اسرارالصلاه

اشارة

سرشناسه:فاضل لنکرانی، محمدجواد، 1341 -

عنوان قراردادی:اسرار و آداب نماز . عربی

عنوان و نام پدیدآور:اسرارالصلاه/ محاضرات محمدجواد الفاضل اللنکرانی.

مشخصات نشر:قم: مرکز فقهی ائمه اطهار (ع)، 1393.

مشخصات ظاهری:519 ص.

فروست:مرکز فقه الائمه الاطهار؛ 165.

شابک:220000ریال 978-600-569-498-7 :

وضعیت فهرست نویسی:فاپا

یادداشت:عربی

یادداشت:کتابنامه به صورت زیرنویس.

موضوع:نماز

شناسه افزوده:مرکز فقهی ائمه اطهار (ع)

رده بندی کنگره:BP186/ف2الف5043 1393

رده بندی دیویی:297/353

شماره کتابشناسی ملی:3755364

ص :1

اشارة

ص :2

اسرارالصلاه

محاضرات محمدجواد الفاضل اللنکرانی

ص :3

ص :4

فهرس الموضوعات

المقدّمة... 13

الفصل الأوّل: أمور عامّة حول أسرار الصّلاة... 15

1 / ضرورة التعرّف علی أسرار الصّلاة... 17

2 / أدّلة وجود أسرار الصّلاة... 20

3 / أهمیّة إدراک باطن الصّلاة... 23

4 / موارد اختلاف باطن الأعمال... 26

5 / الصّلاة طریق الوصول إلی الحقائق... 29

6، 7 / الصّلاة جامعة لأسرار جمیع العبادات... 32

8 / الصّلاة معیار الإیمان والتوحید... 35

9 / الصّلاة سیر وسلوک نحو الحقّ... 38

10 / الصّلاة، طریق الوصول إلی الیقین... 41

الفصل الثانی: حضور القلب فی الصّلاة... 45

11 / المقصود من القلب فی مقولة «حضور القلب»... 47

12 / المقصود من القلب فی الروایات... 50

ص:5

13 / الذنب، سبب لظلمة القلب... 53

14 / آثار توجّه القلب وإقباله إلی اللّه... 55

15 / مراتب حضور القلب... 58

16 / خشوع وحضور القلب فی الصّلاة... 61

17 / موانع حضور القلب... 64

18 / لزوم حضور القلب والخشوع... 67

19 / کیفیّة تحقیق اللذّة من الصّلاة... 70

20 / اللّه یتعهّد بالصّلاة، بإدخال المصلّی إلی الجنّة... 73

21 / حقیقة الصّلاة تتجلّی فی الرکعة الاُولی... 76

22 / مراتب حضور القلب... 79

23 / الحضور الإجمالی: والاشتغال بحمد اللّه وثنائه... 81

24 / الالتفات إلی قبول الصّلاة... 85

25 / المرتبة الاُولی من الحضور التفصیلی: فهم معانی الکلمات... 88

26 / المرتبة الثّانیة من الحضور التفصیلی: الفهم العقلی والبرهانی للکلمات... 91

27 / المرتبة الثّالثة من الحضور التفصیلی: التصدیق القلبی... 94

28 / المرتبة الرابعة من الحضور التفصیلی: شهود حقائق الألفاظ... 98

29 / المرتبة الخامسة من الحضور التفصیلی: الفناء فی الحقّ تعالی... 100

30 / أسباب حضور القلب... 103

31 / طریق التوجّه إلی عظمة الباری تعالی... 106

32 / رفع الموانع الخارجیّة لحضور القلب... 110

33 / رفع الموانع الخارجیّة لحضور القلب... 114

34 / حبّ الدنیا، أساس الخواطر القلبیّة والأفکار المتناثرة... 116

35 / حبّ الدنیا أکبر مانع لحضور القلب... 119

36 / الدُّنیا المذمومة... 121

37 / أصل جمیع الفتن وعدم التوجّه إلی اللّه فی الصّلاة حبّ الدنیا... 124

ص:6

38 / بغض الدنیا أفضل الأعمال... 127

39 / لزوم الاستمداد من اللّه لحضور القلب... 130

40 / سرّ توجّه القلب للاُمور الدنیویّة... 133

الفصل الثالث: أسرار مقدّمات وشروط الصّلاة 137

الباب الأوّل: أسرار الطّهارة... 137

41 / مراتب الطّهارة... 139

42 / طهارة الظّاهر وطهارة الباطن... 142

43 / أسرار الوضوء... 145

44 / سرّ الطّهارة بالماء... 148

45 / الماء الرحمة المطلقة للوجود... 151

46 / الاستلهام من الماء فی الحیاة... 154

47 / الإخلاص والصفاء فی التوجّه إلی اللّه... 157

48 / سرّ غسل الوجه والیدین فی الوضوء... 160

49 / أقسام الوضوء فی نظر العرفاء... 163

50 / تأثیر الدعاء والذکر عند الوضوء... 167

51 / أسرار الوضوء فی حدیث المعراج... 169

52 / وضوء أهل الحقیقة (طهارة السرّ)... 172

53 / أذکار أمیرالمؤمنین علیه السلام عند الوضوء... 176

54 / باطن الوضوء؛ تبدیل قطرات ماء الوضوء إلی ملائکة... 178

55 / آثار وفوائد الوضوء... 182

الباب الثانی: أسرار ستر العورة... 185

56 / أسرار ستر العورة فی الصّلاة... 187

57 / الصورة الإنسانیّة، ستر لحقیقة الأعمال الحیوانیّة للبشر... 190

58 / ستر العیوب والعورات الباطنیّة... 193

الباب الثالث: أسرار وقت الصّلاة... 197

ص:7

59 / سرّ تعیین الوقت للصّلاة... 199

60 / حالة المصلّی عند حلول وقت الصّلاة... 202

61 / الأیّام لها حقیقة مستقلّة... 205

62 / نداء الأذان تذکیر بالقیامة... 208

63 / تعیین أوقات الصّلاة فی القرآن... 213

64 / أَهمیّة صلاة الصّبح... 216

65 / صلاة الصّبح مشهودة ملائکة اللّیل والنّهار... 219

66 / لزوم الاهتمام بأداء صلاة الصّبح فی وقتها... 221

67 / سرّ أوقات الصّلاة فی جواب النّبی صلی الله علیه و آله للعالم الیهودی... 224

68 / سرّ تعیین وقت صلاة العصر... 226

69 / سرّ تعیین وقت صلاة المغرب والعشاء... 228

70 / عقوبة عدم الاهتمام بوقت الصّلاة... 231

الباب الرابع: سرّ استقبال القبلة التوجّه إلیها فی الصّلاة... 235

71 / لزوم التوجّه إلی الکعبة... 237

72 / سرّ أهمیّة الکعبة وجعلها القبلة للمسلمین... 240

73 / القبلة والأمن المعنوی... 242

74 / تناسب الظاهر والباطن فی التوجّه إلی اللّه... 244

75 / الصورة الباطنیّة لعدم التوجّه إلی اللّه فی الصّلاة... 246

76 / خصوصیّات الکعبة... 248

الباب الخامس: أسرار الأذان والإقامة... 253

77 / أسرار الأذان والإقامة... 255

78 / الأذان: دعوة جمیع قوی الملک والملکوت للحضور... 258

79 / سرّ التکبیرات الأربع والشهادة بوحدانیّة اللّه فی الأذان... 261

80 / ثواب الأذان... 264

81 / سرّ الشهادة بالرسالة والولایة فی الأذان... 267

ص:8

82 / الصّلاة أفضل الأعمال وأصل الفلاح... 269

83 / الأذان یبعد الشّیطان... 272

84 / الأذان حکایة أذکار الملائکة فی المعراج... 275

85 / سرّ التکبیرات الأربعة فی الأذان... 277

86 / سرّ التکبیرات الأربعة فی کلام الإمام الخمینی قدس سره... 280

87 / التکرار یوجب التصدیق القلبی... 283

88 / أسرار الشهادة بالتوحید؛ المرتبة الاُولی والثانیة: الشهادة اللفظیّة والعملیّة... 286

89 / أسرار الشهادة بالتوحید: المرتبة الثالثة والرابعة: الشهادة القلبیّة والذاتیّة... 289

90 / سرّ الشهادة برسالة النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله فی الأذان والإقامة... 293

91 سرّ الشهادة بولایة أمیرالمؤمنین علیه السلام... 296

92 / دور الولایة فی قبول الأعمال... 299

93 / الشهادة بالنبوّة والولایة، هی روح العبادة... 301

94 / احضار قوی الملک والملکوت... 304

95 / سرّ تکرار حیّ علی الصّلاة... 307

الفصل الرابع: سرّ القیام فی الصّلاة... 311

96 / القیام مظهر التوحید وقیّومیّة الحقّ... 313

97 / آداب القیام... 316

98 / حقوق الصّلاة فی کلام الإمام زین العابدین علیه السلام... 318

99، 100 / حدود الصّلاة فی حدیث رزّام... 320

101 / حدود وخصوصیّات الصّلاة فی حدیث الإمام الصادق علیه السلام 323

102 / علّة خوف وخشیة الأنبیاء والأئمّة علیهم السلام... 326

103 / الإمام زین العابدین علیه السلام قدوة العابدین... 329

104 / الغرض الإلهی من فرض الصّلاة علی العباد؟...... 332

الفصل الخامس: أسرار النیّة... 335

105 / النیّة هی العزم علی أداء الفعل... 337

ص:9

106 / الإخلاص وقصد القربة... 341

107 / الإخلاص، أن یکون العمل قابلاً للعرض علی اللّه... 343

108 / الإخلاص، مصداق الهجرة نحو الحقّ... 346

109 / الإخلاص، مانع من تسلط الشیطان... 348

110 / آثار الإخلاص... 350

111 / مراتب الإخلاص (1 و 2)...353

112 / مراتب الإخلاص (3)...356

113 / المراتب العالیة للإخلاص... 359

114 / طریق الخلاص من العجب والغرور أن یعتقد الإنسان بأنّه مقصّر دائماً...... 362

الفصل السادس: أسرار القراءة وآدابها... 365

115 / فضیلة قراءة القرآن فی الصّلاة وغیر الصّلاة... 367

116 / قیمة قراءة القرآن وأهمیّتها... 369

117 / فضیلة قراءة سورة التوحید... 371

118 / آداب قراءة القرآن؛ الالتفات إلی عظمة هذا الکتاب الإلهی و...... 373

119 / وجوه عظمة القرآن... 376

120 / عظمة مضامین ومحتویات القرآن... 380

121 / رعایة حقّ تلاوة القرآن... 383

122 / التأثیر المضاعف لقراءة القرآن فی الصّلاة... 386

123 / تعظیم القرآن، هو التوجّه إلی مضامینه... 389

124 / القرآن کتاب تعلیم وتربیة... 392

125 / آداب التلاوة (1)...395

126 / آداب التلاوة (2)...399

127 / آداب التلاوة (3)...401

128 / آداب التلاوة (4)...404

129 / آداب التلاوة (5)...407

ص:10

130 / تفاوت القرآن مع سائر الکتب... 409

131 / آداب القراءة: التعظیم - التفکّر... 412

132 / آداب القراءة: التخصیص... 415

133 / آداب القراءة: الترقّی... 417

134، 135 / سورة الحمد فی الحدیث القدسی... 419

136 / حقیقة الذکر فی الروایات... 423

137 / بسم اللّه الرحمن الرحیم ذکر اللّه... 426

138 / معنی اللّه فی کلام أمیرالمؤمنین علیه السلام... 429

139 / مضافاً إلی الصّلاة؛ کلّ عبادة تنقسم بین اللّه وعبده... 432

140 / الاستعاذة، آدابها وأرکانها... 435

141 / الاستعاذة، غلق طریق نفوذ الشیطان... 438

142 / الاستعاذة طریق النجاة من الوسوسة... 441

143 / الاستعاذة: اللجوء إلی اللّه من الذنوب والانحرفات الفکریّة والعقدیّة... 444

144 / الاستعاذة، الورود فی حصن اللّه والأمن من عذابه... 447

145 / القیام، إعلان الاستعداد للدفاع عن الحقّ والتصدی للشیاطین... 449

الفصل السابع: آداب الرکوع وأسراره... 453

146 / آداب الرکوع وأسراره... 455

147 / آثار الرکوع، التزین بنور البهاء، الاستظلال تحت مظلّة کبریاء اللّه...... 457

148 / الرکوع أدب، والسجود قرب إلی اللّه تعالی... 459

149 / الرکوع، إظهار العجز والخضوع فی مقابل اللّه... 462

150 / کیفیّة الرکوع... 464

151 / آثار طول الرکوع وذکره... 467

152 / معنی الرکوع فی کلام أمیرالمؤمنین علیه السلام... 470

153 / حدیث المعراج والتوجّه لعظمة الحقّ فی الرکوع... 473

154 / حُسن الرکوع الصحیح یزیل وحشة القبر... 475

ص:11

155 / سرّ الانحناء واستقامة الرقبة فی الرکوع... 478

156 / درک عظمة اللّه، یستجلب الخضوع... 481

الفصل الثامن: أسرار السجود... 485

157 / أسرار وآداب السجود... 487

158 / أهمّیّة السجود... 490

159 / سرّ السجود علی التراب... 493

160 / حقیقة السجود فی کلام الإمام الصادق علیه السلام... 496

161 / علّة تکرار السجود... 498

162 / تأکید الأئمّة علیهم السلام علی إطالة السجود... 500

الفصل التاسع: أسرار التّشهد... 503

163 / سرّ الشهادة بالتوحید والنبوّة فی بدایة الصّلاة ونهایتها... 505

164 / حقیقة التشهد... 508

165 / أدب التشهد... 511

الفصل العاشر: السّلام... 515

166 / حقیقة التسلیم... 517

ص:12

المقدّمة

تحظی الصّلاة، من بین العبادات بأهمیّة خاصّة، وتعدّ أفضل طریق وأکثره تأثیراً للوصول إلی الحقّ تعالی، فالصّلاة إقرار بالتوحید واعتراف بعظمة وجلال الباری تعالی ومالکیّته یوم الجزاء والثواب، والصّلاة هی تنزیه اللّه تعالی من کلّ نقص وعیب وتتضمّن جمیع مظاهر الحمد والثناء الخاصّة بالباری تعالی، وبالصّلاة نصل إلی هذه العقیدة، وهی أنّه لا موجود إلّااللّه تعالی یستحق الحمد والثناء، فجمیع أشکال الحمد والثناء تعود لحمده وثنائه، والصّلاة هی الوصول إلی التوحید الجامع والابتعاد والبراءة من کلّ شرک، والصّلاة إقرار بعظمة الباری تعالی، وأنّه لا موجود آخر غیره یستحق العظمة والکبریاء، والصّلاة أفضل طریق للتسلط علی النفس والمادّیّات والشّهوات.

ولا یخفی أنّ الصّلاة المفیدة والصحیحة هی الصّلاة التی یتعرّف فیها المصلّی علی أسرارها ورموزها بدرجة معیّنة، وهذا الکتاب یستعرض زاویة من هذه الأسرار المستخلصة من الآیات القرآنیّة الشریفة وروایات الأئمّة المعصومین علیهم السلام.

والنقطة المهمّة هنا، إنّ جمیع المؤمنین والمصلّین یجب علیهم تفهّم هذه

ص:13

الأسرار واستحضارها دوماً، وینبغی علی الأقل فی کلّ عام مرّة واحدة استحضار هذه الأسرار ومطالعتها مرّة أخری، وأساساً یجب فی الأمور التربویّة وحالات السیر والسلوک المعنوی تکرار المبانی والتوصیات اللازمة لکی تتطبع النفس علیها وتتحوّل إلی مَلَکة، وبالنتیجة خلق واکتشاف أسرار جدیدة بواسطة هذه النفس المهذّبة.

وهذه المجموعة من المعارف بین یدی القاریء الکریم، تتضمّن بحوث ومسائل تمّ عرضها فی السنوات الماضیة فی مسائل الصّلاة وأسرارها وعلی شکل جلسات مختصرة فی إذاعة صوت المعارف للجمهوریّة الإسلامیّة الإیرانیّة، ومن الجلی أنّه فی مثل هذه البحوث لیس من المقرر بسط وتفصیل وتعمیق جمیع الأبعاد العلمیّة والمعنویّة للصّلاة، بل تمّت الإشارة بشکل واضح وسلس لبعض أسرارها وخفایاها، ولم یحدث فی هذا الکتاب أی تصرف کبیر فی العبارات والألفاظ حدّ الإمکان، لتبقی بشکل سلسل وبمنهج واضح ومیسور للجمیع.

وأخیر نتقدّم بالشکر الوافر للمسؤولین المحترمین فی المرکز الفقهی للأئمّة الأطهار علیهم السلام، وکذلک سماحة حجّة الإسلام والمسلمین الحاج الشیخ ماشاء اللّه استاد میرزا دامت تأییداته، لمساهمته فی تدوین وتنظیم هذا الکتاب، وکذلک نتقدّم بالشکر الجزیل لکلّ من سماحة السیّد أحمد النجفی والشیخ هاشم الصالحی اللذین أقدما علی ترجمة وتنظیم هذا الکتاب بهذه الصورة الجمیلة لتعمّ الاستفادة منه والاغتراف من منهله أکثر فأکثر، نأمل أن یساهم هذا الکتاب فی الارتفاع وترشید هذه العبادة المهمّة، إن شاء اللّه.

محمّد جواد فاضل اللنکرانی

1392/8/28 ش / 2013 م

ص:14

الفصل الأوّل: أمور عامّة حول أسرار الصّلاة

اشارة

ص:15

ص:16

1- ضرورة التعرّف علی أسرار الصّلاة

إنّ أحد المواضیع المهمّة والمؤثرة جدّاً فی البحوث العلمیّة والمعنویّة، بحث أسرار الصّلاة، والالتفات إلی هذا البحث والتعمّق فیه یحقّق للمصلّی مراتب ومقامات ومنازل فی خطّ السلوک المعنوی، وللأسف فإنّ الغفلة عن أسرار الصّلاة أدّی إلی أن تفقد الکثیر من صلواتنا التأثیر المطلوب والإیجابی فی وجودنا وفی حیاتنا الاجتماعیة فی المجتمع الإسلامی، فلو أننا التفتنا إلی أسرار الصّلاة وأقمنا الصّلاة مع معرفة هذه الأسرار ومع الأخذ بنظر الاعتبار وجود مثل هذه الحقائق، فإنّ الکثیر من مشکلاتنا الفردیّة والاجتماعیّة سوف تحلّ بل سوف تنکشف الأجوبة عن بعض الأسئلة التی تدور فی أذهان الکثیر من المؤمنین، وعادة یتبادر إلی أذهان شیعة أمیرالمؤمنین علی بن أبی طالب علیه أفضل صلوات المصلّین هذا السؤال، وهو: کیف أنّ الإمام علیه السلام عندما أخرجوا سهماً من قدمه وهو فی حال الصّلاة فإنّه استمر فی صلاته وکان غارقاً فی حالة من التوجّه إلی اللّه والاستغراق فی صفاته وأسمائه الحسنی بحیث إنّه لم یلتفت

ص:17

ولم یشعر بهذا السهم، ولکن نفس هذا الإمام علیه السلام عندما سمع وهو فی حال الصّلاة صوت مسکین نزع خاتمه المبارک ودفعه إلی ذلک المسکین؟

عندما نلتفت إلی أسرار الصّلاة فسوف نجد الجواب عن کلّ هذه الأسئلة، وهذه الشبهات إنّما لا نجد لها حلّاً فیما لو اکتفینا بالحضور الظاهری للصّلاة، ولم نبحث فی بواطن هذه المرحلة الظاهریّة ولم نتعقل الحقائق والأسرار الکامنة فیها، ولو نظرنا إلی الصّلاة من حیث الظاهر فسوف لا نجد الجواب عن هذا السؤال، ولکن لو دققنا إلی باطنها، فسوف لا نجد أی تعارض بالنسبة للشخص الغارق فی التوجّه إلی اللّه تعالی ویعیش حالة من مقام الشهود العظیم، بین هذا التوجّه العمیق للّه تعالی وبین إعطائه الخاتم لذلک المسکین، لأنّ هذا الإنفاق والصدقة تقع فی ضمن هذا المسار ویترتّب علیها المزید من التقرّب إلی اللّه تبارک وتعالی، وأساساً بما أنّ الإمام علی علیه السلام کان یعیش حالة الذوبان فی جمال الحقّ تعالی، ینبغی أن یؤدّی ما علیه لتحقیق رضا اللّه تعالی، والاجابة لطلب ذلک المسکین والتوجّه إلیه یقع ضمن هذا المسار.

وعلی هذا الأساس یتبیّن أننا لو التفتنا إلی أسرار الصّلاة فسوف نجد الاجابة عن هذه الأسئلة التی تطرح فی مجال العلاقة والرابطة مع الصّلاة، إنّ أسرار الصّلاة لا یمکن استعراضها فی فترة قصیرة ومختصرة ولا یمکن التعرّف علیها وبیان زاویة منها، إنّ أسرار الصّلاة تمثّل معارف وحقائق غیر محدودة ولا یمکن تبینها فی عدّة جلسات أو عدّة کتب، بل یمکن القول: إنّ الصّلاة لها أسرار مختلفة باختلاف الأشخاص، ولها حقائق متعددة باختلاف القلوب والضمائر لأفراد البشر، وسوف نسعی فی هذه البحوث لطرح بعض زوایا وخفایا هذا البحث ونأمل أن نستطیع بفضل الباری تعالی ولطفه بیان بعض جوانب من هذه الأسرار بحیث عندما نقف فی الصّلاة بین یدی الباری تعالی نشعر باللذة والبهجة إلی

ص:18

درجة أننا لا نمل أبداً من الصّلاة، وتقع هذه الصّلاة مورد رضا الباری تعالی بحیث إنّه یباهی بها الملائکة، ومن شأن الالتفات والتوجّه إلی أسرار الصّلاة أن یُوجد تحوّلاً إن شاء اللّه فی حیاتنا ویؤثر بشکل فاعل وإیجابی فی فکرنا وروحنا وعلاقاتنا الاجتماعیة وجمیع أمورنا.

ص:19

2- أدّلة وجود أسرار الصّلاة

تقدّم فی البحث السابق، أنّ الصّلاة لها أسرار، وأحد الأسئلة التی تتبادر إلی ذهن کلّ شخص أنّه ما هو الدلیل علی أنّ الصّلاة لها أسرار؟ بدایة یجب علینا بیان هذه النقطة، وهی: هل هناک أسرار خارج دائرة هذه الأفعال الظاهریّة (القیام والرکوع والسجود والتشهد والتسلیم) أم لا؟ وقبل الإجابة عن هذا السؤال یجب الالتفات إلی أنّ مقصودنا من سرّ الصّلاة هو باطن الصّلاة، فأسرار الصّلاة یعنی باطن الصّلاة کما ورد بالنسبة للقرآن الکریم وفی روایة عدّة أنّ القرآن له ظاهر وباطن، والمراد من «السرّ» فی هذا المورد الباطن، والسرّ لا یعنی الخفاء حتّی یقال هنا أنّ السرّ یعنی الاُحجیّة الخفیّة، فالمقصود من سرّ الصّلاة هی تلک الحقیقة التی تقع وراء هذه الأفعال العبادیّة وتتجلّی فی عالم آخر.

والسؤال هو: ما هو الدلیل علی أنّ هذه الصّلاة لها أسرار؟ وللاجابة عن هذا السؤال لابدّ من بیان ثلاثة أمور:

الأمر الأوّل: وجود دلیل عقلی مبنیّ علی أنّ کلّ شیء فی هذا العالم له سرّ

ص:20

وباطن «لِکّلّ ظاهِرٍ باطِن»، وبحسب البراهین العقلیّة التی ذکرها کبارنا فی کتبهم ومسطوراتهم الفلسفیّة أنّ کلّ موجود طبیعی فی هذا العالم له وجود مثالی فوق هذا العالم، وفوق کلّ موجود مثالی یوجد أیضاً موجود عقلی، وحتّی بحسب مبانی الحکمة المتعالیة وقاعدة «بسیطُ الحقیقة کلّ الأشیاء» هناک عالم رابع یمکن تسمیته بعالم «الاُلوهیّة»، ولکن هذه العوالم الثلاثة المعروفة «عالم الطبیعة، وعالم المثال، وعالم العقل» مترتبة بشکل طولی، بمعنی أنّ ما یوجد هذا العالم من قبیل الإنسان، التراب، الجماد، والنبات، له وجود مثالی فوق هذا الوجود المادی ویتمتع بحقیقة أسمی وأعلی، ولکلّ مرتبة معینة من الوجود، فإنّ العقل یحکم بأنّ کلّ ما یقع فی المرتبة الدانیة فهو مسبوق بوجود أعلی ومرتبة عالیة، وکلّ شهود مسبوق بغیب، فما لم یکن العالی فإنّ الدانی لا یتحقّق، وما لم یکن هناک غیب فلا یکون معنی للشهود، فکلّ ظاهر بحسب العقل له باطن وحقیقة، وعلی أساس هذا الدلیل العقلی فإنّ الأمور التی یقوم بها الإنسان فی هذا العالم من حرکات وأفعال سواءٍ کان أفعال حسنة أم أفعال سیّئة، لها باطن وحقیقة، وهذه الحقیقة موجود فی عالم آخر وسوف تظهر فی یوم القیامة وربّما فی عالم البرزخ، وقد فی الروایات مسألة بعنوان تجسم الأعمال، وتجسم الأعمال هو انکشاف الحقیقة والباطن لکلّ عمل یرتکبه الإنسان فی هذا العالم، فأصغر وأقل عمل یقوم به الإنسان فی هذا العالم له حقیقة وباطن سوف یظهر ویتجسم فی عالم البرزخ، وسواءً کانت أعمال جیدة أم سیّئة، ذنوب أم حسنات.

وحسب هذا البرهان العقلی فإنّ لکلّ ظاهر باطن، ولکلّ شهود غیب، والصّلاة بدورها لها باطن، ولا ینبغی أن نتصوّر أنّ الأعمال التی مؤدّیها بحسب الظاهر منفصلة ومنفکة عن العوالم الأخری، ولا یوجد أی شیء لها فی العوالم الأخری، العقل یقول بأنّ هذا العمل له حقیقة وراء هذه الحرکات الظاهریّة وله باطن،

ص:21

وأساساً فإنّ هذا الظاهر وجد لغرض الوصول إلی ذلک الباطن، فظواهر العبادات هی من أجل الوصول إلی تلک البواطن والحقائق.

وعلی هذا الأساس عندما نراجع عقولنا، فإنّ العقل یقدّم لنا قاعدة کلیّة بأنّ لکلّ ظاهر باطن، ومن هذه الجهة ینبغی الالتفات إلی أنّ صلاتنا لها باطن، وینبغی أن نتعمّق فی هذه الحقیقة وهی أنّ وراء کلّ فعل یصدر منّا حقیقة معینة یجب علینا اکتشافها والاستفادة منها والوصول من ذلک الظاهر إلی هذا الباطن... نوّر اللّه قلوبنا جمیعاً بنور الإیمان والعبادة والعبودیة.

ص:22

3- أهمیّة إدراک باطن الصّلاة

«فَسُبْحانَ الَّذِی بِیَدِهِ مَلَکُوتُ کُلِّ شَیْ ءٍ...» (1).

ذکرنا أنّ العقل یدرک بأنّ لکلّ ظاهر باطن، ولکن بالإضافة إلی الدلیل العقلی فإنّ القرآن الکریم یقرّر هذه الحقیقة فی آیات عدیدة بأنّ لکلّ شیء فی عالم الطبیعة ملکوت، وذلک فی قوله تعالی: «فَسُبْحانَ الَّذِی بِیَدِهِ مَلَکُوتُ کُلِّ شَیْ ءٍ...» ؛ وهذه الآیة تدلّ علی أنّ کلّ شیء فی هذا العالم له وجود ملکوتی، والملکوت هو باطن الشیء، ولکلّ إنسان ملکوت، والأرض لها ملکوت، والسماء لها ملکوت، وأعمال الإنسان لها ملکوت، ومن جملة الأمور التی لها ملکوت هی الصّلاة، فالصّلاة أحد الأعمال التی یأتیها الإنسان فی واقع الحیاة، ولذلک لها صورة ملکوتیّة.

فیقول تعالی فی سورة المؤمنون الآیة 88: «قُلْ مَنْ بِیَدِهِ مَلَکُوتُ کُلِّ شَیْ ءٍ...» ، إنّ الأمور المختصّة باللّه تبارک وتعالی هو أنّه یملک باطن کلّ شیء، فلو تصوّرنا

ص:23


1- (1) سورة یس، الآیة 83.

بحسب الظاهر أنّ أعمالنا الظاهریّة تصدر من قدرة وتدبیر الإنسان واختیاره «وحتّی فی هذه الأعمال الظاهریّة نحتاج فیها یقیناً إلی عنایة الباری تعالی ولطفه وإرادته وبدون ذلک فإننا لا شیء»، أمّا فی باطن العمل فلا توجد قدرة وإرادة غیر قدرة اللّه تعالی وإرادته ومشیئته، فهو الذی یستطیع أن یتصرف فی باطن الأعمال علی أساس التوسعة والتضییق، ویقوم بزیادة أو نقیصة بواطن الأعمال المختلفة للأشخاص، لأنّ کلّ باطن وملکوت کلّ شیء یقع تحت تصرّف وقدرة الباری تعالی.

وتقول الآیة الأخری: «وَ کَذلِکَ نُرِی إِبْراهِیمَ مَلَکُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِیَکُونَ مِنَ الْمُوقِنِینَ»1.

وتقول الآیة: «وَ إِنْ مِنْ شَیْ ءٍ إِلاّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلاّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ»2 ، وهذا یعنی أنّ هذه الصّلاة التی نؤدّیها بحسب الظاهر هی فعل یستغرق عدّة دقائق من الوقت، وهو وقت قصیر والإنسان لا یتصوّر أنّ هذا العمل یرتبط بشیء قبله وبعده، ولکن هذه الأعمال ترتبط بالحقیقة بما وراء هذا الظاهر، وهذه الحقیقة موجودة عند اللّه تبارک وتعالی، ونحن بوسیلة هذا الظاهر نرید التوصل إلی ذلک الباطن وتلک الحقیقة.

وعلی هذا الأساس فبالإضافة إلی الدلیل العقلی، فإنّ القرآن الکریم یدلّ علی هذا المعنی بجلاء، وهو أنّ جمیع الأمور فی هذا العالم لها ملکوت، ونحن وخاصّة فی باب الصّلاة نملک روایات کثیرة تقرّر أنّ جمیع تفاصیل هذا العمل مرتبط بلطف اللّه وعنایته، وکما وردت الإشارة إلی ذلک فی کتب علماؤنا العظام من أنّ جمیع حالات الصّلاة من مقدّماتها کالوضوء والطهارة والأمور المقارنة لها، وکذلک منافیات الصّلاة إلی تعقیباتها، لها جمیعاً أسرار، وقد ذکر هؤلاء

ص:24

العلماء أسراراً لتکبیرة الإحرام، وأسراراً للنیّة، وأسراراً للقراءة، وما هو السرّ فی قیام الإنسان للصّلاة بین یدی الحقّ تعالی؟ وما هی الأسرار الکامنة فی الرکوع والسجود، وهذه الروایات نفسها تعتبر دلیلاً جلیّاً علی هذه الحقیقة، بمعنی أننا لو لم یکن لدینا دلیل عقلی، ولو لم تکن الآیات القرآنیّة تقرّر أنّ لکلّ شیء باطن وسرّ، فإننا نستنبط من الروایات المعتبرة الواردة فی کتبنا أنّ للصّلاة أسراراً کامنة فی هذه الأعمال الظاهریّة.

ونشیر فی هذا البحث إلی هذا الحدیث الشریف عن أمیرالمؤمنین علیه السلام إذ یقول:

«مَنْ تَوَضّأ مِثلَ وُضُوئِی وَقَالَ مَثلَ قَولِی خَلَقَ اللّهُ تَبَارَکَ وَتَعالی مِنْ کُلِّ قَطرَةٍ مَلَکَاً یُقَدِّسُهُ وَیُسَبِّحُهُ وَیُکَبِّرُهُ فَیَکتُبُ اللّهُ عَزَّوَجَلَّ ثَوابَ ذَلِکَ لَهُ إِلی یَومِ القِیامَةِ»(1).

وهذا شاهد علی وجود أسرار فی الطهارة، فعندما یتوضأ الإنسان ویجری الماء علی وجهه وعلی یدیه وتقطر من ذلک الماء قطرات، فالإمام أمیرالمؤمنین علیه السلام یقول إنّه لو کان وضوء الشخص مثل وضوئی ویقول مثل قولی فإنّ اللّه تبارک وتعالی یخلق من کلّ قطرة من ماء الوضوء ملکاً یقدّس اللّه ویسبّحه ویکبّره، وهکذا نری النتیجة المترتبة علی هذا الباطن، بأنّ هذا الملک یسبّح اللّه تعالی إلی یوم القیامة ویکون ثواب ذلک لهذا الشخص المتوضیء.

ومن هنا نعلم أنّ جمیع أجزاء الصّلاة والأمور المترتبة علیها من شروط الصّلاة ومقدماتها ومقارناتها ومنافیاتها وتعقیباتها لها أسرار، ویجب أن نسأل اللّه تعالی أن یکشف لنا هذه الحقائق والأسرار.

ص:25


1- (1) من لا یحضره الفقیه، ج 1، ص 413.

4- موارد اختلاف باطن الأعمال

ینبغی فی هذا البحث الموجز أن نبیّن المقصود من «أسرار الصّلاة»، هو وجود معنی عام وشامل لجمیع ما یذکر تحت عنوان «أداب الصّلاة» فی الکتب الأخلاقیّة والعرفانیّة، وربّما یشمل الحِکم المذکورة للصّلاة فی الروایات الواردة، ولا یخفی علی أهل الفن أننا نستطیع التمییز بین أسرار الصّلاة وآدابها وحِکمها، فالحکمة فی الصّلاة هی الغایات المرتبة علی الصّلاة، من قبیل: إنّ الصّلاة معراج المؤمن، وتنهی عن الفحشاء والمنکر، وهذه الأمور تعتبر من فوائد وغایات الصّلاة وحکمتها، ورغم وجود بحث أخلاقی فی الصّلاة من خلال التوجّه العمیق للّه تعالی والنیّة الخالصة فی هذه العبادة بعیداً عن أی شکل من أشکال الریاء، والأهم من ذلک حضور القلب وخشوعه، کلّ هذه تذکر بعنوان آداب الصّلاة، أمّا السرّ والأسرار فی الصّلاة فلها معنی فوق هذه المعانی، ولکننا فی هذا البحث سوف نسلک مسلک الکبار کالمرحوم الشهید الثانی رضوان اللّه تعالی علیه، ونستعرض المعنی العام لسرّ الصّلاة.

ص:26

المسألة المهمّة هنا أنّ أسرار الصّلاة تختلف باختلاف الأفراد والأزمنة، فالصّلاة التی یؤدیّها شخص جاهل لا یمکن مقایستها فی مجال السرّ والباطن والحقیقة مع صلاة العالم، والصّلاة یؤدیّها المؤمن فی أوّل الوقت تختلف کثیراً عن الصّلاة فی آخر الوقت، کما ورد فی الروایات:

«إِنَّ الصَّلاةَ إذَا ارتَفَعَتْ فِی أَوَّلِ وَقتِها رَجَعَتْ إِلی صَاحِبِها وَهِی بِیضاءٌ مُشرِقَةٌ تَقُولُ حَفِظتَنِی حَفِظَکَ اللّهُ وَإذَا إِرتَفَعَتْ فِی غَیرِ وَقتِها بِغَیرِ حُدُودِها رَجَعَتْ إِلی صَاحِبِها وَهِی سَوداءٌ مُطلِمَةٌ تَقُولُ ضَیعتَنِی ضَیَّعَکَ اللّهُ»(1).

نستوحی من هذا الحدیث الشریف أنّ الصّلاة فی أوّل وقت لها باطن، والصّلاة فی آخر الوقت لها باطن آخر، وأنّ صلاة العالم لها باطن وصلاة الجاهل لها باطن آخر، وقد ورد فی روایة عن الإمام علیّ بن الحسین علیهما السلام، الذی یلقّب بالسجّاد وزین العابدین فی عبادته، وبحسب ما ورد فی الروایات المعتبرة أنّ هذا الإمام علیه السلام کان یصلّی فی کلّ یوم ألف رکعة، یقول:

«رَضِیتُ أَنْ یَکُونَ جَمِیع هَذِهِ الصَّلوات مُقابلة لِرُکعتَینِ مِنْ صَلاةِ أَمِیرِ المُؤمِنین».

یعنی أنّ باطن صلاة أمیرالمؤمنین علیه السلام تختلف حتّی مع باطن صلاة الإمام زین العابدین علیه السلام، وکذلک فإنّ باطن صلاة أمیرالمؤمنین علیه السلام لا یقبل المقارنة مع صلاة النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله.

والصّلاة فی المسجد لها باطن یختلف عن باطن الصّلاة فی المنزل، والصّلاة فی المسجد الحرام والصّلاة فی مسجد النّبی لها باطن آخر، والسرّ فی أننا نری فی الروایات أنّ المؤمن لو صلّی فی المسجد الحرام فإنّ صلاته تعادل مائة ألف رکعة من صلاته، أو أنّ الصّلاة فی مسجد النّبی لها ثواب عشرة آلاف رکعة فی

ص:27


1- (1) الکافی، الطبعة الإسلامیّة، ج 3، ص 268.

غیره، وذلک أنّ باطن هذه الصلوات مختلف، وإلّا لا فرق بینها بحسب الظاهر؟ فربّما تکون صلاة المؤمن فی مسجد النّبی مطولة وتکون القراءة فیها جیدة ویقرأ سور قرآنیّة مطولة، ولکن مع ذلک فإنّ باطن هذه الصّلاة یختلف عن باطن الصّلاة فی المسجد الحرام، یعنی کما أنّ اختلاف المقام یوجب اختلاف بواطن الصّلاة، فإنّ اختلاف الزمان یوجب أیضاً اختلاف بواطن الصّلاة وحقیقتها.

وعلی هذا الأساس ینبغی الالتفات إلی أنّ باطن الصّلاة لیس أمراً ثابتاً، فما ورد فی الحث علی أن تکون الصّلاة مع جماعة لأنّ صلاة الجماعة تختلف فی باطنها عن صلاة الفرادی، أو ما ورد من التوصیة بضرورة الصّلاة فی المسجد، فرغم أنّ الصّلاة فی المسجد ومع الجماعة لها فوائد ومنافع ظاهریّة کاجتماع المسلمین والتوحّد والتکاتف بینهم وما یترتّب علی ذلک من تقویة العزّة للمسلمین، ولکن الصّلاة فی بیت اللّه الحرام، حتّی لذلک الشخص الذی یصلّی لوحده فی المسجد الحرام بدون جماعة فإنّ هذه الصّلاة الفرادی فی المسجد الحرام تختلف فی باطنها مع الصّلاة الفردی التی یؤدیها المصلّی فی داره، وینبغی الالتفات إلی أنّ اللّه تعالی قد وهب هذا المؤمن عطیة وهدیة کبیرة جدّاً، فلو أننا التفتنا إلی هذه النعمة العظیمة وفهمنا کیفیة الاستفادة الأفضل من مصادیق هذه النعمة وجعلنا من أنفسنا من أفضل مصادیق المصلّین فإنّ اللّه تبارک وتعالی سیکشف لنا الحقائق الغیبیة فی هذه الصّلاة علی قلوبنا، وینبغی الاعتقاد بأنّ الإنسان لو أدّی صلاته مع الالتفات إلی أسرارها والحقائق الکامنة فیها فإنّ الکثیر من مشکلاته ستنحلّ ویؤدّی ذلک إلی تعالیه فی طریق السیر والسلوک إلی اللّه تعالی وتبتعد عنه الکثیر من الرذائل الأخلاقیّة والأخطاء الفکریّة، ولکن لو صلّینا بدون التوجّه إلی هذه الأسرار والحقائق فسوف نضیع أنفسنا وصلاتنا معاً، نسأل اللّه تبارک وتعالی أن یجعلنا جمیعاً من المصلّین الحقیقیین.

ص:28

5- الصّلاة طریق الوصول إلی الحقائق

یقول الإمام الحسن العسکری علیه السلام: «إِنَّ الوُصُولَ إِلی اللّهِ عَز وَجلّ سَفَرٌ لا یُدرَکُ إِلّا باِمتِطاء اللّیل»(1)

لا یتیّسر الوصول إلی حقائق الصّلاة وأسرارها من غیر طریق الصّلاة نفسها، فلو تصوّر شخص إمکان وجود طریق للوصول إلی هذه الأسرار غیر طریق الصّلاة فهو واهم، فمن أجل الوصول إلی باطن الصّلاة ینبغی فقط العبور من ظاهرها إلی الباطن، ووجوب إقامة الصّلاة بجمیع شروطها ورعایة، ومن هذه الجهة ورد عن الإمام الحسن العسکری علیه السلام یقول: «إِنَّ الوُصُولَ إِلی اللّهِ عَز وَجلّ سَفَرٌ لا یُدرَکُ إِلّا باِمتِطاء اللّیل».

وفی الحقیقة أنّ الصّلاة هی أحد الوسائل لهذا السفر.

فی هذه الروایة ورد أنّ الوصول إلی اللّه تعالی هو باطن الصّلاة وهو شهود جمال المعبود والحقّ تعالی، فلماذا نشعر بالتعب والملل من صلاتنا؟ لأننا نغفل

ص:29


1- (1) بحار الأنوار، طبعة بیروت، ج 75، ص 380.

عن باطن الصّلاة، ولماذا تتسبّب الصّلاة أحیاناً بالامتعاض والثقل الظاهری ونحسبها تکلیفاً ثقیلاً علی أنفسنا؟ لأنّنا نؤدّی هذه الصّلاة بعیداً عن هذه السرّ والباطن والحقیقة الکامنة فیها.

لو إننا التفتنا جیداً إلی باطن الصّلاة وهو الوصول إلی اللّه تعالی، ولو أننا علمنا أنّ حقیقة الصّلاة هی مشاهدة المعبود، فحینئذٍ لا یشعر الإنسان بالتعب والملل من صلاته، فالسبب فی جمیع حالات التعب والملل ابتعادنا عن حقیقة الصّلاة، وأحیاناً یسأل البعض أنّ الأئمّة الطاهرین علیهم السلام کیف استطاعوا أن یصلّوا فی الیوم واللیلة ألف رکعة ونحن عندما نؤدّی هذه الرکعات القلیلة من صلاة الیومیّة نشعر بالتعب والثقل؟ والجواب یکمن فی هذه النقطة، وهی أنّ هؤلاء الأئمّة علیهم السلام کانوا یعیشون اللّذة والبهجة فی رؤیتهم لحقیقة الصّلاة وأنّ جمیع وجودهم مستغرق فی صلاتهم، ولذلک لا یشعرون بأی تعب أو ملل منها، لیس فقط الأئمّة الطاهرین علیهم السلام بل إنّ أصحاب الأئمّة علیهم السلام أیضاً یصلون إلی هذه المرتبة أحیاناً وترون أنّ الشیخ «الکشفی» وهو أحد علماء الرجال عندما یتحدّث عن الزهاد الثمانیة، أی الأشخاص المعروفین بالزهد فی ذلک الوقت وهم ثمانیة مثل: اویس القرنی، عامر بن عبدقیس و...، فإنّه یذکر أحدهم واسمه الربیع، وینقل حکایة عن سیرته ویقول: «کان یسهر باللیل إلی الفجر فی رکوع واحد»(1) ، وهذا الشخص أحد أصحاب أمیرالمؤمنین علیه السلام ومن الذین تربّوا فی مدرسته، وعندما یصبح الصباح یتأوه ویقول: «آه سبق المخلصون وقطع بنا»، أی أننا تخلفنا عن طریق الوصول إلی اللّه تعالی واستطاع المخلصون سلوکه، هذه «آه» عباد اللّه المخلصین.

لو أجریتم مقارنة بیننا وبینهم فنحن نطلق کلمة «آه» فیما یتّصل بالأمور

ص:30


1- (1) . مصباح الشریعة، ص 62.

المادیّة الفانیة، ونتأوه من فقدان المقام والثروة والسلطة، أمّا عباد اللّه المخلصین فإنّهم یتأوهون فی مجالات أخری، هذه الکلمة «آه» تعلّموها من مولی المتقین أمیرالمؤمنین علیه السلام عندما قال: «آه مِنْ قِلَّةِ الزَّادِ، وَطُولِ الطَّرِیقِ، وبُعدِ السَّفرِ»(1).

إذن فعندما یفهم المؤمن أسرار الصّلاة ویلتفت إلیها فإنّه لا یرغب فی إتمامها، فلو أنّه اشتغل بالصّلاة من أوّل اللّیل إلی طلوع الفجر، وهو وقت خاص لیکون للصّلاة باطن، فإنّه عندما یری طلوع الفجر وانتهاء اللّیل یتحسّر ویتأوه بسبب أنّه فَقَد هذه الحالة المعنویّة، وعلی هذا الأساس فإنّ التوجّه لأسرار الصّلاة هو الذی یوصل الإنسان إلی مرتبة الحقّ تبارک وتعالی.

وجاء فی روایة عن الإمام الحسن العسکری علیه السلام أنّه قال: «الوُصُولَ إِلی اللّهِ عَز وَجلّ»، وهذا یعنی أنّ الوصول إلی اللّه موفّر وله طریق، وبإمکاننا کأشخاص عادیین الوصول إلی اللّه تعالی أیضاً، ولکنه «سَفَرٌ»، هذا السفر یعنی الحرکة والعمل والسعی، «لا یُدرَکُ إِلّا باِمتِطاء اللّیل»، فالصّلاة فی جوف اللّیل تعتبر طریقاً معبّداً للوصول إلی اللّه تعالی، وقلنا إنّ لکلّ صلاة باطن خاص، فالصّلاة الواجبة لها باطن، والصّلاة المستحبّة لها باطن آخر، وصلاة اللّیل لها باطن وصلاة النّهار لها باطن آخر، ولکن لا ینبغی الغفلة عن هذه الحقائق، ولا ینبغی أن نسمح لعمرنا بالانتهاء ونحن فی غفلة من هذه الحقائق، فهی خسارة عظیمة جدّاً.

ص:31


1- (1) نهج البلاغة، (صبحی الصالح)، ص 481؛ بحار الأنوار، طبعة بیروت، ج 34، ص 285.

6، 7- الصّلاة جامعة لأسرار جمیع العبادات

یقول الإمام الباقر علیه السلام: «أَوَّلُ مَا یُحاسَبُ العَبدُ عَلَیهِ الصَّلاةُ فإِنْ قُبِلَتْ قُبِلَ مَاسِواها وإِنْ رُدَّتْ رُدَّ مَاسِواها»(1)

تعتبر الصّلاة أهم عبادة من بین العبادات التی قرّرها اللّه تبارک وتعالی للبشر، ومن هذه الجهة فإنّ «أسرار الصّلاة»: تعدّ أهم الأسرار، وربّما تکون الصّلاة جامعة لجمیع أسرار العبادات الأخری کلّها، وقد وردت روایات مشهورة فیما یتّصل بالصّلاة أنّ الإنسان فی یوم القیامة إذا قبل اللّه تعالی صلاته فسوف تقبل بقیة أعماله الأخری، وإن کانت هذه الأعمال ناقصة فإنّ اللّه تعالی سیغض النظر عن ذلک، ولو لم یقبل اللّه تعالی صلاة الشخص فإنّ سائر أعماله لا تکون مقبولة حتّی لو جاء بها الشخص بشکل کامل وصحیح: «إِنْ قُبِلَتْ قُبِلَ مَاسِواها وإِنْ رُدَّتْ رُدَّ مَاسِواها»، هذه العبارة تشیر إلی أنّ الصّلاة تعدّ أهم العبادات، والإنسان العابد لا یمکنه أن یتقرّب إلی اللّه تبارک وتعالی بأی وسیلة أخری مثل الصّلاة، ولعل ما

ص:32


1- (1) فلاح السائل، ص 127.

جاء فی بعض الروایات أنّ اللّه تعالی ینظر إلی عبده عندما یقف للصّلاة ویباهی الملائکة بعمل هذا المؤمن، کلّ ذلک یکشف عن وجود أسرار خاصّة فی الصّلاة، بحیث لا تقبل المقارنة مع سائر العبادات الأخری، ولو أنّ الإنسان نال التوفیق لعبادة الحقّ تعالی وأراد تحقیق العبودیّة والطاعة للّه فإنّه لا شیء کالصلاة یحقّق له هذا المعنی، وأساساً فإنّ الصّلاة من بین العبادات تعتبر أحبّ عبادة إلی اللّه تعالی ولا شیء مثل الصّلاة له قیمة عند اللّه، ومن هذه الجهة إذا اهتمّ الإنسان بصلاته واعتبر أنّ الصّلاة رکناً أساسیاً فی حیاته، فسوف یحظی بمرتبة مهمّة عند الباری تعالی.

لماذا کان الأئمّة المعصومون علیهم السلام یهتّمون ویکثرون من الصّلاة إلی هذه الدرجة، بحیث إنّه ورد فی الروایات أنّهم کانوا یصلّون فی الیوم واللیلة ألف رکعة؟ الإنسان عندما یلتفت إلی أسرار الصّلاة ولو بشکل إجمالی ویفرغ ذهنه عن سائر الأمور الأخری أثناء الصّلاة فهو بمثابة الشخص الذی وجد ضالّته وحصل علی ما یبتغیه فی حیاته ممّا یدفعه ذلک إلی الإکثار منها، یجب أن تکون صلاتنا بهذه الصورة، یجب أن نشعر باللذة والبهجة من الصّلاة، بل یجب أن نشعر بالراحة وزوال التعب فی حال الصّلاة وتکون استراحتنا من الأعمال الأخری فی الصّلاة، لأنّ هذه الصّلاة من شأنها أن تزیح غبار الظلمة والتلوث فی الأمور الدنیویّة عن أنفسنا وتطهّر قلوبنا وتخفّف من مشاکلنا ومعاناتنا، فالإنسان وببرکة صلاة واحدة تتوفّر فیها الشروق والتوجّه القلبی إلی أسرارها یمکنه أن یجد الحلول لمشاکله الأخری.

لماذا نجد أنّ بعض شبابنا وفی عزّ الشباب یبتلون ببعض المشاکل الروحیة والأزمات النفسیّة؟ لماذا لا نحلّ مشاکلنا النفسیّة بالصّلاة؟ أیّها الإخوة والأخوات، عندما نجد کلّ هذه الأهمیّة من قِبل اللّه تعالی للصّلاة، فلو أننا التفتنا

ص:33

إلیها بمقدار العُشر فإنّ الکثیر من مشاکلنا ستنحلّ، إنّ الأکابر من علمائنا کانوا یحلّون معضلات العلوم والمسائل الفلسفیّة الغامضة ببرکة الصّلاة، إنّ روح الإنسان وبواسطة الصّلاة، لیس فقط تتطهر من لوث الذنوب والمعاصی، بل من حالات الجهل، وتجد روح الإنسان تصفیة وتنقیة فی حال الصّلاة بحیث تسکن وتهدأ وتزول عنها حالة التوتّر وبالتالی تنکشف لها الحقائق العلمیّة بسهولة، فالروح المظلمة والمکدّرة لا تستطیع حلّ أبسط المسائل الجزئیّة.

وعلی ضوء ذلک یجب أن نهتم کثیراً بالصّلاة، ولا یجدر بنا أن نبلغ من العمر خمسین أو سبعین سنة ونکون لا سامح اللّه مشمولین بهذه الروایة الواردة عن الإمام الصادق علیه السلام حیث قال: «وَاللّهِ إِنّهُ لَیأَتِی عَلَی الرَّجُلِ خَمسُون سنة وَمَا قَبِل اللّهُ مِنْهُ صَلاةً وَاحِدة فَأَیُّ شَیٍّ أَشدُّ مِنْ هَذا»(1).

فاللّه تعالی لیس من شأنه أن یشدّد علی الناس الأمور العبادیّة، ولکننا قد أوجدنا فی نفوسنا الشقاوة والظلمة بحیث إنّ الإله الکریم المطلق لا یقبل منّا هذه الصّلاة والأعمال العبادیّة مدّة خمسین سنة، تعالوا نهتمّ بهذا الأمر ونحاسب أنفسنا علی ما مضی من عمرنا ونسعی لما تبقی من العمر للسعی وبالاستمداد من لطف اللّه وعنایاته أن تکون أعمالنا مقبولة من الحقّ تعالی.

ص:34


1- (1) الکافی، الطبعة الإسلامیّة، ج 3، ص 269.

8- الصّلاة معیار الإیمان والتوحید

إنّ أحد الأهداف المرسومة للصّلاة هو الوصول إلی مرتبة معرفة اللّه، وأساساً لو أنّ الإنسان أراد أن یقیس میزان تدینه ومعرفته باللّه ویری هل أنّه صار من جملة المؤمنین والموحّدین أم لا؟ فإنّه یمتحن نفسه من خلال الصّلاة ویری مقدار حبّه وارتباطه القلبی بالصّلاة. هل أنّه یشعر عندما تنتهی الصّلاة بالراحة والفرح بأنّه انتهی من صلاته لیفرغ لسائر أعماله الأخری أو أنّه یتحسّر علی انتهاء الصّلاة وانتهاء مدّة اتّصاله مناجاته للّه تعالی، ولا یعلم هل أنّه سیُوفّق فیما بعد للصّلاة والوقوف بین یدی اللّه تعالی أم لا؟ الصّلاة تعدّ أفضل وسیلة یستطیع من خلالها الإنسان أن یری مراتب التوحید فی نفسه، تلک المراتب التی تحدّث عنها الأکابر والأولیاء وهی: التوحید الذاتی، التوحید الصفاتی، التوحید الأسمائی، التوحید الأفعالی، فکلّ هذه المراتب من التوحید یستطیع الإنسان من خلال معیار الصّلاة أن یکتشفها فی نفسه.

إنّ الغایة من الصّلاة هی أن ینقطع الإنسان عن جمیع الأمور الأخری ویری

ص:35

الجمال المطلق للحقّ تعالی بعین الشهود، وللصّلاة أحکام ظاهریّة وبعض الأمور السطحیّة من قبیل: الوضوء، أرکان، وشروط الصّلاة، وتعتبر المرتبة الأدنی من شروط الصّلاة التی یجب علی الإنسان توفیرها وإیجادها.

ولکن علماء الأخلاق الکبار وعرفائنا، صرّحوا بوجود موارد أخری بعنوان الجهاد الأکبر وجهاد النفس وفی خصوص عبادة الباری تعالی فهو من الجهاد الأوسط، یعنی بعد رعایة المراتب الظاهریّة للصّلاة، تصل النوبة إلی الجهاد المستمر للنفس وتهذیبها وإزالة غبار الشهوات والتلوّث بالنوازع والرغبات الدنیویّة والغفلة وأمثال ذلک، یعنی أن یطهّر الإنسان نفسه ممّا سوی اللّه تعالی، وهذا عمل مشکل جدّاً جدّاً، وربّما یکون محالاً لأمثالنا.

ولکن الموجود فعلاً هو أنّ الجهاد الأکبر یعتبر مرتبة أعلی من جهاد النفس المستمر، وذلک بأن یترک الإنسان عقله وفهمه وعلمه جانباً أیضاً ویتحلّی بالإیمان وبعشق اللّه تعالی، فلا ینبغی أن تقول أنا اصلّی لأنّنی أعلم بأنّ اللّه تعالی أمرنی بالصّلاة، هذه المرحلة جیدة، ولکن ینبغی أن تقول أنا اصلّی لأنّنی أعشق المناجاة والارتباط القلبی مع اللّه تعالی وأشعر بالإیمان الکامل باللّه تعالی، ولذلک ارید أن اعبر عن هذا العشق بواسطة الصّلاة، وهذا ما یعبّر عنه بغلبة الإیمان والعشق علی العقل.

وهکذا یقف الإنسان فی هذه الحالة من الإیمان القلبی والتصدیق الباطنی فی مقابل اللّه تعالی، فالصّلاة تعدّ حاجة ضروریّة للإنسان العاشق للّه تعالی، لماذا وردت التوصیة الأکیدة علی أنّ الإنسان عندما یواجه مشکلة فی حیاته ولو کانت أعقد المشاکل فإنّه ینبغی أن یصلی رکعتین؟ لأنّ هذا الشخص وبهذه الرکعتین سیحقق لنفسه ارتباطاً وثیقاً وعمیقاً مع الحقّ تعالی.

وقد ورد فی الروایات أنّ الإنسان عندما یقف للصّلاة بکامل اطمئنانه

ص:36

وحضور قلبه، فإنّ اللّه تبارک وتعالی سینظر إلیه ویقبل علیه، ویتکفّل جمیع أموره:

حَنِینُ قُلُوبِ العارِفِینَ إِلی الذِّکرِوَتِذکارِهم وَقتَ المُناجَاةِ للِسِّتْرِ

ادِیرتْ کُؤوسٌ للِمنایا عَلَیهِمُ فَاُغفوا عَنِ الدُّنیا کإغفَاءِ ذِی السُّکرِ

هُمُومُهُم جَوَّالةٌ بِمُعَسکِرٍبِهِ أَهلُ وُدِّ اللّهِ کالأَنْجُمِ الزُّهرِ

فَأَجسَامُهُمْ فِی الأَرضِ قَتلی بِجُبَّةٍ وَأَرواحُهُمْ فِی الحُجبِ نَحوَ العُلی تَسرِی

فَما عرّسُوا إِلّا بِقُربِ حَبِیبِهِموَما عَرَّجُوا عَنْ مَسِّ بُؤسٍ وَلا ضُرِ

ولو أنّ الإنسان أقبل علی اللّه فی حال الصّلاة وترک سائر الأمور خلف ظهره وکان یهدف من صلاته التقرّب إلی اللّه وشهود جمال الحقّ تبارک وتعالی، فإنّ مثل هذه الصّلاة ستکون معراجاً له إلی ساحة الحقّ تعالی.

نسأل اللّه تعالی أن یصفی قلوبنا بعبادته ویفتح لنا أبواب المعرفة بالصّلاة، وأن نشعر باللذة والبهجة الروحیّة من الصّلاة.

ص:37

9- الصّلاة سیر وسلوک نحو الحقّ

إنّ إحدی النقاط الأساسیّة التی یجب علی المصلّی الانتباه لها، هی أن یعلم أنّ الصّلاة سفر نحو الحقّ تبارک وتعالی، فالإنسان یرحل من هذا العالم ومن کائناته ومن الدنیا وما فیها وینفصل عن هذه الکثرات الظلمات ویتحرّک فی صلاته نحو الحقّ تعالی، وفی نهایة الصّلاة یعود إلی هذا العالم مرّة ثانیة وهو محمّل برأس مال عظیم من النورانیّة والإیمان والتوحید والشهود، ویلتفت إلی عباد الصالحین ویسلّم علیهم بقوله: «السّلام علینا وعلی عباد اللّه الصالحین»، وإذا أردنا أن نتحری الدقّة والعمق أکثر فی بیان معالم هذا السفر المعنوی فإنّ العرفاء والفلاسفة ذکروا أربعة أسفار للإنسان السالک وبیّنوا أنّ السالک یستطیع فی صلاته أن یسافر هذه الأسفار الأربعة:

السفر الأوّل: «السفر من الخَلق إلی الحقّ»، یعنی أن یتحرّک الإنسان فی سلوکه إلی اللّه تعالی من ذاته وینفصل عن الدنیا وما فیها ویبدأ هذا السفر بالنیّة، أی أنّه یقصد التقرّب إلی اللّه بهذه الصّلاة وامتثال أمره.

ص:38

السفر الثانی: «السفر من الحقّ إلی الحقّ بالحقّ» وهو السفر فی أسماء اللّه وصفاته، وهناک ینقطع الإنسان بشکل کامل عن الخلق والکثرات ویتحرّک فی سیره فی وحدة معنویّة بشکل لا متناهی وهذا السیر هو الذی یمنح السالک معرفة ببعض الأسماء والصفات الإلهیّة ویتعرّف علی عظمة اللّه وقدرته وکبریائه، وقدرته المطلقة، ویتطلع علی علم اللّه وحکمته، رحمانیّة اللّه ورحیمیّته، مالکیّة اللّه، ویسبّح ویقدّسه ویحمده ویثنی علیه.

السیر فی الحقّ هو الانشغال بأسماء اللّه الحسنی وصفاته العالیة عن غیره، بمعنی أنّ الإنسان عندما یصل إلی هذه المرحلة الثّانیة یجب أن یتخلّص من جمیع صفاته الدنیویّة وحالاته الذمیمة والخصال السیّئة، وما ورد فی الروایات من أنّ الإنسان إذا صلّی صلاته بجمیع شروطها وآدابها فإنّه یطهر من جمیع الذنوب، والسرّ فی ذلک هو أنّ هذا الشخص الذی یراعی شروط الصّلاة یتطهّر من جمیع ذنوبه وآثامه ویتخلّق بأخلاق اللّه وأسمائه الحسنی، ولذلک یصبح هذا الشخص بعد کلّ صلاة مثل مَن ولد حدیثاً من امّه طاهراً من جمیع الذنوب والخطایا، ولا ینبغی أن نتصوّر أنّ هذه المسألة مسألة اعتباریّة، فاللّه تعالی یقول إنّ الشخص الذی یصلّی صلاته باخلاص فإنّی سوف أقوم بمحو ذنوبه وآثامه من صفحة أعماله، ورغم أنّ هذا المعنی بحسب الظاهر قابل للفهم والتبریر، ولکن الحقیقة هی أنّ حقیقة الصّلاة وهذا السلوک السامی الذی یتحقّق للإنسان فی صلاته یؤدّی به أن یتخلّق بأسماء اللّه وصفاته ویتخلّق بأخلاق اللّه عزّ وجلّ.

هنا یذکر الإمام الخمینی قدس سره نقطة مهمّة، من جهة أنّ جمیع العرفاء یعتقدون أنّ الوصول إلی الحقّ تبارک وتعالی یقع فی نهایة السفر الأوّل، ولکن الإمام الراحل قدس سره یری فی کتابه مصباح الهدایة أنّ الوصول إلی هذه المرتبة نهایة السفر الثانی.

ص:39

السفر الثانی ینتهی بصفات الحقّ تعالی والوصول إلی الاُفق الأعلی، وهذه الملاحظة مذکورة فی کلام العرفاء وهی أنّ السفر الأوّل وهو الوصول إلی الاُفق المبین وهی مرحلة أدنی من الاُفق الأعلی، أمّا السفر الثانی فالإنسان یصعد إلی افق أعلی بکثیر، ثمّ یعود مرّة أخری فی السفر الثالث من الوحدة إلی الکثرة: «من الحقّ إلی الخَلق»، وهی مرحلة الشهادة للتوحید ونفی غیر اللّه والشهادة برسالة نبی الإسلام صلی الله علیه و آله، وفی السفر الرابع: «من الخَلق إلی الحقّ»، یری بعین الوحدة متّجهاً نحو الکثرة فیشاهد الجمیع أنّهم من عباد اللّه الصالحین.

وهکذا ترون أنّ هذه المنازل والأسفار الأربعة جمعت کلّها فی هذه العبادة، ألا ینبغی أن نهتمّ بهذه العبادة ونؤدّیها علی وجهها الأکمل؟! ألا ینبغی أن ننتبه إلی أنفسنا ونقول: لا ینبغی أن نضیع هذا الرأسمال المعنوی الذی منحنا اللّه تعالی إیّاه؟ ونسعی الاستفادة منه بنحو الأکمل، وذلک بأن نقیس صلاتنا فی کلّ یوم بالصّلاة فی الأیّام السابقة ونری الفرق بینها وما هو امتیاز الذی حقّقناه فی هذه الصّلاة، وقد ذکر الأعاظم - وهو الحقّ - بأنّ أولیاء اللّه عزّ وجلّ فی کلّ صلاة تفتح لهم أبواب جدیدة، وفی کلّ صلاة تنکشف لهم حقائق وتتجلّی علی قلوبهم حِکم وتجری علی ألسنتهم...، ینبغی أن نعرف قدر هذه الصّلاة ونطلب من اللّه تعالی أن یلهمنا معرفة قدر الصّلاة فی قلوبنا ونفوسنا.

ص:40

10- الصّلاة، طریق الوصول إلی الیقین

«وَ اعْبُدْ رَبَّکَ حَتّی یَأْتِیَکَ الْیَقِینُ» (1)

یقول اللّه تبارک وتعالی فی القرآن الکریم: «وَ اعْبُدْ رَبَّکَ حَتّی یَأْتِیَکَ الْیَقِینُ» ، وهذا خطاب إلهی إلی الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله یأمره بالعبادة والدوام علیها إلی أن یکتب له الیقین، وبالرغم من أنّ الروایات التفسیریّة الواردة فی هذا الشأن تقرّر أنّ الیقین هنا بمعنی الموت، ولکنّه لا یتنافی مع المعنی الأوّل، ونحن نختار هذا المعنی أیضاً، ففی ذات الوقت نقول إنّ إحدی النقاط المستفادة من هذه الآیة الشریفة هی أنّ الصّلاة أفضل وسیلة لوصول الإنسان إلی مرحلة الیقین، المرحلة التی یعیش فیها الإنسان حالة الإیمان من جمیع الجهات ویتحقّق له الإیمان بالمقدار الممکن والمقدور، فمرحلة الیقین بحسب ما ورد فی الروایات الشریفة هی أعلی من مرحلة التسلیم والتفویض ومرتبة فوق أصل الإیمان.

ومن الجلی أنّ هذه الآیة الشریفة لا تختصّ بالنبی الأکرم صلی الله علیه و آله، فکلّ إنسان

ص:41


1- (1) سورة الحِجْر، الآیة 99

مصلی إذا أراد أن یمتلیء قلبه بالإیمان باللّه تعالی ویفنی فی الحقّ ومشاهدته، فإنّ الصّلاة تعدّ أفضل وسیلة للوصول إلی مرتبة الیقین، والإنسان عندما یفنی فی ذات الحقّ تبارک وتعالی فسوف تتساقط عنه الرذائل والقبائح ویعیش الصفاء والنقاء فی قلبه ویمتلیء قلبه بالنورانیّة، ومثل هذا الشخص یستطیع أن یجد الطریق لساحة الذات المقدّسة.

إنّما الحُبّ فَناءٌ کُلُّه رحم اللّه امرءً قال بهِ

إنّ مَنْ أضحی بقلبِ سالماً لم یذرْ مِنهُ سوی قالبه

فِی ضلال الشوق قلبی راقدٌ مِنْ هَجیر الهجر قد قال بهِ (1)

فلو أراد الإنسان أن تکون له حظوة واعتبار فی مقام القرب الإلهی ویصل إلی هذه المرتبة فینبغی أن یتّخذ العبادة وسیلة ولا یمکنه أن یصل إلی هذه المرتبة بدون عبادة، وهنا ینبغی أن نذکر هذه الحقیقة، وهی أنّ بعض الأشخاص البعیدین عن هذه الحقائق یقولون إنّ الإنسان عندما یصل إلی مرحلة الیقین فإنّه لا یحتاج بعدها إلی الصّلاة، ولکن کیف یمکن لهذا الیقین الذی هو معلول الصّلاة أن یبقی فی ذات الإنسان عندما یترک الصّلاة؟ إذا أراد الإنسان أن یزداد یقینه یوماً بعد یوم ویشتدّ ویتعمق فی ذاته یجب علیه أن یزید فی عبادته، والسرّ فی أنّ علماءنا وأولیاء اللّه کانوا یعیشون حالات الشوق إلی الصّلاة والعبادة هو أنّهم یرون أنفسهم ینتقلون فی کلّ صلاة من مرتبة من الیقین إلی مراتب أعلی، ویجب علینا محاسبة أنفسنا لنری أننا فی هذه الصّلاة التی صلّیناها الآن وانتهینا منها ما هی ثمرتها ومقدار ما حصلنا علیه من زیادة الیقین باللّه تعالی؟ فلو أننا رأینا أنفسنا بعد الصّلاة أقرب إلی اللّه تعالی ورأینا اللّه تعالی بالمشاهدة أکثر بهذه النفس الناقصة وشعرنا بعظمة اللّه فی قلبنا أکثر وازدادت حالة الخوف والرجاء من اللّه

ص:42


1- (1) . الإمام الغزالی، مجموعة رسائل، ص 469.

فی قلوبنا، فنعلم حینئذٍ أنّ یقیننا قد إزداد، أمّا لو رأینا بعد الصّلاة أنّ حالنا لم یختلف عمّا کان علیه قبلها فإنّ هذه الصّلاة لم تؤثر فینا ویجب علینا أن نأسف لهذه الحالة، وعلی هذا الأساس عندما نقف للصّلاة بین اللّه تعالی ونرید أن ندعوه ونناجیه، فیجب علینا الالتفات إلی أننا نرید زیادة یقیننا وإیماننا، ونحن بحاجة إلی زیادة الیقین، ونحن نحتاج یوماً بعد آخر إلی غرس الیقین فی قلوبنا أکثر فأکثر، ومن هذا المنطلق فإنّ أحد الآثار المهمّة للعبادة هو الوصول إلی مرحلة الیقین وهو التوحید التام، وقد ذکر العرفاء فی محلّه أنّ التوحید التام لا یعنی أنّ الإنسان یقطع بإرادته الارتباط والتوجّه إلی غیر اللّه بل أعلی من ذلک، وهو الانقطاع، فیجب علی الإنسان أن یصل إلی مرتبة بحیث یشعر بالانقطاع التلقائی عن غیر اللّه تعالی، ویکون إلتفاته فقط متوجّهاً إلی اللّه تعالی ولذلک یتلاشی وجوده فی عظمة الحقّ تعالی، فینبغی علی الإنسان أن یلاحظ ما مقدار ما حصل علیه بصلاته من القرب الإلهی بحیث یستغرق وجوده فی محضر الباری تعالی ویشعر بالمحو فی الذات المقدّسة، وهنیئاً للشخص الذی یستطیع أن یعیش هذه الحالة فی جمیع صلاته، وهذا توفیق عظیم للمؤمن ونسأل اللّه تعالی أن یمنحنا جمیعاً هذا التوفیق إن شاء اللّه.

ص:43

ص:44

الفصل الثانی: حضور القلب فی الصّلاة

اشارة

ص:45

ص:46

11- المقصود من القلب فی مقولة «حضور القلب»

«لَهُمْ قُلُوبٌ لا یَفْقَهُونَ بِها وَ لَهُمْ أَعْیُنٌ لا یُبْصِرُونَ...» (1)

إنّ هذه الحقیقة جلیّة وواضحة للمصلّین وأصحاب السیر والسلوک والعبادة، لأنّ الوصول إلی حقائق الصّلاة وفهم حقیقة کلّ عبادة لا یتیسّر إلّامن خلال العمل بالشریعة والسلوک من الظاهر إلی الباطن، وهذا یعنی أننا لا نستطیع أن ندرک حقیقة الصّلاة، إلّامن خلال ظاهر الصّلاة والعمل بأحکامها وشروطها ورعایة آدابها الظاهریّة، وبدون تحقّق هذا الظاهر فلا یمکن الوصول إلی ذلک الباطن، ومن أجل الوصول إلی ذلک الباطن یجب رعایة الشروط والأعمال الظاهریّة بشکل کامل، یقول الإمام الخمینی قدس سره فی تعلیقاته علی شرح فصوص الحِکم: «إنّ الطریقة والحقیقة لا تحصل للسالک إلّامن خلال طریق الشریعة، لأنّ الظاهر طریق إلی الباطن، والشخص الذی لا یصل إلی الباطن من خلال العمل بالتکالیف

ص:47


1- (1) سورة الأعراف، الآیة 179.

الإلهیّة فیعلم أنّه لم یؤدّی الظاهر بشکل صحیح»(1).

وعلی هذا الأساس، نقول إنّ المصلّی إذا أقام الصّلاة بکامل أحکامها وشروطها، مثلاً الصّلاة فی المکان المغصوب أو باللباس النجس وغیر الطاهر، أو الصّلاة بدون رعایة استقبال القبلة بشکل صحیح، وکذلک سائر الأجزاء والشروط المعتبرة فی الصّلاة، مثل هذا الشخص سوف لن یصل أبداً إلی معرفة أسرار وباطن وحقیقة الصّلاة.

وبعد أن ذکرنا المسائل السابقة بوصفها مقدّمة لهذا الموضوع، فإنّ أوّل مسألة فی باب أسرار الصّلاة وقعت مورد إلتفات الأکابر من العلماء، مسألة حضور القلب فی الصّلاة، فبعض الأکابر مثل المرحوم المیرزا جواد الملکی (رضوان اللّه تعالی علیه)، ومن أجل أن یستطیع الإنسان أن یؤدّی صلاته بصورة کاملة ذکر لذلک ست مراتب:

- المرتبة الاُولی: حضور القلب. - المرتبة الثّانیة: التفهّم.

- المرتبة الثّالثة: التعظیم. - المرتبة الرّابعة: الهیبة.

- المرتبة الخامسة: الرجاء. - المرتبة السّادسة: الفناء.

وقال رحمه الله: یجب أن یحصل للمصلّی هذه المراتبة الست، لیتمکن من أداء الصّلاة بصورة تامّة وکاملة، ولکن فی کلمات الآخرین کالمرحوم الشهید الثانی رحمه الله أو الإمام الراحل قدس سره فی کتابه «سرّ الصّلاة» لم یرد التفکیک بین هذه الحالات والمراتب، وقد یکون هذا هو الصحیح، وذلک أن نطرح کلّ هذه المراتب کلّها مرّة واحدة بعنوان «حضور القلب»، بمعنی أنّ حضور القلب والتفهم والتعظیم والهیبة والرجاء والفناء جمیعها متعلّقة بمسألة حضور القلب کما سیأتی توضیحه.

ومن أجل أن یصل الإنسان إلی حقیقة الصّلاة یجب علیه أن یعیش حضور

ص:48


1- (1) تعلیقات علی شرح فصوص الحکم.

القلب وحضور القلب یعنی أن یلتفت فی قلبه بشکل کامل للصّلاة، وهنا من المناسب أن نذکر ثلاث نقاط فیما یتّصل بکلمة «قلب»، النقطة الاُولی: ما هو المراتب من کلمة «قلب»؟ وهل أنّ المراد من القلب فی هذه المسائل هو تلک القطعة الصنوبریّة من اللحم، أو المقصود دماغ الإنسان الذی هو عضو من أعضاء بدنه، من الواضح أنّ المقصود لیس ذلک، والمراد من القلب فی هذه المسائل تلک اللطیفة الربانیّة التی یطلق علیها أحیاناً بالنفس، وأحیاناً أخری بالروح، وقد ورد فی الآیات والروایات الشریفة: «لَهُم قُلُوبٌ لایَعقِلُونٌ بِها»، فهؤلاء لهم قلوب ولکنّهم لا یستطیعون فهم هذه المسائل الدینیّة، وهذا یعنی أنّ المراد من القلب هو وسیلة الإدراک والفهم، والقلب الذی له إقبال وإدبار، وله علاقة بشیء معین وله نفور من شیء آخر، وتارة یتّجه نحو شیء وأخری یعرض عن شیء، والمقصود هو القلب الذی یملک البصر والعمی، وما ورد فی الروایات من «طبع القلب» هو القلب الذی یعیش الرین والغشاوة، والقلب الذی طبع علیه، والقلب الذی یملک نورانیّة وظلمانیّة، فلو أجرینا مقارنة بین القلب اللحمی للمؤمن مع قلب الکافر فسوف لا نجد أی فرق بینهما، ولکن الروایات تقول إنّ قلب المؤمن نورانی وقلب الکافر ظلمانی، فقلب الأشخاص الذین یملکون البصیرة والنورانیّة یری الحقائق، وهذا هو ما یقال أحیاناً فی کلمات الناس بأنّه یری بعین القلب، أو یجب أن تری ذلک بعین القلب، ما هو المقصود من القلب هنا؟ القلب هو ما یعیش حالات القبض والبسط ویملک جمیع الصفات الأخلاقیّة الحمیدة، والفضائل الإنسانیّة تتعلّق بهذا القلب، وکذلک أنّ جمیع الصفات السیّئة والرذیلة تتعلّق بهذا القلب أیضاً، وهذا هو ما یبقی من الإنسان بعد موته، إذن فالمقصود من القلب فی بحثنا هو هذا القلب.

ص:49

12- المقصود من القلب فی الروایات

«إِنَّ فِی ذلِکَ لَذِکْری لِمَنْ کانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَی السَّمْعَ وَ هُوَ شَهِیدٌ» (1)

وصلنا فی البحث إلی معنی القلب وما یتعلّق به بشکل عامّ، ویقول الإمام الخمینی قدس سره(2): «فی موجودات العالم، فإنّ نورانیّة وکمال کلّ موجود ترتبط بالصورة النوعیّة والکمال الآخیر له، أمّا فی الإنسان فإنّ کماله وسعادته مرتبطة بنفسه الناطقة وهی النفخة الإلهیّة التی یقول عنها الباری تبارک وتعالی: «وَ نَفَخْتُ فِیهِ مِنْ رُوحِی...»3 ، ومقصودنا من القلب هو الحقیقة الإنسانیّة التی جعلها اللّه ودیعة فی الإنسان، وهی الروح التی نفخت فی هذا البدن المادّی وتستوعب جمیع وجود الإنسان وتشکل حقیقته، ونحن فی بحثنا عن أسرار العبادات نواجه مثل هذه الحقیقة، ونحن فی مقام بیان هذه المسألة، وهی أنّ هذه الحقیقة الإلهیّة کیف یمکنها أن تکون أکثر نورانیّة، وکیف یمکن أن تفقد هذه النورانیّة، وکیف

ص:50


1- (1) سورة الأعراف، الآیة 179.
2- (2) . سرّ الصّلاة معراج السالکین، ص 15-16.

تصل هذه الحقیقة إلی کمالها المنشود، وکیف لا تصل إلی الکمال؟ ثمّ بحثنا فیما یتّصل بالصّلاة والعبادات ما هو المقدار التی ترتبط هذه الحقیقة بفعل الإنسان، ولعلّه یمکن القول إنّ اللّه تبارک وتعالی نفخ فی وجود الإنسان هذه النفخة الرحمانیّة، والإنسان بدوره ینفخ فی أفعاله من هذه النفخة الإلهیّة المودعة عنده، ویمنح أفعاله الحیاة، وکلّما کانت رابطة الإنسان مع هذه النفس ومع أفعاله أشدّ وأقوی کان ذلک بمعنی حضور القلب.

النقطة الثّانیة فیما یتّصل بالقلب، هی أنّ مراد من القلب بشکل عام، یعنی بغض النظر عن مسألة الصّلاة، فقد ورد فی الروایات الشریفة مسائل کلیّة تتّصل بهذه الموضوع: «إِذا أرَادَ اللّهُ بِعَبْدٍ خَیراً جَعَلَ لَهُ وَاعِظاً مِنْ قَلبِهِ»(1).

فلو أراد الإنسان أن یفهم أنّ اللّه تعالی هل یهتمّ ویعتنی به أم لا؟ فإنّ إحدی العلامات لذلک هو أن یری هل أنّ قلبه یسدی له الموعظة والنصیحة له أم لا؟ فعندما یجلس وحیداً فی مکان ما ویفکّر فی ارتکاب الذنب، فهل أنّ قلبه سینهاه عن ذلک ویلومه ویُوبّخه أم لا؟ هل أنّ قلبه یشوقه ویدعوه إلی أعمال الخیر ویلفت نظره إلی الآثار والمعطیات الجیدة والسیّئة لأعماله أم لا؟ فربّما نری البعض منّا وللأسف الشدید یرتکب بعض الأعمال المخالفة ولکنّه لا یجد فی نفسه رادعاً عنها ولا یجد قلبه یلومه علیها، وهذا یعنی أنّ قلبه لیس واعظاً له.

وکذلک ورد فی بعض التعابیر الأخری: «مَنْ کَانَ لَهُ مِنْ قَلبِهِ وَاعِظٌ کَانَ عَلَیهِ مِنَ اللّهِ حَافِظٌ»(2).

وهذا هو ما ورد عن القلب بشکل عام عبارة اسوداد القلب کما نقرأ فی هذا النص: «قَلْبُ المُؤمِنِ أَجرَدُ فِیهِ سِرَاجٌ یَزهَرُ وَقَلْبُ الکَافِرِ أَسْوَدُ»(3).

واتفق أن ذکرنا أنّ المراد من القلب لیس هو القطعة من اللحم الموجودة فی

ص:51


1- (1) بحار الأنوار، طبعة بیروت، ج 70، ص 327.
2- (2) المصدر السابق.
3- (3) مرآة العقول، ج 9، ص 413.

الصدر، وهذا یعنی أنّ الشخص الکافر قد أظلم نفسه وجعل قلبه أسود بأعماله، وهذه النفس لا تدعوه بالسیر نحو اللّه تعالی وعبادته، وهذه النفس تحوّلت إلی حقیقة مظلمة تماماً، ولذلک أنّ الإمام الباقر علیه السلام یقول فی روایة: «إِنَّ القُلُوبَ ثَلاثَةٌ قَلبٌ مَنکُوسٌ لایَعی شَیئاً مِنَ الخَیرِ وَهُوَ قَلبُ الکَافرِ».

وهذا یعنی أنّ مثل هذا القلب صار بمثابة الإناء والظرف لا ینسجم ولا یتناسب مع أی عمل نورانی.

«وقَلبٌ فِیهِ نُکْتَةٌ سَودَاءُ فَالخَیرُ وَالشّرُّ فِیهِ یَعتَلجَانِ فَأَیُّهُما کَانَتْ مِنْهُ غَلَبَ عَلَیهِ»(1).

وهذا هو النوع الثانی من القلوب حیث تزدحم فیه حالة الصراع بین الخیر والشرّ.

«وقَلبٌ مَفتُوحٌ فِیهِ مَصابِیحُ تَزهَرُ وَلا یُطفَأُ نُورُهُ إِلی یَومِ القِیامَةِ وَهُوَ قَلبُ المُؤمِنِ»(2).

وهذا هو ما ورد التعبیر عنه بالنفس النورانیّة الإلهیّة التی منحها اللّه تعالی للإنسان المؤمن، ولکن الشخص الکافر جعل من هذه النفس التی وهبها اللّه تعالی إلیه ظلمانیّة ولا مجال لاشراق النور فیها، بعکس قلب الإنسان المؤمن ونفسه، فهی محلّ تجلی الأنوار الإلهیّة والخیرات الربانیّة.

وعلی هذا الأساس، فمن جملة النقاط التی یجب الالتفات إلیها هی هذا القلب، فینبغی أن نری فی کلّ یوم یمرّ علینا ما مقدار ما اضیف إلی قلبنا من نورانیّة أو لا سمح اللّه مقدار ما قلّ ونقص من نورانیّته ونری الاختلاف فی درجات نورانیّة القلب، وهذا الاختلاف یقع فی باطن وحقیقة الصّلاة، نسأل اللّه تعالی أن یزید من نورانیّة قلوبنا جمیعاً.

ص:52


1- (1) مرآة العقول، ج 9، ص 413.
2- (2) الکافی، الطبعة الإسلامیّة، ج 2، ص 422.

13- الذنب، سبب لظلمة القلب

«کَلاّ بَلْ رانَ عَلی قُلُوبِهِمْ ما کانُوا یَکْسِبُونَ» (1)

تقدّم أنّ القلب هو هذه النفس الربانیّة والإلهیّة التی أودعها اللّه تعالی فی وجود الإنسان ویستطیع الإنسان بواسطتها من إدراک الأمور الحسنة والسیّئة، والخیر والشرّ، والصحیح والسقیم، ویمیّز بین الحقّ والباطل، وعندما نستعرض الآیات والروایات فی هذا المجال فسوف یتبیّن لنا المراد من القلب ما هو؟

یقول الباری تبارک وتعالی فی القرآن الکریم: «وَ نَطْبَعُ عَلی قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا یَسْمَعُونَ»2 أو قوله: «وَ طَبَعَ اللّهُ عَلی قُلُوبِهِمْ...»3 ، أو أنّ اللّه یطبع علی قلوب الأشخاص المذنبین، وفی دائرة الثقافة القرآنیّة لو أنّ الإنسان سقط فی وادی الذنوب ولم یرجع عنها ویتوب، فعندما أذنب لأوّل مرّة لم یتب، واستمر فی ارتکاب الذنب الثانی والثالث ولم یحدث نفسه عن التوبة والإنابة، ثمّ تراکمت

ص:53


1- (1) سورة المصطفین، الآیة 14.

علیه الذنوب والمعاصی إلی درجة أنّ هذه الذنوب غطت قلبه واستولت علیه، والقرآن یعبّر عن هذه الحالة بأنّ اللّه تعالی یطبع علی مثل هذا القلب الملوّث بالذنوب والملیء بالخطایا وبالتالی لا یتحرّک هذا الإنسان فی طریق النور والحقّ والحقیقة، وجاء فی آیة أخری: «کَلاّ بَلْ رانَ عَلی قُلُوبِهِمْ ما کانُوا یَکْسِبُونَ» ، وهذا هو مقصود من الرین علی القلب، أو أنّ الأعمال السیّئة التی یقترفها الإنسان من شأنها أن تستولی علی قلبه إلی درجة أنّ هذا الشخص لا یستطیع بعدها التمییز بین الحقّ والباطل، وبین الخیر والشرّ، وهکذا یصاب قلب الإنسان بحالة الرین والطبع.

ونقرأ فی روایة زرارة عن الإمام الباقر علیه السلام أنّه قال: «مَا مِنْ عَبْدٍ إِلّا فِی قَلْبِهِ نُکْتَةٌ بَیضاءٌ فَإذا أَذْنَبَ ذَنبَاً خَرَجَ فِی النُّکْتَةِ نُکْتَةٌ سَوَداء، فإنْ تَابَ ذَهَبَ ذَلِکَ السَّوادُ، وإِن تَمادَی فِی الذُّنُوبِ زَادَ ذَلِکَ السَّوادُ حَتَّی یُغطِّی البَیاضَ، فإذَا غَطّی البَیاضَ لَمْ یَرجَعْ صَاحِبُهُ إِلی الخَیرِ أَبَداً...»(1).

ثمّ یقول الإمام علیه السلام مستشهداً بهذه الآیة الکریمة وهو قول اللّه عزّ وجلّ: «کَلاّ بَلْ رانَ عَلی قُلُوبِهِمْ ما کانُوا یَکْسِبُونَ» . وهذا هو معنی الرین علی القلب.

وهکذا تبیّن المراد من القلب فی النصوص، أی القلب الذی یعیش حالات الظلمة والنورانیّة، القلب الذی یتقبّل السعادة والشقاوة، القلب الذی یملک إقبالاً وإدباراً، وهذا هو المقصود من حضور القلب فی الصّلاة.

ص:54


1- (1) الکافی المطبعة الإسلامیّة، ج 2، ص 273.

14- آثار توجّه القلب وإقباله إلی اللّه

یقول الإمام الباقر علیه السلام: «لَیسَ مِنْ عَبْدٍ مُؤمِنٍ یُقبِلُ بِقَلْبِهِ عَلَی اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِی صَلاتِهِ وَدُعائِهِ إِلّا أَقْبَلَ اللّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَیهِ بِقُلوب المُؤمِنین؛...».

النقطة الثّالثة فیما یتّصل بقلب الإنسان وهو نفسه وروحه الإنسانیّة، هی أنّ الإنسان إذا أقبل علی اللّه تبارک وتعالی فی أی عمل وعبادة وخاصّة فی صلاته، فإنّ هذا الأمر یتسبّب بأنّ اللّه تعالی سیقبل علیه أیضاً.

یقول الإمام الباقر علیه السلام: «فَإذا صَلَّیتَ فَأَقبِل بِقَلْبِکَ ِ عَلَی اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّهُ لَیسَ مِنْ عَبْدٍ مُؤمِنٍ یُقبِلُ بِقَلْبِهِ عَلَی اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِی صَلاتِهِ وَدُعائِهِ إِلّا أَقْبَلَ اللّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَیهِ بِقُلوب المُؤمِنینَ إِلَیهِ وَأَیَّدَهُ مَعَ مَودَّتِهِم إِیَّاهُ بِالجَنَّةِ»(1).

وهذا یؤیّد أنّ أوّل ثمرة لحضور القلب والدعاء هی إقبال اللّه تعالی علی هذا العبد المؤمن «وَأَیَّدَهُ مَعَ مَودَّتِهِم...»، أی أیّد هذا الإنسان المؤمن بمودّة ومحبّة المؤمنین له.

ص:55


1- (1) من لا یحضره الفقیه، ج 1، ص 209.

ونقرأ فی روایة أخری عن الإمام الباقر علیه السلام أیضاً أنّه قال: «إِذا قَامَ العَبْدُ المُؤمِنُ فِی صَلاتِهِ نَظَرَ اللّهُ أو قَالَ أَقبَل اللّهُ عَلَیهِ حَتّی ینْصرِف، وَأَظَلَّتْهُ الرَّحمَةُ مِنْ فَوقِ رَأسِهِ إِلی أُفقِ السَّماءِ؛

وهذا کنایة عن أنّ مطر الرحمة الإلهیّة ینزل علی هذا الشخص المصلّی الذی ارتبط قلبه بالصّلاة.

وَالمَلائِکَةُ تَحُفُّهُ مِنْ حَولَهُ إِلی أُفُقِ السَّماءِ، وَوَکَّلَ اللّهُ بِهِ مَلَکاً قَائِمَاً عَلَی رَأَسِهِ، یِقُولُ لَهُ أَیُّها المُصَلِّی لَو تَعلَمُ مَنْ یَنظرُ إِلَیکَ وَمَنْ تُناجِی مَا التِفتَ وَلا زِلتَ مِنْ مَوضِعِکَ أَبَداً»(1).

إذن فإقبال القلب یؤدّی إلی إقبال الباری تبارک وتعالی علی الإنسان، وهذه العبارة وردت أیضاً فی کلمات الإمام الخمینی (رضوان اللّه تعالی علیه) حیث یقول: «واللّه یعلم فی هذا الإقبال من اللّه علی عبده ماذا یحصل العبد علی کرامات وأنوار لا یدرکها عقل أی بشر ولا تخطر علی قلب أحد»(2).

وهکذا هو إقبال اللّه تعالی علی الإنسان ولیس مثل إقبال إنسان علی إنسان آخر من قبیل إقبال الملک أو رئیس البلاد علی بعض أفراد الشعب، أو من قبیل إقبال العالم علی الجاهل، فإقبال اللّه تعالی علی عبده لا یقارن بمثل هذه الحالات من الإقبال، إذن فالصّلاة التی یصلّیها المؤمن بحضور القلب والتوجّه إلی الباری تعالی ستکون عاملاً علی إقبال الباری تعالی علیه ونظره إلیه وبالتالی فسوف تفتح علیه جمیع أبواب السعادة ومعرفة الحقائق وتملأ وجوده الرحمة الإلهیّة، وتفتح له الأبواب الطرق إلی الکمال المعنوی، فهل یعقل أنّ اللّه تعالی یُقبل علی الإنسان وینظر إلیه بنظر الرحمة ولا یؤثر هذا النظر فیه؟ الإنسان یستطیع بنظر

ص:56


1- (1) الکافی، المطبعة الإسلامیّة، ج 3، ص 265.
2- (2) سرّ الصّلاة (معراج السالکین)، ص 27.

واحدة من اللّه تعالی علیه أن یکشف الغموض عن الکثیر من الحقائق العلمیّة وتنحلّ أمامه العقد والمشاکل التی یواجهها فی حیاته، فیجب علینا أن نستثمر هذه الکرامات من اللّه ونقبل علیه فی صلاتنا.

ص:57

15- مراتب حضور القلب

بالنسبة لحضور القلب فی الصّلاة لابدّ من ذکر مسائل کثیرة، فماذا یعنی حضور القلب فی الصّلاة؟ وما هی مراتبه وأسبابه وموانعه؟ وإذا تیسّر لنا إن شاء فسوف نبسط الکلام عن هذه النقاط المهمّة بلطف اللّه تعالی وفضله، وسنتحدّث عن أهمّ هذه المسائل.

وسبق أنّ بیّنا أنّ بعض الأکابر ذکروا أنّ حضور القلب فی الصّلاة یعتبر أحد الحالات المهمّة فی طریق السلوک إلی اللّه، وذکروا لحضور القلب مراتب عدّة، المرتبة الأولی أنّ الإنسان یعلم أنّه یقف فی محضر اللّه تعالی وفی حضوره وهو فی حال الحدیث مع اللّه ومناجاته ویمتثل لأمره، وفی هذه الصورة فما لم یلتفت الإنسان إلی هذا الموقع ولا یفهم ماذا یقول وما یؤدّی ولا یعلم ما هی حقیقة هذه الأفعال والأرکان ولا ینتفع من هیئة الصّلاة، فی هذه المرحلة ربّما لا یلتفت أیضاً إلی قراءته الصحیحة فی الصّلاة بلحن عربی دقیق.

والمرتبة الثّانیة، أن یؤدّی هذه الکلمات وظاهر هذه الأفعال کما أراده اللّه

ص:58

تعالی منه وأمر به، فیهتمّ کیف یقف بین یدی اللّه فی حال القیام؟ وکیف ینحنی فی حال الرکوع والسجود؟ وکیف یتلفّظ بکلمات القراءة فی قیامه ورکوعه وسجوده؟ هذه مرتبة أخری من حضور القلب.

أمّا المرتبة الثّالثة، أن یتوجّه إلی حقیقة هذه الأفعال والأذکار ویعلم ما هی حقیقة الرکوع وفرقه مع القیام، ویعلم أنّ حقیقة السجود هی الفناء المحض فی تبارک وتعالی، وما هو فرقه عن الرکوع ویعلم ما هی معانی الأذکار بشکل کامل؟ کأن یدرک معنی قوله «اللّه أکبر»، فعندما یبتدیء المصلّی بالتکبیرات الابتدائیّة وبعد تکبیرة الإحرام علیه أن یفهم ماذا یقول وما معنی الکلمات والعبارات التی یتلفّظها فی حال الصّلاة، وأنّ قصده ونفسه وعواطفه مصدقة لما یجری علی لسانه أم لا؟ ویفهم ما هی حقیقة الذکر فی الرکوع وسائر الأذکار الأخری.

والمرحلة الأعلی، أن یتوجّه بشکل کامل إلی اللّه تعالی ویفنی فی وجوده المبارک بحیث یستغرق فی وجوده باللّه تعالی وتدخل الکلمات إلی قلبه، مضافاً إلی أنّه فی المرحلة السابقة فهم معنی «الحمد للّه ربّ العالمین»، فیفتح قلبه لمثل هذه الحقیقة بمعناها الواسع، وهذا المعنی الواسع هو أنّ الحمد من أی شخص یصدر ومن أی حامد ولأجل أی شیء فهو فی الحقیقة حمد للّه، فلو أنّ شخصاً مدح عالماً لعلمه، أو أکرم صالحاً وزاهداً أو فناناً أو عارفاً، فإنّه فی الحقیقة إنّما یحمد اللّه ویثنی علیه فلا موجودة یستحق الحمد والثناء سوی اللّه تعالی، فلو أنّهم أحضروا هذا المعنی العمیق فی قوله فإنّه یعنی کما یقال أکابر علماء الأخلاق حضور القلب فی الصّلاة، وبعد حضور القلب، نصل إلی الحالة الثّانیة فی الصّلاة، وهی حال التفهّم، فالکثیر من آثار الصّلاة وثماراتها من قبیل المنع من الفحشاء والمنکر «إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهی عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْکَرِ...»1 ، تتعلقّ بحالة التفهّم، یعنی

ص:59

قبل أن یقول المصلّی بأی فعل من الأفعال الصّلاة علیه أن یفهم نفسه ماذا یفعل وقبل أن یتحدّث بأی کلمة علیه أن یفهم ماذا یقول، ویستمر به هذا الحال إلی آخر الصّلاة فیفهم حقائق الأفعال والأذکار.

الحالة الثّالثة، حالة التعظیم، والتعظیم هو العلم بعظمة اللّه تعالی، ومعرفة الإنسان بعظمة الحقّ تعنی أن یعلم أنّه یقف مقابل موجود عظیم ذو قدرة مطلقة یستطیع أن یقبل عمل هذا الإنسان أو ردّه، ویستطیع أن یکرم هذا الشخص أو یهینه، وبیده جمیع أمور العالم، حتّی هذه الکلمات التی یذکرها فی حال صلاته إنّما هی بواسطة عنایته ومشیئته، فالمصلّی یجب أن یدرک عظمة الموجود الذی یقف أمامه ویناجیه.

وتقدّم فی روایة أنّ اللّه تعالی یُوکّل ملکاً من الملائکة للمصلّی یقول له: «... لَو تَعلَمُ مَنْ یَنظرُ إِلَیکَ...»، وتعلم من الذی تناجیه وتدعوه لم تفارق مکانک ولم تترک صلاتک، وستواصل صلاتک مرّة بعد أخری، فالإنسان عندما یشعر فی قلبه ووجوده بعظمة الحقّ تبارک وتعالی فکیف ینشغل فکره وذهنه بأمور أخری؟ وعندما لا نلتفت إلی عظمة ذلک الموجود الذی نقف بین یدیه فسوف ینحرف ذهننا وینشغل فکرنا بأمور أخری، ولکن لو أنّ الإنسان استغرق فی عظمة اللّه تعالی وأدرک بوجوده وقلبه هذه العظمة فلا یمکن أن یلتفت إلی شیء آخر فی حال الصّلاة.

ص:60

16- خشوع وحضور القلب فی الصّلاة

«قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * اَلَّذِینَ هُمْ فِی صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ» (1)

ورد التعبیر عن حضور القلب فی الصّلاة بالخشوع، فعندما یتحدّث القرآن الکریم عن صفات المؤمنین فی الصّلاة یقول: «اَلَّذِینَ هُمْ فِی صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ» ، فالشخص الذی یلتفت إلی أنّه یقف فی مقابل عظمة الوجود المطلق، والشخص الذی یتوجّه إلی أنّه یقف فی مقابل موجود عظیم إلی درجة أنّ جمیع الوجودات التی تعتبر عظیمة تقع فی مقابله لیس صغیرة فحسب بل هی صفر فی مقابل عظمة الحقّ تبارک وتعالی، فمثل هذا الشخص سوف یشعر بحالة الخشوع فی صلاته، وبدیهی أنّ هذه الخشوع القلبی سوف یتجلّی علی ظاهره وبدنه فیعیش بدنه حالة الخشوع أیضاً، والشخص الذی یعبث فی حالة صلاة بیده أو بلباسه أو برأسه ورقبته فإنّه لا یعیش حالة الخشوع، والشخص الذی یعبث بیده وقدمه أو ینشغل باصلاح لحیته وشعره فهذا الشخص لا یشعر بالخشوع فی صلاته،

ص:61


1- (1) سورة المؤمنون، الآیة 1 و 2.

فالقرآن یقول: إنّ الإنسان المؤمن هو الشخص الذی یعیش الخشوع فی صلاته، یعنی لا یکفی أن یقف المؤمن فی الصّلاة والعبادة، ولا یکفی أن یهتمّ الإنسان فی صلاته بظاهره وبدنه ویتوجّه ببدنه فقط، وهذا لا یعنی حالة الإیمان الحقیقی فی نفسه ویفرح مثل هذا الشخص بأنّه من زمرة المؤمنین.

وتقدّم أنّ الإنسان یستطیع من خلال الصّلاة أن یفهم مقدار معرفته للّه وتوحیده، ویستطیع أن یعین مقدار إیمانه بالصّلاة، فکلّما یکون خشوع الإنسان فی الصّلاة أکثر فإنّ إیمانه باللّه تبارک وتعالی أکثر، والخشوع هو حضور القلب فمجرّد أن یشعر الإنسان أنّه یقف فی محضر اللّه تعالی وأنّه فی حال الحدیث مع اللّه ومناجاته ویلتفت إلی مقامه بین یدی اللّه فسوف یعیش حالة الخشوع.

ونقرأ فی سورة الماعون المبارکة: «فَوَیْلٌ لِلْمُصَلِّینَ * اَلَّذِینَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ»1 ، وهم الأشخاص الذین یعیشون الغفلة عن حالات الخشوع فی الصّلاة فلا یدرکون فی مقابل أی موجود یقفون ویدعون.

وجدیر بنا الالتفات إلی هذه النقطة، وهی أنّ هذا العمل الشائن إلی أی درجة هو قبیح عند اللّه ویوجب ابتعاد الإنسان عن ربّه أنّ اللّه تعالی یقول: «فَوَیْلٌ لِلْمُصَلِّینَ» ، ویل هی أحد مراتب ودرکات جهنّم العمیقة، وهذا یعنی أنّ هذا الشخص المصلّی کثرة ذنوبه أو شدّة کفره یستحق الویل والثبور، وهذا الویل الذی أعدّه اللّه لهذا الإنسان غیر ذلک الویل الذی نستعمله نحن فیما بینا ونقول:

«الویل لفلان».

عندما لا نشعر بحضور القلب فی الصّلاة یجب أن نفکّر بهذه الآیة الشریفة وهو قول اللّه تعالی: «فَوَیْلٌ لِلْمُصَلِّینَ» ، فلماذا أنّ اللّه تعالی مع رحمته الواسعة وکثرة ألطافه ونعمائه علی عباده یعبّر بهذا التعبیر المخیف لهذا المصلّی الغافل

ص:62

ویقول له «ویل لک»؟ وذلک أنّ هذا الشخص عندما یقف للصّلاة بین یدی اللّه تعالی ولا یلتفت إلی هذه الحقیقة، فهو بمثابة المستهزیء بهذا المقام، والشخص الذی یستهزیء باللّه تعالی یستحق مثل هذه العقوبة.

وجاء فی روایة عن الإمام الباقر علیه السلام فی حدیثه عن أبیه الإمام زین العابدین علیه السلام أنّه عندما کان یقف للصّلاة یتغیّر لون وجهه وعندما یصل إلی حال السجود لا یرفع رأسه إلّاووجهه یتصبب عرقاً، أی یقول: إنّ أبی عندما یقف للصّلاة فإنّه یکون مثل جذع الشجرة لا یتحرّک أبداً إلّابما تحرّکه الریاح من ثیابه، أی أنّه لو تحرّکت عباءته مثلاً فإنّ ذلک بسبب حرکة الهواء.

فهل اختبرنا أنفسنا فی صلاتنا؟ وما مقدار سکوننا وأدبنا فی مقابل تبارک وتعالی فی صلاة ذات رکعتین، أو نتحرّک بحرکات مختلفة فی حال الصّلاة بحیث نبتعد عن أصل الصّلاة وحال العبادة؟

ویروی أبوحمزة الثمالی قال: رأیتُ علیّ بن الحسین علیهما السلام یصلّی فسقط رداؤه عن منکبه، قال: فلَم یسوّه حتّی فرغ من صلاته، قال: سألته عن ذلک فقال:

«وَیحَکَ أَتَدرِی بَینَ یَدَی مَنْ کُنتُ إِنَّ العَبدَ لا یُقبَلُ مِنهُ صَلاةٌ إِلّا مَا أَقبَلَ مِنها».

فقلت: جعلت فداک هلکنا.

فقال: «کَلّا إِنَّ اللّهَ مِتمّم ذَلِکَ لِلمُؤمِنینِ بِالنّوافِلِ»(1).

ص:63


1- (1) وسائل الشیعة، ج 4، ص 688.

17- موانع حضور القلب

قال الإمام الرضا علیه السلام: «طُوبی لِمَنْ أَخلَصَ للّهِ العِبادَةَ وَالدُّعاءَ وَلَمْ یَشغَلْ قَلْبَهُ بِما تَری عَینَاهُ وَلَمْ یَنسَ ذِکرَ اللّهِ بِما تَسمَعُ اذُنَاهُ».(1)

إنّ إحدی الحقائق المهمّة فیما یتّصل بصلاة العبادة، أنّ الصّلاة تتضمّن الکثیر من الأسرار والحقائق والفوائد وقد فتح اللّه تبارک وتعالی الطریق للإنسان لفهمها والتعرّف علی مقدار من أسرارها، وبذلک یستطیع الانتفاع من هذه الصّلاة، فلو أنّه لم یؤدّی الصّلاة فی وقتها فإنّ اللّه تعالی فتح له باب القضاء فیستطیع قضاء الصّلاة فی خارج وقتها، ولو أنّه لم یتمکن من الخضوع وحضور القلب بشکل صحیح فی صلاته فإنّه یستطیع جبران ذلک بالنافلة.

ویروی زرارة عن الإمام الباقر علیه السلام أنّه قال:

«إِذا قُمْتَ إِلی الصَّلاةِ فَعَلَیکَ بِالإقِبالِ عَلَی صَلاتِک، فإنّما لَکَ مِنها مَا أَقبَلتَ

ص:64


1- (1) سورة المؤمنون، الآیة 1 و 2.

عَلَیهِ»، بمعنی أنّ الإنسان عندما یقف للصّلاة فإنّ اللّه تعالی یقبل علیه بمقدار ما یعیش حضور القلب فی هذه الرکعات، «وَلا تعْبَث فِیها بِیَدِیکَ وَلا بِرأسِکَ وَلا بِلِحیَتِک وَلا تُحدّث نَفسَک»(1)، فهذه نقطة مهمّة جدّاً وردت أیضاً فی کلمات النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله:

«إِنَّ العَبْدَ إِذا اشتَغَلَ بِالصَّلاةِ جَاءَهُ الشَّیطَانُ وَقَالَ لَهُ اذکُر کَذا اذکُر کَذا حَتّی یُضِلُّ الرَّجُلَ أَنْ یَدرِی کَم صَلّی»(2)، فهذه الروایة عجیبة وفی غایة الغرابة، فإنّها تقرّر أنّ إحد أعمال الشیطان اهتمامه یدخله بالشخص المصلّی، والشیطان لا یهتمّ بالأشخاص الذین ترکوا صلاتهم ولا یتعب نفسه فی إغوائهم، ولکن الشخص الذی یقف للصّلاة والعبادة، فالشیطان یهتمّ بذلک لأنّ هذه الصّلاة تبعده إلی الأبد عن الشیطان، وهذه الصّلاة تعتبر سلاحاً قویّاً لمواجهة تسویلات الشیطان، فمن هذه الجهة فالشیطان لا یترک هذا الشخص بل یتحرّک بقوّة لصدّه عن ذکر اللّه، ویقول النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله: «إِذا اشتَغَلَ بِالصَّلاةِ» إنّ هذا الشخص عندما یقف للصّلاة یأتی الشیطان ویقول له: تذکر العمل الفلانی ویجب علیک أن تهتمّ بالعمل الفلانی وهکذا یقوم بتذکیره بأعمال أخری حتّی ینشغل عن الصّلاة «اُذکُر کَذا اذکُر کَذا»، وعندما نقف للصّلاة فسوف نتذکر أننا یجب علینا الیوم أن نؤدّی العمل الفلانی ونتحدّث مع فلان شخص بکذا وکذا وربّما نتأسف علی أننا لم نقل لذلک الشخص الکلام المناسب، وهکذا ینشغل ذهن الإنسان بأمور أخری بعیدة عن ذکر اللّه وحقیقة الصّلاة، وأساساً فالإنسان أحیاناً یقول إننی إذا أردت أتذکر شیئاً فإننی أتذکره فی حال الصّلاة، هذا هو الشیطان الذی یذکر الإنسان فی صلاته بما نسیه وغفل عنه.

ص:65


1- (1) . وسائل الشیعة، ج 5، ص 463.
2- (2) . بحار الأنوار، مطبعة بیروت، ج 53، ص 269.

أیّها الإخوة والأخوات، عندما نقف بین یدی اللّه تعالی ونقف للصّلاة والعبادة، فلو تذکّرنا مسألة علمیّة أو غیر علمیّة، دنیویّة أو غیر دنیویّة، کلّما یخطر فی أذهاننا فعلینا أن نتذکّر هذا الحدیث للنبی الأکرم صلی الله علیه و آله وأنّ الشیطان قد ساقنا إلی وادی الغفلة عن صلاتنا، والشیطان یرید أن نعیش الغفلة عن اللّه وعن الذکر وعن حضور القلب لئلا نتقرّب إلی اللّه تعالی ولا نحظی بإقبال اللّه تعالی علینا، ومن هذا المنطلق یجب الاهتمام بمسألة حضور القلب فی الصّلاة.

وجاء فی روایة عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال:

«إِذَا کُنتَ فِی صَلاتِکَ فَعَلَیکَ بِالخُشُوعِ وَالإِقبَالِ عَلَی صَلاتِکَ فَإِنَّ اللّهَ تَعالی یَقُولُ الَّذِینَ هُمْ فِی صَلاتِهم خاشِعُون»(1).

ویقول الإمام الثامن علی بن موسی الرضا علیه السلام فی روایته عن أمیرالمؤمنین صلوات اللّه وسلامه علیه أنّه قال:

«طُوبی لِمَن أَخلَصَ للّهِ العِبادَةَ وَالدُّعاءَوَلَمْ یَشغَلْ قَلْبَهُ بِما تَری عَینَاهُ وَلَمْ یَنسَ ذِکرَ اللّهِ بِما تَسمَعُ اذُنَاهُ»(2)

وللأسف أنّ الإنسان أحیاناً یقف للصّلاة فی مکان تسمع فیه أصوات مختلفة حتّی أصوات اللعب واللهو فیستمع إلیها هذا المصلّی فتثیر فی نفسه غبار الغفلة والإعراض عن اللّه، فأی صلاة هذه نصلّیها ونتقرّب بها إلی اللّه؟! یجب علی المصلّلی أن یعیش حالات التوجّه إلی اللّه فی کلّ جوارحه وقلبه وأن یستقبله بنفسه وعینه واُذنه حتّی تستطیع مثل هذه الصّلاة أن تعرج به فی عالم الملکوت وتصعد به إلی أجواء عالم القرب الإلهی.

ص:66


1- (1) وسائل الشیعة، ج 5، ص 473.
2- (2) سورة المؤمنون، الآیة 1 و 2.

18- لزوم حضور القلب والخشوع

قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله: «اعبُدُ اللّهَ کَأَنَّکَ تَراهُ فَإِنْ لَمْ تَکُنْ تَراهُ فَإِنَّهُ یَرَاکَ».(1)

ذکرنا آنفاً بعض الآیات والروایات المتعلّقة بحضور القلب فی الصّلاة، ونوصی الإخوة والأخوات المؤمنین بأن یتمعّنوا فی هذه الآیات والروایات الواردة فی مسألة حضور القلب، ولو أنّهم التفتوا إلی مضمون هذه الروایات فسوف تتغیر صلاتهم وتصبح صلاة أخری، یقول النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله: «اعبُدُ اللّهَ کَأَنَّکَ تَراهُ فَإِنْ لَمْ تَکُنْ تَراهُ فَإِنَّهُ یَرَاکَ»، فهو یری قیامنا وقعودنا ویسمع کلماتنا، والحقیقة أننا لو التفتنا فی حال الصّلاة لکلام النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله فسوف نشعر بحالة أخری، ونعیش البهجة ونشعر بإقبال اللّه تعالی علینا.

ونقرأ فی روایة أخری عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله أیضاً أنّه یقول:

ص:67


1- (1) مصباح الشریعة، ص 453.

بَینَ صَلاتَهِما مِثلَ مَا بَینَ السَّماءِ والأَرض»(1). فما هو هذا الشیء الذی خلق هذه الفاصلة البعیدة؟ هل هناک غیر الخشوع والإقبال والتوجّه إلی اللّه تعالی والحضور بین یدی فی أفضل الصلاتین وانعدام هذا الحال فی الأخری؟

وجاء فی روایة أخری عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله أنّه قال:

«إِنَّ مِنَ الصَّلاةِ لَما یُقبَلُ نِصفُها وَثُلُثُها وَرُبُعُها وَخُمُسُها إِلی العُشرِ، وإِنَّ مُنها لَمَا یُلَفُ کَمَا یُلّفُ الثَّوبُ الخَلَقُ فَیُضرَبُ بِها عَلَی وَجَهُ صَاحِبِها»، فی بعض هذه الصّلاة التی نصّلیها للّه تعالی لا نشعر بها فتلف وتلقی علی وجوهنا وتردّ علینا، وهذا یعنی أنّ هذه الصّلاة لا قیمة لها عند اللّه إطلاقاً ولا تساوی شیئاً فی عالم الملکوت، وهکذا یتمّ إعادة هذه الصّلاة إلی صاحبها من موقع الرفض لها وعدم قبولها، والنّبی الأکرم صلی الله علیه و آله یعطینا قاعدة کلیّة ویقول: «وَإِنَّ لَک مِنْ صَلاتِکَ مَا أَقْبَلَتَ عَلَیهِ بِقَلبِکَ»(2).

