بحوث فی القواعد الفقهیه

اشارة

سرشناسه:سند، محمد، 1962- م.

عنوان و نام پدیدآور:بحوث فی القواعد الفقهیه [کتاب]: تقریرات محمدالسند/ بقلم مشتاق الساعدی.

مشخصات نشر:قم: موسسه محکمات الثقلین؛ تهران: نشر صادق، 13 -

مشخصات ظاهری:5ج.

شابک:978-600-5215-35-9

یادداشت:عربی.

یادداشت:فهرستنویسی بر اساس جلد چهارم، 1437ق.= 2016م.= 1395.

یادداشت:کتاب حاضر بر اساس تقریرات محمد السند نوشته شده است.

موضوع:فقه -- قواعد

موضوع:Islamic law -- *Formulae

موضوع:اصول فقه شیعه

شناسه افزوده:ساعدی، مشتاق

رده بندی کنگره:BP169/5/س9ب3 1300ی

رده بندی دیویی:297/324

شماره کتابشناسی ملی:4803290

ص :1

المجلد 1

اشارة

ص :2

بحوث فی القواعد الفقهیه المجلد 1

تقریرات محمدالسند

بقلم مشتاق الساعدی

ص :3

ص :4

ص :5

ص :6

توطئة

الحمد لله الأول بلا أول کان قبله والآخر بلا آخر یکون بعده، والصلاة والسلام علی خیر من وطأ الحصی واشرف من أظلته السماء محمد بن عبد الله المصطفی وعلی اله الأطهار خزان العلم ومنتهی الحلم .

هذه مجموعة من القواعد الفقهیة التی أنتجها الفکر الوقاد لسماحة الشیخ الأستاذ أیة الله محمد السند(دام ظله) فی أبحاث خارج الفقه والأصول ,والتی تمیزت بطابع التجدید والتحقیق کما عودنا الشیخ فی أکثر أبحاثه ومؤلفاته ,نطرحها بین یدی العلماء والباحثین والمتخصصین للارتشاف من نهل عذبها والتزود من دقیق أبحاثها راجین من الله جل جلاله القبول من سماحة الشیخ ومنا انه ولی التوفیق والتسدید.

وهذا الکتاب عبارة عن سلسلة فی القواعد الفقهیة سمیناه (بحوث فی القواعد الفقهیة) وقد بحث سماحة الشیخ الأستاذ فی هذا المجلد وهو (الجزء الأول) ثمانی عشرة قاعدة من هذه السلسلة نسأل الله تعالی ا تمامها.

والقواعد فی هذا الجزء هی:

1- قاعدة سوق المسلمین.

ص:7

2- قاعدة التقیة.

3- قاعدة الإمکان فی الحیض .

4- قاعدة حرمة إهانة المقدسات.

5- قاعدة نجاسة کل مسکر.

6- قاعدة الأصل فی الأموال الاحتیاط.

7- قاعدة إخبار ذی الید.

8- قاعدة الإقرار بحق مشاع.

9- قاعدة حق الله وحق الناس.

10- قاعدة فی المیتة.

11- قاعدة فی انفعال الماء القلیل.

12- قاعدة کل کافر نجس.

13 - قاعدة الإیمان والکفر.

14- قاعدة تکلیف الکفار بالفروع.

15- قاعدة التبعیة.

16- قاعدة فی عبادة الکافر والمخالف.

17- قاعدة عموم ولایة الأرحام.

18- قاعدة أصالة عدم التذکیة.

و آخِرُ دَعْواناْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمین

الشیخ مشتاق ألساعدی

النجف الاشرف/غرة محرم 1432

ص:8

مقدمة

الحمد لله رب العالمین، حمداً کثیراً أستتم به النعم وأستدفع به النقم، والصلاة والسلام علی خیر الأنام محمد المصطفی وآله الأطهار الکرام.

وقع الکلام بین الأعلام فی إبراز الضابط الموضوعی للتمییز بین القاعدة الفقهیة والأصولیة، لذا نشأت نظریات عدة فی ذلک، لعل أهمها:

النظریة الأولی: إن القاعدة الأصولیة علاقتها مع النتیجة علاقة استنباطیة بمعنی الاستکشاف والإثبات، وناظرة إلی الحکم الأولی الواقعی، بخلاف القاعدة الفقهیة فإن علاقتها مع النتیجة الفقهیة فی الاستدلال علاقة التطبیق المحض.

النظریة الثانیة: إن القاعدة الأصولیة سنخ الحکم فیها لیس حکماً فقهیاً مرتبطاً بعمل المکلف وإنما بعمل المجتهد، بخلاف القاعدة الفقهیة فإن الحکم فیها مرتبط بعمل المکلف.

النظریة الثالثة: إن الحکم والمحمول فی القاعدة الأصولیة حکم ظاهری استطراقی، بینما القاعدة الفقهیة سنخ الحکم فیها حکماً واقعیاً أولیاً.

النظریة الرابعة: إن القاعدة الأصولیة لا تختص بباب فقهی بحال من

ص:9

الأحوال، أما القاعدة الفقهیة فقد تختص فی بعض أمثلتها ببعض الأبواب الفقهیة، وإن اختلفت القاعدة الفقهیة عن المسألة الفقهیة من جهة عدم اختصاص القاعدة بمسألة فقهیة واحدة، بل تعم الکثیر من المسائل الفقهیة، بل فی کثیر من القواعد الفقهیة تعم أبواب فقهیة متعددة فضلا عن بعض المسائل.

النظریة الخامسة: إن القاعدة الأصولیة شأنها الجریان فی الشبهات الحکمیة بخلاف القاعدة الفقهیة فشأنها الجریان فی الشبهات الموضوعیة.

إلی غیر ذلک من الفوارق التی یجدها المتتبع فی کتب الأصول، علماً أن بعض الفوارق ترجع روحاً وجوهراً إلی تلک الفوارق المتقدمة فلاحظ.

بل إن تلک الفوارق المتقدمة ترجع إلی اختلاف الحیثیة التی تتمیز بها مسائل علم الأصول عن الحیثیة التی تمتاز بها مسائل علم القواعد الفقهیة.

وقد ذکر أستاذنا الشیخ السند (دام ظله) فی مواطن کثیرة من بحث خارج الأصول أن هناک ظاهرة ملفتة للنظر وهی وجود قواعد فقهیة تجری فی علوم ومعارف عقدیة کعلم الکلام وغیره، کما تجری فی أصول الفقه وفی علم الفقه، ومثل لذلک بقاعدة (لا ضرر) فقد استدل بها علماء الکلام علی أصل لزوم الفحص عن معرفة الله تعالی ومن ثم لزوم الإیمان به، وکذلک استدل بها علماء الأصول فی مقدمات حجیة الظن ألانسدادی ومنجزیة العلم الإجمالی ومسألة الملازمة بین حکم العقل وحکم الشرع وغیرها من المسائل، وأما استدلال الفقهاء بها فظاهر للعیان.

وکذلک قاعدة (العدل والإنصاف) فإن جذور هذه القاعدة یرجع إلی (حسن العدل وقبح الظلم) وقد استدل بها فی علوم مختلفة سواء علوم عقدیة أو عملیة.

ص:10

وکذلک قاعدة (لا تنقض الیقین بالشک بل انقضه بیقین آخر) فإن المتکلمین استدلوا بهذه القاعدة فی موارد عدیدة من مسائل العقیدة، کما استدل بها فی مسائل نظریة المعرفة لدفع شبهات السوفسطائیین. وکذلک استدل بها فی مسائل النبوة والإمامة والمعاد. وإن المحکم لا یرفع الید عنه بالتشابه.

وأما استدلال علماء أصول الفقه بها فظاهر فی باب الاستصحاب. وکذلک استدلال بها علی مسائل الفقه ظاهر إذ جعلوها کقاعدة فقهیة فی الشبهات الموضوعیة.

بل إن جملة من القواعد الأصولیة لوحظ أنها عملت فی الشبهات الموضوعیة بمثابة قواعد أو وظائف عملیة، کما فی قاعدة (دفع المفسدة أولی من جلب المصلحة).

إلی غیر ذلک من الأمثلة التی یجدها المتتبع للقواعد الکلامیة والحکمیة ومدی اشتراکها مع قواعد الفقه والأصول.

وحینئذٍ یتساءل ما هو الجامع فی معنی کل قاعدة من تلک القواعد المتوفر فیها حیثیّات علوم عدیدة.

فهل هناک وحدة ماهویة لها أو وحدة عنوانیة مع تباین الماهیات بحسب الموارد أو شیء آخر.

لاسیما وأن المعروف فی نظام العلوم وترتیبها أن علوم المعارف اسبق رتبة من علم الفقه والأحکام الفرعیة العملیة وعلومه المقدمیة.

کما أن هناک ظاهرة أخری تسترعی الانتباه وهی أن الأدلة الواردة فی القواعد الفقهیة قد یستفاد منها من العنوان الواحد فی لسانها سنخان من القواعد.

ص:11

فیلتزم بأن قاعدة ( لا حرج) مثلاً حکمة للتشریع وهذا نمط من ضابطة القاعدة کحدود لتشریع الأحکام، وکذلک یستفاد منها کقاعدة رافعة للأحکام التکلیفیة.

وقد فصل الشیخ الأستاذ الکلام فی ذلک حول قاعدة (لا حرج) فی کتابه (ملکیة الدولة الوضعیة) وبین أن هذه القاعدة وقاعدة (لا ضرر) علی نمطین ولسانین وسیأتی فی جزء لاحق إن شاء الله بیان ذلک تفصیلاً.

فإن قاعدة (لا ضرر) کذلک یستفاد منها أنها حکمة فی التشریع من جهة وأنها رافعة للتکالیف من جهة أخری.

وکذلک یلحظ ذلک فی قاعدة (البراءة) وکون الناس فی سعة مما لا یعلمون فإنها فی حین کونها رافعة للتکالیف، استدل بها الأصولیون فی مقدمات الانسداد بما أن مفادها محدد لفلسفة التشریع والجعل لا محدد للمجعول فقط.

إلی غیر ذلک من الأمثلة التی فیها تعدد سنخ القاعدة الواحدة إلی سنخین أو أکثر.

وربما ألجأت هذه الظاهرة جماعة کثیرة إلی تقریب التعارض بین ألسن الأدلة وترجیح أحد الوجهین علی الآخر مع أن الصحیح الموافق للمرتکز عند الکثیر - ولو بحسب ارتکازهم وسیرتهم فی الاستدلال لا بحسب تصریحاتهم وبلورتهم - عدم التنافی بین ذلک.

فلا بد من دراسة هاتین الظاهرتین ونظیرهما من الظواهر للوقوف علی حقیقة الحال.

وهناک ظاهرة ثالثة ایضا فی علم الأصول لطالما أشار إلیها الشیخ الأستاذ فی أبحاث الأصول، وهی وجود مسائل وقواعد أصولیة نظیر

ص:12

المسائل العقلیة الخمسة غیر المستقلة ونظیر قاعدة الملازمة بین حکم العقل والشرع، وکذلک بعض المسائل التی ذکرها صاحب الکفایة قبل مبحث الأوامر من قبیل بحث الصحیح والأعم وبحث المشتق. وکذلک مباحث مقدمات الانسداد وغیرها مما یجده المتتبع من المسائل التی حکموا بأنها من مسائل علم الأصول، إلا أن توسطها ککبری أصولیة للنتیجة لیس علی نمط الاستنباط الاستکشافی والاثباتی، بل بسنخ آخر من الاستنباط هو استخراج النتیجة التفصیلیة وتولیدها من حکم محمول الکبری الإجمالی، فنسبة القاعدة الأصولیة إلی النتیجة الفقهیة من قبیل نسبة المدمج الإجمالی إلی المفصل التفصیلی المتولد من ذلک المعنی المبهم کطی التفاصیل مجموعاً فی المعنی العام، لا کطی الأفراد جمیعاً فی المعنی الکلی الذی هو حقیقة التطبیق فی القواعد الفقهیة، بل هی تولد التفاصیل وتکثرها من المعنی الواحد البسیط، نظیر تولد معنی الجوهر الجسمانی النامی الحساس المتحرک بالإرادة الناطق المدرک للکلیات من معنی وحدانی بسیط مبهم صورةً هو الإنسان.

ونظیر تولد القوانین فی المجالس البرلمانیة (النیابیة) المتکاثرة التفصیلیة من قانون واحد دستوری، وتولد القوانین الوزاریة الکثیرة التفصیلیة من قانون نیابی واحد، وهکذا تولد القوانین فی البلدیة فی المحافظات والأقضیة من قانون وزاری واحد.

فإذا قسنا - فی نهایة المطاف - کیفیة تولد آلاف القوانین البلدیة والنیابیة والوزاریة من الدستور التفتنا إلی أن النسبة الاستنباطیة بین جملة من القواعد الأصولیة والنتائج الفقهیة لیست نسبة الاستنباط بمعنی الاستکشاف ولا نسبة التطبیق کما فی القواعد الفقهیة، وإنما هی نسبة

ص:13

الاستنباط الاستخراجی التولیدی الانشعابی التشجیری التفریعی من الأصل الواحد.

ومن هنا فالصحیح فی تعریف علم الأصول، لیس هو البحث عن دلیلیة الدلیل فقط، فإن هذا النصف المشاع الأول من هذا العلم، والنصف المشاع الثانی هو قواعد ممهدة لاستنباط الحکم الشرعی بنحو التولید والاستخراج.

فیکون التعریف الصحیح هو الجامع للسنخین من هذه القواعد وهما سنخ الاستنباط الاستکشافی الاثباتی وسنخ الاستنباط الاستخراجی التولیدی الثبوتی.

وبذلک تتضح العلاقة بین القاعدة الواحدة التی تجری تارة فی علم الکلام کقاعدة (لا ضرر) وتجری تارة فی علم الأصول وأخری فی علم الفقه.

فإنها بمثابة طبقات من أصل واحد تتوالد کل طبقة کنتیجة من الأخری بنحو الاستخراج المفصل من المجمل المدمج.

وعلی ضوء ذلک لابد من الالتفات إلی أن القاعدة الفقهیة وإن کانت علی تماس من العمل والانطباق والتطبیق علی الموارد العملیة للمکلف إلا أن لها أصلاً منحدرة منه، أصولیاً أو معرفیاً وهذا یلح علینا بشدة لدراسة علم أصول الأحکام المعبر عنه بالمبادی الاحکامیة وعند علماء القانون الوضعی ب--(علم أصول القانون) الذی اکتُشِفَ عندهم أخیراً ولا زال فی بدایاته من دون تنقیح.

وهذا یختلف عن علم القواعد الفقهیة، لکنه ضروری له، لأنه یرسم منظومة العلاقات الرابطة بین القاعدة الفقهیة والأصل الفوقی.

ص:14

وهذا منحی جدید فی علم القواعد الفقهیة یعطینا قراءة عمیقة للقاعدة الفقهیة من خلال ربطها بفلسفة التشریع ومقاصد التشریع وروحها. وینقح ضبط حدود القاعدة وآثارها وطبیعة علاقتها مع قاعدة فقهیة أخری.

هذا تمام ما أردنا ذکره فی المقدمة.

والحمد لله رب العالمین وصلی الله علی محمد وآله الطاهرین.

مشتاق الساعدی

النجف الأشرف

غرة محرم الحرام/1432ه--

ص:15

ص:16

قاعدة سوق المسلمین وأرضهم

اشارة

ص:17

ص:18

من قواعد باب الأطعمة والأشربة قاعدة سوق المسلمین وأرضهم

مفاد القاعدة:

ما یؤخذ من ید المسلم من لحم أو شحم مشکوک التذکیة محکوم بالطهارة ظاهرا بلا خلاف ظاهر فی الجملة .

وذهب الشیخ والفاضل والکرکی(1) إلی التقیید بغیر المستحل للمیتة بالدبغ، والشهید إلی التقیید بالإخبار فی المستحل(2)، وفی مقابل ذلک ذهب صاحب المدارک(3) وجماعة إلی کون الأصل عند الشک هو جواز الاستعمال حتی یعلم کونه میتة، لدلالة بعض النصوص أو لعدم جریان استصحاب عدم التذکیة.

ومقتضی القاعدة استصحاب عدم التذکیة(4)، ویترتب علیه أحکام المیتة، وأما الأمارات المثبتة للتذکیة فهی ید المسلم وسوق المسلمین

ص:19


1- (1) جواهر الکلام، ج36، ص138.
2- (2) الشهید الأول فی الذکری، ج3، ص29.
3- (3) مدارک الأحکام، ج2، ص387، وج3، ص385، طبعة آل البیت.
4- (4) سند العروة الوثقی - کتاب الطهارة - ج1، ص413،للشیخ الأستاذ محمد السند، قاعدة أصالة عدم التذکیة.

وأرضهم وهل هی فی عرض واحد أوطولیة، خلاف بینهم ذهب بعض المحققین منهم السید الخوئی(1) والسید البجنوردی(2) والسید الصدر(3) إلی أن اماریة السوق فی طول ید المسلم بمعنی أن السوق أمارة کاشفه عن ید المسلم وید المسلم هی أمارة التذکیة،فالسوق أمارة علی الامارة. وذهب بعض آخر(4) إلی کونها أمارة فی عرض أمارة الید.

وتحقیق الحال یتضح من خلال عرض أدلة القاعدة.

أدلة القاعدة:

استدل الفقهاء بعدة أدلة علی هذه القاعدة، منها الإجماع بین المسلمین، والسیرة المتشرعیة، ودلیل حفظ النظام. والکل کما تری.

والعمدة من الأدلة هی الأخبار وهی علی طوائف:

الطائفة الأولی: ما تدل علی أن الأصل التذکیة ما لم یعلم أنه میتة.

1. موثقة سماعة بن مهران انه سأل أبا عبدالله(علیه السلام) عن تقلید السیف فی الصلاة وفیه الفراء (الغرا) والکیمخت؟ فقال: لا بأس ما لم تعلم انه میتة(5).

ص:20


1- (1) التنقیح فی شرح العروة الوثقی - کتاب الطهارة المجلد الثانی، ص452، من موسوعة السید الخوئی(قدس سره)، تقریرات المیرزا الشهید الشیخ علی الغروی(قدس سره).
2- (2) القواعد الفقهیة للسید البجنوردی، ج4، ص160، الطبعة المحققة بتحقیق المهریزی والدرایتی.
3- (3) بحوث فی شرح العروة الوثقی، ج3، ص177، للسید الشهید محمد باقر الصدر(قدس سره).
4- (4) کما یظهر من السید الخمینی فی کتاب الطهارة، ج4، ص251، والسید الکلبایکانی فی تعلقیات العروة ج1، ص126، طبعة جماعة المدرسین
5- (5) وسائل الشیعة، ج3، ص493، باب من ابواب النجاسات، ح11، طبعة آل البیت.

والکیمخت کما فی بعض کتب(1) اللغة جلد الفرس أو الحمار المدبوغ مقابل الفرا، وهو یناسب المقابلة فی الروایة أیضا.

وفی مجمع البحرین(2) (بالفتح والسکون وفسّر بجلد المیتة المملوح وقیل هو الصاغری المشهور) والثانی هوالذی ذکرناه أولا، ولعل المتعارف فی جلود الدواب أخذها مما ماتت إذ لا یتعارف ذبحها للأکل فیکون المعنی واحداً. وسیأتی تفسیره من قبل السائل أیضا فی روایة البطائنی.

2. معتبرة ألسکونی عن أبی عبد الله(علیه السلام) أن أمیر المؤمنین(علیه السلام) سئل عن سفرة وجدت فی الطریق مطروحة کثیر لحمها وخبزها وجبنها وبیضها وفیها سکّین، فقال أمیر المؤمنین(علیه السلام): یقوّم ما فیها ثمّ یؤکل، لأنه یفسد ولیس له بقاء، فإذا جاء طالبها غرموا له الثمن، قیل له یا أمیر المؤمنین(علیه السلام) لا یدری سفرة مسلم أم سفرة مجوسی؟ فقال: هم فی سعة حتی یعلموا(3).

حیث أن فرض السؤال هو تردد اللحم بین المذکی والمیتة.

3. روایة علی بن أبی حمزة البطائنی أن رجلا سأل أبا عبد الله(علیه السلام) - وأنا عنده - عن الرجل یتقلّد السیف ویصلّی فیه؟ قال: نعم، فقال الرجل: إن فیه الکیمخت قال:

وما الکیمخت؟ قال: جلود دواب منه ما یکون ذکیا، ومنه ما یکون میتة، فقال: ما علمت انه میتة فلا تصلّ فیه(4).

4. صحیحة جعفر بن محمد بن یونس الأحول أن أباه کتب إلی أبی

ص:21


1- (1) فرهنک فارسی عمید.
2- (2) مجمع البحرین، ج2، ص441، للعلامة الطریحی.
3- (3) وسائل الشیعة ج3، ص493، باب50 من أبواب النجاسات ح11. طبعة آل البیت.
4- (4) المصدر ح4.

الحسن(علیه السلام) یسأله عن الفرووالخف، ألبسه وأصلی فیه ولا أعلم انه ذکی؟ فکتب: لا بأس به(1).

وغیرها من الروایات إلا أنها أضعف ظهورا منها مع کونها فی موارد وجود الإمارات من السوق أوالید أو أثر الاستعمال الدال علی التذکیة وإن عدّت فی بعض الکلمات من الروایات المطلقة لکن سیأتی ضعفه.

الطائفة الثانیة: ما تدل علی أن الأصل عند الشک عدم التذکیة إلا أن تحرز:

1. موثقة ابن بکیر (... فان کان مما یؤکل لحمه فالصلاة فی وبره وبوله وشعره وروثه وألبانه وکل شیء منه جائز إذا علمت انه ذکی قد ذکّاه الذبح...)(2).

وکذا ما ورد(3) من لزوم العلم باستناد الموت فی الحیوان إلی سبب التذکیة من آلة صید أو ذبح، والبناء علی حرمة الأکل عند التردد فی استناده إلی السبب المحلل أو إلی غیره.

وأشکل: علی هذه الطائفة من الروایات أن مفادها البناء علی حرمة الأکل فی المشکوک وعدم جواز الصلاة ولیس هو البناء علی مطلق آثار المیتة حتی النجاسة(4).

وفیه: انه قد ذکرنا أن وجه عدم جواز الصلاة فی غیر المذکی هو النجاسة، وإن کان المراد التفرقة بین حرمة الأکل والأثرین الآخرین فمآله

ص:22


1- (1) المصدر ح4، ص456، باب 55، من ابواب لباس المصلی ح4، طبعة آل البیت.
2- (2) وسائل الشیعة ج4، ص345، باب2 من أبواب لباس المصلی ح1. طبعة آل البیت.
3- (3) الوسائل ابواب الصید، باب 14، 16، 18، 19.
4- (4) کتاب الطهارة، ج3، ص530، للسید الخمینی (قدس سره).

إلی أصالة الحرمة فی اللحوم فیکون أصلا حکمیا خاصا باللحوم وهوخلاف المنساق من الروایات من کونها من التعبد بالعدم فی الموضوع.

2. مصحح محمد بن الحسین الأشعری قال: کتب بعض أصحابنا إلی أبی جعفر الثانی(علیه السلام): ما تقول فی الفرو یشتری من السوق؟ فقال: (إذا کان مضمونا فلا بأس)(1) بتقریب دلالتها بالمفهوم علی ثبوت البأس بانتفاء الأمارة وهو إخبار ذی الید أو الثقة الذی هو معنی الضمان المذکور، إذ هو المناسب للطهارة لا الضمان المعاملی، فظاهرها دال علی ما ذهب إلیه الشهید - کما مر - من لزوم الإخبار وإن خصصها بالمستحل بمقتضی حجیة بعض الأمارات.

3. صحیح الحلبی عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال: تکره الصلاة فی الفراء إلا ما صنع فی أرض الحجاز أوما علمت منه ذکاة(2).

والکراهة فی استعمال الروایات بمعنی الحرمة ما لم تقم قرینة علی الخلاف،

ومورد عموم المستثنی منه هو عند عدم العلم وانتفاء الأمارة، وظاهرها دال أیضا علی ما ذهب الیه الشیخ - کما مر - وجماعة من عدم حجیة ید المستحل کسوق العراق فی عصر الصدور.

4. روایة أبی بصیر قال: سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن الصلاة فی الفراء؟ فقال: کان علی بن الحسین(علیه السلام) رجلا صردا، لا یدفئه فراء الحجاز، لأن دباغها بالقرظ، فکان یبعث إلی العراق فیؤتی مما قبلکم

ص:23


1- (1) الوسائل، ج3، ص493، باب50 من أبواب النجاسات ح1. طبعة آل البیت.
2- (2) الوسائل، ج4، ص462، باب61 من أبواب لباس المصلی، ح1.

بالفرو، فیلبسه، فإذا حضرت الصلاة ألقاه وألقی القمیص الذی یلیه، فکان یسأل عن ذلک؟ فقال: إن أهل العراق یستحلّون لباس الجلود المیتة، ویزعمون أن دباغه ذکاته(1).

وهی دالة علی ثبوت المانعیة الظاهریة والنجاسة بإلقائه(علیه السلام) إیاه والقمیص الذی یلیه عند الشک إذ المجلوب من العراق حینئذ غایة الحال فیه هو الشک أو الظن بعدم وقوع الذکاة علیه.

نعم یحتمل ان وجه إلقاء القمیص الذی یلیه لا للنجاسة بملاقاة الفرو بل لحمل القمیص أجزاء صغارا من الفرو إلا أنه تقدم أن وجه مانعیة غیر المذکی هو النجاسة.

وهی أیضا دالة علی عدم حجیة ید المستحل للمیتة، ولیس فی الروایة ما یدل علی وقوع الشراء وصحته المتوقفة علی التذکیة کی تکون دالة علی حجیة ید المستحل علی التذکیة مع رجحان الاحتیاط والاجتناب، اذ بعثه(علیه السلام) الی العراق لعله بالبذل فی مقابل رفع الید وحق الاختصاص، مع أن الصحیح جواز شراء المیتة بلحاظ المنافع المحللة کما أثبتنا فی کتاب البیع، وکذا الانتفاع بها.

مع أن اللازم التفکیک فی الاحتیاط بین الصلاة والاستعمال المجرد الذی هو متعلق الحرمة التکلیفیة علی القول بحرمة الانتفاع.

نعم الوجه فی تخصیص المشکوک بالمجلوب من العراق مع أن حکم المشکوک مطلقا واحد، هو الترکیز علی خطاء فهمهم للحدیث النبوی الوارد فی الشاة المهزولة لئلا تسری سنتهم الباطلة فی الأذهان، لاسیما فی

ص:24


1- (1) المصدر، ح2.

الخاصة، وإلا فبقیة الشروط المعتبرة فی التذکیة فیها ما هو معتبر مطلقا وان کان الذابح جاهلا بالحکم، ویشیر الی ذلک تعدد الروایات الواردة فی تخطئتهم فی معنی الحدیث النبوی.

الطائفة الثالثة: ما تدل علی البناء علی التذکیة فی المأخوذ من سوق المسلمین أو أرضهم أو ید المسلم:

1. صحیح الحلبی قالت: سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن الخفاف التی تباع فی السوق؟ فقال: اشتر وصلّ فیها حتی تعلم انه میت بعینه(1).

2. صحیح ابن أبی نصر قال: سألته عن الرجل یأتی السوق فیشتری جبة فرا لا یدری أذکیة هی أم غیر ذکیة أیصلی فیها؟ فقال: نعم، لیس علیکم المسألة، إن أبا جعفر(علیه السلام) کان یقول: إن الخوارج ضیّقوا علی أنفسهم بجهالتهم، إن الدین أوسع من ذلک(2).

3. ومثله صحیحه الآخر فی الخف(3).

4. ومثلهما روایة الحسن بن الجهم وفیها قول الراوی (إنی أضیق من هذا، قال(علیه السلام): أترغب عما کان أبو الحسن(علیه السلام) یفعله)(4).

5. معتبرة أبی الجارود قال: سألت أبا جعفر عن الجبن فقلت له: أخبرنی من رأی انه یجعل فیه المیتة؟ فقال: (... إذا علمت انه میتة فلا تأکله، وان لم تعلم فاشتر وبع وکل، واللهإنی لاعترض السوق فاشتری بها اللحم والسمن والجبن والله ما أظن کلهم یسمّون هذه البربر وهذه

ص:25


1- (1) وسائل الشیعة، ج3، ص490، باب50 من أبواب النجاسات ح2. طبعة آل البیت.
2- (2) المصدر، ح3.
3- (3) المصدر، ح6.
4- (4) المصدر، ح9.

السودان)(1).

6. موثق إسحاق بن عمار عن العبد الصالح(علیه السلام) انه قال: لا بأس بالصلاة فی الفرا الیمانی، وفیما صنع فی أرض الإسلام، قلت: فإن کان فیها غیر أهل الإسلام؟ قال: إذا کان الغالب علیها المسلمین فلا بأس(2).

والغالب إما بمعنی الکثرة کما هو مناسب فرض السؤال أو بمعنی القهر والخضوع لحکم المسلمین علی احتمال إذ فرض السؤال هو البلاد الخاضعة لحکم الإسلام حیث إن الضمیر عائد لذلک.

ودعوی: أن هذه الروایات مطلقة عند الشک وأن ذکر السوق فی السؤال کمورد حیث أن البناء علی التذکیة فی الجواب هو لمجرد عدم العلم)(3).

ضعیفة: بعد صلاحیة السوق للاماریة، غایة الأمر هی أمارة فعلیة بمنزلة الأصل العملی المحرز، ولذلک یذکر فیها العلم بالخلاف کغایة.

7. روایة عبد الرحمن بن الحجاج قال: قلت لأبی عبد الله(علیه السلام): إنی أدخل سوق المسلمین ... اعنی هذا الخلق الذین یدّعون الإسلام- فأشتری منهم الفراء للتجارة فأقول لصاحبها: ألیس هی ذکیة؟ فیقول: بلی، فهل یصلح لی أن أبیعها علی أنها ذکیة، فقال: لا، ولکن لا بأس أن تبیعها وتقول قد شرط لی الذی اشتریتها منه أنها ذکیة، قلت: وما أفسد ذلک؟ قال: استحلال أهل العراق للمیتة وزعموا أن دباغ جلد المیتة ذکاته،

ص:26


1- (1) المصدر، ج25، ص119، باب 61 من أبواب الأطعمة المباحة، ح1، طبعة آل البیت.
2- (2) وسائل الشیعة، ج3، ص491، باب50 من أبواب النجاسات ح5.
3- (3) کتاب الطهارة، للسید الخمینی (قدس سره)، ج3، ص535.

ثمّ لم یرضوا أن یکذبوا فی ذلک إلا علی رسول الله صلی الله علیه و آله (1).

8. صحیح الفضلاء أنهم سألوا أبا جعفر(علیه السلام) عن شراء اللحوم من الأسواق ولا یدری ما صنع القصابون فقال: کل إذا کان ذلک فی سوق المسلمین ولا تسأل عنه(2).

الصحیح إلی إسماعیل بن عیسی قال: سألت أبا الحسن(علیه السلام) عن الجلود الفرا یشتریها الرجل فی سوق من أسواق الجبل، أیسأل عن ذکاته إذا کان البائع مسلما غیر عارف؟ قال: علیکم أنتم أن تسألوا عنه إذا رأیتموهم المشرکین یبیعون ذلک، وإذا رأیتم یصلّون فیه فلا تسألوا عنه(3).

وفی الفقیه(4) سأل (إسماعیل بن عیسی) والطریق حینئذ أیضا مشتمل علی (إسماعیل بن عیسی) کما لا یخفی وهو وان لم یوثق إلا انه روی عنه إبراهیم بن هاشم ومحمد بن علی بن محبوب وأحمد بن محمد بن عیسی عن أبنه سعد عنه، وفی کتاب الحدود من الکافی فی باب النوادر عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد فی مسائل إسماعیل بن عیسی عن الأخیر(علیه السلام) وفیه نحو إشارة إلی معروفیته وکونه معتمدا وصاحب مسائل معروفة کما ذکره الوحید فی تعلیقته هذا مع عمل مشهور القدماء بها.

وهی دالة علی حجیة السوق للمسلمین بالمفهوم أی فی فرض عدم

ص:27


1- (1) وسائل الشیعة، ج3، ص503، باب61 من أبواب النجاسات 4.
2- (2) المصدر، ج24، ص70، باب 29 من ابواب الذبائح، ح1. طبیعة آل البیت.
3- (3) وسائل الشیعة، ج3، ص492، باب50 من أبواب النجاسات ح7.
4- (4) الفقیه للشیخ الصدوق، ج1، ص258، الروایة رقم (792) (وسأل إسماعیل بن عیسی ابا الحسن الرضا(علیه السلام) عن الجلود والفراء یشتریه الرجل فی سوق من اسواق الجبل، أیسأل عن ذکاته إذا کان البائع مسلماً غیر عارف، قال(علیه السلام): علیکم ان تسالوا عنه إذا رأیتم المشرکین یبیعون ذلک، وإذا رأیتموهم یصلون فلا تسالوا عنه.

بیع المشرکین، کما أنها دالة علی حجیة ید المسلم وإخبار ذی الید بالمنطوق فی فرض عدم سوق المسلمین أی فرض بیع المشرکین.

وتقریب ذلک أن الراوی فرض أن البائع هو المسلم غیر العارف لا المشرک أو المشرکون، وتفصیل الجواب هو فی نفس الفرض حیث أن التعبیر عن المشرکین البائعین بالجمع للدلالة علی انتفاء سوق المسلمین وأنها سوق مشترکة بینهم وبین المشرکین أو أن الغالب فیها هم المشرکون.

فحینئذ لزم السؤال من البائع أو الاکتفاء بالاستعمال منه الکاشف عن التذکیة، ونکتة لزوم السؤال أو الاستعمال الکاشف کالصلاة فیه هو إما اماریة سوق المشرکین علی عدم التذکیة، فلا بد من قیام أمارة أقوی علی التذکیة فتکون الروایة دالة علی کل ذلک، واما أن وضع الید بمجردها لیس أمارة علی التذکیة کإماریتها علی الملکیة، بل لا بد من التصرف الکاشف عن ذلک.

نعم لو بنی علی حرمة بیع المیت لکان البیع بنفسه کاشفا عن التذکیة فیتعین حینئذ الاحتمال الأول، إلا أنه الظاهر تفاوت قیمة الجلد المذکی والمیت، فالبیع بقیمة الأول کاشف أیضا فلعله یبنی فی مفاد الروایة علی اماریة الید بمجردها إلا أن سوق الکفار أقوی اماریة علی عدم التذکیة.

ولا بد حینئذ من أمارة أقوی من سوق الکفار کاشفة عن التذکیة وهو إخبار ذی الید المسلم أوتصرفه المجرد المتوقف علی التذکیة، وأما الشق الآخر فی تفصیل الجواب فهو المفهوم وهو کون السوق للمسلمین فلیس علیه السؤال حینئذ، وتتمة الکلام فیها تأتی فی تنبیهات القاعدة.

9. صحیحة حفص بن البختری قال: قلت لأبی عبد الله(علیه السلام): رجل ساق الهدی فعطب فی موضع لا یقدر علی من یتصدّق به علیه ولا

ص:28

یعلم انه هدی، قال: ینحره ویکتب کتابا انه هدی یضعه علیه لیعلم من مرّ به انه صدقة(1).

10. فی صحیح معاویة بن عمار عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال: إذا أصاب الرجل بدنة ضالة فلینحرها ولیعلم أنها بدنة(2).

وغیرها من روایات باب الذبح فی الحج مما یدل علی حجیة إخبار ذی الید أوالأثر الدال علی التذکیة منه، حیث قد فرض عطب الهدی فی المکان الذی لا یعلم انه هدی، کما أنها تدل علی عدم أمارة الأرض مجردة عن الأثر.

محصّل مفاد الطوائف الثلاثة:

اختلفت الأنظار فی ذلک فقیل بوقوع المعارضة بین إطلاق الطائفتین الأولیتین، حیث أن الظاهر من الأولی هو جعل أصالة التذکیة بمجرد الشک وعدم العلم لا لوجود أمارة ولا انصراف فیها إلی ذلک بعد ما تقدم من الظهور، وعلی خلاف ذلک مفاد الطائفة الثانیة، فتحمل الثانیة علی استحباب الاجتناب ویشهد له صحیح الحلبی المتقدم فی الطائفة الثانیة حیث أن الکراهة فیه فی غیر ما صنع فی ارض الحجاز محمولة علی التنزیه بقرینة بقیة الروایات.

وکذا یشهد مصحح محمد بن الحسین الأشعری الدال علی ثبوت البأس إذا لم یکن مضمونا وان کان مأخوذا من السوق وهو محمول علی التنزیة أیضا بقرینة ما دل علی حجیة السوق، وترتفع الکراهة فی موارد

ص:29


1- (1) وسائل الشیعة، ج14، ص141، باب31 من أبواب الذبح، ح1.
2- (2) المصدر، ح2.

وجود الأمارة علی التذکیة الذی هو مفاد الطائفة الثالثة(1).

ولکن یرد:

أولا: إن سیاق موثق ابن بکیر الذی اشتمل علی أن الصلاة فاسدة (لا یقبل الله تلک الصلاة فیما لا یؤکل لحمها حتی یصلها فیما یؤکل لحمه اذا علمت انه ذکی) آب عن الحمل علی الاستحباب.

ثانیا: أن جعل عدّة من الأمارات بالخصوص علی التذکیة خاصة مع وجود أصالة التذکیة کوظیفة عملیة، لمجرد رفع الکراهیة والحزازة لا یلتئم مع مفهوم ذلک الجعل الذی هو أن الأصل العملی یقتضی المنع فی غیر موارد تلک الامارات.

ثالثا: أن جعل وظیفتین عند الشک کأصلین عملیین متقابلین محمول. أحدهما علی التنزیه هو طرح لمفاد المحمول، إذ الظاهر من مفاده البناء العملی علی طبقه تعیینا.

رابعا: وهو العمدة أن موارد الطائفة الأولی هی موارد الطائفة الثالثة ومجرد کون لسان من البناء علی التذکیة لمجرد الشک وعدم العلم بالمیتة لا یقضی بعدم وجود إمارة، إذ هو نظیر التعبیر فی معتبرة مسعدة بن صدقة عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال: کلّ شیء هولک حلال حتی تعلم انه حرام بعینه فتدعه من قبل نفسک، وذلک مثل الثوب یکون علیک قد اشتریته وهو سرقة، أو المملوک عندک ولعله حرّ قد باع نفسه أو خدع فبیع أو امرأة تحتک وهی أختک أو رضیعتک والاشیاء کلها علی هذا حتی یستبین لک

ص:30


1- (1) کما ذهب الی ذلک جماعه منهم السید عبد الأعلی السبزواری فی مهذب الاحکام، ج1، ص325. والشیخ عبد الکریم الحائری، کتاب الطهارة، ج1، ص422.

غیر ذلک أو تقوم به البینة(1).

إذ مفادها علی التحقیق - وان کان تنظیر أصالة الحل بالأمارات الأخری کالید والاقرار والشک وغیرها - فی العمل بالحکم الظاهری حتی ینکشف خلافه، إلا أن سیاقها ولحنها، سیاق الطائفة الأولی فی المقام فی العمل بالظاهر حتی ینکشف الخلاف وعدم الاعتناء باحتمال الخلاف وعدم الحیرة والتردد.

فنکتة الترتب علی عدم العلم هو کونه مورد الامارة وموضوع الأصل، فصرف أخذه لا یعنی کونه موضوعا، ألا تری أنه أخذ فی لسان الطائفة الثالثة عدم العلم أیضا، مع أنه مورد للأمارات فیها لا موضوع لها، لاسیما معتبرة أبی الجارود المتقدمة فی السوق لشراء اللحم والسمن والجبن مع أن الروایات الأخری الواردة فی الجبن بلسان کل شیء لک حلال حتی تعلم انه حرام فلاحظ ذلک الباب.

کما أن الصحیح ان ما نحن فیه امارة فعلیة لا لفظیة، وهی من قبیل الأصل المحرز المأخوذ فی موضوعه الشک المغیی بالعلم لا الأمارة اللفظیة، فأخذ الشک أعم من الأمارة الفعلیة التی هی أصل عملی محرز والأصل الوظیفی غیر المحرز، کما هو الحال فی قاعدة الفراغ والتجاوز والصحة، وهو الوجه فی التثنیة فی التعبیر فی کثیر من موارد الأمارات الأفعالیة تارة بعنوانها وأخری بلسان الأصل العملی.

وبمقارنة لسانی الأولی والثالثة یظهر وحدة السیاق، وبملاحظة أن أسئلة الرواة فرضها فی الوقائع الخارجیة التی هی فی موارد الامارات من

ص:31


1- (1) تهذیب الاحکام، ج7، ص226 باب 21 من الزیادات، ح9.

السوق والید والأرض مع اثر الاستعمال فی الغالب الاکثر یتضح بعد استظهار جعل الأصل فی مفادها، الذی هو منشأ الانصراف.

ان قلت: کیف یفکک بین الطائفتین فیدعی الانصراف فی الأولی لموارد وجود الأمارات بخلاف الثانیة فإنها تبقی علی إطلاقها.

قلت: الفارق ظاهر حیث أن الفرض فی بعضها بلسان القضیة الکلیة الحقیقیة والآخر منها فی الصید والذبح مع التردد وفرض عدم وجود إمارة.

وأما معتبرة السکونی فی السفرة المطروحة فمورد السؤال وإن کان عن کل من التذکیة فی اللحم والطهارة فی البقیة، إلا أن مورد السؤال فی المطروحة فی الطریق من أرض المسلمین الغالب فیها أهل الإسلام مع أثر الاستعمال کما فی موثق إسحاق المتقدم، بعد کون السؤال أیضا عن واقعة خارجیة.

خامسا: أن النسبة منقلبة علی فرض إطلاق الطائفة الأولی کما هو الحال فی الثانیة، حیث أن الثالثة أخص مطلقا من الثانیة فتخصصها، فتنقلب نسبتها مع الأولی إلی العموم والخصوص المطلق فتکون دائرة الأولی فی موارد الثالثة فقط، ولک أن تقول أن منطوق الثالثة أخص مخالف مع الثانیة، ومفهوم الثالثة أخص مخالف مع الأولی، فیخصص بها منطوقا ومفهوما کل منهما بدون التوسّل بانقلاب النسبة فتدبر.

إن قلت: إن تخصیص الأولی بموارد وجود الأمارات یلزم منه لغویة الأصل العملی المجعول فیها.

قلت: إن الخاص والتخصیص به قرینة علی أن مفادها لیس هو جعل الأصل العملی، بل العمل بالحکم الظاهری مع عدم العلم وعدم کشف الخلاف.

ص:32

تنبیهات القاعدة

التنبیه الأول: عموم اماریة سوق المسلمین:

وقع الخلاف فی عموم اماریة السوق والید للمستحل للمیتة بالدباغة أو لذبائح أهل الکتاب(1) أو لفقدان بعض شرائط التذکیة بالصید والذباحة کالنحر والذبح مکان الآخر، والصید بغیر الکلب المعلّم وغیر ذلک من الاختلاف فی الشرائط.

ویدل علی العموم جعل أماریتها فی عصر صدور النص والذی کان الغالب فیه العامة بل فی الطائفة الثالثة المتقدمة تنصیص صحیح ابن أبی نصر بعدم السؤال (لیس علیکم المسالة) والحثّ فی روایة ابن الجهم، وإتیان لفظ العموم فی الصلة فی موثق إسحاق عطفا علی الفرا الیمانی، وخصوص روایة ابن الحجاج فی المأخوذ من المستحل وعدم البیع علی انها ذکیة أی عدم الشهادة بذلک کما لا یخفی.

فما فی الطائفة الثانیة من صحیح الحلبی من الکراهة فی غیر ما صنع فی أرض الیمن وثبوت البأس من دون إخبار البائع، وتعهده بالصدق فی التذکیة فی مصحح الأشعری، وإلقائه(علیه السلام) للفرا المجلوب من العراق فی روایة أبی بصیر، فکله محمول علی أولویة التنزه بعد کونه ظهورا لا یقاوم النص، کما قد تقدم وجه تخصیص الاجتناب بالمشکوک المجلوب من العراق.

والاعتماد: فی التعمیم علی ثبوت الملکیة فی المشکوک بالید والسوق،

ص:33


1- (1) خلافاً للشیخ فی النهایة، والعلامة فی التذکرة، ج1، ص94، والتحریر ج2، ص159. و الشهید فی الذکری، ص143، والقواعد ج1، ص42.و الکرکی فی حاشیة الشرائع، ص74 وغیرهم.

بالضرورة فی السیرة القائمة وثبوتها ملازم ومترتب علی التذکیة فتکون تلک الأمارات حجة فی ذلک(1).

ضعیف: حیث أنه مبنی علی عدم مالیة وملکیة الجلود من المیتة وسیأتی منعه، مضافا الی أن المالیة علی ذلک المبنی متصورة أیضا بالإضافة إلی حق الاختصاص، مع أن جریان الید فی الکشف عن الملکیة عند الشک فی کون ذات الشیء مما یتمول أم لا، محل نظر کما لو شک أن ما بیده جلد کلب أو جلد شاة.

هذا: وقد تقدم حاصل مفاد الصحیح إلی إسماعیل بن عیسی وانه لیس بصدد نفی تعمیم الحجیة، وکذا روایة أبی بصیر وغیرها مما یوهم ذلک، نعم البناء علی السوق والید من المستحل یکون حینئذ أقرب للأصل العملی منه إلی الأمارة بعد هذا الاختلاف فی شروط التذکیة، کما فی تعبیره(علیه السلام) فی معتبرة أبی الجارود (واللهما أظن کلهم یسمّون هذه البربر وهذه السودان).

إلا انه لا یخلو من کشف ما عن التذکیة الواقعیة بعد عدم کون ما یتفق وقوعه فی الغالب من موارد الاختلاف وأن بعض الشروط علمیة عمدیة کالاستقبال علی قول، غایة الأمر الکشف فی المقام کما هوالحال فی الأمارات الفعلیة، الذی هو بدرجة وبمنزلة الأصول المحرزة، ومن ذلک یحتمل مغایرتهما لأصالة الصحة فی الأفعال المعهودة.

التنبیه الثانی: السوق أماره فی عرض امارة الید:

الظاهر أن إماریة السوق والصنع فی أرض الإسلام ونحوه من

ص:34


1- (1) کتاب الطهارة، للسید الخمینی (قدس سره)، ج3، ص544.

الاستعمال فی أرضهم کاشفة مباشرة عن التذکیة کالید، لا أنها کاشفة عن الید أو إسلام ذی الید ومن ثمّ الید تکشف عن التذکیة خلافا لمشهور المتأخرین.

والوجه فی ذلک أن الید بمعنی الاستیلاء کما تقدم لا تکشف بمجردها عن التذکیة کما هو الحال فی الکشف عن الملکیة، بل لا بد أیضا من الاستعمال المتوقف علیها.

وحینئذ فالتسویق والصنع ونحوهما هی من مصادیق استعمال الید ونمط منه، ومن هنا ذکر غیر واحد أنه لولا مخالفة المشهور لألتزم بأن سوق المسلمین أمارة وأن کان البائع کافراً(1).

والظاهر أرادة المبیع الذی یسوق بین المسلمین وان وقع بید البائع الکافر، أی یکون مصدره التسویق والصنع من المسلمین، فتکون ید الکافر مسبوقة بالأمارة علی التذکیة والالتزام به غیر مخالف للمشهور کما یأتی.

ویشهد للمباشرة فی الکشف ان فرض السؤال فی الطائفة الثالثة لیس عن الشک فی البائع أوفی کون المبیع مأخوذا من ذی ید مسلمة، بل عن الشک فی أصل وقوع التذکیة بملاحظة عدم الالتزام من نوع العامة بشروط التذکیة.

نعم ذیل موثق إسحاق ظاهر فی أن منشأ الشک فی التذکیة هو الشک فی إسلام الصانع للجلد، لکنها أیضا لیست تجعل حجیة وکاشفیة الصنع

ص:35


1- (1) کما ذهب الی ذلک السید الکلبایکانی، فی تعلیقات علی العروة، ج1، ص126، فقال: الظاهر من الأخبار ان المأخوذ من سوق الاسلام ولو من ید الکافر - ان لم یعلم سبقه بسوق الکفر - محکوم بالطهارة، والمأخوذ من سوق الکفر ولو من مسلم - ان لم یعلم سبقه بسوق الاسلام - محکوم بالنجاسة ...).

فی أرض یغلب فیها المسلمون علی إسلام الصانع للجلد، ومن ثمّ یده کاشفة عن التذکیة، إذ لوکان مفادها ذلک لکانت من أدلة إماریة الغلبة علی إسلام مجهول الحال لترتیب مطلق الآثار کوجوب غسله وطهارته وغیر ذلک، مع أنهم لم یتمسکوا بها ولا بروایات المقام.

نعم ذکرها البعض فی بعض موارد الشک فی إسلام مجهول الحال لتأیید اماریة الغلبة فی السیرة المتشرعیة.

فتحصل أن مفادها أیضا التذکیة وان کان منشأ الشک فی وقوع التذکیة الجهل بالصانع، وکذا یظهر من معتبرة السکونی المتقدمة فی السفرة ان الشک هوفی إسلام صاحب اللحم والسفرة، ومقتضاها التعبد بإسلام صاحب اللحم حتی یعلموا انه مجوسی فتکون اماریّة الأرض مع وجود الأثر طولیة.

إلا أن الأظهر هو أماریتها علی التذکیة مباشرة لما تقدم من عدم کونها بصدد الکشف عن إسلام مجهول الحال ومن ثم تحرز موضوع حجیة ذی الید الکاشفة عن التذکیة کما لا یخفی، إذ هی فی صدد حلیة الموجود من جهة تذکیته، غایة الأمر منشأ الشک فی التذکیة یختلف بلحاظ شروطها من إسلام الذابح أوالتسمیة أوالاستقبال.

التنبیه الثالث: أماریة سوق الکفار:

ذهب الفقهاء إلی أن الأصل فی اماریة سوق الکفار وید الکافر غیر المسبوقتین بمثلهما من المسلمین هوعدم التذکیة.

والوجه فی ذلک: ما ذکرنا فی حجیة الید علی الطهارة، من أن الأمارات المعتبرة لیس فی الغالب مخترعة موضوعة من الشارع، بل

ص:36

الاعتبار الشرعی إنما هوفی المحمول والحجیة إمضاء، وقد تقدم هناک أن استعلام حال العین التی تحت ید شخص إنما هو من ذلک الشخص.

فکما أن الحال فی السوق والید من المسلمین فمن الکافر کذلک، وقد یتأمل فی کشفهما کما تقدم فی ید المسلم من دون استعمال، واستعمال الکافر لیس مبنی علی عدم التذکیة والمیتة، کی یکون کاشفا عن عدم التذکیة، نعم لوأخبر بحال ما فی یده یدخل فی البناء العقلائی القائم علی کاشفیة الید.

وقد یستدل أو یؤیّد اعتبارهما علی عدم التذکیة بما ورد(1) من النهی عن شرب العصیر الذی یؤخذ من المستحل للعصیر المغلی علی النصف أو الثلث إن لم یستظهر أن المنع لاستصحاب بقاء الحرمة، وبما فی الصحیح الی إسماعیل بن عیسی المتقدم فی السؤال إذا کان البائع مشرکا الدال علی حجیة أخباره وإلا للغی السؤال، لکنک عرفت أنه لیس من فرض الروایة فراجع.

نعم فی الروایة دلالة علی حجیة سوق المشرکین کما تقدم بیانه، حیث انها تدل علی سقوط ید المسلم فی سوق الکفار (إذ رأیتم المشرکین یبیعون ذلک) من دون إخبار بالتذکیة أو استعمال مجرد متوقف علیها کالصلاة مع أن بیع البائع المسلم غیر العارف کاشف عن التذکیة فی حدّ نفسه، لولا اماریة سوق الکفار إذ لو کان عدم التذکیة هو بمقتضی الأصل العملی لما کانت ید المسلم مع البیع ساقطة.

هذا وهل یؤخذ بإخبار ذی الید الکافر علی التذکیة، قد یستدل بروایة إسماعیل کما تقدم، والخدشة ما قد عرفت من مفاد الروایة، بل من

ص:37


1- (1) وسائل الشیعة، ابواب الأطعمة والاشربه، باب7، ح1، ح6.

روایات(1) النهی عن الاعتداد بإخبار المستحل للعصیر المغلی علی النصف والثلث بذهاب الثلثین، یظهر عدم الاعتداد بأمثاله من المقامات وان کان بین المقام ومورد النهی فرق، الا انه غیر مضر ملاکا کما یظهر بالتدبر.

التنبیه الرابع: تقدم ید الکافر أو تأخرها:

قد ظهر حال سبق ید الکافر وسوقه علی مثلهما من المسلم أو العکس من تضاعیف ما تقدم، ومجمل الکلام أن مع تقدم سوق الکافر أو یده علی ید المسلم أو سوقه فلا اعتداد بالأخیرین کما هو مفاد روایة إسماعیل بن عیسی وکما هو مقتضی القاعدة فی أمثال المقام مما لا تکون الأمارة المتأخرة زمانا معارضة للمتقدمة زمانا.

حیث أن الشیء لا تطرأ علیه حالة تبدل فتکون المتقدمة زمانا حاکمة أو واردة، وکذا الحال فی العکس، ولکنه لیس علی إطلاقه کما اختاره المیرزا النائینی(2) فی المقام بل فیما لم تکن المتأخرة ناظرة إلی أصل الوقوع المتقدم بل إلی الظرف الحالی وإلا فیقع التعارض وحینئذ التقدیم بالتعبد المستفاد من روایة إسماعیل بن عیسی کما إذا أخبر ذو الید المسلم أو استعمل فیما هو متوقف علی التذکیة بغض النظر عن البیع، فمقتضی روایة إسماعیل الأخذ بهما وتقدیمهما وله وجه من جهة اقوائیته من الید المجردة.

نعم ما ورد من عدم الاعتداد بإخبار ذی الید الذی یشرب العصیر

ص:38


1- (1) وسائل الشیعة، ابواب الاطعمة والاشربه، باب7.
2- (2) قال الشیخ النائینی معلقاً علی العروة (إذا علم انه عمل فی غیر بلاد الاسلام وبایدی غیر اهله ثم وقع فی أیدی المسلمین، فان علم سبق ید المسلم علیه فلا اشکال، والا فالحکم بتذکیته فی غایة الاشکال) تعلیقات العروة، ج1، ص126، طبعة جماعة المدرسین.

علی النصف وان کان من أهل المعرفة غیر المستحل له، یدل علی التقیید بذی الید غیر المتهمة، ووجود الفرق بین الموردین غیر مضر کما تقدم، ومنه یظهر الحال فی الید المشترکة بینهما بعد البناء علی اماریة ید الکافر.

التنبیه الخامس: ما یوجد فی أرض الإسلام:

فی أمارة أرض المسلمین علی التذکیة فقد تقرب بما فی ذیل الموثق لإسحاق المتقدم لجعل المدار فیها علی غلبة المسلمین، وکذا معتبرة ألسکونی المتقدمة فی السفرة.

لکنه ضعیف لان التعلیل لاماریة الصنع الواقع فی أرضهم وهو نحو استعمال، بخلاف المطروح ونحوه المجرد عن أثر الاستعمال، وکذلک الحال فی معتبرة ألسکونی حیث أن اللحم المطبوخ والسمن المعدّ للأکل نحو استعمال وصنع للأکل فی أرضهم فیشمله ما صنع فی أرض الإسلام.

بل قد استشکل غیر واحد فی کفایة هذا المقدار من الاستعمال الموجود فی مثال السفرة ولذلک حمل المعتبرة علی الشک فی النجاسة العرضیة أو اطراحها، وهذا مضافا الی المفهوم من روایات إعلام الهدی فی قارعة الطریق بکتاب ونحوه الکاشف عن وقوع التذکیة، أنه بدون ذلک وبمجرد کونه مطروحا فی أرض المسلمین لیس إمارة علی التذکیة.

التنبیه السادس: عدم مطهریة الدبغ:

وهو من خصائص المذهب وان ذهب إلیه قلة من العامة(1)، إلا ابن

ص:39


1- (1) ذهب اتباع المذهب الحنفی الی ان الدباغة تطهر جلود المیته إذا کانت تحمل الدبغ، ووافقهم الشافعی علی ذلک الا انه خصه بالدبغ المطهر الذی له لذع باللسان، وکذلک نسب هذا القول لبعض المالکیة، للتفصیل یراجع الفقه علی المذاهب الاربعة، ح1، ص26.

الجنید(1) فقد ذهب إلی الطهارة ووافقه الفیض فی مفاتیحه(2).

ومبدأ الخلاف فی المسألة هو خطأ العامة فی معنی الروایة النبویة الذی تشیر الیه عدة روایات(3) - کروایة علی بن أبی المغیرة - قال: قلت لأبی عبد الله(علیه السلام) جعلت فداک المیتة ینتفع منها بشیء؟ قال: لا، قلت: بلغنا أن رسول الله صلی الله علیه و آله مرّ بشاة میتة، فقال: ما کان علی أهل هذه الشاة اذ لم ینتفعوا بلحمها أن ینتفعوا باهابها؟ قال: تلک شاة لسودة بنت زمعة زوج النبی صلی الله علیه و آله ، وکانت شاة مهزولة لا ینتفع بلحمها فترکوها حتی ماتت، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله : ما کان علی أهلها إذ لم ینتفعوا بلحمها أن ینتفعوا بإهابها أی تذکی.

وبنفس المضمون موثق أبی مریم وفی صحیح ابن مسلم قال: سألته عن جلد المیتة یلبس فی الصلاة إذا دبغ؟ قال: لا، وان دبغ سبعین مرة، وقد تقدم خبر أبی بصیر فی الفراء المجلوب من العراق وروایة عبد الرحمن بن الحجاج .

وجعل الأخیرتین دالتین بالصراحة علی النجاسة دون الباقی(4)، مبنی علی أن المانعیة للصلاة من جهة عدم التذکیة المغایرة لمانعیة النجاسة، وقد تقدم ضعفه، مع ان حسنة علی ابن المغیرة صریحة فی النجاسة أیضا لمقابلتها التذکیة مع المیتة جوابا علی فرض السائل وهو طهارة الجلد بالدباغة.وکذلک موثقة ابن مریم حیث إنها فی صدد نفی مقولة العامة بطهارته بالدباغة، فکیف لا تکون صریحة فی النجاسة، والجدیر بالالتفات ان المسألة مثارة بسخونة فی عصر الصدور بین العامة والخاصة، فکیف لا یکون فی الروایات العدیدة

ص:40


1- (1) کما حکاه عنه فی مختلف الشیعة، ج1، ص342.
2- (2) مفاتیح الغیب، ج1، ص68.
3- (3) الوسائل، ابواب النجاسات، باب 61.
4- (4) مستمسک العروة الوثقی، للسید الحکیم، ج1 ص276.

نظرا الی محل الخلاف.

هذا مع ورود روایات(1) اخری أیضا صریحة، کصحیحة علی بن جعفر، وفی قبال هذه الروایات والتسالم حسنة الحسین بن زرارة المتقدمة عن أبی عبد الله(علیه السلام) فی جلد شاة میتة یدبغ فیصیب فیه اللبن أوالماء فأشرب منه وأتوضأ؟ قال نعم وقال: یدبغ فینتفع به ولا یصلی فیه(2)، وبعد ما عرفت أن وجه مانعیة المیتة هی النجاسة یظهر التدافع فی الروایة الدال علی صدورها تقیة.

مضافا الی ما تقدم فی مستثنیات المیتة مما لا تحله الحیاة من اضطراب متن الروایة المزبورة بحسب الراوین عن الحسین بن زرارة، ونظیرها صحیحة زرارة(3) بطریق الشیخ الواردة فی مستثنیات المیتة وفیها استثناء الجلد أیضا، إلا أنها بطریق الصدوق أسقط لفظ الجلد.

وأما مرسلة(4) الصدوق فی الفقیه فالظاهر انها خبر الحسین بن زرارة المتقدم، ومن ما تقدم ظهر ضعف أن مقتضی(5) الجمع بین تعارض الروایات هو المنع عن الصلاة مع طهارته بالدبغ، اذ المنع لیس إلا للنجاسة.

ص:41


1- (1) الوسائل، باب الاطعمة والاشربه، باب34.
2- (2) المصدر، ح7.
3- (3) المصدر، باب33، ج10.
4- (4) الوسائل، ج3، ص463، باب النجاسات، باب34، ح5.
5- (5) بحوث فی شرح العروة الوثقی، للسید الشهید الصدر، ج3، ص149.

ص:42

قاعدة التقیة

اشارة

ص:43

ص:44

من القواعد العامة قاعدة التقیة

مفاد القاعدة:

معنی التقیة لغة و شرعا، ففی لسان العرب(1) وقاه الله وقیا صانه، وقیت الشیء أقیه اذا صنته و سترته عن الأذی، و توقّ کرائم أموالهم أی تجنبها، وتوقی واتقی بمعنی، ووقاه حماه منه، و ما لهم من الله من واق ای من دافع، ووقاه الله وقایة بالکسر ای حفظه والتوقیة الکلاءة والحفظ. انتهی. و المعانی المذکورة کما تری متقاربة مترادفة واللفظة مستعملة بمعنی واحد سواء بالاضافة الی الله تعالی ای تقوی الله او بالاضافة الی غیره، غایة الامر ان المتحفظ عنه یختلف فی الخصوصیات وان اشترک فی الضرر ایضا، و المعروف فی کلمات متأخری الاعصار تقسیمها الی المعنی الاعم والاخص، وهی التقیة التی من العامة وقد یتأمل فی حدّ الثانیة بذلک وانها من مطلق من یخاف ضرره سواء و لو من الملل الاخری، بخلاف الأولی فانها من مطلق ما یخاف ضرره ولو مثل الامور التکوینیة.

ص:45


1- (1) لسان العرب، ج15، ص401.
أدلة القاعدة:

وأما عموم مشروعیتها فیدل علیه:

1.القران الکریم: حیث وردت أربع طوائف:

الأولی: قوله تعالی إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ... هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً ... وَ إِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَ ما یَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ فَأْوُوا إِلَی الْکَهْفِ ... فَابْعَثُوا أَحَدَکُمْ بِوَرِقِکُمْ هذِهِ إِلَی الْمَدِینَةِ فَلْیَنْظُرْ أَیُّها أَزْکی طَعاماً فَلْیَأْتِکُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَ لْیَتَلَطَّفْ وَ لا یُشْعِرَنَّ بِکُمْ أَحَداً إِنَّهُمْ إِنْ یَظْهَرُوا عَلَیْکُمْ یَرْجُمُوکُمْ أَوْ یُعِیدُوکُمْ فِی مِلَّتِهِمْ وَ لَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (1).

وقوله تعالی وَ قالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ یَکْتُمُ إِیمانَهُ أَ تَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ یَقُولَ رَبِّیَ اللّهُ وَ قَدْ جاءَکُمْ بِالْبَیِّناتِ مِنْ رَبِّکُمْ (2).

وقوله تعالی: لا یَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْکافِرِینَ أَوْلِیاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِینَ وَ مَنْ یَفْعَلْ ذلِکَ فَلَیْسَ مِنَ اللّهِ فِی شَیْ ءٍ إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَ یُحَذِّرُکُمُ اللّهُ نَفْسَهُ (3).

الثانیة: قوله تعالی: وَ لا تُلْقُوا بِأَیْدِیکُمْ إِلَی التَّهْلُکَةِ (4) وقوله تعالی مَنْ کَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إِیمانِهِ إِلاّ مَنْ أُکْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِیمانِ (5) وقوله تعالی قُلْ لا أَجِدُ فِی ما أُوحِیَ إِلَیَّ مُحَرَّماً عَلی طاعِمٍ یَطْعَمُهُ إِلاّ أَنْ یَکُونَ مَیْتَةً .... فَمَنِ اضْطُرَّ غَیْرَ باغٍ وَ لا عادٍ (6).

ص:46


1- (1) سورة الکهف، الآیة: (20 5).
2- (2) سورة غافر، الآیة: 28.
3- (3) سورة آل عمران، الآیة: 28.
4- (4) سورة البقرة، الآیة: 195.
5- (5) سورة النحل، الآیة: 106.
6- (6) سورة الانعام، الآیة: 145.

الثالثة: قوله تعالی - علی لسان ابراهیم و یوسف(علیهماالسلام) - کما اشارت الیه الروایات فَنَظَرَ نَظْرَةً فِی النُّجُومِ فَقالَ إِنِّی سَقِیمٌ فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِینَ (1) وقوله تعالی قالَ بَلْ فَعَلَهُ کَبِیرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ کانُوا یَنْطِقُونَ (2) وقوله تعالی: فَلَمّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقایَةَ فِی رَحْلِ أَخِیهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَیَّتُهَا الْعِیرُ إِنَّکُمْ لَسارِقُونَ ... کَذلِکَ کِدْنا لِیُوسُفَ ما کانَ لِیَأْخُذَ أَخاهُ فِی دِینِ الْمَلِکِ إِلاّ أَنْ یَشاءَ اللّهُ (3).

الرابعة: ما اشارت الیه الروایات من: قوله تعالی أُولئِکَ یُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَیْنِ بِما صَبَرُوا وَ یَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّیِّئَةَ (4) وقوله تعالی اِدْفَعْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ السَّیِّئَةَ (5) وقوله تعالی: وَ قُولُوا لِلنّاسِ حُسْناً (6) وقوله تعالی: اِدْفَعْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِی بَیْنَکَ وَ بَیْنَهُ عَداوَةٌ کَأَنَّهُ وَلِیٌّ حَمِیمٌ (7) وقوله تعالی:إِنَّ أَکْرَمَکُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاکُمْ (8).

ومفاد هذه الطوائف متعدد فان الثانیة دائرتها بمقدار الضرر والاضطرار، والثالثة مشروعیتها لاداء الواجب أو التوسل بها لإتیان الشیء الراجح، والرابعة مطلوبیتها فی مقام المعایشة صفة، والخلق والمداراة فی مطلق العشرة. کما ان من فوارق الدلالة فی ما بینها ان الأولی رافعة

ص:47


1- (1) سورة الصافات، الآیة: 89.
2- (2) سورة الانبیاء، الآیة: 63.
3- (3) سورة یوسف، الآیة 70.
4- (4) سورة القصص، الآیة: 54.
5- (5) سورة المؤمنون، الآیة: 96.
6- (6) سورة البقرة، الآیة: 83.
7- (7) سورة فصلت، الآیة: 34.
8- (8) سورة الحجرات، الآیة: 13.

للتکالیف الأولیة والثالثة فی التوریة اللسانیة و الرابعة اتخاذ الحسن فی الافعال فی ما بین الانسان وبین الاخرین الذین یسیئون الیه ولیس فیها نظر الی رفع حکم أولی، کما ان الثانیة قد تکون عزیمة اذا صدق علی ترک التقیة انه القاء فی الهلکة بخلاف الاخیرتین و اما مفاد الأولی فهو تشریع التقیة، نعم یستفاد منها تشریعها فی اعظم المحرمات وهو اظهار الکفر و الشرک فضلا عما هو دونه من المحرمات.

2. الروایات: وهی علی طوائف ایضا.

الأولی: ما کانت بلسان رفع الضرر والاضطرار مثل قوله صلی الله علیه و آله (رفع عن امتی تسعة اشیاء ... و ما اکرهوا علیه ... وما اضطروا الیه)(1) وقوله(علیه السلام) (و لیس شیء مما حرم الله الا و قد احلّه لمن اضطر الیه)(2) و مثل قوله صلی الله علیه و آله (لا ضرر و لا ضرار)(3)، وکذا ما فی صحیح الفضلاء (قالوا: سمعنا ابا جعفر(علیه السلام) یقول: التقیة فی کل شیء یضطر الیه ابن ادم فقد احله الله له)(4)، وصحیح زرارة عن ابی جعفر(علیه السلام) (قال التقیة فی کل ضرورة و صاحبها اعلم بها حین تنزل به)(5)، وصحیح الحارث بن المغیرة ومعمر بن یحیی بن سالم عن ابی جعفر(علیه السلام) (قال: التقیة فی کل ضرورة)(6).

الثانیة: ما کان بلسان انها جزء من الدین، کموثق ابی بصیر عن ابی

ص:48


1- (1) وسائل الشیعة، ج15، ص369، باب56 من ابواب جهاد النفس، ح1.
2- (2) وسائل الشیعة، ج5، ص482، باب1 من ابواب القیام، ح6.
3- (3) الکافی، ج5، ص280، باب الشفعة، ج4.
4- (4) وسائل الشیعة، ج16، ص214، باب25 من ابواب الامر بالمعروف، ح2.
5- (5) المصدر، ح1.
6- (6) المصدر، ح8.

عبد الله(علیه السلام) قال: (لا خیر فیمن لا تقیة له ولا ایمان لمن لا تقیة له)(1)، وفی مصحح ابن خنیس عنه(علیه السلام) (ان التقیة دینی و دین آبائی، ولا دین لمن لا تقیة له)(2)، ومثله صحیح معمر بن خلاد(3) وفی الصحیح الی ابی عمر الاعجمی عنه (علیه السلام) (ان تسعة اعشار الدین فی التقیة ....)(4) وفی کتاب مسائل الرجال عنه (علیه السلام) (ان تارک التقیة کتارک الصلاة)(5).

الثالثة: ما کان بلسان النفوذ الوضعی صریحا مثل ذیل صحیح الفضلاء المتقدم والصحیح الی ابی عمر الاعجمی المتقدم حیث فیه (والتقیة فی کل شیء الا فی النبیذ و المسح علی الخفین)، و مثله فی کیفیة الدلالة صحیح زرارة و موثق مسعدة بن صدقة عنه (علیه السلام) وفیه (فکل شیء یعمل المؤمن بینهم لمکان التقیة مما لا یؤدی الی الفساد فی الدین فانه جائز)(6)، وفی موثق سماعة عنه (علیه السلام) وفیه (ثم لیتم صلاته معه علی ما استطاع فان التقیة واسعة و لیس شیء من التقیة الا و صاحبها مأجور علیها ان شاء الله)(7).

الرابعة: ما کان بلسان المداراة و حسن العشرة معهم مثل صحیح هشام الکندی عنه (علیه السلام): (صلّوا فی عشائرهم و عودوا مرضاهم و اشهدوا جنائزهم و لا یسبقونکم الی شیء من الخیر فأنتم اولی به منهم)(8)،

ص:49


1- (1) وسائل الشیعة، ج16، ص212، باب24 من ابواب الامر والنهی، ح30.
2- (2) المصدر، ح24.
3- (3) المصدر، ح4.
4- (4) المصدر، ح3.
5- (5) الفقیه، ج2، ص127، باب صوم یوم الشک، ح5.
6- (6) وسائل الشیعة، ج16، ص216، باب25 من الامر والنهی، ح6.
7- (7) الکافی، ج3، ص380، باب الرجل یصلی وحده، ح7.
8- (8) وسائل الشیعة، ج16، ص219، باب26 من الامر والنهی، ح2.

ومثله صحیح زید الشحّام، ومثله صحیح عبد الله بن سنان وصحیح حماد بن عثمان عن ابی عبد الله (علیه السلام) انه قال (من صلّی معهم فی الصف الأول کان کمن صلّی خلف رسول الله صلی الله علیه و آله فی الصف الأول)(1)، ومثله صحیح الحلبی(2) وموثق اسحاق(3) وغیرها مما یأتی تفصیلا.

واختلاف المفاد بینها کالذی تقدم فی طوائف الآیات عدا الثالثة منها فانها بلسان الجواز الوضعی و الصحة و قد روی العامة عن النبی صلی الله علیه و آله انه قال (لا دین لمن لا تقیة له)(4) وروی البخاری عن الحسن البصری (التقیة الی یوم القیامة).

حکم التقیة:

تنقسم التقیة الی الاحکام التکلیفیة الخمسة ویتضح الحال فی ذلک بعد تنقیح حقیقة الحکم فی التقیة، وهو یحتمل:

أولا: أن یکون من العناوین الرافعة کالضرر والاضطرار والحرج ونحوها کما فی لسان عدة من الروایات انها رخصة فی ارتکاب ما هو عزیمة.

ثانیا: انه من قبیل وجوب دفع الضرر المحتمل ووجوب التحفظ والحیطة والاحتیاط فی ما یهمّ بقاؤه و وجوده و یشیر الیه التعبیر الوارد فی بعض الروایات التقیة جنة المؤمن وترس المؤمن وحرز المؤمن سواء بنی فیه

ص:50


1- (1) وسائل الشیعة، ج8، ص299، باب26 من ابواب صلاة الجماعة، ح1.
2- (2) المصدر، ح4.
3- (3) المصدر، ح7.
4- (4) کنز العمال، ج13، ص96، ح5.

علی الحکم الطریقی او النفسی.

ثالثا: انّه من باب التزاحم - کما ذکره بعض الاعلام - بین حکم العقل - الذی یترک فیما کان واجبا أو یؤتی به فیما کان محرما- و وجوب حفظ معالم الدین و المذهب الحق و النفوس والأموال والاعراض، لا انه حکم فی مقابل بقیة الاحکام.

رابعا: انّه رجحان حسن العشرة معهم لما فیه من اغراض شرعیة متعددة.

خامسا: انّه وجوب فی کیفیة اقامة الدین وشعائره وارکانه ونشره، بحسب دار الهدنة، وغیر ذلک من المحتملات التی ستأتی فی الامور اللاحقة بحسب اختلاف الابواب والموضوعات، والظاهر ان عنوانها جامع انتزاعی لهذا الموارد، وبحسب اختلاف ادلتها.

فمن ثم یصح تقسیم حکمها التکلیفی الی الاقسام الخمسة، فالواجب منها مثل کثیر من مواردها مما یترتب علی ترکها ضرر علی المذهب أو النفس او العرض، ولا یخفی ان ذلک بحسب بعض وجوه الحکم فیها المتقدمة وحیث انه حینئذ حکم کبقیة الاحکام فیفرض فیه التزاحم مع الاحکام الاخری، کما لو فرض ان فی ترک التقیة احیاء للحق ورسومه وان ترتب ضرر القتل أو نحوه من الاضرار کما فی زیارة الحسین(علیه السلام) حیث انه یظهر من الحثّ الاکید فی الروایات المتواترة(1) الصادرة عنهم(علیهم السلام) مع اشتداد التقیة حینها کما هو واضح تاریخیا وظاهر

ص:51


1- (1) وقد جمع صاحب الوسائل اکثر تلک الروایات فی ابواب المزار من وسائل الشیعة، ج14، ص319.

فی لسانها ومثل صحیحة معاویة بن وهب حیث استأذن علی ابی عبدالله(علیه السلام) فوجده یناجی ربه وهو یقول - وفیه الدعاء لزوار الحسین(علیه السلام) - ... (واصحبهم و اکفهم شرّ کل جبار عنید وکل ضعیف من خلقک او شدید وشر شیاطین الجن والإنس ... اللهم ان اعداءنا عابوا علیهم خروجهم فلم ینههم ذلک عن الشخوص الینا، وخلافا منهم علی من خالفنا)(1) وغیرها مما صرح فیه بذلک - ویظهر منها أهمیة هذه الشعیرة والشعائر التی تعقد لذکری سید الشهداء(علیه السلام) - ومن ثم افتی جماعة من اعلام العصر (قد هم) بجواز تحمل الضرر فیها، فان رافعیة الضرر والتقیة من باب واحد علی بعض الوجوه المتقدمة - علی الحفظ المتوخی من التقیة، نظیر نفس الجهاد بأقسامه فان اقامة مثل هذه الشعائر مقدمة علی حفظ النفس والعرض والمال.

وقد ألفت صاحب الکفایة(2) فی بحث العام والخاص الی ان رافعیة العناوین الثانویة هی من باب التزاحم الملاکی وان کان فی الصورة رافعیتها بالحکومة أو الورود. وعلی ذلک فقد تکون التقیة محرمة کما فی موارد تعین الجهاد والذبّ عن بیضة الدین ونحوها، وقد تکون مکروهة کما فی زیارة الحسین(علیه السلام) ونحوها من شعائر ذکراه(علیه السلام). و قد تکون راجحة مندوبة کما فی موارد عدم ترتب الضرر القریب ولا البعید علی ترکها، فی موارد العشرة معهم ومع من یتالف للدین، واما المحرمة تشریعا ففی موارد عدم ترتب ضرر علی ترکها بنحو یمکن تأدیها باظهار المتابعة لهم من دون الخلل

ص:52


1- (1) وسائل الشیعة، ج14، ص412، باب37 من ابواب المزار، ح7.
2- (2) کفایة الاصول، مبحث العام والخاص، ص224.

بحدّ الواجب کما فی الصلاة خلفهم مع نیة الاقتداء بهم حقیقة وترک القراءة مطلقا، اما المباحة فهی تتصور فیما کانت التقیة مجرد رخصة من عزیمة شدیدة کما فی الکفر و نحوه من الکبائر بناء علی عدم رجحان التقیة وان الحال حینئذ هو التخییر.

استثناءات من التقیة:

الموارد التی استثناها الاصحاب(1) من جواز التقیة.

منها: المسح علی الخفین ومتعة الحج وشرب المسکر تبعا لعدّة من الروایات، وقد تقدم توجیه ذلک بان المراد منه نفی السعة المشروعة فی التقیة فی هذه الموارد وأمثالها مما اشتمل علی نفس درجة الحکم او المراد نفیها موضوعا لقیام النص القرآنی علیها مع امکان اداء الواقع مع التستر کما فی الحج.

ومنها: القتل کما فی صحیح محمد بن مسلم عن ابی جعفر (علیه السلام) (قال: انما جعلت التقیة لیحقن بها الدم، فاذا بلغ الدم فلیس تقیة)(2).

ومثلها موثق(3) ابی حمزة الثمالی الا ان فیه (فلا تقیة). ویستفاد منها حرمة التقیة حینئذ وعدم مشروعیتها حیث ان التقیة فی الاصل هی وجوب الحفظ علی النفس فاذا بلغت الی ارتکاب اتلاف نفس اخری انتقض ولم یتأدَ ملاکها، و نفی مشروعیتها لحرمة الدم الاخر ولدلالة نفی

ص:53


1- (1) التنقیح فی شرح العروة، ج5، (موارد الاستثناء). ورسالة فی التقیة للسید الخمینی، ص12، (موارد لایجوز التقیة فیها).
2- (2) وسائل الشیعة، ج16، ص234، ابواب الامر بالمعروف والنهی عن المنکر، باب31، ح1.
3- (3) المصدر، ح2.

التقیة علی عدم جواز توجیه الضرر المتوجه للنفس الی الغیر.

و(دعوی) ان نفی التقیة هو مجرد عدم تشریعها بما لها من الحکم لا حرمة فعلها بعد کون الفرض من الدوران بین حفظ النفس وحفظ الغیر أو حفظ النفس وحرمة دم الغیر. وهما متساویان فی الملاک (ضعیفة).

اولا: لأن مقتضی النفی عدم مشروعیتها و عدم اباحتها لا مجرد نفی حکمها، مع ان حکمها رخصة ارتکاب ما کان عزیمة، ونفی الرخصة ابقاء للعزیمة الأولیة.

وثانیا: ان الفرض لیس من التزاحم و الدوران بل الفرض هو توجه الضرر الی النفس، او یدفعه الی الاضرار بالغیر وحفظ النفس المتوقف علی الاضرار بدم الغیر شمول دلیل وجوب حفظ النفس الیه اول الکلام، ومنها ما اذا اکره علی التبری من امیر المؤمنین (علیه السلام) بل وکذا اذا اکره علی التبری من الله ورسوله ودین الاسلام.

ومنها: ما اذا أکره علی التبرّی من أمیر المؤمنین (علیه السلام) بل الأولی تعمیم اللفظ لما اذا أکره علی الکفر کالبراءة من الله ورسوله أو من الدین أو اظهار عبادة غیر الله والتدین بغیر الاسلام، ویستدل لهذا الاستثناء من عموم وجوب التقیة.

أولا: بظاهر قوله تعالی مَنْ کَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إِیمانِهِ إِلاّ مَنْ أُکْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِیمانِ وَ لکِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْکُفْرِ صَدْراً فَعَلَیْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللّهِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِیمٌ (1) بتقریب ان الاستثناء فی الآیة من الحرمة فیکون رخصة لا عزیمة، وکذا دلالة عنوان الاکراه الذی هو من العناوین الثانویة

ص:54


1- (1) سورة النحل، الآیة: 106.

الرافعة للتنجیز أو للفعلیة التامّة، وکذا مورد نزول الآیة حیث أنّها فی عمار بخلاف ما جری علی أبویه.

وثانیا: ما یظهر من الروایات العدیدة المستفیضة(1) عن أمیر المؤمنین (علیه السلام) أنّه خطب علی منبر الکوفة (أیّها الناس انّکم ستدعون الی سبّی فسبّونی، ثم تدعون الی البراءة منّی فلا تبرؤوا منّی أو (و إنی لعلی دین محمد صلی الله علیه و آله (2)، سواء کان بصورة النهی أو بصورة الجملة الحالیة التی بمنزلة الاستدراک و الاعتراض، فإنّه دالّ علی عدم لزوم التقیّة اذ علی الثانی فإن الاستدراک و الاعتراض - وکذا التشقیق والمقابلة بین الجملتین الشرطیتین السبّ والبراءة - کلّه دالّ علی عدم الأمر بها عزیمة فی البراءة وغیرها من الروایات فی الاکراه علی الکفر.

ثالثا: بالأولویة ممّا ورد من جواز مدافعة الانسان دون عرضه وماله وأنّه اذا قتل مات شهیدا، وقد یشکل بأن لازمه عدم لزوم مطلق التقیّة وهو ینافی ما ورد من انّه لا دین لمن لا تقیّة له ونحوه من ألسنة عزیمتها التی تقدمت الاشارة الیها، وقد یعمم هذا الاشکال لأصل الاستثناء المدعی - لا خصوص الدلیل الثالث علیه - حیث انّه مع عدم عزیمة التقیّة فی اظهار الکفر فکیف بما دونه ومع عدم الاکراه، والجواب عنه: ان الضرر فی ترک التقیّة تارة یعود الی الشخص خاصّة وأخری الیه والی اخوانه المؤمنین ولو مآلا وتدریجا واتباع مذهب أهل البیت(علیهم السلام) فضلا عن

ص:55


1- (1) ورد بهذا لمضمون روایات کثیرة تصل الی حد الاستفاضة بل التواتر الاجمالی، راجع وسائل الشیعة، ج16، ص225، باب19، من ابواب الامر والنهی. ومستدرک الوسائل، ج12، ص271، باب28. بحار الانوار، ج39، ص319، باب88.
2- (2) نهج البلاغة، ج4، ص106، فصل المنحرفین عن علی (علیه السلام) .

سمعة المذهب والدین وعزّته وعلوّه، کما انّ الخشیة والضرر المتوجه تارة: سبب الانتساب الی المذهب والدین وأخری لغیر ذلک من العداوات أو الاطماع الدنیویة، واذ اتّضح ذلک فنقول ظاهر أدلّة عموم التقیّة - التی تقدمت أنّها علی ألسن وطوائف - أن لسان العزیمة هو فی التقیّة الخاصّة أی فی القسم الثانی من التقسیم الأول - أی الراجعة الی المؤمنین عامّة والی المذهب - وفی القسم الأول من التقسیم الثانی - أی التی بسبب نسبته وانتمائه الی المذهب --، ومن ثمّ یتّضح الخلل فی الأولویة فی الدلیل الثالث والخلل فی الأولویة فی تعمیم الاشکال، فإن ترک اظهار الکفر یعود ضرره علی الشخص خاصّة وأمّا الموارد الأخری من التقیّة التی بسبب الانتماء الدینی والمذهبی فانّ ترکها ضرره عائد علی عموم افراد المذهب وشؤونه.

ثم انّه اختلف فی الکلمات فی کراهة التقیة فی هذا المورد أو رجحانها وذلک لاختلاف الظهور فی الأدلّة فإن مقتضی الآیة کما تقدم الرخصة فی اظهار الکفر وهو یعطی رجحان ترکه والصبر علی الاکراه فالتقیة بإظهاره مرجوحة، اذ فی موارد الرفع للتنجیز أو للفعلیة التامة الملاک والمقتضی علی حاله.

وکذا ما هو مستفیض عن الأمیر (علیه السلام) فإن ظاهره مرجوحیة البراءة سواء کان بلفظ النهی أو الاستدراک بلفظ الجملة الحالیة، کما هو مقتضی الاستدراک والمقابلة.

وکذا ما یظهر من روایات أخری(1) المتضمنة لأخباره (علیه السلام) أصحابه بما یجری علیهم ووعدهم إیّاه بالصبر ثم اخباره لهم بعلوّ الدرجات.

ص:56


1- (1) وسائل الشیعة، ج16، ابواب الامر بالمعروف، باب29.
الروایات الأخری المعارضة لذلک:

منها: صحیح هشام بن سالم عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال: (انّ مثل أبی طالب مثل أصحاب الکهف أسرّوا الایمان وأظهروا الشرک فآتاهم الله أجرهم مرّتین)(1)، ومثلها روایات أخری(2) وکون الصحیح مما نحن فیه هو بتقریب ان خشیة أبی طالب علی النبی صلی الله علیه و آله وبنی هاشم بمنزلة الاکراه علی اظهار الکفر.

ومنها: موثّق مسعدة بن صدقة قال: (قلت لأبی عبد الله (علیه السلام) انّ الناس یروون انّ علیّا (علیه السلام) قال علی منبر الکوفة: (أیّها الناس انّکم ستدعون الی سبّی فسبّونی، ثم تدعون الی البراءة منّی فلا تبرؤوا منّی، فقال: ما أکثر ما یکذب الناس علی علی (علیه السلام) ثم قال: انّما قال: انّکم ستدعون الی سبّی فسبّونی، ثم تدعون الی البراءة منّی و إنّی لعلی دین محمد صلی الله علیه و آله ، ولم یقل: ولا تبرؤوا منی، فقال له السائل: أرأیت ان اختار القتل دون البراءة فقال و ما ذلک علیه، و ماله إلا ما مضی علیه عمار بن یاسر أکرهه أهل مکّة و قلبه مطمئن بالایمان فأنزل الله عز و جل فیه [إِلاّ مَنْ أُکْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِیمانِ ] فقال له النبی صلی الله علیه و آله عندها: یا عمار ان عادوا فعد، فقد أنزل الله عذرک و أمرک أن تعود إن عادوا) ورواه فی قرب الاسناد عن هارون بن مسلم(3)، ونظیره ما رواه صاحب کتاب الغارات عن الباقر (علیه السلام) والصادق(علیه السلام) (4) والظاهر انّهما علیهما السّلام

ص:57


1- (1) وسائل الشیعة، ج16، ص255، ابواب الامر بالمعروف، باب29، ح1.
2- (2) مستدرک الوسائل، ج12، ص271، باب28. بحار الانوار، ج35، ص72، باب3.
3- (3) وسائل الشیعة، ج16، ص225، ابواب الامر بالمعروف، باب29، ح2.
4- (4) قرب الاسناد، ص8.

فی صدد دفع توهّم النهی التحریمی، وإلا فظهور المقابلة فی کلام الأمیر (علیه السلام) ظاهرها مرجوحیة البراءة منه عند الاکراه، وأما قوله (علیه السلام) (وما ذلک علیه و ماله إلا) و(أمرک أن تعود ان عادوا) فهو نفی توهّم لزوم الصبر و ترک التقیّة بل رجحان التقیّة باظهار البراءة و ظهور (ماله) وإن کان فی عزیمة التقیّة، إلا انّه بقرینة ما تقدم و بالاستشهاد بالآیة التی عرفت ظهورها - هو ظاهر فی الرجحان. و تفسیره اللام بمعنی النفع لا یخلّ و لا یخدش فی ذلک لا سیّما وانّ السیاق فی الجواب هو لبیان رجحان التقیة، وکذلک ظهور (أمرک) بعد الحظر فی الرجحان لا مجرد الرخصة بقرینة بیان المتعلّق بالتفصیل و کذلک قوله صلی الله علیه و آله یاعمار إن عادوا فعد).

ومنها: بکر بن محمد عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال: (انّ التقیّة ترس المؤمن ولا ایمان لمن لا تقیّة له فقلت له: جعلت فداک قول الله تبارک و تعالی إِلاّ مَنْ أُکْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِیمانِ قال: و هل التقیّة إلا هذا)(1)، و صدرها و إن کان فی عزیمة التقیة إلا أن الذیل فی مطلق الرجحان بقرینة الآیة و بقرینة موردها، اذ إلحاق الذیل سئل عنه الراوی و قرره علیه(علیه السلام)، و مثلها روایات أخری(2) تبیّن ارادة الرجحان من الاستثناء فی الآیة و أنّه أحبّ الیه (علیه السلام) ذلک وأن الله یحبّ أن یؤخذ برخصه کما یؤخذ بعزائمه.

ومنها: روایة محمد بن مروان قال: (قال لی ابو عبد الله(علیه السلام): ما منع میثم رحمه الله من التقیة؟ فو الله لقد علم إنّ هذه الآیة نزلت فی عمار وأصحابه إِلاّ مَنْ أُکْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِیمانِ (3).

ص:58


1- (1) وسائل الشیعة، ج16، ص227، باب29، من ابواب الامر والنهی، ح6.
2- (2) المصدر، ح20 13 12 11.
3- (3) المصدر، ح3.

وتحتمل قراءة الفعل مبنیّا للفاعل و ما استفهامیة أو للمفعول وما نافیة والظاهر انّ کلمة میثم ممنوعة من الصرف للعلمیة والعجمة، فلا تنوّن عند النصب برسم (میثما) فعلی الأول تکون دالّة علی رجحان التقیّة، وعلی الثانی تحتمل الرجحان أیضا ویکون الذیل استدلالا له، وتحتمل المدح لصبره أو بیان التخییر، ولکن سیاق الذیل وذکر عمار وأصحابه موردا لنزول الآیة یقرّب رجحان التقیّة، وکذا تسمیة البراءة فی الظاهر بعنوان التقیة ظاهر فی ذلک لأنه من اثبات الحکم باثبات موضوعه، نظیر ما فی موثّق لمسعدة بن صدقة عنه(علیه السلام) (فان کان لیس مما یمکن أن تکون التقیّة فی مثله .... لأن للتقیّة مواضع)(1).

ومنها: روایة عبد الله بن عطا فی رجلین أخذا علی ذلک قال أبی جعفر(علیه السلام) (أما الذی برأ فرجل فقیه فی دینه، وأما الذی لم یبرأ فرجل تعجّل الی الجنّة)(2).

ووجه الجمع بین الطائفتین من الأدلة ارجحیة التقیة وإن کان الصبر علی الأذیة فی نفسه راجح، وأما ما یظهر من المستفیضة عن الأمیر (علیه السلام) فلعله لخصوصیة الظرف الذی لأصحابه بعده کمعلومیة قتلهم من بنی أمیّة وإن أظهروا التقیّة کما تدلّ علیه بعض تلک الروایات و یشهد له التاریخ، ولعلّه یشیر الی الخصوصیة تفرقته(علیه السلام) بین السبّ و البراءة، و إلا فهما بحسب الظاهر الأولی من واد واحد إذ السبّ کما هو قول جماعة فی باب الحدود موجب للردة فهو قطع للانتماء للدین وبراءة منه، فالأوفق فی

ص:59


1- (1) المصدر، باب25، ح6.
2- (2) المصدر، باب29، ح4.

وجه التفرقة هو کون السبّ اشارة الی البراءة اللفظیة الصوریّة و(البراءة) اشارة الی المعنی القصدی القلبی والعملی و یشهد لذلک تعلیله(علیه السلام) بأنّه علی دین محمد صلی الله علیه و آله فانّه مناسب لعدم البراءة الواقعیة لا لعدم البراءة الصوریة کالسبّ إلا ان هذا المعنی لما خفی علی کثیر من الناس توهّموا انّه نهی عن البراءة الصوریة فی مقام التقیّة وتجویز للسبّ تقیّة، مع انّ هذا المعنی من التفرقة لا محصل له کما تبیّن، و لعلّ نفیهما الباقر و الصادق علیهما السّلام للنهی فی کلامه(علیه السلام) اشارة الی ذلک، وانّه(علیه السلام) انّما علل لأجل افهام ذلک، و یشهد لهذا المعنی أیضا قوله(علیه السلام) - بالعطف - (ثم تدعون الی البراءة منّی) المفید للتراخی، أی أنّ بنی أمیّة و أزلامهم سیدعونکم و یلجئونکم الی السبّ و النیل و البراءة منّی لسانا ثم یستدرجونکم الی البراءة عملا و قلبا بلوازم المجاراة لهم فی افعالهم و سیرتهم و أقوالهم، فالحذر من ذلک لأنّه براءة من دین النبی صلی الله علیه و آله ولعل هذا التدرج و التفرقة بین الشقّین فطن به خواص أصحابه(علیه السلام) من قبیل میثم وحجر بن عدی وکمیل وقنبر ورشید وغیرهم رضوان الله تعالی علیهم واعلموا من کلامه(علیه السلام) انّ بنی أمیّة لا یقنعون من اتباعه ومحبیه وشیعته بالنیل والسبّ والبراءة منه لسانا بل یلجئونهم علی دیانتهم من البراءة - العملیة و القلبیة - من علی(علیه السلام) وهدیه الذی هو دین محمد صلی الله علیه و آله .

ویحتمل أن تکون الخصوصیة هی تبین وتمیز اتباعه (علیه السلام) ووضوح المذهب والمفارقة مع العامّة، وعلی أیة حال فالمستفیضة ظاهر أنّها مقیّدة بواقعة خاصّة، وهی الظرف الذی تعقّبه (علیه السلام) بخلاف الطائفة الثانیة وبخلاف عموم الآیة. هذا کلّه لو کان الإکراه علی البراءة من الدین

ص:60

بحسب المکلّف نفسه و الفعل فی نفسه وإلا فقد تکون التقیّة عزیمة فیما اذا ترتّب علی ترکها الضرر علی عموم المؤمنین والمذهب، وقد تکون مرجوحة فیما اذا ترتّب علیها تزلزل اعتقاد المؤمنین و وهن المذهب ویمکن حمل کلّ من الطائفتین السابقتین علی اختلاف الموردین، وان کان الأقوی ما تقدم.

ومنها: ما اذا انتفی الضرر والخوف فإنّه لا مجال للتقیة موضوعا أو حکما و یشیر الی ذلک موثّق مسعدة بن صدقة عن أبی عبد الله(علیه السلام) فی حدیث (انّ المؤمن اذا أظهر الایمان ثم ظهر منه ما یدلّ علی نقضه خرج مما وصف و أظهر وکان له ناقضا إلا أن یدعی أنّه انّما عمل ذلک تقیّة و مع ذلک ینظر، فإن کان لیس مما یمکن أن تکون التقیّة فی مثله لم یقبل منه ذلک، لأن للتقیة مواضع من أزالها عن مواضعها لم تستقم له و تفسیر ما یتقی مثل أن یکون قوم سوء ظاهر حکمهم و فعلهم علی غیر حکم الحقّ و فعله) الحدیث(1).

وهذا تام بلحاظ أدلّة التقیّة العامّة التی بلسان الضرر أو الاضطرار أو الأدلّة الخاصّة الآخذة للعنوانین موضوعا أیضا، أما أدلّة تقیّة المداراة وحسن العشرة والمجاملة معهم - کما ستأتی - فلم یؤخذ فیها ذلک، إلا انّه یلزم البحث فیها: هل انّ متعلّقها عموم حسن العشرة أو الشمول الی اتیان الأعمال العبادیة بصورتها عندهم؟ ثم انّه قد تخرج تلک الأدلّة علی التقدیر الثانی بأنّها بلحاظ الضرر النوعی التدریجی علی الطائفة و الخوف علیها اذ المقاطعة تولد الجفاء و الشحناء التی تلتهب یوما ما.

کما انّ أدلّة التقیّة العامّة الأولی التی بلحاظ الضرر - تقدم - أنّها اذا

ص:61


1- (1) وسائل الشیعة، ج16، ص216، ابواب الامر والنهی، ح6.

زاحمت ملاکا أولیا أهم منها فانّها لا ترفعه و هذا یعدّ کحکم انتفاء الضرر.

الأثار المرفوعة بتوسط التقیّة:

حیث أن عمومات التقیّة کما تقدم هی بعنوان الاضطرار سواء بلسان الرفع أو بلسان الحلّ والجواز، فالرفع بتوسط ذلک العنوان والصحیح لدینا تبعا لارتکاز المشهور هو کون الرفع للعزیمة أی للفعلیة التامّة للحکم فضلا عن التنجیز والمؤاخذة، لا لأصل الفعلیة ولو الناقصة أی لا بمعنی التخصیص الاصطلاحی، نعم بلحاظ اللسان الآخر منها مثل (لا دین لمن لا تقیّة له) أو (التقیة دینی ودین آبائی) یکون فعل التقیة واجب فیشکل حینئذ بقاء الحکم الأولی و لو بدرجة الفعلیة الناقصة وأصل ملاکه، إلا انّه مدفوع بأنّه من باب التزاحم الملاکی حینئذ نظیر موارد اجتماع الأمر و النهی بناء علی الامتناع الذی ذهب الیه مشهور الفقهاء و المحقق الآخوند، والحاصل أن الرفع هو تقیید فی مرحلة الفعلیة التامّة بلسان الرفع.

هذا کلّه فی الآثار والأحکام المرتبطة بالفعل کمتعلّق لها، وهو المتبادر من الرفع والحل.

وأمّا الآثار المرتبطة بالفعل کموضوع، فقد یتأمّل فی الشمول فی النظرة البدویة لکن الصحیح شمول الرفع لذلک فی الآثار المترتبة علی الفعل ذی الحکم بمرتبة الفعلیة التامّة أو المنجزة، فانّه بزوال تلک المرتبة ینعدم موضوع تلک الآثار. وأمثلة هذه الآثار هو الکفّارات ککفّارة افطار الصوم و کفّارة حنث النذر والیمین والحدّ الشرعی فی باب الحدود والتعزیرات و نحوها، ویتبیّن بذلک أنّ رفع هذه الآثار المترتّبة علی الفعل

ص:62

لموضوع هو بالتبع لا بالأصالة، فلا یرد الاشکال بتباین سنخ الرفع مع النمط الأول.

وأمّا الآثار المترتبة علی أصل الفعلیة والمشروعیة فارتفاعها غیر معلوم وذلک نظیر الضمان المترتب علی فعل الاتلاف ونحو ذلک وإن کان عدم ارتفاعه من جهة أخری أیضا وهی کون ذلک خلاف الامتنان.

ویعضد هذا التقریب للنمط الثانی من الآثار ما فی عدّة من الروایات:

منها: ما رواه الصدوق بالسند المعروف لشرائع الدین عن الأعمش عن جعفر بن محمد(علیه السلام) قال: (واستعمال التقیّة فی دار التقیّة واجب ولا حنث ولا کفّارة علی من حلف تقیّة یدفع بذلک ظلما عن نفسه)(1).

ومنها: ما فی صحیح صفوان وابن ابی نصر عن أبی الحسن(علیه السلام) (فی الرجل یستکره علی الیمین فیحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما یملک أیلزمه ذلک؟ فقال: لا، قال رسول الله صلی الله علیه و آله وضع عن أمتی ما أکرهوا علیه وما لم یطیقوا وما اخطؤوا)(2)، ویظهر منها رفع وجوب الوفاء بالیمین مباشرة بتوسط الاکراه علی الموضوع وإن کان بطلان هذا الحلف من جهات أخری أیضا ککونه حلفا بغیر الله تعالی، وکونه اکراهیا لیس باختیاره ورضاه وظاهرها أن الرفع تقیید فی أصل الفعلیة وأنّه ینعدم موضوع الحکم لا علی غرار رفع حکم المتعلّق أنّه قید فی الفعلیة التامّة والتنجیز.

ومنها: صحیح أبی الصباح قال: (والله لقد قال لی جعفر بن

ص:63


1- (1) الوسائل، ج16، ص210، باب24، ح22.
2- (2) وسائل، ج23، ص227، باب من ابواب الایمان، باب12.

محمد(علیه السلام) انّ الله علّم نبیّه التنزیل والتأویل فعلّمه رسول صلی الله علیه و آله علیّا(علیه السلام) قال: وعلّمنا واللهثم قال: ما صنعتم من شیء أو حلفتم علیه من یمین فی تقیّة فأنتم منه فی سعة)(1) بتقریب التوسعة بمنزلة الرفع للعزیمة و التنجیز.

فائدة:
اشارة

جریان الرفع فی الأوامر الضمنیة:

وأمّا الجزئیة و الشرطیة و المانعیة فهی أیضا من شؤون النمط الأول و هو الآثار التی ارتباطها بالفعل کمتعلّق لها، إلا أنّ التقیّة والاضطرار لیس فی ترک الفعل برمّته ولا الی ارتکاب فعل ممنوع عنه بنفسه مستقلا، ویستدلّ علی صحّة العمل الناقص المأتی به بوجوه:

الوجه الأول: حدیث الرفع المعروف:

حیث أن أحد العناوین التسعة فیه هو ما اضطروا الیه وکذا نفی الضرر ویشکل علیه - کما هو معروف فی کلمات الأعلام فی العصر المتأخر - :

أولا: بأن الاضطرار لایصدق إلا باستیعاب الوقت کلّه والاضطرار فی بعض الأفراد لیس هو الاضطرار فی ترک الکلی الطبیعی المأمور به، وحیث أن المرکب ارتباطی فترک بعضه ترک له کلّه فالاضطرار انّما هو فی رفع الأمر المتعلّق بالمجموع، فالرفع لیس مفاده اثبات الأمر للباقی الناقص.

ص:64


1- (1) وسائل، ج23، ص224، باب12، من ابواب الایمان، ح2.

وبعبارة مختصرة انّ الضمنی غیر مجعول بالذات و انّما المجعول الأمر المجموعی فهو المضطر الی ترکه المشمول لحدیث الرفع والباقی لا یثبته مفاد الرفع.

ثانیا: انّ الالتزام برفع الأوامر الضمنیة یلزم منه فقه جدید إذ یلزم تبعیض لا حصر له فی المرکبات العبادیة کالصوم و الاعتکاف وابعاض الحج والصلاة الی أنحاء ودرجات عدیدة.

ثالثا: ما سیأتی من الاشکال المشترک علی الوجوه الأخری.

والجواب عنه:

امّا الأول: فبما أشرنا الیه فی المسح علی الخفّ والحائل أن حدیث الرفع وإن کان بلسان الرفع إلا أنّه لبّا تخصیص و تقیید، فکما أن الأدلّة الواردة فی الاجزاء والشرائط تقید بعضها بعضاً وتخصصه من دون الایراد علیها بأن الأوامر الضمنیة غیر مجعولة، فان التخصیص فیها محمول علی بیان اعتبار حدود تعلّق الأمر المجموعی بالجزء أو الشرط ولو کان بلسان الجعل أو نفی الجعل أو الوضع و نفیه فانّه لا یتوقّف فی استظهار التخصیص أو التقیید بمجرد تلک الألسنة بدعوی انّ الجعل ورفعه أو الوضع ورفعه فی الجزء والشرط غیر معقول بنفسه بل بتوسط الأمر المجموعی، بل أنّه یحمل علی بیان حدود متعلّقة. کذلک الحال فی حدیث الرفع فانّه تارة یبین تقیید الأمر المجموعی بتمام المتعلّق بالعناوین التسعة أو الستة.

وأخری یبین تقیید حدود تعلّق الأمر المجموعی بالجزء أو الشرط بتوسط العناوین الطارئة، فحیث یکون طروّ العناوین علی الکل أو الأکثر یکون التقیید للأمر المجموعی بلحاظ کلّ المتعلّق.

ص:65

وحیث یکون طروّ العناوین الثانویة علی بعض الأجزاء أو الشرائط أو الموانع یکون تخصیصا لحدود تعلّق الأمر المجموعی بذلک الجزء أو الشرط أو المانع، فلسان الرفع لمعروض العناوین الطارئة تارة یکون الکل وأخری البعض، وفی الصورتین الرفع لبّا تخصیص وتقیید علی وزان الأدلّة المخصصة للأدلّة العامّة المتعرضة لاعتبار الأجزاء والشرائط، وکما لم یتوقّف فی استظهار تحکیم ظهور الرفع فی تقیید الأوامر الأولیة فی الأبواب المختلفة کذلک الحال فی تحکیمه علی ظهور أدلّة اجزاء و شرائط تلک الأبواب.

وکذلک الحال فی قاعدة الحرج والضرر کما هو مفاد حسنة عبد الأعلی مولی آل سام الواردة فی المسح علی المرارة الموضوعة علی الاصبع المقطوع اظفره المتقدمة فی مسألة المسح علی الحائل. والغریب التفکیک فی اجراء حدیث الرفع فی الاوامر الضمنیة بین فقرة (ما لا یعلمون) وبقیة الفقرات، ومن ثمّ اضطرّ ذلک بعض المحققین من السادة المشایخ الی التوسّل بالانحلال فی التنجیز الحکمی واجراء البراءة فی الأمر المجموعی المتعلّق بالأکثر المشکوک دون المتعلّق بالأقلّ للعلم بتنجزه علی کل حال، وإن کان هذا التقریب غیر تام کما حررناه فی محلّه.

أما عن الثانی: فقد أشرنا فیما سبق فی المسح علی الحائل عند الضرورة - أنّه غایة هذا المحذور هو عدم التمسّک باطلاق الرفع فی کل المرکبات ما لم یظهر من الأدلّة فی المرکب المعیّن ما یدلّ علی تعدد مراتب المطلوب فیه عند الشارع اجمالا، وهذا لا یعنی انتفاء فائدة حدیث الرفع کما لا یخفی، و بعبارة أخری بعض المرکبات هی کالوحدة البسیطة غیر قابلة للتفکک هیئة وملاکا، وبعضها هی فی عین وحدتها هی ذات درجات ائتلافا وترکبا،

ص:66

ویکفی ظهور بعض الأدلّة علی کون المرکب من النمط الثانی فی التمسّک بعموم الرفع، وان کانت تلک الأدلّة واردة فی اجزاء أو شرائط أخری غیر الجزء أو الشرط الذی یراد رفعه بطروّ العناوین الثانویة. وتأتی تتمّة ذلک فی الوجوه اللاحقة ثم انّه لا یخفی انّ التمسّک بحدیث الرفع انّما هو فی الاضطرار المستوعب لا مع المندوحة الطولیة.

الوجه الثانی: ما کان بلسان الاثبات کالحل والسعة ونحوهما:

1. ما فی صحیح الفضلاء قالوا: سمعنا أبا جعفر (علیه السلام) یقول: (التقیّة فی کلّ شیء یضطر الیه ابن آدم فقد أحلّه الله له)(1)، بتقریب أن الحلّ یتناول التکلیفی والوضعی، أو انّ الحلّیّة مقابل الحرمة التکلیفیة النفسیة والغیریة، أو أن الحلّیة مقابل التکلیفیة النفسیة المستقلّة والضمنیة، فالشیء بعمومه یتناول المرکب بتمامه و الفعل الواحد کما لو کان أصل الصیام یوم فطرهم یتخوّف منه أو أکره علی شرب النبیذ، ویتناول أبعاض المرکب من الجزء أو الشرط و ذلک بحسب تحقق طروّ العناوین التسعة أو الستة تارة علی الفعل والمرکب بتمامه وأخری علی الأبعاض فقط.

2. موثّق مسعدة بن صدقة عن أبی عبد الله(علیه السلام) - فی حدیث - (و تفسیر ما یتقی مثل أن یکون قوم سوء ظاهر حکمهم و فعلهم علی غیر حکم الحق و فعله. فکل شیء یعمل المؤمن بینهم لمکان التقیّة مما لا یؤدی الی الفساد فی الدین فانّه جائز)(2)، والتقریب کما سبق لاسیّما وأن الشیء فیه وصف بالعمل الذی یأتیه بینهم بصورة التقیّة وهو أصرح فی تناول

ص:67


1- (1) وسائل الشیعة، ج16، ص215، باب25 من ابواب الامر والنهی، ح2.
2- (2) المصدر، ح6.

الأبعاض للمرکب.

3. صحیح زرارة (قال: قلت له: فی مسح الخفّین تقیّة؟ فقال: ثلاثة لا أتقی فیهنّ أحدا: شرب المسکر، ومسح الخفّین، و متعة الحج، قال زرارة: و لم یقل الواجب علیکم أن لا تتقوا فیهنّ أحد)(1) ومثله صحیح هشام بن سالم عن أبی عمر الأعجمی عن أبی عبد الله(علیه السلام) - فی حدیث - (أنّه قال: لا دین لمن لا تقیّة له، و التقیّة فی کل شیء إلا فی النبیذ والمسح علی الخفّین)(2) وظاهرها عموم جریان التقیّة فی الأحکام النفسیة والغیریة أو الاستقلالیة والضمنیة بشهادة استثناء مثالا من کلا القسمین من العموم المقتضی لتناوله لهما.

4. صحیح أبی الصباح - المتقدم - عن أبی جعفر(علیه السلام) - وفیه - (ما صنعتم من شیء أو حلفتم علیه من یمین فی تقیّة فأنتم منه فی سعة)(3)، بتناول عموم الشیء لترک جزء وشرط أو اتیان مانع، أو بتناول (ما) للعمل الذی صنعه بنحو ناقص فاقد للجزء أو الشرط.

5. موثق سماعة قال: (سألته عن رجل کان یصلّی فخرج الامام وقد صلّی الرجل رکعة من صلاة فریضة؟ قال: إن کان اماما عدلا فلیصل أخری وینصرف ویجعلها تطوعا ولیدخل مع الامام فی صلاته کما هو، و إن لم یکن امام عدل فلیبن علی صلاته کما هو و یصلی رکعة أخری ویجلس قدر ما یقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شریک له، و أشهد أنّ محمدا عبده ورسوله صلی الله علیه و آله ثم لیتمّ صلاته معه علی ما استطاع، فانّ التقیّة

ص:68


1- (1) المصدر، ح5.
2- (2) المصدر، ح3.
3- (3) وسائل الشیعة، ج23، ص224، باب12 من ابواب الایمان، ح2.

واسعة، ولیس شیء من التقیّة إلا وصاحبها مأجور علیها، إن شاء الله)(1).

فإن صلاته وإن لم تکن اقتداء بالامام منهم بل صورة اقتداء اذ هو یتابع ویبنی علی ما ابتدأ به، إلا أن قوله(علیه السلام) (لیتمّ صلاته معه علی ما استطاع) دال علی إجزاء صلاته وإن کانت ناقصة لبعض الاجزاء والشرائط أو مشتملة علی بعض الموانع، فانّه قیّد الأمر بإتمام بقیة اجزائها بالقدرة علیها وکلّما لم یقتدر علیه فهو غیر مخلّ بالصحّة.

ثمّ انّ مقتضی هذا اللسان وإن کان الاضطرار المستوعب لورود اللفظ به، إلا أن اشتماله علی عنوان التقیّة یظهر منه کفایة مطلق الاضطرار ولو فی الفرد لا بحسب کلّ الطبیعة، لما سیاتی من عدم اعتبار المندوحة فی عنوان التقیّة.

الإشکال علی هذا اللسان عموما.

أولا: بأن دلیل الاضطرار لا یحقق موضوعه و لازم دعوی شموله للأمر الغیری أو الضمنی هو ذلک، بیانه انّ الجزء و الشرط لما کان ارتباطیا فالعجز عنه عجز عن المرکب بتمامه، ولا محصل للاضطرار الی ترکه بخصوصه لأنه عین الاضطرار الی ترک الکل، فلا اضطرار الی الجزء والشرط بخصوصه، وهذا مقتضی الارتباطیة ووحدة الأمر المتعلّق بالاجزاء، نعم بحلّیة ترک الجزء أو الشرط ینفّک هذا الارتباط فینفّک الاضطرار الی ترک الجزء عن الاضطرار الی ترک الکل، ولکن هذا من تحقیق الحکم و الموضوع نفسه، و إلا فمع فرض الارتباطیة فالاضطرار هو

ص:69


1- (1) وسائل الشیعة، ج8، ص405، باب56 من ابواب صلاة الجماعة، ح2.

لترک الکل والحلّیة هی فی ترکه لا ترک خصوص الجزء(1)، و کذلک الحال فی لسان السعة التی موضوعها الضیق وفی لسان الجواز الذی موضوعه ما کان محرّما فی نفسه وفی لسان ما استطاع الذی موضوعه القدرة.

وفیه: إنّه وإن کان ترک الجزء ترکا للکلّ بمقتضی الارتباطیة والاضطرار الی ذلک اضطرار الی ترک الکلّ، إلا أن ذلک لا ینفی صدق تحقق عنوان الاضطرار الی ترک الجزء بشهادة صدق تعلیل عدم القدرة علی الکل بعدم القدرة علی ذلک الجزء فأحد الاضطرارین فی طول الاخر وأحد العجزین فی طول الآخر، ومع صدق ذلک لا حاجة الی التوسّل بالحکم - وهو حلّیة الترک - لتحقیق صدق الاضطرار الی ترک الجزء، ومن ثم تری اسئلة الرواة مفترضاً فیها الحرج أو الاضطرار فی خصوص جزء أو شرط ما کما فی أکثر الروایات الواردة فی الخلل فی المرکبات العبادیة، ومع جریان الرفع فی الاضطرار أو الحرج المتقدم رتبة لا تصل النوبة لجریانه فی الاضطرار الی ترک الکل أو الحرج فی المجموع. و هکذا الحال فی لسان الضیق أو الحرمة فانها صادقة علی الحرمة الضمنیة النفسیة.

ثانیا: بأن لازم اجراء حلّیة الاضطرار - ولو للتقیّة - فی اجزاء العبادات هو اجراؤها فی المعاملات بالمعنی الأعم کتطهیر الثوب المتنجس اذا اضطر الی غسله مرّة أو بغیر الماء أو الطلاق بغیر عادلین، وکذلک لازمه اجراء حلّیة الاضطرار فی التقیّة فی الموضوعات و عدم اختصاصها بالتقیّة فی الأحکام، کما اذا اعتقد بعض العامّة غیر الحاکم لدیهم بأن هلال شوال قد تولّد وأن غدا عید والظاهر عدم التزام الفقهاء بذلک.

ص:70


1- (1) التنقیح فی شرح العروة الوثقی، ج5، ص276.

وفیه: إن عدم جریان حلّیة الاضطرار و لو للتقیّة فی المعاملات بالمعنی الأعم فلوجوه: أما المعاملات بالمعنی الأخصّ الشاملة للایقاعات، فلأن جریانه فی السبب لا یثمر فی وجود المسبب الذی هو عبارة عن معنی المعاملة الذی یوجد بوجود بسیط اعتباری لا ترکیبی متدرج کالسبب - الایجاب والقبول - هذا بالنسبة الی لسان الرفع، وأما لسان الحلّ بالاضطرار فلعدم تصور تحقق عنوان الاضطرار و موضوعه أو أن الامتنان هو فی عدم نفوذ السبب لو أکره علیه، مضافا الی بقاء تأثیر السبب السابق علی حاله والفرض أن السبب اللاحق وجد ناقصا. وأما غیر المعاملات بالمعنی الأخص، فلأن مطلق الأسباب اذا لم توجد تامّة فلا یتحقق ما هو مضاد للسبب السابق، فمثلا ملاقاة النجس للثوب تسبب نجاسته وهذا السبب باق تاثیره حتی یرفعه سبب تام لاحق من التطهیر مرّتین مثلا، و الفرض عدم وجوده، وأما السبب الناقص فلا تجری فیه قاعدة الاضطرار سواء بلسان الحل الاثباتی أو الرفع النافی، لأن المفروض جریانها فی أفعال المکلف لا ما هو خارج عنها مترتب علی وجود أسباب لیست من افعاله کالأعیان أو الأوصاف الخارجیة، بخلاف ما لو اضطر الی الصلاة فی الثوب النجس أو شرب المتنجس.

وأما عدم جریان التقیة لدیهم فی الموضوعات التی لا تؤول الی الأحکام الکلیّة والخشیة من السلطان فلانتفاء الاضطرار والتقیّة حینئذ غالبا، لأنه من الاختلاف فی الاحراز فی طبیعة البشر و یمکن رفعه بالتنبیه و الإلفات، ولو افترض الاضطرار أو الاکراه نادرا فعدم جریان القاعدة حینئذ أول الکلام، اذا افترض انّ المورد من مواردها التی تتوفّر فیها بقیّة شرائط جریان القاعدة وقد تقدمت الاشارة الی بعضها فلاحظ.

ص:71

وأشکل علی خصوص موثّق مسعدة ثالثا: بضعف السند به و بأن الجواز مسند الی فعل فهو ظاهر فی الجواز النفسی لا الغیری، و الروایة متعرضة لحکم التقیّة نفسها لاحکم الفعل المتقی به بقرینة صدرها - الذی تقدم نقله فی الأمر الثالث.

وفیه: أما مسعدة فانّه و إن کان عامیا بتریا إلا انّه صاحب کتاب بل کتب معتمدة رواها عنه هارون بن مسلم الثقة، وقد اعتمدها المحدّثون فی الأبواب الروائیة المتعددة بل قد روی هو روایات عن الصادق فی الأئمّة الاثنی عشر وغیرها مما یدل علی تشیّعه إلا أنه کان مخالطا للعامّة للتقیّة، ومن ثمّ یسند روایات الصادق عن آبائه (علیهم السلام)، هذا مع قوّة القول باتّحاده مع مسعدة بن زیاد الربعی الموثّق لاتّحاد الطبقة والراوی عنهما واتّحاد اللقب واتّحاد ألفاظ روایتهما فی کثیر من الموارد.

وأمّا الجواز فاسناده الی عموم الفعل لا یوجب ظهور الجواز فی خصوص النفسی المستقل، إذ من الأفعال ما یکون مرکبا عبادیا ناقصا بعض أجزائه ومنها ما یکون فعلا ذا ماهیة واحدة کمتعلّق الحرمة التکلیفیة کمدح الظالمین واظهار تولیهم، والغالب فی ما یتقی به من الأعمال هو فی العبادات فکیف یدعی انصراف العموم عنه، وأما کون الحکم هو للتقیّة لا للفعل المتّقی به فغریب لأن التقیّة من المسببات التولیدیة أو العناوین الصادقة علی نفس الأفعال، و یشهد لذلک صدر الروایة حیث ذکر فیها الموانع التی لا تجوز فیها التقیة، والحرمة انما هو للافعال التی یتّقی بها أنّها باقیة علی حرمتها فی المواضع التی لا تشرع فیه التقیّة، و بعبارة أخری إن فی باب التقیة ثلاثة أمور:

أولها: موضوعها وهو ما یوجب الخوف أو الضرر علی النفس أو

ص:72

علی المؤمنین.

ثانیها: الفعل الذی یتّقی به و له حکم أولی، ثالثها: الوقایة کاسم مصدر الواجبة لحفظ النفس وصیانتها ونحوها، ومن الواضح أن الروایة متعرضة للأمرین الأولین لا للثالث، ومتعرضة للتقیة کمصدر حدثی یحصل بالفعل الذی یتّقی به، نظیر ما فی روایة أخری (إن التقیّة تجوز فی شرب الخمر)(1).

وأشکل علی خصوص روایة أبی عمر الاعجمی. رابعا: بضعف السند وبأنّ حمل الروایة علی هذا المعنی یستلزم استثناء شرب المسکر و المسح علی الخفّین من حکم التقیّة، و الحال أنهما لیس بأعظم من هلاک النفس فاذا اضطر الیهما یلزم ارتکابهما حفظا علیها، بل الصحیح فی معنی الاستثناء هو عدم تحقق موضوع التقیّة فیهما لأن حرمة المسکر بنص القرآن ولا یختلف فیه أحد، ومسح الخفّین غیر واجب عند العامّة بل مخیّر بینه و بین غسل الرجلین فیتعیّن الثانی للأمر به تقیّة وأقربیّته للوظیفة الأولیة من المسح علی الخفّ، فالروایة فی هذا الصدد لا فی ارتفاع أحکام الفعل المأتی به.

وفیه: أنّه علی المعنی الثانی أیضا لا یضرّ بالاستشهاد بالروایة لأنه أیضا تنصیص علی عموم مشروعیة التقیّة فی الأفعال ذات الحکم النفسی المستقل أو ذات الحکم الغیری والضمنی، إلا انّه استثنی هذین الموردین أو الثلاثة لانتفاء موضوعها بخلاف سائر الموارد، ولعلّ مراد المستشکل ما یرجع الی الاشکال الثالث من انّ الروایة متعرضة لحکم التقیّة لا لرفع

ص:73


1- (1) وسائل الشیعة، ج16، ص217، باب25 من ابواب الامر، ح7.

حکم الفعل الذی یتّقی به وقد تقدم الجواب عنه.

وأمّا ضعف السند فمضافا الی أن الروایة یمکن أن تعدّ حسنة، أن صحیحة زرارة بالطرق المتعددة متحدة المضمون معها.

وأشکل علی خصوص صحیحة أبی الصباح خامسا: بأن السعة انّما هی بلحاظ الأمور والآثار المترتبة علی العمل فی الخارج کالإلزام بالحرمة أو الحدّ أو الکفّارة والحنث ونحو ذلک، وأما الفساد المترتب علی ترک الجزء والشرط أو اتیان المانع فانّه أمر قهری تکوینی لیس من محل وضع أو رفع الشارع، کما أن وجوب الاعادة أو القضاء لیس من آثار العمل الخارجی و انّما هما بمقتضی الأمر الابتدائی.

وفیه: إن الوجوب أو الحرمة النفسیین لیسا مترتبین علی الوجود الخارجی للعمل کما هو الحال فی الکفّارة و الحدّ و نحوهما، بل ارتباطهما هو بنحو یکون الفعل متعلّقا لهما بوجوده الفرضی التقدیری کما هو الشأن فی سائر المتعلقات للاحکام، المغایر لکیفیة ارتباط الحکم بموضوعه فانّه مترتب علی وجوده الخارجی المتحقق لا مرتبط بوجوده الفرضی المقدّر إلا فی القضیة الانشائیة، واذا کان الحال کذلک کان تعلّق الحرمة الغیریة أو الضمنیة النفسیة أو الوجوب کذلک هو بالوجود الفرضی التقدیری للفعل لا بالترتب علی الوجود الخارجی، کما هو الحال فی الحرمة والوجوب النفسیین الاستقلالیین، غایة الأمر قد قدمنا أنّ قاعدة الاضطرار بلسان الرفع والنفی أو بلسان الحل و الاثبات إما ترفع حکم المتعلّق أعم من الاستقلالی أو الضمنی، ومن ثمّ ترتفع الأحکام الأخری التی نسبتها الی الفعل نسبة الموضوع الی حکمه تبعا لأنها مترتبة علی الفعل المنجز حکمه کما هو الحال فی الکفارة والحدّ، وإما ترفع القاعدة کل من الحکمین اللذین

ص:74

لهما ارتباط مختلف بالفعل سواء بنحو المتعلّق له أو بنحو الموضوع له کما هو مفاد صحیح صفوان وابن ابی نصر - المتقدم فی صدر الکلام فی الأمر الرابع - فی مثال الحلف بالطلاق و العتاق، حیث ان رفع الالزام والکفارة والحنث المرتبطة بالفعل بنحو الموضوع لهما ولیس من حکم مرتبط بنحو المتعلّق بالحلف المکره علیه.

وأشکل علی خصوص موثّق سماعة سادسا: بأن مفادها لیس هو الاقتداء بالامام الذی لیس بعدل بل هو اظهار الائتمام والاقتداء به بقدر یستطیعه من الاظهار والابراز لأن التقیّة واسعة، لا الاکتفاء فی الصلاة معهم بما یتمکّن منه من الاجزاء والشرائط کما صرّح بذلک صاحب الوسائل فی عنوان الباب باستحباب اظهار المتابعة فی أثناء الصلاة مع المخالف تقیّة، مضافا الی کونها مضمرة.

وفیه: انّ مفادها وإن لم یکن الاقتداء بالمخالف حقیقة، بل استحباب اظهار المتابعة معه إلا أن قوله(علیه السلام) (ثم لیتمّ صلاته معه علی ما استطاع فان التقیّة واسعة) ظاهر فی اتمام صلاته - التی یظهر المتابعة فیها - بقدر ما یستطیع من اتیان الاجزاء والشرائط، لأن المتابعة ولو الصوریة توجب تقیّد المصلی ووقوعه فی الضیق عن الفسحة و اتساع المجال لاتیان کلّ الأجزاء والشرائط بحدودها المقررة فی الوظیفة الأولیة، و أما المعنی الآخر المدعی لمفاد (علی ما استطاع) من أن اظهار المتابعة وابرازها هی بحسب قدرته لأن التقیّة واسعة، فلا محصل له، اذ أی معنی لتسویغ الاظهار للمتابعة الناقصة غیر الکاملة فی الصورة فانّ ذلک نقض لحصول التقیّة، و کیف تفسّر وسعة التقیة بمعنی شمولها للدرجات الناقصة للتقیة والدرجات التامّة، فانّ النقص فی اتیان التقیّة یخالف الغرض المطلوب من التقیة، بل المراد من سعة

ص:75

التقیّة تجویزها لکلّ صورة عمل تتحقق به التقیّة من دون تحدیده صورة معیّنة خاصّة لذلک العمل بل بحسب ظرف الشخص الذی تنزل به ویحلّ به الاضطرار، فالتعلیل شاهد آخر للمعنی الذی قرّبناه للروایة.

الوجه الثالث: لتصحیح العمل الناقص المأتی به:

هو السیرة المتشرعیة القائمة علی عدم اعادة ما أتی به تقیّة و القدر المتیقن منها ما کثر الابتلاء به کالتکتّف فی الصلاة وغسل الرجلین فی الوضوء، و قد یعدّ منه الصلاة علی ما لا تصحّ السجود علیه، وفیه نظر، اذ المساجد فی عصر النصّ کانت اما مفروشة بالحصی أو بالبواری والحصر مما یجوز السجود علیه، وکالوقوف بعرفات یوم المردد انّه الثامن أو التاسع من ذی الحجّة بحسب الواقع، وان کان بحسب الامارة الظاهریة هو الیوم الثامن من رؤیة الهلال، لکنّه محتمل تولده فی اللیلة السابقة ولم ترصد رؤیته، فان فی مثل هذه الموارد لو لم یکن العمل مجزئاً لورد ما یدل علی الاعادة ولم یکف للدلالة علیها الأدلة الأولیة علی الجزئیة و الشرطیة بعد قیام السیرة المتکررة لکثر الابتلاء،ولا سیما وان العمل صدر بتسبیب اوامر التقیة العامة - ولو بنی علی عدم استفادة الاجزاء منها - وأما ما یظهر من عدّة من الروایات(1) الامر بالصلاة فی المنزل قبل الصلاة معهم أو بعدها فسیاتی أنّها واردة فی التقیّة للمدارة والعشرة معهم لا التقیّة فی الخوف أو أنّها محمولة علی وجه آخر، ثمّ انّه یمکن جرد الوجوه الدالة علی اجزاء

ص:76


1- (1) وسائل الشیعة، ج8، ص302، الباب6 من ابواب صلاة الجماعة. التی منها: ما رواة الشیخ الصدوق باسنادة عن عمر بن یزید عن ابی عبد الله (علیه السلام) انه قال (ما منکم احد یصلی صلاة فریضة فی وقتها ثم یصلی معهم صلاة تقیه وهو متوضئ الا کتب الله له بها خمساً وعشرین درجة...) المصدر، ح1.

الوقوف مع العامّة فی یوم الشکّ علی النحو الآتی:

الأول: ما تقدم من السیرة المستمرة علی ذلک طوال ثلاثة قرون من عهد الحضور للمعصومین(علیهم السلام)، حیث لم یشیروا الی مخالفتهم فی الوقوف، ولو أمروا شیعتهم لتوفر النقل عنهم، وما قد یقال من رصد بعض کتب التاریخ للاختلاف فی الموقف بین العامّة أنفسهم فهو فی أواخر القرن الرابع، وهذا التقریب للسیرة لا یبعد تأتیه فی الیوم المعلوم انّه لیس التاسع من ذی الحجّة أی انّه إما الثامن وأما العاشر منه، والصورة الأولی وإن کانت نادراً وقوع العلم بها، لکن الصورة الثانیة ممکنة الوقوع بأن یتأخّر حکمهم بالهلال لیلة، اذ طوال القرون الثلاثة یبعد عدم تحقق الاختلاف المعلوم مع الواقع. ثمّ انّه هذا لا یفرق فیه بین حجّة الاسلام و غیرها، لاسیّما وأنّه بانشاء الحج یتولّد وجوب اتمامه صحیحا.

الثانی: ما یستفاد من صحیح زرارة المتقدم وصحیح هشام عن ابی عمر الاعجمی من استثناء خصوص المتعة للحج من عموم التقیّة، الظاهر فی تأتیها فی غیر المتعة من أجزاء وشرائط الحج کالوقوف معهم.

الثالث: معتبرة ابی الجارود قال: (سألت ابا جعفر(علیه السلام) أنّا شککنا سنة فی عام من تلک الأعوام فی الأضحی فلما دخلت علی أبی جعفر(علیه السلام) وکان بعض أصحابنا یضحی، فقال: الفطر یوم یفطر الناس والاضحی یوم یضحی الناس، و الصوم یوم یصوم الناس)(1).

ومعتبرته الأخری، قال: (سمعت أبا جعفر محمد بن علی(علیه السلام) یقول: صم حین یصوم الناس وافطر حین یفطر الناس، فان الله جعل

ص:77


1- (1) وسائل الشیعة، ج10، ص133، باب57 من ابواب ما یمسک عن الصائم، ح7.

الأهلة مواقیت)(1).

وظاهرهما الاعتداد بما یبنون علیه فی الهلال کإمارة ظاهریة - بقرینة الصوم - وهما انّ لم یعمل بهما فی هلال شهر رمضان و شوال فلا یخل فی دلالتهما علی هلال ذی الحجّة، - ان لم یحملا علی اشتهار الرؤیة ولو بقرینة لفظة (الناس) المراد بهم العامّة دون الخاصّة، وامّا توهم الاعتداد بحکمهم فی الهلال کبدل واقعی فلا یساعده الظهور بعد ما کان الحال فی شهر رمضان هو بحسب الواقع، وإن أمکن دفع الاشکال بأن عدم الاجزاء هو لعدم الاتیان وترک الفعل، لا أن الفعل الناقص للتقیّة غیر مجزئ.

الرابع: قاعدة الحرج بالمعنی الثانی - أی التی أدلّتها محمولة علی بیان نمط التشریع وحکمته انّه یسر ولیس بعسر وأن الشریعة سمحة سهلة بیضاء، فإنّها وإن لم تکن رافعة نظیر قاعدة الحرج بالمعنی الأولی المعروفة الدائرة مدار الحرج الشخصی، إلا ان مجموع أدلّتها تکون کالقرینة العامّة المنضمة الی أدلّة الأحکام الأولیة فی کلّ باب، فتکوّن دلالة اقتضائیة تحدد العموم و تقیده أو توسعه، بالقدر القطعی من مدلول الاقتضاء، ففی ما نحن فیه من الحج لعموم المکلفین المؤمنین لو یجعل الموقف هو بحسب الامارة المعتد بها شرعا، لکان فی ذلک من الحرج البالغ علی غالب المکلفین ولأدّی ذلک الی الفتنة علی الطائفة، والضرر البالغ، ولا یفرق فی ذلک بین صورة الشک فی یوم التاسع - بحسب الواقع - أو صورة العلم بمخالفته للواقع، وان کان فی الشقّ الأول الابتلاء أکثر شیوعا.

الخامس: أدلّة التقیّة العامّة من رفع الاضطرار.

ص:78


1- (1) وسائل الشیعة، ج10، ص292، باب12 من ابواب احکام شهر رمضان، ح5.

وقد یشکل علی الوجهین الأخیرین أولا بأن الوقت مقوم لماهیة الموقف الذی هو رکن کما فی ظهریة صلاة الظهر فبرفعه ترتفع الماهیة وثانیا بان الاضطرار غیر مستوعب لأن الحج لا یشترط فی صحّته وقوعه فی عام خاص بل یصحّ فی أی عام والجواب انّه لو کان النظر الی دلیل الموقف و قید الوقت فیه لکان الاشکال الأول فی محلّه، و لکن بالنظر الی دلیل جعل البدل الاضطراری للموقف کلیلة العاشر أو اختیاری المشعر وحده أو اضطراریه یظهر منها تعدد المطلوب فی الجملة فیحرز ما هو بمنزلة الموضوع لأدلة الرفع و أما الاستیعاب فیکفی فیه تحقق الضیق الناشیء من التکلیف المحض وان لم یکن من الوضع، وهو متحقق فی المقام لفوریة الحج.

وتوهّم سقوطها للعذر مدفوع بأنّه افتراض للاضطرار والضیق. مضافا الی تصور الضیق الوضعی علی مسلک ظاهر المشهور من أخذ الاستطاعة قیدا فی الوجوب وأن الحج بدونها لا یقع حجة الاسلام، حیث انّه لا تبقی الاستطاعة لمن انفقها فی عام استطاعته فی سفر الحج عند کثیر من المکلفین، فالحج فی القابل لا یقع مجزیا لانعدام الموضوع، وهکذا بالاضافة الی قاعدة الحرج بالمعنی الثانی فان الحکم بعدم اجزاء حج عامّة المؤمنین فی ذلک العام فیه من الحرج ما لا یخفی.

ثمّ انّه لا یخفی بأن مقتضی بعض الوجوه المتقدمة الاجزاء الظاهری فتختصّ بفرض الشک دون العلم بالخلاف، کما هو مقتضی الوجه الأول علی أحد تقریبیه والثالث بخلاف بقیّة الوجوه.

أقول: والمعروف فی الکلمات فی المقام أن التقیّة بالمعنی الأخص لما کانت فی الأحکام دون الموضوعات فیخص الاجزاء بصورة الشک مع

ص:79

حکم حاکمهم دون صورة العلم بالمخالفة ودون ما اذا لم یکن بحکمه، إلا اذا کان مذهبهم - ولو بعضهم - نفوذ حکمه حتی مع العلم بالمخالفة، لکن الظاهر عدم تمامیة هذا التفصیل، لأن الاختلاف وان رجع الی الموضوع فی بعض الصور و فی موارد اخری، إلا أن اتفاقهم علیه یؤدی الی نسبته الیهم کمذهب أو فرق، والی تمیزنا کفرقة ومذهب فیتأتی موضوع التقیّة مضافا الی أن ثبوت الهلال بالشهرة لدیهم علی وزان حکم حاکمهم، مضافا الی عموم الأدلة المتقدمة لهذه الصورة کما لا یخفی عند التدبّر، نعم لو انقسموا هم انفسهم لانتفی موضوع التقیّة.

الوجه الرابع: اقتضاء إطلاق الأمر الاضطراری ونحوه:

للاجزاء کما هو محرر فی علم الأصول بعد فرض تحقق موضوعه، ولیس هو من کشف الخلاف وتخیّل وجوده، وهو ظاهر فی الأوامر الخاصّة الواردة فی مثل الوضوء أو الصلاة فی موارد ونحوهما، وأما أوامر التقیّة العامّة فیستشکل فیها بأنّها لیست امرا بالعمل المتقی به، بل أمرا بالتقیّة، فیبقی الأمر الأولی علی حاله بلا امتثال وقد یدفع بأن ظاهر التعبیر المتکرر فی الروایات - (التقیّة دینی ودین آبائی) وفی صحیح هشام عن ابی عمر الأعجمی عن أبی عبد الله(علیه السلام) (انّ تسعة أعشار الدین فی التقیّة) و(التقیّة فی کل شیء) - هو کونها کیفیة فی العمل المأمور به و أن الأمر بها بتبع الأمر بالأولیّ عند تحقق ظرفها، وبعبارة أخری انّه لو کان الأمر فی التقیّة من باب وجوب حفظ النفس ونحوه فهو أجنبی عن الأمر بالصلاة وبالوضوء وغیرها من المرکبات وان انطبق علی العمل، وأما اذا کانت التقیّة من باب رفع ما اضطروا الیه وکل ما صنعتم فی دار التقیّة من عمل

ص:80

فأنتم منه فی سعة، فهو وزان الأدلّة الثانویة العامّة المحددة للأحکام فی الأبواب نظیر لا ضرر ولا حرج حیث أنها محددة لقیود الحکم فی کل باب باب لا أنّها حکم فی عرض الأحکام الأولیة.

موارد عموم التقیة:

الأول: الظاهر عموم التقیّة سواء أکانت من العامّة أو غیرهم کما هو مورد نزول الآیة إِلاّ مَنْ أُکْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِیمانِ (1) الذی هو اتقاء عمّار من المشرکین، و کذا استشهادهم (علیهم السلام) بقوله تعالی عن أصحاب الکهف فَابْعَثُوا أَحَدَکُمْ بِوَرِقِکُمْ هذِهِ إِلَی الْمَدِینَةِ فَلْیَنْظُرْ أَیُّها أَزْکی طَعاماً فَلْیَأْتِکُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَ لْیَتَلَطَّفْ وَ لا یُشْعِرَنَّ بِکُمْ أَحَداً إِنَّهُمْ إِنْ یَظْهَرُوا عَلَیْکُمْ (2) ... الآیة بعد قولهم وَ إِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَ ما یَعْبُدُونَ (3)، وکذا ما ورد من استشهادهم(علیهم السلام) - وقد تقدم - بقوله تعالی فی اتقاء ابراهیم(علیه السلام) ویوسف(علیه السلام)، وتعبیرهم(علیهم السلام) ابی الله إلا أن یعبد سرّا فانّه عام لا یختصّ بزمان أو مکان أو عن فئة خاصّة. وهذا العموم فی عدة ألسنة التقیة سواء التی بعنوانها، و أنّها دین یدان به أی أصل مشروعیتها أو التی بلسان الرفع بعنوان الاضطرار أو الضرر أو بلسان الحل بتلک العناوین، فالعموم فی حکمها التکلیفی والوضعی ثابت - بعد ما تقدم من تقریب اقتضاء الأدلّة العامّة للصحّة - نعم لو بنینا علی خصوص السیرة فی الحکم الوضعی - أی صحّة العمل - لأختصّ الحکم الوضعی فی التقیّة بخصوص جمهور العامّة

ص:81


1- (1) سورة النحل، الآیة: 106.
2- (2) سورة الکهف، الآیة: 19.
3- (3) سورة الکهف، الآیة: 16.

- دون شواذهم - الذین کانت مذاهبهم هی السائدة فی عصرهم(علیهم السلام)، نعم المندوحة الآتی الکلام عنها لا یبعد اختصاصها فی الأدلّة بخصوص ما کانت التقیّة من العامّة وإلا فأدلّة الاضطرار تقتضی الصحّة عند الاضطرار المستوعب.

الثانی: عمومها للتقیّة فی الموضوعات الخارجیة کما فی الأحکام، فقد عرفت عدم تحقق الخوف أو الاضطرار المأخوذ فی موضوعها لأنه یمکن التنبیه علی الخطأ فی الاحراز والإلفات الی الغفلة و إن لم یقنع المخالف بذلک نعم یستثنی من ذلک ما لو صدق مع ذلک الاضطرار أو الخوف نادرا، کما لو حمل المخالف الاختلاف معه، وفسّره علی اختلاف فی المذهب - وان کان ذلک لجاجا وعنادا - کما هو الحال لو ثبت الهلال لدیهم بشهرة مدعاة لدیهم فی موقف الحج أو نحوه مما لم یحکم حاکمهم بذلک فان مخالفة المؤمنین للعامّة حینئذ یتلوّن بصبغة المذهب والطائفة فیتحقق موضوع التقیّة وکذا الحال فی نحو ذلک من الموضوعات التی تکون عامّة شائعة الابتلاء بخلاف الموضوعات الفردیة.

الثالث: عمومها لغیر الأفعال أی موضوعات الأحکام الأخری، فلا مجال له لأن التقیّة هی فعل للمکلف و الاضطرار متعلّق بالفعل أیضا و أما الاسباب وترتب المسببات علیها فأجنبیة عن الأدلّة فی المقام، وذلک کترتب الجنابة علی التقاء الختانین والضمان علی تلف مال الغیر، وهذا حال الرفع مع بقیّة العناوین التسعة، التی هی کأوصاف لفعل المکلّف، نعم بالنسبة الی الأفعال المترتبة علی المسببات والمتعلّقة بها، اذا صدق علیها تلک العناوین أو عنوان الضرر تاتّی الرفع أو النفی فیها، و بعبارة جامعة أن التقیّة انّما تکون شاملة للموضوعات و المتعلقات للأحکام التی هی فعل

ص:82

للمکلّف دون الموضوعات والمتعلقات التی لیست بفعل له کالأعیان والأعراض الأخری.

الرابع: عمومها لترک الأفعال کما لو ترک الصیام تقیّة لکونه یوم فطر عندهم أو أنّه اخر شعبان أو کما فی المعاملات و الایقاعات، بأن یوقع الطلاق من دون شاهدین عدلین و نحو ذلک و من البین عدم عمومها الی ذلک لأن أدلّة الاجزاء المتقدمة انّما تصحح وضعا الامتثال و الوجود الناقص لا عدم الوجود من رأس، ففی المعاملات مثلا لم یوقع ما هو سبب شرعی، و ما أوقعه قد تقدم عدم تصحیح أدلّة الرفع أو الحلّ الاضطراریة له، حیث انّ رفع المسبب غیر مطلوب ورفع بعض أجزاء السبب لا یثبت وجود المسبب أو أنّه لا یتحقق عنوان الاضطرار موضوعا و هو الأصحّ أو الامتنان فی عدم الرفع لو کان مکرها علی السبب، ومنه یظهر عدم جریان الحلّ أیضا.

والی ذلک الاشارة فی روایتی رفاعة وداود بن حصین عن رجل عن أبی عبد الله(علیه السلام) (انّ افطاری یوما و قضاؤه أیسر علیّ من أن یضرب عنقی و لا یعبد الله)(1) عندما دخل(علیه السلام) علی أبی العبّاس فی شهر رمضان، و أما توهّم أن مجرد تناول الطعام و الشرب لفترة یسیرة من النهار لا یضرّ بالصیام و الشاهد علی ذلک عدم جواز تناوله بعد ذلک و لا قبل تلک الفترة التی یضطر الیها، ففیه: انّ عدم جواز تناوله بعد ذلک هو لحرمة الافطار فی شهر رمضان و هی حکم مغایر لوجوب الصیام وقد یفترق

ص:83


1- (1) الوسائل، ج10، ص131، باب57، من ابواب ما یمسک عنه الصائم، ح5. وقریب من مضمونه حدیث4 (افطر یوماً من شهر رمضان احب الیّ من ان یضرب عنقی).

عنه فی مقام الامتثال، کما لو عصی وجوب الصیام فان حرمة الافطار لبقیة الیوم من نهار شهر رمضان باقیة علی حالها، ومن ثم یتصور تکرر الکفارة فی الجماع، وتلازم الحکمین فی تحقق الموضوع لا یعنی تلازمهما فی الامتثال أو فی تنجیز الحکم، نعم لو لم یتحقق موضوع وجوب الصیام وانتفی لاختلال بعض قیوده مثلا لانتفی الحکم الآخر أیضا لما عرفت من وحدة موضوعهما، والحاصل انّ مثل هذا التناول و الامساک بقیة الیوم لا یعدّ امتثالا ناقصا لوجوب الصیام فالروایتان علی مقتضی القاعدة، و هذا بخلاف ما لو أمسک صائما حتی غیبوبة القرص دون الحمرة المشرقیة فانّه یعدّ من الامتثال الناقص برسم ما یاتی العامّة به من امتثال، وکذلک بالنسبة الی ما یمسک عنه الصائم فانّه یعدّ من امتثال الصیام بالنحو الذی هم یاتون به من الصیام، و مع ذلک ففی جریان أدلّة الاضطرار تأمّل، لما یظهر من أدلّته من الوحدة والبساطة وعدم التبعیض وعدم الابدال الناقصة من جهة الامساک، کما فی الشیخ و الشیخة وغیرهما، نعم قد یظهر مما ورد فی ذی العطاش أو الذی أفطر لظلمة أو بعد الفحص و نحوه من صحّة صومهما أنّه من تعدد المطلوب، ولکن هذا القدر فی مقابل ما تقدم من وجه البساطة غیر کاف.

الخامس: فی عمومها للمعاملات بالمعنی الأعم الشامل للایقاعات فقد تقدم - فی الرابع، وفی اجوبة الاشکالات فی الأمر الرابع - عدم تحقق الاضطرار فی المعاملات أو عدم کون الرفع أو الحل للنفوذ امتنانیا لو کان ایقاع السبب اکراهیا، ومن ثم فلا یتأتّی الحکم الوضعی فیها، نعم الحکم التکلیفی قابل للشمول بأن یوقع ما صورته نافذة عندهم من معاملة أو ایقاع کالطلاق من دون شاهدین أو فی العدّة ونحو ذلک ودلیل المندوحة

ص:84

یختصّ کما یأتی بالعبادات فلا یتحقق موضوع الاضطرار ما دامت المندوحة ممکنة، نعم قد أمضی الشارع موارد تحقق الاضطرار النوعی أو الشخصی فیها بأدلّة خاصّة کما فی امضاء التعامل المالی مع الدول الوضعیة القائمة غیر الشرعیة تسهیلا علی المؤمنین، فی حدود المعاملات المحللة فی نفسها، ومن ثم لا یکون ما بحوزة الدولة من أموال - ولو لم تکن من الانفال وکانت حصیلة التعامل مع الافراد - مجهول المالک، وکما فی ابتیاع أموال الخراج والمقاسمة وتأدیّ الزکاة به، واجارة أراضی الأنفال من الدول غیر الشرعیة، وتجویز القضاء أو الولایة فی الدول الجائرة مع امکان قضاء بعض الضرورات والحاجات للمؤمنین أو عند الخوف والاکراه علی ذلک.

فی اعتبار عدم المندوحة فی موارد التقیّة أو انها تعمّ موارد وجود المندوحة حکی الأول عن المدارک و جماعة من بعده، والثانی عن المحقق الثانی والشهیدین، نعم فی خصوص المسح علی الخفّین نسب غیر واحد الی الأصحاب تعیّن الغسل مقدما علی المسح، ولکن حکی عن العلّامة وجماعة أولویة ذلک. و قد فصّل کثیر من متأخری العصر بین الأحکام التکلیفیة من الحرمة والوجوب وبین الصحّة فی خصوص العبادات أو خصوص الصلاة باعتبار عدم المندوحة فی الأول دون الثانی.

و یستدلّ للأول بأن مقتضی ادلّة الاضطرار المعلل بها ما تقدم من ألسنة التقیّة هو استیعاب الاضطرار وعدم المندوحة وإلا لما صدق الاضطرار بلحاظ الطبیعی، وکذا ما یظهر من صحیح زرارة عن أبی جعفر (علیه السلام) قال: (التقیّة فی کلّ ضرورة وصاحبها أعلم بها حین تنزل به)(1)،

ص:85


1- (1) وسائل، ج16، ص214، باب25 من ابواب الامر والنهی، ح1.

وصحیح الفضلاء عن أبی جعفر(علیه السلام) (التقیّة فی کلّ شیء یضطر الیه ابن آدم فقد أحلّه الله له)(1) وصحیح معمر بن یحیی بن سالم عنه (علیه السلام): (التقیّة فی کلّ ضرورة)(2) من حصرها فی الضرورة والاضطرار لإنفهام أنّها فی مقام التحدید للماهیة، ولعلّ هذا مراد من ادّعی انّ الحصر مستفاد من تقدیم ما حقّه التأخیر، وإلا فالظرف حقّه التأخیر و الخبریة، وتحویره الی (کلّ ضرورة فیها التقیّة) تغییر لقالب الجملة، و أما استثناء العبادات أو الصلاة فلما ورد(3) من الحث الشدید والندب الأکید علی الصلاة معهم وفی الصف الأول و انّها کمن صلّی خلف رسول الله صلی الله علیه و آله فی سیاق الأمر بحسن العشرة معهم و عیادة مرضاهم و تشییع جنائزهم وأداء الأمانة لهم، فمثل هذا الحثّ ترغیب فی ایقاع الصلاة معهم والتوسّل للمشارکة فضلا عن أخذ عدم المندوحة الطولیة أو العرضیة فی العمل فمثلا لو کان بإمکانه الصلاة علی ما یصحّ السجود علیه فی الصفوف المتاخرة بخلاف الصف الأول فإن مقتضی الندب لاختیاره وانّه کمن صلّی خلفه صلی الله علیه و آله هو عدم أخذ المندوحة العرضیة.

واستدلّ للثانی بأن لسان التقیّة دینی ودین آبائی وأن لا دین لمن لا تقیّة له، ظاهر فی الحثّ و التأکید بخلاف ألسنة الأضطرار والضرورة التی هی من نحو الاستثناء والطواریء المقدرة بقدرها، وکذلک لسان السعة الوارد فی موثّق مسعدة المتقدم، وموثق سماعة المتقدم أیضا حیث علل فیه (لیتمّ صلاته علی ما استطاع فانّ التقیّة واسعة) أی بکبر سعة التقیّة فی

ص:86


1- (1) المصدر، ح2.
2- (2) المصدر، ح8.
3- (3) وسائل، ج8، ص299، باب5 من ابواب الجماعة، ح1.

الابواب، و کذلک الروایات الواردة فی الحلف فانّها جلیّة فی عدم الاشتراط، ولو کان بتعریض نفسه لهم بأن یمرّ علیهم فیستحلفونه، ومما یدلّ علی ذلک أیضا ما فی صحیح زرارة وروایة ابی عمر الأعجمی من أن التقیّة فی کل شیء إلا المسح علی الخفّین وشرب النبیذ ومتعة الحج، فانّه مع الاضطرار وعدم المندوحة لا ریب فی تأتی التقیّة فی الموارد الثلاثة المستثناة کما هو مفاد حسنة ابی الورد، فیکون معنی الاستثناء - کما ذکرنا فی المسح علی الحائل - هو الاستثناء من التقیّة الموسعة المشروعة مع المندوحة.

والصحیح هو انّ المندوحة وعدمها وسعتها وضیقها طولا وعرضا، تابع لدرجة ملاک الحکم الأولی وأهمیته، نظیر اختلاف درجات الحرج والضرر الرافعین للأحکام، فانّه کلّما ازدادت أهمیة الملاک کلّما لزم درجة من الحرج أو الضرر الشدیدین لرفعه، وکلما لم تکن کذلک کلما کفی فی رفعه أدنی الحرج أو الضرر، فدرجة الحرج أو الضرر الرافع للوضوء یکفی فیه أدناه، بخلاف الضرر والاضطرار لأکل المیتة فانّه لا بد فیه من الخوف علی النفس من الهلاک، والوجه فی ذلک - بناء علی مسلک المشهور من کون العناوین الثانویة نسبتها مع الأحکام الأولیة نسبة التزاحم الملاکی لا التخصیص لبّا - هو قانون التزاحم.

وأما بناء علی مسلک المحقق النائینی ومن تابعه فلدعوی الانصراف أو عدم صدق الحرج و الضرر فی کل مورد الا بحسبه، فکذلک الحال فی أخذ عدم المندوحة فی موارد العناوین الثانویة التی منها الاضطرار فی التقیّة، فمن ثمّ لا یظن بأحد من الأصحاب القول بجوازها مع المندوحة العرضیة أو الطولیة فی موارد الأحکام البالغة الأهمیة کالمحرمات الکبیرة والواجبات الرکنیة فی الدین کما لا یظن بأحد القول بعدم جواز التقیّة مع

ص:87

وجود المندوحة فی مثل الإخبار بغیر الواقع لانقاذ المال أو دفع أدنی مزاحمة و مثل الصلاة معهم مع اخفات الصوت فی الصلاة الجهریة.

والوجه فی ذلک هو ما تقدم فی اختلاف مراتب الضرر والحرج بحسب کلّ حکم وملاک، فوجود المندوحة وعدمها الطولیة والعرضیة نحو من شدة الضرر وعدمها، فمن ثم أخذ ذلک فی قوله تعالی فَمَنِ اضْطُرَّ غَیْرَ باغٍ وَ لا عادٍ (1) فی الاضطرار الی أکل المیتة، ای غیر باغ ولا ساع لإیقاع نفسه فی ذلک الظرف، ولا عاد متعدّ عن قدر ما یرفع الضرورة أی عدم المندوحة الطولیة والعرضیة کما هو أحد تفسیرات الآیة. وهو نظیر اختلاف العناوین التسعة الباقیة فی الموارد بحسب اختلاف درجة الحکم وملاکه، فالنسیان والخطأ وما لا یطیقون والاکراه، سواء من جهة المندوحة وعدمها أو من جهة الشدة والخفّة، ففی الموارد البالغة الأهمیة یتحفظ عن مقدمات النسیان والخطأ کی لا یقع بخلاف المتوسطة والقلیلة الأهمیة، فلا یتحفظ عن وقوع ووجود الضرورة والاضطرار والنسیان و الخطأ فیها وهو معنی وجود المندوحة وتقدم أن أحد تفسیرات استثناء الموارد الثلاثة هو ذلک حیث انّ کلا من حرمة شرب النبیذ ووجوب الحج ورکنیة الطهارة الحدثیة فی صحّة الصلاة هی علی درجة من الأهمیة.

نعم هناک فارق جوهری بین التقیّة فی عموم مواردها وبین بقیة الضرورات وهو أنّ التقیة من الوقایة والحیطة فهی بلحاظ عموم موارد المعرضیة والاحتمال، ولیس یلزم فیها الضرر المحقق، وهذا الشأن وإن کان فی کل ضرر معتد به إلا أن نمط وطبیعة المعرضیة والاحتمال فی موارد

ص:88


1- (1) سورة البقرة، الآیة: 73.

التقیّة هو ذو عرض عریض ومن ثم یتشابه مع وجود المندوحة، ومن ثمَّ ورد عن الصادق(علیه السلام) انه قال: (علیکم بالتقیة فإنّه لیس من لم یجعلها شعاره و دثاره مع من یأمنه لتکون سجیته مع من یحذره)(1).

وأما التشدد فی الحثّ علی التقیّة والعمل بها والتمسّک بها کدیدن، فلأجل الاهتمام بها وبیان أهمیتها لمصلحتها فی وقایة النفس والعرض والمال والمؤمنین عن أذی العامّة والسلطان، لکن حسب مواردها وتحقق موضوعها الذی عرفت اختلافه بحسب درجة الحکم وملاکه، لاسیّما وأن بعض أنواعها غیر مرتبط بصحّة الأعمال، أی ما هو من قبیل حسن العشرة معهم، ولین الکلام و طیبه و حفظ اللسان و عدم اذاعة اسرارهم ونحو ذلک، کما یشیر الی ذلک موثّق مسعدة المتقدم (إلا أن یدّعی انّه انّما عمل ذلک تقیّة، ومع ذلک ینظر فیه فإن کان لیس مما یمکن أن تکون التقیّة فی مثله لم یقبل منه ذلک، لأن للتقیّة مواضع من ازالها عن مواضعها لم تستقم)(2)، وکما فی روایة الاحتجاج عن العسکری(علیه السلام) أن الرضا(علیه السلام) أنّب جماعة من الشیعة قائلا لهم (وتتقون حیث لا تجب التقیّة، وتترکون التقیة حیث لا بد من التقیّة)(3).

روایات الصلاة معهم وهی علی طوائف:

الأولی: ما حثّ علی ذلک وهی علی ألسن تارة بفرض علمهم بکون المکلّف من الجعفریة، و اخری عدم التقیید بذلک وثالثة بالحثّ علی

ص:89


1- (1) وسائل، ج16، ص212، باب24 من ابواب الامر، ح29.
2- (2) وسائل، ج16، ص216، باب 25، ح6.
3- (3) المصدر، ح9.

خصوص الصف الأول ورابعة علی انّ ذلک للمداراة معهم والظهور بشاکلتهم، کصحیحة حماد بن عثمان عن ابی عبد الله(علیه السلام) أنّه قال: (من صلّی معهم فی الصف الأول کان کمن صلی خلف رسول الله صلی الله علیه و آله فی الصف الأول)(1) ومثلها صحیحة الحلبی، وکصحیحة حفص بن البختری عن ابی عبد الله(علیه السلام) قال: (یحسب لک اذا دخلت معهم وان کنت لا تقتدی بهم مثل ما یحسب لک اذا کنت مع من یقتدی به)(2) وصحیح عبد الله بن سنان قال (سمعت ابا عبد الله(علیه السلام) یقول اوصیکم بتقوی الله عزوجل ولا تحملوا الناس علی اکتافکم فتذلوا، ان الله تبارک وتعالی یقول فی کتابه وَ قُولُوا لِلنّاسِ حُسْناً ثم قال: عودوا مرضاهم، واشهدوا جنائزهم، واشهدوا لهم وعلیهم، وصلّوا معهم فی مساجدهم)(3)، وصحیح زید الشحام عن أبی عبد الله(علیه السلام) انّه قال: (یا زید خالقوا الناس بأخلاقهم، صلّوا فی مساجدهم، وعودوا مرضاهم و اشهدوا جنائزهم، و ان استطعتم أن تکونوا الأئمة و المؤذنین فافعلوا فإنّکم اذا فعلتم ذلک قالوا: هؤلاء الجعفریة رحم الله جعفرا، ما کان أحسب ما یؤدب أصحابه واذا ترکتم ذلک قالوا: هؤلاء الجعفریة، فعل الله بجعفر ما کان أسوأ ما یؤدب اصحابه)(4) وروایة کثیر بن علقمة قال: (قلت لأبی عبد الله(علیه السلام): أوصنی فقال: أوصیک بتقوی الله - الی أن قال - صلّوا فی عشائرکم و عودوا مرضاکم و اشهدوا جنائزکم، و کونوا لنا زینا و لا تکونوا علینا شینا، حببونا الی الناس و لا تبغضونا الیهم فجروا إلینا

ص:90


1- (1) الوسائل، ج8، ص299، باب5 من ابواب الجماعة، ح1.
2- (2) المصدر، ح3.
3- (3) المصدر، ح8.
4- (4) وسائل، ج8، ص430، باب75 من ابواب الجماعة، ح1.

کلّ مودة، و ادفعوا عنّا کلّ شرّ)(1) ومثلها صحیح هشام الکندی(2).

وقد استفاد المشهور من إطلاق الجماعة صحّة الصلاة مع الاخلال فیما اذا توقفت علیه اظهار المتابعة، واستفاد غیر المشهور من أعلام العصر من اطلاق الصلاة فی الصف الأول الصحّة مع الإخلال، ولو بالاجزاء و الشرائط التی لا تتوقف علیها المتابعة، کالصلاة علی ما لا یصح السجود علیه أو التکتف ونحوهما، وکذا استفید ذلک من دلالة الروایات علی کون غایة الجماعة معهم هو المداراة واظهار المشاکلة معهم.

الطائفة الثانیة: ما دلّ علی أنّ الصلاة معهم هی فی الصورة وأمّا فی الواقع فهو منفرد وظیفة، کصحیح زرارة قال: (سألت ابا جعفر (علیه السلام) عن الصلاة خلف المخالفین؟ فقال: ما هم عندی إلا بمنزلة الجُدُر)(3) وصحیح صفوان الجمال قال: (قلت لأبی عبد الله(علیه السلام): ان عندنا مصلّی لا نصلّی فیه واهله نصاب وإمامهم مخالف فأءتمّ به؟ قال: لا، فقلت: ان قرأ، اقرأ خلفه، قال نعم قلت: فإن نفدت السورة قبل أن یفرغ؟ قال: سبّح وکبّر، انّما هو بمنزلة القنوت وکبّر وهلّل)(4)، وصحیح أبی بصیر(5) (قال: قلت لأبی جعفر (علیه السلام): من لا اقتدی به فی الصلاة قال: افرغ قبل أن یفرغ فانّک فی حصار، فان فرغ قبلک فاقطع القراءة و ارکع معه)(6)، ومعتبرة ابن ابی نصر عن أبی الحسن (علیه السلام) قال: (قلت له: انّی أدخل مع هؤلاء فی صلاة

ص:91


1- (1) وسائل الشیعة، ج12، ص8، باب1 من ابواب العشره، ح8.
2- (2) وسائل، ج16، ص219، باب26 من ابواب الامر، ح2.
3- (3) وسائل الشیعة، ج8، ص309، باب10 من ابواب الجماعة، ح1.
4- (4) المصدر، باب35، ح4.
5- (5) المصدر، باب6، ح1.
6- (6) المصدر، باب34، ج1.

المغرب فیعجّلونی الی ما أن أوذن و أقیم و لا أقرأ إلا الحمد حتی یرکع، أیجزینی ذلک؟ قال: نعم، تجزیک الحمد وحدها)(1) وغیرها.

الطائفة الثالثة: ما دلّ علی إیقاع الفریضة قبل الصلاة معهم أو بعدها کصحیح عمر بن یزید عن أبی عبد الله(علیه السلام) أنّه قال: (ما منکم أحد یصلّی صلاة فریضة فی وقتها ثم یصلّی معهم صلاة تقیّة و هو متوضیء إلا کتب الله له بها خمسا و عشرین درجة، فارغبوا فی ذلک)(2) وصحیح عبد الله بن سنان عن ابی عبد الله(علیه السلام) أنّه قال: (ما من عبد یصلّی فی الوقت ویفرغ ثم یأتیهم ویصلّی معهم وهو علی وضوء إلا کتب الله له خمسا و عشرین درجة)(3) وفی صحیحه الآخر (تحسب لک بأربع وعشرین صلاة)(4) وصحیح عبید بن زرارة عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال: (قلت: انّی أدخل المسجد وقد صلّیت فأصلّی معهم فلا أحتسب بتلک الصلاة؟ قال: لا بأس، وأمّا أنا فأصلّی معهم وأریهم أنّی أسجد وما أسجد)(5).

المحصّل منها: أمّا ما اشتمل علی التقیّة للمداراة مع اطلاع العامّة علی انتماء المؤمن للمذهب الجعفری کما فی قوله (علیه السلام) (هؤلاء الجعفریة) أو (حببونا الی الناس) فلا دلالة فیها علی جواز الاخلال بشرائط الصلاة تقیّة لفرض اطلاعهم علی المذهب، وغایة التقیّة معهم هو فی احداث صورة الجماعة معهم دون الصلاة علی ما لا یصحّ السجود علیه أو التکتّف أو الوضوء بوضوئهم ونحو ذلک، نعم ما أطلق فیه الصلاة معهم قد یستظهر

ص:92


1- (1) المصدر، باب6، ح3.
2- (2) وسائل الشیعة، ج8، ص302، باب6 من ابواب الجماعة، ح1.
3- (3) المصدر، ح2.
4- (4) المصدر، ح3.
5- (5) المصدر، ح8.

منه ذلک، وأما الطائفة الثانیة فلا یستفاد منها إلا کون الصلاة منفردة المأتی بها ضمن الجماعة الصوریة، وأما الثالثة فلا یستفاد منها عدم اجزاء ما یأتی به من الصلاة معهم فی الصورة ولا لزوم ایقاع صلاة الفریضة قبلها أو بعدها بل غایة الأمر هو ندب ایقاع الصلاة معهم ولو کان قد صلی الفریضة قبل ذلک وحده، نعم یظهر منها مطلوبیة ایقاع الفریضة فی المنزل ثم ایقاع الصلاة معهم ولکن لا بنحو الظهور فی اللزوم مضافا الی قرینیة اطلاق الطائفة الأولی والثانیة. فلم یبق فی البین إلا ما أطلق فیه الصلاة معهم من الطائفة الأولی مما لم یقیّد بمعرفتهم له فی مذهبه، ولکن غایة ما یستفاد منه أیضا هو الحثّ علی التزام التقیّة معهم - إما للمداراة أو للخوف - فی اظهار الاعتداد بجماعتهم وصلاتهم، ولا یستفاد منها جواز ایقاع الصلاة فی فرض المداراة لمعاشرتهم - مختلّة الشرائط کالسجود علی ما لا یصحّ السجدة علیه، أو التکتّف فضلا عن الوضوء بوضوئهم، بل قد اشیر فیها بنحو التعریض بلزوم ایقاع الوضوء الصحیح قبل الصلاة معهم، و کیف یحصل المطلوب من لسان هذه الروایات الحاثّة علی مداراتهم واظهار الاعتداد بجماعتهم فی الصورة عندما یأتی من عرف لدیهم بالتشیّع - أی عرف أنّ شرائط صحّة الصلاة لدیه تختلف عنهم - بالصلاة بالنحو والنهج المقرر لدیهم، فانّه یظهر لدیهم انّها صلاة صوریة وهو خلاف المطلوب، بخلاف ما لو أوقعها بالنهج المقرر لدیه معهم جماعة فانه یظهر لدیهم انه قد اعتد بجماعتهم وصلاتهم بل انه یظهر من مطلقات تلک الروایات ان غایة التقیة المداراتیة معهم هو اعطاء صورة حسنة عن المذهب وهو لا یتمّ إلا باظهار العشرة والمتابعة فی الصلاة معهم علی انّه جعفری و ان لم یعلموا ابتداء بانتمائه، کما هو مفاد صحیح زید الشحام وعبد الله بن سنان(1)، نعم

ص:93


1- (1) تقدم ذکرهما قبل قلیل.

خصوص الجهر فی القراءة- مما یتقوّم اظهار الصلاة معهم بترکه- الروایات ناصّة علی الصحّة بدونه، و منه یظهر صحّة الصلاة معهم- فی فرض الخوف و التستر- مع التقیّة فی بقیّة الشرائط و لو مع المندوحة کقول آمین أو التکتّف أو فروض الالتحاق بصلاة الجماعة و نحوها، لکن حکی صاحب الجواهر عن التذکرة و نهایة الأحکام و النسبة الی المبسوط و النهایة عدم الاعتداد بالصلاة فیما لم یتمکن من اتمام قراءة الحمد و حکی عن التهذیب والروضة و الجعفریة و شرحها عدم وجوب اتمامها لو لم یتمکّن أو اتمامها أثناء الرکوع کما عن الموجز و الدروس و الذکری و البیان، و کذا لو اضطرّ الی القیام قبل التشهد انّه یأتیه وهو قائم حکاه عن الموجز والجعفریة و شرحها وعن علی بن بابویه، ثم قال انّ ظاهر النصوص والفتاوی عدم الاعادة لو راعی تلک الأمور من القراءة وغیرها و لو کان له مندوحة وفاقا للبعض وخلافا للآخر، والمحصّل انّ فتاوی المشهور علی جواز الخلل تقیّة فیما یتوقّف علی اظهار الجماعة والمتابعة لهم کما فی الأمثلة المحکیّة فی کلماتهم، وأما فتاوی عدة من الأعلام فی عصرنا فجواز الخلل فی الأکثر من ذلک ومشاکلة الصلاة معهم اذا توقّفّت المداراة علی ذلک أو توقفّت الصلاة فی الصف الأول معهم علی ذلک، لکن عرفت انّ المداراة والجماعة فی الصف الأول وتوقّفه علی الاتیان بها صحیحة فی حکمنا وإلا لإنتفت.

شمول الضرر والضرورة لکلّ من المال و العرض والنفس:

مقتضی التعلیل للتقیّة بالضرورة والاضطرار هو شمول الضرر والضرورة لکلّ من المال و العرض والنفس کما نصّ علیه فی روایات

ص:94

الحلف(1) تقیّة، بل فی بعضها شمولها لأموال الغیر من المؤمنین، و قد ذکر ذلک العدید من الروایات من انّ التقیّة تعمّ ما یکون لصالح بقیّة المؤمنین والمذهب والظاهر عدم اختصاص ذلک بباب التقیّة بل من عموم لا ضرر ورفع الاضطرار للضرر والاضطرار للغیر بسبب فعل النفس وهذا مغایر للبحث المعروف فی قاعدتی الضرر والحرج من الشمول للضرر والحرج النوعی، کما لا یخفی، نعم روایات الصلاة معهم وحسن العشرة والخلطة معهم بانحائها المختلفة - والتی تقدمت فی الأمر السابق - غیر مقیّدة بذلک وقد اصطلح علیها أخیرا بالتقیّة المجاملیة أو المداراتیة، لکنها مختصّة بصلاة الجماعة معهم وآداب العشرة معهم ولا تشمل بقیّة الأبواب. وقد تفسّر علی انّها تخرّج من باب الضرر أیضا إلا انّه الضرر علی المذهب أو الطائفة ولو بالتدریج، ولکن ظاهرها غیر مختص بذلک، لورود التعلیل فیها بإعطاء الصورة الحسنة عنهم(علیهم السلام) ونشر المحبّة لهم(علیهم السلام) فی قلوب الناس ونحو ذلک وإن لم یتخوّف من وقوع الضرر البعید علی الطائفة ویترتّب ما هو مضاد لتلک المنافع والمصلحة، بل یظهر منها أیضا التجنب عن تفردهم فی اقامة رموز الشعائر الدینیة. کما انّه لا مجال لتوهّم اختصاص أدلّة التقیّة الضرریة و الخوف بزمانهم (علیهم السلام) کما تردد هذا القول من بعض متأخری الأعصار، بدعوی انتشار المذهب الآن وذهاب داعی التخفّی او لان التقیة لاخفاء الانتماءوهو منتف موضوعا فی هذه الاعصار، وذلک لاختلاف نحو الضرر والخوف وبحسب الامکنة والأزمنة کما هو واضح لمن سبر ذلک خبرا، فلیس یقتصر فی أدلة التقیّة فی هذه الأعصار علی التقیّة

ص:95


1- (1) وسائل الشیعة، ج23، أبواب الأیمان.

المجاملیة والمداراة وذلک لاختلاف أنحاء التقیة ومواردها وکیفیاتها بحسب الظروف لاسیما انّ الجفاف معدّ لاشعال نار الفتنة، وفی موثّق محمد بن مسلم عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال: (کلما تقارب هذا الأمر کان أشدّ للتقیّة)(1)، ومثله موثّق هشام بن سالم(2) وفی روایة الحسین بن خالد عن الرضا(علیه السلام) قال: (لا دین لمن لا ورع له ولا ایمان لمن لا تقیّة له، وانّ أکرمکم عند الله أعملکم تقیّة، قیل: یابن رسول الله الی متی؟ قال: الی قیام القائم، فمن ترک التقیّة قبل خروج قائمنا فلیس منّا ...)(3) وفی روایة العیّاشی قال: (وسألته عن قوله فَإِذا جاءَ وَعْدُ ربی جعله دکا قال: رفع التقیة عند الکشف فانتقم من أعداء الله)(4).

حرمة تسمیة القائم من موارد التقیة:

قد أدرج فی بعض الکلمات کما صنع الحرّ فی الوسائل(5) کلا من حرمة تسمیة القائم عجّل الله تعالی فرجه الشریف واذاعة أسرارهم فی وجوب التقیّة، وهما لیسا من التقیّة الاصطلاحیة التی ترفع بالاضطرار أو بالضرر، بل من التقیّة التکلیفیة بالمعنی اللغوی نعم هما یندرجان فی عموم أن تسعة أعشار الدین فی التقیّة وأن ما عبد الله بشیء أحبّ الیه من الخبأ وقد اشیر الیه فی روایاتهما، ولا یتوهّم زوال موضوع الحرمة الثانیة بعد انتشار کتب الإمامیة فی الحدیث والفقه والتفسیر وغیرها فلا اذاعة لما هو مکتوم حالیا،

ص:96


1- (1) الوسائل، ج16، ص207، باب24 من ابواب الامر، ج12.
2- (2) المصدر، ح26.
3- (3) المصدر، ح26.
4- (4) المصدر، 35.
5- (5) وسائل، ج16، ص237، باب33 من ابواب الجماعة.

وذلک لأن تعاطی الشیء تذکیر به وتفصیل وبسط له، ویقع الوقوف علی حاق المعانی فی الشرح ما لا یقف علیه فی صورة الاجمال، مضافا الی ما فیه من سعة دائرة النشر، ثم انّ موضوع الحرمة الثانیة لا تختص بالمخالف او غیر المسلم بل تعم المؤمنین بلحاظ درجات الفهم والمعرفة وقدرة التعقّل والتحمّل کما اشیر الی ذلک فی روایات الکشی فی ترجمة سلمان وأبی ذر.

کما هو دیدنهم (علیهم السلام) مع مختلف طبقات أصحابهم أما الحرمة الأولی فنسبت الی شهرة القدماء والعدم الی شهرة الطبقات المتأخرة وحمل النواهی علی لزوم الکتمان فی الغیبة الصغری وما قبلها لشدة الأمر، وان کان ظاهر العدید من النواهی الاطلاق وهو الأحوط. المتبع عملا فی السیرة لدی الخاصّة.

حکم من خالف التقیة:
اشارة

اذا خالف مقتضی التقیّة فهل یصحّ عمله أم لا، فتارة یخالفها ویخالف صورة العمل بحسب الوظیفة الأولیة و أخری یوافق الوظیفة الأولیة:

أما الفرض الأول:

فلا وجه للصحّة لعدم مطابقته للوظیفة الاضطراریة ولا للوظیفة الأولیة سواء بنی فی تصحیح عمل التقیة علی السیرة أو علی أدلّة الرفع العامّة أو الوجوه الأخری، وتوهّم أن مقتضی أدلّة الرفع هی رفع الجزئیة أو الشرطیة أو المانعیة من دون اثبات جزئیة أو شرطیة الفعل الذی یتّقی به المماثل لصورة عملهم، و مقتضی ذلک هو الصحّة فی هذا الفرض، مندفع بأن أدلّة الرفع وان کان مقتضاها الرفع دون الاثبات إلا انّه لا تحقق لموضوعها وهو الاضطرار لغیر العمل المماثل للعامّة، فالعمل فی الفرض لا

ص:97

یصدق بلحاظه تحقق الاضطرار، وذلک نظیر الدخول الی الدار الغصبیة لانقاذ الغریق فإن الدخول مع عدم التوصّل به للانقاذ لا یرفع الحرمة لعدم الاضطرار الی ذلک الدخول والتصرف - بغض النظر عن القول بالمقدمة الموصلة - لأن الضرورات تقدّر بقدرها.

اما الفرض الثانی:

فوجه البطلان یتصور علی نحوین:

الاول: انقلاب الوظیفة الأولیة وضعا الی الوظیفة الثانویة من حیث الاجزاء والشرائط، وهذا لیس بتام لما ذکرنا مرارا من أن الأدلّة الرافعة الثانویة لبّا لیست مخصصة للاحکام الأولیة کما ذهب الیه المحقق النائینی (قدس سره) وتلامیذه - بل من باب التزاحم الملاکی، فالوظیفة الأولیة باقیة علی مشروعیتها وانّما المرفوع عزیمتها.

الثانی: النهی التکلیفی لمخالفة التقیّة المستفاد إما من مثل التعبیر الوارد (لا دین لمن لا تقیّة له)، أو من حرمة الضرر المترتّب سواء علی الشخص نفسه أو غیره من المؤمنین أو علی المذهب والطائفة، وقد یدعم المنشأ الأول الصحیح إلی أبی عمرو الکنانی عن أبی عبد الله(علیه السلام) فی حدیث - أنّه قال: (یا أبا عمر، أبی الله إلا أن یعبد سرّا، أبی الله عزّوجل لنا ولکم فی دینه إلا التقیّة)(1)، مما یظهر منه عدم قبول العبادة الجهریة فی مورد لزوم التقیّة.

لکن قد تقدم - فی الأمر الثانی - أن حقیقة الحکم فی التقیّة یؤول الی عدّة وجوه والنهی راجع الی حرمة الضرر، وقد یؤول الحکم الی وجوب

ص:98


1- (1) وسائل، ج16، ص206، باب24 من ابواب الجماعة، ح11.

الحفظ، ویراد به الحیطة فی معرض الضرر سواء الشخصی أو علی نوع المؤمنین، وهو المراد مما لسانه الوجوب وان تارکها کتارک الصلاة، وربّما یشکل بأن جعل الحکمین علی الضدین لغو، لا حاجة له، حیث یتوسّل بأحدهما عن الآخر، فلا محصّل لحرمة العقوق مع وجوب صلّة الرحم أو حرمة الهتک للشعائر أو للمقدسات الدینیة مع وجوب تعظیمها، أو حرمة الفواحش مع وجوب حفظ الفرج، أو مانعیة النجاسة وشرط الطهارة أو مانعیة الغصب و شرطیة اباحة المکان، أو مانعیة ما لا یؤکل لحمه وشرطیة ما یؤکل لحمه.

وفیه: انّ اللغویة أو الامتناع إن تمّت ففی الموانع والشرائط للمرکب الواحد وأما الأفعال ذات الأحکام التکلیفیة المجردة المستقلة کما فی العقوق وصلّة الرحم وفی الهتک والتعظیم وفی الفواحش والحفظ منها، ونحوها من الأفعال التکلیفیة، فلا مجال لدعوة اللغویة أو الامتناع، وذلک نظیر الأفعال فی الأحکام العقلیة فی باب التحسین والتقبیح العقلی فإنّه کما یحکم العقل بحسن فعل ما یحکم بقبح ضده فحکمه علی فعل فضیلی لا یمنع علی حکمه علی فعل مضاد له رذیلی بعد واجدیة کل من الفعلین المتضادین لملاک الحکم، فیحسّن الأول ویقبّح الثانی، ولا یعترض حینئذ علی ذلک بأن اللازم حصول مثوبتین علی الموافقة وعقوبتین علی المخالفة وذلک لما حرر فی محلّه فی الأحکام العقلیّة أن المثوبة هی علی المصلحة و الکمال الذی فی الفعل والعقوبة علی المفسدة التی فی الفعل، فلیست المثوبة علی عدم ارتکاب المفسدة بل علی حصول المصلحة ولیست العقوبة علی ترک المصلحة بل علی الوقوع فی المفسدة، ولا یتوهّم انّ اللازم علی ذلک عدم الاثابة علی ترک المحارم وعدم العقوبة علی ترک الفرائض، وذلک لما

ص:99

تبیّن من تلازم ترک المحارم لحصول افعال کمالیة کحفظ وعفّة الفرج وکصدق اللسان و الأمانة فی تأدیة حقوق الآخرین، و نحوها فمن ثم تقع المثوبة، وکذلک فی ترک الفرائض فانّه یلازم حصول أفعال ذات مفسدة کالوقوع فی المنکرات، والتسبب للضرر ومخالفة أمر المولی والتجری ونحو ذلک مما یوجب العقوبة، ویکفی فی المقام الالتزام بهذا التقریب فی خصوص الأفعال المتضادة الواجدة لملاک المصلحة فی أحدها و المفسدة فی الضد الآخر، وان لم یلتزم به فی کلّ الواجبات والمحرّمات، وهذا سواء بنینا فی العقوبة والمثوبة علی کونها جزائیة أو تجسم أعمال أو غیر ذلک من المسالک، فانّه عدا المسلک الأول هی مقتضیة للتفصیل المتقدم، وأما الاول فلا ینافیه بعد لزوم مطابقة الاعتبار للواقع التکوینی وکون الأحکام الشرعیة ألطافاً فی الأحکام العقلیة.

فتحصّل عدم منافاة حرمة الضرر لوجوب الحفظ فی موارد التقیّة، وعلیه تکون مخالفة التقیّة - التی فی مورد خوف الضرر لا المداراة والمجاملة - محرمة هذا مضافا الی انّه یکفی فی المقام فی بطلان العمل العبادی کونه سببا تولیدیا لمخالفة وعصیان وجوب التقیّة، إذ یکون بذلک تجریا لا تعبدا وطوعانیة، فهذا نحو وجه ثالث للبطلان.

ثم انّ المخالفة للتقیّة قد تکون جزءاً من العمل العبادی کالجهر بالبسملة وبأذکار السجود وکالسجدة علی التربة وکالمسح علی الرجلین، و قد تکون بکلها کما لو صلّی منفردا فی مورد اقتضاء التقیّة الصلاة جماعة، وقد تکون بالترک کترک قول آمین و ترک التکتّف. أما الصورة الأولی فانّ ذلک الجزء أو الشرط لا یؤدی به الامتثال لحرمته أو کونه تجریا، فحینئذ إن اعاده بنحو التقیّة، ولم تکن زیادة مبطلة فیه صحّ مجموع العمل، وإلا کما لو

ص:100

لم یعد أو کانت زیادته مبطلة کالسجدة الواحدة فإنه یبطل مجموع العمل، ولو سحب جبهته الی الأرض أو الفراش، فإن کان مما یصحّ السجود علیه أمکن تصحیحه صلاته، لا مکان منع صدق زیادة السجدة حینئذ بل هی من السجدة الواحدة التی تمّت شرائطها بقاء، وأما إن کان مما لا یصح السجود علیه لکنّه یوافق العامّة فقد یتخیّل تصحیحها أیضا، لکنه ضعیف لانتفاء موضوع التقیّة حینئذ.

وأما الصورة الثانیة فقد یتخیل انّ المخالفة هی بترک الصلاة جماعة لا الصلاة فرادی ولکنه أیضا ضعیف لأن اظهار المخالفة تحقق بالصلاة فرادی، لا الترک بما هو هو ولو لم یکن فی مکان واحد معهم، نظیر عنوان الهتک الحاصل بسبب صلاة الفرادی مع وجود صلاة الجماعة بإمام عادل - فی بعض الأوقات - ولک أن تقول انّ الکون فی ذلک المکان مع ترک الجماعة وان کان مخالفة للتقیّة أو هتکا إلا أن الصلاة فرادی أشدّ وأبین فی المخالفة وأوغل فی الهتک.

وأما الصورة الثالثة فلا یضر بالعمل العبادی بعد کون الترک لا صلة له به، إلا أن یتفقّ تسبب جزء من العمل لذلک الترک نظیر الصورة الثانیة.

عموم التقیّة للمندوب:

فی خصوص المسح علی الحائل قد تقدم اعتبار عدم المندوحة، فمع کون الوضوء مندوبا فیشکل استباحة الصلاة به، لفرض امکان اتیان الوضوء الواجب فی ظرفه، والمندوب للنافلة لا ضرورة تضطر المکلّف لایقاعه، فمن الغریب التفرقة بین لسان لاضرر وروایة أبی الورد المتقدمّة لأنّها أیضا فی مورد الضرورة ولو بقرینة الجمع بینها وبین صحیح زرارة

ص:101

النافی للتقیّة فیه، لکن یظهر من الماتن انّ صدق عنوان الضرورة والاضطرار والضرر انّما هو عند وبعد فرض ارادة الامتثال أی بمعنی اللابدیّة عند ارادة امتثال الأمر سواء الواجب والمندوب، فیکون بمعنی العجز فی ظرف الامتثال لا بمعنی اللابدیة المطلقة من جهة الالزام بالفعل ولزوم حفظ النفس أو العرض أو المال فیتحقق الاضطرار الی العمل الناقص الذی تتحقق به التقیّة، ای انّه لأجل اتیان العمل لا بد من اتیانه بصورة التقیّة ناقصا حفظا للنفس ونحوها عن الضرر کما هو الحال فی التیمم الثابت بالحرج لأجل العمل المندوب، والحلّیة فی قوله(علیه السلام) (التقیّة فی کل شیء یضطر الیه ابن آدم فقد أحلّه الله) أعمّ من الحلّیة التکلیفیة والوضعیة، فتعم الثانیة المندوبات، والمحصل فی هذا التقریب أنّه یکفی فی صدق الضرورة و الاضطرار لابدیّة تحقق الضرر مع فرض العمل، وإن لم یکن العمل لابدیّا إلزامیا، کما هو الحال فی صدق الوجوب الشرطی علی ما یؤخذ فی المرکبات الندبیة أی مما لا بد منه فی صحّتها فقاعدة الضرر والحرج والاضطرار صادقة بلحاظ أبعاض المرکب المندوب وان لم تکن صادقة بلحاظ أصل الحکم التکلیفی الندبی، ومن ثم یظهر العموم فی دلالة حسنة ابی الورد.

تخلف الخوف عن الواقع:

اذا اعتقد التقیة فمسح علی الحائل فبان عدمها او اخطأ فتخیل أن المورد من ما یخاف فیه علی نفسه، فظهر له خلاف ذلک لعدم کون الحاضر عدوّا بل من المؤمنین، والخطأ فی عدم اصابة خوفه للواقع من الضرر المترتّب من مسحه علی البشرة من قبیل مرض أو فتک سبع، فتارة خوفه و

ص:102

اعتقاده لیس فی محلّه بحسب الموازین المعتادة فلا یتخوّف فی مثل مورده، وأخری لا یصیب خوفه الواقع وان کانت خشیته فی محلّها، فأما الفرض الأول فلا وجه للاجزاء لعدم الخوف المأخوذ موضوعا فی الأدلّة وهو الخوف المتعارف، نعم قد یحقق مثل هذا الخوف الاعتقاد غیر المتعارف عجزا أو حرجا قد اخذ موضوعا فی بعض الأبواب الخاصّة کما قد یدعی ذلک فی التیمم، وأما الفرض الثانی فالخوف تارة یؤخذ طریقا وذلک فی الدلیل الآخذ لعنوان الضرر والاضطرار کما فی أحد الأدلّة العامّة للتقیّة، غایة الأمر قام الدلیل علی طریقیة واماریة الخوف لذلک الموضوع، وأخری یؤخذ موضوعا وهو الأصح فی أدلّة الاضطرار والضرر والحرج لکونها روافع للتنجیز وتمام الکلام فی محله وذلک کما فی الدلیل الذی لسانه التقیّة للتحفظ والحیطة فانّه ظاهر فی موضوعیة الخوف کما هو الحال فی باقی أدلّة التقیّة المتقدمة، هذا کلّه فی ما کانت التقیّة من الخوف - إذ قوام معناها من الوقایة والحیطة وملاکها فی التحفظ.

موارد التقیّة المجاملیة والمداراتیة:

هل هو کل العبادات أو خصوص الصلاة جماعة، أو بقیة الأبواب، الظاهر - کما تقدم - من أدلتها هو ما یتعلّق بحسن العشرة والآداب والإلفة معهم لا مثل الصیام والزکاة ونحوهما، وبعبارة أخری ما یتعلّق بالصورة الظاهریة للأعمال التی فیها جانب إئتلاف، لا کل عمل ولا ما یتعلّق بواقع تلک الأعمال.

اذا امکنت التقیه بغسل الرجل بدل المسح علی الحائل نسب الی جملة من الأصحاب تعیّن الغسل وعن التذکرة والذکری أولویته، ووجه

ص:103

التعیّن.

أولا: اقربیّته للوظیفة الأولیة وانّه المیسور منه اذ الوضوء نحو تنظیف و تطهیر لمواضع خاصّة.

ثانیا: انّه یمکن الجمع بین الغسل والمسح فیما اذا استخدم قلیلا من الماء الجدید، غایة الأمر قد أخلّ بقیدیّة کون المسح ببلّة الوضوء الثابتة من السنّة وهو معنی انّه المیسور.

ثالثا: مقتضی اطلاقات الأمر بالغسل الواردة(1) - المحمولة علی مورد التقیّة بضمیمة ما تقدم من أخذ عدم المندوحة فی المسح علی الخف والحائل - هو تعیّن الغسل وانّه مندوحة عن المسح علی الحائل، وهو مفاد نفی اطلاق التقیّة فی المسح، نعم بناء علی أخذ عدم المندوحة فی موارد التقیّة کل حکم بحسبه یکون کلّ منهما فی رتبة واحدة ویکفی الاطلاقان المزبوریان فی احتمال التعیّن والدوران بینه وبین التخییر ورفع الید عن استواء شمول الأدلّة العامّة لکلیهما، لاسیّما وان الترخیص فیه فی حسنة ابی الورد علی نحو الاستثناء.

تنبیه

قد تقدم فی - مسألة استثناء المسح عن عمومات التقیّة - أن مقتضی نفی التقیّة فیه فی الروایات الواردة حتی فی مثل حسنة أبی الورد، هو أخذ عدم المندوحة فی المسح علی الخف ونحوه من الحائل، فمع ارتفاع السبب قبل الصلاة سواء جفّت البلّة أم لم تجفّ، یعید الوضوء بنحو الوظیفة الأولیّة، بل لو جمد علی الاطلاق المزبور لاقتضی استیعاب العذر طوال

ص:104


1- (1) وسائل الشیعة، ج1، ص418، باب25 من ابواب الوضوء.

الوقت نظیر التیمم، لکان یرفع الید عنه فی هذه الصورة الأخیرة بمقتضی ما دلّ علی الاجزاء مع المندوحة فی الصلاة وکذا خصوص ما ورد(1) فی تقیّة الوضوء لداود بن زربی وعلی بن یقطین، نعم قد تقدم فی بحث المندوحة أنّ سبب التقیّة هو معرضیة و احتمال الضرر وهو ذا عرض عریض، مضافا الی کون معنی ومفهوم التقیّة هو الوقایة والتحفظ والحیطة وقد یکون تحری اتیان الوظیفة الأولیة یخلّ بقوام التقیّة، هذا کله فی التقیّة فضلا عن بقیة الضرورات فانّها مقیّدة بعدم المندوحة.

ثمّ انّه لو بنی علی المندوحة فی المسح، وحصول الطهارة، فالاقوی لزوم الاعادة أیضا قبل الصلاة وذلک لما یتّضح فی الوضوء الجبیری والتیمم بأن فی کلیهما تتحقق درجة من الطهارة ویستباح بهما الدخول فی الصلاة، إلا انها مرتبة ناقصة بمقتضی ان التراب طهور وانّه بدل طولی للوضوء لا عرضی من قبیل الحضر و السفر فی الصلاة، و هذا معنی انتقاض التیمم بوجدان الماء لا أنّه کالحدث رافع لأصل الطهارة، ویشیر الی ذلک أیضا ما ورد فی الغسل انّه کلّما جری علیه الماء طهر، أما کونه بدلا طولیا فبمقتضی ثانویة عنوان الموضوع ولذلک فانّ الوظیفة الأولیة التامّة باقیة علی مشروعیتها و ان امتنع تصحیح الامتثال بها فیما لو صدق علیه حرمة الإضرار.

ص:105


1- (1) وسائل الشیعة، ج1، ص443، باب32 من ابواب الوضوء.

ص:106

قاعدة الإمکان

اشارة

ص:107

ص:108

من قواعد باب الطهارة قاعدة الإمکان

مفاد قاعدة الإمکان:

من القواعد الفقهیة المعروفة بین الفقهاء قدیما وحدیثا قاعدة الإمکان والتی مفادها (أن کل دم أمکن أن یکون حیضا فهو حیض)، وهی تقدّر تارّة بمعنی الاحتمال وإن لم تتوفّر بقیة شروط الحیض ولم یحرز وقوعها ویطلق علیه الإمکان غیر المستقر کما فی بدء الرؤیة، وأخری بعد توفّر الشروط وإحرازها لکن یشکّ فی کونه مع ذلک دما آخر من استحاضة أو قرحة أو نحوهما ویطلق علیه الإمکان المستقر کما فی الدم بعد الثلاثة أو الذی یعلم استمراره، وثالثة بمعنی الشک فی أخذ شرط شرعی آخر فی حیضیّة الدم کما لو کان الشکّ فی الشبهة الحکمیة، ولا کلام فی القاعدة بالمعنی الثالث لوجود الإطلاقات و العمومات لا سیّما بعد کون الحیض حقیقة خارجیة، نعم فیما لم یصدق عرفا کما فی الفاقد ثلاثا لا بد من دلیل آخر، وأما المعنی الثانی وهو الدوران بینه وبین القرحة او بینه وبین العذرة او بینه و بین الاستحاضة فقد ذکرناه فی سند العروة کتاب الطهارة مسألة (5)، أما المعنی الأول فهو النافع فی المقام وقد استدلّ علیه بعدة أدلة.

أدلة القاعدة:
اشارة

استدل علی قاعدة الإمکان بعدة أدلة منها:

ص:109

الدلیل الأول: الإجماع.

کما ادعاه جمع من الفقهاء،منهم الشیخ و العلامة والمحقق وغیرهم بل أرسلوا القاعدة إرسال المسلمات. والیک بعض تلک الکلمات.

قال الشیخ فی الخلاف (الصفرة والکدرة فی أیام الحیض حیض، و فی أیام الطهر طهر، سواء کانت أیام العادة، أو الأیام التی یمکن أن تکون حائضا فیها ...دلیلنا علی صحّة ما ذهبنا إلیه إجماع الفرقة (1)).

وقال فی المبسوط (والصفرة والکدرة فی أیام الحیض حیض وفی أیام الطهر طهر سواء کانت أیام حیضها التی جرت عادة انّ تحیض فیه أو الأیام التی کان یمکن أن تکون حایضا مثال ذلک أن تکون المرأة المبتدئة إذا رأت الدم مثلا خمسة أیام ثم رأت الی تمام العشرة أیام صفرة أو کدرة فالجمیع حیض لأنه فی أیام الحیض، و کذلک إن جرت عادتها أن تحیض کل شهر خمسة ایام ثم رأت فی بعض الشهور خمسة أیام دما ثم رأت بعد ذلک الی تمام العشرة صفرة أو کدرة حکمنا بأنه حیض وکذلک إذا کانت عادتها أن تری أیاما بعینها دما، ثم رأت فی بعض الشهور فی تلک الأیام الصفرة أو الکدرة حکمنا بأنه من الحیض، وکذلک إذا رأت دم الحیض أیاما قد جرت عادتها فیه، ثم طهرت ومرّ بها أقلّ أیام الطهر وهی عشرة ایام ثم رأت الصفرة والکدرة حکمنا بانها من الحیض لانها قد استوفت اقل الطهر وجاءت الایام التی یمکن ان تکون حایضا فیها وانما قلنا بجمیع ذلک لما روی عنهم(علیهم السلام) من أنّ الصفرة فی أیام الحیض حیض ومن أیام الطهر طهر فحملناها علی عمومها)(2).

ص:110


1- (1) الخلاف ج1، ص235 المسالة (201).
2- (2) المبسوط للشیخ الطوسی ج1، ص43.

وذیل کلامه صریح فی قاعدة الإمکان بالمعنی الأول کما أنه صرّح بمستنده فی ذلک، وإن کان صدره یوهم نفی القاعدة المزبورة فتدبّر.

وقال المحقق الحلی فی المعتبر (وما تراه المرأة بین الثلاثة الی العشرة حیض إذا انقطع ولا عبرة بلونه ما لم یعلم أنه لقرح أو لعذرة وهو إجماع ولأنه زمان یمکن أن یکون حیضا فیجب أن یکون الدم فیه حیضا)(1).

وقال العلامة الحلی فی المنتهی (کل دم تراه المرأة ما بین الثلاثة الی العشرة ثم ینقطع علیها فهو حیض ما لم یعلم أنه لعذرة أو قرح، ولا اعتبار باللون، وهو مذهب علمائنا أجمع ولا نعرف مخالفا لأنه فی زمان یمکن أن یکون حیضا فیکون حیضا)(2) وقریب من ذلک عبارته فی النهایة(3).

وفی القواعد (وکل دم یمکن أن یکون حیضا فهو حیض و ان کان أصفر أو غیره فلو رأت ثلاثة ثم انقطع عشرة ثم رأت ثلاثة فهما حیضان ولو استمر ثلاثة وانقطع ورأته قبل العاشر وانقطع علی العاشر فالدمان وما بینهما حیض)(4).

وقال ابن إدریس الحلی فی السرائر (والصفرة فی أیام الحیض حیض، وفی أیام الطهر طهر، فإن کانت المرأة مبتدئة فی الحیض فأی دم رأته مع دوامه ثلاثة أیام متتابعات علی أی صفة کان فهو دم الحیض)(5).

وقال ایضا (فأما إذا لم یتصل بالعادة و کانت ثلاثة أیام متتابعات بعد

ص:111


1- (1) المعتبر فی شرح المختصر ج1، ص203.
2- (2) المنتهی ج2، ص287.
3- (3) النهایة ج1، ص118.
4- (4) قواعد الاحکام ج1، ص213.
5- (5) السرائر ج1، ص146.

أن مضی لها أقل الطهر وهو عشرة أیام نقاء فإنه حیض، لأنه فی أیام الحیض لقولهم(علیهم السلام): (الکدرة والصفرة فی أیام الحیض حیض وفی أیام الطهر طهر) علی ما حررناه فلیلحظ هذه الجملة فإنها إذا حصلت اطلع بها واشرف علی ما استوعب من دقائق هذا الکتاب)(1).

وقال الشریف المرتضی فی الناصریات (المسألة الستون: الصفرة إذا رؤیت قبل الدم الأسود فلیست بحیضة، و إن رؤیت بعده فهی حیضة و کذلک الکدرة. عندنا انّ الصفرة والکدرة فی أیام الحیض حیض، ولیستا فی أیام الطهر حیضا من غیر اعتبار لتقدیم الدم الأسود و تأخّره، وهو مذهب أبی حنیفة، ومحمد، ومالک والشافعی واللیث، وعبد الله بن الحسن. وقال أبو یوسف(2): لا تکون الکدرة حیضا إلا بعد أن یتقدمها الدم، وذهب بعض أصحاب داود الی أنّ الصفرة والکدرة لیستا بحیض علی وجه)(3) ونقل فی البحر الرائق(4) روایتین عن الناصر.

الأولی: أنها فی وقت إمکان الحیض حیض مطلقا.

والثانیة: مثل ما فی النسخة المطبوعة المتقدّمة، وفی المهذب لابن برّاج اقتصر علی ذکر العبارة ولم یذکر لها أمثلة. ثم أنه یستفاد من کلام المرتضی الاستدلال بالعموم المزبور للمعنی الثالث للقاعدة، اذ لو کانت الصفات شرائط واقعیة لما کانت الصفرة فی أیام الحیض حیضاً ومنه یظهر التلازم بین المعنی الثانی والثالث للقاعدة.

ص:112


1- (1) المصدر السابق ج1، ص148.
2- (2) المجموع ج2، ص295.
3- (3) الناصریات ص168.
4- (4) (البحر الرائق ج1، ص131).

وقال فی المبسوط: لو رأت ثلاثة عشرة بصفة الاستحاضة و الباقی بصفة الحیض واستمر، فثلاثة من أوله حیض، وعشرة طهر، وما رأته بعد ذلک من الحیضة الثانیة.

وحکی فی المعتبر عن علم الهدی فی المصباح: والجاریة التی یبتدیء بها الحیض ولا عادة لها لا تترک الصلاة حتی تستمر لها ثلاثة أیام، وعندی هذا أشبه، ثم استدلّ بقاعدة الاشتغال. ومثله فی کشف الرموز حکی قولین للأصحاب فی المبتدئة فی رؤیة الصفرة.

أقول: الظاهر من اتّفاقهم و إجماعهم أنه مستند الی العموم الوارد فی مثل معتبرة یونس عنه (علیه السلام) (وکل ما رأت المرأة فی أیام حیضها من صفرة أو حمرة فهو من الحیض، وکلّ ما رأته بعد أیام حیضها فلیس من الحیض)(1) وما فی مصحح علی بن جعفر (فلتتوضّأ من الصفرة وتصلّی ولا غسل علیها من صفرة تراها إلا فی أیام طمثها)(2).

ویلاحظ منهم استفادة الحکم الظاهری بالتحیّض منه تارة کما تقدم فی بعض الفروض کمبدأ رؤیة الصفرة التی ذکرها فی المبسوط، وأخری الحکم الواقعی بالتحیّض کما فی البعض الآخر من الفروض التی ذکرها فی المبسوط کالصفرة المتعقبة للدم أثناء العشرة و کما فی الصفرة المستمرة ثلاثة أیام أو أکثر کما فی کلام المرتضی والشیخ والحلّی والفاضلین إلا أن یحمل الحکم بالتحیّض فی القسم الثانی من الفروض علی الشبهة الموضوعیة فیکون الحکم أیضا ظاهریا، وهذا هو محصل الأقوال الثلاثة المتقدّمة.

ص:113


1- (1) وسائل الشیعة ج2، ص279، باب 4 من أبواب الحیض ح3.
2- (2) وسائل الشیعة ج2، ص280، باب 4 من أبواب الحیض ح8.
الدلیل الثانی: الأخبار الواردة فی أبواب متعددة:

منها: وهو العمدة فی کلمات المتقدمین ما ورد من أنّ الصفرة فی أیام الحیض حیض وفی أیام الطهر طهر. قد فسّرها الشیخ کما مرّ بما یمکن أن یکون حیضا فی مقابل ما یمتنع لکونه طهرا کما فی فصل أقلّ الطهر، و یظهر من المبسوط الاستشهاد لذلک بشمول العموم للصفرة فی موارد الحکم بالحیضیة بالصفات دون خصوص ایام العادة کالصفرة اللاحقة لأقل الحیض الواجد للصفات وکذلک للصفرة بعد أیام العادة قبل اتمام العشرة فإنه فی مثل ذلک لیس أیام الحیض بمعنی أیام العادة فلا محالة تکون بمعنی ما یمکن أن یکون حیضا.

وفیه: انّ غایة هذه القرائن کون الموضوع هو ما ثبت أنّه حیض فالصفرة فیه حیض، لا کلّ ما أمکن أن یکون لا سیّما وأنّ ظاهر العنوان هو التحقق و الثبوت لا الامکان و الاحتمال، و أما فی أیام الطهر فلا بدّ من حملها علی المقابل لذلک وهو ما لم یثبت کونه حیضا لا ما ثبت أنه طهرا وإلا فهو تحصیل الحاصل، هذا مع عدم ثبوت العموم بهذه الصیغة التی أرسلها الشیخ و جملة من المتقدّمین، بل ألفاظه هو ما مرّ فی معتبرة یونس و مصحح علی بن جعفر، و فی بعض الروایات الأخری(1) التقیید بأیام العادة أو تحقق الحیض بدلالة أکثر صراحة.

ومنها: ما دل علی إفطار المرأة برؤیة الدم فی نهار الصیام، و مفاد تلک الروایات لیس فی التحیّض بل هی منع الفراغ من ذلک فی صدد بطلان یوم الصیام بالحیض ولو بعد الزوال ولو مع طلوع الفجر علیها وهی طاهر.

ص:114


1- (1) وسائل الشیعة ج2، ص278، باب 4 من أبواب الحیض.

ومنها: صحیح عبد الله بن المغیرة (1) فی النفساء وقد جعل عمدة الروایات عند متأخری الأعصار، وقد عرفت ضعف دلالته علی القاعدة المزبورة.

ومنها: ما ورد (2) فی المبتدئة کموثّق سماعة وعبد الله بن بکیر، وفیه: أنّ غایة دلالتهما هو علی المعنی الثانی.

ومنها: ما ورد فیمن ینقطع دمها ثم یعود کصحیح یونس بن یعقوب قال: (قلت لأبی عبد الله (علیه السلام) المرأة تری الدم ثلاثة أیام أو اربعة؟ قال: تدع الصلاة، قلت: فإنها تری الطهر ثلاثة أیام أو أربعة؟ قال: تصلّی، قلت: فإنها تری الدم ثلاثة أیام أو أربعة؟ قال: تدع الصلاة، قلت:

فإنها تری الطهر ثلاثة أیام أو أربعة؟ قال: تصلّی، قلت: فإنها تری الدم ثلاثة أیام أو أربعة؟ قال: تدع الصلاة، تصنع ما بینها وبین شهر، فإن انقطع الدم عنها وإلا فهی بمنزلة المستحاضة)(3) ومثلها معتبرة أبی بصیر إلا أن فی ذیلها (فإذا تمّت ثلاثون یوما فرأت دما صبیبا اغتسلت واستثفرت واحتشت بالکرسف فی وقت کل صلاة، فإذا رأت صفرة توضأت)(4) و کذلک روایة یونس بن یعقوب الأخری.

وفیه: ظهور کونهما فی حکم الدم بعد استمراره مع تکرره و عدم فصل أقلّ الطهر، نعم هو ظاهر فی أعمّیة الدم من الواجد و الفاقد کما ینصّ علیه الحدیث الثانی حیث فرض (علیه السلام) تقدیر کونه أحمر و أخری

ص:115


1- (1) وسائل الشیعة ج2، ص393، باب 5 من أبواب النفاس ح1.
2- (2) وسائل الشیعة ج2، باب 4 من أبواب الحیض ح1. وباب 8، ح5، ح6.
3- (3) وسائل الشیعة ج2، ص285، باب 6 من أبواب الحیض ح2 و ح3.
4- (4) وسائل الشیعة ج2، ص286، باب 6 من أبواب الحیض ح3.

صفرة. فإطلاق صدر الجواب الأول ظاهر بقوّة و دالّ علی القاعدة بالمعنی الثانی.

ومنها: الحدیث الصحیح والاخر الموثق عن محمد بن مسلم عنه (علیه السلام) (وإذا رأت الدم قبل عشرة أیام فهو من الحیضة الأولی، وإذا رأته بعد عشرة أیام فهو من حیضة أخری مستقبلة)(1).

وفیه: أنّ الروایتین فی صدد اشتراط الکون فی عشرة الدم للإلحاق بالحیض السابق لا التحیّض السابق لا التحیّض بمجرّد الرؤیة.

ومنها: ما ورد(2) فی تقدم الدم عن العادة أو تأخّره و تعلیله فی موثّق سماعة (فإنّه ربّما تعجّل بها الوقت)(3) بتقریب ظهور التعلیل فی مجرّد الاحتمال.

وفیه: أنّه تقدّم ظهور هذه الروایات فی توسعة إماریة العادة لا التحیّض بمجرّد الاحتمال و من ثمّ قیّد ذلک و أسند الی تعجّل العادة الوقتیة و لم یسند الی الحیض و الدم نفسه.

ومنها: ما ورد(4) فی الحبلی من التعلیل بالتحیّض بالرؤیة لاحتمال کونه حیضا، ففی صحیح ابن سنان (أنّ الحبلی ربّما قذفت بالدم)(5) وفی مرسل حریز (فإنه ربّما بقی فی الرحم الدم و لم یخرج)(6) ومثله صحیح أبی بصیر(7)

ص:116


1- (1) وسائل الشیعة ج2، ص296، باب 10، من أبواب الحیض ح11 و باب من ابواب الحیض ح3.
2- (2) وسائل الشیعة ج2، ص305، باب 15 من أبواب الحیض.
3- (3) المصدر السابق ح2.
4- (4) وسائل الشیعة ج2، ص329، باب 30 من أبواب الحیض.
5- (5) المصدر ح1.
6- (6) المصدر ح9.
7- (7) المصدر ح10.

وسلیمان بن خالد(1).

وفیه: انّ تلک الروایات مقیّدة فی موردها و هی الحبلی بروایات أخری دالّة علی شرطیة التحیّض امّا بمجیئه فی الوقت أو بصفات الحیض من الحمرة و الکثرة ونحوهما، فالتعلیل بالاحتمال وارد مقابل قول العامّة حیث انّ غالبهم علی منع اجتماع الحیض مع الحمل.

ومنها: وبما ورد(2) فی تمییز دم العذرة و القرحة عن الحیض بالاکتفاء بانتفاء صفاتهما.

وفیه: انّ التمییز وقع بالقلّة و الکثرة مع کون الدم حمرة فی غالب تلک الموارد ومن ثم استشکل الفاضلان و غیرهما فی الحکم بالحیضیة بمجرّد الانتفاء وإن کان الاشکال فی مورد الدوران مع طرف ثالث وهو الاستحاضة، وقد ذکرنا فی محله أنّ الکثرة علامة للحیض کما ورد ذلک فی روایات الحامل و مرسلة یونس.

ومنها: روایات(3) الاستظهار فی الدم المتجاوز للعادة.

وفیه: انّ ذلک غایته إثبات قاعدة الإمکان بالمعنی الثانی و الثالث لا الأول و هو التحیّض بمجرّد الرؤیة للاحتمال، و القاعدة بالمعنی الثانی و الثالث ثابتة من جملة من الروایات المتقدّمة کما مرّ فی عموم الصفرة و الکدرة فی أیام الحیض حیض وفی أیام الطهر طهر.

ومنها: صحیحة العیص بن القاسم قال: (سألت أبا عبد الله (علیه السلام)

ص:117


1- (1) المصدر ح14.
2- (2) وسائل الشیعة ج2، ص275، باب 16 من أبواب الحیض.
3- (3) وسائل الشیعة ج2، ص300، باب 13 من أبواب الحیض.

عن امرأة ذهب طمثها سنین ثم عاد إلیها شیء؟ قال: تترک الصلاة حتی تطهر)(1).

وفیه: ظاهر فرض السائل المفروغیة من حیضیة وطمث العائد وإنما سؤاله عن حکمه.

وغیرها من الروایات التی لا یخفی ضعف دلالتها بعد ما تقدّم.

هذا، مع أنه لو فرض عموم بعضها للتحیّض بمجرّد الرؤیة مع فقد الصفات، فیقع التنافی بینه و بین ما دلّ علی إماریة صفات الاستحاضة علیها، وهی أخص موردا، وقد یشکل علی ما دلّ علی التمییز أنه خاص بمستمرة الدم أو الحبلی أو النفساء وهما من قسم المضطربة لإنقطاع الدم وزوال انتظامه، وعلی ذلک فیبنی علی عموم قاعدة الإمکان و إن لم یکن عموم فی الروایات لکفایة استصحاب بقاء الدم ثلاثة أیام.

وفیه: أنه ذکرنا(2) فی قاعدة التمییز فی الصفات بأنّ بعض ما ورد لیس فی المضطربة کما فی ذات العادة التی تقدم رؤیتها للدم أو التی تأخّر عنها کما انّ بعضها ظاهر فی بیان طبیعة دم الاستحاضة فی نفسه حتی أوهم للبعض أنّ مفاده بیان الشروط الواقعیة.

الدلیل الثالث: أصالة السلامة:

واستدلّ ثالثا بأصالة السلامة ومقتضی الطبیعة المزاجیة عند النساء، حتی عدّ عدم الطمث عیباً فی الأمة کما ورد ذلک فی بعض الروایات، و لعلّه وجه دعوی السیرة المتشرعیة التی جعلت دلیلا مستقلاً رابعا.

ص:118


1- (1) وسائل الشیعة ج2، ص337، باب 32 من أبواب الحیض ح1.
2- (2) مسالة 15 من الحیض، العروة، کتاب الطهارة ج4.

وفیه: أنّ مقتضی الطبیعة هو إماریة الصفات أیضا کما ذکر ذلک علماء الطب ووظائف الأعضاء، وکما هو مفاد روایات التمییز نعم کثرة الصفرة- أی استقرار الإمکان و الاحتمال- یقتضی الحیضیّة فی الطبیعة من جهة الکثرة والاستمرار.

الدلیل الخامس: الاستصحاب:

وهو تمام فی نفسه إلا أنه لا مجال للتمسّک به مع إماریة الصفات، فتحصّل أنّ القاعدة ثابتة بالمعنی الثانی والثالث، ثمّ إنّ المعنی الثانی لا یتنافی مع قاعدة التمییز، لخصوص روایات القاعدة فی مورد المعنی الثانی ولأنه بعد استقرار الإمکان وثبوته بمثبت من عادة أو صفة کما فی المستمر ثلاثة فإنه متّصف بصفتین من الحیض أو ثلاث وهی الدوام ثلاثة أو الکثرة وفصل مقدار الطهر، ومن ذلک یظهر وجه مستقل للقاعدة وهو کونها موردا لإماریة صفات الحیض فی مورد المعنی الثانی، ویدلّ علی المعنی الثانی مضافا الی ما مرّ ما فی مرسل(1) یونس القصیر فی عدّة مواضع منه لا سیّما ذیله حیث یقول(علیه السلام) (فإن رأت الدم من أول ما رأته الثانی الذی رأته تمام العشرة أیام و دام علیها عدّت من أول ما رأت الدم الاول والثانی عشرة ایام ثم هی مستحاضة) وکذلک قوله(علیه السلام) قبل ذلک (فان استمر بها الدم ثلاثة ایام فهی حائض) وکذلک (فان رأت ... حتی یتمّ لها ثلاثة أیام ... هو من الحیض) ولفظ الدم و إن استعمل فی مقبل الصفرة فی جملة من الروایات إلا أن ذلک عند اجتماع استعمالهما إذ قد ورد فی جملة أخری استعمال الدم فی الأعمّ کمقسم للحمرة و الصفرة و منه یظهر التمسّک

ص:119


1- (1) وسائل الشیعة ج2، ص299، باب 12 من أبواب الحیض ح2.

بعمومات الدالّة علی حیضیّة الدم المستمر بقدر أقلّ الحیض و لم یتجاوز أکثره.

وکذلک موثّق الحسن بن علی بن زیاد الخزّاز (1) عن أبی الحسن(علیه السلام) قال: سألته عن المستحاضة کیف تصنع إذا رأت الدم، و إذا رأت الصفرة؟ و کم تدع الصلاة؟ فقال:

(أقلّ الحیض ثلاثة و أکثره عشرة و تجمع بین الصلاتین) وهو کمعتبرة أبی بصیر المتقدّمة ظاهرة بقوّة فی عموم الدم لکل من الحمرة و الصفرة فی أقلّ الحیض. ومن ذلک یظهر قوّة ما ذکر السید الیزدی (2) وغیره. هذا مضافا الی ما یمکن تأیید المقام بما لو رأته فی الیوم الأول واجدا للصفات ثم فقدها فی الیومین الآخرین فإنه یحکم بحیضیّته بلا ریب.

تنبیهات القاعدة

التنبیه الأول: النسبه بین التمییز بالصفات العادة وقاعدة الامکان:

وقع الکلام فی عموم موضوع التمییز بالصفات واماریتها والنسبه بینها وبین التمییز بالعادة وقاعدة الامکان وان کل ما لیس بحیض فهو استحاضة وان لم یکن بصفاتها، نعم الکلام فی العموم المزبور بعد امکان توفر قیود الحیض الواقعیة و الکلام فی المقام فی أصل وجود العموم الدالّ علی القاعدة المزبورة، و أنها تختص بالاشتباه مع الاستحاضة المتصلة بالحیض، أم هی أعم من التردید مع دم الاستحاضة و غیره فضلا عن موارد الدم المستمر، و یستدلّ له:

ص:120


1- (1) وسائل الشیعة ج2، ص291، باب 8 من أبواب الحیض ح4.
2- (2) العروة الوثقی ، کتاب الطهارة -- الحیض -- مسالة 15.

أولا: بروایات الحبلی کموثق اسحاق بن عمّار قال: (سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن المرأة الحبلی تری الیوم و الیومین؟ قال: إن کان دما عبیطا فلا تصلی ذینک الیومین، و إن کان صفرة فلتغتسل عند کل صلاتین)(1) فإنها بعد حملها علی التحیّض فی الظاهر فی الیوم الأول و الثانی و إن لم تعلم باستمراره ثلاثا، کما أنها مطلقة من جهة الوقت، و هی نص فی غیر مورد الدم المستمر، نعم هی خاصة بالتردید بین الحیض و الاستحاضة، و مثلها فی الدلالة صحیح أبی المغرا(2) إلا انّ التمییز فیها بکثرة الدم و قلّته، و کذلک روایة محمد بن مسلم(3) والتمییز فیها بکل من اللون و الکثرة وغیرها.

ثانیا: ما ذکر فی تعریف دم الحیض کما فی صحیح حفص الوارد فی مستمرة الدم حسب فرض السؤال لکن ظاهر الجواب أعم لظهوره فی بیان الطبیعة من حیث هی قال(علیه السلام): (ان دم الحیض حار عبیط أسود، له دفع وحرارة، ودم الاستحاضة أصفر بارد، فاذا کان ...)(4) فإن تفریع الحکم علی الدم فی مورد الاستمرار بحسب طبیعة کل من الدمین ظاهر فی العموم، و صحیح معاویة بن عمّار فإنه مطلق(5)، و موثق اسحاق بن جریر و هی و ان کانت بعض فقراتها فی المستمرة الدم إلا أن ذیلها فیمن یتقدم علیها الدم أو یتأخّر و هی غیر المستمرة الدم قال(علیه السلام): (دم الحیض لیس به خفاء، و هو دم حار تجد له حرقة، و دم الاستحاضة دم فاسد بارد)(6)

ص:121


1- (1) وسائل الشیعة ج2، ص331، باب 30 من أبواب الحیض ح6.
2- (2) المصدر ح5.
3- (3) المصدر ح16.
4- (4) وسائل الشیعة ج2، ص331، باب 30 من أبواب الحیض ح1.
5- (5) المصدر ح1.
6- (6) المصدر ح3.

وهی قویة الدلالة فی بیان طبیعة دم الحیض و الاستحاضة بما هی هی واما مصحح یونس فقد تعرض للتی قد جهلت واختلطت علیها ایام عادتها وانها تمیزها باقبال الدم وادباره وتغیر لونه، قال(علیه السلام): (اذا رأیت الدم البحرانی فدعی الصلاة ... البحرانی شبه قول النبی صلی الله علیه و آله أن دم الحیض أسود یعرف، و انما سمّاه أبی بحرانیا لکثرته ولونه)(1) والمراد من اقباله کثرته ومن ادباره قلّته، وهذه الروایة مختصة موردا بالناسیة و نحوها لعادتها الوقتیة لا من استمر دمها، ومجموع هذه الروایات وهذه الطائفة ما بین المطلق أو فی حکمه أو غیر المستمرة الدم، نعم هی فی التردید بین الحیض والاستحاضة.

ثالثا: ما دلّ علی أن الصفرة لا غسل فیها الا أیّام العادة، کمصحح علی بن جعفر عن أخیه(علیه السلام) قال: (سألته عن المرأة تری الدم - الی أن قال - قال(علیه السلام): ما دامت تری الصفرة فلتتوضأ من الصفرة و تصلی، ولا غسل علیها من صفرة تراها إلا فی أیام طمثها فان رأت صفرة فی أیام طمثها ترکت الصلاة کترکها للدم)(2) وفی صحیح محمد بن مسلم عن أبی عبد الله(علیه السلام) فی حدیث قال(علیه السلام) (وان رأت الصفرة فی غیر أیّامها توضأت و صلّت)(3) وغیرها(4) و هذه أیضا فی التمییز بین الحیض و الاستحاضة و بعضها موردها مستمرة الدم.

رابعا: ما ورد فی حدّ الیأس کالصحیح الی ابن أبی عمیر عن بعض

ص:122


1- (1) وسائل الشیعة ج2، ص276، باب 3 من أبواب الحیض ح4.
2- (2) وسائل الشیعة ج2، ص280، باب 4 من أبواب الحیض ح8.
3- (3) المصدر ح1.
4- (4) المصدر باب 4.

أصحابنا عن أبی عبد الله (علیه السلام) قال: (اذا بلغت المرأة خمسین سنة لم تر حمرة) الحدیث(1).

فتحصّل عموم روایات الصفات فی المستمرة الدم و غیرها، إلا أنها فی صدد التمییز بین الحیض والاستحاضة وان کانت بعض ألسنتها توصیف دم الحیض فی نفسه، مضافا الی ما یأتی من عدم حصر صفاته فی المنصوصة لکن الأقرب أن عموم التمییز بالصفات لا ینحصر بموارد الاشتباه بالاستحاضة بل أعم منه و ذلک لعدة قرائن:

الأولی: ظهور التوصیف فی الصفات الطبیعیة للدم فی نفسه.

والثانیة: لقوله (علیه السلام) فی الطائفة الثانیة فی موثق اسحاق (دم الحیض لیس به خفاء ...) فی عموم تمیزه.

والثالثة: قوله (علیه السلام) فی صحیح یونس فی الطائفة الثانیة أیضا (وذلک انّ دم الحیض أسود یعرف)(2) والتعبیر ب--(یعرف) ظاهر بقوة فی عموم المعرفة و التمییز لا سیّما وان التعبیر المزبور أورده (علیه السلام) کتعلیل للتحیّض بناء علی فتح الراء لا ضمّها.

والرابعة: ما یأتی التنبیه اللاحق من صحیح ابن حمّاد(3) الظاهر فی عموم الطریق لاحراز دم الحیض ولو کان الدوران مع دم العذرة وهو بنفسه طائفة رابعة وکذا صحیح(4) زیاد بن سوقة.

واشکل علی دلالتها:

ص:123


1- (1) وسائل الشیعة ج2، ص335، باب31 من أبواب الحیض ح2.
2- (2) وسائل الشیعة ج2، ص276، باب3 من أبواب الحیض ح4.
3- (3) وسائل الشیعة ج2، ص272، باب2 من أبواب الحیض ح1.
4- (4) المصدر ح3.

أولا: بعدم کون مفادها التعبّد بالصفات لاحراز الحیض، وانما ترشد الی حصول العلم باجتماع الصفات.

وفیه: أنه لیس المراد من اماریة الصفات التعبّدیة هو التأسیس، بل الامضاء کما هو الحال فی أغلب الامارات، وامّا التقیید بالاطمئنان فالنوعی منه صحیح لا الشخصی، والأول هو بحسب اعتبار الظن الحاصل من المنشأ الخاص لدی السیرة العقلائیة، والفرض امضاء ذلک المنشأ.

ثانیا: انّها واردة فی مستمرة الدم، لا مطلقا مضافا الی دلالة عنوان الاستحاضة لغة علی ذلک بعد کون الصفات للتمییز بینها وبین الحیض، وفیه: انّ فی العدید منها تنصیص علی غیرها من الموارد و منه یظهر استعمال الاستحاضة فی الأعم فی الدم الذی یقابل الحیض وان لم یکن مستمرة الدم، کما یأتی فی الروایات استعماله کثیرا فی ذلک، هذا وفی مرسل یونس الوارد فی استبرائها (فان خرج علی رأس القطنة مثل رأس الذباب دم عبیط لم تطهر)(1).

ثالثا: منافاتها لقاعدة الامکان و انّ کلّ ما لم یکن حیضا فهو استحاضة وإن کان بصفات الحیض و لعدم الأخذ بها من قبلهم فی موارد أخری، وفیه: انّ البحث فی المقام اقتضائی و اجمالی، و فی وجود عموم یتمسک به ما لم یکن فی البین دلیل أقوی یتمسک به، وبقیة الجهات تم تنقیحها بعض مسائل الحیض من العروة.

التنبیه الثانی: الاختبار إذا اشتبه دم البکارة بدم الحیض:

لم یحک مخالف فی الاختبار --(وهو إدخال قطنه فی الفرج والصبر قلیلا

ص:124


1- (1) وسائل الشیعة ج2، ص309، باب17 من أبواب الحیض ح2.

ثم إخراجها فان کانت مطوقة فهو بکارة وان انغمست فهو حیض) - غیر ما عن المقدس الاربیلی من الرجوع الی الصفات و الفاضلین فی الحکم بالحیضیة فی التقدیر الثانی، ففی المسألة أمور:

الأمر الأول: یدل علی الاختبار المزبور صحیح خلف بن حمّاد الکوفی - فی حدیث - قال: (دخلت علی أبی الحسن موسی بن جعفر (علیه السلام) بمنی فقلت له: ان رجلا من موالیک تزوج جاریة معصرا لم تطمث، فلما افتضّها سال الدم فمکث سائلا لا ینقطع نحوا من عشرة أیّام، و أن القوابل اختلفن فی ذلک، فقالت بعضهن: دم الحیض، و قالت بعضهنّ: دم العذرة، فما ینبغی لها أن تصنع؟ قال: فلتتق الله، فإن کان من دم الحیض فلتمسک عن الصلاة حتی تری الطهر، ولیمسک عنها بعلها، وإن کان من العذرة فلتتق الله ولتتوضأ ولتصلّ، ویأتیها بعلها إن أحب ذلک، فقلت له: وکیف لهم أن یعلموا ما هو حتی یفعلوا ما ینبغی؟ قال: فالتفت یمینا وشمالا فی الفسطاط مخافة أن یسمع کلامه أحد، قال: ثم نهد إلیّ فقال: یا خلف، سرّ الله سرّ الله فلا تذیعوه، ولا تعلموا هذا الخلق أصول دین الله، بل ارضوا لهم ما رضی الله لهم من ضلال، قال ثم عقد بیده الیسری تسعین ثم قال: تستدخل القطنة ثم تدعها ملیا ثم تخرجها اخراجا رفیقا، فان کان الدم مطوقا فی القطنة فهو من العذرة، وان کان مستنقعا فی القطنة فهو من الحیض) الحدیث(1).

وفی طریق الشیخ صورة السؤال (طمثت أو لم تطمث أو فی أول ما طمثت)(2) وظاهر صدر الروایة تقریر حجیة قول القوابل کما هو ظاهر

ص:125


1- (1) وسائل الشیعة ج2، ص272، باب2 من أبواب الحیض ح1.
2- (2) المصدر ح3.

الجواب فی الصدر بل انّ الظاهر منه اطلاق الطریق المحرز للدمین و اطلاق الصفات المعتد بها فی التمییز، کما انّ ظاهر هذا الاختبار هو تمییز الحیض بالکثرة و دم العذرة بالقلّة، ویشیر الی ذلک ما فی الفقه الرضوی فإنه بعدما ذکر الاختبار المزبور ذیّله ب--(و اعلم انّ دم العذرة لا یجوز الشفرتین)(1) ومثل صحیح حمّاد صحیح زیاد بن سوقة(2). فیتحصل من الاختبار المزبور أنه نحو من التمییز بصفات الحیض.

الأمر الثانی: المدة التی تصبر فیها بوضع القطنة فإنّه عبّر فی صحیح حمّاد (تدعها ملیا ثم تخرجها اخراجا رفیقا) بینما عبّر السید الیزدی بالقلّة لکن جعلها وصفا للصبر(3)، و المراد أدنی المقدار المعتاد عند النساء فی وضع القطنة ثمة بحیث ینغمس الدم فیها علی تقدیر الحیض بخلاف العذرة. کما أنه قیّد الاخراج برفق لئلا یقع ضغط بالقطنة علی الموضع فیسبب انغماس للدم بالعلاج لا من جهة الکثرة.

الأمر الثالث: المحکی عن الفاضلین کما تقدم و غیرهما الاشکال فی دلالة الانغماس علی الحیضیة بل غایة الأمر هو نفی دم العذرة، وظاهر الاشکال فی مورد کون التردید ثلاثیا ونحوه لا ما اذا کان ثنائیا بین الحیض والعذرة، و إلا لما کان له مجال، و أجیب بأن اطلاق الصحیحین بالحکم بالحیضیة یقتضی نفی احتمال الاستحاضة لا سیّما صحیح زیاد حیث لم یذکر فیه حصر التشقیق والتردید بین الاثنین، والاطلاق المزبور موافق لقاعدة الامکان، واشکل علیه: بأن مورد کلا الروایتین فی المرأة المردد

ص:126


1- (1) مستدرک الوسائل ج2، ص6. وبحار الانوار ج78، ص93. وفقه الرضا، ص194.
2- (2) وسائل الشیعة ج2، ص272، باب2 من أبواب الحیض ح2.
3- (3) العروة الوثقی - کتاب الطهارة - فصل الحیض مسالة 15.

امرها بین الاحتمالین لا مع احتمال ثالث للاستحاضة، و بأن الکثرة الملازمة للانغماس لم تجعل علامة للحیض فی روایات التمییز بین الحیض والاستحاضة عند التردد بینهما، هذا، والصحیح أن الکثرة صفة مذکورة للحیض فی روایات التمییز کما تقدم بخلاف القلّة، فالإطلاق فی علامیة الکثرة للحیض فی محلها. فإفادة الإطلاق المزبور لقاعدة الإمکان یتم بتفسیرها إطلاق اماریة الصفات بضمیمة السلامة کما مر، وقد تقدم عموم قاعدة الصفات لموارد الشک فی الحیض.

الأمر الرابع: وجوب الاختبار هل هو شرطی فی صحّة الصلاة أو نفسی مستقل من سنخ المجعول فی باب الفحص کوجوب التعلم أو کلیهما أو إرشادی لإحراز الموضوع، قد یستشهد للأولین مضافا الی ظهور الأمر و تشدیده بلزوم تقوی الله تعالی، بامتناع الاحتیاط لدوران الصلاة بین الوجوب والحرمة الذاتیة للصلاة وهی منجزة بالاحتمال لعدم جریان الأصول بعد جعل إماریة الاختبار، فلا یصح التقرب وان لم تکن حائضا فی الواقع لقبح التجری المنافی للتقرب سواء بنی علی حرمته أم لا، و یعضد ذلک أن جوابه (علیه السلام) فی مقابل فتوی فقهاء العامّة حیث أمروها کما فی صدر الروایة بالصلاة «فسئلوا عن ذلک فقهائهم فقالوا هذا شیء قد اشکل علینا و الصلاة فریضة واجبة فلتتوضأ ولتصلی ولیمسک عنها زوجها متی تری البیاض فان کان دم الحیض لم تضرها الصلاة و ان کان دم العذرة کانت قد أدت الفریضة ففعلت الجاریة ذلک)(1) فابتداء جوابه(علیه السلام) الأمر بتقوی الله تعالی ظاهر فی الامساک عن الاحتیاط الذی

ص:127


1- (1) الکافی ج3، ص92، باب معرفة دم الحیض والعذرة والقرحة.

أمروها به، و انّه ان کانت حائضا فعلیها أن تمسک عن الصلاة، و کون هذا الصدر لم یذکره الراوی فی السؤال للامام(علیه السلام) وانّما ذکره الراوی لغیره، لا یخلّ بذلک الظهور، فإن الابتداء بالأمر بتقوی الله تعالی وبترتیب آثار الواقع من دون الجمع بین آثار الموضوعین المتباینین ظاهر فی لزوم احراز الواقع، هذا وقد حررنا فی محلّه(1) أن الفحص فی الشهبة الموضوعیة فی ما أخذ فی الحکم تقدیر خاص و نحوه لازم - کما ذکرنا(2) - موثق عمّار بن موسی الساباطی فی المرأة التی تظن انها حاضت فامر(علیه السلام) بان تدخل یدها فتمس الموضع لتبین وجود الدم و عدمه، لا سیّما فیما هو مثل المقام ممّا لا یستلزم الفحص إلا الالتفات الیسیر، وذکرنا(3) انّ الحرمة الذاتیة لصلاة الحائض لا تخلو من وجه، ویتحصل انّ فی موارد امکان الفحص عند الاشتباه بالحیض لا یشرع الاحتیاط بالصلاة بعد عدم جریان الأصول، و تقدم الإمارات الخاصة المجعولة فی الباب علیها، و قد یؤید ذلک بترک الصلاة أیام الاستظهار، بل قد عبّر فی بعضها عن ترک الصلاة ب--(تحتاط بیوم أو یومین).

الأمر الخامس: الظاهر عموم اماریة الاختبار لموارد سبق الحیض أو سبق العذرة وان کان مورد الصحیحین سبق الطهر، وذلک لظهور الاختبار المزبور فی کونه لتبین الکثرة أو القلّة والأولی من صفات الحیض والثانیة من صفات غیره کدم العذرة، وقد تقدم عموم اماریة الصفات للحیض عند الشک.

ص:128


1- (1) سند العروة الوثقی، صلاة المسافر (المسالة 5).
2- (2) مسالة 4 من سند العروة للشیخ الأستاذ السند،کتاب الطهارة، فصل الحیض.
3- (3) (3) المصدر نفسه.

الأمر السادس: عند تعذر الاختبار یرجع الی مقتضی الأصول العملیة فی المقام، وینبغی تفسیر التعذر بتعذر استعلام الکثرة من القلّة، لا بتعذر خصوص القطنة لما عرفت من أن القطنة مقدمة لذلک، فما یحکی عن الروض(1) من التخییر بین الأصبع والکرسف فی الاختبار متین و إن کان ظاهر المحکی عنه أنه استند فی ذلک الی تعدد لسان الروایات الواردة، و هو من اقحام ما ورد فی القرحة مع المقام إلا أن یکون قد فهم وحدة الموضوع عرفا بین القرحة و العذرة، و علی أیة تقدیر فالمدار علی تبین القلّة و الکثرة، و قد مرّ فی الفقة الرضوی (أن دم العذرة لا یجوز الشفرتین) فالتمثیل للتعذر بفوران الدم فی غیر محله فإنه علامة الکثرة وکذلک عدم خروجه من الموضع علامة قلّته، وانما یفرض فیما کان یخرج بتدریج متوسطا فانّه یتردد بین الصفتین، وعلی کل تقدیر فإن کانت الحالة السابقة معلومة فتستصحب، واما ان کانتا مجهولتی التاریخ أو انقضاء الحیض السابق مجهولا فیحتمل مجیء الدم المشکوک قبل تصرم العشرة فقد یقال باستصحاب العدم الأزلی سواء فی صفة الدم بأنه لیس حیضا أو فی عنوان الحیض حیث أنه عنوان وجودی، لکنه لا یخلو من إشکال لاحتمال کون هذا الدم استمرارا للحیض السابق فیکون العدم الازلی منتقضا بالیقین السابق و کذا عنوان الحیض فلیس إلا حالة الحیض سواء أرید منها الحدث المسبب أو حیضیة الدم السبب، و أما الاحتیاط ففی خصوص الصلاة والصوم یدور الأمر بین محذورین ویتعین الترک والاستظهار وقعودها وقد یقال بأن اطلاق الصحیحین یقضی بعدم الرجوع الی الأصول.

ص:129


1- (1) روض الجنان فی شرح إرشاد الاذهان، ج1، ص171. للشهید الثانی العاملی.

وفیه: انّه موردهما عند توفر الأمارة المزبورة مضافا الی أن الوجوب کما مرّ طریقی للإحراز فمع العجز عنه تصل النوبة الی الوظیفة الظاهریة اللاحقة کما هو الشأن فی الوظائف الظاهریة المترتبة طولا والامارات و الأصول لأنها للتوظّف الفعلی الرافع للتحیّر. نعم لو ثبتت قاعدة الإمکان بأوسع من قاعدة الصفات لکانت مقدمة علی الأصول العملیة أو الاحتیاط وأما بالنسبة الی تروک الحائض الأخری فتجری فیها البراءة و لا تعارض بأصل آخر لکون نجاسة الدم قدراً متیقناً بین الطرفین.

الأمر السابع: هل یختص الاختبار المزبور بالدوران بین دم الحیض والعذرة فلا یعم ما لو دار بین دم الحیض و القرحة أو بین الثلاثة أو لو کان دم الاستحاضة طرفا ثالثا أو رابعا، الظاهر العموم فی جانب صفات الحیض نفیا أو اثباتا، و أما الدوران بین البقیة فعموم صفات الاستحاضة لا یخلو من قوّة کما مرّ، کما انّ حکم الشک فی أصل الافتضاض کذلک بالأولویة أو المساواة.

التنبیه الثالث: اشتباه القرحة بالحیض:

حکی عن الصدوقین و الشیخ فی النهایة والمبسوط وابن براج وابن ادریس وابن حمزة وابن سعید و العلّامة والمحقق الثانی وغیرهم مطابقا لروایة الشیخ فی التهذیب من ان الدم اذا خرج من الطرف الایسر فحیض والا فمن القرحة، لکن ظاهر الکلینی فی روایته العکس ومال الیه الشهید(1) وحکاه عن ابن طاووس(2) وزعم أن أکثر نسخ التهذیب کالکافی، و توقّف

ص:130


1- (1) فی الدروس، ج1، ص97.
2- (2) حکاة فی الذکری، ص28.

جماعة فی الحکم کالمحقق الحلی فی الشرائع(1) وعن المعتبر انّ الروایة مقطوعة مضطربة لا أعمل بها.

هذا، وقد روی الشیخ عن محمد بن یحیی رفعه عن أبان قال: (قلت لأبی عبد الله(علیه السلام): فتاة منّا بها قرحة فی جوفها والدم سائل لا تدری من دم الحیض أو من دم القرحة فقال: مرها فلتستلق علی ظهرها وترفع رجلیها وتستدخل اصبعها الوسطی فإن خرج الدم من الجانب الأیسر فهو من الحیض وان خرج من الجانب الایمن فهو من القرحة)(2) ورواه فی الکافی بعین لفظه إلا انّه عکس الایمن و الایسر. وقال فی الوافی بعدما نقل الاختلاف فی النسخ وکلام ابن طاووس وان نسخ الفقیه مطابقة للتهذیب قال: و علی هذا یشکل العمل بهذا الحکم و ان کان الاعتماد علی الکافی أکثر. وذکر صاحب الجواهر ان المحکی عن کثیر من النساء العارفات أن مخرج الحیض من الأیسر، ولعلّ المراد فی حالة الاستلقاء علی الظهر، ولا ینافیه ما ذکره النراقی من نفی النساء ذلک بمسائلتهن، فلعلهن لم یقفن علی ذلک بالتجربة، والحاصل أن ذلک یرجع الی التمییز بالصفات من حیث المخرج، ففیه تقریر لحجیة التمییز بالصفات وقد تقدم فی التمییز بین الحیض والعذرة أنه بالکثرة والقلّة وأن العذرة نمط من الجرح و القرحة کما استظهره فی الروض و جعل روایات المقامین متحدة کما تقدم موثق عمّار فی امتحان وجود الحیض بادخال الید فتمس الموضع. کما تقدم عموم حجیة التمییز بالصفات للحیض، کما أن المجرب فی القرحة قلّة الدم

ص:131


1- (1) الشرائع، ج1، ص33.
2- (2) وسائل الشیعة ج2، ص307، باب16 من أبواب الحیض ح1.

حسبما یحکی عن النساء، وهو یعضد عموم ما تقدم من التمیز بالکثرة والقلّة بالاختبار بالقطنة، اذ غایة مفاد الروایة فی المقام ظهورها فی تعیین هذه الطریقة من التعیین و یرفع الید عن التعیین بالقرائن الآنفة.

التنبیه الرابع: لو اشتبه الحیض بغیر هذه الدماء:

فمع الجهل بالحالة السابقة فالحکم هو عدم الحیضیه ما لم توجد امارات وجود الحیض کالعادة أو الصفات ولم یبن علی عموم قاعدة الامکان، وکانت الحالة السابقة هی الطهارة و إلا فیتعین الاحتیاط فی غیر العبادة. و کذلک الحال فی سبق الحیضیة فتستصحب.

ص:132

قاعدة حرمة إهانة المقدسات

اشارة

ص:133

ص:134

من القواعد العامة حرمة إهانة المقدسات

اشارة

ذهب الفقهاء الی حرمة اهانة المقدسات الدینیة وطبقوا ذلک فی موارد عدیدة، ولعل اهم تلک الموارد (المساجد والمراقد والمصاحف):

اولا: المساجد:
اشارة

فقد تسالم الفقهاء اجمالا(1) علی وجوب تطهیر المساجد، و الظاهر ان الوجوب المزبور یرجع الی وجوب تجنیبها عن النجاسة حدوثا و بقاء دفعا و رفعا، فحرمة التنجیس و وجوب الازالة صورتان لحکم واحد ذی ملاک واحد، و کم له من نظیر من ملاکات المفسدة اللازم عدمها حدوثا و بقاء.

کما ان الظاهر رجوع حرمة ادخال النجاسة فی المساجد إلیهما أیضا غایة الامر انه درجة من تجنیبها اشد و دائرة اوسع، و من ثم اتحد الدلیل فی المسائل الثلاث فی عدّة من الکلمات، و یدل علیه:

أوّلا: الآیة الکریمة:

إِنَّمَا الْمُشْرِکُونَ نَجَسٌ فَلا یَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ (2)، وقد بحثنا

ص:135


1- (1) خلافاًَ لصاحب المدارک، ج2، ص305 وج4، ص339. وصاحب الحدائق، ج5، ص294، حیث ذهب الی جواز تنجیسها.
2- (2) سورة التوبة، الآیة: 28.

مبسوطا(1) تقریب دلالة الآیة علی النجاسة الخبثیة فی نجاسة الکافر و دفع الاشکالات المعترضة.

هذا مع ان النجاسة لو کانت بلحاظ الشرک معنویة فقط لما ناسب التفریع علی النجاسة بل لکان الشرک وحده کافیاً للتفریع، اذ التفریع علی تقدیر کبری موضوعها المفرّع علیه ومحمولها الحکم المفرّع و حینئذ تکون المقدرة تدور مدار النجاسة لا الشرک.

وأما تقریب دلالتها علی المقام فالتفریع بالفاء دال علی تقدیر کبری کما تبین وهی حرمة وجود النجاسة فی المسجد الحرام فضلا عن التنجیس.

وأما: النقض علی الدلالة بجواز دخول المستحاضة وان کان دمها سائلا وموجبا لتلوث بدنها حیث یجوز الطواف لها، و کذا جواز اجتیاز الحائض و الجنب و ان کان علی بدنهما نجاسة کما هو مقتضی الاخبار، و کذا الحال فی صاحب الدمل و القروح، و قیام السیرة علی دخول من یتنجس بدنه او ثیابه بغیر ذلک(2).

فغیر وارد: ولا یشکل قرینة مخالفة دلالیا، اذ الموارد المزبورة ما بین کون النجاسة متبوعة للشخص أو غیر مسلمة، لان ما ورد من الجواز کالذی ورد فی جواز الطواف المستحب للمحدث بالاصغر غیر متعرض لحالة تلوث البدن بالبول مثلا، ان لم نقل انه وارد فی الطواف الواجب اللازم فیه مراعاتها ما تراعیه فی الصلاة من تبدیل القطنة و طهارة البدن و تجدید الوضوء مع اتصال ذلک بالطواف کالصلاة.

ص:136


1- (1) سند العروة الوثقی، کتاب الطهارة، ج2، ص34، لسماحة الاستاذ السند ().
2- (2) التنقیح، ج2، ص259، ط مؤسسة السید الخوئی (قدس سره).

وما ورد فی الحائض والجنب کذلک لا تعرض فی الاطلاق لحیثیة الخبث، ولم یرد نص فی دخول صاحب الدمل والقروح لاسیما وان فیه معرضیة لتنجیس المسجد، ولا اتصال فی السیرة المدعاة، کیف ومثل العلامة یفتی فی التذکرة (لوکان معه خاتم نجس وصلی فی المسجد لم تصح صلاته)، وکذا المحقق (تجب ازالة النجاسات عن الثیاب والبدن للصلاة و للطواف ولدخول المساجد).

ثم انه بالبیان المتقدم اتضح عموم الحکم فی النجاسات، کما ان عدم دخول المشرکین عمم لکل مسجد بدلالة عدة من الآیات قد تعرضنا لها فی ذیل الآیة فی نجاسة الکافر، الدال علی عموم الحکم فی المساجد، بل حرمة دخولهم فی المساجد حکم آخر مستقل دلت علیه تلک الآیات وان غض الطرف عن نجاستهم فلا تغفل، نعم حدود دلالة الآیة هو فی اعیان النجاسات وأما المتنجس فسیأتی الکلام عن اندراجه فیها.

ثانیا: الآیة الکریمة:

وَ عَهِدْنا إِلی إِبْراهِیمَ وَ إِسْماعِیلَ أَنْ طَهِّرا بَیْتِیَ لِلطّائِفِینَ وَ الْعاکِفِینَ وَ الرُّکَّعِ السُّجُودِ (1)، وفی الآیة نحو دلالة علی عموم الموضوع لکل مسجد لمکان الاضافة فی الموضوع الی الذات المقدسة الالهیة والغایة المذکورة للحکم.

ودعوی اختصاص الحکم بابراهیم واسماعیل(علیهماالسلام)، موهونة بأن الغایة من حکایة ذلک الامر هو الدلالة علی عموم الغرض والحکم لکل المخاطبین.

ص:137


1- (1) سورة البقرة، الآیة: 125.

واعترض باشکالات اخری مشترکة مع المتقدمة فی الآیة السابقة، وتمام الکلام فی الدلالة قد بحثناه فی نجاسة الکافر، کما انه یدعم دلالتها ما ورد فی ذیلها من الروایات(1) فلاحظ.

ثم ان فی الآیة عموما للنجس والمتنجس وکذا الادخال بقرینة مورد الخطاب بتنحیة المشرکین عنه بجانب تنظیفه من القاذورات.

ثالثا: ما ورد فی الآیات العدیدة والروایات الکثیرة من تعظیم المساجد وتوقیرها:

ما ورد فی الآیات العدیدة والروایات الکثیرة من تعظیم المساجد وتوقیرها وانها بیوت الله تعالی المنافی ذلک مع تنجیسها، اذ القذارة علی طرف تضاد وتناقض مع القدسیة والعظمة.

وهو تام اجمالا حتی فی المتنجس، الا انه لا عموم فیه کالآیتین السابقتین، کما ان المطرد فی کل عنوان تشکیکی هو کون الالزامی منه هو ادنی المصادیق وهو فی المقام ما یلزم من عدمه عنوان الهتک والاهانة، کما هو الحال فی برّ و احترام الوالدین انه ما یلزم منه العقوق.

رابعا: الروایات الواردة فی ذلک:

الاولی: صحیحة علی بن جعفر عن أخیه موسی بن جعفر(علیه السلام) قال: سألته عن الدابة تبول فیصیب بولها المسجد او حائطه، أیصلی فیه قبل ان یغسل؟ قال: (اذا جف فلا بأس)(2).

وتقریب الدلالة ان المرتکز لدی الراوی هو لزوم غسل النجاسة

ص:138


1- (1) تفسیر البرهان، ذیل الآیة المبارکة.
2- (2) الوسائل، ج3، ص411، ابواب النجاسات، باب9، ح18.

عن المسجد او حائطه، غایة الامر سؤاله عن الفوریة فی ذلک، و کون مورد السؤال تنزیهیا وهو بول الدابة غیر ضار بعد اولویة الحال فی ما هو نجس و بعد کون تطبیق الکبری علی المورد ندبیا، و لذلک فصّل بین صورة الرطوبة والجفاف واحتمال ان المرکوز عند الراوی هو تعظیم المساجد عما یشینها لا وجوب تطهیرها (1) غیر مناف للمدعی، اذ قد تقدم ان ملاک وجوب التطهیر او حرمة التنجیس هو التعظیم المزبور، نعم المدلول التزاما أو اقتضاء لیس بأوسع دائرة من الوجه الثالث.

الثانیة: صحیحة علی بن جعفر الاخری (عن الجص یطبخ بالعذرة، أیصلح ان یجصص به المسجد؟ قال: لا بأس)(2).

و هذه الصحیحة و ان ذکرناها سابقا فی أدلة اشتراط طهارة موضع الجبهة، الا انّ التدبر فی متن المروی یظهر انها روایة مستقلة عن الصدر و الذیل الذی ذکره صاحب الوسائل، فانه فی کل من کتاب قرب الاسناد و کتاب علی بن جعفر جعلها روایة مستقلة بل قد ادرجها فی الاول فی احکام المساجد، وأما الثانی فصدّرها ب--(وسألته) مما یشیر الی بدء روایة مستقلة، بل ان فی الوسائل(3) قد فصل بینهما ب--(عن) و فصل بینه و بین الذیل بجعله له روایة مستقلة.

وتقریب الدلالة کالسابقة مع ضمیمة ما تقدم من تقریب فی مسجد الجبهة من تصویر الطبخ بالعذرة.

ص:139


1- (1) بحوث فی شرح العروة الوثقی، ج4، ص307.
2- (2) الوسائل، ج5، ص291، باب65 من احکام المساجد، ح2.
3- (3) وسائل الشیعة، ج3، ص411. ط آل البیت.

الثالثة: ما ورد من جواز اتخاذ الکنیف مسجدا(1) شریطة تنظیفه، ففی بعضها (اذا نظّف و اصلح فلا بأس)(2)، وآخر (یطرح علیه التراب حتی یواریه لانه یطهّره)(3)، والتساؤل عند الرواة دال علی الارتکاز المزبور، کما ان الاشتراط بالتطهیر أو المواراة بالتراب دال بالمطابقة صریحا علیه.

ومن ذلک: یظهر النظر فی ما قیل(4) من ان هذه الروایات تقصر وجوب التطهیر علی ظاهر المساجد دون باطنها، فلا یحرم تنجیس باطنها، اذ الطم للکنیف لا یطهّره بل یقطع الرائحة والسرایة للنجاسة کما انه لیس فی الأدلة ما یعم تنجیس الباطن، ویترتب علیه جواز اتخاذ بیوت الخلاء بحفر سرادیب وطوابق تحت ارض المساجد.

وجه النظر: هو ما عرفت من ظهور الروایات فی لزوم قطع النجاسة عن بواطنها والتوسل الی استحالة النجاسات السابقة لو حملنا التطهیر فیها علی التنظیف العرفی، فالمنفهم منها هو الحیلولة دون بقاء النجاسات فی الباطن فکیف یدعی قصرها ذلک علی الظاهر.

ودعوی: لزوم منع إنشاء الوقف حتی یطهر الباطن علی تقدیر حرمة تنجیسه، فجواز الانشاء وصحة الوقف مع هذا الحال وهو نجاسة الباطن دال علی عدم الحرمة(5).

ممنوعة: اذ هو لا یزید عما لو طرأ تنجیس الباطن بعد المسجدیة. ولیس فی إنشاء الوقف حینئذ تنجیس للمسجد أو تسبیب لنجاسته بل

ص:140


1- (1) وسائل الشیعة، ج5، ص209، باب11 من ابواب المساجد.
2- (2) المصدر، ح2.
3- (3) المصدر، ح1.
4- (4) التنقیح، ج3، ص254، ط مؤسسة السید الخوئی (قدس سره).
5- (5) دلیل العروة، ج2.

تسبیب للمسجدیة لا للتنجیس الحاصل والمحرم هو الثانی لا الأول، و لا یحرم ایجاد موضوع وجوب التطهیر بعد ما لم یکن ذلک ایجاداً للتنجیس. وبقاء التراب الباطن علی نجاسته و ان استحیلت عین النجاسة الی تراب غیر ضائر فی حصول التطهیر، لما ستعرف فی المطهرات فی الاستحالة والتبعیة کما هو الحال فی التراب المحیط بالغائط علی وجه الارض أو الکلب المستحیلان ترابا.

الرابعة: صحیحة رفاعة بن موسی قال: سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن الوضوء فی المسجد؟ (فکرهه من البول والغائط)(1).

ویقرب من مضمونه صحیح بکیر بن اعین عن احدهما(علیه السلام) قال: (اذا کان الحدث فی المسجد، فلا بأس بالوضوء فی المسجد)(2)، والکراهة ومفهوم البأس وان کانا ظاهرین فی الکراهة الاصطلاحیة تحفظا لما عسی ان تکون الیدان متنجستین، الا انه حینئذ دال بالاقتضاء علی محذور تنجیس المسجد بغسالة المتنجس.

وقریب من مفادهما ما رواه عبد الحمید عن أبی ابراهیم (علیه السلام) قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله - فی حدیث - واجعلوا مطاهرکم علی ابواب مساجدکم ...(3).

الخامسة: ما ورد فی تطهیر الارض باطن القدم فی الطریق الی المسجد:

کصحیح الحلبی قال: نزلنا فی مکان بیننا و بین المسجد زقاق قذر، فدخلت علی ابی عبد الله(علیه السلام) فقال: این نزلتم؟ فقلت نزلنا فی دار فلان،

ص:141


1- (1) وسائل الشیعة، ج1، ص492، باب57 من ابواب الوضوء، ح1.
2- (2) المصدر، ح2.
3- (3) التهذیب، ج3، ص254.

فقال: ان بینکم وبین المسجد زقاقا قذرا، أو قلنا له: ان بیننا وبین المسجد زقاقا قذرا، فقال: لا بأس، الارض تطهّر بعضها بعضا، قلت: السرقین الرطب اطأ علیه، فقال: لا یضرک مثله ... (1).

ومثله ما رواه فی المستطرفات عنه(2) الا ان فیه (ان طریقی الی المسجد ... فربما مررت فیه و لیس علیّ حذاء فیلصق برجلی من نداوته قال: (أ لیس تمشی بعد ذلک فی ارض یابسة ... (وذیلها) لا بأس انا واللهربما وطئت علیه ثم اصلی ولا اغسله) وعلی صورة المتن الثانیة یمکن استظهار ان المحذور فی ارتکاز الراوی هو دخول المسجد برجله المتنجسة مما یؤدی الی تنجیسه، وصدر المتن الاول یفیده أیضا بالتدبر حیث ان التعرض الی البین مع المسجد ظاهر فی ذلک.

ولا ینافیه ما فی ذیل المتن الثانی من ترتیبه (علیه السلام) صلاته علی مطهریة الارض فانه قد یکون استشهاداً لتحقق الطهارة، کما ان ظهورها فی بیان التطهیر بالارض التی قبل المسجد معاضد للاستظهار المزبور.

السادسة: ما رواه الشیخ فی الحسن - کالمصحح -

عن عبدالله بن میمون عن جعفر بن محمد عن أبیه(علیه السلام) قال: قال النبی صلی الله علیه و آله : تعاهدوا نعالکم عند ابواب مساجدکم ... الحدیث)(3).

ورواه الطبرسی فی مکارم الاخلاق(4) مرسلا فی ذیل آیة خُذُوا زِینَتَکُمْ عِنْدَ کُلِّ مَسْجِدٍ ، والنبوی المرسل المذکور فی کلمات الاصحاب

ص:142


1- (1) الوسائل، ج3، ص458، باب32 من ابواب النجاسات، ح4.
2- (2) مستطرفات السرائر، ص556.
3- (3) وسائل الشیعة، ج3، ص255، باب25 من احکام النجاسات، ح29.
4- (4) مکارم الاخلاق، ص123، فی کیفیة الانتعال.

(انه قال: جنبوا مساجدکم النجاسة)(1)، والروایة الاولی یمکن الاستظهار منها سواء کان الغرض من التعاهد هو مراعاة نظافة المساجد من القذارات العرفیة أو الشرعیة، لانه علی الاول یکون دالاعلی اولویة التوقی من الثانیة و اشتداد الحکم فیها، وأما الثانیة فهی وان احتملت إرادة المساجد السبعة فی الصلاة لاستعمال هیئة الجمع فیها کما فی الآیة، ولکن الانصراف الاولی الی بیوت العبادة وعلی أیة حال ففی ما تقدم من الروایات والآیات کفایة.

وهل تلحق الاطراف الخارجیة للمسجد بالمسجد؟

وجهان: وجه عدم الالحاق دعوی الانصراف أو ما یستظهر من روایات جعل ارض الکنیف مسجدا من قصر التطهیر علی الظاهر دون الباطن المساوی للداخل بالنسبة الی الخارج، ویدفعهما التشدید فی الآیة الاولی عن الاقتراب، واطلاق التطهیر فی الآیة الثانیة ومنافاة التعظیم فی الجملة، وتنصیص صحیح علی بن جعفر علی الحائط الخارج حیث لا تدخل الدواب فی المسجد، وکذلک روایات اتخاذ المسجد علی الکنیف حیث اشترطت قطع النجاسة والتطهیر للباطن.

وهل وجوب الازالة فوری؟

نعم فوری لما عرفت من ان الظاهر من الادلة هو تجنیبها النجاسات المنافیة لتعظیمها و من ثم کانت حرمة التنجیس ووجوب التطهیر بل و حرمة ادخال النجاسة ترجع الی حکم واحد وملاک واحد کالتعبیر بوجوب الصلاة وحرمة ترکها، ومن الواضح ان مثل هذا الملاک استغراقی

ص:143


1- (1) الوسائل، ج5، ص229، باب24 من احکام المساجد، ح2.

بلحاظ افراد الزمان کاستغراقه بلحاظ افراد النجاسات.

وهل یجوز ادخال عین النجاسة وان لم تکن منجسة(ملوثة) او یشترط فی الحرمة التنجیس؟

یدل علی عدم الجواز بنحو الاطلاق الآیة الاولی والثانیة أیضا بلحاظ ما ورد بطریق معتبر فی تفسیرها من تنحیة المشرکین، وکذا فی فرض الهتک الوجه الثالث وکذا بنحو الاطلاق علی وجه صحیحة ابن جعفر الثانیة، والمحکی عن متأخری المتأخرین تقییدها بالملوّثة، کما انک عرفت اندفاع النقوض - بأمثلة ادخال النجاسات فی المسجد - علی دلالة الآیات فلاحظ.

وهل یجوز ادخال المتنجس مع عدم استلزام الهتک؟

قولان: الجواز بعد قصور الادلة المتقدمة عن صورة عدم الهتک وعدم التلویث، واستدل فی الجواهر علی العموم بأن التقسیم الی نجس ومتنجس اصطلاحی وأما فی الاستعمال الروائی فالنجس یطلق علی کل منهما وفیه ان اللازم وجود دلیل مطلق من هذه الجهة أیضا ولا یکفی صدق العنوان، ولسان الادلة الواردة لبی تقدیری غیر مصرح کی یتمسک بإطلاقه.

نعم لو بنی علی طهارة اهل الکتاب لکان التمسک بالآیة الاولی فی محله لکنک عرفت ضعف القول المزبور، وقد یستظهر الاطلاق من الآیة الثانیة بلحاظ معنی التطهیر، بل وخصوص صحیحة علی بن جعفر الثانیة بلحاظ موردها وهو الجص المتنجس وهو محتمل فیهما وأحوط.

وهل وجوب الازالة کفائی او یختص بمن نجسها ؟

نعم کفائی بعد کون الملاک و الامتثال فی الموضوع الواحد غیر قابل

ص:144

للتعدد مع استواء نسبة الطلب الی الجمیع.

واستشهد لعدم الاختصاص بأن کیفیة الطلب بعد العصیان لم تختلف عما قبل، مضافا الی ان اللازم علی الاختصاص اما عدم وجوبه علی البقیة الا فی فرض عصیانه مرة اخری او وجوب حیلولته دون اتیان الآخرین، والا فنسبته مع الآخرین سواء وهو معنی الکفائیة، هذا مع عدم وجه للاختصاص.

وفیه: ان استناد التنجیس إلیه بالتسبب بقاء محقق ویلزمه استمرار العصیان واللازم عقلا المبادرة علیه عینا وشخصا رفع الاستمرار فبلحاظ حرمة التنجیس بقاء الحکم عینی وبلحاظ طبیعی الازالة الحکم کفائی فتتداخل الجهتان، وأما تقیید الحکم للآخرین بعدم امتثاله او حیلولته دون امتثالهم فغیر لازم کما هو الحال فی وجوب تجهیز المیت علی الولی عینا - علی قول أو تقدیر - وکفائیته علی المکلفین.

فرع:

لو رای النجاسة فی المسجد وقد دخل وقت الصلاة تجب المبادرة الی ازالتها قبل الصلاة مع سعة وقت الاخیرة وذلک لدرک کلا ملاکی المضیق الفوری والموسع بخلاف العکس. نعم مع ضیق وقت الصلاة یقدمها لأهمیة ملاکها اذ انها رکن الدین وعموده المتین .

ولکن لوترک الازالة مع سعة وقت الصلاة اثم وصحة صلاته علی الاقوی لعدم اقتضاء الامر بالشیء النهی عن ضده شرعا، بل عقلا بمعنی ان النهی من الاطوار العقلیة للامر فلا اجتماع للامر بالصلاة مع النهی عنها، کما ان التزاحم وان کان حاصلا بین الموسع و المضیق کما هو الاصح

ص:145

کالمضیقین الا ان التنافی هو فی فاعلیة الحکمین أو الفعلیة التامة لا فی اصل الفعلیة فلا حاجة للترتب بل یتم التصویر لکلا الفعلیتین بالتوفیق العقلی بین الفاعلیتین کما حررناه مفصلا فی الاصول.

هذا مع صحة الترتب لو سلمنا ان التنافی فی الفعلیة، بل لو منعنا الترتب فالملاک مصحح بعد بقاء الحکم الانشائی ومرحلة التشریع الکاشفة عنه، ومنه یعرف الحال فی کثیر من الصور.

ولو اشتغل غیره بالازلة لا اشکال فی جواز البدار الی الصلاة کما هو الحال فی کلیة الواجبات الکفائیة من ان تصدی البعض للامتثال مسقط ظاهری للتکلیف فی العدید من الموارد أو مسقط لوجوب المبادرة و للتکلیف بنحو مراعی کما هو محرر فی الواجب الکفائی، لا ان التکلیف دلیله منصرف کما قد یتسامح فی التعبیر.

فرع:

لو بادر للصلاة ثم ظهر نجاسة المسجد فان صلاته صحیحة، لما عرفت من الوجوه الاربعة لتصحیح الصلاة مع العمد فکیف بما دونه، نعم علی اقتضاء الامر النهی عن ضده شرعا یتأتی التفصیل بین العمد و الغفلة و النسیان علی ما هو الصحیح المنصور المشهور من التفصیل فی اجتماع الامر و النهی بین موارد التقصیر والقصور بعد عدم لزوم التعارض کما هو الصحیح علی الامتناع لعدم کون التنافی بین الجعلین بل بین الفعلیین، فالملاک محفوظ غایة الامر لا یمکن التقرب به مع التقصیر.

فرع:

اذا التفت للنجاسة حال الصلاة فهل یجب اتمامها ثم الازالة او قطعها والمبادرة للازالة ؟ وجوه لاغبار علی ابطالها بعد جواز القطع لموارد

ص:146

الحاجة الراجحة فلا تعارض و لا تزاحم، ولو اغمض عن ذلک فقد عرفت دلالة الآیتین علی الفوریة لدلالة کل من النهی ومتعلقه وهو القرب علی الاستغراق الزمانی وکذا دلالة الاقتضاء فی الامر بالتطهیر، وکذا بعض الروایات مثل ما اشترط التطهیر و قطع النجاسة عن الارض التی یراد وقفها مسجدا وکذا بقیة الروایات حیث ان محصل دلالة الکل هو منافاة النجاسة للمسجدیة وهو یناسب الاستغراق الزمانی.

هذا من ناحیة أدلة الازالة، وأما أدلة حرمة قطع الصلاة فان استند الی الاجماع فهو لبی قد لا یحرز شموله لموارد الابتلاء بواجب آخر، وان احرز فقد یقدم فی مقام التزاحم اطلاق ادلة الازالة علیه لکشف الاهمیة من الاطلاق کما حرر فی بحث التزاحم بعد عدم کون التنافی فی مقام الجعل فلا تعارض اصطلاحی فی البین.

وان استند - الی ما ورد فی الموارد المتفرقة(1) - بعد عدم حمل جمیعه علی الارشاد - من الامر بالتمام أو البناء أو النهی عن القطع أو الصبر والاستمرار، وما ورد فی التسلیم(2) من انه تحلیل للکلام وأمن مما یفسد الصلاة، الظاهر فی التحلیل التکلیفی المغایر للوضعی بقرینة العطف فیکون معنی تحریم التکبیر الاعم من الوضع والتکلیف غایته خروج النافلة ان قام دلیل علی استثنائها.

والمفهوم(3) من الشرطیة الدالة علی موارد جواز القطع، والمدلول الاقتضائی للمضی(4) للمتیمم بعد رکوعه اذا وجد الماء فی الاثناء حیث ان

ص:147


1- (1) الوسائل، ابواب نواقض الوضوء، باب19، ح3 وح4، وغیرها.
2- (2) المصدر، ابواب التسلیم، باب2.
3- (3) الوسائل، ابواب قواطع الصلاة، باب21.
4- (4) الوسائل، ابواب التیم، باب21.

القطع لو کان جائزا لکان متعینا مراعاة للطهارة المائیة فالاطلاق المتحصل فی الازالة اقوی دلالة فیقدم فی مقام التزاحم بالبیان المتقدم فی مقام الکشف عن اهمیة الملاک لا التنافی المقرر فی باب التعارض.

فرع:

لو توقف تطهیر المسجد علی حفر ارضه جاز بل وجب بعد دخوله فی اعماره وصیانته، اذ ما یکون لمصلحة المسجد والجهة الموقوف علیها یعدّ عرفا عمارة فی جهة الوقف لاتخریبا، فالمدار علی ذلک لا علی الیسیر دون الکثیر کما قیل، فتصویر الدوران بین حرمة الاضرار والتخریب وبین وجوب التطهیر لا مجال له، اذ ابعاد النجاسة عنه انما هو بملاک تعظیمه وتوقیره فکیف یصادم ویضادد حرمة تخریبه وهدمه.

فالصحیح ان الدوران فی المقام هو فی الملاک الواحد وجهاته وایها الغالب منها، ولعله یستفاد مما ورد من اشتراط تطهیر ارض الکنیف و قطع مادة النجاسة و طمّها بالتراب کیما تتخذ مسجدا، انه لو وصلت النوبة الی توقف قطع النجاسة الی تخریبه - کالنجاسة فی المثال التی تنافی اصل المسجدیة - جاز بل لزم، لحصول المهانة مع بقائه علی تلک الحال مع النجاسة الشدیدة، والحاصل انه لا بد من ملاحظة الجهات المختلفة المؤدیة الی تعظیم المسجد وعمارته.

وهل یجب طم الحفر وتعمیر الخراب بعد الازالة؟

قال بعض الفقهاء لایجب واستدل علیه تارة بکون التطهیر لمصلحة المسجد فلا یضمن الفاعل ما یسببه التطهیر من نتائج تلف(1)، و اخری

ص:148


1- (1) المستمسک، ج1، ص430.

بعدم تحقق الضمان باتلاف ابعاض المسجد لعدم کونه مملوکا بل محررا(1).

وفی کلا الوجهین نظر، لان مجرد کون الفعل لمصلحة مالک العین لا ینفی الضمان اذا لم یکن مأذونا منه او من الشارع ما دام یعدّ اتلافا، و ان کون المسجد محررا غیر مملوک لا ینفی الضمان کما سیأتی.

ومن الغریب التفرقة بین المسجد وآلاته المملوکة له کما سیأتی بیان ذلک، بل الوجه هو تحقق الاذن من الشارع فی الفعل الذی یعود نفعه للمسجد لا الفاعل، فیکون بذلک محسنا لاسبیل علیه.

لکن: قد یقرّب الوجوب بأن التطهیر حیث کان من مصادیق تعظیم المسجد وعمارته کما ان اللازم مجانبة تخریبه فیجمع بین الامرین بالتعمیر لما قد حصل اتلافه، وبعبارة اخری ان ما یصور فی المقام من دوران الامر والتزاحم بین وجوب التطهیر وحرمة التخریب.

ممنوع: بعدم الدوران بین الامرین وعدم التنافی فی الامتثال، حیث ان بالامکان امتثالهما طولا و تدریجا فأولا یمتثل التطهیر ثم یزال التخریب المسبب من الفاعل للتطهیر بالتعمیر، ولک ان تقول ان التطهیر المتعقب بالتعمیر لا یزاحم حرمة التخریب، نعم لو کان التعمیر یتوقف علی بذل مال حرجی أو ضرری وکان وجوبه مرفوعا بقاعدتیهما فیتعین اتیان تلک الحصة ویکون التعمیر مقدمة متأخرة.

هذا کله فیما لم یکن الفاعل للتطهیر مسببا للتنجیس، والا وجوب التعمیر علیه حینئذ اقوی وجها، حیث ان تنجیسه بمنزلة التخریب للتسبیب عرفا، ومنه یتضح وجوب رد الآجر ونحوه مضافا الی لزوم ابقاء الوقف علی

ص:149


1- (1) التنقیح، ج3، ص294.

الجهة التی اوقف علیها، والغریب التمسک للزوم الرد بالوجه الاخیر، مع عدم التمسک به فی مثل الطم والتعمیر، اذ الموضوع أیضا باق فیهما.

فرع:

اذا تنجس حصیر المسجد یجب تطهیره لعدّه عرفا من أجزائه أو توابعه وظهور ما ورد من توقیته وتجنیبه النجاسات فی التوسع فی العنوان او الاسناد، بقرینة ان جدران المساجد او سقوفها أو ابوابها تجدد أو یجدد اطلاؤها و تطیینها ولا ریب فی شمول محصل ما تقدم من الادلة له مع انه من الوقف اللاحق للمسجدیة و کذا ما یستحدث فیها من احواض أو اعمدة ونحوها، وأما دوران الامر بین تطهیر الموضع أو قطعه واتلافه فهو تابع للمصلحة بحسب الموارد.

فرع:

لا یجوز تنجیس المسجد حتی لو صار خرابا ویجب تطهیره اذا تنجس لبقاء الموضوع فتشمله الادلة، لاسیما وان اطلاق المسجدیة ینحفظ ولو بمثل صف قلیل من الاحجار أو الآجر علی سوره.

فرع:

اذا توقف تطهیر المسجد علی تنجیس بعض الاماکن الطاهرة منه - کما لو طهره بالماء وسال الماء النجس الی المکان الطاهر - فلا مانع من التطهیر مع امکان تطهیر کل النجاسة لأرجحیة تطهیر الموضع المفروض علی التنجس الموقت فکأنما الدوران بین التنجس الدائم والمؤقت، لاسیما وان التطهیر وحرمة التنجیس بملاک واحد کما عرفت، فیکون الرجحان بلحاظ الکم الزمانی أو المقداری.

ص:150

فرع:

اذا کان تطهیر المسجد قد توقف علی بذل مال وجب من باب مقدمة الواجب وقیّد فی بعض الکلمات(1) بالیسیر والا کان حرجیا أو ضرریا مرفوعا بالقاعدة استشهادا بما ذکره الاصحاب فی کفن وغسل المیت اذا استلزم مالا فانه یدفن عاریا أو بدون غسل علی طبق القاعدة مع ان بدن المؤمن من أعز المخلوقات . ولکن الصحیح ان قاعدتی الرفع المزبورتین حیث کان الوجه فی تقدیمهما علی الاحکام هو التزاحم الملاکی وان کان بصورة الحکومة أو الورود - کما صرح بذلک صاحب الکفایة (قدس سره) فی مبحث العام و الخاص - کان اللازم ملاحظة کل مورد بحسبه فلیس کل حرج یسیر أو ضرر کذلک رافعا لاهم الملاکات للاحکام، ولذا تری ان الحرج الرافع للوضوء غیر الحرج الرافع للتصرف فی مال الغیر أو لأکل المیتة.

الضمان فی المساجد:
اشارة

اختلف الفقهاء فی ضمان وعدم ضمان من کان سببا فی نجاسة المسجد اذا بذل مال فی تطهیره علی قولین استدل علی الثانی:

تارة: بأن الاوصاف التالفة فی الاعیان لا تضمن مثلیا بل قیمیا ای مالیة النقص الحاصل فی العین بسبب تلف الوصف فلا تضمن فی المقام قیمة اجرة عملیة التطهیر - أی اعادة الوصف --.

واخری: بان المسجد حیث کان من الاعیان المحرّرة لوجه الله تعالی

ص:151


1- (1) التنقیح، ص3، ص299.

غیر المملوکة فلا یضمن عینه ولا وصفه بخلاف آلاته من فرشه وسراجه ومنبره و نحوها فانها مملوکة لعنوان المسجد.

وثالثة: بان وجوب التطهیر کفائی کما تقدم، ولیس مختصا بمن تسبب فکیف یختص الحکم الوضعی به.

لکنک عرفت ضعف الوجه الثالث، وأما الاول فمورد تأمل فی الاوصاف المطلوبة لذاتها من الاعیان و التی کونها محط الاغراض من الاعیان، وبعبارة اخری ان البیان المذکور لضمان المثلی فی الاعیان من کون المالک المضمون له مالکا لشخص العین واوصافها و للطبیعة الکلیة فیها و للمالیة التی هی من اوصافها و انه کلما امکن رد مرتبة من المراتب الثلاث فلا تصل النوبة للرتبة اللاحقة فیجب تسلیم العین الشخصیة مع وجودها فان لم یمکن فمثلها فان لم یمکن فالقیمة فکذلک فی الاوصاف، ودعوی أن البناء و الجعل الوضعی العقلائی علی القیمة مطلقا فی الاوصاف مدفوعة بتعلق الاغراض العقلائیة فی بعض الاوصاف بذات الاوصاف لابمالیتها فقط کما هو الحال فی الاعیان.

وأما الثانی: فیرد علیه ان کون المسجد محررا وغیر مملوک لا یعنی انه صار من المباحات وخرج من الوقفیة وعموماتها کما یشیر الی ذلک التزام التفکیک بین حیثیة المسجدیة والوقفیة فی العدید من الکلمات فی المسألة اللاحقة، والتی منها کونها صدقة جاریة وتسبیل للمنفعة مع بقاء رقبة العین کما ورد ان المساجد بنیت للقرآن(1) وعلل النهی عن سل السیف فیها وبری النبل لانها بنیت لغیر ذلک و کذا علل النهی عن انشاد الضالة، و

ص:152


1- (1) الوسائل، ابواب احکام المساجد، باب14، 117، 28، 38.

یشیر إلیه ما ورد من ضرب أمیر المؤمنین(علیه السلام) الرجل القاص فی المسجد بالدرة وطرده ایّاه، فمنافعه لها جهة خاصة و هی العبادات وهی من المنافع العامة للکل کالموقوفات للمصالح العامة کالمدارس العامة والعمران الموقوف للزوار والحجیج.

ودعوی: عدم الضمان کالاراضی المفتوحة عنوة بغصب مطلق منافع هذه الاعیان.

ممنوعة: اذ ای فارق بینها وبین ما یعتبر ملکا لعنوان المسلمین مما یصرف مصالحه فی منافعهم اذ لیس هو علی نسق الملکیة الشخصیة بل اشبه شیء بالوقف الذی هو تحبیس العین وتسبیل المنفعة فی المصالح العامة، و مجرد تسمیته بالملک لهم لا یخرج العین عن الحبس ومنع الانتقال و کون المنافع مسبّلة، فکما قیل بالضمان فی الغصب فیها فکذلک الحال فی الوقف علی الجهات العامة، وهذا مقرر فی الجعل والبناء العقلائی غیر المتشرعی، مما یدل علی صحة ذلک الاعتبار وملکیة الجهة بمعنی من معانی الاختصاص والاضافة.

ولک ان تقول ان للمساجد نحو اضافة اعتباریة للّه تعالی سبحانه کما ورد انها بیوت الله تعالی عزّ اسمه فی الارض کاضافة تشریفیة لا تمنع من الاختصاص الاعتباری أیضا، نعم لو قیل ان الاضافة فیها بمعنی تشعیرها مشاعرا کعرفات و منی، کما ذهب إلیه الشیخ کاشف الغطاء (قدس سره) لافترقت عن الاوقاف العامة و لکانت محررة صرفة، الا ان کونها من الصدقة یدفعه.

والغریب ان یصار الی ضمان آلات المسجد و توابعه لانها مملوکات للمسجد دونه فکأنه زیادة للفرع علی الاصل، اذ فی الاعتبار العقلائی انما

ص:153

یعتبرون ملکیة العنوان بلحاظ انه ینتهی الی سلطة الاشخاص بنحو ما، نعم لو بنی علی ان التوابع موقوفة علی المصلین والمسلمین لاتجه الفرق بینها وبین المسجد، وهذا مشعر بما ذکرناه فی المسجدیة.

بل لو سلمنا التحریر فی وقف المسجدیة فدعوی عدم الضمان حینئذ ممنوعة حیث ان الجعل الاعتباری العقلائی فی الملل والنحل المختلفة علی التضمین فی اتلاف بیوت العبادة کل ملّة بحسبها، أفتری لو ان مجمع قوم جمعوا المال من آحادهم وبنوا دارا لعبادتهم وطقوسهم الخاصة مما تفک رقبة العین فی ذلک الوقف ثم اتلفها متعدٍ انهم لایضمنونه، هذا مع ان الحکم التکلیفی من حرمة تخریب المساجد ملائم لامضاء مثل هذا البناء العقلائی.

ومنه یظهر قوة الوجه الاول خلافا للماتن، نعم بالنسبة الی غصب بعض منافع الموقوفات العامة التی لم یسلبها الواقف وظلت مهملة یتوجه عدم الضمان وان تحقق الاثم بوضع الید علی العین، کما قد یفصل فی ضمان العین المزبورة بین ما اذا تلفت تحت ید الغاصب من دون تسبیب وبین ما اذا کان هناک تسبیب واتلاف فی الارتکاز العقلائی ولعله للفرق بین العین المملوکة بملکیة شخصیة و مثل تلک الاعیان الموقوفة فی الجهات العامة، و لتتمة الکلام محل آخر.

فرع:

اذا تغیر عنوان المسجد بأن غصب وجعل دارا أو صار خرابا، بحیث لا یمکن تعمیره و لا الصلاة فیه وقلنا بجواز جعله مکانا للزرع ففی جواز تنجیسه وعدم وجوب تطهیره - کما قیل - اشکال والاظهر عدم جواز الاول، بل وجوب الثانی أیضا.

ص:154

الکلام فی هذا الفرع ضمن نقاط:

الاولی: إن بقاء المسجدیة بعد الخراب و انتفاء العنوان انما یتصور فی الارض المملوکة للواقف وأما فی الاراضی المفتوحة عنوة او فی الانفال بناء علی عدم القول بالملک بالاحیاء فیها بل بمجرد الحق أو بناء علی زوال الملک فیها بالموات و الاعراض، ففی بقاء المسجدیة نظر وان بقیت الوقفیة اذ رقبة الارض لیست موقوفة بل الموقوف ذلک الحق مع البناء علی القول بکفایة ذلک فی وقف المسجدیة، ونظیر ذلک ما لو قیل بصحة وقف الطابق العلوی فی العمارة مسجدا دون الطابق الارضی، فانه مع خراب العمارة یشکل بقاء المسجدیة وان بقیت الوقفیة.

