقیّة ووضعت کنسبة إعتباریّة وحسبتها الروح أنّها قضیّة ونسبة حقیقیّة؛ فهذه القضیّة الإعتباریّة تولّدت منها قضایا إعتباریّة متکثّرة، فتکوّنت شجرة عالم الإعتبار والقضایا الإعتباریّة بتبع الحاجة، فبدایة الإعتبار انبثق من أنّ الفاعل الإرادی یدرک نقص نفسه حقیقة - وهذه حقیقة ولیست بخیال - وهو یرید أن یتوصّل إلی کماله - وهذه أیضاً حقیقة ولیست بخیال - فهو بین حقیقتین: حقیقة نقصه وحقیقة کماله. والإعتبار یکون وسیطاً بین حقیقتین، ویکون موصلاً من حقیقة إلی حقیقة؛ فمن هذا یقال بتوسّط الإعتبار بین حقیقتین.

ونبّه العلّامة بأن وساطة الإعتبار بین حقیقتین قد یکون بجعل الحقیقة السابقة، النقص والحقیقة اللاحقة، الکمال؛ وقد یکون بجعل الحقیقة السابقة، ثبوت أعضاء الإنسان لنفسه بالضرورة وتلک حقیقة، فیستلّ منه نسبة ضروریّة ویجعلها بین غذائه ومعدته وهی نسبة إعتباریّة، ثمّ یترتّب علیه کمال وهی تکامل البدن بالغذاء.

ثمّ بعد ذلک یقول العلّامة حینئذٍ یّتضح لدینا أن الإعتبار یتولّد وینشأ من

ص:78

الحاجة، فالوجوب الإعتباری متقدّم علی الحرمة الإعتباریّة بمراتب کثیرة حتّی الإستحباب، بمعنی الأولویّة العقلیّة تتقدّم علی الکراهة، بعد ذلک وجد ما یضرّ بنفسه وممتنعات تکوینیّة، فجعل النسبة بینهما نسبة الإمتناع أو الکراهة وهی نسبة إعتباریّة.

ثمّ یقول: إنّ القضایا الإعتباریّة الهامّة التی إلتفت إلیها الإنسان، هو اختصاص الإنسان ببعض الأعیان التی یستفید منها أعیان الأکل وأعیان المعاش. واختصاص الإنسان بالأعیان نوع من تکامل الإنسان؛ لأنّه لو کانت کلّ الأعیان اشتراکیاً استلزم إمتناع تکامل البدن للإنسان؛ إذ لا یستطیع أن یستفید من عین خاصّة، فالإختصاص لا بدّ منه. هذا الإختصاص لیس نسبة حقیقیّة تکوینیّة ولکن رأی الإنسان أنّ أعضائه وأفعاله لها اختصاص تکوینی حقیقی، فانتزع هذه السلطة وجعلها بین الغذاء ونفسه أو بین المتاع ونفسه، لکی یتکامل بدنه وهو إعتبار الملک، فمن ثمّ إنتزع إعتبار الملک.

ثمّ یقول فی تولّد إعتبار الحسن والقبح: أن الإنسان رأی بعض الأشیاء التی فیها منافعه واعتبر لها نسبة الضرورة الإعتباریّة وبعض الأشیاء التی لها مضرّة للإنسان واعتبر لها نسبة الإمتناع أو الکراهة، ووجد أنّ الإرادة قد لا تنبعث من هذه النسبة الإعتباریّة وهی نسبة الضرورة أو الإمتناع - أی أن الإرادة تحتاج إلی مکمّل لها فی الإنبعاث - والشوق یحتاج إلی مولّد له بدرجة أشدّ، فاعتبر المدح والذمّ، فاعتبرهما العقلاء، الحسن قرین وملازم الضرورة والوجوب، والقبح ملازم الحرمة والإمتناع. فالمدح جهة تکمیلیّة عند العقلاء لأجل تولید الإرادة، والقبح أیضاً جهة تکمیلیّة عندهم لأجل تولید الکفّ والزجر وعدم تولّد الشوق، وکذلک الثواب والعقاب وهما أمران إعتباریّان، فالحسن والقبح إعتباریّان.

ص:79

ثمّ بعد ذلک قال ما مضمونه: تولد لدی الإنسان اعتبار الرئاسة؛ لأن الإنسان کما أنه فی عالم نفسه لا بدّ من وجود قوّة مهیمنة علی بقیّة القوی وهی توازن بین القوی الغضبیّة والشهویّة والإدراکیّة والتخیلیّة والإدراکیّة الوهمیّة مع القوی العاقلة؛ فالقوی العاقلة تکون مهیمنة علی تلک القوی وتنظم أنشطة وأفعال تلک القوی وإلّا یوجب عدم التوازن والاضطراب.

أقول: تفصیل الجواب عن هذا الإستدلال

أنّ فیه غفلة بسیطة یبعد صدورها منه جدّاً، وهی أن القضایا الحقیقیّة لیست مساویة للقضایا الخارجیّة بالفعل فی الآن الحاضر، إذ القضایا الحقیقیّة عند ابن سینا مثلاً هی التی عقد الوضع فیها، أی قضیّة الوضع جهته ومادّته بالإمکان غیر القضیّة المرکبّة من عقدی الوضع والحمل وجهتها وهی کلّ ذات ثبت لها عنوان الموضوع، ثبت لها عنوان المحمول - فجهة ومادّة الثبوت الأوّل مغایرة لجهة ومادّة الثبوت الثانی - فمثلاً هل کلّ ذات ثبت لها عنوان الموضوع بالضرورة أو بالإمکان أو بالفعل یثبت لها عنوان المحمول أو لا؟

لدینا جهة قضیّة بین الموضوع للمحمول وجهة قضیّة فی نفس عقد الوضع وعقد الحمل، وجهة القضیّة فی عقد الحمل متناسبة مع جهة القضیّة فی قضیّة الأمّ المرکّبة بخلاف جهة القضیّة فی عقد الوضع فقط.

فذهب ابن سینا إلی أنّ جهة القضیّة فی عقد الوضع هی الإمکان، أی کلّ ذات أمکن أن یثبت لها عنوان الموضوع، یثبت لها عنوان المحمول، بنفس جهة قضیّة الأمّ.

وذهب الفارابی إلی أنّ جهة عقد الوضع هی المطلقة الفعلیّة، أی الثبوت فی

ص:80

أحد الأزمنة الثلاثة، سواء المستقبل الأبدی أو الماضی الأزلی أو الحاضر من باب التوسعة فی دائرة المطلقة الفعلیّة ولیست منحصرة فی الماضی القریب.

وأکثر الفلاسفة مالوا إلی رأی ابن سینا وأنه یکفی فی کون القضیّة حقیقیّة أن جهة عقد الوضع إمکانیّة.

وههنا نقول: القضیّة الحقیقیّة قد تکون جهة عقد وضعها جهة إمکانیّة، فضلاً عن جهة قضیّة الأمّ التی قد تکون أیضاً إمکانیّة، ومع ذلک تبقی القضیّة حقیقیّة؛ فلا تحصر القضایا الحقیقیّة فی الخارجیّة، فضلاً عن الخارجیّة فی الموضوع الحاضر أو الماضی الوجود، بل أن القضایا الحقیقیّة تسع الممتنعات، مثل: (لَوْ کانَ فِیهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتا)1 فالتلازم الموجود بین الممتنعات واقعی، ویشیر إلیه جواب الرضا علیه السلام عن «هل یعلم ربک بالممتنعات أو المحالات؟» فقال علیه السلام:

«یعلم حتی بلوازم الممتنعات»؛ فالقضایا غیر البتیّة حقیقیّة أیضاً.

فالإرادة البشریّة لا تنطلق لتحصل الموجود الحاضر أو الماضی، لکن ذلک لا یلزمه انبعاثها من القضایا الإعتباریّة؛ لأن ما یبقی من القضایا غیر الخارجیّة هو القضایا الحقیقیّة بلحاظ الوجود الإستقبالی.

فالصدق جمیل أو حسن، الکذب قبیح، هذه قضیّة مثلاً الإرادة تسعی لتحصیل الصدق والصدق غیر موجود فی الخارج، لکن لا یستلزم ذلک کون القضیّة إعتباریّة!! فعدم وجود الشیء محقّقاً فی الخارج لا یعنی أن القضیّة إعتباریّة.

فالقضایا الحقیقیّة موضوعها مقدّر موجود.

ص:81

أمّا ضرورة الحاجة إلی قانون إعتباری - سواء سماوی أو بشری عند المتکلّمین والأصولیین من الإمامیة - هو أن العقل العملی لمّا کان یقتصر إدراکه علی القضایا الکلّیة الفوقانیّة فی الحسن والقبح، مثل «الظلم قبیح والعدل حسن» أو الکلّیات المتوسّطة القریبة للعالی، مثل «الصدق حسن والکذب قبیح»، وکذلک فی الفضائل والراذئل الخلقیّة، العقل المحدود البشری تخفی علیه جهات الحسن والقبح فی الجزئیّات المادون، مثلاً قضیّة «أنّ فی القمار قبحاً» لیست من الکلّیات الفوقانیّة، بل من الکلّیات التحتانیّة، وکذلک «قبح نکاح الشغار» یخفی علی العقل البشری وکذا کون الربا ذا مفاسد، تخفی علی البشر جهات قبحه.

فما أن تتنزّل الأفعال وتصل إلی الفعل الجزئی تخفی علی العقل البشری المحدود جهات حسنها وقبحها وکذلک المتوسّطات الدانیة فضلاً عن التحتانیّة تخفی علی العقل البشری المحدود جهات حسنها وقبحها، فمن ثمّ إنبثقت الحاجة إلی القانون.

ص:82

الإعتبار الإلهی

فالإعتبار ممّن یطّلع علی جهات الحسن هی بیان وحکایة لتلک الجهات ضمن قوالب وقضایا إعتباریّة غرضها الکشف عن جهات الحسن والقبح؛ غایة الأمر لا تکشف عنها تفصیلاً؛ لأنه یستلزم الحکایة إلی ما لا نهایة من القضایا العقلیّة، بل تجمع الحکایات فی حکایة إجمالیة بالقضایا الإعتباریّة فی الکشف عن تلک الجهات الحسن والقبح؛ لأنّ العقل البشری إنّما یدرک الکلّیات الفوقانیّة لجهات الحسن القبح فی الأفعال، أمّا المتوسّطات إلی ما لا نهایة فضلاً عن الجزئیّات فلا بدّ فی الکشف عنها من توسّط الإعتبار ولا إمکان للکشف بالعلم الحصولی إلّا بذلک.

فالحاجة إلی الإعتبار لیس لأنّ الإرادة البشریّة لا تنطلق إلّامن الإعتبار - کما ادّعاه العلاّمة - أو أنّ الإعتبار ضرورة لتوسّطه بین الحقیقتین، حقیقة نقص الإنسان وحقیقة کمال الإنسان - کما بیّنه العلاّمة - بل الإرادة تنطلق دائماً من الحقائق، والإعتبار وظیفته الکشف عن الحقائق اجمالاً. وإلّا فالإرادة الإنسانیّة لا تنبعث عن ما لا حقیقة له مع العلم بأنه لا حقیقة له، فالسراب مع الإلتفات

ص:83

إلی سرابیّته لا یبعث الإرادة الحیوانیّة فضلاً عن الإنسانیّة. والإرادة حینما تنطلق من الإعتبار إنّما تنطلق منه لأجل الحقائق المودعة فی ذلک الإعتبار، نظیر وجوب مراعاة قوانین العبور والمرور.

وبعبارة أخری: الإرادة لا تنطلق من الإعتبار بما هو هو، وإنّما تنطلق من الإعتبار بما هو کاشف عن الحقائق. والإعتبار أکثر ما یتّصل، یتّصل بقوّة العقل العملی. فأهمیّة الإعتبار من جهة أنّه فعل من الأفعال قد یمارس من قبل النفس البشریّة وبتوسّط قوّة العقل العملی التی لدیها، ومن الحیثیّة الفلسفیّة یلجأ الفیلسوف فی تحقیق هذه الظاهرة الموجودة لدی الفاعل الإرادی الانسانی؛ ومن ههنا تظهر الضرورة الملجئة للفیلسوف فی البحث عن الإعتبار وأقسامه.

وهناک وجه آخر أو إلجاء آخر له للبحث عن الإعتبار، هو أنّه کثیر من الحقائق ربّما تختلط لدی النفس بین کونها قضایا إعتباریّة، لا الإعتبار الفلسفی بالمعنی الأخصّ الذی له منشأ نفس أمری، بل الذی بمعنی مطلق ما لیس له واقع یطابقه ومنشأ یؤخذ إذ کثیراً ممّا تختلط الحقائق بهذه الاُمور الإعتباریّة، فمن ثمّ تمیّزها أمر بالغ الأهمیّة وکما نبّهت الفلسفة الإسلامیّة إلی اختلاط القضایا الذهنیّة الحقیقیّة مع الحقیقیّة الخارجیّة وکان مورداً لتشویش الکثیر من الأبحاث فی المعارف البشریّة، کذلک اختلاط القضایا الإعتباریّة مع القضایا الحقیقیّة أصبح مورداً لتشویش الکثیر من المسائل فی المعارف البشریّة، فلا بدّ من التمییز بین القضایا الإعتباریّة والحقیقیّة، ثمّ بین الحقیقیّة الذهنیّة والحقیقیّة الخارجیّة.

وقد رکّزت فی الفلسفة جهوداً کثیرة بتمییز القضایا الحقیقیّة الذهنیّة عن الخارجیّة، والسبب فی أهمّیة ذلک هو أنّ القناة التی یستلم الإنسان منها معلوماته هی عبر قناة ذهنه فی علومه الحصولیّة، فإذا لم یبیّن ما هو من

ص:84

مختصّات رواسب القناة وخصوصیّات الوجود الذهنی وما هو آتٍ عبر القناة وما هی الصورة للوجود الخارجی لم یمیّز بین أحکام الوجود الذهنی وأحکام الوجود الخارجی وکثیر من الإشتباهات نشأت من الخطأ بینهما وأحکامهما. وهذه الأهمّیة نفسها ثابتة للبحث عن الإعتبار.

ثمّ قال فی المقالة الثانیة: إن الفاعل الإرادی کیف تتولّد إرادته وکیف یتحقّق اختیاره من الإعتبار.

أقول: ما یذکر فی المباحث التکوینیّة من قواعد بعینها آتٍ فی الإعتباریّات.

وسبب ذلک أن الإعتبار یتوقّف علی شؤون الإرادة، فلذلک بسط العلّامة البحث فیها بما یبحث فی العلّة والمعلول وأقسام الفاعل الإرادی، فلذلک لا حاجة لنا إلی ذکرها ونذکر الفصل الآخر فی تلک المقالة وهو مهمّ جداً، حیث إن فی المقالة الاُولی قد سلّط الضوء علی کیفیّة نشوء الإعتبار عن الحقیقة وفی آخر المقالة الثانیة یرید أن یسلّط الضوء فی کیفیّة نشوء التکوّن عن الإعتبار.

فالمقالة الاُولی فی کیفیة نشوء الإعتبار عن التکوین وهنا فی المقالة الثانیة فی کیفیّة نشوء التکوین عن الإعتبار وهذا أمر معضل، إذ نشوء الإعتبار عن التکوین قابل للتصویر، باعتبار أخذ معنی من وجودات تکوینیّة؛ أما نشوء التکوین من إعتبار فهذا ممتنع التصوّر إبتداءً وهنا یسلّط الضوء علی ذلک.

وقدّم تعریف الإعتبار وهو أخذ الشیء الماهوی من وجود وموجود حقیقی واعطاؤه لشیء آخر. مثلاً ماهیّة الملکیّة الموجودة بوجود تکوینی لدی الإنسان فی سلطته علی أفعاله، هذا المعنی والماهیّة یأخذ العقل ویعطیه لشیء آخر، للغذاء مع نفسه أو لنفسه مع الغذاء، فأخذ حدّ الشیء من موجود حقیقی وهو سلطنته علی أفعاله وأعطاه للغذاء الذی بینه وبین الإنسان، لأنّه لا ربط حقیقیّاً

ص:85

بینهما، فأخذ حدّ الشیء من موجود حقیقی وهو سلطنته علی أفعاله وأعطاه لشیء آخر، هذا هو الإعتبار. غایة الأمر حین ما یعطیه لشیء آخر یفرض له وجود وهمی تخیلی لا حقیقی ونحن نتّبع العلاّمة فی هذا التعریف نفسه.

ثمّ قال: إن الإرادة عندما تتولّد ویتولّد منها الفعل التکوینی، الإرادة توجد الفعل التکوینی وهو إمّا فیه کمال الإنسان أو نقصه، فههنا نشأ التکوین عن الإعتبار حیث أنّ الإعتبار ولّد الإرادة وهی ولّدت الفعل التکوینی الذی فیه کمال أو نقص. فالإرادة بتوهّم هذا العنوان الإعتباری ولّدت الفعل التکوینی، فاتّضح بهذا وساطة الإعتبار بین حقیقتین - حقیقة النقص فتتولّد الإعتبار، فیتولّد الإرادة، فیتولّد الفعل التکوینی الخارجی - فتکون الإرادة بین حقیقتین.

ص:86

نکات فی کلامه قدس سره

اشارة

الاُولی: هی أنّ الإعتباریّات سبب وجودها هو أنّ الفاعل الإرادی لا یمکن أن تتولّد إرادته إلّامن الإعتبار.

والثانیة: وساطة الإعتبار عنده هو وساطته فی تحریک الإرادة ومن ثمّ إیجاد الفعل التکوینی وأخذه من أمر تکوینی آخر أو بین نقص الإنسان وکماله، هاتان النکتتان هما مورد للتأمل، وإلّا فما ذکره فی تقسیم الأقسام متین.

أما النکتة الاولی

وهی أنّ الحاجة إلی الإعتبار هو کون الإرادة لا تتولّد إلّامن الإعتبار، فغفلة غریبة منه قدس سره حیث إنّه نفسه وأکثر الفلاسفة قالوا بأن القضایا الحقیقیّة لیست مرهونة بوجود الفعل الخارجی، والذی لا یحرّک الإرادة هو وجود الفعل الخارجی الحاضر، لأنّه تحصیل للحاصل وأمّا القضایا الحقیقیّة - أی غیر القضایا الخارجیّة المقیّدة بکونها خارجیّة ولو کان قضیّة مطلقة فعلیّة استقبالیّة أو کانت القضیّة حقیقیّة تقدیریّة لوجود استقبالی - فلِمَ لا تکون تلک محرّکة لإرادة الإنسان.

ص:87

نعم إرادة الإنسان لا تتولّد من قضیّة خارجیّة موجودة ولذلک یقال: إنّ مدرکات العقل النظری بنفسه لا تحرّک الإرادة مباشرة، وکذلک التوحید النظری بنفسه لیس توحیداً تامّاً. بل لا بدّ من وساطة العقل العملی، کی یحرّک الإرادة ولا بدّ فی التوحید النظری من مراتب توحیدیّة عملیّة، کی یقال إنّه موحّد تامّ.

کما أن التوحید النظری بنفسه لیس بإیمان وتسلیم تامّ والإقتصار علیه یکون کمقولة بنی اسرائیل (یَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ)1 یعنی بالنسبة إلی أفعالنا وقوانیننا لا ربط لها بالباری.

فالعقل النظری بمفرده لا یوجب تحریک الإرادة. هذه النقطة صحیحة ومتینة، کما أنّ الفاعلین بالإرادة لا یستکملون إلّابأفعالهم الإرادیّة، وهذه نقطة أخری تامّة. فکل فاعل إرادی لا یستکمل إلّابالإرادة. ولکن هاتین النقطتین لا توجبان القول بأنّ الإرادة تنطلق من الإعتبار؛ لأنّ فی البین مدرکات العقل العملی وهی مدرکات حقیقیّة أی مدرکات بصیاغة القضیّة الحقیقیّة لا القضیّة الخارجیّة، یمکن أن تحرّک إرادة الإنسان القضیّة المطلقة الفعلیّة؛ لأن هذه القضیّة غیر ملحوظ فیها خصوص الزمن الحالی، بل مع زمان الإستقبال وهو شیء غیر موجود، فتسعی الإرادة لتحصیل شیء غیر موجود.

والفعل المأخوذ فی القضیّة المطلقة الفعلیّة المستقبلیّة أو القضیّة الحقیقیّة وجوده رهین ومعلول لإرادة الإنسان، فاتّضح أنّ القضیّة الحقیقیّة تحرّک الإرادة لأنّ متعلّقها شیء غیر موجود، لاستقبالیّتها؛ والفعل الذی فیه کمال، وجوده منوط بإرادة الإنسان. یولّد الشوق للإنسان فإنّ الشوق ولید تصوّر الکمال، فإذا

ص:88

التفت الإنسان إلی أنّ کمالاً مّا موجود فی فعلٍ مّا - الفعل الإستقبالی - والمنوط وجوده بالإرادة حینها یتولّد لدیه شوق والشوق تولّد منه الإرادة، فیسعی الإنسان لتحقیق تلک القضیّة.

فتلک المقدّمتان اللتان استدلّ بهما العلاّمة مقدّمتان تامّتان ولکن لا تستلزمان مدّعاه. فیمکن أن تنشأ الإرادة من الحقائق وسیأتی أنها دائماً تنشأ من الحقائق وما یتراءی من أنّها تنشأ من قوانین إعتباریّة ففی الواقع لیس إنبعاثها من تلک القوانین.

ص:89

أمّا النکتة الأساسیّة الثانیة

إنّ العلاّمة بعد أن برهن أنّ الإرادة تتولّد من الإعتبار، قال: ههنا إنبثقت الحاجة للإعتبار. أنّ علّة الحاجة إلی الإعتبار وهو استناد الإرادة للاعتبار واحتیاج الفاعل الإرادی للاستکمال فی أفعاله ولا تتولّد الإرادة إلّابالإعتبار وأمّا علی ما بیّناه من عدم لزوم تولّد الإرادة من الإعتبار، فما هی الحاجة إلی الإعتبار ومن أین نشأ الإعتبار؟

نقول کما ذکره الاُصولیّون والمتکلّمون: إنّ الإعتبار منشؤه أن العقل العملی أو النظری محدود فی مدرکاته - بتسلیم کافّة ذوی العقول مطلقاً - فإنّهم یسلّمون بأن العقول البشریّة محدودة ولیست لا محدودة، ورأس المال الموجود لدیها هو البدیهیّات التی ینطلق منها العقل البشری سواء النظری أو العملی، ویتوصّل به العقل بمفرده إلی مقدار من النظریّات لا إلی کلّ النظریّات.

وبعبارة أخری: العقل العملی یدرک الکلّیات الفوقانیّة، أی کلّیتها تکون علی دائرة وسیعة جداً - مثلاً الظلم قبیح والعدل حسن والإحسان حسن - والکلّیات التی تأتی بعدها رتبةً کجنس للأفعال أو الکلّیات المتوسّطة - کالصدق حسن والکذب قبیح والبخل قبیح والعلم حسن والفضائل حسنة والراذئل قبیحة - وهذه قد تخفی علی العقل العملی أو النظری تمام جهات حسنها أو قبحها، فضلاً عما إذا تنزّلت، أی صارت جزئیّات إضافیّة أو حقیقیّة ولذلک لا یستطیع الإنسان دائماً فی الفعل الخارجی الخاصّ أن یعلم کلّ جهات الحسن والقبح الموجودة أو المنفعة أو المضرّة أو جهات الکمال والنقص فیه؛ لأنّ جهات المنفعة والمضرّة فی الفعل

ص:90

قد لا تکون فی نفسه، بل بلحاظ لوازم الفعل.

وقد یقوم الإنسان بفعلٍ مّا وینظر إلی الفعل فی نفسه وبنظرة ظنّیة أو قد یصل إلی العلم تارة لا فی غالب الموارد، بل الغالب أنّه لا یصل إلی کلّ جهاته وهذا بخلاف من یکون عقله محیطاً بالإتّصال بالمنبع اللّامحدود، فهو یعلم الفعل - الفردی أو الاجتماعی - بکلّ جهات حسنه أو قبحه ولوازمه ولو بألف واسطة کذا وکذا.

فالإنسان الفرد أو المجموع البشری أو العقل المجموعی التجریبی من دون شریعة تهدیه بإعتماده علی نفسه وعقله المحدود الفرد لا یمکنه أن یعرف کلّ جهات الحسن القبح فی الکلّیات المتوسّطة أو التحتانیّة، فضلاً عن الفعل الجزئی الخارجی، سواء الفعل الفردی أو المجموعی، ولا یستطیع أن یتوصّل إلی کلّ جهات الحسن والقبح لا أنّها غیر موجودة، إذ وجودها غیر مرتهن بالإدراک إذ إدراک الإنسان محدود، فلا بدّ له أن یستعین باللّامحدود وهو الباری عزّ وجلّ، مَن هو عالم لا تخفی علیه الخفیّات، ومن هذه الحاجة للّامحدود تبزغ وتتولّد الحاجة إلی القوانین والإعتبار والشریعة؛ فسبب الحاجة إلی الإعتبار هو محدودیّة مدرکات إدراک العقل العملی والنظری للإنسان، وهذه المحدودیّة تلجئه للإستعانة بقضایا إعتباریّة.

وقد یتساءل: غایة ما یثبت هو الحاجة إلی العالِم المحیط، ویمکن سدّها وإغنائها بالحکایة عن الواقع بالقضایا الخبریّة فلِمَ تکون إعتباریّة؟ إذ منشأ الحاجة هی الکشف عن الواقعیّات، وأمّا الإعتبار فلا دخل له فی الواقع.

قلت: هذا الکشف لو کان بالإخبار عنها تفصیلاً، لما وَصَلَ الإخبار إلی حدّ یقف عنده؛ لأن شجرة الأفعال وأنواعها وأصنافها لا تصل إلی حدّ ولو کان البناء

ص:91

علی الإخبار بالقضایا الحقیقیّة لما وصل الإخبار إلی حدّ الذی هو من سنخ العلم الحصولی.

وبیان آخر: کان من اللازم علی الباری أن یجعل الکلّ أنبیاء أو رسلاً، یبیّن لهم بالعلم الحضوری آحاد الأفعال وجهات الحسن والقبح فیها وهذا خلف وجود القسم الغالب من الحقیقة الإنسان الذی فیه خیر أکثری، لا خصوص القسم الأوّل الذی هو خیر محض، ویبطل الإمتحان بشرائطه الخاصّة فی هذا النظام الأکمل، فلا بدّ من درجات وهذا لا یتوافق مع کون درجة العلم واحدة ولا یتوافق مع کون الکلّ أنبیاء.

وببیان ثالث: إنّ الإخبار عن جمیع کلّیات الأفعال لا یکفی ایضاً ولا البیان للأنواع العالیة؛ لأنّ هناک اختلاطاً بین الأفعال أو بین القضایا الحقیقیّة فی الأفعال، فعند الإختلاط بین جهات الحسن والقبح لیس فی البین ممیّز وتبقی تلک الفاقة وذلک الفقر عند الإنسان، لأنّ الغرض أن العقل محدود والبیان غیر کافٍ.

فلذا مسّت الحاجة إلی الإعتبار، لأن بالإعتبار یمکن أن ینظم إرادة الإنسان وفق جهات الحسن والقبح الواقعی بنحو غالبی لا دائمی؛ لأنّ الدائمی لا یمکن.

لذلک کانت ملاکات الأحکام الشرعیّة غالبیّة فی مواردها لا دائمیّة ولکن هذا هو المقدار الممکن المقدور. فلذلک صارت القضیّة إعتباریّة ولم تکن حقیقیّة، أی هی بلحاظ ما تکشف عنه من جهات واقعیّة بل غالبیّة، لأنّ الدائمی لا یمکن.

فهی قضایا حقیقتها خبریّة، لکنّها خبریّة غالبیّة لا دائمیّة، وتنظیم تلک القضایا الخبریّة بنحو تستوفی غالب الملاکات، لأنّ کلّ الملاکات لیس من مقدور الطاقة البشریّة، فهذا هو معنی القضایا الإعتباریّة. فلیست هی بلحاظ الواقع أن تطابقه دائماً وإنّما هی قضیّة فرضیة، الغایة منها الإخبار الإجمالی الغالب عن

ص:92

الواقعیّات. فمنشأ الحاجة إلی الإعتبار هو محدودیّة العقل البشری وعدم إمکان اطّلاع العقول المحدودة بالوسائل الوجودیّة المجهّزة بها من قوی العلم الحصولی والنظام المفروض إلّابتوسّط الإعتبار.

ویتّضح من ذلک أنّ الوساطة ههنا فی الکشف لا فی ترتّب التکوین علی الإعتبار. ویؤیّد ما قلنا إنّ فی القوانین الوضعیّة البشریّة الحاجة ایضاً إلی الإعتبار منشؤها هو ذلک، مثلاً خبراء المرور وحرکة المواصلات لیس بإمکانهم إبلاغ کافّة المجتمع بالقضایا الحقیقیّة فی خصوصیّات وسائل النقل. وکیف یوصلون إلی کافّة المجتمع کلّ الجهات فی أفعال حرکة المرور، فإنّه لا یمکن إلّابسَنّ قوانین إعتباریّة فتبیان کل جهات الحکمة فی إشارات المرور وخطوط غیر متیسرّة.

وکذا الأطباء لو أرادوا أن یُطلِعوا المجتمع بکافّة خبرتهم، لا یمکنهم ذلک بتوسّط قضایا حقیقیّة خبریّة تکوینیّة، بل یؤخذ منهم جماعة فی المجالس التشریعیّة ویشرّع قوانین طبّیّة یجب أن لا یتجاوزها عامّة المجتمع وقس علی هذا فی بقیّة الخبرات.

فالواضع للسنن والتشریع یجب أن یکون أکمل القوم عقلاً وأکملهم علماً کی یسنّ لهم ما ینفعهم ویسنّ لهم المنع عن ما یضرّهم، إذ لیس بالإمکان ابلاغ کلّ الجهات إلی کافّة الناس ویعبّر عنه هذا بفلسفة القانون، أی القضایا الفرضیّة البدیلة عن القضایا الحقیقیّة التی لا یمکن إخبار کافة المجتمع، فیسنّ لهم الإعتباریّات.

فلغة القانون الإعتباری فی الفطرة البشریّة نشأت من محدودیّة عقل البشر وألجأه ذلک إلی الإستعانة بعقل أکمل منه وإستعانته لا تتمّ إلّابالإعتبار ولا تتمّ بالإخبار التکوینی. فلغة القانون ولیدة للغة العقل ولا یمکن تنزّل لغة العقل

ص:93

الحصولی إلی التفاصیل، والقضایا الإعتباریّة متولّدة من القضایا الحقیقیّة هذه.

ثمّ ذکر العلّامة أنّ الإعتبار هو أخذ حدّ شیء لشیء آخر وهذا التعریف هو تعریف غالب الاُصولیین من الإمامیّة ولا غبار علیه. وبیّن فی المیزان ورسالة الولایة وفی حاشیة الکفایة: أنّ القضیّة الإعتباریّة هی التی ولّدت الإرادة، والإرادة ولّدت الفعل، وهذا الفعل البشری الصادر عن الإرادة وإن کان معنوناً بعنوان اعتباری، لکن نفس الفعل البشری هو وجود تکوینی. فالإعتبار حیث کان لباساً وعنواناً لأفعال تکوینیّة فیکون واقعها باطن الشریعة وباطن القانون الشرعی، وفی الأفعال التکوینیّة کمالات وفی الأفعال المحرّمة درکات. فهذا هو دور وساطة الإعتبار بین الحقائق؛ فهو یتوسّط بین الإرادة والفعل التکوینیّین بجعله حدّاً عنوانیّاً ماهویّاً للفعل، ولکن علی ضوء المبنیین فی النقطة الاُولی والثانیة من کیفیّة توسّط الإعتبار یظهر أنّ وساطة الإعتبار لیست ذلک، حیث ذکرنا أنّ الإرادة تنطلق من القضایا الحقیقیّة، بل ادّعینا أنها دائماً تنطلق من القضایا الحقیقیّة لا أنه فی الجملة فقط.

وبیّنا الدلیل علیه فی الجملة فی النقطة الاُولی کما أنّه فی النقطة الثانیة بیّنا أن مرجع ومنشأ الحاجة إلی الإعتبار لغایة العلم والإدراک لجهات الحسن والقبح، أی أن منشأ الحاجة إلی الإعتبار هو الکشف عن جهات الحسن والقبح، أی الوساطة فی الإثبات لا الوساطة فی الثبوت کما بیّنها العلّامة، حیث إن مفاد بیان العلّامة هو الوساطة فی الثبوت، باعتبار أنّ الإعتبار یولّد الإرادة والإرادة تولّد الأفعال التی هی الکمالات أو الدرکات، بینما بناء علی ضوء النقطة الثانیة التی بینّاها من أن الحاجة إلی الإعتبار هی محدودیّة العقل البشری، أی أنّ الإعتبار یحتاج الیه من جهة کشفه اثباتاً عن جهات الحسن والقبح فی الأفعال،

ص:94

یظهر أنه لیس فی البین واسطة ثبوتیّة وهذا هو ما علیه المتکلّمون والاُصولیون من الإمامیّة.

نعم بقیّة الاُمور والتقسیمات التی ذکرها العلاّمة تامّة وجیّدة والکثیر منها زبدة التحقیقات الأخیرة التی توصّل إلیها فی الفقه والاُصول ولا غبار علیها، نعم فی بعض الأمثلة تأمّلات، مثلاً ما مثّله من الحاجة إلی الأکل من أنّه لا بدّ من توسیط الإعتبار، فمن البیّن أنّه لا داعی لفرضه الإعتبار فیه، حیث إن الأکل للغذاء مکمّل للبدن بنحو القضیّة الحقیقیّة ومولّد ومحرّک للإرادة، فیتولّد الشوق لإیجاد الأکل، فتتولّد الإرادة، ثمّ یقوم الإنسان بالفعل فهذه القضیّة حقیقیّة، فلا تفرض إعتباریّة؛ فکما ذکرنا من أن القضایا الإعتباریّة إنّما یتوصّل بها ویحتاج إلیها فی الموارد التی لا یدرک فیها العقل النظری أو العملی جهات الواقع، وأمّا مع إمکان إدراک العقل لجهات الواقع بسهولة فلا حاجة حینئذٍ لتوسّط الإعتبار.

ونقول بأنّه قد اتّضح فی ما بیّنا من التأمّل فی کلام الطباطبائی أنّ الإرادة تنطلق دائماً من الحقائق والقضایا الحقیقیّة ومع ذلک قلنا إن هناک حاجة تدعو إلی الإعتبار فی ما کان العقل البشری محدوداً لا یطّلع علی جهات الحسن والقبح فی الفعل، وأن الإرادة تنطلق من الإعتبار ولکنّها لا تنطلق من الإعتبار بما هو اعتبار أو بما هو لا واقع له ولا واقع ورائه وانما تنطلق من الإعتبار لما للإعتبار من کشف اجمالی عن جهات الحسن والقبح والقضایا الحقیقیّة، ولذلک أن الفاعل الإرادی لا یتبع إعتبار أی معتبر وإنّما یتبع إعتبار المعتبر المطّلع علی جهات الحسن والقبح.

وأمّا إذا کان المعتبر بنفسه جاهلاً بجهات الواقع فالإرادة لا تتولّد من اعتبارات ذلک المعتبر؛ لأنّ الفرض أن ذلک المعتبر لا یطّلع علی جهات الحسن والقبح،

ص:95

فکیف تتولّد الإرادة؛ إذ أن الإرادة لا تنطلق إلّابلحاظ أن المعتبر محیط سواء احاطة لدنّیة ذاتیّة کاللّه عزّ وجلّ أو احاطة بسبب التجربة والخبرة کما فی القوانین الوضعیّة مثلاً، فانطلاق الإرادة فی الجملة فی منطقة القضایا الإعتباریّة التی لا یدرکها العقل لیس للإعتبار بما هو، بل بما هو کاشف اجمالی عن الواقعیّة الحقیقیّة عندما تطمئن النفس بهذا الکشف بقدر ما تذعن لذلک المعتبر من علم واحاطة.

ومن ثمّ ذکر أرسطو بأنّه لا بدّ أن یکون المسنّن للقوانین التشریعیّة فی المجتمع والإجتماع أن یکون إنساناً إلهیاً محیطاً بالجهات الواقعیّة عالماً بالعوالم العالیة وهی تتّفق مع نظریّة الإصفهانی فی إعتباریّة الحسن والقبح، ولکنّها تزید علیه أنه من النوع الذی لا یقبل الردع من قبل الشارع، لأنّه ضرورة فطریّة وإن کان إعتباریّاً ومن صنع الواهمة.

ص:96

أدلّة المنکرین للتحسین والتقبیح العقلیّین

اشارة

ص:97

ص:98

أدلّة المنکرین للتحسین والتقبیح العقلیّین

استدلّ علی کون الحسن والقبح اعتباریّین وجعلیّین بوجوه:

الأوّل: إن الحسن والقبح بالمعنی الذی هو محلّ النزاع - أی المدح والذمّ - لیسا من الأوصاف الخارجیّة للفعل الحسن أو القبیح، لأنّ الحسن فی الخارج لیس من الأعراض المقولیّة بل المدح قائم بالمادح وکذلک الذمّ. فلیسا طارئین علی الفعل الخارجی وأن ارتباطهما بالفعل الخارجی ارتباط جعلی إعتباری لا تکوینی، والمراد من الإعتباری التخیّل الذی لا مطابق ولا منشأ له، لا الإعتباری النفس الأمری ولا من الأعراض المتأصّلة عیناً فی الخارج. فلا تخرج الأعراض المقولیّة التسعة عن کونها إمّا متأصّلة عیناً فی الخارج کاللون، أو منشؤها فی الخارج مثل الفوقیّة والتحتیّة؛ أمّا المدح والذمّ فلیسا کذلک، أنّهما من الإعتبارات المحضة أی التخیلیّة.

الثانی: الحسن والقبح یختلف بإختلاف الأزمان والأمکنة وهذا الإختلاف شاهد علی عدم کونهما أمراً خارجیّاً وتکوینیاً حقیقیّاً، لأن فی الأمور الثابتة التکوینیّة لا اختلاف بحسب الأزمان والأمکنة، کما یمثّلون بالذی یلبس الإزار

ص:99

فی المناطق الباردة، فقد یستهزأ به والذی یلبس الألبسة الکثیرة یمدح، والعکس بالعکس.