وجاء فی روایة عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال: «وَاللّهِ إِنَّهُ لَیَأتِی عَلَی الرَّجُلِ خَمسُونَ سَنةً وَما قَبِلَ اللّهُ مِنْهِ صَلاةً وَاحِدَةً».

ثمّ قال علیه السلام: «فَأَیُّ شَیءٍ أَشَدُّ مِنْ هَذا؟»(3).

هل فکّرنا یوماً فیما یتعلّق بصلاتنا الماضیة وهل أنّها کانت مقبولة عند الحقّ تعالی؟ ونعرف بعض الکبار من المراجع أنّهم کانوا منذ بلوغهم وحتی قبل ذلک إلی آخر عمرهم یهتمّون بأداء صلاتهم بدقّة متناهیة ویحافظون علی وقتها ولکنهم کانوا یقولون، إننی أعدت صلاتی لسنوات عمری ثلاث مرّات، وهذا الاهتمام البالغ بالصّلاة بسبب هذه الروایات التی تتحدّث عن حضور القلب فی الصّلاة ولأنّهم کانوا یقولون أنّه ربّما لم تکن الصّلاة التی صلّینا مورد قبول الباری

ص:68


1- (1) . بحار الأنوار، طبعة بیروت، ج 81، ص 249.
2- (2) بحار الأنوار، طبعة بیروت، ج 80، ص 260.
3- (3) الکافی، المطبعة الإسلامیّة، ج 3، ص 269.

تعالی أو إنّنا لم نُقبِل علی اللّه فیها وبالتالی فإنّ اللّه تعالی لم یُقبِل علینا فیها، ولذلک نعید هذه الصّلاة مادمنا أحیاء لعلّها تکون مورد قبول وإقبال من اللّه.

لماذا نقصّر فی أداء الواجبات والصلوات الیومیّة، ونوکل ذلک بعد فوت وقتها، ونوصی بقضاءها عنّا بعد وفاتنا؟ إذن ثمّة نقص وقصور فی صلاتنا فیجب علینا مادمنا أحیاء جبران هذا النقص والخلل، فرکعة واحدة من الصّلاة التی نصلّیها ونحن أحیاء لا تقبل المقارنة مع عشر سنوات من الصّلاة بعد وفاتنا، ویجب علینا أن نصلّی بحضور القلب وإقبال النفس علی الصّلاة لکی تکون مقبولة إن شاء اللّه من الباری تعالی بلطفه وکرمه.

ص:69

19- کیفیّة تحقیق اللذّة من الصّلاة

إنّ أفضل دلیل علی أنّ حضور القلب فی الصّلاة أمر ضروری ولازم، الروایات الواردة فی هذا الباب، فمن مجموع هذه الروایات یمکننا نستوحی نقاطاً کثیرة، والالتفات إلی هذه النقاط الموجودة فی الروایات، من شأنه تیسیر حضور القلب لدی المصلّی، مثلاً ما ورد فی روایة الإمام الباقر علیه السلام والتی نقلها المرحوم الکلینی فی کتابه «الکافی» أنّ المصلّی عندما یقف للصّلاة «وَکَّلَ اللّهُ بِهِ مَلَکاً قَائِماً عَلَی رَأَسِهِ»(1)، فالالتفات إلی هذه النقطة یستدعی حالة الخشوع لدی المصلّی، فعندما یقف الإنسان للصلاة بین یدی الباری تعالی ویعلم أنّ اللّه تعالی قد وکّل به ملکاً وأنّ جمیع الجنود الإلهیّة وملائکة السماء یتنظرون لیروا ماذا یصنع هذا الشخص، فساحة الربوبیّة، ساحة عظیمة جدّاً، وعندما یعلم المصلّی أنّه قد فتح له الطریق لعالم الملکوت وفتحت له باب المناجاة والحدیث مع اللّه وکأنّ اللّه قد فتح أبواب رحمته علی هذا الإنسان المصلّی ودعا جمیع الملائکة لیروا عمله

ص:70


1- (1) . الکافی، المطبعة الإسلامیّة، ج 3، ص 265.

فإنّ هذا الشعور وهذا الفهم من شأنه أن یخلق فی نفسه حالة الخشوع وحضور القلب.

ولا یتصوّر المکلّف أنّه فی حال الصّلاة لا یلتفت له أحد ولا یسمع کلامه أحد، ولا یری أحد حرکته وقیامه وقعوده، إنّ اللّه تعالی عندما یرتکب المرء ذنباً وخطیئة فإنّه بحکم لطفه ورحمته به لا یسمح للملک بکتابة هذا الذنب فی صفحة عمله، ویمنع المأمورین به من الاطّلاع علی ذنبه، فکیف الحال عندما یقف الإنسان فی صلاته بین یدی ربّه، فانظر ماذا یصنع اللّه؟ وماذا یوفّر له من أسباب التوفیق، وما هو حاله فی عالم الملکوت؟ أحیاناً نتصوّر أنّ الصّلاة هی تکلیف ظاهری فقط ویجب علینا أداء هذا التکلیف ونعتبر أنّ اللّه تعالی مولانا قد طلب منّا امتثال هذا التکلیف وأداء هذه الوظیفة ولا شیء آخر، فی حین أنّ الصّلاة تخلق تحوّلاً کبیراً فی عالم الإنسان وملکوته، وتصعد بالإنسان إلی مراتب عالیة وتحشره فی زمرة الملائکة الإلهیین، وتجعله مشهوداً ومشهوراً لهم، فعندما نقف للصّلاة ینبغی أن نستحضر هذا الملک الموکّل وجنود اللّه الآخرین بل أحیاناً نستطیع أن نجعل من هؤلاء الجنود الإلهیین واسطة بیننا وبین عالم الملکوت ونتحدّث بلسان القلب معهم لترتفع حاجاتنا ومناجاتنا بشکل أفضل إلی ذلک العالم.

علینا الانتباه إلی أنّ ذلک الملک موکّل من قِبل اللّه تعالی، فماذا یقول هذا الملک؟ هل أنّ هذا الملک یرید أن یعلم أنّ هذا الشخص قد أدی واجبه أم لا؟ فلو أنّ الإنسان أصغی بقلبه إلی ذلک الملک ماذا یقول له:

«لَو تَعلَمُ مَنْ یَنظرُ إِلَیکَ وَمَنْ تُناجِی مَا التِفتَ وَلا زِلتَ مِنْ مَوضِعِکَ أَبَداً»(1)، أی أنّ الإنسان إذا علم فی حال الصّلاة أنّ اللّه تعالی ینظر إلیه بنظره الخاص وأنّه فی موقع حضور اللّه تبارک وتعالی، فرغم أنّ جمیع أعمالنا وحالاتنا وسکناتنا،

ص:71


1- (1) . الکافی، المطبعة الإسلامیّة، ج 3، ص 265.

ونومنا ویقظتنا وجمیع أمورنا تحت نظر اللّه تعالی، فلو أنّ اللّه لم ینظر إلی هذا العالم لحظة واحدة لفنی هذا العالم، ولکن فی حال الصّلاة هناک نظر إلهی خاصّ، بمعنی أنّ اللّه تعالی ینظر بنظر خاصّ إلی هذا الإنسان فی حال الصّلاة، أی أنّه دخل فی ضیافة اللّه وفی مضیفه وجلس معه فی لقاء خاصّ، ومع أنّ هذا اللقاء خاصّ بینه وبین اللّه تعالی فإنّ اللّه حشّد له کثیر من العوامل لیشعر بهذه الحالة الملکوتیّة، فالملک یقول له:

«لَو تَعلَمُ مَنْ یَنظرُ إِلَیکَ وَمَنْ تُناجِی مَا التِفتَ وَلا زِلتَ مِنْ مَوضِعِکَ أَبَداً»، أنت فی حال الحدیث والمناجاة مع الموجود المطلق المهمین علی جمیع أجزاء العالم، وجمیع العالم وما فیه بمثابة الذرّة الصغیرة والصفر أمامه، الموجود الذی یستطیع أن یفنی هذا العالم بما فیه بطرفة عین، کما أنّه أوجد هذا العالم بطرفة عین، الموجود الذی یستطیع الإنسان أن یطلب منه کلّ ما یرید «إِنَّ اللّهَ عَلی کُلِّ شَیْ ءٍ قَدِیرٌ» ، الموجود الذی یعلم بما یجری فی باطن الإنسان ویعلم بخطرات قلبه ونوایاه، الموجود الذی یرید مصلحة الإنسان وخیره، وهکذا یقف المصلّی فی مقابل مثل هذا الموجود العظیم ویناجیه ویدعوه، ویقول له هذا الملک: لو أنّک تدرک لذّة هذا النظر وهذه المناجاة «مَا التِفتَ وَلا زِلتَ مِنْ مَوضِعِکَ أَبَداً»، بحیث إنّک تترک جمیع الأعمال وتستمر فی صلاتک أبداً ولا تلتفت إلی شیء آخر أبداً، فتترک الدنیا وما فیها وجمیع أمور المعیشة بل لا تلتفت إلی أحبّ الأشیاء لدیک، فلو أنّ الإنسان فی حال الصّلاة أدرک ولو بمقدار قلیل لذّة النظر والمناجاة مع اللّه، فإنّه لا یلتفت إلی ما سوی اللّه أبداً، بل إنّک لا ترید أن تفعل شیئاً سوی الصّلاة، ولهذا السبب أحیاناً نری أنّ أولیاء اللّه فی بعض الأیّام یصلّون ألف رکعة من الصّلاة ولا یشعرون بالتعب والملل، وهم یعیشون دوماً حالة البهجة واللذّة من مناجاتهم مع اللّه، فینبغی علینا أن نهتمّ بأمر صلاتنا، فإنّ أبواب لطف اللّه وکرمه وفضله تنفتح علینا أکثر فی صلاتنا، وسوف نذوق لذّة المناجاة مع اللّه إن شاء اللّه.

ص:72

20- اللّه یتعهّد بالصّلاة، بإدخال المصلّی إلی الجنّة

قال الإمام الصادق علیه السلام: «... مَنْ أَقَامَ حُدُودَهُنَّ وَحَافَظَ عَلَی مَوَاقیتِهِنَّ لَقِی اللّهَ یَومَ القِیامَةِ وَلَهُ عِنْدَهُ عَهدٌ یُدخِلُهُ بِهِ الجَنَّةَ».(1)

إنّ لحضور القلب فی الصّلاة له آثار وثمرات کثیرة للمصّلی، وأحد هذه الآثار المترتبة علی حقیقة الصّلاة هو أنّ الصّلاة بمثابة عهد بین الإنسان وربّه، فالمصلّی یعلم أنّ حقیقة الصّلاة هی عهد یوجده مع اللّه، وبهذه الطریقة یدخل هذا المصلّی الجنّة الخالدة والنعیم الدائم، وربّما یخطر فی ذهن البعض هذا السؤال وهو: ما هو الفرق بین الإنسان المصلّی مع غیر المصلّی؟ هل أنّ الفرق فی أنّ المصلّی یؤدّی تکلیفه الظاهری فیمتثل أمر اللّه تعالی بالعبادة والصّلاة بینما الشخص الآخر لا یمتثل لأمر اللّه ولم یؤدّی تکلیفه الشرعی؟ أو أنّ هذه المسألة لا تنتهی عند هذا الحد، فحسب ما ورد فی روایة نقلها المرحوم الکلینی فی کتابه «الکافی» من وجود عهد بین المصلّی وربّه من خلال هذه الصّلاة بحیث یکون المصلّی من أهل

ص:73


1- (1) مصباح الشریعة، ص 453.

الجنّة، یقول أبان بن تغلب: «کُنتُ صَلَّیتُ خَلْفَ أِبی عَبدِ اللّهِ علیه السلام بِالمُزدَلِفةِ فَلَمّا انصَرَفَ إلتَفتَ إِلَیَّ فَقَالَ: یا أَبانُ الصَّلَواتُ الخَمسُ مَفرُوضاتُ مَنْ أَقَامَ حُدُودَهُنَّ وَحَافَظَ عَلَی مَوَاقیتِهِنَّ لَقِی اللّهَ یَومَ القِیامَةِ وَلَهُ عِنْدَهُ عَهدٌ یُدخِلُهُ بِهِ الجَنَّةَ»(1)، وهذا یعنی أنّ حقیقة الصّلاة هی عهد بین هذا المصلّی وبین اللّه تعالی وبوسیلة هذا العهد یدخل هذا المصلّی الجنّة.

ونری أنّ هذه الروایة قد عبرت عن الصّلاة بالعهد، یعنی أنّ اللّه تبارک وتعالی یتعهّد فی مقابل هذه الصّلاة التی صلّاها هذا الشخص وأقام حدودها وشروطها والتزم بخصوصیّاتها أن یدخله الجنّة، ولکن ما معنی هذا العهد؟ العهد عبارة عن التزام وتعهّد، فاللّه تعالی یعقد عهداً ومیثاقاً بینه وبین هذا المصلّی، ونتیجة هذا العهد أنّ هذا الشخص یدخل الجنّة یوم القیامة: «وَمَنْ لَمْ قُیمْ حُدُودَهَنَّ وَلَمْ یُحافِظ عَلَی مَوَاقِیتِهِنَّ لَقِی اللّهَ وَلا عَهَدَ لَهُ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ»، فحتی لو صرخ بأننی قد صلّیت جمیع سنوات عمری وأدّیت ما علیَّ من الصّلاة فی حیاتی فلا یسمع له ویقال له: أین صلاتک؟ إنّ صلاتک لم تصعد إلی عالم الملکوت لکی یتسبّب فی إیجاد هذا العهد بین الإنسان وبین اللّه تبارک وتعالی.

وینبغی الالتفات إلی أننا فی کلّ مرّة نقف بین یدی اللّه تعالی للصّلاة فسوف ینعقد عهد جدید بیننا وبینه، وما ورد فی الروایات أنّ الصّلاة تتسبّب فی غفران الذنوب السابقة إنّما هو بسبب هذا العهد یعنی عندما یؤدّی الإنسان الصّلاة بشکل صحیح مع توفّر جمیع الشروط والخصوصیّات فإنّ اللّه تعالی یتعهّد أن یمحو ذنوب هذا المصلّی ویغفرها له ویجعله من أهل الجنّة.

إذن فقد ورد فی هذه الروایة أنّ هذا العهد بین الإنسان وربّه فی دخول الجنّة یتمثّل فی الصّلاة مع حضور القلب وتوفّر جمیع شروط الصّلاة، فلو أنّ المصلّی

ص:74


1- (1) . الکافی، المطبعة الإسلامیّة، ج 3، 267.

لم یراع هذه الشروط فإنّ صلاته لا تکون مقبولة عند اللّه فیأتی یوم القیامة فلا یجد شیئاً من صلاته قد کتب فی صحیفة أعماله: «لَقِی اللّهَ وَلا عَهَدَ لَهُ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ»، والآن لو لم یکن هناک عهد بینه وبین اللّه فما هی النتیجة؟ «إن شاء عذبه وإن شاء غفر له»، وهکذا یتبیّن أنّ الإنسان لو أدی الصّلاة بجمیع خصوصیّاتها فإنّها سوف توجب عهداً لهذا الإنسان من اللّه وأنّه یستحق دخول الجنّة، ولکن إذا لم یکن هناک مثل هذا العهد فهذا الشخص لا یستحق الجنّة، بل یستحق العذاب، إذن فأحد الأثار والثمرات المترتبة علی الصّلاة، إیجاد عهد بین الإنسان وربّه.

نرجو أن یجعل اللّه تعالی صلواتنا بحیث یستوجب هذا العهد ببینا وبین اللّه لکی نستحق دخول الجنّة بواسطة هذه الصّلاة إن شاء اللّه.

ص:75

21- حقیقة الصّلاة تتجلّی فی الرکعة الاُولی

قال الإمام الرضا علیه السلام: «... أَصلُ الصَّلاةِ إِنَّما هِی رَکعَةٌ وَاحدَةٌ».(1)

بالنسبة للعلاقة بین حقیقة الصّلاة وباطنها نواجه نقطة مهمّة وردت فی الروایات الشریفة، وهی أنّ حقیقة کلّ صلاة تکمن فی الرکعة الاُولی منها، فلو أنّ المصلّی استطاع فی الرکعة الاُولی من صلاته منذ أن یکبّر تکبیرة الإحرام إلی نهایة السجدة الثّانیة أن یحفظ حضور القلب بشکل کامل فإنّه یستطیع بمقدار معین الاطلاع علی حقیقة وأسرار الصّلاة، وسبق أن ذکرنا أنّ اللّه تبارک وتعالی لا یبخل علی عباده بمعرفة حقائق الصّلاة وأسرارها ولا یحرمهم من هذا الفیض، ومن هذه الجهة اضیفت لأصل الصّلاة وهی رکعة واحدة، رکعة ثانیّة أیضاً، لأنّ غالبیّة الأشخاص ربّما لا یتوجّهون فی الرکعة الاُولی إلی حقیقة الصّلاة وخصوصیّاتها، وبعد ذلک قام النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله أیضاً بإضافة رکعة واحدة أو

ص:76


1- (1) وسائل الشیعة، ج 4، ص 53.

رکعتین لبعض الصّلاة الیومیّة، وکانت النتیجة أن أصبحت هذه الصلوات متکّون من ثلاث رکعات أو أربع رکعات، ولکن أصل وحقیقة الصّلاة هی الرکعة الاُولی منها، ولکن بما أننا لا نستطیع غالباً أن نحصل علی حضور القلب بشکل کامل فی الرکعة الاُولی بسبب تشتت الخاطر وتشتت الذهن وتناثر الأفکار، فإنّ اللّه تبارک وتعالی لم یوصد الطریق أمامنا فأضاف إلیها الرکعة الثّانیة لیتمکّن المصلّی من جبران الفراغ والخلل الحاصل فی الرکعة الاُولی بهذه الرکعة الثّانیة.

وینقل صاحب کتاب «وسائل الشیعة» روایة عن کتاب «عیون أخبار الرضا» عن الإمام الثامن علی بن موسی الرضا علیه السلام أنّه قال:

«إِنّما جَعَلَ اللّهُ أَصلَ الصَّلاةِ رَکعَتَینِ وَزِیدَ عَلی بَعضِها رَکعَةٌ وَعَلَی بَعضِها رَکعَتانِ، وَلَمْ یُزَد عَلَی بَعضِها شَیءٌ لأَنّه أَصلُ الصَّلاةِ إِنَّما هِی رَکعَةٌ وَاحدَةٌ، لأَنَّ العَدَدِ وَاحِدٌ فإِذا نَقصَتْ مِنْ وَاحِدٍ فَلَیستْ هِی صَلاةٌ فَعَلِمَ اللّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ العِبادَ لا یُؤدُّونَ تِلکَ الرَّکعَةَ الوَاحدَِةَ الَّتِی لاصَلاةَ أَقَلَّ مِنها بِکَمالِها وَتَمامِها وَالإقبالِ عَلَیها، فَقَرَّقَ إِلَیها رَکعَةٌ أُخری لِیَتُمَّ بِالثَّانِیةِ مَا نَقَصَ مِنَ الأُولی فَفَرَضَ اللّهُ عَزَّ وَجلَّ أَصلَ الصَّلاةِ رَکْعَتَینِ، ثُمَّ عَلِمَ رَسُولُ اللّه صلی الله علیه و آله أَنَّ العِبادَ لایُؤدّونَ هَاتَینِ الرَّکْعَتَینِ بِتَمامِ مَا أُمِرُوا بِهِ وَکَمَالِهِ، فَضَمَّ إِلی الظُّهرِ وَالعَصرِ وَالعِشاءِ الآخرِةِ رَکْعَتَینِ رَکْعَتَینِ»(1)، وهذا هو ما ورد فی فقهنا بعنوان فرض النّبی، وعلی هذا الأساس یجب علینا السعی لنحصر فکرنا وبشکل کامل ونهتمّ لحضور القلب فی الرکعة الاُولی، وبشکل عام عندما نقف للصّلاة بین یدی اللّه ولمّا کنّا لا نعلم متی یحین أجلنا وتحین ساعة الموت فینبغی أن نقول لأنفسنا أننا ربّما لا نوفّق لأداء الرکعة الثّانیة، فیجب ترکیز الذهن والقلب بالصّلاة، وفی الرکعة الاُولی بالذات، وهنیئاً

ص:77


1- (1) . وسائل الشیعة، ج 4، ص 54.

للأشخاص الذین یعیشون هذه الحالة فی صلاتهم، ولو أننا أوحینا إلی أنفسنا بمثل هذا التلقین وعندما نقف للصّلاة نفکر أنّ هذه الصّلاة هی آخر صلاة نصلّیها للّه فسوف نشعر بحالة روحیة أخری، وسوف نعیش حضور القلب أکثر، وهکذا تکون صلاتنا وعبادتنا للّه تعالی.

ص:78

22- مراتب حضور القلب

قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله: «إِنَّ اللّهَ لایَنظُرُ إِلی صُوَرِکُم وَأَعمَالِکُم وَإِنَّما یَنظُر إِلی قُلُوبِکُم».

أشرنا فی البحوث السابقة إلی مراتب حضور القلب فی الصّلاة، وأحد النقاط المهمّة فی هذا الموضوع هو أن لا یتصوّر المصلّی أنّ حضور القلب فی الصّلاة له معنی سطحی وساذج وهو مجرّد الالتفات إلی حضوره أمام اللّه تعالی، وحضور القلب فی الصّلاة له مراتب عدّة وبعض هذه المراتب میسورة لجمیع الناس، وبعضها الآخر لا یتیسر فهمها ودرکها حتّی للعرفاء والکُمل من الأولیاء فضلاً عن العمل بها وتجسیدها علی أرض الواقع، وأساساً لو أننا أرادنا الوصول إلی حقیقة الصّلاة فیجب علینا سلوک هذه المراتب للحضور بشکل أکمل من السابق، أی أنّ حضور القلب فی الصّلاة فی هذا الیوم یجب أن تکون أکمل وأفضل من الیوم السابق، ویجب الالتفات إلی هذه الحقیقة وهی أنّه کلما توجّهنا إلی مراتب حضور القلب أقوی وأشد فإنّ کشف أسرار الصّلاة للإنسان یتیسر أکثر، حتّی یصل الإنسان إلی تلک المراتب العالیة من حضور القلب وتنکشف بعض أسرار الصّلاة لبعض هؤلاء المصلّین کما ورد فی بعض الروایات:

ص:79

«إِنَّ اللّهَ لایَنظُرُ إِلی صُوَرِکُم وَأَعمَالِکُم وَإِنَّما یَنظُر إِلی قُلُوبِکُم»(1)، ورغم أنّ تکلیف الإنسان یکمن فی الوصول إلی حقیقة وعمق الصّلاة وأسرارها من خلال سلوک طریق الظاهر، فلا أحد یمکنه أن یدعی الوصول إلی الحقائق من غیر طریق الصّلاة، ولا یمکن أن یحقّق أی إنسان هذا الهدف بدون الصّلاة، فهذا ادعاء الجهلاء من الناس ولا یقوم علی أساس متین، لأنّ الوصول إلی أسرار الصّلاة وهی عبادة لها أسرار خاصّة بها، لا یمکن الوصول إلیها من طریق الآخر غیر الصّلاة، ولکن بحسب هذه الروایة أنّ اللّه تعالی ینظر فی هذه الصّلاة إلی قلب المصلّی ونیّته.

إنّ نظر الباری تعالی إلی قلب المؤمن یترتب علیه أن یکون قلب المصلّی مستعداً لتلقی بعض الأسرار وانکشافها له، ومن هذه الجهة یستحب للإنسان فی حال الصّلاة أن ینظر إلی موضع السجدة من صلاته وینتبه إلی أنّه یقف فی مقابل أعظم موجود فی هذا العالم فینظر إلی موضع سجوده والمکان الذی یضع أفضل وأشرف قسم من بدنه وهو جبهته، وهذا معنی حضور القلب، ولو أنّ الإنسان استطاع إیجاد بعض هذه المراتب فی نفسه وفهمها فسوف تنکشف له أسرارها، وما ذکره بعض أولیاء اللّه أنّه توجد فی بعض مراتب حضور القلب من اللذّة والبهجة ما لا توجد فی مراتب أخری.

وعلی هذا الأساس نؤکّد علی هذه النقطة، وهی أنّ حضور القلب له مراتب متعدّدة، ولا ینحصر بعنوان ثابت وتوجّه إجمالی بأن یعلم الشخص أنّه واقف بین یدی اللّه تعالی، وطبعاً هذا المعنی لوحده یعدّ أمراً مهمّاً جدّاً، ولکن حقیقة حضور القلب لا تنحصر بهذا المقدار، بل هو أوّل قدم للمصلّی أن یعلم أنّه یقف بین یدی اللّه القادر المطلق، إنّ هذا المعنی یعتبر أوّل وأقلّ مرتبة من مراتب حضور القلب، وهناک مراتب أخری سوف نشیر إلیها لاحقاً إن شاء اللّه.

ص:80


1- (1) . بحار الأنوار، ج 67، ص 248.

23- الحضور الإجمالی: والاشتغال بحمد اللّه وثنائه

«إِنِّی وَجَّهْتُ وَجْهِیَ لِلَّذِی فَطَرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ حَنِیفاً وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِکِینَ». (1)

ذکرنا أنّ حضور القلب فی الصّلاة له مراتب عدیدة وأنّ الإنسان المصلّی یجب علیه الالتفات إلی هذه المراتب، وطبعاً فإنّ فهم وتحقّق بعض هذه المراتب میسور لجمیع الأفراد والبعض الآخر لیس میسوراً للجمیع، وفهم بعضها یعتبر محالاً للکثیر من الناس.

ومن بین ثلاثة کتب معروفة تتحدّث فیما یخصّ أسرار الصّلاة وتکالیف المصلّین القلبیّة، کتاب «التنبیهات العلیة» للشهید الثانی رضوان اللّه علیه، و «أسرار الصّلاة» للمرحوم المیرزا جواد الملکی التبریزی رضوان اللّه علیه، و «سرّ الصّلاة» للإمام الخمینی رضوان اللّه علیه، وهذه الکتب الثلاثة تحدّثت عن هذا الموضوع بالذات، وأدقّ کتاب منها فی بیان مراتب حضور القلب ما نراه فی کلمات الإمام الخمینی رضوان اللّه تعالی علیه، بالرغم من أننا عندما نطالع کتاب

ص:81


1- (1) سورة الأنعام، الآیة 79.

«سرّ الصّلاة» للإمام الخمینی، فسوف یتبیّن لنا بشکل واضح أنّ الإمام قدس سره فی کلامه هذا ناظر إلی کتاب الشهید الثانی قدس سره، ولکن العمق والدقّة فی بیان مراتب حضور القلب فی کلمات الإمام الراحل قدس سره لا توجد مثلها فی کتاب الشهید الثانی قدس سره، الإمام الراحل رضوان اللّه علیه ذکر ثمان مراحل لحضور القلب وفی المرحلة الثامنة یقول: «إنّ هذه المرحلة لها مراحل عدّة نعجز عن فهمها ودرکها وبیانها، وسنشیر نحن أیضاً إلی هذه المراتب بحدود معینة».

یقول الإمام الخمینی قدس سره(1): أوّل مرحلة من حضور القلب الحضور الإجمالی، للحصول علی هذه المراتب میسور لجمیع الناس، فمعنی الحضور الإجمالی هو أنّ الإنسان یفهم قلبه ویعلم بأنّه یقف فی مقام المدح والثناء للحقّ تبارک وتعالی، والمصلّی یعلم أنّه یقف فی مقام التسبیح والتنزیه والتقدیس وبیان صفات الباری تعالی وحمده، ولو أنّه لا یعلم کیف یکون حمده وتسبیحه، بل یعلم فقط أنّه فی حال بیان صفات اللّه وتسبیحه وتنزیهه، ولکنّه قد لا یلتفت إلی حقیقة هذا الوصف وبأی بیان وکلام، وهذا مثل الشاعر الذی یمدح شخصاً کبیراً وجلیلاً بحضور طفل، فهذا الطفل لا یعلم ما یقوله هذا الشاعر، ولکنّه یدرک أنّه یتحدّث عن مدح وتجلیل هذا الشخص المحترم، وهکذا حال المصلّی وهذه أوّل مرتبة لحضور القلب، بأنّ یعلم المصلّی أنّه فی مقام الثناء للّه، وأی ثناء؟ أنّه کما أثنی اللّه علی نفسه وما ورد علی لسان الخاصّین من أولیائه.

والإمام رضوان اللّه علیه یلفت النظر إلی نقطة مهمّة لا یتیسر فهمها علی الأشخاص العادیین، وهو أنّ الشخص الذی یحمد اللّه ویثنی علیه یقول فیما بینه وبین اللّه: إلهی! أنا لست جدیراً ولائقاً للثناء علیک، بل أنا اثنی علیک کما أثنی علیک أولئک الأولیاء فی صلاتهم وعبادتهم، وأنا اسبحک واُثنی علیک بلسانهم،

ص:82


1- (1) . سرّ الصّلاة (معراج السالکین)، ص 17.

هذا الثناء بلسان الأولیاء بعید عن أی شبهة الکذب والنفاق، فالإنسان إذا أراد أن یحمد اللّه ویثنی علیه من قِبل نفسه، بما أنّ قوله لا یتطابق مع عمله فسوف یرتکب الکذب والنفاق، ولکنّه عندما یحمد اللّه ویثنی علیه بلسان الأولیاء فإنّ قوله یتطابق مع عمله.

ونقرأ فی الصّلاة عبارات وأذکار خاصّة من قبیل قولنا قبل الشروع بالصّلاة:

«إِنِّی وَجَّهْتُ وَجْهِیَ لِلَّذِی فَطَرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ حَنِیفاً وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِکِینَ» ، فهل أنّ هذا الإنسان عندما یتکلّم بهذا الکلام صادق واقعاً وأنّه یتوجّه فقط فی هذه الحال إلی خالق السماوات والأرض أو أنّ وجهنا متوجّه نحو الدنیا حتّی عندما نقف للصّلاة فإننا نطلب من اللّه تعالی حاجاتنا الدنیویّة، وعندما تکون عبارة «...

وَجَّهْتُ وَجْهِیَ...» ، خالیة من الکذب والنفاق یجب علینا أن ننوی مثل هذه النیّة، أی کما أنّ أولیاء اللّه العظام مثل إبراهیم الخلیل علیه السلام قال هذا الکلام وهذا الدعاء فأنا أیضاً ارید أن احقّق فی نفسی هذا الدعاء، وعندما نصل إلی الآیة «إِیّاکَ نَعْبُدُ...» ، وننظر إلی قلوبنا وباطننا فماذا نری وماذا یوجد فی نفوسنا من آلهة غیر اللّه، إذن لا یمکن القول بأنّ هذه العبارة ذکرت من موقع الصدق.

إذا أردنا أن ینطلق هذا الکلام من موقع الصدق والحقیقة، فیجب أن ینطلق من موقع کلام الأنبیاء والأولیاء وأنّهم هکذا حمدوا اللّه وأثنوا علیه فی محضرک المقدّس وقالوا: «إِیّاکَ نَعْبُدُ...» ، فنحن أیضاً نذکر هذا الکلام فی الصورة.

وینقل هذا الکلام الإمام رضوان اللّه علیه فی کتابه عن استاذه المرحوم شاه آبادی - قدّس سرّ - (1) وأنّه قال: إنّ الشخص الداعی یدعو بهذا الدعاء بلسان مصادره والقائل له، وهکذا الحال فی غیر الصّلاة فإنّ کلّ دعاء ندعو به ینبغی أن یکون بلسان ذلک الشخص الذی صدر منه هذا الدعاء، وبهذا المعنی سیکون

ص:83


1- (1) . سرّ الصّلاة (معراج السالکین)، ص 18.

الدعاء أقرب للإجابة وأفضل ممّا یقول الداعی ویدعو بهذا الدعاء بلسان حاله، والسبب فی أنّ الکثیر من أدعیتنا لا تقع موقع الإجابة هو لأننا ندعو بلسان حالنا، ولکن إذا دعونا اللّه تعالی بلسان الأشخاص الذین صدر منهم هذا الدعاء ووصل إلینا فإنّ هذا الدعاء سیکون أقرب للإجابة.

إذن فاوّل مرتبة من مراتب حضور القلب هو الحضور الإجمالی الذی یکون میسوراً لجمیع الأفراد، أی أننا نعلم بأننا نقف أمام اللّه تبارک وتعالی بحالة الدعاء والثناء والتقدیس والتسبیح.

ص:84

24- الالتفات إلی قبول الصّلاة

قال الإمام الصادق علیه السلام: «وَاللّهِ إِنَّهُ لَیأتِی عَلَی الرَّجُلِ خَمسُون سَنَةً وَمَا قَبِل اللّهُ مِنْهُ صَلاةً وَاحِدَةً فَأی شَیءٍ أَشَدُّ مِنْ هَذا...».(1)

أسلفنا أنّ حضور القلب التام یؤدّی إلی معرفة الإنسان بحقیقة الصّلاة وأنّ نورانیّة العبادة تتوقف علی حضور القلب، وکذلک قلنا إنّ حضور القلب له مراتب عدّة، وأوّل مرتبة لذلک هی مرتبة حضور القلب الإجمالی، یعنی أن یعلم المصلّی إجمالاً بأنّه مشغول فی صلاته فی مناجاة الباری تعالی وحمده وثنائه ولو لم یعلم بالألفاظ و الکلمات التی یحمد اللّه تعالی بها أو لم یلتفت إلی مفاهیم ومعانی الألفاظ التی یذکرها فی القراءة والرکوع والسجود، بل یعلم بها المقدار وهو أنّه مشغول بتکریم وتعظیم الباری تعالی وتسبیحه وحمده وتقدیسه.

وقبل بیان المراتب الأخری لحضور القلب فی الصّلاة نتبرک فی کلامنا بذکر روایة عن الإمام الصادق علیه السلام: «وَاللّهِ إِنَّهُ لَیأتِی عَلَی الرَّجُلِ خَمسُون سَنَةً وَمَا قَبِل اللّهُ

ص:85


1- (1) الکافی، المطبعة الإسلامیّة، ج 3، ص 269.

مِنْهُ صَلاةً وَاحِدَةً...»، فبالرغم من أنّ هذا الشخص قد أدّی تکلیفه الشرعی ولا یؤاخذ یوم القیامة علی ترک صلاته ولا یقال له لماذا لم تصلّ؟ ولکن مع ذلک فإنّ صلاته لا تقع مقبولة عند اللّه تعالی، فهذه الصّلاة لیست ممّا یترتّب علیها الآثار والثمرات الإلهیّة المقررة، وهذه الصّلاة لیست تلک الصّلاة التی ینظر الباری تعالی للإنسان بنظر اللطف والرحمة ولذلک یقول الإمام علیه السلام: «فَأی شَیءٍ أَشَدُّ مِنْ هَذا...»، وأی مصیبة أعظم وأشدّ من هذه الحالة؟ وهکذا ترون فی کلام أهل البیت علیهم السلام السعادة والشقاء تدوران علی ماذا؟ وقد جاء فی الروایات أنّ الشخص یُوفّق للصّلاة فی أوّل وقتها وبخاصّة صلاة الجماعة وبالأخصّ فی المسجد فیکون من مصادیق الأشخاص السعداء.

وأحد العوامل المهمّة فی ثقافتنا لنیل السعادة التوفیق للصّلاة فی أوّل وقتها وفی جماعة، ویقول الإمام الصادق علیه السلام فی هذه الروایة أیضاً أنّ الإنسان قد یمضی من عمره خمسین سنة وقد أدّی صلاته طوال هذه المدّة ولکنّ أیّاً من صلاته لم تقع مورد قبول الباری تعالی وهو من أشقی الناس، فهل خلونا بأنفسنا فی کلّ یوم ولیلة لحظة واحدة لنری أی مقدار من صلاتنا وقعت مورد القبول عند اللّه؟ هل نملک مثل هذا الحاجز بأن نتحمّل لدقائق معدودة محاسبة أنفسنا والتفکیر فی صلاتنا ورکوعنا وسجودنا وقیامنا وقعودنا هل أنّها ارتفعت إلی السماء؟ وهل أنّها وقعت مورد قبول الباری تعالی؟ یقول الإمام علیه السلام إذا کان هذا الشخص بمثل هذه الحالة فهو شخص سعید، ولکن لا سمح اللّه إذا لم تقبل صلاته، أی أنّ عبادته ودعاءه وصلاته لم تترک أی أثر وبدون فائدة فی ارتقائه المعنوی، فهذا یعنی أعظم شقاء یعیشه هذا الشخص، ویتابع الإمام علیه السلام فی هذه الروایة:

«وَاللّهِ إِنَّکُم لَتَعرِفُونَ مِنْ جِیرانِکُم وَأَصحَابِکُم مَنْ لَو کَانَ یُصلِّی لِبَعضِکُم مَا قَبِلَها مِنْهُ...»، أی لو أنّ أحداً من جیرانکم أو معارف سلّم علیکم بسلام مقترن

ص:86

بالاستخفاف فماذا یکون موقفکم منه؟ إذا کان سلامه علیکم من موقع الغرور والتکبر والأنانیّة، فهل تقبلون منه هذا السلام؟ ثمّ یقول علیه السلام: «اِنَّ اللّهَ عَزَّ وَجَلَّ لا یَقبَلُ إِلّا الحَسَنَ فَکَیفَ یَقبَلُ مَا یُستَخَفُ بِهِ»، هل صلاة التی نصلّیها ونتحدّث فیها مع اللّه تعالی ولکن فکرنا وذهننا فی ذلک الوقت مشغول بالأمور المادّیّة والدنیویّة، وکیف ندبّر أمورنا ومعاملتنا لنربح أکثر، أو کیف نستطیع أن نحصل علی المقام والموقف الفلانی، مثل هذه المعاملة مع اللّه تعالی الذی یعلم بنیّتنا وسریرتنا، فإنّها لا تحمل فی مضمونها سوی الاستخفاف به، نعوذ باللّه أن تکون مثل هذه الصّلاة تصغیراً لشأنه جلا وعلا، فعندما ننتهی من هذه الصّلاة نهتم بکلّ شیء غیره، فهل یصحّ أن نتوقع بعد ذلک أن تکون هذه الصّلاة مقبولة عند اللّه تعالی.

إذن یجب أن نهتمّ بأصل حضور القلب فی الصّلاة ومراتبه، فلو أننا لم نملک القدرة علی فهم مراتب حضور القلب فعلی الأقلّ تلک المرتبة الاُولی من حضور القلب الإجمالی والتی هی میسورة للجمیع، فلو لم یعلم الشخص الفرق بین التحمید والتسبیح والتنزیه فیکفی أن یعلم أنّه یقف بین یدی اللّه تعالی وأنّه یذکر عظمته وجلاله.

نسأل اللّه تعالی أن یوفّقنا جمیعاً لحضور القلب فی الصّلاة.

ص:87

25- المرتبة الاُولی من الحضور التفصیلی فهم معانی الکلمات

إنّ بحث حضور القلب ومراتبه فی الصّلاة یعتبر من البحوث المهمّة والضروریّة للإنسان المؤمن والمصلّی، وللأسف فإنّنا قضینا عمراً طویلاً دون أن نسأل من أنفسنا عن حضور القلب فی الصّلاة أو نسأل من شخص عالم وعارف أو شخص کبیر وصالح یملک حالة جیدة فی الصّلاة عن هذه المسألة، أو نسأل من إنسان مهذّب یعیش حالة الشوق للصّلاة ما هو حضور القلب فی الصّلاة؟ والأهمّ من ذلک نسأل عن النقاط المهمّة التی ترکها لنا علماء الأخلاق الکبار والعرفاء وبخاصّة المسائل العمیقة جدّاً التی ذکرها الإمام الراحل فی کتابه «سرّ الصّلاة»(1)

والتی یصعب جدّاً فهمها، ولکن بما أنّ الإمام الراحل قدس سره یتمتع بشخصیّة کبیرة ومهذّب فقد تجاوز الکثیر من المراتب فی سلوکه إلی اللّه ووصل إلی مراحل عالیة فی طریق المعنویّات والسیر إلی اللّه تبارک وتعالی، فیری الإنسان فی هذا

ص:88


1- (1) . سرّ الصّلاة (معراج السالکین)، ص 15-23.

الکتاب بحراً من المعارف الإلهیّة قدّمها لنا الإمام الراحل قدس سره کهدیة للاستعانة بها فی هذا الطریق.

وبعد أن ذکرنا مرتبة حضور القلب الإجمالی نتحدّث عن مسألة حضور القلب التفصلی فی الصّلاة، فالحضور التفصیلی للقلب فی الصّلاة له خمس مراحل، المرحلة الخامسة بنفسها لها ثلاث مراتب سنتعرض لها بالمقدار الممکن والمیسور لعموم الناس، وأوّل مرتبة من الحضور التفصلی للقلب هی أنّ الإنسان یفهم معانی الألفاظ التی یتکلّم بها فی الصّلاة، من التکبیرات الافتتاحیّة (التکبیرات التی یأتی بها المصلّی أوّل الصّلاة قبل النیّة)، إلی تکبیرة الإحرام والقراءة وذکر الرکوع، وذکر السجود وسورة الحمد التی تتضمن أصول معارف الدین من المبدأ والمعاد، وهی سورة فاتحة الکتاب، وکذلک سورة التوحید التی تتضمن معارف عمیقة جدّاً، فیما یتّصل بالذات المقدّسة وصفات الباری تعالی، وحضور القلب بشکل تفصیلی هو أن یفهم المصلّی معانی ومفاهیم الکلمات التی یقولها ویعلم ماذا یتحدّث مع اللّه تعالی وما هو مدلول الحمد والثناء فی أذکاره؟

یجب أن یفهم قلب العابد والمصلّی فی حال الصّلاة کلّ الکلمات التی یقولها، فعندما یقول: «إِیّاکَ نَعْبُدُ وَ إِیّاکَ نَسْتَعِینُ»1 علیه أن یفهم معنی هذه العبارة، ومن هنا یتّضح الفرق بین العالم والعابد، فالعالم یفهم معانی هذه الکلمات أمّا العابد فإنّه یفهم ظواهر هذه الألفاظ والکلمات لکنّه لا یفهم معناها والمفاهیم الکامنة فیها.

والنقطة المهمّة، أنّ کلّ إنسان لابدّ أن یفهم بمقدار إدراکه وفهمه معانی هذه الکلمات، ومن الخصوصیّات المهمّة جدّاً للقرآن هی أنّ کلمات القرآن الکریم لها معنی واسع وعمیق جدّاً، ولذلک فالأشخاص وبسبب اختلافهم فی الفکر قد

ص:89

یختلفون فی فهم معانی هذه الکلمات والألفاظ، النقطة التی أشار إلیها الإمام الراحل رضوان اللّه علیه فی هذه المرتبة الاُولی هی أنّ الإنسان المصلّی لا ینبغی أن یتصوّر أنّ معانی الألفاظ محدودة بهذه الحدود التی یفهمها، فعندما یقول:

«اِهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِیمَ»1 وإذا فهم معنی هذه العبارة فلا ینبغی أن یتصوّر أنّ هذا المعنی محدود بفهمه وحدود إدراکه، وأحد الأمور التی تضرّ کثیراً بالإنسان أن یعتقد بفهمه فقط فیتوقّف عند حدود هذا الفهم، یجب أن یعلم أنّه قد فهم القلیل من معنی الصراط المستقیم الذی یتضمّن معانی عدیدة وواسعة جدّاً، إنّ القناعة فی باب فهم کلمات بعض ألفاظ الصّلاة من شأنها أن تعیق الإنسان فی سیره وحرکته العلمیّة العملیّة، وهذه هی إحدی الحیل الشیطانیّة الشهیرة.

إنّ الشیطان یقول للإنسان فی حال الصّلاة أنّ صلاتک لیست بأکثر من ذلک، وهو ما تفهمه من هذه الألفاظ والکلمات ویکفی أن تؤدّی هذه القراءة والأذکار بهذه الحالة وبهذا المعنی، وهکذا نری أنّ الشیطان یسجن الإنسان فی فهمه الخاطیء لأذکار الصّلاة، إذن ففهم معانی الکلمات یعدّ المرحلة الاُولی من المراحل الخمس لمراتب حضور القلب التفصیلی للصّلاة.

وبعد هذه المرحلة من فهم الإنسان لمعانی الألفاظ والکلمات هناک مراحل أخری سنشیر إلیها لاحقاً إن شاء اللّه.

ص:90

26- المرتبة الثّانیة من الحضور التفصیلی: الفهم العقلی والبرهانی للکلمات

قال الإمام الصادق علیه السلام: «إِذا قَامَ العَبْدُ فِی الصَّلاةِ فَخفَّفَ صَلاتَهُ قَالَ اللّهُ تَبارَکَ وَتَعالی لِمَلائِکَتِهِ أَمَا تَرَونَ إِلی عَبدِی کَأَنَّهُ یَری أَنَّ قَضَاءَ حَوائِجِهِ بِیدِ غَیرِی أَمَا یَعلَمُ أَنَّ قَضاءَ حَوائِجِهِ بِیدِی»(1)

کان البحث حول حضور القلب فی الصّلاة ومراتب الحضور، وتقدّم فی البحث السابق استعراض المرتبة الإجمالیّة من حضور القلب فی الصّلاة وهی أنّ الإنسان یعلم أنّه مشغول بحمد اللّه وثنائه ولو لم یعلم معانی الکلمات وحقائق الأفعال والحرکات، أمّا المرتبة الثّانیة وهی الحضور التفصیلی للقلب قلنا إنّ هذا المورد له خمس مراحل: المرحلة الاُولی فهم معانی ومفاهیم الألفاظ والأذکار، وقبل أن نستعرض المراتب الأخری نتبرک بذکر هذه الروایة التی یرویها هشام بن صالح عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال: «إِذا قَامَ العَبْدُ فِی الصَّلاةِ فَخفَّفَ صَلاتَهُ.. قَالَ

ص:91


1- (1) الکافی، المطبعة الإسلامیّة، ج 3، ص 269.

اللّهُ تَبارَکَ وَتَعالی لِمَلائِکَتِهِ أَما تَرَونَ إِلی عَبدِی کَأَنَّهُ یَری أَنَّ قَضَاءَ حَوائِجِهِ بِیدِ غَیرِی أَمَا یَعلَمُ أَنَّ قَضاءَ حَوائِجِهِ بِیدِی»، وهذا یعنی أنّ هذا الشخص یؤدّی صلاته بهذه الصورة وکأنّه یشرک باللّه تبارک وتعالی ویری أنّ غیر اللّه مؤثر فی قضاء حوائجه «أَمَا یَعلَمُ أَنَّ قَضاءَ حَوائِجِهِ بِیدِی»، فلا یستطیع أی کائن آخر أن یحلّ مشاکله.

وهذه الروایة تشیر إلی أنّ المصلّی إذا أراد أن تکون صلاته مؤثرة بشکل کامل فعلیه مراعاة التوحید الحقیقی، فالصّلاة وضعت من أجل تقویة التوحید فی الإنسان، وفی مقابل ذلک فالإنسان إذا أراد تقویة توحیده وإیمانه یوماً بعد آخر ویعمّقه فی واقعه النفسانی یجب علیه أن یهتمّ بصلاته ویهتمّ بحضور القلب فی الصّلاة.

المرتبة الثّانیة من حضور القلب التفصیلی فی الصّلاة هی أن یتحرّک المصلّی، بعد فهم مفاهیم الکلمات وفهم معنی «إِیّاکَ نَعْبُدُ وَ إِیّاکَ نَسْتَعِینُ»1 ، لإدراک هذا المعنی العمیق بالعقل البرهانی والاستدلالی ومن خلال العقل الباحث عن الحقیقة، یجب أن یفهم بحقیقة العقل أنّ الصراط المستقیم لا یستطیع الإنسان سلوکه وتعبیده إلّابالاستعانة باللّه تبارک وتعالی وأنّ الطرق الأخری غیر صحیحة وتقوده إلی هاویة الضلالة والانحراف، وعندما یدرک الإنسان مفهوماً ومعنی معیناً ویستدل علی صحة هذا المعنی بالبرهان العقلی، فإنّ هذا المفهوم سیتعمّق فی قلبه وأعماق نفسه ویعیش دوماً مع هذا المفهوم والمعنی، فعندما یقوله:

«اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِینَ»2 ، فیدرک جیداً بأنّ کلّ شخص وفی کلّ مکان یثنی علی أی شیء من الأشیاء فإنّ هذا الثناء والحمد یعود إلی اللّه ولا یوجد أی شیء یستحق الثناء والحمد غیره.

ص:92

وعندما یقول له العقل أنّه لا شیء آخر فی عالم الوجود سوی اللّه یستحق الحمد والثناء، وأنّ الموجود الذی یتمتع باللیاقة للحمد والثناء فقط هو الباری تعالی والذات المقدّسة، فمثل هذا الإنسان لو مدحه بعض الأشخاص فی مناسبة معینة یقول: إنّی لا أستحق أی حمد وثناء، بل إنّ هذا الحمد والثناء یعود إلی اللّه، وهکذا نری فی المرتبة الثّانیة من حضور القلب مع البرهان العقلی أنّ هذه المفاهیم ستتجلی لنا بشکل أوضح وأعمق وندرک حقیقة الصراط المستقیم بالبرهان العقلی، ونفهم معنی سورة التوحید التی هی المنبع والمصدر لأصول معالم التوحید، بشکل مبرهن ومستدل، نسأل اللّه تعالی أن یوفّقنا لإدراک وتحقّق مراتب حضور القلب فی حال الصّلاة.

ص:93

27- المرتبة الثّالثة من الحضور التفصیلی: التصدیق القلبی

«یَوْمَ لا یَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ * إِلاّ مَنْ أَتَی اللّهَ بِقَلْبٍ سَلِیمٍ» (1)

بعد بیان المعنی الإجمالی لحضور القلب وصلنا إلی المعنی التفصیلی له، وتطرقنا إلی ذکر مرتبتین من المراتب التفصیلیّة من حضور القلب، المرتبة الاُولی من حضور القلب التفصیلی أن یفهم الإنسان المصلّی المفاهیم اللغویّة والعرفیّة لکلمات والأذکار التی یقولها فی الصّلاة، المرتبة الثّانیة أن یفهم هذه الکلمات والألفاظ بإدراک العقل والبرهان العقلی، فینغرس هذا المعنی فی أعماق فکره وعقله، وقبل بیان المرتبة الثّالثة من مراتب حضور القلب التفصیلی نشیر إلی هذه الروایة الواردة عن الإمام الباقر علیه السلام:

«عَنْ عُمَرَ بنِ أُذَینَةَ عَنْ زُرارةَ عَنْ أَبِی جَعفَر علیه السلام قَالَ: بَینَا رَسُولُ اللّهِ صلی الله علیه و آله جَالِسٌ فِی المَسجدِ إِذ دَخَلَ رَجُلٌ فَقَامَ یُصَلِّی فَلَم یُتِمَّ رُکُوعَهُ وَلا سُجُودَهُ؛، أی أنّه لم یأتی

ص:94


1- (1) سورة الشعراء، الآیة 88 و 89.

برکوعه وسجوده بشکل صحیح وکامل.

فَقَالَ صلی الله علیه و آله: نَقَرَ کَنَقرِ الغُرابِ؛ وهذا مثل یرد فی لغة العرب ویعنی أنّ حاله حال الغراب عندما ینقر الحبّة بشکل سریع، فمقدار الوقت الذی یستغرقه الغراب فی تناول الحبّة سریع جدّاً، والنّبی الأکرم صلی الله علیه و آله هنا یقول: «نَقَر کَنَقرِ الغُرابِ»؛ وهذه کنایة علی سرعة رکوعه وسجوده دون أن یمکث قلیلاً فی الرکوع أو یتوقف قلیلاً فی السجود بل هذا حاله کحال الغراب فی تناوله للحبة، ثمّ قال النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله کلمة عجیبة جدّاً ویجب علینا أن نتذکر دوماً هذه الکلمة فی رکوعنا وسجودنا قال: «... لَئِنْ مَاتَ هَذا وَهکَذا صَلَاتَهُ لَیَمُوتَنَّ عَلَی غَیرِ دِینِی»(1)، وهکذا ترون أنّ هذه المسألة إلی أی درجة من الأهمیّة أنّ الأشخاص الذین یصلّون صلاتهم بسرعة وقبل أن یرکع تماماً تراه یبادر إلی السجود وقبل أن یتمّ سجوده یتشهد ویسلّم وقبل أن یتشهد ویسلّم ینتهی من صلاته، فحسب هذه الروایة التی ینقلها عمر بن اذینة عن الإمام الباقر علیه السلام وهذا الإمام ینقلها عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله أنّ النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله قال: إنّ مثل هذا الشخص إذا مات وکانت صلاته بهذه الصورة فإنّه یموت علی غیر ملة الإسلام، ومن هذه الجهة فإذا أردنا أن لا تکون صلاتنا مثل صلاة هذا الشخص یجب علینا تحقیق ومراعاة حضور القلب فی الصّلاة، فیجب أن نعلم ما هی مراتب حضور القلب؟

المرتبة الثّالثة من حضور القلب وبعد أن یدرک الإنسان المفاهیم والمعانی للکلمات بالبرهان العقلی یقوم بحک وکتابة هذه المعانی علی لوح قلبه، وهی مرحلة التصدیق القلبی وهذه المرحلة تعنی أنّ قلب الإنسان یتمتع بمرتبة فوق مرتبة العقل ویتقبّل هذه المفاهیم والمعانی فیصدّق ویؤمن بها.

الإنسان فی بعض الموارد قد یدرک الکثیر من الأمور بعقله ولکنه یعیش

ص:95


1- (1) . الکافی، المطبعة الإسلامیّة، ج 3، ص 268.

التزلزل والاهتزاز فی قلبه، فقلبه لم یصل إلی مرتبة الاستقرار والاطمئنان رغم قبول العقل، والمثال الواضح لذلک ما یؤمن به الإنسان بعقله بالشخص المیّت وأنّ هذا المیّت غادر الدنیا ولا یستطیع أن یبعد ذبابة عن نفسه، ولکن لماذا یشعر الإنسان بالخوف عندما یبقی مع بدن المیّت فی غرفة واحدة ویقضی لیلته معه فلا تجده مستعداً للبقاء لوحده مع هذا الجسد رغم أنّه یعلم بعقله أنّ هذا المیّت لا یضرّه أبداً، السرّ فی ذلک أنّ قلبه لحدّ الآن لم یقتنع بما آمن به عقله، وعلی هذا الأساس فإنّ مرتبة التصدیق القلبی تعتبر مرحلة أعلی من تصدیق العقل.

المرتبة الثّالثة من حضور القلب هی أنّنا نسعی لکتابة هذه المفاهیم فی لوح القلب وغرسها فی أعماق النفس، فلو أنّ هذه المعانی رسخت فی لوح القلب فإنّ هذا الشخص سیجد الإیمان والتصدیق بهذه المفاهیم فی جمیع الحالات بل لا یحتاج بعدها إلی الاستدلال والبرهان، والمرحلة الثّانیة یقوم الاستدلال العقلی بمساعدته فی عملیّة التصدیق، ولکن عندما ینفتح قلبه علی هذه المفاهیم ویؤمن بها فلا تبقی حاجة للاستدلال العقلی، والنقطة التی أشار إلیها الإمام الراحل رضوان اللّه علیه مهمّة جدّاً، وأساساً فالإنسان صاحب القلب هو الشخص الذی وصل إلی هذه المرتبة، فالإنسان صاحب القلب یدرک الحقائق والمعارف الدینیّة بالریاضات العملیّة الکثیرة مع الریاضات العلمیّة المتعددة ویعیش التقوی القلبی ویقبّل هذه المعارف فی قلبه، فعندما یقول: «قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ»1 ، فبعد أن یفهم معنی هذه الکلمات وبعد أن یصدّق عقله بأنّ المقصود من التوحید لیس هو التوحید العددی، بل المقصود من التوحید فی الذات وهو أنّ اللّه تعالی وجود وذات لیست قابل للتعدد ویمتنع أن یکون اثنین، وأساساً عندما یفهم العقل بوسیلة البرهان معنی التوحید سینتقل هذا المعنی إلی قلبه ویستوعبه

ص:96

القلب بجمیع وجوده ویدرک التوحید فی مقام الذات ویتقبّله ویؤمن به «یَوْمَ لا یَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ * إِلاّ مَنْ أَتَی اللّهَ بِقَلْبٍ سَلِیمٍ» ، فالشخص صاحب القلب السلیم هو الذی تترسخ هذه المعتقدات فی قلبه من التوحید والمعاد وکذلک المعارف الدینیّة الأخری حیث تترسخ وتتعمّق فی قلبه، المرحلة الثّالثة من حضور القلب التفصیلی هو أن نفهم وندرک هذه المفاهیم بقلوبنا ونوصل هذه المعانی إلی القلب، فلو أنّ الإنسان لم یوصل هذه المفاهیم إلی قلبه فإنّه علی حدّ تعبیر الإمام الراحل قدس سره: «لم یتلبس بخلعة الإیمان»، ولو لم یصل الإنسان إلی هذه المرتبة فإنّ صلاته لا تکون معراجاً له فی طریق الحقّ تعالی، فإذا أردنا أن تکون صلاتنا معراجاً للمؤمن فیجب أن یصدّق قلبنا أنّ الوجود المستحق للعبادة هو اللّه فقط، وهذا هو الموجود الذی ینبغی طلب المعونة منه، لا غیره، وهو الموجود الذی ینبغی تسبیحه وتقدیسه، هذه الأمور یجب أن یتقبّلها الإنسان بقلبه ویصدّق بها فی أعماق روحه.

وعندما یصل المصلّی هذه المرحلة من حضور القلب فإنّ هذه الصّلاة من شأنها أن تبعد الإنسان من الدنیا وما فیها وتحلّق به فی عالم الملکوت بحیث لا یرغب فی إنهاء صلاته، ولو انتهت صلاته فإنّه یشعر بالحزن والتأسف بأنّه فَقَد هذه الحالة الملکوتیّة، وبذلک یعود لیتهیأ للصّلاة الثّانیة بکلّ رغبة وشوق.

إذا أراد الإنسان أن یبدأ بالسیر إلی اللّه وتخلیص نفسه من قفص الأنانیّة، فالطریق إلی ذلک أن یؤمن ویصدّق قلبه بهذه المعارف.

نسأل اللّه تبارک وتعالی أن یجعل قلوبنا جمیعاً وعاءً ومخزناً لهذه الحقائق والمعارف العالیة الموجودة فی الصّلاة إن شاء اللّه.

ص:97

28- المرتبة الرابعة من الحضور التفصیلی: شهود حقائق الألفاظ

لقد ورد فی بعض الروایات أنّ أحد الطرق لوصول الإنسان إلی مقام العلیین، وهو مقام سامٍ جدّاً فی الدنیا، هو مرعاة حضور القلب فی الصّلاة، ونقرأ فی الصّلاة علی المیّت هذا الدعاء: «اللّهُمَّ اجعَلهُ فَی أعلی عِلِیین»، أی اجعل هذا الشخص فی مرتبة عالیة جدّاً فی جنّة الرضوان، وحسب الروایة الواردة عن الإمام الصادق علیه السلام ینقل فیها عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله أنّه قال:

«مَنْ حَبَسَ نَفسَهُ عَلَی صَلاةٌ فَرِیضَةٍ یَنتَظِرُ وَقتَها فَصلّاها فِی أَوَّلِ وَقتِها...»، بأن یضبط نفسه ولا یسمح لها بالانشغال بأمور الدنیا غیر اللّه تعالی، بل یکون مستعداً ومنتظراً لوصول وقت الصّلاة فیصلّیها لوقتها «وَأَتَمَّ رُکُوعَها وَسُجُودَها وَخُشُوعَها، ثُمَّ مَجَّدَ اللّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَعَظَّمَهُ، حَتّی یَدخُلَ وَقتُ صَلاةٍ أَخری لَمْ یَلغُ بَینهما...» أی لم یرتکب بین هاتین صلاتین عملاً باطلاً وکلاماً لغواً «کَتَبَ اللّهُ لَهُ کَأَجرِ الحَاجِ وَالمُعتَمر وَکَانَ مِنْ أَهلِ علّیّین»، وهذه هی النقطة محل بحثنا،

ص:98

فالشخص الذی یراعی فی صلاته حضور القلب فإنّه ینال هذا المقام وهو مقام العلّیین فی الجنّة.

ونتابع هنا ذکر مراحل الحضور القلبی التفصیلی فی الصّلاة وتقدّم بیان ثلاث مراحل منه، یعنی أولاً فهم معنی الألفاظ والکلمات، والثانی إدراک العقل وتصدیقه، والثالث التصدیق القلبی، أمّا المرتبة الرابعة فهی أن یصل الإنسان إلی مرحلة الشهود القلبی ویشاهد الحقائق الغیبیّة لمعانی هذه کلمات، ومرتبة الکشف وشهود الحقائق تعنی أنّ الإنسان یری بعین قلبه وبصیرته وبالعین الملکوتیّة التی یحصل علیها بسبب هذه الصّلاة، وتنکشف له الحقائق التی آمن بها بقلبه، فیقول: «مالِکِ یَوْمِ الدِّینِ»1 ، کأنّه یری یوم القیامة ویشعر بقدرة اللّه المطلقة فی واقعه ووجوده ویری تلک المشاهد فی یوم القیامة تتجسم أمام عینه، وعندما یذکر الآیات والأذکار والعبارات الأخری فهو یری حقائقها فی مرتبة الکشف والشهود، أی یری بالعیان جمیع هذه الحقائق الغیبیّة، وعندما یکبّر التکبیرات الافتتاحیّة للصّلاة فإنّه مع کلّ تکبیرة تزول الحجب فیما بینه وبین اللّه ویشاهد جمال اللّه وجلاله.

ص:99

29- المرتبة الخامسة من الحضور التفصیلی: الفناء فی الحقّ تعالی

«هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ وَ الظّاهِرُ وَ الْباطِنُ وَ هُوَ بِکُلِّ شَیْ ءٍ عَلِیمٌ» (1)

تقدّمت فی البحوث السابقة الإشارة إلی مراتب حضور القلب فی الصّلاة، وقلنا بأنّ المصلّی یجب أن یحقّق فی نفسه التوجّه إلی هذه المراتب ویسعی لتحقیقها فی واقع ووجوده أثناء الصّلاة، وحینئذٍ تتحوّل صلاته إلی صلاة أخری ویشعر باللذّة والبهجة من هذه العبادة، وهذه اللذّة من هذه الصّلاة التی یعیشها فیها حضور القلب والمراتب العالیة من هذا الحضور لا تقبل مقارنة مع أیّة لذّة أخری، الإنسان الذی یعیش الأمل بفضل اللّه والخشیة من غضبه وإهماله، ویدخل إلی هذا المیدان ینال رضا اللّه تعالی عنه، وقد وردت الإشارة فی الروایات الشریفة إلی هذه النقطة المهمّة وهی أنّ الإنسان المؤمن عندما یقف أمام اللّه تبارک وتعالی ویعیش هذا الإیمان به، فیجب أن یمتلک نورین، نور الرجاء ونور الخوف،

ص:100


1- (1) سورة الحدید، الآیة 3.

وعندما نرید الشروع فی الصّلاة ونستحضر هذه المراتب من حضور القلب فی هذه الصّلاة فالطریق لذلک یبدأ من الشعور بالأمل بفضل اللّه تعالی والخوف من عذابه والغفلة من سخطه

یقول الإمام الصادق علیه السلام: «لا تَجْتَمِعُ الرَّغبَةُ وَالرَّهبَةُ فِی قَلبِ إِلّا وَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ»(1)، وأساساً فالشخص الذی یعیش الأمل برحمة اللّه ویقول: إلهی أقف بین یدیک واُرید التحدّث إلیک فإننی أرید أن تأخذ بیدی وتفتح قلبی وتغرس کلماتک فیه، وأسألک أن تخلص فکری لک فقط ولا تجعل للشیاطین طریقاً إلی عقلی وقلبی، وأسألک أن تنقذنی منها، فلو عاش الإنسان فی حالات الأمل بفضل اللّه والخوف من إعراضه عنه بأن تکون صلاته صلاة استخفاف واستهانة ویعلم ما مقدار الخسارة والضرر الذی یتحمّلها عندما یستخفّ بصلاته، فی هذه الحالة یشرع فی صلاته مع وجود حالتین الخوف والرجاء فی نفسه، فسوف یکون إنساناً ملکوتیّاً ومن أهل الجنّة.

وحتّی ورد فی بعض الروایات أنّ الإنسان یجب أن یخشی من صلاته فیما لو کان مستخفّاً باللّه فیها ویشعر بالخوف والوحشة أن یتحوّل وجهه إلی وجه حیوان، تقول الروایة: «لا تَجْتَمِعُ الرَّغبَةُ وَالرَّهبَةُ فِی قَلبِ إِلّا وَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ، فإِذا صَلَّیتَ فَأَقبِل بِقَلْبِکَ عَلَی اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ»، وبهذه الحالة تعلم ماذا یجری فی قلبک عندما تقبل علی اللّه ومدی توجّه وجودک إلی اللّه تبارک وتعالی، فماذا یعنی إقبال القلب؟ وماذا یعنی أن نفهم الکلمات والأذکار التی نقولها فی الصّلاة؟ لا ینبغی مجرّد لقلقة لسان، بل أن نفهم مفاهیم هذه الکلمات بالعقل الاستدلالی والبرهانی ثمّ نوصلها إلی قلوبنا، والمرتبة الرابعة أن نصل فی التوحید الإلهی إلی مرتبة الشهود.

ص:101


1- (1) . وسائل الشیعة، ج 4، ص 687.

المرتبة الخامسة عبارة عن حضور القلب فی المعبود أو الفناء فی اللّه، وهذه المرتبة تتکّون من ثلاث مراتب، ولکن بما أنّ هذه المرتبة خاصّة بالنوادر من الأشخاص وأولیاء اللّه المقرّبین، لذلک نکتفی هنا بالإشارة إلیها، فهذه المرتبة هی أن یری الإنسان اللّه تعالی حاضراً وناظراً فی کلّ مکان، ویری کلّ شیء مظهراً لتجلی أسماء اللّه وصفاته، یری فی کلّ شیء تجلیات ذلک الوجود القادر المطلق الحکیم، لا أن یلتفت إلی هذا المعنی فقط بأنّه یقف فی محضر اللّه، بل یراه حاضراً فی کلّ مکان ویری أنّ کلّ فعل من أفعاله إنّما هو فعله تعالی، وکلّ شیء یراه مظهراً لصفات الجمال والجلال، ویعتقد أنّ کلّ موجود هو فی حقیقته الذات المقدّسة وکلّ شیء فانیاً فیه ولا یوجد شیئاً آخر فی العالم سواه، ویصل إلی حقیقة والشهود الأوّل والآخر والظاهر والباطن، وهذا هو إقبال القلب فی مقام الثناء، هذه إشارة إجمالیّة إلی مراتب حضور القلب فی الصّلاة، رزقنا اللّه وإیّاکم إن شاء اللّه.

ص:102

30- أسباب حضور القلب

إنّ أحد البحوث المهمّة جدّاً فی موضوع حضور القلب فی الصّلاة وبشکل عام فی مجموع العبادات، هو: ما هو العامل والعلّة لحضور القلب، وما هی الأمور المانعة من حضور القلب فی الصّلاة؟ بمعنی أننا یجب أن نعلم ما هی عوامل حضور القلب فی الصّلاة، والأمور التی تستدعی وتساهم فی حضور القلب وأن یجد الإنسان نفسه فی محضر الباری تعالی، ویقف فی ساحة قدسه، والأمور التی تمهّد القلب فی الدخول فی ضیافة اللّه والحدیث مع الذات المقدّسة، وإلی جانب ذلک ینبغی البحث عن موانع هذا الحضور القلبی فی الصّلاة؟

وتجری العادة أنّ علماءنا فی کتبهم المقرّرة فی موضوع أسرار الصّلاة یهتمّون أکثر بهذا القسم من موانع حضور القلب فی الصّلاة، ولکن ینبغی أن نشیر إلی کلا هاتین المسألتین، وقد أورد الإمام الراحل رضوان اللّه علیه فی کتابه «أسرار الصّلاة» مسائل مهمّة جدّاً وحیویة فی هذا الموضوع کما سنشیر إلی ذلک إن شاء اللّه.

ص:103

وبالنسبة لأسباب وعوامل حضور القلب فی الصّلاة فإنّ أوّل نقطة ذکرها المرحوم الشهید الثانی فی کتابه «أسرار الصّلاة» هی أنّ المؤمن یجب دوماً أن یلتفت إلی عظمة اللّه تبارک وتعالی وجلالته، فلو أنّ الإنسان أدرک من جهة عظمة اللّه تعالی وقدرته المطلقة ولا محدودیته، ومن جهة أخری أدرک ضعف غیر اللّه تعالی وعلم من موقع العمق أنّ کلّ سوی اللّه تعالی ضعیف وهزیل، والإنسان من بین جمیع الموجودات یعتبر أضعفها قدرة وقوّة.

لو أنّ الإنسان أدرک واقعاً ضعفه والتفت إلی أنّ قدرته إلی درجة من الضعف بحیث إنّ بعوضة أحیاناً تستطیع أن تنهی حیاته، وفی مقابل ذلک یفکّر فی عظمة الباری تعالی، فهذا الأمر من شأنه أن یمهّد القلب لتشرق علیه الأنوار الإلهیّة ویکتسب الصفاء والنورانیّة فی باطنه، وحینئذٍ النقطة المهمّة أنّ الإنسان إذا التفت دائماً فی غیر الصّلاة لهذه الحقیقة وعاشها فی جمیع حالات حیاته، فی عمله وکسبه، فی حال التعلیم والتعلّم، وفی حال التدریس والتألیف، وعندما ینال مقاماً ومنصباً، فلو أنّه استغرق دوماً فی التوجّه لعظمة الباری تعالی وعظمته غیر المتناهیّة، فهذا من شأنه أن ییسر له التوجّه القلبی إلی هذه الحقیقة فی الصّلاة، وإلّا فإنّ الإنسان إذا لم یلتفت إلی هذه الحقیقة فی غیر الصّلاة فإنّ من الصعب جدّاً أن یلتفت إلیها ویعیشها بکلّ جهده فی حال الصّلاة.

وعلی هذا الأساس فإنّ أحد العوامل المهمّة جدّاً فی هذه المسألة أن یلتفت الإنسان إلی عظمة الباری تعالی وجلال قدره ومن ثمَّ یلتفت إلی حالة الخوف من عذاب اللّه وبسبب هذا التوجّه تحصل له حالة الخوف من عذاب اللّه والأمل برحمته تعالی، فالإنسان عندما یصدّق ویؤمن یقیناً بعظمة اللّه وجلاله فسوف تحدث فی قلبه هاتین الحالتین من الخوف والرجاء، فیتصوّر أنّه إذا سخط اللّه علیه فماذا سیکون حاله؟

ص:104

وإذا ترک اللّه تعالی هذا العالم لحظة واحدة فإنّ هذا العالم وما فیه سیتحوّل إلی رماد بل أقل من ذلک، ویلتفت إلی أنّ عذاب اللّه لا یقبل المقارنة مع عذاب الدنیا، ویلتفت أنّ هذا الإنسان الذی لا یستطیع تحمّل أدنی مرتبة من العذاب الدنیوی کیف یستطیع أن یتحمّل العذاب الاُخروی، ویلتفت أنّ اللّه تعالی لم یرتبط مع أحد من خلقه برابطة الإخوة والقرابة بل جمیع المخلوقات هم عباده وأنّه تعالی یتعامل معهم بفضله وکرمه ولطفه ماداموا یستحقون مقام العبودیّة له، ولکن عندما یفقد العبد مقام العبودیّة ولا یکون جدیراً بأن یکون عبداً للّه فإنّه یسقط فی وادی العذاب والسخط الإلهی، ولو أنّ الإنسان فی حال الصّلاة علم أنّه یقف أمام ذلک الموجود العظیم ویشعر بالخضوع والخشوع والخشیة فی قرارة نفسه فإنّ مثل هذا التوجّه القلبی یتسبّب فی حضور قلبه فی الصّلاة.

إذن فمن جملة عومل حضور القلب فی الصّلاة: 1. عظمة اللّه؛ 2. الخوف من اللّه؛ 3. الرجاء برحمة اللّه، والعامل الرابع: أن یعلم الإنسان أنّه مقصّر دائماً ویشعر بالندم بسبب تقصیراته فی مقابل الحقّ تعالی، ولو أنّ الإنسان عاش هذه الحالة فإنّه عندما یرید أن یقف للصّلاة بین یدی اللّه تعالی فإنّه یخاطب نفسه: کیف تأتی إلی اللّه وترید الحدیث معه وأنت فی هذه الحالة من التقصیر، وأی شیء ترید تقدیمه إلی اللّه تعالی وبأی قلب؟ هل تقف بین یدی اللّه بقلب ملیء بالذنوب والملوّث بالخطایا، القلب الملیء بوساوس الشیطان، القلب المفعم بآمال الدنیا وزخارفها؟ ولو أنّ الإنسان تقبّل تقصیراته واعترف بذنوبه وآثامه فإنّ هذه الحالة تعدّ من أفضل حالات الإنسان التی تمهّد له حضور القلب فی الصّلاة، ولذلک ذکر الشهید الثانی قدس سره أنّ الإنسان لا ینبغی بعد الإیمان باللّه أن ینفصل من جمیع هذه الحالات.

نسأل اللّه تعالی أن یرزقنا جمیعاً هذه الحالات المعنویّة ویوفّقنا أن نحقق فی أنفسنا وفی وجودنا هذه الحالات والصفات المعنویّة إن شاء اللّه.

ص:105

31- طریق التوجّه إلی عظمة الباری تعالی

ذکرنا أنّ أحد الأسباب المهمّة لحضور القلب أنّ الإنسان یلتفت فی حال الصّلاة إلی موقعه ووقوفه أمام الموجود العظیم الذی لا یقبل المقارنة بأی موجود آخر، وهذا التوجّه إلی قدرة اللّه المطلقة إذا شعر به الإنسان المصلّی وعاش بکلّ وجوده مدرکاً لهذه العظمة فإنّ حاله أثناء الصّلاة سیتحوّل إلی حال آخر، ولکنّ غالبیة الأشخاص الذین یصلّون بسرعة ولا یلتفتون إلی أفعالهم وأذکارهم وهیئة الصّلاة فإنّ السبب فی ذلک أنّهم لا یتوجّه إلی هذه الحقیقة ولا یدرکون فی مقابل أی وجود عظیم یقفون، وقد ورد فی الروایات أنّ مثل هؤلاء الأشخاص ألا یخافون أن یقلب اللّه تعالی وجوههم إلی وجه حمار، وهذا بسبب أنّ الصورة الواقعیّة والملکوتیّة لهؤلاء الأشخاص هی أقرب لصورة الحیوانات التی لا تفهم هذه الحقائق، وعندما لا یلتفت الإنسان إلی عظمة اللّه ویعیش الغفلة عن هذه العظمة فإنّ وجهه الحقیقی سیکون مثل وجه هذا الحیوان، فحتّی لو کان هذا الشخص بحسب الظاهر إنساناً فی حال الصّلاة ولکن وجهه وصورته الحقیقة

ص:106

هی صورة هذا الحیوان، ومن هذا المنطلق یجب الالتفات إلی عظمة الباری تعالی.

ومن أجل أن نتوجّه إلی عظمة اللّه تعالی یجب مراعاة أمرین: أحدهما: أن نعلم بأنّ الأفکار المتفرقة والذهن المشتت فی الإنسان یبعد قلبه عن إدراک هذه الحقیقة، والثانی: ومن أجل أن تحصل للقلب حالة المناجاة مع اللّه، فالأشخاص الذین لا یلتفتون للّه تعالی ویعیشون حالة التشتت الفکری والذهنی فی صلاتهم، مثلاً لو کان هذا الشخص عالماً ولکن فکره مشغول بالمسائل العلمیّة أو طبیباً مشغول الذهن بأنواع الأدویة التی یوصی بها للمرضی، أو تحیط به أفکاره متناثرة ولا یستقر ذهنه وفکره علی حال وبخاصّة فی أثناء الصّلاة، فإنّ الشیطان، کما ورد فی الروایة، یأتی إلی هذا المصلّی ویجعله یفکر خارج إطار الصّلاة والعبادة من قبیل معاملاته الدنیویّة أو طریقة تعامله مع الآخرین، وأحیاناً یتذکّر الشخص فی صلاته بأنّ الشخص الفلانی لم یحترمه فی مجلس معین، ویفکّر فی کیفیّة الانتقام منه ویتحدّث فی ذهنه عن کیفیّة الردّ علیه، فجمیع هذه الأمور شیطانیّة، وفی الوقت الذی یقف الإنسان فیه للصّلاة، وعندما تتبادر إلی ذهنه مثل هذه الأمور، سواءً المسائل العلمیّة أو المسائل الدنیویّة فینبغی أن یتذکّر مباشرة هذه الروایة فیقول إنّ هذا من عمل الشیطان فلا ینبغی أن أسمح له أن یدخل إلی ذهنی وتترسخ وساوسه فی نفسی ولا یسمع لهذه الأفکار المختلفة أن تحیط بنفسه ویشغله عن صلاته.

الأمر الثانی، أن یوجد المصلّی فی قلبه حالة من المناجاة والارتباط القلبی العمیق مع اللّه تعالی من موقع التضرّع والخشوع أمام عظمة الباری تعالی، لو أنّ الإنسان فی کلّ صلاة اعتقد بأنّ هذه الصّلاة هی آخر صلاة یقیمها وآخر عبادة تصدر منه للّه تعالی، ویکون حاله حال الشخص المحکوم بالاعدام یطلب من

ص:107

قاتله فرصة لأداء رکعتین من الصّلاة فکیف یکون حال هذه الصّلاة؟ إنّ هذا الشخص لا یفکّر إطلاقاً بأمور الدنیا والمال والأولاد والمقام وأمثال ذلک، بل یسعی أن یحصر فکره وذهنه فی التوجّه إلی الباری تعالی، ویعیش حضور القلب فی صلاته وعبادته، وهکذا ینبغی أن یکون الإنسان دوماً بأن یتصوّر أنّ هذه الصّلاة هی آخر صلاة یصلّیها للّه، ولیس فقط آخر صلاة بل فی الرکعة الاُولی یقول: لیس من المعلوم أن أوفق للاتیان بالرکعة الثّانیة، فلیس من المعلوم أن أوفّق للسجود فی هذه الرکعة، فإذا کان حال الإنسان المصلّی کذلک فسوف یکون التفاته وتوجّهه إلی اللّه بشکل کامل ویستغرق فی عظمة اللّه ویعیش الحالة المعنویّة العالیة فی مناجاة اللّه والارتباط القلبی به والحدیث معه ویقول: إلهی! إننی لم اصلّ لحدّ الآن عدّة رکعات من صلاتی مع حضور القلب، ولکننی الآن ارید أن اصلّی رکعتین علی الأقلّ مع التوجّه التام إلی ساحة عظمته وقدسه، یتحدّث الغزالی فی کتابه «احیاء علوم الدین» عن هذه المسألة وأنّ کبار العلماء کانوا یسعون دوماً إلی إقامة رکعتین من الصّلاة بحیث لا ینشغلون فی هاتین الرکعتین بأمور الدنیا ولکنّهم عجزوا عن ذلک، وکذلک یقول الإمام الخمینی رضوان اللّه علیه فی إحدی محاضراته: أنا لا أستطیع القول إننی لحدّ الآن صلّیت رکعتین للّه تعالی، وهذا بسبب أنّ أداء رکعتین من الصّلاة بدون أی انشغال بفکر آخر غیر اللّه تعالی من أوّل الصّلاة إلی آخرها صعب ومشکل، والغزالی قد صرّح بهذا المعنی وقال إنّ الأکابر والعرفاء کلّما سعوا إلی تحقیق مثل هذه الصّلاة عجزوا عنها.

إذا اعتقد الإنسان أنّ هذه الصّلاة التی یصلّیها هی آخر صلاة فی حیاته وعلم أنّ هذه الصّلاة ستکتب فی صحیفة أعماله وأنّ هذه الصّلاة تعتبر مصیریّة بالنسبة إلیه وإلی مستقبله فماذا سیکون حاله فی هذه الصلوات وربّما لا یرغب فی

ص:108

اتمامها؟ وسوف یأتی بهذه الصّلاة من موقع العشق والعلاقة مع اللّه والرغبة فی الحدیث معه بکلّ وجوده ولا یرغب فی أن ینهیها فیسلّم التسلیم الأخرین لئلا ینتهی حال المناجاة مع اللّه، فلو أنّ الإنسان أدّی مثل هذه الصّلاة وحصلت له مثل هذه المناجاة بعیداً عن الأفکار المتفرقة والذهن المشتت، فمثل هذه الصّلاة من شأنها أن تخلق فی نفسه حالة جدیدة، وهذه الصّلاة التی یباهی بها اللّه تعالی الملائکة، ومن الممکن التعبیر عن هذه الصّلاة بأنّ اللّه یلتذّ بها، نسأل اللّه تعالی أو یرزقنا وإیّاکم مثل هذه الصّلاة.

ص:109

32- رفع الموانع الخارجیّة لحضور القلب

بعد الکلام عن أسباب وعوامل حضور القلب فإنّ أحد المسائل المهمّة الأخری فی هذه المسألة، بحث موانع حضور القلب، ویستفاد من کلمات الإمام الراحل رضوان اللّه تعالی فی کتابه «أسرار الصّلاة»: إنّ الإنسان إذا استطاع رفع موانع حضور القلب فی صلاته فإنّ قلبه سیستعد تلقائیاً إلی الحضور بین یدی اللّه تعالی، رغم أننا ذکرنا أنّ هذا الکلام یستبطن مسألتین منفصلتین، وثمّة أسباب وعوامل لحضور القلب وکذلک ثمّة موانع لحضور القلب وهی مسألة أخری.

وعندما نطالع کلمات الأکابر کالمرحوم الشهید الثانی قدس سره فی کتابه «التنبیهات العلیّة»، الذی یتحدث فیها عن الأسرار والوظائف القلبیّة للمصلّی، یتحدّث فیها عن موانع حضور القلب ویقسمها إلی موانع خارجیّة وموانع داخلیة ویقول ما معناه: أحیاناً یکون بعض الأمور الخارجة عن ذات الإنسان مانعة من حضور القلب، وأحیاناً أخری أنّ الأفکار الداخلیّة والقلبیّة - وحسب تعبیره - أنّ الخواطر القلبیّة الواردة مانعة من حضور القلب، وهذه الموانع الداخلیّة والخواطر

ص:110

القلبیّة تکون أشدّ من الأمور الخارجیّة عن ذات الإنسان»(1).

والنسبة إلی إلی الأمور الخارجیة فالأمر واضح جدّاً، فالمصلّی یجب أن یقف فی مکان لا توجد مثل هذه الأمور التی تشغل ذهنه وتمنعه من التوجّه فی صلاته، مثلاً إذا کان فی مکان یجلس فیه بعض الأشخاص ویتحدّثون فإنّه إذا قام للصّلاة فی هذا المجلس فسوف یستمع إلی کلامهم وبالتالی ینشغل فکره بهذه الکلمات والمناقشات، والقلیل جدّاً من الأشخاص الذین یصلّون فی مثل هذا المکان ویملکون السیطرة علی نفوسهم وآذانهم بأن لا یسمعوا شیئاً من کلمات الآخرین أثناء الصّلاة، ولکن نوع البشر لیس کذلک، فعندما یصلّی أحدهم فی مکان ملیء بالأصوات أو لا سمح اللّه تسمع فیه أصوات الموسیقی، فإنّه لا یمکنه السیطرة علی ذهنه ونفسه من التشتت والانشغال بها.

ومن الجدیر بالذکر أنّ الناس فی هذا الزمان، وخاصّة المصلّین منهم یجب علیهم مراقبة أنفسهم وأن لا یصلّوا فی غرفة تسمع فیها صوت الموسیقی، فهذا من شأنه أن یکون مانعاً من حضور القلب فی الصّلاة ولا ینبغی أن یقال إنّ صوت الموسیقی موجود ولکننی لا استمع له ولا ارتکب حراماً بسبب ذلک، إنّ الاستماع إلی الموسیقی حرام ولکن سماعها لیس بحرام، ولذلک فأنا اصلّی وأنشغل بصلاتی عن سماع الموسیقی، نعم، من الممکن تصحیح مثل هذه الصّلاة ببعض التبریرات، ولکن مثل هذه الصّلاة سوف لا تکون مقترنة بحضور القلب.

وهذا ما یقوله الشهید الثانی قدس سره فی هذا الکتاب، وفی المکان المزدحم والذی یوجد فیه بعض الأشخاص الذین یتحدّثون فیما بینهم لا ینبغی للإنسان أن یصلّی فی مثل هذا المکان، ولا فی المکان الذی یحتوی علی مناظر متعددة ولوحات فنیّة من الرسوم والمناظر، ولا الأشیاء التی تشغل فکر الإنسان وتجعله یتنقل من

ص:111


1- (1) انظر: التنبیهات العلیّة، ص 86.

هذا إلی ذلک، وبالتالی فإنّ هذه المناظر والأصوات والأشیاء المتنوعة تسرق فکر الإنسان وتشوش ذهنه فلا ینبغی الصّلاة فی مثل هذه الأماکن.

فلو أنّه کان جالساً فی مکان وتوجد أمامه مناظر تلفت نظره إلیها وتقلل من انتباهه إلی العبادة فی حال الصّلاة فیقول الشهید الثانی: یجب علی المصلّی أن یغمض عینه حتی لا یری هذه الأمور، وأحیاناً یتسبّب کتاب فی انشغال ذهن الإنسان به، فیوصی الشهید الثانی أن یصلّی هذا الشخص فی مکان مظلم، ویبعد کلّما من شأنه أن یشغل فکره وحواسه من أمامه، بل إنّه یقول: ینبغی للمصلّی أن یقف إلی جانب الجدار لکی تکون رؤیته محدودة ومجال الرؤیة ضیق فتقلّ اشتغالاته الفکریّة والذهنیّة ولا یصلّی علی فرش مزینة ومنقوشة.

لماذا تکره الصّلاة علی مثل هذا السجاد المنقوش؟

أحد الحِکم فی ذلک هی أنّها تمنع ذهن الإنسان من التوجّه الخالص للباری تعالی، فعندما یقع نظر الإنسان علی هذه النقوش والزخارف فسوف ینشغل ذهنه بها وبجمالها وبالصانع لها وتاریخ صناعتها، وقیمتها، وهذه هی الأمور التی تهدم صلاته وتزیل حضور قلبه فی الصّلاة، ویقول الشهید الثانی قدس سره أیضاً: «کان المتعبّدون یتعبّدون فی بیت صغیر مظلم، سعته بقدر ما یمکن الصّلاة فیه لیکون ذلک أجمع للهمّ»(1)، وهکذا ینحصر ذهنهم وفکرهم فی صلاتهم نحو الباری تعالی وبعیداً عن هذه المثیرات والمؤثرات.

وینقل الإمام الراحل رضوان اللّه علیه هذا الکلام للشهید الثانی قدس سره ثمّ یقول:

عندما یتحدّث الشهید الثانی بهذا الکلام، وأنّ من الأفضل أن یصلّی الشخص فی بیت مظلم وفی مکان بمقدار ما یمکن للصّلاة، فهذا یتعلّق بغیر الصلوات الیومیّة الواجبة، لأنّ ورد فی روایات عدیدة أنّ إقامة الصّلاة الیومیّة فی جماعة

ص:112


1- (1) . التنبیهات العلیّة، ص 85.

المسلمین من السنن المؤکّدة، وقال: إذا أدّی الإنسان هذه الوظیفة وعرف أسرار صلاة الجماعة فإنّه یمرغ أنف الشیطان بالتراب بحیث لا تستطیع أی عبادة أخری أن تفعل هذا الفعل.

وقد ورد فی بعض الروایات أنّ الشیطان یشعر بالیأس من الأشخاص الذین یقیمون الصّلاة مع الجماعة، وقال أیضاً: إنّ اجتماع المؤمنین رحمة وید اللّه مع القلوب المجتمعة، وتتوفر فی اجتماع المؤمنین فوائد روحیّة ومعنویّة قلّما تتوفّر فی عمل آخر.

وعلی هذا الأساس فإنّ أحد الأمور التی یجب علی المصلّی مراعاتها هو أن یقف للصّلاة فی مکان لا توجد فیه مناظر وأمور تشغل ذهنه عن التوجّه فی صلاته إلی اللّه، ومن هذه الجهة یکره وضع صورة فی المسجد حتّی لو کانت خلف المصلّی لأنّ ذلک من شأنه أن یلفت نظر الإنسان بهذا المقدار إلی ما هو موجود فی تلک الصورة فیشغل ذهنه بها، فالتواجد فی ذلک المکان یؤثر مثل هذا الأثر، ولذا یجب علی الإنسان أن یهییء مکان صلاته والسجادة التی یصلّی علیها بحیث لا ینشغل ذهنه بغیر الصّلاة وهذه نقطة مهمّة جدّاً ذکرها المرحوم الشهید الثانی قدس سره بعنوان الخواطر والأمور الخارجیة.

ص:113

33- رفع الموانع الخارجیّة لحضور القلب

بالنسبة للموانع الخارجیّة المؤثرة علی حضور القلب فی الصّلاة وصلنا إلی هذه النتیجة، وهی أنّ المصلّی یجب أن یصلّی فی مکان بعید عمّا یشغل ذهنه وفکره ویبتعد تماماً عن الأمور المرئیة والمسموعة، وأحد المندوبات فی الصّلاة التی ذکرها فقهاؤنا، هو أنّ المصلّی ینبغی أن یکون نظره متوجّهاً إلی محل سجوده وإلی التربة التی یسجد علیها، ویلتفت إلی أنّ اللّه تعالی أمر أن یضع أفضل قسم من وجهه - وهو الجبهة - علی شیء لا قیمة له فی العالم وهو التراب، وهذا یتسبّب بأنّ الإنسان یدرک أکثر عدم قیمته فی مقابل عظمة الباری تعالی، وبالتالی فإنّ حالة العبودیّة تتوکّد وتترسخ فی قلبه ونفسه.

والنقطة الجدیرة بالذکر هنا، أنّه مع وجود هذا الاستحباب نری أنّ المرحوم الشهید الثانی یقول فی کتابه «التبیهات العلیّة» ص 85: إذا انشغل المصلّی مع هذا النظر إلی التراب بأمور أخری ولم یتوجّه قلبه فی الصّلاة، فلا ینبغی له النظر إلی ذلک التراب أیضاً، ولو رأی أنّه مع بقاء عینه مفتوحة فسوف یبطل حضور القلب

ص:114

فینبغی إغماض عینه، وهذه النقطة مهمّة جدّاً، وأنّ أمراً مستحباً مثل النظر إلی محلّ السجود إذا أدّی إلی فقدان المصلّی لحضور القلب فی صلاته وانتقل ذهنه إلی أمور أخری فمن الأفضل له اغماض عینه «لأن الفائت من وظیفة الصّلاة وصفتها بتقسیم الخاطر أعظم منه مع الإخلال بوظیفة النظر»، فالمهم فی الصّلاة حضور القلب، ولو أنّ المصلّی فقد هذا الحضور القلبی بنظره إلی محلّ السجود فینبغی إغماض عینه لأنّ حفظ حضور القلب أولی، وطبعاً فالمرحوم الفیض الکاشانی یذکر هامش لطیف فی کتابه «المحجة البیضاء» علی هذا الکلام للمرحوم الشهید الثانی، وفی بعض الموارد نراه یقبل هذا الکلام للشهید الثانی وفی موارد أخری لا یقبله(1) ، وعلی هذا الأساس فالجدیر بالإمکان التحقیق بالمکان أو المنزل أو المسجد الذی یصلّی فیه بماء یحفظ له حضور قلبه، کما أنّه إذا علم أنّه لو صلّیت فی المسجد وإلی جانبه أحد الأصدقاء الذی تربطه رابطة حمیمة وقد یتسبّب فی تشویش ذهنه وتذکر بعض الذکریات السابقة، فعلیه أن یسعی للابتعاد عنه أثناء الصّلاة ویصلّی فی مکان آخر، وعلی أیة حال یجب علینا أن نسعی لمعرفة الموانع الخارجیّة لحضور القلب ولا نسمح لها بأن نخسر بسببها حضور القلب فی الصّلاة.

ص:115


1- (1) . یمکن أن یقال: «إنّ الغض وهو من خشوع الجوارح المأمور به، یعنی عن الغمض فلا حاجة إلی ترک السند من وظیفة النظر». (محجّة الببضاء، ج 1، ص 373).

34- حبّ الدنیا، أساس الخواطر القلبیّة والأفکار المتناثرة

المهم فی مسألة موانع حضور القلب عبارة عن الخواطر والمشاغل القلبیّة، یعنی الافکار المتناثرة التی تشغل فکر الإنسان وذهنه مع غضّ النظر عن الأمور الخارجیّة، فحتّی عندما یغمض الإنسان عینه ولا یسمع شیئاً یثیر التشویش فی ذهنه أو لا یوجد أحد أو شیء فی مکان صلاته، فإنّ هذا المصلّی ربّما یتحدّث مع نفسه وتحیط بقلبه الأمور والأفکار ما یشغله عن صلاته ویمنع من حضور قلبه فی الصّلاة، یقول الإمام الخمینی رضوان اللّه علیه وکذلک المرحوم الشهید الثانی وبعض الأکابر أنّ السبب الحصری أو العلّة الرئیسیّة فی هذه الخواطر القلبیّة، هو العلاقة بالدنیا وشدّة الحبّ لها والاهتمام بها وکلمة واحدة: الأشخاص الذین یفتقدون لحضور القلب فی صلاتهم، فالسبب الأصلی لذلک هو حبّ الدنیا وتعلّق القلب بها، فأنتم ترون الذین یتحرّکون فی حیاتهم طلباً للمال والثروة، فهؤلاء یفکّرون فی صلاتهم بهذه المسائل وفی العثور علی الطرق والوسائل لتحقیق مزید من الربح فی معاملاتهم، والشخص الذی یتمتع بمنصب وبمکانة فی

ص:116

السلطة فإنّ فکره مشغول دائماً التعرّف علی مخالفیه والتفکیر فی کیفیّة ازاحتهم من طریقه، فحبّ الدنیا والتعلّق بها یتسبّب فی أن ینصرف قلب الإنسان عن اللّه ویتوجّه إلی أمور أخری.

وهناک نقطة أشار إلیها الإمام رضوان اللّه علیه(1) فی کلماته وهی: إذا کانت همّة الإنسان محصورة لتحصیل الدنیا فإنّ قلبه یمیل نحو الدنیا وینشغل بها فقط إلی درجة أنّه لو انصرف عن فرع من الأمور الدنیویّة فإنّه سیتوجّه إلی فرع آخر وینشغل بالتفکیر ببعض آخر منها، فلو أنّه انصرف عن التفکیر فی المال فسوف یفکّر بالأولاد، وإذا انصرف بالتفکیر بالأولاد فسوف یفکّر فی السلطة، ولو انصرف عن التفکیر بالسلطة فسوف یتوجّه بالتفکیر فی الشهوة، وهکذا ینتقل من الشهوة إلی شیء آخر، ففکره ینتقل دوماً من غصن إلی غصن آخر، ویقول رحمه اللّه: إذا ترسخت شجرة الآمال الدنیویّة وحبّ الدنیا فی قلب الإنسان فسوف یکون قلبه کالعصفور الذی ینتقل من غصن إلی غصن آخر.

ثمّ ذکر الإمام الراحل قدس سره أربع نقاط بوصفها طریق للحلّ وقال: إنّه مع رعایة هذه النقاط یستطیع الإنسان أن یقلع شحرة حبّ الدنیا من قلبه ویلقیها بعیداً، وإذا أراد الإنسان أن یعیش بقلب مطمئن لیحظی بنیل الکمالات النفسانیّة یجب علیه أن یحقق فی نفسه هذه النقاط الأربع: فأولها مرحلة الریاضات والمشاهدات، فیتمرّن علی عدم الاعتناء والاهتمام بالدنیا ویسعی لقطع علاقته القلبیّة بها، فلو أراد شخص اختبار نفسه ومقدار علاقته بالدنیا فیجب أن ینظر أنّه لو قیل له أنّک الآن یجب أن تغادر الدنیا الآن، فهل سوف یتحسر فی هذا الوقت علی ما بیده من أمور الدنیا من مال ومقام وأولاد أم لا؟ وهل یستطیع أن یقطع قلبه عنها أم لا؟ وهل أنّه مستعد فی کلّ لحظة أن یسمع هذا الخبر أم لا؟ وهذه المرحلة من

ص:117


1- (1) . سرّ الصّلاة (معراج السالکین، ص 30.

الریاضة مرحلة مهمّة جدّاً فیجب علی الإنسان أن یمارس هذه الریاضة ویجاهد نفسه لیقلع حب الدنیا من قلبه.

المرحلة الثّانیة، التفکّر بعواقب ومعایب حبّ الدنیا، ویفکّر فی عاقبة الأشخاص الغارقون فی حبّ الدنیا ویدرس حالاتهم وحیاتهم وإلی أین وصلوا وما هی عاقبة کلّ هؤلاء الملوک وسلاطین الجور والحکّام الظلمة، والأشخاص الذین یتجاوزوا علی حقوق الآخرین إلی أین وصلوا؟ إنّهم لم یترکوا فی التاریخ سوی الخزی والعار لهم ولم تبق لهم فی أذهان المؤمنین سوی اللعنة علیهم، وهکذا یفکّر الإنسان فی عاقبة هؤلاء الأشخاص العاشقین للدنیا ولزخارفها.

الثّالثة، التدبّر بالآیات والروایات الشریفة الواردة فیما یتّصل بذمّ الدنیا وحبّ الدنیا، کما سنشیر إلیها لاحقاً.

الرابعة، التدبّر فی حالات أولیاء اللّه، ولو أنّ الإنسان فکّر والتفت إلی هذه النقاط الأربع فإنّ شجرة حبّ الدنیا ستنقلع من قلبه ووجوده، ولکن مادامت هذه الشجرة مترسخة فی باطنه فحاله حال الشخص الذی یجلس أسفل شجرة ملیئة بالعصافیر ومشغول بقراءة کتاب، وبین فترة أخری یضرب عصاه علی غصن من أغصانها لتطیر منه العصافیر ثمّ یعود للقراءة، ولکن العصافیر ستعود مرّة ثانیة إلی الشجرة، ویقال لهذا الشخص: «إِذا أَردْتَ الخَلاصَ فَاقلَع الشّجَرَة»، وإلّا فإنّک مهما حرکة أغصان الشجرة وأبعدت العصافیر عنها فإنّها سرعان ما تعود إلیها، ولو أنّ الإنسان أراد أن یتخلص من التشویش الذهنی والانشغال القلبی فیجب علیه قلع شجرة حبّ الدنیا من قلبه، نسأل اللّه تعالی أن یرزقنا جمیعاً هذا التوفیق لازاحة حبّ الدنیا من قلوبنا إن شاء اللّه.

ص:118

35- حبّ الدنیا أکبر مانع لحضور القلب

حسب تصریح العلماء الکبار أمثال الشهید الثانی والإمام الخمینی رضوان اللّه علیهما، فما یوجب عدم حضور القلب فی صلاة الشخص بل فی جمیع العبادات هو حبّ الدنیا، وهذه المسألة یجب علی المصلّی الاهتمام بها کثیراً، وعلی حدّ تعبیر الإمام الراحل رضوان اللّه علیه فإنّه کلما کان مقدار حبّ الدنیا فی قلب الإنسان أکثر فإنّ حضور قلبه فی الصّلاة سیکون أقلّ، وکلّما کان مقدار حبّ الدنیا أقلّ فإنّ حضور قلبه فی الصّلاة سیکون أکثر.

وروی الدیلمی فی «إرشاد القلوب» روایة عن أمیرالمؤمنین علیه السلام یقول: «إنَّ رسول اللّه قال: «قَالَ اللّهُ تَبارَکَ وَتَعالَی یا أَحمَدُ لَو صَلّی العَبْدُ صَلاةَ أَهِلِ السَّماءِ وَالأَرضِ وَیَصُومُ صِیامَ أِهلِ السَّماءِ وَالأَرضِ ویَطوی عَنِ الطَّعامِ مِثْلَ المَلائِکَةِ وَلَبِسَ لِباسَ العَابِدِینَ»، (أی یصوم ویصلّی مثل أهل السماء والأرض معلوم أنّ سکان السماوات أکثر بکثیر من سکان الأرض، وهذه مسألة فرضیّة یعنی أنّ مقدار الثواب إلی درجة من الکثرة بحیث إنّها بقدر صلاة أهل السماء والأرض)

ص:119

«ثُمَّ أَری فِی قَلْبِهِ مَنْ حُبِّ الدُّنیا ذَرَةً أَو سُمعَتِهَا أَو رِئاسَتَها أَو صِیتِهَا أَو زِیِنَتِها لا یُجاورُنی فِی دَارِی وَلأَنزِعَنَّ مِنْ قَلْبِهِ مَحَبَّتِی وَلأَظلِمَنَّ قَلْبَهُ حَتّی یَنسَانِی ولا أَذِیقُهُ حَلاوَةَ مَحَبَّتِی»(1).

وهکذا ترون مقدار الآثار الوخیمة والعواقب السیّئة لحبّ الدنیا بحیث إنّ اللّه تعالی رتّب علیها هذا المقدار من العقوبة الشدیدة، وأساساً ورد فی کتبنا الروائیّة، کما ذکر بعض العلماء والمحدّثین مثل المرحوم الشیخ الحرّ العاملی فی کتابه «وسائل الشیعة»، باباً تحت عنوان: باب وجوب اجتناب الدنیا وحرمة محبّتها، وذکر فی هذا الباب روایات کثیرة، فحبّ الدنیا إذا دخل قلب الإنسان فإنّه لا یزوق حلاوة عبادة اللّه، ولا یذوق طعم الارتباط القریب مع اللّه ولا یسمح له بحضور قلبه فی الصّلاة، الشخص الذی یستطیع أن یعیش حضور القلب فی الصّلاة هو مَن انغرس حبّ اللّه فی قلبه فکان یشعر بالعشق للّه فی أعماق وجوده وحیاته.

ویذکر الإمام الخمینی رضوان اللّه علیه فی هذا الموضوع نقاط أخری مهمّة جدّاً فیما یتّصل بالتوجّه وحضور القلب، ویقول: إنّ حبّ الدنیا بمثابة أشواک طریق الوصول إلی الکمالات الإلهیّة ومراتب المعنویّة، ومن شأنه أن یترک قلب الإنسان عن التوجّه إلی محضر الباری تعالی وبذلک یحرم من لذّة مناجاته.

إذا أردنا أن نعیش حضور القلب فی صلاتنا یجب علینا تطهیر قلوبنا من حبّ الدنیا والابتعاد عنها، وعندما یتحسر الإنسان لماذا لا یملک داراً واسعة ولماذا لا یملک ثروة کبیرة، ولماذا لیس له مقام وسلطة وأمثال ذلک؟ فإنّه کلّ ذلک یشیر إلی حبّ الدنیا فی قلبه وبیده وهو یمانع من حضور القلب فی الصّلاة، وإذا أردنا أن تکون صلاتنا زاخرة بالعشق ومفعمة بلذة المناجاة مع اللّه یجب علینا التقلیل من حبّ الدنیا فی قلوبنا، ونسأل اللّه تعالی أن یوفّقنا لهذا الأمر المهمّ، إن شاء اللّه.

ص:120


1- (1) مستدرک الوسائل، ج 12، ص 36.

36- الدُّنیا المذمومة

«الدُّنیا دُنیَاءَانِ: دُنیَا بَلاغٍ وَدُنیّا مَلعُونَةٍ»(1)

تحدّثنا فیما سبق أن حبّ الدنیا بحیث یکون همّ الإنسان وغمه الوصول إلی الدنیا وزخارفها وتحصیل الرغبات والمیول الدنیویّة فی هذه الحیاة یشکل أهم مانع لحضور القلب فی الصّلاة، ومن هذه الجهة إذا کنّا نرید حضور القلب فی الصّلاة لابدّ من اجتناب حبّ الدنیا والابتعاد عنها، ومن اللازم الالتفات إلی هذه النقطة، وهی أنّ المقصود من حبّ الدنیا لیس هو الکسب والعمل وتحصیل المعاش والرزق الحلال وتهیئة الأمور المعیشیة فی حدود حاجة الإنسان وشأنیته، والمقصود من حبّ الدنیا لا یعنی الأشخاص الذین یملکون الثروة الکبیرة، فهذا لا یدلّ علی وجود حبّ الدنیا فی قلوبهم، وبالعکس الأشخاص الفقراء لا یدلّ ذلک علی أنّهم بعیدین عن حبّ الدنیا، بل یعنی إنّ التعلّق والارتباط الوثیق فی شؤون الدنیا والاهتمام بها علی حساب الأمور المعنویّة والاُخرویّة،

ص:121


1- (1) الکافی، ج 2، ص 131.

ومن هنا یُعلم حال الإنسان ومدی ارتباطه بالدنیا، فلو أنّ الإنسان فَقَد شیئاً من أمور الدنیا وجلس یتحسر علیه، أو فَقَد مقاماً ومنصباً أو خسر مالاً وجلس یتحسّر علیه ویحسب أنّه فقد کلّ شیء فإنّ مثل هذا الشخص خاضع للمقام والمال، ولکن إذا قال إنّ اللّه تعالی وهب لی ذلک المال أو المقام سابقاً والآن أخذه منّی وأشکر اللّه علی ذلک، ولو أنّ اللّه أراد أن یعیده علیَّ أو یهب لی ما هو أفضل منه فهو قادر علی ذلک، فهذا الشخص الذی یملک مثل هذه الروحیّة، التی تحکی عن عدم تعلّقه وارتباطه بأمور الدنیا، لا یکون من مصادیق المحبّ للدنیا.

یقول سماحة الإمام الراحل رضوان اللّه علیه فی کتابه: «أسرار الصّلاة»: إنّ الدنیا الذمیمة هی العلاقة والحبّ والتوجّه لها، وإلّا فإنّ أصل عالم الملک من جهة «نرجو الدقّة فی هذا التعبیر» هو مظهر من مظاهر الحقّ تعالی، فالإنسان فی عالم الدنیا یری تجلیّات الباری تبارک وتعالی، فکلّ شیء تراه فی عالم الطبیعة یعکس قدرة جماله وتجلیّاته، یعنی أنّ الدنیا زاخرة بآثار عظمة اللّه تعالی وتجلیاته وکلّ شیء یشیر إلی وجوده ویشهد علی وحدانیّته، وکلّ شیء فی عالم الوجود یعکس شهادة الوحدانیّة والتوحید.

ومن جهة أخری فإنّ عالم الدنیا، مهد تربیة أولیاء والعرفاء والعالمین باللّه، لأنّ الشخص عندما یکون عارفاً باللّه فإنّه فی هذه الدنیا یکون عارفاً، والشخص الذی أدّب نفسه وسلک الطریق إلی اللّه تعالی فإنّه تحرّک فی هذا الطریق المعنوی فی هذه الدنیا ولا مکان آخر یمکن تصوّره لهذا السلوک المعنوی، ولذلک نقول إنّ الدنیا مزرعة الآخرة ویقول الإمام قدس سره: إنّ عالم الملک من أعزّ المشاهد والمنازل عند أولیاء وأهل المعرفة، ثمّ یقول کلاماً: وربّما لا یکون لدی الشخص شیئاً من مال الدنیا، فلا یملک سیارة ولا داراً، ولا ثروة، ولا قدرة ومنصب ولکن قلبّه مملوء من حبّ الدنیا والتعلّق بها، وهذا هو السبب فی أنّه یعیش الغفلة عن اللّه ویکون کافراً باللّه.

ص:122

ولکن من جهة أخری فربّما یملک الشخص ثروة وسلطة وجاه ومال کثیر، ولکنّ قلبه غیر متعلّق بهذه الأمور کما فی النّبی سلیمان بن داود علیهما السلام، فقد کان رجلاً إلهیّاً ونبیّاً من أنبیاء اللّه، فالنتیجة أنّ ذلک الشخص الذی یملک ثروة کبیرة فهذا لا یعنی أنّه یعیش حبّ الدنیا وأنّ ذلک الفقیر زاهد فیها ولا یعیش حبّ الدنیا، کلا فحبّ الدنیا لا یرتبط بما یملکه الإنسان وما لا یملک، بل یرتبط بذلک التعلّق القلبی للإنسان، بأی شیء دنیوی وبأی مقدار یشعر بالحزن والحسرة علی فراقه، فالشخص الذی یشعر بالطمأنینة فی قلبه لا یختلف حاله إذا ملک ثروة کبیرة أو لم یملک، فکلّ شیء یراه من اللّه تعالی، فمثل هذا الشخص لا یعیش حبّ الدنیا والتعلّق بها فی قلبه.

وجاء فی کلام آخر للإمام الراحل قدس سره فیما یتّصل بهذا الموضوع أنّ بعض الأشخاص ربّما یعملون علی تقسیم رغباتهم ومیولهم فیجعلون قسماً منها للعبادة ویملکون حضور القلب فی الصّلاة، وفی ذات الوقت یبذلون مساعی کثیرة لجمع الأموال والثروة ولکنّهم لا یرتبطون بها فی قلوبهم، ولعلّ هؤلاء ینالون سعادة الدنیا والآخرة، وعلی هذا الأساس ینبغی الالتفات إلی أنّ المراد من حبّ الدنیا المذمومة کما وردة فی الروایات من الدنیا الملعونة هو التعلّق بالدنیا والارتباط بالأمور المادیة والدنیویّة التی وهبنا اللّه إیّاها فی هذه الحیاة، فلو أننا سعینا لاجتناب حبّ الدنیا وتطهیر قلوبنا منه فعندما نستطیع تحقیق حضور القلب فی الصّلاة.

ص:123

37- أصل جمیع الفتن وعدم التوجّه إلی اللّه فی الصّلاة حبّ الدنیا

«یا مُوسی لاتَرکَنَّ إِلی الدُّنیا رُکُونَ الظَّالِمِینَ وَرُکُونَ مَنْ اتَّخَذَها أَبَاً وَأُمّاً»(1)

یتحدّث الشهید الثانی رضوان اللّه تعالی علیه فی کتابه «التنبیهات العلیّة»(2) ، عن هذه المسألة وأنّ الشخص الذی یهتمّ لتحصیل الدنیا ویعیش حبّ الدنیا فی قلبه لیس من أجل أن تکون الدنیا مقدّمة لآخرته، فمثل هذا الشخص لا ینبغی أن یتوقّع الحصول علی لذّة المناجاة مع اللّه تعالی «مَنْ فَرَحَ بِالدُّنیا فَلا یَفرَحُ بِاللّهِ وَبِمُناجَاتِه»، فمثل هذا الشخص إذا حصل علی مال ومقام ومنصب أو سلطة فیشعر بالفرح الکبیر لهذه الأمور ولذلک فإنّه لا یشعر بالفرح والبهجة من ذکر اللّه ومناجاته وعباداته، ولو أنّ الإنسان المصلّی أحس بعد صلاته بالنشاط والفرح یغمر وجوده فلیعلم أنّ صلاته کانت مع حضور القلب، ومن لم یشعر بمثل هذا

ص:124


1- (1) الکافی، ج 2، ص 135.
2- (2) . التنبیهات العلیّة، ص 88.

الإحساس بل کان یشعر بأنّ صلاته أمر مفروض علیه وتکلیف یؤدّیه بصعوبة، فمثل هذا الشخص قد ملأ حبّ الدنیا قلبه وأحاطت بالدنیا بقلبه وإن کان لا یعلم بذلک، الشخص الذی تکون الدنیا قرّة عینه ومصدر فرحه وهمّه وغمّه لا یمکن أن تکون الصّلاة قرّة عینه ولا أن تکون المناجاة مع اللّه باعثاً لفرحه وبهجته.