الثانیة: انه لا ملازمة بین عدم ضمان منافع المسجد المغصوبة وبین عدم صحة اجارتها کما تقدم، لان اهمال المنافع غیر المقصودة من جهة الوقف موجب لعدم الضمان، ولکن لایلزم منه عدم صحة تملیکها بالاجارة نظیر منافع الحر غیر الکسوب والتعبیر بانها مسلوبة المنفعة فلا تصح الاجارة فی الاوقاف العامة لا محصل له، اذ لیست کل المنافع مسلوبة نظیر العین المستأجرة اذا بیعت. نعم بناء علی کونها مشاعر فلا تصح اجارتها لتحریر المنافع تبعا لاعیانها بنحو لاتدخل فی ملک احد، هذا والمراد بالتصرفات الجائزة هی غیر المنافیة للمسجدیة کما لا یخفی.

الثالثة: قد یقرّب عدم حرمة التنجیس و ترک التطهیر بأن للمسجد حیثیتین احداهما المسجدیة والمعبدیة وهی تنتفی بالخراب وزوال الموضوع، والاخری حیثیة الوقف والحبس العام للعرصة وهی باقیة، و موضوع الادلة هو الاول المعدوم دون الثانی.

وقد یشکل علیه بان الحیثیة الثانیة لا بقاء لها دون الاولی ویجاب بأنه

ص:155

نظیر ما لو وقف عرصة حماما فخرب، ونظیر ما اذا انتفت المنفعة المقصودة من جهة الوقف.

وقد تقرب الحرمة بأن المسجدیة غیر متقومة بالبناء فی الاعتبار الانشائی والشرعی وان تقوّم فی الصدق العرفی، والموضوع اذا کان بحسب الاولی فهو باق بعد الخراب.

لکن قد یدعی انصراف الادلة السابقة عن صورة زوال آثار المسجد وصار بهیئة المزرعة أو الارض الخربة، و لا یجری الاستصحاب وان کان تنجیزیا بلحاظ کلا من حرمة التنجیس ووجوب التطهیر لما عرفت من کونهما بملاک واحد وهو تجنیب المسجد النجاسة وذلک لتبدل الموضوع عرفا فی مثل الفرض.

نعم الانصراف لا یتأتی فیما لو نقض بناؤه فقط مع عدم تبدل عنوانه عرفا، غیر ان بقاء الحکم مع کل ذلک احوط، ولا یخفی التدافع بین الالتزام بحرمة اجارته فی الموارد المنافیة للمسجدیة کحظیرة الدواب ونحو ذلک، مع جواز التنجیس وعدم وجوب التطهیر استنادا الی انعدام حیثیة المسجدیة دون الوقفیة، ویمکن توجیهه بأن اللازم فی الوقف حینئذ صرف منافعه فی الاقرب فالاقرب من المسجدیة لا فی ما هو مباین.

فرع:

اذا رأی الجنب نجاسة فی المسجد فان امکنه ازالتها بدون المکث فی حال المرور وجب المبادرة إلیها و إلا فالظاهر وجوب التأخیر الی ما بعد الغسل، لکن یجب المبادرة إلیه حفظا للفوریة بقدر الامکان، وان لم یمکن التطهیر الا بالمکث جنبا فلا یبعد جوازه، بل وجوبه و کذا اذا استلزم التأخیر الی ان یغتسل هتک حرمته.

ص:156

الکلام فی هذا الفرع یقع فی اربع صور:

الاولی: امکان الازالة حال المرور و لزومها واضح بعد عدم التزاحم مع حکم آخر.

الثانیة: عدم امکان الازالة الا بالمکث مع امکان الاغتسال مع عدم لزوم الهتک فالزم بالغسل أولا بالمبادرة إلیه ثم التطهیر و هذا اذا کان مقدار وقت الغسل لا ینافی الفوریة العرفیة لا غبار علیه لمراعاة کل من وجوب التطهیر و حرمة المکث جنبا.

الثالثة: وهی ما تقدم مع لزوم الهتک بالتأخیر وها هنا یقع التزاحم بین کل من وجوب التطهیر ووجوب تعظیم المساجد و الشعائر مع حرمة المکث جنبا والظاهر رجحان الاولین، بعد قرب کون الحرمة أیضا لاجل التعظیم، وملاکه فی طرف الازالة اقوی لکن الصحیح حینئذ کما ذکره غیر واحد هو تعین التیمم ان امکن لتعین الغایة و هی الکون فی المسجد مع الطهارة للازالة المتعینة علیه، مع عدم التمکن من الماء لضیق الوقت کما هو الحال فی من احدث بالاکبر وهو فی المسجدین من انه یتیمم و یخرج.

بل قد الحق بهذه الصورة صورة اخری وهی ما اذا کان التأخیر غیر موجب للهتک ولکنه ینافی الفوریة کأن یلزم من التأخیر مدة طویلة، فان التدافع کما ذکره غیر واحد هو بین فوریة وجوب التطهیر ووجوب الغسل والثانی مقید بالقدرة فیرتفع ویتعین التیمم حینئذ.

ومن الغریب الالتزام هاهنا بتقدیم الفوریة علی المقید بالقدرة الشرعیة کالطهارة المائیة ذات البدل، وعدم الالتزام بذلک فی مثل وجوب الحلق أو التقصیر فی الحج المقید بیوم العید مع اشتراطه بترتبه علی الذبح بتقدیمه علی شرطیة کون الذبح فی منی بناء علی الالتزام بکونه عند القدرة

ص:157

لقصور ادلة الشرطیة المزبورة عن الشمول لموارد الاضطرار، فان الفوریة فی المقامین واحدة مقدمة عند التزاحم مع الواجب الآخر ذی البدل هذا و ان بنی علی تصور الدوران بینهما فی الحج للعلم بعدم سقوط اصل وجوب المرکب فی الحج.

الرابعة: ما اذا لم یمکن الغسل و لم یلزم الهتک فمن الواضح مما تقدم تعین التیمم والمبادرة ثم للتطهیر، وان لم یمکن التیمم فیقع التزاحم بین الوجوب و حرمة المکث، و یمکن ترجیح الثانی علی الاول بوجود الاطلاق اللفظی بناء عن کشفه علی اهمیة الملاک، بخلاف الاول فانه بنحو الدلالة الالتزامیة لکن یمکن ان یقال ان النهی عن اقتراب المشرکین هو الآخر دال علی التشدد فی ذلک الحکم ولا یبعد تقارب ملاک الحکمین أو وحدته فیلحظ حینئذ الامتداد و القصر الزمانی.

فرع:

فی عدم جواز تنجیس مساجد او معابد الیهود والنصاری ومساجد المسلمین. اما الاول فمن جهة کونها معابد لله تعالی کما تشیر إلیه الآیة وَ لَوْ لا دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَ بِیَعٌ وَ صَلَواتٌ وَ مَساجِدُ یُذْکَرُ فِیهَا اسْمُ اللّهِ کَثِیراً (1)، ومما ذکروه من جواز نقضها الی مساجد دون غیر ذلک کما ورد النص بالنقض، وکما ان عدة من المساجد کمسجدی الکوفة والسهلة وکذا الاقصی وغیرها کانت من الوقف من الشرائع السابقة، الا ان کل ذلک لا یعدو تقریبا للاحتمال اذ الحکم یدور مدار العنوان المغایر لها کما هو مفروض الوجوه المتقدمة أیضا مضافا الی

ص:158


1- (1) سورة الحج، الآیة: 40.

السیرة المستمرة من تعاطیهم الخمر و غیره فیها.

اما الثانی (مساجد فرق المسلمین) فالاتفاق قائم علی عدم الجواز وقد ورد الترغیب فی الصلاة(1) فیها لکون کل مسجد یبنی علی قطرة دم نبی أو وصی، نعم قد ورد فی بعضها انها ملعونة وانها بنیت فرحا لقتل الحسین(علیه السلام)(2)، و لعله یشکل صحة وقفها کمسجد ضرار الذی هدم.

فرع:

قال بعض الفقهاء اذا علم عدم جعل الواقف صحن المسجد أو سقفه أو جدرانه جزءا من المسجد لا یلحقه الحکم من وجوب التطهیر وحرمة التنجیس، بل وکذا لو شک فی ذلک وان کان الاحوط اللحوق ولکن فی کلامه نظر عدا المثال الاول حیث انه جزء فی تقرر الماهیة الخارجیة للعنوان فیقال بنی المسجد ونحو ذلک الا ان تبنی الجدران محیطة بأرض المسجد بنحو أوسع خارجة عنها، بل قد عرفت ان تخریبها نحو ازالة لآثار المسجدیة کما فی کلمات الاصحاب فکیف تعدّ خارجة عنه، أما المشکوک فیتبع العلامات لکبری، حجیة الاطمینان الحاصل من الاسباب النوعیة المتعارفة کما تقدم.

فرع:

هل یجب اعلام الغیر اذا لم یتمکن من الازالة؟ استدل له بأن الاعلام لیس بتسبیب و انما هو ایجاد للداعی لدی مکلف آخر فلیس هو امتثال

ص:159


1- (1) الوسائل، ابواب احکام المساجد، باب21.
2- (2) المصدر، باب43.

مباشر و لا تسبیبی لیکون واجبا، کما ان حفظ الغرض علی درجات ولا یعلم ان الاهتمام الشرعی به اعم من التسبیب و المباشرة و ایجاد الداعی(1).

وفیه: ان الواجب فی المقام حیث انه من الواجبات الکفائیة و طبیعة الملاک فیها نوعا هو قیام الغرض بحصولها فی الخارج بأی نحو من الانحاء علی السواء بل ان عدم توجه الخطاب بالنهی عن قرب المشرکین من المسجد الی الاشخاص ولا الی العموم فی ظاهر اللفظ یدل علی اهمیة وقیام الغرض بمطلق حصوله، مع ان ایجاد الداعی ممن یعلم بانبعاثه نحو تسبیب وکذا اعلام من یحتمل فیه ذلک، اذ هو من احتمال التسبیب لایجاد الفعل، کما أن توصلیة الواجب فی المقام المستفادة من الاطلاق اذا انضمت الی الکفائیة کان الاطلاق فی المتعلق شاملاً لهذا النحو من التسبیب الموجود فی الاعلام، هذا فضلا عما اذا کان هتکا مما لا یرضی الشارع به لحرمته مطلقا.

ثانیا: المشاهد المشرفة:

وقع الکلام فی الحاق المراقد المشرفة بالمساجد بلحاظ حرمة التنجیس ووجوب التطهیر ویستدل له:

أولا: بوجوب تعظیمها بعد ما کانت مضافة إلیهم(علیه السلام)، ووجوب التعظیم اجمالا عقلی لکل ما هو رفیع الشأن و المنزلة والقدسیة وهذه کبری مطردة شرعیة وعقلیة فی المقدسات فی الشریعة وهی بمقتضی خضوع وتبعیة الشخص لما یذعن به من حقیقة وحقانیة شیء، ولذا کانت القدسیة والتقدیس رهینة الحق والحقیقة، ومن ثم یحکم بارتداد الهاتک للمقدسات

ص:160


1- (1) بحوث فی العروة الوثقی، ج4.

فی بعض الصور بحسب درجات الهتک وبحسب الشیء الذی وقع علیه ذلک الفعل.

نعم لما کان التعظیم من العناوین التشکیکیة کالطاعة للوالدین وبرّهما کان المقدار الواجب هو الادنی والزائد راجحاً غیر لازم کما هو مطرد فی متعلقات الاحکام ذات المصادیق التشکیکیة، وعلی ذلک فما یلزم من ترک تعظیمه الاهانة أو الهتک یکون عزیمة، ولا یخفی ان عنوان الاهانة اعمّ من الهتک.

هذا من حیث الکبری وأما الصغری فی المقام فلا ریب فی صدق الاهانة فی التنجیس باعیان النجاسة، وکذا بالمتنجس بعد ما کان التنجیس به تقذیرا فی الشرع فیلزمه الاستهانة.

وثانیا: بما ورد من تنزیلها منزلة المساجد فی کثیر من الاحکام مثل حرمة دخول أو مکث الجنب فیها - علی القول بها ولو احتیاطا - حیث ان ما ورد فی ذلک دال علی المحافظة علی طهارتها، نظیر ما دل علی ذلک فی المساجد، وکذلک ما ورد من افضلیة الصلاة فی بیت فاطمة(علیهم السلام) من الصلاة فی الروضة(1)، و ما ورد من استحباب کثرة التطوع فی الحائر(2)، معتضدا بما ورد من التخییر بین الاتمام و القصر فی الصلاة فی السفر و افضلیة الاول وانه من المذخور وکذا ما ورد(3) من استحباب عمارة قبورهم (علیهم السلام) وان ذلک کعمارة بیت المقدس أو ما ورد من تضاعف ثواب الصلاة عند قبورهم (علیهم السلام) وفی ذلک قال السید فی منظومته:

ص:161


1- (1) الوسائل، ج5، ابواب المساجد، باب59.
2- (2) الوسائل، ابواب المزار، باب69، وابواب صلاة المسافر، باب26.
3- (3) المصدر، ابواب المزار، باب25، 26.

فالسعی للصلاة عندها ندب وقربها فی اللصوق قد طلب

وما ورد فی ذیل الآیة فِی بُیُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ یُذْکَرَ فِیهَا اسْمُهُ من انها بیوتهم (علیهم السلام).

ثم انک عرفت ان حرمة التنجیس مع وجوب التطهیر بملاک واحد وقد استدل علی ذلک أیضا بان وقفها مأخوذ فیه الطهارة فلا یصح التصرف فیه علی غیر جهة الوقف.

واشکل: بأن قبور مثل الکاظم و الجواد علیهما السلام کانت وقفا قبل ذلک کمقبرة لقریش و ان تلک البقاع لم تکن مملوکة کی توقف من مالکها.

الا: انه یدفع بزوال رسوم المقبرة و تبدلها الی هیئة المشهد، و انه ببناء ما حولها یصدق علیه نحو احیاء و وقف بنحو الترتب.

ولکن: الصحیح انها اشبه بالمشاعر بعد الحث الاکید من الدین فی عمارتها وزیارتها وتعاهدها.

ثالثا: المصحف الشریف:
اشارة

ذهب الفقهاء الی وجوب ازالة النجاسة عن ورق المصحف وخطه للکبری المتقدمة فی المسألة السابقة وکذا الصغری، مضافا الی ما یذکر فی المس بالعضو المتنجس. ویحرم کتابة المصحف بالنجس او بمرکب نجس ولو کتبه وجب محوه بعد حصول المهانة بل الهتک بذلک.

وکذا یحرم مس المصحف بالعضو المتنجس لاریب فی ذلک مع الاهانة کما اشار بعض الفقهاء، و أما مع العدم فمن حرمة مس المحدث بعد ما کانت متعلقها المس بالعضو مضافا الی قوله تعالی لا یَمَسُّهُ إِلاَّ

الْمُطَهَّرُونَ 1 وهو وان کان فی الکتاب المکنون لا المصحف الا ان فیه اشعارا قویا بحکم المصحف أیضا، ولذا ورد الاستدلال علی الحرمة السابقة بالآیة2، یستفاد بالاولویة العرفیة الحرمة فی المس بالخبث لاسیما وان الطهارة الحدثیة تعتبر اشد من الخبثیة فافهم.

ص:162

الْمُطَهَّرُونَ (1) وهو وان کان فی الکتاب المکنون لا المصحف الا ان فیه اشعارا قویا بحکم المصحف أیضا، ولذا ورد الاستدلال علی الحرمة السابقة بالآیة(2)، یستفاد بالاولویة العرفیة الحرمة فی المس بالخبث لاسیما وان الطهارة الحدثیة تعتبر اشد من الخبثیة فافهم.

وهل یجوز اعطاؤه بید الکافر؟

لا اشکال فی الحرمة مع المهانة وأما مع العدم فقد یدرج أیضا بالحرمه مع عدم الامن من معرضیته للنجاسة، وأما الاعطاء التملیکی فمحرر حکمه فی باب البیع.

فرع:

اذا وقع ورق القرآن أو غیره من المحترمات فی بیت الخلاء أو بالوعته وجب اخراجه ولو بأجرة لتوقف الواجب علیه وعدم جریان لا ضرر لما حرر فی محله من کون القاعدة وان کانت حاکمة فی صورة الدلالة الا ان المناط فی تقدیمها لبا هو التزاحم الملاکی، ومن الواضح أهمیة ملاک الواجب فی المقام بالنسبة الی البذل للمقدار المعتاد.

واما اذا لم یمکن الخراج فالاحوط سد بابه و ترک التخلی فیه الی ان یضمحل، وذلک لحصول المهانة الزائدة عرفا بالتدبر ولا محل للتأمل فی ذلک، لاسیما وان السدّ هو نحو علاج للاستحالة.

ص:


1- (1) سورة الوقعة، الآیة: 79.
2- (2) الوسائل، ابواب الوضوء، باب12.
فرع: فی ضمان المصحف:

تنجیس مصحف الغیر موجب لضمان نقصه الحاصل بتطهیره والضمان تارة یفرض لنقص الوصف وهو الطهارة وطرو النجاسة، واخری لعملیة التطهیر، وثالثة للنقص الحاصل فی العین بعد التطهیر، أما الاول فلا اشکال فی ثبوته لصدق الاتلاف، وأما الثانی فقد تقدم فی تنجیس المسجد وجه قوته، بتقریب ان اللازم فی الاوصاف هو اعادتها کالضمان فی المثلیات فی الاعیان وان لم یمکن اعادتها یضمن قیمتها فی الرتبة الثانیة فراجع، وأما الثالث فحیث ان النقص الطارئ هو بتوسط إرادة اخری فلا حکم للسبب بل یسند الی المباشر.

وقیل: بان الإرادة المتوسطة الاختیاریة مقهورة بالالزام الشرعی کما هو الحال فی الحاکم اذا قضی بالمال لغیر صاحبه بشهادة مدلس فتلف، وقد یفرّق بحصول التغریر فی المثال دون المقام.

والصحیح: ان وجوب التطهیر المفروض فی المقام یقتضی اعتبار العرف المتشرعی لنقص المالیة - الحاصل بعد التطهیر - منذ حدوث النجاسة، لعدم حصول التطهیر الموجب للنقص فی الاوصاف لاحقا، مفروض ومفروغ عنه، وهذا مطرد فی الاعتبار العرفی فی مثل هذه الموارد مما کان التلف بتوسط إرادة اخری منبعثة من حکم الزامی شرعی او عقلائی انهم یعتدون بالنقص المالی قبل حدوثه ویفرضونه حاصلا.

فرع:

وجوب تطهیر المصحف کفائی لا یختص بمن نجسه .تقدم فی تنجیس المسجد ان حکم التطهیر وان کان کفائیا الا ان حرمة التنجیس بقاء مستندة الی من نجّس حدوثا فابقاء النجاسة ابقاء للمعصیة فیتعین

ص:164

عقلا علیه رفعها، فبالنسبة إلیه هناک جهتان من الحکم حرمة التنجیس ووجوب التطهیر بخلاف بقیة المکلفین، و ان کان ملاک الحکمین واحدا فی الطبیعة.

وهل یضمنه من نجسه اذا لم یکن لغیره ؟ کلا لایضمن، نعم تقدم الکلام فیه فی المسألة السابقة، و وجه عدم الضمان بالنسبة الی النقص الحاصل فی العین فواضح لکونه ملکا لمن نجس، و أما عدم الضمان للمال المبذول فی عملیة التطهیر فلان التسبب مع توسط إرادة مختارة لا حکم له کما تقدم.

لکن حیث قد تبین ان وجوب التطهیر له جهة اختصاص زائدة بمن نجّس، فللحاکم ان یجبره علی التطهیر وبذل الأجرة لا من باب الضمان الوضعی بل القهر علی الواجب التکلیفی، لکن ذلک فیما لو راجع المباشر الحاکم فی ذلک وأما لو اقدم علی التطهیر ابتداءً فلا یرجع، لعدم کون بذل المال فی عهدة من نجّس وضعا بل تکلیفا وقد سقط.

نعم قد یوجّه الرجوع فی الصورة المزبورة أیضا وهی رجوع المحسن بما انفق مع نیة الرجوع الی الغیر بمثل رجوع من بذل الطعام و القوت لدابة الغیر المشرفة علی التلف أو لعیاله واجبی النفقة مع نیة الرجوع علی المالک، فان وجوب النفقة و ان کان تکلیفیا محضا لا دینا، إلا ان مقتضی الالزام أو الترخیص شرعا بحفظ مال الغیر مع نفی السبیل عن المحسن ونفی الضرر هو ثبوت حق الرجوع له بما انفق کما ذهب إلیه جماعة من المتأخرین.

رابعا: التربة الحسینیة:

یجب ازالة النجاسة عن التربة الحسینیة بل عن تربة الرسول وسائر الائمة (صلوات الله علیهم) المأخوذ من قبورهم، ویحرم تنجیسها، ولا

ص:165

فرق فی التربة الحسینیة بین المأخوذ من القبر الشریف، أو من الخارج اذا وضعت علیه بقصد التبرک، والاستشفاء، وکذا السبحة والتربة المأخوذة بقصد التبرک لأجل الصلاة وذلک لوجود المقتضی للتعظیم باضافتها إلیه(علیه السلام) وورود النقل المستفیض بل المتواتر علی آثار السجود علیها و التسبیح بها و الاستشفاء بها ووضعها فی القبر وغیر ذلک(1) من خواص التبرک بها، مما یشهد بقدسیتها.

ولا یخفی تفاوت ذلک فیها بحسب القرب والبعد من القبر الشریف وکذا الحال فی التفاوت مع بقیة تربهم - صلوات الله علیهم - نعم روی محمد بن سلیمان زرقان عن علی بن محمد العسکری (علیه السلام) قال قال لی: یا زرقان ان تربتنا کانت واحدة، فلما کان ایام الطوفان افترقت التربة فصارت قبورنا شتی والتربة واحدة(2)، وان مواضع(3) قبورهم بقاع من الجنة.

ص:166


1- (1) راجع کامل الزیارات.
2- (2) الوسائل، ج14، ص561، باب83 من المزار، ح1.
3- (3) المصدر، ابواب المزار، باب78.

قاعدة فی نجاسة الخمر وکل مسکر

اشارة

ص:167

ص:168

من قواعد باب الطهارة فی نجاسة الخمر وکل مسکر

اشارة

لم یحک الخلاف فی نجاسة الخمر من الفریقین الا عن قلیل(1)، کالصدوقین(2) والجعفی(3) وابن أبی عقیل(4) من المتقدمین، والمقدس الاردبیلی(5) وصاحب المدارک(6) وشارح الدروس(7) من متأخری المتأخرین، وعن اللیث وربیعة احد قولی الشافعی وداود من العامة(8).

دلالة الآیة علی النجاسة:

والمعروف عدم دلالة الآیة إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَیْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ

ص:169


1- (1) قال الشیخ البهائی فی الحبل المتین ، ص 102، (اطبق علماء الخاصة و العامة علی نجاسة الخمر الا شرذمه منا و منهم لم یعتد الفریقان بمخالفتهم ).
2- (2) الصدوق فی الفقیه ، ج1، ص 43، و فی المقنع ، ص 453، و نقل السید الجکیم فی المستمسک عن والد الصدوق فی الرسالة الخلاف ایضا، رجع مستمسک العروة ، ج1، ص 339.
3- (3) نقله عنه فی الذکری ، ج1، ص 114، ط الحدیثة ، ص 13، السطر27، ط الحجریة .
4- (4) نقله عنه فی المعتبر، ج1، ص 422.
5- (5) مجمع الفائدة و البرهان ، ج1، ص 310.
6- (6) مدارک الاحکام ، ج2، ص 292، ط آل البیت .
7- (7) مشارق الشموس فی شرح الدروس للخونساری، ج4، ص 215، حیث عقد بحثا مفصلا غایة فی الروعة و الإبداع الاستدلالی فلیراجع .
8- (8) راجع أحکام القرآن ، ج2، ص 656، المیزان للشعرانی، ج1، ص 105، المجموع للنووی،ج2، ص 562، و الفقه علی المذاهب الاربعة ، ج1، ص 15.

رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّیْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ (1).

لوجوه:

الاول: ان تطبیق الرجس علی البقیة بلحاظ الخباثة المعنویة والقبح المادیة.

الثانی: التقیید ب--(من عمل الشیطان) فانه یتناسب مع المعنویة.

الثالث: ان الظاهر المحتمل ان الموصوف بالرجس هوالاعمال المضافة لتلک العناوین المقدّرة بقرینة التقیید المزبور الدال علی أن تلک الاعمال هی من جنس عمل الشیطان.

لکن تقریب دلالتها متجه حیث ان الرجس کما هوالأصل من مفاده اللغوی کما تقدم فی المیتة والدم هوالنجس والخبث، غایة الأمر اذا کان الموصوف به من الاعیان المادیة تکون النجاسة والخباثة مادیة، وان کان من الافعال الجارحیة أو الجانحیة کالاعتقادات فهو استقذار ونجاسة وخباثة معنویة، ولکن ذلک لا یوجب اختلافا فی المعنی المستعمل فیه، وانما یکون قرینة علی نحووجود المعنی علی صعید المراد الجدی.

وبذلک یندفع الاشکال الأول ونظیره مما یقال انه لم یثبت ان استعمال اللفظة المزبورة منحصر فی النجاسة الاعتباریة بل فی مطلق الخبث العرفی أو المعنوی، حیث ان ارادة العرفی من الشارع اعتبار له عند الشارع ایضا کما هو الحال فی المسببات العرفیة فی باب المعاملات.

وأما التقیید المزبور فانما یتم الاشکال بناءا علی کونه قیدا للرجس لا خبر ثان عن العناوین، مع ان الثانی اظهر، بل علی الاول ایضا ینسجم مع

ص:170


1- (1) سورة المائدة، الآیة: 90.

المادیة بالالتفات الی ما ورد من الاحادیث عن منشأ تحریمه ونجاسته فی قصة آدم(علیه السلام) مع ابلیس (لع) فی عذق العنب.

ومنه یندفع الاشکال الثالث کما یدفعه ایضا الذیل (فاجتنبوه) لعود الضمیر الی تلک الذوات فیدل اطلاق الاجتناب علی الابتعاد عن کل من التناول والملاقاة، فان الاجتناب المطلق لا یلزم الا لذلک.

وبعبارة اخری: ان التشدید فی الحرمة انما یتم بالتقذر منه لانه زیادة اجتناب من الشیء، وهذا نظیر ما یقال فی باب المعاملات من عموم الحل لکل من التکلیفی والوضعی، ویؤید أویدل علی دلالتها روایة خیران الخادم فی الثوب الذی أصابه الخمر لا تصل فیه، فانه رجس (1).

الروایات فی حکم الخمر وأما الروایات فعلی مفادین النجاسة والطهارة إلا ان الأولی ضعف الثانیة أوأکثر، وهی متفرقة فی ابواب المیاه(2)، وأبواب النجاسات(3)، وابواب الاطعمة المحرمة(4)، وابواب الاشربة المحرمة(5)، وابواب ما یکتسب به(6)، وغیرها مما یجده المتتبع.

کروایة ابی بصیر عن أبی عبد الله(علیه السلام) فی حدیث النبیذ قال: ما یبل المیل ینجس حبّا من ماء، یقولها ثلاثا(7).

وروایة زکریا بن آدم قال: (سألت أبا الحسن (علیه السلام) عن قطرة خمر أونبیذ

ص:171


1- (1) وسائل الشیعة، ابواب النجاسات، باب38، ح4.
2- (2) المصدر، ابواب الماء المطلق، باب15، 16.
3- (3) المصدر، ابواب النجاسات، باب14، 30، 38، 51، وغیرها.
4- (4) المصدر، ابواب الاطعمة المحرمة، باب54، 62، 32.
5- (5) المصدر، باب18، 27، 20، 21، 37.
6- (6) المصدر، ابواب ما یکتسب به، باب35.
7- (7) المصدر، ج3، ص38، من ابواب النجاسات، ح6.

مسکر قطرت فی قدر فیه لحم کثیر ومرق کثیر، قال: یهراق المرق أویطعمه أهل الذمة، أو الکلب واللحم اغسله وکله ... الحدیث)(1)، وغیرها مما فیه الامر باعادة الصلاة أو الغسل للاناء ثلاثا مع الدلک وغیر ذلک.

وأما الدالة علی الطهارة فمثل صحیح الاجلاء الاربعة عن الباقر والصادق علیهما السّلام انها سئلا: (انا نشتری ثیابا یصیبها الخمر وودک الخنزیر عند حاکتها، أنصلی فیها قبل أن نغسلها؟

فقالا: نعم، لا بأس، انما حرم الله أکله وشربه ولم یحرم لبسه ومسه والصلاة فیه)(2).

وروایة علی الواسطی قال: (دخلت الجویریة وکانت تحت عیسی بن موسی علی أبی عبد الله(علیه السلام) وکانت صالحة فقالت: انی اتطیب لزوجی فیجعل فی المشطة التی امتشط بها الخمر وأجعله فی رأسی قال: لا بأس)(3).

وروایة حفص الأعور عن أبی عبد الله(علیه السلام) (انی آخذ الرکوة فیقال: انه اذا جعل فیها الخمر وغسلت ثم جعل فیها البختج کان اطیب له، فنأخذ الرکوة فنجعل فیها الخمر فنخضخضه ثم نصبّه فنجعل فیها البختج قال: لا بأس)(4) وغیرها من الروایات.

علاج التعارض فی الروایات:

والعلاج لتعارضهما بتقدیم الأولی لوجوه:

الاول: ان ما دلت علی النجاسة موافقة للکتاب علی ما تقدم من

ص:172


1- (1) المصدر، ح8.
2- (2) المصدر، ح13.
3- (3) المصدر، ابواب الاطعمة المحرمة، باب54، ح62.
4- (4) المصدر، ح32.

تقریب دلالة الآیة، بل لا یبعد الترجیح به وان بنی علی اجمال کلمة (الرجس) فی الآیة بعد الموافقة لاطلاق الامر بالاجتناب فیها.

الثانی: تضمن روایات الطهارة ما یدل علی الخلل فی جهة الصدور مثل طهارة ودک الخنزیر، وجواز استعمال الرکوة المغسولة بالخمر قبل جفافها مما یؤدی الی امتزاج البختج بالقطرات المتبقیة من الخمر ولیس ذلک من الاستهلاک الرافع لموضوع الحرمة کما لا یخفی.

وکذلک کون الجاریة السائلة عن حکم التمشط بالخمر الذی یجعله زوجها فی المشط هی زوجة عیسی بن موسی المحتمل لکونه الوالی العباسی المشار الیه(1)، فی خروج محمد بن عبد الله بن الحسن، کما ان بعضها الآخر مشتمل علی الخلل فی الدلالة علی الطهارة لکون جهة السؤال محتملة انها عن أصل جواز اللبس للثوب المصاب بالخمر.

الثالث: ورود روایات حاکمة علی جهة الصدور فی روایات الطهارة بانها غیر صادرة لبیان المراد الواقعی.

مثل صحیحة علی بن مهزیار قال: قرأت فی کتاب عبد الله بن محمد الی ابی الحسن(علیه السلام): جعلت فداک روی زرارة عن أبی جعفر وأبی عبد الله صلوات الله علیهما فی الخمر یصیب ثوب الرجل أنهما قالا: لا بأس بأن یصلی فیه انما حرّم شربها وروی غیر زرارة عن أبی عبد الله(علیه السلام) انه قال: (اذا اصاب ثوبک خمر أو نبیذ - یعنی المسکر - فاغسله ان عرفت موضعه وان لم تعرف موضعه فاغسله کله وان صلیت فیه فأعد صلاتک، فأعلمنی ما آخذ به؟ فوقع بخطّه (علیه السلام): خذ بقول أبی عبد الله)(2)، حیث ان افراد

ص:173


1- (1) الکافی، ج1، ص364.
2- (2) الوسائل، ابواب النجاسات، باب38، ح2.

قول ابی عبد الله(علیه السلام) هو فی مقابل قوله(علیه السلام) مع قول ابی جعفر (علیه السلام) کما هوظاهر.

ومثلها ما رواه سهل بن زیاد عن خیران الخادم قال: (کتبت الی الرجل(علیه السلام) اسأله عن الثوب یصیبه الخمر ولحم الخنزیر ایصلّی فیه أم لا؟ فان أصحابنا قد اختلفوا فیه، فقال بعضهم: صلّ فیه فان الله انما حرّم شربها، وقال بعضهم: لا تصل فیه، فکتب (علیه السلام): لا تصل فیه، فانه رجس ... الحدیث)(1).

والحال فی سهل سهل کما هو معروف، نعم احتمل ان فی السند ارسالاً بعد خیران الخادم لانه من أصحاب الجواد والهادی (علیهماالسلام)، لا سیما وان فی تتمة الحدیث فی الکافی(2) وقال: وسألت أبا عبد الله(علیه السلام)...، و(الرجل) کما هو کنیة للکاظم (علیه السلام) هو کنیة للعسکری (علیه السلام)، بل أطلق ایضا علی الهادی (علیه السلام) کما فی روایة محمد بن عیسی عن محمد بن الریان(3)، فاحتمال الارسال ضعیف.

وعلی ایة حال فان السائل فی فرضه لاختلاف الاصحاب ناظر لمنشئه وهو اختلاف الروایة کما هوعین لفظ الروایات، مضافا الی ان فی التعلیل (فانه رجس) اشارة الی الآیة الکریمة.

والاشکال علی ذلک: بأن مفاد الروایتین یحتمل کونه تکذیبا لروایة الطهارة وحینئذ لا تکونان حاکمتین علیها بل طرف معارضة، لاسیما وان الحمل علی التقیة ضعیف بعد کون اکثر العامة قائلین بالنجاسة(4).

ص:174


1- (1) المصدر، ح4.
2- (2) الکافی، ج3، ص405.
3- (3) التهذیب، ج4، ص84، باب کمیة الفطرة.
4- (4) بحوث فی شرح العروة الوثقی، للشهید الصدر، ج3، ص347.

مدفوع: بأن الحکومة تامة سواء فرض نظرهما الی الصدور او الی جهة الصدور، وذلک لکون روایات الطهارة ناظرة الی حکم الخمر أی الحکم الفقهی، بینما الروایتان ناظرتان الی صغری الحکم الاصولی وهو الحجیة، وإلا فما الفرق بین کون النظر متوجهاً الی الصدور وبین ما اذا توجّه الی جهة الصدور.

وأما التکاذب الذی یقال عند تعارض الاخبار فلیس هو فی المفاد الاصلی بل بمعنی التساقط بسبب العلم بعدم مطابقة احدهما للواقع، هذا مع ان الحکومة هی فی الجهة بعد عدم النفی لصدور روایات الطهارة فیهما ولیس یتعین الحمل علی التقیة بمعنی موافقة العامة عند الحکم بالخلل فی جهة الصدور.

الرابع: ان الاولی اکثر عددا، وبعبارة اخری هی من السنة القطعیة صدورا بل ودلالة - علی وجه - بعد وجود ما هو آب عن الحمل علی التنزه فیها کما یظهر للمتصفح بخلاف الثانیة، وهذا من باب الترجیح فیما اذا کان القطع فی الصدور فقط.

الخامس: الحمل لروایات الطهارة علی التقیة کما افاده الشیخ فی التهذیب، وتشیر الیه روایة الجویریة المتقدمة، نعم قد یتأمل فیه من جهة عدم فتوی العامة بذلک کما تقدم إلا الشاذ، وأما الاتقاء من الحکّام فهو وان کان احد درجات الترجیح بالموافقة للعامة کما هو منصوص بل هو مقدم علی فتوی فقهائهم، إلا ان ما ورد عنهما (علیه السلام) من عدم الاتقاء فی تحریم الخمر یبعد ذلک لأن الحرمة أهم من النجاسة.

لکن ما ورد من التشدد فی ردع تناولها یظهر منه تفشی ارتکابه تبعا للسلاطین وان منهم من یشکک فی حرمتها کما یظهر من سؤال المهدی

ص:175

العباسی عن حرمتها من کتاب الله تعالی من الکاظم (علیه السلام)، فقد یفرق فی التقیة بین التحریم والنجاسة، لاسیما وان النجاسة فی غیره من المسکرات لا یقول بها جمهور العامة لعدم تحریمها بل کل مسکر مائع بالاصالة ، عندهم، وان بعضهم لا یقول بالتحریم فی القلیل الذی هو مورد الروایات فی اصابة الثوب، وفی بعض الروایات یسئل الراوی عن تناول النبیذ عند مجالسة العامة علی عشائهم خوفا من قولهم انه رافضی، فیعلم من ذلک ان روایات الطهارة توافق العامة فی کثیر من اقسام المسکر وکذا ممارساتهم فی استخدام العطور المخمرة.

قاعدة: فی نجاسة کل مسکر:
اشارة

کما هو المعروف بین کل من قال بنجاسة الخمر، واستدل علیه تارة باندراج المسکرات تحت عنوان الخمر حقیقة لغویة أو شرعیة، واخری للتعلیل الوارد والحکم علیه بعنوانه بالنجاسة.

الوجه الأول (کل مسکر خمر):

فتارة یدعی: ان الخمر غیر مختص بالمتخذ من عصیر العنب بل من غیره أیضا، فهذا لا یدل علی أن کل مسکر خمر بل غایته عدم حصر الخمر بالمتخذ من عصیر العنب، وأخری یدعی ان الخمر هو کل اسکار یتسبب من الاختمار فهو حینئذ ینتج الکلیة المزبورة، وظاهر بعض ما استدل علیه فی الوجه الاول هو من القبیل الاول وبعضه من القبیل الثانی.

واستدل علی ذلک- کل مسکر خمر- بثلاث صیاغات:

الاولی: الوضع اللغوی.

الثانیة: الوضع الشرعی.

ص:176

الثالثة: عموم الماهیة حقیقة، غایتة ان الشارع ارشد أو تعبّد احرازا بوجود الماهیة فی کل مسکر، معتضدا ذلک بدوران اسم الخمر مدار الکحول الموجودة فی کل المسکرات.

1- معنی الخمر لغة:

اما الاولی: فقد ذهب بعض اللغویین(1) الی ان الخمر کل ما أسکر من عصیر کل شیء، ذهب الی ذلک الفیروز آبادی فی القاموس(2)، وهو المنسوب الی جمهور العامة کما فی التاج، ویؤیده ان الاصل فی المادة هو الستر کما حکی التنصیص علیه من الراغب والصاغانی، وفی اللسان خصّ تعریفة(3) تارة وعممه اخری.

ویؤیده أو یدل علیه ما هو المرتکز من معناه فی عرف اهل اللسان هذا الیوم من عموم اطلاقه علی الاعم من المتخذ من کل عصیر، فبأصالة عدم النقل یتم اثبات المعنی وقت الصدور، وهذا هو المحکی عن متخصصی علم العناصر (الکیمیاء) فی العصر الحاضر.

2- دائرة الخمر شرعا:

واما الثانیة: ما رواه أبو الجارود عن أبی جعفر (علیه السلام) فی قوله تعالی إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَیْسِرُ ... الایة أما الخمر فکل مسکر من الشراب اذا أخمر فهو خمر، وما اسکر کثیره فقلیله حرام، وذلک ان أبا بکر شرب قبل ان تحّرم الخمر فسکر - الی ان قال - فأنزل الله تحریمها بعد ذلک وانما کانت

ص:177


1- (1) مجمع البحرین، ج3، ص291.
2- (2) نقله عنه فی مجمع البحرین، ج3، ص291.
3- (3) لسان العرب، ج4، ص254.

الخمر یوم حرمت بالمدینة فضیخ البسر والتمر، فلما نزل تحریمها خرج رسول الله صلی الله علیه و آله فقعد فی المسجد، ثم دعا بآنیتهم التی کانوا ینبذون فیها فأکفاها کلها، وقال: (هذه کلها خمر حرمها الله، فکان اکثر شیء اکفی فی ذلک الیوم الفضیخ، ولم أعلم اکفیء یومئذ من خمر العنب شیء، الا اناء واحد کان فیه زبیب وتمر جمیعا، فأما عصیر العنب فلم یکن منه یومئذ بالمدینة شیء ... الحدیث)(1).

وعدة من الروایات مثل صحیح الحجاج عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال: (قال رسول الله صلی الله علیه و آله الخمر من خمسة العصیر من الکرم والنقیع من الزبیب والبتع من العسل، والمرز من الشعیر، والنبیذ من التمر)(2).

وکذا روایة عطاء بن یسار عن أبی جعفر (علیه السلام) قال: (قال رسول الله صلی الله علیه و آله : کل مسکر حرام، وکل مسکر خمر)(3).

وما ورد فی تحریم النبیذ والفقاع(4)، مثل ما رواه زید بن علی عن آبائه عن النبی صلی الله علیه و آله (ان الصغیر علیهم حرام - یعنی النبیذ - وهو الخمر وکل مسکر علیهم حرام)(5).

وفی مصحح الو شاء عن الرضا (علیه السلام) عن الفقاع (حرام وهو خمر)، وفی الموثق (هو الخمر وفیه حد شارب الخمر)، وفی ثالث (هی الخمر بعینها)، ورابع (فانه خمر مجهول)، وکذا ما ورد (ان الله عز وجل لم یحرم

ص:178


1- (1) الوسائل، ابواب الاشربة المحرمة، باب1، ح5.
2- (2) المصدر، ح1.
3- (3) المصدر، باب15، ح5.
4- (4) المصدر، باب15، ج30.
5- (5) المصدر، ابواب الاشریه، باب27.

الخمر لاسمها ولکن حرمها لعاقبتها، فما کان عاقبته عاقبة الخمر فهو الخمر)(1).

وفی قبال ذلک: اعترض علی الصیاغتین بما ورد من الروایات المستفیضة من أن الله تعالی حرّم الخمر بعینها، وأن رسول الله صلی الله علیه و آله حرم کل مسکر، مما یدل علی المغایرة، وکذا عدم إلتزام جماعة العامة بحرمة بقیة المسکرات، لعدم عموم المعنی اللغوی فی ارتکازهم، وکذا ما ورد من عدم تنبّه جماعة من أصحاب الائمة لحرمة عدة من مصادیق المسکرات، دال علی عدم ارتکاز عموم المعنی، وما فی بعض الروایات المتقدمة (لم یحرم الخمر لاسمها ولکن حرمها لعاقبتها) شاهد علی العکس، وما ورد فی العدید من الروایات من المقابلة بین عنوان الخمر وعنوان المسکر أو النبیذ أو الفقاع مما یشهد بالتغایر.

والصحیح: ان المعنی اللغوی هو أعم من المتخذ من عصیر العنب بل هو المتخذ من کل عصیر، لکن لا أن کل مسکر هو خمر لغة بل هو شرعا تنزیلا، وهذا توسط بین القولین وأدلة الطرفین تلتئم علیه کما لا یخفی.

مضافا الی شهادة الارتکاز اللغوی القائم فی هذه الاعصار حیث انهم لا یطلقون علی الفقاع خمرا، وان کان خمرا، فی التنزیل الشرعی، کما انهم لا یخصّونه بالمتخذ من العنب کما هو واضح فی الاستعمالات الجاریة علی وجه الحقیقة.

3- عموم ماهیة الخمر:

واما الثالثة: فهو التعمیم بلحاظ أصل معنی المادة المتقدم وانه بسبب

ص:179


1- (1) المصدر، باب19.

الاختمار وتحوّل المادة السکریة والحلاء الی مادة الکحول، وما ثبت فی التحلیل الکیمیاوی - من تکونها من الخمیرة (الکحول) المضاف الی الماء والسکر فی درجة الحرارة الخاصة - له وجه، غایة الأمر غفلة العرف عن انطباق الحقیقة اللغویة علی المصادیق، ویکون تحریم الرسول صلی الله علیه و آله بمعنی التعبد أو الارشاد علی تحقق المصداق، حیث انه مع خفاء المصداق لا یکفی التعبد بالمجعول الکلی بنحو القضیة الحقیقیة، بل لا بد من تتمیمه بالتعبد أو الارشاد فی المصداق.

وعلی أیة تقدیر فانه علی التنزیل ایضا یتوجه الاستدلال علی النجاسة، من دون تخصیص کون التنزیل بلحاظ الحرمة، لان تنزیله منزلة الخمر یکون بلحاظ الامر بالاجتناب المطلق فی الآیة والذی قد مرّ عمومه لمفاد الحرمة والنجاسة کعموم الحل الوضعی والتکلیفی، ویأتی فی العصیر العنبی تتمة الکلام فی التنزیل.

الوجه الثانی (کل مسکر نجس):

فتارة یقرّب فی خصوص النبیذ، وهو نفس الوجوه المتقدمة فی ترجیح روایات النجاسة فی الخمر کما لا یخفی، وأخری فی عموم المسکر وما یدل علیه.

فالاول: یدل علیه موثق عمار عن أبی عبد الله(علیه السلام) فی الاناء یشرب فیه النبیذ فقال: (تغسله سبع مرات وکذلک الکلب - الی ان قال - ولا تصل فی بیت فیه خمر ولا مسکر، لان الملائکة لا تدخله، ولا تصل فی ثوب أصابه خمر أو مسکر حتی یغسل)(1)، فان النهی مطلق عن الصلاة فی الثوب

ص:180


1- (1) الوسائل، ابواب الاشربة المحرمة، باب35، ح2.

المصاب به حتی لصورة جفافه وذهاب عینه عن الثوب، مضافا الی جعل غایة النهی هی الغسل لا زوال العین.

وقد یشکل علی دلالتها تارة: بأن النهی المتقدم فیها عن الصلاة فی بیت فیه خمر أو مسکر التنزیهی قرینة علی التنزیه فی النهی عن الصلاة.

وفیه: ان اقتران المسکر بالخمر مع کون النهی فی الخمر لزومیا - لما تقدم فی حکمه - أدل علی اللزوم مما ذکر، وکذا الفقرة المتقدمة فی النبیذ، مضافا الی أن النهی عن الصلاة فی بیت فیه الخمر والمسکر معلل بما یصلح للتنزیه بخلاف النهی الاخر.

وأخری: بأنها معارضة بما دل علی طهارة المسکر، مثل موثقة ابن بکیر قال: (سأل رجل أبا عبد الله(علیه السلام) وأنا عنده عن المسکر والنبیذ یصیب الثوب قال: لا بأس)(1)، وما تقدم من ترجیح ما دل علی النجاسة فی الخمر أو النبیذ لدلالة صحیحة ابن مهزیار المتقدمة فانما هی فی غیر مطلق المسکر، ولا یمکن الترجیح بموافقة العامة لعدم کون المسکرات غیر المتعارفة شربها کالکحول الموجودة فی هذا الیوم (کالاسبرتو) مورد العمل العامة علی طهارتها(2).

وفیه: ان اقتران ما دل علی الطهارة بالنبیذ - الذی قد دلت صحیحة ابن مهزیار علی عدم کون ما دل علی طهارة فی مقام بیان الواقع - قرینة علی الخلل فی جهة روایة الطهارة، لاسیما وان عطف النبیذ علی المسکر ظاهر فی عطف الخاص علی العام ووحدة الحکم بل ووحدته مع الخمر حیث ان

ص:181


1- (1) المصدر، ابواب النجاسات، باب38، ح11.
2- (2) التنقیح، للشیخ الغروی، ج98/3.

الموجب لعدم بیان نجاسته هو بنفسه موجب لعدم بیان نجاسة المسکر بعد کونه احد مصادیقه.

ومع الغض عن ذلک کله فالترجیح لروایة النجاسة لبناء العامة علی طهارة المسکرات غیر الخمر، وأما عدم عملهم علی الطهارة فی المسکرات غیر المتعارفة فهولا یعدم الترجیح فی المسکرات المتعارفة، مع ان مفاد الادلة علی نهج القضایا الحقیقیة فاذا تم الترجیح فی المتعارف فلا یبعّض فی سقوط ما دل علی الطهارة بین الافراد.

والثانی: بصحیحة عمر بن حنظلة قال: (قلت لابی عبد الله(علیه السلام): ما تری فی قدح من مسکر یصب علیه الماء حتی تذهب عادیته، ویذهب سکره؟ فقال: لا والله، ولا قطرة قطرت فی حب الا اهریق ذلک الحبّ)(1)، حیث ان القطرة فی الحب مستهلکة فی الماء فلولا نجاسته لما أهریق.

واشکل علیها أیضا: تارة بضعف السند لعدم توثیق ابن حنظلة، وما ورد من روایة الوقت وانه لا یکذب فضعیفة السند ایضا.

وفیه: انه من وجوه الطائفة واجلائها من اضراب محمد بن مسلم، کما تشیر الی ذلک صحیحة محمد بن مسلم(2) الوارد فی الحلف عند ابتلاء امرأة من آل المختار بمسألة فیه وهو من البیوت المرموقة الشیعیة فی الکوفة، حیث جعل المتصدی لحلها والوسیط الی المعصوم (علیه السلام) عمر بن حنظلة، وهذا کان شأن فقهاء الطائفة، وقد قام محمد بن مسلم بنقل الواقعة تلک وهو مما یدل علی اعتداده بجلالته ومکانته فی الطائفة.

ص:182


1- (1) الوسائل، ابواب الاشربة المحرمة، باب26، ح2.
2- (2) المصدر، ابواب الایمان، باب11، ح10.

کما ان الروایة المزبورة دالة علی کونه من خصیصی الباقر(علیه السلام)، اذ ان ابن مسلم من ابرز أصحابه(علیه السلام) فکیف بمن یقدم علی ابن مسلم فی التوسیط کما تشیر الیه الروایة.

هذا مضافا الی أن طریق روایة الوقت الدالة علی صدقه حسنة أو معتبرة، بعد کون الراوی یزید بن خلیفة ممن یروی عنه ثلاثة من أصحاب الاجماع وخصوص تلک الروایة هی عن یونس عنه، وروی عنه غیرهم من الثقات ایضا، مضافا الی ورود المدح فیه من المعصوم(علیه السلام) ولا یضر بکل ذلک وقفه.

هذا مضافا الی روایة خمسة من أصحاء الاجماع مباشرة عن ابن حنظلة وأربعة اخرین عنه بالواسطة، وکذا روی عنه قرابة عشرین من الثقات غیرهم علاوة علی ذلک أن نمط روایاته کالتی رویت فی الاخبار العلاجیة مما یدل علی علومکانته الفقهیة(1).

وأخری: انها لیست فی صدد الحکم بالنجاسة بل الحرمة وذلک لکونه محط نظر السائل فمقتضی المطابقة بینه وبین الجواب ذلک، وأما الاستهلاک فمضافا الی انه لیس انعداما حقیقیا انه یتفاوت نظر العرف فی موارده لاسیما فی مثل المسکرات المحرمة المشدّد حکمها والمؤکد علی الاجتناب عنها.

وفیه: ان الحکم بالنجاسة فی الجواب لا یتغایر مع محط السؤال لانه یترتب علیها الحرمة المسؤول عنها، وأما الاستهلاک فسیأتی فی المطهرات انه علی مقتضی القاعدة بعد کونه انعداما فی نظر العرف المحکم فی باب

ص:183


1- (1) راجع کتاب هیویات فقهیة لسماحة الشیخ الاستاذ السند، ص182.

الطهارة فی وجود الموضوع لاسیما مع ضئالة القطرة وامتلاء الحبّ ماءً.

والثالث: ما ورد من نجاسة النبیذ مع تقییده بالمسکر مما یشعر بالعلیة وان منشأ الحرمة هو منشأ النجاسة، وکذا ما ورد فی نجاسة الفقاع مع کون جهة حرمته هی اسکاره الخفی.

ثم انه بعد البناء علی نجاسة المسکر هل یفصل بین المعدّ للشرب والمتعارف شربه وبین غیر المعدّ لذلک، الصحیح هو ذلک حیث ان المادة الکحولیة التی هی عبارة عن اجزاء معینة من الکربون المتأکسد - ای المتحد مع ذرات من الاکسجین والهیدروجین کما ثبت فی علم الکیمیاء الحدیثة ویطلق علیه الکربوهیدر وجینیة ای المتأکسدة والتی یتم حصولها بتوسط التخمر مع نسبة من الهواء المؤلف من الهیدروجین والاکسجین - هی مختلفة(1) الانواع بحسب الترکیب للاجزاء والذرات، وبحسب الترکیز الموجود منها فی المواد فتختلف تأثیراتها الطبیعیة الفیزیائیة والحیویة والکیمیائیة فمنها سام وغیر ذلک.

بل حتی الکحول النقی الذی یستعمل فی المجالات الطبیة الذی بعضه فی الاصل غیر سام انما یضاف الیه مواد سامة لحصره فی الاستعمالات الطبیة، تتغیر نوعیته بتلک الاضافة بل هی فی بعض درجاته منتشرة فی کثیر من الاغذیة والاشربة المحللة أو المحکوم بطهارتها فی النصوص کالغرا (المادة التی تستخدم فی اللصق)، فلیس المادة بکل أنواعها ودرجات ترکیزها موضوع ادلة النجاسة بتوسط عنوان الاسکار أو الخمرة

ص:184


1- (1) یطق علی بعضها الکحول الاثیلی وعلی بعضها الاخر الکحول المثیلی وغیرها من الانواع، حتی عدها بعض اهل الاختصاص إلی ثمانیة أنواع.

وإلا فهناک مواد اخری غیر الکحول (وهو ما یسمی بالغول) توجب التخدیر أو الاسکار وربما السام ایضا کالبنزین (النفط الاسود) المحکوم بطهارته فی عصر المعصومین(علیهم السلام) والایثر وغیرها.

وکذا الحال فی انواعها الموجودة فی العطور المصنّعة، انها غیر مندرجة فی موضوع الدلیل بعد اختصاصه بالمسکر المشروب وهو ذو درجات ترکیز معینة من ذرات الکحول تقع بین حدود معینة یذکرها اهل الاختصاص، لا المواد السمیة أو العلاجیة وغیرها مما یشترک فی التسمیة الکیمیائیة الحدیثة تحت عنوان الکحول، مع اختلاف تراکیبها ودرجات ترکیز الذرات فی المواد.

عموم النجاسة للمسکر الجامد بالعرض:

بعد عدم کون الجمود موجبا لاستحالة وتبدل ذات الشیء، فیبقی الحکم ببقاء الموضوع وان تغیرت حالته.

نعم قد یقال: ان المسکر بالتبرید والتجمید تتطایر المادة الکحولیة التی فیه، فثم لا تبقی الذات، فاما ان تستحیل اولا اقل تکون المادة الجدیدة متنجسة لا انها عین النجاسة لبقاء ذرات یسیرة من الکحول فیها اخیرة عند التطایر.

وهذه: الدعوة تحتاج الی مزید من الفحص الموضوعی.

عدم نجاسة المسکر الجامد بالأصالة:

إما لمنع عموم کبری المسکر النجس للجامد بالاصالة کما هو المعروف فی الکلمات فی المقام، وإما لمنع الصغری فی الجوامد کما عن بعض

ص:185

الاجلة(1) وسیتضح الحال فی المنع الثانی.

اما اختصاص الکبری بالمائع بالاصالة فقد قرب بوجود قرائن متعددة علی اختصاص مورد الاسئلة والاجوبة فی الروایات بالمائع کالتعبیر باصابة الثوب وما یبل المیل والقطرة، وکونه فی اوانی الشرب کالقدح ونحوه، أو الخلط بالماء للتخفیف، وغیرها من القرائن المحتفة المانعة من الاطلاق فی الاجوبة المذکور فیها کبری نجاسة المسکر.

ودعوی تنقیح المناط فی المقام، غیر مسموعة بعد عدم کون قید المیعان ملغی فی الظهور العرفی.

ویمکن تقریب التعمیم بالاستئناس بما ورد من ان کل مسکر خمر، وان تحریم الخمر لعاقبتها فما ادی عاقبتها فهو خمر، مع ضمیمة ان الامر بالاجتناب فی الخمر مطلقه متناول للشرب والملاقاة کما تقدم أضف الی ذلک دعوی عموم عنوان الاصابة ونحوه للمایع بالعرض من المسکر الجامد. لکن حیث کان المتیقن من التنزیل - حیث ان الموضوع تکوینی لا اعتباری - هو الحرمة التکلیفیة لا الامر بالاجتناب المطلق، ولا یتوهم ان الالحاق فی الروایة بلحاظ الحکم الوارد فی القران للخمر، لان المصرح به فی الروایة هو بعنوان (حرّم الله الخمر لعاقبتها) ونحوه مما ذکر فیه عنوان الحرمة التی هی عند الاطلاق متعینة فی التکلیف لا الاعم منه ومن الوضع فتدبر.

وأما عموم کبری نجاسة کل مسکر للمائع بالعرض، فلا تتم الا برفع الید عن قیود المورد من دون مساعدة الظهور علی ذلک بعد احتمال الفرق

ص:186


1- (1) السید الشهید محمد باقر الصدر، فی بحوث فی شرح العروة الوثقی، ج3، ص367.

بنحو معتد به.

ان قلت: ألم یتقدم الکلام فی التنزیل فی خصوص عنوان الخمر من کونه بلحاظ التحریم الوارد فی الکتاب، وحیث انه الامر بالاجتناب المطلق فیعمّ التنزیل حینئذ کل من الاجتناب عن الشرب والملاقاة، فکذلک الحال فی ما هو مسکر جامد بالاصالة.

قلت: لا منافاة بین ما تقدم وما نحن فیه، حیث ان کون المدار فی النجاسة علی الاسکار انما استفید من الروایات، والموضوع فیها مرکب من جزأین المائع المسکر وحینئذ فالتنزیل الوارد فی لسانها انما یتکفل من جهة الاشتراک فی أحد الجزأین وهو الاسکار والذی هو مدار الحرمة التکلیفیة کما هو واضح، مضافا الی تضمن ذلک اللسان فیها عنوان التحریم المنصرف للتکلیف کما قدمنا بخلاف ما لو کان تنزیلا غیر مقید. هذا کله فی اختصاص الکبری.

وأما منع الصغری فی الجوامد بالاصالة فقیل (من جهة ان الجوامد هی من المخدرات وهی مغایرة للمسکرات فی الاصطلاح العلمی الحدیث، حیث ان المسکر یتقوم بمادة الکحول وهی تخترق المعدة فی اتجاه الدماغ راسا، بخلاف المخدرات فانها تنتشر فی الجسم عبر الهضم ثم الدم، ولذلک امکن التخدیر الموضعی دون الاسکار الموضعی.

وکذا التغایر فی الارتکاز العرفی فلیس ما یقابل الصحو هو سکر بل ان کان مهیجا نوعا فهو السکر وان کان الخمود فهو الخدر، إلا فی الحشیشة فان الحال فیها مشابه للسکر وعلی ذلک لا یکون المخدر محرما ذاتا کالمسکر بل بعنوان الضرر فلا یحرم الجزء الضئیل منه غیر المضر)(1) انتهی.

ص:187


1- (1) بحوث فی شرح العروة الوثقی، ج3/ 367 .

اقول: اما دعوی نسبة التغایر الی البحث العلمی الحدیث فلیست فی محلها، اذ التفریق عندهم وان کان قائما بین حالة السکر فی الخمر والتخدیر الحاصل من تعاطی المخدرات، من کون الاول موجباً لتعطیل القوة العاقلة دون الشهویة والغضبیة والوهمیة والتخیلیة، ویعبرون عنه بتعطیل الارادة العقلیة دون بقیة الغرائز.

الا انهم فی الوقت نفسه یثبتون:

اولا: تعطّل الاعصاب فی کلا الحالتین وفقدان السیطرة من العقل علی الاعصاب وانعدام التوازن العام لحرکة الانسان.

وثانیا: قد نصّ فی بعض کلماتهم علی عدم حصر الاسکار بمادة الکحول بل السکر یحصل من مادة البنزین، وکذا من مادة اول اکسید الازون، ومن مادة الایثر والکلوروفورم التی توجد فی العدید من المخدرات الطبیعیة غیر المصنعة کیمیائیا.

وثالثا: ما ذکروه ایضا من تواجد مواد اخری(1) فی شجرة مواد المخدرات الطبیعیة توجب الهلوسة وبحالة شبیهة بالجنون ونحوه.

ورابعا: ان تعامل المخدرات بجرعات کبیرة یوجب نحوا من انعدام الارادة العقلیة تماما کما فی الکحول والا فما الفرق بین الحشیشة وبقیة المخدرات کالهیروئین والکوکائین وغیرها بعد اشتراک جمیعها فی مشجرة مادة الاپیون (الافیون).

وخامسا: ان التخدیر الموضعی لیس بسبب افتراق السکر عن التخدیر، اذ هو انما یتم بتزریق العضو المراد تخدیره، بخلاف المسکر فانه

ص:188


1- (1) کمادة (إل إس دی) وما فی مادة (الکوکائین).

یتعاطی من خلال الشرب.

وسادسا: ان السکر یتم ایضا بانتشار بعضه عبر الهضم ثم الدم ومن ثم الی الدماغ کما هو الحال فی الکحول.

وسابعا: أن المشروبات المسکرة لیس کلها موجبة للهیجان اذ هو یتسبب من المادة التی صنع الخمر منها، فبعضها حار الطبع وبعضها بارد، فما کان من القسم الثانی یوجب الفتور والبرودة نحو ما یحصل فی التخدیر.

والظاهر ان منشأ توهم التغایر هو المقارنة بین المخدر الصناعی الطبی والمسکر، حیث ان الاول وان کان من جنس المخدر الا انه یراعی فیه درجة ترکیز معینة مع مراعاة منطقة التخدیر فی اعضاء البدن، مع کونها مصفاة من المواد الاخری التی تتواجد فی المخدرات الطبیعیة الموجبة لحالة الهذیان وفقد الشعور.

ویشهد لذلک ما ذکره ابن سینا فی القانون فی تعریف البنج (انه یعرض لشاربه ان تسترخی اعضاؤه ویرم لسانه ویخرج الزبد من فمه وتحمّر عیناه ویحدث به دوار وغشاوة وضیق نفس وصمم وحکاک بدن ولثة وسکر واختلاط عقل، وربما صرع وربما حکوا اصواتا مختلفة، وربما نهقوا وربما صهلوا وربما نعقوا).

وفی اللسان (البنج ضرب من النبات وانه مما ینتبذ او یقوی به النبیذ)، وفی المصباح نبت له حب یخلط بالعقل ویورث الخبال وربما اسکر اذا شربه الانسان بعد ذوبه ویقال انه یورث السبات، وفی معجم الوسیط المخدر لفظة محدثة وهی المادة تسبب فی الانسان والحیوان فقدان الوعی بدرجات متفاوتة کالحشیش والافیون. وفیه ایضا (خدّره ستره ویقال خدر المرأة الزمها الخدر. وتخدّر استتر).

ص:189

فاللفظة مع کونها محدثة الا انها تعطی مفاد لفظة السکر، اذ هو فی اللغة ایضا حالة تعترض بین المرء وعقله ویقال سکّر الباب سده وسکر بصره حبس عن النظر، وکذا فی لفظة الخمر خامر الشیء قاربه وخالطه، وما اسکر من عصیر العنب لانها خامرت العقل والتخمیر التغطیة.

فظهر ان الجامد والمائع فی اللغة ایضا یشترکان فی سکر العقل والاعصاب، نعم قد یطلق فی العرف المستحدث السکر ویراد به خصوص الکحول، لکن لا من باب اختصاص من الوضع اللغوی به کما لا یخفی.

ثمّ انه علی تقدیر ان المخدرات الطبیعیة لا تندرج فی المسکر بل هی محرمة من باب الضرر، فان ذلک لا یستلزم جواز تناول الاجزاء الضئیلة لدعوی عدم اضرارها، اذ هی مع کونها غیر مضرّة بنفسها إلا انها موجبة لمعرضیة الاعتیاد علی تلک المواد فتکون من موارد الضرر المحتمل، مع کون الضرر فی بعض أنواعها موجبا لهلکة النفس.

بحثان استطرادیان:

الأول: إلحاق العصیر العنبی بالخمر من حیث النجاسة.

ألحق المشهور- کما هو ظاهر العلامة فی المختلف(1) - بالخمر العصیر العنبی اذا غلی قبل أن یذهب ثلثاه ، الا ان الشهید فی الذکری(2) قال (انه لم یقف لغیر الفاضلین وابن حمزة علی قول بالنجاسة، ولا نصّ علی نجاسة غیر المسکر وهو منتف هنا(3)).

ص:190


1- (1) مختلف الشیعة، ج1، ص469. حیث نسب القول بالنجاسة الی اکثر العلماء.
2- (2) الذکری، ج1، ص115.
3- (3) وکذا عبر فی البیان، ص91.

والحال کما ذکره(قدس سره) ففی المبسوط والنهایة والکافی والمهذب والسرائر اقتصر فی تعداد النجاسات علی الخمر أو الشراب والمسکر والفقاع، الا ان یحمل کلامهم علی دخول العصیر المغلی فی المسکر بناءً علی کون ذلک وجه تحریمه وان کان اسکاره خفیا.

وقیّده فی المعتبر بالاشتداد، وکذا غیره من القائلین بالنجاسة وفسّر الاشتداد بالثخانة(1) والغلظة واخری بالغلیان نفسه، وهو خلاف الظاهر، وثالثة بقذف الزبد(2)، ورابعة بالشدة المطربة(3)، وهو علی الاخیرین یکون مسکرا ولو بدرجة ابتدائیة، اذ هو یزداد بالترک جودة کما فی الروایة ونقل المخللین.

الاقوال فی المسألة:
اشارة

اما الاقوال عند الطبقات المتأخرة:

فالاول: النجاسة مطلقا سواء غلی بالنار أو بنفسه، اما لدعوی کونه مسکرا خفیا - وانه مفاد أدلة تحریمه کما مال الیه صاحب الجواهر - أوللروایات الخاصة ویطهر بذهاب ثلثه.

الثانی: نجاسة خصوص الغالی بنفسه والذی نشّ بحرارة الهواء أو الشمس دون المغلی بالنار، کما ذهب الیه ابن حمزة فی الوسیلة ویظهر من عبارة النهایة والسرائر، لاطلاق تحریم الذی غلی بنفسه وتخصیص المغلی بالنار بالجواز عند ذهاب ثلثه، وذهب الیه ایضا بعض الفضلاء المعاصرین

ص:191


1- (1) المسالک، ج1، ص123.
2- (2) کما فسره الفخر فی الارشاد نقله عنه کشف اللثام، ج1، ص397.
3- (3) کما نسبه الفخر فی الارشاد الی الجمهور.

کما فی الحدائق وأصرّ علیه شیخ الشریعة الاصفهانی فی رسالته.

الثالث: الطهارة مطلقا ما لم یسکر، لدعوی انفکاک الغلیان مطلقا عن الاسکار وان استعدّ العصیر بالغلیان للاختمار وحصول الاسکار، ومن ثمّ فتنفکّ الحرمة عن النجاسة ویکفی فی الحکم بالطهارة عدم العلم بالاسکار، وهذا هو المشهور بین المتأخرین وعلیه التزموا بالحلیة مع ذهاب الثلثین سواء فی الذی غلی بالنار أو بنفسه.

أدلة القول الأول:

أولها: الاجماع المحکی فی مجمع البحرین(1) علی حرمته ونجاسته بعد غلیانه واشتداده وهو المحکی عن التنقیح(2) وغیرها(3).

وفیه: أنک قد عرفت خلو عبائر القدماء عن الحکم بنجاسته، مع ان التقیید بالاشتداد الذی هو الحدّة فی الطعم والرائحة ملازم للتغیر الموجب للاسکار ولوفی درجاته الابتدائیة، وهو غیر ما نحن فیه.

ثانیها: ما ورد من الروایات، مثل صحیحة معاویة بن عمار، قال: (سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن الرجل من أهل المعرفة بالحق یأتینی بالبختج ویقول: قد طبخ علی الثلث، وأنا أعرف انه یشربه علی النصف، أفأشربه بقوله، وهو یشربه علی النصف؟ فقال: خمر لا تشربه ...الحدیث)(4)، ومقتضی التنزیل کونه بلحاظ الحکم فی الآیة وهو الأمر باجتنابه المطلق للشرب والملاقاة.

ص:192


1- (1) مجمع البحرین، للعلامة الطریحی، ج3، ص407.
2- (2) التنقیح، ج4، ص368.
3- (3) الفقه الرضوی، ص280.
4- (4) التهذیب، ج9، ص122.

وأما ما فی الوسائل والوافی من عدم وجود لفظة (خمر) مع روایتهما لها عن التهذیب، فلا یشهد بعدم اللفظة فی نسخ التهذیب بعد کون روایتهما لها عن الکافی، غایة الامر أردنا سند التهذیب لها أیضا من دون التنبیه علی اختلاف اللفظ کما هو واقع کثیرا من صاحب الوسائل، ویشهد بوجودها ما حکاه صاحب الحدائق من استدلال الاسترابادی بها وتعجب صاحب الحدائق من غفلة المحدثین عن التنبیه علی الاختلاف.

وعلی هذا فلیس المقام من تردد النسخ بین ما هو حجة ولا حجة، نعم الظاهر من اشتراک طریق الشیخ والکلینی الی أحمد بن محمد (سواء کان البرقی أو الاشعری) الی باقی السند هو انهما استخرجاها من کتابه ولذا ابتدأ الشیخ فی التهذیب به الدال علی ذلک، فرجال السند قبله فی الکافی أو مشیخة التهذیب هو مشیخة وطریق الاجازة، فحینئذ تتردد نسخة کتاب أحمد بن محمد بین نسختین فتکون من موارد الاشتباه علی ذلک.

نعم لو امکن تصویره خبرین عن أحمد بن محمد لإملائه ذلک لتلامیذه مثلا لم یکن حینئذ من ذلک، وعلی ایة حال فعلی فرض عدم ذلک، فانه لیس من التعارض المستقر بین روایة الکافی والتهذیب کی تتساقطا(1) لأن التعارض انما یکون فی مورد التکاذب، وأما مع امکان تخریج الاختلاف علی الغفلة المحتملة المتعارفة کما فی الزیادة والنقیصة فلا تندرج فی التعارض.

وبعبارة اخری: ان المورد من تعارض اصالتی عدم الغفلة لا اصالتی

ص:193


1- (1) التنقیح، ج3، ص108.

الصدق اللتین هما معنی الحجیة فی الخبرین، والبناء العقلائی علی اصالة عدم الزیادة أی علی أن من حفظ حجة علی من لم یحفظ.

أضبطیة الکافی من التهذیب فی الاسانید والمتون، مقولة مشهورة لم نتحققها بل المشاهد کثرة التقطیع فی الکافی بالنسبة الی متون التهذیب فانه غالبا ما یذکر المتن کاملا ویکرره فی الابواب المناسبة له ایضا کرّات، هذا مع ما هو علیه الشیخ الطوسی من مقام فقهی یقتضی الحداقة فی ترکیب المتون نظرا لاختلاف الدلالة.

هذا کله فی صورة المتن، وأما الدلالة فیقرّب عموم التنزیل ما تقدم من کون الملحوظ هو الأمر الوارد فی الکتاب بالاجتناب المطلق عن الشرب والملاقاة، معتضدا بما ورد فی الفقاع من تنزیله منزلة الخمر فی الروایات، مع ترتیب آثار الخمر علی الفقاع فی روایات اخر من النجاسة والحدّ.

بل قد یقرّب دلالتها علی الاشارة الی کون العصیر المغلی من افراد المسکر الخفیة، کما یلوح ذلک من صحیحة عمر بن یزید قال: (قلت لابی عبد الله(علیه السلام): الرجل یهدی الیّ البختج من غیر أصحابنا فقال: ان کان ممن یستحل المسکر فلا تشربه وان کان ممن لا یستحل فاشربه)(1).

حیث انها وان کانت فی مقام الحکم الظاهری کصحیحة معاویة بن عمار، إلا ان المتحصل من مفادها بعد إلغاء اماریة خبر ذی الید هو اجتناب العصیر لاحتمال کونه مسکرا لکون ذی الید ممن یستحل المسکر، وهذا هو مفاد الصحیحة المتقدمة، فکونهما متعرضتین للحکم الظاهری غیر ضائر

ص:194


1- (1) الوسائل، ابواب الاشربة المحرمة، باب7، ح1.

بالاستدلال.

ثالثها: وقد یعاضد مفاد الصحیحین بل هو ثالث الأدلة بأن التحریم الوارد فی العصیر المغلی ملاکه هو حرمة المسکر وان لم یسکر بالفعل بقرینتین:

القرینة الاولی: ان الفرق بین العصیر المغلی والخمر والمسکر، هوان الخمر قد تغیرت جمیع کمیة الحلاوة فیها وتبدلت الی المادة المسکرة (الکحول)، بخلاف العصیر المغلی فان کمیة الحلاوة لم تتبدل کلها الی المادة المسکرة (الکحول) ولذلک اذا استمر فی الطبخ والغلیان یثخن ویصیر دبسا شدید الحلاوة لتبخر المادة المسکرة (الکحول) باستمرار الطبخ.

وأما الخمر والمسکرات فلا تتحول الی الدبس بالغلیان بالنار ولا تصیر ذات حلاء، وکذا الحال فی الخل فانه لا یتحول بالطبخ المستمر الی دبس حلو، وذلک لکونه مستحیلا من الخمر التی قد فسدت مادة الحلاوة فیها، ولهذا الفرق فان العصیر یحلّ ویطهر بذهاب الثلثین بخلاف الخمر والمسکر، والا فهما موضوع واحد فی ملاک الحرمة والنجاسة.

وحیث ان المادة المسکرة تحصل فی العصیر تدریجا - إذ لا شیء من الاستحالات تحصل دفعة، بل بالتدریج - فکذلک استحالة مادة الحلاء فی الاشربة الحلوة الی المادة المسکرة (الکحول) وکما هو الحال فی استحالة الخمر الی الخلّ، وکان علامة بدء الاستحالة المزبورة هو الغلیان والنشیش، وحیث کان الحال ذلک فقد جعل فی الشرع حداً تعبدیاً لموضوع احکام الخمر، کما هو الحال فی سائر الحدود التی جعلها الشارع فی الموضوعات، نظیر الاقامة والسفر والوطن والرضاع.

فکذلک فیما نحن فیه جعل حد العصیر المستعدّ لان یستحیل خمرا

ص:195

مسکرا هو اول غلیانه، فهو نحو تعیین وحد فاصل بین الحل والحرمة، لأن المادة المسکرة انما تحصل تدریجا بنحو غیر ظاهر للحس إلا بعد تکاملها کحموضة الخلّ، فأول الغلیان ملحق بالخمر کحدّ لابتداء الموضوع، سواء غلی بالنار أو بنفسه، وان کان الثانی اکثر استحالة وکمیة المادة المسکرة فیه اکبر.

فظهر أن ذهاب الثلثین محلل للعصیر المغلی لا لعدم کونه مسکرا بل لعدم کونه مسکرا بدرجة الخمر، ولذلک یدبس ویزداد حلاوة ویخضب بذهاب الثلثین، وبالجملة العصیر حریم للخمر، ومسکر فی الادلة إلا انه یطهر بذهاب ثلثیه لحفظ الحلاوة ولا تطهر الخمر لعدم حصول الحلاء فیها(1)، انتهی.

القرینة الثانیة: ان مسألة غلیان العصیر العنبی اصل ابتداء حدوثها هی فی قصة الطلاء المعروفة التی حکم عمر بحلیته فی الشام، ثم حدث ان سکر بعض من تناوله فحرمه بعض وأحلّه آخرون، وتدوّلت المسألة وانتشرت بین الفریقین وروایات التحریم ناظرة الیها، فتکون قاطعة للجدال المثار حوله بجعلها حدا فاصلا بین الحل والحرمة وهو الغلیان، ومعینة لموضوع الاسکار کحدّ واقعی شرعی لا ظاهری اماری.

تنظّر فی الادلة السابقة:

وفی الادلة الانفة نظر وذلک: لان الصحیحتین بعد کونهما فی فرض الشک والحکم الظاهری ان مفادهما وان کان الاجتناب عن العصیر المغلی

ص:196


1- (1) هذا ما أفاده الفاضل ذو الفنون المیرزا ابو الحسن الشعرانی فی حاشیة الوافی، مع تلخیص وتوضیح وزیادة.

لاحتمال مسکریته، ولکن هذا الاحتمال ناشیٌ ء من جهة ان ذا الید حیث انه غیر ملتزم بذهاب الثلثین عملا فهو یبقی العصیر علی الاکثر من الثلث وهذا مما یتسارع الیه الاسکار والخمریة، فالحکم علیه باحتمال الخمریة والمسکریة نتیجة بقائه علی الاکثر من الثلث، لا من حیث انه مغلی فقط لم یذهب ثلثاه بل لتخمره بالبقاء مع ذلک، لاسیما وان الاشربة او العصیر المغلی یبقونه بعد غلیانه مدة مدیدة یتناولون منه شیئا فشیئا.

ومنه یظهر الخلل فی دعوی التنزیل المطلق أو الاشارة الی الصدق الحقیقی حیث انهما فی الباقی المتخمر مع ذلک، مضافا الی ان ما ذکرنا من خصوصیة التنزیل فی المقام من کونه بلحاظ الآیة التی أنشأت الحرمتان فیها بالامر الواحد بالاجتناب المطلق انما هو اذا کان التنزیل مطلقا غیر مقید وفی الروایة وقع مقیدا بتخریج (لا تشرب).

وأما الثالث (القرینة الاولی): فأدلة تحریمه وتدریجیة الاستحالة وکونه حدا لبدء تواجد المادة المسکرة، فهو وان کان تاما- کما یشهد بذلک أهل الاختصاص الکیمیائی فی باب التخمیر- إلا انه لیس لدینا عموم فی کبری نجاسة المسکر شامل لکل درجات المسکر حتی الموارد التی لا یحکم بوجوده وصدقه فی النظر العرفی، بل ما ورد من تحدید ضابطة المسکر انه ما اسکر کثیره فقلیله حرام، ینفی الحدّ فی المقام، ولا یمکن الاستئناس بما ورد فی الفقاع بعد کون اسکاره بدرجة خفیفة خفیة، حیث انه بالالحاق لا عموم الکبری المزبورة والالحاق فیما نحن فیه لا یعدو عن الحدس الظنی.

ومن کلا الخدشتین یظهر التأمل فی القرینة الثانیة وهی الاستشهاد بناظریة روایات التحریم للمسألة المعروفة حیث انه وان کان تاما ایضا إلا ان النظر المزبور لایفید ان الاسکار هو بدرجة الخمر والمسکرات المرکّزة بل

ص:197

المستفاد من النظر المزبور هو کون حرمة العصیر حریما للخمر وهو یعطی التفاوت لا العینیة.

رابعها: بعض ما یأتی من وجوه القول الثانی، الا انهم یعممونه للمغلی بالنار ویرفعون الید عن اطلاق التحریم والنجاسة بقاءً بما دل علی الحلیة والطهارة بذهاب الثلثین، والوجه فی الالتزام بعموم الغایة فی المغلی بالنار أو بنفسه هو اطلاق الدلیل کما یأتی، وتأیید الاعتبار کما تقدم بیانه فی الدلیل السابق فی الفرق بین العصیر العنبی المغلی مطلقا والخمر والمسکر.

اقول: لو تمت الوجوه الاتیة لکان المتعین ذلک دون القول الثانی کما سیتضح.

أدلة القول الثانی:

وهو التفصیل بین المغلی بالنار والذی غلی أونش بنفسه من حرمة الاول وطهارته حتی ذهاب الثلثین، ونجاسة الثانی وحرمته مطلقا کالخمر، وقد أصرّ علیه شیخ الشریعة الاصفهانی فی رسالته بوجوه:

الوجه الاول دعوی الفرق الموضوعی بین الغلیانین کما احتمله صاحب الجواهر فی بحث العصیر الزبیبی والتمری، فان الغلیان بالنار لا یسمح لطهور المادة المسکرة إلا إذا أبعد عن النار بعد ذلک قبل ذهاب الثلثین لان ارتفاع الحرارة الدفعی مانع عن تولد مادة الکحول، وهذا بخلاف الغلیان بنفسه حیث انه تدریجی فانه یساعد علی تحول الحلاوة الی مادة مسکرة کحولیة، وعلامة ذلک هو ظهور الحموضة علیه وفساده فلا ینقلب الی الدبس، ولعل هذا الوجه هو الذی بعث علی استظهار بقیة الوجوه الآتیة.

ص:198

وفیه: منع ذلک بشهادة عدّة من صنّاع الخلّ وذکروا انه بمجرد النشیش وظهور الحموضة یبقی امکان تحویل العصیر الی الدبس، نعم ذکروا انه اذا طبخ قبل النشیش تکون حلاوة الغلیظ الدبسی المتبقی أشد حلاوة وأجود طعما، وانه کلما تأخّر طبخه عن النشیش مدة اطول کلما قلّت حلاوة الدبس المصنوع بذهاب الثلثین.

وهذا التأخیر والمدة اذ طالتا کثیرا تصل الی حدّ بعد ذلک یوجب عدم حلاوة العصیر اذا طبخ وثخن وغلظ فیصیر کهیئة الدبس لکن من دون حلاوة بتاتا، وهذا بخلاف الخمر والخل فانه کلما طبخا فانهما لا یثخنان ولا یغلظان، وهذا اذا کان مکثه فی معرض الهواء وأما اذا عزل عن الهواء بأن سدّ رأس الظرف الذی یوضع فیه، أوکان الجدار الداخلی للظرف مطلیا بمادة مساعدة، أووضع فیه العکرة ونحو ذلک فانه یسرع نشیشه ویشتد بمدة اقصر، فتفسد مادة الحلاوة کلها فیه فی وقت اسرع فهذه اسباب مختلفة للاسراع فی غلیانه بنفسه وفی اشتداد تغیره.

والمحصل من ذلک ان مجرد الغلیان بنفسه لا یصیّر العصیر العنبی خمرا بل یحتاج مع ذلک الی طول مکث أوأسباب کیفیة اخری لتحوّله الی مادة مسکرة بنحو متکامل، نعم قد تقدم فی الوجه الثانی من القول الاول ان ظهور المادة المسکرة المستحیلة من مادة الحلاوة فی العصیر هو تدریجی وذلک معنی ما یقال ان حرمة العصیر المغلی حریم للخمرة، الا انه تقدم ایضا ان ذلک المقدار من الظهور لا یدرج العصیر المغلی فی ماهیة الخمر والمسکر کی یحرم وینجس مطلقا ولو طبخ وصار دبسا.

الوجه الثانی ان الروایات المتضمنة لحرمة العصیر المطبوخ کلها مغیّات بذهاب الثلثین، فلم یرد التحدید المزبور إلا فی فرض فیه لفظ

ص:199

الطبخ أو ما یدل علیه کلبختج والطلا، بخلاف الروایات التی اطلق فیها الغلیان فانها لم تحدد بذهاب الثلثین، ولیس ذلک من باب الاتفاق بل الوجه فیه ان الغلیان اذ اسند الی ذات العصیر فانه یفید انه غلی بنفسه واذا ارید غلیانه بسبب مفتعل کالنار فلا بد من التقیید وانه غلی بالنار، وعلی ذلک فیکون الاختلاف المزبور فی لسان الروایات دالاً علی التفصیل المزبور، وان المغلی بنفسه حرمته مطلقة ولا یکون ذلک الا لخمریته کما اشار الیه ایضا صاحب الجواهر فی بحث العصیر التمری والزبیبی.

وفیه:

اولا: منع انصراف اسناد الغلیان المطلق الی خصوص الذی غلی بنفسه، ویشهد للمنع موثق ذریح قال: (سمعت ابا عبد الله(علیه السلام) یقول: اذا نشّ العصیر أو غلی حرم)(1)، فانه قد اسند الغلیان المطلق الی العصیر مع وضوح ارادة المغلی بالنار فی مقابل النشیش وهو المغلی بنفسه، کما ان الروایة شاهدة علی دفع استظهار التفصیل فی الغایة بین الغلیانین، اذ هی اطلقت الحرمة من دون جعل الغایة للمغلی بالنار.

وأما دعواه (قدس سره) ان النسخة الصحیحة هی بالواو فهی نظیر دعوی اجمال الروایة وسیأتی ضعف کلا الدعویین فی مسألة ذهاب الثلثین.

وکذا ما رواه حماد بن عثمان عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال: (سألته عن شرب العصیر، قال: تشرب ما لم یغل، فاذا غلی فلا تشربه، قلت: ای شیء الغلیان؟ قال: القلب (2).

ص:200


1- (1) الوسائل، ابواب الاشربة المحرمة، باب3، ح4.
2- (2) المصدر، ح3.

الظاهر منها هو ارتفاع الاسفل وهبوط الأعلی من العصیر الحاصل فی الغلیان بالنار أو بنفسه، لا التغیر فی الطعم أو الرائحة، والا لکان الانسب التعبیر بمادة التغیّر کما فی روایات اخری، فتکون الروایة ناصة علی عموم المعنی المراد من العنوان فی بقیة الروایات، کما انها علی ذلک دافعة للتفصیل فی الغایة بین الغلیانین وان اطلاق الحرمة مقیّد بما حدّ بالغایة فی غیرها.

وکذا معتبرته الاخری عن الصادق(علیه السلام) قال: (لا یحرم العصیر حتی یغلی)(1)، وکیف یمکن دعوی انصرافها الی المغلی بنفسه إذ اطلاق نفی الحرمة المؤکد بجعل الغایة التی هی خصوص الغلیان یفید، الحصر فلا یلائم حمله علی الغلیان بنفسه، للزوم ارتکاب التخصیص المنافی حینئذ للحصر بخلافه ما اذا حملناه علی الاعم.

وثانیا: ان الغایة وهی ذهاب الثلثین مطلقة للذی غلی بالنار أو للذی غلی بنفسه، کما فی صحیح ابن سنان وروایة محمد بن الهیثم وروایات تقسیم سهم آدم عن سهم إبلیس فی الکرم کما یأتی مفصلا.

الوجه الثالث التقیید المستفاد من صحیحة عبد الله بن سنان عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال: (کل عصیر اصابته النار فهو حرام، حتی یذهب ثلثاه ویبقی ثلثه)(2)، حیث ان التقیید فی مقام اعطاء الضابطة والقاعدة موضوعا ومحمولا لیس الا لدخله فی الحکم، والا لعمم الموضوع لو فرض عمومه واقعا.

ص:201


1- (1) المصدر، ح1.
2- (2) المصدر، باب2، ح1.

وفیه: انه اما یقرّب بمفهوم الوصف أوالتحدید أوالشرط المضمّن المدلول علیه (بالفاء).

فأما الاول فالمفهوم الحجة بمقدار احترازیة القیود مقابل طبیعة العصیر المجردة فلا ینفی ثبوت الحکم المزبور وهی الحرمة المغیاة للطبیعة بقید آخر وهو الغلیان بنفسه، وأما الثانی ولعله مقصوده (قدس سره) من الاستدلال بالصحیحة فهو وان کان حجة إلا ان المقام لیس صغری له بعد عدم دال ما علی مقام التحدید کالفاظ التعریف ونحوها کحصر الماهیة، وأما الثالث فهو لیس من الشرط التعلیقی کما لا یخفی بل الثبوت عند ثبوت الذی مفهومه لیس بحجة.

الوجه الرابع ما دلت علیه موثقة عمار الواردة فی کیفیة طبخ العصیر الزبیبی من محذوریة النشیش بنفسه حیث فیها (وصف لی ابو عبد الله(علیه السلام) المطبوخ کیف یطبخ حتی یصیر حلالا فقال تأخذ ربعا من زبیب ثم تصب علیه اثنا عشر رطلا من ماء ثم تنقعه لیلة فاذا کان ایام الصیف وخشیت ان ینش فاجعله فی تنور مسجور قلیلا حتی لا ینش - الی ان قال - ثم تغلیه بالنار فلا تزال تغلیه حتی یذهب الثلثان ویبقی الثلث ... الحدیث)(1)، حیث انه لوکان محذور النشیش یرتفع بذهاب الثلثین لما کان وجه للتخوّف من وقوعه.

وفیه:

أولا: ابتناء مجموع الاستدلال علی حرمة العصیر الزبیبی ای ان الخشیة فی الروایة یجب ان تفسر بمعنی الحرمة کی یتم الاستدلال.

ثانیا: ابتناء علی ان المغلی الزبیبی بالنار یحرم حتی ذهاب الثلثین

ص:202


1- (1) الوسائل، ابواب الاشربة، باب5، ح2.

لتصویر التفرقة بین الغلیانین.

ثالثا: ان النشیش یصیّر العصیر ردیئا کما هوالحال فی الدبس المتخذ من العنبی أو الزبیبی أوالتمری، حیث انه کلما تحفّظ عن نشیشه قبل إذهاب الثلثین کلما کانت حلاوته أشد، کما تقدم تفسیر ذلک فی الوجه الثانی للقول الاول، فالخشیة هی من فساد جودته ویشهد لذلک ما فی ذیلها من ذکر امور هی لجودة وطیبة الطعم ونکهته، فلاحظ.

الوجه الخامس تبعا لما ذکره صاحب الجواهر فی العصیر التمری والزبیبی ایضا، ما ورد فی أحادیث(1) متعددة من جعل المدار علی الاسکار عند السؤال عن حلیة وحرمة النبیذ والذی کان یغلی بنفسه کما هو المعتاد فی صنع الانبذة فی ذلک الوقت کما فی حدیث وفد الیمن وغیره، فلو کان حرمة المغلی بنفسه مغیاة بالذهاب وانها غیر حرمة المسکر، لما کان وجه لحصر المحرمة فیه دائرة مدار الاسکار، لاسیما ان بعضها فی وقت الحاجة فهومما یدل علی حصر حرمة الغلیان بنفسه فی الاسکار.

وفیه: ان النبیذ هو الماء الذی ینبذ فیه الزبیب أو التمر والرطب أو البسر ونحوها، وهو انما یحرم بالاسکار فقط ولا یحرم بمجرد الغلیان بنفسه من دون اشتداده وتغیره بناء علی حلیة العصیر الزبیبی والتمری المغلی مطلقا، ما لم یشتد ویتغیر فیتحول الی المسکر، هذا وقد استدل بوجوه اخری لا یخفی ضعفها وکونها مجرد احتمال لا ظهورا متعینا الاخذ به.

الثانی: حرمة شرب العصیر العنبی اذا غلی:

بلا خلاف محکی انه بمجرد الغلیان یحرم، نعم ما فی بعض الکلمات

ص:203


1- (1) المصدر، باب22، 24، 17.

کما عن القواعد وغیرها من التقیید بالاشتداد یوهم الخلاف الا انه غیر مراد، اذ هو اما بلحاظ النجاسة وقد مرّ تفسیر الاشتداد وإما بلحاظ الحرمة الخمریة.

واحتمال: ان التحریم ظاهری طریقی لحرمة المسکر، أوان الموضوع مقید بالاسکار، لا ان مجرد الغلیان سبب للحرمة بقرینة ناظریة روایات التحریم الی المسألة المعروفة بین الفریقین وهی الطلاء والبختج، حیث أن النزاع الدائر فیها انما هوفی تحدید ضابطة وحدّ المسکر منه(1).

ضعیف: لمخالفته للعدید من وجوه الدلالة فی الروایات کما لا یخفی مضافا الی ان الاعتبار مؤید لکون الغلیان مطلقا حدا واقعیا للحرمة کما تقدم فی الوجه الثانی للقول الاول فی نجاسة العصیر المغلی فلاحظ.

حلیته اذا ذهب ثلثاه:

یقع الکلام تارة فی عموم موضوع الحلیة بالذهاب للذی غلی بالنار أوبنفسه، وأخری فی عموم سببیة الاذهاب وعدم اختصاصها بالنار.

عموم موضوع الحلیة أما المقام الاول: فقد عرفت ان ابن حمزة فی الوسیلة قد خصّه بالمغلی بالنار وهو الترآی بدوا من عبارة اطعمة النهایة للشیخ والسرائر والمهذب، وتحتمل عبائرهم ارادة صورة الاشتداد وهو التغیّر فی الطعم والرائحة بنحو بدایات الاسکار ولاسیما وان الغایة للحرمة جعلت صیرورته خلا.

لکن المشهور علی التعمیم کما نص علیه فی اطعمة الشرائع والدروس وغیرها.

ص:204


1- (1) بحوث فی شرح العروة الوثقی، ج3، ص377 374.

ویدل علیه: صحیحة عبد الله بن سنان قال: (ذکر أبو عبد الله(علیه السلام): ان العصیر اذا طبخ حتی یذهب ثلثاه ویبقی ثلثه فهو حلال)(1).

وتقریب الدلالة: ان الموضوع فیها مطلق غایة الامر هو مقید بمطلقة الغلیان من الخارج، وشرط الحلیة فیه هو الطبخ المستمر لذهاب الثلثین.

واشکل: علی الدلالة بان الغلیان بالطبخ مفروض فی الموضوع وانما الشرط هو استمرار الطبخ الی ذهاب الثلثین، ویعضد ذلک ان مفهوم القضیة الشرطیة هو الحرمة مع انتفاء الشرط وهی انما تکون فی المغلی والغلیان مشار الیه بالطبخ، وبعبارة اخری هو من تقسیم المطبوخ الی حلال والی حرام.

وفیه: ان ظاهر الشرط هو الطبخ المذهب للثلثین، أو فقل الطبخ المستمر لذهاب الثلثین، وهذا بخلاف جعل الشرط استمرار الطبخ، فانه علی الاول المفهوم منه أعم من انتفاء الطبخ أوانتفاء الاستمرار، وأما علی الثانی فان الاستمرار الذی هو شرط یکون موضوعه الطبخ فلا اطلاق فیها حینئذ.

مضافا الی أن ما یأتی فی المقام الثانی من عموم السبب المذهب للثلثین یکون قرینة علی أن ذکر الطبخ کسبب للذهاب من باب المثال الغالب للسبب، نعم علی مسلک اشتراط انتفاء القدر المتیقن فی محل التخاطب لاجراء الاطلاق لا یکون الاطلاق هاهنا جاریا.

وبنفس التقریب: مصحح ابی بصیر قال: (سمعت ابا عبد الله(علیه السلام)، وسئل عن الطلا، فقال: إن طبخ حتی یذهب منه اثنان ویبقی واحد فهو

ص:205


1- (1) الوسائل، ابواب الاشربة المحرمة- باب5، ح1.

حلال، وما کان دون ذلک فلیس فیه خیر)(1).

وروایة: محمد بن الهیثم عن رجل عن ابی عبد الله(علیه السلام) قال: (سألته عن العصیر یطبخ بالنار حتی یغلی من ساعته ایشربه صاحبه؟ فقال: اذا تغیّر عن حاله وغلی فلا خیر فیه، حتی یذهب ثلثاه ویبقی ثلثه)(2).

وتقریب الدلالة: ان مورد فرض الروایة هووان کان طبخه بالنار کی یتم الغلیان من ساعته بسرعة، الا ان الغلیان المفروض فی السؤال هو بنفسه کما فی الطریقة المذکورة فی روایة وفد الیمن اذ قد فرض غایة الطبخ فیغایره مع کون الطبخ نحواً من الغلیان، مضافا الی عموم الجواب المطلق الذی غلی واطلاق الغلیان فی الجواب مع خصوص الفرض فی السؤال نحو اضراب عن الخصوصیة وتأکید للکلیة، وهی تفید العموم فی المقام الاول والثانی کما هوواضح.

وکذا فی العموم فی المقامین کروایة ابی الربیع الشامی وابراهیم وصحیح زرارة وغیرها(3) من الروایات الواردة فی کون نصیب ابلیس من الکرم هو الثلثین ونصیب آدم أو نوح علیهما السّلام هو الثلث، وهذه الروایات لا یتوهم انها سرد قصص بل المغزی منها تحدید السهم المحلل والسهم المحرم، وهی لیست فی المتخمر بل فی خصوص المغلی فیظهر منها الاطلاق لکون المدار علی السهم.

ففی صحیح زرارة (فاذا اخذت عصیرا فطبخته حتی یذهب الثلثان

ص:206


1- (1) المصدر، باب2، ح6.
2- (2) المصدر، ح7.
3- (3) المصدر، باب2.

نصیب الشیطان فکل واشرب)(1)، ویظهر منها ومن روایات اخری ان المدار علی ذهاب الثلثین فتکون عامة لکلا المقامین معا بعد ظهور (حتی) فی ان الغایة للطبخ هو ذهاب الثلثین بضمیمة صدر الروایة المحدد للنصیب المحرم، والتقریب فیها هو ما تقدم فی مصحح ابن سنان.

وکذا ایضا ما ورد فی کون مدار الحلیة فی العصیر علی الحلاوة(2) وکونه یخضب الاناء، وهی وان کان بعضها فی مورد الشک الا انه لم یفصل فیها بین ما اذا غلی اولا بالنار أو بنفسه لاسیما وان العصیر العنبی ینشّ بسرعة وکثیرا ما یکون نشیشه قبل طبخه حتی یذهب ثلثاه.

عموم سبب الحلیة أما المقام الثانی: وهو عموم سبب ذهاب الثلثین، فلم یقید الذهاب بالنار فی العدید من العبائر وکاد ان یکون هو المشهور وان قید بذلک فی بعضها الآخر، ویدل علی العموم - مضافا الی ما تقدم فی المقام الاول من عموم ثلاثة ألسن من الادلة علی کلا المقامین معا - صحیح لعبد الله بن سنان عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال: (کل عصیر اصابته النار فهو حرام، حتی یذهب ثلثاه ویبقی ثلثه)(3)، حیث اطلق الذهاب للثلثین من دون التقیید بالنار.

ودعوی: انه فی مورد المطبوخ فالقدر المتیقن هو الذهاب بالنار.

مدفوعة: لابتنائها علی منع القدر المتیقن فی مورد التخاطب عن اجراء الاطلاق، مع ان الروایة فی صدد بیان الغایة وهی غیر مقیدة.

ومثلها روایة مستطرفات السرائر عن کتاب مسائل الرجال عن أبی

ص:207


1- (1) المصدر، ح4.
2- (2) المصدر، باب5، ج5، 6. باب7، ح2،ح3.
3- (3) المصدر، باب2، ح1.

الحسن علی بن محمد(علیه السلام): (ان محمد بن علی بن عیسی کتب الیه: عندنا طبیخ یجعل فیه الحصرم، وربما یجعل فیه العصیر من العنب، وانما هو لحم یطبخ به، وقد روی عنهم فی العصیر: انه اذا جعل علی النار لم یشرب حتی یذهب ثلثاه، ویبقی ثلثه ... الحدیث)(1) بتقریب ما سبق.

هذا: وقد یعارض الاطلاق المزبور بدعوی وجود المقید وهو صحیح عبد الله بن سنان المتقدم فی المقام الاول، حیث انه بلسان الشرطیة (ان العصیر اذا اطبخ حتی یذهب ثلثاه ویبقی ثلثه فهو حلال)، ومفهومه الحرمة اذا لم یکن الذهاب بالنار وهو اخص من الاطلاق المزبور فیقیده.

ونظیره الصحیحة المزبورة روایة عبد الله بن سنان الاخری عن الصادق(علیه السلام) قال: (العصیر اذا طبخ حتی یذهب منه ثلاثة دوانیق ونصف، ثم یترک حتی یبرد فقد ذهب ثلثاه، وبقی ثلثه)(2).

ومصحح ابی بصیر «ان طبخ حتی یذهب منه اثنان ویبقی واحد فهوحلال، وما کان دون ذلک فلیس فیه خیرة (3).

وفیه:

أولا: ان کون القید (الغلیان) یقرب وروده للغلبة لا الاحتراز فلا یقوی علی تقیید المطلقات حیث ان ذهاب الثلثین لا یتفق عادة الا بالنار وان امکن ذهابه بالشمس بتعریضه لها مع کشف رأس الاناء الذی یوضع فیه لیحصل تبخیره مع مساعدة الریح، غیر انه تطول مدته فمن ثمّ لم تکن طریقة متبعة.

ص:208


1- (1) المصدر، باب 4، ح1. المستطرفات، ص584.
2- (2) المصدر، باب5، ح7.
3- (3) المصدر، باب2، ح6.

ثانیا: ان ذیل مصحح ابی بصیر ناصّ علی کون المدار علی ذهاب الثلثین لا الطبخ مع ان التعبیر ورد فیها بالشرطیة، وبعبارة اخری انه قد خصّ فیها المفهوم بانتفاء المقدار اللازم ذهابه دون انتفاء سبب الذهاب.

ثالثا: ما تقدم من الوجوه الدالة علی ان المدار علی ذهاب المقدار وان الطبخ بالنار لاجله کما فی روایات نصیب ابلیس یکون ناظراًً لالغاء خصوصیة السبب.

ویؤید ذلک ما ورد فی روایة عبد الله بن سنان عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال: (العصیر اذا طبخ حتی یذهب منه ثلاثة دوانیق ونصف، ثم یترک حتی یبرد فقد ذهب ثلثاه وبقی ثلثه)(1).

حیث لم یشترط ذهاب تمام الثلثین وهوعلی النار فتأمل، اذ قد یقال انه مجموع الذاهب علی ایة حال هو بسبب النار، نعم لو یحرر البحث بصورة اخری وهو لزوم اتصال ذهاب المقدار المزبور بالغلیان الموجب للحرمة لکان وجه للتخصیص بالنار من جهة تحقق ذلک الاتصال بها.

والظاهر من الادلة انه لا بد من الاتصال المزبور، ولعله لتحوله بدونه الی المسکر ولو بدرجاته الابتدائیة کما هو عادة صنّاع الخمر کما تشیر الیه روایة وفد الیمن، نعم لا یتحقق الاتصال المزبور بالشمس فی العادة للتراخی الممتد ومن ثمّ یتحول الی الخمر أو الخل قبل ذهاب المقدار.

وعلی أیة حال فلا خصوصیة للنار بناء علی ذلک ایضا کما لو اذهب بتوسط الحرارة الشدیدة الحاصلة من الکهرباء أومن الطاقة الشمسیة المرکزة بالوسائل الحدیثة وغیرها من الاسباب التی یتحقق بها الاتصال بین ذهاب المقدار والغلیان المحرم.

ص:209


1- (1) المصدر، باب5، ح7.
حرمة العصیر العنبی بمجرد النشیش:

ذهب بعض الفقهاء الی حرمة العصیر العنبی بمجرد النشیش استنادا لموثق ذریح قال: (سمعت ابا عبد الله(علیه السلام) یقول: اذا نش العصیر أو غلی حرم)(1)، والنشیش کما فی القاموس صوت الماء اذا غلی، وعن شیخ الشریعة ان النسخة الصحیحة للکافی هی بالواو فیتحد المعنی، لکن المحکی عن المرآة والوسائل والحدائق والمستند وفی الجواهر، وعن طهارة الشیخ ومجمع البحرین وغیرها هی ب--(أو).

والصحیح ان المراد به هو صوت الشی اذا غلی بنفسه وان ذکر فی اللغة انه صوت الشیء اذا أخذ فی الغلیان من دون تقییده ب-(بنفسه) الا أن المنصرف منه ذلک أولا.

وثانیا: ان الاستعمال فی روایات الباب فی ذلک ایضا.

وثالثا: دلالة المقابلة علی ذلک.

ورابعا: ان کثیرا من اللغویین قیدوا الصوت بکونه اما صوت الغلیان واما صوته اذا أخذ فی الغلیان ونحو ذلک، ای لیس مطلق الصوت قبل الغلیان.

وخامسا: تنصیص عدة من الروایات بان حدّ الحلیة غایته الغلیان فأخذ الصوت الحادث قبله غایة یلغیه فتکون الموثقة معارضة وهی أضعف ظهورا لاحتمالها الغلیان بنفسه.

لا فرق بین العصیر ونفس العنب:

ذکره جماعة ویعطیه کلام الشهیدین فی ما ذکراه من حلیة الزبیب

ص:210


1- (1) المصدر، باب3، ح4.

المطبوخ لانه قد ذهب ثلثاه بالشمس، والمحکی عن المحقق الاردبیلی منعه، والصحیح التفصیل کما ذکره غیر واحد، من أن الماء الخارج من العنب لا یشترط فیه وسیلة خاصة للاخراج سواء بالعصر أو بتوسط التفسخ بالغلیان فی الماء أو المرس فیه أو النبذ فیه کالنقیع حتی یظهر طعمه فیه، فانه فی مطلق الصور یکون الخارج عصیراً حقیقة.

وأما غیر الخارج فان کان فی حبات العنب السالمة غیر المدلوکة ولا الذابلة المستویة فان الماء الموجود فی لحم الحبة - ای الیافها - لا یطلق علیه عصیر ولو طبخت تلک الحبات فی الماء ما لم تتفسخ ویخرج ماؤها، نعم اذا ضغطت ودلکت أو ذبلت ولو لم یخرج الماء فان ماء العنب یکون منحازا داخل الحبة عن اللحم والألیاف فیها، فیصدق العنوان (ماء العنب) فیحرم بالطبخ.

هذا ولکن الظاهر الحرمة فی الصورة المتوسطة ایضا لکون الغلیان والحرارة موجبین لانحیاز الماء فی داخل الحبة عن الألیاف اللحمیة کما هو المجرب، اذ الذبول فی الغالب یحدث بسبب الحرارة الشدیدة للشمس والجو.

الثانی: حکم التمر والزبیب وعصیرهما:
اشارة

التمر والزبیب وعصیرهما لا یحرمان، اجماعا فی الاول، وشهرة فی الثانی، لکن عن الفاضلین فی کتاب الحدود التردد مع تقویة العدم، کما ان عدة عبائر من المتقدمین فی کتاب الاطعمة قد یظهر منها الحرمة الا انها بعنوان التغییر، نعم مقتضی ما تقدم فی بعض وجوه القول الثانی فی العصیر العنبی من جعل المغلی بنفسه من المسکر هو التحریم هاهنا فی المغلی بنفسه.

ص:211

وقد ذهب الی التحریم فیهما جماعة من هو من الطبقات المتأخرة بل نسب العلامة الطباطبائی الشهرة فی تحریم الثانی الی الاصحاب وان تأمل غیر واحد فی تلک النسبة.

أدلة الحرمة فیهما:

وعمدة ما یستدل للتحریم فیهما معا أوفی احدهما خاصة:

أولا: عموم تحریم العصیر المغلی الشامل لهما.

واشکل علیه: تارة بالانصراف الی العنبی، واخری بعدم الالتزام بحرمة مطلق العصیر وتخصیص الثلاثة تحکّم فیبقی العنبی قدرا متیقنا وثالثة: بمعهودیة الاختصاص فی الاستعمال الروائی، ویشهد لاختصاص المراد بالعنبی ما ذکره صاحب الحدائق من روایات باب ما یکتسب به فی الوسائل(1) من ارادة العصیر الذی یتحول الی الخمر وهو متعین او منصرف الی العنبی، وکذا ما هومعروف من الخلاف التاریخی الدائر فی العصیر العنبی المطبوخ، قرینة حالیة علی نظر الروایات - مثل صحیح ابن سنان المشتمل علی لفظ (کل عصیر) - الی العصیر المزبور ولذلک کان تفسیر البختج والطلا به ایضا.

ولا ینافی ذلک ما فی عدة من الروایات من اذهاب الثلثین فی نبیذ الزبیب ونقیع التمر، اذ هو کالذی ورد فی مطلق الرُبْ من الفواکه من إذهاب الثلثین، فهو نحو استفادة من العلاج لموارد اخری حیطة عن التخمر وحصول المسکر، نعم سیأتی تقریب آخر اوجه لا یرد علیه الاشکلات المتقدمة مع توضیح فیه.

ص:212


1- (1) الوسائل، ابواب ما یکتسب به، باب59.

ثانیا: ما ورد فی التمر من روایات ظاهرة فی استوائه مع العصیر العنبی فی لزوم اذهاب الثلثین للحلّ:

منها: روایة ابراهیم عن أبی عبدالله(علیه السلام) - فی قصة تحریم المسکر - وفیها مصّ ابلیس للتمر کما مصّ العنب، ثم ان ابلیس ذهب بعد وفاة آدم فبال فی أصل الکرمة والنخلة، فجری الماء (فی عودهما ببول) عدو الله فمن ثمّ یختمر العنب والکرم، فحرم الله علی ذریة آدم کل مسکر، لان الماء جری ببول عدو الله فی النخلة والعنب وصار کل مختمر خمرا، لان الماء اختمر فی النخلة والکرم من رائحة بول عدو الله(1)، بتقریب ان النخل والکرم مشترکان فی التغیر العارض علیهما.

وفیه: ان الاستواء المشار الیه فی الروایة هو فی المسکر منهما والمختمر کما فی ذیل الروایة لا المغلی بمجرد الغلیان.

ومنها: صحیحة زرارة(2) حیث ذکر فیها غرس نوح(علیه السلام) للنخلة ومنازعة ابلیس ایاه فیها واعطاه نصیبا منها فلذلک یذهب بثلثلی العصیر المطبوخ.

وفیه: ان فی نسخة الکافی الموجودة (الحبلة) وهی شجرة العنب، وقد اشار صاحب الوسائل فی هامش المخطوط الی وجود تلک النسخة ویرجح النسخة الثانیة ان فی بقیة روایات الباب فی المنازعة المزبورة هی فی شجرة الکرم.

ومنها: موثقة عمار بن موسی عن أبی عبد الله(علیه السلام) فی حدیث انه

ص:213


1- (1) الوسائل، ابواب الاشربة المحرمة، باب2، ح3.
2- (2) المصدر، ح4.

سئل عن النضوح المعتق کیف یصنع به حتی یحل؟ قال: (خذ ماء التمر فاغله، حتی یذهب ثلثا ماء التمر)(1).

ونظیره موثقه الآخر الا ان فیه (ویبقی ثلثه، ثم یمتشطن)(2)، ونظیرهما روایة عیثمة قال: دخلت علی أبی عبد الله(علیه السلام) وعنده نساؤه قال: (فشم رائحة النضوح فقال: ما هذا؟ قالوا: نضوح یجعل فیه الضیاح، قال: فأمر به فأهرق فی البالوعة)(3)، والنضوح طیب له رائحة تفوح، والظاهر صنعه من ماء التمر کما تشیر الیه الروایات.

وقد وقع السؤال فی الموثق الاول عن کیفیة حلّه فأجاب(علیه السلام) بجعل موضوع الحلیة ذهاب الثلثین، وفی الثانیة التقیید للتمشط بذلک، وهو یفید ان الطهارة ایضا منوطة به، اذ المحذور المفروض فی التمشط هو الابتلاء بالنجاسة کما فی صحیحة علی بن جعفر عن أخیه (علیه السلام) عن النضوح یجعل فیه النبیذ ایصلح للمرأة ان تصلی وهوعلی رأسها؟ قال (علیه السلام): (لا)، حتی تغتسل منه(4).

وفیه: ان الظاهر من تقیید النضوح بالمعتق هو ابقاؤه وتخمره، کما ذکر ذلک فی مجمع البحرین (من انه طیب مائع ینقعون به التمر والسکر والقرنفل والتفاعل والزعفران واشباه ذلک فی قارورة فیها قدر مخصوص من الماء، ویشد رأسها ویصبرون ایاما حتی ینشّ ویتخمر، وهو شائع بین نساء الحرمین الشریفین)، فیکون فرض الروایات خارجاً عن فرض المقام.

ص:214


1- (1) المصدر، باب32، ح2.
2- (2) المصدر، ح1.
3- (3) المصدر، باب33، ح1.
4- (4) المصدر، باب37، ح3.

ویشهد ما فی صحیح علی بن جعفر من جعلهم النبیذ فیه لکی یسرع فی التخمر، وکذا جعلهم الضیاح فیه فکأنه لاجل حموضته الموجبة لذلک ایضا، وکذا تقیید التمشط به الظاهر فی نجاسته قرینة علی ارادة المسکر منه، اذ مجرد غلیانه لا یوجب نجاسته بالاتفاق، فاذهاب الثلثین هو علاج مانع عن التخمر فقول السائل فی الموثق الاول (کیف یصنع به حتی یحل) معناه کیف یصیّر ویصنع حتی یحل مع البقاء ولا یحرم بطول المکث ولا یتخمر فیحرم، فالمحصل انه کیف یصنع حتی یکون نضوحا حلالا لا حراما.

مضافا الی ما تقدم فی العصیر العنبی عند استعراض ادلة القول الثانی من ان ظاهر أدلة تحریم النبیذ المستفیضة جدا هو کون مدارها الاسکار، والنبیذ کما تقدم هوما یصنع من نبذ الزبیب أو التمر أو الرطب والبسر ونحوها فی الماء فلها دلالة علی نفی حرمة غیر المسکر وان غلی.

بل ان بعض الروایات خاص فی الدلالة علی حلیة النبیذ الذی غلی ولم یسکر کصحیح صفوان قال: کنت مبتلی بالنبیذ معجبا به فقلت لابی عبد الله(علیه السلام) أصف لک النبیذ؟ فقال بل أنا أصفه لک قال رسول الله صلی الله علیه و آله : کل مسکر حرام وما أسکر کثیره فقلیله حرام، فقلت: هذا نبیذ السقایة بفناء الکعبة فقال: لیس هکذا کانت السقایة انما السقایة زمزم، افتدری اول من غیرها فقلت: لا قال: العباس بن عبد المطلب کانت له حبلة افتدری ما الحبلة؟ قلت لا قال: الکرم فکان ینقع الزبیب غدوة ویشربون بالعشی، وینقعه بالعشی ویشربونه غدوة، یرید به ان یکسر غلظ الماء علی الناس، وان هؤلاء قد تعدوا فلا تقربه ولا تشربه(1).

ص:215


1- (1) المصدر، باب17، ح3.

ونقلناها بطولها لاشتمال الصدر علی الحصر لترکه صریحا الاستفصال من الراوی بذکر الضابطة للحرمة الدال علی الحصر فیها، ثم تعرض فی الذیل الی تعدی هؤلاء عن الحد فی النبیذ أن یبقونه فیصیر مسکرا، فهو ینهی عن النبیذ المذکور فی الذیل بنفس الضابطة المذکورة فی الصدر فلو کان جهة النهی فی الذیل هی مجرد النشیش والغلیان بنفسه لما حصر الحرمة فی الصدر بالاسکار.

واصرح منها بنفسها التقریب السابق صحیح عبد الرحمن بن الحجاج (عن النبیذ فقال (علیه السلام) حلال فقال اصلحک الله انما سألتک عن النبیذ الذی یجعل فیه العکر، فیغلی حتی یسکر، فقال أبوعبد الله(علیه السلام) قال رسول الله صلی الله علیه و آله کل ما اسکر حرام ... الحدیث)(1)، فان الراوی قد صرح بالغلیان مع قید استمراره حتی یسکر، فلوکان الغلیان بنفسه محرماً لنبّه علیه ایضا، ولما اقتصر علی حرمة المسکر فقط.

ومثلهما روایة وفد الیمن الذین وصفوا لرسول الله صلی الله علیه و آله کیفیة صنعهم للنبیذ وانه یغلی اولا ثم یبقوه حتی یسکر فذکر لهم ان المدار فی الحرمة علی اسکاره(2).

وکذا موثق حنان بن سایر حیث فیه بیان الحلال من النبیذ والحرام منه(3)، وذکر(علیه السلام) ضابطة الحرام هو الاسکار، ثم استعرض کیفیة اتخاذ المحلل وان عدم مراعاة تلک الکیفیة یوقع فی المحرم وهو المسکر الذی ذکره فی صدر الروایة مع أنه فی ذلک الفرض ینش اولا ثم یغتلم ویسکر.

ص:216


1- (1) المصدر، ح7.
2- (2) المصدر، باب24، ح6.
3- (3) المصدر، باب23، ح5.

وعلی هذا فلو سلم دلالة الروایات الخاصة فی ماء التمر علی حرمة المغلی، تکون هذه الروایات الخاصة الدالة علی حلیة المغلی ما لم یسکر معارضة لها، کیف وهی لم تتم دلالتها علی الحرمة، ومن ذلک یتضح ان هذه الروایات الخاصة علی الحلیة تکون مخصصة لعموم صحیح ابن سنان فی کل عصیر لو سلم عمومه للتمری والزبیبی.

ولک ان تقول: ان ما ورد فی النبیذ التمری والزبیبی قرینة علی أن السؤال فی التمری فی الروایات الخاصة، وکذا فی الزبیبی فی روایاته الخاصة الآتیة (کیف یطبخ حتی یحل) هو عن کیفیة العلاج عن التخمر بالبقاء لا عن المحلل للحرمة بالغلیان المجرد، ومنشأ ذلک السؤال کثرة التشدد الوارد فی الروایات فی النبیذ المتعارف شربه عند العامة، وهو مسکر بدرجات مختلفة تقلّ عن درجة اسکار الخمر، کما تذکر بعض الموسوعات الحدیثة المختصة ان نسبة الکحول هی عشرون جزءاً من مائة جزء أو ما یقرب من ذلک، بخلافها فی الخمر فانها خمسون أو سبعون جزءاً من مائة جزء فتکرر السؤال عن کیفیة صنعه وتفادی الوقوع فی التخمر والمسکر.

ثالثا: ما ورد فی الزبیب من روایات اخری استدل بها علی الحرمة:

منها: روایة عمار الاولی قال: وصف لی أبوعبد الله(علیه السلام) المطبوخ کیف یطبخ حتی یصیر حلالا، فقال لی(علیه السلام): (تأخذ ربعا من زبیب وتنقیه - الی ان قال - ثم تغلی الثلث الآخر حتی یذهب الماء الباقی ثم تغلیه بالنار، فلا تزال تغلیه حتی یذهب الثلثان ویبقی الثلث ...الحدیث)(1).

وفی موثقة الآخر عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال: (سئل عن الزبیب کیف

ص:217


1- (1) المصدر، باب5، ح2.

یحل طبخه حتی یشرب حلالا؟ قال: تأخذ ربعا من زبیب فتنقیه - الی ان قال - ثم تغلیه بالنار غلیة، ثم تنزع ماءه، فتصبه علی الاول، ثم تطرحه فی اناء واحد، ثم توقد تحته النار حتی یذهب ثلثاه ویبقی ثلثه وتحته النار، ثم تأخذ رطل عسل - الی ان قال - ثم تضع فیه مقدارا وحدّه بحیث یبلغ الماء ... ثم توقد تحته بنار لینة حتی یذهب ثلثاه ویبقی ثلثه)(1).

وفیه: ان التعبیر فی السؤال عن کیفیة الطبخ لصیرورته حلالا لا عن کمیة ما یطبخ، نعم فلا یتعین مفاده فی الحلیة بعد الحرمة بالغلیان بل ظاهر انطباقه علی ما تقدم من عمار نفسه فی سؤاله المتقدم فی روایة النضوح المعتق کیف یصنع به حتی یحل، ای عن کیفیة طبخه کی لا یصیر بالبقاء بعد الطبخ حراما متخمرا (یصیر حلالا وان بقی ما بقی).

ویشهد للاحتمال الثانی انه(علیه السلام) تصدی لذکر قیود عدیدة غیر دخیلة فی اذهاب الثلثین، بل فی طول مکثه سالما عن التغیّر مع طیبة نکهته فلا حظ الروایتین بتمامهما، فیظهر منهما تمرکز الجوب والسؤال عن الشراب المصنوع المطبوخ والذی یحتفظ به مدة مدیدة یتناول منه شیئا فشیئا کیف یصنع کی یصیر حلالا ولا یتحول الی الخمر.

کما یشهد لذلک ایضا ما یظهر من روایتی ابن الفضل وابن عمار الآتیتین من کون جهة السؤال هی کیفیة تجنب التغیّر فی النبیذ الموجب للحرمة، لا کیفیة ازالة الحرمة الحاصلة بالغلیان، مضافا الی غرابة السؤال لوکان عن الثانی، اذ هو معروف فی العصیر العنبی بخلاف ما لوکان عن الاول، اذ بناءً علی عدم حرمة النبیذ بمجرد الغلیان والنشیش بل عند

ص:218


1- (1) المصدر، باب5، ح3.

اسکاره یتوجه حینئذ السؤال عن کیفیة صنع النبیذ کشراب لا یسکر بالبقاء، ویأتی فی صحیح ابن جعفر ما یشیر الی ذلک.

هذا: مضافا الی ما قدمناه من حصر المستفیضة الواردة فی النبیذ الحرمة فی المسکر منه، الدال علی نفی الحرمة بمجرد الغلیان، بل فیها الصریح موردا فی النبیذ الزبیبی انه لا یحرم الا بالاسکار لا بمجرد الغلیان بنفسه.

ومنها: روایة اسماعیل بن الفضل الهاشمی قال: (شکوت الی أبی عبد الله(علیه السلام) قراقر تصیبنی فی معدتی، وقلّة استمرائی الطعام، فقال لی: لم لا تتخذ نبیذا نشربه نحن، وهو بمریء الطعام - الی أن قال: تأخذ صاعا من زبیب ... ثم تنقعه فی مثله من الماء ... ثم طبخته طبخا رقیقا، حتی یذهب ثلثاه ویبقی ثلثه ثم تجعل علیه نصف رطل عسل، وتأخذ مقدار العسل، ثم تطبخه حتی تذهب الزیادة ... فاذا برد صفیته واخذت منه علی غذائک وعشائک، قال: ففعلت فذهب عنی ما کنت اجده، وهو شراب طیب، لا یتغیر اذا بقی ان شاء الله)(1).

ومثلها روایة اسحاق بن عمار قال: (شکوت الی أبی عبد الله(علیه السلام) بعض الوجع، وقلت له: ان الطبیب وصف لی شرابا آخذ الزبیب واصب علیه الماء الواحد اثنین، ثم أصب علیه العسل، ثم أطبخه حتی یذهب ثلثاه، ویبقی الثلث، قال ألیس حلوا؟ قلت: بلی، قال اشربه ولم اخبره کم العسل)(2).

ص:219


1- (1) المصدر، باب5، ح4.
2- (2) المصدر، ح5.

وفیه: ان فیهما عدة قرائن علی کون جهة اذهاب الثلثی هو لتجنب تغیره، ولذلک قال الراوی انه شراب طیب لا یتغیر اذا بقی، وفی الثانیة سؤاله(علیه السلام) (ألیس حلوا) صریح فی ذلک ایضا وانه طریق علاج عن التخمر، لا انه مزیل للحرمة الحاصلة بالغلیان.

ان قلت: ان کون اذهاب الثلثین طریقا وعلاجا عن التخمر بالبقاء لا ینافی کونه مزیلا للحرمة الحاصلة بالغلیان، کما هوالحال فی العصیر العنبی کما یشهد للجمع بین المعنیین ما ورد فی روایات اخبار(1) ذی الید عن الشراب انه علی الثلث والامتحان بکونه حلوا أو یخضب، بل قد یشهد ما ورد فی تلک الروایات علی کون المراد للشراب فی تلک الروایات هو الاعم من العصیر العنبی أو الشراب المتخذ من الزبیب والتمر.

الا تری انه فی روایتی عمار المتقدمتین عبّر عنه بالشراب والمطبوخ، وکذا فی روایة اسماعیل بن الفضل، وکذا التعبیر فی سؤاله(علیه السلام) فی روایة اسحاق ألیس حلوا، الذی ورد نظیره فی موثق لعمار فی روایات اخبار ذی الید عن الشراب یقدمه علی الثلث انه یمتحنه بالحلاء، بل فی صحیح ابن جعفر(2) عطف الشراب علی النبیذ وانه یشربه ما لم ینکره - ای ینکر طعمه بالتغیر - ومنه یظهر شمول عموم صحیح ابن سنان المتقدم فی الدلیل الاول «کل عصیر اصابته النار فهوحرام حتی ...).

قلت: لیس لدعوی المنافاة وجه کما ذکر، إلا ان تعدد الحیثیة والجهة لا ینکر ایضا، فالفارق بینهما وبین العنبی هو وجود الدلیل فیه دونهما، ولا

ص:220


1- (1) المصدر، ح6.
2- (2) المصدر، باب6.

تکون الدلالة المتکفلة لجهة علاج البقاء عن التخمر متکفلة ایضا للجهة الاخری.

واما روایات اخبار الید بان الشراب علی الثلث فقد تقدم ان موردها فی الغالب هو فی العصیر المغلی الباقی لا مجرد الغالی، ولذلک نهی فی بعضها عن الاعتماد علی خبر غیر الملتزم بذلک لانه خمر وانه لا یعتمد علی خبر من یستحلّ أو یشرب المسکر، فتلک الروایات ناظرة الی کون ذهاب الثلثین موجبا لتفادی الاسکار لا إزالة الحرمة الحاصلة من الغلیان.

ومنه یظهر ان عموم الموضوع فیها للزبیبی والتمری لا یشهد بعموم لفظ العصیر فی صحیح ابن سنان، ویعضد تغایر دائرة الموضوعین ان فی روایتی عمار السابقتین اذهاب الثلثین من زیادة العسل ایضا، مع انه لا یتوهم شمول العصیر لشراب العسل، بل ان من سؤال الرواة عن کیفیة طبخ الزبیب والتمرکی یحل- مع معروفیة ان اذهاب الثلثین محلل للعصیر الذی حرم بالغلیان لا سیما من مثل عمار الساباطی الذی هی علی مکانة من الفقه - شاهد علی عدم کون السؤال هو عن المحلل للحرام بسبب الغلیان بل عن عدم کیفیة صیرورة النبیذ مسکرا، وشاهد ایضا علی ارتکاز حلیة ماء الزبیب والتمر المطبوخین ما لم یسکرا.

هذا: مضافا الی ما ذکرنا مرارا من کون المستفیضة الواردة فی النبیذ حاصرة لحرمته فی الاسکار، والنسبة بینهما وبین صحیح ابن سنان علی تقدیر عمومها اما الخصوص المطلق أومن وجه، فیخصص علی الاول ویرجع الی عموم الحل أوأصالته علی الثانی، بل قد ذکرنا ورود روایات خاصة فی حلیة المغلی ما لم یسکر ونسبتها الخصوص المطلق والمعارضة لما یتوهم من امر الروایات الخاصة فی الحرمة.

ص:221

اضف الی ذلک: ما قد یستظهر من مباینة عنوان العصیر لعنوان النبیذ والنقیع، حیث ان المتکرر فی استعمال الروایات فی الابواب للثانی فی ماء التمر والزبیب بخلاف الاول، والاول وان توسع استعماله مطلقا بحسب اللغة واصل الوضع الا ان اطلاقه منصرف عنهما بدوا وارادتهما منه انما هی بلحاظ المدقوق منهما ونحوه، ولذلک شاع اطلاق النبیذ علیهما أو الشراب دون العصیر، بل ان التتبع فی ألسن الروایات شاهد علی عدم اطلاق العصیر علیهما، بل غیره من العناوین وتکرار ارادة العنبی منه وهو مطابق لما یوجد من التکلف فی التعبیر بعصیر الزبیب أو التمر.

ومنها: مصحح علی بن جعفر عن أخیه موسی أبی الحسن (علیه السلام) قال: (سألته عن الزبیب هل یصلح ان یطبخ حتی یخرج طعمه، ثم یؤخذ الماء فیطبخ، حتی یذهب ثلثاه، ویبقی ثلثه، ثم یرفع فیشرب منه السنة؟ فقال: لا بأس)(1).

وفیه: ان ذیل السؤال ظاهر فی انه محط وغایة السؤال هو عن بقائه مدة طویلة یخشی فیها تخمره، ولذلک أضاف قید البقاء سنة فهو عن کون الاذهاب المزبور علاجاً من التخمر والاسکار.

ومنها: روایة زید النرسی وصورتها کما ذکرها فی الهامش صاحب الوسائل(2) زید عن ابی عبد الله(علیه السلام) فی الزبیب یدق ویلقی فی القدر ویصب علیه الماء قال: «حرام حتی یذهب ثلثاه قلت: الزبیب کما هو یلقی فی القدر، قال: هو کذلک سواء اذا أدّت الحلاوة الی الماء فقد فسد کلما غلا

ص:222


1- (1) المصدر، باب8، ح2.
2- (2) المصدر، باب5، ح7.

بنفسه أو بالنار فقد حرم الا ان یذهب ثلثاه.

لکن فی البحار لیس فیه لفظة (حرام) بل (لا تأکله حتی یذهب الثلثان ویبقی الثلث، فان النار قد أصابته) وفی ذیله (کذلک هوسواء اذا أدت الحلاوة الی الماء وصار حلوا بمنزلة العصیر ثم نش من غیر ان تصیبه النار فقد حرم وکذلک اذا اصابته النار فأغلاه فقد فسد)(1).

وفیه: ان الاصل المزبور وان حقق انه غیر موضوع من محمد بن موسی السمان کما ادعاه ابن الولید شیخ الصدوق (قدس سره) للروایة عنه فی الکافی وغیره فی الصحیح عن ابن أبی عمیر وغیره عن زید، الا ان النسخ الواصلة الی المحدثین المتأخرین أصحاب المجامیع کالبحار والوسائل والمستدرک لم تصل بسند صحیح، ومجرد ورود روایات عدیدة فی تلک النسخة واردة فی کتب اخری معتبرة عن زید النرسی لا یحصل القطع بتطابق جمیع روایات النسخة الواصلة مع النسخة الاصلیة للاصل المسندة عند الشیخ والنجاشی.

هذا مع ما حکی من التصحیف فی غیر واحدة من روایات النسخة الواصلة هذه، فکیف یرکن الی صورة المتن والواصلة مع اختلاف ما نقله صاحب الوسائل مع البحار، وقد قال فی هامش الاول «ولتضعیف بعض علمائنا لذلک الکتاب لم أورده فی هذا الباب.

رابعا: الاستدلال بالاستصحاب التعلیقی، بتقریب ورود القضیة التعلیقیة فی العنب فتستصحب عند تغیره الی الزبیب، الا انه یضعّف بناء علی جریانه کبرویا ان الموضوع فی المقام هو عصیر العنب لا ذات العنب

ص:223


1- (1) البحار، ج66، ص506.

کی یتحد فی النظر العرفی مع الزبیب، وهو مغایر لعصیر الزبیب أولک ان تقول ان الموضوع للحکم التعلیقی هو العصیر ولم یتحقق الموضوع کی یستصحب سابقا، اذ الزبیب متخذ من العنب لا من عصیره، فلا یقین سابق کی یستصحب.

هذا مضافا الی عدم ورود قضیة تعلیقیة فی أدلة الحرمة اذ التعبیر ب-(اذا) لفرض الثبوت عند الثبوت ظرفیة لا تعلیقیة (کإن) ونظیراتها، نعم قد تضمّن الشرطیة، الا انه لا یستفاد ذلک فی المقام.

ص:224

قاعدة الأصل فی الأموال الاحتیاط أو الحرمة الظاهریة

اشارة

ص:225

ص:226

من القواعد العامة الأصل فی الأموال الاحتیاط أو الحرمة الظاهریة

تحریر البحث:

قسم البحث فی الماء المشکوک ملکیته بینه وبین الغیر الی حکم التصرفات المجردة وحکم التصرفات المتوقفة علی الملک، فالجواز فی الأولی و العدم فی الثانیة ما لم یکن هناک محرز لها، و لتنقیح البحث نمهد له بمقدمة فی الفرق بین الحلیلة المالکیة و المجردة.

ان الشک لیس فی حکم التصرف کالشرب و الغسل به الواقع علیه بعنوانه الأولی أی مائیته فی قبال العناوین المحرمة کالخمریة و المتنجس ونحوها، بل فی الإباحة المالکیة و السلطنة فی التصرفات المتفرعة عن الملکیة و فی ملک الانتفاع، فالتصرف المجرد فی المقام متوقف أیضا علی الملک بعد فرض عدم اذن الغیر فیما لو کان الشیء ملکه فی الواقع.

فالحلیة التکلیفیة المشکوکة فی المقام لیست الحلیة المجردة عن الحلیة الوضعیة، و لو احرزت الحلیة المزبورة بأصالة الحل لأحرز جواز

ص:227

التصرفات المتوقفة علی مثل الملک، سیما علی القول برجوع قیدیة الملک فی صحة تلک التصرفات الی سلطنة التصرف بالنقل أی الی نفوذ التصرفات.

وبعبارة أخری: لا حاجة لاحراز الموضوع لنفوذ التصرفات، بعد کون مؤدی الأصالة المزبورة ثبوت النفوذ و الحکم اذ لیس ذلک من التمسک بالعموم فی الشبهة المصداقیة بل من جریان الأصل الحکمی.

والذی یقرب لک ان الشک فی الحلیة فی المقام لیست المجردة المترتبة علی العنوان الأولی، هو بالتأمل فی الأمثلة ذات الخطورة المالیة کالدار والدابة والآلات الغالیة، فهل یصار الی جواز التصرف المجرد فیها ما دام عمر تلک الاشیاء عند الدوران بین ملکه لها و ملک الغیر.

أدلة عدم جریان الحل أو البراءة:

اذا اتضح ذلک فالصحیح عدم جریان أصالة الحل أو البراءة(1) خلافا لمشهور متأخری العصر(2) للوجوه الآتیة:

الأول: ما هو محرر فی الکثیر من الکلمات فی نظیر المقام فی بحث

ص:228


1- (1) وفاقاً لبعض الفقهاء منهم الشیخ الانصاری(رضی الله عنه) کما ذکره فی ذیل تنبیهات البراءة حیث حکم بان الاصل فی الاموال حرمة التصرف حتی یعلم حلیته واستدل علیه بالاجماع وبراویة محمد بن زید الطبری (لا یحل مال الا من وجه احله الله). فوائد الاصول، ج1، ص371.
2- (2) کما فی العروة واکثر المعلقین والمحشین علیها، کالسید الخوئی حیث قال -- معلقاً علی القائلین بعدم جریان اصالة الحل -- (ولکن الصحیح ان الاموال کغیرها فتجری فیها اصالة الحل ما لم یعلم حرمتها ...) لاحظ التنقیح، ج2، ص335، موسوعة السید الخوئی.

الخمس(1) فی المال المختلط بالحرام هو القول بالقرعة أو التوزیع لقاعدة العدل و الانصاف أو الصلح، فمع تنقیح الحال فی ملکیة الشیء المشکوک لا تصل النوبة لأصالة الحل ولا للبراءة، اذ بجریان الاصل الموضوعی لا تصل النوبة الی الاصل الحکمی کما هو مقرر فی بحث الاصول.

الثانی: أنه من القریب جدا فی مفاد الاصل المزبور اختصاصه بموارد الشک فی الحلیة المجردة لا الحلیة المالکیة، اذ دلیل اصالة الحل هو معتبرة مسعدة بن صدقة عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال: سمعته یقول: (کل شیء هو لک حلال حتی تعلم انه حرام بعینه فتدعه من قبل نفسک، و ذلک مثل الثوب یکون علیک قد اشتریته وهو سرقة، أو المملوک عندک و لعله حر قد باع نفسه أو خدع فبیع أو قهر أو امرأة تحتک وهی اختک أو رضیعتک، و الاشیاء کلها علی هدا حتی یستبین لک غیر ذلک أو تقوم به البینة(2)).

وصحیح عبد الله بن سنان عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال: کل شیء یکون منه حرام و حلال فهو لک حلال ابدا حتی تعرف الحرام منه بعینه فتدعه(3).

وروایة عبد الله بن سلیمان عند سؤاله أبا جعفر(علیه السلام) عن الجبن قال (ساخبرک عن الجبن وغیره کل ما کان فیه حلال وحرام فهو لک حلال حتی تعرف الحرام بعینه فتدعه)(4).

ص:229


1- (1) لاحظ کتاب الخمس من العروة والتعلیقات علیه (کتاب العروة مع تعالیق بعض الفقهاء، ج4، ص256، طبعة جماعة المدرسین).
2- (2) وسائل الشیعة، ج17، ص89، باب4، من أبواب ما یکتسب به، ح4.
3- (3) المصدر، ح1.
4- (4) وسائل الشیعة، ج25، ص177، باب61 من أبواب الاطعمة المباحة، ح1.

ومفادها(1) الحلیة التکلیفیة المجردة المترتبة علی العناوین الاولیة للاشیاء من حیث هی، أی الحلیة الفعلیة الظاهریة الطبعیّة للاشیاء.

ویدل علی ذلک مضافا الی کونه مورد السؤال فیها أن فی التنظیر فی الروایة الأولی تقابلاً بین أصالة الحل و بقیة الامارات فی الامثلة المذکورة بعدها من الید والاقرار والشهرة والاستفاضة فی النسب، حیث جعلت الغایة فی اصالة الحل العلم بالحرام الشامل للتعبدی، بینما حصرت غایة الجواز المستفاد من الامارات المزبورة الاستبانة و هی العلم الوجدانی و البینة إذ مورد الشک فی تلک الامارات لیست الحلیة المجردة، وان کان الاصل لولاها فی مواردها مقتضاه الفساد.

الثالث: أن اصالة الحل والبراءة عند الشاک فی مطلق التصرفات المجردة تنافی الحل والبراءة عند الغیر فیما لو فرض شکه أیضا، فلا بد من المصیر الی تعیین الملک بالطرق المتقدمة.

الرابع: وتقرب أصالة الحرمة فی الاموال بأن أصالة عدم ملک الغیر معارضة باصالة عدم الملک عند الشاک، و قد عرفت أن جواز التصرف المجرد مترتب فی الواقع علی الملک بعد فرض عدم اذن الغیر علی تقدیر کون الشیء ملکه واقعا.

الخامس: عموم لا یحل مال امرئ مسلم إلا بطیب نفسه(2).

ص:230


1- (1) ورد (لسان کل شیء لک حلال) فی اربعة روایات، ذکر سماحة الشیخ الأستاذ ثلاثاً منها فی المتن، والرابعة رواها صاحب الوسائل فی باب الاطعمة والاشربه عن معاویة بن عمار، باب 61، ح7 وهی مرسله.
2- (2) هذا اللسان ورد فی روایات عدیدة منها وسائل الشیعة، ج14، ص572، ووسائل الشیعة، ج27، ص156، ووسائل الشیعة، ج9، ص572، وغیرها...

بتقریب عموم الموضوع غایة الأمر خرج منه مال النفس، فبأصالة عدم الملک أی عدم المخصص یحرز موضوع العموم، ولا یعارض بأصالة عدم ملک الغیر، لعدم ترتب الأثر علیه بالخصوص بحسب مفاد هذا الدلیل، بل الحرمة و الاثر مترتب علی مطلق مال المسلم من دون التقیید بالغیر.

السادس: التقریب فی عموم لا تَأْکُلُوا أَمْوالَکُمْ بَیْنَکُمْ بِالْباطِلِ (1).

علی تقدیر کون (بالباطل) من المحمول فی العموم المزبور کأن یؤول معناه ب (فانه) باطل نحو ذلک.

السابع: روایة محمد بن زید الطبری قال: کتب رجل من تجار فارس من بعض موالی أبی الحسن الرضا(علیه السلام) یسأله الاذن فی الخمس فکتب الیه:بسم الله الرحمن الرحیم ان الله واسع کریم ضمن علی العمل الثواب، و علی الضیق الهمّ، لا یحل مال إلا من وجه أحله الله، ان الخمس عوننا علی دیننا ...(2)، و رواه المفید فی المقنعة(3) والشیخ فی التهذیب(4) لکن بعنوان (محمد بن یزید) و لیس هو ابن جریر الکبیر الثقة لاختلاف الطبقة، بل هو الکوفی الاصل الذی ذکره الشیخ فی رجاله من اصحاب الرضا(5).

واشکل علی دلالتها: بأن موضوع عدم الحل فیها مال الغیر لا مطلق المال بقرینة تطبیقه(علیه السلام) علی الخمس فیکون المفاد نظیر آیة لا تأکلوا، من لزوم سبب محلل، و بأن أصالة الحل وجه من وجوه و أسباب الحل من

ص:231


1- (1) سورة النساء، الآیة 29.
2- (2) وسائل الشیعة، ج9، ص538، ابواب الانفال، باب3، ح2.
3- (3) المقنعه، ص283.
4- (4) التهذیب، ج4، ص139، باب الزیادات، ح17.
5- (5) رجال الطوسی، ص365، أصحاب الامام الرضا (علیه السلام)، حرف میم، رقم 16، طبعة جماعة المدرسین.

الله، فیکون المستثنی متحققا، هذا إذا ارید الحلیة الظاهریة من العموم، و ان ارید الواقعیة فلا بد من الاستعانة بأصالة عدم السبب المخصص، ومعها لا حاجة للعموم المزبور(1).

وبأن استصحاب العدم لا یحرز موضوع العموم اذ قد یکون السبب المحلل عنوانا عدمیا کعدم حیازة الغیر(2).

وفیه: ان التقیید بمال الغیر خلاف الاطلاق و التطبیق لا شهادة فیه علی ذلک، للانطباق مع الاطلاق ایضا، مع انه تقدم التقریب فی الآیة ایضا.

وأما الجمع بین اصالة الحل فی الشق الاول من التردید و أصالة عدم سبب الحل فی الشق الثانی، فتهافت حیث أن الأصل العدمی حاکم أو وارد علی أصالة الحل، وإلا فحکم التصرف المجرد و المشکوک ان کان یستفاد من أصالة الحل فاستصحاب عموم الملک أو عدم السبب لا تترتب علیه الحرمة بناء علی التفکیک المزعوم فی المقام بین الحکم التکلیفی وتجرده عن الوضعی وملک الانتفاع.

وأما الإشکال الأخیر فهو خلاف الفرض من العلم بعدم بقاء الملک علی الإباحة الأصلیة و عدم فائدة الحیازة الجدیدة فبضمها مع أصالة عدم حیازة الغیر لا ینتج الملک الجدید، نعم ذلک فیما کان فی الشبهة البدویة فی المباح الاصلی.

هذا کله عند الدوران بین ملکه و ملک الغیر من غیر فرق بین ان

ص:232


1- (1) التنقیح فی شرح العروة، ج2، ص335، من موسوعة السید الخوئی تقریرات الشهید علی الغروی. وکذا دلیل العروة، ج1، ص303.
2- (2) بحوث فی شرح العروة، للشهید السید محمد باقر الصدر، ج2، ص216.

تکون حالته السابقة من المباحات الأصلیة أو من ملک شخص ثالث سابق أو توارد علیه ملکیته و ملکیة غیره فی زمانین مجهولین أو لم تکن له حالة سابقة، اذ قد عرفت عدم إنتاج أصالة عدم حیازة الغیر فی التملک بالحیازة الجدیدة بعد العلم بخروجه عن المباح الأصل فی الصورة الأولی.

نعم لا بأس بعموم آیة لا تأکلوا، و لا یحل مال امرئ، مع أصالة عدم الملک المنقحة للموضوع بناء علی التقریب السابق فیهما من عموم موضوعهما فی کل الصور لا خصوص الصورة الثانیة کما فی المتن وإلا لجرت أصالة الحل فی الجمیع بناءً علی مفادها عند المتأخرین.

وأما لو دار بین کونه مباحا أصلیا أو ملک الغیر بالحیازة فقد اتضح جریان أصالة عدم حیازة الغیر، و لو دار بین کونه ملکا له أو للغیر مع العلم بکونه للغیر فی السابق فاستصحاب البقاء لا کلام فیه.

ص:233

ص:234

قاعدة إخبار ذی الید

اشارة

ص:235

ص:236

من قواعد المعاملات إخبار ذی الید

کلمات الأصحاب:

ذهب المشهور کما عن مصباح الفقیه(1) واتفاقهم ظاهرا کما عن الحدائق(2) خلافاً للمحقق الخونساری(3) الی حجیة إخبار ذی الید بالنجاسه، و لا ینبغی الشک فی قبول خبره بذلک و بالتطهیر کالإباحة و الحظر ونحوهما من الأحکام المشترط فیها العلم عن کشف الغطاء، و تردد بعض متأخری المتأخرین فیه أو فی مدرکه.

والصحیح هو تعمیم کاشف الغطاء(قدس سره) للأحکام المتعلقة بالعین، کما ذهب الی ذلک المحقق الهمدانی(قدس سره)(4) من استقرار طریقة العقلاء

ص:237


1- (1) مصباح الفقیه، ج8، ص132.
2- (2) الحدائق، ج5، ص252، فقال (ظاهر الاصحاب بالاتفاق علی قبول قول المالک فی طهارة ثوبه وإنائه ونحوها ونجاستهما...)
3- (3) قال الخونساری کما حکاة الحدائق (واما قبول المالک عدلاً کان أو فاسقاً فلم نظفر له علی حجه.
4- (4) مصباح الفقیه، ج8، ص172، فقال (وعمدة المستند فی اعتبار قول ذی الید هی السیرة القطعیة واستقرار طریقة العقلاء علی استکشاف حال الاشیاء وتمییز موضوعاتها بالرجوع الی من کان مستولیاً علیها متصرفاً فیها).

القطعیة علی استکشاف حال الأشیاء و تمییز موضوعاتها بالرجوع الی من کان مستولیا علیها متصرفا فیها، و جعل البناء العقلائی المزبور منشأ و مدرکا و دلیلا علی قاعدة من ملک شیئا ملک الاقرار به لا العکس کما قد یتوهم(1).

أدلة دعواهما:

الأول: ما ورد مستفیضا من اعتبار سوق المسلمین وارضهم فی الکشف عن التذکیة، علی ما هو الصحیح کما ذکرنا- عند بحث القاعدة- من کون السوق و الأرض فردا من أفراد ید المسلم أو إمارة علی یده و استعماله، مع أنه بثبوت التذکیة تثبت الطهارة و الحلیة و غیرهما.

ووجه الدلالة: هو أن إماریة الید المزبورة لیست من مخترعات الشارع من ناحیة الموضوع بل الشارع امضی حجیتها، کما انها لیست من مخترعات عرف المتشرعة بما هم متشرعة و إلا لکان من مخترعات الشرع، بل بما هم عقلاء تطبیقا للکبری الارتکازیة المزبورة فی المورد، فما ورد من الروایات امضاء مع ترصیف وتهذیب لهذا البناء فی المورد.

الثانی: ما ورد مستفیضا من نفوذ اقرار صاحب الید لغیره بالعین، فانه من الاخبار لا الاقرار المصطلح اذ حدّ الثانی فی ما کان ضررا و هو مجرد عدم ملکیته للعین، و أما ثبوتها للغیر فمتمحض فی حجیة الاخبار ذی الید.

ودعوی: انه من مقتضی مالکیة الید، حیث ان لها مدالیل التزامیة منحلّة وهی عدم ملکیة فرد فرد من مصادیق غیر ذی الید، ومدلولاً

ص:238


1- (1) بحوث فی شرح العروة، ج2، ص103، للسید الشهید الصدر (قدس سره).

مطابقیاً وهو ملکیة ذی الید، فبالاقرار لزید یسقط المدلول المطابقی وخصوص المدلول الالتزامی فی مورد زید دون بقیة مصادیق غیر ذی الید، فیکون زید مدعیا بلا معارض، کما ان القاعدة المزبورة انما هی فی خصوص الاثر التحمیلی علی المقرّ لا فی مثل الطهارة والنجاسة.

ضعیفة: بما حرر فی محلّه من عدم اقتضاء مالکیة الید لذلک حیث انه بالاقرار تختل کاشفیة الید عن الملکیة، و بالتالی یختل الکشف عن المدلول الالتزامی وجودا، و بذلک یندفع کونه من مقتضیات نفوذ تصرفات المالک ذی الید باعتبار الاقرار المزبور نحو تصرف.

هذا فضلا عن سقوط حجیة المدلول الالتزامی فی مثل هذه الموارد مما کانت الدلالة علیه غیر مستقلة جدا فی اللب، مع أن دعوی زید لا تکون بلا معارض ولو سلم بقاء المدلول الالتزامی فی بقیة مصادیق غیر ذی الید، اذ وجود إمارة لدی أحد المتخاصمین لا تسقط دعوی الآخر ولا تسدّ باب الترافع لاقامة البینة.

وأما تخصیص القاعدة فی الاثر التحمیلی الضرری، فممنوع بل هی فی غیر الاثر المزبور کما تقدم اذ الضرر حدّ نفی ملکیة ذی الید لا ثبوت ملکیة الغیر، نعم قد یقال بتخصیصها بالاخبار الصادر ممن یقع الضرر علیه لا من مثل الوکیل والولی.

الثالث: ما ورد من اعتبار قول ذی الید فی ذهاب ثلثی العصیر(1).

کصحیح معاویة بن عمار (عن الرجل من أهل المعرفة بالحق یأتینی بالبختج و یقول: قد طبخ علی الثلث. و أنا أعرفه انه یشربه علی النصف،

ص:239


1- (1) الوسائل، ج25، ص294، ابواب الاشربه المحرمة، باب7.

فاشربه بقوله و هو یشربه علی النصف؟ فقال(علیه السلام): لا تشربه، قلت: فرجل من غیر أهل المعرفة ممن لا نعرفه انه یشربه علی الثلث، و لا یستحله علی النصف یخبر ان عنده بختجا علی الثلث قد ذهب ثلثاه و بقی ثلثه یشرب منه؟ قال(علیه السلام): نعم)(1).

وصدره لا ینافی ذلک بل دال علی اشتراط عدم التهمة، و لیس فی ذیله اشتراط الوثوق إذ لم یقل نعرفه بکذا، بل نفی معرفة موجباً التهمة، نعم فی عدة منها حصر الاعتبار بالمسلم أو المؤمن العارف أو بما اذا کان العصیر یخضب الدال علی کثرة غلیانه.

لکن بقرینة مثل الصحیح المتقدم یکون ظهور الشروط و العناوین المزبورة فی أخذ الوثاقة، بل من القوة بمکان ظهور الصحیح المزبور فی مجرد نفی موجب التهمة، اذ نفی معرفة دیدنه العملی علی غیر مفاد اخباره کما نفی بناءه الاعتقادی المخالف، و هو بمثابة أخذ عدم المظنة بالخلاف و هو القدر المتیقن من البناء العقلائی فی قول ذی الید.

الرابع: معتبرة عبدالله بن بکیر قال: (سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن رجل اعار رجلا ثوبا فصلی فیه، و هو لا یصلی فیه قال: لا یعلمه، قال: قلت: فإن اعلمه قال: یعید)(2)، و الظاهر منها فرض الذیل فی عین المورد الذی هو فرض الصدر الی الاعلام حین الإعارة و الاعطاء لا بعد الاستعمال، و لا یخفی نکتة التعبیر بالعلم والاعلام عن الاخبار.

الخامس: روایة اسماعیل بن عیسی: قال: سألت أبا الحسن(علیه السلام) عن

ص:240


1- (1) المصدر، ح4.
2- (2) وسائل الشیعة، ج3، ص488، باب47 من أبواب النجاسات ح3.

جلود الفراء یشتریها الرجل فی سوق من اسواق الجبل، أیسأل عن ذکاته اذا کان البائع مسلما غیر عارف؟ قال: «علیکم أنتم أن تسألوا عنه اذا رأیتم المشرکین یبیعون ذلک، و اذا رأیتم یصلّون فیه فلا تسألوا عنه(1).

وموضع الاستشهاد صدره حیث أن الذیل من الطائفة الأولی المتقدمة، بتقریب أن الأمر بالسؤال فی فرض بیع المشرکین للجلد فی السوق دال علی حجیة الاخبار وإلا لکان لغوا، بل یمکن الاستظهار من الذیل کالصدر لا کالطائفة الأولی الواردة فی سوق المسلمین، لإرادة سوق الدیلم أو المنطقة الغربیة الجبلیة من ایران أو جبل الریّ من سوق الجبل و لم یکن الغلبة فیها للمسلمین.

ولا ینافیه ما فی بعض النسخ (الخیل) لأن سوقهم من أهل الجبل کما قیل، غایة الأمر یکون من حجیة فعل ذی الید، و بطریق أولی حجیة قوله.

والتفرقة: بینه و المقام حیث لا یکتفی بالفعل(2).

ضعیفة: بعد رجوع الموردین الی البناء العقلائی الواحد.

وقد یخدش الاستدلال بها: بأن السؤال کنایة عن الفحص لتحصیل العلم وبأنه فی مورد التذکیة لا الطهارة(3).

وفیه: أن (السؤال) فی الجواب هو (السؤال) المفروض فی سؤال الراوی وهو الاستخبار من البائع و الذی هو الدیدن العقلائی للاستعلام من ذی الید کما مرّ فی معتبرة ابن بکیر.

السادس: ما ورد فی متفرقات الابواب. من طهارة ما یؤخذ من ید

ص:241


1- (1) وسائل الشیعة، ج3، ص492، باب50 من أبواب النجاسات ح7.
2- (2) بحوث فی شرح العروة، للشهید الصدر، ج2، ص112.
3- (3) مستمسک العروة، للسید الحکیم، ج1، ص174.

المسلم(1)، مثل ما ورد فی الحجام انه مؤتمن علی تطهیر موضع الحجامة(2).

السابع: ما ورد من الأمر باعلام البائع للمشتری بنجاسة الدهن کی یستصبح به، بتقریب ما تقدم فی معتبرة ابن بکیر.

واشکل علیها: بأنه الأمر بالاعلام للخروج عن التدلیس والغش المحرم، أو لکون الغالب حصول الاطمینان من اخبار البائع برداءة المبیع و أن موردها من نمط الاقرار وهو غیر المقام.

ویرده: أن جعل الغایة استصباح المشتری ظاهر فی مفروغیة اعتبار الاخبار، و انه ایجاد للعلم و أعلام، وحصول الاطمینان فی الغالب فی الدیدن العقلائی من منشأ امارة ما هو معنی الإماریة النوعیة، و موردیة رداءة المبیع موجب لنفی حصول مظنة الخلاف والتهمة، وکونه من الاقرار المصطلح لا یخفی ضعفه ثم ان للبحث تتمة ذکرناه فی فصل طرق ثبوت النجاسة (من طهارة سند العروة، ج2.

تنبیهات قاعدة الید

الأول: عمومها لموارد الاستیلاء:

کما لو حصل بملک أو إعارة أو إجارة أو أمانة و یشهد له ما قدمناه من کون البناء علی استخبار حال الاشیاء و الأعیان من من هی تحت تصرفه لأخبریته فتعم الموارد، و کذا الأدلة الامضائیة کإخبار السوق و العصیر و غیرها.

ص:242


1- (1) الوسائل، ج3، باب50 من أبواب النجاسات ح1.
2- (2) المصدر، باب 56.
الثانی: عمومها لمورد الغصب:

تعمه القاعدة ما لم یکن المورد موجب للتهمة، اذ قد تقدم ان روایات العصیر المطبوخ ترشد الی اعتبار عدم التهمة فی اخبار ذی الید، و هو کذلک فی البناء العقلائی لغرض انتفاء الوثوق النوعی حینئذ المتحصل من الاخبریة المزبورة، ان جلّ الامارات العقلائیة منشأ اعتبارها عندهم هو ایجابها للوثوق النوعی.

الثالث: الحال فی اقرار الکافر:

یؤخذ بإقراره للغیر ما لم یکن موردا للتهمة، کما انه لا یخفی ان اشتراط عدم التهمة لیس اشتراطا لوثاقة ذی الید.

وقد یستدل لاعتبار اخبار ذی الید الکافر بروایة اسماعیل بن عیسی المذکورة فی قاعدة سوق المسلمین علیکم انتم ان تسألوا عنه اذا رأیتم المشرکین یبیعون ذلک للغویة السؤال مع عدم اعتبار الاخبار، الا انه قد تقدم ان مقتضی فرض السؤال فیها هو فی البائع المسلم غیر العارف، کما ان الذیل فیه فرض فیه صلاتهم.

کما انه قد یستدل للردع عن العمل باخباره بما ورد من التقیید فی أخبار ذی الید بالمسلم فی العصیر المطبوخ، و کذا ما ورد من عدم الاعتداد بقول الکافر فی تذکیة السمک، لکن فیهما نظر لکون کلا المورد موضع التهمة، حیث انه فی الاول یحتمل ان غرضه تناول المسلم العصیر و قبوله لهدیته أو لضیافته، و فی الثانی بیع السمک من المسلم هذا فلا بد من التثبت فی الموارد بلحاظ مظنة التهمة و نحوها مما یجهل الکافر جهات المخبر به.

ص:243

الرابع: عدم اعتبار کینونة العین فعلا تحت تصرف ذی الید:

کینونة العین فعلا تحت تصرف ذی الید غیر معتبرة ما دام مفاد اخباره انما هو عن الظرف الذی هو تحت تصرفه، لوحدة ملاک البناء العقلائی، و لما یستفاد من بعض أدلة الامضاء کروایات الأمر باعلام البائع للمشتری بنجاسة الدهن کی یستصبح به، وکذا روایات العصیر المطبوخ و الجلود المشتراة، حیث ان الاخبار هو بعد خروجها عن صاحب الید و هی شاملة لصورة ما اذا تمادت المدة الفاصلة بین خروج العین عنه و بین اخباره.

الخامس: هل یعتبر الإخبار بالنجاسة قبل الاستعمال:

ذهب العلامة فی التذکرة و صاحب الجواهر و جماعة الی انه یعتبر فی اخباره عن النجاسة أن یکون قبل الاستعمال و أما بعده فلا، و لعله لبنائه علی التعارض بین اخباره و قاعدة الفراغ فی الصورة الثانیة، لکن لو تمّ هذا التعارض فیما مضی من الاعمال فلا یتم فیما یأتی منها، و لعل مقتضی التقیّد بحرفیة القبلیة والبعدیة هو ذلک، لکن الظاهر هو ارادة تحدید الغایة و انقطاع الحجیة بالاستعمال، وعلی أیة حال الصحیح هو التعمیم لما فی اطلاق بعض أدلة الامضاء المشار الیها فی المسألة السابقة.

وقد یستدل له بمعتبرة ابن بکیر عن رجل اعار رجلا ثوبا فصلی فیه، وهو لا یصلی فیه قلت فان اعلمه قال(علیه السلام): یعید، باستظهار ان الاخبار و الاعلام هو بعد الاستعمال، لکن الصحیح ما قربناه فی حجیة اخبار ذی الید من کون الظاهر منها أن فرض الذیل هو عین المورد الاول أی الاعلام حین الاعارة و الاعطاء لا بعد الاستعمال، مضافا الی ان النجاسة المجهولة

ص:244

غیر مبطلة.

نعم لو کان مستند الحجیة لاخبار ذی الید منحصراً فی قاعدة اقرار صاحب الید لغیره بالعین لکان للتقیید بصورة ما قبل الاستعمال وجه، حیث ان الحجیة فیها محدودة بالید الفعلیة، و أما المعارضة المزبورة فلا مجال لها بعد کون الاخبار امارة لفظیة و کون قاعدة الفراغ امارة فعلیة أی ناشئة من الفعل، لتقدم اللفظیة علی الافعالیة.

هذا کله فیما کان ظرف مفاد الاخبار فی مدة فعلیة یده السابقة، ویحتمل ضعیفا ان تفصیل العلامة (قدس سره) هو بلحاظ ظرف المفاد.

السادس: هل یشترط استقلالیة الید لاجراء القاعدة:

الظاهر عدم الفرق بین کون الید مستقلة أو مشترکة بعد وقوع العین تحت التصرف بعموم الأدلة، نعم لو شک فی طروّ التطهیر أو التنجیس من ذی الید الآخر، لا بد من ضمّ الاستصحاب لبقاء الحکم السابق الثابت باخبار الید الاولی.

السابع: شرطیة البلوغ فی اجراء القاعدة:

فی عموم جلّ الأدلة السابقة للصبی الممیز تأمل ظاهر عدا السیرة العقلائیة، نعم بناءا علی سلب عبارة الصبی کما هو منسوب الی المشهور فلا اعتداد باخباره مع یده، و البحث مطرد فی مطلق الاخبار فی الامارات والشهادات ما لم یأت دلیل مقید کالعدالة بناء علی عدم تصورها فی الصبی.

ص:245

ص:246

قاعدة فی إقرار أحد الشرکاء بحق مشاع أو معیّن

اشارة

ص:247

ص:248

من قواعد باب الشرکة فی إقرار أحد الشرکاء بحق مشاع أو معیّن

اشارة

وأمثلة القاعدة کثیرة لا تنحصر فی الأمثلة التی ذکرها بعض المتاخرین کالسید الیزدی فی العروة (مسالة 85) من الحج. إذ قد یفرض شرکاء فی عین ومال یقرّ أحدهم بأنّهم قد باعوا مقدارا من المال بنحو الکلّی فی المعین أو المشاع لمشترٍ ما.

وقد یفرض بأن یقرّ أحد الورثة بخمس أو زکاة وغیرها من الصور.

والجامع بینها ما ذکرناه فی عنوان القاعدة إذ قد یکون الإقرار بملک أو بحقّ وکل منهما أمّا بنحو الإشاعة أو کلّی فی المعین وقد ذهب المشهور أنّ المقرّ فی کلّ تلک الصور إنّما یلتزم بالنسبة أی بنسبة مال المقرّ من ملک فی المجموع.

ومستند المشهور فی ذلک أخبار سیأتی التعرّض إلیها مفصّلا إلّا أنّ الکلام یقع فی ما هو مقتضی القاعدة إمّا لأجل أنّه لو کان مفادها علی خلاف مفاد الأخبار فاللازم الاقتصار علی موارد النصّ دون بقیّة الموارد.

وإمّا لأجل أنّ الأخبار غیر تامّة دلالة أو سندا.

فیقع الکلام فی القاعدة من جهتین:

ص:249

الجهة الاولی: فی مقتضی القاعدة:
اشارة

فقد یقرب أنّ مقتضاها فیما إذا أقرّ أحد الشرکاء فی الإرث أو غیره بالدین و هو مثال الإقرار بالملک أو الحقّ بنحو الکلّی فی المعیّن أنّه یجب علی المقرّ إعطاء تمام الدین من سهمه لأنّ المفروض أنّ الدین مقدّم علی الإرث فی الأدلّة و کذلک الملک بنحو الکلّی فی المعیّن فإذا ورد تلف أو غصب علی المال فإنّ درکه یکون علی الورثة دون الدین بالإجماع و کذلک فی الأمثلة الاخری کمال المشاع بین شرکاء إذا ورد تلف فإنّه لا یرد بنقص علی من له معهم ملک بنحو الکلّی فی المعیّن، کما لو افترضنا أنّ مشتریاً اشتری منهم صاعا من صبرة فکذلک الحال فی المقام حیث إنّ إنکار بقیّة الورثة غایته أن یکون کالغصب أو التلف فلا یرد علی الدین کما هو مقتضی الکلّی فی المعیّن.

ولک أن تقول إنّ عموم تقدّم الدین والوصیة علی الإرث یقتضی تقدیمه علی إرث الوارث المقرّ به.

وبعبارة ثالثة: أنّ وظیفة المقرّ الواقعیة هی إخراج الدین أوّلا ثمّ أخذ ما بقی إرثا إنّ بقی شیء غایة الأمر یکون الورثة المنکرون قد غصبوا من سهم المقرّ من الإرث.

وکذلک الحال فیما کان الإقرار لوارث أو شریک وأنکر ذلک بقیّة الورثة أو الشرکاء فإنّ مقتضی الإقرار کون ما بید المقرّ شرکة مشاعة بینه وبین المقرّ له من الوارث والشریک. وأنّ القسمة التی وقعت والفرز للأسهم باطلة لأنّها إنّما تصحّ برضی جمیع الشرکاء والفرض أنّ المقرّ له لم یأذن بذلک فیکون ما بید المقرّ مالا مشترکا لم یقسم بعد وهذا تقریب رابع لمقتضی القاعدة.

ص:250

قول آخر فی مقتضی القاعدة:

هذا وقیل إنّ مقتضی القاعدة فی هذه الموارد إلزام المقرّ بنسبة ماله من ملک فی المال المشترک.

ویقرّب ذلک بوجوه:

الوجه الأوّل: إنّ وجوب أداء الدین أو حقّ الوارث لیس وجوبه کلّه متوجّها للمقرّ فالدین مثلا لیس وجوب إخراجه من الترکة متوجّها إلی کلّ واحد من الورثة علی نحو الاستقلال الاستغراقی أو البدلی بل الوجوب فیه مجموعی موزّع بالنسبة.

نعم الواجب المجموعی تارة یکون ارتباطیاً بحیث یسقط عن البعض بعصیان البعض الآخر و قد یکون استقلالیا لا یسقط عن البعض بترک البعض الآخر. وکذلک الحال فی الإرث.

وفیه: أنّ ذلک و إن کان محتملا ثبوتا إلّا أنّ عمومات من بعد وصیة أو دین و قوله(علیه السلام): (لیس للورثة شیءٌ حتی یؤدّوا) هو خلاف ذلک فهو من قبیل الواجب الکفائی والبدلی. و هو مقتضی الکلّی فی المعیّن کما أنّ مقتضی الإشاعة کذلک هو المشارکة فی کلّ جزء جزء.

الوجه الثانی: أن یقال فی خصوص الإقرار فی المشاع کما فی الإقرار بالوارث دون الکلّی فی المعیّن أنّ ما بید المقرّ حیث إنّه مشترک بینه وبین المقرّ له وبین المنکرین فشطر ممّا بیده له و شطر ممّا بیده للمقرّ له و شطر ممّا بیده للمنکرین فللمقرّ له أن یأخذ شطرا ممّا بید المقرّ بالنسبة وللمقرّ أن یأخذ شطره و شطر المنکرین مقاصة لأنّ ما بید المنکرین أیضا یشطر إلی ثلاثة أشطار فشطر منه یعود إلی المقر.

وفیه: أنّ التشطیر ان کان بمعنی القسمة فالمفترض أنّها باطلة لعدم

ص:251

الإذن من المقرّ له لأنّه أحد الشرکاء.

وإن لم یکن بمعنی القسمة فالمال مشترک مشاع فلیس المقرّ أولی من المقرّ له به.

الوجه الثالث: إنّ الإقرار بالدین أو الوارث ونحو ذلک من الکلّی فی المعیّن أو المشاع لا یثبت تمام الدین ولا تمام إرث الوارث المقرّ له وإنّما یثبته بنسبة ما للمقرّ من ملکیة مع بقیّة الورثة أو الشرکاء لأنّ إقراره غیر نافذ علی الآخرین وإنّما ینفذ علی نفسه أی بحسب ماله من نسبة فی المال فصورة إقرار المقرّ وإن کان بتمام الدین إلّا أنّ الدین حیث یفترض فیه تعلّقه بتمام الترکة أی یتعلّق بکلّ المال فإنّه لا ینفذ فی حصص الآخرین بل ینفذ بنسبة ما للمقرّ من حصّة.

وفیه: أنّ اللازم أوّلا تنقیح وظیفة المقرّ بحسب الواقع بغضّ النظر عن الإقرار و من ثمّة یتنقح مقدار ما یثبته الاقرار ویلزم بذلک المقرّ، والمفروض أنّ وظیفة المقرّ بحسب الواقع بمقتضی عمومات من وصیّة أو دین هو إخراج الدین بتمامه لأنّه مقتضی بعدیة الإرث وهو مقتضی الکلّی فی المعیّن وکذلک مقتضی إشاعة الإرث فیما لو أقرّ بوارث آخر والإقرار یلزم المقرّ بحسب وظیفته التی أقرّ بها فاللازم کون مقتضی القاعدة هو القول الأوّل لا الثانی.

والتحقیق:

أنّ مقتضی القاعدة هو القول الثانی دون الأوّل وهو ما ذهب إلیه المشهور.

بیان ذلک:

أنّ القسمة وإن کانت باطلة والدین والکلّی فی المعیّن وإن کانا

ص:252

متقدّمین علی الملکیة المشاعة إلّا أنّ إنکار بقیّة الورثة أو الشرکاء الذی هو بمنزلة التلف أو الغصب لیس عین التلف والغصب لأنّهما ضرر وخسارة ترد علی المال بجملته فتردّ علی الملک المشاع دون الکلّی فی المعیّن وهذا بخلاف إنکار المنکرین فإنّه غصبا وتلفا وضررا أو خسارة لا تردّ علی المال بجملته ولا علی نسبة مقدار ما یملک المقرّ فی المال وإنّما یرد هذا الضرر والغصب علی خصوص الدین أو علی إرث الوارث المقرّ له وهذا ممّا یشترک فیه الکلّی فی المعیّن والکلّی المشاع.

وبعبارة اخری: أنّ مجموع المال وإن لم تقع فیه القسمة إلّا أنّ مقدار مال المقرّ حیث أنّ المفروض ثبوته وعدم تعدّی أحد علیه بخلاف مال المقرّ له فإنّ إنکار بقیّة الشرکاء عدوانا علیه ولیس من الواجب علی المقرّ أن یتحمّل الضرر المتوجّه بالخصوص علی المقرّ له ولیس مقتضی بعدیة الإرث للدین هو تنزیل الضرر المتوجّه للدین بخصوصه وتوجیهه إلی الإرث.

ولک أن تسمّی ذلک الضرر المتوجّه إلی المقرّ له بالتلف الحکمی.

الجهة الثانیة: فی الأخبار الواردة:

وعمدتها موثّقة إسحاق بن عمّار عن أبی عبد الله(علیه السلام) فی رجل مات فأقرّ ورثته لرجل بدین قال: یلزم ذلک فی حصّته(1).

وخبر أبی البختری وهب بن وهب عن جعفر بن محمّد عن أبیه(علیه السلام) قال: قضی علی(علیه السلام) فی رجل مات و ترک ورثة فأقرّ أحد الورثة بدین علی أبیه أنّه یلزم (یلزمه) ذلک فی حصّته بقدر ما ورث، و لا یکون ذلک فی ماله کلّه و إن أقرّ اثنان من الورثة و کانا عدلین اجیز ذلک علی

ص:253


1- (1) وسائل الشیعة، ج19، ص324، باب26، من ابواب الوصایا، ح3.

الورثة و إن لم یکونا عدلین الزما فی (من) حصّتهما بقدر ما ورثا و کذلک إن أقرّ بعض الورثة بأخ أو اخت إنّما یلزمه فی حصّته)(1).

وظاهر الروایة الاولی: قابل للانطباق علی کل من قول المشهور والقول الآخر. وقد یقال بانطباقه علی القول الآخر بظهور عبارة یلزمه فی لزوم الدین کله لعود الضمیر إلی تمام الدین لا لبعضه.

وأمّا ظاهر الروایة الثانیة فقوله(علیه السلام): (بقدر ما ورث) استظهر منه الشیخ إرادة الکسر أو النسبة أی بنسبة ما ورث أی یلزمه من الدین بنسبة ماله من الإرث.

وقوله: (ولا یکون فی ماله کلّه ...) أی لا یکون من ماله الذی ورثه کلّه یمکن تضعیف هذا الاستظهار بأنّ الدین إذا کان مستوعبا أو زاد علی الترکة فلا مجال لتقدیر النسبة إذ یلزمه حینئذ دفع تمام ما ورث ومن ثمّة یمکن حمل قوله(علیه السلام) علی أنّه یلزم الوارث الدین فی حصّته لا فی حصص البقیة بالقدر الذی ورثه أی ما ورثه لا فی بقیّة أموال الوارث أو بعود الضمیر فی ماله إلی المیّت أی لا یکون فی مجموع الترکة و یعضد هذا الاحتمال ما فی ذیل الروایة من فرض إقرار اثنین من الورثة بالتفاصیل بین کونهما عدلین أو غیرهما ممّا هو مسوق لبیان متی یلزم الجمیع ومتی لایلزمهم.

و لکن الانصاف أنّ الاحتمال الأوّل أظهر و علی فرض الإجمال فالاحتمال الأوّل مطابق لمفاد القاعدة.

وروایة الفضل بن یسار قال: أبو جعفر(علیه السلام) فی رجل مات و ترک

ص:254


1- (1) المصدر، ح5.

امرأته وعصبته و ترک ألف درهم فأقامت المرأة البیّنة علی خمسمائة درهم، فأخذتها وأخذت میراثها ثمّ إنّ رجلا ادّعی علیه ألف درهم ولم یکن له بیّنة فأقرّت له المرأة فقال أبو جعفر(علیه السلام) (أقرّت بذهاب ثلث مالها ولا میراث لها تأخذ المرأة ثلثی الخمسمائة وتردّ علیه ما بقی لأنّ إقرارها علی نفسها بمنزلة البیّنة)(1).

ودلالة هذه الروایة نصّ علی ما ذهب إلیه المشهور، حیث إنّ فرض الروایة کون الزوجة (المرأة) وارثة مع عصبة المیّت.

مع فرض أنّ المرأة دینها بمقدار نصف الترکة، ثمّ إنّها أقرّت بدائن دینه بمقدار الترکة کلّها فإنّ مقتضی إقرارها أن لا ترث ولا یرث العصبة وتقسّم الترکة ثلثاها للمقرّ له وثلث لدینها فحینئذ یکون للمرأة ثلاثمائة وکسر وللمقرّ ستمائة وکسر إلّا أنّ المرأة إنّما تعطی المقرّ له ما زاد علی قدر ما تأخذه بالنسبة وهو مساوی ثلثی الخمسمائة.

تتمتان:

الأولی: إنّ ما تقدّم من اشتراک الکلّی فی المعیّن و الکلّی المشاع فی صورة الإقرار بهما من أحد الورثة أو الشرکاء و إنکار البقیّة من کون التلف حکمیا یرد علی خصوص الکلّی مطلقا المقرّ به لا ینافی افتراق الکلّی المعیّن والمشاع المقرّ بهما من جهة اخری وهی أنّ نسبة ما للدائن الکلّی فی المعیّن فی ما ورث المقرّ وإن کانت بنسبة ما ورث المقرّ إلّا أنّ هذا التعلّق للدین فی حصّة المقرّ یظلّ کلّیا فی المعیّن وإن لم یکن تمام الکلّی بل نسبة منه وکذا الحال فیما إذا کان المقرّ له وارثا آخر فإنّ نسبة ما للوارث الآخر فی حصّته المقرّ کلّی

ص:255


1- (1) المصدر، ح9.

مشاع وإن لم یکن تمام الکلّی فلو ورد تلف جدید علی حصّة المقرّ و ما بیده لو فرضنا أنّ التحاص والقسمة واقعة فإنّ هذا التلف المزبور لا یرد علی الکلّی فی المعیّن فی الصورة الأولی ولکنه یرد علی الکلی المشاع فی الصورة الثانیة ومنه یظهر أن صاحب العروة وتنزیله للإقرار بالدین منزلة الإقرار بالإرث مطلقا غیر تامّ.

الثانیة: وممّا تقدّم یتّضح الحال فیما لو کان الإقرار بالحجّ کان ما یجب علی الوارث المقرّ دفعه هو ما یخصّ حصّته بعد التوزیع.

وحینئذ فإن لم یف ذلک بالحجّ کما هو المفروض ولو المیقاتی فاللازم حفظه مع رجاء إقرار الورثة أو وجدان متبرّع لأنّ تعلّق الحجّ بذلک المقدار کحقّ ولا یسقط حینئذٍ بل لو یأس من ذلک فاللازم احتیاطا إعطاؤه لولی المیّت نظیر بقیّة الحقوق المالیة المتعلّقة بالمال.

ص:256

قاعدة تقدیم حق الناس علی حق الله

اشارة

ص:257

ص:258

من القواعد الحقوقیة العامة تقدیم حق الناس علی حق الله

اشارة

قد قیل بتقدیم الدین علی الحجّ الواجب(1) بمقتضی قاعدة تقدیم حقّ الناس علی حقّ الله، المنسوبة إلی المشهور، وقیل بالتخییر(2) لعدم ثبوت القاعدة بعد احتمال الأهمّیة فی کلّ من الطرفین فلا بدّ من البحث فی مقامین:

أوّلا: بحسب مقتضی القاعدة المدّعاة أو بحسب الأصل العملی.

ثانیا: بحسب الروایات الخاصّة.

أمّا الکلام بحسب قاعدة تقدیم حقّ الناس علی حقّ الله فقد عرفت نسبتها إلی المشهور، بل قیل إنّها من مرتکزات المتشرّعة، ولذا قیل بالتسالم علی عدم وجوب الحجّ و الصلاة أو الصوم إذا توقّف علی التصرّف فی مال الغیر کما ذکروا ذلک عند التوسّط فی دار غصبیة و لا یخدش فی دلالة هذا التسالم علی المطلوب وبالتسالم علی عدم وجوب أداء الزکاة أو الکفّارات أو

ص:259


1- (1) کما ذهب الی ذلک العلامة فی المنتهی، ج2، ص652، والشهید فی الدروس، ج1، ص310، وغیرهما.
2- (2) کما اشارة النراقی فی المستند، ج11، ص43.

الخمس إذا توقّفت علی ذلک لأنّ هذه الأمور الثلاثة لیست من حقّ الناس ابتداءً بل هی متفرّعة علی الحکم الشرعی بخلاف ما هو مورد البحث فإنّه فیما یتفرّع الحکم الشرعی علی حقّ الناس.

الاستدلالّ لهذه القاعدة بالروایات:

الطائفة الاولی: الروایات الواردة فی الکبائر(1) فإنّ فیها تعداد حقوق الناس من الکبائر فی مصاف الشرک أکثر من بقیّة الذنوب فلاحظ.

الثانیة: ما رواه الصدوق(2) باسناده فی عیون أخبار الرضا(3) - عن الرضا عن آبائه(علیهم السلام) - قال: (قال رسول الله صلی الله علیه و آله إنّ الله عزّ و جلّ غافر کلّ ذنب إلّا من أحدث دینا أو اغتصب أجیرا أجره أو رجل باع حرّا).

الثالثة: روایة سعد بن طریف عن أبی جعفر(علیه السلام) قال: (الظلم ثلاثة: ظلم یغفره الله، و ظلم لا یغفره الله، و ظلم لا یدعه الله؛ فأمّا الظلم الذی لا یغفره فالشرک، و أمّا الظلم الذی یغفره فظلم الرجل نفسه فیما بینه و بین الله، و أمّا الظلم الذی لا یدعه فالمداینة بین العباد)(4).

و رویت فی نهج البلاغة(5) عن علیّ(علیه السلام) ونظیرها مصحّحة أبی عبید الحذّاء(6) قال: قال أبو جعفر(علیه السلام): قال رسول الله صلی الله علیه و آله : من

ص:260


1- (1) الوسائل، باب 46، من ابواب جهاد النفس.
2- (2) وسائل الشیعة، ج16، ص55. طبعة آل البیت.
3- (3) عیون اخبار، الرضا (علیه السلام) ، ج2، ص33.
4- (4) وسائل الشیعة، ج16، ص53، باب78 ابواب جهاد النفس، ح1.
5- (5) نهج البلاغة، الخطبة 176.
6- (6) الوسائل، ج16، باب78، ح6.

اقتطع مال مؤمن غصبا بغیر حقّه (حلّه)(1) لم یزل الله معرضا عنه ماقتا لأعماله التی یعملها من البرّ و الخیر لا یثبتها فی حسناته حتَّی یتوب و یردّ المال الذی أخذه إلی صاحبه.

الرابعة: روایة دعائم الإسلام(2) روینا عن جعفر بن محمّد (علیه السلام) لام أنّ رجلا أتاه فقال:

أبی شیخ کبیر لم یحجّ فاجهّز رجلا یحجّ عنه؟ فقال: نعم إنّ امرأة من خثعم سألت رسول الله صلی الله علیه و آله أن تحجّ عن أبیها لأنّه شیخ کبیر فقال رسول الله صلی الله علیه و آله : نعم فافعلی إنّه لو کان علی أبیک دین فقضیته عنه أجزأه ذلک.

ومثلها الروایة الثالثة فی نفس الباب إلّا أنّها مذیّلة بقوله: (فدین الله أحقّ)، و لکن قد یتنظّر فی دلالة هذه الروایات علی أهمّیة حقّ الناس علی حقّ الله حیث أنّ الطائفة الاولی لیست متعرّضة لعموم حقّ الناس بل لموارد خاصّة منه، بل هی متعرّضة أیضا لبیان أن بعض حقوق الله هو بدرجة من الأهمّیة یفوق بعضه حقوق الناس ویساوی بعضه الآخر بعض حقوق الناس المذکورة فی الروایة وبعبارة اخری، ظاهر أدلّة الکبائر أنّ ملاک کلّ حکم بحسبه من الأهمّیة بغضّ النظر عن کونه من حقوق الله أو حقوق الناس و لذا ذکر فیها بعض حقوق الله وبعض حقوق الناس و بترتیب خاصّ فهی دالّة علی أنّ مقتضی القاعدة فی تزاحم الحقّین إتباع أهمّیة الملاک لاجهة اخری.

ص:261


1- (1) فی نسخة عقاب الاعمال.
2- (2) دعائم الاسلام، ج1، ص336.

وأمّا الروایة الثانیة فمضافا إلی عدم ذکر عموم حقوق الناس بل خصوص بعضها - وإن کان قد یقال إن غصب الأجیر أجره کنایة عن مطلق المال - أنّ عدم الغفران هو لما یشترط فی غفران التوبة و هی یشترط فیها فی حقوق الناس ردّ حقوقهم ورضاهم، فلیست هی فی صدد بیان أهمّیة ملاک حقوق الناس کما فی الشرک، بل لبیان إناطة الغفران برضا الغیر کما هو صریح مفاد الروایة الثالثة أیضا.

مع أنّه قد وردت فی خصوص بعض أعمال البرّ أنّ الله عزّ و جلّ یرضی خصوم العامل بذلک البرّ یوم القیامة، فتأمّل.

وأمّا الرابعة فهی قد تقرب بأنّ المشبه به أقوی من المشبه و لکن ما فی بعض الطرق من مضمون هذه الروایة فی ذیلها انّ دین الله أحقّ بالقضاء فإنّها بصدد بیان إخراج حجّة الإسلام من أصل الترکة کما فی الدیون المالیة لا من الثلث، لا فی صدد بیان أهمیة ملاک الدیون. مع أنّ التعبیر ب--(أحقّ بالقضاء) وإن فسّر بغیر مقام المزاحمة مع دیون الناس بمعنی أنّه کما تقضی دیون الناس فکذلک دیون الله هی تقضی بل هی أولی بأن تقضی. إلّا أنّه لا یخلو من دلالة أیضا عل الترجیح فی مقام المزاحمة.

فتحصّل: أنّ المدار فی التقدیم هو علی أهمّیة الملاک کما هو مقتضی القاعدة الأوّلیة و کما دلّت علیه طائفة روایات الکبائر. نعم لو فرض فی مورد العلم بتساوی الملاکین حینئذ قد یقال بترجیح حقّ الناس بمقتضی أنّه لا یترک و لعموم أدلّة حرمة حقوقهم. لاسیّما مع ما ثبت فی بعض الموارد من أنّ الحرمة التکلیفیة لحقوقهم وإن ارتفعت بالمزاحم الأهمّ إلّا أنّ الحرمة الوضعیة باقیة کما فی أخذ المشرف علی الهلاک فی وقت المجاعة من مال غیره و مع الالتفات إلی أنّ التصرّف فی حقوقهم یحتاج إلی جعل

ص:262

الولایة و قد لا یتکلّفها مجرّد فرض التزاحم. ولعلّ إلی هذا الوجه الأخیر نظر المشهور فیما نسب إلیه من تقدیم حقوق الناس عموما و لا یخلو من قوّة فیما سوی الموارد التی یبلغ فیها حقّ الله درجة من الأهمّیة یعلم بعدم رفع الشارع یده عنها ولو بالابتلاء بالمزاحم.

فالنکتة هی أنّ مجرّد المزاحمة لا یسوّغ التصرّف فی حقوق الغیر لتوقّفه علی الولایة أو الإذن الشرعی الخاص. نظیر ما ورد من أنّ التقیّة إنّما شرعت لتحقن بها الدماء فإذا بلغت الدم فلا تقیّة، حیث استفاد منها المشهور أنّه لو دار الاکراه من الظالم بین قتل نفسه و دم الغیر أنّه یحرم علیه دم الغیر لکون النفی هنا لمشروعیة التقیّة و مؤدّاه حرمة دم الغیر علیه و إن کانت نفسه فی معرض الهلکة. هذا مؤیّد - إن لم یکن شاهداً - لما أسلفنا من النکتة. فلاحظ ما ذکروه فی فروعات التقیة إذا استلزمت اتلاف مال الغیر أو عرضه و نحو ذلک من لزوم أن یکون الطرف المقابل هو حفظ نفسه و نحو ذلک. و کذا لاحظ ما ذکروه من فروعات کتاب المشترکات عند تعارض الضررین و تزاحم الحقوق بین الشخص وجاره، فإنّه نافع فی المقام.

فتحصّل: قوّة ما ینسب إلی المشهور فیما سوی حقوق الله التی ثبتت أهمّیتها بنحو لا یرفع الشارع الید عنها. هذا إذا لم یثبت قاعدة أنّ دین الله أحقّ بالقضاء، فتأمّل.

کما یمکن توجیه هذه القاعدة المسنوبة إلی المشهور بأنّ حقوق الله التی هی من التکالیف المحضة مقیّد تنجیزها عقلا بالقدرة و أمّا حقوق الناس فالمفاد الوضعی فیها غیر مقیّد بالقدرة کما أنّ المفاد التکلیفی فیها لایرتفع تنجیزه إلّا بالاضطرار المعیّن إلیه بدرجة تفوق فی الملاک و مع ذلک

ص:263

لا ینتفی الحکم الوضعی حین الاضطرار المعیّن.

وبالجملة فما علیه المشهور تامّ فیما عدا حقوق الله التی ثبت عدم رفع ید الشارع عنها ممّا کان علی درجة من أهمّیة الملاک العالیة.

ومن ثمّ یتّضح ما حکی من تسالمهم المتقدّم فی صدر القاعدة.

فحینئذ فی المقام إن ثبتت أهمّیة الحجّ بنحو لا یرفع الشارع یده فیکون من مستثنی القاعدة المزبورة. وإلّا فتحکّم القاعدة.

ولو غضضنا النظر عن تلک القاعدة فهل مقتضی القاعدة حینئذ التخییر أو تعیین أحدهما؟

قال فی المستمسک (1) : انّ توزیع الترکة علی الحجّ والدین بعد الوفاة یدلّ علی عدم الأهمّیة للدین و إلّا لزم تقدّم الدین علی الحجّ و فی بعض الحواشی الإشکال علی ذلک: بأنّ الدین و الحجّ لما تعلّقا - بعد الموت - بأعیان الترکة لم یبق لرعایة الأهمّیة موقع.

وفیه: أنّه إذا کان الدین أهم کان اللازم أن لا یتعلّق الحجّ بالترکة مع المزاحمة بالدین کما لم یتعلّق المیراث مع المزاحمة للوصیة و لا الوصیة مع المزاحمة للدین و لا الدین مع المزاحمة لتجهیز المیّت فتعلّق الحجّ و الدین معا مع المزاحمة یدلّ علی عدم أهمّیة الدین من الحجّ، انتهی.

أقول: فی ما استشکله (قدس سره) علی المحشی نظر، أنّه قد وقع الخلط بین علل الجعل وعلل المجعول والأهمّیة فی المقام الأوّل مع الأهمّیة فی المقام الثانی.

بیان ذلک: أنّ تأخّر الوصیة و الإرث من الدین لیس للأهمّیة فی باب

ص:264


1- (1) مستمسک العروة الوثقی، ج10، ص99.

التزاحم وهی الأهمّیة فی مقام المجعول بل لتقیّد الموضوع شرعا بعدم الدین فتأخّرهما من باب ورود الدین علیهما. غایة الأمر هو کاشف عن أهمّیة الدین فی علل الجعل؛ إذ لم یقیّد موضوعه الشرعی بشیء بخلاف الوصیة والإرث. و أین هذا ممّا نحن فیه من التزاحم و عدم ورود أحدهما علی الآخر. نعم لو بنی فی باب الوصیة والإرث علی عدم تقیّد موضوعهما بعدم الدین کما هو قول بعض، وأنّ للورثة أن یؤدّوا دین المیّت من أموالهم و یرثوا ترکة المیّت فلهم نحو حقّ فی الترکة مع فرض الدین. غایة الأمر حقّ الغرماء مقدّم علی حقّهم فی الأهمّیة کان استشهاد الماتن وإشکال المستمسک علی المحشی فی محلّه، ولعلّ الماتن یبنی علی الثانی وکذا المستمسک.

هذا ومن ثمّ یتّضح تمامیة إشکال المحشی علی الماتن علی القول الأوّل حیث إن الواجبین قبل الموت لم یتعلّقا بعین المال فتعیّن ملاحظة الأهمّیة إن کانت وإلّا فالتخییر، و أمّا بعد الموت فکلّ منهما قد تعلّق بالعین بنحو الشرکة و لا یلحظ فی المشاع المشترک الأهمّیة التی فی باب التزاحم؛ لأنّ سنخ التعلّق واحد فی الشرکاء وهو تعلّق حقّ مالی أو إضافة ملکیة.

وعلی أیّة حال فمقتضی القاعدة عند الشکّ حینئذ التخییر للشکّ أو التخییر للتساوی فی الأهمّیة.

أمّا الروایات الخاصّة:

فقد یستشهد لتقدیم الحجّ بما تقدّم من روایات فی الشقّ الأوّل من المسألة لاسیّما صحیحة أبی الصباح الکنانی الظاهرة فی طروّ الدین بعد استقرار الحجّ. لکن قد ینتظر فی دلالتها بأنّها فی مورد من یستطیع أداء

ص:265

الدین بعد الحجّ أو لتقدّم الحجّ زمانا فی فرض الروایة و هو مرجّح فی باب التزاحم عند بعض.

لکن الانصاف أنّه لا تخلو الصحیحة من دلالة حیث أنّ الظاهر فرض الراوی کون الدین معجّلا ومن ثمّ مانع ذهابه لأداء الحجّ وإن کان هو یقدر علی وفائه فیما بعد إذ لافرق فی التزاحم فی فرض المقام بین فرض الروایة وفرض عدم تمکّنه من الوفاء بعد الحجّ؛ إذ المراد منه أیضا عدم تمکّنه من الوفاء به إلّا بعد مدّة غیر معلومة لا القطع بعدم التمکّن إلی آخر العمر.

لاسیّما ما فی دلالة بقیّة الروایات من تعلیل تقدیم الحجّ بأنّه سبب لقضاء الدین فکأنّه جمع بین الأدائین ولو مع تأخیر أحدهما. وهی وإن کانت فی موارد الندب لکن دلالتها علی المقام بالأولویة.

إن قلت: لازم ذلک تقدیم الحجّ علی الدین حتَّی فی عام الاستطاعة ورفع الید عن الروایات المعارضة المقیّدة للحجّ بالوثوق بأداء الدین بعد الحجّ.

قلت: فرق بین الفرضین کالفرق بین الورود والتزاحم والروایة المعارضة واردة فی الفرض الأوّل، أی فی عام الاستطاعة، بینما صحیحة أبی الصباح واردة فی الثانی والروایات الاخری الموافقة لها فی المضمون عامّة یرفع الید عنها فی خصوص عام الاستطاعة للمعارضة دون مورد المزاحمة بعد الاستطاعة.

وعلی أیّة حال ففی الصحیحة کفایة وغنی.

فتحصّل: أنّ الحجّ نظرا للصحیحة المزبورة ولسان الوعید بالکفر فیها یکون المورد من مستثنیات قاعدة تقدیم حقوق الناس.

ص:266

قاعدة المیتة وعدم المذکی

اشارة

ص:267

ص:268

من قواعد باب الطهارة والأطعمة المیتة وعدم المذکی

الأقوال فی المسألة:

المعروف المشهور فی کلمات الأصحاب(1) أن المیتة اعم مما مات حتف انفه او قتل او ذبح علی غیر الوجه الشرعی ، والقول الآخر هو أنها مطلق ما زهقت روحه بسبب شرعی أم لا أی بمعنی الموتان المقابل للحیّ، وقد حکاه فی العوائد عن بعض المشایخ فی شرحه علی النافع(2)، والقول الثالث أنه خصوص ما مات حتف أنفه فی قبال الحیّ والمذبوح بسبب شرعی أو غیر شرعی(3).

وقد حکاه شارح نجاة العباد (قدس سره) عن بعض المشایخ المتأخرین، کما حکی السید البروجردی عن بعض اختیاره، ومال إلیه موضوعا لا حکما

ص:269


1- (1) قال صاحب عوائد الایام، ص600 (وهو الظاهر من کلام الاکثر والمستفاد من تتبع کلمات الفقهاء ..).
2- (2) عوائد الأیام، ص600، ولعل مراده من بعض المشایخ السید صاحب الریاض، ریاض المسائل، ج2، ص279.
3- (3) هذا القول ظاهر من شرح المفاتیح للشیخ البهبهانی (مخطوط) مفتاح78.

فی المذبوح بسبب غیر شرعی هذا ولاصحاب القول الأول ثلاثة تفاصیل یأتی ذکرها.

ثمرة الأقوال:

ولا یخفی ظهور الثمرة بین الأقوال فی الحکم الواقعی والظاهری عند الشک.

فعلی الأول الحرمة والنجاسة تشمل المیت حتف أنفه والمذبوح بسبب غیر شرعی دون المذکی بالسبب الشرعی، وعند الشک فی وقوع التذکیة لا یمکن التمسک بعموم نجاسة المیتة، کما أن الاصل العدمی ناف لموضوع النجاسة فتجری قاعدة الطهارة.

وأما علی الثانی فالحرمة والنجاسة کالاول إلا أن خروج المذکی حکمیّ لا موضوعی، أی بالتخصیص لا بالتخصص، وحینئذ یفترق عن الأول عند الشک فی امکان التمسک بعموم نجاسة المیتة باستصحاب عدم المخصص أی أصالة عدم التذکیة، کما أن مقتضی الأصل العملی هو النجاسة حیث أن الموضوع مرکب من المیت الذی زهقت روحه ولیس بمذکی أولم تقع علیه التذکیة.

وأما علی الثالث فالحرمة کالاولین، وأما النجاسة فخاصة بما مات حتف أنفه وأما المذبوح بسبب شرعی أو غیر شرعی کذلک الصید بسبب شرعی أو غیر شرعی فطاهر واقعا، وأما عند الشک فی الموت حتف الأنف فأصالة عدم الموت حتف الأنف الذی هو عنوان وجودی - سواء قلنا بأن الموت حرکة الروح الی الخارج أو انعدام وانفصال الروح عن البدن - نافیة لموضوع النجاسة فتجری قاعدة الطهارة.

ص:270

هذا فضلا عن الشک فی وقوع التذکیة الشرعیة مع العلم بأصل الذبح أو الصید فانه طاهر واقعا، ثم انه لا یخفی افتراق الأقوال فی المانعیة للصلاة من جهة عنوان المیتة سواء کان وجه المانعیة فیها هو النجاسة أم هو نفس العنوان وذات الموتان مطلقا، وسواء عند العلم أو الشک. هذا محصّل الفرق بین الأقوال.

فی المسألة مقامان:
اشارة

الأول: تحدید المیتة التی هی الموضوع من بین الاقوال الثلاثة.

الثانی: تحدید ماهیة عنوان المیتة بحسب الحکم الظاهری.

المقام الأول:

فیمکن الاستدلال للقول الثالث بتنصیص بعض اللغویین کالفیومی فی المصباح(1) علی اختصاص وضعه اللغوی بذلک، ولم یثبت تصرف من الشرع فی معناه بل توجد شواهد نقلیة عدیدة علی ابقاء المعنی اللغوی علی حاله فی الاستعمالات الشرعیة:

منها: قوله تعالی حُرِّمَتْ عَلَیْکُمُ الْمَیْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِیرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَیْرِ اللّهِ بِهِ وَ الْمُنْخَنِقَةُ وَ الْمَوْقُوذَةُ وَ الْمُتَرَدِّیَةُ وَ النَّطِیحَةُ وَ ما أَکَلَ السَّبُعُ إِلاّ ما ذَکَّیْتُمْ وَ ما ذُبِحَ عَلَی النُّصُبِ (2)، حیث أنه قابل بینها وبین بقیة العناوین المحرمة وبین المذبوح علی النصب أیضا فما أهل لغیر الله به والمذبوح علی النصب یغایر المیتة، وکذا قوله تعالی إِنَّما حَرَّمَ عَلَیْکُمُ الْمَیْتَةَ ... وَ ما أُهِلَّ بِهِ

ص:271


1- (1) نقل عنه الطریحی، فی مجمع البحرین ، ج2، ص 221.
2- (2) سورة المائدة ، الآیة : 3.

لِغَیْرِ اللّهِ (1)، وقوله تعالی إِنَّما حَرَّمَ عَلَیْکُمُ الْمَیْتَةَ ... وَ ما أُهِلَّ لِغَیْرِ اللّهِ بِهِ (2).

ومنها: مصحح عبد العظیم الحسنی عن أبی جعفر محمد بن علی الرضا(علیه السلام) أنه قال: سألته عما أهل لغیر الله به فقال: ما ذبح لصنم أو وثن أو شجر، حرّم الله ذلک کما حرم المیتة والدم ولحم الخنزیر، فمن اضطر غیر باغ ولا عاد فلا اثم علیه ان یأکل المیتة(3) حیث یظهر جلیا تغایر عنوان المذبوح بسبب غیر شرعی والمیتة.

ونظیرها روایة العلل (وذکر اسمه علی الذبائح المحللة ولئلا یسوی بین ما یتقرب به الیه وبین ما جعل عبادة الشیاطین ... لیکون ذکر الله وتسمیته علی الذبیحة فرقا بین ما أحل الله وبین ما حرم الله)(4).

ومنها: روایة الاحتجاج عن أبی عبد الله(علیه السلام) فی سبب تحریم المیتة قال: فالمیتة لم حرّمها؟ قال: (فرقا بینها وبین ما ذکر اسم الله علیه والمیتة قد جمد فیها الدم وتراجع الی بدنها فلحمها ثقیل غیر مریء لأنها یؤکل لحمها بدمها)(5)، وهی ناصّة علی تغایر المذبوح مطلقا مع المیت حتف أنفه من غیر اخراج لدمه.

ومنها: روایة أبی بصیر قال: سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن الرجل یشتری اللحم من السوق وعنده من یذبح ویبیع من اخوانه فیتعمد الشراء

ص:272


1- (1) سورة البقرة، الآیة: 173.
2- (2) سورة النحل، الآیة: 115.
3- (3) وسائل الشیعة، ج24، ص212، باب55 من ابواب الاطعمة المحرمة، ح1.
4- (4) المصدر، ح2، وعلل الشرائع، ج2، ص481.
5- (5) وسائل الشیعة، ج24، ص103، باب1 من ابواب الاطعمة المحرمة، ح5. والاحتجاج، ج2، ص347.

من النصاب فقال: أی شیء تسألنی أن أقول؟ ما یأکل الا مثل المیتة والدم ولحم الخنزیر قلت: سبحان الله مثل الدم والمیتة ولحم الخنزیر؟ فقال: نعم وأعظم عند الله من ذلک ثم قال:

ان هذا فی قلبه علی المؤمنین مرض(1)، فإن التمثیل بالمیتة دال علی المغایرة بین عنوانها وعنوان المذکی بغیر شرائط التذکیة.

ومنها: مصحح أبان عن أبی جعفر(علیه السلام) أنه قال فی قول الله تعالی حُرِّمَتْ عَلَیْکُمُ الْمَیْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِیرِ الآیة قال: المیتة والدم ولحم الخنزیر معروف، وما أهل به لغیر الله، یعنی ما ذبح للأصنام، وأما المنخنقة فان المجوس کانوا لا یأکلون الذبائح ویأکلون المیتة وکانوا یخنقون ... والنطیحة کانوا ...(2)، الی آخر العناوین ما أکل السبع وما ذبح علی النصب وان تستقسموا بالأزلام.

ومنها: ما فی التفسیر المنسوب الی العسکری(علیه السلام) فی قوله عزّ وجلّ إِنَّما حَرَّمَ عَلَیْکُمُ الْمَیْتَةَ التی ماتت حتف أنفها بلا ذباحة من حیث اذن الله فیها .... و ما أهل به لغیر الله ما ذکر اسم غیر الله علیه من الذبائح ...(3).

وکذا ما ورد من أن ذبیحة الیهود ذبیحة لا تؤکل(4)، وغیر ذلک مما هو مضاد لعنوان المیتة، وغیرها من الروایات الشاهدة علی اختصاص عنوان المیتة فی الاستعمال الشرعی بما مات حتف أنفه.

ص:273


1- (1) المصدر، ج24، ص67، باب28 من الذبائح، ح4.
2- (2) وسائل الشیعة، ج24، ص39، باب19 من الذبائح، ح7.
3- (3) مستدرک الوسائل، ج16، ص141، باب17 من ابواب الذبائح1.
4- (4) وسائل الشیعة، ج24، ص56، باب27 من الذبائح 14.
والصحیح:

أن غایة ما تقدم یشهد علی ورود الاستعمال لعنوان المیتة فی المعنی الخاص، وأما کون موضوع الحکم فی أدلة النجاسة هو خصوص ذلک المعنی فممنوع، کما هو الحال فی موضوع الحرمة فی الآیة حیث أنه أوسع من المعنی الخاص.

کما یأتی نقل ما ورد فی الأجزاء المبانة من الحیّ انها میتة، وان ما قطعته الحبالة من الصید فهو میتة حرام، وغیر ذلک مما یدل علی أقل تقدیر علی الالحاق الحکمی لکل غیر مذکی بالشرائط الشرعیة، ویأتی أیضا ما یدل علی عدم الواسطة فی الواقع بین العنوانین کموثقة سماعة وروایة الصیقل وغیرهما، وان قلنا باختصاص الموضوع.

بل ان الروایة الأخیرة (روایة التفسیر) شاهدة علی استعمال المیتة بالمعنی الأول أی مطلق غیر المذکی بالشرائط کما یفیده (بلا ذباحة من حیث اذن الله فیها)، وکذا الحال فی روایة الاحتجاج المتقدمة حیث جعل فیها کل ما لم یذکر اسم الله علیه أی لم یستوف الشرائط میتة.

غایة الأمر أحد أفرادها ما مات حتف أنفه، وأما استعمال المیتة فی قبال بقیة العناوین المحرمة فقد یکون من باب ذکر الخاص بعد العام للتنبیه علی مصداقیته وخطأ حساباتهم المغایرة، وسیأتی تتمة الکلام فی الآیة، مما یشهد علی ذلک فی مفادها ..

کما أنه وردت استعمالات فی المعنی الأول کما فی مصحح محمد بن سنان عن الرضا (علیه السلام) فیما کتب الیه من جواب مسائله: وحرمت المیتة لما فیها من فساد الأبدان والآفة ولما أراد الله عزّ وجلّ أن یجعل تسمیته سببا

ص:274

للتعلیل وفرقا بین الحلال والحرام(1)، وهی صریحة فی أن کل ما فقد الشرائط میتة.

هذا مع تنصیص العدید من اللغویین علی المعنی الأول، وهوان لم یثبت کونه حقیقة لغویة فلا ریب فی اثباته للحقیقة الشرعیة أو المتشرعیة فی عهد صدور النص، بل من ما تقدم تقریبه فی مسألة الشک فی التذکیة من کون التذکیة حقیقة عرفیة ممضاة، یتضح أن المعنی الأول حقیقة لغویة وان کان المعنیان الآخران أیضا من معانی اللفظة لغة، کل ذلک مع تنصیص الشارع علی میتیة الموارد العدیدة من الذبیحة أو الصید غیر المستوفی لشرائط التذکیة بقوله انها میتة کما یأتی.

القول الثانی: فقد یقرّب بکون مادة العنوان هی التی فی لفظة الموتان المصدریة مقابل الحیاة وقد استعملت فی المعنی الثانی، کما فی الروایات الواردة فی السمک الذکی حیّه ومیّته وفی ماء البحر الحلّ میتته وفی ما لا نفس له میتته طاهرة، وغیرها من الموارد.

إلا أنه بعد ثبوت الاستعمال اللغوی السابق علی الشرع المقابل لعنوان المذکی - غایة الأمر قد قیّد الشارع کیفیة التذکیة کما هو الحال فی کل الممضیات - وبعد ترتب الحرمة علی کل ما لم یذک، یظهر بوضوح أن الاستعمال الوارد فی باب الطهارة والاطعمة هو بالمعنی الأول لا الآخرین وان کانا من معانی اللفظة.

وحینئذ یظهر الحال فی کون عنوان المیتة- سواء کان منشأه حرکة

ص:275


1- (1) وسائل الشیعة، ج24، ص102، باب1 من ابواب الاطعمة المحرمة، ح3.

الروح الی خارج البدن أی ما هو مضاد الحیاة أو انفصال الروح عن البدن أی عدم وملکة مع الحیاة - عنوانا وجودیا، وان کان من قبیل الفوت، فبحسب الحکم الواقعی لا مغایرة مع القول الأول.

المقام الثانی: تحدید المیتة فی الظاهر:

تحدید ماهیة عنوان المیتة علی القول الأول لیتضح الحال بحسب الحکم الظاهری عند الشک، ولا یخفی أنه انما یتم الافتراق بین الأقوال الثلاثة السابقة بحسب الحکم الظاهری أیضا، بناء علی أخذ عنوان المیتة موضوعا للنجاسة والحرمة والمانعیة للصلاة.

إلا أنه ادعی تارة أن النجاسة موضوعها بحسب الادلة عنوان المیتة وأما الحکمان الآخران فموضوعهما غیر المذکی وعدم التذکیة.

ادعی تارة اخری أن موضوع الأحکام الثلاثة هو غیر المذکی وعدم التذکیة حیث انهما مرادفات فی الشرع للمیتة.

وادعی ثالثة أن موضوع الأحکام الثلاثة المیتة غایة الأمر قد تم إلحاق غیر المذکی اجماعا ونصوصا بالمیتة سواء کان الإلحاق حکمیا أو موضوعیا.

والأول ذهب الیه المحقق النراقی وجماعة ونسب الی الشهید فی الذکری إلا أنه بملاحظة الذکری یظهر ذهابه الی الثالث، وأما الثانی فذهب الیه المحقق الهمدانی وجماعة، ونسب الی شیخنا الانصاری التمایل إلیه، والثالث ذهب الیه المشهور المحصل وهو الأقوی کما سیظهر.

ولا یخفی مقتضی الأصل العملی عند الشک فی الأحکام الثلاثة للشک فی الموضوع علی الوجوه الثلاثة، حیث انه علی الاول مقتضی الأصل العدمی الطهارة والحرمة والمانعیة وعلی الاخیرین هو النجاسة والحرمة والمانعیة.

ص:276

وجه القول الأول:

أما وجه الاول: فلظاهر لسان أدلة النجاسة المتقدمة المأخوذ فیها عنوان المیتة وهو عنوان وجودی وان لازم عدم التذکیة فی الواقع، وأما أخذ غیر المذکی فی الحکمین الآخرین فهو مفاد الآیة إِلاّ ما ذَکَّیْتُمْ (1) حیث جعل موضوع الحرمة فیها أعم من المیتة بل مطلق ما لم یذک.

ومفاد موثق ابن بکیر (فإن کان مما یؤکل لحمه فالصلاة فی وبره وبوله وشعره وروثه وألبانه وکل شیء منه جائز إذا علمت أنه ذکی قد ذکّاه الذبح)(2)، فإن مفهومها مانعیة ما لیس بمذکی، وکذا روایة علی بن أبی حمزة (لا تصل فیها (الفراء) إلا فی ما کان منه ذکیا)(3)، وکذا حسنة علی بن جعفر (لا یلبس ولا یصلی فیه إلا أن یکون ذکیا)(4).

وکذا صحیحة ابن الحجاج قال: سألته عن اللحاف (الخفاف) من الثعالب أو الجرز منه أیصلی فیها أم لا؟ قال: إن کان ذکیا فلا بأس به (5)، واشتماله علی المأخوذ من الثعالب غیر مضر بعد سلامة الکبری والصغری فی المأخوذ من الجرز وهی الحواصل الخوارزمیة.

وفیه: إن أخذ عنوان المیتة لا ینفی تنزیل عدم المذکی منزلة المیتة دلالة أو مدلولا وجعلا کما یأتی.

وأما مفاد الآیة الکریمة فلیس موضوعها عدم المذکی کما قد یستظهر

ص:277


1- (1) سورة المائدة، الآیة: 3.
2- (2) وسائل الشیعة، ج4، ص345، باب2 من ابواب لباس المصلی، ح1.
3- (3) المصدر، ح2.
4- (4) المصدر، باب4، ح6.
5- (5) المصدر، باب7، ح11.

بل الأقرب فی مفادها هی أخذ عنوان المیتة وذکر بقیة العناوین من باب التنبیه علی الخاص بعد العام، والوجه فیه وفی الاستثناء بالمذکی هو أن بقیة العناوین قابلة للانقسام الی کل من المیتة والمذکی، حیث أن المراد بها هو المشارف للموت من المنخنقة والموقوذة والمتردیة والنطیحة وما أکل السبع، فإن ادرکت ذکیت بالذکاة الشرعیة فتکون مذکاة، وإلا فهی میتة أولک أن تقول إن ماتت بتلک الأسباب فهی میتة وإلا فان ادرکت ذکاته فهو مذکی حلال.

ویشهد لذلک العدید من الروایات مثل صحیح زرارة عن أبی جعفر(علیه السلام) قال: (کل کلّ شیء من الحیوان غیر الخنزیر والنطیحة والمتردیة وما أکل السبع، وهو قول الله عزّ وجلّ إِلاّ ما ذَکَّیْتُمْ فان ادرکت شیئا منها وعین تطرف، أو قائمة ترکض، أو ذنب یمصع فقد أدرکت ذکاته فکله، قال: وان ذبحت ذبیحة فأجدت الذبح فوقعت فی النار وفی الماء أومن فوق بیتک أو جبل إذا کنت قد أجدت الذبح فکل)(1).

حیث أن الصحیحة وان کانت فی معرض نفی شرطیة استقلال الذبح فی الموت سواء تقدم علیه سبب آخر أو تأخر، إلا أنها مبیّنة لمفاد الآیة وأن العناوین المذکورة فیها الحیوان الذی وقعت علیه تلک الأسباب ولکن حیاته مستقرة، فان لم تقع علیه التذکیة فهو میتة حرام وإلا ان وقعت علیه فهو مذکی حلال، وکذا غیرها من الروایات(2) المصرح فیها بنفس المضمون.

ص:278


1- (1) الوسائل، ج24، ص37، باب19 من ابواب الذبائح، ح1.
2- (2) المصدر، باب19.

ویشهد لذلک أیضا عطف وما ذبح علی النصب والذی هو حرام أیضا علی ما سبق بعد ذکر الاستثناء فی الآیة، إذ ان المفروض فیه وقوع الذبح للنصب أی لا یمکن ادراک ذکاته کی یتأتی التفصیل فیه بالاستثناء کما فی العناوین السابقة.

وبذلک یتم ما ذکره غیر واحد من کون مفاد الآیة الحکم علی غیر المذکی بأنه میتة من باب الإلحاق الموضوعی وهو الوجه الثالث، لا التصرف فی المعنی الذی هو مدعی الوجه الثانی وهو وجه الحصر فی قوله تعالی قُلْ لا أَجِدُ فِی ما أُوحِیَ إِلَیَّ مُحَرَّماً عَلی طاعِمٍ یَطْعَمُهُ إِلاّ أَنْ یَکُونَ مَیْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِیرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَیْرِ اللّهِ بِهِ (1)، لا أن الآیة الثانیة المکیة منسوخة بالأولی المدنیة أو مخصصة بل من باب التوسعة فی الموضوع والإلحاق، والحکومة فی الموضوع.

نعم قد یقال أنه لیس من باب الحکم بأنه میتة والحکومة فی الموضوع، بل من باب التنزیل فی الدلالة فی الجملة بلحاظ الحرمة لا بالجملة بلحاظ کل الآثار وسیأتی دفعه.

وأما المانعیة وأن مفاد الروایات هو أخذ عدم المذکی لا المیتة.

ففیه: إن ما ذکر من الروایات لو أرید الجمود علی ظاهره فمفادها شرطیة التذکیة لامانعیة العدم، غایة الأمر فی المأکول مما تحلّه الحیاة وإن لم یضرّ ذلک بأصالة عدم التذکیة، حیث انها تحرز عدم الشرط الموجب لعدم الاکتفاء بالعمل فی مقام الامتثال.

لکن یمنع عن الوقوف علی ظاهره أمور:

ص:279


1- (1) سورة الانعام، الآیة: 145.

الأول: کثرة ما ورد(1) مما اعتبر مانعیة المیتة للصلاة فی لباس أو معیة المصلی، بألسنة متعدد بنمط المفهوم أو المنطوق.

الثانی: التکلّف فی مفاد شرطیة التذکیة حیث أنها ترجع الی الشرطیة المعلقة المقدرة علی کون اللباس أو ما مع المصلی حیوانیا بخلاف المانعیة فانها مطلقة.

الثالث: أن ما ورد مما ظاهره الاشتراط لیس مفادا أصلیا فی الکلام، حیث أن عمدته موثقة ابن بکیر وبالتدبر فیها یظهر أن صدر الروایة هو المدلول الأصلی المجعول وما بعده تفریع علی الخلل بما اعتبر فی الصدر الذی جعلت فیه المانعیة لما لا یؤکل لحمه، فلیس مأکولیة لحم الحیوان شرطا کی یکون ما ظاهره الاشتراط فیه وهو التذکیة شرطا أیضا.

الرابع: أن المیتة حیث أن الأقوی ان جهة مانعیتها هی النجاسة لا الوجوه الأخری، کان ما ظاهره اشتراط التذکیة هو لرفع مانعیة النجاسة، حیث أن بعض انواع النجاسة قد اعتبر مانعا حتی فی ما مع المصلی کالمیتة وکما دون الدرهم من الدماء الثلاثة، إذ لیس ذلک من اعتبار الطهارة الخبثیة.

وجه القول الثانی:

وأما وجه الثانی: فقد یستدل علیه بعدّة روایات مضافا الی ما تقدم فی تقریب الآیة.

الأولی: موثقة سماعة الواردة فی جلود السباع (إذا رمیت وسمیت

ص:280


1- (1) الوسائل، ابواب النجاسات، باب34، 33، 49، 50، 48. وابواب لباس المصلی، باب1، وابواب الاطعمة المحرمة، باب33، وابواب الذبائح، باب30.

فانتفع بجلده وأما المیتة فلا)(1)، حیث أن الذیل المذکور فیه عنوان المیتة تفریع علی انتفاء التذکیة بالشرائط فالعنوان فی الذیل هوبیان لمفهوم الشرطیة فی الصدر.

الثانیة: مکاتبة الصیقل قال: کتبت الی الرضا(علیه السلام): انی أعمل اغماد السیوف من جلود الحمر المیتة فتصیب ثیابی فأصلی فیها؟ فکتب(علیه السلام) إلی: اتخذ ثوبا لصلاتک، فکتبت الی أبی جعفر الثانی(علیه السلام): انی کتبت الی أبیک(علیه السلام) بکذا وکذا، فصعب علیّ ذلک، فصرت أعملها من جلود الحمر الوحشیة الذکیة، فکتب(علیه السلام) إلیّ: کل أعمال البر بالصبر یرحمک الله، فإن کان ما تعمل وحشیا ذکیا فلا بأس(2) فإن المفهوم هو ثبوت البأس وهو النجاسة إذا لم یکن ذکیا.

الثالثة: صحیح عبد الله بن جعفر المتقدم فی الصلاة ومعه الفأرة؟ فکتب(علیه السلام): (لا بأس به إذا کان ذکیا)(3) بناء علی تفسیر التذکیة بالمأخوذ من المذکی شرعا سواء رجع الضمیر الی الظبی أو الفأرة، حیث أن المنع منها علی التفسیر المزبور لا یکون إلا للنجاسة کما تقدم.

الرابعة: روایة علی بن أبی حمزة (قال(علیه السلام): ما الکیمخت؟ فقال: جلود دواب منه ما یکون ذکیا ومنه ما یکون میتة، فقال: ما علمت أنه میتة فلا تصل فیه)(4) ونظیره صحیح(5) ابن أبی نصر عن جبة فراء لا یدری أذکیة

ص:281


1- (1) الوسائل، ج3، ص489، باب49 من ابواب النجاسات، ح2.
2- (2) المصدر، باب49، ح1.
3- (3) الوسائل، ج4، ص433، باب41 من ابواب لباس المصلی، ح2.
4- (4) المصدر، ج3، ص491، باب50 من ابواب النجاسات، ح4.
5- (5) المصدر، ح3.

هی أم غیر ذکیة، أیصلی فیها؟ فقال(علیه السلام): نعم لیس علیکم المسألة)، وغیرها من الروایات المقابلة بین العنوانین بحیث یظهر منها أن المیتة هو ما لیس بمذکی.

وأشکل علی دلالتها:

أولا: بأن الحصر فی کثیر منها اضافی بالنسبة الی ما کان السائل یبتلی به مما کان دائرا بین ما مات حتف أنفه وما کان مذکی، والشاهد علی ذلک هو فرض السائل فیها ذلک خارجا من حیوانات الصید التی یدور أمرها بین ذلک(1).

ثانیا: ان ما یستظهر منها أخذ عدم التذکیة موضوعا للنجاسة انما هو بالمفهوم والدلالة الالتزامیة، وهو یحتمل الارشاد الی ما هو موضوع النجاسة فی الأدلة الاخری وهو عنوان المیتة، هذا مع أنه لا بد من رفع الید عن ظهورها فی موضوعیة عدم التذکیة للنجاسة علی فرض دلالتها نظرا الی کثرة ما دل علی أخذ عنوان المیتة(2).

وهو محل نظر:

أما الاول: فلانه غیر مستبعد عن محط فرض السائل ما اختلت فیه شرائط التذکیة إذ مع فرض کل من الأولین یکون وقوع الثالث محتملا جدا، لاسیما فی قوله(علیه السلام) (إذا رمیت وسمیت) مما هوظاهر فی اعتبار کل شرائط التذکیة، وانه بنقص بعضها فهو من العنوان المضاد، وکذا ما فرض فیها اختلاط المذکی بالمیت من جلود الحمر فان المیت قد یکون لاصطیاده

ص:282


1- (1) التنقیح، ج2، ص535.
2- (2) بحوث فی شرح العروة، ج3، ص120.

فی بلاد الکفر واجتلابه منها.

مع أن دعوی استعمال المیتة عند السائل فی خصوص ما مات حتف أنفه لازمه ذلک أیضا فی أدلة نجاسة المیتة، فیدعی ندرة ما اختلت فیه شرائط التذکیة وان المراد فیها ما مات حتف أنفه.

والغریب: ان القائل بأن الحصر فی المقام اضافی، قد استدل بصحیحة عبد الله بن جعفر فی فأرة المسک بمفهومها علی نجاسة المأخوذة من غیر المذکی الذی هو مفهوم المنطوق فیها، معللا ذلک أن وجه البأس فی غیر المذکی لیس إلا لنجاسته، هذا مع أنه(قدس سره) یجعل المیتة موضوع النجاسة فما ذکره فی فأرة المسک نحو إذعان بالقول الثانی أو الثالث.

وأما الثانی: فلانه لا بد من المناسبة بین عدم التذکیة وعنوان المیتة کی یمکن توسیط المفهوم فی الروایات الذی فی المنطوق - فی الارشاد الی عنوان المیتة، وهذه المناسبة أو الملازمة عند القائل بالمسلک الثانی هی تدلیل علی المرادفة بین العنوانین، ومنه یظهر اندفاع التنافی بین أخذ عدم التذکیة فیها وبین ظهور أکثر أدلة النجاسة فی موضوعیة المیتة.

هذا مع أن ما ذکر من الارشاد الی عنوان المیتة هو بعینه وارد فی دلیل الحرمة والمانعیة فالتفکیک فی الاستظهار تحکّم، لاسیما بعد ما تقدم من ضعف استظهار ذلک من الآیة والروایات.

لکن الصحیح: أن هذا المقدار من مفاد الروایات المستدل بها علی الوجه المزبور لا یستفاد منها أکثر من الملازمة بین عنوان عدم التذکیة وعنوان المیتة.

وأما التعبد بالحکومة التفسیریة أو نحو جعل للحقیقة الشرعیة فی المعنی فلا، إذ ذلک یحتاج الی مؤونة لفظیة مثل أعنی أو توسیط (هو) ونحوها، نعم هذه الملازمة ستتضح فائدتها فی الاستدلال علی القول الثالث.

ص:283

وجه القول الثالث:

أما وجه الثالث فأمور:

الاول: هو ما ورد من طوائف الروایات التی مفادها الحکم شرعا وتعبدا علی عدم المذکی بأنه میتة من باب الإلحاق الموضوعی والحکومة والتوسعة فی الموضوع فی الجعل لا فی الدلالة، أو أن مفادها التنزیل والتشبیه بالمیتة من باب الإلحاق الحکمی المحمولی، والحکومة فی الدلالة، وان کان الصحیح هو الأول کما سیتضح وهی النکتة العمدة فی هذا القول، وهی:

الطائفة الاولی: ما دل علی أن ما یبان من أجزاء الحیوان الحیّ میتة لا ینتفع بها(1).

کصحیح الکاهلی عن قطع ألیات الغنم (ان فی کتاب علی(علیه السلام): أن ما قطع منها میّت، لا ینتفع به)(2)، وفی مصحح أبی بصیر (إنها میتة)(3).

فان الحکم بنجاستها فی طول الحکم تعبدا بانها میتة المترتب علی عدم تذکیة الحیوان، وإلا فالقطع یوجب إنهار الدم وعدم تخثره فی الجزء المقطوع الذی هو حکمة القذارة کما فی بعض الروایات وکذا فی صحیح أیوب بن نوح عن بعض أصحابنا عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال: إذا قطع من الرجل قطعة فهی میتة(4).

الطائفة الثانیة: ما دل علی أن الأجزاء المقطوعة من الصید بالحبالة هو

ص:284


1- (1) الوسائل، ج24، ص71، ابواب الذبائح، باب30.
2- (2) المصدر، ح1.
3- (3) المصدر، ح3.
4- (4) المصدر، ج3، ص294، باب2 من ابواب غسل المس، ح1.

میتة(1).

کصحیح محمد بن قیس عن أبی جعفر(علیه السلام) قال: (قال أمیر المؤمنین(علیه السلام) ما أخذت الحبالة من صید فقطعت منه یدا أو رجلا فذروه فانه میت)(2)، وفی صحیح زرارة عن أحدهما(علیه السلام) (فهو میتة أوما أدرکت من سائر جسده حیا فذکه ثم کل منه)(3) وغیرهما والتقریب ما سبق.

ونظیرها صحیح النضر بن سوید عن بعض أصحابه رفعه فی الظبی وحمار الوحش یعترضان بالسیف فیقدان، قال: (لا بأس بکلیهما ما لم یتحرک أحد النصفین، فاذا تحرّک أحدهما لم یؤکل الآخر لأنه میتة)(4).

وبمضمونها عدة معتبرات تحرّم الجزء الذی لا یتحرک وهو فی طول الاعتبار والحکم بکونه میتة مع انه لیس من ما مات حتف انفه بل مما اختلت فیه شرائط الصید والتذکیة، فعدمها محکوم شرعا بکونه میتة، فهو تعبد فی الموضوع لا انه مصداق حقیقی بحسب ما للعنوان من معنی لغوی.

الطائفة الثالثة: ما دل علی أن ما ذبحه المحرم من الصید هو میتة وکذا ما ذبح فی الحرم.

مثل موثق إسحاق عن جعفر(علیه السلام) ان علیا(علیه السلام) کان یقول: (إذا ذبح المحرم الصید فی غیر الحرم فهو میتة لا یأکله محل ولا محرم، وإذا ذبح

ص:285


1- (1) المصدر، ج23، ص376، باب24 من ابواب الصید.
2- (2) المصدر، ح1.
3- (3) المصدر، ح4.
4- (4) المصدر، باب35، ح3.

المحل الصید فی جوف الحرم فهو میتة لا یأکله محل ولا محرم)(1)، ومثله روایة وهب وغیرها مما دل علی حرمة أکله فی طول الحکم بأنه میتة.

والغریب: أن السید الخوئی(قدس سره) مع اختیاره للقول الأول، اشکل علی التردد فی نجاسة الصید المذبوح من المحرم - من جهة أن التنزیل فی الروایة هل هو مطلق لکل آثار المیتة أو لبعضها خاصة وهی الحرمة - أشکل بأن اطلاق المیتة لیس من باب التنزیل والتشبیه بل من باب الحکم تعبدا بانه میتة(2).

وجه الغرابة: أنه(قدس سره) یذعن أن ذلک من جهة اختلال بعض شرائط التذکیة وهو کون الذابح محلا أی من جهة عدم التذکیة فیکون عدم المذکی محکوما بانه میتة، ولا خصوصیة للمورد وانما هو مثال لإختلال بعض شرائط التذکیة.

ومثله صحیح مسمع عن أبی عبد الله فی رجل حلّ رمی صیدا فی الحل فتحامل الصید حتی دخل الحرم؟ فقال: لحمه حرام مثل المیتة(3).

فائدة: الفرق بین الحکومة والتنزیل:

هذا وأما أن مفادها هو الحکم شرعا بالمیتة لا التنزیل فیتضح ببیان مقدمة نافعة:

وهی التفرقة بین باب التنزیل وباب الحکومة الواقعیة، وبعبارة اخری الحکومة علی صعید الدلالة وعلی صعید المدلول، وذلک حیث أن

ص:286


1- (1) وسائل الشیعة، ج12، ص432، باب10 من ابواب ترک الاحرام، ح5.
2- (2) المعتمد، ج3، ص388.
3- (3) وسائل الشیعة، ج13، ص65، باب29 من ابواب کفارات الصید، ح2.

الأول تصرف علی صعید اللفظ وشأن من فنون الکلام، وهو ما یقال عنه فی علم البیان التشبیه، والذی یکون بین طرفین، اما مع ذکر أداة التشبیه ووجه الشبه أو مع عدمهما وفیه یقع التردید بین أن یکون التنزیل والتشبیه بلحاظ مطلق الآثار أو بعضها وأهمها کما فی الطواف بالبیت صلاة.

وهذا بخلاف الثانی فانه نحو من الجعل والانشاء وعلی صعید المدلول والمعنی، اما بتوسعة طبیعة الموضوع أو تضییقه، أی بالحکم علی الطرف الاول انه مصداق الطرف الآخر والطبیعة والعنوان، فیکون الفرد غیر التکوینی للطبیعة فردا جعلیا للطبیعة أی بالاعتبار والتقنیین، وبتوسط هذا الجعل تترتب جمیع آثار الطبیعة علی ذلک الفرد.

والعکس عند التضییق، أی الاخراج للفرد التکوینی للطبیعة عنها جعلا، کما فی لاربا بین الوالد وولده، فتنفی جمیع آثار طبیعة الربا عنه، ففی الحکومة الواقعیة - ای التی من سنخ الجعل والانشاء - لاتردید فی مقدار الاثار المترتبة عند التوسعة أو المنتفیة عند التضییق.

نعم یقع الاختلاف فی کثیر من الموارد أنه من قبیل التنزیل أو الحکومة، مثل ما فی (عمد الصبی خطأ تحمله العاقلة)(1)، اذ علی الأول القدر المتیقن من التنزیل هو فی باب القصاص والدیات فعمده کلا عمد، أوفیما کان للخطأ أثر فینزل العمد منزلته، بخلافه علی الثانی فانه من الحکم علی عمد الصبی بانه خطأ وهو یتناول کل الابواب فتصبح عبارته مسلوبة القصد فی باب الإنشاء فی المعاملات مطلقا، وهو ما ذهب الیه المشهور.

والضابطة فی معرفة النحو الأول من الثانی أن فی الأول قد یؤتی بأداة

ص:287


1- (1) التهذیب، ج10، ص233.

التشبیه، کما انه غالبا ما یکون فی الطرفین التکوینیین الذین یظهر منهما أن المناسبة المذکورة بینهما تنزیلیة لا جعل احدهما مصداقاً الآخر، وأما الثانی فانه کثیرا ما یکون فی الطرفین اللذین أحدهما وجوده اعتباری، متقوم بالانشاء فیکون الطرف الأول موضوعا والآخر الاعتباری محمولا مجعولا کقضیة شرعیة.

ویعد وضوح ذلک یظهر أن المقام من قبیل الثانی حیث أن التذکیة بمعنی المسببی أی النقاوة والطهارة الخاصة لما کانت من الاحکام الوضعیة، وکان لها موضوع وهو السبب للذکاة من فری الأوداج والتسمیة والاستقبال وغیر ذلک، کذلک ما هو ضد له وهو عنوان المیتة فهو من الأحکام الاعتباریة الوضعیة له موضوع وهو عدم وقوع سبب التذکیة فغیر المذکی بهذا المعنی موضوع لحکم الشارع بالمیتة، فی قبال التذکیة وموضوعها.

ولا یدفع ذلک ان المیتة معنی تکوینی خارجی لا اعتباری جعلی، اذ ان المعانی التکوینیة یلحظ بموازاتها وجودات اعتباریة لها کما هو الحال فی الطهارة والنجاسة والقذارة.

والمیتة بمعنی زهوق الروح مطلقا أو بنحو خاص وهو ما مات حتف أنفه وان کانت تحققها تکوینیاً، الا أنها بالمعنی المقابل للمذکی تحققها اعتباری کما قدمناه فی بحث التذکیة (فی بول وغائط مشکوک اللحم) وانها بالمعنی المزبور کانت متداولة فی البناء العقلائی کبناء قانونی لدیهم فی قبال المذکی لا کارتکاز لغوی بحت فقط.

فکما أن فی البناء العقلائی یوجد التقنین فی الحکم الاصولی کحجیة الظواهر وخبر الواحد والبراءة العقلیة، ویوجد الحکم الفقهی کثبوت

ص:288

الضمان بالاتلاف والتغریر، کذلک لدیهم مثل هذا الحکم الوضعی وهو الحکم بالتذکیة والمیتة، فلم تکن حقیقة شرعیة ولا بتأسیس من الشرع وانما هو امضاء غایة الأمر الامضاء غالبا فیه تقیید من جهة للاعتبارات القائمة عند العقلاء أو توسعة من جهة أخری.

إن قلت: علی القول بان التذکیة اسم السبب لا المسبب وتقابلها المیتة بمعنی زهوق الروح الخاص أی من غیر سبب شرعی تکون المیتة حینئذ ذات وجود تکوینی لا أمر اعتباری فلیس من موضوع ومحمول فی البین.

قلت: یرد علیه:

أولا: أن التذکیة بمعنی المسبب وهو النقاوة أو الطهارة الخاصة کما دللنا علیه سابقا، فما هو مضاد له فی رتبتها، ولیس هو الزهوق الخاص بل عنوان المیتة الاعتباری.

ثانیا: أن التذکیة حکم شرعی وضعی بالاتفاق، فکذا ما هو مضاد له کما هو ظاهر ألسنة الروایات المتقدمة.

ثالثا: أن المیتة اذا کانت بمعنی زهوق الروح الخاص فلا تضاد التذکیة بمعنی المسبب حیث أن السبب هو موجب القتل الخاص الشرعی من فری الأوداج وغیره.

وان جعلت التذکیة بمعنی زهوق الروح بالسبب الخاص الشرعی فهی وإن قابلت المیتة بمعنی زهوق الروح بغیر السبب الشرعی، إلا أنه علی ذلک لا تکون التذکیة مجعولة شرعا مع أن الفرض هوجعلها کما فی قوله (لا ذکاة إلا بحدیدة) (للبقر الذبح وما نحر فلیس بذکی) و(إذا تحرک الذنب أو الطرف أو الاذن فهو ذکی) (ذکاته (الجنین) ذکاة أمه) (إذا أرسلت الکلب المعلم فاذکر اسم الله علیه فهو ذکاته) (السمک ذکاته

ص:289

اخراجه حیا من الماء).

هذا مضافا الی ما دللنا علیه فی بحث التذکیة أنها والمیتة من الاحکام الوضعیة، ومن هنا کان کل من ذهب فی معنی المیتة الحرام والنجسة الی المقابل للتذکیة فیلزمه الالتزام بانها حکم وضعی موضوعه عدم وقوع سبب التذکیة.

الثانی: الحکم بأن کل ما اختلت شرائطه فهو میتة عند الجمیع ما عدا القائل بالمسلک الثالث فی معنی المیتة الذی تقدم فی المقام الأول بحسب الحکم الواقعی من اختصاص المیتة والنجاسة واقعا بما مات حتف أنفه دون مطلق المذبوح- مع أن أکثر أدلة شرائط التذکیة فی الذباحة والصید هی بلسان النهی عن أکل فاقد الشرط أو الحکم علی الفاقد بانه لیس بمذکی.

ومع ذلک فالکل فی مقام الحکم الواقعی استفاد منها الحکم تعبدا علی عدم المذکی واقعا بأنه میتة، وان کان مذبوحا بغیر الشرائط ولم یمت حتف أنفه، ولیس هذا إلا جعلاً وحکومة فی الموضوع بانه کل ما لیست بمذکی هو میتة.

الثالث: ما تقدم من روایات القول الثانی والتی کان المحصل من مفادها هو الملازمة بین عدم التذکیة وعنوان المیتة، حیث أن هذه الملازمة لیست عقلیة ناشئة من تلازم حکم الشارع بعدم التذکیة وبالمیتة فی عرض واحد علی الحیوان وان موضوع کلا العنوانین هو الحیوان، بل الملازمة شرعیة ناشئة من ترتب عنوان المیتة علی الحیوان غیر المذکی، فالطولیة محفوظة بین العنوانین بلا ریب.

إن قلت: ان ما تثبته الوجوه الثلاثة المتقدمة هو ارادة المعنی الأول من

ص:290

معانی المیتة المتقدمة فی صدر الکلام فی مقام الحکم الواقعی، وهو مطلق غیر المذکی فی قبال ما مات حتف أنفه أو مطلق ما زهقت روحه، غایة الأمر هو عنوان وجودی منتزع من عدم التذکیة، لا أن هناک ترتباً محمولاً وهی المیتة علی الموضوع وهو عدم التذکیة، فیکون عدم المذکی ملازما للمیتة لا عینها فلا تحرز بالاصل فی الأول بعد کون المیتة عنوانا بسیطا فی الماهیة المدرکة وحدانیا.

قلت: فیه:

أولا: انه مخالفة لظهور الادلة السابقة المرتبة لعنوان المیتة علی عدم السبب وعدم شرائط التذکیة من دون موجب لرفع الید عن ذلک.

ثانیا: هذا الانتزاع مقتضاه عدم جعل عنوان المیتة بالذات بل جعل منشأه، ومن ثم جعله بالتبع، وهذا مما لا یقرّه القائلون بالمثبتیة.

ثالثا: ان التذکیة کما تقدم هی اسم للمسبب وهی النقاوة الخاصة الحاصلة من السبب ذی الاجزاء، والمفروض أن المیتة حسب ما تقدم من الأدلة عنوان مضاد للتذکیة التی هی المسبب، وقد تقدم انهما عنوانان امضائیان لا تأسیسیّان غایة الأمر شأنهما شأن بقیة العناوین الامضائیة تقید أو توسّع.

وهما فی الاعتبار العرفی السابق علی الشرع مترتبان علی وجود السبب وعدمه، فکما أن التذکیة مسببة عن السبب الذی هو عبارة عن فری الأوداج والاستقبال والتسمیة وبقیة الشرائط، فکذلک المیتة مسببة عن عدم السبب، قضیة التضاد الذی بینهما فلیسا انتزاعیین بل مسببین عن السبب وعدمه.

فتفسیر المیتة بعدم التذکیة هو باللازم العقلی باعتبار ارادة المعنی

ص:291

المسببی من التذکیة المضاد وهو من تلازم عدم أحد الضدین مع الضد الآخر، وأما إن ارید المعنی السببی فعدمه موضوع المیتة وهما متلازمان بملازمة شرعیة هی ملازمة المحمول لموضوعه، لا بملازمة عقلیة بتبع جعل المیتة علی ذات الحیوان فی عرض اتصافه بعدم وقوع سبب التذکیة کما ذکر فی الاشکال السابق.

ونظیر: هذا الاشکال المزبور القول بأن عنوان المیتة مسبب عن الاسباب غیر الشرعیة فهو ملازم عقلا لعدم التذکیة.

ووجه الدفع: ان اعتبار عنوان المیتة علی السبب غیر الشرعی - ای علی عدم السبب الشرعی، ای علی عدم التذکیة بمعنی السبب - لیس تسببا تکوینیا بل بجعل الشرع، فعنوان المیتة مسبب شرعا عن ذلک، نعم هو ملازم لعدم التذکیة - بمعنی المسبب - بمقتضی التقابل، ومنشأ التلازم - التلازم العقلی - هو الجعل الشرعی المزبور، فحینئذ ینجع اجراء الاصل العدمی فی السبب.

وبذلک صحّ ما اطلق فی کثیر من کلمات المتأخّرین ومن بعدهم أن عدم المذکی بحکم المیتة فی النصوص، أی انه محکوم بالمیتة فتترتب علیه، ولیس بتنزیل کی یبحث أنه بلحاظ مطلق الآثار أو بعضها.

وأما مخالفة صاحب المدارک والحدائق فلیس فی ذلک وانما هو فی حجیة الاستصحاب فی نفسه أوفی مقابل أصالة الطهارة، وکل من الوجهین حرّر ضعفه فی محلّه.

ومن ذلک یتضح أن باصالة عدم التذکیة لا مجری لاصالة عدم المیتة لانه مسببی، هذا مع انه سیأتی تقریب إماریة سوق الکفار علی المیتة، لکنه فی خصوص المشکوک المجلوب من عندهم.

ص:292

قاعدة انفعال الماء القلیل بالنجس

اشارة

ص:293

ص:294

من قواعد باب الطهارة انفعال الماء القلیل بالنجس

کلمات الأصحاب:

إجماعا کما عبر الکثیر أو المشهور کما عبر بعض، واستثنوا الحسن بن أبی عقیل العمانی(1) من المتقدمین والفیض الکاشانی(2) والشیخ الفتونی(3) والسید عبدالله الشوشتری(4) من متأخری المتأخرین، لکن استظهر فی المقابیس ذلک أیضا من الکلینی فی الکافی والصدوق فی کتبه الفقیه والمقنع والهدایة، حیث أورد کل منهما کلا من روایات النجاسة وبعض روایات الطهارة، بل بعض ما أورده فی الفقیه وفی الاخرین بصورة الفتوی.

کلمات العامة:

وأما العامة فحکی فی الخلاف(5) عن الحسن البصری وابراهیم

ص:295


1- (1) کما حکاه فی المختلف، ج1، ص13.
2- (2) مفاتیح الشرائع، ج1، ص81.
3- (3) حکاه عنه العاملی فی مفتاح الکرامة، ج1، ص307.
4- (4) حکاه عنه فی مفتاح الکرامة، ج1، ص307.
5- (5) الخلاف، ج1، ص192.

النخعی ومالک القول بالطهارة، وحکی فی التذکرة ومفتاح الکرامة(1) ذلک عن داود وسعید بن المسیب وابی هریرة والاوزاعی والثوری وابن أبی لیلی وعکرمة وجابر بن زید وحذیفة، وفی المغنی والبدایة ذلک عن بعضهم وأما الباقی منهم فذهبوا الی النجاسة.

ادلة القولین:
اشارة

وروایات کل جانب فیها الصریح والظاهر والمتوسط بینهما، غیر أن ما دل علی الأول أکثر استفاضة.

أدلة القول بالنجاسة : روایات انفعال الماء القلیل:

وهی علی طوائف:

الأولی: مفهوم روایات الکر اذا بلغ الماء قدر کر لم ینجسه شیء(2).

وفیه نصوصیة علی انفعال وتنجس القلیل، سواء بنی علی عموم المفهوم أوعلی جزئیته لإثبات عنوان التنجیس بانتفاء الشرط وبعد کون مورد المنطوق ولو بالقرینة المنفصلة هو الملاقاة، والخدشة فی المفهوم یأتی دفعها فی الانفعال بالمتنجس.

الثانیة: روایات أسئار الاعیان النجسة کالکلب والخنزیر والکفار(3)، وهی علی حد الظهور فی الانفعال، إلا ان ما ورد فی الکلب من النهی عن

ص:296


1- (1) مفتاح الکرامة، ج1، ص308.
2- (2) وسائل الشیعة، ج1، ص158، باب9 من ابواب الماء المطلق، ح1، ح2، ح4، ح5، ح6. وغیرها.
3- (3) وسائل الشیعة، ج1، ص225، ابواب الأسئار باب1 نجاسة سؤر لکلب والخنزیر وباب3 نجاسة سؤر الکافر.

سؤره مؤکدا مشددا معللاً بانه رجس نجس اقوی ظهورا، وهذا سواء التی منها بلسان النهی عن تناول السؤر أو الأمر بغسل الاناء الذی تناول منه، حیث أن تنجس الاناء بتوسط الماء المتنجس وإلا لاقتصر فی الأمر بغسله علی الموضع الخاص من الاناء الملاقی للکلب أو الخنزیر.

نعم قد یتأمل فی الدلالة من جهة اشتمال السؤر علی اللعاب وهو عین النجاسة فتکون الدلالة علی ما نحن فیه بالاطلاق.

الثالثة: روایات النهی عن استعمال الأوانی المستعملة للخمر ونحوه من النجاسات قبل غسلها أو الآمرة بالغسل قبل استعمالها(1)، والتی تقدمت فی بحث انفعال المضاف، حیث أن النهی شامل لکل من استعمالها فی المطلق والمضاف، بل إن موثق عمار المتقدم ثمة نصّ فیه علی کل منهما، ووجه تقریب دلالتها أن النهی عن الاستعمال قبل الغسل أوالأمر بالغسل قبل الاستعمال انما هو لانفعال ما یستعمل بها بملاقاتها.

وهذه الطائفة دالة علی انفعال القلیل بالمتنجس کما تقدم فی المضاف، بل ولو بوسائط لمثل موثق عمار الآخر(2) عن الاناء القذر کیف یغسل، فبقدر وبمدی ما یدل الدلیل علی تنجس الاناء بوسائط تدل الموثقة علی تنجیسه هو أیضا للقلیل باستعماله وملاقاته له.

نعم دلالة هذه الطائفة علی حد الظهور القابل للحمل البعید علی الاستحباب.

الرابعة: الروایات الصحاح والموثقات الناهیة عن الوضوء من الماء

ص:297


1- (1) وسائل الشیعة، ابواب النجاسات، باب51، 52، 72، وابواب الاشریة المحرمة، باب6.
2- (2) وسائل الشیعة، ابواب النجاسات، باب53، ح1.

القلیل الذی اصابه قذر، أو لاقی الید القذرة(1) بأصابة البول أو المنی لها، بل المصرح فی بعضها بأهراق الماء والتیمم أی علی تحقق موضوعه وهو فقدان الماء الطاهر وإن لم یهرقه.

وهذه الطائفة اقوی ظهورا من السابقة لکون احتمال التأویل فیها ضعیف غایته، وان لم تصل الی درجة النصوصیة القطعیة کحمل الأمر بالاراقة علی الاستصحاب، ومن باب ایجاد موضوع التیمم، أوبحملها علی عدم طهوریته لرفع الحدث کالمستعمل فی رفع الخبث علی القول بطهارته مطلقا وعدم طهوریته، أوفی خصوص ماء الاستنجاء، وکما فی عرق الجنب من الحرام علی القول بطهارته وحمل النهی الوارد فیه علی مانعیته عن الصلاة.

کما انها دالة علی انفعاله بالمتنجس، کملاقاة الید التی اصابها قذر بول أوجنابة، کما فی موثق سماعة(2) وغیره، حیث ان الغالب فی الأول عدم بقائه فیکون انفعاله بالید المتنجسة.

الخامسة: الروایات الصحاح وغیرها الناهیة عن الشرب والوضوء معا کموثقی عمار(3) وصحیح علی بن جعفر(4) وموثقة سعید الاعرج(5) وغیرها، وهذه الطائفة أکثر بعدا عن التأویل من سابقتها.

السادسة: ما ورد من تعلیل اعتصام ماء البئر أو الحمام لان له مادة(6)،

ص:298


1- (1) وسائل الشیعة، ج1، ص150، باب8، من ابواب الماء المطلق.
2- (2) المصدر، باب8، ح4.
3- (3) وسائل، ج1، ص231، باب4، من ابواب الاسئار، ح2،ح3.
4- (4) وسائل، ج1، ص156، باب8، من ابواب الماء المطلق، ج16.
5- (5) المصدر، ح8.
6- (6) وسائل الشیعة، ج1، ص148، باب7 من ابواب الماء المطلق.

أو ما أخذ العنوان الخاص کالجاری والمطر أو الکثیر فی موضوع الانفعال، الدال علی عدم ممانعة طبیعة الماء من حیث هی عن الانفعال بالملاقاة.

السابعة: مقتضی أدلة النجاسات فی الاعیان المخصوصة(1) هو تنجیسها لملاقیها برطوبة مسریة اجمالا، وان کان کثیرا منها ورد فی تنجس الجوامد بها لدلالته بطریق الأولویة علی انفعال المایعات القلیلة.

الثامنة: ما ورد بألسنة متعددة متفرقة کتطهیر الأرض لباطن القدم المتنجس(2) بالماء المتصابب من الخنزیر، وان ما یبل المیل من النبیذ ینجس حبا من ماء(3)، وغیر ذلک.

أدلة القول بالطهارة: روایات عدم الانفعال:

وأما ما دل علی عدم انفعاله فعمدته روایات:

الاولی: حسنة محمد بن میسر قال: سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن الرجل الجنب ینتهی الی الماء القلیل فی الطریق، ویرید أن یغتسل منه ولیس معه اناء یغرف به ویداه قذرتان قال: (یضع یده ثم یتوضأ ثم یغتسل، هذا، مما قال الله عز وجل ما جعل علیکم فی الدین من حرج)(4)، والتوضؤ فیها ظاهر فی المعنی اللغوی من التنظیف.

نعم الراوی عن محمد بن میسر هوابن مسکان الجلیل الذی روی عن أبی بصیر فی الصحیح عنه(علیه السلام) قال: ان کانت یده قذرة فأهرقه وان

ص:299


1- (1) وفی روایات کثیرة منتشرة فی ابواب النجاسات من الوسائل، ج1، ص395.
2- (2) وسائل، ج3، ص458، باب32 من ابواب النجاسات، ح3.
3- (3) المصدر، باب38، ح6.
4- (4) وسائل الشیعة، ابواب الماء المطلق، باب8، ح5.

کان لم یصبها قذر فلیغتسل منه هذا مما قال الله تعالی: ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ (1).

فجعل الحرج من جهة رفع المانعیة عن الماء القلیل الملاقی لبدن الجنب کالمستعمل وبقاء طهوریته، فان لم تکن الروایتان واحدة فالاجابة واحدة علی أیة حال عن سؤال متحد عن ملاقاة الماء لبدن الجنب وللید القذرة، والتعلیل واحد فلا یبعد السقط فی ذکر الشق الثانی فی روایة ابن میسرة، وان التعلیل له لا للشق الاول المذکور، لاسیّما وأن فیها الأمر بتنظیف الید قبل الاغتراف للاغتسال وهو ظاهر فی انفعال الماء.

الثانیة: روایة أبی مریم الانصاری قال: کنت مع أبی عبد الله(علیه السلام) فی حائط له فحضرت الصلاة فنزح دلوا للوضوء من رکی له فخرج علیه قطعة عذرة یابسة فأکفا رأسه وتوضأ بالباقی(2).

والعذرة تطلق علی البعرة ونحوها کما فی صحیحة لابن بزیع(3) فی روایات البئر، اذ القلیل الملاقی للخبث ولو سلم طهارته فلا تسلم طهوریته کالمستعمل فی رفع الخبث.

الثالثة: صحیحة محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن الثوب یصیبه البول قال: (اغسله فی المرکن مرتین)(4)، حیث أن القلیل لو کان ینفعل لکان موجبا لانفعال المرکن ولکان المصبوب منه فی الغسلة الثانیة منفعلا بالمرکن فلا یطهّر به الثوب.

ص:300


1- (1) المصدر، ح11. والآیة78 من سورة الحج.
2- (2) وسائل الشیعة، ج1، ص154، باب8 من ابواب الماء المطلق، ح12.
3- (3) المصدر، باب14، ح21.
4- (4) وسائل الشیعة، باب2 من ابواب الماء النجاسات، ح1..

لکن یدفع بأن التسلیم بانفعال المرکن وانفعال القلیل لا یقضی بعدم مطهریة المصبوب ثانیا للثوب وللمرکن معا.

الرابعة: صحیح زرارة عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال: سألته عن الحبل یکون من شعر الخنزیر یستقی به الماء من البئر هل یتوضأ من ذلک الماء؟ قال: لا بأس(1).

والظاهر انها هی حسنة الحسین بن زرارة عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال: کنت عند أبی عبد الله(علیه السلام) وأبی یسأله عن اللبن من المیتة والبیضة من المیتة وانفحة المیتة، فقال: کل هذا ذکی قال: فقلت له: فشعر الخنزیر یعمل حبلا ویستقی به من البئر التی یشرب منها أو یتوضأ منها، قال: لا بأس به.

وزاد فیه علی بن عقبة وعلی بن الحسن بن رباط قال: الشعر والصوف کله ذکی، وفی روایة صفوان عن الحسین بن زرارة عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال: والشعر والصوف والوبر والریش وکل نابت لا یکون میتا(2).

اقول: فظاهر من مساق الروایة انها فی صدد طهارة الشعر وانها من مصادیق کلیة طهارة ما لا تحله الحیاة (الشعر والصوف کله ذکی) لا أن المفروض فیها نجاسته والسؤال واقع عن انفعال ماء الدلو أو عدمه، بل العکس اذ هو یستعلم حکم شعر الخنزیر من انفعال الماء وعدمه والانفعال مفروغ عنه لو کان الشعر نجسا.

فتکون دالة علی ما ذهب الیه السید المرتضی من طهارة اجزاء ما لا

ص:301


1- (1) الوسائل، باب14، من المطلق،ح2.
2- (2) المصدر، ح3.

تحله الحیاة من الاعیان النجسة والکلام فیه الی محله.

الخامسة: صحیح علی بن جعفر عن اخیه(علیه السلام)، انه سأل عن الیهودی والنصرانی یدخل یده فی الماء ایتوضأ منه للصلاة؟ قال: (لا إلا ان یضطر الیه)(1)، وهو لیس بنص فی القلیل وان کان ظاهرا فیه، مع کونه من مدالیل بحث حکم الکتابی.

السادسة: مصحح زرارة عن أبی جعفر(علیه السلام) قال: قلت له راویة من ماء سقطت فیها فأرة أو جرذ أو صعوة میتة، قال: (اذا تفسخ فیها فلا تشرب من مائها ولا تتوضأ وصبها، وإن کان غیر متفسخ فاشرب منه وتوضأ واطرح المیتة اذا أخرجتها طریة، وکذلک الجرة وحب الماء والقربة وأشباه ذلک من أوعیة الماء، قال: وقال أبو جعفر(علیه السلام): اذا کان الماء اکثر من راویة لم ینجسه شیء، تفسخ فیه أولم یتفسخ إلا أن یجیء له ریح تغلب علی ریح الماء)(2).

وتقریب الدلالة فیها أن التفسخ کنایة عن التغیر فالقلیل لا ینفعل إلا به، وأما اعتصام الکثیر وان تفسخ فیه فلعدم تغیره به لکثرته إلا أن یقوی التفسخ فیغیره، لکن ذلک یتهافت مع الشرطیة فی ذیل الخبر اذ المفهوم منها هو انفعال القلیل بالملاقاة، والرافع للتهافت هو بحمل الاشارة فی (کذلک) علی التشریع فی الحکم الأول لا الثانی من حکمی الراویة، مع حمل الراویة علی الکر والتعبیر بالاکثر من راویة متعارف لدخول الحدّ فما فوق فی الحکم.

ص:302


1- (1) الوسائل، باب النجاسات، باب14، ح9.
2- (2) رواه الکلینی والشیخ بطریقه، باب3 من ابواب المطلق، ح18.الا ان الکلینی اقتصر علی ذکر الذیل (اذا کان...).

السابعة: خبر زرارة قال: سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن جلد الخنزیر یجعل دلوا یستقی به الماء؟ قال: (لا بأس)(1)، ونفی البأس لیس نصا فی الطهارة لاحتمال أن السؤال عن جواز الانتفاع بالجلد نظیر السؤال فی صحیحه المتقدم عن شعر الخنزیر یستقی به.

الثامنة: ما عن قرب الاسناد والمسائل عن علی بن جعفر (علیه السلام) قال: وسألته عن جنب أصابت یده من جنابة فمسحه بخرقة ثم أدخل یده فی غسله قبل أن یغسلها هل یجزیه ان یغتسل من ذلک الماء؟ قال: (ان وجد ماءً غیره فلا یجزیه ان یغتسل وان لم یجد غیره اجزأه)(2).

وهو وان تقرب دلالته علی التنزه فی صورة عدم الانحصار لکنه خلاف المستفاد من عدم الاجزاء، نعم یمکن تقریب دلالته انه مفصل فی الطهوریة لا الطهارة، ومع ذلک فالروایة لها صدر دال علی انفعال القلیل بلسان النهی عن التوضؤ إلا أن یکون الماء کثیرا قدر کر، هذا مضافا الی الروایات(3) العدیدة الواردة فی خصوص الفرض المعارضة لها.

التاسعة: خبر الأحول انه قال لأبی عبد الله(علیه السلام) - فی حدیث- الرجل یستنجی فیقع ثوبه فی الماء الذی استنجی به؟ فقال: لا بأس: فسکت فقال: أوتدری لم صار لابأس به؟ قال: قلت: لا والله، فقال: ان الماء أکثر من القذر(4)، حیث ان التعلیل یعمم لمطلق القلیل غیر ماء الاستنجاء، مؤیدا بثبوت الحکم فی ماء الاستنجاء، بل فی صحیحته

ص:303


1- (1) الوسائل، باب14 من ابواب الماء المطلق، ح16.
2- (2) بحار الانوار، ج80، ص14.
3- (3) وسائل الشیعة، ابواب الماء المطلق باب8.
4- (4) وسائل الشیعة، ابواب الماء المضاف والمستعمل باب13، ح2.

الاخری عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال: قلت له: استنجی ثم یقع ثوبی فیه وأنا جنب؟ فقال: لا بأس به(1) ظهورا وایماءً الی طهارة القلیل الملاقی للمنی أیضا.

وفیه: انه سیأتی فی ماء الاستنجاء أن نفی البأس راجع الی الثوب وأن الاقوی نجاسته والعفو عن ملاقیه، وأما صحیحه الآخر فلا ظهور له فی الاستنجاء من المنی بل السؤال من جهة کونه ماءً مستعملا بملاقات بدن الجنب، ولذا أتی بالواو للجملة الحالیة ولو سلم ظهوره فسیأتی فی البحث عنه المعارض له فی المنی.

نعم یبقی سؤال الفرق بین ماء الاستنجاء وغیره علی القول بطهارته حیث انه ان کان لخصوصه مع أدلة الانفعال فبعض ما ورد فی عدم الانفعال هو من موارد خاصة أیضا مع أنه لم یؤخذ فی الحکم عنوانه الخاص، لکنک سمعت أن الصحیح نجاسته والعفو عن ملاقیه بعد أن کان منشأ للعسر والحرج ولذلک اختص بذلک.

العاشرة: مصحح عبد الله بن سنان عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال: لا بأس بأن یتوضأ بالماء المستعمل فقال: الماء الذی یغسل به الثوب، أو یغتسل به الرجل من الجنابة لایجوز أن یتوضأ منه وأشباهه ... الحدیث(2).

حیث أن عطف الماء المستعمل فی رفع الحدث علی الغسالة من الخبث فیه دلالة علی کون القلیل طاهرا، غایة الأمر أنه لیس بطهور وإلا فلو کانت نجسة لما کان لتوهم طهوریتها مجال.

ص:304


1- (1) المصدر، ح4.
2- (2) الوسائل، ابواب الماء المضاف، باب9، ح13.

ومن ذلک یتوجه الاستدلال بالغسالة بناء علی طهارتها مع انها من القلیل، حیث انها لو کانت نجسة لما ازال القلیل خبثا إذ بمجرد الملاقاة ینفعل الماء، ولا فرق بین الوارد والمورود فی أدلة الانفعال، فالماء یکون نجسا قبل انفصاله عن المحل بل قبل ملاقاته للمحل بالنسبة الی الاجزاء اللاحقة غیر الأولی، ویؤید ذلک ما ورد فی ماء الاستنجاء.

وفیه: ان غایة ذلک هو الالتزام بطهارة الغسالة لما ذکر لا مطلق القلیل، مع أنه یمکن الالتزام بنجاستها غایة الأمر هی نظیر ماء الاستنجاء فی العفو عما یلاقیها، وأما ازالتها للخبث فلحمل قذارة المحل کما فی التنظیف فی القذارات التکوینیة.

واستدل أیضا بغیر ذلک مما هو مطلق قابل للتقیید بأدلة الانفعال، مثل ما ورد فی العدید من الروایات(1) أن الماء طاهر طهور ما لم یتغیر، أولا ینجسه شیء ما لم یتغیر، أو بما هو خاص لکنه غیر ظاهر فی عدم الانفعال أولا یأبی التأویل والحمل فی مقابل أدلة الانفعال.

فظهر ان ما استدل به علی الطهارة وعدم الانفعال إما غیر ظاهر فی ذلک مع التدبر والتروی وإن کان ظاهرا بدوا، بل قد یتخیل منه الصراحة أو مضطرب المتن والنسخة فضلا عن ضعف السند وقلة العدد فی قبال أدلة الانفعال، فیتحصل أن الشهرة بأقسامها فی طرف أدلة الانفعال.

أجوبة استحکام التعارض (بین الروایات):

ثم ان فی المقام اجوبة علی فرض استحکام التعارض:

الجواب الاول: ما فی المستمسک ان جماهیر الاصحاب اعرضوا عن

ص:305


1- (1) الوسائل، ابواب الماء المطلق باب3 وغیره.

روایات الطهارة وعدم الانفعال، ولیست هی إلا کورود غیرها فی مسائل اخری مما علم الخلل فیها إما فی الجهة أو النقل أو غیر ذلک.

وهذا الوجه تام ان استند الی استقراء للطبقات الأولی من الفقهاء وعصر الرواة الکاشف عن السیرة المتشرعیة الخاصة بالمذهب، أو کان منشأه استفاضة وتواتر أحد المتعارضین مع کون الطرف الآخر آحاد الروایات، ونظیر المقام مسألة ذبح اهل الکتاب، ویبقی سؤال الفرق مع نجاسة أهل الکتاب التی بنی فیها فی الفتوی علی الطهارة، مع انه لم ینقل فیها لأحد خلاف صریح.

الجواب الثانی: تنظیر المقام بما ورد فی البئر لولا ذهاب المعظم الی القول بالنجاسة، بالجمع بینها بالحمل علی مراتب الطهارة والقذارة أی الحمل علی الاستحباب أو الکراهة، نظیر ما قیل فی تحدید الکر انه للمعتاد تغیره وعدمه، أو بحمل النهی عن خصوص الوضوء والغسل أی سلب الطهوریة(1).

ولکنک عرفت مما تقدم فی طوائف الروایات أن بعضها ناصّ علی النجاسة لا یقبل التأویل.

الجواب الثالث: أن المقام من تقابل الحجة مع اللاحجة حیث أن التواتر الاجمالی یسقط اعتبار الآخر عن الحجیة(2)، وهذا الوجه یرجع الی الاول بعد فرض صراحة الطرفین واستحکام التعارض.

الجواب الرابع: لو فرض تساقطهما فتصل النوبة الی مطلقات طهارة

ص:306


1- (1) جامع المدارک، ج1، ص7.
2- (2) التنقیح فی شرح العروة، ح2، ص165.

الماء ما لم یتغیر، ومطلقات الانفعال کموثق عمار المتقدم وغیره، والنسبة بینهما التباین لکن تخصص أدلة الانفعال بمنطوق أدلة الکر فتنقلب النسبة الی العموم والخصوص المطلق فتختص أدلة الانفعال بالقلیل وتخصص مطلقات الطهارة(1).

ولکن هذا الوجه منظور فیه حیث أن القول بانقلاب النسبة- کما هو الصحیح- یعتمد علی قرینیة الخاص للعام بلحاظ المراد الجدی وان الخاص المنفصل کالمتصل فی الدلالة علی المراد الجدی.

وعلی هذا یکون العام المخصص بخاص کمنطوق الکر فی المقام یقابل الخاصین الآخرین وهما أدلة انفعال القلیل وأدلة عدم انفعاله وفی رتبتهما فیکون بمثابة أحد الخاصین وهو أدلة انفعال القلیل فی قبال الخاص الآخر وهو أدلة عدم انفعال القلیل، لا أن العام المخصص مرجع فوقانی بعد تساقط الخاصین.

ویشهد لذلک أنه لو فرض فی المقام عدم ما یدل علی انفعال القلیل وهو أحد الخاصین المتعارضین، وأن ما لدینا هو أدلة عدم انفعاله ومطلقات الانفعال ومنطوق أدلة الکر واعتصامه، فانه تقع المعارضة فی رتبة واحدة بین الخاص أی أدلة عدم انفعاله ومطلقات الانفعال المخصة بمنطوق الکر حیث أن مطلقات الانفعال لا تحمل علی الکثیر.

ومن ذلک نستخلص قاعدة وهی أن العمومات الفوقانیة اذا کانت النسبة بینها منقلبة فهی لا تصلح مرجعا فوقانیا بعد تعارض الأدلة الخاصة، اذ هی تکون طرفا للتعارض أیضا.

ص:307


1- (1) بحوث فقهیه فی شرح العروة، ج1، ص388.

فالصحیح فی مقتضی القاعدة عند التساقط فی المقام هو الرجوع الی مطلقات طهارة الماء ما لم یتغیر.

أدلة انفعال القلیل بالمتنجس:

ذهب المشهور الی انفعال القلیل بالمتنجس ویشمله اطلاقات الاجماعات المنقولة من الانفعال بالنجس والمتنجس، وخالف فی خصوص المتنجس من متأخری الاعصار المحقق الخراسانی(1) وهو المحکی عن تلمیذه المحقق الاصفهانی فی البحث أدلة الانفعال.

الدلیل الاول: مفهوم أخبار الکر(2)، حیث أن الشیء فی المنطوق مطلق شامل للنجس والمتنجس.

إلا انه: اشکل جماعة علی التمسک به بان نقیض السالبة الکلیة موجبة جزئیة لا الموجبة الکلیة والقدر المتیقن منه عین النجس، وأن الشرطیة من تعلیق العموم علی الشرط، أی تعلیق العموم المسلوب لا السلب العام کی یکون المفهوم کلیا، فالمفهوم حاصله اذا لم یبلغ قدر کر ینجسه شیء وهو صادق علی البعض، فهوعلی حد قول القائل (اذا جاءک زید فلا تکرم احدا) أو (حیث ما تراه تجده مشغولا) وأن (اذا) من أدوات الاهمال والظرفیة لا التعلیق.

وربما یقال: ان الاطلاق اذا کان واردا علی الجزاء المعلق فی الرتبة

ص:308


1- (1) نقله عنه فی مستمسک العروة، ج1، ص146، وکذا نقله عنه تلمیذه المحقق الاصفهانی فی محضر درسه الشریف وتبناه.
2- (2) وهی اخبار عدیده نقلها صاحب الوسائل، ج1، ص158، باب9 من ابواب الماء المطلق.

المتأخرة کما فی الاطلاق المستفاد من مقدمات الحکمة، فیکون للمفهوم حینئذ کلیة لأن المفهوم یدل علی انتفاء ذات الشیء لا انتفاء المطلق، أی انتفاء الجامع بین المطلق والمقید فیساوق الکلیة بخلاف ما اذا کان التعلیق واردا علی الاطلاق فی الجزاء کما فی الاطلاق المستفاد من الدوال اللفظیة فالمفهوم قضیة جزئیة حینئذ لکونه انتفاء المطلق، وحیث أن منطوق اخبار الکر الاطلاق مستفاد من وقوع النکرة فی سیاق النفی فالتعلیق وارد علیه فالمفهوم من النحو الثانی(1).

ویدفع کل ذلک: بأن لیس النقیض المنطقی هو النقیض العرفی للقضیة الشرطیة دائما، وبتعبیر أدق القضیة الشرطیة قد تکون منحلة الی شرطیات فیکون المفهوم المتحصل هو من المتحصل من المفاهیم المنحلة، وقد لا تنحل، والضابط هو أن العموم قد یلحظ اسمیا فیکون هو المعلق ویکون هناک تعلیق واحد فی القضیة.

وقد یلحظ آلیا فیکون المعلق هو الافراد فتکون هی المعلقة ویکون هناک تعلیقات لکل فرد فرد أی عموم فی التعلیق، وهو ما عبر عنه شیخنا المحقق الانصاری فی طهارته من کون الشرط تارة للحکم بوصف العموم واخری لافراد الحکم.

وحیث أن الشرطیة ههنا هی بلحاظ افراد الحکم اذ الکریة علة لعدم تنجس الماء من کل فرد فرد من النجاسات، سیّما وأن الاطلاق لیس مستفادا من الادوات الموضوعة للعموم بل من نفی النکرة الانحلالیة.

وتحصیل المفهوم بصیاغة قالب الجملة المستقلة لیس بصواب، اذ هو

ص:309


1- (1) بحوث فی شرح العروة، ج1، ص393 (للشهید الصدر).

تبعی الوجود للمنطوق أی أنه عین جملة المنطوق وعین حدودها إلا انه یخالفه فی السلب والایجاب، لا فی سور القضیة فاذا کان کلیا کان هو سور المفهوم أیضا، غایة الأمر أن الکلیة ان کانت ملحوظة اسمیا فی المنطوق کانت ملحوظة کذلک فی المفهوم فیکون بقوة القضیة الجزئیة، وإن آلیا فآلیا فی المفهوم.

والکلیة فی النحو الاول تکون قیدا بخلاف النحو الثانی فی المقام حیث أن الکلیة لیست قیدا فی السلب ولا المسلوب وانما هی آلة لانحلال النفی لکل فرد فرد من الاشیاء.

وأما: ان (اذا) من ادوات الاهمال والظرفیة لتحقق الجزاء فی فرض تحقق الشرط کما فصله المحقق التقی فی حاشیته علی المعالم بین ادوات الشرط.

ففیه: أن ادوات الشرط وان انقسمت الی ما هو موضوع لغة للتعلیق ک--(إن) ونحوها، وما هو موضوع لغیره کالظرف والاسم الموصول وغیره، إلا ان الثانی قد یضمّن التعلیق والشرطیة کما هومستعمل کثیراً فتفید فائدة التعلیق حینئذ علی مثل (من أتی المسجد أکرم).

ونظیر هذا الاشکال أن الشرطیة مسوقة لتحقیق الموضوع وهو نظیر ما ذکر فی آیة النبأ ودفعه ظاهر.

وأما النقض بالامثلة المزبورة فلا یتم لوجود القرینة المقامیة علی عدم ارادة الکلیة، مع أن الصحیح فی المثال الأول هو کلیة المفهوم وهو ارتفاع النهی عن اکرام کل الافراد ولیس المفهوم الامر باکرام الکل، والشرط فی المثال الثانی لیس شرطا حقیقة، وانما هو کنایة عن الاشتغال الدائم.

وأما: التفصیل بین ورود التعلیق علی الاطلاق أوالعکس.

ص:310

ففرض: محض وممنوع، حیث أن التعلیق دائم الورود علی جملة الجزاء بما لها من الحدّ والسور، أی ان التعلیق فی القضیة المرکبة دائم العروض علی العموم فی الجزاء (القضیة الثانیة التالی)، وانما المدار علی لحاظ العموم والسور اسمیا کقید أوآلیا لیکون فی قوة جمل جزائیة منحلة متعددة لیتعدد التعلیق، فالصحیح شمول المفهوم لکل من النجس والمتنجس کالمنطوق.

ویشهد لذلک وقوع نفس المنطوق فی الجواب عن اسئلة الموارد المتعددة التی منها ما هو شامل باطلاقه للمتنجس، کما فی السؤال عن الماء فی الرکی(1) انه اذا کان کرا لم ینجسه شیء، إذ انفعال مائها لمعرضیته لملاقاة المتنجس والنجس، کما فی السؤال عن الجنب یدخل اصبعه فی الرکوة وهی قذرة انه یهریقه(2)، المحمول علی ما دون الکر وکما فی صحیح ابن مسلم الوارد فی اغتسال الجنب(3) وأما السؤال عن دخول الدجاجة والحمامة(4) ففی اطلاقه للمتنجس نظر لا یخفی.

الدلیل الثانی: ما تقدم فی أدلة الانفعال من روایات النهی عن استعمال الاوانی المستعملة للخمر ونحوه من النجاسات قبل غسلها أوالأمر بغسلها قبل استعمالها، حیث أن الآنیة بنفسها لیست مما یستعمل فی ما یشترط فیه الطهارة، بل بلحاظ انفعال ملاقیها من الماء والمایع، فتکون دالة علی انفعال القلیل ولو بوسائط للکلیة المستفادة من مثل موثق عمار

ص:311


1- (1) وسائل الشیعة، ج1، ص160، باب9 من ابواب الماء المطلق، ح8.
2- (2) المصدر، باب8، ح11.
3- (3) المصدر، باب9، ح5.
4- (4) مستمسک العروة الوثقی، ج1، ص122 (للسید الحکیم).

المتقدم فراجع.

وأما: اشکال المحقق الهمدانی(قدس سره)علی دلالتها بأن مفادها هو حرمة استعمالها حال کونها متنجسة ولو بلحاظ تنفر الطبع من تناول ما فیها وهی قذرة لا تأثیرها فی نجاسة المایع المظروف الملاقی لها ولو بعد نقله الی مکان آخر، کما فی أمر المولی عبده بغسل أوانیه الوسخة(1).

فتکلف: فی الاستظهار بعید، سیّما وأن غسلها یتم باراقة الغسالة، وقیاس القذارة العرفیة علی الشرعیة فی المقام ممنوع بعد الالتفات الی السرایة التی حکم الشارع بالانفعال بتوسطها فی موارد، مع أن القذارة العرفیة فی المقام أیضا مسریة فانهم یرون تقذر الطعام ولوبعد انفصاله عن الاناء الوسخ القذر.

الدلیل الثالث: ما تقدم ایضا فی أدلة الانفعال من الروایات الناهیة عن الوضوء من القلیل الذی لاقی الید القذرة(2)، کموثق سماعة عن أبی بصیر عنهم(علیهم السلام) قال: اذا ادخلت یدک فی الاناء قبل أن تغسلها فلا بأس إلا ان یکون أصابها قذر بول أو جنابة، فإن أدخلت یدک فی الماء وفیها شیء من ذلک فأهرق ذلک الماء(3).

وصحیح شهاب بن عبد ربه (لا بأس اذا لم یکن أصاب یده شیء)(4)، ومثله موثقتا سماعة(5) إلا ان المفروض فیهما أصاب الید شیء من المنی

ص:312


1- (1) مصباح الفقیه، ص578.
2- (2) وسائل الشیعة، ج8، باب8 من ابواب الماء المطلق.
3- (3) المصدر، ح4.
4- (4) المصدر، ح3,
5- (5) المصدر، ح2 و ح9.

فتکونان دالتین بالاطلاق علی المتنجس ان لم یکن منصرفهما خصوص الید من حیث هی متنجسة.

وفی صحیح ابن أبی نصر قال سألت أبا الحسن(علیه السلام) عن الرجل یدخل یده فی الاناء وهی قذرة؟ قال یکفی الاناء(1)، وکذا صحیح ابی بصیر الآخر(2) وغیرها من الروایات(3).

ثم انه یستفاد من مثل صحیح ابن أبی نصر انه کلما کانت الید متنجسة لا بد من غسلها فانها موجبة لانفعال القلیل، لکن ذلک تقذر للید وقذارة.

ودعوی: انصراف قذارة الید لصورة ملاقاتها لعین النجس أولا أقل لملاقاة المتنجس الأول(4).

مدفوعة: بأن منشأ المبدأ وهی القذارة هوحکم الشارع بالتنجس ونجاسة الید ولزوم غسلها وتطهیرها، وهذا نظیر ما تقدم فی الکلیة فی الاوانی فی الدلیل الثانی فلاحظ.

ویشیر الی عموم معنی قذارة الید صحیح زرارة فی الوضوء البیانی عن أبی جعفر(علیه السلام): ... فدعا بقعب فیه شیء من ماء، فوضعه بین یدیه، ثم حسر عن ذراعیه ثم غمس فیه کفه الیمنی ثم قال: هکذا، اذا کانت الکف طاهرة، ثم غرف ملأها ماء ... الحدیث(5)، وهی علی نسق دلالة

ص:313


1- (1) المصدر،، ح7.
2- (2) المصدر، ح11.
3- (3) المصدر، ح12، 13 وغیرهما.
4- (4) بحوث فی شرح العروة الوثقی، ج1، ص403.
5- (5) وسائل الشیعة، ابواب الوضوء، باب15، ح2.

الروایات السابقة الناهیة عن التوضؤ من القلیل المغموس فیه بید قذرة.

ومنه یتضح اندفاع احتمال أن الاشتراط فی الصحیح لعله لمکان عدم طهوریة المستعمل فی دفع الخبث وان کان طاهرا، لا انه منفعل.

نعم الذی یتحصل من الدلیل الثانی والثالث هو انفعال الماء بالمتنجس ولو بالواسطة، وأما اطلاق المتنجس منجس له فسیأتی ان شاء الله تعالی.

ثم قد یستدل علی عدم انفعال القلیل بالمتنجس بمعارضة روایات أخری لما تقدم.

أدلة عدم الانفعال بالمتنجس:

الدلیل الاول: موثقة أبی بصیر عنهم (علیهم السلام) قال: اذا أدخلت یدک فی الاناء قبل ان تغسلها فلا بأس الا ان یکون أصابها قذر بول أو جنابة، فان أدخلت یدک فی الماء وفیها شیء من ذلک فأهرق ذلک الماء(1).

حیث قید الانفعال بوجود القذر فی الید الظاهر فی عین النجس ولو احتمل اطلاق القذر علی المتنجس، فلا شک انه لا یطلق إلا علی المتنجس بعین النجس دون الذی بالواسطة، فتکون دالة علی أیة حال علی عدم انفعال القلیل بالمتنجس بالواسطة، مع ان الروایة ظاهرة فی الأول لفرض زوال بعض القذارة فیها ولا یکون ذلک إلا فی العینیة(2).

وفیه: ان الظاهر من الاصابة ومن اضافة القذر للبول هو جهة تنجس الید، سیما وأن البول لیس المعتاد بقائه فترة طویلة، واستظهار العینیة

ص:314


1- (1) الوسائل، ابواب الماء المطلق، باب8، ح4.
2- (2) بحوث فی شرح العروة، ج1، ص406.

من التبعیض فی الزوال مصادرة علی المطلوب، حیث أن فهم الزوال للبعض بعد استظهار التبعیض من (من) وإلا اذا کانت نشویة فلا یفهم الزوال.

نعم قد یستظهر من (فیها) الظرفیة وهو یناسب العینیة لا الحکمیة، ولکنه یقابله ما تقدم من القرائن من عموم الاصابة لبقاء العین وعدمه وظاهر الاضافة اللامیة لا البیانیة مع انه یصح استعمال الظرفیة للحکمیة.

فحاصل المعنی حینئذ (فیها قذارة من بول أو جنابة أی من اصابتهما) فالمشار الیه الاصابة و(من) نشویة مع انه لوسلمنا کون الظهور للعینیة وأنها شرط ذو مفهوم فان ذلک ینافی الصدر الذی یدل علی البأس بتوسط الاستثناء بمطلق الإصابة، ولا شک ان المقدم المنطوق للصدر علی المفهوم للذیل لأنه تابع له إذ الذیل منطوقه تفسیر للصدر لمکان الفاء التفریعیة أو التفسیریة.

فتکون الشرطیة فی الذیل علی استظهار العینیة، هی لتحقیق الموضوع کأن ولد لک ولدا فاختنه، لا للمفهوم.

ویؤیده ما جاء من الشرطیة فی نظیراتها من الروایات.

کموثق سماعة عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال: ان اصاب الرجل جنابة فأدخل یده فی الاناء فلا بأس، اذا لم یکن أصاب یده شیء من المنی(1)، حیث أنا لو عملنا باطلاق المنطوق لکان المفهوم اشتراط الانفعال باصابة المنی، مع ان هذا الشرط مسوق لتحقیق الموضوع کما هو واضح.

الدلیل الثانی: صحیح زرارة عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال: سألته عن

ص:315


1- (1) وسائل الشیعة، بواب الماء المطلق باب8، ح9.

الحبل یکون من شعر الخنزیر، یستقی به الماء من البئر، هل یتوضأ من ذلک الماء، قال: لا بأس(1)، حیث ان الظاهر من السؤال هوعن تقاطر القطرات من الحبل المبتل من ماء البئر عند شدّه والاخذ بسحبه الی الأعلی، والقطرات متنجسة.

ونفی البأس عن الماء الذی فی الدلو دال علی عدم انفعاله بها، وتعین هذا الاحتمال لکون الحبل عند الشد ینفصل عن ماء البئر قبل الدلو فیظل الدلو مغمورا بماء البئر.

وعلی أیة حال لو فرض اجمال السؤال واحتمل انه عن ملاقاة القلیل فی الدلو لعین النجس، فعدم الاستفصال دال علی اطلاق عدم الانفعال بکلیهما، فیقید فی خصوص عین النجس للأدلة الخاصة دون المتنجس، فتنقلب نسبته مع مطلقات أدلة الانفعال فیخصصها بعین النجس(2).