الثالث: وهو نظیر الدلیل الذی ذکروه لإثبات أصل وجود النفس، وهو أنه لو فرضنا أن إنساناً لم یولد فی مجتمع یربّیه علی عادات مستحسنة أو مستقبحة وإنّما وجد فی أرض برّیة ولم یلاق إنساناً، هذا الإنسان لا یجد الإلجاء والإضطرار والضرورة العقلیّة بحسن العدل وقبح الظلم وهذا دالّ علی أنّهما لیسا ضروریّین، بل هما أمران جعلیّان ولذا تری أنّ التربیة لها أثر فی حصول هذه العادات. وکذا الأحکام تستحکم بالعادات والتربیة أو بالعاطفة أو بالرقّة أو ما شابه ذلک، وإلّا الإنسان لو خلّی وعقله، لما حکم بالإضطرار العقلی بحسن العدل وقبح الظلم.

الرابع: إن هذه الأحکام وهی الحسن والقبح إنّما یحکم بها العقلاء لأجل مصلحة اجتماعهم ونظامهم وإلّا لو فرضنا أنّه لا إجتماع فی البین ولا نظام فی البین، بل الحیاة فردیّة معیّنة، لما أذعن وقطع بذلک وإنّما جعلوا هذه الأحکام لمصلحة نظامهم للوصول إلی الأغراض الاُخری بتوسّط هذا الإعتبار.

الخامس: دعوی أنّ العقل یذعن ویحکم بالحسن والقبح، لا یخرج الحکم المزبور عن أحد قسمین، إمّا أن یکون الفعل الذی یقطع بحسنه أو قبحه سبباً لتحسین العقلاء للفعل الحسن والفعل سبب لتقبیح العقلاء، من باب السبب والمسبّب أو من قبیل الغایة وذی الغایة وتصوّر السبب والمسبّب فی ما بعد وجود الفعل فهو یقتضی حکم العقل أو العقلاء بالحسن والتحسین أو بالقبح والتقبیح وتصوّر الغایة وذی الغایة فی ما کان الحسن هو الغایة التی تدعو إلی إیجاد ذلک الفعل وقبحه تدعو إلی الکفّ عن إیجاده، فالقائل بأنّ الحسن والقبح عقلیّان،

ص:100

لا بدّ أن یقول إن الفعل بالنسبة إلی الحسن والقبح إمّا من قبیل السبب والمسبّب أو الغایة وذی الغایة.

أمّا بالنسبة إلی السبب والمسبّب فلا ینکر أیّ عاقل أن الذی یظلم یذمّ أو أیّ عاقل حینما یحسن إلیه یمدح فاعل الحسن ولکن هذه السببیّة التی بین الذمّ والفعل لیست ناشئة من نزعة عقلیّة، بل ناشئة من نزعة حیوانیّة؛ حیث إن الحیوان مجبول علی أنّ من یتعدّی علیه ینفعل منه وینزجر منه وکذلک إذا أحسن إلیه شخص، فهو مجبول علی مدحه والتمایل الیه. وهذا منشأ حیوانی وتابع للقوی الحیوانیّة کالرأفة، لا القوی العقلیّة والحال أنّ الکلام فی المدح والذمّ الناشئ من القوی العاقلة وما تدرکه القوّة العاقلة.

وأمّا الغایة وذو الغایة فهذا أمر مسلّم به، لکن لا یدلّ إلّاعلی الإعتبار، لأنّ العقلاء غایتهم من التحسین بالنسبة إلی الفعل الذی لم ینوجد هو إرادة البعث إلی إیجاده، فهذا لا غبار علیه ولکنّه اعتباری بإعتبار أن العقلاء یحثّون بعضهم البعض علی إیجاد الفعل الحسن وتجنّب الفعل القبیح بتوسّط المدح والذمّ؛ وهذا جعل من العقلاء لأجل التوقّی من الأفعال القبیحة وإرتکاب الأفعال الحسنة وهذا لا من باب المنشأ التکوینی، بل لأجل هدف وهو الوصول إلی مصالحهم وکمالاتهم الإجتماعیة. فالحسن والقبح إمّا تکوینی ولکن حیوانی، وإمّا عقلی غائی ولکن جعلی إعتباری.

السادس: لو ادّعی أن الحسن والقبح تکوینیّان فهو لا یخرج عن أحد البدیهیّات السّتّ:

أمّا الأوّلیّات وهی - التی یحکم بها العقل بمجرّد تصوّر الطرفین بالملازمة - فالحسن والقبح لیسا کذلک، بل فیه إختلاف کثیر.

ص:101

ولا هو من الفطریّات ولا من التجربیّات، لأنه لیس عرضاً علی المعروض فی الخارج، بل هو قائم بالمادح والذامّ.

ولیس من العینیّات الخارجیّة، ولا من المشاهدات، ولا من الوجدانیّات، لوجود الإختلاف الکثیر فیه بین الناس فهو خارج عن البدیهیّات.

السابع: إن المدح والذمّ عند العقلاء أمر إنشائی، فیقال: مدح فلان فلاناً، أی أنشأ کلاماً ومقالاً یثنی به، والإنشاء هو الإعتبار والوجود الفرضی ولیس أمراً تکوینیاً خارجیاً، فهو غیر الکمال والنقص وغیر الملائم والمنافر، بل هو أمر قائم بالمدح والذمّ الإعتباریّین، فهو من نسخ الانشائیّات والإعتباریّات.

الثامن: إن حسن العدل وقبح الظلم - لا سیّما علی القول بأنّ العدل هو أمّ الأفعال الحسنة والظلم هو أمّ الأفعال القبیحة - موضوعهما العدل والظلم وماهیّة هذین العنوانین وتعریفهما أن إعطاء حقّ الغیر هو عدل وأمّا التجاوز عن حقّه فهو ظلم، والحقّ - یعنی الأمر الجعلی القانونی الإعتباری - مأخوذ فی العدل وهو أمر إعتباری وکذلک فی الظلم، فإذا کان الظلم والعدل - اللذان هما موضوعان للحسن والقبح ومن أهمّ موضوعاتهما - متقوّمین بالإعتبار والجعل والقانون فکذلک حکمهما وهو الحسن والقبح إعتباریان إذ لا یزید الفرع عن الأصل.

ومن هذا القبیل استدلال العلّامة الطباطبائی وهو أن الحسن نراه یعرض علی الاُمور الإعتباریّة مثل الإحترام حسن، مع أنه أمر جعلی إعتباری والحسن عارض علیه فإذا کان الموضوع إعتباریاً، فالمحمول أیضاً إعتباری.

هذه عمدة أدلّة القائلین بإعتباریّة الحسن والقبح.

ص:102

وقد أجاب عنها الفلاسفة المتقدّمون أمّا عن الوجه الأوّل

فقالوا إنّ عمدة المغالطة فی تفکیک المدح والذمّ عن بقیّة معانی الحسن والقبح کالمنافر والملائم والکمال والنقص والخیر والشرّ هو فی إیهام ماهیّتی المدح والذمّ، فالجواب یتّضح ببیانهما.

فذکروا فی تعریف الحدّ الماهوی للمدح، أن المدح هو التوصیف بالکمال، والذمّ هو التوصیف بالنقص، فإذا رجع الإنسان إلی تقریر المعنی اللغوی فی أیّة لغة - مع أن البحث لیس لغویاً حیث إنّه لیس مُنصبّاً حول رابطة اللفظ والمعنی وإنّما البحث منصبٌ حول المعنی بلحاظ جنسه وفصله والتکلّم فی الإنتقال من اللفظ إلی المعنی جسرٌ ومقدّمة للتعرض إلی التحلیل الفلسفی لماهیّة المعنی - یری أن المدح معناه هو التوصیف بالکمال والذمّ هو التوصیف بالنقص. فالحدّ الماهوی للمدح لیس أمراً إعتباریّاً، بل هو مرتبط ومتقوّم بالکمال والنقص،

ص:103

أی الأمر التکوینی، وهل رأیت عاقلاً یمدح بغیر کمال؟ إلّاأن یکون مشتبهاً یحسب النقص کمالاً وهذا بحث آخر.

والذمّ له مرادفات کالهجو وکذلک المدح له مرادفات، مثل الحمد والثناء، وهل یکون حمد واجب الوجود إعتباریّاً؟ أو یکون حمده أمراً حقیقیّاً برهانیّاً؟ فالمدح والحمد لهما حدّ ماهوی تقرّری هو الوصف أو الإتّصاف بالکمال، والذمّ والهجو له حدّ ماهوی تقرّری هو الوصف أو الإتّصاف بالنقص وعدم الکمال، فالتفکیک بین معانی الحسن والقبح سلب لماهیّة الشیء عن نفسه.

ویؤیّد ذلک بأنه قد یری المدح والذمّ فی حین أنّهما لا یطابقان الواقع فیقال مدح وذمّ کاذبان، ولو کان المدح والذمّ أمرین إعتباریّین فکیف یتّصفان بالصدق والکذب وما الواقع الذی یطابقه أو لا یطابقه؟ ومن الواضح أنه قد یمدح وینسب أو یصف الإنسان شخصاً بالکمال مع أنّه کاذب، لأنّه لا کمال له واقعاً أو یهجوه بالنقص مع أنّه إجتمعت فیه صفات الکمال، فهجوه کذب لأنّه یصفه بالنقص ولیس فیه نقص کما وصف الیهود اللّه بید اللّه مغلولة.

ألم یبیّن عقلیّاً وعرفانیّاً بأنّ نفس مخلوقات اللّه هی نوع من محامد اللّه عزّ وجلّ: لأنّ المخلوقات آیات عظمة اللّه وقدرته، وکلّما کبرت الآیة کانت حکایتها عن کمال اللّه وعظمتها أکثر فأکثر، کما فی قول أمیر المؤمنین علیه السلام:

«ما للّه آیة أکبر منّی» باعتبار أن الکمالات المحکیّة بتوسّط شراشر وجوده من النوری إلی وجوده الناسوتی، حکایتها عن عظمة اللّه أعظم وأکثر من بقیّة المخلوقات.

فآیات اللّه حواکی عن کمالات موجودة فی اللّه، فالرابطة بین الحاکی والمحکی تکوینیّة، فالتفکیک بینهما نوع مغالطة من الأشعری، فکّک الحاکی المحکی وجعل أحدهما إعتباریاً جعلیّاً.

ص:104

نعم لا مضایقة فی القول: إنّ کلّ تکوینی مع کون وجوده تکوینیّاً یمکن أن یفرض له وجود إعتباری إنشائی، لا أن وجوده التکوینی یسلب عنه التکوینیّة ولکن قد یحتاج العاقل إلی الإعتبار زیادة علی التکوین لحاجاته، مثلاً - الماء - له وجود تکوینی وقد یلاحظ له وجود إعتباری مثل لفظ الماء - الذی هو وجود لفظی تنزیلی للعین الخارجیّة - وکذلک کتابة رسم لفظة الماء - وهو وجود کتبی تنزیلی للعین الخارجیّة -.

فللعین وجودان إعتباریان، وجود لفظی ووجود کتبی للحاجات الموجودة بین العقلاء. بل کلّ الأشیاء لها وجود اعتباری حتّی خالق العالم وهو لفظة اللّه ولکن ذلک لا یضرّ بتکوینیّة الشیء؛ مثلاً الملکیّة، سلطة الفاعل الإرادی الحرّ علی أفعاله سلطة تکوینیّة، ومع ذلک قد ینشئ البیع ویملّک منافعه لغیره، فلا لغویّة للملکیّة الإعتباریّة مع وجود الملکیّة التکوینیّة، أو فی باب الطهارة، حیث إن التحقیقات الأصولیّة تشیر إلی أن الطهارة والنجاسة لیستا إعتباریّتین محضاً، بل ناجمتان من الملاکات الواقعیّة، والنجاسة هی قذارة لا یکتشفها العقل البشری ولا العلم بسهولة. فکون الشیء أمراً إعتباریّاً لا ینفی أن له وجوداً تکوینیّاً.

والحال فی بحث الحسن بمعنی المدح والقبح بمعنی الذمّ هکذا، فمع أنّ له وجوداً تکوینیّاً لکن لا ینفی أن المدائح لها وجود إنشائی ایضاً، مثل القصائد التی تنشأ فی المدح، فهی إنشائیّة ولکن المعانی الذهنیّة التی بإزاء الإنشاءات اللفظیّة إذا کانت صادقة فإنها تحکی عن الکمالات الموجودة فی ذلک الممدوح، فالإنشاء المدحی هو ترجمان ودالّ علی المعانی الذهنیّة الصادقة فی ذهن الشاعر الحاکیة عن الکمالات الواقعیّة، کما فی مدح الفرزدق للإمام السجاد علیه السلام.

کذلک الهجو الصادق کما یهجو اللّه عزّ وجلّ بنی إسرائیل، فهنا الهجو إنشائی

ص:105

لکنّه غیر متمحّض فی الإعتبار، بل هو من جهة لإعلام الآخرین، ومن جهة أخری له معانٍ حکائیّة عن معانٍ واقعیّة، فالمدائح أو اللعائن الموجودة فی القرآن وإن کانت إنشائیّة لکنّها لیست محض إعتبار، بل ترجمان ودلالة علی المعانی الموجودة الذهنیّة الحواکی عن النواقص أو الکمالات الواقعیّة.

ثم هل النزاع والشجار فی الأمر البدیهی یدلّ علی عدم بداهته؟

الجواب: لا، فکم من بدیهی تقع فیه الغفلة والشجار، ثمّ ینبّه علیهما وترفع الغفلة أو الشجار وقد لا یرید الطرف الفحص عن الحقیقة لیتنبّه، بل للجدال أو لبیان المغالطة حتی فی البدیهیّات التی هی رأس مال فطرة اللّه، فالفطرة قد تسلب عنه أی یغشی علیها بحجب الإذعان بالجهالات المرکّبة نتیجة معاندة ولجاجة النفس البشریّة مع فطرة اللّه، أوَلیس الوسواسی لا یتبع البدیهیّات لحالة مرضیّة فیه؟ فکذلک اللجاج والعناد حالة مرضیّة فی النفس لسیطرة القوّة الوهمیّة والتخیلیّة علی قوّة العقل العملی فی الإنسان.

وإذا لم تروّض قوّة العقل العملی علی اتّباع العقل النظری وعدم الإئتمار للقوی السفلیّة یبتلی الإنسان التشکیک کما نقل عن الفخر الرازی أنه مات وهو یشکّک حتی فی التوحید، لإدمانه فی التشکیک. فهذه حالات مرضیّة فی القوی الإدراکیّة للنفس وفی القوی العملیّة؛ فوجود التشاجر والنزاع فی الاُمور الفطریّة العقلیّة أو النظریّة التکوینیّة الصادقة لا یدلّ علی أنّها إعتباریّة.

ص:106

أمّا الجواب عن الوجه الثانی

من أنّ تشخیص الکمال وإحراز الواقعیّات یقع فیه إختلاف، فقد یحرز جیلٌ من البشر أنّ مادّة معیّنة طبیّة نافعة للمرض الکذائی، ثم یأتی جیل بعد ذلک فی الطبّ ویقول هذه المادّة سامّة قاتلة موجبة لانهدام الصحّة البشریّة، فهذا لا یعنی نفی تکوینیّة التکوین.

وهذا الإختلاف ناشئ من إختلاف الإحراز أو ناجم من إختلاف الظروف؛ مثلاً فی البلد البارد کمال البدن الإنسانی لبس الثیاب الکثیفة المثقلة وأمّا فی البلد الحارّ لا یکون ذلک کمالاً للبدن الإنسانی، بل کماله أن یرتدی ثوباً خفیفاً، فإختلاف الظروف یسبّب إختلاف ما هو حسن فی هذه الأمکنة وکذلک الحال فی العادات.

نعم لا نقول إنها کلّها مطابقة للواقع، بل بعضها ردیئة وبعض السنن الإجتماعیّة أغلال للمجتمع وقیود له، فیستحسنها العقلاء أی یتخیّلون أنّها لازمة لکمالهم، وبعض العادات یستقبحها العقلاء والحال أنّها حسنة فی نفس الأمر، لا لکون التحسین والتقبیح إعتباریّین، بل لأنّ إحراز الحسن والقبح خاطئ، ومن ثمّ نحتاج إلی الشرع لأنه یهدی إلی المحاسن والقبائح الواقعیة الحقیقیّة فی الموارد النظریّة.

ص:107

أمّا الجواب عن الوجه الثالث

فلو سلّمنا به فغایة ما یدلّ علیه هو عدم کون الحسن والقبح أمراً بدیهیّاً، لا أنّه لیس حقیقیّاً، لأنّ النظری ایضاً لا یقضی به العقل إبتداءاً ککیفیّة صدور أفعال الباری عن الباری، مع أن الحقّ هو قضاء العقل بذلک ولیس حکمه متقوّماً بحالة الإجتماع البشری، بل یقضی فی نفسه بأنّ الصدق حسن أو الکذب قبیح وهکذا، مثلاً لو رأی ومیّز أن من کمال الإنسان أن یصل إلی فلان، لحکم بحسنه ولا بعد فیه، بل نجد من أنفسنا الإضطرار إلی ذلک الحکم فی ذلک الفرض؛ أو عرض علیه مشهد معیّن بحیث شاهد ظلم شخص لشخص آخر وأنه یمانع من وصوله إلی کماله، فلا ریب فی أنه یتأثّر لا من جهة الرقّة والإنفعال العاطفی أو القلبی، بل عقله یقضی بقبحه.

ودعوی أنّ منشأ الغضب والرضا دوماً حیوانی ممنوعة، لأن القوّة الغضبیّة والشهویّة إذا کانتا تحت سیطرة العاقلة یکون الغضب والرضا حینئذٍ عقلانیّین، ولذلک قد ذکرنا أن الرضا والغضب قد یکونان عقلیّین ولیس داعیهما حیوانیاً علی الدوام ولذلک أن الملائکة مع عدم وجود القوی الحیوانیّة فیهم ومع أن حیاتهم لیست حیاة إجتماعیّة مدنیّة تربویّة وإنّما إرتباطهم تکوینی، مع کونها کذلک فإنّها تتأثّر وتتنفّر من مظالم العباد، والملک وجود عقلانی یتأثّر من الظلم ویستحسن الحسن فکذلک الإنسان لا یقبّح بسبب حالته الإجتماعیّة.

وبذلک یندفع الوجه الرابع

ص:108

أمّا الجواب عن الوجه الخامس

إنّ الإنفعال نوع منه عقلی والمراد منه أنّ هناک نوعاً من الغضب العقلی ونوعاً من تحریک للقوی الحیوانیّة المادون بتوسّط العقل العملی، کما یمثّل بقوله تعالی:

(وَ لَمّا سَکَتَ عَنْ مُوسَی الْغَضَبُ)1 حیث یتسائل لِمَ عبّر عزّ وجلّ ب «سکت»، إذ السکوت مقابل النطق والسکون مقابل الحرکة، والحیوان یذکر فی تعریفه الماهوی أنّه الجسم النامی المتحرّک بالإرادة وأمّا فی تعریف الإنسان یذکر أنّه الناطق، فالنطق والسکوت خاصّة الإنسان، أمّا الحرکة والسکون خاصّة مطلق الحیوان، فلذا عبّر فی الآیة بسکت، لأنّ مقابله النطق ولم یعبّر بالسکون الذی هو مقابل الحرکة وهذا یدلّ علی أن غضب موسی لم یکن غضباً حیوانیّاً، بل هو غضب ناشئ من القوی العاقلة. وکذا قول أمیر المؤمنین علیه السلام حین ما هجم جیش معاویة علی إمرأة فی أطراف العراق وقال:

«فلو أنّ إمرءاً مسلماً مات من بعد هذه أسفاً ما کان به ملوماً» (1) هذا لیس إنفعالاً حیوانیّاً وإنّما إنفعال عن قوّة عاقلة.

وتبیان ذلک تحلیلاً أنّه إذا أدرکت قوّة العقل النظری ثمّ تابعتها قوّة العقل العملی فی ما تدرکه ممّا ینبغی فعله أو لا ینبغی، وکانت القوی الحیوانیّة المادون مطیعة إلی أمارة وسلطة قوّة العقل العملی، فلا تکون حرکات القوی الحیوانیّة حرکات حیوانیّة وإن کانت هی قوّة حیوانیّة لکنّما منبعثة من العقل العملی وهذا کمال الإنسان ولذلک ورد «یغضب للّه لا لنفسه».

ص:109


1- (2) . الخطبة / 27.

وکذلک حال الکمّلین وتکاملهم فی خضوع قواهم المادون إذا کانت إدراکیّة أو عمّالة لما فوقها إلی أن یصل إلی قوّة العقل النظری. وکذلک کمال وتمام العقل النظری هو کونه مدرکاً خاضعاً للعوالم العلویّة، وتلک العوالم کذلک إلی أن تصل إلی عوالم الربوبیّة، فتکون حینئذً مشیئة الکامل مشیئة إلهیّة، لأن مشیئته فی القوی المادون تتلقّی من العوالم الربوبیّة وهکذا المشیئة الإلهیّة، وإلّا فلیس فی الربوبیّة غضب حیوانی وإنّما غضب اللّه بغضب أولیائه ورضاه برضا أولیائه؛ لأنّ منبعث رضاهم القوی العقلیّة (وَ ما تَشاؤُنَ إِلاّ أَنْ یَشاءَ اللّهُ)1 فالغضب وإن کانت تقوم به القوی الحیوانیّة لکنّها مسخّرة من قبل القوی العقلانیّة، فیمکن أن یکون الفعل یسبب المدح أو الذمّ بلحاظ عقلانی لا حیوانی ویصیر الحسن والقبح عقلیّین وهذا هو وجه مستقلّ لإثبات عقلانیّة الحسن والقبح.

وکذلک فی الغایة وقول المستدلّ بأنّ العقلاء قد تدفعهم الغایات أن یمدحوا أو یذمّوا ممّا یدلّ علی أنّه جعل إعتباری... إلخ.

فالجواب أنّه لیس جعلیّاً اعتباریّاً، لأنّه بضمیمة ما تقدّم من أنّ الحدّ الماهوی للمدح هو التوصیف بالکمال والحدّ الماهوی للذمّ هو التوصیف بالنقص، نفس الإلتفات والتذکیر للأنفس بالحقائق وحثّها علیه نحو تکمیل تکوینی لتلک النفوس لا أنّه إعتباری فعندما یؤکّد الإنسان لإنسان آخر ویلقّنه کثیراً بما هو حقّ وبأنّ الصدق جیّد والخلق الحسن جیّد، تکرار هذا القول نوع تکمیل تکوینی مساعد له لکی یستعدّ لمرحلة التکامل ولیس إعتباریّاً، بل التلقین للقضایا الحقیقیّة، یوجب صدورها عن الشخص وصدور الأفعال الحسنة، وهذا تأثیر التربیة والعادة علی القضایا الصادقة الحقّة.

ص:110

أمّا الجواب عن الإشکال السادس

فواضح لأنّه حیث أخذ فی ماهیّة المدح التوصیف بالکمال، فالکمال الذی هو منشأ التوصیف هو أمر عینی ومن أعراض الفعل، غایة الأمر الأفعال تارة تتّصف بکمال متّوسط وأخری إبتدائی وثالثة نهائی وهذا بحث آخر.

فالتوصیف أمر نفس الأمری لا إعتباری، نعم هو من سنخ الوجود لا من سنخ الماهیّات المقولیّة؛ لأنه توصیف بالکمال لا توصیف بمقولة خاصّة، فمنشأ المدح وهو الکمال من سنخ الوجود لا من سنخ المقولات وهو عینی لا تخیّلی إعتباری وحیث ظهر أن المدح هو التوصیف بالکمال والذمّ هو التوصیف بالنقص، یظهر أنّه لا ینحصر بقسم من أقسام القضایا السّتّة، بل هو تارة من الوجدانیّات کما فی الأخلاقیّات، وأخری قابل للإندراج فی عدّة من تلک المقولات، فبعض کمالات الأفعال قد تکون محسوسة ونقائضها کذلک وبعضها قد تکون وجدانیّة نفسانیّة کحسن الظن أو سوء الظن أو غیر ذلک فحیث إن الکمال من سنخ الوجود أی التوصیف بالکمال فهو قابل للإندراج فی عدّة من أقسام البدیهیّات.

ص:111

أمّا الجواب عن الوجه السابع

وهو أنّ الإحترام نوع إنشاء لأنّ وضع وحرکة البدن بإعتبار العقلاء یدلّ علی الإحترام أو الإهانة، فالتلازم بین حرکة البدن والإحترام نوع من الإعتبار ولکن مضافاً إلی ما نذکره فی بحث الإعتبار مبسوطاً من ضابطته ونحو إرتباطه مع التکوین أن هذا الإنشاء یسمّی صادقاً إذا کان داعی المدح هو الکمال التکوینی وإلّا یسمّی کذباً ودَجَلاً؛ حیث إنّ الإحترام منطوٍ ومتضمّن لنحوٍ من الإخبار فإذا لم یکن الطرف کاملاً لا یکون الإحترام توصیفاً حقیقیّاً صادقاً، فالداعی الموجب له إن کان صادقاً حقیقیّاً یحکی عن الواقع فیکون صادقاً وإلا کان کاذباً، وغایة من یحترم الکبار داعیه تقدیس الکمال والحثّ علی الکمال، لأنّ تقدیسه للصفات الحقیقیّة العلیا فیه، لا لبدن العالم.

ففی تلک الموارد الحسن لیس بلحاظ الإنشاء فی التعظیم، بل بلحاظ الداعی فی التعظیم والفعل دلالة إنشائیّة علی ذلک بلحاظ الداعی؛ فهو نوع کمال تکوینی.

مثلاً إذا خشع قلب المصلّی فی صلاته خشعت جوارحه، فخضوع القلب الذی هو لازم خضوع العقل وهو مستلزم لخضوع الجوارح، فهذه قدسیّة للکمال وحثّ نحو الکمال؛ نعم القدسیّة للأباطیل سجن وأغلال یجب أن تکسر. أمّا دعوی أن کلّ قدسی فیجب أن یصطدم معه لأنّ التقدیس والتعظیم تحجیر لمسیر التکامل، فدعوی زائفة فی إطلاقها، لأنّ القدسیّة أی الخضوع والإنقیاد صفة مهمّة کمالیّة وبرهنت کمالیّتها فی کلّ الفلسفات عدا السفسطة، نعم القدسیّة رهینة الحقیقة یعنی الإنقیاد، والتسلیم إنّما هو للحقیقة لا لشیء آخر.

ص:112

وأمّا الجواب عن الوجه الثامن

فقد یقرّر بأنا لا نلتزم أن قضیّة العدل حسن والظلم قبیح، أسّ أساس القضایا العقل العملی، بل هما قضیّتان منتزعتان من قضایا العقل العملی وإلّا فقضایا العقل العملی هو الکذب قبیحٌ والصدق حسنٌ والإحسان حسن والبخل قبیح وهکذا وینتزع من تلک القضایا الحاویة لتلک الأفعال، الظلم والعدل.

وهذه الإجابة لا بأس بها.

ولکن الإجابة الصحیحة هی التی ذکرها الفلاسفة بأن العدالة أمر حقیقی لا إعتباری وکذلک الظلم، وبیّنوا أنّ التعریف الدقیق للعدالة هو وصول کلّ موجود إلی کماله المطلوب من دون إعاقة شخص آخر وممانعته عن الوصول، مثلاً العدالة الإجتماعیّة هو وصل کلّ أفراد المجتمع إلی کمالهم المطلوب من دون معاوقة ومزاحمة شریحة منهم لشریحة أخری، أی وصول کلّ الطبقات إلی کمالهم المطلوب، والظلم بخلافه.

والعدالة الإقتصادیّة هو وصول المعدّات المادیّة لکمالات البدن لکلّ فرد، لأن البدن محتاج إلی إعدادات مادیّة وبکمال البدن الذی هو آلة للروح تستکمل الروح، فحاجة البدن إلیها لهذه الجهة، کذلک العدالة السیاسیّة وحرّیّة الرأی.

فالعدالة فی کلّ الموارد لیست محض إعتبار من التشریع، بل حدّها الماهوی هو تکافؤ أفراد النوع الإنسانی فی إمکان تکامل کلٍّ بحسبه تکویناً والتشریع محرز

ص:113

وکاشف عن طرق التکافؤ التکوینیّة والظلم عدم التکافؤ وامتناع التکامل فی بعض الأفراد دون بعض، ففی کلّ مرحلة وأیّ صدد بدنیّاً کان أو علمیّاً أو سیاسیّاً أو اقتصادیّاً، العدل والظلم لیسا متولّدین وناشئین من التشریع، بل من المناشئ التکوینیّة.

ص:114

أدلّة عقلیّة الحسن والقبح وتکوینیّته

اشارة

ص:115

ص:116

أدلّة عقلیّة الحسن والقبح وتکوینیّته

مضافاً إلی ما ذکرناه من أنّ حدّ کلّ من المدح والذمّ هو التوصیف بالکمال أو بالنقص وهما حدّان عقلیّان تکوینیّان نضیف فی المقام وجوهاً أخری:

البرهان الأول: الوجدان والفطرة

فإنّ الذین ینفون الحسن والقبح العقلیّین هم فی یومیّاتهم یضطرّون ویتعاملون بهما، فینفّرون من القبیح وینجذبون إلی الحسن کشیء نابع من فطرتهم، فینکرونهما بلسانهم ویبنون علیهما فی أعمالهم للفطرة. وفطرتهم مرتکزة علیه وهذا نوع من المکابرة مع الوجدان.

ولذا تری ابن سینا کلماته متهافتة. ففی الشفاء یذکر أنّ کلّ أو أکثر ما بأیدی الناس من الحسن والقبح حقّ، یقام علیه البرهان؛ وفی عبارة أخری لدیه فی مبحث النفس من الإشارات من النمط الثالث یذکر بأن العقل العملی قضایاه إمّا أوّلیّات أو مشهورات أو مظنونات، وإذا کان العقل العملی بعض قضایاه أوّلیّة ولو موجبة جزئیّة فیلزمه رجوع قضایاه إلی قضایا بدیهیّة یمکن إقامة البرهان

ص:117

علیها، وإذا کانت حصّة من قضایا العقل العملی أوّلیّات فیبطل إطلاق القول بأنّها مشهورات لا واقع لها تطابقه، فالأوّلیّات تعنی بدیهیّة وقضایا العملی تعنی المشتملة علی ما ینبغی فعله والذی لا ینبغی فعله. وهذا واضح.

وکذلک فی منطق الشفاء یعرّف المشهورات بأنّها لا واقع وراءها تطابقه وإذا کانت المشهورات کذلک، فکیف ینسجم مع القول بأن بعض قضایا أقیسته التی ینبغی فیها العمل أو لا ینبغی أوّلیّات یعنی بدیهیّات، فی حین أنه جعل الصنف الأوّل من المشهورات - الحسن والقبح بمعنی المدح والذمّ - ممّا لیس لها واقع ما ورائه تطابقه، والأوّلیّات لها واقعیّة وراء تطابق آراء العقلاء لا باعتبار المعتبر.

تدافع آخر، قال ابن سینا: یمکن إقامة البرهان علی قضایا العقل العملی ولو بنحو الموجبة الجزئیّة وضابطة البرهان أن ترجع القضایا النظریّة إلی البدیهیّة - وإذا کان قیاس البرهان للإستدلال هو من القضایا النظریّة أی کلتا المقدّمتین نظریّة والنتیجة نظریّة - فلا بدّ أن ترجع المقدّمتان فی نهایة المطاف إلی البدیهیّة؛ إذ لا یمکن إنطلاق النظری من النظری هلمّ جراً، بل یرجع إلی أمر بدیهی وإلّا یصیر دوراً؛ فقوله هذا نوع من الإعتراف بأنّ قضایا العقل العملی ترجع إلی البدیهیّة، والغریب أن الخواجة مع إحاطته یتابع فی الشرح المتن عیناً فهو فی شرحه یثبت أنّهما عقلیّان تکوینیّان لکنّه فی أساس الإقتباس یعبّر بتعبیرات مضطربة.

ص:118

البرهان الثانی

هو ما ذکرناه فی جواب دلیل المحقّق الإصفهانی فی السبب والغایة.

البرهان الثالث

إنّ إنشاء المدح والذمّ وإن کان إعتباریّاً إنشائیّاً إلّاأنّه قد ثبت فی محلّه أن الإنشاء لا بدّ أن یکون بداعٍ تکوینی، فالهجو الإنشائی بداعی إظهار النقص، والمدح بداعی إبراز الکمال.

نعم إذا کان الداعی کاذباً یقال کاذب بلحاظ داعیه، أو کان صادقاً فصادق بلحاظه. فالصدق والکذب بلحاظ الداعی، فهو أمر تکوینی کما أنّ البلاغیّین قالوا بأن الإنشاء یتعنون بعنوان الإستفهام أو الدعاء وتلک العناوین لماهیّات الدواعی - یعنی ماهیّة الداعی الموجودة فی الذهن وتحریکها للإنشاء - تکوینی، فیتعنون بعنوان الداعی.

ص:119

البرهان الرابع: قاعدة العنایة

ما ذکره صدر المتألّهین فی الأسفار فی بحث العنایة.

ومقدّمةً نذکر تعریف العنایة کی نبیّن کیفیّة دلالة قاعدة العنایة علی الحسن والقبح وهو أن العنایة هی علم الباری تعالی بالنظام الأتمّ الأکمل فی الوجود وعلّیته لذلک النظام ورضاه به.

وفی هذا التعریف ثلاثة حیثیّات: علمه بالنظام الأتمّ الأکمل والخیر الأتمّ وعلّیته لذلک النظام ورضاه بذلک النظام ویعبّرون فی بحث العنایة حیث إن الباری هو علی أکمل ما یمکن أن یکون فی ذاته فالصوادر من الباریء عزّ وجلّ کذلک هی بحذاء ذلک النظام الذاتی الأعلی والأشرف یکون صدورها. کما فی تعبیر بعض الروایات عن الرضا علیه السلام إنّما ههنا یدلّ علی ما هناک باعتبار أن آیات مخلوقات اللّه مع إختلاف درجاتها تدلّ علی صفة وکمال فی الباری تعالی، فلذا عرّفوا العنایة الإلهیّة هی علمه بالنظام الوجودی والخیر الأشرف ورضاه به وعلّیته لذلک النظام وقد برهن الحکماء علی أن هذا الترتیب الموجود فی أقسام الوجود هذا هو أقصی ما یمکن أن یبلغه النظام فی الکمال والخیر والأتمیّة.

وبحث العنایة قاعدة فلسفیّة عامّة تعمّ کلّ عوالم الوجود، یقولون إنّه حیث إن الباری هو اللّامحدود فی الکمالات والخیر والعلّو، فنظام الخلق والصوادر عن الباری هی بحذاء تلک الذات الکاملة. هی الذات المقدّسة هی نظام جملی وجودی أکمل وأشرف وأعلی ونظام ترتیب الصوادر عن الباری هی بحذاء ذلک

ص:120

النظام الأکمل؛ فالنظام الذاتی یکون علّة للنظام الخلقی وعلّة لأفعال الباری مع رضا الباری بذلک وعلّیته لذلک وفی المقام نبنی علیه کأصل موضوعی.

القاعدة ومؤدّاها، وکیف نستدلّ بها علی عقلیّة الحسن والقبح؟

مؤدّاها أن کلّ کمال ببرکة العنایة الإلهیّة یجب أن یکون علی أکمل ما یکون علیه ومنها الموجودات الإرادیّة والفاعل بالإرادة. فالمفروض فی العنایة الأزلیّة الإلهیّة أن توصل تلک الموجودات الفاعلة بالإرادة إلی أکمل ما تکون علیه بتهیّؤ الأسباب. وبهذه القاعدة یستدلّ علی ضرورة التشریع والتقنین، أی بیان طریق الکمال من واجب الوجود للموجودات الفاعلة بالإرادة فی عالم الدنیا باعتبار أنه یجب أن یوصلها إلی أکمل ما یمکن أن تکون علیه.

فهذا المؤدی الإجمالی للقاعدة ویکون بمنزلة الکبری وصغراه ندلّل علیها:

إمّا بما تبیّن من کون الحسن بمعنی المدح، والقبح بمعنی الذمّ فی الأفعال، قد أخذ فی حدّهما الوصف بالکمال أو بالنقص، فیثبت صغری قاعدة العنایة فی الأفعال.

وإمّا ندلّل علی الصغری بما ذکره الفلاسفة فی ضرورة التشریع والشریعة کما فی إلهیّات الشفاء والنمط التاسع من الإشارات وغیرهما من ضرورة التمدن والإجتماع للنوع الإنسانی لأجل التکامل تکویناً والإجتماع لا یحفظ تکویناً إلّا بأحکام العقل العملی والشریعة، فمصالح النظام تحفظ بها فهی حینئذٍ کمالات.

أو ثالثةً ندلّل علیها بما هو مقتضی قاعدة العنایة من کون کمال الشیء الذی تثبته القاعدة وإن کان معلولاً للعلم الذاتی، لکنّه متقرّر فی ذات الشیء،

ص:121

فکذا الحال فی أفعال الإنسان سواء بالنسبة وبالإضافة إلی نفسه أو إلی غیره المجموعی؛ فکمالاتها متقرّرة فی نفس الأمر لا بحسب تطابق المجموع وآرائهم.

وبیان ذلک بنحو البسط: أن قاعدة العنایة کما ذکرها صدر المتأ لّهین وغیره أنّ علم الباری - الذی هو منشأ لافاضة الکمالات علی المخلوقات الفاعلة بالإرادة - تابع للکمال أی للمعلوم، لا أنّ المعلوم تابع للعلم، فالمعلوم الذاتی هو النظام الکامل الذاتی فی الساحة المقدّسة الربوبیّة، والعلم تابع له لا متبوع له علی الدوام، والعلم تابع للمعلوم وإلّا لم یکن العلم علماً به. نعم صدور وإفاضة الکمالات تابعة للعلم الذاتی أی معلول لها.