وعلی هذا الأساس وبحسب ما ورد فی ثقافتنا الدینیّة نعتقد بأنّ الشخص الذی یتحرّک نحو تحصیل المال والثروة یستطیع أن یجعل هذا المال مقدّمة لنیل التقوی والزاد للآخرة، ونقرأ فی روایة عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله أنّه قال: «نِعَمَ العَونُ عَلَی تَقوی اللّه الغِنی»(1)، فقد یساعد المال والثروة صاحبه لنیل تقوی اللّه تعالی، وتحصیل المزید من المثوبات کالإنفاق فی سبیل اللّه والاهتمام بمدّ ید العون للمستضعفین والمساکین ولکن إذا کان هدف الإنسان من تحصیل المال لیس طلب الآخرة ولا یجعله مادّة لنیل الثواب، فلا یتوقع علی أن یحصل علی حضور القلب فی الصّلاة.

ومن أجل توضیح مسألة حبّ الدنیا أکثر والاهتمام بهذه المسألة المهمّة جدّاً ینقل المرحوم الکلینی فی المجلد الثانی من أصول الکافی باب ذم الدنیا والزهد فیها روایات کثیرة، یقول فی إحداها: کلّم اللّه تعالی نبیّه موسی وقال: «یا مُوسی لا تَرکَنَّ إِلی الدُّنیا رُکُونَ الظَّالِمِینَ وَرُکُونَ مَنْ اتَّخَذَها أَبَاً وَأُمّاً»، أی لا ینبغی للإنسان أن یرتبط بالدنیا بشکل وثیق بحیث یغفل عن وجود الجنّة والنار والآخرة وکأنّ کلّ شیء هذا العالم محصور فی هذه الحیاة الدنیا، فالحاکم الظالم الذی یقتل ویسفک دماء الأبریاء، لأنّه یتصوّر أنّ الحیاة کلّها منحصرة بهذه الدنیا وکلّ شیء یتعلّق بهذه الحیاة، ومن هذه الجهة یسعی لیکون أکثر قدرة ومقاماً من الآخرین، فیقول الباری تعالی لنبیّه موسی «لا تَرکَنَّ إِلی الدُّنیا»، فلا تکون مثل

ص:125


1- (1) . الکافی، ج 5، ص 71.

هؤلاء الظالمین الذین التصقوا بالدنیا کأنّها أباهم واُمّهم، وجعلوها مورداً لمحبّتهم وتعلّقهم، ثمّ یقول فی آخر الروایة إنّ اللّه تعالی: «واعلَم أَنَّ کُلَّ فِتنَةٍ بَدؤها حُبُّ الدُّنیا»، وکلّ شرّ وبلاء ومصیبة یمتد بجذوره إلی حبّ الدنیا، فأنواع الحروب والنزاعات العائلیّة والاختلافات القومیّة وحتّی الخلافات السیاسیّة تمتد بجذورها إلی حبّ الدنیا وحبّ السلطة والمقام.

وقال: «وَلا تَِغبِط أَحَداً بِکثَرةِ المَالِ»، أو لا تتحسر علی کثرة المال لدی الآخرین «فَإِنَّ مَعَ کَثرَةِ المَالِ تَکثُرُ الذُّنُوبُ»، فکلّما ازدادت ثروة الإنسان ولم یؤدّ ما علیه من الحقوق والواجبات فإنّه ستزداد ذنوبه وآثامه.

وعلی هذا الأساس ینبغی الالتفات إلی أنّ الروایة عندما تقول إنّ أصل کلّ فتنة حبّ الدنیا وأنّ أصل عدم التوجّه إلی اللّه هو حبّ الدنیا والتعلّق بها، وعلیه فمن أجل تحصیل حضور القلب فی الصّلاة یجب تطهیر قلوبنا وتنقیة أنفسنا من حبّ الدنیا، ولیعلم الإنسان أنّ الشیطان عدوّه ویستطیع التغلب علیه بواسطة حبّ الدنیا وبذلک یتمکّن من جرّه إلی مهاوی الرذیلة ومستنقع الخطیئة، وینبغی أن یعلم أنّ حبّ الدنیا لا یجتمع مع الدین والتدین وأنّ حبّ الدنیا یعدّ أهم جندی من جنود ابلیس، قد یستولی علی الإنسان ویحیط بقلبه ولا یسمح بتذوق لذّة المناجاة مع اللّه.

نأمل إن شاء اللّه أن نکون ملتفتین إلی هذا العدوّ اللدود ونستطیع الخلاص منه والابتعاد عن طریقه ویوماً بعد آخر نبتعد عن کلّ شیء یتعلّق بحبّ الدنیا ونبعده عنّا، حتّی بحسب تعبیر الإمام الخمینی قدس سره: لا یستطیع الإنسان القول بأننی أخرجت جمیع حبّ الدنیا من قلبی، ولکن بالمقدار الممکن نستطیع ذلک، ونحن بعون اللّه نستطیع ذلک إن شاء.

ص:126

38- بغض الدنیا أفضل الأعمال

قال الإمام زین العابدین علیه السلام: «مَا مِنْ عَمَلٍ بِعْدَ مَعرِفَةِ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَعرِفَةِ رَسُولِهِ صلی الله علیه و آله أَفضَلَ مِنْ بُغضِ الدُّنیا»(1)

ذکرنا فی البحوث السابقة بأنّ حبّ الدنیا والتعلّق بمظاهر الدنیا یشکّل مانعاً من حضور القلب فی الصّلاة، فالشخص الذی تعلّق قلبه بشجرة حبّ الدنیا والانشداد لزخارفها لا یستطیع أن یملک حضور القلب فی الصّلاة، وأشرنا أیضاً إلی بعض الروایات فی هذا المجال وإن شاء اللّه یجب علینا الاهتمام بهذه الروایات الشریفة، ففی روایة أخری وردت فی أصول الکافی (کتاب الإیمان والکفر باب ذمّ الدنیا والزهد فیها) عن الإمام زین العابدین علیه السلام عندما سئل: ما هی أفضل الأعمال عند اللّه فقال علیه السلام:

«مَا مِنْ عَمَلٍ بِعْدَ مَعرِفَةِ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَعرِفَةِ رَسُولِهِ صلی الله علیه و آله أَفضَلَ مِنْ بُغضِ الدُّنیا»، وهذا یعنی أنّ الإنسان یصل إلی مرتبة لیس فقط یشعر بحبّ الدنیا بل بالعکس

ص:127


1- (1) الکافی، ج 2، ص 130.

یشعر بالبغض للدنیا.

ثمّ قال: «وإِنّ لِذَلِکَ لَشُعُباً کَثِیرَةٌ وَلِلمَعاصِی شُعُباً، فَأوَّلُ مَا عُصَی اللّه بِهِ ُ الکبِرُ وَهِی مَعصِیةُ إِبلِیسَ حِینَ أَبی وَاستَکبَرَ وَکَانَ مِنَ الکَافِرِین»، ثمّ یتحدّث الإمام علیه السلام عن المعصیة الثّانیة وهی معصیة الحرص والطمع تورط آدم علی نبیّنا وآله وعلیه السلام، والمعصیة الثّالثة: الحسد، الذی تورط فیه قابل ابن آدم وتسبّب فیه قتل أخیه هابیل.

ثمّ قال: «فَتَشَعَّبَ مِنْ ذَلِکَ حُبُّ النِّساءِ وَحُبِّ الدُّنیا وَحُبُّ الرِّئاسَة وَحُبُّ الرَّاحَةِ وَحُبُّ الکَلامِ وحُبُّ العُلُوِّ والثَّروَةِ»، فنتج من هذه الصفات الذمیمة الثلاث:

(التکبر، الحرص، والحسد)، وهی أعظم الرذائل النفسانیّة، سبع خصال ذمیمة، حبّ النساء (إتّباع الشهوة)، وحبّ الرئاسة، وحبّ الراحة، وحبّ الکلام (اللغو والثرثرة) وحب العلوّ والثروة، «فَصِرنَّ سَبْعَ خِصالٍ فَاجتَمَعنَ کُلَّهُنَّ فِی حُبِّ الدُّنیا»، وکانت نتیجة ذلک أنّ الأنبیاء والأولیاء اعتبروا أنّ حبّ الدنیا أساس وأصل کلّ ذنب وخطیئة: «وَقَالَ الأنبِیاءُ والعُلمَاءُ بَعدَ مَعرِفَة ذَلِکَ حُبُّ الدُّنیا رأَسُ کُلُّ خَطیئَةٍ»، ومعنی هذه العبارة الواردة فی النصوص «حُبُّ الدُّنیا رأَسُ کُلُّ خَطیئَةٍ»، هی أنّ حبّ الدنیا لو انغرس فی قلب إنسان فإنّه یجرّه إلی أی عمل من الأعمال المخالفة فضلاً عن کونه یمنع حضور القلب فی الصّلاة، وعندما یکون حبّ الدنیا منشأ جمیع الخطایا والذنوب إعلم أنّ حبّ الدنیا هذا هو المانع من حضور قلبک فی الصّلاة: «الدُّنیا دُنیَاءَانِ: دُنیَا بَلاغٍ وَدُنیّا مَلعُونَةٍ»(1)، فدنیا البلاغ یعنی أنّ الإنسان ینتفع من هذه الحیاة بمقدار الضرورة والکفایة وبمقدار من یشبع حاجاته الدنیویّة، هذه هی الدنیا المحمودة أی دنیا البلاغ، ولکن إذا تحرّک الإنسان وراء المزید منها وکان یهدف من ذلک الحصول علی الدنیا فقط فلیس

ص:128


1- (1) . الکافی، ج 2، ص 131.

من أجل الآخرة فهذه الدنیا هی الملعونة.

وعلی هذا الأساس ینبغی أن نعلم أنّ حبّ الدنیا مانع من حضور القلب، فإذا أردنا حضور القلب فی الصّلاة ونعیش حالة المناجاة مع اللّه فیجب قبل الصّلاة أن نجلس ونفکّر ما مقدار تعلّقنا بهذه الدنیا، وکیف نستطیع علاج نفوسنا وقلوبنا ونزیل هذا الحبّ من قلوبنا، فلا ینبغی أن ییأس الإنسان من تطهیر قلبه وتنقیة نفسه من حبّ الدنیا، وعلیه أن یسعی کلّ یوم للتقلیل من هذا التعلّق والارتباط الوثیق بالدنیا، فکلّما کانت هذه التعلقات أقل فإنّ لذّة المناجاة مع اللّه تعالی فی الصّلاة ستکون أکثر، وهنیئاً لحال الأشخاص الذین وصلوا إلی مراتب عالیة من بغض الدنیا عندما یشعرون فی أنفسهم من حلاوة المناجاة مع اللّه فی أعمال قلوبهم.

نسأل اللّه تعالی أن یوفّقنا جمیعاً لأداء الصّلاة مع حضور القلب.

ص:129

39- لزوم الاستمداد من اللّه لحضور القلب

إنّ إحدی النقاط التی یجب علی المصلّی التوجّه والالتفات إلیها والإیمان العمیق بها أنّ التوفیق لحضور القلب إنّما یتیسر بالاستمداد والطلب من اللّه تبارک وتعالی وأن یعلم المصلّی أنّ مقلّب القلوب هو اللّه عزّ وجلّ، فلو أراد حضور القلب فی صلاته وجب علیه أن یتوکّل علی اللّه تعالی ویستمد منه المعونة لیتمکّن من إعداد قلبه لیتهیأ للحضور فی محضر الباری تعالی، ویکون قلباً صالحاً ولائقاً لمناجاة اللّه وجدیراً بأن تنعکس علیه تجلیات الذات المقدّسة، ولو أنّ العنایة الإلهیّة تعلّقت بقلب الإنسان فإنّه سیبتعد عن الدنیا وتنقطع العلاقة بینه وبین الدنیا ونوازعها، وطبعاً البدایة تکون بید الإنسان نفسه، یعنی أنّ الإنسان لو لم یرغب فی التوجّه إلی اللّه ولم یتقدّم بالخطوة الاُولی فلا یتوقّع أن تشمله عنایات الباری تعالی، فما لم یلتفت الإنسان إلی کدورات قلبه ولم یشعر أنّ هذا القلب لا یلیق بمناجاة اللّه وغیر جدیر باشراق تجلیات الذات المقدّسة علیه فلا ینفعه شیء، ولذلک یجب علیه أن یتفکّر ماذا یصنع حتّی یصل إلی هذه الغایة ویحصل علی هذا المطلوب؟

ص:130

بدایة یکون اختیار الطریق بید الإنسان، فلو أنّ الإنسان نجح فی بعض الامتحانات والاختبارات الدنیویّة التی یثیرها أمامه اللّه تعالی فی حیاته وتمکن من إبعاد نفسه وقلبه عن الدنیا، ففی الخطوة اللاحقة تمتد إلیه ید المعونة الإلهیّة وتساعده فی السلوک إلی اللّه.

ونقرأ فی روایة وردت فی کتاب «الکافی» عن الامام الباقر علیه السلام عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی حدیث قدسی قال صلی الله علیه و آله: «یَقُولُ اللّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَعزَّتِی وَجَلالِی وعَظَمَتِی وَکِبرِیائِی وَنُورِی وعُلُوِّی وَارتَفاعِ مَکَانِی لایُؤثِرُ عَبدٌ هَواهُ عَلَی هَوایَ...»، وهناک ینبغی الالتفات أنّ هذه المسألة تحدث للإنسان فی کلّ یوم، فیری نفسه علی مفترق طریقین: أحدهما یتّجه به إلی اللّه، والآخر إلی الشیطان، أحدهما طریق الحقّ والآخر طریق الباطل، فإذا اختار الإنسان ما یوافق هوی نفسه ومیله ورجّح رغبته الشخصیّة علی ما یریده اللّه تعالی منه، هنا یقول اللّه:

«إِلّا شَتَّتُ عَلیهِ أَمرَهُ وَلَبَستُ عَلَیهِ دُنیَاهُ وَشَغَلتُ قَلبَهُ بِها»، وهذا شاهد علی أنّ اللّه تبارک وتعالی یشتت ذهن هؤلاء الأشخاص بأن یجعل قلوبهم مشغولة ومشغوفة بالدنیا، أی سیکون کلّ همّهم وغمّهم ما یعیشون من أمورهم الدنیویّة، وهذه النتیجة هی ولیدة الأعمال اللاأخلاقیّة والسلوکیات الغیر صحیحة لهؤلاء، «وَلَمْ أُوتُِهِ مِنها إِلّا مَا قَدَّرْتُ لَهُ»(1)، فکلما سعی هذا الشخص لکسب المزید من زخارف الدنیا وملذاتها ومظاهرها فإنّه لا ینال منها إلّاما هو مقدّر له عند اللّه تعالی.

وعلی هذا الأساس یتبیّن أنّ الإنسان إذا وقف بین طریقین: أحدهما طریق اللّه والآخر طریق الشیطان والدنیا، وسلک فی طریق الشیطان والدنیا ورجّحه علی طریق اللّه، فإنّ قلبه سینشغل تدریجیاً بالأمور الدنیویّة إلی درجة أنّه عندما یقوم

ص:131


1- (1) . الکافی، ج 2، ص 335.

للصّلاة فإنّه لا یستطیع أن یلفت قلبه لحظة واحدة لیتوجّه بقلبه إلی اللّه ویدرک الحضور الربوبی للحقّ تعالی، إذن فمثل هذا التوفیق یجب أن نطلبه من اللّه تعالی، ونلتفت إلی هذه النقطة وهی أنّ الخطوة الاُولی من حضور القلب تکون بید الإنسان نفسه، ولکن الخطوات الکبیرة والأخیرة تتحقّق بعنایة الباری تعالی ونفسه ورحمته.

ص:132

40- سرّ توجّه القلب للاُمور الدنیویّة

ذکرنا آنفاً إلی أنّ الإنسان المصلّی یجب أن یعلم أنّ حضور القلب واشتغاله بذکر اللّه تعالی یجب أن یقترن مع الاستمداد من اللّه ورحمته الواسعة.

إنّ اللّه تبارک وتعالی هو الذی یعمل علی تصفیة وتنقیة قلب الإنسان، وهنا حقیقة جلیّة وهی أنّ الإنسان بما أنّه مشغول بالأمور الدنیویّة فی لیله ونهاره فإنّ قلبه عادة منشغل ومتوجّه إلی هذه الأمور، إن قلب الإنسان ینشغل عادة بالأمور التی تنشغل بها أعضائه الظاهریة، وهنا یتبیّن معنی مجاهدة النفس.

یجب علی الإنسان أن یتحرّک فی طریق جهاد النفس کیما یتوجّه قلبه لأوقات الصّلاة إلی اللّه ویترک الانشغال بالدنیا، والسرّ فی أهمیّة حضور القلب فی الصّلاة یکمن فی هذه النقطة، وسبق أن ذکرنا أنّ الکثیر من أولیاء اللّه کانوا یطمحون أن یعیشوا من أوّل الصّلاة إلی آخرها فقط وفقط فی محضر الباری تعالی ولکنّهم کانوا یظهرون العجز عن ذلک، وأنّه عمل صعب جدّاً ویحتاج إلی إمداد ومساعدة من اللّه تعالی.

ص:133

وکما ورد فی هذه الآیة الکریمة: «زُیِّنَ لِلنّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَ الْبَنِینَ وَ الْقَناطِیرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَ الْفِضَّةِ وَ الْخَیْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَ الْأَنْعامِ وَ الْحَرْثِ ذلِکَ مَتاعُ الْحَیاةِ الدُّنْیا...»1 ، فمظاهر الدنیا وزخارفها تتجلّی لعامّة الناس بثوب جمیل وشکل جذّاب وتتزیّن قلوبهم بهذه الأمور الشهوانیّة من الأموال والأولاد والنساء والزراعة والأمور الأخری الواردة فی هذه الآیة الشریفة، فعندما تقول الآیة: «زُیِّنَ لِلنّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ...» ، حیث تتجلّی لعامّة الناس بشکل جمیل وبرّاق وتنفذ إلی قلوبهم، ومن هذه الجهة فلو أراد الإنسان أن یبعد حبّ الدنیا ومظاهرها من قلبه فإنّه لا یستطیع ذلک بإرادته واختیاره نفسه، فهو لا یستطیع القول إنّنی قادر بإرادتی واختیاری أن أعمل هذا العمل، بل إنّ هذا العمل یحتاج بالدرجة الاُولی إلی معونة من الباری تعالی، إنّ الدخول فی هذا الوادی یحتاج إلی إرادة الإنسان ولکن استقراره وثباته فی هذا الطریق بحیث یکون قلبه مستعداً للحضور بین یدی اللّه والابتعاد عن زخارف الدنیا، یحتاج إلی عنایة الحقّ تعالی.

وسبق أن ذکرنا الحدیث القدسی أنّ اللّه تبارک وتعالی أقسم بعزّته وجلاله وبنوره وعلوّه وعظمته وکبریائه أنّ شخصاً عندما یرجّح میوله ورغبته علی رغبة اللّه تعالی فإنّ قلبه سینشغل بالدنیا، وهنا أطلب من جمیع الإخوة الأعزاء أن یدققوا فی هذه التعابیر المهمّة جدّاً، وهذا یعنی أننا عندما نقف علی مفترق طریقین فلا یعنی أننا نستطیع بمیلنا وإرادتنا أن نرجّح ما یریده اللّه منّا علی رغبات أنفسنا، فهذه لیست مسألة سهلة وبسیطة، فهی بمثابة انتخاب واختیار تستغرق وجود الإنسان کلّه ومن شأنه أن یخلق تحوّلاً کبیراً فی حیاته وسیرته وشخصیّته، ولو أنّ الإنسان رجّح میوله وأهواءه علی ما یرید اللّه منه فسوف

ص:134

تکون النتیجة کما أسلفنا، فاللّه تعالی یقول: فأجعل قلبه مشغولاً فی الدنیا وتکون جمیع أموره مشتتة وحیاته مضطربة، ومن هذه الجهة نری أنّ الأشخاص الذین یطلبون الدنیا لا یعیشون استقراراً نفسیّاً فی حیاتهم، بخلاف الأشخاص الذین یتحرّکون فی خط الإیمان والتقوی والتوحید، ویسلکون طریق العبادة والعبودیّة، فهم یعیشون الباطن المستقر والقلب المطمئن.

ونتابع فی الحدیث الشریف قوله: «لا یُؤثِرُ عَبدٌ هَواهُ عَلَی هَوایَ...»، فلو وجد نفسه أنّه یستطیع أن یهتک شخصاً مؤمناً ویسیء إلی سمعته، أو یفشی سرّاً من أسراره ولکنّه مع ذلک لا یرتکب هذا العمل من أجل اللّه، وفی الموقع الذی تکون سمعته وحیثیّته فی خطر ولکنّه من أجل حفظ الدین واطاعة أمر اللّه تعالی یرفع صوته بالحقّ، ولو أنّه وقف بین طریقین، ویحدث ذلک کثیراً فی حیاة الإنسان، فیرجّح ما یریده اللّه منه علی هوی نفسه یقول الحدیث: «إِلّا استَحفَظتُهُ مَلائِکَتِی»، ما أعظم هذا الأمر، أن یعلم الإنسان المؤمن أنّ ملائکة اللّه تقوم بحفظه ورعایته وتمدّ له ید العون والمساعدة وتدعو له وتستغفر له.

«وَکَفَّلْتُ السَّماواتِ والأرضِینَ رِزقَهُ وَکُنتُ لَهُ مِنْ وَراءِ تِجارة کِلِّ تاجِرٍ وَأَتَتْهُ الدُّنیا وَهِی رَاغِمُةٌ»(1)، فمثل هذا الإنسان الذی یفرّ من الدنیا ویترکها طلباً ورغبة باللّه تعالی فإنّ الدنیا ستأتی إلیه خاضعة وراغمة، هذه أمور مهمّة، فالإنسان لو شعر فی صلاته بحضور القلب وأحسّ بحالة مریحة وجمیلة فی أعماقه فلیعلم أنّه من جملة الأشخاص الذین وقعوا مورد عنایة الباری تعالی، ولکن إذا لم یشعر بحضور القلب من أوّل صلاته إلی آخرها فلیعلم أنّه یواجه مشکلة، فعلیه أن یجلس ویتفکّر ما هی مشاکلته، وما هو الباعث علی تورطه فی أمور الدنیا وغفلته عن اللّه تعالی؟ والشخص الذی یعیش ذکر اللّه تعالی فی غیر الصّلاة فلا

ص:135


1- (1) . الکافی، ج 2، ص 335.

یمکن أن یغفل عنه فی الصّلاة، والشخص الذی یراقب نفسه فی سائر الحالات فیتحرّک فی خط الطاعة والعبودیّة للّه تعالی ویؤدّی ما علیه من أوامر اللّه تعالی فإنّه بطریق أولی سیکون متوجّهاً إلی اللّه فی صلاته.

رزقنا اللّه تعالی وإیّاکم حضور القلب فی الصّلاة إن شاء اللّه.

ص:136

الفصل الثالث: أسرار مقدّمات وشروط الصّلاة

الباب الأوّل: أسرار الطّهارة

اشارة

ص:137

ص:138

41- مراتب الطّهارة

إنّ أحد البحوث التی یجب التوجّه إلیها فی أسرار الصّلاة، الأسرار الموجودة فی مقدّمات الصّلاة، یقول الإمام الراحل رضوان اللّه علیه فی کتابه «سرّ الصّلاة»(1): إنّ الصّلاة نفسها لها مراتب، فمقدّمات الصّلاة وشروطها لها مراتب أیضاً، یعنی بما أنّ حقیقة الصّلاة لها مراتب کثیرة، ولعلّه یمکن القول بصدور صلاتین مختلفتین من المصلّین من حیث المرتبة والحقیقة، فإنّ مقدّمات الصّلاة من قبیل الطهارة وسائر الأمور الأخری لها مراتب أیضاً ویجب علی المصلّی الالتفات إلیها والاهتمام بها.

ویقول رحمه اللّه: الطّهارة الظاهریّة مقدّمة للصّلاة الصوریّة والظاهریّة، یعنی بحسب الظاهر الشخص الذی یرید أن یصلّی یجب علیه تحصیل الطهارة الصوریّة، ولذلک فإنّ الوضوء یعتبر مقدّمة لهذه الصّلاة الظاهریّة التی یصلّیها المکلّف، ولکن الطهارة لها مراتب أخری أیضاً، فهناک طهارة أهل الإیمان،

ص:139


1- (1) . سرّ الصّلاة (معراج السالکین)، ص 34.

وطهارة أهل الباطن، وطهارة أصحاب الحقیقة، وطهارة أصحاب القلوب السلیمة وطهارة أصحاب السرّ، وطهارة أصحاب المحبّة والمجذوبین، وطهارة أصحاب الهدایة، هذه هی مراتب الطهارة، وبعد تحصیل الطهارة الظاهریّة، تصل النوبة إلی المرتبة الثّانیة وهی طهارة أهل الإیمان، یعنی أن یطهّر نفسه من المعاصی ویبتعد عن الذنوب وعن الأخلاق الرذیلة والشهوات والمیول غیر المشروعة، فالإنسان المؤمن هو الشخص الذی لا یسمح للحرام أن یسلک طریقاً إلی وجوده ونفسه ویتحرز من تلویث قلبه بالحرام، فهذا هو معنی طهارة أهل الإیمان.

المرتبة الثّالثة، طهارة أهل الباطن، یعنی أن یطهّر باطنه من القذرات المعنویّة والأخلاق الذمیمة والأوساخ الأخلاقیّة.

المرتبة الرابعة، طهارة أصحاب الحقیقة، یعنی یوصل نفسه إلی مرحلة بحیث لا یسمح لوساوس الشیطان أن تدخل إلی حریم قلبه، ولا یسمح للأفکار الباطلة والشکوک والشبهات أن تخطر علی ذهنه.

المرتبة الخامسة، طهارة أصحاب القلوب السلیمة، وهی الطهارة من التقلبات وابعاد ذهن الإنسان أن یکون مشغولاً بالمفاهیم التی تمثّل حجاباً بینه وبین اللّه.

المرتبة السادسة، طهارة أصحاب السرّ، وهذا یصل الإنسان إلی مراحل أعلی من الطهارة المعنویّة، وکما ورد فی الآیة الشریفة: «لا یَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ»1 ، فهذا یعنی أنّه کما أنّ ظاهر القرآن بحاجة إلی طهارة ظاهریّة فیجب علی المکلّف الوضوء والطهارة لیتمکن من مسّ ظاهر القرآن، فإن الوصول إلی باطن القرآن یحتاج إلی طهارة باطنیّة أیضاً، ومن أجل الوصول إلی سرّ القرآن یلزم طهارة أصحاب السرّ، وعلیه فإنّ الصّلاة أیضاً تکون بهذا المستوی.

ص:140

ولو أنّ الإنسان أراد الاکتفاء بالصّلاة الظاهریّة فیکفی الوضوء الظاهری والطهارة الظاهریّة، ولکن یجب أن نعلم أنّ الصّلاة، مضافاً إلی الطهارة الظاهریّة تحتاج إلی طهارة باطنیّة، فلو أردنا أن نکون من أهل الباطن وتکون صلاتنا صلاة أهل الباطن فهذا الأمر یتوقّف علی الطهارة الباطنیّة.

ومن هذا المنطلق فإنّ الطهارة الظاهریّة هی أقل مراتب الطهارة وأضعف مرتبة یؤدّیها الإنسان المکلّف وتکون مقدّمة للوصول إلی الطهارة الباطنیّة.

نسأل اللّه تعالی أن یوفّقنا أن نکون جدیرین بجمیع أنواع الطهارة إن شاء اللّه.

ص:141

42- طهارة الظّاهر وطهارة الباطن

ذکرنا أنّ المصلّی یجب أن یتطهّر للصّلاة، وثمّة أسرار ونقاط کثیرة فی هذا العمل العبادی، فالطهارة لها مراتب عدیدة والمصلّی یجب أن یعلم بأنّ الطهارة الظاهریّة تعتبر أقل وأدنی مرتبة من مراتب الطهارة وهی مقدّمة الصّلاة الظاهریّة، ویجب علی الإنسان فی حرکة الحیاة أن یتحرّک لتحصیل تلک المراتب الأهم والأعلی من الطهارة، ومنها طهارة أهل الإیمان، طهارة أهل الباطن، طهارة أصحاب الحقیقة، وأصحاب السرّ.

إذا اقترنت صلاة الإنسان بالطهارة الباطنیّة فإن صلاته ستکون صلاة أهل الباطن، وأداء الطهارة الظاهریّة إنّما لغرض أن یلتفت الإنسان إلی الطهارة الباطنیّة ویسعی لتحقیقها فی وجوده، وکما أنّ الآیة الشریفة تقول: «لا یَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ»1 ، أی أنّ الشخص إذا أراد أن یمسّ ألفاظ وکلمات القرآن یجب أن یکون متطهّراً بالطهارة الظاهریّة، فإنّ علماءنا ذکروا بأنّ هذه الآیة الشریفة تشیر

ص:142

أیضاً إلی أنّ الإنسان إذا أراد أن یصل إلی باطن القرآن فیجب علیه أن یملک الطهارة الباطنیّة.

ویبیّن الإمام الراحل فی کتابه «سرّ الصّلاة»، نقاط مهمّة فی هذا المجال ویقول: «یجب أن یعلم أنّ الإسلام یهتمّ بالطهارة الظاهریّة، وأنّ اللّه تبارک وتعالی أمر بطهارة اللباس والبدن فی حال الصّلاة وأنّ المصلّی یجب أن یکون لباسه وبدنه طاهرین، وقد ورد فی المأثور أنّ النظافة أحد شروط وعلائم الإیمان أو أنّها جزء من الإیمان، وعلی هذا الأساس لا یمکن أن یهتمّ الباری تعالی بالطهارة الظاهریّة بهذا المقدار ولا یهتمّ بالطهارة الباطنیّة وطهارة قلب الإنسان ویهمل هذا الأمر المهم، ولا یمکن أن لا یهتمّ بتطهیر القلب من الأوساخ المعنویّة والتلوث بالرذائل الأخلاقیّة.

إذا تلوّثت ید الإنسان بالنجاسة فإنّ اللّه تعالی أمر بتطهیر هذه النجاسة بالماء، وعلیه کیف یمکن القول إنّ اللّه تعالی لم یهتمّ بإزالة النجاسة الباطنیّة التی تؤدّی إلی هلاک الإنسان الأبدی وتورثه الظلمة والکدورة الدائمة، وفی مسألة الطهارة اکتفی فقط بهذه الطهارة الظاهریّة؟ کلّا، إنّ جمیع أشکال الطهارة الظاهریّة یشکل مقدّمة للالتفات والتوجّه إلی الطهارة الواقعیّة ولیصل الإنسان إلی الحالة الباطنیّة.

یقول تبارک وتعالی فی سورة الأحزاب الآیة 33: «إِنَّما یُرِیدُ اللّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَ یُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیراً» ، ونری أنّ عبارة «وَ یُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیراً» ، تدلّ علی أنّ الطهارة لها مراتب کثیرة جدّاً ولا ینبغی أن نحصر فکرنا بهذه الطهارة الظاهریّة.

طهارة أصحاب الولایة، تعتبر آخر مرتبة للطهارة، وقد اجتمع جمیع مراتب الطهارة وأکملها عند الأئمّة الطاهرین علیهم السلام، بل یستفاد من عبارة «وَ یُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیراً» ، توفّر جمیع مراتب العصمة لأهل البیت علیهم السلام، أو الطهارة من کلّ ذنب

ص:143

وکلّ فعل قبیح، الطهارة من أی فکر باطل، وطهارة نفوسهم من أی وسوسة والشرک باللّه حتّی بلحظة واحدة.

وعلی هذا الأساس یجب الالتفات إلی أنّ طهارة البدن واللباس وکذلک الوضوء، والطهارة من الحدث والخبث التی هی مقدّمات للصّلاة، تعتبر مقدّمة لتحصیل طهارة أعلی، وبهذه الطهارة لا نرید أن نصلّی فقط الصّلاة الظاهریّة بل تکون طریقاً للوصول إلی الطهارة الباطنیّة، وهذه الطهارة الباطنیّة ستکون منشأ ومصدراً لحرکات وسلوکیات معنویّة أعلی.

نسأل اللّه تبارک وتعالی أن یوفّقنا جمیعاً لتحصیل المراتب العلیا من الطهارة.

ص:144

43- أسرار الوضوء

یقول الإمام الصادق علیه السلام: «وَطَهِّر قَلْبَکَ بِالتَّقوی وَالیَقِینِ عِنْدَ طَهارَةِ جَوارِحِکَ بِالمَاءِ».(1)

تقدّم أنّ الطهارة لها مراتب متعددة، وأنّ الطهارة الظاهریّة هی أوّل خطوة للوصول إلی مراتب عالیة من الطهارة الباطنیّة.

یقول الشهید الثانی فی کتابه «التنبیهات العلیّة»(2) ، فی باب الوضوء: إنّ علّة تکلیفنا فی الوضوء والطهارة الظاهریّة بغسل الوجه والیدین، هی أنّ الوجه والیدین فی الإنسان من أکثر الأعضاء والجوارح التی یتواصل بها الإنسان مع الآخرین وسائر الأشیاء.

ومن هنا فعندما یغسل الشخص هذه الأعضاء فإنّه بالحقیقة یرید الإعلان عن هذا الأمر، وهو أنّه یرید أن یطهّر هذه الأعضاء من جمیع التوجّهات لغیر اللّه، وعلی حدّ تعبیر الإمام الراحل رضوان اللّه علیه: إنّ الوضوء وغسل الوجه

ص:145


1- (1) بحار الأنوار، ج 77، ص 339.
2- (2) . التنبیهات العلیّة، ص 93.

والیدین وتطهیرها ممّا سوی اللّه، یعنی أنّ الإنسان یغسل یده ووجهه من غیر اللّه وینفصل عمّا سوی اللّه.

والنقطة الاُولی، أنّ هذه الأعضاء والجوارح التی یرتبط بها الإنسان مع الآخرین غالباً، فإنّه یرید من خلال غسلها أن یقطع ارتباطه بهم وتوجّهه إلیهم

والنقطة الثانیة، أنّ الإنسان یهتمّ بهذا الوجه بالأمور الدنیویّة ویتحرّک للتواصل معها بیدیه وقدمیه، وبذلک تظهر تلوّثات الدنیا علی هذا الوجه والیدین، فعندما یغسلها المصلّی فإنّه یرید من ذلک تطهیرها من هذا التلوّث.

النقطة الثّالثة، أنّه بغسله لهذه الظواهر فإنّه یتطهر قلبه أیضاً، لأنّ القلب هو رئیس جمیع هذه الأعضاء والجوارح وهو الذی یأمر الإنسان بالنظر، والکلام، والاستماع، ویأمر بفعل الأفعال الأخری بالیدین، ومن خلال غسل هذه الأعضاء والجوارح یروم الإنسان تطهیر قلبه أیضاً: «إِنَّ اللّهَ لایَنظُرُ إِلی صُوَرِکُم وَأَعمَالِکُم وَإِنَّما یَنظُر إِلی قُلُوبِکُم».

النقطة الرابعة، إنّ الدنیا والآخرة ضرّتان: «وکلّما قربت من إحداهما بعدت عن الأخری، فلذلک أمر بالتطهیر من الدنیا عند الاشتغال والإقبال علی الأخری»، ومن هذه الجهة أمر اللّه تعالی بغسل الوجه والیدین لیتوجّه المصلّی إلی الآخرة.

النقطة الخامسة، بما أنّ جمیع توجّه الإنسان واهتمامه بأمور الدنیا یتمّ من خلال الوجه فعندما یغسل وجهه فکأنّه یرید أن یغسل وجه قلبه لتیوجّه إلی اللّه تعالی، فالإنسان عندما یغسل وجهه فهذا یعنی أنّه یرید أن یکتسب الاستعداد واللیاقة لیکون وجه قلبه متوجّهاً إلی اللّه تعالی، وأکثر الحواس الظاهریّة والبدنیّة فی الإنسان موجودة فی وجهه من قبیل العین والاُذن والفم وسائر الحواس الأخری، وأعظم أسباب الوصول إلی الدنیا والانشغال منها یتمّ من خلال هذه الحواس الموجودة فی وجه الإنسان، ومع غسلها فالإنسان یرید أن یطهّرها

ص:146

جمیعاً، کما أنّ الأمر بغسل الیدین فی الوضوء هو من أجل أنّ الید من الأعضاء المهمّة لوصول الإنسان إلی غایاته ومشتهیاته النفسانیّة والطبیعیّة.

أمّا السرّ فی مسح الرأس بما أنّ قوّة الفکر والتعقل موجودة فی الرأس ومع مسح الإنسان رأسه فکأنّه یرید مسح قوّة الفکر والتعقل لدیه فی طریق الوصول إلی اللّه، وکذلک مسح القدمین إنّما هو بسبب أنّ الإنسان یتحرّک بواسطة القدمین نحو غایاته ومقصوده.

والخلاصة أنّ الإنسان فی عملیّة الوضوء یطهّر جمیع الأعضاء المتعلّقة بظاهره وبدنه، ویکون بذلک مستعداً من جمیع الجهات للوقوف بین یدی الباری تعالی ومناجاته ولقائه.

إذن یجب علینا الاهتمام بالوضوء، ولعلّه یمکن القول إنّ بعض أشکال الصّلاة التی لا قیمة لها ولا تؤثر فی إیجاد تحوّل فی الإنسان إنّما یعود فی نحو من الأنحاء إلی أنّنا نعیش الغفلة عن مقاصد الوضوء والطهارة وکیفیّتها، ولو أنّ الإنسان فی حال الوضوء کان ملتفتاً إلی أنّه یسعی لتطهیر نفسه وقلبه لتکون له اللیاقة لیحظی بالجدارة لملاقاة اللّه تعالی فإنّ مثل هذا الشخص سیجد فی نفسه تدریجیاً حالة حضور القلب فی الصّلاة.

إن شاء اللّه نوفّق جمیعاً لفهم أسرار الصّلاة.

ص:147

44- سرّ الطّهارة بالماء

«وَ یُنَزِّلُ عَلَیْکُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِیُطَهِّرَکُمْ بِهِ وَ یُذْهِبَ عَنْکُمْ رِجْزَ الشَّیْطانِ...» (1)

ینقل الإمام الخمینی رضوان اللّه تعالی علیه فی کتابه «سرّ الصّلاة»، کلاماً لبعض أهل المعرفة وکبار العرفاء یقول: إنّ الطهور إمّا أن یکون بالماء أو بالتراب، الماء هو منشأ ومصدر الحیاة، والحیاة هی منشأ وأصل العلم ولمشاهدة العالم ومشاهدة الحی القیوم تبارک وتعالی، والتراب أیضاً یعتبر أصل نشأة الإنسان(2) ، وهذه العبارة عمیقة المغزی، فعندما یسبغ الوضوء یجب أن یعلم أنّ الماء منشأ الحیاة وأصل وحقیقة کلّ حیاة هو الماء، وأنّ الماء هو سرّ الحیاة، وأصل العلم یعود إلی هذا الماء لأنّ الماء منشأ الحیاة والحیاة بدورها منشأ العلم، والعلم بدوره منشأ مشاهدة الحی المطلق، وهکذا تلاحظون العلاقة الوثیقة بین الماء والحیاة والعلم ومشاهدة الحیاة المطلقة والحی المطلق، وهو اللّه تبارک وتعالی.

ص:148


1- (1) سورة الأنفال، الآیة 11.
2- (2) . سرّ الصّلاة (معراج السالکین)، ص 41.

فلا ینبغی أن نتصوّر فقط أنّ الوضوء مجرّد غسل الأعضاء بواسطة الماء وأنّ الماء هو المادة السائلة لا أکثر، بل إنّ هذا الماء منشأ الحیاة، والحیاة هی منشأ العلم، وبواسطة العلم یتوجّه الإنسان إلی الحی القیّوم.

یقول الباری تبارک وتعالی فی القرآن الکریم: «وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً * لِنُحْیِیَ بِهِ بَلْدَةً مَیْتاً...»1 ، والمعنی الظاهری لهذه الآیة الشریفة هو، أنّ الباری تعالی وبواسطة الماء أوجد الحیاة الظاهریّة للأحیاء، ولکن یجب أن نعلم أنّ هذا الماء منشأ للحیاة الباطنیّة والعلم أیضاً، والعلم بدوره وسیلة وطریق لحصول الإنسان علی الحقیقة وأنّ أصل الحیاة مستمدة من ذلک الموجود الحی المطلق، أو قوله تعالی فی آیة أخری: «وَ یُنَزِّلُ عَلَیْکُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِیُطَهِّرَکُمْ بِهِ وَ یُذْهِبَ عَنْکُمْ رِجْزَ الشَّیْطانِ...» ، فبواسطة هذا الماء یرید اللّه تعالی أن یطهّرکم من وساوس الشیطان ویبعده عنکم.

هذه الآیة الشریفة ذکرت أمرین وغایتین مهمّتین لإنزال الماء من السماء، إحدهما: «لِیُطَهِّرَکُمْ بِهِ...» ، والثّانیة: «وَ یُذْهِبَ عَنْکُمْ رِجْزَ الشَّیْطانِ...» ، فالماء فی حقیقته وباطنه یطهّر الإنسان من أشکال الرجس والتلوّث، والطهارة إمّا أن تکون بالماء أو بالتراب، والتراب بدوره أصل وجود الإنسان «مِنْها خَلَقْناکُمْ...»2 ، فوجود جمیع أفراد البشر یعود إلی التراب والإنسان خلق من التراب، والنتیجة أن تحصل الطهارة إمّا یکون بوسیلة الوضوء أو التیمم فینبغی علی الإنسان أن یفکّر فیمن خلقه، ولأجل أی شیء خلقه، ومن أی شیء خلق؟ والتیمم بالتراب هو من أجل أن یشعر الإنسان بالخضوع أکثر ویبعد عن نفسه حالات التکبر والغرور، فالتراب هو الأصل فی حالة الذلة والمسکنة، وعلی هذا الأساس عندما

ص:149

نرید اسباغ الوضوء أو التیمم یجب أن نلتفت إلی هذه النقاط، وعندما یقع نظرنا علی الماء نتذکر الآیة الشریفة: «وَ یُنَزِّلُ عَلَیْکُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِیُطَهِّرَکُمْ بِهِ وَ یُذْهِبَ عَنْکُمْ رِجْزَ الشَّیْطانِ...» ، فنعلم بأنّ استعمال هذا الماء فی الطهارة الظاهریّة مقدّمة لتحصیل الطهارة الباطنیّة والنقاء من تلوّث الباطن، نسأل اللّه تعالی أن یجعلنا من أهل الطهارة.

ص:150

45- الماء الرحمة المطلقة للوجود

یقول الإمام الصادق علیه السلام: «إِذَا أَرَدْتَ الطَّهارَةَ وَالوضُوءَ فَتَقَدَّم إِلی المَاءِ تَقَدُّمَکَ إِلی رَحمَةِ اللّهِ».(1)

إنّ إحدی النقاط التی یجب أن یلتفت إلیها المصلّی فی الوضوء، الخصوصیّات والأسرار الموجودة فی الماء، فنقرأ فی سورة الأنبیاء الآیة 30 قوله تعالی:

«وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ کُلَّ شَیْ ءٍ حَیٍّ...» ، یعنی أنّ منشأ حیاة کلّ موجود حیّ هو الماء، وکما أنّ الحیاة الظاهریّة والبدنیّة تحتاج إلی الماء فإنّ الحیاة الباطنیّة تحتاج إلی الماء أیضاً، لأنّ قلب الإنسان یتطهّر بهذا الماء من التلوّثات والرذائل والکدورات بواسطة هذه الطهارة، ومن هنا وجبت مثل هذه الطهارة.

وعلی حدّ تعبیر القرآن الکریم: «وَ یُذْهِبَ عَنْکُمْ رِجْزَ الشَّیْطانِ...»2 ، فإنّ إزالة رجس الشیطان یتمّ بواسطة الماء الذی أنزله اللّه تبارک وتعالی من السماء، وهکذا فی مسألة التیمّم، فإذا التفت الإنسان أنّه خلق من هذا التراب وسوف یعود یوماً

ص:151


1- (1) مصباح الشریعة، ص 43.

إلی هذا التراب ویتبدّل إلی تراب أیضاً، فمثل هذا التوجّه یمهّد قلبه للحضور فی الصّلاة، وقد وردت فی کتاب مصباح الشریعة روایة مفصّلة عن الإمام الصادق علیه السلام فیما یتّصل بالوضوء وأسراره، وأنّه یجب علی الإنسان أن یلتفت إلی الجهات المختلفة للماء ویعلم أنّ کلّ واحدة منها تعتبر وسیلة سلوکه ورقیه إلی مقام من المقامات المعنویّة.

یقول الإمام علیه السلام: «إِذَا أَرَدْتَ الطَّهارَةَ وَالوضُوءَ فَتَقَدَّم إِلی المَاءِ تَقَدُّمَکَ إِلی رَحمَةِ اللّهِ»، یعنی عندما تقترب من الماء لاسباغ الوضوء والطهارة فعلیک أن تحسّ بأنّک تقترب من رحمة اللّه الواسعة، ویستوحی الإمام الخمینی رضوان اللّه علیه من هذه الآیة الشریفة: «وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ کُلَّ شَیْ ءٍ حَیٍّ...» ، ویقول: «إنّ الماء هو الرحمة الاطلاقیّة للوضوء»، فالماء منشأ حیاة جمیع الکائنات والرحمة الاطلاقیّة والمطلقة، بحیث یستوعب جمیع الموجودات، فمن هذه الجهة عندما یرید الإنسان اسباغ الوضوء فعلیه أن یلتفت أنّه قریب من هذه الرحمة الإلهیّة:

«فإنَّ اللّهَ تَعالی قَدْ جَعَلَ الماءَ مِفتَاحِ قُربِهِ وَمُناجَاتِهِ وَدَلِیلاً إِلی بِساطِ خِدمَتِهِ»، وفی اللغة العربیة «بَساط» بفتح الباء تعنی الأرض الواسعة، أما «بِساط» فتعنی الفرش الذی یبسط علی الأرض، یعنی أنّ الإنسان إذا أراد الوصول إلی مرتبة رفیعة من القرب إلی اللّه تبارک وتعالی، فعلیه أن یأخذ مفتاح هذا المکان الرفیع، والماء هو مظهر رحمة اللّه تبارک وتعالی.

«وَکَمَا أَنَّ رَحمَةَ اللّهِ تُطَهِّرُ ذُنُوبَ العِبادِ کَذَلِکَ النَّجاسَاتُ الظَّاهِرِیَّةُ یُطَهِّرُها المَاءُ لا غَیر»، فهنا یشیر الإمام الصادق علیه السلام إلی هذه الآیات الشریفة ویقول: «وَ هُوَ الَّذِی أَرْسَلَ الرِّیاحَ بُشْراً بَیْنَ یَدَیْ رَحْمَتِهِ وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً»1 ، والآیة: «وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ کُلَّ شَیْ ءٍ حَیٍّ...» ،فَکمَا أَحیا بِهِ کُلَّ شیءٍ مُنْ نَعِیمِ الدُّنیا کَذَلِکَ

ص:152

بِرَحمَتِهِ وَفَضلِهِ جَعَلَ حَیاةَ القُلُوبِ بِالطِّاعَاتِ»، فکما أنّ اللّه تبارک وتعالی خلق جمیع النعم الدنیویّة بواسطة الماء ومنحها الحیاة فإنّه تعالی منح قلوب البشر بفضله ورحمته بواسطة الحرکة فی خطّ الطاعة والعبودیّة والعبادة ومنح هذه القلوب الحیاة، وبعبارة أخری، إنّ حیاة القلوب تتمحور فقط حول طاعة اللّه تعالی، وهذه الطاعة والعبودیّة تتسبّب فی حیاة القلوب: «وَتَفَکَّرَ فِی صَفاءِ المَاءِ وَرِقَّتِهِ وَطُهرِهِ وَبَرَکَتِهِ وَلَطیفِ امتِزاجِهِ بِکُلِّ شَیءٍ»، فعندما ترید استعمال الماء فی الوضوء فعلیک أن تفکّر فی جوانبه المختلفة من صفائه ورقّته وطهر وبرکته وامتزاجه بجمیع الأشیاء فی هذا العالم «امتِزاجِهِ بِکُلِّ شَیءٍ وَفِی کُلِّ شیء».

«وَاستَعْمِلْهُ فِی تَطهِیرِ الأَعضاءِ الَّتِی أَمَرَکَ اللّهُ بِتَطهِیرها، وَآتِ بِأَدَائِها فِی فَرائِضِهِ وَسُنَنهِ»، یعنی علیک بالاتیان بجمیع الآداب الواجبة والمستحبة فی غسل الوجه والیدین حال الوضوء بالمقدار المقرر والکیفیّة المذکورة فی الشرع «فإِنَّ تَحْتَ کُلِّ وَاحِدَةٍ مِنها فَوائِدَ کَثِیرَةً»، أی بکلّ واحدة من هذه الآداب فوائد کثیرة لتطهیر الأعضاء والجوارح: «فَإِذَا استَعمَلها بِالحُرمَةِ انفَجَرَتْ لَکَ عُیُونُ فَوائِدِهِ عَنْ قَریب».

ص:153

46- الاستلهام من الماء فی الحیاة

یقول الإمام الصادق علیه السلام: «عَاشِر خَلقَ اللّهِ کَإِمتِزاجِ المَاءِ بِالأشیاءِ».(1)

یقول الإمام الصادق علیه السلام: «ثُمَّ عَاشِر خَلقَ اللّهِ کَإِمتِزاجِ المَاءِ بِالأشیاءِ»، فبالرغم من أنّ الوضوء مقدّمة للصّلاة والصّلاة عبارة عن مناجاة وارتباط مع اللّه تبارک وتعالی، ولکن عبادات الإنسان لیست فردیّة فقط ولا ترتبط مع سائر الناس، فالعبادات الإسلامیّة فی ذات الوقت التی تقرب الإنسان من اللّه تعالی وتقطع عنه تعلّقه بالدنیا وبما سوی اللّه، فإنّها أیضاً نافعة للمجتمع أیضاً، فالعبادة التی تشغل الإنسان بنفسه فقط ولا تجعله مستعداً لتقدیم خدمة للآخرین والحضور فی أوساط عباد اللّه الذین هم مظاهر تجلّی الحقّ، فما هو أثر هذه العبادة؟ العبادة یجب أن تخلق توسعة وجودیّة فی واقع الإنسان إلی درجة أنّه فی ذات الوقت الذی یعیش فیه المصلّی مع اللّه تبارک وتعالی ویأنس بقربه ومناجاته، فإنّه لابدّ من حضوره بین عباد اللّه لیحفظ لهم هذا المقام من القرب المعنوی من اللّه تعالی

ص:154


1- (1) مصباح الشریعة، ص 64.

ویتحرّک فی طریق اسداء الخدمة لهم.

ویستفاد من عبارة الإمام الصادق علیه السلام: «ثُمَّ عَاشِر خَلقَ اللّهِ کَإِمتِزاجِ المَاءِ بِالأشیاءِ»، أنّ الشخص المصلّی یجب أن یعاشر جمیع عباد اللّه ویخالطهم بشکل نقی کما یمتزج الماء بالأشیاء من قبیل الحجر الصغیر والکبیر، ویحتفظ لنفسه بالصفاء والنقاء فی هذا الارتباط مع الآخرین.

فی طریق الحقّ یجب علی الإنسان اجتناب إعمال الإرادة الشخصیّة ورؤیة المنافع الذاتیّة فی تواصله مع الناس وعباد اللّه، یقول الإمام الراحل رضوان اللّه علیه(1): وتفکّر فی نفس امتزاج الماء بالأشیاء فإنّ هذا الامتزاج من أجل اصلاح حالها وإیصالها إلی کمالها اللائق بها وإحیائها، یعنی کما أنّ ارتباط الماء بالأشیاء سبب لحیاتها وحفظها ورشدها، فإنّ کیفیّة معاشرة المصلّی للآخرین ومعاملته لعباد اللّه یجب أن تکون أیضاً مثل هذه الحالة، فیعاشر الناس من موقع الحفظ والاصلاح، ویذکر الإمام رضوان اللّه علیه فی ذیل هذه الروایة عبارة جمیلة جدّاً، ویقول: کما أنّ الماء یمتزج مع جمیع الأشیاء بلطف، فالإنسان العابد الذی وصل إلی مراحل من العبودیّة فإنّه لا یسمح لنفسه بالتکّبر علی عباد اللّه بل یتواصل معهم من موقع العطف واللطف، ولا یتعامل معهم بحالة من التحقیر لهم، لأنّه یعلم أنّه فی هذه الصورة فإنّ صلاته وعبادته لا تکون کاملة.

فعندما یری المؤمن شخصاً مشغولاً بارتکاب المنکر ویتحرّک فی صدد اصلاح ظاهره وهدایته ولکنّ نهیه عن المعاصی والمنکر یجب أن یکون لغرض اصلاح حالته لا من أجل إِعمال النفوذ والسیطرة علیه، وهذه نقطة مهمّة جدّاً ودقیقة، فالشخص الذی یرید إقامة الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر لا ینبغی أن یقول: بما أننی آمرک وأنهاک فعلیک بأن تطیع وتفعل ما أقول، إنّ الآمر

ص:155


1- (1) . سرّ الصّلاة (معراج السالکین)، ص 45.

بالمعروف یجب أن یشعر بالتحرّق لهدایة الناس فیکون عاشقاً للاصلاح، کما أنّ الماء یجری بین الأشیاء من موقع العشق لها وبدون أی توقّع منها ویطهّرها من التلوّث ویرویها، وکذلک الإنسان یجب أن یتعامل مع أبناء نوعه بهذه الصورة.

«ثُمَّ عَاشِر خَلقَ اللّهِ کَإِمتِزاجِ المَاءِ بِالأشیاءِ یُؤدِّی کُلُّ شیءٍ حَقَّهُ وَلا یَتَغَیَّرُ عَنْ مَعنَاهُ مُعتَبِراً لِقَولِ الرَسُولِ صلی الله علیه و آله مَثلُ المُؤمنِ المُخلِصِ کَمَثلِ المَاءِ» یعنی یعاشر الناس بالصفاء والنقاء، ویسعی أن یکون وجوده سبب طهارة الآخرین لا أن یخلق لهم المشاکل.

وأحد أسرار الوضوء التی یجب علی الإنسان الالتفات إلیها، أنّه یجد حالة من الاُنس مع الماء، وبذلک یجب علیه أن یتخلّق بصفات وخصوصیّات الماء أیضاً.

ص:156

47- الإخلاص والصفاء فی التوجّه إلی اللّه

ذکرنا فی الحلقة السابقة أنّ الإمام الصادق علیه السلام قال: إنّ صفاء الإنسان وخلوص نفسه فی جمیع أعماله وطاعاته وعباداته للّه تعالی یجب أن یکون مثل صفاء الماء عند نزوله من السماء، ومن هذه الجهة یکون الماء طهوراً، یعنی کما أنّ الماء یتّصف بالصفاء الذاتی والنقاء عند نزوله من السماء فیجب علی الإنسان أن یأتی بعباداته صافیة ونقیّة فی جمیع أجزائها، وأحد أجزاء هذه العبادة هو الطهارة أو الوضوء الذی یعتبر مقدّمة للصّلاة، ولذلک ورد فی بعض الروایات: «الوُضُوء نُورٌ»(1)، فالشخص الذی یتوضأ للصّلاة فإنّ هذه الطهارة الظاهریّة توجد له النورانیّة والطهارة الباطنیّة.

ویقول الإمام علیه السلام: إذا أردنا تحقیق هذه النورانیّة وحقیقة الطهارة النفسانیّة فی الوضوء یجب أن نبتدیء بالنیّة الخالصة والقصد الکامل للّه تعالی کما فی سائر العبادات ولا یکون لنا قصد آخر غیر ذلک، أی أنّنا نهدف من هذه العبادة التقرّب

ص:157


1- (1) . من لا یحضره الفقیه، ج 1، ص 41.

إلی اللّه تعالی واطاعة أمره وتحصیل النورانیّة الباطنیّة بذلک، فلو أنّ أحدهم قال إنّ الوضوء بالماء یتسبّب فی إیجاد النشاط والحیویة فی الإنسان ویقع عنه التعب والملل، إن تأثیر غسل الوجه بالماء من شأنه أن یزیل التعب الظاهری للإنسان، ولکن لا ینبغی أن یتوضأ الإنسان بهذه النیّة بل یکون نیّته امتثالاً لأمر اللّه تبارک وتعالی، وهکذا نری أنّ الإمام الصادق علیه السلام عندما یقول إنّ إخلاصک وصفاء نیّتک فی جمیع العبادات یجب أن یکون مثل صفاء الماء ونقائه، لأنّه فی ذلک الزمان عندما کان ماء المطر ینزل من السماء لا یختلط بأی شیء ویبقی علی صفائه الذاتی، وهکذا یجب أن یکون عمل الإنسان طالباً للّه تعالی وصافیاً ونقیاً من أی شوائب الأخری، وأی اختلاط بغیره.

«وَطَهِّر قَلْبَکَ بِالتَّقوی وَالیَقِینِ عِنْدَ طَهارَةِ جَوارِحِکَ بِالمَاءِ»(1)، فأنت تقوم بعملیّة تطهیر القلب من شوائب المعاصی والنوازع الأنانیّة والرذائل النفسانیّة فی عملیّة تطهیر أعضائک وجوارحک بالماء عند الوضوء، وهذا القلب الطاهر والمتطهّر هو القلب الذی لا تمتزج معه ذرّة من الشرک، ولو للحظة واحدة، والقلب الطاهر هو القلب الخالی من وساوس الشیطان والخارج عن دائرة حکومته وسلطته.

کما نری فی بعض الروایات وفتاوی الفقهاء، من الاستحباب أن یکون الإنسان فی جمیع حالاته متطهّراً ومع الوضوء، لأنّ أحد آثار هذه الطهارة أنّها تؤثر علی قلب الإنسان وتمنحه النورانیّة والصفاء وتمنع حضور الشیطان وساوسه فی أعماق النفس، وأساساً فإنّ المصلّی الذی یعیش بطهارة کاملة وجامعة ویأتی بها بجمیع آدابها وشروطها وخاصّة الأذکار والأدعیة فی أجزاء الوضوء، فإنّه یجد الاستعداد الکامل نفسیاً للدخول فی الصّلاة ویحصل علی

ص:158


1- (1) . بحار الأنوار، ج 77، ص 339.

اللیاقة لیکون فی محضر الباری تبارک وتعالی ویعیش اللذّة فی مناجاته والتواصل معه.

وعلی هذا الأساس یجب أن نلتفت إلی أنّ الوضوء لیس فقط طهارة ظاهریّة بل یتسبّب وصولنا إلی الطهارة الباطنیّة، وإذا استطعنا الوصول إلی الطهارة الباطنیّة، فسوف نتمکّن من التوصل إلی حقائق الصّلاة وسائر العبادات وحتّی إلی باطن معانی ومفاهیم القرآن الکریم: «لا یَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ»1 ، نسأل اللّه تعالی أن یجعل قلوبنا جمیعاً نقیّة وطاهرة.

ص:159

48- سرّ غسل الوجه والیدین فی الوضوء

یستفاد من الروایات أنّ الوضوء، مضافاً إلی هذا الظاهر، له حقیقة باطنیّة فی عالم الملکوت، فلا ینبغی أن یتصوّر أحد أنّ الوضوء عمل ظاهری وسطحی وقشری تماماً، ولا ینبغی أن یتصوّر أنّ غسل الوجه والیدین ومسح الرأس والقدمین عمل ظاهری فقط، ویقول ما هی آثار هذا العمل فی صلاة الإنسان؟ إذا تصورنا أنّ الوضوء هو هذه الأعمال الظاهریّة فقط، فهنا یبرز أمامنا مثل هذا السؤال، ولکن إذا تبیّن لنا أنّ للوضوء حقیقةً وملکوتاً وباطناً وهذا العمل والوضوء الظاهری مقدّمة للوصول إلی تلک الحقیقة، فلا یبقی مجال لمثل هذا السؤال.

وقد وردت روایة مهمّة فی کتاب «جامع أحادیث الشیعة»: جاء نفر من الیهود إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله فسألوه عن مسائل فکان فیما سألوه أخبرنا یا مُحمّد لأی علّة توضیء هذه الجوارح الأربع وهی أنظف المواضع فی الجسد؟ قال النبیّ صلی الله علیه و آله:

«لَمّا وَسوَسَ الشَّیطانُ إِلی آدَم علیه السلام دَنا مَنَ الشَّجرةِ فَنَظَرَ إِلیهَا فَذَهَبَ مَاءُ وَجْهِۀ»؛ وهو کنایة عن أنّ وجه النّبی آدم صار مکدّراً بسبب اقتربه من الشجرة الممنوعة.

ص:160

«ثُمَّ قَامَ وَمَشَی إِلَیها وَهِیَ أَوَّلُ قَدَمٍ مَشَتْ إِلی الخَطِیئَةَ»؛ ففی عالم التکوین کانت قدم آدم أوّل قدم تتوجّه نحو الذنب والخطیئة.

«ثُمَّ تَناوَلَ بِیَدِهِ مِنهَا مَا عَلَیها فَأَکَلَ فَطَارَ الحُلِّیُ وَالحُلَلُ مِنْ جَسَدِهِ فَوَضَعَ آدَمُ یَدَهُ عَلَی امِّ رَأسِهِ وَبَکَی، فَلَمَّا تَابَ اللّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَیهِ فَرَضَ اللّهُ عَلَیهِ وَعَلی ذُرِّیَّتِهِ تَطهِیرَ هَذهِ الجَوَارحِ»؛ وهکذا أوجب اللّه تعالی علی الناس فی یوم القیامة تطهیر هذه الأعضاء والجوارح بهذه الکیفیّة التی ارتکب فیها آدم الخطیئة.

«فأَمَرَ اللّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِغَسلِ الوَجْهِ لَمَّا نَظَرَ إِلی الشَّجَرَةِ، وَأَمَرَه بِغسلِ الیَدَینِ إِلی المِرفَقَینِ لَما تَناوَلَ بِهِما، وأَمَرَه بِمسحِ الرَّأسِ لَما وَضَعَ یَدَهُ عَلَی امِّ رَأسِهِ، وَأَمَرَه بِمَسحِ القَدَمَینِ لَمَا مَشَی بِهِما إِلی الخَطیئَةِ»(1).

وهذا الحدیث الشریف الذی یتضمّن جواب النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله إلی ذلک الیهودی ویبیّن السرّ فی غسل الوجه والیدین، وأنّ المسألة تعود إلی ارتکاب آدم للخطیئة، فأمر اللّه تعالی بالوضوء بعنوان تکلیف علی آدم وذرّیته، ویمکننا استفادة عدّة نقاط من هذا الحدیث الشریف، إحداها، أنّ کلّ إنسان عادی یرتکب فی حیاته الخطأ بهذه الأعضاء من الوجه والعین والاُذن واللسان والفم و...

ولذلک عندما یغسل وجهه بالماء فإنّه یجب أن یفهم نفسه ویلقنها أنّه لا ینبغی لهذا الوجه أن ینصرف فی غیر طاعة اللّه، ویتلوّث المعصیة، فالوجه یجب استعماله فی طاعة اللّه وعبادته فقط.

فقد ورد فی دعاء الوضوء: «اللّهُمّ بَیِّض وَجْهِی یَومَ تَسوَدُّ فِیهِ الوِجُوهُ وَلا تُسَوِّد وَجهِی یَومَ تَبیضِ فِیهِ الوجُوه»(2)، وهذه الأدعیة یستحبّ قراءتها عند الوضوء.

فلو أنّ الإنسان المؤمن فی حال الوضوء کان ملتفتاً إلی هذه المفاهیم والآداب

ص:161


1- (1) جامع أحادیث الشیعة، ج 2، ص 282.
2- (2) الکافی، ج 3، ص 7.

فسوف یعلم أنّ هذا العمل العبادی لیس مجرّد عمل ظاهری وسطحی بحیث إنّ اللّه تعالی یقول لک: بما أننی ربّک وخالقک إنّی آمر بأن تفعل کذا وکذا ویجب علیک الامتثال والطاعة، کلّا، هذه الأعمال لها أسرار وإذا التفت الإنسان إلی هذه الأسرار ویتذکّر عندما یمسح علی رأسه آدم عندما وضع یده علی رأسه وینتبه لئلا یتحرّک عقله وفکره فی مسار غیر مسار العبودیّة والطاعة للّه تبارک وتعالی.

نسأل اللّه تعالی أن یعرفنا جمیعاً علی أسرار العبادات ولاسیما الصّلاة.

ص:162

49- أقسام الوضوء فی نظر العرفاء

جاء فی روایة شاملة عن النّبی الأکرم صلوات اللّه وسلامه علیه، أنّه أشار إلی أنّ سرّ الوضوء یعود إلی تاریخ النّبی آدم علیه السلام وحادثة اقترابه من الشجرة الملعونة، وعندما نقرأ کلمات بعض العرفاء فسوف نری أنّهم یذکرون ما ورد هذه الروایة ولکن فی قالب وببیان آخر، ویقسّم السیّد حیدر الآملی أعلی اللّه مقامه الشریف فی کتابه الجامع والنفیس باسم «أنوار الحقیقة وأطوار الطریقة وأسرار الشریعة»، الوضوء إلی ثلاثة أقسام:

1. وضوء أهل الشریعة. 2. وضوء أهل الطریقة.

3. وضوء أهل الحقیقة.

ثمّ یقول السیّد حیدر الآملی قدس سره: إنّ هذا التقسیم للوضوء ورد فی روایة عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله ولکن بتعبیر آخر، فهو یری أنّ وضوء أهل الشریعة هو هذه الأفعال الظاهریّة وطهارة أعضاء البدن وغسل الوجه والیدین ومسح الرأس والقدمین، وهکذا یأتی المکلّف بکلّ وضوء بتلک النیّة الظاهریّة.

ص:163

ولکن عندما یصل إلی بیان وضوء أهل الطریقة، یقول: إنّ أهل الطریقة علی أربع شعب، وهذه الشُعب الأربعة لا معنی لها فی الطهارة الظاهریّة، وهذه الشُعب عبارة عن:

1. طهارة النفس؛ 2. طهارة العقل؛ 3. طهارة الباطن؛ 4. طهارة الأعضاء، وممّا یجدر ذکره فی هذا المقام أننا لا نقول بالتفکیک بین الشریعة والطریقة والحقیقة، وما ورد طبقاً للقرآن الکریم والعقل القطعی والأحادیث المسلّمة عدم التفکیک بین هذه الأمور، ولذلک بحسب الأدلة القطعیّة فإنّ أهل الحقیقة لابدّ أن تتوفّر لدیهم جمیع خصوصیّات أهل الطریقة والشریعة، وکذلک فإنّ أهل الطریقة یجب أن تتوفّر لهم جمیع خصوصیّات أهل الشریعة.

أمّا طهارة النفس فتعنی أن یطهّر الإنسان نفسه من الرذائل الأخلاقیّة والصفات النفسانیّة الذمیمة ولا یسمح لنفسه أن تتخلّق بالصفات السیّئة، وتتلوّث بالأفعال القبیحة، وفی مجال طهارة العقل لا یسمح الإنسان للأفکار الباطلة والعقائد الظالّة أن تجد الطریق إلی عقله، وفی مجال طهارة الباطن یسعی الإنسان لإبعاد باطنه وسرّه من النظر إلی الأغیار ولا ینظر أبداً بنظر الباطن إلی غیر اللّه بل یحصر توجّهه ومیله باللّه تعالی، وفی طهارة الأعضاء لا یرتکب الإنسان الأعمال المنافیة لشرع اللّه ولا یسمح لجوارحه بالید والقدم، والعین، والاُذن واللسان و... بأنّ تتلوّث فی مستنقع المعاصی ووحل الذنوب.

وبالإمکان ادراج هذا الکلام فی الروایة التی نقلها المرحوم الصدوق فی کتابه «من لا یحضره الفقیه» ویقول علیه السلام: «إِنَّ الوُضُوءَ عَلَی الوُضُوِ نُورٌ عَلی نُورٍ»(1)، فعندما یتوضأ الإنسان یحصل علی الطهارة الباطنیّة، ولذلک فإنّ هذا الوضوء نور، فإذا توضأ مرّة ثانیة دون أن یحدث حدثاً نقضاً للوضوء فسوف یکون هذا

ص:164


1- (1) . من لا یحضره الفقیه، ج 1، ص 41.

الوضوء الثانی نور علی نور، یعنی سینال هذا الإنسان مرتبة أعلی من الطهارة.

«وَمَنْ جَدَّدَ وُضُوئَهُ مِنْ غیرِ حَدثٍ آخرَ جَدَّدَ اللّهُ عَزَّ وَجَلَّ تَوبَتَهُ مِنْ غَیرِ استِغفَارٍ»، هذا یعنی أنّ الوضوء الثالث بمثابة التوبة والعودة والإنابة إلی اللّه تبارک وتعالی بدون أن یصدر من استغفار.

وإذا کان الوضوء الثانی نور علی نور، فالوضوء الثانی یخلّف أثراً مضافاً إلی الوضوء الأوّل، وهذا کذا لو جدّد وضوءه المرّة الثّالثة فسوف یحصل علی نور آخر ویترتّب علیه أثر جدید، وبإمکاننا تذکیر هذه الآثار والمعطیات علی طهارة النفس وطهارة العقل وطهارة السرّ والباطن.

یقول الإمام الصادق علیه السلام فیما یخصّ النیّة وحقیقتها: إذا أراد الإنسان أن ینوی تحصیل الطهارة قربة إلی اللّه یجب علیه أن یعزم فی قلبه وباطنه: «أن لا یفعل فعلاً یخالف رضا اللّه»، وهکذا تکون جمیع عباداته خالصة للّه عزّ وجلّ، والنقطة المهمّة هنا أنّ هذا الشخص لا ینبغی أن یتصوّر أنّ النیّة الحقیقة تکون فقط بالنسبة إلی ذلک العمل، بل فی هذا الوضوء أیضاً النیّة الصحیحة والحقیقیّة هی أنّ الإنسان یعزم ویقرر بشکل حاسم أن لا یصدر منه أی فعل وعمل یخالف رضا اللّه تعالی، وینبغی أن یجعل حیاته ومماته للّه عزّ وجلّ، وهذه هی حقیقة النیّة الخالصة کما ورد فی سورة الأنعام، الآیة 162 و 163:

«قُلْ إِنَّ صَلاتِی وَ نُسُکِی وَ مَحْیایَ وَ مَماتِی لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِینَ * لا شَرِیکَ لَهُ وَ بِذلِکَ أُمِرْتُ وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِینَ» ، فینبغی علی الإنسان المؤمن أن تکون جمیع أموره وحرکاته وسکناته ومنها القیام والعقود والنوم والیقظة والحیاة والممات کلّها للّه تبارک وتعالی، فعندما یرید أن یغسل وجهه بالوضوء یجب أن ینتبه إلی أنّ هذا الوجه الظاهری یحکی عن الوجه الباطنی ووجه القلب، إذن فکما أنّه یطهّر وجهه من التلوّث الظاهری یجب علیه أن یطهّر وجهه الباطنی أیضاً من التعلّق

ص:165

بالدنیا وحبّ الدنیا: «فاِنَّ الدُّنیا جِیفَةٍ وَطُالِبُها کِلابٌ فَالطّالبُ والمَطلُوبُ نَجِسانٍ»(1)، أو نقرأ فی قراءة أخری قوله علیه السلام: «حُبُّ الدُّنیا رَأسُ کُلُّ خَطِیئَةٍ وَتَرکِ الدُّنیا رَأسُ کُلِّ عِبَادَةٍ».

أمّا بالنسبة إلی غسل الیدین فی الوضوء یقول علیه السلام: «غَسلُهُما وَطَهارَتُهما عَمّا فِی قَبضَتِهما مِنَ النَّقدِ وَالجنسِ وَالدُّنیا والآخرة»، وهذا فی الحقیقة انقطاع عن المتاع الدنیوی وکذلک الاُخروی.

«أَمَّا مَسحُ الرَّأسِ أَنْ یَمسَحَ رَأسَهُ الحَقِیقِی وَهُو العِقلُ أَو النَّفسِ»، وعندما یمسح الإنسان رأسه فی الوضوء فهو یرید فی الحقیقة أن یمسح رأسه الحقیقی وهو عقله ونفسه من التلوّثات الفکریّة والشکوک الشیطان والخیالات الباطلة، أمّا مسح القدمین: «أَنْ یَمنَعها عَنِ المَشِی لِغیرِ رِضا اللّهِ»، ویقول حینها: لا أتحرّک بقدمی هاتین فی مسیر یخالف رضا اللّه تعالی.

وهکذا ندرک ما فی هذه الطهارة من النکات والحقائق الدقیقة المؤثرة فی روحیة الإنسان وسلوکه فی حرکة الحیاة، فمثل هذا الشخص یشعر بالنورانیّة تحیط فی نفسه وتحیط به من کلّ جانب، لأنّ الأشخاص الغارقون فی المشاکل الدنیویّة ویعیشون الکآبة الروحیّة یتحرّکون لحلّ مشکلاتهم وفق الأفکار الخاطئة والحلول الباطلة، وأفضل طریق للحلّ هو ما ذکر فی الفکر الدینی، فالشخص الذی یشعر بعدم الراحة والکآبة والقلق والاضطراب، عندما یتوجّه للوضوء، فإنّ هذا الوضوء والطهارة تخلق له حفظاً وحصناً من النور وتمنحه السکینة واستقرار النفس مضافاً إلی أنّه بعد الوضوء یصلّی رکعتین بحضور القلب، فالباری تعالی یقول: «أَلا بِذِکْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ»2.

ص:166


1- (1) مصباح الشریعة، ص 138.

50- تأثیر الدعاء والذکر عند الوضوء

نتابع ذکر الروایات والأحادیث الشریفة المتعلّقة بأسرار الطهارة فی الصّلاة، فقد وردت روایة عن أمیرالمؤمنین علیه السلام فی کتاب «جامع أحادیث الشیعة» أنّ الإمام علیه السلام قال: «مَا مِنْ مُسلِم یَتَوضأ فَیقَُولُ عِندَ وُضُوئِه: «سُبحَانَکَ اللَّهُمَّ وَبِحَمدِکَ أَشْهَدُ أَنْ لاإِلهَ إِلّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُکَ وَأَتُوبُ إِلَیکَ، اللّهُمَّ اجعَلنِی مِنَ التَّوابِینَ وَاجعَلنِی مِنَ المُتَطَهِّرِینَ إِلّا کُتِبَ فِی رِقٍّ وَخُتِمَ عَلَیها ثُمَّ وُضِعَتْ تَحتَ العَرشِ حَتّی تُدْفَعَ إِلَیهِ بِخَاتَمِها یَومَ القِیامَةِ»(1)، هذه الکلمات والعبارات الواردة فی کلام أمیرالمؤمنین علیه السلام ترتبط ارتباطاً وثیقاً بفلسفة تشریع الوضوء، فعندما یتوضأ الإنسان فلماذا یقول هذه العبارات، ولماذا یجب أن یتشهد بشهادة التوحید، ولماذا یستغفر؟ لأنّ الطهارة عبارة عن استغفار واقعی للإنسان، فهذا الشخص عندما یتوضأ یعود إلی اللّه تبارک وتعالی کما ذکرنا فی قصّة النّبی آدم علیه السلام.

یقول أمیرالمؤمنین علیه السلام: إنّ الإنسان إذا تکلّم بهذه الکلمات فی حال وضوئه

ص:167


1- (1) . مستدرک الوسائل، ج 1، ص 321؛ جامع أحادیث الشیعة، ج 2، ص 260.

وطلب من اللّه تعالی أن یجعله فی زمرة التوابین والمتطهرین، فإنّ اللّه تبارک وتعالی یکتب هذه الکلمات فی ورقة، وهذه کنایة علی أنّ هذه الکلمات لا تذهب هدراً بل تکون مثبتة عند اللّه، وهناک ملائکة مأمورون بکتابة هذه الکلمات وحفظها ثمّ الختم علیها ووضعها وحفظها تحت العرش إلی یوم القیامة فتعاد لصاحبها، وعندما نقرأ أنّ الإنسان المؤمن عندما یأتی یوم القیامة سیکون لها نور یهدیه إلی الجنّة وهذا النور هو تلک الأعمال والعبادات والطاعات التی عملها الإنسان فی هذا العالم وأرسلها إلی آخرته، وطبقاً لهذا الحدیث الشریف أنّ کلّ وضوء یتحوّل إلی نور یضیء الطریق لهذا الإنسان لیتحرّک بسرعة وبراحة إلی الجنّة، وینبغی الالتفات إلی هذه الحقیقة وهی حقیقة الوضوء ما هی؟ وخاصّة الآداب والأذکار فی حال الوضوء حیث ینبغی علینا تعلّمها بمقدار الإمکان ونقرأها فی حال الوضوء ونقرأ هذه الأدعیة والأذکار حال الوضوء حتماً، ولا یکون حالنا أن نتوضأ عشرات السنین ولکن لا نفهم ما هی الغایة من هذا الوضوء؟ وبالتالی لا نحصل علی ذلک الإحساس والنورانیّة الناشئة من طهارة الباطن.

ص:168

51- أسرار الوضوء فی حدیث المعراج

وإحدی الروایات الواردة فی مسألة أسرار الطهارة، الروایة الواردة فی کتاب «علل الشرائع» ضمن حدیث المعراج عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله: «قَالَ رَبِّی عَزَّ وَجَلَّ یا مُحَمَّدُ صلی الله علیه و آله مُدَّ یَدَکَ فَیَتَلقَّاکَ مَا یَسیلُ مِنْ سَاقِ عَرشِی الأَیمَنِ، فَنَزَلَ المَاءُ فَتَلَقَّیتُهُ بِالیَمِینِ فَمَنْ أَجلِ ذَلِکَ أَوَّلُ الوُضُوءِ بِالیَمِنی، ثُمَّ قَالَ یا مُحَمَّدُ خُذ ذَلِکَ فاغسِل بِهِ وَجهَکَ وَعَلَّمَهُ غَسلَ الوجَه، فإنَّکَ تُرِیدُ أَنْ تَنظُرَ إِلی عَظَمَتِی وإِنَّکَ طَاهِرٌ».

عندما یسمع الإنسان هذه العبارة أو یقرأها فماذا سیکون حاله؟ نحن نغسل وجهنا فی الوضوء لأننا نرید بذلک ملاقاة الباری تعالی والحدیث معه ومناجاته، فینبغی أن یکون هذا الوجه طاهراً فی ظاهره وباطنه أیضاً، والنّبی الأکرم صلی الله علیه و آله الذی یملک مقام النبوّة عندما أراد فی معراجه النظر إلی عظمة اللّه وجب أن یکون طاهراً، والصّلاة بدورها عندما تکون معراج المؤمنین فیما لو کانت مقترنة بالطهارة الصحیحة، ونحن فی صلاتنا نتحرّک فی الحقیقة بنحو من أنحاء المعراج إلی اللّه: «الصَّلاةُ مِعرَاجُ المُؤمِن» فالإنسان بهذه الصّلاة یعلّق فی عوالم الملکوت

ص:169

ثمّ یعود إلی هذا العالم.

«ثُمَّ اغسِل ذِراعَیکَ الیَمینَ وَالیَسارَ وَعَلَّمَهُ ذَلِکَ فإِنَّکَ تُریدُ أَنْ تَتَلقَّی بِیدِیکَ کَلامِی»، لماذا وجب غسل علی النّبی صلی الله علیه و آله غسل الیدین؟ تقول الروایة: بأنّک ترید أن تتلقّی بیدک کلامی، یعنی أنّ الغرض من غسل الیدین هو من أجل أن نحضر فی مقام القرب الإلهی ونقف فی محضر اللّه بید طاهرة ونطلب منه ما یسعنا من رحمته ولطفه، فلا یمکن أن یصلّی المؤمن ولا یتحدّث مع اللّه ولا یطلب منه شیئاً، ولو طلب منه شیئاً فلا یمکن أن لا یعطی له شیء، والنّبی الأکرم صلی الله علیه و آله ومن أجل تسلّم کتاب الوحی یجب أن یکون ظاهر یدیه طاهرتین أیضاً.

«وَامسَح بِفَضِلِ مَا فِی یَدَیکَ مِنَ المَاءِ رَأسَکَ وَرِجلَیکَ إِلی کَعبَیکَ، وَعَلَّمَهُ المَسحَ بِرَأسِهِ وَرِجلَیهِ وَقَالَ إِنِّی أُرِیدُ أَنْ أَمسحَ رَأسَکَ وَاُبارِک عَلَیهِ»، وهذه العبارة عمیقة المغزی وزاخرة بالمعنی، یقول اللّه تبارک وتعالی: یا محمّد! امسح یدیک علی رأسک لماذا؟ لأنّی ارید أن أمسح رأسک بالبرکة وأجعلک مبارکاً، فماذا یعنی هذا؟ یعنی أنّ اللّه تبارک وتعالی أراد أن یهب للنبی برکات وفیوضات علی فکر وعقله ولکن الشرط الأولی الظاهری، هو أن یمسح الإنسان رأسه بماء الوضوء، وهذا الأمر یشیر إلی أننا یجب أن نجعل فکرنا وعقلنا حصراً للّه فقط، لأنّ الفهم أو الذهن هو محل نزول الفیوضات الربانیّة علی الإنسان.

ثمّ یقول: «فَأمَّا المَسحُ عَلَی رِجلَیکَ فَإِنّی أُرِیدُ أَنْ أُوطِئکَ مَوطئِاً لَمْ یَطَأهُ أَحَدٌ قَبلَکَ وَلا یطؤُهُ أَحدٌ غَیرَکَ فَهذا عِلَّةُ الوُضُوء»، وهکذا نری أنّ النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله وصل إلی مقام «ثُمَّ دَنا فَتَدَلّی * فَکانَ قابَ قَوْسَیْنِ أَوْ أَدْنی»1 ،، فقال اللّه، ارید أن أجعل قدمیک فی مکان ومحلّ لم یضع أحد قدمه علیه حتّی جبرئیل.

والآن بعد أن نال النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله تلک المرتبة العالیة وذلک المقام السامی فی

ص:170

سلوکه الإلهی والمعنوی، فنحن کبشر عادیین یجب علینا أن نمسح أقدامنا لأننا نرید أن نتقدّم خطوة فی صلاتنا نحو مقام القرب الإلهی، فلو أننا واقعاً نعیش هذا التوجّه والالتفات إلی هذه الحقیقة فإنّ اللّه تعالی سیبارک علی هذه الأقدام، إذن تلاحظون أنّ الوضوء یتضمّن أسرار وحقائق عمیقة ولا ینبغی لنا أن نعیش الغفلة عنها، ومن المناسب أنّ الإنسان فی حال اسباغ الوضوء أن یتذکر هذه العبارات وطبعاً لابدّ من الاستمداد من نظر اللّه ولطفه ویتذکر الإنسان هذه العبارات أثناء الوضوء ویستطیع إیجاد تحوّل فی باطنه والحصول علی تلک النورانیّة فی الوضوء بحیث یشعر بها فی وجوده وباطنه ویعیش بهذه النورانیّة حیاة سعیدة فی الدنیا والآخرة.

نسأل اللّه تبارک وتعالی أن یجعلنا جمیعاً من أهل الحضور فی ساحة قدسه إن شاء اللّه.

ص:171

52- وضوء أهل الحقیقة (طهارة السرّ)

ذکرنا لحدّ الآن أنّ الإنسان لا یستطیع بدون أداء الطهارة الصحیحة أن یصل إلی باطن الصّلاة وحقیقتها، وفی الطهارة نفسها یجب أن یلتفت المصلّی إلی ملکوت الطهارة وحقیقتها وباطنها، ویعلم أنّ وراء هذه الأفعال الظاهریّة، أی غسل الوجه والیدین، تطهیراً فی باطنه أیضاً، ویجب علینا تحصیل الطهارة الباطنیّة من طهارة القلب والعقل والنفس، فلو أنّ المصلّی أسبغ وضوءه بمثل هذا العمق والدقّة وبهذا الالتفات إلی حقیقة الطهارة فستکون صلاته بشکل آخر وسینال مرتبة أقرب إلی اللّه.

وفی هذا المجال ورد فی روایة وحدیث قدسی متفق علیه بین الشیعة وأهل السنّة، أنّ اللّه تبارک وتعالی یقول: «لا یَزالُ العَبْدُ یَتَقَرَّبُ إِلَیَّ بِالنَّوافِلِ حَتّی أَحِبَّهُ»(1)، وهذا التعبیر، رغم أنّه ورد فی خصوص النوافل، لکن إذا أدّی الإنسان ما علیه من الواجبات والعبادات بشکل دقیق وعمیق فسوف تؤثر هذه الخصوصیّة فی

ص:172


1- (1) . روضة المتقین، ج 12، ص 209.

وجوده أیضاً، ولو أنّ المصلّی أسبغ الوضوء مع رعایة شروطه وخصوصیّاته بشکل کامل فسوف یصل إلی طهارة النفس والباطن وسیکون محبوباً للباری تبارک وتعالی.

«فإِذَا أَحببتُهُ کُنتُ سَمعَهُ وَبَصرَهُ وَلِسانَهُ وَیَدَهُ وَرِجلَهُ، فَبِی یَسمعُ وَبِی یَبصُرُ وَبِی یَنطِقُ وَبَی یَبطِشُ وبِی یَمشی»، هذا یعنی أنّ هذا الشخص کلّ ما ما یسمعه أو یراه أو ما ینطقه بلسانه فسوف یکون ذلک بمشیئة اللّه وإرادته، فالشخص الذی یقع محبوباً للذات المقدّسة فإنّ اللّه تعالی فی الحقیقة هو الحاکم علی وجوده وهو مالک لتصرفاته وسلوکیاته، وعندما نتحدّث عن سرّ وحقیقة الطهارة فنری أنّ هذا الأثر یترتّب أیضاً علیهما.

یقول المرحوم السیّد حیدر الآملی فی کتابه «أنوار الحقیقة وأطوار الطریقة وأسرار الشریعة» فی بحث وضوء أهل الحقیقة وهی المرتبة الثّالثة والعالیة من مراتب الوضوء: «طَهارةُ السِّرِّ عَنْ مُشاهَدَةِ الغَیر»، أی أنّ طهارة أهل الحقیقة، وهم الذین وصلوا إلی أعلی مرحلة فی الکمال الإلهی والمعنوی بحیث إنّ سرّهم وضمیرهم لا یشاهد سوی اللّه تعالی، فکلّ ما یراه هذا العارف فهو یری اللّه، وعندما یغسل وجهه فهو فی الحقیقة یغسل الوجه الحقیقی له، أی سرّه وباطنه من التلوّث والتوجّه إلی ما سوی اللّه ویتعهّد فی نفسه ویلزم نفسه أن لا یری سوی اللّه تعالی ویطهّر وجهه من رؤیة اللّه تعالی: «فَأَیْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ...»1 ، «إِنَّهُ بِکُلِّ شَیْ ءٍ مُحِیطٌ»2 ، ویعلم أنّه کلما التفت إلی أی شیء فإنه یری وجه اللّه فیه، وکلّ ما هو موجود فی العالم من الکائنات واقع فی دائرة الاحاطة الربوبیّة له، یقول السیّد حیدر الآملی قدس سره: وهذا التوجّه هو ما ورد عن توجّه إبراهیم علیه السلام للّه تعالی حیث قال:

ص:173

«إِنِّی وَجَّهْتُ وَجْهِیَ لِلَّذِی فَطَرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ حَنِیفاً وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِکِینَ»1 .

ثمّ یشیر السیّد حیدر الإملی قدس سره إلی غسل الیدین: «عبارةُ عَن عَدمِ الالتفاتِ إِلی مَا فِی یَدیهِ مِن متاعِ الدُّنیا والآخرةِ»، فعندما یغسل الإنسان یدیه یقول: إننی لا التفت بعد الآن إلی ما فی یدی من متاع الدنیا والآخرة، أمّا متاع الدنیا فهو من قبیل المال والمقام الأهل والأولاد، ومقام الآخرة الطاعات والعبادات، یعنی أنّ هذا الإنسان یصل إلی مرتبة یری نفسه فارغاً ممّا فی الدنیا والآخرة ویدیه صفر من متاع الدنیا والآخرة، حتّی لو أنّه قضی عمره فی العبادة فهذه الأعمال لا تساوی شیئاً عند أهل المعرفة، لأنّ رؤیة الطاعة والعبادة عند أهل المعرفة هو معصیة بذاته، فعندما تقول: أنا الذی فعلت کذا وکذا من العبادات، أی أننی عبدت اللّه عشر سنوات أو سبعین سنة، فمثل هذا الالتفات إلی النفس یعدّ معصیة بذاته، فلا ینبغی لنا أن نلتفت إلی هذه الأعمال العبادیّة، لأنّه أوّلاً أنّ التوفیق لأداء هذه الأعمال کان بعنایة اللّه ولطفه وإلّا نحن لا نستطیع علی القیام بذلک بدون العنایة الإلهیّة، وثانیاً، ینبغی أن نأمل أن یتقبّل اللّه تعالی بفضله وکرمه ولطفه.

وقد ورد فی الروایة التی ینقلها ابن أبی الجمهور الاحسائی فی «عوالی اللئالی» وقال: «الدّنیا حَرامٌ عَلَی أَهلِ الآخِرَةِ»، فالأشخاص الذین یریدون الوصول إلی مراتب عالیة فی الآخرة فإنّ الدنیا تعتبر سمّاً مهلکاً لهم فیجب علیهم الإعراض عنها.

«وَالآخِرَةُ حَرامٌ عَلَی أَهلِ الدُّنیا»، لأنّهم سلکوا فی خطّ الشیطان وتحرّکوا فی طلب الدنیا والمال والمقام، ولهذا فالحیاة الطیّبة فی الآخرة حرام علیهم.

ص:174

«وَهُمَا مَعَاً حَرامَان عَلَی أَهلُ اللّهِ»(1)، وهذا یعنی أنّ أهل اللّه یتوجّهون فقط وفقط إلی اللّه تعالی، ولا ینظرون أبداً إلی متاع الدنیا ولا متاع الآخرة.

ویتابع المرحوم السیّد حیدر الآملی کلامه فی مسح الرأس ویقول: «عِبارةُ عَنْ تَنزیه سِرِّهِ وتَقدیس باطِنِهِ الّذی هُو الرَّأسُ الحَقِیقِی»، والمسح علی الرأس یقصد به تنزیه الرأس الحقیقی وهو باطنه من تلوّث الأنانیّة وکلّما یقصد به غیر اللّه فی فکره ونفسه، فالشخص الذی یشاهد غیر اللّه ویتوجّه إلی غیره هو مشرک عند أهل المعرفة «کُلُّ مَنْ شاهَدَ الغیرَ فَهُوَ مُشرِکٌ وَکُلُّ مُشرِک نَجسٌ وَالنَّجِسُ لَیسَ لَهُ طَریقٌ إِلی عالَم القُدس»، وهذه الموارد والمفاهیم کلّها مقتبسة من الآیات القرآنیّة أو الروایات الشریفة، وتوجد فی الوضوء أسرار ونکات وخفایا کثیرة إذا التفت إلیها الإنسان من موقع الفهم والعمق فسوف یرد عالماً آخر وتنکشف له حقائق خفیّة وتزول عن بصیرته ستائر وحجب، ومثل هذا الوضوء من شأنه أن یخلق حالة حضور القلب للمصلّی، نسأل اللّه تعالی أن یرزقنا جمیعاً هذه النعمة العظیمة إن شاء اللّه.

ص:175


1- (1) . عوالی اللئالی، ج 4، ص 119.

53- أذکار أمیرالمؤمنین علیه السلام عند الوضوء

ورد التأکید الکثیر فی کتبنا الروائیّة علی استذکار الأدعیّة الخاصّة والأسرار الوارد عن الوضوء، فالوضوء إذا اقترن بهذه الأدعیة والأذکار فسوف تکون له حقیقة أخری ویکون هذا الشخص مستعداً للصعود فی عبادته وصلاته إلی مراتب علیا، وقد ورد فی روایة صحیحة عن أمیرالمؤمنین علیه السلام فی کتاب «الکافی»(1) ، تبیّن آداب الوضوء، یروی عبداللّه بن الکثیر عن الإمام الصادق علیه السلام أنّ أمیرالمؤمنین علیه السلام کان جالساً وطلب من ولده محمّد بن الحنفیة أن یأتی له بماء لیتوضأ، فعندما أتی له بالماء أخذ بیده الیمنی کفّاً من الماء وصبّه علی یده یسری وذکر هذا والذکر: «بِسمِ اللّهِ الحَمْدُ الَّذی جَعَلَ المَاءَ طَهُوراً وَلَمْ یَجعَلْهُ نَجِساً»، ثمّ دعاء بهذا الدعاء: «اللَّهُمَّ حَصِّنْ فَرْجِی وَاعِفَّهُ وَاستُر عَورَتِی وَحَرِّمها عَلَی النَّارِ».

ثمّ إنّه تناول مقداراً من الماء واستنشق منه بأنفه ودعا بهذا الدعاء:

«اللّهُمَّ لاتُحَرُّمْ عَلَیَّ رِیحَ الجَنَّة، وَاجعَلنِی مِمَّنْ یَشُمُّ رِیحَها وَطِیبَها وَرَیحَانَها».

ص:176


1- (1) الکافی، ج 3، ص 70.

ثمّ إنّه علیه السلام وضع مقداراً من الماء فی فمه المبارک وتمضمض به وقال: «اللَّهُمَّ انْطِقْ لِسانِی بِذِکْرِکَ وَاجعَلنِی مِمَّنْ تَرضی عِنهُ»، وجاء فی بعض النسخ بدلاً من کلمة «انطق»، «اطلق»، أی أطلق لسانی بذکرک بحیث یکون مشغولاً بذکرک دائماً.

إذا کان وضوء الإنسان مقترناً مع هذه الأذکار وبخاصّة هذا الذکر «اللَّهُمَّ انْطِقْ لِسانِی بِذِکْرِکَ...»، فیتبیّن أنّ الإنسان حتّی لو أراد الدعاء والمناجاة مع اللّه فإنّ اختیار لسانه بید الباری تعالی ولا یتحرّک ولا ینطق إلّابمشیئة اللّه، أی لابدّ أن تشمله العنایة الإلهیّة لیکون لسانه قابلاً ولائقاً لمناجاة اللّه، وفی الکثیر من الأوقات یجد الإنسان نفسه یدعو اللّه تعالی بکلّ راحة ویقرأ القرآن أو یصلّی ولا یحسّ بالملل، ولکن أحیانا لا یوفّق لقراءة آیة واحدة أو دعاء مختصر ولا یجد فی نفسه المیل والشوق لذلک، فیتبیّن أنّ الدعاء والمناجاة لابدّ لها من توفیق ربانی وعنایة الإلهیّة.

وعند غسل الوجه دعا أمیرالمؤمنین علیه السلام بهذا الدعاء: «اللّهُمَّ بَیِّضْ وَجْهِی یَومَ تَسوَدُّ فِیهُ الوُجُوه وَلا تُسَوِّدْ وَجهِی یَومَ تَبیَضُ فِیهِ الوُجُوهُ».

وعند غسل یدیه الیمنی قال علیه السلام: «اللّهُمَّ لاتعطِنِی کِتَابِی بِیَمِینِی وَالخُلدَ فِی الجِنانِ بِیسَارِی».

وعندما غسل یده الیسری قال علیه السلام: «اللّهُمَّ اعطِنِی کِتَابِی بِشِمالِی وِلا تَجعَلهَا مَغْلُولَةً إِلی عُنُقِی»، ثمّ مسح رأسه المبارک وقال: «اللّهُمَّ غَشنِی بِرَحمَتِکَ وَبَرکَاتِکَ وَعَفوُکَ».

وعند مسح قدمیه قال علیه السلام: «اللّهُمَّ ثَبِّتْ قَدَمِی عَلَی الصِّراطِ یَومَ تَزِلُ فِیهِ الأقدامُ وَاجعَل سَعیی فِیما یُرضِیکَ عَنْهُ»، هذه هی الأدعیة والأذکار التی کان الإمام أمیرالمؤمنین علیه السلام یدعو بها عند الوضوء.

ص:177

54- باطن الوضوءتبدیل قطرات ماء الوضوء إلی ملائکة

استعرضنا روایة للإمام الصادق علیه السلام ینقل فیها دعاء الإمام أمیرالمؤمنین علیه السلام فی حال الوضوء وتعرّفنا علی مضامین هذه الأدعیة والأذکار، ونری من اللازم أن یقرأ کلّ إنسان هذه الأدعیة والأذکار عندما یتوضأ، یذکر اللّه وکذلک یتذکّر المعاد ویتذکّر الأمور الأخلاقیة الملازمة لإنسانیّته، وبعد أن أنهی أمیرالمؤمنین وضوءه التفت إلی ولده وقال: «یا مُحَمّدُ! مَنْ تَوَضّأ مِثلَ مَا تَوُضُأتُ وَقَالَ مَثلَ مَا قَلتُ خَلَقَ اللّهُ مِنْ کُلِّ قَطرَةٍ مَلَکَاً یُقَدِّسُهُ وَیُسَبِّحُهُ وَیُکَبِّرُهُ وَیَکتُبُ لَهُ ثَوابَ ذَلِکَ إِلی یَومِ القِیامَةِ»، والنقطة المهمّة جدّاً التی ینبغی علی الجمیع الالتفات إلیها فی ختام الروایة أنّ الإمام علیه السلام قال: إنّ کلّ شخص یتوضأ مثل هذا الوضوء، وهو وضوء أتباع أهل البیت علیهم السلام والذی تعلموه من مدرسة أهل البیت علیهم السلام، وهو الوضوء نفسه الذی توضأه رسول اللّه صلی الله علیه و آله، فمن توضأ بمثل هذا الوضوء ودعا بهذه الأدعیة والأذکار فإنّ اللّه تعالی یخلق من کلّ قطرة ملکاً یسبّح اللّه ویقدّسه ویکتب هذا

ص:178

الذکر والتسبیح من الملک لصاحب هذا الوضوء فی صحیفة عمله.

وفی هذه الروایة عدّة نقاط مهمّة ینبغی الالتفات إلیها:

الاُولی، أنّ أمیرالمؤمنین علیه السلام لم یکن بصدد بیان ثواب الوضوء فقط بل فی مقام بیان حقیقة الوضوء، فهو لا یرید أن یقول إنّ الشخص الذی یتوضأ فإنّ اللّه تعالی سیکتب له الثواب، بل یرید أن یبیّن حقیقة هذا العمل وباطنه وأجزاءه، یعنی أنّ ذلک الماء الذی یجری علی بدن الإنسان المؤمن مقترناً بالذکر اللّه وبتلک الکیفیّة الشرعیّة فإنّ حقیقة قطرات هذا الماء تتمثّل بشکل ملک من الملائکة، یعنی هناک ملک بإزاء کلّ قطرة من قطرات ماء الوضوء، وعمل هؤلاء الملائکة الکثیرین الذین خلقوا من قطرات هذا الماء أنّهم یحمدون اللّه ویقدّسونه إلی یوم القیامة، ولا یتصوّر أحد أنّ هذه الروایة تذکر فقط ثواب الوضوء، کلّا، إنّ هذه الروایة تبیّن حقیقة قطرات ماء الوضوء والتی تتمثّل فی هیئة الملائکة.

النقطة الثّانیة، أنّ خصوصیّات هذه الروایة وتمثّل قطرات ماء الوضوء بالملائکة لا یختصّ بأمیرالمؤمنین علیه السلام، فالإمام هنا یقول إنّ کلّ شخص إذا توضأ مثل وضوئی وذکر هذه الأذکار والأدعیة فسوف یخلق اللّه ملکاً من کلّ قطرة من ماء وضوئه، ورغم أنّ نوع البشر عاجزون عن الاتیان بمثل هذا الوضوء وبهذه الکیفیّة والخصوصیّات ولذلک ذکر بعض الأعاظم والأکابر أنّ هذا المعنی یعدّ من خصوصیّات أمیرالمؤمنین علیه السلام أو الأشخاص الذین بمثل مقامه وتالی تلوه وعلی مقربة منهم فی مراتب الکمال المعنوی والإلهی.

إنّ بعض الشخصیات من الأولیاء یعیشون النور الإلهی فی جمیع وجودهم وبعیداً عن کلّ رجس وذنب ورذیلة، فمثل هذا الشخص الطاهر المطهّر من کلّ رجس وذنب إذا توضأ فإنّ وضوءه یحمل مثل هذه الخصوصیّة والثمرة، ولکن یمکن القول إنّ المستفاد من هذه الروایة الشریفة أنّ اللّه تبارک وتعالی قد یرتّب

ص:179

مثل هذه الآثار والثمرات بفضله وکرمه ولطفه علی جمیع العباد الذین یتوضأون مثل هذا الوضوء، أی بمثل وضوء أمیرالمؤمنین علیه السلام وبالترتیب المذکور ومع رعایة آدابه والأدعیة والأذکار الواردة مع الالتفات والاعتقاد بمضامینها ومعانیها، یعنی عندما یقول: «اللّهُمَّ ثَبِّتْ قَدَمِی عَلَی الصِّراطِ یَومَ تَزِلُ فِیهِ الأقدامُ...»، فإنّه یری واقعاً یوم القیامة وجسر الصراط ویجد فی نفسه القلق والاضطراب من حالته فی ذلک الیوم الرهیب، فرعایة آداب الوضوء والتوجّه إلی معانی هذه الأذکار والمعتقدات الواردة فی هذه الأدعیة قد یتفق لبعض الناس أیضاً.

وأساساً إذا قلنا إنّ مثل هذه الخصوصیّات یعنی خلق الملائکة من قطرات ماء الوضوء یختصّ بأمر المؤمنین علیه السلام وفعل هذا الإمام، إذن فلماذا یقول الإمام علیه السلام:

«مَنْ قَالَ مِثلَ قَولِی وَتَوضّأ مِثلَ وُضُوئِی»، فلو کان الآخرون عاجزین واقعاً عن الوصول إلی هذه الحقیقة فما هی الثمرة والنتیجة المترتبة علی هذه الحقیقة؟ فما یقوله البعض أنّ هذا الأمر یختصّ بالإمام أمیرالمؤمنین علیه السلام خلاف لظاهر الحدیث، وعندما نستعرض الروایات الواردة فی باب الوضوء ونتمعّن فیها فسوف نری کثرة الآثار والبرکات الإلهیّة المترتبة علی مثل هذا الوضوء.

إذن، یبدو أنّ هذا الأمر لا یختصّ بأمیرالمؤمنین علیه السلام بل إنّ هذه الروایة تعکس مراتب الطهارة ووجود فرق بینها، فذلک الملک الذی یخلق من قطرات ماء وضوء أمیرالمؤمنین علیه السلام یختلف قطعاً عن ذلک الملک الذی یخلق من قطرات ماء وضوء الشخص العادی، فدرجات الملائکة تختلف بحسب اختلاف مراتب طهارة الأفراد، وهذا هو ما ثبت فی محلّه، إذن فلا معنی للقول إنّ الآخرین محرومون من الوصول إلی هذه المرتبة.

النقطة الثّالثة، یستفاد من هذه الروایة أیضاً أنّ الوضوء حتّی لو لم یکن بنیّة

ص:180

الصّلاة بل یتوضأ المؤمن لمجرّد الطهارة مع توفّر شروط الوضوء فإنّ هذه الآثار والبرکات ستترتّب علیه أیضاً.

وأمّا هذه الروایة فلا تدلّ علی أنّ هذا الشخص المتوضیء یقصد من ذلک الصّلاة بعده، فلم یُذکر فی هذه الروایة قید وشرط بعنوان الصّلاة، ولذلک ینبغی علی المؤمنین الالتفات إلی هذه الحقائق واستثمارها والسعی یکونوا دوماً علی وضوء وطهارة ولیعلموا کثرة البرکات والثمرات المترتبة علی الوضوء، علیهم رعایة الأذکار والأدعیة الواردة فی حال الوضوء لئلا یفقدوا هذه العنایات الإلهیّة الکبیرة ویحرمون أنفسهم من لطف اللّه تعالی، ورعایته.

ص:181

55- آثار وفوائد الوضوء

إنّ أحد آثار الوضوء إیجاد النورانیّة فی باطن الإنسان، وحقیقة هذا الوضوء خلق الملائکة من قطرات هذا الماء لیسبحوا اللّه تبارک وتعالی ویکبّروه إلی یوم القیامة، ولعل البعض یخطر فی ذهنه أنّ الوضوء بما أنّه مقدّمة وشرط من شروط الصّلاة فلا یحظی بأهمیّة کبیرة، فی حین یجب علینا الالتفات إلی أنّ الوضوء فی ذات کونه شرطاً للصّلاة فإنّه فی نفسه عمل عبادی مهمّ جدّاً وتترتّب علیه آثار مهمّة أیضاً، وقد وردت الروایة الشریفة فی کتاب «الکافی»(1) عن محمّد بن قیس یقول:

«سِمِعْتُ أَبَاجَعفَر علیه السلام یَقولُ وَهُوَ یُحَدِّثُ النّاسِ بِمَکّة: صَلّی رَسُولُ اللّهِ صلی الله علیه و آله الفَجرَ»

مع أصحابه إلی أن طلعت الشّمس وقام الأصحاب واحداً بعد الآخر وذهبوا:

«حَتَّی لَمْ یَبقَ مَعَهُ إِلّا رَجُلانِ»، أحدهما من الأنصار والآخر من قبیلة ثقیف، فالتفت إلیهما رسول اللّه صلی الله علیه و آله وقال:

ص:182


1- (1) . الکافی، کتاب الطهارة، باب النوارد، ح 7.

«قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ لَکُما حَاجَةٌ وَتُریدانِ أَنْ تَسألا عَنها فإِنْ شِئتُما أَخبَرتُکُما بِحَاجَتِکُما قَبلَ أَنْ تَسألانِی»، قالا: «فَإِنْ ذَلِکَ أَجلَی للعَمی وَأَبعَدُ مِنَ الإِرتِیابِ وَأَثبَتُ للإِیمَانِ» قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله:

«أَمَّا أَنتَ یاأَخا ثَقِیف فإِنَّکَ جِئتَ تَسأَلَنِی عَنْ وُضُوئِکَ وَصَلاتِکَ ما فِی ذَلِکَ مِنْ الخَیرِ»، ثمّ إنّ النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله التفت إلی الأنصاری وقال له: إنّک تسأل عن الحجّ والعمرة، وما نحن بصدد الإشارة إلیه هو جواب النّبی صلی الله علیه و آله عن سؤال الثقفی فیما یتّصل بالوضوء.

هنا یقول النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله فی جوابه: «أَمَّا وُضُوؤکَ فَإِنَّکَ إِذا وَضَعتَ یَدَکَ فِی إِنائِکَ ثُمَّ قُلتَ بِسمِ اللّهِ تِنَاثَرتْ مِنها مَا اکْتَسَبتَ مِنَ الذُّنُوبِ، فإذَا غَسَلْتَ وَجهَکَ تَناثَرتْ الذُّنُوبُ الَّتِی اکتَسَبتَها عَینَاکَ بِنظرِهِما وفُوکَ، فَإِذا غَسَلتَ ذِراعَیکَ تَناثَرتْ الذُّنُوبُ عَنْ یَمِینِکَ وَشِمالِکَ، فإِذا مَسَحْتَ رَأسَکَ وَقَدَمَیکَ ِ تَناثَرتْ الذُّنُوبُ الّتِی مَشیتَ إِلَیها عَلَی قَدَمَیکَ».

أیّها الإنسان، تأمّل ما فی الوضوء من آثار وبرکات عظیمة، فیستطیع الإنسان بوضوء واحد أن یتطهّر تماماً من الذنوب والآثام التی تلوّثت بها أعضاؤه وجوارحه، وقد ورد فی أحادیث أخری أنّ النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله قال: «إنّ قَالَ فِی آخرِ وُضُوئِهِ وغُسلِهِ أَشْهَدُ أَنْ لاإِلهَ إِلّا أَنتَ وَأَتُوبُ إِلَیکَ وأَشْهَدُ أَنّ مُحَمِّداً عَبْدُ هُوَرَسُولُهُ وأَشْهَدُ أَنَّ عَلِیّاً وَلِیِّکَ وَخَلِفَتِکَ بَعدَ نِبیِّکَ عَلَی خَلقِکَ وَأَنَّ أَولِیاءهُ خُلفَاؤکَ وَأَوصِیاءهُ أوصِیاؤکَ تَحاطَتْ عَنْهُ ذُنُوبَهُ کِلُّها کَمَا تَحاطُ وَرَقُ الشَّجر»(1).

وهکذا تلاحظون الأهمیّة البالغة لهذا الوضوء عند اللّه تبارک وتعالی والتحوّل الکبیر الذی ینتج بسبب هذا الوضوء وکم من الأسرار والحقائق الکامنة فیه، ولکن للأسف نحن لا نعلم بها ونعیش بعیداً عن هذه الحقائق المعنویّة.

ص:183


1- (1) بحار الأنوار، طبعة بیروت، ج 77، ص 316.

وقد یتساءل أحیاناً بعض الأشخاص بسبب جهلهم وعدم اطلاعهم: لماذا نغسل وجوهنا وأیدینا من أجل الصّلاة، هؤلاء الأشخاص لا یعلمون أنّ اللّه تعالی حکیم علی الإطلاق وقد أوجب الوضوء مقدّمة للصّلاة، وهو عالم تماماً بأسرار هذا الوضوء ولذلک یجب علینا السعی أن نکون علی طهارة دائمة، ورغم أنّ الوضوء شرط للصّلاة ولکن لا ینبغی لنا الغفلة عن هذه الحقیقة ولا نتوضأ للصّلاة فقط بل نکون علی وضوء فی جمیع الحالات لتشملنا أنوار هذا الوضوء ونستغرق فی برکات هذه الطهارة إن شاء اللّه.

ص:184

الباب الثانی: أسرار ستر العورة

اشارة

ص:185

ص:186

56- أسرار ستر العورة فی الصّلاة

إنّ أحد الشروط التی یجب علی المصلّی رعایتها، ستر العورة، وقد یثار هذا السؤال، لماذا یجب علی المصلّی أن یستر عورته فی حال الصّلاة؟ فإنّ اللّه تعالی هو العالم بظاهر الإنسان وباطنه ولا فرق لدیه أن یکون المصلّی عریاناً أو مستوراً؟ وما هی الخصوصیّة والأسرار فی ستر العورة بحیث صار شرط هذا العمل شرطاً واجباً من شروط الصّلاة ویجب علی المصلّی رعایته.

لقد ذکر علماؤنا فی مدوّناتهم وکتبهم فی بحث أسرار الصّلاة نقاط وملاحظات قیمة فی هذا المورد، وبخاصّة الإمام الخمینی رضوان اللّه تعالی علیه، حیث ذکر نقاط مهمّة جدّاً وبعضها خارج عن دائرة فهم أمثالنا وتختصّ بحقیقة هذا الإمام النورانیّة وأمثاله، وبالنسبة لستر العورة فی الصّلاة لابدّ من القول إنّ ستر العورة وأعضاء البدن القبیحة أی المواضع التی یقبح النظر إلیها والعقلاء یجتنبون النظر إلیها والمرتبة الأدنی من ذلک ستر العورة، وعلی حدّ تعبیر الإمام رضوان اللّه علیه أنّ ستر العورة هو المفهوم عند عامّة الناس، ولکنّه یذکر

ص:187

أیضاً خمس مراتب أخری لستر العورة: 1. ستر العورة لدی الخاصّة؛ 2. ستر العورة لدی الخواص؛ 3. ستر العورة لدی أهل الإیمان؛ 4. ستر العورة لدی أهل المعرفة؛ 5. ستر العورة لدی أهل الولایة(1).