وفیه: انه تقدم فی بحث انفعال القلیل انه متحد مع موثق الحسین بن زرارة الحاکی لسؤال أبیه عن اجزاء المیتة وان ما لا تحل له الحیاة طاهر فعطف بالسؤال عن شعر الخنزیر، فنفی البأس هو عن حکم الشعر نفسه وانه طاهر لا عن انفعال القلیل بعد فرض نجاسته، لدخوله تحت الکلیة التی فی الروایة (کل شعر وصوف زکی)، وتحقیق تمامیة مفادها موکول لبحث النجاسات.

هذا مع ان اخراج صورة ملاقاة عین الشعر عن مفروض الروایة - مع کونه محط نظر السائل ایضا حیث ان تساقط اجزاء من الشعر المفتول

ص:316


1- (1) المصدر، باب14، ح2.
2- (2) بحوث فی شرح العروة الوثقی، ج1، ص405.

حبلا متعارف، مع تعارف ملاقاته لماء الدلوعند الاخراج من فمّ البئر ومحاولة إسکابه - بعیدة جدا، وکذا إلتزام التخصیص علی تقدیر اطلاقها، اذ هو من تخصیص المورد، ولذا ذکرت فی أدلة عدم انفعال القلیل بملاقاة عین النجس.

الدلیل الثالث: حسنة محمد بن میسر التی تقدمت فی بحث الانفعال عن أبی عبد الله(علیه السلام) عن الرجل الجنب ینتهی الی الماء القلیل فی الطریق، ویرید أن یغتسل منه ولیس معه اناء یغرف به ویداه قذرتان قال: «یضع یده ثم یتوضأ ثم یغتسل هذا مما قال الله عزّ وجل ما جعل علیکم فی الدین من حرج(1)، لکن تقدم احتمال التصحیف فیها بقرینة اتحاد الراوی عنه انه روی مضموناً مماثلاً لکن نفی الحرج متعلق بعدم مانعیة الملاقی لبدن الجنب وبقاء طهارته.

الدلیل الرابع: کما یمکن ان یستدل ایضا بمصحح عمر بن یزید قال: قلت لأبی عبد الله(علیه السلام): اغتسل فی مغتسل یبال فیه ویغتسل من الجنابة، فیقع فی الاناء ماء ینزو من الأرض، فقال: لا بأس به(2)، لکن فی کون الذی ینزومن الأرض لاقی موضعاً متنجساً محل شک فی الفرض بعد افتراض اعتیاد الاغتسال من الجنابة فیه.

تنبیهات

الاول: انفعال القلیل بالدم الیسیر: ذهب الفقهاء الی انفعال القلیل بالدم الیسیر ولو کان رأس ابرة خلافا لما یظهر من الشیخ فی الاستبصار

ص:317


1- (1) المصدر، باب8، ح5.
2- (2) وسائل الشیعة، ابواب الماء المضاف باب9، ح7.

من حمل صحیح علی بن جعفر (المتقدم فی بحث الانفعال) عن اخیه موسی (علیه السلام) قال: سألته عن رجل رعف فامتخط فصار ذلک الدم قطعا صغارا فأصاب اناءه هل یصلح الوضوء منه؟ قال: (ان لم یکن شیء یستبین فی الماء فلا بأس وان کان شیئا بینا فلا توضأ منه)(1) علی ما لا یدرکه الطرف، وکذا ذکر فی المبسوط ملحقا به غیره من النجاسات وانها معفو عنه.

وقد ذهب عدة من متأخری العصر الی أن الاجزاء المدرکة عقلا لا بالحس أو بتوسط العین المسلحة لا اعتداد بها لعدم اندراجها فی موضوع الحکم بعد تقیّده بالمقدار المعتد به لدی العرف.

ومثّل له فی بعض الکلمات بالغبار المتولد من القذارة الجافة، وهو فی محله وان کان فی المثال نظر، کما ورد فی بعض الروایات من عدم الاعتداد باللون بعد ذهاب العین، الذی هو ذهاب حسی لا عقلی.

وأما الروایة فالاظهر فی مفادها أنها متعرضة لحالة الشک فی الأصابة والملاقاة للماء، کما هو الدارج فی استعمال مادة التبین وان اسند الی الشیء إلا انه نفی التبین کنایة عن العدم لا الوجود غیر المدرک، وأما فرضه لاصابة الاناء فبلحاظ الاحساس والتخیل لا القطع والجزم باعتبار أن بدء اتجاه حرکة المخاط من الانف محسوس الوجهة اجمالا حال الامتخاط وان جهل المنتهی وموضع اصابته تفصیلا.

الثانی: الاعتبار بوحدة الکم: کما ذهب الیه الکثیر أو الأکثر خلافا لصاحب المعالم (قدس سره)، ومنشأ النسبة الیه هوما ذکره فی مسألة اشتراط اتحاد

ص:318


1- (1) الوسائل، ابواب الماء المطلق، باب8، ح1.

سطوح ابعاض الکر دلیلا إذ قال: (من ان ظاهر اکثر الأخبار الکر الاجتماع فی الماء وصدق الوحدة والکثرة علیه)، لکن فی النسبة نظر حیث انه فی مقام اشتراط اتحاد السطوح فی مثل صورة الغدیرین ونحوه کمثال المتن.

وأیا ما کان فوجه الاکتفاء بالاتصال هو اطلاقات الکر وان غایة ما یستفاد منها هو اعتبار وحدة الکم لا الوحدة الظرفیة والمکانیة ،والاولی حاصلة مع اتصال السطوح فهو ماء واحد بلحاظها.

إلا انه قد یقال: بتهافت ما ذکروه فی المقام مع ما ذکروه فی تطهیر القلیل، من أن مقتضی القاعدة عدم تطهره بالاتصال بالکثیر، لتعدد الماء مع الاتصال فیتبعض الحکم فیهما ویتعدد.

وبعبارة أخری: ان ادلة اعتصام الکر لا تدل علی اعتصام المتصل به المتمیز موضوعا بل علی اعتصام خصوص ما هومن ابعاض الکر، وجه التهافت أن القلیل المتصل بالکر إن لم یکن من ابعاضه أی لم یکن له وحدة به فلا فرق بیّن فی عدم اعتصامه به بین کونه طاهرا أو متنجسا، فالطاهر المتصل ینجس بملاقاة النجاسة، وان کان من ابعاضه فلا بد من تطهر القلیل المتنجس المتصل.

ورفع التهافت: علی القول باشتراط الامتزاج فی التطهیر ولوفی الجملة کما هو الصحیح واضح، حیث انهم لم یذهبوا الی طهارة القلیل المتنجس المتمم کرا، فکذا فیما هومن ابعاضه الزائدة علی قدر الکریة عدم فرض الوحدة بالامتزاج وامکان تبعض الحکم فی الماء الواحد بالاتصال، ففی التطهیر للابعاض المتصلة مفقود شرط التطهر وهو الامتزاج وهذا بخلاف القلیل الطاهر المتصل فینسحب علیه حکم اعتصام الکر للوحدة

ص:319

الاتصالیة المحققة للوحدة الکمیة.

فمحصل الفرق ان عاصمیة الکر المستفادة من ادلته هی الدفعیة لا الرافعیة، وهذا الفرق متأت أیضا علی القول بکفایة مجرد الاتصال فی التطهیر.

الثالث: لا فرق بین الوارد والمورود قال اکثر الفقهاء لا فرق فی تنجس القلیل بین أن یکون واردا علی النجاسة أو مورودا.

خلافا للسید المرتضی وابن ادریس، ونسبه فی السرائر للمعروف من الاصحاب استنادا الی امتناع التطهیر لو بنی علی الانفعال وهو أحد وجوه القول بطهارة الغسالة.

وربما استدل له بعدم الاطلاق فی أدلة الانفعال بعد کونها فی الموارد الخاصة المفترض فیها مورودیة القلیل، وکذا مفهوم شرطیة الکر، فإنه لو بنی علی الموجبة الکلیة فیه فلا اطلاق احوالی فی الافراد من جهة الواردیة والمورودیة.

وفیه: عدم امتناع التطهیر لوقیل بنجاسة الغسالة کما سیأتی، وخصوصیة موارد الادلة مرفوع الید عنها عرفا، حیث أن کیفیة التقذر والتنجس موکول الیه بالاطلاق المقامی کما هو الحال فی عدم الفرق فی القذارات العرفیة بعد حصول الاجتماع بین القذار أو المتقذر مع الماء ولو آنا ما، مع أن بعض ادلة الانفعال المتقدمة کأوامر غسل الأوانی مفروض فیها واردیة الماء فتدبر.

وأما منع الاطلاق الاحوالی فی مفهوم اخبار الکر فمردود بما تقدم من ان المفهوم تابع للمنطوق فی حدوده وفی سور القضیة، ولیس له قضیة وجملة ملفوظة مستقلة، بل هی نفس جملة المنطوق بتغییر الکیف، والمفروض الاطلاق الاحوالی فی المنطوق.

ص:320

ثم انه قد یقال بتفصیل آخر وهوبین استقرار النجاسة وعدمه، استنادا لمصحح عمر بن یزید المتقدم(1) فی انفعال القلیل بالمتنجس المفروض فیه نزو الماء من الأرض التی یبال علیها ویغتسل من الجنابة فیها، وتقدم أن الفرض غیر ظاهر فی العلم بنجاسة الأرض بعد فرض الاغتسال فیها، فکون الماء لاقی موضعا متنجسا. محل شک فی فرض السائل.

ص:321


1- (1) کما حکی عن الشیخ مرتضی آل یاسین (قدس سره) .

ص:322

قاعدة فی الکفر

اشارة

ص:323

ص:324

من القواعد العقائدیة المتصلة بأبواب الفقه قاعدة فی الکفر

کلمات الأصحاب فی الکافر:

المتظافر حکایة الاجماع علی نجاسة الکافر(1) بل فی التهذیب فی ذیل شرح عبارة المقنعة (لا یجوز الطهارة باسئار الکفار) و(اجمع المسلمون علی نجاسة المشرکین والکفار اطلاقا)(2)، لکنّه محمول علی النجاسة بالمعنی الأعم من الحکمیة المعنویة، وإن کان بعیدا عن سیاق کلامه، وفی الانتصار(3) إجماع الشیعة علی نجاسة أهل الکتاب وکل کافر.

ص:325


1- (1) کما حکاه فی المعتبر عن الاصحاب، ج1، ص440، وابن ادریس فی السرائر، ج1، ص73 وص75،والشهید الثانی فی المسالک ج12 ص65 (نجاسق الکافر مطلقا - حربیاُ کان ام اهل ذمه - هو المشهور بین الاصحاب بل ادعی علیه جماعه - منهم المرتضی وابن ادریس - الاجماع ...) اما العامة فقد ذهب اکثرهم للطهارة ولم یخالف الا القلیل، راجع الفقه علی المذاهب الاربعة، ج1، ص11.
2- (2) التهذیب، ج1، ص223.
3- (3) الانتصار، ص88. طبعة المحقق، ص10، الطبعة القدیمة.

وفی المعتبر (1) : واما الکفار فقسمان یهود ونصاری ومن عداهما، أما القسم الثانی فالاصحاب متفقون علی نجاستهم سواء کان کفرهم أصلیا أو ارتدادا- إلی أن قال- وأمّا الیهود والنصاری فالشیخ قطع فی کتبه بنجاستهم وکذا علم الهدی والأتباع وابنا بابویه، وللمفید قولان أحدهما النجاسة ذکره فی أکثر کتبه والآخر الکراهیة ذکره فی الرسالة الغریة.

وهو یعطی الخلاف فی أهل الکتاب إلّا أنّه اقتصر فی نسبة الخلاف إلی المفید فقط، مع امکان حمل عبارته علی الحرمة، فنسبة الخلاف إلی ابن جنید وابن أبی عقیل لم نعثر علیها(2) فی المعتبر ولا الذکری ولا المختلف ولا المنتهی، وإن ذکرت فی کلمات متأخری المتأخرین من عدم تنجیس الثانی سؤرهم، وترجیح الأوّل اجتناب آوانیهم ما لم یتیقن الطهارة.

نعم فی المختلف(3) فی باب الذبح نسب إلی ابن أبی عقیل حلّیة ذبائحهم، وحکی(4) عن ابن الجنید أن الأحوط عنده اجتناب ذبائحهم وأوانیهم ما لم یتیقن الطهارة.

ثمّ ان تضمن معاقد الاجماع فی بعض کلمات القدماء عنوان المسوخ لیس قرینة علی التنزیه بعد ذهابهم إلی نجاستها کما هومعروف عن الشیخ وجماعة، کما أنّ قالب معقد الاجماع الذی هوبصورة النهی عن أسآرهم عن الانتفاع أو الوضوء بها کذلک(5) بعد وضوح أن النهی عنه فی ذلک الباب

ص:326


1- (1) المعتبر، ج1، ص95.
2- (2) لم نعثر فی کلمات الاصحاب نسبه ذلک الی ابن الجنید وابن ابی عقیل، نعم نسب الیهما ذلک الشهید الثانی، فی مسالک الافهام، ج12، ص66.
3- (3) مختلف الشیعة، ج8، ص316، الطبعة المحققة.
4- (4) المصدر، الصفحة ثم علق علی عبارة ابن الجنید ( وهذه العبارة لا تعطی التحریم).
5- (5) بحوث فی شرح العروة، للشهید الصدر، ج3، ص338.

للنجاسة إلا ما نصّ علیه بالتنزیه، کما استدلّ علی نجاسة بعض الأعیان بالنهی الوارد عن أسآرها وکما هو صریح صحیحة البقباق المتقدمة فیها.

نعم فی کلمات الشهید الثانی(1) التلویح بدلالة بعض الروایات علی الطهارة، وصرح المقدس الاردبیلی فی المجمع بأن العمدة فی النجاسة الاجماع(2) وهو الموجب لتأویل روایات الطهارة، ومن بعده تلمیذیه صاحب المعالم ویظهر من صاحب المدارک التوقف فی النجاسة فیهم بل فی مطلق الکافر(3)، وکذا حکی عن الفیض - فی اهل الکتاب --، وقد اختار الطهارة جماعة من متأخری هذا العصر علی اختلاف بینهم فی تصویرها.

الأقوال والمحتملات فی المسالة:

والمحصل من الأقوال والمحتملات المذکورة حینئذ هو:

الأول: النجاسة الذاتیة مع المنجسیة وهو قول المشهور شهرة قاطبة.

الثانی: النجاسة الذاتیة مع عدم المنجسیة.

الثالث: النجاسة الذاتیة المعفو عن تنجیسها نظیر ماء الاستنجاء عند الاضطرار وکثرة الابتلاء بهم والحاجة إلی معاشرتهم.

الرابع: النجاسة الذاتیة المعفو عنها نظیر الصدید.

الخامس: الطهارة الذاتیة مع أصالة النجاسة العرضیة عند الشک.

السادس: الطهارة الذاتیة مع البناء علی الطهارة العرضیة عند الشک لأصالتها.

ص:327


1- (1) المسالک، ج12، ص67.
2- (2) مجمع الفائدة والبرهان، المقدس الاردبیلی، ج1، ص322.
3- (3) مدارک الأحکام، ج2، ص298.

وأمّا العامّة فلم یحک خلاف بینهم علی طهارة الکافر مطلقا(1) إلّا ما عن الحسن(2) من متقدمیهم وأهل الظاهر(3) وبعض أئمة الزیدیة(4)، وقال فی الانتصار(5): (وحکی الطحاوی عن مالک فی سؤر النصرانی والمشرک أنّه لا یتوضأ به ووجدت المحصلین من أصحاب مالک یقولون أنّ ذلک علی سبیل الکراهة لا التحریم(6) لأجل استحلالهم الخمر والخنزیر ولیس بمقطوع علی نجاسته - یعنی السؤر--) فمذهبه الکراهة والتنزه لمعرضیتهم النجاسات العرضیة.

أدلة القول بالنجاسة:
أولا بالآیات الکریمات:

الأولی: قوله تعالی یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِکُونَ نَجَسٌ فَلا یَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ (7).

وتقریب الدلالة اجمالاً: أن فی حصر المشرکین فی النجاسة نحواً من التأکید والتشدید علی بالغ نجاستهم، مضافا إلی کون الأخبار بوصف

ص:328


1- (1) راجع المغنی لابن قدامه، ج1، ص49، التفسیر الکبیر، ج16، ص24. البحر الرائق، ج1، ص126. الفقه علی المذاهب الاربعة، ج1، ص11. وغیرها.
2- (2) حیث قال: (من صافح مشرکاً توضأ).
3- (3) نسب هذا القول للظاهریة، صاحب فتح الباری، ج1، ص129. ثم قال: (ولا عجب فی الدنیا اعجب ممن یقول فیمن نص الله انهم نجس: انهم طاهرون...)
4- (4) وهو قول الهادی من الزیدیة.
5- (5) الانتصار، ص88.
6- (6) احکام القرآن، للقرطبی، ج13، ص44.
7- (7) سورة البراءة، الآیة:28.

المصدر مبالغة فی اتصافهم بذلک کما فی زید عدل، أی عین العدل مبالغة.

وأما الموضوع فیعم أهل الکتاب، إمّا لصدق العنوان علیهم، أو لکونه کنایة عن مطلق الکفار لما یأتی من القرائن.

الإشکال علی دلالة الآیة: وأشکل تارة فی المحمول - مفاد النجاسة - وأخری فی عموم الموضوع.

أما المحمول (مفاد النجاسة):

فأولا: بأن المعنی الاصطلاحی للنجاسة لم یثبت وروده فی الآیة الکریمة ولم یتعارف استعماله، بل هو بالمعنی اللغوی وهو القذارة أی الشرک وهو المناسب للتفریع بمنعهم عن دخول المسجد الحرام لعدم حرمة ادخال الأعیان النجسة ما لم یکن هتکا، إذ المسجد محل عبادة وذکر للّه لا یناسب الشرک والکفر، ویعضد ذلک ندرة استعمال اللفظة فی الأحادیث النبویة(1).

ثانیا: أن حمل المصدر علی الذات لا یصحّ فلا بد من التقدیر ل--(ذو) أو استعمال المصدر بمعنی الصفة ویصح الاتصاف حینئذ لأدنی ملابسة، وهو عدم توقیهم من النجاسات والاحداث فالتوصیف بلحاظ ذلک.

ثالثا: لو کان المعنی الاصطلاحی هو المراد لاشتهر علما وعملا عند المشافهین بالنزول بل علی العکس فان المراد عندهم هو القذارة المعنویة ونحوها، إلا ما ینسب(2) إلی ابن عباس أنّ مفادها (أن أعیانهم نجسة

ص:329


1- (1) بحوث فی شرح العروة، السید الصدر، ج3، ص259، التنقیح، السید الخوئی، ج3، ص44.
2- (2) نسب ذلک لابن عباس الزمخشری فی تفسیره الکشاف.

کالکلاب والخنازیر)، ومن التابعین الحسن البصری (أن من صافح مشرکا توضأ) وعمر بن عبد العزیز وهو علی فرض صحة النبسة لا یشکل تبادرا فی الارتکاز العرفی المحاوری حینذاک(1).

رابعا: أن النجاسة عند ما تحمل علی شیء تارة تحمل علیه کصفة ابتدائیة للجسم، وأخری بما هو متصف بصفة قائمة بالجسم غیر قابلة للسریان بالملاقاة، وثالثة کصفة للنفس والمعنی.

ولک أن تقول أنها تارة قذارة حسیة للجسم، وثانیة قائمة بالجسم غیر قابلة للتعدی کالاسکار للخمر، وثالثة قائمة بالجسم والمعنی کالجنابة والحیض، حیث ورد التعبیر بأن تحت کل شعرة جنابة.

ففی الأولی القذارة تکون متعدیة، وفی الثانیة لا تتعدی کما ورد أن الثوب لا یسکر، وفی الثالثة لا تتعدی کما ورد أن الثوب لا یجنب وان الجنابة والحیض حیث وضعهما الله تعالی، ثمّ أن کلا من هذه الأقسام الثلاثة تنقسم إلی حقیقیة واعتباریة، والمناسب للحصر فی الآیة هو النجاسة الحقیقیة المعنویة لا الاعتباریة، مضافا إلی أن احتمال ارادة المعنی الحقیقی اللغوی أی القذارة والوساخة ممکن فلا موجب لحملها علی الاعتباریة(2).

دفع الإشکال الأول علی دلالة الآیة: وتدفع:

أما الأول: فبأن سورة التوبة المتضمنة للآیة من أواخر السور نزولا بل قیل أنّها نزلت بعد سورة المائدة عام تسع من الهجرة، وقد شرّع نجاسة البول والغائط والمنی وغیرها من النجاسات ولزوم الغسل منها کما یظهر

ص:330


1- (1) فقه الامامیة، ج1، ص331.
2- (2) بحوث فی شرح العروة، ج3، ص257، والمستمسک، ج1، ص310.

من الآیات والروایات فی تلک العناوین.

وأما ندرة استعمال اللفظة فلو سلّم ذلک فبعد تشریع المعنی هو کاف فی حدوث الاصطلاح، إذ المعنی المزبور له ألفاظ مترادفة قد یکثر استعمال بعضها ویقلّ الآخر، وهو غیر مضر بعد ترادفها فی المعنی، والوجه فی ذلک أنّ المعنی الاصطلاحی لیس یباین المعنی اللغوی فی الماهیة والذات المقررة کما قدمنا فی صدر کتاب الطهارة وانما الوضع الشرعی یتعلق بالمصادیق والتطبیق للمعنی الکلی، فلیس هومن أحداث أصل المعنی بل الجعل فی المصادیق.

کما تقدم فی طی مباحث التذکیة أنّ فی البناء العقلائی انحاء من الجعل المتفق علیه بینهم أی المتعلق بالحکم الوضعی والتکلیفی والطریقی الظاهری، والأول کالتذکیة والمیتة والطهارة والنجاسة والملکیة واللزوم العقدی والجواز وغیرها، والثانی الواجبات العقلیة فی العقل العملی، والثالث کحجیة خبر الواحد والظهور وغیر ذلک، وعلی هذا یکون الجعل الشرعی امضائیاً فی بعض موارده کما فی الغائط والبول ونحوهما من القذارات فی الجعل العقلائی، وفی البعض الآخر تأسیسیاً کالکلب والخنزیر والکافر والخمر ونحوها وستأتی تتمة لذلک فی الجواب عن الاشکال الرابع.

وبذلک یتضح أن الاستعمال الشرعی للفظة لا یغایر اللغوی فی المعنی المستعمل فیه بل فی مورد الاستعمال والمسند الیه فی بعض الموارد کما فی المقام.

ویتضح أن الشرک لم یکن من القذارات العرفیة کی تکون النجاسة حقیقیة لدیهم فلا بد ولا محیص عن کون الآیة فی صدد الجعل التأسیسی بعد کون الوصف علة منعهم من الاقتراب.

ص:331

إمضاء المعنی العرفی للنجاسة:
اشارة

هذا مع أنّ الصحیح کثرة ورودها فی الاستعمالات النبویة من طرق الخاصّة والعامّة فی القذارة المادیة، ویظهر من روایة القمی فی تفسیره آیة أَنْ طَهِّرا بَیْتِیَ ... (1) أن تنحیة المشرکین کان من شریعة ابراهیم (علیه السلام)، بل ان تشریع نجاسة المشرکین کان فی التوراة أیضا کأحد أحکام النجاسة.

فمن طرق الخاصة: قوله صلی الله علیه و آله (المیتة نجس وان دبغت)(2)، وقوله صلی الله علیه و آله (الماء لا ینجسه شیء)(3)، وقریب منه قوله (خلق الله الماء طهورا لا ینجسه شیء، الا ما غیر لونه أو طعمه أو ریحه)(4).

وما رواه فی البحار(5) عن الخرائج عن الصادق(علیه السلام) أنّه قال: (لما قتل علی(علیه السلام) عمرو بن عبد ود اعطی سیفه الحسن (علیه السلام) وقال: قل لأمک: تغسل هذا الصیقل فردّه وعلی(علیه السلام) عند النبی صلی الله علیه و آله وفی وسطه نقطة لم تنق، قال: ألیس قد غسلته الزهراء؟ قال: نعم قال: فما هذه النقطة؟ قال النبی صلی الله علیه و آله : یا علی سل ذا الفقار یخبرک، فهزّه وقال: ألیس قد غسلتک الطاهرة من دم الرجس النجس؟ ... الحدیث)، بل هذه الروایة شاهدة علی دلالة الآیة فی تمام مفادها کما لا یخفی حیث أنّه (علیه السلام) فی صدد بیان شدة التقذر من دمه بإضافته إلی نجاسته.

ص:332


1- (1) سورة البقرة، الآیة:125.
2- (2) مستدرک الوسائل، ج2، ص592. بحار الانوار، ج77، ص80. دعائم الاسلام، ج1، ص126.
3- (3) مستدرک الوسائل، ج1، ص179. المقنعه، ص63. عوالی اللآلی، ج1، ص76.
4- (4) وسائل الشعیة، ج1، ص135. مستدرک الوسائل، ج1، ص202. بحار الانوار، ج77، ص9.
5- (5) بحار الانوار، ج20، ص249.

وقوله صلی الله علیه و آله فی بیان انتقاله فی الأصلاب (ثم قذفنا فی صلب آدم ثمّ أخرجنا إلی أصلاب الآباء وأرحام الأمهات، ولا یصیبنا نجس الشرک ولا سفاح الکفر)(1)، وما رواه فی البحار(2) عن الواقدی أنّ عبد المطلب أراد أن یمسح بدن النبی صلی الله علیه و آله بالات والعزی لتسکن دمدمة وغضب قریش لما رأوا من آیات ولادته فجذب من ورائه فالتفت إلی ورائه فلم یر أحدا، فتقدم ثانیة - وهکذا - ثمّ تقدم ثالثة فجذبه الجاذب جذبة شدیدة حتی أقعده علی عجزه وقال: یا أبا الحارث أتمسح بدنا طاهرا ببدن نجس؟، والنجاسة فی حجارة الأصنام بلحاظ ما یراق علیها من دماء القرابین لها أو ملاقاتها لأیدی المشرکین.

وما روی فیما امتن الله به علی أمّته کرامة له صلی الله علیه و آله فی الحدیث القدسی (وکانت الأمم السالفة إذا أصابهم أدنی نجس قرضوه من أجسادهم، وقد جعلت الماء طهورا لأمّتک من جمیع الأنجاس)(3).

وما روی فی خبر ولادته صلی الله علیه و آله (فأخذ جبرئیل رسول الله صلی الله علیه و آله وغسله ومیکائیل یصب الماء علیه فغسلاه وآمنة فی زاویة البیت قاعدة فزعة مبهوتة، فقال لها جبرئیل: یا آمنة لا نغسله من النجاسة فإنّه لم یکن نجسا ولکن نغسله من ظلمات بطنک)(4).

وقوله صلی الله علیه و آله إذا أراد دخول المتوضأ (اللهمّ انی أعوذ بک من الرجس النجس الخبیث المخبث الشیطان الرجیم، اللهمّ امط عنی الأذی

ص:333


1- (1) بحار الانوار، ج15، ص7. علل الشرائع، ص80.
2- (2) بحار الانوار ج15 ص 296.
3- (3) بحار ج77 ص150
4- (4) .بحار الانوار، ج15، ص287. الفضائل، ص18.

وأعذنی من الشیطان الرجیم)(1)، بناء علی أن الموصوف بالرجس النجس هو الغائط والتعوذ منه ومن الشیطان من دون ذکر حرف العطف، أوأن الموصوف هو الشیطان الا أن الوصفین الأولین وصفا له بلحاظ وجوده المادی والاخیرین بلحاظ مرتبة وجوده المجرد.

وقوله صلی الله علیه و آله (جنبوا مساجدکم النجاسة)(2)، وغیرها مما یجدها المتتبع.

وأما من طرق العامّة: فقد استفاض عندهم عنه صلی الله علیه و آله قوله (ان المؤمن لا ینجس وان المسلم لا ینجس)(3)، فی جوابه صلی الله علیه و آله لتوهم بعض الصحابة نجاسة بدن الجنب.

وکذا استفاض عندهم قوله صلی الله علیه و آله (ان الماء طهور لا ینجسه شیء)(4)، و(ان الماء لا ینجسه شیء)، وکذا استفاض عندهم قوله صلی الله علیه و آله (انّها لیس بنجس) عن الهرة جوابا لتوهم بعض النساء نجاسة سؤرها.

وکذا استفاض عندهم قوله صلی الله علیه و آله (إذا بلغ الماء قلتین لم ینجسه شیء)(5)، وتقریره صلی الله علیه و آله لسؤال السائل إنّا نرید المسجد فنطأ الطریق النجسة ثم قوله صلی الله علیه و آله (الارض یطهر بعضها بعضا)(6)، وما رووه عنه صلی الله علیه و آله فی النهی عن لحوم الحمر وتعلیلها ب--(فإنّها رجس

ص:334


1- (1) وسائل الشیعة، ابواب احکام الخلوه باب5، ح5
2- (2) الوسائل، ابواب احکام النجاسه، باب24، ح2.
3- (3) البخاری، کتاب الغسل، باب23. مسلم 556/29 وغیرهما.
4- (4) مسلم، کتاب الطهارة، باب30. وغیرها.
5- (5) ابن ماجه، کتاب الطهارة، 510/75.
6- (6) سنن الدارمی، 525/79.

أو نجس)(1)، وغیرها ممّا یعثر علیه بالفحص.

هذا فضلا عما یوجد فی کتب السیر والتواریخ عنه صلی الله علیه و آله ، وفضلا عما یوجد عن أمیر المؤمنین (علیه السلام) سواء من طرقنا أو طرق العامّة، وکذا عن الصحابة فانه یتوفر بذلک کم هائل من استعمال اللفظة فی القذارة المادیة، بل بالامکان الحصول علی شواهد أنّ اللفظة مستعملة فی المادیة قبل الاسلام(2).

مضافا إلی کلّ ذلک أنّ استعمال اللفظة کما تقدم إنما هوفی ماهیة القذارة لا بما هی متقیدة برتبة وجود معین کالنفسی مثلا کما فی سائر ألفاظ الطبائع، فعند اسناد المصدر إلی الذات یعطی کما حرر فی البلاغة أنّ الذات متمثلة بقالب مجسم من أفراد المصدر کما فی زید عدل، والمفروض أن الذات لیس مقتصرة علی الروح والنفس بل مجموع مشتمل علیهما وعلی البدن، إذ لم یسند المصدر إلی الشرک بل إلی المشرک أی الذات المتصفة به، کما ان الاتیان باداة الحصر لحقیقة المشرک فی المصدر والصفة تأکید ومبالغة أخری فی کونهم بتمام ذاتهم قذرین فهل یتناسب کل ذلک مع الاسناد المجازی فیکون الاسناد لا إلی ذواتهم بل إلی نفوسهم.

وأمّا المناسبة المذکورة فلا تقتضی عدم نجاسة أبدانهم المعلولة للشرک، وعدم حرمة ادخال بقیة النجاسات ما لم یکن هتکا، فلا شهادة فیه علی ذلک بعد اختصاص کل عین نجسة بأحکام وان اشترکت کلها فی أحکام أخری، فالمناسبة المذکورة موجبة للاختصاص بالحکم المزبور لا

ص:335


1- (1) مسلم، کتاب الصید، باب40.
2- (2) کما هو فی التوراة.

لحصر القذارة بالمعنی، بل ان ارادة النجاسة المعنویة فی هذا التعبیر أی وصف ذواتهم بعین المصدر والقذارة مع حصر حقیقتهم بذلک هومن البشاعة بمکان کما قیل، إذ کیف تتناسب المبالغة فی وصف ذات شیء بأنّه عین القذر کما فی زید عدل ثم یقال بأن بدنه طاهر کسائر الأعیان الطاهرة.

دفع الإشکال الثانی:

أما الثانی: فقد حرر فی علم البلاغة أنّ الوصف بالمصدر أبلغ فلا حاجة للتأویل والتقدیر، ولذلک وقع الاصطلاح الفقهی علی اطلاق المصدر علی الأعیان النجسة والمشتق علی الأجسام المتنجسة بتلک الأعیان، هذا مضافا إلی مناسبة الحصر والمبالغة فی التوصیف بالمصدر إلی کون المشرکین کملا روحا وبدنا بذلک الوصف.

دفع الاشکال الثالث:

وأمّا الثالث: ففیه مضافا إلی ما تقدم فی دفع الأول أنّه لا اختلاف فی المعنی المراد من اللفظة کما تقدم، ویشهد لذلک ما یذکر عن کثیر من الصدر الأول(1) من أن مفادها هو القذارة المادیة، غایة الأمر لا یسندونها إلی أبدانهم بالذات بل یسندونها إلیهم بلحاظ تلوثهم ببقیة النجاسات وعدم توقّیهم عنها، وبلحاظ الحدث الذی لا یغتسلون منه من الجنابة وغیرها.

فالإختلاف عند الأکثر فی استظهار المسند إلیه هل هو النفس أو البدن بلحاظ الذات أوبلحاظ القذارات العرضیة، نعم اسنده البعض منهم إلی النفس بلحاظ الشرک وهو أیضا لیس قذارة عرفیة کما تقدم.

ص:336


1- (1) لاحظ تفسیر الطبری وغیره.

فالقذارة شرعیة عند الکل حتی لو کانت بلحاظ الشرک حیث أن الفرض انه رتب علیها حکم المنع من اقترابهم للمسجد الحرام.

ومما یشهد بأن الظهور یحتمل اسناد النجاسة إلی الأبدان ما رواه الطبری عن جماعة بقوله (وقال آخرون معنی ذلک ما المشرکون إلا رجس خنزیر أو کلب وهذا قول روی عن ابن عباس)، وحکاه عن الحسن البصری وغیره.

ولیس هذا الاختلاف فی هذا الجهة من الظهور فقط، فقد اختلف فی جهات أخری أیضا من عموم الدلالة لکل المساجد کما ذهب إلیه مالک من العامة خلافا لأبی حنیفة والشافعی، ومن عموم الدلالة لکل الکفار کما ذهب إلیه مالک والشافعی خلافا لأبی حنیفة، ومن عموم الدلالة لمطلق الدخول للمسجد الحرام خلافا لأبی حنیفة حیث ذهب إلی المنع عن خصوص الحج والاعتمار.

فهل تری أن هذا الاختلاف فی الاستظهار یسقط الظهور عن الحجیة أو ظهورها فی مفاد هذه الجهات ویصنفها فی المجملات، وکم من اختلاف فی مفاد الآی فی الکتاب العزیز مع کونها غیر محدودة فی المتشابه.

بل ان الباعث لهم علی تحویر الظهور فی الآیة هو توهم عامتهم دلالة آیة الطعام علی طهارتهم وحلّیة ذبائحهم، والثانیة من سورة المائدة التی عرفت بکونها ناسخة غیر منسوخة، فارتکبوا ذلک التأویل جمعا بین المفادین وابتعادا عن النسخ لحکم المنع عن اقترابهم، اذ هو بالاتفاق غیر منسوخ.

وهذا نظیر ما ارتکبوه من الخطأ فی فهم قول النبی صلی الله علیه و آله فی الشاة المیتة (هلّا انتفع أصحابها بجلدها) ان جلد المیتة یطهر بالدباغة مع

ص:337

انه صلی الله علیه و آله أراد بأن یذبحوها ویذکوها ومن ثم ینتفعون بها، وغیر ذلک من الموارد التی حرّفت فیها الأحکام، وسیأتی أن محط نظر الروایات علی اختلاف ألسنتها هی لتخطئتهم فی ذلک ومن ثم تخطئة ما بنوا علیه من تحویر آیة نجس المشرکین ومن قلب مفادها.

دفع الإشکال الرابع:

وأمّا الرابع: فقد تقدم فی دفع الاول والثالث أنّ الاطلاق والاستعمال لا یغایر المعنی اللغوی وانما یغایره فی المورد والتطبیق وأنّه شرعی علی کل حال، وأمّا التردید بین الاعتباری أو الحقیقی فهو نظیر التردید فی النجاسة فی حکم الشرع انها اعتبار أو حقیقة کشف عنها الشارع، فکذلک التردید فی حکم العرف، والصحیح انها مع الطهارة حکمان وضعیان فی البناء العقلائی وان کان منشأهما ما یوجب النفرة ونحوهما من الدنس أو الخلوص من ذلک وان کان لهما مصادیق حقیقیة تکوینیة، حیث أنک تری اختلافاً فی الانظار العرفیة فی مصادیقها وذلک حسب اعتباراتهم وحسب احراز ملاک الاعتبار المزبور، ویدل علی ذلک أیضا انهم یرتبون الآثار من التغسیل وغیره.

فکذلک فی المقام حیث رتب فی الآیة النهی عن اقترابهم، مع أن عنایة الحصر والمبالغة فی الوصف انما یتم بقذارتهم بنفوسهم وأبدانهم ولوبنی علی کونها فی المقام حقیقیة، حیث أنّه تقریر من الشرع بذلک.

وأمّا التقسیم الثلاثی المذکور فغیر مطرد فقد حکم علی البول والغائط من الحیوان الجلّال بالنجاسة المتعدیة وان کان الحیوان من الأنعام الثلاثة وغیره من مأکول اللحم بالذات، وکذا حکم علی عرق الجنب من

ص:338

الحرام وعرق الابل الجلالة بالنجاسة المتعدیة علی قول المشهور فیهما، ولا أقل من مانعیتهما للصلاة، وکذا علی المیتة الذی هو زهوق الروح، مع ان هذه الموارد لم یکن الحکم الا بتوسط صفة قائمة بالجسم غیر قابلة للسریان أو بالاسناد إلی النفس کما فی الجنب من الحرام، کما قد حکم علی ابن الزنا بالقذارة غیر المتعدیة مع أنّه یندرج فی القسم الأول.

هذا: مضافا إلی موافقة الاعتبار وتجویزه الحکم بنجاسة متعدیة فی القسمین الاخیرین فیما کانت شدیدة والعکس فی القسم الأول فیما کانت خفیفة.

المؤیدات للمختار:

ویمکن تأیید ما تقدم - من عموم القذارة للبدن والنفس - والاستئناس إلی ذلک بما یلی:

أولا: الحکم فی موارد أخری أیضا یظهر منها الارتباط بین القذارة المعنویة والقذارة البدنیة:

کغسل المیت من الحدث یطهّر بدنه، کما أن مسّه قبل غسله یوجب الحدث.

وکتنجس بدن الحیوان الآدمی وغیره مما له نفس سائلة بخروج الروح بخلاف ما لیس له نفس وبخلاف الذی خرجت روحه بالشهادة أو التذکیة.

وکغسل الجنب من الحرام رافع لنجاسة أو مانعیة عرقه للصلاة.

وکذا التعلیل الوارد فی غسل البدن من الجنابة (من أجل أنّ الجنابة من نفس الانسان بخلاف الغائط فان یدخل من باب ویخرج من باب)(1)

ص:339


1- (1) وسائل الشیعة، ابواب الجنابه، باب2، ح4.

أو لان فیه لذة وشهوة(1) وهما نفسیتان.

وکاستعمال الماء فی رفع الحدث الأکبر یسلب الماء طهوریته، وکذا لزوم طهوریة الماء للطهارة عن الحدث، وکذا عدم طهوریة الماء عن الحدث إذا کان مستعملا فی الخبث.

ثانیا: ما تقدم استظهار القذارة بما یشمل البدن من الآیة ما ورد التعبیر باللفظة المزبورة عن أهل الکتاب فی موثق ابن أبی یعفور(2) بمقتضی الاشتراک المفهوم فی مفاضلة الناصب والکلب علیهم.

ثالثا: ما تقدم فی مفاد اللفظة، وما ورد فی المقابل فی المؤمن فی روایات الوضوء (ان المؤمن لا ینجسه شیء انما یکفیه مثل الدهن)(3).

رابعا: قوله تعالی إِنَّ اللّهَ یُحِبُّ التَّوّابِینَ وَ یُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِینَ (4)، فقد وردت الروایات المعتبرة ان سبب نزولها هو فی الانصاری الذی ابتدع الاستنجاء بالماء، فالاطلاق فی الآیة بلحاظ البدن، وأیضا کما فی روایات أخر بلحاظ النفس فلا غروان یکون کذلک فی المقابل وهو النجس.

خامسا: قوله تعالی أَنْ طَهِّرا بَیْتِیَ لِلطّائِفِینَ وَ الْعاکِفِینَ وَ الرُّکَّعِ السُّجُودِ (5)، ومثله قوله تعالی فی سورة الحج(6)، والمستفاد منها عموم الامر بالتطهیر سواء من الاشراک والاصنام أو المشرکین أومن بقیة القذارات

ص:340


1- (1) المصدر، باب1.
2- (2) وسائل الشیعة، ج1، ص220.
3- (3) وسائل الشیعة، ج1، ص438، باب31 من ابواب الوضوء، ح11.
4- (4) سورة البقرة، الآیة: 222.
5- (5) سورة البقرة، الآیة: 125.
6- (6) الحج: 26 وَ طَهِّرْ بَیْتِیَ لِلطّائِفِینَ وَ الْقائِمِینَ وَ الرُّکَّعِ السُّجُودِ.

حیث کان المشرکون یرمون فیه القذارات.

کما وقد دلت علی ارادة عموم الأمر بالتطهیر الروایات الصحیحة الواردة(1) فی ذیل الآیة وأنّه بمقتضی الأمر فیها ینبغی للعبد والمرأة أن لا یدخلا إلّا وهما طاهران قد غسلا عنهما العرق والاذی وتطهّرا.

بل عن تفسیر القمی قال الصادق (علیه السلام) یعنی نحّ عن المشرکین وقال: لما بنی إبراهیم (علیه السلام) البیت وحجّ الناس شکت الکعبة إلی الله تبارک وتعالی ما تلقی من أیدی المشرکین وأنفاسهم، فأوحی الله إلیها قرّی کعبتی فانی أبعث فی آخر الزمان قوما یتنظفون بقضبان الشجر ویتخللون(2).

ولا یتوهم اشعار ذیل الروایة بکون المفاد للآیة انهم ذو نجس لأجل عدم تطهرهم عن القذارات إذ اطلاق التوصیف فی الآیة یفید ثبوت الوصف مطلقا للذات، کما أن الموضوع هی ذواتهم بنحو مطلق، مع أنّه علی هذا المعنی لا موجب لاختصاصهم بالتنحیة، وکذلک صدر الروایة المزبورة حیث اطلق الأمر بتنحیة المشرکین، مضافا إلی اشتمال الذیل فی أحد متونه علی الشکوی من ملاقاة أیدیهم، مع أنّها تغسل فی العدید من الأوقات فهو کالصریح فی النجاسة الذاتیة.

أمّا الموضوع (مطلق الکافر):

فأشکل علیه:

أولا: أنّه أخص من المدعی للفرق بین عنوانه (المشرکین) وبقیة أفراد

ص:341


1- (1) البرهان فی تفسیر القرآن، ج1، ص326. التفسیر الصافی، ج1، ص187. تفسیر القمی، ج1، ص59. وغیرها.
2- (2) تفسیر القمی، ج1، ص59.

الکفار کأهل الکتاب والفرق المنتحلة للإسلام، فقد ورد التفریق بین عنوان المشرکین وأهل الکتاب من الیهود والنصاری والمجوس بل والصابئة أیضا فی العدید الکثیر من الآیات(1) والروایات، وقد اختص کل من العنوانین باحکام خاصة فی باب القتال والنکاح والهدنة وغیرها.

ثانیا: ان التمسک باطلاق العنوان مستلزم لشموله لکل مراتب الاشراک التی لا یخلو منها إلا المعصوم وبعض اولیاء الله تعالی، مثل المرائی المسلم والذی یسند الخیر فی کلامه إلی غیر الله ونحوهما(2).

ویدفع الأول: إن فی المقام قرائن عدیدة علی کون الموضوع هو مطلق الکافر نظیر الموضوع فی قوله تعالی وَ لا تَنْکِحُوا الْمُشْرِکاتِ حَتّی یُؤْمِنَّ وَ لَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَیْرٌ مِنْ مُشْرِکَةٍ وَ لَوْ أَعْجَبَتْکُمْ وَ لا تُنْکِحُوا الْمُشْرِکِینَ حَتّی یُؤْمِنُوا وَ لَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَیْرٌ مِنْ مُشْرِکٍ وَ لَوْ أَعْجَبَکُمْ أُولئِکَ یَدْعُونَ إِلَی النّارِ وَ اللّهُ یَدْعُوا إِلَی الْجَنَّةِ وَ الْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَ یُبَیِّنُ آیاتِهِ لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ یَتَذَکَّرُونَ (3) کما یأتی توضیحه أیضا، واستعمال المشرکین فیه اما من باب عموم المعنی المستعمل فیه اللفظة وهو أی الکفر أحد المعانی المستعملة کما تستعمل فی خصوص الوثنیین کثیرا فی الاطلاقات القرآنیة والروائیة، أولا أقل من باب الکنایة عن مطلق الکافر کما أرید منها ذلک فی موارد.

القرائن علی ذلک هی:

ص:342


1- (1) سورة البقرة، الآیة: 105، قوله تعالی ما یَوَدُّ الَّذِینَ کَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْکِتابِ وَ لاَ الْمُشْرِکِینَ أَنْ یُنَزَّلَ عَلَیْکُمْ مِنْ خَیْرٍ مِنْ رَبِّکُمْ وَ اللّهُ یَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ یَشاءُ وَ اللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِیمِ ، وآل عمران، الآیة: 186. المائدة، الآیة:82. والحج، الآیة17. وغیرها.
2- (2) التنقیح فی شرح العروة، ج3، ص44.
3- (3) سورة البقرة، الآیة: 211.

الاولی: ان الحکم بالنجاسة والمنع من الاقتراب من المسجد الحرام شامل جزما للدهریین والملحدین من الکفار مع کونهم لیسوا بثنویین، وکون ذلک الشمول بطریق الأولویة القطعیة لا بشمول اللفظة غیر ضائر بعد الالتفات إلی عدم تعدد الموضوع الکلی للحکم، فلا بد من عنوان جامع وهو مطلق الکفر.

واحتمال: ان الموضوع بعض درجات الکفر لا مطلقه ولذا لا یشمل کفران النعمة ونحوه مما یجتمع مع الاسلام.

مدفوع: بأن الظاهر أخذ الکفر الاصطلاحی وهو انکار أصول الدین الآتی الکلام عنها، لکونه محطا للعدید من الأحکام کحرمة الذبیحة کما یأتی ذلک فی المرتد والناصب والخوارج وأهل الکتاب والمجسمة والمشبهة وغیرهم من أصناف الکفار، وکبینونة الزوجة وحصول الردة وعدم الارث وغیرها.

الثانیة: أن الحکم بالنجاسة قد رتب - کما سیأتی الدلیل علیه - علی بعض العناوین والفرق المنتحلة للاسلام کالناصب الذی ورد التعلیل بالکفر لحرمة الزواج منه(1)، والخارجی الذی ورد التعبیر عنه بالمشرک کما یأتی، والظاهر مع القرینة المتقدمة هو اندراج الموارد تحت عنوان الکفر.

الثالثة: عموم الحکم وهو المنع من دخول المسجد الحرام لأهل الکتاب، قرینة علی عموم الموضوع وعلی عموم العلة وهی النجاسة، والدال علی عموم الحکم عدة من الآیات کقوله تعالی فی نفس السورة قبل هذه الآیة بعدة آیات ما کانَ لِلْمُشْرِکِینَ أَنْ یَعْمُرُوا مَساجِدَ اللّهِ شاهِدِینَ

ص:343


1- (1) و سائل ، ج20، ابواب ما یحرم بالکفر باب 10.

عَلی أَنْفُسِهِمْ بِالْکُفْرِ (1)، والنفی شامل للتولیة علی المسجد وللدخول والمکث فیه لأجل الذکر والصلاة أو الزیارة، کما هو أحد مصادیق عمارته فی المأثور والعرف الشرعی، والنفی موضوعه مطلق الکافر بمقتضی التعلیل، بل إن فی وحدة الآیتین فی الحکم والسورة قرینة قویة جدا علی عموم الموضوع وهو الکفر.

وکقوله تعالی وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللّهِ أَنْ یُذْکَرَ فِیهَا اسْمُهُ وَ سَعی فِی خَرابِها أُولئِکَ ما کانَ لَهُمْ أَنْ یَدْخُلُوها إِلاّ خائِفِینَ لَهُمْ فِی الدُّنْیا خِزْیٌ وَ لَهُمْ فِی الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِیمٌ (2)، سواء کان سبب النزول هو تخریب الروم لبیت المقدس وتلویثهم إیاه ومنعهم من دخوله، أو کان منع المشرکین رسول الله صلی الله علیه و آله من دخول المسجد الحرام عام الحدیبیة بعد عموم موضوع الإخافة بالطرد من المسجد، لاسیما وأن سیاق الآیات العدیدة قبل هذه الآیة هو فی أهل الکتاب، وکذا الوعید بالخزی فی الدنیا المحتمل انطباقه علی اعطاء الجزیة عن ید وهم صاغرون.

ولا ینافی ذلک تعقیب آیة المنع عن القرب من المسجد الحرام بحکم القتال الخاص لأهل الکتاب وأخذ الجزیة فانه حکم آخر، وإلا فقد تلی ذلک أیضا اسناد الشرک إلی أهل الکتاب.

الرابعة: ورود استعمال الشرک فی مطلق الکفر الاصطلاحی الالحادی أو الملیّ والنحلی وسواء بنحو الفعل أو الوصف أو غیرهما، کما فی قوله تعالی حکایة عن مؤمن آل فرعون وَ یا قَوْمِ ما لِی أَدْعُوکُمْ إِلَی النَّجاةِ وَ تَدْعُونَنِی إِلَی النّارِ، تَدْعُونَنِی لِأَکْفُرَ بِاللّهِ وَ أُشْرِکَ بِهِ ما لَیْسَ لِی بِهِ عِلْمٌ وَ أَنَا أَدْعُوکُمْ إِلَی

ص:344


1- (1) سورة التوبة، الآیة:17.
2- (2) سورة البقرة، الآیة: 114.

اَلْعَزِیزِ الْغَفّارِ، لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِی إِلَیْهِ لَیْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِی الدُّنْیا وَ لا فِی الْآخِرَةِ (1)، فأطلق الشرک علی الاعتقاد بأن فرعون رب الارباب وإله الآلهة مع عدم الاعتقاد بالله.

کما هو ادعاء فرعون فی الآیة الکریمة وَ قالَ فِرْعَوْنُ یا هامانُ ابْنِ لِی صَرْحاً لَعَلِّی أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلی إِلهِ مُوسی وَ إِنِّی لَأَظُنُّهُ کاذِباً (2)، وکما فی الآیة الاخری وَ قالَ فِرْعَوْنُ یا أَیُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَکُمْ مِنْ إِلهٍ غَیْرِی فَأَوْقِدْ لِی یا هامانُ عَلَی الطِّینِ فَاجْعَلْ لِی صَرْحاً لَعَلِّی أَطَّلِعُ إِلی إِلهِ مُوسی وَ إِنِّی لَأَظُنُّهُ مِنَ الْکاذِبِینَ (3).

والوجه فی استعمال المادة فی مطلق الکفر حتی الالحادی، هوأن الاعتقاد بغیر الله من دون الله هو فی واقعه شرک حیث انه یؤول إلی جعل الغیر ندا وضدا ومنتهی وغایة فی قبال الله تعالی والعیاذ بالله.

وکذا اطلق علی أهل الکتاب کما یأتی وکما فی قوله تعالی إِنَّ اللّهَ لا یَغْفِرُ أَنْ یُشْرَکَ بِهِ وَ یَغْفِرُ ما دُونَ ذلِکَ لِمَنْ یَشاءُ (4) إذ هو شامل لمطلق الکفر بلا ریب، وکما فی روایة یونس بن ظبیان عن الصادق (علیه السلام) فی حدیث قال: (یا یونس من زعم أن للّه وجها کالوجوه فقد أشرک)(5).

اطلاق الشرک علی اهل الکتاب:
اشارة

القرینة الخامسة: اسناد واطلاق الشرک علی أهل الکتاب سواء بهیئة الفعل أو المصدر أو الصفة فی الاستعمالات القرآنیة والروائیة.

ص:345


1- (1) سورة غافر، الآیة:41.
2- (2) سورة القصص، الآیة:36.
3- (3) سورة القصص، الآیة:37.
4- (4) سورة النساء، الآیة:48.
5- (5) الوسائل، ج24، ص69، باب28 من ابواب الذباح، ح10.
اولا: اطلاق الشرک علیهم فی القرآن:

الأول: کما فی قوله تعالی عقیب الآیة إِنَّمَا الْمُشْرِکُونَ نَجَسٌ (1)اِتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ وَ الْمَسِیحَ ابْنَ مَرْیَمَ وَ ما أُمِرُوا إِلاّ لِیَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمّا یُشْرِکُونَ (2).

الثانی: قوله تعالی لَقَدْ کَفَرَ الَّذِینَ قالُوا إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِیحُ ابْنُ مَرْیَمَ وَ قالَ الْمَسِیحُ یا بَنِی إِسْرائِیلَ اعْبُدُوا اللّهَ رَبِّی وَ رَبَّکُمْ إِنَّهُ مَنْ یُشْرِکْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَیْهِ الْجَنَّةَ ... لَقَدْ کَفَرَ الَّذِینَ قالُوا إِنَّ اللّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ (3).

الثالث: قوله تعالی وَ إِذْ قالَ اللّهُ یا عِیسَی ابْنَ مَرْیَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اتَّخِذُونِی وَ أُمِّی إِلهَیْنِ مِنْ دُونِ اللّهِ ، قالَ سُبْحانَکَ (4).

الرابع: قوله تعالی إِنَّکُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ ، لَوْ کانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَ کُلٌّ فِیها خالِدُونَ ، لَهُمْ فِیها زَفِیرٌ وَ هُمْ فِیها لا یَسْمَعُونَ إِنَّ الَّذِینَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنی أُولئِکَ عَنْها مُبْعَدُونَ (5)، الذی هو خطاب الکافرین فنقضوا عموم الآیة بشموله للنبی عیسی(علیه السلام) حیث ان النصاری یؤلّهونه فنزلت الآیة إِنَّ الَّذِینَ سَبَقَتْ .... (6).

الخامس: وقوله تعالی وَ قالُوا کُونُوا هُوداً أَوْ نَصاری تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ

ص:346


1- (1) سورة التوبة ، الآیة :28.
2- (2) سورة التوبة ، الآیة 31.
3- (3) سورة المائدة ، الآیة 73 72.
4- (4) سورة المائدة ، الآیة : 116.
5- (5) سورة الانبیاء، الآیة : 101 98.
6- (6) سورة الانبیاء، الآیة : 101.

مِلَّةَ إِبْراهِیمَ حَنِیفاً وَ ما کانَ مِنَ الْمُشْرِکِینَ (1)، فههنا الاطلاق علیهم بصیغة الصفة.

ودفع ذلک: بأنه نظیر قوله ما کانَ إِبْراهِیمُ یَهُودِیًّا وَ لا نَصْرانِیًّا وَ لکِنْ کانَ حَنِیفاً مُسْلِماً وَ ما کانَ مِنَ الْمُشْرِکِینَ (2)، بیّن الحنف له (علیه السلام) وتبرءته من المیل عن حاق الوسط إلی أهل الکتاب أو الوثنیین وهو المراد من الآیة السابقة(3).

ممنوع: بأن السیاق لآیات السورة فی الآیة السابقة للرد علی اختلاف أهل الکتاب فیما بینهم بسبب ما ابتدعوه من الاعتقادات والاحکام الباطلة، وان ملّة ابراهیم (علیه السلام) هی الملة الحنیفیة الواحدة التی لا شرک فیها من المبتدعات وأنه سبب اختلافهم، بل ان السیاق فی الآیة الثانیة بلحاظ الآیات السابقة علیها فی السورة والمتعقبة لها فالخطاب موجّه لخصوص أهل الکتاب فالاستعمال فیها أیضا من اطلاق الوصف علیهم وان کان من اطلاق العام علی الخاص.

السادس: قوله تعالی شَرَعَ لَکُمْ مِنَ الدِّینِ ما وَصّی بِهِ نُوحاً وَ الَّذِی أَوْحَیْنا إِلَیْکَ وَ ما وَصَّیْنا بِهِ إِبْراهِیمَ وَ مُوسی وَ عِیسی أَنْ أَقِیمُوا الدِّینَ وَ لا تَتَفَرَّقُوا فِیهِ کَبُرَ عَلَی الْمُشْرِکِینَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَیْهِ اللّهُ یَجْتَبِی إِلَیْهِ مَنْ یَشاءُ وَ یَهْدِی إِلَیْهِ مَنْ یُنِیبُ ، وَ ما تَفَرَّقُوا إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْیاً بَیْنَهُمْ وَ لَوْ لا کَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّکَ إِلی أَجَلٍ مُسَمًّی لَقُضِیَ بَیْنَهُمْ وَ إِنَّ الَّذِینَ أُورِثُوا الْکِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِی شَکٍّ مِنْهُ مُرِیبٍ ، فَلِذلِکَ فَادْعُ وَ اسْتَقِمْ کَما أُمِرْتَ

ص:347


1- (1) سورة البقرة ، الآیة :135.
2- (2) سورة آل عمران ، الآیة :67.
3- (3) المیزان ، ج2، ص 202.

وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَ قُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللّهُ مِنْ کِتابٍ وَ أُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَیْنَکُمُ اللّهُ رَبُّنا وَ رَبُّکُمْ لَنا أَعْمالُنا وَ لَکُمْ أَعْمالُکُمْ لا حُجَّةَ بَیْنَنا وَ بَیْنَکُمُ اللّهُ یَجْمَعُ بَیْنَنا وَ إِلَیْهِ الْمَصِیرُ (1).

ونقلنا الآیات المتقدمة والمتعقبة لقوله تعالی کَبُرَ عَلَی الْمُشْرِکِینَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَیْهِ (2) لیتضح أن المراد بهم بحکم السیاق هو أهل الکتاب أو ما یعمهم، حیث ان التفرق المذکور نظیر قوله تعالی وَ مَا اخْتَلَفَ الَّذِینَ أُوتُوا الْکِتابَ إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْیاً بَیْنَهُمْ (3)، کما یشیر إلی ذلک أیضا بقیة الآیات المتعقبة بصراحة حیث ورد نظیره فیهم فی آیات أخری ویشیر إلی ذلک أیضا بدء الآیات بذکر الشرائع السابقة والأمر بعدم التفرق.

وإلی ذلک ذهب الطبری من العامّة فی تفسیره حیث قال: یقول تعالی ذکره وما تفرق المشرکون باللهفی أدیانهم فصاروا أحزابا الا من بعد ما جاءهم العلم بأن الذی أمرهم الله به وبعث به نوحا هو اقامة الدین الحق وان لا تتفرقوا فیه.

وهذا هو الاقرب فی مفاد الآیة وان اختلفت أقوال المفسرین فی مرجع الضمیر ووحدة السیاق کثیرا فلا حظ، وهو ناشیء من تفسیرهم للفظة بخصوص أصحاب الوثن.

وممن یظهر منه تفسیرها بما یعم أهل الکتاب تفسیر الجلالین والبیضاوی حیث فسرا الآیة بأنه عظم علی المشرکین ما تدعوهم الیه من التوحید وما تفرقوا - أی الأمم السالفة والکافرون - إلا من بعد ما جاءهم

ص:348


1- (1) سورة الشوری، الآیة: 15 13.
2- (2) سورة الشوری، الآیة: 13.
3- (3) سورة الشوری، الآیة: 19.

العلم بالتوحید، وهو قریب کما تقدم حیث ان من أهم ما دعا الیه صلی الله علیه و آله أهل الکتاب الانتهاء عن القول ببنوّة عیسی وعزیز(علیه السلام) والتثلیث إذ التوحید أصل فی الشرائع السابقة کما تشیر الیه الآیات.

ثانیا: اطلاق الشرک علیهم فی الروایات:
اشارة

وقد ورد الاطلاق علیهم فی الروایات أیضا بما یعزز ویشهد لاستعمال المشرکین فی التعبیر القرآنی بما یشمل أهل الکتاب فی ما أخذ ذلک العنوان موضوعا لحکم فی بعض الموارد منها:

الاولی: موثق الحسن بن الجهم، قال: قال لی أبو الحسن الرضا(علیه السلام): (یا أبا محمد ما تقول فی رجل تزوج نصرانیة علی مسلمة؟ قال: قلت: جعلت فداک وما قولی بین یدیک؟ قال:

لتقولنّ فان ذلک یعلم به قولی، قلت: لا یجوز تزویج النصرانیة علی المسلمة ولا غیر مسلمة، قال:

ولم ... قلت: لقول الله عز وجل وَ لا تَنْکِحُوا الْمُشْرِکاتِ حَتّی یُؤْمِنَّ قال: فما تقول فی هذه الآیة وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِینَ أُوتُوا الْکِتابَ مِنْ قَبْلِکُمْ قلت: فقوله [ولا تَنْکِحُوا الْمُشْرِکاتِ نسخت هذه الآیة فتبسم ثم سکت] (1).

فإنّه یظهر جلیا معهودیة استعمال اللفظة فی المعنی العام الشامل، کما یظهر من الروایة أنّ فهم العامّة الخاطیء لآیة المائدة فی حل طعامهم ونکاحهم بعد إشعار الأجر فیها بالعقد المنقطع، هو الذی أوجب مصیرهم إلی حلیة ذبائحهم ونکاحهم الدائم.

ص:349


1- (1) وسائل الشیعة، ج20، ص534، باب1 من ابواب الکفر، ح3.

الثانیة: صحیح الحلبی(1) - المعدودة من طائفة التقیة - التشریک فی نفی البأس عن ذبیحتهم ونسائهم، والنسخ فی الروایة لیس بمعناه الاصطلاحی، بل بالاصطلاح القرآنی والروائی العام الشامل للتخصیص، وإلا فآیة الحل من المائدة التی هی من آخر السور نزولا فلا تکون منسوخة بالمعنی الاصطلاحی.

وکروایة أبی الجارود عن أبی جعفر (علیه السلام) أنّه منسوخ بقوله تعالی وَ لا تَنْکِحُوا الْمُشْرِکاتِ حَتّی یُؤْمِنَّ و بقوله و لا تمسکوا بعصم الکوافر (2).

الثالثة: ما رواه النعمانی باسناده عن علی (علیه السلام) قال: (وأمّا الآیات التی نصفها منسوخ ونصفها متروک بحاله لم ینسخ وما جاء من الرخصة فی العزیمة فقوله تعالی وَ لا تَنْکِحُوا الْمُشْرِکاتِ حَتّی یُؤْمِنَّ ... وذلک أن المسلمین کانوا ینکحون فی أهل الکتاب من الیهود والنصاری وینکحونهم حتی نزلت هذه الآیة نهیا أن ینکح المسلم المشرک أو ینکحونه ... الحدیث)(3).

الرابعة: صحیحة منصور بن حازم قال: (سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن رجل مجوسی أو مشرک من غیر أهل الکتاب کانت تحته امرأة فأسلم أو أسلمت ... الحدیث)(4).

الخامسة: کصحیحة محمد بن مسلم عن أبی جعفر (علیه السلام) قال: (کل ذبیحة المشرک إذا ذکر اسم الله علیها وأنت تسمع، ولا تأکل ذبیحة نصاری

ص:350


1- (1) وسائل الشیعة، من ابواب الذبائح، باب27، ح34.
2- (2) وسائل الشیعة، من ابواب ما یحرم بالکفر، باب1، ح7.
3- (3) وسائل الشیعة، ج20، ص538، باب2 ما یحرم بالکفر، ح6.
4- (4) المصدر، باب9، ح3.

العرب)(1)، فانّه ظاهر أنّ المراد من المشرک فی الروایة هو خصوص أهل الکتاب واستثناء نصاری العرب لعدم کونهم فی الأصل کذلک بل تنصروا فلا یقرّوا علی ذلک.

وکروایة الزهری عن علی بن الحسین (علیه السلام) قال: (لا یحلّ للاسیر ان یتزوج فی أیدی المشرکین مخافة أن یلد له فیبقی ولده کفارا فی أیدیهم ... الحدیث)(2) المراد منه خصوص أهل الکتاب أیضا، وإلا فالوثنیون لا یجوز نکاحهم من رأس.

السادسة: مصحح إسماعیل بن الفضل قال: (سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن سبی الأکراد إذا حاربوا ومن حارب من المشرکین هل یحل نکاحهم وشراؤهم؟ قال: نعم)(3) والتقریب کما سبق.

السابعة: صحیحة رفاعة النحاس قال: (قلت لأبی الحسن موسی (علیه السلام): ان القوم یغیرون علی الصقالبة والنوبة فیسرقون أولادهم من الجواری والغلمان فیعمدون إلی الغلمان فیخصونهم ثمّ یبعثون إلی بغداد إلی التجار، فما تری فی شراؤهم ونحن نعلم أنهم مسروقون انما أغار علیهم من غیر حرب کانت بینهم؟ فقال: لا بأس بشرائهم انما أخرجوهم من دار الشرک إلی دار الاسلام)(4)، وهذا قدر یسیر یجد المتتبع موارد أخری کثیرة.

ویتحصل من خصوص هذه القرینة وبعض ما تقدم أنّ إطلاق المشرکین بهیئة الصفة علی أهل الکتاب متعارف فی الاستعمال القرآنی

ص:351


1- (1) وسائل الشیعة، ابواب الذبائح، باب27، ح32.
2- (2) وسائل الشیعة، ج15، ص118، باب45 من ابواب الجهاد، ح2.
3- (3) المصدر، باب50، ح1.
4- (4) المصدر، باب50، ح6.

والروائی، وأنّه مع عنوان أهل الکتاب نظیر عنوانی المسکین والفقیر، إذا افترقا اتفقا فی المعنی وإذا اجتمعا اختلفا فی المعنی، خلافا لما یقال أنه خاص فی الوثنیین.

کما یتضح بقوة من مجموع القرائن أن الموضوع فی الآیة عام لمطلق الکافر.

وأما الاشکال الثانی فاندفاعه ظاهر فان فی العنوان ظاهر فی الشرک الذی هو موضوع الاحکام المختلفة.

الآیة الثانیة الدالة علی المختار:

الآیة الثانیة: فیما استدل به علی نجاسة الکافر مطلقا.

قوله تعالی: فَمَنْ یُرِدِ اللّهُ أَنْ یَهْدِیَهُ یَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَ مَنْ یُرِدْ أَنْ یُضِلَّهُ یَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَیِّقاً حَرَجاً کَأَنَّما یَصَّعَّدُ فِی السَّماءِ کَذلِکَ یَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَی الَّذِینَ لا یُؤْمِنُونَ (1)، فإن الآیة فی سیاق الخطاب مع الکافرین سواء غیر المؤمنین به سبحانه أو بآیاته، وأن الهدایة فی الایمان فینشرح الصدر وأن الضلال فی الکفر فیضیق الصدر.

والرجس فی الأصل لغة النتن والقذر، وقد یطلق علی العذاب أو الشیطان ونحوه للمناسبة، وقد فسّر فی الآیة تارة بالشک کما هو مروی أیضا، وأخری بالشیطان، وثالثة بالعذاب، ورابعة بما لا خیر فیه، وخامسه بضیق الصدر أو الضلال وغیر ذلک.

لکن الأوّل لا ینافی الدلالة علی القذارة لانه من اطلاق المسبب علی السبب، إذ الشک موجب للکفر الموجب للنجاسة، وأمّا الثانی فلا شاهد له

ص:352


1- (1) سورة الانعام، الآیة: 125.

فی السیاق إذ لم یتقدم له ذکر ولا حدیث عنه، وأمّا الثالث فلا شاهد له أیضا إذ لیست الآیة فی مقام الوعید وجزاء الآخرة، بل بیان آثار الکفر فی الظرف الحال الدنیوی، کما أن الاستعلاء له علی الذین لا یؤمنون یفید الاحاطة وهو انما یناسب المعنی الاصلی للفظة وهو القذارة لمجموع الروح والبدن، ومنه یتضح عدم مناسبة تفسیره بخصوص الخامس، ویتضح تطابق مفادها مع الآیة السابقة فی المبالغة فی قذارة الکافرین.

آیات موهمة للطهارة:

اعترض علی الاستدلال بالآیتین المتقدمتین بقوله تعالی اَلْیَوْمَ أُحِلَّ لَکُمُ الطَّیِّباتُ وَ طَعامُ الَّذِینَ أُوتُوا الْکِتابَ حِلٌّ لَکُمْ وَ طَعامُکُمْ حِلٌّ لَهُمْ (1)، بتقریب أن اطلاق الطعام شامل للمطبوخ(2) الذی هو ملاق لأبدان أهل الکتاب فی العادة فیدل علی طهارتها.

ولک أن تقول أن حلیة الطعام الجاف لیس محلا للشک کی تبیّن الآیة حلیته، وانما المشکوک هو ذبیحتهم وطعامهم المطبوخ فالحل نصّ فی ذلک، ویعضد ذلک الآیات المتقدمة إذ موردها الذبائح وأقسامها، هذا مع الالتفات إلی کون الآیة من سورة المائدة التی هی من أواخر السور، فقرینیتها علی صرف اللفظة فی الآیة الأولی للخباثة المعنویة ظاهرة.

وقد استدل فی کلمات العامة أیضا بالآیة علی جواز استعمال أوانیهم حیث أن جواز المظروف یلازم ذلک، ویؤیدون مجمل المفاد بروایات من طرقهم، وکذلک یستدلون بها علی نکاح الکتابیات الدائم.

ص:353


1- (1) سورة المائدة، الآیة: 5.
2- (2) التبیان، ج2، ص444.

وفیه: ان فی روایات الذباحة والنکاح اشارات عدیدة إلی خطائهم فی ذلک، بل ان لسان الباب الأول المشتمل علی طائفة من الصادر تقیة أیضا یشابه لسان روایات طهارتهم الآتیة، وبنحو متفق فی التعلیل واللحن کما یأتی توضیحه، بل أن استدلالهم بالآیة هو الموجب لورود روایات الطهارة مداراة معهم.

والوجه فی تخطئتهم مضافا إلی تلک الروایات هو أن الطعام کما فی لسان العرب عند أهل الحجاز إذا اطلقوا لفظه عنوا به البر خاصة، وقال الخلیل: الغالب (العالی) فی کلام العرب أن الطعام هو البر خاصة، وکذا باقی کلمات اللغویین فی ان أصل الطعام وان کان ما یؤکل الا انه یطلق علی البر خاصة أیضا بل یختص به عند أهل الحجاز، کما فی القاموس والاساس والتاج والمقاییس والصحاح وکذا عن المغرب.

مضافا إلی أنّ الاحلال المتقابل لا معنی له إن کان محطّ نظر الآیة إلی المطعوم، حیث انهم لا یدینون بالقرآن کی تخاطبهم الآیة، فمتعلق الحلّیة وموردها هو تبدیل الاضافة المالکیة بین الطرفین وتسویغ التعامل المالی.

لاسیما بعد انفهام المقاطعة والبراءة من الآیات السابقة نزولا کقوله تعالی لا یَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْکافِرِینَ أَوْلِیاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِینَ (1)، وکقوله تعالی یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْیَهُودَ وَ النَّصاری أَوْلِیاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِیاءُ بَعْضٍ وَ مَنْ یَتَوَلَّهُمْ مِنْکُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ (2)، وقوله یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِینَ اتَّخَذُوا دِینَکُمْ هُزُواً وَ لَعِباً مِنَ الَّذِینَ أُوتُوا الْکِتابَ مِنْ قَبْلِکُمْ وَ الْکُفّارَ

ص:354


1- (1) سورة آل عمران، الآیة: 28.
2- (2) سورة المائدة، الآیة: 51.

أَوْلِیاءَ (1)، ومثل الآیة الأولی الدالة علی النجاسة وعلی مباعدتهم عن الحرام.

فآیة حل الطعام من الطرفین علی نسق قوله تعالی لا یَنْهاکُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِینَ لَمْ یُقاتِلُوکُمْ فِی الدِّینِ وَ لَمْ یُخْرِجُوکُمْ مِنْ دِیارِکُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَیْهِمْ إِنَّ اللّهَ یُحِبُّ الْمُقْسِطِینَ (2) فی سورة الممتحنة النازلة فی المدینة قبل الفتح.

ومن الغریب أن العدید من مفسری العامة(3) ذهبوا إلی أن معنی حلیة طعامنا لهم هی حلیة اطعامنا إیّاهم أی ان الحلیة الثانیة المقابلة لا ربط لها بالمطعوم، وانما متعلقها الاعطاء الاباحی أو التملیکی، فهلّا کان ذلک منبها علی متعلق الحلیة الأولی.

والعجب من بعضهم انه تمادی فی اطلاق الحلیة فی الذبیحة ولو علم انها علی غیر الشرائط المعتبرة، وکذا نکاحهم مع ان ذیل الآیة وَ مَنْ یَکْفُرْ بِالْإِیمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَ هُوَ فِی الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِینَ (4) فیه تحذیر من التمادی فی المخالطة والمعاشرة بنحو یتأثر بسلوکهم وطریقتهم فیؤول إلی الخروج من الایمان إلی الکفر وحبط العمل.

ولا یخفی ایماء الذیل إلی مذهب الأصحاب فی تخصیص نکاحهم بالمتعة دون الدائم الذی هوبناء یقام علی الخلّة والموادّة المتینة، وکذا

ص:355


1- (1) سورة المائدة، الآیة: 57.
2- (2) سورة الممتحنة، الآیة: 8.
3- (3) کما فی انوار التنزیل واسرار التاویل، ج2، ص116. وتفسیر روح البیان، ج2، ص349. وغیرهما.
4- (4) سورة المائدة، الآیة: 5.

ذبیحتهم حیث یذکرون علیها شرکهم فیتحصل ان لحن الخطاب فی آیة الطعام بالنظر إلی الذیل المزبور متطابق مع الآیتین السابقتین.

ثانیا الاستدلال بالروایات علی النجاسة:
الطائفة الاولی:

ثمّ أنّه بالإلتفات إلی الروایات الواردة فی ذیل الآیة والمتعرضة لذبائح أهل الکتاب یستفاد منها التعریض بنجاستهم، کما أنّها تشیر إلی السبب الخاطیء لذهابهم إلی طهارة أهل الکتاب، فلتکن هذه من الروایات الطائفة الأولی من السنة مما یستدل به علی النجاسة ویستشف منه وجه اختلاف الطوائف الاخری فی حکم أبدانهم وهی:

الاولی: حسنة حسین بن المنذر قال: قلت لأبی عبد الله علیه السّلام: - فی حدیث- أیّ شیء قولک فی ذبائح الیهود والنصاری؟ فقال: (یا حسین الذبیحة بالاسم، ولا یؤمن علیها إلا أهل التوحید)(1)، ولا یخفی ظهورها فی اشراک أهل الکتاب وانه الموجب لعدم حلّ ذبیحتهم، نظیر ما ورد فی المرتد کمعتبرة السکونی (المرتد عن الاسلام تعزل عنه امرأته، ولا تؤکل ذبیحته)(2)، فهو نحو تعریض بنجاستهم وعدم صحة اطلاق الطعام فی الآیة للذبیحة والمطبوخ کی تدل علی طهارتهم.

وفی روایة أخری عن حنان عنه (انهم أحدثوا فیها شیئا لا أشتهیه)(3)، أی تسمیتهم علیها باسم المسییح.

ص:356


1- (1) وسائل الشیعة، ج24، ص28، باب26 ابواب الذبائح، ح2.
2- (2) الفقیه، ج3، ص149.
3- (3) وسائل الشیعة، ج24، ص49، باب26 من ابواب الذبائح، ح3.

الثانیة: صحیحة قتیبة الأعشی انه سأل رجل أبا عبد الله(علیه السلام) وقال له الرجل: قال الله تعالی اَلْیَوْمَ أُحِلَّ لَکُمُ الطَّیِّباتُ وَ طَعامُ الَّذِینَ أُوتُوا الْکِتابَ حِلٌّ لَکُمْ فقال له أبو عبد الله(علیه السلام):

(کان أبی(علیه السلام) یقول: انما هو الحبوب وأشباهها)(1)، فإن تخصیص الطعام بالجافّ فیه اشعار بدرجة الدلالة والتعریض بنجاستهم، وهذا المضمون مروی بالاستفاضة(2)، وفی بعضها عن طعام أهل الذمة ما یحلّ منه؟ قال(علیه السلام): (الحبوب)(3)، والتعریض المزبور فیها آکد، بل فی بعضها (انّما هی الحبوب وأشباهها)(4) وفسّر الاشباه فی آخر بالعدس والحمص(5)، ووجه الدلالة ما تکرر ذکره.

الثالثة: مصحح إسماعیل بن جابر قال: قال لی أبو عبد الله(علیه السلام): (لا تأکل ذبائحهم ولا تأکل فی آنیتهم - یعنی أهل الکتاب)(6)، وهی کالصریحة فی وحدة الموضوع لحرمة ذبیحتهم ونجاستهم، فبضمیمة ما تقدم فی الروایة الأولی من شرکهم الموجب لحرمة ذبیحتهم، یتقوی المفاد المزبور.

الرابعة: مصحح معاویة بن وهب، قال: (سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن ذبائح أهل الکتاب، فقال: لا بأس إذا ذکروا اسم الله، ولکن أعنی منهم: من یکون علی أمر موسی وعیسی(علیه السلام)(7)، وهی فی الدلالة

ص:357


1- (1) المصدر، ح1.
2- (2) وسائل الشیعة، ابواب الاطعمة والاشربة، باب51.
3- (3) وسائل الشیعة، ج24، ص203، باب51 من ابواب الذبائح، ح1.
4- (4) وسائل الشیعة، ج24، ص206.
5- (5) وسائل الشیعة، ج24، ص402.
6- (6) وسائل الشیعة، ابواب الذبائح باب27، ح1.
7- (7) المصدر، ح11.

کالروایة الأولی، حیث انه لیس فی الیهود والنصاری الذی أحدثوا الشرک وغیره من هو علی أمرهما (علیه السلام) إذ مقتضاه الدخول فی الاسلام.

ثم انه یعضد مفاد هذه الطائفة ما ورد من حرمة ذبیحة الناصب والحروری والمشبهة والمجسمة(1)، لاسیما التعلیل لذلک فی الأخیرین بالشرک والکفر، والوجه فی ذلک ظهورها فی وحدة الموضوع لحرمة الذبیحة والذی هو موضوع النجاسة.

هذا وقد اشتملت تلک الروایات الناهیة عن ذبیحتهم علی التعلیل بالجهة العرضیة وهی عدم التسمیة تقیة إذ قد ورد فیها النهی عن ذبیحتهم سمّوا أم لم یسمّوا(2)، وکما هو مفاد مصححة ابن وهب وصحیحة قتیبة الأعشی المتقدمتین، وهو مما ینبأ بشدة التقیة کما یشهد لها کثرة الروایات المجوّزة، ولذلک فرّق فیها بین المجوس وبینهم مع اندراجهم فی العنوان لذهاب العامة إلی حرمة ذبائح المجوس فلا مقتضی للتقیة فیهم، بخلاف النصاری والیهود، ولعل وجه اشتداد الحال فی المسألة هو تشبث العامة علی زعمهم بآیة حلّ الطعام.

الطائفة الثانیة:

ما ورد فی النهی عن المؤاکلة معهم(3)، وهی وان کان کثیر منها واردا فی حکم التعامل والمقاطعة وعدم التوالی معهم، إلا أن البعض متضمن للدلالة علی نجاستهم، تارة بدرجة الظهور، وأخری بدرجة الصراحة، وثالثة کالصریح، وهو کثیر بل لا یبعد فی النهی عن مؤاکلتهم من طعامهم

ص:358


1- (1) المصدر، باب28.
2- (2) المصدر، باب27، ح5.
3- (3) وسائل الشیعة، ج24، باب26 و27 من ابواب الذبائح.

هو أن یکون تعریضا بالعامة القائلین بحلیة وطهارة ذبائحهم، وفی النهی عن المؤاکلة فی قصعة واحدة التعریض بهم أیضا لقولهم بطهارة أبدانهم لاطلاق آیة الحل للطعام المماس لابدانهم.

کما انه من المحتمل - أوالظاهر-- أن من حکمة الحکم بنجاستهم- أو أحدها- مضافا إلی القذارة الواقعیة، هو مصلحة التدبیر فی المباعدة عنهم وعدم الانغماس فیهم والعشرة الوطیدة معهم، وعلی هذا فلا یصرف ظهور النهی عن الأکل معهم فی اناء واحد أومن طعامهم إردافه بالنهی عن مجالستهم ومخالطتهم، لاسیما ان العناوین المنهی عنها هی موارد موجبة للتلوث المادی فاختصاص النهی بها دون مطلق ألوان العشرة والمخالطة شاهد علی أنّ الحکم بلحاظ أبدانهم وان کانت الحکمة فیه تحدید العشرة، بل ان بعض تلک العناوین المنهی عنها - کما یأتی - خاص بحکم النجاسة المادیة کما فی النهی عن الأکل فی قصعة واحدة أوغسل الید من المصافحة ونحو ذلک.

حکم العشرة مع الکفار:

کما انه من المناسب التنبیه علی حکم العشرة والخلطة معهم توطئة للبحث فی مفاد الروایات الاتیة، والمحصل فی ذلک من مجموع الایات والروایات الواردة فی الکفار مطلقا هو انقطاع المودة معهم وکذا الموالاة من حیث انهم کفار أو مطلقا، نعم البر والاحسان لهم تألیفا لقلوبهم مع دیننا أومن جهة الرحم أو کنظیر فی الخلق لا حرمة فیه کما هو مفاد سورة الممتحنة(1).

ص:359


1- (1) سورة المممتحنة، الآیة: 8.

وقال الشیخ فی التبیان(1): (الذی علیه الاجماع والمفسرون بأن بر الرجل من شاء من أهل دار الحرب قرابة کان أوغیر قرابة لیس بمحرم)، وقد تعرض الأصحاب إلی حکم ذلک فی بحث الوقف علیهم، فلک ان تقول أن الموادّة بالمرتبة النازلة جدا من جهة غیر دینیة بل انسانیة سائغة.

وروایات هذه الطائفة هی:

الاولی: صحیح العیص قال: (سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن مؤاکلة الیهودی والنصرانی والمجوسی، أفآکل من طعامهم؟ قال: لا)(2)، وصدر السؤال وان کان یومی إلی حکم العشرة معهم، الا ان تخصیص النهی بطعامهم مع کونه یعم المشتمل علی اللحم وغیره من المطبوخ المباشر بأیدیهم یکون بذلک قوی الظهور فی النجاسة لوحدة النهی المتعلق بطبیعی الطعام سواء غیر المذکی أو غیره من المطبوخ.

ونظیره صحیحة هارون بن خارجة(3) وموردها المجوس.

الثانیة: صحیح علی بن جعفر عن أخیه أبی الحسن(علیه السلام) قال: (سألته عن مؤاکلة المجوسی فی قصعة واحدة، وأرقد معه علی فراش واحد، وأصافحه؟ قال: لا)(4)، والقصعة وعاء یؤکل فیه ویثرد، وکان یتخذ من الخشب غالبا کما فی المعجم الوسیط، والروایة وإن اشتمل السؤال فیها عن المعاشرة إلا انها مشتملة أیضا علی نجاسة أبدانهم کما یشیر إلیه فرض

ص:360


1- (1) التبیان فی تفسیر القرآن، ج9، ص583، تفسیر الآیة 8 من سورة الممتحنه.
2- (2) وسائل الشیعة ج24، ص209، باب53 من ابواب الاطعمة، ح3.
3- (3) المصدر، باب52، ح2.
4- (4) المصدر، ح1.

وحدة وعاء الأکل.

ومثله صحیح علی بن جعفر الآخر المروی بطریق آخر الا أنّ فیه (أوفی المسجد أو یصاحبه)(1)، ولا یخفی ظهور السؤال عن العناوین المتعددة فی استقذارهم وفی المباعدة عنهم لدی الراوی.

الثالثة: صحیح محمد بن مسلم قال: (سألت أبا جعفر(علیه السلام) عن آنیة أهل الذمة والمجوس؟

فقال: لا تأکلوا فی آنیتهم، ولا من طعامهم الذی یطبخون، ولا فی آنیتهم التی یشربون فیها الخمر)(2)، ووحدة السیاق ظاهرة بقوة فی النجاسة کما هومقتضی آنیة الخمر وآنیة الطعام بالتقریب المتقدم.

فهی تردف الملاقاة لابدانهم ولذبائحهم وللخمر فی نهی واحد عن استعمال الملاقی لها، ثم ان تقیید النهی الثالث عن الآنیة بالتی یشرب فیها الخمر فیه رائحة التقیة من العامة إذ بعد اطلاق الآنیة فی النهی الأول الدال علی نجاسة أبدانهم یکون التقیید المزبور من قبیل تعلیل النهی والنجاسة بالأمر العارض مع وجود ما هو کالذاتی الغالب.

وهذا النمط من التقیة قد تکرر فی الروایات الواردة فی النهی عن ذبائحهم، إذ هی تارة تصرح بحرمة ذبائحهم سموا أم لم یسموا، واخری تعلل بأنهم لا یسمون بل یذکرون اسم المسیح، وثالثة بأنّ الاسم لا یؤمن علیه غیر المسلم وغیر ذلک من التعلیل بالأمر العرضی بدلا عما هو کالذاتی وهو کون الذابح من أهل الکتاب.

ص:361


1- (1) المصدر، ح4.
2- (2) وسائل الشیعة، ج3، ص419، باب4 من ابواب النجاسات، ح1.

وهو یظهر تشابه منشأ التقیة فی البابین وهو فهمهم الخاطیء لآیة حل الطعام فتشابه لسان التقیة لذلک، وهو نظیر التعلیل المحکی عن مالک فی الانتصار أن سؤر النصرانی والمشرک لایتوضأ به وان ذلک علی سبیل الکراهة لا التحریم لاستحلالهم الخمر والخنزیر من دون القطع بنجاسته.

الرابعة: صحیحته الاخری عن أبی جعفر(علیه السلام) فی رجل صافح رجلا مجوسیا، قال: (یغسل یده ولا یتوضأ)(1)، وهو ظاهر فی النجاسة کما انه یعیّن دلالة ما سبق من الروایات الناهیة عن المصافحة فی النجاسة أیضا.

والتأمّل: فی دلالته لاطلاق الأمر بالغسل لصورة الجفاف.

مدفوع: بأنّه نظیر ما ورد مما تقدم فی نجاسة الآدمی بالموت من اطلاق الأمر بالغسل بمماسته بالید کما فی روایة التوقیعین الواردة فی موت امام الجماعة فی الاثناء، حیث قد ذکرنا أن فی طبیعة بلد الراوی الحارة تکون الید فی الغالب رطبة بالعرق لاسیما وان المماسة بالمصافحة توجب مزیدا من الحرارة کما هو مجرب.

مضافا إلی أنّ الأمر بالغسل مع الجفاف لو سلم وکان ندبیا فهو لا یندب له الا فی ملامسة الأعیان النجسة کما ورد فی الکلب ونحوه.

ثمّ ان ذیل الروایة یفید وجود توهم ان مماسة أبدانهم توجب الحدث وکأنّ نفی الوضوء لذلک، وهو یعطی أن نجاسة أبدانهم کادت تعدّ وتقایس فی ارتکاز المتشرعة کبدن المیت من حیث ایجاب الحدث بعد اتحادهما فی نجاسة البدن.

فالصحیحة علی هذا من الروایات الناصة علی نجاستهم، کما أنّها

ص:362


1- (1) المصدر، ح3.

تدل علی مدی النفرة والاستخباث لهم لاسیما ان السائل هو مثل محمد بن مسلم من کبار فقهاء أصحابه(علیه السلام)، واین هذا الارتکاز الذی هو علی طرف نقیض من فتوی العامة قاطبة فقهائهم وحکامهم القائلین بطهارة أبدانهم وحل طعامهم ومؤاکلتهم.

الخامسة: مصحح أبی بصیر عن أحدهما(علیه السلام) فی مصافحة المسلم الیهودی والنصرانی، قال: (من وراء الثوب، فإن صافحک بیده فاغسل یدک)(1)، وهی وان احتملت ورودها فی حکم العشرة معهم وان ذلک نحو من التنفر منهم، إلا أن الجواب صریح فی حکم الملاقاة لأبدانهم، مع انه تقدم أن تعرّض الروایة لحکم التعامل معهم غیر صارف للأمر بالغسل عن الدلالة علی النجاسة.

وهذا المصحح شاهد علی ما تقدم من أن أحد وجوه الحکمة فی الحکم بنجاستهم هو المباعدة والنفرة عنهم، کما انه شاهد علی أن ما تقدم من النهی عن مصافحتهم فی الروایات متضمن للدلالة علی نجاستهم.

وأمّا الاشکال فی الدلالة: بأن التفرقة بین الملاقاة بالید أو الثوب لیدهم إذا کانت رطبة لا مجال لها مع نجاسة أبدانهم، فهی حینئذ شاهد الطهارة والتنزه.

فمدفوع: بأن المصافحة بالید أدعی للحرارة وبالتالی للعرق من الملامسة بالثوب کما هو مجرب، ولا یخفی أن السؤال عن المصافحة والتحرج منها شاهد علی ارتکاز النجاسة الذاتیة لدی الرواة - لاسیما من مثل أبی بصیر - کالروایة السابقة.

ص:363


1- (1) المصدر، ح5.

السادسة: صحیح علی بن جعفر عن أخیه موسی بن جعفر(علیه السلام) قال: (سألته عن فراش الیهود والنصرانی ینام علیه؟ قال: لا بأس، ولا یصلّی فی ثیابهما وقال: لا یأکل المسلم مع المجوسی فی قصعة واحدة ولا یقعده علی فراشه ولا مسجده ولا یصافحه، قال: وسألته عن رجل اشتری ثوبا من السوق للبس لا یدری لمن کان، هل تصح الصلاة فیه؟ قال: ان اشتراه من مسلم فلیصل فیه، وان اشتراه من نصرانی فلا یصلی فیه حتی یغسله)(1).

فان النهی عن الصلاة فی ثیابهم فی الصدر والذیل حتی یغسله لکثرة وغلبة تلوثها بابدانهم فکانت أصلا محرزاً للنجاسة فی ثیابهم وامارة فعلیه کما هو الحال فی النهی عن أوانیهم، مع أن الأصل فی باب الطهارة هو البناء علیها عند الشک، فکان الأصل فی الاشیاء التی لها تعلق وتناول کثیر منهم هوالنجاسة لنجاسة ظاهر ابدانهم الذاتیة لا العرضیة کما قد یرتکب جمعا مع ما استدل به علی طهارتهم، فان تلک الأدلة علی فرض التسلیم بتمامیتها تدل علی أصالة الطهارة فی الاشیاء المتعلقة بهم أیضا.

بل ان مساورة ثیابهم لابدانهم مع الرطوبة هی الغالبة إذ هم یحافظون علی نظافتها من فضلات أکلهم ومشروباتهم، وأما النهی عن الأکل معهم فی قصعة واحدة فقد مرّ تقریبه ونکتة التقیید بالقصعة الواحدة ناصة فی أن وجه النهی هو النجاسة لا أنه من حکم المعاشرة معهم.

وأما النهی عن اقعاده علی الفراش والمسجد الذی هو مکان صلاته فی البیت وعن المصافحة معه فهو وان ظهر فی حکم المعاشرة معهم إلا انه

ص:364


1- (1) المصدر، ح10.

مع عدم منافاته لحکم ظاهر أبدانهم، أن ظهوره فی استقذارهم والتحرز عن التلوث بهم کالتحرز عن الکلب والخنزیر قوی جدا لا یخفی علی المتمعن المتأمل فی تعاقب النواهی المزبورة عن موارد ومرافق قریبة لما یؤکل أویصلی فیه مما یشترط فیه الطهارة، ولیس النهی عن مطلق المعاشرة معهم ولولم توجب تلوّث البیئة المحیطة بالمکلف.

وبهذا التقیید لموارد النهی یتضح قوة دلالتها علی قذارتهم.

السابعة: مصحح زرارة عن أبی عبد الله(علیه السلام) فی آنیة المجوس، قال: إذا اضطررتم إلیها فاغسلوها بالماء(1).

واطلاق الآنیة شامل لآنیة الشرب والأکل، ولما یوضع فیه عین نجاسة ولما لا یوضع فیه ذلک کآنیة شرب الماء وآوانی الفاکهة الجافة ونحوها.

ومن هنا حمل بعض متأخری العصر(2) - ممن یقول بالطهارة الذاتیة - الروایة علی أصالة النجاسة العرضیة فیهم عند الشک، وکذا اطلاق النهی أو الأمر بالغسل السابق.

لکنک عرفت قرائن قوة ظهورها فی النجاسة الذاتیة فان الجمع بین الحکم الواقعی والظاهری فی استعمال واحد - کما فی ارداف الخمر والطعام الشامل لغیر المذکی - وان لم یکن ممتنعا إلا انه محتاج إلی قرینة ودلالة علی أخذ الشک فی الموضوع، فالظهور وقوته علی حالهما.

الثامنة: مصحح إسماعیل بن جابر قال: قال لی أبو عبد الله(علیه السلام) (لا

ص:365


1- (1) المصدر، ح12.
2- (2) منهاج الصالحین (السید الحکیم) ج1، ص151 وغیره.

تأکل ذبائحهم، ولا تأکل فی آنیتهم، یعنی أهل الکتاب)(1)، ومثله مصححة الآخر(2) إلا أن فیه لا تأکل ذبیحة الیهودی ولا تأکل فی آنیته.

وهذه الروایة شاهد علی ما ذکرنا فی صدر هذه الطائفة من أنها للتعریض بالعامة القائلین بحلیة ذبائحهم وطهارة أبدانهم بدلالة اطلاق آیة حل الطعام، فمن البعید أو الممتنع بعد ذلک حمل النهی علی التنزیه لوجود معارض دال علی الطهارة علی فرض التسلیم بدلالته، حیث ان مقتضی الصناعة هو حمل المعارض علی التقیة، لکون المصحح دالا علی کون الطهارة من فتوی العامّة نظیر فتواهم بحلیة الذبائح، وعلی خطائهم فی ذلک ومن ثمّ یدل المصحح علی کون روایات الطائفة الثانیة بأسرها ناظرة إلی ذلک حیث انها تردف النهی عن آنیتهم بالنهی عن طعامهم.

کما یتضح بذلک أنها علی نسق مفاد الطائفة الأولی، وأن منشأ قولهم وذهابهم إلی طهارة أهل الکتاب هو خطائهم فی فهم آیة حل الطعام وحملهم آیة النجس علی الخباثة المعنویة.

الطائفة الثالثة من الروایات:

ما ورد فی نجاسة أسئارهم بالمعنی الاعم للسؤر وهی مختلفة فی درجات ظهورها، من هذه الروایات:

الاولی: صحیحة سعید الأعرج قال: (سألت أبا عبدالله علیه السّلام عن سؤر الیهودی والنصرانی فقال: لا)(3) وهی وان کانت ظاهرة محمولا

ص:366


1- (1) وسائل، ج3، ص518، باب72 من ابواب النجاسات، ح3.
2- (2) وسائل، ابواب الاطعمة المحرمة باب54، ح7.
3- (3) وسائل الشیعة، ج1، ص229، باب3 من ابواب الأسئار، ح1.

إلا أنّها کالصریحة فی الموضوع وانه عنوان ذواتهم بما هی لا الامر العارض.

الثانیة: صحیح الوشاء عمن ذکره عن أبی عبد الله(علیه السلام) انه کره سؤر ولد الزنا، وسؤر الیهودی والنصرانی، والمشرک، وکل ما خالف الاسلام، وکان أشد ذلک عنده سؤر الناصب(1).

والکراهة فی الروایات تستعمل فی الحرمة کثیرا، وخروج ابن الزنا بدلیل غیر رافع للظهور فی الحرمة، لاسیما وان الموضوع العام فیه هو کل ما خالف الاسلام ویندرج فیه کل العناوین فی الروایة ما عدا ابن الزنا وهو قرینة تغایر الحکم، واندراج الناصب تحت العنوان العام للموضوع یعین الکراهة فی الحرمة، وهو یوافق مفاد الآیة المتقدم.

الثالثة: صحیح علی بن جعفر انه سأل أخاه موسی بن جعفر(علیه السلام) عن النصرانی یغتسل مع المسلم فی الحمام، قال: (إذا علم انه نصرانی اغتسل بغیر ماء الحمام، الا ان یغتسل وحده علی الحوض فیغسله ثم یغتسل، وسأله عن الیهودی والنصرانی یدخل یده فی الماء أیتوضأ منه للصلاة؟ قال: لا، الا أن یضطر إلیه)(2).

والاقرب فی مفاد السؤال الأول هو ارادة ماء الأحواض الصغار الذی ینفعل بالنجاسة عند انقطاع المادة عنه، فاذا اغتسل فیه النصرانی اغتسل بغیره من أحواض بیوت الحمام، الا ان یدع النصرانی یغتسل وحده فلا یغتسل المسلم معه، ثم یغسل الحوض المزبور فیطهره بوصله بالمادة ثم یغتسل، فیکون مقتضی هذا التأکید ناصا علی نجاسة الماء الملاقی لهم، نعم

ص:367


1- (1) المصدر، ح2.
2- (2) وسائل الشیعة، ج3، ص421، باب14 من ابواب النجاسات، ح9.

فی کون ذلک الانفعال بسبب نجاستهم أبدانهم الذاتیة هو بنحو الظهور.

فان قلت: ان ما ورد فی الجنب نظیر ذلک یستشف منه النجاسة العرضیة لا الذاتیة.

قلت:

أولا: قد افترق اللسان الوارد فیهما حیث ان فی الجنب قد ورد نفی البأس عن القطرات المنتضحة من جسده إذا طهّر فرجه ویدیه عن القذارة، وهذا بخلاف ما ورد فی أهل الکتاب فانه لم یستثن.

ثانیا: إلی أنّ روایات الحمام قد ورد فیها عدة من العناوین الأخر وهی ابن الزنا والناصب والزانی، فبعضها بلحاظ العناوین الذاتیة وبعضها بلحاظ العناوین العرضیة.

ثالثا: انه لو کان جهة النهی فی الماء الملاقی لبدن أهل الکتاب هو النجاسة العرضیة لما کان وجه لتخصیصهم بالذکر فی قبال الجنب والحائض وغیرهما ممن هو متلوّث بالنجاسة العرضیة.

وأمّا السؤال الثانی فالنهی ظاهر فی النجاسة، وأما الاستثناء فی حالة الاضطرار فنظیره قد ورد فی الماء القلیل الملاقی للید القذرة بالجنابة کحسنة محمد بن میسر(1)، ومثل ما رواه علی بن جعفر أیضا فی الجنب الذی أدخل یده القذرة واضطر إلی الاغتسال بذلک الماء(2)، فهو مطرح بعد البناء علی الأصح الاقوی من انفعال الماء القلیل وبعد معارضة الترخیص المزبور بالخصوص بالنهی(3) عن استعماله والتیمم، فلا دلالة له علی التنزیه کما قد قیل.

ص:368


1- (1) وسائل، ج1، ص152، باب8 من ابواب المطلق، ح5.
2- (2) بحار الانوار، ج8، ص14.
3- (3) وسائل، ج1، باب8 من الماء المطلق، ح4، 14، 10.

الرابعة: موثقة عبد الله بن أبی یعفور عن أبی عبد الله(علیه السلام) فی حدیث قال: (وإیّاک ان تغتسل من غسالة الحمام ففیها تجتمع غسالة الیهودی والنصرانی والمجوسی والناصب لنا أهل البیت وهوشرهم، فإن الله تبارک وتعالی لم یخلق خلقا أنجس من الکلب وان الناصب لنا أهل البیت لأنجس منه)(1).

وفیها التصریح بالنجاسة وأن الشریة المتکرر ورودها فی روایات غسالة الحمام من أهل الکتاب والناصب هی القذارة.

وما یقال: من عدم ظهور النجاسة فی الحکمیة للتعبیر بالشریة المناسبة للمعنویة، ومقتضی التناسب بین التعلیل والمعلل هوکون التعلیل بالنجاسة والحزازة المعنویة ولا أقل من الاجمال(2)، بل هی لا تصل إلی حد الدلالة علی النجاسة ولو سلم فتحمل علی الکراهة کما فی ولد الزنا حیث ورد فی بعضها انه لا یطهر الی سبع آباء، أوعلی ابتلائهم بالنجاسات(3).

فضعیف: فإن النجاسة فی الکلب لا محمل لها علی المعنویة بل هی البدنیة فهی صریحة فی ذلک، نعم هی ظاهرة کما تقدم فی الآیة فی کون الموجب لنجاسة بدن الناصب وأهل الکتاب هو اعتقاداتهم المنحرفة، ولو کانت معنویة فأی ربط لها بانفعال الغسالة المائیة، واشتمال بعضها الاخر علی ابن الزنا أو الزانی مع انه غیر متضمن لأهل الکتاب لیس بمضر بالدلالة فی الموثقة بعد خلوها منهما، وبعد قیام الدلیل التام فی شرائط الحجیة سندا وجهة ودلالة علی الکراهة فی الأول بخلاف أهل الکتاب کما

ص:369


1- (1) وسائل، ج1، ص220، باب12 من ابواب المضاف، ح5.
2- (2) بحوث فی شرح العروة للشهید الصدر، ج3، ص286.
3- (3) کتاب الطهارة، للسید الخمینی، ج3، ص305.

یأتی بیان ضعف ما دل علی الطهارة، وأمّا الثانی فالمشهور ذهبوا إلی نجاسة عرقه.

ثمّ انه لا یخفی لحن التغلیظ الشدید فی الحکم بالنجاسة من عدة وجوه، کالتعبیر بأفعل التفضیل الدال علی ثبوت مادة المفاضلة فی الجمیع وانها الشریة المادیة المعلولة للوصف والعناوین، والتأکید باللام الداخلة علی الخبر، مع البدء بأن التحقیقیة، مضافا إلی التشبیه والمفاضلة علی نجاسة الکلب الموازیة للمفاضلة علی أهل الکتاب، مضافا إلی بیان کون المفضول وهو الکلب من أشد النجاسات علی الاطلاق بعبارة النفی المطلق المؤکد بالمصدر.

فهذه الغلظة فی الحکم کیف تتلائم مع الحمل علی الاستحباب ونحوه، کالعفو عن النجاسة کما فی الحدید، أو التجنب من باب الاحتیاط، أو النجاسة العرضیة مع أن المفاضلة قائمة علی النجاسة الذاتیة الخلقیة، وغیر ذلک من المحامل المخالفة لصریح الدلالة، فالحق أن الموثقة من الادلة الصریحة الآبیة عن التأویل.

الخامسة: الصحیح إلی أبی یحیی الواسطی عن بعض اصحابه عن أبی الحسن الهاشمی قال: (سئل عن الرجال یقومون علی الحوض فی الحمام، لا أعرف الیهودی من النصرانی، ولا الجنب من غیر الجنب؟ قال: تغتسل منه ولا تغتسل من ماء آخر فانه طهور)(1).

ونظیرها مصححة ابن أبی یعفور عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال: (قلت: أخبرنی عن ماء الحمام، یغتسل منه الجنب والصبی والیهودی والنصرانی

ص:370


1- (1) وسائل الشیعة، ج1، ص149، باب7 من ابواب الماء المطلق، ح6.

والمجوسی؟ فقال: ان ماء الحمام کماء النهر یطهر بعضه بعضا)(1).

فإن ظاهر جوابه(علیه السلام) تقریر ما فی السؤال من نجاسة أهل الکتاب بعنوانهم لا بالنجاسة العرضیة وإلا لکان حالهم حال الجنب أوالصبی فی ذلک ولم یکن موجب لافرادهم بالذکر، والاجابة باعتصام ماء الحمام المراد به الحوض الذی له مادة لا الاحواض الصغار حال انقطاعها عن المادة.

والظاهر أن السائل فی الروایة الأولی اما هشام بن سالم إما حماد بن عثمان، إذ هما المصرح بهما فی ما یسنده الواسطی فی طرق اخری وان کان الغالب فی ما یسنده التعبیر المزبور، فمثل أحدهما مع ابن أبی یعفور مرتکز لدیهم النجاسة الذاتیة لأهل الکتاب.

السادسة: صحیح علی بن جعفر عن أخیه موسی بن جعفر(علیه السلام) فی حدیث قال: (سألته عن الصلاة علی بواری النصاری والیهود الذین یقعدون علیها فی بیوتهم أتصلح؟ قال: لا یصلی علیها)(2).

وهی ظاهرة أیضا فی النجاسة، والروایة وان سبق فیها نفی البأس عن الصلاة علی البواری التی أصابها البول بعد ما یجف، الا انها دالة علی تنجسها بالملاقاة لابدانهم حیث ان النهی وان کان تنزیهیا عن الصلاة علیها إلا انه فی مورد تنجس البواری بنجاسة أشد من البول بمقتضی الحکم السابق فی تنجسها بالبول، وعلی ذلک تزداد قوة دلالتها علی النجاسة.

السابعة: صحیح زرارة ومحمد بن مسلم عن أبی جعفر(علیه السلام) قال: (انما الوضوء حدّ من حدود الله لیعلم الله من یطیعه ومن یعصیه، وان

ص:371


1- (1) المصدر، ح7.
2- (2) الوسائل، ابواب النجاسات باب73، ح4.

المؤمن لا ینجسه شیء، انما یکفیه مثل الدهن)(1)، ونظیره مروی بطرق مستفیضة عند العامّة کما مر، فقد استدل بمفهومها العلامة فی النهایة وان الوصف مشعر بالعلیة، لکن التقریب الأول دال علی المطلوب.

وأمّا الثانی فهو یعطی أن الحدث ینجس أبدانهم، غایة الأمر الحدث لا یرتفع لتوقفه علی النیة التی لا تصح منهم، نظیر الحال فی عرق الجنب من الحرام علی المشهور من النجاسة إذا لم یرتفع.

الثامنة: ما رواه درست بن أبی منصور فی کتابه عن أبی المعزا عن سعید الأعرج عن أبی عبد الله(علیه السلام) وأبی الحسن(علیه السلام) قال: (لا نأکل من فضل طعامهم ولا نشرب من فضل شرابهم)(2)، وهی نص من حیث المورد حیث ان النهی من جهة الفضل والسؤر أی الملاقاة لابدانهم.

التاسعة: ما رواه فی الدعائم، قال: سئل جعفر بن محمد علیه السّلام عن ثیاب المشرکین أیصلّی فیها؟ قال: لا ورخصوا (صلوات الله علیهم) فی الصلاة فی الثیاب التی یعملها المشرکون ما لم یلبسوها أو یظهر فیه نجاسة(3).

العاشرة: ما رواه الدعائم أیضا عن رسول الله صلی الله علیه و آله انه نهی عن الصلاة فی ثیاب الیهود والنصاری والمجوس، یعنی التی لبسوها(4).

الحادیة عشر: موثقة - علی الاصح - مسعدة بن صدقة عن أبی عبد الله قال: (قال أمیر المؤمنین(علیه السلام): أیّها الناس ان الله تبارک وتعالی أرسل

ص:372


1- (1) الوسائل، ابواب الوضوء، باب52، ح1.
2- (2) مستدرک الوسائل، ابواب النجاسات، باب10، ح1.
3- (3) المصدر، ح2.
4- (4) المصدر، ح3.

الیکم الرسول صلی الله علیه و آله ... وأنتم أمیّون عن الکتاب ... علی حین فترة من الرسل ... حیّهم أعمی نجس، ومیتهم فی النار مبلس)(1)، وصفا للناس قبل بعثة الرسول صلی الله علیه و آله .

الثانیة عشر: ما رواه فی البحار عن الخرائج: روی عن الصادق(علیه السلام) انه قال: (لما قتل علی(علیه السلام) عمرو بن عبد ودّ أعطی سیفه الحسن(علیه السلام) وقال: قل لأمّک تغسل هذا الصیقل فردّه وعلی (علیه السلام) عند النبی صلی الله علیه و آله وفی وسطه نقطة لم تنق قال: ألیس قد غسلته الزهراء؟ قال: نعم، قال: فما هذه النقطة؟ قال النبی صلی الله علیه و آله : یا علی سل ذا الفقار یخبرک، فهزّه وقال: ألیس قد غسلتک الطاهرة من دم الرجس النجس؟ فانطق الله السیف فقال: بلی ...)(2).

الثالثة عشر: ما رواه فی العلل بسنده عن معاذ بن جبل فی حدیث خلقته وعلی (صلوات الله علیهما وآلهما) ... (ثمّ أخرجنا إلی أصلاب الآباء وأرحام الأمهات ولا یصیبنا نجس الشرک ولا سفاح الکفر ...)(3).

ولا تخفی ان الاصابة فی الروایة مادیة بلحاظ الاصلاب والارحام، وکذا الروایة السابقة حیث انه فی مقام بیان شدة نجاسة الدم باضافته إلی نجاسة المشرک عمرو بن عبد ودّ، وکذا الروایة الأسبق علیهما، حیث ان وصف النجاسة للحیّ فی قبال المیت، أی بلحاظ البدن الحی بالروح وإلا فالنفس والروح هی هی قبل وبعد فلوکان الوصف لها دون البدن لم یقتصر الوصف علی الحیّ.

ص:373


1- (1) الکافی، ح1، ص49.
2- (2) بحار الانوار، ج30، ص249.
3- (3) بحار الانوار، ج15، ص7. علل الشرائع، ص80.

الرابعة عشر: حسنة عیسی بن عمر مولی الانصار انه سأل أبا عبد الله(علیه السلام) عن الرجل یحلّ له أن یصافح المجوسی؟ فقال: (لا، فسأله أیتوضأ إذا صافحهم؟ قال: نعم، ان مصافحتهم تنقض الوضوء)(1).

المحمول علی غسل الید کما فی موثقة أبی بصیر (من مسّ کلبا فلیتوضأ)(2) ونقضه للوضوء بمعنی طهارة الید والسائل هو خادم للصادق (علیه السلام) سنینا، وقد روی عنه منصور بن حازم وکذا سیف بن عمیرة فی طریق هذه الروایة، وعلی کل تقدیر فی مفاد الروایة فانها تدل علی ارتکاز التقذر لدی أصحاب الأئمة (علیهم السلام) من أهل الکتاب وانهم بمنزلة الکلب أو المیت فی نجاسة أبدانهم.

الخامسة عشر: مصحح زرارة عن أبی عبد الله(علیه السلام) فی آنیة المجوس فقال: (إذا اضطررتم الیها فاغسلوها بالماء)(3)، فان تقیید الاستعمال بالاضطرار ثم اشتراط الاستعمال بالغسل، یظهر مدی التقذّر من آوانیهم سواء المستعملة فی الأکل أو الشرب أو غیرهما مما یلاقی أبدانهم ویساورونه.

السادسة عشر: ما رواه علی بن إبراهیم فی تفسیر الآیة أَنْ طَهِّرا بَیْتِیَ لِلطّائِفِینَ وَ الْعاکِفِینَ وَ الرُّکَّعِ السُّجُودِ (4)، قال الصادق (علیه السلام): (یعنی نحّ عنه المشرکین، وقال: لما بنی إبراهیم علیه السّلام البیت وحج الناس شکت الکعبة إلی الله تبارک وتعالی ما تلقی من أیدی المشرکین وانفاسهم، فأوحی

ص:374


1- (1) وسائل الشیعة، ج1، ص275، باب نواقض الوضوء، باب11، ح5.
2- (2) المصدر، ح4.
3- (3) الوسائل، ابواب الاطعمة المحرمة، باب54، ح8.
4- (4) سورة البقرة، الآیة: 125.

الله الیها قرّی کعبتی فانی أبعث فی آخر الزمان قوما یتنظفون بقضبان الشجر ویتخللون)(1).

وتخصیص المشرکین بالتنحیة - مع اطلاق الأمر بتنحیتهم من دون التقیید بحال شامل لحال تنظفهم من القذارات العارضة، کما ان کون الشکوی من ملاقاة أیدیهم - مع کونها تغسل من القذارات العارضة عادة - دال علی کون النجاسة ذاتیة.

السابعة عشر: ما رواه السید بن طاووس فی مصباح الزائر عنهم(علیهم السلام) من الزیارة الجامعة للائمة علیه السّلام وفیها فی وصف أعدائهم (والقلوب المنتنة من قذر الشرک والأجساد المشحنة من درن الکفر).

الاستدلال بالسنة علی الطهارة:

هذا: وقد اعترض علی الاستدلال بالطوائف المزبورة بروایات دالة علی الطهارة، إلا أنّ الصحیح جعل العدید منها دالا علی النجاسة وبعضها الآخر لا دلالة له، وهی.

الأولی: صحیحة الکاهلی قال: (سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن قوم مسلمین یأکلون وحضرهم رجل مجوسی أیدعونه إلی طعامهم، فقال: أما أنا فلا أواکل المجوسی، وأکره أن أحرم علیکم شیئا تصنعونه فی بلادکم)(2).

فان الطعام یتلوث لو کان حکم أبدانهم النجاسة فیوجب الحرمة

ص:375


1- (1) تفسیر القمی، ح1، ص59.
2- (2) وسائل الشیعة، ابواب النجاسات، باب14، ح2.

فعدمها یلازم الطهارة، وأما عدم مؤاکلته هو علیه السّلام فلمقامه الشریف ومنصبه فی الدین.

وفیه:

أولا: کونها متعرضة لحکم العشرة معهم، الذی لا یرتضی القائلون بالطهارة انسجامه وارتباطه مع حکم ابدانهم وان کان الصحیح ارتباطه کما تقدم، بل ودلالته علی ارتکاز التقذر منهم لدی الراوی حیث عن سؤاله عن المؤاکلة معه مع کون الطعام من المسلم انما هولاجل التحرج منهم لقذارتهم.

ثانیا: قد فرض فیها الطعام من المسلمین لا من أهل الکتاب کی ینافی ما تقدم من النهی عن مطلق طعامهم المباشر بأبدانهم.

ثالثا: لم یفرض فی الروایة الاکل فی قصعة واحدة کما تقدم النهی عن خصوص ذلک فی أدلة النجاسة فغایة الأمر الاطلاق فی هذه الصحیحة یقید بما تقدم من النهی المزبور.

رابعا: أنّ المؤاکلة ان کانت حراما فلا مجال لکراهته (علیه السلام) الحکم بالتحریم، وان کانت حلالا فلا حرمة فی البین کی یکره (علیه السلام) الحکم بها.

فظاهر الکلام لا یستقیم الاخذ به إلا بحمل تعلیل عدم التحریم علی عدم بیان الحرمة لأجل التقیة والخشیة علی الراوی بعد کونه من شیعة الکوفة ویخشی علیهم الاشتهار بذلک کما یشیر الیه قوله (علیه السلام) (تصنعونه)، بعد بناء العامّة علی حلّ مطلق طعامهم ولو المباشر بأبدانهم استنادا إلی خطائهم فی فهم آیة المائدة، أی لان الاکل معهم شیء شائع یصنع فی الکوفة فتحریمه علی الشیعة موجب لاشتهارهم بذلک وتمیزهم

ص:376

عن العامّة(1).

وحمل: التحریم علی منصب الولایة والطاعة لا علی العنوان الأولی فیستقیم الظاهر حینئذ(2).

بعید: بعد کون السؤال عن الثانی وهو الظهور الاولی فی البیانات الشرعیة، فالاصح عدّ الروایة من أدلة النجاسة.

الثانیة: موثقة خالد القلانسی قال: (قلت لأبی عبد الله(علیه السلام) ألقی الذمی فیصافحنی، قال امسحها بالتراب وبالحائط. قلت: فالناصب؟ قال اغسلها)(3)، فان المسح فی الأول هو لاظهار النفرة منهم لا للتطهیر بخلاف الثانی، فهی مصرحة بطهارتهم بخلاف صحیح مسلم - المتقدم فی الأمر بالغسل بالمصافحة - فانه ظاهر فی النجاسة فیحمل علی التنزیه.

وفیه:

أولا: ان الأمر بالمسح بالتراب وبالحائط یحتمل کونه توطئة للغسل کما فی قول الراوی (انی أغدو الی السوق فأحتاج إلی البول ولیس عندی ماء، ثم أتمسح وانتشف بیدی ثم أمسحها بالحائط وبالأرض، ثم أحک جسدی بعد ذلک؟ قال: لا)(4).

وکما فی قول الآخر (أبول فلا أصیب الماء وقد أصاب یدی شیء من البول فأمسحه بالحائط والتراب ثم تعرق یدی ... الحدیث)(5)، وکما فی

ص:377


1- (1) مصباح الفقیهه للمحقق الهمدانی.
2- (2) غیر واحد من المتاخرین.
3- (3) وسائل الشیعة، ج3، ص420، باب14 من ابواب النجاسات، ح4.
4- (4) المصدر، باب26، ح13.
5- (5) المصدر، باب6، ح1.

قوله (علیه السلام) فی موثق عمار (قال سألته عن الدمل یکون بالرجل فینفجر وهو فی الصلاة؟ قال: یمسحه ویمسح یده بالحائط أو بالأرض، ولا یقطع الصلاة)(1).

وهو للتخلص من عین النجس وازالته کی یتخفف حکم الموضع الملاقی فی التطهیر والآثار، فیکون علی هذا کنایة عن الأمر بالغسل ومن التنوع فی التعبیر أو التشدد فی ازالة ما علق بسبب المصافحة، فالتنظیف بالتراب عنوانه فی عرف الروایة کالتنظیف بالصابون فی عرفنا یکون توطئة للغسل بالماء، ولا ینافی ما تقدم من انجسیة الناصب، حیث ان الأمر فی المقام مضمن لحکم العشرة أیضا من دون تدافع بینهما کما تقدم، فالاقرب جعل الروایة من أدلة النجاسة وانها شاهدة علی ارتکاز النجاسة لدی الرواة.

ثانیا: یحتمل فرض عدم الرطوبة والأمر بالمسح والغسل علی الاستحباب فلا ینافی صحیح ابن مسلم المتقدم المحمول علی فرض الرطوبة کما ذکره صاحب الوسائل، لاسیما وان القائلین بالطهارة یبنون علی تباین لسان حکم العشرة معهم مع لسان حکم أبدانهم إذ هم یحملون الأمر بالمسح علی اظهار النفرة منهم، لکن الاحتمال الأول أقرب.

الثالثة: صحیح علی بن جعفر المتقدم حیث فیه (وسأله عن الیهودی والنصرانی یدخل یده فی الماء أیتوضأ منه للصلاة؟ قال: لا، الا ان یضطر إلیه)(2) حیث ان الترخیص عند الاضطرار دال علی الطهارة والا لم یصح

ص:378


1- (1) المصدر، باب22، ح8.
2- (2) المصدر، باب14، ح9.

الوضوء وعلی أن النهی للتنزیه.

وفیه:

أولا: ما تقدم من ورود نظیر هذا الاستثناء فی الجنب الذی غمس یده القذرة فی القلیل فدلالته علی عدم انفعال القلیل اشبه من طهارة المنی وأهل الکتاب، لکنه مطرح لما دل علی انفعاله، بل کما دل بالخصوص بالنهی عن استعماله والتیمم فلاحظ.

ثانیا: ان انحصار الماء به لا یصحح صدق الاضطرار إلی التوضؤ منه بعد امکان التیمم، وبعبارة أخری ان الظاهر من النهی المتقدم کونه قرینة علی معنی الاضطرار من انه اضطرار لمخالفة النهی ومنشئه وهو التقیة کما استظهره الشیخ.

ویشهد لذلک ان عنوان الاضطرار فی الروایات معهود بکثرة فی الاضطرار الرافع (کل شیء اضطر إلیه ابن آدم فقد أحله الله)، وهذا یعین ارادة اضطرار التقیة، بینما قد کثر التعبیر بالانحصار فی روایات الماء المکروه التوضوء به ب--(یتوضأ منه الا ان تجد ماء غیره فتنزه عنه) کما فی صحیح الحلبی(1)، أو(لیس یقدر علی ماء غیره) کما فی موثقتی سماعة(2) وعمار(3)، نعم فی مصحح زرارة المتقدم فی آنیة المجوس التعبیر ب--(إذا اضطررتم إلیها فاغسلوها بالماء)(4).

والاشکال: بأن التقیة رافعة للتکلیف لا للوضع فکیف یصح

ص:379


1- (1) وسائل الشیعة، ج1، ص128، باب2 من ابواب الماء المطلق، ح2.
2- (2) المصدر، باب8، ح2.
3- (3) المصدر، ح14.
4- (4) الوسائل، باب14 من ابواب النجاسات، ح12.

وضوؤه وصلاته وتتوفر طهارة أعضائه وثیابه.

مدفوع: بإمکان الالتزام بالعفو عن نجاسة أهل الکتاب عند الاضطرار بالتقیة أی عن انفعال الماء بهم، کما ورد نظیره فی الخمر بل سیأتی فی بقیة روایات المقام کروایة زکریا العفو عن نجاسة ذبائحهم، ونجاسة الخمر فی مورد الاضطرار وکما هو الحال فی تسویغ تغسیلهم للمسلم عند خصوص عدم المماثل المسلم لا مطلقا من کونه من باب العفو عن نجاستهم کما هو أحد وجوه الحکم المزبور.

ثالثا: ما ذکره صاحب الوسائل وهو قریب أیضا من الحمل علی کریة الماء أو ما فی حکمها من الاتصال بالمادة فی ماء الحمام، ووجه القرب ان ما تقدم فی السؤال هو عن اجتماع النصرانی مع المسلم فی الحمام والامر بالاغتسال بغیر الذی اغتسل النصرانی فیه من الماء القلیل الذی فی الاحواض الصغیرة الا ان یغسل الحوض ثم یغتسل.

الرابعة: صحیحة إبراهیم بن أبی محمود قال: (قلت للرضا (علیه السلام): الجاریة النصرانیة تخدمک وأنت تعلم أنّها نصرانیة لا تتوضأ ولا تغتسل من جنابة، قال: لا بأس، تغسل یدیها)(1).

وتقریب دلالتها أن السؤال سواء کان عن الفرض الکلی بتمثیل کاف الخطاب عن مطلق المکلف کما فی قول الراوی نفسه فی روایة الآتیة (وأنت تعلم ...)، وکما فی قوله (علیه السلام) (فإن صافحک بیده فاغسل یدک)(2) بصورة کاف الخطاب مع أن السائل تعبیره بصورة الفرض الکلی (فی

ص:380


1- (1) المصدر، ح11.
2- (2) المصدر، ح5.

برای ادامه مشاهده محتوای کتاب لطفا عبارت امنیتی زیر را وارد نمایید.

ص:

برای ادامه مشاهده محتوای کتاب لطفا عبارت امنیتی زیر را وارد نمایید.

ص:

برای ادامه مشاهده محتوای کتاب لطفا عبارت امنیتی زیر را وارد نمایید.

ص:

برای ادامه مشاهده محتوای کتاب لطفا عبارت امنیتی زیر را وارد نمایید.

ص:

برای ادامه مشاهده محتوای کتاب لطفا عبارت امنیتی زیر را وارد نمایید.

ص:

برای ادامه مشاهده محتوای کتاب لطفا عبارت امنیتی زیر را وارد نمایید.

ص:

برای ادامه مشاهده محتوای کتاب لطفا عبارت امنیتی زیر را وارد نمایید.

ص:

برای ادامه مشاهده محتوای کتاب لطفا عبارت امنیتی زیر را وارد نمایید.

ص:

برای ادامه مشاهده محتوای کتاب لطفا عبارت امنیتی زیر را وارد نمایید.

ص:

برای ادامه مشاهده محتوای کتاب لطفا عبارت امنیتی زیر را وارد نمایید.

ص:

برای ادامه مشاهده محتوای کتاب لطفا عبارت امنیتی زیر را وارد نمایید.

ص:

برای ادامه مشاهده محتوای کتاب لطفا عبارت امنیتی زیر را وارد نمایید.

ص:

برای ادامه مشاهده محتوای کتاب لطفا عبارت امنیتی زیر را وارد نمایید.

ص:

برای ادامه مشاهده محتوای کتاب لطفا عبارت امنیتی زیر را وارد نمایید.

ص:

برای ادامه مشاهده محتوای کتاب لطفا عبارت امنیتی زیر را وارد نمایید.

ص:

برای ادامه مشاهده محتوای کتاب لطفا عبارت امنیتی زیر را وارد نمایید.

ص:

نجاستها مع عدم الاشارة فی النصوص المزبورة إلی ذلک.

وفیه:

أولا: ان المشهور علی عدم جواز العقد الدائم بها کما لعله الأقوی، کما أشرنا إلی وجهه فی آیة الطعام، بل خصوص المنقطع الذی هوقضاء وطرولیس باستقرار.

ثانیا: لو بنی علی جواز الدائم فإن عدم اشارة وتعرض النصوص هو لعدم کونها فی صدد البیان من هذه الجهة کما هو الحال بالنسبة إلی النجاسات العینیة العرضیة التی یدمن أهل الکتاب مساورتها والتلوث بها کشرب الخمر واکل الخنزیر، مضافا إلی تقیّدهم بأکل ذبائحهم، وکذا عدم توضائهم فی الخلاء وعدم اغتسالهم من الجنابة، وکذا الحیض واخواه، وکذا عدم توقیهم من النجاسات الاخری کالکلب وغیره، فهل سکوت الروایات عن کل ذلک دال علی طهارته أو العفو عنه، أوان جواز النکاح بهم یتدافع ویتهافت مع نجاسة تلک الأعیان.

وهذا هو الحال فی روایات جواز بیع کلب الصید أو آیة حلّ الصید بالکلب وروایاته، أو روایات جواز بیع لحم المیتة المختلط بالمذکی علی من یستحله، أو روایات استحباب الحجامة والفصد وغیرها من الروایات فی الابواب المختلفة إذ بقیة الجهات تتکفلها أدلة أخری.

ثالثا: ان فی الروایات المزبورة نحو اشارة کما فی صحیح معاویة بن وهب (واعلم أنّ علیه فی دینه غضاضة)(1)، وکما فی مصحح یونس (لا

ص:397


1- (1) المصدر، باب2، ح1.

ینبغی له ان یتزوج امرأة من أهل الکتاب الا فی حال ضرورة حیث لا یجد مسلمة حرة ولا أمة)(1)، وغیرهما سواء کان مفادها إرشادا إلی ذلک وغیره أو الکراهة، فانه علی الثانی أیضا الحکمة محتملة لذلک.

وکذا ذیل آیة حل المحصنات من أهل الکتاب وَ مَنْ یَکْفُرْ بِالْإِیمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَ هُوَ فِی الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِینَ (2) حیث انه وان کان فی صدد التحذیر من الموادة بالزواج منهم والمصاهرة والتمادی فی العشرة معهم حتی یؤول الأمر إلی الکفر مثلهم، إلا انه یفید طلب التجنب من مصاهرتهم، فلا یستفاد من جواز التزویج اطلاق العنان کی یکون مقتضاه طهارتهم، بل هو مع التنفیر من اتیانه والترغیب عنه.

هذا عمدة ما استدل به علی الطهارة وقد تبین وجوه الخلل:

إما: فی الجهة کما فی العدید منها حیث انها تضمنت قرائن التقیة، وان العمدة فی وقوعها بناء العامة علی استظهار حلیه ذبائح أهل الکتاب وما باشروه بابدانهم من الطعام المطبوخ من اطلاق الطعام فی آیة هل طعامهم، ویظهر من روایات الذبائح بشدة التقیة فی ذلک ولعله لزعمهم الاستناد إلی القرآن، فالحال فی البابین واحد.

کما انه اتحد نمط التلویح بالتقیة فیهما والتخالف فی اللسان بدوال متدافعة، وکذلک التعلیل للذاتی بالأمر العرضی فی روایات البابین، وهو نظیر ما یحکی عن مالک، قال فی الانتصار (وحکی الطحاوی عن مالک فی سؤر النصرانی والمشرک انه لا یتوضأُ به ووجدت المحصلین من أصحاب

ص:398


1- (1) المصدر، ح3.
2- (2) سورة المائدة، الآیة: 5.

مالک یقولون ان ذلک علی سبیل الکراهیة لا التحریم لأجل استحلالهم الخمر والخنزیر ولیس بمقطوع علی نجاسته)، فتری ان مذهبه التنزه لکونهم فی معرض النجاسات العرضیة وهو شاهد ان التعلیل المزبور موافقة لهم، بل ان فی العدید من الروایات التعرض فی جواب واحد لکل من الذبائح وحکم اسئارهم وأبدانهم.

وإما: الخلل فی الدلالة کما اتضح مفصلا.

وأمّا کونها أقرب فی الدلالة علی النجاسة منها فی الدلالة علی الطهارة، فما دل علی الطهارة فی نفسه غیر تام، فضلا عن معارضته لأدلة النجاسة والتی تقدم وجود الصریح فیها بکثرة والقوی الظهور، حتی أن بعض القائلین بالطهارة من هذا العصر لم یجد بدا من حملها علی أصالة النجاسة عند الشک تخصیصا لاصالة الطهارة، وهو شاهد علی استظهار اللزوم منها.

فارتکاب الجمع بالحمل لها علی التنزه طرح لها لا جمع دلالی، بل المتعین جعل أدلة النجاسة قرینة علی جهة الصدور فی أدلة الطهارة مع غض النظر عن قرائن التقیة التی تضمنتها ادلة الطهارة هی فی نفسها.

العلاج علی تقدیر التعارض:

ولو غضّ الطرف عن ذلک ووصلت النوبة للتعارض المستحکم، فالترجیح لأدلة النجاسة لموافقتها للکتاب کما تقدم تمامیة دلالة الآیة الأولی علی النجاسة فی عموم الکافر، بل وکذا الثانیة.

ولمخالفتها للعامة أیضا، حیث انهم ذهبوا إلی الطهارة حتی فی المشرک، وارتکبوا التأویل والتحویر فی الآیة فی المسند الیه عنوان النجاسة

ص:399

تارة النفس واخری القذارات التی یتلوّث بها المشرکون، والباعث لهم علی ذلک هو حسبانهم دلالة آیة حل الطعام وهی من سورة المائدة فلا بد أن حکم أبدانهم هو بمقتضی الآیة المتأخرة نزولا، ومن جهة أخری لا یمکنهم رفع الید عن الحکم فی آیة فَلا یَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ فارتکبوا التأویل تفادیا للنسخ، وهذا الذی تشیر وتومی الیه کل من روایات النجاسة وروایات المستدل بها للطهارة.

وهذا هو وجه اطباق المتقدمین والمتأخرین علی النجاسة إلا ما شذّ علی تقدیر صحة نسبة الخلاف التی فی کلمات متأخری الأعصار.

واستبعاد: التقیة فی العدید من الروایات سواء فی مقام الحکم والاخبار لبعد تواجد من یتقون منه فی کل مجالسهم، أوفی مقام العمل إذ لم ینبهوا(علیه السلام) علی الآثار الوضعیة لتمکن المکلفین من العمل علی طبق الواقع ولو عند الرجوع إلی المنازل کما فی روایات الائتمام بالعامة.

فی غیر محله: اذ أولا: الکلام بعینه من روایات حلّ ذبائحهم الکثیرة مع کونها میتة نجسة وروایات طهارة الخمر العدیدة، وروایات جواز الصلاة فی بعض أصناف ما لا یؤکل لحمه کالثعالب والسمور والفنک والارانب ونحوها، وغیرها من الروایات فی الأبواب.

ثانیا: انه کفی فی التنبیه روایات النجاسة التی عرفت صراحة العدید منها، حتی ان عدة من الرواة لبعض ما یوهم الطهارة هو راوی روایات النجاسة أیضا.

ثالثا: ان بعض موارد التقیة لا تدرج فی القسمین المزبورین، إذ هو من التقیة علی مجموع الطائفة لا خصوص السائل فی مقام العمل، فلکی لا یشهّر علی الشیعة والمذهب، یجیبون (علیهم السلام) بما یوافق العامة أوبما یقرب منه،

ص:400

ثم إذا توفرت الظروف لتبیان الواقع تصدر الاجابة بما هو الواقع، کما فی جملة من الأحکام التی بیّنها متأخرو الأئمة (علیهم السلام) فی حین ان الروایات الصادرة من الصادقین علیهما السّلام هی بما یوافق العامة، والظاهر ان مثل هذا النمط من التقیة هو أحد علل التدرج فی بیان الأحکام.

هذا: وأما دعوی ان الارتکاز عند الرواة هو طهارة أهل الکتاب کما یوحی بذلک بعض اسئلتهم فقد تقدم الجواب مفصلا - فی ذیل الروایة التاسعة مما استدل به علی الطهارة - وان الارتکاز لدی اکثرهم فی کثیر من الروایات علی النجاسة الذاتیة، وأن ذکر النجاسة العرضیة فی ردیف الذاتیة هو لشدتها فی الآثار واسرعیة التلوّث بها، فراجع.

ثمّ انه قد تقدم ان موضوع الأدلة سواء فی الآیتین أو الروایات هو الکافر مطلقا، أما فی الآیة الأولی فعدة من الشواهد المتقدمة علی ارادة الکافر منها فلاحظ، وأما الآیة الثانیة فموضوعها الذین لا یؤمنون ولا یسلمون أی الکافرین،.

وأمّا الروایات فقد ورد فیها عدة بعنوان المشرک، وکذا أهل الکتاب وهو الأکثر، وکل ما خالف الاسلام، ومفهوم المؤمن وهو الکافر، کما ورد فی سیاق واحد الناصب وأهل الکتاب مما یعطی ان الجامع الموضوع هو الکافر، کما قد ورد النهی عن ذبائح أهل الکتاب فی سیاق واحد مع النهی عن مساورتهم، مما یدل علی وحدة الموضوع فی العدید من الروایات مع أنه علّل تحریم ذبائحهم بأن الحلیة فیها مناطها الاسلام وأهل التوحید، ومع انه ورد النهی عن ذبیحة الناصب والخوارج والمجسمة والمشبهة.

فمن مجموع ذلک یظهر وحدة الموضوع فی البابین، بل وباب النکاح أیضا غایة الأمر انه استثنی أهل الکتاب فی المنقطع عند المشهور أو الدائم أیضا عند متأخری العصر.

ص:401

حکم المرتد:

قد ظهر عموم ما اطلقه المشهور من نجاسة کل کافر سواء فی الآیتین أو الروایات بعد تعدد العناوین المشترکة فی عنوان الکفر، بل ودلالة بعضها علیه بالذات، مضافا إلی أرداف أحکام اخری مع الحکم المزبور من حرمة الذبیحة والمناکحة التی هی مترتبة علی عنوان الکفر.

اما المقام الثانی وهو البحث فی الموضوع فقد جعلناه قاعدةً مستقلةً اتیة.

ص:402

قاعدة الایمان والکفر

اشارة

(وهی بمثابة الموضوع للقاعدة السابقة)

ص:403

ص:404

من القواعد العقائدیة المتصلة بأبواب الفقه الإیمان والکفر

اشارة

(وهی بمثابة الموضوع للقاعدة السابقة)

المراد من الکافر من کان منکرا للألوهیة او التوحید او النبوة بلا خلاف فیه بین المسلمین وسواء رجع الانکار فی الأول الی الذات أو الصفات اجمالا، وسواء کان انکار التوحید فی المذکورین أوفی الأفعال أوفی العبادة، وسواء کان الانکار للرسالة العامة أوالخاصة وکذا انکار أبدیتها إلی یوم الحساب، أو انکار شمولیتها لکافة البشر، وأفرد جماعة انکار عدله وهو یندرج فی انکار الصفات.

قال الشیخ الکبیر فی أقسامه:

أولها: کفر الانکار بانکار وجود الآلهة أو اثباة أن غیر الله هو الله أو بانکار المعاد أو بنبوة نبینا، شرف العباد.

ثانیها: کفر الشرک باثبات الشریک للواحد القهار أوفی نبوة المختار.

ثالثها: کفر الشک بالشک فی احدی الثلاثة التی هی اصول الاسلام.

رابعها: کفر الهتک بهتک حرمة الدین بالبول علی المصحف أو فی

ص:405

الکعبة أو سب خاتم النبیین صلی الله علیه و آله .

خامسها: کفر الجحود بأن یجحد باللسان أصول الاسلام ویعتقدها بالجنان قال تعالی وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَیْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ (1).

سادسها: کفر النفاق بأن ینکر فی الجنان، ویقرّ فی اللسان کما قال تعالی وَ مِنَ النّاسِ مَنْ یَقُولُ آمَنّا بِاللّهِ وَ بِالْیَوْمِ الْآخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِینَ (2).

سابعها: کفر العناد بأن یقرّ بلسانه، ویعتقد بجنانه ولم یدخل نفسه فی ربقة العبودیة بل یتجری علی الحضرة القدسیة کإبلیس.

ثامنها: کفر النعمة بأن یستحقر نعمة الله، ویری نفسه کأنّه لیس داخلا تحت نعمة الله.

تاسعها: کفر الانکار للضروری.

عاشرها: اسناد الخلق إلی غیر الله علی قصد الحقیقة)(3) انتهی.

وفیه مواقع للبحث:

اولا: عده انکار المعاد من القسم الأول بناءً علی دخول الاقرار بالمعاد فی حدّ الاسلام الآتی الکلام فیه، وکذا جعل الاصول ثلاثة فی القسم الثالث والخامس.

ثانیا: تخصیص کفر الجحد بحالة الیقین الجنائی وهو محلّ نظر کما یأتی.

ثالثا: ان کفر الهتک هو ما یطلق علیه کفر الفعل وهو دال وامارة علی الکفر والردّة لا انه بنفسه کفر، وقد تأمّل جماعة منهم المجلسی(قدس سره)(4) فی

ص:406


1- (1) سورة النحل، الآیة: 14.
2- (2) سورة البقرة، الآیة: 8.
3- (3) منهج الرشاد، ص78، الطبعة الحجریة.
4- (4) رسالة فی الحدود والقصاص والدیات، ص50، الطبعة الحجریة.

حصول الردّة به وان کان حدّه القتل، ونصّ بعضهم بعدم کفر السابّ للّه تعالی وللنبی صلی الله علیه و آله وإن وجب قتله، لکنه خلاف ظاهر ما یأتی من الروایات.

نعم یظهر من بعضها التقیید بما إذا فعله عنادا ومکابرة فیکون بنفسه إنشاءً للکفر لا انه امارة، ثم ان هذا الکلام فیما کان یستوجب القتل وأما بقیة درجات الهتک التی توجب التعزیر فلا کما فی تمثیل الروایة بالبول فی المسجد الحرام.

رابعا: ان کفر النفاق هل هو الکفر الأکبر الذی ترتب علیه الأحکام الدینویة أوانه أحد الدرجات الاخرویة الذی هو کفر باطنی واخروی، وهو مترتب علی الاقوال فی الاقرار اللسانی بالشهادتین.

خامسا: ان کفر العناد المعروف بکفر إبلیس، هل هو مجرد ترک الطاعة والعمل عن عمد، أو إذا کان ناشئا عن الاستخفاف والتهاون الذی یؤول أو یتفق مع کفر الهتک، أوانه مع اعتقاد لغویة الأمر والنهی الالهی وعدم حکمته والعیاذ باللهمع الامتناع تکبّرا وردا علی الله تعالی مع الاستخفاف بنبی الله والازدراء به کما هو الحال فی کفر ابلیس لعنه الله تعالی.

سادسا: ان کفر النعمة وبمعناه الوسیع لیس من الکفر الأکبر إلا إذا آل إلی اعتقاد باطل.

سابعا: ان الظاهر من ما فی کشفه (قدس سره) ان کفر انکار الضروری من باب الاستلزام لانکار اصول الاسلام وهذا یخالف تقسیمه ههنا ظاهرا.

ثامنا: ان ما ذکره من القسم الأخیر هو انکار التوحید فی الأفعال، وقد تقدم ان اقسام الانکار اکثر من ذلک.

ثم انه بالتدبر والنظر یظهر حال الفرق والملل الکثیرة من جهة حقیقة

ص:407

اعتقاداتهم، انها هل ترجع إلی انکار التوحید فی المقامات الأربعة، أوالی انکار الرسالة من أحد جوانبها المقومة لها أم لا، وبسط ذلک تتکفله عدة رسائل وضعها غیر واحد من الفقهاء والمتکلمین ویأتی شیء من التفصیل لاحقا.

ثمّ ان الشیخ فی الاقتصاد ذکر فی تعریف الکفر (هو ما یستحق به عقاب عظیم وأجریت علی فاعله أحکام مخصوصة)، وفی تمهید الأصول (ما یستحق به العقاب الدائم الکثیر ویلحق بفاعله أحکام شرعیة نحو منع التوارث والتناکح)، وهو بلحاظ المقصّر دون القاصر المستضعف فی الاستحقاق کما عرّفه جماعة (بالاخلال بالمعرفة الواجبة فی الأصول) وهو غیر مانع کما سیتضح.

اخذ المعاد فی حد الإسلام:

ثمّ ان فی کلمات المشهور من کتب الأصول والفروع أخذ الاقرار بالمعاد فی حدّ الاسلام بخلاف جماعة منهم الماتن، فانهم اعتبروا الاصلین فقط مع اشتراط عدم انکار الضروری حینئذ فیندرج فی الشرط المزبور، غایة الأمر حقیقة الشرط اما بأخذه بنفسه فی الحدّ، وسببیة الانکار المزبور بنفسه للکفر، أو لاستلزام انکار الاصلین.

ووجه الثانی: ان الاسلام کما حدّ فی کثیر من الروایات هو الشهادتان کما فی موثق سماعة عن الصادق(علیه السلام) (الاسلام شهادة ان لا اله إلا الله والتصدیق برسول الله صلی الله علیه و آله به حقنت الدماء وعلیه جرت المناکح والمواریث وعلی ظاهره جماعة الناس)(1)، وغیرها من الروایات(2)، واطلاق

ص:408


1- (1) اصول الکافی، ج2، ص25.
2- (2) اصول الکافی، ج2، ص24-27.

هذه الروایات لم یقید بشیء عدا ما یأتی من جحد الضروریات.

وأما وجه الاول: فقد استدل علیه بما جاء متکاثرا فی الآیات من قرن الایمان باللهسبحانه مع الایمان بالمعاد والیوم الآخر(1).

ولکن: قد یشکل علی هذا التقریب بأن مجرد القرن فی الایمان لا یدل إلا علی وجوب ذلک الاعتقاد لا علی أخذه فی حدّ الاسلام، کما هوالحال فی الایمان بکتبه وملائکته ورسله وآیاته تعالی، لا سیما وانه مذکور فی کثیر من الآیات بما هومنشأ للعمل والطاعات فهودخیل فی درجات الایمان.

نعم بعد قیام العلم به یلزم الاعتقاد به وانکاره موجب للکفر للاستلزام کما فی بقیة الضرورات الاعتقادیة، فالمراد من عدم دخولها فی الحدّ هوکفایة الشهادة الاجمالیة بما جاء به الرسول صلی الله علیه و آله من دون لزوم التفصیل فی تحقق الاسلام.

فالأولی تقریب أخذه فی الحدّ: ان فی العدید من الآیات تارة الاشارة إلی الکفار بالأصلین الأولین بعنوان الذین لا یؤمنون بالآخر الظاهر منه ان انکاره موجب للکفر الأکبر وانه داخل فی الحدّ، وأخری بیان التلازم والتعلیل للکفر بالأصلین بالکفر به، وثالثة أن منشأ الجحد واللجاج من الکفار هو عدم الایمان بالآخرة، ورابعة انذار الکافر به بالعذاب المتوعدّ به فی الکفر الأصلی، وخامسة التعبیر عن انکاره بالکفر به.

ومادة الکفر وان کان الاستعمال القرآنی علی معانٍ متعددة بحسب درجات الکفر ولکن الاطلاق ینصرف إلی الکفر الاصطلاحی، لا سیما

ص:409


1- (1) التنقیح فی شرح العروة، ج25/3.

وان اطلاقه علی الکافرین بالأصلین.

فمن الأول: قوله تعالی وَ إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَیْنَکَ وَ بَیْنَ الَّذِینَ لا یُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (1)، وقوله إِنَّ الَّذِینَ لا یُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَیُسَمُّونَ الْمَلائِکَةَ تَسْمِیَةَ الْأُنْثی (2).

ومن الثانی: قوله تعالی إِلهُکُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِینَ لا یُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْکِرَةٌ وَ هُمْ مُسْتَکْبِرُونَ (3)، وقوله وَ هذا کِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَکٌ ... وَ الَّذِینَ یُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ یُؤْمِنُونَ بِهِ (4)، وقوله وَ إِذا ذُکِرَ اللّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِینَ لا یُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ (5).

ومن الثالث: قوله وَ قالَ الَّذِینَ کَفَرُوا هَلْ نَدُلُّکُمْ عَلی رَجُلٍ یُنَبِّئُکُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ کُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّکُمْ لَفِی خَلْقٍ جَدِیدٍ أَفْتَری عَلَی اللّهِ کَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِینَ لا یُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِی الْعَذابِ وَ الضَّلالِ الْبَعِیدِ (6)، وقوله وَ دَخَلَ جَنَّتَهُ وَ هُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِیدَ هذِهِ أَبَداً وَ ما أَظُنُّ السّاعَةَ قائِمَةً وَ لَئِنْ رُدِدْتُ إِلی رَبِّی لَأَجِدَنَّ خَیْراً مِنْها مُنْقَلَباً قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَ هُوَ یُحاوِرُهُ أَ کَفَرْتَ بِالَّذِی خَلَقَکَ مِنْ تُرابٍ (7)، وکأن الزامه بالکفر بالخالق لتلازم امکان وقوع العود مع وقوع البدء فانکاره انکار للمبدأ.

بل ان الدعوة من الانبیاء والرسل مبتدأة بالانذار والبشارة بالآخرة،

ص:410


1- (1) سورة الاسراء، الآیة: 40.
2- (2) سورة النجم، الآیة: 27.
3- (3) سورة النحل، الآیة: 22.
4- (4) سورة الانعام، الآیة: 92.
5- (5) سورة الزمر، الآیة: 45.
6- (6) سورة سبأ، الآیة: 7 -8.
7- (7) سورة الکهف، الآیة: 37.

ولذلک قال النراقی (قدس سره) وغیره ان المعاد یقرّ به کل الملیین وأصحاب الشرائع بل وبعض الملاحدة والدهریة (1)، وعن المحقق الدوانی فی العقائد العضدیة ان من انکره یکفر باجماع أهل الملل الثلاثة، وکذا توصیفه صلی الله علیه و آله بالبشیر النذیر وکذا ابتدأ الدعوة به منه صلی الله علیه و آله بل ان الدعوة للالتزام بالرسالة متقومة بالاقرار بالیوم الآخر.

وکذا المؤدی الذاتی للرسالة هو کونها طریق السلامة فی الآخرة وهو الغایة من البعثة وهو معنی الالتزام بالرسالة والاسلام کدین ذی حدود شرعیة منجزة علی العبادة أی انهم مأخوذون بالعقوبة الاخرویة علی ترکها، ولذلک استهلّ الرسل الانذار به فی الدعوة، وعلل الکفر بالاصلین بالکفر به، وهذا هو التفسیر للقرن الکثیر بین الاعتقاد به وبین الأصلین.

ومن الرابع: قوله إِنَّ الَّذِینَ لا یُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَیَّنّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ یَعْمَهُونَ أُوْلئِکَ الَّذِینَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَ هُمْ فِی الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (2)، وقوله وَ أَنَّ الَّذِینَ لا یُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِیماً (3).

ومن الخامس: قوله إِنِّی تَرَکْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا یُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ کافِرُونَ (4)، وقوله اَلَّذِینَ لا یُؤْتُونَ الزَّکاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ کافِرُونَ (5)، وقوله اَلَّذِینَ یَصُدُّونَ عَنْ سَبِیلِ اللّهِ وَ یَبْغُونَها عِوَجاً وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ کافِرُونَ (6)، وقضیة الوجوه المزبورة اخذه فی الحدّ بل فی حد

ص:411


1- (1) أنیس الموحدین، ص228.
2- (2) سورة النمل، الآیة: 5.
3- (3) سورة الاسراء، الآیة: 10.
4- (4) سورة یوسف، الآیة: 37.
5- (5) سورة فصلت، الآیة: 7.
6- (6) سورة الاعراف، الآیة: 45.

الرسالة.

إلا ان الشهید الثانی وجماعة عبروا عنه بضروری الدین وان منکره فی رتبة الکفر وخارج عن عداد المسلمین، ویمکن توجیه التعبیر بأنّ الضروریات متفاوتة الدرجة فی البداهة والوضوح کما یأتی، والمعاد لوسلم عدم تقوم معنی الرسالة به فلا ریب فی کونه أبده الضرورات الدینیة التی لا یتعقل خفاؤها علی أیّ سامع بالأدیان السماویة، فمن ذلک اختلف حاله عن باقی الضرورات.

دخول الضروری فی حد الإسلام:

اختاره اکثر متأخری المتأخرین وأن تحقق الکفر به من جهة الاستلزام لانکار الرسالة، وذلک مع العلم بکونه مما جاء به صلی الله علیه و آله وعلی ذلک فلا یخصّ بالضروری علی هذا القول.

والقول الآخر: الذی نسبه فی مفتاح الکرامة إلی المشهور أن انکاره بنفسه سبب لتحقق الکفر، وهو ظاهر الکلمات حیث قیدوا بالضروری دون مطلق المعلوم انه من الدین والنسبة من وجه.

والثالث: انه امارة علی انکار الرسالة.

والرابع: ما ذکره شیخنا الانصاری من التفصیل بین المقصّر والقاصر فهو سبب فی الأول خاصة، أو التفصیل بینهما فی الأحکام العملیة دون الاعتقادیة.

والخامس: التفصیل فی ترتیب آثار الکفر بین الجاهل البسیط المعذور وغیره مع تحقق الموضوع فی کلا الصورتین.

ص:412

اقسام منکری الضروری:

والصور المهمة التی یمکن ان یشملها محل البحث:

الاولی: الداخل لتوه فی الاسلام ممن لم یطلع علی الدین.

الثانیة: صاحب الشبهة والتأویل، وهو علی اقسام:

فتارة: ینکر ضروری من الدعائم. وأخری: من غیر الدعائم.

وثالثة: ضرورة واحدة.

ورابعة : مجموعة کبیرة من الفرائض، کما فی بعض الصوفیة المتأولین للیقین المجعول غایة للعبادة فی الآیة بغیر الموت فلیس للواصل باصطلاحهم فریضة واجبة علی الجوارح سوی ذکر القلب.

وخامسة: فی فترة البحث والتنقیب والفحص فهو کالشاک.

وسادسة: یقیم علی الانکار ویتدین به أو یبتدع طائفة علی ذلک الانکار.

وسابعة: قد وصلت إلیه الحجة والبیان لکنه یتأوّلها ویقصّر فی موازین الاستدلال.

وثامنة: وأخری قاصر فی ذلک.

ویقع الکلام تارة فی مقتضی القاعدة، وأخری فی الأدلة الخاصة، وحریّ تقدیم بعض الکلمات فی انکار الضروری عن شبهة فی نظائر المقام.

کلام الاعلام فی منکری الضروری:

قال المفید فی أوائل المقالات: واتفقت الامامیة علی ان أصحاب البدع کلهم کفار، وان علی الامام ان یستتیبهم عند التمکن بعد الدعوة لهم واقامة البینات علیهم فان تابوا عن بدعهم وصاروا إلی الصواب، والا

ص:413

قتلهم لردتهم عن الایمان، ثم نقل عن المعتزلة انهم فساق ولیسوا بکفار(1).

وما ذکره المفید من استتابتهم ووجوب رفع شبهتهم بمقدار اقامة ما هو متعارف من البینات مع حکمه بکفرهم یحتمل التفصیل بین الحکم بکفرهم وبین ترتب احکام الکفر من القتل وغیره وهو الذی یظهر من عدة من روایات(2) الحدود.

أو یحتمل ذهابه إلی قول ابن جنید فی المرتد سواء کان فطریا أو ملیا من استتابته وإلا فیقتل، ومال إلیه الشهید فی المسالک فی قبول توبته، والمجلسی فی البحار وحق الیقین کما انه یظهر منه انه بعد قیام البینة لا یعذر ولو کان فی الظاهر علی الشبهة.

وقال فی الکتاب المزبور أیضا (واتفقت الامامیة علی أن الناکثین والقاسطین من أهل البصرة والشام أجمعین کفار ضلال بحربهم أمیر المؤمنین(علیه السلام) وانهم بذلک فی النار مخلدون)، ثم نقل عن المعتزلة انهم فساق أیضا لیسوا بکفار، ثمّ حکی اتفاق الامامیة علی ان الخوارج المارقین عن الدین کفار بخروجهم علی أمیر المؤمنین(علیه السلام) وانهم بذلک فی النار مخلدون.

وفی المنقذ من التقلید للحمصی فی محاربی علی(علیه السلام) قال: فان قیل لو تساوی حکم الحربین - أی حرب الرسول وحرب الأمیر(علیه السلام) - لغنم مال کل واحد منهما و...

قیل: الظاهر یقتضی ذلک لکن علمنا بالدلیل اختلافهما فی بعض

ص:414


1- (1) اوائل المقالات.
2- (2) الوسائل، ابواب حد المرتد، باب9، ح1. وابواب احکام شهر رمضان، باب2، ح3 وباب6، ح3.

الاحکام فأخرجناه بالدلیل وبقی ما عداه، ثم یقال للمعتزلة ألستم تحکمون بکفر المجبرة والمشبهة؟

أفیلزمکم ان یجری علیهم حکم الکفار من أهل الحرب؟ وبعد فان أحکام الکفار مختلفة ألا تری ان الحربی حکمه مخالف لحکم الذمی، والمرتد یخالف حکمه حکمهما وإذا کان أحکام الکفر مختلفة لم یمتنع ان یکون احکام البغاة مخالفة لأحکام سائر الکفار)، والذی ذکره مضمون ما ذکره الشیخ فی الاقتصاد.

والذی یظهر من الکلمات فی باب الجهاد ان البغاة علی الامام یجری علیهم فی دار الهدنة حکم المسلمین حتی تظهر دولة الحق فیجری علیهم حکم الکفار الحربیین.

نعم قد روی انه(علیه السلام) قال یوم البصرة واللهما قوتل أهل هذه الآیة حتی الیوم وتلا یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا مَنْ یَرْتَدَّ مِنْکُمْ عَنْ دِینِهِ فَسَوْفَ یَأْتِی اللّهُ بِقَوْمٍ یُحِبُّهُمْ وَ یُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَی الْمُؤْمِنِینَ أَعِزَّةٍ عَلَی الْکافِرِینَ یُجاهِدُونَ فِی سَبِیلِ اللّهِ وَ لا یَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ (1).

وقال فی کشف الغطا فی عداد الکفار: وکل مسبوق بالشبهة مع العذر فانکر والمتردد فی مقام النظر فی أمر اصول الدین یجری علیه أحکام النجاسة وان کان معذورا فی الاخرة وغیر المعذور یحکم علیه بالکفر الاصلی فی مقامه والارتدادی فی مقامه وما کان من القسم الثانی وهو ما تضمّن انکار الضرورة فقط فغیر المشتبه الخالی عن العذر کافر أصلی أو مرتد، ومن کان معذورا للشبهة لا یحکم علیه بالکفر بقسمیه، وغیر

ص:415


1- (1) تفسیر البرهان، ج479/1.

المعذور منه کاکثر المتصوفة یحکم علیهم بالتعزیر والتغریب لئلا یفسدوا العباد والبلاد ولا یحکم علیه بالارتداد فتقبل توبتهم).

وقال فی منکر(1) الضرورة (وهذه ان صرح فیها باللوازم أو اعتقدها کفر وجری علیه حکم الارتداد الفطری، وإلا فان یکن عن شبهة عرضت له واحتمل صدقه فی دعواها استتیب وقبلت توبته ولا یجری علیه حکم الارتداد الفطری، وان امتنع عزر ثلاث مرات وقتل فی الرابعة وان لم یمکن ذلک وترتبت علی وجوده فتنة العباد وبعثهم علی فساد الاعتقاد أخرج من البلاد ونادی المنادی بالبراءة منه علی رؤوس الاشهاد ویجری نحو ذلک فی حق المبدعین فی فروع الدین).

وفی مسألة من شرب الخمر مستحلا (استتیب فان تاب أقیم علیه الحد وان امتنع قتل کما عن المقنعة والنهایة والجامع وجماعة، وعلل لامکان الشبهة).

وقال شیخنا الانصاری - فی الطهارة(2) - فی معرض الاشکال علی سببیة انکار الضروری: انه لا وجه حینئذ لما اشتهر من اخراج صورة الشبهة فیظهر من الکلمات المتقدمة القول بإماریة انکار الضروری، ولذا أخرجوا صورة الشبهة عن الحدّ.

لکن قال فی الجواهر(3): لو أصرّ بعد الظهور والاطلاع وان کان لشبهة ألجأته الیه حکم بکفره، لعدم معذوریته، وظهور تقصیره فی دفع تلک الشبهة کمن انکر النبی صلی الله علیه و آله لشبهة.

ص:416


1- (1) کشف الغطاء، ج2، ص356. ط الحدیثة.
2- (2) کتاب الطهارة، ج5، ص133.
3- (3) جواهر الکلام، ج6، ص49.

فلعل المشهور یفصلون فی صاحب الشبهة بین من قامت لدیه الحجة والبیان وبین من لم تقم، فیکون التعبیر بالعذر وعدمه اشارة الی ذلک، وکذا التعبیر والتقیید بالعلم بمجی الرسول صلی الله علیه و آله به وعدمه اشارة الی قیام البینة وعدمها، لا الاشارة الی صفات الادراک النفسیة إذ بذلک یکشف عناده وجحوده.

وفی مسألة حکم من هو فی زمان مهلة النظر، فعن السید انه جزم بکفره، واستشکله جماعة منهم الشهید الثانی باعتبار تکلیف ما لا یطاق فکیف یخلد فی النار، واجیب بالتفرقة بین الحکم بالکفر وبین ترتب العقوبة، وذهب الشهید إلی ان حکمه حکم التابع کالاطفال أو الصبی الممیز.

مقتضی القاعدة فی منکر الضروری:

فاللازم بیان حدّ الاسلام کی یتضح انه متی یکون المنکر المزبور خارجا عن ذلک الحد.

ففی الاطلاق اللغوی هو التدین والانقیاد بالدین والشریعة کمجموع مسمی الاسلام إِنَّ الدِّینَ عِنْدَ اللّهِ الْإِسْلامُ ولو اجمالا، وما تقدم من الروایات الجاعلة للشهادتین حدا للدخول فی الاسلام مطابقا لذلک، إذ الشهادة الأولی عبارة عن الاذعان بالتوحید، والثانیة عبارة عن الاقرار برسالته والالتزام الاجمالی بما جاء به صلی الله علیه و آله من الشریعة.

ومقتضی هذا الالتزام هو الاقرار تفصیلا بکل ما علم تفصیلا من تفاصیل الشریعة بعد قیام العلم المزبور، ولذلک جاء فی عدّة من الروایات فی حدّه زیادة اقامة الفرائض وهو کنایة عن الاقرار بها، إذ الایمان اقرار

ص:417

وعمل والاسلام اقرار بلا عمل، کما فی صحیح محمد بن مسلم(1).

کما یدل علیه ذیل روایة سفیان السمط عن أبی عبد الله(علیه السلام) (الاسلام هو الظاهر الذی علیه الناس: شهادة أن لا اله إلا الله وحده لا شریک له وان محمد عبده ورسوله وإقام الصلاة وایتاء الزکاة وحج البیت وصیام شهر رمضان فهذا الاسلام، وقال: الایمان معرفة هذا الأمر مع هذا، فان أقرّ بها ولم یعرف هذا الأمر کان مسلما وکان ضالا)(2).

وروایة أبی بصیر عن أبی جعفر(علیه السلام) (من شهد ان لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلّی الله علیه وآله وأقرّ بما جاء به من عند الله وأقام الصلاة وآتی الزکاة وصام شهر رمضان وحجّ البیت فهو مسلم)(3).

وروایة تحف العقول عن الصادق(علیه السلام) (وأما معنی الاسلام فهو الاقرار بجمیع الطاعة الظاهر الحکم والأداء له، فإذا أقرّ المقر بجمیع الطاعة فی الظاهر من غیر العقد علیه بالقلوب فقد استحق اسم الاسلام ومعناه، واستوجب الولایة الظاهرة واجازة شهادته والمواریث وصار له ما للمسلمین وعلیه ما علی المسلمین)(4).

فلیس مجرد الشهادتین حدّا لحدوث الاسلام، أوهما مع بقیة الضرورات للحدّ بقاء، بل تدور مدار تحقق العلم التفصیلی وعدمه، وقد عرّفه بذلک الشیخ فی الاقتصاد.

وعلی ذلک الحدّ فالمنکر للضروری مع الجهل المرکب داخل فی الحدّ

ص:418


1- (1) الوافی، ج79/3، ط الحدیثة.
2- (2) الکافی، ج2، ص24.
3- (3) البحار، ج68، ص270.
4- (4) البحار، ج68، ص277.

بعد عدم منافاة الانکار للالتزام والتسلیم الاجمالی، لکن ذلک لوکان بحیث لوکان بحیث لوعلم لرجع عن انکاره وأما لولم یکن کذلک فالمنافاة متحققة کما فی کلیة موارد قصد المتنافیین، ومثاله من کان حدیث الدخول فی الاسلام، أو بعید المسکن عن الحواضر الدینیة.

وأما الجاهل البسیط فقیل بعدم المنافاة أیضا ما لم یحصل العلم التفصیلی، وفی اطلاقه نظر، لأن الانکار ان کان مستندا إلی ما یراه دلیلا وحجة ولو کان ظنیا، وبعبارة جامعة ما کان معذورا من الحالات والصورة المختلفة - والمراد من المعذوریة الاشارة إلی عدم قیام الحجة والبیان أو عدم القدرة علیه - فعدم المنافاة واضحة.

وأمّا إذا کان الانکار مع عدم المعذوریة أو القدرة علی الفحص وتحصیل الواقع - والمراد الاشارة إلی البیان الواصل أو القدرة علی تحصیله - فان کان ناشئا من العناد أو الاستخفاف والاستهانة فهولا یلتئم مع الاقرار الاجمالی بمجموع الرسالة المقتضی للالتزام الاحتمالی فی الاطراف المحتملة لدائرة الشریعة، لاسیما فی الموارد التی یقیم فیها علی الانکار ویتدین به.

وتشیر إلی ذلک صحیحة عمر بن یزید قال: (قلت لأبی عبد الله(علیه السلام) أرأیت من لم یقرّ بما یأتیکم فی لیلة القدر کما ذکرت، ولم یجحده؟ قال: أما إذا قامت علیه الحجة ممن یثق به فی علمنا فلم یثق به فهو کافر، وأما من لم یسمع ذلک فهو فی عذر حتی یسمع ثم قال أبو عبد الله یؤمن باللهویؤمن المؤمنین)(1)، فهی وان کانت فی الکفر مقابل الایمان الا انه یتضح منها ضابطة تحقق الکفر من أی درجة کانت مع قیام ما هو حجة

ص:419


1- (1) وسائل الشیعة، ج1، ص38، ابواب العبادات، باب2، ح19.

وان لم تسکن الیه نفسه.

ثمّ ان المراد من الجهل هو عدم وصول البیان والدلائل المتعارفة، لاحالة عدم الاذعان وعدم السکون النفسی، وبذلک یتضح الحال فی صاحب الشبهة انه غیر خارج عن التقسیم، ففی موارد عدم المعذوریة فی المعنی المزبور لاسیما فی صورة انکار جملة من الفرائض الضروریة عن عامة المسلمین مع الاقامة علی فالمنافاة جلیة.

هذا ویمکن استجلاء المنافاة فی صورة الاقامة علی جملة من الفرائض بأن باب التذرع بالشبهة والتأول لو فتح لتأتی فی مجموع الضروریات ولما بقی للدین رسمه، مع ان فی العدید من الروایات(1) جعل بعض الضروریات دعائما واثافیا للاسلام، ففی بعضها انه بنی علی عشرة أسهم، ومقتضی الدعامة والرکنیة هو التلازم وعدم امکان التفکیک فی الاقرار بهما، ویؤید ذلک کله الحکم بکفر الخوارج ونحوها من الفرق مطلقا کما ذکره فی الجواهر.

ویمکن تفسیر المنافاة بما ذکر فی تعریف المرتد من انه من قطع الاسلام بالاقرار علی نفسه بالخروج منه، حیث ان الارتداد هو اقرار مخالف مضاد للاقرار الأول، وانکار الارکان یعدّ اقرارا بالخروج عن الدین فی العرف المتشرعی.

فظهران مقتضی القاعدة التفصیل بین الجهل وعدمه بالمعنی المزبور وبین کون الانکار لجملة منها وعدمه مع الاقامة وعدمها، وهو تحدید اجمالی لموارد المنافاة وتقریب للسببیة فی الجملة.

ص:420


1- (1) الکافی، ج2، ص18، وسائل الشیعة، مقدمات العبادات، باب1.
وأما الأدلة الخاصة:

فلا بد قبل ذکر الروایات من التنبیه إلی نکتة ذکرها أکثر المحققین المتأخرین، وهی أن کلا من الاسلام والایمان علی درجات، ولذلک تتعدد اطلاقاتهما الاستعمالیة وکذلک مقابلهما وهو الکفر فقد یطلق علی جحد لأصلین وعلی من ترک الطاعة کقوله فی فریضة الحج وَ مَنْ کَفَرَ فَإِنَّ اللّهَ غَنِیٌّ عَنِ الْعالَمِینَ (1)، وقوله إِنّا هَدَیْناهُ السَّبِیلَ إِمّا شاکِراً وَ إِمّا کَفُوراً (2)، وقوله تعالی قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لکِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمّا یَدْخُلِ الْإِیمانُ فِی قُلُوبِکُمْ (3).

وأول درجات الاسلام وهو الانقیاد الظاهر اللسانی دون الجنانی وسیأتی تحقیق الکلام فیه، وأول درجات الایمان قد یطلق علی ذلک أیضا وقد یطلق الاقرار القلبی بالشهادتین اجمالا.

وکقوله تعالی یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِی السِّلْمِ کَافَّةً (4)، المراد منه الدرجة الثانیة أوما فوقها من التسلیم والانقیاد، وکذا قوله اَلَّذِینَ آمَنُوا بِآیاتِنا وَ کانُوا مُسْلِمِینَ (5)، حیث ان التسلیم فیهما بعد الایمان ومن ذلک قوله (علیه السلام) (لأنسبن الاسلام نسبة لم ینسبه أحد قبلی ولا ینسبه أحد بعدی: الاسلام هو التسلیم والتسلیم هو التصدیق والتصدیق هو الیقین والیقین هو الاداء والاداء هو العمل)(6) ولعله أکملها، وکقوله تعالی إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ

ص:421


1- (1) سورة آل عمران، الآیة: 97.
2- (2) سورة الانسان، الآیة: 3.
3- (3) سورة الحجرات، الآیة: 14.
4- (4) سورة البقرة، الآیة: 208.
5- (5) سورة الزخرف، الآیة: 69.
6- (6) البحار، ج68، ص309.

أَسْلِمْ ، قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِینَ (1).

وکذلک الشرک کقوله وَ ما یُؤْمِنُ أَکْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاّ وَ هُمْ مُشْرِکُونَ ، وکما ورد فی المرائی انه مشرک کافر(2)، وکذلک العبادة کقوله تعالی أَ فَرَأَیْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ 3 و اِتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ (3)، وحیث کثر الاطلاق علی الدرجات المختلفة فی لسان الشرع فلا یمکن الاعتماد علی اطلاق الکفر أوالشرک فی الأدلة ما لم تقم قرینة علی ارادة الکفر الأکبر.

أما الروایات فعمدتها طوئف:
الطائفة الاولی:

کصحیح أبی الصبّاح الکنانی عن أبی جعفر(علیه السلام) قال: (قیل لأمیر المؤمنین(علیه السلام) من شهد ان لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلّی الله علیه وآله کان مؤمنا؟ قال: فأین فرائض الله؟ قال:

وسمعته یقول: کان علی(علیه السلام) یقول لو کان الایمان کلاما لم ینزل فیه صوم ولا صلاة ولا حلال ولا حرام، قال قلت لأبی جعفر(علیه السلام) ان عندنا قوما یقولون إذا شهد ان لا اله الا الله وان محمدا رسول الله صلی الله علیه و آله فهو مؤمن قال: فلم یضربون الحدود ولم تقطع أیدیهم وما خلق الله عز وجل خلقا أکرم علی الله عزوجل من المؤمن لان الملائکة خدام المؤمنین

ص:422


1- (1) سورة یوسف، الآیة: 106.
2- (2) الوسائل، ج1، ابواب العبادات، باب11.
3- (4) سورة التوبة، الآیة: 31.

وان جوار الله للمؤمنین وان الجنة للمؤمنین وان الحور العین للمؤمنین ثم قال: فما بال من جحد الفرائض کان کافرا)(1).

بتقریب: ان التشرع والتدین بالفرائض قد أخذ فی الایمان بمعنی الاسلام.

واشکل: بأن الایمان فی الروایة بقرینة ذکر العمل وثوابه ومقام من اتصف به بمعنی الاقرار القلبی.

إلا انه: لا یبعد أن یکون ابتداء کلامه(علیه السلام) فی الایمان المرادف للاسلام بقرینة ذیل الروایة حیث ذکرت الجحود، غایة الأمر انه فی الفقرة المتوسطة والحکایة الثانیة عن علی(علیه السلام) هی فی الاقرار القلبی، وعلی أیة حال فدلالتها بمقدار أخذ عدم الجحود وسیأتی الکلام فیه.

الطائفة الثانیة:

ما أخذ فیه عنوان الجحد، کصحیحة عبد الرحیم القصیر عن أبی عبد الله(علیه السلام) فی حدیث قال: (الاسلام قبل الایمان وهو یشارک الایمان، فإذا أتی العبد بکبیرة من کبائر المعاصی أو صغیرة من صغائر المعاصی التی نهی الله عنها، کان خارجا من الایمان، وثابتا علیه اسم الاسلام، فان تاب واستغفر عاد إلی الایمان، ولم یخرجه إلی الکفر والجحود والاستحلال، وإذا قال للحلال: هذا حرام، وللحرام هذا حلال، ودان بذلک فعندها یکون خارجا من الایمان والاسلام إلی الکفر، وکان بمنزلة رجل دخل الحرم ثم دخل الکعبة فأحدث فی الکعبة حدثا فأخرج عن الکعبة وعن الحرم

ص:423


1- (1) الکافی، ج2، ص33.

فضربت عنقه وصار الی النار)(1).

ولعل العبارة مصحفة من النساخ (ولم یخرجه الی الکفر إلا الجحود والاستحلال)، أو أنها (إلی الکفر والجحود إلا الاستحلال)، والقرینة علی ذلک انه لو کانت الجملة مرتبطة بما قبل من أن العصیان لا یخرج إلی الکفر وانما یخرج عن الایمان، لم یکن لنفی الخروج إلی الجحود والاستحلال معنی، وربما تکون الواو زائدة التی بین لفظة (الاستحلال) وکلمة (إذا) فیکون نفی الکفر مرتبطاً بما قبل وعطف الجحود والاستحلال للاستئناف وما بعد تمثیلاً لهما، والذی یهوّن الخطب أنّ نسخة الکافی وهی غیر ما فی التوحید والوسائل، حیث تضمنت لفظة (إلا) قد اطلعت بعد ذلک علیها.

وعلی أیة حال فیکون المتیقن المحصل من مفادها هو کفر الجحود، والمعروف من کلمات اللغویین أن الجحود هو الانکار مع العلم، إلا ما ذکره فی تاج العروس انه قد یطلق علی مطلق الانکار، ویؤید ما حکاه ان الجحود یقال له المکابر أی الانکار الناشیء عن ذلک، وهو متصور متحقق فی حالة الشک فیما یکون الانکار الناشیء عن تقصیر عن مکابرة وتأوّل فیها.

واستدل لذلک بقوله تعالی وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَیْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ، وفیه نظر لأنّ التقیید بالیقین لا یدل علی عدم الاستعمال فی حالة الشک، بل ان فی التقیید ایماء علی الاعمیة کی یصح التقیید لاسیما وأنّه بالواو للحال، نعم فی روایة ابی عمرو الزبیری عنه(علیه السلام) (فأما کفر الجحود فهوالجحود بالربوبیة والجحود علی معرفة وهوان یجحد وهو یعلم انه حق قد استقر

ص:424


1- (1) الوسائل، ابواب العبادات، باب2، ح18.

عنده وقد قال الله تعالی وذکر الآیة المتقدمة ...)(1)، لکنه یحتمل الاختصاص بجحود الربوبیة حیث ان المعرفة بها ضرورة فطریة.

ویشهد للاستعمال فی الأعم قوله علیه السّلام فی صحیح محمد بن مسلم: (کنت عند أبی عبد الله(علیه السلام) جالسا عن یساره وزرارة عن یمینه فدخل علیه أبو بصیر فقال: یا أبا عبد الله ما تقول فی من شک فی الله؟ فقال: کافر یا ابا محمد قال: فشک فی رسول الله؟ فقال: کافر ثم التفت إلی زرارة فقال: انما یکفر إذا جحد)(2)، فانه استعمل الجحد فی الانکار مع الشک.

وقوله (علیه السلام) فی معتبرة زرارة (لوأن العباد إذا جهلوا وقفوا ولم یجحدوا لم یکفروا)(3)، فإنّه اطلق الجحد علی الانکار فی ظرف الشک، إذ المراد بالجهل الجهل البسیط بقرینة القدرة علی التوقف عن الانکار، المتحققة فی ظرف الالتفات واحتمال الخلاف، وکذا ما تقدم من صحیحة عمر بن یزید حیث استعمل الجحد فی مطلق الانکار مقابل الاقرار.

ویؤید ذلک استعمال المادة المزبورة فی موارد العلم العادی الذی هو فی الواقع ظن تسکن إلیه النفس، نعم تختص موارد استعمالها بما إذا لم یکن هناک جهل مرکب ولم یکن احتمال الواقع ضعیف جدا لا یعتنی به، بخلاف موارد الاحتمال المعتد به.

ویزید ذلک وضوحا التمثیل بکفر الفعل والهتک فی ذیل الروایة الذی یتحقق الکفر به مطلقا بمقتضی ظاهر النصوص، لا انه من جهة

ص:425


1- (1) وسائل ج1 باب2 ح9
2- (2) وسائل الشیعة، ج28، ص356، باب10 من ابواب حد المرتد، ح56.
3- (3) وسائل، ج27، ص158، باب12، ح11.

الاستلزام لانکار النبی صلی الله علیه و آله الذی هومنفی مع الجهل کما نبّه علی ذلک فی الجواهر.

ومن تلک النصوص التی فی الفعل صحیحة أبی الصباح الکنانی عن أبی عبد الله(علیه السلام) فی حدیث قال: (ما تقول فیمن أحدث فی المسجد الحرام متعمدا قال: قلت یضرب ضربا شدیدا قال: أصبت قال: فما تقول فی من أحدث فی الکعبة متعمدا؟ قلت: یقتل قال: أصبت الحدیث)(1).

ونظیر ذلک قوله(علیه السلام) فی موثقة سماعة (ولوان رجلا دخل الکعبة فبال فیها معاندا اخرج من الکعبة ومن الحرم وضربت عنقه)(2)، نعم قد یفرق بین القول والفعل بأن الثانی بلحاظ مورده مع فرض الالتفات، والعمد لا تدخله الشبهة بخلاف القول، علی انه لو سلم أخذ العلم فی الجحود فهل العلم الاجمالی بمجیئه صلی الله علیه و آله بجملة من الأحکام - یقع المشکوک فی دائرته کما فی موارد بالجهل البسیط التفصیلی - غیر کاف فی تحقیق العنوان المزبور لا سیما فی صاحب الشبهة الواصل لدیه البینة والدلالة.

فالمحصل من مفاد العدید من الروایات الآخذة لعنوان الجحد سببا للکفر هوما تقدم من مقتضی القاعدة من تحقق المنافاة بین الانکار والاقرار بالشهادتین فی موارد عدم العذر بالمعنی المتقدم، لا سیما فی صاحب الشبهة الذی قامت لدیه الحجة والبینة وبقی مصرا علیها.

ومثلها مصحح داود بن کثیر الرقی عنه(علیه السلام) (فمن ترک فریضة من

ص:426


1- (1) الکافی، ج2، ص26.
2- (2) الکافی، ج2، ص28.

الموجبات فلم یعمل بها وجحدها کان کافرا)(1)، کما ان مواردها فی دائرة الضروریات بقرینة عنوان الکبیرة التی هی کذلک فی الغالب وان الانکار للحکم بعنوانه لا مصادیقه.

الطائفة الثالثة:

ما أخذ فیه عنوان استحلال الحرام کصحیحة عبد الله بن سنان، قال: (سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن الرجل یرتکب الکبیرة فیموت هل یخرجه ذلک من الاسلام؟ وان عذّب کان عذابه کعذاب المشرکین أم له مدة وانقطاع؟ فقال: من ارتکب کبیرة من الکبائر فزعم انها حلال أخرجه ذلک من الاسلام، وعذّب أشدّ العذاب، وان کان معترفا انه ذنب، ومات علیها أخرجه من الایمان ولم یخرجه من الاسلام، وکان عذابه أهون من العذاب الأول)(2).

ومثلها موثقة مسعدة بن صدقة وفیها: (یخرج من الاسلام إذا زعم انها حلال ... وان کان معترفا بانها کبیرة فإنّه معذب علیها وهو أهون عذابا من الأول ویخرجه من الایمان ولا یخرجه من الاسلام)(3)، والتقریب فیهما ان الموضوع مطلق سواء کان عن علم بالضرورة والاستلزام أم لا فیکون انکار الضروری بنفسه سببا.

واشکل علی الدلالة تارة: بأن العمل بالإطلاق غیر ممکن وإلا لحکم بکفر المجتهدین فیما لو أخطأوا الواقع، وحینئذ فلا بد من التقیید اما

ص:427


1- (1) وسائل، ج1، ابواب العبادات، باب2، ح2.
2- (2) المصدر، ح11.
3- (3) المصدر، ح12.

بالضروری أوبالعلم ولیس الاول أولی من الثانی(1).

وأخری: بأن الکفر فیهما بعد شیوع استعماله فی الدرجات المقابلة للایمان فحمله علی مقابل الاسلام محتاج إلی قرینة مفقودة فی المقام(2).

وثالثة: بأن ذکر العقوبة قرینة علی التنجیز الذی هو فی مورد العلم(3).

وفیه: أن الظاهر من عنوان الکبیرة هی المنصوص علی عقوبتها والمتوعد علیها النار فی القرآن أو السنة والمغلظة النکیر علیها فی بیانات الشرع، فهی مساوقة لضروریات الشرع فی الأعم الأغلب، ولاسیما وأن الزعم للمرتکب واستحلالها بعنوانها لا بمصادیقها وتشقیقاتها التی هی نظریة محط الأنظار الاجتهادیة، وانهما ناصتان علی الخروج عن الاسلام لا علی عنوان الکفر، لاسیما الثانیة التی قابلت بینه وبین الایمان، وأن التنجیز أعم من العلم التفصیلی ومن التقصیر فی الملتفت الشاک فغایة الأمر خروج الجاهل المرکب کما استثناه المشهور.

هذا: وقد ذکر بعض المحققین (قدس سره) تقریبا آخر للاستدلال بهذه الروایات یقرب مضمونه مما تقدم، وهو ان اسناد حرمة الفعل إلی الدین أو الوجوب إلی الشریعة بقول مطلق لا یکون إلا فی البدیهیات والضروریات غیر المختلف فیها، وإلا فالنظریات ذات الاراء المختلفة لا تسند کحکم للشریعة بقول مطلق، بل مع التقیید وعند الامامیة أوعند المذهب الفلانی(4).

ص:428


1- (1) المستمسک، ج، ص219. للسید محسن الحکیم.
2- (2) التنقیح، ج3، ص63، تقریرات ابحاث السید الخوئی.
3- (3) بحوث فی شرح العروة، ج3، ص295 للسید الصدر.
4- (4) کتاب الطهارة، للشیخ الاراکی.

قال: فإطلاق الاسناد فی الطائفة المزبورة دال علی اختصاص موضوع الانکار بالضروری، کما ان مادة الزعم تستعمل فی اظهار الاعتقاد وابرازه لا فی الاعتقاد نفسه، وهی اما منحصر استعمالها فی موارد الجهل بقسمیه أو ما یعمه، کما یقال للذی یتخیل أمرا فیخبر عنه انه قد زعم ذلک الأمر فشموله له یقینی، فحیئذ تدل هذه الروایات علی کفر المنکر للضروری کسبب موضوعی مستقل، انتهی.

وما أفاده متین اجمالا ویأتی له نحو توصیف، ومن ذلک یتضح مطابقة مفادها مقتضی ما تقدم فی روایات الجحود والقاعدة الاولیة غایة الأمر فی خصوص الضروری.

الطائفة الرابعة:

ما ورد فی متفرقات بعض الأبواب فی منکر الاحکام الضروریة: کصحیح برید العجلی عن أبی جعفر فی من أفطر فی شهر رمضان، قال یسأل هل علیک فی إفطارک اثم فان قال: لا، فان علی الامام أن یقتله(1).

وصحیح علی بن جعفر عن أخیه موسی (علیه السلام) قال: (ان الله عز وجل فرض الحج علی أهل الجدة فی کل عام، وذلک قوله عز وجل وَ لِلّهِ عَلَی النّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَیْهِ سَبِیلاً وَ مَنْ کَفَرَ فَإِنَّ اللّهَ غَنِیٌّ عَنِ الْعالَمِینَ .

قال: قلت: فمن لم یحج منّا فقد کفر؟ قال: لا ولکن من قال: لیس هذا هکذا فقد کفر)(2).

ص:429


1- (1) وسائل الشیعة، ابواب احکام شهر رمضان، باب2، ح1.
2- (2) وسائل الشیعة، ابواب وجوب الحج، باب2، ح1.

فانهما اطلقتا موضوع الحکم بالکفر، وهو انکار فریضة الصیام أو الحج، غایة الأمر قد خصص هذا الاطلاق فی الجاهل المرکب کما فی حدیث العهد بالدخول فی الاسلام.

نعم قد یحمل مفادهما علی اماریة انکار الفریضة الضروریة علی الکفر، والوجه فی ذلک ان الاسلام الذی هو مدار الاحکام الظاهریة حیث کان عبارة عن اقرار، کان التلفظ بالانکار اقرار علی النفس بالخروج منه.

قال فی الدروس فی تعریف المرتد: وهو من قطع الاسلام بالاقرار علی نفسه بالخروج منه، أوببعض أنواع الکفر سواء کان مما یقر أهله علیه أولا، أو بانکار ما علم ثبوته من الدین ضرورة، أو باثبات ما علم نفیه کذلک، أو بفعل دال صریحا کالسجود للشمس والصنم والقاء المصحف فی القذر قصدا والقاء النجاسة علی الکعبة أو هدمها واظهار الاستخفاف بها.

وفی ما ذکره من کفر الهتک الحاصل بالفعل تقریب للاماریة حیث ان الفعل لیس بنفسه کفر وانما هو دال علیه، وحینئذ یکون التلفظ بالانکار ممن نشأ فی دار الاسلام وترعرع فی الحاضرة الاسلامیة اقرارا عرفا بالردة والخروج من الاسلام.

حقیقة الشهادتین:
اشارة

هذا ولکن الصحیح سببیة الانکار للکفر علی نسق سببیة الشهادتین للاسلام، حیث ان التشهد بهما اقرار وهو نحو وجود انشائی باللفظ بداعی الحکایة عن الواقع، فالالتزام بالدین منشأ بالتشهد المتضمن

ص:430

للحکایة، فکما ان الاسلام الذی هو مدار الاحکام الظاهریة هو الالتزام بالدین - نحوالالتزام بالعقود - واقرار بالطاعة متضمن للاماریة والاخبار عن المشهود به کما فی بقیة الاقرارات.

ولذلک قال (علیه السلام) فی روایة تحف العقول (وأما معنی الاسلام فهو الاقرار بجمیع الطاعة الظاهر الحکم والاداء له، فاذا اقرّ بجمیع الطاعة فی الظاهر من غیر العقد علیه بالقلوب فقد استحق اسم الاسلام ومعناه واستوجب الولایة الظاهرة)(1).

ولذلک عبّر فی عدّة من الکلمات بأنه بهذا المعنی حقیقة اعتباریة أی انشائیة، وحینئذ لا یکون التلفظ بالشهادتین مجرد اخبار عن الدرجات الاخری للاسلام التی

هی وجودات تکوینیة عبارة عن عقد القلب والتسلیم الباطن والاذعان الجنانی، فکذلک ما یقابله من الکفر الأکبر عبارة عن الاقرار بالخروج منه، وهو نحو من الوجود الانشائی لا انه مجرد اخبار عن الوجود التکوینی للکفر الذی هو التغطیة وستر القلب عن حقیقة الحقائق وخالق المخلوقات وبعثة رسله.

وما تقدم تقریبه عن الشهید أدلّ علی الانشائیة منه علی مجرد الاخبار، وسیأتی فی التنبیه الثانی تقریب اندماج المضمونین فی التشهد بهما، حیث ان بالاقرار ینشأ تعهد المقرّ بما أقرّ به والمفروض انه اقرّ بالخروج وقد کان أقرّ بالدخول وما یترتب علیه من حکم الخروج.

وبذلک یمکن تخریج انکار الضروری انه اقرار مضاد فی المفاد

ص:431


1- (1) بحار الانوار، ج68، ص277.

العرفی، وان وجه أخذ الضروری فی کلام الأصحاب هوانه بذلک القید یتحقق انشاء الاقرار بالخروج بالتلفظ بالانکار عرفا، وبذلک یمکن صیاغة هذا وجها علی حدة والظاهر ارشاد بقیة الوجوه إلی ذلک فمن الغریب الالتزام بسببیة الشهادتین الموضوعیة مع اماریة انکار الضروری(1).

ثمّ انه یتضح بذلک أیضا وجه التفصیل بین القاصر والمقصر فی انکار الضروری بعد استغرابه فی بادئ النظر، حیث أن الشیء المأخوذ جزءا فی حدّ الاسلام لا یفرّق فیه بین القاصر والمقصر والجاهل والعالم کما هو الحال فی الشهادتین.

وجه الوضوح واندفاع الاستغراب هو أن انکار الضروری حیث ان اعتبار عدمه فی الحدّ من جهة منافاته للاقرار بالأصلین، ومن الواضح ان المنافاة تتحقق فی صورة التقصیر خاصة فی مورد الضروریات والدعائم مع أن الدلیل التعبدی من الروایات المتقدمة انما اقتصر فی أخذ عدم الانکار فی الحد علی ذلک خاصة والحد تعبدی.

الطائفة الخامسة:

قوله(علیه السلام) فی معتبرة زرارة (لوأن العباد إذا جهلو وقفوا ولم یجحدوا لم یکفروا)(2)، ویظهر وجه دلالتها مما تقدم- الذی هوفی الجهل البسیط- حیث ان الانکار اللسانی مؤثر فی الکفر الأکبر الاقراری دون الجنانی.

فتحصل ان مفاد هذه الطائفة من الروایات نظیر ما تقدمها، غایة الأمر استثناء الجاهل المرکب والقاصر المعذور بمقتضی روایات المعرفة(3)،

ص:432


1- (1) التزم بذلک السید الکلبایکانی فی تقریر ابحاثه (نجاسة الکفار).
2- (2) وسائل، ج27، ص158، باب12، ح11.
3- (3) الکافی، ج1، ص162-164.

وما ورد فی الحدود من دفعها عن الجاهل(1) ومن لم یکن قد أقرّ بحرمتها مما یدل علی تقریر اسلامه لا خصوص عدم عصیانه وإلا فعدم العصیان قد یتأمل فی ملازمته لعدم الکفر.

تنبیهات القاعدة

الاول: الوفاق بین ادلة الشهادتین وانکار الضروری:

انه لا معارضة بین مطلقات حصول الاسلام بالشهادتین وما دل علی کفر منکر الضروری المقصر الملتفت ولو التفاتة احتمالیة معتد بها، کما تقدم فی مقتضی القاعدة کی یتمحل الجمع بینهما، ولیس الموضوع فیهما متعدد بأن الاولی فی من کان ملیا والثانیة فی الفطری بل موضوعهما واحد، کما أن لیس إنکار امارة علی انکار الاصل الثانی، غایة الأمر أن الالتزام والاقرار بجمیع الاحکام واجب عند قیام العلم التفصیلی بل قد تقدم تقریب ان الالتزام الاجمالی ینجز الاطراف الاحتمالیة فینافیه الانکار.

الثانی: حقیقة درجات الاسلام:

قال الشهید الثانی فی حقائق الایمان بعد ما ذکر أن الاسلام الذی هو مدار الاحکام الظاهریة من الحقائق الاعتباریة للشارع (لوعلم عدم تصدیق من أقر بالشهادتین لم یعتبر ذلک الاقرار شرعا، ولم نحکم باسلام فاعله، لانه حینئذ یکون مستهزئا أو مشککا وانما حکم الشارع باسلامه ظاهرا فی صورة عدم علمنا بموافقة قلبه للسانه بالنسبة الینا تسهیلا ودفعا للحرج عنا حیث لا یعلم السرائر الا هو وأما عنده تعالی فالمسلم من طابق

ص:433


1- (1) الوسائل، ابواب مقدمات الحدود، باب14، ح1، 2، 3، 4، 5.

قلبه لسانه، کما قال تعالی إِنَّ الدِّینَ عِنْدَ اللّهِ الْإِسْلامُ مع أن الدین لا یکون الا مع الاخلاص لقوله تعالی وَ ما أُمِرُوا إِلاّ لِیَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِینَ لَهُ الدِّینَ إلی قوله تعالی وَ ذلِکَ دِینُ الْقَیِّمَةِ فالاسلام لا یکون الا مع الاخلاص أیضا).

ثم ذکر ان الاسلام والایمان لا یجتمع مع ضده الذی هوالکفر، مع أنّ الاقرار اللسانی یجتمع مع الکفر فلا یکون اسلاما حقیقة، ولذلک أحیل إلاخبار بالاسلام علی قول الاعراب دون قوله تعالی، وأمره لهم بالقول ارشادی بأن یخبروا بالاسلام الظاهری.

وربما استدل علی لزوم المطابقة أیضا بقوله صلی الله علیه و آله المروی عند العامة لأسامة لما قتل من تشهد بالشهادتین ظنا منه ان ذلک للتخلص (هلا شققت قلبه)(1).

الدرجة الاولی لکن قد تقدم ان الاسلام ذو درجات کما هو الحال فی الایمان والکفر، وأن أولی مراتب الاسلام هو الوجود الانشائی الحاصل بالاقرار بالشهادتین والطاعة، والوجه فی ذلک ما أشارت الیه الروایات المتقدمة فی حد الاسلام من أن الشهادتین اقرار بالطاعة.

وتفسیره ان الشهادة کما هو محرّر فی بابه متضمنة لامور:

الاول والثانی: الاخبار والانشاء معا فالمشهود به مخبر عنه، والشهادة کفعل یؤدی امر انشائی هذا فی کلیة موارد الشهادة.

الثالث: عند ما یکون المخبر به یترتب علیه آثار یلزم بهما المخبر یکون ذلک الخبر اقرار، والمفروض أن الشهادة والاخبار بوحدانیة الرب، وبالشهادة بالرسالة یلزمه الطاعة فیما جاء به صلّی الله علیه وآله من عند الله

ص:434


1- (1) بحار الانوار، ج66، ص140.

تعالی، فالمتشهد مأخوذ باقراره حیث انه ینشأ به الالتزام.

الرابع: للشهادة والاخبار مفاد ومدلول رابع هوالاخبار عن العلم والاذعان بالمخبر به، إذ الاخبار عن الشیء اخبار عن العلم به أیضا فکیف بالشهادة به، وبلحاظ ذلک المدلول قال تعالی فی شهادة المنافقین وَ اللّهُ یَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِینَ لَکاذِبُونَ (1) فکذبهم فی الاخبار عن الباطن لا ینافی قبول شهادتهم بلحاظ الالتزام الانشائی، ولذا یسمی بالظاهر لانه لیس بوجود حقیقی واقعی.

نعم یشترط فی هذه الدرجة شرائط الانشاء والاقرار الجدی بحسب الأصول اللفظیة الظاهریة، وعدم نقض هذا الالتزام والاقرار باقرار الخروج منه.

الدرجة الثانیة وثانی درجاته التسلیم والانقیاد القلبی والاذعان بمضمون الشهادتین، وهوما یعبر عنه فی الروایات بثبوت صفة الاسلام فی القلب، وهو أول درجات الایمان علی بعض الاطلاقات، وهو الذی تشیر الیه روایة سفیان بن السمط عنه (علیه السلام) (الاسلام هو الظاهر الذی علیه الناس ... فان أقر بها ولم یعرف هذا الأمر کان مسلما وکان ضالا)(2).

وموثقة سماعة عنه(علیه السلام) (الاسلام شهادة ... به حقنت الدماء ... وعلیه ظاهر جماعة الناس، والایمان الهدی وما یثبت فی القلوب من صفة الاسلام، وما ظهر من العمل به ... ان الایمان یشارک الاسلام فی الظاهر والاسلام لا یشارک الایمان فی الباطن وان اجتمعا فی القول والصفة)(3).

ولذلک قال (علیه السلام) فی صحیح أبی بصیر قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ

ص:435


1- (1) سورة المنافقون، الآیة: 1.
2- (2) الکافی، ج2، ص24.
3- (3) المصدر، ص25.

تُؤْمِنُوا وَ لکِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا فمن زعم انهم آمنوا فقد کذب ومن زعم انهم لم یسلموا فقد کذب(1)، ولا یخفی رکاکة توجیه الشهید (قدس سره) لمفاد الآیة ولذلک اضطر إلی تفسیره بالاسلام الظاهری أی الانشائی والالتزامی والاقرار اللسانی دون الوجود الحقیقی.

نعم هذه الدرجة من الاسلام - الاولی - لیس لها إلا حظ دنیوی فی ترتیب بعض الآثار وأمدها مغیی بظهور دولة الحق کما اشار الیه (علیه السلام) (وان الدار الیوم دار تقیة وهی دار الاسلام لا دار کفر ولا دار ایمان(2)، فلا یترتب علیه نفع أخروی کما فی روایات مستفیضة (الاسلام یحقن به الدم وتؤدی به الامانة وتستحل به الفروج والثواب علی الایمان)(3).

ثم ان من لم یتمکن من اظهار الشهادتین إما للخوف أو لعدم وجود سامع أو لغیر ذلک مع تسلیمه وانقیاده قلبا واقامته للفرائض فهو مسلم حقیقة، إما لانصراف عموم الشهادتین للقادر علی ادائهما حیث لا یکلف الله نفسا الا وسعها، أو لشمول تلک العمومات لابراز الشهادتین خفیة مع قصد التوجه بهما إلی الله تعالی سامع الخفیات.

التنبیه الثالث: إنکار الضروریات عن غضب:

انه لا عبرة بالانکار الصادر عن غضب خارج عن الاختیار، وهذا الحدّ موضع وفاق، إلا ان فی فتاوی بعض أکابر العصر انه لا عبرة بالانکار الصادر عن غضب مطلقا(4)، بتوجیه عدم الارادة الجدیة.

ص:436


1- (1) المصدر والصفحة.
2- (2) عیون اخبار الرضا (علیه السلام)، ج2، ص124.
3- (3) الکافی، ج2، ص25.
4- (4) السید الخوئی (قدس سره).

ویمکن تقریبه: بأنه لا یکفی فی الانکار الارادة العمدیة الاختیاریة إذ هی تتلائم مع الارادة الاستعمالیة والتفهیمیة دون الارادة الجدیة کما فی الهازل، فلا بد من الارادة الجدیة أیضا دون الغصبیة أوالهزلیة فهما لا یریدان الانشاء الجدی لترتیب الآثار.

وهو: وان تمّ فی الانکار فلا یتم فی ما یستوجب کفر الهتک من قول أو فعل کالسبّ الذی یرتکبه کثیر من العوام فی بعض الامصار، إلا أن یقال ان الهتک کالسب علی قولین فی ایجابه الکفر، بل یظهر من روایاته المشار الیها فیما تقدم أخذ العناد فی ایجابه للکفر فیکون هو حینئذ انشاء بنفسه للکفر لا انه امارة علیه، لکن بشرط قصد المکابرة فیوخذ فیه شرائطه، نعم یجب حدّ القتل فقط علی القول بعدم ایجابه الارتداد.

التنبیه الرابع: انکار ملازم الضروری:

أن ما ذکر فی انکار الضروری لا یترتب علی انکار شیء یلازم انکار الضروری، وذلک لعدم تأتی الوجوه السابقة فیه سواء الادلة الخاصة للضروری بعنوانه، أولکونه منافیا للاقرار بالاصلین، لکون الضروری رکنا لا ینفک عن الاقرار بالاصل الثانی، کما لا یخفی ذلک وحینئذ لا یکون مستلزما إلا مع العلم الظاهر الموجب لظهوره فی الملازمة.

التنبیه الخامس: انتفاء آثار الایمان بانکار الضروری:

انه بناءً علی قول متأخری الأعصار- من عدم کون الانکار سببا بنفسه للکفر الا بالملازمة، لکنه سبب لعدم الایمان علی کل حال- فلا تترتب الآثار الشرعیة علیه دون مجرد الاسلام، کصحة صرف الزکاة وصحة النیابة فی العبادات ونحوها من الاحکام المأخوذة فیها الایمان.

ص:437

التنبیه السادس: حکم منکر ضروری المذهب:

ذهب المجلسی والقمی الی ردّة منکر ضروری المذهب اذا کان فی السابق من أهل المذهب(1)، وذلک بمقتضی ما ذکر فی وجه ردّة منکر الضروری من الاستلزام، حیث ان من کانت تلک حالته فهویعتقد بکونه من ضروریات الدین.

والصحیح انه علی القول بأن الردة للاستلزام فلا یفرق بین ضروری المذهب والدین وغیر الضروری أیضا عند العالم العامد الملتفت أوعند مطلق الملتفت المقصر حسب ما تقدم، وأما علی القول بالسببیة فالفرق متجه حیث ان الأدلة الخاصة موضوعها انکار ضروری الدین.

وقد یقال: ان انکار ضرورات المذهب لا توجب الردة وإلا لحکم برّدة کثیر من العامة ممن هوملتفت مقصر منذ الصدر الأول إلی الآن، مع أن السیرة الجاریة من المعصومین(علیهم السلام) علی معاملتهم بحکم ظاهر الاسلام، وان لم ینفع ذلک فی الحکم بالاسلام والایمان الحقیقیین، وبعبارة أخری لم لا یکون منکر الولایة التی هی من أهم الارکان کما فی المستفیضة بل المتواتر کمنکر بقیة الضرورات.

وفیه: انه علی الاستلزام عند العلم سواء القول به فی خصوص العالم العامد أو القول به فی مطلق الملتفت المقصر، ینافی الانکار المزبور الالتزام الاجمالی بالرسالة، وحینئذ لا یخلو اما ان یکون تکذیبا للرسول صلی الله علیه و آله واما جحودا للأداء فی المورد وکلاهما ردّة وخروج عن الملة.

وأما حال الکثیر من العامة لاسیما الطبقة الأولی منهم فقد قال

ص:438


1- (1) حق الیقین، ص571.

الشیخ: (ان الناس لم یکونوا بأسرهم دافعین للنص وعاملین بخلافه مع علمهم الضروری به، وانما بادر قوم من الانصار-- لما قبض الرسول صلی الله علیه و آله - إلی طلب الامامة واختلفت کلمة رؤسائهم واتصلت حالهم بجماعة من المهاجرین فقصدوا السقیفة عاملین علی ازالة الأمر من مستحقه والاستبداد به، وکان الداعی لهم إلی ذلک والحامل لهم علیه رغبتهم فی عاجل الریاسة والتمکن من الحل والعقد)(1).

ثم ذکر الدواعی الأخر من الحسد والعداوة ودخلت الشبهة بفعلهم علی بقیة الناس عدا جماعة بقوا علی الحق واستقاموا، علی انه لا استبعاد فی حصول الردة من الامة وقد ارتدت أمة موسی (علیه السلام) بعد مفارقته، وقد اخبر تعالی بانقلابهم علی اعقابهم بعد الرسول صلی الله علیه و آله .

وعلی أیة حال فقد یثار التساؤل حول اسلامهم بعد کون الولایة أیضا من أرکان الاسلام ودعائمه وبنیته کما فی الروایات المستفیضة وحینئذ یشمله الوجه المتقدم فی انکار الضروری.

التنبیه السابع: اختلاف الکافر والمرتد فی الاحکام:

عنوان الکافر تترتب علیه آثار متعددة فی الأبواب من النجاسة وحرمة النکاح والمنع فی الارث واحکام کیفیة الجهاد والقتال وغیرها من الأحکام النظامیة السیاسیة، لکن الظاهر أن الاحکام الثلاثة الأولی ونحوها مترتبة علی مطلق الکفر ولومن منتحلی الاسلام من الفرق.

بخلاف أحکام باب الجهاد والقضاء والحدود عند ارتکاب الموجب من أفرادهم أو عند ارتداد المسلم أو المؤمن الی القول بعقیدتهم کما یشهد

ص:439


1- (1) المفصح فی امامة امیر المومنین والأئمة، ص126.

لذلک سیرة الأمیر(علیه السلام) معهم فی الحرب والسلم، ونحو ذلک فانها فی الکفر الاصلی لا فی منتحلی الاسلام من الفرق وان کانت کافرة، وهذه ثمرة انتحال الاسلام کما عبر به فی بعض الکلمات.

التنبیه الثامن: اختلاف الضروری زمانا ومکانا:

ان الضرورات بحسب تطاول الأزمان فی تکثر واتساع وبعضها فی اندراس والعیاذ باللهتعالی، وذلک بحسب الجهود المبذولة فی نشر معالم الدین وأحکامه، ومثال الأول نفی الحیز والحدّ عنه تعالی فقد کان فی الصدر الأول نظری الا انه فی هذه الازمان أصبح یعدّ من الضروریات، نعم عدّه البعض من ضروریات المذهب دون الدین فلا یکون مما نحن فیه ومثال الثانی ولایة أمیر المؤمنین (علیه السلام) بالنسبة للطبقات المتأخرة من العامة.

وحینئذ یکون الموضوع علی الأول متحققا وان لم یکن کذلک فی الزمن الأول، ولا امتناع فی ذلک بعد عدم کون الحکم مختلفا فیه منذ الصدر الأول إلی حین انتشاره وتحقق ضرورته فلیس هوبنظری، غایة الأمر الانتشار والشیوع للاحکام تدریجی.

وأما المثال الثانی ففیه تأمل لا سیما فیما هومن الارکان لتأتی بعض الوجوه المتقدمة فیه من جهة رکنیته وان فرض طروالشبهة فیه من الضلال، نعم ما کان من غیر الارکان موضع توقف بعد صدق الاسناد المطلق انه من الدین والشریعة من دون تقیید بفرقة ومذهب خاص فیتناوله عموم موضوع روایات الاستحلال.

التنبیه التاسع: حکم الشک فی الضروری:

ان مجرد الشک من دون النفی والانکار لیس یندرج فی موضوع

ص:440

الجحد أو الاستحلال أو المنافاة ما دام لا یعقد البناء علی النفی، بل یکون موطنا نفسه علی تحری الواقع والحقیقة، نعم الاقامة علی الشک بنحو یؤدی فی البناء العملی مؤدی الانکار بذریعة عدم ثبوت ذلک لاسیما مع توفر القدرة علی تحصیل الأدلة أو تدبرها مع وصولها، فانه یعدّ والحال ذلک من الانکار.

التنبیه العاشر: دائرة الضرورة فی المعاد:

أن ما تقدم من کون المعاد مأخوذا فی حدّ الاسلام علی حذو ما عبّر فی الکلمات انه من أصول الدین، وهذا بالنسبة الی أصل المعاد وأما کونه جسمانیا بعین مواصفات وهیئة هذا الجسم فهو من الضروریات فیأخذ حکم بقیة الضرورات الدینیة، لما تظافرت الآیات والروایات فی جسمانیته.

وأما خصوصیات وتفاصیل الجسم من کونه الطف من الجسم الدنیوی أو بنفس الکثافة التی علیها، وکذا الحال فی الجسم البرزخی ونسبته مع الجسم الاخروی فی یوم القیامة ونسبتهما مع الجسم فی الجنة، فهذه لا یشملها دائرة الضرورة کما ذکر غیر واحد من الأعیان کالشیخ الکبیر فی کشفه قال: (والمقدار الواجب بعد معرفة أصل المعاد معرفة الحساب وترتب الثواب والعقاب ولا یجب المعرفة علی التحقیق التی لا یصلها الا صاحب النظر الدقیق کالعلم بأن الابدان هل تکون بذواتها أوانما یعود ما یماثلها بهیئاتها).

ص:441

ص:442

قاعدة تکلیف الکفار بالفروع

اشارة

ص:443

ص:444

من قواعد باب التکلیف تکلیف الکفار بالفروع

اشارة

نسب إلی المشهور المنصور تکلیف الکفار بالفروع(1)، واستدل علی القاعدة بعدة أدلة منها:

الدلیل الأول:

إطلاق الخطابات القرآنیة وإن قیّد بعضها ب-اَلَّذِینَ آمَنُوا أو بکاف الخطاب إلّا أنّ هناک ما یماثلها من الأمر بتلک المتعلّقات بنحو مطلق نظیر الخطاب فی قوله تعالی وَ لِلّهِ عَلَی النّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَیْهِ سَبِیلاً وَ مَنْ کَفَرَ فَإِنَّ اللّهَ غَنِیٌّ عَنِ الْعالَمِینَ (2) المؤکّد عمومه بذیل الآیة عَنِ الْعالَمِینَ.

ص:445


1- (1) بل ادعی علیه الاجماع فی بعض کلمات علمائنا، واما اهل الخلاف فوقع الخلاف بینهم فی تلک المسالة، نعم خالف فی هذه المسالة بعض علمائنا المتأخرین کصاحب الحدائق والشهید قبله حیث توقف بالمسالة ومال صاحب الریاض الی ذلک ایضاً فقال (ظاهر شیخنا الشهید فی المسالک والروضة التوقف فی المسالة ولایخلو عن حجة مع انه احوط بالفتوی بلا شبهة) کما خالف فی المسالة من المتأخرین السید الخوئی فی غیر موضع من کتبه الفقهیة, منها ما فی معتمد العروة، ج1، ص210، المجلد26، من موسوعته الفقهیة.
2- (2) سورة آل عمران، الآیة: 97.

و کذلک قوله تعالی وَ أَذِّنْ فِی النّاسِ بِالْحَجِّ یَأْتُوکَ رِجالاً وَ عَلی کُلِّ ضامِرٍ یَأْتِینَ مِنْ کُلِّ فَجٍّ عَمِیقٍ (1) وهی بنحو القضیة الحقیقیة التی لم یخصّص الخطاب فیها بخصوص الکافر کی یستشکل بمانعیة الغفلة مع أنّه لو تمّ فهو وارد فی العصاة من المسلمین غیر المباین بالدین.

کما یستشهد لعموم التکلیف بالعدید من الآیات الدالّة علی مؤاخذة الکفّار بالفروع کالاصول والتی منها قوله تعالی وَیْلٌ لِلْمُشْرِکِینَ اَلَّذِینَ لا یُؤْتُونَ الزَّکاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ کافِرُونَ (2) وقوله تعالی فَلا صَدَّقَ وَ لا صَلّی (3) وقوله تعالی ما سَلَکَکُمْ فِی سَقَرَ قالُوا لَمْ نَکُ مِنَ الْمُصَلِّینَ وَ لَمْ نَکُ نُطْعِمُ الْمِسْکِینَ وَ کُنّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِینَ وَ کُنّا نُکَذِّبُ بِیَوْمِ الدِّینِ (4) وغیرها(5).

الدلیل الثانی: الروایات:

وهی طوائف:

الطائفة الأولی: الروایات الدالة علی کون التکلیف للعباد بمجموع الأرکان ومن ضمنها الشهادتین.

والتی منها: (روایة سُلَیْمَانَ بْنِ خَالِدٍ قَالَ قُلْتُ لِأَبِی عَبْدِ الله(علیه السلام) أَخْبِرْنِی عَنِ الْفَرَائِضِ الَّتِی فَرَضَ الله عَلَی الْعِبَادِ مَا هِیَ قَالَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ

ص:446


1- (1) سورة الحج، الآیة27.
2- (2) سورة فصلت، الآیة 6-7.
3- (3) سورة القیامة، الآیة: 31.
4- (4) سورة المدثر، الآیة: 42-46.
5- (5) سورة الانفال، الآیة38. سورة التکویر، الآیة:8. سورة الحجر، الآیة: 92-94. سورة آل عمران، الآیة: 85.

إِلَّا الله وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ الله وَإِقَامُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَإِیتَاءُ الزَّکَاةِ وَحِجُّ الْبَیْتِ وَصِیَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ وَالْوَلَایَةُ فَمَنْ أَقَامَهُنَّ وَسَدَّدَ وَقَارَبَ وَاجْتَنَبَ کُلَّ مُسْکِرٍ دَخَلَ الْجَنَّة)(1) وروایة (عَلِیِّ بْنِ أَبِی حَمْزَةَ عَنْ أَبِی بَصِیرٍ قَالَ سَمِعْتُهُ یَسْأَلُ أَبَا عَبْدِ الله(علیه السلام) عَنِ الدِّینِ الَّذِی افْتَرَضَ الله عَزَّ وَ جَلَّ عَلَی الْعِبَادِ مَا لَا یَسَعُهُمْ جَهْلُهُ وَلَا یَقْبَلُ مِنْهُمْ غَیْرَهُ مَا هُوَ فَقَالَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ الله وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِیتَاءُ الزَّکَاةِ وَحِجُّ الْبَیْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَیْهِ سَبِیلًا وَصَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ وَالْوَلَایَة)(2).

الطائفة الثانیة: بما دلّ من حدیث الجبّ (الإسلام یجب ما قبله)(3) المعبر عنها ب-(قاعدة الجب)(4) ممّا یقتضی ثبوت التکالیف علیه فی السابق وإلا فماذا یجب.

الطائفة الثالثة: الروایات الواردة من أنّ الناصب والضالّ لا یعید إعماله السابقة وما قد سمّاه بعض مشایخنا من السادة الجبّ الصغیر مع أنّ ألناصبی کافر واقعا وظاهرا، فهذه الأحادیث الدالّة علی الجبّ بعد استبصاره دالّة بالالتزام علی فعلیّة التکالیف بالفروع، ومن تلک الروایات

ص:447


1- (1) وسائل الشیعة، ج1، ص20، باب من ابواب العبادات، ح17.
2- (2) المصدر، ح12.
3- (3) ورد هذا المضمون فی روایات کثیرة منها ما فی مستدرک الوسائل، ج7، ص448. وبحار الانوار، ج9، ص222، تفسیر القمی، ج2، ص26، عوالی اللآلی، ج2، ص54.
4- (4) للاطلاع علی تفاصیل القاعدة، راجع کتب القواعد الفقهیة والاستدلالیة، منها عناوین الاصول، ج2، عنوان67، القواعد الفقهیة للشیخ اللنکرانی، ج1، ص257، القواعد الفقهیة للسید البجنوردی، ج1، ص64، القواعد الفقهیة للشیخ مکارم الشیرازی، ج2، ص171. وغیرها.

روایة (بُرَیْدِ بْنِ مُعَاوِیَةَ الْعِجْلِیِّ عَنْ أَبِی عَبْدِ الله(علیه السلام) فِی حَدِیثٍ قَالَ کُلُّ عَمَلٍ عَمِلَهُ وَهُوَ فِی حَالِ نَصْبِهِ وَضَلَالَتِهِ ثُمَّ مَنَّ الله عَلَیْهِ وَعَرَّفَهُ الْوَلَایَةَ فَإِنَّهُ یُؤْجَرُ عَلَیْهِ إِلَّا الزَّکَاةَ فَإِنَّهُ یُعِیدُهَا لِأَنَّهُ وَضَعَهَا فِی غَیْرِ مَوَاضِعِهَا لِأَنَّهَا لِأَهْلِ الْوَلَایَةِ وَأَمَّا الصَّلَاةُ وَالْحَجُّ وَالصِّیَامُ فَلَیْسَ عَلَیْهِ قَضَاءٌ)(1).

الطائفة الرابعة: روایات التعلّم التی بعضها بلسان (هلا تعلّمت) والتی منها ِروایة هارون عن ابن زیاد قال (سمعت جعفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ (علیه السلام) وَقَدْ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَی فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَقَالَ إِنَّ الله تَعَالَی یَقُولُ لِلْعَبْدِ یَوْمَ الْقِیَامَةِ أَکُنْتَ عَالِماً فَإِنْ قَالَ نَعَمْ قَالَ لَهُ أَ فَلَا عَمِلْتَ بِمَا عَلِمْتَ وَإِنْ قَالَ کُنْتُ جَاهِلًا قَالَ لَهُ أَفَلَا تَعَلَّمْتَ حَتَّی تَعْمَلَ فَیَخْصِمُهُ وَذَلِکَ الْحُجَّةُ الْبَالِغَة)(2) اذ انها لم تقیّد بالمسلم.

الدلیل الثالث: الاجماع:

ویدلّ علی ذلک أیضا الإجماع المنقول علی أنّ المرتدّ مکلّف بالفروع، مع أنّ القول بأنّ الکفّار مکلّفون بالشهادتین فقط دون الفروع لا محصل له بالتدبّر؛ لأنّ الإلزام بالإقرار برسالة النبیّ صلی الله علیه و آله و بما جاء به صلی الله علیه و آله لیس إلّا إلزاما بکلّ ما جاء به و لا محصّل للتفکیک بین الالزام بالاقرار بما جاء به إجمالا وتفصیلا مع عدم إلزامه بما جاء به.

الروایات المعارضة (النافیة للقاعدة):

وأمّا ما استدلّ بما یعارض ذلک :

ص:448


1- (1) وسائل الشیعة، ج1، ص125، باب31 من ابواب مقدمات العبادات، ح1.
2- (2) بحار الانوار، ج1، ص177.

أوّلا: من الروایات الواردة(1) الدالّة علی أنّ الکافر لا یؤمر بأرکان الفروع إلّا بعد أن یؤمر بالتوحید و الشهادة، الثانیة وأنّه لا یجب علیه الفروع إلّا بعد إیجاب الاصول وامتثاله للاصول.

وثانیا: أنّه کیف یخاطب بها وأنّه لم یسلم؟

وثالثا: بأنّ روایات وجوب التعلّم مقیّدة بالمسلم.

وفیه أنّ غایة تلک الروایات علی الترتّب فی الخطاب بلحاظ الترتّب فی الامتثال لا تقیّد الخطاب بالفروع بمن امتثل خطاب الاصول نظیر ترتّب الخطاب بصلاة العصر علی من امتثل صلاة الظهر أو ترتّب الخطاب بالرکعات المتأخّرة فی الصلاة علی من أتی بالرکعات الاولی والقرینة علی ذلک أنّ العلّة المذکورة فی تلک الروایات من عدم قدرته لعدم معرفته أو من عدم إلزامه بما یتفرّع علی شیء لم یلتزم به انّ الترتّب واقع بین الشهادة الثانیة والاولی أیضا ممّا یدلّل علی أنّ المحظور فی عدم عرضیة الخطاب هو لزوم اللغویة ونحوً من القیود العقلیة للحکم لا الشرعیة.

تنبیه:

هذا ولا بدّ من الالتفات إلی أنّ النزاع فی تکلیف الفروع لا یشمل الأحکام الشرعیة الموازیة للأحکام العقلیة المستقلّة و الظاهر عدم النزاع فی تکلیفه بها.

وما قد یعبّر عنه بأنّه یؤاخذ بأحکام الدین التی هی من أحکام الفطرة.

ولا یبعد أیضا عدم الخلاف فی شمول الأحکام المرتبطة بباب الجنایات ولواحقها وباب المعاملات أیضا، کما أنّ الظاهر لا خلاف فی

ص:449


1- (1) الکافی، ج1، ص180. تفسیر القمی، ج2، ص162. الاحتجاج، ص379.

اختصاص أحکام النکاح ونحوها بالمسلم بعد ورود (لکلّ قوم نکاح)(1).

وبعبارة: أنّ النزاع إنّما هو فی التکالیف الفردیة کالعبادات وأمّا التکالیف الاجتماعیة و السیاسیة فأمّا معلومة الشمول أو معلومة الاختصاص، ولک أن تقول: بأنّ الأحکام الشرعیة الفرعیة المرتبطة بالآخرة هو مورد النزاع، و أمّا الأحکام الشرعیة الفرعیة التی ترتبط بعقد المدینة فلا تردید فیها.

وقفة مع حدیث الاسلام یجب ما قبله:
اشارة

روی هذا الحدیث فی مستدرک الوسائل والعوالی وغیرهما (کما أشرنا). فإن بنی علی تمام السند و لو بالانجبار بعمل القدماء، و قیل إنّه لم یرد فی ألفاظ عبائرهم فإن تمّ وإلّا فالسیرة القطعیة علی عدم مؤاخذة من أسلم بقضاء ما فات من الأعمال حتی فی مثل الزکاة والخمس. نعم بالنسبة إلی الأبواب الاخری من نمط التکالیف غیر الفردیة المرتبطة بالمعاملات بالمعنی الأعمّ ثبوتها محلّ تأمّل سوی الحدود فإنّها أیضا ملحقة بالتکالیف الفردیة فی عدم استتباعه بها. سوی ما استثنی.

نعم الکلام یقع فی أنّ حدود ما هو فی السیرة هو عدم الاستتباع بقضاء الفوائت فقط أم عدم استتباعه بکلّ سبب تکلیف وقع فی حال کفره و لم یبق إلی ما بعد إسلامه نظیر ما ذکرناه من قیامها فی عدم استتباعه بالزکاة والخمس، ولعلّ الأقوی کون السیرة علی الثانی أیضا ولا یتوهّم من شمول ذلک للأحکام الوضعیة؛ إذ هی خارجة عن مقتضی الجبّ کما لا یخفی.

ص:450


1- (1) التهذیب، ج7، ص274، حیث روی ابو بصیر قال سمعت ابا عبد الله (علیه السلام) یقول (نهی رسول الله من ان یقال للاماء یا بنت کذا کذا وقال لکل قومٍ نکاحٌ).

إذ الموضوع فی الأحکام الوضعیة قائم بحاله بالاضافة إلی ما بعد إسلامه، ومن ثمّ یتأمّل فی استقرار الحجّ علیه بعد فرض انتفاء الاستطاعة وإن أشکل بعض المحشین علی العروة من أنّ وجوب الحجّ بعد الاستطاعة هو نظیر ما إذا أسلم فی وقت الفریضة الیومیة، فإنّه یلزم بأدائها إذ لا وقت محدّد للحجّ و إن کان فوریا.

وما أفید متین لو لا الالتفات إلی أنّ استقرار الحجّ بعد فرض انتفاء الاستطاعة إنّما هو فی موارد عدم کون الترک عذریا شرعیا والمفروض أنّه باسلامه یعذر فیما قد ترک. فبانتفاء الاستطاعة ینتفی الوجوب حینئذ، وإن کان حکم استقرار الحجّ لیس حکما آخر قضائیا بل بقاء نفس الحکم لکنّه فی المقام لا بقاء له لما ذکرناه.

اشکال ودفعه:

قد یقال بعدم معقولیة الوجوب علی الکافر ؛ لعدم صحة أعماله .

وأجیب عنه بوجوه:

الأوّل: هو ما ذکرناه من أنّه لا امتناع للتکلیف من ناحیة القدرة و إن سقط عنه بعد إسلامه حیث أنّه نحو من التخفیف لا امتناع الامتثال. هذا إذا کان المراد عدم صحّة التکلیف لعدم القدرة وإنکان المراد من الإشکال لغویة التکلیف فهی مدفوعة بترتّب تسجیل العقوبة علیه فی ما لو لم یسلم. ولکن یتوهّم أنّ الغرض من التکلیف هو البعث و التحریک، و فی المقام ممتنع فإنّه یجاب بأنّ البعث والتحریک اللازم فی التکلیف هو بنحو الإمکان لا بدرجة الفعلیة وإلّا لانتقض فی عصاة المسلمین أیضا.

وکفی تحریکا فی المقام أنّه یدعو إلی امتثال مقدّمات الواجب وهو

ص:451

الاقرار بالإسلام وإن خفّف عنه بالسقوط فیما بعد ذلک.

الثانی: ما ذکره السیّد البروجردی(1) (قدس سره) فی الحاشیة من أنّ قاعدة الجبّ بعد جریانه بلحاظ التکالیف الفائتة فلا یتحقّق موضوع لوجوب قضاء الفوائت.

وبعبارة اخری: أنّ جریان الجبّ بلحاظ أداء التکالیف یتدارک الفوت فلا یجب القضاء. ولا یخفی أنّه مع تمامیة هذا الجواب لا تصل النوبة إلی سائر الأجوبة.

الثالث: ما ذکره السیّد الخوئی (قدس سره) فی المستند من أنّ الامتناع بالاختیار لاینافی الاختیار فإنّه فی ظرف الأداء التکالیف کان قادرا مختارا علی أدائها وامتثالها إلّا أنّه بترک امتثال الأداء أوقع نفسه بالاختیار فی ذلک الامتناع الذی ذکره المستشکل فتصحّ العقوبة علیه.

الرابع: ما ذکره السید الیزدی من کون وجوب القضاء بنحو الواجب التعلیقی أو المشروط بشرط متأخّر أی أن یؤخذ الفوت إمّا قیدا فی الواجب المعلّق أو شرط الوجوب شرطا متأخّرا وهو مع أنّه خلاف الظاهر من أدلّة القضاء من أنّ کون الوجوب بنحو الشرط المقارن لا یدفع الإشکال ما لم یرجع إلی الجواب الثالث.

ص:452


1- (1) العروة الوثقی مع تعلیقات الفقهاء، ج4، ص446، ط جماعة المدرسین.

قاعدة التبعیة

ص:453

ص:454

من القواعد العامة الجاریة فی المعاملات بالمعنی الأعم التبعیة

دعوی الاجماع علی القاعدة:

ادعی الاجماع علی نجاسة ولد الکافر بالتبع(1) فی کتاب الطهارة (بحث تبعیة ولد الکافر لابیه فی النجاسة) وفی کتاب الجهاد وفی کتاب المواریث، فلا ینافیه عدم وجود المسألة فی کتاب الطهارة فی عدة من کتب المتقدمین، نعم عن العلامة فی النهایة(2) التعبیر بالأقرب المحتمل لوجود خلاف(3)، لکن قد تأمّل غیر واحد من متأخری الأعصار(4) فی اطلاق معقد الاجماع علی التبعیة بنحو یشمل المقام.

الأقوال فی المسألة:

وعلی أیة حال القدر المتفق علیه بین القائلین بالحکم هو فی الجملة،

ص:455


1- (1) قال فی معالم الدین (قسم الفقه)، ج2، ص539، (ظاهر کلام جماعة من الأصحاب ان ولد الکافرین یتبعهما فی النجاسة الذاتیة بغیر خلاف ...).
2- (2) نهایة الاحکام، ج1، ص274.
3- (3) نعم عبّر فی التذکرة، ج1، ص68 (أولاد الکافر حکمهم حکم آبائهم )بدون الاشارة الی وجود خلاف او تردد.
4- (4) کما یظهر من کلام السید الصدر فی بحوث العروة، ج3، ص376.

إذ هناک اختلاف فی صور.

قال فی ارث الجواهر(1) (ولا فرق فی ذلک وغیره بین الممیز وغیره والمراهق وغیره لعموم أدلة التبعیة من الاجماع وغیره، فولد الکافر کافر نجس تجری علیه أحکام الکفار وان وصف الاسلام واستدل علیه بالأدلة القاطعة وعمل بأحکامه، وولد المسلم تجری علیه أحکام المسلمین وان اظهر البراءة من الاسلام واستدل علی الکفر وشیّد أرکانه، ودعوی بعض الأجلاء ان ذلک مناف لقاعدة الحسن والقبح کما تری).

قال: (نعم عن الشیخ قول بصحة اسلام المراهق، بل عنه یحکم باسلامه اذا بلغ عشرا، بل قیل: انه قطع کالعلامة فی التحریر بأنه اذا وصف الاسلام حیل بینه وبین متبوعه، لکن ذلک کله مناف لما هوکالضروری من الدین من کون الصبی قبل البلوغ مرفوع القلم عنه، لا عبرة بقوله فی اسلام وکفر وعقد وایقاع ولیس اسلامه وکفره الا تبعیا کما لا یخفی علی من له أدنی خبرة بکلام الأصحاب فی جمیع المقامات) انتهی کلامه رفع مقامه.

وقد ذهب جملة من متأخری العصر منهم صاحب العروة(2) الی تحقق الاسلام والکفر من الممیز الصبی، وفصل بعض آخر بین تحقق الاسلام وعدم تحقق الکفر کما یأتی.

وهل الحکم بالتبعیة فی مطلق الکافر کالناصبی والخارجی وغیرهم

ص:456


1- (1) جواهر الکلام، ج39، ص24.
2- (2) العروة الوثقی، کتاب الطهارة، الثامن من الاعیان النجسة (الکافر)، فقال (وولد الکافر یتبعه فی النجاسه الا اذا اسلم بعد البلوغ او قبله مع فرض کونه عاقلاً ممیزاً وکان اسلامه عن بصیره علی الاقوی).

من الفرق المنتحلة للاسلام أو یقتصر علی المشرک والکتابی ونحوهما، أو یفصل بین ما اذا کان الکافر المنتحل وولده فی دار الاسلام التی یقطنها المسلمون، وبین ما اذا کان فی دار لا یقطنها إلا الفرقة المنتحلة بناء علی کون التبعیة غیر ناشئة عن التولد بل عن حکم المحیط والوسط المصاحب، نعم بناء علی هذا المعنی فی التبعیة فلا یحکم علی الولد بتبع والدیه إلا اذا کان مصاحبا لهما أوفی دار ملتهما دون ما اذا انفصل عنهما أوی عن دارهما.

أدلة القاعدة:

ویستدل علی التبعیة بأمور:

الاول: خبر حفص بن غیاث - بل معتبرته علی الاصح - قال: (سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن الرجل من أهل الحرب اذا أسلم فی دار الحرب فظهر علیهم المسلمون بعد ذلک؟ فقال: اسلامه اسلام لنفسه ولولده الصغار وهم أحرار، وولده ومتاعه ورقیقه له، فأما الولد الکبار فهم فیء للمسلمین الا أن یکونوا اسلموا قبل ذلک ... الحدیث)(1).

بتقریب ان التبعیة کما هی مدلول علیها فی المنطوق- وهی فی الاسلام کذلک- قد دلل علیها فی المفهوم بمقتضی تعلیق الحکم باسلام الصغار علی اسلام الاب، ویعضد ذلک المفهوم تفصیل الروایة بین عدم استرقاق الصغار معلقا علی اسلام الاب واسترقاق الولد الکبار، حیث فیه دلالة علی صحة استرقاقهم بکفر الاب أی الحکم بکفرهم.

کما أن تفریع حریتهم علی اسلامهم التبعی دال علی التبعیة بالذات وان عدم استرقاقهم أثر لها، وکذا فی العکس وهکذا حرمة أموالهم

ص:457


1- (1) وسائل الشیعة، ج15، ص117، باب43 من ابواب الجهاد، ح1.

وعدمها، ومنه یستفاد بقیة الآثار بعد وضوح ترتب بقیة الآثار من جواز النکاح والارث ونحوهما علی تحقق الموضوع تبعا وعدمها علی تحقق الموضوع المقابل تبعا.

التبعیة حکم لا تنزیل:

التبعیة حکم لا تنزیل فلا یصغی الی التأمل فی عموم التنزیل بعد ما تقدم مفصلا فی مبحث المیتة(1)، من الفرق بین التنزیل اللفظی الدلالی وبین الحکومة فی الجعل والحکم بتحقق الموضوع، من أن الاول شأن فی الدلالة فیکون تارة تشبیها بلحاظ بعض الآثار وأخری بلحاظ اکثرها، وهذا بخلاف الحکومة والحکم بالموضوع فانه تحقق للموضوع فی عالم الجعل فتترتب جمیع آثاره، ویظهر ذلک بوضوح فی ما کان الموضوع حکما وضعیا کالملکیة والزوجیة ونحوها.

وما نحن فیه وهو الاقرار بالاسلام أو الکفر قد تقدم انه عنوان وضعی انشائی هو أول درجات الموضوعات وان کان لهما درجات أخری تکوینیة حقیقیة.

ونظیر هذه الروایة خبر زید بن علی عن آبائه عن علی(علیه السلام) قال: (إذا أسلم الأب جرّ الولد الی الاسلام، فمن أدرک من ولده دعی الی الاسلام، فان أبی قتل، فإذا أسلم الولد لم یجرّ أبویه، ولم یکن بینهما میراث)(2)، والتقریب ما تقدم وفیها تصریح بأثر آخر وهوالارث وعدمه والتعبیر عن التبعیة بالجرّ الصریح فی اعتبار الموضوع.

ص:458


1- (1) سند العروة الوثقی (للشیخ الأستاذ محمد السند)، ج2، ص493.
2- (2) وسائل الشیعة، ج23، ص107، باب70 من البواب العتق، ح1.

الثانی: بما ورد فی إجزاء عتق الطفل فی الکفارات(1) غیر کفارة القتل الدال علی التبعیة فی کلا الحالتین بالمنطوق والمفهوم، مثل صحیحة معاویة بن وهب قال سألت أبا عبد الله(علیه السلام) - فی حدیث فی الظهار - قال (والرقبة یجزی عنه صبی ممن ولد فی الاسلام) الظاهر فی ترتیب آثار الموضوع الذی هو اجزاء العتق بتبع التولد، والمفهوم منه عدم ترتب الاثر بتبع انتفائه ومع ضمیمة انتفاء الواسطة بینه وبین مقابله یستشعر تحقق الموضوع المقابل تبعا.

الثالث: وبنفس التقریب تدل صحیحة عبید بن زرارة عن أبی عبد الله(علیه السلام) فی الصبی یختار الشرک وهو بین أبویه قال: (لا یترک وذاک إذا کان أحد أبویه نصرانیا)(2)، وموثق أبان بن عثمان عن بعض أصحابه عن أبی عبد الله(علیه السلام) فی الصبی اذا شبّ فاختار النصرانیة وأحد أبویه نصرانی أو مسلمین قال: (لا یترک، ولکن یضرب علی الاسلام)(3).

حیث ان مفادهما المطابقی وان کان فی تبعیة الولد لأشرف الابوین فی الملة الا انهما تدلان أیضا بالمفهوم ونحوه علی التبعیة أیضا فی حالة عدم اختلاف ملة الأبوین فی النصرانیة ونحوها.

الرابع: وکذا صحیح هشام بن سالم عن عبد الملک بن أعین و(أو) مالک بن أعین جمیعا عن أبی جعفر(علیه السلام) قال: (سألته عن نصرانی مات وله ابن أخ مسلم، وابن أخت مسلم وله أولاد وزوجة نصاری، فقال: أری ان یعطی ابن أخیه المسلم ثلثی ما ترکه ویعطی ابن أخته المسلم ثلث ما ترک ان

ص:459


1- (1) وسائل، ج22، ص360، باب7 من ابواب الکفارات، ح3.
2- (2) وسائل ، ج28، ص326، باب2 من ابواب حد المرتد، ح1.
3- (3) المصدر، ح2.

لم یکن له ولد صغار، فان کان له ولد صغار فان علی الوارثین أن ینفقا علی الصغار مما ورثا عن أبیهم حتی یدرکوا، ... قیل له: فإن أسلم أولاده وهم صغار؟ فقال:

یدفع ما ترک أبوهم الی لامام حتی یدرکوا، فان أتموا علی الاسلام اذا أدرکوا دفع الامام میراثه الیهم وان لم یتموا علی الاسلام اذا أدرکوا دفع الامام میراثه الی ابن أخیه وابن أخته المسلمین ... الحدیث)(1).

حیث قد عمل بمضمونه جماعة کثیرة لاسیما المتقدمون، وبحکم تقابل الصورتین المفروضتین یظهر أن عدم إرثهم مع الوارث المسلم من الطبقة الثانیة فی الصورة الاولی للحکم علیهم بالکفر تبعا للأب المیت بخلاف الصورة الثانیة حیث أظهروا الاسلام.

الخامس: بما ورد فی حدّ المرتد من أن المولود علی غیر الملة الحنیفیة مرتد ملیّ یستتاب بخلاف المولود علی الفطرة(2)، مثل مرفوعة عثمان بن عیسی قال: (کتب عامل أمیر المؤمنین (علیه السلام) إلیه: انی أصبت قوما من المسلمین زنادقة، وقوما من النصاری زنادقة، فکتب الیه: أما من کان من المسلمین ولد علی الفطرة ثم تزندق، فاضرب عنقه، ولا تستتبه، ومن لم یولد منهم علی الفطرة فاستتبه، فان تاب، وإلا فاضرب عنقه ... الحدیث)(3).

حیث ان التقسیم فی الموضوع ناظر الی تبعیة المولود للأبوین فی الملة، ولذلک کان الاعتبار فی هذا التقسیم فی ذلک الباب بلحاظ ملة الابوین

ص:460


1- (1) وسائل، ج26، ص18، باب2 من ابواب موانع الارث، ح1.
2- (2) وسائل الشیعة، ج28، باب3 من ابواب المرتد، ح3.
3- (3) وسائل، ج28، ص333، باب5 من ابواب المرتد، ح5.

حین انعقاد النطفة أو الولادة لا بلحاظ ملة الولد نفسه حین بلوغه، فلوکان قبل بلوغه علی الاسلام حتی بلغ وارتد مع فرض انه ولد علی غیر الفطرة فهو مرتد ملی، أی ان حکمه وهو طفل بتبع ابویه علی غیر الفطرة، وقد تقدم ان اعتبار الموضوع ههنا لیس من باب التنزیل بل من باب الحکم والاعتبار للعنوان الوضعی.

وهذه الروایات معاضدة لما استظهره جماعة فی کتاب الجهاد من استفادة التبعیة مطلقا للابوین من الحدیث النبوی (ما من مولود یولد الا علی الفطرة فأبواه اللذان یهودانه وینصرانه ویمجسانه)(1)، بمعنی ان فطرته المخلوق علیها تهدیه اقتضاءً الی دین الفطرة الحنیفیة، الا انه بکفر الابوین یحکم علیه تبعا بالکفر وان استشهد بالحدیث المزبور فی الروایات الاخری لمعنی آخر وهو التسبیب الحقیقی للتهوید والتنصیر لا الاعتباری، ولا منافاة إذ لعله بیان لحکمة الاعتبار والحکم فی المعنی الأول لا انه یراد منه المعنی الثانی فتدبر.

ضعف الادلة الاخری وأما الاستدلال علیها بما ورد من الحاق أولاد الکفار بآبائهم واولاد المؤمنین بآبائهم وان اولاد الکفار کفار یلحقون بآبائهم کما فی صحیح عبد الله بن سنان(2)، فمضافا الی کونها فی صدد بیان الاحکام الاخرویة ان - کما قال المجلسی (قدس سره)(3) - الاظهر حملها علی التقیة لموافقتها لروایات المخالفین واقوال اکثرهم، ثم ذکر جملة من أقوالهم وروایاتهم ثم قال (فظهر ان تلک الروایات موافقة لما رواه

ص:461


1- (1) الوسائل، ابواب الجهاد باب 48، ح3.
2- (2) الفقیه، ج3، ص317.
3- (3) بحار الانوار، ج5، ص295.

المخالفون فی طرقهم وقد أوّلها أئمتنا (علیه السلام) بما مرّ فی الاخبار السابقة)، ویعضد ما ذکره (قدس سره) ان جملة منها لا یوافق ظاهرها مذهب العدل، نعم لواغمض النظر عن ذلک لکان فیها اشعار وایماء بالتبعیة، وکذا حال الاستدلال بقوله تعالی وَ لا یَلِدُوا إِلاّ فاجِراً کَفّاراً (1).

وکذا الاستدلال بانه متولد من نجسین کالمتولد من الکلب والخنزیر، حیث انه مع الفارق فان النجاسة فی المقام بلحاظ الوصف وفی المثال ذاتی، مع انه قد اشترط فیه ایضا صدق العنوان، ولکن بتقریب قد تقدم أو الاستدلال بصدق الکفر لکونه السلب المطلق للاسلام، اذ من الواضح تقوّم الوصفین بالادراک والتمییز، وکذا الاستدلال بالاستصحاب بتقریبات ضعیفة لتبدل الموضوع.

ثم ان الاظهر ان التبعیة فی الأدلة المتقدمة هی التولّدیة أی الناشئة من الولادة لا التربویة الناشئة من المحیط المصاحب المعاش.

هذا وقد یشکک فی عموم نجاسة الکافر بمقدار یشمل المقام وان سلمت التبعیة المتقدمة فی الموضوع الا انه لا عموم فی دلیل المحمول، لکن قد تقدم العموم فی الآیات والروایات، ومن ثم کان الحکم بتحقق الموضوع والذی هو من الاحکام الوضعیة کما تقدم ایجاد لفرد من موضوع العموم، اذ لیست التبعیة کما اتضح من باب التنزیل بل الحکم بالموضوع.

هل یعتد باسلام الممیز؟

ادعی صاحب الجواهر الاتفاق أو الشهرة علی عدم الاعتداد باسلام الممیز الصبی لو کان أبواه کافرین، ولا بکفره لو کان أبواه مسلمین أو

ص:462


1- (1) سورة نوح، الآیة: 27.

أحدهما کذلک، لکنه حکی عن الشیخ قول بصحة اسلام المراهق والمحکی انه عن الخلاف، وکذا العلامة فی التحریر وحکم بلزوم الحیلولة بینه وبین متبوعه، وفی الشرائع تردد فی قبوله فی کتاب الکفارات وذهب جماعة الی ان اسلامه مجازی غیر حقیقی لا یعتد به حتی یبلغ، أی انه مراعی بالبلوغ کما هو مفاد الروایة المتقدمة فی ارث صبیة النصرانی اللذین اظهروا الاسلام مع وجود الوارث المسلم.

وذهب جملة متأخری العصر الی صحة الاسلام من الممیز، وکذا تحقق الکفر منه مستقلا عن متبوعه استنادا الی عموم الادلة، وذهب بعض الی التفصیل بین تحقق الاسلام والی عدم الاعتبار بکفره مستقلا عن متبوعه استنادا الی رفع القلم عنه أوالی ان عمد الصبی خطأ.

اعتناق الممیز قاطع للتبعیة:

وتحقیق الحال ان الاسلام والایمان کما مرّ علی مراتب أولها المرتبة الانشائیة التی تتحقق بالاقرار اللسانی الانشائی، ومن ثمّ المراتب الأخری القلبیة والعملیة التی نحو وجودها حقیقی تکوینی، فالحال فی المرتبة الأولی هو الحال فی مطلق انشائیات الصبی من معاملاته وإیقاعاته.

أدلة بقاء التبعیة:

الدلیل الاول: ذهب المشهور الی سلب عبارته استنادا الی عموم عمد الصبی خطأ، بتقریب ان مفاده سلب الارادة العمدیة عن افعاله فلا یتکون لدیه قصد الی الافعال یعتد به، ذهبوا فی ظاهر عبائرهم فی المقام وکتاب الجهاد والارث الی عدم الاعتداد باقراره بالشهادتین.

الدلیل الثانی: ما ذهب الیه الکثیر منهم من عدم توجه قلم التکلیف

ص:463

علیه، فهو غیر مخاطب بالاقرار المزبور، لکن حیث کان المحرر فی محله عدم سلب عبارته فی الانشائیات وان کان غیر مستقل فی التصرف وأما عمد الصبی خطأ.

ففیه:

أولا: انه فی باب القصاص والافعال التی هی من الجنایات لا فی عموم لابواب.

ثانیا: ان الخطأ فی باب القصاص والدیات لیس بمعنی سلب الارادة والقصد، بل الخطأ المزبور یعمّ موارد الاشتباه فی التطبیق والمصداق والذی هویلائم عدم استقلالیته فی التصرف لا عدم القصد منه فی افعاله، وکذا الحال فی رفع القلم حیث انه رفع قلم المؤاخذة بقرینة اردافه مع النائم والمجنون ذی الدرجة القابل معه الخطاب، والا فذوالجنون غیر القابل للتکلیف عقلا لا رفع شرعی فی حقه والا فالتکلیف من جهة الموضوع فیهما فعلی إلا ان المؤاخذة والتنجیز مرفوعان، وکذا قرینیة الامتنان فانه فی رفع المؤاخذة خاصة دون التشریع الذی هو لطف، وغیر ذلک من القرائن، کان الصحیح هو صحة اقراره الانشائی بالشهادتین.

هذا: ولوسلم أن عمده خطأ بقول مطلق فیرد علیه ثالثا: ان فی الموارد التی یترتب علی العمد آثار الزامیة یؤاخذ بها کالجنایة والمعاملات وغیرها، لا فی مثل قبول الهدیة والحیازة للمباحات والتشرف باعتناق الملة الحنیفیة البیضاء ونحوها من الموارد التی یکون الاثر للعمد فی نفع ومصلحة الصبی، نعم بناءً علی العموم المزبور لا یعتد بکفر ولد المسلم.

محتملات قاعدة عمد الصبی خطأ:

ان فی قاعدة عمد الصبی خطأ أربع محتملات هی:

ص:464

الأول: قول المشهور من ان ارادة الصبی العمدیة هی کلا ارادة وکإرادة البهائم حتی فی الممیز، ومن ثم بنوا علی سلب عبارته.

الثانی: تخصیص التنزیل المتقدم فی القول السابق بموارد التی یترتب ضرر أو إلزام علی الصبی أی یکون التنزیل امتنانیا ولا یشمل الموارد التی فیها نفع الصبی.

الثالث: تخصیص التنزیل بباب القصاص الذی هو مورد تطبیق القاعدة فی الروایات ویشهد له ان الالحاق الموضوعی فیه لیس من باب الجعل فی الموضوع کی یکون الحاقا قانونیا عاما، بل هو الحاقا تنزیلیا دلالیا یقتصر علی القدر المتیقن، والقرینة علی ذلک ان الموضوع تکوینی لا یدور وجوده مدار الاعتبار.

الرابع: تعمیم القاعدة غایة الأمر بمعنی نقصان الارادة العمدیة للصبی لا إلغائها بالمرة بقرینة ان فی الخطأ الارادة غیر ملغاة وانما هی غیر تامة، أی لیس کل مقدماتها عمدیة ملتفت الیها کما هو الحال فی القتل الخطأ فی باب القصاص الذی نزل عمد الصبی خطأ فیه، وعلی ذلک لا تکون ارادته مسلوبة ولا عبارته کذلک، وانما هی ناقصة غیر مستقلة فیوافق مفاد بقیة الادلة الواردة فی حکم الصبی.

وقد عرفت ان الاقوی هو الوجه الثالث ثم الرابع ثم الثانی.

وعلی ما تقدم یتضح ان الکفر الانشائی أیضا یتحقق فی الفرض الآخر، الا انه لا یترتب حدّ الارتداد وان عزّر کما فی السرقة.

الدلیل الثالث: التأمّل فی عموم سبیة الاقرار بالشهادتین لتحقق الاسلام، فی شموله للمقام.

وهو: فی غیر محلّه بعد عموم مثل قوله (علیه السلام) (الاسلام شهادة أن لا

ص:465

إله إلا الله والتصدیق برسول الله صلی الله علیه و آله ، وقوله (الاسلام اقرار بلا عمل) وغیرهما، وهی وان کانت فی صدد تحدید الماهیة لا الموجب الا انه بعد کونه امرا انشائیا کانت شرائط الانشاء موکولة الی البناء العقلائی الجاری فی بابه.

الدلیل الرابع: ان الاقرار إلتزام تترتب علیه إلزامات کما فی بقیة الاقرارات وهی غیر متصورة فی غیر البالغ.

قلت: لا ضیر فی ذلک بناء علی الاصح فی حدیث رفع القلم حیث انه رفع المؤاخذة لا للتشریع والتنظیر ببقیة الاقرارات مع الفارق لکونه تصرفا من التصرفات المالیة ونحوها وهوغیر مستقل فی تلک التصرفات، کما لا ضیر لوبنی علی عموم عمده خطأ، حیث ان قسما آخر من آثار الاقرار بالشهادتین فی نفع الصبی من الارث وصحة النکاح وغیرهما.

وأما القسم الذی هومن قبیل الالزامات کالاحکام والتکالیف فعلی القول بان الکفار مکلفون بالفروع کالاصول، فتلک الآثار غیر مترتبة علی الاقرار المزبور، وأما علی القول بعدم تکلیفهم بالفروع وان الالزام بها مترتب علی الاسلام والاقرار فأیضا مثل هذا الالزام الذی هومن حق الله لا من حق الناس، هولطف ومنّة فی ترتبه لا فی ارتفاعه.

نعم تلک الإلزامات التی من القبیل الثانی کما فی باب المعاملات والایقاعات وباب الاحکام فی الفقه فالمنة فی اعتبار فعله العمدی کالفعل الصادر خطأ، هذا بناء علی عموم عمده خطأ للابواب مع تفسیره بسلب القصد والارادة، والا فقد عرفت انه لوبنی علی التعمیم فالصحیح حینئذ فی مفاده عدم الاعتداد بارادته المستقلة فی الفعل بل قدرته ناقصة تحتاج الی ضمیمة ارادة الولی.

ص:466

هذا کله مقتضی القاعدة فی المرتبة الأولی منهما وهی الانشائیة، وأما المراتب الاخری وهی القلبیة والعملیة التکوینیة فواضح انها مرهونة بالادراک والتمییز والعقل التی قد تسبق البلوغ کثیرا ما وقد تتأخر عنه، ومن ذلک یتضح صحة القول بتحقق المرتبة الأولی بعد کون الحکمة فیها الکشف عن المرتبة الواقعیة، فمع تحقق المنکشف لا محالة یکون الکاشف قابلا للتحقق أیضا.

الدلیل الخامس: ما قد یستظهر من بعض الروایات ان اسلام الصبی مراعی بحاله عند البلوغ وکذا کفره، کما فی صحیح هشام بن سالم المتقدم عن عبد الملک بن أعین ومالک بن أعین جمیعا، حیث فیه (فان اسلم أولاده - أی أولاد المیت النصرانی مع وجود وارث مسلم من الطبقة الثانیة - وهم صغار؟ فقال: یدفع ما ترک أبوهم الی الامام حتی یدرکوا فان أتموا علی الاسلام اذا أدرکوا دفع الامام میراثه الیهم، وان لم یتموا علی الاسلام اذا أدرکوا دفع الامام میراثه الی ابن أخیه وابن أخته المسلمین ... الحدیث)(1).

وکذا روایة زید بن علی المتقدمة (اذا اسلم الاب جرّ الولد الی الاسلام فمن أدرک من ولده دعی الی الاسلام فان أبی قتل)، حیث یظهر منها ان الاعتداد باسلامهم اذا ادرکوا وهو البلوغ بقرینة القتل عند الإبآء مضافا الی انه منصرف عنوان الادراک فی الروایات.

وکذا روایة الفضل بن المبارک عن أبیه عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال: (قلت له: جعلت فداک، الرجل یجب علیه عتق رقبة مؤمنة فلا یجدها کیف یصنع؟ قال: فقال: علیکم بالأطفال فاعتقوهم، فان خرجت مؤمنة فذاک،

ص:467


1- (1) الوسائل، باب2، من ابواب موانع الارث، ح1.

والا لم یکن علیکم شیء)(1)، بتقریب مراعاة خروجها عند البلوغ مؤمنة کما هو منصرف التعلیق المتأخر عن الطفولة.

وموثق أبان بن عثمان المتقدم عن بعض أصحابه عن أبی عبد الله(علیه السلام) فی الصبی اذا شبّ فاختار النصرانیة وأحد أبویه نصرانی أو مسلمین قال: (لا یترک ولکن یضرب علی الاسلام)(2)، ومثله صحیح عبید بن زرارة(3) المتقدم أیضا.

لکن: غایة ما یمکن دعواه من مثل هذه الروایات هو مراعاة بعض الاحکام کالارث واجزاء العتق باستمراره وبقائه علی الاسلام الی حین البلوغ، لا عدم تحقق الاسلام منهم بل ان التعبیر فیها ب--(أتموا) شاهد علی تحققه منهم وهم صغار، وکذا الأمر باعطاء الترکة الی الحاکم وعدم توریث الطبقة المتأخرة المسلمة دال علی الاعتداد به والا فلو اسلموا بعد البلوغ فانهم لا یورّثوا.

وأما عدم ترتب احکام الکفر أو الارتداد فلا یدل علی عدم تحققه، غایة الامر مقتضی رفع القلم أو عمده خطأ هو رفع آثار المؤاخذة والارتداد، بل ان التعزیر شاهد علی تحقق الکفر منه، والا فلو کان مسلوب العبارة فلا وجه له.

ثم: انه ربما یقال مع کل ما تقدم ان موضوع الحکم بالنجاسة هو التولد من الکافر فی الصبی لا الکفر کی ینتفی باسلام الصبی، وحینئذ یبقی حکم النجاسة ولا أقل من الشک فیستصحب بعد بقاء الموضوع

ص:468


1- (1) الوسائل، باب70، من ابواب العتق، ح2.
2- (2) الوسائل، باب2، من ابواب حد المرتد، ح1.
3- (3) المصدر، ح2.

عرفا.

وفیه: ان التبعیة للولادة انما هی فی الموارد التی لا استقلال للتابع فیها عن المتبوع والا فتنتفی، والتولد منشأ للتبعیة فی ذلک المورد لا مطلقا وان امتنعت التبعیة.

وبعبارة أخری: ان التبعیة موضوع ملحق بموضوع النجاسة أو الطهارة الأصلی وهو الکفر أو الاسلام، فاذا تحقق ما هو أصل فلا مجال للالحاق، هذا مضافا الی دلالة الروایات الخاصة المتقدمة الدالة علی اختلاف حکم المیت النصرانی عن صبیته الذین اظهروا الاسلام فی الحکم بتوریثهم غایة الأمر المراعی ببقائهم علیه حتی البلوغ.

لا فرق بین ابن الحلال وابن الزنا فی التبعیة:

کما صرح به جماعة من متأخری المتأخرین(1)، واستشکله آخرون منهم موضوعا لکون التبعیة فی الحکم ناشئة من التولد والفرض عدم الاعتداد به شرعا، ومحمولا لکون مدرک الحکم فی ولد الکافر هو الاجماع وهولا یعلم بشموله للمقام، ومن ثمّ لا یتمسک للتعمیم له بالاولویة لخباثة المولد، اذ الخباثة المزبورة تغایر الخباثة الذاتیة الناشئة من التولد، والفرض انه محکوم بالعدم، أی أن الخباثة الأولی معدمة لمقتضی الخباثة الثانیة.

والصحیح ما فی المتن، فأما الاشکال فی الموضوع فمن المناسب البحث فیما ادعی علیه الاجماع والتسالم من قطع النسب فی ولد الزنا، اذ الکلام آت کذلک فی ولد الزنا من المسلم .

ص:469


1- (1) کما فی العروة الوثقی، للسید الیزدی واکثر المحشین والمعلقین علیها.

ولتحقیق الحال نورد الیک عزیزی القارئ (رسالة فی نسب ابن الزنا وترتب أحکام الولد علیه)(1) هل أحکام الولد تترتب علی ولد الزنا مطلقا، أم انها منتفیة مطلقا، أو یقال بالتفصیل؟

لم یذهب الی الأول قائل، وکذا الثانی، وأما التفصیل فاختلفت کلماتهم فی مقداره، فمن قائل انه لم یتحقق النسب مطلقا، وان انتفاءه حقیقة شرعیة کثبوته فی المتولد من الحلال، وآخر الی انه معنی عرفی غایة الأمر ان الشارع نفی الارث عنه بلسان نفی الموضوع، وإلا فبقیة الاحکام تترتب علی العنوان العرفی، وثالث غیر ذلک کما یأتی بسطه.

کلمات الاصحاب فی المقام:

وفی البدء نستعرض کلمات الاصحاب فی الابواب المختلفة:

قال فی الشرائع(2) فی باب اسباب التحریم من النسب: (النسب یثبت مع النکاح الصحیح ومع الشبهة ولا یثبت مع الزنا، فلو زنی فانخلق من مائه ولد علی الجزم لم ینسب الیه شرعا، وهل یحرم علی الزانی والزانیة الوجه انه یحرم لانه مخلوق من مائه فهو یسمی ولدا لغة).

وقال فی القواعد(3): (والنسب یثبت شرعا بالنکاح الصحیح والشبهة دون الزنا، لکن التحریم یتبع اللغة فلو ولد له من الزنا بنت حرمت علیه وعلی الولد وطی أمه وان کان منفیا عنهما شرعا، وفی تحریم النظر اشکال

ص:470


1- (1) هذه الرسالة کتبها سماحة الشیخ الاستاذ قبل اکثر من عشرین سنة جواباً علی استفتاء رفعه الیه بعض المشایخ، ونحن اتماماً للفائدة ولتحقیق الموضوع الحقناها بالقاعدة.
2- (2) شرائع الاسلام، ج2، ص225.
3- (3) قواعد الاحکام فی معرفة الحلال والحرام، ج3، ص20.

وکذا فی العتق والشهادة والقود وتحریم الحلیلة وغیرها من توابع النسب)، ولعله یشیر بالتوابع الاخری الی شهادة الولد من الزنا علی أبیه، وعدم قصاص الاب بقتل ابنه من الزنا وغیر ذلک.

وقال فی کشف اللثام(1) استدلالا لکلام القواعد: (والدلیل علیه الاجماع کما هوالظاهر، وصدق الولد لغة، والاصل عدم النقل، وعلله ابن ادریس بالکفر، وفی تحریم النظر الی ابنته من الزنا أو نظر الابن من الزنا ... اشکال، من التولد حقیقة، وصدق الابن والبنت لغة، مع اصالة عدم النقل، ومن انتفاء النسب شرعا، مع الاحتیاط وعموم الأمر بالغض).

الی ان قال فی تفسیر قول العلامة السابق - وغیر من توابع النسب --: (کالارث وتحریم زوج البنت علی أمها والجمع بین الاختین من الزنا أو أحداهما منه ... الاب فی دین ابنه ان منع منه، والأولی الاحتیاط فیما یتعلق بالدماء أو النکاح، وأما العتق فالاصل العدم مع الشک فی السبب بل ظهور خلافه واصل الشهادة القبول).

وقال فی الجواهر(2) فی ذیل کلام المحقق المتقدم: (لا ینبغی التأمل فی أن مدار تحریم النسبیات علی اللغة، ولا یلزم منه اثبات أحکام النسب فی غیر المقام الذی ینساق من دلیله إرادة الشرعی لانتفاء ما عداه وهو قاض بعدم ترتب الاحکام علیه لان المنفی شرعا کالمنفی عقلا کما أومأ الیه النفی باللعان، فما فی القواعد من الاشکال ... فی غیر محله ... بل قد یتوقف فی جواز النظر بالنسبة الی من حرم نکاحه مما عرفت، لکن الانصاف عدم

ص:471


1- (1) کشف اللثام والابهام عن قواعد الاحکام (للفاضل الهندی) ج7، ص125.
2- (2) جواهر الکلام فی شرح شرائع الاسلام، ج29، ص258.

خلو الحل من قوة، بدعوی ظهور التلازم بین الحکمین هنا).

وقال فی الشرائع(1) فی باب الارث: (وأما ولد الزنا فلا نسب له ولا یرثه الزانی ولا التی ولدته ولا أحد من انسابهما، ولا یرثهم هو ومیراثه لولده ومع عدمهم فالامام(علیه السلام)، ویرث الزوج والزوجة نصیبهما الادنی مع الولد والاعلی مع عدمه، وفی روایة ترثه امه ومن یتقرب بها مثل ابن الملاعنة وهی مطرحة).

وکذا قال فی القواعد، وقال فخر المحققین فی ذیل کلامه(قدس سره) المتقدم فی النسب: (اجمع الکل علی أن النسب الشرعی یثبت بالاولین - ای النکاح الصحیح والشبهة - ولا یثبت بالزنا شرعا، لکن یثبت تحریم الوطی تبعا للغة باجماع الامامیة، وهل یحرم النظر اشکال).

الی أن قال: (وأما فی العتق فسیأتی وأما الشهادة والقود وتحریم الحلیلة وغیر ذلک من توابع النسب فمنشأه من ان لفظ الابن مثلا هل نقله الشارع أولا، یحتمل الأول لاشتراطهم ایاه فی لحوق النسب ومن اصالة عدم النقل والمجاز أولی، والاصح عندی انه لا یلحقه شیء من الاحکام غیر التحریم أی تحریم من یحرم علی الانسان نکاحه من جهة النسب وکذلک النظر الیهن، أما تحریم النکاح فلثبوت النسب حقیقة لغة وأما النظر لان الاصل تحریم النظر الی سائر النساء الا من یثبت النسب الشرعی الموجب للتحلیل بینهما ولم یثبت والاصل بقاء ما کان علی ما کان).

وقال فی التذکرة فی کتاب النکاح فی أسباب التحریم فی مسألة البنت المخلوقة من الزنا: (یحرم علی الزانی وطؤها وکذا علی ابنه وأبیه وجده

ص:472


1- (1) شرائع الاسلام، ج4، ص38.

وبالجملة حکمها فی تحریم الوطی فی حکم البنت عن عقد صحیح عند علمائنا أجمع وبه قال أبو حنیفة لقوله تعالی وَ بَناتُکُمْ وحقیقة البنتیة موجودة فیها فان البنت هی المتکونة من منی الرجل، ونفیها عنه شرعا لا یوجب نفیها حقیقة لان المنفی فی الشرع هو تعلق الاحکام الشرعیة من المیراث وشبهه ولانها متخلقة من مائه فی الظاهر فلم یجز له ان یتزوج بها لو وطئها بشبهة).

وقال السید الیزدی فی باب الزکاة من العروة فصل أوصاف المستحقین المسألة 4(1): (لا یعطی ابن الزنا من المؤمنین فضلا عن غیرهم من هذا السهم - أی سهم الفقراء الذی یشترط فیه الایمان - لعدم تبعیته فی النسب لیتبعه فی الحکم بالاسلام والایمان) وهویغایر ما یأتی فی المقام من حکمه بالطهارة إلا ان یحمل علی انه مقتضی الاصل لا التبعیة.

وقال أیضا فی المسألة 23 من الفصل المزبور(2): (یشکل اعطاء الزکاة غیر الهاشمی لمن تولد من الهاشمی بالزنا فالأحوط عدم اعطائه، وکذا الخمس فیقتصر فیه علی زکاة الهاشمی).

واستشکل غیر واحد من المحشین(3) علی الفرع الأول بانه لم یتضح اطلاق یتضمن انتفاء البنوة کی یعوّل علیه فی المقام وانه مبنی علی شرطیة الاسلام والا فلو کان الکفر مانعا فیجوز، وذکروا علی الفرع الثانی بأن دعوی انصراف عموم حرمة الاعطاء عنه غیر ظاهر ونفی ولد الزنا علی نحو یشمل المقام غیر متحصل اذ عدم التوارث أعم، وقاعدة (الولد

ص:473


1- (1) العروة الوثقی مع التعالیق، ج4، ص126. ط جماعة المدرسین بقم.
2- (2) المصدر ص138.
3- (3) کالشیح آقا ضیاء الدین العراقی، وغیره، راجع تعالیق العروة، ج4، ص126-127.

للفراش) قاعدة ظاهریة لا مجال لها فی ظرف العلم بالانتساب.

وقال فی باب الزکاة أیضا فی سهم الفقراء وولد الزنا من المؤمنین کولده من الکافرین لا تبعیة فیه لأحدهما، بناء علی کونها فی النکاح الصحیح فدفع الزکاة الیه حینئذ مبنی علی کون الایمان فعلا أو حکما شرطا فلا یعطی، أو أن الکفر فعلا أو حکما مانع فیعطی.

وقال فی ملحقات العروة فی کتاب الربا مسألة 51(1): (نفی الربا بین الولد والولد): ولا یشمل الولد الرضاعی وان احتمله بعضهم، وفی شموله للولد من الزنا اشکال.

وقال فی کتاب النکاح فی المحرمات بالمصاهرة المسألة (47): (لو کانت الاختان کلتاهما أو احداهما عن الزنا فالأحوط لحوق الحکم من حرمة الجمع بینهما فی النکاح والوطی اذا کانتا مملوکین).

والمعروف عند متأخری العصر ان الاقوی ثبوت النسب لانه لم ترد ولا روایة ضعیفة تنفی النسب عن المولود بالزنا، بل المذکور فیها نفی الارث خاصة وما ورد من قوله صلی الله علیه و آله (الولد للفراش وللعاهر الحجر)(2) ناظر الی مقام الشک وبیان الحکم الظاهری فلا یشمل صورة العلم والجزم بکون الولد للعاهر، فانه حینئذ لا یلحق بصاحب الفراش قطعا، بل مقتضی ما یفهم من مذاق الشارع وظاهر الادلة هو النسب العرفی.

هذا مجمل الکلمات فی الابواب وانما اطلنا نقلها لیتضح حال دعوی

ص:474


1- (1) العروة مع التعالیق، ج6، ص72. مسالة51.
2- (2) ورد هذا المضمون فی روایات عدیدة منها ما فی الوسائل، ج21، ص169وص173. و ج22، ص430. و ج26، ص274 وغیرها.

البداهة أو الضرورة الفقهیة فی نفی النسب شرعا.

تحقیق المسألة:

ینبغی البحث فی مقامین:

الاول: عن مقتضی القاعدة.

الثانی: الأدلة الخاصة الواردة فیها.

المقام الاول: مقتضی القاعدة فهو ترتب الاحکام والاثار المترتبة علی الولد علیه إلا ما أخذ فی موضوعها طهارة النسب وأنه من حلال بقرائن أوأدلة خاصة، وذلک لکون النسب لیس من الأمور الاعتباریة والعناوین الوضعیة المتمحضة فی الاعتبار، بل هو حقیقة خارجیة وهی تکوّن انسان من ماء انسان آخر کما تشهد به الضرورة الوجدانیة والآیات الکریمة أیضا.

بل ان التوالد حقیقة تکوینیة فی الحیوانات والنبات وکذا الجوامد فضلا عن الانسان، والنسب ما هو الا اخبار عن ذلک النشو والتولید التکوینی، وعلی ذلک فلیس النسب حقیقة عرفیة أو لغویة فی أفق الاعتبار العرفی کما قد یلوح من الکلمات المتقدمة بل هو حقیقة خارجیة تکوینیة.

ان قلت: ألیس قد تعارف الناس علی اتخاذ الابناء والتبنی کما یشیر الی ذلک قوله تعالی وَ ما جَعَلَ أَدْعِیاءَکُمْ أَبْناءَکُمْ (1) وکذا نفی الله تعالی عن اتخاذه ابنا أو الملائکة بناتا، ومن الواضح ان الاتخاذ فی کل هذه الموارد اعتباری لا حقیقی تکوینی، وربما یشهد لذلک انتفائه باللعان وثبوته بالاقرار.

ص:475


1- (1) سورة احزاب، الآیة: 4.

قلت: وجود مثل هذا الاعتبار المأخوذ من الوجود التکوینی الحقیقی المماثل له فی المعنی والمغایر له، حیث ان الاعتبار لا وجود حقیقی له بخلاف الثانی لا ینکر، وانما المراد اثباته هو کون هذا المعنی والماهیة سواء من مقولة الاضافة کانت أومن سنخ المفاهیم الوجودیة له وجود حقیقی خارجی لا انه اعتباری فی الاصل.

واعتبار کثیر من المعانی التی لها وجود حقیقی متعارف لدی العقلاء حسب حاجاتهم النظامیة والقانونیة، وأما قوله تعالی فهو یلغی اعتبارهم فی باب النسب ویثبت المعنی التکوینی له، وأما انتفاؤه باللعان وثبوته بالاقرار فهو فی مورد الشک وکإمارة نافیة أو مثبتة لا کسبب ثبوتی للنفی والتحقق کما صرح بذلک الاصحاب فی أحکام الاولاد، واتضح من ذلک أن النسب حقیقة خارجیة لا اعتباریة عرفیة أو شرعیة.

المقام الثانی: الأدلة الخاصة:

اشارة

فقد یستدل علی کون النسب اعتباره شرعیاً بعدة طوائف، جملة منها وردت فی باب الارث وباب أحکام الأولاد وغیرها من الابواب:

الطائفة الأولی:

کصحیحة الحلبی عن أبی عبد الله(علیه السلام): قال أیما رجل وقع علی ولیدة قوم حراما ثم اشتراها فادعی ولدها فانه لا یورث منه شیء، فان رسول الله صلی الله علیه و آله قال: الولد للفراش وللعاهر الحجر، ولا یورث ولد الزنا الا رجل یدعی ابن ولیدته، وأیما رجل أقر بولده ثم انتفی منه

ص:476

فلیس له ذلک ولا کرامة، یلحق به ولده اذا کان من امرأته أو ولیدته(1).

وتقریب الاستدلال بها: ان الولد مع کونه منه من الزنا، لکن نفی عنه شرعا لقوله صلی الله علیه و آله (الولد للفراش وللعاهر الحجر).

وفیه: ان مورد السؤال هو عن الولیدة المملوکة لقوم آخرین والرجل وقع علیها حراما، فالولد الذی ادعاه مشکوک الانتساب له لا انه یعلم انه له، فهی واردة مورد الشک فی الانتساب، ولذلک قال(علیه السلام) انه لا یورث ولد الزنا إلا رجل یدعی ابن ولیدته، أی الرجل المالک للولیدة فهو یرث ابنها اذا ادعی واقرّ مالکها به لکونه صاحب فراش، فاذا زنی رجل آخر بهذه الأمة واحتمل کون هذا الولد منه وادعی مالکها الولد، فهو یلحق به وإن احتمل انه فی الواقع متولد من الزنا، فالمالک هو الذی یرثه کما فسر بذلک المجلسی(قدس سره) قوله(علیه السلام) (الا رجل یدعی ابن ولیدته).

الطائفة الثانیة:

کروایة علی بن سالم عن یحیی عن أبی عبد الله(علیه السلام) فی رجل وقع علی ولیدة حراما، ثم اشتراها، فادعی ابنها، قال: فقال: (لا یورث منه، فان رسول الله صلی الله علیه و آله قال: الولد للفراش وللعاهر الحجر، ولا یورث ولد الزنا الا رجل یدعی ابن ولیدته)(2).

وابن سالم یحتمل أن یکون البطائنی المعروف حیث انه اسم لابن أبی حمزة ویحتمل ان یکون أخ یعقوب وأسباط بنی سالم، وعلی الأول فیحیی هو أبی بصیر ابن أبی القاسم الاسدی.

ص:477


1- (1) الوسائل، ج26، ص274، باب8 من ابواب میراث ولد الملاعنه، ح1.
2- (2) المصدر، ح4.

محتملات (وللعاهر الحجر):

اشارة

وأیا ما کان فدلالة الروایة متحدة مع الروایة المتقدمة فی أن الولد غیر محرز النسبة وموردا للشک، فهو للذی یملک النکاح شرعا المعبر عنه بالفراش، وأن العاهر أی الزانی محجور علیه النسبة للولد فی مورد الشک کما هو أحد محتملات (وللعاهر الحجر) وهو اول المحتملات.

الثانی: انه قد یقال ان قاعدة الولد للفراش وللعاهر الحجر وان ورد تطبیقها فی مورد الشک بأن الولد لمن یملک النکاح الشرعی، وحینئذ یکون معنی وللعاهر الحجر انه لا ینسب للزانی عند الشک، ولکن ظاهر المشهور هو تفسیرها بأن العاهر أی الزانی مطرود ومقطوع عنه الولد مطلقا أی واقعا أیضا، خصوصا وان قوله (علیه السلام) (ولا یورث ولد الزنا) کالصریح فی ولد الزنا الواقعی، والتعبیر بالحجر مستعمل فی القطع والمنع کما فی القول المعروف (حجر محجورا).

الثالث: أن المراد بالعاهر هو الزانی المحصن والحجر هو الرجم وینافیه اطلاق الزانی الأعم من المحصن وغیر المحصن، ولاسیما مع الالتفات الی المقابلة مع نسبة الولد لمالک النکاح شرعا.

الرابع: ان المراد هو عدم المهر للزانیة وأن الحجر کنایة عن ذلک.

وهو ضعیف: اذ الظاهر تطبیق القاعدة منه (علیه السلام) صدرا وذیلا فی مورد السؤال ولم یکن الاستفسار عن المهر.

وعن المجلسی فی البحار(1) انه روی قول أمیر المؤمنین (علیه السلام) فی جواب معاویة (وأما ما ذکرت من نفی زیاد فانی لم أنفه بل نفاه رسول

ص:478


1- (1) بحار الانور، ج44، ص115، والخصال، ح1، ص213.

الله صلی الله علیه و آله اذ قال الولد للفراش وللعاهر الحجر).

وأیضا کتب الحسن (علیه السلام) فی جواب زیاد - لما کتب زیاد الیه - من زیاد بن أبی سفیان الی حسن بن فاطمة (علیه السلام) یرید بذلک اهانته (علیه السلام): (من حسن بن فاطمة بنت رسول الله صلی الله علیه و آله الی زیاد بن سمیة، قال رسول الله صلی الله علیه و آله الولد للفراش وللعاهر الحجر) حیث ان سمیة کانت زانیة معروفة فیظهر منها قوة الاحتمال الثانی ان لا نسبة من الزنا فتأمّل.

هذا وقد ورد الاستدلال من الاصحاب علی عدم المهر للزانیة ب--(للعاهر الحجر)، ویمکن توجیهه بأن الطرد والقطع لم یذکر متعلقة الآخر فیعمّ النسب والمهر وغیر ذلک.

وکذلک قد وردت فی عدة روایات فی مقام النزاع علی الولد وانه یلحق بالمالک للنکاح شرعا بشروط اشترطها الاصحاب فی اجرائها من الدخول مضی أقل الحمل، وان لا یکون الوضع أکثر من اکثر الحمل، ولکن ذلک کله من الاستدلال بصدر القاعدة لا عجزها المربوط بما نحن فیه، حتی انه طبقت القاعدة هناک فی موارد النزاع التی لیس فیها زنا، ولیس ذلک الا لأن البحث عن صدر القاعدة مع انه یمکن احتمال معنی آخر للصدر وهوان الولد للفراش بمعنی ان واقع النسبة لمالک النکاح لا للعاهر الزانی، وعلی ایة حال فقد ظهر قوة الاحتمال الاول وعدم تعین الظهور فی الاحتمال الثانی.

الطائفة الثالثة:

کالصحیح عن محمد بن الحسن الاشعری قال: کتب بعض أصحابنا الی

ص:479

أبی جعفر الثانی (علیه السلام) معی، یسأله عن رجل فجر بامرأة ثم انه تزوجها بعد الحمل، فجاءت بولد، هو أشبه خلق الله به، فکتب بخطّه وخاتمه: (الولد لغیة، لا یورث)(1)، وقد رواه الشیخ بطریقین الی محمد بن الحسن الاشعری وکذا الکلینی ورواه الصدوق أیضا بطریقه الیه.

والظاهر ان محمد بن الحسن الاشعری حسن حاله فقد عدّه الشیخ من أصحاب الرضا (علیه السلام)، وقال الوحید فی تعلیقته انه یظهر من غیر واحد من الاخبار کونه وصی سعد بن سعد الاشعری وهو دلیل الاعتماد والوثوق وحسن الحال وظاهر فی العدالة، وفی وجیزة المجلسی قیل ممدوح وله روایات فی میراث الاخوة مع الولد یظهر منها تشیعه.

وهذا لیس موردا للتردید، وروی فی الکافی سؤاله لابی جعفر الثانی(علیه السلام) عن روایة مشایخ الشیعة عن الصادقین وان التقیة کانت شدیدة فکتموا کتبهم فلم تروعنهم فلما ماتوا صارت الکتب الینا فقال(علیه السلام) (حدثوا بها فانها حق ثابت).

ونظیر هذه الروایة صحیحة عبد الله بن سنان عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله : (اذا رأیتم الرجل لا یبالی ما قال ولا ما قیل له فانه لغیة أو شرک شیطان)(2). وروایة سلیم بن قیس عن أمیر المؤمنین(علیه السلام) قال: (قال رسول الله صلی الله علیه و آله ان الله حرم الجنة علی کل فحّاش بذی قلیل الحیاء، لا یبالی ما قال ولا ما قیل له فانک ان فتشته لم تجده الا لغیة أو شرک شیطان ... الحدیث)(3).

ص:480


1- (1) الوسائل، باب8، من ابواب میراث ولد الملاعنه، ح2.
2- (2) الکافی، ج2، ص323.
3- (3) المصدر والصفحة.

وأما الدلالة فهی أحسن حال من الروایتین المتقدمتین من حیث مورد السؤال حیث انها عن المرأة الخلیة والتی حملت من الفجور مع الرجل بها، وقد حکم علی الولد بأنه لغیة - بالضم فالسکون - أی باطل ملغی النسب وکالعدم، فالانتساب والولدیة ملغاة فلا یورث.

لکن یمکن ان یضاف بطلان الولد وخیبته الی حظّه وعاقبته، من انه لا یفلح کما ورد فی روایات ابن الزنا وحینئذ لا تدل علی المطلوب.

وهذا کله علی تحریک کلمة لغیة - بضم اللام - لیکون بمعنی الملغی، وإلا فهو یحتمل معنی الخسّة قال فی القاموس (اللغاء کسماء التراب والقماش علی وجه الارض، وکل خسیس یسیر حقیر والغیی کالغنی: الدنی الساقط عن الاعتبار).

وأما علی تحریکها بکسر اللام فیکون المعنی الولد لامرأة غیّة أی زنیة کما فی القاموس (وولد غیّة ویکسر زنیّة) فلا یدل علی المطلوب، وهذا الاحتمال هو الاظهر فی الروایتین الاخریین.

هذا: وتوجد روایات معارضة لبعض مدلول هذه الروایات أی فی ناحیة ارث الام له:

منها: روایة یونس قال: (میراث ولد الزنا لقرابته من قبل امه علی نحو میراث ابن الملاعنة)(1)، وحملها الشیخ علی أنها رأی لیونس، وهو فی محله لعدم اسناده القول للمعصوم ولو علی نحو الضمیر الغائب.

ومنها: ما عن حنان عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال سألته عن رجل فجر بنصرانیة فولدت منه غلاما فأقرّ به ثم مات فلم یترک ولدا غیره أیرثه قال:

ص:481


1- (1) الوسائل، باب8 من ابواب ولد الملاعنة، ح6.

نعم)(1).

ومنها: موثقة حنان بن سدیر قال: (سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن رجل مسلم فجر بامرأة یهودیة فأولدها ثم مات، ولم یدع وارثا، قال: فقال: یسلم لولده المیراث من الیهودیة، قلت: فرجل نصرانی فجر بامرأة مسلمة، فأولدها غلاما، ثم مات النصرانی وترک مالا، لمن یکون میراثه؟ قال یکون میراثه لابنه من المسلمة)(2).

وفی هذه الروایة عدة دلالات منها تحقق الانتساب لاطلاقه (علیه السلام) البنوة علیه بالاضافة الی الاب والام وتبعیته فی الملة للوالدین وان کان من زنا، وتبعیته لا شرف الابوین فی الملة، وارث ابن الزنا من أبیه النصرانی اما لقاعدة الالزام أو لقصور دلیل المنع عن هذا الفرض.

ومنها: موثق اسحاق بن عمار عن جعفر عن أبیه (علیه السلام): (ان علیا (علیه السلام) کان یقول: ولد الزنا وابن الملاعنة ترثه امه، وأخواله، واخوته لامه، أو عصبتها)(3).

وقد ذهب الی ارثه من الام ابن الجنید والصدوق والحلبی، ولکن المشهور أعرضوا عنها.

الطائفة الرابعة:

عدة من الروایات المستفیضة فی أن الناس لا یدعون بأسماء آبائهم یوم القیامة إلا الشیعة وقد عقد فی البحار(4) بابا لذلک:

ص:482


1- (1) المصدر، ح7.
2- (2) المصدر، ح8.
3- (3) المصدر، ح9.
4- (4) بجار الانوار، ج7، ص237.

منها: ما عن العلل للصدوق (قدس سره)(1) صحیحة أبی ولاد عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال: (ان الله تبارک وتعالی یدعوا الناس یوم القیامة این فلان بن فلانة سترا من الله علیهم).

ومنها: ما عن أمالی الشیخ الطوسی(قدس سره)(2) مسندا عن جابر الجعفی عن الباقر(علیه السلام) عن جابر بن عبد الله(الانصاری) قال: (سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله یقول لعلی(علیه السلام): ألا أسرّک؟

ألا أمنحک؟ ألا أبشرک؟ قال: بلی، قال: انی خلقت أنا وأنت من طینة واحدة وفضلت منها فضلة فخلق منها شیعتنا فاذا کان یوم القیامة دعی الناس بأسماء أمهاتهم سوی شیعتنا فانهم یدعون بأسماء آبائهم لطیب مولدهم).