ثمّ الموجودات الفاعلة بالإرادة حینما یفاض الکمال علیها لا بنحو القسر لا بدّ أن تکون الأفعال فی واقعها لها کمال معیّن، کما أن لها نقائص معینة بحیث تکون من عنایة الباری الأزلیّة هو إفاضة الکمالات لا بنحو القسر، والکمالات لا بدّ أن تکون هی فی تقرّر الواقع ونفس الأفعال، والعلم تابع لها، لا أنّ العلم هو الذی یحدّد المعلوم والفرض أن المعلولات الإمکانیّة وإن کانت هی تابعة للإنشاء والإیجاد للعلم الذاتی ولکن بلحاظ المعلوم الذاتی. فالعلم تابع للمعلوم، فالکمالات فی نفسها لا بدّ أن تکون مقرّرة، فلیس الکمال ما جعله علم الباری کمالاً بل هو بنفسه فی الرتبة السابقة یکون کمالاً، ولیس النقص ما جعله علم الباری نقصاً وإنّما هو فی الرتبة السابقة ما کان بنفسه ناقصاً؛ فالأفعال فی حاقّ واقعها ذات کمالات أو نقائص بالجعل البسیط؛ ففی حاقّ واقع الأفعال اتّصاف بالکمال أو بالنقص، فلیس الحسن فی الأفعال ما حسّنه الشارع، بل الحسن هو ما یکون فی واقعه حسن، ولیس القبح فی الأفعال ما قبّحه الشارع وإنّما هو فی نفسه ذو نقص واقعاً. فالخیر والشرّ فی الأفعال کمالها ونقصها فی نفسها.

ص:122

فبقاعدة العنایة تثبت أنه تفاض تلک الکمالات التی للأفعال بحسب ذاتها.

والعلم تابع للمعلوم الذاتی وإن کانت المعلومات تابعة للعلم الذاتی لا فی أصل التقرّر الواقعی، بل فی الإیجاد؛ لأنها آیة علی الکمال الذاتی، وفی الکمال الذاتی العلم تابع للمعلوم وإن کان فی الکمال الإمکانی الحال أنه معلوم وتابع للعلم الذاتی ومخلوق له تبعیّة إیجاد.

ثم إنّه من النکات البالغة خطورةً وأهمیّةً وفائدةً فی سائر مباحث المعارف - وهی نحو وفاق بین علمی الکلام والفلسفة وبین ما یحکم به العقل العملی وما یحکم به النظری - أن کثیراً مّا یمکن إستبدال قاعدة اللطف الکلامیّة بقاعدة العنایة الفلسفیّة، بل إنّ هناک نضجاً فی الأبحاث الفلسفیّة عند الإمامیّة حیث یزاوجون بین قاعدة اللطف والعنایة، أی بإرجاع مؤدّاها إلی قاعدة واحدة، غایة الأمر أن لها صیاغتین: صیاغة قاعدة اللطف علی قواعد العقل العملی وصیاغة قاعدة العنایة علی قواعد العقل النظری؛ إذ لا تتّکی علی الحسن والقبح العقلیّین، بل تتّکی علی قواعد العلّیة والمعلوم والعلم الذاتی فی واجب الوجود فی صفاته وذاته وهذه بحوث فی العقل النظری.

فهی قاعدة واحدة إلّاأنّه یستدلّ لها بقواعد العقل النظری تارة، فتکون قاعدة العنایة وقد یستدلّ لها بقواعد الحسن والقبح، فتکون قاعدة اللطف. فالقضیّة الواحدة تارة یحکم بها العقل العملی فتسمّی بقاعدة اللطف بالحسن والقبح وهما خاصّتا حکمه وأخری یحکم بها العقل النظری بقاعدة العنایة وهذا الإتّحاد من الأبواب فی المعارف، واللطف هو بإعتبار ملاحظة قبول من الدانی للکمال من العالی وفی العنایة علی العکس وهذا فرق آخر بینهما ومناسبة تسمیتها عند الفلاسفة بالعنایة؛ لأنّ إفاضة الکمالات علی ما دون نوع من العنایة من الباری.

ص:123

البرهان الخامس: تجسّم الأعمال

وهی قاعدة مهمّة فی نفسها وقد بلورت عند الفلاسفة الإمامیّة بشکل دقیق متین وهی أحد براهین إثبات المعاد الجسمانی.

والظاهر أن تنبّههم لها هو للروایات الواردة عنهم علیهم السلام المرشدة لنکات العقوبات والمثوبات فی القرآن، وأن تلک من قبیل تجسّم الأعمال وهذه القاعدة لها أدلّة مفصّلة فی مبحث النفس والمعاد وغیره.

وملخّص برهنة القاعدة هو أنّ العمل بتکراره یولّد ملکات وهیئات إمّا حسنة نورانیّة أو ردیئة ظلمانیّة عند الإنسان، کیف لا وأن بدنه الجسمانی إذا عوّده علی شیء یعتاد بدنه المادی علیه، مثلاً إذ عوّده علی التریاق أو علی السیجار حتّی أنه لو أراد بعد ذلک بارادة قویّة قطع ما اعتاد علیه لا یستطیع دفعةً ترک الإعتیاد، بل قد یشرف علی الموت لو قطعه دفعة، فرسوخ تلک العادة البدنیة لیس بإختیاره بقاءً؛ فإذا عوّد البدن علی الشیء لا یسهل إقتلاعه، بل یمنع فی بعض الأحیان، سواء فی العادات الجیّدة أو المضرّة، وإذا کان الحال فی البدن الجسمانی هکذا فکیف فی البدن الروحانی أو المثالی، والبدن الروحانی إذا نشأ وأسّس علی هیئات ظلمانیّة، فلا یمکن بسهولة إقتلاع تلک الهیئات الفاسدة، والملکات تشتدّ إلی أن تصیر فصولاً جوهریّة للإنسان الملکی أو السبعی أو البهیمی أو الشیطانی أو غیر ذلک من الأنّواع اللاحقة للصورة الإنسانیّة.

أمّا تطبیق القاعدة علی المقام فبیانه: إن موارد الحکم بالحسن هی بلا ریب

ص:124

نفس الفضائل والکمالات التی توجب رقی الإنسان وتوجب صوراً کمالیّة أخرویّة وکذلک موارد الحکم بالقبح ایضاً فإنها تشتمل علی نواقص أی تتجسّم بصور ردیّة؛ فیظهر من ذلک أن الحکم بالحسن أو القبح لیس حکماً إعتباریّاً تخیلیّاً، بل حکم حقیقی ناشئ من منشأ تکوینی.

ص:125

البرهان السادس: قاعدة الغایة

إذ للأفعال غایات کبقیّة الموجودات، کما هو مبرهن فی قاعدة الغایة الفلسفیّة، وهناک رابطة تکوینیّة حقیقیّة بین الفعل وغایته، وکذلک رابطة حقیقیّة بین الفاعل والغایة، أی بین صدور الفعل من الفاعل والغایة.

وببیان آخر: إن هناک إرتباطاً بین الوجود الخارجی للغایة والفعل، وأن الفعل یتکامل للوصول إلی الغایة فی الخارج وهناک أیضاً إرتباط بین الوجود العلمی للغایة وفاعلیّة الفاعل. کما أن الفاعل الناقص یستکمل بأفعاله ولکن الفاعل الکامل غایته لیست فعله بل ذاته؛ فلا یستکمل بفعله کما فی اللّه عزّ وجلّ، والعالی لا ینظر إلی السافل والدانی، بل غایته ذاته، فالباری فاعلیّته لیست فاعلیّة الإستکمال بالفعل، لکن ذلک لیس بمعنی نفی الغایة، بل غایته ذاته. فلا یطلب شیئاً وراء ذاته، بل هو مستغنٍ بها کما أن ذلک لا ینفی الغایة للفعل وإن لم تکن غایة الفعل غایة للباری الفاعل؛ ففعله علی الحکمة أی له غایة وهی تغایر غایة الفاعل؛ نعم غایة غایات الفعل القرب من الذات الأزلیّة.

وبعبارة موجزة: إن فعل الفاعل بلا غایة فی الفاعل التامّ یساوق إنکار العلّة الفاعلیّة، فالفاعل التامّ فاعلیّته لأجل الذات وإلّا فهو ناقص یحتاج إلی التکمیل، والفعل تکامل له. إن الفاعل الشاعر بالإرادة أی الفاعل العلمی لا یفعل الفعل لغایة، ولا بدّ أن تکون الغایة کمالاً لفعله أو الفاعل العلمی فی موارد الفضائل له غایات، هی غایات کمالیّة. فهناک نوع تلازم بین موارد الحکم بالحسن الموجود فی تلک الأفعال وغایات تلک الأفعال وهی الکمالات، وهی کمالات للقوّة العاقلة

ص:126

وما فوقها، وکذلک فی موارد الحکم بالقبح للأفعال غایات لیست کمالات للقوّة العاقلة، بل کمالات للقوی الدانیة الغضبیّة والوهمیّة والشهویّة والتخیّلیّة علی تفاصیلها؛ فکلّ فعل له غایة، غایة الأمر الغایة کمال لماذا؟

فموارد الحکم بالقبح هی کمالات لا للقوّة العاقلة وما فوقها - أی الدرجات العالیة للنفس - بل کمالات للدرجات السافلة للنفس، وإذا اشتدّت کمالات تلک، یصدق قول أمیر المؤمنین علیه السلام:

«کم من عقل أسیر تحت هوی أمیر» فیکون الفصل الجوهری للإنسان مثلاً السبعیّة أو غیرها من الصفات السافلة. فبین قاعدة الغایة والحسن والقبح هناک نوع من التلازم ویثبت بذلک الحسن والقبح العقلی خلافاً للأشاعرة لأن إنکاره یصادم إنکار العلّة الغائیّة فی الأفعال، ویلازم إنکار الغایة فی الأفعال، سواء العلّة الغائیّة بوجودها العلمی أو الغایة بوجودها التکوینی.

فلذلک کان الأشعری نافیاً للعلّة الفاعلیّة فی الأفعال وقائلاً بالترجیح بلا مرجّح، بل الترجّح بلا مرجّح ویلتزم بصدور المعلول من العلّة بلا أولویّة ولا ضرورة.

فلکلّ فعل غایة والغایة کمال لذلک الفعل وکلّ کمال یناسب قوّة من قوی النفس، فإذا ناسب القوی الدانیة، یحکم بالذمّ وتکون الأفعال مذمومة؛ فالحکم بالقبح مساوق لتلک الأفعال المناسبة للقوی الدانیة بلحاظ غایاتها. وأمّا إذا کانت تلائم القوی العاقلة وما فوقها فیحکم بالمدح، فکیف یدّعی أن الحسن فی الأفعال إعتباری تخیّلی ولیس بعقلی؟!

ص:127

هناک تساؤلان حول العقل العملی تقدّمت الإشارة إلیهما هما:

هل الحسن والقبح تکوینیّان عقلیّان أو إعتباریّان جعلیّان من العقلاء؟

ویترتّب علیه تساؤل آخر وهو أن المعروف أن أساس الشریعة وقوانینها هو الحسن والقبح العقلیّان، والأحکام الشرعیّة ألطاف فی الأحکام العقلیّة، أی أن ملاکات الأحکام الشرعیّة جهات حسن أو قبح فی الأفعال لو اطّلع علیها العقل لحکم بها. فإذا کان الحسن والقبح إعتباریّین قابلین للتغیّر، فحینئذٍ لا ثبات للشریعة؛ حیث إنّ الأحکام الشرعیّة تکشف عن جهات لو علم بها العقل حکم بها، فإذا کانت تلک الجهات متغیّرة فالحکم العقلی متغیّر، فالشریعة أیضاً غیر ثابتة. وهذه الإثارة مطروحة کثیراً فی الأوساط الفکریّة حتّی أنّ البعض ذهب إلی أنّ معنی ختم النبوة لیس بمعنی ثبات الدین الإسلامی إلی یوم القیامة، وأنّ البشریّة قد تکاملت عقولها إلی حدّ لا یحتاج إلی نبیّ یرعاها أو وصی یسدّدها ویهدیها، وإلّا فلا ثبات للقوانین، فعقلاء کلّ قوم وحکماء کلّ طائفة هم یسنّون تلک القوانین. وهذا إنکار للرسالة، لأنّ الإعتقاد بها کما یلزم بأصلها یلزم فی إمتدادها أیضاً ولذا یعدّ القائل من منکری کون الرسالة لکافّة الناس والعالم.

ومنشأ وروح هذا الإشکال یرجع إلی إعتباریّة الحسن والقبح وهو موجب لإثارة تساؤلات کثیرة أخری فی الرؤیة والمعرفة الدینیّة فی کثیر من المباحث، إذ هو یتأثّر من القول، مثلاً قصّة بدء النسل هل هی بدأت من نکاح الأخوات أو من تزویج أبناء آدم بالحوریّة والجنّیّة.

وفی روایات أهل البیت علیهم السلام یستشهدون علی إبطال رأی العامّة - بأنّ بدء

ص:128

عملیّة النسل هو بتزویج الأخوات - بتمثیله علیه السلام - لما سمعه من واقعة وقعت - أنّ خیلاً من الخیول النجیبة وقع علی امّه من دون شعور منه، ثمّ قتل نفسه ندامة، فهذه غریزة فطریّة أودعها اللّه تعالی فی الحیوانات، فکیف لا یودعها اللّه عزّوجلّ فی فطرة الإنسان؛ فالأفعال إذا کان لها محاسن أو جهات قبح فی ذاتها، فلا مجال للتبدّل والتغیّر.

نعم لایلزم علی القول بالحسن والقبح التکوینیّین أن تکون جهات القبح أو الحسن فی الأفعال بنحو العلّیة دائماً، فقد تکون بنحو المقتضی، مثلاً الکذب مقتضٍ للقبح، لا أنّه علّة تامّة، لکن لا کما یقوله أحدهم أن الزنا لو لم یقبّح من الشارع، فلیس فیه قبح وإنّما هو بتحریم الشارع قبیح! حتّی أن بعض الفلاسفة الإمامیّة غفلوا عن هذه النکتة وقالوا بهذا المقال - والحال أنه یخالف مبنی الإمامیّة - أن الحسن ما حسّنه الشارع والقبیح ما قبّحه الشارع بالتفسیر الأشعری، إذ العلم تابع للمعلوم لا أنّ المعلوم تابع للعلم. نعم تابع للعلم فی الإیجاد، ولا أن ماهیّة المعلوم تتحدّد بالعلم، وهو ما یلهج بها کثیراً فلاسفة الغرب کنظریّة حیث إن القوانین والتشریعات الإعتباریّة حتّی السماویّة، مبنیّة علی العقل العملی وأحکام العقل العملی إعتباریّة بحسب تواضعات وتوافقات کلّ مجتمع وکلّ قطر وکل زمان، فهی تتجدّد وتتغیّر بحسب الأزمنة والأمکنة والأجیال، وعلیه فالتشریعات التی تبنی علیها أیضاً تتبدّل؛ ولذلک قالوا: إن معنی ختم النبوة لیس بمعنی أن دینه أبدی إلی یوم القیامة وإنّما ختم النبوة بمعنی أن البشریّة وصلت بعد نبوة النبی إلی حدّ بإمکانها أن تتّکئ علی عقلها أی أنها وصلت إلی نوع من الإستقلال عن السماء فی التشریع بتوسّط العقل البشری.

فهذه الدعوی مفادها: أن الأحکام الإعتباریّة تخلقها الظروف والأزمنة

ص:129

والأمکنة وتوافق العقلاء وبحسب ما یناسبهم ویجعلوه ملائماً لهم، فتکون قابلة للتغیّر والتبدّل، وکذا الحال فی أحکام العقل العملی، فضلاً عن الإعتبارات والتشریعات.

ص:130

نقاط الضعف

وأوّل نقطة ضعف فی هذه الإثارة هی أن أحکام العقل العملی لیست متغیّرة، نعم الأشاعرة قد یجدون صعوبة فی الردّ علی هذه الإثارة وأمّا علی ما قدّمناه فالبیانات العقلیّة المبرهنة علیها کفیلة لتخطئة هذه الدعوی.

والنقطة الثانیة أن القائل یفترض واقعاً متحقّقاً ولو بحسب الأزمنة تطابقه التشریعات، ولذلک لا بدّ أن تتغیّر بحسب الأزمنة کی تطابق واقع ذلک الزمن، وإذا ثبت وجود واقع تطابقه الإعتبارات والتشریعات، فلا تکون التشریعات حینئذٍ قضایا فرضیّة محضة، بل کاشفة إجمالیّة عن کمالات الواقع ونقائصه، کما أن الواقع الوجودی له قواعد تکوینیّة منضبطة لا تتبدّل علی مرّ الأزمنة بحسب الأجناس والأنواع وإن تبدّلت الأفراد والعوارض فلا بدّ أن یوازیه تشریع ثابت أیضاً.

والنقطة الثالثة: إنّه قد اتّضح أنّ الإعتبار لیس هو إقتراح محیطی إبتدائی یعتبره من أراد، بل لا بدّ من أن یکشف عن جهات الواقع حتّی فی القوانین الوضعیة. وآیة ذلک بالإضافة إلی النکتة التی ذکرناها من المقننین أنه لا یمکن أن یوکل التقنین الوضعی إلی جهّال المجتمع وإنّما یوکل التقنین الوضعی فی کلّ حقل منه إلی خبراء ذلک الحقل مع معونة الخبراء القانونیین کأن تجتمع لجنتان، لجنة الخبراء القانونیّة ولجنة خبراء الموضوع الخاص فی ذلک الحقل والمجال.

فتری البشریّة تخصّص حقّ التشریع إلی فئة خاصّة مشترکة فی کلّ فصل بین خبراء القانون وخبراء ذلک الموضوع ممّن یحیطون بالتجارب، بل ولا یکتفون

ص:131

بذلک بل أنهم یجمعون خبرات البشریّة السابقة وقوانینها، بل أنهم یستفیدون من التقنینات الشرعیّة السماویّة أیضاً. وهذا حقل مفتوح فی علم القانون المتداول فی الجامعات البشریّة وهو فصل فلسفة القانون (الجنائی والقضائی والمعاملی).

ففلسفة القانون هی عبارة عن العلل والأسباب التی قُنّن القانون علی ضوئها، فتلک أسباب تکوینیّة وصواب القانون وصحّته هی فی الکشف عن تلک الجهات وإصابتها وتنفیذها وقولبتها ویجعلون مدار القانون الوضعی هو فی الکشف عن الواقع وإصابته، فالإعتبار یکون بلحاظ الواقع لیس بما هو هو.

ص:132

الثابت والمتغیّر

اشارة

لا یمکن القول بأنّ الواقع کلّه متغیّر؛ لأنّ القائل بتغیّر الواقعیّات لا بدّ أن یلجأ إلی ثابت - علی الأقلّ - وهی نظریّة التغییر، وإلّا لو کانت هذه النظریّة أیضاً متغیّرة فسیکون هناک ثوابت، وهذا ممّا یدلّ علی أنّ المتغیّرات مهما کانت سعة دائرتها التکوینیّة والواقعیّة لا بدّ من أن تستند إلی ثوابت، فالثوابت هی التی تولّد وتنتج المتغیّرات.

ومضافاً إلی أنّه لو کان البناء علی التغیّر، فالسعی والجهد البشری للفحص عن الحقائق لغو وعبث وباطل، ولا یوجد عاقل یسعی إلی معادلات لا ثبات لها، التی تکون بعد حقب زمنی مجهولات لا مجموع معلومات. فهذا السعی البشری من أجل التوصّل إلی ثوابت. فالعلوم تتشعّب إلی شعب کثیرة ویوماً بعد یوم تترابط مع بعضها البعض بشکل عجیب، فترابط الفلسفة بعلم السیکلوجیا وترابطه بعلم الأعصاب وترابط علم الأعصاب بعلم البدن و... فهذا السعی البشری من أجل التوصّل إلی الثوابت فی عالم الطبیعة فضلاً عمّن یقرّ بأن هناک عوالم أخری؛ إذن فالواقع لیس کلّه متغیّراً، بل منطقة منه متغیّرة وأخری ثابتة.

ثمّ أنّنا فی الجملة قد أذعنّا بوجود التغیّر فی الواقعیّات ولکن المنطقة الواسعة فی الواقعیّات هی الثبات، وحیث قلنا إنّ الإعتباریّات واسطة إثباتیة فی الکشف عن الواقعیّات، فلا بدّ أن نتعرّف علی منطقة التغیّر فی الإعتباریّات فی لغة القانون بغضّ النظر عن أن القانون إلهی أو وضعی.

للتعرّف علی ذلک لا بدّ من التذکیر بأنّ منطقة الإعتبار لیست الکلّیات

ص:133

الفوقانیّة العقلیّة کالظلم قبیح والعدل حسن والکلّیات القریبة من الکلّیات الفوقانیّة، ولا حاجة للاعتبار والتشریع فی تلک المنطقة - وإن کان الصحیح عندنا کما ذکرنا فی مباحث علم الاُصول وجود کمال فی ذلک لا یتحقّق إلّابإنشاء التشریع - بل تکون منطقة الإعتبار فی الکلّیات الوسطانیّة أو التحتانیّة. فهناک ثبات للبنیّة الأساسیّة للاعتبار وهی الأحکام العقلیّة الفوقانیّة، فنلاحظ فطریّاً حتّی فی القوانین الوضعیّة أنّ هناک تقسیماً للإعتبار التقنینی إلی تقسیمات منها ثابتة أو ثابتة متوسّطة ومنها متغیّرة، مثلاً: الدساتیر التی للدول حیث یعتبرونها مواد قانونیّة ثابتة بعد ذلک تأتی تشریعات المجالس النیابیّة أو مجالس الاُمّة.

فهذه تشریعات یعتبرونها ثابتة متوسّطة. بعد ذلک تأتی التشریعیات الوزاریّة الإجرائیّة التنفیذیّة التطبیقیّة علی المصادیق التی هی فی داخل کلّ وزارة. بعد ذلک تأتی منطقة الإجراء والتطبیق. فکیفیّة إجراء وتولّد القانون یمرّان عبر ثلاثة مراحل وهذه المراحل هی قدیمة فی لغة القانون والفطرة البشریّة، ونفس الدستور توجد فیه مواد امّ ثابتة أساسیّة لا یمکن أن تتغیّر. وهناک مواد قد تحتمل التغییر، وکذلک الحال فی التشریعات المتوسّطة.

وهناک نکتة أخری فی القوانین الدستوریّة من أنّ الدستور ینطلق من أهداف وأغراض وتلک الأهداف والأغراض هی ثابتة بحسب رشد المقنّنین من الاُمّة انطلاقاً من الأهداف السامیة کهدف الإستقلال والحریّة والعدالة، فهذه یجعلونها ثابتة إلّاإذا علموا بأنهم لم یحیطوا بأهداف اخری هی أسمی وأهمّ لم یلتفت إلیها من قبل. إذن لغة التقنین البشری فیها منطقة ثوابت ومنطقة متغیّرات.

والمیرزا النائینی ذکر فی کتابه أنّ ضابطة المتغیّر فی الشریعة هی الأحکام السیاسیة، وأمّا الثابت منها فهی غیر الأحکام السیاسیّة کالأحکام الشرعیّة

ص:134

والفتوائیّة، فهذه الضابطة متینة لکنّها إجمالیّة.

توضیح ذلک: إنّه فی لغة القانون أو اللغة العقلیّة تتنزّل المعانی الکلّیة الفوقانیّة فی مدارج النفس وخضوع القوی الدانیة تنزّل الأمر الکلّی إلی أن یصل إلی العمل الجزئی، مثلاً هناک إدراک للعقل النظری، ثم إدراک للعقل العملی، ثمّ العقل العملی یذعن بالقضیّة المدرکة، ثم یستعین بالآلات الإدراکیّة النازلة کالتخیّل الوهم، ویستعین بالرویة والفطنة وهو جعل الأمر الکلّی ضمن قالب جزئی مطابق له، ثمّ بعد ذلک یحرّک القوی العملیّة الأخری کالقوی الغضبیّة أو کالقوی الشهویّة وإیصال هذا المطلب الکلّی إلی ضمن فعل خارجی جزئی.

هذا الکلام علی صعید منطقة النفس وکذا علی صعید منطقة الدولة، إذ الدولة بعد لحاظها کموجود واحد شاعر فاعل، لها قوی غضبیّة کالجیش والشرطة ولها قوی عَمّالة، ولها قوی درّاکة ومتخیّلة کالبرلمان، ولها قوی فطنة وتروّی کالقوی القضائیة أو العقول المفکرة فی جهاز الدولة، ولها عقل عملی کالدستور، فتکون نفس الجهاز التکوینی للنفس وینطبق علی جهاز الدولة.

فعلی ما ذکرنا نری أنه فی سلسلة لغة القانون البشریّة هناک معانٍ کلّیة، بل ما فوق المعانی الکلّیة وهی منابع الدستور وهی الاُسس التی یعتمد علیها الدستور ومن ثمّ یأتی من بعده الدستور؛ ثمّ إنّ التشریعات المتوسّطة حیث تراعی مجالس الاُمم فی القوانین الجزئیّة المطابقة للقوانین الکلّیة فی الدستور؛ ثمّ بعد ذلک تأتی التشریعات الوزاریّة التی تطابق تشریعات مجالس الاُمم. ثمّ تأتی بعد ذلک مرحلة التطبیق والسرّ فی هذا الشیء هو أن هناک نکتة عقلیّة بالإضافة إلی أنّ الواقعیّات بعضها متغیّر وبعضها ثابت، أنّه الأمر العقلی الکلّی دائماً هو محلّ ثبات کما هو فی الجوهر العقلی القائم بنفسه، کذلک فی المعانی العقلیّة، أیضاً

ص:135

هی فی محلّ ثبات دائم، إلی أن تتنزّل هذه المعانی والکلّیات العقلیّة إلی عقلیّات محدودة، فیکون ثباتها بالنسبة إلی ثبات المعانی العلیا المطلقة أقلّ وما إن تتنزّل بعد ذلک إلی معانی مرتّبة بمعانٍ جزئیّة أکثر وهی الوهمیّة (المقصود من الوهمیّة هنا لیس بمعنی الوهم الذی لا واقع له أو لا واقع ورائه، بل المقصود من المعانی الوهمیّة هی الکلّیات المقیّدة بالإضافة إلی الجزئیّات الإضافیّة مثل الحبّ المطلق والبغض المطلق هو غیر حبّ زید وبغض زید) والخیالیّة وبعد ذلک تتنزّل إلی الجزئی الحقیقی وهو التطبیق.

إذن هذه المدارج التی تتنزّل منها المعانی الکلّیة إلی کلّیات أکثر محدودیّة إلی معانٍ خارجة عن المعانی العقلیّة إلی معانٍ وهمیّة إلی أن یصل إلی التطبیق إلی منطقة التغییر، فأوضح مناطق التغییر هی فی الجزئی الحقیقی واوضح مناطق الثبات هی المعانی العقلیّة الفوقانیّة جداً التی لیس هناک ما هو أوسع منها وبینهما متوسّطات ولذلک نری أن لغة التقنین البشری هی أیضاً کذلک. فهذا تدلیل عامّ شرحاً لما أفاده المحقّق النائینی من الضابطة فی التغیّر والثبات فی الأحکام السیاسیّة دون غیرها؛ فالأحکام السیاسیّة هی التی فیها التطویر، لأنّ الأحکام السیاسیّة مرهونة ومرتبطة بالجزئیّات، أمّا الأحکام الشرعیّة وهی الثوابت العامّة الکلّیة التی هی بمنزلة الأحکام الدستوریّة، فتلک هی منطقة ثبات ولیست متغیّرة.

ولأجل أن نوضّح أکثر نقول: إنّ المعنی الماهوی للسیاسة هو نفس معنی التدبیر وهو من خواصّ قوّة الفطنة وقوّة التروّی الموجودة لدی النفس البشریّة.

وبعبارة أخری: إنّ السیاسة هی بمعنی تطبیق الجزئیّات وموازنتها مع الکلّیات، فمثلاً العقل یحکم بحسن الصدق أو حسن الإحسان، وحینما یشاهد إنسان زیداً

ص:136

ویرید أن یحسن إلیه، فلا بدّ وأن یتدبّر ویتروّی أن هذا الفعل هل هو مصداق للإحسان أم لا أو هو مصداق الإهانة، ولا بدّ من التمییز بین مصداق الإحسان ومصداق الإهانة، ثمّ هل أن هذا مصداق للإحسان أو للإهانة، فلا بدّ أن یمیّز بین الإحسان والإهانة.

إذن لا بدّ له من تمییز الجهات المشترکة بین الأفعال کی یستخلص الجزئی الدقیق الذی لیس فیه إلتباس ومندرج تحت ماهیّة الإحسان وکلّیته، فهذا إنّما یتمّ بتوسّط القوی الإدراکیّة المادون السالمة فی إدراکها، وأیضاً بتوسط القوی العمّالة المادون، فالغضبیّة أو الشهویّة لا تتدخّل بنحو تمانع تنزّل المعانی الکلّیة وکذا المخیّلة والواهمة لا تمانع ذلک التنزّل بسیطرة الفطنة التی هی فوق القوی المادون - أی القوّة الغضبیّة والعمّالة والشهویّة - وسیطرة قوّة التروّی الإدراکیّة التی تستخدم آلات القوی الإدراکیّة المادون والقوّة العمّالة المادون فی الوصول إلی الجزئی الحقیقی المندرج تحت الأجناس، حینئذٍ تصدر الأوامر فی عالم النفس لتولّد الشوق والإرادة وصدور الفعل بعد ذلک وهذا ما یسمّی بالبرهان العیانی الذی نبّه علیه أرسطو وأغفله ابن سینا، فهذه المحدودة والمنطقة هی منطقة التنزّل، أی تنزّل العقلیّات إلی الجزئیّات الحقیقیّة.

فلا بدّ من مرحلتین: مرحلة تنزّل العقلیّات إلی مرحلة الجزئیّات أی موازنة الحکم الجزئی مع الکلّیات واستنتاجه منها ومرحلة إعمال الحکم الجزئی بتحریک القوی العمّالة ولذلک کان التدبیر من قوّة التروّی وقوّة الفطنة لدی الإنسان الأوّلی بمنزلة العقل النظری والثانیة بمنزلة العقل العملی ولا ریب أن هاتین القوّتین غیر قوّة العقل النظری الإدراکی ولکن هل هما نفس قوّة العقل العملی العمّال الذی یغایر القوّة النظریّة الدرّاکة کما هو مبنی الفلاسفة المتقدّمین

ص:137

کابن سینا وغیره أم لا؟

وعلی کلّ تقدیر عندما تکون القوّتان تحت تسخیر العقل ولأجل تنزیل الکلّیات العقلیّة، فسیکون فعلهما لأجل القضایا العقلیّة والحقّانیّة، وأمّا إذا کانتا تحت تسخیر القوی الشهویّة أو القوی الواهمة حینئذٍ، فستکونان قوّة نکراء ولیستا قوّة عقلیّة؛ لأنّهما سوف تسیسان جمیع القوی الأخری حتی العقلیّة أی تدبّرانها وتجعلانها خاضعة والقوی الشهویّة والغضبیّة وهذا بنفسه یفرض فی الإنسان المجموعی أی صعید جهاز الدولة والمفروض أن الرئیس وظیفته أن یسیّس تلک القوی المختلفة لأجل الوصول إلی الجزئی وإذا تدخّلت إحدی القوی بنزعاتها الخاصّة لا یکون التسیّس تامّاً فی محلّه وکمالهما فیها إذا اتّسقت القوی العقلیّة فضلاً عمّا إذا تجرّد الرئیس.

إذن ما بیّنه النائینی تامّ من أن هناک ثباتاً فی الأحکام العقلیّة، أمّا التسیّس وهو نوع من التطبیق للجزئی والجزئی فمحلّ تبدّل وتغیّر ولذلک یعبّر بأن الأحکام السیاسیّة محلّ تبدّل أی الأحکام الجزئیّة هی التی تتبدّل ویتمّ إستنتاجها عن طریق قوّة الفطنة والتروّی وبتوسّط البرهان العیانی والحکم الجزئی هو الذی فی محلّ تبدّل وتغیّر.

وأمّا محلّ الثبات هی القضایا العقلیّة فهذه علی أیّ حال منشأ من مناشئ التغییر وتحدید للأحکام الإعتباریّة التی یفرض فیها التغیّر بلحاظ الأحکام السیاسیّة أو ما یعبّر عنه بالتعبیر الفقهی بالحکم المولوی أی الولائی فی مقابل الحکم التشریعی وقد یکون تبدّل الموضوع منشأ لتبدّل الأحکام الإعتباریّة، فطبعاً المقصود من تبدّل الموضوع هو الموضوع الجزئی الکلّی لا تبدّل فیها، فیعود لنفس الضابطة التی ذکرت من أنّ الجزئیّات هی منطقة التغیّر والتبدّل. وهذه هی

ص:138

نفس المنشأ الأوّل فبدلاً من قولنا التغییر فی الأحکام السیاسیّة قلنا بالتغییر بلحاظ تبدّل الموضوع.

وهناک منشأ آخر وهو ما یقال عنه عامل الزمن، فالعامل الآخر هو وجود التزاحم والحرج والورود والضرر وقد تطبّق هذه الضوابط (التزاحم أو الضرر) علی صعید الأحکام الفردیّة وقد تطبّق علی صعید الأحکام الإجتماعیّة، فکما أن الوضوء الحرجی رافع للوضوء ومعیّن للتیمّم فی الحکم الفردی، هناک أیضاً فی الأحکام والواجبات الإجتماعیّة بسبب الحرج الذی یطرأ علی عموم الناس، فیسبّب رفع ذلک الحکم الموجود الأوّلی، أو الورود فقد یکون عنواناً وارداً علی عنوان آخر أو ضرراً لنوع عامّة الناس، فیکون تطبیقها بلحاظ الأحکام الشرعیّة التی هی أحکام إجتماعیّة وأحکام سیاسیّة وأحکام مجموعیّة ولیست أحکاماً فردیّة؛ وهذا نوع من أنواع التبدّل والتغیّر وهو تزاحم الأحکام. مثلاً لو تزاحم واجب فرعی مثلاً مع أحکام إعتقادیّة فیقدّم الحکم الإعتقادی فی فترة وقت التزاحم، وهذا المنشأ ایضاً منطقته فی الجزئی الحقیقی أو ما یقرب منه.

ولکن لیتنبّه فی هذا المنشأ إلی نکتة نبّه علیها الفقهاء فی بحث القواعد الفقهیّة، أن هذا المنشأ الثانی فی التغیّر لیس یوجب جعل الحکم الثانوی حکماً دائماً وأبدیّاً ویقلّبه من حکم أوّلی إلی حکم ثانوی، بل یبقی الحکم الأوّلی علی حاله، بل فی ظرف تواجد موضوع العنوان الثانوی من حرج أو ضرر أو تزاحم یتبدّل إلی حکم ثانوی لا دائماً، وإلّا لو کان علی نحو الدوام لکان وضعه کحکم أوّلی من قبل الشارع الذی قد افترض أنه محیط بالجهات الواقعیّة لا جاهل بالجهات الواقعیّة، مع أن الفرض أن الشارع وضعه عن علم وقلنا إنّ الکلّیات العقلیّة لا تبدّل فیها.

ص:139

فالفرض أن التشریعات الفوقانیّة تعکس عن جهات واقعیّة کلّیة معقولة، والقضیّة والمعنی الحقیقی الکلّی لا تبدّل فیها؛ نعم فی کیفیّة تنزّله قد یتصادم مع کلّی آخر إلّاأن هذا التصادم لیس بدائم، بل ظرفی.

أیضاً هناک منشأ آخر للتبدّل والتغیّر وهو لیس فی الواقع بمنشأ حقیقی وهو کیفیّة إحراز التقنین، سواء التقنین الوضعی أو التقنین السماوی الإلهی؛ فمثلاً فی الدستور الفرنسی القضاة یختلفون فی فهم مادّة من موادّ الدستور أو الحقوقیّون الفرنسیّون یختلفون فی فهم تلک المادّة؛ فهذا نوع من الإختلاف فی التشریع إلّا أنّه إختلاف فی الفهم والإحراز ولیس هو إختلاف فی نفس مادّة التشریع.

فهذا الإختلاف لا یتناول الکلّیات الفوقانیّة حیث إن الکلّیات الفوقانیّة یعترض الثبات، وکلّما کان بمعنی الکلّی وکان ذو کلّیة وثبت أکثر، فوضوحه وبداهته أکثر والخفاء یقلُّ ویندر، وکلّما تنزل یبدو الخفاء ویزداد الغموض. ولذا تری أن المبادیء فی أیّ دستور من الدساتیر الوضعیّة تکون واضحة لا خفاء فیها والموادّ الأوّلیّة - وهی الأمّ - لا خفاء فیها أیضاً، بعد ذلک إذا تتنزّل تلک الموادّ إلی البرلمان ومنه إلی مجلس الوزراء، فهذه تحصل فیها إختلاف أکثر فأکثر، لأنّها تتداخل الجزئیّات بعضها مع بعض، فیکون عنصر الغموض أکثر فأکثر.

وقد یعبّر عن هذا أن النفس حیث إنها مجرّدة أو کلّیة، فیکون إدراک النفس للکلّی أو المجرّد أسرع من إدراکها للجزئیّات؛ حیث إنّها متعلّقة بالمادّة فیکون أبعد عن سنخ النفس وهذا المنشأ الثالث لا یختلف عن المناشئ السابقة من زاویة المورد؛ حیث إن منشأ الإختلاف، الإحراز غالباً فی موارد الجزئیّات لا الکلیّات فمثلاً تری الإنسان لا یختلف فی المعانی مع فرد آخر من بنی نوعه فی الکلیّات العقلیّة کحسن الفضائل وقبح الرذائل، بخلاف ما إذا تنزّلت المعانی إلی جزئیّات،

ص:140

یبدأ الإختلاف وهذا الإختلاف راجع إلی المنشأ الثالث لا إلی المنشأین السابقین. فهذا الشخص یحرز أن مصداق هذا الفعل تعظیم وذلک الشخص ینفی ذلک بأن هذا المصداق لیس بتعظیم بل إهانة، ففی الفعل الواحد یکون فی جهات التطبیق إختلاف وإن کانوا متّفقین علی الکلیّات العقلیّة.