ومن الواضح أنّ کلّ ستر یستلزم لباساً وساتراً خاصّاً، فستر المواضع القبیحة من ظاهر البدن یتمّ بهذه الملابس الظاهریّة بل حتّی فی موارد لا یوجد لباس یستطیع الإنسان ستر عورته بورق الشجر وأمثال ذلک، وهکذا یستطیع الإنسان أن یستر هذه المواضع بسهولة، ولکن هناک مراتب أعلی من الستر وتستلزم لباساً آخر، من قبیل لباس التقوی، فعندما یقترف الإنسان الرذائل ویرتکب الأعمال القبیحة یجب علیه تغطیتها وسترها بلباس التقوی، أی أنّه یقوم بأعمال لجبران تلک الأعمال القبیحة ویستر نفسه بها، وفی المرتبة الثّالثة فیما لو أراد الإنسان ستر نفسه من القبائح والصفات الذمیمة یجب علیه أن یرتدی لباس العفاف والطهارة، وفی المرتبة الرابعة فیما لو أراد ستر عیوبه القلبیّة وتغطیة القبائح فی نفسه وروحه یجب علیه استخدام لباس الطمأنینة، وفی المرتبة الخامسة یرتدی لباس الشهود ولباس التمکین وهی من جملة المفاهیم التی یصعب علینا جدّاً درکها وفهمها.

ومقصودنا من الإشارة إلی هذه المراتب أنّ المصلّی یجب أن یعلم أنّه إذا وجب علیه ستر القبائح الظاهریّة وتغطیة عورته فی الصّلاة فإنّه یحتاج لستر أعماله وسلوکیاته المذمومة إلی ساتر أیضاً، وکذلک قلبه وفکره وباطنه تحتاج أیضاً إلی ساتر، وتحتاج ملاکاته الأخلاقیّة وصفاته الذمیمة إلی ساتر أیضاً، فیجب علینا أن نتجاوز القبائح الظاهریّة ونرکز تفکیرنا فی القبائح الباطنیّة وکیفیّة سترها واصلاحها، یقول المرحوم الشهید الثانی رضوان اللّه علیه: یجب علی

ص:188


1- (1) سرّ الصّلاة (معراج السالکین)، ص 49.

الإنسان أن یجمع جمیع قبائحه الباطنیّة فی قلبه ویعلم أنّ الساتر الوحید لها عبارة عن الخوف من اللّه والأمل برحمته تعالی، أن یعیش حالة الخوف والرجاء وصفها ساتراً للملکات الباطنیّة القبیحة والصفات الأخلاقیّة الذمیمة، وتبیّن من ذلک لماذا وجب علی المصلّی ستر العورة فی حال الصّلاة وهو یقف أمام الباری تعالی العامّ بالظاهر والباطن، بل یجب علیه ستر العورة حتّی فی الأماکن التی لا یوجد فیها أحد من الناس ولا یراه أحد، ومن هنا ورد التأکید فی اختیار المصلّی للباسه بأن لا یجعله منشغلاً بهذا اللباس عن الصّلاة والتوجّه إلی اللّه، وأن لا یکون لباساً خاصّاً یخلق فیه حالة العجب والغرور.

وبعبارة أخری إنّ الغایة الأساسیّة من البدن والعورة، هی الستر الظاهری لهذه الأعضاء والجوارح، وهذا العمل بمثابة مقدّمة للتوجّة إلی ستر سائر العیوب والقبائح، وبهذا العمل یدرک الإنسان عیوب ونواقص وتلوّثات کثیرة فی نفسه وروحه یجب علیه سترها بطرق خاصّة.

ینبغی علی الإنسان أن یعلم من خلال شرط الستر هذا أنّه یحتاج إلی ساتر واقعی، ویحتاج إلی توفیر الساتر علی أعماله الذمیمة وأخلاقه القبیحة، یقول القرآن الکریم: «وَ لِباسُ التَّقْوی ذلِکَ خَیْرٌ...»1.

نسأل اللّه تعالی أن یرزقنا جمیعاً لباس التقوی الجمیل.

ص:189

57- الصورة الإنسانیّة، ستر لحقیقة الأعمال الحیوانیّة للبشر

تحدّثنا عن أسرار ستر العورة فی الصّلاة، هذا الستر الظاهری الذی یجب علی الإنسان أن یغطی قسماً من بدنه فی حالة الصّلاة، یتحرّک الإنسان لافهام نفسه بأنّها تحتاج إلی ستر وغطاء، فلا ینبغی للإنسان أن یتصوّر بأنّ جسمه فقط یحتاج إلی ساتر، بل یجب علیه ستر القبائح الباطنیّة ویفکر فی إیجاد مثل هذا الساتر علی أخلاقه وسلوکیاته أیضاً.

یقول الإمام الخمینی رضوان اللّه علیه: إنّ اللّه تبارک وتعالی ستار جمیع عورات وقبائح الخلق، بمعنی أنّ أحد الأمور التی یجب من أجله أن نشکر اللّه، وهو أن اللّه جعل للبشر لباساً (وهو اللباس الظاهری) یستطیع الإنسان بواسطته أن یستر بدنه، وقد منح الباری تعالی هذا الامتیاز للبشر ولیس لسائر الحیوانات والموجودات الأخری مثل هذا الامتیاز فهو کرامة من اللّه تعالی للبشر حیث یستطیع الإنسان ستر بدنه وعوراته بالملابس المتنوعة فی الثقافات المختلفة، ولکن ثمّة أمر آخر ینبغی الالتفات إلیه وهو أنّ اللّه تعالی جعل من هذه الصورة

ص:190

الإنسانیّة ساتراً لحقیقة أعمال البشر القبیحة، وبواسطة هذه الصورة الظاهریّة یتمّ ستر تلک الحقیقة الباطنیّة، وهذه نقطة مهمّة جدّاً.

فلو أنّ اللّه تعالی کشف الغطاء وأزاح هذه الصورة الإنسانیّة، ولو أنّ إرادة الحقّ تبارک وتعالی قررت أنّ کلّ شخص یعمل عملاً معیناً فإنّ حقیقته وصورته الواقعیّة تنکشف وبدون أی ساتر لها، فإنّ الجمیع سیواجهون الفضیحة ویتورطون فی المذلة «إلّا قلیل»، ونعتقد أیضاً وبحسب ما ورد فی الآیات والروایات، أنّ الناس یوم القیامة یحشرون بتلک الصورة الواقعیّة لأعمالهم، فقد ورد فی بعض الروایات أنّ بعض الناس یحشرون یوم القیامة بصور قبیحة وکریهة إلی درجة أنّ صورة القردة والخنازیر تکون جمیلة بالنسبة لهؤلاء، فهذا دلیل علی أنّنا نعیش فی هذا العالم الدنیوی تحت مظلّة ستاریة الباری تعالی، فاللّه تبارک وتعالی لا یسمح بأن تنکشف الصورة الحقیقیة لأعمال للآخرین، وإلّا فلو انکشف باطن الأعمال فسوف تنکشف الصورة القبیحة والمتعفنة لکل عمل ذمیم، ومن هذه الجهة فإنّ هذه الصورة الظاهریّة للإنسان تعتبر ساتر وغطاءً علی تلک الصورة القبیحة لأعماله وصفاته الذمیمة.

وقد ورد فی الروایات أنّ الشخص الذی یعیش فی هذا العالم فی حالة التکبّر یأتی یوم القیامة صغیراً وحقیراً ویحشر کنملة صغیرة تسحقه الخلائق إلی أن یفرغ اللّه من حساب جمیع الناس، وهکذا نری أنّ ظهور حقیقة المتکبّر فی ذلک العالم بهذه الصورة، یقول الإمام الراحل رضوان اللّه علیه(1): إنّ السالک سبیل الآخرة والمجاهد فی سبیل اللّه یجب أن یستر عوراته الباطنیّة بالتمسّک بمقام الغفاریّة والستاریّة للحق تعالی، لأنّه هو الذی ستر الصورة الحقیقة لأعمالنا فی هذه الدنیا، فیجب علی الإنسان أن یستأنس بذکر «یاغفّار ویاستّار»، فإنّ اللّه

ص:191


1- (1) . سرّ الصّلاة (معراج السالکین)، ص 50.

تعالی یستعمل ستاریّته دوماً فی تعامله مع عباده، وینبغی الالتفات إلی أنّ الساتر والستّار الحقیقی هو اللّه تعالی، ومن هنا یجب الالتفات إلی هذه الحقیقة، وهی أننا عندما نحتاج إلی ستر عیوبنا الظاهریّة والباطنیّة فبطریق أولی لا ینبغی لنا افشاء عیوب الآخرین، لأنّ هذه المسألة فی غایة الخطورة بأن نلفت نظر الناس إلی عیوب شخص آخر بدون استخدام صفة الستّاریّة علیه، بل نکشف عیوبه ونقوم بفضحه أمام الملأ، وسوف نبیّن الآثار والافرازات الوخیمة جدّاً علی هذا العمل الشائن کما ورد فی الروایات الشریفة.

ص:192

58- ستر العیوب والعورات الباطنیّة

بالنسبة لأسباب ستر العورة هناک روایة مفصّلة ورد فی کتاب «مصباح الشریعة» عن الإمام الصادق علیه السلام، ویذکرها الإمام الخمینی رضوان اللّه تعالی علیه ویقول بعد نقله لهذه الروایة: إنّ التفکّر والتدبّر فی هذا الکلام الجامع یفتح لأهل المعرفة وأصحاب القلوب أبواباً من الحِکم والمعارف.

یقول الإمام الصادق علیه السلام: «أَزیَنُ اللّباسِ للمُؤمِن لِباسُ التّقوی وأَنعَمُه الإِیمَان»، ولا یوجد لباس أفضل وأحسن من هذا اللباس، واللباس هو شیء الذی یحفظ الإنسان ویمنحه الوقار والعظمة ویدفع عنه بعض الأضرار والأذی، وأفضل لباس هو لباس التقوی الذی یورث الإنسان سعادة الدنیا والآخرة، والإمام الصادق علیه السلام یشیر فی کلامه هذا إلی الآیة القرآنیّة: «وَ لِباسُ التَّقْوی ذلِکَ خَیْرٌ...»1.

ویتابع الإمام علیه السلام قوله: «وَأَمّا اللّباسُ الظَّاهِرُ فَنِعمَةٌ مِنَ اللّهِ تَعالی تَستُرُ بِها عَوراتُ بَنِی آدمَ وَهِی کَرامِةٌ کَرمَ اللّهُ بِها ذُرِّیة آدمَ لَمْ یُکرِم بِها غیرَهُم، وَهِی

ص:193

لِلمُؤمِنِینَ آلَةٌ لأَداءِ مَا افتَرضَ اللّهُ عَلَیهِم، وَخَیرُ لِباسِکَ مَا لایَشغُلکَ عَنِ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ بلْ یُقرّبُکَ مِنْ ذِکرِهِ وشُکرِهِ وَطَاعَتِهِ، وَلا یَحمِلُکَ عَلَی العُجبِ وَالرِّیاءِ وَالتَّزیِّنِ وَالتَّفَاخُرِ وَالخُیلاء».

ثمّ قال علیه السلام: «فَإِنّها مِن آفَاتِ الدِّینِ وَمُورِثَةٌ القَسوةَ فِی القُلُبِ، فَإِذَا لَبِستَ ثَوبَکَ فَاذکُر سَترَ اللّهِ عَلَیکَ ذُنُوبَکَ بِرَحمَتِهِ، وَأَلبِس بَاطِنَکَ کَمَا أَلبَستَ ظَاهِرَکَ بِثَوبِکَ»، وعلی هذا الأساس، کما تغطی وتستر ظاهر بدنک بقطعة من القماش فعلیک بستر نفسک بالصدق والأمان: «وَلیَکُنْ بَاطِنُکَ فِی سِترِ الرَّهبة وَظَاهِرُکَ فِی سِترِ الطَّاعَةِ»، أی یجب علیک ستر باطنک بلباس الخوف من عذاب اللّه، وتستر ظاهرک بلباس الطاعة للّه تبارک وتعالی، وهذا یعنی أنّ الطاعة للّه تعالی من شأنها أن تستر ظاهرک وشخصیّتک أمام الناس، وأمّا ستر باطنک وحالاتک النفسانیّة فینبغی سترها بلباس الخوف والرهبة.

«وَاعتَبِر بِفَضلِ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَیثُ خَلقَ أَسبَابَ اللّباسِ لِیَستُرَ العَوراتِ الظَّاهِرَة، وَفَتَحَ أَبوابَ التَّوبَةِ والإِنابِةِ لِیَستُرَ بَِها العَورات البَاطِنَة»، ولکن ما المراد من العورات الباطنة؟

یقول الإمام الصادق علیه السلام: «مِنَ الذُّنُوبِ وَأَخلاقِ السُّوءِ، وَلا تَفضَح أَحَدَاً حِیثُ سَتَرَ اللّهُ عَلَیکَ مَا هُو أَعظَمُ مِنْهُ»، أیّها الإخوة والأخوات الأعزاء الذین یقرأون هذه السطور بدقّة أنتم تلاحظون أنّ الإنسان کیف یهتمّ بستر عورته أمام الناس وحفظ حیثیّته وسمعته أمام المخلوقین، وسبق أن قلنا بأن حقیقة العبادة هی أن یکون الإنسان غافلاً عن مخلوقین ولا یهتمّ إلّابما أمر اللّه به، ومعلوم أنّ اللّه تبارک وتعالی لا یرید أن أن تنکشف عیوب عباده، ولو أنّ شخصاً اطّلع علی عیوب شخص آخر، یقول الإمام علیه السلام: «وَلا تَفضَح أَحَدَاً حِیثُ سَتَرَ اللّهُ عَلَیکَ مَا هُو أَعظَمُ مِنْهُ».

«وَاشتَغلِ بِعَیبِ نَفسِکَ»، بأن تهتمّ باصلاح هذا العیب وجبران هذا الخلال.

ص:194

«وَاَصفَح عَمّا یَعِینَکَ حَالَهُ وَأَمُرهُ»، أی لا تلتفت إلی نقاط ضعف الآخرین وما لا یرتبط بک حاله، فوجود عیوب لدی الآخرین لا یرتبط بشأنک وبحیاتک.

«وَاحذْرِ أَنْ یَفنَی عُمْرُکَ بِعَمَلِ غیرِکَ»، فما أشقی الإنسان وما أقبحه عندما یصرف عمره السلیم فی تجسّس عیوب الآخرین، وهذا العمل المذموم وردت فی نصوص کثیرة فی ذمّه وتقبیحه، وللأسف فإنّ مجتمعنا الراهن متورط فی مثل هذه السلوکیات اللاخلاقّیة، وعندما نتساءل: لماذا لا تؤثر صلاتنا فی تعدیل أخلاقنا؟ بسبب أنّ الواجب فی الصّلاة ستر العورة الظاهریّة وما یترتّب علی من ذلک ستر عیوب الآخرین أیضاً، ولا نسمح بافشاء عیوبهم وفضحهم، ولکن للأسف نری الکثیر من الأشخاص لا یلتفتون إلی هذه الحقیقة فهنا یقول الإمام علیه السلام: لا ینبغی أن تتلف عمرک وإمکاناتک من أجل عمل غیرک، فلو کان لدی الآخر عیب وخطأ وسلوک مذموم فلماذا تنشغل أنت باحصاء عیوبه وتستعمل لسانک وفکرک ووقتک فی مثل هذه الأمور؟

یجب علینا أن نعلم أنّ الشخص إذا کان فی صدد فضح عیوب الآخرین فإنّه یتلف عمره من جهة، ومن جهة أخری فإنّ کشف عیوب الآخرین علی الملأ یتسبّب فی أنّ اللّه تعالی سیکتب أعمالک الصالحة فی سجل عمله وبالتالی فإنّ ذلک الشخص سیتاجر بأعمالک الصالحة ویربح منک ما تعبت فی کسبه وتحصیله وفی ذات الوقت تکون قد خسرت عملک وأهلکت نفسک.

ثمّ یقول علیه السلام: «فَإِنَّ نِسیَانَ الذُّنُوبِ مِنْ أَعظَمِ عُقُوبَةِ اللّهِ فِی العَاجِلِ وَأَوفَرِ أَسبَابِ الُعُقُوبَةِ فِی الآجُلِ»، لأنّ الإنسان إذا نسی ذنوبه فی هذه الحیاة فسوف لا یتوفّق للتوبة منها واصلاح الخلل فی عمله ونفسه.

«وَمَادَامَ العبْدُ مُشتَغُلاً بِطاعَةِ اللّهِ تَعالی وَمَعرِفَةِ عُیُوبِ نَفسهِ وَتَرَکَ مَا یَشِینُ فِی دِینِ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ بِمَعزِلٍ عَنِ الآفَاتِ»، یعنی إذا أراد الإنسان الابتعاد عن الآفات واجتناب الرذائل والعیوب فالطریق إلی ذلک أن یشغل نفسه بطاعة اللّه عزّ

ص:195

وجلّ ویهتمّ بمعرفة عیوب نفسه وإصلاحها وترک کلّما یوجب الانحراف عن خطّ الإیمان والصلاح والدین.

«غَائِصٌ فِی بَحرِ رَحمَةِ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ یَفُوزُ بِجَواهِرِ الفَوائِدِ مَنَ الحِکمَةِ وَالبَیانِ»، فمثل هؤلاء الأشخاص، مضافاً إلی بعدهم عن الآفات وقربهم من بحر رحمة اللّه وبرکاته، فإنّه یوماً بعد آخر یحصلون علی جواهر الحکمة والبیان، وهذا یعنی أنّ الإنسان إذا اشتغل بعیوب نفسه فلا یلتفت بعدها إلی عیوب الآخرین، وإذا سلک فی خطّ الطاعة والعبودیّة للّه تعالی، فإنّ اللّه سیمنحه جواهر الحکمة ونفائس المعرفة ودرر البیان.

«وَمَادَامَ نَاسِیاً لِذُنُوبِهِ جَاهِلاً لِعُیوبِهِ راجِعاً إِلی حَولِهِ وَقُوَّتِهِ لایُفلِحُ إِذاً أَبَداً»(1)، وهکذ یبقی هذا الشخص الناسی لذنوبه غارقاً فی عیوبه ومتوکّلاً فی إصلاح حاله ومعیشته علی نفسه وحوله وقوّته بعیداً عن حول اللّه وقوّته، فتقوده هذه الحالة إلی وادی الضلالة والهلکة.

وهکذا ترون أنّ معرفة أسرار ستر العورة سیفتح أبواباً للمعرفة علی الإنسان، یعنی أنّ ستر العورة الظاهری یقود الإنسان إلی أبواب جواهر الحکمة والبیان، فلو أنّ الإنسان اهتمّ برعایة هذه الأمور فی واقع حیاته سیحصل علی نتائج کثیرة وثمرات مهمّة فی واقع وحیاته.

ونستنتج من مجموع ما تقدّم من مسائل وبحوث نقطتین مهمّتین فیما یتّصل بلزوم ستر العورة فی الصّلاة.

1. إن ستر العورة الظاهری یتسبّب فی التفات الإنسان إلی لزوم ستر عیوبه الباطنیّة.

2. إنّ ستر عورة الإنسان فی الصّلاة یؤدّی إلی أن یعلم الإنسان وجوب ستر عیوب الآخرین.

نسأل اللّه تعالی أن یوفّقنا جمیعاً إلی تحصیل حقیقة هذه الأعمال.

ص:196


1- (1) . مصباح الشریعة، ص 32-33.

الباب الثالث: أسرار وقت الصّلاة

اشارة

ص:197

ص:198

59- سرّ تعیین الوقت للصّلاة

أحد الأمور الأخری فی بحث أسرار الصّلاة التی یجب الالتفات إلیها، مسألة وقت الصّلاة، ونعلم جمیعاً وجوب أوقات معیّنة للصلوات الواجبة مذکورة فی فقهنا وکتب الفتاوی للمراجع الکبار، فصلاة الصّبح لها وقت، وکذلک صلاة الظّهر والعصر والمغرب والعشاء، ومضافاً إلی الصلوات الواجبة فثمّة أوقات معینة ومقررة للنوافل الیومیّة أیضاً، والنتیجة أنّ الصّلاة إنّما تقع صحیحة ومؤثّرة فیما روعیت هذه الأوقات بشکل کامل ویکون المصلّی حافظاً لمواقیتها، وهنا قد یثار هذا السؤال: ألا یمکن أن یجعل اللّه تبارک وتعالی تعلیم وقت الصّلاة بعهدة الناس ولا یعیّن هو وقتاً خاصّاً لکلّ صلاة؟ یعنی فی أی وقت رغب الإنسان فی العبادة والصّلاة ووجد فی نفسه الاستعداد والشوق لها فیصلّی ولا حاجة لتعیین الوقت؟ وأساساً ما هی الحکمة فی هذا الأمر بأن یعیّن اللّه تبارک وتعالی وقتاً لکلّ صلاة، بحیث إنّ الإنسان إذا صلّی صلاته قبل ذلک الوقت فلا تقبل منه ولا یکون قد أدّی تکلیفه الشرعی؟ أی أنّ هذه الصّلاة قبل الوقت لیست مسقطة

ص:199

للتکلیف، وبالتالی فإنّ هذه الصّلاة لا یترتّب علیها أثر من آثار الصّلاة.

الجواب عن هذا السؤال واضح، لأنّ مسألة الوقت فی باب الصّلاة تشیر إلی وجود عنایة خاصّة من أجلها عیّن اللّه تعالی هذه الأوقات علی المصلّین رغم أنّ الإنسان یستطیع فی جمیع الأوقات أن یعبد اللّه تعالی، ولکن هذه الأوقات الخاصّة هی ظرف زمانی جعله اللّه تبارک وتعالی للصّلاة والعبادة بسبب وجود عنایات خاصّة واهتمام أکثر من المصلّین بهذه الصّلاة، ومن هذه الجهة فهی عبارة عن دعوة خاصّة، ومن جهة أخری فالإنسان إذا علم أنّ اللّه تعالی عیّن له وقتاً خاصّاً للصّلاة والمناجاة معه فإنّه قبل حلول ذلک الوقت یتحرّک علی صعید تهیئة نفسه لهذا اللقاء وینبعث فیه الشوق للمناجاة والحدیث مع اللّه تبارک وتعالی، ومثل هذا الشوق وفی غیر هذه الفرضیة لا معنی له ولا یمکن تصوّره.

وقد ذکر أکابرنا هذه المسألة فی قالب مثال فی کتبهم ومدوّناتهم، وذلک أنّه إذا قام رئیس بلد معین أو سلطان أو شخصیّة کبیرة بدعوة شخص من الأشخاص وفی وقت معین للقائه ومجالسته، وأراد أن یهتمّ ذلک الشخص بهذا اللقاء اهتماماً خاصّاً ویقول له إننی فی هذا الوقت أسمع کلامک واستجیب لطلباتک، ففی هذه الصورة من الطبیعی أن یجد الإنسان فی نفسه استعداداً وشوقاً لهذا اللقاء ویحسب اللحظات إلی أن یحین موعد الحضور واللقاء.

وهکذا نری أنّ اللّه تبارک وتعالی تعامل مع الإنسان بهذه الصورة وقال له: إذا قمت من فراشک فی أوّل طلوع الفجر وأقمت صلاة الصّبح فإننی فی هذا الوقت سأتوجّه إلیک بعنایة خاصّة وأستجیب لک دعاءک واُحقق تطلباتک أکثر، وهذا الوعد لا سبیل إلی نقضه أو التخلّف عنه، وعلی هذا الأساس فإنّ أوقات الصّلاة تملک مثل هذه الخصوصیّة وأنّها عبارة عن ضیافة إلهیّة خاصّة لهذا الإنسان المصلّی.

ص:200

یقول المرحوم الشهید الثانی رضوان اللّه علیه فی کتابه حول أسرار الصّلاة:

«وأمّا الوقت فاستحضر عند دخوله أنّه میقاتٌ جعله اللّه تعالی لک لتقوم به بخدمته وتتأهل للمثول فی حضرته والفوز بطاعته»(1).

وسبق أن ذکرنا أننا نعیش دوماً وفی جمیع الحالات فی محضر الباری تبارک وتعالی سواءً فی حالة الیقظة أو المنام، أو المحادثة و...، ولکن عندما یحین وقت الصّلاة فکأنّ اللّه ینتظر من عبده المؤمن أن یسمع صوته ویحدّثه، وینتظر مناجاته والانفتاح علیه فیما یختلج فی قلبه ومکنونه، فلو أنّ الإنسان التفت إلی هذه المفاهیم فسوف یتجلّی هذا المعنی أکثر فی ذهنه، وسیقف للصّلاة بین یدی اللّه بحضور قلبه أکثر.

عندما یحین وقت الصّلاة یجب علی المصلّی أن یستشعر الوجد والسرور والشوق یملأ جمیع وجوده، فهل إننا نشعر بمثل هذه الحالة فی صلاتنا؟ وعندما نسمع صوت المؤذن للصّلاة هل نشعر فی قلوبنا بالانبساط والسرور والبهجة أم لا؟ فمن علائم الإنسان المؤمن أنّه عندما یحین وقت الصّلاة فإنّ حالة السرور والبهجه تملأ کیانه وقلبه، ویشعر أنّه قد آن وقت ملاقاته ومناجاته مع خالقه وربّه، ومن هذه الجهة ورد فی سیرة أشرف المخلوقات النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله:

«کَانَ النَّبِیُّ صلی الله علیه و آله یَنتَطِر وَقتَ الصَّلاةِ وَیَشتَدُّ شَوقُهُ وَیَتَرَقَّبُ دِخُولَهُ وَیَقُولُ لِبلال مُؤذنَهُ أَرِحنَا یا بِلالُ»(2)، أی أنّه صلی الله علیه و آله ینتظر وقت الصّلاة بشغفٍ لیتواصل مع اللّه ویناجی ربّه، وهذه الحالة یجب أن تتوفّر فی امّة النّبی أیضاً، فیجب علینا أن ننتظر وقت الصّلاة بشوق ولهفة، إنّ وقت الصّلاة یجب أن یکون بالنسبة لنا مثل الضالّة للشخص، فنسأل دائماً من هذا وذاک: متی یحین وقت الصّلاة؟ ومعلوم أنّ انتظار وقت الصّلاة یترتّب علیه آثار عظیمة جدّاً فی حیاة المؤمن.

ص:201


1- (1) التنبیهات العلیّة، ص 102.
2- (2) . نفس المصدر السابق.

60- حالة المصلّی عند حلول وقت الصّلاة

ذکرنا لحدّ الآن مسألة التوجّه إلی وقت الصّلاة وأن المصلّی یجب أن یکون مستعداً للدخول إلی الصّلاة وتجسید حقیقة الصّلاة فی نفسه.

وتقدّم فی عبارة الشهید الثانی رضوان اللّه علیه فی کتابه «التنبیهات العلیّة»(1) ، أنّه قال: «وأمّا الوقت فاستحضر عند دخوله أنّه میقاتٌ جعله اللّه تعالی لک لتقوم به بخدمته...»، ویتابع الشهید الثانی کلامه ویقول:

«ثمّ استشعر بعد هذه البهجة خشیة اللّه تعالی فی الوقوف بین یدیه»؛ أی أنّک بعد شعورک بالبهجة والسرور من دخول وقت الصّلاة والمناجاة مع اللّه فیجب أن تلتفت إلی هذا الأمر، وهو أنّک مثل هذا الموجود الحقیر ومع کلّ ما تحمله من ظلمات نفسانیّة ستقف أمام أعظم موجود وأعظم قوّة فی عالم الوجود، ویقول:

«فإنّ استشعار الخوف شعار الکاملین»؛ فإحدی علائم الإنسان الکامل والذی وصل إلی مراتب عالیة فی سُلّم الکامل المعنوی وجود حالة الخوف والخشیة

ص:202


1- (1) . التنبهات العلیّة، ص 104.

من اللّه فی قلبه، کما أنّ من علائم المطرودین من رحمة اللّه هی الغفلة، وبذلک لا یشعرون فی وجودهم وأذهانهم بأی حالة من الخشیة والخوف من اللّه، لو أنّ الإنسان لم یجد فی نفسه أثراً من الخشیة والخوف من اللّه فلیعلم أنّه من المطرودین من رحمة اللّه، ولکن إذا أحسّ عند حلول وقت الصّلاة بالخشیة من اللّه فی قلبه فی ذات الوقت الذی یشعر فیه بالسرور والبهجة فلیعلم أنّه أصبح من زمرة الأشخاص الکاملین، ویقول رحمه اللّه: یجب أن تحکّم عظمة اللّه فی نفسک وتلتفت إلی نقصک وضعفک فی مقابل عظمة اللّه وقدرته.

ونقرأ فی سیرة النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله عن بعض زوجاته أنّه کان إذا حان وقت الصّلاة تقول: «کَانَ رَسُولُ اللّهِ صلی الله علیه و آله یُحدِّثُنا وَنُحَدِّثُهُ فَإِذا حَضَرَتْ الصَّلاةُ فَکَأَنَّهُ لَمْ یَعرِفَنا وَلَمْ نَعرِفهُ شُغلاً بِاللّهِ عَنْ کُلِّ شَیٍّ»(1). بمعنی أنّ ملامح النّبی وحاله تتبدّل عندما یحلّ وقت الصّلاة، فهذا النّبی الذی کنّا نعرفه قبل الصّلاة أصبح شخص آخر لشدّة شغفه بالحضور بین یدی ربّه، فلماذا لا نملک نحن اهتماماً کافیاً لوقت الصّلاة وعندما نسمع صود المؤذن یرتفع عالیاً نستمر بعملنا وشغلنا؟

ألا یدلّ هذا علی عدم اهتمامنا بالحضور بین یدی اللّه تعالی وعدم اهتمامنا بأوامره؟ فکیف نتوقع مع ذلک أن یستجیب اللّه دعانا؟

نحن لا نراعی حقّه ونعیش دائماً حالة عدم الاهتمام بأوامره، ألم یکن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله یهتمّ بدقّة لجمیع أموره، وعندما یتحدّث مع أقرب المقرّبین إلیه ویحلّ وقت الصّلاة فإنّه یقطع هذه المکالمة ویتوجّه للصّلاة، فلماذا لا نتّبعه علی ذلک؟ لماذا عندما یحلّ وقت الصّلاة لا نترک علمنا وکسبنا ودرسنا وبحثنا وجلساتنا؟ هل هناک أهمّ من المناجاة مع اللّه والحدیث معه؟

لا ینبغی القول إنّ الوقت الصّلاة واسع وأنّ اللّه تعالی أباح لنا الصّلاة فی أی فترة من هذا الوقت المعدّ للصّلاة، ولکن أساس الصّلاة هو أوّل الوقت، فالصورة

ص:203


1- (1) . عوالی اللئالی، ج 1، ص 324.

الحقیقیة والکاملة للصّلاة تتحقّق فی الصّلاة فی أوّل الوقت، وحتّی لو کنت فی ذلک الوقت فی السیارة وفی حال السفر فعندما یحین وقت الصّلاة یجب علینا التوقّف للصلاة فی وقتها ولا ندع فضیلة الصّلاة فی أوّل الوقت تفلت من أیدینا.

ینقل صاحب کتاب «عوالی اللئالی» روایتین فی هذا المجال: «إِنَّ عَلیِّاً علیه السلام إِذا حَضَرَ وَقتُ الصَّلاةِ یَتَمَلمَلُ وَیَتَزلْزَلُ وَیَتَلَونَ»، أی لا یهدأ له حال ویتلوّن لون وجهه ویعیش حالة الانتظار فی جمیع وجوده.

«فَیُقالُ لَهُ ما لَکَ یا أَمِیرَالمُؤمِنِینَ! فَیقُولُ جَاءَ وَقتُ الصَّلاةِ وَقتُ أَمَانَةٍ عَرَضها اللّهُ عَلَی السَّماوَاتِ وَالأَرضِ وَالجِبالِ فَأَبَینَ أَنْ یَحمِلنَها وَأَشفَقنَ مِنها»(1)، وهذه نعمة وموهبة منحها اللّه تعالی لعباده، والسعید من یتقبل هذه النعمة وهذه الموهبة بأفضل ما یمکن وینتفع بها غایة النفع، یجب علینا الاهتمام الجاد بوقت الصّلاة وأن نصلّی الصّلاة فی أوّل وقتها ولا ندع فضیلة أوّل الوقت تذهب من أیدینا.

وجاء فی روایة عن حالات الإمام زین العابدین علیه السلام: «کَانَ عَلَیُّ بنُ الحُسَینِ علیهما السلام إِذا حَضَرَ لِلوُضُوءِ اصفَرَّ لَونُهُ فَیُقالُ لَهُ مَا هَذا الَّذِی یَعتَوِرُکَ عِندَ الوُضُوءِ؟ فَیَقُولُ: مَا تَدرُون بَینَ یَدَی مَنْ أَقُومُ»(2)، ینبغی بنا أن نهتمّ أکثر فی حیاتنا بوقت الصّلاة، ونخلق فی أنفسنا وفی اسرتنا وفی مجتمعنا بحیث ینتظر الجمیع وقت الصّلاة وقبل أن یحین وقت الصّلاة یسأل أحدهم من الآخر: متی یحین وقت الصّلاة، ومتی یحین وصال الحقّ؟ ونفس هذا السؤال وهذا العمل له ثواب کثیر کما ورد فی الروایات، فقد ورد فی بعض الروایات، أنّ أحد العبادات أن یجلس المرء فی المسجد وینتظر وقت الصّلاة، قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله: «الجُلُوسُ فِی المَسجِدِ انتِظاراً للصّلاةِ عِبَادَة»(3).

نسأل اللّه تعالی أن یجعلنا جمیعاً من الحافظین لأوقات الصّلاة إن شاء اللّه.

ص:204


1- (1) . علوالی اللئالی، ج 1، ص 324.
2- (2) . بحار الأنوار، طبعة بیروت، ج 77، ص 347.
3- (3) بحار الأنوار، ج 80، ص 380.

61- الأیّام لها حقیقة مستقلّة

الأمر المهمّ الذی یجب الالتفات إلیه وبخاصّة فی الصّلاة أنّ الزمان له دور مهمّ وأساسی فی أعمال الإنسان، بحیث إذا وقع العمل فی غیر وقته وزمانه فربّما لا یؤثّر الأثر المتوقّع منه، وأعلی من ذلک أنّ الزمان نفسه، أعمّ من الیوم واللیلة، ومع غضّ النظر عن الأعمال التی یقوم بها الإنسان فی وقت معیّن، له حقیقة وللأسف نحن غافلون عنها، إنّ عقولنا الضعیفة والناقصة لا تلتفت إلی هذه الحقیقة، وهی أنّ لکلّ زمان حقیقة معیّنة، فالنهار له حقیقة، واللّیل له حقیقة أخری، ویوم الجمعة له حقیقة والأیّام الأخری لکلّ منها حقیقة أخری، ومع مطالعة روایات الأئمّة المعصومین صلوات اللّه علیهم أجمعین یتبیّن هذا الأمر بوضوح کامل.

فقد ورد فی کتاب «بحار الأنوار»(1) روایة عن الإمام الصادق علیه السلام أنّ قال: «إِذا کَانَ یَومَ القِیامَةِ بَعَثَ اللّهُ الأَیّامَ فِی صُورٍ یَعرِفُها الخَلقُ أَنّها الأَیّام»، فهناک صورة

ص:205


1- (1) . بحار الأنوار، طبعة بیروت، ج 86، ص 353.

لیوم السبت وأخری لیوم الأحد.. وهکذا...

«ثَمَّ یَبعَثُ اللّهُ الُجمعَةَ أَمَامَها یقْدَمُها کَالعَرُوسِ ذَاتَ جَمالٍ وَکَمالٍ تُهدی إِلی ذِی دِینٍ وَمَالٍ، قَالَ: فَتَقِفُ عَلَی بَابِ الجِنَّةِ وَالأَیّامُ خَلفَها یَشهَدُ»، أی تبدأ الأیام بالشهادة والشفاعة وتقول للّه تعالی أنّ هذا الإنسان فی الدنیا کان مهتمّاً بی وکان یقیم الصّلاة والذکر والمناجاة فی یوم الجمعة.

«وَیَشفَعُ لِکُلِّ مَنْ أَکثَرَ الصَّلاةَ فِیهِ عَلَی مِحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمّدٍ».

یقول الراوی فسألت الإمام علیه السلام: «وَکَمْ الکَثِیرُ مِنْ هَذا وَفِی أَیِّ أَوقَاتٍ أَفضَلُ».

والسؤال عن الإکثار من الصّلاة علی محمّد وآل محمّد وفی أی وقت أفضل من یوم الجمعة

قال الإمام علیه السلام: «مَائَةِ وَلَیکُنْ ذَلِکَ بَعْدِ صَلاةِ العَصرِ: اللّهُمَّ صَلِّ عَلی مَحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَعَجِلْ فَرَجَهُم».

ولدینا روایات أخری تبیّن هذه النقطة المهمّة، وهی أنّ الأیّام واللیالی تشهد لصاحبها، وهکذا الأمکنة وجمیع أجزاء عالم الوجود یشهد للإنسان وسوف نبیّن ذلک إن شاء اللّه فی بحث المکان، وهو المکان الذی یصلّی فیه المؤمن، حیث یشهد یوم القیامة لهذا المصلّی، وکذلک الزمان یشهد أیضاً لصاحبه، وجاء فی روایة الأمالی للصدوق رحمه الله فی المجلس الثالث والثلاثون فی روایة عن أمیرالمؤمنین علیه السلام أنّه قال: «مَا مِنْ یَومٍ یَمْرُّ عَلَی ابنِ آدَمَ إِلّا قَالَ لَهُ ذَلِکَ الیَومُ یا ابنَ آدَمَ أَنَا یَومٌ جَدِیدٌ وَأَنا عَلَیکَ شَهِیدٌ فَقُلْ فِیَّ خَیراً واعمَلْ فِیَّ خَیراً»، فلا ینبغی إهمال الوقت وترکه یمرّ دون أن نقوم بعمل صالح أو نتکلّم بکلام طیب حتّی یأتی یوم القیامة ویشهد لنا، وبحسب هذه الروایة أنّ الأیّام لها حقیقة وتأتی یوم القیامة وتشهد علی أعمال الإنسان، فالشخص الذی ینتظر وقت الصّلاة لیقیمها فی أوّله، فإنّ أولّ الوقت یأتی یوم القیامة ویشهد لصاحبه بأنّه صلّی فی أوّل الوقت وما

ص:206

یترتّب علیه من آثار کثیرة وبرکات جلیلة، وعلی هذا الأساس یجب علینا الالتفات إلی أنّ للزمان أثراً خاصّاً فی حقیقة الصّلاة والعبادة، ومن هذه الجهة إذا أراد المصلّی أن یحصل علی جمیع الآثار وبرکات الصّلاة وخصوصاً نیل الحقیقة الکاملة للصّلاة فینبغی علیه أداء الصّلاة فی أوّل وقتها کیما تترتّب علیها جمیع البرکات والثمرات.

«أَوَّلُ الوَقتِ رِضوانُ اللّهِ وَآخِرَهِ غُفْرَانُهُ»، بمعنی أنّ الشخص الذی یؤخّر صلاته إلی آخر الوقت فإنّ صلاته هذه ستفقد صورتها الحقیقة والنورانیّة التی تستوجب رضا اللّه تعالی ولا ترتفع به فی مراتب أعلی فی سلّم الکمال المعنوی، بل إنّ هذه الصّلاة المتأخّرة قد تکون سبباً فی عفو اللّه وغفرانه عن هذا المصلّی، ولکن ما یوجب رضوان اللّه هی تلک الحقائق والأسرار الکامنة فی الصّلاة والتی لا تدرک إلّاالصّلاة فی أوّل وقتها.

هیا بنا أن نتعاهد مع اللّه تعالی أن نصلّی صلاتنا فی أوّل وقتها، وعندما نصل إلی نهایة عمرنا ننظر إلی ما تقدّم من هذا العمر ونری أننا قد صلّینا جمیع صلواتنا فی أوّل الوقت ولم نضیّع الصّلاة، والویل لذلک الإنسان الغافل الذی یقول: لقد بقیت نائماً حتّی طلعت الشّمس وفاتتنی الصّلاة، فمثل هذا الشخص حتّی لو أتی بصلاته قضاءً ولکنّه لا یعلم البلاء الذی حلّ به بسبب فوت الصّلاة والنعمة العظیمة والمرتبة العالیة التی فقدها، هو لا یعلم أنّه قد أصبح محروماً من الأنوار الإلهیّة والفیوضات الربانیّة فی ذلک الوقت، فلو استیقظنا یوماً ورأینا - لا سمح اللّه - أنّ الشّمس تکاد تشرق وقد فاتتنا صلاة الفجر فی أوّل وقتها، فیجب علینا أن نبکی علی حالنا ونسکب الدموع ونقول لأنفسنا: ما أعظم البلاء الذی حلّ بنا، وما هذا العمل الذمیم الذی صدر منها فحرمنا من التوفیق الإلهی الجلیل، علینا جمیعاً أن نتواصل فیما بیننا بأن نصلّی صلاتنا فی أوّل وقتها ولا ندع فضیلة أوّل الوقت تفلت من أیدینا إن شاء اللّه تعالی.

ص:207

62- نداء الأذان تذکیر بالقیامة

إنّ إحدی علامات المؤمن أنّه یفرح ویشعر بالسرور عندما یحین وقت الصّلاة، ویتحدّث الشهید الثانی رضوان اللّه علیه فی عبارة جمیلة للتعبیر عن هذة الحالة الجدیرة بالالتفات، یقول: «إِذا سَمِعتَ نِداء المُؤذن فَأحضِر فِی قَلبِکَ هَولَ النِّداء یَوم القِیامَة، وَتَشَمَّر بِظَاهِرِکَ وَباطِنِکَ للمُسارَعةِ وَالإجابَةِ، فَإنَّ المُسارِعِینَ إِلی هَذا النِّداءَ هُمْ الَّذینَ یُنادَونَ بِاللُّطفِ یَومَ العَرضِ الأَکبَرِ، فَأَعرِض قَلبَکَ عَلَی هَذا النِّداءِ فَإِن وَجَدتَهُ مَملُوّاً بِالفَرحِ وَالأستِبشَارِ وَمُستَعِدّاً بِالرَّغبَةِ إِلی الإِبتِدارِ فَأعلَم أَنَّهُ یَأتِیکَ النِّداُ، بِالبُشری والفَوزِ یَومَ القَضاءِ»(1).

وطبقاً لهذا الکلام فإنّ انتظار ومراقبة أوقات الصّلاة واستقبال هذا الوقت برحابة صدر وبفرح وشوق یتسبّب فی نجاة الإنسان من أهوال یوم المحشر وحالات الاضطراب والوحشة یوم القیامة.

وطبعاً، ثمّة نقاط أخری لکلّ واحد من أوقات الصّلاة مذکورة فی الروایات

ص:208


1- (1) التنبیهات العلیّة، ص 104.

الشریفة، مثلاً بالنسبة لصلاة الظّهر، تقول الروایة: عندما عرج بالنبی الاکرم صلی الله علیه و آله إلی السماء وصلاة التی صلاها هناک کانت الصّلاة الظّهر.. وهنا یوجد بحث مهمّ فی أنّ معراج النّبی وقع باللیل کیف یصلّی النّبی صلی الله علیه و آله صلاة الظّهر فی معراجه؟ وهل یوجد فی ذلک العالم صباح ومساء، ونهار ولیل؟ وهنا نقاط أخری یبحثها أهل الفن فی محلّها، فصلاة الظّهر هذه هی الصّلاة التی صلّاها النّبی فی معراجه، ووقت صلاة العصر عندما ارتکب آدم أبو البشر الخطأ وترک الأولی واقترب من شجرة الطبیعة، ووقت صلاة المغرب هو الوقت الذی تاب فیه آدم وصلّی فیها ثلاث رکعات، الرکعة الاُولی لرفع خطئه، والرکعة الثّانیة من جهة خطأ حواء، والرکعة الثّالثة بعنوان التوبة، ووقت صلاة العشاء هو تذکیر بضمة القبر ویوم القیامة، فصلاة العشاء هی النور الذی یزیح ظلمات القبر وظلمة المحشر فی یوم القیامة. علی أساس هذه النقاط الواردة فی بعض کتبنا الروائیّة، نفهم أنّ أوقات الصّلاة لیست مجرّد أمر اعتباری محض، بل لکلّ وقت من صلاة الصّبح، الظّهر، العصر، المغرب والعشاء مناسبات واقعیّة وحقیقیّة تماماً، فلو أنّ الإنسان صلّی صلاته بهذه الأوقات فحینئذٍ سینال مرتبة الفوز العظیم، وبخاصّة فی أوّل الوقت والذی ورد التأکید علیه کثیراً فی الروایات الشریفة.

فعن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال: «إِنَّ فَضْلَ الوَقتِ الأِوّلِ عَلَی الآخِرِ کَفَضلِ الآخِرةِ عَلَی الدُّنیا»(1)، فهل الآخرة تقبل المقارنة مع الدنیا؟ ولو أنّ شخصاً سمع هذه الروایة والتفت إلی أهمیّة أوّل الوقت بالنسبة إلی آخره مثل نسبة الآخرة إلی الدنیا فهل یسمح لنفسه بعد ذلک أن یفقد ویتساهل بهذا الرأس مال العظیم فی فضیلة الصّلاة فی أوّل الوقت ولا یبالی بهذا الوقت ولا یهتمّ به؟

وقد ورد فی الحدیث الشریف عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله أنّه قال: «إِنَّ اللّهَ عَزَّ وَجَلَّ

ص:209


1- (1) . الکافی، المطبعة الإسلامیّة، ج 3، ص 274.

یُحِبُ مِنْ الخَیرِ مَا یُعجِّلُ»(1) ، «استَبِقُوا الخَیراتِ» و «وَ سارِعُوا إِلی مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّکُمْ...»2.

ومن هذا المنطلق فالأصل فی الصّلاة والصّلاة الکاملة هو الصّلاة فی أوّل وقتها، وفی ذات الوقت فإنّ اللّه تعالی قد وسع وقت أداء الصّلاة للشخص الذین لم یوفّق لإدراک فضیلة أوّل الوقت لبعض المشاغل الضروریّة، فمثل هذا الشخص یمکنه تأخیر صلاته عن أوّل وقتها، ولکن فی الحالات العادیة إذا فاتت الصّلاة فی أوّل الوقت فذلک یعنی أنّ هذا الشخص قد خسر خسارة عظیمة جدّاً.

نسأل اللّه تعالی أن یوفّقنا جمیعاً لنکون من الحافظین لوقت الصّلاة إن شاء اللّه.

ص:210


1- (1) . الکافی، المطبعة الإسلامیّة، ج 3، ص 274.

خلاصة من أسرار وقت الصّلاة

أ) إیجاد البهجة والسرور لملاقاة اللّه ومناجاته.

ب) إیجاد الخشیة من اللّه تعالی فی حال الوقوف بین یدیه فی الصّلاة، یعنی أنّ المصلّی فی ذات الوقت الذی یشعر فیه السرور والبهجة یجب أن یستشعر الخشیة والرهبة، وهی شعار الکاملین.

ج) أن یشعر المصلّی بقیمة الزمان والوقت وأنّ الزمان سیشهد یوم القیامة کما فی الأمکنة أیضاً، فللأیّام واللیالی حقیقة خاصّة لکلّ واحدة منها، ومن هذه الجهة فإنّ الصّلاة فی أوّل الوقت لها حقیقة فی عالم الملکوت لا یمکن للصّلاة فی غیر أوّل الوقت أن یکون لها غیر هذه الحقیقة.

د) الأشخاص الذین یستجیبون فی هذه الحیاة الدنیا لنداء المؤذمن أسرع من الآخرین، فإنّهم یوم القیامه ینالون لطف اللّه ورحمته أسرع من الآخرین، والأشخاص الذین یشعرون باللذة عند سماعهم صوت الأذان وحلول وقت الصّلاة فإنّهم یوم القیامة ستأتیهم البشری بالصلاح والنجاح.

ه) إنّ أوقات الصّلاة لیست مجرّد أموراً اعتباریّة محضة، بل إنّ کلّ وقت من

ص:211

أوقات الصّلاة یحکی عن حقیقة واقعیّة، فصلاة الظّهر هی الصّلاة التی أقامها النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله فی معراجه، حینما کان یصلّی اللّه تعالی علی نبیّه الکریم صلی الله علیه و آله، وکذلک حینا کانت تسبّح جمیع الموجودات والکائنات للّه تعالی ووقت صلاة العصر عندما ارتکب النّبی آدم علیه السلام ترک الأولی فی تناوله من الشجرة الممنوعة، وزمان صلاة المغرب هو وقت توبة آدم، وزمان صلاة العشاء التذکیر بظلمة القبر وأهوال المحشر یوم القیامة.

ص:212

63- تعیین أوقات الصّلاة فی القرآن

إنّ اللّه تبارک وتعالی اهتمّ بشکل خاصّ فی القرآن الکریم فیما یتّصل بأوقات الصّلاة، فالقرآن فی ذات الوقت الذی ذکر فیه أصل وجوب الصّلاة وأحکامها والتأکید الشدید علی أصل إقامة الصّلاة، فإنّه أکّد بشکل خاصّ علی أوقات الصّلاة، فنقرأ فی الآیة 238 من سورة البقرة الأمر بالمحافظة علی الصلوات ولاسیما الصّلاة الوسطی: «حافِظُوا عَلَی الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الْوُسْطی...» . وقد ذهب المفسّرون إلی أنّ الصّلاة الوسطی هی صلاة الظّهر.

وقد أشار الباری تعالی فی آیات أخری إلی ثلاث أوقات للصّلاة وجعل وقت الصّلاة فی هذه الأوقات، من قبیل الآیة 114 من سورة هود: «وَ أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَیِ النَّهارِ وَ زُلَفاً مِنَ اللَّیْلِ...» ، حیث ذهب المشهور من المفسّرین، أنّ «طرفی النّهار» یعنی الصبح والمغرب، فهنا نری أنّ اللّه تعالی یأمر بإقامة الصّلاة فی هذین الوقتین وهما طرفی النّهار، وأحدهما الصّبح والآخر المغرب، أمّا «زلفاً من اللّیل» فقهو إشارة إلی صلاة العشاء، وفی بعض الآیات القرآنیّة نجد أنّ القرآن

ص:213

ذکر جمیع أوقات الصّلاة کما ورد فی الآیة 79 من سورة الأسراء: «أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوکِ الشَّمْسِ إِلی غَسَقِ اللَّیْلِ وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ کانَ مَشْهُوداً» ، والمراد من دلوک الشّمس هو الوقت الذی تصل فیه الشّمس إلی دائرة نصف النّهار، یعنی موقع زوال الشّمس وأذان الظّهر، وطبعاً ذکروا للدلوک معانٍ مختلفة، مثل «دلک» مأخوذة من الدلک وهو الحک، وهو بالحک بالید، أمّا لماذا ورد التعبیر عن زمان وصول الشّمس إلی دائرة نصف النّهار بدلولک الشّمس؟ فثمّة تفاسیر مختلفة، فذهب البعض إلی أنّ الشّمس فی هذا الوقت وهو وقت الظّهر تشرق بشدّة بحیث إنّ الإنسان یدلک عینه من شدّة وضوء الشّمس، وذهب البعض الآخر، أنّ الشّمس فی هذا الوقت تعبر من دائرة نصف النّهار متّجهة نحو المغرب، وهنا تفاسیر أخری أیضاً.

وقد تبیّن أنّ المراد من دلوک الشّمس وقت صلاة الظّهر، ویقول الإمام الباقر علیه السلام فی روایة: «دلوک الشّمس هو وقت زوال الشّمس».

أمّا المراد من غسق اللّیل فهو نصف اللّیل، وهو الوقت الذی یبلغ فیه اللّیل منتهی الظلمة وتکون فیه ظلمة اللّیل علی أشدّها، فی حین أنّ اللّه تبارک تعالی جعل إقامة الصّلاة منذ زوال الشّمس إلی منتصف اللّیل، وفی هذا الوقت تکون فیه غایة الصّلاة، وفی هذا المقطع من الآیة الشریفة إشارة إلی أربع صلوات:

صلاة الظّهر والعصر، صلاة المغرب والعشاء، ثمّ أشارت الآیة إلی وقت صلاة الصّبح بقولها: «وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ...» ، أی ما یقرأ فی الصّلاة عند طلوع الفجر، وقد وردت الروایات فی تطبیق صلاة الصّبح علی المقصود من قرآن الفجر.

وهکذا نری أنّ اللّه تبارک وتعالی، بیّن اهتمامه الفائق بالصّلاة بحیث إنّه عیّن وقتاً خاصّاً لها وأمر بأن یأتی المکلّف بصلاته فی هذه الأوقات، ولا ینبغی أن یتوّهم أحد أنّ الإنسان إذا أراد عبادة الباری تعالی فلا یلزم تعیین وقت محدد

ص:214

للعبادة والصّلاة، لأنّ کلّ واحد من هذه الأوقات التی عینها الباری تعالی فی القرآن الکریم له حقیقة وسرّ منحصر بذلک الوقت بحیث إنّ المکلّف إذا أتی بصلاته فی غیر هذا الوقت فإنّه لا یدرک حقیقة هذه الصّلاة ولا ینال من برکاتها المعنویّة، نأمل أن یکون اهتمامنا بهذه النعمة الإلهیّة بأوقات الصّلاة یؤدّی إلی أن ندرک الأهمیّة الخاصّة لهذه الأوقات ونحظی بالتوفیق للالتزام بها.

ص:215

64- أهمیّة صلاة الصّبح

«إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ کانَ مَشْهُوداً»

تبیّن لحدّ الآن أنّ المصلّی إذا أراد أن یدرک حقیقة وباطن الصّلاة ویحقق فی ذاته تلک الأسرار التی جعلها اللّه تبارک وتعالی للصّلاة، فیجب علیه الاهتمام الشدید بوقت الصّلاة وأن یعلم أنّ إقامة کلّ صلاة فی وقتها الخاصّ له أثره الخاصّ، وبدیهی أنّ الصّلاة إذا فاتت ولم یصلّها الإنسان فی وقتها، فإنّه حتّی لو کان قضاؤها واجباً من الناحیة الفقهیّة، ولکن صلاة القضاء هذه توجب له اسقاط التکلیف فقط، ولا نعلم أنّ الأسرار والحقائق الموجودة فی صلاة الأداء، هل هی نفسها تترتب علی صلاة القضاء أیضاً؟ ومعلوم أنّ هذا الشخص لا ینال جمیع تلک الحقائق فی صلاة القضاء، ولذلک یجب علینا الاهتمام بالصّلاة وإقامتها فی أوقاتها المحددة.

وکذلک تبیّن أنّ الإنسان عندما یراجع القرآن الکریم فسوف یری اهتماماً خاصّاً من قِبل الباری تعالی بالنسبة لأوقات الصّلاة فنقرأ فی الآیة 79 من سورة

ص:216

الأسراء: «أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوکِ الشَّمْسِ إِلی غَسَقِ اللَّیْلِ وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ کانَ مَشْهُوداً» ، وهنا نری تصریح القرآن الکریم بنقطة مهمّة جدّاً بحیث إنّ الشخص إذا التفت إلی هذه النقطة فسوف لا یدع صلاة الصّبح تفوته فی أی یوم ولا یخسر تلک المعطیات والبرکات الکثیرة فی حال فوتها ولا یمکن جبران هذه الخسارة بعدها، یقول الباری تعالی فی هذه الآیة: «إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ کانَ مَشْهُوداً» ، أی أنّ صلاة الصّبح وما یقرأ فی هذه الصّلاة من آیات القرآن فی وقت الفجر سیکون مشهوداً، أی یکون مورد النظر والتوجّه والشهادة، ولکن ماذا یعنی هذا الکلام؟ ومن قِبل أی أشخاص یکون مشهوداً؟ ومن هم الأشخاص الذین یشاهدون هذا المصلّی الذی یستیقظ فی أوّل طلوع الفجر ویؤدّی هذه الصّلاة؟

عندما نتصفح الروایات الشریفة الواردة فی هذا الصدد فسوف یتبیّن أنّ صلاة الصّبح مشهودة لملائکة اللّیل والنّهار، فإنّ ملائکة اللّیل سیشهدونها وکذلک الملائکة المختصّون بوقت النّهار، یعنی أنّ صلاة الصّبح هی الصّلاة الوحیدة التی یشهدها طائفتان من الجنود الإلهیین ویسجلونها فی صحفهم ویشهدون علیها ویکتبونها فی صحیفة عمل الإنسان، فالمجموع من الملائکة المأمورین بالإشراف وکتابة أعمال الإنسان فی اللّیل سیشاهدون هذه الصّلاة، وکذلک تلک المجموعة من الملائکة المأمورین بالإشراف علی أعمال هذا الشخص فی وقت النّهار، فإنّهم سیشهدون هذه الصّلاة أیضاً، ومعلوم أنّ هذا المفهوم من تغییر النوبة وتبدیل الملائکة وکیف یحصل هذا التبدیل، وهل أنّ ملائکة اللّیل ستعرج إلی السماء وملائکة النّهار ستنزل وأمثال ذلک، ینبغی بحثها فی محلّها.

ونقرأ فی کتاب «علل الشّرائع» عن سعید بن المسیّب عن الإمام زین العابدین علیه السلام یسأله: «مَتی فُرِضتْ الصَّلاةُ عَلَی المُسلِمِینَ عَلَی مَا هِی الیَوم» أو

ص:217

«عَلی ما هُم الیَوم عَلَیه»، فالسؤال هنا عن أوقات الصّلاة الیومیّة المعینة من الصّبح والظّهر والعصر والمغرب والعشاء ومتی وجبت هذه الصلوات؟

فقال علیه السلام: «بِالمَدِینَةِ حِینَ ظَهَرَتْ الدَّعوَةُ وَقَوی الإِسلامُ»(1).

ص:218


1- (1) علل الشرائع، ج 2، ص 324.

65- صلاة الصّبح مشهودة ملائکة اللّیل والنّهار

«إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ کانَ مَشْهُوداً»

من المسلّم فی علم الفقه، وکذلک من الناحیة التاریخیّة، أنّ الصّلوات الیومیّة الخمس کانت وفی بدایة تشریعها من قِبل اللّه تبارک وتعالی عشر رکعات، والنّبی الأکرم صلی الله علیه و آله بما لدیه من صلاحیة فی التشریع من قِبل اللّه تعالی أضاف إلیها سبع رکعات، فکانت النتیجة سبعة عشر رکعه فی الیوم، فقد اضیف إلی صلاة الظّهر رکعتان وکذلک رکعتان لصلاة العصر ورکعتان لصلاة العشاء ورکعة واحدة لصلاة المغرب.

والنقطة الملفتة للنظر کما ورد فی بعض الروایات فی ذیل هذه الآیة الشریفة، وهی ما ورد فی تفسیر نور الثقلین(1): «فَلمَّا صَلَّی المَغرِبَ بَلَغَهُ مَولِدُ فَاطِمَةَ علیها السلام فَأَضَافَ إِلَیها رَکعَةً شُکرَاً للّهِ عَزَّ وَجَلَّ»، ومنذ ذلک الوقت صارت صلاة المغرب ثلاث رکعات بشکل دائم، فالأصل فیها رکعتان وقام النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله بإضافة

ص:219


1- (1) تفسیر نور الثقلین، ج 3، ص 201.

رکعة واحدة إلیها شکراً للّه تعالی علی ولادة فاطمة الزهراء علیها السلام.

«فَلَمّا أَنْ وُلِدَ الحَسنُ علیه السلام أَضَافَ إِلَیها رَکعَتَینِ شُکراً للّه عَزَّ وَجلَّ، فَلَمّا أَنْ وُلِدَ الحَسینُ علیه السلام أَضَافَ إِلَیها رَکعَتَینِ شُکراً للّه عَزَّ وَجلَّ»، وهکذا یتبیّن لماذا أضاف النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله سبع رکعات للصّلاة الیومیّة.

وجاء فی روایة سعید بن المسیّب عن الإمام زین العابدین علیه السلام: عندما ظَهَرَتْ الدَّعوَةُ وَقَوی الإِسلامُ ووجَبَ الجهاد علی المسلمین: «زَادَ رَسُولُ اللّهِ صلی الله علیه و آله فِی الصّلاةِ سَبْعَ رَکَعاتِ فِی الظُّهرِ رَکعتینَ وَفِی العَصر رَکعتینَ وَفِی المَغربِ رَکعةً وَفِی العِشاءِ الآخِرةِ رَکعتینَ وَأَقَرَّ الفَجرَ عَلَی مَا فُرِضتْ بِمَکَةَ لِتَعجِیلِ عُرُوجِ مَلائِکةِ اللَّیلِ إِلی السَّماءِ وَلِتَعجِیلِ نُزُولِ مَلائِکةِ النَّهارِ إِلی الأَرضِ، فَکانَ مَلائِکَةُ النَّهارِ وَمَلائِکَةُ اللّیلِ یَشْهَدُونَ مَعَ رَسُولُ اللّهِ صلی الله علیه و آله صَلاةَ الفَجرِ، فَلِذَلِکَ قَالَ اللّهُ تَعالی إِنَّ قُرآنَ الفَجرِ کَانَ مَشهُودَاً لِیَشهدهُ المُسلِمُونَ وَلِیَشهَدهُ مَلائِکَةُ النَّهارِ وَمَلائِکةُ اللّیلِ»(1).

وجاء فی روایة أخری: «فَإِذا صَلّی العَیْدُ الصُّبحَ مَعَ طُلُوعِ الفَجرِ أُثبِتَتْ لَهُ مَرَّتَینِ أَثَبتَها مَلائِکةُ اللّیلِ وَمَلائِکةُ النّهارِ»(2). وعلی هذا الأساس إذا التفت الإنسان إلی أهمیّة صلاة الصّبح وما فیها من الخصوصیّة وقدر عظیم فإنّه سوف لا یسمح لنفسه بأن تفوته هذه الصّلاة أبداً.

ص:220


1- (1) علل الشرائع، ج 2، ص 324.
2- (2) . الکافی، المطبعة الإسلامیّة، ج 3، ص 283.

66- لزوم الاهتمام بأداء صلاة الصّبح فی وقتها

«إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ کانَ مَشْهُوداً»

یستفاد من آیات القرآن الکریم أنّ صلاة الصّبح مشهودة ملائکة اللّیل وملائکة النّهار، ویجب علی الإنسان الالتفات إلی هذه الحقیقة وهی أنّ صلاة الصّبح إذا مضی من وقتها ساعة واحدة أو نصف ساعة، وأتی بها المصلّی بعد طلوع الفجر بساعة فسوف لا یترتّب علیها ذلک الأثر وتلک الثمرة الخاصّة، فإذا أراد المؤمن أن تکون صلاته مشهودة لملائکة اللّیل والنّهار فیجب أن یصلّیها فی أوّل طلوع الفجر وعند عروج ملائکة اللّیل إلی السماء فی هذا الوقت ونزول ملائکة النّهار إلی الأرض فی الوقت نفسه أیضاً، وبذلک تشهد له هاتان المجموعتان من الملائکة أنّه صلّی الصّبح لوقتها، وظاهر الروایة أنّ کلّ ما یکتبه الملائکة فی صحیفة أعمال هذا المؤمن له قیمة خاصّة وأثر معین، ولذلک ارجو من الأخوات والإخوة المؤمنین أن یتقیدوا حتماً بصلاة الصّبح ولا یتساهلوا فی الإتیان بها لوقتها، ولیعلموا وجود آثار کبیرة وبرکات کثیرة علی صلاة الصّبح فی أوّل وقتها.

ص:221

وأذکر لکم حکایة فی زمان حیاة آیة اللّه العظمی فاضل اللنکرانی رضوان اللّه علیه، فقد جاء إلیه شیخ کبیر من بلد آذربیجان وقال له عبارة تعجبت منها واقعاً وشعرت بالغبطة له، قال ذلک الشیخ المسن: إنّنی طیلة حکم الاتحاد السوفیاتی المارکسی علی بلد آذربیجان لم تفتنی صلاة الصبح ولا مرّة واحدة، فما أعظم ما یعیشه المؤمن من اللذّة والبهجة بحیث إنّه یری سبعین أو ثمانین سنة من عمره قد مضی وهو الآن یرید أن یقیم أعماله فی تلک المدّة ویری أنّه صلّی طیلة هذه المدّة صلاته علی وقتها ویشکر اللّه تعالی أنّه رزقه هذه النعمة بحیث أتی بواجباته وعباداته کاملة، فلو أنّه غادر الدنیا فی هذه اللحظة فلا توجد صلاة فی ذمّته، ولکن بعض آخر ممن لهم عمر أقلّ عندما ینظرون إلی ماضیهم فسوف یرون أنّ بعض صلاتهم قد فاتت ویجب علیهم الآن أن یبادروا بسرعة إلی قضائها ویؤدّون تکلیفهم الشرعی تجاه هذه الصّلاة، ولا یوکِلون أمرها إلی غد وبعد غدٍ إلی یحین أجلهم وینتهی عمرهم وربّما لا یوفّقون لقضاء تلک الصلوات ولا یعلم بعد الموت أنّ ورثتهم سیبادرون للقضاء عنهم.

ومن هذا المنطلق ینبغی علینا أن نتأمل ونفکّر فی ماضینا، فلو کنّا نحتمل أنّ صلاة قد فاتتنا فیما مضی من عمرنا فیجب علینا المبادرة إلی قضائها، وینبغی أن نتذکر هذه الآیة الشریفة: «إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ کانَ مَشْهُوداً» ، فعندما نرید أن نلجأ فی اللّیل إلی الفراش نسأل اللّه تبارک وتعالی وندعوه: إلهی أنت الذی فرضت علیَّ صلاة الصّبح فأسألک أن توقظنی فی هذا الوقت وتوفّقنی للمشارکة فی محفل الاُنس والنور مع عشّاقک ومحبّیک، وعلیکم باختبار ذلک، فعلماؤنا الأکابر قالوا مرّات عدیدة بأنّه لا یمکن أن یطلب الإنسان من اللّه تعالی فی اللّیل بأن یستیقظ لصلاة الصّبح وحتّی لصلاة اللّیل ولا یوفّق لذلک، فبدلاً من التوصیّة بهذا وذلک أن یوقظنا لصلاة الصّبح، فلنطلب من اللّه والملائکة الإلهیین ذلک، فهؤلاء مستیقظون دائماً ومهتّمون بنا.

ص:222

والآن إذا کنّا نعیش هذا الهاجس وقعاً، فإذا استیقظنا یوماً من النوم فی الصباح الباکر ورأینا أنّه قد مضی علی آذان الفجر نصف ساعة فعلینا أن نقول عجیب لقد ذهبت ملائکة اللّیل ولم تشاهد صلاتنا فی هذا الصباح، فما أعظم هذه الخسارة، ولو أننا أوجدنا فی أنفسنا مثل هذه الحالة فسوف نستیقظ دوماً عند أذان الصّبح للصّلاة والمناجاة مع اللّه تبارک وتعالی، وهکذا یتبیّن لنا معنی هذه الآیة الشریفة وینبغی علینا جمیعاً فهم هذا المعنی وحفظه فی أذهاننا وتکرار هذه الآیة فی حال سیرنا: «إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ کانَ مَشْهُوداً» ، فعندما نستیقظ لصلاة الصّبح ننظر إلی السماء لنری الملائکة الإلهیین، فملائکة اللّیل یعرجون إلی السماء فوجاً فوجاً، وملائکة النّهار ینزلون إلی الأرض مجموعة بعد مجموعة، فیسّلم هذا المصلّی علیهم ویقیم هذا التواصل والارتباط معهم حتّی نعیش هذه الحالة من اللذّة والبهجة فی صلاتنا إن شاء اللّه.

ص:223

67- سرّ أوقات الصّلاة فی جواب النّبی صلی الله علیه و آله للعالم الیهودی

یروی المرحوم الشیخ الصدوق رحمه الله عن أمیرالمؤمنین علیه السلام أنّه قال: «جَاءَ نَفَرٌ مِنَ الیَهودِ إِلی النَّبِیّ صلی الله علیه و آله فَسَأَلَهُ أَعلَمُهُمْ عَنْ مَسائِلَ: أَخبِرنِی عَنِ اللّهِ لأَیِّ شَیءٍ فَرَضَ اللّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الخَمسَ الصَّلواتِ فِی خَمسِ مَواقِیتَ عَلَی أُمَّتِکَ فِی سَاعَاتِ اللَّیلِ والنّهارِ».

«فَقَالَ النَّبیُّ صلی الله علیه و آله: إِنَّ الشَّمسَ عِندَ الزَّوالِ لَها حَلَقَةٌ تَدخُلُ فِیها»، ولعل ذلک إشارة إلی دائرة نصف النّهار عندما تصل الشّمس إلی هذه الدائرة یحین وقت صلاة الظّهر.

«فَإِذا دَخَلَتْ فِیها زَالَتِ الشَمسُ فَیُسبِّحُ کُلُّ شَیءٍ دُونَ العَرشِ بِحَمدِ رِبِّی جَلَّ جَلالُهُ، وَهِی السِّاعةُ الّتی یُصلِّی عَلَیَّ فِیها رَبِّی، فَفَرَضَ اللّهُ عَلَیَّ وَعَلَی أُمَّتِی فِیها الصَّلاةُ وَقَالَ : «أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوکِ الشَّمْسِ إِلی غَسَقِ اللَّیْلِ...»1» ، وهذه هی خصوصیّة صلاة الظّهر ووقت صلاة الظّهر.

ص:224

وعلی هذا الأساس لا ینبغی أن یتصوّر أحد أنّ وقت صلاة الظّهر عبارة عن قسم من الوقت فی مدّة أربع وعشرون ساعة من اللّیل والنّهار قد قسمها اللّه بهذه الصورة، کلّا، ففی جمیع هذه الأوقات توجد حِکم وحقائق خقیّة، ولو أنّ الإنسان علم أنّ وقت صلاة الظّهر وهو وقت الذی صلّی الباری تبارک وتعالی علی نبیّه الکریم صلی الله علیه و آله وأنّ جمیع موجودات العالم تسبّح اللّه تعالی وتقدّسه سیکون هذا الشخص سائراً مع هذا القافلة العظیمة ویجعل نفسه فی بحر هؤلاء المسبّحین للّه ویتحرّک مع قافلة العشّاق والذّاکرین للّه تعالی.

یقول علیه السلام: «وَهِی السَّاعَةُ الَّتِی یُؤتی فِیها بِجَهنّمَ یِومَ القِیامَةِ فَما منْ مؤمنٍ یُوافِقُ تِلکَ السَّاعَةَ أَنْ یَکُونَ ساجِداً أَو رَاکِعاً أَوْ قَائِماً إِلّا حرَّمَ اللّهُ جَسَدَهُ عَلَی النَّارِ».

ص:225

68- سرّ تعیین وقت صلاة العصر

ویتابع أمیرالمؤمنین علیه السلام فی نقله تلک الروایة عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله حیث یتحدّث فیها عن أسرار أوقات الصّلاة، فیقول: «وأَمّا صَلاةُ العَصرِ فَهِی السَّاعَةُ الّتی أَکَلَ آدمُ علیه السلام فِیها مِنَ الشَّجرَةِ فَأَخرَجَهُ اللّهُ عَزَّ وَجلَّ مِنَ الجَنَّةِ».

«فأَمَرَ اللّهُ عَزَّ وَجَلَّ ذُرِّیَّتَهُ بِهذِهِ الصَّلاةِ إِلی یَومِ القِیامَةِ وَاختَارَهَا لأُمَّتِی فَهِی مِنْ أَحبِّ الصَّلَواتِ إِلی اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَوصَانِی أَنْ أَحفَظَها مِنْ بَینِ الصَّلَواتِ».

ویتبیّن من هذا الحدیث الشریف الحکمة فی تعیین وقت صلاة العصر، یعنی أنّ الإنسان فی وقت العصر یجب أن یتذکّر کیف أنّ أبا البشر ارتکب ذلک الترک الأولی وطرد من الجنّة فیجب علی ذریّته وأولاده فی هذا الوقت بإقامتهم لصلاة العصر جبران تلک النقیصة والخطیئة وإبعاد أنفسهم عن آثارها السلبیّة، ومن هذه الجهة کانت صلاة العصر أحبّ الصّلوات عند اللّه تبارک وتعالی، یعنی أننا نرید فی وقت صلاة العصر أن نقول للّه تعالی، إذا ارتکب آدم تلک المعصیة وترک الأولی فنحن بصلاتنا فی هذا الوقت نعلن اطاعتنا وعبودیّتنا وانقیادنا لک ونمتثل

ص:226

أوامرک، ولو أنّ آدم صدر منه ذلک الخطأ فنحن نعلن بعبادتنا وصلاتنا هذه أننا لا نرید أن نخالف أوامرک ونعصیک، یعنی أنّ صلاة العصر هذه تتلوّن بلون خاصّ وتعتبر امتثالاً مضاعفاً، فنفس الصّلاة تعتبر امتثالاً لأمر اللّه وطاعة له، ومع الالتفات إلی الواقعة التاریخیّة فیما یتّصل بآدم ومخالفته للأمر الإلهی، فنحن ذریّة آدم نرید من إقامتنا صلاة العصر، مضافاً إلی امتثال الأمر الإلهی، نقول للّه تبارک وتعالی: إلهنا نحن لا نرید أن نرتکب ذلک الخطأ ولا نرید الخروج عن دائرة الانقیاد والطاعة والعبودیّة لک.

ص:227

69- سرّ تعیین وقت صلاة المغرب والعشاء

علمنا من الروایة الواردة عن أمیرالمؤمنین علیه السلام فیما یتّصل بصلاة المغرب أنّ اللّه تبارک وتعالی قبل فی هذا الوقت توبة آدم، وأساساً فإنّ نفس تذکّر هذه الواقعة فی هذا الوقت وأنّ توبة جدّنا آدم أبوالبشر ذلک النبیّ الکبیر، یوحی لنا بأن نتحرّک نحو التوبة والإنابة إلی اللّه، ومن هذه الجهة تکون لصلاتنا حقیقة أخری بوصفها توبة عملیّة إلی اللّه بالرغم من أنّ کلّ صلاة فی حقیقتها توبة وإنابة إلی اللّه، ولکن بخصوص وقت صلاة المغرب عندما یتذکّر الإنسان هذه الخصوصیّة فی هذا الواقعة فإنّه یتحرّک عملاً نحو التوبة، إنّ توبة آدم کانت بهذا الشکل أیضاً فقد صلّی آدم ثلاثه رکعات، رکعة واحدة بسبب الخطیئة التی ارتکبها، والرکعة الثانیة بسبب خطیئة حواء، والرکعة الثالثة بوصفها توبة إلی اللّه من هذه الخطیئة.

«فَفَرَضُ اللّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الثَّلاتَ رَکَعاتٍ عَلَی أُمَّتِی»، وقد ورد فی بعض الروایات الأخری أنّ الرکعة الثالثة أضافها النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله عندما بشّروه بولادة فاطمة الزهراء علیها السلام، ولا تنافی بین هذه الأخبار، فربّما صلّی آدم علیه السلام هذه الرکعات

ص:228

الثلاث، ثمّ إن اللّه تعالی جعلها رکعتین علی امّة النبیّ صلی الله علیه و آله تخفیفاً لهم، لأنّ اللّه تعالی علم أنّ النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله سیضیف إلیها رکعة ثالثة، کفرض علی المسلمین، ولذلک تنطبق هذه الرکعة الثالثة بوصفها توبة آدم وکذلک بوصفها شکراً للّه علی ولادة فاطمة الزهراء علیها السلام ولا إشکال من هذه الجهة.

والنقطة المهمّة جدّاً فی هذا المورد أنّ النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله قال: «وَهِی السَّاعَةُ الَّتِی یُستَجابُ فِیها الدُّعاءُ فَوَعَدَنِی رَبِّی عَزّ وَجَلَّ أَنْ یَستَجیبَ لِمَنْ دَِعاهُ فِیها»،، ولیس فقط یستجاب دعاء النبیّ صلی الله علیه و آله، بل یستجاب لکلّ شخص إذا دعا اللّه تعالی فی وقت المغرب، فصلاة المغرب هی الصّلاة التی قال اللّه تعالی عنها فی الآیة الشریفة: «فَسُبْحانَ اللّهِ حِینَ تُمْسُونَ وَ حِینَ تُصْبِحُونَ»1 ، وتقول الروایة: «وَهِی الصَّلاةُ الَّتِی أَمَرَنی رَبِّی بِها فِی قَولِهِ تَبَارَکَ وَتَعالَی «فَسُبْحانَ اللّهِ حِینَ تُمْسُونَ وَ حِینَ تُصْبِحُونَ».

ونتابع قوله علیه السلام: «وَأَمَّا صَلاةُ العِشاءِ الآخِرِ فَإِنَّ للقَبرَ ظُلمَةٌ وَلِیَومِ القِیامَةِ ظُلمَةٌ»، ومن هذه الجهة أمر اللّه تعالی بصلاة العشاء لتنیر قبرنا وتزیل الظلمة عنّا فی هذا الموقف العصیب، هذه بعض النقاط التی ینبغی أن یستحضرها الإنسان فی صلاته، وإن کانت نیّتة فی الصّلاة هی الطاعة للّه تبارک وتعالی وامتثالاً لأمره، ولکننا نعلم أنّ مصداق هذه الإطاعة والامتثال من شأنه إزاحة ظلمة القبر وظلمة المحشر فی یوم القیامة.

«أَمَرَنِی رَبِّی عَزَّ وَجَلَّ بِهَذِهِ الصَّلاةِ لِتُنوِّرَ القَبرَ وَلِیُعطِینِی وَأُمَّتِی النُّورَ عَلَی الصِّراطِ»، والآن مع الالتفات إلی هذه الخصوصیّات الواردة فی هذه الصّلاة، هل نسمح لأنفسنا بأن نضیّع صلاة عشاءنا أو نصلّیها دون حضور القلب ونخسر بذلک کلّ هذه البرکات المثوبات؟!

ص:229

«َمَا مِنْ قَدَمٍ مَشَتْ إِلی صَلاةِ العَتمَةِ إِلّا حَرَمَ اللّهُ عَزَّ وَجَلَّ جَسَدَهُ عَلَی النَّارِ وَ هِی الصَّلاةُ الّتی اختَارها اللّهُ تَعالی وَتَقَدَّسَ ذِکرُهُ لِلمُرسَلِینَ قَبلِی».

ومن هذا یتبیّن أنّ تعیین أوقات الصّلاة له جهة خاصّة فی کلّ صلاة، فصلاة الصّبح مشهودة للملائکة ووقتها من طلوع الفجر حیث یجتمع فی هذا الوقت ملائکة اللیل وملائکة النهار ویشهدون لهذا المصلّی بصلاة الفجر، وصلاة الظّهر عند ما یصلّی الباری تعالی علی النبیّ وتسبّح بحمده جمیع الموجودات والکائنات، وصلاة العصر عندما ارتکب النبیّ آدم علیه السلام تلک الخطیئة وترک الأولی وتاب منها، وصلاة المغرب هو الوقت الذی قبلت فیه توبة آدم، ووقت صلاة العشاء یذکرنا بظلمة القبر والقیامة، وصلاة العشاء من شأنها أن تدفع هذه الظلمة عنّا فی تلک المواقف العصیبة.

نسأل اللّه تعالی أن یوفّقنا جمیعاً أن نکون من المصلّین الحقیقیین إن شاء اللّه.

ص:230

70- عقوبة عدم الاهتمام بوقت الصّلاة

إنّ الدقّة والتمعّن فی الآیات الشریفة من سورة الماعون یبیّن لنا ضرورة وأهمیّة التوجّه والاهتمام أکثر لوقت الصّلاة، فنقرأ فی آیات هذه السورة الشریفة: «فَوَیْلٌ لِلْمُصَلِّینَ * اَلَّذِینَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ»1 ، وهکذا نری أنّ اللّه تبارک وتعالی فی هذه الآیة الشریفة فی مقام التهدید العظیم والشدید لمصلّی الذی یصلّی وهو یعیش الغفلة عن ذکر اللّه وعن الصّلاة، فالویل إمّا یعنی العذاب الشدید، أو المکان الذی فیه عذاب شدید، وقبل هذه الآیة الشریفة یقول تبارک وتعالی: «أَ رَأَیْتَ الَّذِی یُکَذِّبُ بِالدِّینِ * فَذلِکَ الَّذِی یَدُعُّ الْیَتِیمَ * وَ لا یَحُضُّ عَلی طَعامِ الْمِسْکِینِ»2 ، حیث ذکر الکثیر من المفسّرین فی هذا المقام أنّ هذه الآیة: «فَوَیْلٌ لِلْمُصَلِّینَ» ، ترتبط بما قبلها من الآیات فی حین أنّ اللّه تبارک وتعالی بعد أن یقرّر فی أوّل السورة تکذیب المکذبین بیوم القیامة والأشخاص الذین یهینون الیتیم ویحرمون

ص:231

المساکین من الطعام ویهددهم بأنواع العذاب الشدید، ثمّ یبیّن مسألة جدیدة ومستقلة، وهذا بذاته یحکی عن أهمیّة هذه المسألة، ویری المحقّقون فی علوم القرآن أنّ الآیات الاُولی من سورة الماعون مکیّة، ومن قول: «فَوَیْلٌ لِلْمُصَلِّینَ»

إلی آخر السورة مدنیّة، وفیها یقول: «اَلَّذِینَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ» ، یعنی الأشخاص الذین یتساهلون بصلاتهم ولا یهتمّون بأدائها علی وجهها ولا یحفظون أوقاتها یؤخّرونها عن وقتها المقرّر، وعندما یسمعون صوت الأذات فی أوّل الوقت یقولون فی أنفسهم: نحن مشغولون فعلاً بعمل أهمّ وسوف نصلّی بعد ذلک ولا یلتفتون إلی وقت الصّلاة، وهؤلاء إمّا أن یؤخّروا صلاتهم عن أوّل وقتها، أو لا سمح اللّه یترکون الصّلاة ویقولون سوف نقضی هذه الصّلاة فیما بعد وفی خارج الوقت، فی حین یجب أن نلتفت إلی هذه الحقیقة وهی أنّ الشخص إذا أخّر صلاته عمداً وصلّاها خارج الوقت ولو علی شکل قضاء الصّلاة، ولکنّه فی هذا العمل قد ارتکب معصیة کبیرة، والآیة الشریفة تقول: «اَلَّذِینَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ» ، ولم تقل الذین هم یتساهلون أثناء الصّلاة، بل قالت: الذین یسهون فی صلاتهم، والسهو عن الصّلاة یعنی ترک الصّلاة فی أوّل الوقت أو ترک الصّلاة فی أصل الوقت، أو أساساً لا سمح اللّه ترک الصّلاة کلیّاً فی بعض الأیّام وفی بعض المناسبات ویقول: الآن توجد حفلة أو یوجد عرس ولا مجال لأداء الصّلاة فی هذا الوقت، وسوف أقضی هذه الصّلاة بعد ذلک.

وهکذا ترون أنّ اللّه تبارک وتعالی یقول فی هذه الآیة الشریفة: «اَلَّذِینَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ» ، الذین یتعاملون مع صلاتهم بهذه الصورة، وللأسف أنّ بعض الأشخاص من المسلمین والمؤمنین یؤخّرون صلاتهم أحیاناً عن أوّل الوقت وفی الغالب یعیشون حالة اللامبالاة فی أوقات الصّلاة ولا یهتمّون بوقت الصّلاة، فهذه الآیة الشریفة من سورة الماعون یجب توضع أمام أعیننا، لئلا نکون نحن

ص:232

مشمولین هذه الآیة الشریفة ونحن فی حال الصّلاة ویقال لنا: «فَوَیْلٌ لِلْمُصَلِّینَ * اَلَّذِینَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ» ، وطبعاً هناک نقاط تفسیریّة دقیقة أخری فی هذه الآیة الشریفة لیس هنا مجال لبیانها.

وعلی هذا الأساس یجب علی المسلمین، وبخاصّة الشیعة وأتباع أهل البیت علیهم السلام، الالتفات إلی أنّ أحد الامتیازات وخصوصیّات الشیعة أن یکونوا محافظین علی أوقات الصّلاة ویجب علیهم الاهتمام بها وبأوقاتها.

یقول الإمام الصادق علیه السلام: «إِنَّ فَضْلَ الوَقتِ الأِوّلِ عَلَی الآخِرِ کَفَضلِ الآخِرةِ عَلَی الدُّنیا»(1).

ص:233


1- (1) الکافی، المطبعة الإسلامیّة، ج 3، ص 274.

ص:234

الباب الرابع: سرّ استقبال القبلة التوجّه إلیها فی الصّلاة

اشارة

ص:235

ص:236

71- لزوم التوجّه إلی الکعبة

من البحوث التی یجب التوجّه إلیها فی بحث أسرار الصّلاة، مسألة القبلة ووجوب استقبال المصلّی للکعبة فی صلاته، فأحد شروط صحّة الصّلاة أنّ المصلّی یجب أن یتوجّه فی صلاته إلی الکعبة بحیث إنّه إذا انحرف متعمداً ولو بمقدار قلیل عن جهة الکعبة فإنّ ذلک من شأنه إحداث خلل فی صحّة صلاته، والنقطة المهمّة هنا: ما هو السرّ فی استقبال المصلّی للکعبة؟ لأننا من جهة نقرأ فی الآیات القرآنیّة الشریفة: «لِلّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ فَأَیْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ...»1 ، فإذا کان الحال کذلک وأنّ اللّه تعالی موجود فی کلّ مکان ولا توجد أی جهة من جهات العالم یمکن القول إنّ اللّه تبارک وتعالی لیس بحاضر فیها، فلا یمکن القول إنّ اللّه تعالی موجود فی السماء لا فی الأرض، ولا یمکن القول إنّ اللّه تعالی موجود فی الکعبة لا فی مکان آخر، والعقل یؤید هذا المعنی أیضاً ویحکم بأنّ ذلک الموجود الذی خلق جمیع ما فی هذا العالم وجمیع الکائنات لابدّ أن تکون

ص:237

له الإحاطة القیومیّة بجمیع هذه الکائنات والمخلوقات، ویجب أن یکون حاضراً فی کلّ مکان ولا یمکن عقلاً أن نتصوّر مکان یخلو من وجود اللّه تبارک وتعالی.

ومع الالتفات إلی هذه الحقیقة فلماذا یجب علینا التوجّه إلی الکعبة فی الصّلاة؟ ما هو السرّ فی المسألة، بحیث إنّ المصلّی لو لم یتوجّه فی صلاته إلی الکعبة فإنّ هذه الصّلاة لا تقع مقبولة من اللّه تعالی حتّی لو صلّی جمیع سنوات عمره إلی الجهات الأخری؟

ولتوضیح المسألة یجب بدایة ذکر مقدّمة، فأساساً أنّ التوجّه للکعبة لا یختصّ بالصّلاة، فلو تصفحنا الکتب الفقهیّة والمتون الروائیّة فسوف نری الکثیر من الأمور التی یجب فیها التوجّه إلی الکعبة، فذبح القربان لا یکون حلالاً ومذکی لو لم یتمّ استقبال القبلة فی ذبحه، وکذلک یستحب أن یمدّد المحتضر نحو القبلة، وعندما یدفن المیّت یجب أن یکون وجهه نحو القبلة، فحتّی فی الجلوس العادی فالأفضل أن یجلس الإنسان مستقبلاً القبلة، وقد ورد فی خصوصیّات النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله عن الإمام الصّادق علیه السلام أنّه قال: «کَانَ رَسُولُ اللّهِ صلی الله علیه و آله أَکثَرُ مَا یَجلِسُ تَجَاهَ القِبلَةِ»(1).

وکذلک روی حمّاد بن عثمان: «رَأَیتُ أَبَا عَبدِللّهِ علیه السلام یَجلِسُ فِی بَیتِهِ عِنْدَ بَابِ بَیتِهِ قُبالَةَ الکَعبَةِ»(2).

وقد ورد فی روایات أیضاً فی باب الزراعة: «إِذَا أَرَدتَ أَنْ تَزرَعَ زَرْعاً فَخُذْ قَبضَةً مِنْ البَذرِ وَاستَقبِلْ القِبلَةَ، وَقُلْ : «أَ فَرَأَیْتُمْ ما تَحْرُثُونَ * أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ»3»4 ، ثمّ قلْ ثلاث مرّات: «اللّه الزّارع»، إذن فمسألة استقبال القبلة لا

ص:238


1- (1) الکافی، المطبعة الإسلامیّة، ج 2، ص 661.
2- (2) المصدر السابق، ص 662.

تختصّ بالصّلاة بل تشمل حالات وأمور أخری أیضاً، وهذا یبیّن وجود سرّ وحقیقة کامنة فی الکعبة المشرّفة بحیث إنّ الناس ینبغی علیهم استقبال القبلة فی الکثیر من أمورهم والتوجّه إلیها.

ص:239

72- سرّ أهمیّة الکعبة وجعلها القبلة للمسلمین

تقدّم أنّ التوجّه نحو القبلة لا یختصّ بحال الصّلاة بل موجود فی أمور کثیرة کذبح القربان، والزراعة وحتّی الجلوس العادی، فإنّ مسألة استقبال القبلة مذکور فی هذه الموارد، بل قد ورد فی الروایات الشریفة أنّ أحد شروط استجابة الدعاء أنّ الإنسان یتوجّه نحو القبلة ویدعو اللّه تبارک وتعالی، یقول صفوان الجمّال:

«شَهِدتُ أَبَاعَبدِاللّهِ علیه السلام وَاستَقبَلَ القِبلَةَ فِی التَّکبِیر، وَقَالَ: اللّهُمَّ لاتُؤْیسِنی مِنْ رَوحِکَ وَلا تُقنِّطنِی مِنْ رَحمَتِکَ وَلا تُؤمِنِّی مَکْرَکَ»(1)، وحتّی فی مورد النسوة اللاتی لهنّ عذر شرعی فی عدم الصّلاة فإنّه یستحب لهنّ الوضوء والجلوس فی مجالس الصّلاة وهو المحلّ الذی یقمن فیه الصّلاة ویجلسن باتجاه القبلة ویذکرن اللّه تعالی بمقدار ما تستغرقه الصّلاة، إذن فقد تبیّن أنّ استقبال القبلة لا یختصّ بحال الصّلاة ومن هذه الجهة یجب علینا الفات النظر والذهن إلی هذه النقطة، وهی: ما هی خصوصیّة الکعبة، وماذا تمثّل من رمز، وما هی الحقیقة الکامنة فیها؟ وبحسب تعبیر الإمام الخمینی رضوان اللّه علیه فی کتابه «سرّ

ص:240


1- (1) . الکافی، المطبعة الإسلامیّة، ج 2، ص 544.

الصّلاة»: إنّ الکعبة امّ القُری ومرکز بسط الأرض(1).

وقد ورد فی روایة عن النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله أنّه قال: «سُمِّیَتِ الکَعبةُ کَعبَةً لأَنّها وَسَطُ الدُّنیا»(2)، أی أنّ الکعبة مرکز ثقل العالم، وأوّل نقطة ظهرت من الماء بعد حادثة الطوفان وسفینة النبیّ نوح علیه السلام هی الکعبة، والقرآن الکریم یقرّر هذه الحقیقة فی سورة النازعات ویقول: «وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِکَ دَحاها»3 ، ممّا یفید مرکزیّة الکعبة للعالم، وبالإمکان القول إنّ الکعبة وجه اللّه تبارک وتعالی فی هذا العالم الأرضی.

یقول المرحوم المیرزا جواد الملکی التبریری رضوان اللّه علیه: إنّ اللّه تعالی له فی کلّ العالم وجه بالنسبة لأهل ذلک العالم، وفی عالم الدنیا فإنّ وجه اللّه بالنسبة لأهل الأرض هو الکعبة المعظمة، یعنی أنّ اللّه تعالی قرر بأنّ الأشخاص الذین یریدون التوجّه إلی اللّه تبارک وتعالی من سکان الأرض فعلیهم التوجّه نحو الکعبة، فنحن عندما نتوجّه نحو الکعبة فهذا یعنی أنّ توجّهنا منحصر فقط نحو اللّه تبارک وتعالی لا إلی غیره من الأشیاء، فوجه اللّه لا یعنی القول إنّ اللّه تعالی لو وجه ظاهری، بل الوجه هنا یعنی المظهر الذی بواسطته یتوجّه الإنسان نحو الحقّ رغم أنّ اللّه تعالی محیط بالإنسان فی جمیع الحالات وأنّ الإنسان یستطیع التواصل معه ومناجاته فی کلّ حال، ولکن فی حال الصّلاة وبما أنّ وجه اللّه فی الأرض یتمثّل فی الکعبة المعظمة، فالمصلّی یجب علیه فی هذا المورد التوجّه نحو القبلة.

علی هذا الأساس یجب علی المصلّی فی جمیع الحالات، سواءً فی حال الوقوف أو الجلوس أو حتی لو اضطر إلی الصّلاة بحال الاضطجاع أن یستقبل الکعبة المعظمة ویتوجّه نحوها.

ص:241


1- (1) سرّ الصّلاة (معراج السالکین)، ص 65.
2- (2) . من لا یحضره الفقیه، ج 2، ص 190.

73- القبلة والأمن المعنوی

یقول الإمام الصادق علیه السلام: «کَانَ أَمِیرُ المُؤمِنِینَ صَلواتُ اللّهِ عَلَیهِ َِذَا أَهَلَّ هِلالُ شَهْرُ رَمَضانَ أَقبَلَ إِلَی القِبلَةِ».(1)

نستنتج ممّا تقدّم من لزوم رعایة استقبال القبلة فی الاتیان بالأمور المهمّة، أنّ للکعبة المشرفة رمزاً وسرّاً خاصّاً، فما هو هذا السرّ؟ وقد ورد فی بعض الروایات أنّ القبلة عنوان الأمن للناس، یقول أمیرالمؤمنین علیه السلام: «لا یَجُوزُ للرَّجُلِ أَنْ یُصَلِّی وَبَینَ یَدَیهِ سَیفٌ لأَنَّ القِبلَةَ أَمْنٌ»(2)، أی أنّ الکعبة هی محلّ الأمن الإلهی، ومن خلال التدقیق فی هذه العبارة نستوحی أنّ الوقوف فی مقابل القبلة واستقبال الکعبة المشرفة یمنح المؤمن حال من الأمن الروحی والمعنوی، یعنی کما أنّ اللّه تبارک وتعالی جعل من محیط الکعبة ومکّة المکرمة حرماً للأمن الإلهی، وهذا الأمن لا یختصّ بالشخص الذی یدخل إلی ذلک المکان المشرّف

ص:242


1- (1) الکافی، المطبعة الإسلامیّة، ج 4، ص 74.
2- (2) . من لا یحضره الفقیه، ج 1، ص 250.

بل یوجد أمن فوق هذا الأمن الظاهری، فالإنسان عندما یتوجّه إلی القبلة فإنّ اللّه تبارک وتعالی یجعل له حالة من الأمن لا تتوفّر لو توجّه نحو الجهات الأخری، رغم أنّ اللّه تعالی موجود فی جمیع الجهات الأخری، ولکن هذه الحالة من الأمن الخاصّة لم تتعلّق مشیئة الباری تعالی فی الجهات الأخری، وبحسب هذه الروایة فإنّ المصلّی یجب أن یعتقد بأنّه واقف فی حرم الأمن الإلهی بحیث لا یصحّ منه وضع سیف أمامه للدفاع عن نفسه، وهذا الحدیث الشریف یفید قطعاً وجود حالة من الأمن المعنوی والباطنی، یعنی أنّ الإنسان الذی یستقبل القبلة فإنّ فکره وقلبه وعقله ونفسه تکون بعیدة عن أجواء الضلالة ووساوس الشیطان والأفکار الباطلة، یعنی أنّ اللّه تعالی یتدخل فی هذه الحالة ویقید الشیطان فی سلطته علی هذا المؤمن.

إنّ اللّه تبارک وتعالی، کما یقید أیدی وأرجل الشیطان فی شهر رمضان، فعندما یقف المصلّی ویستقبل القبلة فإنّ حالة من الأمن ستشمله ویبتعد عنه الشیطان، فمن هذه الجهة ورد فی بعض الروایات عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله: «إِذا قَامَ العَبدُ إِلی الصَّلاةِ فَکَانَ هَوَاهُ وَقَلبَةُ إِلی اللّهِ تَعالی انصَرفَ کَیومِ وَلَدَتْهُ أُمِّهُ»(1)، وهذا یعنی أنّ استقبال المصلّی بظاهر بدنه نحو القبلة یعتبر مقدّمة لاستقبال وجه باطنه یعنی قلبه وروحه نحو اللّه تبارک وتعالی، کما ورد من قوله علیه السلام أنّ الکعبة أمن، یعنی أنّ اللّه تبارک وتعالی یحفظ المصلّی فی هذه الحال ویبعد عنه لوث الشیطان والأفکار الباطلة، ولا یسمح أن یتورط هذا المصلّی بوحل الوساوس الشیطانیّة والنوازع النفسانیّة، وهکذا نری أنّ اللّه تعالی یوفّر جمیع الشروط والظروف المناسبة لکی یتوجّه هذا العبد نحوه ویتواصل مع ربّه بالمناجاة والعبادة، فهذه إحدی النقاط المهمّة التی ینبغی الالتفات إلیها فی باب استقبال القبلة.

ص:243


1- (1) . بحار الأنوار، طبعة بیروت، ج 81، ص 261.

74- تناسب الظاهر والباطن فی التوجّه إلی اللّه

فی مقام الجواب عن هذا السؤال لماذا یتوجّه المصلّی فی صلاته نحو الکعبة المشرّفة؟ وما هی الحکمة والسرّ فی شرطیّة استقبال القبلة للمصلّی؟ یقول الشهید الثانی أعلی اللّه مقامه الشریف(1): «أمّا الاستقبال فهو صرف لظاهر وجهک عن سائر الجهات إلی جهة بیت اللّه تعالی»، وهذا یعنی أنّ هذا المصلّی یرید أن یخاطب اللّه تبارک وتعالی ویقول: إلهی لقد أعرضت عن الدنیا وما فیها وأعرضت عن کلّ ما لیس له صبغتک ولونک، واُرید أن أتوجّه بکلّ وجودی فی الظاهر والباطن نحوک، فلو أنّ المصلّی التفت إلی هذا المعنی فسوف یؤثر ذلک قطعاً فی نیّة صلاته، وستکون هذه الصّلاة أکثر خلوصاً ومعنویة وحیویة، ولذلک ورد فی الروایات أنّه یجب أن تکونوا فی الصّلاة بحیث إنّکم ترون اللّه، فإنّ لم تکونوا ترونه فإنّه یراکم.

ثمّ یقول الشهید الثانی قدس سره: «أفتری أن صرف القلب عن سائر الأمور إلی أمر اللّه

ص:244


1- (1) . التنبیهات العلیّة، ص 105.

تعالی لیس مطلوباً منک»، وکما أنّ القلب یعدّ حرم اللّه ولا یجوز أن یسکن فیه غیر اللّه تعالی ولا یتوجّه إلی غیره فبدنک الظاهری أیضاً یجب أن یتوجّه نحو اللّه تعالی، وهکذا نستنتج أنّ الأمر الإلهی باستقبال والتوجّه نحو الکعبة فی الصّلاة یجب أن تکون هناک رابطة وعلاقة بین هذا الظاهر وبین الباطن، بحیث إنّ الإنسان عندما یتوجّه بظاهره نحو اللّه تعالی فإنّ قلبه لا محالة سیتوجّه نحو اللّه أیضاً، فعندما یتوجّه قلبه، فإنّ ظاهره لا محالة سیبتعد عن غیر اللّه ویتوجّه نحو الباری تعالی رغم أنّ علماءنا الکبار غالباً ذکروا فی کتبهم الأخلاقیّة والعرفانیّة أنّ الظاهر هو طریق إلی الباطن، کما هو الحال فی مسألة استقبال القبلة والتوجّه نحو الکعبة المشرّفة، وبحسب ما ورد فی بعض الروایات أنّ ما یقابل الکعبة فی السماء الرابعة هو البیت المعمور، وهو محل طواف الملائکة، والبیت المعمور بدوره یقع بإزاد عرش اللّه تبارک وتعالی، وهذا الارتباط العمیق من الأرض إلی السماوات یعکس وجود هذا الارتباط بین هذا الظاهر وذلک الباطن.

لا ینبغی أن نتصوّر أنّ الکعبة مجرّد بناء متشکل من أحجار وضعها النبیّ إبراهیم علیه السلام فی ذلک المکان وبالإمکان أیضاً أن یضعها فی مکان آخر، ولکنّه اتّفق أن وضعها فی مکّة، أی بمعنی أنّ مکان الکعبة هو أمر اعتباری، کلّا، فثمّة أسرار کثیرة فی الکعبة ومکانها، فقد ورد فی الروایات أنّه یستحب النظر إلی الکعبة، فعندما یجلس الإنسان فی المسجد الحرام فیستحبّ له النظر إلی الکعبة وکلّما نظر إلی الکعبة أکثر ازداد ثوابه، وهذا بسبب أنّ ظاهر الکعبة لیس هو المقصود بل یجب أن یکون معلوماً أنّ البیت المعمور یقع فی السماء بمحاذاة الکعبة، والبیت المعمور بدوره یقع بمحاذاة العرش الإلهی، یعنی أنّ سرّ الکعبة هو البیت المعمور، وسرّ البیت المعمور هو عرش اللّه تبارک وتعالی، إذن فعندما نقف اتجاه القبلة ونعرض بوجهنا عن کلّ ما سوی اللّه تعالی ونتوجّه إلی حقیقة واحدة یعنی اللّه تبارک وتعالی، فهذا یعنی أنّ ظاهر الإنسان سیتلوّن وبصطبغ بصبغة إلهیّة أیصاً.

ص:245

75- الصورة الباطنیّة لعدم التوجّه إلی اللّه فی الصّلاة

تبیّن لحدّ الآن، کما یجب أن یکون قلب المصلّی متوجّهاً نحو اللّه تعالی فإنّ ظاهره وجوارحه یجب أن تکون متوجّهة نحو وجه اللّه وهو الکعبة المشرّفة، وأحد آثار توجّه المصلّی نحو الکعبة أو یفهم نفسه ویوحی لقلبه أنّ هذا القلب یجب أن یکون فقط وفقط ذاکراً للّه تعالی ویعیش أجواء عظمته وقدرته، فلو أنّ الشخص توجّه إلی الکعبة واستقبل القبلة فی صلاته ولکن قلبه کان یمیل نحو غیر اللّه، فهذا یعنی أکبر استهزاء باللّه تعالی، فلو أنّک بحسب الظاهر تنظر إلی شخص معیّن وبدأت بالحدیث معه ولکنّ قلبک وحواسک فی مکان آخر، أو بالعکس لو کنت عارفاً بأنّ الشخص الذی یقف فی مقابلک ویتحدّث معک فإنّ قلبه وفکره فی محلّ آخر فماذا یکون حالک؟ لا ینبغی أن یکون ظاهرنا وبدننا متوجّهاً نحو القبلة ولکن قلبنا غیر متوجّه نحو اللّه ونفکر فی أمور أخری.

وقد ورد فی الحدیث عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله أنّه قال: «أَمَا یَخَافُ الّذی یُحَوِّلُ وَجهَهُ فِی الصَّلاةِ أَنْ یُحوِّلَ اللّهُ وَجهَهُ وَجهَ حِمارٍ»(1)، فمثل هذا الشخص الذی یفکّر فی

ص:246


1- (1) . بحار الأنوار، طبعة بیروت، ج 81، ص 211.

صلاته بالأمور الدنیویّة وینشغل قلبه بمتاع الدنیا وزخارفها علیه أن یخاف أن یبدّل اللّه وجهه وجه حمار. یجب علینا التأمّل والدقّة فی هذه الروایة الشریفة ونستخلص منها نقاط مهمّة، فلماذا عبّر النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله أنّ مثل هذا الشخص ربّما قیافته وملامحه علی شکل الحمار، ربّما یکون المعنی أنّ الشخص الذی یتوجّه نحو اللّه ببدنه ولکن قلبه وفکره یعیش فی مکان آخر، فإنّ أحد آثار هذه الحالة أنّ اللّه تبارک وتعالی سیقلل من عقله إلی درجة أنّه یکون فی قلّة العقل کالحمار، ومن البعید جدّاً أن یکون مقصود النبیّ صلی الله علیه و آله أنّ اللّه تعالی یحوّل وجهه الظاهری والبدنی لهذا الشخص إلی وجه حمار بالمعنی الظاهری، بل یقول إنّ الصورة الباطنیّة لهذا الشخص یکون حالها حال الصورة الباطنیّة للحمار، لأنّ الحمار یعدّ من بین الحیوانات أقلّها عقلاً وذکاءً، وطبعاً ثمّة احتمال آخر فی مورد هذه الروایة، وهو أنّ هذه الحقیقة المذکورة فی هذا الحدیث تتعلّق بالشخص الذی یحوّل وجهه فی صلاته من هذه الجهة إلی تلک باستمرار، ولکن الاحتمال الصحیح هو الاحتمال السابق.

إذن لابدّ أن نلتفت إلی أننا عندما نقف للصّلاة، فکما أننا نستقبل القبلة بأبداننا فینبغی أن نفکر بعظمة اللّه تبارک وتعالی ونعیش أجواء الخضوع والخشوع القلبی للّه، وذلک بأن یکون قلبنا أیضاً متوجّهاً للکعبة ویری البیت المعمور وعرش اللّه تعالی لتکون صلاتنا مفعمة بالروح المعنویّة والملکوتیّة إن شاء اللّه.

ص:247

76- خصوصیّات الکعبة

قلنا إنّ التوجّه للکعبة المشرّفة باستقبال القبلة لا یختصّ بحال الصّلاة، بل هو وارد فی الکثیر من الأمور المعنویّة والدینویّة، سواءً کان بنحو الالزام والوجوب، أم بنحو الاستحباب والندب، وسبق أن استعرضنا روایة تقرّر أنّ استقبال القبلة یوجب للإنسان الشعور بالأمن، قد وردت نقطة أخری فی الروایات أیضاً، وهی أنّ الکعبة: «أَوَّلَ رَحمَةٍ وُضِعَتْ عَلَی وَجهِ الأَرضِ فَجَعَلَهُ اللّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمناً»(1)، ولذلک ورد استحباب الصیام فی یوم دحو الأرض وهو الیوم الخامس والعشرون من ذی القعدة، وثواب الصوم فیه بمقدار سبعین سنة من الصیام، ودحو الأرض هو الیوم الذی ظهرت فیه الکعبة فی حادثة الطوفان، یعنی ذلک القسم من الأرض الذی خرج من سطح الماء ثمّ بدأ بالتوسع والامتداد، وهذه الخصوصیّات للکعبة تلفت أنظارنا أکثر إلی عظمة الکعبة، وقد ورد فی روایة عن الإمام الباقر علیه السلام، وذلک عندما ینسب اللّه تعالی الکعبة إلی نفسه ویقول: «بیتی»،

ص:248


1- (1) . الکافی، ج 4، ص 149.

وهذا الانتساب یعکس عظمة هذا المکان الشریف وجلالة قدره.

والإنسان من بین جمیع الموجودات یفکر بأنّ اللّه تعالی قال فی حقّه:

«وَ نَفَخْتُ فِیهِ مِنْ رُوحِی...»1 ، فجمیع ما لدی الإنسان من سمّو وعظمة وکرامة بسبب هذه النسبة الإلهیّة أی بسبب نفخ الروح الإلهی فی هذا الإنسان وبذلک ینتسب إلی الحقّ تبارک وتعالی ویملک من هذه الجهة صلاحیة ولیاقة الخلافة الإلهیّة، وهذه النسبة لا نجدها فی غیر الإنسان من الجمادات سوی فی الکعبة حیث نسبها اللّه تعالی إلی نفسه وقال: «بیتی».

ونحن عندما نقف مستقبلین هذا البیت الحرام فنجد أنفسنا متوجّهین فی مسار آخر یختلف عن المسارات الدینویّة فی العالم، فنحن نقف حینها أمام عظمة الباری تعالی ونتوجّه إلی بیته الحرام، یجب أن نلتفت إلی أنّ هذه الحالة من شأنها أن تقرب الإنسان أکثر من الباری تعالی وتهییء نفسه لمناجاته ودعائه.

یقول الإمام الصادق علیه السلام فی روایة(1): «إِذَا إِستَقبَلتَ القِبلَةَ فَآیس مِنَ الدُّنیا وَمَا فِیها وَالخَلَقَ وَمَا هُمْ فِیهِ»، وکلّ هذه العظمة والمعطیات الجلیلة فی استقبال القبلة لیست فقط لأنّ الإنسان یتوجّه بوجهه وبدنه نحو الکعبة، بل بسبب رعایة شروطها ومقدّماتها، وأحد هذه الشروط أنّ الإنسان عندما یتوجّه إلی القبلة یعیش حالة الیأس من الدنیا ولا یعتبر للدنیا أیة قیمة ویعرض عن الخلق وما هم فیه من مشاغل الدنیا، «وَاستَفرِغْ قَلْبَکَ عَنْ کُلِّ شَاغِلٍ یَشغُلُکَ عَنِ اللّهِ تَعالی»، سواءً کان الشغل الجاه والمقام أو المال والعمل والکسب حتّی ذلک الاشتغال القلبی للعلم والبحوث العلمیّة، فیجب علی الإنسان عندما یقف مستقبلاً القبلة أن یکون

ص:249


1- (2) . مصباح الشریعة، الباب 13.

قلبه خالیاً من جمیع هذه الأمور ومتجّهاً نحو الباری تعالی ومستشعراً عظمته وکبریاءه.

«وَعَاینْ بِسِرِّکَ عَظَمةَ اللّه تَعالی»، فعندما یعیش الإنسان حال الیأس عن الدنیا والخلق ویبعد نفسه عن کلّ ما سوی اللّه تعالی فإنّه سیشاهد بهذا الباطن والسرّ عظمة الباری تعالی ویستشعر الخضوع والخشوع وهو یقف هذا الموقف، وهنیئاً للأشخاص الذین یعیشون هذه الحالة فی وجودهم ویشاهدون عظمة اللّه فی عین بصیرتهم وقلوبهم، فالغایة من استقبال القبلة والتوجّه إلیها فی الصّلاة، أن یطهّر الإنسان قلبه من التلوّثات والوساوس ویزیح عن قلبه الموانع التی یعیقه فی مسیرته المعنویة نحو اللّه تعالی فیشاهد العظمة والطهر والصفاء فی ساحة القدس الربوبی والذات المقدّسة.

ومعنی استقبال القبلة فی التوجّه إلی الکعبة أنّ الإنسان یجمع جمیع أموره ویلقیها بعیداً، وبالتالی یشاهد عظمة الباری تعالی فی باطنه وقلبه، والتوجّه نحو القبلة یذکّر الإنسان یوم القیامة هو ذلک الیوم الذی یجب أن نقف فیه جمیعاً أمام اللّه تعالی للحساب فی محکمة العدل الإلهی، ومثل هذا التوجّه القلبی یورث الإنسان حالات معنویّة رائعة جدّاً، نسأل اللّه تعالی أن یرزقنا مثل هذه الحالات إن شاء اللّه.

ص:250

خلاصة أسرار القبلة

ألف) یستفاد من الروایات أنّ من اللازم أو المناسب فی الإتیان بالأمور المهمّة أن یستقبل المؤمن القبلة، مثل الزراعة وذبح القربان وکذلک لغرض استجابة الدعاء ودفن المیّت، وعلی هذا الأساس فالتوجّه للکعبة واستقبال القبلة لا یختصّ بالصّلاة.

ب) إنّ الکعبة هی امّ القُری ومرکز بسط الأرض ودحوها، وبحسب بعض الروایات أنّ الکعبة تقع وسط الأرض وأنّها وجه اللّه فی الارض لأهلها.

ج) بما أنّ الکعبة محلّ الأمن، فالوقوف باتجاه الکعبة منح الإنسان حالة من الأمن الروحی والمعنوی.

د) التوجّه نحو الکعبة یعنی اعراض الإنسان ظاهر بدنه عن جمیع الجهات ویتوجّه نحو اللّه وبیته الکریم.

ه) مع التوجّه نحو الکعبة فإنّ ظاهر وباطن الإنسان یتحدان فی هذا الاتجاه، أی فی التوجّه نحو اللّه.

و) وبالتوجّه الظاهری نحو الکعبة فإنّ قلب الإنسان یجب أن یتوجّه نحو البیت المعمور وعرش اللّه.

ص:251

ز) الکعبة أوّل رحمة نزلت من اللّه تعالی إلی أهل الأرض، وأوّل تجلی من تجلیات الحقّ تعالی علی الأرض.