ومنها: روایة المحاسن مثل صحیحة أبی ولّاد الا انه فیها تعلیل استثناء الشیعة (وذلک ان لیس فیهم عهر)(3) وکذلک روایتی بشارة المصطفی الا ان فی احداها التعلیل (لطیب موالیدهم)، وغیرها من الروایات.

والمترآی بدوا منها نفی النسبة ولکن امعان النظر یقتضی بخلافه وذلک لعدم نفی النسبة من طرف الام ولا قائل بالتفصیل، وأیضا التعلیل بطیب المولد یعطی ان ما عداهم خبیث مولدهم لا أن الولادة والتوالد التکوینی منفی.

ومنه یظهر العلة فی عدم تسمیة غیرهم بأسماء آبائهم هو حصول

ص:483


1- (1) علل الشرائع، ج2، ص564. بحار الانوار، ح7، ص238.
2- (2) بحار الانوار، ج7، ص237. امالی الطوسی، ص456.
3- (3) بحار الانوار، ج7، ص240.

العار علیهم حیث ینکشف ان النسب من طرف الاب هو غیر ما کان یعرف به فی النشأة الاولی.

الطائفة الخامسة:

ما ورد مستفیضا فی علّة تحلیل الخمس واباحته للشیعة لتطیب ولادتهم وأن ما عداهم هالک فی بطنه وفرجه، وفی بعضها لتطیب موالیدهم ولا یکون أولادهم أولاد حرام وأن ما عداهم أولاد بغایا(1).

مثل ما فی تحف العقول فی کلام الکاظم (علیه السلام) مع الرشید - فی حدیث طویل - قال هارون: من أین قلتم الانسان یدخله الفساد من قبل النساء ومن قبل الآباء لحال الخمس الذی لم یدفع الی أهله؟ فقال موسی (علیه السلام) (هذه مسألة ما سأل عنها أحد من السلاطین غیرک - یا أمیر المؤمنین - ولا تیم ولا عدی ولا بنو أمیة ولا سئل عنها أحد من آبائی فلا تکشفنیها).

والتقریب لدلالتها ما مرّ والخدشة کذلک، بل ههنا قد فرض آباء وأبناء ولکن من حرام، وکذا التعلیل کما فی بعضها لیزکوا أولادهم (أی الشیعة) فیکون المقابل لهم خبث أولادهم وعدم طهارة المولد.

الطائفة السادسة:

الاستدلال بالروایات الواردة فی کفره کالتی وردت فی نجاسته وفی عدم تصدیه للمناصب المشترط فیها العدالة وفی ان دیته کدیة الکتابی وفی عدم دخوله الجنة، وعلی هذا فلا تبعیة لوالده المسلم الذی تولد منه وانتفاء

ص:484


1- (1) الوسائل، ابواب الانفال باب 4.

التبعیة انتفاء للولدیة والنسب.

وفیه: ان الاستدلال لکفره بما تقدم مخدوش لأعمیة تلک الاحکام من الکفر، مع أن بعضها محلّ تأمل واعراض من المشهور کالحکم الاول والثالث، ولو سلم الکفر وعدم التبعیة فهو أعم أیضا من انتفاء الولدیة والنسب، فلعلها مترتبة علی طیب الولادة لا مطلق الولادة.

الطائفة السابعة:

ما ورد من اجتناب الرضاع منه(1)، مما یدل علی نجاسته وعدم تبعیته الکاشف عن انتفاء الولدیة والنسب.

وفیه: مضافا الی ما تقدم فی الجواب عن الطائفة السادسة، ان النهی عن الارتضاع منه لیس بکاشف عن النجاسة کما ان جواز الرضاع لیس بکاشف عن الطهارة، فلیس المدار علی ذلک بل لما ینتجه الرضاع من توریث الطباع والاخلاق، کما ورد انه لحمه کلحمة النسب، ولذلک ذکرنا فی نجاسة الکافر ان ما ورد من الاذن فی ارتضاع اهل الکتاب غیر کاشف عن الطهارة لوروده ایضا فی المشرکة علی کراهة فی الصنفین، حیث ان حکمه حکم البواطن کما تقدم فلذا لم یکن النهی عنه لذلک ایضا.

هذا ولو فرض بقاء التردد فی عدم دلالة هذه الروایات علی نفی النسب، أوانه نفی للاحکام الشرعیة المترتبة علیه فی الجملة کما سمعته عن التذکرة، فالمتعین فی الاستظهار هو الثانی وذلک لعدم کون النسب من الامور الاعتباریة والعناوین الوضعیة المتوغلة فی الاعتبار، بل هو حقیقة خارجیة وهی تکون انسان من ماء انسان آخر، کما تشیر الیه الآیات

ص:485


1- (1) الوسائل، ابواب احکام الاولاد باب76، ح6 ،و ح7.

الکریمة والضرورة الوجدانیة.

ولذا تری اجماع الکل علی اجراء أحکام النسب فی النکاح ولیس ذلک الا لوجوده الواقعی، وکذا بعض فتاواهم فی أبواب أخری، فالنفی بتلک القرینة لا بد أن یکون بلحاظ الآثار والاحکام المترتبة علی هذا العنوان، وحینئذ فلیس فیه اطلاق بل هواما بلحاظ الاحکام التی للوالد والنفقة لا الاحکام التی علیه وبضرره کوجوب النفقة ولا الاحکام التی لیست علیه ولا له وغیر ذلک وأما بلحاظ الارث وتوابعه.

والحاصل: ان التمسک فی الابواب المختلفة بعنوان النسب والذی هو امر تکوینی لا اعتباری لا غبار علیه، غایة الامر لا بد من ملاحظة مناسبات الحکم والموضوع العرفیة فی کل باب فقهی ومراعاتها، فمثلا الاحکام التی تنشأ من الاحترام والعنایة الخاصة تختلف مع التی تنشأ من محض التولد، ففی الاولی ربما یکون الارتکاز موجبا لظهور النسب فی الناشیء من الحلال بخلاف الثانی فهو الناشیء من الحلال أو الحرام، أی من مطلق التولد.

فبعض الاحکام بمعونة الارتکازات العرفیة ظاهرة فی ترتبها علی النسب من الحلال وطیب الولادة وبعضها فی الاعم، وهذا بحسب الظهورات المستفادة من الادلة، کما انه ربما تترتب الاحکام بتوسط عنوان علی النسب، فلا بد من ملاحظة مناسبة الواسطة کما مرّ فی مسألة الخمس والزکاة فلاحظ.

فاتضح بذلک:

أن الاشکال من ناحیة الموضوع غیر وارد حیث ان النسب وان خبث تابع للتولد التکوینی لا لطیب الولادة، وأما الاشکال من ناحیة

ص:486

المحمول فقد عرفت مما سبق فی أدلة التبعیة أن العمدة هی الروایات لا الاجماع کی یتمسک بالقدر المتیقن، وقد أخذ فی موضوعها (الولد) وهو صادق حقیقة فی الاعم کما عرفت ولیس من قرائن صارفة له فی النسب الطاهر والطیب الولادة، لاسیما وان هذا الحکم وهو التبعیة فی الکفر لیس من الاحکام الناشئة من الاحترام کی یصرف الی النسب الطاهر دون مطلق النسب.

تبعیات أخری:

1- قاعدة: تبعیة ولد الحلال لا شرف الابوین:

یدل علیها بالخصوص صحیحة عبید بن زرارة المتقدمة عن أبی عبد الله(علیه السلام) فی الصبی یختار الشرک وهو بین أبویه قال: (لا یترک وذاک اذا کان أحد أبویه نصرانیا)(1).

ومثلها موثقة أبان بن عثمان عن بعض أصحابه عن أبی عبد الله(علیه السلام) فی الصبی اذا شبّ فاختار النصرانیة وأحد أبویه نصرانی أو مسلمین قال: (لا یترک ولکن یضرب علی الاسلام)(2).

والمراد من (أحد أبویه نصرانی) هو کون الآخر مسلما، وتقریب دلالتهما ان ضرب الصبی علی الاسلام باعتبار ان تنصره أو شرکه ردة عن الاسلام المحکوم به علیه تبعا لأحد أبویه المسلم کما یشهد بذلک عطف صورة کون کلا الابوین مسلما حیث ان القلم مرفوع عنه حتی یبلغ، فهما تدلان علی تبعیة الولد لا شرف الابوین فی الملة.

ص:487


1- (1) الوسائل، ابواب حد المرتد، باب2، ح1.
2- (2) المصدر، ح2.

کما یدل علیه عموما اطلاق معتبرة حفص بن غیاث (اسلامه - أی الاب - اسلام لنفسه ولولده الصغار وهم أحرار)(1)، وکذا خبر زید بن علی (اذا اسلم الأب جرّ الولد الی الاسلام)(2)، حیث انه شامل لصورة بقاء الام علی النصرانیة وبضمیمة عدم القول بالفصل بین هذه الصورة وعکسها یتم المطلوب فافهم.

2-قاعدة تبعیة ابن الزنا لا شرف الابوین:

ثم انه یدل علی التبعیة لا شرف الابوین ولومن الزنا موثق حنان بن سدیر- المتقدم- قال: (سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن رجل مسلم فجر بامرأة یهودیة، فأولدها ثم مات، ولم یدع وارثا، قال: فقال: یسلم لولده المیراث من الیهودیة، قلت: فرجل نصرانی فجر بامرأة مسلمة، فأولدها غلاما، ثم مات النصرانی، وترک مالا، لمن یکون میراثه؟ قال یکون میراثه لابنه من المسلمة)(3).

حیث انه فی الفرض الاول ورث المیت المسلم فیظهر منه الحکم باسلامه بالتبع، وفی الفرض الثانی ورث المیت النصرانی دون بقیة ورثة المیت النصاری للحکم باسلامه تبعا لامه، لکن حملها الشیخ علی الاقرار من المیت به، فإن لم یکن اعراض من المشهور عن العمل بها لکون الوارث ولد الزنا - ولو فی خصوص الفرض - فهو.

کما قد یظهر من الکلینی فی الکافی، ومن قال بتوریثه فی الجملة کما فی

ص:488


1- (1) الوسائل، ابواب جهاد العدو، باب43، ح1.
2- (2) الوسائل، ابواب العتق، باب70.
3- (3) الوسائل، ابواب میراث ولد الملاعنة، باب8، ح8.

طرف الام، وإلا فیبتنی العمل بها علی بقاء حجیة الدلالة الالتزامیة بعد سقوط المطابقیة عن الحجیة فتدبر وتأمل.

ولا یخفی ان البحث عن التبعیة أعم من البحث عن طهارة بدنه فلا یتحد البحث مع المسألة الاتیة عن طهارة ابن الزنا.

3- للتبعیة الولد البالغ مجنونا:

الظاهر عموم التبعیة له بشهادة الحکم علی انه منهم فی کتاب الجهاد، کما ورد من سقوط الجزیة(1) عنه المبتنی علی کونه منهم، وکذا فی النکاح والارث، وکذا الارتداد کما لو فرض جنونه منذ الولادة حتی البلوغ ثم أفاق واسلم وارتد فهو عن ملّة وقد تقدم ان صدق العنوان فی باب لیس من جهة التنزیل بلحاظ الآثار بل من الحکم بالموضوع.

4- ما لو بلغ عاقلا وکان فی فسحة النظر ثم جن:

فقد ذهب صاحب الجواهر الی طهارته استصحابا لطهارته وقت الفسحة، وقد تقدم فی مسألة انکار الضروری ان السید المرتضی ذهب الی کفر الشاک فی زمن المهملة للنظر، وأن الشهید الثانی ذهب الی الحکم بتبعیته کالصبی والمجنون، والصحیح ما ذهب الیه المرتضی ولا منافاة بین الحکم بکفره ومعذوریته، لان الکفر کما تقدم عدم الاقرار بالشهادتین، نعم من أقر بهما فلا یخرجه الشک عن الاسلام الا الاقرار بالخروج منه وهو الکفر، وهذا لا ینسحب علی من لم یدخل والفرق ظاهر.

وهذا مفاد روایة التمیمی عن الرضا عن آبائه عن علی (علیه السلام) قال:

ص:489


1- (1) الوسائل، باب جهاد العدو، باب51.

(قال النبی صلی الله علیه و آله أمرت ان اقاتل الناس حتی یقولوا لا اله الا الله، فاذا قالوها فقد حرم علیّ دماؤهم وأموالهم)(1).

وموثق مسعدة عن جعفر عن أبیه (علیه السلام) انه قال له: (ان الایمان قد یجوز بالقلب دون اللسان؟ فقال له: ان کان ذلک کما تقول فقد حرم علینا قتال المشرکین وذلک انا لا ندری بزعمک لعل ضمیره الایمان فهذا القول نقض لامتحان النبی صلی الله علیه و آله من کان یجیئه یرید الاسلام وأخذه ایاه بالبیعة وشروطه وشدة التأکید ... الحدیث)(2) وعلی ذلک لا تفترق هذه الصورة عن سابقتها.

5- المسبی من ولد الکفار اذا کان منفردا عن أبویه:

فقد حکی اتفاق العامة علی انقطاع تبعیته السابقة وحدوث التبعیة للسابی، وقد اختاره جماعة من القدماء منا، وتوقف فیه المحقق، واختار جماعة من المتأخرین بقاء التبعیة السابقة ولعله الاقوی نظرا لعموم أدلة التبعیة المتقدمة وانها بمعنی الولادة لا المصاحبة والعشرة کما تقدم، واختار جماعة من متأخری الاعصار الطهارة للاصل للشک فی بقاء التبعیة السابقة مع عدم البناء علی عموم نجاسة الکافر.

نعم قد یظهر من صحیحة رفاعة النخاس تبدل التبعیة، قال قلت لأبی الحسن موسی (علیه السلام) ان القوم یغیرون علی الصقالیة والنوبة فیسرقون أولادهم من الجواری والغلمان فیعمدون الی الغلمان فیخصونهم ثم یبعثون الی بغداد الی التجار، فما تری فی شرائهم ونحن نعلم انهم مسروقون انما

ص:490


1- (1) بحار الانوار، ج68، ص242.
2- (2) المصدر، ص241.

أغار علیهم من غیر حرب کانت بینهم؟ فقال لا بأس بشرائهم انما اخرجوهم من دار الشرک الی دار الاسلام)(1)، فان التعبیر بالاخراج من دار الی دار یلوح بذلک إذ هو لبیان ان فی السبی تلک الفائدة فالکون فی دار الاسلام أنفع لهم وهو یقضی بالتبعیة حینئذ.

استطراد: ابن الزنا طاهر أو نجس:

اشارة

ذهب الفقهاء إلی طهارة ابن الزنا خلافا للمحکی عن الصدوق من تحریم سؤره، والمرتضی من کفره، وابن ادریس من دعوی الاجماع علی کفره، وردّه فی المعتبر بعدم تحققه، فالحکم بنجاسته تارة لدعوی کفره واخری لقیام الادلة الخاصة علی ذلک.

نجاسة ابن الزنا لکفره:

واستدل للاول: بما ورد من نجاسته وسیأتی الکلام فی ذلک مع انه من أخذ المدعی فی دلیله.

وبما ورد من عدم صلاحیته للتصدی فی المواضع والمناصب التی اشترط فیها العدالة کالامامة فی الصلاة والشهادة، والقضاء ونحوها.

وفیه: ان عدم الصلاحیة أعم من الکفر والفسق ولذا ذکروا اشتراط طهارة المولد فی تلک المواضع زائدا علی شرطیة العدالة.

وبما ورد: من ان دیته کدیة أهل الکتاب(2)، وحکی عن الثلاثة (قدهم) العمل بمضمونها.

ص:491


1- (1) الوسائل، ابواب جهاد العدو، باب50، ح6.
2- (2) الوسائل، ابواب دیات النفس، باب15.

وفیه: انها معرض عنها بعد الحکم باسلامه.

وبما ورد: من انه لا یدخل الجنة وانه لا خیر فیه ولا فی بشره ولا فی شعره ولا فی لحمه ولا فی دمه ولا فی شیء منه ومن انه لا ینجو(1).

وفیه: ان عدم دخول الجنة أعم من الکفر، بل من التعلیل لذلک بعدم طیب الولادة یظهر عدم کفره کما نبّه علیه صاحب الحدائق.

وأما: الاخبار الاخری فالمحمل لها بما یوافق أصول العدلیة هو بیان جهة اقتضاء الشرّ التی یرثها من خبث ولادته، ولذا ورد ان حب علی(علیه السلام) علامة طیبة الولادة وبغضه علامة خبثها، لکن لا کلیة فی العکس من أن کل من خبث ولادته یبغضه.

ولذلک وردت روایات تخالف هذا الظهور البدوی المترائی من الروایات المزبورة کمصححة ابن أبی یعفور قال: (قال أبوعبد الله(علیه السلام) ان ولد الزنا یستعمل، ان عمل خیرا جزی به، وان عمل شرا جزی به)(2).

وصحیح أیوب بن حر عن أبی بکر (ولعله الحضرمی الثقة) قال: (کنّا عنده ومعنا عبد الله بن عجلان فقال عبد الله بن عجلان ومعنا رجل یعرف ما نعرف ویقال: انه ولد زناء، فقال: ما تقول؟ فقلت: ان ذلک لیقال له، فقال: ان کان ذلک کذلک بنی له بیت فی النار من صدر یردّ عنه وهج جهنم ویؤتی برزقه)(3)، والمراد بصدر جهنم اعلاها أوانه مصحّف صبر أی الجمد کما نبّه علیه المجلسی (قدس سره).

ص:492


1- (1) بحار الانوار، ج5، ص285.
2- (2) المصدر، ص287.
3- (3) المصدر والصفحة.

فالصحیح:

هو عموم ما دل علی تحقق الاسلام من المقرّ بالشهادتین کما تقدم تقریبه فی اسلام الصبی الممیز، ولعل ما ورد مما قد ینافی ذلک ناظر الی مراتب الایمان العلیا کما هو معهود فی الاستعمال الشرعی، ویعضد ذلک قبول اسلام العدید من هذا الصنف المعروفین فی صدر الاسلام، وقد ادعی الشیخ کما عن الخلاف الاجماع علی وجوب تغسیله والصلاة علیه.

الروایات الخاصة فی نجاسة ابن الزنا:

وأما الثانی: وهی نجاسته بالروایات الخاصة.

فقد استدل بمرسل الو شاء عمن ذکره عن أبی عبد الله(علیه السلام) انه کره سؤر ولد الزنا، وسؤر الیهودی والنصرانی والمشرک، وکل ما خالف الاسلام ... الحدیث(1) حیث انه ذکر فی سیاق الکفار والناصب المعین لارادة الحرمة من الکراهة کما فی کثیر من الاستعمالات الروائیة.

وروایة حمزة بن أحمد عن أبی الحسن الاول (علیه السلام) (ولا تغتسل من البئر التی یجتمع فیها ماء الحمام، فانه یسیل فیها ما یغتسل به الجنب وولد الزنا والناصب لنا أهل البیت وهو شرهم)(2)، فانه توسط النهی عن غسالته بین الجنب والناصب، اذ الاول نجاسة غسالته بلحاظ خبث المنی أیضا، والشریة فی روایات غسالة الحمام بمعنی النجاسة بقرینة عدّ الکلب فی بعضها والانجسیة فی بعض آخر.

وأما اشتمال بعض الروایات کروایة علی بن الحکم علی التعلیل بأن

ص:493


1- (1) الوسائل، باب ؟؟؟، باب3، ح2.
2- (2) الوسائل ابواب الماء المضاف والمستعمل، باب11، ح1.

فیه الغسالة من الزنا فی سیاق غسالة ابن الزنا، فغیر مضر اذ بناء علی نجاسة عرق الجنب من الحرام یکون بدن الزانی متنجس بعرقه فتنفعل الغسالة لاجل ذلک.

وأما مصحح ابن أبی یعفور المشتمل علی التعلیل للنهی عن غسالته بانه لا یطهر الی سبعة آباء فلیس بقرینة علی التنزه بعد کون ما یتولد من ظهره لیس بنجس، وذلک لان جعل غایة التطهیر الی سبعة ظاهر فی تخفف النجاسة والخباثة بالتدریج حتی تزول الی سبعة، فعدم اشتراک البقیة معه فی الحکم لا ینافی التعلیل، مع ان التعلیل من قبیل الحکمة.

وروایة العلل بسنده عن محمد بن سلیمان الدیلمی عن أبیه رفعه الی الصادق(علیه السلام) فیه (أنت رّ الثلاثة أذنب والداک فنبت علیهما وأنت رجس، ولن یدخل الجنة الا طاهر)(1)، لکن الظاهر أن المراد من الرجس هومرتبة تترتب علیها مثل هذا الحکم الاخروی فی مقابل الطهارة بتلک المرتبة، ولعل من ذلک مع ما سبق من التعلیل بانه لا یطهر الی سبعة آباء مع ما فی ذکر الآباء من اجمال إذ لعلها مصحفة (أبناء) الظاهر فی قذارة خاصة لا الاصطلاحیة وان ترتب علیها درجة من انفعال الماء بحدّ الکراهة کما فی سؤر الحائض کما تقدم فی الآسئار.

مع ما تقدم من حکایة الاجماع عن الشیخ علی وجوب تغسیله، وملازمة قبول اسلامه للطهارة کان الاقوی طهارته وان ثبتت له درجة من القذارة الشرعیة التنزیهیة الشدیدة لاقترانه فی السیاق مع الاسئار النجسة.

ص:494


1- (1) بحار الانوار، ج5، ص287.

قاعدة عدم صحة عبادات الکافر والمخالف

اشارة

ص:495

ص:496

من القواعد العقائدیة المتصلة بأبواب العبادات عدم صحة عبادات الکافر والمخالف

اشارة

المشهور و المعروف بین الفقهاء عدم صحة عبادة الکافر واستدلوا علیه بالقاعدة المعروفة أنّ العبادة لا تصحّ من الکافر.

أدلة القاعدة:
اشارة

ویستدلّ لهذه القاعدة بوجوه:

الوجه الأوّل: عدم إمکان تمشّی قصد القربة منه و الإتیان بداعی الأمر فلا تقع منه عبادة ومحصّل هذا الوجه دعوی الامتناع فی مرحلة الوقوع.

وأجیب عنه: بأنّه لیس مطلق الکافر ملحدا بالتوحید، فمثل أهل الکتاب والفرق المنتحلة للإسلام ممّا قد حکم بکفرها کالنواصب والخوارج یتأتّی منهم داعویة قصد الأمر، لکنّک ستعرف تمامیة هذا الوجه وعدم ورود هذا الإشکال وإن اشتهر عند متأخّری المتأخّرین.

الوجه الثانی: عدم حسن الفعل منه من حیث الاصدار وصدور الفعل عقلا، وهو شرط فی صحّة العبادة؛ إذ لا یکفی فیها الحسن الذاتی للفعل، بل لا بدّ من الحسن فی جهة الصدور، حیث أنّ العبادة تتقوّم بالنیّة،

ص:497

کما أنّ مقتضاها طوعانیة المکلّف لمولاه وکون ما یأتی به مقتضی للزلفی إلیه. هذا من جهة الکبری.

أمّا انتفاؤها صغرویا وعدم تحقّق الشرط فی عبادة الکافر فیقرب أمّا بأنّ وصف الکفر والجحود والعناد یضادد تحقّق الطوعانیة والانقیاد اللازم فی حیثیّة صدور الفعل ومن ثمّ لا تکون جهة صدور الفعل حسنة عقلا.

وإمّا یقرّب: بأنّ الامتثال لا عن حجّة ومحرز معذر ومن دون امارة منصوبة من قبل المعبود ولو بحکم العقل، یستلزم عدم تحقّق الانقیاد التامّ فی الفعل الصادر، و إن کان الفعل فی نفسه مطابقا للمأمور به فی الواقع، أی أنّ بدون الحجّة المحرزة لمحبوب المولی لا یکون هناک انقیاد تامّ فی صدور الفعل.

و هذا نظیر ما التزم به المیرزا النائینی تبعا للمیرزا القمّی من عدم صحّة عبادة تارک طریقی الاجتهاد والتقلید بما ذکره من تعدّد مراتب الامتثال وعدم تسویغ المرتبة اللاحقة مع إمکان المرتبة السابقة.

هذا وستعرف مزید بیان وعمق لهذا الوجه فی الوجه الروائی.

الوجه الثالث: ما دلّ علی عدم صحّة عبادات المخالف(1)، أی علی شرطیة الولایة فی الصحّة فیدلّ علی بطلان عبادات الکافر حینئذ لفقدان عبادته الشرط المزبور بالأولویّة.

وقد ذهب إلی اشتراط الصحّة جملة من المحدّثین ونسب إلی الشهرة العظیمة.

ص:498


1- (1) عقد صاحب الوسائل باباً عنونه ب-(بطلان العبادة بدون ولایة الائمة والاعتقاد بامامتهم) وذکر فیه تسع عشرة روایة منها عن الامام الباقر(علیه السلام) مخاطباً شیعته (ما لله عز ذکره حاج غیرکم ولایتقبل الا منکم).

وستعرف أنّ فی الروایات الواردة التعرّض لشرطیة الإسلام فی صحّة العبادة أیضا.

کما أنّ الروایات مشتملة علی الإشارة إلی عدّة وجوه للبطلان.

وهی علی ألسنة مختلفة:

اللسان الأول: ما کان نافیا للقبول:

وهی روایات مستفیضة بل متواترة(1) ففی صحیح زرارة: (ما کان له علی الله حقّ فی ثوابه)(2)، و فی صحیح یونس قول أبی عبد الله(علیه السلام) لعبّاد بن کثیر: (اعلم أنّه لا یتقبّل الله منک شیئا حتی تقول قولا عدلا)(3).

وفیها: ما یتقبّل الله منهم، کما فیها الحدیث المعروف: (إنّ أفضل البقاع ما بین الرکن و المقام وأعظمها، ولو أنّ رجلا عمّر ما عمّر نوح فی قومه ألف سنة إلّا خمسین عاماً یصوم النهار و یقوم اللیل فی ذلک المقام ثمّ لقی الله بغیر ولایتنا لم ینفعه ذلک شیئا)(4).

وتقریب الاستدلال فیها إجمالا:

أنّ الظاهر من نفی القبول لیس نفیا للصحّة لتغایرهما وتعدّدهما، کما قد ورد أنّ شارب الخمر لا تقبل منه صلاة أربعین یوما، وکذا عاقّ والدیه، وکذا المرأة المسخطة لزوجها(5)، وکذا أنّ الصلاة التی لا یقبل المصلّی فیها

ص:499


1- (1) حیث تواترت الروایات تواترا اجمالیا فی ذلک.
2- (2) وسائل، ج1، ص119، باب29 ابواب مقدمات العبادات، ح2.
3- (3) المصدر، ح4.
4- (4) المصدر، ح12.
5- (5) الکافی، ج5، ص507، عن ابی عبد الله الصادق (علیه السلام) (ثلاث لا تقبل لهم صلاة ... وامرأة باتت وزوجها علیها ساخط...).

بقلبه علی ربّه لاتقبل(1).

ولکن الصحیح تمامیّة دلالتها بتقریبین:

التقریب الأوّل: بالفرق بین نفی القبول المستند لوصف فی العمل وبین نفی القبول بسبب عمل آخر ذی ماهیة مباینة، فإنّه فی الأوّل دالّ بطبعه علی مانعیّة ذلک الوصف من الصحّة أو فاقدیّته للشرط بخلاف الثانی، فإنّه لا محصّل لاحتمال أخذ ماهیّة فی ماهیّة اخری مباینة، ومن ثمّ بنوا علی دلالة ما ورد فی الریاء علی البطلان مع أنّه بلسان نفی القبول مثل ما فی معتبرة أبی الجارود: (لا یقبل الله عمل مراء)(2) و(من عمل للناس کان ثوابه علی الناس)(3) وإلّا لإنتقض ذلک فی الریاء أیضا.

ولا یتوهّم أنّ استفادة البطلان فی الریاء لارتباط الریاء بالنیّة وشرائط قصد القربة، لا من جهة نفی القبول لوصف مانع فی العمل.

وذلک لأنّ انضمام البطلان فی الریاء لارتباط الریاء بالنیّة وشرائط قصد القربة، لا من جهة نفی القبول لوصف مانع فی العمل.

وذلک لأنّ انضمام داعی الریاء مع داعی القربة لیس إلّا کانضمام الدواعی المباحة مع داعی القربة فی قبول الاجتماع وإمکانه. غایة الأمر أنّ مثل تلک النیّة استفید عدم صحّتها بعدم القبول المدلول علیه فی تلک الروایات.

التقریب الثانی: ما ذکره السیّد الشاهرودی فی التقریرات من أنّ الصحّة مرتبة من مراتب القبول، فالنفی المطلق للقبول - أی نفی مطلق

ص:500


1- (1) مستدرک الوسائل، ج5، ص429. وبحار الانوار، ج81، ص252.
2- (2) وسائل الشیعة، ج1، ص68. بحار الانوار، ج69، ص297.
3- (3) الکافی، ج2، ص293.

القبول - ناف للصحّة أیضا.

أمّا أنّ الصحّة مرتبة من مراتب القبول فلحکم العرف والعقل بما هم عقلاء من أنّ العبد إذا أتی بالمأمور به العبادی صحیحا و کان صحیحا عند مولاه یترتّب علیه الحکم بحصول درجة من الزلفی والقبول عند المولی، وأنّها درجة من الطوعانیة.

هذا و یمکن أن یضمّ إلی ما ذکروه أنّ مقتضی العبادة حیث أنّها الماهیة المأتی بها بلون العبادة، أی الماهیة التی أوجدت بنیّة الخضوع والمتابعة. فالصحّة فی العبادة مشتملة علی الخضوع وهو مرتبة من مراتب القرب والزلفی ففی مطلق القبول نفی للصحّة.

فلا یقاس الصحّة فی العبادات بالصحّة فی التوصّلیات لکون بعض مراتب القبول لازماً ذاتیاً للصحّة فیها بخلافه فی التوصّلیات.

نعم قد یدلّ دلیل خاصّ علی أنّ نفی القبول إذا کان لوصف فی العمل کما فی عدم التوجه أثناء الصلاة بمبطل للعمل، وهذا لا ینافی ما ذکرناه إذ هو لأجل القرینة الخاصّة الدالّة علی عدم انتفاء مطلق القبول، بل انتفاء القرب التامّ حیث علّل بما مضمونه فی المثال بأنّه شدید ولا یطیقه أکثر الناس.

اللسان الثانی: ما دلّ علی وجود النقص فی العمل:

مثل صحیح محمّد بن مسلم عنه(علیه السلام) حیث فیه (فأعمالهم التی یعملونها کرماد اشتدّت به الریح فی یوم عاصف لا یقدرون ممّا کسبوا علی شیء ذلک هو الضلال البعید)(1) فإنّ التمثیل بالرماد فیه عنایة عدم المنفعة

ص:501


1- (1) الکافی، ج1، ص183.

وعدم السلامة وکذلک المشار إلیه فی اسم الإشارة، أمّا حالهم بلحاظ تلک الأعمال أو الأعمال وعلی کلا التقدیرین: فهو دالّ علی أنّ الأعمال قد أتی بها علی غیر الجادة الصائبة لوصف فی ذات العمل نظیر اللسان الذی ورد فی العمل الریائی، وهذا التعبیر متکرّر فی الروایات ونظیر هذا التعبیر ما ورد فی الصحیحة المزبورة أیضا (والله شانیء لأعماله) حیث أنّ الشنئان هو التوصیف بالنقص وإن کان یستعمل بمعنی البغض لملازمته للنفرة من النقص، وعلی التقدیر الثانی أیضا فإنّ منشأ البغض اسند إلی نفس العمل مما یدل علی وجود وصف نقص فی العمل الریائی لا من مثل عدم قبول الصلاة بدون الزکاة.

اللسان الثالث: ما ورد بلسان نفی ماهیّة العمل:

مثل لسان روایة إسماعیل بن نجیح: (الناس سواد وأنتم الحاج)(1) ولسان روایة الکلبی (ما یحجّ أحد للّه غیرکم)(2) وروایة مفضل بن عمر (لیس له صلاة وإن رکع وإن سجد ولا له زکاة ولا حجّ وإنّما ذلک کلّه یکون بمعرفة رجل منّ الله علی خلقه بطاعته)(3).

و دعوی أنّ النفی ههنا - وإن اسند إلی الماهیة - إلّا أنّه فی التقدیر (القبول) بقرینة الروایات الاخر کما فی (لا صلاة لجار المسجد إلّا فی المسجد)(4) مدفوعة بأنّ نفی القبول لو سلم أنّه أعمّ کما هو مبنی المستشکل فلا یعیّن مدلول الأخصّ بل یحمل علی ما یکون أخصّ دلالة لا سیّما و أنّ

ص:502


1- (1) وسائل الشیعة، ج1، ص120، باب29 من ابواب العبادات، ح7.
2- (2) المصدر، ح9.
3- (3) المصدر، ح18.
4- (4) التهذیب، ج1، ص92.

النفی هنا لیس بندبی.

اللسان الرابع: ما دلّ علی أنّ ولایتهم و معرفتهم قید تحقّق العبادة للّه:

مثل مصحّح جابر قال: سمعت أبا جعفر(علیه السلام) یقول: (إنّما یعرف الله عزّ وجلّ ویعبده من عرف الله وعرف إمامه منّا أهل البیت، ومن لایعرف الله وما یعرف الإمام منّا أهل البیت فإنّما یعرف ویعبد غیر الله هکذا والله ضلالا)(1).

ونحوه روایات اخری لا حظها فی البحار، ولعلّ هذا اللسان هو أقوی ما ورد حیث إنّه یجعل الولایة نظیر الخلوص قواما فی عبادیة العبادة و النیّة العبادیة، وسیأتی التدلیل بالبیان العقلی علی ذلک فی اللسان اللاحق.

اللسان الخامس: ما قیّد فیه العمل أن یکون بدلالتهم والأخذ عنهم(علیهم السلام).

مثل صحیح زرارة: (لو أنّ رجلا قام لیله و صام ... و لم یعرف ولایة ولیّ الله فیوالیه و یکون جمیع أعماله بدلالته إلیه ما کان له علی الله حقّ فی ثوابه)(2).

ومثل صحیح عبد الحمید بن أبی العلاء عنه (علیه السلام): (فلن یقبل الله لهم عملا ولم یرفع له حسنة حتی یأتوا الله من حیث أمرهم ویتولّوا الإمام الذی امروا بولایته ویدخل من الباب الذی فتحه الله ورسوله لهم)(3).

ومثلها روایة مفضل بن عمر: (وإنّما ذلک کلّه یکون بمعرفة رجل

ص:503


1- (1) وسائل الشیعة، ج1، ص120، ح6.
2- (2) المصدر، ح2.
3- (3) المصدر، ح6.

منّ الله علی خلقه بطاعته وأمر بالأخذ عنه)(1).

ومثلها روایة محمّد بن مسلم عن أحدهما (علیهماالسلام) حیث فیه (إنّ عبدی أتانی من غیر الباب الذی اوتی منه إنّه دعانی وفی قلبه شکّ منک، فلو دعانی حتی ینقطع عنقه وتنتشر أنامله ما استجبت له ... کذلک نحن أهل البیت لا یقبل الله عمل عبد وهو یشکّ فینا)(2).

تقریب دلالة هذا اللسان بالبیان العقلی:

أنّه من الثابت المقرّر فی محلّه من مباحث النفس فی العقلیات أنّ أی عمل هو متفرّع من مبدأ نظری وأنّ العمل نحو متابعة من القوی العمالة للقوی النظریة هذا من جانب.

فمقتضی ذلک أنّ أی عبادة بحدّها الصحیح المرسوم فی التشریع الإلهی لا یمکن إصابتها إلّا بدلالة النبیّ صلی الله علیه و آله والأوصیاء (علیهم السلام) فمن لا یبنی علی وساطتهم - ولو إجمالا لا تفصیلا، ولو رجاء واحتمالا واحتیاطا - فإنّه سوف لن یذعن ولن یبن نظریا علی لزوم تلک الحدود لماهیة العمل العبادی فلن یأت بها، وبالتالی فهناک تلازم بین البناء ولو الرجائی الخوفی الاحتیاطی الذی هو أضعف الإیمان - علی وساطتهم و بین الإتیان بماهیة العمل العبادی بحدودها وهو التلازم الذی بین تفرّع العمل علی النظر کما أنّ النظر قد یتفرّع عن نظر أسبق منه، فمن ثمّ أشیر فی روایات هذا اللسان إلی تفرّع الأخذ عنهم(علیه السلام) والعمل بدلالتهم علی تولیتهم و معرفتهم و یترتّب علی ذلک أنّ ما قد افترض فی الکلمات فی

ص:504


1- (1) المصدر، ح18.
2- (2) مستدرک الوسائل، ج1، ص166.

نظائر المقام من البحث عن صحّة عبادة الکافر وأنّه هل یحصل منه التقرّب أو لا؟ فرض ممتنع فانه مع فرض مجیء الکافر بالعمل العباد علی حدوده المستلزم لاحتماله وساطة النبی الأکرم صلی الله علیه و آله حیث هو الدالّ علی تلک الماهیة، یکون ذلک عین فرض إیمانه و لو بدرجة الخوف الاحتمالی، الباعث له علی الاحتیاط فی العمل هذا بحسب القلب.

وأمّا بحسب القول و المبرز فإنّه یکتفی بما یتلفّظه من الشهادتین إن فرض أنّها صلاة أو یکتفی بمبرزیّة العمل الجارحی العبادی کإنشاء عملی للالتزام بالرسالة علی من بنی علی الاکتفاء بمطلق المبرز فی الإسلام کما هو الحال فی أولاد المسلمین عند البلوغ فإنّه قد اکتفی فیهم بمطلق المبرز العملی الدالّ علی التزامهم بالرسالة.

وهو ینسجم مع عموم تعریف (الإیمان ما وقّرته القلوب و صدّقته الأعمال) أو (إنّه إقرار باللسان وعقد بالقلب وعمل بالأرکان)(1) لو فسّر الاقرار بمطلق المبرز المؤدّی مؤدّی الشهادة والرسالة، ولذلک صحّحوا عبادة المرتدّ إذا تاب لقبول توبته بحسب الواقع وإن لم تقبل بحسب الظاهر ولم یحکم علیه بالإسلام. ولو بنی علی قیدیة الشهادتین اللفظیة فإنّ عمله هذا إنشاء عرفی للإسلام بناء علی ثبوت الواسطة بین الإسلام والکفر کما علیه الشهید الثانی.

وعلی أیّة حال فمع التحفّظ علی فرض الکفر والعناد یمتنع تأتی العبادة منه تقرّبا بحدودها وکذا الحال بنفس التقریب فی ماهیّة العمل

ص:505


1- (1) کما هو مضمون روایة مرویة فی کتب عدیدة منها، الکافی، ج2، ص27. بحار الانوار، ج5، ص32. مستدرک الوسائل، ج11، ص143.

العبادی بحدودها عند ما یأتی بها المخالف للحقّ المسلم بدلالتهم واحتمال وساطتهم (علیهم السلام) حیطة فإنّه نحو من الإیمان بولایتهم (علیهم السلام).

إن قلت: إنّه قد یفرض أنّ الکافر القاصر قد أطلعه أحد الأشخاص علی صورة العبادة من دون أن ینسبها إلی النبیّ صلی الله علیه و آله وکذا المخالف لو أتی بالعبادة علی طبق أحد المذاهب التی قد اتّفقت مطابقة صورة العمل فی فتواه لمذهب الإمامیة فإنّ العمل العبادی حینئذ بحدوده، یکون قد فرض الإتیان به من دون البناء علی وساطة الحجج (علیهم السلام) من العامل و هذا هو محلّ فرض المسألة.

قلت: إنّ هناک جانبا آخر ینضمّ إلی ما قدّمناه فیستوفی شقوق الفرض وهو لزوم الحسن العقلی فی صدور الفعل العبادی؛ إذ فی العبادة لا بدّ من حسنها الفعلی النفسی الذاتی وهو یتمّ بواجدیّتها لحدود الشرائط والأجزاء وهو الجانب الأوّل الذی قدّمناه آنفا.

کما لا بدّ من توفّر الحسن من جهة الصدور لا بمعنی الحسن الفاعلی کصفة من صفات الفاعل بل المراد الحسن الفاعلی فی حیثیّة فاعلیة و إیجاد الفاعل الذی هو عین فعله من جهة نسبة الفعل إلی الفاعل و مع فرض الآتی بالعبادة معاندا أو غر مسلّم لمعبوده فلا یکون فعله العبادی خضوعا و طوعانیة لمولاه.

وبعبارة اخری: إنّ الامتثال للفعل العبادی إن لم یکن بوساطة حجّة معتبرة، أی مع بناء المکلّف علی عدم الاعتماد علی حجّة معتبرة فی فراغ ذمّته، یکون حینئذ قائما مقام المتجرّی غیر الخاضع المستکین المتابع لطاعة مولاه، و من ثمّ استشکل غیر واحد من الأعلام فی عبادة غیر الموالین التارکین لطریق الاجتهاد و التقلید والاحتیاط التامّ. هذا مع الالتفات إلی

ص:506

اختلاف حجّیة الحجج شدّة و ضعفا و سبقا وتأخّرا، کما فی الفرق بین حجّیة النبوّة وحجّیة الإمامة وحجّیة فتوی الفقیه وإلی هذا الجانب الثانی یشیر بعض تعابیر هذا اللسان (حتی یأتی الله من الباب الذی أمره) فإنّ قوام العبادیة به.

إن قلت: هذا فی ما إذا کان الکافر أو المخالف مقصّرا وما ذا لو فرض قاصرا؟

قلت: إن القصور إنّما یستلزم العذر، وقد حرّرنا فی محلّه أنّ الأحکام العقلیة کالأحکام الشرعیة تتعدّد فیها المراحل الإنشائیة والفعلیة والتنجیزیة فغایة قصور القاصر عدم تنجیز القبح الفاعلی أی القبح فی جهة الصدور علیه لا عدم فعلیة ذلک القبح الفاعلی فإنّ من جعل الوسیط بینه وبین مولاه من هو عدوّ المولی الصادّ عنه المتکبّر عنه اللاحظ لنفسه باستقلال المستغنی بنفسه عن باریه تعالی، یکون متابعا حقیقة لذات الواسطة فیکون خاضعا و منصاعا لعدوّ المولی من حیث لا یشعر فهو وإن کان معذورا إلّا أنّه قد أتی بالقبح من جهة الصدور والایجاد الفاعلی وإن کان الفعل هو علی الحدود التی رسمها المولی نظیر ما إذا اعتقد القاصر حسن الریاء فأتی بالعمل ریاءً فإنّ ما أتی به لیس عبادة صحیحة و إن کان معذورا.

ونظیر أیضا ما إذا اعتقد قصورا أنّ فعلا محرّما هو حسن عند المولی فإنّ الفعل لا ینقلب عن قبحه الذاتی وإن کان معذورا. لاسیّما مع شدّة القبح کما هو الحال فی الواسطة و الحجّیة المتّبعة للدلالة علی العبادة فإنّ الواسطة إن لم تمحض فی العبودیة وکانت منصوبة من قبل ربّ العزّة فإنّ المتابعة لتلک الواسطة هی خضوع للکبر الموجود فی تلک الواسطة الذی

ص:507

هو جذر الشرک لدعوی المتکبّر الاستقلال عن الباری تعالی.

فتحصّل من هذا اللسان أنّ العبادة لا بدّ فیها من الحسن الفعلی بأن تکون مأتیاً بها علی حدودها کما أشارت إلیه عدّة من الروایات وأن یکون فیها حسنا من جهة الصدور الفاعلی الذی لا یتحقّق إلّا بمتابعة الحجّة المنصوبة من قبل المولی، کی یکون حینئذ عبادته أی خضوعه وتسلیمه فی خصوص ذلک الفعل تامّا وإلّا فلا تتحقّق العبادیة بل تکون ممزوجة مع الجرأة علی المولی أو متابعة ندّ مزعوم له.

اللسان السادس: ما ورد فی نفی استحقاق الثواب علی العمل:

مثل صحیح زرارة عن أبی جعفر (علیه السلام): (ما کان له علی الله حقّ فی ثوابه ولا کان من أهل الإیمان)(1) حیث أنّ هناک فرقا بین نفی الثواب الفعلی - أی نفی الإثابة الفعلیة و هو معنی عدم القبول الفعلی إجمالا - وبین نفی استحقاق الثواب حیث أنّ الصحیح فی تعریف استحقاق الثواب أنّه تفضّلی من الله بمعنی قابلیة وأهلیة المحلّ للإثابة.

فنفی استحقاق الثواب یلازم نفی الامتثال لأنّ التلازم بنیهما ذاتی وإن لم یکن هناک تلازم ذاتی بین الامتثال و الاثابة الفعلیة لا بمعنی خلف وعد الله لأنّ وعده تعالی بالاثابة الفعلیة مشروط بشرط زائد وهو عدم المجیء بالمحبطات التی اشترطها فی کتابه وعلی لسان نبیّه صلی الله علیه و آله .

فتحصّل: أنّ ولایتهم وولایة النبیّ صلی الله علیه و آله (2) والاقرار برسالته

ص:508


1- (1) وسائل الشیعة، ج1، ص119، باب29 من ابواب العبادات، ح2.
2- (2) هناک روایات کثیرة تدل اخذ ولایته منها ما فی البحار، ج27، ص170، ج43، ص187 و192 و201، وغیرها.

شرط فی صحّة العبادة فلا تصحّ من المخالف ولا الکافر فی فرض فعلیة هذین الوصفین، بلا فرق بین القاصر والمقصّر.

من قواعد باب التکلیف

قاعدة الجبّ الصغیر فی المخالف:

هذا کلّه بالنظر إلی مقتضی الأدلّة الأوّلیة أنّ ما یأتیانه من العبادات صورة باطلة وأمّا لو فرض استبصاره حیث قد وردت الروایات بعدم إعادة المخالف أعماله العبادیة السابقة.

أدلة عدم إعادة المخالف أعماله إذا استبصر:

منها: ما ورد فی صحیحة برید بن معاویة العجلی قال: سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن رجل حجّ وهو لا یعرف هذا الأمر ثمّ منّ الله علیه بمعرفته والدینونة به هل علیه حجّة الإسلام؟ أو قد قضی فریضته؟ فقال: (قد قضی فریضته ولو حجّ لکان أحبّ إلیّ)(1).

قال: وسألته عن رجل حجّ وهو فی بعض هذه الأصناف من أهل القبلة ناصب متدیّن ثمّ منّ الله علیه فعرف هذا الأمر یقضی حجّة الإسلام؟ فقال: (یقضی أحبّ إلیّ؟) وقال: (کلّ عمل عمله و هو فی حال نصبه و ضلالته ثمّ منّ الله تعالی علیه وعرفه الولایة فإنّه یؤجر علیه إلّا الزکاة فإنّه یعیدها؛ لأنّه وضعها فی غیر مواضعها؛ لأنّها لأهل الولایة، وأمّا الصلاة والحجّ والصیام فلیس علیه قضاء)(2).

ص:509


1- (1) وسائل الشیعة، ج11، ص61. نقل هذا المقطع من الحدیث.
2- (2) تهذیب الاحکام، ج5، ص10، نقل الحدیث کاملاً.

وصحیحة الفضلاء عن أبی جعفر وأبی عبدالله(علیهماالسلام) أنّهما قالا فی الرجل یکون فی بعض هذه الأهواء الحروریة والمرجئة والعثمانیة والقدریة ثمّ یتوب ویعرف هذا الأمر ویحسن رأیه أیعید کلّ صلاة صلّاها أو صوم أو زکاة أو حجّ أو لیس علیه إعادة شیء من ذلک؟ قال: (لیس علیه إعادة شیء من ذلک غیر الزکاة لا بدّ أن یؤدّیها لأنّه وضع الزکاة فی غیر موضعها و إنّما موضعها أهل الولایة)(1).

ومثلهما صحیح ابن اذینة(2) وغیرها من الروایات.

وهنا جهات من البحث:

الجهة الأولی: إنّ مفادها نفی الإعادة والقضاء وکتابة الأجر والثواب علی أعماله السابقة، ولکن هل هو من باب صحّة ما سبق أو التفضّل بالثواب مع عدم صحّته.

وجهان: تظهر الثمرة فی الأعمال اللاحقة و الآثار المترتّبة علی الوجود الصحیح السابق. فعلی الأوّل تترتّب و علی الثانی لا، فلا بدّ من إعادته کما لو توضّأ بوضوء أهل الخلاف أو اغتسل ثمّ استبصر فعلی الثانی لا بدّ من إعادة الوضوء للصلاة وإن کتب له الأجر علی الوضوء السابق.

نعم قد یقال بالتفصیل علی القول الثانی، ففی الأعمال اللاحقة التی اشترط فیها وجود العمل السابق کالعصر المشروط فیها الظهر، فإنّه لا إعادة لإطلاق نفی الإعادة فی الروایات، وأمّا فی الآثار الأخری اللاحقة

ص:510


1- (1) الکافی، ج3، ص545.
2- (2) المصدر، ص546.

التی لا یلزم بالإتیان بها فلا تترتّب.

وقد یدلّل علی القول الثانی بما رواه الشهید فی الذکری نقلا من کتاب الرحمة لسعد بن عبدالله مسندا عن رجال الأصحاب عن عمّار الساباطی قال: قال سلیمان بن خالد لأبی عبد الله(علیه السلام) وأنا جالس، إنّی منذ عرفت هذا الأمر اصلّی فی کلّ یوم صلاتین، أقضی ما فاتنی قبل معرفتی، قال: (لا تفعل فإنّ الحال التی کنت علیها أعظم من ترک ما ترکت من الصلاة)(1) ورواها الکشّی بإسناده المتّصل إلی عمّار الساباطی(2).

الجهة الثانیة: أنّ الظاهر انصراف هذه العمومات لنفی القضاء الاصطلاحی و إن کانت لفظة (القضاء) فی الروایات تستعمل فی الأعمّ من الأداء والقضاء إلّا أنّه فی المقام حیث أنّ محطّ السؤال هو علی ما تقدّم من أعمال فی عمره الذی مضی تکون قرینة علی ما قد انقضی وقته فالعمل فیها قد قیّد بکونه فی حال نصبه ب--(ثمّ منّ الله علیه) وطبیعة هذا القید متراخی الوجود.

وبعبارة أخری: أنّ الإطلاق حیث أنّه قیّد بهذا القید الذی هو لا أقلّ مجمل من حیث الوقوع دفعة أو التراخی ففی مثل الوضوء لا بدّ من إعادته لبقاء وقت الصلوات اللاحقة وکذا الغسل.

الجهة الثالثة: أنّ الظاهر شمول القاعدة للکافر المنتحل للإسلام کالناصبی والخارجی والمجسّم والمشبّه، کما تشمل المخالف المحکوم بإسلامه الظاهری وهل تشمل المرتدّ أو الکافر الأصلی فی العبادات التی

ص:511


1- (1) وسائل الشیعة، ج1، ص127.
2- (2) رجال الکشی، ص361، ما روی فی سلیمان ...

أتیا بها؟ ذهب الجواهر إلی عمومها فی المرتدّ، ولعلّ وجهه أنّ هذه الفروق المذکورة فی الروایات من الناصبی ونحوه کفرها من باب الارتداد.

أمّا الکافر الأصلی فلا مقتضی فی الدلالة للشمول بعد کون محطّ الأسئلة والأجوبة فی استبصار من کان من الطوائف الإسلامیة وأنّ الکافر الأصلی له حدیث الجبّ الکبیر.

الجهة الرابعة: هل تقیّد الصحّة أو عدم الإعادة بما إذا لم یخل بما هو رکن عندنا أو بما هو رکن عندهم؟

وبعبارة اخری: أنّ لعمله صورا فتارة یأتی بالعمل بما هو صحیح عندهم ولیس بصحیح عندنا للاخلال بالرکن، وتارة یأتی بالصحیح عندنا وإن أخلّ بالرکن عندهم، وثالثة یأتی بما هو لیس صحیحا لا عندنا ولا عندهم.

ظاهر عبارات الأصحاب تقیید الصحّة بما إذا لم یخل بالرکن عندنا إلّا أنّ الجواهر وجماعة حملوا عبارتهم علی خصوصیّة باب الحجّ؛ للاتّفاق فی الأرکان بیننا وبینهم حیث أنّه إذا أخلّ بالرکن عندنا یکون قد أخلّ بالرکن عندهم أیضا، لا أنّه یشترط فی الصحّة عدم الاخلال بالرکن عندنا، کیف وأنّ الأرکان فی بقیّة العبادات یخلّ بها حسب ما هم یأتون بها ولازم ذلک خروج أکثر الموارد من هذه الروایات.

هذا و یحتمل تقییدهم فی المقام بسبب أنّ ما یأتی به العامّة من الحجّ هو الإفراد أو القران ولیس بحجّ التمتّع فیتأمّل حینئذ فی إجزائه عنه بشمول الروایات لاسیّما بالالتفات إلی أنّ حجّ الإفراد أو القران بمجرّده لایجزء عندهم عن العمرة الواجبة.

نعم لن افترض أنّه أتی بالعمرة المفردة أیضا لکان لاحتمال الاجزاء

ص:512

حینئذ مجال لا سیّما و أنّ العامّة فی هذا النصّ یندر أو یقلّ فیهم الآتی بحجّ التمتّع، ومنه یقوی التفصیل فی الحجّ.

أمّا الکلام فی الصور فلا ریب فی تناول الروایات المزبورة فیما لو أتی بالعمل صحیحا عندهم، وکذا لو أتی بالعمل بالصورة الصحیحة عندنا وإن کانت فاسدة عندهم للأولویّة القطعیة، مضافا إلی ما یستفاد من لسان الروایات أنّها فی صدد التصحیح أو نفی الإعادة من جهة الخلل فی التولّی لهم (علیهم السلام)، وإنّما استفید معالجة الخلل فی الشرائط الاخری بدلالة الاقتضاء لا بالمفاد المطابقی، ویشیر إلی ذلک اللسان الوارد فی روایة عمّار الساباطی عنه (علیه السلام) حیث فیها قوله(علیه السلام) لسلیمان بن خالد: (فإنّ الحال التی کنت علیها أعظم من ترک ما ترکت من الصلاة) حیث أنّ المراد ترک شرائطها، وفحواه أولویّة الصحّة مع عدم ترک الشرائط سوی التولّی.

أمّا الصورة الأخیرة: وهی فیما إذا کان فاسدا عندنا وعندهم فقد یقال بانصراف الروایات عنه وأنّه القدر المتیقّن فیها هو ما إذا أتی بالعمل صحیحا عندهم، ولکن الأقوی هو الصحّة وشمول الروایات له أیضا بالالتفات إلی أنّ منشأ توهّم الانصراف هو جعل لسان هذه الروایات نظیر لسان لکلّ قوم نکاح أو لسان الزموهم بما ألزموا به أنفسهم، حیث أنّ موضوع تلک القاعدتین هو الصحیح عندهم، لکن لسان المقام لیس کذلک بل هو مطلق بلفظ کلّ عمل عمله مع افتراض أنّه فاسد و مختلّ أمّا من جهة التولّی أو منه ومن بقیّة الشرائط ولم یؤخذ للصحّة عندهم أی اعتبار فی التصحیح أو نفی الإعادة، وینبّه علی ذلک فرض ما لو صلّی صلاة بوضوئهم مع إخلاله أو نفی الإعادة، وینبّه علی ذلک فرض ما لو صلّی صلاة بوضوئهم مع اخلاله بترک شرط عندهم وهو مانع عندنا

ص:513

فتکون الصلاة فاسدة عندنا لکون الوضوء باطلاً عندنا، وفاسدة عندهم لترکه الشرط مع أنّ ذلک الترک ترک للمانع عندنا فهذه الصلاة أولی بالصحّة فیما لو أتی بها مقرونة بالشرط الذی هو عندهم و مانع عندنا.

الجهة الخامسة: قد استثنی من هذه الروایات خصوص الزکاة، وفی بعضها الآخر الحجّ أیضا، وقد ورد أیضا فیها ما ینفی إعادته.

تحریر التعارض وحله:

قد ورد فی الحج ما یدل علی الاعادة وما ینفیها.

ففی مصحح علی بن مهزیار قال: کتب ابراهیم بن محمد بن عمران الهمدانی الی أبی جعفر(علیه السلام): انی حججت وأنا مخالف وکنت صرورة فدخلت متمتعا بالعمرة الی الحج قال: فکتب إلیّ: (أعد حجّک)(1). و مثلها معتبرة أبی بصیر عن أبی عبدالله(علیه السلام): (لو أن رجلا معسرا أحجه رجل کانت له حجة فان أیسر بعد ذلک کان علیه الحج و کذلک الناصب اذا عرف فعلیه الحج وان کان قد حجّ)(2).

ولکن کلا الروایتین یقابلهما صحیحة برید بن معاویة الدالة علی عدم لزوم الاعادة. و هذه الصحیحة و ان اسقطت لفظة الحج فی طریق الکلینی إلا أن المعتمد ثبتها لأصالة عدم الزیادة.

وکذا روایات أخری معاضدة وان لم تکن معتبرة السند.

مضافا الی أن روایة أبی بصیر لیس مفادها الوجوب حیث أنّ صدرها فی الحج البذلی و لا یلزم فیه الاعادة إلا علی نحو الندب وقد جعل

ص:514


1- (1) الکافی، ج4، ص275.
2- (2) من لایحضره الفقیه، ج2، ص422.

الحکم فیهما واحدا.

وصدر صحیحة برید بن معاویة العجلی(1) قد صرّح فیها بأنها قد قضی حجّة الاسلام وأن الاعادة ندبیة ومثله صحیحة عمر بن أذینة(2).

وبذلک تمّ الکلام فی هذه القاعدة. هذا وعلی ضوء القاعدتین المتقدّمتین یتّضح أنّ إحرام الکافر مع فرض کفره لا یصحّ وإن أسلم فی الأثناء فیجب علیه الإعادة من المیقات مع التمکّن و إلّا یرجع ما أمکنه أو من موضعه علی ما مبین فی بحث المواقیت.

ص:515


1- (1) وسائل، ابواب الحج، باب23، ح1.
2- (2) المصدر، ح2.

ص:516

قاعدة ولایة الأرحام

اشارة

ص:517

ص:518

من قواعد المعاملی ولایة الأرحام

القاعدة فی کلمات الأصحاب:

قال فی مفتاح الکرامة(1) عند قول العلّامة - (والأولی بها - أی الصلاة علی المیت - هو الأولی بالمیراث) - (قال: هذا الحکم مقطوع به فی کلام الأصحاب وظاهرهم انه مجمع علیه)

ثم حکی جملة من الکلمات علی ذلک عن المدارک(2) والمنتهی(3) والمختلف(4) والخلاف(5) والغنیة(6) والمبسوط (7) والسرائر والمحقق(8)

ص:519


1- (1) مفتاح الکرامة، ج4، ص113، الطبعة المحققة.
2- (2) المدارک، ج4، ص155.
3- (3) المنتهی، ج1، ص450.
4- (4) المختلف، ج2، ص304.
5- (5) الخلاف، ج1، مسالة 535.
6- (6) الجوامع الفقهیة، کتاب الطهارة، ص502.
7- (7) المبسوط، ج1، ص183.
8- (8) فی الشرائع، ج1، ص105، فی المعتبر، ج2، ص345.

والشهیدین(1) والمحقق الثانی(2) وغیرهم(3)، وحکی عن جماعة ومنهم التحریر(4) عموم ذلک للأنثی ولکنه حکی عن المصباح(5) للشیخ وکذا الاقتصاد(6) والجامع(7) والمقنعة(8) التقیید بالذکور والرجال بل حکی عدم الخلاف علی أولویة الذکر من الانثی ونقل جملة من کلمات المتأخرین علی ذلک وکذا ابن إدریس والمحقق والمبسوط ثم حکی عن المدارک ان المراد بالأولی بالمیت هو امس الناس رحماً به وعلاقة من غیر اعتبار لجانب الإرث، وحکی(9) عن الکاتب ان الجد اولی من الابن خلافاً للمشهور فانهم اتبعوا طبقات الإرث والأب عندهم أولی من الابن والزوج أولی من کل أحد.

أدلة القاعدة:

أولًا: الآیة الکریمة: وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلی بِبَعْضٍ فِی کِتابِ

ص:520


1- (1) الشهید الاول فی الدروس ، ج1، ص 112. و الشهید الثانی فی المسالک ، ج1، ص 262.
2- (2) جامع المقاصد، ج1، ص 408.
3- (3) کالصیمری فی تلخیص الخلاف، ج1، ص 353. و السبزواری فی کفایة الاحکام ، ص 22. و الاردبیلی فی مجمع الفائدة و البرهان ، ج2، ص 455.
4- (4) المذکور فی التحریر قوله (للمرأة ان تؤم بمثلها جماعه ) و لم یذکر الاجماع علی ذلک (التحریر، ج1، ص 19.
5- (5) مصباح المتهجد، ص 472.
6- (6) الاقتصاد، ص 275.
7- (7) الجامع للشرائع ، ص 120.
8- (8) المقنعة ، ص 232.
9- (9) مختلف الشیعة ، ج2، ص 303.

اَللّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ وَ الْمُهاجِرِینَ (1) فإن الآیة لا تخص الإرث بل تعمه وغیره.

ثانیاً: جملة من الروایات: منها ما ورد فی الصلاة ففی الصحیح إلی ابن أبی عمیر عن بعض أصحابه عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال: (یصلی علی الجنازة أولی الناس بها أو یأمر من یحب)(2).

ومثلها المعتبرة عن ابن أبی نصر عن بعض أصحابنا(3) وصحیح زرارة عن أبی جعفر(علیه السلام) قال: قلت المرأة تؤم النساء، قال: (لا إلا علی المیت إذا لم یکن أحد أولی منها)(4).

ومنها: ما ورد فی الدخول للقبر کصحیح زرارة انه سأل أبا عبد الله(علیه السلام) عن القبر کم یدخله قال: (ذاک إلی الولی إن شاء أدخل وتراً وإن شاء شفعاً)(5).

ومنها: ما ورد فی التغسیل کموثق عمار الساباطی عن أبی عبد الله(علیه السلام) انه سئل .. عن الصبیة تموت ولا تصاب امرأة تغسلها قال: (یغسلها رجل أولی الناس بها)(6) وموثق غیاث بن إبراهیم الرزامی عن جعفر عن أبیه عن علی(علیه السلام) قال: قال أمیر المؤمنین(علیه السلام): (یغسل المیت أولی الناس به أو من یأمره الولی بذلک)(7).

ومنها: ما ورد فی الصوم مما یبین من هو أولی الناس به کصحیح

ص:521


1- (1) سورة الاحزاب، الآیة:6.
2- (2) وسائل الشیعة، ج3، ص115، با ب23 من ابواب صلاة الجنازة، ح1.
3- (3) المصدر، ح2.
4- (4) وسائل الشیعة، ج3، ص117، با ب23 من ابواب الجنائز، ح1. طبعة آل البیت.
5- (5) وسائل الشیعة، ج3، ص184، با ب24 من ابواب الدفن، ح1. طبعة آل البیت.
6- (6) وسائل الشیعة، ج2، ص527، با ب23 من ابواب غسل المیت، ح2. طبعة آل البیت.
7- (7) وسائل الشیعة، ج2، ص535، با ب26 من ابواب غسل المیت، ح1.

حفص بن البختری عن أبی عبد الله(علیه السلام) فی الرجل یموت وعلیه صلاة أو صیام قال: (یقضی عنه أولی الناس بمیراثه) قلت: فإن کان أولی الناس به امرأة؟ فقال: (لا، إلّا الرجال)(1).

وفیها تصریح بأن الأولی بالمیت هو الأولی المأخوذ موضوعاً فی باب الإرث.

ومثله المعتبرة إلی حماد بن عثمان عمن ذکره عن أبی عبد الله(علیه السلام)(2).

وفی صحیح الصفار قال: کتب إلی الأخیر(علیه السلام) رجل مات وعلیه قضاء من شهر رمضان عشرة أیام وله ولیان، هل یجوز لهما أن یقضیا عنه. جمیعاً خمسة أیام أحد الولیین وخمسة أیام الآخر؟ فوقع(علیه السلام) (یقضی عنه أکبر ولییه عشرة أیام ولاءً إن شاء الله)(3).

وفیه تصریح بتعدد الولی وهو ینطبق علی طبقات موضوع الإرث.

ومنها: ما أورده فی الإرث وان لم یمکن متنه مختصاً بالإرث کصحیح یزید الکناسی عن أبی جعفر(علیه السلام) قال: ابنک أولی بک من ابن ابنک، وابن ابنک أولی بک من أخیک وقال وأخوک لأبیک وامک أولی بک من أخیک لأبیک وأخوک لأبیک أولی بک. من أخیک لأمک .....(4) واستعرض(علیه السلام) بقیة درجات القرب والبعد فی الرحم. وهی غیر مقیدة بباب الإرث بل فیها بیان عموم الأولویة.

وفی موثق زرارة قال: سمعت أبا عبد الله(علیه السلام) یقول: وَ لِکُلٍّ جَعَلْنا

ص:522


1- (1) و سائل الشیعة ، ج10، ص 331، با ب 23 من ابواب احکام شهر رمضان ، ح 5.
2- (2) و سائل الشیعة ، ج2، ص 331، با ب 23 من ابواب احکام شهر رمضان ، ح 6.
3- (3) و سائل الشیعة ، ج10، ص 330، با ب 23 من ابواب احکام شهر رمضان ، ح 3.
4- (4) و سائل الشیعة ، ج26، ص 63، با ب 1 من ابواب موجبات الارث، ح 2.

مَوالِیَ مِمّا تَرَکَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ قال: انما عنی بذلک: أولی الأرحام فی المواریث، ولم یعنی أولیاء النعم، فأولاهم بالمیت أقربهم إلیه من الرحم التی تجره إلیها(1).

هذا مضافاً إلی ما ورد من التعبیر- بولی المیت أولی الشخص به ولو کان حیاً- فی الأبواب المختلفة کما فی باب الدین (ولی المیت یقضی دینه)، والوصیة والنکاح (الذی بیده عقدة النکاح هو ولی أمرها)، والطلاق والحدود والدیات والزکاة وغیرها.

ثم ان المحصل من مفاد الأدلة من ناحیة الموضوع هو الامس رحماً والأقرب، وهو الذی أخذ موضوعاً فی أحکام الإرث.

وأما من ناحیة المحمول فهذه الولایة بین الأرحام تعنی أخصیة الرحم بشؤون رحمه سواء کانت بمعنی التکافل والخدمة علیه أو الناظریة والقیمومة أو الوراثة کل باب بحسبه، فهو وإن کان مفاداً مجملًا من هذه الناحیة إلّا أن ذلک یثمر فی الأبواب حیث یکون نمط الولایة مبیناً ماهیة بحسب أدلة ذلک الباب إلّا انه مجهول من یختص به فتکون هذه الأدلة مبینة لصاحب الاختصاص وهو الرحم.

عموم القاعدة والإشکالات:

أولاً: ما ذکره صاحب الجواهر من ان حکمة الإرث لعلها مبتنیة علی غیر الأولویة والرحمیة فإن الجد أقرب من ولد الولد ومع ذلک لا یرث معه، کما هو الحال فی عدم کون الأکثر نصیباً أقرب. فکیف یراعی ما فی الإرث من طبقات.

ص:523


1- (1) وسائل الشیعة، ج26، ص63، با ب1 من ابواب غسل المیت، ح1.

ثانیاً: إن الآیات فی أولی الارحام واردة فی الإرث فلا عموم ولا اطلاق لها إلی غیره من الموارد.

ثالثاً: ان فیما تقدم فی الروایات تخصیص القضاء بالولد الأکبر مع عدم الالتزام بذلک فی الإرث ولا فی جملة من المقامات.

رابعاً: إن تقدیم الذکور یغایر ما علیه مقتضی ولایة الرحم فی الإرث إلّا علی القول بالتعصیب.

ویرد الأول: بأن الأقربیة من جهة الآداب وتوقیر الکبار لا تنافی الأولویة الحقیّة للطبقة الأولی کما هو الحال فی إرث المال وحق القصاص وغیرها من الحقوق. وکما هو الحال فی أولویة الزوج من العصبة ولکن أهلها یمنعونه تعصباً کما فی صحیح محمد بن مسلم(1) وصحیح عبد الله بن سنان(2)، ولعل السیرة فی الجد مع ولد الولد لکونه قاصراً فی الغالب فی حیاة الجد.

أما الثانی: فورود الآیات فی الإرث لا ینافی عمومها فإن المورد لا یخصص الوارد مع أن لفظ الآیة تکرر فی کل سورتی الأنفال والأحزاب(3) ولم یذکر فیهما إرث المال بل سیاق الأولی فی مورد الولایة فی النصرة والحمایة السیاسة والثانیة فی مورد زعامة وولایة الرسول علی المؤمنین وأنه أولی بهم من أنفسهم مع اطلاق المتعلق المفید للعموم لکل من الإرث وغیره.

هذا مع أن الإرث فی الاستعمال القرآنی یعم الأموال وغیرها من

ص:524


1- (1) وسائل الشیعة، ج2، ص529، با ب24 من ابواب غسل المیت، ح4.
2- (2) وسائل الشیعة، ج2، ص528، با ب23 من ابواب غسل المیت، ح1.
3- (3) سورة الانفال، الآیة:75. وسورة الاحزاب، الآیة: 6.

الأمور الحقوقیة والاعتباریة الأخری، کما فی قوله تعالی علی لسان زکریا(علیه السلام) وَ إِنِّی خِفْتُ الْمَوالِیَ مِنْ وَرائِی وَ کانَتِ امْرَأَتِی عاقِراً فَهَبْ لِی مِنْ لَدُنْکَ وَلِیًّا، یَرِثُنِی وَ یَرِثُ مِنْ آلِ یَعْقُوبَ (1) مع أن موردها مواریث الأنبیاء، وکذلک قوله تعالی وَ وَرِثَ سُلَیْمانُ داوُدَ وَ قالَ یا أَیُّهَا النّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّیْرِ وَ أُوتِینا مِنْ کُلِّ شَیْ ءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِینُ (2) مع أن موردها الخلافة الإلهیة والعطیات والنعم اللدنیة، وقال تعالی فی شأن طالوت حیث تقلد الامامة علی بنی إسرائیل إِنَّ آیَةَ مُلْکِهِ أَنْ یَأْتِیَکُمُ التّابُوتُ فِیهِ سَکِینَةٌ مِنْ رَبِّکُمْ وَ بَقِیَّةٌ مِمّا تَرَکَ آلُ مُوسی وَ آلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِکَةُ إِنَّ فِی ذلِکَ لَآیَةً لَکُمْ إِنْ کُنْتُمْ مُؤْمِنِینَ (3) و(ما ترک) مورده فی الآیة مواریث النبوات، ومنه یظهر العموم فی الآیة الثالثة التی مرّ تفسیره (علیه السلام) لها وَ لِکُلٍّ جَعَلْنا مَوالِیَ مِمّا تَرَکَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ (4) للإرث فی المال وغیره من الحقوق غیر المالیة والصلاحیات الاعتباریة، غایة الأمر أن عموم الآیة فی عموم الأرث وغیره بمنزلة العموم الفوقانی یرد تفصیله وشروط ولایة الرحم لبعضهم البعض فی الأبواب المختلفة بالأدلة الخاصة فی کل باب کما هو الحال فی الرث المالی ان له شروط کاتحاد الملة وموانع کالقتل ونحو ذلک کذلک الحال کلما کان مورد الإرث وولایة الرحم لبعضهم البعض ذا شأن خطیر فإنه تشتد الشروط وانحاء الموانع بحسب تناسب الأمر الموروث فإنه قد یستدعی الطهارة بدرجة العصمة کما یشیر

ص:525


1- (1) سورة مریم، الآیة: 6 5.
2- (2) سورة النحل، الآیة: 16.
3- (3) سورة البقرة، الآیة: 248.
4- (4) سورة النساء، الآیة: 33.

إلیه قوله تعالی: إِنَّ اللّهَ اصْطَفی آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِیمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَی الْعالَمِینَ ، ذُرِّیَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَ اللّهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ (1).

فان الوراثة الاصطفائیة فی الذریة الطاهرة والنسل المطهر لا ما هو فی العرف القبلی والعرقی والملوکی.

ویدعم العموم فی الآیات ما فی آیة الخمس(2) وآیة الفیء(3) أن ملکیة التصرف والولایة للخمس والفیء بعد الله تعالی ورسوله أوکلت إلی قربی قرباه صلی الله علیه و آله الدال علی وراثة مقامه(علیه السلام) فی ذلک وکما فی الآیة ولایة أولی الأرحام فی سورة الأحزاب(4).

ومن ثم ورد احتجاج أمیر المؤمنین(علیه السلام) أیام السقیفة علیهم بالإرث، وکذلک احتجاج الصدیقة(علیه السلام) علیهم فی ملکیة التصرف فی الفیء وفدک بآیات الإرث.

الاستشهاد علی العموم بالروایات:

ثم إنه یشهد لعموم ولایة الأرحام لغیر الإرث وما ورد فی جملة من الأبواب:

منها: ما ورد فیمن مات ولم یوص وله صغار وجواری کصحیحة علی ابن رئاب سألت أبا الحسن موسی(علیه السلام) عن رجل بینی وبینه قرابة مات وترک أولاد صغاراً وترک ممالیک له غلماناً وجواری ولم یوص، فما

ص:526


1- (1) سورة آل عمران، الآیة: 34 33.
2- (2) سورة الانفال، الآیة: 41.
3- (3) سورة الحشر، الآیة: 7.
4- (4) سورة الاحزاب، الآیة: 6.

تری فیمن یشتری منهم الجاریة فیتخذها أم ولد؟ وما تری فی بیعهم؟ فقال: إن کان لهم ولی یقوم بأمرهم باع علیهم ونظر لهم کان مأجوراً فیهم، قلت: فما تری فیمن یشتری منهم الجاریة فیتخذها أم ولد؟ قال: لا بأس إذا باع علیهم القیم لهم الناظر فیما یصلحهم، ولیس أن یرجعوا عما صنع القیم لهم الناظر فیما یصلحهم(1).

والروایة وإن لم تکن متعرضة فی أصل السؤال والجواب إلی کیفیة تولیة الولی ومن هو.

إلّا أن فرض السؤال عدم کونه وصیاً کما أنه (علیه السلام) لم یبین فی الجواب تنصیباً منه لذلک الولی بل ظاهر الجواب افتراض وجود الولایة بین الشخص الولی القیم لصغار الورثة وهو ینصرف عرفاً ابتداءً إلی ولایة الأرحام.

ومنها: ما ورد فی طلاق الأخرس: صحیح ابن أبی نصر البزنطی أنه سأل أبا الحسن الرضا (علیه السلام) عن الرجل تکون عنده المرأة یصمت ولا یتکلم، قال: أخرس هو؟ قلت: نعم، ویعلم منه بغض لامراته وکراهة لها، أیجوز أن یطلق عنه ولیه؟ قال: لا، ولکن یکتب ویشهد علی ذلک، الحدیث(2).

ومنها: ما ورد فی طلاق المعتوه کصحیح أبی خالد القماط قال: قلت لأبی عبد الله(علیه السلام) رجل یعرف رأیه مرة وینکر اخری، یجوز طلاق ولیه علیه؟

قال: ماله هو لا یطلق؟ قلت لا یعرف حدّ الطلاق ولا یؤمن علیه إن طلق الیوم أن یقول غداً: لم أطلق، قال: ما أراه إلّا بمنزلة الامام یعنی:

ص:527


1- (1) وسائل الشیعة، ج19، ص422، با ب88 من ابواب الوصایا، ح1.
2- (2) وسائل الشیعة، ج22، ص47، با ب19 من ابواب الوصایا، ح1.

الولی(1) وفی طریق آخر ما أری ولیه إلّابمنزلة السلطان)(2).

وفی صحیح شهاب بن عبد ربه (قال: قال أبو عبد الله(علیه السلام) المعتوه الذی لا یحسن أن یطلق یطلق عنه ولیه علی السنة)(3). وإطلاق الولی ینصرف إلی القریب فی الرحم الوارث له.

ومنها: ما ورد فی طلاق المفقود.

کصحیح یزید بن معاویة قال: سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن المفقود کیف تصنع امرأته؟.

فقال: ما سکتت عنه وصبرت فخل عنها، وإن هی رفعت أمرها إلی الوالی أجلها أربع سنین، ثم یکتب الصقع الذی فقد فیه فلیسأل عنه، فان خبر عنه صبرت وإن لم یخبر عنه بحیاة حتی تمضی الأربع سنین دعا ولی الزوج المفقود فقیل له: هل للمفقود مال؟ فان کان للمفقود مال أنفق علیها، حتی یعلم حیاته من موته وإن لم یکن له مال قیل للولی: انفق علیها، فإن فعل فلا سبیل لها إلی أن تتزوج ما أنفق علیها، وإن أبی أن ینفق علیها، أجبره الوالی أن یطلق تطلیقه فی استقبال العدة وهی طاهرة فیصیر طلاق الولی طلاق الزوج، الحدیث(4).

ومثلها صحیح الحلبی وفیها (فإن لم ینفق علیها ولیه أو وکیله أمره أن یطلقها)(5).

ص:528


1- (1) وسائل الشیعة، ج22، ص81، با ب34 من ابواب مقدمات الطلاق، ح1.
2- (2) وسائل الشیعة، ج22، ص84، با ب35 من ابواب مقدمات الطلاق، ح1.
3- (3) وسائل الشیعة، ج22، ص84، با ب35 من ابواب مقدمات الطلاق، ح2.
4- (4) وسائل الشیعة، ج22، ص156، با ب23 من ابواب اقسام الطلاق، ح1.
5- (5) وسائل الشیعة، ج22، ص156، با ب23 من ابواب اقسام الطلاق، ح4.

ومثلها صحیح أبی الصباح الکنانی وفیه (وإن لم یکن له ولیّ طلقها السلطان)(1).

وهذه الروایات دالة علی مفروغیة صلاحیة الولی فی التصرف فی أموال المفقود وشؤونه کالطلاق، والولی ینصرف إلی من هو أمس رحماً للوارث.

ومنها: ما ورد فی أموال الیتیم کروایة علی بن المغیرة قال: قلت لأبی عبدالله(علیه السلام): أن لی ابنة أخ یتیمة فربما أهدی له الشیء فآکل منه ثم أطعمها بعد ذلک الشیء من مالی فأقول: یارب هذا بذا فقال(علیه السلام): لا بأس(2).

وهی وإن لم یکن مفادها متعرضاً إلی ولایة ذی الرحم، ولکن الظاهر عدم سبق استئذان من الراوی فی تولیه لشؤون ابنة أخیه ومفروغیة ولایته لها بالرحم.

ولایة السلطان:

ثم إنه مما یدعم ولایة الأرحام لبعضهم البعض ما اشتهر لدی الأصحاب من أن السلطان ولی من لا ولی له أی سلطان العدل وهو نظیر ما ورد من ان الامام(علیه السلام) (وارث من لا وارث له) أی انه بولایته العامة فی الأمور العامة تصل النوبة إلیه(علیه السلام) فی الأمور الخاصة بأحاد العامة فی شؤونهم الشخصیة بعد فقد الوارث الخاص لهم لکنه(علیه السلام) بولایته الأخری وهو کونه أولی بالمؤمنین من أنفسهم ونظیر قوله تعالی: ما کانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَی اللّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ یَکُونَ لَهُمُ الْخِیَرَةُ مِنْ

ص:529


1- (1) وسائل الشیعة، ج22، ص156، باب23 من ابواب اقسام الطلاق، ح5.
2- (2) وسائل الشیعة، ج17، ص249، باب71 من ابواب ما یکتسب به، ح2.

أَمْرِهِمْ (1) فولایته فی الأمور والشؤون الخاصة مقدمة علی ولایة الأشخاص والورّاث إلّا أن الکلام فی المقام من جهة ولایته العامة، وهذا غیر ولایة الامام(علیه السلام) من جهة اخری حیث أنه أولی بالمؤمنین من أنفسهم وراثة لمقام النبی صلی الله علیه و آله فضلا عن من ینوب عنه، لا سیما بناء علی أدلة الحسبیة لنیابته، حیث أنه تکون أدلة ولایة ذوی الأرحام واردة، إلّافیما یرجع إلی التنازع أو فیما هو معرض ذلک.

ألأدلة المناهضة للعموم:

وقد یستدل بجملة من الروایات الاخری علی ولایة الحاکم فی القصر والأیتام دون ذوی الأرحام کذیل صحیح إسماعیل بن سعد الأشعری قال سألت الرضا(علیه السلام) فی حدیث- عن الرجل یموت بغیر وصیة وله ولد صغار وکبار أیحل شراء شیء من خدمه ومتاعه من غیر أن یتولی القاضی بیع ذلک، فإن تولاه قاضٍ قد تراضوا به ولم یستعمله الخلیفة أیطیب الشراء منه أم لا؟

فقال: إذا کان الأکابر من ولده معه فی البیع فلا بأس إذا رضی الورثة بالبیع، وقام عدل فی ذلک(2).

وصحیح بن یزیع - فی حدیث - فذکرت ذلک لأبی جعفر(علیه السلام) وقلت له: یموت الرجل من أصحابنا ولا یوصی إلی أحد ویخلف جواری فیقیم القاضی رجلًا منا فیبیعهن أو قال: یقوم بذلک رجل منا فیضعف قلبه لأنهن فروج، فما تری فی ذلک؟ قال: فقال: إذا کان القیم به مثلک ومثل

ص:530


1- (1) سورة الاحزاب، الآیة:36.
2- (2) وسائل الشیعة، ج17، ص363، باب16 من ابواب عقد البیع، ح1.

عبد الحمید فلا بأس(1).

ولا یتوهم أن اشتراط رضا الکبار بلحاظ حصتهم فانه لا حاجة لبیانه مضافاً إلی اطلاق الشرط.

وموثق سماعة قال: سألته عن رجل مات وله بنون وبنات صغار کبار من غیر وصیة وله خدم وممالیک وعقد، کیف یصنع الورثة بقسمة ذلک المیراث؟

قال: ان قام رجل ثقة قاسمهم ذلک کله فلا بأس(2).

وصحیح إسماعیل بن سعد قال سألت الرضا(علیه السلام) - فی حدیث - عن الرجل یصحب الرجل فی سفر فیحدث به حدث الموت ولا یدرک الوصیة کیف یصنع بمتاعه وله أولاد صغار وکبار أیجوز أن یدفع متاعه ودوابه إلی ولده الأکابر أو إلی القاضی؟ فان کان فی بلده لیس فیها قاض کیف یصنع؟

فان کان دفع المتاع إلی الأکابر ولم یعلم فذهب فلا یقدر علی رده کیف یصنع؟ قال إذا أدرک الصغار وطلبوا لم یجد بداً من اخراجه إلّا أن یکون بأمر السلطان(3).

حیث إن صحیح إسماعیل بن سعد ذیلًا وصدراً افترض فیها قیام إما العدل أو السلطان بالتصرف المالی وإلّا فلا یکون نافذاً، مع أنه قد افترض وجود الأخوة الکبار للصغار ومثل هذا المفاد موثق سماعة وصحیح ابن بزیع.

ص:531


1- (1) وسائل الشیعة، ج17، ص363، باب16 من ابواب عقد البیع، ح2.
2- (2) وسائل الشیعة، ج19، ص422، باب88 من ابواب الوصایا، ح2.
3- (3) وسائل الشیعة، ج19، ص422، باب88 من ابواب الوصایا، ح3.

ویرد هذا الاستدلال وإن تمسک بها لولایة الحاکم أو عدول المؤمنین:

أن مورد الروایات لیس مجرد التصرف فی أموال الصغار الصبیة بل هو قسمة الترکة وهی من شؤون القاضی ومن ثم یصح فیه قاضی التحکیم کما فرض فی ذیل صحیح إسماعیل بن سعد واشترط فیه العدالة مع انه اشترط أیضاً رضاء الکبار فی بیع الصغار دال علی نظارتهم وولایتهم علی اخوتهم وعدم تفرد العدل فی التصرف للقسمة. وأما ضمان دافع الترکة للکبار إذا طالب الصغار بسهمهم بعد أن یدرکوا، فنظیر ما ورد فی المدین للمیت انه لا یدفع الترکة للورثة إذا علم انهم لا یدفعونها فی دیون المیت. ثم إن مما تقدم ذکره فی محصل مفاد أدلة ولایة ذوی الأرحام أنها محمولًا متعرضة لبیان صاحب الاختصاص والولایة وهو الأقرب رحماً مع عدم بیانها تفصیلًا لماهیة الاختصاص بحسب الموارد، ولا یرد علی هذه القاعدة خروج أو تقیید بعض الموارد لا بحسب القرب المعهود فی باب الإرث نظیر اختصاص قضاء صلاة المیت وصومه بالولد الأکبر، أو اختصاص وجوب النفقة بالعمودین دون کل الأرحام.

خصوصیة الموارد:

أما تقدیم الذکور علی الإناث فی کل طبقة کما ذهب إلیه المشهور فیمکن الاستشهاد له بما یظهر من جملة من الروایات فی أسئلة الرواة وتقریر الأجوبة علی ذلک:

کمعتبرة أبی بصیر عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال: سألته عن المرأة تموت مَن أحق أن یصلّی علیها؟ قال: الزوج قلت: الزوج أحق من الأب والأخ

ص:532

والولد؟ قال: نعم(1).

وفی صحیح حفص بن البختری عن أبی عبد الله(علیه السلام) فی المرأة تموت و معها أخوها وزوجها أیهما یصلّی علیها فقال: أخوها أحق بالصلاة علیها(2).

ومثل حسنة عبد الرحمن بن أبی عبد الله(3) وهما وإن حملتا علی التقیة فی مقابل روایات الباب لکونه مذهب العامة إلّا أن ارتکاز السؤال فی أن المتصدّی هو الذکور مع وجود هم فی الطبقة والتقیید بالطبقة دون مطلق الطبقات مضافاً إلی مراعاة ترتیب الطبقات فی سؤال السائل، مع قصره علی الذکور، دون فرض الإناث فیکون الجواب تقریراً لذلک، ویدل علیه:

صحیح زرارة عن أبی جعفر(علیه السلام) قال: قلت: المرأة تؤم النساء؟ قال: لا إلّا علی المیت إذا لم یکن أحد أولی منها، تقوم وسطهن فی الصف الحدیث(4).

وفی روایتی الحسن بن زیاد الصیقل(5) وجابر(6) التقیید ب--(اذا لم یکن معهن رجل) ومفادهما عین ما تقدم من الروایات من تقدم الذکور. فالصحیحة دالة علی شمول ولایة الأرحام لها، وأنه لا یتقدم علیها من هو متأخر عنها فی الرحم، کما أن ما تقدم من الروایات دالة علی أن تجهیز المیت

ص:533


1- (1) وسائل الشیعة، ج3، ص165، باب24 من ابواب الجنائز، ح1.
2- (2) وسائل الشیعة، ج3، ص166، باب24 من ابواب الجنائز، ح4.
3- (3) وسائل الشیعة، ج3، ص165، باب24 من ابواب الجنائز، ح5.
4- (4) وسائل الشیعة، ج3، ص117، باب25 من ابواب صلاة الجنائز، ح1.
5- (5) وسائل الشیعة، ج3، ص117، باب10 من ابواب صلاة الجنائز، ح2.
6- (6) وسائل الشیعة، ج3، ص117، باب25 من ابواب صلاة الجنائز، ح4.

من شؤون الذکور فهم مقدمون علی الإناث، ولا تخفی حکمته لکون تجهیزه من الصلاة والدفن یستلزم الخلطة مع الرجال مع کونها کلفة تناسب الذکور. هذا مضافاً إلی أن عموم أنه یغسل المیت أو یصلی علیه (أولی الناس به) شامل للمرأة، ویضاف إلی ذلک أن ولایة الذکر لنظارته وتصدیه مباشرة، بخلاف الانثی فانها فی الصلاة والدفن مجرد نظارة مع فرض وجود الرجال ولو الأجانب، فیتبین أن ولایة الذکر أولی وأوسع، لکن مقتضی ذلک أولویة الاناث فی التغسیل والتکفین لأن التصدی لیس من شؤون الرجال الأرحام إذا کان المیت إمرأة، کما وحکی عن الشیخ والحلی وابن فهد وکشف الالتباس.

تقدم ولایة الزوج علی الأرحام:

ثم ان الزوج مقدم علی الرحم بلا خلاف بین الأصحاب، إلّا أنه وقع الخلاف فی جواز تغسیل کل من الزوج والزوجة للآخر اختیاراً أو مجرداً عن الثیاب، ونسب الجواز فی الأول إلی المشهور وعن الشیخ فی التهذیبین والغنیة وحواشی الشهید علی القواعد اشتراط الاضطرار، وعن الذکری ان ظاهر الکثیر من الأصحاب انهما کالمحارم، مع ان ظاهر الأکثر فی المحارم الاختصاص بالضرورة واختار جماعة الجواز فی الثانی واختار جماعة اخری المنع وکونه من وراء الثیاب، وعن الاستبصار وجوب کونه من وراء الثیاب فی تغسیل الرجل لزوجته دون العکس هذا، وأما أولویة الزوج علی الأرحام فقد مر معتبر أبی بصیر وفی روایة اخری (نعم ویغسلها)(1).

ص:534


1- (1) وسائل الشیعة، ج3، ص115، باب24 من ابواب صلاة الجنائز، ح2.

وفی روایة إسحاق بن عمار عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال: (الزوج أحق بامرأته حتی یضعها فی قبرها)(1).

وأما صحیح حفص وروایة عبد الرحمن بن أبی عبد الله حیث فیهما تقدیم الأخ علی الزوج فقد حملها الشیخ علی التقیة لموافقتها للعامة حیث انه مذهب الأربعة لما ورد عن عمر فی ذلک. مضافاً إلی ما سیأتی من تقدم الزوج علی المحارم الرجال.

وأما جواز تغسیل کل منهما الآخر اختیاراً، فقد یستدل علی التقیید بالاضطرار بما فی جملة من الروایات من ذکرهما فی سیاق المحارم غیر المماثلین مع تقیید الفرض بعدم المماثل، وتقیید التغسیل بمن وراء الثیاب مما یومئ إلی الاضطرار، کصحیح الحلبی عن أبی عبد الله(علیه السلام) انه سئل عن الرجل یموت ولیس عنده من یغسله إلّا النساء؟ قال: (تغسله امرأته أو ذو قرابته إن کان له، وتصب النساء علیه الماء صباً، وفی المرأة إذا ماتت یدخل زوجها یده تحت قمیصها فیغسلها)(2).

وفی صحیحة الآخر (من وراء الثوب لا ینظر إلی شعرها ولا إلی شیء منها)(3).

وفی خبر أبی بصیر قال: قال أبو عبد الله(علیه السلام): (یغسل الزوج امرأته فی السفر والمرأة زوجها فی السفر إذا لم یکن معهم رجل)(4).

وفی صحیح منصور قال: سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن الرجل یخرج

ص:535


1- (1) وسائل الشیعة، ج3، ص116، باب24 من ابواب صلاة الجنائز، ح3.
2- (2) وسائل الشیعة، ج2، ص529، باب24 من ابواب غسل المیت، ح3.
3- (3) وسائل الشیعة، ج2، ص532، باب24 من ابواب غسل المیت، ح11.
4- (4) وسائل الشیعة، ج2، ص؟؟؟، باب24 من ابواب غسل المیت، ح14.

فی السفر ومعه امرأته أیغسلها قال: (نعم وامه واخته ونحو هذا یلقی علی عورتها خرقة)(1) فجعل تغسیل الرجل لامرأته فی سیاق تغسیله لمحارمه.

وما کان من الروایات مطلقاً قابلاً للتقیید بما یفهم من هذه الروایات.

لکن الصحیح عدم التقیید وذلک لافتراق حکم النظر واللمس فیما بین الزوجین وفیما بین المحارم، ولا ریب فی جواز نظر کل منهما للآخر بعد موته کما تدل علیه الروایات والظاهر دوران جواز التغسیل مداره، ویدلّ علی افتراق حکم الزوجین عن المحارم ما فی جملة من الروایات من الترتیب فی جواز التغسیل مقدماً لهما علی المحارم.

کصحیح عبد الله بن سنان قال: سمعت أبا عبد الله(علیه السلام) یقول: إذا مات الرجل مع النساء غسلته امرأته وإن لم تکن امرأته معه غسلته أولاهن به وتلف علی یدیها خرقة(2).

وقریب منه روایة عبد الرحمن بن أبی عبد الله(3) وصحیح الحلبی(4) وروایة زید الشحام(5) وغیرها وکذلک ما دل علی جواز نظر الزوج للآخر والذی هو موضوع جواز التغسیل، کصحیح عبد الله بن سنان قال: سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن الرجل أیصلح له أن ینظر إلی امرأته حین تموت أو یغسلها إن لم یکن عندها من یغسلها؟ وعن المرأة هل تنظر إلی مثل ذلک من

ص:536


1- (1) وسائل الشیعة، ج2، ص516، باب20 من ابواب غسل المیت، ح1.
2- (2) وسائل الشیعة، ج2، ص518، باب20 من ابواب غسل المیت، ح6.
3- (3) وسائل الشیعة، ج2، ص517، باب20 من ابواب غسل المیت، ح4.
4- (4) وسائل الشیعة، ج2، ص517، باب20 من ابواب غسل المیت، ح3.
5- (5) وسائل الشیعة، ج2، ص518، باب20 من ابواب غسل المیت، ح7.

زوجها حین یموت؟ فقال: لا بأس بذلک، إنما یفعل ذلک أهل المرأة کراهیة أن ینظر زوجها إلی شیء یکرهونه منها(1).

وفی صحیح محمد بن مسلم قال: سألته عن الرجل یغسل امرأته قال نعم إنما یمنعها أهلها تعصباً(2).

والسؤال فی صحیح ابن سنان وإن قید فرضه بعدم وجود المماثل ولکن الجواب یقتضی عدم التقیید حیث بیّن(علیه السلام) أن النظر بینهما جائز وأن أهل المرأة یمنعونه تعصباً، هذا مضافاً إلی ما ورد من تغسیل أمیر المؤمنین(علیه السلام) لفاطمة(علیهم السلام) وما فی روایة المفضل بن عمر من تعلیله(علیه السلام) بأنها صدّیقة لا یغسلها إلّا صدّیق انما ذکر(علیه السلام) ذلک بعد أن استضاق الراوی ذلک، وکأن ما روی عن عمر هو لمخالفة أمیر المؤمنین(علیه السلام).

ومثله ما روی(3) فی موثق إسحاق بن عمار من وصیة علی بن الحسین(علیه السلام) من تغسیل أم ولد له بتغسیله، وهو وإن حمل علی المشارکة مع تغسیل الامام کما فی أسماء بنت عمیس، إلّاان ظاهر الوصیة یقضی بأن هذا أمر مشروع فی الصدر الأول مع وجود المماثل.

ثم ان من ذلک یتضح الحال فی جواز التجرید وإن ما ورد من وراء الثوب محمول إما علی کراهة التجرید أو لدفع استنکار أهل المرأة أو عرف الناس.

ثم ان تقدّم الزوج علی المالک یتضح من ما تقدّم من کونه أحقّ بامرأته وانه یجوز النظر إلیه بنحو یغایر المالک.

ص:537


1- (1) وسائل الشیعة، ج2، ص528، باب24 من ابواب غسل المیت، ح1.
2- (2) وسائل الشیعة، ج2، ص528، باب24 من ابواب غسل المیت، ح4.
3- (3) وسائل الشیعة، ج2، ص535، باب25 من ابواب غسل المیت، ح1.

ثم المالک مقدم علی المحارم لولایته علی مملوکته ولجواز نظره إلیها مطلقاً بخلافهم.

وأما مولی العتق وضامن الجریرة فلعموم ما مرّ أنه یغسل المیت ویصلّی علیه أولی الناس به المفسر فی روایة اخری بأولی الناس بمیراثه.

وأما الحاکم الشرعی وعدول المؤمنین فتصل النوبة إلیهما بعد فقد طبقات الأرث ودعوی أن نیابة الفقیه عن المعصوم(علیه السلام) وعدول المؤمنین عمدة أدلّتها هی الامور الحسبیة وهی إنما تثبت اختصاصه بها فیما کان الأصل فیها الحرمة والمنع لا ما کان الأصل فیها الجواز کما فی المقام حیث ان وجوب تجهیز المیت هو کفائی علیالجمیع والأصل البراءة عن الاشتراط من الاذن.

فیدفعها أن ما نحن فیه من تجهیز المیت من غسل وتکفین وحمل ودفن هی تصرفات فی المیت بل حتی الصلاة علیه حیث انها وإن کانت واجباً کفائیاً إلّا أنها من شؤون المیت الخاصة أیضاً کما دلّت علیه روایات المقام ان أولی الناس به أولاهم بالصلاة علیه، وبعبارة اخری ان مورد الولایات الخاصة مقتضاه ان المتعلق من الشؤون الخاصة.

ص:538

قاعدة أصالة عدم التذکیة

اشارة

ص:539

ص:540

من قواعد الأطعمة والأشربة أصالة عدم التذکیة

اشارة

قال بعض الفقهاء(1): اذا لم یعلم کون حیوان معین انه مأکول اللحم أولا، لا یحکم بنجاسة بوله وروثه وان کان لا یجوز أکل لحمه بمقتضی الأصل(2).

عدم التنافی بین الطهارة الظاهریة والحرمة کذلک اذا کان مستند الحرمة أصالة عدم التذکیة کما فی الشبهة الموضوعیة، وأما إن کان استصحاب الحرمة الثابتة قبل التذکیة فالتنافی حاصل لانه ینقح موضوع النجاسة.

ودعوی: ان الحرمة المزبورة ثابتة للحیوان فی حال الحیاة لعدم وقوع

ص:541


1- (1) العروة الوثقی للسید الیزدی مع تعالیق جمع من العلماء، ح1، ص120.
2- (2) خالف السید الیزدی جمع من العلماء فذهبوا الی عدم الحکم بالنجاسة وجواز الاکل. راجع المصدر السابق.

التذکیة لا لذاته ونفسه فلا یکون استصحابها محرزا لموضوع النجاسة(1).

مدفوعة: بأن الحرمة المستصحبة لیست الثابتة حال الحیاة لعدم وقوع التذکیة وإلا لارتفعت بوقوع التذکیة کما لوعلم قبوله للتذکیة مع أن القائل باستصحابها یجریه فی هذه الصورة، بل المراد بها جامع الحرمة الکلیة المرددة بین الذاتیة والعارضیة لعدم وقوع التذکیة، فتأمل وتدبر.

قسما الشک: والشک فی حلیة أو حرمة أکل لحم الحیوان یفرض کشبهة حکمیة تارة وأخری موضوعیة، وکل منهما مع العلم بقبول التذکیة أو مع الشک فی ذلک.

الشک فی الشبهة الحکمیة:

أما علی الاول: فلا مجری لاصالة عدم التذکیة بعد عدم الشک، وانما الشک فی الحلیة والحرمة وهو مجری لأصالة الحل، نعم علی القول بتعدد القابلیة وانها ذات درجات کما هو مختار الفاضلین (رضی الله عنه) وسیأتی نقل عبارتیهما - فقسم من الحیوانات له قابلیة للتأثر بالتذکیة فی الطهارة فقط، وقسم آخر له قابلیة للتأثر بالتذکیة فی الحلیة أیضا.

وقسم لا قابلیة له أصلا وقسم له قابلیة للتأثر بالتذکیة فی الحلیة فقط کالسمک لکونه طاهرا علی ایة تقدیر- فلا محالة یرجع الشک فی الحلیة الی الشک فی درجة من القابلیة للتذکیة، فیکون مجری لاصالة عدم التذکیة الحاکمة علی أصالة الحل أیضا بذلک اللحاظ حتی أن العلامة کما یأتی فی عبارته- یجعل التذکیة والمیتة تتصادقان فی مورد واحد، کما فی القسم الأول المتقدم فهو میتة بلحاظ الأکل ومذکی بلحاظ الطهارة وانتفاء القذارة.

ولعل ذلک هو الوجه فی ذهاب عدة من المحققین (قدهم) الی حرمة أکل لحم مشکوک الحلیة بإجراء أصالة عدم تذکیته، لکن سیأتی أن أخذ القابلیة فی شرائط التذکیة لا دلیل علیه.

ص:542


1- (1) التنقیح، ج2، ص484، بحوث فی شرح العروة، ج3، ص50.

وقد یستدل: للحرمة فی الفرض باستصحاب الحرمة الثابتة حال الحیاة بعد عدم تبدل الموضوع فی النظر العرفی، کما هوالحال فی استصحاب نجاسة الکلب بعد موته، واستصحاب أحکام الزوجیة بعد موت أحدهما وأن عدم التذکیة حیثیة تعلیلیة نظیر حیثیة التغیر فی نجاسة الماء(1).

وقد یؤید: بأن المجعول لا یتعدد بتعدد الجعل بل بتعدد الموضوع، فلوتوارد جعلان علی موضوع واحد فلا یودی الی تعدد المجعول فی النظر العرفی مادام الموضوع واحد(2).

واشکل: بمنع ثبوت الحرمة حال الحیاة کما لوابتلع السمکة الصغیرة الحیة(3) کما ذهب الیه صاحب الجواهر لعدم دلالة الآیة إِلاّ ما ذَکَّیْتُمْ (4) علی ذلک بعد کون موردها الحیوان الذی زهقت روحه، وکذا ما ورد فی القطع المبانة من الحی لا دلالة له علی حکم الحیوان الحی.

والصحیح: أن الحرمة الثابتة لعدم التذکیة- علی القول بها- تغایر الحرمة الثابتة للذات کما فی ما لا یؤکل لحمه بل لا تجتمع معها فی موضوع، فان أرید تصویر الیقین بجامع الحرمة حال الحیاة بنحو الکلی القسم الثانی المردد بین القصیر والطویل، فالجامع انتزاعی غیر مجعول کی یکون المستصحب أثرا شرعیا أو موضوعاً ذی أثر.

وان ارید استصحاب الفرد فهو من استصحاب الفرد المردد، ودعوی عدم تعدد المجعول لوحدة الموضوع، ممنوعة حیث أنه مضافا الی

ص:543


1- (1) مستمسک العروة الوثقی، ج1، ص244.
2- (2) بحوث فی شرح العروة، ج3، ص51.
3- (3) التنقیح، ج2، ص486.
4- (4) سورة المائدة، الآیة: 3.

تعدد الموضوع أن أمد کل من الحرمتین مختلف مضافا الی اختلاف الآثار الاخری المترتبة علیهما، وهو ضابطة اختلاف المجعول.

وقیاس عدم التذکیة بالتغیر لیس فی محله، حیث أن فی مثال التغیر القید مشکوک أخذه بنحو التعلیل أو التقیید لثبوت الحکم ولا تردید فی الحکم بین حکمین، وأما فیما نحن فیه فهو معلوم انه بنحو التقیید الا ان الشک فی کون الحرمة الثابتة هل هی التی لهذا الحیوان لانطباق الموضوع الأول أم الحرمة الاخری الثابتة لموضوع آخر منطبق علی هذا الحیوان.

أما منع حرمة أکل الحیوان الحی بدون تذکیة فمنظور فیه حیث أن تناوله لا یخلو إما یؤول الی تناول المیتة ولو عند الاستقرار فی الجوف أوالی تناول الخبث، باعتبار أن التذکیة هی بمعنی التنقیة من القذارات الموجودة فی الحیوان من جهة بقاء دمه فی اللحم فی ذی النفس، أو نحو تعفن کما فی ما لا نفس له کالسمک مع کونه نحواستسباع فی بعض الموارد کل ذلک یقرب دلالة الآیة الحاصرة للحلیة بالتذکیة.

والتمثیل بابتلاع السمکة حیة، منظور فیه ان کان وقوع الابتلاء فی الیابسة لانه یکون تذکیة له، هذا وقد ذهب الشیخ فی الخلاف فی کتاب الصید الی حرمة ابتلاعه لحصر إباحته بالموت.

کما یمکن الاستدلال له بقوله تعالی فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَکُلُوا مِنْها (1)، حیث علق جواز الاکل علی سقوطها کنایة عن تحقق النحر، ولا ینافیه ما ورد من جواز قطع بعض أجزاء الذبیحة أو الصید وهی حیة حیث أنه بعد وقوع التذکیة.

ص:544


1- (1) سورة الحج، الآیة: 36.

نعم قد یقال أن الامر بالاکل لیس لبیان جواز الاکل واشتراطه بالنحر، بل للوجوب المترتب علی وجوب النحر فی الحج ..

هذا من جهة الاصل العملی وأما العمومات فهی قاضیة بالحلیة فی الشبهة الحکمیة کقوله تعالی قُلْ لا أَجِدُ فِی ما أُوحِیَ إِلَیَّ مُحَرَّماً عَلی طاعِمٍ یَطْعَمُهُ إِلاّ أَنْ .. (1)، وقوله تعالی یَسْئَلُونَکَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَکُمُ الطَّیِّباتُ (2)، وهو عام لکل مستطاب فی العرف الا ما خصص بالدلیل.

والقول بأن الطیب فی الآیة ما هو حلال فی الشرع، لا وجه له حیث یلزم أخذ الحکم فی موضوع الحکم نفسه، مضافا الی أن جواب السؤال بذلک إحالة علی المجهول.

وکصحیح زرارة عن أبی جعفر(علیه السلام) قال: کل کلّ شیء من الحیوان غیر الخنزیر والنطیحة والمتردیة وما أکل السبع وهو قول الله عزّ وجلّ إِلاّ ما ذَکَّیْتُمْ (3) فان ادرکت شیئا منها ...(4)، والتقیید للعموم فی الروایة بغیر الخنزیر والنطیحة ونحوها دال علی أن العموم بلحاظ الأنواع وبلحاظ الحالات والعوارض لتلک الانواع والأصناف.

وکذا حال العمومات فی الشبهة الموضوعیة بتنقیح الأصل للعدم الازلی فی المخصص وان کان جریانه فی العناوین الذاتیة موردا للتأمل لعدم امکان التفکیک الی موضوع ومحمول، بل یؤول التفکیک الی الموجود والعنوان، ولیس العنوان بعنوانیته موضوع الاثر کی ینفی بالأصل بل بوجوده.

ص:545


1- (1) سورة الانعام، الآیة: 145.
2- (2) سورة المائدة، الآیة: 4.
3- (3) سورة المائدة، الآیة3.
4- (4) الوسائل، باب11 من ابواب الذبائح، ح1.
الشک فی الشبهة الموضوعیة:
اشارة

وأما التقدیر الثانی: وهو الشک فی قابلیته للتذکیة فالمعروف التمسک بأصالة عدم التذکیة، ولتحقیق جریان هذا الأصل لا بد من تنقیح وجه اعتبار قابلیة المحل للتذکیة ومن ثمّ ماهیة التذکیة هل هی اسم للمسبب الحاصل من أفعال الذبح ونحوه أوهی اسم للأفعال نفسها ثم هل من عموم أو اطلاق حاکم أو وارد.

فهنا ثلاث جهات:

الجهة الأولی: اعتبار قابلیة المحل للتذکیة:

فقد ذکر المحقق فی المعتبر(1) فی وجه حرمة الصلاة فی اجزاء ما لا یؤکل لحمه من السباع والمسوخ: (ولأن خروج الروح من الحی سبب الحکم بموته الذی هوسبب المنع من الانتفاع بالجلد ولا تنهض الذباحة مبیحة ما لم یکن المحل قابلا والا لکانت ذباحة الادمی مطهرة جلده).

قال: (لا یقال هنا الذباحة منهی عنها فیختلف الحکم لذلک لانا نقول ینتقض بذباحة الشاة المغصوبة فانها منهی عن ذباحتها، ثم الذباحة تفید الحل والطهارة وکذا بالالة المغصوبة، فبان ان الذباحة مجردة لا تقتضی زوال حکم الموت ما لم یکن للمذبوح استعداد قبول احکام الذباحة وعند ذلک لا نسلم ان الاستعداد التام موجود فی السباع).

قال: (لا یقال: فلزم المنع من الانتفاع بها فی غیر الصلاة، لأنا نقول: علم جواز استعمالها فی غیر الصلاة بما لیس موجودا فی الصلاة فیثبت لها لهذا الاستعداد لکن لیس تاما تصح معه الصلاة فلا یلزم من الجواز هناک

ص:546


1- (1) المعتبر فی شرح المختصر، ج2، ص80.

لوجود الدلالة الجواز هنا مع عدمها) انتهی، ووافقه العلامة (قدس سره) فی المنتهی.

الا ان الشهید فی الذکری(1) اشکل علیه: (هذا تحکم محض لان الذکاة ان صدقت فیه اخرجته عن المیتة والا لم یجز الانتفاع ولان تمامیة الاستعداد عنده بکونه مأکول اللحم فیختلف عند انتفاء أکل لحمه فلیستند المنع من الصلاة فیه الی عدم أکل لحمه من غیر توسط نقص الذکاة فیه).

وفی کشف اللثام الاجابة عن الاشکال المزبور: (بالالتزام بانها میتة وان وقع علیها الذبح غایة الأمر قد دلت أدلة خاصة علی خروجها حکما عن المیتة فی الانتفاع لا خروجها موضوعا فتبقی بقیة احکام المیتة مترتبة علیها، ویدل علی بقائها موضوعا حصر محرمات الأکل فی الآیة- إِلاّ أَنْ یَکُونَ مَیْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِیرٍ ... (2) - فی المیتة والدم ولحم الخنزیر، وما لا یؤکل لحمه محرم الأکل فیندرج فی المیتة).

قال: (کما یدل علی بقائها موضوعا خبر علی بن أبی حمزة انه سأل الصادق(علیه السلام) عن لباس الفراء والصلاة فیها فقال: لا تصل فیها إلا فیما کان منه ذکیا قال: أولیس الذکی ما ذکی بالحدید فقال: بلی اذا کان مما یؤکل لحمه)(3)، والوجه فی استدلال المحقق بمقتضی القاعدة لا بالنص الخاص فی السباع هو الرجوع الیها فیما اختلفت فیه النصوص کالخز والسنجاب حیث لا یفید فیه عنوان ما لا یؤکل لحمه للتردد فی أکله).

والصحیح: ما افاده الشهید(قدس سره) من کون وقوع الافعال الخاصة

ص:547


1- (1) ذکری الشیعة، ح3، ص33.
2- (2) سورة الانعام، ص145.
3- (3) الوسائل، باب2 من ابواب لباس المصلی،ح2.

موجبا لصدق الذکاة والتذکیة علی الحیوان وأن کان لا یؤکل لحمه وهو الموجب لطهارته، حیث أن طرو الموت مقتضی للنجاسة إلا أن التذکیة مانعة عن ذلک ومبقیة للطهارة الأصلیة للحیوان لا انها محدثة لطهارة جدیدة، ولذلک لا تقع علی الحیوان النجس کالکلب والخنزیر.

وأما عدم صحة الصلاة فی محرم الأکل وان کان مذکی فلقیام الأدلة علی مانعیة ما لا یؤکل عن صحة الصلاة وهذا لا ربط له بالتذکیة، وخبر علی بن أبی حمزة مورده السؤال عن الصلاة فیه فلا یکفی صرف التذکیة بعد کون محرم الأکل مانعا أیضا.

ولذلک اشترط فی موثق ابن بکیر (فان کان مما یؤکل لحمه فالصلاة فی وبره ... وکل شیء منه جائز اذا علمت انه ذکی وقد ذکاه الذبح الذکاة) زیادة علی حلیة الأکل، لتعدد الشرطیة فی اللباس ولذلک ذکر فی ذیله (وان کان غیر ذلک مما قد نهیت عن أکله ... فالصلاة فی کل شیء منه فاسد، ذکاه الذبح أولم یذکه)(1)، للدلالة علی اختلال الصحة بمانعیة محرم الأکل بغض النظر عن توفر شرطیة التذکیة المبقیة لطهارة الحیوان.

وأما الحصر فی الآیة فقابل للتخصیص، وقد أطلق فی الروایة(2) (الذکی) علی ما لا یؤکل لحمه کالثعالب والجرز (الحواصل) الخوارزمیة والسمور والفنک والسنجاب مع انها محرمة الأکل وان ذهبت جماعة الی جواز الصلاة فیها.

وهو مفاد موثق سماعة قال سألته عن جلود السباع ینتفع بها؟ قال:

ص:548


1- (1) المصدر، ح1.
2- (2) المصدر، باب4.

(اذا رمیت وسمیت فانتفع بجلده، وأما المیتة فلا) اذا المقابلة للمیتة فیها تقتضی عنوان المذکی(1).

ان قلت: قد أطلقت علی صید السمک والجراد الذکاة مع انها موثرة فی الحلیة لا فی الطهارة، إذ میتته طاهرة فهذا اطلاق آخر للتذکیة بلحاظ حلیة الاکل، وهذا ما یرومه المحقق الأول من کونها ذات درجات فمع تحقق درجة لا یلزم تحقق الدرجة الاخری لاختلاف الاستعداد والقابلیة، ویشهد لذلک ما فی المرسل الحوت ذکیّ حیه ومیته و(الجراد ذکی کله والحیتان ذکی کله، وأما ما هلک فی البحر فلا تأکله)(2).

قلت: هذا الاطلاق لا یعنی تصادق العنوانین المتقابلین علی مورد واحد بلحاظ الدرجات أو الآثار بل مع التذکیة تنتفی المیتة، غایة الأمر التذکیة یترتب علیها الطهارة والحلیة تارة واخری الطهارة فقط وثالثة الحلیة فقط، والمیتة والموتان تقتضی النجاسة والحرمة فیما له نفس سائلة، وثانیة تقتضی النجاسة فقط کما فیما لا یؤکل لحمه، وثالثة تقتضی الحرمة فقط کما فی السمک والجراد.

والممانعة بین العنوانین وجودا وأثرا، واختلاف الآثار سواء المترتبة علی التذکیة أوالمترتبة علی المیتة لا شک انها راجعة الی ملاکات ومصالح ومفاسد، لکن ذلک لا یعنی أخذ خاصیة أوحیثیة وراء طهارة الحیوان حال حیاته فی وقوع التذکیة علیه والتی تختلف آثارها فی الحیوان بحسب الملاکات الموجودة فی انواعه.

ص:549


1- (1) وسائل الشیعة، ج24، ص185، باب34ح4.
2- (2) الوسائل، باب31، من ابواب الذبائح، ح5 و ح8.

وأما الاستعمال للفظتین فتارة الأولی بمعنی الطهارة والثانیة بمعنی مطلق خروج الحیاة کما فی أصل الوضع اللغوی کما فی قوله(علیه السلام) (هو الطهور ماؤه، الحل میتته)(1)، وهما بهذین المعنین لا تقابل بینهما.

فتحصل أن القابلیة ان کان المراد بها طهارة الحیوان حال حیاته فاعتبارها فی التذکیة فی محله فی الاعتبار العرفی والاعتبار الشرعی حیث انها مانعة عن اقتضاء الموتان نجاسة الحیوان فهی مبقیة لطهارته بخلاف ما کان نجسا فی حال حیاته کالکلب والخنزیر، ولذلک کان منشأ المنع من وقوعها علی المسوخ والحشرات هو القول بنجاستها، وان کان المراد غیر ذلک فلا دلیل علیه ولا فی أصل المعنی والاعتبار العرفی ولا فی الروایات الواردة.

ویتحصل من ذلک أن مقتضی الاصل الطهارة عند الشک فی قابلیة الحیوان بالمعنی الاول.

الجهة الثانیة: ماهیة التذکیة فالاقرب انها موضوعة للمسبب:

کما یظهر من موارد استعمالها أی ما یقرب من النقاء کذکاة الأرض یبسها ذکیت النار اشتداد اللهب عند ما ینقی من موانع الاشتعال وذکا الفؤاد حدته عند تصفیة إدراکه وذک قلبک بالادب والذکا اسم للشمس لصفائها.

وکذا الاستعمالات الشرعیة حیث استعملت بمعنی واحد فی موارد اختلف فیها أفعال وأسباب التذکیة کتذکیة السمک، والجراد وذکاة الجنین وذکاة الابل بالنحر والبقر بالذبح والوحش بالصید وکل یابس ذکی والسمک ذکی حیّه ومیته وعشرة أشیاء من المیتة ذکیة القرن ... وغیر ذلک

ص:550


1- (1) المصدر، باب2 من ابواب الماء المطلق.

من الاستعمالات التی لا تجتمع الا علی الاثر والمسبب وان کانت تستعمل فیما یلازمه بمناسبة الملازمة فی موارد اخری، أما الاطلاق علی السبب فبمناسبة السببیة والمسببیة والاسناد الی الفاعل (ذکاه الذابح) فلصدورها بتوسط السبب.

وبذلک ظهر امکان جریان أصالة عدم التذکیة فی نفسه بعد کون الأثر والمسبب معدوما حال الحیاة، نعم هومحکوم بأصالة الطهارة فی ذات الحیوان لاحراز القابلیة بالمعنی المتقدم لها فیما کان منشأ الشک فی وقوع التذکیة هو الشک فی قابلیة الحیوان.

الجهة الثالثة: فی بیان العموم أوالاطلاق الدال علی عموم قابلیة الحیوان للتذکیة:

أولا: إطلاق الاعتبار والجعل العرفی الممضی اذ المعنی والاعتبار العرفی کما تقدم فی شتراط القابلیة یقع علی مطلق الحیوان ذی النفس السائلة الطاهر والنظیف فی حال حیاته.

ویشیر الیه ما فی روایة أبان بن تغلب عن أبی جعفر (علیه السلام) (وأما المنخنقة فإن المجوس کانوا لا یأکون الذبائح ویأکلون المیتة وکانوا یخنقون البقر والغنم فاذا انخنقت وماتت أکلوها)(1)، وما فی الآیة فی تعداد المحرمات وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَیْرِ اللّهِ ...، والروایات الناهیة عن ذبائح الیهود والنصاری وغیرهم من الکفار(2).

وکذا استمرار البناء لدیهم فی استعمال الصید کوسیلة للأکل وإعافة

ص:551


1- (1) المصدر، باب19 من ابواب الذبائح، ح7.
2- (2) المصدر، باب26، ح7.

الأکل من المیتة وما مات حتف أنفه، وغیر ذلک یدل علی کون التذکیة اعتبارا قائما لدیهم.

غایة الأمر بعد کونها وسیلة للتنقیة لدیهم عن قذارة الموتان کان تصرف الشارع فی ذلک بلحاظ تقیید السبب أوتوسعته وبلحاظ ترتیب الآثار علی التنقیة من جواز الأکل وغیره أوعدم ترتیبه وإن امضی وجودها.

کما قد یحدّد المحل کإعتبار نجاسة الکلب والخنزیر فحیث لا یرد تصرف بالتضییق فی احدی تلک الجهات کان الامضاء للبناء المزبور علی اطلاقه.

هذا مع امکان اجراء أصالة الطهارة عند الشک فی الطهارة الذاتیة کما تقدم اطلاق قاعدتها، حیث أن الشک فی القابلیة هو الشک فی ذلک ولا معنی محصّل للقابلیة وراء ذلک، کما تقدم فی الجهة الأولی.

ثانیا: صحیحة زرارة المتقدمة عن أبی عبد الله(علیه السلام): کل کلّ شیء من الحیوان غیر الخنزیر والنطیحة والمتردیة وما أکل السبع وهو قول الله عزّ وجلّ (إِلاّ ما ذَکَّیْتُمْ ) فان ادرکت شیئا منها ...(1)، حیث أن مقتضی جواز أکل لحم الحیوان هو وقوع التذکیة علیه.

لا یقال: ان عموم الحلیة للاشیاء کما هو مفاد الآیات السابقة لا یمکن التمسک به بعد العلم بتخصیصه بأدلة لزوم التذکیة فی الحیوان والشک فی الفرض هو فی وقوع التذکیة علیه فهو من التمسک بالدلیل فی الشبهة المصداقیة.

لأن ذلک: انما یرد فی عموم الحلیة المترتبة علی العنوان العام کالشیء

ص:552


1- (1) التهذیب، ج9، ص58.

أو الطیبات أونحو ذلک وأما الحلیة المترتبة علی عنوان الحیوان فان مفادها بالالتزام هو صحة وقوع التذکیة علیه وإلا للغی جعل الجواز والحل للحصة والصحیح من القبیل الثانی.

لاسیّما وأن التعبیر عن الحکم فیها وقع بلسان الأمر بالأکل کنایة عن الجواز والحلیة الفعلیة الواقعیة للحیوان بعنوانه المأخوذ فیها وقوع التذکیة والحلیة الذاتیة الطبیعیة.

ثالثا: دلالة وموثق ابن بکیر المتقدم علی وقوع التذکیة علی کل ما یحل أکله (فان کان مما یؤکل لحمه فالصلاة فی وبره و... جائز اذا علمت انه ذکی وقد ذکاه الذبح)، نعم هذه الصحیحة لا تشمل ما علم حرمة أکله وشک فی قابلیته للتذکیة.

رابعا: ما استدلال الجواهر بصحیحة علی بن یقطین قال: سألت أبا الحسن(علیه السلام): عن لباس الفراء والسمور والفنک والثعالب وجمیع الجلود، قال: لا بأس بذلک(1)، حیث أن اطلاق نفی البأس دال علی جواز الاستعمال مطلقا فی الصلاة وغیرها أی دال علی عدم المانعیة للصلاة من جهة الطهارة وغیرها، وکذا بقیة الانتفاعات إلا أن ما دل علی مانعیة غیر المأکول مقید لذلک الاطلاق فیؤخذ ببقیة مدالیله.

ومنه یندفع احتمال - المستمسک - أن جهة السؤال هی عن الجواز والحرمة التکلیفیة للانتفاع بها ولو کانت میتة وأن عمومه مخصص بما دل علی لزوم التذکیة فی الاستعمال فالتمسک هو فی الشبهة المصداقیة.

وجه الاندفاع: ان السؤال کما وقع عن ما لا یؤکل فقد وقع عن ما

ص:553


1- (1) الوسائل، باب5، من ابواب لباس المصلی، ح1، 3، 4، 5.

یؤکل أیضا، إذ لم تقید جلود تلک العناوین بالأخذ من المیتة، وأما التخصیص المزبور فلا یوجب المحذور لما تقدم فی الصحیحة السابقة، نعم مقدار دلالة هذه الصحیحة هو فی ما له جلد یلبس.

خامسا: موثقة سماعة المتقدمة الدالة علی حصول التذکیة فی جلود السباع وغیرها(1) بمضمونها.

سادسا: ذیل موثق ابن بکیر المتقدم (فان کان غیر ذلک مما قد نهیت عن أکله وحرم علیک أکله فالصلاة فی کل شیء منه فاسد، ذکاه الذبح أولم یذکه)، وفی نسخة (ذکاه الذابح)، ولا سیما علی النسخة الثانیة، وان احتمل انه علی الأولی بمعنی أثّر به الذبح أولم یؤثر(2).

إلا انه ضعیف بمکان حیث انه علی الأولی أیضا أوقعت المقابلة فی الروایة مع ما یؤکل لحمه بجواز الصلاة فیه اذا کان ذکیا قد ذکّاه الذبح، والتعبیر فیه بمعنی ایقاع التذکیة لا بمعنی التعلیق علی تأثیر التذکیة معلقا علی قابلیة المحل من دون تعرض لها لقابلیة محلّل الأکل.

اذ قد عرفت ان الحلیة للحیوان بعنوانه ملازمة لصحة وقوع التذکیة علیه مع أن الروایة لیست فی صدد اشتراط قابلیة الحیوان للتذکیة فی جواز الصلاة بجلده ووبره بل فی صدد اشتراط وقوع التذکیة علیه مع انه تقدم ان لا معنی محصل للقابلیة وراء طهارة الحیوان حال حیاته فلا محالة تکون الروایة فی صدد بیان أن ما یؤکل یشترط فیه التذکیة کی لا یکون میتة ونجسا، وأن ما لا یؤکل بنفسه مانع بغض النظر عن فقد شرط التذکیة.

ص:554


1- (1) المصدر، باب5، ح3، 4، 5.
2- (2) دلیل العروة، ج1، ص302. مستمسک العروة، ج1، ص246.

وبذلک یظهر أن التردید فی الشق المقابل مما لا یؤکل لحمه هو بین وقوعها ولا وقوعها، فتکون دالة علی صحة وقوعها فی مطلق الحیوان أکل لحمه أولم یؤکل.

سابعا: روایة علی بن حمزة المتقدمة قال: سألت أبا عبد الله(علیه السلام) أو أبا الحسن(علیه السلام) عن لباس الفراء والصلاة فیها، فقال: لا تصل فیها إلا ما کان منه ذکیا، قال: قلت أولیس الذکی مما ذکی بالحدید؟ قال: بلی اذا کان مما یؤکل لحمه (1).

حیث أن إقراره(علیه السلام) لإرتکاز السائل بأن الذکی هو الذی وقعت علیه التذکیة بسببها کالذبح، دال علی عموم وقوعها علی الحیوان اذ لم یؤخذ قیدا وراء الذبح، من قابلیة المحل وأما الذیل المشترط لحلیة لحمه فهو بإعتبار الصلاة کما هو ظاهر، لا باعتبار التذکیة کما قدمنا فلاحظ.

تذکیة الحیوانات البحریة ذات النفس:

ثم انه یقع الشک فی تذکیة الحیوانات البحریة ذات النفس السائلة.

فقد یقال بان ما له مذبح تشمله عمومات الذبح والصید، وما لیس له مذبح فیشمله عموم (اذا رمیت وسمیت فانتفع بجلده)(2) بناء علی اندراجه فی السباع الواقعة فی السؤال وعموم امضاء التذکیة العرفیة التی تقدم الکلام فیها، إذ المتعارف صیدها بآلة جارحة وعموم بعض الوجوه المتقدمة فی صور الشک فی التذکیة.

ص:555


1- (1) وسائل، باب2 من لباس المصلی، ح2.
2- (2) المصدر، باب49 من ابواب النجاسات.

أو یقال بعموم مثل (السمک اذا خرج حیا من الماء فهو ذکی)(1)، ونحو ما ورد فی کون ذکاة السمک أخذه حیا وموته فی غیر الماء.

وجهان: لا یخلو الأول من قوة بعد کونها مما له نفس وتعارف صیدها بالجرح، وانصراف الاطلاق الثانی الی ما لا نفس له والمأکول لاجل حلیته لا طهارته فضلا عما له نفس غیر المأکول، وبعد کون ما له نفس منها برمائیا لا بحریا محضا کی یکون المقابل لتذکیتة - مات فیما فیه حیاته - أی فی الماء.

لکن ما فی صحیحة عبد الرحمن بن الحجاج قال: سأل أبا عبد الله(علیه السلام) رجل وأنا عنده عن جلود الخزّ فقال: لیس بها بأس، فقال الرجل: جعلت فداک انها فی بلادی وانما هی کلاب تخرج من الماء فقال: أبو عبد الله(علیه السلام): اذا خرجت من الماء تعیش خارجة من الماء؟ فقال الرجل لا، قال: فلا بأس(2).

وروایة ابن أبی یعفور قال: کنت عند أبی عبد الله(علیه السلام) اذ دخل علیه رجل من الخزازین فقال له: جعلت فداک ما تقول فی الصلاة فی الخز؟ فقال: لا بأس بالصلاة فیه، فقال له الرجل: جعلت فداک انه میت وهو علاجی وأنا أعرفه فقال له أبوعبد الله(علیه السلام): أنا أعرف به منک، فقال له الرجل: انه علاجی ولیس أحد أعرف به منی فتبسم أبو عبد الله(علیه السلام) ثم قال له: أتقول: انه دابة تخرج من الماء، أو تصاد من الماء فتخرج فاذا فقدت الماء مات؟ فقال الرجل: صدقت جعلت فداک هکذا هو، فقال له أبو عبد

ص:556


1- (1) المصدر، باب37 من ابواب الذبائح، ح2.
2- (2) المصدر، باب10 من ابواب لباس المصلی، ح1.

الله(علیه السلام): فانک تقول: انه دابة تمشی علی أربع ولیس هوفی حد الحیتان فتکون ذکاته خروجه من الماء؟ فقال له الرجل: أی واللههکذا أقول، فقال له أبو عبد الله(علیه السلام): فإن الله تعالی أحلّه وجعل ذکاته موته کما أحل الحیتان وجعل ذکاتها موتها(1).

وصحیحة سعد بن سعد عن الرضا(علیه السلام) قال: سألته عن جلود الخز فقال: هو ذا نحن نلبس، فقلت: ذاک الوبر جعلت فداک قال: اذا حل وبره حل جلده(2).

ظاهر فی کون میتة البحری مما له نفس سائلة طاهرة اذ جعل موضوع نفی البأس فی الأولی الموت خارج الماء، فیعمّ کل بحری وان کان ذا نفس سائلة کما ان ما فی الثالثة من احتمال السائل التفکیک انما هولجهله لکیفیة تذکیته.

لکن حکی فی الحدائق(3) عن المعتبر توقفه فی الروایة الثانیة لضعف محمد بن سلیمان فی سندها، ومخالفتها لما اتفقوا علیه من انه لا یؤکل من حیوان البحر الا السمک ولا من السمک الا ما له فلس.

وحکی عن الذکری زعم بعض الناس انه کلب الماء وعلی هذا یشکل ذکاته بدون الذبح لان الظاهر انه ذونفس سائلة، إلا انه اختار بعد ما حکاه عنهما تخصیص واستثناء الخز من قاعدة ذکاة ذی النفس السائلة بالذبح ومن قاعدة حرمة ما لیس له فلس من البحری.

واشکل الاستثناء فی الجواهر، إلا انه بنی فی آخر کلامه علی أن بعض

ص:557


1- (1) المصدر، باب8، ح4.
2- (2) المصدر، باب10، ح14.
3- (3) الحدائق الناضره، مبحث لباس المصلی، ج7.

منه ذکاته بغیر الذبح بنحوذکاة السمک، وحکی ذلک عن المقاصد العلیة.

وعلی کل حال قد ظهر أن الالتزام بخروج مطلق البحری مما له نفس عن قاعدة التذکیة بالذبح أو الصید الجارح لهذه الروایات مشکل بعد استشکال غیر واحد فی العمل بها فی الخز فضلا عن التعمیم، لاسیما وأن احتمال الخصوصیة وجیه فی ظهور الروایات اذ الاسناد واقع فیها بضمیر المفرد الراجع للخز.

بل ان ظاهر بعض الروایات المتقدمة أن التذکیة لحیوان الخز بمجرد الخروج من الماء من دون أخذه کما لعله المتعارف فی الخز وجلوده - اخذها حتی یموت خارج الماء - فهو یغایر التذکیة فی السمک، فالخصوصیة علی هذا ظاهرة جدا.

نعم قال الشیخ فی الخلاف (اذا مات فی الماء القلیل ضفدع أوغیره مما لا یؤکل لحمه مما یعیش فی الماء لا ینجس الماء (الی أن قال) دلیلنا ان الماء علی أصل الطهارة والحکم بنجاسته یحتاج الی دلیل وروی عنهم (علیهم السلام) انهم قالوا اذا مات فیما فیه (فی الماء ما فیه) حیاته لا ینجسه وهویتناول هذا الموضع أیضا)(1).

واحتمل المحقق الهمدانی انه یشیر الی صحیحة ابن الحجاج المتقدمة(2)، أی ان الموت لا ینجس الحیوان حینئذ.

لکن قد عرفت احتمال الاختصاص بالخز ولیس مفادها بصورة العموم کما اشار فی الخلاف علی تقدیر ارادته الصحیحة المزبورة واحتمل

ص:558


1- (1) الخلاف، کتاب الطهارة، مسألة 146.
2- (2) بحث المیتة من النجاسات.

کذلک انه یشیر الی الحدیث النبوی (هو الطهور ماؤه، الحلّ میتته) بتقدیر ان مفاده حلیة الانتفاع لکون میتته طاهرة، الا انه رماه بالضعف لکونه من طریق العامة، والصحیح أن الحلیة فیه بلحاظ الأکل لا مطلق الانتفاع لیشمل ما لا یؤکل وإلا فهومروی بطریق معتبر(1).

ص:559


1- (1) الوسائل، باب2 من ابواب الماء المطلق.

المجلد 2

اشارة

سرشناسه:سند، محمد، 1962- م.

عنوان و نام پدیدآور:بحوث فی القواعد الفقهیه [کتاب]: تقریرات محمدالسند/ بقلم مشتاق الساعدی.

مشخصات نشر:قم: موسسه محکمات الثقلین؛ تهران: نشر صادق، 13 -

مشخصات ظاهری:5ج.

شابک:978-600-5215-35-9

یادداشت:عربی.

یادداشت:فهرستنویسی بر اساس جلد چهارم، 1437ق.= 2016م.= 1395.

یادداشت:کتاب حاضر بر اساس تقریرات محمد السند نوشته شده است.

موضوع:فقه -- قواعد

موضوع:Islamic law -- *Formulae

موضوع:اصول فقه شیعه

شناسه افزوده:ساعدی، مشتاق

رده بندی کنگره:BP169/5/س9ب3 1300ی

رده بندی دیویی:297/324

شماره کتابشناسی ملی:4803290

ص :1

اشارة

ص :2

ص :3

بحوث فی القواعد الفقهیه المجلد 2

تقریرات محمدالسند

بقلم مشتاق الساعدی

ص :4

ص :5

ص :6

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحیم

والحمد لله رب العالمین والصلاة والسلام علی اشرف البشریة وأزکاهم المصطفی محمد, وعلی ارفع العباد وأطهرهم علی وبنیه آل محمد وعلی من تبعهم بإحسان إلی یوم الدین.

بین یدی القارئ اللبیب نقدم الجزء الثانی من کتاب (بحوث فی القواعد الفقهیة) الذی هو تقریرات بحث الفقه لاستاذنا آیة الله الشیخ محمد السند (دامت برکاته) .

وقد جاء هذا الجزء مکملاً للجزء الأول من الکتاب الذی بحثنا فیه ثمانی عشرة قاعدة فقهیة.

واحتوی هذا الجزء علی أربع وعشرین قاعدة فقهیة من أبواب شتی وهی:

1 - قاعدة( الفراش) .

2 - قاعدة (یحرم من الرضاع ما یحرم من النسب).

3 - قاعدة (المرأة مصدقة فی قولها علی نفسها وشؤونها).

4 - قاعدة (حرمة تلذذ غیر الزوجین ).

5 - قاعدة (فی وحدة ماهیة النکاح).

6 - قاعدة (فی تداخل العدد).

7 - قاعدة (عموم حرمة المس فی الأجنبیة).

8 - قاعدة (فی التبرج بالزینة) .

9 - قاعدة (فی الفرق بین النکاح والسفاح).

10 - قاعدة (فی المال او الحق المأخوذ استمالة أو اکراها).

ص:7

11 - قاعدة فی لزوم الفحص الموضوعی قبل البینة أو الیمین

12- قاعدة: فی نظام التحکیم والصلح فی النزاعات.

13 - قاعدة (حق المرأة العشرة بالمعروف أو التسریح بإحسان).

14 - قاعدة ( شرطیة الإسلام فی الولایة).

15 - قاعدة (فی عموم قاعدة ولایة الأرحام).

16 - قاعدة (فی حرمة وقوع الفتنة الشهویة).

17 - قاعدة (بطلان الإحرام ببطلان النسک).

18 - قاعدة (فی تقوّم مشروعیة التمتع بالإحرام من بُعْد).

19 - قاعدة (فی صحة النسک مع الخلل غیر العمدی فی الطواف والسعی).

20 - قاعدة (بطلان إدخال نسک فی نسک).

21 - قاعدة (لزوم الحج من قابل بفساد الحج).

22 - قاعدة (تباین أو وحدة أنواع الحج).

23 - قاعدة (دفع الأفسد بالفاسد).

24 - قاعدة (المصلحة)

ویتبعه ان شاء الله تعالی الجزء الثالث, راجین من الله تعالی دوام التوفیق لخدمة شریعة سید المرسلین صلی الله علیه و آله .

واخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمین

مشتاق الساعدی

النجف الاشرف

فی الأول من ذی القعدة 1432

ص:8

قاعدة:الفراش

اشارة

ص:9

ص:10

من قواعد باب النکاح:قاعدة الفراش

اشارة

قد اشترط الأصحاب فی لحوق ولد المرأة بزوجها أو بواطئها بوطی غیر محرم ثلاثة شروط:

1- الدخول .

2 - کونه لأکثر من أدنی الحمل

3 - أدنی من اقصی الحمل.

وبعبارة اخری کونه بین ادنی مدة الحمل وأقصاها، ولتنقیح الحال فی المقام لابد من ذکر أمور:

الأمر الأول: هذه الشروط وان کان انتفاء احدها یوجب نفی لحوق الولد بالزوج واقعاً الاّ ان توفر الشروط لا یستلزم اللحوق به واقعاً بل ظاهراً، ومن ثمّ کانت هذه الشروط موضوعاً للفراش کأمارة ظاهریة علی اللحوق، ولیس سبباً واقعیاً، وربما یظهر من الکلمات فی فروع البحث ان موضوع الامارة هو مجرد الدخول، وقد یعبر عن قاعدة الفراش(1) حینئذ باصالة لحوق الولد بالوطی المحترم، وهذه القاعدة وإن صرح فی الجواهر بمغایرتها لقاعدة الولد للفراش الا أنّه لایبعد وحدة الامارتین وأنّ اشتراط

ص:11


1- (1) وسائل الشیعة، أبواب نکاح العبید والاماء، باب 58.

الاصحاب للمدّة هو بلحاظ المفاد الاولی الواقعی، أی انّ انتفاء شرط المدّة یستلزم نفی اللحوق واقعاً.

نعم لاریب فی قوة اماریة الدخول مع احراز المدة أیضاً. وقیل فی تفسیر الولد للفراش ان الولد لصاحب الفراش من السیّد أو الزوج ولایلحق بغیره، وفی لسان العرب: «ویقال افرشت زیداً بساطا وافرشته اذا بسط له بساطا فی ضیافته، وفرشت الشیء افرشه بسطته والفرش والمفارش النساء لانهن یفترشن، وافترش الرجل المرأة للذّة، والفریش الجاریة، یفترشها الرجل. وقیل: الفراش الزوج والفراش ما ینامان علیه، والفراش البیت، ویقال لامرأة الرجل هی فراشه وازاره ولحافه، والولد للفراش أی لمالک الفراش وهو الزوج والمولی لانه یفترشها، والاستعمال من قبیل «وَ سْئَلِ الْقَرْیَةَ ».

أقول: ومقتضی کلمات اللغویین هذه هو کفایة الدخول الحلال فی تحقق الفراش، نعم ملک الفراش والخلوة مع المرأة امارة علی الفراش وان تناولت کلمات اللغوین فی تعریف الفراش ذلک أیضاً، فالدخول وملک الوطی محقق لقاعدة الفراش غایة الامر ان العلم بفقد المدة مزیل لموضوع القاعدة لان انتفاء شرط المدة کما مرّ یستلزم نفی الالحاق واقعاً.

الأمر الثانی: علی ضوء ما تقدم یتنقح الحال فی صور نزاع الزوجین، انه عند النزاع فی المدة القول قول المرأة، لاعتضاد قولها بماهیة الفراش، نعم لو کان النزاع فی أصل الدخول لکان القول قول منکره، نعم مع الخلوة لایبعد کونها امارة بحسب ظاهر الحال علی الدخول لاسیما مع امتدادها زمنا وتکررها.

ص:12

کما یستفاد من صحیح علی بن جعفر عن أخیه أبی الحسن(علیه السلام) فی حدیث

«سألته عن رجل طلق امرأته قبل أن یدخل بها فادعت انّها حامل؟ فقال: ان اقامت البیّنة علی انّه ارخی علیها سترا ثم انکر الولد لاعنها، ثم ابانت منه فعلیه المهر کملا»(1).

ومفادها اماریة الخلوة علی الدخول، ولایخفی ان النزاع هنا فی أصل الدخول فهو ینکره والاصل معه، فلایحرز موضوع قاعدة الفراش لکن الخلوة امارة علی الدخول فتحرز موضوع قاعدة الفراش، ومن ثمّ ینتسب الیه الولد ولاینفی عنه الاّ باللعان.

وأما ما ورد من نفی الصداق مع الخلوة من دون وقاع کما فی موثق(2) یونس

قال سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن رجل تزوَّج امرأة فأغلق باباً وأرخی ستراً ولمس وقبلّ ثم طلقها أیوجب علیه الصداق؟ قال: «لا الصداق إلّا الوقاع» فلا ینافی ذلک، فان النفی بحسب الحکم الواقعی لا بحسب النزاع والحکم الظاهری کما هو مفاد موثق زرارة(3) أیضاً.

ومن ثم قد وردت روایات اخری علی ایجاب المهر والعدّة اذا غلق الباب وارخی الستر کصحیح الحلبی(4) وموثق زرارة(5) الآخر وموثق

ص:13


1- (1) وسائل الشیعة، أبواب اللعان، الباب 2 ح1.
2- (2) وسائل الشیعة، أبواب المهور، باب 55 ح1.
3- (3) وسائل الشیعة، أبواب المهور الباب 55 ح7 و5.
4- (4) نفس الباب 55 ح2.
5- (5) نفس الباب 55 ح4.

اسحاق بن عمار(1)، وهی محمولة علی الحکم الظاهری عند النزاع واشار الی هذا التفصیل ابن أبی عمیر، واستحسنه الشیخ فی التهذیب(2).

وقد ورد فی مصحح أبی بصیر وصحیح أبی عبیدة اماریة الخلوة وارخاء الستر واغلاق الباب علی الدخول والمهر والعدّة، ففی الاول قال: قلت لأبی عبدالله(علیه السلام): الرجل یتزوج المرأة فیرخی علیها وعلیه الستر ویغلق الباب ثم یطلقها فتسأل المرأة هل أتاک؟ فتقول: ما أتانی، ویسأل هو: هل أتیتها؟ فیقول: لم آتها، فقال: لا یصدقان، وذلک آنهاترید ان تدفع العدّة عن نفسها، ویرید هو ان یدفع المهر عن نفسه، یعنی اذا کانا متهمین)(3) ومثلها صحیحة أبی عبیدة الا أنّه لیس فیها تقیید بالاتهام.

ومفادها اماریة الخلوة واغلاق الباب وارخاء الستر علی الدخول حتی لو اتفقا علی عدمه مع کونهما متهمین، وقد یستفاد من مفهومها حجیة اتفاقهما مع عدم کونهما متهمین وتقدیم ذلک علی اماریة الخلوة.

نعم فی صحیح زرارة قال:

«سألت أبا جعفر(علیه السلام) عن رجل تزوج جاریة لم تدرک لایجامع مثلها أو تزوج رتقاء فادخلت علیه فطلقها ساعة أدخلت علیه؟ قال: هاتان ینظر الیهن من یوثق به من النساء، فان کنّ کما دخلن علیه فان لها نصف الصداق الذی فرض لها، ولا عدة علیهن منه»(4) الحدیث.

ص:14


1- (1) وسائل الشیعة، أبواب المهور باب 55 ح4.
2- (2) التهذیب: ج7 ص467 ح1869.
3- (3) وسائل الشیعة، أبواب المهور، باب 56 ح1.
4- (4) وسائل الشیعة، أبواب المهور، باب 57 ح1.

ومفادها تقدم ولزوم تحصیل العلم - مع القدرة علیه - علی اماریة الخلوة وهذا مطابق لما تقرر من تقدم اسباب تحصیل العلم علی قاعدة الفراش، فضلا عن الامارات علی الدخول الذی هو موضوع قاعدة الفراش.

هذا وقد ضعّف العمل بروایات اماریة الخلوة جملة المتأخّرین، وحملوها علی التقیة، لکون ذلک هو المروی عن عمر، وقد افتی به أبو حنیفة وکثیر من العامة.

أقول: وفیه:

أولاً: انه قد عرفت صحة عدّة من الروایات الواردة واعتبار بعضها الآخر.

وثانیاً: ان العامة قد ذهبوا الی السببیة الواقعیة للخلوة لاستحقاق المهر حیث عللوا کما فی کتاب المغنی لابن قدامة(1) بان التسلیم المستحق وجدٌ من جهتها فیستقر به البدل کما لو وطأها.

وفسروا قوله تعالی: (وَ قَدْ أَفْضی بَعْضُکُمْ إِلی بَعْضٍ ) بالخلوة وانه مأخوذ من الفضاء وهو الخالی، أی خلی بعضکم الی بعض، وان قوله تعالی: (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ ) کنایة بالمسبب علی السبب الذی هو الخلوة، وان کانت کلماتهم مضطربة فی ترتیب آثار الدخول علی الخلوة، کثبوت الرجعة له علیها فی عدتها.

هذا مع ان الروایات الواردة لیس جمیعها فی صدد ایجاب الصداق،

ص:15


1- (1) المغنی لابن قدامة: ج8 ص62 و63.

بل مصحح أبی بصیر ومصحح أبی عبیدة صریح فی کون المدار علی المسّ والجماع لا علی الخلوة، وانّ الخلوة انما هی امارة بحسب ظاهر الحال ومقدمة علی اتفاقهما مع فرض التهمة، نعم بعض الروایات الواردة فی ایجاب الصداق بالخلوة تفوح منه التقیة بوضوح بعد ظهوره فی السببیة الواقعیة للخلوة.

وعن المسالک قوله (اذا ادّعت بعد الخلوة التامة الخالیة من موانع الوقاع الدخول وانکر، فان کانت بکراً فلا اشکال لامکان الاطلاع علی صدق احدهما، باطلاع التعاقب من النساء علیها وذلک جائز لمکان الحاجة، کنظر الشاهد والطبیب).

واشکل علیه فی الجواهر(1) بان رأیاها ثیباً لا دلالة فیه علی صدق دعواها لانه اعم، کما ان کونها بکرا لایوجب تمکینها من نفسها للفحص بعد حرمة النظر والمشقة، فلها المطالبة بالیمین.

أقول: الظاهر من الشهید ان القاضی والحاکم مع امکان تحریه عن حقیقة النزاع موضوعا فلاتصل النوبة الی العمل بالاصول العملیة والامارات لتعیین المنکر والمدّعی، ولا الی الحکم بالیمین أو البیّنة، وهو مفاد صحیح زرارة السابق(2)، کما هو مفاد الروایات الواردة فی العیوب کدعوی العنّة علی الزوج أو الرتق فی الزوجة، وکذا هو الحال فی جملة من الروایات الواردة فی الأبواب، وتقدم لزوم التحری علی العمل بالاصول العملیة هو المقتضی الاولی فی الصناعة واطلاق متواتر روایات القضاء

ص:16


1- (1) الجواهر: ج31 ص141 - فصل المهور.
2- (2) الجواهر: ج31 ص141 - فصل المهور.

بالیمین والبینة - مع الغض عن کونه محکوماً أو موروداً موضوعاً بادلة لزوم الفحص ومطلقات احقاق الحق - انّ القدر المتیقن من موارده هو فیما لو استلزم التحری مؤونة کبیرة جداً.

ثالثاً: ومما یدعم الروایات فی إماریة الخلوة علی الوقاع وتقدیمها علی اتفاق وتصادق الزوجین ما اعترف به صاحب الجواهر من منع انحصار الحق فی الزوجین لان للولد حقاً فی النَسب فیما لو کانت حاملاً، کما لو ادعی مدع مولوداً علی فراش غیره، بأن ادعی وطئه بالشبهة وصدّقه الزوجان فلابد من البیّنة لحق الولد، ولا یکفی تصدیق الزوجین.

وهو المحکی عن ابن أبی عمیر والصدوق والشیخ وابن براج والکیدری وجماعة من القدماء خلافاً للمشهور بین المتأخرین أو اجماعهم.

الأمر الثالث: بعد ما عرفت من کون قاعدة الفراش امارة ولیست سبباً واقعیاً للالحاق یتبین ان مع توفر اسباب العلم من الفحوص المختبریة الحدیثة کفحص الجینات وفحوصات الحمض النووی وغیرها من طرق التحری والفحص الجنائی مما یوجب العلم، هی مقدمة علی قاعدة الفراش، نعم فی جملة من انماط هذه الطرق أو فی بعض الحالات لاتصل فی نتائجها الی حدّ العلم، بل بنحو نسبی ظنی غالبی، فلایعول علیها.

الأمر الرابع: (بین موضوع قاعدة الفراش والعدّة):

هل الدخول المأخوذ فی باب الالحاق - الحاق الولد وقاعدة الفراش - هو المأخوذ فی باب العدّة، وفی باب المهر، والغسل والحدّ، فعن المسالک وجماعة وشرح النافع فی باب العدد یلحق بالوطی دخول المنی المحترم فی الفرج، فیلحق به الولد وتعتدّ بوضعه، کما حکی عن ظاهر کلمات

ص:17

الاصحاب الاکتفاء بدخول الخصی وان لم ینزل، وقد افتی جماعة بأن سبب العدّة الدخول، أی دخول مقدار الحشفة أو دخول ماءه فی فرجها، وعن عدد المبسوط «وان کان قطع جمیع ذکره فالنسب یلحقه، لان الخصیتین اذا کانتا باقیتین فالانزال ممکن، ویمکن ان یساحق فینزل فان حملت منه اعتدّت بوضع الحمل، وان لم تکن حاملاً اعتدّت بالشهور.

واشکل علیه جماعة من المتأخرین بان الامکان لایوجب العدّة، نعم هذا الامکان موجب لتحقق قاعدة الفراش، وهذا التفصیل منهم ظاهر فی أوسعیة عنوان الدخول فی باب قاعدة الفراش منه فی باب العدد وهما أوسع ممّا فی باب الغسل والحدّ والمهور.

وقال فی المبسوط: وقال قوم لو استدخلت ماءُه کان کالدخول فی وجوب العدّة.

هذا وقد نصّ الاکثر علی تحقق الدخول بالوطی فی الدبر بإمکان وصول مائه منه الی فرجها، ومن ثمّ اعتدوا بالدخول فی القبل وان لم ینزل، وعن الفوائد والتحریر عدم الاعتبار بالدبر ومال إلیه جماعة.

وصرح جماعة کما فی المسالک وشرح النافع انّه یلحق بالوطی دخول المنی المحترم فی الفرج، فیلحق به الولد وتعتدّ بوضعه، وکذا مدخولة الخصی کما هو ظاهر کلام الاصحاب والمسالک وان لم ینزل.

فحینئذ یقع الکلام فی انّ موضوع القاعدة هل هو کل مباشرة ولمس یحتمل منه دخول الماء؟ أم لابد من الدخول أو ما هو بحکمه، أم یفصل بین ظهور الحمل فیکفی فیه مجرد الاحتمال وعدمه، لکن هذا التفصیل

ص:18

ضعیف، لانّ النسبة بعد ظهور الحمل واللحوق للولد مبنی علی قاعدة الفراش، ومنه یظهر ان الموضوع فی قاعدة الفراش أوسع منه فی باب العدّة، نعم فی موارد قاعدة الفراش مع ظهور الحمل یتم موضوع العدّة، وبعبارة اخری انّ اطلاق تعلیلهم بامکان الانزال بوجوب العدّة مع ظهور الحمل قاض بانّ موضوع قاعدة الفراش کل مباشرة قریبة یحتمل منها وصول مائه الی باطن فرجها، وعن العامة تغییر الفراش بحلیة الوطی وان لم یفترشها فعلا فانه یلحق به الولد.

وأما الروایات الواردة فی المقام:

1) روایة أبی البختری عن جعفر بن محمد عن أبیه عن علی(علیهم السلام) قال: جاء رجل الی رسول الله صلی الله علیه و آله فقال: کنت أعزل عن جاریة لی فجاءت بولد فقال(علیه السلام): ان الوکاء قد ینفلت فألحق به الولد»(1).

وغایة مفاد هذه الروایة هو کفایة احتمال الانزال مع الجماع وان کان ضعیفاً جدا ما دام قد تحقق الایلاج.

2) روایة أبی البختری عن جعفر بن محمد عن أبیه(علیهم السلام) ان رجلا اتی علی بن أبی طالب(علیه السلام) فقال: ان امرأتی هذه حامل وهی جاریة حدثة وهی عذراء وهی حامل فی تسعة أشهر ولا اعلم الا خیراً وأنا شیخ کبیر ما افترعتها، وأنها لعلی حالها، فقال له علی(علیه السلام): نشدتک الله هل کنت تُهرِیق علی فرجها؟ قال: نعم. فقال علی(علیه السلام): ان لکل فرج ثقبین، ثقب یدخل فیه ماء الرجل، وثقب یخرج منه البول، وان افواه الرحم تحت الثقب الذی

ص:19


1- (1) أبواب أحکام الاولاد، باب 15 ح1.

یدخل فیه ماء الرجل، فاذا دخل الماء فی فم واحد من أفواه الرحم حملت المرأة بالولد، واذا دخل من اثنین حملت باثنین، واذا دخل من ثلاثة حملت بثلاثة، وإذا دخل من أربع حملت بأربعة، ولیس هناک غیر ذلک، وقد ألحقت بک ولدها فشق عنها القوابل، فجاءت بغلام فعاش»(1).

وطریق هذه الروایة والتی قبلها عن الحمیری فی قرب الاسناد عن السندی بن محمد عن أبی البختری، والسندی بن محمد هو ابان بن محمد البجلی وهو من أصحاب الهادی الثقة الجلیل، وروی هذه الروایة المفید فی الارشاد قائلاً: روی نقله الآثار من العامة والخاصة ثم ذکر الروایة، الا أن فیها قول الرجل الشیخ الکبیر: قد کنت انزل الماء فی قبلها من غیر الوصول الیها بالاقتضاض.

ومفاد هذه الروایة تحقق موضوع القاعدة باراقة الماء علی الفرج، وهو موجب لقرب إحتمال دخول الماء فی رحم المرأة، وامکان نشوء الحمل، وان لم یکف هذا المقدار من الاحتمال فی لزوم العدّة، ما لم یصل الی درجة العلم بدخول الماء.

3) روایة أبی طاهر البلالی قال: کتب جعفر بن حمدان فخرجت الیه هذه المسائل: استحللت بجاریة وشرطت علیها ان لا اطلب ولدها ولم الزمها منزلی فلما أتی لذلک مدة قالت لی: قد حبلت، ثم اتت بولد فلم انکره - الی أن قال: فخرج جوابها یعنی من صاحب الزمان(علیه السلام): وأما الرجل الذی استحل بالجاریة وشرط ان لایطلب ولدها فسبحان من

ص:20


1- (1) باب أحکام الاولاد، باب 16 ح1.

لاشریک له فی قدرته شرطه علی الجاریة شرط علی الله، هذا ما لایُؤمن أن یکون وحیث عرض له فی هذا الشک ولیس یعرف الوقت الذی اتاها فلیس ذلک بموجب للبراءة من ولده»(1).

ومفاد هذه الروایة صریح فی کون موضوع القاعدة مجرد الدخول من دون شرطیة العلم بالمدّة، أولک أن تقول بشرطیة عدم العلم بانتهاء المدة.

4) وقریب منها موثق سعید الاعرج عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: قلت له: الرجل یتزوج المرأة لیست بمأمونة، تدّعی الحمل، قال: لیصبر; لقول رسول الله صلی الله علیه و آله : الولد للفراش وللعاهر الحجر(2).

وتقریب هذا الموثق کما تقدم فی الروایة السابقة حیث ان الإسترابة تشمل فی العادة موارد احراز الدخول مع الشک فی المدّة.

5) صحیحة عبدالله بن سنان عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: سأله أبی وأنا حاضر عن رجل تزوج امرأة فادخلت علیه، فلم یمسّها ولم یصل إلیها حتی طلقها هل علیها عدّة منه، فقال: انما العدّة من الماء، قیل له فان کان قد واقعها فی الفرج ولم ینزل، فقال: اذا ادخله اوجب الغسل والمهر والعدّة(3).

ومفاد هذه الصحیحة ان الدخول موجب للعدّة وان لم ینزل، وموضوعها مشترک مع قاعدة الفراش، کما ان مفادها سببیة الماء للعدّة، وکذلک بالنسبة لقاعدة الفراش غایة الامر ان التقدیر فی ترکیب الجملة هو

ص:21


1- (1) أبواب أحکام الاولاد، باب 19 ح1.
2- (2) کتاب اللعان، باب لایثبت اللعان الا بنفی الولد، باب 19 ح3.
3- (3) أبواب المهور، باب 54 ح1.

دخول الماء فی الفرج، ولکن قد یقدر اراقة الماء علی الفرج، بتقریب ان الراوی لم یفرض فی سؤاله عدم المسّ فقط، بل فرض عدم وصوله الیها أیضاً، وهو یناسب مطلق عدم المباشرة، وحینئذ یمکن تقدیر سببیة اراقة الماء علی الفرج أو علی فمه فی العدّة.

6- وموثقة اسحاق بن عمار عن أبی الحسن(علیه السلام) قال: سألته عن الرجل یتزوج المرأة فیدخل بها فیغلق علیها باباً ویرخی علیها ستراً، ویزعم انه لم یمسّها وتصدقه هی بذلک علیها عدّة؟ قال: لا، قلت: فانه شیء دون شیء، قال: ان اخرج الماء اعتدّت، یعنی اذا کانا مأمونین صدقاً(1).

قال المجلسی فی مرآة العقول فی شرح الحدیث: قوله:

(فانه شیء دون شیء) أی فیه تفصیل وتخصیص أو المعنی انه ادخل بعض الذکر ولم یدخل کله فیکون الانزال کنایة عن غیبویة الحشفة، والاظهر انه اراد

(بالشیء دون الشیء) أی إلصاق الذکر بالفرج، أو ادخال أقل من الحشفة؟ والجواب انه مع الانزال احتمل دخول الماء فی الرحم فیجب علیها العدّة وتستحق المهر لکن لم أری بهذا التفصیل قائل.

وقوله:

(اذا کانا مأمونین) الظاهر انه کلام الکلینی کما عرفت، وجمع بین الاخبار بالتهمة کما فعله الشیخ، ویمکن حمل اخبار اللزوم علی التقیة(2).

أقول: الحمل علی التقیة ضعیف لتصریح صدر الروایة بنفی العدّة

ص:22


1- (1) أبواب المهور، باب 56 ح2.
2- (2) مرأة العقول: ج21 ص188.

مع عدم الدخول، فالأظهر ان موضوع وجوب العدّة بحسب مفاد الموثق هو اراقة الماء علی الفرج أو فی فم الفرج.

7) صحیحة أبی مریم الانصاری قال: سألت أبا جعفر(علیه السلام) عن رجل قال: یوم آتی فلانة اطلب ولدها فهی حرّة بعد ان یأتیها أله أن یأتیها ولاینزل فیها؟ فقال: اذا أتاها فقد طلب ولدها(1). وهی کالنص فی کون الدخول من دون انزال محقق لموضوع قاعدة الفراش.

8) صحیحة محمد بن اسماعیل بن بزیع قال: سأل رجل الرضا(علیه السلام) - وأنا أسمع - عن الرجل یتزوج المرأة متعة ویشترط علیها ان لایطلب ولدها فتأتی بعد ذلک بولد فینکر الولد؟ فشدّد فی ذلک وقال: یجحد! وکیف یجحد؟ اعظاما لذلک، قال الرجل: فإن اتهمها؟ قال: لاینبغی لک أن تتزوج الاّ مأمونة(2).

وتقریب الدلالة فیها کالسابقة.

والحاصل ممّا تقدم ان قاعدة الفراش موضوعها أوسع من موضوع العدّة، نعم مع ظهور الحمل فیحرز موضوع العدّة أیضاً ویتطابق مع موضوع قاعدة الفراش، والاظهر فیه مطلق الدخول قبلا أو دبراً وان لم ینزل، بل وان لم یکن بمقدار الحشفة، وکذا لو انزل علی فم الفرج، فضلا عن ما عُلم دخول الماء فی الفرج، وعلی ذلک فقد یقرر تضییق موضوع العدّة عن موضوع الفراش بأنه الدخول للذکر أو الماء، بخلاف قاعدة

ص:23


1- (1) أبواب مقدمات النکاح، باب 103 ح1.
2- (2) أبواب المتعة، باب 33 ح2.

الفراش فانه یکفی فیها اراقة الماء علی الفرج أو عنده، نعم لو ظهر الحمل تحقق موضوع العدة بضمیمة موضوع قاعدة الفراش.

9) ومعتبرة ابان بن تغلب قال: سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن رجل تزوج امرأة فلم تلبث بعد ما اهدیت إلیه الاّ أربعة أشهر حتی ولدت جاریة فانکر ولدها، وزعمت هی أنها حبلت منه، فقال: لایقبل ذلک منها وان ترافعا الی السلطان تلاعنا(1).

وهی دالة علی ان أقل الحمل ستة أشهر، إلا انّه مع نزاع الزوجین فی المدّة لاینتفی الولد إلا بالتلاعن، ومقتضی ذلک ان قاعدة الفراش تقتضی نسبة الولد إلیه ولاینتفی عنه إلاّ باللعان وهذا مما یعنی ان قاعدة الفراش تجری بمجرد احراز الدخول، ولایشترط فی جریانها احراز المدّة، نعم لاتجری مع احراز انتفاء المدّة، ولایخفی ان العامة علی ماحکی لایختلفون معنا فی مقدار ادنی الحمل وهو ستة أشهر، فاحتیاج نفی الولد عند قاضی العامة الی اللعان دال علی ان الفرض فی الشق الثانی فی الروایة کون النزاع فی المدّة لا انّ المرأة تقرّ علی نفسها ان المدّة أربعة أشهر.

الأمر الخامس: تحدید مدّة الحمل قلّة وکثرة:

أی تحدید ادنی الحمل واقصاه.

أما تحدید ادنی الحمل بستة أشهر فقد ذهب الیه المشهور، لکن فی المقنعة وعن الطوسی التخییر بین النفی والاقرار لدون الستة، غیر انّه ان

ص:24


1- (1) أبواب أحکام الاولاد، باب 17 ح10.

نفاه وخاصمته المرأة فی زمان الحمل کان علیه ملاعنتها(1)، ومقتضی کلامهما ان قاعدة الفراش جاریة بمجرد الدخول، وان لم تحرز المدة فتتحقق نسبة الولد ولاینتفی الاّ باللعان، والظاهر ارادة المشهور فی کون ادنی الحمل ستة أشهر فیما لو أتت بالولد حیّاً سویّاً، وإلاّ لو أتت به ناقص الخلقة میتاً لدون تلک المدّة فلاینتفی عنه، وأما اقصی الحمل فعن المشهور انّه تسعة أشهر، وعن المبسوط انه عشرة أشهر، واستحسنه فی الشرائع واختاره العلامة فی أکثر کتبه، والفاضل التونی، أو أنّه سنة کما عن الانتصار، وأبی الصلاح والمختلف وشرح النافع، وعن ابن زهرة ان الزیادة الی سنة لنفی الریبة فی الحساب، واحتمل فی الجواهر ان الزیادة تعبدا للعدّة، أو انّ ادلته لنفی مازاد علی السنة، أو لعزم الطلاق مع استرابة الحیضة والحمل، ویظهر من المفید فی المقنعة ان الزیادة هی لالتباس الحمل علی کثیر من الناس، وان من النساء من یرتفع حیضهن قبل حملهن لعارض مدّة من الزمان فیظن ان ذلک من أیام الحمل.

وحکی السید فی الانتصار عن الشافعی ان اکثر الحمل لدیه أربع سنوات، وحکی ذلک ابن قدامة عن الشافعی أیضاً، وقال: وهو المشهور عن مالک وقال ان ظاهر المذهب لدیهم - أی لدی الحنابلة - ان اقصی مدة الحمل أربع سنین، وانّه روی عن أحمد ان اقصی مدته سنتان وکذلک عن عائشة والثوری وأبو حنیفة، وان الضحاک بن مزاحم وحرم بن حیان وهما من فقهائهم حملت أم کل واحد منهما به سنتین، وعن لیث ثلاث سنین،

ص:25


1- (1) المقنعة: ص538.

وعن عباد بن العوام خمس سنین، وعن الزهری ست أو سبع سنین، وعن أبی عبیدة لیس لاقصاه وقت یوقف علیه(1).

وحکی السید المرتضی فی رسائله عن العامة وفاقهم معنا فی أقل الحمل، وهذا هو ظاهر المغنی فیما حکاه من أقوالهم(2).

ولایخفی ان اختلافهم فی اقصی مدّة الحمل الی هذا التحدید من السنین سبّب لغط کبیر لدیهم - لاسیما فی هذه الاعصار - وتداعیاته فی الفتن الاجتماعیة کثیرة حیث یقول أحد المعاصرین منهم انه قد بنی علی الخلاف فی أطول مدة الحمل شرّ عظیم ومنه ارتکاب الفحشاء من بعض النساء بعد وفاة أزواجهن وحملهنّ منهم وادعاء ان ذلک کان من ازواجهن، ولو فعلن ذلک بعد موتهم بسنوات علی اعتبار القول بطول مدّة الحمل وأنها قد تصل الی خمس سنوات بل أکثر، ومن ثمّ لجأ ابن حزم الی ردّ هذه الأقوال بانّ مستنداتها أخبار تروی عن نساء وهی اخبار مکذوبة راجعة الی من لایصدق ولایعرف من هو».

أقول: کیف ینسجم کلامهم هذا وکلام جملة من المعاصرین مع أنهم قد رووا التحدید بمدّة سنتین عن عائشة کما مرّت الاشارة الی أقوالهم.

والروایات الواردة فی المقام علی ألسن وطوائف:

الطائفة الأولی: مادل علی أقل الحمل ستة أشهر:

ص:26


1- (1) المغنی: ج9 ص116.
2- (2) المغنی: ج9 ص115.

1) کصحیح الحلبی عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: إذا کان للرجل منکم الجاریة یطؤها فیعتقها فاعتدّت ونکحت فان وضعت لخمسة أشهر فانه لمولاها الذی اعتقها، وان وضعت بعد ما تزوجت لستة أشهر فانّه لزوجها الأخیر(1).

وتفصیله(علیه السلام) فی نسبة الولد لمولاها السابق، أو لزوجها بعد العتق جعل المدار فیه الستة أشهر.

2) صحیحة عبدالرحمن العرزمی عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: کان بین الحسن والحسین طهر، وکان بینهما فی المیلاد ستة أشهر وعشراً(2).

3) ومرفوعة محمد بن یحیی الی أبی عبدالله(علیه السلام) قال: قال أمیر المؤمنین(علیه السلام): لاتلد المرأة لأقل من ستة أشهر(3).

4) وفی معتبرة ابان بن تغلب قال: سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن رجل تزوج امرأة فلم تلبث بعد ما اهدیت إلیه الاّ أربعة أشهر حتی ولدت جاریة فانکر ولدها، وزعمت هی أنها حبلت منه، فقال: لایقبل ذلک منها وان ترافعا الی السلطان تلاعنا(4)، وقد تقدم تقریب الروایة.

5) والصحیح الی ابن أبی نصر عمن رواه عن زرارة قال: سألت أبا جعفر عن الرجل اذا طلق امرأته ثم نکحت وقد اعتدّت ووضعت لخمسة

ص:27


1- (1) باب أحکام الأولاد، باب 17 ح1.
2- (2) باب أحکام الأولاد، باب 17 ح4.
3- (3) أبواب أحکام الأولاد، باب 17 ح8.
4- (4) أبواب أحکام الأولاد، باب 17 ح10

أشهر فهو للأوّل، وان کان ولد انقص من ستة أشهر فلأمه وأبیه الاوّل، وان ولدت لستة أشهر فهو للأخیر(1).

6) ومثلها صحیح جمیل بن دراج(2).

والحاصل ان هذه المسألة وفاقیة بین الفریقین فضلا عن الامامیة، ووجه الوفاق فیها ماروته العامة والخاصة من کلام أمیر المؤمنین(علیه السلام) فی الرد علی عمر حینما اوتی بأمرأة وقد ولدت لستة أشهر فهمّ برجمها فقال له أمیر المؤمنین(علیه السلام): ان خاصمتک بکتاب الله خصمتک، انّ الله تعالی یقول: وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً3 ویقول: وَ الْوالِداتُ یُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَیْنِ کامِلَیْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ یُتِمَّ الرَّضاعَةَ 4 فاذا اتمّت المرأة الرضاعة السنتین وکان حمله وفصاله ثلاثین شهراً، کان الحمل منها ستة أشهر فخلّ عمر سبیل المرأة(3).

الطائفة الثانیة: مادل علی ان اقصی الحمل تسعة أشهر:

1) المعتبر الی عبدالرحمن بن سیابة عمن حدثه عن أبی جعفر(علیه السلام) قال: سألته عن غایة الحمل بالولد فی بطن أمه کم هو؟ فانّ الناس یقولون ربما بقی فی بطنها سنتین (سنین) فقال کذبوا، اقصی مدّة الحمل تسعة

ص:28


1- (1) أبواب أحکام الأولاد، باب 17 ح11.
2- (2) أبواب أحکام الأولاد، باب 17 ح13.
3- (5) أبواب أحکام الأولاد، باب 17 ح9.

أشهر، ولایزید لحظة، ولو زاد ساعة ] لحظه [ لقتل أمه قبل أن یخرج(1).

2) ما استفیض عن محمد بن حکیم عن أبی عبدالله أو أبی الحسن فی حدیث قال: قلت فانها ادّعت الحبل بعد تسعة أشهر قال: انما الحمل ] الحبل [ تسعة أشهر»(2).

3) الصحیح الی وهب عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: قال أمیر المؤمنین(علیه السلام): یعیش الولد لستة أشهر ولسبعة أشهر وتسعة أشهر ولایعیش لثمانیة أشهر(3).

4) روایة أبان عن رجل عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: ان مریم حملت تسع ساعات کل ساعة شهر(4).

5) مصححة أبی حمزة عن أبی جعفر(علیه السلام) عن خلق الانسان ومراحل تکونه الی ان قال(علیه السلام): فذلک تسعة أشهر، ثم تُطلُق المرأة(5) الحدیث.

الطائفة الثالثة: مادلّ علی ان اقصی الحمل یزید علی التسعة کعشرة أشهر والسنّة:

1) کصحیحة عبدالرحمن بن الحجاج قال: سمعت أبا ابراهیم(علیه السلام) یقول: اذا طلّق الرجل امرأته فادعت حبلاً انتظر بها تسعة أشهر فان ولدت وإلاّ اعتدّت بثلاثة أشهر ثم قد بانت منه(6).

ص:29


1- (1) أبواب أحکام الاولاد، باب 17 ح3.
2- (2) أبواب العدد، باب 25 ح2، 4، 5.
3- (3) أبواب أحکام الاولاد، باب 17 ح2.
4- (4) أبواب أحکام الاولاد، باب 17 ح7.
5- (5) الکافی: ج6 ص15 کتاب العقیقة.
6- (6) أبواب العدد، باب 25 ح1.

بتقریب ان زیادة ثلاثة أشهر هی لاقصی الحمل، ولکن قد یخدش فی الدلالة بان التعبیر بالاعتداد یناسب مدة الاسترابة، ولعل المراد من الریبة فی المقام هو بلحاظ مبدأ حساب الحمل کما یقع کثیراً لدی النساء، وعلی هذا التقدیر لا تکون السنة حدّ بحسب الواقع والثبوت وانما هو حدّ اماری فی الظاهر، والثمرة والفرق بین الوجهین یزول فی موارد الشک والتی هی الغالب، لکنه یظهر فی موارد العلم کما لو علم انّه لم یجامع امرأته مدّة اثنا عشر شهراً وقد اتت بالولد فی رأس السنة، وربما یعضد هذا الحمل لمفاد الصحیحة بما فی الروایة المستفیضة عن محمد بن حکیم عن أبی عبدالله أو عن أبی الحسن(علیه السلام) فی حدیث قال: قلت: فانها ادعت الحبل بعد التسعة أشهر قال: انما الحمل تسعة أشهر، قلت: تزوج قال: تحتاط بثلاثة أشهر قلت: ان ادّعت بعد ثلاثة أشهر قال: لاریب علیها، تزوج ان شاءت(1).

والمقصود من الادعاء الثانی ادعاء الحمل أیضاً، کما فی الطریق الآخر للروایة نفسها «قلت: فان ارتابت بعد ثلاثة أشهر؟ قال: لیس علیها ریبة، تزوج»، وفی طریق آخر للروایة أیضاً: قال قلت له: رجل طلق امرأته فلمّا مضت ثلاثة أشهر ادّعت حبلاً قال: ینتظر بها تسعة أشهر، قال: قلت: فانها ادعت بعد ذلک حَبْلاً قال: هیهات هیهات، إنما یرتفع الطمث من ضربین: اما حملا بیّن، واما فساد من الطمث، ولنکها تحتاط بثلاثة أشهر بعد»(2) الحدیث.

ص:30


1- (1) أبواب العدد، باب 25 ح2، 4، 5.
2- (2) أبواب العدد، باب 25 ح 5.

والاحتیاط ظاهر بقوة فی کون الحکم بالسنة وبزیادة الثلاثة أشهر علی التسعة ظاهراً لا واقعیاً.

هذا ویحتمل فی تفسیر الریبة فی روایات السنة انه ریبة فی حلیّة زواجها بالثانی، لان الحمل من النمط الطویل مقداره اثنا عشر شهراً لا انّ الریبة فی مبدأ حساب الحمل، والقرینة علی ذلک ترتیب الأمر وجواز التزویج بالثانی بعد نفی الریبة، فکان اسناد الریبة مضافاً الی حلّیة الزواج المعلق علی وجود الحمل واستطالة مدته، ویؤید ذلک ان حدود الحمل التی تقع تارة ستة أشهر، أو سبعة، أو ثمانیة أو تسعة، أو عشرة أشهر مما یدل علی عدم کون التسعة اشهر حداً دائمیاً کلیاً، وانما هو حدّ غالبی، فیمتد الی اثنا عشرة شهراً، ولایخفی الفرق بین التفسیرین والاحتمالین، فانّه فی فرض الشک یتفقان علی الامتداد الی اثنتا عشرة شهراً بخلاف مورد العلم، کما لو کان قد علم آخر وطی دخل بها ثم سافر عنها أو ترکها مدّة تزید عن احدی عشرة شهراً فانه علی الاوّل لاینتسب الولد الیه، بخلاف الحال علی الثانی.

3) خبر غیاث عن جعفر بن محمد عن أبیه عن جده عن علی(علیهم السلام) قال: ادنی ما تحمل المرأة لستة أشهر، وأکثر ما تحمل لسنة(1).

وفی بعض النسخ (لسنتین) بدل السنة.

قال فی الوافی فی بیان الحدیث فی بعض النسخ: (واکثر ما تحمل

ص:31


1- (1) أبواب أحکام الاولاد، باب 17 ح15.

لسنتین) فان صحّ فلعله ورد علی التقیة)(1) والظاهر ان نسخ الفقیه مختلفة، والظاهر ان نسخة الوسائل هی (لسنتین) لقوله بعد الحدیث: (هذا محمول علی التقیة).

4) الصحیح الی حریز عمن ذکره عن أحدهما(علیه السلام) فی قول الله عَزَّ وَجَلَّ: (یَعْلَمُ ما تَحْمِلُ کُلُّ أُنْثی وَ ما تَغِیضُ الْأَرْحامُ وَ ما تَزْدادُ)2.

قال: الغیض کل حمل دون تسعة أشهر، وماتزداد: کل شیء یزداد علی تسعة أشهر، فلما رأت المرأة الدم الخالص فی حملها فانها تزداد بعدد الایام التی رأت فیحملها من الدم(2).

وفی تفسیر العیاشی عن زرارة عن أبی جعفر عن أبی عبدالله(علیه السلام) فی قوله تعالی: ما تَحْمِلُ کُلُّ أُنْثی یعنی الذکر والانثی وَ ما تَغِیضُ الْأَرْحامُ قال: الغیض ما کان أقل من الحمل (وَ ما تَزْدادُ) ما زاد علی الحمل فهو مکان مارأت من الدم فی حملها(3).

وروی أیضاً عن زرارة عن أبی عبدالله(علیه السلام) فی قول الله تعالی: یَعْلَمُ ما تَحْمِلُ کُلُّ أُنْثی وَ ما تَغِیضُ الْأَرْحامُ ما کان دون التسعة فهو غیض (وَ ما تَزْدادُ) قال: مارأت الدم فی حالة حملها ازداد به علی التسعة الاشهر، ان کانت رأت الدم خمسة أیام أو أقل أو أکثر زاد ذلک التسعة الأشهر(4).

ص:32


1- (1) الوافی: ج23 ص14.
2- (3) أبواب أحکام الاولاد، باب 17 ح6.
3- (4) تفسیر العیاشی، سورة الرعد: ج2 ص380.
4- (5) الرعد: 8 فی تفسیر العیاشی.

أقول: مفاد هذه الروایات غایته زیادة الحمل علی التسعة بمقدار عشرة أشهر فلادلالة لها علی السنة، نعم اطلاق الآیة(1) یمکن التمسک به الی سنة لا الاکثر من ذلک کما فی أقوال العامة کالسنتین والثلاثة، فان ذلک لایعد زیادة علی الاصل وهو التسعة أشهر، اذ ظاهر الزیادة ان تکون تبعیة کالهامش لا ما یضاهی الاصل أو یتضاعف علیه باضعاف.

ثم ان التعلیل الوارد فی هذه الروایات عن سبب الزیادة بما رأت من دم الحیض فی الحمل یتناسب مع ما تقدم فی روایات العدّة أنها ینتظر بها الی سنة مع ادعائها الحبل لنفی الریبة.

والمحکی عن الاطباء وأهل الاختصاص ان للحمل موعد معتاد وهو التسعة أشهر ولایتأخر الا بمقدار اسبوعین أو ثلاثة غالباً فتتأخر الولادات الی (39 و41) أسبوعاً واذا تأخرت عن الاسبوع (42) اصبح الجنین فی خطر لان الجنین یعتمد علی المشیمة فی غذائه فاذا بلغ الموعد ضعفت المشیمة عن امداد الجنین بالغذاء، ومن النادر ان یبقی حیا فی الرحم (45) اسبوعاً، والإستیعاب النادر والشاذ تمدد المدّة الی اسبوعین آخرین فتصبح (47) اسبوعاً أی (330 یوم)(2).

وبذلک یتطابق قولهم مع التحدید بسنة کأقصی مدّة للحمل مع الطائفة الأخیرة، ویکون وجه الجمع بینها وبین الطوائف السابقة الدالة

ص:33


1- (1) الرعد: 8.
2- (2) المنظمة الاسلامیة للعلوم الطبیة: الرؤیة الاسلامیة لبعض الممارسات الطبیة ص759. الکویت 1687 م. وهذا هو المحکی عن القانون السوری والمصری.

علی التحدید بالتسعة هو بحملها علی الغالب المعتاد وانّ ما یزید علی ذلک الی سنة هو الشاذ النادر، أو علی موارد الشک والاسترابة فی تحدید مبدأ الحمل، کما یحصل کثیراً عند النساء. ثم هل تحمل هذه السنة فی الروایات وکلمات الأصحاب علی القمریة أو علی الشمسیة؟

الظاهر هو الأوّل کما هو مقتضی الظهور الأولی فی تحدیدات الشرع الاّ ان تقوم قرینة خاصة علی خلاف ذلک، کما انّ الذی مرّ من کلمات أهل الاختصاص فی تحدید اقصی المدّة یتطابق مع القمریة دون الشمسیة وان صرحوا هم بالسنة الشمسیة، نعم قد مرّت الاشارة ان تحدید المبدأ کثیراً ما یقع فیه الاشتباه والخطأ، فلابد من الالتفات والتدقیق فی ذلک لأن لایقدم علی نفی النسب بسبب الاشتباه لاسیما وان المدار بحسب الحکم الظاهری فی نسبة الولد واجراء قاعدة الفراش هی علی مجرد الدخول، واحراز المدّة لیس شرطاً وانما احراز انتفائها مانع.

الأمر السادس: قد ذهب بعض اعلام العصر الی الاشکال فی تحقق الفراش بمجرد دخول المنی بعلاج وآلات کالانبوب والابرة والحقن بالابرة، وکأنّ وجهه خروج مثل هذه الموارد عن الموارد المنصوصة، نعم یلحق به مع القطع بالنسبة کما لایجوز نفیه له لانّ النفی انما یجوز مع العلم بالانتفاء لا مع الشک، لکن الاظهر بحسب ما تقدم من الادلة شمولها لمطلق دخول الماء، کعموم التعلیل (انما العدة من الماء)(1).

وکروایة المرأة التی ساحقت بکرا بعد ما جامعها زوجها فحملت

ص:34


1- (1) أبواب المهور، باب 54 ح1.

البکر، وان الولد یلحق بصاحب النطفة(1)، وکروایة الشیخ الکبیر الذی کان ینزل علی فرجها، وغیرها من الموارد التی یستظهر منها عموم دخول الماء، بل العرضیة القریبة لدخوله.

تتمات القاعدة فی فروع:

الأوَّل: اذا تحققت الشروط الثلاثة لَحِقَ الولد به ولایجوز له نفیه وان وطأها وطی فجور، فضلا عن ما لو اتهمها بالفجور ولاینتفی عنه لو نفاه ان کان العقد دائم إلا باللعان، بخلاف ما اذا کان العقد منقطعاً وجاءت بولد أمکن إلحاقه به، فانّه وان لم یجز له نفیه، لکن لو نفاه ینتفی منه ظاهراً من غیر لعان، لکن علیه الیمین مع دعواها أو دعوی الولد النسب.

فی الفرع عدة أمور: ولا یخفی أنها من تتمات جهات البحث فی قاعدة الفراش.

الأمر الأوَّل: قد مرّ فی المسألة السابقة ان المدار فی إلحاق الولد بحسب الظاهر یکفی فیه الشرط الاوّل وهو الدخول أو الانزال حوالی الفرج، أو علی الفرج، نعم یشترط فی اجراء قاعدة الفراش ان لایعلم بانتفاء الشرطین اللاحقین، أی فاحراز الشرط الاول مع الشک فی الشرطین اللاحقین کاف فی اجراء قاعدة الفراش، فالشروط الثلاثة انما هی شروط فی الالحاق بحسب الواقع.

ص:35


1- (1) أبواب حدّ السحت، باب 3.

الأمر الثانی: مع اجراء قاعدة الفراش یلحق الولد به وإن وطأ زان المرأة فجورا، فضلا عن ما لو ظنّ أو شک فی ذلک، کما هو مفاد قوله صلی الله علیه و آله : «الولد للفراش وللعاهر الحجر» وفی صحیحة سعید الاعرج عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: «سألته عن رجلین وقعا علی جاریة فی طهر واحد لمن یکون الولد؟ قال: للذی عنده لقول رسول الله صلی الله علیه و آله : الولد للفراش وللعاهر الحجر»(1) وهی کالنص فیما نحن فیه، وغیرها...

من روایات هذا الباب:

ولاینتفی عنه إلا باللعان وذلک لحجیة قاعدة الفراش التی مرّ البحث عن الروایات الدالة علیها.

ویدل علیه بالخصوص مورد نزول آیة اللعان بعد تعمیمها لنفی الولد، وستأتی الاشارة الی تعمیم نصوص اللعان، کموثق سعید الاعرج عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: «قلت له: الرجل یتزوج المرأة لیست بمأمونة تدعی الحمل قال: لیصبر لقول رسول الله صلی الله علیه و آله : الولد للفراش وللعاهر الحجر»(2).

وبعبارة اخری فان مقتضی تشریع اللعان، وان الولد لاینتفی الا به، هو ثبوت نسبة الولد بالفراش.

وفیما یدل علی ذلک أیضاً ماورد من ان الزوج بعد اللعان اذا اقرّ

ص:36


1- (1) نکاح العبید والاماء، باب 5 ح4.
2- (2) أبواب اللعان، باب 9 ح3.

بالولد وأکذب نفسه لحقه الولد فیرثه ولایرثه الاب(1).

ومقتضی هذه الروایات أنها دالة علی عموم قاعدة الفراش فی موارد التهمة أو موارد احراز الزوج تحقق الفجور من امرأته، وانّه لاینتفی عنه الولد إلاّ باللعان.

وسیأتی صحیح ابن بزیع(2) الدال علی حرمة نفی الولد فی المتمتع بها وان کانت متهمة.

وفی روایة داود بن فرقد عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: أتی رجل رسول الله صلی الله علیه و آله فقال: یارسول الله انی خرجت وامرأتی حائض ورجعت وهی حبلی، فقال له رسول الله من تتهم؟ قال: اتهم رجلین، فجاء بهما. فقال رسول الله صلی الله علیه و آله : ان یک ابن هذا فسیخرج قططا کذا وکذا، فخرج کما قال رسول الله صلی الله علیه و آله فجعل معقلته علی قوم أمه، ومیراثه لهم، ولو ان انسانا قال له یا ابن الزانیة لجلد الحدّ(3).

وهی محمولة علی حصول العلم بانتفاء الولد، والحال کذلک فیما استجدّ من الطرق الحدیثة فی الفحص الوراثی مایوجب العلم دون مایوجب الظن، فانه مقدم ورافع لقاعدة الفراش، ولا حاجة للعان حینئذ.

الأمر الثالث: (فی عموم اللعان لمجرد نفی الولد):

قال فی المبسوط: «اذا لاعن لنفی النسب لم ینتف بذلک الموارثة بین

ص:37


1- (1) أبواب اللعان، الباب 6.
2- (2) أبواب المتعة، باب 33 ح2.
3- (3) أبواب أحکام الاولاد، باب 100 ح2.

الزوجین»(1) وهو تصریح بتعمیم اللعان لنفی الولد وان لم یکن قذف فی البین، نعم وقع الکلام والبحث عندهم فی انّ اللعان المزبور مع عدم القذف هل یوجب الحرمة الابدیة وبینونة الزوجة عن الزوج وفسخ النکاح، أو انّه یوجب قطع النسب بین الاب والولد فقط، ظاهر العبارة السابقة من الشیخ الثانی، وإن کان الأقوی الاوّل لعموم ترتیب الحرمة الابدیة علی مطلق اللعان فی النصوص، ویناسبه تضمن اللعان ولو لنفی الولد التلاعن بین الزوجین هی نحو من القطعیة.

وقال فی المبسوط أیضاً: «إذا تراضی الزوجان برجل یلاعن بینهما جاز عندنا وعند جماعة»(2).

وهو خلاف المشهور القائلون بلزوم اقامته عند الحاکم الشرعی، وتمام الکلام فی باب اللعان. وهل أنّ ذلک من باب قاضی التحکیم أولا؟

وأما تحریر الکلام فی عمومیة اللعان لمجرد نفی الولد من دون قذف وجوه:

الوجه الأول: یتوقف علی تحریر ماهیة اللعان ثم التعرض الی النصوص التی یمکن دلالتها علی ذلک.

حقیقة اللعان:

فأما ماهیة اللعان فقد قال فی المبسوط: «ان اللعان هل هو بیمین أو

ص:38


1- (1) المبسوط: ج5 ص203.
2- (2) نفس المصدر.

شهادة، فعندنا هو یمین، ویصح منهم - أی من الازواج التی لا تصح منهم الشهادة - وعندهم - أی عند العامة - شهادة لاتصح منهم - أی من الازواج الذین لاتقبل شهادتهم»(1).

وقیل: إنّه اقرار واختاره السیوری، وفی الجواهر أنها مباهلة وعلیه جملة من المتأخرین.

والصحیح ان حقیقة اللعان جمیع الامور الاربعة لورود هذه الالفاظ فی متن صیغة اللعان الواردة فی الکتاب العزیز، وعلی ذلک فلابد فیه من تلاعنهما، ولایقع من طرف واحد، ولو فی مورد مجرد نفی الولد، ولایقع من دون نزاع بینهما اذ لایصدق علیه مباهلة حینئذ، کما لو اتفقا،أو لم تنکر علیه دعواه.

ومنه یظهر صحة وقوعه لمجرد نفی الولد وان لم یکن قذف فی البین، وذلک لتأتی وقوع النزاع بینهما فی النسبة، فیتکاذبان، ویصح منهما التلاعن علی الصدق والکذب، وهو معنی المباهلة.

فعموم ماهیة اللعان التی هی المباهلة شاملة لکل نزاع.

الوجه الثانی: وأما النصوص الواردة:

1) مصحح محمد بن مسلم عن أحدهما(علیهم السلام) قال: لایکون اللعان إلاّ بنفی ولد، وقال: اذا قذف الرجل امرأته لاعنها(2).

ص:39


1- (1) المبسوط: ج5 ص183.
2- (2) أبواب اللعان، باب 9 ح1.

2) ومثلها موثقة أبی بصیر(1).

وتقریب الاستدلال بها اجمالا ان هذا اللسان تعمیم للعان الی موارد نفی الولد.

وقد یحتمل فی الدلالة ان قوله(علیه السلام) وعطفه بالقذف علی نفی الولد انه بیان لتعدد موارد اللعان.

وقد یخدش فی الدلالة بانّ ظاهر الباب هو المعیة أو المصاحبة مع شیء آخر فیقدر القذف، ولعلّ المراد حینئذ من هذا اللسان انه لایصح اللعان مع قذف الرجل لامرأته من دون نفی الولد فیما اذا کانت حاملاً، أو کان مورد القذف متصلا بمولود قد ولد، فهی فی صدد بیان عدم صحة التفکیک بین نسبة الولد والقذف.

3) مارواه ابن ادریس نقلا من کتاب المشیخة للحسن بن محبوب عن أبی ولاد الحناط قال: سئل أبو عبدالله(علیه السلام) عن نصرانیة تحت مسلم زنت وجاءت بولد فانکره المسلم؟ فقال: یلاعنها، قیل: فالولد مایصنع به؟ قال: هو مع امّه، ویفرق بینهما، ولاتحل له أبداً(2).

وتقریب دلالتها أنها ظاهرة بوضوح ان اللعان لمجرد انکار الولد.

4) روایة أبی البختری عن جعفر عن أبیه انه رفع الی علی(علیه السلام) امر امرأة ولدت جاریة وغلام فی بطن، وکان زوجها غائباً، فاراد ان یقرّ بواحد

ص:40


1- (1) أبواب اللعان، باب 9 ح2.
2- (2) أبواب اللعان، باب 5 ح15.

وینفی الآخر، فقال: لیس ذاک له، اما ان یقرّ بهما جمیعاً واما ان ینکرهما جمیعاً(1).

وتقریب دلالتها ان تفریق الزوج بانکار احد التوأمین دون الآخر ظاهر فی کون انکاره مقتصراً علی نسبة الولد من دون قذف، ولذلک لم یذکر فی فرض السائل والجواب عنوان القذف.

الوجه الثالث: ویمکن تقریب عموم ادلة اللعان لموارد مجرد انکار الولد بدون قذف ان نفی الولد وانکاره فقط وان لم یشتمل علی القذف قالبا، الاّ انه یتضمن بنحو التعریض الطعن فی الزوجة ممّا یقتضی بنحو التضمن وقوعها فی معرضیة نسبة العار والکذب، فحینذ یصحح تلاعنها معه علی نسبة الولد لدرء العار والکذب عن نفسها، وتوقیتها عن الخیانة.

ومن ثمّ فی موارد مجرد انکار الولد لو لاعنها زوجها ولم تلاعنه هی یکون نکولها عن اللعان بمثابة تسلیمها امام مدعی الزوج وشهادته.

الأمر الرابع: (انتفاء الولد فی العقد المنقطع بمجرد نفی الزوج):

وهذا هو المشهور، بل کاد یکون متفق علیه، لکن فی الانتصار وفی جامع الشرائع ذهبا الی وقوع اللعان فی المنقطع.

ولا یخفی ان قاعدة الفراش هی أیضاً جاریة فی العقد المنقطع، بل وفی ملک الیمین، وان انتفی الولد بمجرد الانکار ونفیه فیهما، ومن ثمّ لایجوز له نفیه مع قاعدة الفراش وان ظنّ بالخلاف ما لم یحصل له علم

ص:41


1- (1) أبواب اللعان، الباب 7 ح1.

فیسوغ، بل یجب علیه نفیه.

ویدل علی ذلک:

1) صحیحة ابن أبی یعفور عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: لا یلاعن الرجل المرأة التی یتمتع منها(1).

2) وصحیح عبدالله بن سنان عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: لایلاعن الحرّ الامة ولا الذمیة والتی یتمتع بها(2).

3) وصحیح محمد بن اسماعیل بن بزیع قال: سأل رجل الرضا وأنا أسمع، عن الرجل یتزوج المرأة متعة ویشترط علیها ان لایطلب ولدها فتأتی بعد ذلک بولد فینکر الولد؟ فشدّد فی ذلک وقال: یجحد! وکیف یجحد؟ اعظاما لذلک، قال الرجل: فان اتهمها؟ قال: لاینبغی لک أن تتزوج الاّ مأمونة(3).

وهی دالة بوضوح علی حرمة انکار الولد مع قاعدة الفراش فی عقد المتعة ولو کانت المرأة متهمة.

الأمر الخامس: ذکر السید الاصفهانی ان علی الزوج المنکر للولد الیمین لو ادعت الزوجة او ادعی الولد النسب، والذی ذکره علی مقتضی القاعدة فی باب النزاع والقضاء، فان ما تقدم من ادلة من انتفاء الولد بنفی الاب انما هو بحسب اعتبار قوله کإمارة وانّه صاحب الحقّ، وان الفعل

ص:42


1- (1) أبواب اللعان، الباب 10 ح1.
2- (2) أبواب اللعان، باب 10 ح2.
3- (3) أبواب المتعة، باب 33 ح2.

فعله لابحسب فرض النزاع وموازین القضاء فان غایة ذلک اعتبار قوله لصیرورته منکراً، فالقول قوله مع یمینه.

الفرع الثانی: لایجوز نفی الولد لمکان العزل، فلو نفاه لم ینتف الا باللعان:

والبحث فی هذه الفرع أیضاً من تتمات قاعدة الفراش.

قد تقدم فی المسألة السابقة والتی قبلها أیضاً جملة وافرة من الادلة علی اعتبار قاعدة الفراش عند الشک أو الظن بالخلاف ولو مع التهمة، بل ولو علم بوطی امرأته فجورا ما دام لم یعلم بانتفاء نسبة الولد عنه، بان علم باختلال مدّة الحمل مع زمان وطئه، وانّ الولد لاینتفی عنه فی العقد الدائم بنفیه وانکاره، بل لابد من اللعان.

ففی روایة أبی البختری عن جعفر بن محمد عنه أبیه عن علی(علیهم السلام) قال: جاء رجل عند رسول الله صلی الله علیه و آله قال: کنت اعزل عن جاریة لی فجاءت بولد. فقال(علیه السلام): ان الوکاء قد ینفلت فألحق به الولد(1).

الفرع الثالث: الموطوءة بشبهة کما اذا وط ء أجنبیة بظن أنها زوجته یلحق ولدها بالواطیء بشرط ان تکون ولادته لستة أشهر من حیث الوطی أو أکثر، وان لایتجاوز عن أقصی الحمل.

البحث فی هذه الفرع أیضاً من تتمات قاعدة الفراش.

والظاهر الاتفاق علی احترام ماء الرجل فی الوطی بشبهة نصا

ص:43


1- (1) أبواب أحکام الاولاد، باب 15 ح1.

وفتوی، ففی جملة من الروایات فی مورد تعدد الواطیء بشبهة انه یقرع بینهم لتعیین الاب، ومقتضی ذلک اعتبار تحقق النسب بین المولود والواطیء بشبهة.

فمنها:

1) صحیح معاویة بن عمار عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: «اذا وطیء رجلان أو ثلاث جاریة فی طهر واحد فولدت فادّعوه جمیعاً، اقرع الوالی بینهم فمن قرع کان الولد ولدُه ویرد قیمة الولد علی صاحب الجاریة»(1) فمع ان صاحب الجاریة هو صاحب الفراش مما یدلل علی انه بالنسبة للآخرین وطی الشبهة.

نعم قد یقرر ان صاحب الجاریة هو الواطیء بشبهة لان اللازم علیه ان یستبرأ.

وقریب منها صحیحة سلیمان بن خالد، وصحیح الحلبی ومحمد بن مسلم(2) وصحیح أبی بصیر(3).

2) صحیح الحلبی عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: اذا کان للرجل منکم الجاریة یطأها فیعتقها فاعتدّت ونکحت فان وضعت لخمسة أشهر فانه من مولاها الذی اعتقها وان وضعت بعدما تزوجت لستة أشهر فانه لزوجها

ص:44


1- (1) أبواب نکاح العبید والاماء، باب 57 ح1.
2- (2) نفس الباب، ح2 و3.
3- (3) نفس المصدر، ح4.

الاخیر»(1) ومثلها روایات أخری(2) والمصحح الی جمیل عن بعض اصحابه عن أحدهما فی المرأة تزوج فی عدتها قال: «یفرق بینهما وتعتد عدة واحدة منهما جمیعاً، وان جاءت بولد لستة أشهر أو أکثر فهو للأخیر، وان جاءت بولد لاقل من ستة أشهر فهو للاوّل»(3) وتقریب الدلالة فی روایة جمیل واضحة فان الوطی الثانی شبهة، ومجیء الولد لستة أشهر لایعین کونه للثانی قطعاً وانما حکم به للثانی لقاعدة الفراش، واما تقریب صحیحة الحلبی فان مفاد الصحیحة من الحکم بکون الولد للثانی بعد ستة أشهر لایعیّن کون الولد للثانی بحسب الواقع وانما بحسب قاعدة الفراش، وعلی تقدیر مجیئها للولد لخمسة أشهر فان نکاحها من الثانی یکون وطی شبهة، ونسبة للاول دون الثانی لا لعدم قاعدة الفراش فی وطی الشبهة وانما العلم بنفی نسبته للثانی بفقد شرائط الالحاق واقعاً، والتعلیل بذلک یدل التزاما علی توفر قابلیة النسبة للثانی رغم کونه وطی الشبهة لولا العلم بفقد شرائط الالحاق بحسب الواقع.

3) مما ورد من لزوم اعتداد المرأة بالعدّة من وطی الشبهة، ولو کانت متزوجة، وهو یقتضی بوضوح حرمة الماء والوطی من الشبهة کموثق زرارة عن أبی جعفر(علیه السلام) قال: سألته عن امرأة نعی الیها زوجها فاعتدّت فتزوجت فجاء زوجها الاوّل فطلقها ففارقها الآخر، کم تعتد للثانی؟ قال: ثلاث قروء، وانما یستبرأ رحمها بثلاث قروء، وتحل للناس کلهم، قال

ص:45


1- (1) أبواب نکاح العبید والاماء، باب 58 ح1.
2- (2) أبواب مایحرم بالمصاهرة، باب 11 ح7.
3- (3) نفس الأبواب، باب 17 ح14.

زرارة وذلک ان ناسا قالوا تعتد عدتین من کل واحد عدّة، فأبی ذلک أبو جعفر(علیه السلام) وقال: تعتدّ ثلاث قروء وتحل للرجال»(1).

ومفادها ثبوت العدّة لوطی الثانی الذی هو وطی الشبهة وان تداخلت عدته مع عدّة طلاق الاوّل.

وصحیح الحلبی عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: سألته عن المرأة الحبلی یموت زوجها فتضع وتزوج قبل أن تمضی لها أربعة أشهر وعشراً، فقال: ان کان دخل بها فرق بینهما ولم تحل له أبداً، واعتدّت بما بقی علیها من الاوّل واستقبلت عدة اخری من الآخر ثلاثة قروء، وان لم یکن دخل بها فرّق بینهما واعتدّت بما بقی علیها من الاوّل وهو خاطب من الخطاب(2).

وتقریب دلالتها کالسابقة، والحکم بالعدّة یقتضی حرمة ذلک الوطی والماء منه، وانّ العدّة تحفظا لنسبة الحمل الی ذلک الوطی والماء.

ص:46


1- (1) أبواب مایحرم بالمصاهرة، باب 11 ح7.
2- (2) نفس الباب، باب 17 ح6، 9، 11، 12.

تنبیهات

التنبیه الأوّل:

لو دار الأمر فی الولد بین وطی الشبهة والوطی بسبب محلل أو بین وطیی شبهة، أو وطیین محللین، فهل تتعارض قاعدة الفراش بینهما وتصل النوبة الی القرعة کما دلّت علی ذلک جملة من النصوص؟ أو یصار إلی تقدم قاعدة الفراش المتأخرة الفعلیة، أو یفصل بین تقارن قاعدتی الفراش فی مدة متحدة مثل وقوع الوطیین فی طهر واحد، ویقرع بینهما وبین ما إذا کان لفاصل المدّة ووقوع اقراء بینهما وجوه لاختلاف النصوص.

التنبیه الثانی: رسالة فی نسب ابن الزنا وترتب أحکام الولد:
اشارة

هل أحکام الولد تترتب علی ولد الزنا مطلقاً، أم أنها منتفیة مطلقاً، أو یقال بالتفصیل؟

لم یذهب الی الأول قائل، وکذا الثانی، وأما التفصیل فأختلفت کلماتهم فی مقداره، فمن قائل انه لم یتحقق النسب مطلقاً، وانّ انتفائه حقیقة شرعیة کثبوته فی المتولد من الحلال، وآخر الی انه معنی عرفی غایة الأمر ان الشارع نفی الارث عنه بلسان نفی الموضوع، وإلا فبقیة الأحکام تترتب علی العنوان العرفی أو التکوینی، وثالث غیر ذلک کما یأتی بسطه.

کلمات الأصحاب:

وفی البدء نستعرض کلمات الأصحاب فی الأبواب المختلفة:

ص:47

قال فی الشرائع فی باب أسباب التحریم من النسب: «النسب یثبت مع النکاح الصحیح ومع الشبهة ولایثبت مع الزنا، فلو زنی فانخلق من مائه ولد علی الجزم لم ینسب الیه شرعاً، وهل یحرم علی الزانی والزانیة؟ الوجه انه یحرم لانه مخلوق من مائه فهو یسمی ولداً لغة».

وقال فی القواعد: «والنسب یثبت شرعا بالنکاح الصحیح والشبهة دون الزنا، لکن التحریم یتبع اللغة فلو ولد له من الزنا بنت حرمت علیه وعلی الولد وطی أمه وان کان منفیاً عنهما شرعاً، وفی تحریم النظر اشکال وکذا فی العتق والشهادة والقود وتحریم الحلیلة وغیرها من توابع النسب»، ویشیر بالتوابع الاخری الی شهادة الولد من الزنا علی أبیه، وعدم قصاص الاب بقتل ابنه من الزنا وغیر ذلک.

وقال فی کشف اللثام استدلالا لکلام القواعد: «والدلیل علیه الاجماع کما هو الظاهر، وصدق الولد لغة، والاصل عدم النقل، وعلله ابن ادریس بالکفر، وفی تحریم النظر الی ابنته من الزنا أو نظر الابن من الزنا... اشکال، من التولد حقیقة، وصدق الابن والبنت لغة، مع اصالة عدم النقل، ومن انتفاء النسب شرعاً، مع الاحتیاط وعموم الأمر بالغض».

الی ان قال فی تفسیر قول العلامة السابق - وغیره من توابع النسب - : «کالارث وتحریم زوج البنت علی أمها والجمع بین الاختین من الزنا أو احداهما منه... الاب فی دین ابنه ان منع منه، والأولی الاحتیاط فیما یتعلق بالدماء أوالنکاح، وأما العتق فالاصل العدم مع الشک فی السبب بل ظهور خلافه واصل الشهادة القبول».

وقال فی الجواهر فی ذیل کلام المحقق المتقدم: «لاینبغی التأمل فی انّ

ص:48

مدار تحریم النسبیات علی اللغة، ولا یلزم منه اثبات أحکام النسب فی غیر المقام الذی ینساق من دلیله إرادة الشرعی لانتفاء ما عداه وهو قاض بعدم ترتب الاحکام علیه لانّ المنفی شرعا کالمنفی عقلا کما أومأ الیه النفی باللعان، فما فی القواعد من الاشکال... فی غیر محله... بل قد یتوقف فی جواز النظر بالنسبة الی من حرم نکاحه مما عرفت، لکن الانصاف عدم خلو الحل من قوة، بدعوی ظهور التلازم بین الحکمین هنا».

وقال فی الشرائع فی باب الارث: «وأما ولد الزنا فلانسب له ولایرثه الزانی ولا التی ولدته ولا أحد من انسابهما، ولایرثهم هو ومیراثه لولده ومع عدمهم فالامام(علیه السلام)، ویرث الزوج والزوجة نصیبهما الادنی مع الولد والاعلی مع عدمه، وفی روایة ترثه امه ومن یتقرب بها مثل ابن الملاعنة وهی مطرحة».

وکذا قال فی القواعد، وقال فخر المحققین فی ذیل کلامه(رحمه الله) المتقدم فی النسب: «اجمع الکل علی أن النسب الشرعی یثبت بالاولین - أی النکاح الصحیح والشبهة - ولایثبت بالزنا شرعا، لکن یثبت تحریم الوطی تبعا للغة باجماع الامامیة، وهل یحرم النظر اشکال».

الی أن قال: «وأما فی العتق فسیأتی وأما الشهادة والقود وتحریم الحلیلة وغیر ذلک من توابع النسب فمنشأه من ان لفظ الابن مثلا هل نقله الشارع أولا، یحتمل الأول لاشتراطهم ایاه فی لحوق النسب ومن اصالة عدم النقل والمجاز أولی، والاصح عندی أنه لایلحقه شیء من الأحکام غیر التحریم أی تحریم من یحرم علی الانسان نکاحه من جهة النسب وکذلک النظر الیهن، أما تحریم النکاح فلثبوت النسب حقیقة لغة وأما

ص:49

النظر فلان الاصل تحریم النظر الی سائر النساء الا من یثبت النسب الشرعی الموجب للتحلیل بینهما ولم یثبت، والاصل بقاء ما کان علی ما کان».

وقال فی التذکرة فی کتاب النکاح فی أسباب التحریم فی مسألة البنت المخلوقة من الزنا: «یحرم علی الزانی وطؤها وکذا علی ابنه وأبیه وجده وبالجملة حکمها فی تحریم الوطی فی حکم البنت عن عقد صحیح عند علمائنا أجمع وبه قال أبو حنیفة لقوله تعالی (وبناتکم) وحقیقة البنتیة موجودة فیها فان البنت هی المتکونة من منی الرجل، ونفیها عنه شرعاً لا یوجب نفیها حقیقة لان المنفی فی الشرع هو تعلق الاحکام الشرعیة من المیراث وشبهه ولانها متخلقة من مائه فی الظاهر فلم یجز له ان یتزوج بها لو وطأها بشبهة».

وقال الماتن فی باب الزکاة من العروة فصل أوصاف المستحقین فی المسألة (4): «لا یعطی ابن الزنا من المؤمنین فضلا عن غیرهم من هذا السهم - أی سهم الفقراء الذی یشترط فیه الایمان - لعدم تبعیته فی النسب لیتبعه فی الحکم بالاسلام والایمان» وهو یغایر ما یأتی فی غیر المقام من حکمه بالطهارة إلا ان یحمل علی انه مقتضی الاصل لا التبعیة.

وقال أیضاً فی المسألة (23) من الفصل المزبور: «یشکل اعطاء الزکاة غیر الهاشمی لمن تولد من الهاشمی بالزنا فالأحوط عدم اعطائه، وکذا الخمس فیقتصر فیه علی زکاة الهاشمی».

واستشکل غیر واحد من المحشین علی الفرع الأول بانه لم یتضح اطلاق یتضمن انتفاء البنوة کی یعوّل علیه فی المقام وانه مبنی علی شرطیة

ص:50

الاسلام والاّ فلو کان الکفر مانعا فیجوز، وذکروا علی الفرع الثانی بأن دعوی انصراف عموم حرمة الاعطاء عنه غیر ظاهر ونفی ولد الزنا علی نحو یشمل المقام غیر متحصل اذ عدم التوارث أعم، وقاعدة «الولد للفراش» قاعدة ظاهریة لامجال لها فی ظرف العلم بالانتساب.

وقال فی باب الزکاة أیضاً فی سهم الفقراء وولد الزنا من المؤمنین کولده من الکافرین لاتبعیة فیه لأحدهما، بناء علی کونها فی النکاح الصحیح فدفع الزکاة الیه حینئذ مبنی علی کون الایمان فعلا أو حکما شرطا فلایعطی، أو أن الکفر فعلا أو حکما مانع فیعطی.

وقال فی ملحقات العروة فی کتاب الربا مسألة (51): (نفی الربا بین الولد والولد): «ولایشمل الولد الرضاعی وان احتمله بعضهم، فی شموله للولد من الزنا اشکال.

وقال فی کتاب النکاح فی المحرمات بالمصاهرة المسألة (47): «لو کانت الاختان کلتاهما أو احداهما عن الزنا فالأحوط لحوق الحکم من حرمة الجمع بینهما فی النکاح والوطی اذا کانتا مملوکین».

والمعروف عند متأخری العصر ان الاقوی ثبوت النسب لانه لم ترد ولا روایة ضعیفة تنفی النسب عن المولود بالزنا، بل المذکور فیها نفی الارث خاصة وماورد من قوله صلی الله علیه و آله : «الولد للفراش وللعاهر الحجر» ناظر الی مقام الشک وبیان الحکم الظاهری فلایشمل صورة العلم والجزم بکون الولد للعاهر، فانه حینئذ لایلحق بصاحب الفراش قطعا، بل مقتضی مایفهم من مذاق الشارع وظاهر الادلة هو النسب العرفی.

هذا مجمل الکلمات فی الأبواب وانما اطلنا نقلها لیتضح حال دعوی

ص:51

البداهة أو الضرورة الفقهیة فی نفی النسب شرعاً.

ولتحقیق المسألة ینبغی البحث فی مقامین عن مقتضی القاعدة ثم عن الأدلة الخاصة الواردة فیها.

المقام الأول: مقتضی القاعدة:

فهو ترتب الأحکام والآثار المترتبة علی الولد علیه إلا ما أخذ فی موضوعها طهارة النسب وأنه من حلال بقرائن أو أدلة خاصة، وذلک لکون النسب لیس من الأمور الاعتباریة والعناوین الوضعیة المتمحضة فی الاعتبار، بل هو حقیقة خارجیة وهی تکوّن انسان من ماء انسان آخر کما تشهد به الضرورة الوجدانیة والآیات الکریمة أیضاً.

بل ان التوالد حقیقة تکوینیة فی الحیوانات والنبات وکذا الجوامد فضلاً عن الانسان، والنسب ما هو الا اخبار عن ذلک النشوء والتولید التکوینی، وعلی ذلک فلیس النسب حقیقة عرفیة أو لغویة فی أفق الاعتبار العرفی کما قد یلوح من الکلمات المتقدمة بل هو حقیقة خارجیة تکوینیة.

ان قلت: ألیس قد تعارف الناس علی اتخاذ الابناء والتبنی کما یشیر الی ذلک قوله تعالی: وَ ما جَعَلَ أَدْعِیاءَکُمْ أَبْناءَکُمْ وکذا نفی الله تعالی عن اتخاذه ابنا أو الملائکة بناتا، ومن الواضح ان الاتخاذ فی کل هذه الموارد اعتباری لاحقیقی تکوینی، وربما یشهد لذلک انتفائه باللعان وثبوته بالاقرار.

قلت: وجود مثل هذا الاعتبار المأخوذ من الوجود التکوینی الحقیقی المماثل له فی المعنی والمغایر له، حیث ان الاعتبار لاوجود حقیقی له

ص:52

بخلاف الثانی لاینکر، وانما المراد اثباته هو کون هذا المعنی والماهیة سواء من مقولة الاضافة کانت أو من سنخ المفاهیم الوجودیة له وجود حقیقی خارجی لا انه اعتباری فی الاصل.

واعتبار کثیر من المعانی التی لها وجود حقیقی متعارف لدی العقلاء حسب حاجاتهم النظامیة والقانونیة، وأما قوله تعالی فهو یلغی اعتبارهم فی باب النسب ویثبت المعنی التکوینی له، وأما انتفائه باللعان وثبوته بالاقرار فهو فی مورد الشک وکإمارة نافیة أو مثبتة لا کسبب ثبوتی للنفی والتحقق کما صرح بذلک الاصحاب فی أحکام الاولاد، واتضح من ذلک أن النسب حقیقة خارجیة لا اعتباریة عرفیة أو شرعیة.

المقام الثانی: الادلة الخاصة:

فقد یستدل علی کون النسب اعتباره شرعی بعدة طوائف، جملة منها وردت فی باب الارث وباب أحکام الأولاد وغیرها من الأبواب:

الطائفة الأولی:

کصحیحة الحلبی عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: أیما رجل وقع علی ولیدة قوم حراما ثم اشتراها فادعی ولدها فانه لا یورث منه شیء، فان رسول الله صلی الله علیه و آله قال: الولد للفراش وللعاهر الحجر، ولا یورث ولد الزنا الا رجل یدعی ابن ولیدته، وأیما رجل أقر بولده ثم انتفی منه فلیس له ذلک ولا کرامة، یلحق به ولده اذا کان من امرأته أو ولیدته»(1).

ص:53


1- (1) الوسائل: أبواب میراث ولد الملاعنة باب 8 حدیث 1. والکافی ج7 ص163.

وتقریب الاستدلال بها: ان الولد مع کونه منه من الزنا، لکن نفی عنه شرعا لقوله صلی الله علیه و آله «الولد للفراش وللعاهر الحجر».

وفیه: ان مورد السؤال هو عن الولیدة المملوکة لقوم آخرین والرجل وقع علیها حراما، فالولد الذی ادعاه مشکوک الانتساب له لا انه یعلم انه له، فهی واردة مورد الشک فی الانتساب، ولذلک قال(علیه السلام): انه لایورث ولد الزنا إلا رجل یدعی ابن ولیدته، أی الرجل المالک للولیدة فهو یرث ابنها اذا ادعی واقرّ مالکها به لکونه صاحب فراش، فاذا زنی رجل آخر بهذه الأمة واحتمل کون هذا الولد منه وادعی مالکها الولد، فهو یلحق به وإن احتمل انه فی الواقع متولد من الزنا، فالمالک هو الذی یرثه کما فسر بذلک المجلسی(رحمه الله) قوله(علیه السلام): «الا رجل یدعی ابن ولیدته».

الطائفة الثانیة:

کروایة علی بن سالم عن یحیی عن أبی عبدالله(علیه السلام) فی رجل وقع علی ولیدة حراما، ثم اشتراها، فادعی ابنها، قال: فقال: «لایورث منه، فان رسول الله صلی الله علیه و آله قال: الولد للفراش وللعاهر الحجر، ولایورث ولد الزنا الا رجل یدعی ابن ولیدته»(1).

وابن سالم یحتمل أن یکون البطائنی المعروف حیث انه اسم لابن أبی حمزة ویحتمل أن یکون أخ یعقوب وأسباط بنی سالم، وعلی الأول فیحیی هو أبو بصیر بن أبی القاسم الاسدی.

ص:54


1- (1) المصدر: حدیث 4.
محتملات «وللعاهر الحجر»:

الأوَّل: وأیاً ما کان فدلالة الروایة متحدة مع الروایة المتقدمة فی أن الولد غیر محرز النسبة وموردا للشک، فهو للذی یملک النکاح شرعاً المعبر عنه بالفراش، وأن العاهر أی الزانی محجور علیه النسبة للولد فی مورد الشک کما هو أحد محتملات «وللعاهر الحجر» وهو أول المحتملات.

الثانی: قد یقال ان قاعدة الولد للفراش وللعاهر الحجر وان ورد تطبیقها فی مورد الشک بأن الولد لمن یملک النکاح الشرعی، وحینئذ یکون معنی وللعاهر الحجر انه لاینسب للزانی عند الشک، ولکن ظاهر المشهور هو تفسیرها بأن العاهر أی الزانی مطرود ومقطوع عنه الولد مطلقاً أی واقعاً أیضاً، خصوصاً وان قوله(علیه السلام): «ولایورث ولد الزنا» کالصریح فی ولد الزنا الواقعی، والتعبیر بالحجر مستعمل فی القطع والمنع کما فی القول المعروف «حجراً محجورا».

الثالث: أن المراد بالعاهر هو الزانی المحصن والحجر هو الرجم وینافیه اطلاق الزانی الأعم من المحصن وغیر المحصن، ولاسیما مع الالتفات الی المقابلة مع نسبة الولد لمالک النکاح شرعاً.

الرابع: ان المراد هو عدم المهر للزانیة وأن الحجر کنایة عن ذلک.

وهو ضعیف: إنَّ أرید الاقتصار علیه اذ الظاهر تطبیق القاعدة منه(علیه السلام) صدرا وذیلا فی مورد السؤال ولم یکن الاستفسار عن المهر.

وعن المجلسی فی البحار انه روی قول أمیر المؤمنین(علیه السلام) فی جواب معاویة «وأما ماذکرت من نفی زیاد فانی لم أنفه بل نفاه رسول الله صلی الله علیه و آله اذ

ص:55

قال الولد للفراش وللعاهر الحجر».

وأیضاً کتب الحسن(علیه السلام) فی جواب زیاد - لما کتب زیاد الیه - من زیاد بن أبی سفیان الی حسن بن فاطمة(علیه السلام) یرید بذلک اهانته(علیه السلام): «من حسن بن فاطمة بنت رسول الله صلی الله علیه و آله الی زیاد بن سمیة، قال رسول الله صلی الله علیه و آله الولد للفراش وللعاهر الحجر» حیث ان سمیة کانت زانیة معروفة فیظهر منها قوة الاحتمال الثانی ان لانسبة من الزنا فتأمّل.

هذا وقد ورد الاستدلال من الاصحاب علی عدم المهر للزانیة ب- «للعاهر الحجر»، ویمکن توجیهه بأن الطرد والقطع لم یذکر متعلقة الآخر فیعمّ النسب والمهر وغیر ذلک.

وکذلک قد وردت فی عدة روایات فی مقام النزاع علی الولد وانه یلحق بالمالک للنکاح شرعاً بشروط اشترطها الاصحاب فی اجرائها من الدخول الی مضی أقل الحمل، وان لایکون الوضع أکثر من أکثر الحمل، ولکن ذلک کله من الاستدلال بصدر القاعدة لا عجزها المربوط بما نحن فیه، حتی انه طبقت القاعدة هناک فی موارد النزاع التی لیس فیها زنا، ولیس ذلک الا لأن البحث عن صدر القاعدة مع انه یمکن احتمال معنی آخر للصدر وهو ان الولد للفراش بمعنی ان واقع النسبة لمالک النکاح لا للعاهر الزانی، وعلی أیة حال فقد ظهر قوة الاحتمال الاول وعدم تعیّن الظهور فی الاحتمال الثانی.

الطائفة الثالثة: کالصحیح عن محمد بن الحسن الاشعری قال: کتب بعض أصحابنا الی أبی جعفر الثانی(علیه السلام) معی، یسأله عن رجل فجر بامرأة ثم انه تزوجها بعد الحمل، فجاءت بولد، هو أشبه خلق الله به، فکتب

ص:56

بخطّه وخاتمه: «الولد لغیة، لایورث»(1)، وقد رواه الشیخ بطریقین الی محمد بن الحسن الاشعری وکذا الکلینی ورواه الصدوق أیضاً بطریقه الیه.

والظاهر ان محمد بن الحسن الأشعری حسن حاله فقد عدّه الشیخ من أصحاب الرضا(علیه السلام)، وقال الوحید فی تعلیقته انه یظهر من غیر واحد من الاخبار کونه وصی سعد بن سعد الاشعری وهو دلیل الاعتماد والوثوق وحسن الحال وظاهر فی العدالة، وفی وجیزة المجلسی قیل: ممدوح وله روایات فی میراث الاخوة مع الولد یظهر منها تشیعه.

وهذا لیس مورداً للتردید، وروی فی الکافی سؤاله لأبی جعفر الثانی(علیه السلام) عن روایة مشایخ الشیعة عن الصادقین وان التقیة کانت شدیدة فکتموا کتبهم فلم ترو عنهم فلما ماتوا صارت الکتب الینا فقال(علیه السلام) «حدثوا بها فانها حق ثابت».

ونظیر هذه الروایة صحیحة عبدالله بن سنان عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله : «اذا رأیتم الرجل لایبالی ما قال ولا ما قیل له فانه لغیة أو شرک شیطان»(2).

وروایة سلیم بن قیس عن أمیر المؤمنین(علیه السلام) قال: «قال رسول الله صلی الله علیه و آله ان الله حرم الجنة علی کل فحّاش بذی قلیل الحیاء، لایبالی ما قال ولا ما قیل له فانک ان فتشته لم تجده الاّ لغیة أو شرک شیطان... الحدیث»(3).

ص:57


1- (1) الوسائل: أبواب میراث ولد الملاعنة باب 8 حدیث 2.
2- (2) الکافی ج2 ص323 ح2.
3- (3) الکافی: ج2 ص323 ح3.

وأما الدلالة فهی أحسن حال من الروایتین المتقدمتین من حیث مورد السؤال حیث آنهاعن المرأة الخلیة والتی حملت من الفجور مع الرجل بها، وقد حکم علی الولد بأنه لُغْیة - بالضم فالسکون - أی باطل ملغی النسب وکالعدم، فالانتساب والولدیة ملغاة فلایورث.

لکن یمکن ان یضاف بطلان الولد وخیبته الی حظّه وعاقبته، من انه لایفلح کما ورد فی روایات ابن الزنا وحینئذ لاتدل علی المطلوب.

وهذا کله علی تحریک کلمة لغیة - بضم اللام - لیکون بمعنی الملغی، وإلا فهو یحتمل معنی الخسّة قال فی القاموس «اللغاء کسماء التراب والقماش علی وجه الأرض، وکل خسیس یسیر حقیر والغیی کالغنی: الدنی الساقط عن الاعتبار».

وأما علی تحریکها بکسر اللام فیکون المعنی الولد لا مرأة غیّة أی زنیة کما فی القاموس «وولد غَیّة ویکسر زِنیّة» فلایدل علی المطلوب، وهذا الاحتمال هو الاظهر فی الروایتین الاخریین.

هذا: وتوجد روایات معارضة لبعض مدلول هذه الروایات أی فی ناحیة ارث الام له:

منها: روایة یونس قال: «میراث ولد الزنا لقرابته من قبل امه علی میراث ابن الملاعنة»(1)، وحملها الشیخ علی أنها رأی لیونس، وهو فی محله لعدم اسناده القول للمعصوم ولو علی نحو الضمیر الغائب.

ص:58


1- (1) الوسائل: أبواب میراث ولد الملاعنة باب 8 حدیث 6.

ومنها: ما عن حنان عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: سألته عن رجل فجر بنصرانیة فولدت منه غلاماً فأقرّ به ثم مات فلم یترک ولداً غیره أیرثه؟ قال: نعم»(1).

ومنها: موثقة حنان بن سدیر قال: «سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن رجل مسلم فجر بامرأة یهودیة فأولدها ثم مات، ولم یدع وارثا، قال: فقال: یسلّم لولده المیراث من الیهودیة، قلت: فرجل نصرانی فجر بامرأة مسلمة، فأولدها غلاما، ثم مات النصرانی وترک مالا، لمن یکون میراثه؟ قال یکون میراثه لابنه من المسلمة»(2).

وفی هذه الروایة عدّة دلالات منها تحقق الانتساب لاطلاقه(علیه السلام) البنوة علیه بالاضافة الی الاب والام وتبعیته فی الملة للوالدین وان کان من زنا، وتبعیته لاشرف الابوین فی الملة، وارث ابن الزنا من أبیه النصرانی اما لقاعدة الالزام أو لقصور دلیل المنع عن هذا الفرض.

ومنها: موثق اسحاق بن عمار عن جعفر عن أبیه(علیه السلام): «ان علیاً(علیه السلام) کان یقول: ولد الزنا وابن الملاعنة ترثه امه، وأخواله، واخوته لامه، أو عصبتها»(3).

وقد ذهب الی ارثه من الام ابن الجنید والصدوق والحلبی، ولکن المشهور أعرضوا عنها.

ص:59


1- (1) نفس المصدر: حدیث 7.
2- (2) نفس المصدر: حدیث 8.
3- (3) نفس المصدر: حدیث 9.

الطائفة الرابعة: عدة من الروایات المستفیضة فی أنّ الناس لایدعون بأسماء آبائهم یوم القیامة إلا الشیعة وقد عقد فی البحار(1) بابا لذلک.

منها: ما عن العلل للصدوق(رحمه الله) صحیحة أبی ولاد عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: «ان الله تبارک وتعالی یدعو الناس یوم القیامة أین فلان بن فلانة ستراً من الله علیهم».

ومنها: ما عن أمالی الشیخ الطوسی(رحمه الله) مسنداً عن جابر الجعفی عن الباقر(علیه السلام) عن جابر بن عبدالله (الأنصاری) قال: «سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله یقول لعلی(علیه السلام): «ألا أسرّک؟ ألا أمنحک؟ ألا أبشرک؟ قال: بلی، قال: انی خلقت أنا وأنت من طینة واحدة وفضلت منها فضلة فخلق منها شیعتنا فاذا کان یوم القیامة دعی الناس بأسماء أمهاتهم سوی شیعتنا فانهم یدعون بأسماء آبائهم لطیب مولدهم».

ومنها: روایة المحاسن مثل صحیحة أبی ولاّد الاّ انّه فیها تعلیل استثناء الشیعة (وذلک ان لیس فیهم عهر) وکذلک روایتی بشارة المصطفی الا ان فی أحداها التعلیل «لطیب موالیدهم» وغیرها من الروایات.

والمترآی بدوا منها نفی النسبة، ولکن امعان النظر یقضی بخلافه وذلک لعدم نفی النسبة من طرف الام ولا قائل بالتفصیل، وأیضاً التعلیل بطیب المولد یعطی ان ماعداهم خبیث مولدهم لا أن الولادة والتوالد التکوینی منفی.

ص:60


1- (1) البحار: ج7 ص237.

ومنه یظهر العلة فی عدم تسمیة غیرهم بأسماء آبائهم هو حصول العار علیهم حیث ینکشف ان النسب من طرف الاب هو غیر ما کان یعرف به فی النشأة الأولی.

الطائفة الخامسة: ماورد مستفیضاً فی علّة تحلیل الخمس واباحته للشیعة لتطیب ولادتهم وأن ما عداهم هالک فی بطنه وفرجه، وفی بعضها لتطیب موالیدهم ولایکون أولادهم أولاد حرام وأن ما عداهم أولاد بغایا(1).

مثل ما فی تحف العقول فی کلام الکاظم(علیه السلام) مع الرشید - فی حدیث طویل - قال هارون: من أین قلتم الانسان یدخله الفساد من قبل النساء ومن قبل الآباء لحال الخمس الذی لم یدفع الی أهله؟ فقال موسی(علیه السلام): «هذه مسألة ما سأل عنها أحد من السلاطین غیرک - یاأمیر المؤمنین - ولاتیم ولاعدی ولا بنو أمیة ولا سئل عنها أحد من آبائی فلاتکشفنیها».

والتقریب لدلالتها ما مرّ والخدشة کذلک، بل هاهنا قد فرض آباء وأبناء ولکن من حرام، وکذا التعلیل کما فی بعضها لیزکوا أولادهم (أی الشیعة) فیکون المقابل لهم خبث أولادهم وعدم طهارة المولد.

الطائفة السادسة: الاستدلال بالروایات الواردة فی کفره کالتی وردت فی نجاسته وفی عدم تصدیه للمناصب المشترط فیها العدالة وفی ان دیته کدیة الکتابی وفی عدم دخوله الجنة، وعلی هذا فلا تبعیة له لوالده المسلم الذی تولد منه وانتفاء التبعیة انتفاء للولدیة والنسب.

ص:61


1- (1) الوسائل: أبواب الانفال - باب 4.

وفیه: ان الاستدلال لکفره بما تقدم مخدوش لأعمیة تلک الأحکام من الکفر، مع أن بعضها محلّ تأمل واعراض من المشهور کالحکم الاول والثالث، ولو سلم الکفر وعدم التبعیة فهو أعم أیضاً من انتفاء الولدیة والنسب، فلعلها مترتبة علی طیب الولادة لامطلق الولادة.

الطائفة السابعة: ماورد من اجتناب الرضاع منه(1)، مما یدل علی نجاسته وعدم تبعیته الکاشف عن انتفاء الولدیة والنسب.

وفیه: مضافا الی ما تقدم فی الجواب عن الطائفة السادسة، ان النهی عن الارتضاع منه لیس بکاشف عن النجاسة کما ان جواز الرضاع لیس بکاشف عن الطهارة، فلیس المدار علی ذلک بل لما ینتجه الرضاع من توریث الطباع والاخلاق، کما ورد انّه لحمه کلحمة النسب، ولذلک ذکرنا فی نجاسة الکافر ان ما ورد من الاذن فی ارتضاع أهل الکتاب غیر کاشف عن الطهارة لوروده أیضاً فی المشرکة علی کراهة فی الصنفین، حیث ان حکمه حکم البواطن کما تقدم فلذا لم یکن النهی عنه لذلک أیضاً.

هذا ولو فرض بقاء التردد فی عدم دلالة هذه الروایات علی نفی النسب، أو أنه نفی للأحکام الشرعیة المترتبة علیه فی الجملة کما سمعته عن التذکرة، فالمتعین فی الاستظهار هو الثانی وذلک لعدم کون النسب من الامور الاعتباریة والعناوین الوضعیة المتوغلة فی الاعتبار، بل هو حقیقة خارجیة وهی تکوّن انسان من ماء انسان آخر، کما تشیر الیه الآیات الکریمة والضرورة الوجدانیة.

ص:62


1- (1) الوسائل: أبواب أحکام الاولاد، باب 76 حدیث 6، 7.

ولذاتری اجماع الکل علی اجراء أحکام النسب فی النکاح ولیس ذلک الا لوجوده الواقعی، وکذا بعض فتاواهم فی أبواب أخری، فالنفی بتلک القرینة لابد أن یکون بلحاظ الآثار والأحکام المترتبة علی هذا العنوان، وحینئذ فلیس فیه اطلاق بل هو إمّا بلحاظ الاحکام التی للوالد والنفقة لا الاحکام التی علیه وبضرره کوجوب النفقة ولا الاحکام التی لیست علیه ولا له وغیر ذلک وإما بلحاظ الارث وتوابعه.

والحاصل: ان التمسک فی الأبواب المختلفة بعنوان النسب والذی هو امر تکوینی لا اعتباری لا غبار علیه، غایة الامر لابد من ملاحظة مناسبات الحکم والموضوع العرفیة فی کل باب فقهی ومراعاتها، فمثلاً الاحکام التی تنشأ من الاحترام والعنایة الخاصة تختلف مع التی تنشأ من محض التولد، ففی الاولی ربما یکون الارتکاز موجبا لظهور النسب فی الناشیء من الحلال بخلاف الثانی فهو الناشیء من الحلال أو الحرام، أی من مطلق التولد.

فبعض الاحکام بمعونة الارتکازات العرفیة ظاهرة فی ترتبها علی النسب من الحلال وطیب الولادة وبعضها فی الأعم، وهذا بحسب الظهورات المستفادة من الادلة، کما انه ر بما تترتب الاحکام بتوسط عنوان علی النسب، فلابد من ملاحظة مناسبة الواسطة کما مرّ فی مسألة الخمس والزکاة فلاحظ.

التنبیه الثالث:

وبعدما تقرر ان النسب یتبع الجانب التکوینی، وان النسب الشرعی

ص:63

بمعنی حلیة طریق النسب وطهارته لا أصل تحققه، فالشرعیة فی النسب هی بلحاظ طهارته، وحلیة سبب وقوعه.

ویقع الکلام حینئذ فی ان المدار فی حلیة وطهارة النسب هو علی الأب والام معا، أو علی الاب فقط؟ أو أنه یمکن ان یتبعض بنحو حیثی؟ قد یقال ان حلیة النسب وطهارته قد اعتبرت فی الارث والعقل ونحوهما، بین الاب والابن، واما من طرف الام فالارث ثابت مطلقاً، بل ورد فی الروایات(1) ان العاقلة تکون من ینتسب من ارحامه من الام، وحینئذ یتبین من ذلک ان آثار النسب من الام یترتب سواء کان السبب من جهتها من الحلال أو الحرام، ولذلک یتبین ان النفی والاثبات فی النسب الشرعی بمعنی الطهارة والحلیة هو بلحاظ الاب.

وقد یقال ان نسبه ذو جنبتین، فمن جهة الاب حلال ومن جهة الام حرام، فیصدق علیه ابن زنا من جهة الام، ومن ثمّ لابد من ملاحظة لسان الادلة فی الأبواب. وانّ حلیة النسب ملحوظة کموضوع للآثار معا أو من احد الجهتین بغض النظر عن الجهة الاخری کما هو الحال فی الارث، وقد یدعم الوجه الاول لان نسبة الولد انما للاب حقیقة ولاینسب الی امه فی النسب، واللقب کما هو مفاد قوله تعالی: (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللّهِ ) . وکذلک قوله تعالی: (وَ عَلَی الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَ کِسْوَتُهُنَّ ...) وان کانت النسبة التکوینیة للام أیضاً مقررة ورتب علیها آثار کالارث والمحرمیة وغیرها، الاّ ان النسبة بقول مطلق للاب مقدمة علی النسبة للام.

ص:64


1- (1) أبواب أحکام الاولاد، باب 100 ح2.
التنبیه الرابع:

لو اقرّ بالولد ثم نفاه فلاینتفی عنه بنفیه ولا باللعان.

الفرع الرابع: اذا اختلفا فی الدخول الموجب لالحاق الولد وعدمه فادعته المرأة لیلحق الولد به وانکره، أو اختلفا فی ولادته فنفاها الزوج، وادعی آنهااتت به من خارج، فالقول قوله بیمینه. وأما لو اتفقا فی الدخول والولادة واختلفا فی المدّة فادعی ولادتها لدون ستة أشهر أو لازید من اقصی الحمل وادعت هی خلافه فالقول قولها بیمینها، ویُلحق الولد به ولاینتفی عنه إلاّ باللعان.

قد ذکر السید الاصفهانی عدّة صور فی اختلاف الزوجین فی الولد.

الاولی: اذا کان اختلافهما فی اصل الدخول، أو اختلفا فی اصل الولادة فمقتضی القاعدة ان الاصل العدمی مطابق لقول الزوج، ولا احراز لموضوع قاعدة الفراش، سواء فی الشک فی اصل الدخول، أو الشک فی اصل الولادة، فان احراز الدخول، واحراز کون المولود من المرأة لابد منهما فی قاعدة الفراش، نعم قد مرّ مع الخلوة لاسیما المتکررة والمستمرة مما تقتضی العادة وقوع المس فیها فقد تقدم ان الاظهر فی النصوص أنها امارة فیکون القول قولها عند الاختلاف فی الدخول، هذا اذا کانت ثیبة وأما اذا کانت باکرا فقد مرّ ان اللازم الفحص موضوعا، وهو مقدم علی اجراء الاصول والامارات، بل الصحیح مع توفر الآلیات الحدیثة فی الفحص فی الثیب أیضاً تقدمها علی اجراء الاصول العملیة وبقیة الامارات.

الثانیة: اذا اتفقا علی الدخول وان المولود منها واختلفا فی المدّة،

ص:65

فادّعی ان الولادة لدون المدّة المقرّرة وهی ستة أشهر، أو لأزید منها وهی اقصی الحمل أی سنة، فادعت هی خلافة، فالقول قولها لکونه مفاد قاعدة الفراش، وقد مرّ انه یکفی فی اجراء قاعدة الفراش مجرد الدخول، وکون المولود من المرأة، واما اشتراط المدّة انّه اکثر من اقلّ الحمل وادنی من اقصی الحمل أی شرط کون المدة بین هذین الحدین فانما هو بحسب الثبوت والواقع لا بحسب الظاهر وان اوهم ذلک فی عدّه من کلمات المتأخرین.

وتخریج تقدیم قولها بحسب الاصول العدمیة أو الوجودیة، لا حاجة له بعد اجراء قاعدة الفراش، نعم الاصل العدمی معها عند الاختلاف فی تجاوز الولادة عن اقصی المدّة، وأمّا عند الاختلاف فی اقل المدّة فالاصل العدمی معه.

ومع اجراء قاعدة الفراش واثبات نسبة الولد له لاینتفی عنه لمجرد النفی، بل لابد من اللعان مع فرض عدم البیّنة للزوج.

الفرع الخامس: لو طلق زوجته المدخول بها، فاعتدّت وتزوّجت ثم اتت بولد فان لم یمکن لحوقه بالثانی وأمکن لحوقه بالاوّل - کما اذا ولدته دون ستة أشهر فی وطی الثانی ولتمامها من غیر تجاوز عن أقصی الحمل من وطی الاول - فهو للاوّل، وتبیّن بطلان نکاح الثانی لتبین وقوعه فی العدّة وحرمت علیه مؤبدا لوطیه ایاها، وان انعکس الامر - بأن أمکن لحوقه بالثانی دون الاوّل - لحق بالثانی لأن ولدته لأزید من أکثر الحمل من وطی الاوّل، ولاقل الحمل الی الاقصی من وطی الثانی، وان لم یمکن لحوقه بأحدهما - بأن ولدته لازید من أقصی من وطی الاول ولدون ستة أشهر من وطی الثانی - انتفی منهما، وان

ص:66

أمکن إلحاقه بهما - بان کانت ولادته لستة أشهر من وطی الثانی ولدون أقصی الحمل من وطی الأول - فهو للثانی.

تعرض السید الاصفهانی فی هذا الفرع لصور فی تعاقب وطی الزوجین علی المرأة الواحدة.

الاولی: اذا توفرت شرائط اللحوق بالاول دون الثانی فیلحق الولد بالاوّل وهذا الالحاق واقعی، بحسب الشرائط الواقعیة فیه، وحینئذ یکون الحمل من الاول، وتکون فی عدة من الزوج الاول فیقع عقد الثانی باطلا، ومع وطیه تحرم علی الثانی مؤبداً.

الثانیة: ان تتوفر شرائط الالحاق بالثانی دون الاول فیلحق به، وهذا الالحاق واقعی وانتفاءه عن الاول واقعی.

الثالثة: ان تنتفی شرائط الالحاق لکل منهما، فحینئذ ینفی عن کل منهما واقعاً، وقد تقدم ان مع العلم بانتفاء شرط المدّة فیما بین الحدین لا تجری قاعدة الفراش.

الرابعة: اذا أمکن الالحاق بکل منهما، وذلک بان یکون شرط المدّة فیما بین الحدین متوفر بالنسبة الی کل منهما، فهل یلحق بالثانی لانه صاحب قاعدة الفراش الفعلی، أو یقرع بینهما بدعوی ان کل منهما صاحب فراش حیث تحقق منه الدخول بسبب محلّل مع امکان انتساب الولد إلیه بتوفر المدّة فیما بین الحدّین، وقد وردت نصوص لکل من الوجهین، ونسب الوجه الاوّل للمشهور، وقد یقال بالتفصیل بین الوجهین بان یکون الولد للثانی فیما اذا تباعد الوطیان ولم یقعا فی طهر واحد ومضت بینهما مقدار

ص:67

العدّة، وإلا فیقرع بینهما جمعا بین النصوص الآتیة. ولایخفی ان العمل بقاعدة الفراش أو القرعة فیما اذا لم یمکن الفحص الموضوعی بتوسط الطرق الحدیثة الموجبة للعلم بان یتحدد بها عدد اشهر المولود، ومن ثمّ تطابق المدة بین الولادة وبین احد الوطیین أو یتحدد بها الجینة الوراثیة.

والروایات الواردة فی المقام علی طوائف:

الطائفة الاولی:

1- مادلّ علی ان الولد یلحق بالثانی مع امکان النسبة لکل منهما کصحیحة الحلبی عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: اذا کان للرجل منکم الجاریة یطأها فیعتقها فاعتدّت ونکحت فإن وضعت لخمسة أشهر فانّه لمولاها الذی أعتقها وإن وضعت بعدما تزوّجت لستة أشهر فإنه لزوجها الأخیر(1).

والتقریب بلحاظ ذیل الصحیح فان مقتضاه الحکم بالحاق الولد لصاحب الفراش الفعلی مطلقا، وتقدیمه علی قاعدة الفراش السابقة ما لم یختل شرط اجراء قاعدة الفراش فی الثانی.

2- ومثله الصحیح لابن أبی نصر عن من رواه عن زرارة عن أبی جعفر(علیه السلام)(2).

ص:68


1- (1) أبواب أحکام الأولاد، باب 17 ح1.
2- (2) نفس الباب ح11.

3- ومعتبرة أبی العباس(1).

4- والصحیح الی جمیل بن دراج عن بعض أصحابنا عن أحدهما(علیهم السلام)(2).

5- ومعتبرة الحسن الصیقل عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: سمعته یقول وسئل عن رجل اشتری جاریة ثم وقع علیها قبل أن یستبرأ رحمها قال: بئس ما صنع یستغفر الله ولایعود، قلت: فانه باعها من آخر، ولم یستبرأ رحمها ثم باعها الثانی من رجل آخر فوقع علیها ولم یستبرأ رحمها فاستبان حملها عند الثالث، فقال أبو عبدالله(علیه السلام) الولد للفراش، وللعاهر الحجر،(3) الحدیث.

وفی طریق الشیخ قال(علیه السلام): الولد للذی عنده الجاریة، ولیصبر لقول رسول الله صلی الله علیه و آله : الولد للفراش وللعاهر الحجر(4).

6- ومثلها صحیحة سعید الاعرج عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: سألته عن رجلین وقعا علی جاریة فی طهر واحد لمن یکون الولد؟ قال: للذی عنده لقول رسول الله صلی الله علیه و آله : الولد للفراش وللعاهر الحجر»(5) وقد صرّح فیها ان الولد للذی عنده الجاریة لقاعدة الفراش» نعم لاتصریح فیها ان الاوّل قد وطأ بسبب محلل.

ص:69


1- (1) نفس الباب ح12.
2- (2) نفس المصدر، ح13.
3- (3) أبواب نکاح العبید والاماء، باب 58 ح2.
4- (4) نفس المصدر، ح3.
5- (5) نفس المصدر، ح4.

7- ومثله صحیح علی بن جعفر الا انه قد صرّح فیه بکون الواطی الاوّل هو مالک الجاریة السابق(1).

ولایخفی ان الروایات الاربعة الاولی هی فی مورد تباعد الوطیین ومضی العدّة بینهما، بخلاف الروایات الاواخر فإنها فی مورد تقارن الوطیین فی طهر واحد.

الطائفة الثانیة: مادل علی القرعة بین الواطیین.

1- کصحیحة معاویة بن عمار عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: اذا وطی رجلان أو ثلاثة جاریة فی طهر واحد فولدت، فادعوه جمیعا اقرع الوالی بینهم فمن قرع کان الولد ولده ویرد قیمة الولد علی صاحب الجاریة قال: فان اشتری رجل جاریة وجاء رجل فاستحقها وقد ولدت من المشتری ردّ الجاریة علیه وکان له ولدها بقیمته(2).

2- ومثلها صحیح سلیمان بن خالد عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: قضی علی(علیه السلام) فی ثلاثة وقعوا علی امرأة فی طهر واحد وذلک فی الجاهلیة قبل ان یظهر الاسلام، فاقرع بینهم فجعل الولد للذی قرع، وجعل علیه ثلثی الدیّة للآخرین فضحک رسول الله صلی الله علیه و آله حتی بدّت نواجذه قال: وقال: ما اعلم فیها شیء إلا ما قضی علی(علیه السلام)»(3).

وتقریب الدلالة ان وطی الثلاثة فی طهر واحد وان کان فی الجاهلیة

ص:70


1- (1) أبواب نکاح العبید والاماء، باب 58 ح7.
2- (2) أبواب نکاح العبید والاماء، باب 57 ح1.
3- (3) أبواب نکاح العبید والاماء، باب 57 ح2.

الاّ انّ لکل قوم نکاح، ولعلهم تبایعوا أیضاً.

وأما تقریب الصحیحة السابقة فموردها واضح فیما نحن فیه، والظاهر ان الثلاثة وطؤوا الجاریة بملک الیمین من دون استبراء ولایخفی ان فی دلالة هذه الصحیحتین وروایة الطائفة السابقة انّ قاعدة الفراش جاریة مع کون السبب للوطی محلل وان کان نفس الوطی محرم لعارض کالحیض أو لزوم الاستبراء، نعم ذیل الصحیحة السابقة فی شراء الرجل لجاریة، ثم ظهور مالک للجاریة یستحقها، فیکون المشتری قد واقع الجاریة بشبهة ومع ذلک ینتسب إلیه الولد لانه وطی محترم وتجری فی حقّه قاعدة الفراش، وهو صاحب فراش فعلی، بینما مستحق الجاریة هو صاحب فراش سابق، فمفاد هذا الذیل اما یحمل علی تقدیم صاحب الفراش الفعلی علی الفراش السابق مطلقا، فکیف یجتمع مع مفاد صدر الصحیحة فیقید اطلاق الذیل بمورد عدم اجتماع الوطی والفراش فی طهر واحد فیما اذا تباعدا بمدّة تنقضی فیها العدّة أو الاستبراء، وبذلک تکون هذه الصحیحة من الروایات المفصلة، فتکون وجه جمع بین الطائفتین.

أو یحمل الذیل علی ما لو تقدم وطی المالک المستحق للجاریة بسبق مدّة تزید علی اقصی الحمل.

3- صحیحی الحلبی ومحمد بن مسلم عن أپی عبدالله(علیه السلام) قال: اذا وقع الحرّ والعبد والمشرک بامرأة فی طهر واحد، فادعوا الولد اقرع بینهم، فکان الولد للذی یخرج سهمه»(1).

ص:71


1- (1) أبواب نکاح العبید والاماء، باب 57 ح3.

ولایخفی دلالة الصحیحتین علی اجراء قاعدة الفراش فی وطی کل من الحر والعبد علی السواء اذا کان السبب محللا، وعلی اجراء القاعدة أیضاً فی حق المسلم والمشرک علی السواء، مادام لکل قوم نکاح، وان النسب الشرعی لایدور مدار اعتناق الاسلام، بل یدور مدار السبب المحلل لکل ملّة ونحلة، ولو کانوا ملاحده، فقاعدة الفراش ذات طابع مدنی بشری کما هو شأن عقد النکاح وبقیة العقود المعاملیة أیضاً، فهی ترتبط بالنظام المعیشی المدنی البشری وان کان دین الاسلام حافلا بتشریعات جمّة فی باب المعاملات ونظام المعیشة لمن اعتنق الدین الاّ انّ ذلک بانضمام تقریره فی التعامل والتعاطی مع انظمة الملل والنحل المختلفة.

4- صحیحة أبی بصیر وهی متطابقة فی المفاد مع صحیحة سلیمان بن خالد المتقدمة إلا أنه قد صرح فیها بتبایع الجاریة فیما بینهم»(1).

ومثلها مرسلة المفید فی الارشاد(2).

وقد یجمع بین هذه الطائفة والسابقة بحمل الجاریة علی ملک الیمین، والطائفة السابقة علی الزواج ووطی الشبهة.

ویدفعه اولا: انه لافرق فی اجراء قاعدة الفراش بین ملک الیمین والنکاح، وان افترقا فی امکان نفی الولد بمجرد النفی.

وثانیاً: ان روایات الطائفة الاولی قد اشتمل بعضها علی ملک الیمین أیضاً.

ص:72


1- (1) أبواب نکاح العبید والاماء، باب 57 ح4.
2- (2) نفس الباب، ح5.

وأمّا الجمع بین الطائفتین بالتفصیل بین وقوع الوطیین مع تباعد المدّة بفاصل قدر العدّة فتحمل علیه الطائفة الاولی، وبین عدم الفصل بقدر العدّة کأن یقع الوطیین فی طهر واحد أو طهرین متعاقبین فتحمل علیه الطائفة الثانیة وهو حکم القرعة، فهو تفصیل متین لانّ جلّ روایات الطائفة الاولی قد صرح فیها بفصل مدّة قدر العدة، وبعضها قد اطلق فیها الفرض مما یقبل التقیید بالفصل المزبور، ویبقی فیها خصوص صحیح سعید الاعرج، وصحیح علی بن جعفر حیث صُرّح فیهما بکون الوطیین فی طهر واحد.

وقد یجمع بین الطائفتین بحمل الطائفة الاولی علی موارد تعاقب قاعدة الفراش مطلقا، سواء وقع الفصل بمدة أو بدون مدّة، وحمل الثانیة علی الشرکاء فی الملک بحیث تکون قاعدة الفراش لکل منهم فی عرض الآخر، والشاهد علی هذا الجمع التصریح فی روایات الطائفة الثانیة بلزوم ردّ قیمة الولد للآخرین اللّذین لم یقرع لهما، وعلی ذلک یقدم صحیح سعید الاعرج وعلی بن جعفر لانّ موردها وقوع الوطیین بتعاقب الملکین وهذا هو الاظهر والاقوی.

وعلی ذلک ففی صورة اجتماع وطی الشبهة مع النکاح أو ملک الیمین یکون من اقتران قاعدتی الفراش والتعیین بالقرعة.

والظاهر ان فتوی المشهور بذلک فی مثل هذه الصورة.

الفرع السادس: لو طلقها ثم بعد ذلک وطئت بشبهة ثم أتت بولد فهو کالتزویج بعد العدّة فتجیء فیه الصور الاربعة المتقدمة، حتی الصورة الاخیرة، وهی ما إذا امکن اللحوق بکل منهما فانّه یلحق

ص:73

بالأخیر هنا أیضاً.

وطی الشبهة تارة یفرض وقوعه فی عدّة الطلاق، وأخری بعد عدّة الطلاق.

فاما الصور الثلاث فی المسألة السابقة فتنسحب علی المقام سواء فی الشقین أی کان وطی الشبهة فی العدّة أو بعدها.

وأما الصورة الرابعة فیختلف الحال بین الشقین، ففی الاوّل تجتمع قاعدتی الفراش، فراش النکاح وفراش وطی الشبهة فیقرع بینهما، وأمّا فی الشقّ الثانی، ویکون الولد لصاحب الوطی الثانی وهو وطی الشبهة، لانه صاحب الفراش الفعلی.

الفرع السابع: اذا کانت تحت زوج ووطأها شخص آخر بشبهة ثم أتت بولد فان أمکن لحوقه باحدهما دون الآخر یلحق به، وان لم یمکن اللحوق بهما انتفی عنهما، وان أمکن لحوقه بکل منهما اقرع بینهما.

قد تقدم فی الفرع السابق تنقیح هذه الشقوق، وما ذکره السید الاصفهانی کالتقیید لما اطلقه فی الفرعین السابقین فی الصورة الرابعة منهما.

ص:74

قاعدة:یحرم من الرضاع من یحرم من النسب

اشارة

ص:75

ص:76

من قواعد باب النکاح:یحرم من الرضاع ما یحرم من النسب

اشارة

وفیها عدة مباحث:

المبحث الاول: فی شروط الرضاع:
اشارة

ان انتشار الحرمة من الرضاع یتوقف علی مجموعة من الشروط:

الشرط الأول: أن یکون اللبن حاصلاً من وطئ صحیح،

فلو کان بلا وطئ أو بوطئ محرم لا ینشر.

قال السید الیزدی فی العروة الوثقی (الشرط الأوّل: أن یکون اللبن حاصلًا من وطی جائز شرعاً بسبب نکاح أو ملک یمین أو تحلیل، ویلحق به وطی الشبهة علی الأقوی، فلو در اللبن من امرأة من دون نکاح لم ینشر الحرمة، وکذا لو کان اللبن من زنا)(1).

حکی علی هذا الشرط الإجماع(2) أو الشهرة، لکن حکی السیوری عن الشیخ فی المبسوط والعلامة فی القواعد وابن الجنید نشر اللبن من الزنا للحرمة، وأما فی تحققهما عند المتقدّمین بالنسبة إلی القید الأوّل- بأن یکون

ص:77


1- (1) العروة الوثقی، للسید الیزدی، کتاب النکاح، الفصل الأوَّل من شروط الرضاع.
2- (2) کما حکاه غیر واحد منهم الشهید الثانی فی المسالک: ج7 ص207.

الرضاع عن ولادة ووطی- فالظاهر عدم الخلاف فیه، وأما بلحاظ القید الثانی، فبعض عبارات المتقدّمین لیست صریحة فیه، وظاهر عبارة المبسوط بناء ذلک علی مسألة النسب لنفیهم فیما إذا کان من حرام.

ویدل علی القید الأوّل صحیحة یونس بن یعقوب عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: «سألته عن امرأة در لبنها من غیر ولادة فأرضعت جاریة وغلاماً من ذلک اللبن هل یحرم بذلک اللبن ما یحرم من الرضاع؟ قال: لا»(1).

و مثلها روایة یعقوب بن شعیب(2). وفی صحیح عبدالله بن سنان قال: «سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن لبن الفحل قال: هو ما أرضعت امرأتک من لبنک ولبن ولدک ولد امرأة أخری فهو حرام»(3).

وفی صحیح برید العجلی(4) والحلبی(5) وغیرهما تقیید اللبن بلبن الفحل، وکذا موثّق عمار(6) وغیرها من الروایات التی قیدت اللبن بلبن الفحل أی الذی در من فحولة الفحل بالمرأة، ولا یبعد کما مال إلیه فی الجواهر أن یکون شاملًا للولادة من الحمل العالق من ماء الرجل وإن لم یکن وطئ فی البین.

وأما القید الثانی وهو کونه من حلال، فقد استدل له بصحیح عبدالله

ص:78


1- (1) وسائل الشیعة، أبواب ما یحرم بالرضاع، باب 9، ح1.
2- (2) المصدر السابق: ح2.
3- (3) المصدر السابق، باب 6، ح4.
4- (4) المصدر السابق، باب 6، ح1.
5- (5) المصدر السابق، باب 6، ح3.
6- (6) المصدر السابق، باب6، ح2.

بن سنان المتقدّم، حیث قیّد بلبن (ولدک) أی المنسوب للرجل وهو فی مورد الحلال؛ إذ النسبة مقطوعة فیما إذا کان من حرام، وبالتعبیر فیها أیضاً ب- (امرأتک) وهو ظاهر فی الحلیة بالعقد أو الیمین، ولانصراف لبن الفحل فی المطلقات إلی لبن الزوج أو السید.

وفیه: إن النسب کما ذکرنا فی(1) المحرّمات بالنسب علقة تکوینیة ولیست اعتباراً شرعیاً، غایة الأمر منه ما یکون طاهراً فیما کان الوطی من حلال ومنه ما یکون خبیثاً فیما کان من حرام، وقد یأخذ الشارع فی موضوع أحکامه فی بعض الأبواب حصة من طبیعی النسب کما فی الإرث أو المناصب الشرعیة، وعن ابن الجنید أنه ذهب إلی حصول التحریم فیما کان اللبن من زنا بلحاظ

المرضعة وأهلها علی المرتضع، وأما بین المرتضع والزانی وأهله فهو أحوط وأولی.

وأما التقیید بصحیح عبدالله بن سنان فهو وإن کان لا یشمل الأجنبیة، إلّا أن المطلقات کصحیح برید العجلی: «کلّ امرأة أرضعت من لبن فحلها» وصحیح الحلبی وغیرها(2)، فهو شامل لمطلق الفحولة التکوینیة؛ إذ الفحل فی اللغة هی الذکورة أو القوة فیها، کما یعبّر عن اللقاح بالفحولة بمعنی المصدر، ومع إطلاق الروایات لا تحمل علی المقید، بل فی أبواب الرضاع من أحکام الأولاد أن الأمة لو زنت فأراد أن یسترضعها

ص:79


1- (1) سند العروة الوثقی، کتاب النکاح، التحریم بالنسب.
2- (2) وسائل الشیعة، أبواب ما یحرم بالرضاع، باب 6.

المالک فإنه یحلل الزانی فیطیب اللبن(1)، مع أن الزنا لا ینقلب عما وقع علیه، إذ لا کشف حقیقی فی الأحکام التکلیفیة، فظاهرها أنه یکون بمنزلة اللبن الذی من حلال، مع أنه لا یخرج عن کونه لبن من الزنا بذلک.

أما الخنثی المشکل فحیث لا تحرز أنوثتها فلا تحرز کونها امرأة الذی هو موضوع التحریم، وشمول الموضوع للجنس الثالث أو للذکر فیما لو رضع محل إشکال.

و فی صحیح الحلبی(2) النهی عن استرضاع الزانیة المجوسیّة إلا أن تضطر إلیها، وفی صحیح محمد بن مسلم عن أبی جعفر(علیه السلام): «لبن الیهودیة والنصرانیة والمجوسیة أحب إلی من لبن الزنا»(3)، فالظاهر منها سیاق الرضاع من الزنا مساق طبیعی الرضاع وإن کره.

و یعضد العموم والإطلاق فی الرضاع أن النسب الذی نزل الرضاع منزلته مطلق، فإن النسب کما مرّ تکوینی یعم ما کان من حلال أو من حرام، فیعاضد الإطلاق فی الرضاع أیضاً، فالاحتیاط متعین إن لم یکن هو الأقوی.

و یعضد ذلک ما ذهب إلیه المشهور فی وطی الشبهة، فإن العنوان المأخوذ فی صحیحة عبدالله بن سنان غیر صادق.

ثمّ إنه هل یشترط کون اللبن من المرضعة بعد الولادة وانفصال

ص:80


1- (1) المصدر السابق، أبواب أحکام الأولاد، باب 7.
2- (2) المصدر السابق، باب 76.
3- (3) المصدر السابق، باب 7، ح2.

الولد أو یجتزأ به حملًا؟ ظاهر من اشترط کون اللبن عن وطئ جائز ولم یشترط انفصال الولد هو الإطلاق، وحکی عن العلامة فی القواعد الاکتفاء بالحمل(1)، وکذا المسالک والروضة والمبسوط، وحکی المبسوط خلاف ذلک، وذهب فی التحریر(2) وصاحب المدارک فی شرح النافع والتذکرة إلی اشتراط الولادة، وکذا فی الحدائق ونسبه فی الجواهر إلی الأشهر.

و قد یستدل للثانی بما فی معتبرة یونس بن یعقوب المتقدّمة عن المرأة التی درّ لبنها عن غیر ولادة، أنه لا یحرم، وروایة یعقوب بن شعیب(3)، وکما فی صحیح عبدالله بن سنان أیضاً(4)، حین نسب اللبن للولد. وأضاف إلیها فی الحدائق ما ورد من الأخبار فی باب الحیض من أن غذاء الطفل فی بطن أمه إنما هو بدم الحیض، وبعد الولادة یحیله الله تعالی إلی اللبن، فیغذو به بعد الولادة .

وفی الکل نظر، لأن ظاهر الروایات فی المرأة التی درّ لبنها من غیر ولادة أی من غیر لقاح؛ لأن لبن السقط بعد الانفصال یبنون علی إیجابه للتحریم ونشره لها، فالمراد من غیر ولادة أی المرأة الحائل.

وبعبارة أخری: من غیر سبب لدرّ اللبن فی طبیعة المرأة.

ص:81


1- (1) قواعد الأحکام، ج2 ص9.
2- (2) تحریر الأحکام: ج2 ص12.
3- (3) وسائل، ما یحرم بالرضاع، باب 9، ح2.
4- (4) المصدر السابق، ح4.

وأما التعبیر فی صحیح عبدالله بن سنان (لبن ولدک) فیصدق علی الحمل، ومن ثمّ یستثنی له الإرث وان اشترط انفصاله.

و أما الروایات الواردة فی أن غذاء الطفل وهو حمل دم الحیض وأنه یستحیل بعد الولادة لبناً، فهذا یجری مجری الغالب ولا یستفاد منها نفی نسبة اللبن، أو المراد أن غالب اللبن یدر مع الولادة، فالمشاهد أن بدایة دره وتکوّنه أثناء الحمل.

وهل یشترط بقاء المرأة فی حبالة الرجل لنشر الحرمة؟

لا یشترط ذلک لإطلاق الأدلة وبقاء الإضافة، إذ هی تابعة للمنشئیّة فمن ثمّ یشمل ما لو تزوجت ودخل بها أیضاً.

نعم لو حملت من الثانی ففی بدایة الحمل قد لا ینسب إلی الزوج الثانی، ولکن مع استمرار الحمل قد یشکل نسبة اللبن إلی الزوج الأوّل، لا سیما وأن حالات النساء مختلفة، فبعضهن یجف اللبن السابق ویبدأ تکون اللبن من الحمل اللاحق.

والحاصل: إنه یدور مدار النسبة، وهی تختلف من مرأة إلی أخری بحسب الأمزجة وبحسب تقادم مدّة الحمل، وعن المسالک احتمال النسبة لکلّ من الزوجین واحتمال أن یکون بحکم تخلل الرضعات بلبن فحل آخر، فلا تنشأ الحرمة لکلّ منهما.

الشرط الثانی: أن یکون شرب اللبن بالامتصاص من الثدی:

ص:82

حکی عن موضع من المبسوط (1) والإسکافی(2) عدم الاشتراط، حیث قالا بکفایة أن یوجر الثدی فی فم الطفل. وهو ظاهر الصدوق فی المرسلة التی رواها الفقیه(3)، لکن المشهور شهرة عظیمة، بل حکی الاتفاق علی لزوم الرضاع أی الالتقام من الثدی.

و یستدل له بما فی صحیح زرارة عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: «سألته عن الرضاع فقال: لا یحرم من الرضاع إلّا ما ارتضعا من ثدی واحد حولین کاملین»(4) . ونظیره صحیح العلاء بن رزین عن أبی عبدالله(علیه السلام)(5).

إلا أنه قد یتأمل فیه أنه یصحّح صدق من النشویة لا أنها بمعنی باء الملابسة.

و قد یستدل بصحیح الحلبی عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: «جاء رجل إلی أمیر المؤمنین، فقال: یا أمیر المؤمنین إن امرأتی حلبت من لبنها فی مکوک(6)، فأسقته جاریتی، فقال: أوجع امرأتک وعلیک بجاریتک»(7).

ص:83


1- (1) فی موضع من المبسوط ج5 ص294 کما نقله الکرکی فی جامع المقاصد ج12 ص211، ولکن نقل صاحب المسالک أنَّ الشیخ ذکر عدم الاعتداد بوجور الثدی فی فم الطفل فی عشرة مواضع.
2- (2) حکاه عنه العلامة فی المختلف ح7 ص38 مسألة 5.
3- (3) من لا یحضره الفقیه ج3 ص308 ح1485. التی رواها الصدوق عن الصادق(علیه السلام) «وجور الصبی بمنزلة الرضاع»
4- (4) وسائل الشیعة، أبواب ما یحرم بالرضاع، باب 5، ح8.
5- (5) المصدر السابق، باب 2، ح13.
6- (6) قال الجوهری فی الصحاح ح4 ص1609، المکوک: (إناء کانوا یکیلون به).
7- (7) وسائل الشیعة، أبواب ما یحرم بالرضاع، باب7 ح1.

و یخدش فی الاستدلال أن الظاهر من الجاریة لیست الرضیعة.

و العمدة ما استدل به من أن الرضاع هو بلقم الثدی وامتصاص الطفل منه فی أصل معناه.

و یمکن تأیید ذلک بما مرّ فی صحیح الحلبی من التعبیر بالسقایة لا بالرضاع: «بعد حلب اللبن، ونظیره فی صحیح محمد بن قیس، حیث فرض الراوی عن امرأة حلبت فأسقت زوجها»(1)، وکذا ما فی مرسلة الصدوق قال: «قال أبو عبدالله(علیه السلام): وجور الصبی بمنزلة الرضاع»(2)، فإن المقابلة بین الرضاع والوجور یدل علی تباین استعمال المعنی. وقد قوبل بین الرضاع والحلب فی الاستعمال اللغوی أیضاً.

الشرط الثالث: أن تکون المرأة حیة:

(3)

فقد تردد فیه صاحب الشرائع(4)، وقال فی المبسوط: (لبن المیتة لا ینشر الحرمة (5)... وبه قال بعضهم، وقال آخرون: ینشر الحرمة)، ولعله إشارة إلی أقوال العامة(6). ولم یذکر الشرط کلّ من المقنعة والمقنع والکافی

ص:84


1- (1) المصدر، باب 5، ح3.
2- (2) المصدر، باب 7، ح3.
3- (3) قال صاحب المسائل، المشهور بین الأصحاب أنَّه یشترط فی نشر الحرمة بالرضاع کون الرضعة حیة ... .
4- (4) شرائع الإسلام، کتاب النکاح، المحرمات بالرضاع.
5- (5) المبسوط فی فقه الإمامیة، للشیخ الطوسی، ح5، ص296.
6- (6) حیث أنَّهم ذهبوا إلی نشر الحرمة بالمیتة، فلم یشترطوا الحیاة، راجع الفقه علی المذاهب الأربعة ج4، ص226؛ وکتاب الخلاف للشیخ الطوسی، ج5، ص104، مسألة 14.

والوسیلة والانتصار. ولا یظهر من الخلاف أنها اتفاقیة بیننا، حیث لم یحک علیه الإجماع، حیث استدل بظاهر الآیة(1). واستدل له بأن المیتة لا یصدق علیها عنوان المرأة أو المرضعة، بل هی میتة جامدة، وغایة الأمر لو شک فی نشر الحرمة، فالأصل عمومات الحل، وبإن تناول اللبن لو تحقّق کلّه فی زمن الموت لا یستراب فی خروجه عن موضوع الحرمة واندراجه فی عموم الحل، فیلحق به ما لو کان بعضه کذلک لعدم القول بالفصل، وبأن ظاهر الفعل المأخوذ فی موضوع الحرمة فی الآیة أَرْضَعْنَکُمْ ظاهر فی الفعل الاختیاری الذی هو من الحی.

هذا، وجملة هذه القرائن لا تخلو من تأمل لترتب جملة من الأحکام علی عنوان المرأة وهی میتة، کما فی أحکام تجهیز المیت وأحکام الحدود کالزنا وأحکام النظر واللمس وغیرها من الأبواب.

ومن ثمّ یتبین الکلام فی صدق عنوان الرضاع علیه، لا سیما وأن الذی هو محل الابتلاء من الفروض هو ما لو حصل إکمال النصاب فی الرضعات الأخیرة بذلک، وبعد صدق العنوان وإطلاق دلیل الرضاع یتمسک بإطلاق دلیل الحرمة، وبأن إلحاق الصور التی هی محل الابتلاء، بما لو کان کلّه فی حال الموت ممنوع الحل فی الملحق به فضلًا عن الملحق، إذ وضوح خروج المنزل علیه عن أدلة الحرمة وانصرافها عنه، إنما هو لامتناعه فی العادة. وأما استظهار الاختیاریة فلم یلتزموا به فی النائمة والمغمی علیها.

والحاصل: إن البناء علی هذا الشرط محل تأمل، وشمول الإطلاقات

ص:85


1- (1) النساء: الآیة 23، «... وَ أُمَّهاتُکُمُ اللاّتِی أَرْضَعْنَکُمْ ».

للصورة المفروضة الابتلائیّة قریب، فالاحتیاط متعین.

الشرط الرابع: أن یکون المرتضع فی أثناء الحولین:

لم یحک خلاف إلّا عن ابن الجنید، فقد ذهب إلی تحریم الرضاع بعد الحولین قبل الفطام أی جعل المدار علی الفطام، وعن ابن عقیل عدم التحریم بعد الفطام ولو أثناء الحولین، وأما اشتراط حولی ولد المرضعة فحکی عن أبی الصلاح وابنی زهرة وحمزة.

و الکلام یقع فی استفادة هذه الشروط من الروایات الواردة، کما فی صحیح منصور بن حازم عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: « «قال رسول الله صلی الله علیه و آله : «لا رضاع بعد فطام ...»(1) وفی ذیل الروایة: «فمعنی قوله: لا رضاع بعد فطام، أن الولد إذا شرب لبن المرأة بعد ما تفطمه لا یحرم ذلک الرضاع التناکح»، ومثلها صحیح الحلبی، ولو کنا نحن وهذا الإطلاق فالظاهر استفادة شرطیة عدم فطام الولد، وأن المدار علی فطام المرتضع دون شرطیة الحولین بالنسبة إلیه أو إلی المرضعة، ومعتبرة الفضل بن عبد الملک عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: «الرضاع قبل الحولین قبل أن یفطم»(2) وظاهرها قیدیة کلّ من الفطام

و الحولین بالنسبة للمرتضع، ووحدة السیاق قاضیة بکون الحولین بالنسبة إلی المرتضع دون المرضعة، وإن احتمل کون «قبل أن یفطم» عطف بدل علی (قبل الحولین)، ولکنّه خلاف أصالة التأسیس واحترازیة القیود.

ص:86


1- (1) وسائل الشیعة، أبواب ما یحرم بالرضاع، باب 5 ح1، 2.
2- (2) المصدر ح4.

و فی معتبرة حمّاد بن عثمان قال: «سمعت أبا عبدالله، یقول: لا رضاع بعد فطام قلت: وما الفطام؟ قال: الحولین الذی قال الله عز وجل»(1).

و هذه الروایة وإن وقع فیها سهل بن زیاد إلّا أن الأمر فی سهل سهل، ویعضد تفسیر الفطام بالحولین ما بنی علیه المشهور فی حق الحضانة للمرأة(2)، حیث قید فی روایاتها أنه إلی الفطام، واستظهروا منه الحولین، کما هو مفاد الآیة الکریمة: وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً.

نعم احتمل فی الجواهر إرادة الفطام لا الحولین، وإن قوّی کلام المشهور، لا سیما وأنه فی روایات الحضانة قد استشهد بالآیة الکریمة، وأشار إلی وحدة الموضوع بین الحضانة والفطام فی البابین کاشف اللثام، لکن فی باب أقل مدة الرضاع(3) ورد تفسیر الفصال قبل الحولین الوارد فی الآیة: فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ بالفطام، مما یظهر بأن الفطام قد یستعمل کنایة عن الفطام المقرّر شرعاً وهو الحولان، أی الذی ینبغی عنده الفطام، وتارة یستعمل بمعنی تحقّق الفصل خارجاً.

وقد یقال: إن المدار علی أسبق القیدین تحقّقاً، إما الفطام المقرّر شرعاً أو الفصل الخارجی. وإن ما ورد فی معتبرة حماد هو بیان الحد الأعلی والأمد الأبعد للفطام. ویؤید هذا التفسیر ما ورد فی باب أحکام الأولاد(4) من روایات أن الأمد الواجب للرضاع واحد وعشرون شهراً وإن ما نقص

ص:87


1- (1) وسائل الشیعة، أبوبا ما یحرم بالرضاع، باب 5، ح5.
2- (2) المصدر، أبواب أحکام الأولاد، باب 82.
3- (3) المصدر، باب 7.
4- (4) المصدر، ح5.

عن ذلک هو جور علی الصبی، وفی صحیحة عبید بن زرارة عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: «سألته عن الرضاع فقال: لا یحرم من الرضاع إلّا ما ارتضعا من ثدی واحد حولین کاملین»(1)، وهی ظاهرة فی قیدیة الحولین للمرتضع.

وفی صحیحة داود بن الحصین عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: «الرضاع بعد الحولین قبل أن یفطم محرم»(2).

و هذه الروایة معرض عنها لموافقتها للعامة ومعارضتها لجملة روایات الباب.

و فی صحیحة أخری للحلبی عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: «لا یحرم من الرضاع إلّا ما کان حولین کاملین»(3) وقد حمل کصحیح عبید بن زرارة المتقدّم علی کون الحولین ظرف للرضاع، والفطام فی باب حق الحضانة، وإن صح حمله علی الإشارة إلی الحولین؛ لأن الارضاع فیها حکمة للحکم، ولکنّه فی المقام لا موجب له بعد کونه موضوعاً للحکم، ومقتضی الأخذ بکلا القیدین هو انتهاء أمد الرضاع بأقربهما وقوعاً.

وقد یقال: إن تحقّق الرضاع بعد الفطام أثناء الحولین یبطل صدق العنوان، أو أن تحدید الشارع استحقاق المرتضع للرضاع حولین کاملین قاض بعدم تحقّق العنوان قبل مضیّهما، وأن ما یقع من رضاع هو فی محلّه

ص:88


1- (1) المصدر، أبواب ما یحرم بالرضاع، باب 5، ح8.
2- (2) المصدر، باب5، ح7.
3- (3) المصدر، باب 5، ح10.

مدة الحولین، ولو وقع قبله فصال لحاجة المرتضع له، وعلی أی تقدیر فلو تردد القید بین الحدین فمقتضی إطلاقات تحریم الرضاع هو الاقتصار علی المتیقّن من القید المنفصل، وهو الأخذ بالحولین.

أما أخذ الحولین قیداً فی المرضعة وولدها فلا ظهور یقتضیه، وإنما هو مجرّد احتمال فی الدلالة لا موجب له یرکن إلیه.

الشرط الخامس: فی کمیة الرضاع:
اشارة

الأقوال فی المسألة:

قال السید الیزدی فی العروة (الکمیة، وهی: بلوغه حداً معیناً، فلا یکفی مسمّی الرضاع ولا رضعة کاملة، وله فی الأخبار وعند فقهاء الأخیار تحدیدات وتقدیرات ثلاثة؛ الأثر والزمان والعدد، وأی واحد منها حصل کفی فی نشر الحرمة، فأما الأثر فهو أن یرضع بمقدار نبت اللحم وشدّ العظم، وأما الزمان فهو أن یرتضع من المرأة یوماً ولیلة مع اتصالهما بأن یکون غذاءه فی هذه المدّة منحصر بلبن المرأة، وأما العدد فهو أن یرتضع منها خمس عشرة رضعة کاملة)(1).

هو المشهور شهرة عظیمة بین الأصحاب، وحکی عن ابن الجنید القول بالرضعة الواحدة وحکی عن القاضی النعمان المصری الاکتفاء بالمسمّی، وعن المفید والدیلمی وابن سعید الاقتصار علی التقدیر بالزمان والعدد، وعن الطبرسی والحلبیین جعل التقدیر الزمانی والعددی هو

ص:89


1- (1) العروة الوثقی، کتاب النکاح، شروط الرضاع.

الکاشف عن الأثر، وظاهر التهذیبین وعن المسالک الاکتفاء فی الأثر بنبات اللحم.

وفی التحدید بالعدد الأشهر عند المتقدّمین العشر، والأشهر عند المتأخرین ومتأخریهم الخمسة عشر، والحاصل أن کلًا من القولین مشهور فی الطبقات المختلفة.

وأما العامة فهو وإن نقل عنهم شهرة الرضعة والمصّة(1)، إلّا أن جماعة منهم ذهب إلی الثلاث(2)، وحکی عن المشهور بینهم الخمس کالشافعی وأحمد وإسحاق وطاووس وعطاء وسعید بن جبیر وعبدالله بن مسعود وعائشة، استناداً لما روته عائشة، أنها قالت: «کان فیما أنزل الله فی القرآن عشر رضعات معلومات یحرمن، ثمّ نسخه بخمس معلومات وأنه صلی الله علیه و آله توفی وهی مما تقرأ بالقرآن»(3). وأخرجوه فی صحاحهم إلّا البخاری، وحکی التحریم بالعشر عن عائشة وحفصة وجماعة منهم لما رووه عن عائشة أنها قالت: «نزلت آیة الرجم ورضاعة الکبیر عشراً، ولقد کانت فی صحیفة تحت سریری فلما مات صلی الله علیه و آله وتشاغلنا بموته دخل داجن فأکلها»(4).

وأما فی التقدیر الزمانی فلم یحک خلاف إلّا فی قول شاذ ذکر فی المقنع

ص:90


1- (1) کما ذهب أبو حنیفة ومالک.
2- (2) من ذهب إلیه بعض الحنابلة والشافعیة، کما نسبه إلیهم صاحب کتاب المذاهب الأربعة، ج4، ص228.
3- (3) ما یسمی ب- صحیح مسلم، ج4 ص167.
4- (4) سنن ابن ماجة، ج1 ص626، ط دار الفکر - بیروت.

أنه روی ولا یعرف قائله وهو خمسة عشر یوماً، وعن الفقه الرضوی أنه ثلاثة أیام إلّا أنه رمی بالشذوذ، والروایات الواردة منها ما دل علی العشرة عدداً بالمنطوق أو المفهوم، ومنها ما دل علی الخمسة عشر إما بالمنطوق أو بنفی العشرة.

أما الذی دل علی العشرة بالمنطوق کمصحح الفضیل بن یسار عن أبی جعفر(علیه السلام) قال: «لا یحرم من الرضاع إلّا المخبورة [مجبورة] أو خادم أو ظئر، ثمّ یرضع عشر رضعات یروی الصبی وینام»(1).

وموثّق عبید بن زرارة عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: «سألته عن الرضاع، ما أدنی ما یحرم منه؟ قال: ما ینبت اللحم والدم، ثمّ قال: أ تری واحدة تنبته فقلت: اثنتان أصلحک الله، فقال: لا، فلم أزل أعدّ علیه حتی بلغت عشر رضعات»، لکن قد یستظهر من هذه الموثّقة أن مفادها النفی عن العشرة وأنها فی عداد الأعداد السابقة من الرضاعات التی لا یسببن الحرمة.