فالإختلاف فی الإحراز فی المنشأ الثالث لا یختلف کثیراً مّا من جهة المورد مع المنشأین السابقین فی کون موارد الإختلاف غالبةً فی الأحکام السیاسیّة، سواء سیاسة النفس الداخلیّة فی الأحکام الفردیّة أو السیاسة الاجتماعیّة أو سیاسة الأسرة فدائماً الإختلافات فی الأحکام الجزئیّة وأمّا الکلیّات فلا إختلاف فیها.

نعم الإختلاف فی الإحراز سواء أکان فی التشریعات الثابتة أو المتوسّطة أو التشریعات المادون المتوسّطة أو الجزئیّات، له ضوابط قانونیّة فی الإحراز؛ کما أنّه للبرهان فی الکلیّات ضوابط علمیّة ذکروها فی باب البرهان من أنه تکون القضیّة دائمة کلیّة، وأنه تکون القضیّة صادقة وأن لا یکون فی العناوین إجمال، وأضاف المتکلّمون والفلاسفة شرائط أخری. کذلک فی البرهان العیانی الذی یختصّ بمنطقه التنزّل من الکلیّات إلی الجزئیّات فقد وضعوا لها ضوابط.

فالبرهان العیانی یتکفّل نوعاً مّا إحراز أحوال الجزئیّات الحقیقیّة فی کیفیّة إدراجها تحت الکلیّات ولکن بضوابط.

ص:141

ملخّص الجواب عن الإثارة الثانیة

ویتلخّص الجواب عن الإثارة الثانیة بالتأمّل فیها

أوّلاً: أن البنیة التحتیّة للأحکام الشرعیّة الثابتة وهو الحسن والقبح العقلیّان برهانیّة فلا تبدّل ولا تغیّر فیها.

وثانیاً: إن منشأ الحاجة إلی الإعتبار هو محدودیّة العقل البشری، فهذه المحدودیّة باقیة وإن ازدادت عقلیّة العقل البشری بالتجارب إلّاأنّ إعتراف البشر وإذعانهم بأنّه کلّما ازددنا تجربة إزددنا بصیرة بالواقع، وأن هناک کلّیات عقلیّة یدرکها العقل، وهناک کلّیات متوسّطة لا یدرکها إلی أن تصل الجزئیّات، کلّما ازداد البشر تجربة إزداد بصیرة بکیفیّة تنزّل جهات الحسن والقبح أو جهات المضرّة والمنفعة أو جهات المصلحة والمفسدة، فبإزدیاد التجربة یزدادون إحاطة. ولکنّها غیر تامّة مع ذلک ولذلک یواصلون التجربة بنحو دائب إذعاناً بعدم الوصول التامّ.

وإذا لم تکن الإحاطة تامّة فیتوصّل البشر إلی عنایة اللّه عزّ وجلّ، فلا بدّ من عنایة منه بأن سنّ لهم تشریعات ثابتة فی تلک المنطقة التی لا تدرکها عقولهم المحدودة، وإذا کان منشأ الحاجة للإعتبار هو محدودیّة العقل البشری، فهذا الخالق الذی قد برع وحیّر العقول فی إیجاد نظم بارع من أصغر وأحقر مخلوق إلی أشرف وأحسن مخلوق، فأتقن خلق کلّ شیء وأحسن خلق کلّ شیء، فها هو العلم یعجز عن إکتشاف الدقّة اللامتناهیة فی المخلوقات وفی النظم،

ص:142

فکیف لا یحیط الخالق بما هو مدارج الکمال لأشرف مخلوق وهو الإنسان ومعارج الکمال له؟ الحدس الفطن یسلّم بذلک، ولا بدّ من أن یتقن له.

وعلیه فلا بدّ أن تکون التشریعات عند من یحیط أزلاً وأبداً بکلّ جهات الأفعال ویحیط إستقبالاً وحالاً وماضیاً بکلّ الأفعال ویحیط بأنّ الفعل الواحد إذا تموّج خلال الأجیال التاریخیّة والبشریّة کیف تکون تموّجاته وآثاره؟ فلا بدّ له من إحاطته لجهات الحسن والقبح المتسلسلة عبر حلقات الأفعال لا الإحاطة بجهات الحسن والقبح النفسی الموضوعیّة أو الذاتیّة لذات الفعل فقط، وهذه الدائرة لجهات الواقع لا یحیط بها إلّاخالق الکون فهو الذی یسنّ التشریعات.

وثالثاً: إنّ جهات التغیّر والتبدّل فی الإعتبار هی غالباً فی منطقة الجزئیّات أی الأحکام السیاسیّة أو الوَلَوِیَّة، لا فی الأحکام الکلّیة الثابتة للتشریعات الثابتة.

ص:143

ولایة التشریع

اشارة

ثمّ إنّه لا بأس بأن ننظر لمن صلاحیّة التشریع؟ أو ما یسمّی بالولایة التشریعیّة هل تتبع الولایة التکوینیّة أم لا؟ قاعدة شرعیّة تقول: من له التشریع هو من له المقام التکوینی الخاصّ ویعبّر عنهما فی الحکمة بأن الولایة التشریعیّة تتبع الولایة التکوینیّة، والتشریع هو لمن یحیط بالواقع أولاً وبالذات، فالمشرّع الأوّل هو اللّه عزّ وجلّ ولکن هل یمکن أن یفوّض التشریع للبشر؟ ولأیّ فرد من البشر؟

یظهر من أرسطو أنّ إیکال التشریع فی التشریعات الوسطانیّة لا الفوقانیّة إلی الإنسان الإلهی من البشر وأن صلاحیّة التشریع الوسطانی لا بدّ من إیکالها إلی الإنسان البشری، لنکتة ستأتی وبحسب التتبّع یظهر من الفلاسفة حتّی فی الفلسفات الهندیّة أنّهم یذهبون إلی أنّ المشرّع والمسنّن الأوّل هو الباری ومن بعده هو الإنسان الإلهی الذی کمل علماً وعملاً. بادیء ذی بدء للإستدلال علی هذه القاعدة نقول:

ص:144

الوجه الأوّل

ظهر ممّا سبق أن سبب الحاجة إلی الإعتبار هو محدودیّة العقل البشری وذکرنا أن الإرادة البشریّة لا تتبع الإعتبار بما هو إعتبار، بل بما هو کاشف عن الجهات الواقعیّة ولا بدّ من مراعاة ذلک فی من له الحقّ فی أن یسنّ ویشرّع فالذی یحیط بالجهات الواقعیّة - لکون علمه متّصلاً ومرتبطاً بالعلم للذات المقدّسة الأزلی الأبدی السرمد - له أن یسنّ ویشرّع، ولا بدّ أن هذا العلم لا یتخلّف ولا یکون جهلاً، فلا بدّ وأن یکون علمه مصیباً دائماً وإلّا یکون نقضاً لغرض التشریع، ولا یکون مثل التقنینات البشریّة فی الموادّ الدستوریّة الفوقانیّة الأمّ حیث یشاهد التبدیل وسببه عدم إحاطة المقنّن بجهات الواقع، وبمقتضی قاعدة العنایة الإلهیّة وقاعدة اللطف الکلامی (إِنَّ اللّهَ بِالنّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِیمٌ)1 یعلم أن اللّه یوصل عباده إلی کمالاتهم ویبعدهم عن نقائصهم.

ص:145

الوجه الثانی

إن الجهاز الوجودی للإنسان وقواه وکیفیّة عملیّة الإدراک للأشیاء وتصوّرها، ثمّ تنزّلها إلی حدّ ما تفصیلاً کما یذکر فی العلوم العقلیّة أن قبل مرحلة القوی العقلیّة للإنسان هناک أربع درجات فی وجوده: قلب وسرّ وخفیّ وأخفی، وتسمّی بالمراحل الوجودیّة القلبیّة للإنسان وبعدها تأتی منطقة قوّة العقل النظری، ثمّ قوّة العقل العملی، ثمّ الفطنة والرویّة، ثمّ شجرة القوی العملیّة النازلة - مثل القوی الغضبیّة والشهویّة - وهذه القوی أیضاً تتشعّب إلی شعب أیضاً والقوی الإدراکیّة النازلة کذلک مثل قوّة الوهم والخیال والحسّ المشترک. فعندما تتوجّه النفس إلی إدراک وتحصیل معلومة أو مجهولة من المجهولات تبدأ من قوّة العقل النظری بالبحث فی المعلومات والعودة للمجهول بالمعلومات، ثمّ إصابة النتیجة.

وقد ذکر أن هناک ثلاثة أفعال مزدوجة بین العقل النظری والعقل العملی، بناء علی ما هو الصحیح من إحدی قولی الفلاسفة من أن قوّة العقل العملی مغایرة لقوّة العقل النظری.

فالفعل الأوّل هو الفحص والبحث فی الفکر والفعل الثانی هو إدراک النتیجة التی یتولّد منها المقدّمات والفعل الثالث هو الإذعان بتلک النتیجة. وقد حقّق أخیراً فی الأبحاث العقلیّة أن الحکم لیس جزء القضیّة أی أن مدرکات النتیجة لیست بجزء القضیّة وقد أشار إلی ذلک صدر المتأ لّهین فی رسالته فی التصوّر والتصدیق؛ حیث أثبت أن کلّاً تسمّی التصوّر؛ والتصدیق هو الصورة الحاصلة غایة الأمر أن التصوّر هو صورة مجرّدة غیر موجبة للإذعان بخلاف الصورة التی

ص:146

لها تأثیر فی ایجاد الإذعان والتسلیم. فهذه الصورة تسمّی تصدیقاً. فالعلم (تصوّره وتصدیقه) لیس من مقولة الإذعان ولیس من مقولة الحکم. بل العلم هی الصورة الحاصلة لقضیّة النتیجة من العقل النظری للنتیجة، ثمّ بعدها یأتی الحکم.

فالحکم خارج عن القضیّة ولیس من أجزاء القضیّة والحکم فعل من أفعال العقل العملی لا العقل النظری، وقد فسّر الحکم العلّامة الطباطبائی فی النهایة بقیام النفس بدمج صورة الموضوع فی صورة المحمول، فحینئذٍ تحکم النفس بهذه القضیّة وأن هذه القضیّة لها صورة خارجیّة؛ مثلاً فی الصور الحسّیّة هی صور بدیهیّة أیضاً تذعن بها النفس - زید الجالس أمامی - فهذه القضیّة عندما تأتی فی النفس، تأتی مدمجة لا مفکّکة، وهذه الصورة فی الواقع عبارة عن صور عدیدة - زید جالس، زید لابس، زید طویل - فهی ذات عدّة محمولات فی ضمن صورة واحدة وهذه الصورة هی فی الواقع من المحسوسات التصدیقیّة والوجه فی ذلک أنها فی الواقع هی صور مطبوعة علی بعضها البعض فی ضمن صورة واحدة، فلو فکّکناها تنحلّ إلی موضوع ومحمولات کثیرة وإخبارات عدیدة.

إذن التصدیق دمج الصور فی صورة واحدة وهذا الدمج یقوم به العقل العملی طبق معاییر عقلیّة، وعلیه فالحکم فی القضایا العقلیّة یقوم به العقل العملی متابعة للصورة وقلنا سابقاً من أن عنوان وجوب المعرفة مجمل فلا بدّ من تحدید المعنی المراد بوجوب المعرفة، هل المراد منه الفعل الأوّل أو الثانی أو الثالث، نعم وجوب المعرفة لا یمکن أن یکون شرعیّاً علی معنی الفعل الأوّل والثانی، إلّا أن الثالث لا بُعد فیه، وبعد هذه المقدّمة نذکر مقدّمة ثانیة وهی:

إنّ عملیّة التفکیر حیث تتمّ بالفحص عن المقدّمات ثمّ إدراک النتیجة ثمّ حکم النفس بتوسّط العقل العملی متابعة لهذا الإدراک، لکن لیس هذه المتابعة بنحو

ص:147

العلّیة التامّة لما بیّنه الفلاسفة والمتکلّمون من أنه لا ملازمة بین المقدّمات - الصغری والکبری - وإدراک النتیجة، کما ذکر ذلک فی المنظومة السبزواری فی بحث القیاس حیث بیّن بأن الرابطة لیست رابطة العلّة والمعلول بین المقدّمات وإدراک النتیجة، بل من باب الإعداد.

وأمّا المتکلّمون فقالوا بأنّه جرت سنّة اللّه علی أنّه إذا ادرکت تلک المقدّمات، جعلت معدّة لإفاضة النتیجة، والفلاسفة یذهبون إلی الإعداد وأمّا العلّة لإدراک النتیجة فهی إفاضة العقول العالیة علی العقل البشری النازل، کما فی تعبیر بعض الروایات

«خلق اللّه العقل وجعل للعقل رؤوساً بعدد رؤوس الخلائق»، فالرابطة بین المقدّمات وإدراک النتیجة إرتباط إعدادی؛ فالعلّیة أثبتت للعوامل الفوقانیّة لا للمقدّمات، کما بیّن فی الفلسفة نظیر ذلک فی الفاعل فی عالم المادّة، أنّه لیس بفاعل إیجادی، بل فاعل طبیعی أی فاعل الحرکة، فمثلاً الإنسان یتحرّک ویأخذ البذرة وباقی اللوازم فیزرع الزرع، ولکن المفیض للوجود الشجری هی العوامل العلویّة وقد بیّنوا فی محلّه من أن الجسم لا یمکن أن یفیض صورة جسمیّة أخری.

وإذا اتّضح عدم العلّیة بین المقدّمات والنتیجة والإذعان، بل الإعداد فربّما لا یحصل إدراک النتیجة أو لا یحصل الإذعان بها وذلک لکون الإنسان ذا حالات مرضیّة نفسیّة فی قوّة العقل العملی والنظری وفی القوی المادون الدرّاکة بمثل الجربزة والعناد والوسوسة والإضطراب. فهذه أمراض فی القوی الفوقانیّة فی النفس وهذه الصفات النفسیّة معادیة وممانعة عن الإنتقال من مرحلة إلی مرحلة فی الأفعال الثلاثة، فمثلاً الوسواسی لا یحصل له إذعان للإدراکات الصحیحة، وهذا ممّا یدلّ علی أن العلم بالنتیجة لیس علّة تامّة للإذعان والتسلیم؛ لأنّه قد تمانع صفة الوسوسة والإضطراب من صفات الرویّة فی العقل العملی،

ص:148

وکذا صفة العناد وهی عدم الخضوع لقوّة العقل النظری وهکذا البلادة فی قوّة العقل النظری أو المفکّرة بأن لا تدرک النتیجة بعد إدراکها للمقدّمات، والجربزة الفکریّة هی سرعة إدراک النفس للنتائج أو المقدّمات ثمّ منها إلی نتائج أخری وهکذا من دون توقّف ممّا قد یوقعها فی الإشتباه أو عدم الإذعان والتسلیم بالحقائق، فهذه من صفات النقص لأنّه لا بدّ من ترتیب بعض الآثار.

المقدّمة الثالثة

وهی کما أنه لدینا صفات مرضیّة وصفات صحیحة فی القوی الإدراکیّة کذلک فی العملیّة فی النفس فی الجهاز الإنسانی ممّا لا یجعل الرابطة بین الفحص وإدراک النتیجة رابطة العلّیة کما أن الرابطة بین الفحص والوصول إلی المقدّمات لیست رابطة العلّیة، وکذلک الرابطة بین إدراک المقدّمات وإدراک النتیجة لیست رابطة العلّیة وأیضاً لیست الرابطة بین النتیجة والتسلیم هی رابطة العلّیة، بل رابطة المقتضی، بل وکذا الحال فی الرابطة بین قوّة العقل النظری والقوی المادون لیست رابطة العلّیة، بل قد تکون القوی النازلة هی المسیطرة علی قوّة العقل العملی والنظری، فمثلاً القوّة الغضبیّة قد تکون مسیطرة علی قوّة العقل العملی والنظری أیضاً حیث یکونان خادمین تحت سلطنة القوّة الغضبیّة مع أنّها لیست قوّة مدرکة إلّا أنّها تطالب وتسخرهما لتحقیق ما تریده کما هو موجود فی عالم الحضارة الغربیّة الحدیثة حیث إن العلم والعقل فی خدمة الشهوة والغضب.

إذن فخضوع القوی الإدراکیّة السفلیّة المادون أو العملیّة السفلیّة المادون لیس بنحو العلّیة التامّة، ففی القوی المادون إقتضاء للخضوع لقوّة العقل العملی، ومقتضی فطرة الإنسان هو کون القوی المادون خاضعة للقوی الفوقانیّة، ولکن شیئاً فشیئاً قد تتجاوز تلک القوی المادون حدّها الفطری وتسیطر علی الملکة

ص:149

الموجودة فی النفس البشریّة.

والحال کذلک فی قوّة الوهم والتخیّل، فقد تکونان منصاعتین لقوّة العقل وتکونان آلتین للعقل حیث إنّه لا یدرک الجزئیّات فیستعین بقوّة الوهم والخیال؛ فمثلاً عندما تقول - زید جالس - قد یقطع به بالعقل ولکن الذی یدرک زیداً وجلوسه قوّة الخیال ولکن الحاکم هو العقل. فالمفروض فی الطبیعة والفطرة البشریّة أن تکون القوی الإدراکیّة النازلة خاضعة وخادمة لقوّة العقل، وقد نری جحوداً من القوی الواهمة علی القوّة المدرکة النظریّة وقد بیّنوا مغایرة مدرک قوّة الحسن والخیال والوهم مع إشتراک موردها فی الجزئیّات، فالحس یدرک الصور الحسّیة التی لها کلّ أحکام المادّة عدا المادّة ولا بدّ من محاذاة لموجود خارجی وأن یکون یها مقدار وطول وعرض.

وأمّا الصورة الخیالیّة المثالیّة التی تدرکها قوّة الخیال فهی مثل الصورة الحسّیة لکن لا یشترط فیها المحاذاة، وأمّا الصورة الوهمیّة التی تدرکها قوّة الوهم لا یوجد فیها طول وعرض وعمق ولکنّها مضافة إلی جزئی خارجی فمثلاً الحبّ والبغض لا یوجد فیه طول ولا عرض ولا عمق ولکنه مضاف إلی حبّ زید وبغض عمرو، فهذا یقال لها وهمیّة، وکذلک یسمّی المعنی الوهمی العقل المقیّد.

وهذه القوی الإدراکیّة المفروض فیها أن تکون خاضعة لقوّة العقل العملی والنظری ولکن قد تجمع هذه القوی علی قوّة العقل العملی والنظری، بل تمانع العقل العملی عن الإنصیاع والخضوع للعقل النظری، فمثلاً ذات واجب الوجود لا تقتنص بحسّ ولا بوهم ولا بخیال؛ لأن المفروض أنه لیس بذی مقدار ولا حدّ، فکیف یمکن أن یقتنص بتوسّط هذه القوی، بل لا یدرک شعاع نوره بتوسّط هذه القوی النازلة وإنّما یدرک شعاع نوره بالقلب وما فوقه.

ص:150

والأئمة علیهم السلام یثبتون الرؤیة القلبیّة للّه عزّ وجلّ، فهی لیست حسّیة ولا خیالیّة ولا مثالیّة ولا عقلیّة وإنّما هی رؤیة قلبیّة فوق العقلیّة، وهذا هو المعروف من مدرسة أهل البیت علیهم السلام خلافاً للأشاعرة. وعلیه فالمقصود من أن واجب الوجود لا یدرک بالإدراک النازل، بل بالإدرک الفوقانی أی لا یدرک بالإدراک النازل الحصولی، حیث إن منطقة الصور الحصولیّة من العقل فما دون ومنطقة الإدراک الحضوری هو القلب فما فوق، فهذه ثوابت لا بدّ من ملاحظتها دائماً.

نعم فی بعض الروایات کما فی روایة الصدوق فی التوحید عن الصادق فی تعلیمه لهشام بن سالم کیف یصف الباری مغایراً لوصف المخلوقین، أنّ الرؤیة القلبیّة بعد عدم کونها من التحدید لا إشکال فیها وإن کانت دون الرؤیة القلبیّة، وهذا مطابق البراهین الحصولیّة القائمة علی المعرفة الحصولیّة العقلیّة.

ثمّ لا بدّ من بیان نکتة وهی أن تنزّل العلوم الحقیقیّة من العوالم العلویّة إلی العقل البشری، ثم منه إلی باقی قواه وهکذا إلی أن تتنزّل إلی الأدنی، فهذا التنزّل لا یواجه مانعاً واحداً فقط، بل یواجه سیلاً من العوائق والموانع المحتملة، فهناک عوائق فی أصل التلقّی عند العقل النظری، کما هو فی الجربزة والبلادة. وفی کون الإدراک یولّد إذعاناً وفی کون الفحص عن المقدّمات یولّد إدراکاً لها والإدراک لها یولّد إدراکاً بالنتیجة، ثمّ فی کون الإدراک للنتیجة یولد إذعاناً بها تسلیماً، ثمّ إذا تولّد الإذعان والتسلیم هل تنصاع بقیّة القوی إلی قوّة العقل العملی أم لا، إذن هناک کثیر من العوائق والموانع المحتملة، کما یلاحظ أن النتائج الفکریّة التی یتوصّل إلیها الإنسان إن کانت صائبة کلّها عبارة عن إلتقاطات أو تلقّیات من العقل البشری لما یستلهمه من العوالم الغیبیّة الفوقانیّة کما أن بین تلک الحقائق تفاوتاً شاسعاً.

ص:151

ومع هذه الحال کیف یؤمّن صدور أو سنّ تشریع وقانون متین ممّن لا تکون قنواته معصومة فی جهازه الإنسانی من أعلی قنواته إلی أدنی قنواته؟ کیف یؤمن لمثل هذا فی تشریع وسنّ القوانین ویکون رضاه مظهر الرضا الإلهی وغضبه مظهر للغضب الإلهی؟ فغیر المعصوم لا تکون لدیه صلاحیّة للتسنین والتشریع؛ لأن التسنین والتشریع یجب أن یکون محیطاً بالحقائق أو ما یتلقّاه مطابقاً للحقائق الواقعیّة، ومعنی کونه مطابقاٍ للحقائق الواقعیّة أنّه متنزّل من العوالم العلویّة عبر القنوات المعصومة من الزلل والخطأ، (وَ بِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَ بِالْحَقِّ نَزَلَ)1 ، وهو الذی یکون رضاه مظهراً للرضا الإلهی وغضبه مظهراً للغضب الإلهی ومظهراً للعزائم الإلهیّة حینما تکون کلّ حرکاته وسکناته بلحاظ التأثّر من العوالم العلویّة.

وبتعبیر آخر أنّ کلّ الدرجات الموجودة الدانیة والوسطی والعالیة هی فی الواقع متأثّرة عن العوالم العلویّة، فمثلاً القوّة العاقلة عنده تدرک القضایا بالسلامة والمتانة والدوام والصواب، ثمّ بعد ذلک متابعة بقیّة القوی العملیّة الأخری من دون تشویش أو مشاغبة، کما مثّل فی الکلام المجید بالماء الإلهی عندما یفاض ماء العلم من العین الأزلیّة ویجری فی قناة الجهاز الإنسانی، فیجب أن لا یتکدر ولا یتلوّث بالقنوات التی یمرّ علیها، ولو تلوّث وتکدّر فتذهب عنه زلالیّته ونفعه النابع من الصفاء، فلا بدّ من قناة مأمونة فی جهاز وجودی إنسانی عن تلویث ذلک الماء الزلال.

وبتعبیر علمی دقیق، أنّه لا بدّ أن یکون التلقّی صحیحاً وسلیماً، وأن لا تکون

ص:152

القناة مسدودة - کالصمّ البکم العمی - بل علی الانفتاح علی الدوام والإتّصال بالعالم العلوی والجهات الغیبیّة، یکون المجری سلیماً، کما تشیر الآیة إلی إختلال القنوات: (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِیَةٌ)1 فمن لا یکون رضاه رضا اللّه وغضبه غضب اللّه لا یمکن جعله مسنّناً ومشرّعاً؛ لأن تشریعه وتقنینه تتنازع فیه الموانع والإحتمالات والأمراض النفسیّة الکثیرة عن التلقّی أو التنزّل السلیم ولا یکون ما سنّه من قضیّة وحکم مطابقاً للواقع ومن ثمّ قالوا بأن الولایة التشریعیّة تابعة للمقام الخاصّ التکوینی.

کما أنه لا بدّ من الإلتفات إلی أن هناک فی درجات الإنسان مقامات أعلی أخری، فبعض أفراد الإنسان لیس له تجرّد فوق تجرّد العقل ولیس له تلطّف فی الروح فوق تلطّف الدرجة العقلیّة، وقمّة التلطّف لدیه الدرجة العقلیّة وهی درجة العلم الوصولی، بخلاف درجة القلب فما فوق، فهی درجات العلم الحضوری، والإنسان إذا لم یکن له نوع من الریاضات الشرعیّة لتلطّف الروح والنفس عن المادون لا یکون له مقام القلب والسرّ والخفیّ والأخفی ولا تکون له درجات روحیّة ألطف فألطف، لا یکون له بعد ذلک صعود وجودی وکمال وجودی فی دائرة الوجود. فهذه الدرجات حقل وباب مستقلّ للتعرّف علی الأمراض الموجودة فی هذا القسم من الجهاز الوجودی لدی الإنسان والتی هی المراحل القلبیّة، فلا بدّ من التأمل فی هذا الجانب فی الأمراض الموجودة فی درجات القلب من الجهاز الوجودی الإنسانی وهی أعلی مراتب الوجودات.

الإنسان الذی یتعالی وجوده إلی مرحلة الصادر أو المخلوق الأول یکون متّصلاً بالصقع الربوبی، فلا یحجبه عن الصقع الربوبی والعلم الربوبی أیّ حاجب، فیکون

ص:153

بصیراً بالواقع ومحیطاً بخصائص أکثر فأکثر.

وعلی کلّ حال فلا بدّ من المسنّن والمشرّع المفروض فیه أن یکون ذا مقام تکوینی خاص والذی یصطلح علیه بالعصمة، کما لا یخفی أن فی العصمة درجات ومن ثمّ إختلف الأنبیاء، فبعضهم کان صاحب شریعة والبعض تابعاً لصاحب الشریعة وبعضهم کان من أولی العزم وبعضهم کان من غیر أولی العزم وبعض أولی العزم شرائعهم دائمیّة والبعض غیر دائمیّة. وهذا الإختلاف والتفاوت من الجانب الفوقانی والجانب اللمّی. نعم ما یذکر من أبحاث فی تواریخ الدعوات الإلهیّین إنّما یکون بحث من الجانب الإنّی، فما یقال من أن البشر تتکامل عقولها فتستغنی عن الشریعة الدائمة دلیل بنفسه علی الحاجة، لأنّ لازم التکامل هو الجانب اللمّی وأن تکامل العقول یدلّ علی أنّها بحاجة إلی مَن له قناة معصومة وإحاطة أشمل کی ینظّم لها ویبرمج لها صراط الأمان والنجاة.

ثمّ أنّه یفسّر الشرائع فی محدودیّتها وعدم محدودیّتها بلحاظ أن الظروف والشرائط من حیث الوسع فی الدائرة والضیق، وهذا الفارق فی الواقع من الجانب السفلی والإنّی، وأمّا إذا نلحظه من الجانب اللمّی والعلوی فلیس هو الفارق، فمثلاً هناک تعداد کبیر من القضایا الحقیقیّة الصادقة الدائمة الحاکیة عن الحقائق الواقعیّة الثابتة ولکن هناک أیضاً قضایا حقیقیّة مقیّدة غیر دائمة، فالقضیّة العقلیّة التی تتکفّل بالحکایة عن صنف من نوع معیّن فی زمن معیّن فی ما هی خصائصه ولوازمه وأحکامه، فهذه قضیّة حقیقیّة صادقة ولکن صدقها وحقیقتها محدودان بأمدٍ معیّن، وأمّا إذا اتّخذت قضیّة حقیقیّة صدقها أبدی أو أزلی أو دائم، فسوف تکون حقیقتها وصدقها أکثر سعة ودواماً وشرفاً؛ ولذلک یقولون من أن القضایا الحقیقیّة التی تعنی بشؤون أو صفات الباری أکثر صدقاً من القضایا الحقیقیّة التی

ص:154

تعنی بشؤون المخلوقات ولو کان أشرف المخلوقات؛ لأن القضایا العقلیّة التی تحکی عن أحکام الباری وعن الصفات التکوینیّة تکون جهة قضیّتها هی الأزل والأبد والسرمد للباری، بینما الجهات التی تکون فی القضیّة التی تحکی عن الصفات. وأحکام الممکنات هی الضرورة بالغیر لا بالذات، والضروریّة بالغیر أقلّ صدقاً من الضرورة الذاتیّة الأزلیّة، ولذلک نلاحظ الأشاعرة فی قوله تعالی:

(وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِیلاً)1 فهذا لا یعنی أن کلّ غیر اللّه کاذب وإنّما المقصود منها أن محدودة ومنطقة الصدق فی قول اللّه هی أکثر سعة من محدودة ومنطقة الصدق فی قول غیر اللّه، أی المقصود منه أنه قد تکون القضایا الحقیقیّة تعکس عنه صدق متّسع أکثر دائرة وقد تعکس عن منطقة صدق أقلّ دائرة.

وفی هذا الوجه الثانی یتّضح لنا أنّ فی الجهاز الوجودی الإنسانی فی النصف الأوّل منه فی المراحل القلبیّة لا یکون فی مطلق الأفراد سلیماً ومأموناً، وإن کان علی ذی درجة عالیة، فلا یکون مطلق الأفراد فی السنن والتشریعات صائباً، بل إحتمال الخطأ والخضوع للنزعات النفسانیّة علی حاله. ومن ثمّ قالوا إنّ الولایة التشریعیّة تابعة للمقام الخاص التکوینی وهی العصمة.

والوجهان المتقدّمان یدلّان علی أن صلاحیّة التشریع والتقنین للذی له المقام الخاصّ التکوینی ویدلّان علی أنّ هذا المشرّع غضبه عاکس عن غضب اللّه ورضاه فذلک الرضا والغضب والحرکات والسکنات والإرادة والعزائم إلهی تشریعی، لکن الوجه الآتی دالّ علی ضرورة ذلک.

ص:155

الوجه الثالث

إنّ المعانی العقلیّة وما فوقها من الحقائق لا ریب أنّها إذا تنزّلت فی الإنسان الکبیر وهو عالم الکون وکذا إذا أرید تنزل المشیئات للباری عزّ وجلّ - کما هو متسالم بین کلّ مدارس المعارف مطلقاً إجمالاً - أن تنزّل المشیئة الإلهیّة أو تنزّل العلم الربّانی الذاتی یتمّ بالعلم، ثمّ المشیئة، ثمّ الإرادة، ثمّ القضاء، ثمّ القدر بمعنی الإبرام. فالإیجاد فی عالم المادّة یتسلسل فی ترتیب معیّن، فکذلک فی الإنسان الصغیر.

وبعبارة أخری، الترتیب فی الإنسان الکبیر بلحاظ عالم المادّة، وهذا الترتیب لیس فی أفعال الباری لعجز منه تعالی وإنّما منشؤه عدم قابلیّة وإمکان الممکن الموجودی لأن ینوجد إلّابتوسّط الترتیب المذکور، فلیست القدرة الإلهیّة محدودة وإنّما المحدودیّة فی الموجود للممکن. فعالم الدنیا بلا تقدیر لا یمکن حدوثه، ولا بدّ من تقدیر قبله؛ لأنّ العالم المادّی الجسمی محدود فهو یحتاج إلی مادّة وغیرها من الشرائط، فنفس الموجود المتکوّن المادی طبیعته تستلزم له التقدیر قبل تکوینه.

فخاصیّة الموجود المادّی أن فرض ذاته وإمکانه وفرض شیئیّته لا یمکن إلّابعد فرض سلسلة من أفعال الباری، فلیس تدبیر الملائکة فی الإنسان الکبیر أمراً إتّفاقیّاً واعتباطیّاً (وَ یَفْعَلُونَ ما یُؤْمَرُونَ)1 أی لهم نفوس کلّیة مدبّرة وکیفیّة

ص:156

إصدار تلک النفوس أفعالاً هی بهذا التنزّل أیضاً (علم - شاء - أراد - قضی - قدّر) هناک عدّة مراحل، فیتنزّل الأمر فی عالم النفوس الکلّیة، ثمّ فی النفوس الجزئیّة، أی فی العقل العملی، ثمّ مرحلة التردّی، ثمّ قوّة عمّالة أخری إلی أن یوجد ویصدر کونه، فقضی وقدّر وأراد وأبرم کما هو الحال فی جهاز الوجود الإنسانی، فکما فی الإنسان الکبیر الفعل یحتاج إلی المرور بهذه المراحل، وأن طبیعة الفعل والظاهرة الدنیویّة هی المرور بمراحل. والأمر الربّانی یمرّ بها - للقصور فی جانب قابلیّة الفعل لکی ینوجد - فیتنزّل إلی اللوح والقلم فیتنزّل إلی عالم الخلق.

إذا کان الحال کذلک فی السنن التکوینیّة، فقس علیه قیاساً عقلیّاً لا إستحسانیّاً نزول الأمر التشریعی الإلهی، وإذا کان الحال فی الإرادة والسنّة والإیجاد التکوینی کذلک، فکیف الحال فی الأمر التشریعی والإعتباری؟

هذا بیان مجمل لضرورة کون ماهیّة التشریع هی تقدیر وتحدید وتدبیر للأمر الکلّی المعلوم الفعلی ضمن الجزئیّات، فلا بدّ من فرض قوی مرتبطة ومتعلّقة بالجزئیّات، لکی یصدر التقنین والتسنین ولعلّ تسمیة تشریع النبی بالسنّة لکونها عبارة عن السنّ أی التقیید والتطبیق لا التطبیق بمعنی مع الإجزاء العملی الخارجی، بل بمعنی التضییق وتنزیل الکلّی إلی مراحل أضیق فأضیق، لا أن یتوصّل إلی جزئیّ خارجی، ففکرة التشریع موکلّة إلی الکمّلین والمعصومین.

واتّضح من الوجوه الثلاثة أن ذلک فطری، لأن التشریعات لیست کلّها من نمط وسنخ الکلیّات المتنزّلة الوسطانیّة، بل القسم الأوّل الفوقانی منها کلّی مطلق من اللّه تعالی، فهو تشریع ربّانی، وأمّا تقدیر تلک التشریعات وما یسمّی بالتسنین، فتلک لمَن هو متعلّق ومرتبط بالجزئیّات کما هو الحال فی السنن الکونیّة.

ص:157

إجمال من دون تفصیل:

العقل النظری یدرک لا بدّیّة دخالة الإرادة الأنفسیّة المخلوقة المعصومة عن تجاذب القوی النازلة وإلّا فسوف یکون تقنینها ناشئ من القوی النازلة وهو إنصباغ الأمر الإلهی بلون ما کدر وهذا خلاف الفرض، فلا بدّ من قناة مضمونة من أیّ تلوّن من الألوان النزولیّة، فکما فی الأمر الکلّی الکونی لا یبقی علی کلّیته مثل المشیئة، بل لا بدّ من تنزّله بالإرادة والقضاء والتقدیر لکی یوجد، وکما سبق لیس المحدودیّة والعجز فی قدرة القادر بل المحدودیّة فی قابلیّة القابل وإلّا فمثل أن تفرض الجسم بدون الطول والعرض والعمق، فهو خلف الفرض فالترتیب عجز فی الجسم لا فی خالقه.

هذا بیان ثالث لکون الولایة التشریعیّة تتبع الولایة التکوینیّة وبیان لضرورة أن التشریع المتنزّل لا بدّ أن یوکل إلی المعصوم علیه السلام.

وآخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمین

ص:158

المجلد 2

اشارة

ص :1

اشارة

ص :2

ص :3

ص :4

ص :5

ص :6

ص :7

ص :8

المدخل

لا ریب أنّ العِلم فی تزاید بتزاید الجهود وتضافرها ولا ینضب معینُهُ مهما بلغت أقدار الرجال وجهودهم؛ إذ وراء ما یحیطنا من حقائق منظورة کثیر من الأکمام، لا ینالها الباحث إلاّ بتواصل جهدهِ وإغارتهِ فی غیاهب تلک الأکمام، بعد تشمیره عن سواعد الاتکال علی ربِّ الأرباب، والتماسهِ النظر الدقیق، المحرَّر مما یعوق الإبداع والتجدید، وقد زخرت مدرسة أتباع الآل المطهّر فی عصر غیبتهم بأمثالٍ من رجالِ العِلم والفضیلة؛ قد ضربوا أحسن الصور فی التجرّد والتجدید، فلم یألوا جهداً ولم یدخّروا وِسعاً فی البحث بکلّ جسارةٍ وأمانةٍ فی الأکمام وما وراءها، فکلما وصلوا إلی (موضع)، ولاحتْ لهم حقائقُهُ المکنونة طمحوا بما بعده، وهکذا دوالیک...

ومن أمثلة ذلک البحث الذی بین أیدینا، بحث مفهوم (الاعتبار) وحقیقته، فقد أجاد فیه شیخنا الأستاذ السند دام ظلّه فیما مضی نظریةً، کانت تسترق الأنظار إلیها من حیث موادها، وشواهدها، ومواکبتها من قِبل جملة من الأعلام ممَن حاز کما فی وارد تراجمهم

ص:9

علی قصب السبق فی التحقیق ودقة الأنظار(1)! ولکن؛ وعلی منوال ما تقدّم، لم تضحَ تلک النظریة عند شیخنا المحقق إلا فکرة لشدِّ رِحالِ سُراهُ ومسابقة الشمس فی إشراق (جدیدات) نظرِهِ الشریف! وهو ما أثمر عن أطروحةٍ جدیدة فی مفهوم الاعتبار وحقیقته، کما سنری.

ولا بأس أن نبیّن؛ مختصراً، النظریة السابقة، ثم نعرج إلی النظریة الجدیدة، کی یتبلور لدینا التصوّر الواضح للنُقلة الجوهریة بین النظریتینِ.