ح) إنّ استقبال القبلة والتوجّه نحو الکعبة یذکر الإنسان بوقوفه أمام اللّه عزّ وجلّ یوم القیامة، وعلیه یجب أن یغض الإنسان نظره عن الدنیا وما فیها ویعرض عن الناس وما هم فیه.

ص:252

الباب الخامس: أسرار الأذان والإقامة

اشارة

ص:253

ص:254

77- أسرار الأذان والإقامة

وأحد المسائل التی ینبغی الالتفات إلیها والاهتمام بها فیما یتّصل بالصّلاة وأسرارها، مسألة الأذان والإقامة قبل الصّلاة، ولعلّ یمکن القول إنّ الأسرار الموجودة فی الأذان والإقامة تعدّ مقدّمة لفهم ودرک أسرار وحقائق الصّلاة، ومن أجل أن یصل الإنسان إلی حقیقة الصّلاة فإنّ الأذان والإقامة بمثابة التمهید لهذا المصلّی، للوصول إلی تلک الحقیقة، وهذه من خصوصیّات عبادة المسلمین ولم تکن فی الاُمم السابقة والأدیان الأخری، طبعاً فإنّ أصل الصّلاة کانت موجودة فی الأدیان السابقة، ولکن مسألة الأذان والإقامة تعدّ من اختصاصات وممیزات هذا الدین الحنیف وقد جعلها اللّه تعالی امتیازاً لاُمّة النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله.

وثمّة عدّة أمور تبحث فی مسألة الأذان والإقامة، أوّلاً ما ورد فی الروایات الشریفة من البرکات والمثوبات الکثیرة والعدیدة للأذان والإقامة، بحیث تلفت نظر الإنسان أکثر إلی حقیقة هذا العمل، فسبق أن ذکرنا أنّ فقهاءنا فیما یتّصل بالأذان والإقامة لیس فقط یقولون برجحانهما واستحبابهما، بل ذهبوا إلی أنّه

ص:255

الأذان والإقامة من المستحبّات المؤکدة، بل إنّ بعض الفقهاء القدماء قالوا بوجوبهما فی جمیع الصّلاة، والبعض ذهب إلی وجوبهما فی خصوص صلاة الصّبح والمغرب، وبعض آخر فی خصوص صلاة الجماعة، وعلی أیّة حال فمن الناحیة الفقهیّة فإنّ الأذان والإقامة وردا مورد اهتمام کبیر جدّاً بحیث إنّ الصّلاة لا ینبغی أن تقام بدون أذان وإقامة، أی أنّ الصّلاة بدون أذان وإقامة لا یمکن أن تکون صلاة کاملة، وعلی هذا الأساس ینبغی للمصلّین الأعزاء الاهتمام بهذه المسألة ورعایة الأذان والإقامة قبل الصّلاة.

جاء فی روایة بلال أنّه قال: «سَمِعتُ رَسُولَ اللّهِ صلی الله علیه و آله یَقُولُ: مَنْ أَذَّنَ عَشْرَ سِنینَ أَسکَنَهُ اللّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَعَ إِبراهِیمَ الخَلیلِ فِی قُبَّتِهِ أَو فِی دَرَجَتِهِ»(1)،

وقد ذکر علماؤنا أنّ هذه الروایات تتجاوز حدّ الخبر الواحد وفوق حدّ الاستفاضة وتقرب من التواتر، قوله علیه السلام: «مَنْ أَذَّنَ وَأَقَامَ وَصَلّی صَلّی خَلفَهُ صَفّانِ مِنَ المَلائِکَةِ»(2).

والنقطة المهمّة هنا، ما ورد فی بعض الروایات تبیّن مقدار هذا الصف: «أَقلُّهُ مَا بَینَ المَشرِقِ وَالمَغرِبِ وَأَکثَرُهُ مَا بَینَ السَّماءِ وَالأَرضِ»، فعندما نری أنّ اللّه تبارک وتعالی یهتمّ بالأذان والإقامة بهذه الصورة عندما یقف المصلّی بین یدیه، فهذا الأمر یجب أن یدفعنا إلی التفکیر فی حقیقة الأسرار الخفیّة والکامنة فی الأذان والإقامة، وما هی النقاط العجیبة والحقائق الدقیقة المقترنة بالأذان من بدایته إلی نهایته؟ وأساساً ما هی المرتبة من مراتب التوحید التی یصل إلیها الإنسان بالأذان والإقامة وبأی مرحلة من مراحل العبودیّة یصل هذا المصلّی؟ ونجد الجواب عن هذه الأسئلة عندما یأتی المصلّی بالأذان والإقامة کمقدّمة للصّلاة ویستشعر فی

ص:256


1- (1) تفسیر العیاشی، ج 2، ص 334؛ بحار الأنوار، مطبعة بیروت، ج 81، ص 124.
2- (2) الدعائم، ج 1، ص 146.

نفسه بروح العبودیّة للّه تعالی وأنّه یتکامل فی مراتب التوحید، ثمّ یکون مستعداً ولائقاً للحضور والوقوف فی محضر الحقّ تبارک وتعالی أی الصّلاة، یجد فی نفسه الصلاحیة والقابلیّة إلی أن یرتفع فی معراج الملکوت ویبدأ حرکته المعنویّة نحو اللّه تبارک وتعالی.

وبعبارة أخری أنّ الأذان والإقامة عاملان مهمّان جدّاً فی حرکة الإنسان المعنویّة ومن أجل أن یشرع الإنسان بصلاته بالکیفیّة المطلوبة.

ص:257

78- الأذان: دعوة جمیع قوی الملک والملکوت للحضور

ثمّة أسرار مهمّة جدّاً فی الأذان والإقامة والتی تتضمّن التکبیر والتهلیل والشهادة بالرسالة والولایة والدعوة للفلاح والخلاص کذلک ینتهی الأذان والإقامة بالتکبیر والتهلیل أیضاً.

یقول بعض الأکابر من علماء العرفان والأخلاق: إنّ نداء المؤذن یذکّر الإنسان بالنداء فی یوم القیامة الکبری لحضور جمیع الخلائق فی عرصات المحشر، ویقول المرحوم الملا محسن الفیض الکاشانی فی کتابه «الحقائق»: «وإذا سمعت نداءالمؤذن فاحضر فی قلبک هول نداء یوم القیامة، وتشمّر بظاهرک وباطنک للمسارعة والإجابة فإنّ المسارعین إلی هذا النداء هم الذین ینادون باللطف یوم العرض الأکبر»، وأساساً فإنّ المرحوم الفیض الکاشانی یلفت النظر إلی مسألة دقیقة فی الأذان، وهی أنّ الإنسان إذا أراد أن یری حاله یوم القیامة وعندما یدعو الباری تبارک وتعالی جمیع الناس لحسابه، فکیف یکون حاله واستعداده فی ذلک الوقت؟ هل یشعر فی ذلک الیوم بالسرور والفرح أو یکون ذلک بالنسبة له

ص:258

یوم الندم والحسرة؟

یقول: إنّک تری فی هذا العالم الدنیوی هل أنّک تشعر بالسرور والانبساط مع سماعک للأذان أم لا؟ وعندما یبدأ المؤذن بالأذان هل تشعر بالنشاط فی قلبک وتحسّ بأنّ قلبک ملیء بالغبطة والسرور أم لا سمح اللّه لا یوجد أی تغییر فی قلبک؟ ولو أنّ أحدهم سمع صوت المؤذن وانقبض قلبه لذلک لا سمح اللّه، وتصوّر أنّ هذا الأذان قد نغص علیه لذّته ووقته، فالویل لمثل هذا الشخص.

ویتابع الفیض الکاشانی قدس سره بالقول: إنّ نوعیة ردّة الفعل للشخص فی هذا العالم بالنسبة لصوت المؤذن تعکس ردّة فعلهم لذلک النداء الإلهی فی عرصات المحشر یوم القیامة وهل أنّ استجابته لذلک النداء إیجابیّة أم سلبیّة، ثمّ یشیر الکاشانی إلی کلام النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله بهذه المناسبة: «أَرحنَا یا بِلالُ»، وأنّ هذه العبارة مرتبة بهذا المعنی ویقول:

«أَرِحنا بِها وَبِالنِّداءِ إِلَیها»، فالمؤذن یدعو المؤمنین إلی مجلس الحضور بین یدی الباری تعالی والحدیث معه والمعراج إلیه، ولو أخذنا بعین الأعتبار کلامه:

«الإنسان یموت علی ما یعیش ویحشر علی ما یموت ویحصد ما زرعه فی أرض قلبه»، فهذا یعنی أنّ جمیع الحالات التی یعیشها المرء فی هذا العالم ویموت علیها فإنّه سوف یحشر بتلک الحالات والنیّات وبتلک الکیفیّات فی یوم القیامة ویجد ثمرة ما زرعه فی قلبه فی حیاته الدنیا.

والحال إذا شعر الشخص عند سماعه لنداء المؤذن بحالة من السرور والفرح وأنّه سوف یقدم علی خالقه ویحضر فی مجلس ملاقاته، وما یترتّب علیه من إفاضات الحقّ تبارک وتعالی علیه فی ذلک المجلس، فإذا شعر الإنسان من هذا النداء بحالة من الشوق والرغبة فی التحلیق فی عالم الملکوت وغادر الدنیا بهذه الحالة فسوف یحشر یوم القیامة بهذه الحالات والملکات النورانیّة فی نفسه

ص:259

وسوف تنقذه هذه الحالات والملکات المعنویة من أزمات المحشر وظلمات یوم القیامة.

وثمّة عبارة عمیقة للإمام الراحل رضوان اللّه تعالی علیه: إنّ الأذان هو قوی الملک والملکوت فی الإنسان الکبیر والصغیر للتهیئة والاستعداد للحضور فی محضر الحقّ تبارک وتعالی، فلیس الأذان مجرّد دعوة الناس إلی المسجد والوقوف للصّلاة، بل هو دعوة لجمیع قوی العالم بواسطة الأذان، سواء الإنسان الصغیر أم الإنسان الکبیر، القوی الملکیة أو الملکوتیّة، فالجمیع مدعوون للحضور فی محضر الحقّ تبارک وتعالی، ومن هذه الجهة یجب علینا الاهتمام الجاد بمسألة الأذان والإقامة.

ص:260

79- سرّ التکبیرات الأربع والشهادة بوحدانیّة اللّه فی الأذان

یقول المرحوم الکلینی فی کتابه «الکافی» فی روایة عن الإمام الباقر علیه السلام: «لَمَّا أُسرِیَ بِرَسُولِ اللّهِ صلی الله علیه و آله إِلی السَّماءِ فَبَلَغَ البَیتَ المَعمُورَ وَحَضَرَتْ الصِّلاةُ فَأَذَّنَ جِبرئیلُ وَأَقَامَ فَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللّهِ صلی الله علیه و آله وَصَفَّ المَلائِکَةُ وَالنَّبِیُّونَ خَلَفَ مُحَمُّد صلی الله علیه و آله»(1).

ویتبیّن من قیام جبرئیل الأذان والإقامة لهذه الصّلاة أنّ حقیقة الصّلاة لا تتیسر بدون الأذان والإقامة، ویجب علینا أن نأسف علی أنّ الکثیر من صلواتنا اقیمت بدون الأذان والإقامة، ومثل هذه الصّلاة لیست بصلاة کاملة، وهذه الصّلاة لا تستطیع العروج بالإنسان إلی مراتب عالیة من حضور القلب، وهذه الصّلاة لیست معراج المؤمن، فالصّلاة بدون الأذان والإقامة صلاة ناقصة جدّاً.

وسبق أن ذکرنا عبارة الإمام الراحل رضوان اللّه علیه حیث یقول: إنّ الأذان دعوة لجمیع قوی العالم، قوی الملک والملکوت للحضور فی محضر الحقّ تبارک وتعالی فما هو هذا الأذان؟ فی الأذان هناک أربع تکبیرات فی مطلع الأذان، وثمّة

ص:261


1- (1) الکافی، المطبعة الإسلامیّة، ج 3، ص 302.

أسرار وحقائق کامنة فی هذه التکبیرات الأربع، وهنا یعلن المصلّی بهذه التکبیرات عن عجز جمیع الموجودات فی العالم عن القیام بالثناء علی الحقّ تعالی وحمده، فالمصلّی یرید أن یقول بهذه التکبیرات أنّ کلّ موجود فی العالم لا یستطیع أبداً أن یحمد اللّه ویثنی علیه کما هو حقّه، وعندما تبدأ الصّلاة بهذه التکبیرات فی الأذان ویتمّ ذکرها مجدداً فی الإقامة فهو اعتراف منّا بأنّه لا یوجد أی کائن وأی بشر یقدر علی أداء حقّ اللّه فی الحمد والثناء، وعندما تتکرر کلمة «اللّه أکبر» أربع مرّات، فهذا یعنی أنّ اللّه أکبر من قدرة الشخص علی حمده وثنائه، وهذا إعلان للقصور عن قابلیة الحضور، والإنسان العاجز یعترف هنا بأنّه غیر جدیر ولا یملک القابلیّة واللیاقة علی الحضور فی محضر الحقّ تبارک وتعالی، وبعد الاعتراف بالعجز بالقصور یستعد لاظهار الخوف والخشیة والخضوع، ثمّ یأتی بدور الشهادة بوحدانیة الباری تبارک وتعالی ویقول: «أَشهَدُ أَنْ لا إِلهِ اإِلّا اللّه»، ویکرر هذه الشهادة مرّتین، ولعلّ ذلک بسبب أنّ الشهادة الاُولی هی شهادة التوحید علی الذات، یعنی أنّ اللّه تبارک وتعالی لا شریک له فی ذاته، والشهادة الثانیة هی شهادة التوحید فی الفعل، یعنی أنّ کلّ فعل یصدر فی هذا العالم هو فعل اللّه ولا یوجد فاعل غیر اللّه فی عالم الوجود، وقد أشار إلی هذه النقطة أیضاً بعض الأکابر کالمرحوم الفیض الکاشانی قدس سره.

والجدیر بالذکر أنّ شروع الأذان بالتکبیر وختم الأذان بالتکبیر أیضاً قد یتضمّن رسالة خاصّة، فماذا یمکن أن نستوحی من ذلک؟ ألا نفهم من ذلک أنّ الإنسان یصل فی هذه المرحلة إلی هذه الحقیقة: «هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ وَ الظّاهِرُ وَ الْباطِنُ وَ هُوَ بِکُلِّ شَیْ ءٍ عَلِیمٌ»1 ، وکلّ شیء هو للّه تعالی، والإنسان عندما یلتفت إلی هذه النقاط فی الأذان والإقامة سیفهم الخطوات الکبیرة التی یجب أن

ص:262

یخطوها فی خطّ الکمال حتّی یحصل علی اللیاقة والقابلیّة للورود فی محضر القدس الإلهی، فلا ینبغی القیام بسرعة ونکبّر تکبیرة الإحرام مباشرة وندخل فی الصّلاة، فمثل هذا العمل یشیر إلی عدم معرفة قدر هذه العبادة المهمّة واضاعتها، وهذه العبادة یجب الإتیان بها مع مقدّماتها، وتلک المقدمات الرائعة والبدیعة جدّاً تشیر إلی أنّ اللّه تعالی یمنّ علینا بأن نتذکره ونتعرّف علیه ونتواصل معه، وینبغی أن نختبر أنفسنا فی هذا المجال عندما نقوم بقراءة الأذان والإقامة ونری کیف أنّ هذه الصّلاة قد أحدثت تحوّلاً کبیراً فی حیاتنا.

ص:263

80- ثواب الأذان

یجب علی الإخوة والأخوات المصلّین أن یلتزموا بالأذان والإقامة فی صلاتهم، فالصلاة المقترنة بالأذان والإقامة تختلف کثیراً عن الصّلاة بدون الأذان والإقامة، أضف إلی ذلک أنّ نفس حقیقة وروح الصّلاة تختلف کثیراً وبینهما بون ساشع، ومن الموارد التی ذکرت الروایات الشریفة الثواب الجزیل علی فعل عبادی للإنسان هو هذه المسألة، بحیث إنّ علماءنا الکبار سعوا کثیراً فی فهم وتسویغ مثل هذا الثواب وتفسیره، وینقل الشیخ الصدوق فی کتابه الأمالی المجلس 66 عن الإمام الصادق علیه السلام وهذا الإمام ینقل عن آبائه العظام صلوات اللّه علیهم أجمعین عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله أنّه قال: «أَلا وَمَنْ أَذَّنَ مُحتَسِباً یُریدُ بِذَلِکَ وَجْهِ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَعطَاهُ اللّهُ ثَوابَ أَربَعِینَ أَلفَ شَهیدٍ وَأَبَعِینَ صِدِّیقٍ وَیَدْخُلُ فِی شَفَعَتِهِ أَرَبعُونَ أَلفَ مُسیء، وَإِنَ المُؤذِّنَ إِذا قَالَ: أَشهَدُ أَنْ لاإِلهَ إلَّااللّهُ صَلَّیْ عَلَیهِ تِسعُونَ أَلفَ مَلک وَکَانَ یَوْمَ القِیامَةِ فِی ظِلِّ العَرشِ حَتَّی یَفرَغُ اللّهُ مِنْ حِسابِ الخَلائِق»، وهذا یعنی أنّ هذا الشخص یعیش ذلک الیوم سعادة مطلقة وراحة کاملة ویعیش المحو فی

ص:264

جمال الحقّ تعالی والاستغراق فی النعیم والرضوان الإلهی، إلی أن یفرغ اللّه تعالی من حساب الخلائق.

وهنا یطرح سؤال مهم، وهو: کیف یمکن لأذان واحد یستغرق بضع دقائق أن یرتب علیه الباری تعالی هذا المقدار من الثواب العظیم؟

وفی مقام الجواب نلفت النظر إلی نقاط عدّة، أوّلها أنّ الثواب المقرر للإنسان فی مقابل عمله لا یقع بإزاء ذلک العمل بل هو فضل من اللّه ولطفه، ولذلک یمکن أن یعطی اللّه تعالی ثواباً واحداً علی عمل معین، ویعطی لشخص آخر عدّة أضعاف من ذلک الثواب علی هذا العمل، لأنّ الملاک فی باب الثواب هو الفضل الإلهی ولیس الثواب یقدّر بمقدار العمل.

وبالنسبة للعقاب فالأمر یختلف، لأنّه سیکون بمقدار ذنب الإنسان، وهذا هو مقتضی العدالة، فی حین أنّ مسألة الثواب ترتبط بفضل اللّه ورحمته.

النقطة الثانیة، إنّ هذا الثواب لا یعطی لأی مؤذن کان بل هو مشروط بقید «وجه اللّه» وهو شرط مهمّ جدّاً ولا یعلم أنّ کلّ مؤذن سیحقق هذا الشرط بسهولة.

النقطة الثالثة، أنّ رقم ألف ومائة ألف وملیون تختلف فی المقدار بالنسبة إلینا، ولکنّها بالنسبة لما عند اللّه تبارک وتعالی لا تختلف ولا فرق بینها أبداً، فخلق شیء واحد بالنسبة إلی اللّه تعالی لا یختلف أبداً مع خلق جمیع العالم وجمیع الکائنات، ویکفی أن یرید اللّه تعالی إیجاد هذا الشیء أو الأشیاء ولیس الأمر أنّ خلق هذا العالم أصعب عند اللّه من خلق جزء صغیر من أجزائه: «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَیْئاً أَنْ یَقُولَ لَهُ کُنْ فَیَکُونُ»1 ، فإرادة الحقّ تعالی بالنسبة لجمیع أفعاله متساویة،

ص:265

خلافاً لحالنا وما عندنا حیث یختلف الحال بین الواحد والمائة، وعندما ندرک أنّ اللّه تعالی کذلک ویتّصف بالکرم والجود بهذا الشکل، فهل من الإنصاف وهل یصحّ أن یفقد المصلّی مثل هذا اللطف العنایة من اللّه ویستغرق عمره ولا یؤذن ویقیم مرّة واحدة لصلاته؟!

ص:266

81- سرّ الشهادة بالرسالة والولایة فی الأذان

روی عبداللّه بن سنان عن الإمام الصادق علیه السلام أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله قال لبلال: عندما یحین وقت الصّلاة فاصعد علی جدار المسجد وارفع صوتک بالأذن: «فَإِنَّ اللّهَ قَدْ وَکّلَ بَالأَذانِ رِیحاً تَرفَعُهُ إِلی السَّماء، وَأَنَّ المَلائِکَةَ إِذا سَمِعُوا الأَذانَ مِنْ أَهلِ الأَرضِ قَالُوا هَذِهِ أَصواتُ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلی الله علیه و آله بِتَوحِیدِ اللّهِ عَزَّ وَجلَّ، وَیَستَغفِرُونَ لأُمَّةِ مُحَمَّد صلی الله علیه و آله حَتَّیْ یَفرَغُوا مِنْ تِلکَ الصَّلاةِ»(1).

لماذا یجب علی المصلّی أن یأتی قبل الصّلاة بالشهادة علی رسالة النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله فی أذانه: یقول الإمام الخمینی رضوان اللّه علیه: «الشهادة برسالة النبیّ الخاتم هی توسل بالمقام المقدّس للشفیع المطلق والشفاعة المطلقة»، لأنّ الوارد فی القرآن الکریم أنّ النبیّ هو الشفیع المطلق، وبهذه الشهادة تحصل للإنسان صحبة مع هذا الرسول الإلهی الذی یتمتع بالولایة المطلقة، وهذا یعنی أنّ هذا المصلّی یتحرک فی سلوکه المعنوی فی معراجه والحدیث مع اللّه تعالی، فهو بهذه

ص:267


1- (1) الکافی، المطبعة الإسلامیّة، ج 3، ص 307.

الشهادة بالرسالة یجعل نفسه مصاحباً للنبی الخاتم صلی الله علیه و آله، وشهادته علی ولایة أمیرالمؤمنین علی بن أبی طالب صلوات للّه وسلامه علیه یجعل نفسه مصاحباً لصاحب الولایة المطلقة، فسواءً وفّقنا فی الأذان بولایة علی بن أبی طالب علیه السلام أم لم نوفّق لذلک فإنّ الشهادة برسالة النبیّ الخاتم صلی الله علیه و آله تتضمّن الشهادة علی ولایة أمیرالمؤمنین علیه السلام أیضاً، لأنّ رسالة النبیّ لا تکتمل إلّابولایة أمیرالمؤمنین علی بن أبی طالب علیه السلام.

وهنا یستعرض الإمام الخمینی رضوان اللّه علیه فی کتابه «آداب الصّلاة» کلاماً لاستاذه الکبیر المرحوم شاه آبادی رضوان اللّه علیه ویقول: إنّ شیخنا العارف الکامل روحی فداه یقول: «إنّ الشهادة بولایة ولی اللّه تتضمّن الشهادة برسالة النبیّ، لأنّ الولایة هی باطن الرسالة»(1)، إذن فالإنسان المصلّی کما یتحرّک فی صحبة المقام النبوی فإنّه یصاحب المقام المقدّس العلوی والولوی.

وجاء فی بعض الأحادیث الشریفة: «بِعَلیٍّ قَامَتْ الصَّلاةُ»(2)، أو ورد فی بعض الروایات فی تفسیر: «قَدْ قَامَتْ الصّلاةُ»، أنّه «إنَّ بِعَلیٍّ قَامَتْ الصَّلاةُ»، فلو أننا علمنا أنّ الإمام علی علیه السلام هو حقیقة القرآن وهو القائل عن نفسه بأنّنی القرآن الناطق، فإنّ حقیقة الصّلاة والصوم هی علیّ علیه السلام.

نسأل اللّه تعالی أن ینیر قلوبنا بنور ولایة علی بن أبی طالب إن شاء اللّه.

ص:268


1- (1) . آداب الصّلاة، ص 141.
2- (2) . أسرار العبادات وحقیقة الصّلاة، ص 23.

82- الصّلاة أفضل الأعمال وأصل الفلاح

قلنا فیما یتّصل بالأذان والإقامة أنّ المصلّی فی التکبیرة الاُولی یعلن عن عجز جمیع موجودات العالم عن حمد وثناء الحقّ تبارک وتعالی، فبعد الشهادة بتوحید الذات والتوحید بالأفعالی، تصل النوبة فی هذا السفر الروحانی إلی الصّلاة وهی معراج المؤمن من خلال الشهادة برسالة النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله وولایة أمیرالمؤمنین علی علیه السلام ویستمد المعونة والمدد من صحبة هذین العظیمین.

فبعد بیان هذه الشهادة یعلن المصلّی استعداده للصّلاة والوقوف بین یدی اللّه بذکر هذه الفقرة من الأذان: «حَیِّ عَلَی الصَّلاةِ»، التی تدعو الجمیع للاسراع فی التوجّه إلی الصّلاة، وبعد ذلک یقول المؤذن: «حَیِّ عَلَی الفَلاح» وبذلک یتبیّن السرّ الاجمالی للصّلاة وهو طلب الفلاح والنجاح فی الصّلاة والاسراع للحرکة فی خطّ الفلاح، أحیاناً یخطر علی ذهن الإنسان وقبل الالتفات إلی معانی هذه الکلمات أنّ اللّه تعالی لا یحتاج لصلاتی، إذن فلماذا أوجبها علیَّ؟ أمّا قولهم إنّ الصّلاة عبارة عن أداء شکر اللّه تعالی علی نعمائه فهو تعبیر ساذج جدّاً، إذن

ص:269

فلماذا التکلیف بالصّلاة؟ الحقیقة أنّ هذا الذکر فی الأذان یقرّر: إنّ الصّلاة وضعت من أجل الفلاح، والصّلاة شرعت لغرض تحقیق السعادة للإنسان ونیل مرتبة القرب من اللّه «حَیِّ عَلَی الفَلاح»، «حَیِّ عَلَی خَیرِ العَملِ»، وأفضل عمل یقود الإنسان فی سلّم النجاة والکامل المعنوی هو الصّلاة، وینبغی الالتفات إلی هذه النقطة، وهی أنّه یستحبّ الدعاء بین الأذان والإقامة وقد ورد التعبیر عنه بدعاء «التوجّه»، وأورد الشیخ الکلینی رحمه الله فی المجلد الثانی من کتابه «الکافی» وهو:

«اللّهُمَّ إِنَّی أَتَوَجّهُ إِلَیکَ بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ»، وهکذا یتحرّک الإنسان فی أذانه بصحبة النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله وأمیرالمؤمنین علیه السلام ویقرأ هذا الدعاء: «اللّهُمَّ إِنَّی أَتَوَجّهُ إِلَیکَ بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ»(1)، ومن هذا الدعاء نفهم أنّ طریق التقرّب والتوجّه إلی اللّه منحصر بواسطة النبیّ وآله الطاهرین علیهم السلام.

الأشخاص الذین لا یریدون فهم حقیقة مذهب الشیعة والمضامین السامیة والمفاهیم العالیة لهذا المذهب ویتحرّکون فی مواجهته من موقع العناد والتعصب هم أشخاص یعیشون حالات الجهل وظلمة القلب، أمّا القلوب الطاهرة فبسبب ما فیها من نورانیّة تفهم أنّ طریق الوصول إلی اللّه یجب أن یکون بواسطة النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله وأله بیته الطاهرین علیهم السلام، والیوم نری أنّ القوی الاستعماریّة أوجدت الوهّابیة لغرض محو الدین وهجموا بکلّ قواهم ومکرهم علی الإسلام والمسلمین، فهؤلاء یرون أنّ هذه المفاهیم شرک باللّه، فیجب أن نسألهم: إذا کنتم تقولون لا ینبغی طرح کلّ ما هو غیر اللّه فی الدعاء، فلماذا یجب علینا فی الأذان الذی هو مقدّمة لأهم عبادة وهی الصّلاة، أن نشهد برسالة النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله؟ إذا قالوا: إنّ اللّه تعالی أمرنا بذلک، فنقول فی جوابهم: إنّ اللّه أمر أیضاً بالشهادة بولایة أمیرالمؤمنین علیه السلام.

ص:270


1- (1) . الکافی، المطبعة الإسلامیّة، ج 2، ص 544.

إنّ النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله وأوصیائه الکرام علیهم السلام هم حقائق نورانیّة نستطیع بواسطتهم التوجّه إلی اللّه تعالی: «اللَّهُمَّ إِنّی أَتَوجّهُ إِلَیکَ بِمُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمِّدٍ وَأُقَدِّمُهُم بَینَ یَدَی صَلاتِی، وَصَلِّ عَلَیهِم فَاجعَلنِی بِهِمْ وَجِیهاً فِی الدُّنیا وَالآخرَةِ وَمَنَ المُقَرِّبِینَ کَمَا مَنَنْتَ عَلَینا بِمَعرِفَتِهِم».

ومن هنا نری من المناسب أن یهتمّ المؤمنون والمصلّون الأعزاء بقراءة هذا الدعاء فی صلاتهم.

ص:271

83- الأذان یبعد الشّیطان

یقول الإمام الصادق علیه السلام: «أَذِّن فِی بَیتِکَ فإِنَّهُ یَطرُدِ الشَّیطَانَ».(1)

یستفاد من الروایات الشریفة وکلمات العلماء أنّ مسألة الأذان والإقامة فی الصّلاة مهمّة جدّاً وکما أشرنا فی بحث القبلة أنّ المصلّی عندما یتوجّه نحو الکعبة فإنّه یبتعد ذلک عن الکثیر من مصائد الشیطان ویتحرّک فی طریق الأمن المعنوی، والأذان له أیضاً هذه الخصوصیّة.

وقد ورد فی بعض الروایات: «أَذِّن فِی بَیتِکَ فإِنَّهُ یَطرُدِ الشَّیطَانَ»، ولعلّ إحدی الحکم فی استحباب الاُذان فی اذن الولید أنّ اللّه تبارک وتعالی بهذه الطریقة یبعد الشیطان عن هذا الطفل، وینقل الإمام الخمینی رضوان اللّه علیه فی کتابه «سرّ الصّلاة» عن کتاب «علل الشرائع» حدیثاً مفصّلاً عن الإمام الصادق علیه السلام فیما یخصّ صلاة النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله فی المعراج، وأنّه قال علیه السلام: «أَنزَلَ اللّهُ العَزِیز الجَبّار عَلَیهِ مَحمَلاً مِنْ نُورِ فِیهِ أَربَعُونَ نَوعاً مِنْ أَنواعِ النُّورِ، کَانَتْ مُحدِقَةً حَولَ العَرشِ

ص:272


1- (1) الکافی، المطبعة الإسلامیّة، ج 3، ص 308.

عَرشهُ تَبارَکَ وَتَعالی تَغشَی أَبصَارَ النَّاظِرِینَ، أَمَّا وَاحِدٌ مِنْها فَأَصفَرٌ فَمِنْ أَجِلِ ذَلِکَ اصفَرتْ الصُّفرةُ، وَوَاحِدٌ مِنها أَحمَرٌ فَمِنْ أَجِلِ ذَلِکَ احمَرتْ الحُمرَة»، إلی أنّ جلس النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله علی محمل من نور: «فَجَلسَ عَلَیهِ ثُمَّ عُرجَ إِلی السَّماءِ الدُّنیا فَنَفَرتِ المَلائِکَةُ إِلی أطرَافِ السَّماءِ، ثُمَّ خَرَّتْ سُجَّداً فَقَالَتْ سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبِّنا وَرَبِّ المَلائِکَةِ وَالرُّوح مَا أَشبَهَ هَذا النُّورُ بِنُورِ رَبِّنا، فَقَالَ جِبرئِیلُ: اللّهُ أَکبَرُ اللّهُ أَکبَرُ»، هذا التکرار فی الأذان والإقامة تذکرنا بتعدد التکبیر الذی یذکره جبرئیل من جراء عظمة حضور النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله فی السماء الدنیا وما ترتّب علیه من سجود الملائکة، فنور النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله کان إلی درجة من العظمة بحیث إنّ ملائکة السماء سجدوا وللمرّة الثانیة وقال جبرئیل: «اللّهُ أَکبَرُ اللّهُ أَکبَرُ،، فَسَکَتِ المَلائِکَةُ وَفُتِحَتْ أَبوابُ السَّماءِ وَاجتَمَعتْ المَلائِکَةُ»، فَقالَ: «یامُحَمَّدُ کَیفَ أَخُوکَ إِنْ أَدرَکتَهُ فَأقرأهُ مِنّا السَّلامَ».

فقال النبیّ صلی الله علیه و آله: «بِخیرٍ، هَل تَعِرفُونَهُ؟»، فقالوا: «فَقَالَ کَیفَ لَمْ نَعرِفْهُ وَقَدْ أَخَذَ اللّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِیثاقَک ومِیثَاقَهِ مِنّا»(1).

وبعد أن ینقل الإمام الراحل رضوان اللّه علیه هذه الروایة یقول: «ثمّة أسرار وحقائق فی هذا الحدیث الشریف تقصر ید آمالنا عن الوصول إلیها»(2)، وما ندرکه بفهمنا القاصر من هذا الحدیث لو قمنا بذکره وبیانه لکان حدیثاً مطولاً ویخرج عن مجال هذه الأوراق، یعنی أنّه یقول: إنّ المعانی والمفاهیم التی تتبادر إلی الذهن من هذا الحدیث الشریف لا أستطیع بیانها هنا، والمقصود من ذکر البعض منها لاستشهاد لهذه المسألة وهی أنّ ملائکة اللّه اجتمعت بذکر الإقامة، یعنی أنّ المصلّی عندما یؤذن ویقیم فإنّه یقول: إنّ جمیع الملائکة تجتمع لذلک، وهذه

ص:273


1- (1) علل الشرائع، ج 2، ص 312.
2- (2) . سرّ الصّلاة (معراج السالکین)، ص 71.

الملاحظة واردة فی الروایات الشریفة.

ومع قول المصلّی للأذان یصطفّ خلفه صفّان من الملائکة، ومع قوله الإقامة یصطفّ صفّ واحد من الملائکة فی هذه الصّلاة ویری المصلّی حضور الملائکة بعین قلبه، فما أحلی هذه الصّلاة التی یوفّق المؤمن للقیام بها!! رزقنا اللّه بها إن شاء اللّه.

ص:274

84- الأذان حکایة أذکار الملائکة فی المعراج

أحد الأسئلة التی تثار عادة فی أذان أغلب المؤمنین هو: ما هی أسرار فصول ومقاطع الأذان؟ فالمؤذن یتبع بالتکبیرات الأربع، فما هی الخصوصیّة الکامنة فی هذا العدد من التکبیرات؟ وبعد التکبیر تأتی الشهادة علی وحدانیّة الباری تبارک وتعالی وأن لا یوجد معبود سواه، ثمّ الشهادة علی الرسالة والولایة فی الأذان؟ وقبل استعراض بعض النقاط الواردة فی کتب الأکابر من العلماء والعرفاء ربّما یمکن ذکر هذه النقطة، وهی أنّ النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله عندما ذهب إلی المعراج وحدث ذلک السفر السماوی وتلک الحرکة الإلهیّة العظیمة وعاش رسول اللّه صلی الله علیه و آله أوج الکرامة الإلهیّة فی مساره ومعراجه، فإنّه أوجد فی تلک العوالم فی عالم الملکوت وبین الموجودات السماویّة والملائکة نشاطاً وحیویة وحرکات وأذکار، فحرکة النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله لم تکن خافیة علی ملائکة اللّه فی السموات.

وقد وردت الإشارة فی تلک الروایة المعروفة أنّ الملائکة فی بعض السماوات تصوّروا أنّ هذا النور هو نور اللّه تعالی وسجدوا له، ولکن بعد أن نبّههم

ص:275

جبرئیل وقال لهم إنّ هذا النور هو نور النبیّ الخاتم محمّد بن عبداللّه صلی الله علیه و آله، فهنا انطلقت التکبیرات من الملائکة وقوله: «اللّهُ أَکبَرُ اللّهُ أَکبَرُ أَشهَدُ أَنْ لاإِلهَ إِلّا اللّهُ وَأشهَدُ أنّ مُحَمّداً رَسُول اللّهُ»، فی تلک العوالم وبعبارة أخری أنّ الأذان یحکی ما ورد فی أذکار الملائکة عند معراج رسول اللّه صلی الله علیه و آله إلی السماء، فالأذان یحکی عن تلک الأعمال والأذکار التی قام بها الملائکة فی مقام عظمة النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله عندما رأوا نور النبیّ صلی الله علیه و آله، فدهشوا فی المرتبة الاُولی بحیث إنّهم تصوّروا أنّ هذا النور هو نور اللّه تعالی ونور العظمة الإلهیّة والذات المقدّسة، ولعلّهم فی السماء الاُولی کبّروا التکبیرة الاُولی، وفی السماء الثانیة کبروا التکبیرة الثانیة، وفی السماء الثالثة کبّروا التکبیرة الثالثة، وفی السماء الرابعة کبّروا التکبیرة الرابعة، وطبعاً هذا مجرّد احتمال نطرحه فی المقام وبعض الروایات فی الجملة تؤید هذا المعنی أیضاً.

وعلی هذا الأساس فالأذان یحکی عن واقعة مهمّة حدیث فی الملأ الأعلی یعکس الأذکار التی قالها ملائکة اللّه فی تلک العوالم، وبما أنّ الصّلاة معراح المؤمن، فیجب قبل الصّلاة أن یذکر ویکرر ما قاله الملائکة الإلهیون فی تلک الواقعة لیکون مستعداً لهذا العروج الإلهی فی عالم الملکوت ویحظی بتقرّب أکثر إلی اللّه تبارک وتعالی.

النقطة الثانیة التی ینبغی ذکرها هنا، أنّ الأذان جامع للتکبیر والشهادة علی التوحید والشهادة علی الرسالة، والشهادة علی الولایة، وهذه نقطة مهمّة جدّاً جدّاً، وتتضمّن أسراراً کثیرة.

ص:276

85- سرّ التکبیرات الأربعة فی الأذان

ما هی الخصوصیّات الکامنة فی التکبیرات الأربع فی الأذان؟ إنّ المعنی الإجمالی للتکبیر هو أنّ اللّه أکبر من أن یدرکه أو یصفه الإنسان، یقول أمیرالمؤمنین صلوات اللّه وسلامه علیه فی روایة فی معنی التکبیر: إنّ التکبیر هو نفی الکیفیّة عن اللّه تبارک وتعالی أی الکیفیات المادیّة التی تنطلق من أی توصیف یقوم به عقلنا الناقص للّه تعالی ویرید بیان کیفیة للباری تعالی ومع قوله اللّه أکبر یتمّ نفی جمیع هذه التوصیفات، ویقول إنّ المؤذن عندما یقول أکبر:

«کَأَنَّهُ یَقُولُ اللّهُ أَجَلُ مِنْ أَنْ یُدرِکَ الوَاصِفُونَ قَدْرَ صِفَتِهِ الَّذِی هُوَ مَوصُوفٌ بِهِ وَإِنَّما یَصفُهُ الوَاصفُونَ عَلَی قَدْرِهِمْ لاعَلَی قَدْرِ عَظَمتِهِ وَجَلالِهِ، تَعالَی اللّهُ عَنْ أَنْ یُدْرِکَ الوَاصِفُونَ صِفَتَهُ عُلُوّاً کَبِیراً»(1)، فالشخص الذی یکبّر اللّه تعالی ویقول کلمة اللّه أکبر بلسانه فهذا یعنی أننی أقرّ بأنّه لا موجود غیر اللّه تعالی یستحق العظمة والکبریاء، والآن وقد عرفنا المعنی الإجمالی للتکبیر یجب أن نعلم ما هی

ص:277


1- (1) . بحار الأنوار، ج 81، ص 131.

الأسرار فی تعدد الکبیرات، ولماذا جعلت أربع تکبیرات؟ هنا توجد احتمالات عدّة:

الاحتمال الأوّل: أنّ هذه التکبیرات الأربع، إشارة فی کلّ واحدة منها إلی مقام خاصّ، فالتکبیر الأوّل هو التکبیر عن توصیف الذات الإلهیّة، وأنّ اللّه تعالی أکبر من یعرفه أی شخص ویصفه کما یلیق به، التکبیر الثانی من توصف صفات اللّه، فاللّه تعالی بعد دائرة الذات أکبر من أن یوصف بأوصاف نستطیع فهمها وبیانها، والتکبیر الثالث هو التکبیر عن التوصیف فی مقام الأسم، فاللّه أکبر من أن نستطیع أن نذکر له اسم من الأسماء ونعرفه باسمه، والتکبیر الرابع هو التکبیر عن وصف اللّه فی مقام العمل، وهذا الاحتمال هو ما ذکره الإمام الخمینی رضوان اللّه تعالی علیه، وعلی هذا الأساس فإنّ لکلّ واحدة من هذه التکبیرات الأربع مقاماً وإشارة إلی بُعد خاصّ، یعنی أننا لا نستطیع معرفة اللّه لا فی مقام الذات ولا الصفات ولا فی الأسماء ولا فی الأفعال.

الاحتمال الثانی: أنّه لا یبعد أن یکون الأذان حکایة وانعکاس عن تلک الواقعة الإلهیّة عند عروج النبی الأکرم صلی الله علیه و آله إلی السماوات، یعنی عندما عرج بالنبی صلی الله علیه و آله إلی السماء رآی الملائکة الإلهیین عظمة هذا النبیّ، کبّروا أربع تکبیرات، ونحن بدورنا نکبّر هذه التکبیرات فی الأذان حکایة وتقلیداً عمّا فعل الملائکة فی واقعة المعراج، فالمصلّی عندما یقول فی أوّل الأذان أنّه لا أحد یستحق الثناء والحمد سوی اللّه، وهو ذلک العظیم الذی لا یوجد أکبر منه وهو اللّه، وذلک الشخص الذی یملک اللیاقة للعظمة والکبریاء هو اللّه تعالی، فإنّ هذا التکبیر هو الذکر سیؤثر فی روحه وعمله تأثیراً کبیراً.

فلا ینبغی أن نتصوّر أنّ الأذان مجرّد شعار ظاهری بین المسلمین، فالإنسان عندما یأتی بالأذان فإنّه یلتفت ویعترف بوجود مجموعة من الحقائق الواقعیّة،

ص:278

وبعد أن یدخل إلی الصّلاة فإنّ صلاته هذه تتضمّن ثناءً جامعاً وتسبیحاً کبیراً، وأکبر تسبیح وثناء للّه تعالی یوجد فی الصّلاة وذکر هذه المقدّمات فی الأذان یقودنا إلی مثل هذه الصّلاة وأن نقول: إلهنا! لو أننا صلّینا لک مثل هذه الصّلاة طیلة عمرنا فإننا لا نستطیع أن نثنی علیک ونحمدک ونسبحک کما تستحق الحمد والتسبیح، وهذا الإقرار والاعتراف فی أوّل الأذان یبدأ بهذه التکبیرات الأربع.

یجب علینا الاهتمام الجاد بالأذان، وقبل الدخول إلی الصّلاة یجب أن نلتفت إلی حقائق الأذان، وهذا التوجّه والالتفات یهییء الإنسان للدخول فی الصّلاة والوقوف بین یدی الباری تعالی.

ص:279

86- سرّ التکبیرات الأربعة فی کلام الإمام الخمینی قدس سره

ذکرنا بعض الاحتمالات فیما یتعلّق بأسرار التکبیرات الأربع، والاحتمال الثالث هو ما ورد فی کلمات الإمام الخمینی رضوان اللّه تعالی علیه، وسبق أنّ قلنا إنّ المؤذن فی التکبیر الأوّل یلتفت إلی کبریاء الذات الإلهیّة المقدّسة ویعلن لجمیع قواه الظاهریّة والباطنیّة عظمة الذات المقدّسة وکبریاء الباری تعالی، لأنّ الأذان یعنی الإعلان، والمصلّی فی التکبیرة الاُولی یعلن عن کبریاء الباری تعالی لجمیع أعضاءه وقواه الظاهریّة والباطنیّة.

التکبیرة الثانیة، یعلن فیها المصلّی لملائکة اللّه تعالی الموکّلین علی کلّ واحدة من هذه القوی الظاهریّة والباطنیّة، کبریاء وعظمة الباری تعالی.

وفی التکبیرة الثالثة، یعلن المصلّی عظمة وکبریاء الباری تعالی لجمیع موجودات العالم الغیبی والشهود، یعنی أنّ هذا الإنسان لا یلتفت بعد هذا إلی نفسه والملائکة المحیطین به، بل یتوجّه إلی جمیع موجودات العالم المشهودة أو الغیبیّة، ویعلن لها کبریاء الحقّ تبارک وتعالی فی عالم الغیب والشهود.

ص:280

وفی التکبیرة الرابعة، یعنی عن عظمة الحقّ تعالی للملائکة الموکلّین بالسماوات والأرض، والنتیجة التی یستوحیها الإمام الراحل قدس سره من هذا الفهم العرفانی اللطیف هو أنّ الشخص المؤذن بهذه التکبیرات الأربع یعلن لجمیع سکان عالم الغیب والشهود وجمیع الموجودات فی عوالم الحضور عظمة وکبریاء الحقّ تبارک وتعالی(1).

والآن ربّما یطرح هذا السؤال: ما هو الغرض من هذا الإعلان؟ ولماذا یعلن الشخص المؤذن لأعضائه الباطنیّة والظاهریّة من الید والقدم والعین والاُذن عظمة اللّه تعالی وکبریائه؟ لماذا یعلن هذه العظمة الإلهیّة للملائکة الموکّلین به؟ ولماذا یلعن هذه الحقیقة لجمیع موجودات العوالم الأخری؟

فی مقام الجواب ینبغی القول إنّ الغرض من ذلک أمران:

الأمر الأوّل: أنّ الإنسان عندما یعلن عظمة اللّه وکبریائه لجمیع موجودات العالم فإنّ نفس هذا الإعلان یعنی العجز والقصور من جانبه وکذلک من جانب جمیع الموجودات، أی العجز والقصور أن یستطیع أحد من هذه الکائنات عبادة للّه وثناءه وحمده کما هو حقّه، الإنسان بهذه التکبیرات، فی ذات الوقت الذی یعلن عن کبریاء الباری تعالی، فهو یقرّ بعجز وقصور جمیع موجودات العالم، وهذا یعنی أیّها الإنسان وأیّها الملائکة وأیّتها الموجودات فی عالم الغیب والشهود إنّ اللّه تعالی إلی درجة من العظمة والکبریاء بحیث لا نستطیع نحن من معرفته ولا نستطیع عبادته کما یستحقه وکما یلیق بشأنه.

الأمر الثانی: إنّ الإنسان ومن خلال الأذان یجب علیه ادخال هذه المعارف والحقائق إلی قلبه، یجب أن یدرک قلب الإنسان عظمة الباری تبارک وتعالی ویصدّق بکبریاء الحقّ تبارک وتعالی، ویجب علی الإنسان أن یحصر هذه العظمة

ص:281


1- (1) آداب الصّلاة، ص 125.

والکبریاء باللّه تعالی، وانحصار العظمة والکبریاء باللّه یعنی أنّه لا کبیر ولا عظیم سوی اللّه تعالی ولا یوجد أی عظیم سواه، فلو أنّ الإنسان کان یعتقد بقلبه بوجود عظیم غیر اللّه «وطبعاً لا تکون هذه العظمة مقتبسة من اللّه تعالی، لأننا نعتقد أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وبما أنّه نور من أنوار تبارک وتعالی کبیر وعظیم أیضاً، وهکذا أمیرالمؤمنین علیه السلام والأئمّة الطاهرین علیهم السلام» ولو أنّ الإنسان اعتقد باستقلال والعظمة لشخص آخر، فهذا یعنی أنّه عندما یقول اللّه أکبر فإنّه یکذب فی هذا القول، وأنّه لا یقبل کبریاء اللّه تعالی، لأنّ کبریاء اللّه وعظمته تعنی أنّ الإنسان لا یعتقد بوجود موجود له العظمة والکبریاء سوی اللّه، فما أعمق وأعظم هذا المعنی وهذا المقام، فلو أنّ الإنسان آمن واقعاً بأنّ العظمة والکبریاء تتعلّق بالباری تعالی فقط، وأنّ غیر اللّه لا یستحق أن یرتدی لباس الکبریاء والعظمة ولا یلیق هذا الشأن وهذا المقام بما دون اللّه، فالوصول إلی هذا المقام من شأنه أن یثیر فی الإنسان حالة من البهجة والسرور ویوصله إلی مقامات علیا فی خطّ السلوک الإلهی والکمال المعنوی.

ص:282

87- التکرار یوجب التصدیق القلبی

الاحتمال الرابع، فی مجال تکرار التکبیر فی أوّل الأذان، إنّ الإنسان ومن خلال التکرار یرسخ هذا المفهوم والمضمون فی قلبه ویعمل علی تثبیته فی واقعه النفسانی.

إنّ التکرار فی التکبیرات یتسبّب فی أنّ حقیقة هذا التکبیر تتجلّی وتتحقّق فی قلب الإنسان، فإذا آمن قلب الإنسان بحقیقة «اللّه أکبر» واعتقد واقعاً بأنّ الکبریاء والعظمة للّه تعالی فقط وأنّ کلّ ما سوی اللّه من جمیع الکائنات لیس لها نور إلّاما ینعکس علیها من نور اللّه ولا یری أی عظمة لغیر اللّه تعالی، ومن هذه الجهة فالإنسان المؤمن لا یشعر بأی خوف وخشیة من حکّام الجور وقوی الظلم والضلالة، وهذا ما نراه فی صفحات القلب من مواجهة علماء الدین العظام مع أشقی الملوک وسلاطین الجور فی التاریخ ولم یکن هؤلاء العلماء المصلحون یشعرون بأی خوف من هؤلاء الظلمة، والسبب فی ذلک أنّ هؤلاء العلماء لم یکونوا یرون فی الحکّام الظالمین أی عظمة وجلالة قدر، بل کانوا یرون أنّ

ص:283

الکبریاء والعظمة منحصرة باللّه تعالی فقط، والإنسان الذی یعیش مثل هذا الاعتقاد ویری أنّ الکبریاء والعظمة منحصرة باللّه تعالی فإنّه سیتحرّک فی حیاته فی طریق الإیمان والطاعة للّه وتحقیق رضا اللّه، ولو أنّ شخصاً لا سمح اللّه، فی أی أمر من أمور الحیاة رجّح رضا المخلوق علی رضا الخالق، فهذا یعنی أنّه یری أنّ ذلک المخلوق أکبر من اللّه تعالی، وأساساً الأشخاص الذین لا تؤثر فیهم کلمة «اللّه أکبر» ولا تؤثر فی أفکارهم وسلوکیاتهم هم الأشخاص الذین لم تترسخ کلمة «اللّه أکبر» فی قلوبهم، وأنّ قلوبهم لم تؤمن بعظمة اللّه وکبریائه، فتکرار «اللّه أکبر» فی الأذان ینتج أننا نعتقد فی قلوبنا بعظمة الباری تبارک وتعالی وکبریائه، وهذا الأمر لیس فقط یحتاج إلی تکرار بل یحتاج إلی ریاضات کثرة لتعمیق هذا الشعور فی واقع الإنسان وقلبه، ولا یستطیع أی شخص أن یدعی بأنّه فی یوم واحد أو یومین أو شهر واحد أو سنة واحدة أو عدّة سنوات أنّ قلبه آمن بعظمة اللّه تماماً وبشکل کامل.

ونقرأ فی روایة عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال: «إِذَا کَبَّرْتَ فاَستَصغِرْ مَا بَینَ العُلَی والثَّری دُونَ کِبرِیائِهِ»، وعندما تدرک کبریاء اللّه وعظمته فیجب أن تستصغر ما دونه.

«فَإِنَّ اللّهَ إِذَا اطَّلَعَ عَلَی قَلْبِ العَبْدِ وَهُوَ یُکَبِّرُ وَفَی قَلبِهِ عَارِضٌ عَنْ حَقِیقَةِ تَکْبِیرِهِ قَالَ: یا کَاذِبُ»، وهذا التعبیر مثیر جدّاً ویعنی أنّ فی قلب هذا الإنسان أموراً أخری أکبر من الباری تعالی کالمال والمقام والشهرة والجاه والاقتراب من أصحاب المقام والمنصب، وهنا یأتی الخطاب الإلهی لهذا الشخص:

«َتَخْدَعَنِی وَعِزَّتِی وَجَلالِی لأَحرِمَنَّکَ حَلاوَةَ ذِکرِی وَلأَحجِبَنَّکَ عَنْ قُرْبِی وَالمُسَارَّةَ بِمُناجَاتِی»(1).

ص:284


1- (1) مستدرک الوسائل، کتاب الصّلاة أبواب أفعال الصّلاة، الباب 2، ح 9.

وثمّة بعض الأشخاص یسألون: لماذا لا نجد حلاوة فی صلاتنا؟ لماذا لا نتذوق حلاوة ذکر اللّه؟ والجواب: أنّ السبب فی ذلک أننا نعتقد بعظمة غیر اللّه ولا نحصر العظمة والکبریاء باللّه تعالی، ولکنّ الشخص الذی یعلم أنّ الکبریاء والعظمة منحصرة باللّه فقط ثمّ یری أنّ اللّه تعالی قد وفّقه لعبادته وفتح له باب المناجاة معه وأنّه یقف للعبادة فی مقابله، فکیف لا تکون مثل هذه العبادة ومثل هذا الذکر حلواً وجلیلاً وشیّقاً عنده؟

یجب أن نری الأسرار الکامنة فی کلمة «اللّه أکبر»، وعندما نقول فی الأذان «اللّه أکبر» فعلینا أن نرسخ مضمون هذه الکلمة فی قلوبنا ولا نری أی کبیر وعظیم سوی اللّه تعالی، وجمیع قوی العالم وسلطة الحکّام والملوک تعتبر صفراً فی مقابل قدرة اللّه تعالی، یجب أن نعتبر جمیع الوسائل والأدوات والقوی الموجودة فی عالمنا صفراً فی مقابل تدبیر وقدرة اللّه تعالی، والعظمة والکبریاء مختصّة بالباری تعالی ولابدّ من ترسیخ وتثبیت هذه الحقیقة الحاسمة فی قلوبنا وأعماق نفوسنا.

ص:285

88- أسرار الشهادة بالتوحیدالمرتبة الاُولی والثانیة: الشهادة اللفظیّة والعملیّة

بعد أن تبیّن المقصود من التکبیر ووجه تکرار التکبیرات الأربع، یجب أن نفهم المقصود من الشهادة فی التوحید وماذا تعنی کلمة لا إله إلّااللّه؟ بدایة یجب أن نعلم أنّ الشهادة لها مراتب، وأحد هذه المراتب الشهادة اللسانیّة القولیّة، بأن یتشهد الإنسان بلسانه ویقول إنّه لا یوجد معبود آخر سوی اللّه تعالی، وهذه هی المرتبة الضعیفة والدانیة من مراتب الشهادة.

المرتبة الثانیة، الشهادة العملیّة، والمقصود من الشهادة العلمیّة أنّ الإنسان فی مقام العمل ومن خلال عمله وسلوکه یثبت أنّه لا مؤثّر فی الوجود غیر اللّه تبارک وتعالی.

إذا تحرّکنا فی حیاتنا من موقع مدح شخص معیّن والثناء علیه لا بوصفه یملک صفات إلهیّة وإنسانیّة، بل بسبب امتلاکه للسلطة أو الثروة أو المقام والمنصب، فإنّ هذا العمل یعنی أننا نعتقد فی مقام العمل بوجود معبود آخر غیر اللّه تعالی،

ص:286

وکلمة «إله» فی جملة «لا إله إلّااللّه» تتضمّن عدّة احتمالات، وأحد هذه الاحتمالات أنّ هذه الکلمة مقتبسة من «أله فی الشیء» یعنی «تحیّر فی الشیء»، أو ربّما تکون مشتقّة من إله یلوه بمعنی احتجب، أی اختفی خلف الستار، والاحتمال الثالث فی هذه الکلمة بمعنی عبد، ومألوه یعنی معبود، وعلی أیّة حال فمقام الاُلوهیة مختص باللّه تعالی ویجب علی الإنسان أن یعتقد بهذه الالوهیّة فی مقام الذات وکذلک فی مقام الفعل، والالوهیّة فی مقام الفعل والعمل تعنی أنّ الإنسان بعمله یؤکّد هذه الحقیقة وهو أنّه لا مؤثّر فی هذا العالم غیر اللّه تعالی، وکلّ شیء بید اللّه تبارک وتعالی، فشفاء المرضی بیده، والغنی والثروة بیده، والعزّ والکرامة بیده، وإذا أراد شخص من خلال الاعتماد علی شخص آخر مثله ورام تحقیق العزّة لنفسه من خلال ذلک الشخص، فهذا یعنی أنّه لا یری اللّه مؤثّراً فقط فی أمور هذا العالم، بل یری الآخرین أیضاً مؤثّرین فی عالم الوجود.

یجب علی الإنسان أن یمدّ الحاجة فقط إلی اللّه تبارک وتعالی، ویطلب منه کلّ شیء یحتاج إلیه ولا یطمع بغیره ولا یرجو غیره ولا ینبغی أن یضع أمله فی غیر اللّه تعالی، ویظهر فقره وعجزه واحتیاجه فی مقابل اللّه تعالی فقط لا فی مقابل الآخرین، وهذا العمل یعنی أنّ هذا الشخص یشهد بعمله أن «لا إله إلّااللّه»، وهکذا ترون أنّ هذه الشهادة العملیّة أعمق وأوسع بکثیر من تلک الشهادة اللفظیّة.

وعندما نقول بألستنا فی الأذان: «أشهد لا إله إلّااللّه» یجب علینا أن نجسد هذه الشهادة فی عملنا وسلوکنا علی امتداد حیاتنا وطیلة سنوات عمرنا، فالأذان لیس فقط مقدّمة للصّلاة، بل یجب أن نری ما هو تأثیر الأذان فی حیاتنا؟

وهکذا ترون أنّ هذه العبادة من شأنها أن تکون مرشداً لنا حتّی للحصول علی السلطة والإمکانات المادیّة ونیل عظمة وعزّة الدنیا والآخرة، فالأذان یقول لنا إنّ

ص:287

الطریق لکلّ ذلک هو اللّه فقط، ولو أنّ أحداً رجی غیر اللّه فی تحصیل هذه الأمور فإنّه سلک الطریق الخطأ وسوف لا یحصل علی مبتغاه ولا یحقق أمله أبداً، یجب علینا مضافاً إلی الشهادة باللسان أن نعتقد علی مستوی العمل والطبیق أنّ المؤثّر فقط هو اللّه، وأنّ کلّ شیء فی هذا العالم بید القدرة الإلهیّة، ویجب أن نحقّق الشهادة العملیّة علی أنّه «لا إله إلّااللّه»، نسأل اللّه تعالی أن تکون خاتمة حیاتنا وأمرنا جمیعاً تحقیق الشهادة اللفظیّة والعملیّة ب «لا إله إلّااللّه» إن شاء اللّه.

ص:288

89- أسرار الشهادة بالتوحیدالمرتبة الثالثة والرابعة: الشهادة القلبیّة والذاتیّة

المرتبة الثالثة من الشهادة، الشهادة القلبیّة، یقول الإمام الخمینی رضوان اللّه تعالی علیه(1): إنّ الشهادة القلبیّة هی منبع الشهادة العلمیّة والقولیّة، فالقلب یجب أن یحقّق فی سرّه الباطنی، التوحید الفعلی وبذلک تحیط الشهادة بالتوحید بقلب الإنسان ویتجلّی التوحید الفعلی فی القلب، وهذا التعبیر ورد فی الروایات الشریفة: «القَلْبُ حَرَمُ اللّهِ فَلا تُسکِنْ حَرَمَ للّهِ غَیْرَ اللّهِ»(2)، وهکذا یکون التوحید الفعلی مرکوز ومتحقّق فی قلب الإنسان ومحیط به.

إذن ففی باب الشهادة لا ینبغی القناعة بالشهادة اللفظیّة والشهادة العملیّة، فإنّ أصل وجذر الشهادة القولیّة والعملیّة، هو أن یعتقد الإنسان بالتوحید فی أعماق قلبه وینقطع عن غیره من الموجودات، یقول الإمام الراحل رضوان اللّه تعالی

ص:289


1- (1) . آداب الصّلاة، ص 132.
2- (2) . بحار الأنوار، طبعة بیروت، ج 67، ص 25.

علیه: إنّ عمّدة الأخبار الواصلة إلینا من أهل بیت العصمة والطهارة علیهم السلام والتی تقرر لزوم ترک الطمع ممّا فی أیدی الناس والیأس من عباد اللّه والثقة والاطمئنان والاعتماد علی اللّه تبارک وتعالی تتعلّق بهذه المرتبة من الشهادة القلبیّة، والآن إذا شعر الشخص بالحاجة إلی الآخرین، أو بسبب حالة الخجل وبعض الملاحظات أظهر اهتمامه بالآخرین ولکنّه لم یکن کذلک فی قلبه فإنّه لیس مشمولاً لهذه الروایات، لأنّه یجب النظر إلی القلب والنفس والباطن أن لا تکون له أی ارتباط والتفات إلی الآخرین.

وینقل الشیخ الکلینی رحمه الله فی کتابه «أصول الکافی»(1) ، «باب الإیمان والکفر» روایات عدّة تحت عنوان «الاستغناء عن الناس» ونوصی الجمیع أن یقرأوا هذه الروایات ویعلموا معنی عدم الحاجة إلی الناس وأن یکون الإنسان محتاجاً فقط وفقط إلی اللّه تعالی.

یقول الإمام زین العابدین علیه السلام: «رَأَیْتُ الخَیرَ کُلَّهُ قَدْ اجْتَمَعَ فِی قَطعِ الطَّمَعِ عَمّا فِی أَیدِی النَّاسِ»، فما هی خلاصة جمیع أشکال الخیر، وما هو العامل والباعث علی سوق الإنسان باتجاه هذه الخیرات؟ یجیب الإمام زین العابدین علیه السلام: إنّه قطع الطمع عمّا فی أیدی الناس، وعندما یقطع الإنسان حالة الطمع ممّا فی أیدی الآخرین فسوف یصل إلی جمیع أنواع الخیر والصّلاح، وهذا تعبیر عجیب جدّاً «رَأَیْتُ الخَیرَ کُلَّهُ...»، یعنی أنّ الإنسان إذا أراد تحصیل الخیر کلّه فالطریق لذلک یتمثّل فی قطع الطمع بما فی أیدی الناس، فلو أنّک رأیت الآخر یملک داراً واسعة ومقاماً وثروة کبیرة، وشهرة وجاهاً عریضاً، أو جمالاً أو أی شیء آخر، فلا ینبغی أن تهتمّ لذلک ویخطر فی ذهنک التمنی لنفسک مثلها وتقول: لیت لی أن أملک مثل هذا المقام أو الثروة أو حتی العلم والمعرفة، فلو أردت العلم فیجب أن تطلبه من اللّه تعالی.

ص:290


1- (1) . الکافی، ج 3، ص 218.

«وَمَنْ لَمْ یَرْجُ النَّاسَ فِی شیءٍ وَردَّ أَمْرَهُ إِلی اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِی جَمِیعِ أَمُورِهِ»، ویقول دائماً: «وَ أُفَوِّضُ أَمْرِی إِلَی اللّهِ إِنَّ اللّهَ بَصِیرٌ بِالْعِبادِ»1 ، فلو شعرت بأنّک مریض والآخر سالم، فلا تتحسّر علی سلامة ذلک الشخص بل اطلب السلامة من اللّه تعالی.

ویتابع الإمام زین العابدین علیه السلام کلامه ویستعرض الأثر العجیب لهذا الحالة ویقول: «استَجابَ اللّهُ تَعالی لَهُ فِی کُلِّ شَیءٍ»، وهکذا یکون هذا الإنسان مستجاب الدعوة وکلّ ما یطلبه من اللّه تعالی فإنّه یستجیب له، لماذا لا تستجاب لنا الکثیر من الأدعیة؟ لأنّ هذا الإنسان ینادی اللّه تعالی ویقول إلهی إلهی... ولکنّ قلبه متعلّق بغیر اللّه ویرجو أن یتحرّک شخص آخر لمساعدته والأخذ بیده وانقاذه، أو یمنحه اعتباراً ومالاً، ما أشقی الإنسان الذی یرید الاستفادة من الاعتبارات الظاهریّة للآخرین من أجل تحصیل متاع دنیوی موقت ویجعل نفسه محتاجاً للآخرین ویری أنّ المقام والمنصب والثروة أموراً مهمّة فی حرکة الحیاة وهی التی تحلّ مشاکله.

إذا أراد الإنسان العزّة المکانة والاعتبار فی هذه الحیاة یجب أن یطلبها من اللّه تعالی فقط «فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِیعاً»2 ، ومعنی هذه الآیة لیس أنّ العزّة فقط للّه تعالی، بل کلّ الشیء من قبیل السلامة والصحّة والاعتبار والمقام والعلم والسلطة و...

بید اللّه، فنحن فی الأذان یجب أن نشهد بقلبنا «أشهد أن لا إله إلّااللّه»، فلو کنّا نعیش فی حیاتنا مع هذه الشهادة فی قلبنا کلّ یوم وتجذرت هذه الحقیقة فی أعماق قلوبنا، فسوف یتحرّک لساننا عند الموت بکلّ سهولة فی التلفظ بهذه الشهادة، أمّا ذلک الشخص الذی لم تنفذ شهادة لا إله إلّااللّه فی قلبه ولم تستقر فی

ص:291

أعماق روحه فإنّه لا یستطیع عند الاحتضار أن یشهد بلا إله إلّااللّه حتّی لو کان یذکرها کثیراً بلسانه، یجب أن نحقّق هذه الشهادة فی قلوبنا ونعیش مع مضمونها فی نفوسنا.

المرتبة الرابعة، الشهادة الذاتیّة، بأن تشهد جمیع موجودات العالم فی ذواتهم بأن لا إله إلّااللّه وطبقاً للآیة 18 من سورة آل عمران: (شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ وَ الْمَلائِکَةُ وَ أُولُوا الْعِلْمِ...» ، هذه هی الشهادة الذاتیّة.

وعلی هذا الأساس فالمصّلی عندما یؤذّن للصّلاة وعندما یصل إلی شهادة لا إله إلّااللّه فإنّه ینبغی أن یلتفت إلی هذه الحقیقة ولا یتکلّم بها بلسانه فقط، بل یشهد بالتوحید فی مقام العمل والقلب أیضاً.

نرجو من اللّه أن نکون جمیعاً من الموحّدین الحقیقیین إن شاء.

ص:292

90- سرّ الشهادة برسالة النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله فی الأذان والإقامة

أشهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللّهِ

بعد أن ذکرنا شیئاً مختصراً عن خصوصیّات التکبیرات الأربعة والشهادة بالتوحید فی الأذان، یجب أن نری ما هو السرّ أننا فی الأذان والإقامة وبعد الشهادة للتوحید مباشرة نشهد برسالة النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله، وأساساً ما هی العلاقة بین الشهادة بالرسالة وبین الصّلاة، یعنی العلاقة بین نبوّة النّبی وبین عبادة اللّه تبارک وتعالی؟

إنّ العلاقة بین التکبیر والشهادة بالتوحید وبین العبادة واضحة جدّاً، لأنّ حقیقة التکبیر هی العبادة، فمعنی التکبیر هو التعظیم وتنزیه اللّه تعالی وحمده وثنائه، وکذلک الشهادة بالتوحید تقرر نفی الالوهیّة عمّا ما سوی اللّه وإثبات الالوهیّة للّه تعالی، أما بالنسبة للشهادة برسالة النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله فما هی العلاقة بینها وبین الصّلاة والعبادة بحیث إنّ المصلّی یجب أن یقول فی کلّ أذان وإقامة

ص:293

هذه الشهادة مرّتین؟

وقد أشرنا سابقاً إلی روایة المعراج الواردة فی کتاب «علل الشرائع» وتذکر أسرار هذه الأذکار وأنّها تعکس حقیقة ما جری فی عالم المعراج من أذکار الملائکة وتفسیراتهم، فعندما عرج النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله إلی السماء علی مرکب من نور أرسل اللّه تعالی إلیه مع جبرئیل ووصل إلی السماء الثالثة، دهش الملائکة من شدّة عظمة نور النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله وشبه هذه النور بنور الحقّ تعالی «هذه النورانیّة التی تجلت للملائکة» فتحیّروا من عظمة هذا النور ووقعوا سجدّاً.

وعندما شاهد جبرئیل هذا العمل من الملائکة وشدّة حیرتهم نادی مرّة أخری بأعلی صوته «أشهد أنّ محمّداً رسول اللّه» وما أن سمع الملائکة صوت جبرئیل بهذا الشهادة عادوا واجتمعوا حول رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسألوه: کیف حال أخیک علی بن أبی طالب؟

وأوّل نقطة یمکن ملاحظتها فی هذا المقطع من هذه الروایة، أنّه بعد شهادة جبرئیل برسالة النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله ورسالته، فإنّ الحجب زالت من أمام الملائکة الإلهیین، وهذا یعنی أنّ ذکر هذه الشهادة فی بدایة الصّلاة یؤدّی إلی زوال حجب کثیرة عن المصلّی وفتح أبواب معنویّة کثیرة أمامه.

وعلی هذا الأساس فإنّ بیان وذکر هذه الشهادة فی الأذان والإقامة یعکس ما فی تلک الواقعة فی معراج النبیّ صلی الله علیه و آله.

والنقطة الأخری أننا نتذکّر فی صلاتنا هذا المعراج والسفر الروحانی نرید أنّ نسبّح ذلک الموجود العظیم والخالق الکبیر ونحن موجودات تافهة وحقیرة، ومن أجل تسبیح ذلک الموجود العظیم یجب أن نستخدم وسائط ووسائل فی هذا المسار لنکون مقرّبین عند اللّه تبارک وتعالی، وأساساً فبدون ارتباط ووساطة من هذا الوجود النورانی لا یمکن الاتصال بالحقّ تبارک وتعالی، وبدون الشهادة

ص:294

بالرسالة والنبوّة لا تتحقّق الشهادة بالتوحید، التوحید الکامل هو ذلک التوحید المقترن بالشهادة بالنبوّة والرسالة.

وقد طرح الفلاسفة فی بحوثهم هذه المسألة، وهی: أساساً کیف یمکن تصویر ارتباط القدیم بالحادث؟ وکیف أنّ اللّه تبارک وتعالی یرتبط مع الموجودات الممکنة والحادثة فی هذا العالم؟ وفی مقام الجواب عن هذه المسألة ینبغی القول بوجود وسائط فی الفیض، ومن هذه الجهة ورد فی بعض الروایات أنّ أوّل شیء خلقه اللّه تبارک وتعالی هو نور النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله فالمصلّی إذا أقام الصّلاة بدون إیجاد ارتباط وبدون الشهادة علی رسالة النبیّ صلی الله علیه و آله، فلا یستطیع إیجاد الارتباط مع اللّه تبارک وتعالی لا فی مجال الاعتقاد، ولا فی مجال العبادة، فالاعتقاد الکامل والعبادة الصحیحة تنحصر بهذا الطریق.

ص:295

91- سرّ الشهادة بولایة أمیرالمؤمنین علیه السلام

أشهَدُ أَنَّ عَلِیَّاً وَلِّی اللّهِ

تحدّثنا فی مقام الجواب عن هذا السؤال، ما هی العلاقة بین الشهادة بالرسالة والشهادة بالتوحید؟ وکذلک بین أداء هذه الشهادة وبین الصّلاة، وقلنا إنّ طریق التوحید الحقیقی وکیف یکون الإنسان موحّداً حقیقة هو أن تکون لدیه الشهادة القلبیّة واللسانیّة بنبوّة النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله، فالمصلّی یجب أن یتحرّک فی هذا المسار وتکون صلاته هذه سفراً معنویاً ومعراجاً روحانیاً، ویعلم أنّه ضعیف وعاجز ولا یستطیع أن یسلک فی هذا الطریق لوحده بل یجب أن یتمسک ویتوسّل بالأنوار التی تساعده فی سلوک هذا الطریق إلی اللّه، فنحن ومن خلال الشهادة بنبوّة النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله وولایة أمیرالمؤمنین علیه السلام نقوم بتقویة هذا الشعور فی واقعنا الداخلی ونحصل علی النورانیّة التی تساعدنا فی إیجاد القابلیّة واللیاقة لنا للحضور فی محضر الباری تبارک وتعالی.

وهذا الأمر المهمّ والذی تشهد له روایات کثیرة واردة فی الکتب الروائیّة، وهو

ص:296

أنّ العبادة بدون ولایة أمیرالمؤمنین علیه السلام وأولاده الطاهرین لا فائدة لها، فهی لیست مجرّد اعتبار وقانون، فلا یتصوّر أحد أنّ هذه العلاقة بینه وبین اللّه مجرّد علاقة اعتباریة وقانونیّة، وهذا یعنی أنّ الشخص الذی لا یقبل بالولایة فإنّ صلاته لا تقبل منه، وهذا یبیّن لنا حقیقة تکوینیّة واقعیّة، وهی أنّ الإنسان بدون ولایة لا یستطیع أن یعبد اللّه عزّ وجلّ.

فبدون الإمامة وولایة علی بن أبی طالب وأبنائه المعصومین علیهم السلام لا یملک الشخص اللیاقة الکافیة والصلاحیة لعبادة الباری تبارک وتعالی، کما أنّه بدون الشهادة بالنبوّة ورسالة النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله لا یستطیع الإنسان التقرب إلی اللّه تبارک وتعالی.

وجاء فی الروایة المعروفة عن الإمام الباقر علیه السلام یخاطب محمّد بن مسلم:

«یامُحَمَّدُ أَنَّ أَئِمَّةَ الجَورِ وَأَتبَاعَهُم لَمَعزُولُونَ عَنْ دِینِ اللّهِ قَدْ ضَلُّوا وَأَضَلُّوا فَأَعمَالُهُم الَّتِی یَعَملُونها، کَرَمَادٍ اشتَدَّتْ بِهِ الرِّیحُ فِی یَومٍ عَاصِفٍ لایَقدِرُونَ ممَا کَسَبُوا عَلَی شیءٍ، ذَلِکَ هُوَ الضَّلالُ البَعِیدُ»(1).

ثمّ قال الإمام الباقر علیه السلام: لو أنّ الإنسان عبد اللّه تعالی فی جمیع اللیالی وصام أیّامه کلّها وأنفق أمواله کلّها فی سبیل اللّه، وحجّ البیت الحرام کلّ عام، ولکنّه لا یعتقد بولایة ولّی اللّه، فإنّ هذه الأعمال لا قیمة لها، لماذا؟ لأنّ حقیقة العبادة لا تتحقّق بدون الولایة، فالإنسان موجود ضعیف وقلبه متلوّث بآلاف الشوائب والنقائص ویقترن وجوده بالکثیر من نقاط الضعف والقصور، فکیف یستطیع التقرب إلی اللّه تعالی بهذه الحال، وأساساً کیف تکون النسبة والعلاقة بین هذا الموجود الضعیف وبین اللّه؟ أین الثری من الثریا، وأین هذا العبد الناقص وبین اللّه؟

ص:297


1- (1) الکافی، المطبعة الإسلامیّة، ج 1، ص 184.

یجب أن یتمسّک هذا الموجود الضعیف والذلیل بتلک الأنوار حتّی یستطیع التواصل مع اللّه تبارک وتعالی، فهذه الأنوار هی الوسائط إلی اللّه، ولکنّ الأشخاص الذین یعیشون العمی فی قلوبهم لم یفهموا ولا ینبغی أن یفهموا حقیقة الولایة ولا یستطیعون تذوقها ولا إدراک هذه المعارف العظیمة، وبالتالی فهم یغادرون هذه الحیاة الدنیا وهم منکرون للولایة ویواجهون العقوبة الإلهیّة والعذاب الألیم فی الآخرة، وهذه المسألة، وهی أنّ العبادة بدون ولایة غیر مقبولة، هی مسألة برهانیّة وقام علیها البرهان الفلسفی، ومصادیق هذه المسألة وجود الروایات والأدلة العقلیّة علیها، ومن هنا یمکننا الخروج بهذه النتیجة الجلیّة وهی أنّه کلّما ازداد اعتقاد الإنسان برسالة النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله والولایة فإنّ عبادته ستکون مقبولة أکثر ویترتّب علیها ثواب أکثر ویحظی هذا الشخص بقرب أکثر عند اللّه تبارک وتعالی، والشهادة بولایة أمیرالمؤمنین علیه السلام إحدی المستحبات فی الأذان وینبغی الاتیان بها بعنوان الذکر المطلق، وقد ورد فی الروایات أنّ الشخص إذا شهد بالتوحید ونبوّة نبی الإسلام صلی الله علیه و آله یجب علیه الشهادة بولایة أمیرالمؤمنین علیه السلام، جعلنا اللّه وإیّاکم من أهل الولایة إن شاء اللّه.

ص:298

92- دور الولایة فی قبول الأعمال

إحدی الروایات التی تدلّ علی أنّ التوحید بدون التمسّک بالرسالة والولایة لا یعتبر توحیداً کاملاً ولا یتحقّق مضمونه فی حیاة الإنسان، وبدون صحبة أکمل موجود عالم الإمکان لا یستطیع الإنسان التقرّب إلی اللّه تبارک وتعالی، وهذه الروایة هی ما نقله الشیخ الکلینی رحمه الله عن الإمام الباقر علیه السلام، یقول محمّد بن مسلم:

«سَمِعْتِ أَبا جَعفَر علیه السلام یَقُولُ کُلُّ مَنْ دَانَ اللّهَ عَزَّ وَجلَّ بِعِبادَةِ یُجْهِدُ فِیها نَفسَهُ وَلا إِمَامٍ لَهُ مِنَ اللّهِ فَسعَیُهُ غَیْرُ مَقْبُولٍ وَهُوَ ضَالٌّ مُتَحَیِّرٌ»(1).

إنّ مسألة الإمامة والولایة لیست فقط أمراً سیاسیّاً أو أمراً اجتماعیاً یتعلّق بالحکومة والسیاسة، بل إنّ دائرة ولایة الأئمّة المعصومین علیهم السلام واسعة إلی درجة أنّها تستوعب عبادات الإنسان وأموره الشخصیّة، وبحسب هذه الروایة وروایات متعددة أخری أنّ الشخص إذا لم یقبل بولایة أهل البیت علیهم السلام ولم یدخل نور الولایة إلی قلبه، فإنّه لا یملک القدرة علی عبادة اللّه تبارک وتعالی، بل لا

ص:299


1- (1) الکافی، المطبعة الإسلامیّة، ج 1، ص 183.

یملک قابلیة التقرّب إلی اللّه ولا یعتبر موحّداً حقیقیّاً، ولإثبات هذه المسألة، مضافاً إلی الروایات، ثمّة البرهان العقلی الذی یدلّ علی ذلک، وقد ذکر علماؤنا الکبار هذا البرهان فی محلّه، وعندما نقف للصّلاة بین یدی اللّه یجب أن ننظر إلی أنفسنا لنری ما مقدار اعتقادنا بالولایة، وما مقدار ما نملکه فی قلوبنا من ولایة الأئمّة المعصومین علیهم السلام، وما مقدار نور الولایة الذی أحاط بقلوبنا؟ ویمکن القول بوضوح أنّ کلّ إنسان یجد فی نفسه نور الولایة بمقدار أشدّ فإنّ عباداته ستکون أقوی وأکثر تأثیراً.

وفی عصر الغیبة الکبری فإنّ کلّ إنسان یعیش الولایة ویکون اعتقاده بوجود الإمام صاحب الزمان (عج) أکثر وأشدّ وارتباطه القلبی مع ذلک الإمام أقوی فسوف ینال العنایة الإلهیّة أکثر، ولیس فقط الارتباط اللفظی واللسانی، ولیس فقط الدعاء بتعجیل الفرج، بل إنّ الإنسان یعیش فی أعماقه قلبه وروحه هذه الحقیقة ویعتقد بأنّ هذا الإمام هو واسطة الفیض الإلهی علی الکائنات، فکلّما اشتدت هذه العلاقة کانت عبادتنا أعمق وأکثر تأثیراً وکان تقرّبنا إلی اللّه تعالی أکثر.

ویقول الإمام الباقر علیه السلام فی هذه الروایة، فیما یتّصل بالأشخاص الذین لا یقبلون الإمام والولایة: «وَاللّهُ شَانِیءٌ لأَعمَالِهِ وَمَثَلُهُ کَمَثَلِ شَاةٍ ضَلَّتْ عَنْ رَاعِیها وَقَطِیعِها»(1).

رزقنا اللّه تعالی نور الولایة فی قلوبنا إن شاء اللّه.

ص:300


1- (1) الکافی، المطبعة الإسلامیّة، ص 184.

93- الشهادة بالنبوّة والولایة، هی روح العبادة

بِعَلیٍّ قَامَتْ الصَّلاةُ (1)

بالنسبة للشهادة بولایة أمیرالمؤمنین علیّ بن أبی طالب صلوات اللّه تعالی علیه، ینبغی القول: بالرغم من أنّ الشهادة بالنبوّة هی شهادة بالولایة أیضاً، وکذلک الشهادة بالولایة هی شهادة بالنبوّة والرسالة أیضاً، ولکن بما أنّ حقیقة النبوّة والرسالة تکتمل بالوصایة والولایة لأمیرالمؤمنین صلوات اللّه علیه، فیجب علی المصلّی فی هذا السفر المعنوی التوجّه الخاصّ لهذه الحقیقة.

نحن لا نرید الدخول فی بحث فقهی فعلاً، وهل أنّ الشهادة بولایة علی بن أبی طالب علیه السلام هی جزء من الأذان والإقامة، هذه المسألة وردت مورد البحث فی الکتب الفقهیّة، ولکن من البدیهی أنّ الشخص الذی لا یقرّ بلسانه ولا یعتقد بقلبه بأنّ ولایة أمیرالمؤمنین علیه السلام تکمیل للدین واتمام بالرسالة، فإنّ صلاته لا تکون صلاة حقیقیة بأی وجه.

ص:301


1- (1) أسرار العبادة، وحقیقة الصّلاة، ص 23.

وجاء فی الروایة فی کتاب الاحتجاج(1) روی القاسم بن معاویة قال: قلت:

لأبی عبداللّه علیه السلام: هؤلاء یرون حدیثاً فی معراجهم أنّه لما اسری برسول اللّه رأی علی العرش مکتوباً لا اإله إلّااللّه ومحمّد رسول اللّه أبوبکر الصدیق، فقال:

«سبحان اللّه غیروا کلّ شیء حتّی هذا» فقلت: نعم، قال: «إنّ اللّه عزّ وجلّ لمّا خلق العرش کتب علیه لاإِلهَ إِلّا اللّه، مَحَمّد رسول اللّه، عَلیٌّ أَمِیرُ المُؤمِنِینَ...»، یعنی أنّ رجلاً قال للإمام الصادق علیه السلام: یابن رسول اللّه إنّ بعض الناس نقلوا هذا الحدیث فی قصّة المعراج بأنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله رأی فی معراجه مکتوب علی العرش ثلاث کلمات: «لا إِلهَ إِلّا اللّه، مَحَمّد رسول اللّه صلی الله علیه و آله» ثمّ ذکر اسم الخلیفة الأوّل الذی استولی علی الخلافة بعد النبیّ بحسب الظاهر، هنا غضب الإمام الصادق علیه السلام وقال: سُبحَانَ اللّهِ، هؤلاء غَیّروا کُلّ شَیءٍ حَتّی هذه المسألة، ثمّ قال: إنّ اللّه تبارک وتعالی عندما خلق العرش کتب علیه «لا إِلهَ إِلّا اللّه، مَحَمّد رسول اللّه، عَلیٌّ أَمِیرُ المُؤمِنِینَ»، ثمّ قال: لماذا أنّ بعض جهّال هذا الزمان غیّروا هذه الحقیقة؟ وللأسف فإنّ حکّام الجور والتحریف لم یقبلوا بأی شیء من حقائق الدین حتّی أنّهم غیرّوا وحرّفوا هذه الحقیقة فی حدیث المعارج، وبدلاً من عبارة «عَلیٌّ أَمِیرُ المُؤمِنِینَ»، اختاروا اسم شخص آخر وکتبوه فی مسطوراتهم، إنّ الإمام علی علیه السلام، الذی لم یشرک باللّه طرفة عین فی جمیع حیاته کیف یحذف اسم أمیرالمؤمنین ویکتب مکانه اسم شخص آخر الذی قضی مدّة طویلة من عمره فی أجواء الشرک؟ ثمّ قال علیه السلام: لیس فقط هذه الکلمات الثلاثة «لا إِلهَ إِلّا اللّه، مَحَمّد رسول اللّه، عَلیٌّ أَمِیرُ المُؤمِنِینَ»، مکتوبة علی عرش اللّه تبارک وتعالی، بل إنّ اللّه تعالی کتب هذه الکلمات الثلاث علی الماء والکرسی واللوح وعلی جبین إسرافیل وجناحی جبرئیل وأکتاف السماوات والأرض وعلی قمم الجبال وعلی الشمس والقمر،

ص:302


1- (1) . الاحتجاج، ج 1، ص 230.

وبکلمة: کتب هذه الکلمات علی جمیع أجزاء عالم الوجود تکویناً.

ثمّ قال الإمام الصادق علیه السلام: کلّ من قال لا إله إلّااللّه ومحمّد رسول اللّه، فلیذکر علیّاً أمیرالمؤمنین، ولا شکّ ولا ریب وبحسب الضوابط الفقهیّة أنّ کلمة «أشهَدُ أَنَّ عَلِیَّاً وَلِّیّ اللّه»، لا تعتبر جزءاً من الأذان ولکن یستحب أن یأتی بها المصلّی بعنوان الذکر المطلق، وعندما نلاحظ هذه الروایة ینبغی القول إنّ الإنسان المصلّی لا یتصوّر أنّ الشهادة بالاُلوهیّة والشهادة بالنبوّة وولایة أمیرالمؤمنین ینطق بها فی هذا الأذان بل هذه الکلمات مذکورة وموجودة فی باطن عرش اللّه وفی البحار والصحاری والجبال، والکرسی، وجبرئیل، والملائکة، والشمس والقمر، ونحن عندما نذکر هذه الکلمات فی الأذان والإقامة فإنّما نتماهی فی هذا الذکر مع موجودات العالم وما فیه من کائنات ومخلوقات.

وعلی هذا الأساس ینبغی حتماً فی الأذان والإقامة ذکر الشهادة بولایة أمیرالمؤمنین علیه السلام ویقول علماؤنا: إنّ هذه الشهادة حتّی لو لم تکن جزءاً من الأذان ولکنّها تمثّل روح الأذان والدین والعبادة ولا یمکن أن تتحقّق العبادة الصحیحة بدون هذه الشهادة.

ص:303

94- احضار قوی الملک والملکوت

ذکرنا أنّ الشهادة بالنبوّة والرسالة لا تتحقّق بدون الشهادة بالولایة.

هنا نقطة مهمّة ذکرها الإمام الخمینی رضوان اللّه تعالی علیه «فی آداب الصّلاة» یقول: إنّ الشهادة بالتوحید والالوهیّة تتضمّن الشهادة بالنبوّة والولایة أیضاً، یعنی أنّ أنّ الشهادة بالتوحید لا تتحقّق إلّامن خلال الشهادة بالنبوّة والولایة، وکذلک قال: إنّ الشهادة بالنبوّة والرسالة تتضمّن أیضاً تلک الشهادتین الاُخریین، والشهادة بالولایة تتضمّن الشهادة بالتوحید وبالنبوّة»(1) ، لأنّ نور النبیّ صلی الله علیه و آله ونور الإمام علیّ علیه السلام من نور اللّه تبارک وتعالی: وهذان هما أکمل أفراد البشر وهما مظهر توحید الحقّ تبارک وتعالی، وبدون التوسل بهما والشهادة بهذه الذوات المقدّسة لا یستطیع المرء أن یتقرّب إلی اللّه تبارک وتعالی، وقد ورد فی الحدیث النبوی فیما یتّصل بالسفر، أنّه صلی الله علیه و آله قال: «الرَّفِیقُ ثُمَّ الطَّرِیقُ»(2)، أی أنّ

ص:304


1- (1) . آداب الصّلاة، ص 141.
2- (2) . المحاسن، ج 2، ص 357.

الإنسان یجب أن یختار فی سفره الرفیق أوّلاً ثمّ یبدأ المسیر والسفر، وبالإمکان الاستفادة من هذا الحدیث فی باب العبادة، العبادة هی الحرکة نحو الحقّ تعالی، والرفیق فی هذا الطریق یجب أن یکون علی أعلی درجة من درجات التوحید ولا یکون ملوّثاً بلحظة واحدة بشوائب الشرک والذنب والخطأ.

ما أشدّ انسجام هذه الکلمات والعبارات الواردة فی الأذان والإقامة، فالإنسان یجب فی البدایة أن یسبّح اللّه ویقدّسه من خلال التکبیرات الأربع التی أشرنا إلیها سابقاً، ثمّ یشهد بشهادة التوحید ووحدانیّة الباری تعالی، ثمّ یأتی بالشهادة علی النبوّة والولایة.

وإلی هذا المقطع من الأذان، فإنّ المسألة تنتهی بالمسألة الإیمانیّة والاعتقادیّة، وأنّ المصلّی یحظی بصلاحیة الدخول فی الصّلاة بعد هذه الشهادات الثلاث، ولکن مع ذکر «حیّ علی الصّلاة» یبدأ المقطع الثانی من الأذان والإقامة فیجب أن نری المعانی الکامنة فی هذه الأذکار، وما هو المقصود منها؟

فی هذا المقطع من الأذان نقول: «حیّ علی الصّلاة»، ثمّ نقول: «حیّ علی الفلاح»، ثمّ نتابع القول: «حیّ علی خیر العمل»، فالمصّلی یجب أن یذکر هذه العبارات الثلاث کلّ واحدة منها مرّتین.

إنّ الإنسان عندما یؤذّن ویتحرّک فی طریق لقاء اللّه ویرید أن یخطو فی هذا الطریق وفی هذا المعراج الروحانی، فلابدّ له بعد أن یقرّ المسائل الإیمانیّة والاعتقادیّة، یعنی أوّلاً: یعلن عظمة الحقّ تعالی، وثانیاً: یعلن الشهادة الالوهیّة والتوحید، وثالثاً: یختار الرفقة والصحبة النبیّ والولی، ثمّ تأتی کلمة «حیّ علی الصّلاة»، وهی إعلان من المصلّی للقوی الملکیّة والملکوتیّة لیستعد للصّلاة ولقاء اللّه، والمعنی الظاهری لجملة «حیّ علی الصّلاة»، هو أنّ هذا الإنسان یخاطب الآخرین بأن أسرعوا وتوجّهوا نحو الصّلاة لأنّها سوف تبدأ، ولکن

ص:305

المعنی العمیق لکلمة «حیّ علی الصّلاة» إعلان لجمیع القوی الملکیّة والملکوتیّة للمسارعة فی هذا الأمر، فالمؤذّن هنا یعمل علی تهیئة جمیع قوی الملکیّة والملکوتیّة للحضور بین یدی اللّه تعالی ولتستعد هذه القوی للوقوف بین یدی الحقّ تعالی.

وفی المقطع الأوّل من الأذان یتجلّی الجانب الاعتقادی، وأمّا فی المقطع الثانی فیتجلّی الجانب العملی من الأذان، والالتفات إلی القوی والموجودات التی ترید أن تحضر فی محضر الحقّ تبارک وتعالی، فما أعظم الشعور باللذة عندما یقول الإنسان «حیّ علی الصّلاة»، ویلتفت إلی أنّه لا یدعو نفسه فقط إلی هذا الحضور المقدّس، بل یشجع ویحث أصدقاءه علی الصّلاة أیضاً، بل إنّه بهذا الکلام یدعو قلبه ویده وعینه ونفسه وقواه الملکیّة والملکوتیّة لأن تحضر جمیعاً فی هذا المحضر المقدّس والملکوتی.

ص:306

95- سرّ تکرار حیّ علی الصّلاة

ذکرنا أنّ الإنسان بقوله «حیّ علی الصّلاة»، یخاطب جمیع وجوده وأعضائه وجوارحه لکی تستعد للصّلاة وتسارع فی الحضور بین یدی اللّه تعالی، ولیس فقط وجوده الشخصی بل جمیع قواه فی عالم الملک والملکوت أیضاً، یعنی بعد أن ینتهی المصلّی من تعظیم الباری تعالی فی تکبیراته، وبعد أن أقرّ بالوحدانیّة للّه تعالی واعترف بالنبوّة والولایة، هنا تأتی النوبة إلی مرحلة شکر الباری تعالی وعبادته مباشرة دون توقف، فلا یمکن أن یعتقد الإنسان بتلک الشهادة ثمّ لا یسارع فی الصّلاة والعبادة، والأصل فی هذا الأمر أنّ تلک الشهادات بدون أن یتابعها المرء بالصّلاة والعبادة تکون ناقصة، أی أنّ هذه الشهادات لیست واقعیّة ولا تنطلق من أعماق قلب المصلّی، ولکن إذا کانت تلک الشهادات، شهادات کاملة فکیف یمکن للإنسان أن یشهد بالتوحید والنبوّة والولایة ولکنه فی ذات الوقت یتخلّف عن قافلة العبادة؟ وهذا یعنی لزوم الشروع بالعبادة مباشرة بعد الاقرار والاعتراف بتلک الشهادات.

ص:307

وهنا ربّما یسأل البعض؛ لماذا نری «حیّ علی الصّلاة» وکذلک المقاطع الأخری من الأذان تکررت مرّتین؟ والجواب الکلی عن سبب هذا التکرار هو أنّ الإنسان عادة فی المرّة الاُولی لا یتوجّه إلی مضمون هذا الکلام بشکل جید، ولا تستیقظ فطرة الإنسان فی المرّة الاُولی، فالتکرار من أجل إیجاد حالة الیقظة الکاملة للفطرة، والإنسان عندما یقول هذه الکلمة مرّة واحدة ربّما لا یلتفت إلی عمقها ومغزاها، فالتوجّه العمیق والیقظة الکاملة والتامة لفطرة الإنسان التی ینبغی أن تتوجّه للوقوف بین یدی اللّه تعالی وعبادته، تستدعی مثل هذا التکرار، والوجه الثانی ورد فی کلمات الإمام الراحل رضوان اللّه تعالی علیه، حیث یقول:

ربّما یسری هذا الخطاب فی المرّة الأولی إلی القوی الداخلیّة أو القوی الحاکمة فی داخل مملکة الإنسان کالقلب، والاُذن، والید، والعین و...، أمّا فی المرّة الثانیة فهو خطاب للقوی خارج مملکة الإنسان، فالإنسان فی هذه العبادة لا یقف لوحده بل یشارکه جمیع موجودات العالم، ویرید أن یشترک هذه الموجودات معه فی حال التسبیح والعبادة، ثمّ یلتفت إلی الحکمة الکامنة فی هذا النداء، وهذا هو الأثر المهم للصّلاة فی مسیرة الإنسان فی خط الصلاح والفلاح.

إنّ فطرة کلّ إنسان تدعوه فی الحیاة لتحقیق السعادة والفلاح، فلو سألنا أی شخص عن ذلک فیقول: ارید أن أکون سعیداً فی هذه الحیاة، وطبعاً فی بعض الأوقات قد یشتبه الإنسان فی تشخیص مصادیق السعادة، فأحدهم یری أنّ مصداق السعادة یکمن فی المال، والآخر یراه فی المقام والثالث فی الشهوة ورابع فی الطعام وما إلی ذلک، ولکن اللّه تعالی یقول إنّ المصداق المهم للسعادة والفلاح فی حیاة الإنسان یکمن فی الصّلاة، وکلّ شخص یرید الحصول علی السعادة فی حیاته یجب أن یتوجّه نحو الصّلاة، والشخص الذی یهتمّ بصلاته فإنّ أبواب السماوات ستفتح أمامه، وسوف یفتح اللّه له أبواب رحمته وکرمه وحکمته.

ص:308

وقبل البدأ بالصّلاة یقول المصلّی فی الأذان والإقامة «حیّ علی الفلاح»

مرّتین، والتکرار هنا من أجل ایقاظ فطرة الإنسان أیضاً وتجسید وتثبیت هذه الحقیقة فی أعماق نفس البشریّة، وأنّک أیّها الإنسان التفت جیداً واعلم أنّ الفلاح والنجاح یکمن فی هذه الصّلاة فقط.

ثمّ یقول المصلّی «حیّ علی خیر العمل» فلو أردت القیام بأفضل الأعمال، ولو أردت القیام بأحسن عمل یصدر من الإنسان بحیث لا یتصوّر أحسن منه، هذا العمل هو الصّلاة، «حیّ علی خیر العمل» ویتابع المصلّی فی أذانه وإقامته بذکر التکبیر اللّه أکبر، اللّه أکبر، لا إله إلّااللّه، لا إله إلّااللّه، والنقطة المهمّة هنا أنّ المصلّی فی الأذان وکذلک فی الإقامة یبدأ وینتهی بکلمة اللّه، وهذه الکلمة علی حدّ تعبیر أهل الفن اسم وعنوان یستوعب جمیع الشؤون الإلهیّة والصفات الربانیّة.

إلی هنا انتهینا من بیان أسرار الأذان والحِکم الخفیة فیه ونتابع البحث فی بیان الحِکم والأسرار الموجودة فی الصّلاة إن شاء اللّه.

ص:309

ص:310

الفصل الرابع: سرّ القیام فی الصّلاة

اشارة

ص:311

ص:312

96- القیام مظهر التوحید وقیّومیّة الحقّ

بعد بیان نقاط مختصرة حول الأذان والإقامة، نبحث الآن عن خصوصیّات الصّلاة، وفی المجموع فالمصلّی من حیث الشکل والهیئة فی هذه العبادة له ثلاث حالات؛ أحدها حالة القیام، فالشخص إذا لم یکن مریضاً وکان قادراً علی القیام یجب علیه أن یصلّی من قیام، فلو أنّه صلّی من جلوس وحتّی لو استغرقت صلاته مائة ساعة فلا قیمة لها، بل یجب علیه الصّلاة من قیام، والحالة الثانیة الرکوع، والحالة الثالثة السجود.

ولا نری فی أی عبادة أنّ هذه الحالات الثلاث تجتمع فیها، وقد استوحی أکابر أهل المعرفة من هذه الحالات الثلاث، ثلاث مراتب للتوحید وقالوا: عندما یقف المصلّی للصّلاة ویبدأ بها فإنّ حالة قیامه إشارة للتوحید الأفعالی، وحالة الرکوع إشارة للتوحید الصفاتی، وحالة السجود، وهی أهم وأعمق حالة فی العبادة والصّلاة، إشارة إلی أهم مرتبة من التوحید، وهو توحید الذات، والآن یجب أن نری ما هی النقاط والملاحظات فی قیام الصّلاة، وما هی الآداب التی

ص:313

یجب مراعاتها فی حال القیام؟

یقول الإمام الخمینی رضوان اللّه علیه بالنسبة للقیام: إنّ هذه الحالة من القیام فی الصّلاة والألفاظ التی یقرأها المصلّی حال القیام، إشارة إلی مقام التوحید الأفعالی، والمقصود من التوحید الأفعالی أننا نعتقد بفاعلیّة اللّه تبارک وتعالی فی جمیع الأفعال، حتّی أصغر وأقل فعل یصدر من الإنسان مثل الجلوس والقیام، وجمیع أفعاله الأخری تتعلّق بإرادة الحقّ تبارک وتعالی ومشیئته، فما لم یرد اللّه تعالی فلا تسقط ورقة من شجرة ولا تهب أیّة نسمة هواء ولا یصدر أی فعل فی العالم، لا من الإنسان ولا من غیر الإنسان، وطبعاً بالنسبة لأفعال الإنسان سبق وقلنا من محلّه أنّ التوحید الأفعالی لا یتنافی مع اختیار الإنسان، ولکن هذا الإنسان المختار یجب أن یعلم بأنّ کلّ فعل یصدر منه بأنّه مسبوق بإرادة الحقّ تبارک وتعالی ولو أنّه یفعل هذا الفعل من موقع الاختیار والحریة.

إذن فالمقصود من التوحید الأفعالی هو أنّ الإنسان لا یری أی شیء غیر اللّه مؤثراً وفاعلاً فی عالم الوجود، وهذه الحالة من القیام فی الصّلاة إشارة إلی قیومیّة الحقّ تبارک وتعالی، وإذا نطق الإنسان أو فعل فعلاً معیناً فإنّ ذلک یحدث تحت قیّومیّة الحقّ تبارک وتعالی.

ومن هنا یجب علی الإنسان أن یذکّر نفسه ویلقن قلبه ویزیح عنه التعیّنات النفسانیّة ویعلم أنّه لا یملک استقلالاً فی أفعاله، فلو أنّه وقف للصّلاة بین یدی اللّه، فإنّ اللّه تعالی هو الذی أراد له هذا القیام، رغم أنّه مختار فی هذا القیام، ولو لم تکن إرادة اللّه ومشیئته فإنّ هذا الأمر لا یتحقّق، فیجب علیه أن یفهم قلبه وباطنه بهذه الحقیقة، فأدب القیام هو أن یعتقد المصلّی بأنّه وجمیع العالم حاضرون فی محضر الباری تعالی.

فعندما یرید الإنسان أن یقدّم فروض الاحترام لشخص آخر أو یواجه شخصاً

ص:314

آخر فإنّ الأدب الظاهری والفطری یقتضی علیه أن یقف أمامه احتراماً له، وهذا الوقوف یعنی أننی بجمیع وجودی حاضر أمامک، ومثل هذا الإنسان یجب أن یعتقد شاء أم أبی بعظمة الحقّ تبارک وتعالی، فالشخص الذی یصلّی من جلوس أو اضطجاع بدون أی عذر لا یمکن القول بأنّه یعتقد بعظمة معبوده، ولکن عندما یقف فی حالة من الوقار والخشوع وبالخصوصیّات التی سوف نذکرها لاحقاً، فإنّه یؤدّی أدب العبادة نحو الحق تعالی، وهذه الحالة هی التی یجب علی الفرد العابد والسالک أن یتحلّی بها.

ص:315

97- آداب القیام

یقول الإمام الرضا علیه السلام: إِذا أرَدْتَ أَنْ تَقُومَ إِلی الصَّلاةِ فَلا تَقُومْ إِلَیها مُتَکَاسِلاً...؛

تقدّم أنّ أوّل حالة للمصلّی فی صلاته هی حالة القیام، والحالة الثانیة الرکوع والحالة الثالثة السجود، وطبق بیان أهل المعرفة أنّ هذه الحالات الثلاث والهیئات الثلاث إشارة إلی ثلاث مراتب من مراتب التوحید، ففی حالة القیام یشاهد الإنسان بجمیع وجوده الطرف المقابل ومعبوده، وهی الحالة التی لا تحصل أبداً للإنسان فی حال الجلوس أو الاضطجاع.

وجاء فی روایة فی کتاب «فقه الرضا»(1) أنّه: «إِذا أَرَدْتَ أَنْ تَقُومَ إِلی الصَّلاةِ فَلا تَقُومْ إِلَیها مُتَکَاسِلاً وَلا مُتَناعِساً، وَلا مُستَعجِلاً، وَلا مُتلاهِیَاً...»؛ أی تتلهی بالعبث بالید والرأس والاُذن و...، لأنّ ذلک مخالف لأدب القیام.

وعندما یرید الإنسان أن یقف بید یدی اللّه تعالی فإنّه یشعر فی نفسه واقعاً أنّه یری اللّه، وأنّ جمیع فکره ووجوده منجذب إلی اللّه تعالی، فلا ینبغی أن یظهر حالة

ص:316


1- (1) . فقه الرضا، ص 101.

الکسل، ولا ینبغی أن یستعجل بصلاته بحیث یقف وقبل أن یسکن بدنه بشکل کامل یقول: اللّه أکبر، فهذا عمل غیر صحیح.

ویقول الإمام علیه السلام: «وَلَکنْ تَأتِیها عَلَی السُّکُونِ وَالوِقارِ والتََؤدَةِ وَعَلَیکَ الخُشُوعُ وَالخُضُوعُ مُتَواضِعاً للّهِ عَزَّ وَجَلَّ مُتخَاشِعَاً، وعَلَیکَ خَشیَةٌ وَسِیماءُ الخَوفِ رَاجِیاً خَائِفَاً بِالطَّمَأنِیِّةِ عَلَی الوَجَلِ والحَذَرُ».

ونلاحظ أنّ الإمام علیه السلام فی العبارة السابقة قال بوجوب الخضوع والخشوع والتواضع فی الصّلاة وهنا یقول: یجب علیک أن تشعر بالخوف والخشیة ظاهرة علی ملامحک، فالمصلّی یجب أن یعیش الأمل والرجاء من جهة، ویعیش الخوف والخشیة من جهة أخری، فهو یشعر بالقلق هل أنّ اللّه تعالی قبل عبادته أم لا؟ هل أنّ اللّه تعالی ملتفت إلیه ویهتمّ به أم لا؟

«فَقِفْ بَینَ یَدَیهِ کَالعَبْدِ الآبِقِ المُذنِبِ بَیْنَ یَدَی مَولاهُ»، وهکذا یعیش هذا الإنسان حالة الخوف والقلق أمام الخالق عزّ وجلّ.

یجب أن نفهم واقعاً عندما نقف للصّلاة أننا کنّا لحدّ الآن بعیدون وآبقون عن المولی، والآن سمح لنا الباری تعالی بالعودة إلیه ولذلک یجب أن نقف بین یدیه بحالة الندم والخوف والخجل، وفی ذات الوقت یجب أن نشعر بالأمل والرجاء فی رحمة اللّه ومغفرته.

«فصفَّ قَدَمَیْکَ وَانْصبِ نَفْسِکَ وَلا تَلتَفِتْ یَمِیناً وَشِمَالاً»، وعندما یقال لا ینبغی الالتفات إلی هذا الجانب وذاک فالسبب یعود إلی هذه النقطة، وهی أنّ الإنسان یقف فی مقابل الباری تعالی ویجب أن یرکز جمیع حواسه وفکره بهذه العبادة.

«وَتَحْسَبُ کَأَنَّکَ تَراهُ فَإنْ لَمْ تَکُنْ تَراهُ فَإِنَّهُ یَراکَ»(1)، وهکذا ینبغی رعایة آداب الوقوف فی الصّلاة بحیث یشعر الإنسان أنّه یری اللّه فیها، فإن لم یکن یری اللّه فإنّ اللّه یراه.

ص:317


1- (1) . فقه الرضا، ص 101.

98- حقوق الصّلاة فی کلام الإمام زین العابدین علیه السلام

یقول الإمام زین العابدین علیه السلام: وَأَمَا حُقُوقُ الصَّلاةِ فَأَنْ تَعْلَمَ أَنَّها وِفَادَةٌ إِلی اللّهِ؛

إذا التفت المصلّی لأسرار القیام فی الصّلاة والتزم بآدابه، فسوف یشعر بلذّة کبیرة فی صلاته ویحسّ أنّه تطهر واقعاً من شوائب الدنیا ولا یشعر بالتعب والملل من الصّلاة بل یرید أن یتابع صلاته ویستمر بها.

فقد ورد فی بعض الروایات عن الإمام الثامن الرضا علیه السلام أنّ هذا الإمام کان یصلّی فی الیوم واللیلة ألف رکعة، ولعلّة فی ذلک أنّه علیه السلام کان یلتذ من الوقوف للصّلاة بین یدی الباری تعالی، وعندما نری أنّ الإمام علیه السلام فی اللحظات الاُولی من الصباح الباکر وقبل طلوع الشمس أو قبل غروبها یعطل صلاة النافلة ویجلس فی مصلّاه ویناجی ربّه، فذلک بسبب أنّه علیه السلام کان عارفاً بأسرار الصّلاة وقیمتها وبرکاتها، وقد ورد فی الروایة أنّ الإمام زین العابدین علیه السلام ذکر بعض الموارد بوصفها حقوق الصّلاة، یعنی أنّ المصلّی لو لم یراع هذه الموارد فإنّه یضیّع حقّ الصّلاة ولا یؤدّی حقّها.

ص:318

یقول علیه السلام: «وَأَمَا حُقُوقُ الصَّلاةِ فَأَنْ تَعْلَمَ أَنَّها وِفَادَةٌ إِلی اللّهِ»(1)، وهنا یبیّن الإمام علیه السلام موردین من موارد حقّ الصّلاة، المورد الأوّل، هو أنّ نعلم أنّ الصّلاة عبارة عن ورود إلی محضر اللّه تبارک وتعالی، فالشخص الذی یروم الصّلاة فلیعلم أنّه یقدم علی الورود بمحضر الباری تبارک وتعالی، وبعبارة أخری، أنّ الصّلاة هی ورود، ولکنّها ورود إلی محضر الحقّ تبارک وتعالی والمصلّی یجب أن یعلم أنّه بواسطة الصّلاة أنّه سیرد علی هذا الموجود العظیم، وغنی عن البیان أنّ کلّ ورود یستلزم خروجاً، یعنی یجب علیه أن یخرج من الدنیا والمیول النفسانیّة والنوازع الشهوانیّة لیدخل إلی ساحة النور الإلهی.

الحقّ الثانی، أننا نقف بین یدی اللّه تعالی، وهذا الحقّ إنّما یمکن أداؤه فیما لو أدّی المصلّی الحقّ الأوّل للصّلاة وعمل بوظیفته وتکلیفه.

«وَأَنَّکَ فِیها قَائِمٌ بَینَ یَدی اللّهِ، فَإِذا عَلِمْتَ ذَلِکَ کُنْتَ خَلِیقاً أَنْ تَقُومَ فِیها مَقَامَ العَبْدِ الذَّلِیلِ الرَّاغِبِ الرَّاهِبِ الخَائِفِ الرَّاجِی المُستَکِینِ المُتَضرِّعِ المُعَظِّمِ، مَقَامَ مَنْ یَقُومُ بَینَ یَدَیهِ بَالسُّکونِ وَالوِقارِ وَخُشُوعِ الأَطرافِ وَلِینِ الجَناحِ وَحُسْنِ المُناجَِاةِ لَهُ فِی نَفسِهِ وَالطَّلَبِ إِلَیهِ فِی فِکَاکِ رَقَبَتِهِ الَّتِی أَحاطِتْ بِها خَطیِئَتُهُ وَاستَهلَکَتْها ذُنُوبُهُ وَلا قُوَّةَ إِلّا بِاللّهِ»، وفی آخر الروایة یقول علیه السلام أنّه لا قوّة ولا قدرة لدی الإنسان وغیره من المخلوقات إلّابقدرة اللّه تبارک وتعالی، فلو أنّ الإنسان أراد الخلاص من الذنوب والخطایا التی أحاطت به فیجب علیه أن یستمد العون والمد من اللّه تبارک وتعالی والتطهیر من الذنوب لا یکون إلّابإرادة الحقّ تعالی، وعلی هذا الأساس فمن أجل الخلاص من التلوّث یجب أن نقف فی صلاتنا فی مقام العبد الذلیل ونعیش الخشوع والوقار وبالتالی نحظی بحسن المناجاة ولذة الحدیث مع اللّه تعالی.

ص:319


1- (1) . آداب الصّلاة، الإمام الخمینی، ص 150.

99، 100- حدود الصّلاة فی حدیث رزّام

إنّ مسألة القیام فی صلاة الجماعة تعتبر مسألة مهمّة جدّاً ولها تجلیات کبیرة، فالمصلّون عندما یقفون فی صفوف منتظمة أمام الباری تبارک وتعالی یجب أن یعلموا مدی عنایة اللّه بهم ورعایته لهم، والسرّ فی أنّ صلاة الجماعة لها ثواب کثیر جدّاً یکمن فی مراعاة هذه الآداب والتوجّه إلی هذه الأسرار الکامنة فی صلاة الجماعة، وعلی هذا الأساس یجب الالتفات جیداً بکیفیّة قیامنا فی الصّلاة ونعلم بآدابها ونلتزم بمراعاة هذه الآداب.