و بالمفهوم کموثّقة عبدالله بن سنان قال: «سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن الغلام یرضع الرضعة والثنتین؟ قال: لا یحرم، فعددت علیه حتی أکملت عشر رضعات، فقال: إذا کانت متفرقة فلا»(2) وهی دالة بالمفهوم علی أنه مع التوالی یحرمن، ومنطوقها صریح فی أن العشرة فی عداد ما قبلها لا یحرمن، غایة الأمر قید عدم التحریم فیهن بالتفرق، ومفادها شاهد علی کون موثّق عبید المتقدّم مفاده نفی سببیة العشرة للحرمة.

ص:91


1- (1) وسائل الشیعة، أبواب ما یحرم بالرضاع، باب 2، ح11.
2- (2) المصدر، أبواب ما یحرم بالرضاع، باب 2، ح5.

و بنفس التعبیر موثّقة مسعدة بن زیاد(1).

و أما ما دل علی الخمسة عشر، موثّقة زیاد بن سوقة، قال: «قلت لأبی جعفر(علیه السلام) هل للرضاع حدّ یؤخذ به؟ فقال: لا یحرم من الرضاع أقل من یوم ولیلة أو خمسة عشر رضعة متوالیات من امرأة واحدة من لبن فحل واحد لم یفصل بینهما رضعة امرأة غیرها، فلو أن امرأة أرضعت غلاماً أو جاریة عشر رضعات من لبن فحل واحد وأرضعتهما امرأة أخری من لبن

فحل آخر عشر رضعات لم یحرم نکاحهما»(2).

و دلالتها علی اعتبار الخمسة عشر رضعة بالمنطوق. ثمّ إن ذیل هذه الموثّقة ظاهر فی أن العشر المتوالیات لا یحرمن ما لم یبلغن خمسة عشر وإن اتحد الفعل والمرأة فی العشرة، وأنه لا یکفی الخمسة عشر مع تعدد المرأة وتعدد الفعل.، وهذه میزة فی دلالة هذه الصحیحة.

و أما الروایات النافیة للعشرة المعاضدة للخمس عشرة رضعة، کصحیحة علی بن رئاب عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: «قلت: ما یحرم من الرضاع؟ قال: ما أنبت اللحم وشدّ العظم، قلت: فیحرم عشر رضعات قال: لا؛ لأنه لا تنبت اللحم ولا تشدّ العظم عشر رضعات»(3) وهذه الصحیحة کالصریحة فی أن عدم التحریم لیس لاختلال التوالی، بل إن العشرة من حیث هی لا توجب إنبات اللحم وشدّ العظم، ومثلها موثّق

ص:92


1- (1) المصدر، با 2، ح9.
2- (2) المصدر، باب 2، ح1.
3- (3) وسائل الشیعة، أبواب ما یحرم بالرضاع، باب 2، ح2.

عبید بن زرارة وموثّق عبدالله بن بکیر(1) إلّا أنهما لم یتضمّنا تعلیلًا.

و صحیح عبید بن زرارة، قال: «قلت لأبی عبدالله(علیه السلام): إنا أهل بیت کبیر فربما کان الفرح والحزن الذی یجتمع فیه الرجال والنساء، فربما استخفت [استحیت] المرأة أن تکشف رأسها عند الرجل الذی بینها وبینه رضاع، وربما استخف الرجل أن ینظر إلی ذلک، فما الذی یحرِّم من الرضاع؟ فقال: ما أنبت اللحم والدم، فقلت: ما الذی ینبت اللحم والدم، فقال: کان یقال عشر رضعات، قلت: فهل تحرم عشر رضعات؟ فقال: دع ذا، وقال: ما یحرم من النسب فهو یحرم من الرضاع»، وهذه الصحیحة حاکمة بدلالتها علی ما دل علی العشر من ناحیة جهة الصدور، وذلک لأنه(علیه السلام) أسند العشرة إلی القیل وأمر الراوی بترکه، وقد حکی العامة عن عائشة أنها کانت تلتزم بتحریم العشرة، ثمّ عدلت إلی الخمسة.

والظریف أن فی تعبیره(علیه السلام) لم یعبر (أنه یقال)، بل عبر ب- (کان یقال) مما یفید بأن القائل التزم بالعشرة فیما سبق، وهو کالإشارة إلی قول عائشة القدیم.

فالأقوی هو القول بالخمسة عشر لوجوه:

الوجه الأوّل: صراحة موثّقة زیاد بن سوقة:

فی نفی سببیة العشرة المتوالیة، وهذا یدفع الجمع بین الروایات النافیة والمثبتة بالعشرة بالتفصیل بین التوالی والتفرق، ومع صراحتها لیس فی البین ما یناهضها دلالةً فی الطائفة الأولی حتی موثّقة الفضیل بن یسار؛ لأن

ص:93


1- (1) المصدر، باب 2، ح3.

ظاهر عنوان الخادم أو الظئر تستأجر وعنوان المخبورة التی هی المربیة- کما فی صحیحة فضیل بطریق آخر للشیخ والصدوق(1) - هو الاستمرار مدّة معتدّ بها کما فی موثّقة موسی بن بکر(2) لاسیما وأنه قید فی هذه الموثّقة بالعشر رضعات، بأن کلًا من الرضعات یروی الصبی وینام، وظاهر قید النوم هو تخلل رضعات أخری یرتوی فیها الصبی، أی یترک الثدی من نفسه، لکن من دون أن ینام وبالتالی تزید عدد الرضعات عن العشر التی یتوفر فیها الشرائط المقرّرة فی فتاوی الفقهاء والنصوص الروائیة.

الوجه الثانی: ما فی صحیحة عبید بن زرارة:

الحاکمة علی جهة الصدور فیما دل علی العشر.

الوجه الثالث: کثرة ما دل علی الخمسة عشر:

سواء بالمنطوق أو بنفی العشرة. بینما إن ما دل علی العشرة لیس إلّا روایة واحدة منطوقاً، وأما ما دل بالمفهوم فهو مطلق قابل للتقیید بالخمسة عشر، لا سیما أن ما دل علی الخمسة عشر قد قیدها بالتوالی.

الوجه الرابع: قوة ما دل علی نفی التحریم عن العشرة:

لاشتماله علی التعلیل بکونه غیر منبت للحم ولا یشدّ العظم، وهذا معاضد لحمل العشرة علی التقیة الدال علیها صحیح عبید بن زرارة من أن المدار فی الحرمة علی إنبات اللحم وشدّ العظم وأنه غیر حاصل بالعشر.

ص:94


1- (1) وسائل الشیعة، أبواب ما یحرم بالرضاع، باب 2، ح7.
2- (2) المصدر، باب 2، ح8.

ثمّ إن هناک روایة عمر بن یزید، قال: «سمعت أبا عبدالله (علیه السلام) یقول: خمس عشرة رضعة لا تحرم»(1) وهی مطلقة محمولة علی المتفرقات، وهی معاضدة أیضاً للروایات النافیة للعشرة. وفی صحیح العلاء بن رزین عنه(علیه السلام): «لا یحرم من الرضاع إلّا ما ارتضع من ثدی واحد سنة»(2)، وهو شاذ.

و فی موثّق زرارة عنه(علیه السلام) «إلا ما ارتضعا من ثدی واحد حولین کاملین»(3).

و قد حمل علی ظرفیة الرضاع لا کمیته، ولعل وجه الظرفیة وجه حمل الصحیح السابق.

و أما التحدید بالزمان فبالیوم واللیلة، ولم یحک خلاف فی ذلک إلّا فی الفقه الرضوی، حیث قال: «والحد الذی یحرم به الرضاع - مما علیه العصابة دون کلّ ما روی، فإنه مختلف - ما أنبت اللحم وقوی العظم، وهو ثلاثة أیام متوالیات أو عشرة رضعات متوالیات محرزات مرویات بلبن الفحل»(4)، وفی المقنع ذکر أنه روی خمسة عشر یوماً ولیالیهن لیس بینهن رضاع، وذکر أنه روی أیضاً ما کان حولین کاملین أو ما ارتضع من ثدی واحد سنة.

هذا وقد تقدّم فی موثّق زیاد بن سوقة أنه لا یحرم الرضاع أقل من یوم

ص:95


1- (1) وسائل، أبواب ما یحرم بالرضاع، باب 2، ح6.
2- (2) المصدر، باب 2، ح13.
3- (3) المصدر، باب 5، ح8.
4- (4) الفقه الرضوی، ص234.

ولیلة وأنها متوالیات. نعم فی مرسلة الصدوق فی المقنع قال: «سئل الصادق(علیه السلام) هل لذلک حدّ؟ فقال: لا یحرم من الرضاع إلّا رضاع یوم ولیلة أو خمس عشرة رضعة متوالیات لا یفصل بینهن»(1) .

وأما صحیحة العلاء بن رزین المتضمّنة للتحدید بما ارتضع من ثدی واحد سنة(2) وفی موثّق زرارة «بما ارتضعا من ثدی واحد حولین کاملین»(3) فقد تقدّم حملهما علی بیان ظرفیة الرضاع، أی تحدید الظرف الذی یقع فیه الرضاع المقدّر کمّاً أو زمناً، إذ سیأتی اشتراط وقوع المقدار المحرّم کماً أو عدداً أو کیفیة فی ظرف الحولین.

وأما التحدید بالأثر وهو ما أنبت اللحم وشدّ العظم، فالمشهور بین الأصحاب أنهما معاً علامة مستقلة، إلّا أنه حکی عن الشهید الأوّل فی اللمعة الاکتفاء بأحدهما، وحکاه فی نهایة المرام عن جماعة أیضاً، وقوّاه وعلله بالتلازم، وکأنه یرید الاکتفاء بأحدهما فی مقام الإثبات لا الثبوت، وحکی عن الحلبیین والطبرسی وظاهر التهذیبین، واحتمل عن بعض المتقدّمین أیضاً ارجاع هذا التحدید فی مقام الإثبات، بأن یستعلم بالعلامتین السابقتین، وقد یستظهر هذا من جملة من الأصحاب الذین عبروا عن موضوع التحریم فی الرضاع أنه ما ینبت اللحم ویشد العظم، وأن حدّه إرضاع یوم ولیلة أو خمس عشرة رضعة، ویستفاد من تعبیرهم هذا أن الموضوع حقیقة هو الأثر، وأن التقدیر بالزمان والعدد وبقیة الشرائط

ص:96


1- (1) وسائل الشیعة، أبواب ما یحرم بالرضاع، باب 2، ح14.
2- (2) المصدر، باب 2، ح13.
3- (3) المصدر، باب 5، ح8.

علامة وحدّ إثباتی للموضوع.

و یدل علی ذلک فی الروایات مصحح عبدالله بن سنان، قال: «سمعت أبا عبدالله(علیه السلام) یقول: لا یحرم من الرضاع إلّا ما أنبت اللحم وشدّ العظم»(1) وهذا الحصر المطلق قد یستظهر منه أن الموضوع الأصلی للتحریم هو الأثر وأن التحدید بالمقدارین علامة علیه.

و نظیره صحیح حماد بن عثمان عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: «لا یحرم من الرضاع إلّا ما أنبت اللحم والدم»(2) والتعبیر فی هذه الصحیحة قد استعیض عن شد العظم بنبت الدم، وهو یفسح المجال لاحتمال الاکتفاء بأحدهما، لا سیما وأن نبت الدم علی درجات، وهو أول ما یحصل من الأثر قبل نبت اللحم وشدّ العظم.

و فی صحیحة محمد بن مسلم عن أبی عبدالله(علیه السلام) أو أبی جعفر(علیه السلام) قال: «إذا رضع الغلام من نساء شتی وکان ذلک عدّة أو نبت لحمه ودمه علیه حرم علیه بناتهنّ کلّهن»(3).

وصریح هذه الروایة الاستعلام فی موضوع الحرمة بکل من التقدیر والأثر. وهذا متصوّر وقوعاً کما إذا اختلت شرائط الرضعات فی العدد أو الزمان، لکن کان بنحو متطاول یلاحظ فیه ازدیاد وزن الطفل ونمو جسمه طولًا الذی هو علامة علی اشتداد العظم وزیادته سمکاً أو حجماً

ص:97


1- (1) وسائل، أبواب ما یحرم بالرضاع، باب 3، ح2.
2- (2) المصدر، باب 3، ح1.
3- (3) المصدر، باب 3، ح3.

وهو علامة علی إنبات اللحم.

و مثل مصحّح عبدالله بن سنان روایته الأخری التی رواها الکلینی عنه عن أبی الحسن(علیه السلام) قال: «قلت یحرم من الرضاع الرضعة والرضعتان أو الثلاثة؟ قال: لا، إلا ما اشتد علیه العظم ونبت اللحم»(1) ومثل هذا اللفظ فی موثّق مسعدة(2)، ثمّ إن فی صحیح عبید بن زرارة المتقدّم: «فما الذی یحرم من الرضاع؟ فقال: ما أنبت اللحم والدم، فقلت: وما الذی ینبت اللحم والدم؟ فقال: کان یقال عشر رضعات، قلت: فهل تحرم عشر رضعات؟ فقال: دع ذا»(3).

فظاهر الصحیحة أن العدد علامة علی الأثر، ومثلها موثّق عبید بن زرارة المتقدّم أیضاً عنه(علیه السلام): «ما أدنی ما یحرم منه؟ قال: ما ینبت اللحم والدم، ثمّ قال: أ تری واحدة تنبته؟ فقلت: اثنتان أصلحک الله؟ فقال: لا، فلم أزل أعد علیه حتی بلغت عشر رضعات»، وظهوره کظهور صحیحته السابقة فی کون العدد علامة علی الأثر، کما أنها تضمّنت إنبات اللحم والدم دون العظم، کما أن موثّق مسعدة المتقدّم وعبدالله بن سنان أیضاً ظاهرتان فی طریقیة العدد للأثر، وفی صحیح علی بن رئاب المتقدّم عنه(علیه السلام) عما یحرم من الرضاع قال: «ما أنبت اللحم وشد العظم، قلت: فیحرم عشر رضعات؟ قال: لا؛ لأنه لا تنبت اللحم ولا تشدّ العظم عشر رضعات»(4)

ص:98


1- (1) وسائل الشیعة، أبواب ما یحرم بالرضاع، باب 2، ح23.
2- (2) المصدر، باب 2، ح19.
3- (3) المصدر، باب 2، ح18.
4- (4) المصدر، باب 2، ح2.

وهی ظاهرة بوضوح فی طریقیة العدد علی الأثر، وکذلک ظاهر روایة ابن أبی یعفور ومحمد بن أبی عمیر. الآتیتان أن بقیة شرائط الرضعات فی الکمیة هی علامة علی الأثر.

إلّا أنه مع کلّ ذلک لا یعنی حصر استعلام الأثر بالتقدیر بالعدد والزمن، لأن غایة دلالتها هو طریقیة العدد للأثر، وأن الأثر هو الموضوع الأصلی، لکن ذلک لا ینافی استعلام الأثر بغیر ذلک، کما لا ینافی التحدید بالعدد، وإن کان الحکمة فی جعله هو الکاشفیة عن الأثر، ثمّ إنه فی جملة روایات الإنبات ورد نبات اللحم والدم من دون ذکر العظم، وهذا یقرّب الاکتفاء بأحدهما إذ کما مرّ إن إنبات الدم متقدّم علی إنبات اللحم، کما إن إنبات اللحم قد ینفک عن اشتداد العظم والعکس کذلک علی صعید الإحراز.

وقد یعضد الاکتفاء بأحد العلامتین أیضاً، أن التحدید بالمقدار الزمنی والعددی یلازم اثباتاً إنبات الدم واللحم دون اشتداد العظم، فإنه لا یحرز بذلک من غیر جهة الشرع، ولو بنی علی حصوله بالتعبد الشرعی فهذا المقدار من اشتداد العظم یلازم فی الغالب إنبات اللحم. والمهم الاکتفاء فی مقام الإثبات بإنبات اللحم منفکّاً عن إحراز اشتداد العظم، وکذلک الاکتفاء بالعکس.

نعم لا یکتفی بإنبات الدم لوحده، فإنه یتحقق بنصف العدد والزمن.

فائدة: المراد بالحولین التقدیر الهلالی

المراد بالحولین أربع وعشرون شهراً هلالیاً من حین الولادة، وفی

ص:99

أثناء الشهر یکمل من الشهر الخامس والعشرین ما مضی من الشهر الأوّل علی الأظهر، فلو تولد فی العاشر من الشهر یکمل حولاه فی العاشر من الشهر الخامس والعشرین. وارادة الشهر الهلالی، هو المطّرد فی الأبواب بعد اعتماده من قبل الشرع کمواقیت، کما فی قوله تعالی یَسْئَلُونَکَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِیَ مَواقِیتُ 1 ، وأما جبر المنکسر فالأقوی فی جبره هو بالمقدار المعتدل، وهو ما ینقص عن الثلاثین، لأن تقویم السنة الهلالیّة یحتاج إلی الکبیسة کما هو فی کل أربع سنوات.

أما المراد من انبات اللحم وشد العظم؟

ان المعتبر فی إنبات اللحم وشدّ العظم استقلال الرضاع فی حصولهما علی وجه ینسبان إلیه، فلو فرض ضم السکر ونحوه إلیه علی نحو ینسبان إلیهما أشکل ثبوت التحریم، کما أن المدار علی الإنبات والشد المعتد به منهما، علی قدر مبان یصدقان عرفاً، ولا یکفی حصولهما بالدقة العقلیة، وإذا شک فی حصولهما بهذه المرتبة أو فی استقلال الرضاع فی حصولهما یرجع إلی التقدیرین الآخرین.

وهذا هو الظاهر مما مرّ فی الروایات، حیث أسند الإنبات وشد العظم للبن، بل قد علل القدر الناقص عدداً فی عدم نشره للحرمة بعدم إنباته للحم وشد العظم، مما هو ظاهر فی لزوم استقلال اللبن فی ذلک، وأما لزوم کونهما بدرجة ظاهرة؛ فلأنه المنسبق من التحدید أن یکون بتوسط الإحراز العرفی المعتاد حساً، بأن یری ازدیاده فی الطول أو السمنة أو

ص:100

الوزن، بنحو ملحوظ. ولو لم یحرز أو شک فیعوّل علی التقدیرین الآخرین، فلا بدّ حینئذٍ من إحراز توفر الشروط فی الرضعات.

وهل یعتبر فی التقدیر بالزمان ان یکون غذاؤه منحصرا باللبن؟ قال السید الیزدی فی العروة: (یعتبر فی التقدیر بالزمان أن یکون غذاؤه فی الیوم واللیلة منحصراً باللبن، ولا یقدح شرب الماء للعطش ولا ما یؤکل أو یشرب دواءً، والظاهر کفایة التلفیق فی التقدیر بالزمان لو ابتدأ بالرضاع فی أثناء اللیل أو النهار)(1).

و یقتضیه ما ورد فی العدد من التعلیل بأنه ینبت اللحم ویشدّ العظم، ومرّ أن إطلاق الإسناد یقتضی الاستقلال، کما مرّ فی المسائل السابقة أن الموضوع الأصلی هو إنبات اللحم وشدّ العظم، وأن التقدیر بالزمان والعدد علامتان وحدّان شرعیان، فلا یتم تقدیر إنبات اللحم وشدّ العظم بالزمان إلّا مع استقلال اللبن.

و أما التلفیق فی الیوم واللیلة فیقتضیه أن التقدیر الزمانی الملفّق هو المنسبق وقوعاً من عموم الدلیل، کما هو مطرد فی سائر الأبواب، کالإقامة عشراً وأیام الحیض والعدّة وغیرهما.

شروط الرضاع بالعدد:
الشرط الأوّل: کمال الرضعة:

و یدل علیه حسنة ابن أبی یعفور قال: «سألته عمّا یحرم من الرضاع،

ص:101


1- (1) العروة الوثقی، کتاب النکاح، شروط الرضاع.

قال: إذا رضع حتی یمتلی بطنه، فإن ذلک ینبت اللحم والدم، وذلک الذی یحرم»(1) وکذا الصحیح إلی محمد بن أبی عمیر عن بعض أصحابنا عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: «الرضاع الذی ینبت اللحم والدم هو الذی یرضع حتی یتضلّع ویتملّی وینتهی نفسه»(2).

و کذلک مصحح الفضیل بن یسار عن أبی جعفر(علیه السلام) المتقدّم، حیث جاء فیه «ثمّ یرضع عشر رضعات یروی الصبی وینام»(3) وظاهر هذه الروایات واضح فی استکمال الرضعة وتملّی الصبی، فلا ینطبق علی المصّة، وتقابل العنوانین یقتضی المغایرة، کما أن مقتضی التعداد یقتضی مع التوالی الانصراف إلی تعدد الرضعات بحسب دفعات الحاجة، ففی المجلس الواحد مع تقارب الزمن یعد رضعةً واحدة وإن تخلل بینهما الفصل لسبب ما.

ثمّ إن اعتبار هذا الشرط فی العدد ظاهر، وأما اعتباره فی الیوم واللیلة فحکی عن غیر واحد ککاشف اللثام اعتباره، واستقربه صاحب الجواهر فیما توقف صدق رضاع یوم ولیلة علیه، وما أشار إلیه من الوجه متین، فإن ظاهر التقدیر الزمانی المجعول حدّاً للرضاع کون حاجة المرتضع فی هذا المقدار من الزمن یستوفیها من الرضاع بالنمو المتعارف، فلو ارتضع بما یعدّ ناقصاً عن ذلک فلا یستوفی المقدار المحدد من الرضاع، فالمتّجه اعتباره فی التقدیر الزمانی أیضاً، إلّا أن المدار فیه علی استیفاء حاجته کلما أراد ولو

ص:102


1- (1) وسائل الشیعة، أبواب ما یحرم بالرضاع، باب 3، ح1.
2- (2) وسائل الشیعة، أبواب ما یحرم بالرضاع، باب 4، ح2.
3- (3) المصدر، باب 2، ح11.

بتخلل فاصل بخلاف الدفعة من عدد الرضاع.

الشرط الثانی: توالی الرضعات:

بمعنی عدم الفصل برضاع امرأة أخری فظاهر جملة من عبائر المتأخرین اختصاص هذا الشرط بالعدد، إلّا أن المحکی عن المسالک وصاحب الریاض اعتبارهما فی الزمانی أیضاً، ولعل ظاهر ما ینسب إلی المشهور اختصاص الشرط بالعدد کما هو ظاهرهم فی الشرط السابق أیضاً، ولکن الأقوی فی هذا الشرط أیضاً التعمیم للتقدیر الزمانی أیضاً؛ وذلک لأن ظاهر التقدیر بالعدد متقارن مع التقدیر بالزمان فی شمول التعلیل لهما بأنهما علّتان لإنبات اللّحم وشدّ العظم، وبعبارة أخری إن ظاهر التقدیر الزمانی والتقدیر العددی هما لتقدیر الکمیة من اللبن الموجبة لإنبات اللحم أو شد العظم، وحیث إنهما تقدیران متقاربان فی تحقیق تلک الکمیة کانت الشرائط شرائط لتلک الکمیة، فبعد ظهور وحدتهما فی العلامیة علی إنبات اللحم وشدّ العظم یقرب استظهار وحدة القید من موثّق زیاد بن سوقة قال: «قلت لأبی جعفر(علیه السلام): هل للرضاع حدّ یؤخذ به، فقال: لا یحرم الرضاع أقل من یوم ولیلة أو خمس عشرة رضعة متوالیات من امرأة واحدة من لبن فحل واحد لم یفصل بینهما رضعة امرأة غیرهما، فلو أن امرأة أرضعت غلاماً أو جاریة عشر رضعات من لبن فحل واحد وأرضعتهما امرأة أخری من فحل آخر عشر رضعات لم یحرم نکاحهما»(1) وقید متوالیات، وإن کان لتمییز العدد کما هو صریح تفسیر الذیل أیضاً، إلّا أن

ص:103


1- (1) وسائل الشیعة، أبواب ما یحرم بالرضاع، باب 2، ح1.

الظاهر من « «یوم ولیلة»» کونه تقدیر عدیل تقدیر العدد، وأنه یستوفیه کعلامة زمانیة مع عدم ضبط العدد، وإلّا فمع ضبطه یُکتفی به ولو لم یستوف القدر الزمنی، لا سیما وأن العدد قد علل بأنه یدور مدار الإنبات وشد العظم، أی إن الموضوع الأصلی هو الأثر، غایة الأمر أن التقدیرین علامة له، هذا مع استفادة ذلک من مثل صحیح عبد الرحمن بن أبی عبدالله عن أبی عبدالله(علیه السلام)، ومثله مصحّح الفضیل بن یسار أنه: «لا یحرم من الرضاع إلّا ما کان مخبوراً قلت، وما المخبور؟ قال: أم مربیة أو أم تربی أو ظئر تستأجر أو خادم تشتری أو ما کان دون ذلک موقوفاً علیه» ومثلها معتبرة موسی بن بکر الواسطی(1) والتعبیر فی الثانیة «مقیمة علیه»، والإقامة والوقوف علیه امتداد بلحاظ العدد والزمن کلیهما، لا سیما وأن التعبیر بالموثّقة بأن الرضاع من امرأة أخری یوصف بأنه فاصل بینهما، أی أن حکم الرضاع من امرأة أخری هادم لما تحقّق من المرأة الأولی، ثمّ إن الفصل هل یتحقّق برضاع امرأة أخری من لبن فحل آخر أو بمطلق المرأة الأخری ولو بلبن الفحل نفسه؟ ظاهر جملة من الکلمات الثانی.

وبعبارة أخری: هل یشترط فی تحقّق الرضاع المحرم کلّ من وحدة الفحل ووحدة المرضعة أو یکتفی بوحدة الفحل، وإن تعددت المرضعة ما دام الفحل واحداً، کما هو الحال فی المرتضعین، فإنه یکفی فی نشر الحرمة بینهما وحدة الفحل وصاحب اللبن وإن ارتضعا کلّ منهما من امرأة؟ لا یبعد الاکتفاء بوحدة الفحل فی المرتضع الواحد أیضاً وذلک؛ لأن التعبیر فی

ص:104


1- (1) وسائل الشیعة، باب 2، من أبواب ما یحرم بالرضاع، ح8.

موثّقة زیاد بن سوقة، وإن کان بوحدة کلّ من الفحل والمرأة المرضعة، إلّا أن الذیل المفسّر للصدر جعل تعدّد الفحل وتعدّد المرأة من جهة تعدد الفحل هو العادم لتحقق الشرط، فکأن المدار علی وحدة الفحل لا علی وحدة المرأة المرضعة.

و یشهد لإرادة وحدة الفحل فقط أن هذا التقیید بوحدة الفحل ووحدة المرأة قد ورد نظیره فی الصحاح والمعتبرات الواردة فی تحریم المرتضعین فیما بینهما، مع أن المراد ثمة هو وحدة الفحل فقط لا وحدة المرضعة، کما هو متفق علیه فتوی، ودلت علیه نصوص مفسّرة کما فی موثّقة جمیل بن دراج(1). فلاحظ مثل صحیح الحلبی قال: «سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن الرجل یرضع من امرأة وهو غلام أیحل أن یتزوج أختها لأمها من الرضاعة؟ فقال: إن کانت المرأتان رضعتا من امرأة واحدة من لبن فحل واحد فلا یحل، فإن کانت المرأتان رضعتا من امرأة واحدة من لبن فحلین فلا بأس بذلک»(2).

فتری أن التقیید بالوحدة لکلّ من المرأة والفحل، مع أن التقیید الجدّی إنما هو بلحاظ الفحل دون المرأة.

ونظیرها موثّق عمار الساباطی الواردة فی المرتضعین أیضاً قال: «سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن غلام رضع من امرأة أ یحل له أن یتزوج أختها لأبیها من الرضاع؟ فقال: لا فقد رضعا جمیعاً من لبن فحل واحد من امرأة

ص:105


1- (1) وسائل الشیعة، أبواب ما یحرم بالرضاع، باب 15، ح3.
2- (2) وسائل، أبواب ما یحرم بالرضاع، باب 6، ح3.

واحدة»(1)، فالتعبیر فی الموثّقة أیضاً یقید به کلّ من الفحل والمرأة، مع أن المدار فی التحریم هو علی وحدة الفحل فی المرتضعین، وذلک لدلالة روایات متعددة علی أن سبب التحریم فی الرضاع یدور مدار اتحاد لبن الفحل، کما فی صحیح برید العجلی(2) وموثّق سماعة(3) وصحیح ابن أبی نصر(4)، فبعد وحدة استعمال التعبیر فی المرتضعین فی کیفیة نشر الحرمة بینهما مع التعبیر الوارد فی المرتضع الواحد فی نشر الحرمة بینه وبین الفحل، یتضح وحدة المراد وأن التعبیر بوحدة المرأة توطئة لبیان وحدة الفحل، ویظهر ذلک من کیفیة التنسیق بین ذیل موثّقة زیاد بن سوقة وصدرها.

بل قد استظهر ذلک من صحیح محمد بن مسلم عن أبی جعفر(علیه السلام) أو أبی عبدالله(علیه السلام) قال: «إذا رضع الغلام من نساء شتی وکان ذلک عدّة أو نبت لحمه ودمه علیه حرم علیه بناتهن کلّهن»(5) ویظهر ذلک من الوسائل، حیث ذکر الروایة فی باب حرمة أولاد الفحل مع المرتضع مع اتحاد الفحل.

وعلی أی تقدیر فإن فرض اختلاف النساء وأنه منشأ البیان للحکم لا یخلو من دلالة، لا سیما وأن التحریم قد فرض مع بناتهن لا مع النساء أنفسهن، مما یقضی بأن التحریم قد تحقّق من طرف الفحل والأبوة وبناته لا من جهة الأمومة.

ص:106


1- (1) المصدر، باب 6، ح2.
2- (2) المصدر، باب 6، ح1.
3- (3) المصدر، باب 6، ح6.
4- (4) المصدر، باب 6، ح7.
5- (5) المصدر، باب 3، ح3.

ثمّ إنه لو بنی علی الاکتفاء بوحدة الفحل فتحصل الأبوة بین المرتضع والفحل، وهل تحصل الأمومة بین المرتضع والنسوة الشتی للفحل؟ فلو بنی علی ما استظهر فی صحیح محمد بن مسلم کان مقتضاه الحرمة من طرف الفحل فقط، وصریح القواعد قیدیة وحدة کل من الفحل والمرضعة فی تحقّق نصاب الرضاع للمرتضع، وعلّق علیه کاشف اللثام بما یشعر أن هذا متسالم عندنا خلافاً للعامة، وکذلک الکرکی، وظاهر صاحب الحدائق دعوی الإجماع علیه عندنا، وعلله بتلازم انتفاء الأبوة لانتفاء الأمومة، واستدلوا له أیضاً بموثّقة زیاد، وقد عرفت التأمل فی ظهورها فی ذلک.

هذا مضافاً إلی أن المقنع والمقنعة لم یتعرّضا لذلک، نعم تعرّض له الشیخ فی المبسوط والنهایة وابن إدریس فی السرائر، ولکن عبائرهم مطلقة فلم یصرح فیهما بما إذا اتحد الفحل، والمسألة لا تخلو من إشکال، فالاحتیاط متعین.

ثمّ إنه لا یخفی أن استقلال التأثیر لا تختص شرطیته بالأثر، بل کذلک فی التقدیر بالعدد والزمان؛ وذلک بعد أن عرفت إن التقدیر بالأمرین علامة علی الإنبات والشدّ، مضافاً إلی تعلیل التقدیر فی بقیة شرائطه أنه مع عدمها لا ینبت، فما فی ظاهر جملة من العبارات من اختصاص هذا الشرط بالأثر دون التقدیر لا یخفی ما فیه.

الشرط الثالث: اتحاد الفحل:

اتحاد الفحل بأن یکون تمام العدد من لبن فحل واحد، فقد ظهر اعتباره من موثّقة زیاد بن سوقة، مضافاً إلی أن ما دل علی شرطیة اتحاد الفحل فی نشر الحرمة بین المرتضعین لا یخلو عن دلالة من نمط دلالة

ص:107

الاقتضاء کما لا یخفی.

فرع:

قال السید الیزدی: (لو شک فی وقوع الرضاع أو فی حصول بعض شروطه من الکمیة أو الکیفیة بنی علی العدم. نعم یشکل فیما لو علم بوقوع الرضاع بشروطه ولم یعلم بوقوعه فی الحولین أو بعدهما وعلم تاریخ الرضاع وجهل تاریخ ولادة المرتضع، فحینئذ لا یترک الاحتیاط)(1).

لما هو مقتضی القاعدة من أصالة العدم بعد کون أصل الرضاع وشروطه عناوین وجودیة، مضافاً إلی ما فی معتبرة أبی یحیی الحناط، قال: «قلت لأبی عبدالله(علیه السلام): إن ابنی وابنة أخی فی حجری، فأردت أن أزوجها إیاه، فقال بعض أهلی: إنا قد أرضعناهما، فقال: کم؟ قلت: ما أدری، قال فأدارنی (فأرادنی) علی أن أوقت، قال: قلت: ما أدری قال: فقال: زوّجه»(2).

أما لو کان الشک فی انقضاء الحولین فمع کونهما مجهولی التاریخ أو الجهل بتاریخ الرضاع فلا یحرز موضوع الحرمة، وأما مع العلم بتاریخ الرضاع والجهل بانقضاء الحولین، فمقتضی بقاء استصحابهما إحراز الموضوع، لا سیما وأن الموضوع بنحو الترکیب للظرفیة، فالاحتیاط متعین کما أفاد فی المتن.

ص:108


1- (1) العروة الوثقی، کتاب النکاح، شروط الرضاع، مسألة 6.
2- (2) وسائل الشیعة، أبواب ما یحرم بالرضاع، باب 11 ح1.
فائدتان:
الفائدة الأولی: فی الشهادة والإقرار فی الموضوعات المختلفة:

حکی فی الحدائق الاتفاق علی لزوم التفصیل، وهو مطّرد عندهم فی الأبواب فی الموضوعات التی یکثر فیها الاختلاف، فإن الشهادة المجملة لا تکون کاشفة عن تحقّق الموضوع لدی المشهود له بعد عدم علمه بوفاق الشاهد معه فی الشهود، نعم فیما علم الوفاق أو فیما کانت بعض الشروط متفقاً علیها لا حاجة إلی التفصیل.

و أما الإقرار فلا یشترط فیه التفصیل، لا لما قاله النراقی فی المستند من عموم نفوذ الإقرار، بل لأن الإقرار إنما یقر بها المقر بما هو وظیفة لنفسه، لا بما هی وظائف الآخرین، وهذا مطّرد فی الإقرار فی الموضوعات المختلف فیها.

الفائدة الثانیة: قبول شهادة النساء فی الرضاع:

نسب ذلک إلی المشهور، وعن ابنی إدریس وسعید وبعض کتب الشیخ والعلامة عدم قبول شهادتهن.

وحکی عن ابن أبی عقیل وسلّار قبول المرأة الواحدة، ولو من دون ضرورة، وعن المفید وسلّار أیضاً قبول المرأتین فی حال الضرورة، وإلّا فامرأة واحدة موثوقة مأمونة.

والأصل فی الشهادة هی البینة، وهی الرجلان العادلان أو ما یقوم مقامهما بالدلیل، وقد وردت عمومات فی أبواب الشهادات أن ما یختص بالنساء فیعتبر فیه شهادتهما. کصحیح محمد بن فضیل قال: «سألت أبا

ص:109

الحسن الرضا(علیه السلام)، قلت له: تجوز شهادة النساء فی نکاح أو طلاق أو رجم؟ قال: تجوز شهادة النساء فیما لا تستطیع الرجال أن ینظروا إلیه ولیس معهن رجل، وتجوز شهادتهن فی النکاح إذا کان معهن رجل»(1).

و فی موثّق ابن بکیر عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: «تجوز شهادة النساء فی العذرة وکل عیب لا یراه الرجل»(2) وفی معتبرة أبی بصیر قال: «سألته عن شهادة النساء، فقال: تجوز شهادة النساء وحدهن علی ما لا یستطیع الرجال النظر إلیه»(3) ومثلها روایة إبراهیم الحارثی(4) وموثّقة السکونی(5) ومصحح داود بن سرحان(6) ومعتبرة محمد بن سنان. وأما ما ورد من اعتبار قول المرأة وثبوت الشیء بنسبة شهادتها کما فی الوصیة والاستهلال لإرث الصبی أو الدین، فإن ذلک إنما ورد فی المال(7).

و أما ما فی روایة عبد الکریم بن أبی یعفور عن أبی جعفر(علیه السلام) قال: «تقبل شهادة المرأة والنسوة إذا کن مستورات من أهل البیوتات، معروفات بالستر والعفاف، مطیعات للأزواج تارکات للبذاء والتبرج إلی الرجال فی أندیتهم»(8)، فلیست هی فی صدد بیان مورد حجیة المرأة الواحدة، وإنما

ص:110


1- (1) وسائل الشیعة، ج27، ص352، باب 24، من أبواب الشهادات، ح7.
2- (2) المصدر، باب شهادات النساء، باب 24، ح9.
3- (3) المصدر، ح4.
4- (4) المصدر، ح5.
5- (5) المصدر، ح13.
6- (6) المصدر، ح12.
7- (7) المصدر، ح15.
8- (8) المصدر، باب 41، ح20.

هی فی صدد الشرائط المعتبرة فی المرأة التی تقبل شهادتها، لا فی صدد بیان موارد قبول شهادتها، وعلی ذلک یکون المقدار المعتبر هو أربعة نسوة، ثمّ إن فی صحیح الحلبی عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: «سألته عن امرأة تزعم أنها أرضعت المرأة والغلام، ثمّ تنکر بعد ذلک، فقال: تصدّق إذا أنکرت ذلک؟ قلت: فإنها قالت وادعت بعدُ بأنی قد أرضعتها؟ قال: لا تصدق ولا تنعم»(1).

وروایة صالح بن عبدالله الخثعمی، قال: «کتبت إلی أبی الحسن موسی(علیه السلام) أسأله عن أم ولد لی ذکرت أنها أرضعت لی جاریة، قال: لا تقبل قولها ولا تصدقها»(2)، هذا فی طریق قرب الإسناد، وفی طریق الکلینی تضمن وصف أم الولد بأنها صدوق، وفی الموثّق إلی عبدالله بن بکیر عن بعض أصحابنا عن أبی عبدالله(علیه السلام): «فی امرأة أرضعت غلاماً وجاریةً قال: یعلم ذلک غیرها؟ قال: لا، قال: فقال: لا تُصدّق إن لم یکن غیرها»(3) والروایة الأخیرة مفادها داعم لعدم قبول شهادة المرأة منفردة فی الرضاع، وأما روایة صالح بن عبدالله الخثعمی فالظاهر کون المرأة متهمة لکونها أم ولد له. وأما صحیح الحلبی فموردها الشهادة بعد الإنکار، فیسقط القول من رأس عن الاعتبار.

ص:111


1- (1) وسائل الشیعة، أبواب ما یحرم بالرضاع، باب 12، ح1.
2- (2) المصدر، ح4.
3- (3) المصدر، ح3.

ص:112

المبحث الثانی:فی أحکام الرضاع
اشارة

ذکر الفقهاء ومنهم السید الیزدی(1) صورا فی احکام الرضاع منها:

الصورة الأولی: حواشی الأصول من الرضاع بمنزلة ما یکون من النسب، وهی عبارة عن علاقة موازیة العلاقة الطولیة.

الصورة الثانیة: العلاقة الموازیة عرضاً لا تثبت بالرضاع کما فی أبی المرتضع مع عمات ابنه المرتضع من الرضاعة أو مع خئولته، بخلاف أخواته من الرضاعة وهم أولاد الفحل من الرضاعة والنسب وأولاد المرضعة، فإن هذه العلاقة ثبتت بالنص الخاص.

الصورة الثالثة: تحریم الرضاع ما یکون بعلقة النسب مباشرة.

الصورة الرابعة: تحریم الرضاع ما یترامی بالنسب طولًا فیکون الرضاع لحمة واصلة وحلقة رابطة کحلقة النسب، فیحرم ما ارتبط بها مباشرة کالصورة السابقة، وما ارتبط بها بالواسطة کهذه الصورة.

الصورة الخامسة: تحریم الرضاع لما یترامی من طبقات بالرضاع أیضاً طولًا کأبیه من الرضاع له أب من الرضاع.

الصورة السادسة: العناوین السبعة والعناوین المحرمة بالمصاهرة إذا

ص:113


1- (1) العروة الوثقی، کتاب النکاح، أحکام الرضاع.

حصلت بسبب الرضاع کان محرماً، أما العناوین غیر السبعة إذا لازمت العناوین السبعة فی النسب وحصلت تلک العناوین الأخری بالرضاع، فهل تسبب حصول العناوین السبعة الملازمة لها أم لا؟ مبنی علی الخلاف فی عموم منزلة النسب.

عموم قاعدة التنزیل السببی:
اشارة

یوجد فی المقام عدّة تقریبات لعموم قاعدة التنزیل السببی، وهی کالتالی:

التقریب الأول:

و یقع البحث فی جهات:

الجهة الأولی: معنی «ما» فی قوله یحرم من الرضاع ما یحرم من النسب، ما معنی «ما» الموصول فی قوله صلی الله علیه و آله : «یحرم من الرضاع ما یحرم من النسب»(1).

الجهة الثانیة: عموم الحرمة فیما لو کان النسب جزء السبب للحرمة.

الجهة الثالثة: عدم اختصاص التنزیل بالدائم.

الجهة الرابعة: عدم شمول الحرمة لغیر النکاح

الإشارة إلی ما ورد من الروایات فی هذا المجال:

فی مستهلّ البحث لا بدّ من الإشارة إلی ما ورد من الروایات فی هذا

ص:114


1- (1) الکافی، ج5، ص437، باب الرضاع، ح2.

المجال، فمن ذلک ما جاء فی صحیحة أیوب بن نوح قال: «کتب علی بن شعیب إلی أبی الحسن(علیه السلام): امرأة أرضعت بعض ولدی هل یجوز أن أتزوّج بعض ولدها؟ فکتب(علیه السلام): لا یجوز ذلک» لأن ولدها - ولد المرضعة - قد صار بمنزلة ولدک - أی أبو المرتضع -(1) وفی نسخة الوسائل

«لا یجوز ذلک لک لأن ولدها صارت بمنزلة ولدک» فهل المراد من تنزیل ولدها بمنزلة ولدک تنزیل الملازمات النسبیة للنسب، مع أن هذا التلازم فی باب النسب الحقیقی غیر متحقق دائماً فکیف بالرضاع؟ لأن إخوة الولد فی النسب لیس من الضروری أن یکونوا أولاداً للأب، وإن أرید التنزیل بلحاظ العناوین السببیة، حیث إن أخوات الولد ربائب لزوجته، وهذا التنزیل فی الواقع بلحاظ العناوین السببیة للنسب.

و کذا ما جاء فی صحیحة علی بن مهزیار قال: «سأل عیسی بن جعفر بن عیسی أبا جعفر الثانی(علیه السلام): إن امرأة أرضعت لی صبیاً فهل یحل لی أن أتزوّج ابنة زوجها؟ فقال لی: ما أجود ما سألت، من هاهنا یؤتی أن یقول الناس حرمت علیه امرأته من قبل لبن الفحل، هذا هو لبن الفحل لا غیر. فقلت له: الجاریة لیست ابنة المرأة التی أرضعت لی، هی ابنة غیرها؟ فقال: لو کن عشراً متفرقات ما حلّ لک شیء منهن وکنّ فی موضع بناتک»(2).

و التنزیل (کن فی موضع بناتک) لا یقتضیه النسب الحقیقی؛ لأن

ص:115


1- (1) الفقیه، ج3، ص476، باب الرضاع، ح8.
2- (2) الوسائل، ج20، ص392، باب ما یحرم من الرضاع، باب 6، ح10.

أخوات الابن لأمه ربائب فهن محرمات بالسبب لا بالنسب، وأما علی تقدیر بنوّة بنات الفحل من جهة أنهن بنات زوجات أبو ابنه من الرضاع، فهو لا یقتضی التحریم مع أنه تحریم سببی أیضاً.

والحاصل: إن التنزیل فی هاتین الصحیحتین لسانه التحریم بعناوین النسب، أی التنزیل بلحاظ الملازمات النسبیة للنسب وهو غیر متصور فی النسب الحقیقی کی یکون من تنزیل الرضاع منزلة النسب، فلا محالة یکون هذا التنزیل تنزیلًا نسبیاً تعبّدیاً، لا من باب تنزیل الرضاع منزلة النسب فی العناوین الملازمة. وقد ضبط فی کلمات بعض متأخری المتأخرین مذهب المشهور بأنه یحرم الفحل والمرضعة وأصولهما وحواشیهما علی المرتضع وفروعه دون أصوله وحواشیه، وذلک فی المحرمات السبع النسبیة.

فالمحور فی الرضاع أربعة: المرتضع والمرضعة وصاحب اللبن وأبی المرتضع. والبحث تارة فی حکم العلاقة بین الأربعة، وأخری فی الأصول لهم والفروع، وثالثة فی حواشی الأصول والفروع، ورابعة فی العناوین اللازمة لتلک العلائق، کما أن العلائق تارة نسبیة وأخری رضاعیة مترامیة.

الأقوال فی عموم القاعدة:

ممن ذهب إلی عموم المنزلة أی الشمول إلی إثبات العناوین الملازمة لعناوین النسب وتنزیل الرضاع بالتالی بلحاظ ذلک، ما نسب إلی صریح ابن حمزة وظاهر الشیخ فی النهایة والخلاف؛ بخلاف المبسوط وکذا نسب عموم المنزلة إلی السبزواری فی الکفایة والمیرداماد والشیخ الأنصاری، وتوقف العلامة الحلی فی ذلک.

ص:116

کما أن المشهور فی غیر العناوین الملازمة، یبنون علی عموم العلاقة فی الأصول والفروع أعم من کونها نسبیة أم رضاعیة.

أما الطبرسی فقد ذهب إلی عدم اشتراط وحدة الفحل فی التحریم للرضاع. وقد حکی عن العلامة فی القواعد والمحقق الثانی فی جامع المقاصد الاقتصار علی العلاقة النسبیة دون ترامی الرضاعیة، بدعوی عدم وحدة الفحل مع ترامی الرضاع.

وعن الخلاف أنه ذهب إلی تحریم إخوة المرتضع بالرضاع علی إخوته بالنسب، وفی المبسوط کما حکی عنه جواز نکاح أبی المرتضع فی أولاد الفحل، معللًا ذلک بأن إخوة الابن لا یحرمن إلّا من جهة کونهن بناته أو ربائبه لا من جهة اخوته لابنه، وشیء من هذه العناوین لا یوجد.

إلّا أن صاحب الحدائق خطأ نسبة القول إلی الشیخ فی المبسوط، وحکی أن الموجود هو جواز نکاح الفحل بأولاد أبی المرتضع، وهذا هو الذی وجدناه من عبارة المبسوط، فقال: «فإن أرضع المولود - من لبن الفحل والمرضعة - ثبتت حرمة بینهما وانتشرت منه إلیهما ومنهما إلیه، فأما منه إلیهما فإن التحریم تعلّق به وبنسله، ولده الذکور والإناث دون مَن هو فی طبقته من أخواته أو إخوته أو أعلی منه ومن آبائه وأمهاته فیحل لأخیه ولأبیه أن یتزوج لهذه المرضع وهذا الفحل».

هل یعم البحث بلحاظ الأحکام فی سائر الأبواب علی عموم طبیعة النسب أو بعض أصناف النسب أو مجرّد حرمة النکاح؟

هنا احتمالات ثلاثة، وبقیة الأحکام (نظیر الإرث والتسمیة فی

ص:117

النسب وکالحکم فی باب الزکاة والخمس المترتب علی الصنف الخاص من الطبیعة وکذلک فی باب الربا والنفقة وسائر الأحکام کالولایة، لا سیما علی مَن یذهب إلی أن «ما» هنا مصدریة ولیست موصولة).

ظاهر جملة من النصوص(1) الآتیة العموم لکلّ حرمة للأبواب الأخر.

نکتة فی المعنی المراد من عموم التنزیل وتطبیقه لإثبات العناوین الملازمة ومعنی ذلک أنه یثبت عناوین نسبیة ملازمة لا عناوین سببیة؛ لأنه یقوم مقام النسب ولا یقوم مقام السبب والمصاهرة، غایة الأمر أن العنوان الملازم السببی قد لا یکون هو بنفسه موضوع للتحریم وإنما السبب لنسب هو الموضوع للتحریم.

وهنا قد یتراءی أن الرضاع بناء علی عموم التنزیل یثبت التحریم، لکن لا لأجل أنه یقوم مقام السبب والمصاهرة، بل یقوم مقام النسب الذی قد أضیف إلیه السبب، أی أنه لا بدّ من فرض سبب موجود لنسب موجود یقوم الرضاع مقام النسب المضاف إلیه السبب، ففی موارد تطبیق عموم التنزیل فی العناوین الملازمة فیما إذا کان موضوع التحریم هو السبب، فلا بدّ أولًا من تعیین الأصل النسبی الذی یضاف إلیه سبب موجود وهو موضوع الحرمة، ثمّ یکون مفاد الرضاع بناءً علی عموم التنزیل یثبت النسب الذی هو عنوان ملازم، فیدرج العلقة الرضاعیة فی النسب الذی له سبب موجود، وعلی ضوء ذلک أی علی مبنی عموم

ص:118


1- (1) وسائل الشیعة، ج14، ص317 و ج16 ص13.

التنزیل، فما استشکل فیه السید الخوئی فی جملة من الصور(1)، من عدم جریان عموم التنزیل مندفع، ومن تلک الصور:

الصورة الأولی: عدم حرمة المرضعة لجده لأبیه، حیث قال: لا تحرم المرضعة علی أصول المرتضع ... وأما جده لأبیه فلأنها إنما تصیر بالرضاع أُماً لولد ابنه وأم ولد الابن إنما تحرم علی الشخص؛ لأنها زوجة ابنه والزوجیة لا تتحقق بالرضاع؛ لأن الرضاع یقوم مقام النسب، ولا یقوم مقام المصاهرة)(2).

ووجه الاندفاع: إن المرتضع له أُم نسبیة وهی متزوجة بأبیه وهی محرمة علی جده لأبیه؛ لأنها حلیلة ابنه، وإذا افترضنا أن الرضاع یثبت العناوین النسبیة اللازمة بناءً علی عموم التنزیل؛ فإن أُمّه الرضاعیة تکون بمنزلة أمه النسبیة والتی قد فرض أن الزوجیة متحققة بالإضافة إلیها، فالمورد مشمول لعموم التنزیل بناءً علی القول به.

الصورة الثانیة: عدم حرمة جدة المرتضع علی الفحل، قال السید الخوئی: «وأما جدته لأمه، فلأن جدة الولد لأمه إنما تحرم فی النسب لکونها أم الزوجة، والرضاع لا یقوم مقام المصاهرة»(3).

وجوابه: إن الصحیح أن یقال أن هذه الصورة لو أرید منها تحریم جدة المرتضع نسبیاً، فلا بدّ من فرض تنزیلها منزلة جدة المرتضع من

ص:119


1- (1) بحث فی الرضاع، ص55.
2- (2) رسالة فی الرضاع، ص55.
3- (3) رسالة فی الرضاع، ص57.

الرضاع، أی أم المرضعة؛ لأن أم المرضعة تحرم علی الفحل؛ لأنها أم زوجته، فاللازم من التحریم فی المقام هو تنزیل نسب المرتضع منزلة رضاعیة، وهذا لا یتکفله الدلیل؛ لأن التنزیل الذی هو فی الدلیل هو تنزیل الرضاع منزلة النسب لا العکس.

الصورة الثالثة: لا تحرم أخت المرضعة وخالتها وعمتها، فقد یقال بعدم حرمتها؛ لأن عموم التنزیل لا یقتضی تنزیل السبب، فلا تقتضی زوجیة المرضعة کی تکون أختها أخت الزوجة ولا خالة الزوجة ولا عمتها کذلک، لکن قد یقال إن المرضعة أم رضاعیة تنزل منزلة الأم النسبیة، والأم النسبیة زوجة فتحرم أخت المرضعة؛ لکونها أخت الزوجة.

إلّا أنه قد یخدش فی ذلک بأن تنزیل المرضعة منزلة الأم النسبیة لا یقتضی تنزیل أختها منزلة الأخت للأم النسبیة، فلا یکون من الجمع بین الأختین إلّا أن یلتزم بعموم التنزیل للعناوین المتلازمة ولو المترامیة.

الصورة الرابعة: حرمة أم المرضعة علی أبی المرتضع فالصحیح إنها تحرم علی أب المرتضع بناءً علی عموم التنزیل للعناوین الملازمة؛ وذلک لأن المرضعة تنزل منزلة الأم النسبیة وهی زوجة فتکون أمها کأم الأم النسبیة.

الصورة الخامسة: حرمة أم الفحل وأخته وخالته وعمته علی أبی المرتضع، فقیل إنهنّ یحرمن علی أبی المرتضع بناءً علی عموم التنزیل، وهذا فی غیر محله؛ لأن اللازم فی المقام تنزیل النسب منزلة الرضاع، أی تنزیل أبی المرتضع النسبی منزلة الفحل وهو الأب الرضاعی؛ لیأخذ الأب النسبی منزلة الأب الرضاعی، مع أن مفاد قاعدة الرضاع هو اکتساب وأخذ لحمة الرضاع أحکام لحمة النسب لا العکس؛ وذلک لأن الأصل فی التنزیل أو

ص:120

التشبیه هو أن یأخذ المنزل والمشبه أحکام المنزل علیه والمشبه به، وهو ما یقال عنه محط التنزیل أو وجه الشبه، فلا بدّ من فرض أحکام مقررة ثابتة للمنزل علیه والمشبه به یتوصل إلی إثباتها وتعدیتها إلی المنزل والمشبه بتوسط التنزیل والتشبیه ولا یکون العکس. ومن ثمّ لا یکتسب الأسد أوصاف زید وحالاته، فیقال إن الأسد یرکب السیارة ویلبس الثوب ونحوه.

الصورة السادسة: حرمة أم المرتضع علی أولاد الفحل بناءً علی عموم التنزیل إلّا أنه قد عرفت ضعف العموم.

الصورة السابعة: آباء المرتضع وإن علوا، سواء کانوا رضاعیین أم نسبیین هل یحرمون علی أولاد الفحل؟ استظهر صاحب الجواهر عموم التحریم.

الصورة الثامنة: حرمة المرضعة علی زوجها الفحل إذا أرضعت بلبنه أخاها أو أختها أو ابن أخیها أو ابن أختها أو ولد أختها أو عمها أو عمتها أو خالها أو خالتها أو ولد عمها أو ولد عمتها أو عم الزوج أو عمته أو خال الزوج أو خالته أو ولد أخ الزوج أو عم الزوج أو عمته أو خالته، وتفصیل ذلک فی الفروع التالیة:

الفرع الأوّل: إرضاعها أخیها أو أختها، فتکون هی بنت زوجها، فهی أُماً أو بنتاً أو ربیبة بناءً علی عموم المنزلة.

الفرع الثانی: إرضاع المرضعة ولد أخیها أو ولد أختها، فیکون الفحل أخیها.

الفرع الثالث: إرضاع المرضعة عمها أو عمتها أو خالها أو خالتها،

ص:121

فیکون الفحل جدّاً لها بناءً علی عموم المنزلة للعناوین النسبیة والسببیة.

الفرع الرابع: إرضاع المرضعة ولد عمها أو عمتها أو ولد خالها أو خالتها.

الفرع الخامس: إرضاعها لأخ زوجها أو أخته، فتکون أم لأخیه وأخته، فتکون منکوحةً لأبیه، أو أُماً له بناءً علی عموم المنزلة.

الفرع السادس: لو أرضعت ولد ولد الزوج أو ولد أخ الزوج، فتکون بمثابة بنته أو حلیلة ابنه أو زوجة أخیه.

و فی صورة ولد أخ الزوج، فإن هذه الصورة لا یتوهم فیها الحرمة ولو علی التعمیم، إذ أن أم ولد أخیها لا تحرم علی الفحل.

الفرع السابع: لو أرضعت المرضعة عم الزوج أو عمته أو خاله أو خالتها، فتکون أم وجدّة للفحل.

الفرع الثامن: لو أرضعت المرضعة ولد ولد زوجة الفحل الأخری، فتکون إما بنتاً له أو حلیلة ابنه.

و الضابطة فی الأشکال فی هذه الصورة متوقفة علی القول بالعموم، وهو أن العلاقة وإن کانت فی بعض حلقاتها طولیة، إلّا أن فی البعض الآخر عرضیة أو قهقریة فتحتاج لعموم القاعدة.

تحقیق فی عموم القاعدة:

إن ظاهر قوله یحرم من الرضاع ما یحرم من النسب - سواء جعلت «ما» موصولة أم مصدریة - هو ملاحظة المحرمات السبعة من النسب،

ص:122

وأما العناوین التی قد تحرم تارة ولا تحرم أخری فلا یصح أن یکون التنزیل بلحاظها، لا سیما وأن سبب التحریم حینئذ لیس هو النسب وإنما هو المصاهرة، فإن مفاد هذا اللسان لیس تنزیل الرضاع منزلة النسب مطلقاً، وإنما هو تنزیل علی ما یحرم بالنسب، أی فی الموارد التی یکون النسب موجباً للحرمة، ومن المعلوم أن النسب لا یوجب الحرمة إلّا للعناوین السبعة، أما العناوین النسبیة الأخری فهی لا توجب الحرمة من حیث هی هی، بل قد تتفق وتقارن العناوین السبعة وقد تنفک عنها، فتقارن عناوین موجبة للحرمة، إلّا أنها لیست عناوین نسبیة، بل عناوین محرمة بالمصاهرة.

التقریب الثانی:

هذا کلّه لو أرید تنزیل الرضاع نفسه منزلة النسب، أما لو أرید جعل أولاد المرضعة وأولاد الفحل أولاداً لأبی المرتضع ابتداءً، فیقتضی ذلک أن ما ترامی من أصول المرتضع وحواشیه حرام علی الفحل والمرضعة أیضاً، کما أن أبا المرتضع یحرم علیه ما یحرم علی الفحل، ولکن هذا کلّه بناء علی جعل العلقة بین أبی المرتضع وأولاد الفحل والمرضعة من غیر ناحیة سببیة الرضاع، وإلّا فاللازم انطلاق علقة أبی المرتضع من علقة المرتضع مع الفحل والمرضعة، التی هی علقة رضاعیة.

و قد استدل الشیخ الطوسی بالصحیحتین، حیث نزلتا أولاد الفحل وبنات المرضعة بمنزلة ولده وبناته علی التحریم فی مسألة نکاح أولاد أبی المرتضع ممن هم أخوة المرتضع فی أولاد الفحل والمرضعة، حیث إن لازم کون أولاد الفحل والمرضعة أولاداً لأبی المرتضع هو کونهم اخواناً لولده، أی کون أولاد الفحل والمرضعة إخواناً لإخوة المرتضع من أبیه النسبی.

ص:123

وهذا التقریب الذی ذکره الشیخ وإن لم یرد علیه إشکال ابن إدریس، حیث قال: «إن أخت الأخ لا تحرم علی الأخ فی النسب مطلقاً إذا لم تکن أختاً لأم أو لأب، فکیف بأخت الأخ من الرضاع»، ووجه اندفاع اشکال ابن إدریس علی الشیخ، إن الشیخ لم یستدل بمطلق الأخوة بین أخت الأخ والأخ الآخر وإنما استدل من جهة أن أولاد الفحل والمرضعة أولاداً لأبی المرتضع بالرضاع، فیحرم ولده بالنسب علی ولده بالرضاع؛ لکون الأخوة حینئذ من الأب.

إلّا أن الذی یرد علی تقریب الشیخ هو أنه مبنی علی اعتبار العلاقة بین أبی المرتضع وأولاد الفحل والمرضعة ابتداءً من غیر توسیط المرتضع ورضاعه، فحینئذ یصح ترامی الدلالة الالتزامیة وتلازم اعتبار النسب فی مورد آخر بالتلازم النسبی، أی بعد اعتبار العلقة بین أبی المرتضع وأولاد الفحل، والمرضعة تعتبر علاقة نسبیة أخری بین أولاد أبی المرتضع وأولاد الفحل وهی الأخوة النسبیة.

ویصح ما یقال: إن عموم القاعدة فی التلازم النسبی للنسب الملازم فیما یکون من العناوین السبعة أولی من عموم القاعدة للملازم النسبی، الذی تکون حرمته من جهة المصاهرة، أی من غیر السبعة؛ لأن عموم القاعدة للأول یتحفظ علی سببیة النسب للتحریم بخلاف الثانی، غایة الأمر یکون التلازم النسبی لیس توالداً طولیاً وإنما هو تلازم عرضی، فمن ثمّ تکون دلالة لسان القاعدة علیه من باب الدلالة الالتزامیة بین الأمرین العرضیین فی النسب، ومن ثَم قیل إن دلالة القاعدة علیه بالدلالة الالتزامیة، بخلاف ما یکون فی النسب الذی هو فی طول النسب الذی

ص:124

مفاده مطابقی، فإن تقریره هو بمقتضی نفس المفاد المطابقی لا بالدلالة الالتزامیة.

وعلی أیة تقدیر فکلام الشیخ مبنی علی اعتبار العلقة بین أبی المرتضع وأولاد الفحل والمرضعة، بجعل مبتدأ غیر متفرع علی علقة المرتضع بالرضاع مع الفحل والمرضعة. وقد مرّ أن ظاهر باب الرضاع وأحکامه مبتن علی العلقة الرضاعیة الحاصلة أولًا بین المرتضع والفحل والمرضعة، ومن ثَم کان اعتبار العلقة بین أبی المرتضع وأولاد الفحل والمرضعة هی فی طول علقة المرتضع مع الفحل والمرضعة.

وحیث إنها لیس فی طولها حقیقة، بل هی فی عرضها، فلا محالة تکون تعبدیة یقتصر علیها فی ذلک المورد.

وقد یقال: ما المانع من الالتزام بعموم القاعدة لکلّ من العناوین النسبیة السبعة، سواء کانت فی طول علقة المرتضع والفحل والمرضعة التی هی العلقة الأصلیة، أم کانت فی عرضها، کما یلتزم بإطلاق القاعدة لموارد العناوین السبعة من النسب ولموارد تحریم المصاهرة؛ لأن النسب فیها جزء السبب، فسواء کان النسب تمام الموضوع للتحریم - کما فی العناوین السبعة - أو کان جزء السبب - کما فی العناوین المحرمة بالمصاهرة - کما هو مفاد صحیح أبی عبیدة قال: «سمعت أبا عبدالله(علیه السلام) یقول: لا تنکح المرأة علی عمتها ولا علی خالتها ولا علی أختها من الرضاع»(1) ویؤید ذلک ما ورد

ص:125


1- (1) وسائل الشیعة، أبواب ما یحرم بالرضاع، باب 13، ح1.

فی النصوص الصحیحة من تحریم بیع المرضعة المرتضع المملوک»(1).

نعم لیس مقتضی العموم اقتضائه لإیجاد مصاهرة غیر حاصلة، کما فی تحریم الفحل جدّة المرتضع النسبیة، فما اشتهر من التعبیر «إن الرضاع یحرّم ما یحرم بالنسب ولا یحرم ما یحرم بالمصاهرة» لا یستقیم، فإن فی موارد تحریم المصاهرة، هو تحریم بالنسب أیضاً لأخذ العلقة النسبیة فی العناوین المحرمة بالمصاهرة، وقد التزموا بتحریم الجمع بین الأختین من الرضاع کما دل علیه النص السابق وکذلک بقیة العناوین المحرمة من المصاهرة، إذا کان النسب الذی فی تلک العناوین حصل بالرضاعة - کما دل علیه النص السابق - ویدل علیه إطلاق ما یحرم من النسب فی القاعدة الشامل لما لو کان النسب تمام الموضوع أو جزء الموضوع. والمقابلة بین المحرم بالمصاهرة والمحرم بالنسب من اصطلاح الفقهاء، وقد ورد فی بعض الروایات وهو بلحاظ المقابلة بین الموارد التی تکون فیها المصاهرة دخل فی التحریم بضمیمة النسب، مع موارد تمامیة سببیة النسب للتحریم. وما ذکروه من أمثلة عدم تحریم الرضاع لما یحرم بالمصاهرة مرادهم منها أن الرضاع لا ینزل منزلة النکاح فی حالة عدم وقوع النکاح لا موارد ما لو وقع النکاح، فإن الرضاع حینئذ ینزل منزلة النسب المأخوذ فی موضوع التحریم بالمصاهرة.

وقد یشکل علی التلازم العرضی بالنص الوارد فی جواز تزویج أخت الأخ من الرضاع، کما فی معتبرة یونس بن یعقوب قال: «سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن امرأة أرضعتنی وأرضعت صبیاً معی ولذلک الصبی أخ

ص:126


1- (1) المصدر، أبواب العتق، باب 8، وأبواب بیع الحیوان، باب 4.

من أبیه وأمه، فیحل لی أن أتزوّج ابنته؟ قال: لا بأس»(1).

لکن مورد الروایة لیس بالتلازم العرضی، وذلک لأن أولاد أبی المرتضع إخوتهم لأولاد الفحل ولو بالرضاعة هی فی المرتبة الطولیة؛ لأن الأخوة فرع أبوة أبی المرتضع لأولاد الفحل، والمفروض أن فی موارد النسب الطولی یلتزمون بعموم القاعدة.

إلّا أن هذا الإشکال مبنی علی أن هذه العلقة بین أبی المرتضع وأولاد الفحل هی علقة مجعولة ابتداءً، وأما بناءً علی أنها مجعولة فی طول العلقة بین المرتضع والفحل، فلا محالة تکون هذه العلقة بین أبی المرتضع وأولاد الفحل علقة تعبدیة یقتصر علیها.

نعم احتمل المحقق الکرکی وغیره من معنی التعلیل (کن فی موضع بناتک) (إن اخوته صاروا بمنزلة أولادک) (هن - أی بنات الفحل من آخر لزوجته - بمنزلة بنات أبی المرتضع) إنه بمعنی کون الأولاد من الطرفین هم من أب واحد، فیحرم علی کلّ من أبی المرتضع والفحل علی أولاد الآخر کما یحرم بعضهم علی بعض؛ لحصول الأخوة.

وهذا المعنی وإن کان محتملًا إرادته من العبارة، إلّا أن استفادته یحتاج إلی قرینة بخلاف ما إذا جعل التنزیل مقتصراً علی أبی المرتضع فقط. نعم مرّ أن التعلیل للحرمة یدل علی العمومیة فی الجملة والسعة أکثر من الحکم المعلل، وقد یعضد هذا التقریب بأن رضاع المرتضع من لبن الفحل یجعل أولاد الفحل إخوة له لأبیه، وإذا کانوا من المرضعة أیضاً فهم إخوته لأبیه

ص:127


1- (1) وسائل الشیعة، أبواب ما یحرم: بالنسب: ب 6، ح 3.

وأمه - کما قرر ذلک الشیخ الطوسی - وعلی ذلک تکون النسبة بین أبی المرتضع وأولاد الفحل؛ لأن إخوته إخوة ابنه لأبیه، وأخوه الابن لأبیهم هم أبناء، وهذا من التلازم العرضی أو التلازم فی الطولیة المعکوسة.

کما أن أولاد المرضعة إخوة لابنه من الأم.

التقریب الثالث:

أن یقال فی أن المراد فی لفظ القاعدة من کلمة (من) بمعنی (فی) أو أن تکون بیانیة لا نشویة بمعنی باء السببیة الذی هو، أحد الاحتمالات المتقدّمة، فعلی احتمال الظرفیة أو البیانیة تکون (ما) موصولة ویراد منها الإفراد، فکل مورد حرم فی النسب ولو بالمصاهرة، فإنه یحرم فی الرضاع، وهذا یقتضی تعمیم لما یحرم بالمصاهرة فی النسب.

وهذا التقریب یقتضی أن تحریم أولاد الفحل وأولاد المرضعة علی أبی المرتضع هو بمقتضی عموم القاعدة؛ لأنهم إخوة ولده وهم یحرمون فی النسب، أما بالنسب فیکون النصان الواردان فی أبی المرتضع فی تحریم نکاح أبی المرتضع لأولاد الفحل والمرضعة علی القاعدة، وعلی ذلک فیحرم أولاد المرتضع علی الفحل والمرضعة بنفس التقریب، کما یقتضی تحریم جدودة المرتضع علی المرضعة والفحل أیضاً. کما یقتضی تحریم جدودة أولاد الفحل والمرضعة علی أبی المرتضع، وبالتالی فیتعین عموم المنزلة لغیرها، الذی التزم به غیر المشهور، ولکن یضعف هذا التقریب أن لفظ الحدیث النبوی المروی عنهم: «یحرم من الرضاع ما یحرم من النسب» ولفظة (من) الأولی ظاهرة بالانسباق فی النشویة ولا معنی لاحتمال البیانیة

ص:128

فیها أو احتمال الظرفیة، فی قبال النشویة وهو یقوی انسباق النشویة فی (من) الثانیة.

و أما تفسیر الروایتین - صحیحة علی بن مهزیار وأیوب بن نوح، فقد یقال: إن التعبیر فیها (بمنزلة) و(فی موضع) هو فی التنزیل بلحاظ التحریم بالمصاهرة؛ لأن أخوات ابنه إما یحرمن بالنسب علیه أو بالمصاهرة؛ لأنهن ربائب زوجته، فتکون هاتان الصحیحتان تفیدان عموم للقاعدة لتحریم بالمصاهرة؛ إذ لا حرمة للنسب فی المقام، إذ أخت الابن لیس من العناوین السبعة النسبیة المحرمة، فیجعل مفادها حینئذ شاهدة علی أن المراد من لفظ (من) فی لسان القاعدة المنصوصة هو بالمعنی الظرفی، لا سیما وأن لسان هاتین الصحیحتین لیس مجرّد التحریم، بل التعلیل بالتنزیل.

التقریب الرابع:

صحیح علی بن مهزیار ما عن ابن إدریس والعلامة فی المختلف والشهید فی نکت الاعتقاد، من کون محط السؤال فی صحیح بن مهزیار(1) هو عن الفحل لا عن أبی المرتضع، فیکون تفسیر الروایة کالتالی: (إن امرأة) أی: زوجته (أرضعت لی صبیاً من غیره) والتعبیر ب(لی) باعتبار أن اللبن له، وقول السائل فهل یحل لی أن أتزوّج ابنة زوجها؟- أی ابنة أبی المرتضع الذی کان زوجاً لزوجته سابقاً، ویحمل قوله(علیه السلام): حرّمت علیه امرأته (بتشدید الراء فی الفعل) أی: إن امرأته سببت التحریم علیه بسبب لبن الرجل الذی هو الفحل، حیث جعلت المرتضع ابناً له، وقول السائل

ص:129


1- (1) الکافی، ج5، ص442، وسائل الشیعة، ج2، ص392 ط آل البیت.

(الجاریة لیست ابنة المرأة التی أرضعت لی هی ابنة غیرها) أی: ابنة أبی المرتضع من غیر المرضعة التی هی زوجته سابقاً، وجوابه(علیه السلام): «لو کن عشراً متفرقات، ما حل لک شیء منهن وکن فی موضع بناتک» أی: بنات أبی المرتضع النسبیات لو کن عشراً «من نساء متفرقات»» أی: بنات أبی المرتضع لو کن عشراً من نساء متفرقات ما حل لک - أی للفحل - شیء منهن وکن - أی بنات المرتضع وأخوات المرتضع من أبیه - فی موضع بناتک: أی الفحل. وهذا التأویل للروایة خلاف الظاهر جداً أو تکلف محوج کما لا یخفی علی الناظر.

وقد یقرب أیضاً بأن الروایة وإن کانت فی مورد التحریم علی أبی المرتضع فی أولاد الفحل، إلّا أنه یتعدی إلی تحریم الفحل علی أولاد أبی المرتضع وبالتالی علی أمهات المرتضع، أی أم أم الولد من الرضاع بجعل الحال (من الرضاع) حالًا للولد، وهذا التعدی لا یتم إلّا بتقریب أن یکون الرضاع نسباً حقیقیاً یترامی منه وتتلازم معه إضافات نسبیة أخری، لکن تقدّم أن ذلک لا یستلزم اعتبار علقة النسب أیضاً بین أبی المرتضع وأولاد الفحل وأولاد المرضعة، بل غایة الأمر یکنّ ربائب له.

التقریب الخامس:

و هی الروایات الواردة فی حرمة الزواج بأخت الأخ من الرضاع، أی أخت الأخ الرضاعی من النسب وبنتها کموثّق إسحاق بن عمار عن أبی عبدالله(علیه السلام) «فی رجل تزوج أخت أخیه من الرضاع، قال ما أحب أن

ص:130

أتزوّج أخت أخی من الرضاع»(1) وموثّق یونس بن یعقوب قال: «سألت أبا عبدالله عن امرأة أرضعتنی وأرضعت صبیاً معی ولذلک الصبی أخ من أبیه وأمه، فیحل لی أن أتزوّج ابنته؟ قال: لا بأس»(2) ولا یعارضها معتبرة أبی جریر القمی قال: «سألت أبا الحسن(علیه السلام) أزوج أخی من أمی أختی من أبی؟ فقال أبو الحسن(علیه السلام): زوج إیاها إیاه أو زوجه إیاه إیاها»(3)؛ لأنها واردة فی الأخ من الأب والأخت من الأم، فلا صلة نسب بینهما بخلاف الروایتین السابقتین، فإن موردهما الأخ من الرضاعة وهو أخ من أب رضاعی واحد بمنزلة الأخ من الأب النسبی، فمورد الصلة بینهما الأبوة فی تنزیل الرضاع، لأن إرضاع المرتضع من لبن الفحل یجعله أب من الرضاع ورضاع المرتضع من المرضعة یجعلها أُماً من الرضاع وأولادهما یکونوا بمنزلة الأخوة من الأب الرضاعی أو الأخوة من الأم من الرضاع.

وعلی ذلک فإخوة المرتضع من الأم النسبیة یحرمن علی أولاد المرضعة؛ لاتحاد الصلة وهی الأم بعد تنزیل الأم الرضاعیة منزلة الأم النسبیة، ومن ثمّ ینزل الفحل منزلة أبی المرتضع؛ وتکون بنات الفحل فی موضع بنات أبی المرتضع لتنزیلهما بمنزلة أب واحد کما فی صحیح علی بن مهزیار، وبذلک یتم دعم التقریبات السابقة لعموم التنزیل فی قاعدة الرضاع.

ص:131


1- (1) وسائل الشیعة، أبواب ما یحرم بالرضاع، باب 6، ح2.
2- (2) وسائل، أبواب ما یحرم بالنسب، ب3/6.
3- (3) الباب نفسه 6، ح1.
المختار فی المسألة:

إنه من الضروری حمل مفاد هذه الروایات علی الکراهیة؛ لنص القرآن الکریم بتحلیل بنات العم وبنات العمة لعمة الرسول صلی الله علیه و آله ، وکذلک تزویجه بزینب بنت جحش وکانت بنت أمیمة بنت عبد المطلب، مع أن النبی صلی الله علیه و آله أخ لحمزة(علیه السلام) من الرضاع، ففی صحیح الحلبی عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: «قال أمیر المؤمنین(علیه السلام): فی ابنة الأخ من الرضاع لا آمر به أحداً ولا أنهی عنه وإنا أنهی

عنه نفسی وولدی، فقال: عرض علی رسول الله صلی الله علیه و آله ابنة حمزة فأبی رسول الله صلی الله علیه و آله وقال هی ابنة أخی من الرضاع»(1) ومثلها صحیحة أبی عبید(2) ومعتبرة أبان بن عثمان عمن حدثه(3) وزاد فی کشف اللثام للنقض علی عموم التزویج، بأن الربیبة تحرم علی الزوج ولا تحرم علی ابنه. مع أن وجه التحریم یضم منه تنزیل منزلة البنت، ومن ذلک یظهر أن التنزیل لیس مطلقاً فلیس الأب من الرضاع أبا نسبیاً بقول مطلق، بحیث یقتضی ثبوت المعانی والعناوین النسبیة اللازمة عرضاً، ومن ثمّ حرم أولاد المرضعة علی أبی المرتضع مع أنه لا تنزیل نسبی فی البین، کما مرّ بیان ذلک مفصلًا.

ولعل وجه الکراهة ما أشار إلیه صاحب الوسائل أنه دفعاً لتوهم

ص:132


1- (1) أبواب ما یحرم بالرضاع، باب 8، ح1.
2- (2) ح6.
3- (3) ح2.

العوام إباحة الأخت مطلقاً أو علی التقیة.

ومن ذلک یعلم أن التنزیل فی صحیح علی بن مهزیار وصحیح أیوب بن نوح السابقین تعبّدی خاص بأبی المرتضع، وأنه لو کان التنزیل فیها مطلقاً وبمقتضی قاعدة الرضاع لکان الأخ من الرضاع أخاً مطلقاً یستلزم ثبوت العناوین العرضیة الأخری الملازمة النسبیة، وقد عرفت انه یخالف النص الصریح فی الکتاب فی مورد رضاع النبی صلی الله علیه و آله ، فالعنوان الرضاعی ینزل منزلة العنوان النسبی بلحاظ العناوین المتولدة طولًا لا مطلقاً، فیما یکون بمقتضی لحمة رضاع المرتضع من الفحل والمرضعة.

وهذه الضابطة هی الطولیة إذا روعیت فی کلّ فرض وصورة مهما ترامت، أو تنوعت أطرافها، فإن الذی یزیل الاشتباه والالتباس فی مراعاة القاعدة هو ملاحظة الطولیة المتعاقبة دون العکس القهقری، ولا المعنی النسبی الملازم عرضاً، بحیث تکون کلّ خطوات الاعتبار طولًا انطلاقاً من لحمة رضاع المرتضع مع الفحل والمرضعة، عدا مسألة أبی المرتضع فی أولاد الفحل والمرضعة للنص.

ویعضد ما تقدّم من مقدار العموم فی القاعدة ما ذکره صاحب الجواهر وتابعه غیر واحد من أن مفاد الموضوع فی القاعدة العرضیة ویکون المحمول حینئذ فی القاعدة هو تحریم واعتبار تلک النسب الإضافیة کإضافات نسبیة، فلیست القاعدة فی صدد إنشاء تلک الإضافات الرضاعیة، بل هی متقررة بحسب العرف بما لها من تقرر عندهم.

وعلی ضوء ذلک فلا بدّ من وجود الإضافة بحسب العرف، ومن ثمّ تنزل عند الشارع منزلة إضافة النسب، ومن الواضح إن الإضافة الرضاعیة

ص:133

لیست علی العموم وإنما دائرتها بحسب ما ذهب إلیه المشهور، ومن ثمّ کان تنزیل أولاد الفحل والمرضعة بمنزلة أولاد أبی المرتضع تعبدیة محضة.

ص:134

المبحث الثالث: فروع
الفرع الأول:

قال الفقیة السید الأصفهانی: (إذا تحقّق الرضاع الجامع للشرائط صار الفحل والمرضعة أبا وأُماً للمرتضع وأصولهما أجداداً وجدات وفروعهما إخوة وأولاد إخوة له، ومن فی حاشیتهما وفی حاشیة أصولهما أعماماً أو عمات وأخوالًا أو خالات له. وصار هو - أعنی المرتضع - ابناً أو بنتاً لهما وفروعه أحفاداً لهما. وإذا تبین ذلک فکل عنوان نسبی محرم من العناوین السبعة المتقدّمة إذا تحقّق مثله فی الرضاع یکون محرماً، فالأم الرضاعیة کالأم النسبیة والبنت الرضاعیة کالبنت النسبیة وهکذا، فلو ارضعت امرأة من لبن فحل طفلاً حرمت المرضعة وأمها وأم الفحل عن المرتضع للأمومة والمرتضعة وبناتها وبنات المرتضع علی الفحل وعلی أبیه وأبی المرتضعة للبنتیة. وحرمت أخت الفحل وأخت المرضعة علی المرتضع؛ لکونهما عمة وخاله له. والمرتضعة علی أخی الفحل وأخی المرضعة؛ لکونها بنت أخ أو بنت أخت لهما. وحرمت بنات الفحل علی المرتضع والمرتضعة علی أبنائه نسبیین کانوا أم رضاعیین وکذا بنات المرضعة علی المرتضع والمرتضعة علی أبنائها إذا کانوا نسبیین للأخوّة، وأما أولاد المرضعة الرضاعیون ممن أرضعتهم بلبن فحل آخر غیر الفحل الذی ارتضع المرتضع بلبنه، لم یحرموا علی المرتضع لما مرَّ من اشتراط اتحاد الفحل فی نشر الحرمة بین المرتضعین).

ص:135

اقول: وتحقیق الحال:

إنه تقدّم بیان جملة ذلک فی شرح الحدیث النبوی المستفیض: «یحرم من الرضاع ما یحرم من النسب(1) ودلالته علی ذلک»، ویدل علی جملة من هذه التفاصیل موثّقة عمار الساباطی قال: «سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن غلام رضع من امرأة أ یحل أن یتزوج أختها لأبیها من الرضاع؟ فقال: لا، فقد رضعا جمیعاً من لبن فحل واحد من امرأة واحدة، قال: فیتزوج أختها لأمها من الرضاعة؟ قال: فقال: لا بأس بذلک، إن أختها التی لم ترضعه کان فحلها غیر فحل التی أرضعت الغلام، فاختلف الفحلان فلا بأس»(2) والموثّقة دالة علی حرمة أخت المرضعة علی المرتضع ولو کانت تلک الأخت أخت للمرضعة من الرضاع أیضاً، فضلًا عن النسب واستدل بهذه الموثّقة علی رد دعوی العلامة والکرکی وغیرهم ممن اشترط وحدة الفحل بین المرتضع وبین ما یترامی من الرضاع، وتبین الموثّقة أن اللازم فی وحدة شرطیة الفحل إنما هی بین مَن یراد تقریر الإضافة النسبیة بینهما من المرتضعین، ومَن ثمّ تترامی فیما إذا کان بین أحدهما علقة رضاعیة أخری بنحو طولی. ومثلها صحیحة الحلبی(3)، وصحیح عبدالله بن سنان قال: «سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن لبن الفحل قال: «هو ما أرضعت امرأتک من لبنک ولبن ولدک وُلد امرأة أخری فهو حرام»(4) وموردها هو الحرمة بین

ص:136


1- (1) وسیلة النجاة، ج2، ص370 مسألة 7.
2- (2) وسائل الشیعة، أبواب ما یحرم بالرضاع، باب 1.
3- (3) وسائل الشیعة، أبواب ما یحرم من الرضاع، با 6، ح2.
4- (4) المصدر، ح3.

الفحل والمرتضع والمرضعة وبین أبی الفحل النسبی والمرتضع أیضاً، وموثّقة سماعة قال: «سألته عن رجل کان له امرأتان ولدت کلّ واحدة منهما غلاماً، فانطلقت إحدی امرأتیه فأرضعت جاریة من عرض الناس أینبغی لابنه أن یتزوج بهذه الجاریة؟ قال: لا؛ لأنها أرضعت بلبن الشیخ (الفحل)»(1) وموردها الحرمة بین المرتضعة وأبناء الفحل، ومعتبرة ابن أبی نصر وموردها ما تقدّم(2)، وصحیحة الحلبی(3) وموردها الحرمة بین المرتضع وابنة الفحل، ومثلها صحیح مالک بن عطیة (4)، وصحیحة أبی نصر(5) وموردها حرمة المرتضعة علی المرتضع، وصحیحة الحلبی فی حرمة ابنة الأخ من الرضاع(6)، وفی روایة مسمع بن عبد الملک تحریم العمة من الرضاع أو الخالة من الرضاع(7)، وفی صحیح عبدالله بن سنان تحریم العم والخال من الرضاع(8).

إن المرتضع بالشروط المتقدّمة یصیر بالنسبة للمرضعة والفحل فی حکم الولد النسبی فی انتشار الحرمة منه إلیهما، ومنهما إلیه، فأما انتشار الحرمة منهما إلیه، فهی مقصورة علی المرتضع وفروعه؛ لأنه صار لهما ابناً

ص:137


1- (1) المصدر، ح4.
2- (2) المصدر، ح6.
3- (3) المصدر، ح7.
4- (4) المصدر، ح8.
5- (5) المصدر، ح13.
6- (6) المصدر، ح14.
7- (7) المصدر، ح1.
8- (8) المصدر، باب 8، ح4.

وأبناءه أبناء الابن، ولا یتعدی تحریم منهما إلی أصوله، وإلی مَن کان فی طبقته، بل هم فی حکم الأجانب مع المرضعة والفحل، وأما انتشار الحرمة منه إلیهما فهی تشمل أصولهما وفروعهما ومَن فی طبقتهما من النسب أو الرضاع فتصیر المرضعة أماً والفحل أبا وآباءهما وأبناءهما أجداداً وجدات، وأخواتهما وإخوانهما أخوالًا وخالات وأعماماً وعمات، وأولادهما إخوة وأولاد أولادهما أبناء الأخوة.

الفرع الثانی: نکاح الفحل فی أولاد أبی المرتضع:

قال السید الأصفهانی: «لا یجوز أن ینکح أبو المرتضع فی أولاد صاحب اللبن ولادةً ورضاعاً وکذا فی أولاد المرضعة نسباً لا رضاعاً، وأما أولاده الذین لم یرتضعوا من هذا اللبن فیجوز نکاحهم فی أولاد صاحب اللبن وفی أولاد المرضعة التی أرضعت أخاهم وإن کان الاحتیاط لا ینبغی ترکه»(1).

تحقیق الحال:

نسب إلی الشیخ الطوسی فی المبسوط وجماعة الجواز، لکن مرّ فی مقدمات البحث تخطئة هذه النسبة وإن کلامه فی جواز نکاح الفحل فی أولاد أبی المرتضع، وقد خالفه فی ذلک ابن إدریس والعلامة فی المختلف والشهید فی نکت الإرشاد، إذ حملوا صحیحة ابن مهزیار علی نکاح الفحل لا علی نکاح أبی المرتضع. ویدل علیه صحیح ابن نوح قال: «کتب علی بن شعیب إلی أبی الحسن(علیه السلام): امرأة أرضعت بعض ولدی هل یجوز لی أن

ص:138


1- (1) وسیلة النجاة، ج2 ص372 - مسألة 12.

أتزوّج بعض ولدها؟ فکتب(علیه السلام): لا یجوز ذلک لک؛ لأن ولدها صارت بمنزلة ولدک»(1).

وفی صحیح عبدالله بن جعفر قال: «کتبت إلی أبی محمد(علیه السلام): امرأة أرضعت ولد الرجل هل یحل لذلک الرجل أن یتزوج ابنة هذه المرضعة أم لا؟ فوقع: لا تحل له»(2) وأیضاً صحیحة علی بن مهزیار قال: «سأل عیسی بن جعفر بن عیسی أبا جعفر الثانی(علیه السلام): إن امرأة أرضعت لی صبیاً، فهل یحل لی أن أتزوّج ابنة زوجها؟ فقال لی: ما أجود ما سألت من هاهنا یؤتی أن یقول الناس، حرمت علیه امرأته من قبل لبن الفحل هذا هو لبن الفحل لا غیره. فقلت له: الجاریة لیست ابنة المرأة التی أرضعت لی هی ابنة غیرها؟ فقال: لو کن عشراً متفرقات ما أحل لک شیء منهن وکن فی موضع بناتک». وقد مرّ فی المقدمات أن الشیخ الطوسی فی النهایة والخلاف قد ذهب إلی استفادة حرمة أولاد الفحل وهو أولاد المرضعة علی أخوة وأخوات المرتضع من أب المرتضع بعد تنزیل أب المرتضع بمنزلة الأب لأولاد الفحل والمرضعة.

وقد تقدّم ضعفه، وأن هذا التنزیل تعبّدی لیس علی مقتضی القاعدة، وأن هذا التحریم لا یسری - کما فی الربائب - فإنه لا یسری إلی الابن. وأما التفریق فی الأولاد الرضاعین بین الفحل والمرضعة، فتوفر شرط اتحاد الفحل فی الأوّل دون الثانی.

ص:139


1- (1) وسائل الشیعة، أبواب ما یحرم بالرضاع باب 16.
2- (2) المصدر السابق نفسه.

الفرع الثالث: الرضاع المحرم کما یمنع من النکاح لو کان سابقاً یبطله لو حصل لاحقاً:

قال السید الأصفهانی: الرضاع المحرم کما یمنع من النکاح لو کان سابقاً یبطله لو حصل لاحقاً، فلو کانت له زوجة صغیرة فأرضعتها بنته أو أمه أو أخته أو بنت أخیه أو بنت أخته أو زوجة أخیه بلبنه رضاعاً کاملًا بطل نکاحها وحرمت علیه، لصیرورتها بالرضاع بنتاً أو أختاً أو بنت أخ أو بنت أخت له فحرمت علیه لاحقاً، کما کانت تحرم علیه سابقاً، وکذا لو کانت له زوجتان صغیرة وکبیرة، فأرضعت الکبیرة الصغیرة حرمت علیه الکبیرة؛ لأنها صارت أم زوجته وکذلک الصغیرة إن کان رضاعها من لبنه أو دخل بالکبیرة لکونها بنتاً له فی الأوّل وبنت زوجته المدخول بها فی الثانی)(1).

تحقیق الحال:

لم یحک الخلاف فی ذلک، ویدل علیه - مضافاً إلی اقتضاء عموم القاعدة ذلک، حیث إنه بالرضاع تتولد علقة النسب وهی علقة ثابتة بمنزلة لوازم الذات فتمانع شرائط صحة النکاح بقاءً مضافاً إلی النصوص الخاصة التی تقدّمت فی المسألة الثالثة من صحیح مسلم وعبدالله بن سنان والحلبی(2)، وفی حسنة علی بن مهزیار عن أبی جعفر(علیه السلام) قال: «قیل له إن رجلًا تزوج بجاریة صغیرة فأرضعتها امرأته، ثمّ أرضعتها امرأة له أخری، فقال ابن شبرمة:

ص:140


1- (1) وسیلة النجاة، ج2، ص372 مسألة 14.
2- (2) الوسائل، أبواب ما یحرم بالرضاع، باب 10.

حرمت علیه الجاریة وامرأتاه، فقال أبو جعفر(علیه السلام): أخطأ ابن شبرمة، تحرم علیه الجاریة وامرأته التی أرضعتها أولًا فأما الأخیرة فلم تحرم علیه کأنها أرضعت ابنته»(1)، والروایات مطلقة شاملة لما لو کانت الکبیرة غیر مدخول بها، وذلک لکون الفرض فیها إرضاع الصغیرة من لبنه، ومنه یظهر ما لو أرضعت الصغیرة من الکبیرة ولو کان مدخولًا بها بلبن زوج آخر بأن طلّق الکبیرة فتزوجت الآخر، والبحث لا یتوقف علی صدق المشتق علی ما انقضی کما ادعوا ذلک؛ لأن موضوع تحریم الربائب هو الزوجة واستعمال المشتق بلحاظ حال التلبس، ثمّ إن إطلاق حسنة علی بن مهزیار فی المرأة الأولی من دون تقییدها بکونها مدخولًا بها دال علی بطلان کلّ من الزوجتین لا خصوص الکبیرة فقط، مع أن زوجیة الصغیرة لو لم تبطل لأوجب حرمة الکبیرة الثانیة، والروایة مفادها عدم حرمة الثانیة، نعم حیث فرض فی الروایة حرمة الصغیرة فهی قرینة علی کون الکبیرة مدخول بها، فالروایة غیر مطلقة.

الفرع الرابع: لو کانت له زوجتان، زوجة کبیرة وزوجة صغیرة فأرضعت أحدهما الرضیعة:

قال بعض الأساطین: لو کانت له زوجتان، زوجة کبیرة وزوجة صغیرة فأرضعت أحدهما الرضیعة، حرمت علیه الکبیرة والصغیرة، ثمّ لو أرضعت الثانیة الصغیرة بعد ذلک فهل تحرم الکبیرة الثانیة أم لا؟ قولان، بل أشکل بعضهم فی حرمة الزوجة الکبیرة الأولی.

ص:141


1- (1) المصدر، باب 14، ح1.

ولو تزوج صغیرة، ثمّ طلقها فأرضعتها امرأة، فالأحوط إن لم یکن أظهر حرمة المرأة علیه).

التحقیق:

ذهب الشیخ فی النهایة وابن الجنید ومال المحقق فی الشرائع إلی عدم الحرمة، وکذا صاحب المدارک والمجلسی فی مرآة العقول، وحکی التحریم عن الشیخ فی المبسوط وابن إدریس والعلامة والنافع وأکثر المتأخرین والمسالک، واستشکل غیر واحد من أعلام العصر فی تحریم الزوجة الکبیرة.

و الکلام یقع فی کلّ من الثلاث.

أما الرضیعة: فتحرم إن کان قد دخل بالکبیرة الأولی مطلقاً،

أو کان الرضاع بلبنه؛ وذلک لأن بنت الزوجة تحرم ولو بمن کانت زوجة، فلا یشترط فی الربائب من النساء کون بنتیتها حال الزوجیة ولو للنصوص الدالة علی ذلک

کما سیأتی فی المصاهرة، أو کون الرضاع بلبنه فهی بنته.

ثمّ لو لم یدخل بالکبیرة ولم یکن الرضاع بلبنه فلا تحرم مؤبداً، ولکن یبطل نکاح زوجیتها؛ لعدم اجتماع الأم والبنت فی عقد الزوجیة معاً.

نعم لو بنی علی الممانعة من البنت للأم غیر المدخول بها لما بطل نکاح الصغیرة أیضاً. وقد ذکرنا تحریر الکلام فی التحریم بالمصاهرة فیما لو عقد

ص:142

بالأم والبنت معاً فی محلّه(1).

و أما الکبیرة الأولی:

فظاهر عبارة الفخر فی الإیضاح التسالم علی حرمة الکبیرة الأولی، فیقع الإشکال حینئذ فی التفرقة بین الأولی والثانیة؛ لأن انعدام الزوجیة للصغیرة فی حال رضاعها من الثانیة أیضاً مفروض من بعد تحقّق نصاب الرضاع مع الأولی، فلا تکون أم الزوجة بعد تحقّق البنتیة. إلا بأن یقال بعموم موضوع امهات نسائکم لأم مَن کانت زوجة، لا سیما وأنه قد وقع تحریم أمهات نسائکم فی سیاق رَبائِبُکُمُ مِنْ نِسائِکُمُ والموضوع فیه، ولو بقرینة الروایات الواردة هو بنت من کانت من نسائه وهو فی سیاق واحد مع أمهات نسائکم ویساعده الإطلاق العرفی فی النسب، فإنه یطلق علی أم مَن کانت زوجته أنها أم زوجته ولو بنی علی اختصاص المشتق بالمتلبس بالحال، فإن الاستعمال بلحاظ حال التلبس.

وما قد یقال: من أن الموضوع مأخوذ حدوثاً فلا حاجته لفرض بقاءه فلا ینافیه ما قررناه، فإن عنوان کونها أم باق وإن کان تقارنه مع التلبس بالزوجیة فی عنوان أم الزوجة أو أُمَّهاتُ نِسائِکُمْ هو فی فترة حدوث الزوجیة لا بعد انقضائها وأخذ الموضوع حدوثاً یعنی عدم إمکان انعدامه وتبدله عما هو علیه؛ لأن ما وقع حدوثاً لا ینقلب عما وقع علیه حدوثاً، فمن ثمّ الصدق الحدوثی باق وإطلاق العنوان إنما هو بلحاظه.

وهذا قرینة علی أن استعمال لفظ (نسائکم) هو فیمن کانت زوجة لا

ص:143


1- (1) سند العروة الوثقی، کتاب النکاح.

المتلبسة بالفعل، غایة الأمر یدعی أنه لا بدّ فی ظرف الحدوث من تقارن المبدأین الأمومة والزوجیة، وهو لا شاهد علیه بعد الالتفات إلی أن استعمال (نسائکم) یکفی فیه لحاظ حال التلبس ولو بعد الانقضاء، کما هو الحال فی ربائبکم من نسائکم غایة الأمر أن الأمومة فی النسب لما کانت لا یتصور فیها تجدد الحدوث بخلاف (البنتیة)، فإنه ینصرف بالتبادر للوهلة الأولی إلی التقارن، لکن بتنزیل الرضاع منزلة النسب فیقوم مقامه.

هذا، ولو بنی علی لزوم التقارن فیمکن إبداء الفرق فی المقام بین الکبیرة الأولی والثانیة، بأن یقال: إن الذی یعدم زوجیة الکبیرة هو تحریم أم الزوجة، والذی یزیل زوجیة الصغیرة هو تحریم بنت الزوجة والتحریم فی کلا الطرفین، حیث کان فی رتبة المحمول متأخر عن موضوع بنت الزوجة وأم الزوجة، ففی رتبة تحقّق البنتیة والأمومة لا تنعدم الزوجیة لکلتیهما وإنما تنعدم فی رتبة لاحقة وهذا المقدار من التحقق کافٍ فی الصدق.

نعم بلحاظ الارتکاز العرفی أو المتشرعی قد یدعی التضاد بین الجمع بین البنت والأم فی الزوجیة بلحاظ نفس عناوین الموضوعین، بغض النظر عن الحکم، بتقریب أن رافعیة کلّ من الحکمین للآخر شاهد علی التعاند بین ملاکی الحکمین، فالتنافی الملاکی منشأ للتوارد وعدم اجتماع الحکمین، وهو مؤدی التزامی للأدلة فیؤخذ به، ولازم ذلک انعدام الزوجیة من الطرفین عند تحقّق الأمومة والبنتیة. فادعی حینئذ کفایة الصدق العرفی إجمالًا ولو حال الرضاع قبل استکمال نصابه أو کفایة اتصال آن الانعدام السابق لتحقق عنوان الزوجیة، أی إنه فی آن تحقّق البنوة والأمومة وإن

ص:144

انعدم عنوان الزوجیة إلّا أنه فی الآن السابق علی ذلک الزوجیة متحققة. وهذان الوجهان تقریر لاستعمال المشتق بلحاظ حال التلبس من دون لزوم اتحاد زمان الإسناد مع زمان النسبة التی فی المشتق، أی أنه استعمل فیمن کانت زوجة.

واستدل أیضاً بروایة علی بن مهزیار عن أبی جعفر قال: «قیل له إن رجلًا تزوج بجاریة صغیرة فأرضعتها امرأته، ثمّ أرضعتها امرأة له أخری، فقال ابن شبرمة: حرمت علیه الجاریة وامرأتاه، فقال أبو جعفر(علیه السلام): أخطأ ابن شبرمة، تحرم علیه الجاریة وامرأته التی أرضعتها أولًا، فأما الأخیرة فلم تحرم علیه؛ لأنها أرضعت ابنته»(1) واستدل بالروایة علی تحریم الکبیرة الأولی وحلیة الثانیة.

وخدش بالاستدلال بها؛ لأن فی السند صالح ابن أبی حماد الذی ضعفه النجاشی وإن فی الروایة إرسال أو رفع؛ لأن الظاهر من أبی جعفر(علیه السلام) هو الباقر بقرینة التعرض لبن شبرمة.

وأجیب بأن روایة علی بن مهزیار قرینة علی أنه الجواد(علیه السلام)، وحکایة قول ابن شبرمة لا ینافی ذلک؛ لأنها حکایة عما سبق وأما صالح بن أبی حماد أبو الخیر بن سلمی الرازی فتضعیفه مستند إلی ابن الغضائری، وقد روی الکشی أن الفضل بن شاذان کان یرتضیه ویمدحه، فلا أقل من استحسان حاله، هذا مضافاً إلی أن للشیخ إسناداً صحیحاً إلی جمیع روایات علی بن مهزیار فیستعاض بتبدیل السند.

ص:145


1- (1) الوسائل، أبواب ما یحرم بالرضاع، باب 14 ح1.

وخدش فی الاستدلال بها أیضاً بأن جملة من الروایات الواردة فی رضاع الزوجة الصغیرة اقتصرت فی التحریم علی الصغیرة دون الکبیرة، مما یظهر منها أن الحرمة مقصورة علیها کصحیح محمد بن مسلم عن أبی جعفر(علیه السلام) قال: «لو أن رجلًا تزوج جاریة صغیرة فأرضعتها امرأته فسد النکاح»(1) وفی صحیح الحلبی وعبدالله بن سنان عن أبی عبدالله(علیه السلام) فی رجل تزوج جاریة صغیرة فأرضعتها امرأته وأم ولده قال: «تحرم علیه»(2).

وأجیب بأن الصحیحة الأولی لم یقید النکاح بالصغیر، بل أطلق، وإطلاقه شامل لکلتیهما، مع أنه قد یقال: إن تحریم الصغیرة مفروغ منه، لکونها بنته من الرضاع بعد انصراف اللبن إلی لبنه، فالبیان یلاحظ فیه الکبیرة ومنه یظهر الحال فی الصحیحة الثانیة.

نعم یقع الکلام فی مفاد التعلیل فی روایة علی بن مهزیار لعدم تحریم الثانیة، حیث قال(علیه السلام): «لم تحرم علیه کأنها أرضعت ابنته» هل المراد به الکنایة عن انتفاء زوجیة الصغیرة، فلا یصدق عنوان أم الزوجة علیها ولو بلحاظ حال الرضاع، کما استظهر ذلک مَن ذهب إلی الحلیة، أو أن المراد خصوصیة فی هذا الفرض، وهو کون الزوجة الصغیرة قد بانت زوجیتها بسبب صدق البنتیة، وهو عنوان من قبیل العنوان النسبی الممانع عن صدق واستعمال العنوان العارض وهو الزوجیة ولو بلحاظ حال التلبس، فالعلة علی ذلک لعدم تحریم الثانیة إنها أرضعت ابنته، وأم البنت لیست حرام،

ص:146


1- (1) وسائل الشیعة، أبواب ما یحرم بالرضاع، باب 10 ح1.
2- (2) المصدر، ح2.

وهذا بخلاف التعلیل بأن الصغیرة لیست بزوجة له.

الفرع الخامس: أحکام التحریم بسبب رضاع الزوجة الکبیرة للصغیرة:

قال بعض الفقهاء: بعد تحقّق الرضاع المحرم یبقی استحقاق الزوجة للمهر فی جمیع الصور مع الدخول ومع عدمه فالأظهر أن لها نصف المهر کما أن الأقوی ضمان المرضعة ما یغرمه الزوج من المهر.

الأقوال فی المسألة:

حکی فی المبسوط عن جماعة، فی الصغیرة أن لها نصف المهر، وعن التذکرة تقویة السقوط مطلقاً، وذکر فی المسالک وجهاً لعدم السقوط بأنه للأصل وأنه کالفرقة فی الطلاق، وأشکل علیه فی الجواهر بأنه قیاس وأن الطلاق إیقاع، وعلل فی الشرائع ثبوت نصف المهر بعدم الدخول وأنه لیس من قبل الزوجة، فیما لو لم یکن التحریم بفعلها بخلاف ما إذا کان بفعلها فیسقط.

وإن کان قد یشکل هذا التعلیل بأنه فی موارد العیوب إذا فسخ الزوج قبل الدخول لم یثبت المهر، کما یشکل علی تفرقة صاحب الجواهر بین الطلاق وما نحن فیه، بأن الطلاق وإن کان إیقاع إلّا أن أثره أیضاً فسخٌ أو انفساخ، وفی المقام یحصل هذا الأثر بسبب خارجی، وإن کان قد یفرق بین موارد الفسخ فی العیوب والمقام بأنه فی العیوب لم یستوف الزوج ما کان قد تعاقد علیه من سلامة المرأة، بخلاف المقام، واحتمل فی الحدائق السقوط؛ لأنه کالفسخ فی الردة، فإذا کان الارتداد من قبل الزوج لا یسقط المهر، فیثبت نصف المهر وقیل کلّه وإن کان من قبلها، فلا مهر لها قبل الدخول،

ص:147

ولو کان بعده فیثبت لها المهر.

وعلی أی تقدیر فبالنسبة إلی الصغیرة قد حکی الشهرة علی سقوط المهر لها، وقیل بثبوته لها مطلقاً، وقیل بالتفصیل بین ما إذا کان بفعلها فلا یثبت لها فیسقط، وبین ما إذا کان بفعل الکبیرة، فیثبت لها، وقیل إنه یثبت لهما نصف المهر مطلقاً نظیر الطلاق، وأما الکبیرة بل مطلق المرضعة أو بنت الزوجة أو غیرهن، فقیل بضمانها المهر للزوج مطلقاً وقیل بعدم الضمان مطلقاً، وقیل بالتفصیل بین ما إذا کان بفعلها أو بفعل الصغیرة، ونسب إلی المشهور الضمان مطلقاً، وظاهر المشهور ثبوت المهر للکبیرة مع الدخول وإلّا فلا، إذا کان بفعلها.

واستشکل کاشف اللثام فی ثبوت المهر لها وتبعه صاحب الجواهر؛ لأنها التی فوتت علیه بضعها، نظیر ما لو أنکرت زوجیّة الزوج أو رجوعه فی العدّة فتزوجت آخر، ثمّ صدّقت الأوّل وکان قد دخل بها، فإنها تغرم له مهر المثل. نعم فی الجواهر إنها تغرم مهر المثل علی القول بمالیة البضع.

تنقیح البحث:

ولتنقیح البحث فی المسألتین لا بدّ من التعرض إلی بعض النقاط:

النقطة الأولی: استشکل جماعة منهم صاحب الجواهر فی مالیة البضع وضمانه بنفی مالیته وأن ثبوت المهر فی النکاح لیس لکونه معاوضة مالیة، بل لکونه من أحکام النکاح التعبدیة وأنه لو کان البضع من الأموال لتحقق به الغنی واستطاعة الحج ولوجب فیه الخمس وغیر ذلک من لوازم المالیة عرفاً، وما یتملکه الزوج فی العقد هو ملک الانتفاع لا ملک المنفعة،

ص:148

فلا تقتضی المعاوضة مالیة البضع، کما یکون المال عوضاً لغیر المال کما فی الدیات وأروش الجنایات، ولذا لا یصح للزوج نقل هذا الملک للغیر کما لا یصح له الرجوع علی الزانی والمشتبه ولا علی الزوجة لو قتلت نفسها ولا علی القاتل، فلیس هو من منافع الحرّ المقابلة بالمال، فضلًا عن أن یکون مالًا بنفسه.

وفیه: إن مالیة الأشیاء علی أقسام وأنواع؛ فمنها ما یکون مالیته تکوینیة بمعنی أن منشأ الرغبة بذل المال لمنافع الشیء التکوینیة، ومنها ما تکون مالیته اعتباریة بسبب القانون نظیر الوثائق والمستندات، ومنها ما تکون مالیته بالتعاقد نظیر عمل الحر ومنافعه والإقدام علی جملة من العقود کالإقراض والإیهاب والإقدام علی البیع ونحوه، ومنها ما یکون له مالیة عند التلف خاصة کدیات النفس والأعضاء وغیرها من أنماط المالیة، وقد تحمل المالیة فی الدیات علی أنها من المال المقابل لإسقاط الحق کما فی دیة العمد.

ومن الواضح اختلاف هذه الأقسام فی أحکام المالیة، فما ذکر من الغنی والاستطاعة والخمس فهو من أحکام القسم الأوّل والثانی، وأما الرجوع علی الزانی والمشتبه، فإن الضمان فی الزنا متقرر علی الزانی للمرأة بالدخول إذا لم یکن برضًا منها، وکذا المشتبه؛ لقاعدة سببیة الدخول للفرج المحترم لضمان مهر المثل.

وأما ثبوته للزوج فیأتی تقریر معاوضیة النکاح.

وأما فی القاتل للمرأة، فالمفروض أنه یغرم الدیة کاملة ویرث منها الزوج.

ص:149

وأما معاوضیة النکاح فقد ذکرنا فی کتابنا سند العروة الوثقی فصل العقد(1)، إن الصحیح تقوّم عقد النکاح بماهیتین مندمجتین وهی کلّ من ماهیة القران بین الشخصین وماهیة معاوضة منفعة البضع بالمهر، ومن ثمّ یترتب آثار کلّ من الماهیتین، ومن ثمّ کان فی صیغة العقد دخول (باء) المعاوضة علی المهر. وفی مورد استعمال «علی» بمعنی الشرطیة أنه لا ینافی معنی المعاوضة؛ لأن فی المعاوضة مقابلة فی المشارطة، ومن ثمّ قد ورد أنه لا یصح الهبة فی النکاح لغیر رسول الله صلی الله علیه و آله ، وورد فی الروایات الصحاح: «لا یصلح هذا حتی یعوضها شیئاً یقدم إلیها قبل أن یدخل بها قلّ أو کثر»(2) کما ورد أیضاً فی النکاح المنقطع: «أنهن مستأجرات»(3) أی أن المهر عوض.

وعلی ضوء ذلک فلا تنتفی العوضیة، سواء قیل إن المهر عوض ملک المنفعة أو ملک الانتفاع، غایة الأمر أنه علی الأوّل تکون مالیة التملک للزوج من القسم الأوّل من أقسام المالیة المتقدّمة، وعلی الثانی یکون من القسم الثالث.

ویشهد لمالیة حق کلّ من الزوج والزوجة - مضافاً إلی ما تقدّم من عیوب التدلیس من رجوع الزوج علی مَن غرَّه، مع أن قاعدة الغرور من

القواعد الضمانیة فی غرامات الأموال والتأیید بتنصیف المهر - معتبرة

ص:150


1- (1) سند العروة الوثقی، کتاب النکاح، فصل عقد النکاح.
2- (2) وسائل الشیعة، أبواب عقد النکاح، باب 2.
3- (3) وسائل الشیعة، أبواب المتعة، باب 4، ح2.

عمر بن حنظلة عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: «سألته عن رجل قال لآخر، اخطب لی فلانة، فما فعلت من شیء مما قاولت من صداق أو ضمنت من شیء أو شرطت فذلک لی رضا وهو لازم لی ولم یشهد علی ذلک، فذهب فخطب له وبذل عنه الصداق وغیر ذلک مما طلبوه وسألوه، فلما رجع إلیه أنکر ذلک کله، قال: یغرم لها نصف الصداق عنه وذلک أنه هو الذی ضیّع حقّها، فلما لم یشهد لها علیه بذلک الذی قال له حل لها أن تتزوج ولا یحل للأول فیما بینه وبین الله عز وجل إلّا أن یطلقها؛ لأن الله تعالی یقول: فَإِمْساکٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِیحٌ بِإِحْسانٍ فإن لم یفعل فإنه مأثوم فیما بینه وبین الله عز وجل، وکان الحکم الظاهر حکم الإسلام وقد أباح الله عز وجل لها أن تتزوج»(1) وطریق الصدوق إلی داود بن حصین وإن اشتمل علی الحکم بن مسکین وهو وإن لم یوثق، إلّا أنه قد روی عنه أصحاب الإجماع ولم یغمز علیه بشیء، وقد وقع فی طریق عدّة من الکتب فی مشیخة الصدوق والشیخ.

وطریق الشیخ إلی داود بن حصین لا یتوقف فیه إلّا فی ذبیان بن حکیم، وهو وإن لم یوثق إلّا أنه لم یغمز علیه بشیء، وقد روی عنه الثقات أیضاً. وکل من الرجلین إمامی.

ونظیرها صحیحة أبی عبیدة عن أبی عبدالله(علیه السلام)، فی رجل أمر رجلًا أن یزوجه امرأة من أهل البصرة من بنی تمیم، فزوجه امرأة من أهل الکوفة من بنی تمیم، قال: «خالف أمره وعلی المأمور نصف الصداق لأهل المرأة

ص:151


1- (1) وسائل، أبواب الوکالة باب 4، ح1.

ولا عدّة علیها ولا میراث بینهما، فقال بعض من حضر: فإن أمره أن یزوجه امرأة ولم یُسمّ أرضاً ولا قبیلة، ثمّ جحد الآمر أن یکون أمره بذلک بعد ما زوجه، فقال: إن کان للمأمور بیّنة إنه کان أمره أن یزوجه کان الصداق علی الآمر، وإن لم یکن له بیّنة کان الصداق علی المأمور لأهل المرأة ولا میراث بینهما ولا عدّة علیها، ولها نصف الصداق إن کان فرض لها صداقاً» ورواه الصدوق وزاد: «و إن لم یکن سمّی لها صداقاً فلا شیء لها»(1). وقال صاحب الوسائل: «إن الشیخ رواها فی موضع آخر»(2)، وذکر الزیادة أیضاً.

ونظیرها روایة محمد بن مسلم عن أبی جعفر(علیه السلام): «أنه سأل عن رجل زوّجته أمه وهو غائب، قال: النکاح جائز، إن شاء المتزوج قبل وإن شاء ترک، فإن ترک المتزوج تزویجه فالمهر لازم لأمه»(3).

وذکر صاحب الوسائل(4) أنه قد حمله البعض علی دعوی الأم الوکالة.

وتقریب الدلالة فی هذه الروایات: إن الوکیل حیث أقرّ علی نفسه بالوکالة وبصحة العقد فهو ضامن للمهر، وحیث لم یتم إثبات الوکالة فیحکم فی الظاهر بعدم النکاح وهو بمنزلة الانفساخ القهری، فیتم التقریب حینئذ بأنه بانفساخ النکاح یثبت للمرأة نصف المهر المسمّی بمنزلة

ص:152


1- (1) وسائل، أبواب عقد النکاح، باب 26، ح1.
2- (2) وسائل الشیعة، ج20، ص303.
3- (3) المصدر ج2، ص281.
4- (4) المصدر والصفحة.

الطلاق، وقد عبر عن ذلک بحق المرأة، فللمرأة استحقاق فی مقابل بضعها ولو بالتعاقد بعقد النکاح، وما فی العیوب من عدم المهر لها مع عدم الدخول؛ فلأنه خلاف ما تعاقد علیه الزوج معها من الاشتراط والبناء علی السلامة، کما هو موضوع العیوب أو حکمة الفسخ. هذا فیما إذا کان العیب فیها أما إذا کان العیب فیه فهی التی أقدمت علی الفسخ.

نعم قد یقال: إن مقتضی الفسخ والانفساخ رجوع کلّ عوض لصاحبه، فبناءً علی أن المهر عوض البضع لا تستحق المرأة من المهر شیئاً الصغیرة أو الکبیرة مع عدم الدخول.

نعم لو کان المهر حکماً فی النکاح لا عوضاً لما أثّر الفسخ فیه شیئاً ولثبت للزوجة کاملًا، ولو مع عدم الدخول، وإنما تُنصّف بالطلاق أو الموت علی القول بالتعبّد.

وأما الروایات الثلاث فموردها بقاء النکاح، غایة الأمر حکم بالبینونة بالظاهر، فما ینسب للمشهور فی الصغیرة والکبیرة مع عدم الدخول من عدم ثبوت المهر تام.

وقد یقال: إن الفسخ لیس مقتضاه ردّ المهر بتمامه إلی الزوج، بل نصفه، کما هو الحال فی الطلاق، وکما التزموا به أیضاً فی ارتداد الزوج، وکذا فی موت أحدهما للنص(1) وفی بعضها کصحیح عبید بن زرارة إن لم یکن سمی لها مهراً فلا شیء لها، مما یدلل علی أن الفسخ لیس حکمه رد العوض کلّه، بل ثبوت نصف المهر وأما سقوطه فی العیوب فلأجل ما مرّ.

ص:153


1- (1) وسائل، أبواب عقد النکاح، باب 7، ح3.

وتتمّة الکلام فی مقتضی القاعدة بحثناه فی المهور(1). فعلی القول بغرامة الزوج لنصف المهر تغرم المرضعة له ذلک؛ لإتلافها علیه ذلک.

ثمّ إن مقدار ما تغرمه له هو مقدار ما یغرمه من المهر المسمّی نصفه أو کلّه بحسب الدخول وعدمه ولا تغرم له مهر المثل؛ وذلک لعدم إتلافها للبضع علیه لأن البضع بالفسخ خرج من ملکه ولم یتلف علیه وهو فی ملکه، خلافاً لما ذهب إلیه جماعة منهم صاحب الجواهر.

وبعبارة أخری إن العین فی المقام لم تتلف خارجاً وإنما أزیل سبب ملکه لها. فمقدار الخسارة التی توجهت له إنما هی بمقدار غرامته من المهر.

هذا تمام الکلام فی القادة والحمد لله رب العالمین.

ص:154


1- (1) سند العروة الوثقی، کتاب النکاح.

قاعدة:المرأة مصدقة فی قولها علی نفسها وشؤونها

اشارة

ص:155

ص:156

من قواعد باب النکاح:المرأة مصدقة فی قولها علی نفسها وشؤونها

اشارة

والکلام فی هذه القاعدة یقع فی عدة جهات:

الجهة الأولی: الأقوال فی القاعدة:

حکی(1) الاتفاق علی تصدیق قولها فی ما اذا ادعت کونها خلیة حتی إذا کانت متهمة، کما یظهر من کلماتهم فی أوائل کتاب نکاح المتعة ، حیث قالوا باستحباب السؤال عن حالها مع التهمة(2)، ولیست شرطاً فی الصحة، کما فی الشرائع(3) والجواهر(4) والحدائق(5)، نعم فی باب دعواها المحلل قید بعضهم(6) قبول قولها بما إذا کانت ثقة، کما فی الشرائع(7)، وقیّد آخر(8) بما إذا لم یکن لها معارض فی دعواها، کما لو أنکر من ادعت حصول

ص:157


1- (1) ریاض المسائل، ج11، ص316.
2- (2) المصدر والصفحة.
3- (3) شرائع الإسلام، ج2، ص248.
4- (4) جواهر الکلام، ج30، ص158.
5- (5) الحدائق الناضرة، ج24، ص115.
6- (6) ذهب المشهور، إلی تصدیق قولها مطلقاً، وذهب بعض الفقهاء استناداً إلی روایة حماد إلی اشتراط الوثاقة فی تصدیقها.
7- (7) شرائع الإسلام ج3 ص18.
8- (8) المحدث البحرانی فی الحدائق الناضرة کما نسبه إلیه صاحب الجواهر ج32 ص175.

التحلیل به، وفصل بعض محشی العروة الوثقی بین ما إذا لم یکن لها زوج فادعت طلاقها أو موته، وبین ما کان لها زوج؛ والوجه فی قبول قولها مضافاً إلی النصوص الآتیة عدّة أمور حمل مفاد النصوص علیها.

الجهة الثانیة: أدلة القاعدة:
الدلیل الأوّل:

أن قبول قولها من باب قبول ما لا یعلم الحال إلّا من قبله، أی فی موارد تعذر إقامة البینة کما علل بذلک فی بعض النصوص الآتیة، لکن فی شمول هذا الوجه لکلّ الصور تأمل واضح، کما فی ادعاء المحلل وانقضاء العدّة والموت والطلاق، وعلیه فیکون هذا الدلیل اخص من المدعی ولا تثبت به القاعدة علی نحو الموجبة الکلیة.

الدلیل الثانی: إنَّ قبول قولها من باب أنَّ من ادعی أمراً ممکناً بلا معارض یقبل قوله:

(1)

وهذا الوجه وإن کان تاماً فی الجملة، إلّا أنه أیضاً لا یشمل جمیع الصور فی قبول قولها، کما فی صورة إنکار من ادعت الزواج والمحلل به، وکما لو ادعت أنها خلیة وادعی آخر أنها زوجته، مع کونه ثقة أو مطلقاً، مع أن مقدار ما یثبت بهذا الوجه هو ما یختص بها من أحکام لا مطلقاً فیرد علیه ما ورد علی الدلیل الاول.

ص:158


1- (1) ذکره السید الطباطبائی فی ریاض المسائل ج12، ص274 کمؤید لهذهِ القاعدة، واستشهد له بکلمات الأصحاب المدعومة بالروایات، الدالة علی قبول من ادعی شیئاً لم یدعه غیره.
الدلیل الثالث: أن قبول قولها إنما هو صغری لکبری:

قاعدة (حمل فعل المسلم علی الصحة) (1) الثابتة فی محلها(2).

ولکن یرد علیه: أن ذلک إنما یکون فی الفعل الذی قد وقع لا فی دعوی الموضوع المأخوذ فی صحة فعل لم یقع بعد.

الدلیل الرابع: أنَّها مصدقة علی نفسها:

(3)

وهذا الوجه مطابق لقالب لفظ النصوص کما فی روایة میسر الاتیة (هی المصدقة علی نفسها) (4)، لکن سیأتی الکلام حول مقدار الإطلاق فیها.

الدلیل الخامس: ان عدم قبول قولها یوجب وقوعها فی الضرر والحرج المنفیین شرعا .

(5)

وهذا الوجه أیضاً من الاستدلال بالقاعدتین، قاعدة الضرر والحرج بالمعنی الثانی، أی النوعی الذی هو من قبیل حکمة الحکم - کما ذکرنا فی مقدمة الجزء الاول من هذا الکتاب وفی غیره - ومقدار دلالة الاقتضاء فیه لبیّة لا إطلاق فیها لکلّ الصور.

ص:159


1- (1) ریاض المسائل، ج11 ص316.
2- (2) راجع عناوین الأصول، ج2، ص744، حیث قال أنَّ هذا المضمون علیه الإجماع، بل صار من الضروریات.
3- (3) ریاض المسائل، ج11 ص316.
4- (4) وسائل الشیعة، ج21، ص30، أبواب المتعة، ب 10، ح1، وغیرها فی هذا المضمون، کما فی مستدرک الوسائل، ج14، ص458، أبواب المتعة، 149.
5- (5) قال صاحب الریاض مستدلاً علی القاعدة - مع أنَّ عدم القبول ربما أوجب العسر والحرج المنفیین آیة وروایة، راجع الریاض، ج12 ص275.
الدلیل السادس: هو النصوص الواردة فی جملة من الأبواب:

حیث استظهر الإطلاق فی جملة منها، کصحیحة میسرة، قلت لأبی عبد الله(علیه السلام): ( ألقی المرأة بالفلاة التی لیس فیها أحد، فأقول لها ألکِ زوج؟ فتقول لا، فأتزوّجها، قال: نعم هی المصدقة علی نفسها) (1).

وظاهر الروایة قاعدة عامة وهو حجیة قول المرأة فی شؤون نفسها مما لا یعلم نوعاً، إلّا من قبلها. لکن فی شمول إطلاقها لما إذا کان الفحص یسیراً تأمل، کما فی مورد المرأة التی یعرفها

ویعرف سابقة زواج لها ونحو ذلک مما لا یخفی حالها علیه بأدنی فحص؛ وذلک لأن موردها فی المرأة غیر المعروفة، وإن کان المورد لا یخصص الوارد.

وکذلک الموثّق إلی إسحاق بن عمار عن فضل مولی محمد بن راشد عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال: (قلت إنی تزوجت امرأة متعة فوقع فی نفسی أن لها زوجاً ففتشت عن ذلک فوجدت لها زوجاً، قال: ولِمَ فتشت؟)(2).

وموردها کما تقدّم فی الروایة السابقة، ومثلها روایة مهران بن محمد عن بعض أصحابنا وروایة محمد بن عبد الله الأشعری قال: ( قلت للرضا الرجل یتزوج بالمرأة فیقع فی قلبه أن لها زوجاً، فقال: وما علیه أرأیت لو سألها البینة کان یجد من یشهد أن لیس لها زوج؟)(3).

ص:160


1- (1) وسائل الشیعة، ج21، ص30، أبواب المتعة، باب 10، ح1، الکافی، ج5، ص462.
2- (2) المصدر، ص31، أبواب المتعة، ب10، ح3.
3- (3) المصدر، ص32، أبواب المتعة، باب 10، ح5.

واستظهر منها الشمول إلی المتهمة، لکنّه غیر ظاهر؛ لأن التعبیر ب- (فیقع فی قلبه) یلائم مجرّد الاحتمال والشک لا القرینة الحالیة المریبة، لاسیما وأن موردها أیضاً المرأة الغریبة لا المعروفة.

وصحیحة عمر بن حنظلة قال: (قلت لأبی عبدالله(علیه السلام): إنی تزوجت امرأة فسألت عنها فقیل فیها، فقال: وأنت لم سألت أیضاً؟ لیس علیکم التفتیش) (1).

وموردها أیضاً غیر المعروفة وغیر المتهمة، وصحیحة زرارة عن أبی جعفر(علیه السلام): قال:) العدّة والحیض للنساء إذا ادّعت صدقت) (2).

وهذه وإن اختصت بالحیض وانقضاء مدة العدّة، إلّا أنها داعمة للعموم المتقدّم فی صحیحة میسرة من أنها مصدقة علی نفسها.

وجملة أخری من الروایات قد یستظهر منها التقیید، کصحیح حمّاد عن أبی عبدالله(علیه السلام)

«فی رجل طلق امرأته ثلاثاً فبانت منه فأراد مراجعتها، فقال لها: إنی أرید مراجعتک فتزوجی زوجاً غیری، فقالت له: قد تزوجت زوجاً غیرک وحللت لک نفسی أیصدق قولها ویراجعها؟ وکیف یصنع؟ قال: إذا کانت المرأة ثقة صدّقت فی قولها»(3).

وحمل صاحب الجواهر التقیید بالثقة فیها علی الندبیة لعدم القائل بشرطیة الوثاقة فی تصدیق قولها فی تلک المسألة؛ إذ لا مدخلیة لوثاقة المدعی من حیث کونه ثقة فی تصدیقه وإلّا لاحتاج الموضوع إلی بینة ولم

ص:161


1- (1) المصدر، ج20، ص301، باب 25، من أبواب عقد النکاح، ح1.
2- (2) المصدر، ج2، ص358، باب 47، من أبواب الحیض، ح1، وکذا رواها فی ج22، ص222 ط. آل البیت.
3- (3) المصدر، ج22، ص134، باب 11 من أبواب أقاسم الطلاق، ح1.

یکتف بدون ذلک بل لأجل کونها امرأة مصدقة علی نفسها.

وموثّقة إسماعیل بن أبی زیاد - السکونی - عن جعفر عن أبیه فی:

«أن أمیر المؤمنین(علیه السلام) قال: فی امرأة ادّعت أنها حاضت فی شهر واحد ثلاث حیض، فقال: کلّفوا نسوة من بطانتها أن حیضها کان فی ما مضی علی ما ادعت فإن شهدت صدّقت وإلّا فهی کاذبة»(1).

ومن ثمّ قیّد صاحب الوسائل عنوان الباب بتصدیق المرأة فی العدّة والحیض إلّا أن تدعی خلاف عادات النساء، ومورد هذه الموثّقة وإن کان أمراً ممکناً إلّا أنه حیث کان خلاف العادة فیکون محل تهمة.

وصحیحة أبی مریم عن أبی جعفر(علیه السلام):

«أنه سُئل عن المتعة فقال: إن المتعة الیوم لیس کما کانت قبل الیوم إنهن کنّ یومئذ یؤمنّ والیوم لا یؤمنّ فاسألوا عنهن» (2).

ومضمون هذه الصحیحة أن اعتبار قولها فی غیر موارد التهمة النوعیة، ولکنّها حملت علی الاستحباب بقرینة ما فی مصحح میسر عن الصادق(علیه السلام)، ونظیرها روایة أبی سارة عنه(علیه السلام) فی ذیل قوله تعالی وَ الَّذِینَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ :

«فلا تضع فرجک حیث لا تأمن علی درهمک»(3).

الجهة الثالثة: المحصّل مما تقدّم فی موضوع القاعدة:

أولاً: من الجمع بین الطائفتین وإن لم یکن تقیید قول المرأة بالوثاقة، إلّا أنه یقید بعدم التهمة بحسب نوع القرائن والشواهد الحالیة النوعیة عند

ص:162


1- (1) وسائل، ج2، ص358، باب 47، من أبواب الحیض ح3.
2- (2) المصدر، ج21، ص23، باب 6، من أبواب المتعة ح1.
3- (3) ج21 ص24، باب 6، من أبواب المتعة، ح2.

العقلاء، مضافاً إلی أن مجمل الروایات المطلقة هی فی مورد المرأة غیر المعروفة والغریبة، فلا یشمل ما إذا کانت معروفة ومعروف زوجها والفحص عنها لا یکلّف أدنی مؤونة، الذی هو من قبیل الالتفات إلی الموضوع، وقد حرر فی بحث الفحص فی الشبهة الموضوعیة لزومه وعدم صحة التمسک بالأصول بدون الفحص.

ثانیاً: أن نفوذ قولها إنما یکون فی الأحکام التی تتعلق بها لا فیما کان علی غیرها مما یوجب سلب حق أو نحوه، کما لو ادعت أن المیت طلقها فی المرض وأنکر الوارث وزعم أن الطلاق فی الصحة ونحو ذلک، ومن ثم عبّر جملة من الأصحاب عن حجیة قولها بالوجوه الخمسة المتقدّمة، وهی وإن لم تکن منطبقة علی الکلیة الواردة فی الروایات أنها مصدقة علی نفسها إلّا أنها تبین أن حجیة قولها بلحاظ نفسها لا علی الغیر.

ثم إنه لو علم تفصیلًا بأن للمرأة زوج، وقد غاب غیبة منقطعة وادعت علمها بموته بقرائن أو أمارات، فالمدار حینئذ لیس علی قولها، وإنما علی السبب الکاشف الذی تدعیه، لما هو مقرر من أن الإمارة هی ذات السبب الإثباتی أو الثبوتی؛ فیکون المدار علی ذلک السبب إن کان إثباتیاً فعلی توفره لشرائط الحجیة وإن کان ثبوتیاً فعلی نفوذه وضعاً، وأما الوکیل عنها أو عن الزوج فجواز التوکیل تکلیفاً یدور مدار إحراز إباحة الفعل الذی هو مورد التوکیل، ویحصل بالاعتماد علی قولها کما فی الرجل الذی أراد تزویجها.

والحمد لله رب العالمین

ص:163

ص:164

قاعدة:حرمة تلذذ غیر الزوجین ببعضهما

اشارة

ص:165

ص:166

من قواعد باب النکاح:حرمة تلذذ غیر الزوجین ببعضهما

أدلة القاعدة:
الدلیل الأول: الآیات القرآنیة:

الآیة الأولی: قوله تعالی: وَ الَّذِینَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ * إِلاّ عَلی أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَکَتْ أَیْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَیْرُ مَلُومِینَ * فَمَنِ ابْتَغی وَراءَ ذلِکَ فَأُولئِکَ هُمُ العادُونَ 1.

والمحصل من مفاد هذه الآیة لیس إرادة المنع عن خصوص لذّة الفرج، بل هو إشارة إلی مطلق الاستمتاعات الجنسیة، وذکر الفرج من باب أنه أبرز الأعضاء لظهور تلک الغریزة، فالتلذذ والاستمتاع بغریزة الجنس من أی عضو من الأعضاء سواء کان بالفرج أو البشرة باللمس أو العین أو الأذن بالسمع أو الأنف بالشم، ویشهد لإرادة هذا المعنی من حفظ الفرج وأن استخدام وإرسال الشهوة الجنسیة بأی عضو هو من التعدّی والعدوان فی الآیة، کما فی الصحیح إلی ابن أبی نجران(1) عمن ذکره عن أبی عبد الله(علیه السلام) ومحسّنة أبی جمیلة عن أبی جعفر وأبی عبدالله(علیه السلام): قالا:

ص:167


1- (2) وسائل الشیعة، ج20، ص191.

«ما من أحد إلّا وهو یصیب حظاً من الزنا، فزنا العینین النظر وزنا الفم القبلة وزنا الیدین اللمس، صدّق الفرج ذلک أو کذّب»(1).

وکما فی روایة الجعفریات بسنده المعروف عن جعفر بن محمد عن أبیه(علیه السلام): «إن فاطمة بنت رسول الله صلی الله علیه و آله استأذن علیها أعمی فحجبته، فقال لها النبی صلی الله علیه و آله : لم حجبته وهو لا یراک؟ فقالت: یا رسول الله إن لم یکن یرانی فأنا أراه وهو یشم الریح، فقال النبی صلی الله علیه و آله : أشهد أنک بضعة منی)(2) وفی دعائم الإسلام(3) مثله أیضاً.

وفی موثّق السکونی عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال: «سئل رسول الله صلی الله علیه و آله ما زینة المرأة للأعمی؟ قال: الطیب والخضاب، فإنه من طیب النسمة»(4).

وکما فی صحیح الکاهلی عن أبی عبدالله(علیه السلام): «النظرة بعد النظرة تزرع فی القلب الشهوة وکفی بها لصاحبها فتنة»(5).

وفی مصحح محمد بن سنان عن الرضا(علیه السلام): «وحرم النظر إلی شعور النساء ... لما فیه من تهییج الرجال وما یدعو إلیه التهییج من الفساد»(6).

وغیرها من الروایات فی الأبواب الدالة علی أن الاستمتاع بالشهوة یقع بجملة من الأعضاء، والظاهر أن هذا هو المراد مما ورد من أن

ص:168


1- (1) وسائل، ج20 ص326.
2- (2) مستدرک وسائل الشیعة، ج14 ص289.
3- (3) دعائم الإسلام، ج2، ص214.
4- (4) وسائل ج20، ص167.
5- (5) وسائل الشیعة، ج20، ص192.
6- (6) وسائل الشیعة، ج20، ص193.

فاطمة(علیهاالسلام) أحصنت فرجها، وکذلک ما ورد فی مریم(علیهاالسلام)، أی أن حجاب العفاف کان منیعاً بینها وبین غیرها لا من قبلها، ولا تمکن الغیر قبلها، ومنه یعلم عموم تحریم التعدی فی الاستمتاعات الجنسیة فی الآیة إلی المماثل، ومن ثم بنی الفقهاء علی حرمة التلذذ بأی عضو مع غیر الزوج والزوجة وملک الیمین.

ومن ثم ورد أن النساء عورات فالعورة لا تقتصر علی الفرج بل تعم مطلق أعضاء المرأة.

الایة الثانیة: قوله تعالی: یا نِساءَ النَّبِیِّ لَسْتُنَّ کَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَیْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَیَطْمَعَ الَّذِی فِی قَلْبِهِ مَرَضٌ وَ قُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً1 أی لا تلنّ فی القول، بأن یکون فی صوتهن غلظة وخفاء، أی بجزالة وفصل لا بترخیم وترقیق، وقیل: بجد وخشونة من غیر تخنث، ککلام المریبات والمومسات، فیوجب طمع الذی فی قلبه ریب وشهوة، وقیل: أنه لا تخاطبن الأجانب مخاطبة تؤدّی إلی طمعهم فیکن، کما تفعل المرأة التی تظهر الرغبة فی الرجال، وَ قُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً أی غیر منکر بعیداً عن الریبة والتهمة، وقد فسّر القول المعروف فی آیة المطلقات(1) بعد إظهار الرغبة فی الطرف الآخر، کما فی روایة أبی بصیر عن أبی عبد الله(علیه السلام): «لا تقول إنی أصنع کذا وأصنع کذا القبیح من الأمر فی البضع وکل أمر قبیح»(2).

ص:169


1- (2) البقرة، 235.
2- (3) وسائل الشیعة، ج20، ص499، وتفسیر العیاشی، ذیل تفسیر الآیة.

وفی تفسیر علی بن إبراهیم لا یصرّح لها النکاح والتزویج وإن کان ذلک منکراً فی خصوص من کانت فی عصمة الغیر بعدّة أو نکاح، فیعلم من مقابلة الأمر بالقول بالمعروف أن المنهی عنه کلّ قول منکر سواء فی کیفیة الصوت وأدائه أو فی مضمون الکلام، وبأی نحو یکون فیه إظهار للرغبة المحرمة بینهما أو إثارة التشهّی الجنسی وإحداث الافتتان بینهما ولو بانبساط الحدیث وإطالة الکلام، والتعبیر فی صدر الآیة لَسْتُنَّ کَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ لا ظهور له فی خصوصیة الحکم لنساء النبی، بل الظاهر منه الإشارة إلی ما تقدّم علی الآیة من مضاعفة الأجر لهن إن اتقین ومضاعفة العذاب إن عصین؛ لشرافة نسبتهن إلی النبی، ومن ثم لم تذکر هذه الأحکام من خصائص النبی صلی الله علیه و آله وإن ذکر حرمة التزویج بنسائه من خصائصه.

الآیة الثالثة: قوله تعالی: وَ إِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً .... 1 والتقریب ما مرَّ فی الآیة السابقة.

وهی وإن احتمل فیها التنزیه أو الاختصاص، إلّا أنها دالة علی أن مراتب المحادثة مع النساء من دون حجاب وستار لا سیما إذا کان مثیراً فإنه فتنة للقلوب.

الدلیل الثانی: الروایات:

ففی معتبرة أبی بصیر کنت أُقرئ امرأة کنت أُعلّمها القرآن فمازحتها بشیء، فقدمت علی أبی جعفر(علیه السلام) فقال لی: (أی شیء قلت للمرأة؟)

ص:170

فغطیت وجهی، فقال: «لا تعودنّ إلیها»(1).

وفی عقاب الأعمال عن رسول الله صلی الله علیه و آله قال: «ومن صافح امرأة حراماً جاء یوم القیامة مغلولًا ثم یؤمر به إلی النار، ومن فاکه امرأة لا یملکها حبسه الله بکل کلمة کلّمها فی الدنیا ألف عام»(2).

وفی روایة دعائم الإسلام عن جعفر بن محمد(علیه السلام) أنه قال: «محادثة النساء من مصائد الشیطان»(3).

وروی القطب الراوندی فی لب اللباب عن علی(علیه السلام) أنه قال فی حدیث: «ومن مازح الجواری والغلمان فلابدّ له من الزنا ولابد للزانی من النار»(4).

هذا مضافاً إلی جملة من الروایات(5) الأخری الناهیة عن محادثة النساء، وهی وإن حملت علی الکراهة والتنزیه إلّا أنها فیها إشعار بالحرمة بموارد الفتنة والتلذذ.

ثم إنه لا ریب إن من موارد الفتنة والریبة الممازحة والمفاکهة مع النساء، لا سیما إذا اشتملت علی تغزل أو ما یستقبح ذکره.

فائدة: فی حکم إقامة علاقة الصداقة مع الأجنبیة:

ص:171


1- (1) سائل الشیعة، ج20، ص198.
2- (2) وسائل الشیعة، ج20، ص198.
3- (3) مستدرک الوسائل، ص14، ص273.
4- (4) مستدرک الوسائل، ج14، ص273.
5- (5) وسائل الشیعة، أبواب مقدمات النکاح، باب 106.

قال فی لسان العرب: «الخدن والخدین الصدیق، أو الخدن والخدین الذی یخادنک فیکون معک فی کلّ أمر ظاهر وباطن، وخدن الجاریة محدثها، وکانوا فی الجاهلیة لا یمتنعون من أن یحدث الجاریة فجاء الإسلام لهدمه، والمخادنة المصاحبة وفی التنزیل العزیز مُحْصَناتٍ غَیْرَ مُسافِحاتٍ وَ لا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ 1 أی یتخذن أصدقاء. وفی تفسیر القمی فی قوله تعالی: وَ لا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ 2. «أی لا یتخذها صدیقة».

وقال الزمخشری «والأخدان الأخلاء فی السر أی غیر مجاهرات فی السفاح ولا مسرات له»(1).

وقیل کانت البغایا فی الجاهلیة علی قسمین مشهورات ومتخذات أخدان، وکانوا بعقولهم یحرمون ما ظهر من الزنا ویحلون ما بطن، فنهی الله عز وجل عن الجمیع.

أقول: المستحصل من کلمات اللغویین وظاهر الآیة إن إقامة العلاقة والصداقة بین الأجنبی والأجنبیة للتواطئ علی أی نوع من الاستمتاع الجنسی أو الغرام محظور. وهذا المقدار- وهو عدم تکوین العلاقة علی أساس الانفتاح الجنسی ولو علی صعید الکلام- هو المستفاد من قوله تعالی أیضاً:

وَ لا جُناحَ عَلَیْکُمْ فِیما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَکْنَنْتُمْ فِی

ص:172


1- (3) الکشاف، ج1، ص500.

أَنْفُسِکُمْ عَلِمَ اللّهُ أَنَّکُمْ سَتَذْکُرُونَهُنَّ وَ لکِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَ لا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّکاحِ حَتّی یَبْلُغَ الْکِتابُ أَجَلَهُ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ یَعْلَمُ ما فِی أَنْفُسِکُمْ فَاحْذَرُوهُ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِیمٌ 1 قیل فی تفسیر الآیة أی لا تواعدوهن مواعدّة قط بالزواج، إلّا مواعدّة معروفة غیر منکرة أی لا تواعدوهن إلّا بالتعریض، أی لا تکنّوا فضلًا عن التصریح.

وقیل فی معنی لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا بالجماع، والقول المعروف هو القول الذی لیس فیه رفث ولا إفحاش، فالآیة الکریمة تحدد المقدار المجاز من الحدیث مع الأجنبیة مع أن هذا الحدیث متواطئ فیه علی الحلال وهو عقد النکاح. فلا تسوغ التصریح ولا الکنایة، بل فی ذات البعل لا یجوز مطلقاً حتی التعریض. وأما فی الخلیة فیجوز التصریح دون الرفث فی القول من الکلمات المستهجنة المنافیة لحاجب الحیاء والستر بین الأجنبیین. وفی تفسیر العیاشی عن أبی بصیر عن أبی عبد الله(علیه السلام) فی قول الله: لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً؟ قال: (المرأة فی عدّتها تقول لها قولًا جمیلًا ترغبها فی نفسک ولا تقول إنی أصنع کذا وأصنع کذا القبیح من الأمر فی البضع وکل أمر قبیح(1).

وروی عن أبی بصیر عنه(علیه السلام) « لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا هو قول الرجل للمرأة قبل أن تنقضی عدّتها أواعدک بیت آل فلان لترفث ویرفث معها(2).

ص:173


1- (2) تفسیر العیاشی، ج1، ص142، ح395.
2- (3) تفسیر العیاشی، ج1، ص142، ح391.

وقریب من مضمونها ما رواه الکلینی من صحیح الحلبی وصحیح عبدالله بن سنان، وما رواه فی الصحیح عن علی بن حمزة عن أبی الحسن(علیه السلام) إلّا أن فیه فی قوله تعالی: لا تواعدوهن سراً قال: (یقول الرجل أواعدک بیت آل فلان یعرض لها بالرفث ویرفث)، والقول المعروف التعریض بالخطبة علی وجهها وحلّها، نعم ما رواه فی صحیح عبدالرحمن بن أبی عبدالله عن أبی عبدالله(علیه السلام) فی تفسیر القول المعروف قال: «یلقاها ویقول إنی فیک لراغب وإنی فی النساء لمکرم ولا تسبقینی بنفسک. والسر لا یخلو معها حیث وعدها.

ویستفاد مما ورد فی الآیة والنصوص والفتاوی فی مسألة الخطبة لذات العدّة المفروغیة من حرمة الرفث فی القول مع الأجنبیات. وقد تقدّم شطر وافر من الکلام حول حکم المفاکهة مع الأجنبیات والانبساط المثیر للرغبة والتلذذ فی السماع وکذا حکم الخلوة ولو من فئة من الرجال مع فئة من النساء ،وکل تلک المسائل ترسم حدود العلاقة بین الأجانب والأجنبیات، بما یکفل حفظ الطرفین عن معرضیة الوقوع فی التلذذ المحرم من الطرفین ولو بأدنی درجاته.

ویؤید جمیع ما تقدّم المستفاد من فحوی قوله تعالی: وَ إِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ

مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِکُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِکُمْ 1.

ویعضد کلّ ما تقدّم أیضاً قوله تعالی: وَ الَّذِینَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ

ص:174

حافِظُونَ * إِلاّ عَلی أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَکَتْ أَیْمانُهُمْ 1 . فإن مقتضی الآیة کما ذکرنا فی قاعدة الستر والنظر هو حرمة الاستمتاع الجنسی مطلقاً بأی لون وبأی درجة وبای عضو الا الزوجة والمملوکة وهو شامل للتلذذ بالبهائم وغیرها.

هذا تمام الکلام فی هذهِ القاعدة

ص:175

ص:176

قاعدة:فی وحدة ماهیة النکاح

اشارة

ص:177

ص:178

من قواعد باب النکاح:فی وحدة ماهیة النکاح

اشارة

یقع الکلام فی القاعدة فی جهتین :

الجهة الأولی: الأقوال فی القاعدة:

فالاختلاف واقع فی إنَّ ماهیة المنقطع والدائم نوع واحد والاختلاف فی الطوارئ والعوارض والأحوال أی إنَّ الاختلاف فی الصنف، أو إنَّ الاختلاف بینهما فی النوع أو إنَّ التعبد قد ورد بأنَّ عدم ذکر الأجل ولو غفلة موجب لقلب النکاح دائماً، ثم علی القول بوحدتهما فی الماهیة النوعیة یترتب إنَّ عنوان المنقطع والدائ عنوانان صنفیان وأنَّ هذا التصنیف هو آت من الاشتراط الزائد علی أصل الماهیة، وبالتالی فإنَّ الاشتراط هو سبب الاختلاف الآثار المترتبة علی العقد من الطلاق أو عدمه والإرث وعدمه وبقیة الحقوق.

حیث حکی ذهاب المشهور(1) إلی انقلاب العقد المنقطع إلی الدائم إن

ص:179


1- (1) ذهب مشهور الفقهاء إلی انقلاب المنقطع إلی العقد الدائم إذا خلا من ذکر الأجل، وقد صرَّح بذهاب المشهور إلی ذلک جمع من الفقهاء منهم الشهید الثانی فی المسالک، ج7، ص447، حیث قال: «فالمشهور بین الأصحاب أنَّه ینعقد دائماً ...» وقد ذهب إلی ذلک الانعقاد الدائم الشیخ فی النهایة والخلاف وابن البراج وابن زهرة وأبو الصلاح الحلبی.

لم یذکر الأجل فی إیجاب العقد، بل حکی علیه الإجماع، بل عن کشف اللثام والمسالک(1) الجزم بذهاب المشهور إلی ذلک وإن کان المنقطع(2) مقصوداً له من صیغة الإیجاب.

نعم حکی صاحب الجواهر(3) أنهما أشکلا ذلک الحکم. وعن ابن إدریس(4) التفصیل فإن کان الإیجاب بلفظ التزویج والنکاح فینقلب، وإن کان بلفظ التمتع فیبطل، وأن اللفظین الأولین صالحان لهما بخلاف الثالث، فإنه مختص بالمتعة. وقیل(5) بالفرق بین تعمّد ترک الأجل فینعقد دائماً وبین الجهل به ونسیانه فیبطل، بدعوی ظهور العمد فی إرادة الدوام.

ومال صاحب الجواهر(6) إلی المشهور إلّا أنه لم یستبعد البطلان مع قصد الانقطاع من نفس الصیغة، بحیث یکون ذکر الأجل قرینة علی الاستعمال أی لا من باب تعدد الدال والمدلول، لأنه لم یقصد مطلق النکاح حینئذ وعلیه یحمل مضمر سماعة.

ثم إنه علی قول المشهور هل هذا یطّرد فی صیاغات الشروط

ص:180


1- (1) وقال صاحب الجواهر: «وانعقد دائماً فی المشهور نقلاً وتحصیلاً بل لعلَّه مجمع علیه ...» جواهر الکلام، ج30، ص171، وذهب بعض الفقهاء إلی البطلان کما صرَّح العلامة فی المختلف ج7، ص227، والشهید الثانی فی المسالک، ج7، ص488 وغیرهما.
2- (2) مسالک الإفهام، ج7، ص487.
3- (3) المصدر السابق والصفحة.
4- (4) السرائر الحاوی لتحریر الفتاوی لابن إدریس ج2، ص550.
5- (5) حکی هذا القول صاحب المسال: ج7، ص448.
6- (6) جواهر الکلام، ج30، ص175.

الأخری، کما هو جار الآن عند بعض أبناء المذاهب الإسلامیة الأخری من زواج المسیار، حیث یشترط فیه عدم النفقة وإسقاط الحقوق من الطرفین ویفسخ بالطلاق، وکذا عندهم الزواج فی نهایة الأسبوع وبالتبانی علی عقد النکاح وعدم الدخول مثلًا ثم الطلاق بعده بیومین، وکما فی ما یسمی بالزواج العرفی بغض النظر عن صیغة الشروط المأخوذة فیه إنما الکلام بنحو الإجمال- وکذا فی ما یسمی بالزواج المدنی، هذا بعد الفراغ عن کون الشروط فی هذه الأقسام الجدید غیر مخالفة للکتاب والسنة، فالمدار فی تنقیح الأقسام علی بیان الجامع من الماهیة النوعیة للنکاح وأنَّ مقتضی الشروط فی الصیغة إنما تشکل العناوین الصنفیة بعد کونها شروطاً محلّلة.

والعمدة بعد صحة مبنی المشهور تنقیح عدم مخالفة الشروط للکتاب والسنة فی تلک الاقسام ، والمهم فی المقام هو البحث عن وحدة الماهیة نوعاً، وأما حکم الشروط فی کلّ قسم فیأتی فی محلها.

الجهة الثانیة: الأدلة:

ویمکن أن یقرر مقتضی القاعدة کما فی الجواهر(1) وغیره(2): إن الجامع بین الدائم والمنقطع لا ریب فی تقرره وهو معنی الزوجیة والاقتران وتملیک البضع بالمهر، فیبقی الکلام حول الدیمومة والانقطاع کما هو مقتضی الحصر فی القسمین فی قوله تعالی: وَ الَّذِینَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ

ص:181


1- (1) جواهر الکلام، ج1، ص172.
2- (2) مسالک الإفهام، ج7، ص448.

حافِظُونَ * إِلاّ عَلی أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَکَتْ أَیْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَیْرُ مَلُومِینَ 1.

مضافاً إلی عموم عنوان الزوجیة لکلّ من القسمین إلّا ما استثنی بالدلیل، مضافاً إلی إنشائهما بالألفاظ المشترکة، کما هو الحال فی إنشاء أقسام البیع من السلم والنقد والنسیئة بألفاظ ماهیة مشترکة، واختلاف الآثار مترتب علی الشرائط المأخوذة فی صیغة کلّ من الأقسام، وأما الدیمومة والانقطاع فهو منهما کما قرر فی البیع أنه مقتضی نفس العقد ما لم یأت رافع موجب للفسخ وإلا فالدیمومة لیست مأخوذة فی ماهیة البیع المستعمل فیها لفظه ولیست منشأه بالذات، بل حال الدیمومة فی جملة عدیدة من العقود والإیقاعات کذلک، بینما التحدید هو الذی یحتاج إلی التقیید فی اللفظ کما ستأتی دلالة الروایات علی ذلک أیضاً.

نعم قد یقال: انه قد ورد تشبیه العقد المنقطع بانهن مستأجرات کما فی قوله تعالی: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ 2 فیقال حینئذ إن الاختلاف بین الدائم والمنقطع کالاختلاف بین البیع والإجارة فإن البیع والإجارة وإن اشترکا فی أصل التملیک للمنفعة، إلّا إن قوام الإجارة بذکر الأجل والتقدیر للمنفعة ولا ریب فی تباینهما فی الماهیة النوعیة لا الصنفیة، فهذا البیان یدعم القول المخالف للمشهور.

وفیه: إن البیع والإجارة علی قول یشترکان فی الماهیة من کون کلّ منهما تملیک للعین، غایة الأمر إن الإجارة تملیک للمنفعة علی نحو خاص

ص:182

أو فی جهة خاصة مقدرة، ومن ثم ورد بکثرة فی الروایات استعمال لفظ البیع فی باب الإجارة، فالحال فی الإجارة کذلک إذا أنشأت بلفظ البیع لابدّ أن تقدّر وتقیّد ویشترط جهة التملیک ونحوه، وإلا کان مقتضی لفظ البیع هو التملیک علی نحو الإطلاق.

وما یشکل من أنَّ العقود تابعة للقصود فإذا لم یقصد الدائم، وکان قد قصد المنقطع إلّا أنه سهواً لم یقید بالشرط فیقع دائماً، فیکون ما قصد لم یقع وما وقع لم یقصد، وهل یظن ظانٌ أنَّ من قصد الإجارة بلفظ البیع وسهی عن التقیید بالمدة أنه یقع بیعاً علیه؟ مع أنه من الوضوح بمکان إن البیع غیر الإجارة، هذا مع لزوم الضرر.

فیجاب: بأن العقود اللازم توفرها فی صحة العقود هی قصد ماهیة العقود والأرکان المتقومة بها، وأما قصد الشروط الخارجة عن ماهیة المعاملة فلیس دخیلًا فی صحة المعاملات وإن کان السهو والغفلة فیها قد یکون مضراً مالیاً، ومجرّد تفاوت القیم المالیة لا یدلّ علی تباین ماهیة المعاملتین ذات القیمتین، ألا تری إن السلم یفترق عن النقد فی القیمة ومع ذلک فالسهو فی ذکر شرطیة الأجل لا یبطل البیع، بل غایة الأمر إنه یقع نقداً، ولو افترض تضرر أحد المتعاقدین مع سهوه وغفلته، فغایة ما یثبت خیار الغبن من دون بطلان العقد.

فائدة: حقیقة توالد العقود:

والعمدة ملاحظة النسبة بین ماهیات العقود، فقد تکون النسبة من قبیل الجنس والنوع أو من قبیل النوع والصنف، لا سیما إذا کانت الماهیة

ص:183

المعاملیة الثانیة هی بتوسط إضافة بعض الشرائط کأجزاء. وفی بیئة المعاملات والتعارف العقلائی إنما تستحدث المعاملات الجدیدة عبر طریق زیادة الشروط علی معاملة تقلیدیة سابقة، والشروط تستحدث بحسب الأغراض والحاجیات فی البیئة المعاملیة علی صعید التعارف علی الحاجات والأشیاء، غایة الأمر أن التشارط الذی یضاف إلی الماهیة السابقة یندمج ماهویاً مع المعنی السابق فی إطار معنی فردی فی الذهن، ویتم ذلک بتعمّل من عالم الذهن وقدرة الفرض فی الاعتبار، أی القدرة علی الدمج بین المعانی فی کتلة معنی وحدانیاً، فی قبال قدرة الذهن والغرض الاعتباری علی فتق المعنی الوحدانی إلی معان مفصلّة متکثّرة متعدّدة، فخذ مثلًا أصل تملیک الشیء فإنه قد ضم إلیه المشارطة بتملیک آخر وهو العوض، فنتجت ماهیة المعاوضة بعد أن کان العقد تملیک مجرّد بسیط، فالمعاوضة لیست إلّا مشارطة بین تملیکین، ثم إن المعاوضة إذا اشترط فیها العین فی المعوّض، عنونت بعنوان البیع، وإذا جعلت المنفعة عنونت بعنوان الإجارة، واذا جعلت منافع خاصّة عنونت بعنوان المزارعة والمساقاة ونحوها.

ثم إن البیع إذا اشترط فیه بعض الشروط من الأجل ونحو ذلک فی أحد الطرفین عنون بعنوان السلم والنسیئة والنقد، ومن ثم یتبین إن تولّد المعاملات الحدیثة هی بإضافة شروط علی الماهیات المعاملیة الساذجة السابقة التی هی أبسط من الماهیة المعاملیة الترکیبیة الحدثیة، وقد ذکرنا فی فقه المصارف [الحیل والبنوک] إن المشارطة فی العقد تعود فی حقیقتها إلی معاوضة المزادة علی المعاملة السابقة یتبین إنها معاملة جدیدة فوقیة قد انضوت المعاملة السابقة تحتها کضلع من أحد طرفیها، وهذا لا ینافی ما

ص:184

تقدّم تقریره من أنَّ المعاملة السابقة بمنزلة الجنس للمعاملة المتولدة النوعیة.

وعلی ضوء کلّ ذلک فالنسبة بین العقد الدائم والمنقطع نسبة الماهیة الجنسیة إلی الماهیة النوعیة أو الماهیة النوعیة إلی الماهیة الصنفیة.

نعم الطبیعة الجنسیة تلقائیاً إذا أنشأت من دون زیادة الشروط والمشارطة تنوجد حینئذ بنحو الماهیة بشرط لا، بخلاف ما إذا زیدت المشارطة، فإنها تکون بنحو البشرط شیء، وتباین ال (بشرط لا) وال (بشرط شیء) لا یوجب کون المعنی والماهیة فی النحوین من تباین الأنواع، بل هذا التباین قد یفرض فی الماهیات الفردیة مع اتحادهما نوعاً، أو الصنفیة مع اتحادهما نوعاً أیضاً.

وعلی ذلک فإذا أنشأ المتکلم باللفظ الموضوع للجنس أو النوع من دون تقییده فلا محالة ینشأ به الماهیة الجنسیة، ولو کان ذلک عن سهو بالتقیید، فإنه لا یخلّ بالقصد المتوجّه إلی الماهیة الجنسیة، وإن کان هناک خلل فی توجّه القصد إلی الماهیة الفردیة أو الصنفیة، إلّا إن هذا المقدار من الخلل لا یخلّ بتحقّق القصد إلی الماهیة الجنسیة، نظیر ما لو أنشأ شخص البیع بلفظ ملّکت من دون أن یقیّده بعوض سهواً أو استحیاءاً، أی من دون أن یقول ملّکتک العین بکذا، فإن ذلک لا یخلّ بوقوع التملیک المجرّد ولا یؤدّی إلی کون الاستعمال مجازیاً، مع فرض عدم وجود القرینة فی البین علی استعماله المقیّد، سواء من باب تعدد الدال والمدلول أو من باب المجاز.

هذا، وقد یفرّق بین ما إذا کان ذات المشروط رکن آخر فی العقد المرکب کما هو الحال فی العوض، وبین ما إذا لم یکن کذلک، بأن کان ذات المشروط من قبیل التحصیص والتحدید للماهیة السابقة، لا بأن یکون عوضاً مقابل لمعوّض،

ص:185

ولا ریب إن النمط الثانی أوضح فی عدم تخلّف أصل القصد، کما هو الحال فی البیع والسلم والنسیئة والنقد والدوام والمنقطع، بخلاف النمط الأوّل، کالهبة والبیع، هذا کلّه بحسب مقتضی القاعدة.

وأما الروایات فعلی طوائف:

الطائفة الأولی: ما ورد فی ترک ذکر الأجل أنَّه ینعقد النکاح دائماً.

1 - کموثّق عبد الله بن بکیر قال: قال أبو عبد الله(علیه السلام) «ما کان من شرط قبل النکاح هدمه النکاح وما کان بعد النکاح فهو جائز. وقال: «إن سمی الأجل فهو متعة، وإن لم یسم الأجل فهو نکاح بات»(1).

وصدر الروایة ظاهر فی تأسیس عموم دال علی عدم نفوذ الشروط التی یتقاول علیها قبل النکاح إذا لم یصرّح بها لفظاً أثناء إنشاء الصیغة، ثم ذکر(علیه السلام) تطبیقاً لهذا العموم ذکر الأجل فی النکاح، ومن ثم لا یکفی التبانی علیه، بل لابدّ من التصریح به أثناء النکاح کی یقع متعة، وبهذا التقریب فی تطبیق العموم علی شرطیة الأجل فی النکاح تفید الروایة المطلوب الذی نحن فی صدده، وهو أنه لو تشارطا علی الأجل فی المقاولة قبل صیغة النکاح ثم لم یذکرا الأجل فی الصیغة، فإنه ینعقد نکاحاً باتاً، وبعباة أخری: إن ذیل الروایة أورده صاحب الوسائل فی ذلک الباب مع حذف صدر الروایة، فتوهم من هذا الذیل أنَّه(علیه السلام) فی صدد بیان مغایرة المتعة مع النکاح الدائم بذکر الأجل وعدم ذکره، بینما بقرینة صدر الروایة المحذوف یتبیّن

ص:186


1- (1) وسائل الشیعة، ج21، ص46، باب 20، من أبواب المتعة، ح1.

أنَّه(علیه السلام) فی صدد تطبیق العموم الذی ذکره فی صدر الروایة بعد الفراغ عن تباین المنقطع والدائم بشرطیة الأجل، وإنما هو(علیه السلام) فی صدد بیان أن هذه الشرطیة للأجل المفرّقة بین العقدین إنما تعدّ مشروطة فی العقد إذا ذکرت مع الصیغة، ولا یعتدّ بذکر الأجل والشرط فی المقاولة قبل العقد مع متارکة ذکره مع الصیغة، فمع هذا التقریب تکون الموثّقة نصّ فیما ذهب إلیه المشهور.

2 - وفی معتبرة أبان بن تغلب، قال: (قلت لأبی عبد الله(علیه السلام) کیف أقول لها إذا خلوت بها؟ قال: تقول أتزوّجک متعة علی کتاب الله وسنة نبیه صلی الله علیه و آله لاوارثة ولا موروثة کذا وکذا یوماً، وإن شئت کذا وکذا سنة بکذا وکذا درهماً، وتسمّی من الأجر ما تراضیتما علیه قلیلًا کان أم کثیرة، فإذا قالت نعم فقد رضیت فهی امرأتک وأنت أولی الناس بها، قلت: فإنی أستحیی أن أذکر شرط الأیام؟ قال: هو أضر علیک، قلت: وکیف؟ قال: إنک إن لم تشترط کان تزویج مقام ولزمتک النفقة فی العدّة، وکانت وارثة ولم تقدر علی أن تطلقها إلّا طلاق السنة»(1).

وقد رواها الکلینی بطریقین عن إبراهیم بن الفضل عن أبان والأول صحیح، وأما إبراهیم بن الفضل فهو وإن لم یوثق إلّا أن الشیخ قال عنه فی رجاله أسند عنه، أی أنه ممن یروی عنه، وهو یفید قرینة فی الحسن علی الأصح فی معنی هذه اللفظة، مضافاً إلی روایة جعفر بن بشیر عنه، وقد استشعر الوحید فی تعلیقته الوثاقة من ذلک، فلا أقل من الحسن بل فوق

ص:187


1- (1) المصدر، باب 18، ح1.

الحسن ویکفی ذلک فی اعتبار الروایة، لاسیما وأن الروایة فی عرف الرواة تلمّذ.

وأما دلالة الروایة فهی نص بالمطلوب أیضاً، فإنه بیّن قصده للمنقطع إلّا أنه لم یذکر شرط الأجل استحیاءً.

وقد یقال: إن مفاد هذه المعتبرة فی خصوص مَن کان ملتفتاً إلی شرطیة الأجل ولم یذکره تعمّداً، ولو بداعی الاستحیاء، وهذا بخلاف مَن لم یذکره نسیاناً.

وبعبارة أخری: إن مورد الروایة مَن تعمّد بناء اللفظ علی العدم، فکأنه قصد العدم وبنی اللفظ علیه بخلاف الناسی والغافل؟

فیقال: إن هذا الفرق إن تم فی معتبرة أبان فلیس بتام فی موثّقة ابن بکیر مضافاً إلی ان ما فی معتبرة أبان وان کان تعمد من جهة الموضوع إلّا انه ناشئ عن الجهل بالحکم، وبالتالی فلیس عمداً تاماً؛ إذ لیس العامد بالموضوع عالم بالحکم، فالمورد مشوب بالجهل والغفلة أیضاً وبناءه علی کفایة قصد الشرط من دون التصریح له فلم یبن اللفظ علی العدم، أی لم یستعمل الترکیب المجموعی للجملة فی إرادة الدائم بنحو الجد، ولو من باب تعدّد الدال والمدلول، إذ أن المعنی المستعمل فیه النکاح فی القسمین واحد وإنما التغایر آت من ضمیمة الشرط، وهذا بنفسه تقریب آخر لدلالة الموثّقة والمعتبرة سیأتی بیانه فی الطائفة الثانیة، الدالة علی أن قوام التغایر بین القسمین هو لضمیمة لماهیة النکاح لا بنفس الماهیة.

3 - وروایة هشام بن سالم قال: قلت لأبی عبد الله(علیه السلام) أتزوّج المرأة

ص:188

متعة مرةً مبهمة؟ قال: «ذاک أشدّ علیک ترثها وترثک، ولا یجوز لک أنَّ تطلقها إلّا علی طهر وشاهدین قلت: أصلحک الله فکیف أتزوّجها؟ قال: أیاماً معدودة بشیء مسمّی مقدار ما تراضیتم به، فإذا مضت أیامها کان طلاقها فی شرطها ولا نفقة ولا عدّة لها علیک»(1).

والروایة لیس فی سندها ما یتوقف فیه إلّا موسی بن سعدان الحنّاط وعبد الله بن القاسم الحضرمی، وقد ضعف النجاشی الحناط فی الحدیث، قال: ضعیف فی الحدیث کوفی له کتب کثیرة ثم ذکر سنده إلی کتبه، وفیه الراوی لکتبه محمد بن الحسین بن أبی الخطاب الکوفی الثقة الجلیل ولکن الشیخ فی الفهرست لم یضعفه وسنده إلی کتابه صحیح، عن ابن أبی سعید عن ابن الولید عن الصفار عن ابن أبی الخطاب عن موسی بن سعدان، ویظهر من ذلک اعتماد بن الولید القمی شیخ الصدوق علی کتابه والصفار، هذا - علی ما عرف من تشدّد بن الولید - فی الاعتماد علی کتابه مضافاً إلی ابن أبی الخطاب الکوفی، وقال عنه ابن الغضائری ضعیف فی مذهبه واعترض الوحید علی تضعیفه بأن ضعف الحدیث غیر ضعف الرجل وان نسبة الغلو من القدماء لا یعتنی بها وذکر جملة من الروایات التی رواها فی المعارف: وقال: لأمثال هذه رمی بالغلو، نظیر أن الأئمة یزدادون علماً فی لیلة الجمعة. وذکر أن رمیه بالغلو لعله لروایته عن عبد الله بن القاسم الحضرمی.

ثم ذکر جملة من القرائن للاعتماد علیه، وأما عبد الله بن القاسم

ص:189


1- (1) المصدر، ج21، ص48، باب 20، ح3، أبواب المتعة.

الحضرمی، فهو وإن ضعفه ابن الغضائری والنجاشی، وذکر أنه کذّاب غال وذکر سنده إلی کتابه والرمی بالکذب معلول عند القدماء للرمی بالغلو مع التصریح بکلا الصفتین، وجملة روایاته فی المعارف من نفائس الروایات التی یمج من قبولها مذاق الکلام علی النحو السطحی الجاف مثل ما رواه الکافی(1) عنه فی باب أن الأئمة نور الله عز وجل، وما رواه الصدوق عنه من أنه ینادی یوم القیامة أن علی بن أبی طالب یدخل الجنة من شاء ویدخل النار من شاء(2). وکذلک روی حدیث اللوح فی أسماء الأئمة، وذکر بعض ذلک النمازی فی مستدرکاته، هذا مع أن الروایة فی المقام لیست فی المعارف، أی لیس فی الباب الذی ضعف فیه روایاته، وهذه نکتة یجدر الإلتفات إلیها، وهی أن التضعیف إذا کان مخصوصاً بباب علی تقدیر التسلیم بصحة مدرکه یخص ببابه، کما لو کان التضعیف من جهة المذهب الاعتقادی، أی المسائل الاعتقادیة التی یعتقد بها الراوی أو کان التضعیف من جهة الوقف، أو من جهة مذهب فقهی فی بعض المسائل الفقهیة، کما یقع ذلک لبعض الرواة ونحو ذلک فیخصّ بذلک الباب.

أما دلالة الروایة فهی منطبقة علی المقام، حیث یقصد من النکاح المتعة إلّا انه لا یقید جهلًا منه بالحکم، کما مر فی تقریر ما سبق.

الطائفة الثانیة: ما ورد عدم نفوذ الشروط المتبانی علیها عند المتعاقدین، خاصة الروایات الواردة من أن الشرط السابق علی النکاح

ص:190


1- (1) الکافی، ج1، ص195.
2- (2) بحار الأنوار، ج39، ص198.

لیس بنافذ بخلاف الذی یذکر مع العقد کروایة بن بکیر قال: قال أبو عبدالله(علیه السلام): «اذا اشترطت علی المرأة شروط المتعة فرضیت به وأوجبت التزویج فاردد علیها شرطک الأوّل بعد النکاح فإن أجازته فقد جاز وإن لم تجزه فلا یجوز علیها من شرط قبل النکاح»(1).

وتقریب الدلالة: أن ظاهر الروایة أن شروط المتعة والذی عمدته الأجل والمهر إذا ذکر فی المقاولة قبل العقد فلا یعتد به ولا ینفذ إذا کانت الصیغة مطلقة، وأنه لابدّ فی نفوذ الشرط مع نفوذ العقد مرتبطاً فی ضمنه من ذکر الشروط مع الصیغة. ولا یخفی دلالتها بالاقتضاء أن العقد فی الصورة الأولی نافذ دواماً وإن قصد به ما تشارطا من الأجل فی المقاولة.

ومثلها صحیحة محمد بن مسلم قال: (سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن قول الله عز وجل: وَلا جُناحَ عَلَیْکُمْ فِیما تَراضَیْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِیضَةِ فقال: ما تراضوا به من بعد النکاح فهو جائز وما کان قبل النکاح فلا یجوز إلّا برضاها وبشیء یعطیها فترضی به(2).

نعم مقدار ما یستفاد من هذه الطائفة هو کون النکاح یهدم الشروط السابقة المتبانی علیها عند المتعاقدین خاصّة دون ما کان التبانی علیها عند نوع العقلاء والعرف، کما هو صریح مورد تلک الروایات کالتعبیر بشرطک أو (اشترطت) وکذا فی موثّق بن بکیر مما یوهم الإطلاق أنه بقرینة التعبیر ب- (قبل) الدال علی تخصیص الشروط بالخاصة عند المتعاقدین، أی مما جری

ص:191


1- (1) وسائل، ج21، ص45، باب 19، من أبواب المتعة ح1.
2- (2) المصدر، ص46، باب 19، ح3.

تداولها بینهما قبل العقد، بخلاف الشروط النوعیة عند العقلاء فلا توصف بالقبلیة، فالقدر المتیقن من هذه الطائفة هدم الشروط الخاصة عند المتعاقدین ویبقی الباقی علی مقتضی القاعدة وهو الصحة.

الطائفة الثالثة: ما ورد فی بیان أن صیغة المتعة متقوّمة بالشروط کموثّقة سماعة عن أبی بصیر قال: «لابدّ من أن یقول فیه هذه الشروط: أتزوّجک متعة کذا وکذا یوماً بکذا وکذا درهماً نکاحاً غیر سفاح علی کتاب الله وسنة نبیه وعلی ان لا ترثینی ولا أرثک علی أن تعتدّی خمسة وأربعین یوماً. وقال بعضهم: حیضة»(1).

وظاهر الموثّقة أن قوام المتعة بالشروط وبالتالی تخالفها مع الدائم بذلک لا فی مادة وماهیة النکاح وأن المتعة طور من النکاح متولّد من الشروط وغیرها من الروایات(2) هذا المضمون.

فتحصل من کلّ ذلک أن الاختلاف بالشرط هو أنه لا تباین فی أصل قصد النکاح، وأنه لا اختلاف فی أصل قصد النکاح وإنما الاختلاف فی الشروط علی ذلک لو أنشأ النکاح مع الغفلة عن الشروط عن ذکرها مع الصیغة أو لم یذکرها لأسباب أخری فإن النکاح یقع باتاً.

وعلی ذلک عند الشک فی کون العقد دائماً أو منقطعاً، فإن أصالة عدم الاشتراط تقتضی دوام العقد، کما هو الحال لو حصل نزاع بین الزوجین فإن مدّعی الدوام یکون منکراً، ولا یتوهم أن هذا من الأصل المثبت

ص:192


1- (1) المصدر، ص44، ب18، ح4.
2- (2) المصدر، باب 17، 18.

وذلک لأن موضوع الدوام هو صرف العقد لا وصف التجرد لیشکل بأن هذا العنوان وجودی لا یمکن إحرازه، کما أن موضوع المنقطع مرکب.

فالأصل عدمه وهو محرز للموضوع وهو الدوام ویترتب علیه حرمة نکاح الخامسة.

ص:193

ص:194

قاعدة:فی تداخل العدد

اشارة

ص:195

ص:196

من قواعد باب النکاح:فی تداخل العدد

اشارة

البحث فی القاعدة یقع فی عدة امور:

الأمر الأوّل: تداخل العدد ذات الأسباب المختلفة:

هل تتداخل العدد ذات الأسباب المختلفة مع اختلاف الأشخاص، من عدّة وطی شبهة أو طلاق أو وفاة أو غیرها، أو لا؟ قولان: القول الأوَّل التداخل بین العدد، القول الثانی، عدم التداخل.

حکی فی الجواهر الثانی عن المشهور شهرة عظیمة، وأنه حکی علیه الإجماع، بینما نسب الأوّل إلی الصدوق وابن الجنید وجماعة من متأخری المتأخرین، حملًا لأخبار التعدد علی الندب أو التقیة، وتأمل فی نسبة هذا القول إلی الصدوق بکون المحکی عن موضع من کتاب المقنع- مبحث الإیلاء- أنه اعتمد علی متن صحیح علی بن بشیر النبّال الآتی الدال علی التعدد. وقد یستظهر من الجمع بین کلامیه هو التفصیل بین ذات العدّة فی الثانی وبین ذات البعل فی الأوّل، أی بین کون وطی الشبهة وارداً أو موروداً، وإن لم یعهد هذا التفصیل من أحد.

ویستدل لکلّ من القولین تارة بمقتضی القاعدة وأخری بالروایات

ص:197

الواردة فی المقام.

الأمر الثانی: تحریر القاعدة:

فقد تقرّر فی محله من علم الأصول بأن الأصل عدم تداخل الأسباب ولا المسببات، وقد تقرّر أیضاً بأن مقتضاها التداخل فی خصوص المقام من بحث العدد، وبیانه:

إن طبیعة أسباب العدد أن تکون العدد متصلة بالسبب، وعلی ضوء ذلک فلابدّ من تداخلها عند الاقتران والاجتماع.

غایة الأمر أن هذا التداخل لیس بمعنی عدم مراعاة مقادیر العدد کما لو اختلفت فی المقدار بسبب اختلاف البدء الزمنی أو الکم بینها، لاسیما وأن الاعتداد بالعدّة الغایة منه استبراء الرحم کما فی معتبرة زرارة) (1)،

«عن أبی جعفر(علیه السلام) سألته عن امرأة نعی إلیها زوجها فاعتدت وتزوّجت فجاء زوجها الأوَّل ففارقها الآخر، کم تعتد للثانی؟ قال: ثلاثة قروء وإنَّما یستبرأ رحمها بثلاثة قروء وتحل للناس کلهم ...»، والزمان الواحد غیر قابل للتعدد.

وأجیب: بأن الأسباب فی الشرع معرّفات وتعریفات للأسباب الحقیقیة، فلیست علی نمط الأسباب التکوینیة الممتنع فیها الانفصال الزمنی بین السبب والمسبب، کما لا ضرورة للتقارن الزمنی بین المعرّف

ص:198


1- (1) وسائل الشیعة، أبواب ما یحرم بالمصاهرة، باب 16 ح7، ومثلها روایة محمد بن مسلم عن الباقر، تفسیر العیاشی، ج1، ص122.

والسبب، لاسیما وأن هذا معهود فی باب العدد أیضاً، کما فی الفصل بین موت الزوج وعدّة الوفاة، وقد علّل ذلک فی الروایات ب- «لأنَّها تحدّ علیه)(1) مما یدلل علی أن العدّة لیس الغرض منها مجرّد الاستبراء، ومثل ذلک حقّ رجوع الزوج فی العدّة الرجعیة، وکذا التفصیل فی تقدیم قاعدة الفراش التی بحثناها فی هذا الجزء من الکتاب، فإنه شاهد قوی علی اختلاف تحقّق قاعدة الفراش، بالإضافة إلی کلّ وطی من کلّ رجل.

ولا ریب أن العدّة هی من توابع وأحکام تحقّق الفراش، فالتفصیل فی التقدیم والتأخیر زمناً فی قاعدة الفراش کما دلّت علیه الروایات التی بحثناها فی القاعدة، قد یستظهر أنه أحد الوجوه المهمّة لاعتماد المشهور التعدّد فی هذه المسألة.

الأمر الثالث: الروایات الواردة فی المقام:
اشارة

وهی علی علی ألسن:

اللسان الأول: عدم التداخل مطلقاً:

وهو ما ادعی دلالته علی عدم التداخل مطلقاً، کصحیح علی بن بشیر النبّال، قال: «سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن رجل تزوج امرأة فی عدّتها ولم یعلم وکانت هی قد علمت أنه قد بقی من عدّتها وأنه قذفها بعد علمه بذلک، فقال: ... وفرّق بینهما وتعتدّ ما بقی من عدّتها الأولی وتعتدّ بعد

ص:199


1- (1) کما فی الکافی ج6، ص112، باب عدة المتوفی عنها زوجها، وغیرها من الروایات التی شابهت هذا المضمون.

ذلک عدّة کاملة»(1).

ومثله موثّق محمد بن مسلم(2)، وغیرهما(3).

لکن دلالة هذه الروایات لیست مطلقة کما زعم، بل هی فی مورد ورود وطی الشبهة علی سبب للعدّة سابق، إلّا أن یرفع الید عرفاً عن ذلک بأنه من توارد أسباب العدد من دون خصوصیة.

اللسان الثانی: التداخل مطلقاً:

وهو ما ادّعی دلالته علی التداخل مطلقاً. کصحیح زرارة عن أبی جعفر(علیه السلام): «فی امرأة تزوجت قبل أن تنقضی عدّتها، قال: یفرق بینهما، وتعتدّ عدّة واحدة منهما جمیعاً»(4).

ومثلها موثّقة أبی العباس(5).

ومثله الصحیح إلی جمیل بن دراج عن بعض أصحابه(6) المتقدّم فی المسألة السابقة، وهو مع تضمّنه لتداخل العدّة قد فصل فی قاعدة الفراش.

والتأمل فی إطلاق هذه الروایات کما فی الطائفة السابقة.

ص:200


1- (1) وسائل الشیعة، ج20 ص456 ط. آل البیت.
2- (2) المصدر، ص457 ط. آل البیت.
3- (3) المصدر، باب 17، من أبواب ما یحرم بالمصاهرة، ص457.
4- (4) وسائل الشیعة، ج20 ص453، باب 17، من أبواب المصاهرة، ح11.
5- (5) المصدر والصفحة، باب 17، من أبواب المصاهرة، ح12.
6- (6) الفقیه ج3 ص301 ح1441.
اللسان الثالث: عدم التداخل فی صورة خاصة:

وهو ما دل علی عدم التداخل فیما إذا کان وطی الشبهة موروداً أو وارداً علی عدّة الوفاة، کصحیح الحلبی عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: «سألته عن المرأة الحبلی یموت زوجها فتضع وتزوج قبل أن تمضی لها أربعة أشهر وعشراً، فقال: إن کان دخل بها فرّق بینهما ولم تحلّ له أبداً، واعتدّت بما بقی علیها من الأوّل، واستقبلت عدّة أخری من الآخر ثلاثة قروء ... الحدیث»(1).

ومثلها معتبرة محمد بن مسلم عن أبی جعفر(2) .

وفی صحیح جمیل بن صالح أن أبا عبدالله(علیه السلام) قال: «فی أختین أهدیتا لأخوین، فأدخلت امرأة هذا علی هذا وامرأة هذا علی هذا، قال: لکلّ واحدة منهما الصداق بالغشیان، وإن کان ولیّهما تعمّد ذلک أغرم الصداق، ولا یقرب واحد منهما امرأته حتی تنقضی العدّة، فإذا انقضت العدّة صارت کلّ امرأة منهما إلی زوجها الأوّل بالنکاح الأوّل، قیل له: فإن ماتتا قبل انقضاء العدّة؟ قال: یرجع الزوجان بنصف الصداق علی ورثتهما فیرثانهما الرجلان، قیل فإن مات الزوجان وهما فی العدّة، قال: ترثانهما، ولهما نصف المهر وعلیهما العدّة بعدما تفرغان من العدّة الأولی تعتدّان عدّة المتوفی عنها زوجها»(3).

وقد رواها الکلینی بسند صحیح عن جمیل أیضاً عن بعض أصحاب

ص:201


1- (1) وسائل الشیعة، ج2 ص451، باب 27، أبواب المصاهرة، ح6.
2- (2) المصدر، باب 7، من أبواب المصاهرة، ح2.
3- (3) وسائل الشیعة، ج20، ص513، باب 49، من أبواب ما یحرم بالمصاهرة، ح2.

أبی عبد الله(1).

وهذا لا یجعله بحکم المرسل؛ وذلک لأن هذا التعبیر لو کان من علماء الرجال وکتب الفهارس لکان شاملًا لکلّ راو ثقة أو غیر ثقة، لکن هذا التعبیر هو من الرواة أنفسهم ومن جمیل نفسه والذی کان من أصحاب أبی عبد الله أیضاً، مما یعطی أن المراد خواص الرواة عن أبی عبد الله، هذا مضافاً إلی أنه لا یمتنع أن یکون الراوی رواها مرّة عمن رواها عن أبی عبد الله(علیه السلام)، ثم عاود السؤال مباشرة منه(علیه السلام) کما هو دیدن الرواة.

ویظهر ذلک فی عدّة روایات وردت فی باب الحج فی أسئلة الرواة عن المتعة والإفراد الذی یقلب إلی التمتع، وقد کثر فی روایات جمیل بن دراج إسناد الروایة تارة إلی أبی عبدالله وأخری إلی بعض أصحابه عن أبی عبد الله، فهذا لا یسقط الروایة عن الاعتبار. ثم إن مفاد الصحیحة هو طرو الموت الذی هو سبب لعدّة الوفاة فی الأثناء علی عدّة الشبهة، وهو عکس مورد الروایتین السابقتین من طرو عدّة الشبهة علی عدّة الوفاة.

ومفاد مجموع هذه الروایات أن عدّة الوفاة لا تتداخل مع عدّة الشبهة أو العدد الأخری، ولعله لما بین فی أدلة تشریع عدّة الوفاة وأنها تبدأ ببلوغ الخبر بعد الموت، أن من أغراض جعلها حداد المرأة علی زوجها وکأنه لا یتداخل ولا یمتزج مع ارتهانها وتربّصها لغیره.

وعلی أیة حال فإن فی هذه الصحیحة دلالة أخری علی أن الزوجة إذا اعتدّت فی الأثناء من الشبهة، فإنها تعتزل زوجها فلا یحلّ له الاستمتاع بها مطلقاً؛ وذلک للتعبیر فی الروایة بعد قوله(علیه السلام): «ولا یقرب واحد منهما

ص:202


1- (1) وسائل الشیعة، ج2 ص513 ط. آل البیت.

امرأته) بقوله(علیه السلام): «فإذا انقضت العدّة صارت کلّ امرأة منهما إلی زوجها الأوّل بالنکاح الأوّل».

مما یفید معنی العزلة والاعتزال وتعلیق آثار النکاح مدة العدّة، وأن النکاح الأوّل یعاود التأثیر بعد انقضاء العدّة.

وهذا المفاد یظهر أیضاً من صحیح محمد بن مسلم عن أبی جعفر(علیه السلام)، قال: «سألته عن رجلین نکحا امرأتین فأتی هذا إمرأة هذا وهذا امرأة هذا، قال: تعتدّ هذه من هذا وهذه من هذا، ثم ترجع کلّ واحدة إلی زوجها»(1).

فإن التعبیر بالرجوع بعد انقضاء العدّة ظاهر بقوة فی العزل والاعتزال، وأن عقد الزواج یعلق تأثیره ضمن استباحة الاستمتاع فترة العدّة.

وبنفس التعبیر ورد فی صحیحة إبراهیم بن عبد الحمید .

اللسان الرابع: اعتداد الموطوءة شبهة عدّة واحدة لو طلقها زوجها:

وهو ما دلّ علی أن الزوجة إذا وطئت شبهة، ثم طلقها زوجها أنها تعتدّ منهما عدّة واحدة، نظیر موثّق زرارة عن أبی جعفر(علیه السلام): «فی امرأة فقد زوجها أو نعی إلیها، فتزوجت، ثم قدم زوجها بعد ذلک فطلقها، قال: تعتدّ منهما جمیعاً ثلاثة أشهر عدّة واحدة ولیس للآخر أن یتزوجها أبداً»(2).

وقد رواه الشیخ(3) والکلینی(4) أیضاً بطریق آخر(5) عن زرارة عن

ص:203


1- (1) وسائل الشیعة، ج20، ص513، باب 49، من أبواب ما یحرم بالمصاهرة، ح1.
2- (2) المصدر، ج20، ص446، باب 16، من أبواب المصاهرة، ح2.
3- (3) الطوسی فی التهذیب ج7، ص489.
4- (4) الکلینی فی الکافی، ج6، ص150.
5- (5) الطریق هو محمد بن یحیی بن أحمد بن محمد عن علی بن الحکم عن موسی بن بکر عن زرارة.

أبی جعفر(علیه السلام)، قال: «سألته عن امرأة نعی إلیها زوجها فاعتدّت وتزوجت فجاء زوجها الأوّل، ففارقها [وفارقها] الآخر کم تعتدّ للثانی؟ قال: ثلاثة قروء، وإنما یستبرأ رحمها بثلاثة قروء وتحل للناس کلُّهم، قال زرارة: وذلک أن ناساً قالوا: تعتدّ عدّتین من کلّ واحد عدّة، فأبی ذلک أبو جعفر(علیه السلام)، وقال: تعتدّ ثلاثة قروء وتحل للرجال) هذا.

والتدبر یقضی بمنع الإطلاق فی الطائفة الأولی - مضافاً إلی ما تقدّم - حیث إن موثّق محمد بن مسلم لیس صریحاً، بل ولا ظاهراً بقوة، فإن قوله(علیه السلام): «وأتمّت عدّتها من الأوّل وعدّة أخری من الآخر» لا یقضی بالتعدّد؛لأنه یتلائم مع التداخل فی البعض، بأن تتم عدّتها بما بقی من الأوّل بمزامنة العدّة الثانیة.

غایة الأمر أن العدّة الثانیة ابتداؤها مع البعض اللاحق من العدّة الأولی، فتبقی مستمرة إلی انتهائها، إذ لم یرد التعبیر ب- (ثم) أو (بعد) وإنما جاء التعبیر (بالواو) الذی هو أعم من التقارن والترتیب، والوجه فی التصریح بالعدّتین هو لبیان عدم زوال حکم العدّة الأولی وبقاء أحکامها إلی أن تنتهی، وأن بانتهائها لا تنتهی العدّة الثانیة؛ لأن التداخل تقارنی لا حقیقی، وهذا مراد من ذهب إلی التداخل لا بمعنی صیرورة العدّتان عدّة واحدة حقیقة.

وأما صحیحة النبّال، فقوله(علیه السلام): «وتعتدّ ما بقی من عدّتها الأولی وتعتدّ بعد ذلک عدّة کاملة) فلا یأبی التقارن الزمانی أیضاً، فإن التعبیر ب- (بعد ذلک) أی تحصی بعد انتهاء الأولی ما یوجب کمال العدّة الثانیة أی تعتدّ بعد انتهاء العدّة الأولی ما یوجب کون المقدار الباقی مع ما تقدّم عدّة

ص:204

کاملة. وعلی أی تقدیر فلا صراحة فیها بأن مبدأ العدّة الثانیة هو بعد تمام العدّة الأولی.

وأما مصحح علی بن جعفر فهو وارد فی المتوفّی عنها زوجها.

وعلی ذلک فلا یبقی دلیل لعدم التداخل، بمعنی عدم التقارن إلّا فی عدّة الوفاة للتصریح فی روایتها باستقبال عدّة أخری، وهو صریح فی أن مبدأ العدّة الثانیة هو بعد انتهاء العدّة الأولی، أو أن عدّة الوفاة تعتدّ بها بعد الفراغ من العدّة الأولی.

وکأن الوجه فی عدم تقارن عدّة الوفاة مع العدد الأخری لغیر الزوج المتوفّی هو أنه فی عدّة الوفاة یجب علی المرأة الحداد لزوجها المتوفّی، بخلاف العدد الأخری فإنها لاستبراء الرحم والامتناع عن التزوج بالآخرین.

ومنه یعرف أن ما تقدّم من تقریر القاعدة بعدم التداخل بتعدد السبب إنما یقضی بعدم التداخل بمعنی وحدة العدّة حقیقة لا بمعنی عدم التقارن زمناً، أی بنحو التعاقب.

ومما یعضد هذا المعنی من عدم التداخل - وإن کان هو تداخل زمنی - ما فی موثّق زرارة من نسبة التعاقب الزمنی فی العدد إلی العامة، ومثله معتبرة یونس عن بعض أصحابه من نسبة القول بالتعاقب إلی إبراهیم النخعی ) من العامة.

الأمر الرابع: تقدیم العدة التی تقدم سببها بناء علی التعدد:

بناءً علی التعدد بمعنی التعاقب فإنه تقدّم العدّة التی تقدّم سببها، کما هو الحال فی عدّة الوفاة التی مرّ أن التعدد فیها بمعنی التعاقب.

ص:205

نعم فی وضع الحمل، حیث دلت الروایات الخاصة علی أنه مقدم علی القروء ونحوه من التقدیر فی العدد فهو مقدم علی بقیة الأسباب.

الأمر الخامس: جواز الرجوع فی العدة الرجعیة بنا ءعلی التعدد وعدمه:

بناءً علی التعدد وعدمه هل یجوز الرجوع فی العدّة الرجعیة قبل مجیء زمانها فی أثناء عدّة الشبهة، وهل ترث الزوج لو مات حینئذ؟

الأظهر جواز الرجوع لکون الموضع فی الأدلة هو عدم انقضاء العدّة کما فی موثّق عبد الله بن سنان قوله(علیه السلام): «فإن راجعها قبل أن یخلو أجلها»(1).

وکما فی صحیح محمد بن مسلم قوله(علیه السلام): «هو أملک برجعتها ما لم تنقض العدّة»(2).

وفی صحیح محمد بن مسلم الآخر قال(علیه السلام): «وإن أراد أن یراجعها أشهد علی رجعتها قبل أن تمضی أقراؤها»(3).

وغیرها من الروایات.

وکذلک الحال فی المیراث، فإن المطلقة الرجعیة ما لم تنته العدّة زوجة حقیقة، فإن فعلیة البینونة معلّق علی انتهاء العدّة، کما وردت الروایات

ص:206


1- (1) وسائل الشیعة، ج22، ص106، باب من أبواب أقسام الطلاق، ح7.
2- (2) المصدر، ج22 ص134، باب 13 من أبواب أقسام الطلاق، ح7.
3- (3) المصدر، ج22، ص134، باب 13، من أبواب أقسام الطلاق، ح1.

بثبوت الإرث لو مات أحدهما فی العدّة، ففی صحیح محمد بن قیس عن أبی جعفر(علیه السلام) قال: «سمعته یقول: أی امرأة طلقت ثم توفّی عنها زوجها قبل أن تنقضی عدّتها ولم تحرم علیه فإنها ترثه»(1) وغیرها من الروایات المثبتة للإرث ما لم تر الدم من الحیضة الثالثة .

وما فی بعضها من أخذ الموضوع بلسان الظرفیة (وهی فی عدّة منه) فمثبتان لا متنافیان.

الأمر السادس: لو کانت العدة المتأخرة عدة طلاق بائن:

لو کانت العدّة المتأخرة هی عدّة الطلاق البائن، فهل یجوز تزویج المطلق لها وهی فی عدّة الشبهة السابقة علی عدّة الطلاق؟

بنی السید الیزدی فی العروة علی الجواز لاختیاره حرمة الوطی خاصة فی عدّة الشبهة لا سائر الاستمتاعات کما لو کانت مزوجة.

وکلامه مدفوع لحرمة جمیع الاستمتاعات کما مرّ دلالة النصوص علیه فی هذه المسألة.

مضافاً إلی أن حکم الزواج غیر مرهون بحرمة الاستمتاعات بعد کونها حرمة موقتة.

فمجرد حرمة جمیع الاستمتاعات لا یوجب بطلان العقد بعد کون الحرمة موقتة، بل الوجه فی منع صحة العقد هو أن مقتضی العدّة لزوم تربّص المرأة عن التزویج حتی تنقضی العدّة کما مرّ بیان ذلک فی الآیات

ص:207


1- (1) المصدر، ص104، باب 1، من أبواب أقسام الطلاق، ح2.

والروایات فیما تقدّم.

ولا ینقض بالزوجة الموطوءة شبهة، حیث إن عدّة الشبهة حینئذ لا توجب إزالة التزویج والزوجیة عن الزوج؛ وذلک لوجود الفارق بین الصورتین، حیث إنه فی الصورة الثانیة فرض تقدّم العقد علی العدّة، فلا تمانع العدّة المتأخرة عن السبب السابق بعد کون اقتضاء العدّة المنع عن التزویج بنحو المقتضی لا التلازم العلّی، بخلاف ما إذا تأخر العقد عن العدّة، فإنها تؤثر فی الممانعة لسبقها زمناً.

وبناءً علی الحرمة فلو فرض تزویج المطلق لها فی عدّة الشبهة، فهل یوجب الحرمة الأبدیة أو لا؟.

اختار السید الیزدی العدم لدعوی الانصراف، وأجیب بإطلاق الأدلة، لکن قد حررّ فی ذیل المسألة من سند العروة الوثقی کتاب النکاح، فصل العدد. أن الظاهر من موضوع الأدلة هو العقد أو الوطی فی مورد المرأة المرتهنة بعصمة الغیر، کأن تکون زوجة للغیر أو ذات عدّة فیه، وهذا بخلاف المرأة التی بینها وبینه نحو عصمة کما لو کانت زوجة له ذات عدّة شبهة من غیره أو مطلقة منه، له علیها عدّة وهی ذات عدّة شبهة من غیره، وهذا النمط من الموارد یختلف نوعاً عن نوع الموارد الواردة فی أدلة التحریم الأبدی فلا یتعدّی عنها إلی ما نحن فیه.

الأمر السابع: لو کانت العدتان لشخص واحد:

لو کان عدتان لشخص واحد کما لو طلقها بائناً، ثم وطأها شبهة أو طلقها رجعیاً، ثم توفی عنها، فالأظهر التداخل فی الصورة الأولی حتی لو

ص:208

بنی علی عدم التداخل، فیما لو کانت العدّتان من شخصین؛ لخروج هذه الصورة عن مورد أدلة عدم التداخل، وهذا بخلاف الصورة الثانیة، فإن الصحیح هو عدم التداخل لما مرّ من أن عدّة الوفاة لا تتداخل مع عدّة أخری لوجوب الحداد علیها.

مضافاً إلی ما مرّ من أن التداخل بمعنی التقارن (لا بمعنی التداخل الحقیقی) هو مفاد ومقتضی القاعدة وأدلة التداخل، وهناک صورة أخری وهی ما لو وطئت المرأة شبهة، ثم طلقها زوجها طلاقاً بائناً أو رجعیاً فعقد علیها الواطئ لها شبهة فی عدّة الشبهة المقارن لعدّة الطلاق.

ص:209

ص:210

قاعدة:عموم حرمة المس فی الأجنبیة

اشارة

ص:211

ص:212

من قواعد باب النکاح:عموم حرمة اللمس فی الأجنبیة

الأقوال فی القاعدة:

لا یجوز ملامسة الرجل المرأة الأجنبیة وبالعکس، ولو بنی علی جواز النظر إلی الوجه والکفین، فلا تلازم بین الجوازین(1)، وحکایة الإجماع علیه بالاتفاق، بل الحال کذلک فی حرمة ملامسة ما حرم النظر الیه، کما فی مواضع بدن المحارم التی یجب سترها، وکذلک الحال فی مواضع جواز النظر إلی المحارم مع الریبة، ومن ثم لا یجوز مصافحة الأجنبیة، إلّا من وراء الثیاب(2)، وقیدها بعضهم بعدم الغمز(3) وعدم الریبة(4).

ص:213


1- (1) قال صاحب الجواهر: «وفی کلام شیخنا الأعظم(قدس سره) إذا حرم النظر حرم اللمس قطعاً بل لا إشکال فی حرمة اللمس وإنَّ جاز النظر؛ للأخبار الکثیرة، والظاهر أنَّه مما لا خلاف فیه» جواهر الکلام، ج29 ص100.
2- (2) قید المشهور جواز اللمس من وراء الثیباب فقط، راجع العروة والتعالیق علیها.
3- (3) ذهب إلی هذا القید جملة من الفقهاء منهم السید الخمینی فی تحریر الوسیلة حیث قال: «نعم، لا بأس بها (یعنی المصافحة) من وراء الثوب، لکن لا یغمز کفها احتیاطاً».
4- (4) ذهب جملة من محشی العروة إلی اشتراط عدم حصول الریبة باللمس من وراء الثیاب، وإلّا فیحرم اللمس، وقد صرح بذلک جملة من الفقهاء منهم السید البروجردی والسید الکلبایکانی.
أدلة القاعدة:
اشارة

ویدل علی عموم حرمة المس فی الأجنبیة عدة ادلة:

الدلیل الأوّل: اقتضاء أدلة حرمة النظر:

إن الحکم المذکور مقتضی أدلة حرمة النظر، فإن الأقوی، کما ذکر فی قاعدة النظر أن حرمة النظر إلی الوجه والکفین حرمة حکمیة وان لم یحرم النظر بالحرمة الحقیة، أی ان النظر المستدیم أو بتحدیق وملأ العین یحرم حتی للوجه والکفین، وان لم تحرم النظرة الأولی العفویة، وکذلک فی المتکشفة المتبذلة مسلمة کانت أو کافرة، کما قلنا فی قاعدة، وإذا حرم النظر فیحرم اللمس بالأولویة القطعیة؛ لأن النظر أخف ارتباطاً بین الجنسین، فیحرم ما هو أشد منه وهو اللمس، بخلاف العکس، فإن حرمة اللمس لا تلازم حرمة النظر، هذا کله بحسب الطبیعة الأولیة لا بحسب العناوین الثانویة والاضطراریة، وکذلک الحال إذا جاز اللمس جاز النظر بحسب الطبع الأولی، لا فیما إذا کان جواز اللمس بعنوان اضطراری کالمعالجة.

ومنه یظهر صحة عبارة السید الیزدی فی العروة(1) وغیره من الأعلام، من انه إذا اضطرت الأجنبیة فی المعالجة للمس الطبیب، فیقتصر علیه دون ترکیز النظر مع عدم الحاجة إلیه.

ص:214


1- (1) قال السید الیزدی فی العروة (مسألة 48 من النکاح) «إذا توقف العلاج علی النظر دون اللمس أو اللمس دون النظر یجب الاقتصار علی ما اضطر إلیه فلا یجوز الآخر بجوازه». ووافقه علی ذلک أکثر محشی العروة.
الدلیل الثانی: روایات مصافحة الأجنبیة:

1- روایة الحسین بن زید عن جعفر بن محمد عن آبائه فی حدیث المناهی «... ومن صافح امرأة تحرم علیه فقد باء بسخط من الله عز وجل، ومن التزم امرأة حراماً قرن فی سلسلة من نار مع شیطان فیقذفان فی النار»(1).

2 - مرسل أبی کهمس مهزم الأسدی قال: کنا بالمدینة وکانت جاریة صاحب الدار تعجبنی وانی أتیت الباب فاستفتحت الجاریة، فغمزت ثدیها، فلما کان الغد دخلت علی أبی عبدالله(علیه السلام) فقال: «أین أقصی أثرک؟ قلت: ما برحت بالمسجد» فقال: «اما تعلم ان أمرنا هذا لا یتم إلّا بالورع»(2).

3 - وکذلک الروایات الواردة فی مصافحة الأجنبیة، کصحیحة أبی بصیر عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال: «قلت له هل یصافح الرجل المرأة لیست بذات محرم؟ فقال: لا إلّا من وراء الثوب»(3).

4 - موثّقة سماعة قال: سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن مصافحة الرجل المرأة؟ قال: «لا یحل للرجل أن یصافح المرأة إلّا امرأة یحرم علیه أن یتزوجها أخت أو بنت أو عمة أو خالة أو بنت اخت أو نحوها واما المرأة التی یحل له أن یتزوجها فلا یصافحها إلّا ما وراء الثوب ولا یغمز کفها»(4) وهی تدلّ علی جواز مصافحة عموم المحرم نسبی أو سببی، والتمثیل فیها

ص:215


1- (1) وسائل الشیعة، ج20 ص195.أبواب مقدمات النکاح، ب- 105، ح1.
2- (2) المصدر، ح2.
3- (3) وسائل الشیعة، ج20، ص207، باب 115، من أبواب مقدمات النکاح ح1.
4- (4) المصدر، ح2.

وان أوهم خصوص السببی إلّا أن المقابلة قرینة علی العموم. ونحوها من الروایات.

نعم فی عموم المحرم لما حرمت بالسبب المحرم، کاللواط والزنا إشکال، بل لا یبعد فی عرف المتشرعة نفی عنوان المحرمیة عن مثل هذه الموارد.

5 - روایة المفضل بن عمر أنَّه صلی الله علیه و آله کانت بیعته لهن بغمس یدیه فی الماء(1)، ومثلها روایة سعدان بن مسلم(2)،

6 - بل فی روایة الحکم بن مسکین الأمر بمصافحة الأخت أخاها من وراء الثوب .

وفی روایة الصدوق فی عقاب الأعمال باسناد متصل إلی عبد الله بن عباس عن النبی صلی الله علیه و آله «ومن صافح امرأة حراماً جاء یوم القیامة مغلولًا ثم یؤمر به إلی النار»(3).

7 - وکذلک الروایات الواردة فی تغسیل المیت(4), وانه لا یجوز أن یغسل الرجل ولا المرأة الآخر الأجنبیان(5) ، بل فی هذه الروایات(6) عدم جواز تغسیل المحرم أیضاً إلّا عند فقد المماثل بنحو صب الماء من دون خلع

ص:216


1- (1) المصدر، ح3.
2- (2) المصدر، ح4.
3- (3) وسائل الشیعة، ج20، ص209، باب 116، من أبواب مقدمات النکاح، ح1.
4- (4) عقاب الأعمال ص334، ب 106، ح4.
5- (5) وسائل، ج20، ص514، وما بعدها، أبواب 19، 20، 21، 22، من أبواب غسل المیت.
6- (6) المصدر، باب 19.

الثیاب، وفی بعضها(1) من غیر أن ینظر إلی عورتها، وفی(2) بعضها یلف علی الید خرقة.

نعم قد ورد فی بعضها(3) أن المیت إذا کان امرأة تیمم مع عدم وجود المحرم ولا المماثل، وفی بعضها(4) تغسل کفیها، وفی بعضها(5) جواز التغسیل من وراء ثوب کثیف.

وعلی أی تقدیر فغیر المحرم لا یسوغ له مسّ الآخر ولو کان میتاً.

ولا یخفی أن هذه الروایات یستفاد منها حرمة المس ولو من وراء الثیاب ولو لبعض الجسد.

ثم إنه لا یخفی أن هذا الحکم یعم بحسب الأدلة لمس المسلم للکافرة أو للمسملة للکافر، بل یعم غیرهم أیضاً، کما ذکرنا فی قاعدة النظر، أن عموم الحکم فی الحجاب بین الجنسین حکمی ولیس حقیاً راجعاً إلی طهارة المکلف نفسه، وان لم تکن للآخر حرمة.

9 - وفی موثّق غیاث بن إبراهیم عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: قال أمیر المؤمنین(علیه السلام): «یا أهل العراق نبئت أن نساءکم یدافعن الرجال فی الطریق

ص:217


1- (1) المصدر باب 20، ح4.
2- (2) المصدر، باب 20، ح1.
3- (3) المصدر، باب 19، ح2.
4- (4) المصدر، باب 22، ح1و ح2.
5- (5) لعلَّه ظاهر روایة زید بن علی عن آبائه، الوسائل، باب 20 ح2.

أما تستحون»(1).

وفی طریق البرقی زاد قوله(علیه السلام) لعن الله من لا یغار(2).

وفی معتبرة علی بن الریان عن أبی الحسن(علیه السلام) أنه کتب الیه: رجل یکون مع المرأة لا یباشرها إلّا من وراء ثیابها وثیابه، فیتحرک حتی ینزل ما الذی علیه؟ وهل یبلغ به حد الخضخضة؟ فوقع(علیه السلام) فی الکتاب: «ذلک بالغ أمره»(3).

الدلیل الثالث: روایات مباشرة الرجل للرجل من دون ثیاب:

جملة من الروایات فی عدم مباشرة الرجل الرجل من دون ثیاب وعدم مباشرة المرأة المرأة من دون ثیاب، والتی مضی بعضها تحت عنوان النوم تحت لحاف واحد.

11 - وفی روایة الصدوق فی عقاب الأعمال باسناده المتصل إلی عبد الله بن عباس عن رسول الله صلی الله علیه و آله : «والمرأة إذا طاوعت الرجل فالتزمها أو قبلها أو باشرها حراماً أو فاکهها وأصاب منها فاحشة فعلیها من الوزر ما علی الرجل»(4).

12 - فی الصحیح إلی ابن أبی نجران عمن ذکره والصحیح إلی یزید بن حماد وغیره عن أبی جمیلة عن أبی جعفر وأبی عبد الله(علیه السلام) قالا: «ما من أحد إلّا وهو یصیب حظاً من الزنا فزنا العینین النظر وزنا الفم القبلة وزنا

ص:218


1- (1) وسائل الشیعة، أبواب مقدمات النکاح، باب 132، ح1 وح2.
2- (2) المصدر، باب 132.
3- (3) عقاب الأعمال، ص334.
4- (4) وسائل الشیعة، أبواب نکاح المحرم، باب 14، ح2.

الیدین اللمس، صدق الفرج ذلک أم کذب»(1).

ثم إنه قد یظهر من جملة من الروایات شدة التوقی من مباشرة الرجل الرجل أو المرأة المرأة من دون ثیاب، کما فی مرسلة الطبرسی فی مکارم الأخلاق(2), ومعتبرة غیاث بن إبراهیم(3).

وفی روایة عبد الله بن فضل عن أبی جعفر(علیه السلام) قال: «نهی رسول الله صلی الله علیه و آله عن المکاعمة والمکامعة، فالمکاعمة أن یلثم الرجل الرجل والمکامعة أن یضاجعه ولا یکون بینهما ثوب من غیر ضرورة»(4). وغیرها من الروایات(5) .

ثم انه یسوغ اللمس المحضور فی موارد الاضطرار کالولادة للقابلة أو المعالجة من المماثل أو غیره، نعم مع إمکان رفع الحاجة بالمماثل لا تصل النوبة إلی غیره لشدة الحرمة والمفسدة فی غیر المماثل، ویفیده صحیح أبی حمزة الثمالی.

وصحیحة علی بن جعفر(6).

الدلیل الرابع: روایات حرمة تقبیل الصبی الممیز:

ما تقدّم من الروایات الواردة فی أحکام الصبی تقبیلًا والتزاماً

ص:219


1- (1) وسائل الشیعة، أبواب نکاح المحرم، باب 22، ح5.
2- (2) وسائل الشیعة، أبواب مقدمات النکاح، باب 127، ح5.
3- (3) وسائل الشیعة، أبواب النکاح المحرم، باب 21، ح4.
4- (4) وسائل، أبواب مقدمات النکاح، ب117، ح5.
5- (5) المصدر، باب 130، ح1.
6- (6) المصدر، الباب ح4.

والوضع فی الحجر، وقد قید فی جملة منها الجواز إلی ست سنین(1). أی مباشرة الرجل للبنت.

ویستفاد من هذه الطائفة من الروایات (طائفة التقبیل ونحوها)، ان حکم اللمس للصبیین الممیزین الحرمة أیضاً بالنسبة إلی البالغین، وکذلک التزام ومباشرة واحتضان الصبیین الممیزین.

بل فی موثّقة السکونی(2) المنع عن حجامة الصبی الممیز للمرأة.

ولا یخفی أن جملة ما فی الروایات من موارد وصور قد یحمل علی بیان موارد الریبة تعبداً.

وقد یدعم الجواز فی الصبی الممیز ما یستظهر من الروایات الواردة فی وضع الجاریة فی الحجر وضمها، حیث یظهر منها جواز النظر، کما أشار إلیه غیر واحد من الأصحاب، مضافاً إلی ما یظهر من هذه الروایات من ارتکاز مفروغیة الجواز بالنسبة إلی عن النظر، أما السؤال فقد وقع عن ما هو أشد کالتقبیل أو الضم أو الوضع فی الحجر.

هذا تمام الکلام فی قاعدة حرمة اللمس.

والحمد لله رب العالمین

ص:220


1- (1) المصدر، باب 127.
2- (2) المصدر أبواب مقدمات النکاح، باب 130، ح2.

قاعدة:فی التبرج بالزینة

اشارة

ص:221

ص:222

من قواعد باب النکاح:فی التبرج بالزینة

اشارة

البحث فی هذه القاعدة فی عدة نقاط:

النقطة الاولی: الأقوال فی المسألة:

قال الشیخ المفید فی رسالته أحکام النساء(1): (ولا یحل لها أن تصل شعرها بشعر غیرها من الناس، ولا یجوز لها وشم وجهها، وهو أن تنقب فی خدها من وجهها بأبرة وتجعل فیه الکحل لیکون کالخال المخلوق فی وجوه الناس، ولا یحل لها التصنع إلّا لبعلها ولا یحل ذلک لغیره من النساء والرجال علی حال ... ولا یحل لهن الاجتماع فی العرسات والتبذل فی الزینة والحلی).

وفی المحکی عن کشف الغطاء(2): (والزینة المتعلقة بما لا یجب ستره

ص:223


1- (1) رسالة أحکام النساء للشیخ المفید، ص57 - 58.
2- (2) کشف الغطاء عن مبهمات الشریعة الغراء، (ط الحدیثة) ج3 ص15 للشیخ کاشف الغطاء.

فی النظر علی الأصح، والصلاة من خضاب أو کحل أو حمرة أو سواد أو حلی أو شعر خارج وصل بشعرها، ولو کان من شعر الرجال وقرامل من صوف ونحو یجب ستره عن الناظر دون الصلاة علی الأقوی).

وحکی الأردبیلی(1) فی زبدة البیان عن الکشاف: (إن الزینة ما تزینت به المرأة فما حلی أو کحل أو خضاب، من کان ظاهراً منها کالخاتم والفتخة وهی: حلقة من فضة لا فص لها، والکحل والخضاب فلا بأس بإبدائه للأجانب ... وکذلک مواقع الزینة الظاهرة الوجه موقع الکحل فی عینیه والخضاب بالموسمه فی حاجبیه وشاربیه والغمرة فی خدیه والقدم وموقعا الخاتم والفتخة والخضاب بالحناء ) (إلی آخر ما نقله عن الکشاف).

النقطة الثانیة: تحریر محل البحث:

إنه بناءً علی وجوب الجلباب یکون إبداء الملابس المنزلیة- أی التی تلبس تحت الرداء وتکون فیها بهیئتها فی المنزل- بمالها من الزینة هو إبداء للزینة الخفیة ولیست هی مما استثنی وظهر، کما أن إبداء الزینة الخفیة بلبسها علی الثیاب فی المواضع التی هی من الزینة الخفیة کالدملج فی العضد وکالقلادة فی العنق وکالقرطین فی الأذن والمنطقة المذهبة مثلًا فی الوسط وغیرها من آلات الزینة، فإنها وإن لبست علی الثیاب فی تلک المواضع أی ما کانت البشرة مستورة، إلّا أنه لما کان تزیین بزینة تلک المواضع کان إبداؤها إبداء للزینة فی تلک المواضع، فتندرج فی عموم قوله تعالی: وَ لا

ص:224


1- (1) زبدة البیان فی أحکام القرآن ص543 - 544.

یُبْدِینَ زِینَتَهُنَّ إِلاّ ما ظَهَرَ1 فان النهی عن کشف المواضع وان استفید من الایة من النهی عن ابداء زینة تلک المواضع الا ان ذلک لا یعنی سقوط المفاد المطابقی عن الارادة الجدیة فان من خواص الاستعمال الکنائی إمکان إرادة کلّ من المعنیین علی نحو الطولیة.

وبعبارة أخری: إن تقریب مفاد الآیة هو بعد الفراغ من عورویة جسد المرأة ولزوم ستره، إلّا المقدار الظاهر من الوجه والکفین والقدمین، فهی فی صدد حکم الزینة وإبداؤها وإنه لا یسوغ إبداؤها والتجمل بها أمام الرجال، إلّا التی فی ما یظهر من أعضاء البدن، ومن ذلک یظهر أن اتخاذ الألوان الخلابة فی الجلباب والرداء والتی هی بحسب العادة ألوان للقمیص وإزار المرأة للملابس المنزلیة ولیست هی ألوان مضادة للرداء والجلباب، فإن اتخاذها فی الجلباب نحو من إبداء للزینة الخفیة أو إبداء الزینة علی المواضع التی هی غیر ما ظهر، ومنه یظهر الحال فی الفرامل والشعر الموصول إذا کانت ملبوسة بادیة.

النقطة الثالثة: القول فی تحدید الزینة الظاهرة:

ففی صحیح الفضیل قال: «سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن الذراعین من المرأة هما من الزینة التی قال الله وَ لا یُبْدِینَ زِینَتَهُنَّ إِلاّ لِبُعُولَتِهِنَّ قال: نعم، وما دون الخمار من الزینة وما دون السوارین»(1).

وفی موثّقة زرارة عن أبی عبد الله(علیه السلام) عن قول الله عز وجل: إِلاّ ما

ص:225


1- (2) وسائل الشیعة، ج20 ص200 باب 109 من أبواب مقدمات النکاح ح1.

ظَهَرَ مِنْها قال: «الزینة الظاهرة الکحل والخاتم»(1).

وفی مصححة أبی بصیر عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال: «سألته عن قول الله عز وجل: وَ لا یُبْدِینَ زِینَتَهُنَّ إِلاّ ما ظَهَرَ مِنْها قال: الخاتم والمسکة وهی القُلب»(2) والقلب: السوار.

وموثّقة مسعدّة بن زیاد قال: «سمعت جعفراً وسئل عما تظهر المرأة من زینتها قال: الوجه والکفین»(3).

ویمکن الاستدلال أیضاً بقوله تعالی: وَ الْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاّتِی لا یَرْجُونَ نِکاحاً فَلَیْسَ عَلَیْهِنَّ جُناحٌ أَنْ یَضَعْنَ ثِیابَهُنَّ غَیْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِینَةٍ 4.

فإن فی الآیة موضعین فی الدلالة علی المقام:

الموضع الأوّل: دلالتها علی أن لبس الجلباب عزیمة للمرأة، وإنما استثنی من ذلک القواعد من النساء، کما فی قوله تعالی: یُدْنِینَ عَلَیْهِنَّ مِنْ جَلاَبِیبِهِنَّ 5 حیث وردت الصحاح کصحیحة محمد بن مسلم(4) والحلبی(5) وأبی الصباح الکنانی(6) وغیرها بتفسیر الثیاب بالجلباب، مما

ص:226


1- (1) المصدر، ح3.
2- (2) المصدر، ح4.
3- (3) المصدر، ح5.
4- (6) وسائل الشیعة، ج20، ص202 باب 110، من أبواب مقدمات النکاح ح1.
5- (7) المصدر، ح2.
6- (8) المصدر، ح6.

یدلل علی أن ما تحت الجلباب لا یبدی وهو معنی عزیمة الجلباب.

والموضع الثانی فی الآیة: نهیهن عن التبرج بزینة ما تحت الجلباب، أی عن البروز بالزینة التی یجب سترها من الحلی وثیاب التجمل؛ (لأن خروجهن بالزینة یدل علی أنهن متبرجات وداعیات للشواب لا طالبات لحاجاتهن)، هکذا قرر السیوری فی کنز العرفان(1) مفاد الآیة فی الموضع الثانی.

ومن ذلک یظهر أن ما یتعارف لبسه من الألبسة الضیقة من الثیاب من دون رداء وعباءة والتی تحکی مفاصل البدن أو المشتملة علی ألوان خلابة هو من التبرج بالزینة الواجب سترها، فضلًا عن أن ترک الجلباب هو بنفسه محظور.

ویدعم ذلک ما ورد من التبرج لغة، کما عن الجوهری(2): إن التبرج: إظهار المرأة زینتها ومحاسنها للرجال. وعن الخلیل بن أحمد الفراهیدی: (وإذا أبدت المرأة محاسن جیدها ووجهها قیل: قد تبرجت).

قال فی الکشاف(3): (فإن قلت: ما حقیقة التبرج؟ قلت: تکلّف إظهار ما یجب إخفاؤه من قولهم: بارج لا غطاء علیها) - إلی أن قال- بأن تتکشف المرأة للرجال بإبداء زینتها وإظهار محاسنها)، وقیل: غیر مظهرات لما یتطلع إلیه منهن ولا متعرضات بالتزین للنظر إلیهن وإن کن یحل ذلک

ص:227


1- (1) کنز العرفان للسیوری ج2 ص226.
2- (2) کتاب العین للخلیل الفراهیدی، ج6، ص114.
3- (3) الکشاف عن حقائق غوامض التنزیل، ج3، ص255.

منهن.

وعن ابن عباس فی قوله تعالی: وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِیَّةِ الْأُولی : ولاتتزین بزینة الکفار فی الثیاب الرقاق الملونة، وقیل: إن منه لبس ما یصف أو یشف من الثیاب، وقیل: من التبرج تبرج الجاهلیة الأولی: المشی بین الرجال والتغنج والمیلان فی المشی، وعن الفراء: کانت المرأة إذ ذلک تلبس الدرع من اللؤلؤ غیر مخیط الجانبین، ویقال: کانت تلبس الثیاب تبلغ المأکم وهو العجزة- وسیأتی للکلام تتمة.

ثم إنه یقع الکلام فی تحدید مقدار ما یسوغ من الزینة الظاهرة بعد کون الأقوی جواز إظهار الوجه والکفین والقدمین، لکن لا بنحو تبدو تمام صفحات الوجه، فهل السائغ حینئذ إبداء خصوص الکحل والخاتم والسوار المنصوص، أو أنَّ السائغ هو ما اعتبر وضعه لزینة، أم تسوغ مطلق أنواع الزینة فی ذلک الموضع کالحمرة والسواد وأنواع المکیاج، الحدیث بنحو یعد تبرج لا لزینة؟

ففی صحیح محمد بن مسلم عن أبی جعفر(علیه السلام) قال: «لا ینبغی للمرأة أن تعطل نفسها ولو أن تعلّق فی عنقها قلادة، ولا ینبغی أن تدع یدها من الخضاب ولو أن تمسحها مسحاً بالحناء، وإن کانت مسنة»(1).

وفی صحیحة الآخر قال: «سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن حلیة النساء بالذهب والفضة فقال: لابأس»(2).

ص:228


1- (1) وسائل الشیعة، ج20 ص166 باب 85 من أبواب مقدمات النکاح ح1.
2- (2) المصدر، ج5، ص103، باب 63، من أحکام الملابس ح3.

وفی المرسل إلی الإمام جعفر بن محمد(علیه السلام) قال:

«رخص رسول الله صلی الله علیه و آله المرأة أن تخضب رأسها بالسواد، قال وأمر رسول الله صلی الله علیه و آله النساء بالخضاب ذات البعل وغیر ذات البعل فتزین لزوجها، وأما غیر ذات البعل فلا تشبه یدها ید الرجال»(1).

لکنّه قد تقدّم دلالة قوله تعالی: غَیْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِینَةٍ 2 علی حرمة التبرج بالزینة فی نفسه وإن کان فی المواضع التی لا یجب سترها، وقد مرَّ أن التبرج بالزینة هو التکلیف بإظهار الزینة، وقد مرّ أیضاً أن إبراز المحاسن للمواضع التی ینبغی إخفاؤها مشمول للنهی فی قوله تعالی: وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِیَّةِ الْأُولی 3 ولقوله تعالی: غَیْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِینَةٍ .

ویدل علی التفصیل فی المراد بالزینة المحرّم التبرج بها- بین ما ظهر وما ینبغی إخفاؤه بلحاظ موضع الأعضاء- صحیحة الحلبی عن أبی عبدالله(علیه السلام) أنه قرأ أَنْ یَضَعْنَ ثِیابَهُنَّ 4 قال: «الخمار والجلباب، قلت: بین یدی من کان؟ فقال: بین یدی من کان غیر متبرجة بزینة، فإن لم تفعل فهو خیر لها، والزینة التی یبدین لهن شیء فی الآیة الأخری»(2).

والظاهر إن مراده(علیه السلام) من الزینة فی الآیة الأخری هو قوله تعالی: وَ لا یُبْدِینَ زِینَتَهُنَّ إِلاّ ما ظَهَرَ هذا.

ص:229


1- (1) المصدر، ج2، ص97 باب 52، من أبواب آداب الحمام، ح2.
2- (5) وسائل ، ج20، ص203، باب 110، من أبواب مقدمات النکاح ح2.

وقد یقال: إن هذه الصحیحة الناظرة إلی تفصیل الآیة لا تدلّ علی جواز الزینة المثیرة فیما ظهر، لأن الزینة المثیرة تدخل فی عنوان التبرج المنهی عنه فی الآیتین، لما مرّ من أن تعریف اللغویین للتبرج من التکلف فی إظهار الزینة لجلب انتباه الرجال، وهو خارج عن إبداء الزینة الظاهرة، الذی هو بحد ما تخرج به المرأة عن أن تکون معطلة کما مر فی الروایات. فالتعریف اللغوی للتبرج المنهی عنه لا یختص بما خفی من زینة المرأة، بل یعم ما ظهر کما یعم ما یستحدث فی الجلباب أیضاً من ألوان مثیرة، فعن أبی عبیدة هو أن یبرزن محاسنهن فیظهرنها، وعن الزجاج: «التبرّج إظهار الزینة وما تستدعی به شهوة الرجل، وقیل إنهن کن یتکسّرن فی مشیتهن ویتبخترن» فیظهر من هذین التعریفین أنهما یشملان نحو المشی کما مر فی التغنج فی الصوت، وهذا التعمیم یمکن أن یستأنس من قوله تعالی: وَ لا یَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِیُعْلَمَ ما یُخْفِینَ مِنْ زِینَتِهِنَّ 1.

وکذا الآیة: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَیَطْمَعَ الَّذِی فِی قَلْبِهِ مَرَضٌ .

وعن ابی عطیة «التبرج إظهار الزینة والتصنّع بها»(1).

وقال المصطفوی فی التحقیق(2): التبرج فی المرأة بالتزین فی مقابل الأجانب قولًا وعملًا وسلوکاً ومشیاً ولمزاً ونظراً، فکل حرکة أو سکون من المرأة یجذب نظر الرجل، ویقتضی نفوذها فیه- تأثیرها فیه- ویوجب

ص:230


1- (2) الأحزاب: 32.
2- (3) التحقیق فی کلمات القرآن ج1 ص243.

التظاهر والتجلی والاستعلاء فی قباله التبرج، وقال(1): «والمرأة المتزینة الحسناء التی أظهرت محاسنها للأجانب ونفذت فیهم (أن أثارتهم)، وقد یقال: إن مقتضی صحیح الحلبی إن التبرج هو إبداء الزینة، لأنه قابل بین «غیر متبرجة بزینة) وبین «والزینة التی یبدین لهن» فیقتضی ذلک تخصیص عموم النهی عن التبرج بإلا ما ظهر، نعم هذه الروایة والروایات التی سبقت فی تفسیر الزینة التی نهی عن إبدائها والزینة التی رخص فیها ظاهرها إنها محاسن المرأة سواء بحسب طبیعة خلقة العضو أو بحسب ما یوضع علیه من مواد أو آلات، ففی صحیح الفضیل المتقدّم وقع السؤال «هل الذراعین والأعضاء نفسها من الزینة»، وفی موثّق زرارة وصحیح أبی بصیر: «هل جعل ما یتزین به من الزینة»، وفی موثّقة مسعدّة نظیر صحیح الفضیل، وعلی ذلک فلا یبقی لعموم التبرج المنهی عنه إطلاق.

وفیه: إن ما ذکر وإن کان متیناً، إلّا أنه لا ینافی ما ذکرناه أولًا، فإن الآیة المفصلة لما یبدی من الزینة وما لا یبدی ظاهرها بحسب الأعضاء وطبع محاسنها وما تتزین به بنحو لا تکون معطلة، وأما ما یزید علی ذلک من درجة الحسن وبروزه فهو باق علی عموم النهی عن التبرج، ویشهد لهذا التفصیل فی التبرج المسوغ عن المنهی ما مرت الإشارة إلیه فی الآیة من النهی عن الضرب بالأرجل لئلا یعلم ما یخفین من الزینة، مع إن الزینة التی هی تحت الثیاب مخفیة، إلّا أنه نهی عن بروزها ولو بتوسط الصوت، مما یدلل علی أن درجات البروز والتبرج ملحوظة فی مفاد الآیات وکذلک

ص:231


1- (1) المصدر: ص242.

یشیر إلی هذا النهی عن التخضع فی القول، فإن الکلام وإن رخص فیه وهو مما ظهر، إلّا أنه إذا أبرز بالقول محاسن أنوثة المرأة فإنه یکون منهی عنه، مما یدلل علی إن الإبداء علی درجات کما أن زینة المرأة ومحاسنها علی درجات ایضا ،ومن ثم یحرم الرفث من القول مع الأجنبیة، کما فی قوله تعالی: وَ لکِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً1.

وبالتالی یتبین الفرق بین ما هو زینة خفیفة معتادة فی تلک المواضع وبین ما هو زینة شدیدة تعمل بتکلّف وعنایة خاصة، وهی تختلف بحسب الأعراف والأزیاء المشتهرة.

ثم إن فی موثّقة السکونی عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: «سُئل رسول الله صلی الله علیه و آله ما زینة المرأة للأعمی؟ قال: الطیب والخضاب فإنه من طیب النسمة»(1).

وهو یفید دخول الرائحة الطیبة فی الزینة، ولا ریب إنها علی درجات أیضاً.

وفی صحیح الولید بین صبیح عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال: «قال رسول الله صلی الله علیه و آله أی امرأة تطیبت وخرجت من بیتها فهی تلعن حتی ترجع إلی بیتها متی ما رجعت»(2).

ص:232


1- (2) وسائل الشیعة ج20 ص167 باب 85 من أبواب مقدمات النکاح ح2.
2- (3) المصدر، ص161، باب 80، من أبواب مقدمات النکاح، ح4.

وفی طریق الصدوق(1) وهو أیضاً صحیح «تطیبت لغیر زوجها ثم خرجت من بیتها».

ومثلها روایة سعد الجلاب(2).

وکذا موثّقة السکونی أیضاً عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال: «قال رسول الله صلی الله علیه و آله طیب النساء ما ظهر لونه وخفی ریحه وطیب الرجال ما ظهر ریحه وخفی لونه»(3).

ومورد هذه الروایات فی الطیب ذو الرائحة المرکزة القویة المستعمل قبیل الخروج.

ثم إنه یمکن تقریر التفصیل المحصل من التبرج المنهی عنه إن استخدام المرأة الزینة أو إظهار ما یحدث إثارة للرجال هو داخل فی التبرج المنهی عنه بخلاف ما لا یکون بطبعه مثیراً، ومنه یظهر إن قاعدة التبرج مقاربة لقاعدة حرمة الفتنة والافتتان الجنسی التی ذکرناها فی قاعدة مستقلة.

ومن التبرج هو کلّ ما تبرزه وتصطنعه المرأة من محاسن یثیر حفیظة الرجال الأجانب سواء فی القول أو العمل والسلوک أو النظرات والمشی وکیفیة حرکات أعضاء البدن والذی عبروا عنه بالتکسر تجاه حرکات الأعضاء، ومنه یظهر إن الانفتاح الشدید فی الاختلاط مع الرجال من

ص:233


1- (1) رواها الصدوق فی عقاب الأعمال.
2- (2) الوسائل، ج20، باب 80، من أبواب مقدمات النکاح، ح1.
3- (3) وسائل الشیعة، ج2، ص147، باب 93، من أبواب آداب الحمام، ح1.

دون حاجب العفاف فی السلوک العام هو الآخر یندرج فی مصادیق التبرج المحرم. بل هذا النمط من التبرج وردت فیه روایات خاصة.

النقطة الرابعة: استطراد حکم إقامة علاقة الصداقة مع الأجنبیة:

قال فی لسان العرب(1): «الخدن والخدین الصدیق، أو الخدن والخدین الذی یخادنک فیکون معک فی کلّ أمر ظاهر وباطن، وخدن الجاریة محدثها، وکانوا فی الجاهلیة لا یمتنعون من أن یحدث الجاریة فجاء الإسلام لهدمه، والمخادنة المصاحبة وفی التنزیل العزیز مُحْصَناتٍ غَیْرَ مُسافِحاتٍ وَ لا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ 2 أی یتخذن أصدقاء.

وفی تفسیر القمی فی قوله تعالی: وَ لا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ . «أی لا یتخذها صدیقة.

و قال الزمخشری «والأخدان الأخلاء فی السِّر أی غیر مجاهرات فی السفاح ولا مسرات له».

و قیل کانت البغایا فی الجاهلیة علی قسمین مشهورات ومتخذات أخدان، وکانوا بعقولهم یحرمون ما ظهر من الزنا ویستحلون ما بطن، فنهی الله عز وجل عن الجمیع.

أقول: المستحصل من کلمات اللغویین وظاهر الآیة إن إقامة العلاقة والصداقة بین الأجنبی والأجنبیة للتواطؤ علی أی نوع من الاستمتاع

ص:234


1- (1) لسان العرب، لابن منظور، ج13، ص139 مادة (خدن).

الجنسی أو الغرام محضور. وهذا المقدار- وهو عدم تکوین العلاقة علی أساس الانفتاح الجنسی ولو علی صعید الکلام- هو المستفاد من قوله تعالی أیضاً:

وَ لا جُناحَ عَلَیْکُمْ فِیما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَکْنَنْتُمْ فِی أَنْفُسِکُمْ عَلِمَ اللّهُ أَنَّکُمْ سَتَذْکُرُونَهُنَّ وَ لکِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَ لا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّکاحِ حَتّی یَبْلُغَ الْکِتابُ أَجَلَهُ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ یَعْلَمُ ما فِی أَنْفُسِکُمْ فَاحْذَرُوهُ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِیمٌ 1.

قیل فی تفسیر الآیة أی لا تواعدوهن مواعدة قط بالزواج، إلّا مواعدة معروفة غیر منکرة أی لا تواعدوهن إلّا بالتعریض، أی لا تکنّوا فضلًا عن التصریح.

و قیل فی معنی لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا بالجماع، والقول المعروف هو القول الذی لیس فیه رفث ولا إفحاش، فالآیة الکریمة تحدد المقدار المجاز من الحدیث مع الأجنبیة مع أن هذا الحدیث متواطئ فیه علی الحلال وهو عقد النکاح. فلا تسوغ التصریح ولا الکنایة، بل فی ذات البعل لا یجوز مطلقاً حتی التعریض. وأما فی الخلیة فیجوز التصریح دون الرفث فی القول من الکلمات المستهجنة المنافیة لحاجب الحیاء والستر بین الأجنبیین.

وفی تفسیر العیاشی عن أبی بصیر عن أبی عبد الله(علیه السلام) فی قول الله: لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً؟ قال:

«المرأة فی عدّتها تقول لها قولًا جمیلًا ترغبها فی نفسک ولا تقول إنی أصنع کذا وأصنع کذا القبیح من

ص:235

الأمر فی البضع وکل أمر قبیح»(1).

وروی عن أبی بصیر عنه(علیه السلام) لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا هو قول الرجل للمرأة قبل أن تنقضی عدّتها أواعدک بیت آل فلان لترفث ویرفث معها»(2).

و قریب من مضمونها ما رواه الکلینی(3) من صحیح الحلبی وصحیح عبد الله بن سنان، وما رواه فی الصحیح عن علی بن حمزة عن أبی الحسن(علیه السلام) إلّا أن فیه فی قوله تعالی: لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا (قال: (یقول الرجل أواعدک بیت آل فلان یعرض لها بالرفث ویرفث)، والقول المعروف التعریض بالخطبة علی وجهها وحلّها، نعم ما رواه فی صحیح عبد الرحمن بن أبی عبد الله عن أبی عبد الله(علیه السلام) فی تفسیر القول المعروف قال:

«یلقاها ویقول إنی فیک لراغب وإنی فی النساء لمکرم ولا تسبقینی بنفسک. والسر لا یخلو معها حیث وعدها».

ویستفاد مما ورد فی الآیة والنصوص والفتاوی فی مسألة الخطبة لذات العدّة المفروغیة من حرمة الرفث فی القول مع الأجنبیات. وقد ذکرنا شطر وافر من الکلام(4) حول حکم المفاکهة مع الأجنبیات والانبساط المثیر للرغبة والتلذذ فی السماع وکذا حکم الخلوة ولو من فئة من الرجال مع فئة من النساء، وکل تلک المسائل ترسم حدود العلاقة بین الأجانب والأجنبیات، بما یکفل حفظ الطرفین عن معرضیة الوقوع فی التلذذ المحرم

ص:236


1- (1) تفسیر العیاشی، ج1، ص142، ح395.
2- (2) المصدر، ح391.
3- (3) الکافی، ج5، ص434، ح1، ح2، ح3.
4- (4) سند العروة - النکاح.

من الطرفین ولو بأدنی درجاته.

ویؤید جمیع ما تقدّم المستفاد من فحوی قوله تعالی: وَ إِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ

مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِکُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِکُمْ 1.

ویعضد کلّ ما تقدّم أیضاً قوله تعالی: وَ الَّذِینَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ * إِلاّ عَلی أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَکَتْ أَیْمانُهُمْ 2.

فإن مقتضی الآیة کما مرَّ فی مباحث الستر والنظر هو حرمة الاستمتاع الجنسی مطلقاً بأی لون وبأی درجة وبأی عضو إلّا فی ما یجوز من عدد الأزواج الزوجة والمملوکة. وهو شامل للتلذذ بالبهائم وغیرها.

والحمد لله رب العالمین

ص:237

ص:238

قاعدة:فی الفرق بین النکاح (الإحصان)و السفاح (الزنا)

اشارة

ص:239

ص:240

من قواعد باب النکاح:فی الفرق بین النکاح (الإحصان) والسفاح (الزنا)

البحث فی هذه القاعدة یقع فی اشکال ودفع:

قد یشکل بان عقد المتعة أو التحلیل فی عقد الیمین لا یفترق عن الزنا والسفاح، ومن ثم استدلّ بعض العامّة علی تحریم المتعة بأنها منسوخة بقوله تعالی: (مُحْصِنِینَ غَیْرَ مُسافِحِینَ ) بدعوی انّ المتعة لیست احصان، بل سفاح، اذ لاتوجب النفقة ولا الإرث، ولیست فیها قسم ولا طلاق، ولایحتاج نفی الولد الی لعان، ولیس فیها ظهار.

والصحیح انّ هناک فرق ماهوی بین النکاح مطلقاً سواء کان متعة أو دائما مع ماهیة الزنا، ویمکن تعداد تلک الفوارق:

الفارق الأوَّل: ان هناک فی النکاح ولو المتعة التزام من الطرفین وتملیک البضع والاستمتاعات، بخلاف ماهیة الزنا فانها لاتتضمن أی التزام من احد الطرفین تجاه الآخر، ومن ثمّ سمی القرآن الکریم النکاح احصاناً، والزنا سفاحاً، فانّ معنی الاحصان یتضمن الحصن والثبات والاقامة، بینما معنی السفاح هو الاراقة السریعة، ویطلق علی الماء الذی یجری علی سفح الارض ویقال سفح الماء أی صبّه أو الماء اذا انصب،

ص:241

وسفح الجبل وجهه، ویقال للزنا سفاح لان الماء یصب ضائعا، فکأنّ الزانیین لاهمّ لهما فی احترام الماء من الطرفین بالالتزام والتعهد والاقرار بنسبة النسل المتولد من فعلهما وماءهما، حیث إن الزانی لاهمّ له الا إراقة الماء، وقضاء الشهوة، بینما فی النکاح هناک تعاقد وتواثق بین الطرفین علی تملیک الرجل منافع الاستمتاع من المرأة، وبضعها فی مقابل التزام الرجل بالالتزامات الزوجیة وآثارها(1).

الفارق الثانی: ان فی النکاح ولو متعة قد اخذ فیه معنی الاقتران والمعیة والتکافؤ وهذا بخلافه فی الزنا، فانّ الرجل قد یزنی بالوضیعة والمجنونة، ولکنّه یأنف أن یقترن فی عقد النکاح بهما، بل ان النکاح نفسه علی درجات، فان من النساء من یتزوج بها من أجل قضاء الوطر کما فی المتعة، ومنهن من یتزوج بهن لأجل انشاء بیت الزوجیة، ومنهن من یتزوج بهن لاجل الانجاب، وأن تکون اماً لاولاده، کما یشیر الی ذلک قوله تعالی: هُنَّ لِباسٌ لَکُمْ وَ أَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ 2 وقوله تعالی: وَ مِنْ آیاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَکُمْ

ص:242


1- (1) وفی اللغة یقال: الحصن: المکان الذی لایقدر علیه لارتفاعه، وحصن حصانه فهو حصین أی منیع، وقیل للفرس العتیق حصان لان ظهره کالحصن لراکبه أو لانه ظُنَّ بمائه فلم ینزأ الا علی کریمة، ومن ثم قیل للمرأة العفیفة حَصَان، والحصانة العفة، أی انّه اذا تزوج فقد احصن نفسه، أی اذا التزم الطرفان بتملیک البضع منع من السفاح، فاطلق علی الزواج انه مانع ومناعة من اراقة الماء علی وجه هدر وبدد، أی ان النکاح مأوی للالتزام بالتنسیل والتعاهد بأثاره والقیام بعبئه ومسؤولیاته، فهو یمنع المتزوج من الهروب عن المسؤولیة بخلاف القاصد للزنا فانه انما یتجه الیه لهروبه من مسؤولیات ووظائف الزواج الی مجرد نزوة الزنا السریعة الخالیة من أی مسؤولیات عاجلة، وهذا فرق فارق وفیصل فاصل بین الماهیتین.

مِنْ أَنْفُسِکُمْ أَزْواجاً لِتَسْکُنُوا إِلَیْها1 وقوله تعالی: نِساؤُکُمْ حَرْثٌ لَکُمْ فَأْتُوا حَرْثَکُمْ أَنّی شِئْتُمْ 2.

الفارق الثالث: ان هناک فرقاً فی الآثار الوضعیة والتکوینیة بین النکاح والسفاح، مثل ان المرأة فی النکاح حیث أنها مملوکة بضعها ومتعتها للزوج فلا تخونه بحسب میثاق الزوجیة بفراش غیره، وهذا بخلاف الزنا، فلا تخلص فی الودّ والوفاء له، وبعبارة أخری ان هناک فی النکاح ارتباط روحیاً ووئاماً نفسیاً وعلاقة معنویة ولیست مجرد ارتباط جسدی بتحریک الغریزة الجنسیة، ومن ثمّ لا تجد هناک تعهد والتزام بالحضانة والکفالة لِما یتنسل وینجب من طریق الزنا والحرام بخلاف ما یکون من طریق النکاح، ویستتبع ذلک عدم بناء الاسرة وعدم تربیة اجیال المجتمع، وبالتالی نشوء اجیال تحمل العقد الروحیة والتمرد علی الطبیعة البشریة وعدم ألفتها للحنان والعطوفة التی حرمت منه، فیتفشی من ذلک ویتداعی جملة من المفاسد الخطیرة فی مجمل فصول النظام الاجتماعی.

الفارق الرابع: ثم انه هناک فرق بین النکاح وملک الیمین وبین ملک الیمین والزنا، حیث ان ملک الیمین ملکیة السید لمنافع الأمة الجنسیة وغیرها من دون تملک الأمة شیئاً عن السید عدا لزوم النفقة ونحوها لأنها فی عیلولته.

ومن ثم فلیس فی ملک الیمین عنصر التکافؤ، وعلی ضوء ذلک

ص:243

اختلفت جملة من الاثار بینهما. ومن ذلک یتضح الفرق بین ملک الیمین والزنا، حیث ان لاملکیة شاملة فی الزنا اذ لم یقع التعاقد والاجارة علیه.

کما انه یتضح الفرق أیضاً بین نکاح المتعة والزنا والاجارة.

حیث ان هناک فی النکاح اقتراناً ومقارنة بین شخصیة الزوجین سواء فی بعد البدنی الجنسی أو غیره، کالبعد المعنوی، بل ان الزوج یملک البضع والاستمتاعات مقابل تملک المرأة المهر، بخلاف الاجارة علی الزنا فانه اتلاف للمنفعة مضمون أو انتفاع بضمان أو بذل فی مقابل بذل، ولک ان تقول ان فی النکاح املاک المرأة نفسها للزوج سواء بلحاظ المنافع والاستمتاعات أو بلحاظ أنها سکن له، بینما فی الزنا یقتصر لو سلم فی ماهیته علی منافع الاستمتاع الخاصة.

ومن ثم عرف أصحابنا الزنا بعدة تعریفات فقال الراوندی فی فقه القرآن: «الزنا هو فعل مخصوص لایجری علی طریقة لازمة وسنة جاریة، لذلک لایقال للمشرکین فی الجاهلیة «اولاد زنا» ولا لاهل الذمة والمعاهدین (أولاد زنا) اذا کان عقدا بینهم یتعارفونه»(1) انتهی.

أقول: بمقتضی کلامه(رحمه الله) قد یخرج فعل الصداقة عند الغربیین عن الزنا ویندرج فی نمط من الزواج العرفی بلحاظ ماجری له من تطویر فی التزام النفقة والسکن المشترک وغیرها من الالتزامات فیصحح محاولة فقهاء القانون عندهم فی دراستهم أن یکیفوها مع ماهیة النکاح، وعرّف کثیر من الاصحاب الزنا بالوطی أو الایلاج بغیر عقد نکاح ولاملک مع

ص:244


1- (1) فقه الراوندی: ج2 ص81.

العلم بالتحریم. انتهی.

والظاهر من کلامهم ان الزنا هو الوطی المأخوذ فیه ان لایکون عن علاقة مشروعة وکل طریق غیر رسمی وغیر مرسوم لدی العرف یندرج فی الزنا، وهو یقرب لما قاله الراوندی.

فمن ثم أنَّه یتجنب الاعلان والاظهار فی موارد الزنا، بخلاف موارد النکاح وملک الیمین. وقال السید الکلبایکانی: «الزنا هو الوطی غیر المستحق»(1) وهذا فی الحقیقة راجع الی تعریف المشهور أیضاً، حیث ان الاستحقاق انما یتم بالاسباب المشروعة والمرسومة.

ثم انه قد یشکل بالفرق بین النکاح والزنا والتخادن، کما فی قوله تعالی مُحْصِنِینَ غَیْرَ مُسافِحِینَ وَ لا مُتَّخِذِی أَخْدانٍ 2.

ففرق بین السفاح والاخدان. کما قد یشکل علی تعریف المشهور للزنا بانّه لیس من التمییز الماهوی بینه وبین النکاح، بل هو من أخذ الحکم فی موضوع نفسه فهو اشبه بالدور، نعم هذا التعریف هو باللوازم لکونها اظهر من کنه المائز الذاتی.

هذا ویفرق بین العناوین الثلاثة بانّ المحصنین هم الذین یتقیدون بالمعقود علیها ویعفّون انفسهم عن الفجور، بخلاف المسافحین الذین لایمسکون میولهم عن أی امرأة، أو عن ما عدا الحلیلة، وأمّا المتخادنون فهم الذین ینشئوون الصداقة الخفیة ویتواطئون فیها علی الفجور عن طریق غیر

ص:245


1- (1) الدر المنضود: ج1 ص48.

مشروع، اذ الخدن هو الخلیل فی السرّ، والتخادن هو العلاقة المتواطیء علیها سرا، وسبب الاسرار بها کونها غیر رسمیة وعلاقة غیر مقرّ بها، لایرتادها الناس شرعة، والظاهر ان هذا التعریف للزنا من السلوک والعلاقة الجنسیة من طریق غیر مشروع هو التعریف المقرر فی اعراف جملة الشعوب البشریة فی هذه الماهیة الا أن الخلاف یقع بینها فی تحدید الطرق المشروعة، ومن ثمّ ورد عنه صلی الله علیه و آله ان «لکل قوم نکاح» وورد عنهم(علیه السلام): «النهی عن الطعن فی ابناء الأمم الاخری معللین ذلک بان لکل قوم نکاح».

فتحصل ان النکاح فی فرقه عن الزنا، انه اعتبار بین الشخصین مقرر فی شرع عرف السماء کطریقة مقرّ بها ومرسومة بخلاف الزنا، فتکوین الاعتبار المرسوم بین الشخصین نکاح، وبالتالی یکون محترما عند العرف، ویرتّب علیه الآثار ویعتدّ به، ومن ثم یدخل فی طی معناه الکفاءة والتعادل بین الرجل والمرأة، وهذا الاعتبار یتفاوت شدة وضعفا، فانّ النکاح الدائم المعلن عنه اشد من النکاح الدائم غیر المعلن، کما ان ما یقصد به بناء بیت الزوجیة وانجاب النسل یختلف عن مایقصد به مجرد العشرة، کما انّه یختلف عن نکاح المتعة المنقطع وهو ذو درجات فما یکون منه لمدة طویلة بنحو معلن عنه مبرز ولاسیما اذا کان بداعی الانجاب أیضاً یختلف عن الذی یکون لمدّة قصیرة، وعلی أی تقدیر فالطرق المشروعة تختلف فی درجات اعتبارها بین کونها سبل اصلیة، أو سبل فرعیة، فالسبل الاصلیة هی التی تمارس بکثرة والسبل الفرعیة تمارس بقلة أو فی حالة الحاجة والضرورة من دون أن یعنی ذلک الغاءها کمتنفس ومحل ارتیاد فی جملة من الصور والحالات، ولعل مایروی عند العامة من امره صلی الله علیه و آله بالمتعة تارة ونهیه أخری وتکرر کل من الامر والنهی لو سلم صدق هذه النسبة فلعلها بلحاظ

ص:246

ذلک، أی بلحاظ ان لایهجر النکاح الدائم ویتخذ نکاح المتعة سبیلاً اصلیا، لا انّه نهی تحریمی ذاتی فضلا ان یکون ناسخا، بل قد یراد الارشاد منه، والاشارة الی تجنب ممارسة تطبیقیة مفرطة فیه، کما ان تأکید الامر به کی یبقی طریقاً مشروعاً لابدّ منه لحل جملة من الحالات التی یستعصی فیها اقامة النکاح الدائم.

الفارق الخامس: ثم انّه قد یفرق بین النکاح والزنا بان النکاح ارتباط معنوی وبدنی بین الزوجین، بینما الزنا ارتباط بدنی لاغیر، فکانّه فعل بهیمی محض نظیر ما تفعله بعض الحیوانات - أی متردی فی الحضیض الغریزی - دون البعض الآخر التی تقوم بالسفاد بنحو اختصاص، نظیر ما عند الانسان أی من غیر شیوع فی النزوة بینها. فیکون الزنا مثل الفعل البهیمی لأحط الحیوانات.

وبکل ما مرّ یتبیّن وهن الاشکال المتقدم بکون المتعة سفاح منسوخة بالآیة الکریمة: محصنین غیر مسفحین اذ مع اعتبار الخصم أنها مشروعة سابقاً فکیف یشملها عنوان السفاح، مع ان هذا المقطع من الآیة فی نفس آیة حلیة المتعة فبعده قوله تعالی فما استمتعتم به منهن، وأمّا انتفاء جملة من الآثار علی المتعة فهذا لایسلب ماهیة النکاح عنها، اذ النفقة تسقط بالنشوز أیضاً، والارث قد یمنع عن الزوجة أیضاً فی فرض لو کانت قاتلة، أو ذمیة أو أمة. والطلاق والبینونة قد تحصل بغیر طلاق فی الدائمة کما فی الملاعنة والمرتدّة والأمة المبیعة.

وأما عدم اللعان والظهار والایلاء، ففی الدائمة أیضاً قد تمتنتع هذه العناوین اذا فقدت الشروط.

ص:247

ثم انّ هناک جملة من الاشکالات التی تثار عندهم علی المتعة لاترتبط بتشریع نکاح المتعة وانما هی اشکالات نابعة من عدم صیرورة نکاح المتعة عرفاً سائداً اذ أی تشریع یحتاج فی مرحلة التطبیق والتنزّل الی الممارسة العملیة والی تجربة من العرف فی کیفیة حسن العمل والاستفادة من ذلک التشریع والقانون وکیفیة التحرز من سوء الاستفادة من ذلک التشریع والقانون، فجملة من هذه الاشکالات ناشئة من ذلک، والاّ فهی بعینها قابلة للتصویر والایراد علی النکاح الدائم أیضاً بلا فرق بین قسمی النکاح.

ص:248

قاعدة:فی المال او الحق المأخوذ استمالة أو اکراها

اشارة

ص:249

ص:250

من قواعد أبواب المعاملات:فی المال أو الحق المأخوذ استمالة أو إکراها

وهذه الضابطة لیست میزانا فی المقام فحسب بل هی ساریة فی کل العقود والمعاملات والایقاعات من انّ انشاءها والاقدام علیها اذا کان لدفع شر الطرف الآخر أو سوء خلقه أو بعض الاذیة أو الضرر والاضرار غیر الواصل الی حدّ الشدة والحدّه أو الالجاء أو الاضطرار فانه لیس باکراه مبطل لذلک الانشاء، وترتیب الآثار علیه من الطرفین، نعم هو دناءة من الأخذ وقد یسمی سحتاً بهذا اللحاظ.

لهذه القاعدة عدة تطبیقات منها ما فی کتاب النکاح:

وهی بذل الزوجة شیء من حقوقها أو مالها استمالة أو للخلع.

وهذا البذل یفترض علی صور:

فان الزوج تارة یمنعها عن الحقوق المستحبة أو غیرها لابنحو الایذاء المحرم.

واخری یمنعها عن حقوقها الواجبة لابقصد بذلها وتنازلها عن حقوقها.

وثالثة: یمنعها عن حقوقها الواجبة بقصد ذلک ولکن من دون أن یظهر ذلک.

ص:251

ورابعة: ان یمنعها عن حقوقها الواجبة بقصد ذلک مع اظهار ذلک.

وخامسة: لو اکرهها علی نفس البذل.

أما الصورة الأول: فقد اتفقوا علی جوازه لانه لیس باکراه منه لها علی ذلک، ولا امساک لها بضرار لیکون اخذ ما بذلته تعدّی.

وعن الشیخ فی المبسوط وکذا فی متن الشرائع وعن الارشاد والمسالک الجواز فی الصورة الثانیة أیضاً بل یظهر من بعض المذکورین بل صریح بعضهم الجواز فی الصورة الثالثة أیضاً.

وعن الشیخ فی الصورة الثانیة بعد ما حکی المنع عن بعض العامة انّ الذی یقتضیه مذهبنا انّ هذا لیس اکراها.

وعن القواعد تقیید الحقوق بالمستحبة، وفی الحدائق انما لم یکن ذلک اکراها لانّه أمر منفک عن طلب الخلع فانّه قد یفعل ذلک مع ارادته المقام معها، وانما منعها لحرصه علی المال وقلّة تدینه أو میله الی ضرتها.

وما ذکره من التعلیل أو الوجه منطبق علی الصورة الثانیة وقابل للانطباق علی الصورة الثالثة.

وفی الجواهر استشکل فیما عدا الصورة الأولی، أما الاخیرتین فلصدق الاکراه، واما الثالثة فلإندراجه فی قوله تعالی: وَ لا تُمْسِکُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا1 بل قرّب عموم الاندراج للصورة الثانیة أیضاً، ولکونه اشبه شیء بعوض علی المحرّم، فانّ بذلها للخلاص من اسره ومن ظلمه

ص:252

فیحرم علی الظالم، وذکر الشهید الثانی فی شرح اللمعة فی مسألة نُشوز الزوج، ولیس له منع بعض حقوقها لتبذل له مالا لیخلعها فان فعل فبذلت أثم وصح قبوله ولم یکن اکراها، نعم لو قهرها علیه بخصوصه لم یحل.

وقد یقرب الاستدلال بقوله تعالی: وَ لا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَیْتُمُوهُنَّ 1 فحرم الله عضل المرأة بغیر حق واحواجها بالعضل الی ان تفتدی نفسها فیذهب بذلک ببعض ما آتاها، واصل العضل التضییق والمنع، والمراد هنا مضادة المرأة وسوء العشرة معها لیضطرها الی الافتداء منه بمالها.

واطلاق الآیة شامل لما اذا اظهر قصده أم لم یظهره، بل قد یقال انه شامل لما لو لم یقصد أیضاً نظیر (لام) العاقبة فی قوله تعالی: (فالتقطه آل فرعون لیکون لهم عدوا وحزنا) التی هی لمطلق الترتب وان لم یکن فیها قصد.

ویعضده قوله تعالی: وَ لا یَحِلُّ لَکُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَیْتُمُوهُنَّ شَیْئاً إِلاّ أَنْ یَخافا أَلاّ یُقِیما حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ یُقِیما حُدُودَ اللّهِ فَلا جُناحَ عَلَیْهِما فِیمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْکَ حُدُودُ اللّهِ فَلا تَعْتَدُوها2.

وفی الآیة دلالات متعددة حیث انّ الحرمة انصبت علی الاخذ بقول مطلق الذی هو قد یکون نتیجة عضل الزوج أو مضارته لها، کما انّ مفهوم نفی الجناح علی کل منهما المتعلق بفدائها هو الآخر متعلق بأخذ المال أیضاً

ص:253

وانّ الحل مقید بمورد تنازعهما ووجود النفرة بینهما، وانّ ما وراء ذلک تعدی لحدود الله کما لو کان النشوز منه فقط.

والنهی عن الأخذ مطلقا الا فی صورة الکراهة من الطرفین أو من طرف واحد کما التزم بذلک فی الخلع والمباراة کما فی صحیح أبی الصباح الکنانی عن أبی عبدالله(علیه السلام) - فی حدیث - (ولایحل له ان یخلعها حتی تکون هی التی تطلب ذلک منه من غیر أن یضر بها، وحتی تقول لا أبرّ لک قسما ولا اغتسل لک من جنابة ولأدخلنّ بیتک من تکره ولأوطئن فراشک ولا اقیم حدود الله، فاذا کان هذا منها فقد طاب له ما أخذ منها(1).

وغیرها من الروایات الشارطة حل وطیب الاخذ والمأخوذ بذلک لاسیما وان الخلع والمباراة نحو من الصلح والمعاوضة.

نعم استثنی فی الآیة إِلاّ أَنْ یَأْتِینَ بِفاحِشَةٍ مُبَیِّنَةٍ وفسرت بالزنا، وقیل کل ما یوجب الحدّ وقیل کل معصیة، ونسبه فی مجمع البیان الی الروایة عن أبی جعفر(علیه السلام) أی النشوز.

ویدل علی التعمیم الی ذلک عموم الآیة فی سورة البقرة(2).

ومما یستدل به فی المقام قوله تعالی: وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَکانَ زَوْجٍ وَ آتَیْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَیْئاً أَ تَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِیناً وَ کَیْفَ تَأْخُذُونَهُ وَ قَدْ أَفْضی بَعْضُکُمْ إِلی بَعْضٍ وَ أَخَذْنَ مِنْکُمْ مِیثاقاً غَلِیظاً3.

ص:254


1- (1) أبواب الخلع والمباراة، باب 1 ح6.
2- (2) البقرة: 229.

قال فی مجمع البیان: (أن تکون المرأة عجوزا أو ذمیمة فیضار بها الزوج لتفتدی نفسها منه فهذا لایحل له للآیة بخلاف ما لو رآها علی فاحشة أو خافا أن لایقیما حدود الله.

والحاصل انّه یمکن تقریب حرمة أخذ الزوج العوض علی الطلاق بأنه من باب الجمع بین العوض والمعوض، حیث بوطئه للزوجة فقد استوفی عوضه، فاذا اخذ مالا علی الطلاق یکون بذلک قد استرجع العوض من دون أن یرجع المعوض الا فی موارد کراهة الزوجة أو نشوزها فانها حینئذ تکون متعدیة علی حقه بقاءاً، فیسوغ له أخذ العوض علی ما یذهب من حقه، ومثل ذلک ما لو أتت بفاحشة مبیّنة.

ومثل ذلک اسقاط المرأة بعض حقوقها لان لایضار بها الزوج، ویقلع عن ایذائها اذا کان الاسقاط عوضاً عن ترکه للعضل والمضارة.

وأما اذا کان ذلک من المرأة لیس بنحو المعاوضة ولکن بداعی ذلک، وکانت المضارة من الزوج هی بداعی اسقاطها فلایبعد أن یکون ذلک ملحقا بالاکراه، وأمّا اذا لم تکن المضارة من الزوج بداعی ذلک، ولکن اسقاط المرأة کان بداعی استمالته وترکه مضارتها فعدم ادائه لما اسقطته من حقوق لایرد علیه شبهة الاکراه ودعوی صاحب الجواهر انّه شبه العوض علی المحرم لیس الا من التشبیه الذی لیس بحقیقة، نعم قد یعدّ سحتاً بمعنی الامر الدنیء، نعم لایسوغ ذلک فی البذل علی الطلاق لما عرفت من انه جمع بین العوض والمعوض، وان لم یکن الزوج قاصداً للاضرار.

ثم لایخفی انّ فی صورة اسقاط المرأة لبعض حقوقها استمالة یسوغ لها المطالبة بالحقوق المستجدة لانها مخیرة فی الاصل بین استیفاء حقوقها أو

ص:255

اسقاطها، فالتخییر علی حاله بقاءا.

وربما استدل للجواز بقوله تعالی: وَ إِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَیْهِما أَنْ یُصْلِحا بَیْنَهُما صُلْحاً وَ الصُّلْحُ خَیْرٌ وَ أُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَ إِنْ تُحْسِنُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اللّهَ کانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِیراً1.

بتقریب ان المراد من الخوف العلم والاطمئنان نظیر قوله إِلاّ أَنْ یَخافا أَلاّ یُقِیما حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ یُقِیما حُدُودَ اللّهِ فَلا جُناحَ عَلَیْهِما فِیمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْکَ حُدُودُ اللّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَ مَنْ یَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُولئِکَ هُمُ الظّالِمُونَ 2.

وعلی هذا یکون موضوع الآیة وقوع النشوز من الزوج، بخلاف ما اذا فسر الخوف بالترقب والحذر فیکون موضوع الآیة ترقب النشوز لا وقوعه، کما انّ الاعراض عبارة عن نوع من سوء العشرة، ویعضد هذا الاستظهار ما فی الآیة من فرض الصلح بینهما، وهو یقتضی فرض وقوع النزاع وان کانت الروایات الواردة فی ذیل الآیة قد فسرتها بالخوف من الطلاق، وکراهة الزوج لها، ولعلّ ذلک من باب بیان بعض المصادیق.

ففی صحیح الحلبی عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: سألته عن قول الله عزّوجلّ وَ إِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فقال: هی المرأة تکون عند الرجل فیکرهها فیقول لها:

ص:256

انی ارید أن اطلقک فتقول له: لاتفعل انی اکره أن تشمت بی ولکن انظر فی لیلتی فاصنع بها ما شئت، وما کان سوی ذلک من شیء فهو لک، ودعنی علی حالتی فهو قوله تعالی: فَلا جُناحَ عَلَیْهِما أَنْ یُصْلِحا بَیْنَهُما صُلْحاً وهذا هو الصلح(1).

ومثلها بقیة الروایات فی الباب، وعلی هذا التفسیر فی الروایات یکون إلجاء الزوج للزوجة بشیء محلل وهو الطلاق، وقد یستدل أیضاً باطلاق آیة الخلع لما لو کان النزاع بینهما سببه نشوز الزوج أولاً وعضله، کما یستدل باطلاق الفاحشة المبینة الذی هو استثناء من حرمة العضل، لمطلق معصیة الزوجة للزوج.

ویرد علی الاستدلال بالجواز ان مورد الآیة وان کان الاظهر فیه وقوع النشوز بالقرائن السابقة الا انّ البذل والاسقاط لیس فی مقابل نشوز الزوج بل فی مقابل کراهته للمقام معها وارادته الانفصال عنها، وهذا ما اشارت الیه الروایات الواردة فی ذیل الآیة فانها فی صدد تعیین المبذول بازائه لا فی صدد نفی النشوز فإنما یصح للزوج فی مقابل ذلک، وأما اطلاق آیة الخلع ونحوها لما لو کان ابتداء النزاع من نشوز الزوج وکراهته فلایصلح دلیلا للجواز وذلک لانّ الفرض انّ البذل حصل بعد وقوع الکراهة من الزوجة وهو حینئذ سائغ لانها تکون ناشزا أو متعدیة علی حق الزوج، وان کان ذلک منها هو بسبب نشوز الزوج ابتداءاً، فلاشهادة فی الاطلاق علی جواز اخذ الفداء أو البذل مقابل نشوز الزوج خاصة مع عدم نشوزها وعدم کراهتها.

ص:257


1- (1) أبواب القسم والنشوز، باب 11 ح1.

فتحصل ان ما قررناه من مقتضی القاعدة منطبق علیه الادلة الواردة وهو انّ بذل المرأة فی مقابل الطلاق لایصح للزوج أخذه الا مع کراهتها له، فیحرم الاخذ فیما عدا الصورة الاولی من الصور الخمسة السابقة.

وأمّا اسقاطها لبعض حقوقها أو تنازلها عنها فلایصح ذلک للزوج مع کونه مضارا لها عاضلا ایاها بقصد ذلک وهی الصورة الثالثة فضلا عن ابراز ذلک، فانّه نمط من التسبیب منه فیکون اکراهاً عرفاً.

وأما الصورة الثانیة: وهو ان لایکون قاصدا ذلک فلعلّ الاوجه التفصیل بین ما لو کان نشوزه وتضییقه علیها کان بدرجة شدیدة ضاغطة علی المرأة یضطرها الی التنازل عن حقوقها فانّه یعدّ عرفاً تسبیباً منه لذلک واکراها منه لها وان لم یقصد، بخلاف ما لو لم یکن بتلک الدرجة ولم یکن بحدّ الالجاء والاضطرار العرفی للمرأة، فانه لایکون ذلک منه تسبیباً باستقلال السببیة فلایکون اکراها، ویکون اقدام الزوجة باختیار منها، ولایبعد هذا التفصیل فی الصورة الثالثة أیضاً، وانّ مراد جملة من المتقدمین ممن فصل بین الاکراه وهی الصورة الرابعة والخامسة وبین غیر الاکراه من الصورة الثانیة والثالثة هو التفصیل بلحاظ ذلک فما أورده علیهم صاحب الجواهر مدفوع بما عرفت من عدم وجود التسبیب بنحو یوجب صدق الاکراه أو الالجاء أو فقد الاختیار، ولیس العوض علی فعله أو التنازل عن بعض الحقوق محرم، کما انّه لایصدق الحدّ المذکور فی الآیات انه عضل لیذهب ببعض ما أتاها، ولا مضارة لیضیق علیها أو لیعتدی مما قد ورد فی الآیات، فانّ ذلک انّما یصدق فی الشدید المستقل فی التسبیب الضاغط علی ارادتها وهو مما یصدق معه الاکراه، فالتفصیل بما ذکره القدماء من صدق

ص:258

الاکراه وعدمه هو الصحیح وأنّه لیس مطلق نشوز الزوج یحرم معه البذل وان کان نشوزه فی نفسه محرم، ولکن الاخذ لیس بمحرم لاتکلیفا ولا وضعا.

ص:259

ص:260

قاعدة:فی لزوم الفحص الموضوعی قبل البینة أو الیمین

اشارة

ص:261

ص:262

من القواعد العامة:فی لزوم الفحص الموضوعی قبل البینة أو الیمین

اشارة

قال الأصفهانی فی وسیلة النجاة: اذا اختلفا فی العیب فالقول قول منکره مع الیمین، اذا لم یکن لمدعیه بیّنة، ویثبت بها العیب حتی العنن علی الاقوی، کما انّه یثبت کل عیب باقرار صاحبه أو البیّنة علی اقراره، وکذا یثبت بالیمین المردودة علی المدعی ونکول المنکر عن الیمین کسائر الدعاوی، وتثبت العیوب الباطنة للنساء بشهادة أربعة نسوة عادلات کما فی نظائرها.

اذا اختلفا فی العیب فأصالة السلامة هی مع نافی العیب فیکون منکرا، والقائل بوجوده یکون مدعیاً فتکون البینة علی من ادعی العیب والیمین علی منکره ، لکن الظاهر من الروایات الآتیة انّه مع امکان الفحص وتبیّن الواقع فاللازم هو الفحص وعدم الاکتفاء بالحلف ونحوه، کما فی:

1- صحیحة أبی حمزة قال: سمعت أبا جعفر(علیه السلام) یقول: «اذا تزوج الرجل المرأة الثیّب التی تزوجت زوجا غیره، فزعمت انّه لم یقربها منذ دخل بها فانّ القول فی ذلک قول الرجل وعلیه ان یحلف بالله لقد جامعها، لانها المدعیة، قال: فان تزوجت وهی بکر فزعمت انّه لم یصل الیها فانّ

ص:263

مثل هذا تعرف النساء، فلینظر الیها من یوثق به منهنّ، فاذا ذکرت أنها عذراء فعلی الامام ان یأجله سنه، فان وصل الیها والاّ فرّق بینهما»(1) الحدیث.

2 - وفی روایة عبدالله بن الفضل الهاشمی عن بعض مشایخه قال: «قالت امرأة لأبی عبد الله(علیه السلام) أو سأله رجل عن رجل تدعی علیه امرأته انّه عنین وینکر الرجل قال: تحشوها القابلة الخلوق، ولاتعلم الرجل، ویدخل علیها الرجل فان خرج وعلی ذکره الخلوق کذبت وصدق والاّ صدقت وکذب»(2) .

3 - ونظیرها روایة غیاث بن ابراهیم(3) الاّ انّ فیها انّه یغسل ذکره بعد ذلک فان خرج الماء اصفر صدّقه.

4 - وفی مرسل الصدوق انّه یقعد الرجل فی ماء بارد فان استرخی ذکره فهو عنین وان تشنج فلیس بعنین(4).

5 - وفی خبر آخر انه یطعم السمک الطری ثلاثة أیام ثم یقال له بُل علی الرماد فان ثقب بوله الرماد فلیس بعنین وان لم یثقب بوله الرماد فهو عنین(5).

وهذه الروایات جملتها متفقة علی مفاد واحد وهو لزوم الفحص

ص:264


1- (1) أبواب العیوب، باب 15 ح1.
2- (2) أبواب العیوب، باب 15 ح2.
3- (3) أبواب العیوب، باب 15 ح3.
4- (4) أبواب العیوب، باب 15 ح4.
5- (5) أبواب العیوب، باب 15 ح5.

موضوعا مع الامکان، ولایبعد ان یقرر قاعدة فی باب القضاء من هذا المورد وأمثاله وهی:

(اشتراط اعتبار البیّنة والیمین لاسیما الیمین ونحوها بعدم امکان استبیان الواقع والاّ تعیّن، وتتمة الکلام فیما یاتی من طیات القاعدة.

ثم ان ظاهر صحیحة أبی حمزة الاکتفاء بالمرأة الواحدة فی الشهادة علی بکارة المرأة، لاسناد الفعل الی المفرد، ولکن فی صحیحة داود بن سرحان عن أبی عبدالله(علیه السلام) فی حدیث قال: «وان کان بها - یعنی المرأة - زمانه لا تراها الرجال اجیزت شهادة النساء علیها»(1).

وفی صحیح الحلبی عن أبی عبدالله فی حدیث: «وان کان بها ما لا یراه الرجال جازت شهادة النساء علیها»(2).

ولعله یقال بالتفصیل بین ما کان من عیب فی عورة المرأة بالنسبة الی المرأة، فیکفی فیه امرأة موثوقة واحدة کما هو ظاهر صحیحة أبی حمزة ولانه من الضرورة، بخلاف ما اذا کان فی مواضع اخری من بدن المرأة حیث یمکن للنساء ان یطّلعن علیه فاللازم اربع الذی هو نصاب البینة.

وهذا یمکن أن یقرّب انّه مقتضی القاعدة وخرج منه ما استدعته الضرورة مما کان العیب فی موضع القبل أو الدبر، مما لایسوغ للنساء النظر إلیه الا ما استدعته الضرورة.

وبقیة الکلام محرر فی باب القضاء.

ص:265


1- (1) أبواب العیوب، باب 4 ح1.
2- (2) أبواب العیوب، باب 4 ح2.
فرع:

قال فی وسیلة النجاة: اذا ثبت عنن الرجل بأحد الوجوه المذکورة، فان صبرت فلاکلام، وان لم تصبر ورفعت امرها الی الحاکم الشرعی لاستخلاص نفسها منه أجلّها سنة کاملة من حین المرافعة، فان واقعها أو واقع غیرها فی أثناء هذه المدّة فلاخیار لها، والاّ کان لها الفسخ فوراً عرفیاً، وان لم تبادر بالفسخ فان کان بسبب جهلها بالخیار أو فوریته لایضر کما مرّ والاّ سقط خیارها، وکذا ان رضیت ان تقیم معه ثم طلبت الفسخ بعد ذلک فانّه لیس لها ذلک.

قد تقدم ان ظاهر جملة من الروایات الواردة فی باب العیوب سواء فی العنن أو فی غیره، ظاهرها الفحص عن وجود العیب کالثیبوبه والعنن(1)، والزمانة التی لاتراها الا النساء(2)، واستعلام الجنون بعدم معرفة أوقات الصلاة(3)، وهی فی موارد العیوب الخفیة، ومقتضاها لزوم الفحص مقدما علی یمین المنکر کما حکی عن الصدوق فی المقنع، والشیخ فی الخلاف، وابن حمزة وجماعة، وظاهر عبارة الشرائع والجواهر الاشکال فی اعتبار اماریة الکیفیات المذکورة فی روایات العنن لعدم تمامیة جملة من اسانیدها واستثنی فی الجواهر ما لو حصل منها القطع، ومن ثمَّ بنیا علی اعتبار قول الزوج مع یمینه لکونه منکراً، بمقتضی اصالة السلامة.

لکن الصحیح ان البحث لیس فی اعتبار خصوص هذه الامارات

ص:266


1- (1) أبواب العیوب، باب 15.
2- (2) أبواب العیوب، باب 4.
3- (3) أبواب العیوب، باب 12.

المذکورة فی الروایات، بل البحث فی لزوم الفحص ولو بکیفیات اخری ما لم یمتنع الفحص وبعبارة اخری مؤدی لزوم الفحص هو عدم حجیة المیزان الظاهری فی باب القضاء کیمین المنکر بدون الفحص الموضوعی مع التمکن، أما فی باب العیوب بل مطلقاً فی الموضوعات التی یتمکن من الفحص عن حقیقة حالها.

وبعض من الروایات المتقدمة معتبرة السند والمجموع یوثق بصدوره اجمالاً بغض النظر عن خصوصیة الکیفیات.

وعلی أی تقدیر فان ثبت العنن باحد الوجوه أو العجز لو قیل ان العنن متقوم بمرور سنة، فان صبرت فذلک لها، ولکنّه لایسقط الخیار ولو استمر سنین بعد عدم رفع امرها الی الحاکم الشرعی، لکن فی

1- مرسل الصدوق انه قال: «متی اقامت المرأة مع زوجها بعد ما علمت انّه عنین ورضیت به لم یکن لها الخیار بعد الرضا»(1).

2- لکن ما فی صحیح أبی الصباح من تعلیل التأجیل سنة کی یعالج نفسه قد یُفهم منه ان ذلک استحقاق للرجل فلایثبت لها الخیار من غیر ضرب المدّة.

3- وروایة أبی البختری(2) کالنص فی ذلک.

أما الرویاات الواردة فی تحدید السنة.

1- ففی صحیح محمد بن مسلم «العنین یتربص به سنة ثم ان شاءت

ص:267


1- (1) أبواب العیوب، باب 14 ح10.
2- (2) أبواب العیوب، باب 14 ح9.

امرأته تزوجت وان شاءت اقامت»(1).

ومفادها وان لم یذکر فیه المرافعة الی الحاکم الشرعی بصریح اللفظ، الا انّ التعبیر (یتربص به) استعمال جاری بصیغة المبنی للمجهول فی فعل الحاکم.

2- ومثله صحیح أبی الصباح(2) الا انّ فیها اجّل سنة، والتقریب فیها کما مرّ.

3 - وفی موثق الحسین بن علوان عن جعفر بن محمد عن أبیه، عن علی(علیه السلام) «انه کان یقضی فی العنین انه یؤجل سنة من یوم ترافعه المرأة»(3).

4- ومثله روایة أبی البختری(4).

وهذه الروایات تقید الروایات المطلقة الدالة علی ثبوت الخیار لها بمجرد العنن.

والظاهر من اختصاص العنن بلزوم المرافعة هو لخفاءه، فیکون مورداً للنزاع والاشتباه لاسیما وانه مأخوذ فی حده استمرار العجز سنة کاملة.

ص:268


1- (1) أبواب العیوب، باب 14 ح5.
2- (2) باب العیوب، باب 14 ح7.
3- (3) باب العیوب، باب 14 ح12.
4- (4) باب العیوب، باب 14 ح9.

قاعدة:فی نظام التحکیم والصلح والنزاعات

اشارة

ص:269

ص:270

من قواعد باب القضاء والنزاعات:فی نظام التحکیم والصلح فی النزاعات

اشارة

هل هو إصلاح وصلح أو هو تحکیم، والتحکیم هل هو صلح بالتحکیم وتراض منهما نظیر قاضی التحکیم أو هو توکیل منهما فیرجع الی الصلح بناءً علی ان المخاطب بالبعث فی قوله تعالی: وَ إِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَیْنِهِما فَابْعَثُوا حَکَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَکَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ یُرِیدا إِصْلاحاً یُوَفِّقِ اللّهُ بَیْنَهُما1 هما الزوجان وکذلک الحال فی تصویر قاضی التحکیم منهما، أو هو توکیل الحاکم الشرعی لهما بالحکم فهو تحکیم من الحاکم علی القول بان الباعث للحکمین والمخاطب بالبعث هو الحاکم الشرعی.

ثم ان التحکیم هاهنا هل هو من القضاء المعهود الاصطلاحی، أو هو قضاء بالصلح فلیس هو قاضی التحکیم المعتاد، أو ان الفصل هو بالفتوی، ولتنقیح الحال فی هذه الوجوه والاحتمالات للتحکیم فی مثل نزاع الزوجین لابد من بیان الفوارق بینهما.

موائز الصلح:

فاما الصلح فیتمیز بجملة من الأمور:

الاول: فهو عقد من العقود یتم بالتراضی بین المتنازعین.

ص:271

الثانی: أنَّه مقدم مطلقاً علی أحکام الشقاق الفتوائیة، أن الأحکام الفتوائیة لأی نزاع آخر فضلاً عن القضائیة کما هو الحال فی تقدمه علی احکام النشوز لانه یزیل موضوعها.

الثالث: ولابد فیه حینئذ من کونه علی الشرائط الاولیة الشرعیة فی مقابل الثانویة.

الرابع: کما انّ الصلح یتضمن التفاوض والمداولة والتشاور والنصح لرفع فتیل الشحنة والتشاحن النفسی وایجاد الألفه النفسیة، کما یتم فیه تنظیر واقتراحات وحلول وبدائل للتسویة بین الطرفین وهذا بخلاف القضاء المعتاد، فانه یقتصر علی استنقاذ الحق من دون معالجة العداوة بین الطرفین، ومن ثمّ ورد فی الآیة الکریمة قوله تعالی: وَ الصُّلْحُ خَیْرٌ وَ أُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَ إِنْ تُحْسِنُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اللّهَ کانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِیراً1.

وتشیر الآیة الی وجه معالجة الصلح لمنشأ النزاع حیث ان منشأه الشح والحرص الذی یزول بالتراضی بعد المداولة بین الطرفین.

ومن ثم اعتمدت الدول المعاصرة نظام اقرار الصلح عبر اللجان کی لایتم وصول النوبة الی الحسم والفصل بالقضاء، وقد أُکد علی تقدیم الصلح علی القضاء باتفاق فتوی الاصحاب والنصوص.

الخامس: ومن ثم یعتمد الصلح واُمر به فی النزاع بین الجماعات أو القبائل والعشائر، أو الامم والدول، کما فی قوله تعالی: وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ

ص:272

الْمُؤْمِنِینَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَیْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَی الْأُخْری فَقاتِلُوا الَّتِی تَبْغِی حَتّی تَفِیءَ إِلی أَمْرِ اللّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَیْنَهُما بِالْعَدْلِ وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اللّهَ یُحِبُّ الْمُقْسِطِینَ 1.

فرغم فرض الاقتتال بین الطائفتین إلاّ أنّه تعالی أوصی بالصلح الذی یوجب سلب فتیل ومنشأ النزاع، حیث یمتاز بذلک دون القضاء، کما انّه تعالی فرض الصلح مرة اخری بعد مقاتلة الطائفة الباغیة اذا لم تفیء الی الصلح ابتداءً، حتی تفیء إلی الذی هو امر الله.