کما أنّنا سنذکر احتجاج النبیّ الأعظم؛ صلی الله علیه وآله، مع أهل خمسة أدیان کاملاً؛ أولاً؛ لکرامتهِ وشرفه فی نفسه، وثانیاً لکون الشیخ الأستاذ قد بیّن حقیقة الاعتبار؛ فی نظریته الجدیدة، عند أعتاب الاحتجاج المذکور، وقد ذکر بعض فقراته؛ استدلالاً واستشهاداً.

ولذا؛ سنذکر؛ ککلمةٍ أولی، نص الاحتجاج المذکور.

ثُمّ مختصر النظریة السابقة؛ کلمة ثانیة.

ثُمّ بیان النظریة الجدیدة؛ کلمة ثالثة.

ص:10


1- (1) - کالسیّد العلامة الطباطبائی، کما نسب إلیه فی رسالة الاعتباریات، والمحقق العراقی فی هامشه علی فوائد الأصول للمحقق النائینی؛ 379/4 و 382. والمیرزا النائینی فی فوائده 1-281/2، والمحقق الاصفهانی فی نهایة الدرایة 56/3، وکتاب الإجارة 4، والسیّد الخمینی فی تهذیب الأصول 175/1، وغیرهم.ولکن ینبغی الالتفات إلی أنّ الشیخ الأستاذ قد أتفق مع هؤلاء الأعلام فی أصل النظریة السابقة! وهو کون الاعتبار حدّاً للحقائق، واختلف معهم فی نقاط، منها أنهم قالوا بالاعتباریة المحضة للاعتبار! وقال الأستاذ بالجنبة التکوینیة للاعتبار! لاحظ تفصیل ذلک فی کتاب العقل العملی؛ للشیخ الأستاذ، ص 303-306.

الکلمة الأولی: احتجاج النبیّ الأعظم؛ صلی الله علیه وآله

وهو احتجاج برهانی علی ضوء النظریة الجدیدة لحقیقة الاعتبار؛ من کونه إدراک لحقیقة الأشیاء التکوینیة بنحو مبهم ومجمل، ولذا سمّی ذلک الإدراک اعتباراً تمییزاً له عن الإدراک التفصیلی المسمی بالعِلم بالأشیاء!

فالاعتبار عبور ووصول لحقیقة الأشیاء وإدراکها بوجهٍ لا من کلِّ وجهٍ وبنحو الإحاطة التفصیلیة، کما سیأتی بیانه.

ص:11

(عن الإمام الصادق علیه السلام)

... حدثنی أبی الباقر عن جدی علی بن الحسین عن أبیه الحسین بن علی سید الشهداء عن أبیه أمیر المؤمنین صلوات الله علیهم أنه اجتمع یوما عند رسول الله صلی الله علیه وآله أهل خمسة أدیان: الیهود، والنصاری، والدهریة، والثنویة، ومشرکو العرب(1).

فقالت الیهود: نحن نقول عزیر ابن الله، وقد جئناک یا محمد لننظر ما تقول فإن اتبعتنا فنحن أسبق إلی الصواب منک وأفضل، وإن خالفتنا خصمناک.

وقالت النصاری: نحن نقول إن المسیح ابن الله اتحد به، وقد جئناک لننظر ما تقول، فإن اتبعتنا فنحن أسبق إلی الصواب منک وأفضل، وإن خالفتنا خصمناک.

وقالت الدهریة: نحن نقول إن الأشیاء لا بدو لها وهی دائمة، وقد جئناک لننظر فیما تقول، فإن اتبعتنا فنحن أسبق إلی الصواب منک وأفضل، وإن خالفتنا خصمناک.

وقالت الثنویة: نحن نقول إن النور والظلمة هما المدبِّران. وقد جئناک لننظر فیما تقول، فإن اتبعتنا فنحن أسبق إلی الصواب منک، وإن خالفتنا خصمناک.

وقال مشرکو العرب: نحن نقول إن أوثاننا آلهة، وقد جئناک لننظر فیما تقول، فإن اتبعتنا فنحن أسبق إلی الصواب منک وأفضل، وإن خالفتنا خصمناک.

ص:12


1- (1) - الیهود هم أتباع النبی موسی بن عمران علیه السلام وکتابهم المقدس هو التوراة، والنصاری هم أتباع النبی عیسی بن مریم علیه السلام وکتابهم المقدس هو الإنجیل، والدهریة هم الذین ینفون الرب والجنة والنار ویقولون وما یهلکنا إلا الدهر وهو دین وضعوه لأنفسهم بالاستحسان منهم علی غیر تثبت، والثنویة هم الذین یثبتون مع القدیم قدیما غیره، قیل هم المجوس الذین یثبتون مبدأین مبدأ للخیر ومبدأ للشر وهما النور والظلمة ویقولون بنبوة إبراهیم الخلیل علیه السلام، وقیل هم طائفة یقولون إن کل مخلوق للخلق الأول. ومشرکو العرب هم الذین کانوا یعکفون علی أصنام لهم ویعبدونها من دون الله تعالی ویعتقدون فیها أنها منشأ الخیر والشر وواسطة بین العبد والرب. (عن تعلیق السید محمد باقر الخرسان علی کتاب الاحتجاج).

فقال رسول الله صلی الله علیه وآله: آمنت بالله وحده لا شریک له وکفرت [بالجبت والطاغوت و](1) بکل معبود سواه.

ثم قال لهم: إن الله تعالی قد بعثنی کافة للناس بشیرا ونذیرا وحجة علی العالمین، وسیردُّ کیدَ من یکید دینه فی نحره.

ثم قال للیهود: أجئتمونی لأقبل قولکم بغیر حجة ؟

قالوا: لا.

قال: فما الذی دعاکم إلی القول بأن عزیرا ابن الله ؟

قالوا: لأنه أحیی لبنی إسرائیل التوراة بعد ما ذهبت ولم یفعل بها هذا إلا لأنه ابنه.

فقال رسول الله صلی الله علیه وآله: فکیف صار عزیر ابن الله دون موسی وهو الذی جاء لهم بالتوراة ورُؤی منه من المعجزات ما قد علمتم! ولئن کان عزیر بن الله لما ظهر من إکرامه بإحیاء التوراة فلقد کان موسی بالبنوة

ص:13


1- (1) - الزیادة فی بعض النسخ (عن تعلیق السیّد الخرسان).

أولی وأحق! ولئن کان هذا المقدار من إکرامه لعزیر یوجب له أنه ابنه فأضعاف هذه الکرامة لموسی توجب له منزلة أجل من البنوة، لأنکم إن کنتم إنما تریدون بالبُنوة الدلالة علی سبیل ما تشاهدونه فی دنیاکم من ولادة الأمهات الأولاد بوطئ آبائهم لهُنَّ فقد کفرتم بالله وشبهتموه بخلقِهِ وأوجبتم فیه صفات المحدثین، فوجب عندکم أن یکون محدثاً مخلوقاً وأن یکون له خالق صنعه وابتدعه.

قالوا: لسنا نعنی هذا، فإنّ هذا کفر کما دللت لکنا نعنی أنه ابنه علی معنی الکرامة وإنْ لم یکن هناک ولادة، کما قد یقول بعض علمائنا لمن یرید إکرامه وإبانته بالمنزلة من غیره "یا بنی" و "أنه ابنی" لا علی إثبات ولادته منه؛ لأنه قد یقول ذلک لمن هو أجنبی لا نسب له بینه وبینه، وکذلک لما فعل الله تعالی بعزیر ما فعل کان قد اتخذه ابنا علی الکرامة لا علی الولادة!

فقال رسول الله صلی الله علیه وآله: فهذا ما قلتُهُ لکم إنه إنْ وجب علی هذا الوجه أن یکون عزیر ابنه فإن هذه المنزلة بموسی أولی! وأنّ الله یفضح کل مبطل بإقراره ویقلب علیه حُجّتَهُ، إنّ ما احتججتم به یؤدیکم إلی ما هو أکثر مما ذکرته لکم، لأنکم قلتم إنّ عظیماً من عظمائکم قد یقول لأجنبی لا نسب بینه وبینه "یا بنی" و "هذا ابنی" لا علی طریق الولادة، فقد تجدون أیضاً هذا العظیم لأجنبی آخر "هذا أخی" ولآخر "هذا شیخی" و "أبی" ولآخر "هذا سیدی" و "یا سیدی" علی سبیل الإکرام، وإنَّ من زادَهُ فی الکرامة زاده فی مثل هذا القول، فإذاً یجوز عندکم أن یکون موسی أخاً لله أو شیخاً له أو أباً أو سیداً لأنه قد زاده فی الإکرام

ص:14

ممّا لعُزیر، کما أنّ من زاد رجلاً فی الإکرام فقال له یا سیدی ویا شیخی ویا عمی ویا رئیسی علی طریق الإکرام، وأنّ من زاده فی الکرامة زاده فی مثل هذا القول، أفیجوز عندکم أن یکون موسی أخاً لله أو شیخاً أو عَمّاً أو رئیساً أو سیّداً أو أمیراً لأنه قد زاده فی الإکرام علی من قال له یا شیخی أو یا سیدی أو یا عَمّی أو یا رئیسی أو یا أمیری ؟

قال: فبهت القوم وتحیروا! وقالوا: یا محمد أجلنا نتفکر فیما قد قلته لنا.

فقال: انظروا فیه بقلوب معتقدة للإنصاف یهدکم الله.

ثم أقبل علی النصاری فقال لهم: وأنتم قلتم إن القدیم عز وجل اتحّد بالمسیح ابنه، فما الذی أردتموه بهذا القول!؟ أردتم أن القدیم صار محدثاً لوجود هذا المحدث الذی هو عیسی، أو المحدث الذی هو عیسی صار قدیماً کوجود القدیم الذی هو الله أو معنی قولکم إنه اتحّد به أنه اختصه بکرامة لم یکرم بها أحدا سواه!؟ فإن أردتم أن القدیم صار محدثاً فقد أبطلتم؛ لأنّ القدیم محالٌ أن ینقلب فیصیر محدثاً، وإنْ أردتم أن المحدث صار قدیماً فقد أحلتم لأن المحدث أیضاً محالٌ أن یصیر قدیماً، وإنْ أردتم أنه اتّحد به بأنه اختصه واصطفاه علی سائر عباده فقد أقررتم بحدوث عیسی وبحدوث المعنی الذی اتحد به من أجله، لأنه إذا کان عیسی مُحدَثاً وکان الله اتحد به - بأن أحدث به معنی صار به أکرم الخلق عنده - فقد صار عیسی وذلک المعنی محدثین، وهذا خلاف ما بدأتم تقولونه!

ص:15

فقالت النصاری: یا محمد إنَّ الله لما أظهر علی ید عیسی من الأشیاء العجیبة ما أظهر فقد اتخذه ولداً علی جهة الکرامة.

فقال لهم رسول الله صلی الله علیه وآله: فقد سمعتم ما قلته للیهود فی هذا المعنی الذی ذکرتموه، ثم أعاد صلی الله علیه وآله ذلک کله، فسکتوا إلا رجلاً واحداً منهم فقال له: یا محمد أولستم تقولون إن إبراهیم خلیل الله ؟

قال: قُلنا ذلک!

قال: فإذا قلتم ذلک فلم منعتمونا من أن نقول إن عیسی ابن الله ؟

قال رسول الله صلی الله علیه وآله: إنهما لن یشتبها، لأن قولنا إبراهیم خلیل الله فإنما هو مشتق من الخلة، والخلة إنما معناها الفقر والفاقة، فقد کان خلیلاً إلی ربه فقیراً وإلیه منقطعاً وعن غیره متعفّفاً مُعرضاً مستغنیاً، وذلک لما أرید قذفه فی النار فرمی به فی المنجنیق فبعث الله جبرئیل فقال له: أدرک عبدی، فجاء فلقیه فی الهواء فقال له: کلّفْنی ما بدا لک فقد بعثنی الله لنصرتک! فقال إبراهیم: حسبی الله ونعم الوکیل إنی لا أسأل غیره ولا حاجة لی إلا إلیه، فسماه خلیله أی فقیره ومحتاجه والمنقطع إلیه عمن سواه، وإذا جعل معنی ذلک من الخلة وهو أنه قد تخلل معانیه ووقف علی أسرار لم یقف علیها غیره کان الخلیل معناه العالم به وبأموره، ولا یوجب ذلک تشبیه الله بخلقه! ألا ترون أنه إذا لم ینقطع إلیه لم یکن خلیله وإذا لم یعلم بأسراره لم یکن خلیله، وأن مَن یلده الرجل وإنْ أهانه وأقصاه لم یخرج عن أن یکون ولده، لأن معنی الولادة قائم به. ثم إن وجب لأنه قال لإبراهیم خلیلی أن تقیسوا أنتم فتقولوا بأن

ص:16

عیسی ابنه وجب أیضاً کذلک أن تقولوا لموسی إنه ابنه، فإن الذی معه من المعجزات لم یکن بدون ما کان مع عیسی، فقولوا إن موسی أیضا ابنه، وإن یجوز أن تقولوا علی هذا المعنی إنه شیخه وسیده وعمه ورئیسه وأمیره کما قد ذکرته للیهود.

فقال بعضهم لبعض وفی الکتب المنزلة إن عیسی قال "أذهب إلی أبی وأبیکم"؟!

فقال رسول الله صلی الله علیه وآله: فإنْ کنتم بذلک الکتاب تعملون فإن فیه "أذهب إلی أبی وأبیکم" فقولوا إنّ جمیع الذین خاطبهم عیسی کانوا أبناء الله کما کان عیسی ابنه من الوجه الذی کان عیسی ابنه، ثم إنّ ما فی هذا الکتاب مبطل علیکم هذا الذی زعمتم أن عیسی من وجهة الاختصاص کان ابناً له، لأنکم قلتم إنما قلنا إنه ابنه لأنه اختصه بما لم یختص به غیره، وأنتم تعلمون أن الذی خص به عیسی لم یخص به هؤلاء القوم الذین قال لهم عیسی "أذهب إلی أبی وأبیکم" ،فبطل أن یکون الاختصاص لعیسی؛ لأنه قد ثبت عندکم بقول عیسی لمن لم یکن له مثل اختصاص عیسی، وأنتم إنما حَکیتُم لفظة عیسی وتأولتموها علی غیر وجهها، لأنه إذا قال "أذهب إلی أبی وأبیکم" فقد أراد غیر ما ذهبتم إلیه ونحلتموه، وما یدریکم لعلّه عنی أذهب إلی آدم أو إلی نوح وأن الله یرفعنی إلیهم ویجمعنی معهم وآدم أبی وأبیکم وکذلک نوح، بل ما أراد غیر هذا.

قال: فسکت النصاری! وقالوا: ما رأینا کالیوم مجادلاً ولا مخاصماً مثلک وسننظر فی أمورنا.

ص:17

ثم أقبل رسول الله علی الدهریة فقال: وأنتم فما الذی دعاکم إلی القول بأن الأشیاء لا بدو لها وهی دائمة لم تزل ولا تزال ؟

فقالوا: لأنا لا نحکم إلا بما نشاهد ولم نجد للأشیاء حدثاً فحکمنا بأنها لم تزل، ولم نجد لها انقضاء وفناء فحکمنا بأنها لا تزال.

فقال رسول الله صلی الله علیه وآله: أفوجدتم لها قِدَماً أم وجدتم لها بقاءً أبد الآبد!؟ فإنْ قُلتم أنکم وجدتم ذلک أنهضتم لأنفسکم أنکم لم تزالوا علی هیئتکم وعقولکم بلا نهایة ولا تزالون کذلک، ولئن قُلتم هذا دفعتم العیان وکذبکم العالمون والذین یشاهدونکم.

قالوا: بل لم نشاهد لها قِدَماً ولا بقاءً أبد الآبد.

قال رسول الله صلی الله علیه وآله: فلِمَ صُرتم بأن تحکموا بالقدم والبقاء دائماً لأنکم لم تشاهدوا حدوثها، وانقضاؤها أولی من تارک التمیز لها مثلکم، فیحکم لها بالحدوث والانقضاء والانقطاع لأنه لم یشاهد لها قِدماً ولا بقاءً أبد الآبد، أو لستم تشاهدون اللیل والنهار وأحدهما بعد الآخر؟

فقالوا: نعم.

فقال: أترونهما لم یزالا ولا یزالان ؟

فقالوا: نعم.

فقال: أفیجوز عندکم اجتماع اللیل والنهار؟

فقالوا: لا.

فقال صلی الله علیه وآله فإذاً منقطع أحدهما عن الآخر فیسبق أحدهما ویکون الثانی جاریا بعده.

ص:18

قالوا: کذلک هو.

فقال: قد حکمتم بحدوث ما تقدم من لیل ونهار لم تشاهدوهما فلا تنکروا لله قدرته.

ثم قال صلی الله علیه وآله: أتقولون ما قبلکم من اللیل والنهار متناه أم غیر متناه، فإنْ قُلتم إنه غیر متناه فقد وصل إلیکم آخر بلا نهایة لأوله، وإنْ قلتم متناه فقد کان ولا شئ منهما.

قالوا: نعم.

قال لهم: أقلتم إن العالم قدیم غیر محدث وأنتم عارفون بمعنی ما أقررتم به وبمعنی ما جحدتموه ؟

قالوا: نعم.

قال رسول الله صلی الله علیه وآله: فهذا الذی تشاهدونه من الأشیاء بعضها إلی بعض یفتقر لأنه لا قوام للبعض إلا بما یتصل به، کما نری البناء محتاجاً بعض أجزائه إلی بعض وإلا لم یتسق ولم یستحکم وکذلک سائر ما نری.

وقال أیضاً: فإذا کان هذا المحتاج بعضه إلی بعض لقوته وتمامه هو القدیم فأخبرونی أن لو کان محدثا کیف کان یکون وماذا کانت تکون صفته ؟

قال: فبهتوا وعلموا أنهم لا یجدون للمحدث صفة یصفونه بها إلا وهی موجودة فی هذا الذی زعموا أنه قدیم، فوجموا وقالوا: سننظر فی أمرنا.

ثم أقبل رسول الله صلی الله علیه وآله علی الثنویة الذین قالوا النور والظلمة هما المدبِّران فقال: وأنتم فما الذی دعاکم إلی ما قلتموه من هذا؟

ص:19

فقالوا: لأنا وجدنا العالم صنفین خیراً وشراً، ووجدنا الخیر ضداً للشر، فأنکرنا أن یکون فاعل واحد یفعل الشیء وضده بل لکل واحد منهما فاعل، ألا تری أن الثلج محال أن یسخن کما أن النار محال أن تبرد، فأثبتنا لذلک صانعین قدیمین ظلمة ونورا.

فقال لهم رسول الله صلی الله علیه وآله: أفلستم قد وجدتم سواداً وبیاضاً وحمرةً وصفرةً وخضرةً وزرقةً، وکل واحدة ضد لسائرها لاستحالة اجتماع مثلین منها فی محل واحد کما کان الحر والبرد ضدین لاستحالة اجتماعهما فی محل واحد؟

قالوا: نعم.

قال: فهلا أثبتّم بعدد کل لون صانعاً قدیماً لیکون فاعل کل ضد من هذه الألوان غیر فاعل الضد الآخر!

قال: فسکتوا.

ثم قال: فکیف اختلط النور والظلمة، وهذا من طبعه الصعود وهذه من طبعها النزول، أرأیتم لو أن رجلا أخذ شرقا یمشی إلیه والآخر غربا أکان یجوز عندکم أن یلتقیا ما داما سائرین علی وجههما؟

قالوا: لا.

قال: فوجب أن لا یختلط النور والظلمة لذهاب کل واحد منهما فی غیر جهة الآخر، فکیف وجدتم حدث هذا العالم من امتزاج ما هو محال أن یمتزج بل هما مدبران جمیعا مخلوقان.

فقالوا: سننظر فی أمورنا.

ص:20

ثم أقبل رسول الله صلی الله علیه وآله علی مشرکی العرب فقال: وأنتم فلم عبدتم الأصنام من دون الله ؟

فقالوا: نتقرب بذلک إلی الله تعالی.

فقال لهم: أو هی سامعة مطیعة لربها عابدة له حتی تتقربوا بتعظیمها إلی الله ؟

قالوا: لا.

قال: فأنتم الذین نحتموها بأیدیکم ؟

قالوا: نعم.

قال: فلأن تعبدکم هی لو کان یجوز منها العبادة أحری من أن تعبدوها، إذا لم یکن أمرکم بتعظیمها من هو العارف بمصالحکم وعواقبکم والحکیم فیما یکلفکم.

قال: فلما قال رسول الله صلی الله علیه وآله هذا القول اختلفوا فقال بعضهم: إن الله قد حلَّ فی هیاکل رجال کانوا علی هذه الصورة فصورنا هذه الصور نعظمها لتعظیمنا تلک الصور التی حل فیها ربنا، وقال آخرون منهم: إن هذه صور أقوام سلفوا کانوا مطیعین لله قبلنا فمثلنا صورهم وعبدناها تعظیما لله، وقال آخرون منهم: إن الله لما خلق آدم وأمر الملائکة بالسجود له [فسجدوه تقربا بالله] کنا نحن أحق بالسجود لآدم [إلی الله] من الملائکة، ففاتنا ذلک فصورنا صورته فسجدنا لها تقربا إلی الله کما تقربت الملائکة بالسجود لآدم إلی الله تعالی، وکما أمرتم بالسجود بزعمکم إلی جهة مکة ففعلتم ثم نصبتم فی غیر ذلک البلد

ص:21

بأیدیکم محاریب سجدتم إلیها وقصدتم الکعبة لا محاریبکم وقصدتم بالکعبة إلی الله عز وجل لا إلیها.

فقال رسول الله صلی الله علیه وآله: أخطأتم الطریق وضللتم، أما أنتم - وهو صلی الله علیه وآله خاطب الذین قالوا إن الله یحل فی هیاکل رجال کانوا علی هذه الصورة التی صورناها فصورنا هذه الصور نعظمها لتعظیمنا لتلک الصور التی حل فیها ربنا - فقد وصفتم ربکم بصفة المخلوقات، أویحل ربکم فی شیء حتی یحیط به ذاک الشیء، فأی فرق بینه إذا وبین سائر ما یحل فیه من لونه وطعمه ورائحته ولینه وخشونته وثقله وخفته، ولم صار هذا المحلول فیه محدثا قدیما دون أن یکون ذلک محدثاً وهذا قدیماً، وکیف یحتاج إلی المحال من لم یزل قبل المحال وهو عز وجل کان لم یزل، وإذا وصفتموه بصفة المحدثات فی الحلول فقد لزمکم أن تصفوه بالزوال، وما وصفتموه بالزوال والحدوث فصفوه بالفناء، لأن ذلک أجمع من صفات الحال والمحلول فیه، وجمیع ذلک متغیر الذات، فإنْ کان لم یتغیر ذات الباری تعالی بحلوله فی شیء جاز أن لا یتغیر بأن یتحرک ویسکن ویسود ویبیض ویحمر ویصفر وتحله الصفات التی تتعاقب علی الموصوف بها حتی یکون فیه جمیع صفات المحدثین ویکون محدثاً تعالی الله عن ذلک علوا کبیرا.

ثم قال رسول الله صلی الله علیه وآله: فإذا بطل ما ظننتموه من أن الله یحل فی شیء فقد فسد ما بنیتم علیه قولکم.

قال: فسکت القوم وقالوا: سننظر فی أمورنا.

ص:22

ثم أقبل رسول الله صلی الله علیه وآله علی الفریق الثانی فقال: أخبرونا عنکم إذا عبدتم صور من کان یعبد الله فسجدتم لها وصلیتم فوضعتم الوجوه الکریمة علی التراب بالسجود لها فما الذی أبقیتم لرب العالمین، أما علمتم أن من حق من یلزم تعظیمه وعبادته أن لا یساوی به عبده، أرأیتم ملکاً أو عظیماً إذا سویتموه بعبده فی التعظیم والخضوع والخشوع أیکون فی ذلک وضع من الکبیر کما یکون زیادة فی تعظیم الصغیر؟

فقالوا: نعم.

قال: أفلا تعلمون أنکم من حیث تعظمون الله بتعظیم صور عباده المطیعین له تزرون علی رب العالمین.

قال: فسکت القوم بعد أن قالوا: سننظر فی أمرنا.

ثم قال رسول الله صلی الله علیه وآله للفریق الثالث: لقد ضربتم لنا مثلاً وشبهتموناً بأنفسکم ولسنا سواء، وذلک إنا عباد الله مخلوقون مربوبون نأتمر له فیها أمرنا وننزجر عما زجرنا ونعبده من حیث یریده منا، فإذا أمرنا بوجه من الوجوه أطعناه ولم نتعد إلی غیره مما لم یأمرنا ولم یأذن لنا، لأنا لا ندری لعله إن أراد منا الأول فهو یکره الثانی، وقد نهانا أن نتقدم بین یدیه، فلما أمرنا أن نعبده بالتوجه إلی الکعبة أطعناه، ثم أمرنا بعبادته بالتوجه نحوها فی سائر البلدان التی تکون بها فأطعناه، ولم نخرج فی شیء من ذلک من اتباع أمره، والله حیث أمر بالسجود لآدم لم یأمر بالسجود لصورته التی هی غیره، فلیس لکم أن تقیسوا ذلک علیه لأنکم لا تدرون لعله یکره ما تفعلون إذ لم یأمرکم به.

ص:23

ثم قال لهم رسول الله صلی الله علیه وآله أرأیتم لو أذن لکم رجل دخول داره یوما بعینه ألکم أن تدخلوها بعد ذلک بغیر أمره، أو لکم أن تدخلوا دارا له أخری مثلها بغیر أمره، أو وهب لکم رجل ثوباً من ثیابه أو عبداً من عبیده أو دابة من دوابه ألکم أن تأخذوا ذلک ؟

قالوا: نعم.

قال: فإنْ لم تأخذوه ألکم أخذ آخر مثله ؟

قالوا: لا لأنه لم یأذن لنا فی الثانی کما أذن فی الأول.

قال صلی الله علیه وآله: فأخبرونی الله أولی بأن لا یتقدّم علی ملکه بغیر أمره أو بعض المملوکین ؟

قالوا: بل الله أولی بأن لا یتصرف فی ملکه بغیر إذنه.

قال: فلِمَ فعلتم ومتی أمرکم بالسجود أن تسجدوا لهذه الصور؟

قال فقال القوم: سننظر فی أمورنا وسکتوا.

وقال الصادق علیه السلام: فوالذی بعثه بالحق نبیّاً ما أتت علی جماعتهم إلا ثلاثة أیام حتی أتوا رسول الله صلی الله علیه وآله فأسلموا، وکانوا خمسة وعشرین رجلاً من کل فرقة خمسة وقالوا: ما رأینا مثل حجتک یا محمد نشهد أنک رسول الله(1).

وسیأتی شرح فقرات من هذا الاحتجاج الشریف، وبیان الوجوه البرهانیة فیه، وإشاراته إلی النظریة الجدیدة فی حقیقة الاعتبار، مثل

ص:24


1- (1) - الاحتجاج، للشیخ الطبرسی، 16/1 إلی 24، تعلیق وملاحظات: السید محمد باقر الخرسان، 1386 ه -، دار النعمان للطباعة والنشر، النجف الأشرف.

اعتبار البُنوة والخُلة والکرامة والتمثیل باللیل والنهار، وبیان برهنته علی ارتباط الاعتبار بحدود التکوین الذی یُراد منه تمثیله وبیانه.

إلی غیر ذلک من نکات النظری الجدیدة، کما سیتّضح.

ص:25

الکلمة الثانیة: مختصر النظریة السابقة فی بیان الاعتبار

وهو أنّ "الاعتبار" یتمثّل بما یلی:

أولاً: أنّه وجودٌ لا مطابق له، بل هو وجودٌ فرضیٌّ وهمیٌّ؛ یُعتبر بإزاء الموجود التکوینی.

ثانیاً: أنّ ماهیته تحکی عن الخارج بالقوة، وتصبح فعلیةً عند إصابة الواقع، وهو ما یکون عند تحقق شرط الغایة من الاعتبار! بمعنی أنّ الاعتبار یتقوّم بالإصابة الغالبة، وهو ما یکون بشرط الغایة! بمعنی أن الحکایة لا تتمّ وأنّ الإصابة الغالبة لا تکون مقوّمة للاعتبار إلاّ مع کونهِ بداعٍ عقلائیٍّ ولیس عبثاً وإلاّ لم یحکِ شیئاً ولم یتقوّم بشیءٍ(1) ، فیکون صورة اعتبار لا غیر، بل هو بمثابة الجهل المرکب(2).

ص:26


1- (1) - العقل العملی، بحوث سماحة الأستاذ آیة الله الشیخ محمد السند، الطبعة الأولی، 1429، قم، ص 310.
2- (2) - نفس المصدر، ص 311.

الکلمة الثالثة: النظریة الجدیدة فی بیان الاعتبار

الاعتبار بیانٌ إجمالیٌّ مبهمٌ للحقائق التکوینیّة

الآن ومن نقطة التساؤل الأدیانیّ المطروح حول (وجهِ) اختلاط الرؤیة الاعتباریة الدینیة بالالتزام العملی! وبعد سبر النصوص الدینیة، وإثارة مکنون العقل بعد توفیقه سبحانه طُوَیَ عن تلک کشحاً، وطفِقَ؛ شیخنا الأستاذ؛ دام ظلّه، ببناء أطروحته الجدیدة، التی بدأت من (ضرورة) التحلیل الجادّ للطبیعة البشریّة، وهو ما قضی بأنّها لا تقف عند إدراکها الساذج، بل تتعدّاه لتتحکّم بقضایاها المدرَکة واستثمارها فی الهیمنة علی قضایا أخری أو الهیمنة علی الحرکات النفسیة المرتبطة بما أدرکتْ!

ومن هناک انتقل البحث إلی (الرقم الحقیقی) المعبِّر عمّا وراء الاعتبار، الذی یعطیه کلَّ هذا الزخم من الالتزام العملیّ علی الرغم من أنّه أی الاعتبار لا حظَّ له إلا بریق تخیّله وتصوّره فی حدود الذهن،

ص:27

کما هو مفاد النظریة السابقة، وإلیه ذهب جملة من الأعلام، کالعلامة الطباطبائیّ(1).

ولکن فی البین ثمّة حرکة وتکامل علی طول تاریخ البشریّة فمن أین أتی کلّ ذلک ؟!

أبن سینا وربما یکون بمعزلٍ عن هذا التساؤل قد رکّز علی الجانب الإدراکیّ النظریّ للإنسان؛ فاختزل المعرفة البشریة فی هذا الجانب، وما یُتساءل عنه من حرکة وتکامل مختزل فی ذلک؛ أیضاً، لحصولهما بمجرّد اتساع وتراکم الإدراک النظریّ، ومن ذلک الاعتبارات ولو کانت مجرّد تخیّلات، فلا موضوع لما یسمّی بالسیر والسلوک!

إذن؛ فهذا الجواب قد أبقی علی سذاجة وتخیّلیة الاعتبار، وفسَّر حرکة وتکامل الإنسان بالاتساع المعرفیّ النظریّ.

وفی مقابل ذلک ما ذهب إلیه جملة من الفلاسفة والعرفاء انتهاءً بعلماء القانون؛ من أنّ الاعتبار لیس مجرّد تخیّل بل هو عبارة عن (صِیغٍ عقلیة) تُنظِّم العلاقات الظاهریة المحسوسة المختلفة، کالعلاقات الفردیة والاجتماعیة؛ بإدراکها، کما تنظم العلاقات الغیبیّة؛ بإدراکها والتفاعل العملیّ معها علی صعید القوی الإنسانیة الباطنة.

فالاعتبار کشف عن جوانب تکوینیة، ولو بالإجمال، وهو ما لا یقتصر علی الاعتبار السماوی، بل یشمل الوضعیّ منه.

وفی القرآن الکریم والسُّنّة نجد التأکید والحث علی أمثال التنظیم

ص:28


1- (1) - راجع رسالة الاعتباریات له قُدّس سرّه.

الثانی فضلاً عن الأول، وهو ما زخرتْ به کلمات العرفاء؛ تبعاً لذینک المصدرین، وقد أکّدوا علی أن (سیر العارف) إنما هو عملٌ رُوحیٌّ بالتعامل مع مفردات وقضایا مدرَکة، ولیس هو فی الحقیقة عملاً بدنیاً(1)!

ولکن؛ توضیح هذا التفاعل العملی مع (القضیة المدرَکة) قد لا یکون واضحاً فی کلماتهم، وهو ما یمکن توضیحه بالعلاقة بین الفعل ورد الفعل؛ وأنّه لابد من وجود انسجاماً ما بین الطرفین! وفی موردنا نؤکد علی أنّ (العملَ) المقصود فی باب المعرفة العقائدیة أو غیرها له خصوصیته الماثلة؛ تکویناً، لتحقیق ذلک بالفعل! وهو ما یمکن ملاحظته فی أمرین رئیسین، وهما:

الأول: دخالة ذلک العمل فی ذات المعرفة البشریة؛ خلافاً لابن سینا، کما سیتضح مما یأتی.

الثانی: أنّه عملٌ من سنخ شفاف ولطیف ینسجم مع عالم الروح!

وبلحاظ هذین الأمرین نجد الضرورة القصوی إلی نظام الاعتبار الذی یُغطّی مساحات واسعة من میدان المعرفة البشریّة، کما سیتضح ذلک شیئاً فشیئاً.

وبعبارة: أنّ نظام الاعتبار الذی یمثّل الرکیزة الأساسیّة لأعمال الروح؛ فضلاً عن أعمال البدن، لابد منه فی نظام المعرفة البشریّة وإلا کانت تلک المعرفة مبتورة من جانبها العملیّ؛ لتخلّف أساسها، الساعی لرُقی الإنسان وسعادتهِ فی الدارینِ.

ص:29


1- (1) - ولا هو مجرّد اتساع معرفی نظریّ.

إنّ قصر النظر علی الجانب الإدراکی لتلک المعرفة یحجب الإنسان عن کثیرٍ من الأعمال الجوانحیّة الأصیلة فی رُقیِّهِ وسعادتهِ! لأنّ عروجیة الصلاة؛ مثلاً، إلی مراتب الکمال لن تکون بمحض الإدراک لأصل الصلاة، کما هو الحال فی کلِّ قضیةٍ مُدرکَةٍ، بل لابد من توسیط نظام الاعتبار بالمعنی الذی یُضمن فیه واقعیة الحرکة الإنسانیة الملتزمة بحدوده، وهو ما سنوضحه عما قریب من أجل تلک العروجیة التی تنطلق من مراتب کمالیة نازلة حتی تترقّی إلی ما شاء الله سبحانه من المراتب الصاعدة.

ولذا ذهب أصحاب هذا القول إلی أن التکامل الإنسانیّ عبارة عن سَیرٍ وحرکةٍ فی إطار ما یَتمُّ إدراکه! نافینَ أن تکون توسعة الإدراک؛ بمفردها، منجِزَةً للتکامل المنشود.

تقریب مَن یمنع الاعتبار عن ساحة البحث العقائدی والمعرفیّ!

تقدّم من توضیح المذهبین المتقدمین أنّ مذهب جملة من الفلاسفة؛ تبعاً لابن سینا، قد اختزل المعرفة البشریّة فی نظام الحکمة النظریّة، وأنّ الحکمة العملیة، التی تستند فی جذرها إلی (صِیغٍ عقلیةٍ مستوحاة من الحکمة النظریّة) إنّما تقف عند حدودها من الظواهر المحسوسة، وأمّا العلاقات والمعطیات التی تربط الإنسان بخالقهِ أو تربطه بما وراء الظواهر المحسوسة فأنّها لا تتخطّی نقطة إدراکها؛ إثباتاً أو نفیاً! والمفروض أنّ البحث؛ حینئذٍ، یکون عن حقائق تکوینیة قائمة،

ص:30

فلا مجال لتوسیط الاعتبار فی إثباتها أو نفیها؛ بعد خوائه إلا من تخیّلهِ، فلا موضوع للاعتبار فی باب الاعتقاد!

رَدٌّ فیه تأصیل!

لا یخفی أن اختزال المعرفة البشریة فی ذات الإدراک ومجرّد التوسعة فی قضایاه المدرکَة کان من آثارهِ قصور النتائج التشریعیة الوضعیة عن تناول الموضوعات العقائدیة، کما هو ماثل فی نصوصها!

(ولکن) تقدّم أنّ جملة من الفلاسفة، کالخواجة الطوسی، قد ذهبَ إلی أنّ نفس الإدراک هو نحو من العمل والتکامل! وهو ما نجده فی العدید من الآیات والروایات، وعلیهِ استقرّتْ بحوث العلوم النفسیة الحدیثة(1).

وإذا کان الأمر الذی یذکره الخواجة کذلک فی العلم الحصولی، وهو الصحیح، فأنّه فی العلم الحضوریّ أولی وأوضح؛ حیث تتعدّد مراتب الروح التی تتفاعل (عملیاً) مع مدرکاتها العیانیّة؛ ابتداءً من العقل العملی فالأعلی، کالقلب والسر والخفی فالأخفی... فی مراتب یدرکها الوجدان؛ إثباتاً وثبوتاً، وهو ما تناولتهُ النصوص الدینیة کحقائقَ واقعیة فی العدید منها، کقوله تعالی یعلم السر وأخفی(2)! فهو لم یعلم بقضایا مدرکة لدی الإنسان؛ بسذاجتها المطلقة، بل علم بها بعد تفاعل روحی رتّبها فی مصادیق من السِّرّ والخفی والأخفی!

ص:31


1- (1) - إذن ما نفی عنه العمل هو نحو من العمل!
2- (2) - سورة طه؛ من الآیة 7.

ویمکن التنبیه مرّة أخری إلی ذلک التفاعل العملیّ بملاحظة مراتب الإرادة قوةً وضعفاً؛ بلا فرق بین أنواع الإرادة؛ عقلیة أو سواها، وهو ما بحثه الفلاسفة؛ فعلاً، کالملا صدرا؛ وقد انتهوا إلی أنّ کلَّ واحدةٍ من مراتب الإرادة تمثّلُ إعمالاً وحرکة متفّرعة عن العِلم!

وهو ما یدحض مذهب ابن سینا المتقدّم.