وینقل المرحوم السیّد بن طاووس فی کتابه «فلاح السائل» روایة عن الإمام الصادق علیه السلام تتحدّث عن خصوصیّات الصّلاة التی تنهی عن الفحشاء والمنکر:

«فی صفة الصّلاة التی تنهی عن الفحشاء والمنکر»، والروایة تقول: إنّ أباجعفر المنصور کان یوم الجمعة وقد أخذ بید الإمام الصادق علیه السلام فسأله رجل یدعی رزّام: مَن هذا الشخص الذی أخذت بیده؟ فقیل له: جعفر بن محمّد ابن رسول اللّه صلی الله علیه و آله، فقال ذلک الرجل: «إِنَّی وَللّهِ لَوَدَدتُ مَا عَلِمْتُ أَنَّ خَدَّ أَبِی جَعفَرِ نَعْلٌ لِجَعفَر».

وبهذه المقدّمات یسأل رزّام من الإمام الصادق علیه السلام عن الصّلاة وحدودها:

ص:320

«أَخبِرنِی عَنِ الصَّلاةِ وَحُدُودِها».

فقال له الإمام علیه السلام: «للصَّلاةِ أَربَعَةُ آلافِ حَدٍّ لَسْتَ تُؤاخَذُ بِها»، أی أنّک لا تستطیع العمل بهذه الحدود ولا یمکنک رعایتها، وهذه نقطة مهمّة جدّاً أنّ الإمام الصادق علیه السلام یقول: إنّ للصّلاة أربعة آلاف حدّ، والمراد من الحدّ هنا هو ما یدخل فی تحقّق حقیقة الصّلاة.

فقال رزّام: «أَخْبِرنِی بِمَا لایَحِلُّ تَرکُهُ وَلا تَتُمُّ الصَّلاةُ إِلّا بِهِ»، أیّها الشباب الأعزاء، لتعلموا أنّ بعض الناس فی زمان الأئمّة المعصومین علیهم السلام عندما یحضرون فی مجلس الإمام ما هی الأسئلة التی یطرحونها، والیوم للأسف الشدید نجد أنّ أیدینا قاصرة عن الوصول إلی ساحة الوجود المقدّس الإمام ولی العصر (عج)، فلا ینبغی أن نغفل عن الأکابر من علمائنا الذین سلکوا فی وادی الفقاهة والمعرفة وفهموا کتاب اللّه وتشخیص الحلال والحرام، ویجب علینا السعی للتواصل وطرح مثل هذه الأسئلة علیهم لکی نستطیع من تصحیح أعمالنا، لئلا تنقضی أیّامنا وعمرنا ثمّ نتأسف لماذا لم نلتفت إلی مسألة القیام فی الصّلاة ولماذا لم نراعی آداب القیام؟ لماذا لم نحقّق القیام المطلوب فی محضر الباری تبارک وتعالی فی حال الصّلاة؟

ویسأل رزّام من الإمام الصادق علیه السلام عن تلک الأمور التی یجب مراعاتها فی الصّلاة وبیان زاویة من هذه الحقیقة وحدود الصّلاة التی یجب علی المؤمن الاتیان بها، وقال علیه السلام: «لا تَتُمُّ الصَّلاةُ إِلّا لِذِی طُهرٍ سَابِغٍ»، أی أن یکون علی طهارة کاملة، وتشمل جمیع وجوده، وهذا یعنی مجموع الطهارة الظاهریّة والطهارة الباطنیّة، وتستوعب الطهارة جمیع وجوده من أعلی رأسه إلی أخمص قدمه، فالإنسان عندما یقف للصّلاة یجب أن یکون وجوده طاهراً، والمراد من هذه الطهارة لیس الوضوء فقط الذی هو شرط للصّلاة، ثمّ قال علیه السلام: یجب أن یکون المصلّی «تَمامِ البَالغِ»، یعنی أنّها تامّة وجامعة، والبالغ له معانٍ متعددة أحدها

ص:321

بمعنی الوصول والنضج، فالطفل عندما یصل إلی حدّ البلوغ یقال له بالغ، أو الثمرة التی تصل إلی حالة النضج یقال ثمرة بالغة، وعلی هذا الأساس فإنّ معنی هذه العبارة أنّ المصلّی یجب أن یصل إلی مرتبة التمام والکامل، أمّا المعنی الثانی للبالغ هو النافذ، و «أمر بالغ» یعنی نافذ، وهذا یعنی أنّ المصلّی یجب أن یتمتع بالتمامیة النافذة، وفی تقدیری أنّ معنی «النافذ» أولی من «البالغ»، ولابدّ أن تکون العبارات المذکورة تنفذ إلی القلب ولا تقف عند حدود اللسان والکلام فقط.

ثمّ قال علیه السلام: الشرط الثالث لحقیقة الصّلاة هو: «غَیْرِ نَازِعِ» وفی بعض النسخ «غَیْرِ نَازِعِ»، وهو تعبیر جمیل جدّاً، ویعنی أنّه لا یصدر منه أدنی حرکة، وکما ذکرنا مسبقاً فی بعض الروایات أنّ الإمام زین العابدین علیه السلام عندما یقف للصّلاة بین یدی اللّه تعالی فکأنّه جذع شجرة فلا یری منه أدنی حرکة إلّاما تحرکه الریح من ثوبه «غیرِ نازِع» یعنی لا تصدر أدنی حرکة منه.

الخصوصیّة الرابعة: «وَلا زَائِغ» بمعنی أنّه لا یصدر منه أدنی انحراف، «زائغ» من مادة «زیغ» وتعنی الانحراف عن طریق الحقّ، وهذه الکلمة تأتی أیضاً بمعنی الانحناء والاعوجاج، یعنی أنّ المصلّی فی حالة الصّلاة یجب أن یقف بشکل ثابت وعمودی ولیس فیه أدنی انحراف واعوجاج، وعلی هذا الأساس فالخصوصیّات التی ذکرها الإمام الصادق علیه السلام فی هذا الحدیث الشریف:

أ) إنّ المصلّی یجب أن یکون بطهارة کاملة، ویتحلّی بجمیع أنواع الطهارة.

ب) یجب أن یتمتع بالتام والجامع والنافذ.

ج) لا ینبغی أن تصدر منه أدنی حرکة خارج الصّلاة، فلا یعبث برأسه ووجهه وأعضاء بدنه.

د) یجب أن یکون ثابتاً ومستقیماً ولا یوجد فی بدنه أی انحراف أو انحناء.

ص:322

101- حدود وخصوصیّات الصّلاة فی حدیث الإمام الصادق علیه السلام

وفی سیاق روایة رزّام یشیر الإمام الصادق علیه السلام إلی بعض هذه الحدود الأربعة آلاف ویتحدّث عن تسع خصوصیّات أخر یقول:

1 و 2. «عَرَفَ فَوَقَفَ»، «وَأَخْبَتَ فَثَبَتَ»، فیجب علیه أن یعرف اللّه ثمّ بعد المعرفة یقف للصّلاة بین یدیه فی حالة اخبات وخشوع، ومع وجود حالة الخشوع والتواضع فسوف یحصل علی الثبات فی هذا العمل.

3. «وَهُوَ وَاقِفٌ بَیْنَ الیَأسِ وَالطَّمَعِ وَالصَّبْرِ وَالجَزَعِ»، المصلّی عند یقف للصّلاة بین یدی اللّه فإنّه یشعر من جهة بحالة من الیأس حاکمة علیه، لأنّه ینظر إلی ضعفه وتقصیره ویری أنّ عمله فی مقابل اللّه تعالی لیس جدیراً بتقدیمه وقبوله، ویجب علینا أن نعیش مثل هذه الحالة فی الصّلاة، فعندما تطول صلاتنا إلی عشر دقائق نتصوّر أننا قمنا بعمل عبادی جلیل، یجب علینا أن نشعر بحالة الیأس من اللیاقة ومقبولیّة أعمالنا وعباداتنا، ولکن من جهة أخری یجب أن نستشعر بلطف اللّه

ص:323

وفضله ورحمته ونعیش حالة الرجاء والأمل.

ومن جهة یجب علینا، فی أعمالنا وامتثال تکالیفنا، أن نتحلّی بالصبر والمثابرة، ومن جهة أخری نتضرّع إلی الباری تعالی ونستشعر الجزع لما قصّرنا فیه من أعمالنا وعباداتنا لئلا یبعدنا العجب عن محضر الباری تعالی وساحة لطفه وبذلک ترفض أعمالنا القلیلة ولا تحظی بالقبول «کَأَنّ الوَعْدُ لَهُ صُنِعَ»، ما أجمل هذا التعبیر وما أبلغه، فالشخص الذی یقف للصّلاة بین یدی الباری تبارک وتعالی علیه أن یعلم أنّ جمیع وعود اللّه تعالی قد تحقّقت بالنسبة إلیه، ویجب أن یکون علی یقین بأنّ الوعود الإلهیّة للمصلّین والمثوبات التی اعدّتْ لهم قد تحقّقت جمیعها، «وِالوَعِیدُ بِه وَقَعَ»، ومن جهة أخری یری نفسه مستحقاً للعقوبات الإلهیّة التی قرّرها الباری تعالی للغافلین والمتساهلین والمتماهلین فی صلواتهم، وهذه الحالة هی حالة عجیبة جدّاً، بأن یری الإنسان نفسه مستحقاً للوعد والثواب الإلهی، وفی ذات الوقت یستحق الوعید والعقوبات الإلهیّة.

4. «بَذَلَ عِرْضُهُ وَتمثِّل غَرَضَهُ»، «عروض» فی اللغة تعنی المال والمتاع والثروة والحیاة أهم رأس مال وثروه یملکها الإنسان وکلما لدیه من مال وثروة یعرضه أمام اللّه تبارک وتعالی.

5. «وَتَمَثَّلَ غَرضُهُ»، أی أنّ غرضه ومقصوده یتمثّل فی هذه المناجاة والدعاء والتوصل مع اللّه تعالی.

6. «وَبَذَلَ فِی اللّهِ المُهْجَةَ»، أی أنّه مستعد للتضحیة فی سبیل اللّه بکلّ وجوده

7. «وَتَنَکَّبَ إِلَیهِ المَحَجَّةُ»، اختار الطریق الإلهی فقط ولم یسلک خطّ الضلالة والانحراف ویجتنب کلّ طریق لا یقوده إلی اللّه.

8. «غَیْرَ مُرْتَعِمِ بِارِتْغَامِ»، فعندما یضع أنفه فی حالة السجود علی التراب لا یجد فی نفسه غضاضة ولا کراهة من ذلک، لا تقول إنّ هذا العمل صعب علی

ص:324

نفسی، فلماذا یجب علیَّ أن أضع جبهتی علی التراب؟ یجب أن یشعر باللذة من هذه الحالة وهذا العمل العبادی.

9. «یَقطَعُ عَلائِقَ الإِهتَمامِ بِعْیَنِ مَنْ قَصَدَ وَإِلَیهِ وَفَدَ وَمِنْهُ استَرفَدَ»، فالمصلّی یقطع أی علاقة ورابطة فی وجوده مع غیر اللّه ویحصر توجهه واتنباهه فی مجال الارتباط مع اللّه تعالی، وهذا الشخص الذی وقف للصّلاة علیه أن یعلم لمن قصد وعلی من یرد ویقف بین یدیه وفی محضره؟ ومن أی أحد طلب الثواب، ومع أی أحد یتحدّث؟

«فَإِذا أَتَیْ بِذَلِکَ کَانَتْ هِی الصَّلاة الَّتِی بِها أَمَرَ وَعَنهَا أَخْبَرَ»، یقول تعالی: «إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهی عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْکَرِ...»1.

أیّها الأحبّة، لماذا لا تنهانا صلواتنا عن الفحشاء والمنکر؟ بسبب أنّ هذه الصّلاة لا تملک تلک الخصوصیّات الواردة فی هذا الحدیث الشریف، ولو أنّها کانت تتمتع بهذه الخصوصیّات فلا یمکن لمثل هذه الصّلاة أن لا تکون ناهیة ومانعة من الفحشاء والمنکر، یقول الإمام الصادق علیه السلام: إنّ هذه الصّلاة هی التی تنهی الإنسان عن الفحشاء والمنکر، وفی ذیل هذه الروایة یقول أبوجعفر المنصور العباسی وهو یخاطب الإمام الصادق علیه السلام قائلاً: «یَاأَبَا عَبْدِاللّه لانَزَالُ مِنْ بَحرِکَ نَغْتَرِفُ وَإِلَیکَ نَزْدَلِفُ تُبَصَّ ُ مِنَ العَمی وَتَجْلُو بِنُورِکَ ِ الطَّخْیاءُ، فَنَحنُ نُعُومٌ فِی سُبحَاتِ قُدْسِکَ»، وهکذا ترون أنّ هذا الخلیفة العباسی، الذی قتل الإمام علیه السلام فیما بعد کیف یتحدّث مع الإمام علیه السلام والکلمات البلیغة التی قالها فی حقّ الإمام علیه السلام؟

ص:325

102- علّة خوف وخشیة الأنبیاء والأئمّة علیهم السلام

جاء فی کتاب «عدّة الداعی» روایة: «رُویَّ أَنَّ إِبرَاهِیم علیه السلام کَانَ یُسمَعُ تَأَوُّهُهُ عَلَی حَدِّ مِیلٍ»(1)، إنّ ابراهیم علیه السلام کان فی حال المناجاة والعبادة للّه یشتدّ به البکاء والتأوّه بحیث أنّه یسمع من مسافة بعیدة «حَتَّی مَدَحَهُ اللّهُ تَعالَی بِقَولِهِ «إِنَّ إِبْراهِیمَ لَحَلِیمٌ أَوّاهٌ مُنِیبٌ»2».

یجب أن نلتفت فی حال القیام فی الصّلاة أنّ هذه الصّلاة لیست فقط لقلقة لسان، بل یجب أن تقترن بحالة الإنابة والتوبة والبکاء، وقد جاء فی سیرة الأکابر من العرفاء وحالاتهم أنّهم أحیاناً یغمی علیهم من شدّة البکاء ولا یستطیعون اتمام الصّلاة.

وقد جاء فی الروایة أنّ النبیّ إبراهیم علیه السلام کان یسمع له فی الصّلاة صوت کصوت المرجل فی حال الغلیان: «وَکَانَ فِی صَلاةٍ یُسمَعُ لَهُ أَزِیز کَأَزیزِ المِرجلِ

ص:326


1- (1) . کلّ میل بمقدار أربعة آلاف ذراع وکلّ ذراع سبعین سانت متر، ولذا میل واحد یساوی الألفین وثمنمائة متر.

وَکَذَلِکَ کَانَ یَسمَعُ مِنْ صَدرِ سَیِّدِنا رَسُولِ اللّهِ علیه السلام مِثْلُ ذَلِکَ»، وطبعاً ینبغی الالتفات إلی أنّ المقصود لیست تلک الحالة من البکاء التی تهدم الصّلاة، «وَکَانَتْ فَاطِمَةُ علیها السلام تَنْهَجُ فِی الصَّلاةِ مِنْ خِیفَةِ اللّهِ»(1).

وفی کتابه «آداب الصّلاة»(2) للإمام الخمینی رضوان اللّه تعالی علیه نری عبارات مهمّة جدّاً، وینبغی أن تقرأه بشکل متکرر، فهذه کلمات إنسان ربّانی قد أتعب نفسه فی تهذیبها ووصل فی سیره وسلوکه المعنوی والإلهی إلی مراتب عالیة، یقول الإمام الخمینی قدس سره: علیک أن تفکّر فی حالات علیّ بن الحسین (زین العابدین علیه السلام) ومناجاته للّه تعالی والأدعیة اللطیفة التی علّم هذا الإمام علیه السلام کیفیة آداب العبودیّة للناس، فأنا لا أقول إنّ مناجاة هذا الإمام الواردة فی کتب الأدعیة هی من أجل تعلیم الناس، وأحد الآراء المذکورة أنّ هذه المناجاة والأدعیة التی صدرت عن أئمّتنا علیهم السلام وما فیه من اظهار التقصیر والذنوب أمام اللّه تعالی هی من أجل تعلیمهم عبادة اللّه بأن یعبدوا اللّه بهذه الصورة.

یقول الإمام الخمینی قدس سره: إنّ هذا الکلام باطل ولا أساس له ونابع من جهل البعض بمقام الربّوبیّة ومعارف أهل البیت علیهم السلام، إنّ حالة الخوف والخشیة لدی هؤلاء الأولیاء أکثر وأشدّ من أی شخص آخر، وتلک الحالة من الخوف والخشیة التی کان أمیرالمؤمنین والإمام زین العابدین علیهما السلام وسائر الأئمّة علیهم السلام یعیشونها لا تقبل المقارنة مع خشیة الإنسان العادی أو مع علمائنا، فإنّ عظمة وجلالة الحقّ تعالی فی قلوبهم أکثر وأشدّ تجلیاً من الآخرین، فاللّه تعالی تجلی لهم بما لا نستطیع درکه ولکن یجب علینا أن نتعلم کیفیّة العبودیّة والسلوک إلی اللّه منهم، وعندما یقف الإمام زین العابدین علیه السلام للصّلاة ویعیش هذه الحالة من الخشوع

ص:327


1- (1) مستدرک الوسائل، ج 4، ص 100، عدّة الداعی، ص 151.
2- (2) . انظر: آداب الصّلاة، ص 152.

والخوف من اللّه فنحن یجب علینا علی الأقل أن نتشبه بهم، وعندما یکون حال إبراهیم علیه السلام کذلک یجب أن نکون مثله ولو بمقدار القلیل.

نحن ندعی أننا من شیعة أمیرالمؤمنین علیه السلام فما مقدار اقتراب صلاتنا من صلاة هذا الإمام علیه السلام؟ یجب أن نسأل من أنفسنا ونجیبها وفی الغالب أننا سنشعر بالخجل والندم، فهیا بنا نتحرّک فی بقیة عمرنا والمهلة التی أمامنا أن نهتمّ باصلاح هذا الحال واصلاح صلاتنا.

ص:328

103- الإمام زین العابدین علیه السلام قدوة العابدین

ذکرنا أنّ الإمام الخمینی رضوان اللّه تعالی علیه، یقول: یجب علینا أن نقتدی فی عبادتنا وعبودیّتنا، بعبادة الإمام علی بن الحسین زین العابدین علیه السلام، فهذا الوجود وهذا الإمام المبارک یعدّ من أکبر النعم التی منّ اللّه تعالی علی عباده من أجل إفهامنا طریقة العبودیّة والسلوک إلی مقام القرب والقدس الإلهی، فعبادة الإمام زین العابدین علیه السلام وأدعیته وصلاته کلّها منّة من اللّه تعالی علی سائر الخلق حتّی یکون نموذجاً وقدوة واُسوة فی کیفیة العبادة والتضرّع والوصول إلی اللّه، والمقصود من النعیم فی الآیة الشریفة: «ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ یَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِیمِ»1 ، هی نعمة الولایة التی یسأل عنها المرء یوم القیامة.

فإذا سئلنا فی ذلک الیوم: لماذا لم تعرف هذه النعمة ولم تنتفع بتعلیمات وتوصیات هذا الإمام؟ لماذا لم تکن أدعیتکم وصلواتکم مثل دعاء الإمام زین العابدین علیه السلام وصلاته؟ فنحن لا نملک الجواب أمام اللّه تعالی، ثمّ یقول الإمام

ص:329

الراحل قدس سره: «أیّها العزیز! الآن وأنت تملک المهلة والفرصة ورأس مال العمر والطریق مفتوح أمامک للسلوک إلی اللّه، فالآن وأنت تملک الوقت ورأس المال والطریق مفتوح وأبواب رحمة اللّه مفتوحة أمامک وتملک السلامة وقوة الأعضاء والجوارح وتعیش فی دار الزرع وعالم الملک، فعلیک باستثمار هذه الفرصة»، ما أروع هذه الکلمات والتعبیرات البلاغیة العمیقة، فنحن الآن نعیش فی عالم الزراعة وغداً یکون الحصاد، ولا یوجد فی باب المعنویّات فصل خاصّ للزراعة.

إنّ عالم الدنیا هو دار الزرع دوماً، ففی کلّ لحظة، سواءً فی اللیل أو فی النهار، یجب علی الإنسان أن یتحرّک للزراعة وتقدیم أعماله الصالحة للعالم الآخر، یقول: «الآن وأنت تتوفرّ لدیک جمیع العوامل وتواجه القلیل من الموانع فی العبادة والطاعة والمشاکل الدنیویّة وبالتالی فإنّ التلوّث بالذنوب أقل والحجب علی قلبک قلیلة».

وبالنسبة للأشخاص الذین یملکون بحمد اللّه إمکانیة السیر والسلوک المعنوی، فیجب علیهم أن یشحذوا الهمّة والعزم ویدرکوا قدر هذه النعمة الإلهیّة وینتفعوا بها ویتحرّکوا فی طریق تحصیل الکمالات الروحانیّة والسعادة الأبدیّة.

وفی هذا المقطع یذکر الإمام الخمینی رضوان اللّه تعالی علیه، نقطة مهمّة جدّاً ویقول: إنّ کلّ هذه المعارف الواردة فی القرآن الکریم وروایات أهل البیت علیهم السلام وما جاءوا به لهذه الطبیعة الظلمانیّة فی الأرض وأناروا العالم بأنوارهم الملکوتیّة، فلماذا لا نستفید نحن منها؟

ویقول قدس سره: یجب علیک استغلال الفرصة والسعی لتنویر أرض طبیعتک المظلمة بالنور الإلهی، وهکذا تنوّر نفوسنا وعیوننا وآذاننا ولساننا وقوانا الظاهریّة والباطنیّة بنور اللّه، هذه الأرض الظلمانیّة یجب أن تتبدل بأرض نورانیّة وسماویّة

ص:330

وعقلانیّة، کما ورد فی القرآن الکریم: «یَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَیْرَ الْأَرْضِ...»1 ، و «وَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها...»2 ، یقول قدس سره: طبقاً للآیة الاُولی فکلّ إنسان یجب علیه أن یستبدل وجوده وأرضه المظلمة بنور اللّه ویجعلها أرضاً نورانیّاً، فإذا عمل الإنسان فی الدنیا هذا العمل فإنّه سوف لا یواجه الظلمات والصعوبات والمصائب والعذاب والذلة یوم القیامة وسیکون یوم القیامة بالنسبة إلیه یوم جلیل وسعید جدّاً، وأمّا الأشخاص الذین عاشوا فی عالم الدنیا حالة الظلمة وکانت أرضهم مظلمة فإنّهم سیزدادون یوماً بعد آخر من الظلمة وستکون قیامتهم صعبة جدّاً(1).

ص:331


1- (3) انظر: آداب الصّلاة، ص 152.

104- الغرض الإلهی من فرض الصّلاة علی العباد؟ العبادات، تجسید التوحید فی ملک البدن

تبیّنت فی بحث أسرار الصّلاة هذه النقطة، وهی أنّ العبادات الظاهریّة لها حقیقة خاصّة، والغرض من أداء هذه الظواهر العبادیّة هو الوصول إلی تلک الأسرار والحقائق، وبدون رعایة هذه الظواهر لا یمکن التوصل إلی تلک الحقائق، والکثیر من الأشخاص یسألون: ما هو غرض اللّه تبارک وتعالی من الصّلاة؟ والسبب فی هذا السؤال هو أننا قصرنا فکرنا ودرکنا علی هذه الظواهر وأنّ کلّ ما فی الصّلاة والعبادة هو هذا الظاهر، أی هذا القیام والقعود والأذکار الظاهریّة، ومع هذا الحال قد یطرح هذا السؤال وهو: ما هو غرض اللّه من هذه العبادة وماذا یستفید اللّه من هذا الظاهر، وکذلک ما فائدة هذه العبادة للإنسان؟

ولکن لو علمنا أنّ هذا الظاهر هو طریق لفتح أبواب الحقائق والمعارف أمامنا التی لا سبیل لنا لفهم تلک الحقائق بغیر هذا الطریق، فالصّلاة لها حقائق ومعارف لا یمکن الوصول إلیها إلّابهذا الظاهر والأعمال، وعلی رأس هذه المعارف مسألة

ص:332

التوحید، فمن أجل أن یتمکن الإنسان الاقتراب إلی حقیقة التوحید بمقدار ممکن فالطریق الوحید أمامه هو الصّلاة، وکلّ شخص یوفّق أکثر لأداء الصّلاة فإنّه سیتقرب أکثر من مقام التوحید، وینقل الإمام الراحل رضوان اللّه علیه فی کتابه «آداب الصّلاة» عن استاذه فی العرفان المرحوم الشیخ الحاج محمّد علی شاه آبادی رضوان اللّه تعالی علیه، إنّ العبادات فی حقیقتها تجسید وترسیخ للتوحید فی ملک البدن وفی باطن القلب، فالإنسان عند إتیانه بالعبادة یرید أن یحقّق التوحید فی جمیع عالم ملکه ووجوده، وبدون هذه العبادة والصّلاة لا یتحقّق التوحید فی وجود الإنسان.

والنقطة التی یؤکد علیها الإمام الخمینی قدّس سرّه فی هذا المورد(1) هی: أنّ مقصد ومقصود الباری تعالی من أرسال الأنبیاء والقرآن والأحکام والشرائع والکتب السماویة هو نشر التوحید والمعارف الإلهیّة، فجمیع هؤلاء جاءوا لإیصال الإنسان إلی مرتبة التوحید وتخلیصه من أجواء الکفر والشرک وتطهیر باطنه من شوائب الانحراف والضلالة، ثمّ یقول: من الخطأ أن نقول إنّ جمیع هذه البرامج السماویّة أعم من إرسال الأنبیاء والکتب، وبیان الشرائع، والأحکام، والدساتیر والمقررات، من أجل أنّ الإنسان یدخل الجنّة المادیّة ویتنعم بنعمیها بعد هذا العالم، بل إنّ هذه الاُمور مقدّمة لإیصال الإنسان إلی مقامات أعلی وأسمی ولفتح أبواب المعرفة الواسعة أمامه، فلو أنّ الإنسان وصل فی عباداته إلی هذه المرتبة فإنّه لا یکتفی بالظاهر، وأساساً فإنّه یتجاوز هذه الظواهر ویعبرها ویوصل نفسه إلی الباطن والحقیقة، یجب علینا الالتفات إلی أنّ بسط هذه الأمور وإنزالها من بساط الرحمة الإلهیّة وانزال الکتب والملائکة وإرسال الأنبیاء لیس هو من أجل تحقّق بعض الأمور الظاهریّة والتافهة کالأکل والشرب

ص:333


1- (1) . انظر: آداب الصّلاة، ص 153.

والمشی تحت ظلال الأشجار فی الجنّة، إنّ غایة المعارف هی أنّ الإنسان مع إتیانه بهذه العبادة والامتناع عن الذنوب والمعاصی سیصل إن شاء اللّه إلی مقامات عالیة جدّاً من العلم والمعرفة والنورانیّة فی الآخرة، وهذه نقطة مهمّة جدّاً یجب علینا الالتفات إلیها.

ویقول الإمام الخمینی رحمه الله: إنّ أمثالنا من الذین لم یتجاوزوا حدّ الحیوانیّة لا یفکرون سوی بالجنّة الجسمانیّة وإشباع البطن والفرج، ولکن ینبغی أن نتصوّر بأنّ السعادة منحصرة بهذه الأمور وأنّ جنّة الخلد محصورة بهذه الجنّة الحیوانیّة بل إنّ للحقّ تعالی عوالم لا تخطر علی بال بشر ولا تراها عین ولم تسمعها اذن، ولذلک فإنّ أهل المحبّة والمعرفة لا یهتمّون بمثل هذه الجنّة المادیّة والحیوانیّة، بل یهدفون إلی جنّة اللقاء وجنّة الحضور.

وهکذا ترون إلی أی درجة ومرتبة توصل الصّلاة الإنسان فی سیره المعنوی؟ فهذه الصّلاة إذا اقترنت برعایة آدابها وخصوصیّاتها فإنّ غایتها التوحید والوصول بالإنسان إلی مقامات أسمی وأعلی من هذه الجنّة الظاهریّة، ونسأل اللّه تعالی أن یرزقنا هذه النعمة إن شاء اللّه.

ص:334

الفصل الخامس: أسرار النیّة

اشارة

ص:335

ص:336

105- النیّة هی العزم علی أداء الفعل

بعد بیان أسرار القیام، یأتی الدور إلی بیان موضوع النیّة فی الصّلاة، فثمّة عدّة أمور یجب بیانها فی مسألة النیّة، وأوّلها: ما هی حقیقة النیّة؟ إنّ حقیقة النیّة عبارة عن العزم علی أداء فعل معیّن، فمجرّد أن یقصد الإنسان الإتیان بعمل معیّن تتحقّق النیّة، ولذلک فإنّ حقیقة النیّة لا تتوقف علی التلفظ، بحیث إنّه لو لم یتلفظ بالنیّة بلسانه فإنّ النیّة لا تتحقّق، إنّ حقیقة النیّة هی ما تقدّم من وجود عزم فی نفس الإنسان علی القیام بفعل معیّن، مثلاً عندما یقرّر الإنسان أن یمشی خطوات، فإنّ نیّة المشی تتحقّق حنیئذٍ، ولو أنّه قرّر أن یجلس فإنّه نوی الجلوس.

وعلی هذا الأساس فلا یخلو أی فعل اختیاری من النیّة، ولا یمکن أن یصدر أی فعل وعمل بدون النیّة، والنتیجة عندما یرید الإنسان القیام بالصّلاة فهذه هی النیّة للصّلاة بمجرّد أن یقرّر الإنسان القیام لعبادة اللّه فإنّ هذه هی النیّة، فلا ینبغی أن نبتلی بالوسوسة فی هذه المسألة، وللأسف فإنّ بعض الجهّال والأشخاص الذین یعیشون حالة التقدّس، فإنّهم یبتلون بهذه الحیلة الشیطانیّة وخاصّة فی

ص:337

العبادات وبالأخص فی الصّلاة، فالشیطان ومن أجل التصدی لإیمان الإنسان یتبع حیل متعددة ومختلفة، فتارة یزرع الیأس فی الإنسان ویجعله یترک أصل العمل العبادی، ولو أنّ هذه الحیلة لم تؤثر فی البعض فی المرحلة الاُولی، فإنّه فی المرحلة الثانیة یورطه بمسألة الریاء والعجب والغرور.

فی المرحلة الثالثة، یتحرّک الشیطان لالقاء الشک والتردید والوسوسة، بأن یقول له هل أتیت بالنیّة أم لا؟ وهل أنّ نیّتک صحیحة أم لا؟ وهل قصدت القربة أم لا؟ وعلی هذا الأساس فإنّ مرادنا من النیّة هو قصد أداء الصّلاة والعزم علی الاتیان بالصّلاة، فالشخص الذی یقوم ویرید أن یکبّر للصّلاة فإنّه قصد الاتیان بالصّلاة، ولا ینبغی أن یبتلی بالوسوسة «أننی نویت للصّلاة أم لا»، وللأسف نری أحیاناً أنّ البعض یقولون «اللّه أکبر» ثمّ یقطعون الصّلاة بحجّة أنّه لم ینو نیّة صحیحة، فهذه الوساوس، کما ورد فی الروایات الشریفة، هو عمل شیطانی.

فی الروایة عن الإمام الصادق علیه السلام: «لا تُعَودِّوا الخَبیثَ مِنْ أَنْفُسِکُم بِنَقضِ الصَّلاةِ فَتُطمِعُوه»، فکلّ مرّة تقطع الصّلاة فإنّ طمع الشیطان سیزداد «فَإِنَّ الشَّیطَانَ خَبِیثٌ یَعتَادُ لِما عُوِّدَ»، فعندما تتعوّد أن تقطع صلاتک بسبب مسألة النیّة، فإنّ الشیطان سیعود إلیک مرّة ثانیة لتقطع الصّلاة أیضاً.

«إِنَّما یُریدُ الخَبِیثُ أَنْ یُطاعَ فإِذا عُصِی لَمْ یَعُد إِلی أَحَدِکُم»، ولذلک عندما لا تلتفت إلیه ولا یطیعه فی وساوسه سیشعر بالیأس ویترکک، ولکن إذا شککتَ فی الصّلاة هل نویت للصّلاة أم لا؟ فإذا لم تهتمّ لذلک وتستمر بصلاتک فإنّ الشیطان سوف یترکک وتخلص من التورط بالشک والوسوسة، وأمّا لو التفت إلی وسوسته وأطعته فیما یقول وقطعت صلاتک فإنّ الشیطان سیعود مرّة أخری فی صلاتک الثانیة، أو یبقی معک فی هذه الصّلاة ویعمل علی بث الشک والتردد فی نفسک، وأحیاناً یستغرق المصلّی ساعة کاملة لینهی تکبیرة واحدة، ویقول دائماً إننی لم

ص:338

أنوی للصّلاة بشکل صحیح، لماذا نصرف عمرنا الغالی فی تحصیل هذه الأمور الظاهریّة ونتلف عمرنا باطاعة الشیطان ونفسح له المجال للتصرف فی نفوسنا وأفکارنا والحال أننا یجب أن نهتمّ للحصول علی الحقائق والمعنویات؟

إذن لا ینبغی لنا فی مسألة النیّة أن نطیع ونتبع هذه الوساوس، وکلّ عمل اختیاری لابدّ وأن یکون مقترناً بالنیّة، ولا یجب أن تکون النیّة بالتلفظ، فبمجرّد أن تقوم للصّلاة فهذا یعنی أنّک نویت للصّلاة والاتیان بها بهذا العمل، وهذا المقدار من النیّة یکفی للصّلاة، ونری فی کلمات الإمام الخمینی رضوان اللّه تعالی علیه التأکید علی هذه النقطة، وهی أنّ الوسواس بالنیّة أعجب وأغرب من جمیع الوساوس، فلو أنّ الإنسان لم یلتفت وأصغی إلی کلام الشیطان فسوف یجرّه إلی عواقب وخیمة، فأنتم ترون أنّ الشخص إذا أراد أن یقوم بعمل اختیاری بدون نیّة فهذا غیر ممکن عقلاً ولو جمع کلّ قواه فی طیلة عمره أن یأتی بعمل بدون نیّة لا یستطیع لذلک سبیلاً، ولکن تری شخصاً مریضاً وضعیف العقل ینتظر قبل کلّ صلاة مدّة مدیدة لکی یأتی بالنیّة لصلاته، وهذا الشخص مثل ما لو فکّر الإنسان لمدّة فی کیفیّة النیّة عندما یتناول طعام الغذاء أو عندما یتوجّه إلی السوق، وهذا المسکین الذی ینبغی أن تکون صلاته معراج القرب ومفتاح السعادة له ویهتمّ بالتأدّب بالآداب القلبیّة ویطلع علی أسرار هذه اللطیفة الإلهیّة ویعمل علی تکوین ذاته وتأمین حیاته، فهو یغفل عن جمیع هذه الأمور، بل لیس فقط الاهتمام بهذه الأمور، بل أنّه یراها باطلة جمیعاً، یعنی أنّه لا یتوجّه أبداً لهذه الأسرار والحقائق ویصرف رأس ماله العظیم فی خدمة الشیطان واطاعة الوسواس الخنّاس ویجعل من عقله، وهو النعمة الإلهیّة ونور الهدایة، محکوماً بحکم إبلیس(1).

ص:339


1- (1) انظر: آداب الصّلاة، ص 157-158.

وهکذا ترون کیف أنّ الوسواس مذموم وخاصّة الوساوس بالنیّة، لأنّه یحجب الإنسان من أصل العمل والعبادة ویبعده عن حقیقة هذه العبادة، فإذا شعر الإنسان بأدنی الوسواس فی نفسه وذهنه، فیجب علیه أن یفکّر فی التخلص منه حتماً ومهما بذل من تعب وریاضة نفسیّة، ولا یتصوّر مثل هذا الاحتیاط فی العمل أنّه من التدین، فالشخص الذی یقطع صلاته مرّات عدیدة بحجّة أنّه لم ینو للصّلاة، فإنّه مطیع للشیطان ولا یتصوّر أنّ ذلک من التدین والتقدس وأنّه سیحظی بثواب أکثر من اللّه.

ص:340

106- الإخلاص وقصد القربة

إحدی النقاط التی تطرح فی مورد النیّة، أنّ المصلّی یجب أن یأتی بصلاته وعمله العبادی بإخلاص وقربة إلی اللّه تعالی، یعنی أنّه یقصد عمله هذا التقرّب إلی اللّه تبارک وتعالی.

وبعبارة أخری أنّه یصلّی بإخلاص کامل للّه تعالی، وطبعاً تعلمون قصد القربة تختلف عن مسألة النیّة فی أصل الصّلاة، فلو أنّه کان ینوی مع نیّة الصّلاة غیر قصد التقرّب إلی اللّه فإنّ هذه الصّلاة باطلة، وبالنسبة للإخلاص فهنا مسائل بحاجة إلی التأمل فیها والدقّة، ماذا یعنی الإخلاص؟ وماذا یعنی التقرّب إلی اللّه؟ وما هی مراتب الإخلاص للّه تعالی؟ ذکر أولیاء اللّه والعرفاء الکبار وعلی رأسهم الإمام الخمینی رضوان اللّه تعالی علیه ثمان مراتب للإخلاص، وبعد أن نعلم بمراتب الإخلاص تأتی النوبة إلی تحقّق هذه المراتب العالیة فی أعمالنا وعباداتنا وبخاصة مرتبة کمال الآخلاص.

إنّ حقیقة الإخلاص عبارة عن أداء العمل بعیداً عن أی شائبة وهدف باعث

ص:341

غیر امتثال أمر اللّه تعالی وبأن یأتی الإنسان بهذا العمل للّه تعالی فقط لا بقصد الریاء والتظاهر أمام الآخرین، وأن یرونه یصلّی صلاته فی أوّل الوقت ولکسب رضاهم والفات نظر المخلوقین، بل لا یکون قصده بدافع العجب والغرور، فلا ینبغی أن یصلّی المؤمن صلاته ویقول لنفسه أننی اصلی أوّل الوقت أو اصلی جماعة ویحدّث نفسه من موقع العجب والرضا عن نفسه، فهذه الأمور تتنافی مع الإخلاص، ومعنی الإخلاص هو أنّ المصلّی لا یفکّر بشیء غیر اللّه تعالی.

یقول القرآن الکریم: «أَلا لِلّهِ الدِّینُ الْخالِصُ...»1 ، ونستوحی من هذه الآیة الشریفة أنّ الدین الخالص هو ما یکون للّه تعالی، أی الدین الذی لا یکون فیه شائبة غیر اللهی، الدین الذی تکون ماهیّته وخصوصیّاته من البدایة إلی النهایة جمیعاً للّه، الدین الذی لا یوجد فیه شائبة شیطانیّة وغیر إلهیّة، ویستفاد من هذه الآیة الشریفة أنّ اللّه تبارک وتعالی لا یقبل إلّاما کان خالصاً له ویقصد به وجهه فقط، فالدین الخالص والقلب السلیم، هو القلب الخالص: «یَوْمَ لا یَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ * إِلاّ مَنْ أَتَی اللّهَ بِقَلْبٍ سَلِیمٍ»2 ، وقد ورد فی بعض الروایات أنّ القلب السلیم یعنی القلب الذی لا یوجد فیه شیء غیر اللّه تعالی، فإذا أردنا أن نصلّی وتکون صلاتنا مقبولة ونافعة لنا فی عالم الدنیا والآخرة، فیجب أن تکون مقرونة بالإخلاص ولا توجد فیها أی شائبة غیر اللّه تعالی.

ویستفاد من الآیة الشریفة: «أَلا لِلّهِ الدِّینُ الْخالِصُ...» ، الدین الصحیح هو الدین الخالص، فلو لم یکن الدین خالصاً وکانت فیه أذکار وأهداف غیر إلهیّة فمثل هذا الدنیا لا یتعلّق باللّه تعالی ولا یکون مقبولاً عنده.

ص:342

107- الإخلاص، أن یکون العمل قابلاً للعرض علی اللّه

یستفاد من آیات القرآن الکریم فیما یتّصل بحقیقة الإخلاص أنّ اللّه تبارک وتعالی یقبل الدین الخالص، وأساساً إذا لم یکن العمل خالصاً للّه فإنّه غیر قابل للعرض بین یدی اللّه تبارک وتعالی، لا نقول إنّ اللّه لا یتقبّل هذا العمل، لأنّ مثل هذا العمل أساساً غیر قابل للعرض بمحضر الباری تبارک وتعالی.

والإنسان المصلّی أو أی شخص أدّی عبادة معیّنة یجب أن یلتفت أنّه لو لم یکن عمله خالصاً للّه فإن هذا العمل من شأنه أن یتبدل إلی ظلمة وبالتالی لا یمکن عرضه علی الباری تبارک وتعالی الذی هو نور.

یقول القرآن الکریم: إنّ الدین الخالص للّه، یعنی إذا کان الدین یحتوی علی أفکار نفسانیّة وشیطانیّة وغیر إلهیّة فإنّه لا یحقق ارتباطاً مع اللّه تبارک وتعالی، والعمل الخالص یکون هذه الصورة، وبعبارة أخری، إذا لم یتمتع الشخص بالإخلاص فی صلاته فلا یستطیع القول بأنّنی صلّیت، لأنّ عمله لا یتّصف بعنوان الصّلاة لیمکن عرضه علی اللّه تبارک وتعالی، یقول القرآن الکریم فی الآیة 5 من

ص:343

سورة البیّنة: «وَ ما أُمِرُوا إِلاّ لِیَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِینَ لَهُ الدِّینَ» ، فقد أراد اللّه تبارک وتعالی من الیهود والنصاری أن یترکوا الشرک ویعبدوا اللّه فقط، فلا موجود آخر یستحق العبادة سوی اللّه تعالی، ولذلک یجب أن تنطلق العبادة من موقع الإخلاص، وهذا الأمر لا یختصّ بأهل الکتاب، فإنّ اللّه تبارک وتعالی طلب من جمیع البشر عبادته بإخلاص.

ونقرأ فی سورة الشوری الآیة 20 قوله تعالی: «... وَ مَنْ کانَ یُرِیدُ حَرْثَ الدُّنْیا نُؤْتِهِ مِنْها وَ ما لَهُ فِی الْآخِرَةِ مِنْ نَصِیبٍ...».

وجاء فی الحدیث الشریف عن النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله أنّه قال: «لِکُلِّ امرءٍ مَا نَوی»(1).

«وَمَنْ کَانَ هِجرَتُهُ إِلی اللّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجرَتُهُ إِلی اللّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ کَانَ هِجرَتُهُ إِلی الدُّنیا یُصِیبها أَو امْرَأَةٍ یُنکِحُها فَهِجرَتُهُ إِلی مَا هاجَرَ إِلیهِ»، کالمجاهد الذی یبتغی من جهاده الدنیا والسلطة وتحقیق المیول النفسانیّة، فمثل هذا الشخص لا یکون عمله وجهاده مقبولاً عند اللّه.

وهذا الحدیث الشریف یتضمّن معانی واضحة جدّاً، فالصّلاة تعتبر أحد مصادیق الهجرة إلی اللّه وإلی رسوله، فالصّلاة هی حرکة نحو اللّه وورودها إلی محضر القدس الإلهی، فهل نحن واقعاً نفهم هذا المعنی حین صلاتنا أو قبل الصّلاة؟ وأننا نرید بهذا العمل الهجرة إلی اللّه تعالی؟ هل نستطیع أن نقول لأنفسنا بعد الصّلاة نحن هاجرنا إلی للّه؟ هل کنّا نعیش حالة الإخلاص فی صلاتنا؟ ومعنی الإخلاص هو أنّ عملنا یمثّل هجرة وحرکة نحو اللّه تعالی، أمّا لو کان عملنا بدوافع غیر إلهیّة فإنّه خارج عن دائرة الإخلاص، فلو أنّ الإنسان تأمّل فی هذا الحدیث الشریف فسوف یستوحی منه نقاط أخری، والصّلاة هی أحد المصادیق العلمیّة للهجرة الواقعیّة، تلک الهجرة التی یقبلها اللّه تعالی ویبارکها،

ص:344


1- (1) مستدر الوسائل، أبواب مقدّمة عبادات، الباب 5، ح 5.

وقد ورد فی بعض الآیات القرآنیّة الإشارة إلی هذه المسألة مثل: «وَ مَنْ یَخْرُجْ مِنْ بَیْتِهِ مُهاجِراً إِلَی اللّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ یُدْرِکْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَی اللّهِ...»1 ، فالصّلاة عبارة عن هجرة وحرکة نحو اللّه، ومن لم تکن حرکته نحو اللّه فلا تسمی هجرة، ولا توجد فیها حقیقة الهجرة، والإخلاص فی الصّلاة هو أن نکون مهاجرین إلی اللّه ونعیش أجواء الهجرة إلی اللّه فی صلاتنا إن شاء اللّه.

ص:345

108- الإخلاص، مصداق الهجرة نحو الحقّ

یقول تعالی فی الآیة الشریفة: «وَ مَنْ یَخْرُجْ مِنْ بَیْتِهِ مُهاجِراً إِلَی اللّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ یُدْرِکْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَی اللّهِ...»1 ، فلو أنّه مات فی هذا الطریق فإنّه سیحصل علی أجره وثوابه من اللّه (کنایة عن کثرة هذا الأجر والثواب) والمقصود هنا لیس الهجرة الظاهریّة فقط التی ینتقل بها الإنسان من مکان إلی آخر ببدنه، فلو أنّ شخصاً ترک محلّ سکانه أو محلّ عمله بسبب وجود حالات الفسق والفجور، فترکه للسکنی فی محلّ آخر یعیش فیه أهل الإیمان والعبادة، فهذه هجرة ظاهریّة، أمّا الهجرة بالمعنی الدقیق لها أوالهجرة الباطنیّة «وَ مَنْ یَخْرُجْ مِنْ بَیْتِهِ...» ، فالمقصود من هذا البیت لیس هو بیت سکناه ومحلّته المکانیّة الظاهریّة، بل المقصود من هذا البیت هو بیت النفس، فالشخص الذی یترک أهواءه النفسانیّة وتمنیاته الشیطانیّة ونوازعه الذاتیّة ویهاجر إلی اللّه ورسوله بأن یترک تلک الآمال والأهواء النفسانیّة یتحرّک فی خطّ الطاعة وامتثال ما یریده اللّه منه، فهنا تکون

ص:346

حرکته نحو الباری تعالی ویکون سفره هذا سفراً باطنیّاً، فالهجرة بالمعنی الأوّل هی السفر الظاهری، ولکن طبقاً لهذا المعنی الثانی فهی هجرة معنویّة ومبدأ هذا السفر والهجرة هو بیت القلب والنفس وترک المیول النفسانیّة والآمال والأهواء والأنانیّة وتکون غایته وهدفه الوصول إلی حضرة الحقّ تبارک وتعالی.

إذا هاجر الإنسان من بیت نفسه وترک نفسه جانباً، وعلی حدّ التعبیر الإمام الخمینی رضوان اللّه تعالی علیه وحشره مع أجداه الطاهرین فی کتابه «آداب الصّلاة»(1) ، إنّ الإنسان فی هذه الهجرة الباطنیّة یترک «إِنیَّتَهُ ومنیّته» وأساساً لا یعرف شیئاً یدعی بالأنا والنفس، حتّی فیما یتّصل بحرکته المعنویّة إلی اللّه تعالی، لا یقول إننی قریب الوصول إلی مقامات معنویّة، فهذه الأنانیّة لا ینبغی أن تکون فی مسیرة الإنسان السالک فی خطّ المعنویّة، والشخص الذی یرید أن یکون ذائباً فی اللّه تبارک وتعالی فلا ینبغی أن تکون فیه حالة الأنا ولا یعتبر لها قیمة، لأنّ هذه الأنا هی التی تجعل الإنسان فی قفص المیول والأهواء النفسانیّة، وهذه الأنانیّة تتسبّب فی أنّ هذا الشخص سوف یغادر نفسه فی هذا السفر لیعود إلی نفسه مرّة أخری لا إلی اللّه تعالی، وکأنّه ینتقل فی حرکته من زاویة إلی زاویة أخری فی بیت نفسه ویسافر فی باطن نفسه من جهة إلی أخری، فهذا الشخص لیس مسافراً إلی اللّه، فمعنی المسافر إلی اللّه والإخلاص فی هذا السفر للّه تعالی هو أن یترک الإنسان جمیع أموره الدنیویّة وهذه الجهات النفسانیّة.

وعلی هذا الأساس فالإخلاص إنّما یتحقّق فیما لو کانت الهجرة إلی اللّه واقعاً، وأن یقوم الشخص بعمل یقصد به وجه اللّه بعیداً عن أی شائبة من شوائب الأنانیّة والدوافع غیر الإلهیّة.

ص:347


1- (1) . انظر، آداب الصّلاة، ص 162،

109- الإخلاص، مانع من تسلط الشیطان

«قالَ فَبِعِزَّتِکَ لَأُغْوِیَنَّهُمْ أَجْمَعِینَ * إِلاّ عِبادَکَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِینَ» (1)

یجب علی المصلّی الإخلاص فی نیّته وأن یصلّی للّه فقط، وهذا الإخلاص من شأنه أن یقطع ید الشیطان عنه ولا یطمع فیه وفی عبادته، ولو أحاطت بالمصلّی الوساوس الشیطانیّة والأفکار غیر الإلهیّة، والتصوّرات المادیّة والدنیویّة فی صلاته، فهذا یعنی أنّه یفتقد إلی الإخلاص فی نیّته، ومن أجل تحصیل حالة الإخلاص واقعاً وبالتالی نقطع طمع الشیطان فینا، لأنّه أقسم أن یغوی جمیع الناس: «قالَ فَبِعِزَّتِکَ لَأُغْوِیَنَّهُمْ أَجْمَعِینَ» ، والعزّة مظهر قدرة اللّه تعالی، وهذا القسم لغرض إظهار قدرة الشیطان نفسه بحیث یحلف بعزّة اللّه تعالی، ممّا یوحی للناس بأنّنی أستطیع أن أغوی جمیع عبادک إلّاالمخلصین منهم.

وقد وردت عدّة تأکیدات فی هذه الآیة الشریفة لغرض إیقاظ الإنسان إلی هذه الحقیقة، فالقسم، والفعل المضارع المقترن باللام، ونون التأکید، وکلمة

ص:348


1- (1) سورة ص، الآیة 82 و 83.

أجمعین، کلها تدلّ علی التأکید، یعنی أنّ الشیطان لا یترکنا لحظة واحدة فی سبیل العمل علی إضلالنا ویسعی دوماً فی الوسوسة للإنسان لیل نهار، وفی أیّام الشباب والشیخوخة وفی جمیع الحالات، فالإضلال هو عمل الشیطان، ولکن نفس هذا الشیطان ذکر استثناء لقسمه وعمله «إِلاّ عِبادَکَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِینَ» ، أی أننی أستطیع إغواء جمیع الناس إلّافئة واحدة منهم فإنّنی لا أستطیع إغوائهم ولا أتمکن من اصطیادهم فی شباکی وهم عبادک المخلصون، فلو أنّ الإنسان فی هذه الصلوات الیومیّة حقق حالة الإخلاص واقعاً فی نفسه وصار من عباد اللّه المخلِصین والمخلَصین فإنّ الشیطان سیبتعد عنه وییأس من إغوائه ولا یستطیع إضلاله.

إنّ الإخلاص فی الصّلاة إلی هذه الدرجة من الأهمیّة والتأثیر ویجب علینا أن نستمد العون من اللّه تعالی لیهبنا الإخلاص فی النیّة لتکون أعمال وعبادتنا بقصد القربّة الکاملة.

ص:349

110- آثار الإخلاص

قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله: «مَا أَخْلَصَ عَبْدُ للّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَربَعِینَ صَباحاً إِلّا جَرَتْ یَنابِیعُ الحِکْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَی لِسانِهِ»(1)

النقطة المهمّة، والتی وردت التأکید علیها کثیراً فی الروایات، أنّ الصّلاة وجمیع العبادات یجب أن تقترن بالإخلاص، وأوّل أثر لهذا الإخلاص إیجاد القابلیّة فی العمل لیکون جدیراً بالعرض علی الباری تعالی، والعمل بدون إخلاص لا یساوی شیئاً ولا قیمة له وکالعدم، وبالتالی لیست له القابلیّة والجدارة علی تقدیمه فی محضر اللّه تعالی.

والأثر الثانی للإخلاص، أنّ الشیطان سوف ییأس من إغواء هذا الإنسان ویترکه ویبتعد عنه.

والأثر الثالث، إذا التفت إلیه المصلّی واقعاً وطبقه فی کلّ عبادة، أنّ الإخلاص لیس فقط یؤثر فی ذلک العمل نفسه، فلیس الإخلاص أن یجعل من هذا العمل

ص:350


1- (1) بحار الأنوار، طبعة بیروت، ج 67، ص 242.

قابلاً للعرض علی اللّه تبارک وتعالی وینتهی کلّ شیء، کلّا... إنّ هذا الإخلاص یؤدّی إلی أن تظهر آثار هذا العمل علی نفس المصلّی وسلوکیاته وأعماله الأخری، فمضافاً إلی آثار الإخلاص علی هذه الصّلاة، فإنّه یؤدّی إلی تأثیرات إیجابیّة أخری فی حیاة المؤمن، فمن هذه الجهة من الضروری أن یعلم المصلّی ماذا یترتّب علی قصد القربة والإخلاص من آثار وبرکات.

وأحد هذه الآثار والبرکات ما ورد فی الروایة المعروفة: «مَنْ أَخلصَ للّهِ أَربَعِینَ صَباحاً جَرَتْ یَنابِیعُ الحِکْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَی لِسانِهِ»(1)، فلو أنّ الإنسان سلک فی أعماله وحرکاته وسکناته من موقع الإخلاص للّه لمدّة أربعین یوماً، یعنی أن یکون طیلة هذه المدّة مخلصاً للّه تعالی فی نومه ویقظته وفی سماعه وفی کلامه وفی عمله وکتابته، وفی عباداته وفی نظراته وکلّ عمل یصدر منه یکون للّه تعالی حتّی الإشارة التی تصدر منه أو المعاملة التی یعقدها مع الآخرین، وکذلک عندما یتکلّم مع أبنائه وعندما یتناول طعامه، کلّ ذلک یکون للّه تعالی، فحسب هذه الروایة الشریفة فإنّ ینابع الحکمة ستنفجر من قلبه وتجری الحکمة علی لسانه.

وهذه الروایة تتضمّن مسائل مهمّة جدّاً ونقاط عمیقة جدّاً، وتلاحظون ما هی ینابع الحکمة وکیف تنطلق من قلب الإنسان وتجری علی لسانه؟ وهذه المسألة تستدعی بحثاً مستقلاً ومنفصلاً عن بحث أسرار الصّلاة.

ولکن النقطة التی نستوحیها من هذا الحدیث الشریف أنّ المصلّی یجب أن یعلم أنّه لو حقّق الإخلاص فی صلاته فسوف تترتّب علیه آثار وثمرات کثیرة فی حیاته، فلیس فقط أنّ الإخلاص یتسبّب فی قبول صلاته من قِبل الباری تبارک وتعالی ثمّ لا أثر آخر له، فبعد أن یتحقّق الإخلاص فی عمل المؤمن تبدأ البرکات والثمرات فی الظهور، وأحد هذه البرکات والثمرات إیجاد النورانیّة فی

ص:351


1- (1) . مصباح الشریعة، ص 355.

وجود الإنسان، وعادة یشعر المصلّی بعد الانتهاء من صلاته بحالة نورانیّة فی نفسه ویجب علیه حفظ هذه الحالة وعدم التفریط بها.

إلی هنا تحدّثنا بشکل مختصر عن المسائل التی تتعلّق بحقیقة الإخلاص وآثاره، وأمّا ما یتعلّق بمراتب الإخلاص، فالإمام الخمینی رضوان اللّه تعالی علیه یذکر فی کتابه الشریف «آداب الصّلاة» سبع مراتب للإخلاص فی الصّلاة ویجب علینا الإشارة إلی جمیع هذه المراتب، بدایة یجب أن نعلم ما هی مراتب الإخلاص؟ وبعد ذلک نتحرّک علی صعید العمل والتطبیق، فالالتفات إلی هذه المراتب فی الصّلاة یجلب اللذة والبهجة للمصلّی ویساعده فی الوصول إلی مراتب أعلی وبالتالی الحصول علی عنایات وبرکات إلهیّة أکثر.

ص:352

111- مراتب الإخلاص

1. تصفیة العمل من رضا المخلوقین

2. عدم جعل العمل وسیلة للأغراض الدنیویّة

أوّل مرتبة للإخلاص: عندما نرید الاتیان بعمل فی سبیل اللّه یجب أن نعلم أنّ المهمّ بالنسبة لنا فی هذا العمل هو طلب رضا اللّه تبارک وتعالی، ولا ینبغی أن یصدر منّا هذا العمل من أجل فرح الآخرین وکسب رضا المخلوقین، والفات نظرهم إلی عملنا، وهذا الشیء وللأسف نتورط فیه أحیاناً، ففی بعض الأوقات عندما یصلّی الإنسان بحضور الآخرین فإنّه یصلّی بشکل آخر، وتکون قراءته فی الصّلاة بنحو آخر، فلو رأینا أنّ صلاتنا عندما نکون لوحدنا فی المنزل تختلف عن صلاتنا عندما نکون فی مجلس ومع الآخرین، فهذا یعنی أننا لا نملک الإخلاص فی صلاتنا، وهذا معنی الریاء المبطل للصّلاة وللعمل العبادی، فلو أنّ الإنسان قام بعمل عبادی لکسب نظر الآخرین، مثلاً یصلّی لیقال عنه أنّه مسلم أو متدین أو یصلّی لکی یقوی علاقته وإرتباطه معهم ویحقّق لنفسه الاحترام منهم،

ص:353

فهذا لا ینسجم مع الإخلاص.

فأوّل مرتبة الإخلاص، أن یحرز الإنسان من تلویث عمله بالرغبة فی کسب رضا الآخرین، وعلیه أن یطهّر عمله من ذلک ولا یهتمّ بهم وبوجودهم، فسواءً رضی الآخرون من عمله أو لم یرضوا، وسواءً استاءوا منه أو مدحوه، وسواءً التفتوا إلیه أم لم یتلفتوا، فالمؤمن یجب علیه أن یأتی بصلاته علی کافة الحالات، وأحیاناً یکون الإنسان فی مجلس وقد دخل وقت الصّلاة ومضی علیه مدّة ولم یصلّ، فیقول فی نفسه، إذا قمت من مکانی وصلّیت أمام هؤلاء الأشخاص فسوف أخسر سمعتی ویقلّ شأنی، فنفس هذا التصوّر والتصویر یعدّ مشکلة لدی المؤمن، فعندما یکون المعیار للإنسان هو کسب رضا اللّه تعالی فلا ینبغی أن یلتفت ویهتمّ لهذه الأمور، ولا یبالی ماذا یقول عنه هؤلاء الناس، بل یجب أن یتوجّه بقلبه وفکره إلی اللّه تعالی، وهذه أوّل مرتبة من مراتب الإخلاص.

المرتبة الثانیة للإخلاص، إنّ الإنسان فی صلاته أو سائر أموره العبادیّة لا یجعلها وسیلة لتحصیل رغباته وحاجاته الدنیویّة، مثلاً إذا صلّی الشخص بهدف أن یرزقه اللّه تعالی أو یقول إننی اصلّی صلاة أوّل الشهر لیبقی بدنی سالماً طیلة هذا الشهر فهذا العمل وهذه النیّة لا تتناسب مع الإخلاص، صحیح أنّ العبادات لها لکلّ واحدة منها آثار خاصّة، فصلاة اللیل تؤثر فی زیادة الرزق وفی العزّة والنورانیّة فی الظاهر والباطن، ولکن إذا صلّی المرء صلاة اللیل من أجل أن یکون وجهه نورانیّاً أو یزیده اللّه من الرزق، فإنّ مثل هذه الصّلاة لا تکون مقترنة بالإخلاص، وبعض الفقهاء ذهبوا إلی أنّ مثل هذه النیّة مخلة فی صحّة العمل، فلو قال شخص إننی اصلّی لغرض أن یزید اللّه فی رزقی أو أصوم لیکون بدنی سالماً فهذا مخلّ بصحة العمل، ومثل هذا العمل لدی أهل المعرفة هو عبارة عن معاملة وتجارة، لأنّ هذا المصلّی لم یقصد القربة إلی اللّه فی صلاته بل قصد سعة الرزق،

ص:354

أو صام لحفظ سلامته البدنیّة، فهذا النوع من التجارة ولیس العمل بدافع القربة إلی اللّه، وهذه هی المرتبة الثانیة من مراتب الإخلاص، إذن المرتبة الاُولی لابدّ للإنسان من تصفیة وتنقیة عمله من کسب رضا المخلوقین، وفی المرتبة الثانیة، أن لا یجعل عمله طریقاً ووسیلة للحصول علی غایات دنیویّة ومقاصد غیر إلهیّة، فکلّ ذلک مخلّ بالإخلاص.

ص:355

112- مراتب الإخلاص المرتبة الثالثة: أن لا یقصد الأجر والثواب

المرتبة الثالثة للإخلاص: أن لا یقصد من عبادته وصلاته الحصول علی الجنّة وما جعل اللّه للمؤمنین فیها من الحور والقصور والبساتین والأنهار والأشجار، ولا یهدف من صلاته أن یرزقه اللّه لکلّ صلاة قصراً فی الجنّة أو یحصل علی بساتین تجری من تحتها الأنهار، وبعبارة أخری أن لا تکون صلاته للوصل إلی المنافع الظاهریّة ولو فی عالم القیامه، ولا فرق بین أن یقصد الإنسان بصلاته أغراضاً وغایات مادیّة فی هذه الدنیا أو فی تلک الحیاة الآخرة، ومن هذه الجهة فإنّ کلا القصدین والغایتین عبارة عن کسب وتجارة، وهذه هی عبادة التجّارة.

وجاء فی روایة عن الإمام زین العابدین علیه السلام قال: «فَلَکَ الحَمْدُ عَلَی ابتِدائِکَ بِالنِّعَمِ الجِسامِ، وَإِلهَامِکَ الشُّکْرَ عَلَی الإِحسَانِ والإِنعَامِ»(1)، فی هذه المرتبة من الإخلاص لا ینظر المصلّی إلی الأجر والثواب المادّی والظاهری کالحور

ص:356


1- (1) . الصحیفة السجادیّة، ص 152 (الدعاء 32).

والقصور والثمار والأشجار وأنهار الجنّة وما إلی ذلک، فمثل هذا التوجّه إلی النعم المادیّة ناشیء من قلّة معرفة المصلّی باللّه تبارک وتعالی.

یجب علی الإنسان فی حال الصّلاة التوجّه إلی هذه الحقیقة، وهی أنّ صلاته وحضوره بین یدی اللّه هو توفیق إلهی وعنایة ربّانیّة من اللّه تعالی له، وبهذا المعنی لا یعتقد هذا المصلّی أنّه یستحق الأجر والثواب علی هذه الصّلاة، والویل للشخص الذی یتصوّر بعد صلاته أنّه یستحق الأجر والثواب علیها ویطلب من اللّه أجره وثوابه.

ونقرأ فی الباب 76 من کتاب «مصباح الشریعة» فی بحث الإخلاص أنّ الإمام علیه السلام یقول: «أَدْنَی حَدِّ الإِخلَاصِ بَذْلُ العَبْدِ طَاقَتَهُ، ثُمّ لایَجعَلُ لِعَمَلِهِ عِنْدَ اللّهِ قَدْراً فَیُوجِبَ بِهِ عَلَی رَبِّهِ مُکَافَأَة بِعَمَلِهِ»(1)، فلو تصوّر أحدهم أنّه یستحق الأجر والثواب علی صلاته فیجب علی اللّه أن یعطیه الأجر والثواب، فهذا یعنی أن یری لعمله قیمة واعتباراً، فی حین أنّ الإنسان المخلص یقول: إننی لم أفعل شیئاً یستحق الأجر والثواب وکلّما لدی فهو توفیق من اللّه ورعایته ولطفه وإحسانه.

ولو أنّک سعیت لخدمة شخص تحبّه لیل نهار فإنّک مع ذلک تقول لم أفعل شیئاً لک، فکیف بالنسبة إلی اللّه تعالی الذی وهب الإنسان بکلّ هذه النعم رعاه، فلو صلّی المرء رکعتین فکیف یتوقّع مع ذلک أنّه یستحق الأجر والثواب علی هذا العمل البسیط، وأساساً لا ینبغی أن یری لنفسه ولعمله قدراً وقیمه أمام اللّه تعالی:

«لا یَجعَلُ لِعَمَلِهِ عِنْدَ اللّهِ قَدْراً...».

إذا أراد المصلّون الأعزاء والمتهجدون والعابدون معرفة میزان ومقدار عباداتهم عند اللّه فعلیهم أن یعتقدوا أنّهم لم یقدّموا شیئاً یستحق الثواب عند اللّه فی جمیع أعمالهم وعباداتهم.

ص:357


1- (1) . مصباح الشریعة، ص 337.

وعلی هذا الأساس المرتبة الثالثة للإخلاص، أن لا یسعی الإنسان وراء نیل الأجر والثواب والجنّة الجسمانیّة والفواکه والبساتین والقصور فی الجنّة، فیأیّها المصلّی ألیس من الحیف أن تطلب بصلاتک الوصول إلی الثمار المادیّة والظاهریّة فی الآخرة؟ إنّ قیمة صلاتک أعلی وأسمی کثیراً من ذلک، والإخلاص من شأنه أن یقود الإنسان فی طریق الکمال المعنوی والإلهی إلی مقامات ودرجات عالیة فی الجنّة.

ص:358

113- المراتب العالیة للإخلاص

أشرنا لحدّ الآن إلی ثلاث مراتب من مراتب الإخلاص، وبعض هذه المراتب لو لم تتحقّق فی واقع الإنسان المصلّی فصلاته باطلة، أمّا بالنسبة للبعض الآخر من المراتب، فإنّها لو لم تتحقّق فإنّ درجة وقیمة الصّلاة تتنزل وتقلّ قیمتها، وعلی سبیل المثال إذا کان قصد المصلّی من صلاته الریاء والتظاهر فإنّ صلاته باطلة، ولو أنّه قصد التوصّل إلی الحاجات الدنیویّة فبعض الفقهاء ذهبوا إلی أنّ هذه الصّلاة باطلة، والمرتبة الثالثة، أنّ لا یقصد المصلّی من صلاته طلب الأجر والثواب من اللّه تبارک وتعالی، وطبعاً فالشخص الذی یقصد الحصول علی الأجر والثواب فلا تبطل صلاته، ولکن بما أنّها تفتقد هذه المرتبة من الإخلاص فإنّ قیمتها ستکون هابطة.

المرتبة الرابعة، تصفیة العمل من الطمع بالجنّة والخوف من النار، بمعنی أنّ الإنسان یقوم بتصفیة عمله من الخوف من النار والطمع بالجنّة، فبعض الناس یصلّون خوفاً من النار ولئلا یکون مصیره إلی جهنّم، وطبعاً فإنّ هذا الخوف لا

ص:359

یضرّ بصحّة الصّلاة ولکنه مخلّ بالإخلاص، فالمصلّی لا ینبغی أن یصلّی ویعبد اللّه بهذا الدافع النفسانی وبسبب الخوف من عذاب النار، وأحیاناً یقوم بعض الأباء والاُمّهات ولغرض تشویق أبنائهم للصّلاة القول لهم: إذا لم تصلّ فسوف یکون مصیرک النار یوم القیامة، وقد ورد فی القرآن الکریم فیما یخاطب به أهل النار یوم القیامة: «ما سَلَکَکُمْ فِی سَقَرَ * قالُوا لَمْ نَکُ مِنَ الْمُصَلِّینَ»1 ، ورغم أنّ کلّ شخص ترک الصّلاة فهو من أهل النار قطعاً، ولکن لا ینبغی أن نعلّم الشخص الذی یرید أن یصلّی لتوه أن یصلّی فراراً من العقاب والخلاص من نار جهنّم، الصّلاة التی تقوم علی أساس الخوف لیست بصلاة تقود الإنسان فی معراج الکمال المعنوی الإلهی، والصّلاة التی یصلّیها الإنسان طیلة عمره علی أساس الخوف من جهنّم ربّما تؤثر هذا الأثر وهو أن تنقذ هذا الشخص من الجهنّم الظاهریّة ولکنها لا تصعد بروحه إلی عالم الملکوت والمراتب العلیا من الکمال المعنوی.

المرتبة الخامسة، تصفیة العمل من التوصّل إلی السعادة العقلیّة واللذات الروحانیّة الدائمیّة والأزلیّة، وهذا هو ما أشار إلیه الإمام الخمینی رضوان اللّه تعالی علیه فی کلماته، ویستفاد جیداً من الآیات والروایات أنّ فی الآخرة مرتبة أعلی من مرتبة الجنّة الظاهریّة المادیّة، وهی جنّة الملذات العقلانیّة والروحانیّة، وهذه اللذة أعلی من اللذات الظاهریّة والمادیّة، یقول الإمام الخمینی قدس سره: بالرغم أنّ هذا المقام هو مقام سامی جدّاً والوصول إلیه یجعل الإنسان فی زمرة الکروبین، ولکنّ الإنسان المخلص لا یؤدّی صلاته وأعماله العبادیّة حتی یجعل فی زمرة هذه الفئة من أهل السعادة، لأنّ العارف والسالکین إلی اللّه یرون أنّ مثل هذا القصد وهذه النیّة تعدّ نقصاً فی العبادة وبمثابة المعاملة والتجارة، لأنّه یصلّی

ص:360

لغرض الوصول إلی تلک المقامات العالیة ویکون من زمرة الکروبین.

المرتبة السادسة، تصفیّة العمل من خوف عدم الوصول إلی اللذات العقلیّة، وهذه المرتبة لها علاقة وثیقة بالمرتبة الخامسة، فهو یصلّی لأنّه إذا لم یصلّ فإنّه یخشی أنّ اللّه تعالی لا یمنحه تلک اللذات العقلیّة فی القیامة، وهذا هو نوع من العذاب.

المرتبة لسابعة، تصفیّة العمل من الوصول إلی لذات الجمال الإلهی، وهنا أیضاً نری أنّ الإمام الراحل رضوان اللّه تعالی علیه بیّن هذه المرتبة بعبارات شیّقة وجذّابة، فبالنسبة لتصفیة العمل من الوصول إلی لذات الجمال الإلهی والوصول إلی بهجة أنوار السبوحات غیر المتناهیة، یقول: هذه هی جنّة للقاء کما یستفاد من الآیات والروایات الشریفة وتعتبر غایة آمال العارفین وأرباب القلوب وأنّ ید البشر نوعاً لا تنال هذا المقام إلّاعدد قلیل جدّاً من أهل المعرفة یمکنهم الوصول إلیه، وهذا هو ما نقرأه فی دعاء شهر شعبان: «إِلَهِی هَبْ لِی کَمَالَ الإِنْقِطَاعِ إِلَیکَ»، فهذا الانقطاع الکامل لیس انقطاع عن الحور والقصور والأشجار والأنهار والثمار فی الجنّة، فلا یمکن تفسیر کمال الانقطاع بهذه الأمور الظاهریّة، وطبعاً أنّ فهم هذه المرتبة مشکل جدّاً جدّاً لأمثالنا، ولکن یمکننا أن نفهم إجمالاً أنّه لا ینبغی أن یکون هدفنا من الصّلاة هو الوصول والحصول علی الأمور المادیّة، بل یجب الابتعاد عن مادیّات الدنیا والآخرة ونرتفع بنفوسنا إلی مستویات أعلی من طلب المادیّات والملذات البدنیّة، ولو بمقدار قیمتنا الوجودیّة وقیمة عباداتنا أکثر ولا نفقد رأسمال عمرنا فی العبادة لهذه الأغراض النازلة بدون فهم ودرک صحیح لأنّ ذلک یستتبع خسارة کبیرة للإنسان، لأنّ المؤمن ومن خلال هذه العبادات یستطیع الوصول إلی کثیر من المقامات العالیة.

ص:361

114- طریق الخلاص من العجب والغرورأن یعتقد الإنسان بأنّه مقصّر دائماً فی مقابل اللّه

إحدی النقاط التی ینبغی أن یلتفت إلیها المصلّی فی مسألة الإخلاص، هی: أن لا یشعر بالسرور والبهجة فی داخله ونفسه لأعماله الصالحة وعباداته الکثیرة، وطبعاً فالإنسان أحیاناً یشکر اللّه تعالی علی أنّه مضی من عمره خمسین سنة ولم تفته صلاة واحدة أو أنّه صلّی صلاة اللیل مدّة خمسین سنة فلا مانع من الإحساس بالنعمة والشکر، ولکن إذا شعر فی نفسه بالسرور والفرح من عباداته وقال إننی أنا الذی صلّیت کلّ هذه الصّلاة والعبادة فأین الآخرون من أعمالی وعباداتی، وهذا التصوّر من شأنه أن یوجّه ضربة قاصمة للإخلاص، فماذا ینبغی أن یصنع المرء فی مثل هذه الحالة حتّی لا یشعر بهذا الشعور؟ یقول الإمام موسی الکاظم علیه السلام فی توصیته بهذا الشأن وکذلک ورد فی کلمات الأئمّة الآخرین علیهم السلام، وذلک أنّ هذا الشخص یجب أن یری نفسه مقصّراً دائماً فی مقابل الباری تعالی، فلو أنّ المرء اعتقد بالتقصیر وقال إنّ أعمالی وعباداتی لا تعتبر شیئاً وأننی إنسان مقصّر مهما أتیت من عبادة وعمل صالح ولا یختلف حاله بین عمل یوم واحد

ص:362

وعمل مائة یوم ومائة سنة من العبادة، وأمّا الشخص الذی لا یری نفسه مقصّراً ویقول إننی صلّیت وعبدة تاللّه کثیراً وهو یری أنّه یمتاز علی الآخرین، فهذه الحالة هی التی تخدش حالة الإخلاص وتنقضه.

وجاء فی کتاب «الأصول لکافی» فی باب الاعتراف والتقصیر روایة عن الإمام موسی بن جعفر علیهما السلام یقول لأحد أبنائه: «یا بُنَیَّ عَلَیکَ بِالجِدِّ وَلا تُخْرِجَنَّ نَفْسَکَ مَنَ التَّقصِبرِ فِی عِبَادَةِ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَطَاعَتِهِ فإِنَّ اللّهَ لایُعْبَدُ حَقَّ عِبادَتِهِ»، فلو أنّ هذه الحالة من رؤیة النفس والعمل الکثیر تضرّ بالعبادة والإخلاص ویجب علی المؤمن تطهیر نفسه وروحه منها، فهذا العمر قد یمتد إلی خمسین أو ستین سنة، فهذا المقدار لا یعتبر شیئاً أمام الزمان الأزلی مثل عمر الملائکة الذین یعبدون اللّه من الأزل إلی أبد الآبدین ولا یقولون إننا عبدنا اللّه حقّ عبادته.

لو جمعت عبادات جمیع الأنبیاء فمع ذلک لا یمکن أن تؤدّی للّه حقّه فی الطاعة والعبودیّة، فیجب علی المصلّی أن یلتفت إلی هذه الحقیقة، وأنّ جمیع الملائکة منذ الأزل وإلی الأبد یعبدون اللّه تعالی ومع ذلک لا یمکنهم الادعاء أنّهم أدّوا حقّ عبادة اللّه، فما قدر عباداتنا فی مقابل عبادة الملائکة وعندما ندرک هذه الحقیقة وننتهی من صلاتنا فنشعر واقعاً بالخجل والحیاء من اللّه ونقول إلهنا! نحن لا نستطیع ولیس لنا القدرة علی عبادتک بصورة صحیحة، فلو أننا عبدناک لیل نهار فمع ذلک نعترف ونقرّ بقصورنا وتقصیرنا وأننا لا نستطیع أن نعبدک حقّ عبادتک، ولو أنّ الإنسان شعر بهذه الحالة من التقصیر والقصور فی العبادة فسوف لا یحسب مدّة عبادته وکمیّتها وعدد السنوات واللیالی التی عبد اللّه فیها والنوافل الیومیّة التی أداها، وأساساً لا یسمح لنفسه أن یفکّر ویحسب عباداته، وهذه إحدی المراتب المهمّة للإخلاص، بحیث إنّ الإنسان فی هذه المرتبة لا یفرح من کثرة عمله رغم أنّه یجب علیه شکر اللّه تعالی علی ما أنعم علیه بهذه النعم والمواهب الجزیلة.

ص:363

ص:364

الفصل السادس: أسرار القراءة وآدابها

اشارة

ص:365

ص:366

115- فضیلة قراءة القرآن فی الصّلاة وغیر الصّلاة

یقول رسول اللّه صلی الله علیه و آله: «مَنْ قَرَأَ خَمْسِینَ آیَةً فِی یَومِهِ وَلَیلتهِ لَمْ یُکْتَبْ مِنَ الغافَلِینَ».

من جملة البحوث المهمّة فی موضوع أسرار الصّلاة، مسألة القراءة، وهو أن یقرأ المصلّی فی الرکعة الاُولی والثانیّة من صلاته سورة فاتحة الکتاب وبعدها یقرأ إحدی سور القرآن، فما هی الأسرار الکامنة فی قراءة القرآن هذه؟ وکما سائر الأجزاء والأذکار وأفعال الصّلاة تتضمّن أسراراً وحقائق فإنّ هذه القراءة للقرآن فی الصّلاة لها أسرار أیضاً، والنقطة التی ینبغی الفات النظر إلیها وجود فضل کبیر علی نفس قراءة القرآن کما ورد فی النصوص الدینیّة والروایات الشریفة.

إنّ مسألة قراءة القرآن مسألة مهمّة جدّاً، ولیست أهمیّتها الثواب المترتب علی قراءة القرآن فقط، بل للآثار والبرکات المهمّة جدّاً فی الدنیا والآخرة المرتبة علی قراءة القرآن الکریم، ومن هذه الجهة ینبغی الإشارة إلی آداب قراءة القرآن، ففی روایة عن أنس بن مالک عن النّبی الأکرم صلی الله علیه و آله قال: «سمعت رسول

ص:367

الله صلی الله علیه و آله یقول: من قرأ خمسین آیة فی یومه و لیله لم یکتب من الغافلین»(1) ،

وبعبارة أخری، إنّ قرائة القرآن الکریم تجعل الإنسان من الذاکرین، ومعلوم أنّ الغفلة منشأ الکثیر من الذنوب والتلوّث بالخطایا والخوض فی الظلمات، ومع قراءة القرآن یخرج الإنسان من زمرة الغافلین.

ونقرأ فی روایة أخری عن الإمام الحسین بن علی علیهما السلام یقول: «مَنْ قَرَأ آیَةً مِنْ کِتَابِ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِی صَلاتِهِ قَائِمَاً یُکْتَبُ لَهُ بِکُلِّ حَرْفٍ مائةَ حَسنَةً»(2).

وجاء فی روایة أخری عن الإمام الباقر علیه السلام ما یقرب من هذا المضمون یقول:

«مَنْ قَرأَ القُرآنَ قَائِماً کَتَبَ اللّهُ لَهُ بِکلِّ حرفٍ مائةَ حَسنة، وَمَنْ قَرَأَهُ فِی صَلاتِهِ جَالِساً کَتَبَ اللّهُ لَهُ بِکُلِّ حرفٍ خَمسِینَ حَسنةً وَمَنْ قَرَأَه فِی غَیرِ صَلاتِهِ کَتَبَ اللّهُ لَهُ بِکُلِّ حرفٍ عشرِ حَسناتٍ» ٍ(3).

وفی سیاق الروایة المذکورة عن الإمام الحسین علیه السلام یقول فیها: «وإِنْ استَمَع القُرآنَ کُتِبَ لَهُ بکلّ حَرف حَسنة، وإِنْ خَتَمَ القُرآنَ لَیلاً صَلَّتْ عَلَیهِ المَلائِکَةُ حَتّی یُصبِحَ، وَإِنْ خَتَمَهُ نَهاراً صَلَّتْ عَلَیهِ الحَفَظَةُ حَتّی یُمسِی وَکَانَتْ لَهُ دَعوَةٌ مُجَابَة...»(4).

إلی هنا تبیّن إجمالاً ما هی فضیلة وبرکة قراءة القرآن وتبیّن الفرق بین الشخص الذی یقرأ القرآن فی صلاته وبین الشخص الذی یقرأ القرآن فی غیر الصّلاة، ومن هذه الجهة ینبغی علی المصلّین الاستفادة من هذه الروایة ولا یغفلوا عن قراءة القرآن فی صلاتهم.

ص:368


1- (1) . مستدرک الوسائل، ج 4، ص 263.
2- (2) الکافی، المطبعة الإسلامیّة، ج 2، ص 611.
3- (3) الکافی، ج 2، ص 611.
4- (4) الکافی، المطبعة الإسلامیّة، ج 2، ص 611.

116- قیمة قراءة القرآن وأهمیّتها

قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله: «إِنَّ المُؤمِنَ إِذا قَرأَ القُرآنَ نَظَرَ اللّهُ إِلَیهِ بِالرَّحمَةِ».(1)

إنّ إحدی التوصیات الأکیدة للنبی الأکرم صلی الله علیه و آله وأمیرالمؤمنین علیه السلام تترکز علی قراءة القرآن، وقد ورد فی الحدیث الشریف أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله قال لأمیرالمؤمنین علیه السلام: «أُوصِیکَ فِی نَفْسِکَ بِخِصالٍ فَاحْفَظها...، وَعَلَیکَ بِتِلاوَةِ القُرْانِ عَلَی کُلِّ حَال»(2).

وهذه التوصیة وردت أیضاً عن أمیرالمؤمنین علیه السلام وکذلک عن الأئمّة المعصومین علیهم السلام وکانت مورد اهتمامهم، وعندما نقرأ ونتمعّن فی سیرة الأئمّة الطاهرین علیهم السلام فسوف نجد أنّ قسماً مهمّاً جدّاً من حیاتهم یخصّ مسألة قراءة القرآن.

والجدیر بالذکر أنّ الإنسان لا ینبغی أن یغفل عن قراءة القرآن فی کلّ یوم،

ص:369


1- (1) جامع الأخبار، ص 39.
2- (2) الکافی، المطبعة الإسلامیّة، ج 8، ص 79.

وقد ورد فی تفسیر أبوالفتوح حدیثاً عن النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله أنّه قال: «مَنْ قَرأ ثُلْثِ القُرْآنِ فَکَأَنَّما أُوتِی ثُلثِ النُّبوَّةَ، وَمَنْ قَرأ ثُلْثَی القُرْآنِ فَکَأَنَّما أُوتِی ثُلثَی النُّبوَّةَ، وَمَنْ قَرأ القُرْآنِ َ کُلَّهُ فَکَأَنَّما أُوتِی تَمام النُّبوَّةَ».

وجاء فی الروایات أنّ عدد درجات الجنّة بعدد آیات القرآن الکریم، ففی یوم القیامة یقال للإنسان «إقرأ وارق»، فکلّ مقدار من آیات القرآن کان مع هذا الشخص وجاء به یوم القیامة وقرأ هذه الآیات کأنّه یرقی فی کلّ آیة یقرأها درجة فی الجنّة.

«ثُمَّ یُقَالُ لَهُ اقْرَأَ وَارْقَ بِکُلِّ آیِةٍ دَرَجَةً فَیَرقی فِی الجَنَّةِ بِکُلِّ آیَةٍ دَرَجَةً حَتّی یَبلُغَ مَا مَعَهُ مِنْ القُرآنِ، ثُمَّ یُقَالُ لَهُ اقْبِضْ فَیَقبِض، ثُمّ یُقَالُ لَهُ مَرَّةَ ثَانِیة اقَبضْ فَیَقبِض، ثُمَّ یُقالُ لَهُ هَلْ عَلِمْتَ مَا فِی یَدِکَ، فَیَقُولُ لا، وَإِذا فِی یَدِهِ الیُمنَی الخُلدُ وَفِی الأُخری النَّعِیم»(1).

إذن فالجنّة أساساً متدرجة بعدد آیات القرآن ودرجاتها ومراتبها منظمة حسب قراءة القاری للقرآن، والخلود بالجنّة متعلّق بقراءة القرآن، والنعیم الأبدی فی الجنّة لیس فقط النعم الظاهریّة والمادیّة، بل جمیع النعم والمواهب فی الجنّة حتّی رضوان اللّه تعالی فی الجنّة کما تقول الآیة: «وَ رِضْوانٌ مِنَ اللّهِ أَکْبَرُ...»2 ، کلّها متوقّفة ومتقوّمة باُنس الإنسان فی الدنیا بتلاوة القرآن الکریم، ولذا یجب علینا أن نعرف قیمة قراءة القرآن لکی نوفّق لفهم أسرار قراءة القرآن فی الصّلاة ونزین صلاتنا بالقرآن.

ص:370


1- (1) مستدر الوسائل، ج 4، ص 262.

117- فضیلة قراءة سورة التوحید

یجب أن تکون تلاوة القرآن فی حیاة المسلم وخاصّة الشیعی المؤمن جزءاً من برنامجه ومنهجه الأصلی فی الحیاة، کما أنّ الصّلاة جزء من المنهج الأصلی للمؤمن فی حیاته کما ورد فی کتاب «الکافی» روایة عن الإمام موسی بن جعفر علیهما السلام، حیث قال الإمام علیه السلام لأحد أصحاب: «أَتُحِبُّ البَقاءَ فِی الدُّنیا؟ قَالَ: نَعم، فَقَالَ: وَلِمَ؟ قَالَ: لِقْراءَةِ قُلْ هُوَ اللّهُ أَحدٌ»، فإننی احبّ البقاء فی الدنیا ولو اعطیت مهلة بدقیقة واحدة فی الدنیا فإنّنی أقرأُ سورة التوحید «فَسَکَتَ عَنْهُ»، أی أنّ الإمام عندما سمع هذا الجواب سکت، وقبل أن نذکر بقیة هذه الروایة، نری فی روایة أخری أنّ الإمام الباقر علیه السلام: إذا قرأ الإنسان فی یومه سورة التوحید مرّة واحدة فإنّه اللّه تعالی سیبارکه، وإذا قرأها مرّتین فسبارک اللّه علیه وعلی اسرته ویرحمهم، إذا قرأها ثلاث مرّات فإنّ اللّه تعالی سینزل رحمته وبرکاته علیه وعلی جیرانه، وإذا قرأها اثنی عشر مرّة فی یومه بنی اللّه له اثنی عشر قصراً فی الجنّة، وإذا قرأها مائة مرّة فی یومه غفر اللّه له 25 سنة، إلّاأن یکون عصی اللّه فی مورد

ص:371

الدماء والأموال، یعنی لا سمح اللّه قتل شخصاً بدون ذنب وبدون حقّ، أو سفک دم شخص وجرحه، فیجب علیه القصاص أو الدیة، فهذه الذنوب التی تتعلّق بالدماء والأموال لا یغفرها اللّه للشخص، أمّا سائر الذنوب التی هی حقّ محض للّه فإنّ تعالی یغفرها ببرکة سورة التوحید.

ویتابع الإمام علیه السلام: «وَمَنْ قَرَأَها أَربَعمَائَةَ مَرّة کَانَ لَهُ أَجرَ أَربَعمَائَةَ شَهِید کُلُّهُم قَدْ عَقَرَ جَوادَهُ وَاُرِیقَ دَمُهُ وَمَنْ قَرَأَها أَلفَ مَرَّةٍ فِی لَیلَةٍ لَمْ یَمُت حَتّی یَری مَقعَدَهُ فِی الجَنَّةِ أو یری لَهُ».

ونقرأ الکثیر من الروایات التی تؤکد کثیراً علی قراءة سورة التوحید، ففی الروایة الاُولی، کأنّ ذلک الشخص سمع من الأئمّة من آباء الإمام موسی بن جعفر علیهما السلام ثواب قراءة سورة التوحید، ولذلک عندما سأله الإمام عن رغبته فی البقاء فی الدنیا ولماذا؟ فقال: لکی أقرأ سورة التوحید، لمّا سمع الإمام بهذا الکلام سکتَ، ثمّ بعد مدّة قال لهذا الراوی وهو حفص:

«یا حَفْضُ! مَنْ مَاتَ مِنْ أَولِیائِنا وَشِیعَتِنا وَلَمْ یُحْسِن القُرآنَ عُلِّمَ فِی قَبرِهِ لِیَرفَعَ اللّهُ بِهِ مِنْ دَرَجَتِهُ»، لأنّ درجات الجنّة، کما تقدّم، بمقدار آیات القرآن، فیقال له:

اقرأ وارقَ.

وبحسب ما ورد فی الروایات أنّ هذا الامتیاز یعدّ من مختصات شیعة أهل البیت علیهم السلام والإمامیّة الاثنی عشریّة ولا یشمل سائر المسلمین.

یقول حفص: «وَمَا رَأَیْتُ أَحَدَاً أَشَدُّ خَوْفَاً عَلَی نَفْسِهِ مِنْ مُوسی بنِ جَعفَرٍ علیه السلام ولا أَرجی النَّاسِ مِنْهُ، وَکَانَتْ قَرَاءَتُهُ حُزناً، فَإِذا قَرَأَ فَکَأَنّهُ یُخاطِبُ إِنسَاناً»(1).

وهکذا کان الإمام علیه السلام یتلو القرآن الکریم، ویجب علینا أن نتعلّم هذا الأدب فی الالتزام بتلاوة القرآن من الإمام علیه السلام.

ص:372


1- (1) الکافی، المطبعه الإسلامیّة، ج 4، ص 611.

118- آداب قراءة القرآن الالتفات إلی عظمة هذا الکتاب الإلهی والالتفات إلی أم الکتاب

لقد ورد فی الروایات الشریفة أنّ لقراءة القرآن الکریم آثاراً وبرکات کثیرة جدّاً، یقول النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله لسلمان رحمه الله: «عَلَیکَ بِقِرَاءَةِ القُرانِ فَإِنَّ قِرَاءَتَهُ کَفَّارَةُ الذُّنُوبِ وَسُتْرَةٌ مِنَ النَّارِ وَأَمَانٌ مِنَ العَذَابِ»(1).

إنّ إحدی النقاط المهمّة فی موضوع قراءة القرآن مسألة آداب القراءة، وقد أورد الإمام الخمینی رضوان اللّه تعالی علیه فی کتابه «آداب الصّلاة»(2) أدقّ وأشمل بحث فیما یتّصل بقراءة القرآن وذکر فی هذا الکتاب بعض آداب القراءة کما سنشیر إلیها باختصار، فأوّل أدب منها أن یلتفت قاریء القرآن إلیه حین القراءة هو «التعظیم» یعنی الالتفات إلی عظمة هذا الکتاب الإلهی وأن یعلم أنّ الکتاب الذی یقرأه لیس کتاباً عادیاً، بل هو أعظم کتاب سماوی، فالالتفات

ص:373


1- (1) جامع الأخبار، ص 39.
2- (2) . انظر: آداب الصّلاة، ص 180.

والاهتمام بتعظیم وإکرام القرآن یتسبّب فی نورانیّة القلب والحیاة الباطنیّة، والتعظیم یتوقف علی أنّ الإنسان یفهم أنّ القرآن کتاب عظیم وأنّ هذا الکتاب الإلهی لا ینحصر بهذه الألفاظ والکلمات الظاهریّة بل هناک حقیقة أخری وراء هذه الألفاظ والکلمات تقصر عنها ید البشر، وید العلماء، وحتّی ید أهل الباطن وأهل الشهود والمکاشفة، فلا ینبغی أن نتصوّر أنّ حقیقة القرآن هی الألفاظ فقط التی أمام ناظرنا وفی مقابلنا.

یقول اللّه تبارک وتعالی: «إِنّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِیًّا لَعَلَّکُمْ تَعْقِلُونَ»1 ، ویقول:

«وَ إِنَّهُ فِی أُمِّ الْکِتابِ لَدَیْنا لَعَلِیٌّ حَکِیمٌ»2 ، فأصل وحقیقة القرآن موجود فی امّ الکتاب عندنا، ولکنّ البشر یستطیع التوصّل إلی هذا الکتاب الظاهر وتلاوته، ولکن فیما یتّصل باُمّ الکتاب وهو لدینا، فلا أحد یستطیع الوصول إلیه، ویتبیّن من هذه الآیة الشریفة أنّ القرآن قبل أن ینزل علی قلب النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله وقبل أن یتحوّل إلی العربیّة کان موجوداً فی امّ الکتاب، وظاهر الآیة الشریفة هو أنّ القرآن بهذه الصورة کانت حقیقته موجودة عند اللّه وفی امّ الکتاب وربّما بشکل أوسع وأعظم بکثیر، ولکنّه تنزّل من تلک العوالم إلی هذا العالم وهو عالم الملک وعالم المادّة وتجلّی علی شکل ألفاظ وکلمات عربیّه، فلا ینبغی أن نتصوّر أنّ القرآن مجموعة کلمات وألفاظ کما نری فی سائر الکتب الأخری مثل هذه العبارات والألفاظ، والأشخاص الذین یعتقدون أنّ القرآن کلام بشری، لماذا لا یلتفتون إلی هذه الآیة الشریفة، فلو قلنا بأنّ هذا القرآن منحصر بهذه الألفاظ الظاهریّة فسوف یکون مسوغاً لایجاد هذه التوهّمات الباطلة، وأمّا إذا قلنا إنّ حقیقة القرآن هی وراء هذا العالم المادی وفی امّ الکتاب وعند اللّه تبارک وتعالی، فلا أحد من البشر

ص:374

مع کلّ هذه العلوم الرسمیّة والظاهریّة یستطیع التوصّل إلی حقیقة تلک المعارف القلبیّة والمکاشفات الغیبیّة، وهنا یوجد استثناء واحد وهو الوجود المقدّس لخاتم الأنبیاء النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله عندما وصل فی معراجه قاب قوسین أو أدنی استطاع أن یصل إلی امّ الکتاب، ولکن البشر العادی لا یستطیع لذلک سبیلا.

إذن عندما نجلس فی محضر القرآن یجب علینا الانتباه إلی أنّ هذا القرآن هو مرتبة نازلة عن امّ الکتاب، أی أنّ هذا القرآن متنزل عن تلک الحقیقة العظیمة التی یعجز البشر عن درکها، ولو أننا لم نتمکن من الالتفات والانتباه إلی عظمة القرآن الکریم، فهذا یعنی أننا لا نستطیع أداء حقّ وتعظیم القرآن کما هو حقّه وشأنه.

یقول الإمام الخمینی رضوان اللّه علیه فی بحث تعظیم القرآن وبعنوان أحد آداب القراءة: إنّ منشأ العظمة ثمانیة أمور فعظمة کتاب معین تارة تنشأ من عظمة المتکلّم

وصاحب الکتاب، وأحیاناً أخری مرتبطة بعظمة المسائل والمقاصد المذکور فیه، والثالثة، بعظمة النتائج والآثار المترتبة علی هذا الکتاب، الرابعة، بعظمة الرسول وحامل الکتاب، أی جبرئیل الأمین والروج الأعظم الذی نزل بهذا الکتاب (إذا کان الروح الأعظم هو جبرائیل)، الخامسة، عظمة النبیّ نفسه والذی نزل هذا القرآن علی قلبه المبارک، السادسة، عظمة الأشخاص الذین حفظوا هذا القرآن، السابعة، عظمة الأشخاص الذین شرحوا هذا الکتاب، والثامنة، عظمة الزمان الذی نزل فیه هذا الکتاب(1).

ص:375


1- (1) انظر: آداب الصّلاة، ص 182.

119- وجوه عظمة القرآن

قبل بیان الموارد الثمانیة فی وجوه عظمة القرآن الکریم، أری من المناسب استعراض هذه الروایة الشریفة: «إِنَّ أَکرَمَ العِبادِ إِلی اللّهِ بَعْدَ الأَنبِیاءِ العُلمَاءُ ثُمَّ حَمَلَةَ القُرآنِ»(1)، یعنی القراء للقرآن والعاملین بمضامینه والناشرین له.

«یَخْرُجُونَ مِنَ الدُّنیا کَما یَخْرُجُ الأَنبِیاء»، أی کما أنّ الملائکة تقبض روح الأنبیاء بکلّ احترام وتقدیر ومؤانسة وکذلک یتمّ قبض هؤلاء القراء للقرآن.

«وَیُحشَرُونَ مِنْ قُبُورِهِم مَعَ ا لأَنبِیاءِ، ویَمُرُّونَ عَلَی الصِّراطِ مَعَ الأَنبِیاء، وَیَأَخُذُونَ ِ ثَوابَ الأَنبِیاء».

والقاریء للقرآن کما ورد فی النصوص والروایات الشریفة، فی منزلة الأنبیاء فی الدنیا والآخرة کما وقد تقدّم فی روایة سابقة، أنّ «مَنْ قَرأ ثُلْثِ القُرْآنِ فَکَأَنَّما أُوتِی ثُلثِ النُّبوَّةَ»، وهکذا الشخص الذی یقرأ ثلثی القرآن فکأنما اوتی ثلثی النبوّة، أمّا من قرأ تمام القرآن فکأنّما اوتی النبوّة أجمع، وفی هذه الروایة مورد

ص:376


1- (1) بحار الأنوار، طبعة بیروت، ج 89، ص 19.

البحث یقول الإمام علیه السلام، إنّ اللّه تبارک وتعالی یرفع من درجة قاریء القرآن وحامله فی الدنیا والآخرة أنّه سیکون بمنزلة الأنبیاء وفی مرتبتهم.

وإذا التفتنا إلی هذه الحقیقة حین قراءة القرآن فإنّ عظمة القرآن ستحیط بقلبنا ولا یتبادر إلی ذهننا أبداً أنّ الغرض من قراءة القرآن هو لنیل الثواب فقط.

إمّا بیان المنشأ والمراتب الثمان فی وجوه تعظیم القرآن:

أوّل سبب ومنشأ لعظیمة القرآن، عظمة المرسل له وصاحبه، فالقرآن العظیم بما أنّه من شخص عظیم وأنّ من صفات الباری تبارک وتعالی هو العظیم «یا عَلِیُّ یا عَظِیم»، فالقرآن یکتسب العظمة من عظمة اللّه تعالی.

یذکر الإمام الخمینی رضوان اللّه تعالی علیه عبارة فی هذا المورد جدیرة بالتأمّل والتمعّن، والواقع أننا نری أحیاناً فی بعض عبارات الإمام الراحل قدس سره فی کتابه من العمق والدقّة بحیث یلزمنا التدبّر والتأمّل فیها لعدّة ساعات، یقول(1): إنّ تجلّی الحقّ تعالی فی جلوة العظمة لا یتیسر هذا التجلّی لأی مخلوق، بل إنّه تعالی یتجلّی لمخلوقاته من وراء آلاف الحجب، یعنی أنّ اللّه تبارک وتعالی إذا أراد أن یتجلّی بصفة العظیم، ویتجلّی بمبدأ العظمة والکبریاء لا یوجد أی مخلوق بإمکانه تحمّل مثل هذا التجلّی، وبالتالی فإنّ تجلّی عظمة اللّه یجب أن یکون من خلال الحجب والستائر، ونفس القرآن یعتبر تجلیاً للذات المقدّسة، وقد تنزّل کثیراً إلی درجة أنّه صار علی شکل ألفاظ عربیّة ووصل إلی ید البشر.

ونقرأ فی روایة نقلها العلّامة المجلسی فی بحار الأنوار، وهذه الروایة مذکورة أیضاً فی کتب العامّة، أنّ النبیّ صلی الله علیه و آله قال: «إِنّ للّهِ تَبَارَکَ وَتَعالی سَبِعِینَ أَلفَ حِجابٍ مِنْ نُور وَظلمَة لَو کُشِفَتْ لأَحرَقَتْ سُبُحاتُ وَجْهِهِ مَا دُونَهُ»(2).

ص:377


1- (1) . انظر: آداب الصّلاة، ص 182.
2- (2) بحار الأنوار، ج 55، ص 45.

وأحد امتیازات القرآن الکریم علی سائر الکتب السماویّة الأخری أنّ القرآن صدر من اللّه تبارک وتعالی بجمیع شؤون الذاتیّة والفعلیّة والصفاتیّة ومع جمیع تجلّیاته الکمالیّة والجلالیّة، یعنی أنّ التجلّی فی القرآن هو التجلّی الأعظم، وهکذا جمیع الصفات والأسماء الإلهیّة فاللّه تعالی تجلّی بجمیع ذاته أفعاله وصفاته وبجمیع صفاته الثبوتیّة والسلبیّة، والجمالیّة والجلالیّة فی القرآن الکریم ولیس الحال کذلک فی سائر الکتب السماویّة الأخری، وهذا یبیّن عظمة هذا الکتاب أکثر.

وعلی هذا الأساس، فأوّل، منشأ والسبب لعظمة القرآن ولزوم تعظیمه أن نعلم أنّ هذا الکتاب الإلهی صادر من موجود عظیم.

الثانی: أنّ هذا القرآن الکریم جاء به جبرئیل الأمین، ومعلوم أنّ جبرئیل الأمین ملک من أشرف الملائکة وهو الموکّل بایصال الفیض الإلهی من العلم والحکمة وسائر الأرزاق المعنویّة إلی الأنبیاء والبشریّة.

الثالث: من جهة الشخص الذی نزل علیه القرآن، وقد نزل القرآن الکریم علی أشرف الناس جمیعاً علی الکرة الأرضیّة وهو نبی الإسلام صلی الله علیه و آله.

الرابع: أنّ اللّه تبارک وتعالی یقول فی هذا الکتاب: «إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّکْرَ وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ»1 ، والکتاب الذی یتولّی الباری تعالی بحفظه وحمایته، فلا یوجد أی شخص أو فئة لها القدرة لاتلاف هذا الکتاب أو التلاعب بکلماته أو تحریفه وسیظلّ هذا الکتاب باقیاً وسلیماً إلی یوم القیامة.

الخامس: من جهة الأشخاص الذین یتولّون شرح وبیان هذا الکتاب، وهم الأئمّة المعصومین صلوات اللّه علیهم أجمعین، فهم شرّاح ومفسّرو هذا الکتاب الإلهی.

ص:378

السادس: من جهة الوقت الذی نزل فیه القرآن، وذلک فی لیلة القدر وهی أفضل اللیالی والأوقات عند اللّه تبارک وتعالی: «إِنّا أَنْزَلْناهُ فِی لَیْلَةِ الْقَدْرِ»1 ، فلو أنّ الإنسان التفت حین قراءته للقرآن إلی هذه الجهات فی عظمة هذا الکتاب فسوف یدرک بمقدار ظرفیّته الوجودیّة عظمة القرآن الکریم وبالتالی یقوده هذا الفهم إلی الاقتراب أکثر من باطن القرآن ولکشف عن أسراره وحقائقه إن شاء اللّه.

ص:379

120- عظمة مضامین ومحتویات القرآن

بحسب ما أورده الإمام الخمینی رضوان اللّه تعالی علیه فی کتابه «آداب الصّلاة» من الوجوه الثمانیة لعظمة القرآن الکریم، وأحد هذه الوجوه فی عظمة هذا الکتاب الإلهی، المضامین ومحتویات القرآن الکریم.

الإنسان عندما یقرأ کتاباً معیّناً ولا یلتفت إلی عظمة مضامین هذا الکتاب ومقاصده فلا یستطیع أن یدرک عظمته وقیمته، والقرآن الکریم من حیث المضامین فی دائرة المفاهیم یعدّ أعظم کتاب، فلا یوجد لدینا کتاب مثل القرآن الکریم من حیث مضامینه وتعالیمه ومحتویاته، والقرآن الکریم هو کتاب هدایة بالمرتبة الاُولی: «هُدیً لِلْمُتَّقِینَ»1 ، فإذا أراد شخص سلوک طریق الحقّ والإیمان فلا یستطیع ذلک بدون الارتباط بالقرآن الکریم، وإذا أراد شخص الوصول إلی مراتب عالیة فی سلّم الهدایة والسیر إلی اللّه تعالی فیجب أن یستمد نور الهدایة من القرآن الکریم، وإذا أراد شخص أن یتحرّک فی سیره وسلوکه فی خطّ اللّه

ص:380

تعالی، فیجب أن یستمد القوّة والمدد من القرآن الکریم، والأشخاص الذین یعیشون فی هذه الحیاه الدنیا بسلاسل الشهوات وقیود الباطل والنوازع الدنیویّة فإنّهم یستطیعون بواسطة القرآن انقاذ أنفسهم والنجاة والخلاص من هذه القیود والسلاسل، والإنسان یستطیع بتلاوة القرآن الکریم أن یرتفع بنفسه من هذه المرتبة النازلة المادیّة ومن حضیض الحیوانیّة إلی مراتب أعلی فی سلّم المعنویّة والإنسانیّة والکمال الإلهی، ویتخلّص بتلاوة القرآن من مجاورة ومجالسة الشیطان، واستبدالها بمجالسة ومصاحبة الملائکة الإلهیین، وهذه هی إحدی الخصوصیّات المهمّة جدّاً فی القرآن الکریم.

الأمر الثانی: أنّ هذا الکتاب یستطیع أی شخص أن یستفید منه وینتفع به بمقدار قابلیته واستعداده، فکما أنّ العالم الذی ینال مراتب عالیة فی علم المعرفة ینتفع بکّل آیة من القرآن وتمثّل له کنوزاً وخزائن من العلم والمعرفة فکذلک الشخص الذی یعیش بعیداً عن أجواء العلم والمعرفة بإمکانه الاستفادة من ظواهر القرآن أیضاً، وقد ورد فی الروایات أنّ بعض سور القرآن مثل سورة التوحید وبعض آیات القرآن کالآیات الاُولی من سورة الحدید، نزلت خاصّة للمتعمقین والعارفین فی آخر الزمان.

وهذا لا یعنی أنّ سورة التوحید نزلت فقط لهؤلاء المتعمقین، بل إنّ هؤلاء یملکون القدرة علی فهم الکثیر من الحقائق والمعارف فی هذه السورة والغوص فی بحارها واستحصال الدرر والجواهر من هذه السورة المبارکة بحیث إنّ الأدیان السابقة لم تکن لهم القدرة علی هذه الاستفادة، وطبعاً فالقدماء استفادوا أیضاً من هذه السورة بمقدار ظرفیّتهم الوجودیّة وقابلیّتهم أیضاً، فأی کتاب لدی البشریّة إلی درجة من العمق وکثرة المعارف أنّ عبارة واحدة وسطراً واحداً من هذا الکتاب یکون نافعاً للأشخاص الذین نالوا أرقی وأعلی مراتب العلم

ص:381

والمعرفة وفی ذات الوقت یفید الأشخاص الذین لا یملکون حظاً من العلم والمعرفة! وهذه خصوصیّة متوفّرة فی القرآن الکریم وتعدّ هذه الخصوصیّة أحد وجوه إعجاز القرآن.

إذن الأمر الثانی هو أنّ القرآن الکریم یملک هذه الخصوصیّة بأنّ کلّ شخص ینتفع به بمقدار ما یملک من استعداد وقابلیّة، ولا ینبغی أن یقول شخص إنّ القرآن یتعلّق بطبقة وفئة خاصّة، فهذا الکتاب الإلهی هو کتاب لجمیع أفراد البشر ویستطیع کلّ فرد الاستفادة منه بمقدار قابلیته واستعداده، وبالنتیجة أنّ کلّ شخص سیفهم من القرآن بمقدار ظرفیّته ومعلوماته، عظمة هذا الکتاب الإلهی.

ص:382

121- رعایة حقّ تلاوة القرآن الترتیل، التدبّر، العمل بالآیات، العبرة من القصص توجه القاریء لتعالیم القرآن

یقول اللّه تبارک وتعالی فی الآیة الشریفة: «اَلَّذِینَ آتَیْناهُمُ الْکِتابَ یَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ...»1 ، فماذا یعنی حقّ تلاوة القرآن؟ یستفاد من هذه الآیة الشریفة أنّه ربّما یتلو شخص القرآن ولکنّه لا یراعی حقّ تلاوة القرآن، فالتلاوة مسألة وحقّ التلاوة مسألة أخری، کما أنّ مسألة العبادة أمر، وحقّ العباده أمر آخر، ومعرفة اللّه أمر، وحقّ معرفته أمر آخر، ومن أجل معرفة حقّ التلاوة بإمکاننا التعبیر عنها بآداب القراءة والتلاوة، یقول الإمام الصادق علیه السلام فی ذیل هذه الآیة الشریفة:

«یُرَتِلُونَ آیَاتِهِ وَیَتَفَقّهُونَ فِیهِ»، وهذا یعنی أنّ ترتیل الآیات القرآنیّة یعدّ أحد آداب قراءة القرآن والتفقّه فی هذه الآیات أدب آخر للقراءة والتلاوة «وَیَعْمَلُونَ بِأَحْکَامِهِ»، فالأدب الثالث من شؤون حقّ التلاوة العمل بالقرآن وبما یحمله من

ص:383

تعالیم وأحکام، أی أنّ الإنسان عندما یقرأ الآیة ویتدبّر فی مضامینها یتحرّک بعدها فی مقام العمل لتطبیقها.

والقاریء للقرآن الکریم عندما یتلو آیاته ویقرأ أنّ اللّه تبارک وتعالی علیم وسمیع وبصیر، فلو أراد العمل بهذه الآیة فی حیاته فیجب أن یلتفت أنّ اللّه تعالی عالم بجمیع أبعاده وبسرّه وعلانیّته.

«وَیَرْجُونَ وَعْدَهُ وَیَخافُونَ وَعِیدَهُ وَیَعْتَبِرُونَ بِقِصَصَهِ»، فعندما یصل القاریء للقرآن إلی آیات البشارة بالجنّة والوعد الإلهی بالنعیم الخالد فی الآخرة للمؤمنین فإنّه یرجو من اللّه تعالی أن ینال هذه الجنّة والنعیم الأبدی، وعندما یصل إلی آیات العذاب والنار فإنّه یشعر فی نفسه بالخوف من عذاب اللّه وتجری دموعه علی خدّیه، وعندما یقرأ قصص القرآن فإنّه یستفید منها الدروس والعبر فی واقع الحیاة، فحکایة هذه القصص فی القرآن لا تعنی أنّ اللّه تبارک وتعالی یرید فقط أن یحکی لنا قصص الأقوام السابقة بوصفها تاریخاً لتلک الاُمم وأنبیائهم، بل یرید منّا الاعتبار بما جری لهذه الاُمم فی التاریخ وکسب الدروس النافعة من هذه القصص، وحتّی تلک القضایا التی وقعت متکررة فی القرآن الکریم فإنّها فی الحقیقة لیست تکراراً، بل یتضمّن کلّ مورد منها نقاطاً دقیقة عرفانیّة وأخلاقیّة وتربویّة أو علمیّة لا توجد فی الموارد الأخری المشابهة لها.

«وَیَأتَمِرُونَ بِأَوامِرِهِ وَیَتَنَاهَونَ عَنْ نَواهِیهِ»، ثمّ یقول الإمام الصادق علیه السلام: «مَا هُوَ واللّهِ حِفظُ آیَاتِهِ وَدَرْسِ حُرُوفِهِ وَتِلاوَةِ سُورِهِ وَدَرسِ أَعْشَارِهِ وَأَخمَاسِهِ»، وکأنّ بعض المسلمین فی عصر هذا الإمام علیه السلام کانوا مثل بعض الناس فی هذا العصر یحفظون آیات القرآن عن ظهر قلب ویتصوّرون أنّ هذا هو المقصود من الحفظ بمعناه الحقیقی.

«حَفِظُوا حُرُوفَهُ وَأَضَاعُوا حُدُودَهُ»، فبعض المسلمین یهتمّون بحسب الظاهر

ص:384

وحفظه وتلاوته ولکنّهم أضاعوا حقائقه وحدوده.

«وَإِنَّما تَدَبُّرُ آیَاتِهِ وَالعَمَلُ بِأَحْکَامِهِ»، ثمّ یقول الإمام علیه السلام: إنّ حقّ التلاوة عبارة عن التدبّر فی آیات القرآن والعمل بأحکامه وتعالیمه وتطبیقها علی أرض الواقع العملی، فیجب علینا الانتباه إلی هذه الحقیقة، وهی أنّ قاریء القرآن یجب علیه رعایة حقّ تلاوة القرآن، وإحدی جهات هذه الرعایة لحقّ التلاوة إننا نهتمّ بمضامین آیات القرآن ونسعی لتطبیقها.

ص:385

122- التأثیر المضاعف لقراءة القرآن فی الصّلاة

قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله: «قِرَاءَةُ القُرآنِ فِی الصَّلاةِ أَفضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ القُرآنِ فِی غَیرِ الصَّلاةِ»(1).