السادس: ثم قید الصلح کونه بالعدل، أی یجب ارساء التراضی والتسویة بین الطرفین بنحو یستوفی حقوق الطرفین مهما امکن، وفی هذه الآیة بیان علی ان القسط بین المتنازعین یمکن اقامته بغیر القضاء، کما انّ فی الآیة دلالة علی انّ الفصل فی النزاع یمکن ان یتم بالصلح بالعدل، وهو لیس بقضاء، بل هو یتم بموازین الفتوی أی بالأحکام الاولیة. وفی الآیة بیان أیضاً ان الضمانة فی استقرار الصلح هو تشییده علی العدل والقسط، والاّ لکان ذلک معرضاً لتجدد النزاع.

السابع: ولایخفی انه لیس من صلاحیة الصلح اثبات حق ماض أو نفیه.

الثامن: ان الصلح مطلقا مطلوب بعدما مرّ بیانه من تقدمه علی القضاء بالعدل، وکذا تقدمه علی التحکیم، کما فی قوله تعالی: وَ الصُّلْحُ خَیْرٌ... وقد مرت الآیة وبیانها، وکذلک الصلح بین الطائفتین من المؤمنین، وکذا یدل علی مطلوبیة الصلح قوله تعالی: ... فَاتَّقُوا اللّهَ

ص:273

وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَیْنِکُمْ ...1.

ویمکن أن یستدل له أیضاً بقوله تعالی: وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِیاءُ بَعْضٍ ...2.

بتقریب شمول عمومه لذلک، حیث ان المشیر علی المتنازعین بطریق الصلح یکمل لهما ادراک الرشد ویعلمهما طریق الصواب بمثابة الولی لهما.

وکذا قوله تعالی: وَ أَمْرُهُمْ شُوری بَیْنَهُمْ 3 وغیرها من الآیات.

التاسع: الصلح لایحتاج الی ولایة شرعیة خاصة ولا تولیة فیما لم یکن مورده من الامور العامة، بل کان من الامور الخاصة، والشأن الشخصی فالوسطاء فی الصلح کوکلاء فی الصلح ابتداءً وبقاءً.

العاشر: هل الاقدام علی الصلح واجب؟ لاسیما مع اقامته علی العدل أو انّ الخصمین مخیّران بینه وبین التحکیم أو التقاضی عند القاضی المنصوب، الظاهر التفصیل بین الحکم التکلیفی والوضعی، فبلحاظ الحکم الوضعی الخیارات کلها صحیحة ونافذة وضعا وان کان الصلح بعد وجوده مزیلاً لموضوع التحکیم والتقاضی، وأما الحکم التکلیفی فالظاهر لزوم الصلح تعییناً لانّ الاصل فی الوظیفة هی العمل بالاحکام الاولیة وقد مرّ انّ الصلح لابد أن یکون بموازین الفتوی والاحکام الاولیة، والالتزام بها متعیّن، نعم لو کان فی البین شبهة موضوعیة أو اراد

ص:274

احد الخصمین توثیق الاستحقاق أو الردع عن معرضیة تجدد النزاع أو غیر ذلک، فلایبعد جواز اختیار التحکیم والتقاضی علی الصلح.

التحکیم:
اشارة

فأما التحکیم فبیانه بجملة من الأمور:

الأمر الأوّل: ان حقیقة التحکیم هو تراضی الخصمین:
اشارة

بحَکَم من قبل کل طرف منهما أو تراضیهما علی حَکَم واحد کما فی قاضی التحکیم، وقد یفرض التحکیم من الحاکم الشرعی بان یشرف علی تحکیم حکمین أو أکثر عن کل خصم، وقد یفرض شمول التحکیم للوکلاء المفوضین بتفویض مطلق لرسم الصلح بین الطرفین وعقده، ووجه تسمیة هذا الشق الأخیر بالتحکیم مع انّه من صور الصلح المتقدم هو ان الوکیل المفوض تصرفه نافذ علی الموکل وملزم له، فالتفویض فی التوکیل بلا عزل نحو انفاذ وتحکیم.

أدلة قاضی التحکیم:
الأمر الثانی: فی مشروعیة التحکیم:
اشارة

ویدل علی ذلک مادل:

اولا: علی المشروعیة فی قاضی التحکیم، أما بناءً علی ان حقیقة التحکیم هو ذلک، أو بناءً علی ان قاضی التحکیم هو احد انماط التحکیم.

ثانیا: قوله تعالی فی المقام: وَ إِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَیْنِهِما فَابْعَثُوا حَکَماً مِنْ

ص:275

أَهْلِهِ وَ حَکَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ یُرِیدا إِصْلاحاً یُوَفِّقِ اللّهُ بَیْنَهُما1 بل الآیة الشریفة صالحة بان یقرب الاستدلال بها علی مشروعیة قاضی التحکیم فضلا عن عموم التحکیم، وذلک لانّ ظاهرها ان التحکیم آلیة للاصلاح مشروعة فی نفسها، مفروغ عن ذلک فی الرتبة السابقة علی بحث الشقاق.

ثالثا: ومن ذلک یتبین امکانیة تقریب عموم ادلة الصلح للتحکیم بعد کون التحکیم هو بتراضی الخصمین کما فی قاضی التحکیم.

رابعا: کما یمکن الاستناد الی ادلة نفوذ تصرفات الوکیل المفوض قبل علمه بالعزل، کما مرّ شمول التحکیم لموارد التوکیل بالتفویض، وعلی ذلک فالتحکیم علی انماط وأنواع ویتنوع بذلک مستنده وتختلف آثاره وأحکامه، ومنه ینفتح تعدد وجوه مشروعیة قاضی التحکیم بحسب انواعه وانماطه.

خامسا: کذلک یمکن ان یستدل لمشروعیة التحکیم الذی التزم به الامیر(علیه السلام) ولو بسبب الاکراه من قبل الخوارج الذین کانوا فی جیشه، وفی هذا المستند والوجه دلالة علی عدم اشتراط کون قاضی التحکیم واجداً لشرائط القاضی المنصوب.

وفی هذا الوجه دلالة علی جواز قاضی الجور مع الاضطرار سواء فی قاضی التحکیم أو قاضی الجور المنصوب.

ومن ثمّ یستدل فی المقام علی مشروعیة تحکیم غیر العادل فی الشقاق

ص:276

اذا اضطر الی ذلک لقطع النزاع، کما انّ فی هذا الوجه دلالة علی عمومیة قاضی التحکیم فی الشأن العام وأمور الخلافة.

سادسا: ویمکن أن یستدل لقاضی التحکیم أیضاً بأدلة القاضی المنصوب بناءً علی لزوم شرائط المنصوب فی قاضی التحکیم کما ذهب الی ذلک جماعة أو فی صورة تحکیم المتخاصمین لشخص جامع للشرائط فهو منصوب بالنصب العام فیکون نفوذ حکمه من جهتین، من جهة تراضی الخصمین ومن جهة النصب العام.

ثم انه لایخفی ان الاستناد فی ا لمشروعیة الی تراضی الخصمین الذی مرّ فی الدلیل الثالث، أی الی الصلح أنَّه استناد الی ادلة نفوذ عهد الصلح إلاّ ما خالف الکتاب والسنة.

سابعا: ویمکن التلفیق مع الدلیل الثالث وهو عقد الصلح ما قیل من وجه فی تخریج التحکیم من انه فصل بالفتوی وحسم للنزاع بها، بتقریب عموم ادلة الامر بالمعروف والنهی عن المنکر ان مقتضاها الالزام بالاحکام الاولیة فی الفتوی.

ثامنا: معاهداته صلی الله علیه و آله فی بدایة وروده الی المدینة، وکذا فیما بعده وتحکیمه صلی الله علیه وآله فی قصة بنی قریظة سعد بن معاذ(1)، وکذا

ص:277


1- (1) لاحظ تفسیر القمی فی سورة الاحزاب فی ذیل قوله تعالی: وانزل الذین ظاهروهم من أهل الکتاب من صیاصیهم الآیة 26.

صلحه فی الحدیبیة(1)، وکذا تقریره لحلف الفضول بمکة.

ومن ذلک یتبیّن ان التحکیم وقاضی التحکیم یمکن أن یخرّج من أبواب متعددة نظیر ما ذکر من وجوه وتخریجات لقضاء غیر المجتهد.

کلمات الاعلام فی ادلته:

ثم ان الادلة الخاصة التی ا ستدل بها الاعلام علی نفوذ حکم قاضی التحکیم هی:

الاول: عموم قوله تعالی: إِنَّ اللّهَ یَأْمُرُکُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلی أَهْلِها وَ إِذا حَکَمْتُمْ بَیْنَ النّاسِ أَنْ تَحْکُمُوا بِالْعَدْلِ 2.

وقوله تعالی: وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اللّهَ یُحِبُّ الْمُقْسِطِینَ 3. وقوله تعالی: کُونُوا قَوّامِینَ بِالْقِسْطِ...4. وقوله تعالی: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوی ...5 وغیرها من العمومات.

وفیه: ان هذه العمومات أنما تتعرض لشرائط الحکم وموازینه دون صفات القاضی وصلاحیاته.

ونظیر هذا الاستدلال التمسک بعموم قولهم(علیهم السلام) اذا حکم بحکمنا

ص:278


1- (1) والتعبیر فی الکتاب هذا ما قاضی علیه وفی نسخة (ما صالح علیه) محمد بن عبدالله سهیل بن عمرو واصطلاحا علی وضع الحرب.

فلم یقبل منه فانما استخف بحکم الله و علینا رد(1) علی نفوذ الحکم الذی یکون علی طبق موازینهم(علیهم السلام) وان صدر من غیر المجتهد، فانّ المدار لیس علی ذلک فقط کما ورد فی مصحح عمر بن حنظلة حیث قد ذکر قبل ذلک فی قوله(علیه السلام) فی شرائط القاضی

(ممن قد روی حدیثنا ونظر فی حلالنا وحرامنا وعرف أحکامنا).

الثانی: ومنها مافی جملة من الروایات من اطلاق نفوذ حکم اهل العدل، والمراد بذلک مطلق اهل العدل فی مقابل اهل الجور، فیشمل کل اتباعهم اذا حکموا بحکمهم، نظیر محسّنة أبی بصیر قال: قلت لأبی عبدالله(علیه السلام) قول الله عَزَّ وَجَلَّ فی کتابه وَ لا تَأْکُلُوا أَمْوالَکُمْ بَیْنَکُمْ بِالْباطِلِ وَ تُدْلُوا بِها إِلَی الْحُکّامِ فقال: یا أبا بصیر ان الله عزّوجلّ قد علم ان فی الامة حکاما یجورون اما انّه لم یعنی حکام اهل العدل، ولکنه عنی حکام أهل الجور، یا أبا محمد! انه لو کان لک علی رجل حق فدعوته الی حکام أهل العدل فأبی علیک الا أن یرافعک الی حکّام اهل الجور لیقضوا له لکان ممن حاکم الی الطاغوت وهو قول الله عَزَّ وَجَلَّ أَ لَمْ تَرَ إِلَی الَّذِینَ یَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَیْکَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِکَ یُرِیدُونَ أَنْ یَتَحاکَمُوا إِلَی الطّاغُوتِ 2.

ونظیرها روایة أبی بصیر الاخری حیث فیها (فدعاه الی رجل من

ص:279


1- (1) الوسائل: أبواب صفات القاضی، باب 11 ح1.

اخوانه لیحکم بینهم وبینه فأبی الا أن یرافعه الی هؤلاء..(1)، الحدیث.

وفی مصحح آخر لعمر بن حنظلة من تحاکم الیهم فی حق أو باطل فقد تحاکم الی الطاغوت(2) الحدیث.

وفی صحیح الحلبی قال: قلت لأبی عبدالله(علیه السلام): ربّما کان بین الرجلین من أصحابنا المنازعة فی الشیء فیتراضیان برجل منا فقال: لیس هو ذاک انما هو الذی یجبر الناس علی حکمه بالسیف والسوط (3).

وهذه الصحیحة کما تدل علی المفاد السابق فی الروایات من کفایة کون القاضی من أهل العدل أی من أهل الایمان، کذلک هی ظاهرة بقوة فی التحکیم بتراضی الخصمین، بل انّ المفاد الاول فی الروایات السابقة تدل علی نفوذ حکم مطلق اهل العدل والایمان الشامل لقاضی التحکیم.

ونظیر محسنة عطاء بن السائب عن علی بن الحسین(علیه السلام) قال: اذا کنتم فی ائمة الجور فاقضوا فی احکامهم ولاتشهروا أنفسکم فتقتلوا، وان تعاملتم باحکامنا کان خیراً لکم(4).

وفیه: ان جلّ هذه الطائفة من الروایات انما هی فی صدد اشتراط الایمان فی القاضی، واستناده فی الحکم الیهم(علیهم السلام).

نعم صحیح الحلبی لایبعد ظهوره فی التحکیم، وکذلک محسنة عطاء

ص:280


1- (1) الوسائل: أبواب صفات القاضی، باب 1 ح2.
2- (2) الوسائل: أبواب صفات القاضی، باب 1 ح4.
3- (3) الوسائل: أبواب صفات القاضی، باب 1 ح8.
4- (4) الوسائل: أبواب صفات القاضی، باب 1 ح7.

بن السائب، وان کان قد یتأمل فی الدلالة أیضاً، بانهما فی صدد الدلالة السابقة فی بقیة روایات هذه الطائفة، لاسیما فی محسنة عطاء بن السائب.

الثالث: ومنها ادلة حرمة کتمان الشهادة کما اشار الشیخ الی ذلک فی الخلاف وان لازم وجوب اظهار الشهادة نفوذ مؤداها والعمل بها عند من یدلی بها عنده ویتراضی به الخصمان، ولایخفی ما فیه، حیث انّ لزوم الاظهار لایستلزم اللغویة بل هو اعداد للمستند للحکم لدی من له اهلیة وصلاحیة للقضاء.

الرابع: ومنها مافی مصحح عمر بن حنظلة بقوله(علیه السلام): (ینظران من کان منکم... فلیرضوا به حکما)(1). الحدیث.

وکذا ما فی معتبرة أبی خدیجة «اجعلوا بینکم رجلا قد عرف حلالنا وحرامنا(2) وقوله عجل الله تعالی فرجه فی التوقیع المبارک «وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فیها الی رواة حدیثنا(3).

ومعتبرة داوود بن الحصین عن أبی عبدالله(علیه السلام) فی رجلین اتفقا علی عدلین جعلاهما بینهما فی حکم وقع بینهما فیه خلاف فرضیا بالعدلین، فاختلف العدلان بینهما عن قول ایهما یمضی الحکم، قال: ینظر الی افقههما واعلمهما بأحادیثنا وأورعهما فینفذ حکمه ولایلتفت الی الآخر(4).

ص:281


1- (1) الوسائل: أبواب صفات القاضی، باب 11 ح1.
2- (2) الوسائل: أبواب صفات القاضی، باب 11 ح6.
3- (3) الوسائل: أبواب صفات القاضی، باب 11 ح9.
4- (4) الوسائل: أبواب صفات القاضی، باب 9 ح20.

وروایة أحمد بن الفضل الکناسی قال: قال لی أبو عبدالله(علیه السلام): أی شیء بلغنی عنکم قلت: ماهو، قال: بلغنی انکم اقعدتم قاضیاً بالکناسة قال: قلت: نعم جعلت فداک رجل یقال له عروة القتّات وهو رجل له حظ من عقل یجتمع عنده فیتکلم ویتساءل ثم یرد ذلک إلیکم، قال: لابأس(1).

قد استدل بهذه الروایات علی مشروعیة قاضی التحکیم بتقیید الفرض فی هذه الروایات بتراضی الخصمین وتحکیمهما، ومن ثم ذهب جماعة من اعلام هذا العصر الی عدم وجود دلیل علی القاضی المنصوب.

وفیه: ان جملة هذه الروایات قد صرَّح(علیه السلام) بجعله الواجد للصفات حاکما، وتعلیل رضاهم به لنصبه ایاه حاکما، فهذا التراضی مأمورون به انقیادا لتنصیبه(علیه السلام) کما هو صریح مصحح عمر بن حنظلة ومعتبرة أبی خدیجة، وکذا التوقیع المبارک.

نعم قد یستفاد من اخذ تراضی الخصمین شرطیة رجوع الناس ورضاهم به فی فعلیة تعیینه للمنصب من قبله(علیه السلام)، وهذا ماعرف فی الکلمات بشرطیة بسط الید، أو کونه مسموع الکلمة.

نعم قد تجعل هذه الصیغة شاکله متوسطة بین قاضی المنصوب وقاضی التحکیم، وأمّآ روایة الکناسی فلایبعد دلالتها علی قاضی التحکیم باعتبار انهم اقعدوه ورضوا به وان کان احتمال الصیغة الترکیبیة لقاضی التحکیم والقاضی المنصوب التی مرّت فی هذه الطائفة قریب من مفاد

ص:282


1- (1) الوسائل: أبواب صفات القاضی، باب 11 ح31.

الروایة أیضاً.

فتحصّل من مجموع هذه الطوائف الأربعة انّ صحیح الحلبی وروایة الکناسی ومحسنة عطاء بن السائب قریبة الدلالة علی قاضی التحکیم، ولا یبعد دلالة الطائفة الاولی والاخیرتین علی نفوذ التحکیم بالصلح، والصلح بالعدل، نظیر تعبیره(علیه السلام) (تعاملتم بأحکامنا).

وماذکره فی الجواهر من الاستناد بالوجه الاول والثالث، أو ما ذکره الشیخ فی الوجه الثانی من نفوذ القضاء لقاضی التحکیم فلا یخلو من منع اختصاص دلالتها علی قاضی التحکیم.

فان النفوذ والالزام اعم من الصلح بالعدل والتحکیم بالصلح، فهذه الوجوه الأربعة بعضها دال علی الالزام بالفصل بالفتوی، وبعضها علی الصلح بالعدل وشاملة للتحکیم بالصلح، وبعضها دال علی القاضی المنصوب الملفق بالتحکیم والتراضی.

فهذه الوجوه الأربعة مجموعها هو الوجه الاوّل من الوجوه السبعة التی مرت فی توجیه مشروعیة قاضی التحکیم، أی بانضمامها إلیها یتوفر علی صیاغات ماهویة عدیدة للتحکیم، أو للصلح ثم للتحکیم ثم للقضاء علی نحو الترتیب وبینهما درجات تلفیقیة من الصلح والتحکیم أو التحکیم والقضاء أو الثلاثة معاً.

ومما یشیر الی عموم استعمال الحکم والتحکیم فی مطلق الرأی قوله تعالی فی فداء الصید: یَحْکُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْکُمْ 1.

ص:283

الأمر الثالث: الفوارق بین أنماط التحکیم والصلح:

فی بیان الفوارق بین هذه الأنماط والأسالیب فی رفع النزاع، أی بین الصلح، والصلح بالتحکیم، وتحکیم الصلح، وقاضی التحکیم، والفصل بالفتوی، فان التحکیم بالصلح لیس من القضاء والحکم بموازین القضاء، بل هو کما مرّ من الالزام بصیغة التسویة کحدّ أدنی أو متوسط لمصلحة الطرفین، ویمتاز بعدّة نقاط:

1) لیس من صلاحیته اثبات حق أو نفیه.

2) لیس من صلاحیته ازالة الموضوع المتنازع علیه کالزوجیة الا بتصریح وتولیة من المتنازعین له، لانّ وظیفة القضاء والتحکیم بالصلح معالجة النزاع مع وجود الموضوع.

3) لابد من تعدد الحکم عن الاطراف المتنازعة ولایُتفرد بحکم عن طرف، نعم للاطراف المتنازعة ان یجعلوا شخصاً واحداً من قبل کل منهم، بان یفاوض کل منهم ذلک الشخص، فتنویبه یکون بمنزلة المتعدد، والظاهر رجحان التعدد بحسب الادلة.

4) لابد لکل حکم ان یصیغ ما هو مصلحة طرفه، بخلاف القاضی بموازین القضاء فانه یرعی الموازین بغض النظر عن ذلک.

5) لابد من رضی المتنازعین ابتداءاً لانه لیس قضاء فصل لاسترجاع حق، بل قضاء صلح، فیترکب من ماهیة القضاء وشرائط ماهیة الصلح.

أما ترکیبه من ماهیة القضاء فلاستعمال موازین الفتوی وبعض موازین القضاء مما تشترک مع موازین الفتوی، أی مما یکون دلیل حجیتها

ص:284

ونفوذها مطلق غیر مقید بولایة القضاء والقاضی المنصوب، ولک أن تقول ان ترکیب الصلح وتلفیقه مع موازین الفتوی أو مع موازین القضاء، أی التراضی بنحو لایتدافع ولایتناقض مع موازین الفتوی والقضاء، بل التراضی بالاسقاط أو التعویض المبنی علی نتائج تلک الموازین سواء نتیجة مجموعها أو نتیجة بعضها، هو تلفیق یؤدی الی صیاغة تلفیقیة بین باب الصلح وباب القضاء، وعلی ضوء ذلک فهو علی درجات وانحاء.

6) ان فی التحکیم والقضاء والصلح لابد من تحری الحکمین ما هو من نفع الطرفین ولاینفذ ما هو علیهما إلاّ برضی مجدد من الخصمین بما یحکمان، فالقضاء بالصلح هو ایجاد حلول موضوعیة بتسویة تفاوضیة، نظیر ماهو متعارف فی العصر الحالی فی شرکات التحکیم الخبرویة، وهیئات الصلح الخبرویة الاهلیة المحلیة والدولیة.

فمن ثمّ التحکیم نظام صلحی فی النزاعات محاذی لنظام القضاء، ولایختص بباب الزواج، بل یجری فی سائر الأبواب ولمطلق النزاعات الاجتماعیة والقبلیة والفرعیة أو القومیة والطائفیة والدولیة.

7) قد یفرق فی الحکم بین التحکیم بالصلح وقاضی التحکیم، وهو یظهر ممّا قدمناه من اختلاف انحاء التحکیم وادلة مشروعیته، لانّ فی التحکیم فی الصلح لابد من بصیرة الحکم بموازین الصلح والالفة ومتعلقه بخلاف حکم القاضی بالعدل، فانه یلزمه العلم بموازین القضاء.

8) ذهب فی المبسوط الی إشتراط رضی المتخاصمین بحکم قاضی التحکیم، وعلی ذلک یکون قضاء قاضی التحکیم علی مقتضی القاعدة لانه من الصلح ولیس من القضاء فی شیء، ومن ثمّ لم یعممه الی باب الحدود

ص:285

والتعزیرات، وکذا من لم یشترط فی قاضی التحکیم توفره علی شرائط القاضی المنصوب.

9) قد یقال ان التحکیم هو عند عدم القاضی المنصوب، فکانه قیام من الامة بواجب القضاء عند عدم الوالی الشرعی، أو عدم تصدیه، وهذه ضابطة مطردة فی شؤون ومسؤولیات الحکم والادارة العامة من تعدد مراتب الاولیاء فیکون بتراضی وتحکیم حکومة جزئیة مؤقتة موردیة.

ولایخفی ان التحکیم اذا کان فی الشؤون العامة وکذا الصلح فاللازم فی مشروعیته من لحاظ وجود التفویض والتولیة الشرعیة منه(علیه السلام) ولو باستکشاف اذنه علیه السلام من قاعدة الحسبة.

ومما تقدم یظهر عموم بحث الصلح والتحکیم الی مجال النظام السیاسی لاخصوص القضاء العام فضلا عن الخاص، ومن ثمّ قد یقرّب شمول قاضی التحکیم الی باب الحدود والتعزیرات والقانون الجزائی الدینی مع وصول النوبة فی مراتب الاولیاء الی استکشاف الاذن منه(علیه السلام) بالحسبة، وعلی هذا فصیغة التحکیم فی النظام السیاسی لاتتقاطع مع القول بالنص فی الولایة مع استکشاف الاذن النیابی منه علیه السلام کما مرّ، وهو مفاد قولهم(علیهم السلام) (فاجعلوه حاکماً فانی جعلته علیکم حاکماً).

الأمر الرابع: الحکمان توکیل أو تحکیم:
اشارة

هل للزوجین التقایل ممّا حکم به الحکمان؟ أو اشترطا؟ واختار ابن براج فی الکامل انه توکیل وفی المهذب انه تحکیم.

قال الشیخ فی الخلاف: «بأنّ لهما مع اتفاقهما أن یطرحا ما فعله

ص:286

الحکمان»(1)مع ان الشیخ فی الخلاف أیضاً ذهب الی ان بعث الحکمین فی الشقاق علی سبیل التحکیم لا علی سبیل التوکیل، واستشهد علی ذلک:

(1) بأن الحکمین مصلحان بینهما من دون استئمار، ولو کان توکیلا لما نفذ صلحهما من دون استئمار.

(2) وبأن الزوجین فی الشقاق ممتنعان من اداء الحق فهو اجبار لهما علی الفیء.

(3) وبأنّ فض النزاع من باب الولایة فی الشأن العام وان کان النزاع فی الموارد الجزئیة فلیس بتوکیل.

(4) وبان الباعث للحکمین هو الحاکم الشرعی، ولو قیل بان الباعث هما الزوجان أو الأهل لکان من باب التحکیم لا التوکیل.

(5) وتعبیر الآیة والروایات(2) بلفظ الحکمین والتحکیم ظاهر فی الحکم لا فی الوکالة.

ویمکن التأمل فی هذه الشواهد:

أما الأول فلان الحکمین یستأذنان الزوجین سواء فی الاصلاح أو فی التفریق، کما فی موثق سماعة قال: سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن قول الله عزّوجلّ فَابْعَثُوا حَکَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَکَماً مِنْ أَهْلِها ارأیت ان استأذنا الحکمان فقال للرجل والمرأة: ألیس قد جعلتما امرکما إلینا فی الاصلاح

ص:287


1- (1) الخلاف: ج4 ص341.
2- (2) أبواب القسم والنشوز، باب 12 و13.

والتفریق فقال الرجل والمرأة: نعم فاشهدا بذلک شهودا علیهما أیجوز تفریقهما علیهما؟ قال: نعم...)(1) الحدیث.

وموثق أبی بصیر(2)، وکذا صحیح الحلبی(3) وغیرها من الروایات(4).

وان کان فی بعض الروایات الاقتصار علی الاستئذان فی التفرقة کصحیح محمد بن مسلم عن أحدهما(علیهم السلام) قال: سألته عن قول الله عزّوجلّ: فَابْعَثُوا حَکَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَکَماً مِنْ أَهْلِها قال: لیس للحکمین ان یفرقا حتی یستأمرا(5).

وأما الثانی فکونهما ممتنعین لاینافی رفع شقاقهما بالصلح بتوکیلهما، أولک أن تقول ان الزوجین فی صور الشقاق لیسا علی درجة واحدة من الامتناع والتنازع، فبعض درجات النزاع لاترتفع معه ارادة الاصلاح والتوفیق فیهما، ولعلَّ إلیه الاشارة فی قوله تعالی: إِنْ یُرِیدا إِصْلاحاً یُوَفِّقِ اللّهُ بَیْنَهُما بناءً علی عود ضمیر الفاعل الی الزوجین، نعم لو وصلت شدة النزاع الی درجة تمرد کل منهما بحیث لایستجیبان الی الاصلاح فتصل النوبة الی التحکیم من قبل الحاکم کما مرّ فی کلام الشیخ فی المبسوط.

وأما الثالث ففض النزاع ان کان بالقسر والاجبار فهو من باب الولایة ولکن لاینحصر بذلک، ولکن یمکن فضه بالصلح والتوکیل فیه.

ص:288


1- (1) أبواب القسم والنشوز، باب 13 ح1.
2- (2) أبواب القسم والنشوز، باب 13 ح2.
3- (3) أبواب الحکم والنشوز، باب 10 ح1.
4- (4) نفس الباب 12 و13 و10.
5- (5) أبواب القسم والنشوز، باب 12 ح1.

وأما الشاهد الرابع فسیأتی فی الأمر الخامس ان الصحیح فی الباعث انه یختلف بحسب درجات وشدة وتوسط النزاع، وانما ینحصر فی الحاکم عند اشتداد الخصومة وانقطاع امکان التسویة منهما أو من أهلهما.

وأما الخامس فقد تقدم فی النصوص دلالتها علی لزوم استئذان الحکمین فی الاصلاح والتفریق، وقد مرّ ان الوکیل المفوض اذا انفذ امراً علی الموکل فلیس له ردّه بعد ذلک، فالتفویض فی التوکیل نحو تحکیم عرفا، وان عنوان وماهیة التحکیم هی علی انحاء وانواع بدءً من التوکیل فی الصلح والصلح بالعدل والتحکیم بالصلح والصلح بالتحکیم وهو قاضی التحکیم. کما استعمل التحکیم فی مطلق الرأی کما فی قوله تعالی فی فداء الصید: یَحْکُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْکُمْ .

والحاصل: ان الصحیح هو اختلاف نوع التحکیم بحسب درجات النزاع والتدرج فی نمط التحکیم بحسبه،والتقایل بحسب الانواع الاولی فیه متصور، بل لو افترضنا انه من باب التحکیم أیضاً، فالتقایل أیضاً سائغ لانه من تنازل من له الحکم برضا منه لنفع من علیه الحکم، نعم لو کان التحکیم بانواعه قد وقع علی الفرقة والطلاق بشرائطه فلا یتصور التقایل فی الایقاع وهو الطلاق، بل فی الخلع ونحوه، أو الرجوع مع بقاء العدّة کما فی قوله تعالی: فَلا جُناحَ عَلَیْهِما أَنْ یَتَراجَعا إِنْ ظَنّا أَنْ یُقِیما حُدُودَ اللّهِ 1.

ص:289

المشرف علی نظام التحکیم:
الأمر الخامس:الباعث للحکمین ومن له انفاذهما:
اشارة

فقد اختلف علی أقوال:

القول الاول: ان الباعث هو الحاکم الشرعی ونسب الی الاکثر واختاره فی الشرائع والقواعد وجملة من متأخری المتأخرین منهم صاحب الجواهر.

القول الثانی: انه الزوجان، واختاره فی الفقیه والمقنعة والفقه الرضوی ومختصر النافع.

القول الثالث: الاهلون.

القول الرابع: وهناک تفاصیل اخری من الأقوال انه الحاکم وباشتراط الزوجین علی الحکمین.

القول الخامس: انه الزوجان فاذا امتنعا فالحاکم، ذهب الیه فی المختصر النافع.

القول السادس: ان الحاکم یأمر الزوجین بالبعث.

أدلة وشواهد الاقوال:

واستشهد للاول انّ هذا الخطاب شأنه شأن بقیة الخطابات فی الولایات والشؤون العامة موجه للحاکمین ولیس موجه للزوجین للتعبیر والجمع فابعثوا، ولا التثنیة المشیرة للزوجین مضافا الی التعبیر بالغائب عند الزوجین من أهله ... من أهلها، وکذا فی یریدا و بینهما.

ص:290

مضافا الی ان الباعث مصلح والزوجان فی فرض الشقاق متنازعان متشاققان وکیف یکون الباعث هو المبعوث الیه، وبان الحکمین من باب التحکیم لا التوکیل، والحکومة من صلاحیة الحاکم.

والشواهد قد مرّت علی انّه من باب التحکیم فی الامر السابق.

ویمکن التأمل فی هذه الشواهد بان الخطاب بالجمع قد استعمل بلحاظ الاستغراق للازواج کما فی قوله تعالی: وَ اللاّتِی تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَ اهْجُرُوهُنَّ فِی الْمَضاجِعِ وَ اضْرِبُوهُنَّ ...1 والتعبیر بالغیبة عن الزوجین یصح أن یکون من باب الالتفات.

والتحکیم قد مرّ انّه علی انواع وانماط لاتتنافی مع تضمن ماهیة التوکیل، واستدل للثانی بما تقدم فی الروایات من لزوم استئذان الحکمین من الزوجین فی الاصلاح والتفریق، مما یدل علی ان الباعث للحکمین هما الزوجان، وانّ هذا التحکیم قد اطلق علیه بالاصلاح والصلح فی الآیة إِنْ یُرِیدا إِصْلاحاً....

ویمکن التأمل فی الاستدلال المزبور بأنه لایتنافی مع کون الباعث هو الحاکم، الا انّه مع اشتراط رضی الزوجین کما فی القول الرابع، أو أنْ یجمع بین شواهد القول الأول والثانی بالتفصیل الذی مرّ فی القول الخامس أو السادس، وهذا هو الاقوی والمختار بعد ما عرفت من ان التحکیم ذو درجات وانواع، بحسب درجة النزاع والشقاق، ففی الدرجات الاولی یتصور ان یکون الباعث هما الزوجان، وإلا فیقوم الاهلون من ذویهما

ص:291

باصلاح ذات البین بارضائهما بالتحکیم، وإلا فیأمرهما الحاکم بذلک، وإلا فیبعث هو حکمین مع استئذان من الزوجین فی الاصلاح أو الفرقة.

قاعدة: إنَّ الإجبار بالحکم متأخر عن أداء الواجب الحسبی طوعانیة:

وهذا هو مقتضی القاعدة من تسلط الناس علی شؤونهم وان الاجبار والقسر انما تنتهی إلیه النوبة مع الامتناع بنحو مطلق، وهذا الترتب لیس فی المقام فحسب بل هو فی کل شأن اجتماعی عام، وانّ الخطاب فی الوظائف العامة ان قام به من تعلّق به بالفعل تلقائیاً وطوعانیاً فلاتصل النوبة الی الحاکم بحسب المراتب السابقة وانما تصل عند الحاجة الی الالزام والاجبار.

ومن ثم خصّ الشیخ فی المبسوط بعث الحاکم بما اذا بلغ النزاع ذروته فلم یصطلحا لا علی المقام ولا علی الطلاق، هذا مضافا الی عموم مادة التحکیم المأخوذ فی الآیة کما عرفت وتقریب عموم المخاطب بالبعث کما مرّ تقریبه.

ولایخفی انه علی القول الاوّل والثلاثة الأخیرة یکون من حاکمیة القاضی علی نظام التحکیم.

قاعدة: عمومیة القضاء بالموازین أو بأنواع التحکیم:

ومنه یظهر ان صلاحیة القاضی فی الحکم لاتنحصر بموازین القضاء، بل له ان یتوسل بمراتب وأنواع التحکیم المختلفة التی مرّت الاشارة إلیها.

ص:292

الأمر السادس: حکم البعث!:

فی حکم البعث والتحکیم هل هو واجب أو الأمر به ارشادی، وقیل بالتفصیل: فالوجوب اذا کان المخاطب به الحاکم کوظیفة حکومیة وارشادی اذا کان المخاطب به الزوجان.

واستدل للارشادیة بأنّ المقام نظیر واشهدوا اذا تبایعتم وبأن التدبیر فی المعیشة والمصلحة الدنیویة ارشادی فی الغالب وجواز الاصلاح بطرق اخری، أو رجوعهما للحقّ بدون ذلک.

واستدل للوجوب بظاهر الامر وبان دفع المفسدة الزامی، وبأن نفوذ حکم الحکمین یتناسب مع ذلک.

والصحیح أنَّ المراتب الاولی من التحکیم خیاریة، والواجب انما هو الفیء الی الحق والارعواء.

وأما مع وصول النزاع الی المرتبة القصوی فبعث الحکمین الزامی للحاکم کما فی روایة العیاشی من قول علی(علیه السلام) للزوج فی التوکیل للحکم فی الاصلاح والفرقة: لاتبرح حتی تقرّ بما اقرت به(1).

الأمر السابع: الفصل بالولایة والفتوی:

وقیل: ان التحکیم فی المقام بالتراضی منهما بالحکمین، فلایجبرهما الحاکم علیه ولایتصور الوجوب علیهما، نعم لایهمل الخصومة، بل یتحری ویخبُر المتجاوز فی الحقوق بینهما، ویجبر کل متخلف منهما علی ادائه

ص:293


1- (1) أبواب القسم والنشوز، باب 13 ح6.

والزامه بالحق، وهو نحو حسم وفصل بالفتوی، أی إلزام لکل من الطرفین بالموازین الاولیة، ویقطع الشقاق بذلک، ویجازی ویؤدب من یستحق الادب.

أقول: وهذا قطع للنزاع بالولایة لا بالصلح ولا التحکیم ولا بالقضاء وهو ما یقال عنه بفصل النزاع بالفتوی اذا اجبر علیه الحاکم.

ثم هل من خیارات وصلاحیات الحکمین فی التحکیم ان ینکرا علی الناشز من الزوجین بعد تعیینهما له، وان یلزماه بإیفاء حقوق الآخر من دون استحقاقه لاخذ حقوقه کمدة تعویضیة عن ما فوته من عوض علی الآخر؟

قال علی بن ابراهیم فی تفسیره: فان کانت المرأة هی الناشزة قالا: انت عدوة الله الناشزة العاصیة لزوجک لیس لک علیه نفقة ولا کرامة لک، وهو احق ان یبغضک ابداً حتی ترجعی الی امر الله وان کان الرجل هو الناشز قالا له: انت عدو الله وأنت العاصی لامر الله المبغض لأمراتِک. فعلیک نفقتها ولاتدخل لها بیتاً ولاتری لها وجهاً ابداً حتی ترجع الی امر الله وکتابه(1).

وهل للحاکم حبس الممتنع من الزوجین عن الاذن للحکمین بالحکم بما یریانه، کما ذهب الیه البعض.

والصحیح ان هذه الصلاحیات من الاجبار والتعزیر والحبس

ص:294


1- (1) تفسیر القمی ذیل آیة النساء 35.

ونحوه هی من صلاحیات القاضی المنصوب، فان تراضیا به فله ذلک لا من باب التحکیم، بل من باب نصبه من قبل المعصوم(علیه السلام)، وإلاّ فلاتثبت لقاضی التحکیم هذه الصلاحیات، فضلا عن ما لو کان وکیلا مفوضا فی الصلح.

واما الاجبار من باب الامر بالمعروف والنهی عن المنکر فلایسوغ کل ذلک إلا اذا انطبق عنوان الحسبة، أی استدعت الضرورة والانتظام الاجتماعی الی ذلک.

الأمر الثامن: حکم تعدد الحکمین وجواز کونهما اجنبیین:

هل یجوز زیادة الحکمین عن الاثنین أی ثلاثة فما فوق أو توحده؟ وهل یلزم أن یکون الحکمین کل منهما من اهل الزوجین أو یسوغ أن یکونا اجنبیین؟ وهل یشترط اتفاقهما فی الحکم، فلو اختلفا لم یَنْفُذْ؟

ففی موثق سماعة قال: عن أبی عبدالله(علیه السلام) فی حدیث قیل له:

أرأیت ان قال احد الحکمین قد فرقت بینهما، وقال الآخر: لم افرق بینهما؟

فقال: لایکون التفریق حتی یجتمعا جمیعاً علی التفریق، فاذا اجتمعا علی التفریق جاز تفریقهما(1).

وظاهر الموثق لزوم اتفاقهما، والوجه فی ذلک ان التحکیم کما مرّ منطو علی توکیل بالصلح، فلاینفذ تصرف احد الحکمین من دون الحکم

ص:295


1- (1) أبواب القسم والنشوز، باب 13 ح1.

الآخر، نعم لو بنی علی جواز زیادة الحکمین الی ثلاثة فما فوق، وبنی علی أن التحکیم من باب التراضی فللزوجین أن یشترطا نفوذ حکم الأکثریة، مادام انه نحو من التوکیل.

نعم لو کان قاضی التحکیم حکمه بموازین القضاء ففی مصحح عمر بن حنظلة، ان الافقه والاصدق والاورع حکمه نافذ دون الآخر.

والوجه فی ذلک ان القضاء بموازین القضاء نفوذه کما مرّ بانفاذ وامضاء من الامام(علیه السلام)، فلابد أن یکون النفوذ بشرائطه، وقد یستفاد من مصحح عمر بن حنظلة نفوذ حکم الأکثر عددا اذا انطبق علیه (علیه السلام):

«خذ بما اشتهر بین أصحابک فان المجمع علیه لاریب فیه».

وأما کون الحکمین من أهلهما فالظاهر انّه لکونهما اعرف بحالهما وأوثق فی رعایة مصلحتهما، وإلاّ فلو افترض انعکاس الحال فی الاجنبی فهو ادخل فی الغرض، ویشهد له اشارة الامیر(علیه السلام) باتخاذ مالک الأشتر حکما فی صفین بعد ما رفض الخوارج الحسنین وعبدالله بن العباس.

الأمر التاسع: فی شرائط الحکمین:

فهل یشترط الذکورة والبلوغ والاسلام والایمان والعدالة والعلم والاجتهاد.

والظاهر انّ ذلک یدور مدار نمط الصلح والتحکیم، ففی ما کان توکیلا فلایزید عن شرائط الوکالة، واما ما کان من قبیل قاضی التحکیم فلامحالة یُعتبر فیه شرائط قاضی التحکیم من الذکورة والبلوغ والعلم بمقدار ما یتوقف علیه انشاء الحکم فی مورد النزاع، اذا کان فصلاً

ص:296

بالفتوی، وأما لو کان فصلا بموازین القضاء فالظاهر اعتبار الاجتهاد المتجزی فیه.

کما انه لو کان الباعث للحکمین هو الحاکم وکان تولیة منه لهما فیقرب عدم اشتراط الاجتهاد بلحاظ کون الحکم فی الامور الجزئیة والموضوعیة، وکون الحسم مستندا الی الحاکم الباعث لهما فی الجملة.

فتحصل ان المقدار من الشرائط یدور مدار نمط التحکیم ونوعیته.

وقد تقدم سابقاً انه ینبغی اختیار من یوثق به من جهة الخبرة ومن جهة الامانة.

الأمر العاشر: حکم اختلاف الحکمین:

اذا اختلف الحکمان ولم یصلا الی نقطة توافق، یعاد بعث حکمین، وهلمّ جرّا، وینبغی توخی ذوی الخبرة والمهارة واللباقة، لاسیما وقد تطورت الاعراف العقلائیة فی انماط التحکیم بآلیات نافعة وناجحة، لاتتدافع مع الشرائط المقررة التی مرّ ذکرها فی أنماط التحکیم.

ثم انّه قد ذکر غیر واحد من الاصحاب ان الحکمین ینبغی لهما اخلاص النیة وقصد الاصلاح، فمن حسنت نیته اصلح الله مسعاه، فقد ورد انّ ما اضمر امرء نیة الا اظهرها الله ان خیراً فخیر وان شرا فشر، وکما یشیر الیه قوله تعالی: ان یریدا اصلاحا یوفّق الله بینهما بناءا علی عود الضمیر الی الحکمین لا الزوجین.

ص:297

الأمر الحادی عشر: حکم غیاب أحد الزوجین:

لو غاب احد الزوجین فقد استشکل البعض فی صحة التحکیم، لان الحکم ینفذ علی الغائب، ولاینفذ له، ولان الغائب قد لایکون باقیاً علی الشقاق، والوکیل لابد ان یکون تابعاً للموکل، وقد تستجد احوالا.

والصحیح ان هذه الوجوه لیست مطردة فی کل الصور ولا فی کل أنماط التحکیم، کما ان الغیبة قد تفرض فی أول التحکیم، وقد تفرض فیما بعد، فاللازم ملاحظة کل صورة بحسبها وبحسب نمط التحکیم، ثم ان المجری للطلاق هو الحکم من قبل الزوج، وان کان لابد من توافق کل من الحکمین علی الطلاق بلحاظ ان الحکم من قبل الزوج وکیل عنه، ولو فرض ان الباعث للحکمین هوالحاکم.

الأمر الثانی عشر: التحکیم فی القوانین الوضعیة:

قد ذکر للتحکیم فی القوانین الوضعیة المعاصرة جملة من النقاط:

1) ان الاصل فی التحکیم هو بالقانون الاولی، والعدل به، أما الاصلاح بالصلح والمعالجة الموضوعیة فتحتاج الی تنصیص وتفویض زائد علی المتنازعین، ویراعی فی الصلح والحلول الموضوعیة الانصاف العرفی.

2) کما یقع الاتفاق علی التحکیم، کذلک یجوز الاشتراط فیه، ویسمی (شرط التحکیم) وهو نحو تحدید للحکم المحکّم.

3) یعم التحکیم للموارد التی فی معرض النزاع سدا لبابه وان لم یقع موضوعها.

4) التحکیم ظاهرة منتشرة بین الدول لعدم وجود والی متنفذ علی

ص:298

الکل، ولاسیما فی الحروب، وفی التجارة الدولیة.

5) اشتراط وشرطیة التحکیم فی عقد لایتوقف علی نفوذ العقد لکون ارادة التحکیم مستقلة وهذا مطرد فی نمط من الشروط التی هی بصورة ضمنیة ولکنها تراد بنحو الاستقلال.

6) التحکیم یتوسل به الطرفان أو الاطراف الذین لایریدون الخضوع تحت سیادة الدولة، أو سیادة محکمة قضائیة فیکون التحکیم توازن تسویة فی نظام السیطرة.

7) عند تکثر الحکم أو المحکّم یختار کل واحد طرف أو أکثر علی التساوی ثم الزائد وهو الذی یشکل فردیة عدد المجموع کالحکم الثالث مثلا، یعیّن من الطرفین حیادیاً، وهذا حیاد فی تعیین الاغلبیة.

وغیرها من الأمور التی ذکروها من مجلات ونشرات القوانین.

أقول: وجملة هذه النظم التی ذکروها لاتتنافی مع موازین انماط الصلح والتحکیم فیما اذا کانت راجعة الی الصلح والتوکیل فی التحکیم والحکم بالفتوی، وأما فی التحکیم لقاضی التحکیم فکذلک فی الجملة، ویراعی حینئذ بقیة الشرائط.

ص:299

ص:300

قاعدة:حق المرأة العشرة بالمعروف أو التسریح بإحسان

اشارة

ص:301

ص:302

من قواعد باب النکاح:حق المرأة العشرة بالمعروف أو التسریح بإحسان

اشارة

والکلام فی القاعدة فی جهات:

الجهة الأولی: فی کون حق الوطی من حقوق المرأة:

وأصل الحکم مورد وفاق کما حکی(1)، وإن وقع الاختلاف فی جملة من شقوق المسألة(2).

ویستدل له:

1- بصحیحة صفوان بن یحیی عن أبی الحسن الرضا(علیه السلام) أنه سأله عن الرجل یکون عنده المرأة الشابة، فیمسک عنها الأشهر والسنة لا یقربها لیس یرید الإضرار بها، یکون فی ذلک آثماً؟ قال:

«إذا ترکها أربعة أشهر کان آثماً بعد ذلک»(3).

وإطلاق هذه الروایة شامل بظاهره إلی کلّ الأقسام والشقوق التی مرّت سواء فی المرأة أو فی الرجل، عدا التقیید عجوز، ومن ثم قید جملة من

ص:303


1- (1) المسالک، ج1، ص439، حیث حکی الإجماع علی ذلک.
2- (2) راجع العروة وتعالیقها ج5، ص507.
3- (3) وسائل الشیعة، ج20 ص140، أبواب مقدمات النکاح ب71، ح1.

أعلام العصر(1)، الحکم بذلک واستشکل بعض آخر فی الإطلاق للمسافر(2).

لکن:

2 - فی موثّق إسحاق بن عمّار عن جعفر عن أبیه أن علیاً(علیه السلام) سُئل عن المرأة تزعم أن زوجها لا یمسّها، ویزعم أنه یمسّها، قال: «یحلف ثم یترک»(3)، وظاهر الموثّق الإطلاق من دون التقیید بالشابة ومن دون التقیید بالدائمة، کما یتبین أیضاً أن المسّ إجمالًا من حقوق الزوجة من دون التقیید بالأربعة أشهر.

الجهة الثانیة: وحدة موضوع العیوب والإیلاء والظهار من جهة حق الوطی:

جاء فی صحیحة أبی حمزة سمعت أبا جعفر(علیه السلام) یقول:

«إذا تزوج الرجل المرأة الثیب التی تزوجت زوجاً غیره فزعمت أنه لم یقربها منذ دخل بها، فإن القول فی ذلک قول الرجل، وعلیه أن یحلف بالله لقد جامعها؛ لأنها

ص:304


1- (1) لعلَّ مراد السید الخوئی فیه الحکم فی الشابة، فی منهاج الصالحین، ج2، ط مؤسسة السید الخوئی، حیث قال: «لا یجوز ترک وط ء الزوجة الدائمة أکثر من أربعة أشهر إذا کانت شابة ...» وغیره من الفقهاء.
2- (2) قال المیرزا النائینی فی الحاشیة علی العروة «إطلاقه من هذهِ الجهة (أی للمسافر) مشکل بل ممنوع لکن الأحوط أنَّ یکون السفر المنافی لذلک مع عدم وجوبه برضا الزوجة»، وقال المحقق العراقی «فی الوجوب علی المسافر نظر لقیام السیرة علی خلافه» وغیرهما من الفقهاء.
3- (3) وسائل الشیعة، ج22 ص356 باب 13 أبواب الإیلاء ح1.

المدعیة، قال: فإن تزوجت وهی بکر فزعمت أنه لم یصل إلیها فإن مثل هذا تعرف النساء، فلینظر إلیها من یوثق به»(1).

وهذه الصحیحة وإن أوردها صاحب الوسائل فی أبواب العیوب والعنن، إلّا أن مفادها یقتضی ویستلزم کون الوطی من حقوق الزوجة؛ وإلا لما کان لها حق المرافعة علیه، کما أن هذه الروایة لم تقید بالشابة، وسیأتی فی روایات العنن والعیوب أن الأقوی فی موضوعها هو کونه حق المرأة فی الوطی، وإن اختلف أثره بین ما یکون قبل العقد وبعده قبل الوطی، فیوجب حق الفسخ، وبین ما کان بعد تحقّق الوطی وترکه بعد ذلک، فإنه یوجب حق الإجبار علی الطلاق.

وفی صحیح حفص بن البختری عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: «إذا غاضب الرجل امرأته فلم یقربها من غیر یمین أربعة أشهر استعدت علیه، فإما أن یفیء وإما أن یطلق، فإن ترکها من غیر مغاضبة أو یمین فلیس بمؤل»(2)، ودعوی أن الصحیحة واردة فی مورد إلحاق المغاضبة بالإیلاء ولاربط لها فیما نحن فیه من ثبوت حق للمرأة فی الوطی مطلقاً، مدفوعة؛ إذ لم نقف علی قائل بإلحاق المغاضبة بالإیلاء».

وأما ذیل الروایة وهو «فإن ترکها من غیر مغاضبة فلیس بمؤل» فلا یتوهم منه أن ترک الوطی بدون مغاضبة لا یثبت معه حق للمرأة فی الاستعداء؛ وذلک لأن المفهوم من الترک من غیر مغاضبة یعنی من غیر

ص:305


1- (1) وسائل الشیعة، ج21، ص233، باب 15، من أبواب العیوب، ح1.
2- (2) الوسائل، ج22 ص341، باب 1، من أبواب الإیلاء ح2.

غضب الزوجة وهو رضاها بالترک، وهذا غیر ما نحن فیه.

بل هذه الصحیحة کموثّقة إسحاق المتقدّمة، دالة علی أن الاستعداء علی الزوج فی الإیلاء لیس موضوعه الإیلاء نفسه، وإنما موضوعه هو موضوع الإیلاء، وهو حق المرأة فی الوطی بعد الأربعة أشهر، ومن ثم ذهب بعضهم فی الإیلاء إلی أن مبدأ المدة فی الأربعة أشهر هی منذ إیقاع الإیلاء لا منذ مرافعتها للحاکم، وکأن الوجه فی جعل الإیلاء مبدأ دون ترک الوطی هو أنه من حین الإیلاء تحصل المغاضبة وعدم رضا الزوجة بترک حقّها، ومن ثم قد تجعل نفس المرافعة مبدءاً للأربعة لا من حین الإیلاء، کما قد یظهر من بعض نصوص روایات الإیلاء أنها إن سکتت سکت عنها، حیث أن السکوت بمنزلة الرضا، وعدم المطالبة بالحق بمعنی الرضا بسقوطه فی تلک المدّة السابقة، فلا ینقض علی من استدل بروایات الإیلاء فی المقام- کصاحب الجواهر- باختلاف موضوع الإیلاء مع الموضوع فی المقام، إذ غایة ما یختص به الإیلاء هو انعقاد الیمین فیما هو مرجوح أو محرم ولزوم الکفارة علیه، وأما بقیة أحکامه فمأخوذ فی موضوعها حق المرأة فی الوطی، کما سیتبین من بعض روایاته الآتیة.

وکذا الحال فی الظهار، فإنه وإن حدّد بالثلاثة أشهر لکونه نحو طلاق موجب للبینونة المؤبدة فی الجاهلیة، والشارع لم یبطل أثره من رأس وإنما جعل أثره معلّق ومؤقت بالکفارة أو الطلاق، ومن هنا کان الأقوی فیه حرمة مطلق استمتاع الرجل بالمرأة ما لم یفیء ویکفر أو یطلق، وبعبارة أخری: إن جعل المرأة معلقة لا هی زوجة ولا مطلقة هضم لحقوقها فی القسم والعشرة بالمعروف والوطی.

ص:306

الجهة الثالثة: عموم حق استعداء المرأة بالطلاق مع عدم العشرة بالمعروف من دون تقیید ذلک بخصوص النفقة

ویدل علیه:

أولًا: ما مضی من الروایات.

ثانیاً: النصوص الخاصة الواردة فی حق الإنفاق وبهذه النصوص یتعزز ثبوت القاعدة التی التزم بها جملة من أعلام عصرنا کالسید الکلبایکانی وسیدنا الأستاذ السید محمد الروحانی وغیرهما، من عموم حق المرافعة للزوجة بالطلاق أو العشرة بالمعروف فی کلّ ما للمرأة من حق العشرة لا خصوص ما إذا امتنع عن الإنفاق.

ثالثاً: جملة الآیات والروایات الواردة فی باب الإیلاء.

رابعاً: جملة من الآیات والروایات الواردة فی باب الظهار .

خامساً: ما ورد فی العیوب، کما فی العیب المستجد بعد الوطی، کما سیأتی استعراضها، الدالة علی أن موضوع الإجبار علی الطلاق أو علی أداء الحقوق لا یختص بحق النفقة، وإنما یعم بقیة حقوقها الأصلیة، کالوطی.

سادساً: إن العموم فی حقوق المرأة مطابق للآیات القرآنیة کقوله تعالی: فَإِمْساکٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِیحٌ بِإِحْسانٍ 1 وقوله: فَأَمْسِکُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ 2 وقوله تعالی: فَأَمْسِکُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ

ص:307

أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وقوله تعالی وَ عاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ کَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسی أَنْ تَکْرَهُوا شَیْئاً وَ یَجْعَلَ اللّهُ فِیهِ خَیْراً کَثِیراً.

ومن الروایات ما ورد فی الإیلاء- مضافاً إلی ما تقدّم- صحیحة أبی مریم عن أبی جعفر(علیه السلام) قال: «المؤل یوقف بعد الأربعة أشهر فإن شاء إمساک بمعروف أو تسریح بإحسان، فإن عزم الطلاق فهی واحدة وهو أملک برجعتها»(1).

وهذه الصحیحة ناصة علی عموم الآیة فی غیر حق النفقة، وأن الإجبار علی الطلاق فی باب الإیلاء هو حکم موضوعه حق المرأة فی الوطی ولیس موضوعه الحلف بما هو حلف.

هذا، مضافاً إلی التعبیر المستفیض أو المتواتر فی روایات الإیلاء کما هو فی قوله تعالی أیضاً: لِلَّذِینَ یُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِیمٌ 2 فإن التعبیر بالفیء هو الرجوع إلی مصالحة أهله أی أداء حقوقها من الجماع، کما فی صحیحة أبی بصیر عن أبی عبدالله(علیه السلام):

«.. فإن فاء وهو أن یصالح أهله فإن الله غفور رحیم وإن لم یفئ جبر علی أن یطلق»(2)وفی موثّق سماعة قال فی حدیث:

«والإیفاء أن یصالح أهله فإن الله غفوررحیم»(3).

ص:308


1- (1) وسائل الشیعة، ج22 ص351، أبواب الإیلاء باب 10 ح2.
2- (3) وسائل الشیعة، أبواب الإیلاء، ب9 ح1.
3- (4) المصدر، ح4.

هذا مضافاً إلی أن حق المرافعة والشکوی للزوجة علی الرجل المؤلی یقتضی فی رتبة سابقة أن لها حقاً مضیعاً من قبله، وفی صحیح برید بن معاویة عن أبی جعفر(علیه السلام) وأبی عبدالله(علیه السلام) فی حدیث: «.. فإن مضت الأربعة أشهر قبل أن یمسها فسکتت ورضیت فهو فی حل وسعة، فإن رفعت أمرها، قیل له إما أن تفیء فتمسها وإما أن تطلق»(1).

ومنها ما ورد فی الظهار، کما فی صحیح یزید الکناسی عن أبی جعفر(علیه السلام) فی حدیث قال: (قلت له: فإن ظاهر منها ثم ترکها لا یمسها إلّا أنه یراها متجردة من غیر أن یمسها هل علیه فی ذلک شیء؟ قال: هی امرأته ولیس یحرم علیه مجامعتها، ولکن یجب علیه ما یجب علی المظاهر قبل أن یجامع وهی امرأته قلت: فإن رفعته إلی السلطان وقالت هذا زوجی وقد ظاهر منی وقد أمسکنی لا یمسّنی مخافة أن یجب علیه ما یجب علی المظاهر، فقال: لیس علیه أن یجبر ... إذا لم یکن له ما یعتق ولم یقدر ... قال: فإن کان یقدر علی أن یعتق فإن علی الإمام أن یجبره ..» (2) والحدیث نص فی أن حکم الإجبار فی الظهار لیس مترتباً علی الظهار بما هو هو، وإنما مترتب علی ترک حق المرأة، سواء کونها معلّقة أو لحق الوطی.

وفی صحیح أبی بصیر قال: «سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن رجل ظاهر من امرأته، قال: إن أتاها فعلیه عتق رقبة أو صیام شهرین متتابعین أو إطعام ستین مسکیناً وإلّا ترک ثلاثة أشهر، فإن فاء وإلّا أوقف حتی یُسأل:

ص:309


1- (1) المصدر، باب 2، ح1.
2- (2) المصدر، أبواب الظهار، ب17 ح1.

لک فی امرأتک حاجة؟ أو تطلقها فإن فاء فلیس علیه شیء وهی امرأته، وإن طلق واحدة فهو أملک برجعته»(1).

والصحیحة نص فی أن حکم الإجبار علی الطلاق أو أداء الحقوق المعبّر عنه بالفیء موضوعه حق المرأة، ومن ثم کان لها حق المرافعة والشکایة علیه عند الحاکم.

سابعاً: التعبیر بالفیء فی الظهار والإیلاء، کما فسر فی روایات الإیلاء بأن یصالح أهله، یقتضی أن یکون معنی الزوجیة التی هی المسبب فی عقد الزواج هو الاقتران بضمیمة الإملاک، وهو یباین القطیعة والانقطاع بین الزوجین، فمن ثم عبّر عما یقابلهما بالفیء والمصالحة، وهو مفاد ما تقدّم من قوله تعالی: فَإِمْساکٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِیحٌ بِإِحْسانٍ .

ثامناً: قوله تعالی: وَ إِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَیْهِما أَنْ یُصْلِحا بَیْنَهُما صُلْحاً وَ الصُّلْحُ خَیْرٌ وَ أُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَ إِنْ تُحْسِنُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اللّهَ کانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِیراً* وَ لَنْ تَسْتَطِیعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَیْنَ النِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِیلُوا کُلَّ الْمَیْلِ فَتَذَرُوها کَالْمُعَلَّقَةِ وَ إِنْ تُصْلِحُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اللّهَ کانَ غَفُوراً رَحِیماً* وَ إِنْ یَتَفَرَّقا یُغْنِ اللّهُ کُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَ کانَ اللّهُ واسِعاً حَکِیماً2 فإن مفاد هذه الآیات أنه إما اقتران بالزوجیة وصلح بین الطرفین صلح عشرة وأداء للحقوق من الطرفین، وإما التفرق ولا یسوغ تعلیق الحالة.

ص:310


1- (1) المصدر، باب 18، ح1.

فالمحصل من الآیات ان هناک ثلاثة حالات:

إما حالة وئام وصلح وفیء من الطرفین لبعضهما وهی المرغوبة شرعاً.

أو حالة التعلیق بلا وئام ولا طلاق وهی المنهی عنها بقوله تعالی: فَتَذَرُوها کَالْمُعَلَّقَةِ .

أو حالة الفراق والطلاق، وهذا هو معنی الحصر فی الآیتین السابقتین إما إمساک بمعروف أو تسریح بإحسان أی نبذ لحالة التعلیق.

تاسعاً: ما ورد فی العیوب، کصحیحة ابن مسکان عن أبی بصیر «قال: سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن امرأة ابتلی زوجها فلا یقدر علی جماع أتفارقه؟ قال: نعم إن شاءت، وفی روایة أخری ینتظر سنة فإن أتاها وإلّا فارقته فإن أحبت أن تقیم معه فلتقم»(1).

والمشهور أو الأشهر، وإن ذهبوا إلی تقیید حق الفسخ بالعیب قبل العقد أو بعد العقد قبل الوطی کالعنن والجب، دون العیب المتجدد بعد الوطی، إلّا أن مفاد هذه الصحیحة وما یأتی من روایات ظاهرها الإجبار علی الطلاق لمکان حق الزوجة فی الوطی، وقد ذهب إلی ذلک الشیخ المفید وجماعة وکذلک بعض المعاصرین، وهو المحکی عن المبسوط- فی الجب- وابن البراج(2) والمختلف- فی الجب أیضاً- وتوقف جماعة.

وفی موثّق عمار بن موسی عن أبی عبدالله(علیه السلام):

«أنه سُئل عن رجل

ص:311


1- (1) وسائل الشیعة، أبواب العیوب، ب14 ح1.
2- (2) الحدائق الناضرة، ج24.

أخذ عن امرأته فلا یقدر علی اتیانها، فقال: إذا لم یقدر علی إتیان غیرها من النساء فلا یمسکها إلّا برضاها بذلک، وإن کان یقدر علی غیرها فلا بأس بإمساکها»(1). والتفصیل فی الروایة بلحاظ العنن وعدمه، حیث أنه فی الصورة الثانیة هو کالمرض الطارئ الذی یرجی زواله.

وفی صحیح أبی الصباح الکنانی قال: «سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن امرأة ابتلی زوجها فلا یقدر علی الجماع أبداً أتفارقه؟ قال: نعم إن شاءت»(2).

ودعوی صاحب الجواهر بأن ما دل من الروایات علی عدم حق الفسخ لها فی صورة الطرو للعنن والعیب بعد الوطی أصحّ سنداً وأکثر عدداً.

مدفوعة: بأن تلک الروایات عامّیة وإن کانت موثّقة، ولا سیما أن الرواة لها من قضاة العامة، وهی لیست أکثر عدداً من الروایات الأولی، مع أن مفاد الروایات الأولی ظاهرة بالإجبار علی الطلاق لا الخیار المنفی فی الروایات النافیة.

مضافاً إلی أن الروایات الأولی مطابقة للسان ثالث من الروایات الواردة فی العنن الدالة بالعموم علی حق الزوجة فی مفارقة الزوج بالعنن، کصحیحة محمد بن مسلم والصحیح الثانی لأبی الصباح(3) وکذلک روایة عبدالله بن الفضل الهاشمی وروایة غیاث بن إبراهیم(4)، وقد تقدّمت

ص:312


1- (1) وسائل الشیعة، أبواب العیوب، ب14، ح3.
2- (2) المصدر، ح6.
3- (3) المصدر، ح5، ح7.
4- (4) المصدر، ح2، ح3.

صحیحة أبی حمزة(1) الدالة علی ذلک، حیث أن موردها فی العیب الطارئ بعد الوطی، وهی صریحة فی الإجبار علی الطلاق لا الفسخ.

ولا یخفی أن هذه الروایات تعم مطلق العیوب المانعة عن الوطی، سواء کان عنناً أو جبّاً أو خصاءً مانعاً عن انتشار الآلة، ونحو ذلک.

ثم إن هناک جملة من التفاصیل فی مسألة العیوب، من التحدید بالمدد الواردة فی کل عیب ونحو ذلک، فهی موکولة إلی بحث العیوب المبحوث فی محله.

أما المنقطعة، فظاهر صحیحة صفوان وإن کانت شاملة بإطلاقها لها، لکن بقیة الأدلة والروایات التی مرّت غیر شاملة لها، لأن فیها الإجبار علی الطلاق، ویمکن أن یُقرّب قصور الصحیحة عن الشمول بما یظهر من جملة من الآیات والروایات(2) حیث ورد أنها لیست من الأربع، وأنهن مثل الإماء یتزوج ما شاء، مضافاً إلی عدم ثبوت جملة من الأحکام لها کالتوارث والنفقة والقسم والعدّة(3)، وکذا ما ورد فی الآیات بأن لا تجعل الزوجة معلّقة، بل إمّا تُسرّح وتطلّق أو تُمسک بمعروف، کما أن الظاهر أن وجوب التمکین فی المتعة من جهة أجرة العوض، فجملة ذلک موجب للانصراف، وإن کان الأحوط ذلک.

وأما السفر، فإطلاق الأدلة دافع للتقیید بعدمه، ودعوی أن سیرة

ص:313


1- (1) المصدر، ح1.
2- (2) الوسائل، أبواب المتعة، باب 4.
3- (3) المصدر، باب 25، 33.

المتشرعة علی سقوطه بالسفر مطلقاً، کما هو الحال فی القسم، مدفوعة بأن القدر المتیقن من السیرة إنما هی فیما احتاج واضطر عرفاً إلیه، لا فی کل سفر بحیث یجعلها کالمعلّقة، والحال کذلک فی القسم کما هو مقرر فی بحث حقوق الزوجین.

الجهة الرابع: تتمة القاعدة:
اشارة

أنّ اجبار الحاکم له علی الفیء أو علی الطلاق مع طلبها، وهل ذلک بنحو التخییر للحاکم أو للزوجة؟ أم انّه یتعین الاجبار علی الفیء ولو بالتعزیر أو غیره، فان لم یمکن ذلک أو لم ینفع اجبره علی الطلاق، فان لم یمکن طلقها الحاکم علیه. ومن أدوات الاجبار التی ذکروها ان ینفق الحاکم من مال الزوج مع امتناعه ولو ببیع عقاره أو متاعه، لان النفقة حق کالدین بعد عموم قاعدة الحاکم ولی الممتنع.

وهل یقدّم ذلک علی الحبس والتعزیر أو ان ذلک یؤخر کما یظهر من جملة من الکلمات، والظاهر من بعض الروایات الواردة فی الدین أن الحبس مؤخر عند عدم القدرة علی ماله.

وأما الحصر بین الاجبار علی الفیء بمراتبه المتعددة أو الطلاق فقد دلَّت علیه الآیات والروایات السابقة، وانّه یدل علیه أولاً: قوله تعالی: فَأَمْسِکُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ 1 وثانیاً: قوله تعالی: فَأَمْسِکُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَ لا تُمْسِکُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَ مَنْ یَفْعَلْ ذلِکَ فَقَدْ

ص:314

ظَلَمَ نَفْسَهُ 1.

ثالثاً: قوله تعالی: وَ لا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَیْتُمُوهُنَّ إِلاّ أَنْ یَأْتِینَ بِفاحِشَةٍ مُبَیِّنَةٍ وَ عاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ 2.

رابعاً: قوله تعالی: فَلا تَمِیلُوا کُلَّ الْمَیْلِ فَتَذَرُوها کَالْمُعَلَّقَةِ وَ إِنْ تُصْلِحُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اللّهَ کانَ غَفُوراً رَحِیماً3.

خامساً: وقوله تعالی: لِلَّذِینَ یُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِیمٌ وَ إِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللّهَ سَمِیعٌ عَلِیمٌ وَ الْمُطَلَّقاتُ یَتَرَبَّصْنَ ... وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِی ذلِکَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِی عَلَیْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَ لِلرِّجالِ عَلَیْهِنَّ دَرَجَةٌ وَ اللّهُ عَزِیزٌ حَکِیمٌ * الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساکٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِیحٌ بِإِحْسانٍ وَ لا یَحِلُّ لَکُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَیْتُمُوهُنَّ شَیْئاً إِلاّ أَنْ یَخافا أَلاّ یُقِیما حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ یُقِیما حُدُودَ اللّهِ فَلا جُناحَ عَلَیْهِما فِیمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْکَ حُدُودُ اللّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَ مَنْ یَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُولئِکَ هُمُ الظّالِمُونَ فَإِنْ طَلَّقَها... فَلا جُناحَ عَلَیْهِما أَنْ یَتَراجَعا إِنْ ظَنّا أَنْ یُقِیما حُدُودَ اللّهِ وَ تِلْکَ حُدُودُ اللّهِ یُبَیِّنُها لِقَوْمٍ یَعْلَمُونَ * وَ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِکُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَ لا تُمْسِکُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَ مَنْ یَفْعَلْ ذلِکَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَ لا تَتَّخِذُوا آیاتِ اللّهِ هُزُواً... * وَ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ

ص:315

فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ یَنْکِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَیْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِکَ یُوعَظُ بِهِ مَنْ کانَ مِنْکُمْ یُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ الْیَوْمِ الْآخِرِ ذلِکُمْ أَزْکی لَکُمْ وَ أَطْهَرُ وَ اللّهُ یَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ 1.

ومفاد هذه الآیات ظاهرة بوضوح ان العلاقة الزوجیة مقامة علی حدود حددها الله عزّوجلّ علی کل من الزوج والزوجة، وانّ الزوجیة بقاؤها باقامة هذه الحدود من الطرفین وهوالامساک بالمعروف، ولفظ الحدود یفید ارادة کافة الحقوق لکل منهما علی الآخر کما یعضده قوله تعالی: وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِی عَلَیْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ فلایختص هذا الحصر الالزامی بأحد الشقین بخصوص الایلاء بل بلحاظ مطلق موارد الحقوق بینهما والنزاع الناشیء منها کما یشیر الیه قوله تعالی: لِلَّذِینَ یُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِیمٌ وَ إِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللّهَ سَمِیعٌ عَلِیمٌ فجعل الخیار امام المؤلی إما الفیء وهو الرجوع الی اقامة حقوق الزوجیة وحدود الله، وإمّا العزم علی الطلاق، فالحصر فی شقی الآیة نفی لجعل المرأة معلقة، لایفیء الی اداء حقوقها ولایطلقها.

ومن ثمّ رتبت الآیات جواز افتدائها لأجل الانفصال علی الخوف من عدم اقامتها للحدود الموظفة علی کل منهما، کما علق الردّ فی رجعة الطلاق علی ارادة إصلاح العشرة بینهما، کما نهی عن امساکهن لاجل ضرارهن والاعتداء علیهن فی مقابل الامر بالإمساک المقید بالمعروف، فمجموع هذه الآیات قد بیّن فیها انّ الامساک بالمعروف لیس فی مقابل

ص:316

التعلیق الذی فی الإیلاء، فالآیات صریحة فی لزوم احد الشقین اما الصلح والعشرة بالمعروف أو التفرق والنهی عن التعلیق فی العلاقة الزوجیة عن أداء حقوق الطرفین وعن اداء کل منهما للآخر، کما ان قوله تعالی فی الشقاق وتحکیم الحکمین علق بقاء الزوجیة علی ارادة الاصلاح واداء کل طرف لحقوق الآخر، وهناک دلالات أخری فی الآیات وقرائن لاتخفی علی المتدبر دالة علی تعمیم موضوع القاعدة.

وقد تقدم فی بحث شرطیة الکفاءة والعیوب الکلام عن هذه القاعدة مفصلاً. وذهب جماعة الی تسلط المرأة علی الفسخ مع جهلها بعدم تمکن الزوج من النفقة، واستدلوا کما فی کشف اللثام بقاعدة فَإِمْساکٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِیحٌ بِإِحْسانٍ 1 وانّ الحاکم هو الذی یفسخ، واشکل علیه فی جامع المقاصد صغرویاً بان الامساک مع الاعسار لیس بغیر معروف، وکبرویا بانّ التخییر فی الآیة لادلالة له علی التلسط علی الفسخ.

وقد مرّ فی الشرائع قوله: فلوتجدد عجز الزوج عن النفقة هل تتسلط علی الفسخ فیه روایتان اشهرهما انه لیس لها.

ومرّ ان الموضوع فی باب العیوب هو الموضوع فی باب الایلاء والظهار وان اختلف اثره بما کان بعد العقد، وقبل العقد، حیث یوجب حق الفسخ قبله، وحق الاجبار علی الطلاق بعده.

وقد ذهب الی عموم القاعدة جملة من اعلام العصر کالسید الکلبایکانی وسیدنا الاستاذ الروحانی ووافقهما غیر واحد من الاجلاء.

ص:317

کما ان هناک جملة من الشواهد علی عموم موضوع القاعدة فی الروایات الواردة فی الأبواب المفتی بها:

الطائفة الأولی: مامرّ بیانه فی حق المواقعة من ان المدة المضروبة أربعة أشهر هی مدّة إستحقاق الزوجة للاستعداء والشکایة علی الزوج باجبار الحاکم ایاه علی أداء حقها، ومن ثمّ ورد فی صحیح حفص بن البختری عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: اذا غاضب الرجل امرأته فلم یقر بها من غیر یمین أربعة أشهر استعدت علیه، فامّا أن یفیء وامّا ان یطلق فان ترکها من غیر مغاضبة أو یمین فلیس بمؤل(1).

وفیه تنصیص علی عموم القاعدة، وان الجبر علی الطلاق هو عند عدم فیئه لاقامة الحدود المفترضة علیه، ومن ثم فسِّر الفیء فی صحیح أبی بصیر بأن یصالح اهله(2)، کما لایخفی ان موضوع الصحیحة وان لم یکن ایلاء لکنه مشترک مع الایلاء والظهار فی عدم اداء حق المرأة فی الوطی بل هو مشترک مع موضوع العیوب فی ذلک کما بحثناه فی کتاب النکاح.

ولا یخفی ان عنوان المصالحة فی مقابل مطلق النزاع، وکذا فی موثق سماعة(3).

وفی مصحح أبی مریم عن أبی جعفر(علیه السلام) قال:

«المؤلی یوقف بعد الاربعة الاشهر فان شاء امساک بمعروف أو تسریح باحسان فان عزم

ص:318


1- (1) أبواب الایلاء، الباب 1 ح2، وباب 10 ح2.
2- (2) أبواب الایلاء، الباب 9 ح1.
3- (3) أبواب الایلاء، الباب 9 ح4.

الطلاق فهی واحدة وهو املک برجعتها»(1).

وفیه تصریح بتطبیق العموم علی الایلاء کمورد من موارد عموم القاعدة.

الطائفة الثانیة: ماورد فی الظهار کصحیح أبی بصیر قال:

«سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن رجل ظاهر من امرأته قال: ان أتاها فعلیه عتق رقبة أو صیام شهرین متتابعین أو اطعام ستین مسکیناً، والاّ ترک ثلاثة أشهر فإن فاء وإلاّ أوقف حتی یسأل هل لک فی امرأتک حاجة أو تطلقها؟ فان فاء فلیس علیه شیء وهی امرأته، وان طلق واحدة فهو املک برجعتها»(2). ولایخفی ان جملة من الروایات الظهار والایلاء کموثق سماعة

«الایفاء ان یصالح اهله» وفی صحیح أبی بصیر «فان فاء وهو ان یصالح أهله فان الله غفور رحیم وان لم یفء جُبر علی ان یطلق وغیرها ناصة انّ حکم الاجبار علی الطلاق أو اداء الحقوق المعبر عنه بالفیء موضوعه حق المرأة ومن ثم کان لها حق المرافعة والشکایة عند الحاکم ولیس الموضوع الحلف بما هو حلف أو بما هو ظهار، بل بما هو نزاع وتفریط فی حقوق المرأة سواء حق الوطی أو کونها معلقة ویقتضیه معنی الفیء والمصالحة مع أهله الذی هو فی قبال مقتضی الاقتران المباین للقطیعة والانقطاع بین الزوجین.

الطائفة الثالثة: ماورد فی النفقة کصحیحی ربعی بن عبدالله والفضیل بن یسار عن أبی عبدالله(علیه السلام) فی قوله تعالی: وَ مَنْ قُدِرَ عَلَیْهِ رِزْقُهُ فَلْیُنْفِقْ مِمّا آتاهُ

ص:319


1- (1) أبواب الایلاء، باب 10 ح2.
2- (2) أبواب الظهار، باب 18 ح1.

اللّهُ قال: ان انفق علیها ما یقیم ظهرها مع کسوة وإلاّ فرق بینهما(1).

وصحیح أبی بصیر قال: سمعت أبا جعفر(علیه السلام) یقول: من کانت عنده امرأة فلم یکسها مایواری عورتها ویطعمها ما یقیم صلبها کان حقا علی الامام أن یفرق بینهما(2).

ومثله صحیح جمیل بن دراج وموثق روح بن عبدالرحیم(3).

وفی مرسل العیاشی عن أبی القاسم الفارسی قال: قلت للرضا(علیه السلام): جعلت فداک انّ الله یقول فی کتابه: فَإِمْساکٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِیحٌ بِإِحْسانٍ ومایعنی بذلک فقال: أمّا الامساک بالمعروف فکف الأذی واحباء النفقة، واما التسریح باحسان فالطلاق علی مانزل به الکتاب(4)، وفی الروایة تصریح بکون العشرة بالمعروف بغیر النفقة من اجزاء الامساک بالمعروف.

الطائفة الرابعة: ماورد فی العیوب کمصحح أبی الصباح قال: اذا تزوج الرجل المرأة وهو لایقدر علی النساء أجّل سنة حتی یعالج نفسه(5).

نعم قد یقال أنها لیست بروایة انما هی فتوی لأبی الصباح لکن رواها فی الاستبصار(6) عن أبی عبدالله، وکذا فی نوادر احمد بن محمد بن عیسی الأشعری، وموثق عمار الساباطی عن أبی عبدالله(علیه السلام) انّه سئل عن رجل

ص:320


1- (1) أبواب النفقات، باب 1 ح1.
2- (2) أبواب النفقات، باب 1 ح2.
3- (3) أبواب النفقات، باب1 ح4 و6.
4- (4) أبواب النفقات، باب 1 ح13.
5- (5) أبواب العیوب، باب 14 ح7.
6- (6) الاستبصار: ج3 ص249.

اخذ عن امرأة فلایقدر علی اتیانها، فقال: اذا لم یقدر علی اتیان غیرها من النساء فلایمسکها الاّ برضاها بذلک، وان کان یقدر علی غیرها فلابأس بإمساکها)(1).

وفی صحیح أبی بصیر قال: سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن امرأة ابتلی زوجها فلایقدر علی جماع اتفارقه؟ قال: «نعم ان شاءت» قال ابن مسکان وفی روایة اخری ینتظر سنة فان اتاها والا فارقته، فان احبت ان تقیم معه فلتقم(2).

وماورد من روایات مما ظاهرها المعارضة فی سقوط حق الفسخ لو طرأ العیب والعنن بعد الوطی فقد تقدم التوفیق بینها وبین هذه الروایات.

الطائفة الخامسة: ماورد فی متفرقات فصول النکاح کصحیح عبدالرحمن بن أعین قال: سمعت أبا عبدالله(علیه السلام) یقول: اذا اراد الرجل أن یتزوج المرأة فلیقل: اقررت بالمیثاق الذی أخذ الله امساک بمعروف أو تسریح باحسان(3).

وظاهر هذه المصححة ان الحصر فی الشقین من الاحکام الاولیة اللازمة لطبیعة النکاح، وهو مما یقتضی عموم هذا التلازم لا فی خصوص مورد النفقة والوطی.

ویمکن أن یحمل المیثاق علی الحد الشرعی لماهیة وعقد النکاح، وهو ایضاً محتمل للتعریف بالرسم.

ص:321


1- (1) أبواب العیوب، باب 14 ح3.
2- (2) أبواب العیوب، باب 14 ح1.
3- (3) أبواب مقدمات النکاح، باب 55 ح4.
فصل:

تدریجیة مراحل الاجبار للانفاق علی الزوجة من ماله بأن تقتص من ماله فان لم یمکن فترفع أمرها الی الحاکم فیجبره علی الانفاق علیها، أو بإجباره علی الانفاق من مَالِهِ بطریقة ما، ولو ببیع عقاره أو متاعه لعموم قاعدة الحاکم ولی الممتنع، فان لم یمکن حبسه أو عزره، فان أمکن اجبره علی الطلاق فان لم یمکن طلق علیه.

هذا، فامّا تقدّم اقتصاص من مال الرجل علی الاجبار ونحوه من المراتب المذکورة، فلأنَّه مع تمکنها من الاقتصاص وجوازه شرعا کما نقح فی محله من أبواب الدیون ینتفی موضوع الاجبار لتمکنها من التوصل الی حقها من دون مانع، وقد وردت روایات(1) مفتی بها فی عموم جواز استیفاء الدین من مال الغریم الممتنع بدون اذنه.

مضافاً الی ما روی بالخصوص انّ هندا اتت النبی صلی الله علیه و آله وقالت: یارسول الله ان أبا سفیان رجل شحیح ولایعطینی مایکفینی وولدی، الا ما اخذه منه سرا، فقال النبی صلی الله علیه و آله : خذی ما یکفیکی وولدک بالمعروف(2)، وقد یستشکل فی شمول دلیل المقاصة فی المقام من جهة عدم ملک الزوجة للمال قبل المدة، وهذا الاشکال مبنی علی ما اشتهر من کلمات المتأخرین من انّ نفقة الزوجة لاتکون دیناً الا بعد مضی المدة وهو لایخلو من اشکال

ص:322


1- (1) أبواب مایکتسب به، باب 83.
2- (2) مستدرک الوسائل، أبواب العشرة، باب 134 ح3، غوالی اللآلیء: ج1 ص402، مسند أحمد بن حنبل: ج6 ص39، 50، 206، صحیح مسلم: ج3 ح1338 کتاب الاقضیة.

ومنع، فانّ استحقاق الزوجة الحالی للنفقة لیست الا ملکیتها للنفقة فی ذمة الزوج ومقتضاها الدینیة غایة الامر ان للزوج اداءه فی الحال ولایتحقق عصیانه الا بمضی المدة والا فالدینیة هی مجرد الاستحقاق. نعم قد یدعی انه لایصدق علیه انه ممتنع الاّ بعد مضی المدة، وعنوان الامتناع مأخوذ فی قاعدة المقاصة.

وفیه: ان عنوان الامتناع أیضاً هو الاخیر یمکن أن یحرز قبل مضی المدة بحسب نشوزه السابق وامتناعه، بل ویحرز بقاءه مستقبلا ولایخفی أیضاً انه اذا امکن الصلح بینهما وفیئه ولو بتنازل الزوجة عن بعض حقوقها لاصلاح ذات البین، فهو مقدم علی کل ذلک کما دلت علیه النصوص التی أشیر إلیها فی بحث القسم(1) وهو علی مقتضی القاعدة لتقدم العلاج الموضوعی علی العلاج المحمولی.

الأحکام الأُخری التابعة للقاعدة:

وأما بقیة الاحکام فقد وردت فیها طوائف من روایات فی أبواب الایلاء:

الاولی: مادل علی انه یوقف حتی یفیء أو یطلق اذا رفعت امرها الی الحاکم کصحیح أبی بصیر عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: الایلاء هو ان یحلف الرجل علی امرأته ان لایجامعها فان صبرت علیه فلها ان تصبر، وان رفعته الی الامام انظره أربعة أشهر ثم یقول له بعد ذلک: اما أن ترجع الی

ص:323


1- (1) أبواب القسم والنشوز، الباب 11.

المناکحة، وأما ان تطلق، فان أبی حبسه أبدا(1).

وفی صحیح بن أبی نصر قال(علیه السلام): انما یوقف اذا قدمه الی السلطان الحدیث(2).

الثانیة: ومادلّ علی انّ الامام یفرق بینهما اذا أبی الزوج ان یفیء وان ذلک الطلاق طلاق بائن کموثق سماعة قال(علیه السلام): «... فان فاء - والایفاء ان یصالح اهله - فان الله غفور رحیم، وان لم یفء بعد اربعة أشهر حتی یصالح أهله أو یطلق جبر علی ذلک ولایقع طلاق فیما بینهما حتی یوقف، وان کان بعد الاربعة أشهر فان أبی فرق بینهما الامام(3). وهی دالة علی تقیید الطلاق الاجباری علی الزوج بقیدین:

الاول: توقیفه من قبل الحاکم.

الثانی: اجباره علی الفیء. وقد مرّ انّ التوقیف مقید أیضاً برفع المرأة امرها الی الحاکم، کما ان رفع امرها الی الحاکم مقید بقید رابع أیضاً وهو مضی المدّة، فهذه أربعة قیود للطلاق الاجباری، وهی دالة علی المراتب، وسیأتی تقییده بقیود أخری فی الروایات اللاحقة.

وفی مصحّح منصور بن حازم عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: المؤلی اذا وُقِف فلم یفیء طلق تطلیقة بائنة(4).

ص:324


1- (1) أبواب الایلاء، باب 8 ح6.
2- (2) نمفس المصدر، ح5.
3- (3) أبواب الایلاء، باب 9 ح4.
4- (4) أبواب الایلاء، باب 10 ح5.

الثالثة: مادلّ علی الاجبار علی الطلاق بالحبس کمعتبر حماد بن عثمان عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال فی المؤل إن أبی ان یطلق قال: کان أمیر المؤمنین(علیه السلام) یجعل له حظیرة من قصب ویحبسه فیها

«یجعله فیها» ویمنعه من الطعام والشراب حتی یطلق(1).

ومثلها روایة غیاث بن ابراهیم الاّ انّ فیها

«واعطاه ربع قوته»(2)وکذا مرسل العیاشی(3).

وقد مرّ انّ الاجبار علی الفیء مقدم علی الاجبار علی الطلاق، کما انّ مفاد هذه الطائفة مقید لما مرّ من الطائفة الثانیة بان اجبار الحاکم للزوج علی الطلاق مقدم علی تطلیق الحاکم.

والظاهر ان الحبس وسیلة للضغط فلایبعد التعدی عنها الی ادوات اخری التی لا تستلزم التصرف فی شؤون الزوج بأکثر من الحبس.

من یتصدی للإجبار:

وذکر فی الجواهر انّه إنْ لم یمکن تصدی الحاکم تصدی لذلک عدول المؤمنین، بل ان لم یکونوا فساقهم فی وجه.

ولایخفی ان ما مرّ فی الروایات من الحبس أو تقلیل الطعام، وفی بعض الروایات کمرفوعة خلف بن حماد ان یهدد بالقتل(4). نصَّ الروایة

ص:325


1- (1) أبواب الایلاء، باب 11 ح1.
2- (2) أبواب الایلاء، باب 11 ح3.
3- (3) أبواب الایلاء، باب 11 ح7.
4- (4) أبواب الایلاء، باب 1 ح2.

«أمَّا أنْ یفی أو یطلق فإنَّ فعل وإلّا ضربت عنقه».

وهذه ألیات لتقریر للعقوبة علی ما مضی والردع عما یأتی.

ثم انّه سیأتی فی بحث النفقات ما لو کان امتناعه عن النفقة للعجز أو المفقود المعلوم المکان ولم یکن له مال ولاولی وغیرها من موارد الامتناع من الانفاق، وانّه هل ینفق عنه علیها من بیت المال من باب الغارمین أم لا؟

نعم اخفاء نفسه یندرج فی ما سبق من الامتناع عن الانفاق بالاختیار مع القدرة کما سیأتی انّه لایبعد کون سقوط کل نفقة أو بعضها بحسب درجات التمرد والعصیان، ونقصان الطاعة سواء بنی علی ان النفقة من المعاوضة مع التمکین والطاعة، اذ انّ الطاعة والتمکین درجات، أو ان السقوط من باب التأدیب.

ثم انّه لایخفی أیضاً ان الامتناع من اعطاء أی حق من حقوقها مندرج فی موضوع نشوزه کسوء الخلق المؤذی بعد کون العشرة بالمعروف حق لکل منهما علی الآخر، أو هجرها وتعلیقها أو غیر ذلک.

الجهة الخامسة: قاعدة فی حقوق العشرة الزوجیة أو الطلاق:
اشارة

لا یخفی ان جملة الحقوق الزوجیة الثابتة لکل طرف علی الاخر مقومة للایناس والتعایش بینهما , والذی بدوره یقوم العشرة الزوجیة.

فأصل تشریع العشرة بالمعروف المدلول علیة بادلة اتیة بمثابة قاعدة تقابل الاضرار بالزوجة وجعلها کالمعلقة , فیکون مفاد القاعدة تحریم الهجران وجعلها معلقة , أی ان حرمة الهجران مع طاعة المراة تقریر لوجوب عشرتها بالمعروف بعد کون الاقتران بین الزوجین فی الاصل علقة

ص:326

روجیة وجنسیة معا , فالایناس والتعاشر فی التعامل بین الزوجین والکینونة بینهما طبیعة واجبة لها اسباب وافراد والیات عدیدة توجب الوئام والالفة فی الحیاة الزوجیة.

فیکون الأمر عاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ بمثابة الاصل الفوقی الذی تنحدر منه کافة الحقوق الزوجیة.

بل یتقرر مفاد لحقوق الزوجین من وجوب حسن العشرة بینهما لکل طرف تجاه الاخر , بمعنی ان اللازم علی کل طرف وراء الحقوق المنصوصة علیه ان لا یکون منافرا للطرف الاخر ومفارقا له , وان هذا النمط من العشرة بینهما نظیر (صلة الرحم) من کون الواجب علی کلا الطرفین التواصل وان فرط احد الطرفین.

فیعاقب کلا الطرفین علی التفریط به وان کان البادی احدهما.

ولیس معنی هذا اقرار الظالم علی ظلمه وتقریره فی تمادیه بل بمعنی لزوم المحافظة علی الحیاة الزوجیة , وانه یتقرر فی هذا الوجوب للعشرة بینهما حق الهی وحدود له تعالی.

فلیس هو حق مشترک لهما فقط وان کانت هذه العشرة بقوامیة الرجل علی المراة .

وسیتبین ان هذا الواجب یعم اسباب العشرة العادیة غیر المنصوصة ولو بمقدار ادنی المراتب بحیث یلزم من ترکها القطیعة والتدابر والهجران.

وذلک بحسب بناء العرف وآلیاته فی العشرة بالمعروف المتفاوتة شدة وضعفا وکما وکیفا بحسب الاعراف والبیئات .

ص:327

والکلام فی القاعدة یقع فی جملة حقوق:

ومن جملة الحقوق المتعبد بها شرعا حق القسمة.

الحق الاول: حق القسمة.

تحریر الاقوال:

وقع الخلاف بین الفقهاء فی هذا الحق فمنهم من جعله حقا للمرأة، ومنهم من جعله حقاً مشترک بینهما کما سیأتی بیانه، وللأصحاب فیه ثلاثة أقوال:

القول الاول: وجوب القسمة ابتداءً مطلقاً ونسب الی المشهور أی سواء کانت المرأة متحدة أو متعددة، فیلزم علیه المبادرة. وعن سلاّر وابن ادریس أنهما نصا علی الوجوب مع اتحاد المرأة.

القول الثانی: وجوب القسمة مع التعدد فقط، کما عن ابن حمزة والمقنعة والغنیة والنهایة والمهذب والجامع واختاره بعض المتأخرین.

القول الثالث: لا تجب القسمة حتی یبتدئ بها، فاذا أتمّ الدور فلا یجب أیضاً حتی یبتدئ ومن ثم لایجب فی الواحدة، وهذا مبنی علی عدم کونه حقاً للزوجة وانما هو مراعاة للعدل فی القسمة، واختار هذا القول فی المبسوط والشرایع والجواهر وحکی عن الریاض، واختاره اکثر اعلام هذا العصر.

والمشهور استحباب صبیحة اللیلة، وعن بعضهم الوجوب وقال فی المبسوط وکذا عن جماعة انّه یجوز أن یجعل القسمة أزید من لیلة واحدة.

ص:328

وذکر فی الکلمات ان الواجب فی القسمة المضاجعة، لا المواقعة، بحیث یعدّ معاشرا بالمعروف، واحتمل البعض انّ اللازم هو کونه معها فی البیت لان الغرض إلایناس.

وعن المشهور سقوطه فی السفر وعن بعضهم استثناء من السقوط اذا کان سفر نقل وهجرة، وکذا سفر الاقامة.

ادلة ذلک:

استدل للوجوب بعدة ادلة:

أولاً: الاستدلال بالآیات:

الایة الاولی: الاشعار الموجود فی قوله تعالی: وَ اللاّتِی تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَ اهْجُرُوهُنَّ فِی الْمَضاجِعِ وَ اضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَکُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَیْهِنَّ سَبِیلاً إِنَّ اللّهَ کانَ عَلِیًّا کَبِیراً1 .

وتقریب الدلالة من ناحیتین حیث قد قیّد الهجر بخوف النشوز ومقتضاه نفی المشروعیة مع عدم القید، وکذا تسمیة الهجر فی المضاجع بأنّه سبیل یضرّ بهنّ فَلا تَبْغُوا عَلَیْهِنَّ سَبِیلاً، فالنهی عنه مع طاعتهن یقتضی الحرمة، فیدل فی الجملة اجمالا علی انّ المبیت معهن فی المضاجع لازم.

الایة الثانیة: قوله تعالی: وَ لا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَیْتُمُوهُنَّ إِلاّ أَنْ یَأْتِینَ بِفاحِشَةٍ مُبَیِّنَةٍ وَ عاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ کَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسی أَنْ

ص:329

تَکْرَهُوا شَیْئاً وَ یَجْعَلَ اللّهُ فِیهِ خَیْراً کَثِیراً1.

وهی دالة علی وجوب المعاشرة للنساء بالمعروف اجمالا، والمعروف وان لم یبیّن فی الآیة، الا انّ مجرد اعطاءها السکنی، والطعام والوطی کل أربعة اشهر مع المتارکة لها والهجران لیس من العشرة بالمعروف بل هو من المضارة المنهی عنها فی قوله تعالی: وَ لا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَیِّقُوا عَلَیْهِنَّ 2.

الایة الثالثة: قوله تعالی: وَ لا تُمْسِکُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا3.

هذا مع انّه مقتضی مفاد عقد النکاح والزوجیة هو الاقتران، وهو وإن ارید به الاقتران الاعتباری إلاّ أنّه یقتضی الاقتران الخارجی إجمالاً کما یفیده قوله تعالی أیضاً: وَ مِنْ آیاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَکُمْ مِنْ أَنْفُسِکُمْ أَزْواجاً لِتَسْکُنُوا إِلَیْها وَ جَعَلَ بَیْنَکُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً 4 والآیة تبیّن الغایة المرجوة من النکاح.

وعن المسالک الایراد علیه (بان المعاشرة تتحقق بدون مضاجعة، بل بالإناس والانفاق وتحسین الخلق والاستمتاع بالنهار وباللیل مع عدم استیعاب اللیلة بالمبیت، بل مع عدم المبیت علی الوجه الذی اوجبه القائل، بل یمکن تحصیل المعاشرة بالمعروف زیادة فی الأوقات مع عدم المبیت عندهن) انتهی.

ص:330

کما قد یعضد هذا الایراد بأنّ العشرة بالمعروف لاتستلزم وجوب القسمة بنحو دوری اذ العشرة ذات مراتب والقدر المتیقن منها هو بحدّ لایلزم منه الهجران.

ویجاب: بان الاستدلال بالآیة انما هو لاصل الوجوب، وأمّا حدود المتعلق فانما یبیّن تفصیله بالسنّة، کما هو الحال فی جملة التشریعات القرآنیة، کوجوب الصلاة والصیام والحج، وکذلک الحال فی المقام، حیث ان وجوب النفقة والسکنی بُیِّنت بآیات اخری وروایات، کمقومات العشرة.

الایة الرابعة: قوله تعالی: وَ لَنْ تَسْتَطِیعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَیْنَ النِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِیلُوا کُلَّ الْمَیْلِ فَتَذَرُوها کَالْمُعَلَّقَةِ ، وَ إِنْ تُصْلِحُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اللّهَ کانَ غَفُوراً رَحِیماً1.

والآیة دالة علی تحریم التعلیق.

وقال فی المقنعة: «یرید انّه لیس ینبغی لکم أن تمیلوا علی واحدة منهن میلا کثیراً فیقع بها جفوة منکم وإعراض فتذروها کالمعلقة، لا ذات زوج یعفّها عن الحاجة الی غیره ولا مطلقة تتمکن من التصرف فی نفسها» وهذا مفاد ماورد عنهم(علیهم السلام) ان المعلقة هی التی یذرها لا ذات زوج ولا ایّم.

وقال فی زبدة البیان: «وهی التی لم تکن بذات بعل ولا بغیر بعل ولایمیل الیها، ولایعاشرها معاشرة الازواج ولایطلقها بل یجعلها کالمعلقة بین أمرین لا الی هذه ولا الی ذلک».

ص:331

وبالجملة یجب بمقتضی قاعدة (فَإِمْساکٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِیحٌ بِإِحْسانٍ ).

ففیها - باقتضاء الحصر - دلالة علی النهی من جعلها کالمعلقة وتعطیلها، ووجوب الامساک بالمعروف أو الطلاق وتحریم المیل الی احداهن کل المیل وعدم التکلیف بالتسویة واستحباب المساواة فی الامور کلها مهما امْکن.

ومن التعلیق ما قیل بان یطلق ولم یراجع ولم یخبر بالطلاق ویظهر الزوجیة حتی لاتتزوج، أو یراجع فیطلق ثم اذا قرب الخلاص یفعل مثل ذلک للاضرار.

وأورد علی الاستدلال بالآیة:

أولاً: بأنّه لایصدق کونها معلقة مع الایناس بها والانفاق علیها وتحسین الخلق والاستمتاع بالنهار وما شاکل ذلک.

ویجاب عنه: بما تقدم من الاجابة علی الایراد فی الآیة السابقة من انّ الآیة فی أصل تشریع تحریم هجر المرأة وجعلها کالمعلقة وأما حدود ذلک فبیانه بالسنة من الروایات الواردة فی حدّ القسمة، ومن ثمَّ ذهب غیر واحد من اعلام العصر الی حرمة الهجر والتعلیق فی المرأة الواحدة والمتعددة وان لم یجب القسمة ابتداءً ولادوریاً وانما تجب اذا بدأ باحداهن.

وقد یورد علیه ثانیاً: بان مورد الآیة فی ما اذا کانت الزوجات متعددات لا فیما کانت الزوجة متحدة، فمقدار الدلالة علی الوجوب مطابق للقول الثانی لا الاوّل، أی تقیید وجوب القسمة بما اذا تعددت الزوجات.

ص:332

وفیه: انّ صدر الآیة وان کان مورده ذلک الا انه من الواضح ان الذیل لیس مختصاً فی الظهور العرفی بمورد الصدر بل هو من جهة کون ذلک حق للمرأة، ومن ثمّ استظهر الکثیر عموم الحرمة لمجموع المتعددات أیضاً لو جعلهن کالمطلقات کلهن، فالموضوع هو حقّ الزوجة بنحو الاطلاق وقد مرت الاشارة ان مفاد الآیة هی مفاد ما تکرر فی جملة من الآیات من الامساک بالمعروف أو التسریح باحسان، وهی شاهد عموم موضوع الحکم. ونظیر هذا التقریب للآیة ماذکروه فی ما اذا اسلم احد الزوجین، کالزوجة حیث ان الاسلام موجب لمخالفتها فی الدین فیجب انتفاء سلطنة الزوج علیها لعموم قوله تعالی: وَ لَنْ یَجْعَلَ اللّهُ لِلْکافِرِینَ عَلَی الْمُؤْمِنِینَ سَبِیلاً وبقاء الزوجیة موجب للسلطنة مع انّ الزوجیة اذا کانت باقیة ینبغی بقاء جمیع احکامها، فعدم تمکینه من اخراجها وعدم البیتوتة عندها، وعدم وطیها، خروج عن قاعدة النکاح وبقاء احکامه ولما فیه من اضرار الزوجة، لبقائها کالمعلقة.

وقال فی تفسیر القمی فی ذیل الآیة ان تأتی واحدة وتذر الاخری لا ایم ولاذات بعل.

وهذه السنة - یشیر الی ما فی الآیة السابقة من اسقاط المرأة الی بعض حقوقها - فیما کان کذلک اذا اقرّت المرأة ورضیت علی ما صالحها علیه زوجها فلاجناح للزوج ولا علی المرأة، وان هی ابت طلقها أو یساوی بینهما لایسعه الی ذلک(1).

ص:333


1- (1) تفسیر القمی: ج1 ص155.
ثانیاً: الاستدلال بالروایات:
اشارة

وهی علی طوائف:

الطائفة الأولی:

ففی مصحح الحسن بن زیاد عن أبی عبدالله(علیه السلام) فی حدیث قال: سألت عن الرجل تکون له المرأتان وإحداهما احب الیه من الاخری له أن یفضلها بشیء، قال: نعم له أن یأتیها ثلاث لیال والاخری لیلة لانّ له أن یتزوج أربع نسوة فلیلتاه یجعلهما حیث یشاء - الی أن قال - وللرجل أن یفضل نساءه بعضهن علی بعض ما لم یکن أربعاً.

ومثله أو قریب منه صحیح محمد بن مسلم، وصحیح الحلبی(1).

الطائفة الثانیة:

وموثق زرارة قال: قال سئل أبو جعفر(علیه السلام) عن المهاریة (النهاریة) یشترط علیها عند عقدة النکاح أن یأتیها متی شاء کل شهر وکل جمعة یوماً ومن النفقة کذا وکذا، قال: لیس ذلک الشرط بشیء، ومن تزوج امرأة فلها ما للمرأة من النفقة والقسمة ولکنه اذا تزوج امرأة فخافت منه نشوزاً، أو خافت أن یتزوج علیها أو یطلقها فصالحته من حقها علی شیء من نفقتها أو قسمتها فإنّجائر لابأس به(2).

ومفاد الطائفة الاولی قد یقال ان القدر المتیقن من دلالتها علی

ص:334


1- (1) أبواب القسم باب1 ح1 وح2.
2- (2) أبواب القسم باب 6 ح1 والکافی: ج5 ص403 ح4.

الوجوب فیما لو کانت نساءه متعددة لامتحدّة، بل وفیما کان قد ابتدأ الدور بهن، لا فیما لو لم یبتدئ، فالقدر المتیقن من دلالتها القول الثالث، لا الثانی فضلاً عن الاوّل.

مضافا الی ان مصبّ السؤال فیها عن التفضیل وکیفیة العدالة فی القسمة، ولکن مما یبعّد استظهار القول الثالث ان الوجوب فی البیت لیس فی الحقیقة لاجل ذات القسمة علی القول الثالث بل ان اللازم العدل، وعلیه تکون اصل المبیت معها لیلة مستحبة، فیشکل حینئذ ان العدالة والتسویة فیما هو مستحب کیف تکون واجبة، مع انّه قد تقدم شطر من الکلام فی العدالة الواجبة بین النساء - وسیأتی تتمة للکلام فیه أیضاً - انما هی فی الواجبات التی علی الزوج لهن، وأمّا فی ما یندب له أن یأتی به للمرأة والنساء فالعدالة فیه مندوبة فکیف تکون فیه التسویة واجبة، وقد مرّ جملة کثیرة من الکلمات فی ذیل قوله تعالی فَتَذَرُوها کَالْمُعَلَّقَةِ قرروا دلالة الآیة علی حرمة هجران المرأة وجعلها کالمعلقة لا أیّم ولا ذات بعل، واعترف الکثیر ان ذلک التعلیق یتحقق بترک الایناس الحاصل من التعایش والسکنی معاً، وقد تقدم انّه مما یدلل علی وجوب اصل الایناس والتعایش وقد اعترف بوجوب ذلک أیضاً وحرمة الهجران جملة من اعلام العصر، ومن ثمَّ قد ذکرنا ان هذه الروایات بمثابة البیان لحدود متعلق ذلک الوجوب المشرّع أصله فی جملة الآیات المتقدمة وقد عرفت ان تحریم التعلیق غیر مختص بتعدد الزوجات بل حتی مع اتحاد المرأة، فالاقرب افادة هذه الطائفة الاولی للوجوب ابتداء بقرینة وجوب التسویة وحرمة التعلیق.

وأما الطائفة الثانیة وموثق زرارة فمفادها وان اوهم معارضته لما

ص:335

تقدم من الروایات فی أبواب المهور(1) الدالة علی جواز اشتراط ان لایأتیها الاّ نهاراً ولا یأتیها لیلاً ولا یقسم لها کما فی صحیح زرارة قال:

«کان الناس بالبصرة یتزوجون سراً فیشترط علیها أن لا آتیک الا نهاراً ولا آتیک باللیل ولا اقسم لک، قال زرارة وکنت اخاف أن یکون هذا تزویجاً فاسداً فسألت أبا جعفر(علیه السلام) عن ذلک فقال: لابأس به، یعنی التزویج الا انّه ینبغی أن یکون هذا الشرط بعد النکاح ولو أنها قالت له بعد هذه الشروط قبل التزویج نعم ثم قالت بعد ما تزوجها: انی لا أرضی الا ان تقسم لی وتبیت عندی فلم یفعل کان آثماً»(2).

حیث انّ هذه الصحیحة تفصّل وتبیّن مورد نفوذ الشرط فیما کان قد أُتی به بعد صیغة العقد مقترناً بها بخلاف فیما أُتی به قبل الصیغة فی مقاولة العقد فانّه غیر نافذ، وبالتالی یتّضح المراد من موثق زرارة من نفی صحة الشرط.

وعلی ذلک یتّفق مفاد الموثق والصحیح وتدل کل منهما علی وجوب القسمة ابتداء کما أنّ للمرأة النفقة کذلک.

ووجه آخر فی دلالة الصحیح والموثق التعبیر عن القسمة بأنّه حق للمرأة وهذا لاینسجم ولاینطبق مع القول الثالث لما مرّ من انّ مآل ذلک القول الی وجوب العدالة والتسویة بما هی، وإلاّ فالحق یعطی لصاحبه بغض النظر عن ملاحظة الاخرین والمقایسة معهم، کما ان التعبیر بالحق

ص:336


1- (1) أبواب المهور، باب 39.
2- (2) أبواب المهور، باب 39 ح2.

یشهد للقول الاول دون الثانی لان ظاهر الموثق والصحیح ثبوت القسمة والمبیت للمرأة علی حذو ثبوت النفقة، وان کانت متّحدة غیر متعددة، وهناک وجه ثالث لدلالة الموثقة أیضاً وهو قوله(علیه السلام):

«أو خافت ان یتزوج علیها» ففرض(علیه السلام) المصالحة علی حقها من القسمة فی تلک الصورة، أی کونها متحدّة وتخاف من التعدد، وهذا الوجه فی دلالة الموثق کالصریح فی فرض اتحاد الزوجة وثبوت حق القسمة والمبیت لها مع الاتحاد الذی هو من خواص القول الاوّل دون الثانی فضلا عن الثالث.

کما ان هذا المفاد صریح تحقیقاً فی نفی القول الثالث، حیث یبین ان هذا الحق یجری التعاوض علیه ولیس هو تکلیفی محض من باب التسویة والعدالة، ومن هذه الطائفة الثانیة صحیح علی بن جعفر عن أخیه موسی بن جعفر(علیه السلام) قال: «سألته عن رجل له امرأتان قالت احداهما لیلتی ویومی لک یوماً أو شهراً أو ما کان أیجوز ذلک؟ قال: اذا طابت نفسها واشتری ذلک منها فلابأس»(1).

ونظیرها صحیح الحلبی عنه(علیه السلام) فی ذیل قوله تعالی: وَ إِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً وأنها تصالحه علی لیلتها»(2)، وکذا روایة بن أبی حمزة(3) بل هی معتبرة لکون الراوی عنه علی بن الحکم الواردة فی الصلح عن یومها ولیلتها، ومثلها محسنة أبی بصیر عن أبی عبدالله(4).

ص:337


1- (1) أبواب القسم والنشوز، باب 6 ح2.
2- (2) أبواب القسم والنشوز، باب 11 ح1.
3- (3) أبواب القسم والنشوز، باب 11 ح2.
4- (4) أبواب القسم والنشوز، باب 11 ح3.

وکذا معتبرة زید الشحام(1) علی الأقوی، وکذا مرسلة العیاشی عن البزنطی(2) فظهر ان الطائفة الثانیة مستفیضة المفاد جداً.

الطائفة الثالثة:

ما دلّ علی انّ من تزوج امرأة بکراً وعنده غیرها اختصت بسبع وبثلاث ان کانت ثیباً، نظیر صحیح محمد بن مسلم قال: قلت لأبی جعفر(علیه السلام) رجل تزوج امرأة وعنده امرأة فقال: ان کانت بکرا فلیبت عندها سبعاً وان کانت ثیباً فثلاثا(3).

وفی صحیح هشام بن سالم یقیم عندها سبعة أیام(4).

ولاینافیه مافی روایات اخری کما فی صحیح الحلبی من التعبیر «فله ان یفضل البکر»(5)، فحق القسم کما مرّ مشترک بین الرجل والمرأة، کما سیأتی الاشارة إلیه.

وکذا ماورد فی من تزوج أمة مع حرّة کصحیحة عبدالرحمان بن أبی عبدالله(علیه السلام) فی حدیث

«وللحرة لیلتان وللأمة لیلة»(6).

واستدل علی نفی القول الاوّل بأمور:

ص:338


1- (1) أبواب القسم والنشور، باب 11 ح4.
2- (2) أبواب القسم والنشور، باب 11 ح6.
3- (3) أبواب القسم، باب 2 ح5.
4- (4) أبواب القسم، باب 2 ح3.
5- (5) أبواب القسم، باب 3 ح6.
6- (6) أبواب القسم، باب 8 ح3.

الاول: ما ورد من حصة حق المرأة علی الزوج فی غیر القسمة، وقد مرّت الاشارة الی جملة من تلک الروایات کموثق اسحاق بن عمار قال: قلت لأبی عبدالله(علیه السلام): ما حق المرأة علی زوجها الذی اذا فعله کان محسنا، قال: یشبعها ویکسوها وان جهلت غفر لها(1).

وغیرها من الروایات المستفیضة.

وفیه: ان جملة من هذه الروایات لم تذکر السکنی کذلک ولم تذکر الوطی کل أربعة أشهر مرة، مما یشهد بأن الحصر اضافی، وکم له نظیر فی الابواب الفقهیة.

الثانی: لا محلّ لدعوی التأسی بالنبی صلی الله علیه و آله بعد معلومیة عدم وجوب القسم علیه بقوله تعالی: تُرْجِی مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَ تُؤْوِی إِلَیْکَ مَنْ تَشاءُ وَ مَنِ ابْتَغَیْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَیْکَ ذلِکَ أَدْنی أَنْ تَقَرَّ أَعْیُنُهُنَّ وَ لا یَحْزَنَّ وَ یَرْضَیْنَ بِما آتَیْتَهُنَّ کُلُّهُنَّ 2.

وفیه: انّ فی صحیح الحلبی عن أبی عبدالله(علیه السلام) فی حدیث قلت:

«أرأیت قوله تعالی: تُرْجِی مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَ تُؤْوِی إِلَیْکَ مَنْ تَشاءُ...

قال: من آوی فقد نکح ومن ارجی فلم ینکح»(2).

مع انّه لو سلِّم فذلک من مختصات النبی صلی الله علیه و آله ، کما قد یشعر به السیاق.

الثالث: ان جمیع الطوائف المتقدمة مفادها جاری مجری الغالب فی

ص:339


1- (1) أبواب النفقات، باب 1 ح5.
2- (3) الکافی: ج5 ص387 ح1.

حال الزوج یبیت عند زوجته، فمع فرض تعددها کان علیه ملاحظة العدل فی القسمة والتفضیل علی الوجه المذکور فی النصوص.

وفیه: ان مفاد الآیات صریح فی تحریم الهجران وجعل المرأة کالمعلقة کما هو متسالم علیه فکیف یکون اصل المبیت یجری مجری الغالب، کما انّ وجوب العدل قد مرّ انّه لازم ومتسالم علیه بین الاقوال الثلاثة وهو انما یقرر فی مورد متعلق الواجب أیضاً لا ما یکون مستحباً، فاصل تشریع العِشْرة بالمعروف دلّت علیه جملة من الآیات وهو بمثابة القاعدة کما سیأتی بیانها فی مقابل الاضرار بها وجعلها کالمعلقة، وما هو الوجه المسوغ لرفع الید عن مفاد الطائفة الاولی والثانیة بل والثالثة الدالة علی ان المبیت حق أولی للمرأة، ومرّ انّ بعضها کالصریح فی اتحاد المرأة کموثق زرارة، والاستبعادات المحضة لاتسوغ رفع الید عن کل هذه الادلة.

الرابع: سیرة المتشرعة وطریقتهم علی جواز الاشتغال بالعبادات والاستئجار فی اللیل لبعض الاعمال وغیر ذلک، من دون استرضاء صاحبة اللیلة وغیر ذلک من اللوازم الکثیرة التی یصعب قیام الدلیل علیها، مما کان مخالفا للمعلوم من السیرة بل المقطوع من الشرع، لاسیما وانّ الاصل فی الحق لزوم القضاء مع الفوات ولو لعذر الا ما اخرجه الدلیل.

وفیه: انّ ذلک یلزم أیضاً علی القول الثالث، ودعوی الفرق - بأنّ علی القول الثالث له ان لایبتدأ الدور علیهن فیستأثر بنفسه لقضاء حاجیاته - ممنوعة وذلک لانّ موارد الاشتغال فی الحاجیات العرفیة فی جملة من الامثلة مستمرة بلا انقطاع فلایرفع غائلة الاشکال عدم الدور علیهن فی بعض الاحیان لاسیما وانّه اذا بات عند واحدة منهن یلزم علیه الدور علی البقیة،

ص:340

والبیتوتة عند احداهن لا محال حاصلة فی جملة افراد العرف، فالوجه فی دفع الاشکال وغیره من اللوازم المتصورة هو التراضی الحاصل ولو بالشواهد الحالیة بحسب العشرة بین الطرفین، والاّ فانّ کل ما یشکل به من اللوازم قابل لتصویره علی القول الثالث أیضاً، کما هو الحال فی باب النفقة والسکنی من تغاضی السیرة مع الأُلفة عن الإستقضاء. فتحصّل انّ الاقوی الاوّل وینبغی التعرض الی الامور:

الاوّل: الظاهر کون حق القسم والمبیت من الحقوق المشترکة ولیس حق مختص بالمرأة، وذلک لانّ اصل الاستمتاع بالمرأة سواء بالملامسة الجسدیة أوبصرف المضاجعة بل صرف الاستئناس بوجودها فی البیت معه من الاستمتاعات التی هی ملک للزوج بمقتضی عقد النکاح، فلو تنازلت هی عن لیلتها لضرّتها لا یلزم الزوج بذلک.

الثانی: قد مرّ انّ المقدار اللازم من القسم قد وقع الاختلاف فیه کما وکیفا، فنسب الی المشهور استحباب صبیحة اللیلة، وعن بعضهم الوجوب، وفی المبسوط عن جماعة یجوز ان یجعل القسمة ازید من لیلة لکل واحدة، وقد ذکروا ان الواجب فی المبیت المضاجعة لا المواقعة، واحتمل البعض ان الواجب هو الکون معها فی البیت للإیناس لا المضاجعة.

امّا الروایات فهی علی لسانین:
اللسان الأوّل:

یظهر من جملة منها شمول القسم للیلة وصبیحتها أو یومها کمعتبرة ابراهیم الکرخی قال: سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن رجل له أربعة نسوة فهو

ص:341

یبیت عند ثلاثة منهن فی لیالیهن فیمسهنّ فاذا بات عند الرابعة فی لیلتها لم یمسها فهل علیه فی هذا اثم قال: انّما علیه ان یبیت عندها فی لیلتها ویظل عندها فی صبیحتها ولیس علیه ان یجامعها ان لم یرد ذلک(1).

وکذا الروایات المستفیضة الواردة فی جواز مصالحة المرأة زوجها بترک حقها من قسم ونفقه اذا خافت منه نشوزا أو اعراضا أو طلاقا، حیث ورد فیها قول المرأة احلِّلُکَ من یومی ولیلتی، کمعتبرة ابن أبی حمزة لانّ الراوی عنه علی بن الحکم ومعتبرة زید الشحّام، وروایة أبی بصیر(2).

وکذا ما ورد من جواز شراء الزوج ذلک منها کصحیحة علی بن جعفر عن أخیه موسی بن جعفر قال: سألته عن رجل له امرأتان قالت احداهما: لیلتی ویومی لک یوما أو شهرا أو ما کان، أیجوز ذلک؟ قال: اذا طابت نفسها واشتری ذلک منها فلابأس(3).

وکذا ماورد من روایات فی تخصیص الزوجة الجدیدة بسبع أو ثلاث بکرا أو ثیباً کصحیح محمد بن مسلم وهشام بن سالم وعبدالرحمان بن أبی عبدالله وغیرها من الصحاح(4).

اللسان الثانی:

مایظهر من جملة اخری من الاقتصار علی عنوان اللیلة مثل الروایات

ص:342


1- (1) أبواب القسم والنشوز، باب 5 ح1.
2- (2) أبواب القسم والنشوز، باب 11.
3- (3) أبواب القسم والنشوز، باب 6 ح2.
4- (4) أبواب القسم والنشوز، باب 2.

الواردة فی تحدید حق المرأة من القسم سواء کانت متعددة أو متحدة(1).

وکذا ماورد فی جواز تفضیل بعض النساء فی القسم مالم تکن أربعة(2).

وغیرها من الروایات.

والجمع بین اللسانین قد یکون بحمل الثانی علی الاول کما هو متعارف فی التعبیر عن المقدار الزمنی کما فی صلاة المسافر بالاقامة عشر لیالی أو عشرة أیام، فتستعمل اللیلة کنایة عن مجموع الیوم، وقد یعکس بحمل اللسان الاوّل علی الثانی، ومن باب لحوق الیوم باللیل وان لم یکن واجبا مع اختلاف اللسان الأوّل تارة بعنوان الصبیحة وتارة بعنوان اللیلة، وهذا قرینة علی الندب.

وقد یؤید هذا الحمل الثانی ان اللیل کماورد فی الآیات خلق للناس سکنا ولباسا ولقضاء الوطر مضافاً للسیرة المستمرة.

وفیه: ان غایة هذه القرائن هو اولویة اللیل لا الحصر والاقتصار فیه، وهو الوجه فی تنوع العنوان فی اللسان الاول مع الثانی، والصحیح انّ الحمل الاوّل هو الصحیح غایة الامر ان الواجب فی النهار لیس بمعنی ان یترک معاشه، وشؤون حیاته المعتادة فی النهار فی غیر المعاش، بل بمعنی ان مأواه النهاری قیلولة أو نحو ذلک لایکون عند بقیة الزوجات، فکلما اراد الایواء الی المنزل فهو من نصیب صاحبة اللیلة نعم المداقة لیست لازمة، فالمقدار والمحصل من الوجوب فی النهار بهذا المعنی، بل کذلک الحال

ص:343


1- (1) أبواب القسم والنشوز، باب 1.
2- (2) أبواب القسم والنشوز، باب 9.

فی اللیل فانه لیس اللازم استیعابه من مبدءه الی منتهاه، بل المقدار الذی یؤوی الیه فی العادة المتعارفة الی المسکن هو اللازم، وهذا هو الموجود فی السیرة المکونة للعرف والمعروف المأمور به فی العشرة.

الثالث: فیما هو الواجب من القسم، هل هو المضاجعة أو الایناس أو الکون فی البیت؟ وظاهر تعبیر الاصحاب هو انّ الواجب من البیتوتة هی المضاجعة، دون المواقعة، ویدل علی ماذکروه انّ الوارد فی الروایات المتقدمة هو التعبیر بالبیتوتة أو اتیان المرأة بمعنی المجیء الی بیتها، وهو لایدل علی اکثر من الکون عندها دون المواقعة، وهو صریح معتبرة الکرخی المتقدمة أیضاً(1).

مضافا الی ما سیأتی من النص الدال علی تحدید المواقعة بأربعة اشهر.

وأما المضاجعة فقد تقدم فی تقریب الآیة من قوله تعالی:

وَ اهْجُرُوهُنَّ فِی الْمَضاجِعِ وَ اضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَکُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَیْهِنَّ سَبِیلاً2.

ان فی الآیة دلالة علی حرمة الهجران مع طاعة المرأة، فی قبال وجوب عشرتها بالمعروف وتومیء الی کون المضاجعة بین الزوجین من مقومات العشرة بالمعروف، کیف لا والاقتران بین الزوجین فی الاصل هی علقة روحیة وجنسیة، والظاهر انّ مراد الاصحاب الاشارة الی ابرز افراد العشرة اللازم مراعاتها، والاّ فالایناس والتعاشر بالحدیث وغیره من

ص:344


1- (1) أبواب القسم والنشوز، باب 5 ح1.

التعامل بین الزوجین والکینونة عندها بالانماط المتکونة بحسب کل عرف هی أیضاً من طبیعة الواجب، وفی الحقیقة المضاجعة هی من اشدّ معالم الوئام والألفة فی الحیاة الزوجیة فکیف بما دونها.

فروع فی حق القسمة:

الفرع الأوَّل: یختص وجوب المبیت والمضاجعة، فیما قلنا به بالدائمة، فلیس للمتمتع بها هذا الحق سواء کانت واحدة أو متعددة.

ویستدل له بقوله تعالی: وَ الْمُطَلَّقاتُ یَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ... وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِی ذلِکَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِی عَلَیْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَ لِلرِّجالِ عَلَیْهِنَّ دَرَجَةٌ وَ اللّهُ عَزِیزٌ حَکِیمٌ 1.

بتقریب انّ جعل الحق لهن فی الآیة فی الحقوق الزوجیة مثل الذی علیهن مع زیادة الحقوق للزوج، انما موضوعه فی الآیة الزوجة الدائمة وهی التی تطلق دون المنقطعة ودون ملک الیمین.

وکذا قوله تعالی: وَ اهْجُرُوهُنَّ ... فَلا تَبْغُوا عَلَیْهِنَّ سَبِیلاً... وَ إِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَیْنِهِما2.

والذی تقدم دلالته علی وجوب المضاجعة والمبیت اجمالا، ومورده کما هو واضح النکاح الدائم فقط.

ویدل علیه أیضاً ان جملة الروایات الواردة المتقدمة الاشارة الیها

ص:345

الموضوع فی جمیعها الزوجة الدائمة المتقابل فیها الواحدة والمتعددة الی اربعة.

هذا مضافا الی ان المملوکة لاتقدر علی شیء کما فی قوله تعالی: عَبْداً مَمْلُوکاً لا یَقْدِرُ عَلی شَیْ ءٍ1.

وقد ورد ان المتمتع بها بمنزلة الإماء(1).

الفرع الثانی: فی کل لیلة کان للمرأة حق المبیت، یجوز لها ان ترفع الید عنه وتهبه للزوج لیصرف لیله فیما یشاء وان تهبه لضرتها فیصیر الحق لها.

قد تقدم ان الحق مشترک بینهما فلها أن ترفع الید عن لیلتها کما اشارت إلیه النصوص المتقدمة(2).

وأما قول بعض الفقهاء کالسید ابی الحسن الاصفهانی بصیرورة الحق للضرّة مع هبتها فلابد أن یقید برضی الزوج لان الحق لیس متمحض للزوجة.

الفرع الثالث: تختص البکر اوّل عرسها بسبع لیال والثیب بثلاث: تتفضلان بذلک علی غیرهما، ولایجب علیه ان یقضی تلک اللیالی لنساءه القدیمة.

انما وقع الخلاف انّ ذلک علی وجه الاستحقاق للجدیدة وانه سبعة

ص:346


1- (2) أبواب المتعة.
2- (3) أبواب القسم، باب 6.

للبکر أو ثلاثة، أو انّ ذلک جواز للرجل ان یفضلها ویخصها بذلک، ففی جملة من العبائر کالمحکی عن ابن ادریس وابی علی الثانی ومحکی بعض متأخری المتأخرین، حیث عبروا بَأنَّ له ان یفضلها، بینما ظاهر المنسوب الی الاکثر الاوّل، حیث عبروا بأنّ البکر تختص بسبع والثیب بثلاث.

واستدل للثانی بأنّ الامر فی مقام توهم الحظر، فلایدل علی اکثر من الجواز دون الوجوب، مضافا الی ما فی عدّه من الروایات کموثق سماعة (هل یحل له ان یفضل واحدة علی الاخری، قال(علیه السلام): یفضل المحدثة حدثان عُرسها ثلاثة أیام اذا کانت بکرا ثم یسوی بینهما بطیبة نفس احداهما علی الاخری(1).

ودلالتها ظاهرة بقوة ان السؤال عن التفضیل هو فی مورد توهم الحظر ومن ثمَّ عبّر السائل (هل یحلّ له ان یفضل؟) مضافا الی ان التعبیر فی جملة من روایات الباب (بأنّ له ان یفضّل) عدا صحیح هشام بن سالم حیث قال(علیه السلام): یقیم عندها»(2)، وصحیح محمد بن مسلم حیث ورد فیه فلیبت عندها(3).

وکذا مصحح الحسن بن زیاد الصیقلی(4).

وکذا موثق سماعة المتقدم وقد عرفت انّه فی مورد توهم الحظر.

ص:347


1- (1) أبواب القسم، باب 2 ح8.
2- (2) أبواب القسم، باب 2 ح3.
3- (3) أبواب القسم، باب 2 ح5.
4- (4) أبواب القسم، باب 2 ح7.

وفی موثقة عبدالرحمان بن أبی عبدالله عن أبی عبدالله(علیه السلام) «کم یجعل للتی یدخل بها قال: ثلاثة أیام»(1) مضافاً الی ان مادة التفضیل ظاهرة بقوة فی انّ ذلک فضل یقوم به الزوج، لا انه استحقاق لها، کما ورد نظیر هذا التعبیر بالتفضیل بین النساء فی اللیالی ما لم یکنّ أربعة.

فالاظهر هو الرجحان وان کان مراعاة التخصیص احوط مع ان تعبیر المشهور بلفظ تختص البکر لیس صریح فی الوجوب.

ثم ان روایات الباب بین تخصیص البکر بسبعة والثیّب بثلاث، وبین لسان ثانی وهو تخصیص البکر بثلاث کما فی صحیح الحلبی وموثق سماعة ومصحح حسن ابن زیاد.

وفی صحیح عبدالرحمان بن أبی عبدالله ثلاثة أیام لمطلق وأیة الزوجة.

والظاهر انّ له أن یخصها بثلاث فما فوق الی سبع، والثیّب الی ثلاث، بل بناء علی الاستحباب فله ان یتخیر فی التفضیل ما شاء من اللیالی، غایة منتهاه انه فی الثیب ثلاث وفی البکر سبع، بل لو بنینا علی الاستحقاق لکان مخیرا فی البکر بین الثلاث فما زاد الی السبع.

الفرع الرابع: لا قسمة للصغیرة ولا للمجنونة المطبقة ولا للناشزة: وتسقط القسمة وحق المضاجعة بالسفر ولیس علیه القضاء.

حکی عدم الخلاف فی سقوط القسمة فی الصغیرة والناشزة، واحتمل فی الجواهر العموم للصغیرة التی یستمتع بها بغیر الوطی، کما ذهب جماعة من

ص:348


1- (1) أبواب القسم، باب 2 ح4.

المتأخرین الی وجوب النفقة لها فی ذلک الفرض، وبعد دعوی کونها ملتذّة بذلک، وکما یتأتی البحث فی الصغیرة یتأتی فی وجوب تمکین ولیها ایاها للزوج ولو لاجل مایمکن من الاستمتاعات أو لأُنس وسکن الزوج إلیها، اذ الکون فی بیت الزوجیة هو احد الاغراض المهمة من الزواج، فهل یجب زفها الی الزوج، ام لایستحق المطالبة بذلک الا بعد البلوغ؟

قال الشیخ فی المبسوط فی بحث النفقة: «وأما إذا کانا صغیرین فلانفقة لها عندنا، وقال آخرون: لها النفقة وإذا مرضت زوجته لم تسقط نفقتها بمرضها لأنها من أهل الاستمتاع ولانه قد یألفها ویسکن إلیها، وتفارق الصغیرة بهذین المعنین» وقال: «إذا کان کبیراً وهی مراهقة تصلح للوطی فالحکم فیهما سواء، وانما یفترقان فی فصل واحد وانه اذا کانت کبیرة فالخطاب معها فی موضع السکنی والتمکین الکامل، وإذا کانت صغیرة قام ولیها مقامها فیه لو کانت کبیرة علی ما شرحناه» وظاهر کلامه ان الصغیرة وإن لم یجب علیها التمکین للوطی ولم یجز وطیها الا أنه یستحق کینونتها فی بیته.

وأما علی القول بعدم وجوب النفقة وعدم وجوب التمکین بغیر الوطی فسقوط القسمة واضح، لانّ التقابض فی الزوجیة مقید ومعلق علی البلوغ کالنسیئة فی اداء العوضین.

وعلیه فجمیع الحقوق من الطرفین معلق اداؤها علی البلوغ والتقابض حینه، وأما علی القول بوجوب النفقة فی فرض التمکین فی غیر الوطی فالاظهر عدم وجوب القسمة لانه کما مرّ انّ القسمة هی من وجوب العشرة ومع فرض عدم وجوب التمکین بالوطی فلایشملها ما

ص:349

هو مقدمة له، وسیأتی تتمة الکلام فی بحث النفقة.

وأما المجنونة المطبقة فقد یتنظر فی سقوط القسمة لها فی صورة ادراکها للالتذاذ الحیوانی کما هو الغالب فی المجانین، وهو من الحقوق الراجعة للمرأة بلحاظ تلک الغریزة، هذا فضلا عن غیر المطبقة، لاسیّما مع تمکین نفسها له، نعم قد یشکل من جهة عدم استقامة العشرة معها.

اما الناشزة فسقوط قسمتها کسقوط نفقتها، بل سقوط القسمة بالنشوز تدل علیه الآیة وبدلالة مستقلة عن النفقة، وهو قوله تعالی: وَ اللاّتِی تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَ اهْجُرُوهُنَّ فِی الْمَضاجِعِ وَ اضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَکُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَیْهِنَّ سَبِیلاً1.

والبحث فی الآیة وان کان یحرر مفصلا فی مبحث النشوز والنفقات الا أنّ مجمل بیان ذلک انّ الناشز تهجر فی المضجع، وقد مرّ فی اول مبحث القسم دلالة الآیة بالمفهوم علی لزوم القسمة للمرأة والبیتوتة معها.

ودلالتها بالمنطوق علی هجرها فی الفراش والمبیت، بأن یعتزلها.

وروی مرسلا فی مجمع البیان عن أبی جعفر(علیه السلام) قال: «یحول ظهره إلیها»(1).

وذکر فی الشرائع أنّه مروی.

وعن الشیخ وابن ادریس ان یعتزل فراشها ویبیت علی فراش آخر.

ص:350


1- (2) مجمع البیان: ج3 ص80.

وقیل: ان لایبایتها فی المکان الذی تبیت فیه، وقیل انّه کنایة عن ترک الجماع.

والصحیح انّ ذلک بحسب اختلاف الاحوال والموارد لاطلاق العنوان فی الآیة، مضافا الی فعل النبی صلی الله علیه و آله حیث اعتزل نساءه وأقام فی مشربة ام ابراهیم، حیث انّ نشوزهن وان بدأ من بعضهن فی قصة العسل وغیرها الاّ انهنّ اشترکنّ فی ذلک بعده، وهو الذی یشیر الیه قوله تعالی: عسی ربه إن طلقکنّ ان یبدله ازواجا خیراً منکنّ مسلمات مؤمنات قانتان تائبات...(1).

وأمّا السفر فالسقوط به محل اتفاق اجمالا، لانّه وقع الخلاف فی انّ السقوط به فیما هو سفر شرعی فیقضی مدّة الاقامة، وکذا فیما اذا کان سفره سفر انتقال، واستدل علی اصل الحکم بسیرته صلی الله علیه و آله وسیرة المتشرعة علی عدم القضاء وعدم اصطحاب الازواج.

نعم ذلک محدد الی ما لا ینافی العشرة بالمعروف من الحیاة الزوجیة، وان لاتکون الزوجة کالمعلقة، وعن المبسوط لزوم قضاء ایام الاقامة، وعن جماعة المیل إلیه استنادا الی انّ ایام الاقامة لیست من السفر شرعا، وأنّها ملحقة بالحظر.

واشکل علی القضاء باندراجها عرفا فی السفر، وانّ السیرة علی عدم الفرق بین ایام السفر والاقامة.

وعن موضع من المبسوط انّه لو سافر بالقرعة، ثم نوی المقام فی

ص:351


1- (1) التحریم: 5.

بعض المواضع قضی للباقیات ما اقامه دون ایام الرجوع علی اشکال.

وظاهر الاکثر عدم القضاء مطلقا.

الفرع الخامس: اذا شرع فی القسمة بین نسائه، کان له ابتداء من أی منهن شاء، وان کان الاولی والاحوط الیقین بالقرعة:

لاطلاق الادلة، مع عدم الموجب للتخصیص، واما التعیین بالقرعة فلمراعاة العدالة فیما هو واجب من حقوق الزوجات.

الفرع السادس: تستحب التسویة بین الزوجات فی الانفاق والالتفات واطلاق الوجه والمواقعة وان یکون فی صبیحة کل لیلة عند صاحبتها وان یأذن لها فی حضور موت أبیها وأمها، وان کان له منعها عن ذلک، وعن عیادة أبیها وامها فضلا عن غیرهما، وعن الخروج من منزله الا لحق واجب.

حکم العدل والتسویة بین الزوجات:

قد ذکرنا ان التسویة الواجبة المأمور بها فی قوله تعالی: وَ لَنْ تَسْتَطِیعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَیْنَ النِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِیلُوا کُلَّ الْمَیْلِ فَتَذَرُوها کَالْمُعَلَّقَةِ 1 وقوله تعالی: فان خفتم ان لاتعدلوا فواحدة(1).

انّ المراد هو فیما هو واجب من نفقة وحقوق الزوجة بقرینة تقیید العدل المأمور به بنحو مطلق تقییده فی جانب الالزام بخصوص المیل کل

ص:352


1- (2) النساء: 3.

المیل، بحیث یذر الزوجة المفضولة کالمعلقة وهذا یکون فیما هو واجب من نفقة وحقوق.

ویبقی اطلاق الامر بالعدل علی حاله فی الرجحان من دون مخصص اذ القید انما یخصِّص فی جهة الالزام لا فی اصل الحکم، کما هو الحال فی طاعة الوالدین المأمور بها مع تقیید الالزام بصلتهما فی خصوص ترک الحقوق، وکذلک الحال فی طاعة الزوجة للزوج المأمور بها، فانها مقیدة فی جهة الالزام فی خصوص الحقوق الواجبة وهذا هو المستفاد من الروایات السابقة کما مرّ.

ففی معتبرة الحسن بن زیاد قال(علیه السلام): قال رسول الله صلی الله علیه و آله : «ومن کانت له امرأتان فلم یعدل بینهما فی القسم من نفسه وماله جاء یوم القیامة مغلولا مائلا شقه حتی یدخل النار»(1) المحمول علی الواجب لا التفضیل فی المستحب لجملة من الروایات العدیدة الصحیحة الدالة علی جواز التفضیل فی القسم الزائد علی الواجب(2).

وکذلک الروایات الواردة فی التفضیل فی النفقة الزائدة علی الواجب کصحیح معمر بن خلاد ومعتبرة عبدالملک بن عتبة الهاشمی(3).

وکذلک الروایات الواردة فی تفسیر العدل غیر المقدور(4) وغیرها من

ص:353


1- (1) أبواب القسم، باب 4 ح1.
2- (2) أبواب القسم، باب 1 و 9.
3- (3) أبواب القسم، باب 1، وباب 9 ح2.
4- (4) أبواب القسم، باب 7.

الروایات.

وعن الصادق عن آبائه(علیهم السلام) ان النبی صلی الله علیه و آله کان یقسم بین نسائه فی مرضه، فیطاف به بینهن(1).

وروی ان علی(علیه السلام) کان له امرأتان، فکان اذا کان یوم واحدة لایتوضأ فی بیت الاخری(2).

وقد تقدمت معتبرة ابراهیم الکرخی حیث قال(علیه السلام): انما علیه ان یبیت عندها فی لیلتها ویظل عندها فی صبیحتها ولیس علیه ان یجامعها اذا لم یرد ذلک(3).

وان مفادها فی الصبیحة لیس محمول علی الاستحباب وانما المراد ان ایواءه فی النهار لابد ان یکون من نصیب صاحبة اللیلة فیما لو کان له ایواء فی النهار، کما هو الحال فی ایواءه فی اللیل انه لیس الواجب استغراق تمام اللیل من أوله الی آخره، انما المراد عند ایواءه المنزل والسکنی انّ اللازم علیه تخصیص زوجته بلیلة من أربعة، فالمقدار اللیلی هو المقدار المتعارف فی عرف التعاشر، لانّ الاصل الفوقی الذی ینحدر منه هذا الحق هو عاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ.

وأما الاذن لها فی حضور موت والدیها أوعیادتهما أو ارحامها، أو صدیقاتها فسیأتی الکلام فیه.

ص:354


1- (1) أبواب القسم، باب 5 ح2.
2- (2) أبواب القسم، باب 5 ح3.
3- (3) أبواب القسم، باب 5 ح1.
حکم خروج الزوجة من البیت:

ثم انّ السید الاصفهانی قد تعرض فی بعض المسائل لجملة من حقوق الزوجین.

منها: ان لاتخرج من بیتها الا باذنه ولو الی أهلها أو لعیادة والدها أو فی عزائه الا لحق واجب وهذا النص بعینه فی الشرائع والقواعد.

وعلّل فی کشف اللثام استحقاق الزوج للمنع باستحقاقه الاستمتاع بها فی کل حین، والخروج ینافیه، ونظیره فی الجواهر قال: لانّ له الاستمتاع بها فی کل زمان ومکان فلیس لها فعل ما ینافیه من دون اذنه.

اقول: تعبیرهما بانّ لیس لها فعل ما ینافیه ولم یعبرا بانّه لایجوز لها التصرف فیما یستحقه الزوج من دون اذنه لان الخروج من البیت لیس التصرف فی منافع البضع وانما هو فعل ینافی قدرة الزوج علی التصرف فیما یملکه ویستحقه، ومقتضی ذلک لیس عموم المنع فلو کان مسافراً، أو خارج البیت فی المقدار الذی تتیقن عدم رجوعه الی البیت لایکون خروجها منافیاً لقدرته علی الاستمتاع، وبعبارة اخری لیس خروجها مانعا لقدرته علی الاستمتاع انما خروجه هو الحائل أو المانع بینه وبین الاستمتاع بما هو یملکه، فالوجه الذی ذکراه لاعموم له فی المنع فهو اخص من المدعی، ومن ثمّ ذهب غیر واحد من اعلام العصر الی تقیید المنع بذلک، أی بما ینافی استمتاعه لا الاکثر من ذلک، لان وصف الخروج بالمنافی أی المزاحم یغایر کونه تصرفاً فی ما یستحق الزوج فعلی الاول یکون المنع مقیدا وعلی الثانی یکون المنع مطلقا.

ص:355

وقد یقرب وجه ثانی للمنع مطلقا، بأن یقرر ان مقتضی ماهیة وعقد الزواج لیس مجرد ملک البضع، بل کما مرّ فی صدر کتاب النکاح ان ماهیته مرکبة من معنی آخر أیضاً وهو الاقتران، والاقتران بین الزوجین هو الذی یشیر الیه قوله تعالی: وَ مِنْ آیاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَکُمْ مِنْ أَنْفُسِکُمْ أَزْواجاً لِتَسْکُنُوا إِلَیْها وَ جَعَلَ بَیْنَکُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً 1 فکون المرأة فی بیت الزوج مآوی للزوج وسکینة له وقوله تعالی: هُنَّ لِباسٌ لَکُمْ وَ أَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ 2.

فان هذه العناوین تبین هذا المعنی الثانی وانّ مقتضی عقد الزواج بناء رابطة اجتماعیة خاصة بین الطرفین تتولد منها رابطة روحیة، فلایقتصر حق الزوج فی منافع واستمتاعات البضع، بل کون الزوجة مأوی له، وکونه مأوی لها هی ایضاً من الحقوق، ومن ذلک یظهر ان مقتضی القاعدة لا یقتصر فی حق الزوج المنافی لخروجها علی حق الاستمتاع الجنسی بل له حق العشرة والتعاشر معها، والسکنی والانس والمآنسة، ومن الواضح ان الخروج اجمالا یعدّ تصرفا فی الحق الثانی ولیس مجرد منافی له، کما هو الحال فی حق الاستمتاع، ومن ذلک یظهر انّ ما سیأتی من روایات الدالة علی المنع مطلقا لاوجه لتأویلها علی الاستحباب أو لمقدار ماینافی حق الاستمتاع فقط.

أما الروایات فهی علی ألسن:

اللسان الاول: ماورد فی روایات مستفیضة(1) من الأمر بحبس

ص:356


1- (3) أبواب مقدمات النکاح، باب 24.

النساء فی البیوت، وسترهن بذلک، وهی وان کان مفادها بلحاظ تدبیر الرجل کحکم من الآداب الا ان مقتضاه بدلالة الاقتضاء ولایته علی ذلک، وانّ امر خرُوجها بید الزوج مطلقا.

اللسان الثانی: مادلّ صریحا علی اشتراط خروج المرأة من بیتها باذن زوجها کصحیح عبدالله بن سنان عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: ان رجلاً من الانصار علی عهد رسول الله صلی الله علیه و آله خرج فی بعض حوائجه فعهد الی امرأته عهدا ان لاتخرج من بیتها حتی یقدم، قال: وانّ اباها قد مرض فبعثت المرأة الی رسول الله صلی الله علیه و آله تستأذنه ان تعوده فقال: لا، اجلسی فی بیتک واطیعی زوجک، قال: فثقل، فارسلت الیه ثانیاً بذلک، فقال: اجلسی فی بیتک واطیعی زوجک، قال: فمات أبوها فبعثت الیه ان أبی قد مات فتأمرنی ان اصلی علیه، فقال: لا، اجلسی فی بیتک واطیعی زوجک، قال: فدفن الرجل فبعث الیها رسول الله صلی الله علیه و آله : «ان الله قد غفر لک ولابیک بطاعتک لزوجک»(1).

وصحیحة عبدالله الکاهلی قال: قلت لأبی الحسن(علیه السلام): ان امرأتی وامرأة ابن مارد تخرجان فی المأتم فأنهاهما فتقول لی امرأتی ان کان حراما فانهنا عنه حتی نترکه، وان لم یکن حراما فلأی شیء تمنعناه، فاذا مات لنا میت لم یجئنا احد قال: فقال أبو الحسن(علیه السلام): عن الحقوق تسألنی کان أبی(علیه السلام) یبعث امی وام فروة تقضیان حقوق اهل المدینة(2).

ص:357


1- (1) أبواب مقدمات النکاح، باب 191 ح1.
2- (2) أبواب الدفن، باب 69 ح1.

وفی طریق الصدوق ان امرأتی واختی وهی امرأة محمد بن مارد، ومورد السؤال وان کان عن حکم خروج المرأة فی نفسه بغض النظر عن کونها زوجة أو غیرها، سواء کان حراما أو مکروها أو راجحاً، الاّ أن المفروغ عنه عند السائل والمتشرعة آنذاک کما تفیده الصحیحة انّ امر خروج الزوجة من البیت هو بید الزوج وان لم یکن منافیا لحق استمتاعه، وفی جوابه(علیه السلام) تقریر لهذا الارتکاز أیضاً، کما انّ ما یحکیه(علیه السلام) من فعل والده(علیه السلام) کذلک، کما انّه یستفاد من هذا الصحیح رجحان اذن الزوج لخروج المرأة فی الموارد الراجحة کما هو مورد الروایة من اداء حقوق الناس من مواساتهم فی العزاء علی موتاهم، فصلة الرحم أوجب.

أمّا ما فی صحیح عبدالله بن سنان فمحمول علی خصوصیة المورد حیث لم یأذن الزوج فی خروجها ولم یمکنها الاستئذان منه، بل فی أمثلة الصحیحة لابد من حملها علی التزاحم بین صلة الرحم الواجبة، وحقوق الزوج الراجحة کطاعته والانقیاد إلیه، وإلا ففی موارد صلة الرحم بالمقدار الواجب فلا عموم لولایته وحقّه علی المرأة فی تواجدها فی بیته، اذ هذه الحقوق کما مرّ هی تندرج تحت عنوان العشرة بالمعروف وصلة الرحم بالمقدار الواجب لاریب أنها من المعروف، ومن ثمّ یحمل قوله صلی الله علیه و آله للانصاریة امّا علی ارادة تأسیسه صلی الله علیه و آله لاهمیة طاعة الزوج وتربیته للناس علیها، أو علی تشدد زوجها فی ذلک المورد، أو انّ عذرها فی غیبوبة زوجها مع تأکیده علیها بعدم الخروج یمانع صدق قطعها لرحمها ویبین اهمیة طاعة الزوج علی طاعة الابوین کما سیأتی بیانه.

ویعضد تقیید ولایة الزوج علی المرأة فی شؤونها وکذا فی المکث فی

ص:358

منزله، بغیر معصیة الله وبغیر الحقوق الواجبة علیها، ماورد فی صحیح عبدالله بن سنان عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: لیس للمرأة امر مع زوجها فی عتق، ولا صدقة ولاتدبیر ولا هبة ولانذر فی مالها الا باذن زوجها، الا فی زکاة أو بر والدیها أو صلة قرابتها(1).

فاستثنیت هذه الموارد الثلاثة من ولایته.

وصحیح محمد بن مسلم عن أبی جعفر(علیه السلام) قال: «جاءت امرأة الی النبی صلی الله علیه و آله فقالت: یارسول الله ما حق الزوج علی المرأة فقال لها:... ولاتخرج من بیتها الا باذنه وان خرجت بغیر اذنه لعنتها ملائکة السماء وملائکة الارض وملائکة الغضب وملائکة الرحمة حتی ترجع الی بیتها»(2) الحدیث.

ومثلها روایة العزرمی(3). وحدیث المناهی الذی رواه الصدوق بسنده فی الفقیه عن جعفر بن محمد عن آبائه(علیهم السلام) قال: «نهی رسول الله صلی الله علیه و آله أن تخرج المرأة من بیتها بغیر اذن زوجها فان خرجت لعنها کل ملک فی السماء وکل شیء تمر علیه من الجن والانس حتی ترجع الی بیتها»(4).

وروایة عبدالعظیم الحسنی عن محمد بن علی الرضا(علیه السلام)، عن آبائه عن علی(علیه السلام) من قوله صلی الله علیه و آله ... وأمّآ المعلقة برجلیها فانها کانت تخرج من بیتها

ص:359


1- (1) أبواب النفقات، باب 5 ح1.
2- (2) مقدمات النکاح، باب 79 ح1.
3- (3) مقدمات النکاح، باب 79 ح2.
4- (4) أبواب مقدمات النکاح، باب 8 ح6.

بغیر اذن زوجها(1).

وعن السکونی عن جعفر عن أبیه: «وایما امرأة خرجت من بیتها بغیر اذن زوجها فلانفقة لها حتی ترجع»(2).

الحق الثانی : حق الطاعة للزوج:

والمعروف لدی متأخری العصر وکذا ظاهر الحلبی فی الکافی، وکذا الشهید فی المسالک، وابن زهرة فی الغنیه والشهید فی اللمعة والمحقق فی الشرایع ان المقدار اللازم من طاعة الزوجة للزوج انماهو فی حقوقه الواجبة، کحق الاستمتاع، والتمکین، وان لاتُسیء العشرة معه والاخلاق، قال المفید فی أحکام النساء «وعلی المرأة أن تطیع زوجها وان لا تعصیه الا فیما حذره الله تعالی»(3).

والأظهر من الادلة ان الطاعة اللازمة أوسع عن ذلک فضلا عن المستحبة، لابمعنی ثبوت حقوق خاصة للزوج غیر المنصوص علیها بالخصوص، بل بمعنی ان زمام التدبیر معیشة الزوجین، وبیت الزوجیة والاسرة هو بید الزوج وولایته کما هو الحال فی الاب والاولاد، فانّ ولایته علیهم وان کانت اشد قبل البلوغ منها بعد البلوغ، الا انّ فی الموضوعات المعیشیة المشترکة فانّ ولایة الأب مقدّمة علی ولایة الاولاد کتزویج الحفید الصغیر، نظیر ما فی قوله تعالی: وَ أْتَمِرُوا بَیْنَکُمْ بِمَعْرُوفٍ

ص:360


1- (1) أبواب مقدمات النکاح، الباب 117 ح7.
2- (2) أبواب نکاح العبید والاماء، باب 36 ح4.
3- (3) أحکام النساء: ص38.

وَ إِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْری 1 الواردة فی تدبیر ارضاع الطفل، وبعبارة اخری ان أی اجتماع کبیر أم صغیر شأنه کالسفینة یحتاج الی ربّان، فکذلک الاسرة وبیت الزوجیة، وربانها بمفاد الآیة فی قوله تعالی: الرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَی النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلی بَعْضٍ وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ 2.

بل ذیله أیضاً فَالصّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَیْبِ بِما حَفِظَ اللّهُ وَ اللاّتِی تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَ اهْجُرُوهُنَّ فِی الْمَضاجِعِ وَ اضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَکُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَیْهِنَّ سَبِیلاً إِنَّ اللّهَ کانَ عَلِیًّا کَبِیراً3.

وهذا الذیل حافل بدلالات عدیدة داعمة لدلالة الصدر من قوامیة الرجال علی النساء، الذی هو بمعنی القیم علی شؤون المولّی علیه، منها: لفظ قانتات الذی هو بمعنی طائعات کما فی تفسیر القمی فی روایة أبی الجارود عن أبی جعفر(علیه السلام) فی قوله: (قانتات) یقول مطیعات(1).

اذ القنوت فی اللغة کما فی مفردات الراغب: (لزوم الطاعة مع الخضوع) وفُسِّر بکل واحد منهما.

ومنها المقابلة للقانتات فی الآیة مع وَ اللاّتِی تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ .

ومنها أیضاً تولیة الزوج تأدیب المرأة فانّ ولایة التأدیب انما تسند للقیّم ولوفرض انّ متعلق التأدیب فی مورد الآیة هو نشوز المرأة وتمردها

ص:361


1- (4) تفسیر القمی ذیل آیة 34 النساء.

عن الحقوق الخاصة للزوج المنصوصة، فانّ ذلک لایضر بدلالة هذه القرینة، ومن ثمّ فانّ هذه الولایة لم تعطی للمرأة عند نشوز الزوج دونها بل الذی سوِّغ لها ان ترفع امرها الی الحاکم الشرعی، اذ هو ولی الممتنع، فولایة التأدیب بنفسها دالة علی المطلوب، هذا مع انّ تقیید متعلق النشوز فی الآیة بالحقوق المنصوصة فقط أوّل الکلام.

ومنها قوله تعالی: فَإِنْ أَطَعْنَکُمْ حیث ان لفظ ومادة الطاعة وان ارید منها اداء الحق الا ان المعنی یتضمن خضوع وانقیاد ومن ثمّ لم یعبّر عن اداء الزوج لحقوق المرأة بالطاعة بل اطلق علی ذلک فی قوله تعالی: ب- فَإِمْساکٌ بِمَعْرُوفٍ فی العدید من الآیات ولفظ الامساک بنفسها هی الاخری دالة علی ان الماسک لاُمور الزوجة هو الزوج والممسوک هی الزوجة، فاستعمل تسلط الزوج وولایته فی مقام ارادة اداءه الحق للزوجة وفی ذلک دلالة بیّنة علی ولایته اجمالا.

ومنها قوله تعالی: فَالصّالِحاتُ قانِتاتٌ وهذه الجملة الاسمیة تفید تحدید وتعریف ماهیة الصلاح فی النساء بان اساسها قائم علی طاعة الازواج.

وفی الکافی حسنة عبدالله بن میمون القداح عن الصادق(علیه السلام) عن آبائه(علیهم السلام) عن النبی صلی الله علیه و آله : ما استفاد امرء مسلم فائدة بعد الاسلام افضل من الزوجة مسلمة تسره اذا نظر الیها، وتطیعه اذا امرأها وتحفظه اذا غاب عنها فی نفسها وماله(1).

ص:362


1- (1) الکافی: ج5 ص327. الوسائل: أبواب مقدمات النکاح، باب 9 ح10.

وأمّا الروایات فهی علی طوائف:

الطائفة الاولی: الدالة علی انّ احق الناس بالمرأة هو زوجها أی أنّه ولی لها، وانّه اولی بها من أبیها، کمعتبرة أبی بصیر عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: «سألته عن المرأة تموت، من احق ان یصلی علیها؟ قال: الزوج، قلت: الزوج احق من الاب والاخ والولد؟ قال: نعم»(1). ومثلها روایة اسحاق ابن عمار»(2).

ومنها ما مفاده مصرح بالامر بطاعتها له کصحیح محمد بن مسلم عن أبی جعفر(علیه السلام) قال: «جاءت امرأة الی النبی صلی الله علیه و آله فقالت: یا رسول الله ما حق الزوج علی المرأة، فقال لها: أن تطیعه ولا تعصیه... قالت: یا رسول الله من أعظم الناس حقاً علی الرجل قال: والده، قالت: من أعظم الناس حقاً علی المرأة، قال: زوجها، قالت: فما لی علیه من الحق قال: لا ولا من کل مائة واحدة، قال: فقالت: والذی بعثک بالحق نبیاً لایملک رقبتی رجل أبداً»(3) والذیل مناسب للطائفة الاولی.

وفی صحیحة أبی الصباح الکنانی عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: «اذا صلّت المرأة خمساً وصامت شهراً (وحجّت بیت ربها) واطاعت زوجها وعرفت حق علی(علیه السلام) فلتدخل من أی أبواب الجنة شاءت»(4).

ص:363


1- (1) أبواب صلاة الجنازة، باب 24 ح1.
2- (2) أبواب الجنازة، باب 24 ح3.
3- (3) أبواب مقدمات النکاح، الباب 79 ح1.
4- (4) أبواب مقدمات النکاح، الباب 79 ح4، الکافی: ج5 ص555.

وصحیح سلیمان بن خالد (الأقطع) عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: «ان قوماً اتوا رسول الله صلی الله علیه و آله فقالوا: یارسول الله:انّارأینا اناساً یسجد بعضهم لبعض فقال رسول الله صلی الله علیه و آله : لو أمرت أحداً ان یسجد لاحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها»(1).

ومعتبرة موسی بن بکیر عن أبی ابراهیم(علیه السلام) قال: جهاد المرأة حسن التبعّل(2). والتبعل فی اللغة اطاعة الزوج، والسجود فی الصحیحة السابقة رمز لشدة الطاعة. والحدیث دال علی ان طاعة الزوجة للزوج اوجب من طاعة الولد للابوین کما مرّ.

الطائفة الثانیة: ومنها ما کان بلسان حرمة اسخاط المرأة زوجها کمعتبرة موسی بن بکر عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: ثلاثة لایرفع لهم عمل، عبد آبق، وامرأة زوجها علیها ساخط والمسبل ازراره خیلاء(3).

وفی روایة سعد بن عمرو الجلاّب قال: «قال أبو عبدالله(علیه السلام): أی ما امرأة باتت وزوجها علیها ساخط فی حق لم یتقبل منها صلاة حتی یرضی عنها»(4).

وموثق السکونی عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: «قال رسول الله صلی الله علیه و آله : «انما

ص:364


1- (1) أبواب مقدمات النکاح، الباب 81 ح1.
2- (2) أبواب مقدمات النکاح، الباب 81 ح2.
3- (3) أبواب مقدمات النکاح، الباب 80 ح2.
4- (4) أبواب مقدمات النکاح، الباب 80 ح1.

المرأة لعبة من اتخذها فلایضیعها»(1).

ومفاد هذا الموثق من اللسان الاوّل حیث له دلالة اجمالیة علی ولایة الزوج علی المرأة، وموثق سماعة عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: «اتقوا الله فی الضعیفین یعنی بذلک الیتیم والنساء»(2)، ومفادها ان المرأة تحت ولایة الرجل کما ان الیتیم تحت ولایة القیّم.

الطائفة الثالثة: ما فی صحیح عبدالله بن سنان عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: لیس للمرأة امر مع زوجها فی عتق ولا صدقة ولاتدبیر ولاهبة ولانذر فی مالها الا باذن زوجها الا فی زکاة أو بر والدیها أو صلة قرابتها(3).

وکذا الصحیح الی جمیل بن دراج عن بعض أصحابنا «فی المرأة تهب من مالها شیئاً بغیر اذن زوجها، قال: لیس لها»(4).

وفی صحیح معاویة بن وهب قال: قلت لأبی عبدالله(علیه السلام) امرأة لها زوج فأبی ان یأذن لها فی الحج ولم تحج حجة الاسلام فغاب عنها زوجها وقد نهاها ان تحج فقال: لا طاعة له علیها فی حجة الاسلام ولا کرامة، لتحج ان شاءت(5).

ومثلها صحیح محمد بن مسلم(6)، وقریب منه صحیح زرارة(7)

ص:365


1- (1) أبواب مقدمات النکاح، الباب 86 ح2.
2- (2) أبواب مقدمات النکاح، الباب 86 ح3.
3- (3) أبواب النفقات، الباب 5 ح1.
4- (4) أبواب النفقات، الباب 5 ح2.
5- (5) أبواب وجوب الحج، باب 59 ح3.
6- (6) أبواب وجوب الحج، باب 59 ح1.
7- (7) أبواب وجوب الحج، باب 59 ح4 و5.

وصحیح عبدالرحمان بن أبی عبدالله(1)، وصحیح معاویة بن عمار(2).

وفی موثق اسحاق بن عمار عن أبی الحسن(علیه السلام) قال: سألته عن المرأة الموسرة قد حجت حجة الاسلام تقول لزوجها احجنی من مالی أله ان یمنعها من ذلک قال: نعم ویقول لها: حقی علیک أعظم من حقک علی فی هذا(3).

وفی طریق الصدوق تقول لزوجها (احجنی مرة اخری) نعم فی مقابل هذه الروایات قد یستدل بما ینافیها فی صحیح الحلبی عن أبی عبدالله(علیه السلام) ان اباه حدثه ان أمامة بنت أبی العاص بن الربیع وأمها زینب بنت رسول الله صلی الله علیه و آله فتزوجها بعد علی(علیه السلام) المغیرة بن نوفل أنها وجعت وجعا شدیداً حتی اعتقل لسانها، فاتاها الحسن والحسین وهی لاتستطیع الکلام، فجعل یقولان -والمغیرة کاره لما یقولان - : اعتقت فلان واهله؟ فتشیر برأسها: ان نعم، وکذا وکذا، فتشیر برأسها: نعم أم لا، قلت: فاجازا ذلک لها؟ قالا: نعم(4).

وهذه الطائفة رغم اختلاف الاقوال بین الأصحاب فیها من أنّ مفادها هل هو شرطیة اذن الزوج فی هذه الأبواب الخمسة أو مانعیة منعه ورفضه، أو ان له خیار الفسخ، أو انّ کراهة الزوج وممانعته یوجب

ص:366


1- (1) أبواب وجوب الحج، باب 59 ح4 و5.
2- (2) أبواب وجوب الحج، باب 58 ح4.
3- (3) أبواب وجوب الحج، باب 59 ح2.
4- (4) أبواب العتق، باب 44 ح1 وأبواب الوصایا باب 49 ح1.

مرجوحیة متعلق النذر فلاینعقد. وکذا ما یعتبر فیه الرجحان فی المتعلق کالصدقة والعتق والتدبیر؟ ولعله هذا الأخیر هو الاقوی ولاسیما وان لسان هذه الطائفة من الروایات وسیاقها هو سیاق طاعة الزوج من جهة الزوجیة وانّه قوام علی شؤون المرأة، ومن ثمَّ اردف هذا اللسان فی بعض الروایات مع نفی النذر للولد مع والده، والمملوک مع مولاه، ففی صحیحة منصور بن حازم عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله : لایمین لولد مع والده ولا لمملوک مع مولاه ولا للمرأة مع زوجها ولا نذر فی معصیة ولایمین فی قطیعة(1) الحدیث.

ومن ثم یحمل صحیح الحلبی من نفوذ العتق علی کون موردها امّا الوصیة فی الثلث، وفی مورده لانفوذ لطاعة الزوج أو نحو ذلک، ویعضد هذا الاستظهار انّ مشهور المتقدمین والمتأخرین من الطبقة الثالثة لم یمنعوا صحة هبة المرأة من مالها وانما اشترطوا اذن الزوج فی الیمین والنذر، ویعضده أیضاً ظاهر صحیحة منصور حیث انّ فی ذیلها قرینة علی کون النفی فی المقام لماهیة الیمین من جهة مرجوحیة المتعلق، ومن ثمَّ قدّر الجماعة لفظة النهی، أی مع نهی زوجها.

وقد یشکل علی دلالة الطوائف السابقة:

اولاً: ان عنوان احقیة الزوج من غیره علی المرأة لیس بناص علی الوجوب، بل مفاده ینسجم مع الحقوق الراجحة المستحبة.

ثانیاً: ان عنوان طاعة الزوجة للزوج مبهم غیر مفسَّر فلا اطلاق له

ص:367


1- (1) أبواب الایمان، الباب 10 ح2.

فی غیر مانص علیه بالخصوص من الحقوق اللازمة.

ثالثاً: ان طاعة الاب کما هو محرر فی محله لیست واجبة علی اطلاقها وانما المقدار اللازم منها هو حرمة العقوق، وبعبارة اخری ان طاعة الاب علی حذو طاعة الام، وطاعة الام لیست ولایة لها، وانما هو بر وحسن معاملة.

رابعاً: لازم دعوی لزوم عموم الطاعة استحقاق الزوج لافعال ومنافع المرأة وصیرورتها بمنزلة الأمة، وان استثنینا الشؤون المختصّة بالمرأة وقصرناها علی الشؤون المشترکة بینهما فلاحدّ فاصل یمکن أن یعوّل علیه فی التمییز بین القسمین.

والجواب ان المدعی لیس اثبات حقوق خاصة للزوج وراء الحقوق المنصوصة، وانما المراد انّ هناک بین الزوجین عشرة مشترکة وهذه العِشْرة والحیاة بین الطرفین لابدَّ فیها من تدبیر وتوزیع للاعباء والمسؤولیات بین الطرفین بمقتضی کینونة المعیشة، فتوزیع المسؤولیات بنمط عادل لابد منه لا بنحو مجحف لطرف علی الطرف الآخر، کما انّ القیمومة علی هذا التدبیر أیضاً أمر لابد منه، وإلاّ فلاتحصل عشرة بین الطرفین، وحینئذ فلامحالة تکون قوامیة بحسب الادلة للزوج کما انّ اللازم علیه هو التدبیر بالعدل بینه وبین امرأته، فاذا لم تکن الزوجة موافقة له عصیة علیه فی التدبیر متمردة علی قوامیته، فهذا هو النشوز الذی سیأتی تعریفه وبحثه، وانّ کلام المشهور فی تعریفه هو فی مقابل الطاعة ولم یقصروه علی خصوص الحقوق المنصوصة، ولیس مدار الطاعة علی کونه مالکاً لجمیع منافع افعالها کما هو الحال فی الأمة، بل هو فی خضوعها وانقیادها له بدرجة قیمومیته علی تدبیر

ص:368

الامور المعیشیة فیما بینهما، کما ورد من تناصف اعمال واعباء العشرة المشترکة بین علی وفاطمة بتنصیف من النبی صلی الله علیه و آله ، فلیس کل رغبات الزوج الاقتراحیة هی اوامر واجبة الطاعة علی الزوجة، وانما فی دائرة مایرتبط بالتدبیر والتوزیع والتناصف العادل فی المسؤولیات وضروریات العشرة المشترکة، فلیس معنی قوامیة الزوج وحق طاعته هو تشدده واجحافه بالمرأة، کما انّه لیس معنی تخصیص حقوق الزوج بالتمکین والقسم ونحوهما بمعنی ان تکون المرأة مشاکسة غیر موافقة للزوج فی نظم المعیشة، بل اللازم علی الزوجة وراء الحقوق المنصوصة بالخصوص له ان لاتکون المرأة منافرة لزوجها ومفارقة له فی تدبیره وقیمومته للمعیشة المشترکة بینهما، کما انّ الزوجة لاتختص حقوقها بالحقوق المنصوصة فقط، بل اللازم علی الزوج أیضاً هو ان ینصفها ویناصفها ولایشق علیها امرها کما ورد فی النصوص العدیدة، وهذا الحق هو مفاد ما قدمناه فی صدر بحث حقوق الزوجین من وجوب حسن العشرة علی کل طرف علی الطرف الآخر، نظیر ماورد فی صلة الرحم انّ الواجب علی الطرفین المحافظة علی هذه الصلة وان قطعها الآخر، وانّ الله یعاقب الذی اسیء إلیه وظلم اذا عامل رحمه بالمثل، وقطع الصلة من طرفه، ومن ثمّ ورد فی روایة أبی بصیر المتقدمة ان المرأة اذا اسخطت زوجها فعلیها الوزر وان کان ظالماً(1).

وهذا لیس بمعنی اقرار الظالم علی ظلمه وتغریره علی التمادی، بل

ص:369


1- (1) أبواب مقدمات النکاح، باب 79 ح3.

بمعنی لزوم المحافظة علی صلة الحیاة الزوجیة کما هو الحال فیما ورد فی الزوج أیضاً حیث روی الصدوق فی عقاب الاعمال عن النبی صلی الله علیه و آله «انّ المرأة المؤذیة لزوجها لایقبل الله اعمالها ومعادها النار، وکذلک الرجل اذا کان مؤذیاً ظالماً لها وانّ من صبر علی سوء خلق امرأته واحتسبه اعطاه الله من الثواب العظیم»(1).

ومن ثم یتبیّن ان العشرة بین الزوجین فیها حق الهی وحدود الله تعالی کما ورد فی قوله تعالی: فلاجناح علیهما أن یتراجعا ان ظنا ان یقیما حدود الله تلک حدود الله یبینها لقوم یعلمون(2)، وقوله تعالی: الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساکٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِیحٌ بِإِحْسانٍ وَ لا یَحِلُّ لَکُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَیْتُمُوهُنَّ شَیْئاً إِلاّ أَنْ یَخافا أَلاّ یُقِیما حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ یُقِیما حُدُودَ اللّهِ فَلا جُناحَ عَلَیْهِما فِیمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْکَ حُدُودُ اللّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَ مَنْ یَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُولئِکَ هُمُ الظّالِمُونَ 3.

ومن ثمّ یظهر ان العشرة بین الزوجین حق مشترک کالقسمة، وحق إلهی أیضاً، غایة الامر ان هذه العشرة المشترکة لابد أن تکون بتدبیر الزوج المنصف بین الطرفین، وهذا هو ملخص تفسیر حق الطاعة العام فی غیر الحقوق الخاصة، وبذلک یتبیّن تفسیر النشوز من طرف واحد أو من الطرفین وهو الشقاق.

ص:370


1- (1) أبواب مقدمات النکاح، باب 82 ح1.
2- (2) البقرة: 230.

الحق الثالث: حق العشرة بالمعروف بین الزوجین:

وسیأتی ذکر هذا الحق مبسوطاً فی المقام الثانی من القاعدة، والذی هو فی حدّ ذاته بمثابة قاعدة فقهیة مسقلة.

وسیتبین لاحقاً انّ وجوب العشرة بالمعروف فی جملة من المصادیق المنصوصة بالخصوص وإنْ کانت واجبة، کالنفقة، والمواقعة والسکنی، والقسم، وتمکین الزوجة للزوج، وأن لاتخرج من البیت الاّ باذنه، ونحوها من الموارد المنصوصة. الاّ أنّه تبقی الموارد الاخری العادیة غیر المنصوصة تابعة الی بناء العرف فی آلیاته، والعشرة بالمعروف وان کانت من العناوین المتفاوتة شدة وضعفا، وکیفیة وکماً، کصلة الرحم، الاّ انّ المقدار اللازم هو ادنی المراتب بحیث یلزم من ترکها القطیعة والهجران والتدابر، فما یظهر من کلمات متأخری الاعصار من حصر العشرة بالموارد المنصوصة غیر تام، ومن ثمّ جعل المشهور سوء الخلق وشکاسته من موارد النشوز، وکذلک لو تغیّرت عادة احدهما فی القول أو الفعل، وقد تقدم أیضاً ان ادارة العشرة بقیمومة الزوج علی الزوجة.

ومما یدل علی هذه السعة من العشرة بالمعروف الاعم من الحقوق الخاصة قوله تعالی: وَ لا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَیِّقُوا عَلَیْهِنَّ 1، وهی وان فسرت عند البعض بعدم مضارتهن بالسکنی والتضییق علیهن لیلجأْنّ الی الخروج بقرینة الأمر قبل ذلک باسکانهن اسکنوهن الا انّ الظاهر هو النهی عن مطلق المضارة والمضایقة کما فی قوله تعالی: وَ لا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ

ص:371

ما آتَیْتُمُوهُنَّ 1 إِلاّ أَنْ یَأْتِینَ بِفاحِشَةٍ مُبَیِّنَةٍ وَ عاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ کَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسی أَنْ تَکْرَهُوا شَیْئاً وَ یَجْعَلَ اللّهُ فِیهِ خَیْراً کَثِیراً2.

الحق الرابع : حق التمکین والاستیلاد:

ویقتضیه ماهیة عقد النکاح من تملّک الزوج منافع الاستمتاع الجنسی بالزوجة، ومن المنافع المتعارفة التی تتملک اتخاذها حرثاً للاستیلاد، وکذلک تملک تدبیر شؤون معیشة المرأة، وهذا موضع ثالث لتملک الزوج کما مرّ فی طاعة الزوجة للزوج. ویدل علی الاول قوله تعالی: فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَیْثُ أَمَرَکُمُ اللّهُ 3.

وقوله تعالی: نِساؤُکُمْ حَرْثٌ لَکُمْ فَأْتُوا حَرْثَکُمْ أَنّی شِئْتُمْ 4.

والإتیان فی الآیة لیس مجرد الجواز، بل بیان لاستحقاق الزوج، وتوصیف النساء بالحرث فی الآیة الثانیة کنایة عن الاستیلاد وانبات الجنین فی ارحامهن فعن الصادق(علیه السلام) «فالحرث الزرع فی الفرج فی موضع الولد»(1).

وقوله تعالی: هُنَّ لِباسٌ لَکُمْ وَ أَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ 6 أی یستعفف کل بالآخر ویقضی وطره به فیعفّ ویکون بمثابة الساتر له عن ارتکاب

ص:372


1- (5) أبواب مقدمات النکاح، باب 72 ح1.

الفواحش، وبدو القبائح من حاجیات العورة.

وکذا قوله تعالی: الرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَی النِّساءِ...1 وقدتقدم شرح الآیة مفصلاً فی حق الطاعة.

وکذلک قوله تعالی: وَ اللّهُ جَعَلَ لَکُمْ مِنْ أَنْفُسِکُمْ أَزْواجاً وَ جَعَلَ لَکُمْ مِنْ أَزْواجِکُمْ بَنِینَ وَ حَفَدَةً 2 ومفادها کآیة الحرث، وصدرها یفید تملک الاستمتاع.

وقوله تعالی علی لسان لوط(علیه السلام) أتأتون الذکران من العالمین وتذرون ما خلق لکم ربکم من ازواجکم بل أنتم قوم عادون(1) ومفادها تملک الازواج الاستمتاع بالزوجات، وغیرها من الآیات الدالة علی شعب تملک الزوج.

وأما الروایات:

ففی صحیح محمد بن مسلم عن أبی جعفر(علیه السلام) عن النبی صلی الله علیه و آله الوارد فی حقوق الزوج: «... ولاتصوم تطوعا الا باذنه ولا تمنعه نفسها وان کانت علی ظهر قتب»(2).

وفی روایة العزرمی عن أبی عبدالله(علیه السلام) عن النبی صلی الله علیه و آله فی حقوق الزوج «.. وعلیها ان تطیّب بأطیب طیبها وتلبس أحسن ثیابها وتزیّن

ص:373


1- (3) الشعراء: 166.
2- (4) أبواب مقدمات النکاح، باب 79 ح1.

بأحسن زینتها وتعرض نفسها علیه غدوة وعشیة»(1) ومثله روایة أبی بصیر(2)، وصحیح علی بن جعفر(3).

وقد وردت جملة من الروایات ناهیة عن اسخاط المرأة زوجها کما فی صحیحة علی بن جعفر فی کتابه عن أخیه(علیه السلام) قال: سألته عن المرأة المغاضبة زوجها هل لها صلاة أو ما حالها؟ قال: لاتزال عاصیة حتی یرضی عنها(4).

وفی صحیح جمیل بن دراج... آنهالو قالت له مارأیت قط من وجهک خیراً فقد حبط عملها(5)، وغیرها من الروایات(6).

وفی بعضها شدة العقوبة علی ذلک(7)، وفی جملة أخری النهی عن تأخیر الاجابة(8).

وهذه الروایات وان کان یستفاد منها ما مرَّ من لزوم حسن العشرة والانقیاد، الا أنها أیضاً دالة علی المقام من جهة ان سوء العشرة منافی ومنفر للتمکین.

وهناک جملة من الروایات المتضمنة للتوصیة بصفات معینة فی المرأة

ص:374


1- (1) أبواب مقدمات النکاح، باب 79 ح2.
2- (2) أبواب مقدمات النکاح، باب 79 ح3.
3- (3) أبواب مقدمات النکاح، باب 79 ح5.
4- (4) أبواب مقدمات النکاح، باب 80 ح8.
5- (5) أبواب مقدمات النکاح، باب 80 ح7.
6- (6) أبواب مقدمات النکاح، باب 80.
7- (7) أبواب مقدمات النکاح، باب 82.
8- (8) أبواب مقدمات النکاح، باب 83.

التی تتخذ أمّا لولده، أی یستولدها(1).

وهذه الروایات متضمنة للدلالة علی الحقوق السابقة کحق الطاعة للزوج والتمکین والاستیلاد.

الحق الخامس : حق المواقعة للزوجة:

ویظهر من کلمات الاصحاب فی باب الظهار والایلاء انّ هذا الحق للمرأة محدد بأربعة أشهر، وقد مال عدة من المعاصرین إلی ان مقتضی حسن العشرة من الزوج تلبیة حاجة المرأة من المواقعة بحسب غلمتها.

ویدل علیه قوله تعالی: لِلَّذِینَ یُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِیمٌ وَ إِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللّهَ سَمِیعٌ عَلِیمٌ 2.

حیث انّ الایلاء عبارة عن الحلف علی ترک وطی الزوجة الدائمة زیادة علی الاربعة أشهر للاضرار بها، ومقتضاه استحقاق المرأة للوطی کل أربعة أشهر لانّ المراد من (فیء) فی الآیة جماع الرجل ووطیه للمرأة، وحصر الآیة للرجل بالشقین الفیء أو الطلاق، نظیر الحصر فی فَإِمْساکٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِیحٌ بِإِحْسانٍ ، کما هو مطرد هذا الحصر فی حقوق المرأة کما حرَّر بیانه(2)ویحررتکملته فی النشوز والشقاق(3).

ص:375


1- (1) أبواب مقدمات النکاح، باب 6، 7، 8، 9، 13، 14، 15، 16 وغیرها من الأبواب.
2- (3) وفی شرطیة الکفاءة فی العقد، کما حرر فی سند العروة الوثقی، کتاب النکاح ج3.
3- (4) فی نشوز الزوج.

وأما الروایات فیدل علیها صحیحة صفوان بن یحیی عن أبی الحسن الرضا(علیه السلام) انّه سأله عن الرجل تکون عنده المرأة الشابة فیمسک عنها الأشهر والسنة لایقربها لیس یریدالاضرار بها،یکون لهم مصیبة، یکون فی ذلک آثما؟ قال: اذا ترکها أربعة أشهر کان آثما بعد ذلک(1).

وفی طریق آخر للشیخ زاد «إلا أن یکون باذنها».

وتوصیف المرأة بالشابة مشعر بحاجتها للغلمة اذ الشبب اشتعال النمو والشهوة، کما انّ التعبیر بالاضرار هو الآخر یفید انّ ذلک بحسب حاجتها الملحة، وهذا کما یفید انّ ذلک استحقاق لها یفید أیضاً ان الحدّ غیر مقدّر بالاربعة اشهر وانما ذلک سقف اعلی، وببیان آخر ان تحدیده(علیه السلام) بأربعة أشهر انما هو فی مورد عدم ارادة الاضرار بالمرأة، وان الرجل مبتلی بمانع، وهو کالعذر، والا فمقتضی امساکه لها بالمعروف لا بالاضرار هو ان یأتیها عند شدة حاجتها وان کان دون الأربعة اشهر، وبعبارة ثالثة انّ المرتکز لدی الراوی بنحو مقدر فی کلامه ان ترک مواقعة المرأة اذا اوجب اضرارها محرم، ویستفاد من جوابه(علیه السلام) تقریر ذلک الارتکاز فلو افترض ان امرأة لم تکن مغتلمة ولم تلح علیها الحاجة والشهوة فانها تستحق أیضاً المواقعة کل أربعة أشهر وان لم یضرّ بها.

وصحیح الحلبی قال: سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن الرجل یهجر امرأته من غیر طلاق ولایمین سنة فلایأتی فراشه قال: لیأتی أهله، وقال(علیه السلام): «أیما رجل آلی من امرأته - والایلاء أن یقول والله لا اجامعک کذا وکذا، والله

ص:376


1- (1) أبواب مقدمات النکاح، باب 71 ح1.

لاغیظنّک ثم یغاضبها، فانّه یتربّص به أربعة أشهر ثم یأخذ بعد الأربعة أشهر فیوقف فان فاء - والایفاء ان یصالح أهله»(1) الحدیث، وغیرها من الروایات المستفیضة فی باب الایلاء المحدِّدة لمدة الامهال للمُؤلی بذلک، وانّه بعد تلک المدّة لها الحق ان تستعدی علیه کما فی صحیح البختری(2).

وفی صحیح برید بن معاویة عن أبی جعفر وأبی عبدالله انهما قالا: اذا آلی الرجل ان لایقرب امرأته فلیس لها قول ولا حق فی الأربعة أشهر ولا اثم علیه فی کفه عنها فی الأربعة أشهر فإنْ مضت الأربعة أشهر قبل أن یمسها فسکتت ورضیت فهو فی حلٍّ وسعة، فان رفعت امرها قیل له اما ان تفیء فتمسها واما ان تطلق»(3) الحدیث.

ومفاد الصحیح صریح فی مطابقة قول المشهور من ان حقها فی المواقعة هو فی کل أربعة أشهر وانّ الفیء بمعنی المسّ.

وفی صحیح ابن أبی نصر «... اما ان تطلق وأما أن تمسک»(4).

وفی روایة العیاشی عن الرضا(علیه السلام) «والامساک المسیس»(5).

هذا ویحتمل قریباً ان التحدید بالأربعة أشهر لیس لنفس حق المواقعة وانما هو لحق استعداء الزوجة علی الزوج، واستحقاق الزوجة لإجبار

ص:377


1- (1) أبواب الایلاء، باب 1 ح1.
2- (2) أبواب الایلاء، باب 1 ح2.
3- (3) أبواب الایلاء، باب 2 ح1.
4- (4) أبواب الایلاء، باب 8 ح5.
5- (5) أبواب الایلاء، باب 8 ح7.

الحاکم الزوج علی اداء حقِّها، وانّ حق المواقعة یدور مدار عدم الاضرار بها وذلک لجملة من القرائن.

الاولی: نظیر موارد امساک الزوج لها بغیر المعروف، کعدم الانفاق علیها أو مضارتها وایذائها، فانّه لاتستحق الزوجة اجباره والاستعداء علیه عند الحاکم بمجرد صدور ذلک منه مرة أو مرات، ما لم یکن ذلک فعلاً مستمراً منه وعادة متصلة، مع انّ اصل حق الانفاق والعشرة بالمعروف غیر محددة بالاستمرار بمدة العادة والاعتیاد، فروایات الایلاء لا تصلح مستنداً للمشهور.

الثانیة: صحیح صفوان بن یحیی فقد مرّ الوجه فی مفادها بل مرّ انّ فی دلالته شواهد علی هذا الاحتمال.

الثالثة: یعضد هذا الاحتمال انّ التربص فی الایلاء اربعة أشهر قد بنی عند کثیرین مبدأه من حین رفع المرأة امرها الی الحاکم مع انّ آخر وطیه لها قد یکون متقدما بمدّة فاصلة قبل الایلاء فضلا عن وقت رفعها الامر الی الحاکم، فیعلم من ذلک انّ المدّة المضروبة أربعة أشهر لاصلة لها بحق مدّة المواقعة وانما هی مدّة حق الاستعداء واجبار الزوج، وهذا التقریب بعینه یتأتی علی القول الآخر من ان مبدأ الأربعة أشهر من حین الایلاء، فانه علی هذا القول أیضاً قد یفرض وقوع الفاصل فی المدّة بین آخر وطی لها مع الایلاء.

الرابعة: ما مرّ فی العیوب انّ صاحب العنّة یؤجل سنة اذا رفعت امرها الی الحاکم، مما یدل علی ان السنة المضروبة لیست مدّة لحق المواقعة، وانما هی مدّة للاستعداء والاستقضاء علی زوجها، واجباره علی اداء حقها.

ص:378

الخامسة والسادسة: ماذکروه فی باب الظهار من ان المظاهرة اذا رفعت أمرها الی الحاکم اجلّه ثلاثة اشهر من حین المرافعة کما فی صحیح أبی بصیر قال: سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن رجل ظاهر امرأته قال: إن أتاها فعلیه عتق رقبة أو صیام شهرین متتابعین أو اطعام ستین مسکیناً وإلاّ ترک ثلاثة أشهر، فان فاء وإلاّ أوقف حتی یسأل هل لک فی امرأتک حاجة أو تطلقها؟ فان فاء فلیس علیه شیء، وهی امرأته، وان طلق واحدة فهو املک برجعتها(1).

وذیلها بضمیمة صدر الجواب ظاهر فی کون الفیء بمعنی الوطی، کما أنّ مسألة الزوج بعد ثلاثة أشهر بحاجته لامرأته أو یطلّقها، کنیت فی لفظ الروایة بالحاجة عن الرغبة والعشرة، والتحدید بثلاثة أشهر یغایر الاربعة فی الایلاء کما یغایر السنة فی العنن، کما انّ التعبیر بالفیء بعد الثلاثة أشهر والذی هو بمعنی الرجوع مقتضاه ان الوضع الطبیعی فی النکاح المقاربة والمواقعة کماورد هذا التعبیر أیضاً فی الایلاء کما مرّ، وفی الکافی للحلبی قال: «فان فاء الی أمر الله تعالی والا ضیق علیه فی المطعم والمشرب حتی یفیء الی امر الله سبحانه من طلاق أو رجوع الیها وتکفیر».

ومن ثمّ فقد حکی عن المسالک الاشکال فی التحدید بثلاثة أشهر فیما اذا رافعته عقیب الظهار بغیر فصل، بحیث لایفوت الواجب لها من الوطی بعد مضی المدّة المضروبة، فانّ الواجب وطؤها فی کل أربعة أشهر مرّة وغیره من الحقوق لایفوت بالظهار.

ص:379


1- (1) أبواب الظهار، باب 18 ح1.

ومن ثمّ تکلّف کشف اللثام فی حلّ الاشکال بأنّ المراد من الفئة الندم وإلتزام الکفارة ثم الوطی، لا الوطی نفسه کی لا یرد الاشکال المزبور.

أقول: والاشکال انما یرد علی قول المشهور بأنّ مدة حق المواقعة أربعة أشهر.

السابعة: ویظهر هذا الاحتمال من کلام السیوری فی کنز العرفان (المراد بالفیئة هو الجماع ان کان قادراً علیه، ولا مانع منه شرعاً ولا عرفاً، فلو عجز أو حصل المانع الشرعی أو العرفی، ففیئه اظهار العزم علی ذلک، وتعقیب ذلک بالغفران والرحمة، لما فی ذلک من الاثم بقصد اضرار الزوجة)(1).

أقول: یظهر منه تقریب کون حق المرأة فی المواقعة هو دون الاربعة أشهر وانما حقها یدور مدار اضرارها وتضررها - أی حاجتها الملحة - .

لکن فی الخلاف انّ الله تعالی قال: فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِیمٌ ... فوصف نفسه بالغفران اذا هو فاء، وهو وان لم یکن مأثوماً بالفیئة فهو فی صورة من یفتقر الی غفران لانه حنث، وهتک حرمة الاسم فلما کان فی صورة من یغفر له وصف الله نفسه بالغفران له.

وقد یشکل علی تلک القرائن:

1) بان صریح صحیح برید

«فلیس لها قول ولاحق فی أربعة أشهر ولا اثم علیه فی کفّه عنها فی أربعة أشهر» فنفی الاثم ونفی الحق صریح فی

ص:380


1- (1) کنز العرفان: ج2 ص293.

تحدید المشهور، ومثله صحیح حفص بن البختری عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: «اذا غاضب الرجل امرأته فلم یقربها من غیر یمین أربعة أشهر استعدت علیه فإما ان یفیء وإما ان یطلق. فان ترکها من غیر مغاضبة أو یمین فلیس بمؤل»(1).

2) ما فی مصحّح زرارة عن أبی جعفر(علیه السلام) قال: قلت له: رجل آلی أن لایقرب امرأته ثلاثة أشهر، فقال: لایکون إیلاء حتی یحلف علی اکثر من أربعة أشهر(2).

بتقریب انّه لو آلی دون الأربعة اشهر لم یکن لها حق تطالب به، وانّ الحلف عندهم نافذ وان لم تترتب علیه آثار الایلاء، ولذلک علّل نفی کونه ایلاء فیما لو حلف دون الاربعة بعدم تحقق قصد المضارة.

3) ما فی روایة محمد بن سلیمان عن أبی جعفر الثانی(علیه السلام).... «... فان الله عزّوجلّ شرط للنساء شرطا وشرط علیهن شرطا، فلم یحابِهن فیما شرط لهن ولم یجر فیما شرط علیهنّ، فامّا ما شرط لهن فی الایلاء أربعة أشهر انّ الله عزّوجلّ یقول: لِلَّذِینَ یُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فلم یجز لأحد اکثر من أربعة أشهر فی الایلاء لعلمه تبارک وتعالی انّه غایة صبر المرأة من الرجل... وعلم ان غایة صبر المرأة الأربعة أشهر فی ترک الجماع ومن ثمّ أوجبه لها وعلیها(3).

ص:381


1- (1) أبواب الایلاء، باب 1 ح2.
2- (2) أبواب الایلاء، باب 5 ح2.
3- (3) الکافی: ج6 ص113.

والجواب:

انّ نفی القول والحق لها فی الأربعة أشهر محمول علی حق الاستعداء کما صرّح به فی صحیح البختری وغیره، وإلزامه بالفیء أو الطلاق، وأمّا نفی الاثم علیه فی کفّه عنها فی الأربعة أشهر، فقد مرّ فی القرینة السابعة وهو قوله تعالی: لِلَّذِینَ یُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِیمٌ .

حیث انّ الظاهر ان الغفران هو بالفیء، فهو سبب الغفران وهو توبة وأوبة، ویناسبه عنوان الفیء.

وامّا احتمال الشیخ فی الخلاف بانّ الغفران هو لحنثه للیمین فظاهره فی التبیان العدول عن ذلک، وانّ غفرانه تعالی لما ارتکبه المؤلی.

ومما یشهد لکون ذلک هو متعلق الغفران اجبار الزوج بعد الاربعة أشهر وردعه عما هو علیه من جعل المرأة کالمعلقة ومن ثمّ عبّر عن مصالحته لأهله بالفیء.

الثامنة: ومما یشهد أیضاً ما فی صحیح أبی بصیر: «عن أبی عبدالله (علیه السلام) قال: الایلاء: هوان یحلف الرجل علی امرأته ان لایجامعها فان صبرت علیه فلها أن تصبر وان رفعته الی الامام انظره أربعة أشهر ثم یقول له بعد ذلک اما ان ترجع الی المناکحة وأما ان تطلق فان ابی حبسه ابداً»(1).

حیث دلّ قوله(علیه السلام): «فان صبرت علیه» - أی علی ان لایجامعها - انّ

ص:382


1- (1) أبواب الایلاء، باب 8 ح6.

ذلک هضم لحقّها والاّ شکته ورفعت امرها الی الامام، ومن ثمّ فانّ الانظار أربعة أشهر انما هو لما مرّ من استحقاقها لإجباره ومراعاة للقسم وللحلف الذی أتی به.

ومفاد هذاالصحیح ان الأربعة مبدأها من حین المرافعة، لامن حین ترکه لوطیها، وهذا من القرائن التی مرت علی المطلوب.

التاسعة: ومما یشهد للمطلوب انّ المرأة تستحق الشکایة علی الزوج المولی منذ اوّل إیلاءه وان لم تمض اربعة أشهر، ولو کان المواقعة مقیدة بالمدة المزبورة فکیف تستحق المرافعة والشکایة علی الزوج قبل مجیء أوَانْ الحق، ومن ثمّ مرّ فی صحیح البختری انّ لها حق رفع امرها اذا غاضبها فلم یقربها من غیر یمین.

فالأربعة أشهر بعد الانظار انما هی مدّة لاجباره علی الطلاق أو الفیء، أی بهذه المدّة تستحق اجباره علی الطلاق لا انّ هذه المدة هی مدّة لحق المواقعة.

العاشرة: ومما یشهد أیضاً انّ الحلف علی ترک وطی الزوجة لاینعقد لانه حلف علی امر مرجوح، وان بنی علی قول المشهور من ان حق المواقعة مرّة فی الأربعة أشهر، فان وطیه لها صدقة واحسان کما فی الروایات، ومن ثمّ فانّه یسوغ له فی الایلاء ان یکفر ویطأ وان لم تمض مدّة، والکفّارة انما یلزم بها فی الایلاء حرمة للاسم الالهی ولکونه طلاقاً فی الجاهلیة، وإلا فالکفارة مستحبة تحلّةً للیمین المرجوحة.

ولک ان تقول ان ماذکره فی الجواهر انّ الایلاء کان طلاقا فی

ص:383

الجاهلیة کالظهار فغیر الشارع حکمه وجعل له احکاما خاصة ان جمع شرائطه، وإلاّ فهو یمین یعتبر فیه ما یعتبر فی الیمین، وحینئذ فکل موضع لاینعقد ایلاء مع اجتماع شرائط الیمین یکون یمیناً کما ذکره غیر واحد، بل ارسلوه ارسال المسلمات(1).

وقال أیضاً: الذی ذکروه فی الفرق بینه وبین الیمین مع اشتراکه فی اصل الحلف والکفارة الخاصة جواز مخالفته فی الایلاء، بل وجوبها علی وجه ولو تخییراً مع الکفارة دون الیمین المطلقة وعدم اشتراط انعقاده مع تعلقه بالمباح لأولویته دیناً أو دنیا أوتساوی الطرفین، بخلاف مطلق الیمین(2).

والحاصل: انّ مدة الأربعة أشهر بمثابة العدّة، لکنها تقرب من عدّة الوفاة، بخلاف الظهار فهو وإن کان طلاقاً جاهلیاً قد غیّر الشارع من احکامه الاّ انّ المدّة فیه جعلها ثلاثة أشهر، فکأنّ الشارع لم یلغ هذین الطلاقین من رأس، ولم یمضهما، وانما جعل لهما مدّة تربص شبیهة بمدة العدّة فی الطلاق، وکما فی نهایة مدة عدّة الطلاق یخیر الرجل فی قوله تعالی: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِکُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ 3.

غایة الامر انّ فی نهایة مدّة کل من الظهار والایلاء یخیر بین اجراء الطلاق الشرعی أو الرجوع.

ص:384


1- (1) الجواهر: ج33 ص297.
2- (2) نفس المصدر: 298.

ومن ذلک یتضح الجواب عن الاستدلال للمشهور بروایة محمد بن سلیمان، حیث انّ المدّة هی بمثابة عدة الطلاق لا التقدیر لأصل حق المواقعة مضافاً الی انّ التعبیر فی الروایة انّ ذلک غایة صبر المرأة ونهایته: أی انّ ما قبله من مدة اقل هو أیضاً مما تجترعه المرأة بالصبر.

وأما مصحح زرارة فظهر جواب الاستدلال به أیضاً من انّ التحدید بمدة مایزید علی الأربعة أشهر فی الایلاء أو اطلاق المدة فی الظهار، أوالمدة الطویلة فیه، فانما هی قیود فی ترتیب الشارع الآثار علی الایلاء والظهار بمثابة طلاقین لا انّ هذه القیود لأصل حق المرأة.

الحادیة عشر: روایة أبی العباس الکوفی عن محمد بن جعفر عن بعض رجاله عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: «من جمع من النساء مالاینکح فزنا منهن شیء فالاثم علیه»(1).

وطریق الروایة وان کان صورته مشوشة فی الکافی والوسائل کما یعلم ذلک من الطبقات، الاّ أنها تصلح للتأیید، وتقریب الدلالة انّ کتابة الاثم علی الرجل لایتقرر الاّ مع مسؤولیته عن تلبیة حاجتهن فی النکاح، وفی طریق الدعائم زیادة فی الذیل وقد قال الله عزّوجلّ: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً 2.

ومقتضی تطبیق الآیة علی الجماع انّه حق للمرأة بحسب حاجتها الملحة.

ص:385


1- (1) أبواب مقدمات النکاح، باب 71 ح2.

هذا ولایخفی انّه مما ذکرناه فی القرینة العاشرة یظهر انّ ارتکاز المشهور هو موافق للمختار، الاّ انّ ماصرحوا به لاینطبق مع ارتکازهم، فالحاصل انّ المدار فی حق المواقعة هو علی الحاجة الملحة للمرأة، وإن لم تکن الحاجة ملحة فالمدار علی الأربعة أشهر.

الثانیة عشر: ماورد من النهی عن مضارة الوالدة بولدها من قوله تعالی: لاتضار والدة بولدها ولا مولود له بولده(1).

حیث فسرت فی صحیح أبی الصباح الکنانی عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: سألت عن قول الله عزّوجلّ: لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَ لا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ فقال: کانت المراضع مما تدفع احداهن الرجل اذا أراد الجماع، فتقول: لا ادعک انی اخاف ان احبل فاقتل ولدی هذا الذی ارضعه، وکان الرجل تدعوه المرأة فیقول: انی اخاف ان اجامعک فاقتل ولدی فیدفعها فلایجامعها فنهی الله عزّوجلّ عن ذلک ان یضار الرجل المرأة، والمرأة الرجل(2).

وتقریب الدلالة انّ الصحیحة ساوت بین ارادة الرجل للجماع وارادة المرأة للجماع، وأنّ منع أحدهما الآخر مضارة به منهی عنه وحرام، وهناک موضع آخر فی الدلالة وهو التعبیر ب- (تدعوه المرأة) الذی جعل متعلق وموضوع لحرمة المضارة، فان عنوان دعوتها له ظاهر بقوة فی غیر التحدید بأربعة أشهر، بل کلما احتاجت الی ذلک.

ص:386


1- (1) البقرة: 233.
2- (2) أبواب احکام الاولاد، باب 72 ح1.

ومثله صحیح الحلبی(1)، وفی طریق القمی الصحیح فی تفسیره عن أبی الصباح الکنانی عن أبی عبدالله(علیه السلام): «لا ینبغی للرجل أن یمتنع من جماع المرأة فیضار بها اذا کان لها ولد مرضع، ویقول لها لا اقربک، انی اخاف علیک الحبل فتغیلی(2) ولدی، وکذلک المرأة لایحل لها أن تمتنع علی الرجل فتقول: انی اخاف أن احبل فاغیل (فاقتل) ولدی، وهذه المضارة فی الجماع علی الرجل والمرأة»(3). وغیرها من الروایات المتعددة بهذا المضمون أوردها العیاشی فی تفسیره أیضاً.

الحق السابع: حق خدمة البیت:

وظاهر جملة من المتقدمین کالحلبی فی الکافی، وابن زهرة فی الغنیة، واللمعة، والمسالک، وجلّ متأخری الاعصار انّ الحقوق منحصرة فی التمکین وملازمة البیت، حیث حصروا الطاعة فی ذلک، بینما ظاهر اکثر المتقدمین تعمیم لزوم الطاعة، وکذا بعض المتأخرین، کما مرّ فی حق الطاعة ویذکر فی الأقوال فی النشوز موضوعا، وحکی فی کنز العرفان عن أبی حنیفة ان الزوج یتملک کل منافع الزوجة ومن ثمّ أوجب علیها الارضاع مجاناً بخلاف الشافعی(4).

ولکن فی التذکرة حکی موافقة الشافعی لأبی حنیفة واصحاب الرأی وانّه مروی عن ابن حنبل، واستدلوا علی ذلک بانّه استحق حبسها

ص:387


1- (1) أبواب أحکام الاولاد، باب 72 ذیل الحدیث الاول.
2- (2) وفی نسخة (فتغیلین) وفی المصدر (فتقتلین).
3- (3) أبواب أحکام الاولاد، باب 72 ح2.
4- (4) کنز العرفان: ج2 ص234.

لانها اخذت منه عوضا فی مقابل الاستمتاع، وعوضا فی مقابل التمکین والحبس فلایلزمه عوض آخر، ولایمتنع أن یصح مع غیره، ولایصح معه، کما یجوز ان یزوّج أمته من غیره فلایتزوجها مع ملکها، ونقض علیه فی التذکرة باستئجارها لسائر الاعمال، وکما لو استأجرها للطبخ والکنس ونحوهما، وحکی عن أبی حنیفة انه لایجوز استئجارها للطبخ وما اشبه، لانه مستحق علیها فی العادة. ورده فی التذکرة بأنّه باطل عندنا وانّ استحقاقها عوض للحبس، والاستمتاع یغایر الحضانة واستحقاق منفعة من جهة لایمنع استحقاق منفعة سواها بعوض آخر.

ومقتضی القول بتعمیم الطاعة هو لزوم العشرة بالمعروف بینهما، مع جعل التدبیر للامور بید الزوج، کما انّ مقتضی الزوجیة والاقتران هو التعاشر بینهما والمشارکة فی المعیشة، ومسؤولیاتها واعبائها فی کل ترابط اجتماعی، ولابد له من توزیع وتشاطر المسؤولیات، وعبء الخدمات، وامّا تخلی کل طرف عن المساهمة والمشاطرة فی تحمل المسؤولیات فإن ذلک یوجب انفصام الحیاة، وعدم اجتماع الزوجین فی المعیشة، ویشیر الیه قوله تعالی: (سکن لکم) وقوله تعالی: الرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَی النِّساءِ أی فی العشرة وتدبیر الامور کما مرّ فی جملة من الدلالات للآیات.

ومما یشیر الی ضرورة توزیع الخدمات والمسؤولیات بین الطرفین قوله تعالی: وَ أْتَمِرُوا بَیْنَکُمْ بِمَعْرُوفٍ وَ إِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْری الوارد فی استرضاع الرضیع، وهو شأن مشترک بینهما، وکذا الحال فی الامور المشترکة الاخری، فالائتمار بینهما فی مقابل التعاسر هی عبارة عن تنظیم امور المعیشة بینهما ومطالبة کل من الآخر القیام بدوره ومسؤولیته

ص:388

بعد التوزیع بینهما، والاّ فسیکون حال اعسار کل منهما علی الآخر، فالعشرة ضروریة بینهما کی لاتکون الزوجیة معلقة، وهی تتوقف علی التدبیر المشترک بینهما، ولو بمقدار وحدّ تتأدی به الضرورة اللازمة، وامّا تفصیل ذلک فهو راجع الی التدبیر بالمعروف المتعارف بحسب الاعراف کی لایکون بینهما نشوز احدهما علی الآخر، أو سوء العشرة، فالمقدار اللازم هی هذه العناوین.

وأما التفاصیل فاتخاذها بحسب مایعتاد تعارفه بحسب الاعراف التی تکون عرفا معروفا، فلیست الخدمة واجبة بعنوانها الأوّلی، وانما هی باقتضاء مجریات العادات فی الاعراف فی بناء العشرة، ومن ثمّ لایختص ذلک بخدمة الزوجة داخل البیت، بل یشمل خدمة الزوج خارج البیت، کما ورد ذلک فی تقسیم النبی صلی الله علیه و آله الاعمال بین الصدّیقة(علیهاالسلام) وأمیر المؤمنین(علیه السلام) وبالتالی فلایکون ترک هذه الأفعال نشوزاً بذاته وانما بحسب ما یؤدی الی التعاسر فی العشرة بالمعروف.

وأمّا محاولة تخریج لزوم خدمة کل منهما الآخر فیما یتعارف بانّه من باب الشرط الارتکازی (الشروط المتبانی علیها الضمنیة) فقریب وجهه مما ذکرناه، فانّ دعوی وجود هذا الارتکاز عبارة اخری عن بناء المألوف فی کیفیة العشرة عند العرف، وهو المحقق الی هیئة وشاکلة العشرة بالمعروف ووجود هذا الارتکاز مبین لکیفیة التعاشر عند العرف.

وفی الجعفریات باسناده عن علی(علیه السلام) قال: یجبر الرجل علی النفقة علی امرأته، فان لم یفعل حبس وتجبر المرأة علی ان ترضع ولدها وتجبر علی ان

ص:389

تخبز له، وتخدمه داخل بیتها(1).

وقد یستشکل فی مفادها:

أولاً: من جهة ان الرضاع لیس واجباً مجاناً فلاینافی وجوبه استحقاقها للاجرة، فعلی القول بوجوب الخدمة - لابعنوانه الاولی، بل بعنوان العشرة وتقسیم المسؤولیة - لابد من القول باستحقاقها الاجرة أیضاً.

ثانیاً: انّ اجبارها علی الرضاع لا قائل به.

وفیه أمَّا الأوَّل: ان الوجوب لاینافی استحقاق الاجرة ولایستلزم مجانیتها، الاّ انّ ما یقوم به الزوج هو الآخر من افعال لیست واجبة بعنوانها الأوّلی، وانّما بمقتضی العشرة ولیست من النفقة حتی تکون بمثابة العوض عرفا عما تقوم به المرأة، هذا بحسب ما هو جاری من ارتکاز العرف لکنّ لها ان تشارط الزوج علی غیر ذلک بنحو لاینجر الی التعاسر کما اشارت الیه الآیة ... فان ارضعن لکم فآتوهن اجورهن وأتمروا بینکم بمعروف وان تعاسرتم فسترضع له اخری(2).

مع ان نفی وجوب الارضاع عن الزوجة بما هی ام فی الادلة وکلمات الاصحاب لا بما هی زوجة یعنیها تدبیر المعیشة المشترکة بینها وبین الزوج، کما یشیر الی ذلک فی قوله تعالی فی آیة الرضاع: وَ أْتَمِرُوا بَیْنَکُمْ بِمَعْرُوفٍ والذی فسِّر بمعنی تشاوروا بینکم، والتشاور بین الزوج والزوجة فی

ص:390


1- (1) جامع أحادیث الشیعة، أبواب النفقات، باب 1 ح7.
2- (2) الطلاق: 6.

الرضاع انما هو لاجل انّه امرٌ یتصل بشأن کل منهما.

ومن ثم عبّر أیضاً فی الآیة إِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْری أی إن لم یحصل التراضی بینهما فیما هو من شأنهما، فاللازم علیهما تدبیر ذلک ولو باستئجار اخری لترضع له، مع انهم التزموا بوجوب الارضاع علی الام من حیث هی ام فی أربع حالات:

الاولی: فی اللباء وهو بدایة الارضاع.

الثانیة: فیما اذا لم یکن للولد ولی أب ولا جدّ.

الثالثة: فیما اذا کان معسراً.

الرابعة: فیما اذا لم تحصل مرضعة اخری، أو اذا لم یستجب لها.

وان لم یکن الوجوب فی هذه الموارد مجانیاً.

ص:391

ص:392

قاعدة:شرطیة الإسلام فی الولایة

اشارة

ص:393

ص:394

من القواعد العامة:شرطیة الإسلام فی الولایة

اشارة

وهی قاعدة متولدة من قاعدة فی نفی السبیل المعروفة.

وکلامنا فی القاعدة یقع فی نقطتین:

مفاد القاعدة:

مفاد القاعدة شرطیة الاسلام فی الولی إذا کان المولی علیه مسلماً ، فاذا کان الولی کافرا فلا ولایة له علی المسلم والمسلمة.

أدلة القاعدة:
الدلیل الاول: الایات الکریمة:

استدل للقاعدة بعدة ایات منها:

قوله تعالی: وَ لَنْ یَجْعَلَ اللّهُ لِلْکافِرِینَ عَلَی الْمُؤْمِنِینَ سَبِیلاً1.

و قوله تعالی: وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِیاءُ بَعْضٍ 2 وقوله

ص:395

تعالی: وَ الَّذِینَ کَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِیاءُ بَعْضٍ 1.

الدلیل الثانی الروایات:

منها مرسل الصدوق عن النبی صلی الله علیه و آله

«الإسلام یعلو ولا یُعلی علیه»(1).

و قد تمسک بها الصدوق لإرث المسلم من الکافر دون العکس.

و فی صحیح هشام التعلیل لذلک

«بأن الإسلام لم یزده فی حقه إلّا شدة»(2)وفی معتبرة عبد الرحمن بن أعین التعلیل بذلک

«أن الله عز وجل لم یزدنا بالإسلام إلّا عزّاً»(3).

و فی روایة أبی الأسود الدؤلی تعلیل ذلک

«بأن الإسلام یزید ولا ینقص»(4).

فیظهر من جملة هذه الروایات أن علو الإسلام وعزته أصل تشریعی یشرع منه جملة من التشریعات الأخری فی الأبواب، فالمسلم یرث الکافر ویتولی علیه دون العکس، لا سیما وأن الإرث هو صغری من عموم آیة أولی الأرحام بعضهم أولی ببعض؛ فإن نفیه بهذا التعلیل یفید نفی عموم ذوی الأرحام من جهة الکافر مع المسلم لا العکس، ونظیر ذلک ورد فی

ص:396


1- (2) من لا یحضره الفقیه، للشیخ الأقدم الصدوق، ج4، ص334، ورواة الوسائل، ج26، ص14، وغیرهما
2- (3) الکافی، ج7، ص142، الوسائل، ج26، ص15، باب (1) من أبواب الإرث، ح14.
3- (4) الفقیه، ج4، ص334، الوسائل، ج26، ص12، باب 1، من أبواب الإرث، ح4.
4- (5) الفقیه، ج4، ص334.

نفی تجهیز المسلم للکافر، مع أن ذلک من حقوق الرحم المیت علی رحمه، وإن هذا التشریع انشعاب لذلک الأصل التشریعی وتنزیل له.

ومنه یظهر تمامیة آیة نفی السبیل، وإن کان سیاق الآیة فی مقام الاحتجاج والاحتکام یوم القیامة؛ فإن ذلک من قبیل المورد الذی لا یخصص الوارد.

أما نقض الشیخ ب- «الکافر یستأجر المسلم» فهو غیر وارد؛ لافتراق مورد النقض عن المقام، ومثله ما قیل من أن الولایة فی نفع المولی علیه فلا تکون سبیلًا منفیاً، حیث إن ولایة الولی تتضمّن معنی الاستعلاء أیضاً.

و قد یخدش فی الاستدلال بالآیة الثانیة أنها فی مقام ولایة التوادد والتناصر لا فی الولایة الواقعیة المبحوثة فی المقام، نظیر قوله تعالی لا یَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْکافِرِینَ أَوْلِیاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِینَ 1.

وقوله تعالی: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا، لا تَتَّخِذُوا الْکافِرِینَ أَوْلِیاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِینَ 2 ،وَ إِنَّ الظّالِمِینَ بَعْضُهُمْ أَوْلِیاءُ بَعْضٍ وَ اللّهُ وَلِیُّ الْمُتَّقِینَ 3.

و قوله تعالی: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّی وَ عَدُوَّکُمْ أَوْلِیاءَ تُلْقُونَ إِلَیْهِمْ 4.

وقیل: معنی الولایة معنی عام شامل لهذه المعانی وهی متلازمة

ص:397

متقاربة، فنفی العنوان هو نفی لها بقول مطلق. ومن ثمّ اختلفت الإجارة للکافر من المسلم عن ملکیة الکافر للعبد المسلم؛ مع أنه فی کلیهما ملک المنفعة إلّا أن فی الثانی (ملکیة الکافر) امتدت الملکیة بمقدار یساوق الولایة والاستعلاء بخلاف الإجارة الاعتیادیة.

ثمّ إنه حیث کان السبیل المنفی تشکیکیاً ونفیه بقول مطلق یستلزم نفی حتی مثل ملکیة المنفعة لإجارة الکافر للمسلم، بل المداینة وتسلّط الکافر علی ذمّة المسلم فی العقود والعهود، إلّا أن المتبع فی العناوین التشکیکیة، أن القدر المتیقن منها عزیمة وإلزامی، وباقی الدرجات تکون اقتضائیة غیر إلزامیة، نظیر الأمر بطاعة الوالدین، فإن القدر المتیقن الملزم منه ما یستلزم العقوبة، والباقی راجح، وکما هو الحال فی صلة الأرحام المأمور بها فإنها ذات درجات والقدر المتیقن منها ما یوجب قطع الرحم.

وغیرها من الموارد التی یکون فیها متعلق الحکم عنواناً ذو مراتب تشکیکیة.

وقد یستدل بانصراف أدلة ولایة الأب والجد ونحوهما من الأولیاء عن الکافر علی المولی علیه المسلم، صغیراً کان أو مجنوناً أو رحماً، وقد یفصّل بتمامیته فیما ورد بعنوان الاستئذان بخلاف ما ورد بعنوان ولایة الأب والجد. والصحیح أن الانصراف لا بدّ له من شاهد، وهو تام ومنشؤه الأدلة المشار إلیها فی ارتکاز المتشرعة من کون ولایة الأب والجد رعایة وصول وصلة الرحم، وأما التفصیل بین ما اشتمل علی الاستئذان وما لم یشتمل فهو اعتراف بأن الولایة نوع استعلاء واستیمار وهی منفیة للکافر علی المسلم.

ص:398

و قد استدل أیضاً بقاعدة الإلزام بتقریب عدم الولایة عندهم للأب والجد علی الصغیر أو المجنون والأبکار، إلّا أن الشأن فی ثبوت الصغری.

والحمد لله رب العالمین.

ص:399

ص:400

قاعدة:فی عموم قاعدة ولایة الأرحام

اشارة

ص:401

ص:402

من قواعد باب النکاح:فی عموم قاعدة ولایة الأرحام

اشارة

وفی القاعدة عدة مباحث:

المبحث الأوَّل: الأقوال فی القاعدة:

القول الأول: مع موت أحد الابوین تنتقل الحضانة للآخر، حکی علی ذلک الاتفاق ولو مع وجود الجد وباقی أقاربه، وعن الأکثر أنّه مع فقد الأبوین تصل النوبة الی أب الأب (الجد) دون بقیة الأقارب لکونه ولیاً مع الاب مقدم علی الأقارب، واذا فقدا ترتبوا بحسب طبقات الارث، وقیل بتقدیم وصی الأب والجد علی الأقارب لکونهما یقومان مقامهما.

القول الثانی: أنها بعد الأبوین للجد من الأب، وإلاّ فتکون علی الناس کفایة کما هو الحکم فی الانفاق.

القول الثالث: أنها للأجداد مطلقا من الأب أو الام دون غیرهم من الأرحام، وإلاّ فللارحام علی الترتیب، حکی ذلک عن المفید والارشاد.

القول الرابع: انّ قرابة الأم أحق من قرابة الأب وهو المحکی عن أبی علی وفی المختلف حکی عن ابن الجنید انّ قرابة الأم أحق بالانثی من قرابة

ص:403

الأب، وفی السرائر قال: ولاحضانة عندنا الاّ للام نفسها وللاب فامّا غیرهما فلیس لأحد ولایة علیه سوی الجدّ من قبل الأب خاصة.

ولو دار الأمر بین أخت الأب واخت الام فعن الشیخ تقدیم أخت الأب لکثرة نصیبها فی الارث واستشکل فی ذلک صاحب الشرائع، بل استشکل فی أصل الاستحقاق أیضاً، وعن المبسوط انّه یقرع بینهما.

وعن الشیخ ان الورثة فی الطبقة الواحدة لهم الحضانة بحسب نصیبهم.

وفی التذکرة ان الولی أولی من الوالی عند علمائنا وهو قول الشافعی فی الجدید لقوله تعالی: وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلی بِبَعْضٍ .. ولقول الصادق(علیه السلام):

«یصلی علی الجنازة أولی الناس بها»(1).

ولأنها ولایة یعتبر فیها ترتیب العصبات فیقدم فیها الولی علی الوالی کولایة النکاح(2).

ویستفاد من کلام الشیخ السابق وکلام العلامة ان قاعدة ولایة اولی الأرحام ساریة فی جملة الابواب کما هو الحال فی تقدم ولایة الولی علی الوالی فی النکاح، وأنّ من کان فی الطبقة الواحد فی الارث من الارحام وکان له نصیب اکثر فهو مقدم ولایة.

ص:404


1- (1) التذکرة: ج2 ص39 مسألة 189.
2- (2) نفس المصدر السابق.
المبحث الثانی: الأدلة:

ویشهد للعموم فی الأبواب، أولاً: ان قوله تعالی: وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلی بِبَعْضٍ 1

وهی غیر خاصة بالإرث فی المال، بل ولا بالارث بعد الموت، بل تشمل کل مورد یقصر فیه ذو الرحم عن التصرفات لجنون أو اغماء أو نحوها ومن ثم استدل بعموم الآیة لولایة الارحام فی شؤون تجهیز المیت.

وکذا قوله تعالی: ذُرِّیَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَ اللّهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ 2.

بتقریب ان ظاهر الآیة لبیان الوراثة من بعضهم لبعض والتولی فیما بینهم بسبب علقة الولادة والرحم.

فبمقتضی عموم القاعدة بمفاد الآیة الاولی وضمیمة الثانیة واعتضادها بها یتقرر انّ للرحم أولویة برحمه فی کل مورد یقصر فیها الرحم ویضطر فیه الی ولی یرعاه ویدبر شؤونه، الا ما اخرجه الدلیل واستثناه، وعلی ذلک ما قرر عند المتأخرین من ان البالغ الرشید الذی انقطعت ولایة الاب والام علیه اذا طرأ علیه قصور من جنون أو اغماء فان الحاکم الشرعی هو ولیه لایخلو من اشکال، ومما یعضد عموم القاعدة ادراجهم للولایة علی المیّت وشؤونه تحت عموم هذه القاعدة، کما ان تقرر الارث فی الاموال کذلک، وهذا یفید انّ ذا الرحم قبل بلوغه ابتداء وحتی موته انتهاء هو تحت رعایة الارحام فی موارد قصوره تمسکا بعموم الآیة.

ص:405

الثانی: ما تقرر من ثبوت دیة الخطأ علی العصبة فیتقرر لها الولایة فی الجملة من باب من علیه الغرم له الغنم، کما ان من یجب علیه النفقة کالأب وله نحو عیلولة فله نحو ولایة ورعایة علی المنفق علیه، اذ العیلولة نحو رعایة ومسؤولیة وولایة، کما یستفاد ذلک أیضاً من قوله تعالی: (الرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَی النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلی بَعْضٍ وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ )1.

وظاهر الباء یفید السببیة والتقابل، ویعضد ذلک ان جماعة ذهبوا الی انّ العاقلة الاقرب فیها یتحمل الدیّة، دون الأبعد، أی بحسب طبقات ولایة الارحام، أی بمقتضی عموم قاعدة أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلی بِبَعْضٍ وهو مفاد موثقة أبی بصیر(1)، وصحیح ابن أبی نصر(2).

وأمَّا الروایات فیستدل بجملة وردت:

1) صحیح عبدالله بن سنان عن أبی عبدالله(علیه السلام) فی رجل مات وترک امرأة ومعها منه ولد فالقته علی خادم لها فارضعته ثم جاءت تطلب رضاع الغلام من الوصی فقال: لها اجر مثلها ولیس للوصی ان یخرجه من حجرها حتی یدرک ویدفع إلیه ماله(3).

ومفاد هذه الروایة دال علی ولایة الام علی الغلام عند موت الاب، ویدل علی هذا المفاد أیضاً ما تقدم من الروایات(4) الواردة فی مورد رقّیة

ص:406


1- (2) أبواب العاقلة، باب 4 ح1.
2- (3) نفس المصدر: ح3.
3- (4) أبواب أحکام الأولاد، باب 71 ح1.
4- (5) أبواب أحکام الاولاد، باب 73.

أحد الابوین وان الحضانة وولایة الطفل تکون للآخر الحرّ.

وکذلک الروایات(1) التی وردت فی تحدید المدّة فی أحقیّة الام بالحضانة ومن بعدها احقیة الاب، فانها أیضاً دالة علی انّ الولد بین الأبوین، وان تقدم حق أحدهما عند التزاحم والتدافع علی الآخر بتفصیل المدّة المزبورة، فمع عدم احدهما أو فقده للشرائط یتعین الحق للآخر وهو مطابق لمفاد عموم آیة أُولُوا الْأَرْحامِ .

والصحیح دال علی ان حق الحضانة لایکون من نصیب وصی الاب بل من نصیب الام وهو شاهد علی المختار من ان حق الحضانة والکفالة فی حجرها لاینتفی عن الام الی بلوغ الطفل، وانما یقدّم حق الاب فی القیمومة علی حق الام بعد السنتین أو السبع، لدلالة الصحیحة علی ان وصی الاب انما یتصرف فی أموال الصبی ویرعی القیمومة علی الصبی دون الحضانة والحجر، مع ان الوصی صلاحیاته امتداد وبقاء لصلاحیات الموصی وهو الاب.

2) روایة عبیدالله بن علی عن الرضا عن آبائه عن علی(علیهم السلام) ان النبی صلّی الله علیه وآله قضی بأبنة حمزة لخالتها وقال: الخالة والدة.

وقد یستدل بمفاد هذه الروایة علی ما نسب الی أبی علی ان قرابة الأم احق من قرابة الاب مع فقد الوالدین.

وقد یستدل لذلک أیضاً بما فی موثق ابن الحصین المتقدم من قوله

ص:407


1- (1) أبواب أحکام الاولاد، باب 81.

علیه السلام: فاذا مات الاب فالام احق به من العصبة(1).

وفی معتبرة أبی خدیجة عن أبی عبدالله(علیه السلام) فی حدیث قول النبی صلی الله علیه و آله لذلک الرجل ألک امٌ حیّة قال: لا، قال: فلک خالة حیّة قال: نعم، فقال: فابررها فانها بمنزلة الام یکفّر عنک ما صنعت(2) الحدیث.

هذا، ویخدش فی الاستدلال بالروایات ان روایة (بنت حمزة) غایة مفادها ان الاصلح للبنت خالتها من بنی اعمامها وعماتها وهذا هو المقدار المستفاد من معتبرة أبی خدیجة.

وأما موثقة داود فغایة دلالتها هو ان الام احق بالولد مع فقد الاب ومقدمة علی الطبقات اللاحقة للارث من العصبة وغیرها، لا انّ قرابة الام مقدمون علی قرابة الاب مطلقاً.

والحاصل ان الحضانة عند الدوران بین الورّاث فی کل طبقة یرجح فیما بینهم بما هو اصلح للولد، اذ الحضانة حق للولد أیضاً.

المبحث الثالث: تنبیهات:
اشارة

وینبغی التنبیه علی أمور:

القیمومة فی الأموال والتأدیب واستیفاء الحقوق وولایة الجد:

التنبیه الأول: ان الجد کما هو المشهور بل ادعی علیه الاجماع بل ضرورة الفقه له ولایة علی قیمومة الولد کالاب فی امواله وغیره، ویدل علیه:

ص:408


1- (1) أبواب أحکام الاولاد، باب 81 ح1.
2- (2) أبواب مقدمات النکاح باب 103 ح1.

الوجه الأول: ان عنوان الوالد والاب وکذا عنوان الرجل المضاف الیه عنوان الولد شامل لکل من الاب المباشر والجد الوارد فی الروایات(1)، سواء الروایات الواردة فی ولایة المال أو الروایات الواردة فی التأدیب والتربیة.

ونظیر قوله صلی الله علیه و آله : «أنت ومالک لابیک» کما فی صحیح أبی حمزة بل فی معتبرة محمد بن سنان عن الرضا(علیه السلام) «الولد موهوب للوالد فی قوله تعالی: یهب لمن یشاء اناثاً ویهب لمن یشاء الذکور اشارة الی ان هذا الجعل اصله جعل الهی تکوینی، وقوله تعالی: رَبِّ إِنِّی نَذَرْتُ لَکَ ما فِی بَطْنِی مُحَرَّراً2 الدال علی ولایة الابوین علی المولود فی مثل ذلک فی الشرائع السابقة، وکذا قوله تعالی: یا بُنَیَّ إِنِّی أَری فِی الْمَنامِ أَنِّی أَذْبَحُکَ 3 حیث تفید ولایة الاب علی مثل ذلک وان کان الفعل خاصاً نظیر نذر عبدالمطلب، حیث ان ذلک من تقدیم الولد کقربان وصدقة.

ونظیر هذا المفاد فی قوله تعالی: وَ عَلَی الْمَوْلُودِ لَهُ 4.

وکذا قوله تعالی: فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْری 5.

وهذا وجه ثان فی الآیات.

ص:409


1- (1) أبواب مایکتسب به باب 78، 79،وأبواب نکاح العبید باب 40.

الوجه الثالث: ماورد فی النکاح(1) من تقدیم ولایة الجد علی ولایة الاب عند عقدهما علی البنت وان الجدّ اولی بنکاحها، بل فی مصحح عبید بن زرارة تعلیل تقدیم ولایة الجد علی الاب بخطاب النبی صلی الله علیه و آله انت ومالک لابیک(2)،

وفی مصحح علی بن جعفر «لانها (الجاریة) واباها للجدّ»(3).

وهذا المفاد دال علی انّ منشأ جعل ولایة الجد فی باب النکاح وتقدیمها علی ولایة الأب هو الجعل التکوینی الالهی من کون الولد موهوب للاب.

الوجه الرابع: ماورد فی متفرقات الأبواب کصحیح سعید بن یسار عن أبی عبدالله(علیه السلام) من قوله(علیه السلام): اذا کان الجدّ هو الذی أعطاه وهو الذی أخذه(4)الحدیث.

وما ورد فی ولاء العتق ان ولاء الولد لمن اعتق الاب الشامل للجد(5).

وعلی ضوء ذلک یتبین ان الجدّ وان کان من طبقة متأخرة علی الاب الا انه یستوی مع الاب فی ولایة القیمومة علی الولد، ولایبعد أن یکون عنوان الاب الوارد فی روایات الحضانة شامل للجدّ.

ص:410


1- (1) أبواب عقد النکاح باب 11 وباب 14.
2- (2) أبواب عقد النکاح باب 11 ح5.
3- (3) أبواب عقد النکاح، باب 11 ح8.
4- (4) أبواب الوصایا، باب 18 ح5.
5- (5) أبواب العتق، باب 38.

نعم علی تفسیر حق الحضانة للاب بغیر القیمومة بل بالمعنی الثابت للام وهو الکفالة والحجر فتکون رتبة الجد بعد فقد الابوین کما صرح به فی الشرائع وابن ادریس والفاضل وغیرهم.

وفی المقنعة: وان مات الاب قامت الام مقامه فی کفالة الولد، فان لم تکن له ام وکان له اب الأب قام مقامه فی ذلک، فان لم یکن له اب ولا ام کانت الام التی هی الجدة أحق به من البعداء.

وفی التذکرة فی باب الوصیة: الوصیة بالولایة انما تصح من الأب والجد للاب وان علا ولا ولایة لغیرهم من اخ أو عم أو خال أو جد لأم لان هؤلاء لایکون امر الاطفال إلیهم فکیف تَثبت لهم ولایة، فان الوصی نائب عن الموصی، فاذا کان الموصی لا ولایة له فالموصی إلیه اولی بذلک، وأمّا الام فلا ولایة لها عندنا أیضاً لانّه لامدخل لها فی ولایة النکاح فلا تلی المال کالعبد.

وقال فی القواعد: ولایجوز له (الأب) نصب وصی علی ولده الصغیر أو المجنون مع الجد للاب، بل الولایة للجد، وفی بطلانها مطلقا اشکال.

وقریب من عبارة التذکرة ما فی الشرائع فی باب الوصیة.

وقال فی کشف اللثام: انکر ابن ادریس ثبوت الحضانة لغیر الابوین والجد للاب وهو قوی للاصل وخلو النصوص عندنا عن غیر الابوین واما الجد للاب فله الولایة بالاصالة، وشدّد علیه النکیر فی المختلف وقال: ان الحاجة ماسة الی تربیته وحضانته فلو لم یکن القریب اولی بکفالته لزم تضییعه وولایة الجد للاب فی المال لایستلزم اولویته فی الحضانة فانّه لو

ص:411

اعتبر ولایة المال کان الأب احق من الام، والجد مع عدم الاب اولی منها، ولیس کذلک بالاجماع.

أقول: ما اشکله فی المختلف متدافع مع ما قاله فی التذکرة والقواعد، وحمل الحضانة علی الکفالة والحجر بخلاف عبارة التذکرة والقواعد غیر رافع للتدافع بعد کون الفرض فی الوصیة للقیمومة فی الأموال والکفالة والرعایة أیضاً، وظاهر کلماتهم فی باب الوصیة علی الاولاد القصّر من قبل الاب والجد هو کون الوصی قیّم وکافل لهم من دون تخصیص ذلک بالاموال، فما ذکره ابن ادریس متین لاسیما علی المختار من ان ولایة الاب هی الرعایة من حیث القیمومة وأمَّا الکفالة والحجر هی للأم، والمدّة المضروبة انما هی للفصل عند تدافع الحقین فی التقدیم والترجیح، ومن ثمّ کانت نفقة الولد علی الجد مقدما علی الام، وکذلک الحال فی اجرة الرضاع للام علی الجد مع فقد الاب، ومن ثم لو طالبت الام بأجرة زائدة کان للجد ان یسترضع غیرها بعد شمول الروایات السابقة له بعنوان الاب أیضاً.

وقد تقدم فی معتبرة داود بن الحصین قوله(علیه السلام): مادام الولد فی الرضاع فهو بین الابوین بالسویة(1).

وتفسیر استوائهما فی مدة الرضاع بتخالف متعلق حق وولایة کل منهما،وهذا المعنی شامل للجدّ.

وعن صاحب المدارک فی شرح النافع (وانما قلنا بثبوت الولایة للجد من قبل الاب لان له ولایة المال والنکاح فیکون له ولایة التربیة بطریق

ص:412


1- (1) باب احکام الاولاد، باب 81 ح1.

اولی، وانما کانت الام اولی منه بالنص فمع عدمها وعدم من هو اولی منه تثبت الولایة).

أقول: وما ذکره یردّ اشکال المختلف علی ابن ادریس من ان لازم الاستدلال بولایة الجد لحضانته تقدیمه علی حضانة الام.

وقال فی الریاض: فان فقد الابوان فقیل ان الحضانة لابی الأب لانّه اب فی الجملة فیکون اولی من غیره من الاقارب، ولانّه اولی بالمال، فیکون اولی بالحضانة، وبهذا جزم فی القواعد، ثم اشکل بما مرّ فی المختلف وقد عرفت اندفاعه. وقد تقدم فی صدر البحث نقل جملة من الأقوال الدالة علی عموم ولایة اولوا الأرحام فی مطلق شؤون الرحم القاصر فی الأبواب الفقهیة.

هذا ولاسیما وان ولایة التأدیب خاصة بالاب والجد دون الام کما مرّ وسیأتی، أی لیست داخلة فی الحضانة وکفالة الحَجر، فما مرّ من کلام المختلف وغیره من تخصیص ولایة الجد بالمال فی غیر محله.

هذا وقد تقرر فی مسائل أحکام الأولاد ولایة الاب علی تأدیب وتربیة الولد، ومما مرّ هنا انّ عنوان الاب شامل للجدّ، وأنّ ولایة الجد لیست منحصرة بولایة المال، بل هی شاملة للولایة علی النفس وشؤونها کالتربیة والتأدیب والحفظ والتعلیم واستیفاء الحقوق والنکاح، وان ذلک باطلاق عنوان الاب الوارد فی الروایات من دون الحاجة الی التمسک بالأولویة، ومن ثم یندفع الاشکال فی کلام المختلف وغیره من انّ ولایة الجد علی المال لاتستلزم الولایة علی بقیه شؤون الصبی.

ویتحصل من ذلک ان ولایة الجد قرینة ولایة الاب علی الصبی

ص:413

وحالها حال ولایة الأب بالنسبة الی ولایة الام.

وفی روایة محمد بن مروان عن أبی عبدالله(علیه السلام) «وان امراک أن تخرج من أهلک ومالک فافعل فانّ ذلک من الایمان»(1) الحدیث.

ولفظ الاهل شامل للاولاد وان ارید به الزوجة هنا أیضاً.

التنبیه الثانی: هل للام قیمومة علی الاطفال بعد فقد الاب والجد، فعن ابن الجنید: (الاب الرشید اولی بأمر ولده الاطفال من کل احد، وکذا الام الرشیدة بعده) وفی الحدائق: وکلامه ظاهر فی انّ لها الولایة کالاب اذا کانت رشیدة، ورده الاصحاب بالضعف والشذوذ)، وقال فی القواعد فی کتاب الحجر: وولی الصبی أبوه أو جده لابیه وان علا ویشترکان فی الولایة فان فقدا فالوصی فان فقد فالحاکم ولا ولایة للام ولا لغیرها من الاخوة والاعمام وغیرهم عدا ماذکرناهم، ونظیر هذه العبارة فی الشرائع والتحریر.

وقال فی التذکرة فی کتاب الحجر الولایة فی مال المجنون والطفل للاب والجد له وان علا ولا ولایة للام اجماعاً إلاّ من بعض الشافعیة بل اذا فقد الاب والجد وان علا کانت الولایة لوصی أحدهما فان لم یوجد کانت الولایة للحاکم ولا ولایة لغیر الاب والجد من الانساب وقد روی ان للأم ولایة الارحام بالصبی.

واستدل فی موضع آخر فی کتاب النکاح لعدم ولایة الام باصالة

ص:414


1- (1) أبواب أحکام الاولاد، باب 92 ح4.

عدم الولایة ولان المرأة عند أکثر الفقهاء لاتلی تزویج نفسها فأولی أن لاتلی نکاح غیرها، وروایة محمد بن مسلم عن الباقر(علیه السلام) انه سأله عن رجل زوّجته أمه وهو غائب قال: النکاح جائز، ان شاء المتزوج قبل وان شاء ترک فان ترک المتزوج تزویجه فالمهر لازم لأمه(1).

أقول: اما استدلاله باصالة عدم الولایة فیندفع بعموم ولایة أُولُوا الْأَرْحامِ واما عدم ولایة الام علی تزویج الصغار فللنصوص الواردة نظیر أیضاً صحیح محمد بن مسلم(2) فغایة مفاد ذلک تخصیص عموم ولایة أُولُوا الْأَرْحامِ ومن ثمّ استندوا الی عموم الآیة فی عدّة من الأبواب کتجهیز المیّت، وقد مرّت عبارة التذکرة فی ذلک فی صدر البحث.

وقد تکرر تعبیر الاصحاب فی باب الوصیة (ولا ولایة للام علی الاطفال فلو نصبت علیهم ولیّاً لغی) وهذه العبارة وان کان المترائی الاولی منها عدم ولایة الام من رأس، ولکن یمکن ان یستظهر منها ارادتهم نفی ولایتها علی المال لا علی کفالة وحضانة الاطفال، کیف وقد صرحوا باستحقاقها للحضانة بعد فقد الاب الی بلوغ الاطفال مقدماً علی الجدّ، وکفالتها ورعایتها لهم نحو ولایة فی جهة أخری.

ویمکن الاستدلال لولایة الام مع فقد الاب والجد.

أولاً: بعموم أُولُوا الْأَرْحامِ وهی مقدمة فی الرتبة علی بقیة الارحام، اذ هی الاقرب.

ص:415


1- (1) أبواب عقد النکاح، باب 7 ح3.
2- (2) أبواب عقد النکاح، باب 6 و8.

ثانیاً: عدة من الروایات منها: موثق داود بن الحصین عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: وَ الْوالِداتُ یُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ قال: مادام الولد فی الرضاع فهو بین الابوین بالسویة، فاذا فطم فالاب احق به من الام، فاذا مات الاب فالام احق به من العصبة)(1) الحدیث.

ومنها: المعتبرة الی سلیمان بن داود المنقری عن من ذکر أو عن حفص بن غیاث قال: سئل أبو عبدالله(علیه السلام) عن الرجل یطلق امرأته وبینهما ولد أیهما أحق بالولد قال: المرأة احق بالولد ما لم تتزوج(2).

ومنها: صحیح عبدالله بن سنان عن أبی عبدالله(علیه السلام) فی رجل مات وترک امرأةً ومعها منه ولد فالقته علی خادم لها فارضعته ثم جاءت تطلب رضاع الغلام من الوصی فقال لها: اجر مثلها ولیس للوصی ان یخرجه من حجرها حتی یدرک ویدفع إلیه ماله(3).

هذا وقد یخدش فی الاستدلال بقوله تعالی: الرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَی النِّساءِ بتقریب استفادة سلب ولایة القوامة علی النساء، ولعل هذا الذی اراده العلامة فی استدلاله السابق حیث قال: «أنها لاتلی تزویج نفسها فاولی ان لاتلی نکاح غیرها» معتضدا بماورد فی صحیح عبدالله بن سنان عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: لیس للمرأة مع زوجها أمر فی عتق ولاصدقة ولاتدبیر ولا هبة ولا نذر فی مالها إلا باذن زوجها الا فی حج أو زکاة أو بر والدیها أو

ص:416


1- (1) أبواب أحکام الاولاد، باب 81 ح1.
2- (2) أبواب أحاکم الاولاد، باب 81 ح4.
3- (3) أبواب أحاکم الاولاد، باب 71 ح1.

صلة رحمها(1).

وکذا ماورد ان المرأة ریحانة ولیست بقهرمانة(2)، وأنها لاتستشار(3) وأنها لا تملک من الامر ما یتجاوز نفسها(4)، وأنها کالیتیم فی الضعف(5).

وغیرها من الادلة الواردة فی عدم ولایة المرأة، ومن ثمّ ذهب الاصحاب فی تجهیز المیت إلی تقدیم ولایة الرجال من الارحام علی النساء، ولایخفی انّ هذه الادلة لیست حاجبة للام عن الولایة فقط، بل هی تحجب عموم الاناث من ذوی الأرحام.

نعم ما تقدم من الادلة فی صدر التنبیه وفی المسائل المشار إلیها من أحکام الأولاد یفید ان کفالة الولد هی فی حجر أمه مع عدم الاب الی بلوغه، کما انه تقدم انّ الحجر والکفالة للارحام ثابتة کما فی الخالة وغیرها مع عدم الطبقة الاولی.

التنبیه الثالث: وصی الاب والجد مع الام، والمعروف لدیهم تقدم الوصی من قبل الاب والجد علی الام، لکن قد تقدم مفصلاً بیان مفاد صحیحة عبدالله بن سنان عن أبی عبدالله(علیه السلام) فی رجل مات وترک امرأة ومعها منه ولد، فألقته علی خادم لها فارضعته ثم جاءت تطلب رضاع الغلام من الوصی، فقال: لها اجر مثلها ولیس للوصی ان یخرجه من

ص:417


1- (1) أبواب النذر، باب 15 ح1.
2- (2) باب مقدمات النکاح، باب 87.
3- (3) أبواب مقدمات النکاح، باب 96.
4- (4) باب مقدمات النکاح، باب 87.
5- (5) باب مقدمات النکاح، باب 86 و88 و90.

حجرها حتی یدرک ویدفع إلیه ماله(1)، وانه دال علی ما مرّ اختیاره من ان ولایة الاب هی فی القیمومة والتأدیب والاموال دون الکفالة والحجر، بل هما متعلق حق الام حتی بلوغ الصبی، غایة الامر انه عند التدافع کما فی بعض موارد الطلاق یقدم حق الاب بعد السنتین أو السبع، فمن ثمّ یکون الوصی له ما للأب فی مجال القیمومة والأموال دون الکفالة والحجر کما هو مفاد هذا الصحیح.

وقد تقدم أیضاً ان مفاد قوله تعالی: وَ عَلَی الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَ کِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ... وَ عَلَی الْوارِثِ مِثْلُ ذلِکَ 2.

هو ما تقدم من ان ولایة الاب فی القیمومة وکذا الوارث له، واما الکفالة والحجر فهی من نصیب الام.

ویدل علی نفوذ الوصیة فیما للاب والجد من ولایة ماورد من روایات مستفیضة فی أبواب الوصایا(2) والحجر(3) وغیرها من الأبواب.

التنبیه الرابع: ولایة طبقات ذوی الأرحام علی مطلق شؤون الولد مع فقد الأبوین والجد:

وعن الشیخ واتباعه صحة عقد الاخ الاکبر لو زوج رجلا من اخته.

وقال السید المرتضی فی الناصریات فی مسألة لایجوز نکاح الصغار

ص:418


1- (1) أبواب أحکام الأولاد، باب 71 ح1.
2- (3) أبواب عقد النکاح وأولیاءه، باب 7.
3- (4) أبواب عقد النکاح وأولیاءه، باب 6.

إلا بالأباء عندنا انه یجوز ان ینکح الصغار الاباء والاجداد من قبل الاباء فان عقد علیهن غیر من ذکرناه کان العقد موقوفا علی رضاهن بعد البلوغ. وقال الشافعی: الاب والجد یملکان الاجبار علی النکاح ومن عداهما من الاقارب لایجوز. وقال أبو حنیفة: یجوز للاخ وابن الاخ والعم وابن العم ان یزوجوا الصغار ورووا عنه ان کل من ورث بالتعصیب ملک الاجبار وفی روایة اخری عنه ان کل من ورث عنه ملک الاجبار عصبة کان أو غیر عصبة وقال ابن أبی لیلی واحمد بن حنبل: الاب یجبر دون الجد، وقال مالک: الاب یجبر البکر الکبیرة والصغیرة والجدّ یجبرُ الصغیرة دون الکبیرة، دلیلنا علی صحة ما ذهبنا الیه بعد الاجماع المتقدم ثم ذکر روایات عامیة رووها فی عدم اجبار العم الصغیرة علی الزواج(1).

وفی المراسم ذهب الی ولایة الاب والجد فی العقد علی الصغار وان لا خیار لهن بعد البلوغ، ولو عقد علیهن غیرهما کان موقوفا علی رضاهن عند البلوغ.

وفی الخلاف استدل فی جملة من المسائل علی ثبوت الحضانة للارحام بعد فقد الابوین والجد بحسب طبقاتهم من الارث وتقدیم الاولی بالمیراث استنادا الی عموم وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلی بِبَعْضٍ وفی رهن المبسوط: من یلی أمر الصبی والمجنون خمسة: الاب والجدّ، ووصی الاب والجد والامام ومن یأمره الامام.

ص:419


1- (1) الناصریات: ص332.

وقال فی موضع آخر(1) من المبسوط: الذی له الاجبار علی النکاح الاب والجدّ مع وجود الاب وإن علا ولیس لغیرهما ذلک من سائر العصوبات الذین یرثون المال.

وقال فی النهایة(2): ومتی عقد علی صبیة لم تبلغ غیر الاب أو الجد مع وجود الاب کان لها الخیار، اذا بلغت سواء کان ذلک العاقد جد - مع عدم الاب - أو الاخ أو العم أو الام.

وفی الحدائق عن الدروس عن ابن الجنید ان للأم الرشیدة الولایة بعد الأب، ثم ردّه بأنه شاذ.

ویستدل لولایة ذوی الأرحام بعموم قوله تعالی: وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلی بِبَعْضٍ لکن قد عرفت فی التنبیه الثانی ان المرأة من اولی الأرحام محجوبة عن الولایة بما دلّ علی حجب عموم المرأة عن الولایة، فتخصص تلک الادلة عموم ولایة أُولُوا الْأَرْحامِ ، وأماالروایات فهی علی طائفتین:

الطائفة المثبتة: ما یستدل لثبوت ولایة ذوی الأرحام بجملة من الروایات:

1) صحیح محمد بن قیس عن أبی جعفر(علیه السلام) قال: قضی أمیر المؤمنین(علیه السلام) فی امرأة انکحها اخوها رجلا، ثم انکحتها أمها بعد ذلک رجلا وخالها أو اخ لها صغیر، فدخل بها، فحبلت فاحتکما فیها، فأقام الأول الشهود فالحقها بالاول وجعل لها الصداقین جمیعاً، ومنع زوجها

ص:420


1- (1) المبسوط: ج3 ص391.
2- (2) النهایة: ج2 ص316.

الذی حقّت له أن یدخل بها حتی تضع حملها ثم الحق الولد بأبیه(1).

وعن الشیخ حملها علی کون عقد علیها برضاها، لاسیما بعد کون مورد الروایة فی المرأة لا فی الجاریة.

2) والصحیح الی ابن مسکان عن ولید بیاع الاسفاط قال: سئل أبو عبدالله(علیه السلام) وأنا عنده عن جاریة کان لها اخوان زوّجها الاکبر بالکوفة، وزوّجها الاصغر بأرض اخری قال: الاوّل بها أولی إلا أن یکون الآخر قد دخل بها فهی امرأته ونکاحه جائز(2).

وعن الشیخ حملها علی جعل الجاریة أمرها الی أخویها معاً فالأوّل اولی بالعقد مالم یدخل الذی عقد علیه الاخ الصغیر.

3) صحیحة أبی بصیر ومحمد بن مسلم عن أبی جعفر(علیه السلام) قال: سألت أبا جعفر(علیه السلام) عن الذی بیده عقدة النکاح قال: هو الاب والاخ والموصی إلیه والذی یجوز امره فی مال المرأة من قرابتها فیبیع لها ویشتری قال: فأی هولاء عفی فعفوه جائز فی المهر اذا عفا عنه(3).

ونظیرهما معتبرة أبی بصیر(4) وعن المسالک اتفق الاصحاب ان الذی بیده عقدة النکاح له ان یعفو عن المهر فی الجملة واختلفوا فیه من هو، فذهب أصحابنا وجماعة من العامة الی انه ولی المرأة کالأب والجدّ له،

ص:421


1- (1) أبواب عقد النکاح باب 7 ح2.
2- (2) أبواب عقد النکاح، باب 7 ح4.
3- (3) أبواب عقد النکاح، باب 8 ح5، والتهذیب: ج7 ص474 ح1946.
4- (4) أبواب عقد النکاح، باب 8 ح4.

وذهب آخرون الی انه الزوج، والاول اصح، والمشهور انّه الاب والجد، وقیل یشمل من تولیه المرأة عقدها، ذهب الیه الشیخ فی النهایة وتلمیذه القاضی ابن البراج، ویدل علیه صحیحة محمد بن مسلم وأبی بصیر، وادخال الاخ فی الروایة محمول علی کونه وکیلاً کما حمله الشیخ أو وصیا، والاقتصار فی العفو المخالف للاصل علی الأب والجد أولی.

4) روایة الحسن بن علی عن بعض أصحابنا عن الرضا(علیه السلام) قال: الأخ الأکبر بمنزلة الأب(1).

وحمله الشیخ علی استحباب توکیلها ایاه أو علی التقیة.

أقول: وفی موثق أبی بصیر وسماعة جمیعاً عن أبی عبدالله(علیه السلام) فی قول الله عزّوجلّ: وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَ قَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِیضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاّ أَنْ یَعْفُونَ أَوْ یَعْفُوَا الَّذِی بِیَدِهِ عُقْدَةُ النِّکاحِ ، قال: هو الاب أو الاخ أو الرجل یوصی إلیه والذی یجوز أمره فی مال المرأة فیبتاع لها (ویتجر) ] فتجیز [ فاذا عفی فقد جاز(2).

وفی صحیحة الحلبی عن أبی عبدالله(علیه السلام) فی رجل طلق امرأته قبل أن یدخل بها قال: علیه نصف المهر ان کان فرض لها شیئاً، وان لم یکن فرض لها فلیمتعها علی نحو ما یمتع مثلها فی النساء قال: وقال فی قول الله عزّوجلّ: أَوْ یَعْفُوَا الَّذِی بِیَدِهِ عُقْدَةُ النِّکاحِ قال: هو الأب والأخ والرجل یوصی إلیه والرجل یجوز امره فی مال المرأة، فیبیع لها ویشتری لها فاذا عفی

ص:422


1- (1) أبواب عقد النکاح، باب 8 ح6.
2- (2) أبواب المهور، باب 52 ح1.

فقد جاز(1).

هذا وقد مرّ حکایة المسالک عن الأکثر أنَّهم حملوا الاخ علی کونه وکیلا أو وصیا وهو یعطی ان هناک جماعة فی مقابل الأکثر قد ذهبوا الی ولایة الأخ وان لم یکن وصیا ولاوکیلا، والحمل المزبور خلاف الظاهر لان الوکیل المفوض قد ذکر فی القسم الرابع، والوصی قد ذکر کقسم ثالث، والظاهر من الأخ کقسم رابع المقابلة معهما، لا من عطف العام علی الخاص.

بل قد یستظهر من عنوان الاخ ارادة الرحم القیّم کما ان فی عنوان الاب یراد منه اب الاب أیضاً، وکما یظهر من موضوع الروایة ان المرأة المأخوذة فی الروایة اعم من کونها صغیرة أو بالغة رشیدة، والظاهر من الاقسام الثلاثة الاولی وهو الاب والاخ والوصی هو فی الصغیرة والقسم الرابع وهو الوکیل المفوض هو فی الکبیرة.

ومنه یظهر ضعف حمل الشیخ لعنوان الاخ علی ما لو کان موکلا، ویظهر من هذه الروایات أیضاً، ان الوصی اذا شملت وصیته للنکاح فینفذ تزویجه للصغیر مع المصلحة.

الطوائف النافیة:

مایستدل لمنع ثبوت ولایة ذوی الأرحام بجملة من الروایات أیضاً:

1- مصححة محمد بن الحسن الأشعری قال: کتب بعض بنی عمی

ص:423


1- (1) نفس المصدر.

الی أبی جعفر الثانی(علیه السلام) ما تقول فی صبیة زوّجها عمها، فلما کبرت أبت التزویج، فکتب لی لاتکره علی ذلک والأمر أمرها(1).

وفیه: ان غایة دلالتها علی تخییر الصبیة بعد البلوغ، نظیر ما لو زوجها أبوها وجدها فانّ لها الخیار اذا کبرت، فلادلالة للروایة علی نفی ولایة العم عند فقد الأب والجد، بل لعلّ دلالتها علی ثبوت الولایة أظهر.

2) ماورد من حصر ولایة زواج الصغیرین بالأب وکذلک الحال فی البکر، منها صحیح محمد بن مسلم عن أبی جعفر(علیه السلام) فی الصبی یتزوج الصبیة یتوارثان؟ فقال: اذا کان أبواهما اللذان زوجاهما فَنَعم(2) الحدیث.

ومنها صحیح زرارة قال: سمعت أبا جعفر(علیه السلام) یقول: لاینقض النکاح الاّ الأب(3).

ومثلها موثقة محمد بن مسلم(4).

ومنها صحیح محمد بن مسلم عن أحدهما(علیهم السلام) قال: لاتستأمر الجاریة اذا کانت بین أبویها، لیس لها مع الأب أمر، وقال: یستأمرها کل احد ما عدا الأب(5).

ومنها صحیحة الحلبی عن أبی عبدالله(علیه السلام) فی الجاریة یزوجها أبوها

ص:424


1- (1) أبواب عقد النکاح، باب 6 ح2.
2- (2) أبواب عقد النکاح، باب 12 ح1.
3- (3) أبواب عقد النکاح، باب 4 ح1.
4- (4) أبواب عقد النکاح، باب 4 ح5.
5- (5) نفس الباب، ح3.

بغیر رضا منها، قال: لیس لها مع أبیها امرٌ اذا أنکحها جاز نکاحه وان کانت کارهة، قال: وسئل عن رجل یرید أن یزوج اخته قال: یؤامرها فان سکتت فهو اقرارها وان أبت لم یزوجها(1).

وغایة دلالة هذه الروایات انما هو حصر الولایة استبداداً أو استقلالاً بعقد النکاح بالاب فی الباکر والصغیرة لانفی اصل ولایة ذوی الأرحام فی النکاح معیة، فضلا عن نفی ولایتهم فی سائر الأبواب لاسیما وان الشأن فی النکاح شدید دون بقیة شؤون الشخص القاصر فیقتصر علی حدود دلالة الروایات من دون التعدی الی غیرها، ولکن قد یلوح من کلام غیر واحد من الأصحاب الاستدلال بها علی نفی ولایة الارحام علی شؤون القاصر مطلقا ما عدا الأب.

3) ماورد فی ولایة الحاکم مع فقد الأب والجد ووصیهما وهی وإن ترائی منها ابتداء ولایة الحاکم فی الجملة الا أنّه بالالتفات الی تقییدها بعدم الاب والجد یستفاد منها نفی ولایة الارحام فی الاموال فیما لو فقد الاب والجدّ.

منها صحیحة ابن بزیع قال: مات رجل من أصحابنا ولم یوص فرفع امره الی قاضی الکوفة فصیّر عبدالحمید القیّم بماله وکان الرجل خلّف ورثة صغارا ومتاعا وجواری فباع عبدالحمید المتاع، فلما اراد بیع الجواری ضعف قلبه عن بیعهن، اذ لم یکن المیّت صیّر الیه وصیته، وکان قیامه بهذا بأمر القاضی، لانهن فروج قال: فذکرت ذلک لأبی جعفر فقلت له: یموت

ص:425


1- (1) نفس الأبواب، باب 4 ح4.

الرجل من أصحابنا ولا یوصی لاحد ویخلف الجواری فیقیم القاضی رجلا منّا فیبیعهن قال یقوم بذلک رجلا منا فیضعف قلبه لانهن فروج فما تری فی ذلک؟ فقال: اذا کان القیّم به مثلک أو مثل عبدالحمید فلابأس(1).

وتقریب الدلالة انه لم یقید - ولایة عدول المؤمنین فی الروایة بعد عدم بسط ید الحاکم الشرعی - بانتفاء وجود الرحم، مع ان الغالب وجود فرد من طبقات الرحم المتعددة، نعم قول الراوی

(أو یقوم بذلک رجل منا) قد یظهر منها انتفاء الرحم لانه لایقوم بأمر الصغار رجل أجنبی الا بعد انتفاء الرحم فی الغالب.

ومنها: صحیحة اسماعیل بن سعد عن الرجل یموت بغیر وصیة وله ورثة صغار وکبار أیحل شراء خدمه ومتاعه من غیر ان یتولی القاضی بیع ذلک; فان تولاه قاضی قد تراضوا به ولم یستعمله الخلیفة أیطیب الشراء منه أم لا؟ فقال: اذا کان الاکابر من ولده فی البیع فلابأس به اذا رضی الورثة بالبیع وقام عدل فی ذلک(2).

بتقریب انّه لم یشترط(علیه السلام) فی صحة البیع اسناد البیع الی مجرد الاکابر من ورثته بل اشترط وجود العدل أیضاً، فلو کانت الولایة للارحام لأکتفی باسناد البیع الی مجرد الاکابر من ورثته بل لمّا صحّ اسناده الی غیره من العدل، بل الظاهر من قوله(علیه السلام)

(وقام عدل بذلک) ان القیّم هو العدل وانما اشترط(علیه السلام) مشارکة الأکابر لانّهم یملکون من الترکة فلابد من

ص:426


1- (1) أبواب عقد البیع، باب 16 ح2.
2- (2) أبواب عقد البیع، باب 16 ح1.

رضاهم فیما یباع من المال المشترک بینهم وبین الصغار.

ومنها موثقة سماعة قال: سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن رجل مات وله بنون وبنات صغار وکبار من غیر وصیة وله خدم وممالیک وعُقَد، کیف یصنع الورثة بقسمة ذلک المیراث؟ قال: ان قام رجل ثقة قاسمهم ذلک کله فلابأس(1).

وتقریب الدلالة ان اشتراطه(علیه السلام) لتقسیم الترکة وتعیین حصص الصغار بوجود رجل ثقة مع عدم الاکتفاء بالاخوة الکبار دال علی عدم استقلالهم بالولایة علی الصغار.

وصحیحة ابن رئاب قال: سألت أبا الحسن موسی(علیه السلام) عن رجل بینی وبینه قرابة مات وترک اولاداً صغاراً وترک ممالیک غلمانا وجواری ولم یوص فما تری فی من یشتری منهم الجاریة فیتخذها ام ولد؟ وما تری فی بیعهم؟ قال: فقال: ان کان لهم ولی یقوم بامرهم باع علیهم ونظر لهم کان مأجوراً فیهم، قلت: فما تری فی من یشتری منهم الجاریة فیتخذها أم ولد قال: لابأس بذلک اذا باع علیهم القیّم لهم الناظر فیما یصلحهم فلیس لهم ان یرجعوا فیما صنع القیم لهم والناظر لهم فیما یصلحهم(2).

وتقریب الدلالة ان تعبیره(علیه السلام) عن الولی علی الصغار ب-

(القیم لهم الناظر) بدل من التعبیر بالقریب وذو الرحم مع ان الراوی قد ذکر القرابة بینه وبین الصغار یومیء بقوة ان الولی علی الصغار بعد الاب والجد هو

ص:427


1- (1) أبواب الوصایا، باب 88 ح2.
2- (2) أبواب الوصایا، باب 88 ح1.

الناظر المنصوب من قبل القاضی.

ومنها ما فی صحیحة اسماعیل بن سعد المتقدمة أیضاً عن الرضا(علیه السلام) ... وعن الرجل یصحب الرجل فی سفر فیحدث به حدث الموت ولایدرک الوصیة کیف یصنع بمتاعه وله أولاد صغار وکبار، أیجوز ان یدفع متاعه ودوابه الی ولده الأکابر أو الی القاضی؟ وإن کان فی بلدة لیس فیها قاضی کیف یصنع؟ وإن کان دفع المتاع الی الأکابر ولم یعلم فذهب فلایقدر علی ردّه کیف یصنع؟ قال: اذا ادرک الصغار وطلبوا لم یجد بدا من اخراجه الا أن یکون بأمر السلطان(1) الحدیث.

وظاهر الروایة کالصریح فی عدم ولایة الاخوة الکبار علی اموال الصغار، وانه لابد من نظارة الحاکم أو عدول المؤمنین کما یدل علی ذلک ذیل الصحیحة فی الفقرة التی تقدم نقلها أولاً.

هذا، وقد یقال بان غایة ما نقلناه من طوائف الروایات انما هو عدم ولایة الارحام فی النکاح والأموال فیبقی الباقی من شؤون القاصر - لصغر أو لجنون أو اغماء وغیرها - مندرجاً فی عموم ولایة أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلی بِبَعْضٍ ، ویعضد ذلک ما مرّ فی التنبیهات السابقة من انّ حضانة الصغیر للام مع عدم الاب والجد الی أن یبلغ، مع ان الام لا ولایة لها فی الاموال ولا فی النکاح، ویعضد ذلک عموم ما حررناه فی ولایة التأدیب من قوله تعالی: قُوا أَنْفُسَکُمْ وَ أَهْلِیکُمْ مضافا الی انه مقتضی ضمان العاقلة لدیّة الخطأ، فان غرامتهم للدیّة وان کانت فی مقابل غنم

ص:428


1- (1) أبواب الوصایا، باب 88 ح3.

الارث لکنها نحو من المسؤولیة علی الارحام تجاه رحمهم، فالاوفق فی غیر الأموال والنکاح بین الوجوه هو مراعاة مباشرة الأرحام ونظارة الحاکم أو عدول المؤمنین، وقد تقدم ان الحضانة من حق الارحام بحسب الطبقات کما ذهب الیه المشهور أو الأکثر.

وهو مما یشیر الی ان المستثنی من ولایة الارحام بعضهم ببعض هی فی أموال الصغیر والقاصر ونکاحه، ویعضد ذلک أیضاً ذهاب المشهور فی تجهیز المیت الی ولایة طبقات ذوی الأوحام لرعایة شؤونه.

ومما یدل علی عدم استقلال الأرحام فی الولایة علی القاصرین من الأرحام ما ورد فی قسمة المیراث بین الکبار والصغار، أنه مع عدم الحاکم الشرعی یقوم الثقة العادل مقامه، کما فی موثق سماعة قال: سألته عن رجل مات وله بنون وبنات صغار وکبار من غیر وصیة وله خدم وممالیک وعُقَد(1) کیف یصنع الورثة بقسمة ذلک المیراث؟ قال: إن قام رجل ثقة قاسمهم ذلک کله فلا(2) بأس.

وقد تقدم صحیح علی بن رئاب وغیره(3).

نعم فی صحیح محمد بن مسلم عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: سألته عن رجل لابنه مال فیحتاج الأب إلیه قال: یأکل منه، فأما الام فلاتأکل منه الا

ص:429


1- (1) العقد جمع عقدة وهی البستان.
2- (2) وسائل الشیعة (آل البیت) ج26، أبواب موجبات الإرث، الباب 4 ح1.
3- (3) وسائل الشیعة (آل البیت) ج19، أبواب الوصایا احادیث، الباب 88، ج17- ابواب عقد البیع احادیث الباب 16.

قرضا علی نفسها»(1) ومثلها روایة ابن أبی یعفور(2) قد یستظهر منها ولایة الأم فی التصرف فی مال الابن ولکن الأظهر دلالة الروایة علی الفرق بین الأب والأم.

وفی معتبرة محمد بن سنان أن الرضا(علیه السلام) کتب إلیه فی ما کتب من جواب مسائله: وعلة تحلیل مال الولد لوالده بغیر اذنه ... ولقول النبی صلی الله علیه و آله : أنت ومالک لأبیک، ولیس للوالدة مثل ذلک، لاتأخذ من ماله شیئاً الا باذنه أو باذن الأب، ولأن الوالد مأخوذ بنفقة الولدة ولا تؤخذ المرأة بنفقة ولدها»(3).

وفی صحیح أبی خالد القماط قال: قلت لأبی عبدالله(علیه السلام):

«الرجل الأحمق الذاهب العقل یجوز طلاق ولیه علیه؟ قال: ولم لایطلق هو؟ قلت: لایؤمن ان طلق هو أن یقول هذا: لم أطلق أو لایحسن ان یطلق قال: ما أری ولیّه الا بمنزلة السلطان»(4)ومثله معتبر شهاب بن عبد ربه.

فرع:

قال بعض الاساطین من الفقهاء: تنتهی الحضانة ببلوغ الولد رشیدا فاذا بلغ الرشد لیس لاحد حق الحضانة علیه، حتی الابوین فضلا عن غیرهما، بل هو مالک لنفسه وکان له الخیار فی الانضمام الی من شاء

ص:430


1- (1) أبواب ما یکتسب به الباب 78 ح5.
2- (2) أبواب ما یکتسب به، الباب 78 ح7.
3- (3) أبواب ما یکتسب به، الباب 78 ح9.
4- (4) أبواب مقدمات الطلاق، ب35.

منهما، أو من غیرهما ذکراً کان أو انثی.

قال الشیخ فی المبسوط: فان کان الولد بالغاً رشیداً فلاحق لاحد الوالدین فیه، والخیار الیه فی المقام عند من شاء منهما، والانتقال عنهما ذکراً کان أو انثی، غیر انّه یکره للبنت ان تفارق امها حتی تتزوج، وقال بعضهم: لیس لها ان تفارق امها حتی تتزوج ویدخل بها الزوج(1).

ونظیر ذلک فی الشرائع والقواعد والمسالک وکذا عن ابن حمزة وغیره.

والظاهر ان تحدیدهم أمد الحضانة بالرشد دون مجرد البلوغ الوجه فیه عدم استقلال غیر الرشید فی التصرفات المالیة فلایمکنه رعایة نفسه، وتعبیر المبسوط والشرایع بولایة الابوین دون خصوص الحضانة اشمل لمطلق الرعایة لاسیما بعد ما مرّ من أن لکل من الأبوین نمط من الولایة یختلف عن الآخر. فللاب ولایة القیمومة والتأدیب وللام ولایة الحضانة والاکتناف، فکما تستمر حاجة البالغ غیر الرشید الی ولایة الاب فی تدبیر المال، فکذلک تستمر حاجته فی الکفالة والایواء، بل انّ جعل ولایة الاب علی الباکر البالغة الرشیدة فی الزواج بیان لاستمرار الحاجة فی الرعایة لقلّة التجربة وضعف الباکر حیاء عن الجرأة فی خوض ذلک المجال.

ثم انّه یدل علی استمرار ولایة الأبوین الی الرشد بعد البلوغ مادلّ علی الحجر علی الصبی وعدم استقلاله بالولایة حتی یبلغ ویرشد، وکذا عدم مجازاته بالحدود قبل البلوغ کما فی قوله تعالی: وَ ابْتَلُوا الْیَتامی حَتّی إِذا

ص:431


1- (1) المبسوط: ج6 ص39.

بَلَغُوا النِّکاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَیْهِمْ أَمْوالَهُمْ 1 وکذا الروایات المستفیضة(1) الواردة فی انقطاع الیتم بحیض الجاریة أو بلوغها التسعة وباحتلام الصبی أو بلوغه خمسة عشرة سنة وانّه حین ذاک تکتب علیه السیئات وتقام علیه الحدود، کما فصِّل الحال فی مسألة أحکام الصبی فی المعاملات.

لکنّ الظاهر انّ رعایة ومسؤولیة الصدّ عن المنکر والأمر بالمعروف والتی هی نمط من التأدیب تکون ألصق واوجب ما تکون علی الاب لعموم قوله تعالی: قُوا أَنْفُسَکُمْ وَ أَهْلِیکُمْ کما ان استحقاق الاب للتصرف فی أموال الولد البالغ الرشید عند حاجة الاب وحرمة عقوق الولد لأبیه هی جملة من الأحکام التی تبقی صلة للرحم فی نطاق ونمط ولایة اولی الأرحام بعضهم لبعض، فهی وان لم تکن ولایة قیمومة الا أنها ولایة تکافل وتناصر وتآزر بین اولی الأرحام ومن هذا الباب وجوب النفقة علی العمودین کما هو مقرر فی بحث النفاقات.

ص:432


1- (2) أبواب مقدمات العبادات، باب 4 وأبواب الحجر، الباب 2.

قاعدة:فی حرمة وقوع الفتنة الشهویة

اشارة

ص:433

ص:434

من قواعد باب النکاح:فی حرمة وقوع الفتنة الشهویة

اشارة

و موردها إما النظر أو اللمس أو السمع أو الشم ومطلق الخلطة والمباشرة ولو البعیدة.

وقبل عرض ادلة القاعدة نبین معنی الریبة.

معنی الریبة:
کلمات اهل اللغة:

قال فی مجمع البحرین فی مادة ریب: الریبة قلق النفس واضطرابها(1)، وقال فی اللسان: فتن. یقول أهل الحجاز: فتنته المرأة إذا ولّهته وأحبها، وفتن إلی النساء فتوناً وفتن إلیهن: أراد الفجور بهن، والفتنة إعجابک بالشیء، فتن الرجل یفتن فتوناً إذا أراد الفجور ... وقولهم: فتنت فلانة فلاناً: أمالته عن القصد ... والفتنة الفضیحة، وجاء فی الروایة: ما ترکت فتنة أضر علی الرجال من النساء، یقول: أخاف أن یعجبوا بهن، فیشتغلوا عن الآخرة والعمل لها(2) کلمات الفقهاء

فی کشف اللثام: الریبة ما یخطر بالبال من النظر دون التلذذ به ، أو

ص:435


1- (1) مجمع البحرین، ج2.
2- (2) لسان العرب، ابن منظور، مادة فتن.

خوف افتتان، ویمکن تعمیم الریبة للافتتان، لأنها من (راب) إذا وقع فی الاضطراب(1).

و قال صاحب الجواهر: إن المراد من الریبة خوف الوقوع معها فی محرم، ولعله هو المعبر عنه بخوف الفتنة(2).

وقال فی المستند: کلّ ما ذکر فیه جواز النظر فقد قیده الأکثر بعدم التلذذ والریبة، المفسّر تارة بما یخطر بالبال من المفاسد، وأخری بخوف الوقوع فی المحرم، وثالثة بخوف الفتنة والفساد والوقوع فی موضع التهمة(3).

وفی دلائل الإمامة للطبری: «فبقی یلح النظر إلیها، فقلت: یا سیدی، هل لک فیها من حاجة؟ فقال: إنا معاشر الأوصیاء لسنا ننظر نظر ریبة ولکنا ننظر تعجباً، أن المولود الکریم علی الله یکون منها»(4).

و استدل صاحب الجواهر والمستند علی حرمة النظر بریبة بالإجماع، وتسالم الأصحاب وبأنه القدر المتیقن من إشعار الروایات الواردة فی النظر، بل صریح بعضها:

کما ورد فی نظر المملوک إلی سیّدته، قال(علیه السلام): «لا بأس أن ینظر إلی شعرها إذا کان مأموناً»(5).

ص:436


1- (1) کشف اللثام، للفاضل الهندی، ج7، ص23.
2- (2) جواهر الکلام، ج29، ص70.
3- (3) مستند الشیعة للمحقق النراقی، ج16، ص60.
4- (4) دلائل الإمامة للطبری، ص490.
5- (5) وسائل الشیعة، أبواب مقدمات النکاح، باب 124، ح2.

وفی حسنة ربعی: أن الإمام علی(علیه السلام) کان یکره أن یسلم علی الشابة من النساء، وقال: «أتخوف أن یعجبنی صوتها، فیدخل من الإثم علی أکثر مما طلبت من الأجر»(1).

و کذا صحیحة ابنی عمار ویعقوب: «لا یحل للمرأة أن ینظر عبدها إلی شیء من جسدها، إلّا إلی شعرها غیر متعمّد لذلک»(2).

وکذا من الروایات الواردة فی الریبة وممنوعیتها روایة الفضل عن أبیه(3).

وفی الروایات أیضاً، أن النظرة من سهام إبلیس، وأن النظرة بعد النظرة تزرع فی القلب الشهوة وکفی بصاحبها فتنة(4).

ثمّ إن المحصل من الکلمات المتقدّمة فی تعریف الریبة ثلاثة تعاریف:

المعنی الأوّل: خوف الوقوع فی الحرام:

و هذا التعریف یشمل بإطلاقه ما لو کان الحرام هو النظر بتلذذ، فابتداء النظر وإن لم یکن بتلذذ إلّا أن خوف الوقوع فی التلذذ بقاءً یشمله التعریف، وإن کان یستظهر من هذا التعریف خصوص الأفعال الأخری من التقبیل واللمس والزنا، لکن إطلاق عنوان الحرام شامل لذلک، وعلی ضوء ذلک، فیکون غالب النظر ولو ابتداءً تتحقق فیه الریبة، فیوافق قول المشهور فی حرمة النظر مطلقاً، عدا ما کان ابتداءً عفویاً.

ص:437


1- (1) المصدر، باب (3) ح2.
2- (2) المصدر، باب 124، ح1.
3- (3) المصدر، باب 36، ح5.
4- (4) المصدر، باب 104، ح6.
المعنی الثانی: ما یخطر بالبال من النظر دون التلذذ به:

وقد یعبّر عنه ما یخطر فی البال عند النظر من المیل إلی الوقوع فی الحرام مع المنظور إلیه من تقبیل ونحوه، فالأخذ بإطلاقه أیضاً یقرب من المحصل من التعریف الأوّل، حیث إن مطلق المیل یقارب ویساور ویصدق علی بدایات الشوق للالتذاذ بالنظر وإن لم یقع الالتذاذ، وإذا جعلنا محور التعریف ما یخطر بالبال بسبب النظر من الخواطر الباعثة للتلذذ، فدائرة الریبة تقرب أیضاً مما تقدّم، لا سیما مع إطلاق عنوان الحرام فی التعبیر الآخر علی القول الثانی الشامل للتلذذ.

المعنی الثالث: خوف الافتتان:

وهو خوف الافتتان، فقد مرّ فی تعریف اللغویین أنه تارة بمعنی الوله وشوق النفس الشدید، وأخری بمعنی الإعجاب، وثالثة بمعنی الإمالة، ورابعة ما یخاف أن لو اطلع علیه غیره یقبحه ویذمه.

وقد ذکر بعض أعلام العصر أن النظر بریبة هو المیل النفسانی للوقوع بمحرم مع المنظور إلیه، وإن لم یصل إلی درجة الخوف من الوقوع فیه، وأن التلذذ أن یحس فی قلبه بوجود لذة محرمة، سواء من النظر أو السماع أو الشم أو غیرها، فهو یتشهّاها ویطلب المزید منها، وهی مختلفة المراتب بخلاف اللذة المحللة.

ویستدل للتقیید بالریبة بالإضافة إلی ما تقدّم بروایة الفقه الرضوی(1)

ص:438


1- (1) مستدرک الوسائل، المحدث النوری، أبواب مقدمات العبادات، باب 81، ح7.

المرویة عند العامة أیضاً، حیث جعل الرسول صلی الله علیه و آله یده علی وجه الفضل بن عباس یستره من النظر إلی أخت الأعرابی، وعلل ذلک فی طرق العامة للروایة ب «أخاف أن یدخل الشیطان بینهما».

أدلة القاعدة :
اولا : الآیات الکریمة:

قوله تعالی: وَ الَّذِینَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ .

وبهذه الدرجة من الافتتان یکون مندرجاً فی الالتذاذ، وبالتالی فالفتنة الجنسیة تندرج فی عموم تحریم الآیة، وبالتالی فقاعدة حرمة الفتنة فی الشهوة تندرج فی عموم حرمة الآیة.

واستدل أیضاً بطائفة من الآیات الواردة فی الأحکام، کقوله تعالی: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَیَطْمَعَ الَّذِی فِی قَلْبِهِ مَرَضٌ 1.

والآیة تتعرض إلی ما یثیر الفتنة من جهة کیفیة الصوت أو من جهة مادة الکلام ومضمونه، نظیر ما قیل فی الغناء أنه لا ینحصر بالکیفیة، بل یعم المضمون أیضاً.

وکذا قوله تعالی: وَ لا یَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِیُعْلَمَ ما یُخْفِینَ مِنْ زِینَتِهِنَّ 2. وقوله تعالی: وَ إِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ 3 .

ص:439

وکذا قوله تعالی: وَ لکِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً1.

ثانیا : الروایات .

منها:

1 - صحیح الکاهلی قال أبو عبد الله(علیه السلام): «النظرة بعد النظرة تزرع فی القلب الشهوة وکفی بها لصاحبها فتنة»(1) والفتنة تکون تعلیل التحریم.

فیثبت أن النظرة الثانیة حرام، وهذه الروایات بصدد بیان موضوع الحرمة، ولو بقرائن خارجیة، وبیان النظرة المحرمة والتعلیل لشیء محرم، فیظهر من الصحیح التعلیل لمورد التحریم فی النظر بأنه فی معرض تولید الشهوة الذی هو مصداق الفتنة، فهذا التعلیل نص بإطار عنوان القاعدة.

2 - ونظیر ذلک ما فی روایة الأربعمائة المشهورة عن أمیر المؤمنین(علیه السلام) قال:

«لکم أول نظرة إلی المرأة فلا تتبعوها نظرة أخری واحذروا الفتنة»(2).

3 - وفی المستدرک قال أمیر المؤمنین(علیه السلام):

«ذهاب النظر خیر من النظر إلی ما یوجب الفتنة»(3).

وفیه أیضاً:

«اللحظ رائد الفتن»(4).

ص:440


1- (2) مستدرک الوسائل، المحدث النوری، أبواب مقدمات العبادات، باب 81، ح7.
2- (3) وسائل الشیعة، أبواب مقدمات النکاح، باب 104، ح15.
3- (4) مستدرک الوسائل، النوری، أبواب مقدمات العبادات، باب 81، ح12.
4- (5) المصدر، باب 81، ح13.

وفسّرت الریبة والفتنة فی باب التشبیب الذی ذکروه فی المکاسب المحرمة بما یوجب ولو بعیداً تهییج القوی الشهویة من غیر الحلیل .

4 - واستدلوا علی تلک القاعدة أیضاً مضافاً إلی ما تقدّم فی باب التشبیب بموثّقة السکونی عن أبی عبد الله(علیه السلام)، قال: «سئل أمیر المؤمنین(علیه السلام) عن الصبی یحجم المرأة، قال: إذا کان یحسن یصف فلا»(1).

5 - وکذا بصحیح حفص بن البختری عن أبی عبدالله(علیه السلام)، قال: «لا ینبغی للمرأة أن تنکشف بین یدی الیهودیة والنصرانیة، فإنهن یصفن لأزواجهن»(2).

6 - وبما ورد من التعلیل فی المنع عن الخلوة بالأجنبیة، حیث جاء فی بعضها قوله(علیه السلام): «تحول منه فإن الرجل والمرأة إذا خلیا فی بیت کان ثالثهما الشیطان»(3).

وهناک روایات أخری فی أبواب مقدمات النکاح، کصحیح أو معتبرة مسمع بن أبی سیار(4) وهکذا أبواب الأمر بالمعروف(5)، بل قد ورد من الأحکام ما یشیر إلی بیان العزلة بین الطرفین ولو من بعد، کما فی کراهة جلوس الرجل فی مکان المرأة حتی یبرد المکان کما فی موثّقة السکونی(6)،

ص:441


1- (1) وسائل الشیعة، أبواب مقدمات النکاح، ب130، ح2.
2- (2) وسائل الشیعة، أبواب مقدمات النکاح، باب 8، ح6.
3- (3) المصدر، أبواب أحکام الإجارة، باب 31.
4- (4) المصدر، أبواب مقدمات النکاح، باب 99.
5- (5) المصدر، أبواب الأمر بالمعروف، ب 38، ح22.
6- (6) المصدر أبواب مقدمات النکاح باب 145 ح1.

وفی صحیحة ابن أبی یعفور قال: «قلت لأبی عبدالله(علیه السلام): بم تعرف عدالة الرجل بین المسلمین حتی تقبل شهادته لهم وعلیهم، فقال: أن تعرفوه بالستر والعفاف وکف البطن والفرج والید واللسان»(1)، فغیر العفیف یخل بالعدالة، وما یخل بالعدالة وجوبی، فما یؤخذ فی حد العدالة لا بدّ أن یکون حکماً إلزامیاً.

وقد أفتی الأصحاب بأن خضوع المرأة فی الصوت بتغنج یحرم، وکذلک مفاکهة الرجل للمرأة، وما قد یعبّر عنه بالرفث فی الکلام بین الأجنبی والأجنبیة.

ومجمل هذه الأحکام أعزاها الأصحاب إلی أنها منحدرة من أصل تشریعی فوقی، وهو ما دل علی حرمة الفحشاء ولزوم العفاف بین المؤمنین، کقوله تعالی: إِنَّ اللّهَ یَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إِیتاءِ ذِی الْقُرْبی وَ یَنْهی عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْکَرِ وَ الْبَغْیِ یَعِظُکُمْ وقوله تعالی: إِنَّ الَّذِینَ یُحِبُّونَ أَنْ تَشِیعَ الْفاحِشَةُ فِی الَّذِینَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِیمٌ فِی الدُّنْیا وَ الْآخِرَةِ 2.

هذا تمام الکلام فی قاعدة الفتنة، وهی من أدلة حرمة النظر المبحوثة فی محلها من کتاب النکاح.

ص:442


1- (1) المصدر، باب الشهادات، باب 41.

قاعدة:عدم بطلان الإحرام ببطلان النسک

اشارة

ص:443

ص:444

من قواعد باب الحج:عدم بطلان الاحرام ببطلان النسک

اشارة

الکلام فی القاعدة یقع فی مقامین :

المقام الأول: مقتضی القاعدة:

مقتضی القاعدة فی المقام یحرّر تارة علی القول بشرطیة الاحرام فی النسک، وأخری بناءً علی جزئیته.

فعلی الأول لا یفسد الاحرام بفساد النسک، لأن ذات الشرط عبادة مستقلة فی نفسه وصالح أن ینضم إلی أی نوع من أنواع النسک.