وما ذکره الخواجة الطوسی لا یمنع عنه کون العلّة الفاعلیة تستقرّ فی الباری عزَّ وجلَّ؛ لبقاء (انتساب) الإنفعال بالتعلّم إلی الإنسان! وشاهده أنّ التعلیم قد یحصل من دون حصول (العِلم) بنحو یرجع إلی اختیار المتعلّم نفسه، کما لو أعرض بإرادته عن نتیجة التعلّم؛ بلا فرق فی ذلک بین سببیة الإدراک الحصولی أو الحضوریّ فی حصول العِلم.

وبهذا نصل إلی هذا الأصل! وهو أنّ الحکمة العملیة لا تقف عند حدود إدراک ما وراء الظواهر المحسوسة بل تتخطاها إلی الحرکة والسیر علی وِفقها؛ سواء فی ذلک الإدراک الحصولی أم الحضوریّ.

ولذا فأنّ المشاهدة لا یمکن حصولها؛ أولاً، ولا استمرارها؛ ثانیاً، من دون إعمالٍ وحرکةٍ إرادیّةٍ! فمَن یرید أن یصلی صلاةً بتوجّهٍ وإقبالٍ بحاجةٍ إلی إعمالٍ إرادیٍّ بهذا الاتجاه! ومَن یُرِد استمرار الحاصل المعنوی من تلک الصلاة وتصاعده فهو بحاجة إلی إعمال إرادیٍّ آخر، کالاشتغال بالتعقیبات.

کذلک الأمر فی العلم الحصولی؛ بل الحال أوضح کما تقدّم من ارتهان درک القضیة المطروحة للتحصیل بالإعراض والإقبال الإرادیین

ص:32

نحوها، کما لو أعرض عن سماعها؛ فأنّها لا تنطبع فی ذهنهِ، أو أعرض عن تکرارها ومزاولة تفهمّها فیما لو کان فهمها یحتاج إلی ذلک.

ولا یتوهم فی مثالنا الثانی حصول الإدراک بالإعمال الأخیر للإرادة! بل حصل بالتراکم والاجتماع لنتائج إعمالها حتی حصل الفهم والاستیعاب بمقدارهِ المطلوب! ولذا فقول أمیر المؤمنین علیه السلام (قَدَرُ الرَجُلِ علی قَدَرِ هِمّتِهِ)(1) لا یعنی وحدانیّة الهمّة المطلوبة فی کلِّ قضیةٍ قضیة، بل یُراد تراکم وتضافر الهمم فی کلّ قضیة؛ إذ کثیراً ما یکون استیعاب القضایا علی مراتب ومراحل لا تتحقق إلا بتراکم وتصاعد الهمم علی نسق تصاعد وتلاحق تلک المراحل!

إذن؛ فالأصل الذی حققناه بما تقدّم یخلص إلی أنّ (العملَ) متداخل فی جمیع أنواع مع مراحل الإدراک الإنسانیّ بما فی ذلک (الإدراک الحصولیّ)؛ فإنّه نحو إعمالٍ وحرکةٍ؛ فضلاً عن الإدراک الحضوری؛ بلا فرق فی ذلک بین ما یتصل بالمعارف الاعتقادیّة وما یتّصل بغیرها.

تقریب تداخل الاعتبار فی البحث الاعتقادی والمعرفیّ

اشارة

مما تقدّم وصلنا إلی نتائج نذکرها؛ للتذکیر، وهی:

النتیجة الأولی: دخالة الإرادة فی الإدراک الحصولی والشهودی معاً؛ فلا محال یکون الإدراک أو المعرفة؛ عموماً، نحو عمل وحرکة.

ص:33


1- (1) - غرر الحکم، برقم 1627، ص 93، وفی نهج البلاغة، الحکمة 47.

النتیجة الثانیّة: علی ما تقدّم سیکون (العمل) جزءً من موضوع الاعتبار؛ لِما تقدّم من کون الاعتبار (صِیغاً عقلیة) تُنظم العلاقات الظاهریة المحسوسة المختلفة(1) ؛ بإدراکها!

ویُضاف إلی ذلک النتائج التالیة:

النتیجة الثالثة: أنّ ما یحمل الإنسان علی ذلک (العمل) الجوانحیّ إنّما هو الترغیب والترهیب؛ باعتبار مکملیة کلّ منهما فی تولّد الإرادة لدیه نحو العمل، ولذا کان من اللطف الإلهیّ الواجب أن یأمر الحقُّ وأن یُرغِّب فی توحیده وأن ینهی ویُرهِّب من الشرک به(2).

النتیجة الرابعة: من ذلک تتولّد الحاجة إلی الاعتبار؛ لأنّ الترغیب والترهیب حکمان اعتباریان یتعلّقان بنوع من القضایا؛ وسیأتی عن قریب بیانها.

ومن أمثلة ذلک (آیات الإیمان بالله تعالی) فأنّها لبیان فرضٍ عملیٍّ تشرعیّ ولیس لمجرّد التصوّر لقضیتها ولا للإرشاد کما یدّعیهِ المشهور؛ لأنّ الإلزام بقضیة الإیمان إنّما یتأتی ویسوغ بعد إدراک وجود الله سبحانه، وهو إدراک قد لا یتعقبهُ الإذعان والإخبات للحقیقة المدرَکة، ولذا احتیج للدفع باتجاه الإذعان بها إلی طریق الترغیب والترهیب؛ حیث یُوفران الغطاء الترویضی لتحریک الإنسان بحسب تلک الحقیقة

ص:34


1- (1) - کالعلاقات الاجتماعیة والفردیة من الدرس
2- (2) - لاحظ الإمامة الإلهیة؛ 23/1 و 24 وغیرها.

المدرَکة(1) ، وهو إمّا أن یکون بعثاً نحو الفعل وإمّا أن یکون زجراً وردعاً عنه.

ولا یخفی وقوع الانفکاک بین إدراک القضیة المذکورة وبین العمل اللازم بإزاء إدراکها(2) ، بل ربما یقع نقیض العمل اللازم لها، وهو الجحود! وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَیْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا3!

وذلک لکون الإنسان ذا حالات مرضیة نفسیة فی قوة العقل العملیّ والنظری وفی القوی المادون الدرّاکة بمثل الجربزة والعِناد والوسوسة والاضطراب! فهذه الصفات النفسیة معادیة وممانعة عن الانتقال الذهنی من مرحلة إلی مرحلة! فالوسواسی لا یحصل له إذعان للإدراکات الصحیحة، وهذا مما یدلّ علی أن العِلم بالنتیجة لیس علّة تامّة للإذعان والتسلیم لأنه قد تمانعه إحدی تلک الحالات المرضیة(3).

وبعبارة أکثر تفصیلاً: أن (تنزّل) العلوم الحقیقیة من العوالم العلویة إلی العقل البشری ثم منه إلی باقی قواه (یواجه) سیلاً من العوائق والموانع، کعوائق التلقی عند العقل النظریّ، وعوائق حصول الإذعان بعد العلم، وعوائق الانصیاع لقوة العقل العملیّ بعد حصول الإذعان!

ص:35


1- (1) - راجع تفصیل ذلک فی الإمامة الإلهیة؛ للشیخ الأستاذ دام ظلّه، ج 1 / ص 91.
2- (2) - لأنّ هذا الإدراک وذلک العمل یرجعان إلی مبدأین مختلفین، فأولهما یرجع إلی العقل النظری والنتیجة المستفادة من مقدمات المعرفة، وثانیهما یرجع إلی العقل العملیّ، کما ذکر العلاّمة الطباطبائی، نهایة الحکمة ص 252. انظر الإمامة الإلهیة، ج 91/1.
3- (4) - العقل العملی؛ ص 375 بتصرّف.

ولأجل ذلک مسّتْ الحاجة إلی الترغیب والترهیب، وهما حکمان اعتباریان(1)!

بل یمکن أن یکون فی البین إدرکاً شهودیاً ومع ذلک تقع المضادة العملیة، کما فی عمل إبلیس؛ فأنه قد عاین ما عاین من القضیة المذکورة ولکنّه مع ذلک لم یخبت لله ولم ینقاد له!

فالحاصل أن أصل الاعتقادات، وهو الإیمان بالله سبحانه مستندٌ إلی الضرورة التشریعیة فی الترغیب والترهیب، وهما اعتباران؛ یحکم بهما المولی بإزاء القضیة المدرَکة، بلا فرق بین کونها من قضایا الاعتقاد أو غیرها.

النتیجة الخامسة: أنّ اللجوء إلی نظام الاعتبار فی فروع الدین وأصوله من ضرورات مراعاة القدرة البشریة فی مجال فهم الدین والتحرّک وفق معطیاته، کما هو مقتضی حسن أفعاله سبحانه.

فمثلاً؛ علی مستوی الفروع نجد أنّ واقعیاتها أکثرها مما لا یمکن إدراکه ولو من قِبل نخبة النخبة! ولذا کانت الحاجة لإیصالها عن طریق ثلّة من البشر المختارین؛ علی أن یکون الإیصال بما یتوافق مع الفهم البشری العامّ، وهو ما تطلب اللجوء إلی نظام الاعتبار، کما ذکره جملة من أعلام الفلسفة والکلام والفقه.

ص:36


1- (1) - العقل العملی؛ ص 378، ومما ذُکر فی المتن أستدل علی ضرورة (عصمة) القناة الناقلة للتشریع الإلهی! وهو الموافق للقرآن والسنة والعقل.
حاجتنا إلی الاعتبار!

إذن؛ فالحاجة إلی الاعتبار تنبع من:

أولاً: العجز البشریّ عن إدراک فروع الدین، فضلاً عن أصولهِ؛ لغیبوبة کُنهها! وقد أیّدنا فی الإمامة الإلهیّة عدم یقینیة الفکر البشریّ حتی بعد المحاولات المتتالیة لإزالة نسبة الخطأ فیه؛ بما فی ذلک محاولة الشهید الصدر فی اعتماد منهج الاستقراء(1).

وثانیاً: العجز البشریّ عن استیعاب جمیع حقائق الفروع کما هی علیه؛ لکثرتها وتجدّدها! وقد تقدّم الکلام حول الموانع البشریّة فی أصل تلقی التعلیم الإلهیّ، وفی تولّد الإذعان من التعلیم، وفی تولّد الانصیاع العملیّ من الإذعان(2).

و (ما یقال) من أنّ البشریّة تتکامل عقولها؛ تدریجاً، فتستغنی عن الاعتبار الإلهیّ (فهو) بنفسه دلیل علی الحاجة المستدیمة للاعتبار المذکور! لأنّ التکامل المذکور إنّما هو فی الجانب اللّمیّ، وهو معرفة الحقائق بعِللها وأسبابها، وهو ما یعنی بقاء مساحات واسعة من مجهولات مصالح ومفاسد تلک الحقائق؛ فضلاً عن مساحات الجهل فی ذات تلک الحقائق(3).

وأمّا علی مستوی الأصول الاعتقادیة فذات الحاجة تبرز إزاء الواقعیات التی یراد الاعتقاد بها والتحرّک بحسبها؛ لاسیما تلک

ص:37


1- (1) - الإمامة الإلهیة؛ 78/1.
2- (2) - انظر بحث النتیجة الرابعة؛ السابقة.
3- (3) - العقل العملی؛ 380، بتصرّف.

الواقعیات التی تمثّل عِللاً أولی لخلق الإنسان ووجوده؛ لقصورهِ وهو فی مقام المعلول أن یُحیط بکُنهِ وحقیقة عِلّتهِ، ولذا مستْ الحاجة إلی بلورت تلک الواقعیات فی عناوین اعتباریة ترشد؛ إجمالاً، إلیها.

وعلی هذا تسقط دعوی بلورت تلک الواقعیات بحسب أُطُرها الواقعیة التامّة؛ للقصور البشری عن ذلک، کما تسقط دعوی بلورتها فی إطار الانتزاع المحض الخالی من بیان معانیها وحقائقها؛ ولو إجمالاً.

وهکذا تطرّد الحاجة البشریة إلی الاعتبار فی کلِّ أمرٍ تکوینیٍّ غائب یُراد إدراکه بحسب مقام ثبوتهِ، والتحرّک وفق ذلک الإدراک، لاسیما عندما یصل الأمر إلی مصادیق الأفعال وجزئیاتها؛ حیث تختفی جهات حسنها وقبحها عن العقل البشریّ، کما هو واضح.

ثم لا یخفی أنّ (اعتراف) علماء القانون والعلوم الأخری، کالکلام وأصول الفقه بالحاجة إلی توسیط الاعتبار فی شؤون النشأة الأرضیة؛ (یدعونا) إلی الاعتراف بمثل ذلک فیما یرتبط بحقائق النشآت الأخری الصاعدة؛ لاشتراکهما فی (ذات السبب)، وهو کونها حقائق خارجة عن القدرة البشریة لدرکها علی ما هی علیه ثبوتاً.

فالمحصّل أنّ العقل العملیّ وکذا النظریّ محدود فی مدرکاتِهِ بالنسبة إلی جهات الحسن والقبح؛ وهی محدودیة ألجأت الإنسان إلی الاستعانة بقضایا إعتباریّة.

ولذا فمَن القصور الإدراکی انبثقتْ الحاجة إلی الاعتبار.

ص:38

آیات بیّنات لحقائق کونیة!

وهی کثیرة! ولا یخفی أنّها بیانات اعتباریة، وقد تناولت الحکمتین؛ النظریّة والعملیّة؛ فقوله تعالی مَا اتَّخَذَ اللّهُ مِنْ وَلَدٍ وَ ما کانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ1 ، وقوله سبحانه قالوا اتخذ اللهُ ولداً سبحانه هو الغنی(1) ، وقوله عزّ وجلّ وَ قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُکْرَمُونَ3 ، وقوله تعالی وَ ما یَنْبَغِی لِلرَّحْمنِ أَنْ یَتَّخِذَ وَلَداً4 ، وقوله تبارک اسمه وَ أَنَّهُ تَعالی جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَ لا وَلَداً 5 - جمیعها لنفی ثبوت (جعل) الولد؛ اعتباراً!

وهذا بیان معرفیّ لسُنّةٍ من سنن الله، وهو أنه؛ سبحانه، لم یتخذ بتوسط الاعتبار ولداً؛ کما أنّه لم یتخذه بدون توسیطه! سبحانه.

بینما قوله سبحانه لَمْ یَلِدْ وَ لَمْ یُولَدْ6 نفی لذات الفعل! فهی تعبّر عمّا یرجع إلی الحکمة العملیة! بینما ترجع آیات الطائفة المتقدّمة إلی الحکمة النظریّة؛ لنفیها الاتخاذ؛ اتخاذ الولد(2) ، وهو أمر اعتباریّ، کما سیأتی مزید بیان له.

ص:39


1- (2) - سورة یونس؛ من الآیة 68.
2- (7) - أی التبنی بلغة الناس.

فعلی هذا تکون أمثال هذه المعارف المستفادة من هذه الآیات الکریمة من المعارف الاعتباریّة لا التکوینیة، کما ذهب جملة المفسرین والأعلام، کالسیّد الخوئی؛ حیث فسّروا (عدم إنبغاء الولد) بالاستحالة! وفسّروا (عدم اتخاذ الولد) بقولهِ سبحانه لَمْ یَلِدْ وَ لَمْ یُولَدْ ! ولکن تبیّن أنّ عدم الإنبغاء إنّما هو فی حدود الاعتبار لا التکوین، ولذا لم یصحّ تفسیرهم عدم الاتخاذ بقوله لم یلد، للفرق بینهما؛ اعتباراً وتکویناً.

واعتباریّة هذه المعارف لا یفرّقها عن المعارف المتعلّقة بالتکوینیات مباشرةً؛ إذ أنها؛ أیضاً، تؤدی إلی المثوبة والعقوبة! ففی قوله تعالی مَا اتَّخَذَ اللّهُ مِنْ وَلَدٍ1 بیان لمعرفة اعتباریة تدعو وتحرّک إلی عدم الاعتقاد بأنّ الله قد اتخذ ولداً؛ حتی بلحاظ کونه اتخاذاً اعتباریّاً؛ فهو منفی عن ساحتهِ سبحانه.

ومثل تلک الاعتباریة اعتباریّة الوجود القرآنیّ المتمثّل بنفس وضع ألفاظِهِ لمعانیهِ المقابل لوجودهِ التکوینیّ الحقیقیّ، فهو علی اعتباریتِهِ کانت له بحسب النصوص الدینیّة أحکاماً عملیة عدیدة، کوجوب احترامه وتقدیسه والاحتجاج به وعبادیة النظر إلیه وما إلی ذلک!

ومن مجمع هذا التأصیل لحقیقة الاعتبار نصل إلی:

النتیجة السادسة: وهو أن المداینة والتداین لا ینحصر بما یتّصل بالأمور الواقعیة التکوینیة بل یمتدّ بشکلٍ (أوسع) فی الأمور التشریعیة

ص:40

الاعتباریة؛ فیجب العمل علی وِفقها مع أنّ المبیَّن منها الاعتبار لا أکثر؛ لِما تقدّم من کون الاعتبار المقصود فی المداینة الدینیة والوضعیة إنّما هو الکاشف عن التکوین، وهو ما یکون من موارد إدراک العقل العملیّ المحرِّک لإرادة الإنسان.

وبهذه النتیجة نخالف السیّد الطباطبائی فیما ذهب إلیه من انحصار الحاجة إلی نظام الاعتبار فی خصوص النشأة الدنیویة وعند افتراض قیام النظام الاجتماعی فیها(1) ؛ لأنّ الصحیح تداخل نظام الاعتبار فی نظام التکوین والعوالم العلیا؛ لقصور کلِّ عالَم عن الإحاطة بما یخصّ العالَم الأعلی منه.

کما أنّ الحاجة إلی نظام الاعتبار فی النشأة الدنیویة لا یرتهن بقیام النظام الاجتماعی؛ إذ أنّه یسری حتی فی تنظیم حیاة الإنسان نفسه؛ لِما تقدّم من أنّ بِنیة نظام الاعتبار إنّما هی نظام التکوین والعوالم العلیا، وهی أمور واقعة فی إرادات الفرد وحرکاتهِ؛ أیضاً، وهی ما لا یمکن إدراکه فهماً وعلماً وتحرّکاً سواء فی ذلک الفرد أم نظامه الاجتماعیّ، فالمآل نظام الاعتبار علی أی تقدیر.

وبهذه النتیجة؛ أیضاً، نفهم الدور الذی یقوم به الاعتبار من تسهیل عمل الإنسان إزاء التکوین الذی عجز عن درکه شهوداً وعیاناً، ولذا قلنا

ص:41


1- (1) - لاحظْ تفصیل ذلک فی کتاب العقل العملی؛ ص 281؛ عند قوله (وأن تفسیر هبوط الحقیقة الآدمیة... تسافلاً)، وص 283 عند قوله (ثم یقول فی تولّد اعتبار الحسن والقبح... اعتباریان).

بأنّ الاعتبار ظل التکوین کلما لاحَ فی الأفق عجز الإنسان عن إدراک التکوین.

وبهذا نفهم مفردات النصوص الدینیة المبیّنة لعلاقاتٍ بین الإنسان ونشآت أخری، کنشأة البرزخ، والآخرة، والجنّة... إذ بتوسیط نظام الاعتبار یتحرّک الإنسان بإرادةٍ فی تلک النشآت؛ أیضاً، فیُحفظ بهذا النظام نظام (اختیاریة أفعال الإنسان) کما حُفِظتْ به فی النشأة الدنیویة!

قاعدةٌ فیها نظرٌ!

والقاعدة... مفادُها أنّ المتکلمین والفلاسفة قد ذکروا (تفریقاً) بین الأفعال الإنسانیة الصادرة فی النشأة الأرضیة وبینها فی النشآت الأخری، وطوّرَ هذا التفریق المحققان الأصفهانی الکمبانی والعلامة الطباطبائی، وملخّص بیانه بأنّ أفعال الإنسان علی قسمین:

القسم الأول: ما یکون فی النشأة الأرضیة: وهی أفعال؛ علی الدوام، تکون إعدادیة تقع فی مسار مجموعة من المقدمات لحصول النتیجة، فهی؛ إذن، لیست أفعالاً إیجادیّة، بل مجرّد حرکات، کحرکة الفلاح فی نثر البذور علی الأرض التی هیّأها بحرکات أخری، فأنّه بذلک لا یفیض علی تلک البذور الوجود الجوهریّ النباتی، بل تفیضها العوامل العلویة، المنتهیة بالحقّ سبحانه أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ1!

ص:42

نعم، لأجل تنظیم تلک الأفعال الإعدادیة وفق مسارها الإعدادی تکویناً احتیج إلی نظام الاعتبار؛ حیث یعطی للتروّی والتراخی، الذی هو من صفات أفعال هذه النشأة، فرصته الطبیعیة.

القسم الثانی: ما یکون فی النشآت الأخری: وهی أفعال إبداعیة؛ توصف بأنها إلهیة؛ لإیجادیّتها! ولذا لا یکون صدورها عن تروٍّ وتراخٍ، بل هی إیجادات تحصل بالتخاطر بین الإنسان وما یحیط به مباشرةً؛ فلا حاجة؛ حینئذٍ، إلی الاعتبار!

والنظر!

أمّا أولاً: فأنّ دعوی (تمحض مخلوقی النشآت الأخری فی نظام العقول(1)) التی هی أساس دعوی (إبداعیة) أفعال هذه المخلوقات، مفندةٌ بالنقل الوحیانی والمشاهدات فی ثبوت تعلّق الملائکة وسواها بنحوٍ ما بالنشأة الأرضیة، کموتها(2) ، کما نصّتْ الروایات علی موت جبرئیل، وهو ما یعنی تعلقهم بالمادة الدنیویة وأحکامها.

وأمّا ثانیاً: فأنّ التقسیم المذکور حیثیٌّ إضافیٌّ! إذ أنّ الإنسان فاعل طبیعی من حیثیة (الغایة)، کما استدل صاحب هذا العقد، ولکنّه فاعل إبداعی إلهیّ بلحاظ ذات (الحرکة) التی یتخذها لأجل تلک الغایة!

ص:43


1- (1) - کالملائکة.
2- (2) - وصعودها ونزولها من السماء إلی الأرض وبالعکس، وحاجتها إلی الإعداد والتهیؤ، کما ورد فی آیات متضافرة وروایات مستفیضة من رغبة بعض الملائکة بنصرة الإمام الحسین علیه السلام، ولکنّها فی آخر الأمر لم توفق إلی ذلک بل وصلت بعد المعرکة! انظر کامل الزیارات، ص 92، ح 17.

وبعبارة: أنّ الإنسان یفیض حرکته وفعله الإبداعی فی مواد الأشیاء، کالمنی والبذرة، فیُفیض الله تعالی علی تلک المواد المحرّکة طبیعیاً الصور الجوهریة من الجنین والنبتة(1)! إذن؛ فهو فاعل إلهیّ بلحاظ حرکته، وفاعل طبیعی بلحاظ تحقق الصور الجوهریة.

وأمّا ثالثاً: فأنّا لا نُسلّم بإلهیّة وإبداعیة أفعال الملائکة ومن هو فی نشأتهم أو نشأة أرقی من نشأتهم؛ لأنّ (عِلمهم) مهما کان فهو لیس بمحیط بما فوق نشأتهم؛ إذ المعلول الملکوتی الإبداعیّ أدون من عِلّتهِ؛ التی تنظم أفعاله! ولذا کان محتاجاً لمعرفة المجهول من حقائق عِلّتهِ إلی الاعتبار؛ کی یکفیه مساحة ما یقصر عنه من النظام الرابط بینه وبین علّتهِ.

وفی النصوص الدینیة شواهد لذلک!

وتقدّم منّا أنّ الدین عبارة عن اعتبارات لتغطیة ما لا یمکن المداینة علیه بحسب واقعِهِ التکوینیّ.

إذن؛ فما عقدوه من مقدمات ودلیلٍ علی احتیاج الفاعل الطبیعیّ لنظام الاعتبار یأتی بعینهِ بالنسبة إلی الفاعل الإلهیّ؛ لأنّ الاحتیاج إلی نظام الاعتبار مع الفاعل الطبیعی کان لسدِّ (عدم إحاطته بما فوق نشأتِهِ)؛ وهو جارٍ فی کلِّ نشأةٍ بالنسبة إلی ما فوقها؛ لقصور کلِّ نشأة عن استیعاب النظام العِلمیّ لما علاها! ولا یسدّ ذلک إلاّ الاعتبار، کما یشهد له الوحی!

ص:44


1- (1) - لاحظ المزید فی الإمامة الإلهیة، ج 1 / ص 92، وغیرها.

بل ضرورة نفی التشبیه والتجسیم عن العوالم الأخری تقتضی کون العلاقة بین النشأة الدنیا وتلک العوالم علاقةً (اعتباریة)؛ لسدّ ما یتعذّر علی النشأة الدنیا الإحاطة بهِ من تلک العوالم وإلاّ وقعنا فی القراءة المغلوطة من حمل أحکام المادة والحسّ علی مفردات تلک العوالم!

ومما تقدّم نخلص إلی:

النتیجة السابعة: وهو أنّ الإیمان بالغیب لا یمکن تغطیته وإتمامه من دون توسیط الاعتبار؛ لأسباب تقدّمتْ؛ منها العجز البشریّ.

النتیجة الثامنة: أنّ الدین الذی هو عبارة عن منظومة أحکام ومعارف تتسع لکلِّ المخلوقات؛ یقتضی دخالة نظام الاعتبار فی جمیع النشآت التی ینضوی أصناف تلک المخلوقات تحتها.

دلیل آخر!

الاعتبار وتنظیم برامج ضبط وتعلیم التکوینیات المحسوسة!

اشارة

وهو أنّ نظام الاعتبار لا یتدخّل فی الموضوعات التکوینیة الغیبیة وحسب بل حتی الموضوعات التکوینیة المشاهدة المحسوسة یتدخل فی تنظیم برامج ضبطها وتعلیمها وتعلّمها!

إذن؛ لا یقتصر تداخل نظام الاعتبار علی العلوم الاعتباریة بل یمتدّ إلی العلوم التکوینیة الحقیقیة کما صرّح بذلک جملة من الأعلام، کالعلامة الطباطبائی والسید الخمینی؛ ولکنّهما (ذهبا) إلی أنّ جمع العِلم لمسائلِهِ جمع اعتباریّ!

ص:45

(وفیه): أن تداخل نظام الاعتبار فی العلوم الحقیقیة لا من (جهة جمع العِلم لمسائلِهِ)؛ لأنّ هذا الجمع جمع حقیقیّ واقعیّ! بل من جهة (تنظیم) المدوَّن من العِلم!

وبهذا نکون قد (فصّلنا) فی العلاقة المبحوثة؛ فهی علاقة تکوینیة من جهة، واعتباریة من جهة أخری؛ لا أنها اعتباریة فقط کما یذهبان!

وتوجیه ذلک!

بما ذکره ابن سینا فی الشفاء وهو أنّ علومنا علوم إنیّة لا لمیّة(1) ؛ لأنا لیس من عِلل الأشیاء المحیطة بنا؛ بل نحن من معلولاتها! ولذا کان علمنا بها من باب علم المعلول بعلتهِ، ولا محالة لا یحیط المعلول؛ تماماً، بالنظام العِلمیّ لعلّتهِ(2)! فاحتیج إلی نظام الاعتبار لسدِّ ذلک النقص، کما مرَّ بیانه(3).

تحریر هذا الدلیل.

أنّ مما لا شک فیه أنّ الواقعیة المحیطة واحدة فی قیامها وتحققها،

ص:46


1- (1) - مقصودهم من المعرفة الإنیة معرفة الشیء بآثاره ومعلولاتهِ. وأمّا المعرفة اللمیة فهی معرفة الشیء بعللهِ وأسبابهِ، وهی التی تکون قطعیة بخلاف الأولی. (ولکن) سیأتی من الشیخ الأستاذ أن نظام الاعتبار الذی هو معرفة إبهامیة إجمالیة یدخل فی البرهان اللمیّ! فلاحظْ.
2- (2) - وقد وافقه الملا صدرا علی ذلک من الدرس.
3- (3) - استثنی من ذلک علم الأنبیاء بالواقعیات المحیطة وذهب إلی أنه علم لمیّ! (من الدرس)، نعم معرفتهم بالله سبحانه وتعالی لیست بلمیّة ولا أنیّة لکونها تستند إلی الکشف والظهور، وهو ما یطلق علیه بمرتبة الفناء فی الله سبحانه..

ووقوع الاختلاف فی بیانها وتحدیدها لا یعنی کونه اختلافاً اعتباریّاً محضاً، بل فیه جنبة واقعیة؛ ناشئة من تأثیر هذه المفردة المدوَّنة أو تلک علی نظام التعلیم والتعلّم!

فمثلاً نجد أنّ الملا صدرا قد بیّن مدی الفرق إیجاباً وسلباً من إدخال (مبحث النفس) فی بحوث الأمور العامة أو فی بحوث الطبیعیات! وهذا من دلائل التداخل الواسع لنظام الاعتبار فی العلوم الحقیقیة سواء التجریبیة منها أم ما وراء المادة، کما فی بعض بحوث الفلسفة والعرفان.

فالمحصّل: أنّ إنیّة علومنا ونقصانها یفتح الباب أمام نظام الاعتبار لسدِّ ذلک النقص بالمقدار المناسب؛ لانتظام حصول الاستنتاج والتعلیم والتعلّم به! وهو لیس تقریراً اعتباریاً محضاً لهذه العلاقة أو تلک؛ لارتباطهِ بواقعیات تمتُّ إلی المعلوم الواقعی من جهة وإلی العالِم العاجز عن درکها بتمام واقعها من جهة أخری!

أکثر من ذلک:

امتداد نظام الاعتبار إلی البرهان اللمیّ!

ذکر ابن سینا فی بدایة الشفاء، وتابعه الملا صدرا فی أسفارهِ، بأنّ البرهان اللمیّ لا یجعلنا محیطین بتفاصیل الواقعیات؛ لأنّه لا یعدو عن کونه علماً حصولیاً لا معاینة فیه ولا شهود! ونحن لم نکُن عِللاً لتلک الواقعیات حتی تتمّ إحاطتنا التامّة بها، ولذا یکون إدراکنا وإنْ کان ببرهان اللِّم صوراً معلولة ولیست هی عین العلل الواقعیة!

ص:47

وشاهد ذلک أن براهیننا اللمّیّة فی التوحید ونحوه لم تسعفنا فی درک تفاصیل العوالم الأرقی من نشأتنا، کالبرزخ والآخرة، بل عموم عالم الثبوت الأدنی من متعلّق برهان اللم القائمة علی التوحید.

إذن؛ ما لدینا من المعرفة؛ حتی اللمیة منها، إنّما هی معرفة حصولیة لا عیانیة شهودیة، وهو ما یعنی رجوع علومنا فی حقیقتها إلی کونها علوماً إنیّة!

وتقدّم؛ قبل قلیل، حاجة العلوم الإنیّة إلی الاعتبار؛ فیتمّ المطلوب.

شهادة أخری!

تقیید العلوم بالوسع البشری!

وهو ما یصرّح به علماء عدّة علومٍ من تقییدها بالوسع البشری! وهو قید خارج عن أصل وجود وعلاقات الواقع، کما هو واضح.

ومع ثبوت هذا النقص لا محالة یصار إلی نظام الاعتبار؛ لما تقدّم من کفایته لتغطیة المساحات الحقیقة المجهولة من الواقع.

سریان الاعتبار إلی مقام التصدیق والاستدلال!
ونظریة جدیدة فی حقیقة التصوّر!

وهذا الأمر مما أغفل، ولذا وجب التنبیه علیه.

والسّر فی امتداد الاعتبار إلی منطقة التصدیق والاستدلال هو ما

ص:48

نبنی علیه من کون التصدیق تصوّر تفصیلیّ، وأنّ التصوّر تصدیق إجمالیّ!

وعدم توافق هذا المبنی مع کثیر من المدارس المنطقیة والفلسفیة لا یجعلنا علی طرف النقیض معهم(1) ؛ لأنّهم یصرّحون بدخالة التصورات فی منطقة التصدیق، ولذا قالوا بالصلة الوثیقة بین باب الحدود وباب البرهین؛ لکون الأول وسطاً فی الثانی!

فالنتیجة: دخالة الاعتبار فی التصدیق والاستدلال؛ لدخالته فی مماثله الاجمالی علی مبنانا أو دخالته فیما وثقت صلته به علی مبنی غیرنا.

إیقاظ!

أنّ إغفال المدارس المنطقیة والفلسفیة دخول نظام الاعتبار فی المعرفة أوقعهم فی غفلة أخری؛ لازمة، أکبر سلبیة؛ حیث أنّهم أهملوا البحث والتقریر لضوابط دخول هذا النظام فی المعرفة! وهو ما یعنی أنهم یتعاملون مع معلومات علومهم بغفلة وعدم وضوح!

استدراک وتأیید!

نعم؛ فی بعض العلوم، کعِلم الکلام والعرفان وأصول الفقه، نجد التقریر لجملة من ضوابط دخول الاعتبار فی المعرفة وهو شیء رشح إلیها من النصوص الوحیانیة وهو أمر حقیق بالصحة والتأیید لما ذهبنا إلیه.

ص:49


1- (1) - حتی یقال بعد لزوم نتیجة هذا الدلیل علیهم!

بل نجد فی علم أصول الفقه الترکیز علی تحدید نظام الاعتبار؛ بل ذلک همّهُ الأکبر، وهو البحث فی قواعد وأنظمة وأدوات الاعتبار، ولذا انتهت التحقیقات الأخیرة إلی تعریفه بمنطق العلوم الدینیّة، وهو ما أکسبهُ الهیمنة والإشراف علی دخالة نظام الاعتبار فی العلوم الأخری بما فیها العلوم الحقیقیة، بل أنّ نصف البحث الأصولیّ إنّما یتمرکز حول أصول القانون، المسماة بالمبادئ الأحکامیة فی هذا البحث، المنتشرة فی سائر مباحث الألفاظ ومباحث الحجج، وفیها أنّ المبدأ هو أصلٌ وأساس الحکم، وهو القانون!

وهذه البحوث فی الحقیقة هی عبارة أخری عن حیثیة نظام الاعتبار، وهو ما تحتاجه جمیع العلوم الباحثة وراء المساحات المجهولة من التکوین.

ومما یشهد لریادة وهیمنة علم أصول الفقه فی بحوث نظام الاعتبار ما خطَّهُ العلامة الطباطبائیّ فی رسالة الاعتباریات؛ فأنّها فی الواقع تحقیقات أساتذته من علماء أصول الفقه، فراجع.

هذا.

مع تصریح العلامة المذکور بأهمیة مبحث الاعتبار، وأنّه من وظائف الحکیم غیر المنجزة فی باب بحوثه!

تساؤل فیه دلالة!

أنّ ما صرّح به العلامة المذکور من أهمیة بحث الاعتبار وأنّه من وظائف الحکیم إنّما یُشیر إلی ما ارتکز لدیه رحمه الله من دخالة

ص:50

الاعتبار رغم سمته الافتراضیة کما یتبنی هو فی الحکمة، التی تتسم ببحث التکوینیات بما لها من واقع! وهو ما یعنی دخالة نظام الاعتبار فی صراط بحث الحکمة، وهو التکوین! وإلاّ فمالضرورة لبحث الاعتبار وجعله من وظائف الحکیم إنْ لم تکن (الدخالة) المذکورة من واقعیات بحوث الحکمة ؟!

وهکذا تسری دخالة نظام الاعتبار حتی فی غیر الحکمة من العلوم التی تعتمد أو تتأثر بمباحث الحکمة، کالعلوم التجریبیة والمعارف الدینیة.

واضع الاعتبار لمَن تثبتُ ولایة التشریع ؟

مما تقدّم؛ نجد أنّ الاعتبار کان لسدِّ نقص علم کلِّ نشأة بما فوقها؛ وأنّ الاعتبار ظلُّ التکوین فی النشأة الأرقی، وهو ما یلزم أن یکون واضع الاعتبار للنشأة الدنیا أو لما علاها هو خالقها سبحانه وتعالی أو مخلوق من نشأة أرقی أو مخلوق مُنِحَ الرُّقی العِلمیّ علی نشأتِهِ أو النشآت الأعلی کلاً أو بعضاً! ومن ثَمّ ذکر أرسطو أنّه لا یمکن أن یصدر التقنین إلاّ ممن کان إنساناً إلهیّاً(1).

وهذا جارٍ فی جمیع المستویات، فالعلوم المتداولة فی کلّ نشأةٍ یکون اعتبارها بید مَن لدیه إحاطة أکثر من غیره؛ فیحاول بوضع الاعتبار إیصال غیره إلی ما وصل إلیه هو من الواقع.

ص:51


1- (1) - الإمامة الإلهیة؛ 85/1

وبحسب التتبع یظهر من الفلاسفة حتی الفلسفات الهندیة أنّهم یذهبون إلی أنّ المشرّع والمسنّن الأول هو الباری ومن بعده هو الإنسان الإلهیّ الذی کمُل علماً وعملاً(1).

وأمّا لماذا استعاض المعتبر عن بیان الواقع تفصیلاً مع عِلمهِ بهِ ببیان الاعتبار الذی هو بیان إجمالیّ؛ فهو لمحدودیة العقل البشریّ عن تلقّی واستیعاب (الإخبار) عن جمیع قضایا الواقع بنحو تفصیلیّ، کما تقدّم بیانه.

إشکالان علی دخالة الاعتبار فی المعرفة العقائدیة

إشکال أول!

وهو ما سجّلته الفلسفة أو الحکمة علی (منهج علم الکلام) فی بحوثه، وهو اعتماده علی نظام الاعتبار فی تشیید حججهِ، وهو أمر یتناقض مع الحکمة، التی تنتهج إثبات الحقائق بحسب واقعها وتکوینها!؟

إجابة وزیادة!

أولاً... لا محلّ لهذا الإشکال؛ لثبوت دخالة نظام الاعتبار فی الحکمة، بل فی مطلق العلوم الحقیقیة، کما تقدّم بیانه.

وثانیاً... أنّ الاعتبار من ضرورات علم الکلام! لأنّه العلم

ص:52


1- (1) - لاحظ المزید فی العقل العملی؛ 371 وما بعدها، وفیه ما ینفع فی بیان مذهب القرآن وأهل البیت علیهم السلام فی (عصمة) القناة الناقل للاعتبار الإلهلیّ.