یجب علی المصلّی، بغض نظر عن مسألة الصّلاة، أن یلتفت إلی هذه الحقیقة، وهی أنّ قراءة القرآن مسألة مهمّة جدّاً، وقد ورد التأکید علیها فی الآیات والروایات الشریفة ولها آثار وبرکات کثیرة، وعندما تکون هذه القراءة للقرآن فی الصّلاة فسوف تکون لها آثار وبرکات مضاعفة بل لعدّه أضعاف، وقد ورد فی الروایات أنّ الجنّة تشتاق لهؤلاء قراء للقرآن.

والآن إذا قرأ المصلّین آیات القرآن فی صلاته فإنّ اشتیاق الجنّة سیتضاعف إلیه بل ورد فی الروایات أیضاً أنّ الشخص الذی یقرأ القرآن فإنّ الملائکة تستغفر له، وهذا الشخص عندما یقرأ القرآن فی صلاته فإنّ استغفار الملائکة له سیتضاعف مرّات عدیدة.

وعندما نری فی الروایات أنّ الشخص الذی قرأ القرآن فإنّ اللّه تعالی ینظر إلیه

ص:386


1- (1) بحار الأنوار، طبعة بیروت، ج 89، ص 19.

بنظر رحمته، «إِنَّ المُؤمِن إِذَا قَرَأ القُرآنَ نَظَرَ اللّهُ إِلیَهِ بِالرَّحمَةِ»، أی أنّ هذا الشخص سیدخل دائرة الأمن ویدخل دائرة الرحمة الإلهیّة، فی حین أنّه لو کانت قراءة القرآن فی الصّلاة، فإنّ مثل هذه الصّلاة ستجلب له نظر الرحمة الإلهیّة، ولکن ما هی الآثار المترتبة علی تلاوة القرآن فی الصّلاة؟ لقد ورد فی الروایات الشریفة أنّ الإنسان إذا قرأ آیة واحدة من القرآن فإنّ اللّه تعالی سیعطه أجر مائة شهید، ولو أنّه قراء سورة واحدة من القرآن فسیعطیه اللّه تعالی أجر نبی مرسل ویکون له فی مقابل کلّ حرف من آیات القرآن نور علی الصراط، والآن لو قرأ المصلّی القرآن فی صلاته فما هی الآثار المترتبة علی ذلک؟ ولذلک یجب علی المصلّی أن یطّلع علی هذه الآثار والبرکات مسبقاً.

وسبق أنّ بیّنا أنّ أحد الأمور فی عظمة القرآن، توجّه الإنسان وتعمّقه فی تعالیم القرآن الکریم ومفاهیمه، فالقرآن یتضمّن مسائل ومفاهیم متنوعة ومختلفة، فهو أولاً کتاب هدایة، وثانیاً: یستوعب جمیع طبقات البشر وفئاتهم من العامی والعارف والعالم وغیرهم، وکلّ فئة من فئات المجتمع تنتفع من حقائق القرآن معارفه وتعالیمه بمقدار استعدادهم وقابلیاتهم، وثالثاً: إنّ هذا الکتاب «هُدیً لِلْمُتَّقِینَ» ، ویتسبّب فی انقاذ الإنسان من الرذائل وتطهیر نفسه وتنقیة قلبه من النوازع النفسانیّة الذمیمة، والأهواء والوساوس الشیطانیّة، والقرآن کفّارة للذنوب أیضاً، یعنی عندما یقرأ القاریء آیة من الآیات القرآن الکریم ویتدبّر فیها فإنّ ذلک من شأنه تطهیر باطنه من شوائب الرذیلة وتنقیه ذهنه من الأفکار المنحرفة.

المسألة الرابعة فی القرآن الکریم، بیان سیرة الأنبیاء وقصصهم وما جری علی الأقوام السالفة من حوادث ووقائع، ولکن البعض یتصوّر أنّ ذکر هذه القصص یهدف إلی أنّ اللّه تبارک وتعالی أراد نقل تاریخ هذه الأقوام إلی الأجیال اللاحقة،

ص:387

فی حین أنّ اللّه تبارک وتعالی یقول لنبیّه الکریم: «وَ اذْکُرْ عَبْدَنا»1 ، ویحکی له ما جری علی الأنبیاء السابقین فإنّ ذلک لغرض تذکیر النبیّ أولاً، ثمّ امّته ثانیاً، بهذه القصص لاقتباس الدروس والعبر منها وللاستفادة من هذه القصص فی مجال التربیة والتعلیم.

لماذا توجد فی هذه القصص معارف کثیرة؟ یقول الإمام الصادق علیه السلام: إنّ حقّ التلاوة هو عندما تصل إلی قصّة من قصص القرآن فعلیک بکسب العبرة منها، ولا تقتصر العبرة علی النصائح الأخلاقیّة والتربویّة، والإمام الخمینی رضوان اللّه تعالی علیه یقول(1): إنّ فی قصص القرآن معارف وتعالیم تربویّة وربوبیّة إلی درجة أنّها تحیّر العقول، وهذه المظاهر المتکررة فی القصص القرآنیّة أولاً: فتح باب التزکیة والتعالیم والتربیة للناس، وثانیاً: إذا دققنا جیداً فی هذه القصص المتکررة فسوف لا نجد تکراراً لها بل کلّ مورد منها یتضمّن مسائل عمیقة ونکات عرفانیّة وأخلاقیّة جدیدة.

وعلی هذا الأساس یجب الالتفات والاهتمام بقصص القرآن والاستفادة منها فی واقع الحیاة، لأنّ الاهتمام بقصص الأنبیاء یعدّ وسیلة مهمّة فی مجال السیر والسلوک المعنوی إلی اللّه تعالی، مثلاً فی قصّة النبیّ إبراهیم علیه السلام یقول: «فَلَمّا جَنَّ عَلَیْهِ اللَّیْلُ رَأی کَوْکَباً...»3 ، فالإنسان السالک یفهم من هذه الآیة الشریفة أنّ الإنسان ومن أجل إدامة سیره وسلوکه إلی اللّه تعالی یجب أن یبتدیء هذا السیر من منتهی ظلمة الطبیعة إلی أن یصل إلی نور اللّه تبارک وتعالی.

ص:388


1- (2) . انظر: آداب الصّلاة، ص 186.

123- تعظیم القرآن، هو التوجّه إلی مضامینه

أحد المسائل والأمور التی یتحدّث عنها القرآن الکریم، بیان أحوال الکفّار والمنکرین والأشخاص الذین یکذّبون بآیات اللّه والرسالة السماویّة، وفی مقابل ذلک یبیّن القرآن أیضاً أحوال المتقین والأبرار الصالحین والمحسنین والأشخاص الذین آمنوا وصدقوا بآیات اللّه تعالی وبأنبیائه وکتبه، ویبیّن اللّه تعالی بجلاء ووضوح عاقبة کلّ فئة من هاتین الفئتین، فالفراعنة، والنمارة، وقارون وشداد وأصحاب الفیل وأمثالهم کانت عاقبتهم وخیمة فی الدنیا وینتظرهم العذاب فی الآخرة، وفی مقابل هؤلاء یتحدّث القرآن عن العاقبة الحسنة التی تنتظر أهل الولایة والصلاح والإیمان، وإحدی المسائل التی تحدّث عنها القرآن الکریم ذکر أحوال المعاد والبراهین الدالة علی تحقّقه وکیفیّة العذاب الاُخروی، وأحوال الجنّة والنار، وأحوال أهل السعادة ودرجاتهم فی الجنّة، وسبق أن ذکرنا فی تفسیر الآیة الشریفة: «اَلَّذِینَ آتَیْناهُمُ الْکِتابَ یَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ...»1 ، أنّ الإمام الصادق علیه السلام یقول فی تفسیر هذه الآیة

ص:389

الشریفة أنّ حقّ التلاوة:

«هُوَ الوُقُوفُ عِنْدَ ذِکرِ الجَنَّةِ وَالنَّارِ»، أی لا ینبغی علی قاریء القرآن عندما یصل إلی ذکر الجنّة والنار وحالات أهل الجنّة والنار أن یمرّ علیها مرور الکرام، بل یتمعّن ویتدبّر فی هذه الآیات الشریفة ویطلب من اللّه تعالی أن یجعله من أهل الجنّة وعندما یمرّ بآیات العذاب وأهل النار وما فی جهنّم من عقوبات ألیمة لا تتصوّرها عقولنا ومخیلتنا، فهنا نستجیر باللّه تبارک وتعالی من عذابه ونقمته وسخطه.

وقد ذکر القرآن الکریم بشکل تفصیلی براهین إثبات وجود اللّه والتوحید وصفات اللّه وأسمائه الحسنی، ومن هذا المنطلق فمعنی التعظیم للقرآن، وهو أوّل أدب لقراءة القرآن، هو أنّ القاریء للقرآن یتمعّن فی مضامین هذا الکتاب الإلهی، فلا یوجد کتاب فی العالم یملک مضامین راقیة ومفاهیم سامیة کمفاهیم القرآن وتعالیمه، وهو الکتاب الذی تضمّن حقائق عالم الوجود من الأزل إلی الأبد وذکرها وفصّلها للبشر فی جمیع الأبعاد، وهو کتاب السعادة والهدایة ولم یجد ولن یجد أفراد البشر أی کتاب أکمل وأشمل أدقّ من القرآن الکریم، لیس فقط القرآن، بل سورة واحدة من سوره وحتّی آیة من آیاته الکریمة، یقول أمیرالمؤمنین صلوات اللّه علیه: «البَیْتُ الَّذی یُقرَأُ فِیهِ القُرآنُ وَیُدکَرُ اللّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِیهِ تَکْثُرُ بَرَکَتُهُ وَتَحْضُرُهُ المَلائِکَةُ وَتَهْجُرُهُ الشَّیاطِینَ»، أی تبتعد عن هذا البیت الکثیر من المشکلات والأزمات ویعیش أصحاب هذا البیت حالات الطمأنینة والبهجة من الناحیة المعنویّة.

«ویُضِیءُ لأَهلِ السَّماءِ کَمَا تُضِیءُ الکَواکِبُ لأَهلِ الأَرِضِ، وَإِنَ البَیتِ الَّذی لا یُقرأُ فِیهِ القُرآنُ وَلا یُذکَرُ اللّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِیهِ تَقِلُّ بَرَکَتُهُ وَتَهجُرُهُ المَلائِکَةُ وَتَحضُرُوهُ الشَّیاطِینَ»(1)، ویترتّب علی ذلک أنّ أصحاب هذا البیت یعیشون التوتر

ص:390


1- (1) . الکافی، المطبعة الإسلامیّة، ج 2، ص 610.

والمشکلات المادیّة والنفسیّة، بخلاف البیت الذی یقرأ فیه القرآن فإنّ الهدوء والاستقرار یهیمن علی أجوائه والنورانیّة والأمل والصفاء تملء قلوب أصحابه وأهله، وعلی هذا الأساس فالمؤمنون یجب أن یهتمّوا بقراءة القرآن ولا یغفلوا عن هذه النعمة العظیمة.

ص:391

124- القرآن کتاب تعلیم وتربیة

وأحد آداب قراءة القرآن الأخری أنّ الشخص عندما یقرأ القرآن فینبغی أن یقرأه بهدف التعلّم وطلب المعرفة، فإنّ اللّه تبارک وتعالی جعل القرآن کتاب تعلیم وتربیة وأختار لهذه المهمّة وتبلیغ هذه الرسالة أفضل عباده لغرض تعلیم الناس وتربیتهم، وهذه الجهة مهمّة جدّاً، فلو أننا أردنا قراءة القرآن من أجل الثواب والأجر فقط، أو بهدف الاطلاع علی بعض فنونه الأدبیّة والفصاحة والبلاغة، فإنّما نبتعد بذلک عن الهدف الأصلی من قراءة القرآن وهو التعلیم، وکسب المعرفة، وفی القرآن الکریم آیات متعددة تصرّح بهذا الأمر وأنّ القرآن هو کتاب علم ومعرفة، فنقرأ فی آیة 151 من سورة البقرة أنّه تعالی یقول: «کَما أَرْسَلْنا فِیکُمْ رَسُولاً مِنْکُمْ یَتْلُوا عَلَیْکُمْ آیاتِنا وَ یُزَکِّیکُمْ وَ یُعَلِّمُکُمُ الْکِتابَ وَ الْحِکْمَةَ...» ، فإحدی وظائف الرسول الکریم، تعلیم الناس بهذا الکتاب، بمعنی أن تکون قراءة القرآن مقدّمة لحصول الإنسان علی المقاصد الحقیقة للقرآن الکریم وما یریده اللّه تعالی من عباده، ونقرأ فی الآیة 164 من سورة آل عمران: «لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَی

ص:392

وأحد آداب قراءة القرآن الأخری أنّ الشخص عندما یقرأ القرآن فینبغی أن یقرأه بهدف التعلّم وطلب المعرفة، فإنّ اللّه تبارک وتعالی جعل القرآن کتاب تعلیم وتربیة وأختار لهذه المهمّة وتبلیغ هذه الرسالة أفضل عباده لغرض تعلیم الناس وتربیتهم، وهذه الجهة مهمّة جدّاً، فلو أننا أردنا قراءة القرآن من أجل الثواب والأجر فقط، أو بهدف الاطلاع علی بعض فنونه الأدبیّة والفصاحة والبلاغة، فإنّما نبتعد بذلک عن الهدف الأصلی من قراءة القرآن وهو التعلیم، وکسب المعرفة، وفی القرآن الکریم آیات متعددة تصرّح بهذا الأمر وأنّ القرآن هو کتاب علم ومعرفة، فنقرأ فی آیة 151 من سورة البقرة أنّه تعالی یقول: «کَما أَرْسَلْنا فِیکُمْ رَسُولاً مِنْکُمْ یَتْلُوا عَلَیْکُمْ آیاتِنا وَ یُزَکِّیکُمْ وَ یُعَلِّمُکُمُ الْکِتابَ وَ الْحِکْمَةَ...» ، فإحدی وظائف الرسول الکریم، تعلیم الناس بهذا الکتاب، بمعنی أن تکون قراءة القرآن مقدّمة لحصول الإنسان علی المقاصد الحقیقة للقرآن الکریم وما یریده اللّه تعالی من عباده، ونقرأ فی الآیة 164 من سورة آل عمران: «لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَی

اَلْمُؤْمِنِینَ إِذْ بَعَثَ فِیهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ یَتْلُوا عَلَیْهِمْ آیاتِهِ وَ یُزَکِّیهِمْ وَ یُعَلِّمُهُمُ الْکِتابَ وَ الْحِکْمَةَ...».

والنقطة الجدیرة بالملاحظة هنا أنّ هذه الجهة التعلیمیّة تتعلّق بجمیع الکتب السماویّة، ونقرأ فی بعض الآیات القرآنیّة الأخری أنّها أشارت إلی هذا المعنی أیضاً، کما ورد فی الآیة 48 من سورة آل عمران: «وَ یُعَلِّمُهُ الْکِتابَ وَ الْحِکْمَةَ وَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِیلَ» ، وهکذا نری أنّ مسألة التعلیم والتربیة تستوعب جمیع الکتب السماویة من القرآن والتوراة والانجیل الحقیقی.

وکیف کان، فالقاریء للقرآن یجب أن یلتفت أنّ القرآن کتاب تعلیم ومعرفة، ویجب علی الإنسان من خلال القرآن أن یغترف من بحر العلم فیصل إلی حقائق الوجود، والنقطة الدقیقة جدّاً التی ذکرها الإمام الخمینی رضوان اللّه علیه(1) أنّ مسألة التعالیم لا تنحصر ببیان الجهات الأدبیّة للقرآن أو بیان شأن نزول الآیات أو اختلاف القراءات، إنّ بحث تعالیم القرآن یرتبط بأنّ اللّه تبارک وتعالی أراد للإنسان بواسطة هذه الآیات الشریفة أن یصل إلی مقصوده النهائی، وهو هدایة الإنسان فی طریق الکمال المعنوی والوصول إلی مراتب عالیة من القرب الإلهی، ثمّ إنّ الإمام کشف عن حقیقة بلغة العتب وقال: یجب علینا الاعتراف بأنّ المفسّرین الکبار للقرآن لم یفتحوا باب التعالیم أمام الناس، بل أعلی من ذلک قال: أنا لا أستطیع القبول بوجود تفسیر للقرآن لحدّ الآن.

وهکذا نری الإمام الخمینی رحمه الله فی ذات الوقت الذی یقدّر ویحترم تفاسیر علماء الإسلام ویدعو لهم ویقدّر جهودهم، ولکنّه یقول: فی نظری أنّ هذه التفاسیر لیست تفسیراً حقیقیاً، لأنّها مجرّد شرح مقاصد الکتاب ویجب علی المفسّر أن یبیّن المقصود من نزول هذه الآیات لا بیان سبب نزول الآیات، ولذلک

ص:


1- (1) . انظر: آداب الصّلاة، ص 192.

یؤکّد أننا یجب أن نری فی کلّ آیة الجهة التعلیمیّة الأصلیّة یعنی ما کان مقصود المعلّم الأوّل والآخر للبشر وهو اللّه تبارک وتعالی وما هو غرضه ومقصوده من هذه الآیات؟

وفی نظر الإمام الراحل رحمه الله فإنّ البعد الأصلی لتعالیم جمیع آیات القرآن الکریم یدور حول محور الهدایة وفتح الطریق للبشر فی حرکتهم وسیرهم المعنوی وسلوکهم إلی اللّه تعالی، ومن هذا المنطلق یجب علی المفسّر مهما أمکن أن یستخرج جمیع الجهات العرفانیّة والتربویّة من قلب الآیات الشریفة، کما هو الحال فی قصّة النبیّ آدم وحواء وقصّة الشیطان واخراجهم من الجنّة وهبوطهم إلی الأرض، فهذه القصّة تتضمّن معارف ومواعظ کثیرة بحیث إنّ الإنسان إذا أراد أن یعرف نفسه ویکتشف عیوبه ویتعرّف علی خطط وخطوات إبلیس وفخاخه ومصائده بشکل صحیح فیمکنه الاستفادة من هذه الآیات الکریمة.

إنّ المفسّر الذی یغفل عن الجوانب وأبعاد العرفانیّة والتربویّه والأخلاقیّة فی الآیات الکریمة فإنّه یغفل عن المقصود الأصلی للقرآن، ومن هنا یجب علی قاریء القرآن الاهتمام بهذا أدب القرآنی من آداب التلاوة وهو ما یخصّ الجانب التعلیمی للقرآن، وعندما یقرأ القرآن یکون همّه الانتهاء من السورة أو من القراءة بل یتدبّر أکثر فی الآیات الکریمة ویتفقّه ویهتمّ بالنقاط الأخلاقیّة والعرفانیّة والتربویّة التی یستوحیها من هذا الکتاب السماوی.

ص:394

125- آداب التلاوة رفع الموانع والحُجب (العُجب - الأفکار الباطلة)

أحد آداب تلاوة القرآن، رفع موانع الاستفادة من القرآن الکریم وإزاحة الحجب والستائر التی تمنع من وصول الإنسان إلی حقائق القرآن، وهذا البحث تحدّث عنه الإمام الخمینی رضوان اللّه تعالی علیه، فی کتابه «آداب الصّلاة»(1) بعبارات دقیقة وعمیقة جدّاً، وأحد هذه الموانع حجاب الأنانیّة والعجب، والذی یتسبّب فی توقف الفرد عن الحرکة فی خطّ البحث عن الحقیقة والتوصل إلیها، فلو أنّ الشخص حصر نفسه فی دائرة علم من العلوم ونظر إلی القرآن الکریم وقرأ آیاته من هذه الزاویة فقط، فهذا نوع من أنواع العجب والانحصار فی الفهم وضیق الرؤیة وبالتالی یتسبّب فی وضع حجاب بینه وبین القرآن.

ولو أنّ الأدیب تصوّر أنّ القرآن منحصر فقط فی جهاته الأدبیّة والبلاغیّة، ولو أنّ الفقیه تصوّر أنّ القرآن منحصر فقط فی جهاته الفقهیّة والشرعیّة، ولو أنّ

ص:395


1- (1) . انظر: آداب الصّلاة، ص 195.

الفیلسوف تصوّر أن القرآن منحصر فی بیان الحقائق الفلسفیّة، فإنّهم لم یصلوا أبداً إلی حقیقة آیة واحدة من آیاته الکریمة فضلاً الوصول إلی حقیقة القرآن، فلا ینبغی لأی عالم أن یحصر نفسه فی فرع خاصّ من الفروع العلمیّة، وإحدی تعالیم القرآن المهمّة أنّ أی عالم وفی أیة مرتبة علمیّة کان، حتّی الأنبیاء فی مرتبة النبوّة، لا ینبغی لهم الغفلة عن طلب الزیادة فی العلم والمعرفة.

ونری أنّ الباری تعالی یأمر نبیّه الکریم فی القرآن ویقول: «وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِی عِلْماً»1 ، فرغم أنّ النبیّ الکریم وصل إلی أعلی مراتب العلم والمعرفة بین سائر موجودات العالم ولکن باب العلم وحقیقة المعرفة عند اللّه تبارک وتعالی لا تتحدّد بحدّ معین وأوسع من أن یحیط بها إنسان حتّی نبیّ الکریم بحیث کان یسأل اللّه تعالی الزیادة فی العلم والمعرفة.

والنتیجة أنّ المؤمن عندما یقرأ القرآن یجب أن یأخذ بنظر الاعتبار هذا الدعاء لیستزید من العلم، فإنّ اللّه تعالی یثیر العلم والمعرفة لکلّ إنسان بحقّ ومقدار وظرفیتّه وقابلیّته.

ونقرأ فی قصّة النبیّ موسی والخضر علیهما السلام، أنّ موسی علیه السلام مع أنّه کان یملک مقام النبوّة ولکنّه لم یقنع بذلک الحدّ والمرتبة من مقام العلم والمعرفة، ولذلک عندما التقی بالخضر علیه السلام ورأی فیه إنساناً کاملاً وعالماً وعارفاً فإنّه طلب منه بکلّ تواضع أن یستفید من علمه: «قالَ لَهُ مُوسی هَلْ أَتَّبِعُکَ عَلی أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمّا عُلِّمْتَ رُشْداً»2 ، إذن فأول حجاب یجب علی الإنسان إزاحته، إزاحة الأنانیّة والعُجب عن ذاته، وعندما یجلس فی محضر القرآن الکریم سیواجه بحاراً من العلوم والمعارف الکثیرة ولا ینبغی أن یتصوّر أنّ هذا الکتاب العظیم محصور ومنحصر فی فرع خاصّ من العلوم.

ص:396

ونقرأ فی بعض الروایات: «مَنْ أَرَادَ العِلمَ فَلَیُثَوِّرُ القُرانَ»(1)، یعنی لیحرث القرآن ویبحث فی مطاویه ومضامین آیاته الکریمة ویهدف فی بحثه هذا أن یفتح من کلّ آیة قرآنیّة باب من العلم والمعرفة، وکلمة علم فی «مَنْ أَرَادَ العِلمَ...» لا تعنی فقط علوم الآخرة بل تشمل کلّ ما ینتفع به من حقیقة العلم، إذن فالشخص الذی یقرأ القرآن یجب أن یتأدب بهذا الأدب وأن یزیح عن نفسه وعقله حجاب الأنانیّة والعُجب والغرور ورؤیة الذات ویتحرّک فقط لطلب الحقائق الکامنة فی آیات القرآن الکریم وینتفع به أکثر.

ومن الحُجب الأخری التی تقع بین الإنسان وآیات القرآن حجاب الأفکار الباطلة والأفکار الفاسدة التی وصلت إلی الإنسان من القدماء واکتسبها بشکل إرث تقلیدی، ومعلوم أنّ وجود الآراء الفاسدة والأفکار والمسالک الباطلة یمنع الإنسان من الاستفادة الصحیحة من القرآن الکریم، وثمّة نماذج کثیرة علی هذا الموضوع وقد استعرض الإمام الخمینی رحمه الله أمثلة علی ذلک فی کتابه «آداب الصّلاة»(2) وقال: نحن نری فی القرآن الکریم آیات عدیدة تتعلّق بلقاء اللّه ومعرفته مثل: «إِنَّ الَّذِینَ لا یَرْجُونَ لِقاءَنا...»3 ، أو «مَنْ کانَ یَرْجُوا لِقاءَ اللّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللّهِ لَآتٍ...»4 ، وهکذا ما ورد فی الأحادیث الشریفة والأدعیة ومناجاة الأئمّة الأطهار علیهم السلام وما فیها من مسائل وتعالیم کثیرة وعمیقة من قبیل عبارات المناجاة الشعبانیّة.

والآن إذا أراد شخص أن یقرأ هذا الکتاب الإلهی برؤیة سطحیّة وظاهریّة واعتقد أنّ باب معرفة اللّه ومشاهدة الجمال الإلهی مسدود وموصد تماماً وتصوّر

ص:397


1- (1) . مجمع البحرین، ج 3، ص 238.
2- (2) . انظر: آداب الصّلاة، ص 197.

خطأ أنّ هذا الباب من المعرفة لا یمکن درکه کما فی باب معرفة الذات الإلهیّة، فإنّه قد حرم نفسه من الکثیر من المعارف الإلهیّة والقرآنیّة، ورغم أنّه ورد فی بعض الروایات النهی عن التفکّر فی ذات اللّه، ولکن هذه المعارف تختلف عن معرفة الذات، فبحث لقاء اللّه ومشاهدة الجمال الإلهی مطلوب وغایة بأولیاء اللّه ونقرأ فی المناجاة الشعبانیّة: «اِلهیٖ هَبْ لیٖ کَمالَ الْإِنْقِطاعِ الَیْکَ، وَاَنِرْ ابْصارَ قُلُوبِنا بِضِیآءِ نَظَرِها الَیْکَ، حَتّی تَخْرِقَ ابْصارُ الْقُلُوبِ حُجُبَ النُّورِ...»، وطبقاً لهذه المضامین الشریفة فالإنسان یستطیع إزاحة الحجب والحصول علی کمال الانقطاع إلی اللّه تعالی وبالتالی مشاهدة الجمال الإلهی.

إنّ إنکار هذه البحوث والمسائل یحرم الإنسان من الکثیر من الحقائق الواردة فی القرآن الکریم، والنقطة العجیبة والمثیرة جدّاً فی کلام الإمام الخمینی رضوان اللّه تعالی علیه هی قوله: إنّ مثل هذه الأفکار هی السبب فی کون القرآن مهجوراً کما تقول الآیة علی لسان النبیّ: «یا رَبِّ إِنَّ قَوْمِی اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً»1 ، فمهجوریة القرآن لیس بسبب أنّ الناس لا تقرأ القرآن أو لا أحد یتلو آیاته الکریمة أو لا یعمل به، فإنّ المهجوریّة لها مراتب متعددة بحیث إننا جمیعاً متورطون فی هذا الشأن، وأحد هذه المراتب الحرمان من هذه الحقائق الموجودة فی آیات القرآن والتی تتعلّق بلقاء اللّه ومعرفته ومشاهدة سبحات جماله، ولو أنّ للإنسان هذه الأفکار الباطلة وأراد تکذیب هذه الآیات أو یفسّرها بتفاسیر سطحیّة ساذجة، فهذا یؤدّی أیضاً إلی مهجوریّة القرآن.

وعلی هذا الأساس فإنّ أحد الحجب التی یجب علی قاری القرآن إزاحتها، العقائد الفاسدة والمسالک الباطلة ویسعی للتخلّص منها لیتمکن من الاقتراب من حقائق القرآن.

ص:398

126- آداب التلاوة رفع الموانع، عدم حصر التفسیر بفهم القدماء

الحجاب الثالث الذی أشار إلیه الإمام الخمینی رضوان اللّه تعالی علیه(1) ، أنّ مفسّر القرآن لا ینبغی أن یتصوّر أنّ کلّ ما فی آیات القرآن من معارف وتعالیم ومفاهیم قد ذکر فی تفاسیر المفسّرین، وإذا أراد إضافة مسألة أخری ومفهوم آخر علی هذه التفاسیر فسیکون هذا من مصادیق التفسیر بالرأی، ولیس له حقّ بیانه، مثلاً فی قصّة النبیّ موسی والخضر علیهما السلام وکیفیّة طلب النبیّ موسی علیه السلام العلم من هذا العالم وجواب الخضر علیه السلام وکیفیّة السؤال والجواب والحوار بین هذین النبیین یستفاد منه أهمیّة العلم والتعلّم، فنحن نستطیع أن نستوحی عشرین أدباً من آداب المعلّم والمتعلِّم لم ترد الإشارة إلیها فی کلمات المفسّرین السابقین من هذه القصّة، فلا یتصوّر أحد أنّ هذا من باب التفسیر بالرأی، أو مثلاً الآیة الشریفة:

«اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِینَ»2 ، فقد یستوحی منها أحدهم أنّ جمیع أشکال الحمد

ص:399


1- (1) . انظر: آداب الصّلاة، ص 197.

والثناء وفی أی مکان ومن أی شخص صدر ولأی شخص کان المقصود بالثناء والحمد، فإنّ جمیع هذه الأنواع والحالات من الحمد والثناء تعود فی حقیقتها إلی اللّه تعالی، ومثل هذا المعنی المستفاد من هذه الآیة لا یعتبر من التفسیر أساساً حتّی یقال إنّه من مصادیق التفسیر بالرأی، فلو طالعتم تفاسیر القرآن فسوف ترون أنّ مفسّراً أحیاناً یخطیء مفسّراً آخراً بحجّة أنّ کلامه من قبیل التفسیر بالرأی، ولکن لو أنّ المفسّر استوحی من الآیة الشریفة نقطة عرفانیّة دقیقة فسوف یتهمه مفسّر آخر بأنّه من قبیل التفسیر بالرأی.

یقول الإمام الخمینی رضوان اللّه تعالی علیه: هذا الکلام والاتهام بنفسه نوع من الحجاب، فعندما یصل المفسّر بعد تدبّره بآیات القرآن إلی حقیقة معیّنة بحیث إنّ الآخرین لم یتوصلوا إلیها کأن یفهم نقطة أخلاقیة أو إشارة عرفانیّة باب السیر والسلوک المعنوی أو معلومة إرشادیّة من آیات القرآن فلا ینبغی أن نتصوّر أنّ هذا من قبیل التفسیر بالرأی.

ولکن العلماء الآخرین أجروا مسألة التفسیر بالرأی إلی جمیع آیات القرآن، وهنا نری أنّ أحد آراء الإمام الخمینی رضوان اللّه تعالی علیه أنّه قال: لا أستبعد، بل احتمل قویاً أنّ مسألة التفسیر بالرأی التی وقعت مورد الذم، تتعلّق بآیات الأحکام ولا تتعلّق بجمیع آیات القرآن الکریم، ومعلوم أنّ العقل البشری قاصر عن فهم آیات الأحکام وتشخیصها وتشخیص مقادرها ومقادیر الحدود الإلهیّة، ولذلک لا یحقّ للعقل البشری أن یتصرّف بآیات الأحکام، خلافاً لسائر الآیات الکریمة التی یستحسن التفکّر بها والتدبّر فیها بواسطة العقل البشری، فهناک آیات لا مجال لفهم مضامینها إلّامن خلال العقل وبواسطة التعّقل، فالعقل فقط هو الذی یجب أن یحضر إلی هذا المیدان، وعلی هذا الأساس یجب علی الإنسان أن یزیح هذا الحجاب عن فکره وقلبه ولا یتصوّر أنّه إذا استوحی نقطة معرفیّة أو مسألة علمیّة من هذه الآیة فإنّه من قبیل التفسیر بالرأی.

ص:400

127- آداب التلاوة المانع الثانی والثالث لفهم القرآن: حجاب المعاصی وحبّ الدنیا

قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله: «إِنّ للقُلُوبَ صَدَأ کَصَدَأ النُّحاسِ فَاجْلُوها بِالإِستِغْفَارِ وَتِلاوَةِ القُرآنِ»(1)

یجب علی المصلّی، بغض النظر عن الصّلاة، الالتفات إلی أهمیّة قراءة القرآن، فالشخص الذی یعتقد بأهمیّه قراءة القرآن وتلاوته، فإنّ صلاته ستکون صلاة أخری، وتترتّب علی قراءة القرآن آثار وبرکات کثیرة جدّاً، یقول النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله: «إِنّ للقُلُوبَ صَدَأ کَصَدَأ النُّحاسِ...»، أی کما أنّ النحاس والفلزات الأخری تصدأ، فکذلک قلب یصدأ بما یتراکم علیه من الشوائب والنوازع النفسانیّة والأعمال السیئة فربّما لا یکتشف هذا القلب الطریق إلی الحقّ والهدایة.

«فَاجْلُوها بِالإِستِغْفَارِ وَتِلاوَةِ القُرآنِ»، فیوصی النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله لتطهیر القلب من هذا الصدأ والرین، بأمرین: أحدهما، الاستغفار، والثانی، تلاوة القرآن.

وسبق أن قلنا إنّ تلاوة القرآن لها آداب، وأحدها أن یزیح قاریء القرآن

ص:401


1- (1) بحار الأنوار، مطبعة بیروت، ج 74، ص 172.

الحجب الموجودة بینه وبین آیات القرآن، ومنها حجاب الأنانیّة والعُجب، وحجاب العقائد الفاسدة والأفکار الباطلة، ومنها حجاب أن یتوقّف القاریء للقرآن عن التفکیر والتدبّر فی آیات القرآن ویجمد عقله وحصره بالتفاسیر السابقة.

ومن الحجب الأخری، حجاب المعاصی، فالشخص القاریء القرآن یجب أن یبتعد عن معاصی اللّه ویجتنب الذنوب، لأنّ أعمال الإنسان وسلوکیاته، سواءً الجیدة أو السیّئة تترک أثراً فی نفس الإنسان وباطنه، فقد ورد فی الروایات أنّ الإنسان عندما یذنب فسوف یترک هذا الذنب نقطة سوداء فی قلبه وإذا استمر فی ارتکاب المعاصی والذنوب ولم یتب إلی اللّه، فإنّ تلوّث القلب یزداد حتّی یطغی التلوّث والرین علی جمیع القلب، والقرآن یصرّح بأنّ القلب الملوّث لا یدرک الحقیقة ولیس قلباً سلیماً، بالتالی فإنّ هذا القلب لا یتأثر بالموعظة ولا یسلک طریق الحقّ والحقیقة.

وقد یسأل بعض المتدینین: لماذا لا تؤثر الموعظة فی بعض الأشخاص؟ أحیاناً یدخل الإنسان إلی مقبرة ویری قبور الموتی ویعلم أنّ عاقبته ونهایة حیاته ستکون إلی هذا المکان ولکن هذا المشهد لا یؤثر فیه لماذا؟ ولماذا عندما یقرأ آیات القرآن التی تتحدّث عن الجنّة والنار لا تؤثر فیه شیئاً؟ السبب فی ذلک یعود إلی صدأ القلب والرین المتراکم علی قلب هذا الإنسان بسبب الذنوب والخطأ.

یجب علی قاریء القرآن أن یطهّر قلبه کلّ یوم ویجلوه بالاستغفار وتلاوة القرآن لکی یعود هذا القلب إلی صفائه ونقائه، ویتحرّک لفهم حقائق الآیات القرآنیّة بهذا القلب النقی، «لَهُمْ قُلُوبٌ لا یَفْقَهُونَ بِها وَ لَهُمْ أَعْیُنٌ لا یُبْصِرُونَ بِها وَ لَهُمْ آذانٌ لا یَسْمَعُونَ بِها أُولئِکَ کَالْأَنْعامِ...»1 ، فالشخص الذی ران علی قلبه

ص:402

وتراکمت علیه الموانع والحجب وغطت علی عینه غشاوة الأهواء والمیول النفسانیّة فسوف لا ینتبه إلی الحقائق النورانیّة، یقول القرآن: إنّ حال هؤلاء حال الأنعام بل هم أشدّ وأضلّ، لأنّ الأنعام لا تملک هذه القوی التی یملکها الإنسان للفهم والتعّقل والإدراک ولکن هؤلاء یملکون هذه النعم والمواهب التی وهبها للّه تعالی للإنسان ولکنّهم ضیّعوها وأهملوا الاستفادة منها بشکل صحیح، إذن یجب علی قاریء القرآن أن یزیل عن قلبه حجاب المعصیة ویزیحه عن بصیرته.

وآخر حجاب، حجاب حبّ الدنیا، یقول الإمام الخمینی رضوان اللّه تعالی علیه، إنّ حبّ الدنیا من الحجب الغلیظة والستائر الضخیمة ومن الحجب التی لا یستطیع الإنسان بسهولة إزاحتها وإبعادها عنه، فالإنسان إذا أراد أن یفهم مضامین القرآن ویتدبّر فی آیاته یجب علیه إزاحة حبّ الدنیا عن قلبه: «أَ فَلا یَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلی قُلُوبٍ أَقْفالُها»1 ، وأحد هذه الأقفال المهمّة حبّ الدنیا.

وجاء فی روایات کثیرة أنّ قاریء القرآن إذا قرأ القرآن للحاکم الجائر فسوف یکون من أهل النار، والأشخاص الذین یقرأون القرآن لکسب قلب الناس والفات نظرهم فهم من أهل النار، والأشخاص الذین یقرأون القرآن لتحصیل المال والثروة فهم من أهل النار، ولذلک یجب علی الإنسان تطهیر نفسه وقلبه من حبّ الدنیا وإزاحة هذا الحجاب عن بصیرته ولا یجعل القرآن سبیلاً وطریقاً لتحصیل الدنیا، فلو أننا التفتنا إلی هذه الحجب وتحرّکنا لإزاحتها من واقعنا وقلوبنا فنرجو أن یفتح اللّه تعالی بصیرتنا علی حقائق القرآن إن شاء اللّه.

ص:403

128- آداب التلاوة التفکّر والتدبرّ فی القرآن وتطبیقه علی النفس

تحدّثنا فی بحث أسرار الصّلاة عن آداب قراءة القرآن، وذکرنا أنّ الإنسان المصلّی إذا اهتمّ بقراءة القرآن فی غیر الصّلاة کثیراً، واهتمّ بتلاوة القرآن فی صلاته بتلک المرتبة، فسوف تترتّب علی صلاته آثار عجیبة وبرکات کثیرة، واستعرضنا بعض الروایات التی تؤکد أنّ تلاوة آیة واحدة فی غیر الصّلاة لها من الأجر عشر حسنات، فلو قرأ الإنسان نفس هذه الآیة فی الصّلاة فإنّه سیحصل علی مائة حسنة، وهذه الحسنات لیست فقط ثواباً فی الآخرة بل لها آثار وضعیة ومعنویة فی هذا العالم الدنیوی أیضاً.

وأحد الآداب التی یجب علی قاریء القرآن الالتفات إلیها، التفکّر والتدبّر فی آیات القرآن، یقول تبارک وتعالی: «أَ فَلا یَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ...»1 ، أو قوله تعالی:

وَ أَنْزَلْنا إِلَیْکَ الذِّکْرَ لِتُبَیِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَیْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ یَتَفَکَّرُونَ»2 ، فالتفکّر لا

ص:404

یختصّ بفعل دون آخر، ولا یختصّ بالعلماء دون عامة الناس، فکلّ شخص بإمکانه أن یتفکّر ویتدبّر فی آیات القرآن ولا سیما فی الآیات التی تتحدّث عن قصص الأقوام السالفة مع أنبیائهم، فالتفکّر فی هذه الآیات واستخلاص نقاط علمیّة وتربویّة وأخلاقیّة وعرفانیّة میسور للجمیع، ولذلک یقول تعالی:

«فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ یَتَفَکَّرُونَ»1 ، وقد ورد فی ذیل الآیة الشریفة: «إِنَّ فِی خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّیْلِ وَ النَّهارِ لَآیاتٍ لِأُولِی الْأَلْبابِ»2 ، روایة فی هذا الشأن یقول علیه السلام: «وَیلٌ لِمَنْ قَرَأَها وَلَمْ یَتَفَکَّر فِیها»(1)، أی یجب علیه أن یفکّر فیما تشیر إلیه هذه الآیة الشریفة من علائم الخلقة وفی الطبیعة وفی السماوات والأرض، فعندما یتفکّر الإنسان بهذه الآیات والعلامات فی عالم الطبیعة فسوف یصل إلی حقائق جلیّة ومعارف بهیّة، ویوجد فی القرآن الکریم آیات کثیرة تدعو أرباب العقول وأصحاب الفکر إلی التفکّر فی عالم الخلقة لیلتفت الإنسان من خلال هذا الطریق إلی عظمة الباری تعالی وقدرته المطلقة وبذلک یتعمّق إیمانه ویترسخ فی قلبه.

ومن هذا المنطلق فإنّ أحد آداب قراءة القرآن، التفکّر فی کلّ آیة، وذلک میسور للجمیع: «وَ لَقَدْ یَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّکْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّکِرٍ»4.

وآخر أدب من آداب تلاوة القرآن، مسألة التطبیق والعمل بالتعالیم، یعنی أنّ الإنسان عندما یقرأ کلّ آیة فعلیه أن یلاحظ نفسه هل أنّ هذه الآیة تنطبیق علیه أم لا؟ وهکذا یقیس نفسه ویعرف موقعه من هذه الآیة الشریفة، فعندما یمرّ بالآیات التی تتحدّث عن الجنّة أو النار، والآیات التی تتحدّث عن الإیمان وخصوصیّات المؤمنین، فیری هل أنّ هذه الآیات تنطبق علیه، وهل أنّه من زمرة

ص:405


1- (3) . تفسیر نور الثقلین، ج 1، ص 350.

أهل الجنّة ومن المؤمنین أم لا؟ فإذا قرأ الآیات التی تتعلّق بالکفر والنفاق والشرک والضلالة، فیری نفسه هل أنّ هذه الآیات، لا سمح اللّه، تنطبق علیه، وهل أنّه من زمرة الکفّار والمنافقین أم لا؟ إنّ مسألة التطبیق تعدّ إحدی المسائل المهمّة جدّاً، والتی یجب علی قاریء القرآن الالتفات إلیها والاهتمام بها.

وجاء فی ذیل الآیة الشریفة: «اَلَّذِینَ آتَیْناهُمُ الْکِتابَ یَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ...»1 ، روایة عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال: «حَقَّ تِلاوَتِهِ هُوَ الوُقُوفُ عِنْدَ ذِکرِ الجَنَّةِ وَالنَّارِ یَسأَلُ فِی الاُولی ویَستَعِیذُ مِنْ الأُخری»(1).

وکذلک ورد فی الحدیث الشریف عن النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله أنّه قال یوماً لأبن مسعود، اقرأ علیَّ بعض آیات القرآن، قال ابن مسعود: «فَفَتَحْتُ سُورَةُ النِّساءِ»،

وشرعت بتلاوتها: «فَکَیْفَ إِذا جِئْنا مِنْ کُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِیدٍ وَ جِئْنا بِکَ عَلی هؤُلاءِ شَهِیداً»3 ، قال ابن مسعود: «رَأَیْتُ عَینَاهُ تَذرِفَانِ مِنَ الدَّمعِ، فَقاَلَ: حَسبُکَ الآن»(2)، وکأنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله یری نفسه حاضراً یوم المحشر، ویری هذه المشاهد فعندها سالت الدموع من عینه الکریمتین، ونری أنّ النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله الذی جاء للبشریّة بهذا الکتاب السماوی ومع أنّ اللّه تعالی قد وعده فی هذا القرآن وعوداً کثیرة فی الآخرة، ولکن النبیّ بکی عندما سمع بهذه الآیة وقال لابن مسعود: «حَسبُکَ الآن»، أی کفی، وعلی هذا الأساس فإنّ تطبیق آیات القرآن علی النفس من جملة آداب التلاوة المهمّة ویجب الالتفات إلیها.

ص:406


1- (2) وسائل الشیعة، ج 6، ص 217.
2- (4) بحار الأنوار، مطبعة بیروت، ج 16، ص 294.

129- آداب التلاوة القلب الخاشع، البدن الفارغ، المکان الخالی

جاء فی کتاب «مصباح الشریعة» عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال: «مَنْ قَرَأَ القُرْآنَ وَلَمْ یَخْضَعْ للّهِ وَلَمْ یَرَقَّ قَلْبُهُ وَلا یَکْتَسی حُزناً وَوَجَلاً فِی سِرِّهِ فَقَدْ استَهَانَ بِعَظِیمِ شَأَنِ اللّهِ تَعالی وَخَسِرَ خُسرَاناً مُبِیناً»، فلو أنّ قاریء القرآن لم یجد أثراً وتفاوتاً فی نفسه بهذه القراءة ولم یستشعر الحزن والفرح فی قلبه فإنّ هذا الشخص قد استهان باللّه تعالی وخسر خسارة عظیمة ولم یحصل علی ثمرات وبرکات هذه القراءة.

«فَقَارِیء القُرْآنِ یَحتَاجُ إِلی ثَلاثَةِ أَشیَاءَ قَلْبٌ خَاشِعٌ وبَدنٌ فارِغٌ وَمَوضِعٌ خَالٍ فَإِذا خَشَعَ للّهِ قَلْبُهِ فَرَّ مِنْهُ الشَّیطَانُ الرَّجِیمُ»(1)، هذه الاستعاذة باللّه تعالی من شرّ وساوس الشیطان من أجل أنّ اللّه تعالی یُبعد الشیطان من قلب الإنسان المؤمن الخاشع للّه، فالقلب الذی یستشعر الخضوع والخشوع فی مقابل الباری تعالی

ص:407


1- (1) . مصباح الشریعة، ص 28 عن بحار الأنوار، ج 82، ص 43.

یکون مستعداً لنیل الأنوار الإلهیّة، بمعنی أنّ الشیطان هو المانع الأکبر لتجلّی نور الحقّ علی قلب هذا الإنسان، فإذا خشع هذا القلب للّه خرج منه الشیطان هارباً.

وجاء فی الحدیث الشریف عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله أنّه قال: «لَولا أَنَّ الشَّیاطِینَ یحُومُونَ عَلی قَلُوبِ بَنِی آدمَ لَنَظَرُوا إِلی المَلَکُوتِ»(1)، فالمانع من نظر الإنسان إلی عالم الملکوت هو ابتلاء القلب بوساوس الشیاطین وتورطه فی شداتها، فالشیاطین تجول وتطوف دائماً حول قلب الإنسان وتمنع الأنوار الإلهیّة الاشراق علی هذا القلب، فلو خضع هذا القلب وخشع للّه فإنّ الشیطان سیترکه ویبتعد عنه.

الثانی: البدن الفارغ، فیجب یکون البدن فارغاً من المشاغل الدنیویّة التی تلهی الإنسان عن الاهتمام بالأمور الروحانیّة.

الثالث: وموضع خالٍ، الإنسان یحتاج إلی مکان خلوة یبتعد فیه عن الضوضاء وعالم الکثرة والمجالس الصاخبة وأصحاب الدنیا المشغولین باللعب واللهو، فینبغی أن یبتعد عن هذه الأمور حتّی تأنس روحه باللّه تبارک وتعالی، فقاریء القرآن یحتاج بشدّة إلی الاُنس والخلوة للّه تعالی عند تلاوته للقرآن حتّی یذوق حلاوة الخطاب الإلهی ویری رعایة اللّه ویستشعر بها فی قلبه ویدرک عنایة الحقّ بها فی أعماق وجوده، وعلی حدّ تعبیر بعض الأکابر، إذا وجد قاریء القرآن مثل هذه الحالة فی نفسه وقلبه فإنّه لا یکون مستعداً أبداً أن یترک هذه الحالة والانشغال بعمل آخر، وعندما نشعر بالتعب والملل من قراءة القرآن فهذا یعنی أننا لم نوفّر الشروط المقررة لتلاوة القرآن، وتکون تلاوتنا مجرّد تلاوة باللسان فقط دون أن یشترک قلبنا فی فهم معانی القرآن ودون أن یستشعر القلب حالة الحضور والخشوع، وإلّا فإنّ القلب الخاشع لا یملّ أبداً من تلاوة القرآن.

ص:408


1- (1) . محجّة البیضاء، ج 2، ص 241.

130- تفاوت القرآن مع سائر الکتب

یتابع الإمام الصادق علیه السلام قوله فی الروایة السابقة: «فَانظُرْ کَیفَ تَقرَأ کِتَابَ رَبِّکَ وَمَنشُورَ وَلایَتِک»، لا ینبغی أن تکون تلاوة القرآن مثل قراءة سائر الکتب الأخری، ففی سائر الکتب لا یدرک الشخص عظمة وقدرة المؤلف وصاحب الکتاب، خلافاً للقرآن الکریم الذی نعلم أنّه کلام اللّه تعالی وقد أرسله الباری تعالی إلی الناس لإرشادهم وهدایتهم إلی طریق الحقّ والصواب، فالقرآن هو منشور ولایة الحّق تبارک وتعالی، والإنسان المؤمن لا یجد لتحقیق لسعادته أی کتاب ومنشور آخر غیر کتاب اللّه تبارک وتعالی، وهو المنشور والکتاب الذی یحقّق السعادة الواقعیّة والحقیقیّة للإنسان، فنحن بتلاوة القرآن نطالع ونقرأ المنشور الواقعی للسعادة والهدایة ونتدبّر فی آیاته.

«وَکَیْفَ تُجِیبُ أَوَامِرَهُ وتَجتَنِبُ نَواهِیهِ»، فیجب علی قاریء القرآن أن یقف أمام الآیات التی تتضمّن الأوامر والنواهی الإلهیّة ویتدبّر فیها وما عمل علی تطبیقه فی حیاته من هذه الأوامر والأحکام، وما مقدار ما امتثله من هذه النواهی.

ص:409

«وَکَیفَ تَتَمَثَّلُ حُدُودَهُ»، أی کیف تعمل علی رعایة الحدود الإلهیّة.

« «فَإِنَّهُ کِتَابٌ عَزِیزٌ لایَأتِیهِ البَاطِلُ مِنْ بَینِ یَدَیهِ وَلا مِنْ خَلفِهِ تَنزِیلٌ مِنْ حَکیمٍ حَمِیدٍ فَرَتَّلَهُ تَرتِیلاً»(1) وَقِفْ عِنْدَ وَعدِهِ وَوَعِیدِهِ».

إنّ وعود القرآن لا تختصّ بالجنّة وعالم الآخرة، بل ثمّة وعود مهمّة فی هذا العالم أیضاً: «وَعَدَ اللّهُ الَّذِینَ آمَنُوا مِنْکُمْ وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ لَیَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِی الْأَرْضِ...»2 ، وعندما نقرأ هذه الآیة یجب أن نری هل أننا نملک اللیاقة لنکون من زمرة مصادیق هذا الوعد الإلهی أم لا؟ وهکذا بالنسبة للآیات التی تتحدّث عن العذاب الإلهی فلابدّ أن نفکّر فی أنفسنا لئلا یکون هذا الخطاب متوجّهاً لنا ونحن نستحق العذاب والعقاب الإلهی یوم القیامة.

«وَفَکِّرْ فِی أَمثَالِهِ وَمَواعِظِهِ وَاحذَرْ أَنْ تَقَعَ مِنْ إِقَامَتِکَ حُرُوفَهُ فِی إِضَاعَةِ حُدُودِهِ»(2)، یقول الإمام الصادق علیه السلام: عندما تصل فی تلاوة الآیات الکریمة إلی الأمثال والمواعظ والحِکم فعلیک أن تفکّر فیها وتتمعّن فیها، فعندما یحکی لنا القرآن هذه القصص لیس من أجل الاستمتاع وبیان معلومات تاریخیّة فحسب بل لکی نکسب الدرس والعبرة من هذا، فالإنسان ما لم یفکّر فی سیرة الأولین وما جری علی الأقوام السالفة ولا یفکّر بالسبب الذی ابتلیت هذه الأقوام بالعذاب الإلهی، وما هو العامل الذی دفع بهؤلاء الناس رغم وجود تحذیرات الآنبیاء أن یتوغلوا فی خطّ الضلالة والمعصیة، فإنّه لا یستطیع أن یکسب العبرة من حیاتهم وسیرتهم، وفی ذیل هذه الروایة یقول الإمام: «وَاحذَرْ أَنْ تَقَعَ مِنْ إِقَامَتِکَ حُرُوفَهُ فِی إِضَاعَةِ حُدُودِهِ»، واحذر أنّک تضیّع لا سمح اللّه حقائق القرآن وحدوده.

ص:410


1- (1) سورة فصلت، الآیة 42.
2- (3) . مصباح الشریعة، ص 69؛ التنبیهات العلیّة، ص 122.

وللأسف نری فی زماننا أنّ البعض یهتمّ کثیراً بتجوید القرآن وإقامة حروفه وترتیله بشکل صحیح وخاصّة فی الصّلاة، وأحیاناً یکرر الکلمة عدّة مرّات لمراعاة التجوید اللفظی بحیث یصبح محلّ استهزاء الآخرین، وهنا ننقل هذا کلام من بعض الأکبار کالمرحوم الفیض الکاشانی حیث یقول: إنّ أکبر استهزاء للشیطان بهذا الشخص المصلّی عندما یقول: «ولا الضّالّین» ویتصوّر أنّه لم یؤدّها بشکل صحیح ولذا یقوم بتکرارها مرّات عدیدة بحیث یکون مورد استهزاء الآخرین، فالإمام الصادق علیه السلام یقول: إحذر أن یکون اهتمامک بإقامة الحروف أکثر من اللازم بحیث إنّک تضیّع حدود القرآن ومعانیه ومفاهیمه السامیة.

نسأل اللّه تعالی أن یرزقنا معرفة حقائق القرآن ویفتح قلوبنا علی تعالیمه وحدوده ویوفّقنا لإقامتها والعمل به فی واقع الحیاة إنّ شاء اللّه.

ص:411

131- آداب القراءة: التعظیم - التفکّر

بحسب الروایة الواردة فی کتاب «مصباح الشریعة» عن الإمام الصادق علیه السلام أنّ قراءة القرآن لها مراتب، ویجب علی القاریء للقرآن معرفة هذه المراتب والالتفات إلیها، المرتبة الاُولی: مرتبة التعظیم، المرتبة الثانیة، التدبّر، الثالثة:

التخلی، الرابعة: التفهمّ والتخصیص، والخامسة: التأثر والترقی.

یتحدّث المرحوم المیرزا جواد ملکی التبریزی رضوان اللّه تعالی علیه فی کتابه «أسرار الصّلاة» فی بیان هذه المراتب بکلام جمیل وبلیغ یحکی عن معنویة هذا الرجل العظیم ومرتبته السامیة فی المسائل العرفانیّة والأخلاقیة:

المرتبة الاُولی، وهی مرتبة التعظیم وسبق أن تحدّثنا عنها، فالقاریء للقرآن یجب أن یلتفت إلی عظمة الکلام والمتکلّم، فالکلام عظیم جدّاً، وکذلک المتکلّم، وهذا الفهم من شأنه أن یخلق فی نفس القاریء حالة الخشوع والخضوع.

أمّا المرتبة الثانیة، وهی التفکّر والتدبّر فی آیات القرآن، فإنّ القرآن نفسه یدعو الناس للتفکّر فی آیاته ویستنکر من لا یتدبّر ولا یتفکّر فیها: «أَ فَلا

ص:412

یَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ...»1.

یقول المرحوم المیرزا جواد ملکی فی کتابه «أسرار الصّلاة»: إذا قرأت فی سورة الواقعة «أَ فَرَأَیْتُمُ الْماءَ الَّذِی تَشْرَبُونَ * أَ أَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ»2 ، فإنّ اللّه تعالی فی هذه الآیة الشریفة یرید أن یفهمنا بأنّکم لا ینبغی أن تحصروا فکرکم بأنّ الماء وسیلة لرفع العطش فقط، بل إنّ کلّ موجود حی فی هذا العالم من النباتات والأشجار والحیوانات خلقت جمیعاً من الماء وتحتاج فی إستمرار حیاتها إلی الماء، فینبغی علی الإنسان أن یفکّر کیف أنّ قطرات الماء هذه تتبدّل فی عالم الطبیعة إلی غذاء وطعام، والحبوب التی توضع فی التراب تتبدّل إلی نبات، وهذا النبات یتبدّل إلی غذاءٍ للحیوانات، وهذه الحیوانات تکون غذاءً للإنسان، فعندما تتحوّل إلی غذاءٍ للإنسان وتکون لحمه وجلده وعظمه فإنّ هذا الإنسان لا یعتمد فی حیاته وبدنه فقط علی هذا الغذاء، بل إنّ قوّة ذهنه وإدراکه وحواس السمع والبصر و... وسائر القوی الأخری تتولّد من هذا الغذاء، وفی هذه المرحلة یجد الإنسان الصلاحیّة والاستعداد لتقبّل الروح الإلهیّة وینوجد فیه الشعور والفکر والعقل، فما لم تتحقّق تلک المراحل لا یحصل الإنسان هذه اللیاقة والقابلیّة لهذه المرحلة.

«ثُمَّ تَفَکَّرْ فِی حَقِیقَةِ العَقلِ وَالعَظَمَةِ، ثُمَّ تَفَکَّرْ فِی مَراتِبِ العُقُولِ»، ویقول ملکی التبریزی: إذا تدبّر الإنسان فی هذه الآیة: «أَ فَرَأَیْتُمُ الْماءَ الَّذِی تَشْرَبُونَ» ، وأدرک أنّ هذا الماء الذی یشربه لیس مجرّد قطرات من الماء لیرفع عطشه بها، بل إنّ هذا الماء فی مسیرة التکامل هو مصدر الحیاة الظاهریّة للکائنات والحیاة الظاهریّة والباطنیّة للإنسان، وهنا یلتفت إلی المبدأ والمصدر لهذا الماء.

ص:413

والمثال الثانی الذی یذکره المیرزا ملکی التبریزی فی کتابه، الآیة الشریفة:

«فَانْظُرْ إِلی آثارِ رَحْمَتِ اللّهِ کَیْفَ یُحْیِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها...»1 ، فعندما یقرأ الإنسان هذه الآیة الشریفة ویفکّر فی رحمة اللّه تعالی وقمومیّته علی جمیع العالم والکائنات، وعندما یفکّر فی قوله تعالی: «اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْحَیُّ الْقَیُّومُ...»2 ، فماذا تعنی کلمة «قیوم»؟ إنّ قیّومیّة الباری تبارک وتعالی علی جمیع عالم الوجود هی الحافظة والماسکة لهذا العالم والکائنات من الاندثار والزوال، فعندما تقف السقوف علی الدعائم والأعمدة فإنّ هذا یعکس قیّومیّة هذه الأرکان والأعمدة بحیث إنّها لو أصابها الخلل والاعوجاج لحظة واحدة فإنّ السقف سینهار، وعالم الوجود والکائنات تستقی وجودها وبقائها من نور قیّومیّة الباری تعالی، ولو انطفأ ذلک النور لحظة واحدة فإنّ جمیع الأشعة فی عالم الموجود ستزول وتنعدم، وهکذا نعلم بأنّ اللّه تبارک وتعالی له قیّومیّة علی سائر المخلوقات بحیث إنّ هذه القیّومیّة لو سلبت من المخلوقات لحظة واحدة فلا یبقی شیء فی العالم وستندثر جمیع الکائنات والموجودات، إذن یجب علینا التفکّر والتدبّر فی الآیات الإلهیّة.

وإحدی المراتب المهمّة فی آداب القراءة والتلاوة، مسألة التفکر فی آیات القرآن الکریم، نرجو أن یوفّقنا اللّه جمیعاً للتفکّر والتدبّر إن شاء اللّه.

ص:414

132- آداب القراءة: التخصیص

وأحد الآداب الأخری لقراءة القرآن: التخصیص، والتخصیص یعنی أنّ الشخص عندما یقرأ القرآن یری نفسه مخاطباً لهذه الآیات الشریفة وهو المقصود بالخطابات القرآنیّة، وکأنّ اللّه تعالی یتحدّث معه فیها، فلو أنّه مرّ علی آیة فیها أمر للمخاطب فعلیه أن یعلم أنّه المأمور وهو المخاطب بهذه الآیة، وإذا مرّ بأیة فیها نهی فیقول: إنّ النهی متوجّه لی فی هذه الآیة الشریفة ویجب علیَّ امتثال هذا النهی، فلا ینبغی أن نقرأ آیة الجنّة فقط ونقول إنّها ترتبط بنا وأنّ هذا الوعد الإلهی بالجنّة یخصّنا، ولکن عندما نصل إلی آیات العذاب وجهنّم نقول بأنّ المقصود بها هو الکفّار والفسّاق والمنافقین، کلّا، لا ینبغی أن نتعامل مع آیات القرآن بهذه الصورة، یقول أمیرالمؤمنین علیه السلام: «وَإِذَا مَرُّوا بِآیَةٍ فِیهَا تَخْوِیفٌ أَصْغَوْا إِلَیْهَا مَسَامِعَ قُلُوبِهِمْ، وَظَنُّوا أَنَّ زَفِیرَ جَهَنَّمَ وَشَهِیقَهَا فِی أُصُولِ آذَانِهِمْ»(1).

وعندما یصلوا إلی هذه الآیة الشریفة: «خُذُوهُ فَغُلُّوهُ»2 ، والتی تتحدّث عن

ص:415


1- (1) نهج البلاغة، الخطبة 184.

حال المجرمین یوم القیامة وکیفیّة سحبهم بالسلاسل إلی النار، فیجب أن یخاطب نفسه لئلا یکون من زمرة هذه الفئة والجماعة، لا ینبغی أن تکون أعمالنا بحیث تجعلنا من هذه الجماعة، ومن هذه الجهة لابدّ أن یستشعر القاریء للقرآن حالة الخوف والاضطراب فی نفسه.

ویحکی عن بعض الأکابر والأولیاء کان عندما یقرأ هذه الآیات فإنّه ومن شدّة البکاء والجزع یصاب بالإغماء، لأنّه یتصوّر حالاته عندما یقرأ الآیة «خُذُوهُ فَغُلُّوهُ» ، وکأنّ یوم القیامة تجسد أمام عینیه ویری نفسه فی زمرة هؤلاء المجرمین والمذنبین، فمن شدّة الخوف والاضطراب یبکی حتّی یغمی علیه، وعندما یصل إلی آیات الرحمة ویقرأ: «لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ یَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِیعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِیمُ»1 ، ینشرح لها صدره ویفرح ویقول إن شاء اللّه أنا أکون من هؤلاء الذین غفر اللّه لهم ذنوبهم وأدخلهم فی رحمته الواسعة، ویتصوّر من شدّة فرحه وشوقه وکأنّه له جناحان یرید أن یطیر بهما من شدّة الفرح، وهکذا الحال عندما یتأثر القلب بتلاوة الآیات الجلیلة وعندما یدرک القاریء مفهوم التخصیص فی هذه الآیات.

ومن الحالات الأخری التی یجب علی قاریء القرآن الالتفات إلیها، الترقی، بمعنی أنّه عندما یقرأ القرآن الکریم فکأنّما یسمع کلام اللّه تعالی، یقول الإمام الصادق علیه السلام: «عندما أقرأ القرآن فکأنّنی أسمع هذه الآیات من المتکلّم بها».

ص:416

133- آداب القراءة: الترقّی

یقول الإمام الصادق علیه السلام: «وَاللّهِ لَقَدْ تَجَلّی اللّهُ لِخَلقِهِ فِی کَلامِهِ وَلَکنْ لایُبصِرُونَ»

ثمّة ثلاث مراحل فی مسألة الترقّی لقاریء القرآن، وأوّل هذه المراحل أن یری القاریء نفسه واقفاً بین یدی اللّه عزّ وجلّ، فعندما یقرأ القرآن علیه أن یجد نفسه حاضراً فی مقابل اللّه تبارک وتعالی، وعلینا أن نعلم أنّه تعالی یرانا ویسمع کلامنا، فعندما یشعر الإنسان بهذه الحالة فسوف یقرأ الآیات بحزن أو بشوق ووَجْد، وحتّی عندما یطلب من اللّه تعالی شیئاً ویصل إلی آیاته وصفاته الرحیمیّة والغفوریّة فإنّه یستشعر التملق إلی الباری تبارک وتعالی، فحالة التملّق حالة سلبیة وذمیمة فی جمیع الموارد والمواطن إلّاالتملّق فی المعنویّات فی مقابل اللّه تبارک وتعالی.

المرحلة الثانیة، وهی أعلی من هذه المرتبة، أی یشهد القاریء بقلبه وکأنّ اللّه تعالی یخاطبه ویتحدّث معه ویناجیه، وکأنّه یسمع کلام اللّه ویدرک أنّه هو المخاطب فی هذا الکلام من قِبل اللّه تبارک وتعالی، فالالتفات إلی هذه الحقیقة،

ص:417

وهی أنّ اللّه تعالی یتحدّث معه بهذه الآیات یؤثر کثیراً فی فهم القاریء لهذه الآیات، وسیجد فی نفسه حالة من التعظیم والحیاء والهیبة والأمل أکثر فأکثر فی علاقته وارتباطه باللّه تبارک وتعالی.

المرحلة الثالثة، وهی بدورها أعلی من تلک المرحلة السابقة، وهی «أَنْ یَرَی فِی الکَلامِ المُتَکَلِّمَ، وَفِی الکَلِمَاتِ الصَّفِاتَ، وَیَشْتَغِلُ ذَلِکَ عَنِ النَّظَرِ إِلی قِرَاءَتِه وَإِلی نَفْسِهِ»، وعندما یقرأ کلام اللّه فکأنّه یری المتکلّم بهذا الکلام، ویری من خلال هذه الآیات والکلمات الإلهیّة صفات اللّه تبارک وتعالی، فحینئذٍ یغفل عن نفسه وحتّی عن قراءته الظاهریّة لهذه الکلمات والآیات ویشاهد فقط اللّه تبارک وتعالی ویستغرق فی هذه الأجواء وفی مقام الشهود.

یقول الإمام الصادق علیه السلام «وَاللّهِ لَقَدْ تَجَلّی اللّهُ لِخَلقِهِ فِی کَلامِهِ وَلَکنْ لا یُبصِرُونَ»(1)، یعنی أنّ الإنسان إذا أراد مشاهدة اللّه تعالی، فإنّ اللّه قد تجلّی لعباده من خلال کلامه فی القرآن الکریم، ولکن الحجب التی تحجب الناس عن هذه الحقائق تمنعهم من هذه الرؤیة.

وطبعاً فإنّ هذه المرتبة هی مرتبة سامیّة جدّاً وتختصّ بالمقرّبین، ویقول المرحوم المیرزا جواد ملکی فی کتابه «أسرار الصّلاة» فیما یتّصل بهذه المرتبة وأنّها آخر مرتبة یشاهد الإنسان الباری تعالی ولا یری نفسه وهذه الألفاظ والکلمات ویستغرق فی الشهود: إنّ هذه الدرجة والمرتبة خاصّة بالمقربّین، أمّا المرتبة الثانیة، وهی أن یشعر الإنسان بأنّ اللّه تعالی یتحدّث معه، فتتعلّق بأصحاب الیقین، والمرتبة الاُولی تتعلّق بسائر الناس بأن یعلموا بأنّهم یجلسون فی محضر الباری تعالی، وعلیهم أن یعلموا أنّهم عندما یقرأون القرآن فإنّ اللّه تعالی ینظر إلیهم.

ص:418


1- (1) . التنبیهات العلیّة، ص 138.

134، 135- سورة الحمد فی الحدیث القدسی

نتحدّث الآن عن موضوع قراءة سورة الحمد فی الصّلاة، وسبق أن أشرنا أنّ ثواب تلاوة آیة واحدة فی الصّلاة تعادل أحیاناً مائة ضعف من ثواب تلاوة آیة فی غیر الصّلاة، وإذا التفت المؤمنون إلی هذا الأمر فسوف یساعدهم ذلک علی حفظ مقدار من آیات وسور القرآن الکریم وتلاوتها فی صلاتهم وخاصّة السور التی تتضمّن آیات أکثر.

وأحد الأجزاء المهمّة جدّاً، سورة الحمد وسورة أخری حیث یجب قراءة هاتین السورتین فی الرکعتین الاُولیین من الصّلاة، وحتّی فی الرکعات الأخری، الثالثة والرابعة فالمصلّی مخیّر بین قراءة سورة الحمد أو التسبیحات الأربعة، وهذا یکشف عن أهمیّة قراءة القرآن وبخاصّة سورة الحمد فی الصّلاة، التی هی سفر إلهی ومعراج المؤمن، ولو أننا تعرفنا علی الأسرار الواردة فی سورة الحمد أو فاتحة الکتاب، فسوف نعرف أهمیّة الصّلاة وتأثیرها ودورها فی حیاة الإنسان.

ص:419

فبالنسبة للقراءة ینبغی القول إنّ المصلّین علی فئتین: الفئة الاُولی، لیس لها ربح وحظ من القراءة سوی التلفّظ بالکلمات أو حتّی التجوید والترتیل بشکل جمیل، هؤلاء محرومون من برکات روح العبادة، الفئة الثانیة، هم الأشخاص الذین تکون قراءتهم وسیلة التذکّر والحمد والثناء للّه ربّ العالمین وتقدیسه، هؤلاء لهم الحظ الوافر من ثمرات العبادة والصّلاة، ونرجو عند قراءة سورة فاتحة الکتاب الالتفات إلی هذا الحدیث القدسی وهو حدیث عمیق المغزی والمضمون، یقول اللّه تبارک وتعالی فی هذا الحدیث القدسی: «قَسَمْتُ الصَّلاةَ بَینِی وَبَینَ عَبْدِی فَنِصفُها لِی وَنِصْفُها لِعَبدِی»، ومن المسلّم أنّ حقّ النصف الأوّل المتعلّق بالباری تعالی وهو الحقّ الربوبی إذا لم یؤدّها المصلّی علی الوجه الصحیح فلا تصل النوبة للنصف الثانی من حقّ العباد.

«فَإِذا قَالَ بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِیٖمِ یَقُولُ اللّه: ذَکَرَنِی عَبْدِی».

والذکر هنا له مرتبة لفظیّة وظاهریّة بأن یذکر الإنسان اللّه تعالی بلسانه، والمرتبة الأخری هی المرتبة القلبیّة والإیمانیّة.

إنّ بیان أسماء اللّه الحسنی وصفات الجمال والکمال والجلال للذات المقدّسة تعدّ من مصادیق الذکر، ولکنّ أفضل وأعمق وأقرّب مصادیق ذکر اللّه، هو: «بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِیٖمِ»، یقول الباری تعالی: عندما یذکرنی عبدی بهذه العبارة، فلیس المقصود هنا الذکر اللفظی فقط من عبارة «بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِیٖمِ»، بل یجب علی الإنسان أن یکون ذاکراً للّه بقلبه وأعماق وجوده، کما أنّ المفسّرین ذهبوا إلی أنّ المراد من الاسم هو المسمی، یعنی حقیقة کلّ شیء فی عالم الوجود هی جلوة من تجلیات الحقّ تبارک وتعالی، فالإنسان یجب أن یصدق ویؤمن بأنّه لا موجود فی هذا العالم لا یحکی عن الوجود الباری تبارک وتعالی ولا کائن من کائنات عالم الطبیعة إلّاهو تجلی من تجلیات حضرة الحق تعالی.

ص:420

ولا ینبغی لنا أن نحصر جملة «بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِیٖمِ»، بأنّها أمر مستحب یأتی به الإنسان فی بدایة کلّ عمل من أعماله، فرغم أنّ هذا الذکر للبسملة فی بدایة کلّ عمل أمر محبذ ومستحب مؤکّد، ولکن حقیقة «بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِیٖم»، أعلی من هذه المرتبة، وهذا یعدّ أدنی مرتبة من مراتب حقیقة البسملة ورشحة من رشحات حقیقة «بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِیٖمِ»، یعنی یجب علی الإنسان أن یؤمن ویعتقد بأنّ جمیع موجودات هذا العالم هی فی حقیقتها تجلّیات الباری تبارک وتعالی، وجمیع موجودات العالم مظهر من مظاهر اللّه تعالی ولا شیء فی هذا العالم منفصل ومستقل عن فعل اللّه، إذن فکلّ شیء مقترن بالذات المقدّسة ومرتبط باللّه تعالی، وعندما نذکر «بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِیٖم»، فإننا نرید من هذه العبارة ومن هذا الذکر أن نعترف ونقرّ بألستنا ونصدق بقلوبنا بهذا المعنی فی البسملة.

یجب أن یکون قلب الإنسان تجسیداً للذکر، أی یکون باطنه ذاکراً وتتحقّق صفة الذاکر لذاته، ویتبادر إلی ذهننا هنا کلام العارف بابا طاهر، حیث یقول:

«هنیئاً للأشخاص الذین یعیشون الصّلاة دائماً»، وهذا الکلام ناظر إلی الأشخاص الذین یعیشون القلب الذاکر، فإذا کان القلب ذاکراً فإنّه سیکون ذاکراً حتّی فی حال النوم ولا فرق لدیه بین النوم والیقظة.

ومن هذا المنطلق فالنقطة الاُولی فیما یتّصل «بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِیٖم»، هی أنّ قلب الإنسان أیضاً یجب أن یکون ذاکراً لهذا الذکر، فلو قال اللّه تعالی: «ذکرنی عبدی» أی عندما یتلفّظ المصلّی البسملة فإنّه یذکر اللّه تعالی، وهذا الذکر لیس مجرّد لقلقة لسان بل إنّ اللّه تعالی ینظرإلی قلب المصلّی، فإذا کان قلبه ذاکراً وکانت هذه البسملة نابعة من قلبه، فهنا یقول اللّه: «ذکرنی عبدی» ولکن إذا کانت البسملة تدور فی مدار اللسان فقط ولا تحدث أی تغیّر وتحوّل فی قلبه ولا یشهد

ص:421

بأی تجلّی للّه تعالی فی ممکنات العالم، فهنا لا یمکن القول إنّ حقیقة الذکر موجودة فی هذا الشخص، وبالتالی لا یقول اللّه: ذکرنی عبدی.

«اِذا قَالَ الْحَمْدُ للّهِ ِ یَقُولُ اللّهُ: حَمَدَنِی عَبْدِی وَأَثنَی عَلَیَّ».

«وَإِذا قَالَ الرَّحْمَنِ الرَّحِیٖمِ یَقُولُ اللّهُ: عَظَمَنِی عَبْدِی»، ویتبیّن من هذا الکلام للّه تعالی وجود فرق بین هذه العبارة «الرَّحْمَنِ الرَّحِیٖمِ»، وبین ما ورد فی البسملة «بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِیٖم»، وأنّ هذه الکلمة لا تعدّ من التکرار، فهنا یدرک المصلّی مقام التعظیم للّه تبارک وتعالی.

«وَإِذا قَالَ مَلِکِ یَوْمِ الدِّینِ یَقُولُ اللّهُ: مَجَدَنِی عَبْدِی»، فهذه العبارة تدلّ علی أنّ المجد والعظمة والمالکیّة للّه تعالی.

«وَإِذا قَالَ إِیَّاکَ نَعْبُدُ وَإِیَّاکَ نَسْتَعِینُ یَقُولُ اللّهُ: هَذا بَینِی وَبَینَ عَبْدِی»، فهذه الآیة الشریفة نصفها للّه إلی قوله: «إِیَّاکَ نَعْبُدُ»، ونصفها الآخر للعبد وناظرة إلی نفعه وهو قوله: «وَإِیَّاکَ نَسْتَعِینُ».

«وَإِذا قَالَ اهْدِنَا الصِّرَطَ الْمُسْتَقِیمَ یَقُولُ اللّهُ: هَذا لِعَبْدِی وَلِعَبْدِی مَا سَألَ»(1).

وطبقاً لهذا الحدیث القدسی فإنّ سورة فاتحة الکتاب من البسملة إلی مالک یوم الدین مختصّ باللّه تعالی، ویجب علی المصلّی أن یلتفت إلی هذه النقطة کاملاً لیستطیع الاستغراق فی حال التوجّه إلی اللّه تعالی، أمّا الآیة: «إِیَّاکَ نَعْبُدُ وَإِیَّاکَ نَسْتَعِینُ»، فالمصلّی یجب أن یعلم بأنّ قسماً منها متعلّق باللّه تعالی والقسم الآخر متعلّق به، أمّا باقی السورة فمختصّ بالعبد.

ص:422


1- (1) بحار الأنوار، ج 92، ص 226.

136- حقیقة الذکر فی الروایات

أری من المناسب أن نستعرض فی مورد حقیقة الذکر بعض الروایات لکی نعرف ما هی حقیقة الذکر، فإنّ حقیقة الذکر لیست مجرّد التسبیح ومسک المسبحة بالید وذکر بعض الأوراد والاذکار، بل هذا الذکر لسانی مقدّمة للتوصّل إلی حقیقة الذکر القلبی، وهو ما یوجد فی باطن الإنسان من التوجّه إلی اللّه تعالی، بحیث یری الإنسان نفسه فی محضر الحقّ تعالی ویری العالم جلوة من تجلیات الباری تبارک وتعالی، فلو وصل الذاکر إلی هذه المرحلة فإنّه قد وصل إلی مقام الذکر.

ونقرأ فی بعض الروایات إنّ اللّه عزّ وجلّ یقول: «أَنا جَلِیسُ مَنْ ذَکَرَنِی»(1)، وهذا المعنی یعکس غایة اللطف الإلهی بعبده، مع أنّ توفیق الذکر وأن یتوجّه الإنسان إلی ربّه بذکره هو توفیق من اللّه تعالی وعنایته، ولکنه تعالی یقول: عندما یوفّق قلب هذا العبد لذکری فسأکون جلیسه وصاحبه، وعندما یکون اللّه تعالی جلیس المرء وصاحبه فإنّ یده ستتحرّک بعنایة الباری تعالی، وهکذا یعیش هذا الإنسان

ص:423


1- (1) . الکافی، المطبعة الإسلامیّة، ح 2، ص 496.

بوجوده ویتحر فکره، وعینه، واُذنه، ولسانه وجمیع کیانه وقواه بنظر اللّه تعالی وعنایته ومشیئته، وهذا توفیق عظیم لا یناله سوی أولیاء اللّه الخاصّین الذین یعیشون حالة الذکر الدائم بقلوبهم.

وجاء فی حدیث قدسی آخر أنّ الإمام الصادق علیه السلام قال: «قَالَ اللّهُ عَزَّوَجَلَّ یا بنَ آدم اذکُرنِی فِی نَفسِکَ أَذکُرْکَ فِی نَفسِی»، وهذا الذکر للّه عزّ وجلّ الوارد فی هذا الحدیث الشریف هو ذکر فی مرتبة الذات، هو رتبة أعلی بکثیر من ذکر اللّه تعالی عند الملائکة، وهذا المعنی نعجز عن فهمه ولا نستطیع إدراک هذا المفهوم العمیق، وهو أن یذکرنا فی نفسه، فماذا یعنی هذا الذکر؟ إنّ اللّه تعالی یقول هذا الکلام لنستطیع أن نتصوّر ولو بمقدار قلیل أنّ هناک مرتبة أعلی وهی هذه المرتبة السامیة من عنایة الحقّ تبارک وتعالی بعبده بأن یذکره فی نفسه، ولیس أمام الملائکة کما فی الأحادیث الأخری.

إنّ اللّه تعالی إذا أراد أن یمنح العبد عنایته الخاصّة فإنّه یقول: إنّ هذا العبد قد ذکرنی فی نفسه دون أن یلتفت إلیه أحد من الناس ودون أن یشیر إلی ذلک لیلفت نظر الآخرین إلیه، فأنا أذکره أیضاً فی نفسی.

«یابنَ آدم اذکُرنِی فِی خَلأ أَذکُرْکَ فِی خَلأ، یابنَ آدم اذکُرنی فِی مَلأ أَذکُرْکَ فِی ملأ خَیرٌ مِنْ مَلئکَ».

یقول الإمام الصادق علیه السلام فی سیاق هذا الحدیث الشریف: «مَا مِنْ عَبْدٍ ذَکَرَ اللّهَ فِی مَلأ مِنْ النَّاسِ إِلّا ذَکَرَهُ اللّهُ فِی مَلأ مِنَ المَلائِکَةِ»(1).

إنّ الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر والدعوة والتبلیغ للدین الإلهی والحضور فی المساجد وإقامة الصّلاة جماعة، کلّها من مصادیق ذکر اللّه فی الملأ، فالشخص الذی یدعون الناس إلی اللّه تعالی ویرشدهم إلی طریق الهدایة

ص:424


1- (1) وسائل الشیعة، ج 7، ص 159؛ المجالس، ج 1، ص 39.

والإیمان فإنّه یذکر اللّه تعالی فی جماعة من الناس، وهذا مصداق ذکر اللّه فی الملأ، وفی المقابل فإنّ اللّه تعالی یذکر هذا الشخص فی اجتماع عظیم للملائکة بما لا یقبل المقارنة بتجمع بشری.

إذن ینبغی الالتفات إلی هذه الحقیقة وهی أهمیّة ذکر اللّه تعالی وأنّ ذکر بسم اللّه الرحمن الرحیم هو المصادیق البارزة لذکر اللّه، ومقدّمة لایجاد الذکر الواقعی وتجسید الذکر القلبی فی أعمال الذات إن شاء اللّه.

ص:425

137- بسم اللّه الرحمن الرحیم ذکر اللّه

قال الإمام علی علیه السلام: «إِنَّ کُلَّ مَا فِی القُرْآنِ فِی الفَاتِحَةِ...».

أشرنا فیما تقدّم إلی الآیة الشریفة: «بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ» ، وطبعاً لا نقصد فی هذا البحث تفسیر سورة الحمد، رغم أنّ بعض الأکابر ذکروا فی کتابهم «أسرار الصّلاة» جانباً من تفسیر هذه السورة المبارکة، وکذلک ذکروا بعض الجوانب من تفسیر سورة التوحید، ولو أردنا الدخول فی هذه البحوث التفسیریّة فسوف یطول بنا المقام، ولکن بمناسبة ذکر هذا الحدیث القدسی، فإنّ العبد عندما یقول:

«بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ» ، فإنّ اللّه تعالی یقول: «ذکَرَنِی عَبْدِی»، ولذلک نشیر هنا إلی بعض النقاط التی نستوحیها من هذا الحدیث فیما یتّصل بالآیة «بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ».

وینبغی الالتفات إلی هذه النقطة، وهی أنّ القرآن الکریم نفسه یصرّح فی بعض آیاته بأنّه ذکر، وحتّی أنّه ورد التعبیر عن النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله بأنّه ذکر، فکلّ هذه الأمور من مصادیق الذکر، کما ورد فی الروایة المنسوبة إلی أمیرالمؤمنین

ص:426

صلوات اللّه علیه وقال: «إِنَّ کُلَّ مَا فِی القُرْآنِ فِی الفَاتِحَةِ»، فجمیع المعانی، والمفاهیم، والأسرار، والحقائق الواردة فی القرآن الکریم، وردت بشکل إجمالی وموجز فی سورة فاتحة الکتاب، ولذلک کانت هذه السورة امّ الکتاب، یعنی سورة الحمد تجمع فی مطاویها جمیع معانی وحقائق القرآن بشکل إجمالی.

ویتابع أمیرالمؤمنین علیه السلام بالقول: «وَکُلُّ مَا فِی الفَاتِحَةِ فی «بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ» ،وَکُلُّ مَا فِیهِ فِی البَاءِ، وَکُلِّ مَا فِی البَاءِ فِی النُّقطَة وَأَنا النُقطَة تَحْتَ البَاءِ»، وهذه الروایة مذکورة فی کتا ب مشارق أنوار الیقین(1) وفی کتاب ینابیع المودّة.

یجب علی المصلّی أن یعلم أنّ جمیع معانی القرآن والحقائق الغیبیّة الموجودة فی عمق الآیات القرآنیّة کامنة ومجتمعة فی سورة الحمد، وحقیقة سورة الحمد موجودة فی «بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ» ، ولذلک عندما یقف للصّلاة فلا ینبغی الاستعجال فی قراءة هذه السورة، بل یتأمل فی معانیها والإشارات التی وردت فی روایات الأئمّة الطاهرین صلوات اللّه علیهم أجمعین لهذه السورة، وفی هذه السورة سیتحوّل حاله إلی حال آخر، فعندما یقول: «بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ» ، یقول اللّه تعالی: «ذکرنی عبدی»، ومعنی ذکر اللّه لیس أن یذکر اسم اللّه بلسانه فقط، کلّا، فالمصداق الأتمّ للذکر کما ورد فی هذه الروایات، یتحّقق فی «بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ».

وجاء فی بعض الروایات(2) أنّ الباء فی بسم للّه إشارة إلی إحدی صفات وأسماء اللّه الحسنی وفی بعض آخر ذکر أنّ الباء إشارة إلی بهجة اللّه، وفی روایة ثالثة أنّه إشارة إلی بهاء اللّه، کما نقرأ فی دعاء السحر فی شهر رمضان المبارک:

«اللّهُمَّ إِنّی أَسأَلُکَ بِبهائِکَ کُلِّهِ وَکُلُّ بَهائِکَ بَهیّ»، فالبهاء هو أحد أسماء اللّه

ص:427


1- (1) مشارق أنوار الیقین فی أسرار أمیرالمؤمنین علیه السلام، ص 35.
2- (2) . انظر: الکافی، المطبعة الإسلامیّة، ج 1، ص 114.

الحسنی، و «سین» إشارة إلی سناء اللّه، و «میم» إشارة إلی مجد اللّه، وجاء فی بعض الروایات «أَنَّ مِیم دَلیلٌ عَلَی مُلْکِهِ»، فالقاریء للقرآن یجب أن یعلم ما فی مطاوی هذه الحروف الجلیلة وفی هذه السورة الشریفة، ولا یقرأها کما یقرأ سائر الکتب، بل هذه السورة تتضمّن غایة الحکمة والدقّة والنظم والبلاغة، فالشخص الذی یقف للصّلاة ویرید التوجّه والتفکیر فی هذه النقاط ولو بشکل إجمالی فإنّ قلبه سیشعر بالاستقرار والطمأنینة شیئاً فشیئاً ویکون مستعداً لاشراق التجلیات الإلهیّة علیه.

ص:428

138- معنی اللّه فی کلام أمیرالمؤمنین علیه السلام

قال الإمام علی علیه السلام: «إِنَّ کُلَّ مَا فِی القُرْآنِ فِی الفَاتِحَةِ...».

ینقل الشیخ الصدوق رضوان اللّه علیه فی کتابه «التوحید»(1) هذه الروایة عن أمیرالمؤمنین علیه السلام أنّه قال: «إِنَّ رَجُلاً قَامَ إِلَیهِ فَقَالَ: یاأَمِیرَالمُؤمِنِینَ أَخْبِرنِی عن بِسمِ اللّه الرّحمنِ الرَّحِیمِ مَا مَعنَاه»؟

ویستفاد من هذا السؤال أنّ أصحاب أمیرالمؤمنین علیه السلام کانوا یعیشون مرتبة من الفهم والإیمان والدقّة فی الملاحظة بحیث یسألون الإمام مثل هذه الأسئلة، وهکذا ینبغی علی شعبنا العزیز وشبابنا أن یسعوا للمزید من طرح أسئلتهم فی المعارف والعقائد الدینیّة ویجب علی علمائنا تقدیم الأجوبة لهؤلاء الشباب حسب الامکان.

ونری أنّ هذا الشخص سأل من الإمام علیه السلام عن معنی «بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ» ، فقال له الإمام علیه السلام فی جوابه: «إِنَّ قَولَکَ اللّهُ أَعْظَمُ اسمِ مِنْ أَسمَاءِ اللّهِ، وَهُوَ

ص:429


1- (1) . التوحید للشیخ الصدوق، ص 231 باب معنی بسم اللّه الرحمن الرحیم.

الإسمِ الَّذی لایَنبَغِی أَنْ یُسَمّی بِهِ غَیرُ اللّهِ، وَهُوَ الَّذی یَتَأَلَّهُ إِلَیهِ عِبْدَ الحَوائِجِ وَالشَّدَائِدِ کُلُّ مَخلُوقٍ عِنْدَ انقِطَاعِ الرَّجَاءِ مِنْ جَمِیعِ مَنْ هُوَ دُونَهُ وَتَقطُّعِ الأَسبَابِ مِنْ کُلِّ مَنْ سِواهُ»، فهذا الاسم هو مصداق تلک الحقیقة التی یلجأ إلیها الناس عند الشدائد والأزمات وهو اللّه الذی یحکی عن ذلک الموجود العظیم.

وهذا یعنی أنّ الإنسان عندما یتلفظ بکلمة اللّه فعلیه أن یلتفت أنّ هذه الکلمة وهذا الاسم لیس له سوی مصداق واحد، بل لا یمکن عقلاً تصوّر مصداق آخر له، فلا موجود غیر اللّه تبارک وتعالی یکون قابلاً لإطلاق هذا الاسم علیه، ولا ینبغی القول إنّ اللّه یعنی المعبود، ثمّ یقال لا سمح للّه إنّ الأصنام والأوثان هی معبودة للوثنیین والمشرکین وبذلک یکون اللّه معبوداً والأوثان معبوداً آخر.

ومن هذه الجهة قال علماؤنا الأکابر، اللّه اسم مستجمع لجمیع الصفات الکمالیّة، فعندما نقول: «بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ» ، فلو أننا لم نلتفت إلی هذه الجهة من معنی هذه العبارة فإنّ اللّه تعالی لا یقول: ذکرنی عبدی، ولکن إذا التفتنا إلی أنّ اللّه اسم مختصّ بتلک الذات اللامتناهیة والذی یملک القدرة والعلم والحیاة المطلقة وأنّ جمیع عوالم الوجود صدرت من برکة وجوده وأسمائه الحسنی وصفات جلاله وجماله، وفی هذه الصورة یقول اللّه: ذکرنی عبدی، وإلّا إذا قلنا:

اللّه، ولکننا لا نفهم من ندعو بهذا الاسم ولا نفهم أنّ اللّه اسم لأی شیء ومتعلّق بأی موجود؟ فمن البدیهی لا ینبغی أن نتوقع ذکر اللّه لنا، وطبعاً فإنّ مقصودنا لا یتعلّق بمعرفة الذات المقدّسة علی نحو الحقیقة، لأنّه لا أحد من المخلوقات حتّی الأنبیاء لا یستطیعون درک وفهم حقیقة الذات المقدّسة، ولکننا یجب أن نعلم بهذا المقدار، وهو أنّ اللّه یتّصف بهذه الخصوصیّات «اللّهُ هُوَ المَستُورُ عَنْ دَرْکِ الأبصَارِ المَحجُوبِ عَنِ الأوهَامِ وَالخَطَراتِ»، یجب أن نعلم أنّ هذا الأسم مختصّ باللّه تبارک وتعالی ونحن لا نستطیع درک تلک الذات المقدّسة لأنّ أذهاننا وأفهامنا لا

ص:430

تملک القدرة علی ذلک، ومن هذه الجهة یقول العرب عن الشخص المتحیّر، «أَلِهَ الرُّجل»، فکلمة اللّه تعنی أیضاً تلک الذات التی تحیّرت فیها عقول البشر عن فهم حقیقته وأنّه تعالی محجوب عن جمیع الأفکار والأوهام والأذهان.

ص:431

139- مضافاً إلی الصّلاة کلّ عبادة تنقسم بین اللّه وعبده

بالنسبة للحدیث القدسی المتقدّم الذی یقسّم الصّلاة وسورة الحمد بین اللّه وعبده، ربّما یثار هذا السؤال، هل أنّ ما ورد فی هذا الحدیث الشریف یختصّ بسورة الحمد أم یشمل الأفکار والأفعال والأمور الأخری فی الصّلاة وأنّها تقسّم أیضاً بین اللّه وعبده؟ لأنّه من جهة نری فی بدایة هذا الحدیث أنّ اللّه تعالی یقول:

«قَسَّمْتُ الصَّلاةَ بَینِی وَبَینَ عَبدِی»، ومن جهة أخری وعندما یصل إلی شرح هذه المسألة یطرح فقط التقسیم فی سورة الحمد، ویقول إنّ الآیات الاُولی من هذه الصورة تتعلّق باللّه من «بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ» ، و «الحَمد للّه»؟

وهل أنّ ما ورد فی هذا الحدیث فیما یتّصل بسورة الحمد ذکر علی سبیل المثال، أو أنّه یختصّ بسورة فاتحة الکتاب؟ وهنا قد یطرح هذا السؤال المهم أیضاً، أساساً هل أنّ هذا التقسیم بین اللّه وعبده خاص بالصّلاة؟ یعنی لو قلنا فی شرح سورة الحمد أنّ اللّه تعالی أراد أن یبیّن لنا مثالاً ونموذجاً فی عملیة القسمة

ص:432

هذه، ولکن الصّلاة تتعلّق بالعبد من جهة، وتتعلّق باللّه من جهة أخری، فهل یمکن أن یسری هذا الکلام وهذا التقسیم بالنسبة لجمیع العبادات أم لا؟ هل یمکن القول إنّ کلّ عبادة ذات وجهین، وجه مرتبط باللّه تعالی، والوجه الآخر مرتبط بالإنسان؟

وقد أشار الإمام الخمینی رضوان اللّه تعالی علیه إلی هذه النقطة الدقیقة وقال(1): فی نظرنا رغم أنّ هذه الروایة تقرّر أنّ اللّه تعالی قسّم سورة الحمد إلی قسمین، ولکن هذا التقسیم یتعلّق بجمیع أجزاء الصّلاة ویشمل الأذکار وحالات الصّلاة من التکبیرات الافتتاحیّة إلی قول المصلّی السلام علیکم.

ویتبیّن من کلام الإمام الخمینی رضوان اللّه تعالی علیه وحشره اللّه مع أجداده الطاهرین، إنّ العبد عندما یقول «اللّه أکبر» ویؤدّی وظیفة العبودیّة بشکلها الصحیح ویعتقد أنّ جمیع حالات الکبریاء والمجد والعظمة منحصرة للّه تعالی، فإذا اعتقد فی باطنه وقلبه واقعاً وحقیقة أنّ اللّه أکبر وکان هذا النور یشرق فی قلبه فإنّ اللّه تعالی سیفتح أمامه باب المراودة والمکاشفة والإنابة، کما ورد فی الحدیث الشریف فی کتاب «مصباح الشریعة» الإشارة إلی هذا المعنی، فعندما تکبّر تقول لقلبک: انظر والتفت جیداً هل تجد حلاوة هذه الصّلاة وحالة البهجة والسرور فی قلبک أم لا؟ فلو أنّک بقولک «اللّه أکبر» تشعر بالأنوار الإلهیّة تشرق علی قلبک وأبواب السرور والبهجة تنفتح علیک وتحسّ بحلاوة فی باطنک بین ذاتک وبین اللّه تعالی، فیتبیّن أنّ هذه الکلمه «اللّه أکبر» هی اللّه أکبر واقعیة وحقیقیّة، أمّا لو قلت تکبیرة الإحرام ولم تشعر بمثل هذه الحلاوة فی باطنک فاعلم أنّ هذا التکبیر لم یصدر منک من موقع الصدق والإخلاص وأنّک فی قولک هذا غیر صادق، فلو کان الإنسان صادقاً فی قوله فسیجد لذة الحلاوة فی باطنه وقلبه.

ص:433


1- (1) . انظر: آداب الصّلاة، ص 219.

وعلی هذا الأساس فکلمة «اللّه أکبر» ترتبط من جهة باللّه تعالی وتبیّن کبریاء اللّه وعظمته من قبل العبد، وأمّا من الجهة الأخری المتعلّقة بالعبد فإنّ الإنسان یستشعر اللطف الإلهی الخفی والرحمة الإلهیّة الجلیّة ویذوق حلاوة المناجاة وعبادة اللّه.

ولو أردنا شرح وبسط کلام الإمام الراحل رحمه الله هذا فلا مانع من القول إنّ هذا الکلام یسری إلی جمیع العبادات، ولکن قد یطرح هذا السؤال: ما هی الخصوصیّة فی الصّلاة بحیث إنّ اللّه تعالی فی هذا الحدیث القدسی الشریف ذکرها؟ الجواب: إنّ الصّلاة هی المظهر الأعلی والأتم للعبادة والمصداق البارز والجلیل لهذا التقسیم، ففی کلّ عبادة هناک وجه متعلّق باللّه تعالی، ووجه آخر متعلّق بالعبد، ولکن هذا التقسیم فی العبادات الأخری لیس متجلّیاً کما فی الصّلاة، فکلّ شخص وإن لم یکن له حظّ من العلم والمعرفة یستطیع فهم هذین القسمین وأنّ أحدهما متعلّق باللّه والقسم الآخر متعلّق بالإنسان.

یجب علینا الالتفات إلی هذا المعنی فی جمیع عباداتنا ولا نتصوّر أنّ عباداتنا جمیعاً متعلّقة باللّه تعالی، وأنّها بمثابة الثقل الذی یحمله الإنسان علی ظهر ویسلّمه إلی مولاه، فالعبادة لها جهة متعلّقة باللّه تبارک وتعالی وجهة أخری متعلّقة بالإنسان نفسه، ومن ذلک آثار العبادة وحلاوتها فی قلب الإنسان العابد إن شاء للّه.

ص:434

140- الاستعاذة، آدابها وأرکانها

«فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّیْطانِ الرَّجِیمِ» (1)

وأحد الآداب المهمّة للقراءة «الاستعاذة» والمقصود من الاستعاذة أن یقول المصلّی بعد التکبیرة الإحرام وقبل أن یبتدیء بقراءة السورة: «أَعُوذُ بِاللّهِ السَّمِیعِ العَلِیمِ مِنَ الشَّیطَانِ الرَّجِیمِ»، وقد أفتی فقهاؤنا العظام باستحباب الاستعاذة قبل قراءة السورة، وصرّحوا أیضاً بأنّ الاستعاذة یجب أن تکون علی نحو الاخفات وبدون الجهر، ولکن ما هی الاستعاذة وما هی آدابها وأرکانها، وهل أنّ الاستعاذة مجرّد ذکر کلام یجری علی لسان المصلّی وأنّ الإنسان بمجرّد قول هذه العبارة سیکون فی حصن حصین من اللّه تبارک وتعالی، أو أنّ الاستعاذة کلام یجب أن یحکی عن استعاذة القلب والروح وباطن الإنسان وبذلک تکون الاستعاذة الحقیقیّة هی الاستعاذة القلبیّة؟

النقطة المهمّة جدّاً هنا، هی أولاً: یجب الالتفات إلی اللّه أنّ تبارک وتعالی

ص:435


1- (1) سورة النحل، الآیة 98.

عندما أمر نبیّه الکریم: «وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِکِینَ اسْتَجارَکَ فَأَجِرْهُ...»1 ، فهذا اللّه الرحیم والرحمن یتحدّث مع نبیّه الکریم ویأمره بالتعامل مع المشرکین بمثل هذا اللطف، فهل یعقل أن یستجیر به المسلم ولا یقبل اللّه تعالی إجارته واستعاذته، وما هی آثار وعلامات الاستعاذة باللّه تعالی فی حیاة الإنسان؟ وندرک نقاط مهمّة جدّاً مع بعض الدقّة فی حقیقة الاستعاذة.

أولاً: ورد فی الآیة الشریفة 98-100 من سورة النحل أنّ اللّه تعالی أمر نبیّه الکریم: «فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّیْطانِ الرَّجِیمِ» ، یعنی أنّک عندما تقرأ القرآن بقصد القربة إلی اللّه فاعلم أنّ الشیطان یهدف إلی إبعادک وإبعاد امّتک عنّی، وذهب بعض الفقهاء العظام أنّ الأمر بالاستعاذة فی هذه الآیة الشریفة واجب، لأنّهم ذهبوا فی علم الأصول إلی ظهور صیغة الأمر بالوجوب، فالاستعاذة قبل قراءة القرآن واجبة.

ویقول الباری تعالی فی سیاق الآیة: «إِنَّهُ لَیْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَی الَّذِینَ آمَنُوا وَ عَلی رَبِّهِمْ یَتَوَکَّلُونَ * إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَی الَّذِینَ یَتَوَلَّوْنَهُ وَ الَّذِینَ هُمْ بِهِ مُشْرِکُونَ».

وبما أنّ قسماً مهمّاً من الصّلاة یتضمّن قراءة القرآن فلذلک یجب الاستعاذة من الشیطان بعنوانها من آداب القراءة فی الصّلاة، کما أنّ القرآن أحد مصادیق الصراط المستقیم والمبین له، فإنّ الصّلاة کذلک من المصادیق البارزة للصراط المستقیم، ونقرأ فی سورة الأعراف أنّ الشیطان بعد أن طرد من الجنّة قال مخاطباً الباری تعالی: «فَبِما أَغْوَیْتَنِی لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَکَ الْمُسْتَقِیمَ»2 ، والصّلاة هی أحد المصادیق المهمّة للصراط المستقیم ویجب علی المؤمنین الالتفات إلی أنّ الشیطان عندما یری بأنّ هذا المؤمن مشغول بصلاته فإنّه یستجمع جمیع قواه

ص:436

وحیله ووساوسه لکی یمنع هذا المصلّی من الاستفادة من صلاته، والآن إذا أردنا فی هذا السیر والمسیر إلی اللّه أن نستفید فائدة وافیة من صلاتنا فیجب علینا طرد وإبعاد الشیطان من دائرة نفوسنا وقلوبنا لکی نسلک فی هذا المعراج المعنوی والطریق إلی اللّه تعالی بأفضل وجه إن شاء اللّه.

ص:437

141- الاستعاذة، غلق طریق نفوذ الشیطان

إذا أراد المصلّی أن یحصل علی بعض حقائق سورة الحمد ونال التوفیق لهذا السفر الروحانی والسیر إلی اللّه الذی جعله اللّه تعالی لعباده فی کلّ یوم، یجب علیه فی الخطوة الاُولی التصدی لمانع هذا الطریق وهو الشیطان ویزیحه عن طریقه، الشیطان إذا تسلط علی قلب الإنسان، فحتّی لو کان هذا الشخص قد صلّی ألف عام وختم القرآن ألف ختمة فلا أثر ولا فائدة من ذلک، فالقرآن وتلاوته والتمسّک به إنّما تکون نافعة للإنسان وتنوّر قلبه وتنیر طریق وتأخذ بیده من عالم الملک والمادیّة والحیوانیّة وتعرج به إلی مقام القرب إلی اللّه وتخرجه من ظلمات والجهل والشرک إلی أجواء النور والإیمان فیما لو لم یکن الشیطان مسلطاً علی الإنسان، وعندها سیؤثر القرآن أثره فی شفاء قلبه ونفسه من الشوائب والرذائل والمیول الدنیویّة، فقد ورد فی بعض الروایات التی تتحدّث عن الاستعاذة نقاط جمیلة ورائعة، منها ما ورد عن أمیرالمؤمنین علیه السلام أنّه قال: «إِنّ قَولَهُ أَعُوذُ بِاللّهِ أَی أَمتَنِعُ بِاللّهِ»(1)، وهذا یعنی أننا نمنع الشیطان

ص:438


1- (1) . وسائل الشیعة، ج 6، ص 197، باب استحباب الاستعاذة عند التلاوة.

من التصرف فی قلوبنا ولا نسمح له فی النفوذ إلیها، «فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّیْطانِ الرَّجِیمِ»1 ، وطبعاً فالإستعاذة هنا لا تعنی أنّ المصلّی یقول هذه العبارة فقط قبل قراءة القرآن، بل یبتدیء أوّلاً بالاستعاذة قبل القراءة ویستمر علیها إلی آخرها.

«وَمَنْ تَأَدَّبَ بِأَدَبِ اللّهِ أَدَّاهُ إِلی الفَلاحِ الدَّائِمِ»، ما أروع هذا التعبیر فی هذه الروایة، فکلّ شخص یرید أن یقرأ القرآن وتجری آیاته علی لسانه یجب أن یتأدّب بالآداب الإلهیّة، والأدب الإلهی یعنی أن یبتدیء الإنسان بطرد الشیطان من طریقه واخراجه من أجواء مملکته بحیث لا یکون له سلطان علی هذا الشخص، وإلّا فمع وجود سلطة الشیطان علی نفسه فإنّه عندما یقول أعوذ باللّه من الشیطان، یکون کاذباً، فالإنسان إنّما یکون مستجیراً باللّه فیما لو لم یسمح للشیطان أن یتسلط علی قلبه، وهذا بدوره یحتاج إلی رعایة اللّه وطلب المدد والمعونة منه تعالی، وکما أنّ الشیطان قد طرد من الجنّة، فالإنسان أیضاً وبمعونة اللّه تعالی یجب أن یطرد الشیطان من قلبه أیضاً: «وَمَنْ تَأَدَّبَ بِأَدَبِ اللّهِ أَدَّاهُ إِلی الفَلاحِ الدَّائِمِ».

وینقل أمیرالمؤمنین علیه السلام عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله أنّه قال: «إِنْ أَرَدتَ أَنْ لایُصِبَکَ شَرُّهُم وَلا یَبدَأَکَ مَکْرُوهُهُم فَقُلْ إِذا أَصبَحتَ: أَعُوذُ بِللّهِ مِنَ الشَّیطَانِ الرَّجِیمِ فَإِنّ اللّهَ یُعِیذُکَ مِنْ شَرِّهِم»(1)، فلو أراد الإنسان أن یبعد شیاطین الجن والإنس عن نفسه وعن طریقه ولا یصیبه شرّهم وضررهم فعلیه بالاستعاذة، والنقطة المهمّة هنا أنّ الاستعاذة لیست فقط الاستعاذة باللسان والکلام، بل یجب علی الإنسان أن یجمع جمیع قواه النفسانیّة، وعلی حدّ تعبیر البعض فی کتبهم: الأقالیم السبعة الأرضیّة، والأقالیم السبعة فی وجوده «العین، الاُذن، اللسان، البطن، الفرج، الید،

ص:439


1- (2) . وسائل الشیعة، ج 6، ص 142.

والقدم» ویعیذها جمیعاً باللّه من الشیطان الرجیم ویبعد الشیطان من هذه الحقول والأقالیم ویطهّر نفسه وفکره وجمیع قواه من شوائب المعاصی ولوث الذنوب ولا یسمح للشیطان بالعودة یتسلط علی قواه النفسیّة والبدنیّة، ومثل هذا الشخص عندما یقول: «أَعُوذُ بِاللّهِ مِنْ الشَّیْطَانِ الرَّجِیمِ» فإنّ هذه الاستعاذة ستؤثر أثرها ویجعله اللّه تعالی فی حصنه الحصین ویعیذه من الشیطان الرجیم.

ص:440

142- الاستعاذة طریق النجاة من الوسوسة

یروی أمیرالمؤمنین علیه السلام عن رسول اللّه صلوات اللّه وسلامه علیه أنّه قال: «أَتَاهُ رَجُلٌ مِنَ الأنصَارِ فَقَالَ: یا رَسُولُ اللّهِ إِلَیکَ أَشکُو مَا أَلقَی مِنَ الوَسوَسةِ فِی صَلاتِی حَتّی لاأَعْقَلُ مَا صَلَّیتُ مِنْ زِیادَةٍ أَو نُقیصَان».

قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله: «إِذَا قُمْتَ فِی الصَّلاةِ فَاطعَنْ فِی فَخذِکَ الیُسری بِإصبِعِکَ الیُمنَی المُسَبِّحة ثُمَّ قُلْ بِسمِ اللّهِ وَبِاللّهِ تَوَکَّلتُ عَلَی اللّهِ أَعُوذُ بِاللّهِ السَّمِیعُ العَلِیمُ مِنَ الشَّیطَانِ الرَّجِیمِ فَإِنَّ ذَلِکَ یَرجُزُهُ وَیطرُدُهُ»(1)، مع الأسف فإنّ بعض المؤمنین والمصلّین یبتلون بالوسوسة، وهذه الوسوسة هی أساس عمل الشیطان، «اَلَّذِی یُوَسْوِسُ فِی صُدُورِ النّاسِ»2 ، ومن أجل أن نبعد هذه الوسوسة عنّا فی الصّلاة یجب علینا الاستعاذة باللّه من الشیطان ومن وساوسه.

سبق أن أشرنا أنّ الاستعاذة لا تعنی الاستعاذة اللفظیّة، فثمّة أشخاص

ص:441


1- (1) . دعائم الإسلام، ج 1، ص 190.

یستعیذون باللّه من الشیطان مدّة خمسین سنة بلسانهم، ولکن إذا رأیت باطنهم فسوف لاتری سوی حبّ المال وسلطة الشیطان، فالشیطان قد تسلط علی جوارحهم وقواهم وأعضائهم الظاهریّة وقواهم الباطنیّة وحتّی تسلط علی قواهم الفکریّة وعقائدهم الدینیّة، ومن المعلوم أنّ حقیقة الاستعاذة مسألة أبعد وأعمق من الاستعاذة اللسانیّة واللفظیّة، فیجب علی الإنسان أن یحقّق حقیقة الاستعاذة فی أعماق وجوده والمستعیذ یجب أن یجعل جمیع هویته الوجودیّة وحقیقته الإنسانیّة فی جمیع المراتب فی حصن اللّه تعالی ویلجأ إلیه بجمیع قواه ووجوده ولیس فقط یستعیذ باللّه بلسانه.

وعندما یقول القرآن الکریم: «وَ قُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِکَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّیاطِینِ * وَ أَعُوذُ بِکَ رَبِّ أَنْ یَحْضُرُونِ»1 ، فهذا یعنی أنّ أحد تکالیف النبیّ صلی الله علیه و آله من قِبل اللّه تعالی أن یستعیذ باللّه من الشیطان الرجیم، ویوحی لنا هذا النص بأنّ الشیاطین حاضرة فی وجود الإنسان وتعمل علی منعه من الحرکة والسیر والسلوک إلی اللّه تعالی ولذلک ینبغی الاستعاذة باللّه منها.

یجب علی الإنسان أن یستعیذ باللّه بجمیع وجوده ویری ما هو مقدار سلطة أهوائه النفسانیّة علیه وعلی إرادته وتصرفاته؟ ولو أنّ الإنسان وجد نفسه فی حالة معیّنة أو عمل بین أن یقف بین الدنیا والآخرة واختار الدنیا، فلیعلم بأنّه قد سلّط الشیطان علی نفسه وإرادته، فلو أنّه مع ذلک قال فی الیوم ملیون مرّة: «أَعُوذُ بِاللّهِ مِنْ الشَّیْطَانِ الرَّجِیمِ»، فلا أثر لمثل هذه الاستعاذة.

ولو أنّ الإنسان ابتلی بالأهواء النفسانیّة وتورط فی شباک النوازع الدنیویّة وسلّم نفسه إلی هذه المیول والأهواء من حبّ السلطة والشهوة وحبّ المال والثروة وسعی فی حیاته إلی مماته فی طلب المال والمنصب والجاه، فلیعلم أنّ

ص:442

الحاکم علی نفسه والمسیطر علی قواه وإرادته هو الشیطان، وکلّما قال «أَعُوذُ بِاللّهِ مِنْ الشَّیْطَانِ الرَّجِیمِ» فلا أثر له، لأنّ مثل هذه الاستعاذة إنّما تکون مؤثرة عندمایطهر الإنسان باطنه وقلبه من وساوس الشیطان ومن شراکه ومکره ویعمل علی تنقیة روحه وفکره وجمیع قواه من لوث الشیاطین حتّی تشترک معه جمیع هذه القوی فی قوله «أَعُوذُ بِاللّهِ مِنْ الشَّیْطَانِ الرَّجِیمِ».

ص:443

143- الاستعاذة: اللجوء إلی اللّه من الذنوب والانحرفات الفکریّة والعقدیّة

إنّ أحد العوامل التی تؤدّی إلی عدم استجابة الدعاء للإنسان، أو عدم تأثیر الأذکار والأوراد التی یقولها المؤمن، بسبب أنّ هذه الأذکار والأوراد صدرت من لسانه الذی یتصرّف به الشیطان، ویحکم علی ذهن صاحبه وقلبه، وعندما یقول الباری تعالی للنبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله: «فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّیْطانِ الرَّجِیمِ»1 ، فهذا یعنی أنّ الشیطان لو کان حاضراً عند قراءة القرآن أیضاً فهذا القرآن لا یؤثر أثره فی النفس البشریّة، إذن یجب أن نحقّق الاستعاذة فی کلّ مملکة وجودنا، لا فقط عندما نواجه الذنب أو التلوّث بالمعصیة الظاهریّة فنستجیر باللّه من الشیطان، بل إنّ التلوّث الذی یهدد الإنسان أعمق من ذلک، فالکثیر من الأشخاص ربّما لا یصدر منهم ذنب ولا معصیة من قبیل السرقة الغیبة والخیانة فی الأموال ولا تصدر منهم کلمات نابیة وبذیئة ولکنّهم مع ذلک وقعوا

ص:444

أسری الشیطان وتسلط الشیطان علی عقولهم وعقائدهم وأفکارهم وصدهم عن السلوک الصحیح والصراط المستقیم وقادهم نحو هاویة العقائد الباطلة والأفکار المنحرفة.