و عن المبسوط والوسیلة والمهذب والتذکرة فی مسألة تعین النسک فی النیّة للاحرام انّه یجوّز انشاء الاحرام من دون تعیین، ثمّ صرفه إلی نسک معین لأنه شرط، ووافقهم علی ذلک فی کشف اللثام.

مضافاً إلی ما سنذکره من وجه لصحّة الاحرام علی القول بالجزئیة أیضاً ومن ثمّ ورد فی موارد عدیدة التحلل بالعمرة من فساد الحج وبعضه منصوص، والآخر التزم به المشهور من دون نص ولعلّه لبنائهم علی ما ذکرنا بل انّ النصوص فی الموارد المزبورة صالحة لأن تخرج وجهاً ثالثاً لعدم فساد الاحرام بفساد النسک، وقد ذکرنا فی بحث الحج انّ الأصح کون

ص:445

الاحرام شرطاً(1)، والبحث فی المقام جار فی موارد الخلل المبطل للنسک.

أما علی القول بالجزئیة فمقتضی القاعدة الفساد لفساد الجزء الارتباطی لعدم تعقبه ببقیة الاجزاء.

ولکن قد یقال:

بأن قصد النسک ان کان بنحو الداعی فلا یبطل الاحرام لکون قصده متعلقاً بالأمر الواقعی، فیکون من باب الاشتباه فی التطبیق، بخلاف ما إذا نوی بنحو التقیید إلا انّه قلیل الوقوع.

فانه یقال:

انّ قصد النسک وان کان متصور بکل من القسمین، إلا انّ فرض ذلک من الملتفت إلی تباین أنواع النسک ممتنع، مضافاً إلی انّ الأمر الواقعی قد یکون مردداً بین أنواع متعددة من النسک نعم فی خصوص فرض المقام وموارد الخلل الکثیرة هو متعین فی العمرة المفردة.

فالحاصل انّ هذا الوجه تام فی الجملة فی الموارد المتوفرة علی القیود التی أشرنا الیها.

المقام الثانی: مقتضی الروایات:

أمّا بحسب الروایات:

1 - قد استدل بمعتبرة أبی جعفر الأحول عن أبی عبدالله(علیه السلام) فی رجل

ص:446


1- (1) سند العروة الوثقی - کتاب الحج: ج1، ص65 - 68.

فرض الحج فی غیر أشهر الحج قال:

«یجعلها عمرة»(1).

و قد یخدش فیها تارة بالسند بأن طریق الصدوق مشتمل علی محمد بن علی بن ماجیلویه وهو لم یوثق.

و فیه: انّه من مشایخ الصدوق وقد ترضّی عنه واعتمده فی المشیخة فی العدید من الطرق إلی الکتب، وقد صحح العلّامة بعضها مضافاً إلی کونه من القمیین ولهم مصاهرة مع بیت البرقی ولم یرو فیه طعن منهم کل ذلک مما یدل علی صلاح الحال ولا أقل من حسن الظاهر.

و أخری بالدلالة بأن الروایة لیست صریحة فی انشائه للاحرام اذ قول الراوی «رجل فرض الحج» محتمل لإرادة نیة الحج التی اطلق علیها فی الروایات لفظة فرض الحج، ومن ثمّ یکون معنی جعلها عمرة یعنی انشاء الاحرام لها.

واشکل أیضاً:

بأن موردها انشاء الحج لا انشاء عمرة التمتع فلا یتعدی منه إلی غیره.

وفیه:

انّ کلمة «فرض» فعل ماضی ظاهر فی التحقق وانشاء الحج نظیر قوله تعالی الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِیهِنَّ الْحَجَّ 2 وقد استعمل الفرض فی الروایات بمعنی التلبیة بالاشعار والتقلید ففی صحیح معاویة

ص:447


1- (1) الوسائل باب 11 من أبواب أقسام الحج ح7.

بن عمّار عنه(علیه السلام)

«فأی ذلک فعل فقد فرض الحج ولا یفرض الحج إلا فی هذه الشهور»(1).

وأمّا اختصاص موردها بالحج فالعنوان مطلق لم یقید بحج الافراد أو القران فهو شامل للتمتع، مضافاً إلی فهم عدم الخصوصیة لو سلّمنا اختصاص موردها لأنه من جهة فساد النسک لعدم صلاح الظرف له وهو مشترک بین انواع الحج مع الارتهان بالاحرام، فجعلها عمرة لأجل التحلل لا لکونها بدل أو عقوبة أو کفارة عن النسک الفاسد، ولأجل ذلک یستفاد من الروایات الواردة فی التحلل بالعمرة فی موارد الخلل المبطل للحج عدم بطلان الاحرام ببطلان النسک وان الأمر بالعمرة لأجل التحلل منه.

ثمّ انّه لا یخفی انّ التعبیر (یجعلها) ظاهر فی تبدیل ما قد فرضه وهو قرینة ثانیة لکون مورد سؤال الراوی هو عن الحکم بعد انشاء الاحرام.

2 - واستدلّ بمعتبرة سعید الأعرج قال أبو عبدالله(علیه السلام):

«من تمتع فی أشهر الحج ثمّ أقام بمکّة حتی یحضر الحج من قابل فعلیه شاة، ومن تمتع فی غیر أشهر الحج ثمّ جاور حتی یحضر الحج فلیس علیه دم انّما هی حجّة مفردة. وانّما الاضحی علی أهل الأمصار»(2).

واشکل علی سنده:

باشتماله علی محمد بن سنان والحال فیه معروف فلا یضر باعتبار السند.

ص:448


1- (1) الوسائل باب 11 من أبواب أقسام الحج ح2.
2- (2) وسائل باب 11 من أبواب أقسام الحج ح1.

وأشکل علی الدلالة: بأنّها غیر متعرضة لصحّة العمرة، وانّها فی المجاور ولا یتعدی إلی غیره.

وفیه: انّ الروایة وإن لم تصرح بحکم العمرة التی أقامها بعنوان التمتع فی غیر أشهر الحج، إلا انّ حکمه(علیه السلام) بنفی الهدی وإن حجته مفردة دال علی أن ما أوقعه من العمرة غیر مرتبط بالحج أی مفردة قد استحل بها دخول مکة، ومن ثمّ فرض فیها الجوار والمراد من الجوار هنا کما فی روایات أخری أیضاً هو مطلق من أقام بمکة قبل أشهر الحج ولو بشهر أو أیّام ثمّ تدخل علیه أشهر الحج فالروایة لا تخلو من دلالة فوق حدّ الاشعار.

فائدة :

ان المدار فی شهر العمرة علی المجموع:

ثمّ انّه ظاهر الروایتین فی هذه المسألة وکذا الروایات التی ذکرناها فی سند العروة کتاب الحج الدالّة علی لزوم ظرفیة الحج فی الأشهر الثلاثة کون انشاء الاحرام لعمرة التمتع أوالحج الافراد لا بد من وقوعه فی شوال وما بعد ومقتضاه انّ احتساب شهر العمرة بایقاع مجموع العمرة فیه لا مجرّد الاحلال ولا مجرّد الاحرام ولا بمعظم العمل بل قول رابع وهو بمجموعه وإلا لصحّ أن ینشأ احرام عمرة التمتع فی آخر شهر رمضان ویأتی بأعمال العمرة فی شوال مع أن الروایات المزبورة قاضیة بالبطلان.

ص:449

ص:450

قاعدة:فی تقوّم مشروعیة التمتع بالإحرام من بُعْد

اشارة

ص:451

ص:452

من قواعد باب الحج:فی تقوّم مشروعیة التمتع بالإحرام من بعد

اشارة

و یتم الکلام فی تحریرها مضافاً إلی الاحاطة بما ذکرنا فی سند العروة (کتاب الحج) فصل اقسام الحج.

وتنقیح الکلام فیها یقع مستهلاً بما ذکره السید الفقیه الیزدی فی العروة الوثقی کتاب الحج :

فقال فی مسالة (4) من اقسام الحج: (المقیم فی مکة إذا وجب علیه التمتع کما إذا کانت استطاعته فی بلده أو استطاع قبل انقلاب فرضه فالواجب علیه الخروج إلی المیقات لاحرام عمرة التمتع، واختلفوا فی تعیین میقاته علی أقوال:

أحدها: أنه مهلّ أرضه، ذهب إلیه جماعة، بل ربما یسند إلی المشهور کما فی الحدائق، لخبر سماعة عن أبی الحسن(علیه السلام) سألته عن المجاور أله أن یتمتع بالعمرة إلی الحج؟ قال(علیه السلام): نعم یخرج إلی سهل أرضه فلیلبّ إن شاء. المعتضد بجملة من الأخبار الواردة فی الجاهل والناسی الدالّة علی ذلک بدعوی عدم خصوصیة للجهل والنسیان، وانّ ذلک لکونه مقتضی حکم التمتّع. وبالأخبار الواردة فی توقیت المواقیت، وتخصیص کلّ قطر بواحد منها أو من مرّ علیها، بعد دعوی أنّ الرجوع إلی المیقات غیر المرور علیه.

ثانیهاً: أنه أحد المواقیت المخصوصة مخیراً بینها، وإلیه ذهب جماعة

ص:453

اخری، لجملة اخری من الأخبار مؤیّدة بأخبار المواقیت، بدعوی عدم استفادة خصوصیة کلّ بقطر معیّن.

ثالثها: أنه أدنی الحلّ، نقل عن الحلبی، وتبعه بعض متأخری المتاخرین لجملة ثالثة من الأخبار، والأحوط الأول وان کان الأقوی الثانی، لعدم فهم الخصوصیة من خبر سماعة، وأخبار الجاهل والناسی، وانّ ذکر المهلّ من باب أحد الافراد، ومنع خصوصیة للمرور فی الأخبار العامّة الدالّة علی المواقیت وأما أخبار القول الثالث فمع ندرة العامل بها مقیّدة بأخبار المواقیت، أو محمولة علی صورة التعذّر، ثمّ الظاهر انّ ما ذکرنا حکم کلّ من کان فی مکّة واراد الاتیان بالتمتع ولو مستحبّاً هذا کله مع امکان الرجوع إلی المواقیت، وأما إذا تعذّر فیکفی الرجوع إلی أدنی الحلّ، بل الاحوط الرجوع إلی ما یتمکّن من خارج الحرم ممّا هو دون المیقات وان لم یتمکّن من الخروج إلی أدنی الحلّ أحرم من موضعه، والأحوط الخروج إلی ما یتمکّن)(1) انتهی کلامه (رحمه الله).

الأقوال فی القاعدة:

ذهب إلی القول الأول الشیخ وأبو صلاح ویحیی بن سعید والمحقق فی النافع والفاضل فی جملة کتبه، وذهب إلی القول الثانی المحقق فی ظاهر الشرائع والنهایة والمقنع والمبسوط والارشاد والقواعد بمقتضی ظاهر اطلاقهم، وعن الدروس التصریح بذلک وکذا المسالک والروضة.

ص:454


1- (1) العروة الوثقی - کتاب الحج.

وذهب للقول الثالث الحلبی فی الکافی قال: ومیقات المجاور میقات بلده ویجوز له أن یحرم من جعرانة وإن ضاق علیه الوقت فمن خارج الحرم(1).

ونسب أیضاً إلی المقدس الأردبیلی، وقوّاه فی المدارک، واستحسنه فی الکفایة.

أدلة الأقوال:
اشارة

و استدلّ للقول الأول:

أولاً: بالروایات الواردة فی المواقیت الدالّة علی انّ لکل قطر میقات.

وفیه: انّ ظاهر تلک الروایات فی الخارج عن محدودة المواقیت لا فی المقیم فی مکة وإن کان من أهالی ذلک القطر والبلد.

نعم غایة ما یمکن أن یدّعی مشروعیة میقات أهل بلده لو ذهب إلیه لا انّه ملزم بالذهاب إلیه بمفاد تلک الروایات والکلام فی الثانی.

ثانیاً: بأنه مقتضی أصالة الاحتیاط عند الدوران بین التعیین والتخییر.

وفیه: إنَّما تصل النوبة إلیه بعد عدم دلالة الأخبار علی غیره، مع اننا ذکرنا فی بحث المواقیت من سند العروة (کتاب الحج) عدم کون مقتضی الأصل التعیین عند الدوران مطلقاً.

وثالثاً: بالروایات الخاصّة:

ص:455


1- (1) الکافی: ص202.

مثل موثق سماعة عن أبی الحسن(علیه السلام) قال: «سألته عن المجاور أله أن یتمتع بالعمرة إلی الحج قال: نعم یخرج إلی مهل أرضه فیلبی، إن شاء»(1).

و أشکل علی طریقها بضعف معلّی بن محمد بتضعیف النجاشی له، ولکنه صاحب کتاب وقد روی الأصحاب عنه کثیراً وطعن النجاشی لا ینافی الوثاقة، واشکل علی الدلالة تارة بوجود لفظة «إن شاء» بأنه من التعلیق علی المشیئة فیکون مورده من الحج المستحب.

و فیه: إنه لا فرق ظاهر بین شرائط الماهیة للواجب والمستحب. وأخری أن «إن شاء» تعلیق لخروجه للمیقات فلا یدل علی تعین میقات مهل أرضه، وهذا وإن کان محتملًا إلا انّ الأظهر رجوعه لأصل الحج لأنه محور سؤال السائل وجواب الامام(علیه السلام).

و استدلّ أیضاً بالروایات الواردة فی الناسی والجاهل(2) بدعوی أنها تشیر إلی مقتضی القاعدة.

و فیه: انّه حرر فی المواقیت من سند الحج انّ مقتضی القاعدة هو الاحرام من أی میقات وأنّ المدار علی المرور، وانّما ورد فی الجاهل والناسی فیحتمل بل ظاهر فی خصوصیة حصول المرور علی المیقات، هذا مع انّ المجاور لیس المفترض فیه المرور علی المواقیت من غیر احرام بل فیمن دخل باحرام ونسک ثمّ أقام.

و استدلّ للقول الثانی:

ص:456


1- (1) الوسائل، باب 8، من أقسام الحج، ح1.
2- (2) الوسائل باب 14 من أبواب المواقیت.
أولا: بالروایات الخاصة:

بموثق سماعة بن مهران عن أبی عبد اللّه(علیه السلام) فی حدیث قال:

«وان اعتمر فی شهررمضان أو قبله وأقام إلی الحج فلیس بتمتع وأنما هو مجاور أفرد العمرة، فإن هو أحب أن یتمتع فی أشهر الحج بالعمرة إلی الحج فلیخرج منها حتی یجاور ذات عرق أو یجاوز عسفان فیدخل متمتعاً بالعمرة إلی الحج، فإن هو أحب أن یفرد الحج فلیخرج إلی الجعرانة فیلبی منها»(1).

و الصحیح إلی حریز عمّن أخبره عن أبی جعفر(علیه السلام) قال:

«من دخل مکة بحجّة عن غیره ثمّ أقام سنة فهو مکی فإذا أراد أن یحج عن نفسه أو أراد أن یعتمر بعد ما انصرف من عرفة فلیس له أن یحرم من مکة ولکن یخرج إلی الوقت، وکل ما حول (حوله) رجع إلی الوقت»(2).

و خبر إسحاق بن عبد الله قال:

«سألت أبا الحسن(علیه السلام) عن المعتمر [المقیم] یجرّد الحج أو یتمتع مرة أخری، فقال: یتمتع أحبّ إلیّ ولیکن إحرامه من مسیرة لیلة أو لیلتین»(3).

و اشکل علی دلالة الأولی باشتمالها علی عسفان التی هی لیست من المواقیت. وعلی الثانیة بضعف السند، وعلی الثالثة بضعف السند واضطراب الدلالة حیث انّ أقرب المواقیت لا تطوی بلیلة مع انّ المناسب بالتردید

ص:457


1- (1) الوسائل، باب 10، من أبواب أقسام الحج ح2.
2- (2) الوسائل باب 9 من أبواب أقسام الحج ح9.
3- (3) الوسائل، باب 4 من أبواب أقسام الحج ح20.

ذکر ما یزید علی اللیلتین للمواقیت البعیدة.

و فیه: انّ عسفان علی بعد مرحلتین من مکة أی بقدر أقرب المواقیت لمکة کذات عرق وقرن المنازل ویلملم، وانّ من لم یمر علی میقات یسوغ له الاحرام بمحاذاة أحدها وإن لم تکن محاذاة یمین أو یسار بل محاذاة بمعنی تساوی البعد فیحرم بقدر بعد أقرب میقات إلی مکة لأنه معنی المحاذاة عندنا کما حررناه فی محله ، ومن ثمّ یسوغ لمن یذهب إلی مکة عن طریق جدة أن یحرم منها لأنها بقدر ذلک کما حرر فی بحث المواقیت مفصلاً، وفی مرسل الصدوق قال:

«وانّ رسول الله صلی الله علیه و آله اعتمر ثلاث عمر متفرقات کلّها فی ذی القعدة عمرة أهلّ فیها من عسفان وهی عمرة الحدیبیة ...»(1).

ویشهد لذلک أیضاً تحدید النائی بکل من ذات عرق وعسفان فیشرع لمن دویرته منها وما وراءها التمتع والاحرام منها، وأمّا الروایة الثانیة فلیس الارسال فیها بذلک الضعف لا سیّما وانّ ظاهر الارسال لیس من حریز وانّما نسیان من روی عن حریز بقیة السند، لا سیّما وانّ حریز بتلک المنزلة وأکثر روایاته عن الکبار.

وأما الروایة الثالثة: فتصلح معاضدة، وأما دلالتها فتامّة اذ اللیلة تکون کنایة عن المسیر مقدار لیل ونهار وهی فی سیر القوافل یطوی بها مرحلتان کما فی صلاة المسافر فضلًا عمّا کان علی دابّة سریعة، ومن ثمّ تکون اللیلتان کنایة عن الجحفة التی هی علی أربع مراحل.

وثانیاً: بمقتضی القاعدة

نظراً للروایات الدالّة علی توقیت رسول

ص:458


1- (1) الوسائل، باب 22 من أبواب المواقیت.

الله صلی الله علیه و آله لأهل کل قطر ومن یلیهم میقات وظاهرها تعیین ذلک المیقات، وغایة الأمر یرفع الید عن لزوم خصوص ذلک المیقات بالتخییر بینه وبین المواقیت البعیدة بالروایات الواردة علی انّ من مرّ علی أحد تلک المواقیت جاز له الاحرام منها.

وفیه: انّ ظاهر تلک الروایات فی الخارج عن محدودة المواقیت، وأجیب بصدق المرور علیها لمن یقصد الحج من مکة، وهو ضعیف اذ لیس الکلام فی مشروعیة الاحرام منها أو وجوبه بعد الخروج الیها، انّما الکلام فی الالزام بالخروج الیها وتعینها علی المقیم قبل خروجه، فالأولی تقریر مقتضی القاعدة بالآیة الکریمة المشرّعة لمتعة النائی دون الحاضر، وذلک بعد تفسیر النائی بالذی یبعد عن مکة بمرحلتین أی بمقدار بعد أقرب المواقیت البعیدة، وإن کان مکیاً کما ذکرنا فی المسألة الثانیة من فصل المواقیت ، والحاضر بمن دون تلک المسافة وإن کان آفاقیاً بعد السنتین کما ذکرنا فی المسألة الثالثة من فصل المواقیت أی انّ مقتضی الروایات المفصلة فی المجاور قبل السنتین وبعدها ادراج المجاور قبلها فی النائی، والنائی بحسب کبری الآیة هو الذی یشرع له التمتع، وقد ذکرنا فی المسألة الثالثة الانفة الذکر تفسیر انّ نفی مشروعیة المتعة لأهل مکة هو نفی مشروعیتها من قرب أی من أدنی الحلّ أو من مکة وانّها مشروعة لهم إذا ابتعدوا.

ویستدل للقول الثالث: بالروایات الخاصة:

کصحیحة أبی الفضل- وهو سالم الحنّاط بقرینة روایة صفوان عنه- قال:

«کنت مجاوراً بمکة فسألت أبا عبدالله صلی الله علیه و آله : من أین أحرم بالحج؟ فقال: من حیث أحرم رسول الله صلی الله علیه و آله من الجعرانة أتاه فی ذلک المکان فتوح، فتح الطائف وفتح خیبر والفتح فقلت: متی أخرج؟ قال: إن کنت صرورة

ص:459

فاذا مضی من ذی الحجة یوم، فإذا کنت قد حججت قبل ذلک فاذا مضی من الشهر خمس».

و حسنة- کالمعتبرة- حمّاد قال: «سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن أهل مکة، أ یتمتعون؟ قال: لیس لهم متعة، قلت: فالقاطن بها، قال: إذا أقام بها سنة أو سنتین صنع صنع أهل مکة، قلت: فإن مکث الشهر قال: یتمتع، قلت: من أین [یحرم]؟ قال: یخرج من الحرم، قلت: من أین یهلّ بالحج؟ قال: من مکة نحواً مما یقول الناس»(1).

و صحیح الحلبی قال: «سألت أبا عبدالله(علیه السلام): لأهل مکة أن یتمتعوا؟ فقال: لا لیس لأهل مکة أن یتمتعوا، قال: قلت فالقاطنین بها قال: إذا أقاموا سنة أو سنتین، صنعوا کما یصنع أهل مکة، فاذا أقاموا شهراً فإن لهم ان یتمتعوا قلت من أین قال یخرجون من الحرم، قلت: من أین یهلّون بالحج؟ فقال: من مکة نحواً مما یقول الناس»(2).

و موثق سماعة عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: «المجاور بمکة إذا دخلها بعمرة فی غیر أشهر الحج فی رجب أو شعبان أو شهر رمضان أو غیر ذلک من الشهور الا أشهر الحج فانّ أشهر الحج شوال وذی القعدة وذی الحجة، من دخلها بعمرة فی غیر أشهر الحج، ثمّ أراد أن یحرم فلیخرج إلی الجعرانة فیحرم منها، ثمّ یأتی مکة ولا یقطع التلبیة حتی ینظر إلی البیت ثمّ یطوف بالبیت ویصلّی رکعتین عند مقام ابراهیم(علیه السلام) ثمّ یخرج إلی الصفا

ص:460


1- (1) الوسائل، باب 9، من أبواب أقسام الحج ح6.
2- (2) الوسائل، باب 9، من أقسام الحج ح7.

والمروة فیطوف بینهما، ثمّ یقصر ویحلّ ثمّ یعقد التلبیة یوم الترویة»(1).

أما روایة حمّاد فیشکل علی دلالتها بأن قوله(علیه السلام)

«یخرج من الحرم» مطلق فیقید بما سبق بخروجه إلی الوقت فی قبال ذیل الروایة حیث جعل الاهلال بالحج من مکة وکذلک الحال فی صحیحة الحلبی.

و أما موثق سماعة فهو مطلق من حیث الاضطرار وعدمه فیمکن تقیده بالاضطرار لأن الروایات المتقدمة الدالّة علی الوقت مخصصة بغیر الاضطرار لما ورد بأن المضطر(2) یحرم من حیث أمکنه فتنقلب نسبتها معها.

و بعبارة أخری: یکون من قبیل انقلاب النسبة بتوسط روایات الاضطرار، وحمل الروایات المطلقة علی الاضطرار غیر عزیز لا سیّما فی باب الحج نظیر الروایات المطلقة الواردة فی تأخیر الاحرام إلی الجحفة المحمولة علیه، وکذلک الروایات المطلقة بتقدیم المتمتع طوافه وسعیه علی الوقوف، مضافاً لاعتضاد الروایات المتقدمة بمفاد الآیة المبین لاشتراط التمتع بالبعد، کما ذکرنا فی صدر فصل المواقیت من أنها فی صدد تحدید مشروعیة التمتع بالاحرام من الموضع النائی والحاضر لیس له إلا الافراد أعم من المندوب والواجب، ویساعده التعبیر فیها «فمن تمتع» کالتعلیق علی ارادته ومطلق المشروعیة أعم منها، ویشهد لذلک أیضاً نفی مشروعیة التمتع مطلقاً لأهل مکة أی من قرب سواء الواجب أو المندوب، ویشهد

ص:461


1- (1) وسائل باب 8، من أقسام الحج، ح2.
2- (2) وسائل باب 14، و 15، و 16، من أبواب المواقیت.

له أیضاً مشروعیة التمتع لأهل مکة عند خروجهم إلی الموضع النائی کما فی (المسألة 2 من المواقیت)(1) سواء اختصت روایاتها بالمندوب أو الواجب والاعم، ویشهد له أیضاً ما ورد فی تحدید النائی والحاضر تفسیر الآیة بالثمانیة والاربعین وهی حد أدنی المواقیت البعیدة.

هذا ولکن قد یجاب عن هذا الحمل بأن ما ورد فی المسألة الثالثة من المواقیت من التفصیل فی المجاور بین تمام السنتین وقبلها. بأن حکمه بعد السنتین حکم أهل مکة وقبل السنتین تجوز له المتعة فإن الجواز المزبور إن کان من علی بعد فلم یفترق حال المجاور قبل السنتین وبعدها، لأن أهل مکة أیضاً یجوز لهم التمتع من بعد کما ذکرنا فی المسألة الثانیة فی هذا المواقیت، فالتفصیل لا محالة یکون بلحاظ جواز ایقاع التمتع من قرب قبل المدة بخلافه بعدها، ولعل ذلک تخفیف من الشارع علی المجاور اذ قد یکون آت بنسک سابق من المواقیت البعیدة من زمن قریب، أو یکون للتفصیل بلحاظ وجوب التمتع قبل السنتین من المواقیت البعیدة وجوباً تعینیاً علیه أما بعد السنتین فیتعین علیه الافراد ما دام حاضراً لدی المسجد الحرام، نعم، إذا ابتعد ونأی یتبدل لدیه الموضوع فیکون المکی مخیراً کما فی المسألة المتقدمة. والجواب الثانی هو العمدة.

ثمّ انّ السید الیزدی ذکر انّ هذا حکم من کان فی مکة وأراد الاتیان بالتمتع ولو مستحباً وما أفاده واضح بحسب الروایات المتقدمة حیث انّ عدّة من الروایات التی وردت لم تاخذ عنوان المجاور والمقیم فی الموضوع

ص:462


1- (1) سند العروة الوثقی ج2، ص169 کتاب الحج.

بل عنوان من دخل بنسک ثمّ أراد أن یتمتع مضافاً إلی ما عرفت انّ ذلک مقتضی القاعدة فی ماهیة التمتع فانّها متقوّمة بالاحرام من أحد المواقیت البعیدة ولا أقل من أقربها وهو حدّ النائی کما هو مقتضی الآیة.

و أما أهل مکة إذا أرادوا التمتع استحباباً فکذلک لما عرفت من أن مفاد الآیة فی تحدید ماهیة التمتع للاحرام من بعد، مضافاً إلی ضمیمة ما ذکرنا من الروایات فی المسألة الثانیة فی المکی إذا خرج إلی بعض الأمصار.

هذا وإن کان احرام أهل مکة من أدنی الحلّ کما سیأتی کما فی صحیح أبی الفضل(1) وصحیح عبد الرحمن بن الحجاج(2) وغیرهما من الروایات، إلا انّها اما خاصّة فی حج الافراد أو عامّة تعمّ العمرة المفردة فلا اطلاق فیها للتمتع وهکذا صحیح عمر بن یزید عن أبی عبدالله(علیه السلام) «قال: من أراد أن یخرج من مکة لیعتمر، أحرم من الجعرانة أو الحدیبیة أو ما أشبهها»(3).

و لو سلم اطلاقها لعمرة التمتع فقد عرفت انّ الروایات الواردة فی المسألة الثانیة فی المکی إذا خرج انّها شاملة للحج الندبی وان فیها تقریر لارتکاز السائل بعدم المشروعیة من قرب، مضافاً لما عرفت من عموم مفاد الآیة فی تحدید ماهیة التمتع بالاحرام من بعد ونسبتها من وجه مع الروایات الدالّة لأدنی الحلّ لو سلم اطلاقها لحج التمتع.

ثمّ انّ هذا کلّه مع امکان الرجوع للمواقیت البعیدة أما مع التعذر

ص:463


1- (1) الوسائل، باب 9، من أبواب أقسام الحج ح6.
2- (2) الوسائل، باب 9، من أبواب أقسام الحج ح2.
3- (3) الوسائل، باب 22، من أبواب المواقیت، ح1.

فیکفی الرجوع لأدنی الحلّ لما عرفت من روایات القول الثالث المحمولة علی الاضطرار ولما حرر فی المواقیت من انّه مقتضی القاعدة عند التعذر، کذا فی حکم الابتعاد عن أدنی الحلّ بقدر ما یمکنه وإن لم یتمکن فمن موضعه وان هذا هل یعم التمتع الندبی کما هو الصحیح أم یخص الواجب.

ص:464

قاعدة:فی صحة النسک مع الخلل غیر العمدی فی الطواف والسعی

اشارة

ص:465

ص:466

من قواعد باب الحج:فی صحة النسک مع الخلل غیر العمدی فی الطواف والسعی

الأقوال:

حکی الاجماع علی البطلان مع الترک عمداً وإن کان عن جهالة واستدل له بالروایتین الآتیتین إلّا أنه أشکل دلالتهما المحقق الاردبیلی وحمل الاعادة علی اعادة الطواف لا الحج ومال فی الحدائق إلی حمل الروایة علی إعادة الطواف وأن عمدة الدلیل فی العامد فی إعادة الحج هو الاجماع فلم یلتزم بإعادة الحج فی غیر العامد وتمسک بنفی البدنة والاعادة بدلیل الرفع.

الأدلة:

اما الروایتان:

1 - فصحیحة علی بن یقطین

«قال سألت ابا الحسن عن رجل جهل أن یطوف بالبیت طواف الفریضة، قال: إن کان علی وجه جهالة فی الحج أعاد وعلیه بدنه»(1).

2 - وروایة علی بن أبی حمزة قال: سئل عن رجل جهل ان یطوف

ص:467


1- (1) الوسائل، باب 56، من أبواب الطواف ح1.

بالبیت حتی رجع إلی أهله قال: «إذا کان علی وجه جهالة أعاد الحج وعلیه بدنة»(1).

ثمّ أن فی طریق الصدوق قال

(سها أن یطوف)(2)فالروایة علی الصورة الثانیة محمولة علی الاستحباب لما دل علی صحة الحج مع السهو والنسیان ولا کفارة علیه إلّا أن یواقع أهله لما دل علی لزوم بعث الهدی فی الناسی للطواف إذا واقع أهله ومفهومها عدم الکفارة مع عدم الجماع.

وفی موثقة اسحاق بن عمار

«فی المرأة تطوف وهی حائض وتقضی النسک ثمّ واقعها زوجها» فقال «علیها سوق بدنه والحج من قابل»(3)الحدیث.

إلّا أنها فی تعمد ترک الطواف، وعلی أی تقدیر فصحیحة علی بن یقطین فی الجهل بالحکم مع تعمد ترک الموضوع ولیست فی الجهل فی الموضوع وکذلک روایة علی ابن أبی حمزة فی طریق الشیخ مع أن دلالة روایة علی بن یقطین بدرجة الظهور لا الصراحة لأن الاعادة تستعمل فی الخلل فی العبادات بقضاء الجزء المتروک بلحاظ أن محله قد فات الذی ینبغی أن یؤتی به فیه وأما روایة علی بن أبی حمزة فصورتها مختلفة کما عرفت.

والحاصل: ان اطلاقات ادلة جزئیة الطواف وان اقتضت الرکنیة إلّا أن المقابلة بین ما ورد فی الروایتین فی الناسی للطواف من صحة حجه ولزوم قضاء الطواف علیه خاصة لا یبعد الاستفادة منه عموم صحة الحج

ص:468


1- (1) الوسائل، باب 56، من أبواب الطواف ح2.
2- (2) من لا یحضره الفقیه ح2 ص256 ح1240.
3- (3) الوسائل، باب 19 من أبواب کفارات الاستمتاع.

لتارک الطواف عن غیر عمد للنسیان أو للغفلة أو الجهل بالموضوع أو الجهل بتحقق الشرائط خارجاً. أی ان هذا البحث مطرد فی کل شرائط الطواف بل السعی أیضاً من أن الخلل تارة من جهة الجهل بالحکم وأخری من جهة الجهل بالموضوع وانه هل یطرد ما ورد فی صحة النسک مع نسیانها فی مطلق الخلل من جهة الموضوع أی غیر العمد أو لا؟

وظاهر کلمات المشهور هی علی اعادة الحج فی خصوص العامد حتی انه قد استظهر من تقییدهم بالعامد خصوص العالم واحتیج فی تعدیته إلی الجاهل إلی الاستدلال بالروایة المتقدمة أو تصریح بعضهم کالشیخ، فلا یظهر من کلماتهم فی المقام بطلان النسک بالترک غیر العمدی وان کان بسبب الجهل بالموضوع کجهله بوجود الحاجب علی اعضاء الوضوء فطاف بغیر طهارة.

وقال الشیخ فی الخلاف لو طاف علی غیر وضوء وعاد إلی بلده رجع وأعاد الطواف مع الامکان فإن لم یمکنه استناب من یطوف عنه- إلی أن قال- دلیلنا اجماع الفرقة واخبارهم وطریقة الاحتیاط.

و ذکر المحقق الاردبیلی فی مسألة الطواف فی الحجر انه بمنزلة ترکه وان البطلان مخصوص بالعامد دون غیره .

وقال العلامة فی التذکرة فی ذیل مسألة الشک فی الطواف «تذنیب ولو تحلل من إحرام العمرة ثمّ أحرم بالحج وطاف وسعی له ثمّ ذکر انه طاف محدثاً أحد الطوافین ولم یعلم انه طواف عمرة التمتع أو طواف الحج قیل یطوف للحج ویسعی له ثمّ یعتمر بعد ذلک عمرة مفردة، ویصیر حجة مفردة، لاحتمال أن یکون فی طواف العمرة فیبطل وقد فات وقتها،

ص:469

وأن یکون للحج، فیعیده فلهذا اوجبنا علیه إعادة طواف الحج وسعیه والاتیان بعمرة بعد الحج، لبطلان متعته، قال بعض العامة والوجه: انه یعید الطوافین، ولان العمرة لا تبطل بفوات الطواف .

و ذکر المحقق الاردبیلی أیضاً فی مسألة الشاک فی الطواف حیث یبطل طوافه ولا یستأنف للجهل بالحکم.

قال: ثمّ اعلم انه علی تقدیر وجوب الاعادة فالظاهر من الادلة أن ذلک مع الامکان وعدم الخروج من مکة والمشقة فی العود ... إلی أن قال: فلو وقع لشخص وخرج ولم یلتفت لا یمکن الحکم ببطلان طوافه ثمّ الحکم ببطلان حجه لأنه جاهل، والجاهل کالعامد فیکون حجه باطلًا لترک الطواف الموجب لذلک فیکون باقیاً علی احرامه ویجب علیه اجتناب محرمات الاحرام والذهاب لإعادة الحج- بمجرد ما رأی فی بعض المواضع أن الجاهل کالعامد وأن من شک یجب اعادة طوافه خصوصاً إذا بنی علی الأقل وأکمل لما مرّ فتأمل .

و ممن ذهب إلی ذلک فی مسألة الشک فی الطواف صاحب المدارک والمجلسی فی البحار وصاحب الحدائق، والمسألة کما تری خلل فی الطواف حکمی، أی من ناحیة الجهل بالحکم فضلًا عن الخلل فی الموضوع الذی ارسل فی کلام العلامة فی التذکرة ارسال المسلمات أنه لا یوجب البطلان.

و ذکرنا فی مسألة الشک من سند العروة (الحج) الروایات الدالة علی ذلک وانها طائفة ثانیة دالة علی صحة النسک مع الخلل فی صحة الطواف والسعی سواء کان حکمیاً أو موضوعیاً إذا لم یکن ترک الطواف والسعی عمدیاً.

ص:470

وقال الشهید فی الدروس فی أحکام الطواف، الأوّل: کل طواف واجب رکن إلّا طواف النساء فلو ترکه عمداً تبطل نسکه وإن کان جاهلًا .. إلی أن قال: ولو ترکه ناسیاً عاد له فإن تعذر استناب فیه .

ویظهر من عبارته أن مقابل النسیان والعمد، أی أن ما یقابل النسیان مطلق الخلل العمدی.

ص:471

ص:472

قاعدة:بطلان إدخال نسک فی نسک

اشارة

ص:473

ص:474

من قواعد باب الحج:بطلان إدخال نسک فی نسک

اشارة

و قد یعبر عنه بإقحام نسک فی نسک , و قد یتصور فی بحث الاقتران بین النسکین، و نظیر هذا البحث قد عنون فی باب الصلاة فی ادخال صلاة فی صلاة و إن ورد فیها استثناء بعض الموارد کإدخال صلاة الآیات فی الفریضة عند ضیق وقتها.

فیقع البحث فی مقامین :

الأول: فی موضوع القاعدة .

الثانی: فی الحکم و المحمول .

أما البحث فی الموضوع فإنه یتصور علی نحوین:

فتارة ادخال و إقحام و أخری اقتران.

ولا ریب أن الکلام إنما هو فی العملین المتجانسین المتشابهین و لو فی بعض الاجزاء فإن التشابه و التجانس هو الذی یوجب ارتباط المماثل بالمماثل کما ورد فی النهی عن قراءة العزائم فی الصلاة حیث انه یوجب السجدة الواجبة و بالتالی فیأتی بعمل مشابه لبعض اجزاء الصلاة و قد علل النهی بأنّه زیادة فی المکتوبة مع أن الآتی بسجدة العزیمة لا یقصد بها التضمین فی الصلاة و الإدخال و نظیر ما لو قرأ فی الصلاة القرآن أو ذکر

ص:475

ذکراً عبادیا و ان لم یقصد الجزئیة و التضمین فإنه یحسب جزأ مستحباً فی الصلاة.

ونظیر ذلک ما ورد فی النهی عن الطواف المستحب قبل الطواف للنسک الواجب و موارد أخری کثیرة یجدها المتتبع فی ماهیات العبادات الدال علی هذا الأصل السیال فیها، و من ثمّ یتأمل فی تصور الشق الثانی فی موضوع البحث من أن الاقتران لا محال یکون إدخال و اقحام و لو حصل بجزء واحد کما لو کبر للظهر ثمّ کبر للعصر ثمّ أتی بأربع رکعات للظهر و سلم ثمّ أتی بأربع رکعات للعصر و سلم فإن الاقتران بین التکبیرات و إن لم یکن باقتحام بقیة الرکعات فی الصلاة الأولی الا أن تکبیرة العصر قد ادخلت فی الظهر للتجانس بین التکبیرتین و کذا الحال فی إهلالی النسکین و الاحرامین فالاقتران یستلزم الاقتحام فی الجملة لا محالة.

هذا کله بحسب موضوع القاعدة.

إما محمول القاعدة:

فیستدل علی البطلان بعده وجوه: بعضها مشترک مع ما حرر فی باب الصلاة.

الأول: أن اقحام النسک فی النسک أو العمل العبادی فی الآخر یوجب محو الصورة المعهودة المقررة فی الادلة الشرعیة وهذا الوجه اجمالًا فی الجملة تام مع ما سیأتی فی الوجه الثانی.

الثانی: ما اشار إلیه صاحب الجواهر من أن ظاهر الادلة هو الاهلال بالحج بعد التقصیر المحلل لإحرام العمرة. ونظیره ایضا فی الادلة اتیان العمرة المفردة بعد التحلل من حج وکذلک ما فی ادلة العمرة المفردة من

ص:476

بیان الفصل بین افرادها اما بشهر أو عشرة ایام أو نحو ذلک. فظاهر هذه الأدلة مباینة ایقاع النسک عن بعضها البعض.

الثالث: ما اشار إلیه صاحب الجواهر من الأمر باتمام الحج أو العمرة حیث مقتضاه عدم قطعها بنسک آخر بل مواصلة اجزائهما بما لهما من هیئة اتصالیة مجموعیة ولا یخفی أن هذا الوجه یرجع إلیه ما ذکر فی الوجه الأول.

الرابع: جملة من النصوص کصحیحة زرارة قال جاء رجل إلی أبی جعفر وهو خلف المقام قال إنی قرنت بین حجة وعمرة فقال له هل طفت بالبیت فقال نعم، قال هل سقت الهدی فقال لا فأخذ أبو جعفر بشعره وقال

«أحللت والله»(1)وهی نص فی المطلوب حیث ذهب العامة إلی أن الاقتران(2) بمعنی قرن العمرة والحج فی اهلال واحد وهو نمط من ادخال نسک فی نسک.

و أما قوله

«أحللت والله» أی إنما اتی به یقع متعة مع أن السائل لم ینشأ خصوص المتعة فوجهه ما تقدم من أن الاهلال یمکن أن یتعلق بالطبیعی ویتعین بما یأتی به المحرم لاحقاً کما مر فی جواز العدول من الافراد إلی التمتع، وما مر من انقلاب المتعة افراداً لو لبی قبل التقصیر، ومثلها صحیحة یعقوب بن شعیب قال قلت لأبی عبدالله الرجل یحرم لحجة وعمرة وینشئ العمرة، أ یتمتع؟ قال:

«نعم»(3).

بتقریب أن یحرم أی ینوی وإن انشأ قولاً خصوص العمرة والمدار

ص:477


1- (1) وسائل باب 18، من أبواب أقسام الحج ح1.
2- (2) المغنی لابن قدامة ج3، ص247.
3- (3) وسائل، باب 18، من أبواب أقسام الحج، ح2.

وإن کان علی النیة إلا أنه حیث لا یصح القرن بین النسکین فیقع ما انشاءه عمرة التمتع خاصة وإن احتمل ان السؤال وقع عن العدول من الافراد إلی التمتع وفی موثق اسحاق بن عمار قال قلت لأبی عبد الله رجل یفرد الحج فیطوف بالبیت وسعی بین الصفا والمروة ثمّ یبدو له أن یجعلها عمرة قال إن کان لبی بعد ما سعی قبل أن یقصر فلا متعة له(1).

وتقریب الدلالة فیها ان نفیه لا مکان المتعة له باطلاقه شامل لما لو أراد إقحام عمرة التمتع فیما بیده من نسک ولیس النفی خاص بقلب ما بیده إلی التمتع، وبهذا التقریب یظهر جهة الاستدلال بالنصوص المتقدمة الدالة علی أن من لبی متعمداً فی عمرة قبل التقصیر ینقلب نسکه إلی الافراد وتبطل متعته کمصحح العلاء بن فضیل وموثق اسحاق بن عمار الأخر(2) وغیرهما مما ذکرناه فی المسألة (354) من تقریرات بحث الحج(3) فإن بطلان المتعة وامتناع المجیء بها یقتضی امتناع إدخال النسک فی النسک وإلّا فما کان للامتناع مجال.

ومنها صحیحة حماد بن عیسی عن أبی عبد الله قال:

«من دخل مکة متمتعاً فی أشهر الحج لم یکن له أن یخرج حتی یقضی الحج، فإن عرضت له حاجة إلی عسفان أو إلی الطائف أو إلی ذات عرق خرج محرماً ودخل ملبیاً بالحج فلا یزال علی إحرامه فإن رجع إلی مکة رجع محرماً ولم یقرب البیت حتی یخرج مع الناس إلی منی علی إحرامه، وإن شاء وجهه ذلک إلی منی، قلت: فإن جهل فخرج إلی المدینة أو إلی نحوها بغیر إحرام ثمّ رجع فی ابان

ص:478


1- (1) وسائل باب 19، من أبواب أقسامالحج، ح1.
2- (2) سند العروة الوثقی ح4، ص39.
3- (3) وسائل باب 22 من أبواب أقسام الحج ح6.

الحج فی أشهر الحج یرید الحج فیدخلها محرماً أو بغیر إحرام؟ قال: إن رجع فی شهره دخل بغیر إحرام وإن دخل فی غیر الشهر دخل محرماً، قلت: فأی الاحرامین والمتعتین متعته الأولی أو الأخیرة؟ الخ ... الحدیث».

و الروایة نص فی عدم جواز اقحام نسک فی نسک حیث علل عدم کون العمرة الأولی هی المتعة بأنها غیر موصولة بالحج، مما یقضی بأن إقحام نسک آخر بینها وبین الحج یقطعها عنه مع أن عمرة التمتع والحج لیسا فی إحرام واحد وإنما هما مشروطان ببعضهما فهذا مما یقضی بأن معنی اتمام النسک هو عدم قطعه بنسک آخر وان الاتمام بمعنی الهیئة الاتصالیة. ومما یؤید المنع المزبور ما ورد فی صحیح عبد الرحمن بن الحجاج وصحیح معاویة بن عمار، قال فی الثانی عن أبی عبد الله قال سألته عن المفرد للحج هل یطوف بالبیت بعد طواف الفریضة قال: نعم، ما شاء، ویجدد التلبیة بعد الرکعتین، والقارن بتلک المنزلة یعقدان ما أحلا من الطواف بالتلبیة .

و تقریب دلالتها أن الطواف المندوب مع أنه لم یأت به بقصد الجزئیة إلا أنه مسانخ لبعض أجزاء النسک- فهذا مما یوجب التحامه به تلقائیاً، وان لم یقصده الناسک وبالتالی فاحتاج إلی عقد احرامه تأکیداً بالتلبیة الأخری، کل ذلک بسبب التجانس الموجود بین الافعال.

هذا کله بحسب القاعدة الأولیة والنصوص الواردة وکذلک هناک جملة من الروایات الأمرة بالتلبیة بعد الطواف المستحب أو الناهیة عنه فی العمرة ذکرناها اجمالا فی مسألة (363) من سند العروة (کتاب الحج) (1).

ص:479


1- (1) سند العروة، ج4، ص58.
تتمتان للقاعدة:
التتمة الاولی : (عموم القاعدة):
اشارة

فهل تشمل العامد وغیره، وهل تشمل ما لو بقی بعض أجزاء النسک السابق کما لو نسی الطواف والسعی أو بقی علیه طواف النساء.

ففی المقام أمور:

الأول: فی شمول القاعدة لغیر العامد:

و الظاهر عمومها له بمقتضی الأدلة السابقة فیما لو کان الاقتحام من البدء أو فی الأثناء قبل إتمام بقیة الأجزاء لعموم الوجوه المتقدّمة، وأما لو بقی علیه بعض الأجزاء بسبب الخلل غیر العمدی فالظاهر عدم شمول القاعدة لما یأتی من الإشارة فی الأمور اللاحقة، بل کذلک الحال فی خصوص طواف النساء ولو عمداً.

الثانی: الظاهر عدم عموم القاعدة

لموارد بقاء بعض الأجزاء بسبب الخلل غیر العمدی؛ لما ورد من النصوص فی الخلل فی الطوافین غیر العمدی أنه یقضیهما ولو دخل فی نسک آخر، کما لو نسیهما فی عمرة التمتع ثمّ أهل بحج التمتع فإنه یقضیها قبل أن یأتی بطوافی الحج، مع أنه لا زال باقیاً علی إحرام العمرة ما بقی وجوب قضاء الطوافین لها فی ذمته، وهذا مما یدلل علی أن إدخال النسک فی النسک بهذا المقدار غیر ضار کما ورد فی باب الصلاة من إقحام صلاة الفریضة فی صلاة الآیات عند ضیق الوقت.

و هذا الکلام مطّرد أیضاً فیما لو فرض الخلل فی طوافی العمرة وقد دخل فی عمرة أخری، ومن ذلک یتضح الحال فی طواف النساء لو نسیه

ص:480

وأتی بعمرات متکررة فإنها تصح منه ویلزم علیه قضاء طواف النساء بعددها، وإن بنی علی أن طواف النساء جزء من النسک.

التتمة الثانیة :

فائدة: فی أن طواف النساء لیس جزءاً من النسک.

فی شمول القاعدة لما لو ترک طواف النساء عمداً وأهلّ بنسک أخر فقد قیل بالصحة استناداً إلی القول بعدم جزئیته نظراً إلی ورود النصوص الصحاح المتعددة، کصحیح الحلبی وصحیحی معاویة بن عمار ، ویؤید بخلو عمرة التمتع من طواف النساء مع أنها متحدة الطبیعة مع العمرة المفردة، فعلی ذلک لا یکون عند الإهلال لنسک جدید من إدخال نسک فی نسک ولا یندرج تحت موضوع القاعدة، بل غایة الأمر یکون مطالباً به لأجل التحلل من الإحرام السابق، لا أنه باقیاً فی ظرف نسک سابق بل حصل الخروج منه وإنما هو مرتبط ببعض آثاره، وأما لو بنی علی الجزئیة فیشکل الحال مع تعمد الترک فی إدخال نسک جدید، لأنه بناءً علی الجزئیة یکون متصلًا لما قبله وإدخال النسک یوجب قطع الهیئة الاتصالیة إلا أن الأظهر القول بعدم الجزئیة.

ص:481

ص:482

قاعدة:لزوم الحج من قابل بفساد الحج

اشارة

ص:483

ص:484

من قواعد باب الحج:لزوم الحج من قابل بفساد الحج

تحریر البحث:

فهل یجب قضاء الحج لمن أفسد حجه أو بطل أو فسد بفوت الموقفین أو بغیر ذلک بعد تلبسه بالإحرام؟ سوء کان حجه واجباً أو مستحباً، وسواء کان الترک فی واجبات المتعة أو حج التمتع أو الإفراد. یظهر ذلک من کلمات جماعة وفی بعض المقامات، ویظهر الخلاف من کلمات أخری.

الکلام فی مقامین:
الأول: مقتضی القاعدة:

مقتضی القاعدة أن من فسد حجه إما عامد عالماً أو غیره، اما الأول اما أن یقع فی حج واجب أو مستحب، أما إفساد العالم العامد لحجه فی الحج الواجب فیستقر الحج فی ذمته لترکه أداء الواجب مع حصول الاستطاعة فیستقر فی ذمته.

وأما لو کان مستحباً فمقتضی القاعدة عدم لزوم القضاء للأصل النافی، غایة الأمر عصیانه لوجوب إتیان واتمام الحج، کما أن ما دلّ علی فوات الحج بفوت الموقفین ونحوهما دالّا علی سقوط الأمر باتمام الحج

ص:485

بالفساد وأنه یتحلل بعمرة.

أما غیر العامد فاما أن یفرض مقصّرا ملتفتا أو غیر، فأما الأول فالظاهر أنه بحکم العامد، وأما الثانی فالأقوی فیه استقرار الحج أیضاً لما ذکرنا فی بحث الاستطاعة من سند العروة کتاب الحج(1).

نعم لو کان ضیق الوقت لا بسبب من المکلف ولا توانی منه ولو عذری لما تحققت الاستطاعة حینئذ ولا یستقرّ علیه الحج. هذا کله بحسب القاعدة.

المقام الثانی : الروایات:

أما بحسب النصوص الواردة فقد یستدل بقضاء الحج مطلقاً بما ورد فیمن أفسد حجه بالجماع قبل الموقفین حیث ورد

«من فسد حجه فعلیه الحج من قابل»(2).

و کذلک ورد الأمر بالحج من قابل فیمن فاته الموقفین، وکذا ورد فی روایة النعمانی فی تفسیره، و

«أما حدود الحج فأربعة وهی الإحرام والطواف بالبیت والسعی بین الصفا والمروة والوقوف فی الموقفین وما یتبعها ویتصل بهما، ضمن ترک هذه الحدود وجب علیه الکفارة والاعادة»(3).

و فیه: أن الأصح فی المورد الأول کون ما یأتی به فی القابل عقوبة لصحیح زرارة الدال علی ذلک فی تلک المسألة، مضافاً إلی أن التعبیر بالفساد استعمل فی الجماع بعد الموقفین أیضاً، فالمراد منه نقص حجه بذلک

ص:486


1- (1) سند العروة الوثقی، ج1، ص24، وص 151.
2- (2) وسائل، باب 3، من أبواب الاستمتاع.
3- (3) وسائل، باب 33، 23، 27، من أبواب الوقوف بالمشعر.

واحتیاجه للجبر بالکفارة.

و أما المورد الثانی فقد ذهب الأصحاب کافة- کما فی کتب الفاضلین والدروس وصاحب کشف اللثام والحدائق والجواهر وغیرهم- إلی استحباب الحج من قابل فیما إذا کان مستحباً، ووجوبه فیما إذا کان واجباً مستقراً علیه، أو بقیت الاستطاعة إلی القابل.

ووجه ما ذهب إلیه الأصحاب هو ما فی صحیح داود الرقی قال:

«کنت مع أبی عبد الله بمنی إذ دخل علیه رجل فقال: قدم الیوم قومٌ قد فاتهم الحج، فقال: نسأل الله العافیة، قال: أری علیهم أن یهریق کل واحد منهم دم شاة ویحلون وعلیهم الحج من قابل إن انصرفوا إلی بلادهم، وإن أقاموا حتی تمضی أیام التشریق بمکة ثمّ خرجوا إلی بعض مواقیت أهل مکة فأحرموا منه واعتمروا فلیس علیهم الحج من قابل»(1).

حیث فصل بین من یعتمر بعد إحلاله من المواقیت البعیدة فلا حج علیه من قابل، وهو یناسب الاستحباب.

ومثله صحیح ضریس بن أعین قال: سألت أبا جعفر عن رجل خرج متمتعاً بالعمرة إلی الحج فلم یبلغ مکة إلا یوم النحر فقال: یقیم علی إحرامه ویقطع التلبیة حتی یدخل مکة فیطوف ویسعی من الصفا والمروة ویحلق رأسه وینصرف إلی أهله إن شاء. وقال: هذا لمن اشترط علی ربّه عند إحرامه، فإن لم یکن اشترط فإن علیه الحج من قابل(2).

ص:487


1- (1) وسائل، باب 2، من أقسام الحج ح31.
2- (2) وسائل، أبواب الوقوف بالمشعر، باب 27، ح2.

حیث فصل بین من اشترط فی إحرامه وبین من لم یشترط، فإنه یناسب الاستحباب لا الوجوب، وتقریر هذا المفاد بملاحظة ما ورد من أن الاشتراط فی المستحب أیضاً یسقط الحج فی القابل، بخلاف الاشتراط فی الواجب فإنه لا یسقطه، کما هو مقتضی الجمع بین صحیح أبی بصیر وابی الصباح الکنانی من جهة ففی الأولی قال:

«سألت أبا عبد الله عن الرجل یشترط فی الحج أن حلنی حیث حبستنی، علیه الحج من قابل؟ قال: نعم»(1). وصحیح ذریح المحاربی قال:

«سألت أبا عبد الله رجل تمتع بالعمرة إلی الحج وأحصر بعد ما أحرم کیف یصنع؟ قال: فقال: أو ما اشترط علی ربه قبل أن یحرم أن یحله من إحرامه عند عارض عرض له من امر الله؟ فقلت: بلی قد اشترط ذلک. قال: «فلیرجع إلی أهله حلًا لا إحرام علیه فإن الله أحق من وفی بما اشترط علیه. قال: فقلت: أ فعلیه الحج من قابل. قال: لا»(2).

حیث حمله الشیخ علی حج التطوّع. ومن هذا الصحیح یظهر أن الحکم فی المصدود والمحصور مع المقام واحد.

ففی مصححة حمزة بن حمران أنه سأل أبا عبدالله

«عن الذی یقول حلنی حیث حبستنی. فقال: هو حل حیث حبسه قال أو لم یقل، ولا یسقط الاشتراط عنه الحج من قابل»(3).

المحمول علی مورد الحج الواجب حیث لا یسقط الاشتراط الحج الواجب فی نفسه.

ص:488


1- (1) وسائل، أبواب الإحرام، باب 24، ح1.
2- (2) وسائل أبواب الإحرام، باب 24، ح3.
3- (3) وسائل، باب 8، من أبواب الاحصار والصد، ح3.

و أما روایة النعمانی فمع ضعف السند لسانها لسان روایات المورد الثانی الذی قد عرفت الحال فیه.

فتحصل: أن فی الحج المندوب یستحب قضاؤه عن قابل، بخلاف ما إذا کان الحج واجباً کحجّة الاسلام.

ص:489

ص:490

قاعدة:تباین أو وحدة أنواع الحج فی کون الإفراد والقران وظیفة الحاضر

اشارة

ص:491

ص:492

من قواعد باب الحج:تباین أو وحدة أنواع الحج فی کون الإفراد والقران وظیفة الحاضر

لم یذکر خلاف فی ذلک إلا عن الشیخ و ابن سعید، قال فی المبسوط: «فان تمتع من قلناه- الحاضر- من أصحابنا من قال انّه لا یجزیه، و فیهم من قال یجزیه، و هو الصحیح لأن من تمتع قد اتی بالحج و بجمیع افعاله، و انّما أضاف الیه أفعال العمرة قبل ذلک، و لا ینافی ذلک ما یأتی به من أفعال الحج فی المستقبل، و من الناس من قال المکی لا یصح منه التمتع أصلًا، و فیهم من قال یصح ذلک منه غیر انّه لا یلزمه دم المتعة و هو الصحیح، لقوله تعالی ذلِکَ لِمَنْ لَمْ یَکُنْ أَهْلُهُ حاضِرِی الْمَسْجِدِ الْحَرامِ 1 یعنی الهدی الذی تقدم ذکره قبل هذا الکلام بلا فصل»(1).

لکنه فی النهایة(2) منع الاجزاء عن التمتع ، و اشکل علیه فی کشف اللثام انّه یتم فی أهل مکة دون غیرهم من الحاضرین، فإن علیهم الاحرام بالحج من المیقات أو منازلهم و المتمتع یحرم به من مکة، و استدلال الشیخ

ص:493


1- (2) المبسوط، ج1، ص304.
2- (3) النهایة، ج1، ص462.

فی المبسوط یرجع الی وجهین:

الأول: کون التمتع فیه حقیقة الافراد و زیادة.

الثانی: رجوع اسم الاشارة فی الآیة الی الهدی فیکون صدر الآیة عاماً للحاضر.

وتنقیح الحال فی الوجه الأول: فقد تقرب دعوی الشیخ بأن ما ورد من تقسیم الحج فی الروایات الی المفرد و القارن و المتمتع کصحیحة معاویة بن عمّار قال: «سمعت أبا عبدالله(علیه السلام) یقول: الحج ثلاث أصناف حج مفرد و قران و تمتع بالعمرة الی الحج و بها أمر رسول الله صلی الله علیه و آله ... الحدیث(1) ان التقسیم عرض و لیس فی نوع الماهیة، فالمقسم هو النوع و الاقسام هی الاصناف، وان الافراد هو الطبیعة النوعیة للحج لا بشرط، بخلاف التمتع والقران فهو الطبیعة بشرط شیء نظیر ما قیل فی صلاتی الفرادی والجماعة، ویظهر من اشکال کاشف اللثام علی الشیخ بالتفصیل ارتضاءه لذلک، ویمکن أن یستشهد له بأن القران کیفیة لعقد الاحرام بدیلة عن التلبیة کما هو مفاد صحیح معاویة بن عمّار عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال:

«یوجب الاحرام ثلاثة اشیاء: التلبیة والاشعار والتقلید، فاذا فعل شیئاً من هذه الثلاثة فقد احرم»(2).

وفی صحیح حریز عن أبی عبدالله(علیه السلام) فی حدیث قال(علیه السلام):

«فانّه اذا

ص:494


1- (1) وسائل باب 1 من أبواب أقسام الحج ح1.
2- (2) وسائل باب 12 من أبواب أقسام الحج ح20.

اشعرها وقلّدها وجب علیه الاحرام وهو بمنزلة التلبیة»(1).

فیکون الخلاف بین الافراد والقران هو فی کیفیة عقد الاحرام، ومن المعلوم انّ الاحرام خارج عن حقیقة النسک، غایة الأمر یترتب علی کیفیة الاحرام أحکام من قبیل عدم امکان تبدیل الافراد الی تمتع ونحو ذلک. وحیث یکون التقسیم الیها عرضی لا تنویعی فلا محالة یکون التقسیم الیهما وإلی التمتع عرضی أیضاً بکون التمتع تسبقه العمرة الخارجة عن ماهیة الحج النوعیة، غایة الأمر مرتبطة بالحج، وهذا الارتباط وإن کان وضعیاً إلا انّه لصحة التمتع الذی هو ماهیّة صنفیة لا لأجل صحّة أصل ماهیة الحج النوعیة.

ثانیاً: یستشهد له أیضاً بما ذهب الیه المشهور- کما سیأتی- من جواز التمتع للحاضر اذا خرج ومرّ فی رجوعه بأحد المواقیت فانّ ذلک یعنی تخیره مطلقاً بین القسمین لأن المتمتع اذا أراد أن یأتی به لا بد أن یأتی به من المواقیت البعیدة.

ثالثاً: ما فی صحیح عبد اللّه بن زرارة من اطلاق حج الافراد علی حج التمتع بعد عمرته قال(علیه السلام):

«ثمّ استأنف الاهلال بالحج مفرداً الی منی»(2).

ویشکل علیه:

أولاً: بأن التغایر العرضی لا یعنی عدم التباین فی الاعراض، وعلی

ص:495


1- (1) وسائل باب 12 من أبواب أقسام الحج ح19.
2- (2) وسائل باب 5 من أبواب أقسام الحج ح11.

تقدیر کونها بنحو لا بشرط وبشرط شیء فقد یتعین فی ذمّة المکلّف صنف دون صنف آخر واللازم علی الشیخ اثبات الافراد بنحو الماهیة لا بشرط.

ثانیاً: ما ذکره کاشف اللثام من أن غیر أهل مکة من الحاضرین میقات حج الافراد لهم دویریة أهلهم ولیس داخل مکة بخلاف احرام حج التمتع.

ثالثاً: انّ غایة ما یستشهد به للشیخ هو مشروعیة التمتع للحاضرین من المواقیت البعیدة لا مشروعیة لهم من مواقیتهم القریبة.

نعم بناءً علی الالتزام بمشروعیة التمتع للحاضرین من المواقیت البعیدة لا بد من حمل الروایات الآتیة الدالّة علی أن الحاضرین لا متعة لهم جمعاً بینها وبین ما دلّ علی ذلک، حملها علی انّ المتعة غیر مشروعة من قرب وان قوام المتعة علی الاحرام من المواقیت البعیدة کما انّ قوامها فی تقدم العمرة علی حجها فی اشهر الحج من دون فصل نسک آخر وان میقات احرام الحج فیه مکة.

رابعاً: انّ القران لیس بسبب لعقد الاحرام مطلقاً وإن کان هو ظاهر عدة روایات إلا انّ المستفیضة الواردة کصحیح معاویة عن أبی عبدالله(علیه السلام) انّه قال فی القارن

«لا یکون قران إلا بسیاق الهدی وعلیه طواف بالبیت ... وطواف بعد الحج»(1).

ومثله صحیح الفضیل بن یسار عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال قال

«الذی

ص:496


1- (1) وسائل الحج، باب 2، من أبواب أقسام الحج ح1.

یسوق الهدی علیه طوافان بالبیت وسعی واحد بین الصفا والمروة وینبغی له أن یشترط علی ربه إن لم تکن حجّة فعمرة»(1).

ومثلها کثیر من الروایات، وهذا اللسان فی صدد شرح نفس القران ولم یؤخذ کوصف للحج بل أخذ الحج کأثر مترتب علی ایجاده وهذا وجه حصر المشهور له فی الحج وتتمة ذلک یأتی فی الاحرام.

فتحصل انّ الاتحاد بین الافراد والتمتع لیس بقول مطلق کما ذکره الشیخ اذ بینهما اختلاف فی المواقیت فی الجملة. وفی صحیح عبد اللّه بن زرارة قال(علیه السلام):

«والقارن لا یحل حتی یبلغ الهدی محله النحر بمنی»(2).

أما الوجه الثانی: فظاهر اسم الاشارة رجوعه الی المفاد الأصلی الی صدر الآیة وهو مشروعیة التمتع.

نعم علی التقریب الذی ذکرنا للآیة من انّ المشروعیة بمعنی التعین یصلح أن یکون المشار الیه هو تعین التمتع، لکن بالالتفات الی وجود اللام بعد اسم الاشارة ینحصر المشار الیه فی مشروعیة التمتع لا الهدی ولا تعینیة التمتع، کما هو صریح الروایات الآتیة. غایة الأمر انّ نفی المشهور مطلق سواء من میقاتهم أو من المواقیت البعیدة فتقید علی القول بجوازها لهم من بعد.

هذا واستدلّ المشهور مضافاً لظهور الآیة بصحیح الفضلاء عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال:

«لیس لأهل مکة، ولا لأهل مر، ولا لأهل سرف، متعة،

ص:497


1- (1) وسائل الحج، باب 2، من أبواب أقسام الحج ح2.
2- (2) وسائل، باب 5، من أبواب أقسام الحج ح11.

وذلک لقول الله عز وجل ذلِکَ لِمَنْ لَمْ یَکُنْ أَهْلُهُ حاضِرِی الْمَسْجِدِ الْحَرامِ »1.

وفی صحیح علی بن جعفر عن أخیه موسی بن جعفر(علیه السلام):

«لأهل مکة أن یتمتعوا بالعمرة الی الحج؟ فقال: لا یصلح أن یتمتعوا».

لکن فی صحیح زرارة فسر(علیه السلام) الآیة قال:

«یعنی أهل مکة لیس علیهم متعة، کل من ...» (1).

لکن فی أغلب الصحاح

«لیس لهم متعة»(2).

و فی صحیح زرارة الآخر

«لیس لهم متعة ولا علیهم عمرة»(3).

و الوجه فی التعبیر باللام تارة و (علی) اخری ان التحلل فی الأثناء فی التمتع یطلق علیه متعة فمن ثمّ عبر فی نفیها باللام.

و أما العمرة فی التمتع فهو کلفة فعبر عن نفیها ب(علی).

ص:498


1- (2) وسائل، باب 6، من أبواب أقسام الحج، ح2.
2- (3) وسائل، باب 6، من أبواب أقسام الحج، ح3.
3- (4) وسائل، باب 6، من أبواب أقسام الحج، ح3.

قاعدة:قاعدتا المصلحة ودفع الأفسد بالفاسد

اشارة

ص:499

ص:500

من قواعد الفقه السیاسی:قاعدتا المصلحة ودفع الأفسد بالفاسد

معنی قاعدة الفاسد:

إنّ المعنی الفاسد لهذه القاعدة هو جواز ارتکاب الفاسد- ولو من الکبائر- لدفع الأفسد الأکبر.

وهذا المعنی لا یبنی علیه فقهاء الإمامیة ، وما ورد من أنّ التقیة فی کلّ شی حتی تبلغ الدماء، فإذا بلغت الدماء فلا تقیة(1)؛ لیس إشارة للتقیة فقط، بل اشارة لکلّ العناوین الثانویة.

وأنّ العناوین الثانویة تجری مالم تبلغ إلی درجة معینة , مثلاً:

الإضطرار المسوغ للکذب أو للتصرف فی مال الغیر وغیر ذلک ولکن إذا وصلت إلی الدماء أو إلی ملاکات کبیرة فحینئذ لا تسوغ.

مثل ثان: إنّ عنصراً مخابراتیاً قد یرتکب الزنا واللواط والفحشاء والقتل وغیر ذلک لأجل أن یسترقّ معلومات خطیرة مثلًا عن الکیان الصهیونی هذا لا یسوغ و الغایة التی یرجوها لا تبرر الوسیلة.

ص:501


1- (1) تهذیب الأحکام، ج6، ص173، ومن تلک الروایات ما رواة الثمالی عن أبی عبدالله(علیه السلام): «... إنَّما جعلت التقیة لیحقن بها الدم فإذا بلغت الدم فلا تقیة ....».

وقد ورد عن أمیر المؤمنین(علیه السلام):

«اترونی لا أعلم ما یصلحکم , بلی ولکنی اکره ان اصلحکم بفساد نفسی»(1).

فلو فتحنا باب العمل بقاعدة دفع الأفسد بالفاسد، لکان فتحاً للفاسد علی مصراعیه تحت محتملات الأفسد، وبالتالی یصبح الفاسد هو الأفسد أی یودی الو ارتکابه بدرجة الافسد او تفوقه ؛ لذلک تری المشهور یذهبون الی ان الإکراه علی قتل(2) الغیر بالتوعد من الظالم بالقتل لا یسوغ قتل الغیر , فلو أکرهت علی أن تقتل زیداً، أو یقتلک الظالم، لا یجوز لک أن تقتل زیداً.

و قد خالف السیّد الخوئی(رحمه الله) المشهور وقال: أنّه مخیّر, ولکن المشهور یفتون بالحرمة، فإنّ حفظ النفس وان کان واجبا ولکن لا بدرجة أن نخلد فی الأرض بکل الوسائل؟

بل ، حفظ النفس إلی حد الإمکان و بالوسائل المباحة، أمّا بالوسائل غیر المباحة فلا مسوغ یوجب علینا حفظ النفس؟

فالأصل الأولی فی الحدود الإلهیة أن یتقیّد بها، وارتکاب المحذور یجب أن یکون بمسوّغ دقیق مضبوط مقنن، و هذه قواعد صعبة التطبیق، وجملة من المحققین لدیهم نقد وابرام حادّ لاجل صعوبة التطبیق فیها ولا سیما مع جهالة غیر المعصوم و عدم إلمامه بالدقة بدرجات الکبائر و لک ان تمثل مدی رعایة الحدود وتداعیات لوازم الأمور والافعال فی دولة الحضارة

ص:502


1- (1) بحار الأنوار، ج41، ص110.
2- (2) الغیر بالتوعد من الظالم بالقتل لا یسوغ قتل الغیر.

للمعصومین، بهذا المثال:

کیف لو رمی الإنسان حجراً فی حوض تتداعی لک الأمواج إلی نهایة الحوض، المعصوم عندما یرتکب فعلًا یعلم بتموّج هذا الفعل و هذه السیرة إلی آخر أمواج الأجیال البشریة، یعنی یعلم عندما یرتکب هذا الفعل أنّه سوف تأتی أجیال إما ستسترفد منه ایجابیاً أو سلبیاً وعلی ضوء هذه المحاسبة التی لا یمکن رعایتها الا بالعلم اللدنی تتم افعال وخطی وسیرة المعصومین(علیهم السلام). هذا هو عظمة الإعجاز فی التدبیر الإلهی و ضرورة حاکمیّة الله سیاسیاً عبر المعصوم.

فالقانون الإلهی لا یکفی فیه العصمة فی التنظیر، بل یجب أن یکون هناک عصمة فی التطبیق أیضاً کی لا یطبق القانون بشکل مناقض لأهدافه.

ص:503

قاعدة:المصلحة

اشارة

هل المصلحة فی النظام الإسلامی تسوّغ ارتکاب المحرّمات الأوّلیة بقاعدة حکومة مصلحة النظام الإسلامی علی الأحکام الأوّلیة او لا ؟

سواء فسّرت او طبقت القاعدة علی مقدمات یراد التوصل بها لاقامة النظام الاسلامی او طبقت القاعدة لاجل المحافظة علیه، تسوّغ ارتکاب المحرّمات الأوّلیة بقاعدة حکومة مصلحة النظام الإسلامی علی الأحکام الأوّلیة أو لا؟

و نسلّط الضوء علی هذه القاعدة وذلک القانون فی جهات ثلاث:

1. تفسیر قاعدة المصلحة.

2. معانی المصلحة.

3. أدلّة القائلین بمشروعیة المصلحة.

الجهة الأولی: قاعدة مشروّعیة المصلحة و تفسیرها:

ولهذه القاعدة فی نظام الحکم السیاسی تفسیران:

الأوّل: إنّه لأجل الوصول إلی الحکم و القدرة أو المحافظة علی بقائها یُسَوَّغ ارتکاب المحظورات تحت ذریعة أنّ وصول أهل الصلاح و العدل إلی سدّة القدرة و بقائهم فیها یوجب الخیر الکثیر فی مقابل الشر و المفسدة الأقل.

الثانی: إنّ الحاکم یَسُوغ له ارتکاب المحظورات فی موارد دفع الأفسد بالفاسد.

الجهة الثانیة: معانی المصلحة:

ص:504

الأول: حرمة النفس والعرض والمال ورعایتها وسلامة الأنفس والأعراض و الأموال، سواء فی الجهة الفردیة أم المجموعیة.

الثانی: سلامة النظام المدنی الإجتماعی الضروری للمعیشة، سواء علی صعید الضرورة الأولیّة أم الکمال الثانوی. ولعلّه إلی هذا یشیر قول أمیر المؤمنین(علیه السلام):

«لابدّ للناس من أمیر برّ أو فاجر، یعملُ فی إمرته المؤمن ویستمتع فیها الکافر ویبلِّغ الله فیها الأجل ویُجمَع به الفئ ویُقاتَل به العدوّ وتأمن به السبل ویؤخذ به للضعیف من القوی حتی یستریح بَرّ ویُستراح من فاجر»(1).

والظاهر من قوله(علیه السلام):

«یعمل فی إمرته المؤمن، هو أدنی درجات إقامة البرنامج الدینی».

و قوله(علیه السلام):

«یستمتع فیها الکافر، أی حصول الکمالات المعیشیة».

و قوله(علیه السلام):

«ویبلِّغ الله فیها الأجل، أی تقدیرات الأمور وبلوغ ما یمکن بلوغه من الأمور إلی غایته».

و قوله(علیه السلام):

«ویجمع بالفئ، تنظیم النظام المالی فی النظام الإجتماعی.

وقوله(علیه السلام): ویقاتل به ....» إلی آخره.

فالمراد به الأمن الداخلی والخارجی والأمن القضائی ویتمّ به أدنی درجات العدل النظامی ویُرْدَع المتخلّف عن ذلک.

ص:505


1- (1) بحار الأنوار، ج33، ص358.

الثالث: حفظ معالم الدین الأصلیة والأساسیة وهما قد یسمّی ببیضة الدین و هو کلّ مَشعَر ومَعْلَم رکنی أمَر الشارع بإقامته فی بناء الدین سواء علی صعید الإعتقاد أو التشریع التنظیری أو التطبیق العملی والسنن السائرة.

الرابع: کلّ ما کان مقدّمة لأداء واجب أو ترک حرام.

الخامس: التزاحم والورود والتوارد؛ أی مراعاة الأهم ومراعاة ذی الرتبة المقدّمة.

السادس: تبریر الهدف والغایة للوسیلة.

السابع: ملاکات الأحکام وجهات الحسن والقبح وهو الذی یطلق علیه المصالح والمفاسد والکمال والنقص. ویشیر إلیه قوله(علیه السلام)

«إنّ دین الله لا یصاب بالعقول»(1)والمعبّر لدینا فی الأصول بحکمة المجعول وعلل الجعل.

الثامن: أخذ العلم بتحقّق الموضوعات أو العلم بجعل الحکم أیضاً قیداً فی موضوعات الأحکام وهذا یلزم منه التصویب فی التکوین أیضاً مضافاً إلی التشریع. والغریب من القائل تفسیر ذلک بأنّه قید التنجیز مع أنّه قید الفعلیة؛ و المعذوریةُ فی مقام التنجیز لا یغنی ولا یسمن من جوع فی بحث المقام.

التاسع: حفظ قدرة الحاکم والحکومة وبقاؤهما فی الحکومة الدینیة.

الجهة الثالثة: أدلّة القائلین بمشروعیة المصلحة:

اشارة

قد یبرّر إرتکاب الوسیلة المحرّمة لأجل الوصول إلی الهدف و الغایة

ص:506


1- (1) مستدرک الوسائل، ج17، ص262، بحار الأنوار، ج2 ص303.

المهمّة تحت ذریعة وجوه کالتالی:

1. قاعدة سدّ الذرائع.

2. قاعدة المصالح المرسلة.

3. قاعدة العناوین الثانویة.

4. قاعدة التزاحم.

5. قاعدة لا ضرر و لا حرج.

6. حکم العقل بتقدیم الأهمّ.

7. قاعدة دفع الأفسد بالفاسد.

8. منطقة الفراغ.

9. قاعدة الشروط الإلزامیة.

10. دور الزمان و المکان فی الإجتهاد.

11. قصة داود علیه السلام.

12. الحکم الولائی.

وندرس تلک الوجوه فی ما یلی:

الوجه الأول والثانی: قاعدة: سدّ الذرائع والمصالح المرسلة:

و یرد علیهما ما هو محرّر فی علم الأصول من الخدشة فی صحتهما لا سیّما مع بیان النقاط الآتیة.

ص:507

مع أنّ المصالح المرسلة لیست قاعدة لتشریع الأحکام بل هی- علی القول بها فی التدبیر السیاسی فی موارد المباحات- فکیف یتصور رفع الید بها عن الأحکام الأولیة من دون وجود تزاحم أو ورود أو عنوان آخر من عناوین معالجة الحکم فی ما لو کانت هذه المصلحة تؤول إلی إقامة أغراض شرعیة ملزمة.

و القول بتخصیص عمومات الکتاب والسنّة بالمصالح المرسلة خَلْطٌ بین مقام التشریع ومقام التطبیق.

الوجه الثالث : العناوین الثانویة:

فیرد علی التمسک بها:

أولاً: إنّ العنوان الثانوی لا یسوغ التمسک به بنحو الدوام وإلّا لانقلب الثانوی إلی أولی والأولی إلی ثانوی.

ثانیاً: إنّ العنوان الثانوی یرجع فی المآل إلی قاعدة التزاحم کما حُرّر فی علم الأصول.

الوجه الرابع : قاعدة التزاحم:

فیرد علی التمسک بها بنحو دائم کثیر:

أولاً: إنّ الحاکم السیاسی أو الشرعی یجب علیه أن یتحفّظ علی الملاکات والأحکام الشرعیة وإقامتها بقدر الوسع المستطاع بتدبیر یتکفّل مراعاتها أجمع مع ما أمکن إلی ذلک سبیلًا.

أی یجب علیه الممانعة عن التفریط بأیّ منها وعدم التشبّث بذریعة

ص:508

أهمیة بعضها للتفریط بالمهم، فیجب علیه الممانعة عن وقوع التزاحم أو المسیر فی مسار یُؤدّی إلی الاضطرار أو إلی التمسّک بالعناوین الثانویة ونحو ذلک؛ لأنّ کلّ هذه الحالات هی خلاف الغرض الاصلی من الحکم التنفیذی وإجراء الأحکام الذی هو إقامة جمیع الأحکام، بل لو قُدّر وفرض وقوع التزاحم أو حالات الإضطرار اتفاقاً فاللازم علیه التحرّی سبیل عدا موضوع التزاحم و الإضطرار أوّلًا، لا المسارعة فی التشبّث بمقتضی التزاحم و الإضطرار.

وبعبارة أخری: هدف الإسلام أن یغیر الظروف الإجتماعیة المریضة إلی المرام الصالح لا أن یتأثّر منه وإلّا إنّ النظام الرأسمالی أو النظام الشیوعی ضرورة عصریة. فالضرورة عنوان فضفاض لابدّ أن یحدّد إن کان یرجع إلی بدیهیات عقلیة وإن کان یرجع إلی نظریات علمیة ویصادم الأحکام الشرعیة الأولیة فلا یعول علیه.

وعلی ضوء هذا الأصل- أی لزوم تحفّظ الحاکم علی الأغراض الشرعیة والأحکام الأولیة- کان اللازم الفحص فی الشبهة الموضوعیة علی الحاکم؛ لأنّ إقامة الأحکام وأداء الأغراض الشرعیة لا یتمّ إلّا بذلک؛ لا أن یعالج هذه الموضوعات العامّة بعَفَوِیّة وبالإدراک السطحی الظاهری لها، بل علیه أن یفحص جوانبها وجهاتها درءاً عن التدافع بین الأحکام فضلًا عن التطبیق الخاطئ لها.

ومن ثمّ ذکرنا فی بحث الربا(1) أنّ التوسّل بالحیل الشرعیة الثانویة أو

ص:509


1- (1) راجع فقه المصارف والنقود، للشیخ الأستاذ السند دام توفیقه.

تسویغ ارتکاب بعض محرّمات الربا فی النظام المصرفی والمالی تحت ذریعة الإضطرار غیر سائغة، بل اللازم علی الحاکم هو تعبئة أهل الخبرة فی الموضوعات المختلفة لتکییفها وبنائها علی الصورة الشرعیة للأحکام لا تکییف وعطف الحکم علی وجودات الموضوعات بحسب بنائها القائم الراهن.

فالمسئولیة تقع علی أهل الخبرة والإختصاص فی کلّ مجال لصیاغة وبناء بُنی النظام المدنی علی هیئة الأحکام الشرعیة لا عطف الأحکام علی صورة الموضوعات والبُنی کیف ما کانت کمنع عمر عن زواج المتعة، فإنّه بدل عن أن یحافظ علی أصل التشریع ویسعی لتنظیم طرق الإجراء، منع عن أصل الحکم الإلهی.

وبعبارة أخری: إنّ اللازم فی الحکومة السیاسیة هو المهارة فی تطبیق الأحکام وأصولها علی الموضوعات المختلفة، کما أنّ اللازم فی الظروف المستجدّة والموضوعات المختلفة المتولّدة هو فطنة الفقیه فی الوصول إلی الأصل التشریعی المناسب فی التطبیق واستکشاف المنطبق منها علی تلک الموضوعات لا تجمیدها- وهو تحکیم صیغة المصلحة علیها- هذا أوّلًا.

ثانیاً: إنّه لا یسوغ إجراء قواعد التزاحم، لا سیما فی النظام السیاسی الحاکم فی الأموال والأعراض والنفوس فضلًا عن إقامة معالم الدین، بمجرد احتمال التدافع لا سیّما بین موضوع فعلیّ قائم وموضوع مستقبلیٍ محتمل؛ فإنّ بمجرّد الإحتمال لا یجوز رفع الید عن الملاک الملزِم الحاضر وهذا المیزان جارٍ حتی بالإضافة إلی الحکم ذی الملاک الأهمّ مع فرض مجرّد احتمال تحقّق موضوعٍ مستقبلًا.

ص:510

وعلی ضوء هذا المیزان وهذه الضابطة یتضح الجواب عن سابقه ولاحقه وتولدت عدّة قواعد فی التشریع الإسلامی من تلک الظابطة:

نظیر:

لا عقوبة قبل الجنایة ولا حدّ قبل ارتکاب الموجِب ونظیر ما عُرّف من سیرة أمیر المؤمنین(علیه السلام) مع مُناوِئیه من قبیل الخوارج أو بغاة الجمل إنّه لم یُقِم علیهم الردع السیاسی ما لم یتورّطوا بارتکاب المواجهة المسلحة.

ونظیره ما جری من اعتراضات النبی موسی(علیه السلام) علی خضر(علیه السلام) فإنّه- و ان بیّن الخضر وجه الحکمة بتوسّط العلم اللدنی الذی أعطاه الله إیّاه الذی هو لیس میزان عملٍ للتشریع العامّ فی النظام المدنی البشری ولا النظام الفردی عدا المعصوم- فإنّه دالّ علی أنّ المیزان العامّ فی الشریعة والتشریع هو علی لزوم التحقّق والعلم به من الطرق المعتبرة لدی الشارع لا بمجرد الظن السیاسی والحدس النفسی لدی الحاکم السیاسی فضلًا عن التعویل علی الکَهَنَة والمنجّمین ونحو ذلک.

ومن تلک القواعد التی نشأت من هذه الضابطة، ما عُرف لدی الإمامیة من ردّ قاعدة المصالح المرسلة، فإنّ عمدة ما أشکل به علی قاعدة المصالح المرسلة هو أنّها إقامة لباب التزاحم فی المورد المحتمل غیر المحقّق.

وفی سیرة أمیر المؤمنین موارد عدیدة رفض(علیه السلام) منها التدّرع بقاعدة التزاحم للوصول إلی الحفاظ علی جملة من الأغراض والأهداف الشرعیة بالتفریط فی جملة أخری کما فی قوله المشهور:

«أتَأمرونّی أن أطلب النصر بالجور فی من وُلّیتُ علیه لا والله لا یکون

ص:511

ذلک ما سَمَرَ سمیر وما رایت فی السماء نجماً»(1).

بل إنّ فی سیرته شواهد علی ما تقدّم فی الجواب الأول من أنّ وظیفة الحاکم رفع موضوع التزاحم.

ومن تلک القواعد التی نشأت من ردّ التدّرع بقاعدة التزاحم ما عرف فی البحث القانونی الإسلامی من أنّ الأهداف لا تبرّر الوسیلة.

ثالثاً: إنّ تحدید ومعرفة درجات الأهمیة فی الملاکات وموازنتها بعضها مع البعض وموازنة درجة التدافع بینها لا سیما بحسب اختلاف أفراد موضوعات کلّ منهما لا یتیسّر إلّاللمعصوم وأمّا غیره فلیس له حظّ من ذلک إلّافی موارد محدودة؛ وعلی ذلک فلا یسوغ له الخوض فی إعمالها بالتّظنّی والتحدّس.

بیان ذلک: أنّه قد استفاض عنهم(علیهم السلام)

«إنّ دین الله لا یصاب بالعقول»(2)، أی أنّ علل التشریع الإلهی وحِکمه لا تحیط بها العقول المحدودة فضلًا عن أن تحیط بتفاصیل ملاکات ودرجاتها ولأجل ذلک کانت الضرورة والحاجة من البشر إلی بعثة الرسل وهدایة الله بإبلاغ الشرائع».

هذا مع أنّ الحال فی الأحکام الشرعیة بحسب مجموع المجتمع البشری ونظامه أکثر تعقیداً منه بحسب الحال الفردیة لا سیّما بالإضافة إلی تعدّد شعب النظام الإجتماعی ومرافقه.

ص:512


1- (1) وسائل الشیعة، ج15، ص105.
2- (2) بحار الأنوار، ج2، ص303.

رابعاً: إنّ التزاحم والعناوین الثانویة کما حُرّر فی محلّه لا توجب رفع الحکم الفعلی فضلًا عن الملاک، بل غایة ما توجب هو رفع التنجیز وکذلک الحال فی موارد التقیة، فإنّ غایة ما تقتضیه العذر دون تبدّل الواقع عمّا هو علیه وفی موارد إجزاء العمل بالتقیة یکون من قبیل إجزاء الأبدال الإضطراریة عن الوظیفة الأولیّة من دون تبدّل الأمر الأولی عمّا هو علیه.

ومن ذلک یتبیّن قاعدة شریفة فی الأحکام الشرعیة وهی ثباتها ودوامها فی کافّة الأحوال، غایة الأمر طروّ المعذوریة أو جعل البدل فی مقام الإمتثال؛ وعلی ذلک فالتشریعات لا تتبدّل عمّا هی علیه فی مختلف الظروف والأحوال؛ ومن ثمّ تحدّ ولایة الولاة بعدم مخالفة التشریعات الأولیة کما فی قوله صلی الله علیه و آله :

«لا طاعة لمخلوق فی معصیة الخالق»(1).

وقوله صلی الله علیه و آله :

«المؤمنون عند شروطهم إلّا شرط خالف الکتاب والسنّة»(2).

و أمّا التدافع بین التشریعات فی مقام التحقّق والموضوع الخارجی والإمتثال فقد مرّ أنّ وظیفة الوالی هی التجنّب عن وقوع ذلک والسعی إلی التحفّظ علی مراعاة ملاکاتهما بقدر الوسع.

خامساً: إنّ فتح الباب للموازنات الظنیة و الإحتمالیة بعنوان تشخیص المصلحة سوف یؤدّی إلی تغیّر معالم الأحکام الشرعیة إلی معالم الأحکام الوضعیة البشریة؛ لأنّ رسم بقاء الأحکام لن یکون الحالة الغالبة فیه الثبات، بل ستکون الحالة الغالبة

ص:513


1- (1) وسائل الشیعة، ج11، ص157.
2- (2) وسائل الشیعة، ج21، ص276، وأکثر الروایات عبّرت «المسلمون» بدل «المؤمنون».

فیه التغیّر أو بنحو المختلط بین ثبات بعضها وتغیّر واختلاف جملة وافرة أخری؛ لا سیّما وأنّ مجریات الحال فی الموضوعات الخارجیة إذا بنی علی الإنقهار والإنفعال عنها سوف تکون قاهرة بدل أن تکون مقهورة وسوف توجب تکییف الأحکام معها بدل أن تتکیَّف هی علی وفق الأحکام وهذه عین الجدلیة القائمة بین المدرسة العلمانیة والمدرسة الدینیة.

سادساً: إنّ مقتضی تقدیم وترجیح الحکومة السیاسیة الظاهرة وولایة الحکم السیاسی علی کلّ الفروع هو موضوعیته الذاتیة فی قبال تلک الأحکام فلا یصحّ حینئذٍ تعلیل أهمیتها وثبوتها بأنّه یتوصّل بها إلی إقامة الأحکام ولحفظ بیضة الدین، لأنّ هذا التعلیل یقتضی أهمیة الغایة علی ذی الغایة لا العکس، مع أنّ مقتضی القول بأهمیة الحکومة علی کلّ فروع الدین هو کون الحکومة وولایة الحکم غایة بنفسهما لا أنهمّا وسیلة للأحکام الشرعیة. فبین هذه الدعوی ودلیلها تدافع بیّن الا اذا رجع الی ترجیح مجموع اکثر الاحکام او مجموع غالب الاحکام علی بعض من الاحکام أی الترجیح من باب التزاحم .

وکیف یحتمل أن تکون الحکومة السیاسیة لغیر المعصوم أهمّ من الحکومة السیاسیة للمعصوم التی وصفت فی الأدلّة الشرعیة بأنّهما وسیلة لإقامة الحق فی قوله(علیه السلام) فی نهج البلاغة:

«والله لهی أحبّ إلیّ من إمرتکم إلّاأن أُقیم حقّاً أو أدفع باطلاً»(1).

ص:514


1- (1) بحار الأنوار، ج32، ص76.

ولا یصحّ مقایسة ولایة غیر المعصوم فی الحکومة السیاسیة بأصل ولایة أهل البیت(علیهم السلام) وذلک لما اتّضح من أنّ الحکومة السیاسیة للمعصوم هی أحد شئون ولایته لا کلّ ولایته وأنّ الحکومة السیاسیة الظاهرة للمعصوم لیست فی حدّ ودرجة أصل ولایة المعصوم، فکیف بالحکومة السیاسیة الظاهریة لغیر المعصوم.

والغریب التفسیر للمصلحة الدینیة بنفس الحکومة السیاسیة وبقائها ثمّ الإستدلال علی ذلک بفعل أمیر المؤمنین(علیه السلام) فی الخمسة وعشرین سنة، حیث غضّ الطرف عن المواجهة المسلّحة مع حکومة السقیفة لأجل عدم التفریط بمصالح الدین.

وجه الغرابة: أنّ معالم الدین إذا کانت أهمّ من الحکومة السیاسیة الظاهریة للمعصوم، فکیف یکون هذا دلیلًا علی أهمیة الحکومة السیاسیة الظاهریة لغیر المعصوم علی معالم الدین وإذا فسّرت المصلحة بالأحکام الأولیة ومعالم الدین فکیف تفسّر تارةً أخری بالحکومة السیاسیة الظاهریة. مع أنّ الحکومة التی هی الضرورة هی آلیة لإقامة الأحکام الأولیة فإذا فقدت حیثیة الآلیة مسخت وتبدّلت ماهیة الحکومة!

ثمّ إنّ هذا الإستدلال المتدافع ینطوی علی مغالطة أخری أیضاً وهی تصویر أنّ حفظ معالم الدین والأحکام الأولیة لا یتمّ إلّا بالحکومة السیاسیة الظاهریة الدینیة مع أنّ التجربة التاریخیة للمسلمین تکذّب هذه الدعوی، فإنّ الحکومات السیاسیة المتعاقبة علی المسلمین قروناً عدیدة لم تکن دینیة حقیقة وإن تقمّص جملة منهما باسم الدین ومع ذلک تمّ المحافظة علی جملة مهمّة من معالم الدین.

ص:515

کلّ ذلک لما بیّناه سابقاً من أنّ أنواع الحکومة للمجتمع لا ینحصر بالحکومة السیاسیة الظاهریة، بل هناک أنواع عدیدة کثیرة من أشکال الحکم والحکومة غیر الظاهریة نظیر القدرة والسلطة الثقافیة والعقائدیة و إدارة نظام الطائفة بالنحو التقلیدی عبر القنوات التقلیدیة غیر الرسمیة وکذلک قدرة الملکوت الخفی النازل وقدرة التحکم فی الشرائح المختلفة للمجتمع بتوسط المال أو التعلیم أو الإعلام أو الطقوس التربویة الدینیة وغیرها من أشکال وقنوات وسلطات التحکم.

وبعبارة أخری: أنّ هناک أنظمة متعدّدة و مختلفة:

منها: النظام المعرفی والعقائدی.

منها: نظام السنن والآداب الإجتماعیة.

ومنها: نظام الأسرة.

ومنها: النظام الثقافی والمالی والإقتصادی والنظام السیاسی وغیرها من الأنظمة.

ولکلّ نظامٍ حکومة أو حکومات وقدرة أو قدرات تتحکّم فیه ولیس النظام السیاسی وحکومته هو المتصرّف الوحید فی الأنظمة الأخری لا سیما وأنّ الحکومة والقدرة فی النظام العقائدی- التی هی من أهمّ أنظمة الدین ومعالمه وبیضته- لیست القدرة والحکومة فیه هی الحکومة السیاسیة، بل المرجعیة الدینیة الشرعیة هی صاحبة القدرة والنفوذ فیه.

ثمّ إنّ هنا مغالطة ثالثة أیضاً وهی أنّه لا یعقل أهمیة الحکومة السیاسیة الظاهریة لغیر المعصوم علی الحکومة السیاسیة الظاهریة للمعصوم وإذا ساغ

ص:516

تأخیر الحکومة الثانیة فکیف لا یسوغ فرض تعطیل الحکومة الأولی وأنّهما فرع لذلک الأصل.

فتحصّل:

إنّ تفسیر المصلحة الدینیة بنفس الحکومة السیاسیة الظاهریة وولایة شئون الأمور العامة ثمّ الإستدلال لذلک بقاعدة التزاحم ونحوها وأهمیة بیضة الدین ومعالم الأحکام تدافع واضح.

سابعاً: إنّ المراد بالمصلحة وتحدید دائرتها إن کان فی ضمن حدود موقّتة زَمَنیّة وفی حدود جیل معیّن أو فئة معیّنة من دون لحاظ المصلحة فی جمیع الأزمان وجمیع الأجیال فسوف یکون فی ذلک إجحافاً ببقیة الأجیال، بل بنفس الجیل بلحاظ الفترات الزمنیة الأخری.

ومن ثمّ بنی مذهب الإمامیة علی أنّه لا یحیط بالمصلحة بتمام دوائرها وبنحو منسجم متناسب فی جمیع الأزمان وجمیع الأجیال إلّامَن وهبه الله تعالی العلم اللدنی.

هذا مضافاً إلی ما مرّ من أنّ الإحاطة بالموضوعات بتفاصیلها وشئونها وعلائق التأثیر بین بعضها مع البعض لا یتمکّن منها بنحو الأتمّ إلّاذو العلم اللدنی من المعصوم ومن ثم قُرّر فی علوم الإدارة والتدبیر فی الآکادیمیات الحدیثة أنّ علم الإحصاء ونُظُم المعلومات من العلوم الخطیرة الهامّة ببالغ الدرجة فی رسم الإدارة السیاسیّة الناجحة ورسم التشریعات واللوائح البنّاءة.

ومن ثمّ أیضاً أقرّ- من قال بالعمل علی المصلحة المظنونة والمحتملة

ص:517

وتحکیمها علی الأحکام الأولیة- بلزوم الرجوع إلی الخبراء والمتخصصین فی جملة من الموضوعات کی یرسم صورة واضحة عن واقع الموضوعات المختلفة.

ثامناً: إنّ جعل المصلحة مداراً ومحوراً تُعطَفُ علیها الأحکام هو بمعنی جعل المصلحة المادیة والقدرة والقوة السیاسیة المادیة أعلی شأناً من الغایات الشرعیة المعنویة والأخرویة وبالتالی سوف یکون القدرة والقوة والغلبة السیاسیة هی مصدر الحق والتشریع لا الکمال المعنوی والأخروی وبدل أن تکون الدنیا ممرّاً والآخرة مقرّاً، تکون النظرة إلی الدنیا فی أصول التشریع مقرّاً.

نعم هناک توازن بین الطریقیة ومقدّمیة المصالح المادیة والدنیویة مع غائیة المصالح الأخرویة من أنّ الغایة لیست بنحو تُعدم الوسیلة ولا بنحو یؤول إلی جعل الوسیلة الغایة، بل لابدّ من حفظ التوازن بینهما لا سیما علی صعید التناسب بین الجهة الفردیة والمجموعیة لمجموع المجتمع من جانب ومن جانب آخر التناسب بین معالم الدین والمصالح المعیشیة.

تاسعاً: إنّ تعیین المصلحة إمّا بِیَد المتخصصین فی الموضوعات المختلفة، فهذا یؤول إلی عدم حاکمیة المرجعیة الدینیة وإمّا أن یکون بضمیمة نظر الفقیه باعتبار أنّ له الولایة النیابیة ومن ثمّ تتعنون وتنتسب المصلحة بالحیثیة الشرعیة فیبقی السؤال علی حاله: من أنّ الحیثیة الشرعیة للمصلحة الآتیة من حاکمیة الفقیه لابدّ وأن تکون من جهة معرفته بالأحکام الشرعیة وفِقْهِه للدین وبالتالی فسوف یکون مدار الشرعیة للمصلحة هی نفس الأحکام الأولیة وهذا کَرٌّ علی ما فَرَّ منه القائل

ص:518

بمداریة المصلحة فی الحکم.

عاشراً: إنّه قد وقع الکلام والبحث حول صلاحیّة التشریع بنحو محدود للرسول صلی الله علیه و آله بعد الفراغ عن أنّ المشرّع الأوّل هو الله تعالی وکذلک الکلام فی صلاحیّة عترته مِن بعده للتشریع فی دائرة أضیق مما کانت للنبی صلی الله علیه و آله ، فَبَیْنَ مُثبِت لذلک وبین نافٍ وإن کان الأصحّ هو ثبوت ذلک بنحو التبعیة للتشریع الإلهی وتبعیة تشریع الأئمة(علیهم السلام) لتشریعات الباری تعالی وتشریعات النبی صلی الله علیه و آله ولم یذهب ذاهب بالضرورة إلی ثبوت هذه الصلاحیّة لغیر المعصومین سواء تعویلًا علی میزان المصلحة أو علی أیّ میزان آخر، فإنّ جملة هذه الموازین لا تُعطی ولا تُخَوّل الفقیه صلاحیة التشریع ومن ثمّ افترق حقیقة الإجتهاد عند الإمامیة عن معناه لدی المذاهب الأخری حیث إنّه عند الإمامیة عبارة عن الإستنباط والفهم والکشف عن الحکم الشرعی وتنزّلاته لا إنشاء الحکم بالرأی کما هو لدی المذاهب الأخری.

الوجه الخامس :قاعدة لا ضرر:

أمّا التمسّک بقاعدة لا ضرر أو لا حرج، فالصحیح أنّ قاعدة لا ضرر- کما ذهب إلیه مشهور الفقهاء- تؤول إلی التزاحم، أی بین حفظ النفس من الحیاة والبدن والصحة والسلامة وحفظ العِرض من الفروج والسُمعة والعفّة والشرف وحفظ الأموال والمنافع أو فی مقام التزاحم مع ملاکات الأحکام الأولیة، فحقیقتها ترجع إلی التزاحم إذن، ومن ثمّ لا یقدّمون الضرر بأیّ درجة کانت ولو بدرجة خفیفة أو متوسطة فی مقابل الحکم الالزامی البالغ الأهمیة، فلم یتوهّم أن ترفع حرمة الفاحشة تحت ذریعة تسویغ الضرر الصحّی من حبس الماء، کما هو الحال فی قاعدة الحرج

ص:519

أیضاً فإنّه لا یرفع بها بالحرج المتوسط عزیمة الأحکام الهامّة الإلزامیة.

وعلی ذلک فکلّ ما تقدّم تسجیله من أحکام قاعدة التزاحم وبالتالی التحفظات التی تسجل علی قاعدة الغایة تبرّر الوسیلة ومشرّعیّة المصلحة تسجّل علی التمسک بذیل قاعدة لا ضررللتدلیل علی قاعدة مشرّعیة المصلحة.

الوجه السادس :حکم العقل بتقدیم الأهم:

و ممّا استدلّ به لرعایة المصلحة إنّه من باب مراعاة الأهمّ قبال المهم والذی هو حکم عقلی، فحکم الحاکم النائب وإن خالف جملة من مصالح الأحکام الأولیة إلّاأنّه یکون رعایة لما هو أهم.

وفیه:

أولاً: إنّ الأهمّ إن أرید منه حفظ القدرة والسلطة فی الحکم بما هی هی، فهذه لیست غایة مشروعة، بل هی غایة الفراعنة.

وإن کان المراد من الأهمّ بقیة مصالح الأحکام الأولیة، فهذا یندرج فی بحث التزاحم الإصطلاحی إلّا أنّ اللازم علی الحاکم المدبّر الفطن هو الممانعة عن تدافع المصالح الأولیة وعلی فرض وقوعها فاللازم ایجاد التدبیر الحکیم لرفع استمرار ذلک التدافع.

ثانیاً: ان التفریط بسلسلة المهمّات تحت طائلة الأهمّ الواحد سوف یقلب معادلة التزاحم ویکون التفریط بسلسلة المهم هو التفریط بالأهمّ المتعاقب الشدید فی مقابل حفظ الأهمّ الموقّت.

ثالثاً: إنّ ارتکاب المحظور ومخالفة الحدود الإلهیة بنفسه یجذّر سنّة

ص:520

المخالفة کسنّة باطلة فی النظام الإجتماعی، حیث أنّ عامّة طبقات المجتمع علی دین ملوکهم، أی تَسْتَنُّ فی منهاجها بسنن النظام الحاکم.

وهذا من أخطر محاذیر ارتکاب المحظورات وعدم حفظ الحدود الإلهیة ولو تحت ذریعة التزاحم أو الأهمّ والمهم أو العناوین الثانویة أو غیرها من القواعد العذریة.

رابعاً: إنّ فرض تدافع الأهمّ والمهم إنّما هو من الجهل و الاغفال عن حلول موضوعیة والإلتجاء إلی الحلول الحُکْمیة مع أنّ العکس هو المتعیّن؛ إذ إنّ اللازم تکییف البیئات الموضوعیة علی طبق التشریع وهو هدف التشریع لا تکییف التشریع علی طبق البیئات الموضوعیة المرضیة فی الحقول المختلفة.

خامساً: إنّ فرض التزاحم والتدافع والتنافی بین إقامة الأهمّ والمهم إنّما هو لتصویر فرض خاطئ مبتنٍ علی أنّ وسیلة إقامة الأهمّ منحصرة بشکل الحکومة الرسمیة، مع أنّ هناک أشکالًا مختلفة أخری غیر صیغة الحکومة الرسمیة أی عبر أشکال القدرة الإجتماعیة المختلفة یمکن إقامة الأحکام بلا تدافع بینهما.

الوجه السابع : دفع الأفسد بالفاسد:

وهذه القاعدة فی الغالب تستعمل ویستدلّ بها لارتکاب المحظورات فی دفع ما هو أشدّ حرمة وأکثر ضرراً وفساداً وهی مع التأمّل الدقیق ترجع إلی تطبیق قاعدة التزاحم والأهمّ والمهم فی مورد المحرّمات.

فیرد علیها ما تقدّم من التمسّک بذیل القاعدتین.

مضافاً إلی اختصاصها ببعض آخر:

ص:521

أولاً: إنّ دفع الأفسد لیس من المسئولیة والتکلیف الشرعی إلّاضمن الحدود المشروعة و أمّا ما وراء ذلک فلیس هو من المسئولیة الواقعة علی عاتق المکلّف إلّا فی ما أذن الشرع فیه بالخصوص ومن ثمّ تسالم فقهاء الإمامیة علی أنّ التقیة فی کلّ شیء وأمّا إذا بلغت الدماء فلا تقیة. فلو دار الأمر بسبب الإکراه أن یقتل مجنوناً مسلماً غیر بالغ فی قبال أن یحفظ دم نفسه، فإنّ التقیة لا تجوّز ذلک، أی إنّ الأدلّة العذریة برمّتها لا تجوّز له ارتکاب ذلک المحظور ومن ثمّ استفاد الفقهاء من قاعدة لا تقیة فی الدماء أنّ النفی هنا بمعنی النهی یفید الحرمة ممّا یدلّل علی أنّه لا یسوغ ارتکاب المحرم لأجل التوصّل إلی دفع المفسدة إلّافی المورد الذی ورد الترخیص الشرعی فیه بالخصوص، کمثل قتل المسلمین المتَتَرَّس بهم فی الحرب مع الکفّار وما ورد من تحریم التداوی بالخمر و أنّه لم یجعل الله الشفاء فی الخمر ونظیره ما قاله عدة من الاعلام من أنّه لا یسوغ تشریح جثث المیت لأجل معالجة مرضی الأحیاء بترکیب الأعضاء فإنّ الواجب فی انقاذ حیاة الأحیاء لیس واجباً مطلقاً بلغ ما بلغ، بل إنّما اللازم هو اتخاذ الوسائل المشروعة وکم له نظیر فی الفقه.

ثانیاً: إنّ فرض اطلاق وجوب دفع الأفسد بلغ ما بلغ یبتنی علی فلسفة اصل فی التشریع وهی أنّ مسئولیة إصلاح النظام الإجتماعی مفوّضة تماماً إلی الإرادة الإختیاریة البشریة لا إلی الإرادة التشریعیة، مع أنّ هذه النظریة هی إفراط فی مقابل نظریة المرجئة والقدریة التی تفترض الجبریة وتتبّناها فی المسرح النظام الإجتماعی السیاسی، أی اعطاء المساحة والدور إلی الإرادة التکوینیة الإلهیة فقط مع إلغاء دور الإرادة الإختیاریة البشریة فی ظل الإرادة التشریعیة بخلاف النظریة الوسطیة التی هی الأمر

ص:522

بین الأمرین، فإنّها لا تتبنّی رؤیة الیأس کما فی النظریة الثانیة کما أنّها لا تتبنّی رؤیة الإستقلال التفویضی کما فی النظریة الأولی وهذا معنی لزوم تقید الإرادة الإختیاریة فی ظل دائرة التشریع والتکلیف وقد قال تعالی:

وَ مَنْ یَتَّقِ اللّهَ یَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً 1 إِنْ تَتَّقُوا اللّهَ یَجْعَلْ لَکُمْ فُرْقاناً2.

فالتقیّد بالحدود الإلهیة هو سبیل المَخْرَج، ففی ظلّ الصراع السیاسی والإقتصادی والفکری والإعتقادی أو المالی والتجاری أو العسکری والأمنی، التقید بالحدود الإلهیة وَ الْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ 3 هو السبیل والمخرج من المأزق لا ارتکاب المحظورات کما هو سبیل الإنتهازیین وعصابات المرتزقة السیاسیة.

ثالثاً: إنّ العقل لمّا یحکم بمؤدّی هذه القاعدة لا بمعنی ارتکاب الفاسد

وایجاد العاقل المختار لذلک الفساد بیده، فإنّ قبح الفساد لا یزول بذریعة المزاحمة وإنّما بمعنی أنّه إذا اضطرّ المختار إلی أحد الخیارین بحیث یکون ما فیهما من الفساد هو من قبل الغیر إلّاأنّ أحد الطریقین أکثر من الآخر؛ فالعقل یحکم بأنّ تحمّل أحد الضررین أهون من تحمّل الضرر الآخر فمورد القاعدة ما إذا کان الفساد حاصلاً من قبل الغیر واضطرّ المختار إلی سلوک أحد الطریقین أو الموردین الذین فیهما ذلک الفساد.

وأمّا ما ذکره الفقهاء فی تولّی ولایة الجائر وغیرها من الموارد من

ص:523

جواز تولّیهما إذا خاف علی نفسه ولو استلزم إلحاق الضرر بمؤمن إذا کان الضرر الّذی یتهدّده أشدّ من الضرر القلیل علی الغیر تمسّکاً منهم بمشروعیّة التقیة إلّاإذا بلغت الدم، فکلامهم هذا ناظر إلی ما لو کان دوران الأمر بین الضرر المزبور وبعض الموارد القلیلة عدداً لا ما إذا دار الأمر بین ذلک الضرر علی نفسه وبین الإضرار بنوع المؤمنین فی جملة عدیدة من الموارد بسبب طبیعة ذلک العمل.

هذا مع أنّ فی الفرد الأوّل أیضاً لم ینفوا الضمان الوضعی ولا مبغوضیة الفعل بل غایته معذوریة الفاعل وبالجملة فتطبیق قاعدة دفع الأفسد بالفاسد وتزاحم الأفسد مع الفاسد إذا طبّقت بنحو مستمر متکرّر وکسنّة عملیة متصلة فسیؤول الأمر إلی إرتکاب مجموعة موارد الفاسد وهی أکثر فساداً من الأفسد الواحد.

و بعبارة أخری، فاللازم هو تحمّل الأفسد الذی یرتکبه الغیر فی مقابل ارتکاب الفاسد بنحو المستدیم. ومثل ذلک ما لو فرض أنّ عامّة المؤمنین یرتکب الفاسد دفعاً للأفسد کسنّة منتشرة شائعة بینهم بنحو یؤدّی إلی زوال محذوریّة الفاسد فی العادة لعملیّة لدیهم أو یستلزم ذلک منهم ارتکاب البقیة للفاسد فی صورة عدم المدافعة مع الأفسد ونحو ذلک من الصور والفروع. فإنّ فی مثل هذه الموارد لا یکون من دفع الأفسد بالفاسد إلّا صوریاً وهو فی الحقیقة من دفع الأفسد بما هو أفسد منه فی اللبّ وحقیقة المآل ولأجل ذلک یشدّد کقاعدة خطیرة فی الفقه السیاسی وباب الولایات علی أصحاب الولایات والمناصب فی النظام الإجتماعی السیاسی من ارتکاب الأعذار، فإنّ أفعالهم حیث تکون متصلة بسلسلة حلقات

ص:524

النظام فلأجل ذلک یصعب احراز دائرة اطراف التزاحم والتدافع وتداعیات کلّ طرف أی لوازمه ومستلزماته ولا یمکن قصر النظر علی خصوص المتدافعین مباشرة ومن ثمّ لا یحیطوا بتداعیات وتلازمات الموضوعات والحالات فی أنظمة النظام الإجتماعی والسیاسی بنحو لا یشذّ عن الحیطة والإحاطة شیء إلّامن لدیه علم لدنّی وهو المعصوم الذی یتنزّل علیه کلّ أمر فی لیلة القدر بخلاف غیره، فإنّ اللازم علیهم التحفّظ علی الحدود الأولیّة وعدم المبادرة لارتکاب مخالفتهما بذریعة التدافع.

هذا، مضافاً إلی ما مرّ عن مجمل الأجوبة عن قاعدة التزاحم والعناوین الثانویة کلزوم تکییف الموضوع مع التشریع لا التشریع مع الموضوع.

الوجه الثامن :منطقة الفراغ:

وممّا استدلّ به علی مراعاة المصلحة وشرعیّتها ومداریّتها فی نظام تدبیر السیاسی وجود منطقة الفراغ فی التشریع الإسلامی وهی منطقة المباحات؛ فإنّ فلسفة وجود مثل هذه المنطقة وهذه المساحة من الفراغ هو لأجل مواکبة التشریع وملائمته من للأدوار البشریة المختلفة والظروف البیئیة المتغیّرة وهی نحو مرونة فی التشریع الإسلامی مع الجانب المتغیر فی الحیاة البشریّة.

وقد یصاغ هذا الدلیل بتقریب آخروهو أنّ التشریع الإسلامی لم یتعرّض إلی تفاصیل النظام السیاسی أو النظام الإقتصادی أو المالی أو القضائی أو الأمنی أو العسکری أو الثقافی أو الصحّی والبیئی أو غیرها من الأنظمة المختلفة وإنّما تعرّض إلی أسس فوقیة کلیّة والحکمة فی ذلک

ص:525

هی دوام بقاء التشریع وأهداف ضمن الظروف البشریة المختلفة والتکیّف معهما فی إطار المحافظة علی الأغراض والمصالح الشرعیة الأساسیّة من دون نظر إلی التفاصیل الجزئیة المتناوبة.

و یرد علیه:

أولاً: إنّه قد استفاضت الدلالات الشرعیّة علی عدم خلوّ أی واقع عن حکم الله تعالی مثل قوله تعالی: وَ نَزَّلْنا عَلَیْکَ الْکِتابَ تِبْیاناً لِکُلِّ شَیْ ءٍ1

وقوله تعالی: ما فَرَّطْنا فِی الْکِتابِ مِنْ شَیْ ءٍ2.

وغیرها من الآیات الدالّة علی أنّ کلّ صغیرة وکبیرة وکلّ شیء مستطر فی الکتاب المبین مضافاً إلی الروایات المستفیضة والمتواترة علی أنّ ما من واقع إلا و لله فیه حکم (1).

فالتعبیر بالفراغ فی الشریعة الإسلامیّة لا یخلو عن مسامحة واضحة وإرادة منطقة المباحات من ذلک لا یصحّح إطلاق هذه التسمیة علیهما.

ثانیاً: إنّ حصول المصالح الملزمة وتصادقها مع المباحات فی جملة من

ص:526


1- (3) هذا المضمون «ما من واقعة إلّا ولله فیها حکم» شاع فی کلمات الفقهاء، وهو لیس بروایةٍ وإنَّما هو متصید من مجموع روایات بلغت حدِّ الاستفاضة، قال صاحب الحدائق «استفاضة الأخبار بأنَّ لله فی کل واقعة حکماً شرعیاً مخزوناً عند أهله حتَّی إرش الخدش...».

الموارد لیس له معنی محصّلٌ ولا تفسیر صحیح إلّا بإرادة انطباق العناوین الأولیّة الإلزامیّة علی الموضوعات المباحة وإلّا فمن أین یتصور الإلزام من دون أن یکون قد شرّع فی الأحکام الأولیة ومن ثمّ أشکل علی العامّة فی اعتمادهم علی المصالح المرسلة وسدّ الذرائع مع أنّ کلتا القاعدتین عندهم هی بلحاظ الأحکام الإلزامیة الأولیة والحیطة علیها والحفاظ علیها إلّا أنهم جعلوا التأدیة إلی التفریط بهما ولو احتمالًا أو ظنّاً لازم الرعایة.

وقد یقرّب بأنّ للفقیه مَلأ منطقة الفراغ، فإنّ فی التشریع الإسلامی قسماً ثابتاً وهو ما قد یعبّر عنه فی الأثر الشریف

«حلال محمد حلال إلی یوم القیامة وحرامه حرام إلی یوم القیامة»(1).

وهناک قسم غیر ثابت متغیر حسب الظروف المختلفة لکنه مشروط ومتأطّر بعناوین القسم الأول ویطلق علیه منطقة الفراغ ومَلأ هذا القسم المتغیر هو من العارف بأحکام القسم الأول هو الخبیر باستنباط أحکام القسم الثانی بنحو لا یتعارض مع أحکام القسم الأول ولا یتمکن من ذلک إلّاالفقیه.

هذا وقد ذکر عدة من الضوابط المرعیّة فی ملأ منطقة الفراغ:

الأولی: وهی الأهداف والعلل المنصوصة للأحکام الثابتة کما فی تعلیل جعل الفیء لله وللرسول ولذی القربی کی لا یکون دولة بین الأغنیاء منکم أی لا تتکدّس الأموال بین الأغنیاء، بل یکون لصالح الدولة والأمّة. فهذه العلّة کضابطة حدّدتْه الآیة وباستطاعة الفقیه تشریع

ص:527


1- (1) الکافی، ج1، ص58.

بعض القوانین الممانعة من تکدّس الأموال عند الأغنیاء کفرض الضرائب علی أموالهم ونحو ذلک لتحقیق الهدف المنصوص علیه فی الآیة.

ونظیره ما عُلل فی روایات الزکاة من أنّ غایتها إلحاق الفقیر بالمستوی المعتاد فی المعیشة، کما فی معتبرة أبی بصیر عن الصادق(علیه السلام):

«وما أخذ من الزکاة فَضَّه علی عیاله حتی یلحقهم بالناس»(1).

ونظیره ما ورد أیضاً من ان من له جاریة ودار وغلام وجمل له أنّ یأخذ من الزکاة.

فهذا التعلیل یفید أنّ مِن حق الوالی إذا عجزت أموال الزکاة عن هذا الهدف أن یشرّع المزید من الزکاة لأجل ذلک.

ومثلها الأهداف المستنبطة من مجموعة أحکام کقاعدة «لا ربح بلا عمل من جملة من الأحکام الأخری کعدم تملک الأرض من دون إحیاء وعدم ملکیة المعدن إلّابمقدار ما استخرج وعدم مشارکة الربح إذا کان صاحب رأس المال ماله مضموناً والمستأجر لا یؤجر بأزید من أجرته إلّاإذا أحدث حدثاً».

الثانیة: القیم الإجتماعیة التی أکّدت علیها النصوص کالعدالة والمساواة والأخوة فی قوله تعالی:

یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا کُونُوا قَوّامِینَ لِلّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ 2.

ص:528


1- (1) الکافی، ج3، ص560.

وقوله تعالی:

إِنَّ اللّهَ یَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إِیتاءِ ذِی الْقُرْبی 1.

وقوله تعالی:

یا أَیُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْناکُمْ مِنْ ذَکَرٍ وَ أُنْثی وَ جَعَلْناکُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَکْرَمَکُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاکُمْ 2.

فاللازم علی الحاکم سنّ إقامة النُظُم والقوانین المؤدّیة إلی ذلک.

الثالثة: المَیْز فی الأحکام المستفادة من النصوص بین الأحکام الثابتة والأحکام التدبیریة المتغیرة کما فی جملة من الموارد من النواهی فی الأرضین وباب الإجارة والثروات المشترکة الطبیعیة فإنّها عُلّلَ بعدم الضرر والضرار، کالنهی عن الإحتکار فی البیوعات.

الرابعة: الغایات التی حدّدت للحاکم أن ینجزها کمسئولیة تقع علی عاتقه.

ویلاحظ فی تعدیل هذا الوجه:

أولاً: ما مرّ من عدم خلو أیّ واقعة من الحکم الشرعی وهذا لیس من الفراغ فی التشریع بقدر ما هو تطبیق للثابت التشریعی علی المتغیّر الموضوعی فی الحقول المختلفة.

ثانیاً: إنّ الأصول التشریعیة- وهو ما قد یعبّر عنه بأصول القانون أو

ص:529

فقه المقاصد أو روح الشریعة ومذاقها علی حسب اختلاف النظریات الثلاث المعالجة لأسس التشریع- وإن کانت تشریعات أولیّة فوقیة لا سیما علی وفق النظریة الأولی إلّاأنّ ذلک لا یعنی رفع الید عن التشریعات النبویة الأخری التی هی فی طول تلک الأصول التشریعیة و هی نحو من التنزیل لها. وکذلک التشریعات أو البیانات التشریعیة من الأئمة علیهم السلام هی فی طول التشریعات النبویة أیضاً فی المراتب اللاحقة ولا معنی لرفع الید عن مدارج التشریع النازلة تحت ذریعة أنّها أحکام تدبیریة متغیّرة غیر ثابتة، فإنّ البناء علی ذلک بنحو العموم بدعوی إقتضاء الأصول التشریعیة الفوقیة لذلک، لازمه التخلّی عن التسلیم بولایة الرسول والأئمة علیهم السلام وعدم التبعیة لهم و بالتالی القفز علی ذلک و تخطّیه هو مروق و انفساخ عن ولایتهم وعن التأسّی بهم وعن الطاعة و الانقیاد لهم؛ فمقتضی ولایتهم و طاعتهم و التسلیم لهم فی طول ولایة اللّه و أحکامه هو اقتضاء ذلک الثبات علی التشریعات النبویة و الأحکام المبینة من قبلهم علیهم السلام إلّاما نصّ علیه الدلیل الخاص کما فی جملة من الموارد الدالّة علی أن حکمهم هو من التدبیر الخاص بذلک المورد.

ثالثاً: إنّ مقتضی هذا التقریب هو بیان الأصول القانونیة للتشریع وذلک لا یقتضی ثبوت صلاحیة التشریع للفقیه علی مصراعیه، بل اللازم حینئذٍ مراعاة قواعد أصول الحکم والقانون المسمی بالمبادی الاحکامیة وضوابطها وهی تشتمل علی موازین عدیدة قد طفح وبرز تنقیحها فی التحقیقات الأخیرة فی علم أصول الفقه.

ص:530

الوجه التاسع :جعل الشروط الإلزامیة:

واستدلّ بإمکان تعاقد الدولة والنظام مع أفراد الأمّة والمؤسّسات الخاصّة بانشاء عقود وعهود مشروطة تلزمهم بالمصلحة الّتی تشخّص وذلک بازاء ما تقوم به الدولة من توفیر خدمات وامکانات مادیة لهم؛ فعبْر نظام العقود والشروط تتمکّن الدولة من إقامة الأنظمة المختلفة المقترحة المتوفّرة علی المصلحة المدرکة، سواء النظام الإقتصادی أو نظام العمل أو نظام التجارة ونظام الأحوال الشخصیة والأسرة ونظام البلدیة والعمران ونظام الزراعة وغیرها من الأنظمة الأخری. فتتوصّل عبر نظام العقد والشروط إلی الوصول إلی عملیة التغییر المطلوبة فی أنظمة النظام الإجتماعی السیاسی فی الموارد التی تضطر الأمّة والشعب فی سدّ حاجتها إلی خدمات وظائف الدولة. فالعقد والشروط صیاغة قانونیة لتنفیذ السیاسات العامّة للإلزام أو للحظر فی الموارد المختلفة وللرخصة وللمنع.

ویتحفظ علی هذا الوجه:

أولاً: إنّ الشروط إنّما تشرع إذا لم یستلزم منهما تغییر الأحکام الأولیّة لا سیما إذا فرضت تغییر ماهیّة الأنظمة الّتی قرّرتها الشریعة والّتی هی مجموعة أحکام أساسیة أصلیّة.

ثانیاً: إنّه قد تقرّر أنّ ما هو واجب لا یصح اتخاذ الأجرة علیه والعوض لا سیّما الوالی لاعتبار الشارع ذلک الوجوب کون المکلّف مقهوراً علیه فلا یکون متوقفاً علی طیب نفسه ولا تکون له حرمة ویکون أکلًا للمال بالباطل ولعلّ وجهه فی الوالی وغیره أنّ تلک الأفعال لم یجعلها الشارع مصدراً ومنبعاً للمال لکن الصحیح امکان اخذ الاجرة علی

ص:531

الواجب الا ما اعتبره الشارع واجبا مجانیا.

نعم، قد ورد فی أراضی الأنفال أنّه للإمام(عج) أن یأخذ العوض علیها.

وقد یفهم من ذلک جواز أخذه(علیه السلام) علی مطلق ما کان فیئاً ونفلًا لا سیّما أنّه قد علّل فی الروایة جواز أخذه ذلک بأنّ الأرض کلّها لهم، أی تحت ولایتهم.

ولکن ذلک لا یعنی أخذ الشروط والتعاقد بهما بنحو یخالف الکتاب أو السنة أو یحرّم حلالًا أو یحلّل حراماً کما مرّ فی الملاحظة الأولی مضافاً إلی ما مرّ ذکره من الملاحظات الکثیرة علی الوجوه المزعومة لمشروعیّة المصلحة علی نحو الاطلاق.

الوجه العاشر :دور الزمان والمکان فی الإجتهاد:

واستدلّ بأنّ الزمان والمکان لهما تأثیر ملحوظ فی الأحکام الشرعیة واستنباطها واجتهاد الفقهاء ممّا ینبّه علی أنّ الجانب المتغیّر فی البیئة المحیطة للبشر لها واضح التأثیر فی تحدید الأحکام المنطبقة علیها أو المتعلّقة بها؛ فکما أنّ فی الشریعة جانب ثبات هناک جانب تغیّر أیضاً.

و لذلک قیل بأنّ کلّ ما له تأثیر فی حفظ النظام الإسلامی، أی إنّ عدم مراعاته یوجب اختلاله والتفریط به یوجب الفساد أو الحرج فاللازم مراعاته ما دام ذلک الموضوع بهذا الوصف.

ویلاحظ فی دراسة هذا الوجه:

إنّه إن أرید انطباق کلیات العناوین الأولیة علی المصادیق هو بنحو متغیّر فهذا متّجه ولکن لا صلة له بتصویر المصلحة المزعومة وراء الأحکام الأولیة.

ص:532

وبعبارة أخری: إنّ نظام الموضوع ودرجات وجوداته ومصادیقه یتصوّر فیه عدم الثبات فی المراتب التحتانیة فقد یکون مصداقاً جزئیاً ینطبق علیه عنواناً موضوعیاً مّا ثمّ یؤول الأمر إلی انتفاء ذلک العنوان وانطباق عنوان آخر علیه وهکذا تتوارد علیه عناوین وتزول اخری وهذا ما یعبّر عنه بالطروء الثانوی فی الجانب الموضوعی وهو یغایر حالة الأحکام الثانویة فإنّ الثانویة، فیها هی بلحاظ الحکم وقد مضی أنّ اللازم علی الوالی مراعاة عدم وقوع التدافع بین الأحکام لا التشبث المستمر بتکییف الأحکام علی البیئات الموضوعیة، بل تکییف الموضوعات علی نهج الأحکام وإلّا لعاد الحکم الثانوی أولیاً.

الوجه الحادی عشر :قصةُ داود(علیه السلام):

وقد یستدلّ لمشرعیة المصلحة بما قَصَّه الله عَزَّ وَجَلَّ من فعل الملائکة فی قوله تعالی:

وَ هَلْ أَتاکَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلی داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغی بَعْضُنا عَلی بَعْضٍ فَاحْکُمْ بَیْنَنا بِالْحَقِّ وَ لا تُشْطِطْ وَ اهْدِنا إِلی سَواءِ الصِّراطِ* إِنَّ هذا أَخِی لَهُ تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ نَعْجَةً وَ لِیَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَکْفِلْنِیها وَ عَزَّنِی فِی الْخِطابِ * قالَ لَقَدْ ظَلَمَکَ بِسُؤالِ نَعْجَتِکَ إِلی نِعاجِهِ وَ إِنَّ کَثِیراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَیَبْغِی بَعْضُهُمْ عَلی بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِینَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ وَ قَلِیلٌ ما هُمْ وَ ظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَ خَرَّ راکِعاً وَ أَنابَ 1.

ص:533

حیث إنّ الخصومة التی حکاها الملکان لم یکن لها تحقّق فی الواقع وإنّما قاما بحکایتها إمتحاناً من الله تعالی لداود(علیه السلام)، فالمصلحة اقتضت الإمتحان وإن کانت بحکایة غیر مطابقة للواقع فلم تقع الواقعة ولا کان هناک متخاصمان فی الحقیقة ولا نعجة ولا نعاج فی البین؛ فالمصلحة تقتضی حینئذٍ انتهاج ما هو محظور بطبعه الأولی.

ویلاحظ علی هذا الوجه:

إنّه لو سلّم بأنّ المتخاصمین ملکان- لا رجلان- فإنّ ذلک لیس من المجیء فی عالم المحسوس المادی، بل قد یکون من باب التمثّل کما فی قوله تعالی: فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِیًّا1.

وکان رسم الحکم من داود المعلّق فی ظرف التمثّل کما لو کان رآه فی ما یری النائم. فصورة الحدث کالصورة فی عالم الرؤیة وهی تعکس المیول الباطنة فی النفس الإنسانیة فهی إمّا من التمثّل المنفصل أو المتصل وهی الرؤیا لا من الحدث فی الحس المادی فهو من الخلط حینئذ بین عالم التقدیر الالهی وعالم الوقوع المادی الدنیوی الذی هو مجال تطبیق التشریع.

الوجه الثانی عشر: الحکم الولائی:

ویستدلّ أیضاً علی مشرعیة المصلحة بأنّ حکم الحاکم هو بنفسه من الأحکام الأولیة فی قبال بقیة الأحکام ولا ضرورة لانطباقه علی الأحکام الأولیة الأخری، فعندما یری الحاکمُ المصلحةَ فی موردٍ مّا ویُلزِم الآخرین

ص:534

بمراعاتها هو بنفسه حکم أولیّ؛ فالمصلحة لو خلّیت ونفسها لا توجب تشریع الحکم ولکن بطرو عنوان حکم الحاکم وأمره بها أصبحت مُلزمة وممّا یدلّل علی أنّ حکم الحاکم من الأحکام الأولیة قوله تعالی:

لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَیِّناتِ وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْکِتابَ وَ الْمِیزانَ لِیَقُومَ النّاسُ بِالْقِسْطِ 1.

وهی تشیر إلی أنّ الغایة من التشریع هی إقامة الحکم.

کما یستدلّ بذلک بقوله تعالی:

أَطِیعُوا اللّهَ وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِی الْأَمْرِ مِنْکُمْ 2.

بتقریب أنّ طاعة الأحکام التشریعیة تندرج فی طاعة الله وعندما یأمر الرسول صلی الله علیه و آله أو ولاة الأمر بحکم من أحکام الله تعالی فالطاعة فی الحقیقة للَّه تعالی لا للرسول ولا لأولی الأمر، بل لو فرض أنّه صلّی أو صام وقصده إطاعة الرسول أو الإمام لبطلت صلاته وفسد صومه؛ فلا محالة تکون طاعة الرسول وطاعة أولی الأمر هی من جهة الولایة.

و یشیر إلی ذلک أیضاً تکرار کلمة أَطِیعُوا ممّا یشیر إلی اختلاف سنخ الطاعة. مضافاً إلی أنّ الأمر یستعمل فی ما هو فی الشأن العامّ ممّا یقتضی أنّ الطاعة لولیّ الأمر إنّما هی فی الحکم والتدبیر فی الأمور العامّة.

و فی ردّ الخوارج لا حکم إلا الله قال(علیه السلام):

ص:535

«لابدَّ للناس من أمیر برّ أو فاجر یعمل فی إمرته المؤمن و یستمتع فیها الکافر و یبلغ الله فیها الأجل و یجمع به الفیء و یقاتل به العدو و تأمن به السبل»(1).

یشیر(علیه السلام) إلی حکم العقل الضروری بإقامة النظم والتدبیر فی الإجتماع السیاسی البشری فهذا الحکم ممّا یقضی به العقل بدیهةً.

ویلاحظ علی هذا الوجه:

إنّ هذا خلط بین ضرورة الحکومة وإقامة النظام وبین تفاصیل وجزئیات التدبیر وتصرّفات الحاکم. فإنّ ضرورة الحکومة وفعلَ النظم والتنسیق فی التدبیر والأمور لا یعنی ضرورة آحاد وجزئیات کلّ تدبیر، بل إنّ مقتضی ذلک هو ضرورة التدبیر فی الجملة ممّا یحفظ النظم واتّساق الأمور وهو لا یتوقّف علی مخالفة الأحکام الأولیة، بل الأحکام الأولیة المفروض إنّها تشریع سماوی یُقیم النظم لا أنّه یشیع الفوضی؛ غایة الأمر قد یقع التزاحم بین موضوعات التشریعات الأولیة أو الورود ونحو ذلک فکیف یتصوّر أن تکون هناک مصلحة مُدرَکة لم یعلمها الشارع الأقدس ویُدرکها البشر بعد فرض عدم کون الأمر الذی تعلّق بذلک الفعل منحدراً ومنشعباً عن أصول تشریعیة أولیة وأن الفرض کونه فی عرضها.

هذا أوّلاً.

وأمّا ثانیاً: فلأنّ ماهیّة الحکومة فی علم القانون والعلوم السیاسیة والإداریة والعلوم الإنسانیة لیست إلّاتدبیراً لتطبیق الأحکام والقوانین

ص:536


1- (1) بحار الأنوار، ج33، ص358.

الکلیّة؛ فمثلًا فی الحکومة الوضعیة، الحکومة التنفیذیة تُجری وتُنَفّذ وتطبّق القوانین والمواد الدستوریة أو القوانین للمجالس النیابیة وهی تَنَزُّل وتطبیق للمواد القانونیة الدستوریة ولا معنی للقول بأنّ تدبیر الحکومة فی عرض المواد الدستوریة، بل العرضیة تَعنی عدم تقیّد الحکومة التنفیذیة بالدستور، بل لازم عدم تقیّد الحکومات بالقوانین هو حکومة شرع الغاب أو استبداد الهوی وإلّا فاللازم تحکیم الأحکام المقرّرة المشرَّعة من دون تجاوز حدود التشریعات.

وثالثاً: إنّ طاعة الرسول لا تنفکّ عن طاعة الله، کما أنّ طاعة الله تعالی لا تنفکّ عن طاعة الرسول.

وبعبارة أخری: إنّ کلّ فعل طاعة یصدق علیه طاعة الله، فإنّه یصدق علیه طاعة الرسول أیضاً وکذلک العکس.

والوجه فی ذلک: أنّ المبلّغ عن الله فی أحکامه هو الرسول صلی الله علیه و آله فی ما بلّغه و کذلک طاعة الرسول فی ما یأمر به وینهی عنه هو طاعة للَّه تعالی، حیث أمر بطاعة الرسول صلی الله علیه و آله کما فی الآیة المتقدّمة وکما فی قوله تعالی: ما آتاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاکُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا1.

نعم هناک من التشریعات القرآنیة ونحوها ما یطلق علیه تشریعات الله تعالی وأحکامه، کما أنّ هناک سنن النبی صلی الله علیه و آله وتشریعاته التی هی منشعبة ومنحدرة عن أصول تشریع الله تعالی کما فی الصلاة؛ فإنّ الرکعتین الأولیتین من الفرائض الیومیة هی من فرائض الله تعالی و أمّا الرکعتین

ص:537

الاخریتین فیها، فإنّها من تشریع النبی صلی الله علیه و آله و سلم کما رَوی ذلک الفریقان.

فمن الغریب دعوی بطلان الصلاة إذا أتی بها طاعةً للنبی صلی الله علیه و آله فإنّ الذی أمر بالرکعتین الأخریتین هو النبی صلی الله علیه و آله کما أنّ فی جملة من تشریعات العبادات کالإمساک عن بعض الأمور فی الصوم وتحدید مواقیت الإحرام وغیرها من أجزاء وشروط العبادات هی من تشریعات النبی صلی الله علیه و آله والإتیان بها طاعة للَّه تعالی کما هی طاعة للنبی صلی الله علیه و آله ومآل طاعة النبی هی إطاعة الله تعالی وکأنّ تلک الدعوی قد افترض فیها أنّ طاعة الرسول فی عرض طاعة الله لا فی طول طاعة الله تعالی ومن ثمّ توهّم فیها الإنفکاک.

وبذلک یظهر أنّ طاعة الرسول صلی الله علیه و آله لا تنحصر بحکومته السیاسیة، بل کذلک فی تشریعاته وبقیة شئون مقاماته وأنّ الوجه فی تکرار کلمة أَطِیعُوا وتعدّد الطاعة فی السنخ هو بلحاظ أنّ التشریعات علی نمطین ومن ثمّ اسندت الطاعة للرسول صلی الله علیه و آله لمقام رسالته لا لخصوص ولایته للأمر، بل الحال فی أولی الأمر کذلک أیضاً بناء علی ما هو الصحیح من صلاحیّتهم فی التشریع فی طول تشریعات الله ورسوله، أی التابعة لأصول تشریعیة إلهیة ونبویة لا فی عرض تشریعات الله ورسوله، کما ورد فی وضع أمیر المؤمنین(علیه السلام) الزکاة علی الخیل وفی کثیر من أحکام الحدود والدیات وأحکام البغاة وغیرها ممّا یجده المتتبع بل اغلب تفاصیل الاحکام لا اسسها من الموانع والشروط فی الابواب هی من تشریعاتهم(علیهم السلام) المنحدرة من اسس الفرائض الالهیة والسنن النبویة.

فطاعة أولی الأمر لیست منحصرة فی الشأن العام وتدبیر الحکم

ص:538

والسبب فی هذا الوهم والخبط هو تفسیر الأمر بالشأن العام، مع أنّ لفظ الأمر قد ورد فی روایاتهم(علیهم السلام) تفسیره بنحو بیّن بمعنی «روح القدس و «الروح الأمری الابداعی» کما فی قوله تعالی:

تَنَزَّلُ الْمَلائِکَةُ وَ الرُّوحُ فِیها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ کُلِّ أَمْرٍ1.

وقوله تعالی:

إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَیْئاً أَنْ یَقُولَ لَهُ کُنْ فَیَکُونُ 2.

و قوله:

وَ کَذلِکَ أَوْحَیْنا إِلَیْکَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما کُنْتَ تَدْرِی مَا الْکِتابُ وَ لاَ الْإِیمانُ 3.

رابعاً: إنّ طاعة الرسول صلی الله علیه و آله والأئمة(علیهم السلام) کما مرّ لیست منافیة لطاعة الله فی العبادات فحسب، بل هی لابدّ منها فی صحّة و قبول العبادات؛ فإنّ عبادة إبلیس الرجیم لم تقبل ولم تصحّ وکانت هباءً منثوراً لأنّه أبَی الخضوع لآدم خلیفة الله، فلم یعبد الله من الباب الذی أمره به، فرُدَّتْ علیه عبادته، بل کانت عبادته عبادة لأنانیة النفس.

خامساً: إنّ تصویر المصلحة فی حکم الوالی النائب بنحوٍ تکون فی قبال وعرض المصالح للأحکام الأولیة یستلزم فرض نقص التشریع

ص:539

الإلهی عن استیفاء کافّة المصالح والمفاسد.

وإن کانت فی طولها بنحو یکون متشعبة عنها وتنزّلًا لها فی الموارد فهذا لا یعقل فی غیر المعصوم إلّا بنحو التطبیق والتنفیذ فهو لیس مصلحة وراء المصالح الأولیة.

وبعبارة أخری: لیس الوالی غیر المعصوم مُزَوَّدٌ بعلم یتمیز به عن غیره بنحو یُدرک ما لا یُدرکه غیرُه.

وعلی ضوء هذا فلا مجال لتوهّم التمسّک بإطلاقات أدلّة النیابة لعموم نفوذ ولایة النائب فی غیر ما کان تدبیره رعایةً للمصالح للأحکام الأولیة.

تقریب ثان للوجه :

قیل: «أنّ ولایة ولی الأمر (المراد من ولیّ الأمر فی هذه العبارة هو الفقیه) تشمل موارد القطع بخطئه، لأنّ الولایة لیست حکماً ظاهریاً کی تقیّد بعدم العلم بالخطأ وانّما هی حکم واقعی وعندئذٍ یصبح المقیاس للمولّی علیه هو رأی الولی حتّی لو اعتقد المولّی علیه بأنّ الولی قد أخطأ فی تقدیره للمصالح والمفاسد وغیر هذا لیس بولایة، بل امارة وحکم ظاهری. وإن شئتم قلتم: إنّ الخطأ فی الحکم لا معنی له لأنّ حکم الحاکم واقعه هو هذا الحکم ولیس کاشفاً عن حکم الشریعة لأنّ المفروض هو أنّ الشریعة لم تأتِ بحکم فی مورد حکم الحاکم ولو أتت الشریعة بحکم فی هکذا مورد لما احتجنا حکمه، فحکمه یعنی أنّ الشریعة قد فوّضت الأمر إلیه».

ص:540

فإن کانت الشریعة قد فوّضت أمر الحکم إلیه، فحقیقة الأمر وواقع الحکم الذی یریده الله هو نفس حکم هذ الحاکم وإن أخطأ فی تقدیراته وحینئذٍ لا معنی لافتراض الخطأ فی حکم ولی الأمر وعلیه یجب اتّباعه؛ ومن هنا یتبیّن أنّ نفوذ حکم الحاکم لا یختصّ بمن لا یعلم خطأه، بل یشمل عموم المکلفین ؛ نعم إذا افترضنا أنّ أخطاء الحاکم قد کثرت إلی الحد الذی أسقطه عن الکفاءة فحینئذٍ سیخرج هذا الحاکم عن کونه ولیاً لفقدان الکفاءة.

ویلاحظ علی هذا التقریب الثانی:

أولاً: إنّ هذا القائل قد افترض وقرّر أنّ الشریعة الإسلامیة لا تعمّ کلّ الوقائع والحوادث التی یبتلی بها الإنسان وأنّ أصول التشریع فی الدین غیر شاملة لکلّ موارد الحیاة والمعاش وهذا یناقض قوله تعالی: وَ نَزَّلْنا عَلَیْکَ الْکِتابَ تِبْیاناً لِکُلِّ شَیْ ءٍ وَ هُدیً وَ رَحْمَةً وَ بُشْری لِلْمُسْلِمِینَ 1.

وقوله تعالی: ما فَرَّطْنا فِی الْکِتابِ مِنْ شَیْ ءٍ2.

وقوله تعالی: وَ لَقَدْ جِئْناهُمْ بِکِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلی عِلْمٍ هُدیً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ یُؤْمِنُونَ 3.

وقوله تعالی: وَ ما یَعْزُبُ عَنْ رَبِّکَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِی الْأَرْضِ وَ لا فِی

ص:541

السَّماءِ وَ لا أَصْغَرَ مِنْ ذلِکَ وَ لا أَکْبَرَ إِلاّ فِی کِتابٍ مُبِینٍ 1.

وقوله تعالی: کِتابٌ أُحْکِمَتْ آیاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَکِیمٍ خَبِیرٍ2.

وقوله تعالی: وَ ما أَنْزَلْنا عَلَیْکَ الْکِتابَ إِلاّ لِتُبَیِّنَ لَهُمُ الَّذِی اخْتَلَفُوا فِیهِ وَ هُدیً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ یُؤْمِنُونَ 3.

وقوله تعالی: «لا یَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِی السَّماواتِ وَ لا فِی الْأَرْضِ وَ لا أَصْغَرُ مِنْ ذلِکَ وَ لا أَکْبَرُ إِلاّ فِی کِتابٍ مُبِینٍ 4.

وقوله تعالی: ما کانَ حَدِیثاً یُفْتَری وَ لکِنْ تَصْدِیقَ الَّذِی بَیْنَ یَدَیْهِ وَ تَفْصِیلَ کُلِّ شَیْ ءٍ وَ هُدیً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ یُؤْمِنُونَ 5.

وقوله تعالی: إِنِ الْحُکْمُ إِلاّ لِلّهِ 6.

وقوله تعالی: الْوَلایَةُ لِلّهِ الْحَقِّ 7.

ثانیاً: إنّ هذا التقریر لولایة الفقیه وأنّها فوق النقد وأنّ الولی فوق أن یناقش لا یتم إلّامع فرض أن صلاحیته فی عرض صلاحیّة الله و رسوله والمعصومین، مع أنّ صلاحیّة الرسول والمعصومین لیست فی عرض

ص:542

صلاحیّة الله بل فی طوله کما أنّ صلاحیّة الأئمة المعصومین لیست فی عرض صلاحیّة الرسول، بل فی طولها وتابعة لها. فهل یکون صلاحیّة الفقیه فی عرض صلاحیّة المعصوم أو فی طولها؟ فإن کانت فی طول هذه المراتب فلابدّ من تحکیم حکم الله ورسوله والأئمة المعصومین علیهم السلام علیه والإحتکام إلی تلک التشریعات لأنّها فوقه إلّاأن یفرض أنّها فی عرضها وهذا ممّا لا یمکن التفوّه به أو یفرض عصمة الفقیه فی تبعیّته إلی أحکام الله وأحکام رسوله والأئمة المعصومین علیهم السلام فلا یمکن فرض خطائه فی التبعیة وهذا ما لم یدّعِ أحد أیضاً فلا محالة یکون مسلک التخطئة هو المحکّم لا التصویب.

ومن ثمّ عرّف عن مسلک الإمامیة بلحاظ المجتهد والفقیه بأنّه مسلک التخطئة لا مسلک التصویب الذی هو مسلک العامّة العمیاء المبتنّی علی نقص الشریعة وعلی عدم وجود امام معصوم من عترة النبی صلی الله علیه و آله هو المبیّن لأحکام الکتاب التی أشکلت علی الناس الوصول إلیها وعجزت قدرتهم عن الإهتداء إلی مظانّها کما قال تعالی: وَ ما یَعْلَمُ تَأْوِیلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَ الرّاسِخُونَ فِی الْعِلْمِ 1.

وقال تعالی: بَلْ هُوَ آیاتٌ بَیِّناتٌ فِی صُدُورِ الَّذِینَ أُوتُوا الْعِلْمَ 2.

والضمیر فیه عائد إلی القرآن.

وقد وردت الروایات المتواترة «ما من شیء إلاوفیه کتاب أو سنة »(1).

ص:543


1- (3) الکافی: ج1، ص59.

ثالثاً: قوله: «إنّ الشریعة قد فوّضتْ أمر الحکم إلیه».

إمّا یرید تفویض التشریع أو تفویض التدبیر. أمّا تفویض التشریع فالخلاف قد وقع فی الولایة التشریعیة للرسول صلی الله علیه و آله وللأئمة المعصومین(علیهم السلام) فکیف بغیرهم؟ مع أنّ مَن قال بذلک فی الرسول والأئمة(علیهم السلام) قد قال بذلک فی الرسول فی طول تشریعات الباری تعالی بحیث یکون الرسول تابعاً مطیعاً لأحکام الله تعالی ویکون الأئمة المعصومون(علیهم السلام) تابعین مطیعین فی تشریعهم لأحکام الله ورسوله صلی الله علیه و آله فکیف یفرض فی غیرهم صلاحیّة التشریع مع عدم القول بالعصمة فیه، فضلًا عن أن لا یکون تابعاً لأحکام الله ورسوله والأئمة المعصومین(علیهم السلام)، حتی إنّه قد وردت روایات مستفیضة

«عرض الحدیث المنقول عنهم(علیهم السلام) علی الکتاب والسنة القطعیة وهذا التحکیم وإن لم یکن من قبیل تحکیم غیر المعصوم علی المعصوم بل هو من تحکیم الکتاب المعصوم وسنة المعصوم القطعیة علی نقل الرواة غیر المعصومین لأحادیث المعصومین(علیهم السلام)».

رابعاً: ما قاله فی ذیل کلامه من أنّه «إذا کثر الخطأ إلی الحدّ الذی یسقطه عن الکفاءة، یخلّ بشرائط الحاکم والولی یناقض کلامه السابق، إذ مع عدم فرض واقعٍ فی نفس الأمر یطابقه حکم الحاکم وإنّما حکمه هو متن الواقع ولا واقع وراءه فأیّ خطأ یمکن فرضه بنحو متکرّر؟!

ففرض الخطأ فی کلّ مورد مورد إلی أن یکثر یناقض الدعوی السابقة وهو نوع من تحکیم الواقع والإعتراف بوجوده، أصابه من یصیبه وأخطأه

ص:544

مَن یخطئه، ممّا یستلزم أنّ غیر المعصوم لا یتعقّل اطلاق حاکمیته وولایته، بل الحاکم غیر المعصوم محکوم بالکتاب وسنة المعصومین، وهو ما یعبّر عنه بالواقع، وهذا بخلاف المعصوم فإنّه یُجَسّم الواقع. بل إنّ فی المعصومین(علیهم السلام) حیث تتفاضل مقاماتهم بلحاظ الکمالات الواقعیة نری الأئمة(علیهم السلام) تابعون لسیّد الأنبیاء صلی الله علیه و آله والرسول صلی الله علیه و آله تابع لولایة الله تعالی.

تقریب ثالث:

وقد یستدلّ لکون حکم الحاکم هو بنفسه من الأحکام الأولیة- بغضّ النظر عن الأحکام الأولیة الأخری وبغضّ النظر عن وجود واقع وراء التدبیر- بأنّ الحکومة والحاکمیة کفعل ونظم، فالتدبیر والقیادة والحکم والحکومة بنفسه فعل راجح ذو مصلحة ملزمة، کما ذکر ذلک فی استدلال الحکماء علی ضرورة النظام الإجتماعی، حیث قالوا بأنّ الإنسان مدنی بالطبع لا یتمّ وصوله إلی کمالاته وسعادته إلّابالتکافل الإجتماعی وتبادل الخدمات والصناعات والمهارات مع بَنی جنسه ولا یتمّ ذلک إلّابالنظم والنظام الإجتماعی وإقامة السنن والقوانین وتطبیقها واجرائها لحصول النظم.

ویتضح من هذا الدلیل الذی صاغوه أن النظم بنفسه فعل راجح وکمال مطلوب ولعله إلیه الإشارة فی قوله علیه السلام:

و إنّه لابدّ للناس من أمیر برّ أو فاجر، یعمل فی إمرته المؤمن ویستمتع فیها الکافر ویبلغ الله فیها الأجل ویجمع به الفیء ویقاتل به العدو وتأمن به السبل ویؤخذ به للضعیف من القوی حتی یستریح بر ویستراح من فاجر.

وقال(علیه السلام): أمّا الإمرة البرّة فیعمل فیها التقی وأمّا الإمرة الفاجرة

ص:545

فیتمتع فیها الشقی إلی أن تنقطع مدّته تدرکه منیته.

فهذا التقریب یقضی بأنّ الحکم والحکومة والتدبیر فعل مطلوب لذاته وأنّه من المهامّ الکبری فی مصالح الإجتماع البشری، بل لا یقاس بأهمیته شیء، کما فی صحیح زرارة عن أبی جعفر(علیه السلام) قال:

«بُنی الإسلام علی خمسة أشیاء: علی الصلاة والزکاة والحج والصوم والولایة».

قال زرارة: قلت: وأی شیء من ذلک أفضل؟ فقال:

«الولایة أفضل لأنّها مفتاحهنّ والوالی هو الدلیل علیهنّ».

فجعلت الولایة- بمعنی الحکومة- مفتاحاً، أی علّة لإقامة تلک الأرکان من الدین والوالی والحاکم هو المقیم لهنّ.

ومن ذلک یتبیّن أنّ الحکم والحکومة والتدبیر الحکومی هو من الواجبات الأولیة الرکنیة فی الدین ولا یعدلها بقیة الأرکان فهی حکم أولی بنفسها وعلی درجة من الأهمیة مقدمة علی الأحکام الأولیة الأخری.

ویلاحظ علی هذا التقریب:

أولاً: إنّ التدبیر والنظم إنّما یتحقّق ویرسو بتطبیق القوانین والحدود لابتضییعها، فالحکومة والتدبیر لیس إلّااجراءً وتنفیذاً للأحکام والتشریعات الکلّیة وهو غایة الحکم والحکومة، فکیف یُفَرَّط بالغایة فی سبیل المقدّمة؟ و لایکون ذلک إلّانقضاً للغرض کَالَّتِی نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْکاثاً1.

ص:546

ثانیاً: إنّ التدبیر والحکومة إذا کان بنفسه میزاناً وواقعیة، فهذا یقضی إمّا بصحّة وکمال کلّ أنواع الحکومات البشریة بأنّ الفرض أنّ کلّها تحکم وتملک القدرة! وإمّا باستصواب بعضها والحکم بفساد الأخری ولا یکون ذلک إلّابفرض موازین واقعیة حاکمة علی النهج الحکومی وفِعلِ السلطة، فإذا روعیت تلک الموازین أصبحت الحکومة صائبة وإلّا تکون إفساداً فی الأرض.

و أمّا ما فی کلامه(علیه السلام) من بیان ضرورة الحکومة بالعلل الغائیة التی بیّنها(علیه السلام) والتی هی ضرورات أولیة فی النظام الإجتماعی، فهذا یُعَزّز أنّ الحکومة والحکم وسیلة لتحقیق غایات أخری فی النظام الإجتماعی وأنّ بعض تلک الغایات ضروریة فی أصل حیاة المجتمع البشری لا یمکن بقاؤه إلّابها، فمن ثمّ تکون أصل الحکومة- بمختلف درجاتها وأنماطها من الصالحة والفاسدة- ضروریة لأنّ جملتها تُلَبّی جملة من الضرورات ذات الأهمیة بالدرجة القصوی لأصل حیاة المجتمع الإنسانی والنسل البشری.

ومن ثمّ عَقَّب(علیه السلام) ببیان جهة الإختلاف بین أنماط الحکومات، فإنّها وإن اشترکت فی تحقیق وتلبیة ایجاد بعض الضرورات القصوی لمجتمع البشری وهی الجانب لمصالح مدنیة إلّاأنّها تختلف فی جملة أخری من النتائج؛ حیث إنّ فی الحکومة الصالحة تتحقّق فیها النتائج الصالحة الأخری کالعدالة والهدایة والسداد بینما فی الحکومات الفاسدة تُضَیَّع فیها تلک الغایات إلی نقائضها وأبدالها، فمن ذلک یتبیّن أنّ صلاح وفساد الحکومة بلحاظ إقامة الحدود والموازین العادلة.

ص:547

نعم قد یحصل التزاحم والمدافعة بین الضرورات الأولیة فی النظام الإجتماعی وغایات الحکومة وبین الضرورات الکمالیة اللاحقة المطلوبة فی التشریع الإلهی لتأمین السعادتین الدنیویة والأخرویة للبشر وهنا لیس من دوران الأمر بین تلک الغایات الدینیة التشریعیة من الحدود الإلهیة والحکومة بما هی هی کما قد یصوّر، بل إنّما هو دوران بین الضرورات المعیشیة المدنیة والغایات التشریعیة وهذا التدافع لیس بطبیعة الأشیاء الأولیة، بل هو طارئ بسبب سوء التدبیر فی النظام السیاسی الإجتماعی المدنی وبسبب الأعراف والعادات الفاسدة المنتشرة فی الظواهر الإجتماعیة. فمع اصلاح التدبیر واصلاح الأعراف والعادات بتوسط سلسلة من العوامل والمناشئ یعود الوئام والتناسب بین ضرورات المعاش المدنی وبین غایات التشریع، بل إنّ طبیعة الإجتماع البشری الأولیة تقتضی بفطرتها المسیر نحو تلک الغایات اذا ارید لها الکمال والتکامل .

ثالثاً: إنّ المراد من الولایة فی الأحادیث المستفیضة التی بنی علیها الإسلام لیس خصوص الحکومة السیاسیة الرسمیة المعلنة من قِبل المعصوم فضلًا عن الحکومة السیاسیة الرسمیة من قِبل غیره، بل لیس المراد یقتصر علی أشکال الحکومة الأخری کحکومة ودولة الظلّ- وهو ما یعبّر عنه بتیّار المعارضة- ولا الحکومة الخفیة- والمعبّر عنها بالحکومة الأمنیة المخابراتیة- والحکومة المذهبیة- والمعبّر عنها بالطوائف والتیارات الأدیان الإعتقادیة والثقافیة- وغیرها من أشکال القدرة والسلطة والحکومة فی المجتمعات البشریة المعلنة وغیر المعلنة، بل لا یقتصر علی الهدایة الملکوتیة للأرواح لإیصالها إلی المنازل والکمالات المعنویة، بل هی

ص:548

تشمل کلّ ذلک وبالذات یراد منها مقام الإعتقاد والمعرفة بإمامتهم ومن ثمّ عَظُمَتْ الولایة علی بقیة أرکان الدین، بل فی بعض الروایات ذکر أنّ المراد منها ولایة الله ورسوله والأئمة علیهم السلام ممّا یعنی إرادة التسلیم للتوحید والمعاد والنبوة والإمامة وانعکاس ذلک التسلیم والتولی علی بقیة مقامات الافعال الانسانیة والشئون البشریة ومن ثمّ تقدّمت الولایة علی الصلاة مع أنّ الغالب فیها البُعد الروحی الفردی لا یتّصل بعلاقات الأفراد فی نظام التعایش الإجتماعی بالذات وإن کان تنعکس آثار الصلاة بالتبع لاحقاً علیه لکنها بالدرجة الأولی مرتبطة بعروج الروح للمؤمن والقرب الإلهی ومع ذلک فإنّ هذا السلوک الروحی الفردی لا یقدّر له أن یتحقّق وینجز إلّابباب الولایة للَّه ورسوله والأئمة علیهم السلام وکذلک الحال فی الصوم والجانب المهمّ من الحج أیضاً.

ومن ثمّ ورد فی الروایات المستفیضة أنّ الولایة فی کلّ النشئات من عالم الذرّ والمیثاق والأشباح والأظلّة والآخرة والبرزخ. وکانت الولایة حتماً علی عهدة الإنسان وإن کان وحیداً فریداً لا یعیش فی ظلّ اجتماع بشری، فإنّ صلاته وصومه وحجّه وبقیة أعماله لا یتم لها الصحّة والقبول إلّابالولایة.

إنّ القائلین بحصر ولایة الأئمة المعصومین فی التشریع فی دائرة الحکومة والقوانین التنفیذیة والإجرائیة غفلوا عن أقسام الحکومة، فإنّ الحکومة وقدرة تدبیر المجتمعات البشریة وسیاسة العباد لا تنحصر فی الحکومة السیاسیة العلنیة المؤقتة، بل تعمّ الإشکال والإنماط الأخری من الحکومة کالحکومة الخفیة وکذلک دولة الظلّ وکذلک قدرة النفوذ فی

ص:549

التیارات الإجتماعیة والثقافیّة فضلًا عن قدرة بناء الحضارات التمدنیة، فإنّ هذه نمط من الحکومة علی المجتمعات لا تحدّ بسنین قصیرة، بل تتطاول قروناً مدیدة قد تبلغ محاذاة طول عمر البشر.

وهذا النمط بخصوصه من الحکومة الذی یؤسّسه الأنبیاء والرسل والأوصیاء تکون القوانین المشرَّعة فیهما بمنزلة القوانین التشریعیة الثابتة الّتی لا تتغیّر وبالتالی فصلاحیّة التشریع لدیهم تندرج فی إطار الأحکام التشریعیة الثابتة وهذا وجه اختلاف ولایة وحکومة المعصومین عن الحکومة وصلاحیّة الفقهاء حیث أنّ قدرة غیر المعصوم من ناحیة العلم والمعلومات والإحاطة بالبیئات المختلفة وقدرة التدبیر لا تصل إلی علم وإحاطة وتدبیر المعصوم، فإنّ إحاطة المعصوم ثاقبة للأدوار الزمانیة المتباعدة المتطاولة ومن ثمّ امتنع تماثل صلاحیّة غیر المعصوم لصلاحیّة وولایة المعصوم.

ص:550

المجلد 3

اشارة

سرشناسه:سند، محمد، 1962- م.

عنوان و نام پدیدآور:بحوث فی القواعد الفقهیه [کتاب]: تقریرات محمدالسند/ بقلم مشتاق الساعدی.

مشخصات نشر:قم: موسسه محکمات الثقلین؛ تهران: نشر صادق، 13 -

مشخصات ظاهری:5ج.

شابک:978-600-5215-35-9

یادداشت:عربی.

یادداشت:فهرستنویسی بر اساس جلد چهارم، 1437ق.= 2016م.= 1395.

یادداشت:کتاب حاضر بر اساس تقریرات محمد السند نوشته شده است.

موضوع:فقه -- قواعد

موضوع:Islamic law -- *Formulae

موضوع:اصول فقه شیعه

شناسه افزوده:ساعدی، مشتاق

رده بندی کنگره:BP169/5/س9ب3 1300ی

رده بندی دیویی:297/324

شماره کتابشناسی ملی:4803290

ص :1

اشارة

ص :2

ص :3

بحوث فی القواعد الفقهیه المجلد 3

تقریرات محمدالسند

بقلم مشتاق الساعدی

ص :4

ص :5

ص :6

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله ربنا وحده وحده والصلاة والسلام علی محمد المصطفی نبیه وعبده وعلی اله سؤدده ومجده.

وبعد ...

بعد ان صدر الجزء الاول والثانی من کتابنا (بحوث فی القواعد الفقهیة) الذی هو تقریر ابحاث شیخنا الاستاذ ایة الله الشیخ محمد السند (دام ظله), عززناه بجزء ثالث .

وقد حوی هذا الجزء علی ست عشرة قاعدة فقهیة, وکانت الست الأخیرة منها قواعد مستجدة فی (فقه الشعائر) الذی أبدع فیه شیخنا الأستاذ واتی بما هو جدید ودقیق کما عودنا فی بحوثه المتنوعة .

کما حوی علی فوائد عشرة أکثرها من بحوث فقه المعاملات . وبذلک کان هذا الجزء خاتمة هذا الکتاب .

اما قواعده فهی:

1 - قاعدة العرض علی الکتاب والسنة.

ص:7

2 - قاعدة العقود تابعة للقصود.

3 - قاعدة لا تبع ما لیس عندک.

4 - قاعدة عمد الصبی خطا.

5 - قاعدة لزوم العسر والحرج.

6 - قاعدة لا ضرر.

7 - قاعدة ان المتنجس ینجس.

8 - قاعدة فی تعیین المالک لما یقابل الدین والوصیة من الترکة.

9 - قاعدة شرطیة اذن الاب فی اعمال الصبی.

10 - قاعدة من ادرک المشعر فقد ادرک الحج.

11 - قاعدة الشعائر الدینیة .

12 - قاعدة توسعة حریم مواسم الشعائر زمانا ومکانا.

13 - قاعدة المشی الی العبادة عبادة.

14 - قاعدة رجحان الشعائر ولو مع الخوف.

15 - قاعدة عمارة مراقد الائمة فریضة هامة.

16 - قاعدة تعدد طرق الحکایة والإخبار عن الواقع .

وکانت القاعدة رقم (12) و(13) من تقریرات جناب الاخ الشیخ عباس اللامی (دام توفیقه) لدرس الشیخ الاستاذ السند .

کما ان القواعد رقم (14) و(15) و(16) من تقریرات جناب الاخ السید ریاض الموسوی (دام توفیقه) لدرس الشیخ الاستاذ السند .

واما فوائده فهی:

1 - فائدة فی عموم مانعیة الغرر عن الصحة.

ص:8

2 - فائدة لوازم مخالفة عقد المضاربة للقاعدة.

3 - فائدة فی المعاملات المستجدة.

4 - فائدة فی الفرق بین القیود العلامیة والتوصیفیة.

5 - فائدة فی کثرة الشک.

6 - فائدة فی المرتد وأحکامه.

7 - فائدة فی حدود ما یسوغ النظر الیه عند ارادة التزویج.

8 - فائدة فی عدم اعتبار الشروط المتبانی علیها قبل عقد النکاح .

9 - فائدة فی تحقق قاعدة الفراش والعدة من إراقة الماء علی الفرج.

10- فائدة فی ان جدة میقات للتمتع.

نسال الله تعالی دوام التوفیق لسماحة الشیخ الاستاذ السند والمزید من العطاء العلمی والمعرفی الذی یرفد به المکتبة الإسلامیة .

والحمد لله اولا واخرا.

مشتاق الساعدی / النجف الاشرف

27 رجب 1433

ص:9

ص:10

قاعدة : العرض علی الکتاب والسنة

اشارة

ص:11

ص:12

قاعدة العرض علی الکتاب والسنة

فی بیان ضوابط العرض علی الکتاب والسنّة ومیزان المخالفة والموافقة لهما:

توطئة:

هذه القاعدة ذات مساحة فی ابواب عدیدة ک- (باب) التعارض بین الروایات فی الابواب الفقهیة, وهو مطرد فی غالب الابواب وباب تمییز صحة الشرط فی العقود والمعاملات سواء الفردیة او الاجتماعیة او الجماعیة فی الفقه الاجتماعی والسیاسی وباب الصلح والعهد سواء علی الصعید الفردی والاجتماعی والسیاسی وباب النذر والیمین وباوامر الاولیاء .

ولأجل بیان الضابطة للعرض علی الکتاب والسنّة أو معرفة ضابطة المخالفة والموافقة لهما بصورة کلیة, کی لا تکون الموازنة بین مضامین تفاصیل الأحکام والمعارف فی الروایات وبین محکمات الکتاب والسنّة بتوسّط السلیقة والذوق والقریحة غیر المنضبطة عادة، بل منضبطة بقالب صناعیّ یُعوّل علیه ویضطرّ إلی إعماله بتدبّر وإمعان,وکانموذج لتطبیق هذه الضابطة، نشرع فی دراسة قاعدة مهمّة وهی قاعدة عدم نفوذ الشرط المخالف للکتاب والسُّنة.

عدم نفوذ الشرط المخالف للکتاب والسنّة:

عموم القاعدة:

وهذه القاعدة وإن جری تداولها فی المعاملات کضابطة فی الشروط

ص:13

الضمنیّة المعاملیّة، إلّا أنّ الصحیح عموم هذه القاعدة لأبواب الفقه السیاسیّ والحکم، کما أنّها ذات أهمّیة کبیرة فی البحث المتداول فی هذا العصر، وهو الثابت والمتغیّر فی الشریعة، والذی یضفی بظلاله علی کیفیّة تغطیة الشریعة لکلّ الحوادث المستجدّة ولکلّ أصعدة الحیاة الحدیثة، کما سیتبیّن فی ما یأتی ان شاء الله تعالی.

صعوبة البحث فی هذه القاعدة:

ولا یخفی أنّ هذه القاعدة قد نبّه کلّ مَن خاض فیها من الأساطین علی وعُورة وصعوبة البحث فیها، وأنّ ما یذکر من ضوابط فی تفسیرها غیر مطّرد ولا منعکس، مضافاً إلی أنّها لا تنقّح الصغریات العدیدة التی وقع الخلاف فیها.

وهذا التحدید فی الشرط ورد أیضاً فی الصلح والنذر وأخویه، وطاعة الوالدین وغیرها، وسیتبیّن الجهة المشترکة بین هذه العناوین فی هذا التحدید.

ولأهمیّة هذه القاعدة خاض فیها المحقّق النراقیّ(قدس سره) فی کتابه عوائد الأیّام(1)، کما تعرّض لکلامه تلمیذه الشیخ المحقّق الأنصاریّ(قدس سره) فی المکاسب وکما تعرّض لکلامه کلّ من کتب فی هذه القاعدة، ومن الموارد الفریدة التی یعبّر الشیخ الأنصاریّ(قدس سره) عن استاذه النراقیّ(قدس سره) بالمشیخة فی خصوص المقام عندما بحث القاعدة فی المکاسب فقال معبرا عن النراقی:

ص:14


1- (1) عوائد الأیام ، العائدة 15.

بعض مشایخنا المعاصرین(1).

ونقل کلامه فی موضعین، وهو الوحید الذی نوّه باسمه من بین مَن نقل عنهم فی هذا المبحث، ممّا یدل علی حداثة بلورة هذا البحث عند النراقیّ(قدس سره)، وهذه الصفة مطّردة فی تحقیقات النراقیّ(قدس سره).

وقد تابع الشیخ الأنصاریّ(قدس سره) استاذه المحقّق فی إثارتها فی مواطنها المختلفة، ممّا یدلّ علی تأثّر الشیخ بالمحقّق النراقیّ(قدس سره) أکثر من بقیّة مشایخه الآخرین.

قال النراقی فی العوائد: العائدة 15(2)- التی عقدها لبیان حکم الشرط فی ضمن العقد، بعد بیان معنی الشرط وجملة من ضوابط وشرائط صحّة الشرط الضمنیّ-: (المبحث الثالث: فی بیان ما یجوز من الشرط وما لا یجوز، وجملة ما ذکروا عدم جوازه، ووقع التعبیر ب- (غیر الجائز) فی عباراتهم أربعة:

- الشرط المخالف للکتاب والسنّة.

- والشرط الذی أحلّ حراماً أو حرّم حلالًا.

- والشرط المنافی لمقتضی العقد.

- والشرط المؤدّی إلی جهالة أحد العوضین.

ص:15


1- (1) کتاب المکاسب، ج6، ص33 ط الحدیثة المحققة.
2- (2) عوائد الأیام ص143.

أمّا الأوّل: فعدم الإعتداد به مجمع علیه، وفی المستفیضة تصریح به- ثمّ أشار إلی الأخبار الواردة فی المقام وقال: ثمّ المراد بشرطٍ خالف الکتاب أو السنّة: أن یشترط- أی یلتزم- أمراً مخالفاً لما ثبت من الکتاب والسنّة، عموماً أو خصوصاً، مناقضاً له.

والحاصل: أن یثبت حکم فی الکتاب أو السنّة، وهو یشترط ضدّ ذلک الحکم خلافه، أی یکون المشروط أمراً مخالفاً لما ثبت فی أحدهما، سواء کان من الأحکام الطلبیّة أو الوضعیّة...

وأمّا اشتراط أن لا یتصرّف المشتری فی المبیع مدّة معلومة، فهو لیس مخالفاً للکتاب أو السنّة، إذ لم یثبت فیهما تصرّفه...

بل إنّما ثبت جواز تصرّفه، والمخالف له عدم جواز تصرّفه...

نعم، إیجاب الشارع للعمل بالشرط یستلزم عدم جواز التصرّف، ولیس المستثنی فی الأخبار شرطاً خالف إیجابه أو وجوبه کتاب الله والسنّة، بل شرط خالف الکتاب والسنّة؛ والشرط هو عدم التصرّف.. لا نعلم أنّ التزام عدم التصرّف یخالف جواز التصرّف ما لم یثبت وجوب ما یلتزم به.

وأمّا شرط فعل شیء ثبتت حرمته من الکتاب والسنّة أو ترک شیء ثبت وجوبه أو جوازه منهما، فهو لیس شرطاً مخالفاً للکتاب والسنّة، إذ لم یثبت من الکتاب والسنّة فعله أو ترکه، بل حرمة فعله أو ترکه، ولکن یحصل التعارض حینئذ بین ما دلّ علی حرمة الفعل

أو الترک، وبین أدلّة وجوب الوفاء بالشرط، فیجب العمل بمقتضی

ص:16

التعارض، انتهی.

وقبل التعرُّض إلی باقی کلمات الأصحاب فی هذه القاعدة، نستعرض الروایات الواردة ثمّ نتبعه بتحریر حقیقة موضوع ومحمول القاعدة.

أمّا روایات القاعدة:

فهی وإن کانت علی طوائف بحسب ألسنتها، إلّا أنّنا سنذکرها بحسب أبواب مواردها:

الاولی: صحیح الحلبیّ عن أبی عبدالله(علیه السلام)، قال: «سألته عن الشرط فی الإماء لا تباع ولا توارث ولا توهب؟

فقال: یجوز غیر المیراث، فإنّها تورث، فکلّ شرط خالف کتاب الله فهو رُدَّ(1).

ومثله صحیح ابن سنان(2) إلّا أنّ فی ذیلها فهو باطل.

الثانیة: صحیح عبد الله بن سنان عن أبی عبدالله(علیه السلام)، قال: «سمعته یقول: مَن اشترط شرطاً مخالفاً لکتاب الله فلا یجوز له، ولا یجوز علی الذی اشترط علیه، والمسلمون عند شروطهم ممّا وافق کتاب الله عَزَّ وَجَلَّ»(3).

وفی صحیحه الآخر عنه(علیه السلام)، قال: «المسلمون عند شروطهم إلّاکلّ شرط خالف کتاب الله عَزَّ وَجَلَّ فلا یجوز»(4).

ص:17


1- (1) وسائل الشیعة ج18 ص267 باب 15 من أبواب الحیوان ح1.
2- (2) المصدر والصفحة.
3- (3) المصدر والجزء ص16 باب6 من أبواب الخیار ح1.
4- (4) المصدر والصفحة ح2.

ومثل الثانی صحیح الحلبی(1).

الثالثة: موثّقة إسحاق بن عمّار عن جعفر عن أبیه(علیهما السلام) : «إنّ علیّ بن أبی طالب(علیه السلام) کان یقول: مَن شرط لامرأته شرطاً فلیَفِ لها به، فإنَّ المسلمین عند شروطهم إلّا شرطاً حرّم حلالًا أو أحلَّ حراماً»(2).

الرابعة: معتبرة منصور بن بزرج، عن عبد صالح(علیه السلام)، قال: «قلت له: إنّ رجلًا من موالیک تزوّج امرأة ثمّ طلّقها فبانت منه فأراد أن یراجعها فأبت علیه إلّاأن یجعل للَّه علیه أن لا یُطلّقها ولا یتزوّج علیها، فأعطاها ذلک ثمّ بدا له فی التزویج بعد ذلک فکیف یصنع؟

فقال: بئس ما صنع، وما کان یُدریه ما یقع فی قلبه باللیل والنهار، قُل له: فَلْیَفِ للمرأة بشرطها، فإنَّ رسول الله صلی الله علیه و آله قال: والمؤمنون عند شروطهم»(3).

وفی روایة العیّاشیّ، عن ابن مسلم، عن أبی جعفر(علیه السلام)، قال: «قضی أمیر المؤمنین(علیه السلام) فی امرأة تزوّجها رجل وشرط علیها وعلی أهلها إن تزوّج علیها امرأة أو هجرها أو اتَّخذ علیها سریّة فإنّها طالق. فقال: شرط الله قبل شرطکم، إن شاء وفی بشرطه وإن شاء أمسک امرأته ونکح علیها وتسرّی علیها وهجرها إن أتت بسبیل ذلک، قال الله تعالی فی کتابه: (فَانْکِحُوا ما

ص:18


1- (1) المصدر والصفحة ح4.
2- (2) وسائل الشیعة باب 6 من أبواب التجارة ح5.
3- (3) المصدر باب 20 من أبواب المهور ح4.

طابَ لَکُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنی وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ »1 .

وقال: إِلاّ ما مَلَکَتْ أَیْمانُکُمْ (1).

وقال: وَ اللاّتِی تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ (2)(3).

الخامسة: صحیحة محمّد بن قیس عن أبی جعفر(علیه السلام): أنّه قضی فی رجل تزّوج امرأة وأصدقته هی واشترطت علیه أنّ بیدها الجماع والطلاق، قال: خالفتِ السنّة ووُلِّیت حقّاً لیست بأهله، فقضی أنّ علیه الصداق وبیده الجماع والطلاق، ذلک السنّة(4).

وصحیحه الآخر عن أبی جعفر(علیه السلام): «فی رجل تزوّج امرأة وشرط لها إن تزوّج علیها امرأة أو هجرها أو اتّخذ علیها سریّة فهی طالق، فقضی فی ذلک: إنّ شرط الله قبل شرطکم فإن شاء وفی لها (بما اشترط) وإن شاء أمسکها واتَّخذ علیها ونکح علیها»(5).

ومثله صحیح عبدالله بن سنان إلّاأنّ فیه: «أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله قال: مَن اشترط شرطاً سوی کتاب الله فلا یجوز ذلک له ولا علیه(6).

وفی روایة إبراهیم بن محرز، قال: سأل رجل أبا عبدالله(علیه السلام) وأنا عنده،

ص:19


1- (2) النساء: 24.
2- (3) النساء: 34.
3- (4) وسائل الشیعة باب 20 من أبواب المهور ح6.
4- (5) المصدر باب 29 ح1.
5- (6) المصدر باب 38 ح1.
6- (7) وسائل الشیعة ج21 ص297 باب 38 من أبواب المهور ح2.

فقال: رجل قال لامرأته: أمرکِ بیدِکِ.

قال: أنّی یکون هذا، والله یقول: (الرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَی النِّساءِ) 1 لیس هذا بشیء)(1).

السادسة: صحیحة أبی العبّاس، عن أبی عبدالله(علیه السلام): «فی الرجل یتزوّج المرأة ویشترط أن لا یخرجها من بلدها.قال: یفی لها بذلک، أو قال: یلزمه ذلک»(2).

السابعة: صحیحة الحلبیّ عن أبی عبدالله(علیه السلام) أنّه ذکر: «أنّ بریرة کانت عند زوج لها وهی مملوکة، فاشترتها عائشة فأعتقتها، فخیّرها رسول الله صلی الله علیه و آله إن شاءت تقر عند زوجها، وإن شاءت فارقته وکان موالیها الذین باعوها اشترطوا ولاءها علی عائشة. فقال رسول الله صلی الله علیه و آله : الولاء لمَن أعتق»(3).

الثامنة: والصحیحة إلی ابن أبی عمیر عن عمرو صاحب الکرابیس، عن أبی عبدالله(علیه السلام): «عن رجل کاتَب مملوکه، واشترط علیه أنّ میراثه له فرفع ذلک إلی علیّ(علیه السلام) فأبطل شرطه وقال: شرط الله قبل شرطک»(4).

التاسعة: صحیحة محمّد بن مسلم، قال: «سألت أبا جعفر(علیه السلام) عن رجل کانت له ام مملوکة فلمّا حضرته الوفاة انطلق رجل من أصحابنا فاشتری امّه، اشترط علیها أنّی أشتریک وأعتقکِ فإذا مات ابنک فلان ابن

ص:20


1- (2) وسائل الشیعة ج22 ص94 باب 41 من أبواب مقدمات الطلاق ح6.
2- (3) المصدر باب 40 ح1.
3- (4) وسائل الشیعة ج23 ص65 باب 37 من أبواب العتق ح2.
4- (5) المصدر باب 15 من أبواب المکاتبة ح1.

فلان فورثتیه أعطیتینی نصف ما ترثینه علی أن تعطینی بذلک عهد الله وعهد رسوله، فرضیت بذلک، أعطته عهد الله وعهد رسوله لتفینّ له بذلک، فاشتراها الرجل وأعتقها علی ذلک الشرط، ومات ابنها بعد ذلک فورثته، ولم یکن له وارث غیرها.

قال: فقال أبو جعفر(علیه السلام): لقد أحسن إلیها، وأُجر فیها، إنّ هذا لفقیه، والمسلمون عند شروطهم، وعلیها أن تفی بما عاهدت الله ورسوله علیه»(1).

العاشرة: روایة سلمة بن کهیل، قال: «سمعت علیّاً(علیه السلام) یقول لشریح: .. واعلم أنَّ الصلح جائز بین المسلمین إلّاصلحاً حرَّم حلالًا، أو أحلَّ حراماً(2).

ونحو هذا الحدیث مرسل عند الصدوق(رحمه الله)(3) ومن هذا الباب ما ورد من أنّه «لا نذر ولا یمین فی معصیة(4)، وأنّه لا تجوز یمین فی تحلیل حرام ولا تحریم حلال»(5) .

ومنه أیضاً ما ورد من أنّه «لا طاعة لهما [للوالدین] فی معصیة الخالق ولا لغیرهما، فإنّه لا طاعة لمخلوق فی معصیة الخالق»(6).

ص:21


1- (1) وسائل الشیعة ج26 ص55 باب 21 من أبواب موانع الإرث ح1.
2- (2) المصدر باب 1 من أبواب آداب القاضی ح1.
3- (3) من لا یحضره الفقیه ج3 ص29 باب الصلح ح1.
4- (4) الکافی ج7 ص440.
5- (5) وسائل ج20 ص284 ح1 ه- ج23 ص217 ح2، وغیرهما.
6- (6) وسائل ج16 ص154 ح10.

بیان حقیقة البحث سواء فی طرف موضوع القاعدة أو محمولها أو متعلّقها:

ولنذکر المحتملات تباعاً:

المحتمل الأوّل: أن یکون فی کلّ من شرط الفعل والنتیجة، وعلی کلا التقدیرین المخالفة تارة بلحاظ الشرط أی التعهّد والإلتزام، أو بلحاظ المشروط وهو المتعلِّق أو المنشأ المتعهّد به، وهو ملکیّة الفعل فی شرط الفعل، أو وجود النتیجة کمعنی وضعیّ فی شرط النتیجة، وسیأتی تعیین أحد هذه المحتملات.

المحتمل الثانی: إنّ البحث فی حکم الشرط والمشروط ونسبته مع الأحکام الأولیّة باعتبار کونه عنواناً ثانویّاً، وهکذا قد یُقال الحال فی الصلح والنذر وأخویه، وطاعة الوالدین، وطاعة کلّ ولیّ ووالی من غیر المعصومین (علیهم السلام) أنّها عناوین ثانویّة تلحظ نسبتها مع الأحکام الأولیّة.

المحتمل الثالث: إنّ البحث فی معرفة الأحکام الطبعیّة الاقتضائیّة وافتراقها عن الأحکام الفعلیّة المطلقة الباتّة فی الأحکام الأولیّة، وإنّ الثانیة تُعارض الأحکام الثانویّة بخلاف الأُولی.

المحتمل الرابع: هو بحث عن علم وکیفیّة معرفة الاصول القانونیّة فی الشریعة، وهو حقیقة واقع البحث فی الثابت والمتغیّر الدینیّ، حیث أنّ الأصل القانونیّ هو الموادّ الأُولی الفوقیّة للتقنین والأحکام، ومنها تنشعب بقیّة القوانین والأحکام بنحو هرمیّ تنزّلیّ، نظیر الموادّ الدستوریّة بالنسبة

ص:22

إلی المصوّبات القانونیّة للمجالس النیابیّة، وهی بنوبتها بالنسبة إلی المقرّرات القانونیّة الوزاریة وإن کانت منظومة الأحکام والقوانین الأدیانیّة لا تنحصر فی الأحکام الاجتماعیة کالدساتیر بل ذلک باب من أبوابها.

المحتمل الخامس: قیل أنّ هذا البحث هو فی ذکر الضابطة فی التزاحم الملاکیّ- لا الإمتثالیّ- بین الأحکام وقد صرّح الشیخ الأنصاریّ(قدس سره) بوحدة مناط البحث مع موارد صیرورة المحلّل مقدّمة بنحو العلّیّة للمحرّم، ومن ثمّ الفرق بینه وبین موارد المصالح المرسلة وسدّ الذرائع، والفرق بینهما وبین جملة من فتاوی الأعلام فی جواز التشریح مع توقّف الإنقاذ المستقبلیّ علیه لا الحالیّ، وکذلک تجویز ارتکاب بعض المحظورات لأجل تجنّب الضرر المستقبلیّ البعید أو القریب لا الحالیّ الفعلیّ، وکذلک الحال فی بعض موارد الحرج التقدیریّ المستقبلیّ.

المحتمل السادس: إنّ الجهة المشترکة والسمة المتّحدة فی بحث الشروط والصلح والنذر وأخویه وطاعة الوالدین ممّا قد قُیِّد بأن «لا یخالف الکتاب والسنّة ولأنّ (شرط الله قبل شرطکم) هو فی تحدید ولایة الفرد وسلطنته، فلا ثبوت لها مع مخالفتها لولایة الله تعالی وولایة رسوله التشریعیّة وغیرهما، وبالتالی لا یمکن له أن یلتزم أو یتعهّد بما هو خارج عن ولایته وسلطنته.

فمورد قدرة الفرد وولایته هو فی التصرّف الذی لم یمنع شرعاً، أی فی إرادة الله تعالی ورسوله، وهذه الضابطة لا تختص بولایة الفرد وسلطنته وتحدید التزاماته، سواء فی لون الشرط أو الصلح أو النذر وأخویه أو حقّ

ص:23

طاعته کوالد لا تختص هذه الضابطة بولایة الفرد، بل تعم کلّ والی سواء فی الولایات العامّة، کالنیابة العامّة عن المعصوم فی القضاء والحکم وبیان الأحکام، أو الولایة والنیابة الخاصّة فی الأُمور الثلاثة، أو فی الولایات المتوسّطة کالأوقاف والحسبیّات العامّة والوصایا، فإنّ الوالی فی کلّ أقسام الولایات محدودة ولایته بعدم مخالفة التشریعات الإلهیّة من الکتاب والسنّة، سواء سنّة النّبی صلی الله علیه و آله وسنّة أهل بیته (علیهم السلام) فإنّ الطاعة والولایة أوّلًا للَّه تعالی، ثمّ لرسوله، ثمّ لأُولی الأمر من أهل بیته.

وبالتالی فهذه القاعدة لیست میزاناً للحکم فی باب الفتیا وفقه الفرد فحسب، بل میزانٌ للحکم فی باب الحکومة السیاسیّة وفقه الدولة. ویعضد عموم القاعدة أنّ عموم (المؤمنون عند شروطهم) (1) لا یختصّ بالشروط علی النطاق الفردیّ فی المعاملات المادّیّة والإیقاعات فی الأحوال الشخصیّة، بل یشمل الشروط فی باب العهود التی تجریها الحکومة الإسلامیّة، الوالی مع الأطراف الأُخری الإسلامیّة أو غیرها فی المعاملات المالیّة أو السیاسیّة أو العسکریة والأمنیّة وغیرها، فإنّ العموم شامل لذلک فی ما ثبتت ولایته للوالی، وکذلک فی عقد الصلح، فإنّه لیس خاصّاً بالنطاق الفردیّ بل شامل لعهود الدولة والحاکم.

ومن هنا تتبلور أهمّیة هذه القاعدة وعمومها للأبواب ولمختلف أقسام شرط الصلح فی مختلف ضروب الحکم وأنّ ولایة وسلطنة الفرد أو الولاة هی محدودة بولایة الله ورسوله والأئمّة من أهل بیته، أی الحکم

ص:24


1- (1) التهذیب ج7 ص371.

التشریعیّ والقضائیّ التنفیذیّ، وسیترتّب من هذا التحریر لحقیقة البحث رفع الإبهام فی کثیر من جهات دلالة الروایات المتقدِّمة.

کما أنّ البحث فی القاعدة یظهر منطقة السعة للحاکم فی تخیّر الأوفق من السیاسات والتدبیرات للوصول إلی الأغراض الشرعیّة مادام ذلک فی حدود الموافق للُاصول الأوّلیّة ولم یخالفها.

المحتمل السابع: قد ذکر بعض الأعلام أنّ مفاد البحث فی القاعدة هو للتنبیه علی أنّ الشرط وبقیّة العناوین المستثنی منها المخالفة، لیست علی حذو العناوین الثانویّة الأُخری کالضرر والحرج، وعناوین الرفع الأُخری ممّا یتقدّم علی الأحکام (العناوین الأوّلیّة) مطلقاً، لجهة أهمّیتها فی التزاحم الملاکیّ، کما هو الضابطة فی العناوین الثانویّة ولکون عناوین الرفع رافعة للتنجیز والعزیمة دون أصل الحکم، بینما الشرط والصلح ونحوهما موجب لتبدّل الحکم، کما أنّ عناوین الرفع ناشئة من مصلحة التسهیل الملزمة وترخیصها، أمّا عناوین العهد والإلتزام فناشئة من مصلحة الوفاء بالعهد المقترح المبتدأ، أو ولایة بعض الموالی، وقد أشار إلی وجود الفرق إجمالًا الشیخ الأنصاری(قدس سره) فی المقام.

المحتمل الثامن: قد أشار صاحب «الکفایة فی موضع من مباحث الألفاظ إلی أنّ العناوین الثانویة حاکمة صورة، أی بحسب عالم الدلالة، ومزاحمة لبّاً، وقد یظهر ذلک من الشیخ کما فی تنافی الضررین وغیرهما، وهو ممشی مشهور الفقهاء».

نعم، مشهور هذا العصر البناء علی أنّها حاکمة صورةً ومخصّصة لبّاً،

ص:25

ولا یخفی خطورة وأهمّیة الفرق بین المسلکین فی موارد عدیدة، والمسلک الأوّل هو المتعیّن کما حرّر فی محلّه.

وعلی ذلک فیکون تقدّم العنوان الثانویّ علی الأوّلیّ هو لأهمّیّته ملاکاً، کما تقدّمت الإشارة إلی ذلک، وعلیه فیکون محصّل الاستثناء فی المقام هو أنّ الشرط والصلح ونحوهما من العهود والإلتزامات (أی الولایات الفردیّة وغیرها) لا تزاحم الأحکام الأوّلیّة الإقتضائیّة ملاکاً، بخلاف عناوین الرفع الستّة ونحوها، لاسیّما وإنّ عناوین الرفع کما تقدّم لا تغیِّر الأحکام الأوّلیّة عمّا هی علیه، کما هو مسلک مشهور طبقات الفقهاء عدا هذه الأعصار، بل غایة الأمر، هی ترفع تنجیزها کما هو شأن المتزاحمین بخلاف المخصّص أو الوارد، کما هو الحال فی عنوان الشرط والصلح، والنذر وأخویه، وطاعة الوالدین والموالی.

وعلی ضوء ذلک فلابدَّ فی الإلتزامات والعهود الداخلة تحت ولایة الفرد والأفراد أن تکون غیر منافیة للأحکام الأوّلیّة والتی هی من ولایة الله تعالی ورسوله، بل ملائمة معها من باب جمع الملاکین، فیعود هذا النمط من العناوین الثانویّة، کنمط عناوین الرفع، غیر مخصّص ولا وارد علی الأحکام الأوّلیّة، بل مجتمع معها من دون تنافی لا فی الملاک ک- (باب) التزاحم فضلًا عن الجعل والإنشاء ک- باب التخصیص، بل ولا فی الأثر وهو التحریک والبعث والتنجیز والترخیص ک- (باب) حکومة الرفع من العناوین الثانویة.

ومن ثمّ ارتکز فی کلماتهم حول القاعدة، أنّ مورد الشروط والصلح

ص:26

ونحوهما هو فی تمییز الأحکام الطبعیّة الاقتضائیّة عن الفعلیّة الباتّة وغیر ذلک ممّا قیل فی ضابطة کیفیّة التعرُّف علی عدم منافاة الأحکام الأوّلیّة مع ولایة الفرد والأفراد والتزاماتهم وعهودهم الداخلة تحت سلطنتهم کما سیأتی البحث فی ذلک.

المحتمل التاسع: قد ذکر المحقّق النراقی وجماعة أنّ المخالفة فی المقام تختلف عن المخالفة فی باب التعارض؛ فإنّ العموم والخصوص المطلق یعدّ مخالفة فی المقام بخلاف باب التعارض؛ وکذا الحال فی الإطلاق والتقیید، وکذلک حمل العامّ والمطلق علی الخاصّ والمقیّد، بل وکذلک کلّ وجوه الجمع العرفیّ الاخری من حمل الظهور الأضعف علی الأقوی علی اختلاف أنواع وضروب القرینیّة فی باب التعارض تعد مخالفة فی المقام بحسب هذه القاعدة .

بعبارة جامعة لا یرفع التنافی فی المقام بما یرفع فی باب التعارض بالتصرّف فی دلالة أحد الطرفین، ففی المقام لا تغیّر دلالة أدلّة الأحکام عمّا هی علیه، ولا یلاحظ التوفیق بین دلالتها ودلالة نفوذ الشروط والصلح والنذر ونحوها من الإلتزامات، وفی الحقیقة أنّ أدلّة الأحکام الثانویّة مطلقاً سواء کانت رافعة او مثبتة من النمطین- اللذین تقدّمت الإشارة إلیهما- لا یتصرّف بها فی دلالة الأحکام الأوّلیّة، بخلاف أدلّة الأحکام الأوّلیّة فیما بین بعضها مع البعض.

وعلی ذلک، فالعناوین الثانویّة بکلا النمطین حالات وأطوار للحکم الأوّلیّ من دون أن تتصرّف فی جعله. فمن ثمّ یظهر تفسیر آخر للموافقة

ص:27

للکتاب والسنّة المأخوذة فی ألسنة بعض روایات القاعدة، المقابل لأخذ عدم المخالفة لها؛ أنّه نفی لمطلق المخالفة بحسب مراحل ومراتب الحکم الاولی فضلا عن مرتبة الجعل، وبالتالی تکون موافقة مع طبیعة الحکم الأوّلی ولا تنافی شؤونه.

المحتمل العاشر: إنّ بطلان الإلتزام المخالف للکتاب والسنّة سواء بنحو الشرط أو الصلح، والنذر وأخویه، وغیرها، مطرّد حتّی للإلتزام والعهد للَّه تعالی، فلا یصحّ النذر وأخویه مع کونه عهداً والتزاماً له تعالی اذا کان مخالفا للاحکام الاولیة، فالإتّباع والطاعة لأحکامه تعالی مقیّدة لسلطان عبیده فی ما یلتزمونه ویتعهّدونه علی أنفسهم له تعالی. فالشروط مبتدأة منه تعالی علیهم لا منهم له علی أنفسهم.

المحتمل الحادی عشر: إنّ شأن الحکم الثانویّ کالعناوین العذریّة الستّة، فضلًا عن المثبتة من الشرط وبقیّة الإلتزامات، لیس هو الدوام والثبات، بل ذلک شأن الأحکام الأوّلیّة، بل شأنها هو الطروّ الإتّفاقی المؤقّت، والزوال من دون استمرار.

وبعبارة اخری: حیث قد عرفنا أنّ العناوین الثانویّة العذریّة مزاحمة لبّاً للأوّلیّة والتزاحم لا یکون حالة دائمیّة بین الأحکام بل الحالة الطبیعیّة هی الوفاق بینها فی التدبیر الفردیّ أو الاجتماعیّ، ومن ذلک یکون الحال أجلی فی الثانویّة المثبتة. نعم، لمّا کان مورد المثبتة هو- کما مرّ- الأحکام اللااقتضائیّة کما فی أکثر المباحات کان فیها البقاء الحیثیّ أطول مدّة.

ص:28

فقه الروایات من خلال فوائد:

وأمّا تقریب دلالة الروایات والتی مواردها بمثابة تطبیقات لهذه القاعدة ویظهر من خلالها فوائد:

فالروایة الأولی: وهی صحیح الحلبیّ المتقدّم، وهی مطابقة فی المورد مع صحیحه الآخر وهی الروایة السابعة المتقدّمة، وکذا مع الروایة الثامنة.

الفائدة الأولی: الفرق بین الحقّ والحکم:

وقد فرّق فی الروایة بین اشتراط عدم البیع وعدم الهبة من جانب وبین عدم الإرث- والذی عبّر عنه بالروایتین الاخریین بعدم ولاء العتق- من جانب آخر، والفرق بحسب الظاهر أنّ البیع والهبة تصرّف موکول فی الشرع إلی سلطنة المالک فله أن لا یقدم علیه، ومن ثمّ له أن لا یلتزم علی نفسه بعدم الإقدام علیه، لیس مودّی الشرط- أی ذات ما وقع اشتراطه- هو تحریم التصرّف علی نفسه، وهذا بخلاف الإرث، فإنّه حکم شرعیّ لا ینطوی تحت تصرّف المکلّف کی یتشارط علی عدمه، ومثله جعل الولاء لغیر مَن اعتق.

وأمّا الروایة الثانیة: فقد جمع صحیح عبدالله بن سنان بین التقیید بعدم المخالفة وبلزوم الموافقة، بخلاف صحیحه الآخر وصحیح الحلبیّ ثمّة، فإنّهما اقتصرا علی نفوذ وإمضاء کلّ شرط إلّاالمخالف.

الفائدة الثانیة: فی معنی الموافقة:

وقد تقدّم أنّ الأقرب فی معنی الموافقة هو الملاءمة مع الأحکام الأوّلیّة، وهو یتطابق مع نفی مطلق المخالفة من رأس، فمثلًا اشتراط عدم

ص:29

البیع وعدم الهبة یتوافق مع تشریع البیع والهبة وإیکالهما إلی سلطنة المالک، فإنّ الإشتراط المزبور یتماشی مع طبیعة الجعل الشرعیّ الأوّلی فی باب البیع والهبة، فیکون وفقاً وموافقاً له ولا یتنافی معه کی یکون مخالفاً له ولو بنحو العموم والخصوص المطلق وغیرهما من أنحاء التنافی ولو غیر المستقرّ فی الأدلّة المتعارضة.

ولک أن تقول: إنّ التصرّف المأذون فیه، سواء کان بنحو الفعل أو النتیجة الوضعیة بالإذن التکلیفیّ الوضعیّ؛ هو موافق للکتاب والسنّة، فالترخیص فی التصرّف من الکتاب والسنّة یوجب کون الاشتراط لذلک التصرّف عملًا بالجعل الأوّلیّ فی الکتاب والسنّة.

وأمّا الروایة الثالثة: وهی موثّقة إسحاق، فموردها یتطابق مع الرابعة وما یتلوها، إلّا أنّ اللفظ فیها عامّ؛ لأنّ وجه التعرّض لما یشترط الزوج علی نفسه لزوجته هو دفع توهّم منافاة ذلک لقوّامیّة الرجال علی النساء، وقد تمیّزت هذه الموثّقة بتقیید الشرط بعدم تحریم الحلال أو تحلیل الحرام. وقد ورد هذا التعبیر فی العاشرة کروایة سلمة فی الصلح: «إلّاصلحاً حرَّم حلالًا، أو أحلَّ حراماً(1).

وکذا ما ورد فی الیمین من أنّها: «لا تجوز فی تحلیل حرام، ولا تحریم حلال»(2).

وقد وقع الکلام فی مفاد هذا اللسان من دلیل القاعدة هل أنّه مغایر

ص:30


1- (1) وسائل الشیعة ج27 من 212 ح1.
2- (2) المصدر ج22 ص44 ح2.

لعنوان المخالفة والموافقة وفی تفسیر التحلیل والتحریم.

وقال المحقّق النراقی: «وأمّا الثانی- أی الشرط الذی أحلّ حراماً- فعدم الإعتداد به أیضاً منصوص علیه..، إنّما الإشکال فی فهم المراد منه، حیث أنّ کلّ شرط یوجب تحریم حلال أو تحلیل حرام فإنّ اشتراط عدم الفسخ یوجب تحریم الفسخ الحلال، وکذا اشتراط عدم إخراج الزوجة من بلدها، واشتراط خیار الفسخ یوجب تحلیل الحرام، فإنّ الفسخ لولا الشرط کان حراماً وهکذا».

ولذا تری أنّه قد وقع کثیر من الأصحاب فی حیص وبیص من تفسیره. فمنهم مَن حکم بإجماله، ومنهم من فسّر تحریم الحلال وتحلیل الحرام بالتحریم الظاهریّ للحلال الواقعی والتحلیل الظاهری للحرام الواقعیّ. وقیل: المراد بالحلال والحرام فی المستثنی ما هو کذلک بأصل الشرع من دون توسّط العقد...

قیل: هو تعلُّق الحکم بالحلّ أو الحرمة مثلًا بفعل من الأفعال علی سبیل العموم من دون النظر إلی خصوصیّة فرد، فتحریم الخمر معناه منع المکلّف عن شرب جمیع ما یصدق علیه هذا الکلّی وهکذا حلّیّة البیع، فالتزوّج والتسرّی مثلًا أمر کلّی حلال والتزام ترکه مستلزم لتحریمه، بل وکذلک جمیع أحکام الشرع من الطلبیّة والوضعیّة وغیرها، وإنّما یتعلّق الحکم بالجزئیّات باعتبار تحقق الکلّی فیها.

فالمراد من تحلیل الحرام وتحریم الحلال المنهیّ عنه: هو أن تحدث قاعدة کلّیة، ویبدع حکماً جدیداً- إلی أن قال- وکلّ هؤلاء أخطأوا الطریق

ص:31

فی فهم الحدیث مع أنّه ظاهر- علی فهمی القاصر- غایة الظهور کما یظهر ممّا ذکرنا فی بیان مخالف الکتاب والسنّة.

والحاصل أنّ عبارة الإمام(علیه السلام) هکذا: إنّ المسلمین عند شروطهم إلّا شرطاً حرّم حلالًا أو أحلّ حراماً. وفاعل (حرّم) و(أحلّ) هو (الشرط)، فالمستثنی شرطٌ حرّم ذلک الشرط الحلال أو أحلّ الحرام، وهذا إنّما یتحقّق مع اشتراط حرمة حلال أو حلّیّة حرام، لا مع اشتراط عدم فعل حلال.. ولم یقل «إلّاشرطاً حرّم إیجابه حلالًا....

ویکون الشرط فی ذلک کالنذر والعهد والیمین، فإنّه إذا نذر أحد أو عاهد أو حلف أن یکون المال المشتبه علیه حراماً شرعاً أو یحرّم ذلک علی نفسه شرعاً، لم ینعقد.. نعم، لو شرط فعل ما ثبتت مرجوحّیّته بالکتاب أو السنّة تحریماً او کراهةً، أو ترک ما ثبت رجحانه بهما وجوباً أو استحباباً، یحصل التعارض بین ما دلّ علی ذلک من الکتاب والسنّة، وبین دلیل وجوب الوفاء بالشرط، واللازم فیه الرجوع إلی مقتضی التعارض والترجیح...، ثمّ لو جعل هذا الشرط أیضاً من أقسام المخالف للکتاب والسنّة کما یطلق علیه عرفاً أیضاً؛ لم یکن بعیداً(1).

الفائدة الثالثة: معانی التحلیل والتحریم:

المحصّل من الأقوال التی ذکرها فی تفسیره:

الأوّل: الشروط المبنیّة علی اجتهاد أو تقلید سابق، ثمّ تبدّل إلی

ص:32


1- (1) عوائد الأیام، العائدة 15 ص146 - 151.

خلافه؛ وهو أقرب الوجوه للتحلیل والتحریم الظاهری.

الثانی: اشتراط ما یخالف الحرام أو الحلال بحسب التشریع الأوّلی للأشیاء، أی ما لم یجعل تحت ولایة وسلطة الفرد والأفراد کما هو الحال فی المعاملات والإیقاعات التی هی تصرّفات وأفعال اعتباریّة؛ وهو یطابق أحد التفاسیر المتقدّمة لشرط المخالف للکتاب والسنّة، وقد تقدّم قوله.

الفائدة الرابعة: الجزئیّة طابع الحکم الثانویّ:

الثالث: وهو الذی ذهب إلیه المحقّق القمّی(قدس سره) من أنّه المنع عن المحلل علی نحو الکلّیة أو فعل المحرّم کذلک؛ ولا یخفی شدّة ظهور المخالفة من الشرط علی هذا التقدیر لانحصار مورد المخالفة بذلک، لأنّ کلّیة التصرّف تصّاعد به إلی التقنین العامّ الذی هو مرتبة الجعل الشرعیّ، بخلاف المنافاة مع موارد التطبیق والمصادیق، ولک أن تقول: إنّ المنافاة حینئذ بنحو البینونة، بخلاف موارد التطبیق فإنّ المنافاة بنحو التخصیص.

وبعبارة ثالثة: إنّ المخالفة فی الاشتراط الکلّیّ والإلتزام العامّ والصلح بذلک تکون علی درجة التشریع العامّ، ومن ثمّ عبّر عنها بإبداع القاعدة الکلّیة، وقد ورد فی باب الیمین والنذر والعهد إبطال هذا النحو من الإلتزام، نظیر ما ورد فی سبب نزول الآیة: لا تُحَرِّمُوا طَیِّباتِ ما أَحَلَّ اللّهُ لَکُمْ (1) فی مَن حلف أن لا ینام أبداً والآخر حلف أن لا یفطر النهار أبداً والثالث حلف أن لا ینکح أبداً وإنّ ذلک من تحریم الطیّبات ولا عبرة به.

ص:33


1- (1) المائدة: 87.

هذا مضافاً إلی أنّ شأن العنوان الثانویّ سواء کان رافعاً کالعناوین العذریّة- فضلًا عن المثبت کالشروط والإلتزامات الأُخری- لیس هو الدوام والثبات والذی هو شأن الحکم الأوّلیّ بل الطروّ الاتّفاقی أو الحیثیّ کما مرّ بیانه.

الرابع: وهو مختاره من کون المراد من الشرط فی القاعدة هو نفس الإلتزام لا الفعل المشروط.

الفائدة الخامسة: حقیقة الشرط والاشتراط:

لکنّ الأظهر إرادة المحقّق النراقیّ(قدس سره) ما استظهرناه فی ما سبق من إرادة المنشأ بالشرط والإلتزام، وهو المعنی الوضعیّ، سواء فی شرط النتیجة أو فی شرط الفعل. فإنّ المنشأ- کما هو التحقیق- فی شروط الفعل لیس الإلتزام بالفعل، بل الإلتزام بتملیک واستحقاق الفعل، فالمشروط فی الحقیقة ذلک المعنی الوضعیّ، غایة الأمر الإلتزام یتمّ به کما فی العقود، والفعل متعلّق له، لا أنّ ذات الفعل یتعلّق بها الإلتزام مباشرة کما هو فی التزام الفعل فی الإجارة، فإنّ الملتزم به بالذات تملیک الفعل، والفعل متعلّق متعلّق الإلتزام.

وعلی أیّ تقدیر فقد جعل النراقیّ(قدس سره) أنّ مورد المخالفة هو مالو کان المنشأ عنوان الحرمة للحلال الشرعیّ أو عنوان الحلّیّة للحرام الشرعیّ لا ما إذا جعل متعلّق الإلتزام والشرط عدم فعل الحلال أو فعل الحرام.

ص:34

الفائدة السادسة: المختار فی معنی التحلیل والتحریم:

وما ذکره وإن کان من موارد المخالفة الجلیّة جدّاً، کما هو الحال فی مختار المحقّق القمّی(قدس سره) إلّاأنّه لا تنحصر موارد التحلیل والتحریم والمخالفة بذلک، فقد استعمل التحریم للحلال أو التحلیل للحرام فی المنع عن فعل الحلال أو التزام فعل الحرام، کما فی قوله تعالی: یا أَیُّهَا النَّبِیُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللّهُ لَکَ (1) وکان صلی الله علیه و آله قد حلف أن لا یقرب ماریة.

وبعبارة اخری: إنّ التحریم لیس إلّاالمنع، والتحلیل لیس إلّا الإطلاق والإرسال کما فی قوله تعالی: لا تُحَرِّمُوا طَیِّباتِ ما أَحَلَّ اللّهُ لَکُمْ (2) وکان أمیر المؤمنین(علیه السلام) حلف أن لا ینام باللّیل أبداً إلّاما شاء الله، وبلال حلف أن لا یفطر بالنهار أبداً، وعثمان بن مظعون حلف أن لا ینکح أبداً. نعم، ما یشکل علیه من أنّ التحریم للحلال الشرعیّ لیس بید الشارط کی یحرّم أو یحلّل، فهو من اشتراط غیر المقدور الممتنع، مخدوش بأنّ المراد اعتبار الشارط والمشروط علیه ذلک فی اعتبارهما البنائیّ لا فی اعتبار الشارع.

الفائدة السابعة: العلاقة بین التقنین الشرعیّ والعقلائیّ:

ومن هنا یجدر التنبیه والإلفات إلی ما راج أخیراً فی عدّة من الکلمات من أنّ التقیید والعمل بالقوانین الوضعیّة البشریّة العصریّة فی المجالات العدیدة- کأنظمة للتدبیر فی النظام الاجتماعیّ والسیاسیّ والمالیّ والأُسریّ

ص:35


1- (1) التحریم: 2.
2- (2) المائدة: 87.

والفردیّ والأحوال الشخصیّة- حیث أنّه لیس تشریعاً فی الدین وإبداعاً للأحکام الشرعیّة فلا ضیر فی التقیّد والإلتزام بها وإن لم تدلّ علیها التشریعات الإلهیّة، مادام أنّ هذا التقنین لیس بعنوان وإسم ونسبة فیه إلی الشرع الحنیف.

وألحق البعض الإلزام والإلتزام العرفیّ الدارج فی بعض المعاملات غیر المصحّحة من الشرع، ألحق ذلک بالدعوی المزبورة فی الجواز بعد تبانی المتعاملین علی کون ذلک فی اعتبارهما الثنائیّ لا فی الاعتبار الشرعیّ.

وهذا کلّه مخدوش بأنّ الفساد والمنع والبطلان فی اعتبار الشرع لأُمور وأشیاء أو لمعاملات لیس بمعنی أن یظلّ ذلک بنحو الوجود النظریّ الذی لا یجد له طریقاً فی عمل المکلّفین، بل هو لغایة تقیّدهم باعتبارات ومقرّرات الشارع الإلهیّ، وترکهم لاعتبارات ومقرّرات أنفسهم؛ وهو معنی ما مرّ من أنّ المراد فی هذه القاعدة هو تقدّم طاعة الله وولایته وطاعة رسوله واولی الأمر وولایتهم علی ولایة الفرد علی نفسه، والأفراد علی أنفسهم، سواء ولایته تعالی فی صورة التشریع أو القضاء أو الحکم التدبیریّ الجزئیّ.

فنهی الشارع ناظر إلی المنع عن بناء المکلّف والمکلّفین علی فعل معیّن فی اعتبار أنفسهم، لا الردع عن البناء علیه بعنوان أنّه من اعتبار الشارع، وإلّا لآل الحال فی جمیع النواهی الشرعیّة إلی النهی فی خصوص التشریع فی الدین، وهو کما تری.

هذا، فالصحیح أنّ المنع عن الفعل والإرسال له تحریم وتحلیل، وإن

ص:36

لم یکن بلفظ التحریم والتحلیل، نعم الظاهر عدم صدقه بمجرّد اشتراط ترک فرد من الفعل المحلّل أو فعل فرد من المحرّم وإن صدقت المخالفة علی شرط فعل فرد من المحرّم، لکنّه لیس من تحریم الحلال أو تحلیل الحرام، بل من شرط الحرام، بل لابدَّ من کلّیة الترک أو الفعل ولو النسبیّة بنحو یکون کالمقرّر والقانون الکلّیّ.

ومن ذلک وغیره یتّضح أنّ عنوان المخالفة أعمّ من عنوان التحریم أو التحلیل، وإن کان العنوانان لا یختصّان بالتکلیف، بل یعمّان الحرمة والحلّ الوضعیّین لعموم مادّة الحرمة والحلّ لکلّ من المنع التکلیفیّ والوضعیّ، سواء بلحاظ ما یضاف إلیه من فعل تکوینیّ، أو اعتباریّ معاملیّ ونحوه.

وأمّا ما أفاده المحقّق النراقی(قدس سره) من عدم إسناد التحریم والتحلیل إلی حکم الشرط وهو الإیجاب، فهو متین، لکنّه عند اشتراط ترک الفعل المحلّل بنحو کلّیّ أو فعل المحرم بنحو کلّیّ ولو إضافیّ، یأخذ عنوان استحقاق ذلک، والذی هو المنشأ وضعاً، وهو معنی متوسّط بین الإلتزام الشرطیّ والفعل المشروط، طابع المنع والإرسال وهو التحریم والتحلیل.

وأمّا ما ذکره(قدس سره) من وقوع التعارض وإعمال الترجیح، فضعیف غایته، بعد ما عرفت من تقیید نفوذ الشرط ونحوه من الإلتزامات بعدم المخالفة هی صادقة فی مورد التعارض بنحو اجلی من التزاحم .

ص:37

الفائدة الثامنة: توقّف معرفة المخالفة والموافقة فی القاعدة علی الصناعة التحلیلیّة لحقیقة الأحکام والمباحث القانونیّة البحتة:

ثمّ إنّ فی روایة العیّاشی تعلیل بطلان شرط الزوج للزوجة عدم التزوّج علیها أو عدم هجرها أو عدم التسرّی علیها، بینما فی معتبرة منصور بن بزرج صحّة شرط عدم التزویج علیها، ولا یخفی أنّ ظاهر روایة العیّاشی بدواً ولفظها وإن کان هو شرط الطلاق المعلّق علی فعل التزویج والهجر والتسرّی؛ إلّاأنّ المتعارف والمتبادر من مثل هذه الشروط هو التزامان:

الأوّل: هو ترک المعلّق علیه.

والثانی: هو المعلّق فی صورة عدم الوفاء بالأوّل وأنّ الثانی هو للردع عن عدم الوفاء بالأوّل لا مجرّد الردع عنه من دون التزام بترکه، نظیر من یتعاقد ویشترط علی الآخر أن یغرم مقداراً من المال إن لم یخط الثوب.

ویوضّح ذلک موثّق زرارة فی الباب المزبور(1), ومفادها مطابق الروایة الخامسة- الصحیح الآخر لمحمّد بن قیس، وصحیح عبدالله بن سنان- ولروایات اخری فی الباب المزبور(2), ومن ثمّ حمل الشیخ معتبرة ابن برزج علی الاستحباب أو التقیّة، ورجّح جمع من الأعلام مفاد المعتبرة علی بقیّة الروایات.

ص:38


1- (1) وسائل الشیعة ج21 ص275 باب 20 من أبواب المهور ح2.
2- (2) المصدر باب 20 من أبواب المهور.

ذلک لأنّ مفاد الشرط الإلتزام بالفعل أو الترک المجرّد، ولیس هو مفاداً وضعیّاً لیتنافی مع الجعل الوضعیّ الأوّلیّ، کما أنّ المشروط لیس المنع بعنوان التحریم کی یتنافی مع الجعل التکلیفیّ الأوّلیّ، ومن ثمّ حملوا بقیّة الروایات علی ما لو کان الشرط متعلقاً بمفاد وضعیّ أو بعنوان المنع التحریمیّ.

ویرد علی الحمل المزبور أنّ مقتضی الاشتراط کما عرفت هو ثبوت استحقاق وضعیّ للمشروط له علی المشروط علیه، مضافاً إلی اللزوم التکلیفیّ، وبالتالی تستحقّ علیه عدم الطلاق وعدم التزویج وعدم التسرّی علیها وعدم هجرها.

وهذا المفاد الوضعیّ ینافی الأحکام الأوّلیّة فی باب الزواج، لأنّها لیست تکلیفیّة محضة؛ بل مفادها حقّ الزوج فی ولایة الطلاق والهجر فی المضاجع إن أتت المرأة بسبیل ذلک، وفی التزویج والتسرّی ولو بلحاظ التأبید فی المنع المشروط فی الأخیرین وإن کان هذا الحقّ غیر قابل للإسقاط.

وبعبارة اخری: إنّ الحکم التکلیفیّ النفعیّ لطرف، ینتزع منه ثبوت حقّ له، وعلی هذا ففی مثل هذه الموارد التی لا یکون الحقّ قابلًا للإسقاط ولا للانتقال لا یشرع جعل الاستحقاق للغیر بتوسّط الشرط.

الفائدة التاسعة: عموم القاعدة لکلّ إنشاء من عقد أو إیقاع أو لکلّ التزام:

بل لا یختص ذلک بالشرط، بل یعمّ کلّ إیقاع أو عقد أو التزام

ص:39

واعتبار یخالف حکم الکتاب والسنّة واعتبارهما.

ففی موثّق سماعة بن مهران، قال: «سألته: عن رجل طلّق امرأته ثلاثاً فی مجلس واحد. فقال: إنّ رسول الله صلی الله علیه و آله ردَّ علی عبدالله بن عمر امرأته، طلّقها ثلاثاً وهی حائض فأبطل رسول الله صلی الله علیه و آله ذلک الطلاق، وقال: کلّ شیء خالف کتاب الله والسنّة ردّ إلی کتاب الله والسنّة»(1).

وفی صحیح الحلبیّ مثله: «کلَّ شیء خالف کتاب الله والسنّة ردّ إلی کتاب الله»(2).

وفی روایة اخری: «ما خالف کتاب الله ردّ إلی کتاب الله»(3).

وغیرها فی ذلک الباب.

الفائدة العاشرة: الاصول القانونیّة معیار المخالفة والموافقة:

وعلی أیّ تقدیر، فالجدیر بالإنتباه أنّ فی روایة العیّاشی وغیرها تعلیل فساد الشرط «بأنّ شرط الله قبل شرطکم.

فأطلق علی حکم الله بالشرط وهو کما ذکر السیّد الیزدی(قدس سره) فی أوّل مبحث الشروط فی تفسیر معنی الشرط لغة واستعمالًا وبالنظر إلی عدّة من الروایات الواردة فی تفسیر الشرط کروایات اخری واردة فی تفسیر الآیة:

ص:40


1- (1) وسائل الشیعة ج22 ص64 باب 29 من أبواب مقدمات الطلاق ح10.
2- (2) المصدر ح9.
3- (3) المصدر ح22.

أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (1) بأنّها العهود التی للَّه تعالی علی خلقه وأنّ العقد لیس إلّاربط الإلتزام من الطرفین، فهو تشارط متقابل، وإنّ: «المؤمنون عند شروطهم» شامل لمثل النذر أو العهد والیمین، کما هو شامل للإلتزام بین الخلق والمکلّفین بعضهم لبعض.

فالإقرار بالشهادتین، والإلتزام بالدین، التزام وتعهّد بمجمل الأحکام والأوامر الشرعیّة، وحقّ الله تعالی وولایته مقدّمة علی کلّ حقّ وولایة لغیره بعد تأخّر تلک العهود والولایات من کلّ وجه عن عهد الله تعالی وولایته.

فهذا المعنی أصل مفاد القاعدة کما مرّ وعلی ذلک فذکر تعلیل بطلان تلک الشروط فی روایة العیّاشی بمخالفتها لمفاد الأحکام الثلاثة فی الآیات بعدما مرّ بیانه أنّ مفادها لیس الإباحة الصرفة کما مرّ أو دیمومة المنع فی التزویج والتسرّی.

بل الأکثر وضوحاً فی الدلالة علی التعلیل روایة إبراهیم بن محرز، حیث علّل فساد شرط کون الطلاق بیدها، بأنّه مخالف بجعل قوّامیّة الرجال علی النساء، فلم یعلّل(علیه السلام) بمخالفة الشرط لجعل الطلاق بید الرجل، بل علّل بمخالفة عموم فوقانیّ کأصل قانونیّ فوقیّ قد شرع منه الکثیر من التشریعات المتنزّلة، وهو لیس من العمومات المتعارفة التی تتنزّل بطبعها علی المصادیق، بل تنزّلها وتطبیقها یحتاج إلی جعل وتشریع

ص:41


1- (1) المائدة: 1.

تنزّلی، نظیر الاصول القانونیّة فی الدساتیر، فإنّها تتنزّل بتوسّط التشریعات للمجالس النیابیّة، ولا یصحّ التمسّک بها مباشرة، بل الحال کذلک فی التشریعات العامّة للمجالس النیابیّة، فإنّه لا تنفّذ ولا تمضی ولا یعمل بها من دون التشریعات الوزاریّة التی هی تنزل للتشریعات النیابیّة.

فالعمومات الفوقانیّة التی هی بمثابة اصول قانونیّة لا تتنزّل ولا تنطبق علی المصادیق إلّابتشریعات اخری متنزّلة، وهذا یرسم لنا أنّ معیار المخالفة والموافقة هو ما لا یقتصر علی التشریعات التفصیلیّة للأحکام المتنزّلة بل التشریعات الإجمالیّة الاصولیّة الفوقیّة هی روح ولبّ المخالفة والموافقة.

الفائدة الحادیة عشر: السلطنة علی الشیء لا یسوّغ نفیها عن موضوعها:

وأمّا الروایة السابعة: فهی دالّة علی أنّ السلطنة والملک والحقّ ونحوها وإن کان مقتضاها اختیار صاحبها فی التصرّف، إلّاأنّه لیس مقتضاها تسلّطه علی سلطنة ملکه فی نفیه وإزالته مع وجود موضوعه. نعم، تمکن الإزالة بإزالته للموضوع وللسبب، وهذا نظیر ما أفاده المحقّق الشیخ الأنصاریّ(قدس سره) فی مفاد:

«الناس مسلّطون علی أموالهم»(1).

إنّ السلطنة مجعولة علی التصرّف فی الأموال لا علی نفس السلطنة ولا علی أحکام الأموال.

ص:42


1- (1) نبوی مشهور، رواه صاحب بحار الأنوار ج2 ص272 وفی مواضع أُخری.

أمّا الروایة الثامنة والتاسعة: فالتقابل بین المشروط لیس فی کون مورد الثامنة هو شرط النتیجة ومورد التاسعة هو شرط الفعل، بل الأهم هو کون مورد الأُولی مضادّ للحکم الشرعیّ من إرث ذوی الأرحام، بخلاف مورد الثانیة، فإنّه عمل بمقتضی الحکم الشرعیّ ومترتّب علیه کما لا یخفی.

ضوابط المخالفة فی کلمات الاعلام:

ثمّ أنّه ینبغی التعرّض لکلمات الأعلام فی المقام.

الأوّل: کلام الانصاری:

ما ذهب إلیه الشیخ الأنصاریّ(قدس سره) من أنّ ضابطة المخالفة هو مخالفة الحکم المطلق والفعلیّ، بخلاف مخالفة الحکم الطبعیّ الاقتضائیّ، ثمّ خاض(قدس سره) فی ضابطة الحکم المطلق والحکم الطبعیّ.

فالوضعیّ فی الغالب مطلق فعلیّ، بخلاف التکلیفیّ لا سیّما غیر الإلزامی، ثمّ ألحق بالتکلیفیّات الأحکام الوضعیّة التی بعنوان الملک والحقّ.

وقد یخدش فی هذه الضابطة أنّ مخالفة الوضعیّات فی الملتزم به وذات المشروط ماهیّة، ومخالفة التکلیفیّات فی الإلتزام والتعهّد، یرجع ویؤول إلی طبیعة وسنخ الحکم الوضعیّ والتکلیفیّ، ففی ماهیّة المشروط بما هی هی کما فی الأحکام الوضعیّة بما أنّها ماهیّة مقرّرة بغضّ النظر عن فعل المکلّف الذی انیط الحکم التکلیفیّ به کما هو الحال فی الإلتزام والتعهّد.

ثمّ إنّ الشیخ(قدس سره) نبّه علی أنّ بعض الرخص والمباحات اقتضائیة لا تتغیّر، وقد ذکر بعض المحقّقین أنّ ضابطة الحلّ والرخصة الاقتضائیّة هو

ص:43

الجواز والحلّ المترتّبة علی الحکم الوضعیّ، دون الحلّ والإباحة المجرّدة.

هذا، وقد نبّه الشیخ(قدس سره) أنّ عنوان الضرر والحرج یختلف عن بقیّة العناوین الثانویّة فیقدّمان مطلقاً بخلافها، وقد ذکرنا وجه التفرقة فی الأُمور التی ذکرناها فی حقیقة موضوع البحث، فلاحظ.

الثانی: کلام جملة من الاعلام:

ما ذهب إلیه جملة من الأعلام من أنّ الإطلاق اللفظیّ للحکم الشرعیّ هو ضابطة مخالفة الشرط، وعدمه یزیل عنوان المخالفة، وبعبارة اخری الإطلاق أو العموم اللفظیّ لحکم الشیء ولو بلحاظ الحالات الطارئة المختلفة وتارة لحکم الشیء من حیث هو، إمّا لأنّه لا إطلاق له، أو لدلالة الدلیل علی أنّ الحکم للشیء من حیث هو وفی حدّ نفسه أو مقیّد بعدم الطوارئ.

فعند الشکّ فی عنوان المخالفة لا یصحّح الشرط عند فرض تعارضه مع عموم الوفاء بالشرط ومع عموم الحکم الأوّلی بل یکون عموم الوفاء موروداً.

الثالث: ما مال الیه النراقی:

ما مال إلیه المحقّق النراقیّ(قدس سره) لکنّه لم یستقرّ علیه، وهو إجراء مرجّحات التعارض بین إطلاق وعموم الحکم الأوّلیّ وعموم الشروط فالراجح یقدّم، بخلاف ما إذا کان تنافی الشرط بما هو مع الکتاب فإنّ المخالفة صادقة مطلقاً حینئذ دون مخالفة الإلتزام للإلزامیّات.

ص:44

الرابع: کلام بعض الاعلام:

ما ذکره بعض من أنّ الضابطة ورود الحکم فی الکتاب وعدمه.

الخامس: کلام الیزدی:

ما ذهب إلیه السیّد الیزدیّ(قدس سره) أنّ ضابطة التحریم والتحلیل المفسدة للشرط هو مخالفة الکتاب، لکن لا مطلق المخالفة. نعم، المنافی الدائم فی غیر الإلزامیّات مخالف، وکذلک المنع عن المباح بلفظ النفی، أو المنع والتحریم عنواناً.

وأمّا فی الأحکام الإلزامیّة فالمنافاة لها ولو فی الحکم الجزئیّ مخالفة فضلًا عن الحکم الکلّی فیها، کذلک الواجب أو فعل الحرام، وکذلک تصدق المخالفة فی الحکم الوضعیّ إذا جعل فی الشرط لغیر من جعله الله تعالی له، دون ما لو کان بنحو شرط الفعل المتعلّق بالحکم الوضعیّ.

والوجه الذی یذکر فی هذا التفصیل هو أنّ الفارق بین الحکم الإطلاقیّ والطبعیّ هو فی نکتة التزاحم، حیث لا یزاحم المباح اللزوم الطارئ بخلاف اللزوم الأوّلی، فإنّه لا یدفع باللزوم الطارئ إلّاإذا کان فی غایة القوّة کالضرر والحرج فلیس الطارئ والثانویّ علی وتیرة واحدة فی التکلیفیّات.

السادس: کلام بعض الاعلام

نبّه بعض الأعلام علی أنّ المخالفة کما قد تکون بالإضافة إلی العمومات الأوّلیّة کذلک قد تکون بالإضافة إلی العمومات الثانویّة ولو الظاهریّة کالاصول العملیّة الظاهریّة.

ص:45

السابع: کلامنا المختار:

قد تبیّن ممّا مرّ من المختار أنّ ضابطة الحکم المطلق الفعلیّ هو الحکم المتنزّل من أصل قانونیّ فوقیّ، وأنّ العبرة بذلک فی المخالفة دون سائر الأحکام التی لا تعتضد بذلک کما هو الحال فی غیر الإلزامیّات من المباحات غالباً.

وبعبارة اخری: أنّ ما ذکر فی کلمات الأعلام من التفاصیل کاللوازم والعلامات الإنّیة ومنشؤها هو وجود الاصول القانونیّة الفوقیّة وهی تأبی التخصیص بطبعها کما ذکرنا لاختلافه عن العموم المتعارف فإنّ المخصّص لابدَّ أن یکون من رتبة العامّ کی یقوی علی التصرّف فیه دون ما إذا اختلفت الرتبة.

الثامن: کلام فی تحریر مقتضی الاصل:

فی تحریر الأصل العملیّ بتقریر أصالة العدم فی عنوان المخالفة ولو بنحو العدم الأزلیّ.

أمّا بلحاظ وجود الشرط حیث لم یکن، فلم تکن صفة المخالفة أو بلحاظ ما قبل الشرع بلحاظ تقرّر ماهیّة نفس المشروط.

نعم، علی تقدیر عدم تمامیّة الأصل الموضوعیّ تصل النوبة إلی الأصل الحکمیّ، وهی أصالة عدم نفوذ الشرط وعدم وجوب الوفاء به، کما ذهب إلی ذلک المحقّق النائینیّ(قدس سره) حیث بنی علی أنّ الأصل العدم الأزلیّ لا یجری فی موارد الشکّ فی انطباق عنوان المخصّص لکون العدم

ص:46

المأخوذ فی العموم بسببه هو العدم النعتیّ، وإن کان الصحیح هو جریان الأصل فی العدم الأزلیّ.

هذا، ولکنّ جریان الأصل لا یخلو من إشکال مع إطلاق دلیل الحکم الأوّلی وإن شکّ فی کونه طبعیّاً أو فعلیّاً وحصول التعارض کاف فی إسقاط عموم الوفاء بالشرط ونحوه من عمومات الإلتزام الأُخری، نعم مع عدم الإطلاق یتمّ جریانه وإمّا مع مجرّد الشکّ فی طبعیّته ونحوها، فلا.

ص:47

ص:48

قاعدة :العقود تابعة للقصود

اشارة

ص:49

ص:50

قاعدة العقود تابعة للقصود

وتطبیقها فی بحث التخلص من الربا انموذجا:

تحریر محل الاعتراض والبحث:

أنّ القنوات التخلّصیّة والحیل الشرعیة - کالهبة بشرط القرض، أو البیع المحاباتی بشرط القرض، أو الإجارة المحاباتیّة- فهی معاملة بیعیّة صورةً، ولکنها قرضا حقیقة، فإنّ العرف یعترف ارتکازاً أنّ هذه فی الواقع قرض، وإن کان بیعاً صورةً، وحینئذٍ الزیادة فیه باطلة؛ لأنّ العقود تابعة للقصود.

فإذا قلت: بعت کذا بکذا بشرط القرض، کان قصدک فی الواقع: أقرضت کذا بکذا بشرط الفائدة الربویّة، ولذلک یقدّرون المحاباة فی القیمة بقدر الفائدة الربویّة،

فواضح أنّ نفس الفائدة الربویّة ملحوظة فیها، فإذن استعمال لفظ البیع مجازی فی هذا المقام؛ لأنّهم یریدون ویقصدون منه القرض.

و العرف أیضاً یطبّق علی تلک القنوات عنوان القرض، ویقول إنّ لُبّه قرض، وإن کانت صورته شیئاً آخر.

وعنوان العقد وحکمه الشرعی والعقلائی یتبع قصد العاقد لا لفظه، فذلک التغییر اللفظی الصوری مع بقاء قصد القرض لا یغیّر شیئاً ولا ینفع.

ص:51

المستفاد من القاعدة:

أنّ المستفاد من قاعدة «العقود تابعة للقصود» أنّ العقد یجب ألّا یکون صوریّاً، بل لابدَّ أن یکون لبّیّاً، بمعنی أنّ المدار فی تأثیر العقود هو اللبّ والواقع لا اللفظ بدون القصد الجدّی.

ولذلک نرکّز البحث- للجواب عن ذلک الإشکال- علی تلک القاعدة، فتلک القاعدة فی معناها ذات مراحل:

الاولی: أنّ المدار فی إنشاء المعاملات هو تطابق لفظ الإنشاء مع الماهیّة المنشأة المقصودة فی قصد المتعامل، فإن اشترطنا وجود الألفاظ الصریحة فی العقود، فلابدَّ من الاستعمال الحقیقی فی الدلالة، وإن لم نشترط ذلک، فیکفی الدلالة علی المقصود ولو مجازاً.

فلُبّ هذه القاعدة هو تطابق الألفاظ مع المعنی المقصود، أی: یجب أن یکون اللفظ مطابقاً للقصد، وإلّا لم یقع العقد؛ لأنّ ما قصد لم یقع، وما وقع لم یقصد.

ولذا یقال فی الإیداعات التی فی البنوک أنّها قروض لا ودائع، وإن أصرّت البنوک علی أنّها ودیعة؛ لأنّ هذا الاستعمال لیس مطابقاً مع المعنی المقصود، فإنّ المعنی المقصود فی ذلک الإیداع المزعوم هو تملیک الشخص، المال النقدی المودع، وتملّک شیء فی ذمّة البنک، وهذا هو حقیقة القرض، بینما فی الودیعة یجب أن تسلّم ولا یتصرّف فی رقبتها، والحال أنّ فی الودیعة البنکیّة لیس الأمر کذلک، فالمعنی المقصود هو القرض لا الودیعة.

ص:52

وحینئذٍ فیقال فیما نحن فیه أیضاً أنّ المعنی المقصود الأصلی الحقیقی فی بعض القنوات التخلّصیّة هو القرض لا البیع.

الثانیة: المطابقة بین قصد المنشئ وبین الماهیّة العرفیّة العقلائیّة، فکثیراً ما یقصد المنشئ ماهیّة معاملیّة ویتصوّر أنّها بیع- مثلًا- بینما العقلاء لا یعتبرونها ماهیّة بیعیّة.

وذکروا فی تعریف البیع أنّه مبادلة مال بمال، وقالوا: إنّ البیع متقوّم بأن یکون المبیع مقصوداً بذاته وصفاته الشخصیّة، والثمن والبدل والعوض مقصوداً بمالیّته.

وعلی هذا، فمبادلة عین بعین لیست بیعاً حقیقة إذا کان المقصود فی کلا الطرفین هو شخص العین بصفاتها الخاصّة لا بمالیّتها.

ففی تلک المبادلة یمکن أن یتصوّر المنشئ أنّها بیع ویقصدها بیعاً مع أنّ العقلاء لا یعتبرونها ماهیّة بیعیّة، فیجب المطابقة بین الماهیّة المنشأة عند المنشئ وبین الماهیّة المقصودة عند العقلاء، وهذه مرحلة أدقّ وأعمق فی تلک القاعدة.

الثالثة: من مباحث تلک القاعدة هو أنّ تکون المعاملة مقصودة بقصد جدّی، فلو کان هازلًا فإنّ العقد لا یقع.

وفی تلک القاعدة أبحاث وجهات اخری من البحث، تعرّض الفقهاء إلیها فی بحث المعاطاة وتخلّف الشروط والوصف وبحث الشرط الفاسد.

ص:53

لکن الزاویة التی نرید أن نبحث عنها فی بحثنا هذا، هی المرحلة الثانیة، فالإشکال نشأ من أنّ الماهیّة المقصودة فی الحیل التخلّصیّة هل هی ماهیّة قرضیّة- عند العقلاء- أو ماهیّة بیعیّة؟ فإنّ المنشئ قصد أن ینشئ الماهیّة البیعیّة، لکنّ العقلاء یرتّبون علی تلک المعاملة آثار الماهیّة القرضیّة.

وقد ذکر الفقهاء فی بحث البیع أنّ الشروط العقلائیّة فی العقد أو فی المتعاقدین أو فی العوضین- سیّما شروط العقد- فی الحقیقة أرکان لا شروط، فتسمیتها بالشروط مسامحة؛ لأنّ معنی أنّ العقلاء اشترطوا فی هذه الماهیّة ذاک الشرط یرجع إلی أنّهم لا یعتبرون هذه الماهیّة إذا لم یتحقّق ذاک الشرط، فإذا لم یعتبروا فلم تتحقّق عندهم

هذه الماهیّة أیضاً، وإذا لم تتحقّق الماهیّة الکذائیّة عند العقلاء فأدلّة الإمضاء- التی موضوعها هو الماهیّة العرفیّة المعاملیّة کالبیع العرفی- لا تشملها، ففی الواقع لا یوجد موضوع لدلیل الإمضاء، فمآل الشروط العقلائیّة إلی أرکان وجود الماهیة.

هذا فی الشروط العقلائیّة، وأمّا الشروط الشرعیّة فی العقد- کعدم الغرر- فتختلف عن الشروط العقلائیّة، فإنّ انخرام الشروط الشرعیّة لا یؤدّی إلی انتفاء الماهیّة وعدم تحقّقها عند العقلاء، بل تتحقّق الماهیّة ولکن غرریاً، فالماهیّة متحقّقة لدی العرف حتّی مع الغرر - فیما لو بنی علی کونه شرطا شرعیا تاسیسیا لا امضائیا - بخلاف الشرط العقلائی، فإذا لم یتحقّق فنفس الماهیّة لا تتحقّق أصلًا.

نعم، تنوجد الماهیّة البیعیّة لدی المتبایعین والمنشئین.

ص:54

هذا، والمستشکل إن کان یرید أن یستشهد بانتفاء الشروط الشرعیّة المأخوذة فی البیع- مثلًا- فی قناة البیع المحاباتی التخلّصیّة فنقول: إنّ الماهیة البیعیّة لا تنتفی حینئذٍ فی اعتبار العقلاء. نعم، هی تبطل فی اعتبار الشارع.

وإن کان یرید أن یستشهد بانتفاء الشروط العقلائیّة المأخوذة فی البیع- مثلًا- فی تلک القناة التخلّصیة، فلابدَّ أن یدّعی انخرامها فی شروط العقد أو شروط العوضین، ولا یتصوّر انتفاء شروط المتعاقدین فی بحثنا هذا.

وقد قرّر أنّ من شروط العقد البیعی هو أن یکون علی وجه المبادلة لا التملیک علی وجه الضمان، فلو قصد التملیک علی وجه الضمان فهو قرض وإن سمّی بیعاً.

وکذلک أخذ فی البیع تساوی القیمة السوقیّة فی العوضین، أی یکون الثمن لائقاً بالمبیع ولیس المقصود التساوی الدقّی، بل بحسب مقدار الرغبة والجهد المبذول والربح الذی یحصل علیه البائع، وفی البیع المحاباتی لا تکون هناک مساواة، بل یبیع المبیع بأکثر من قیمته السوقیّة، أو بأقلّ بکثیر، إذن فهذا من الشروط العقلائیّة المنخرمة فی الحیلة.

وأیضاً فإنّ من شرائط العقد أن یلتزم المتبایعان بآثار ما قصد، بینما نجد أنّ المتعاملین لا یلتزمان واقعاً بآثار البیع، بل یلتزمان بآثار القرض.

إذن الإشکال یدور علی أحد محورین: محور عدم تساوی المالیّة ومحور عدم الالتزام بالآثار.

وقالوا: إنّ من شروط العوضین فی البیع أن یکون المعوّض عیناً لا

ص:55

منفعة، فإن کان المعوّض منفعة فهی إجارة لا بیع؛ ولذا حملوا «بعتک منفعة الدار» علی المجاز.

وکذلک من شروط العوضین أن یکون الثمن مقصوداً فیه المالیّة لا الصفات الخاصّة.

تنقیح الحال: أمّا الإشکال فی محور عدم تساوی المالیّة:

فنقول: إنّ التساوی بین العوضین فی القیمة السوقیّة لیس شرطاً عقلائیّاً للعقد بمعنی أنّ مع فقدانه لا تنتفی الماهیّة المعاملیّة عند العقلاء.

بیانه: أنّ مسألة «تساوی العوضین فی القیمة) غیر مختصّة بالبیع، بل تدخل فی جمیع المعاوضات، بیعاً کانت أم إجارة أم غیرهما، ولکن حیث أنّ الفقهاء ذکروا هذا البحث فی خیار الغبن وتناسباً مع أحد الطرق التخلّصیّة نخصّها بالبیع فی بحثنا هذا.

فقد ذکروا أنّ الغبن یکون نتیجة تفاوت فی القیمة بین المبیع وبین الثمن، وهنا یتبادر سؤال حول صحّة تلک المعاملة وبطلانها، وفی حالة البطلان هل هو من جهة العقل أو من جهة الشرع؟

ذهب بعض من الفقهاء إلی البطلان الشرعی من جهة حصول الغرر والضرر، وقد نهی عن البیع الغرری وعن الضرر، فیثبت بطلان تلک المعاملة.

وذهب بعض آخر إلی البطلان من جهة العقل؛ وذلک لأنّ من الشروط العقلائیّة وارتکازات العقلاء اعتبار تساوی العوضین فی المالیّة بحسب العادة، وهذا یعتبر من مقوّمات العقد، فالإقدام علی المعاملة التی

ص:56

یکون فیها تفاوت لا یتسامح به موجب لبطلان تلک المعاملة؛ لأنّها فی صورة العلم بالغبن والتفاوت الفاحش، امّا معاملة سفیه أو معاملة سفهیّة، وکلا الشقّین باطل.

أمّا الأوّل، فواضح، ویتّفق علیه الجمیع، وأمّا الثانی فلانتفاء الشرط العقلائی، ومع انتفائه ینتفی اعتبار العقلاء لوجود تلک الماهیّة المعاملیّة، فالماهیّة غیر متحقّقة.

أمّا البطلان الشرعی ففیه: أنّ الغرر مفروض مع الجهل ویفترض فی مورد البحث علم الطرف المغبون بالتفاوت، فلا غرر فی البین .

وأمّا البطلان العقلی، ففیه:

أوّلًا: إنّ المعاملة لیست سفهیّة أو معاملة سفیه، وذلک لتوفّر غرض عقلائی فیها، فلم یقدم المغبون علیها اعتباطاً.

ثانیاً: أنّ العقلاء اعتبروا فی ماهیّة البیع أمراً کلّیاً، وهو وجود عین یرغب فیها لأجل صفاتها ویبذل بإزائها ثمن، ولم یقیّد ذلک بثمن خاصّ، فحدّدت تلک الماهیّة بأن تکون عیناً، وأن تکون معاوضة، لا ضماناً بالقیمة الواقعیّة، بل بقیمة جعلیّة طبقاً لرغبة الطرفین.

نعم، غایة الأمر یکون اعتبار تساوی المالیّة شرطاً ضمنیّاً فی العقد، طبقاً لمرتکزات العقلاء، وانتفاء الشرط الضمنی وتخلّفه یوجب الخیار، لا بطلان المعاملة من أساسها.

فالحاصل: أنّ التساوی فی المالیّة لیس شرطاً عقلائیّاً علی نحو ینتفی

ص:57

العقد بانتفائه؛ لأنّ الإجماع قائم علی عدم بطلانه وثبوت الخیار فیه.

ومن الشواهد علی ذلک:

إنّه إذا ورد سائح أو زائر فی بلد واکتری سیّارة بأکثر من قیمتها الواقعیّة بکثیر، فلا یقولون إنّ الإجارة لم تقع، بل یقولون إنّ هذه إجارة ولکنّها غبنیّة، ویقومون بأخذ التفاوت، وله حقّ خیار الفسخ، فما یُری فی المعاملات الغبنیّة أنّ المغبون یلاحق الغابن کأنّما الغابن سارق- لا السرقة بمعناها المعروف، بل هو سرقة خفیّة- معناه أنّ للمغبون حقّاً لفسخ المعاملة، فإذا فسخ تنفسخ المعاملة وترجع الأموال إلیه، وهذا شاهد صدق علی أنّ المعاملة فی موارد عدم تساوی مالیّة العوضین متحقّقة، فلیس

التساوی شرطاً عقلائیّاً للعقد ولم یقیّدوا خیار الغبن بالتفاوت الیسیر، بل هو یجری حتّی فی المعاملات الغبنیة مع التفاوت الفاحش بین العوضین، فحینئذٍ ما ذکره المستشکل من هذه الجهة وفی هذا المحور مردود.

و أمّا الإشکال فی محور عدم الالتزام بالآثار فهو:

إنّ المتعامل وسالک طریق الحیل لا یلتزم بآثار البیع واقعاً، بل هو ملتزم بآثار القرض، وهذا ینافی قاعدة أنّ العقود تابعة للقصود، فإنّ المعاملة المقصودة یجب أن یلتزم بآثارها.

وهذه الجهة نحن نسلّم شرطیّتها ککبری فی العقود، لکن نتساءل أنّها هل هی منخرمة فی الحیل التخلّصیّة أو لا؟

والجواب: أنّ الحیل التخلّصیّة مبنیّة علی أساس وجود بیع حقیقی

ص:58

یلتزم به المتعاملان بآثار البیع، فیجوز للمشتری بعد البیع الأوّل أن لا یبیعه مرّة اخری علی البائع.

وبعبارة أخری: لا یوجد ملزم قانونی شرعی یجبره علی البیع الثانی، وعلیه یحمل ما ورد فی روایة یونس الشیبانی، قال: «قلت لأبی عبدالله(علیه السلام): الرجل یبیع البیع والبائع یعلم أنّه لا یسوی، والمشتری یعلم أنّه لا یسوی، إلّا أنّه یعلم أنّه سیرجع فیه فیشتریه منه.

قال: فقال: یا یونس، إنّ رسول الله صلی الله علیه و آله قال لجابر بن عبدالله: کیف أنت إذا ظهر الجور وأورثهم الذلّ؟ قال: فقال له جابر: لا بقیت إلی ذلک الزمان، ومتی یکون ذلک بأبی أنت وامّی؟قال: إذا ظهر الربا یا یونس، وهذا الربا، فإن لم تشتره ردّه علیک؟ قال: قلت: نعم. قال: فلا تقربنّه، فلا تقربنّه(1) .

رواه الشیخ بإسناده عن محمّد بن الحسن الصفّار، عن محمّد بن الحسین بن أبی الخطّاب، عن محمّد بن إسماعیل بن بزیع، عن صالح بن عقبة، عن یونس الشیبانی.

فواضح من هذه الروایة أنّه من البدء لا یرید أن یلتزم بآثار البیع، بل هما لم یلتزما بالبیع، ولم یقصداه، وهذه الروایة وأمثالها لا تعارض أخبار العینة(2) ولا تنافیها، وإنّما تحدّد صحّتها بأن یتبانی الأطراف علی الالتزام

ص:59


1- (1) ب 5/ أبواب أحکام العقود/ 5.
2- (2) أشهر تفسیر للعینة هو أنّ یبیع سلعة بثمن إلی رجل معلوم، ثمّ یشتریها نفسه نقداً بثمن أقلّ، وفی نهایة الأجل یدفع المشتری الثمن الأوّل، والفرق بین الثمنین فضل.العینة فی اللغة: السلف، یقال: اعتان الرجل: إذا اشتری الشیء بالشیء نسیئة أو اشتری بنسیة. (المصباح المنیر/ عین).

بآثار البیع.

فالحیل التخلّصیة حیث أنّه لا توجد فیها حبک قانونیّ تجاه نفس الغرض الربوی، فالمرابون لا یتّخذونها بدیلة عن الربا، فإنّ فی تلک الطرق تخلّفات عن مسار الربا وفُرجاً یستطیع أحد المتعاقدین أن یفرّ بها من غرض المرابی أو یفرّ المرابی نفسه.

وعلیه فإشکال أنّه لیس هناک قصد جدّی لعدم الالتزام والبناء العملی علی ترتّب الآثار، نلتزم به إذا لم یکن فی البین بناء جدّی، ولکن الشرط الأساسی هو الالتزام العملی بما عقداه وأنشئاه.

و بعبارة أُخری: الغرض المباشر فی إنشاء طریق تخلّصی هو نفس الماهیّة المعاملیّة المنشأة، وهی محلّلة، وإن کان الغرض الأعلی هو ماهیّة اخری محرّمة، فإنّ المناط هو الإنشاء المباشر، والغرض الأدنی لا الغرض النهائی لقاعدة «إنّما یحلّل الکلام ویحرّم»، ولهذه القاعدة وردت تطبیقات من الشارع، بعضها فی الباب الثامن من أبواب المزارعة.

منها: صحیحة الحلبی بإسناد الکلینی، قال: «سُئل أبو عبدالله(علیه السلام) عن الرجل یزرع الأرض فیشترط للبذر ثلثاً وللبقر ثلثاً. قال: لا ینبغی أن یسمّی شیئاً، فإنّما یحرّم الکلام(1).

وفی المزارعة والمساقاة تکون شرکة بین العمل وبین العین، عمل

ص:60


1- (1) ب 8/ أبواب المزارعة/ 4.

العامل من جانب، والأرض والبذر والآلات من جانب آخر. فللعامل أن یقول: 40% من الناتج لی وما سواه للمالک، وأمّا إذا خصّص فی نفس الإنشاء المعاملی ویقول: ثلث من الناتج للبذر وثلث للبقر وثلث لی، فتبطل المزارعة؛ لأنّ منفعة الآلات تقابل النماء والناتج، وهذا فی الحقیقة إجارة مجهولة الثمن، فبتغییر کلمة مع الالتزام بآثارها تتبدّل ماهیّة بماهیّة اخری، إنّما یحلّل الکلام ویحرّم.

ومنها: صحیحة عبدالله بن سنان: «أنّه قال فی الرجل یزارع فیزرع أرض غیره فیقول: ثلث للبقر وثلث للبذر وثلث للأرض.

قال: لا یسمّی شیئاً من الحبّ والبقر، ولکن یقول: ازرع فیها کذا وکذا، إن شئت نصفاً وإن شئت ثلثاً(1).

ومنها: معتبرة سلیمان بن خالد، قال: «سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن الرجل یزارع فیزرع أرض آخر، فیشترط للبذر ثلثاً وللبقر ثلثاً.قال: لا ینبغی أن یسمّی بذراً ولا بقراً، فإنّما یحرّم الکلام(2).

ومنها: عن أبی الربیع الشامی، عن أبی عبدالله(علیه السلام): «أنّه سئل عن الرجل یزرع أرض رجل آخر فیشترط علیه ثلثاً للبذر وثلثاً للبقر.

فقال: لا ینبغی أن یسمّی بذراً ولا بقراً، ولکن یقول لصاحب

ص:61


1- (1) ب 8/ أبواب المزارعة/ 5.رواه الکلینی، عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد، عن الحسن بن محبوب، عن الحسین بن سعید، عن النضر بن سوید، عن عبد اللّه بن سنان.
2- (2) الباب المتقدّم/ ح 6.رواه الکلینی، عن محمّد بن یحیی، عن أحمد بن محمّد، عن علیّ بن النعمان، عن ابن مسکان، عن سلیمان بن خالد.

الأرض أزرع فی أرضک ولک منها کذا وکذا، نصف أو ثلث أو ما کان من شرط، ولا یسمّی بذراً ولا بقراً، فإنّما یحرّم الکلام.

والحاصل: إذا قصد المتعامل ماهیّة خاصّة یمکن له أن یتوصّل إلیها بإنشاء نفس الماهیّة أو بإنشاء ماهیّة اخری متوسّطة توصله إلی نفس النتائج.

وأثره یظهر فی ماهیّات محرّمة یمکن التوصّل إلی النتائج الحاصلة منها عبر عقود متوسّطة اخری محلّلة، وهذا مفتوح فی الشریعة لاستبدال کثیر من الماهیّات الباطلة إلی الصحیحة، ولیس معناه تحلیل الماهیّات الفاسدة، بل هو تبدیل الماهیّات الفاسدة إلی الصحیحة.

ص:62

قاعدة :لا تبع ما لیس عندک

اشارة

ص:63

ص:64

لا تبع ما لیس عندک

الحدیث النبوی الوارد بذلک «لا تبع ما لیس عندک» ربّما یشکل فی سنده بأنّه من طرق العامّة، وأسانیده ضعیفة، وفی روایات الأئمّة (علیهم السلام) ما یشعر بتخطئة نسبة هذا الحدیث إلی النبیّ صلی الله علیه و آله .

لکن التحقیق أنّ تلک الروایات لیست تخطئة للعامّة فی انتساب هذه الروایة إلی النبیّ صلی الله علیه و آله ، وإنّما هی تخطئة للعامّة فی فهمهم للحدیث؛ إذ یظهر من العامّة التوسّع فی مفاد الحدیث والتخطئة لهم فی هذه الناحیة.

وأمّا بالنسبة إلی سنده فلم یصحّ الإسناد المتّصل للنبیّ صلی الله علیه و آله لکن یوجد فی الروایات عن الأئمّة (علیهم السلام) نظیره فی الأبواب المختلفة.

1- عن محمّد بن القاسم: قال:سألت أبا الحسن الأوّل(علیه السلام) عن رجل اشتری من امرأة من آل فلان بعض قطائعهم، وکتب علیها کتاباً بأنّها قد قبضت المال ولم تقبضه، فیعطیها المال أم یمنعها؟ قال: قل له: لیمنعها أشدّ المنع، فإنّها باعته ما لم تملکه(1).

ص:65


1- (1) ب 1/ أبواب عقد البیع/ ح 2. رواه الشیخ فی التهذیب فی ثلاثة مواضع: 6/ 339، الحدیث 945 و: 6/ 351، الحدیث 996 و: 7/ 181، الحدیث 795.و السند فی الأوّل مطابق للأصل.و فی الموضع الثانی: أحمد بن محمّد بن عیسی، عن محمّد بن خالد، عن القاسم بن محمّد، عن محمّد بن القاسم.و فی الثالث: أحمد بن محمّد، عن البرقی، عن محمّد بن القاسم، عن فضیل.و فی الاستبصار 3/ 123، الحدیث 439 هکذا: أحمد بن محمّد، عن البرقی، عن القاسم بن محمّد، عن فضیل. وفی الکافی: عن محمّد بن یحیی، عن أحمد بن محمّد بن عیسی، عن محمّد بن خالد، عن القاسم بن محمّد، عن محمّد بن القاسم.و لیس فی السند من یتوقّف فیه إلّا القاسم بن محمّد، وهو الجوهری، ولا أقلّ من کون الروایة به حسنة أو قویّة.

وهذه لا تدلّ علی القاعدة؛ لأنّ موردها بیع الفضولی، وأنّ الشراء من غیر المالک لا یکون صحیحاً لا أنّ بیع المعدوم وما لا یملکه- وإن لم یکن ملکاً للغیر- باطل.

2- موثّقة إسحاق بن عمّار: عن عبد صالح(علیه السلام)، قال: «سألته عن رجل فی یده دار لیست له، ولم تزل فی یده وید آبائه من قبله قد أعلمه من مضی من آبائه أنّها لیست لهم، ولا یدرون لمن هی فیبیعها ویأخذ ثمنها؟ قال: ما احبّ أن یبیع ما لیس له.

قلت: فإنّه لیس یعرف صاحبها ولا یدری لمن هی، ولا أظنّه یجیء لها ربّ أبداً، قال: ما احبّ أن یبیع ما لیس له.

قلت: فیبیع سکناها أو مکانها فی یده، فیقول: أبیعک سکنای وتکون فی یدک کما هی فی یدی، قال: نعم، یبیعها علی هذا(1). وهی لا تدلّ علی مضمون زائد علی الروایة المتقدّمة، ولفظ «ما احبّ لأنّه لم یملکها، فالبطلان علی القاعدة.

3- مکاتبة الصفّار: «رواه الشیخ بإسناده عنه أنّه کتب إلی أبی محمّد الحسن بن علیّ العسکری(علیه السلام) فی رجل باع قطاع أرضین فیحضره الخروج إلی مکّة والقریة علی مراحل من منزله، ولم یکن له من المقام ما یأتی بحدود

ص:66


1- (1) ب 1/ أبواب عقد البیع/ ح 5. رواه الشیخ بإسناده عن الحسن بن محمّد بن سماعة، عن علیّ بن رئاب وعبدالله بن جبلة، عن إسحاق بن عمّار.

أرضه وعرف حدود القریة الأربعة، فقال للشهود: اشهدوا أنّی قد بعت فلاناً- یعنی المشتری- جمیع القریة التی حدّ منها کذا والثانی والثالث والرابع، وإنّما له فی هذه القریة قطاع أرضین، فهل یصلح للمشتری ذلک، وإنّما له بعض هذه القریة وأقرّ له بکلّها.

فوقّع(علیه السلام): لا یجوز بیع ما لیس یملک، وقد وجب الشراء من البائع علی ما یملک (1).

4- صحیحة عبد الرحمن بن الحجّاج: قال: «سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن الرجل یشتری الطعام من الرجل لیس عنده فیشتری منه حالًا، قال: لیس به بأس.قلت: إنّهم یفسدونه عندنا، قال: وأی شیء یقولون فی السّلم؟ قلت: لا یرون به بأساً. یقولون: هذا إلی أجل، فإذا کان إلی غیر أجل ولیس عند صاحبه فلا یصلح، فقال: فإذا لم یکن إلی أجل کان أجود.ثمّ قال: لا بأس بأن یشتری الطعام ولیس هو عند صاحبه وإلی أجل، فقال:لا یسمّی له أجلًا إلّا أن یکون بیعاً لا یوجد مثل العنب والبطیخ وشبهه فی غیر زمانه، فلا ینبغی شراء ذلک حالاً(2).

وموردها الشراء الکلّی فی الذمّة الذی لیس له مصداق حالی، وقد عمّم(علیه السلام) ما لیس عنده إلی الکلّی الذی لا یوجد، وهذا هو القدر المتیقّن من مفاد الحدیث، وأمّا تعمیم مفاده إلی الکلّی غیر المقدور بالإضافة إلی

ص:67


1- (1) ب 2/ أبواب عقد البیع/ ح 1.
2- (2) ب 7/ أبواب أحکام العقود/ ح 1. رواه الشیخ بإسناده عن الحسین بن سعید، عن صفوان، عن إسحاق بن عمّار وعبد الرحمن جمیعاً.

الشخص نفسه فمحلّ تأمّل. فالأوّل کما إذا باع الکلّی حالًا نقداً ولا یوجد فی الخارج، والثانی کما فی مطلق بیع الکلّی فی الذمّة.

والقول بعدم الصحّة فی مورد عدم القدرة تعبّدی؛ إذ ربّما یعتبره العقلاء من باب الدین وقد لا یعتبرونه بیعاً فی موارد عدم وجود الذمّة فی الشخص الضعیف.

5- روایة سلیمان بن صالح: عن أبی عبدالله(علیه السلام)، قال: «نهی رسول الله صلی الله علیه و آله عن سلف وبیع، وعن بیعین فی بیع، وعن بیع ما لیس عندک، وعن ربح ما لم یضمن(1).

قال صاحب الوسائل: إنّ المراد أنّه لا یجوز أن یبیع شیئاً معیّناً لیس عنده قبل أن یملکه، ویجوز أن یبیع أمراً کلّیاً موصوفاً فی الذمّة، ویحتمل الکراهة والنسخ والتقیّة فی الروایة.

أقول: لا تقیّة فیها، بل إنّما هی تخطئة العامّة فی توسّع مفاد الحدیث مع أنّ کلّ ما کان عن النبیّ صلی الله علیه و آله هو من جوامع الکلم کتشریع أساسی، فافهم.

والعمدة أنّه لا شاهد علی التقیّة فی البین سوی المعارضة للروایات المجوّزة والمعارضة لیست مستقرّة؛ لأنّ النسبة عموم وخصوص مطلقاً، فهذا العموم مطلق وتلک المجوّزة خاصّة.

ص:68


1- (1) ب 7/ أبواب أحکام العقود/ ح 2. رواه الشیخ بإسناده عن أحمد بن محمّد (فی التهذیب عن محمّد بن أحمد بن یحیی)، عن محمّد بن الحسین، عن علیّ بن أسباط، عن سلیمان (الظاهر أنّه المرادی ولم یرد فیه توثیق).

و(ما لیس عندک) یعنی ما لیس تقدر بالقدرة الجامعة بین الشرعیّة والعرفیّة، وقد اختاره الشیخ(رحمه الله)، وهذا هو الاحتمال الأوّل، وهذا هو الصحیح.

وقیل بأنّ «ما لیس عندک» یعنی ما لا یکون حاضراً لدیک، وهذا قول العامّة، وهو الاحتمال الثانی فی تفسیر العبارة.

واحتمل فی معناه ثالثاً أنّه ما لا تملک، وأمّا إذا ملکته فبعه، وإن لم تقدر علی التسلیم، وردّ الشیخ هذا الاحتمال بصحیحة عبد الرحمن الدالّة علی أنّه لا ینبغی أن یبیعه حالًا مع أنّه مالک، إلّا أنّه لا یقدر علی تسلیمه، وقد عبّر فیها ب- «ما لیس عنده»لا ب «ما لیس له»، وإلّا لکان الأوْلی التعبیر بالثانی، والأوّل تعبیر عن غیر الملک.

واحتمل رابعاً فی معناه بما لا یقدر علیه عرفاً، أی لابدَّ من القدرة العرفیّة وإن لم یملکه شرعاً، وهذا أیضاً لا یمکن الالتزام به؛ لثبوت صحّة البیع فی موارد عدیدة منصوصة مع عدم القدرة علیه عرفاً کالعبد الآبق ومع الضمیمة وغیرها. والمحقّق النائینی(رحمه الله) ادّعی أنّ الموجود فی الروایات بیع العین الشخصیّة التی لا یملکها الدلّال فیبیعها، ثمّ یذهب إلی صاحبها ویشتریها منه ثمّ یعطیها المشتری، والظاهر أنّ نظره إلی الروایات الموجودة فی الباب الثامن من أبواب أحکام العقود التی ستأتی، فإنّ موردها العین الشخصیّة التی لیست علی ملک البائع- الدلّال- یبیعها، ثمّ یذهب ویشتریها من صاحبها.

وأمّا بالنظر إلی صحیحة عبد الرحمن بن الحجّاج فی الباب السابع من تلک الأبواب، فالظاهر أنّ الکبری طبّقت فی مورد الکلّی، فلا حاجة

ص:69

للنقض والإبرام عن کیفیّة استحصال الاطلاق فی الروایات.

والروایة الاولی فی الباب السابع تعرّضت لنفی تفسیر «عندک» بمعنی الحضور الذی بنی علیه العامّة، وأنّ هذا المعنی والمعنی الثالث- أی تفسیر (عندک) بالملکیّة فقط- غیر صحیح. وکذلک المعنی الرابع- وهو تفسیر للزوم العندیّة بمعنی القدرة والسلطنة العرفیّة وإن لم تکن ملکیّة شرعاً.

6- صحیحة عبد الرحمن بن الحجّاج: قال: «قلت لأبی عبدالله(علیه السلام): الرجل یجیئنی یطلب المتاع فاقاوله علی الربح، ثمّ اشتریه فأبیعه منه، فقال: أ لیس إن شاء أخذ وإن شاء ترک؟

قلت: بلی، قال: فلا بأس.قلت: فإنّ من عندنا یفسده، قال: ولِمَ؟

قلت: قد باع ما لیس عنده، قال: فما یقول فی السلم قد باع صاحبه ما لیس عنده؟

قلت: بلی، قال: فإنّما صالح من أجل أنّهم یسمّونه سلماً إنّ أبی کان یقول: لا بأس ببیع کلّ متاع کنت تجده فی الوقت الذی بعته فیه(1).

«فاقاوله» أی هی مقاولة فقط ولیس هو الإیجاب والقبول علی البیع. والمقصود منه أنّ فی بیع العین الشخصیّة قبل تملّک الدلّال لها لا یصحّ أن یبیعها من المشتری، فحینئذٍ إذا تقاول علی تلک العین الشخصیّة لا یواجبه

ص:70


1- (1) ب 7/ أبواب أحکام العقود/ ح 3. رواه الکلینی عن علیّ بن إبراهیم، عن أبیه، عن ابن أبی عمیر، عن عبد الرحمن بن الحجّاج.

البیع- أی تکون مقاولة مجرّدة- فیبقی فی تلک المقاولة للمشتری حقّ الاختیار والانتخاب فی ما إذا اشتری الدلّال

تلک العین، فیشتریها أو لا یشتریها. والبیع فی ما بعد الشراء یعنی بعد تملّک البائع، وهذا واضح فی التطبیق علی العین الشخصیّة.

أمّا قوله: «فإنّ من عندنا یفسده» لعلّ فیه نوع تدافع مع فرض السائل؛ لأنّ صدر الروایة فی العین الشخصیّة، ولم تکن فی المقاولة مواجبة البیع کی یقول الراوی «عندنا یفسده»، وظاهر الذیل غیر مرتبط بالصدر؛ لأنّه من باب بیع الکلّی، فیحتمل فیه التقطیع ونوع من التلصیق بین الروایتین. وأمّا قوله فی الذیل: «لا بأس ببیع...».

فیستفاد منه تقریر صدور النبوی لا نفیه؛ لأنّ ما ذکره(علیه السلام) تفسیر لتضییق قاعدة ما لیس عندک فهو(علیه السلام) لا ینفی صدورها، بل ینفی توسعتها، وأنّ المدار فی صحّة البیع علی وجدان المبیع ووجدان کلّ شیء بحسبه والعندیّة لیس بمعنی الحضور، بل بمعنی الوجدان، و«لا تبع ما لیس عندک» أی ما لا تجده وما لا تقدر علی تسلیمه.

7- صحیحة أبی الصباح الکنانی: عن الصادق(علیه السلام) فی رجل اشتری من رجل مائة مَنّ صفراً بکذا وکذا، ولیس عنده ما اشتری منه، قال: لا بأس به إذا وفّاه الذی اشترط علیه(1).

«صفراً بکذا وکذا»، أی بیع الکلّی.

ص:71


1- (1) ب 7/ أبواب أحکام العقود/ ح 4. رواه الصدوق بإسناده عن أبی الصباح الکنانی.

و«لیس عنده، أی لیس المبیع حاضراً».

و«لا بأس به إذا قدر علی الوفاء بنفس الکلّی؛ إذ لیس المدار علی الحضور، بل المدار علی القدرة علی التسلیم».

«والذی اشترط علیه هو البیع؛ لأنّه مشارطة یشترط البائع علی نفسه تسلیم المبیع، ویشترط المشتری علی نفسه تسلیم الثمن.

ولذلک استدلّ السیّد الیزدی(رحمه الله) علی لزوم البیع بقوله صلی الله علیه و آله : «المؤمنون عند شروطهم؛ لأنّ المشارطة لیست فی خصوص الشرط دون العقد. نعم، الشروط الابتدائیّة غیر مشمولة بمعنی الشرط الواحد المجرّد بخلاف الشرط الذی یرتبط بشرط آخر کالعقود، والشرط هو بمعنی العهد والالتزام والعقد ربطة وعقدة الالتزامین فیشمله قوله صلی الله علیه و آله : «المؤمنون عند شروطهم، وقد ورد التعبیر عن العقود بالشروط کثیراً فی الروایات، وعنوانها لا یشمل الشروط الابتدائیّة.

وفی هذه الروایة تصریح بأنّ العندیّة بمعنی القدرة علی الوفاء لا بمعنی الحضور وتصریح بأنّ القاعدة لا تختصّ بالعین الشخصیّة بل تشمل العین الکلّیة أیضاً، وأنّ المدار علی الوجدان لا علی الحضور، حیث أنّ الفرض فیها «مائة مَنّ» کلّی، ولو کانت القاعدة مختصّة بالعین الشخصیّة- دون الکلّیة- لعلّل(علیه السلام) بالاختصاص بینما إجابته(علیه السلام) بالصحّة لتوفّر القدرة علی الوفاء.

ومن الغریب أنّ عدّة من أعلام محقّقی محشّی المکاسب استشکلوا

ص:72

بعدم عموم القاعدة للعین الکلّیة مع أنّ هذه الروایات واضحة الدلالة فی التعمیم، ولعلّ نظرهم إلی الباب الثامن الآتی، واستدلّ بعضهم علی التعمیم بروایة عامّیة وقع فی طریقها حکیم بن حزام وغیره، ولا حاجة إلیها بعد وجود مضمونها فی روایاتنا.

8- حدیث المناهی: رواه الصدوق بإسناده عن شعیب بن واقد والحسین بن زید عن الصادق(علیه السلام)، عن آبائه فی مناهی النبیّ صلی الله علیه و آله ، قال: «و نهی عن بیع ما لیس عندک، ونهی عن بیع وسلف(1).

وبهذا المقدار من الروایات ثبت أنّ القاعدة شاملة للکلّی والشخصی، وأنّ المدار علی القدرة- أی المعنی الأوّل- کما فی صحیحة عبد الرحمن بن الحجّاج الثانیة(2) وروایات الباب الثامن الآتیة أیضاً کلّها نافیة للمعنی الرابع، وأنّ المدار لیس علی القدرة العرفیّة.

9- صحیحة عبدالله بن سنان: «عن أبی عبدالله(علیه السلام)، قال: «لا بأس بأن تبیع الرجل المتاع لیس عندک تساومه ثمّ تشتری له نحو الذی طلب ثمّ توجبه علی نفسک ثمّ تبیعه منه بعد(3).

و«تساومه» کمورد للروایة تعریض بالعامّة؛ إذ المساومة لیست هی مبایعة ومواجبة، فهی تفسّر کلمة «تبیع» فی صدر الروایة.

ص:73


1- (1) ب 7/ أبواب أحکام العقود/ ح 5. ضعیفة لشعیب بن واقد والحسین بن زید.
2- (2) ب 7/ أبواب أحکام العقود/ ح 3.
3- (3) باب 8/ أبواب أحکام العقود/ ح 1. رواه الشیخ بإسناده عن الحسین بن سعید، عن النضر، عن عبدالله بن سنان.

و«المتاع» یستعمل فی العین الشخصیّة لا الکلّیّة.

ویظهر منها أنّ المتاع الذی لیس فی ملک البائع الخاصّ الشخصی لا یصحّ بیعه، حیث أنّه(علیه السلام) فی مقام التحدید لا فی مقام بیان صحّة خصوص هذا المصداق والسکوت عن المصادیق الاخری، بل إنّ ذکر هذا المصداق هو لأجل نفی الطرق الاخری، أی إنّه إذا اشتری ثمّ باعه فلا بأس به بخلاف ما لو باعه ثمّ اشتراه، فلابدَّ من الشراء والتملّک أوّلًا ثمّ البیع، وإن کانت هناک قدرة عرفیّة علی الشیء قبل شرائه، فحیث أنّه غیر مملوک شرعاً فلا یصحّ بیعه، وبهذه الصحیحة ینفی المعنی الرابع فی مفاد القاعدة.

إن قیل: هل هناک مغایرة بین الکلّی والشخصی؟ وأنّ الشخصی لابدَّ من تملّکه أوّلًا ثمّ یجوز بیعه وإن کانت قدرة عرفیّة علیه موجودة قبل التملّک فتشترط الملکیّة شرعاً فی بیع الشخصی بخلاف الکلّی، حیث یجوز بیعه فی الذمّة ثمّ یشتری مصداقه فیوفّی بیعه.

فیقال فی الجواب: إنّه لا مغایرة بینهما، بل فی الکلّی أیضاً لابدَّ من الملکیّة الشرعیّة والقدرة العرفیّة، غایة الأمر أنّ فی الکلّی لم یقع البیع علی المصداق، والحادث بعد الشراء هو الملکیّة

شرعاً للمصداق لا حدوث الملکیّة للکلّی؛ إذ کلّ شخص مالک لذمّته فی الکلّیات، والبائع ملّک ما فی ذمّة المشتری، أی ملّک ما یملکه. غایة الأمر لابدَّ من القدرة علی ما فی الذمّة وهی متحقّقة بإمکان تحصیل المصادیق.

ص:74

فمفاد القاعدة متّحد فی الکلّی والشخصی ومأخوذ فیه کلّ من الملکیّة شرعاً والقدرة العرفیّة.

غایة الأمر فی الکلّی الملکیّة شرعاً باعتبار الذمّة التی هی تحت سلطنته تکویناً، فهی مملوکة له، ومن ثمّ نبّه فی صحیحة أبی الصباح وابن الحجّاج اللّتین موردهما بیع الکلّی علی لابدیّة القدرة العرفیّة، وأمّا فی روایات العین الشخصیّة فالقدرة حیث کانت مفروضة لوجود العین خارجاً نبّه(علیه السلام) علی قیدیّة الملکیّة شرعاً.

10- صحیحة عبدالله بن سنان: قال: «سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن الرجل یأتینی یرید منّی طعاماً أو بیعاً نسیئاً ولیس عندی أ یصلح أن أبیعه إیّاه وأقطع له سعره، ثمّ اشتریه من مکان آخر فأدفعه الیه؟ قال: لا بأس به (1).

وهذا فی الکلّی، وما دام الکلّی یقتدر علی تحصیل مصادیقه فلا بأس به، تعریضاً للمعنی المتوهّم عند العامّة من لزوم الحضور وأنّ الحضور لیس شرطاً.

11- موثقة حدید بن حکیم: قال: «قلت لأبی عبدالله(علیه السلام): یجیء الرجل یطلب منّی المتاع بعشرة آلاف درهم أو أقلّ أو أکثر ولیس عندی إلّا ألف درهم، فاستعیره من جاری، فآخذ من ذا ومن ذا، فأبیعه ثمّ اشتریه منه أو آمر من یشتریه فأردّه علی أصحابه، قال: لا بأس به (2).

ص:75


1- (1) ب 8/ أبواب أحکام العقود/ ح 2. رواه الشیخ بإسناده عن الحسین بن سعید، عن صفوان، عن ابن سنان.
2- (2) ب 8/ أبواب أحکام العقود/ ح 3. رواه الشیخ عن الحسین بن سعید، عن صفوان، عن موسی بن بکر، عن حدید بن حکیم والد علیّ بن حدید.

12- عن خالد بن الحجّاج: قال: «قلت لأبی عبدالله(علیه السلام): الرجل یجیء فیقول:

اشتر هذا الثوب واربحک کذا وکذا، قال: أ لیس إن شاء ترک وإن شاء أخذ؟

قلت: بلی. قال: لا بأس به إنّما یحلّ الکلام ویحرّم الکلام(1).

ومفاده یردّ المعنی الرابع لأنّه قیّد وقوع البیع بما بعد تملیک العین الشخصیّة، ولم تتمّ مواجبة قبل وجدان البائع العین الشخصیّة.

13- صحیحة عبد الرحمن بن أبی عبدالله: قال: «سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن الرجل یأتینی ویطلب منّی بیعاً ولیس عندی ما یرید أن ابایعه به إلی السنة، أ یصلح لی أن اعدّه حتّی اشتری متاعاً فأبیعه منه؟ قال: نعم(2).

و هذه وإن کان موردها الکلّی ولکن إثبات الشیء لا ینفی ما عداه لکون السائل قد اقتصر علی خصوص هذا السؤال.

14- صحیحة منصور بن حازم: عن أبی عبدالله(علیه السلام) فی رجل أمر رجلًا یشتری له متاعاً فیشتریه منه، قال: لا بأس بذلک، إنّما البیع بعد ما

ص:76


1- (1) ب 8/ أبواب أحکام العقود/ ح 4. رواه الشیخ عن الحسین بن سعید، عن ابن أبی عمیر، عن یحیی بن الحجّاج، عن خالد بن الحجّاج، «وفی الکافی: خالد بن نجیح، وکلاهما مهملان.
2- (2) ب 8/ أبواب أحکام العقود/ ح 5. رواه الشیخ عن الحسین بن سعید، عن فضالة، عن أبان، عن عبد الرحمن بن أبی عبدالله.

یشتریه(1).

15- صحیحة معاویة بن عمّار: قال: «قلت لأبی عبدالله(علیه السلام): یجیئنی الرجل یطلب بیع الحریر ولیس عندی منه شیء، فیقاولنی علیه واقاوله فی الربح والأجل حتّی نجتمع علی شیء ثمّ أذهب فاشتری له الحریر فأدعوه إلیه.

فقال: أرأیت إن وجد بیعاً هو أحبّ إلیه ممّا عندک أیستطیع أن ینصرف إلیه ویدعک

أو وجدت أنت ذلک أ تستطیع أن تنصرف إلیه وتدعه؟ قلت: نعم، قال: فلا بأس(2).

16- صحیحة محمّد بن مسلم: عن أبی جعفر(علیه السلام)، قال: «سألته عن رجل أتاه رجل فقال: ابتع لی متاعاً لعلّی أشتریه منک بنقد أو نسیئة، فابتاعه الرجل من أجله.

قال: لیس به بأس إنّما یشتریه منه بعد ما یملکه(3).

17- صحیحة عبد الرحمن بن الحجّاج: قال: «سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن العینة فقلت: یأتینی الرجل فیقول: اشتر المتاع واربح فیه کذا وکذا،

ص:77


1- (1) ب 8/ أبواب أحکام العقود/ ح 6. رواه الشیخ عن الحسین بن سعید، عن صفوان، عن منصور بن حازم.
2- (2) ب 8/ أبواب أحکام العقود/ ح 7. رواه الشیخ بإسناده عن الحسین بن سعید، عن فضالة، عن معاویة بن عمّار.
3- (3) ب 8/ أبواب أحکام العقود/ ح 8. رواه الشیخ بإسناده عن الحسین بن سعید، عن حمّاد، عن حریز وصفوان، عن العلاء جمیعاً، عن محمّد بن مسلم.

فأُراوضه علی الشیء من الربح فنتراضی به، ثمّ انطلق فأشتری المتاع من أجله لو لا مکانه لم أرده، ثمّ آتیه به فأبیعه فقال: ما أری بهذا بأساً لو هلک منه المتاع قبل أن تبیعه إیّاه کان من مالک، وهذا علیک بالخیار إن شاء اشتراه منک بعد ما تأتیه وإن شاء ردّه، فلست أری به بأساً(1).

18- عن عبد الحمید بن سعد: قال: «قلت لأبی الحسن(علیه السلام): إنّا نعالج هذه العینة، وربّما جاءنا الرجل یطلب البیع ولیس هو عندنا، فنساومه ونقاطعه علی سعره قبل أن نشتریه، ثمّ نشتری المتاع فنبیعه إیّاه بذلک السعر الذی نقاطعه علیه لا نزید شیئاً ولا ننقصه، قال: لا بأس(2).

وهذه الروایات الخمس الأخیرة قد تقدّم بیان مفادها فی ذیل الروایات السابقة علیها.

فتحصّل من کلّ هذه الروایات أنّ القاعدة ثابتة سنداً، وأنّ مفادها هو الاحتمال الأوّل الذی اختاره الشیخ الأنصاری- لا المعنی الثالث الذی تمایل إلیه المحقّق الایروانی(رحمه الله)- وذلک لدلالة نفس الروایات، وأنّ التعبیر بالعندیّة فیها کنایة عن القدرة.

فائدة: لیس المراد فی کثیر من الروایات المصداق المنسبق من المعنی اللغوی، بل یراد منها مصداقه الأوسع أو الخفی أو الکنائی. ف ( العندیّة) فی

ص:78


1- (1) ب 8/ أبواب أحکام العقود/ ح 9. رواه الشیخ بإسناده عن الحسین بن سعید، عن صفوان، عن عبد الرحمن بن الحجّاج.
2- (2) ب 8/ أبواب أحکام العقود/ ح 10. رواه الشیخ بإسناده عن الحسین بن سعید، عن صفوان، عن عبد الحمید بن سعد.

التصوّر الحسّی هو الحضور المکانی، وأمّا فی عالم الاعتبار فهی بمعنی مطلق القدرة والوجدان، کما أنّ فی قوله صلی الله علیه و آله : «عند ربّی لیس المراد منه المکان، و(العندیّة) هی مطلق الحضور.

ونظیره ما ورد فی الباکر حیث یشترط فی صحّة العقد علیها رضی أبیها، وأکثر الفقهاء لا یذهبون فی معنی الباکر بأنّها «مَن لها بکارة وإن کان هو المنسبق من معناه اللغوی، وإنّما الباکرة هی التی لم تتزوّج.

فإذا تزوّجت وإن لم یفضّها الزوج فتکون ثیّبة، فإن طلّقت ففی الزواج الثانی لا تحتاج إلی الإجازة، فالتی تری الزوج لا یقال لها (باکرة)، وکذلک العکس لو افتضّت بکارتها لمرض قبل الزواج، فإنّه یقال لها: (بکر)، ونظیره کثیر فی عناوین الموضوعات فی الأحکام الواردة فی الروایات، فإنّه لا یراد بها المعنی المنسبق من اللغة، بل المراد بها المعنی الکنائی.

ثمّ إنّه بعد ثبوت هذه القاعدة قد استدلّ الفقهاء بها علی لزوم القدرة علی التسلیم فی البیع فی ظرف الاشتراط، وقد تقدّم أنّ هذه القاعدة لیست مختصّة بالعین الشخصیّة، بل تعمّ العین الکلّیة.