المتکفّل لصیاغة الحقائق الدینیة بحسب (الوسع البشری)؛ وهو ما یقتضی بالضرورة دخالته لسدّ مساحات العجز عن إدراک تفاصیل التکوینیات مما یرتبط بنظام المداینة! ولأجل ذلک عمل علم الکلام علی تنظیم الاعتبار من جمیع زوایاه قواعد وأدوات وإلاّ کانت دخالته المفروغ من وقوعها سلبیة!

ولذا نبّه الملا صدرا علی أنّ التبویب لبعض المباحث له أثر کبیر فی سیر ونتائج تلک المباحث مع أنّ التبویب أمر اعتباری فی حقیقته!

إشکال ثان!

وهو ما سجّلته الفلسفة أو الحکمة؛ أیضاً، علی علم الکلام، وهو أنّه یبحث عن الحقائق بما هی ملتزم دینی لا بما هی هی! وهذا ما قد یحجبه عن البحث والتنقیب فی هذا القید أو تلک الزاویة من (الحقیقة)؛ تأثّراً بالحیثیة المذکورة!؟

إجابة بالنقض والحلّ!

اشارة

أمّا النقض؛ فبالقید الذی ذکروه مع تعریفهم (للمعرفة) الحاصلة من الفلسفة، وهو قید الوسع البشری! وهو قید أضیق؛ جدّاً، من قید (الوحی)، الذی تقیّد به المتکلمون فی معرفتهم المنشودة؛ إذ کثیراً ما یتطرّق هذا الوحی إلی أمورٍ تفوق فی حقیقتها الوسعَ البشریّ!

ومن شواهد هذه السعة المعرفیة الوحیانیة ما استحدثه المتکلمون من (مسائل) لم تکن معروفة لدی الفلسفة الیونانیة أو الهندیة أو الحرانیة

ص:53

أو الفارسیة؛ مع أنّ الاقتباس والتوالد أو الاستفادة المتبادلة واقعة بین هذه الفلسفات البشریة المختلفة؛ لا محالة.

وهذا التفاوت الکمّیّ فی المسائل المبحوثة کلُّهُ ببرکة قید (الوحی)، الذی أثار من تفاصیل العوالم الأخری وأسرار الخلقة من مبدأها إلی منتهاها ما لم تستطع الفلسفات البشریة إثارته ولو علی نحو الاحتمال أو التصوّر!

وبما أنّ نظام الوحی یتناول الکثیر من تفاصیل العوالم الأخری وأسرار ما وراء النشأة الدنیا فأنّ دخالة نظام الاعتبار ستکون ماثلة؛ جدّاً، فی الآیات والروایات؛ لسدِّ العجز فی القدرة البشریة عن استیعاب تفاصیل تلک العوالم بعینها وحقیقتها، کما تقدّم بیانه من حسن أفعاله سبحانه وهو ما اقتضی التقیّد بقید القدرة البشریة.

وأمّا الحلّ؛ فبما تقدّم من أنّ المعرفة البشریة بشتی أنواعها وصورها إنّما هی معرفة حصولیة لا شهودیة، فلا محالة یکون توسیط الاعتبار داخلاً فیها؛ لِما تقدّم من کونها معرفة ناقصة من زاویة أو أکثر! والمعرفة الناقصة معرفة وإدراک لحقائق الأشیاء بنحو مجمل ومبهم لا تفصیلیّ.

دلیل فطریّ!

الفطرة تستلهم التعلیم الإلهیّ من خلال الاعتبار!

ص:54

ومفاده أنّ الإنسان یجد من نفسه أنّ له ربّاً خالقاً؛ تُرضیه أشیاء؛ فیها سعادة مخلوقهِ، وتُسخطه أخری فیها شقاوته مخلوقهِ؛ أیضاً، وهو فی ذات الوقت یعلم بأنّها من الغیوب التی لا یدرکها عقلهُ! ومن ثَمَّ کان من اللطف أن یمدّهُ الله سبحانه ببیان ذلک، وهو ما لا یکون إلاّ بتوسیط الاعتبار، الذی هو بیانٌ إجمالیٌّ لحقائق الأشیاء؛ حیث یسدّ مسد (الإحاطة العیانیة التفصیلیة)، المرتبط بها رضا الله وسخطه سبحانه.

بل علی ضوء ذلک یتّضح أنّ العِلم الحضوریّ والشهودیّ، وهو علم عیانیّ؛ کعِلمِ المعلول بعلتهِ هو؛ أیضاً، عِلم اعتباریّ؛ أی علم إجمالی إبهامی بالعلّة! فالتجلیّ الشمولی العیانیّ من العلّة إلی المعلول بالأسماء والآیات والوجه والکلمات إنّما یکسب المعلول معرفة إجمالیة مبهمة غیر محیطة بالعلّة تماماً.

ومن ثَمَّ قالوا بأنها معرفة وعلم بالعلّة من وجهٍ لا بإحاطة من کلِّ الوجوه فضلاً عن الإحاطة العیانیة بالعین!

والمعرفة من وجه معرفة اعتباریة للحقیقة! لأنّ الاعتبار کما سیأتی إنّما هو عبور من الآیة والوجه إلی الحقیقة المرادة.

وإنْ قیل بورود هذا الدلیل بلحاظ أحکام الفروع التشریعیّة ؟! فأنّه فی حقیقة الأمر جارٍ حتی فی أحکام المعارف والعقائد؛ لاتحادها مع أحکام الفروع فی الانبثاق عن ملاکات واقعیة غائبة عن العقول؛ لا تُدرَک إلا بتوسیط الاعتبار الوحیانی!

بل الحاجة إلی توسیط الاعتبار فی أحکام المعارف والعقائد أشدّ وآکد؛ لأهمیتها وخطورتها فی نفسها بالقیاس إلی کمال الإنسان وسعادتهِ.

ص:55

وربما لأجل هذه الأهمیة القصوی (ذهب) البعض إلی أنّها لا تکون إلا بإدراک ومعطیات تکوینیة، فلا یتطرّق إلیها الاعتبار!

وهو (مردود)! وذلک لأنّ جملة من علماء وحکماء الإمامیة قد قَبِل تطرّق نظام الاعتبار إلی الاستدلال العقائدی، وهو ما یعنی قبولهم بنتائجهِ لا محالة؛ لأنّها تقع بالتبع من استدلالها.

ووجه قبولهم ذلک؛ أنّ تفاصیل العوالم غیر الدنیویة، کالبرزخ، وإنْ کانت قد وصلت إلی المعصوم بالمعاینة والإحاطة؛ ولکنّها لم تصل منه إلینا إلاّ عِبر (اللغة)، التی هی جزء من نظام الاعتبار، مع أنّها تفاصیل یوجب العِلم بها الحثّ والدفع لإرادة العمل!

ومن هنا قیل بحجّیّة الطرق الظنیّة المعتبرة کخبر الواحد وظواهر الألفاظ حتی فی تفاصیل العقیدة(1)!

بل قد تقدّم أنّ الإیمان بالله تعالی هو من الفرائض التشریعیّة! بمعنی أنّ الاعتقاد بالله سبحانه فریضة إلهیّة واجبة؛ تشریعاً واعتباراً، مع أنّ موطنها (الواقع)!

بلورة دخالة الاعتبار الشرعی فی جمیع المعارف!

وبلورة ذلک یتمُّ من خلال نقاط:

الأولی: البرهنة علی المغایرة بین العقلین؛ النظری والعملی(2) ،

ص:56


1- (1) - انظرْ التفصیل فی الإمامة الإلهیة؛ 28/1-34.
2- (2) - أنظرْ العقل العملی؛ ص 328؛ حیث ذکر وجهین علی هذه المغایرة.

وأنّ دور الأول هو الإدراک البحت، ودور الثانیّ هو الإیمان أی الإذعان والتسلیم، فیکون من أفعال النفس؛ خلافاً لما ذهب إلیه جملة من الأعلام من اتحاد العقلین، ولا تفاوت بینهما إلا بتفاوت المدرَکات، وأنّه لا بعث ولا زجر لأحدهما(1).

الثانیّة: بعد حصول الإدراک قد یحصل إذعان من القوة العملیة وقد لا یحصل! وهذا لا کلام فیه بعد وضوحه بقاطع الوجدان.

الثالثة: من ذلک یکون متعلّق الاعتبار الشرعیّ هو (الفعل القلبی) أی الإیمان والإذعان، ولیس متعلّقه کما توهم الإدراک کی یلزم إشکال الدور وشبهه.

الرابعة: وبما أنّ أمّام تحرّک النفس وانبعاثها عوائق عدیدة کان اعتبار الترغیب والترهیب ناجعاً ومؤثراً فی النفس البشریة من أجل انصیاع قواها العملیة لِما تُدرکه قواها النظریة.

وبهذه البلورة یتضح إمکان الاعتبار الشرعی وشموله کل المعارف الإلهیة؛ بما فی ذلک التوحید.

وهکذا الإیمان بالنبوة أو الإمامة؛ بل وتفصیلات العقائد، یمکن للشارع أن یُنشئ اعتباراً بإزائها.

ص:57


1- (1) - انظر العقل العملی؛ 245، ونهایة الدرایة للمحقق الاصفهانی؛ 333/3. ط الحدیثة لمؤسسة آل البیت علیهم السلام.

دلیل عموم التکامل لعوالم المخلوقات کافّة!

تقدّم طرف الإشارة إلی هذا الدلیل فیما سبق؛ ونقول الآن: إنّ الدین (وهو ما یقابل الشریعة والمنهاج والطریقة)؛ بحسب الآیات والروایات والعقل، غیرُ مختصٍّ بالمنتمین إلی النشأة الأرضیة، بل هو کما فی صریح البیان العقلیّ؛ أیضاً طریق التکامل لکلِّ المخلوقات!

ویتبلور ذلک فی معرفة الله والمعاد والعوالم الأعلی فالأعلی فأنّها معرفة کمالٍ، وهی معرفة عامّة تشمل کلّ الموجودات، فلا محالة؛ حینئذ، من توسیط نظام الاعتبار؛ لتنظیم وتبویب الأفعال الاختیاریة، التی تُوصِلُ تلک المخلوقات إلی تکاملها المنشود.

وبعبارة: أنّ الدین وما ینطوی علیه من المداینة بین الله تعالی ومخلوقاته یقتضی تحریک إراداتها؛ بالترغیب والترهیب، بناءً علی ما هو الصحیح من کون أفعال عالَم العقول لا قسرَ ولا جبر فیها فضلاً عن أفعال العوالم الأدنی! بل هی؛ فی الجمیع، أفعال اختیاریة وعن إرادة(1)!

وتقدّم أنّ الترغیب والترهیب إنّما یکون بإزاء التحریک أو الزجر عن (غائب الحقیقة)! وغائب الحقیقة إنّما یُغطیه ویُبیّنهُ نظام الاعتبار؛ وإلا فالعجز عن درک الحقائق لا یختصّ بمخلوق دون آخر أو نشأة دون أخری.

ص:58


1- (1) - نعم؛ أفعال عالَم العقول تختلف عن أفعال ما دونها بعدم احتیاجها إلی التروی؛ ولکنّه أمر لا یسلبها صفة الاختیار! (من الدرس).

وهذا التداین والإیمان والتسلیم بما هو غائب (موجود) حتی مع الصادر الأول(1)! بل أنّ مساحة الغائب عنه أکثر بما لا یحصی مما هو معلوم لدیه! فإیمانُهُ بالذات الإلهیّة اللامتناهیّة لا یمکن أن یُغطیه إیمان مخلوقٍ متناهٍ؛ وإنْ کانت معرفته وإیمانه أکمل ما کان موجوداً بحسب عوالم المخلوقات؛ لبقاء مساحة کبیرة جدّاً غائبة لا تقاس بما هو مشهود لدیه(2)! وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِی عِلْماً3.

فکیف بمَن هو أدنی من ذلک المخلوق بما لا یُحصی!؟

القواعد الأساسیة لدخول نظام الاعتبار فی المعرفة الاعتقادیّة

وهی مجموعة من القواعد المقرّرة فی بحوث الفروع الفقهیّة، وبالتنبّه والنظر نجدها تجری فی نظام الاعتبار علی أساس ما تقدّم من کونه من (تقنینات) المشرّع القانونی! بل تجری فی نظام الاعتبار علی أساس ما تقدّم من تداخله فی نظام المعارف؛ أیضاً.

ومن تلک القواعد:

القاعدة الأولی:

أنّ وظیفة نظام الاعتبار تغطیة الکمالات المجهولة من قِبل المعلول تجاه عِلّتهِ؛ لقصوره عن درک کُنهها وحقیقتها، ولذا فالاعتبار تقنین

ص:59


1- (1) - صلی الله علیه وآله وسلّم.
2- (2) - یؤیّد ذلک الکثیر من الآیات والروایات، حیث تجتمع علی مفاد واحد وهو حاجة حجج الله سبحانه إلی تعلیمه ومدده وإلا لنفد ما عندهم، کما فی بعض الأخبار.

المنظِّم التشریعیّ للعلاقة بین العلّة ومعلولها؛ بهدف الوصول إلی کمال تکوینی یلحق المعلول.

القاعدة الثانیة:

کُنه الاعتبار وهویته أنه: حدود لمعانٍ تکوینیة بوجودها الفرضی الذهنی المنتزع من الواقع؛ تمثّل المعرفة الحصولیة، المستعاض بها عن غیاب الوجود التکوینی الحقیقیّ الغائب عمَّن اعتبِرتْ من أجله!

بل قد مرَّ دخول الاعتبار فی العِلم الحصولیّ العیانیّ، کما هو مقتضی القاعدة المتقدّمة.

دفعُ الاستیحاش عن دخول الاعتبار فی نظام التکوین!

وبهذه الهویة یُدفع عن الاعتبار الاستیحاش من إقحامهِ فی نظام التکوین؛ لأنّه فی حقیقتهِ العقلیة والعقلائیة یمثّل إدراک التکوین بحدودهِ الإجمالیة الافتراضیة.

بینما علی النظریة السابقة فی الاعتبار کانت هویته فی (الحکایة) عن الخارج وأنّه لیس اعتباراً نفس أمری! کما ذکرناه فی العقل العملی، وأنّ الاعتبار قُسِّم إلی اعتبار فرضی وهو المتداول فی العلوم القانونیة والفقهیة، واعتبار فلسفی، وهو اعتبار عقلی تکوینی ینتزعه العقل من التکوین!

وهذا ما خالفته نظریتنا الجدیدة من کون الاعتبار؛ کُلّه، له منشأ نفس أمریّ، غایة الأمر أنّه منتزع بنحو الإجمال والإبهام لا التفصیل، کما فی العِلم الذی تتوسط فیه الحدود التعریفیة للأشیاء بنحو تفصیلیّ.

ص:60

إشارة المحاججة النبویّة إلی هذه القاعدة!

وإلی هذه القاعدة تشیر محاججة النبی الأعظم؛ صلی الله علیه وآله، مع أصحاب الأدیان الخمسة، وهو أنّ الاطار الاعتباریّ للأشیاء یدور مدار إطارها التکوینیّ الممثّل له، فلیس الاعتبار لحشو الاسماع بکلِّ ما یطفو من التخیّلات والأوهام.

فمثلاً؛ اعتبار (الابن) لله تعالی خارج عن الاطار التکوینیّ للذات الإلهیّة المقدّسة، بل ذلک یمثّل منقصة وإسفافاً وتنکراً للواقع.

بینما اعتبار (الخلّة) لله سبحانه؛ بمعنی الفقر إلیه تعالی فهو فی حدود ذلک الإطار!

وهذه (المفارقة) بین هذین الاعتبارین لم یفهمها أصحاب الأدیان المتقدمة إلا فی صورتها (المغلوطة)؛ فتوهموا أنّ الخلّة بمعنی الصدیق لله سبحانه، فیکون ذلک بزعمهم مصححاً لاعتقادهم فی (بُنوة) البعض لله تعالی! وهو ما ردّه النبیّ الأعظم بما ذُکِرَ، من کون الخلّة؛ خلّة إبراهیم، بمعنی الفقر إلی الله سبحانه، وهی الحالة الواقعیة التی کان یعیشها إبراهیم من ربِّهِ تبارک اسمه! ولذا کانت تلک الخلّة کمالاً للطرفین معاً!

وبهذا النحو من الاعتبار تصحّ المداینة ویمکن للإنسان؛ حینئذ، أن یستجیب لله تعالی ویطیعه فی أوامرهِ ونواهیه، کما یمکنه الإیمان بغیبیات الدین، وهو ما یفتح له أبواب تکامله، حیث تمّتْ ببرکة الاعتبار المنضبط أسبابُ وإعدادات الإرادة والسیر نحوه سبحانه وتعالی.

ص:61

ولا یقتصر ذلک علی (الاعتبار) المبیّن للنعوت الکمالیة لله تعالی، بل یشمل (الاعتبار) المبیّن لمقامات الأنبیاء والأئمة، وغیرهم من (المکرمین) من خلق الله، فأنّ الجمیع یمثّل مقتدیً یُوصل إلی رشحات الکمال، کقولهِ سبحانه وَ اتَّخَذَ اللّهُ إِبْراهِیمَ خَلِیلاً1 ؛ فأنّ اعتبار الخلّة؛ هنا، وبمعناه الصحیح المتقدّم؛ اعتبار یؤدی إلی الکمال! بینما اعتباره بمعنی الصدیق لا یؤدی إلاّ إلی العکس! ولذا کان الاعتبار الأول صحیحاً دون الثانی.

القاعدة الثالثة.

أنّ نظام الاعتبار فی کلِّ نظام من أنظمة المعرفة إنّما یُرجع فیه إلی العالِم بحقائق وأصول تلک المعرفة.

ففی المعرفة العقائدیة یَرجع أمرُ الاعتبار إلیه سبحانه وتعالی؛ وضعاً ورفعاً؛ فأنه العالِم بما یطابق الکمالات التکوینیة غیر المدرَکة بشریاً(1).

نعم؛ إذا کانت المعرفة العقائدیة مرتبطة بأمرٍ تکوینی قد تمَّ إدراکه بالبرهان فیمکن التصدی للاعتبار بإزائهِ!

ولکنّها منطقة خارجة عن اعتباریات المعرفة العقائدیة، کاعتبار الخلّة لإبراهیم، واعتبار البیت الحرام واعتبار ناقة الله... حیث ینحصر

ص:62


1- (2) - تقدّم بیانه تحت عنوان (واضع الاعتبار).

أمرها بالله تعالی؛ ذلک لجهل الإنسان بمبدأ الاعتبار الملحوظ فی خلّة إبراهیم أو فی إضافة ذلک البیت إلی الحرمة أو تلک الناقة إلیه سبحانه؛ فذلک کلُّهُ من الغیب، الذی لا یمکن البرهنة علیه أو مشاهدته بحسب حقیقته وتکوینه(1).

وتلک هی المنطقة التی أذعن الإلهیون بأنّ الاعتبار فیها مما لا یعلمه البشر، فسلّموا برجوع أمرهِ إلیه تعالی، سواء فی اعتبار أحکام الفروع فردیة أو اجتماعیة أم فی تأسیس العناوین الاعتباریة المنسوبة إلی العقیدة، کالشفاعة؛ لأنّ تلک العناوین حاکیة عن أمورٍ تکوینیة راجعة إلی ساحة الذات الإلهیّة، وهو ما یجعلها من الغیوب، التی لا یُفصح عنها؛ ولو بالاعتبار، إلاّ هو سبحانه وتعالی، فیُبیّن؛ بالاعتبار، أنّ هذا هو الإمام أو أنّ الشفاعة له دون سواه، وهکذا.

وبهذا النحو من البحث والنظر نصل بعد توفیقه إلی المواقف الصحیحة والآراء الصائبة حول الکثیر من القضایا العقائدیة المطروحة للبحث والنقاش، وإلاّ سنقع فی مشاکل هی ذاتها التی وقع فیها السلفیون! فهم؛ علی سبیل المثال، قد فهموا من بعض النصوص الدینیة أنّ إدانة الله للمشرکین فی توسلهم کانت لأجل (نفس التوسّل)! والحال أنها لأجل (اقتراحهم)؛ بغیر علمٍ، الوسائلَ من عند أنفسهم! وإلاّ فنفس التوسّل بأصل الوسیلة غیر مفنّدٍ ولا ممنوع فی القرآن الکریم ولا فی السُّنّة، بل مؤسَّسٌ لهُ بحسب ظواهرهما.

ص:63


1- (1) - بل تقدّم من الشیخ الأستاذ دام ظله (ورود) النقض حتی فی البراهین اللمیّة، وأنّ الفکر البشری غیر یقینی حتی بعد المحاولات المتتالیة لإزالة نسبة الخطأ! فراجع.

وأصل هذه القاعدة؛ الثالثة، نجده عند العقلاء فی اعتباریاتهم، فهم یُرجِعون الاعتبار فی کلّ حقلٍ من حقول معرفتهم إلی العالِم فی ذلک الحقل! ففی حقل التقنین الوضعی یکون الاعتبار بید مَن یعلم بمضار ومنافع الأفعال والتبادلات الاجتماعیة المختلفة، وهو؛ أیضاً، یسعی من وراء تقنینه هذا إلی الکمالات المجهولة لعموم الناس؛ عبر الاعتبار الذی هو بیانٌ وإدراک للحقائق التکوینیة بشکل مجمل ومبهمٍ.

إنارةٌ من کلام النبیّ الأعظم!

نجد فی محاججة النبیّ الأعظم؛ صلی الله علیه وآله، إنارة قیّمة إلی ارتباط الاعتبار بحدود التکوین الذی یراد منه تمثیله وبیانه، فقد سألَ؛ صلی الله علیه وآله، الیهودَ عن عِلّة (بُنوة عُزیر) المنسوبة إلی الله سبحانه وتعالی!؟ وعندما أجابوه بأنّها بُنوة کرامة لا بُنوة طبیعیة تکوینیة! أی أنّها بُنوة اعتباریة لیس إلا! أجابهم؛ صلی الله علیه وآله: بأنّ موسی أولی بهذهِ الکرامة من عُزیر! فلِمَ خصصتم الأدنی بتلک الکرامة مع عِلمکم بأنّ موسی أعظم منزلة وکرامة!؟

فمجرّد زعم (الاعتباریّة) لا یسعف من طائلة الخطأ وسُبَة العبث؛ لأنّ الاعتبار الصحیح إنّما یقوم علی أساس بیان الحدود التکوینیّة المعلومة! فلو جُهِلتْ تلک الحدود امتنع الاعتبار وإلاّ کان مدعاةً لاضطراب إدراک ومعرفة التکوین المنشود؛ لِما تقدّم من کون الاعتبار منتزع من التکوین؛ بنحو إجمالیّ وإبهامیّ!

ومن ثّمَّ یتبیّن أنّ حقیقة البطون والمعرفة الباطنیة إنّما هی درجات

ص:64

الإدراک الاعتباری والاعتباریات، التی هی حدود إدراک متفاوتة فی الإجمال والتفصیل لحقائق الأشیاء.

وعلی ذلک؛ لا محالة مع الجهل بالحدود التکوینیة یقع الاعتبار باطلاً؛ فیبطل؛ تبعاً لذلک، الإدراک الحاصل بتوسّطه، کما نبّه النبیّ الأعظم؛ صلی الله علیه وآله، الیهودَ وأن الله یفضح المبطل ویقلب علیهِ حجّته؛ ذلک لأنّ تبنی عبثیة الاعتبار فی نظام العقیدة یؤدی إلی ذلک حتماً.

القاعدة الرابعة:

وهو ما یمکن فهمه من احتجاجه صلی الله علیه وآله

ومفادها؛ أنه یجب بعد العِلم بمبدأ الاعتبار أن تُلحظ جهة العموم والخصوص فیه؛ کی لا یخرج عن الاعتبار ما حقّه الدخول ولا یدخل فیه ما حقّه الخروج.

فالنعت الملحوظ فی الاعتبار إذا کان مما یرجع إلی بشریّة البشر، کالمادیة، فلا یمکن اعتباره بالنسبة إلی الله سبحانه وتعالی؛ لأنّه نعتُ نقصٍ بالنسبة إلیه تعالی، کما أنّ النعت الراجع إلی خصوصیات الخالق لا یمکن اعتباره بالنسبة إلی المخلوقین.

نعم؛ النعوت الراجعة إلی (الموجود) بما هو موجود؛ فلا تختصّ بالخالق تبارک؛ ولذا یمکن اعتبارها بالنسبة إلیه وإلی المخلوق؛ لأنّ الوجود من صفات الکمال.

ص:65

خاتمة: وفیها تنبیهات

التنبیه الأول: فی دفع الاستغراب عن دخول الاعتبار فی العقائد

اشارة

(1)

ومنشأ هذا الاستغراب هو أنّ باب المعارف والعقائد إنّما هو الوصول إلی حقائق الأشیاء لا الوصول إلی الفرضیات الاعتباریّة!

وینطلق هذا الاستغراب من قراءتهِ الحسیّة المادیّة (للمعانی) العقائدیّة، وأنّ ما جاء علی خلافها من النقل الوحیانیّ یجب أن یُصاغ بقالبِ المجاز، الشائع استعماله فی القرآن الکریم؛ ذلک لأنّ الاعتبار ناشئ من بحث (شبیهٍ) ببحث الاستعمال المجازیّ؛ فیتحدان فی النتیجة.

فالاستغراب المذکور علی حدّ مذهب مَن یراه یدفع إلی القول بکون الاعتبار عبارة أخری عن الاستعمال المجازیّ الشائع فی النصوص

ص:66


1- (1) - تقدّم ذکر طرفاً من ذلک فی القاعدة الثانیة المتقدّمة.

الدینیّة، ولذا تُحمل عبارة (ید الله) علی الجارحة؛ أولاً، وأنّ استعمالها منسوبة إلی الله تعالی یقتضی الحمل علی المجازیة؛ ثانیاً، وهکذا الأمر مع العبائر المماثلة، نحو (وجه الله، وعین الله...).

ولذا نجد بعض أصحاب هذا المذهب بعد تمرکز المجازیة عنده یذهب إلی أنّ قصة دخول آدم الجنةَ وخروجه منها من (التمثیل)، هدفها لیس إلاّ العِبرة، ولیس لها من حکایة الحقیقة شیئاً! وقد نسب البعض الآخر ذلک إلی العلامة الطباطبائی!

والصحیح؛ أنّ مراد العلامة المذکور من تلک القصة أنّها من باب (التمثّل) لا التمثیل!

بل تقدّم عنه؛ رحمه الله، أنّه قد طعن علی نظریة دخول الاعتبار فی أبواب المعارف والعقائد؛ بدعوی أنها تسیر علی غرار مقالة التمثیل فی الخطاب القرآنیّ؛ لبنائهِ علی (فرضیة) الاعتبار!

فکیف یُنسب إلیه ذلک ؟!

وما ذهب إلیه من نفی التمثیل والشعریّة عن الخطاب القرآنیّ هو الحقّ! قال سبحانه وَ ما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَ ما یَنْبَغِی لَهُ1 ؛ إذ الشعر خیالات وتخییل فرضی؛ فی حین أنّ القرآن ذِکرٌ للحقائق والواقعیات.

وملخّص (إشکال) البعض؛ هنا، أنّ (دعوی) دخول الحدود الاعتباریّ فی أبواب المعارف والعقائد ترجع إلی نحو من التمسک بالسراب والخیالات ؟!

ص:67

(والجواب) علی هذا الإشکال یتمُّ بصیغتین، وهما:

الصیغة الأولی:

وهو أن یقال بإنّ الحدود الاعتباریّة لیست حدوداً سرابیة تخیّلیة وإنّما هی حدود تنزیلیّة لحدود الحقائق التکوینیة؛ فالاعتبار إدراک متنزّل بتنزیل تکوینی عقلی عن الإدراک الحقیقیّ التامّ بعد تعذّرِهِ، فهو إدراک مجمل ومبهم لجملةٍ من حدود الشیء، کما هو دیدن الفقه والقانون فی التمسک بالمیسور من العِلم فی بابیهما، بل نجد الفلاسفة قد قیّدوا تعریف المعرفة المنشودة بالوسع البشری!

وفی کلا الحالین فأنّ المیسور وما هو بحسب الوسع البشریّ إنّما یمثّل الأدنی من إدراک ومعرفة حقائق الأشیاء!

ونقطة الافتراق؛ إذن، إمّا أن نذهب إلی تعطیل المعرفة الاعتباریة بعد تعذّر المعرفة الشهودیة الحقیقیة، کما یقتضی هذا الإشکال، وإمّا أن نذهب إلی تفعیل تلک المعرفة؛ الاعتباریّة، بدیلاً عقلیاً تکوینیاً ناقصاً عن المعرفة الحقیقیة.

هذا.

إضافة إلی ما تقدّم من أنّ الاعتبار الصحیح إنما هو ما کان ظِلاً تکوینیاً؛ کتبعیة الظل للشیء! ذلک لأنّ أصل المعنی الاعتباریّ الصحیح هو ما کان وجوده فرضیّاً من العقل عن منشأ نفس أمری، وهویته وتقرّره تکوینیّاً!

ص:68

ویمکن أن نضیف هنا؛ أیضاً، ما یمکن تسمیته بمماثلة الاعتبار للبراهین أو القضایا المنطقیة الثمانیة؛ عموماً، فی احتمالهِ الصدق تارةً والکذب تارة أخری، فهو قد یکون مصیباً للواقع؛ عندما یکون المعتبِرُ ناظراً إلی حدود التکوین ومحیطاً بها، فیقال قوانین صائبة سدیدة؛ أی مصیبة للحقیقة التکوینیة، وتکون صادقة فی الوصول إلی الهدف والغایة! ویقال؛ أیضاً، قوانین خاطئة غیر مصیبة للحقیقة، فتکون کاذبة فی إیصالها إلی الهدف والغایة.

إذن؛ فتحقق الصدق أو الکذب فی القضایا الاعتباریة إنّما لکونها قضایا تکوینیة؛ غایته أنها مجملة مبهمة منها، تحتاج إلی عبور من الإبهام إلی التفصیل فی الحاکیة عن الحقیقة.

ومن هنا ذهب جملة من الفقهاء؛ منهم الشیخ الأعظم، إلی واقعیة الطهارة التی کشف الاعتبار الشرعیّ عنها، وکذا الحال بالنسبة إلی ما اعتبره من الملکیة والزوجیة والسلطنة... فأنّها غیر متمحضة فی الفرض والخیال بل لها جنبة واقعیة؛ بإزائها فعلاً مصلحة أو مفسدة! وقد کان للاعتبار الدور فی الکشف عن تلک الجنبة الواقعیّة؛ حیث یعجز العقل البشریّ عن الوصول إلیها.

ویمکن أن نضیف؛ ثالثةً، بأنّه لا ارتباط بین بحث الاعتبار وبحث المجاز، کی یقال بحمل الاعتبار علی المجاز؛ لشیوع استعمال الثانی فی النصوص الدینیّة؛ لأنّ الاعتبار من سنخ المعنی؛ فلا ربط له باستعمال اللفظ فی هذا المعنی؛ تارة، وفی المعنی الآخر؛ أخری! فلاحظْ جیّداً.

ص:69

إذن؛ فلا موضوعیة لإلحاق الاعتبار المعتمد فی باب المعارف والعقائد بالمجاز! علماً أنّ جملة من الأعلام، کالملا صدرا والعلامة الطباطبائی وبعض مَن تأثّر بهما قد (أحالوا) الاستعمال المجازی فی القرآن! وهو ما یزید الفرق والبون بین بحث الاعتبار فی باب العقائد وبین بحث المجاز.

الصیغة الثانیة:

ومفادها أنّ القراءة التی استند إلیها هذا الإشکال هی تلک القراءة الحسیة المادیة، التی تنتهی إلی رسم الحقائق العقائدیة فی أُطُرٍ مادیة حسیة؛ لا محالة، کما أنّها من جهة أخری تلتزم بوضع الألفاظ لموضوعاتها الحسیّة بدعوی أنّها الملحوظ لدی الواضع بحسب النشأة الأرضیة التی ینتمی إلیها! وهذا ما أوقعها بمقولة التجسیم والتشبیه فی الباری عزّ وجلّ، ولذا قالوا فی مثل قوله تعالی وَ اصْنَعِ الْفُلْکَ بِأَعْیُنِنا1 ؛ بأنّ المراد منه علی زعمهم العین الباصرة ولکن لا کهذه العیون، بل عین تناسبه! تعالی الله عن ذلک علّواً کبیراً.

ونجیب علی هذه القراءة؛ بأنها تباین الاعتبار المبحوث؛ إذ أنّها کما تقدّم تفسّر الحقائق العقائدیة تفسیراً حسیّاً مادیّاً، بینما الاعتبار هو تجرید للمعانی عن أُطُرها المادیة، ثم یفترض لها وجوداً خالیاً عن شائبة الحسّ!

ص:70

فالملکیة فی قوله تعالی ما أَفاءَ اللّهُ عَلی رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُری فَلِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِی الْقُرْبی1 ملکیة اعتباریة، کإضافة البیت إلیه سبحانه فأنها إضافة اعتباریة ومعنیً مجرّد.

فالفارق بین هذه القراءة وقراءتنا؛ أنّها تأخذ المعنی من حیث إطاره المادی الحسی بینما تأخذ قراءتنا المعنی من حیث هو!

ولا یخفی؛ ما یترتّب علی هذا الفارق من فوارق عقائدیّة کثیرة؛ تبدأ من عالم الذرة والمیثاق والنبوة والمعراج والإمامة والمیزان والبرزخ... وصولاً إلی الأسماء والصفات الإلهیة.

مسالک فی بیان حقیقة الاعتبار!

ومما تقدّم نخلص إلی إفراز عدّة مسالکٍ فی المقام، وهی:

الأول: مسلک القراءة الممحضة فی الحسیة والمادیة، وهو ما یری الحقائق الاعتقادیة فی أُطُرها التکوینیة المحضة، فالإمامة؛ مثلاً، مقام تکوینی خالص.

الثانی: مسلک القراءة الممحضة فی الاعتبار؛ علی النظریة الشائعة فی الاعتبار من کونه فرضیاً محضاً، وهو ما یری الحقائق الاعتقادیة فی أُطُرها الاعتباریة الفرضیة التی لا ربط لها بالتکوین، بل الاعتبار مجرّد تخیّل لا مطابق ولا منشأ له إلا اعتبار المعتبِر، ولذا کانت الإمامة؛ علی هذا، مجرّد عنوان اعتباری فرضی(1).

ص:71


1- (2) - ولذا أنکر أصحاب هذا المبنی عقلیة التحسین والتقبیح، وقالوا باعتباریتهما المحضة.

الثالث: مسلک القراءة الجامعة بین التکوین والاعتبار، وهو ما یری أنّ الاعتبارات الاعتقادیة لها جنبتها التکوینیة عند التأسیس لها - مع المحافظة علی دور جنبة الاعتبار فیها، فالنبوة أو الإمامة فیها الجنبة التکوینیة، وهو کون النفس البشریة بمقام التنبؤ وتلقی الوحی أو بمقامٍ تهدی بقیة النفوس فی السیر إلی الله سبحانه، وفیها الجنبة الاعتباریة، کالرئاسة القانونیة! وکلا الجنبتین من مفردات الاعتقاد، کما بنی علیه العلامة الطباطبائیّ.

فعلی هذا المسلک لا یکون الاعتبار فرضیاً محضاً، بل هو إدراک إجمالی للتکوین، ولذا فالإدراک الاعتباری بهذا المعنی لا یختصّ بجنة قیادة المجتمع؛ بل یشمل المقامات الغیبیة التکوینیة للإمامة؛ حیث لا یمکن الإحاطة بها بل تدرک بنحو مجمل ومبهم؛ عن بُعد.

فالنتیجة: أنّ العدید من المفردات الاعتقادیة عُرّفت بحدود اعتباریة کاشفة عن الواقعیات التکوینیة بنحو مجمل لا أنها فرضیة محضة، بل هناک العدید من الأسماء المضافة والمنسوبة إلی الباری سبحانه هی أسماء اعتباریة، کما فسّرها بذلک الکثیر من الأعلام! مع وجدان الجنبة التکوینیة فیها عند أعلامٍ آخرین، وهو ما یشیر إلی ما قدّمناه من أنّ الحدّ الاعتباری یحکی التکوین إجمالاً.

تفصیل زوایا دخول الاعتبار فی أبواب العقائد
اشارة

لا یقتصر دخول نظام الاعتبار فی باب العقائد علی زاویة معیّنة منه، بل یمکن ملاحظة دوره فی ثلاث زوایا، وهی:

ص:72

الزاویة الأولی: نفس المقولة الاعتقادیة

أی الجانب الدینی والتشریعی النظری من الاعتبار وما یُعبر عنه بالنفی والإثبات والوجود والعدم والسلب والإیجاب فی القضایا، وهو ما یتصاعد من تشریعات الأحکام والماهیات فی الفروع حتی یصل إلی الإیمان بالتوحید، ویمثّل مجموع ذلک مقولات العقل النظریّ.

ومن أمثلته ما تقدّم من قوله تعالی واتخذ اللهُ إبراهیمَ خلیلاً(1).

الزاویة الثانیة: الغایة من المقولة الاعتباریة!

وتمثّل الجانب التفاعلیّ مع الدین والتشریع من الإذعان والتصدیق والانقیاد والتسلیم والإیمان؛ کعملٍ جانحیٍّ تقوم به النفس عبر العقل العملیّ، ویُعبَّر عنه بینبغی ولا ینبغی، وبالمدح والذمّ، والمیل والنفرة، والملائم والمنافر.

ولذا تمثّل المقولة الاعتباریة؛ من هذه الزاویة، مقولةً من مقولات العقل العملیّ.

وتقدّم فیما سبق أنّ تکامل النفس البشریة لابد فیه من حرکة اختیاریة، وهی فی عموم الناس إنّما تکون بتوسیط الترغیب والترهیب، وهذا ما تمّتْ بلورته وبیانه بالاعتباریات لا بأصل ما یکون موضوعاً للوعد والوعید؛ وهو المعرفة النظریّة والمعلوم من حیث هو هو.

ص:73


1- (1) - سورة النساء؛ من الآیة 125.