ومن هذا المنطلق یجب أن تستوعب الاستعاذة جمیع أبعاد الإنسان الوجودیّة وتخلّصه من سلطة الشیطان وتنقذه من فخاخه وشراکه، والإستعاذة لها آداب خاصّة، وأحد هذه الآداب المهمّة هو الإخلاص، ونقرأ فی الآیة الشریفة:

«قالَ فَبِعِزَّتِکَ لَأُغْوِیَنَّهُمْ أَجْمَعِینَ * إِلاّ عِبادَکَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِینَ»1 ، فهنا نری أنّ الشیطان یقسم بعزّة اللّه، وهذا القسم مهمٌّ جدّاً، ویقول: إننی سوف أغوی جمیع عبادک إلّافئة واحدة لا استطیع أن أتسلط علیه وهم المخلصون، والمخلَص بصیغة اسم المفعول تختلف عن المخلِص بصیغة اسم الفاعل، والمرتبة الاُولی أعلی کثیراً من الثانیة، وعلامة ذلک یظهر فی عمل هذا الشخص المخلَص وفی سلوکیاته.

إذا جعل الإنسان جمیع هویته وأبعاده الوجودیّة وقواه النفسانیّة بید اللّه تبارک وتعالی، ولو صدرت حرکة من یده وقدمه، أو نظر بعینه، أو سمع کلاماً باُذنه فإنّه یجعل من کلّ ذلک للّه تعالی ولا یسمح لهذه الأعضاء والجوارح أن تخون الأمانة الإلهیّة الکبیرة عنده، ولا یجعلها تتصرّف فی غیر طاعة اللّه، ولو أنّ أفکاره وعقائده أو عمل یعمل یعمله کانت لنیّته للّه تعالی، فیفکّر للّه ویجعل قلبه حرم اللّه، وبشکل عام یکون اللّه تعالی حاکماً علی جمیع وجوده وکیانه وتکون جمیع أفکاره وأعماله للّه تعالی، فإنّه عند ذلک یدخل فی زمرة المخلَصین، ونتیجة هذا الإخلاص أن تتفجر ینابیع الحکمة من قلبه وتجری علی لسانه: «مَنْ أَخلصَ للّهِ أَربَعِینَ صَباحاً جَرَتْ یَنابِیعُ الحِکْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَی لِسانِهِ»(1)، یعنی عندما یتحدّث

ص:445


1- (2) . مصباح الشریعة، ص 355.

فکأنّما ینبع الحکمة من قلبه وتظهر فی کلامه وعلی لسانه ویتحدّث بمسائل عمیقة جدّاً ومعنویة ونورانیّة من شأنها أن تنوّر الآخرین وتصلح المجتمع، ومع وجود هذه الحالة من الإخلاص فإنّ الشیطان لا یستطیع النفوذ إلی قلب هذا الشخص، والاستعاذة هنا من أجل إیصال الإنسان إلی هذه المرحلة.

إذن فأحد آداب الاستعاذة الخلوص والإخلاص، وکلّما ازداد وتعمّق إخلاص الفرد فإنّ استعاذته باللّه تبارک وتعالی ستکون أکثر وأشدّ، نسأل اللّه تعالی أن یرزقنا جمیعاً مثل هذا الإخلاص إنّ شاء اللّه.

ص:446

144- الاستعاذة، الورود فی حصن اللّه والأمن من عذابه

فیما یتعلّق بالاستعاذة یجب الالتفات إلی هذه النقطة، وهی أنّ الشخص الذی یستجیر بالحقّ تبارک وتعالی فإنّ اللّه تعالی یقول: «کَلِمَةُ لاإِلَهَ إِلّا اللّهُ حِصنِی فَمَنْ دَخَلَ حِصنِی أَمِنَ مِنْ عَذاِبی»، والنقطة الدقیقة والمهمّة جدّاً هنا والتی أشار إلیها الإمام الخمینی رضوان اللّه تعالی علیه(1) ، هی: إنّ الإنسان إذا دخل فی حصن اللّه تعالی، فلیس فقط یکون فی مأمن من عذاب جهنّم الظاهری، بل یکون محفوظاً ومصوناً من جمیع مصادیق العذاب الإلهی، وإلی هذا المعنی أشار الإمام أمیرالمؤمنین علیه السلام فی دعاء: «فَهَبنِی صَبَرْتُ عَلَی عَدَابِکَ فَکیفَ أَصْبِرُ عَلَی فِراقِک»، فالصبر علی عذاب اللّه ربّما یکون قابلاً للتحمّل لدی أولیاء اللّه، ولکن الصبر علی فراقه وأن یکون حجاب بین الإنسان وربّه، وهذا الحجاب یحجب الإنسان عن الحقّ ورؤیة جمال الحقّ ویحجب قلب الإنسان عن رؤیة نور الحقّ ویعیقه عن الوصال بالمحبوب، فهو أمر غیر قابل للتحمّل عند أولیاء اللّه، ومن

ص:447


1- (1) . انظر: آداب الصّلاة، ص 223.

هذه الجهة یقول أمیرالمؤمنین علیه السلام: إنّ هذا الأمر أعلی وأشدّ أنواع العذاب، فالإنسان المؤمن المحبّ للّه لا یتحمّل مثل هذا العذاب، ولو أنّه استطاع أن یتحمّل العذاب الظاهری فإنّه لا یستطیع الصبر علی هذا العذاب المعنوی، والآن إذا دخلنا بواسطة الاستعاذة الحقیقیّة فی حصن اللّه تعالی: «فَمَنْ دَخَلَ حِصنِی أَمِنَ مِنْ عَذاِبی»، وسیکون محفوظاً من أی حجاب وابتعاد عن محبوبه الواقعی وهو اللّه تعالی.

ویتحدّث الإمام الخمینی رحمه الله عن هذا المعنی بعبارة لطیفة ویقول: الشخص الذی یصل إلی هذا المقام، أی یکون فی مأمن من هذا العذاب، فهو عبد اللّه الحقیقی، وهذا المقام یعدّ من أعزّ مقامات أولیاء اللّه وأخصّ مدارج أصفیاء اللّه، ومثل هذا المقام متعلّق بالأصالة بوجود حضرت النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله خاتم الأنبیاء، وفی المرتبة التالیة للأئمّة الطاهرین صلوات علیهم أجمعین، ولیس من المعلوم أنّ أحد غیر هؤلاء یستطیع الوصول إلی هذه المرتبة ویکون فی مأمن من عذاب هذه المرتبة، وعلی هذا الأساس فالاستعاذة تمهّد الطریق للإنسان للوصول إلی مثل هذا المقام والمرتبة بحیث یکون مصوناً ومحفوظاً من جمیع مراتب العذاب، ومن هنا یجب علینا السعی أکثر بحیث إذا لم نتمکّن من الوصول إلی تلک المقامات والدرجات العالیة، فعلی الأقل أن نوفّق للوصول إلی المراتب الأخری إن شاء اللّه تعالی.

ص:448

145- القیام، إعلان الاستعداد للدفاع عن الحقّ والتصدی للشیاطین

کمقدّمة یجب أن یکون معلوماً أنّ الصّلاة، وهی معراج المؤمن وأهم وسیلة للقرب من اللّه تبارک وتعالی، لها ثلاث حالات مهمّة: القیام، الرکوع، السجود، وکلّ واحدة من هذه الحالات الثلاث فی مسار الحقّ نحو اللّه تعالی، تعتبر منزلة من منازل الفیض والسلوک ومقدّمة للمنزل الآخر، فإذا لم تراع آداب کلّ منزل منها لا تصل النوبة للورود إلی المنزل الآخر، فلو أردنا معرفة أسرار وحقائق الرکوع وتجسیدها فی وجودنا فلابدّ أن نحقّق فی أنفسنا حقائق القیام قبل ذلک.

یقول علماء العرفان: إنّ هذه الحالات الثلاث فی الصّلاة یعنی: القیام، والرکوع، والسجود، إشارة إلی المراتب الثلاثة للتوحید، ویجب علی المصلّی عند الدخول إلی أی واحدة من هذه المنازل الثلاثة للتوحید أن یحقّق فی ذاته وباطنه مرتبة من مراتب التوحید.

والآن ما هو سرّ القیام بحیث یجب أداء قسم من الصّلاة فی حال القیام؟

ص:449

ویجب أیضاً قراءة القرآن فی حال القیام فقط دون الرکوع والسجود فلا یلزم قراءة القرآن فیهما، ذهب علماؤنا فی تأویل ذلک إلی أنّ القیام هو إعلان الاستعداد للنهوض والقیام فی سبیل اللّه، أی إعلان الاستعداد لإقامة حکم اللّه وإحیاء کلمة اللّه علی الصعید الفردی والاجتماعی، وأساساً فالأشخاص الذین یتحرّکون فی حیاتهم بهدف إحیاء دین اللّه فإنّهم أشخاص یعیشون حال القیام دائماً، والشخص الذی یجاهد فی سبیل اللّه فهو فی الحقیقة قائم للّه، فهذا الشخص هو القائم الحقیقی وإن کان جالساً بحسب الظاهر، والمجاهد الذی لا یستطیع القیام، ولکنّه یجاهد فی سبیل اللّه فهو فی الحقیقة قائم واقعاً، فالقیام فی الصّلاة یحکی عن هذه الحقیقة ویکشف عن أننا فی صلاتنا نقف بکل وجودنا فی مقابل الباری تعالی ونتحرک فی سبیله ونتجه بجمیع وجودنا نحو الفناء فی اللّه والتضحیة فی سبیل اللّه، ومن هنا نری من المناسب الإشارة إلی هذه الآیة الشریفة: «إِنَّ الَّذِینَ قالُوا رَبُّنَا اللّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَیْهِمُ الْمَلائِکَةُ أَلاّ تَخافُوا وَ لا تَحْزَنُوا...»1 ، فالأشخاص الذین سلکوا فی خط الإیمان والتوحید والاستقامة فسوف تتنزل علیهم ملائکة اللّه وتبشّرهم بالجنّة والنعیم الأبدی وتقول لهم: أن لا تخافوا ولا تحزنوا، فالأشخاص الذین ثبتوا واستقاموا فی قیامهم هذا فإنّ بإمکانهم فهم هذه البشارة الإلهیّة، بل علی حدّ تعبیر بعض الأکابر، قد یشاهد هؤلاء المجاهدون والقائمون فی سبیل اللّه الملائکة نفسها، فالشخص الذی یعیش الاستعداد الدائم للقیام والحرکة فی خط التوحید والإیمان فسوف یحظی بمثل هذا الامتیاز.

ومعنی القیام، إنّ الإنسان یحقّق فی نفسه الاستعداد الدائم للحرکة من أجل اعتلاء کلمة الحقّ، ولا ینبغی أن نتصوّر أنّ القیام فی الصّلاة هی الوقوف لحظات

ص:450

معدودة فقط وقراءة سورة فاتحة الکتاب وسورة التوحید، کلّا، فالقیام یعنی الإعلان عن وقوفنا ضد قوی الباطل والشرّ والدفاع عن دین اللّه دائماً، والإعلان عن التصدی لشیطان النفس ومحاربة شیطان الجنّ والإنس وجمیع أشکال الفساد والتلوّث والانحراف، فنحن قائمون من أجل محاربة أعداء الداخل والخارج.

وعلی هذا الأساس، فالقیام فی الصّلاة له مثل هذه الحالة والمکانة ویعدّ مقدّمة لیکون الإنسان قائماً بالقسط والعدل فی مجتمعه کما تقول الآیة الشریفة: «شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ وَ الْمَلائِکَةُ وَ أُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ...»1 ، وهذا القیام بالقسط یرتبط باللّه تبارک وتعالی وکذلک یرتبط بالملائکة وأولی العلم أیضاً، والمصلّی بقیامه أمام اللّه تعالی یرید أن یحقّق فی نفسه هذه المرتبة العالیة جدّاً والمختصّة باُولوالعلم والملائکة الإلهیین.

یقول أمیرالمؤمنین صلوات اللّه وسلامه علیه فی وصف أولیاء اللّه: «وَبِهِمْ قَامَ الْکِتَابُ وَبِهِ قَامُوا»(1)، ماذا یعنی قیام القرآن؟ وعندما نقول إنّ القرآن قائم بأولیاء اللّه فهذا یعنی أنّ الظهور العملی للقرآن فی قلوب الناس وأذهانهم وأعضاء الإنسان وجوارحه یتحقّق بهذه الحالة، أمّا قیامهم بالقرآن فیعنی العلم والعمل بالقرآن وأنّهم یعلّمون الناس تعالیم القرآن وما یبعدهم عن النار ویقرّبهم للجنّة ویعلّمونهم کیفیّة سلوک الطریق إلی الحقّ واجتناب الباطل.

وعلی هذا الأساس یجب الالتفات إلی جمیع هذه الجهات، فالشخص الذی یقف للصّلاة یجب علیه أن یعلم بأنّه یرید القیام للّه دائماً، وأن یکون قائماً بالقسط وأن یصل إلی هذه المرتبة العالیة بحیث یکون القرآن قائماً به وهو قائم بالقرآن،

ص:451


1- (2) . «بِهِمْ عُلِمَ الْکِتَابُ وَبِهِ عَلِمُوا، وَبِهِمْ قَامَ الْکِتَابُ وَبِهِ قَامُوا»، نهج البلاغة، صبحی الصالح، الکلمة 552.

وعندما یلتفت المصلّی إلی هذه الحقیقة کأن الوقوف بالصّلاة یتضمّن هذه المعانی العمیقة، وعلی حدّ تعبیر الأکابر، فإنّه لا یفکّر بعدها بأمور ظاهریّة وتشریفیّة وأنّ اللّه أمره فقط بالقیام فی الصّلاة وقراءة الفاتحة وسورة أخری وأنّ هذا القیام مجرّد أمر تعبدی ولا توجد حقیقة رواء هذا العمل الظاهری.

فمن هذه الجهة وبسبب ما لموضوع القیام من أهمیّة فإنّه ورد أنّ الأشخاص السالمین الذین یستطیعون القیام ولکنّهم أدوا صلاتهم من جلوس فإنّ صلاتهم باطلة بحسب ما ورد فی الروایات الشریفة «وَمَنْ لَمْ یُقِمْ صُلْبَهُ فِی الصَّلاةِ فَلَا صَلاةَ لَهُ»(1).

ص:452


1- (1) الکافی، المطبعة الإسلامیّة، ج 3، ص 320.

الفصل السابع: آداب الرکوع وأسراره

اشارة

ص:453

ص:454

146- آداب الرکوع وأسراره

ثمّة مسأئل عدّة فی رکن الرکوع:

1. التکبیرة قبل الرکوع. 2. حالة الرکوع.

3. الذکر والتسبیح فی الرکوع. 4. لماذا لا یستطیع الإنسان فی حال الرکوع أن یذهب إلی السجود مباشرة، بل یجب علیه أن یقف متنصباً بعد الرکوع ثمّ یذهب إلی السجود، وإلّا فصلاته باطلة.

یجب البحث فی هذه المسائل الأربع فی بحث الرکوع إلی حدّ تتّضح لنا هذه المسائل بالمقدار الممکن.

بالنسبة للتکبیر قبل الرکوع، فیطرح هذا البحث: هل أنّ هذا التکبیر یتعلّق بحال القیام أو یتعلّق بحال الرکوع؟ یعنی أنّ المصلّی عندما ینتهی من قراءة الحمد والسورة یکبّر، وهذا التکبیر یعود إلی سورة الحمد وما فیها من صفات اللّه وعظمته، فیقول المصلّی اللّه أکبر من هذه الصفات ونحن لا نستطیع وصف الباری تعالی کما هو حقّه وعاجزون عن فهمه عظمه الباری تعالی.

ص:455

الاحتمال الثانی: أن یکون هذا التکبیر غیر متعلّق بالقراءة، بل هو من متعلقّات الورود إلی الرکوع والاستعداد له، ویری الإمام الخمینی رضوان اللّه تعالی علیه فی کتابه «آداب الصّلاة»(1) ، اختیار هذه النظریة، ویقول: الظاهر أنّ هذا التکبیر من متعلّقات الرکوع وإعلان المصلّی استعداده للورود إلی منزل الرکوع، فمنزل الرکوع أهم بکثیر من منزل القیام، فبذلک یجب قبل الورود إلی هذا المنزل، التکبیر، فالتکبیر هنا هو أدب الورود إلی هذا المنزل وأنّ الإنسان یقرّ من جهة بعظمة الباری تعالی وکبریائه ویلتفت إلی مقام الربوبیّة، والمالکیّة، والخالقیّة للّه تعالی، ومن جهة أخری یری ضعفه وذلّته ومهانته ومع إلتفاته إلی هذه الحالة یقول: «اللّه أکبر» أی أنّ اللّه تعالی منزّه عن کلّ وصف، ویعترف بأنّ اللّه تعالی غیر قابل للتوصیف، ثمّ یدخل فی حال الرکوع.

ویؤید قول الإمام الخمینی رحمه الله ما ورد فی الروایة التی ذکرها الشیخ الکلینی فی کتابه «الکافی» فی باب الرکوع: «إِذا أَرَدْتَ أَنْ تَرْکَعَ فَقُلْ وَأَنتَ مُنْتَصِبٌ اللّهُ أَکبرُ»(2)، ویتبیّن من ذلک أنّ هذا الذکر وهذا التکبیر یتعلّق بالورود إلی الرکوع.

ص:456


1- (1) . آداب الصّلاة، ص 348.
2- (2) . الکافی، المطبعة الإسلامیّة، ج 3، ص 319.

147- آثار الرکوع، التزین بنور البهاء، الاستظلال تحت مظلّة کبریاء اللّه ارتداء لباس الخاصّیین

بالنسبة للرکوع فقد وردت روایة رائعة جدّاً فی کتاب «مصباح الشریعة»(1) عن الإمام الصادق علیه السلام، وتشیر هذه الروایة إلی آثار وآداب وأسرار الرکوع، یقول الإمام علیه السلام: «لا یَرکَعُ عَبْدٌ للّهِ رُکُوعاً عَلَی الحَقِیقَةِ إِلّا زَیَّنَهُ اللّهُ تَعالی بِنُورِ بَهائِهِ وَأظلَّهُ فِی ظِلالِ کِبریَائِهِ وَکَسَاهُ کِسوَةَ أَصفِیائِهِ»، فهنا یقرر الإمام علیه السلام أنّ اللّه تعالی یمنح هذا الراکع ثلاثة أنوار ویزیّنه بثلاث خصوصیّات، أحدها أنّه یزیّنه بنور بهائه، وهذه هی أحد آمال المؤمنین ودعائهم الباری تبارک وتعالی فی الأسحار وبخاصّة أسحار شهر رمضان: «اللّهُمَّ إِنّی أَسأَلُکَ مِنْ بَهائِکَ بِأَبهَاه وَکُلُّ بَهائِکَ بَهیّ»، فهذا البهاء هو النور الساطع من الذات الإلهیّة المقدّسة، فلو أنّ المصلّی أتی بالرکوع الحقیقی فإنّ اللّه تبارک وتعالی یزیّنه بنور جماله وبهائه، وثمّة نقاط وحقائق کثیرة جدّاً فی معنی نور البهاء، وعلی سبیل الإجمال نقول: إنّ هذا النور

ص:457


1- (1) . مصباح الشریعة، ص 61.

الصادر من الذات الإلهیّة المقدّسة ینور وجود الإنسان ویمنحه القیمة والاعتبار، ومن هذه الجهة فإنّ أحد المقامات العالیة جدّاً التی یطلبها العرفاء والأکابر من اللّه تعالی هو مقام نور البهاء.

والشخص الذی یصل إلی هذا المقام فقد وصل إلی مقام الأسماء علی حدّ تعبیرهم، ومقام الأسماء هو ما ورد فی الآیة الشریفة: «وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ کُلَّها...»1 ، وهذا یعنی أنّ الشخص المزیّن بالنور الإلهی یحصل علی مثل هذا المقام، والنور الإلهی لیس کمثل الأنوار الظاهریّة التی یصل شعاعها إلی ظاهر الإنسان فقط، کلّا، النور الإلهی من شأنه اخراج الإنسان من ظلمات الجهل والذلّ والحقارة ویوفّقه للوصول إلی فهم ودرک مقام الأسماء الإلهیّة، یقول علماء الکلام: إنّ جمیع الصفات الإلهیّة الثبوتیّة لها عنوان الجمال، ومن بین هذه الصفات الثبوتیّة والتی تشترک جمیعها بعنوان الجمال، فإنّ بعضها یختصّ بعنوان البهاء، فمرتبة البهاء هی مرتبة أعظم وأعمق من مرتبة الجمال الإلهی.

وعلی هذا الأساس فأوّل ثمرة للرکوع الحقیقی هی أنّ اللّه تعالی یزیّن هذا الراکع بنور البهاء.

الثمرة الثانیة، یقول: «وَأظلَّهُ فِی ظِلالِ کِبریَائِهِ»، أی جعله تحت مظلّة الکبریاء الإلهی، یقول أهل المعرفة، إنّ هذا الظلّ للکبریاء الإلهی هو ظلّ الأسماء الإلهیّة القهریّة، وإذا وصل الإنسان إلی هذه المرتبة واستقرّ فی هذا المقام فهذا یعنی أنّه نسی أنانیّته ونفسه وهو مقام الفناء، أی فناء عقله عن ذاته، وعندما یستقرّ الإنسان فی ظلّ الکبریاء الإلهی فإنّه سوف لا یری أی کبیر لموجود غیر اللّه تعالی حتّی لنفسه، ویری کلّ عظمة وکبریاء للّه تعالی، وکلّ مدح وثناء وعظمة، وکلّ جلال وجبروت، وکلّ شیء إنّما هو من متعلّقات الباری تبارک وتعالی.

ص:458

148- الرکوع أدب، والسجود قرب إلی اللّه تعالی

یقول الإمام الصادق علیه السلام: «فِی الرُّکُوعِ أَدبٌ وَفِی السُّجودِ قُربٌ»

مع ما تقدّم من آثار وثمارات کبیرة ومهمّة للرکوع، فهل من الانصاف أن یستعجل بعض الأشخاص فی أدائه، بحیث إنّهم قبل الاستقرار فی حال الرکوع ینهضون منه؟ أی الرکوع یأتی به هذا المصلّی بهذا العجلة؟! بدیهی أنّ هؤلاء الأشخاص لا یشعرون بلذّة من رکوعهم، ویتبیّن أنّ هؤلاء الأشخاص یشعرون بالتکلّف والثقل من صلاتهم ورکوعهم فی حین أنّهم لو علموا ما فی الرکوع من أسرار وبرکات فسوف لا یملّون من الرکوع.

ویحکی عن الربیع بن خثیم وهو أحد الزهاد الثمانیة الکبار، أنّه کان یبقی مستیقظاً من أوّل اللیل إلی طلوع الفجر ویقضی هذه المدّة کلّها فی حال الرکوع، لأنّه یجد لذّة خاصّة فی رکوعه، فلماذا نقصّر فی رکوعنا، لماذا نشعر بالتعب والملل من رکوع قصیر بمقدار دقیقة واحدة لا بل عشر أو عشرین ثانیة، وماذا شاهد أولئک الأولیاء بحیث إنّ رکوعهم یستغرق لیلة کاملة إلی طلوع الفجر ولا

ص:459

یشعرون بالتعب؟ وعندما یصبح الصباح یرفعون رؤوسهم ویقولون بأسف شدید:

«آه سَبَقَ المُخلِصُونَ وَقُطِعَ بِنا»(1)، أی أننا متخلّفون عن الرکب ولم نحصل علی شیء، إذن یجب علینا أن نهتمّ برکوعنا، یقول الإمام الصادق علیه السلام: الإنسان الذی یأتی بالرکوع بشکل حقیقی فإنّ اللّه تعالی فی المرتبة الاُولی یزیّنه بنور بهائه وجماله، فثمّة نورانیّة خاصّة تستغرق جمیع وجوده ویهیمن علیه جمال عجیب، لیس الجمال الظاهری بل جمال الوجود الزاخر بالعلم والحیاة والفهم والإدراک وکلّ شیء، وفی المرتبة الثانیة یجعله اللّه تعالی فی ظلّه عزّته وکبریائه.

الأثر الثالث: «وَکَسَاهُ کِسوَةَ أَصفِیائِهِ»، یعنی أنّ اللّه تعالی یجعله واحداً من أصفیائه وأولیائه، وأصفیاء اللّه هم الأشخاص الذین دخلوا دائرة عنایة الباری تعالی ووضعوا یدیهم بید اللّه، فکانت یدهم ید اللّه وعینهم عین اللّه واُذنهم اذن اللّه وجمیع وجودهم هو وجود الإلهی، وبذلک صار وجودهم رشحة من رشحات الباری تبارک وتعالی.

ویتابع الإمام الصادق علیه السلام قوله: «وَالرُّکُوعُ أَوَّلٌ والسُّجُودٌ ثَانٍ فَمَنْ أَتَی بِمَعْنَی الأَوَّلِ صَلَحَ للثَّانِی وَفِی الرُّکُوعِ أَدَبٌ وَفِی السُّجُودِ قُربِ، وَمَنْ لایُحْسِنُ الأَدَبَ لا یَصْلُحُ لِلقُرْبِ»، فالشخص الذی لا یراعی آداب الرکوع فسوف یفقد الصلاحیة للقرب من اللّه تعالی، فإذا أراد الإنسان التقرب إلی عالم جلیل القدر فیجب علیه مراعاة الأدب فی الوهلة الاُولی، والشخص الذی لا یراعی الأدب فی محضر هذا العالم بشکل جمیل لا یملک اللیاقة للحضور بین یدیه، وهکذا الحال فی الصّلاة، فیجب فی المرتبة الاُولی رعایة أدب العبادة والعبودیّة والخضوع والخشوع، فالرکوع فی مقابل الحقّ تبارک وتعالی یعنی الخشوع والخضوع، وبعد مرحلة القیام یصل الإنسان إلی هذا المنزل، وهو مرتبة الرکوع ویجب علیه أن یخضع

ص:460


1- (1) . مصباح الشریعة، ص 62.

للباری تعالی لیحظی باللیاقة والقابلیة علی التقرب من الذات المقدّسة، نسأل اللّه تبارک وتعالی أن یلهمنا أسرار الصّلاة ویعمق حقیقة الصّلاة فی قلوبنا وأعماق وجودنا إن شاء اللّه.

ص:461

149- الرکوع، إظهار العجز والخضوع فی مقابل اللّه

یقول الإمام الصادق علیه السلام فی سیاق هذه الروایة المذکورة: «فَارْکَعْ رُکُوعَ خاضِعٍ للّه عَزَّ وَجَلَّ بِقَلبِهِ»، ویقول الشهید الثانی فی کتابه «التبیهات العلیّة»(1): عندما تصل إلی الرکوع فاستشعر قلبک من جهة عظمة اللّه تعالی، ومن جهة أخری ضعفک وحقارة وذلّتک وتفاهة کلّ ما سوی اللّه وغیر اللّه، فلو أنّ قلب الإنسان لم یخضع فی الرکوع فإنّ هذا الرکوع لیس برکوع حقیقی وصحیح.

ویتابع الإمام الصادق علیه السلام قوله: «مُتَذَلِّلٍ وَجِلٍ تَحْتَ سُلطانِهِ خَافِضِ للّه بِجَوارِجِهِ خَفْضَ خَائِفٍ حَزِینٍ عَلَی مَا یَفُوتُهُ مِنْ فَوائِدِ الرَّاکِعِینَ»(2)، فهذا الشخص الراکع یستشعر الخوف والقلق فی رکوعه لئلا تفوته فوائد وبرکات الرکوع ویعیش حالة القلق لئلا یخسر أفضل لحظة فی حیاته لکسب المقامات المعنویة والتزیّن بنور بهاء اللّه، ویخشی أنّه یرکع ببدنه ویرفع رأسه من الرکوع ولکن لا یحظی بهذه المواهب الإلهیّة.

ص:462


1- (1) . التنبیهات العلیّة، ص 123.
2- (2) . مصباح الشریعة، ص 61.

والرکوع إنّما یکون مؤثراً فیما لو کان قلب المصلّی مؤمناً ومصدقاً بعظمة الباری تعالی وعزّته وعلوّه، ویعلم أنّ اللّه تعالی أعظم من کلّ عظیم، وأساساً فإنّ العظمة له خاصّة، ففی هذه الصورة سوف ینفتح لسانه تلقائیاً بذکر الحقّ تعالی ویقول: «سُبحَانَ رَبِّی العَظِیمِ بِحَمدِهِ»، وهذا التسبیح وهذا البیان لعظمة اللّه تعالی إنّما یتحقّق واقعاً فیما لو استشعر قلب الإنسان هذه العظمة الإلهیّة وأدرک أنّ هذه العظمة تستوعب جمیع وجوده، فلو أنّ عظمة اللّه تعالی استوعبت جمیع وجود الإنسان فسوف یستشعر الخوف والهیبة ویخشی أن لا یحظی بشیء من هذه المائدة الإلهیّة ومن بساط السلطة والکبریاء الإلهی أو یطرد من فناء هذا البلاط والدیوان.

وطبعاً فالمصلّی یعیش إلی جانب هذا الخوف، الرجاء والأمل والاطمئنان بفضل اللّه ورحمته وعنایته، ویقول: إننی أرکع فی صلاتی بتوفیق اللّه تعالی ولا یمکن أن یدعونی اللّه الرحیم إلیه ثمّ لا یستجیب دعائی ولا یسمع مناجاتی، ولا یمکن أن یحرمنی اللّه تعالی من وعده وثوابه، وکذا یستشعر المصلّی بالأمل والرجاء بأنّ اللّه تعالی سیزیّنه بنور بهائه، وبعد أن یحصل المصلّی علی مثل هذه الحالة فی الرکوع ویذکر تسبیحة الرکوع، یرفع رأسه من الرکوع بهذا الأمل ویقول باطمئنان تام: «سَمِعَ اللّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ»، والشخص الذی یستطیع قول هذه الجملة باطمئنان کامل هو من کان رکوعه رکوعاً صحیحاً واقعاً، وبذلک یجیبه اللّه تعالی فیقول: «سَمِعَ اللّه، أَی أَجَابَ اللّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ وَشَکَرَهُ».

ص:463

150- کیفیّة الرکوع حالة الذلة والخضوع، عدم التسرع والعجلة الوقار والسکینة فی القیام

تقدّم الکلام لحدّ الآن أنّ الإنسان المصلّی إذا التفت فی رکوعه إلی المقامات والبرکات التی سیحصل علیها من هذا الرکوع، فإنّه لا یسارع أبداً فی إنهاء رکوعه، والاستعجال فی رفع رأسه من الرکوع.

یقول المرحوم السیّد بن طاووس فی کتابه «فلاح السائل» فی ذیل باب أدب الرکوع والسجود: «یَنبَغِی أَن یَرکَعَ بِذُلٍ وَاستِکَانَةٍ وَخُضُوعٍ»، ولکن نوع البشر لا یلتفتون إلی هذه الحقیقة، وهی لماذا یرکعون؟ ولماذا یظهرون الخضوع والخشوع الکبیر فی حال الرکوع، الإنسان الذی یری ویشاهد عظمة الباری تعالی وقدرته المطلقة من جهة، ومن جهة أخری یشاهد ضعفه وذلّته، فإنّه بلا شک سیطأطیء برأسه تعظیماً للذات المقدّسة ویجد نفسه یقول تلقائیاً فی حال رکوعه:

ص:464

لَکَ سَمْعِی وَبَصرِی وَشَعرِی وَ عَصَبِی وَمُخِّی وَعَظِامِی»، فجمیع وجودی وقوای خشعت لک ولجلالک وجبروتک، وهذه هی حالة الاستکانة والذلة، والشخص الذی یعلم أنّه یقف فی مقابل الخالق العظیم والمالک الحقیقی لکلّ شیء فی عالم الوجود فإنّه سیجد هذه الحالة من الخضوع والخشوع أمامه.

ولو لم یستشعر بهذه الحالة فی الرکوع، فعندما یقول: «سُبحَانَ رَبِّی العَظِیمِ وَبِحَمْدِهِ»، فإنّه لا یستطیع أن یعتقد بأنّه هو المتکلّم بهذا الکلام، لأنّه لو لم یکن قلبه خاضعاً وخاشعاً، فلو قال ألف مرّة هذا الذکر وهذا التسبیح فی رکوعه فلا ینفعه بشیء.

وأحد الآداب الأخری فی الرکوع ما ذکره المرحوم السیّد بن طاووس فی هذا المجال: «أَنْ لایَستَعْجِلَ بِرَفْعِ رَأسِهِ قَبْلَ استِیفاءِ أقْسامِ ذُلِّ العُبُودِیَّةِ لِمَولاهُ»، وأین رکوعنا وحالتنا فی الرکوع من هذا الکلام؟ نحن لا نستشعر فی رکوعنا أیّة حالة من الذلّة، الحقارة، الضعف، العجز، الجهل، والمسکنة والعدمیّة، ولذلک نسارع فی رفع رأسنا من الرکوع.

ومن آداب الرکوع أن لا یستعجل الإنسان فی رکوعه ولذلک یقول الإمام الصادق علیه السلام: «کَانَ عَلیّاً علیه السلام یَرْکَعُ فَیسِیلُ عَرَقُهُ حَتَّی یَطأَ فِی عَرَقِهِ مِنْ طُولِ قِیامِهِ»، وهذا الکلام لیس کلاماً اسطوریاً، بل هو حقیقة نجدها فی عبادة الأولیاء والأئمّة والأنبیاء، وللأسف نحن محرومون منها.

ومن الآداب الأخری للرکوع: «إِذا رِفَعَ رَأسَهُ فَلْیَکُنْ رَفْعَ رَأسِهِ لِوقَارٍ وَسَکِینةٍ فَإِنَّ مَولاهُ یَراهُ»، لماذا لا ینبغی العجلة فی رفع الرأس من الرکوع؟ لأنّ اللّه تعالی یراه، ثمّ یقف لیقول: «سَمِعَ اللّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ»، وعلی هذا فإنّ أحد النقاط المهمّة التی یجب علی المصلّین الأعزاء الالتفات إلیها والتأمل فیها، هی الحالة التی هم علیها أثناء الرکوع، وما هی حالتهم عندما یرفعون رؤوسهم من الرکوع؟ فلو کانوا

ص:465

یعیشون هذه الحالة المذکورة فی الروایات ووردت علی لسان الأکابر من علمائنا فحین ذاک یمکنهم تذوق لذّة الصّلاة وسیذیقهم الباری تعالی حلاوة العبادة والصّلاة فی أعماق وجودهم، فهذا الانحناء للرکوع ثمّ القیام ورفع الرأس من شأنه أن یمنح الروح الذروة فی التحلیق والعروج فی المراتب المعنویّة والسمو فی عالم الملکوت بحیث لا یرغب المصلّی أن ینقطع عن هذا الحال لحظة واحدة.

جعلنا اللّه تعالی من أهل الرکوع الحقیقی.

ص:466

151- آثار طول الرکوع وذکره

إنّ الحالات الموجودة فی الصّلاة من (القیام، الرکوع، السجود، الجلوس)، هی تکالیف موجودة فی أصل الصّلاة وقد أمر اللّه تبارک وتعالی بها، فقد ورد فی روایة معراج النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله: «أَمَرَنِی جِبرئِیلُ أَنْ قَرأَ القُرآنَ قَائِماً، وَأَنْ أَحْمَدَهُ رَاکِعاً وَأَنْ اسَبِّحَهُ سَاجِدَاً»(1).

ونری من المناسب الإشارة إلی هذه المسألة، وهی أنّ علماء العرفان قالوا إنّ اللّه تبارک وتعالی خلق الإنسان کوناً ووجوداً جامعاً، یعنی أنّ جمیع الحالات الموجودة فی سائر الکائنات التی تعبد اللّه تبارک وتعالی أوجدها فی الإنسان.

فثمّة طائفة من الملائکة یعبدون اللّه تبارک وتعالی فی حال القیام دائماً، وطائفة أخری یعبدون اللّه فی حال الرکوع، وطائفة ثالثة فی حال السجود، ولکن اللّه تعالی وعلی أساس عنایته بالإنسان، قد جمع له هذه الحالات الثلاث فی صلاته، القیام، الرکوع والسجود، لیستطیع الإنسان فی عبادته أن یأتی بهذه

ص:467


1- (1) بحار الأنوار، طبعة بیروت، ج 90، ص 313، باب آداب الدعاء وذکر؛ مستدرک الوسائل، ج 4، ص 427.

الحالات الثلاث ویعبد اللّه قائماً ورکعاً وساجداً، وأحد النقاط التی یجب الالتفات إلیها طول الرکوع والسجود.

وینقل الشیخ الکلینی رحمه الله فی کتابه «الکافی» روایة یقول فیها الإمام علیه السلام:

«عَلَیْکُم بِطُولِ الرُّکُوعِ وَالسُّجُودِ فَإِنّ أَحَدَکُم إِذا أَطَالَ الرُّکُوعَ والسُّجُودَ هَتَفَ إِبلیسُ مِنْ خَلفِهِ وَقَالَ یَا وَیلَهُ أَطاعَ وَعَصیَتُ وَسَجَدَ وَأَبَیتُ»(1).

وجاء فی روایة أخری عن إسحاق بن عمّار عن الإمام الصادق علیه السلام: «سَمِعْتُ أَبا عَبْدِللّهِ علیه السلام یَعِظُ أَهلَهُ وَنِسَاءَهُ وَهُوَ یَقُولُ لَهُنَّ: لاتَقُلنَ فِی رُکُوعِکُنَّ وَسُجُودِکُنَّ أَقلَّ مِنْ ثَلاثَ تَسبِیحات، فَإِنَّکُنَّ إِنْ فَعَلتُنِّ لَمْ یَکُنْ أَحسَنَ عَمَلاً مِنْکُنَّ»(2)، وهکذا ینبغی علینا أن نتقید بمقدار معیّن فی صلاتنا، فلماذا نختصر الرکوع والسجود فی الصّلاة؟ ونری بعضهم یکتفی بمقدار أقل من الذکر ویرفع رأسه فی حین أنّ طول الرکوع من شأنه أن یوصل الإنسان إلی مقامات معنویّة عالیة ویحلق به فی مراتب القرب الإلهی.

وأحد الأذکار المستحبة فی الرکوع والسجود، یقول الإمام الباقر علیه السلام: «مَنْ قَالَ فَی رُکُوعِهِ وَسُجُودِهَ وَقِیامِهِ صلّی اللّهُ علی مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدًٍ کَتَبَ اللّهُ لَهُ ذَلِکَ بِمِثلِ الرُّکُوعِ وَالسُّجُودِ وَالقِیَامِ»(3)، أی أنّ الثواب والآثار المترتبة علی الرکوع والسجود والقیام ستکتب له عندما یقول اللّهم صلّ علی محمّد وآل محمّد.

یجب علینا الاهتمام علینا بالرکوع، وعندما یوصی القرآن الکریم بالصّلاة، فتارة یذکر الصّلاة بهذه الکلمة «أَقِیمُوا الصَّلاةَ»، وتارة أخری یذکر الصّلاة بکلمة

ص:468


1- (1) الکافی، مطبعة دار الکتب الإسلامیّة، ج 2، ص 77 باب الورع.
2- (2) . بحار الأنوار، طبعة بیروت، ج 82، ص 120.
3- (3) . الکافی، المطبعة الإسلامیّة، ج 3، ص 324.

الرکوع والسجود: «یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا ارْکَعُوا وَ اسْجُدُوا...»1 ، أو «وَ ارْکَعُوا مَعَ الرّاکِعِینَ»2 ، وهذا یبیّن لنا أهمیّة الرکوع والسجود فی الصّلاة والعبادة.

نرجو من اللّه تعالی أن یوفّقنا جمیعاً للاستفادة من أسرار الرکوع وحقیقته.

ص:469

152- معنی الرکوع فی کلام أمیرالمؤمنین علیه السلام

بالنسبة للرکوع، فقد ورد عن أمیرالمؤمنین علیه السلام أنّ رجلاً سأله: «مَا مَعنَی الرُّکُوعِ»؟، ویتبیّن من جواب الإمام علیه السلام أنّ مقصود هذا الشخص لیس المعنی اللغوی للرکوع بل هو فی صدد فهم حقیقة وأسرار الرکوع، فأجابه الإمام علیه السلام فقال: «مَعنَاهُ آمَنْتُ بِکَ وَلَوْ ضَرَبتَ عُنُقِی»، یعنی أنّ الرکوع یبرز إیمان هذا الشخص باللّه تبارک وتعالی، وبهذا الشکل والخصوصیّة یرید الإنسان الإعلان عن هذه الحقیقة وهی: إلهی! إذا أراد أعداؤک قتلی وضرب عنقی لأتخلّی عنک وأکفر بک وأترک الإیمان بک، فإننی سوف لا أفعل ذلک حتّی لو ضربوا عنقی.

ویتابع الإمام أمیرالمؤمنین علیه السلام ویقول: «وَمَعنَی قَولِهِ سُبحَانَ رَبِّی العَظِیمِ بِحَمْدِهِ، فَسُبحَان اللّهِ أَنَفَةٌ للّه عَزَّ وَجَلَّ وَرَبِّی وَخَالِقِی»، أی أنّ معنی الذکر فی الرکوع هو أنّ اللّه تعالی منزّه من کلّ عیب وعار من کّل نقصان، وأساساً لا یمکن وجود أی عیب ونقص فی حریم ربوبیّته واُلوهیته.

ص:470

وَسُلطَانِهِ»، فعندما نذکر اللّه بالعظمة فهذا یعنی أنّ هذا الموجود فی ذاته عظیم، وکذلک فی سلطانه وحکمه علی عالم الوجود، فهذا الموجود العظیم لا مجال لیوصف بالصغر ولا إمکان لأن یوصف بغیر العظمة فی جمیع أبعاده وجهاته.

«وَأَعظَمُ مِنْ أَنْ یُوصَف»، واللّه تعالی أکبر وأعظم من أن یستطیع عباده أمثالنا وسائر مخلوقات العالم وصفه وتصوّره، فلا موجود فی عالم الخلقة والطبیعة یملک القدرة علی توصیف الباری تعالی، وما یصدر منّا من ذکر صفات الجلال والجمال للباری تعالی هو إشارة فقط إلی زاویة من زوایات صفات اللّه الحقیقیّة، وإلّا فلا أحد یستطیع درک وفهم صفات الاُلوهیّة واقعاً.

والآن إذا أراد المصلّی أن یقول فی رکوعه «سُبحَانَ رَبِّی العظِیمِ وَبِحَمْدِهِ»، فکما قال أمیرالمؤمنین علیه السلام: بأنّ المصلّی عندما یقول هذه الکلمة «سُبحَانَ رَبِّی»

یجب أن یلتفت إلی قلبه ووجوده وأنّه راکع مقابل موجود عظیم لا مجال لأی عیب ونقص فیه، ولا حاجة له لرکوعنا وعبادتنا، بل نحن الذین نحتاج إلی عبادته، ونحن الذین نتقرّب إلیه خطوة بهذا الرکوع وبهذه العبادة ونزیح عن قلوبنا الحجب والموانع، وعندما نقول: «رَبِّی العظِیمِ»، نلتفت إلی أنّ هذا الربّ العظیم هو خالقنا وهو الذی یهتمّ بتربیتنا وتدبیر أمورنا.

وعندما نصل إلی کلمة عظیم نلتفت إلی عظمة الذات الإلهیّة وعظمة الملک والسلطان الإلهی، وأنّه أکبر وأعظم من أن یوصف، فإذا تحقّق مثل هذا الالتفات والعلم فی هذه الصورة یکون للذکر فی الرکوع روح وحال أخری ولذّة لا توصف.

ثمّ قال الإمام علیه السلام: «قَوْلُهُ سَمِعَ اللّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَهُوَ أَعْظَمُ الکَلِماتِ»، ولها وجهان وجه منه «مَعنَاهُ َسمِعَهُ»، أی أنّ هذا الذکر من أعظم الکلمات وله معنیان:

أحدهما: أنّ اللّه تعالی یسمع هذا التسبیح «الوَجْهُ الثّانی یَدعُو لِمَنْ حَمِدَ اللّهَ فَیقُولُ

ص:471

اسمَعْ لِمَنْ حَمِدَکَ»(1).

نسأل اللّه تبارک وتعالی أن یوفّقنا جمیعاً لفهم حقیقة الرکوع ودرک حقیقة الصّلاة وأسرارها فی قلوبنا.

ص:472


1- (1) مستدرک الوسائل، ج 4، ص 442، باب النوارد.

153- حدیث المعراج والتوجّه لعظمة الحقّ فی الرکوع

ینقل المرحوم صاحب الوسائل روایة مطولة معروفة بحدیث المعراج عن الإمام الصادق علیه السلام، ویبتدیء فی هذه الروایة بمسألة الأذان والذی أبلغه جبرئیل إلی النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله بأمر اللّه تبارک وتعالی، وأخبره بکیفیّة الأذان وکیفیّة الإقامة وکیفیّة الصّلاة إلی أن یصل إلی مسألة الرکوع.

وعندما یصل إلی مسألة الرکوع یأتی الخطاب من قِبل ربّ العالمین إلی النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله ویقول: «فَاُنْطُر إِلی عَرشِی».

«قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلی الله علیه و آله فَنَظَرتُ إِلی عَظَمةٍ ذَهَبتْ لَها نَفسِی وَغُشِی عَلَیَّ»، فلا أحد یستطیع النظر إلی عظمة اللّه تعالی، فحتّی النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله وهو أشرف المخلوقات وأکمل أفراد البشر والعقل الأوّل لم یتمکّن أن یری عظمة الباری تعالی، عندها امر بالنظر إلی العرش ونظر النبیّ إلی عظمة اللّه التی تجلّت فی عرشه اغمی علیه.

ص:473

تَجَلَّیْ الغَشْیُ عَنِّی حَتَّی قُلْتُها سِبعَاً أُلهِمَ ذَلِکَ فَرَجَعتُ إِلی نَفْسِی کَمَا کُنْتُ»(1).

وعلی هذا الأساس فما یجب الالتفات إلیه فی حال الرکوع، عظمة الحقّ تعالی وصغر وتفاهة ما دونه، وبذلک تعیش قلوبنا فی مقابل الباری تعالی فی حالة الخضوع والخشوع، ونستطیع بهذه الطریقة إدراک حقیقة الرکوع.

ص:474


1- (1) وسائل الشیعة، ج 5، ص 466.

154- حُسن الرکوع الصحیح یزیل وحشة القبر

وأحد الآثار والثمرات للرکوع الصحیح والحسن ما ورد فی کلام الإمام الباقر علیه السلام أنّه قال: «مَنْ أَتَمَّ رُکُوعَهُ لَمْ تَدْخُلْهُ وَحْشَةَ فِی القَبْرِ»(1)، وهذا یعنی أنّ المصلّی لو أتی بالرکوع مع رعایة آدابه ومستحبّاته وطریقة انحنائه ورفع رأسه من الرکوع کما ذکر فی الکتب الفقهیّة، فهذا من شأنه منح الإنسان الاستقرار والطمأنینة والسکینة فی حال الرکوع وعندما یرفع رأسه منه، فکأنّه یرفع رأسه فی مقابل نظر مولاه.

وأحد الآثار المهمّة لمثل هذا الرکوع هو أنّ المصلّی لا یبتلی بعذاب القبر، فالإنسان الذی یعیش فی الدنیا فی مقابل عظمة الباری تعالی ویعیش حالة الهیبة والدهشة من عظمة اللّه فإنّه یکون مصوناً من الوحشة فی عالم القبر.

وأرجو الالتفات إلی حال الرکوع فی هذه الروایة التی وردت عن النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله أنّه عندما قال: «فَنَظَرتُ عَرشِ رَبِّی... إِلی عَظَمةٍ ذَهَبتْ لَها نَفسِی

ص:475


1- (1) . الکافی، المطبعة الإسلامیّة، ج 3، ص 321.

وَغُشِی عَلَیَّ فَأُلهِمتُ أَنْ قُلتُ سُبحَانَ رَبِّی العَظِیمِ وَبِحَمْدِهِ... قُلْتُها سِبعَاً ألهِم ذَلِکَ فَرَجَعتُ إِلی نَفْسِی کَمَا کُنْتُ»(1).

هنا یقول الإمام الخمینی رحمه الله فی عبارة بلیغة ودقیقة جدّاً: انظر أیّها العزیز إلی مقام وعظمة سلوک سیّد البشر، وهادی السبل صلی الله علیه و آله وهو فی حال الرکوع بحیث نظر إلی مادون اللّه تعالی فرأی نور العرش، وبما أنّ نور العرش فی نظر الأولیاء هو جلوة من تجلیات الذات المقدّسة بدون واسطة وانتشار بدون مرآة، هنا یجب أن یتخلی الإنسان عن نفسه ویترک التعینات النفسانیّة فیصاب حالة الغشوة والإغماء، وفی هذه الحالة من الغشیة یتخلّی الإنسان عن نفسه وذاته ویغمی علیه فیأخذ اللّه تعالی بیده، وعندما تکرر هذا الذکر من النبیّ صلی الله علیه و آله سبعة مرّات وهو یشمل التسبیح والتعظیم والتحمید عادت إلیه نفسه وأفاق من حالة الفناء فی اللّه، وقد ثبت فی محلّه وتؤیده الروایات الشریفة وکذلک کلمات العرفاء أنّ هذه المرّات السبعة بعدد الحجب السبعة.

یقول الإمام الراحل رضوان اللّه علیه: والآن إذا کان النبیّ العظیم الشأن صلی الله علیه و آله واجه مثل هذه الحالة، فنحن الذین لا نجد طریقاً إلی خلوة الاُنس ولا مکاناً فی مقام القرب فینبغی الاعتراف بذلّتنا وقصورنا وعجزنا لیکون هذا الاعتراف والاقرار رأسمالنا للوصول إلی المقصد وحجّة فی الوصول إلی المطلوب، فنحن لا نترک التمسّک والتثبت بمقصودنا إلی أن ترتوی قلوبنا من شرابه، وإذا لم نکن رجل هذا المیدان فینبغی لنا أن نطلب الهدایة من رجال هذا الطریق وهذا المیدان ونستعین بروحانیة الکمل من الأولیاء فلعل رائحة من معارفهم الإلهیّة تصل إلی مشامنا ویهب نسیم من لطائفهم علی قلوبنا(2).

ص:476


1- (1) وسائل الشیعة، ج 5، ص 466.
2- (2) انظر: آداب الصّلاة، ص 352.

وهکذا نری أنّ هذا الرجل الإلهی کیف یتحرّک بمنتهی التواضع والخضوع لتحصیل المعارف والحقائق الإلهیّة وغرسها فی أرض قلبه وأعماق ذاته ولا یکتفی بذلک حتّی یوصی الآخرین بهذه التوصیة ویقول: إنّ عادة الحقّ تعالی الإحسان إلی الخلق وشیمته التفضل والإنعام، فلا یمکن أن یطلب منه عبده بجمیع وجوده معارف ولطائف وأسرار ولکنّه لا یحصل علی شیء ولا یستجیب له الباری تعالی.

ص:477

155- سرّ الانحناء واستقامة الرقبة فی الرکوع

إنّ أحد المندوبات فی الرکوع، أنّ المصلّی یجب علیه الانحناء فی رکوعه ومدّ عنقه بحیث یتساوی ظهره مع رأسه بشکل مستقیم، فلا ینبغی أن یکون انحناءه ناقصاً ولا أکثر من اللازم، فکلا هذین الأمرین غیر صحیح، بل یجب أن یکون فی انحنائه مستوی الظهر.

جاء فی بعض الروایات: «کَانَ رَسُولُ اللّهِ صلی الله علیه و آله إِذا رَکَعَ لَو صُبَّ عَلَی ظَهرِهِ مَاءً لاسْتَقَرَّ»(1).

وجاء فی نفس هذه الروایة التی وردت فی کتاب «مصباح الشریعة» أنّ الإمام الصادق علیه السلام قال: «استَوْفِ رُکُوعَکَ باِستِواءِ ظَهْرِکَ»(2)، یعنی أنّ کمال الرکوع بأن تجعل ظهرک مستویاً، ثمّ یمدّ الراکع عنقه بموازاة ظهره، ویفسّر الإمام أمیرالمؤمنین علیه السلام هذه الحالة بأنّک عندما ترکع فأنّک تخاطب اللّه تعالی بالقول:

ص:478


1- (1) بحار الأنوار، مطبعة بیروت، ج 73، ص 345.
2- (2) . مصباح الشریعة، ص 62.

«آمَنْتُ بِکَ وَلَوْ ضَرَبتَ عُنُقِی»(1).

وذکر الشیخ الکلینی رحمه الله فی کتابه «الکافی» تحت عنوان باب الرکوع وذکر التسبیح الوارد فیه، روایة عن الإمام الباقر علیه السلام قال: «إِذا أَرَدتَ أَنْ تَرکَعَ فَقُلْ وَأَنْتَ مُنتَصِبٌ اللّهُ أَکبَرُ»، وهذه الروایة تعتبر دلیلاً جلیاً علی أنّ کلمة اللّه أکبر قبل الرکوع تعدّ من مقدّمات الرکوع لا من متممات القیام والقراءة.

«ثُمَّ ارْکَعْ وَقُلْ...»، إلی أن یقول الإمام فی هذه الروایة: «وَتَصُفُ فِی رُکُوعِکَ بَیْنَ قَدَمَیکَ، وَتَجعَلُ بَینَهُما قَدْرَ شِبرٍ، وَتُمَکِّنَ رَاحَتَیکَ مِنْ رُکْبَتَیکَ، وَتَضَعُ یَدَکَ الیُمنی عَلَی رُکْبَتِکَ الیُمنَی قَبْلَ الیُسری وَبَلِّغْ بِأَطرَافِ أَصَابِعِکَ عَیْنَ الرُّکبَةِ، وَفَرِّجْ أَصَابِعَکَ إِذا وَضَعتَها عَلَی رُکْبَتِکَ، وَأَقِمْ صُلبَکَ وَمُدَّ عُنُقَکَ وَلیَکُنْ نَظَرُکَ بَیْنَ قَدَمَیکَ، ثُمَّ قُلْ سَمِعَ اللّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ وَأَنْتَ مُنتَصِبٌ قَائِمٌ»(2)، أی بعد أن تذکر تسبیح الرکوع ترفع رأسک وتقول: «سَمِعَ اللّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ»، هذه آداب الرکوع، والشخص الذی یرید أن یأتی بالرکوع کاملاً وصحیحاً یجب علیه رعایة هذه الآداب لیکون المصداق لتلک الروایة الواردة عن الإمام الباقر علیه السلام قال: «مَنْ أَتَمَّ رِکُوعَهُ لَمْ تَدْخُلْهُ وَحْشَةٌ فِی القَبرِ»(3)، فیجب علینا نحن المصلّین، أن نتأملّ فی صلاتنا ونری هل أنّ رکوعنا مقترن بآدابه الصحیحة أم لا؟ هل أنّ هذا الرکوع یحتوی علی جمیع الخصوصیات المذکورة فی الروایات الشریفة، أو أننا لا نلتفت مع الأسف إلی الکثیر من آدابه من قبیل کیفیّة الإنحناء فی الرکوع وکیفیّة رفع الرأس منه وقد نغفل عن الاتیان بالذکر الصحیح وقد نستعجل بالرکوع.

ألا ینبغی لنا أن نتأسف علی انقضاء سنوات مدیدة من عمرنا ولحدّ الآن لم

ص:479


1- (1) مستدرک الوسائل، ج 4، ص 442، باب النوارد.
2- (2) . الکافی، المطبعة الإسلامیّة، ج 3، ص 319.
3- (3) . الکافی، المطبعة الإسلامیّة، ج 3، ص 321.

یأت بصلاة واحدة تتوفّر فیها الشرائط والآداب والمستحبات المطلوبة، ما أعظم هذا الخسران الکبیر الذی لا یقبل الجبران.

نسأل اللّه تعالی بلطفه وعنایته أن یوفّقنا فیما بقی من عمرنا للإتیان بالصّلاة مع آدابها وشروطها کما یریدها اللّه تعالی منّا.

ص:480

156- درک عظمة اللّه، یستجلب الخضوع

یقول الإمام الصادق علیه السلام فی مقطع آخر من الروایة المذکورة فی «مصباح الشریعة»: «وَانْحَطَّ عَنْ هِمَّتِکَ فِی القِیامِ بِخدْمَتِهِ إِلّا بِعَونِهِ»، یقول علیه السلام: لا ینبغی أن یتصوّر الشخص وهو فی الحال الرکوع أنّه یعبد اللّه تعالی بهمّته وإرادته وأنّه یتحرّک فی مسار السیر والسلوک إلی اللّه بحوله وقوّته، وعندما یرد فی منزل من منازل السلوک ویرید أن یتحدّث عن عظمة اللّه ویسبّحه ویقدّسه فینبغی أن یتخلّی عن نفسه وینزع جلد أنانیّته ولا یری ذاته، ولا ینبغی أن یفکّر بتدبیر معیّن لنفسه ویتصوّر أنّه رکع للّه بتدبیر منه «إِلّا بِعَونهِ»، فعلیه أن یؤمن بأنّ هذا الرکوع وهذه العبادة صدرت منه بتوفیق من اللّه تعالی وبعونه، وبذلک وصل إلی هذا المنزل، ولو أنّ الشخص تبادر إلی ذهنه هذا المعنی وأدرک هذه الحقیقة فأنّه قد وصل إلی حقیقة الرکوع.

یقول بعض الأکابر فیما یتّصل بأسرار الصّلاة: «حَقِیقَةُ الرُّکُوعِ أَنْ یَکُونَ قَلْبُ العَبْدِ عَلَی صِفَةِ التَّوَکُّلِ وَعَمَلُهُ عَمَلَ المُتَوکِّلِینَ وَلا یَری مُدَبِّراً وَلا فَاعِلاً بِالإستِقلالِ

ص:481

إِلّا بِاللّه».

ویتابع الإمام علیه السلام فی هذه الروایة ویقول: «وَفِرَّ بَالقَلْبِ مِنْ وَسَاوِسِ الشّیطَانِ وَخَدَائِعِهِ وَمَکَائِدِهِ»، وهذه النقطة عجیبة، یعنی أنّ الشیطان یستعمل جمیع خدعه ومکائده لإغواء المصلّی فی حال الرکوع، فلو أنّ الشیطان فی حال القیام استخدم بعض خدعه ووساوسه للمصلّی، ولکنّه فی حال الرکوع وأکثر من ذلک، وفی حال السجود، یستعمل جمیع خدعه وینصب جمیع مصائده وفخاخه لإغواء المصلّی، فیجب علی المصلّی أن یفرّ من هذه الوساوس والمکائد، فالشیطان أحیاناً یوسوس للإنسان فی حال الرکوع بأنّ اللّه تعالی لا یحتاج إلی تسبیحک ورکوعک فلماذا تصلّی للّه؟ وهکذا یخدع الإنسان بهذه الطریقة ویحرفه عن مساره فی السلوک إلی اللّه.

أو یقوم الشیطان بأعمال أخری ویتلاعب بذهن الإنسان ویوسوس له بأنّک لا تطل فی صلاتک کثیراً وسارع فی إتمامها لتصل إلی أعمالک الأخری، فإنّ اللّه لا یحتاج إلی صلاتک، هذه کلّها من وساوس الشیطان، حیث یوصینا الإمام الصادق علیه السلام بأن نفرّ من هذه الوساوس: «فَإِنّ اللّهَ تَعالی یَرْفَعُ عِبادَهُ بِقَدْرِ تَواضُعِهِم لَهُ»، وکلّما کان الإنسان فی مقابل الباری تعالی ذلیلاً ویری نفسه حقیراً وتافهاً ویعیش الذلّة والحقارة فی مقابل عظمة اللّه بجمیع وجوده، فإنّ اللّه تبارک وتعالی سیرفع مقامه ومکانته بمقدار تواضعه، «وَیَهدِهِهِم إِلی أُصُولِ التَّواضُعِ وَالخُشُوعِ بِقَدْرِ اطّلاعِ عَظَمَتِهِ عَلَی سَرائِرِهِم»، فکیف نحصل علی حال التواضع؟ وکیف نستشعر الخضوع والخشوع فی مقابل عظمة اللّه ونحقّق فی أنفسنا حالة الخضوع والتواضع؟

یقول علیه السلام: إنّ کلّ إنسان یحقّق حالة الخضوع فی نفسه بمقدار علمه بعظمة اللّه تعالی، فإنّ اللّه تعالی ینظر إلی قلوب عباده ویری مقدار ما یشعرون به من عظمة

ص:482

اللّه تعالی وما یعیشونه فی مقابل عظمة الذات المقدّسة، فالشخص الذی یفکّر بارتکاب الذنب فإنّه لا یستشعر عظمة اللّه فی نفسه، وکیف الأمر بذلک الشخص الذی، ونعوذ باللّه یرتکب الذنب، فالإنسان المذنب لا یستطیع القول بأننی أشعر بعظمة اللّه وأعتقد بها.

إذا أدرک الإنسان عظمة الباری تعالی فسوف لا یسمح لنفسه أبداً بأن یفکّر بارتکاب الذنب، وکلّ إنسان ترسخت عظمة اللّه تعالی فی قلبه فإنّه یکون متواضعاً أکثر، وکلّ إنسان یعیش حالات التواضع فإنّ اللّه تعالی یرفعه أکثر ویزیح الحجب من أمامه، نسأل اللّه تعالی أن یرزقنا التوفیق لإدراک عظمته فی قلوبنا إن شاء اللّه.

ص:483

ص:484

الفصل الثامن: أسرار السجود

اشارة

ص:485

ص:486

157- أسرار وآداب السجود

بعد الانتهاء من موضوع الرکوع، نشرع بالبحث فی موضوع السجود، فما هی أسرار السجود، وما هی الآداب التی ینبغی للمصلّی مراعاتها عند السجود لیکون سجوده سجوداً حقیقیاً، وما هی النقاط الدقیقة فی ذکر السجود، وما هو السرّ فی تکرر السجود فی الرکعة الواحدة خلافاً للرکوع، وما هی الدقائق التی یمکن استفادتها من المنابع الروائیة فی هذا المجال؟

وکمقدّمة لابدّ من القول إنّ السجود، بغض النظر عن الصّلاة، ورد الترغیب والندب إلیه کثیراً فی الروایات الشریفة، ونفس السجود، وعندما یتوضأ الشخص ویسجد للّه تعالی، هو من الأمور المندوبة جدّاً، وقد ورد التشویق إلیه بشدّة وأنّه عمل مستحب، وتطویل السجود، سواءً فی سجود الصّلاة أو فی السجود بعد الصّلاة أو السجود المستقل، من جملة الأمور التی ورد الاهتمام بها فی الروایات الشریفة، ولکن ما هی حقیقة السجود؟

یقول المرحوم الشهید الثانی رحمه الله فیما یخصّ السجود: «وَهُوَ أَعظَمُ مَرَاتِبُ

ص:487

الخُضُوعِ وَأَحْسَنُ دَرَجاتِ الخُشُوعِ»(1)، یعنی أنّ الإنسان الذی یسجد أمام الباری تبارک وتعالی، فإنّ هذه الحالة لا یوجد أعلی منها فی تحقّق حالة الخضوع للّه، فالسجود هو غایة مراتب الخضوع فی مقابل اللّه تبارک وتعالی، والخضوع موجود فی القیام أیضاً ولکن مقدار الخضوع الذی یشعر به الإنسان فی قیامه یختلف عن حالة الخضوع الذی یجدها الإنسان فی رکوعه.

وفی الرکوع أیضاً یجد الإنسان حالة الخضوع والخشوع، ولکن مرتبة الخضوع والخشوع فی الرکوع لا تصل أبداً إلی مرتبة الخضوع والخشوع فی السجود، فالمصلّی یهییء نفسه من خلال القیام والرکوع للاتیان بأعلی مراتب الخضوع والخشوع فی سجوده: «وَأَعْلَی مَراتِبِ الإِسْتِکانَة»، السجود نهایة مرتبة اظهار الذلّة والاستکانة والعبودیّة بین اللّه تعالی، ومن هذه الجهة نری أنّ اللّه تبارک وتعالی یأمر نبیّه الکریم صلی الله علیه و آله بالسجود، فنفس السجود وبالاستقلال عن الصّلاة مطلوب ومحبذ ومندوب، ولکن، وحسب ظاهر بعض الآیات الشریفة، السجود واجب بالنسبة للنبی الأکرم صلی الله علیه و آله، وینبغی علینا أن نعلم أنّ أفضل حالات الصّلاة هی حالة السجود، وأفضل وأعلی درجة من الخضوع والخشوع والذلة هی فی حال السجود، فنحن نتذکر فی سجودنا عظمة الباری تبارک وتعالی، فعندما یضع الإنسان رأسه علی التراب ویسجد للّه فقبل أن یتلفظ بذکر السجود یستشعر عظمة اللّه تعالی، وهو ذلک الموجود الذی نضع جبهتنا أمامه علی التراب لأنّ الموجود الجدیر للعبادة والسجود له هو اللّه تعالی، وبما أنّ السجود یعتبر نهایة درجة الحضور، فإنّ هذه المرتبة من الخضوع مختصّة للّه تبارک وتعالی ولا یصحّ السجود لغیر اللّه.

یقول الإمام الخمینی رضوان اللّه تعالی علیه فی کتابه «آداب الصّلاة»: سرّ

ص:488


1- (1) . التنبیهات العلیّة علی وظائف الصّلاة القلبیّة، ص 124.

السجود لدی أصحاب العرفان ترک النفس والتعلق بغیر اللّه(1).

وعندما یسجد الإنسان فلا یبقی معنی للالتفات لغیر اللّه تعالی، والویل لذلک الشخص الذی یسجد ولکنّه یفکّر فی نفسه أو یفکّر فی الدنیا وما سوی اللّه، فالإنسان عندما یسجد یجب علیه أن یترک نفسه وینسی ذاته ویوصد فکره وعینه عن غیر اللّه وینبغی أن یعلم أنّ السجود، علی حدّ تعبیر العرفاء، هو المعراج الیونسی، أی أنّ الإنسان یجد نفسه فی مجموعة ظلمات الدنیا، ومع ذکر السجود فإنّ المصلّی یطلب النجاة من هذه الظلمات والتقرّب إلی اللّه تبارک وتعالی.

نسأل اللّه تعالی أن یهب لنا جمیعاً السجود الحقیقی إن شاء اللّه.

ص:489


1- (1) آداب الصّلاة، 357.

158- أهمّیّة السجود

یقول الإمام الصادق علیه السلام: «وَجَدْتُ النُّورَ فِی البُکاءِ والسَّجْدَةِ»

یقول الإمام الصادق علیه السلام: «السُّجُودُ مُنتَهی العِبادَةِ مِنْ بَنِی آدَم»(1)، فلو أنّ الإنسان أراد أن یصل فی عبادته إلی الذروة والنهایة، فالمرتبة العالیة التی لا یمکن تصوّر مرتبة أعلی منها تکمن فی السجود.

ویتبیّن أنّ حال السجود من بین جمیع العبادات هو أفضل عبادة وأعلاها مرتبة، ویختلف السجود عن جمیع أجزاء الصّلاة وأقسامها الأخری وکذلک یختلف عن سائر العبادات الواردة فی الشریعة، یقول الإمام الصادق علیه السلام:

«السُّجُودُ مُنتَهی العِبادَةِ...»، ولا ینبغی للمصلّی أن یغفل عن هذه الحقیقة، وأساساً عندما یقف الإنسان للصّلاة بین یدی الباری تعالی فهو یعیش الأمل أن یصل إلی الرکوع وینال مرتبة أکثر من التواضع والخضوع فی عبادته، وفی الرکوع یأمل أن یصل إلی السجود بشوق بالغ، ومع رعایة آداب الرکوع یجد فی

ص:490


1- (1) . بحار الأنوار، مطبعة بیروت، ج 82، ص 164.

حال السجود حالة الخضوع أکثر لیؤدی حقّ العبودیّة للّه تعالی فی هذه المرتبة من العبادة والخضوع.

وسئل الإمام الصادق علیه السلام: «لِمَ اتَّخَذَ اللّهُ إبراهِیمَ خَلِیلاً»؟

فقال علیه السلام: «لِکِثْرَةِ سُجُودِهِ عَلَی الأَرضِ»(1).

وجاء فی روایة أخری عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال: «وَجَدْتُ النُّورَ فِی البُکاءِ والسَّجْدَةِ»، فلو أراد الإنسان تحصیل النور الإلهی فی وجوده ویکون وجوده وعاءً لتجلیات النور الإلهی، فیجب علیه أن یقوم بأمرین: أحدهما: البکاء من خشیة اللّه، الثانی: السجود للّه، وعلی هذا الأساس یجب أن نهتمّ کثیراً بأمر السجود

وجاء فی روایة عن سلمان الفارسی رحمه الله أنّه قال: «لَولا السُّجُودُ للّهِ وَمُجَالَسَةُ قَوْمٍ یَتَلفَّظُونَ طَیِّبِ الکَلامِ ُ کَمَا یُتَلَفَّظُ طَیِّبُ التَّمرِ لَتَمَنَّیتُ المَوْتَ»(2)، یعنی أنّ سبب الشعور باللذّة فی البقاء فی الدنیا عند سلمان الفارسی رحمه الله هو لذّة السجود للّه تعالی.

وللسجود فی الصّلاة أهمیّة کبیرة ولا ینبغی أن نغفل عنه، ولا ینبغی لشعبنا العزیز وشبابنا الأکارم أن یحرموا أنفسهم من هذه النعمة الإلهیّة والتوفیق الربّانی الکبیر، بحیث إنّهم یستعجلون فی رفع رأسهم من السجود، ولا ینبغی الشعور بالتعب من السجود، بل یجب أن نعلم أنّ أفضل حالات القرب من اللّه تعالی وأفضل أوقات الاستغراق فی رحمة اللّه تعالی ولطفه ورحمته هو فی حال السجود.

وینقل ابن طاووس روایة عن حالات الإمام زین العابدین علیه السلام: «أَنّهُ بَرزَ إِلی

ص:491


1- (1) بحار الأنوار، مطبعة بیروت، ج 12، ص 4.
2- (2) . بحار الأنوار، ج 6، ص 130.

الصَّحراءِ فَتَبِعَهُ مَولاً لَهُ فَوَجَدَهُ سَاجِداً عَلَی حِجَارَةٍ خَشِنَةٍ»، ونحن عادة نهتمّ بمکان السجود أن یکون ناعماً وصافیاً بحیث لا تصاب جبهتنا بأدنی خدش أو أذی، ولکن الإمام زین العابدین علیه السلام یضع جبهته علی حجارة خشنة ویکرر هذا الذکر ألف مرّة: «لا إِلَهَ إِلّا اللّهُ حَقّاً حَقّاً، لاإِلَهَ إِلّا اللّهُ تَعَبُّدَاً وَرِقاً، لاإِلَهَ إِلّا اللّهُ إِیمَاناً وَصُدقَاً ثُمَّ رفَعَ رَأسَهُ»(1).

هذه سیرة أئمّتنا الطاهرین علیهم السلام وهکذا المعروف عن الإمام زین العابدین والإمام موسی الکاظم علیهما السلام أنّهما کانا معروفَین بالسجود الطویل، ویجب علینا أیضاً الاهتمام بحال السجود فی صلاتنا وکذلک فی غیرالصّلاة فنسجد للّه فی منتصف اللیل وندعوه ونعیش فی حال المناجاة.

ص:492


1- (1) بحار الأنوار، ج 11، ص 166.

159- سرّ السجود علی التراب

أسلفنا أنّ السجود هو أعظم مرتبة من مراتب الخضوع والخشوع فی مقابل اللّه تبارک وتعالی، ویجب علی الإنسان فی حال السجود أن یتذکّر عظمة اللّه وینسی نفسه وکلّ ما سوی اللّه ویترکه جانباً، والسجود، فی کلام العرفاء، هو المعراج الیونسی، وکما هو معلوم أنّ النبیّ یونس علیه السلام عندما کان فی بطن الحوت وفی تلک الظلمات أخذ بالدعاء والذکر لینقذه اللّه تعالی من هذه الظلمة والسجن فأنقذه اللّه تعالی، ونحن أیضاً عندما نکون فی حال السجود نجد أنفسنا فی ظلمات الدنیا، ونری فی السجود أنّ جمیع الدنیا وظلماتها قد تسلطت علینا، فلو أردنا الخلاص من هذه الظلمات یجب علینا أن نذکر اللّه تعالی بعظمته وعلوّه وکبریائه ونتوجّه إلیه فی قلوبنا وجمیع وجودنا ثمّ نقول ذکر السجود بلساننا: «سُبْحَانَ رَبَّی الأعَلی وَبِحَمْدِهِ».

وبالنسبة لذکر السجود فقد ورد فی الروایة أنّها عندما نزلت الآیة الشریفة 74 من سورة الواقعة «سُبْحَانَ رَبَّی العَظِیم وَبِحَمْدِهِ» علی النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله، أمر النبیّ

ص:493

أن تجعل هذه الآیة فی الرکوع، وعندما نزلت الآیة الاُولی من سورة الأعلی:

«سَبِّحِ اسْمَ رَبِّکَ الْأَعْلَی» ، أمر النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله أن توضع فی السجود، فقد ورد فی «الکافی» أنّ أوّل اسم جعله تبارک وتعالی لنفسه «العَلیّ وَالعَظیم»(1)، ونحن نذکر هذین الإسمین فی رکوعنا وسجودنا لئلا نغفل فی سجودنا أننا فی أی حالة؟ لا ینبغی أن نتصوّر أنّ السجود مجرّد تکلیف شرعی ظاهر ویقتصر علی وضع الجبهة علی التراب ولا یجب الالتفات إلی شیء آخر وراءه، کلّا، فالإنسان فی صلاته یضع أشرف وأفضل موضع فی بدنه وهو الجبهة ومرکز الفکر والترشحات العقلیّة علی أهون مادة فی العالم وهو التراب.

إنّ سرّ أهمیّة السجود من حیث إنّ الخضوع والخشوع یکمن فی هذه النقطة، وهی أنّ الإنسان یضع أشرف أعضاء بدنه علی أحقر وأتفه شیء فی العالم وهو التراب، ومن هنا یتبیّن لماذا قال الفقهاء إنّ السجود یجب أن یکون علی التراب ولا یجزی السجود علی اللباس أو الطعام، فلماذا لا یصحّ السجود علی المأکول والملبوس؟ لأنّ الشیء إذا کان من الملبوس أو المأکول فإنّه یتّصف بأنّه بضاعة ومتاع دنیوی وأنّ أهل الدنیا ومن خلال هذه الأمور الدنیویّة یرون لأنفسهم عزّة ومکانة، ومن هذه الجهة أمر الإسلام بالسجود علی أتفه شیء فی عالم الطبیعة بحیث لا مجال لرؤیة أی مکانة وقیمة للذات والنفیّة.

ویجب الالتفات إلی هذه الحقیقة أیضاً، وهی أنّ السجود أهم وسیلة للتقرب إلی اللّه تبارک وتعالی، والإنسان الذی یتحرّک فی مسار السیر والسلوک، فإنّه کلّما أطال سجوده أکثر کان یعیش حالات الخضوع والخشوع فی سجوده أکثر فإنّ نورانیّة صلاته ستکون أکثر وسینال توفیق أکثر فی الإستفادة من عنایات الباری تبارک وتعالی وألطافه الغیبیّة.

ص:494


1- (1) . الکافی، ج 1، ص 153.

ومن هذه الجهة نری الأنبیاء الإلهیین والأئمّة من أهل البیت علیهم السلام یهتمّون بالسجود کثیراً، یقول منصور الصیقل: «حَجَجَتُ فَمَرَرْتُ بِالمَدِینَةِ فَأَتَیْتُ قَبْرَ رَسُولُ اللّهِ صلی الله علیه و آله فَسَلَّمْتُ عَلَیهِ»، وانشغلت بالزیارة فرأیت الإمام الصادق علیه السلام فی حال السجود «فَجَلَسْتُ حَتَّی َمَللْتُ»، أی أنّ سجود الإمام علیه السلام کان مطولاً إلی درجة أنّ هذا الشخص شعر بالملل والتعب، «ثُمَّ قُلْتُ لأُسَبِّحَنَّ مَادَامَ سَاجِداً»(1)، وبذلک أقتدی بهذا الإمام واُسبح اللّه تعالی مادام الإمام علیه السلام فی سجوده، یقول هذا الراوی، فعددت ذکر الإمام علیه السلام «سُبْحَانَ رَبَّی العَظِیمِ وَبِحَمْدِهِ، واستَغفِرُ اللّهَ وَأَتُوبُ إِلَیهِ»، ثلاثمائة وستین ونیف.

إذن، لا ینبغی أن نستشعر التعب والملل من السجود ولا ینبغی الاحساس بالتعب بمجرّد ذکر التسبیح مرّة أو مرّتین، فالسجود کلّما کان طویلاً فإنّ التوفیقات الإلهیّة والسعادة الروحانیّة تکمن فی هذا السجود.

ص:495


1- (1) . مستدرک الوسائل، ج 4، ص 413.

160- حقیقة السجود فی کلام الإمام الصادق علیه السلام

یقول الإمام الصادق علیه السلام فی روایة مفصّلة وردت فی کتاب «مصباح الشریعة»(1):

«مَا خَسِرَ وَاللّهِ قَطُّ مَنْ أَتَی بِحَقِیقَةِ السُّجُودِ وَلَوْ کَانَ فِی عُمُرِهِ مَرَّة وَاحِدَةً، وَمَا أَفلَحَ مَنْ خَلَا بِرَبِّهِ فِی مِثلِ ذَلِکَ الحَالِ شَبِیهاً بِمُخادِعِ نَفْسِهِ غَافِلاً لاهیَاً عَمَّا أَعَدَّ اللّهُ تَعالی لِلسَّاجِدِینَ مِنْ البِشْرِ العَاجِلِ وَرَاحةِ الآجِلِ»، ونری أنّ الإمام الصادق علیه السلام یقول: إنّ اللّه تعالی جعل الاُنس والراحة للساجدین فی الدنیا والآخرة، فالشخص الذی یرید أن یعیش فی الدنیا حالة الاُنس والمحبّة مع اللّه تبارک وتعالی، والشخص الذی یرید أن یجد الراحة والبهجة فی القبر والبرزخ والقیامة ویرید الحصول علی المقام والمکانة فی الآخرة، یجب علیه الاستمداد من حالة السجود والوصول إلی حقیقة السجود.

«وَلا بَعُدَ عَنِ اللّهِ تَعالی أَبَداً مَنْ أَحْسَنَ تَقَرُّبَهُ فِی السُّجُودِ، وَلا قَرُبَ إِلَیهِ أَبَدَاً مَنْ أَساءَ أَدَبَهُ وَضَیَّعَ حُرْمَتَهُ بِتَعْلِیقِ قَلبِهِ بِسِواهُ فِی حَالِ السُّجُودِ»، وهذه الروایة مهمّة جدّاً فی بیان الآثار المرتبة علی السجود ورعایة آدابه، یقول الإمام الراحل

ص:496


1- (1) مصباح الشریعة، ص 64.

رضوان اللّه تعالی علیه فی کتابه «آداب الصّلاة»: فی هذا الحدیث الشریف جمع بین أسرار وآداب السجود، وبین حقیقة السجود، فقد ذکر فی هذا الحدیث الشریف الآداب التی یجب علی المصلّی أو الساجد رعایتها فی عبادته وسجوده، وکذلک بیّن بعض حقیقة وأسرار السجود.

وفی سیاق هذه الروایة یقول الإمام علیه السلام: «فَاسْجُدْ سُجُودَ مُتَواضِعٍ للّهِ ذَلِیلٍ»، فأحد آداب السجود التی ینبغی رعایتها من إظهار التذلل والتواضع للّه تعالی لئلا تکون فی السجود شائبة الأنانیّة ورؤیة الذات کما سبق أن ذکرنا فی حالات الصّلاة الأخری أنّ الإنسان یجب أن یلتفت دوماً إلی ضعفه وعجزه وتفاهته فی مقابل الباری تعالی، وفی السجود خاصّة یجب أن تکون حالة الذلّة والتواضع فی ذروتها.

«عَلِمَ أَنَّهُ خُلِقَ مِنْ تُرابٍ...»، فعندما نضع جبهتنا علی التراب فیجب أن نعلم أننا خلقنا من هذا التراب، وأی تراب؟ التراب الذی یسحقه الناس بأقدامهم.

«أَنَّهُ رُکِّبَ مِنْ نُطفَةٍ یَستَقْذِرُها کُلُّ أَحَدٍ، وَلَقَدْ جَعَلَ اللّهُ مَعنَی السُّجُودِ سَبَبَ التَّقَرُبِ إِلَیهِ بِالقَلْبِ وَالسِّرِّ وَالرُّوحِ، فَمَنْ قَرُبَ مِنْهُ بَعُدَ عَنْ غَیرِهِ»، وهکذا حال الإنسان بین الدنیا والآخرة، وبین اللّه وغیره، کلّما اقترب الإنسان من اللّه تعالی ابتعد عن غیره، وکلّما اشدّت عظمة اللّه تعالی فی قلب الإنسان ضعف ما سواه.

«أَلا تَری فِی الظَّاهِرِ أَنَّهُ لایَستَوی حَالُ السُّجُودِ إِلّا بِالتَّوارِی عَنْ جَمِیعِ الأشیَاءِ وَالإِحْتجَابِ عَنْ کُلِّ مَا تَراهُ العُیُونُ»، یتحدّث الإمام الصادق علیه السلام هنا فی بیان حال السجود باسلوب بلیغ وکلام رائع، فکما أن الإنسان عندما یسجد ویضع رأسه علی الأرض لا یری شیئاً ومظهر من مظاهراً الدنیا وتختفی عن بصره الأشیاء، «کَذَلِکَ أَرادَ اللّهُ تَعالی أَمْرَ البَاطِنِ»، فباطن الإنسان یجب أن یکون کذلک، أی لا یتوجّه قلبه أبداً نحو الدنیا ولا یفکّر بذهنه أبداً فی متطلباتها وزخارفها.

نسأل اللّه تعالی أن یرزقنا جمیعاً السجود الحقیقی.

ص:497

161- علّة تکرار السجود

جاء فی روایة فی کتاب «مصباح الشریعة»(1) عن الإمام الصادق أنّه قال: «لا یَستَوی حَالُ السُّجُودِ إِلّا بِالتَّوارِی عَنْ جَمِیعِ الأشیَاءِ وَالإِحتْجَابِ عَنْ کُلِّ مَا تَراهُ العُیُونُ»، فالإنسان فی حال السجود لا یری أی مظهر من مظاهر الدنیا، ولا یری الولد ولا الزوجة ولا الدنیا ولا المقام ولا المال ولا الثروة، وهکذا یجب أن یکون باطنه فی حال السجود بأن لا یری ولا یفکّر بشیء غیر الباری تعالی.

«فَمَنْ کَانَ قَلْبُهُ مُتَعلِّقاً فِی صَلاتِهِ بِشیءٍ دُونَ اللّهِ تَعالی فَهْوَ قَرِیبٌ مِنْ ذَلِکَ الشَّیءِ، قَالَ اللّهُ تَعالی : «ما جَعَلَ اللّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَیْنِ فِی جَوْفِهِ...»2» ، فهذا القلب إمّا أن یکون قریباًب من اللّه أو قریباً من غیر اللّه، وهذا یعنی أننا یجب أن نخلص قلوبنا للّه تعالی فی السجود ونفکّر أننا جئنا فی یوم من الأیّام إلی الدنیا من هذا التراب فسوف نعود إلیه لاحقاً، ولعل السرّ فی استحباب النظر إلی محلّ السجود

ص:498


1- (1) . مصباح الشریعة، ص 66.

فی حال القیام أن الإنسان بهذا التوجّه إلی الأرض کأنّه یقول: «إِنّا للّهِ وإِنّا إِلَیهِ راجِعُونَ»، وهکذا یعیش الإنسان هذه الحقیقة الحاسمة دائماً.

وجاء فی روایة فی کتاب «بحار الأنوار»: «سُئِلَ أَمِیرُالمُؤمِنِینَ علیه السلام مَا مَعنَی السَّجدَةِ الاُولی؟ فَقَالَ: تَأَوِیلُها اللُّهُمَّ إِنّکَ مِنها خَلَقتَنا وَرَفْعُ رَأسِکَ وَمِنْها أَخْرَجتَنا»(1)، فباطن وحقیقة السجدة الاُولی هی أننا نرید أن نقول للّه تعالی: إلهنا! لقد خلقتنا من هذا التراب وأخرجتنا منه.

«وَالسَّجدَةُ الثَّانِیةُ وإِلَیها تُعِیدُنا»، وحقیقة السجدة الثانیة هی أننا نقول للّه تعالی: إلهنا! سیأتی الیوم الذی نعود فیه إلی هذا التراب، وعندما نرفع رأسنا من السجدة الثانیة نتذکّر ونقول: وسوف نخرج منها مرّة ثانیة، وهو ما ورد فی الآیة الشریفة 55 من سورة طه، حیث تقول: «مِنْها خَلَقْناکُمْ وَ فِیها نُعِیدُکُمْ وَ مِنْها نُخْرِجُکُمْ تارَةً أُخْری» ، والآن تبیّن لماذا یتکرار السجود مرّتین فی کلّ رکعة بخلاف الرکوع وهو مرّة واحدة فی الرکعة، لأنّ المصلّی یلتفت إلی هذه الحقیقة فی حال السجود، وذلک فی مرحلة الخلق من التراب والموت والعودة إلی التراب ومرحلة الحشر والقیامة، فکلّ مراحل الحیاة منذ خلق الإنسان إلی حشره یوم القیامة کامنة فی هاتین السجدتین، فعلی الإنسان الانتباه إلی هذه الحقیقة واستغلال عمره ووقته فی ما ینفعه لذلک الیوم ولا یتلف وقته وقواه فی أمور الدنیا.

ص:499


1- (1) . بحار الأنوار، مطبعة بیروت، ج 79، ص 271.

162- تأکید الأئمّة علیهم السلام علی إطالة السجود

ینقل المرحوم المیرزا جواد ملکی التبریزی رضوان اللّه تعالی علیه فی کتابه «أسرار الصّلاة» عن استاذه المرحوم الملا حسین قلی الهمدانی رحمه الله ویقول عن هذا الاُستاذ العارف: «کان لی شیخٌ جلیلٌ عارفٌ کاملٌ ما رأیت له نظیراً، فطلبتُ منه عن عَملٍ مُجرّبٍ یُؤثّر فی إصلاح القلب وجلب المعارف».

فقال المرحوم الملا حسین قلی رحمه الله: «ما رأیت عملاً مؤثّراً فی ذلک مثلَ المُداومة علی السّجدة الطّویلة فی کلّ یوم مرّة واحدة»، وتقول فی هذه السجدة:

«لا إله إلّاأنتَ سُبحانَکَ إِنّی کنتُ مِن الظّالمین».

فإذا داومت علی هذا الذکر فی السجود فاستشعر فی نفسک أنّک: «یری نفسهُ مسجونة فِی سِجنِ الطّبیعة ومُقیّدة بقُیودِ الأخلاقِ الرذیلة، ومُقرّاً بأنّک لَم تَفعل ذلک بی ولَم تَظلِمنِی وأَنا الّذی ظلمتُ نفسِی وأوقعتُها فی هذا الحال»، وتکرر هذا الذکر 360 مرّة.

یقول المرحوم الملا حسین قلی الهمدانی رحمه الله: إذا داوم السالک علی هذا الذکر

ص:500

والسجدة الطویلة فی کلّ یوم فإنّ اللّه تعالی سیفتح أمامه أبواب المعارف، ونقرأ فی سیرة أصحاب الأئمّة المعصومین علیهم السلام والرواة الکرام أنّ أحد أعمالهم العبادیة یتمثّل فی السجدة الطویلة، یقول الکشی فی کتابه «اختیار معرفة الرجال»: «إنّه وجد فی کتاب أبی عبداللّه شاذانی بخطه: سمعتُ أبا محمّد الفضل بین شاذان یقول:

دخلت العراق فرأیت واحداً یعاتب صاحبه ویقول له: أنت رجل علیک عیالٍ»، أی یجب أن تذهب للکسب والعمل لتحصیل الرزق، فلماذا تطیل السجود، وأنا أخشی علیک أن تذهب عینک بسبب هذا السجود الطویل، «فلمّا أکثر علیه قال لو ذهبت عین أحد من طول السجود لذهبت عین ابن أبی عمیر فَمَا ظَنُّکَ بِرَجلٍ سَجَدَ سَجدَةَ الشُّکر بعد صلاةِ الفجرِ فَما رفعَ رأسهُ إلّاعِندَ الزَّوال». وهکذا کان حال ابن أبی عمیر فی سجوده الطویل بحیث إنّه بعد انتهاء من الصّلاة الصبح یسجد سجدة الشکر ویستمر فی سجوده إلی آذان الظهر.

وجاء فی روایة أخری أنّ رجلاً جاء إلی ابن أبی عمیر، وقال: أنت طویل السجدة؟ فقال ابن أبی عمیر: «لَو رأَیتَ جَمیل ابن درّاج»، ویقول هذا الشخص:

أتیت جمیل بن درّاج فرأیتُ أنّ سجوده یستغرق وقتاً طویلاً، فقلت له: ما أطول سجودک، فقال: لو رأیت معروف بن خربوز، فسجودی لا یقارن بسجوده، وهذه هی سیرة ومنهج أصحاب الأئمّة الطاهرین علیهم السلام.

یجب علی کلّ مسلم أن یضع فی برنامج حیاته سجدة طویلة فی کلّ یوم، فإذا استمر واقعاً بهذا العمل وداوم علیه فسوف تنحلّ الکثیر من مشکلاته ویجد الطریق مفتوحاً فی مسیرة الإیمان والعبادة والقرب إلی اللّه تعالی ویعیش النورانیّة فی حیاته بما لا یستطیع تصوّره.

نسأل اللّه تعالی أن یوفّقنا جمیعاً للسجود الطویل، إن شاء اللّه.

ص:501

ص:502

الفصل التاسع: أسرار التّشهد

اشارة

ص:503

ص:504

163- سرّ الشهادة بالتوحید والنبوّة فی بدایة الصّلاة ونهایتها

نصل إلی مسألة التشهد، والذی یجب أن یأتیه المصلّی فی الرکعة الثانیة والرکعة الأخیرة من صلاته، ویجب فی التشهد أن یتشهد المصلّی الشهادتین، الاُولی الشهادة بالتوحید والإقرار بواحدانیّة الباری تبارک وتعالی ویقول: «أشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إلّااللّهُ وَحْدَهُ لاشَرِیکَ لَه»، والثانیة: الشهادة بنبوّة ورسالة النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله أنّه عبد اللّه ورسوله، وأحد النقاط المطروحة هنا، سواءً فی الشروع بالصّلاة أو فی وسطها أو فی نهایتها، مسألة الشهادة بالتوحید والشهادة بالرسالة والنبوّة، فما هو سرّ الکامن فی هذه الشهادة، بحیث یجب علی المصلّین الاتیان بها فی أوّل صلاته وآخرها ویشهد بتوحید الباری وتعالی ورسالة النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله؟ یجب علینا التأمّل والتدبّر فی هذه المسألة، وهل یوجد ارتباط عمیق بین أوّل الصّلاة وآخرها؟ ألا نستوحی أنّ الصّلاة تتضمّن مثل هذا المفهوم وأنّ هذا العمل العبادی من شأنه إیصالنا إلی مراتب عالیة من التوحید، والإیمان بوحدانیّة

ص:505

الباری تعالی.

إنّ سرّ تکلیف الناس بالصّلاة هو أنّ الاتیان بالصّلاة فی کلّ یوم من شأنه تقویة التوحید فی وجودهم وقلوبهم وتکمیل مسیرة اتّباع النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله والاستنان بسنّته، فالصّلاة یجب أن تحلق بالإنسان فی کلّ وقت وفی کلّ لحظة فی معراج المعنویّات وفی درجات التوحید، ولو أراد شخص معرفة: هل أنّ صلاته صحیحة أم لا؟ فینبغی أن یلاحظ توحیده وإیمانه بعد الصّلاة إلی أی مرحلة وصل؟ هل أن توحیده یزداد ویتعمّق ویرتفع شیئاً فشیئاً، أم لا؟

هل أنّ أهواءه وتمنیاته وجمیع ما جعله صنماً له فی نفسه، یتأثر فی کلّ صلاة یصلّیها وتضعف هذه الرغبات الدنیویّة والنوازع النفسانیّة بعد الصّلاة أم لا؟ إنّ الصّلاة لغرض إیصال الإنسان إلی مرتبة عالیة من التوحید، والصّلاة تهدف إلی إفهام الإنسان بشکل أعمق وأشدّ بوحدانیّة الباری تعالی ویؤمن بهذه الحقیقة الحاسمة فی قرارة نفسه، وعلی حدّ قول العرفاء لا توجد لذّة أعلی من درک معنی التوحید.

ولو علم الإنسان أنّه لا یوجد إله غیر اللّه یستحق العبادة وأنّ کلّ شیء بیده وبمشیئته، وأنّ العزّة والذلّة، والغنی والفقر، والسلامة والمرض، والراحة والابتلاء بیده فقط، فسوف یجد هذا الشخص لذّة کبیرة وانبساطاً وبهجة فی حال التقرب والإرتباط باللّه تعالی.

یقول الإمام الخمینی رضوان اللّه تعالی علیه: هناک فرق بین الشهادة بالتوحید فی أوّل الصّلاة والشهادة بالتوحید فی آخر الصّلاة مع وجود ارتباط وثیق وعمیق بینهما، ولکن الفرق فی المرتبة والدرجة، فالشهادة بالتوحید فی أوّل الصّلاة هی الشهادة قبل السلوک وقبل العمل وقبل المعراج، والشهادة فی آخر الصّلاة تعنی نهایة هذا السفر والمعراج الإلهی.

ص:506

الشهادة قبل الصّلاة تعبیر عن شهادة تعبّدیّة أو تعقّلیّة، فنحن علی أساس التعبّد بأوامر اللّه تعالی أو التعقّل والتفکّر نؤدّی الشهادة بالتوحید، وأمّا فی آخر الصّلاة فهی شهادة تحقیقیّة وحضوریّة، یعنی بعد أن یأتی المصلّی فی الرکعة الاُولی والثانیّة ویقرأ سورة الحمد ثمّ یرکع ویسجد ویطوی مراحل السلوک إلی أن یصل إلی درجة القرب الإلهی فی السجدة الثانیة، عندها یحین وقت التشهد وأداء الشهادة علی التوحید، یعنی أنّ هذا التوحید قد تحقّق فی باطننا ووجودنا، ونعود مرّة ثانیة إلی هذا العالم والدنیا لنأخذ منه الزاد والمتاع فی سفرنا وعروجنا الإلهی، ولذلک ورد التعبیر أنّ الشهادة فی آخر الصلاة هی شهادة حضوریّة، وفی هذه الشهادة خطر عظیم، لأنّها عبارة عن ادعاء حصول التوحید فی الذات والقلب، ولکن الشهادة فی أوّل الصّلاة لا تحمل هذا العنوان والادعاء، وعلی هذا الأساس یجب أن نتدبّر فی سرّ هذه الشهادة والتشهد، ونلتفت إلی تحقّق التوحید فی جمیع وجودنا وواقعنا النفسانی، إن شاء اللّه تعالی.

ص:507

164- حقیقة التشهد

جاء فی کتاب «مصباح الشریعة»(1) روایة رائعة جدّاً عن الإمام الصادق علیه السلام تتضمّن الأداب القلبیّة وحقائق وأسرار التشهد، یقول علیه السلام: «التَّشَهُّدُ ثَنَاءٌ عَلَی اللّهِ تَعالی، فَکُنْ عَبدَاً لَهُ فِی السِّرِّ خَاضِعاً لَهُ فِی الفِعْلِ کَمَا أَنَّکَ عَبدٌ لَهُ بِالقَولِ وَالدَّعوی»، فنحن عندما نتشهد ونعترف بالتوحید، أی التوحید فی العبادة، والتوحید بالذات، والتوحید بالفعل، فکما أننا فی مقام القول والادعاء نعتقد ونقرّ أننا عبید للّه تبارک وتعالی فیجب أن نکون کذلک فی باطننا وسرّنا، أی نعیش حالة العبودیّة والخضوع للّه تعالی فی مقام العمل والفعل.

«وَصِل صِدْقَ لِسَانِکَ بِصَفاءِ صِدْقَ سِرِّکَ»، یعنی کما أنّک تعیش حالة العبودیّة والعبادة فی الظاهر، یجب علیک أن تستشعر هذه الحالة من العبودیّة والعبادة فی باطنک أیضاً.

«فَإِنَّهُ خَلَقَکَ عَبْدَاً وَأَمَرَکَ أَنْ تَعْبُدَهُ بِقَلْبِکَ وَلِسَانِکَ وَجَوارِحِک».

ص:508


1- (1) مصباح الشریعة، ص 68، باب 17، التشهد.

أحیاناً یطرح البعض هذه الشبهة ویقول: إنّ العبادة للّه تعالی، وحینئذٍ یکفی التوجّه القلبی للّه فی العبادة، ولا یحتاج إلی ذکر اللسان وفعل الجوارح من القیام والرکوع والسجود، والجواب: إنّ الإنسان مرکّب من ظاهر وباطن، وکما أنّ الإنسان له باطن فله ظاهر أیضاً، وأنّ اللّه تبارک وتعالی أراد أن یتحرّک الإنسان فی مسار العبادة والعبودیّة بظاهره وباطنه معاً، فعندما یقف الإنسان ببدنه أمام الحقّ تبارک وتعالی ویفنی ظاهره فی اللّه تعالی فهذا یکشف عن أنّ هذا الإنسان یعیش فی باطنه هذه الحالة أیضاً، أمّا الشخص الذی یتحرّک بجوارحه وأعضاء بدنه فی طلب الدنیا، وتکون عینه ویده وفکره و... وسائر أعضائه وقواه تسیر فی طلب الدنیا وفی مسیر غیر اللّه، فکیف یستطیع قلبه أن یتوجّه إلی اللّه تبارک وتعالی؟ إنّ اللسان الذاکر هو الذی أدخل هذا الذکر والتسبیح إلی قلب الإنسان، یجب أن تکون أجزاء وجوارح الإنسان وأبعاده الوجودیّة کلّها مرتبطة بالتوحید، ولذلک یقول الإمام علیه السلام فی سیاق هذا الحدیث:

«وَأَنْ تُحَقِّقَ عُبُودِیَتَکَ لَهُ بِرِبُوبیِّتِهِ لَکَ»، وهذا یعنی أنّ حقیقة العبودیّة تستدعی طلب ربوبیّة اللّه تعالی، فما لم تکمل وتتمّ العبودیّة من العبد فلا یحصل علی القرب من مقام الربوبیّة، ولو أنّ الإنسان أراد الحصول علی القرب من الحقّ تعالی وأن یجعل اللّه تعالی حاکماً ومهیمناً علی وجوده وکیانه فیجب علیه تقویة أواصر العبودیّة والشعور بالرقیّة للّه.

«وَتَعْلَمَ أَنَّ نَواصِی الخَلْقِ بِیَدِهِ، فَلَیسَ لَهُمْ نَفَسٌ وَلا لَحظَةٌ إِلّا بِقُدْرَتِهِ وَمَشِیئَتِهِ، وَهُمْ عَاجِزُونَ عَنْ إِتیَانِ أَقَلَّ شَیءٍ فِی مَمْلَکَتِهِ إِلّا بِإِذنِهِ وَبِإِرَادَتِهِ»، فجمیع العباد والمخلوقات عاجزون علی فعل أی عمل مهما کان صغیراً بدون مشیئة الباری تعالی وإذنه، لأنّ کلّ عمل یقع فی دائرة مملکته وقدرته تعالی.

«قَالَ اللّهُ عَزَّ وَجَلَّ : «وَ رَبُّکَ یَخْلُقُ ما یَشاءُ وَ یَخْتارُ ما کانَ لَهُمُ الْخِیَرَةُ سُبْحانَ اللّهِ

ص:509

وَ تَعالی عَمّا یُشْرِکُونَ»1» ، هذا یعنی أنّه لا اختیار للعباد فی أفعال اللّه تعالی وأنّه تعالی منزّه عمّا یتصوّر الخلق وما یجعلون له من شرک، وکلّ هذه الحقائق هی آثار للتوحید الخالص، وهو أن یعلم الإنسان أنّ اللّه «یَخْلُقُ مَا یَشَاءُ وَیَخْتَارُ»، فالخلق بید اللّه تعالی ولا تأثیر للناس فیما یختاره اللّه، وهذا هو الغرض من التشهد والصّلاة بأن نصل إلی مراتب عالیة من التوحید والکمال المعرفی باللّه تعالی، إن شاء اللّه.

ص:510

165- أدب التشهد

ذکرنا أنّ التشهد یبیّن هذه الحقیقة، وهی أنّ هذا السفر والمعراج الإلهی یهدف للوصول إلی مرتبة عالیة من التوحید، ومن أجل أن یحقّق المصلّی جمیع أقسام التوحید فی وجوده ویرتوی قلبه وعقله من معارف التوحید وحقیقته، فأدب التشهد هو أنّ المصلّی عندما یرفع رأسه من السجود ویجلس للتشهد یجب أن یستشعر حالة من الخوف والقلق تهیمن علی وجوده، لأنّک الآن صلیت عدة رکعات وتحدّثت مع اللّه تعالی ودعوته فلا ینبغی أن تکون هذه الأعمال والکلمات غیر مقبولة عند اللّه تعالی، یجب أن یجلس المصلّی للتشهد بحالة من الخوف والحیاء والقلق ولا یعتبر ما أتی به من العبادة للّه تعالی شیئاً مهمّاً فی مقابل عظمة الباری تعالی وألطافه وعنایته.

ونعود هنا إلی أصل وأساس الدین وهو کلمة التوحید: «أشهدُ أَنْ لاإِلَهَ إِلّا ا للّهُ»، یعنی أنّ هذا القیام والرکوع والسجود لا قیمة له فی مجال عبادة الذات المقدّسة، ونعود إلی کلمة التوحید والتی یقول عنها الباری تعالی: «کَلِمَةُ لاإِلَهَ إِلّا

ص:511

اللّهُ حِصنِی فَمَنْ دَخَلَ حِصنِی أَمِنَ مِنْ عَداِبی»(1)، فیجب علی الناس فی مسار العبادة والعبودیّة الدخول فی هذا الحصن الإلهی لنکون فی أمن من العذاب الإلهی، یجب علینا الشهادة بوحدانیّة اللّه تعالی والشهادة بنبوّة وعبودیّة النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله لأنّ جمیع أمور الوجود تعود إلی هاتین الشهادتین، أحدهما الشهادة بالتوحید، والأخری الشهادة بنبوّة ورسالة النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله.

یقول المرحوم الشهید الثانی رحمه الله فیما یتّصل بهاتین الشهادتین: «فإنّهما أوّل الوسائل وأساس الفواضل»(2).

إذا أراد الإنسان أن یفتح باب الحوار والارتباط مع اللّه تعالی ویجعل نفسه فی حصن وحرز الباری تعالی وجب علیه القیام بأمرین: أحدهما، الاعتقاد والتصدیق القلبی بالتوحید، والآخر، الاعتقاد بنبوّة نبیّ الإسلام ورسالته، أمّا ما ورد فی الأذکار بأنّه لا یوجد ذکر أهم من ذکر «لا إله إلّااللّه» فهذا یعکس هذه الحقیقة أیضاً، فأفضل شیء فی مجال العلاقة بین الإنسان وربّه هو أن یجعل الإنسان نفسه فی مرتبة التوحید، ثمّ یتوجّه إلی أحبّ الخلق إلی اللّه ویؤدّی شهادته بعبودیّة ونبوّة الرسول الکریم صلی الله علیه و آله إلی جانب کلمة التوحید، یعنی أننا نعترف ونعلم بأنّ النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله هو عبد من عبید اللّه ورسوله إلی الخلق، رغم أنّ الشهادة بالنبوّة وردت إلی جانب الشهادة بالتوحید.

وسبق أن ذکرنا أنّ الشهادة بالرسالة والنبوّة تقع فی باطن الشهادة بالتوحید، کما أنّ الشهادة بالتوحید تکمن فی باطن الشهادة بالرسالة والنبوّة، وکذلک فإنّ الشهادة بالولایة کامنة فی باطن الشهادة بالتوحید والنبوّة، وهذه الخصوصیّة موجودة فی التشهد.

ص:512


1- (1) . بحار الأنوار، ج 3، ص 13؛ و ج 90، ص 192.
2- (2) التنبیهات العلیّة علی وظائف الصّلاة القلبیّة، ص 127.

وعلی هذا الأساس یجب علی المصلّی الالتفات إلی أسرار وآداب التشهد، ویهتمّ بمراعاة هذه الآداب لتحظی صلاته بالقبول من قِبل الباری تعالی، ولئلا تذهب أعماله من القیام والرکوع والسجود هباءً منثوراً، ولذلک ینبغی علیه أن یجلس للتشهد بحالة من الخجل والحیاء لأنّه لم یتمکن من أداء هذه العبادة وهذه الصّلاة حقّها ولم یقدّم للّه تعالی عملاً جیداً وقیم، والآن یرید أن یشهد بالتوحید ویشهد بنبوّة الرسول الکریم صلی الله علیه و آله لجبران هذا القصور والتقصیر ولتنفتح علیه أبواب الرحمة الإلهیّة.

ص:513

ص:514

الفصل العاشر: السّلام

اشارة

ص:515

ص:516

166- حقیقة التسلیم

وآخر قسم من البحث فی أسرار الصّلاة، یتمحور حول التسلیم فی الصّلاة، ولذلک نبیّن هذا القسم بشکل موجز، فالتسلیم یعنی نهایة هذا السفر المعنوی والمعراج الإلهی، فالنقطة المهمّة هنا هی أنّ المصلّی یستطیع أن یذکر سلام الصّلاة علی نحو الحقیقة عندما یشعر واقعاً بأنّه غاب عن عالم الدنیا وعالم الکثرات ویعیش فی عالم الآخر عندما کان فی صلاته ثمّ رجع إلی هذا العالم مرّة أخری بالتسلیم، ولکن ذلک الشخص الذی کان فی صلاته یعیش أجواء الدنیا ویفکّر فی مطلباتها، أی أنّه لم یکن غائباً عن هذا العالم المادی ولم یسافر فی صلاته نحو اللّه تعالی فی معراج القرب، فإنّ هذا التسلیم لا یساوی شیئاً فی عالم الحقیقة والمعنی سوی لقلقة اللسان، لأنّ الخروج من الدنیا والعروج إلی عالم الملکوت لم یتحقّق لدی هذا الشخص لیکون لسلامه فی نهایة الصّلاة معنی وحقیقة.

والمصلّی إذا کان فی هذا السفر فی سلامة من تصرفات الشیطان وتسویلات

ص:517

النفس الأمارة وکان قلبه فی هذا المعراج المعنوی سلیماً وغیر ملوث بشوائب الأنانیّة وحبّ الدنیا فإنّ تسلیمه یکون ذا حقیقة ومعنی وإلّا لا سلام له(1).

وجاء فی کتاب «مصباح الشریعة» روایة عن الإمام الصادق علیه السلام بالنسبة لمعنی السلام فی نهایة الصّلاة، فقال الإمام علیه السلام: إنّ معنی السلام فی ختام کلّ صلاة عبارة عن الأمان: «مِنْ أدّی أَمرَ اللّهِ وَسُنَّةَ نَبِیِّهِ صلی الله علیه و آله خَالِصاً للّهِ خَاشِعاً فِیهِ فَلَهُ الأَمَان مِنْ بَلاءِ الدُّنیا وَبَراءَةٌ مِنْ عَذابِ الآخِرَةِ».

ویتابع الإمام بقول: «السَلامٌ اسْمٌ مِنْ أَسمَاءِ اللّهِ تَعَالی أَودَعَهُ خَلقَهُ، لِیسَتَعْمِلُوا مَعنَاهُ فِی المُعَامَلاتِ وَالأَمَانَاتِ وَالإِنصَافَاتِ وَتَصدِیقُ مُصَاحَبَتِهِم فِیمَا بَینَهُم وَصِحَّةُ مُعَاشَرَتِهِم»، فلو أنّ الإنسان فی جمیع أموره وجمیع معاملاته وتواصله مع الآخرین استند واستعمل اسم اللّه تبارک وتعالی واقعاً فإنّه سیکون مصحوباً بالسلامة والأمن من کلّ أمر وفی کلّ فعل من أفعاله ولا یستطیع الشیطان أن یتدخل ویلوّث أعماله وسلوکیاته بشوائب غیر إلهیّة، هذه الحقیقة مرکوزة فی التسلیم فی الصّلاة.

ثمّ یقول علیه السلام: «وَإِذا أَرَدْتَ أَنْ تَضَعَ السَّلامَ مَوضِعَهُ، فَاتَّقِ اللّهَ وَلَیُسلَمْ مِنْکَ دِینَکَ وَقَلْبَکَ وَعَقلَکَ، وَلا تُدَنِّسَها بِظُلمَةِ المَعاصِی»، وهذا یعنی أنّ التقوی الإلهیّة شرط لیتحقّق السلام فی نفس الإنسان علی نحو الحقیقة ویسلم بوسیلة التقوی دین الإنسان وقلبه وعقله بشرط أن لا یتلوّث بظلمة المعاصی ولوث الذنوب.

یقول الإمام الصادق علیه السلام: إذا أردت أن تدرک المعنی الواقعی للسلام فیجب علیک أن تحقّق فی نفسک حالة التقوی، وهذا یعنی أنّ الشخص الذی لا یعیش حالة التقوی، ویتلفظ بالسلام، الذی هو اسم من أسماء اللّه، سواءً فی صلاته أو فی غیر صلاته، فهذا السلام لم یقع موقعه المناسب، ویجب أن یتحلّی الإنسان فی

ص:518


1- (1) انظر: آداب الصّلاة، ص 367.

دینه وقلبه وعقله بالسلامة ویراقب دینه وقلبه وعقله لئلا تتلوّث بشوائب الذنوب، وعندها یتحقّق السلام الحقیقی، ثمّ یقول علیه السلام: ینبغی أن تکون الملائکة الحفظة فی أمانٍ منک، فالملائکة الموکّلون بالإنسان لمراقبة أعماله وأفعاله وکلماته، سیشعرون بالألم والاستیاء عندما یصدر عمل قبیح من هذا الشخص.

وثمّة نقاط مهمّة فی سیاق هذه الروایة مورد البحث، حیث یقول الإمام الصادق علیه السلام: أنّ معنی السلام هو أن یکون صدیقک فی أمان منک وکذلک عدوّک.

«وَمَنْ لا یَضَعُ السَّلامَ مَوَاضِعَهُ هَذهِ فَلا سَلامَ وَلا تَسلِیمَ وَکَانَ کَاذِباً فِی سَلامِهِ وإِنْ أَفشَاهُ فِی الخَلْقِ»(1)، فلو أنّ دینه ونفسه وعقله لم یکن فی أمان منه ولم یکن أصدقاؤه وأرحامه وأهله فی أمان منه وحتی لو سلّم علیهم فإنّ السلام هذا لا واقعیّة له ویعتبر سلاماً کاذباً.

نسأل اللّه تعالی أن یوفّقنا للإتیان بالصّلاة الحقیقیّة ونستطیع أن نحقق هذا الاسم من أسماء اللّه الحسنی فی جمیع أبعاد حیاتنا ومعیشتنا، وظاهرنا وباطننا بحقّ محمّد وآله الطاهرین صلوات اللّه علیهم أجمعین.

ص:519


1- (1) . بحار الأنوار،، ج 82، ص 307.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.