وما ینبغی الإلماع إلیه بخصوص هاتین الزاویتین أنّ إدراک الاعتبار من الزاویة الأولی لا یلزم منه إدراکه من الزاویة الثانیة، إذ قد یحصل الأول من دون حصول الثانی، کما صرّحنا مِن قَبل! فإبلیس؛ مثلاً، کان قد أیقن المعاد نظریاً قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِی إِلی یَوْمِ یُبْعَثُونَ1 ولکنّه افتقر إلی المعرفة الإیمانیة من الإذعان والإیمان والانقیاد؛ فتخلّف عن الغایة من المقولة الاعتباریة.

وفی روایات أهل البیت؛ علیهم السلام، کقولهم (العقل ما عُبد به الرحمن واکتسب به الجنان)، الکثیر مما یرکّز علی تلک المعرفة الإیمانیة، التی زخرت بتداخل نظام الاعتبار فیها؛ ثبوتاً، سواء فی أبواب الفروع أم أبواب المعارف الاعتقادیة(1).

الزاویة الثالثة: دلیل المقولة الاعتقادیّة

کاعتبار حجیّة خبر الواحد فی إثبات هذه المقولة الاعتقادیة أو تلک، وقد ذهب جملة الأعلام إلی حجّیّة مثل هذا الاعتبار، وقدّموا علی ذلک وجوهاً عدیدة؛ ذکروها فی الأصول وغیره؛ أحدها قیام السیرة علی تعاطی خبر الواحد فی تفاصیل الاعتقادات فضلاً عن غیرها.

کما أنّهم ذهبوا إلی حجیّة التعبّد بالظهور الظنیّ، کالشیخ الطوسی والخواجة نصیر الدین الطوسی والشیخ البهائی والمجلسیین والمیرزا القمی، والمحقق الأصفهانی الکمبانی والسیّد الخوئی.

ص:74


1- (2) - راجع الفصل الأول من الإمامة الإلهیة، للشیخ الأستاذ.

وللفلاسفة مؤاخذة علی تطرّق الاعتبار فی الزاویة الثانیة، کما تقدّم، ولهم مؤاخذتهم علی تطرّقه فی الزاویة الأولی؛ أیضاً! وفی کلا الزاویتین نجد تصریح المتکلمین بدخول الاعتبار فیهما، ولکن من دون بلورة ذلک فنیّاً.

وقد تقدّم بیان بلورتنا لذلک.

الأمثال القرآنیة وجه آخر لدخول الاعتبار فی العقائد!

یوجد ثَمّة بحث معرفیّ تفسیریّ فی التمییز بین (المَثَل) و (المِثْل)، وعلاقة کلّ منهما بالنسبة إلی الذات المقدّسة الإلهیّة.

وبیان ذلک أنّ القرآن الکریم ینفی عن الله تعالی (المِثْل)، کما فی قوله سبحانه لَیْسَ کَمِثْلِهِ شَیْءٌ1 ، ویثبت (المَثَل)، کما فی قوله تعالی وَ لِلّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلی2!

والظاهر؛ أنّ الفارق الذی استند إلیه هذا الإثبات عن النفی المتقدّم؛ أنّ (المِثْل) معناه المجانس أو المماثل، وهو ما یتطلب لتحقّقهِ وجود (الحدّ) فی الجانبین کی تحصل المجانسة والمماثلة، ولو فی مقولة من المقولات الفلسفیة المعروفة!

ولکن؛ نحن نؤمن بقاطع البرهان أنّ الله تعالی لا یندرج تحت أیَّةِ واحدةٍ من تلک المقولات، بل هی منفیة عن ذاتِهِ رأساً! فالباری سبحانه لا ماهیة له تحدُّهُ علی الإطلاق.

ص:75

وبهذا أصبح (المِثْل) بالنسبة إلیه من السالبة بانتفاء الموضوع.

وأمّا (المَثَل)؛ فلیس من موضوعه التجانس الماهوی بین طرفیه، وإنّما موضوعُهُ حکایة أحدهما بعض جهات الآخر! ولذا لم یکن المقصود من المَثَل خصوصیاته وحدوده وإنّما مقدار حکایته عن الطرف الآخر، کالعَلامة علی الشیء إذ لم یلحظ فیها حدودها الذاتیة وإنّما لوحظ فیها إشارتها إلی الطرف الآخر! وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَیْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَیْنِ1 ؛ فذِکرُ الجنتین؛ مثال وقنطرة؛ لا أکثر، إلی معنی آخر؛ هو الشکر علی نِعَمِهِ سبحانه!

ومثله قوله سبحانه ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوکاً لا یَقْدِرُ عَلی شَیْءٍ وَ مَنْ رَزَقْناهُ مِنّا2 ، وقوله تعالی ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِیهِ شُرَکاءُ مُتَشاکِسُونَ وَ رَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ یَسْتَوِیانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَکْثَرُهُمْ لا یَعْلَمُونَ3 ، فأنّها آیات تضرب (لنفی الشریک)! وما ذُکِرَ من العبد المملوک وسواه مثال لیس إلا!

وبهذه النکتة المشترکة بین (التمثیل بالمَثَل والاعتبار) نقول بدخول الثانی فی العقائد من دون وجهِ إشکالٍ بعد دخول التمثیل فی ذلک بملاک النکتة المشترکة بینهما، وهو الإشارة إلی مقدار من الواقع الغائب عن القدرة البشریّة بدیلاً عقلیاً عن الإحاطة بتمامهِ وبتفاصیلهِ.

وهذا ما یُوصلنا إلی نفی دعوی المجاز العقلیّ وسواه عن

ص:76

موارد الحدود الاعتباریة فی أبواب العقائد، کما تنتفی دعوتا المادیة الحسیّة، والتشبیه، التی أخذها الفلاسفة علی المتکلمین.

برهانیة البیان الأمثالیّ!

لا یخفی أنّ اقتناص معنیً إلهیٍّ أو کمالیٍّ مطلقاً من (المَثَل الحسیّ) إنّما یکون من خلال عملیة تجریدٍ وتحلیلٍ عمیقٍ للمَثَل المعتمَد، وهو ما ینتهی إلی ترکیز الأذهان نحو (الجنبة الوجودیة) المطلقة، التی هی فی متناول الجمیع حتی مَن کان غارقاً فی حدود وقیود (المادة)!

وهذا الاقتناص نجده؛ أیضاً، فی احتجاج النبی الأعظم مع الدهریین؛ حیث برهنَ لهم علی وجود الباری بمَثَلٍ حسیّ! نحو مَثَل اللیل والنهار! حیث سألهم؛ صلی الله علیه وآله، عن جواز اجتماعهما، فقالوا بالنفی، ومنه انتقل؛ صلی الله علیه وآله، إلی أنّ أحدهما منقطع عن الآخر وأنّ أحدهما سابقٌ والآخر لاحقٌ بأثرِهِ، وهو ما أذعن به الدهریون! فألزمهم؛ صلی الله علیه وآله، بحدوث اللیل والنهار معا، وکلُّ حادث لابد له من مُحدِثٍ قدیمٍ! وهو المطلوب.

ومن البراعة بمکان أن تقتنص الواقعیة الأزلیة من خلال مثالٍ حسیّ! فتأمّل ذلک.

ولا یخفی أنّ ذلک من مناهج القرآن الکریم، والسنة المطهّرة؛ للاستدلال! وقد اعتمده العرفاء.

وأمّا الفلاسفة من عهد ابن سینا وما بعده (فیَرَونَ) أنّ المواد

ص:77

الاستدلالیة إذا کانت حسیّة فلا یکون البرهان بها (لمیّاً)، بل ولا حقیقیاً، بل هو خطابی أو إنّیّ، ولا یعدو دوره عن التنبیه.

(ویردُّهُ): الاستعمال القرآنی للأمثال الحسیّة؛ حتی فی باب المعارف الإلهیة! وهو استعمال ینفع مع الکثیر ممَن لا یمکنه الفهم والتعاطی مع المعانی العقلیة التجریدیّة؛ فیسعفهم طریق الأمثال، والقصص، کما أسعفهم طریق الاعتبار.

نعم؛ للحکماء البشریین (رأی) فی اعتماد الأمثال فی هذه الباب؛ مفاده أنّ ذلک من باب (الإعداد والتهیؤ والتدرّج) البیانی، المطلوب فی الترقی المعرفیّ؛ حیث تکون الأمثال من المراحل المعرفیة الابتدائیة (المنبّهِة) إلی المراحل البرهانیة الحِکمیة وإلا کان البدء بالبراهین الحِکمیة ثقیلاً علی العموم، ولذا رأوا أنّ البراهین الفلسفیة الإنیّة وهی کثیرة تندرج فی نفس الباب؛ باب التنبیه والإعداد إلی البراهین الحقیقیة.

(ویردُّهُ)! عموم البرهان لکلِّ قوةٍ ولکلِّ عقلٍ!

قد تقدّم تقریب أنّ منهج الاعتماد علی الأمثال منهجاً قرآنیّاً للبرهنة علی مقاصده، إلی جنب مناهجه الأخری، کالقصص والمواعظ والحِکَم والزجر والتبشیر... وهو ما یُؤمّن الوصول إلی مختلف طبقات الفهم البشریّ.

ص:78

وهذا إنّما یعود إلی (عموم صناعة البرهان) لکلِّ لغةٍ من لغات معانی العلوم، سواء الطبیعیة التجریبیّة أم العقلیّة أم النفسانیّة أو الاعتباریّة أم القانونیة أو غیرها من أنواه العلوم ولغاتهِ!

وکذلک؛ یعود، إلی (عموم صناعة البرهان) لکلِّ قوةٍ من قوی النفس وقوی الروح؛ سواء أکانت عالیةً ومتعالیة أم نازلةً وسافلة أم وسطی ومتوسطة وما بینهما من درجات کثیرة؛ فأنّ لکلِّ قوةٍ حظٌّ من درک البرهان ولغة علمیة بإزائها تخصّها.

ولکن لا یفوت علیک ما ذکرناه؛ قبل قلیل، من أن انتهاج منهج (الأمثال) الحسیّة فی الاستدلال علی المعارف العقائدیة؛ حتی الإلهیة منها، لم یکن إلاّ بتجرید الأمثال عن ثوبها الحسی، وکلّ ما یتّصل بمقولات المخلوقیة وصولاً إلی الوجود المجرّد؛ الکمال المطلق.

هذا.

وقد حققنا فی مباحث العقل والجهل من شرح أصول الکافی أنّ (ما ذهب) إلیه ابن سینا من حصر البرهان فی قوة العقل النظریّ؛ تأثّراً بالمسلک الأشعریّ، وهو ما أوجد انحساراً لفلسفة المشّاء عن بحوث وبراهین العقل العملیّ! وهو ما أشرنا إلیه فی کتابنا العقل العملی(1) ؛ أیضاً، (غیر سدید)؛ لأنّ البرهان یتّسع بعدد ما للنفس من قوی کثیرة وعدیدة، فکلِّ قوةٍ من قوی النفس بإمکانها إدراک ومشاهدة لَمَعانٍ من عیان الغیب، والقدرة الإلهیّة؛ بحسب آلیة ولغة تلک القوی النفسانیّة؛ إذ

ص:79


1- (1) - انظرْ منه (السبب الثانی)؛ ص 339.

لکلِّ قوةٍ نفسانیّة لغةُ عِلمٍ تخصّها! فکُلُّ علمٍ فی الحقیقة إنّما هو بإزاءِ قوةٍ من قوی النفس.

وینتج من ذلک؛ أنّ أصحاب کلِّ علمٍ حیث ینطلق عِلمُهم من بدیهیات ومواد یختصّ بها یمکنه؛ بآلیاتهِِ، إدراک البراهین بلغةٍ تخصّه! فأنّ علم الفیزیاء أو الکیمیاء أو الأحیاء أو الریاضیات أو غیره من العلوم التجریبیّة یمکنه مشاهدة القدرة الغیبیّة عِبرَ لغتهِ ومادة موضوعه؛ باعتبار أنّها آیة تتجلّی فیها القدرة الإلهیة، ومن ثَمَّ کان الانجاز الفیزیائی أو الکیمیائی أو الأحیائی أو الریاضی أو الهندسی یدرکه أصحاب هذه العلوم ولا یُدرکه الفلاسفة!

وکذلک أصحاب الفنون والمهارات فأنّهم یدرکون من بدیع الخلقة الإلهیة والفعل الإلهیّ ما یشاهدونه من خلاله لَمَعان القدرة الإلهیة القاهرة، التی تعجز قدرة المخلوقین والبشر علی مشاهدتها کما یشاهدها أصحاب الفنون والمهارات؛ سواء أکان فی الکون والتکوین أم فی کلام الله المنزَّل فی القرآن؛ من بُعد البلاغة أو التصویر الأدبی أو غیره من علوم الأدب واللغة أو الوقع الصوتی الموسیقی لألفاظ القرآن... وهکذا؛ یدرک کلُّ فنٍ؛ بحسبه، ذلک الجمال البدیع القاهر، الذی أعجز البشر عن الإتیان بمثلِهِ.

ومن هنا تعدّدتْ معاجز الأنبیاء بحسب تطوّر کلِّ قومٍ من البشر وبحسب التمدن الحضارة والتحضّر الذی وصلوا إلیه؛ فعیسی کانت معجزته فی الطب وإحیاء الموتی والإخبار عن الضمیر ومضمرات الروح

ص:80

من الریاضات الروحیة التی کان أهل زمانه یتفوّقون بها! بینما کانت معجزة النبی عیسی الحیة والعصا وخلق التکوین والتصرّف بالمادة الجسمانیة، وذلک لأنّ أهل زمانِهِ قد تفوّقوا فی علم وفن السِّحر، ومن ثَمَّ کان أول الناس استجابة له؛ علیه السلام، هم السحرة قبل فلاسفة زمانهِ! وذلک لفطنة وقدرة السحرة علی إدراک القدرة الغیبیّة الإلهیة التی یعجز البشر عن التصرّف فی خلق تکوین المادة الجسمانیة بهذا النحو وبهذه الأطوار.

وهکذا کانت معجزة کلِّ نبیٍّ عبارة عن برهان عیانی یلمع منه وینکشف به جانب من الغیب والقدرة الإلهیّة، ینقاد إلیها أصحاب کلِّ علمٍ وفنٍ بمشاهدتهم ذلک الظهور الغیبیّ.

إلی غیر ذلک من الأدلة التی قرّرناها علی (عموم صناعة البرهان) لکلِّ القوی العقلیة، وقوة الوهم وقوة الخیال فی الفنون والعلوم وصناعة الخطابة وصناعة الشعر وصناعة المغالطة، ولکن بمواد برهانیة، ولبقیة العلوم والقوی.

إذن؛ إشکالات الحکماء والفلاسفة علی انتهاج الأمثال الحسیة أو القصص فی الاستدلال کان لغفلتهم عن (الأمر العام) المجرّد السابح بین طیات تلک المناهج.

قال تعالی فَبَعَثَ اللّهُ غُراباً یَبْحَثُ فِی الْأَرْضِ لِیُرِیَهُ کَیْفَ یُوارِی سَوْأَةَ أَخِیهِ1 ، وفیه هاتف إلهیّ یُنبّه إلی أمر عام، وهو المواراة!

ص:81

وفی کلمة أمیر المؤمنین علیه السلام (ما رأیتُ شیئاً إلاّ ورأیت الله قبله)(1) ؛ تنبیهٌ إلی ذلک الأمر العام؛ أیضاً، وهو أنّ فی دفائن الإنسان قدرات طبیعیة علی إدراک العالَم الربوبی ولو فی طیات إدراک العوالم النازلة الحسیة! ولکن هؤلاء لم یلتفتوا؛ بعد مشاهدة الأشیاء، إلی ما وراءها(2)!

برهانیة البیان الأمثالی تساوق برهانیة البیان الاعتباریّ

من البیان المتقدّم لنهج البیان الأمثالی فی الاستدلال علی المعارف العقائدیة وأنّ المراد من (المَثَل) الإشارة إلی حقائق المعارف؛ حتی الإلهیّة منها، بعد تجرید المَثَل من خصوصیاته الذاتیة وقصر النظر بعد ذلک علی (الأمر العام) المشار إلیهِ؛ فإنّ البیان الاعتباری فی باب المعارف والعقائد یماثله فی هذه النکتة، وهی إشارتُهُ إلی حقائق وواقعیات، ولو بوجوده الإدراکیّ الذهنیّ، وحکایته الإجمالیة.

نعم؛ البیان الاعتباری وإنْ وافق البیان الأمثالی أو الآیاتی أو القصصی... فی الرجوع؛ روحاً، إلی کونه بیاناً برهانیاً إلاّ أنّه یخالفها فی کونه عبارة عن معانٍ مجرّدة عن أی وجود توسیطی إلاّ وجوده الفرضی الذهنیّ المنتزع من الواقع، فهو لیس بیاناً حسیاً ولا مادیاً ولا تشبیهیاً ولا خطابیاً.

ص:82


1- (1) - أوردها الشیخ محمد صالح المازندرانی فی شرحه لأصول الکافی؛ 83/3.
2- (2) - لأنّه إذا ظهرت الأشیاء المخلوقة فظهور الحقّ سبحانه أظهر؛ فهو عِلّة کلِّ مخلوق، وظهور العلّة بالذات وظهور معلولاتها بالعرض!

وانضمام الاعتبار إلی المناهج القرآنیة من الأمثال والآیات والقصص یعطی البیانَ حسنه؛ إذ أنّ تعدّد أثوابه وطرائقه من حسنه بلا ریب.

إشکال فلسفیّ علی البرهنة الأمثالیّة!

ومفاده أنّ البرهان إذا کان بثوبٍ حسیٍّ یکون؛ لا محالة، مدعاة للخلط بین جهات الحسّ والمعانی التجریدیة العامة ؟!

(ویردُّهُ):

أولاً: ما تقدّم من لزوم الانتباه والدقة عند تجرید الأمثال عن ثوبها الحسّیّ وکلِّ ما یتّصل بمقولات المخلوقیة حتی یصل الذهن إلی الوجود المجرّد.

وثانیاً: أنّ حالة الإدراک التجریدی المحض نادرة أو صعبة علی عموم أنواع قدرات وإدراک الناس المختلفة فی أطوار ومواهب قواها، ولذا یکون ضبط البراهین بحسب هذا الإدراک للأوحدی منهم.

وثالثاً: أنّ ضبط الأمور العامة فی ضمن الأثواب النازلة یکون اضبط وأکثر أماناً من الهبوط والإسفاف! فعموم الناس یستوعب کثیراً الأمور العامة فی أثوابها النازلة ویکون ضابطاً ومتقناً لها وهی فی هذه الأثواب التی تناسبه.

ونجد هذه الاضبطیة والإتقان إلی جانب العمومیة متوافرة لدی أصناف من الناس عند تعاملهم مع البیان الاعتباری أکثر وضوحاً، لکونه

ص:83

کما هو شرط ضبطه وبنائه یلتزم جانبی الضبط وعمومیة التنوّع الإدراکیّ؛ لما تقدّم من رجوع أمر الاعتبار إلی العالِم؛ أولاً، ویکون غرضه الأساس سدّ القصور عن الإحاطة الحقیقیة؛ ثانیاً، ولذا ناسب الضبط بأقصی ما یمکن، کما ناسب مراعاة عمومیة أنواع الإدراک بالنسبة إلی المستفیدین منه.

ولأجل ذلک أمکن القول بإنّ الاعتبار بیانٌ جِدِّیٌّ وجَدوائیٌّ متینٌ ونافعٌ فی أبواب المعارف العقائدیة.

التنبیه الثانیّ: فی ضابطة دخول الاعتبار فی المعارف العقائدیة

اشارة

لاشکّ أنّ ضرب الضابطة لشیءٍ؛ أی ضابطةٍ، لابد أن یکون بعد تحدید ذلک الشیء جیّداً وإلا کانت الضابطة المضروبة من التخیّل والتخمین، کما هو واضح.

وفی موردنا عرفنا أنّ الاعتبار وجود فرضیّ لمعنیً ذهنیٍّ تکوینیٍّ، وهو ما ینبغی ملاحظته عند تأسیس الاعتبار.

ففی التقنین الوضعی یکون الاعتبار القانونی صادقاً عند إصابته الغرض العقلائی من القانون بنحو دائمی وإلاّ کان باطلاً أو ظالماً، وهذه الإصابة إنّما تکون عند ملامسة المعنی الاعتباری للحقیقة، ولذا انبغی تحدید تلک الحقیقة، کالعدالة الاجتماعیة، ثم الاعتبار بإزائها.

وأمّا فی أبواب المعارف والعقائد فکذلک! فمتی کان العنوان

ص:84

الاعتباری مصیباً للحقیقة بنحو الإجمال والإبهام وإنْ لم یکن بنحو التفصیل، فهو حقّ وصائب وصادق ومطایق للحقیقة وإلا کان باطلاً.

وفی خصوص بحث التوحید فأنّ صحّة العنوان الاعتباری إنّما تتحقّق عند کشفه عن الکمال، وأمّا إذا کان لازماً للنقص فی الساحة الربوبیة المقدسة فهو عنوان اعتباری باطل کاذب؛ غیر مطابق للواقع.

وفی احتجاج النبیّ الأعظم؛ صلی الله علیه وآله، مع أتباع الأدیان نلاحظ هذه الزاویة من ضابطة الاعتبار، فبعد ذکره لخلّة إبراهیم ذکروا له (بُنوة) المسیح وعُزیر؛ فخطّأهُم بأنّ المقولة الاعتباریة لیست تخیّلاً فارغاً ومن غیر أساس؛ فتُلفق کیفما راقَ للذهن تصوریها، کخیالٍ شعریٍّ کاذبٍ، بل لها ضابطتها، التی تتمرکز والکلام فی بحث التوحید فی کشفها وبیانها عن الکمال! وأمّا إذا کانت کالتی یزعمون من بُنوة تستلزم إثبات النقص فی الباری عزّ وجلّ أو فی أفعاله أو أسمائِهِ أو صفاتِهِ فهی مقولة اعتباریة باطلة کاذبة؛ غیر مطابقة للحقیقة، فیکون الاعتقاد بها باطلاً لا محالة.

ولذا نجد الباری سبحانه تارةً یقول وَ اتَّخَذَ اللّهُ إِبْراهِیمَ خَلِیلاً1 ، وأخری یقول ما کانَ لِلّهِ أَنْ یَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ2 ! فأنّهما یرجعان إلی تلک الضابطة، فیصح العنوان الاعتباری فیما لو کشف عن کمال إلهیّ سواء أکان فی جانب الصفات أو الأسماء أو

ص:85

الأفعال الإلهیة، کما فی القول المبارک الأوّل، ولا یصحّ فیما لو لزم منه النقص فی الذات المقدّسة؛ أیضاً، من جانب الصفات أو الأسماء أو الأفعال، کما فی القول المبارک الثانیّ.

(ولا یقال): بأنّ الآیة الثانیة تفید النفی والاستحالة التکوینیة، فتخرج عن محال الاستشهاد لدخالة الاعتبار فی باب المعارف الاعتقادیة، کما ذهب السیّد الخوئی؛ حیث فسّرها بقولِهِ تعالی لَمْ یَلِدْ وَ لَمْ یُولَدْ1!؟

(لأنّها) بصدّد النفی الاعتباری، أی أنّه سبحانه لا یصحّ أن یعتبر لنفسه ولداً! معللاً إیاه بتنزّهِهِ عن هذِهِ المقولة الاعتباریة؛ فقال وَ ما یَنْبَغِی لِلرَّحْمنِ أَنْ یَتَّخِذَ وَلَداً2 ؛ لأنّهُ اتخاذ اعتباریّ یستلزم النقص للزومِهِ المباشرة والامتزاج، وهما نوعُ نقصٍ لا محالة؛ تعالی الله عن ذلک علّواً کبیراً.

وإنْ صحَّ فی مقابل ذلک أن یعتبر لنفسه؛ سبحانه، خلیلاً، فهو للزومهِ الکشف عن کمالٍ فی الفعل الإلهیّ! إذ أنّ اعتبار خلّة إبراهیم علی تفسیرها النبویّ المتقدّم تکشف جزءً من کمال الفعل الإلهیّ لا یمکن للبشریّة أن تحیط به عیاناً، فاستعیض عنه بتوسیط مقولة الخلّة الاعتباریّة.

ولا یخفی أنّ هذا المقدار من الاحتجاج النبویّ یدعم منهج تداخل

ص:86

الاعتبار فی باب المعارف الاعتقادیّة؛ لأنّه؛ صلی الله علیه وآله، لم یستشکل علی أصل تداخل الاعتبار فی المقولات الاعتقادیة وإنّما أشکلَ علی خصوص الاعتبار الذی یلزم منه النقص فی الساحة الربوبیة المقدّسة.

بل یمکن القول من خلال ملاحظة البیان القرآنیّ بأصالة المقولة الاعتباریّة فی باب المعارف الاعتقادیة، وأنّ ذلک عرف عریق فی التفکیر البشریّ، وَ اتَّخَذَ قَوْمُ مُوسی مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِیِّهِمْ عِجْلاً 1 أَ رَأَیْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَ فَأَنْتَ تَکُونُ عَلَیْهِ وَکِیلاً 2 قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَیْرِی لَأَجْعَلَنَّکَ مِنَ الْمَسْجُونِینَ 3 ذلِکُمْ بِأَنَّکُمُ اتَّخَذْتُمْ آیاتِ اللّهِ هُزُواً4 ، اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ5 ، وَ قالَ اللّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَیْنِ اثْنَیْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِیّایَ فَارْهَبُونِ6. .. کلُّها تشیر إلی مفردات من التبانی الاعتباریّ، مما یشیر إلی مرکوزیة ذلک؛ فلم ینفرد به قوم أو عصر دون آخر!

بل نفس الاستنکار الإلهیّ لبعض هذه الاعتبارات لم یکن لأجل اعتباریتها، وإنّما للوازمها الباطلة! فمثلاً؛ وَ قالُوا اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً7 ، اتخاذ اعتباری ولکنّه یوجب النقص؛ ف - سُبْحانَهُ عن ذلک؛ بل قُلْ إِنَّ الَّذِینَ یَفْتَرُونَ عَلَی اللّهِ الْکَذِبَ لا یُفْلِحُونَ8!

ص:87

وذکرنا أنّ الآیات والروایات المستفیضة تعبّر عن (أصل الإیمان بالله) بالفریضة(1) ، وهو ما یؤکد سریان التشریع والتقنین الاعتباریّ وتصاعدهِ إلی جمیع أنحاء المداینة بین العبد وربّهِ؛ بما فی ذلک الإیمان بالتوحید، حیث توفّر هذه المعرفة الإیمانیة الإذعانیة وهی من مقولة العقل العملیّ الزخم المطلوب من عملیة التفاعل والتعاطی العملی مع المفردة الاعتباریة، وهو ما تخلو منه ذات المفردة علی مستوی إدراکها الساذج!

ولذا؛ نقول، إنّ نفس لجوء الإنسان فی (بناء معرفته) إلی الاعتبار إنّما هو لکشفهِ عن الواقع وهو ما یکون دافعاً لحرکتهِ، واعتماد الاعتبار فی (بناء معرفتهِ) بالنسبة إلی حسن الأشیاء أو قبحها شاهد آخر علی أنّ ذلک لم یکن لو لم یکن الاعتبار کاشفاً عن الواقع؛ ولو من وجهٍ أو وجوهٍ، کما تنصّ نظریتنا الجدیدة.

وإنّما کانت تلک المعرفة من مقولات العقل العملیّ فباعتبار ما تقدّم من کون التصدیق حتی ما کان فی القضایا النظریة منه إنّما هو فعل من اختصاص العقل العملیّ ولا یستغنی عنه العقل النظریّ عنه!

وهذا بنفسهِ برهان علی ضرورة دخول نظام العقل العملیّ فی المعارف النظریة؛ لأنّ الذی ینظّم عالم الاعتبار إنّما هو العقل العملیّ!

فالعقل العملی بقضایاه وشؤونه ضرورة فی معارف العقل النظریّ ولا یمکنه الاستغناء عنه! وهذا ما أکده سقراط وأفلاطون والفلاسفة إلی

ص:88


1- (1) - انظر عیون أخبار الرضا (علیه السلام)، للصدوق، 106/1.

زمن الفارابی إلا أنّ الحکیم البشریّ ابن سینا لم یتبنَ ولم یتفطن أبعاد وتداعیات هذا الشأن! وإنْ ذکر فی بعض کلماته أصل هذا المطلب من دون بسط أعماقه وتداعیاته، کما أشرنا إلیه فی کتاب العقل العملی لاسیما فی خاتمتهِ.

فالإیمان الذی یحصل لدی الفرد هو من وظیفة القوة العملیة أی العقل العملی ولیس من وظیفة القوة النظریة، وذلک لأنّ الإیمان هو عقد القلب علی شیءٍ، أی الإذعان والتسلیم بذلک الشیء، وبهذا یکون فعلاً من أفعال النفس.

وأمّا القوة النظریة فوظیفتها الإدراک البحت، ومع حصول الإدراک قد لا یحصل الإذعان والتسلیم! ومن هنا کان الاعتبار الشرعی متعلقاً بالفعل القلبی لا الإدراک؛ لأنّ الإدراک لیس اختیاریاً بعد حصول مقدماته، بل یحصل تلقائیاً، فلا یکون متعلقاً للاعتبار الشرعی! بینما الفعل القلبی اختیاری حتی بعد حصول الإدراک ومقدماته، وهو من وظیفة القوة العملیة، ولأجل التحریک کما هو مقتضی اللطف الإلهیّ اعتبر الشارع الترغیب والترهیب بإزاء الاعتبارات الشرعیة الأخری.

نظامیة الاعتبار تقتضی توقیفیة الأسماء!

عرفنا فیما سبق أنّ الاعتبار التشریعیّ لا یقتصر علی منطقة أفعال البدن بل یترقّی حتی یصل بابَ التوحید، وأنّه لتغطیة المساحات الغیبیة من ملاکات أفعال البدن وحقائق العوالم الأرقی من العالَم الأرضیّ، ولذا عرفنا؛ أیضاً، أنّ ذلک الاعتبار من مختصاته سبحانه وتعالی سُلْطانٍ

ص:89

اَلْحُکْمُ إِلاّ لِلّهِ1 ، وهی عامّة تشمل جمیع مناطق الاعتبار التشریعیّ؛ بما فیها اعتبار الأسماء والصفات والأفعال المنسوبة والمضافة إلی الذات الإلهیة المقدسة.

ویؤیده؛ أنّ توقیفیة الأسماء مذهب غالب المتکلمین وجملة من الفلاسفة والعرفاء.

والسِّرُّ فی هذه التوقیفیة أنّ الاسم ما أنبأ عن المسمی، وللمسمی؛ هنا، مساحات غیبیّة غیر متناهیة حتی علی الصادر الأول؛ لمعلولیتهِ التی لا یکتنهُ بها من عِلّتهِ شیئاً إلاّ بمقدار ما یرشح منها إلیه (1)وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِی عِلْماً 3 آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَیْهِ مِنْ رَبِّهِ4! ولذلک لزم واقتضتْ الضرورة توسیط الاعتبار لتغطیة تلک المساحات الغیبیة إجمالاً، ولأجل إتمام فریضة الإیمان علی الناس.

التنبیه الثالث: فی الفارق بین الاعتبار الفلسفیّ والاعتبار القانونیّ التشریعی أو الأصولیّ

اشارة

وملخّص ما أفادوه؛ أنّ الاعتبار الفلسفی هو حدّ الشیء الذی

ص:90


1- (2) - وفی القرآن الکریم ما یدلّ علی ذلک بوضوح، وفی الأخبار الکثیر، کالمعقود تحت باب (أن الأئمة علیهم السلام یزدادون فی لیلة الجمعة) من الکافی الشریف؛ 253/1 وما بعدها. وغیره من الأبواب الدالة بروایاته علی ما فی المتن.

ینتزعهُ العقل من الخارج من دون أن یکون للعقل أکثر من الاقتناص والانتزاع، فما یعتبره هو الواقع فی صورته الاعتباریة، بلا فرق فی ذلک بین الماهیات والمفاهیم الوجودیة، کالحیاة والعلم.

وذاتُ هذا المفاد هو ما یقال ویقرّر فی الاعتبار التشریعی والأصولی؛ لکونه اقتناصاً من المصالح والمفاسد التکوینیة!

(ولکن) قد یقال بالفرق بین هذه الاعتبارین؛ الفلسفی والقانونیّ، وهو کون الأول یکشف عن (تمام الواقع)، کما یظهر ذلک من منظومة الملا هادی السبزواری:

للشیء غیر الکون فی الأعیان کون بنفسهِ لدی الأذهان(1)!

بینما یکشف الاعتبار القانونی التشریعی أو الأصولیّ عن الواقع بنحو إجمالیّ أو إبهامیّ؟!

(ویُجاب): بأن المطابقة بین الواقع وصورته لدی الذهن لا تنافی الإجمال والإبهام؛ إذ أنّ الصور والحقائق الخارجیة التی یدرکها العقل إنّما هی اعتبار عقلی عن الواقع ولیست هی عین الوجود الخارجیّ للواقع! ولذا ذکر الفلاسفة بأن تلک الصورة لا تمثّل إلاّ سطح الشیء أو بعض جهاته وزوایاه لا کُنهه، کما فی مطلق المدرکات! وإنّما یقال من حدود وتعاریف لذوات الأشیاء فی أقسام الموجودات لیست إلا رسوماً وشرحاً للاسم فی الأشیاء، فهی لیست تعاریف للحدود الحقیقیة للشیء! وقد اعترفوا بأنّ کُنه الأشیاء لا یُقتنص وإنّما یُدرک من الأشیاء فی الذهن

ص:91


1- (1) - شرح المنظومة (قسم الفلسفة)، 27

البشری بحسب سعته وقدرته لا بحسب سعة کنه الأشیاء! وهذا عین معنی الاعتبار الذی یقرّر فی تعریف الفلسفة فی مختلف مدارسها المتعدّدة.

وکذلک الشأن فی علم العرفان القائم علی إدراک التجلّی بوجهٍ أو بعض وجوه الحقائق! أی أنّ الإبهام والإجمال هو الفارق بین سعة قدرة الذهن البشری مع سعة کُنه ذات حقائق الأشیاء، وهذا هو معنی الاعتبار، کما تقدّم، وهو معنی العبور واحتیاجه إلی التعبیر.

ومن هنا قالوا بتطرّق الخطأ إلی الحس! وهو ما اعترف به أصحاب العلوم التجریبیّة.

ومن أمثلة ذلک ما نراه من إلتقاء حافتی الشارع عند نقطة الأفق، وهو لا غیر ما یبلغ صورته إلی الذهن؛ مع أنها صورة کاذبة!

وفی الحقیقة أن ذلک لیس من خطأ الحسّ حصراً، وإنّما هو من قصورهِ عن إیصال الصورة الحقیقیة! ولذا فالاعتبار الفلسفیّ یشارک غیره من الاعتبار القانونی وغیره فی تقوّمهِ بالإجمال والإبهام من دون القدرة علی الإحاطة بکلّ التفاصیل.

ولا یخفی؛ مما تقدّم، أنّ القوانین الوضعیة العقلائیة العقلانیة الصادقة، أی المتوافقة مع المصلحة الغالبیة، تشارک هذین الاعتبارین، الفلسفی والقانونی التشریعی، فی مثل ذلک التقوّم.

نعم؛ الاعتبار الوحیانیّ فی أبواب المعرفة والعقائد أشدُّ مطابقة وکاشفیة عن الحقیقة من الاعتبار الفلسفی فضلاً عمّا هو أدنی منه تجرّداً

ص:92

من المؤثرات الخارجة عن الحقیقة التی یراد کشفها وبیانها من خلال الاعتبار.

بل الاعتبار الوحیانی صادق ومطابق للواقع دائماً.

أصالة کشف الاعتبار عن حقیقة التکوین المرتبطة به!

قد یُنقل عن جملة من علماء الأصول وسواهم، کالعلامة الطباطبائیّ تبعاً لأستاذه الأصفهانی الکمبانیّ بأنّ الاعتبار القانونی لا صلة له بالتکوین العینی الخارجی الذی تحته أصلاً.

ومن هنا برز البحث المعروف حول واقعیة الاعتبارات التشریعیة، کالطهارة والنجاسة، فهل هما مجرّد اعتبار تشریعی تعبّدی أم وراؤهما واقع تکوینی خارجیّ!؟

والصحیح؛ بلحاظ ما تقدّم من حقیقة الاعتبار؛ الذی هو بیان مجمل ومبهم للتکوین، أنّ الصلة وثیقة بین الاعتبار القانونیّ الشرعیّ وما تحته من تکوین عینی خارجیّ، وهو ما یؤیده بعض الاکتشافات العلمیة الحدیثة، کما فی الجانب الجراثیمی التکوینی فی الکلب الذی حکم الاعتبار الشرعیّ بنجاستهِ ووجوب اجتنابهِ واجتناب لواحقه، وغیرها من الاکتشافات العلمیة الحدیثة التی کشفت ولو بنحو الظن والاحتمال غایات التشریع الإلهیّ بنحو معجزٍ مذهلٍ للعقل البشریّ.

وعلی هذا؛ فالاعتبار القانونی، سواء الفقهی منه أم الکلامی، هو کالاعتبار الفلسفی، بل هو ذاتُهُ من حیث الانتزاع والاقتناص من الخارج؛ غایتُهُ أنّ هذا الخارج المراد التعبّد به، والغائب عن عموم

ص:93

الناس، قد حُصِرَتْ ولایةُ الاعتبارِ فیه بعلاّمِ الغُیوب؛ سبحانه، ورسوله بتعلیمهِ عز وجل، والأئمة بتعلیم الرسول؛ صلوات الله علیهم، ولذا کان اعتبارهم صادقاً علی الدوام؛ بخلاف اعتبار غیرهم مهما بلغ من التحصیل والکسب فأنّه قد یخطئ وقد یصیب، وکثیراً ما یکون خاطئاً.

ویمکن أن تکون هذه الأصالة من ضوابط الاعتبار الصحیح؛ وقواعده. فلاحظ.

والحمد لله ربِّ العالمین

وصلی الله علی خیر خلقه محمّدٍ وآله الطیبین الطاهرین.

ص:94

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.