وإنّ هذه المفاسد لیست إرشاداً محضاً إلی البناء العقلائی، بل متضمّنة لتعبّد زائد، والوجه فی ذلک أنّ بین هذه القاعدة الشرعیّة والبناء العقلائی موارد اشتراک وافتراق.

فمن موارد الاشتراک والتطابق أنّ من لیس عنده بعض المبیع کمن لا یقتدر علیه أبداً عندهم، وأمّا موارد الافتراق فمنها من یستطیع تحصیل

ص:79

المبیع فی ما بعد مدّة ولا یستطیع علیه الآن، کأن یبیع عشرة أکیال من البطیخ- الذی لا یوجد فی الشتاء-

ففی البناء العقلائی یعتبرونه مدیناً وبحسب القاعدة یعتبر البیع باطلًا، کما هو مفاد الروایات: «لا تبع ما لیس عندک» حالًا، وأمّا بیعه مؤجّلًا ونسیئة فلا بأس به؛ لأنّه قادر علی التسلیم، فالقاعدة مزیج من التأسیس التعبّدی والإمضاء.

ولا یخفی أنّ المضاربة عند جماعة، منهم السیّد الخوئی(قدس سره)، لیست علی مقتضی القاعدة لأنّها إمّا من باب تملیک ما لیس عنده أو التعلیق فی التملیک، وقد أشکل علیه بأنّ قاعدة لا تبع ما لیس عندک إشارة إلی البناء العقلائی ولیست زائدة علیه، ولیس فیها تأسیس جدید، ولکن مما بیّناه فی مفاد الروایات ظهر أنّ هذا الإشکال لیس فی محلّه، بعد فرض عموم القاعدة وشمولها لغیر البیع، وأنّ مضمون القاعدة لیس إرشادیّاً.

وقد أنجز الکلام فی الجهات التالیة:

الاولی: فی سند الروایة.

الثانیة: فی مفادها.

الثالثة: فی عموم القاعدة للکلّی والشخصی.

الرابعة: فی أنّها تعبّدیّة بمعنی التعدیل للبناء العقلائی لا أنّها تأسیس من رأس.

وکلّ ذلک کان مقدّمة للبحث عن الجهة الخامسة، وهی تعمیم

ص:80

القاعدة إلی غیر البیع، وأنّها تختصّ بالبیع أو تعمّ کلّ ما فیه التملیک؟ فالتعبیر ب «لا تبع» یراد به خصوص البیع أو مطلق التملیک؟ ونظیر هذا البحث عُقد فی قاعدة الغرر، حیث أنّ مدرکها: نهی النبیّ صلی الله علیه و آله عن بیع الغرر، وأنّ النهی عن الغرر هل هو یعمّ کلّ العقود أو یخصّ البیع؟

قد یستظهر التعمیم کما تمایل إلیه السیّد الخوئی(قدس سره)، ونسب إلی کثیر من کلمات الفقهاء- وقد ذکرها الشیخ(قدس سره) فی المکاسب- أنّها فی البیع، بل وفی کلّ المعاوضات، وإنّما بحثوها فی البیع وبنوا علیها فی غیره وذلک لوجوه:

1- کون البیع بمعنی التملیک، وقد عرّف بذلک فی اللغة، غایة الأمر قیّد بتملیک الأعیان، فالبیع فی الحقیقة تملیک خاصّ، وهو الواقع علی العین، فمن هذه الجهة تشترک معه عدّة ماهیّات معاملیّة متضمّنة للتملیک الواقع علی العین.

نعم، الصلح قد یقع علی عین یتضمّن التملیک، ولکنّه بالذات لیس تملیک العین، بل هو تسالم علی ملکیّة العین، فإذن البیع لیس شیئاً غیر التملیک، فالعبور عن النوع إلی الجنس لیس مستبعداً، فإذا کان البیع تملیک العین فهذا المعنی متحقّق فی بقیّة العقود وإن لم تکن بیعاً فالهبة تملیک عین بلا عوض، ولا بُعد فی إلغاء خصوصیّة کون التملیک بالعوض؛ لأنّ الوصف فی القاعدة یشعر بالعلّیّة وهو لزوم العندیّة، وهو مناسب لحیثیّة التملیک فی البیع الذی هو بمثابة الجنس لا الصورة النوعیّة لمجموع البیع، لا سیّما أنّ البیع فی مقابل الشراء یعرّف بتملیک العین من طرف والشراء

ص:81

بتملّک العین بعوض، فشرطیّة (العندیّة) مناسبة للتملیک المأخوذ فی البیع بمثابة الجنس.

2- إنّه قد استعمل فی الروایات کثیراً لفظ (البیع) فی الإجارة، وذهب جماعة من الفقهاء، کالآخوند(قدس سره) إلی أنّ الإجارة أیضاً تملیک عین علی وجه مخصوص، أی لینتفع بها فقط لا لینقلها أو لیبقیها کالبیع فی قبال التعریف الآخر فی الإجارة بأنّها تملیک المنفعة، والاستشهاد یتمّ علی کلا القولین، فالإجارة إمّا بیع خاصّ أو تملیک المنفعة، وقد استعمل لفظ البیع فیها، فإنّ البیع یکون کنایة عن التملیک فی الثانی واستعماله حقیقی علی الأوّل.

3- عموم عنوان الموضوع (ما لیس عندک) الذی هو إمّا بمعنی ما لیس بمالک شرعاً، أو ما هو غیر قادر علی تسلیمه، ولیس فی ذلک نفی کون البیع هو أبرز طرق التملیک وأقواها، فإنّه قطع رقبة العین کاملًا، بل المراد أنّ البیع وإن کانت له خصوصیّة وأهمّیة بالنسبة إلی غیره، ولکنّ الظاهر من الروایات أنّ مدار النهی عن البیع لکونه غیر مالک شرعاً أو غیر قادر علی تسلیمه، وأنّ حکمة النهی لا علّته هی قطع النزاع بالضمان القانونی من نفس شرائط المعاوضة لتأمین الوفاء بالعوض؛ إذ القواعد الشرعیّة الواردة فی المعاملات لیست تعبّدیّة محضة(1)، وإنّما هی قواعد

مزیجة بالإمضاء، فهی معلومة الحکمة والملاک فی الجملة. ونفس الحکمة قد تکون قرینة حالیّة لنفس الدلیل الوارد بشکل معتدّ به، فلیس

ص:82


1- (1) للتعبّد اصطلاحات: تارة بمعنی ما لم یعلم ملاکه، وتارة بمعنی ما یلزم به الشرع، واخری بمعنی ما یؤسّسه الشرع، واخری بمعنی ما یمضیه الشرع.

من القیاس أو المجازفة ولا من التخرّص دعوی التعمیم، ویدلّل علی هذه القرینة فی الروایات ما ورد: «إذا وفّاه الذی اشترط علیه أو «إذا قدر علی الذی وفّاه» یعنی القدرة، وکذا «لا ینبغی أن تبیع ما لا تجد»، وکلّ هذه التعابیر مشعرة بالتعلیل والتعمیم، فدعواه غیر بعیدة.

4- کون هذه القاعدة فی الجملة عقلائیّة فی حدود عدم القدرة العرفیّة، فإنّهم لا یعتدّون بتملیک ما لا قدرة علیه أو علی الوفاء به، فلا یعتبرون المعاوضة موجودة حینئذٍ ووجود المعاملة فی اعتبار العقلاء موضوع أدلّة الصحّة.

الجهة السادسة: هل مفاد القاعدة الشرطیّة فی الصحّة التأهّلیّة للبیع والمعاملات أو فی الصحّة الفعلیّة؟

قد استدلّ بهذه القاعدة وأدلّة اخری علی اشتراط القدرة علی التسلیم فی ظرفه لا فی ظرف البیع، ومن عمدة ما استدلّ به علی ذلک قاعدة نفی الغرر عن البیع. وذکروا أنّ من شرائط صحّة العقد نفی الغرر والشرط المزبور نفی للغرر، ومقتضی ذلک أنّ الشرط المزبور لیس شرطاً للصحّة الفعلیّة فقط، بل هو مفسد للبیع؛ إذ البیع الغرری لا یمکن تصحیحه.

إذ فی البیوع والمعاملات نمطان من الشروط: شروط لابدَّ أن تقع کی یصحّ البیع، فلو أوقع من دونها یکون فیه تأهّل الصحّة دون الصحّة الفعلیّة، فیقال عن تلک الشروط شروط الصحّة الفعلیّة، أی شروط فعلیّة صحّة البیع لا شروط أصل ماهیّة البیع، مثلًا: القبض فی الهبة أو الرهن أو القرض، لو انشئ العقد فیها من دون قبض لا یکون صحیحاً فعلًا، ولکنّه

ص:83

قابل للتصحیح إذا انضمّ إلیه القبض بخلاف ما لو أوقع البیع علی عین مجهولة لا یمکن تصحیحه ولو حصل العلم بمواصفات العین بعد ذلک.

فبعض الشروط یقال هی شروط لتأهّلیّة البیع، فضلًا عن الصحّة الفعلیّة (أی شروط الماهیّة)، وبعض الشروط شروط وجود البیع، والشروط المأخوذة فی تأهّلیّة البیع لا یمکن فیها فرض تبدّل الحال إذا لم یقع البیع واجداً لها خالیاً عن الموانع من ذلک النمط، فلابدَّ من إنشاء بیع آخر جدید وبیع الغرر من هذا القبیل.

نعم، قیل: إنّ الغرر لیس من موانع أصل الصحّة التأهّلیّة للبیع، بل عدمه من شرائط الوجود الفعلی، لکنّ القائل به شاذّ، وحینئذٍ نقول: إنّ فی مفاد «لا تبع ما لیس عندک) قولین:

الأوّل إنّها من شروط الوجود، والآخر إنّها من شروط الصحّة التأهّلیّة، فلو باع ما لیس عنده فلا یصحّ البیع، ولو ذهب واشتراه وصار عنده فلابدَّ من تجدید البیع بخلاف من یقول إنّها من شرائط الوجود نظیر القبض فی الهبة لو لم یتحقّق ثمّ وجد، فحینئذٍ لا مانع من الصحّة الفعلیّة. والظاهر أنّ «لا تبع) من الشروط التأهّلیّة لا من الشروط الوجودیّة، وإن ذهب الشیخ الانصاری إلی کونه من الشروط الوجودیّة، واستشهد بموارد متعدّدة صحّح البیع فیها مع کون البیع حین الإنشاء غیر متوفّر علی هذا الشرط، ولم یکن عند البائع ثمّ بعد ذلک وجد فصحّح البیع، ولکنّ الصحیح أنّه من الشروط التأهّلیّة ووجهه أنّه لو کان من قبیل شروط الوجود لکان علی مقتضی القاعدة أن یصحّ إذا وجد، فکان من اللازم

ص:84

تنبیهه(علیه السلام) علی ذلک بینما إطلاق النهی فی الروایات مفاده خلاف ذلک نظیر ما فی صحیحة عبدالله بن سنان: عن أبی عبدالله(علیه السلام)، قال:

«لا بأس بأن تبیع الرجل المتاع لیس عندک تساومه ثمّ تشتری له نحو الذی طلب ثمّ توجبه علی نفسک ثمّ تبیعه منه بعد»(1).

فلو کان من الشروط التأهّلیّة لتعیّن أن یقول(علیه السلام): «لو بعته قبل أن تشتری ثمّ اشتریته فقد وجب البیع»، ولا یحصر(علیه السلام) وقوع البیع بما إذا أنشأه بعد الحصول علی المبیع، فقصر وقوع البیع وإنشاؤه علی ما بعد حصوله علی الشراء ظاهر فی أنّ الإنشاء السابق لا اعتبار به.

وصحیحة منصور بن حازم: عن أبی عبدالله(علیه السلام) «فی رجل أمر رجلًا یشتری له متاعاً فیشتریه منه. قال: لا بأس بذلک، إنّما البیع بعد ما یشتریه(2).

وربّما یستظهر منها إرادة البیع الفعلی، ولکن تقیید وقوع البیع بذلک لا أصل ماهیّة البیع خلاف الظاهر، والمنساق الأوّلی هو أنّ ماهیّة البیع لا تُنشأ ولا توجب إلّا بعد ما یشتری، ولو رفعنا الید عن ذلک فهی مردّدة بین وجهین، فتکون مجملة.

وصحیحة محمّد بن مسلم: عن أبی جعفر، قال: «سألته عن رجل أتاه رجل فقال:ابتع لی متاعاً لعلّی أشتریه منک بنقد أو نسیئة، فابتاعه

ص:85


1- (1) ب 8/ أبواب أحکام العقود/ ح 1. رواه الشیخ بإسناده عن الحسین بن سعید، عن النضر، عن عبدالله بن سنان.
2- (2) ب 8/ أبواب أحکام العقود، ح 6. رواه الشیخ بإسناده عن الحسین بن سعید، عن صفوان، عن منصور بن حازم.

الرجل من أجله.قال: لیس به بأس، إنّما یشتریه منه بعد ما یملکه(1).

أی ینشئ الشراء بعد ما یملکه لا أنّ وقوع البیع الفعلی وتمامه بعد ما یملکه، ولا هی فی صدد تصحیح التملّک البَعدی.

وصحیحة عبد الرحمن بن الحجّاج: قال: «سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن العینة، فقلت:یأتینی الرجل فیقول: اشتر المتاع واربح فیه کذا وکذا، فأُراوضه علی الشیء من الربح، فنتراضی به، ثمّ انطلق فأشتری المتاع من أجله لو لا مکانه لم أرده، ثمّ آتیه به فأبیعه.فقال: ما أری بهذا بأساً لو هلک منه المتاع قبل أن تبیعه إیّاه کان من مالک، وهذا

علیک بالخیار إن شاء اشتراه منک بعد ما تأتیه وإن شاء ردّه، فلست أری به بأساً(2).

ولفظ «اشتراه» صریح فی إنشاء الشراء والبیع بعد التملّک، ولیس هو تصحیح للبیع السابق، فلو کان البیع صحیحاً تأهّلیاً وبمجرّد تحقّق الشرط یصحّ فعلًا لقال(علیه السلام):

وجب البیع بعد تحقّق الشرط وهو العندیّة، بینما مفاد الروایة هو تأکیده(علیه السلام) علی الإنشاء مرّة اخری، وأنّ الإنشاء السابق بعد تحقّق العندیّة لا یواجب البیع، والحاصل أنّ هذه الروایات صریحة فی أنّه من قبیل

ص:86


1- (1) ب 8/ أبواب أحکام العقود/ ح 8. رواه الشیخ بإسناده عن الحسین بن سعید، عن حمّاد، عن حریز وصفوان، عن العلاء جمیعاً، عن محمّد بن مسلم.
2- (2) ب 8/ أبواب أحکام العقود/ ح 9. رواه الشیخ بإسناده عن الحسین بن سعید، عن صفوان، عن عبد الرحمن بن الحجّاج.

الشروط التأهّلیّة، ولیس من قبیل شروط الوجود.

واستدلّ الشیخ(قدس سره) لما اختاره فی المکاسب بموارد وقال: ومن البعید أن یکون خروج تلک الموارد بالتخصیص، فإنّها عدیدة، فمن الأوْلی تفسیر القاعدة بأنّها من قبیل شروط الوجود والوقوع لا أصل الماهیّة.

وأجاب عنه الایروانی بأنّ خروج بعض الموارد لا یکون دالّاً علی کونه من قبیل التخصیص أو التخصّص؟ إذ علی تقدیر کون الشرط بمعنی شرط الوجود فتکون صحّة تلک الموارد التی حصل الشرط (العندیّة) بعد الإنشاء علی طبق القاعدة، وإذا کان من شروط الماهیّة فیکون خروجاً عن القاعدة وتخصیصاً ولا دلالة للعموم علی أحدهما لما هو مقرّر من أنّ خروج الخاصّ عن العام لا یکون قرینة علی تعیین مفاد العامّ، فالاستشهاد بهذه الموارد علی کون الشرط شرط الوقوع والوجود لیس فی محلّه، بل یجب تحریر ظهور روایات القاعدة فی نفسه، فإن کانت ظاهرة فی الشرط التأهّلی فتلک الموارد من باب التخصیص، وإن لم تکن ظاهرة فقد تکون تلک الموارد قرینة علی أصل المفاد. هذا لو کنّا نحن ومجرّد العموم النبوی، فتلک الموارد إمّا قرینة أو تخصیص، فلیست متعیّنة فی القرینیّة، فضلًا عن وجود الروایات الآتیة والمتقدّمة الدالّة علی الثانی فلا مجال للتردید.

مضافاً إلی ما یقال من أنّ ظهور الموانع یغایر ظهور الشرائط الوجودیّة، حیث أنّ الشرائط محتملة لأن تکون لأصل الماهیّة التأهّلیّة أو لشرائط الوجود بخلاف الموانع، فإنّ المنسبق منها أنّها من الشرائط التأهّلیة. إذ معنی المانعیّة هو الإبطال، وکونه مبطلًا لا أنّه حاجز عن وجود البیع فقط، بل عادم للصحّة التأهّلیّة.

ص:87

الرجوع إلی الأخبار:

ففی أبواب مقدّمات الطلاق نهی عن نوع من الطلاق، وهو إیقاع الفُرقة قبل موضوعه، وهو الزوجیّة، فإذا طلّق امرأة قبل نکاحها ثمّ نکحها فلا ینفذ طلاقه السابق کما ورد فی الأخبار، سواء علّق علی النکاح أم لم یعلّق، وفی ذیلها أیضاً حکم العتق:

لا عتق إلّا بعد الملک، باعتبار أنّ العتق أحد التصرّفات فی الملک فلا یصحّ إذا أعتق عبداً لا یملکه ثمّ اشتراه ولا ینفذ عتقه السابق الذی هو أحد التصرّفات فی الملک، کما فی بیع ما لیس عندک.

وفی تلک الروایات أیضاً: لا صدقة إلّا فی ملک، وأنّه لو تصدّق بشیء ثمّ اشتراه فلا تنفذ صدقته السابقة، والصدقة نوع تملیک وتصرّف فی الشیء ولا یصحّ إلّا بعد الملک.

ولیس مفاد الروایات نفی فعلیّة العتق والطلاق والصدقة، بل فی مقام نفی فعلیّة الإنشاء السابق بعد تحقّق الملک والنکاح، وأنّه لا اعتداد بذلک الإنشاء فیکون الملک من شروط الصحّة لا من شروط الوجود. فإنشاء المعدوم قبل وجود موضوعه معلّقاً علی وجود الموضوع باطل لا من جهة التعلیق- لأنّ قاعدة التعلیق تقتضی البطلان فی ما کان المعلّق علیه لیس من شروط الصحّة، وأمّا إذا علّق علی أشیاء هی من شروط الصحّة فلا مانع من ذلک- بل من جهة تعبّدیّة اخری، ومن تلک الروایات:

1- صحیحة الحلبی: عن أبی عبدالله(علیه السلام)- فی حدیث-: «إنّه سُئل عن رجل قال:

ص:88

کلّ امراة أتزوّجها ما عاشت امّی فهی طالق.فقال: لا طلاق إلّا بعد نکاح، ولا عتق إلّا بعد الملک(1).

2- صحیحة محمّد بن قیس: عن أبی جعفر(علیه السلام)، قال: «سألته عن رجل قال:إن تزوّجت فلانة فهی طالق، وإن اشتریت فلاناً فهو حرّ، وإن اشتریت هذا الثوب فهو فی المساکین. فقال: لیس بشیء لا یطلّق إلّا ما یملک، ولا یعتق إلّا ما یملک، ولا یصدّق إلّا ما یملک(2).

3- عن النضر بن قرواش: عن أبی عبدالله(علیه السلام)- فی حدیث- قال: «لا طلاق قبل نکاح، ولا عتق قبل ملک، ولا یُتْم بعد إدراک»(3).

4- معتبرة سماعة: قال: «سألته عن الرجل یقول: یوم أتزوّج فلانة فهی طالق.فقال: لیس بشیء إنّه لا یکون طلاق حتّی یملک عقدة النکاح(4).

5- عن الحسین بن علوان: عن جعفر، عن أبیه، عن علیّ(علیه السلام) أنّه کان یقول: لا طلاق لمن لا ینکح، ولا عتاق لمن لا یملک.قال: وقال علیّ(علیه السلام): ولو وضع یده علی رأسها(5).

ص:89


1- (1) ب 12/ أبواب مقدّمات الطلاق وشرائطه/ ح 1. رواه الصدوق بإسناده عن حمّاد عن الحلبی.
2- (2) ب 12/ أبواب مقدّمات الطلاق/ ح 2. رواه الکلینی عن علیّ بن إبراهیم، عن أبیه، عن ابن أبی نجران، عن عاصم بن حمید، عن محمّد بن قیس.
3- (3) ب 12/ أبواب مقدّمات الطلاق/ ح 4. رواه الکلینی عن محمّد بن جعفر الرزّاز، عن أحمد، عن الحسن بن محبوب، عن النضر بن قرواش. «النظر مهمل.
4- (4) ب 12/ أبواب مقدّمات الطلاق/ ح 5. رواه الکلینی عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد، وعن علیّ بن إبراهیم، عن أبیه، عن عثمان بن عیسی، عن سماعة.
5- (5) ب 12/ أبواب مقدّمات الطلاق/ ح 7. رواه عبدالله بن جعفر فی قرب الإسناد، عن الحسن بن ظریف، عن الحسین بن علوان.

6- موثّقة معمّر بن یحیی بن سالم: «إنّه سمع أبا جعفر(علیه السلام) یقول: لا یطلّق الرجل إلّا ما ملک، ولا یعتق إلّا ما ملک، ولا یتصدّق إلّا بما ملک(1). وکلّ هذه الروایات نافیة لفعلیّة الطلاق والعتاق والصدقة السابقة علی الزواج والملک بعدهما.

7- صحیحة منصور بن حازم: عن أبی عبدالله(علیه السلام)، قال: «قال رسول الله صلی الله علیه و آله : لا طلاق قبل نکاح، ولا عتق قبل ملک»(2).

8- صحیحة علیّ بن جعفر: فی کتابه عن أخیه موسی بن جعفر(علیه السلام)، قال: «سألته عن رجل یقول: إن اشتریت فلاناً فهو حرّ، وإن اشتریت هذا الثوب فهو صدقة، وإن نکحت فلانة فهی طالق، قال: لیس ذلک بشیء»(3).

9- صحیحة منصور بن حازم: عن أبی عبدالله(علیه السلام)، قال: «قال رسول الله صلی الله علیه و آله : لا رضاع بعد فطام, ولا طلاق قبل نکاح، ولا عتق قبل ملک. الحدیث(4).

10- روایة سلیمان بن صالح: عن أبی عبدالله(علیه السلام)- فی حدیث-:

ص:90


1- (1) الباب المتقدّم/ ح 11. رواه الشیخ عن علیّ بن الحسن، عن محمّد وأحمد، عن أبیهما، عن ثعلبة بن میمون، عن معمر بن یحیی بن سالم.
2- (2) ب 5/ أبواب العتق/ ح 1. رواه الکلینی عن علیّ بن إبراهیم، عن أبیه، عن ابن أبی عمیر، عن منصور بن حازم.
3- (3) ب 5/ أبواب العتق/ ح 7، ولصاحب الوسائل سند صحیح إلی کتاب علیّ بن جعفر.
4- (4) ب 5/ أبواب ما یحرم بالرضاع/ ح 1. رواه الکلینی عن علیّ بن إبراهیم، عن أبیه، عن ابن أبی عمیر، عن منصور بن یونس، عن منصور بن حازم.

«إنّ رسول الله صلی الله علیه و آله نهی عن ربح ما لم یضمن»(1).

أی: نهی عن المعاملة علیه، سواء کانت بیعاً أم جعالة، فتملیک هذا الربح الذی لم یضمن بأیّ عنوان معاوضی ممنوع، باعتبار أنّ الربح الذی لا یضمن هو مال لکنّه معدوم، وحیث أنّ حذف المتعلّق یفید العموم، فمفاد الروایة النهی عن مطلق المعاملة علی مطلق ما لا یمکن.

11- موثّقة عمّار: عن أبی عبدالله(علیه السلام)، قال: «بعث رسول اللّه صلی الله علیه و آله رجلًا من أصحابه والیاً، فقال له: إنّی بعثتک إلی أهل اللّه- یعنی أهل مکّة- فانههم عن بیع ما لم یقبض، وعن شرطین فی بیع وعن ربح ما لم یضمن»(2).

12- صحیحة عبد الرحمن بن الحجّاج: قال: «سألت أبا الحسن عن رجل یقول له الرجل: أشتری منک المتاع علی أن تجعل لی فی کلّ ثوب أشتریه منک کذا وکذا، وإنّما یشتری للنّاس ویقول: اجعل لی ربحاً علی أن أشتری منک، فکرهه(علیه السلام)»(3).

و«علی أن أشتری) هو العمل الذی علّقت علیه الجعالة، والربح هو الجعل، ولیس مملوکاً قبل الجعالة؛ لأنّه ربح الشراء، والکراهة تستعمل فی

ص:91


1- (1) ب 10/ أبواب أحکام العقود/ ح 5. رواه الشیخ بإسناده عن محمّد بن أحمد بن یحیی، عن محمّد بن الحسین، عن علیّ بن أسباط، عن سلیمان بن صالح (و الظاهر أنّه المرادی، ولم یرد فیه توثیق).
2- (2) ب 10/ أبواب أحکام العقود/ ح 6. رواه الشیخ بإسناده عن محمّد بن أحمد بن یحیی، عن أحمد بن الحسن بن علیّ بن فضال، عن عمرو بن سعید، عن مصدق بن صدقة، عن عمّار.
3- (3) ب 10/ أبواب أحکام العقود/ ح 7. رواه الصدوق بإسناده عن عبد الرحمن بن الحجّاج.

الحرمة، إلّا أن تأتی قرینة تدلّ علی الترخیص، وهذا المورد أحد مصادیق النهی عن ربح ما لم یضمن.

ویمکن التأمّل فی ذلک بأنّ الربح مقدور حین لزوم الأداء والتملیک إنّما تعلّق بالکلّی، فلیس الربح غیر مضمون فی المقام، نظیر ما ورد من روایات: «بع مالی بعشرة فما زاد فهو لک»(1)، فلعلّ وجه الکراهة فی الروایة غیر ما نحن فیه، وهو صدق التحایل عرفاً من المشتری الدلّال الوسیط للمشتری الحقیقی الا ان یراد الجعل من مقدار الربح نفسه.

13- حدیث المناهی، عن الحسین بن زید: عن جعفر بن محمّد، عن آبائه (علیهم السلام) فی مناهی النبیّ صلی الله علیه و آله ، قال:«و نهی عن بیع ما لم یضمن»(2).

وهی وإن کانت ضعیفة لشعیب بن واقد ، إلّا أنّ تضمّنها لمناهی جامعة کلّیة معمول بها فی الأبواب ممّا یعطیها الوثوق بالصدور بالاعتضاد مع روایات اخر، حیث إنّ مضمونها موجود فی کثیر من الروایات، فتصیر حجّة معاضدة ومؤیّدة لا مستقلّة.

هذا مضافا الی امکان استحسان حال الحسین بن زید لانه اما علوی فهو ثقة علی الارجح او صاحب کتاب وهو محسن لم یضعف وکذا الحال فی شعیب بلحاظ مضامین ما روی ولو فرض انه عامی .

ص:92


1- (1) ب 10/ أبواب أحکام العقود.
2- (2) ب 10/ أبواب أحکام العقود/ ح 8. رواه الصدوق بإسناده عن شعیب بن واقد، عن الحسین بن زید.

والمستفاد من هذه الروایات- إن لم تکن فی صدد توسعة القاعدة لکلّ إنشاء علی موضوع غیر موجود- أنّ فی خصوص الملک والمعاوضة علیه، بیعاً کانت أو صالحاً أو إجارة أو جعالة، لیس الملک من شرائط الوجود، بل هو من شرائط الصحّة التأهّلیّة خلافاً لظاهر کلام الشیخ الأنصاری(رحمه الله)، مع أنّه لو بنینا علی ظاهر کلام الشیخ(رحمه الله) من أنّه من شرائط الوجود لا شرائط الصحّة التأهّلیّة فلا ضیر فی ما جملة من الابحاث نظیر منع صحة المضاربة أو التملیک الذی فی ضمن الشروط؛ إذ لیس المدّعی هو فسادهما من رأس کما فی الخلل فی شرائط الصحّة التأهّلیّة، بل المطلوب إثبات عدم الصحّة الفعلیّة لتضمّنهما تملیک الشیء المعدوم، وهذا یتمّ لو قلنا بمقالة الشیخ(رحمه الله)؛ لأنّ فیهما تملیک للربح الذی لم یظهر، کما هو الحال فی الودائع البنکیّة، فلا یکون ذلک العقد فی الحیل المزبورة مشمولة ل أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ، ویستطیع المتعاقد حینئذٍ أن یرجع أی وقت شاء.

والوجه فی المختار: أنّ ظاهر روایات «لا طلاق إلّا بعد نکاح»، و«لا عتق إلّا فی ملک» أنّه لا عبرة بالإنشاء السابق أصلًا کما هو تقریب ذلک.

والشیخ(رحمه الله) فی بحث الفضولی وشرط القدرة علی التسلیم ذکر روایات فی ذلک الصدد وبحث فی أنّ (العندیّة) هل هی شرط الوجود أو شرط الصحّة التأهّلیّة؟

وقال: إنّ الأخبار لا تدلّ علی بطلان بیع الفضولی لو باع ما لیس له ثمّ ملکه ثمّ أجازه. وما ذکره لا یتناسب مع شرط الوجود؛ لأنّ شرط الوجود بعد تحقّقه لا تحتاج المعاملة إلی الإجازة، فإنّه بمجرّد حصول

ص:93

الشرط تتحقّق الفعلیّة بالإنشاء السابق. فما ذکره یتناسب مع شرط الصحّة التأهّلیة؛ إذ فی موارد شروط الصحّة التأهّلیة لابدَّ من الإجازة؛ لأنّ الإجازة بمنزلة إنشاء جدید أو رضی إنشائی جدید بإنشاء سابق، والإنشاء لا یفسد من حیث هو تکلّم وتلفّظ.

فمراد الشیخ(قدس سره) لو کان شرط الوجود لما بنی فی بیع الفضولی علی لزوم الإجازة لمن باع شیئاً لیس له ثمّ ملکه، فلو کان الملک الفعلی شرط الوجود، کما فی القبض فی الرهن أو فی الهبة، فبعد أن یقبض لا حاجة إلی الإجازة، فما التزم به هناک شاهد علی کون مراده شرط الماهیّة، وأنّ عبارته موهمة لغیر ذلک، ولزیادة التوضیح نقول:

إنّ فی العقد ثلاثة مراحل: مرحلة شرائط صحّة ما یتلفّظ به (صحّة الإنشاء فی نفسه کإنشاء لا کمنشئ)، ومرحلة شرائط الصحّة التأهّلیّة للمنشأ ومرحلة شرائط الوجود.

والظاهر أنّ مراد الشیخ(قدس سره) هو أنّ تلک الأخبار لا تفید کون الملک من شرائط صحّة الإنشاء مثل العربیّة کما اشترطت فی الطلاق وإنّما هو من شرائط المنشأ، والأمر فیه سهل بلحاظ الإجازة المتعقّبة، وهما بخلاف شرائط الوجود، فإنّها بعد انوجادها لا تحتاج إلی إجازة. هذا هو تحقیق مرام الشیخ(رحمه الله).

فتحصّل أنّ القاعدة عامّة ببرکة «نهی عن ربح ما لم یضمن»، فتملیک المعدوم فاسد، والإنشاء علی الموضوع المعدوم لیس بصحیح.

ص:94

أضف إلی ذلک أنّ الموارد التی ذکرها الشیخ(رحمه الله)، والتی صحّح فیها البیع هی: بیع الرهن ما یملکه بعد البیع (/ الفضولی)، وبیع العبد الجانی عمداً، وبیع المحجور هی غیر ما نحن فیه؛ لأنّ فی تلک الموارد الملک فعلیّ للبائع. غایة الأمر أنّ هذه الملکیّة متعلّقة بحقّ الغیر، اللهمّ إلّا أن یفسّر الشیخ(قدس سره): «لا تبع» ب «ما لا تقدر»، ولابدَّ حینئذٍ من إجازة ذی الحقّ من باب تقدیم أدلّة حقّ المجنی علیه أو حقّ المرتهن علی أدلّة

صحّة البیع أو نفوذ سلطنته، فهذه الموارد لیست من أمثال القاعدة. والمانع من صحّة البیع لیس من باب ما لیس عنده، بل من باب تقدیم أدلّة حقّ الجنایة وأدلّة بقیّة العقود علی أدلّة صحّة نفوذ البیع أو سلطنة المالک.

مضافاً إلی أنّ هذه الموارد لیست منصوصة کی یفترض أنّ الخلل فیها هو من ناحیة شرط ما لیس عنده، بل لأجل أدلّة تلک الحقوق المانعة عن نفوذ البیع کما تقدّم.

نعم، قد یقال إنّ تصحیح البیع فی تلک الموارد لدی الأصحاب بعد إجازة ذی الحقّ قرینة علی مفاد القاعدة، فافهم، فإنّ أدلّة تلک الحقوق غایة ما یستفاد من مانعیّتها أنّها مانعة عن فعلیّة البیع لا عن صحّته التأهّلیّة.

الجهة السابعة: هل أنّ مفاد «لا تبع» هو مفاد «نهی النبیّ صلی الله علیه و آله عن بیع الغرر) أو لا؟

ممّا لا إشکال فیه أنّ بین المفادین اختلافاً بنحو العموم من وجه، فإنّه لو باع مبیعاً موجوداً عنده لکن من دون أن یذکر أوصافه فی البیع، فلا

ص:95

یکون مورداً لقاعدة «لا تبع»، لکنّه مورد لقاعدة «نهی النبیّ عن بیع الغرر»، ولو باع العین الشخصیّة التی هی متوفّرة فی السوق بکثرة ولم یبع العین بنحو الکلّی، وإنّما باع عیناً شخصیّة لجاره یوجد فی السوق مثیلاتها، فإنّها مثلی یوجد أمثاله، والبیع وإن کان شخصیّاً إلّا أنّه لو لم یستطع توفیره لما کان عند المشتری منازعة بأداء بدله المثلی، فهاهنا لیس البیع غرریاً لکنّه بیع ما لیس عنده.

وهناک موارد للتصادق کما لو باع عیناً شخصیّة لا یکون فی السوق مثیلها موجوداً، فالمبیع قیمی لا مثلی، ولا یستطیع أن یوفّرها، فهاهنا غرر وعدم العندیّة، ویبطل البیع من احد الزاویتین غیر الزاویة الاخری، والأعلام فی شرط القدرة علی التسلیم استدلّوا بهذین الدلیلین.

فلو رفعنا الید عن خصوصیّة قاعدة «لا تبع» أمکننا الاستعانة لمنع صحّة بین المعدوم بقاعدة نهی النبیّ صلی الله علیه و آله عن الغرر، ولا یخفی أنّ نهی النبیّ عن بیع الغرر قد رواه الصدوق بأسانید متعدّدة فی عیون الأخبار.

وأمّا النهی عن الغرر فی مطلق المعاملة فلم یثبت، إلّا أنّه قد ذکر أنّ هذه القاعدة عقلائیّة، ولذلک عمّمناها إلی المعاوضات الاخری، فلو بنی علی عدم تعمیم «لا تبع ما لیس عندک» إلی غیر البیع یمکن الاستعانة بقاعدة منع الغرر بناءً علی أنّها عامّة کما هو الصحیح.

هذا تمام الکلام فی القاعدة.

ص:96

قاعدة :عمد الصبی خطأ

اشارة

ص:97

ص:98

عمد الصبی خطأ

یقع الکلام تارة بحسب مقتضی القاعدة فی کلّ من الصبی الممیّز وغیر الممیّز واخری بحسب الروایات الخاصّة.

أمّا الکلام بحسب مقتضی القاعدة فمضافا إلی ما تقدّم فی النقاط الستّ فی قاعدة اذن الولی فی حج الصبی لابدَّ من الالتفات إلی نقاط اخر:

الاولی: حیث انّ مثل الکفّارات فی غالب تروک الاحرام مترتّبة علی الإتیان العمدی فلابدَّ من البحث عن وجود عمد الصبی فی أفعاله فنقول: قد ذهب المشهور- کما هو المعروف نسبة فی الکلمات- إلی عدم تحقّق العمد من الصبی ما لم یبلغ، وذهب الشیخ وجماعة بتحدید ذلک بعشر سنین لا بالبلوغ وأنّه حینئذ تقام علیه الحدود ویقتصّ منه واستند فی نفی العمد عنه إلی ما ورد فی الروایات المعتبرة من أنّه عمد الصبی وخطأه واحد- کما فی صحیحة محمّد بن مسلم(1)- وقد ذیّل هذا العموم فی بعض تلک الروایات ب (تحمله العاقلة)(2)، ومن ثمّ نفوا عنه الإرادة وحکموا بسلب عبارته فی مطلق الانشائیات من العقود والایقاعات وتحریر الحال فی مفاد هذا الحدیث الذی هو کالقاعدة أنّ مفاده یحتمل وجوها.

ص:99


1- (1) کتاب الدیات باب 11 من أبواب العاقلة ح2.
2- (2) کتاب الدیات باب 11 من أبواب العاقلة ح3.

الأوّل: ما ذهب إلیه المشهور من سلب الإرادة والعبارة وأنّه کالبهیمة.

الثانی: عدم سلب الإرادة مطلقا، بل قصورها وکونها بمنزلة الإرادة الخطائیة، ففی الموارد التی یترتّب الأثر علی خصوص الإرادة القویة العمدیة لا یترتّب علی إرادته فکان إرادته من باب الاشتباه فی التطبیق.

الثالث: تنزیل إرادته العمدیة منزلة الإرادة الخطائیة فیما کان لکلّ من العمد والخطأ أثر، سواء فی باب الدیات وغیره، فهذا التنزیل لا یعمّ الموارد التی یکون الأثر مختصّا بالعمد.

الرابع: انّه تعبّد خاصّ فی خصوص الدیات.

والأظهر من هذه الوجوه هو الثانی وذلک لأنّه لو ارید من هذا الحدیث سلب إرادة الصبی مطلقا کی یعمّ حتی انشائیاته وعبارته لما استند القتل إلیه ولو خطأ ولما حملت العاقلة الدیة؛ لأنّ الفعل لا یستند إلّا بالإرادة أیّا ما کان من أقسام الفعل فحینئذ هذا ممّا یشهد بوجود إرادته. غایة الأمر هذه الإرادة لیست إرادة کاملة تامّة مستقلّة، بل ناقصة لا یعتدّ بها منفردة، ومن ثمّ کانت بمنزلة الإرادة الخطائیة ولا یخصّ مفاد هذه القاعدة بباب الدیات لما تقدّم من صحیح محمّد بن مسلم الذی لم یذیّل بذلک الذیل فلا وجه لتخصیصه وحمله علی باب الدیات لأنّه من قبیل المثبتین مع ما ذیل فیه کما لا یخصّ مفاد هذا الحدیث بموارد ترتّب الأثر علی الخطأ أیضا کما قد ذکر ذلک فی الوجه الثالث؛ لأنّ عبارة الروایة لیس (عمد الصبی خطأ) بل (عمد الصبی وخطأه واحد) مع أنّه لو فرض ذلک التعبیر لکان التنزیل یصحّ بلحاظ نفی الأثر أیضا. هذا مضافا إلی أنّ الوجه

ص:100

الثانی موافق للاعتبار العقلائی حیث انّه لا یعتدّون بإرادة الصبی مستقلّة بل ناقصة لا تتمّ إلّا بإرادة الولی لا سیّما فی الصبی غیر الممیّز حیث أنّ غیر الممیّز کما ذکرنا سابقا لا عقل عملی بالفعل له یزجره وإن کان له عقل نظری یدرک ویحسن الکلام.

وعلی ضوء هذه النقطة لا تترتّب مثل الکفّارات علی الصبی بعد أخذ قید العمد فیها ویشهد علی ذلک ما ورد فی روایات إحجاج الصبی من أنّ الصبی إذا حجّ أو حجّ به ینهی ویوقی عن تروک الاحرام من قبل الکبار، الظاهر ذلک فی کون إرادة الصبی ناقصة محتاجة إلی التتمیم ولک أن تجعل هذا المفاد فی روایات المقام بنفسه دلیلا آخر علی عدم ترتّب الکفّارة علی الصبی کما لک أن تجعل دلیلا ثالثا علی عدمها علی الصبی وهو ما ورد فی حدیث رفع القلم عن الصبی کما فی صحیح البختری(1) وغیرها من الروایات(2) ولو کان الرفع بلحاظ الفعلیة التامّة کما هو المختار وهذه الوجوه تعمّ الصبی الممیّز وغیره بل فی الصبی الذی لا یحسن الکلام لا یتعقّل توجیه خطاب التروک إلیه أصلا ولا إرادة خطائیة له أصلا. وهذا مطابق لمفاد مصحّح علی بن جعفر المتقدّم(3) من نفی الکفّارات عن الصبی مطلقا.

النقطة الثانیة: انّ مقتضی القاعدة فی الولیّ فی حجّ الصبی الممیّز المستقلّ بالأعمال عدم تعلّق الکفّارات علی ذمّة الولی أمّا لعدم ترتّب

ص:101


1- (1) باب 36 من أبواب القصاص ح3.
2- (2) باب 4 من أبواب مقدمات العبادات.
3- (3) باب 18 أبواب المواقیت ح2.

الکفّارة علی فعل الصبی وإمّا لعدم کون الولیّ مسبّبا لغرامة مالیة فی البین، وکذا الحال فی احجاج الصبی حیث انّ الفرض أنّ الصبی لا کفّارة علی فعله أو لأنّ الإحجاج بمنزلة البذل وکفّارات البذل وکفّارات الاحرام لا تتعلّق بالباذل، لکن قد یقال بأنّ مقتضی الإحجاج وکذا أمر الولی بایقاع أفعال الحجّ، أجزاءا وشرائطا فی الصبی والتی منها تروک الاحرام وإن کانت هی آثارا للاحرام الذی هو شرط فی ماهیة الحجّ.

ولک أن تقول: إنّ مقتضی ما ورد من أمر الولی بتوقیة الصبی ما یتّقی المحرم کما فی صحیح زرارة ومصحّح علی بن جعفر هو کون الولی مخاطبا بالتروک لا الصبی، غایة الأمر هو مخاطب بها فی مورد الصبی فإذا صدرت من الصبی بتقصیر من الولیّ یکون بمنزلة ارتکابها عمدا، ویشهد لترتّب الکفّارة علی کونه مخاطبا بها فی الصبی ما فی صحیح زرارة من ترتّب وتفریع ثبوت- کفّارة الصید علی الولیّ- علی خطابه بتوقیة الصبی. غایة الأمر أنّه فی کفّارة الصید تثبت مطلقا، وهذا لا یخلو من وجه وقوّة.

ولا یشکل بأنّ فی کفّارة الصید خصوصیة وهو ثبوتها حتی فی الخطأ الذی هو دائما فی فعل الصبی بخلاف بقیّة الکفّارات ولذا خصّص بالذکر فی الروایة فإنّه یقال علی ذلک یجب الالتزام بعدم کون التروک مخاطب بها الولی؛ لأنّ المفروض أنّ ما یجترحه الصبی هو من باب الخطأ وهو کما تری. کما قد یشکل بأنّ الدلیل إنّما دلّ علی ترتّب الکفّارة فی التروک التی یخاطب بها المکلّف نفسه لا ما یخاطب بها بایقاعها فی غیره.

وفیه: أنّ ذلک بعینه جار فی کفّارة الصید، وتقدّم أنّ ظهوره فی صحیح زرارة تفرّع.

ص:102

فرع فیه تدقیق فی معنی القاعدة:

قد ذکر الشیخ فی المبسوط أنّه لو أفسد الصبی حجّه لما کان علیه وجوب القضاء لعدم کون الموجب إفسادا للحجّ؛ لکون عمده خطأ، بینما قوّی فی الجواهر الافساد وتعلّق الوجوب به بعد البلوغ نظیر الجنابة والغسل واستشهد علی کون قاعدة عمد الصبی خطأ مختصّة بالدیات هو أنّه یلزم من عمومها عدم مبطلیة موانع الصلاة وبقیّة العبادات فیما لو أتی الصبی بها عمدا، وهو کما تری.

إلّا أنّ الصحیح ما ذهب إلیه الشیخ من عموم القاعدة ولا یرد ما نقض به فی الجواهر؛ لأنّ مورد تطبیق القاعدة هو فی الفعل الذی یلزم صدوره عند إرادة تامّة وتناط صحّته بالإرادة الکاملة. وأمّا فی الفعل الذی یکتفی فیه بمطلق الإرادة کما دلّ الدلیل فی مورد عبادات الصبی علی صدورها منه فإنّه لا تطبّق فیه تلک القاعدة لأنّ مفروض القسم الثانی فی الأفعال التی لا اختلاف فیها بین الإرادة التامّة والناقصة.

وبعبارة أخری: أنّه فی القسم الثانی من الأفعال کما أنّ صدور الاجزاء بإرادة ناقصة صحیحا لدلالة الدلیل فکذلک صدور المانع والمبطل مفسدا لکونه صادرا عن إرادة هی عین درجة الإرادة فی الاجزاء.

والحاصل: أنّه من الأفعال ما یؤخذ فی صدورها الإرادة التامّة الکاملة لترتیب الآثار علیها، ومنها ما یکفی فیه مطلق الإرادة کما فی الإنشاءات المجرّدة فی العقود والایقاعات دون تولّیها بتمامها، فإنّ الإنشاء المجرّد یتأتّی من الوکیل أو من الفضولی فی الصیغة فقط الذی هو ذو إرادة

ص:103

ناقصة لکونه یکفی فیه مطلق الإرادة ولو غیر التامّة المستقلّة، وهذا بخلاف تولّی تمام العقد أو فی قتل العمد المترتّب علیه القصاص دون القتل الخطأ الذی یکفی فیه الإرادة الناقصة.

والحاصل أنّه لابدَّ من الالتفات إلی أنّ العموم الوارد- فی صحیح محمّد بن مسلم وعمد الصبی وخطأه واحد- من أمّهات الأدلّة فی شئون أحکام الصبی لأنّه بحسب ما یستظهر منه فی الوجوه الثلاثة الاول یکون حاکما علی أدلّة جهات البحث فی أحکام وشئون الصبی، فلا یخصّ مفاده بالانشائیات وعبادة الصبی أو یخصّ باب الضمانات، بل یعمّ مفاده باب التکالیف العامّة والعبادات أی یکون مفاده عین مفاد وضع کتابة السیّئات عن الصبی، بل انّ مفاده زاد علی مفادها حیث انّه دلّ علی قصور إرادة الصبی لا سلبها کما هو المختار، ممّا یدلّ علی قصور توجیه الخطاب إلیه لا رفع المشروعیة أی دالّ علی عدم الفعلیة التامّة والباعثیة والزاجریة التامّتین.

فبملاحظة نسبته مع أدلّة التکالیف والعبادات العامّة یری أنّها تختلف دائرة عن نسبة حدیث الرفع مع تلک الأدلّة. هذا کما لا یخصّ مفاده بذلک أیضا بل یعمّ الأحکام الوضعیة ومعاملات الصبی المستقلّة حیث أنّ قصور الإرادة یستلزم عدم استقلاله فی المعاملات فیکون مفاده مفاد آیة ابتلاء الیتامی حتی إذا بلغوا مرتبة النکاح: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَیْهِمْ أَمْوالَهُمْ (1).

فهذا العموم قاعدة من أمّهات الأدلّة فی أحکام الصبی.

ص:104


1- (1) النساء: 6.

إن قلت: هذا التفصیل لا ینفی ما ذکره صاحب الجواهر من عدم تطبیق القاعدة فی الحج حیث انّ أجزاء الحجّ المشروع للصبی اکتفی فیها بالإرادة الناقصة فکذا فی الموانع والمبطلات المفسدة.

قلت: إنّ ذلک تامّ فی حجّ الصبی لو کنّا نحن والقاعدة دون الإحجاج للصبی فإنّه فی الثانی المفروض فعل الولی فی الصبی بل الأوّل أیضا لا یلتزم بوجوب القضاء علیه بالالتفات لحدیث الرفع.

وأمّا استشهاد صاحب الجواهر بالغسل والجنابة فهو مع الفارق حیث انّ ترتّب الجنابة علی الاحتلام أو الجماع وضعی وهو غیر مرفوع بحدیث الرفع کبقیّة الامور الوضعیة. غایة الأمر التکلیف المترتّب علی الأمر الوضعی وهو الجنابة یصبح فعلیا بعد البلوغ ببقاء موضوعه. وهذا بخلاف ما نحن فیه فإنّ وجوب القضاء مترتّب علی مخالفة النهی المرفوع بحدیث القلم. نعم الذی أوجب الوهم فی المقام تعبیر الفقهاء بکون وجوب القضاء مترتّبا علی فساد الحجّ وهو عنوان وضعی، إلّا أنّ هذا عنوان انتزاعی وإن ورد فی بعض الروایات حیث انّ وجوب الحجّ فی القابل مترتّب علی مخالفة النهی. هذا کلّه فضلا عمّا لو قلنا من انّ وجوب الحجّ فی القابل هو کفّارة من أفسد حجّه لا أنّه قضاء.

تنبیه: قد اتّضح أنّ المراد من الولیّ فی الإحجاج أو حجّ الصبی مع الرفقة هو الأعمّ من الشرعی والعرفی، فهو الذی یخاطب بتوقیة الصبی وتحمّل کفّاراته وهدیه، وأمّا لو حجّ الصبی الممیّز من دون إذن الولی الشرعی ولا بکفالة ولی عرفی فمقتضی القاعدة حینئذ تعلّق مال الهدی

ص:105

علیه. غایة الأمر حیث فرض عدم إذن الولیّ یکون عاجزا عن التصرّف فی ماله، فمقتضی القاعدة أن یخاطب بالصوم حینئذ کما لا کفّارة علی الولیّ ولا علی الصبی حینئذ.

ص:106

قاعدة :لزوم العسر والحرج

اشارة

ص:107

ص:108

لزوم العسر والحرج بمعنیین

وتطبیقها کدلیل علی ملکیة الدولة

اشارة

ان عنوان نفی العسر والحرج علی نمطین ولسانین وفی المآل قاعدتان:

النمط الأول: دلیل الرفع للاحکام الاولیة مثل رافعیة قاعدة لا ضرر اذ ترفع الوجوب والحرمة، وأهم أدلة هذا النمط قوله تعالی ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ (1) الظاهر فی رفع الحکم الحرجی حسب فهم المشهور من الفقهاء(2).

ومثله ما روی عن رَسُولُ الله صلی الله علیه و آله «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِی تِسْعَةُ أَشْیَاءَ الْخَطَأُ والنِّسْیَانُ ومَا أُکْرِهُوا عَلَیْهِ ومَا لَا یَعْلَمُونَ ومَا لَا یُطِیقُونَ ومَا اضْطُرُّوا إِلَیْهِ والْحَسَدُ والطِّیَرَةُ والتَّفَکُّرُ فِی الْوَسْوَسَةِ فِی الْخَلْوَةِ مَا لَمْ یَنْطِقُوا بِشَفَةٍ».

و یعزز هذا الفهم استدلال الامام(علیه السلام) بالآیة الکریمة علی الرفع فی حسنة عبد الاعلی مولی آل سام(3) «قَالَ قُلْتُ لِأَبِی عَبْدِالله(علیه السلام) عَثَرْتُ فَانْقَطَعَ ظُفُرِی فَجَعَلْتُ عَلَی إِصْبَعِی مَرَارَةً فَکَیْفَ أَصْنَعُ بِالْوُضُوءِ قَالَ یُعْرَفُ هَذَا وأَشْبَاهُهُ مِنْ کِتَابِ الله عَزَّ وَجَلَّ قَالَ الله تَعَالَی ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ

ص:109


1- (1) الحج: 78.
2- (2) وسائل الشیعة ج15 ص369.
3- (3) الکافی ج3 ص33.

حَرَجٍ امْسَحْ عَلَیْهِ».

والاستدلال بهذا النمط لا یثبت ملکیة الدولة لان العسر والحرج اخذ شخصیاً ولیس بنوعی وانما کل من حصل له عسر أو حرج یأتی فی حقه وینطبق علیه حدیث الرفع مع أنه یرفع التکلیف ولا یثبت حکما آخر، یرفع الحرمة فی التصرف فی الاموال، لا أنه یجعل هذه الاموال ملکا لک، ولذا استشکلوا فی خیار الغبن علی من استدل علی شرعیه هذا الخیار بحدیث لا ضرر بانه یرفع اللزوم ولا یثبت حکما آخر.

النمط الثانی: الادلة التی تبین أن الشریعة سهلة سمحاء وان حکمة الاحکام المجعولة فی الشریعة سواء وضعیة او تکلیفیة نابعة من السهولة والیسر هذه الادلة المخبرة عن عدم وجود حکم حرجی فی الشریعة الاسلامیة وأن أحکام الشریعة أسست علی أساس الیسر والسماحة والتسهیل علی المکلفین.

فالشریعة بموجب هذه الأخبارات عبارة عن مجموعة من القوانین المیسرة وأن الحکم الحرجی لا یمت للشریعة بصلة.

و أدلة هذا النمط کثیرة مثل قوله تعالی: یُرِیدُ اللّهُ بِکُمُ الْیُسْرَ وَ لا یُرِیدُ بِکُمُ الْعُسْرَ (1).

وبعض السادة من مشایخنا فهم من کل الأدلة التی تناولت مسألة العسر والحرج أنها إخبار ومن النمط الثانی ولا دلالة فیها علی الرفع.

ص:110


1- (1) البقرة: 158.

والأصح ما قررناه من أنها علی نمطین وبلسانین.

وعلی أیة حال، النمط الاول لا یخدمنا فی إثبات الامضاء فی أمثال ملکیة الدولة للتصرفات تنزیلا وذلک لامرین:

الامر الاول - ان موضوع الرفع هو الحرج الشخصی لا النوعی کما قرر فی محله، والحرج الشخصی قد یتواجد فی شخص دون آخر ومعه لا یمکن الخروج بنتیجة عامة فی امضاء ملکیة الدولة ونحوها من موارد کون المطلوب إثبات حکم لا رفعه.

الامر الثانی- ان دور حدیث الرفع هو رفع الحکم الحرجی فقط من دون إثبات شیء آخر، فغایة ما یفیده دلیل رفع الحرج هو رفع حرمة التصرف فی هذه الاموال ولکن لا ینهض فی اثبات حکم وضعی وهو ملکیة الشخص للمال فهو مسکوت عنه وخارج عن مهام القاعدة.

أما النمط الثانی فهو الذی ینفع فی إثبات إمضاء امثال تصرفات الدولة الوضعیة تسهیلا للمکلفین، فی تعاملها المالی مع المؤمنین وذلک من خلال ضم هذه الادلة الی الادلة الأولیة مما یجعل للأدلة دلالة التزامیة علی الامضاء من نوع دلالة الاشارة، بعد الاخذ بعین الاعتبار أن الحرج الذی أخبرت الروایات والآیات عن عدم وجوده فی الشریعة هو الحرج النوعی.

وهناک خلاف فی ان حجیة هذه الدلالة من باب الظهور او من باب القرینة العقلیة، فی الجمع بین الدلیلین وتحقیقه موکول الی علم الاصول، والمهم أن هذا النوع من الدلالة معتبر بلا خلاف فی الجملة، اذ هناک

ص:111

خلاف فی حجیة بعض حالات دلالة الاشارة ولعله راجع الی الصغری لا الی الکبری.

وتصویر الاستدلال: ان الدلیل الاولی هو عدم شرعیة کل ممارسات الدولة فی ای مجال من المجالات، بما فی ذلک ممارساتها المالیة بسبب عدم شرعیة ولایة الدولة.

ودلیل نفی الحرج النوعی فی الشریعة یخبرنا أن الحکم المتقدم لا یحمل فی طیاته العسر والحرج علی المکلفین به وعلی هذا الاساس تم تشریعه، فهو بمثابة الاستثناء من الدلیل الاولی فیکون حاصل الجمع:

عدم شرعیة کل ممارسات الدولة بسبب عدم شرعیة ولایتها الا فی حالات الحرج.

وحیث کان تجمید التعامل المالی مع الدولة الناجم من عدم شرعیة إدارتها علی المال فیه حرج فهو مستثنی من الدلیل الاولی.

بل نستفید إمضاء تصرفات الدولة علی المال ومن ثم تکون الممارسة صحیحة ویتملک المؤمن المال، وبهذا یفترق هذا النمط من الادلة عن النمط السابق، حیث أن أدلة الرفع فی النمط الاول لا تتکفل إثبات شیء وانما دورها رفع الحکم الحرجی فقط کما تقدم، أما هذا النمط من الأدلة فیمکن الاستفادة منه لاثبات حکم وجودی علاوة علی رفعه- بطریق الاخبار- للحکم الحرجی النوعی، وذلک بالتصویر التالی:

أن هذه الأدلة تنبئ عن أن الشارع لم یحرج المکلف بشیء سواء فی

ص:112

جعله او فی رفعه للجعل، فکما استفید منها عدم الجعل للحرج یستفاد منها الامضاء والجواز للحرج، حیث أن بقاء الموضوع معلقا من دون حکم بالجواز لا یرفع من حالة الحرج فنستفید حینئذ الجواز وامضاء شرعیة الدولة بمقدار یرفع الحرج وهو الامضاء الوضعی، بینما هذا التصویر لا یتأتی فی الأدلة من النمط الاولی لأن لسانها لسان رفع فقط فاثبات شیء أکثر من الرفع تحمیل للدلیل.

فیستفاد منها حکم شرعی بضمها مع الادلة الاولیة.

قد یقال: بأن هذه أدلة بیان حکمة وفلسفة التشریع فلا یظهر منها إنشاء أحکام، فهی فی مقام الاخبار لا الإنشاء.

والجواب: بل یظهر منها إنشاء تشریع معین لا من ذات مفادها بنفسها بل هی اذا انضمت مع الادلة الاولیة وقد ارتکب الفقهاء هذا النمط من الاستفادة والاستظهار فی موارد عدیدة:

نماذج تطبیقیة للقاعدة الثانیة للحرج:

المورد الاول: ما فی بعض مقدمات دلیل الانسداد اذ مقدماته:

1/ عندنا علم اجمالی بالتکالیف الشرعیة.

2/ لا یمکن الاحتیاط بل لا مشروعیة له، وقد استفادوا ذلک لا من النمط الاول من رفع العسر والحرج وانما استفید من الادلة الثانیة التی تبین أن الشریعة سمحة سهلاء، فمن العلم بذلک نستکشف ان الاحتیاط غیر مشروع او لا أقل أنه غیر لازم، بل استفاد بعضهم حرمة الاحتیاط التام.

ص:113

ثم استفادوا من نفی الاحتیاط وأدلة الأحکام الاولیة مع النمط الثانی من أدلة العسر والحرج واستکشفوا حجیة الظن أو إجزاءه بحکومة العقل بمعونة أدلة العسر والحرج المزبورة، ولم یستشکل احد فی دلیل الانسداد من حیث هذه الاستفادة وانما استشکلوا فی انسداد الطریق، واما لو انسد الطریق فالکل یرتضی هذه الاستفادة وهذا الاستظهار.

فبضم هذه الادلة مع ادلة الاحکام الاولیة نستفید منها مدلول التزامی او اقتضائی.

المورد الثانی: إجزاء الوقوف بعرفة فی غیر یوم التاسع الواقعی اذ أحد الادلة بل العمدة عند بعضهم هذه الادلة بان الشریعة سمحة سهلاء حیث أن البناء علی مراعات الموقف الواقعی یسبب حرجا شدیدا فی هذه الفریضة العظیمة.

فمن ضم هذه الادلة او فلسفة التشریع مع الادلة الاولیة أستفید منه دلالة اقتضائیة اخری: أنه یجزی یوم الشک عن الیوم الواقعی سواء فی صورة الشک أو العلم.

نعم, فی هذه المسألة خصص بعض الإجزاء والصحة بحالة الشک ومعه یدخل فی نطاق إجزاء الحکم الظاهری عن الواقعی، وبعض عمم الاجزاء والصحة لحالة العلم بأن الیوم لیس التاسع من ذی الحجة، ومعه تصنف المسألة فی إجزاء الاضطرار النوعی عن الواقعی.

المورد الثالث: إجزاء الذبح فی غیر منی اذ المسالخ والمقاصب الآن فی

ص:114

غیرها، واذا کان دلیل العسر والحرج کما عند البعض ومنهم السید الخوئی(قدس سره) شخصیا فکل من حصل له حرج وعسر یذبح فی غیرها أما مع عدم العسر والحرج فیجب ان یتکلف ویتعنی الی منی.

ومع ذلک افتی السید وغیره من الاعلام بإجزاء الذبح مطلقا فجعلوا الحرج نوعیا، وهو لیس من أدلة النمط الاول بل من أدلة النمط الثانی التی تبین فلسفة التشریع بضمها مع الادلة الاولیة نستفید منه الصحة الاجزاء. وإلا لا مسوغ لاجزاء القادر.

والجدیر بالانتباه أن علماء الاصول تطرقوا فی بحث الاجزاء الی مسألتین:

الاولی: إجزاء الحکم الظاهری عن الواقعی.

الثانیة: إجزاء الحکم الاضطراری الشخصی عن الواقعی.

ولم یبحثوا إجزاء الحکم الاضطراری النوعی عن الواقعی، والذی یندرج المثال تحته.

المورد الرابع: ما فی بحث الاجزاء فی الحکم الظاهری عن الواقعی فی جملة من الموارد وقد اعتمد علیه عدة قدیما وحدیثا، وکیفیة الاستفادة أن الشارع اذا امر باتباع أمارة شرعیة لا سیما التقلید بان یقلد مجتهدا مثلا ستین سنة، ثم یقلد مجتهدا آخر عند موت الاول، ثم یخاطبه الشارع أن فی کل ما قد رخصت لک فیه باتباع

الامارة أعده وأعد کل صلواتک مثلا وعباداتک مع الاختلاف.

فهذا یوجب بلا شک عسرا وحرجا، فمن ضم الادلة الثانیة مع أدلة

ص:115

الامارات یستفاد دلالة التزامیة اخری، فالادلة الثانیة بنفسها لا تعطینا حکما شرعیا بل من ضمها الی الادلة الاولیة یستفاد دلالة التزامیة اخری، فیستفاد الاجزاء.

فإقحام المکلف فی الامارات مع عدم إجزائها یسبب عسرا وحرجا نوعیا شدیدا.

فالخلاصة: أننا یمکن أن نستفید من إخبار الشارع عن عدم وجود عسر وحرج نوعی فی تکالیفه، إمضاء تصرفات الدولة فی تعاملها المالی وإثبات ذلک علی غرار الاستفادة من هذه الادلة فی الموارد الاخری التی استعرضنا بعضها.

فاذا استلزم اطلاق حکم اختلال النظام والعسر والحرج النوعی فی الافراد او النوعی فی الجماعات، هذا الاختلال بلا ریب لا یسوغه الشارع وأی حکم یکون نتیجته الاخلال بالنظام یعلم عدم تناول اطلاق تشریعه لذلک المورد بالاستفادة من الادلة الثانیة.

فکبرویا الحال واضح وانما المهم اثبات الصغری فهل یسبب عدم الامضاء لتصرفات الدول الوضعیة حرجا وعسرا او لا؟ فالبحث میدانی.

إثبات الصغری:

ربما یقال هناک مجموعة من الفقهاء کانوا لا یفتون بملکیة الدول الوضعیة ومع ذلک نری ان من قلدهم لم یقع فی عسر وحرج ولم یستلزم ذلک اختلال فی النظام ولم یؤدی الی الهرج والمرج؟

ص:116

والجواب: لیس کل المجتمع المؤمن یرجع الی القائلین بالعدم، اذ قسم کبیر أیضا یرجع الی من یقول بالملکیة التنزیلیة، مضافا الی ان الملتزم من الشریحة المؤمنة بالتقلید الاول شاهدناهم کثیرا ما یغفلون عن هذه المطالب.

وبعبارة أخری: من یبنی عملیا علی فروعات القول بالعدم اذا کان بنسبة 10% فهذه لیست نسبة کثیرة، ومع ذلک اولئک الذین بنوا علیه وطبقوا المبنی فی تعاملهم وتعاطیهم کانوا یقعون فی حرج عظیم یؤدی الی الوسوسة بل التشکیک بالدین.

اذ لو بنی علی ذلک تکون کل مرافق الدولة او حتی القطاع الخاص الذی یتعامل مع الدولة کل هذه الحرکة المالیة والانتقالات للاموال او المالیات مجمدة، وکذا السیولة المالیة والبنکیة أیضا لا بد أن تجمد وهلم جرا، وهذا بلا شک شلل مالی وشلل اقتصادی لا یقره الشارع لانه یعطل الحیاة الاقتصادیة التی علیها عصب الحیاة.

خلاصة دفع التفصی.

أولا: لیس کل المجتمع المؤمن فی عرض واحد یرجع الی مرجع واحد، کی یکون عدم الاختلال فی النظم الاجتماعی دلیل علی أن عدم الامضاء لا یؤدی الی العسر والحرج.

ثانیا: لیس کل المجتمع المؤمن ملتزما، بل الکثیر منهم لا یعتنی بمثل هذه المسائل.

ص:117

ثالثا: الملتزم من المؤمنین کثیر منهم یفتقدون الدقة فی تطبیق هذه المسألة وکثیر منهم یغفلون عنها.

إذن نسبة الشریحة المؤمنة الملتزمة والمنتبهة للتدقیق والمقلدة للفقیه القائل بعدم الامضاء قلیلة جدا، فعدم ملاحظة الحرج العام والتذمر فی اوساط المجتمع المؤمن لا ینفی وجوده.

بل إننا نجد المؤمنین الملتزمین المقلدین لمن لا یقول بالامضاء یقعون فی حرج عظیم، فهو دلیل علی وجود الحرج، کما أننا نجد أن القائلین بعدم الامضاء یفکرون فی حلول عامة کالإذن العام فی القبض عنهم وما شاکل، وما ذاک الا لتلافی مشکلة الحرج الذی یتعرض إلیه مقلدیه، مع أن الشارع والولی الاصلی للأمر أولی بمراعاة هذه الحالة الناجمة من عدم الامضاء وهذا کاشف إجمالی عن ما قررناه.

وعلی أیة حال فی تقدیرنا للواقع الخارجی أن عدم الامضاء یعنی انفصال المجتمع المؤمن اقتصادیا عن الدولة وهذا یکلف عامة الناس الکثیر من الحرج والمشاکل ویؤدی الی شل حرکتهم الاقتصادیة وجمودها اذ الکثیر من المعاملات فی حیاتنا المعاصرة تمر عبر الدول بشکل أو بآخر.

ومع ثبوت الحرج، نستکشف منه امضاء الشارع سیما بعد ضم هذا الدلیل مع الادلة الاخری فی مسالة ملکیة الدولة المستفاد منها أن الشارع امضی موارد کثیرة لا خصوصیة لها فمن باب الاقتضاء نستفید الملکیة للتصرف التنزیلیة.

ص:118

فظهر بحمد الله ان القول بملکیة الدولة تسهیلاً علی المؤمنین من باب ( لک المهنا وعلیه الوزر) دلیله صاف وواضح.

تفصی بعض الاعلام:

و المحکی عن القائلین بعدم الملکیة أنهم یوجدون لمن یرجع إلیهم فی الفتوی مخرجا معینا للتسهیل علیهم، والکلام فیه هل هو تام أم لا؟

وهل یتفادی العسر والحرج أم لا؟

وهو: أن الفقیه بعد کون زمام التصرف بمجهول المالک بیده فیأخذ وکالة من عشرات ومئات الفقراء- الذین هم مصرف مجهول المالک- لیوکل مقلدیه الذین یتعاملون مع الدول الوضعیة فی قبض الاموال المجهولة المالک نیابة عن الفقراء فیتملکوه نیابة عنهم، فیکون ما بحوزتهم ملکا للفقراء ثم لهم أن یتملکوه بأذن من الفقراء مقابل حصة معینة، فیتصدق بها کثلث الاموال المجهولة المالک مثلا.

وهذا نوع تسهیل فقهی بناء علی عدم شرعیة وملکیة الدول الوضعیة.

ولکن هذا التفصی یواجه عدة اشکالات کبرویة وصغرویة.

اما الکبری فلازمه نقض الغرض من التصدق فی باب مجهول المالک، فهل یتصور من مذاق الشارع حینما یجعل ضریبة مالیة مثل الزکاة والخمس أن تملک هذه بالاموال التی تجبی لاصحاب الخمس والزکاة للاغنیاء بحیلة وطریقة شرعیة عن طریق أخذ الوکالة المزبورة من الفقراء مقابل ثلث المال.

ص:119

ولا ریب انه یستفاد من أدلة باب الخمس والزکاة والصدقات الواجبة الاخری ان الغرض إیصال الضریبة المالیة الی جیوب الفقراء لا ان تملکها جیوب اخری وشرائح اخری ویبقی الفقراء علی حالتهم المدقعة غایة الامر یعطی لهم شیء یسیر.

أو أن بعض الفقراء یوکلون الفقیه فیبقی بقیة الفقراء علی حالتهم المدقعة.

فلا شک أنه خلاف الغرض من تشریع الزکاة والخمس، وأن الادلة لا تشملها ولا تسوغها، لانه یخالف نفس مصلحة الجعل والتشریع.

وکذا فی باب التصدق فی مجهول المالک الغایة منه وصوله الی الفقراء وهذا نوع من الضرائب التی جعلها الشارع للفقراء فکیف نسوغ نحن بحیلة شرعیة إیصالها الی جیوب الاغنیاء، فهذا خلاف مصلحة الجعل للتصدق، لذا التزم البعض بالتصدق بالنصف، ولکن هذا أیضا لا ینفع فی دفع المحذور.

وهذا نظیر ما أشکل علی الحیل الشرعیة فی باب الربا من أن مفسدته هو استنزاف الدائنین من الطبقة الفقیرة بلا جهد عملی نظیر ممارسة الیهود فی الجاهلیة سابقا والی یومنا هذا، فکیف یسوغ حصول هذه المفسدة بتمامها عن طریق الحیل الشرعیة وباسم معاملی آخر فمن التشدید والتغلیظ فی أدلة حرمة الربا یستفاد نفی نتیجة الربا وإن کانت بطرق أخری، هذا وذلک الباب وان کان یحتمل فیه التفصیل إلا أنا المراد من الاستشهادیة هو أصل التنظیر فی المحذور.

وأما صغرویا فإن التصدق بربع او ثلث او نصف الثمن لا یقوم به

ص:120

إلا النزر القلیل من المکلفین، اذ التاجر وغیره یری بأن المال ماله فکیف تطاوعه نفسه بان یتصدق بثلثه او أکثر من ذلک، فإما أن یحجم عن التعامل مع الدول الوضعیة او لا یلتزم بالتصدق.

هذا مع أن مجهول المالک لا صغری له کما تقدم.

والحمد لله اولا واخرا.

ص:121

ص:122

قاعدة :لا ضرر

اشارة

ص:123

ص:124

لا ضرر

تطبیقها فی مورد عدم جواز الترقیع والتصرف ببدن الانسان انموذجا

استدل علی عدم جواز التصرف ببدن الانسان بعدة ادلة, وقد ذکرناها فی کتابنا فقه الطب .

ومما استدل به علی المنع قاعدة لاضرر:

فقد تمسّک المشهور بالقاعدة, قال بعض الأعلام: الضرر بالنفس حرام للروایات الموجودة فی أبواب الأطعمة المحرمة المشتملة علی تعلیل حرمتها بالضرر.

ودعوی- أنه حکمة للحرمة لا علّة تدور مدارها لحرمة القلیل من تلک الأصناف المحرمة وإن لم تکن مضرّة، مع أنّه ورد فی تلک الأبواب خواص الأطعمة المضر منها والنافع ولا یلتزم بحرمتها- ضعیفة اذ لا ملازمة بین کون الضرر موضوعا للتحریم ودوران الحرمة فی الأشیاء المزبورة مدار الضرر المعلوم للمکلفین، اذ فردیة تلک الأصناف ومصداقیتها لما یضرّ بالبدن مما کشف الشارع عنها وتعبّدنا بذلک بلا فرق بین القلیل والکثیر.

وأما النقض بما ورد فی خواص الأغذیة الضارّة والنافعة فمدفوع بأنّ مطلق النقص لیس ضررا ولذا ورد فیها ما یصلحها. واشکل بعض متأخّری الأعصار علی الاستدلال المشهور بأنّ لا ضرر دلیل رافع لا

ص:125

مثبت. هذا والصحیح أن کونها رافعة لا یخدش فی استفادة حرمة الاضرار منها، لا کما قرّبه شیخ الشریعة من أنّ (لا) ناهیة، بل استفادة الحرمة تامّة مع کون (لا) نافیة بتقریب نذکر له مقدمة وهی ما قرّر فی علم الأصول من انّ أی اطلاق أو عموم له مدلول التزامی فی فرد بخصوصه فلیس ذلک المدلول الالتزامی بحجّة. وأمّا إذا کان مدلوله الالتزامی فی کل أفراده فهو حجّة، لأنه مع کونه فی کل الأفراد یستلزم کونه مدلولا التزامیا لأصل الدلیل بخلاف ما إذا کان فی فرد واحد فلا یکون مدلولا التزامیا لنفس الدلیل وبالتالی لا یکون قد ساقه المتکلّم ولا نصب قرینة علی إرادته. اذ المتکلّم لیس فی سیاق وتوضیح أحکام شئون الفرد، بل فی سیاق بیان أحکام وشئون الطبیعة.

هذا وأمّا فی المقام، فالمشهور عندما یستدلّون بلا ضرر ولا ضرار لإثبات الحرمة مع کون عموم مفاده الرفع والنفی فقد یتوهّم انّ استفادة الحرمة من المدلول الالتزامی للفرد لا لعموم الطبیعة وقد ذکر متأخّروا هذه الأعصار نظیر هذا الاشکال فی خیار الغبن والعیب. وحیث انّ المشهور تمسّکوا لاثباتهما بلا ضرر فأشکل علیهم بأنّه مدلول التزامی للفرد فلا یکون ذلک المفاد منه حجّة.

وتنقیح الحال انّ ثبوت مدلول فی فرد خاص من عموم الطبیعة تارة من باب المدلول الالتزامی وأخری من باب الترتّب الشرعی أو العقلی القهری لنفس مفاد الطبیعة فی ذلک الفرد. أی یلزم مفادها عقلا فی ذلک الفرد ثبوت مدلول آخر.

ص:126

فلیس حجیّة المدلول الثانی من باب حجیّة الدلالة الالتزامیة کی یقال انّه لیس بحجّة فیجب أن نفرّق بین الأحکام العقلیة أو الشرعیة القهریة المترتبة علی شیء وفرد من الطبیعة ولها دلیلها الخاص بنفسها وبین کون هذا المدلول الآخر ثبوته رهین بالمدلول الالتزامی للدلیل، مثلا إذا أثبت الاستصحاب انّ هذا الماء طاهر وقد غسل به ثوب النجس فهذا الثوب یطهر وطهارته لیست من لوازم طبیعة کل استصحاب وانّما من لوازم هذا الفرد.

وهو مع کونه مدلولا التزامیا لدلیل الاستصحاب فی الفرد إلا انّ له دلیله الخاص وهو مطهریة الماء الطاهر للمتنجسات فاللازم عدم الخلط بین الموردین.

اذ اتّضح ذلک فنقول: استفادة حرمة الإضرار بالنفس من (لا ضرر ولا ضرار) إن کانت کمدلول التزامی فی الفرد فإشکال المتأخرین بذلک وأنه لیس بحجّة فی محلّه وأمّا إذا کانت استفادته لا من جهة ذلک، بل لأن له دلیلا آخر عقلیا أو شرعیا فلا بأس.

وتقریب ذلک انّ المشهور یطبّقون (لا ضرر) علی نفس الجواز التکلیفی، حیث انّ الأصل الأولی فی الأفعال الإباحة والجواز. فاذا طرأ علیه الضرر واضراره بالبدن فلا ضرر ترفع الجواز التکلیفی ومع رفعه ینتج عقلا الحرمة لا من باب المدلول الالتزامی للفرد کی یتوقّف علی دلالة دلیل العام، بل لأن معنی رفع الاذن فی الترخیص عقلا هو الحرمة، فبمقتضی نفس تطبیق (لا ضرر) یقتضی الرفع الحرمة.

ص:127

إن قلت: قاعدة (لا ضرر) تجری فی الأحکام الإلزامیة ولا تشمل الأحکام غیر الإلزامیة لأن الضرر فی موارد الجواز یوجد بسبب إرادة المکلّف واختیاره لا بسبب إلزام من الشارع.

قلت: بالترخیص وفتح الباب من الشارع یصحّ إسناد الضرر إلیه، اذ لو لم یرخص لما حصل الإقدام علی الضرر والتفرقة بین الإلزام وأن فیه قهرا لإرادة المکلّف بخلاف الترخیص فلیس فیه تحمیل وقسر، ضعیفة. اذ فی الإلزام لا تسلب الإرادة الاختیاریة تکوینا ولو بلحاظ العقوبة والخوف منه وإلا لسقط التکلیف سیّما عند من لا یرتدع وفی الترخیص سیّما الاقتضائی الندبی یصدق الإسناد إلی الشارع کما یشهد به الوجدان. ومن ثم یقال للمولی: لم رخّصت له فی الفعل الکذائی؟

فتلخّص: انّ الأقوی عدم جواز قطع عضو من أعضاء انسان حیّ من دون تفصیل بین العضو الرئیسی وغیر الرئیسی وتفصیل بعض الفقهاء ومنهم بعض أجلة المعاصرین مستند إلی انّ الضرر الخطیر حرام من باب الإجماع القطعی المسلّم أو السیرة دون غیره.

ولکن قد تقدم انّ الأدلّة دالّة علی حرمة مطلق الضرر. نعم الضرر لیس هو مطلق النقص والخسارة بل خصوص غیر المتدارک. ففی الموارد التی ترتکب لأجل أغراض عقلائیة هامّة معتادة عند العقلاء خارجة تخصصا.

اذ اتّضح ذلک نقول: انّ السید الخوئی(قدس سره) فی مسالة الترقیع بالعضو قال ما نصه (مسالة 40: هل یجوز قطع عضو من اعضاء انسان حی للترقیع اذا رضی به؟ فیه تفصیل: فان کان من الاعضاء الرئیسیة للبدن

ص:128

کالعین والید والرجل وما شاکلها لم یجز ...). ولم یذکر فی ما اذا توقفت حیاة حیّ آخر علی ترقیع العضو ولعلّه لو کانت تتوقّف حیاة الآخر علیه لکان أیضا تتوقّف حیاة المتبرّع علیه ولکن فی مثل الکلیة قد لا تتوقف حیاة المتبرّع علیه بخلاف الآخر وقد صرّح(قدس سره) فی بعض الفتاوی بالجواز فی غیر الأعضاء الظاهرة کالکلیة ونحوها من الأعضاء الباطنیة غیر الرئیسیة قال فی کتابه الفتوائی صراط النجاة ج2 سوال 962 ما نصه (اما التبرع باحد الکلیتین او بعض اعضاء الجسم مما لا یکون من الاعضاء الرئیسیة کالید او الرجل فلا باس به, واما التبرع باحد العینین فهو غیر جائز).

وقد أشکل بعض الأعلام من تلامذته قائلا: (لا فرق قی عدم الجواز بین الکلیتین او احد العینین ...).

ولعلّه لبنائه علی عدم جواز التصرّف فی البدن وأنه أمانة وغیر ذلک ممّا تقدّم ولابدَّ لتنقیح الکلام فی التبرّع للآخرین من ذکر صور متعددة لکی لا یحصل الخلط بینها.

الأولی- إذا کان المتبرّع لا یتعرّض إلی الخطر وتوقّفت حیاة المهدی إلیه علیه فحینئذ یجوز التصرّف فی البدن من باب التزاحم وأقوائیة ملاک وجوب حفظ الآخر، لکن تقرر فی محله أنه لا اطلاق فی وجوبه فالحکم بالجواز مشکل، فلاحظ.

الثانیة- إذا کان المتبرّع فی معرض الخطر سواء کان حیاة المهدی إلیه متوقّفة علیه أم لا. فلا یجوز التصرّف فی البدن لاجتماع الحرمتین حرمة التصرّف فی البدن وحرمة التعریض للخطر، کما هو مفاد الآیة الشریفة لا

ص:129

تُلْقُوا بِأَیْدِیکُمْ إِلَی التَّهْلُکَةِ (1) وهما أرجح لو سلّم إطلاق فی دلیل وجوب حفظ الغیر لا سیّما إذا کان إنقاذ حیاة المهدی إلیه غیر مضمون ولا یطمئن إلی بقاء حیاته. نعم لازم ما بنی علیه السید الخوئی(قدس سره) فی موارد أخر، کما إذا دار الأمر بین حیاة نفسین انّ الإنسان مخیّر نظیر الأم إذا کان فی بطنها جنین ودار الأمر بین موت الأم ونجاة الطفل أو إماتة الطفل ونجاة الأم ان الحکم هو التخییر لتساوی الملاکین ونظیر ما لو هدّد شخص آخر بالقتل لقتل ثالث التزامه بالجواز فی المقام - وإن کان ظاهر عبارة فتواه هاهنا الحرمة مطلقا - خلافا للمشهور، حیث بنوا علی مفاد روایة «مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِی جَعْفَرٍ ع قَالَ إِنَّمَا جُعِلَتِ التَّقِیَّةُ لِیُحْقَنَ بِهَا الدَّمُ فَإِذَا بَلَغَ الدَّمَ فَلَیْسَ تَقِیَّةٌ»(2) وانّه لا یجوز ارتکاب القتل لحفظ النفس وکذلک العکس لا یجوز قتل النفس لحفظ الغیر ولکنه بنی(قدس سره) علی کون ملاک حرمة نفس الشخص عین ملاک حرمة نفس الشخص الآخر فلیس من الواجب علی المکلّف تعیینا حفظ نفسه ولا العکس وسیأتی جهات النظر فی هذا المبنی فی الفرض الثالث.

الثالثة- لو کان یطمئن عند التبرّع بحیاة الآخر أو یحتمل احتمالا معتدا به ولکنه یوجب نقصا فی بدنه وأعضائه دون الهلاک وقد التزم بعض الأعلام فی هذه الصورة بالحرمة أیضا لأن وجوب حفظ نفس الغیر مقیّد بالقدرة عقلا وهاهنا غیر مقدور إلا بالتصرّف فی البدن وهو حرام ممنوع عن فعله وبعبارة أخری: خطاب حفظ نفس الغیر هو عبر الأسباب

ص:130


1- (1) البقرة: 195.
2- (2) الکافی ج2 ص220.

العادیة المتعارفة لا بکلّ سبب وإن کان محرما کالاجحاف بالنفس إلا أن یکون الغیر معصوما أو شخصا فیه جهات أخری ملزمة لبقائه، تعلم منها انّ وجوب حفظه مطلق، یتناول تلک الموارد التی فیها الاجحاف بالنفس فلیس فی البین إطلاق, کمبیت علی(علیه السلام) لنجاة رسول الله صلی الله علیه و آله .

نعم فی موارد استلزام ذلک اصابة الجرح أو الکسر أو ما شابه ذلک لا یکون ذلک الضرر مزاحما راجحا لوجوب حفظ النفس وإن أمکن القول بالرخصة فی ترکه لعموم (لا ضرر) وهذا بخلاف ما استلزم نقص العضو فلا یجوز لانطباق تهلکة النفس علیه فی الفرض مع قصور دلیل وجوب حفظ النفس المحترمة لمثل ذلک، وإن کان حفظ النفس المحترمة فی نفسه- بغض النظر عمّا یستلزمه- راجحا لکنه لا یزاحم ولا یعادل ما هو واجب من حفظ النفس وعلی أی حال لیس لدلیل وجوب حفظ النفس المحترمة اطلاق وشمول لموارد بذل الحافظ لحیاته أو لنقص فی بدنه فکلام السید الخوئی(قدس سره) المتقدم من فرض الدوران محل تأمّل.

ثم لو تنزلنا وقلنا انّ هناک إطلاقا لدلیل وجوب الحفظ فمع ذلک لا نسلّم التخییر، بل یرفع وجوب حفظ الغیر بلا ضرر. وقد یقال ان (لا ضرر) امتنانیة فلا ترفع وجوب حفظ الغیر، اذ رفعها للوجوب المزبور خلاف المنّة بالإضافة إلی الغیر فلا منّة نوعیّة فی هذا المورد.

وفیه: لو تمّ النظر فی (لا ضرر) من هذه الجهة فأدلّة الاضطرار محکّمة، اذ المکلّف مضطر لحفظ حیاته أو أعضائه لا ترک حفظ الغیر.

إن قلت: حکومة (لا ضرر) أو رفع الاضطرار من الأدلّة الأولیة من

ص:131

باب التزاحم الملاکی ولیست مخصصة للأحکام المرفوعة وإذا لم تکن رافعة للملاک بل رافعة للتنجیز أو الفعلیة فالتزاحم علی حاله والدوران تام.

قلت: هذا الحکم ذو الملاک الذی رفعت فعلیته العناوین الثانویة مبتلی بمانع وهو ملاک الاضطرار والضرر بینما الحکم الآخر وهو حرمة ایقاع النفس فی التهلکة علی حاله فعلی فلا مسوغ لرفع الید عنه بتوسط ملاک حکم آخر. فالصحیح انّ جواز التبرّع بالعضو فضلاً عن الوجوب محلّ تأمّل ومنع وإلی ذلک یشیر نفی التقیة فی الدماء

ویشیر استثناؤها من عموم التقیة، اذ مقتضی الاستثناء من عموم مشروعیة التقیة هو حرمتها فی الدماء، کما فی صحیحة محمد بن مسلم وموثقة أبی حمزة الثمالی وغیرهما من الروایات فهی دلیل آخر علی الحرمة.

وأما جواز أخذ المال فی قبال اعطاء العضو فیصح لأن بیع المیتة والانتفاع بها جائز إذا کان بلحاظ المنافع المحلّلة کما ذکرناه فی محلّه(1). ولکن قد یشکل الجواز لا من جهة المیتة بل من جهة وجوب دفن العضو المبان، کما تقرر فی بحث التشریح وبالتالی لا یکون انتفاع الغیر به مشروعا فتنتفی مالیة ذلک الانتفاع، بل قد یصوّر وجوب آخر وهو وجوب اعادة العضو علی الشخص المبان منه فی ما إذا کان ذلک ممکنا.

هذا وقد یقال انّ أخذ المال لیس عوضا عن تلک المنفعة المنهیة عنها کی یکون أکلا للمال بالباطل بعد اعدام مالیتها من قبل الشارع، بل أخذ

ص:132


1- (1) سند العروة، ج2 ص533.

المال هو مقابل حق الاختصاص أو مقابل رفع الید عن ذلک الشیء الذی یکون الآخذ للمال أولی به.

وفیه: انّ حقّ الاختصاص لیس إلا شعبة من الملکیة علی ما هو الصحیح من کون الحق ملکیة ضعیفة، بل فی مثل هذه الموارد هو تمام الملکیة لأن المالیة التی یقابل بها هی عین مالیة الملک فلیس فی البین إلا تغییر الألفاظ وکذلک الحال بالنسبة إلی رفع الید، فإنّه کنایة عن

السلطنة والملکیة لا سیّما وأنه یقابل بقدر المالیة التی للملکیة وإلا فلو کان وضع الید عبارة عن ممانعة تکوینیة صرفة من دون أی حق لصاحب الید فی الشیء لکان بذل المال فی مقابل الباطل بعد عدم استحقاق ذی الید وعدم جواز ممانعته من انتفاع الغیر به.

ص:133

ص:134

قاعدة :إن المتنجس ینجس

اشارة

ص:135

ص:136

إن المتنجس ینجس

القاعدة فی کلمات الفقهاء:

نسب الاجماع الی المحقق فی المعتبر، لکن عبارته التی فی مقام الجواب عن ابن ادریس «واجتمعت الاصحاب علی نجاسة الید الملاقیة للمیت واجمعوا علی نجاسة المائع اذا وقعت فیه نجاسة(1) لا تعطی الاطلاق فی منجسیة المتنجس.

وکذا نسب الی القاضی فی الجواهر وعبارته «وقالوا: لا خلاف بیننا ان الماء اذا نقص عن ذلک ولاقته نجاسة انا نحکم بنجاسته(2)، وهی الاخری لیست فی مقام الاطلاق اذ یتم استدلالهما مع تقیید الکبری للمتنجس عن النجس أو بالوسائط الاولی دون غیرها.

نعم صرح بالاطلاق جمع من متأخری المتأخرین، کما انه نسب الخلاف الی ابن ادریس، ولکن الاصح ان خلافه فی عدم کون نجاسة بدن المیت عینیة بل حکمیة، نعم خالف الکاشانی فی اصل ذلک.

وقد ذکرنا فی مبحث المیاه(3) من کتاب الطهارة حکایة الخلاف عن المحقق صاحب الکفایة وتلمیذه المحقق الاصفهانی بدعوی عدم وروده فی

ص:137


1- (1) المعتبر فی شرح المختصر، ج1 ص350.
2- (2) جواهر الفقه ص6.
3- (3) سند العروة، کتاب الطهارة، ج2 ص140.

الروایات، وهی غریبة کما سیتضح، وهناک تفصیلات اخری فی عدد الوسائط أو بین الجامد والمائع.

هذا: وأما الروایات الدالة علی ذلک فقد ذکرنا فی انفعال الماء القلیل ان منجسیة المتنجس بعین النجس مفاد العدید من الطوائف الدالة فلاحظ، وغیرها مما لم نذکره مما یبلغ التواتر، کالذی ورد فی تطهیر الفرش ومطهریة الارض للقدم المتنجس بها، أو مطهریة الشمس الدالة اقتضاء علی ذلک، وأما حدود دائرتها فی المتنجس بالواسطة فیمکن الاستدلال بما یلی:

الاولی: موثق عمار الساباطی عنه(علیه السلام) عن الکوز والاناء یکون قذرا کیف یغسل وکم مرة یغسل؟ قال: یغسل ...)(1) الحدیث، فانها دالة علی منجسیة الجامد المتنجس للمایع، فبقدر ما تدل الأدلة الاخری علی تنجس الجامد بالوسائط تکون هذه الموثقة دالة علی منجسیته علاوة علی ذلک.

الثانیة: ما ورد فی ادخال الید فی الاناء وهی قذرة(2)، کصحیح ابن أبی نصر وأبی بصیر وغیرهما، من انه یهریق الماء، أو اشتراط طهارة الید کصحیح زرارة(3).

وتقریب الدلالة انه کلما کانت الید متنجسة فانها منجسة للمایع، والامر بإراقته أو اکفائه لانه ینجس ما یصیبه لا لکون مستعملا غیر رافع للحدث والا لما اتلف.

ص:138


1- (1) وسائل الشیعة، أبواب النجاسات، باب 53 ح1.
2- (2) الوسائل، أبواب الماء المطلق، باب 8.
3- (3) الوسائل، أبواب الوضوء، باب 15، ح2.

لکن الصحیح ان غایة دلالتها هی علی تنجس المایع والماء بالجامد المتنجس لا علی منجسیة ذلک المایع، اذ هی مفاد زائد لا یلزم من الاراقة والنهی عن التوضوء به وشربه، وعلی ذلک تکون دلالتها کالموثقة السابقة.

الثالثة: ما ورد فی البواری المبلولة بماء قذر(1)، کموثقة عمار قال سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن الباریة یبل قصبها بماء قذر هل تجوز الصلاة علیها فقال: «اذا جفت فلا بأس بالصلاة علیها».

وتقریب الدلالة أن الماء القذر المتنجس ولو بالواسطة کما تقدم ینجّس الباریة، واشتراط الجفاف فی الباریة لئلا تنجّس الملاقی لها، فیکون حاصل مفادها مع مفاد ما تقدم هو منجسیة الواسطة الثالثة وان فرض کون الواسطة الثانیة مایعا.

واشکل: علی الجزء الثانی فی الدلالة- أی منجسیة الباریة- أن المسؤول عنه هل هو السجود علیها أو الوقوف للصلاة علیها أو الأعم، فعلی التقدیر الاول لا دلالة لها علی المنجسیة بل علی لزوم طهارة محل السجود بتجفیف الشمس، وعلی الثالث فیلزم التدافع والتشویش فیما هو الشرط حیث انه فی السجود جفاف الشمس للتطهیر وفی الوقوف مطلق الجفاف.

نعم علی الثانی تکون دالة علی المدعی بأخذ مطلق الجفاف، وتعیین احد التقادیر غیر میسر، لان اطلاق المجفف یقتضی التقدیر الثانی واخراج فرض السجود- کما عرفت- واطلاق الصلاة علیها یقتضی دخوله

ص:139


1- (1) الوسائل، أبواب النجاسات، باب 3، 29.

فیتمانعان، بل قد یرجح اطلاق الصلاة علیها لکونه فی السؤال والجواب تابع فی الظهور له فتأمل.

وفیه: ان الاقرب اتحاد ظهورها مع ظهور مثل صحیح زرارة عنه(علیه السلام) سألته عن الشاذ کونه یکون علیها الجنابة ایصلی علیها فی المحمل؟ قال: لا بأس)(1)، فان الصلاة علیها بمعنی الوقوف علیها والکون فیها حال الصلاة اذ هی نمط من ثیاب غلاظ مضربة تعمل بالیمن.

ونظیر السؤال فی صحیح علی بن جعفر عنه(علیه السلام) عن البیت والدار لا تصبهما الشمس ویصیبهما البول ویغتسل فیهما من الجنابة أیصلی فیهما اذا جفا؟ قال: نعم(2).

نعم موثقة عمار الاخری هی اصرح فی منجسیة المکان، الا ان فی شمولها لما اذا تنجس المکان بالمتنجس خفاء (عن الشمس هل تطهر الارض؟ قال: اذا کان الموضع قذرا من البول أو غیر ذلک فاصابته الشمس، ثم یبس الموضع فالصلاة علی الموضع جائزة، وان اصابته الشمس ولم ییبس الموضع القذر وکان رطبا فلا تجوز الصلاة علیه حتی ییبس، وان کانت رجلک رطبة أو جبهتک رطبة أو غیر ذلک منک ما یصیب ذلک الموضع القذر فلا تصل علی ذلک الموضع حتی ییبس، وان کان غیر الشمس اصابه حتی ییبس فانه لا یجوز ذلک) (3).

ص:140


1- (1) الفقیه، ج1، ص245.
2- (2) المصدر والصفحة.
3- (3) التهذیب، ج1، ص273.

فانه قد دلت علی منجسیة الجامد المتنجس وان کان برطوبة من الملاقی الطاهر، الا ان دلالتها علی کونه متنجسا بالمتنجس تتم بالاطلاق فی «قذرا من البول أو غیر ذلک) ویمکن معاضدة الاطلاق، وان کان فی فقرات الروایة نحو تدافع یأتی حلّه فی المطهرات بما فی الصحاح المتقدمة من منع الصلاة علی الباریة ونحوها مما تنجس بالماء القذر الا اذا یبست.

الرابعة: صحیح العیص بن القاسم قال: سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن رجل بال فی موضع لیس فیه ماء فمسح ذکره بحجر وقد عرق ذکره وفخذه؟ قال: «یغسل ذکره وفخذیه»(1)، فان الظاهر ارادة غسل مجموع الفخذین وهی المنطقة المقابلة للعضو المتنجس بعین النجس لان الغسل لیس لخصوص النقطتین الملاقیتین للعضو المزبور مما یدل علی ان التنجس حصل بتوسط جریان العرق، فتکون المواضع الاخری للفخذ متنجسة بالمتنجس بالواسطة وهو العرق علی أی تقدیر یصوّر فرض السائل.

ثم انه: قد یستدل علی منجسیة المتنجس مطلقا بلغ ما بلغ بوجوه:

الاول: بما تقدم من ان توصیف الماء بالقذر أو الآنیة به او الید به وغیره مما ورد بنحو العنوان العام للواسطة المتنجسة من دون تحدید یعمّ النجاسة الحکمیة ولا یخصّ العینیة، وعلی ذلک فانه اذا ثبت منجسیة الوسائط الاولی فان مثل الماء والاناء والید المتنجسة بتلک الوسائط یصدق علیها حینئذ القذارة ومن ثم یتحقق موضوع الروایات المتقدمة فیعود حصول سلسلة الموضوعات المترتبة المذکورة فیها وهکذا هلم جرا.

ص:141


1- (1) الوسائل، أبواب النجاسات، باب 29، ح1.

واشکل علیه: بان القذر لا یصدق الا علی المتنجس بعین النجس عرفا؟ بعد کون القذر بالذات هو الاعیان النجسة.

وقد: اجبنا عنه فی انفعال القلیل ان مبدأ ومنشأ القذارة هو الحکم بالنجاسة والتنجس ولزوم الغسل والتطهیر، فکلما حکم علی شیء انه نجس تنجس صدق علیه انه قذر، لکن مع ذلک لا نلتزم بالاطلاق کما سیتضح.

الثانی: ارتکاز السرایة فی النجاسات والقذارات بالملاقاة مع الرطوبة لاسیما فی المایعات، وهو یعاضد الاطلاق فی الوجه الاول.

الثالث: الاجماع المحکی من المحقق والقاضی وجماعة من متأخری المتأخرین.

الا انها محل نظر وتأمل، أما الاول والثانی فان الارتکاز هو علی تخفف القذارة بالترامی الی حد یحکم العرف بانعدام السرایة، ومن ثم یظهر النظر فی الاطلاق المزعوم وان الانصراف متجه بلحاظ الوسائط الاولی.

وأما الوجه الثالث فقد عرفت ان عبارتی المحقق والقاضی لا اطلاق فیهما ایضا، مضافا الی عدم عنونة المتقدمین للمسألة، فکیف تکون عبارتهما ناظرة الیها أو کاشفة عن تسالم السیرة علیه.

روایات معارضة:

هذا: وفی قباله تلک الروایات وردت طائفة أخری ظاهرة فی العدم:

منها: ما وقع التعرض لها فی بحث انفعال القلیل(1) وظهر ضعفها

ص:142


1- (1) سند العروة، ج2 ص158.

ثمة دلالة فی الغالب أو سندا وجهة.

ومنها: صحیح حکم بن حکیم انه سأل أبا عبدالله(علیه السلام) فقال له: ابول فلا أصیب الماء وقد أصاب یدی شیء من البول، فأمسحه بالحائط وبالتراب، ثم تعرق یدی فأمسح وجهی أو بعض جسدی أو یصیب ثوبی، فقال: لا بأس) (1).

وذیل صحیح العیص المتقدم سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عمن مسح ذکره بیده ثم عرقت یده فأصاب ثوبه یغسل ثوبه؟ قال: لا).

ونظیرهما: صحیح علی بن مهزیار قال: کتب الیه سلیمان بن رشید یخبره: انه بال فی ظلمة اللیل وانه اصاب کفّه برد نقطة من البول لم یشک انه اصابه ولم یره، وانه مسحه بخرقة ثم نسی ان یغسله وتمسح بدهن فمسح به کفیه ووجهه ورأسه، ثم توضأ وضوء الصلاة فصلی؟ فأجابه بجواب قرأته بخطه: أما ما توهمت مما أصاب یدک فلیس بشیء الا ما تحقق، فان حققت ذلک کنت حقیقا ان تعید الصلوات اللواتی کنت صلیتهن بذلک الوضوء بعینه ما کان منهن فی وقتها وما فات وقتها فلا اعادة علیک لها ...الحدیث)(2) وتتمته فی الفرق بین نسیان النجاسة الخبثیة والحدثیة.

وکذا روایة سماعة قال: قلت لابی الحسن موسی(علیه السلام): انی ابول ثم اتمسح بالاحجار، فیجیء منی البلل (بعد استبرائی) ما یفسد سراویلی؟

ص:143


1- (1) وسائل الشیعة، أبواب النجاسات، باب 6، ح3.
2- (2) المصدر، باب 42، ح1.

قال: لیس به بأس(1).

وموثق حنان بن سدیر قال: سمعت رجلا سأل أبا عبدالله(علیه السلام) فقال: انی ربما بلت فلا اقدر علی الماء، ویشتد ذلک علیّ؟ فقال: «اذا بلت، وتمسحت فامسح ذکرک بریقک، فان وجدت شیئا فقل: هذا من ذاک) (2).

ومنها: ما رواه حفص الاعور قال: قلت لابی عبدالله(علیه السلام): الدن یکون فیه الخمر ثم یجفف یجعل فیه الخل قال: نعم(3).

ومنها: مصحح علی بن جعفر عن أخیه قال: سألته عن الکنیف یصب فیه الماء فینتضح علی الثیاب ما حاله؟ قال: اذا کان جافا فلا بأس)(4).

وغیرها مما هو أضعف دلالة بنحو الایهام.

الا انها لا تنهض علی المعارضة لو تمت، وذلک لکونها فی المتنجس بعین النجس، وقد تقدم ان ما دل علی منجسیته یصل الی التواتر أو الاستفاضة الکثیر جدا.

مع ان غالبها لیس بتام الدلالة اذ هو متعرض لجهة أخری، فالطائفة الثانیة کالصحیح الاول محتمل للحمل علی ما فی الصحیح الثالث مع ان سیاق السؤال یلوح منه انه عن مطهریة ازالة عین النجاسة عن البدن الذی هو قول الحنفیة من العامة وان ذکر العرق والمسح استعلاما عن حال الید

ص:144


1- (1) المصدر، أبواب نواقض الوضوء، باب 13، ح4.
2- (2) المصدر، باب 13، ح7.
3- (3) المصدر، أبواب النجاسات، باب 51، ح2.
4- (4) الوسائل، أبواب النجاسات، باب 60.

بالاثر واللازم.

وأما الصحیح الثانی فمضافا الی ما تقدم هو مشتمل علی معارضة داخلیة حیث ان صدره المتقدم نقله دال علی المنجسیة لذی الواسطة فضلا عن المباشر، فلعل السؤال هو عن مجرد مس الید للذکر اثناء الاستبراء من دون ملاقاتها للبول، والتردید الحاصل له من جهة العادة الجاریة علی غسل الید بعد الاستنجاء.

وأما الصحیح الثالث فجعله من أدلة منجسیة ذی الواسطة احری، اذ مفاده صحة الوضوء الذی اتی به وابتلاءه بالنجاسة الخبثیة ولعل المراد به نجاسة مثل الرأس ونحوه بسبب الملاقاة مع الید المرطوبة بالدهن، وان الید وبقیة الاعضاء قد طهرت بالوضوء الاول لاشتماله علی غسل الکفین والغسلتین لکل عضو الموجب لطهارتها قبل الوضوء.

وأما: توجیه مفادها بأنها دالة علی صحة الوضوء، یلزمه عدم منجسیة المتنجس وهی الید لا للماء ولا لبقیة الاعضاء عند الدهن کالرأس اللازم مسحه فی الوضوء، فمن ثم کان خلل صلاته فی النجاسة الخبثیة دون الحدیثة ولزمت علیه الاعادة عند النسیان فی الوقت دون خارجة، وکان الخلل فی الصلوات التی صلاها بذلک الوضوء دون غیره من الوضوء اللاحق لان الید بالوضوء الثانی تطهر بتحقق الغسلتین من النجاسة البولیة(1).

فغیر تام: لان علی ذلک یلزم طهارة الکف فی الوضوء الاول سواء

ص:145


1- (1) التنقیح ج3، ص246.

افترضت الیمنی او الیسری لانها سوف تغسل بالماء مرتین فی الوضوء الاول ولو افترض انه غسل کل عضو غسلة واحدة فی ذلک الوضوء، حیث ان الکف مما یستعان بها فتلاقی الماء مرتین او اکثر فلا یجب علیه اعادة الصلاة بتاتا، وعلی کل حال فدلالتها لا تتم علی عدم المنجسیة ولا بد من التقدیر فی فرض السؤال او حمل الوضوء فی الجواب علی التمسح بالدهن کما صنعه صاحب الوسائل.

وأما روایة سماعة فتحتمل ان المسح بالاحجار هو لموضع النجو لا لموضع البول، وذکره توطئة لما بعده لبیان نحو من السببیة أو لسرد ما یفعله، ونفی البأس عن البلل مقید بالاستبراء کما هو احد نسخ الروایة فی التهذیب، بل انه علی تلک النسخة یتعین هذا الحمل لان التمسح بالاحجار لو کان لموضع البول لما اخّر الاستبراء عنه.

وعلی ایة حال لو فرض ان التمسح هو لموضع البول فان نفی البأس حینئذ یکون راجعا الیه وهو محمول علی مذهب العامة فی التطهیر.

وأما موثق حنان فهو ادل علی منجسیة المتنجس حیث ان الشدة التی یتکلف منها الراوی هی لذلک بتنجس البلل المحکوم بطهارته بملاقاة الموضع، فبلّ الذکر فی غیر موضع البول یوجب بلل الثوب أو الفخذ فاذا وجد شیئا منها متبللا حصل له الشک المحکوم بالطهارة، والا فعلی عدم المنجسیة لا حاجة للبل بالریق بل یکفی الاستبراء فیبقی البلل علی طهارته، بل أن التصریح فی الروایة بالبینونة بین البلل الخارج وبلل الریق ناص علی ان المحذور هو من البلل الخارج کما سبق توضیحه، وخروج البلل علی حالتین تارة یحسّ به بنفس الموضع واخری بتحسس البرودة من

ص:146

الفخذ، والفرض فی الروایة محمول علی الثانی.

وأما روایة حفص الاعور فقد تقرر فی مبحث المیاه من کتاب الطهارة ان اطلاقها مقید بالروایات الاخری الواردة فی نفس الفرض الآمرة بالغسل اولا، وان السؤال فیما هو عن اصل الاستعمال نظرا لورود النهی النبوی عن استعمال ظروف الخمر، ونفی البأس لکون الاستعمال متعلق بالماء لا بما ینبذ فیه.

وأما مصحح علی بن جعفر فلیس المراد من الکنیف البالوعة فی فرض السائل بل المراد به بیت الخلاء وموضعه مما قد یکون مسطحا، کما هو الحال فی مصححه الآخر عن أخیه موسی بن جعفر (علیهما السلام) قال: سألته عن الرجل یتوضأ فی الکنیف بالماء یدخل یده فیه ایتوضأ من فضله للصلاة؟ قال: اذا ادخل یده وهی نظیفة فلا بأس ولست أحب ان یتعود ذلک الا ان یغسل یده قبل ذلک، وعلی ذلک فیکون حالها حال ما ورد من عدم تنجس ما یترشح من قطرات من الارض التی یبال علیها، وذلک لتوارد الطهارة والنجاسة علیها فیحکم بالطهارة عند الشک.

فرعان:

الاول: لا تجری علی المتنجس کل احکام النجس:

فاذا تنجس الاناء بالولوغ یجب تعفیره ولکن اذا تنجس اناء اخر بملاقاة هذا الاناء لایجب تعفیره، وان ذهب الیه جماعة من المتأخرین ومتأخری المتأخرین لدعوی ان السرایة والمنجسیة نحو من توسعة النجاسة الاولی أو تولید نجاسة من سنخ النجاسة الاولی، ومن ثم تترتب

ص:147

علی الملاقی کافة الآثار، لکنه استحسان لا استظهار فی الأدلة بعد عدم توسعة أدلة النجاسة الاولی للملاقی ولا اشارة فیها الی المسانخة، فحینئذ یقتصر فی الاثار الخاصة علی مورد الدلیل فی المتنجس الاول.

الثانی: اذا صب ماء الولوغ فی اناء اخر لایجب فیه التعفیر:

ذهب الیه العلامة والمحقق الثانی فی المحکی، ووجهه ان الموضوع له اذا استظهر انه لعابه الموجود فی الماء الملاقی للاناء الاول فهو بعینه متحقق فی الاناء الثانی، واذا استظهر انه عنوان الولوغ ای بما یشتمل علی ملاقاة لسانه وربما شفاره.

مضافا الی لعابه فانه غیر متحقق فی الثانی کما لا یخفی، ولا یبعد الاول نظرا لاخذ عنوان فضله فی الصحیح وان احتمل خصوصیة اناء الولوغ من جهة انه القدر المتیقن من مرجع الضمیر فی (و اغسله بالتراب) حیث لا اطلاق فیه، مضافا الی التزامهم وجوب التعفیر لاناء الولوغ وان لم یلاق جداره بدن الکلب او لسانه، فیظهر من ذلک ان المدار علی الفضل والسؤر، وهذا کله فی صورة الصب دون الملاقاة کما لا یخفی.

ص:148

قاعدة :فی تعیین المالک لما یقابل الدین والوصیة من الترکة

اشارة

ص:149

ص:150

فی تعیین المالک لما یقابل الدین والوصیة من الترکة

الأقوال فی المسالة:

حکی فی الجواهر اختلاف الأقوال(1)، فمن قائل بأنّ المال للمیّت، والآخر أنّ المالک هو الورثة، وثالثا أنّ المقدار المزبور لا مالک له ولکن فی حکم مال المیّت وتفاصیل اخری.

ذهب إلی الأوّل: الحلّی فی وصایا السرائر والمحقّق والعلّامة فی الإرشاد وفی وصایا المختلف والشهید ومحکی المقنع والنهایة والخلاف والراوندی والفخر.

وذهب إلی الثانی: العلّامة فی القواعد والتحریر والتذکرة وقضاء المختلف والفخر فی الحجر ووصایا الایضاح وحواشی الشهید وقضاء المسالک ومواریثه ومواریث کشف اللثام وهو المنقول عن المبسوط.

ولتنقیح الحال یقع الکلام فی جهات:

الجهة الأولی: أدلّة الأقوال

استدلّ للقول الأول:

ص:151


1- (1) جواهر الکلام، ج26، ص84.

أوّلا: بظاهر الآیات:

کقوله تعالی: یُوصِیکُمُ اللّهُ فِی أَوْلادِکُمْ لِلذَّکَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَیَیْنِ ... مِنْ بَعْدِ وَصِیَّةٍ یُوصی بِها أَوْ دَیْنٍ (1).

فإنّ ظاهر البعدیة تقیّد متعلّق الإرث بغیر مقدار الوصیة والدین.

ثانیا: بالروایات:

کموثّق عبّاد بن صهیب عن أبی عبدالله(علیه السلام): «فی رجل فرّط فی إخراج زکاته فی حیاته، فلمّا حضرته الوفاة حسب جمیع ما فرّط فیه ممّا لزمه من الزکاة ثمّ أوصی أن یخرج ذلک فیدفع إلی من یجب له، قال: فقال: جائز یخرج ذلک من جمیع المال إنّما هو بمنزلة الدین لو کان علیه لیس للورثة حتی یؤدّی ما أوصی به من الزکاة» الحدیث(2).

وصحیحة محمّد بن قیس عن أبی جعفر(علیه السلام) قال: «قال أمیر المؤمنین(علیه السلام): أنّ الدین قبل الوصیة، ثمّ الوصیة علی أثر الدین، ثمّ المیراث بعد الوصیة فإنّ أوّل القضاء کتاب الله»(3).

وصحیحة سلیمان بن خالد عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: «قضی علیّ(علیه السلام) فی دیة المقتول: انّه یرثها الورثة علی کتاب الله وسهامهم إذا لم یکن علی المقتول دین إلّا الاخوة والأخوات من الأمّ فإنّهم لا یرثون من دیته شیئا»(4).

ص:152


1- (1) سورة النساء: الآیتان 12/11.
2- (2) الوسائل، باب 40، من أبواب الوصایا ح1.
3- (3) المصدر، باب 28، ح2.
4- (4) التوبة: 75.

وثالثا: بالسیرة:

علی تبعیّة النماء للترکة فی وفاء الدین ولو کانت للورثة لما کانت التبعیة فهی دالّة علی کون الترکة علی ملک المیّت.

استدل للقول الثانی: (کما عن التذکرة):

أوّلا: بأنّ لازم کل من الإجماع علی عدم کون الترکة للغرماء وکما أنّه لیس للمیّت لکون الملک صفة وجودیة لا تقوم بالمعدوم، والمال لا یبقی بلا مالک فیتعیّن للوارث.

وثانیا: بأنّ ابن الابن یشارک عمّه لو مات أبوه بعد جدّه فی الإرث بعد حصول الإبراء من الدین إجماعا فلو کانت الترکة قبل إبراء الدین علی ملک المیّت لما ورث ابن الابن من أبوه الذی مات قبل إبراء الدین.

وثالثا: إنّ الوارث یحلف مع الشاهد لإثبات مال المیّت المتنازع فیه ولو لم یکن مالکا لکان للغرماء إذ هو حینئذ أجنبی عن المال لا یقبل حلفه کما لا یکفی فی قبول الحلف منهم دعوی أنّ لهم نحو حقّ فی المال.

ورابعا: بأنّ الإجماع قائم علی أنّ الورثة أحقّ بأعیان الترکة من غیرهم.

الجهة الثانیة: تحقیق الحال فی الأقوال:

تنظر صاحب الجواهر فی أدلّة القول الأوّل بأنّ الإجماع قائم علی أنّ ما زاد من الترکة علی الوصیة والدین هو ملک للورثة بموت المیّت مباشرة وهو قرینة علی أنّ المراد بالبعدیة فی الآیة والروایات لیست بمعنی التقیید

ص:153

الزمانی بعد الأداء أو العزل وحمل البعدیة علی الغیریة والتحدید لمورد الإرث لما عدی مورد الوصیة والدین خلاف ظاهر الآیات والروایات، فالأظهر فیها أنّها لتحدید مورد تقدیر السهام أی أنّ الانتفاع الفعلی للورثة بالترکة المملوکة وإجراء القسمة إنّما هو بعد إخراج الدین فلیست الأدلّة فی صدد نفی ملکیّتهم لمقدار ما یقابل الدین ولیس هو ملکا للغرماء إجماعا ولا ملک للمیّت لأنّ ما ترکه المیّت لوارثه غایة الأمر أنّه یستوفی منه الدین واستثنی من ذلک الوصیة حیث إنّ ظاهر الأدلّة فیها إبقاء الموصی به علی ملک المیّت واستثنائه من الإرث.

عضد ما ذکره فی الدین.

أقول: یمکن أن یعضد ما ذکره فی الدین بوجهین آخرین:

الوجه الأوّل: إنّ المقیّد فی آیات الإرث بکونه بعد الوصیة والدین هو تحصیص السهام وتوزیع الترکة أی القسمة للترکة، وکذا بعض صریح الروایات المتقدّمة فلیس المقیّد أو المعلّق هو أصل الإرث بل إنّ آیة اولی الأرحام بعضهم اولی ببعض لم تقیّد بذلک وکذا عموم قوله: «ما ترک المیّت فهو لوارثه».

الوجه الثانی: انّه بعد الفراغ عن کون الدیان لا یملکون الأعیان فلا محالة یکون تعلّق حقّهم فی الاستیفاء من الترکة من قبیل سنخ حقّ الرهن أو الجنایة أو نحو ذلک.

والمفروض أنّ حقّ الرهانة ونحوه لا یمانع الانتقال بالإرث کما لو

ص:154

کانت ترکة المیّت قبل موته مرهونة فإنّه لا یمانع الرهن انتقال العین المرهونة إلی الورثة، وکما عبّر المحقّق النائینی قدّس سرّه أنّ حقّ الرهانة یمانع تبدیل الإضافة الملکیة لا تبدیل المضاف إلیه أی المالک، ففی المعاوضات تبدیلا للاضافة وفی باب الضمانات تبدیلا للأعیان أمّا فی الإرث فتبدیلا للمالک دون الملکیة والمملوک، ومراده قدّس سرّه لیس من حیث الدقّة العقلیة؛ إذ لا یعقل تبدّل أحد الثلاثة من دون تبدّل الإضافة بل المراد بحسب النظر الاعتباری عند العرف والعقلاء والمنظور

المهمّ فیه سنخ الآثار فلا یعدّون المملوک والملک جدیدا فی باب الإرث بالنسبة للوارث بعد کونه یتلقاه من مورّثه فحق الرهانة لا یمانع الانتقال بالإرث ولکنّه یمانع الانتقال للعین بالمعاوضة، فالوارث یتلقّی الملکیة المحبوسة القدیمة من مورثه، فکذلک الحال فیما نحن فیه، فإنّ حقّ الدیان فی الاستیفاء لا یتدافع مع انتقال المال من إرث المیّت إلی الورثة، غایة الأمر أنّه ملکا محقوق وذلک بعموم ما ترک المیّت لوارثه وعموم: أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلی بِبَعْضٍ فِی کِتابِ اللّهِ (1) وقد عرفت فی الوجه الأوّل أنّه ما قد یتوهّم کونه مخصّص لهذا العموم لیس مخصّصا وإنّما هو بصدد بیان ارتهان الترکة بالدیون فتقدّم فی الاستیفاء علی القسمة والتوزیع علی الورثة أی علی الانتفاع الفعلی لهم ولا ما قد یتوهّم أنّ ملک الورثة معلّق علی أداء الدین ولو من الخارج أو أنّه غیر مستقرّ إلّا بعد أداء الدین أو أنّ ملکهم مشروط بشرط متأخّر وهو أداء الدین لاحقا ولو من خارج

ص:155


1- (1) الأنفال: 75.

الترکة أو بالإبراء، أو أنّ ملک الورثة وحقّ الدیان من قبیل المتزاحمین والأهمّیة لحقّ الدیان، أو أنّ للورثة حقّ متعلّق بالترکة بأن یتملّکون علی تقدیر فراغ ذمّة المیّت بالإبراء أو أداء الدیون ولو من خارج.

فإنّ کلّ هذه الوجوه وإن کانت ممکنة إلّا أنّها تکلّفات لا شاهد لها ولا مقتضی من الأدلّة.

والغریب من البعض الالتزام بالجمع بین التزاحم والملک المشروط بالشرط المتأخّر، فإنّ مقتضی التزاحم فعلیة کل منهما وفعلیة موضوعه المنجز بینما یقتضی المشروط بالشرط المتأخّر عدم فعلیة الملک وعدم فعلیة الشرط المتأخّر لاحقا.

هذا کلّه لو قلنا إنّ حقّ الدیان متعلّق بملک الترکة، وأمّا لو قلنا بأنّه متعلّق بمالیّتها کحقّ الجنایة فی العبد فعدم ممانعته حینئذ للانتقال بالإرث أوضح، فإنّ العبد الجانی ینتقل بالمعاوضة فضلا عن انتقاله بالإرث.

ثمّ إنّ الوجه الثالث الذی استدلّ به للقول الأوّل من قیام السیرة بتعلّق حقّ الدیان بنماء الترکة لا یشهد ببقاء ملک المیّت؛ إذ قد یکون حقّ الدیان من قبیل حقّ الخمس المتعلّق بمالیة العین وبنمائها أیضا، وهو لا یمانع انتقال تمام ملکیة العین.

أمّا الوجوه التی ذکرها العلّامة: فیتنظر فی الوجه الأوّل بأنّه لا مانع من فرض ملک المیّت بقاءا وحدوثا کما فی الصید المتجدّد فی شبکته وقضاء الدین من دیته مطلقا؛ لأنّ الملکیة من الاعتبار وهو خفیف المؤنة.

وإن کان المثالین یمکن أن یحملا علی انتقال ملک الشبکة للورثة وأنّ

ص:156

الصید من قبیل النماء لها وأنّ الدیة ملکا للورثة محکومة بحکم الترکة.

وأمّا الوجه الثانی وهو إرث ابن الابن مع العمّ بعد موت أبیه ثمّ إبراء الدین فتام الدلالة وإن أمکن توجیهه بأنّه یلتأم مع القول بعدم ملک الورثة بل مجرّد استحقاقهم

للتملّک فیرث ابن الابن استحقاق التملّک من أبیه فیتملّک بإبراء الدین، وذلک لعدم الدلیل علی مثل هذا الاستحقاق إذ أدلّة الإرث کبقیّة أدلّة النواقل إنّما تدلّ علی مجرّد النقل لا علی التصرّف فی المنقول وقلبه من الملک إلی الحقّ والعکس.

نعم هناک انتزاع عقلی من قضیة الإرث ولو فی حیاة المورث ینتزعه العقل من أدلّة الإرث وهو مفهوم استحقاق الورثة للملک ولکنّه لیس معنی شرعی مجعول.

ومن ذلک یتّضح تمامیة ما ذکره فی الوجه الثالث وإن بنینا علی الصحّة مع وجود الحقّ بل علی ما بیّناه یکون الورثة أسوء حالا من الغرماء لأنّ الغرماء لهم حقّ الاستیفاء بینما الورثة مع عدم الملک لا دلیل علی ثبوت حق لهم إلّا المعنی الانتزاعی العقلی غیر المجعول شرعا.

وهکذا الکلام بعینه فی الوجه الرابع.

الجهة الثالثة:

الظاهر أنّ المقدار الذی یقابل الوصیة باقیا علی ملکیّة المیّت سواء کان بنحو الإشاعة أو المعین شخصا أو الکلّی فی المعیّن فإنّ ذلک هو ظاهر

ص:157

عدّة من الروایات، کصحیح أبی بصیر قال: «سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن رجل یموت ما له من ماله فقال: له ثلث ماله وللمرأة أیضا»(1).

وروایة أبی بصیر عن أبی عبدالله(علیه السلام) «فی الرجل له الولد أیسعه أن یجعل ماله لقرابته؟

فقال: هو ماله یصنع به ما شاء إلی أن یأتیه الموت إنّ لصاحب المال أن یعمل بماله ما شاء ما دام حیّا، إن شاء وهبه وإن شاء تصدّق به وإن شاء ترکه إلی أن یأتیه الموت، فإن أوصی به فلیس له إلّا الثلث إلّا أنّ الفضل فی أن لا یضیع من یموّله ولا یضرّ بورثته»(2).

وصحیحة ابن سنان- یعنی عبدالله- عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: «للرجل عند موته ثلث ما له وإن لم یوص فلیس علی الورثة إمضاؤه» «1».

وصحیحة علی بن یقطین: سألت أبا الحسن(علیه السلام): «ما للرجل من ماله عند موته؟ قال: الثلث والثلث کثیر»(3).

الجهة الرابعة:

الظاهر أنّ حقّ الغرماء فی الترکة کما قد تقدّم لیس من قبیل الملک أو الحقّ فی المالیة المشاع بحیث لو طرء التلف علی الترکة ینقص بذلک القدر بل الظاهر من الأدلّة کونه من قبیل الکلّی فی المعیّن، وهو مقتضی التعبیر ب «ثمّ» کما تقدّم فی صحیحة محمّد بن قیس.

ص:158


1- (1) الوسائل، باب 10، من أبواب الوصایا ، ح2.
2- (2) المصدر، ح3.
3- (3) المصدر، ح7.

وکما فی معتبرة السکونی عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: «أوّل شیء یبدأ به من المال الکفن، ثمّ الدین ثمّ الوصیة ثمّ المیراث»(1)، فإنّ مقتضاها الاستیفاء وإن طرء التلف؛ إذ لیس هو فی عرض ملک الورثة.

امّا الوصیة فحکمها أیضا کذلک ما دام فی مقدار الثلث إن کانت معیّنة عینا أو قدرا نقدیا ما لم تزید نسبته علی الثلث فی المجموع المتبقی وأمّا انّ کانت غیر معیّنة مقدّرة بکسر مشاع فالظاهر ورود النقصان علیها بالنسبة إلّا أن یکون الکسر المشاع دون الثلث وکان المقصود الإشارة إلی قدر معیّن.

الجهة الخامسة:

الظاهر جواز تصرّف الورثة غیر الناقل للملک بنحو لا یفوّت علی الغرماء إمکان استیفائهم، کأن ینتفع من منافع الترکة غیر العینیة کالجلوس فی البیت أو استخدام الدابة ونحو ذلک، وکذا الحال بالإضافة إلی الوصیة فإنّ غایة ما یستفاد من الروایات المتقدّمة هو منع الورثة من أکل الترکة بالتصرّف الناقل أو التوزیع أو القسمة، بل انّ ظاهر صحیحة أبی نصر أنّه سئل عن رجل یموت ویترک عیالا وعلیه دین أینفق علیهم من ماله؟ قال: «إن استیقن إنّ الذی علیه یحیط بجمیع المال فلا ینفق علیهم وإن لم یستیقن فلینفق علیهم من وسط المال»(2).

وصحیحة عبد الرحمن بن الحجّاج عن أبی الحسن(علیه السلام) مثله إلّا أنّه

ص:159


1- (1) المصدر، ح8.
2- (2) المصدر، باب 28، من الوصایا، ح1.

قال: «إن کان یستیقن أنّ الذی ترک یحیط بجمیع دینه فلا ینفق علیهم وإن لم یکن یستیقن فلینفق علیهم من وسط المال»(1) جواز التصرّف مطلقا فی ما زاد علی الوصیة والدین.

نعم عن السرائر فی کتاب الدین:

«إنّ اصول مذهبنا تقتضی أنّ الورثة لا یستحقّون شیئا من الترکة دون قضاء جمیع الدیون ولا یسوغ ولا یحلّ لهم التصرّف فی الترکة دون القضاء إذا کانت بقدر الدین لقوله تعالی:«مِنْ بَعْدِ وَصِیَّةٍ یُوصِی بِها أَوْ دَیْنٍ فشرط صحّة المیراث وانتقاله أن یکون ما یفضل عن الدین فلا یملک الوارث إلّا بعد قضاء الدین»(2). وکذا فی میراث القواعد وحجر الایضاح ورهنه.

وحکی صاحب الجواهر عن قضاء الایضاح قوله: أجمع الکلّ علی أنّه إذا مات من علیه دین یحیط بجمیع ترکته لا یجوز للوارث التصرّف فیها إلّا بعد قضاء الدین أو إذن الغرماء(3) ونحوه عن المسالک بل فی مفتاح الکرامة أنّه کذلک یشهد له التتبّع، قلت: بل التتبّع شاهد بخلافه کما لا یخفی علی من لاحظ القواعد وجامع المقاصد فی باب الحجر. ولعلّه یستظهر أنّ الأخبار المتقدّمة قد علّقت قسمة المیراث علی قضاء الدین.

وفی صحیح عباد بن صهیب المتقدّم «لیس للورثة شیء حتی یؤدوا».

ص:160


1- (1) المصدر، باب 29، من الوصایا، ح1.
2- (2) نقلاً عن الجواهر، ج26، ص85.
3- (3) المصدر، ج26، ص93.

وهناک قول ثالث حکاه فی الجواهر عن المحقّق الثانی بنفوذ تصرّف الورثة فی الترکة مطلقا حتی فیما یقابل الدین قال: ولا منافاة بعد ثبوت التسلّط لذی الحق علی الفسخ إن لم یدفع له ففی الصحّة حینئذ جمع للحقّین، وتحتّم الأداء علی الوارث حکمة التعلّق کما أنّ سلطنة الغریم علی الفسخ تنفی الضیاع (للدین) ومن هنا قال التحقیق بالنفوذ أقوی، قلت: هو کذلک»(1) ویظهر منه المیل لذلک.

هذا والأقوی- بعد کون المعلّق فی آیات الإرث والروایات هو القسمة والتوزیع کما تقدّم- هو التفصیل الموجود فی صحیح عبد الرحمان بن الحجّاج وروایة البزنطی وهو مقیّد لإطلاق المنع عن التصرّف فی الروایات المتقدّمة وأمّا فی المقدار المقابل الذی یقابل الدین والوصیة فکل من الروایتین مع الروایات المتقدّمة دالّة علی منع التصرّف مطلقا عدی ما ذکرناه من الانتفاعات فی السیرة الجاریة غیر المنافیة لحقّ الدیان بل إنّ هذا الاستثناء منقطع إذ لیس مدلول المنع من الروایات السابقة شاملا لمثل هذه الانتفاعات الیسیرة لقوله(علیه السلام): «لیس للورثة شیئا» لانسباق العین ونحوها من لفظة شیء وبذلک فلا یبقی ثمرة للبحث عن کون حقّ الدیان فی الترکة من قبیل حقّ الرهن أو حقّ الخمس أو حقّ أرش الجنابة أو تعلّقا مستقلّ.

فتلخّص: إنّ الآیات والروایات فی صدد الحجر علی الورثة فی ما یقابل الدین لا فی ما زاد فی قبال ظاهر مطلقات الإرث الدالّة علی الملک

ص:161


1- (1) المصدر، ح2.

المقتضی لمطلق التصرّف.

فرع: لو ضمن الورثة أو بعضهم دین المیّت للغرماء انتقل الدین من ذمّة المیّت إلی ذمّة الورثة إذا رضی الدیان بالضمان وکذا الحال لو أذن الغرماء بالتصرّف لأنّهم ذوی الحقّ، سواء کان بمعنی الاسقاط لحقّهم فی استیفاء الدین من الترکة أو لا.

ص:162

قاعدة :شرطیة إذن الأب فی أعمال الصبی

اشارة

ص:163

ص:164

شرطیة إذن الأب فی أعمال الصبی

ادلة القاعدة:

تمهید فی اصل مشروعیة اعمال الصبی:

یدلّ علیه نفس عمومات مشروعیة عباداته کالحجّ واستحبابه بناء علی القول الثانی والثالث فی حدیث رفع القلم عن الصبی من أنّه رفع الفعلیة التامّة أو التنجیز والمؤاخذة لا أصل المشروعیة، ویرشد إلی ذلک ما ذکرناه من الروایات فی بحث سند الحج(1) من لزوم إعادة حجّه بعد بلوغه الدالّ علی ارتکاز مشروعیة الحجّ للصبی لدی الرواة، وأیّاً ما کان فالروایات المزبورة هی وجه مستقلّ فی الدلالة علی الاستحباب، کما یمکن الاستدلال علی المشروعیة بما ورد من روایات عدیدة من استحباب احجاج الأولیاء للصبیان(2) بضمیمة أنّ الاعمال یأتی بها الممیّز بنفسه لا بحمل الولی له علیها کما هو الحال فی الرضیع وغیر الممیّز. هذا کلّه فی أصل الاستحباب.

أمّا اشتراط إذن الأب فی حج الصبی فقد یستدلّ بوجوه:

الأوّل: استلزام مثل الحج للتصرّف المالی، أو أنّه بنفسه تصرّف مالی، وهو ضعیف کما أشار إلی وجه ضعفه السید الیزدی فی العروة.

ص:165


1- (1) سند العروة الوثقی ، کتاب الحج ج1 ص28 شرطیة البلوغ.
2- (2) وسائب باب 17 من أبواب أقسام الحج.

الثانی: کون مشروعیة الاستحباب هی القدر المتیقّن من الأدلّة فلا تشمل العمل العبادی من دون اذن الاب.

وهو ضعیف أیضا لأنّ الأدلّة کما ذکرنا فی محله مطلقة بحمد الله.

الثالث: أولویة اشتراط الإذن فی حج الصبی منه فی البالغ وحیث انّ فی البالغ یشترط ذلک للنصّ المعتبر الوارد وهو معتبرة هشام(1).

و فیه أنّه سیأتی ضعف الاستشهاد بتلک الروایة فی البالغ.

الرابع: دعوی أنّ مقتضی ولایة الأب علی الصبی فی أمواله بل وکافّة اموره من نکاحه وتربیته وتأدیبه مقتضاها أنّ حرکات الطفل وسفره وترحاله یکون بید الأب؛ إذ هو المسئول عن أمن الصبی ومصیره، فجعل مثل تلک السلطة والولایة العامّة ینافیها کون الصبی مالک الاختیار بنحو مطلق لا سیّما فی فعل مثل الحجّ المستلزم للسفر حتی لحاضری المسجد الحرام لا العبادة المحضة کالصوم والصلاة من حیث هما اللتان لا تستلزمان کون الصبی مطلق الاختیار فی ما یکون الأب مولی فیه بخلاف ما إذا کثرت صلاته الندبیة وکثر صومه.

إلّا أنّ المحصل من هذا الوجه لیس هو شرطیة إذن الأب علی وزان شرطیة الشروط فی الماهیّات کشرطیة الطهارة فی الصلاة بل هو من قبیل العناوین الطارئة أو المزاحمة الرافعة للرخصة فی الفعل، وعلی هذا فلو حجّ الصبی من دون إذن أبیه لکان فساد حجّه من جهة المبغوضیة المجتمعة مع

ص:166


1- (1) وسائل باب 10 من الصوم المحرم ح3.

المحبوبیة نظیر اجتماع الأمر والنهی، وعلی هذا نخرج بقاعدة فقهیة کلّیة وهی اختلاف الحال فی غیر البالغ عن البالغ من اشتراط إذن الأب فی امور الأوّل مطلقا دون الثانی. فلا یوقع البحث فی تصرّفات غیر البالغ من زاویة العقوق والبرّ فقط کما فی البالغ بل یجب الالتفات والتفطّن إلی ولایة الأب عموما علیه فی ذلک.

والمحصّل من هذا الوجه کون الإذن بمقتضی ولایته شرطا طارئا لا علی نسق شروط الماهیة الوضعیة بل علی وزان الشرط التکلیفی المتولّد من ولایة الأبّ الوضعیة والتکلیفیة علی الصبی، ویشهد له ما ذکروه من الفراغ فی موجبات الضمان فی القصاص من ضمان الآمر للصبی بالرکوب علی مرکب فی موضع الخطر حیث قیّدوا الضمان بکونه من دون إذن الأبّ.

الخامس: وجوب طاعة الأبوین وهو عنوان ثانوی طارئ ملاکه مقدّم علی المستحبّات، إلّا أنّ المسلم بین غیر المتقدّمین من الفقهاء هو حرمة عقوقهما أی وجوب الطاعة بالدرجة التی یلزم من عدمها العقوق لا مطلق طاعتهما وبرّهما فإنّه أمر راجح لکن لیس بلازم، ومن ثمّ إذا فرض التزاحم بین برّهما وإطاعتهما بالقدر المستحبّ وبقیّة المستحبّات العبادیة التی منها الحجّ بنحو یتعیّن التزاحم أی لم یتمکّن من إرضائهما بها حینئذ ینظر إلی الأهمّ ملاکا فیکون من الأولی مراعاته لا تعیّنه.

فمن ذلک یتحصّل عدم لزوم إذنهما فی مشروعیة ورجحان مثل الحجّ المستحبّ إلّا إذا استلزم عقوقهما فإنّه حینئذ یحرم العقوق، وأمّا صحّة الحجّ علی فرض العصیان فلا إشکال فیها لأنّه لیس الفعل غیر المرضی

ص:167

سبب للعقوق کما حرّر فی محلّه بشهادة أنّه یمکن إتیان الحجّ المستحبّ مع إغفالهما فلا یحصل عقوق ممّا یدلّ علی انفکاکهما وعدم السببیة التولیدیة بینهما، والمحرم من المقدّمات خصوص المقدّمة السببیة التولیدیة.

السادس: ما استدلّ به صاحب الحدائق من معتبرة هشام عن أبی عبدالله(علیه السلام)، قال:

قال رسول الله صلی الله علیه و آله : «من فقه الضیف أن لا یصوم تطوّعا إلّا بإذن صاحبه ... إلی أن قال: ومن برّ الولد أن لا یصوم تطوّعا ولا یحجّ تطوّعا ولا یصلّی تطوّعا إلّا بإذن أبویه وأمرهما وإلّا کان الضیف جاهلا وکانت المرأة عاصیة وکان العبد فاسقا عاصیا وکان الولد عاقّا(1).

والسند وإن کان فیه أحمد بن هلال العبرتائی إلّا أنّا قد ذکرنا مرارا أنّ انحرافه کان فی الغیبة الصغری وأنّ التوقیعین الصادرین هما من الناحیة المقدّسة لا من العسکری(علیه السلام) وأنّ الطائفة قد قاطعته بعد انحرافه فما ترویه عنه هو أیام استقامته کما هو الحال فی علیّ بن أبی حمزة البطائنی، وأمّا الدلالة فهی وإن بنی صاحب الحدائق وغیره من أعلام متأخّری العصر علی کون دلالتها علی اللزوم تامّة وانّ خدش الثانی فیها بوجوه ثلاثة:

ضعف السند وقطعیّة بطلان المضمون لدلالتها علی توقّف الصلاة المستحبة علی إذن الأبوین، وتوقّف صحّة الصوم والصلاة المستحبّین علی أمرهما لعدم قول قائل بالأوّل وعدم توقّف الصحّة علی الأمر وإنّما علی

ص:168


1- (1) وسائل باب 10 من أبواب الصوم المحرم ح3.

الإذن والرضا لو قیل به.

والصحیح عدم دلالة الروایة علی ذلک بل هی إمّا محمولة علی الاستحباب نظرا للتعبیر بالبر وهو أمر ندبی عموما، وأمّا العقوق المعتبر فی الروایة فهو درجة تنزیلیة لا العقوق الحقیقی کما ورد التعبیر بالعقوق فی ترک الابن لإهداء الثواب لوالدیه المیّتین مع أنّه من الواضح أنّه لیس بمرتبة الحرمة؛ إذ قد عرف العقوق فی اللغة (بالشقّ) فاستعیرها هنا بمعنی شقّ عصی الطاعة والإحسان والبرّ أو قطع الصلة فلا یصدق حقیقة من دون ذلک، إلّا إذا علم للشارع تعبّد تنزیلی إلحاقی فی مصداق معیّن بتلک الماهیة ولا یمکن دعواها هاهنا لأنّ التنزیل فی الروایة صالح أن یکون بعنایة الاستحباب، أو أنّها تحمل علی موارد حصول العقوق کما لو کانا یتأذان بذلک وإن کان الوجه الأوّل أظهر لارداف الصلاة والصیام بذلک مع أنّه من الواضح عدم حصول العقوق حقیقة کما لا یراد تنزیلا فی هذه الروایة فالسیاق والارداف للحجّ معهما قرینة علی تعیّن الوجه الأوّل.

وأمّا الخدشة فی السند فقد عرفت حالها، وأمّا دعوی القطع ببطلان توقّف الصلاة علی الأمر فمدفوعة بأنّ دلالة الروایة لیست توقّف مشروعیّة الصلاة المستحبّة علی أمرهما وإنّما دلالتها هو ما ذکرناه من کون طاعتهما أو عقوقهما عنوان تکلیفی طارئ لا شرط وضعی کما هو الحال فی قاعدة ولایة الأب علی الصبی المشار الیها آنفا، وإنّما هو عنوان طارئ کما لو طرأ عنوان العقوق علی الصلاة المستحبّة من البالغ.

وأمّا الخدشة الثالثة فضعیفة للغایة؛ إذ المراد من الأمر هاهنا الکنایة عن الإذن والرضا.

ص:169

استطراد فی تولیة الولی فی اعمال الصبی:

فرع: استحباب الاحرام بالصبی غیر الممیز من قبل الولی:

کما تدلّ علیه روایات عدیدة فی أبواب متفرقة(1) تم استعراض نماذج منها فی کتاب الحج وحدود دلالتها ولم یحک خلاف فی ذلک.

وهل یستحب الاحرام بالصبیة کالصبی؟

نعم کما هو المحکیّ عن المشهور وأشکله النراقی واستدلّ له بصحیحتین ذکرناهما فی سند الحج فی المسالة التی فرض فیها حجّ الصبیة.

و لکنّه مخدوش بأنّ فرض الروایتین هو فی الصبیة الممیّزة لمکان إسناد الحجّ بنحو الإطلاق إلیها.

ویستدلّ له أیضا بما ورد فی بعض الروایات(2) من عنوان (الصبیة) الذی هو جمع مکسر للصبی إلّا أنّه یطلق فی الاستعمال علی موارد الجمع من الجنسین.

و کذا عنوان الصغار(3).

ولا یبعد ذلک حتی فی عنوان (الصبیان) ولا یتوهّم أنّ مرادنا من

ص:170


1- (1) وسائل باب 17 من أقسام الحج. باب 47 من أبواب الطواف. باب 17 من أبواب رمی جمرة العقبة. باب 3 من أبواب الذبح.
2- (2) باب 17 من أبواب أقسام الحج ح7.
3- (3) باب 17 ح5.

ذلک إطلاق (الصبیان) علی جمع (الصبیات) من دون وجود (صبیة ذکور) معهم، بل مرادنا إطلاقه فی الاستعمال العرفی علی موارد الاجتماع من الجنسین تغلیبا لجانب الذکور.

و قد درج الفقهاء فی استظهار الأعمّ من الجنسین فی موارد الخطاب بضمیر الجمع المذکر کما فی قوله تعالی: کُتِبَ عَلَیْکُمُ الصِّیامُ وقوله تعالی: مَنِ اسْتَطاعَ ممّا یراد فی مثل هذه الموارد جنس المکلّف ویؤتی بلفظ المذکّر من باب التغلیب.

المراد من احرام الصبی:

قال الفقهاء ومهم السید الیزدی فی العروة: (والمراد بالاحرام جعله محرما لا ان یحرم عنه).

هکذا ورد التعبیر فی کثیر من کلمات الأصحاب والروایات.

ولتنقیح الحال فی فعل العبادة الاحرام ونیّته وکذا التلبیة وبقیّة أفعال مثل الحجّ لابدَّ من ذکر امور:

الأمر الأوّل: انّ الأفعال العبادیة یتصوّر الإتیان بها نیابة علی أربعة صور:

الاولی: أن یأت النائب بمجموع العمل عن المنوب عنه کما فی الحجّ أو العمرة أو الصلاة النیابیة.

الثانیة: أن یأت النائب بجزء من العمل عن المنوب عنه لا مجموعه،

ص:171

کما فی الطواف نیابة أو السعی أو الرمی أو الذبح کذلک، نیابة عمّن عجز عن الطواف أو السعی أو الرمی أو الذبح دون بقیّة الأعمال فی الحجّ.

الثالثة: أن یوقع النائب العمل کفاعل وموجد فی بدن المنوب عنه فیکون المنوب عنه قابلا للعمل والفعل ویسند إلیه إسناد القابل، کما فی غسل المیّت أو تیمّمه وکذا فی توضئة المریض أو تیمیمه. وکذا فی احجاج الصبی وإحرامه والإطافة به والسعی به کما سیتّضح. وفی هذا القسم قد یقال بلزوم نیّة کلّ منهما أو نیّة خصوص المنوب عنه- فیما إذا أمکنه- وإلّا فنیّة النائب.

ومقتضی القاعدة فی النیابة لزوم نیّة کلّ منهما فیما إذا أمکن ذلک من المنوب عنه، ثمّ إنّ فی هذا القسم الأقوی أن ینوی النائب أیضا لأنّه نائب حقیقة للجهة الفاعلیة للفعل عن المنوب عنه فلابدَّ من نیّته کما لابدَّ من نیّة المنوب عنه إن أمکن لکونه قابلا أیضا. ثمّ إنّ بحث لزوم واجدیة النائب فی هذا القسم لشرائط الأداء أو عدم لزومها کما هو الصحیح وقد حرر فی محله.

الرابعة: أن ینوب النائب فی الشرط العبادی للعبادة دون نفس العبادة المشروطة وهو وإن لم نجد له مثالا لکنّه ممکن ثبوتا.

ویمکن أن یستفاد من روایتی جمیل بن درّاج السابقتین: أنّ من تعذّر علیه الاحرام لمرض أنّه یحرم عنه، فإذا أفاق أتی ببقیّة الأعمال. نعم فی إجزاء ذلک عن حجّة الإسلام فیما لو کان مستطیعا قبل طروّ المرض کلام أفتی المحقّق بعدم إجزائه فی بحث المواقیت وتمام الحدیث عنه حررناه فی بحث الحج .

ص:172

و لکن الصحیح أنّ هذا مثال للقسم الثالث لا الرابع فتدبّر.

الأمر الثانی: انّ الصبی غیر البالغ علی ثلاث درجات:

الاولی: الصبی الممیّز وقد عرّفوا التمییز بادراکه واستشعاره لقبح کشف العورة، ومرادهم کون العقل العملی- فضلا عن النظری- قد صار بالملکة وقریب من الفعلیة.

الثانیة: غیر الممیز ولکنّه یحسن التلفّظ ویدرک معانی الکلمات فی الجملة، فهذا صار عقله العملی بالقوّة وعقله النظری بالملکة القریب من الفعلیة والقوّة المحرّکة له العملیة لیست هی العقل العملی بل الغرائز السفلیة الاخری.

ومن ثمّ یقع الکلام فی مثل هذه الدرجة من الصباوة أنّه هل تتأتّی منه النیّة والتلبیة فی الحجّ ونیّة غیره من الأفعال العبادیة أو لا؟

قد یقال بتأتّیها منه نظرا لأنّه یدرک معناها کما هو الفرض، والتحریک وإن لم یکن بعقله العملی، بل یکون بغرائزه الاخری، إلّا أنّ ذلک لا ینافی کون حرکته العملیة الغریزیة هی باتّجاه الله تعالی فتکون قربیّة. نظیر من یأتی من البالغین بصلاة اللیل لزیادة الرزق أو من یعبدالله لأجل الفوز بالجنة أو الخلاص من النار فإنّ محرکیة مثل هذه المحرّکات لا تنافی القرب؛ لأنّ القرب علی درجات وإن کان قد یفرّق بأن فی البالغ القوّة العاقلة العملیة هی المحرّکة نحو تلک الدواعی بخلاف الصبی غیر الممیز إلّا أنّه لیس بفارق حیث انّ التحریک فی المآل یسند إلی العلّة الغائیة التی هی غایة

ص:173

الغایات ویکون دور قوّة العقل العملی مجرّد الوساطة فی العلیة، وعلی أیّة حال فیستفاد من صحیحة زرارة عن أحدهما صلی الله علیه و آله قال: «إذا حجّ الرجل بابنه وهو صغیر فإنّه یأمره أن یلبی ویفرض الحجّ فإن لم یحسن أن یلبّی لبّوا عنه ویطاف به ویصلّی عنه» (1)... الحدیث .

فإنّه(علیه السلام) قد فرض أمر الأب للابن بأن یلبّی الابن ویفرض الحجّ، وفرض الحجّ نیّته، وإنشاء النیّة فهی من الصغیر. والظاهر من کلامه(علیه السلام) عمومه لغیر الممیّز بشهادة استثناء خصوص من لم یحسن التلبیة أی التلفّظ بها، فتکون هذه الروایة مفسّرة لروایات الباب ومقیّدة للاطلاقات الواردة بالاحرام عن الصبیان، أی المطلقة للأمر بجعل الصبیان محرمین بایقاع الاحرام فیهم مع النیابة عنهم فی النیّة والتلبیة.

ولذلک عبّر بلفظه (عنه) حیث أنّه بقرینة تجریده من الثیاب وغسله وإلباسه ثوبی الاحرام یکون المراد من (عنه) هاهنا النیابة من القسم الثالث الذی تقدّم فی الأقسام الثلاثة فی الأمر الأوّل.

فالحاصل: انّ متن صحیحة زرارة یکون مقیّدا لتلک الاطلاقات ومفصّلا مؤلّفا بینها وبین الاطلاقات الاخری الواردة فی الباب الآمرة باحرام الصبیان أنفسهم. وحینئذ یکون هذا التفصیل لیس فی خصوص نیّة الاحرام والاحرام والتلبیة، بل فی کلّ أفعال الحجّ.

نعم الأحوط مع کلّ ذلک نیّة الولی، بل هو الأقوی فیما یوقعه الولی

ص:174


1- (1) الکافی ج4 ص303.

من الأفعال فی الصبی.

الثالثة: الصبی الذی لا یدرک معانی الألفاظ ولا الکلام، أی أنّ عقله النظری بالقوّة فضلا عن العملی، وهذا القسم لا إشکال فی أنّ الولیّ یوقع الاحرام فیه وینوی عنه نیابة ویلبّی عنه کذلک وکذا بقیّة أفعال الحجّ.

الأمر الثالث: انّ الاجزاء والشرائط المأخوذة فی الماهیّة العبادیة یتصوّر أخذها علی نحوین- کما ذکروا کلّ ذلک فی بحث مقدّمة الواجب فی مسألة الطهارات الثلاث-.

النحو الأوّل: أن تؤخذ عبادیة، والمراد من الأخذ تقیّد الماهیة بها وتقوّمها بها، کما أنّ الشیء المأخوذ جزءا أو شرطا قد یکون فی نفسه عبادیا وقد یکون توصّلیا، کالرکوع الذی هو ذاته عبادی وکیفیّة أخذه فی الصلاة أیضا عبادیة أی یجب أن یؤتی به بقصد الصلاة مع أنّه خضوع فی نفسه.

والقیام الذی هو ذاته غیر عبادی لکن کیفیّة أخذه عبادیة أی یجب أن یؤتی به بقصد الأمر وإن کان هو فی نفسه لیس بعبادة.

النحو الثانی: أن تؤخذ توصّلیا أی تقیّد الماهیة به وکیفیّة أخذه فیها، فلا یجب إتیانه بقصد أمر تلک الماهیة أعمّ من کونه هو فی نفسه عبادیا أو توصّلیا کالطهارة والستر فی الصلاة حیث انّ الأوّل فی نفسه عبادی لکنّه إذا أتی به لعبادة اخری یکتفی به فی عبادة مغایرة لکون أخذه توصّلیا.

وأمّا الستر والتستّر فهو فی نفسه لیس بعبادی ولا یجب إتیانه بداعی الأمر.

وتظهر فائدة هذا البحث فی القسم الثانی من النائب ومثاله احجاج

ص:175

الولی للصبی فی الأفعال التی ینوب فیها الولی عن الصبی بالنیابة التی من القسم الثانی کأن یطوف عنه أو یرمی عنه فیما إذا لم یتمکّن، أو یصلّی عنه فیما لو بنی علی ان الأفعال مشروطة بالاحرام، والاحرام وإن کان فی نفسه تعبّدیا إلّا أنّ أخذه فی الحجّ توصّلی فحینئذ یکفی إحرام الولیّ لحجّ نفسه لوقوع تلک الأفعال النیابیة عن الصبی وقوعا مع الشرط وإن لم یوقع الشرط بقصد الأمر النیابی. هذا مع کون الصبی محرما أیضا، وما ینسب إلی المشهور فی المسألة الثالثة من عدم لزوم کون الولیّ محرما إنّما یتمّ فی النیابة التی من القسم الثالث لا القسم الثانی، فإطلاق کلامهم- الموهم- محمول علی القسم الثالث من النیابة.

الأمر الرابع: الشرائط والاجزاء المأخوذة فی الماهیة العبادیة علی قسمین:

الأوّل: هی شرائط واجزاء الماهیّة بما هی هی، فتعمّ أصناف المکلّفین.

الثانی: هی شرائط واجزاء المؤدّی، أو یعبّر عنها بشرائط الأداء، وتستعلم إثباتا فی لسان الأدلّة بتوسّط أخذ عنوان صنف خاصّ من المکلّف فی موضوع ذلک الشرط، کما إذا ورد فی اللسان الرجل یجهر فی صلاة الصبح، أو الرجل یلبس ثوبی الاحرام، والمرأة تتستّر فی حال الصلاة، بخلاف لسان نمط الأوّل فإنّه أخذ الشرط فی الماهیة بما هی هی.

ومن قبیل لسان الأوّل اشتراط الاحرام فی الحجّ والعمرة حیث انّه من شرائط الماهیة لا من شرائط المؤدّی، وعلی ذلک یشترط فی الولی عن الصبی إذا أتی بالنیابة عن الصبی من القسم الثانی من أفعال الصبی یشترط

ص:176

أن یکون محرما ومن ثمّ حکمنا بلزوم کون الذابح عن البالغ محرما مضافا إلی شرط الإیمان؛ لأنّ الذبح من المباشر عبادة نیابیة عن المذبوح عنه. نعم غایة الأمر بمقتضی ما قدّمناه فی الأمر الثالث أنّ الاحرام وإن کان عبادیا إلّا أنّ أخذه فی الحجّ توصّلی فیکتفی الولی باحرام حجّ نفسه فی تحقیق شرط الاحرام المأخوذ فی الفعل النیابی کالطواف عن الصبی أو یرمی عنه.

وأمّا النیابة من القسم الثالث وهو أن یوقع النائب العمل فی المنوب عنه کما فی احجاج الصبی فمن الواضح عدم عموم أدلّة شرائط الماهیة ولا شرائط الأداء لهذا النائب؛ لأنّ شرائط الماهیة وأجزائها المفروض تحقّقها بواجدیة الصبی لها، وأمّا شرائط الأداء فلسانها فیما کان المؤدّی فاعلا وقابلا للفعل.

الأمر الخامس: انّه قد استشکل السیّد الشاهرودی قدّس سرّه فی تقریراته فی الصبی الذی لم یثغر حیث انّه ورد فی صحیح محمّد بن الفضیل عن أبی جعفر الثانی(علیه السلام): عن الصبی متی یحرم به قال: «إذا أثغر»، واستظهر أنّه فی مقام التحدید فیقیّد المطلقات، وتنبّه إلی معارضته بصحیح(1) عبد الرحمن بن الحجّاج حیث انّ فیه الصبی المولود وهو الذی لم یثغر، ثمّ بعد ذلک ذهب إلی استحکام التعارض وحیث انّ الاثغار مردّد بین من یقرب من ستّة أشهر أو ستّ سنین لکون الثغر هو إنبات القواطع أو سقوط الثنایا، وحیث انّ الاثغار مردّد تکون دائرة المعارضة إلی الصبی ذی الستّ سنین فیحجّ به رجاء.

ص:177


1- (1) باب 17 من أبواب أقسام الحج ح1.

وفیما أفاده نقاط مواضع للتأمّل:

الأوّل: انّ الصحیح فی باب المستحبّات انه لا یرتکب التخصیص ولا التقیید ولا حمل المطلق علی المقیّد ولا العام علی الخاصّ لکون بابها موضوعا علی تعدّد المطلوب، بل انّهم یرتکبون ذلک فی الدلیل الواحد واللسان الواحد المشتمل علی الماهیة الترکیبیة أنّهم یجعلون القیود مع المقیّد من باب تعدّد المطلوب فهذه قرینة عامّة فی باب المستحبّات فمن ثمّ لا تقیّد المطلقات بصحیح ابن الفضیل، کما لا معارضة مع صحیح عبد الرحمن بن الحجّاج.

ثانیا: لو بنی فی المستحبّات کما یبنی فی الالزامیات من نحو الجمع بین الأدلّة لکان مقتضی القاعدة عند تعارض الخاصّتین هو الرجوع إلی العموم الفوقانی أی مطلقات المشروعیة للصبی.

ثالثا: لو أعرض عن ما سبق أیضا لکان مقتضی القاعدة هو کون التعارض فی القدر المتیقّن من صحیح الفضیل وهو من لم یبلغ الستّة أشهر فهو مقدار التعارض لا الأکثر؛ لأنّ الفرض أنّ صحیح الفضیل خاصّ منفصل مجمل فلا یکون حجّة فی نفسه إلّا بمقدار القدر المتیقّن.

فروع فی بعض الاعمال:

الأول: قد تقدّم فی الأمر الثانی أنّ ضابطة قابلیّته کونه یحسن الکلام ویلتفت إلی معنی الکلام وإن لم یکن ممیّزا کما دلّت علی ذلک صحیحة زرارة المتقدّمة وهو مقتضی القاعدة کما بیّنا، لا سیّما فی التلبیة. نعم فی النیّة

ص:178

قد ذکرنا أنّ الأقوی هو نیّة کلّ من النائب والمنوب عنه حتی فی القسم الثالث من النیابة، بل فی کلّ أقسام النیابة یجب الجمع بین النیّتین، ووجه ذلک فی خصوص الثالث ما تقدّم فی الأمر الأوّل وهو أنّ النائب فیه وإن کان فاعلا لا قابلا إلّا أنّ الحیثیّة الفاعلیة فی الفعل حیث انّها عبادیة أیضا فیجب نیّة النائب فیها ومن ثمّ یجب علی الموضئ للمریض أو المیمّم للمریض النیّة مضافا إلی نیّة المریض ولیس ذلک من باب الاحتیاط، بل فی غسل المیّت لیس من الجزاف القول بأنّ الغاسل یجب علیه إیقاع النیّة نیابة عن المیّت فی کلا الحیثیّتین.

الثانی: لابدَّ من التنبیه هاهنا علی أنّ الوقوف بالصبی فی المشعر غیر الممیّز یجب علی الولی النیّة؛ لأنّه نائب عنه من القسم الثالث حیث انّه یوقع الوقوف فیه بخلاف الممیّز، غایة الأمر الصبی الممیّز إن أحسن الکلام والنیّة فیکون حاله حال المریض الذی یوضئ، وإن کان لم یحسن الکلام والنیّة کالمولود فحاله حال المیّت فی النیّة الذی ذکر آنفا، وأهمّیة التنبیه علی النیّة فی هذا الموضع لرکنیّة الوقوف.

الثالث: قد اختلفت کلمات الأصحاب فی توضّئة الصبی لأجل الطواف، فمنهم من ذهب إلی جمع الولیّ بین وضوئه وتوضئة الصبی، ومن ذاهب إلی وضوء الولیّ دون الصبی إن لم یمکن توضّئه بنفسه، ومن قائل بلزوم أمر الولی للصبی بأن یتوضّأ إن أمکن وإلّا فیسقط الوضوء کما ذهب إلیه السیّد الخوئی(قدس سره)، ومن قائل بلزوم توضّؤ الصبی إمّا بنفسه أو بتوضئة الولیّ له، وعبّروا عن ذلک بصورة الوضوء وهو الأقوی کما سیتّضح.

ص:179

وتنقیح الحال فی المقام یتّضح من الالمام بالامور الأربعة المتقدّمة فی صدر المسألة وملخّصه: انّ شرائط الماهیة أو شرائط الأداء لا تشمل النائب من القسم الثالث؛ لأنّ ظاهرها هو فی المؤدّی الذی یکون قابلا مضافا إلی کونه فاعلا لا ما إذا کان فاعلا فقط کما فی النیابة من القسم الثالث، فلا وجه لاشتراط الوضوء فی الولی إذا طاف بالصبی ولو کان مولودا، وأمّا توضئة الولیّ للصبی الذی لا یحسن الکلام کالمولود، أی النیابة فی الوضوء من القسم الثالث فهی وإن کان علی خلاف القاعدة إلّا أنّه یستفاد مشروعیّتها فی المقام بوجهین:

الأوّل: انّ مقتضی العنوان الوارد فی المقام وهو الإحجاج بالصبی أو الحجّ بالصبی هو کون مجموع أفعال الحجّ یشرع فیها النیابة من القسم الثالث.

الثانی: خصوص صحیحة عبد الرحمن بن الحجّاج فی حدیث عن أبی عبدالله أنّه قال: «... إذا کان یوم الترویة فأحرموا عنه وجرّدوه وغسّلوه»(1).

حیث انّه من الظاهر فی الروایة أنّ تغسیل الصبی غسل الاحرام هو من النیابة من القسم الثالث مع أنّ غسل الاحرام فی الحجّ لیس شرطا فی صحّة الاحرام ولا یتوهّم الخصوصیة فی غسل الاحرام دون طهارة الطواف لما ذکرناه فی الوجه الأوّل، ومن ذلک یظهر الحال فی الحلق.

الرابع: قد اتّضح من الامور الأربعة السابقة أنّ الولیّ إن کان نائبا من

ص:180


1- (1) وسائل باب 17 من أبواب أقسام الحج ج1.

القسم الثالث فلا یشترط فیه الاحرام بخلاف ما إذا کان نائبا من القسم الثانی، أی لا یوقع العمل فی الصبی وإنّما یأتی به هو نیابة عن الصبی فی فرض عجزه.

فائدة: ما المراد من الولی ؟

المشهور انه الاب او الجد او الوصی من قبلهما اوالحاکم ولو امینه, وهو الصحیح، وقد اختلف فی کیفیّة تحریر هذه المسألة ففی بعض العبائر حرّرت بأنّها نحو ولایة علی الصبی لکون الإحجاج به تصرّف فیه، فاستظهر من لسان الأدلّة الواردة أنّها جعل للولایة المزبورة ومن ثمّ خصّوا لسانها علی القدر المتیقّن من الأولیاء الشرعیّین، وحرّرت بنحو آخر بأنّ لسان الأدلّة الواردة هو فی مشروعیة النیابة من القسم الثالث والثانی من البالغ، سواء کان ولیّا شرعیّا أو عرفیا، بالإضافة إلی الصبی، ومن ثم استظهر من لسان الأدلّة عموم مشروعیة نیابة البالغ عن الصبی بنحوی النیابة.

نعم، ذهب بعض من حرّر المسألة بالنحو الثانی إلی عدم التعمیم لکون الأصل فی النیابة والعبادة عدم المشروعیة والاقتصار علی القدر المتیقّن والصحیح هو تحریر المسألة علی النحو الثانی؛ لأنّه لا نظر فی روایات الباب إلی جعل الولایة، وإنّما هی ناظرة إلی تشریع الإحجاج بالصبی بنحوی النیابة، ومن الظاهر حینئذ أنّ مثل تلک المشروعیة لا خصوصیة فیها للولیّ الشرعی لأنّها لیست غایتها التأدیب والتمرین کی یکون الخطاب مختصّا به، بل مفادها رجحان العمل لکلّ من البالغ والصبی کما فی صحیحة عبدالله بن سنان قال: سمعته یقول: «مرّ رسول الله صلی الله علیه و آله برویثة

ص:181

وهو حاج فقامت إلیه امرأة ومعها صبی لها فقالت: یا رسول الله، أ یحجّ عن مثل هذا؟ قال: نعم و لک أجره.

وهی وإن وردت فی خصوص الامّ إلّا أنّ مسألة الامّ ظاهر منها أنّها لیس عن الحکم کأدب شرعی ووظیفة ملقاة علی الولیّ، بل سؤالها عن مشروعیة الحجّ والإحجاج للصبی والإحجاج به، وکذا مفاد الذیل: «ولک أجره»(1).

الظاهر فی الأجر الخاصّ للحجّ المشروع.

ویستدلّ له أیضا بالعموم فی صحیحة معاویة بن عمّار عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال:

«انظروا من کان معکم من الصبیان فقدّموه إلی الجحفة أو إلی بطن مر ویصنع بهم ما یصنع بالمحرم ویطاف بهم ویرمی عنهم ... الحدیث(2).

حیث انّه من الظاهر البیّن أنّ الصبیة التی معهم فی المعتاد والمتعارف خارجا واستعمالا لیس بمختصّ بالصبیة الصلبیّین للمخاطب، بل کلّ من یتکفّلهم من صبیة الأقرباء ونحوهم، بل لو سلم اختصاصها بالصلبیّین فحیث انّ الروایة کما ذکرنا أنّ لسانها فی المشروعیة لا جعل الولایة فلا تختص بالولی الشرعی، وکذا یظهر من صحیحة عبد الرحمن بن الحجاج المتقدّمة حیث فیها احرام حمیدة رضوان الله علیها بالصبیة، ومثلها ما رواه

ص:182


1- (1) وسائب باب 20 من أقسام الحج ح1.
2- (2) وسائل باب 17 من أقسام الحج ح3.

یونس بن یعقوب عن أبیه قال: قلت لأبی عبدالله(علیه السلام): إنّ معی صبیة صغار ... الحدیث(1).

غایة الأمر هذه الروایات لا تتعرّض إلی عدم لزوم الاستئذان من الولیّ الشرعی فیما لو حجّ به غیره فلابدَّ من الاستئذان.

فرع: النفقة الزائدة فی احجاج الصبی:

البحث فی هذه المسألة علی مقتضی القاعدة من أنّ تصرّف الولی فی مال الصبی إنّما یکون بحسب المصلحة للصبی فی ماله أو بشرط أن لا یکون مضرّة علی الاختلاف المحرّر فی محلّه فی أحکام الصبی، هذا من جهة ومن جهة اخری نفقة العیال تکون من أموالهم إذا کانوا واجدین وحینئذ یفصل فی المقام بینما إذا کان السفر بالصبی من مصلحته أم لا.

أمّا الکلام فی النفقات الزائدة علی أصل السفر ولو کانت مصلحة التی یستلزمها الحجّ فالکلام عنها فی بحث الحج.

فرع: ان الهدی علی الولی:

کما هو المشهور، وخالف فی ذلک فی التذکرة فأوجبه من مال الصبی.

والبحث یقع تارة بحسب مقتضی القاعدة واخری بحسب الروایات الخاصّة الواردة، کما أنّ الکلام تارة یقع فی الصبی غیر الممیّز واخری فی الممیّز.

ص:183


1- (1) وسائل باب 17 من أقسام الحج ح7.

أمّا بحسب القاعدة فلابدَّ من ذکر عدّة من النقاط:

الأولی: أنّ مقتضی القاعدة فی الواجب الذی فیه مقدّمة مالیة أن تکون المقدّمة وجودیة فیجب تحصیلها.

الثانیة: أنّ الأمر بمتعلّق ذی مقدّمة مالیة یرجع نفعها إلی الغیر بحیث کان ذلک الأمر لیس من باب النفقة الواجبة المعهودة، ولا من الصدقة الواجبة ونحوها فحینئذ تکون تلک المقدّمة المالیة قید وجوب فی الأمر لا مقدّمة وجود کما هو الحال بالأمر بتغسیل المیّت بالماء وتکفینه بالکفن وتحنیطه بالحنوط.

الثالثة: أنّ النفقات الواجبة علی ذی الرحم إنّما هی فی المسکن واللباس والغذاء ونحوها من الحاجیات الضروریة المعاشیة دون الواجبات المالیة المتعلّقة بذی الرحم ککونه مدیونا فی الخمس أو الزکاة أو الکفّارات ونحوها کالغرامات المالیة فی غیر المؤنة فحینئذ أی واجب مالی یتعلّق بذی الرحم العادم للمال- أی غیر الواجد للمال- لا یجب علی ذی الرحم الغنی النفقة علیه بلحاظه.

الرابعة: انّ التسبیب موجب للضمان فی الغرامات المالیة المحضة کالاتلاف والتلف ونحوها دون التسبیب فی الواجبات المالیة، کأن یسبّب شخص لآخر تعلّق الخمس به أو الزکاة أو غیرها من الواجبات المالیة فإنّه لا یوجب الضمان علی المسبّب.

الخامسة: أنّ استحباب الإحجاج الوارد فی روایات المقام إنّما هو

ص:184

بلحاظ الصبی غیر الممیّز أو الممیّز العاجز عن الاستقلال فی الأفعال، وأمّا الصبی الممیّز الذی یستقلّ بالفعل فلا یکون أمر الولی له بالحجّ احجاجا أو حجّا به، أی لا یکون نیابة من القسمین الثانی والثالث. نعم قد یستظهر من الأمر الوارد بتوقیتهم عن تروک الاحرام أنّ ذلک نحو من احجاج الولی للممیّز، وأیّا ما کان فإنّ فی صورة استقلال الصبی الممیّز بالحجّ لا یکون ذلک من باب الإحجاج.

السادسة: أنّ مقتضی الأمر بالاحجاج هو عین مقتضی الأمر الاستحبابی بالبذل لبالغ آخر لیحجّ من کون مقتضاهما هو وقوع نفقات الحجّ من السفر والهدی وثوبی الاحرام وغیرها من المؤن المالیة وغیرها هی علی المأمور بالاحجاج والبذل؛ إذ الأمر تعلّق بمجموع ماهیّة الحجّ والذی فیه یکون مال الهدی مقدّمة وجودیة لا سیّما وأنّ هذین الأمرین هما بعنوان الإحسان إلی الصبی والبالغ، وهذا بخلاف ما إذا لم یخاطب المکلّف أو الولی بالاحجاج کما إذا استقلّ الصبی الممیّز بالعمل فإنّ مقتضی القاعدة إذا خوطب بالذبح عنه بمقتضی ما تقدّم فی النقطة الثانیة هو علی الصبی دون الولی.

فیظهر ممّا تقدّم من النقاط أنّ مقتضی القاعدة هو تحمّل الولی مال الهدی فی غیر الممیّز دون الممیّز المستقلّ بأعمال الحجّ.

نعم، بالنسبة إلی الصبی الممیّز قد اتّضح من المسألة السابقة أنّ نفقة الحجّ والسفر إنّما تکون من مال الصبی إذا کان مصلحة له، وأمّا إذا لم یکن مصلحة له فیکون الولی ضامنا لتلک النفقات من باب التسبیب لتصرّف

ص:185

الصبی أو الولی فی المال فی غیر المورد المرخّص، وهذا هو المحمل الصحیح لما ذکره الفقهاء من أنّ الولی ضامن لمال الهدی لأنّه المسبّب، فإنّ المراد من التسبیب هو ذلک لا ما تقدّم فی النقطة الرابعة من التسبیب للواجب المالی، بل التسبیب للتصرّف فی مال الصبی فی غیر ما هو مصلحة له.

ثمّ انّه لابدَّ أن یحرّر الحال فی المصلحة التی هی شرط فی التصرّفات المالیة فی أموال الصبی هل هی خصوص المصلحة المالیة أو الأعمّ الشاملة لمثل الآداب الشرعیة المعتدّ بنفعها للصبی، ولا یبعد الثانی وتحریره فی محلّه. کما أنّه بحسب مقتضی القاعدة فی الصبی الممیّز المستقلّ فی الحجّ بناء علی المشروعیة أن یکون الخطاب بالذبح متوجّها إلیه. وهذا لا ینافی عدم جواز صرف مال الصبی فی الهدی فیما لم یکن الحجّ مصلحة له؛ إذ غایة الأمر أنّ الصبی لو امتثل ذلک فی ماله یکون الغرم علی الولی، أو أنّ الولی یبذل له ذلک. نعم لو مانع الولی من تصرّف الصبی فی ماله ولم یبذل له مقتضی القاعدة حینئذ هو خطاب الممیّز بالصوم بدلا عن الهدی، هذا کلّه بحسب مقتضی القاعدة.

أمّا بحسب الروایات الخاصّة الواردة الاولی صحیحة معاویة بن عمّار عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: «انظروا من کان معکم من الصبیان فقدّموه إلی الجحفة أو إلی بطن مر ویصنع بهم ما یصنع بالمحرم، ویطاف بهم ویرمی عنهم ومن لا یجد الهدی منهم فلیصم عنه ولیّه»(1).

ص:186


1- (1) باب 17 من أقسام الحج ح3.

ومفاد الصحیحة من حیث الموضوع وإن کان قد یتراءی أنّه مطلق الصبی إلّا أنّه بقرینة التعبیر ویصنع بهم یکون فی خصوص الإحجاج لا حجّ الصبی بالاستقلال وإن عبّر فی الروایة ما یصنع بالمحرم ممّا قد یوهم أنّ المراد من الصنع بهم هاهنا الأمر بالاحرام کأمر البالغ المحرم، حیث انّ المراد بالمحرم هاهنا أنّه یفرض محرما. أمّا المحمول فی الروایة فظاهرها ابتداءً تعلیق وجوب الصوم علی الولی عن الصبی علی عدم وجدان الصبیان للهدی بناء علی رجوع الضمیر المجرور (منهم) إلی الصبیان فتکون حینئذ دالّة علی أنّ الهدی یجب فی مال الصبی فإن لم یجد فیجب علی الولیّ الصوم عنه لا سیّما وأنّ ضمیر الجمع هنا ضمیر الغائب حیث انّه لو ارید منه الأعمّ من الصبیان ومن الکبار الأولیاء لأتی بضمیر المخاطب کما فی صدر الروایة، لکن قد یحتمل عود الضمیر إلی المجموع بقرینة التعبیر بولیّه بعد ذلک الذی هو فی قوّة الغائب فیکون من الغیبة بعد الالتفات الذی سبق فی الصدر، لکن الأوجه الأوّل.

وما فی المستمسک من تفسیر عدم وجدان الصبیان للهدی بعدم وجدان الکبار الهدی لهم لأنّ مال الصبی إنّما یکون من مال ولیّه لتعارف ذلک التعبیر عرفا وإن کان لا یخلوا من وجه إلّا أنّ الأوجه أخذ الاسناد حقیقیا فیما هو قید لموضوع حکم صیام الولی عنه.

وأمّا مفاد صحیحة زرارة عن أحدهما(علیهماالسلام) قال: «إذا حجّ الرجل بابنه وهو صغیر فإنّه یأمره أن یلبّی ویفرض الحجّ، فإن لم یحسن أن یلبّی لبّوا عنه ویطاف به ویصلّی عنه، قلت: لیس لهم ما یذبحون، قال: یذبح عن

ص:187

الصغار، ویصوم الکبار، ویتّقی علیهم ما یتّقی علی المحرم من الثیاب والطیب، وإن قتل صیدا فعلی أبیه»(1).

وهذه صحیحة من حیث الموضوع أعمّ من الممیّز وغیره، أی أعمّ من الحجّ حجّ الصبی وإحجاجه، وأمّا المحمول فالظاهر من ضمیر الجمع أنّه عائد لضمیر الجمع السابق فی لفظة (لبّوا عنه) أی العائد للکبار، فیکون مفادها أنّه إن لم یکن للکبار ما یذبحون عن الجمیع أی عن أنفسهم وعن الصغار، فأجاب(علیه السلام) یذبح عن الصغار.

ولکن یحتمل عود الضمیر إلی الصغار کما هو متعیّن ذلک فی (و یتّقی علیهم) لا سیّما وأنّ فی نسخة الکافی لم یتقدّم ضمیر الجمع (لبّوا) بل عبّر فیها (لبّی عنه) فیتّفق مفادها علی هذا الاحتمال مع مفاد صحیحة معاویة بن عمّار، غایة الأمر أنّ فی هذه الصحیحة قد أوجبت الذبح عن الصغار وصوم الکبار عن أنفسهم وکأنّه للتزاحم بین الواجبین المخاطب بهما الولی فیقدّم غیر ذی البدل علی ذی البدل وعلی أیّة حال إیجاب الذبح علی الولی فی هذه الصحیحة وإیجاب الصیام علیه فی صحیحة معاویة المتقدّمة بعد تقیید إطلاق الاولی بالثانیة دالّ علی أنّ الهدی للصبی واجب علی الولی فی الجملة فإن لم یتمکّن من الهدی فیصوم عن الصبی، فلو بنی علی إجمال مرجع الضمیر فی الروایتین الذی أخذ موضوعا لوجوب الهدی أو بدله علی الولی فیکون المحصّل من هاتین الصحیحتین کقدر متیقّن هو وجوب الهدی علی الولی عند عدم وجدان الصبی له أعمّ من کونه ممیّزا أو غیر ممیّز

ص:188


1- (1) وسائل، باب 17 من أقسام الحج ح5.

إلّا أنّ مقتضی القاعدة فی الإحجاج علی الولی مطلقا ولا ینافیه الإجمال فی الصحیحتین، بخلاف ما لو بنی علی ظهورهما فی تقیید الوجوب المزبور بقید عدم وجدان الصبی فإنّه یرتکب التخصیص فی مقتضی القاعدة فی خصوص الإحجاج.

وأمّا موثّق إسحاق سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن غلمان لنا دخلوا معنا مکّة بعمرة وخرجوا معنا إلی عرفات بغیر إحرام، قال: «قل لهم: یغتسلون ثمّ یحرمون واذبحوا عنهم کما تذبحون عن أنفسکم»(1).

فالظاهر أنّه فی المملوک المبذول له الحجّ کما وردت روایات عدیدة فی ذلک(2)، ولا أقلّ من إجمال المراد فیها.

لکن بقرینة ما فی صحیح زرارة من إطلاق ثبوت کفّارة الصید علی الولی أعمّ من کونه ممیّزا أو غیر ممیّز مع أنّ الکفّارة لیست من أجزاء الحجّ فی الإحجاج ولذا یلزم بها الباذل فی الحجّ البذلی یظهر قرینیة هذا الاطلاق علی عود الضمیر فی (لهم) إلی الکبار وکذا کفّارة الصید کما تفید ذلک صحیحة زرارة التی هی فی مطلق الصبی کما تقدّم ولا یعارضه ما فی مصحّحة علی بن جعفر ؛ لأنّ مفادها نفی تعلّق الکفّارة علی الصبی لا مطلقا فلا تنافی صحیحة زرارة .

ص:189


1- (1) باب 17 من أبواب أقسام الحج ح2.
2- (2) الاستبصار باب المملوک یتمتع بإذن مولاه ج2 ص263.

ص:190

قاعدة :من أدرک المشعر فقد أدرک الحج

اشارة

ص:191

ص:192

من أدرک المشعر فقد أدرک الحج

أولا: الأقوال فی القاعدة:

الاول: ما نسب إلی المشهور من القول بالاجزاء إلحاقا بما ورد فی العبد .

الثانی: ما عن المحقّق فی المعتبر والعلّامة فی بعض أقواله التردّد فی الاجزاء, کما واستشکله فی الحدائق وأکثر متأخّری هذا العصر، وذکر السید الیزدی فی حج العروة ثلاثة وجوه للاجزاء وأشکل علیها(1).

القول الثالث: الاجزاء وهو الصحیح .

ثانیا: الادلة علی الاجزاء:

أنّ للاجزاء وجهین تامّین:

الأوّل: ویترتّب من مقدّمتین:

المقدّمة الاولی: هی توسعة موضوع وجوب الاستطاعة وبقیّة شرائط الوجوب إلی أو عند أحد الموقفین بمقتضی توسعة الواجب بقاعدة من أدرک أحد الموقفین فقد أدرک الحجّ، کما أشار إلی ذلک کاشف اللثام.

المقدّمة الثانیة: فی کیفیّة أداء الواجب مع کون الصبی الذی بلغ مرتهن باحرام لحجّ مستحبّ، وذلک امّا بدعوی بطلان إحرامه السابق أو

ص:193


1- (1) العروة الوثقی، کتاب الحج، مسألة 7.

جواز العدول به إلی الحجّ الواجب أو کونه مجزئا عن الواجب من دون عدول وجوه، وما ورد فی العبد من الروایات الخاصّة بعد حملها علی مقتضی القاعدة لما تقدّم فی المقدّمة الاولی تکون دالّة علی عدم إعاقة وعدم معارضة الاحرام السابق لأداء الواجب.

أمّا بیان المقدّمتین تفصیلا فنقول إنّه یستدلّ علی المقدّمة الاولی بما حرّر فی الاصول من أنّه توسعة الواجب یلزمه توسعة الوجوب- أی موضوعه- کما فی من أدرک رکعة من الوقت فقد أدرک الوقت فإنّه یوسّع الوجوب للحائض التی حصل لها النقاء من الحیض واقتدرت علی أداء رکعة، فکذا الحال فیما نحن فیه حیث انّ دلیل «من أدرک المشعر فقد أدرک الحجّ موسّع لأداء الواجب وهو یوسّع الوجوب وموضوعه بتبع ذلک فی تمام قیوده، وما أشکله غیر واحد من النقض بحجّ المتسکّع الذی تحدث لدیه الاستطاعة عند أحد الموقفین من أنّه لا یجزأ عن حجّة الإسلام غیر مسلّم، مع أنّهم قد ذهبوا إلی الاجزاء فی من حجّ متسکّعا وأحرم من المیقات ثمّ تجدّدت له الاستطاعة وکان أمامه میقات آخر (کما ذکرناه فی سند العروة بحث الحج مسألة 6 من شرط الاستطاعة) (1)، ولا خصوصیة للمیقات الآخر فی فرضهم؛ لأنّ المضطرّ میقاته حیث أمکنه فینطبق حینئذ کبری تلک المسألة علی ما نحن فیه أیضا، والعمدة فی وجه الالتزام بتلک المسألة هو کون الاستطاعة المشروطة فی وجوب الحجّ هی بلحاظ کون ومکان المکلّف لا من بلده، وبلحاظ إمکان أداء الواجب والمفروض تحقّق

ص:194


1- (1) سند العروة، کتاب الحج، ج1 ص62.

ذلک فی المسألة المزبورة وفی المقام أیضا حیث انّه فی المقام قد تحقّقت جمیع شرائط الوجوب من الاستطاعة والبلوغ والحریة، کما أنّه یمکنه أداء الواجب ببرکة من أدرک أحد الموقفین فقد أدرک الحجّ، ومن ثمّ تقرر تلک القاعدة ان الجهة الموسّعة للواجب موسّعة لموضوع الوجوب أیضا، ومن ذلک یظهر (وجه) تعدّی المشهور من الروایات الخاصّة الواردة فی العبد إلی غیره من الصبی وغیره من المکلّفین إذا استتمّت لدیهم الشرائط کمن حجّ حجّا تطوّعا أجیرا فی خدمة أحد القوافل فتجدّد له حصول الاستطاعة بعد إحرامه قبیل أحد الموقفین (حیث) انّهم حملوا ما ورد فی العبد علی الإشارة لمقتضی القاعدة بالبیان المتقدّم لا أنّه تعبّد خاصّ فی حدوث الوجوب فی مورد العبد خاصّ به کی یستشکل بما ذکره أکثر متأخّری العصر بأنّ التعدّی قیاس من غیر علّة مصرّح بها فی الروایات، فنکتة حمل تلک الروایات علی القاعدة هی هذه المقدّمة الاولی التی بیّناها، وقد أشار إلیها کاشف اللثام.

وأمّا إشکال السید الیزدی علی قاعدة من أدرک أحد الموقفین فقد أدرک الحجّ من أنّ هذه القاعدة إنّما هی واردة فی من لم یحرم لا فی من أحرم کما فی المقام، وأجاب غیر واحد عنه بأنّ القاعدة واردة فی الأعمّ من الذی أحرم أو من لم یحرم لکن الظاهر أنّ نظر السید الیزدی(قدس سره) فی الإشکال هو ما سنتعرّض له فی المقدّمة الثانیة من وجود المانع عن أداء الواجب وهو التلبّس بالاحرام السابق ولو فرض تحقّق موضوع الوجوب بمقتضی المقدّمة الاولی وإلّا فلا یخفی علی مثله(قدس سره) ان روایات قاعدة من أدرک أغلبها

ص:195

ورد فی من أحرم.

والحاصل: أنّ ما ورد فی روایات العبد لیس تعبّدا خاصّا بلحاظ حدوث الوجوب.

أمّا المقدّمة الثانیة: وهی فی التخلّص من الاحرام الذی تلبّس به والنسک الذی أنشأه وعقده وفرضه علی نفسه بالتلبیة فیمکن بیان الحلّ والعلاج لذلک ببیان إجمالی وآخر تفصیلی علی مقتضی إحدی قواعد عدّة علی نحو البدل:

أمّا الجواب الإجمالی: فهو ببرکة الروایات الواردة فی العبد حیث انّها دلّت إجمالا علی عدم ممانعة ما تلبّس به من إحرام ونسک عن أداء الواجب الذی تجدّد وجوبه، وظاهرها - کما ذکرنا فی مسألة حج العبد - کما فی صحیح شهاب بطریق الصدوق والکلینی(قدس سره)ما أنّ ما وقع من إحرام یجزء عن الواجب وأنّ ما وقع من أعمال العبد مجز عن الواجب کذلک، أی أنّ طبیعة المستحبّ المأتی بها تنطبق علیها طبیعة الواجب عند حدوث الوجوب فی الأثناء عند أحد الموقفین، (و ما أشکله) البعض فی مفاد هذه الروایات من أنّها غیر دالّة علی تلبّس العبد بالاحرام؛ إذ من المحتمل أنّه أعتق ولم یکن محرما ثمّ أدرک أحد الموقفین (فخلاف) ظاهر الصحیح المتقدّم حیث انّ التعبیر (ب-) یجزی عن العبد حجّة الإسلام دالّ علی تحقّق عمل فی الخارج یکون هو مجزیا عن أداء الواجب، کما أنّ التعبیر فیها بأنّ للسیّد ثواب الحجّ دالّ علی مفروغیة بذل السیّد الحجّ للعبد- أی قبل العتق-.

ص:196

والحاصل: أنّ هذه الروایات صرّح فیها بکبری من أدرک أحد الموقفین الدالّ علی أنّ حکم العبد فی المقام هو بمقتضی تلک الکبری، بل انّ هذه الروایات هی بعض روایات تلک الکبری. غایة الأمر انّ ما تلبّس به من إحرام تطوّعی یقع مجز عن الواجب لانطباق الماهیّة.

ثمّ انّه علی ذلک (لا یشکل) علی الاستدلال بتلک الروایات علی المقدّمة الثانیة بأنّها خاصّة فی العبد وأنّه الذی یقع إحرامه التطوّعی مجز عن الواجب، (و ذلک) لأنّ کیفیّة أداء الواجب من جهة ممانعة التلبّس بالنسک التطوّعی لا فرق فیه بین المکلّف الذی کان عبدا أو الذی کان صبیا أو غیر مستطیع بعد فرض تحقّق جمیع شرائط الوجوب عند أحد الموقفین علی استواء فی الموارد الثلاثة وکون الاحرام السابق لهم تطوّعی، وبعبارة اخری: انّ التعبّد فیها لیس بلحاظ موضوع الوجوب کیف وهی تعلّل بالکبری المزبورة، وإنّما التعبّد فیها بلحاظ کیفیّة أداء الواجب للوجوب المتجدّد بانطباق طبیعة الواجب علی طبیعة التطوّع، ولک أن تقول إنّ التعلیل فیها بکبری من أدرک شاهد علی العموم فی کیفیّة أداء الواجب مع الابتلاء بذلک المحذور. فحینئذ نخرج بکبری اخری من الروایات الواردة فی العبد وذلک بقرینة تعلیلها بحدوث الوجوب بتوسعة الواجب، هی أنّ طبیعة الحجّ التطوّعی ینطبق علیه طبیعة الحجّ الواجب إذا تحقّق موضوع الوجوب قبل انقضاء أحد الموقفین، وسیأتی ویقرر ایضا فی الوجه الثانی فی المقام أنّ روایات اجزاء حجّ الصبی المتقدّمة خاصّة بما بعد الموقفین فیستفاد منها هذه الکبری أیضا.

ص:197

أمّا البیان التفصیلی فی المقدّمة الثانیة بمقتضی إحدی القواعد علی نحو البدل وهو أن یتمسّک بذیل، أمّا قاعدة أنّ الأمر الندبی لا یشرع مع وجود الأمر الوجوبی فیقتضی ذلک فی العبد أو الصبی أو غیر المستطیع أنّ ما أتوا به من إحرام لنسک تطوّعی یقع باطلا، فحینئذ لا یکون المکلّف الذی تجدّدت له شرائط الوجوب مبتلا بمانع الاحرام التطوّعی ونسکه، وذکرنا فی مسألة (6 و26 و110 من بحث الحج) ما ینفع فی هذه القاعدة وأنّ الأظهر مشروعیة التطوّع لعموم أدلّة استحباب الحجّ ومشروعیّته ورجحانه، بناء علی أخذ الاستطاعة قیدا فی الوجوب والملاک کما هو قول المشهور، وأمّا علی أنّ الاستطاعة قید فی التنجیز فلا یختلف موضوع مشروعیة الوجوب حینئذ عن موضوع الندب فلا یتعقّل تحقق أمرین بموضوع واحد علی متعلّق واحد بنحو الدوام فلا یکون فی البین إلّا أمر مشروعیّة الفریضة هذا بالنسبة للبالغین بلحاظ قید الاستطاعة وأمّا بلحاظ قید البلوغ فیتصوّر الأمرین لاختلاف الموضوعین کما لا یخفی.

نعم سنبیّن فی المسألتین الأوّلیتین انطباق الواجب علی ما أتی به من التطوّع بدلالة ما ورد فی العبد.

القاعدة الاولی: جواز العدول بالاحرام فی نسک إلی نسک قبل التلبّس بجزء النسک.

لکن سیأتی فی محلّه أنّ الأقوی وجوب إتمام النسک المنوی عند التلبیة لما ورد فی روایات التلبیة من التعبیر فیها بإنشاء الحجّ بالتلبیة وعقد الحجّ والنسک أو فرضه ولکنّها دالّة علی أنّ التلبیة مع نیّة أحد النسک سبب

ص:198

وصیغة لإیجاب أحد النسکین کصیغة النذر مع وجوب النذر فیجب علیه إتمام ذلک النسک.

القاعدة الثانیة: کون الاحرام شرطا فی نسک والشرط أخذه توصّلی، بخلاف الجزء فإنّ أخذه تعبّدی، وهذا لا غبار علیه کما سیأتی فی مواضع متعدّدة وإن ذهب جماعة کثیرة إلی أنّه جزء فی مسألة کیفیّة الاحرام ورتّبوا علی ذلک نیّة النسک حین تلبیة الاحرام کما فی الجواهر وأکثر المتأخّرین فی هذا العصر- کما سیأتی فی فصل کیفیّة الاحرام- الشرط الثالث فی نیّة تعیین النسک للاحرام.

ولکن الظاهر من المبسوط والوسیلة والمهذّب والتذکرة أنّه شرط فیجوز إنشاء الاحرام من دون تعیین، ثمّ صرفه إلی نسک معیّن وهکذا فی کشف اللثام.

ویترتّب علی هذا البحث (شرطیة الاحرام أو جزئیّته) فوائد عدیدة فی مسائل الحجّ:

1- لزوم تعیین النسک المتقدّم.

2- لزوم کون النائب فی بعض أعمال الحجّ أداء أو قضاء، محرما کالنائب فی الطواف أو السعی أو الرمی أو الذبح، بناء علی الشرطیة بخلافه علی الجزئیة فإنّه لا یشترط کونه محرما.

3- لزوم إتیان النسک مهما طالت المدّة بین عقد الاحرام والنسک بناء علی الشرطیة بخلافه علی الجزئیة فإنّه یبطل بعدم تعقّب بقیّة الاجزاء

ص:199

بمدّة طویلة وهذه الفائدة یترتّب علیها أکثر فروعات الخلل فی الحجّ والعمرة.

4- بقاء الاحرام مع فساد النسک أو عدمه.

5- کون أخذ الاحرام توصّلیا علی الشرطیة لا تعبّدیا فی المرکب کما هو علی القول بالجزئیة. وغیرها من الموارد.

واستدلّ للشرطیة:

أوّلا: بما ذکره العلّامة الحلّی من أنّ النسکین غایتان للاحرام ولذا لم تختلف ماهیّته فی النسکین.

ویمکن تفسیر ذلک بما تقرّر فی علم الاصول فی بحث مقدّمة الواجب من أنّ الأشیاء التی تؤخذ عنوانا وصفیا للمکلّف أو کوصف لموضوع أو لمتعلّق التکلیف، کمستقبل القبلة أو المتطهّر أو طهارة ما یسجد علیه، أنّها تکون شروطا فی المرکّب لا أجزاء؛ لأنّ المفروض أخذ تقیّدها، أی أخذها بنحو الوصف وما نحن فیه فی المقام کذلک، حیث انّ الاحرام أخذه وصفا للمکلّف، أی عنوان المحرم.

مضافاً لما ذکروه هناک فی نیّة العبادات من أنّها شرط لمقارنتها واتّصالها مع کلّ الاجزاء بنحو مستمرّ وهو من خواص الشرط لا الجزء والأبعاض المتعاقبة بعضها البعض وکذلک فی الاحرام فی المقام.

ثانیا: بما ذکره العلّامة أیضا- مع بسط منّا- من أنّ الاحرام فی الحجّ یغایر الاحرام فی بقیّة العبادات کالصلاة؛ فإنّ فیها الاحرام بالتکبیرة یبطل

ص:200

بعدم تعقّب بقیّة الاجزاء الصلاتیة لها مدّة طویلة لجهة الارتباط، ممّا یدلّ علی جزئیة الاحرام فی الصلاة.

وهذا بخلاف الاحرام فی الحجّ فإنّه إذا فسد الحجّ لم یفسد الاحرام، کما أنّه إذا عجز عن إدراک الموقفین فی الحجّ لم یفسد الاحرام کما فی المصدود والمحصور حیث انّ إحرامهما بقاء یتحلّلان منه بالذبح وإن امتنع أدائهما للنسک.

ثالثا: بما ذکره صاحب الجواهر من أنّهم لم یکتفوا بنیّة المرکب والنسک عن نیّة الاحرام تفصیلا مع أنّ مقتضی القاعدة أنّه یکتفی بنیّة الماهیّة عن نیّة الاجزاء وإن کانت أجزاء ماهیّة الحجّ تختلف عن بقیّة المرکبات من أنّ لها صورا مستقلّة متباعدة زمنا بعضها عن البعض فی عین ارتباطیّتها.

رابعا: بما ورد فی النصّ والفتوی من صحّة من حجّ ناسیا للاحرام فی کلّ أعمال الحجّ وعدم لزوم إتیان الاحرام بعد الاعمال فی ذلک الفرض بخلاف بقیّة الاجزاء فإنّها تتدارک مع الخلل.

خامسا: بما ورد فی المصدود والمحصور ومن لم یدرک الموقفین وغیرهم من أنّهم یتحلّلون أمّا بالهدی أو بعمرة ممّا یدلّ علی عدم بطلان الاحرام فإنّ حاله حال التیمّم الذی أوقع للصلاة ثمّ قرأ به القرآن دون الصلاة؛ إذ صحّة الشرط مستقلّة عن صحّة المشروط وإن بنی علی المقدّمة الموصلة کما أوضحناه.

ص:201

واستدلّ للجزئیة:

أوّلا: بما ورد فی أبواب الاحرام من الروایات الدالّة علی لزوم التعیین واشتراط العدول حیث أنّ ظاهرها لزوم قصد ماهیّة النسک عند الاحرام ممّا یظهر منها أنّ الاحرام جزء؛ إذ هذه خاصّیة الجزئیة لا الشرطیة فإنّها حیث کانت توصّلیة، لا تلزم نیّة المشروط عند إتیان ذات الشرط وإن کان تعبّدیا کالوضوء والغسل.

ثانیا: بأنّ عبادیة الاحرام متوقّفة علی قصد أمر النسک أی أنّه لا أمر به فی نفسه کما هو الحال فی الوضوء والغسل ممّا یدلّ علی أنّ الأمر به ارتباطی ضمنی.

ویخدش فیهما بأنّ لزوم قصد الأمر بأحد النسکین وإن کان لابدَّ منه لکی یقع الاحرام عبادیا، لکن ذلک أعمّ من الجزئیة والشرطیة کما هو الحال فی التیمّم حیث أنّه لم یؤمر به فی نفسه فلا یقع عبادیا إلّا بقصد الأمر بالمشروط.

وبعبارة أخری: انّهم قد ذکروا فی بحث مقدّمة الواجب أنّ المقدّمة العبادیة إذا لم یکن لها أمر مستقل فی نفسها فلابدَّ حینئذ من قصد الأمر بذیها. وهذا لا یقلبها عن کونها شرطا. بل مع القول بکون المقدّمة الواجبة هی مطلق المقدّمة دون التوصّلیة تصحّ وتقع المقدّمة عبادیة وإن لم یأت بالمشروط بالإتیان بمشروط آخر لوقوعها عبادیا بقصد الأمر بالمشروط الأوّل. بل تقع عبادیا حتی علی المختار من المقدّمة التوصّلیة حیث انّ الواجب علی ذلک القول وإن کان هو خصوص المقدّمة الموصلة

ص:202

و إنّ غیر الموصلة لا أمر بها إلّا أنّ المقدّمة بلحاظ المشروط ذی المقدّمة الآخر حیث کان تقیّده به توصّلیا فیمکن وقوع المقدّمة عبادیة بالإضافة إلیه.

وبعبارة اخری أنّهم ذکروا أنّ العبادة إذا تعلّق بها أمران وقصد أحدهما فإنّه یکون امتثالا له وأداء للآخر غیر المقصود وهذا ما یقال من أنّ الواجب العبادی فی عین کونه عبادیا، إلّا أنّه بلحاظ أمره، لو أمکن تحقّق عبادیّته بغیره توصّلی.

والحاصل: إنّ لزوم قصد النسک فی نیّة الاحرام لا یدلّ علی الجزئیة ولا یبطل الاحرام فیما لو لم یأت بالنسک المنوی.

هذا کلّه فی بیان قاعدة أنّ الاحرام شرط لا جزء، لکن مع ذلک هذه القاعدة مع تمامیّتها لا تفید فی المقام بمفردها؛ لأنّها تحلّ جهة الإشکال فی المقدّمة الثانیة فی المقام من زاویة الاحرام أنّه لیس جزءا بل شرطا صالحا بأن یتعلّق بأیّ نسک.

وأمّا الزاویة الاخری من الإشکال من المقدّمة الثانیة فی المقام من اشتغال الذمّة بإنشاء نسک وعقده وفرضه فیجب علیه الاتمام فلا تنفع شرطیة الاحرام فی حلّه.

فامّا یحلّ الاشکال فی المقدّمة الثانیة بالقاعدة الثالثة من عدم وجوب اتمام النسک للتلبّس به فیعدل فی المقام من النسک المستحبّ إلی الواجب عند البلوغ والحریة فی أحد الموقفین. لکن الصحیح هو وجوب إتمام

ص:203

النسک بإنشائه لفظا ونیّة وعقده وفرضه لورود هذا التعبیر فی روایات أبواب الاحرام المشار إلیها فیما تقدّم.

ومقتضی هذا التعبیر کون الإنشاء اللفظی للنسک أو الإنشاء لنیّة أنّه سبب لوجوبه وفرضه فیکون محقّق الصغری لکبری قوله تعالی: وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلّهِ (1) وظاهر الروایات والآیة هو الاختصاص الوضعی لذلک الاحرام بذلک النسک المنوی فضلا عن وجوب الاتمام التکلیفی.

وإمّا یحلّ ب القاعدة الرابعة وهی کون الحجّ المستحبّ مع الحجّ الواجب طبیعة وحقیقة واحدة منطبق أحدهما علی الاخری فی تمام أجزاء الماهیّة وشرائطها. غایة الأمر یقصد أمر کلّ منهما لأجل التمییز فی الامتثال کما هو الحال فی رکعتی نافلة الصبح وفریضته وحینئذ فهل یکون ما أتی به العبد والصبی وغیرهما من الحجّ التطوّعی مصداقا للطبیعة الواجبة بعد تجدّد شرائط الوجوب عند الموقفین.

لکن الأظهر- بالنظر لما ورد فی روایات العبد کما فی صحیح شهاب المشار إلیها سابقا والروایات الواردة فی نفی اجزاء حجّ الصبی عن حجّة الإسلام المختصّة بما إذا لم یبلغ عند أحد الموقفین- بقرینة عموم (من أدرک أحد الموقفین فقد أدرک الحجّ) الدالّ علی تحقّق موضوع الوجوب، مضافا إلی انصرافها عن فرض المقام باختصاصها بغیره کما سنبیّنه فی الوجه الثانی انّ طبیعة الحجّ التطوّعی متّحدة مع الواجب فیما إذا فرض تحقّق موضوع

ص:204


1- (1) البقرة: 196.

الوجوب ولو عند أحد الموقفین لا ما إذا تحقّق بعدهما فإنّ طبیعة الحجّ المستحبّ مباینة بمقتضی تلک الطائفتین من الروایات وعلی ذلک فینجع فی حلّ الإشکال فی المقام وهو ظاهر من روایات العبد ومحملها.

هذا تمام الکلام فی المقدّمة الثانیة من مقدّمتی الوجه الأوّل لإجزاء حجّ الصبی بالبلوغ قبل أحد الموقفین، وإنّما أطلنا فی بیان المقدّمة الثانیة مع أنّ الوجه الإجمالی کان مجزئا لما فی التفصیل من تحریر قواعد یبتنی علیها أکثر فروعات الحجّ وشرائط وجوبه.

أمّا الوجه الثانی فبناء علی التمسّک بالعمومات المشروعة للعبادات وأنّها یستدلّ بها لمشروعیة حجّ الصبی وأنّه واجد لعین ملاک حجّ الکبار فی فرض توفّر بقیّة الشرائط من الاستطاعة وغیرها کما تقدّم بیانه فی نسبة حدیث الرفع إلی العمومات الأوّلیة. غایة الأمر أنّه قد دلّت الروایات الخاصّة علی عدم إجزاء حجّ الصبی کدلیل مخصّص رافع للید عن العمومات إلّا أنّ المقدار المخصّص بها فیما إذا استمرّ صباه إلی ما بعد الموقفین أو ما بعد الحجّ ولا یخفی انصرافها إلی ذلک لمن تدبّر، بل لک أن تقول إنّ قاعدة من أدرک أحد الموقفین فقد أدرک الحجّ الدالّة علی توسعة موضوع الوجوب کما تقدّم مقیّدة لتلک الروایات الخاصّة بغیر ما إذا بلغ قبل الموقفین.

والحاصل: أنّ الصبی والمتسکّع والعبد وکلّ من کان غیر واجد الشرائط فتوفّرت لدیه الشرائط عند أحد الموقفین فإنّ ذلک یجزیه عن حجّة الإسلام.

ص:205

ص:206

قاعدة :الشعائر الدینیة

اشارة

ص:207

ص:208

الشعائر الدینیة

من القواعد المهمة التی لم یحرر فیها الأعلام بحثا منفردا, قاعدة الشعائر الدینیة اذ بحثوها استطرادا وبشکل متناثر بحسب مناسبات خاصة, وبطبیعة البحث الاستطرادی لا یسلط الضوء علی کل حیثیات البحث بل یبحث بشکل متوسط وإجمالی دون الغور فی المطالب التفصیلیة والتحلیلیة, وبذلک تنشأ رؤی غیر مکتملة تحتاج الی تنقیح وتجمیع للخروج بقاعدة متکاملة .

وتحریر البحث فی هذه القاعدة فی جهات:

الجهة الاولی: أقوال علماء الفریقین - من مفسرین ومتکلمین ومحدثین - فی معنی الشعیرة.

الجهة الثانیة: حکم الشعیرة إجمالًا.

الجهة الثالثة: معنی الشعیرة لغة.

الجهة الرابعة: طبیعة تحقق موضوع الشعائر ومعالجة بعض قواعد التشریع.

الجهة الخامسة: متعلق الحکم فی قاعدة الشعائر .

الجهة السادسة: النسبة بین قاعدة الشعائر والأحکام الأولیة والثانویة.

الجهة السابعة: موانع تطبیق قاعدة الشعائر .

ص:209

الجهة الثامنة: تطبیقات قاعدة الشعائر (الشعائر الحسینیة نموذجا).

الجهة الاولی: اقوال علماء العامة والخاصة حول قاعدة الشعائر:

والبحث فی هذه الجهة فی مقامین:

المقام الأول: أقوال العامة:

أقوال العامّة:

القول الأول: ما نقله بعض المفسرین من ان عطاء فسّر الشعائر فی الآیتین التالیتین (بأنّها جمیع ما أمر اللَّه به ونهی عنه ، أی جمیع فرائضه .. ولم یخصّصه ببابٍ دون باب ), سواء فی الآیة وَ مَنْ یُعَظِّمْ شَعائِرَ اللّهِ ... (1) ولا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللّهِ ... (2).

وکذلک نقل ابن الجوزی عن عکرمة بأنه فسر الشعائر قائلا: (شعائر الله هی حدوده).

القول الثانی: ما نقله بعض المفسرین عن الحسن البصریّ: (الشعائر شعائر اللَّه: هو الدین کلّه ) ..

وهذا أیضاً قولٌ بالتعمیم, ای تعمیم فی الموضوع ، وعلیه فهذان القولان یتّفقان علی تعمیم موضوع الشعائر .

القول الثالث: ما قاله القرطبیّ فی تفسیره أحکام القرآن, حیث ذهب

ص:210


1- (1) الحج: 32.
2- (2) المائدة: 2.

إلی أنّ المراد من الشعائر هی جمیع العبادات ولم یعمّمها لجمیع أحکام الدین، وإنّما خصّصها بالعبادات .. قال: (جمیع المتعبّدات الّتی أشعَرها اللَّه تعالی، أی جعلها أعلاماً للناس).

وهذا قول آخر قد حدّد فیه دائرة الموضوع .

القول الرابع: ما ذهب الیه بعض مفسری العامة من أنّ المراد من شعائر اللَّه مناسک الحج خاصة دون غیرها من الاعمال او العبادات, وذلک بقرینة السیاق فی الآیات الواردة فی سورة الحجّ وفی أوائل سورة المائدة ، وتلک التی فی سورة البقرة اذ کلّها فی سیاق أعمال مناسک الحجّ .. فمن ثَمّ ذهب هذا القائل الی أنّ المراد منها جمیع مناسک الحجّ لیس إلاّ .. ولا تشمل هذه القاعدة بقیّة الأبواب.

القول الخامس: ما نقله صاحب زاد المسیر عن الماوردی والقاضی ابی یعلی من ان الشعائر (هی أعلام الحرم نهاهم ان یتجاوزوها غیر محرمین اذا ارادوا دخول مکة ).

و هذا بعض او اهم أقوال العامّة ..

المقام الثانی: أقوال الخاصّة :

أمّا بالنسبة لأقوال الخاصّة ، فلم نعثر علی قول من أقوال الخاصّة یقیِّد القاعدة بمناسک الحجّ فحسب .. أو یُخصّصها بالعبادات ، عدا ما قد یظهر من الشیخ النراقیّ فی عوائده ، بل دیدن علماء الخاصّة - کما یظهر من کلماتهم - القول بالتعمیم ،فمثلاً:

ص:211

1 - الشیخ الکبیر کاشف الغطاء فی کتابه کشف الغطاء ذهب إلی أنّ قبور الأئمة (علیهم السلام) قد شُعِّرت ، فهی مشاعِر ، ومن ثَمّ تجری علیها أحکام المساجد ،ذکر ذلک فی بحث الطهارة ، فی مناسبة معینة ، فی تطهیر المسجد وحُرمة تنجیسه وما شابه ذلک ..

وقد تمیّز الشیخ الکبیر کاشف الغطاء بهذا الإستدلال عن بقیّة الأعلام .. بالإشارة إلی أنّ وجه إلحاق قبور الأئمّة (علیهم السلام) بالمساجد هو کونها شُعِّرت مشاعر .. فهو إذن یذهب إلی أنّ المشاعر لا تختصّ بأفعال الحجّ ، ولا تختصّ بالعبادات ، بل تشمل دائرةً أوسع من ذلک ..

وأیضاً، فی کتاب منهاج الرشاد لمن أراد السداد یشیر الشیخ الأکبر کاشف الغطاء إلی هذه النکتة، وهی تشعیر قبور الأئمة (علیهم السلام) ..

وکذلک یشیر أیضاً إلی أنّ حُرمة المؤمن أیضاً من شعائر الدین .. فهو یعمّم موضوع الشعائر ..

2 - وذهب إلی التعمیم ایضا: صاحب الجواهر فی بحث الطهارة: فی موضع حرمة تنجیس القرآن، أو وجوب تطهیر القرآن إذا وقعت علیه نجاسة .. ویشیر إلی أنّ حرمة الهتک ووجوب التعظیم شاملان لکلّ حُرُمات الدین .. وعبارته:وفی کلّ ما عُلم من الشریعة وجوب تعظیمه وحُرمة إهانته وتحقیره..

وقال ایضا: (و یستحب کنس المساجد قطعا بمعنی جمع کناستها بضم الکاف و إخراجها لما فیه من تعظیم الشعائر و ترغیب المترددین

ص:212

المفضی إلی عدم خرابه ).

وهذا التعبیر فی النصین کأنّما اقتبسه صاحب الجواهر من الآیة فی سورة الحجّ .. ذلِکَ وَ مَنْ یُعَظِّمْ حُرُماتِ اللّهِ فَهُوَ خَیْرٌ لَهُ .

3 - ومن الکلمات الّتی یستفاد منها التعمیم ایضا: کلام الراوندی فی فقه القرآن قال الله إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللّهِ وهما جبلان معروفان بمکة وهما من الشعائر أی معالم الله وشعائر الله أعلام متعبداته من موقف أو مسعی أو منحر مأخوذ من شعرت به أی علمت وکل معلم لعبادة من دعاء أو صلاة وأداء فریضة فهو مشعر لتلک العبادة).

وکلام المجلسی فی البحار (والشعائر جمع الشعیرة وهی البدنة تهدی وکذا أعمال الحج وکل ما جعل علما لطاعة الله).

وقال العاملی فی مفتاح الکرامة (فی جامع المقاصد أنّ کراهیّة التجصیص والتجدید فیما عدا قبور الأنبیاء والأئمّة (علیهم السلام) ، لإطباق السلف والخلف علی فعل ذلک بها. ومثله قال فی المسالک والمدارک ومجمع البرهان والمفاتیح مع زیادة استفاضة الروایات بالترغیب فی ذلک فی المدارک بل فی الأربعة الأخیرة: أنّه لا یبعد استثناء قبور العلماء والصلحاء أیضاً استضعافاً لخبر المنع والتفاتاً إلی تعظیم الشعائر لکثیر من المصالح الدینیة، بل فی مجمع البرهان أنّ ذلک معروف بین الخاصّة والعامّة).

وفتوی المحقق الکبیر المیرزا النائینیّ، الّتی صَدرت حول الشعائر الدینیّة..وقد عبّر عَن الشعائر الحسینیّة بأنّها شعائر اللَّه.. واستدلاله بالآیة

ص:213

یعمّم هذه القاعدة الفقهیّة، ولا یخصّصها بالمناسک ولا بالعبادات..

4 - الشیخ محمّد حسین کاشف الغطاء، قال بالتعمیم - أیضاً - فی فتاواه وفی کتبه.. وفی رسائل الأسئلة والأجوبة.. حیث یذکر دخول الشعائر الحسینیّة فی عنوان شعائر اللَّه، وفی شعائر الدین، ووجوب تعظیمها بنفس الآیة الکریمة..

5 - السیّد الحکیم(رحمه الله) فی المستمسک فی بحث الشهادة الثالثة.. حیث تمایل إلی وجوب الشهادة الثالثة) أشهد أنّ علیّاً ولیّ الله.. (فی الأذان والإقامة، لا من باب الجزئیّة، بل من باب استحباب الأمر باقترانها بالشهادة الثانیة، ومن ثمّ طبّق علیها عنوان شعائر الله، وبالتالی ذهب إلی وجوبها..

فباعتبار أنّ الحکم الأوّلیّ لها هو الاستحباب، وإن کان بنحو التعمیم إلّا أنّها اتُّخذت شعاراً للمذهب والطائفة، فذهب إلی حصول وتحقّق الشعیرة بها.. فالّذی یظهر منه ذهابه إلی تعمیم شعائر الله، وعدم تخصیصها بمناسک الحجّ، ولا بالعبادات..

هذه بعض أقوال الخاصّة الّتی تعرَّضَتْ صریحاً إلی تعمیم شعائر الله، ولم نجد من یخصّص الشعائر بخصوص مناسک الحجّ، أو خصوص العبادات.. بل الجمیع یعمّم الشعائر إلی مطلق ما یُظهر المعالم الرئیسیّة للشریعة ویَنشُر أحکام الدین..

والمتتبّع لفتاوی المتأخّرین فی الشعائر الحسینیّة یلاحظ تعمیم عنوان وقاعدة شعائر الله، إلی عموم أبواب وأحکام الدین..

ص:214

وقد نبّه الفقهاء الأعلام - ضمن استدلالهم - علی هذه القاعدة، إلی حقیقة وجود أدلّة أخری بلسان آخر یُرادف معنی ومدلول قاعدة الشعائر الدینیّة ، فآیات:

لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللّهِ .. ذلِکَ وَ مَنْ یُعَظِّمْ شَعائِرَ اللّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَی الْقُلُوبِ یرادفها من الآیات القرآنیّة کثیر من الموارد.. وسوف نذکر بعض الایات فی جهة لاحقة وان بعض الایات تدل علی نفس مضمون قاعدة الشعائر..

فائدة:

ان تتبّع الفقهاء للعثور علی ألْسِنة مختلفة - فی مسألة واحدة - سواء کانت مسألة وقاعدة فقهیّة، أو قاعدة کلامیّة إنّما یحصل من أجل إعطاء الباحث الفقهیّ ،أو المستنبط الفقهیّ سعة فی البحث، ما لا یعطیه اللسان الواحد والدلیل الفارد..وربّما یحصل الاختلاف فی اللسان الواحد، هل هو باق علی حقیقته اللغویّة أو نُقل إلی الحقیقة الشرعیّة مثلاً ؟ هل هو مبهم أم مجمل أم مبیّن ؟ هل فیه إطلاق او لا ؟.. وإلی غیر ذلک من الحالات التی تعرض علی اللسان الواحد فی الأدلّة الشرعیّة .. بخلاف ما إذا عثر الباحث أو الفقیه - أو حتّی المتکلم - علی أدلّة متعددة محتویة علی ألسنة أخری.. وقد تکون تلک الألسنة متضمّنة لبیانات ومفادات أجلی وأوضح، بحیث لا یقع الإختلاف فیها، وتختصر علی الباحث الطریق للوصول إلی ضالّته..

ص:215

من ثمّ نری أنّ الآیَتین: یُرِیدُونَ أَنْ یُطْفِؤُا نُورَ اللّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ یَأْبَی اللّهُ إِلاّ أَنْ یُتِمَّ نُورَهُ (1).

والایة فِی بُیُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ یُذْکَرَ فِیهَا اسْمُهُ (2).

استند إلیهما الفقهاء، لیس فی بحث الشعائر فحسب، بل فی مسائل فقهیّة وعقائدیّة وتاریخیّة أخری.. فی وقائع تحتاج لمواقف شرعیّة حازمة وصارمة..

وهی وجوب نشر نور الدین ونور الإسلام، ونور الله..

وسیاتی لاحقا أنّ الفقهاء یلاحظون فی کلّ دلیل ثلاثة محاور:

محور الموضوع، ومحور المحمول، ومحور المتعلّق.. وإلّا فسوف یکون البحث عقیماً.. فلابدَّ من تمییز هذه المحاور الثلاثة بعضها عن بعض.

ولمّا کانت عناوین هذه المحاور تختلف من لسان إلی لسان آخر.. فلابدَّمن تمییز الألسنة وتصنیفها..

فبعد قیام الأدلة المختلفة وتمامیّتها یمکن القول أنّ قاعدة الشعائر الدینیّة عبارة عن جملة من قوانین الإعلام والنشر فی الدین الإسلامیّ لها أهمّیّتها.. ولها حکمها المتمیّز والمغایر للأحکام الأخری.. ولیس کما فُسِّرت من أنّ حکمها هو عین أحکام الدین.. أو أن الشعائر هی الدین کلّه کما مر فی بعض الاقوال.. أو أنّها تختصّ بمناسک الحجّ أو غیر ذلک..

ص:216


1- (1) التوبة: 32.
2- (2) النور: 36.

فالشعائر لها حکم مغایر للأحکام الأخری، ومتعلّقها مغایر أیضاً.. وإن ارتبط وتعلّق بنحوٍ أو بآخر بالأحکام الأوّلیّة بل هو حکم آخر وهو نشر الدین وإعلام الدین.

کما ذکرنا أنّ قاعدة الشعائر هی بمثابة فقرة الإعلام فی الفقه أو فی الدین الإسلامیّ.. وبعبارة أخری: هی جانب النشر والإعلام للأحکام علی غرار الإنذار فی آیة النفر، حیث إنّ الإنذار واجب مستقل غیر وجوب الصلاة .. الإنذار بالصلاة غیر نفس الصلاة.. والإنذار بالحجّ لیس هو نفس مناسک الحجّ ؛فبالإجمال نستنتج أنّ الشعائر لها موضوع ومتعلّق وحُکم یتمیّز ویختلف عن بقیّة الأحکام.. مضافاً الی الغایة الأخری التی دلّت علیها الآیات الشریفة، وهی إعلاء الدین وإقامة معالمه فی النفوس والسلوک الاجتماعیّ ولا خفاء فی الأثر التربویّ البالغ لأسلوب الشعیرة وممارستها فی إعطاء هاتین الغایتَین السامیتَین.

الجهة الثانیة: ادلة قاعدة الشعائر إجمالًا (أو الرؤیة القرآنیة أو العمومات الفوقانیة ).

فی کل دلیل لابد ان یبحث الفقیه او المستنبط عن ثلاثة محاور:

المحور الاول: الموضوع وهو قیود الحکم سواء اکان حکما تکلیفیا ام وضعیا.

المحور الثانی: المحمول وهو الحکم الشرعی.

المحور الثالث: والمتعلق وهو المطلوب حصوله خارجا فیما لو کان

ص:217

الحکم هو الوجوب او عدم حصوله فیما لو کان الحکم هو الحرمة.

ولنطبق ذلک علی ادلة الشعائر ومنها الآیتان الکریمتان:

الایة الاولی: قوله تعالی: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللّهِ .

فان الموضوع فی الایة: الشعائر، حیث أُخذ متعلق المتعلق.

والمتعلق فی الایة: الإحلال والإهانة والابتذال، أو التعظیم. وبعبارة اخری: ان المتعلق هو التعظیم ان کان الحکم ایجابیا (وجوبیا) والتهاون ان کان الحکم سلبیا (تحریمیا).

و المحمول او الحکم: حرمة الإحلال أو وجوب التعظیم.

الایة الثانیة: وَ مَنْ یُعَظِّمْ حُرُماتِ اللّهِ فَهُوَ خَیْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ... (1).

ولم یؤخذ الموضوع فیها الشعائر وإنما الحرمات، ومع ذلک فقد صنّفها کثیر فی عمومات الشعائر, والوجه فی ذلک هو الاعتماد علی قاعدة معروفة ومشهورة لدی أساطین الفقه وهی أنّ الموضوع أو المتعلّق کما یمکن الإستدلال له بالأدلّة الوارد فیهاالعنوان نفسه أو المتضمّنة له، أو مرادفاته.. کذلک یمکن الإستدلال له بما یشترک معه فی الماهیّة النوعیّة أو الجنسیّة، أی المماثل أو المجانس ؛ بشرط أن یکون الحُکم مُنصبّاً علی تلک الماهیّة.. وإلّا کان التّعدی قیاساً باطلاً. کما یمکن الاستدلال له بالدلیل الذی یتضمّن جزء الماهیّة، کذلک یمکن الاستدلال له بمایدلّ علی اللازم

ص:218


1- (1) الحج: 30.

له أو الملزوم له، فتتوسع دائرة دلالة الأدلّة الدالّة علی المطلوب.

ففی هذه الآیة الشریفة: الموضوع: حُرمات الله, والمتعلّق: التعظیم, والحکم: الوجوب.. أی وجوب التعظیم.

الآیة الثالثة: ذلِکَ وَ مَنْ یُعَظِّمْ شَعائِرَ اللّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَی الْقُلُوبِ .

وهذه من أوضح الآیات علی إثبات المطلوب، حیت تدلّ علی محبوبیّة ورجحان التعظیم لشعائر الله حسب التقسیم الثلاثیّ المذکور من الموضوع والمتعلّق والحکم.

الایة الرابعة: وَ الْبُدْنَ جَعَلْناها لَکُمْ مِنْ شَعائِرِ اللّهِ لَکُمْ فِیها خَیْرٌ (1).

فالایة ذکرت البدن من مصادیق الشعائر لذا عبرت ب- من التبعیضیة, وهذا ما فهمه جملة من الاعلام.

الایة الخامسة: إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللّهِ (2).

وقد مرَّ کلام المفسر الراوندی فی الایة وحمل الصفا والمروة علی المصداق.

طائفة اخری ثانیة من الادلة تمسک بها بعض الفقهاء:

فقد تمسک عدة من کبار علماء الطائفة- کالمیرزا القمی فی فتواه فی الشعائر الحسینیة- وصاحب العروة، والسید جمال الکلبایکانی النجفی بعدة ادلة اخری ولم یقفوا عند العمومات المتقدمة التی أُخذ فیها لفظ

ص:219


1- (1) الحج: 36.
2- (2) البقرة: 158.

الشعیرة، وإنما استدلوا بعمومات أخری، من قبیل:

قوله تعالی یُرِیدُونَ أَنْ یُطْفِؤُا نُورَ اللّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ یَأْبَی اللّهُ إِلاّ أَنْ یُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ کَرِهَ الْکافِرُونَ (1).

فکلّ ما فیه نشر لنور الله فی مقابل الإطفاء فهو واجب.

وقوله تعالی فِی بُیُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ یُذْکَرَ فِیهَا اسْمُهُ .

فالآیة عامة لکل بیت وموطن فیه رفع لکلمة الله ونشر حکمه فإنه واجب لوضوح أن الإذن فی الآیة ظاهر فی الوجوب لا الجواز، مع الإذعان بأن المصداق التام منحصر فی المعصوم کما یبدو ذلک من سیاق الآیات.

وقوله تعالی وَ جَعَلَ کَلِمَةَ الَّذِینَ کَفَرُوا السُّفْلی وَ کَلِمَةُ اللّهِ هِیَ الْعُلْیا (2).

فاتضح إجمالًا: وجود عمومات قرآنیة تدل علی وجوب تعظیم الشعائر الدینیة عموماً وحرمة ابتذالها وإهانتها تحت أکثر من عنوان، کعنوان الشعائر وعنوان بثّ ونشر کلمة الله تعالی ونوره.

الدراسة التفصیلیة لموضوع العمومات:

هناک قاعدة أصولیة مفادها: إن الأصل فی العناوین المأخوذة فی الأدلة الشرعیة من دون فرق بین أن تکون موضوعاً أم متعلقاً هو الحمل

ص:220


1- (1) التوبة: 32.
2- (2) التوبة: 40.

علی المعنی اللغوی حتی نتوفر علی مؤشرات کافیة علی النقل لمعنی شرعی جدید.

کما أنها فی حالة ظهورها فی المعنی اللغوی یمکن التمسک بإطلاق ماهیاتها، وإلّا لابد من اقتناص حدود المعنی الشرعی من مجموع الأدلة الشرعیة.

فی الوقت ذاته: الأصل فی مقام التطبیق بع تنقیح مقام قالب التنظیر فی کیفیة وجود العناوین ومصادیقها هو الحمل علی الکیفیة المألوفة فی وسط العرف أو العقلاءأو المتشرعة- حسب طبیعة العنوان وأنه شأن مَن- ما لم یثبت بالدلیل أن للشارع تعبدا خاصا فی المصداق والمصادیق والآلیات والوجود بنحو خاص کما فی الطلاق.

وعمومات الشعائر لا تستثنی من هذه القاعدة، ومن ثم کان من المنهجی تحدید المعنی اللغوی أولًا للتعرف علی مساحة العموم إن تمّ حملها علی المعنی اللغوی. ثم فی خطوة لاحقة نتعرف علی طبیعة وجودها لیتمّ الحمل علیه إن لم یکن للشارع تحدید جدید.

الجهة الثالثة: المعنی اللغوی للشعیرة:

1 - فی کتاب العین للخلیل بن أحمد الفراهیدیّ ؛ الشعار: یُقال للرجل: أنت الشِّعار دون الدِّثار، تصفه بالقُرب والمودة ،وأَشْعَرَ فلانٌ قلبی همّاً، ألبسه بالهمّ حتی جعله شعاراً.. ویقال: لیت شعری، أی عِلمی.. ویقال: ما یُشْعِرُکَ: وما یدریک..

ص:221

وشعرتُه: عقلتُه وفهمتُه.. والمشعَر: موضع المنسک من مشاعر الحجّ.

وکذلک: الشعار من شعائر الحجّ.. والشعیرة من شعائر الحجّ.

فالخلیل بن أحمد أثبت کلتا اللغتَین فی اللفظة المفردة، مفرد الشعائر ،فجعلها شعیرة، وجعلها أیضاً شعاراً ثم قال:

والشعیرة البُدن، وأشعرتُ هذه البُدن.. نُسکاً.. أی جعلتُها شعیرة تُهدی ،وإشعارها أن یُوجأ سِنامها بسکّین فیسیل الدم علی جانبها فتُعرف أنّها بدنةُ هَدْی.. وسبب تسمیة البُدن بالشعیرة أو بالشعار أنّها تُشعَر - أی تُعلَّم - حتّی یُعلم أنّها بُدن للهَدی.

ونلاحظ أنَّ هناک معنی مشترکاً بین موارد استعمال الشعائر، حیث نراها تستعمل بکثرة بمعنی العلامة والاستعلام.

2 - قال الجوهریّ فی الصحاح: والشعائر أعمال الحجّ، وکلّ ما جُعل عَلَماً لطاعة الله تعالی، والمشاعر: مواضع المناسک، والمشاعر الحواسّ ؛ والشَعار ما ولی الجسد من الثیاب، وشعار القوم فی الحرب: علامتهم لیعرف بعضهم بعضاً ،وأشعر الرجل هماً، إذا لزق بمکان الشعار من الثیاب فی الجسد.. وأشعرتُه فشَعر ،أی أدریتُه فدری..

الراغب أیضاً لم یزد علی ما ذکره الخلیل، والجوهریّ فی صحاحه..

3 - قال الفیروز آبادیّ فی القاموس: أشعَرَه الأمر أی أعلمه، وأشعرَها:جعل لها شعیرة، وشعار الحجّ مناسکه وعلاماته، والشعیرة والشعارة والمشعر موضعها.. أو شعائره: معالمه الّتی ندب الله الیها وأمر

ص:222

بالقیام بها.

4 - وابن فارس فی مقاییس اللغة لدیه هذا التعبیر أیضاً.. یُقال للواحدة شعارَة وهو أحسن (من شعیرة)، مما یدلّ علی أنّ شعیرة صحیحة، ولکن الأصحّ والأحسن شعارة.. والإشعار: الإعلام من طریق الحسّ.. ومنه المشاعر: المعالم ،واحدها مَشعر، وهی المواضع التی قد أُشعرت بعلامات ؛ ومنه الشعر، لأنّه بحیث یقع الشعور (یعنی التحسّس) ؛ ومنه الشاعر، لأنّه یشعر بفطنته بما لا یفطن له غیره.

5 - القرطبیّ فی تفسیره: کلّ شی للَّه تعالی فیه أمرٌ أشعَر به وأعلم یقال له شعاره، أو شعائر..

وقال: والشّعار: العلامة، وأشعرتُ أعلمتُ .. الشعیرة العلامة، وشعائر الله أعلام دینه ..

نتیجة المطاف:

تحصّل من مجموع کلمات اللغویّین والمفسّرین أنّ موارد استعمال هذه المادّة وهذه اللفظة فی موارد الإعلام الحسّیّ وهی جنبة إعلامیّة کما یظهر من أدلّة اللسان الثانی للأدلة القرآنیّة الواردة بغیر لفظة الشعائر، وهی ترکّز علی جانب الإعلام الدینیّ، أو نشر الدین وبثّ نور الله سبحانه وعدم إطفائه.. هذه التعابیر کلّها تبین زوایا من المراد من الآیات..

وهناک جنبة أخری فی الشعائر، وهی جنبة الإعلاء - العلوّ - وهذه موجودة فی لسان الأدلّة أیضاً.. بید أنّها غیر موجودة فی ماهیّة الشعائر..

ص:223

وإنّما هی موجودة فی ماهیّة المتعلّق الّذی تعلّق بالشعائر ذلِکَ وَ مَنْ یُعَظِّمْ شَعائِرَ اللّهِ ِ...التعظیم هو العلوّ والرفعة والسموّ لا تُحِلُّوا شَعائِرَ الله.أی لا تبتذلوها، ولا تستهینوا بها..نظیر قوله تعالی فِی بُیُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ ...

فإنّ هذا اللسان الأوّل الّذی ورد فیه لفظة الشعائر.. فی الموضوع رکّز علی جنبة الإعلام) علی ضوء ما استخلصناه من أنّ معنی الشعیرة والشعائر عند اللغویین هو الإعلام الحسّیّ.. ولیس هو الإعلام الفکریّ المحض الّذی یکون من وراء الستار (فالإعلام الفکری لا یسمّی شعائر.. بل الشعائر: هی العلامة الحسّیّة الموضوعة الّتی تشیر وتُنبیء عن معنی دینیّ له نسبةٌ ما إلی الله عَزَّ وَجَلَّ وإلی الدین..

هذه جنبة الإعلام الموجودة فی اللسان الأوّل من الآیات.. والجَنبة الثانیة الّتی تظهر من خلال لسان الدلیل الثانی، وهی جنبة الإعلاء وَ کَلِمَةُ اللّهِ هِیَ الْعُلْیا ولَنْ یَجْعَلَ اللّهُ لِلْکافِرِینَ عَلَی الْمُؤْمِنِینَ سَبِیلاً وما شابه ذلک.

ویمکن القول أنّ کلتا الجنبتَین، حاصلتان فی اللسان الأوّل ؛ غایة الأمر أنّ جنبة الإعلام والنشر والبثّ ظاهرة فی موضوع الدلیل وهو الشعائر.. وجنبة الإعلاء والتعظیم وعدم الاستهانة. مطویّة فی متعلّق الدلیل وهو التعظیم .. ذلِکَ وَ مَنْ یُعَظِّمْ حُرُماتِ اللّهِ .. ذلِکَ وَ مَنْ یُعَظِّمْ شَعائِرَ اللّهِ .. لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللّهِ .. .

إذا خُلّینا وهذا المعنی اللغویّ.. فالمعنی عامّ ؛ کما ذکر القرطبی أیضاً تبعاًلبعض اللغویّین: کلّ أمرٍ أعلَمَ بالله عَزَّ وَجَلَّ أو أعلَم بمعنیً من المعانی المنتسِبة إلی الله عَزَّ وَجَلَّ.. فهو شعار، وشعائر..

ص:224

فمن حیث الوضع اللغویّ، والماهیّة اللغویّة فإنّ الشعائر والشعار والشَعارة هو کلّ ما له إعلام حسّیّ بمعنی من المعانی الدینیّة، وله إضافة ما بالله عَزَّ وَجَلَّ ،وبدینه وبأمره وبإرادته وبأحکامه وبمراضیه..

الفرق بین النُسک والشعائر:

فإذن الشعار لیس هو النُسک من حیث هو نُسک.. قد سُمّیت النُسک مشاعر لأنّ فیها جنبة إعلام.. نُسک الحجّ تسمّی مشاعر بتطبیق المعنی اللغویّ علیها، من جهة أنّ الحجّ یمثّل مؤتمراً ومَجمَعاً ومحلاًّ لالتقاء وتقارب الأهداف المشترکة والغایات الموحّدة لهم.. فحینئذٍ کلّ ما یمارسوه من أعمال بالرسم المجموعیّ یکون فیه جنبة إعلان للدین ولعظمة الدین، وفیه دلالة واضحة للوحدة والألفة للأمّة الإسلامیّة ؛ ومن ثمّ سمّیت مناسک الحجّ - دون غیرها من العبادات -بالمشعر.. باعتبار أنّ فیها جنبة الإعلام دون غیرها.. وربما تسمّی صلاة الجماعة أیضاً بالمشعر.. وتسمّی مساجد الله، بالمشعر، والسرّ فی ذلک هو ما ذکرنا من أنّ هذه القاعدة الشرعیّة الفقهیّة، لها حکمٌ متمیز ومغایر لبقیّة الأحکام..

ولیس کما قال بعض علماء العامّة بأنّ الشعائر تعنی دین الله.. لأنّ الشعائر هی الإعلام لدین الله، وإعلاءُ دین الله.. وبالتالی إحیاء معالم الدین..

فلها متعلّق خاصّ وحکم خاصّ وموضوع خاصّ.. وسیتبیّن أیضاً أن جعل الشعائر وحکمها لیس ثانویّاً وان کان الموضوع ثانویا علی المصداق..

ص:225

المعنی الجامع بین اللغویّین:

فحینئذٍ، المعنی الجامع العامّ الّذی یقف عنده اللغویّون - فی ماهیّة الشعائر -هی جنبة الإعلام الحسّیّ.. وبعبارة أخری: أنّ أیّ شیء أو أمر تظهر فیه بروز لمبرز دینی وفیه جنبة إعلام عن معنی من المعانی الدینیّة، أو حکمٍ من الأحکام الدینیّة ،أو سلوکٍ من القیم الدینیّة وما شابه ذلک.. یسمّی شعاراً أو شعائر..

بعد آخر فی الموضوع:

الشعار الدینی یحمل خصوصیة أخری إلی جانب خصوصیة الإعلام وهی الإعلاء المستفاد من النمط الثانی من الآیات الدالة علی وجوب إعلاء کلمة الله تعالی وبثّ نوره، والمستفاد من الدلیل العقلی. ومثله لا یمکن استخراجه من مفهوم الشعار حیث لا یحمل أکثر من الإعلام، نعم یستفاد من متعلق الحکم فی آیات الشعائر وهو التعظیم وحرمة الابتذال.

علی ضوء المعنی اللغوی وبعد التمسک بإطلاقه یُعرف شمول الدلیل القرآنی لکلّ مادة إعلامیة دینیة وإن تمّ تأسیسها علی ید العرف العام أو الخاص، ما لم یثبت تعبد خاص فی الشارع وهی الحقیقة الشرعیة أو صیاغة الشارع آلیة خاصة للمصداق وکیفیة خاصة لوجوده فیتبع.

وعلی ضوء المعنی اللغوی یعرف أیضاً: أن الشعار لیس هو النسک بما هو نسک ولا أمر الله بما هو أمر الله وإنما حیثیة البعد الإعلامی فیها،

ص:226

فالحج حیث کان ملتقی ومجمعاً للمسلمین کانت الأعمال ذات الممارسة الجماعیة علامة وشعیرة إلی جانب کونها نسکاً. فهما یتصادقان فی النسک لا أن النسک هو الشعیرة من زاویة کونه نسکاً.

الجهة الرابعة: طبیعة تحقق موضوع الشعائر ومعالجة بعض قواعد التشریع:

طبیعة دلالة الموضوع:

ثم إن دلالة الشعیرة علی المعنی الدینی السامی لیس دلالة عقلیة ولا طبعیة وإنما وضعیة جعلیة، وإن کان وجود الدال تکوینیاً، إلا أنّ تعنونه بالشعیرة اعتباری جعلی، علی حدّ وجود الألفاظ ودلالتها علی معانیها، بید أنّ علامیّتها ودلالتها لا تتمّ إلا بعد التفشی والشیوع بحیث تصبح ممارسة جماعیة.

والشعیرة- بالإضافة إلی کونها دالًّا ومعلماً لها نحوٌ من التسبیب إلی تداعی ذلک المعنی والمفهوم- لها أیضاً نحو من التسبیب إلی تذکّر وإحیاء ورسوخ ذلک المعنی وتجدید العهد به مما ینتهی إلی الالتزام ب آثاره.

من ثمّ علی القول بکونه حقیقة عرفیة ینتج: أنّ کل أداة یتواضع أتباع الدین الحنیف أو المذهب الحقّ علی کونها دالّة علی معنی بحدّ التفشی، تصبح شعیرة دینیة.

النتیجة: إن عمومات الکتاب فی الشعائر ظاهرة لغة فی عموم موضوعها لکل مادّة حسیة إعلامیة عن معنی دینی، وإن کان الواضع لها عرف المتشرعة، شریطة أن تتمّ ممارستها. فیجب تعظیمها ویحرم ابتذالها إلا

ص:227

أن یتصرّف الشارع فی المعنی أو فی کیفیة آلیة ووجوده فیتبع.

الرأی الآخر: وقد ادُّعی فی کیفیة الوجود أنه لابد من أن یصوغها الشارع وإلا لم یعتدّ بها، استناداً إلی مجموعة أدلة:

الدلیل الأول: إن الشعیرة أمر الله ونهیه، ومثله لا یمکن أن یوکل للعرف بالبداهة.

الدلیل الثانی: إن التطبیقات القرآنیة کانت علی البدن ومناسک الحج، وکلها مجعولة من قبل الشارع، مما ینبئ عن أن تحدید المصداق مهمّته.

الدلیل الثالث: إن تخویل العرف بتحدید المصداق یجرّ إلی استحداث وتشریع رسوم وطقوس جدیدة وبدع فی الدین تحمّل علیه ولیست منه کما فی مثل صلاة التراویح.

الدلیل الرابع: إن تخویل العرف یؤول إلی تحلیل الحرام عند اتخاذهم محرماً معلماً، أو إلی تحریم الحلال کما إذا اتخذبعض الأمکنة شعاراً فیحرم إهانته بالتبوّل فیه بعد أن کان حلالًا.

تقییم ونقد عام:

وتعلیقنا علی الکلام المذکور: إننا لو سلّمنا بصحة دعوی أن الشعائر حقیقة شرعیة تعبدیة، إلا أنها لا تنتج ما یستهدفه قائلها من سلب الشرعیة عن الکثیر من المصادیق التی تصنّف الیوم فی حقل الشعائرُّ وذلک لوجود الألسنة الأخری الآخذة لعناوین أخری ذات حقیقة عرفیة لغویة تکفی فی إضفاء الشرعیة علیها. وهی تحدیداً: لسان بثّ نور الله وإعلاءکلمته،

ص:228

ولسان الدعوة لإحیاء أمر أهل البیت، ولسان أهمیة تشیید قبور أهل البیت، وحکم العقل بلزوم تعظیم الشعائر المنسوبة لله لأنه یصبّ فی مجال تعظیم الله تعالی اللازم عقلًا وبالبداهة.

ویتمّ تقریب الاستدلال من خلال الالتفات إلی نقطتین محسومتین سلفاً فی الوسط الفقهی والأصولی:

النقطة الأولی: إنّ التخییر، تارة: یکون شرعیاً، وذلک فی حالة نصّ الشارع علیه. وأخری: یکون عقلیاً، وذلک فیما لو أمرالشارع بطبیعة کلّیة من دون تخصیص بزمان أو مکان أو عوارض معیّنة، فیدرک العقل تخویل الشارع المکلّف فی تطبیق الطبیعة علی أیّ فرد شاء. ومثل هذا التطبیق لا یعدّ تشریعاً وبدعة، لأن المکلّف لا یتعبدّ بالخصوصیة الفردیة کی یُعدّتجاوزاً لما رسمه الشارع، وإنما یتعبّد بالطبیعة الموجودة فی الفرد، ومن ثم عدّ امتثالًا. وأمثلته أکثر من أن تحصی. ولهذاأسماه البعض بالتخییر الشرعی التبعی، وإن کان الصحیح أنه تخییر عقلی بید أنه بحکم العقل غیر المستقل.

النقطة الثانیة: ینقسم العنوان الثانوی إلی عنوان ثانوی فی الحکم، وآخر فی الموضوع. والفارق بینهما: أن الأول ذو ملاک ثانوی وبالتالی یکون الحکم فیه استثنائیاً کالحرج والضرر، وعلیه عندما تطرأ مثل هذه العناوین تُغیّر الحکم الأولی أوتزاحم ملاکه. بینما الحکم فی الثانی أولیّ منبثق عن ملاک أولیّ فلا یعدّ حکما استثنائیاً طارئاً وإنما موضوعه طارئ، کما لوأصبح القیام احتراماً للقادم بعد أن لم یکن کذلک، فذات القیام لیس احتراماً وإنما طرأ علیه وتصادق معه عنوان الاحترام، وأما الحکم بالاحترام فهو حکم

ص:229

أولیّ ذو ملاک أولیّ فلا یعد استثنائیاً وطارئاً بالنسبة للقیام. وأمثلة هذا القسم کثیرة، منها: کلّیة حالات وصور اجتماع الأمر والنهی.

وفارق آخر: أن النمط الأول لابد أن یکون طروّه ذا طابع اتفاقی استثنائی، وإلا لو کان دائمیاً أو غالبیاً عاد أولیاً وانقلب الأولی إلی ثانوی.

وبتعبیر آخر: لیست الغایة من التشریعات الأولیة أن تبقی قوانین جامدة ومعطّلة وإنشائیة فقط، وإنما الغایة تفعیلها حتی یتحققّ الملاک الذی یتوخّاه المقنّن من تقنینه لها. وحینئذ لابد أن تکون مزاحمة الأحکام الثانویة التی تفرض نفسها علی الحکم الأولی اتفاقیةُّ حفظاً لهویتها وهویة الحکم الأولی. ومن ثم کانت واحدة من شرائط فقاهة الفقیه وحاکمیته أن یحفظ هذا الأصل فی استنباطه وتطبیقه للأحکام وإلا کانت أغراض المقنن عرضة للضیاع.

بینما لا مانع فی النمط الثانی من أن تکون دائمیة بعد أن کان حکمها وملاکها أولیاً.

وبعد أن تبلورت هاتان النقطتان، وتبلور سابقاً أن أدلة الشعائر لیست منحصرة باللسان الذی ورد فیه لفظ الشعائر، أمکن الاستفادة من الألسنة الأخری المتضمنة لعناوین أخری حیث لم یکن الأمر فیها إلا بالطبیعة من دون تقیید بخصوصیة فردیة. فالعقل یحکم بان الشارع خول المکلففی مقام التطبیق علی أی مصداق وبأی أسلوب کان، خاصة وقد عرفت أن المکلف لا یتعبد إلا بالطبیعة دون الخصوصیة الفردیة. والمستجدات مهما کانت فهی لا تعدو العنوان الطارئ علی التکوین من القسم الثانی، وفی مثله لا مانع أن یکون

ص:230

دائمیاً. إذ الحکم فی ما نحن فیه أولی.

وکلمات الأعلام تؤکد ما ذکرناه. فصاحب الحدائق والذی یمثّل حالة وسطیة بین الاتجاه الأخباری والأصولی انتهی فی بحث لبس السواد حزناً علی الحسین إلی عدم کراهته حتی فی الصلاة، مع أنه مکروه فی نفسه.

والمیرزا القمی فی جامع الشتات «انتهی إلی جواز تمثیل واقعة الطف، بل رجحانه استناداً إلی عمومات البکاء والإبکاء، مضیفاً: إنّه علی فرض عموم حرمة تشبّه الرجل بالمرأة وبالعکس، فالمصیر حتی لو کان التعارض فإنه یبقی ذا فائدة إذ مع سقوط الحرمة یبقی الفعل علی الحلّ ولو عبر التمسک بأصالة الحل.

والسید الیزدی فی تعلیقته علی رسالة الشیخ جعفر الشوشتری- وتحدیداً فی الملحق فی أجوبته علی الأسئلة حول الشعائر الحسینیة- ینتهی إلی رأی البحرانی نفسه.

والگلبایگانی انتهی إلی جواز الشبیه تمسکاً بعموم البکاء والإبکاء.

وفی بحث الفرق بین البدعیة والشرعیة یلفت کاشف الغطاء الکبیر إلی: ان بعض الأعمال الخاصة ذات الطابع الدینی التی تفقد الدلیل الخاص علیها بید أنها تندرج تحت عموم، فإن جیء بها من جهة العموم لا من جهة الخصوصیة فهو کافٍ فی شرعیتها کالشهادة الثالثة فی الأذان لا بقصد الخصوصیة والجزئیة لأنهما معاً تشریع، بل قصد الرجحان المستفاد من عمومات استحباب ذکر علی(علیه السلام) حین یذکر اسم النبی صلی الله علیه و آله . وکقراءة

ص:231

الفاتحة بعد أکل الطعام بقصد استجابة الدعاء، استناداً إلی ما ورد أنه من وظائفه. وما یصنع للموتی من مجلس الفاتحة والترحیم بالطور المعلوم...

وواضح أن حدیثه لا یخصّ الممارسات ذات البعد الإعلامی/ الإعلائی فقط وإنما یعم کلّ السنن الاجتماعیة ذات الطابع الدینی.

نعم لابد فی المستجدّ أن یکون حلالًا فی نفسه وقبل أن یتعنون، وأما إذا کان حراماً فإن الأمر الشرعی بالطبیعة لا یشمله، فالتخییر العقلی فی الأفراد لا یتناول الخصوصیة المحرمة وإنما یشمل الفرد المکروه.

ثم إنه بما تقدم یمکن حلّ التدافع الذی یبدو لأول وهلة بین استدلالین فی فقه الشعائر لإثبات مشروعیة المصداق المستجد: الاستدلال بالبراءة أو أصالة الحل فی المصداق، ثم الاستدلال بعموم وجوب أو رجحان الشعائر.

تصویر التدافع: أنه جمع بین أصل عملی ودلیل اجتهادی. بالإضافة إلی أنه کیف یفرض الشک فی حلّیة وحرمة مصداق ثم یقال عنه إنه واجب؟

وحلّه: ما ذکرناه فی النقطة الثانیة من أن هناک قسماً من العناوین ذات حکم أولی ولکنها مع ذلک ثانویة من ناحیة الموضوع بحکم طروه علی الموضوع التکوینی، من ثم احتاج إلی إثبات حلّیة المعنون أولًا، کی یصلح فی خطوة لاحقة أن یتعنون فیکون مصداقاً للوجوب أو الرجحان الأوّلی، لوضوح عدم تناول «حالات الأمر بالطبیعة فالتخییر العقلی فی التطبیق علی المصادیق» المصداق والفرد ذا الخصوصیة المحرمة، وإنما یشمل الفرد

ص:232

المکروهُّ ومن هنا کانت الصلاة فی الحمام صحیحة. وإثبات الحلّ لا یکون إلا بالبراءة أو أصالة الحلّ.

ولکن قد یستغرب حینئذ من بحث الأعلام فی حالات اجتماع الأمر والنهی بعد أن کان الأمر بالصلاة لا یتناول الخصوصیة المحرّمةُّ إذ لا موضوع للاجتماع. والسؤال موجّه للقائل بالتزاحم الملاکی کالآخند والمشهور، وأما القائل بالتعارض کالمیرزا النائینی- فهو قد تجاوب مع السؤال حیث إنه ینتهی إلی عدم شمول الأمر للمصداق المحرّم؟

والجواب: إن غرضهم من البحث هناک هو تنقیح سعة الطبیعة وامتدادها إلی الفرد الحرام أیضاً فی مقام الحکم الإنشائی و الفعلی الناقص، ولکن لا بمعنی تسویغ ارتکاب الحرام وإنما بمعنی أن الحرمة تزاحم (ملاکا) العنوان الراجح علی الامتناع، وتزاحمه (امتثالًا) علی الجواز عند المشهور، وبالتالی قد یکون العنوان الراجح هو الأهمّ کما فی حالة التضیق والعجز عن بقیة الأفراد فیتقدم ویکون هو حکم الفرد المنجز. نعم فی خصوص الصلاة یحکم ببطلانها لعدم تحقق التقرب بما هو مبغوض عند التقصیر أو إمکان بقیة الأفراد.

فتلخّص: أننا لو تماشینا مؤقتاً مع فرضیة أن تحدید مفردات الشعائر شأن خاص بالشارع لم یخوّل فیه المتشرعة إلا أنه یمکن تلافی ما تنتجه هذه الفرضیة بالألسنة الأخری حیث تضفی الشرعیة علی کل المراسیم التی تم التعارف علیها علی أساس أنها شعائر من زاویة أنها تمثّل إحیاء الأمر ورفع کلمة الله وإعلاء أمره ونشر المعانی العلیا لدینهُّ وذلک لإطلاق الطبیعة

ص:233

المأمور بها وهو یقتضی التخییر العقلی، وأن العناوین المأخوذة فی الأدلة المذکورة لیس لها مصادیق تکوینیة مشخّصة وإنما تطرأ علی مصادیق متنوعة، ولا مشکلة فی أن یکون الطرو دائمیاً، شریطة أن یکون المصداق محلّلًا بل وإن کان محرّماً ولکنه غیر منجز، وکان الدوام بحسب الخارج من المقارنات لا بحسب نفس الطبیعة بناء علی التزاحم فی صورة الامتناع والذی هو مختارنا تبعاً لمشهور الفقهاء والشیخ والآخوند. فإن معیار التعارض لیس هو النسبة من وجه أو التباین کما هو مبنی مدرسة المیرزا، وإنما التنافی بین الدلیلین إذا کان دائمیاً أو غالبیاً بحسب التقنین والتشریع لا بحسب الخارج، فی قبال ما إذا کان اتفاقیاً بحسب التقنین والتنظیر وإن کان یدوم فی بعض الأفراد بسبب اتفاقی خارجی حیث یتزاحمان حینئذ من دون أن یکذب أحدهما الآخر.

وعلی هذا الأساس کان التنافی بین الحکم الأولی للعنوان الثانوی الوارد فی الألسنة الأخری والحکم الأولی الآخر: التزاحم لا التعارض لأن التنافی علی مستوی التقنین لا یعدو الاتفاق فی تصادقها واجتماع الطبیعتین المشتملتین علی الملاکین ولأسباب خارجیة، فیکسب المصداق الشرعیة من زاویة تعنونه بالعنوان الراجح لوجود الملاک وإن کان محرّماً فضلًا عمّا إذا کان مباحاً.

النقد التفصیلی لأدلة الرأی الآخر:

بعد کلّ هذا ننتقل إلی النقد التفصیلی للأدلة الأربعة التی قیلت أو یمکن أن تقال لدعوی اختصاص شرعیة الشعیرة بما یصوغه الشارع من

ص:234

مصداق لا مطلقاً، بعد الإلمام إجمالًا بفسادها من خلال ما تقدم:

أما دلیل استلزام اتساع الشریعة وبالتالی تبدّل معالمها وشکلها، فیمکن المناقشة فیه: بأن التضخم والتوسع إن کان یعنی التجذیر والتثبیت والنشر والتعمیم والبثّ والإعلاء والإحیاء فهو مطلوب. وان کان یعنی زوال ما هو الثابت( الضرورات ) فهو مرفوض.

وبعبارة أخری: لیس التغییر علی إطلاقه ظاهرة سلبیة وإنما ما کان منه علی حساب الثابت، وأما ما یصبّ فی خدمة الثابت وتأکیده وتأصیله وحفظه فهو إیجابی ومطلوب، وقانون هذا وضابطته هو حفظ ثبات عنوان موضوع ومتعلق القضیة الشرعیة واختزال واختصار التغییر فی مصداقهما. وواضح أن المستجدّ فی حقل الشعائر الذی یمکن قبوله بل الدعوة إلیه هو ما یکون فی حقل المصداق مع حفظ ثبات الموضوع للقضیة المشرعة وبدقة. وهذا هو الذی ندعیه صغرویاً، ومن ثم لم تشکّل هذه المفردات حسب فهمنا، تهدیداً لثوابت الدین ومقدّساته بل العکس تدعیما لثوابت الدین وحفظها وابقاءها.

وأما دلیل فتح باب التشریع، فیمکن القول بوجاهته إن کان للمتشرعة تشریع، بید أنه لیس کذلک حیث إنهم لم یمارسواسنّ قانون وإنما مارسوا التطبیق المأذون به شرعاً، وهو أمر لیس منه بدّ فی أی قانونُّ لأنه مهما تفصّل علی ید المقنّن إلاأنه لا یمکن أن یکون جزئیاً من کلّ جهة، ومن ثم یبقی ذا جهة أو أکثر عامة کلّیة تنظیریة، وهی المنطقة التی خُوّل المکلف فیها التطبیق علی المصداق الذی یشاء من دون أن یتعبّد

ص:235

بالخصوصیة. هذا بالنسبة للعموم الذی لا یتنَزل ولایتفصل إلا بجعل وتقنین وهو الذی تمّ إیکاله إلی النبی صلی الله علیه و آله وأهل بیته (علیهم السلام) .

وهناک ما لا یحتاج إلی تنْزیل بصیغة التقنین والجعل حیث یکون انطباقه قهریاً وساذجاً، ومثله أُوکل تطبیقه إلی المکلف من البدایة.

وعمومات الشعائر بألسنتها المختلفة من القسم الثانی.

وبهذا یتبلور الخلل فی دلیل تحلیل الحرام وبالعکسُّ إذ عقدته أنه تشریع، وهو وجیه إن کان بلا غطاء شرعی، وإلا کان التشریع الإلهی المنطبق الطارئ هو المحلّل والمحرّم، وقد عرفت أن التخییر العقلی فی المصداق بتخویل من الشارع، وإلا انسحب الإشکال حتی علی مثل مصادیق الصلاة بحسب المکان والزمان والساتر وبقیة الشرائط, اذ ان التخییر فیها عقلی لم یحدده الشارع من حیث المصداق والتطبیق.

ویتبلور الخلل فی الدلیل الآخر الذی حاول تصنیف عمومات الشعائر فی القسم الأول، وهو الذی یحتاج فی تفصیله إلی الجعل والتقنینُّ استناداً إلی جعل الشارع بعض المصادیق للشعائر. وذلک: لأن صرف تصرف الشارع فی إخراج مصداق أو إلحاقه لا یعنی أنه من النمط الأول. فالشارع تصرّف فی البیع توسعة وتضییقاً ولکن لم یؤثّر ذلک علی بقاءعموم البیع قابلًا للانطباق علی مصادیقه من دون توسیط للجعل.

ضابطة البدعة والتوقیفیة:

ومن أجل أن تتکامل الصورة نلفت إلی قانون البدعة ومنه نتعرف

ص:236

علی ضابط التوقیف علی الشرع، إذ قد یتبادر إلی الذهن علی ضوء النتیجة التی خرجنا بها أنه لم یبق للتوقیف معنی أو مجال، فنقول: قانون البدعة هو نسبة غیر المجعول من قبل الشارع إلیه، أو الإخبار عنه من دون علم وإن کان فی الواقع موجوداً. ولا یعنی من النسبة محض الإخبار وإنما مع التدین والالتزام علی أساس أنه من الشارع وذی صبغة دینیة.

وعلی هذا فالتوقیف هو حصر التدین بشیء موقوف علی الجعل أو علی العلم حتی یتوفر ذلک من الشارع.

وقد یتساءل علی هذا الضبط: أنه یعنی جواز التدین بشیء إذا لم یکن علی أساس أنه شرعی وإنما نتیجة توافق الطرفین والتزامهما کما فی الربا من دون بناء علی حلّیته، مع أنه لا یمکن الالتزام به؟

والجواب: نعم فی الفرضیة المشار إلیها لیس حراماً من زاویة کونه بدعة ومخالفة للتوقیف، وإنما هو حرام من زاویة أخری وهی حرمة ممارسة الربا. فالتوقیفیة لا تغطّی کل الالتزامات المحرّمة.

وقد یتساءل ثانیة عن السرّ فی اقتصار کثیر من الفقهاء فی التوقیف علی العبادات فقط، فی الوقت الذی یبدو شموله لکل مساحات الدین؟

فالجواب: اقتصارهم لجلاء الأمر فیها، لأن العبادیّ لا یؤدّی إلا علی أساس أنه من الشارع، وإلا فالجمیع عموماً توقیفی من جهة الحکم والمحمول.

هذا بالإضافة إلی أن العبادات ذات حقائق شرعیة، وفی مثلها لا بد من إعمال التوقیفیة حتی علی صعید المصداق، بخلاف العناوین ذات

ص:237

الحقائق اللغویة کعنوان صلة الرحم وبرّ الوالدین فإن توقیفیتها تقتصر علی الحکم وقیدیة العنوان له دون ماهیة العنوان والمصداق.

ومما تقدم یتبلور: أن النتیجة التی خرجنا بها فی عمومات الشعائر والألسنة الأخری من إیکال المصداق إلی العرف لایتقاطع مع قاعدة التوقیف، لأن العناوین المأخوذة فی الأدلة ذات حقائق لغویة لا حقائق شرعیة، وفی مثلها یقتصر فی التوقیف علی حکم العنوان دون المصداق.

فقه متعلّق العمومات:

والحدیث فی هذه الزاویة یقع فی نقطتین:

النقطة الأولی: قد سبق أن المتعلق فی العمومات هو التعظیم والابتذال، حیث وقع الأول متعلقاً للوجوب والثانی متعلقاًللحرمة.

والکیفیة المطلوبة لابد أن تأتی متناسبة مع طبیعة الشعیرة( الدالّ )أو المدلول بالشعیرة.

توضیح ذلک: ذُکر فی بحث الوضع أن صلة الموضوع بالموضوع له تتوثق وتشتدّ بکثرة الاستعمال وتقادم العلاقة، حتی یصل الأمر إلی الاستعاضة ذهنیاً بالموضوع عن الموضوع له.

وبعبارة أخری: إن کیفیة العلاقة وإن کانت مدینة للوضع حدوثاً وبقاءً، بید أن کیفیتها مرتبطة بعوامل أخری، ومن ثم لایمکن تصنیف بیانیة العلامات فی درجة واحدة وإنما هی حالة مشککة تتفاوت تبعاً لتفاوت العوامل ومدی توفرها.

ص:238

ولا تشذّ الشعیرة عموماً عن هذا القانون، ومن ثم یتفسّر لنا ما نلحظه من تفاوتها فی التعبیر، فشعیرة لفظ الجلالة) الله (واسم النبی) محمد (أشدّ تعبیراً من الرزّاق والخالق فی الأول، والألقاب الأخری فی الثانی، وهی جمیعاً أشدّ من الشعائرالأخری حتی انفردت فی أحکام خاصة من بینها، کحرمة المسّ من دون طهارة، وحرمة التنجیس مطلقاً.

من جانب آخر: إن الشعائر وإن اشترکت فی إحیاء المعنی الدینی وتسویقه إعلامیاً بید أن مدالیلها تختلف فی السموّوالرفعة، فمضمون المصحف الشریف هو کلام الله تعالی، بینما مضمون کتب الحدیث هو کلام المعصوم(علیه السلام)، ومضمون کتب الفقه مضامین الحکم الإسلامی، وبدیهی أن المدلول الأول أرفع من المدلول الثانی. ومن ثم یُفهم اختلاف أحکام الهاتک لحرمة الکعبة والمسجد الحرام حیث یُکفّر ویُقتل فی الأول، ویُقتل فی الثانی من دون تکفیر.

وحیث اختلفت الشعیرة دلالةً أو مدلولًا، اختلف التعظیم المطلوب.

النقطة الثانیة: الواجب أو الحرام الذی ینطبق علی مصادیقه بکیفیة مشککة غیر متواطیة، کالبرّ بالوالدین والمعاشرة بالمعروف مع الزوجة، هل هو کلّ المراتب أو المتیقّن فقط وهو الأدنی فی الوجوب والأعلی فی الحرمة؟

مرتکز الفقهاء: الثانی، والزائد راجح، فالبرّ الواجب هو الذی یؤدی ترکه إلی العقوق، والصلة الواجبة هی التی یلزم من عدمها القطیعة.

من ثم لم یکن فرق بین من یذهب إلی حرمة العقوق ومن یذهب إلی

ص:239

وجوب البرّ علی مستوی النتیجة.

وفیما نحن فیه: التعظیم مشکّکُّ حیث لا یقف عند حد، وإنما کلّ تعظیم فوقه آخر، والابتذال مثله: حیث کلّ نمط یوجد الأشدّ منه. ولمّا کان المتیقّن من کلّ منهما هو المطلوب إلزاماً، لم یبق فرق بین مدلولی عظم ولا تحلّ «علی مستوی النتیجة. فالتعظیم الواجب هو الذی یلزم من ترکه الإهانة، وهی أول مراتب الابتذال، والمراتب العلیا مستحبة.

والابتذال المحرّم هو الذی لا یقترن مع أیّ ممارسة وجودیة- ولو دنیا- معبرة عن التعظیم وإلا کان مکروهاً.

حیثیات فی حکم العمومات:

الحیثیة الأولی: سبق أن اتضح أن طبیعة الحکم فی عمومات الشعائر أولی، وأن الثانویة وإن کانت متقررة بید أنها فی زاویة الموضوع، ومن ثم لم یکن الحکم هذا عینَ الأحکام الأولیة، کما بدا ذلک من بعض التعاریف، حیث عرّفت الشعائر بالدین وأمر الله، وذلک لاختلاف الموضوع، فهما حکمان لموضوعین متصادقین، فإیجاب البدن کشعیرة یختلف عنه کمنسک حجّ ملاکاً وموضوعاً فحکماً، أقصاه أنهما تصادقا حیث کان المصداق مشتملًا علی جنبة الإعلام. وعندمانتأمل فی روایات الهدی نلحظ بوضوح البعدین فی المصداق.

الحیثیة الثانیة: هناک تقسیم للثانوی من زاویة الحکم إلی مثبت ونافٍ. والأول من قبیل المؤمنون عند شروطهم «ووجوب الوفاء بالنذر، والثانی

ص:240

من قبیل: لا ضرر ولا حرج. فالمثبت متضمّن لملاک وجودیّ، فی حین یکفی النافی نفی الملاک، وهذا فارق مهمّ فی باب التزاحم، بالإضافة إلی الأثر المهم الذی یترتّب علی الفرق بینهما فی بحث الثابت والمتغیّر فی الأحکام والأصول القانونیة للأبواب الحدیثة المستجدّة.

ویمکن القول إن الحکم فی القسم الأول أولی، والثانویة فیه من زاویة الموضوع، فیکون کحکم الشعائر، ولکن مع میزة للأخیر فی أنه أمر مرغوب فیه ندب إلیه الشرع وحثّ علیه، فی حین لا یوجد ذلک فی النذر وإنما یجب لو وقع بل قدیکره کثرته، ولا یوجد ذلک فی الشرط وإنما یجب إذا التزم.

وإن لم یمکن تصنیف القسم المذکور فی الحکم الأولی فحکم الشعیرة علی الأقل یبقی وثیق الصلة بالحکم الأولی وإن کان لا یعدم ولا یخلو من القواسم المشترکة مع الثانوی المثبت.

الحیثیة الثالثة: اختلف علی طبیعة العلاقة بین الحکم الثانوی النافی والحکم الأولی بین مشهور- وهو الصحیح- قائل بالتزاحم الملاکی وآخر- المیرزا النائینی ولفیف من تلامذته- قائل بالتخصیص.

ویترتب علی هذا الخلاف بقاء مشروعیة الحکم الأولی علی التزاحم دون التخصیص.

بالإضافة إلی أنه علی التزاحم لا یکون الضرر أو الحرج الرافع بدرجة واحدة فی کلّ الحالات وإنما فی کلّ حالة بحسبها، فالضرر الیسیر

ص:241

یرفع وجوب الوضوء إلا أنه لا یبیح أکل المیتة ما لم یبلغ حداً بالغاً یفوق فی ملاکه ملاک الحرام، وهذا هومنطق التزاحم الملاکی، وعلی المیرزا أن یکیّف هذه الظاهرة مع التزامه بالتخصیص الذی یقتضی أن یکون المخصص کیفیة واحدة فی الجمیع، ودعواه انصراف لا ضرر «لا تُقبل ما لم یأتِ بشاهد.

بینما اتفقت الکلمة علی أن العلاقة بین الحکم الثانوی المثبت والحکم الأولی لیست هی التخصیص وإنما اشتدادالحکم کما إذا کان الفعل مستحباً فانه یصبح واجباً بالشرط. أو التزاحم الملاکی مع اختلاف الحکمین.

ونسبة حکم الشعائر مع الحکم الثانوی من دون فرق بین أن یکون مثبتاً أو نافیاً کنسبة أی حکم أولی مع الحکم الثانوی. فلا ضرر- مثلًا- یعدّ حکماً ثانویاً طارئاً علی حکم الشعیرة ومن ثم فهو متأخر رتبة من زاویة الموضوع. وحیث إن العلاقة هی التزاحم الملاکی لا یکون کلّ ضرر رافعاً لحکم الشعیرة ما لم یأتِ متناسباً مع طبیعة الحکم، خاصة مع تفاوت الشعیرة فی قوة الدلالة أو قوة المدلول، فلابد من الموازنة بین قدر الضرر ونمط المتعلق أیضاً لأن اختلافه یعبر عن اختلاف ملاکه فی الشدة والضعف.

شکوک وحلول:

هناک محاولات استهدفت شرعیة بعض صغریات الشعائر السائدة فی الوسط الشیعی من خلال وصمها بالخرافة أوالهتک أو الإهانة.

ص:242

من ثمّ ولأجل أن تأتی دراسة الموضوع متکاملة نسلّط الضوء علی هذه المفاهیم لکی نعرف مدی صحة المحاولات المذکورة:

الخرافة:

الخرافة تعنی: منتجات القوة الواهمة والمتخیلة مع إذعان النفس لها من دون أن تمتّ للحقیقة بصلة، فلا مطابق لها لا فی العقل ولا فی الحس. فمبدؤها فعل إدراکی خاطئ مع البناء العملی علیه حتی یتمظهر بصورة سلوک وممارسة.

وواضح أن مثل هذا لابد من القضاء علیه وملاحقته فی شخصیة الفرد والمجتمع لأنه عنصر هدم لا بناء، لا یُقبل فضلًاعن أن یعظّم ویقدّس.

وفی الشعیرة لا تتصور الخرافة فی ذاتها بعد أن کانت هویتها العلامیة، والخرافة هی التی تلبس صورة الواقع من دون أن یکون لها ذلک.

أمّا مدلولها وهو المعنی الدینی فیمکن أن تتسرب له الخرافة، ویکون التمییز حینئذ علی أساس الدلیل المعتبر.

وهذا یتکئ علی خطوة سابقة وهی تشخیص مدلول الشعیرة وبشکل دقیق، وهی محاولة معقدة قد لا تتسنی للفقه وحده ما لم یکن الفقیه ملمّاً بالتاریخ وعلم الاجتماع والنفس حتی یأتی التحدید لمؤدّی الشعیرة موضوعیاً.

إلی جانب ذلک لابد من الالتفات إلی أن الرسوم والشعائر کالأعراف والعادات والتقالید، قد تختلف من مجتمع إلی آخر، فأسلوب

ص:243

التعظیم یختلف من وسط إلی آخر، بل قد یکون فی وسط تعظیماً وفی آخر إهانة. ومن ثم لا معنی لتحمیل شعیرة وسط علی آخر، ولا معنی لتناول شعیرة الآخر بالنقد من منطلقات الذات، ولا معنی لتنازل أمة أومجتمع عن شعیرة ذات مؤدّیً سامٍ فی وسطه لأنها لا تحمل المؤدّی ذاته فی وسط آخر بحجة أنها ظاهرة غیر حضاریة وأنها خرافة. طبعاً إذا أرید لهذه أن تکون إعلاماً داخلیاً یستهدف المحافظة علی الوسط وتأصیله وترکیزه فی أعماق النفوس، کما فی مثل بعض الشعائر الإسلامیة والبدن جعلناها لکم ومن حج البیت وصلاة الجماعة. نعم فی الإعلام الخارجی لابد أن یکون لائقاً بالآخرین یحاکی عقلیتهم وعرفهم ومشاعرهم حتی یترک أثره فیهم، کالوفاء بالمعاملة والالتزام بالقانون، حیث یشکّل سمة بارزة فی حیاتهم الیوم.

کذا لابدَّ من الالتفات إلی أن الشعیرة تعبر عن هویة وخصوصیة وشخصیة الوسط الذی یتعاطی بها، خاصة ذات العمق الضارب فی التاریخ التی انتهت إلینا کموروث حضاری من جیل إلی آخر لم یساهم إلا فی تطویرها وتعدیلها، فإن مثل هذه تختزن ثقافة الوسط وأصالته. ومن ثم کان التلاعب غیر المدروس فیها- فضلًا عن استبدالها بشعیرة مستوردة من وسط آخر- یؤدی إلی تهجین أو ذوبان الهویة والقضاء علیها والتشبه المحرم بالکفار وباعداء الله.

ومن ثم یفهم اعتزاز الجماعات البشریة بتراثها عموماً حیث یمثّل عصارة حضارتها ویحکی تاریخها ویعبّر عن ثقافتهاویمثّل هویتها، وإلا

ص:244

کان علی حساب نسبها وعراقتها وأصالتها.

کما یُفهم حکمة تحریم التعرّب بعد الهجرة وحرمة قراءة کتب الضلال. ویُفهم خطورة الغزو الثقافی والفکری وإصرارالغازی علی تسویق لغته أو أعرافه کواحدة من مفردات خطّته فی مشروع الهیمنةُّ حیث إنها تحمل ثقافته التی یبغی نقلهاإلی الآخرین بدیلًا عن ثقافتهم ومحاولة للقضاء علی هویتهم.

کلّ هذا یؤکد الحاجة إلی اختصاص رفیع لمن یرید أن یتناول الشعائر بالبحث أو التعدیل أو التغییر أو استحداث شعیرة. ومن دون ذلک یکون اللعب بها من نمط اللعب بالنار و(معظم النار من مستصغر الشرر).

الهتک:

الهتک علی صعید اللغة یعنی: کشف المستور، أو کشف العوار.

وعرفاً: عندما یقال هتک المؤمن أو هتک المجتمع الدینی مثلًا یُقصد منه کشف نقاط الضعف فیه أو إذلاله وإهانته.

والهوان مسبّب عن الهتک یتّصف به المهتوک إذا هُتک. أو أحدهما مسبّب عن الآخر.

وبدیهی أن أیّ ممارسة توجب الهتک للمجتمع الدینی لا تلتقی مع أغراض الشارع المتمثّلة فی قوله تعالی: وَ جَعَلَ کَلِمَةَ الَّذِینَ کَفَرُوا السُّفْلی وَ کَلِمَةُ اللّهِ هِیَ الْعُلْیا (1).

ص:245


1- (1) التوبة: 40.

ولکن السؤال: هل الهتک یحصل بصرف استهزاء الآخر أو لا؟

والجواب: إن کان الاستهزاء نتیجة اختلاف الأعراف والشعائر والرموز الموجب لعدم فهم الآخر المدلول الدینی عندنا أو فهمه منها معنیً آخر، فلا یوجب الهتک، وبالتالی لا یفرض تغییر الشعیرة، بل إن محاکاة ذوقه وتقلیده یتمّ علی حساب الهویة.

وان کان بحقّ ونتیجة فراغ المادة الإعلامیة أو سوء محتواها فهو موجب للهتک.

نعم ممارسة الآخر الاستهزاء والتشویه للشعائر الحقة وبإعلام مکثّف قد یوجب وقوع المسلمین فی جوّ خاطئ فیری الحسن قبیحاً، وعندها قد یکون من الصحیح وفی حالات خاصة جداً وفی غیر المتأصّل من الشعائر أن یمنع الفقیه أو الحاکم من ممارسة هذه الشعیرة مؤقتاً ولکن لا لأجل الهتک وإنما تفادیاً لضعف المسلمین وشعورهم بالنقص الذی هو مفسدة أکبر من مصلحة الشعیرة کما یری الفقهاء أرجحیة ترک المستحب أو ترک المکروه عندما یکون هناک عرف خاطئ یوجب التشهیر بمن یعمل المستحب أو یترک المکروه. کلّ هذا شریطة ألا یکون ترک الممارسة موجباً لقوة الخصم وتقهقر المؤمنین نفسیاً وإلّالم یرجح

الجهة الخامسة: متعلّق الحکم لقاعدة الشعائر:

وهو التعظیم للشعائر وحرمة الابتذال والإحلال لها..

قال تعالی: لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللّهِ .

ص:246

وقال: وَ مَنْ یُعَظِّمْ شَعائِرَ اللّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَی الْقُلُوبِ .

وقال: وَ مَنْ یُعَظِّمْ حُرُماتِ اللّهِ فَهُوَ خَیْرٌ لَهُ .

والبحث حول المتعلّق یقتضی التعرض لعدة نقاط:

النقطة الأولی: یجب الإلتفات إلی أن وجود الشعیرة والشعائر، هو أشبه مایکون بالوضع، حیث إنّ کلّ موضوع تزداد صلته وارتباطه ووثاقته وعلامیّته للموضوع له بکثرة الإستعمال أو بأسباب ومناشی أخری، فیصبح هناک نوع من العُلقة الشدیدة بین الموضوع والموضوع له.. کما هی العلقة بین اللفظ والمعنی فی اللغة..

فبعض الأمور توضع علامات لمعنی معین، وکلّ ما تقادَم الزمن وتزاید الاستعمال تُصبح أکثر صِلة بذلک المعنی.. إذ بَدل أن یأتی فی الذهن بالموضوع له وهو المعنی، یأتی بنفس الموضوع وهو اللفظ، فیحکم علی اللفظ بأحکام المعنی من شدّة الوثاقة والصلة والربط.. ومن ذلک تُستقبح بعض الألفاظ لقبح المعانی وکثرة استعمال تلک الألفاظ فیها، بخلاف مرادفاتها التی یقلّ استعمالها فی ذلک المعنی، مثل لفظ الفَرج حیث یقلّ استعماله فی المعنی الموضوع له، بخلاف مرادفه من الألفاظ التی یکثر استعماله فیه..

ومن هذه النقطة الأولی، نلتفت إلی أنّ العلامات والأوضاع الّتی توضع لمعانٍ معیّنة تختلف فیما بینها بشدّة العلقة أوخِفتها.. فبعضها علامیّته واضحة لدی کلّ الأذهان..

ص:247

وبعضها علامیّته واضحة لدی قطر معین .. أو مدینة معینة، أو طائفة معینة ، أو شریحة معینة دون شرائح أُخری..

إذن: بیانیّة العلامة والأمور الاعتباریّة والمعنی تختلف شدّةً وضعفاً .. ویمکن التمثیل بالأحکام الدینیّة أنّ بعضها ضروریّ أو بدیهیّ.. وبعضها ضروریّ عند فئة خاصة کالفقهاء.. وبعضها قد یکون نظریّاً عند صنف وضروریّاً عند صنف آخر.. بعضها قد تکون قطعیّاً، لکن نظریّاً.. وبعضها غیر نظریّ بل ظنیّ وهکذا..فهی علی درجات أیضاً..

ومعالم الدین أو الشعائر الّتی هی من مصادیق المَعْلمیّة والأمور الاعتباریّة الوضعیّة تختلف أیضاً فی علامیّتها وفی بیانیّتها للمعنی الدینیّ، أو للحکم الدینیّ، أو للسِمة الدینیّة شدّةً وضعفاً لتلک السمات.. مثل رسم خطّ لفظة الجلالة المعدودة من الشعارات - هذه اللفظة (لفظة الجلالة) أو إسم النبیّ صلی الله علیه و آله - أو أسماء الأئمة (علیهم السلام) یترتّب علیها أحکام خاصّة، مثل حُرمة لمسها للمُحدِث.. أو حرمة تنجیسها .. ووجوب تطهیرها .. وذلک نوع من التعظیم لنفس هذه الشعیرة والعلامة للمعنی الدینیّ..

فملخّص النقطة الأولی أنّ الأمور المَعْلَمیّة لمعانی الدین علی درجات متفاوتة.. بعضها شدید وبعضها متوسّط وبعضها خفیف الصلة.. کما أنّها تختلف بحسب الأوصاف وبحسب الفئات والشرائح.. وهذه نقطة مهمّة مؤثّرة فی أحکام الشعائر الدینیّة.

النقطة الثانیة: أنّ الشعائر الدینیّة - حیث إنّها علامة - لابدَّ أن ترتبط بذی العلامة وهو المعنی الدینیّ.. أقصد معنیً معیّناً من المعانی الدینیّة..

ص:248

فصلاً من الفصول الدینیّة، رکناً من الأرکان الإسلامیّة، هیکلاً من هیاکل الدین القویم؛ وتختلف بعضها عن البعض قدسیّةً وتعظیماً بسبب المعنی الذی تدلّ علیه.. وهذاالحکم من المسلّمات لدی المذاهب الإسلامیّة الأخری، مثلاً الهاتک لحرمة الکعبة یُحکم علیه بالإرتداد والقتل، أمّا الذی یهتک المسجد الحرام (البیت الحرام) فلایحکم علیه بالکفر.. فالذی یُحدِث فی المسجد الحرام لا یحکم علیه بالکفر، لکنه یُحدّ بالقتل.. أمّا الذی یُحدث فی الحرم المکّیّ بقصد الإهانة فیُعزّر ولا یُحکم علیه بالإرتداد ولا یقتل.. وهذه أحکام وردت فی روایات معتبرة وقد أفتی علی طبقها الفقهاء.. وهی فی الجملة محلّ وِفاق حتّی عند جمهور العامّة..

هذا الإختلاف فی الحکم بین الکعبة کشعار.. وحکم المسجد الحرام کشعاروحکم الحرم المکی کشعار هو أوضح دلیل علی هذا الأمر..

مثال آخر: التفریق بین اسم الجلالة وصفات الجلالة، أو ما بین لفظ الجلالة ولفظ جبرئیل «.. أو التفریق بین إسم الجلالة وإسم النبیّ والأئمّة وأسماء بقیّة الأولیاء.. أو التفریق مثلاً بین القرآن الکریم وبین الکتب الدینیّة الأخری وإن کانت کتب أحادیث أو سنّة نبویّة أو معصومیّة.. أو التفریق بین الکتاب الدینیّ والمصحف الشریف..

المصحف الشریف علامیّته علی کلام الله سبحانه وتعالی.. کلام ربّ العزة..کلام ربّ الکون وربّ الخلیقة.. علی کلام الوجود الأزلیّ.. بینما الکتاب الدینیّ الآخر یدلّ علی مضامین لأحکام إسلامیّة، ویختلف - من ثمّ - فی درجة الحُرمة والقدسیّة..

ص:249

کذلک الکعبة التی هی شعار ومعلَم دینیّ تختلف فی الشرف والقدسیّة عن المسجد الحرام.. وتختلف عن الحرم المکّیّ.. فیلاحظ أنّ التعظیم معنی تشکیکیّ.. والابتذال وشدّة الحرمة وخِفّة الحرمة وشدّة وجوب التعظیم وخفّته تتبع أمراً آخر.. أی أنّها تتبع المعنی الذی وضع الشِعار علامة له.. والمَعْلَم الذی وضع الشعار علامة له..

إذن فی النقطة الثانیة یتبیّن أنّ الشعائر تختلف شدّة وضعفاً.. وتختلف أهمیّةً ومنزلةً بحسب المعنی الذی تدلّ علیه.. والتعظیم یختلف أیضاً بتبع ذلک..

ونتیجة هاتین النقطتین أنّ التعظیم یختلف باختلاف إمّا العُلقة بین الشعاروالمعنی الدینیّ الذی یدلّ علیه، أو قُل بین العلامة وذی العلامة.. ویختلف باختلاف شدّة وخفّة العُلقة.

تارةً بعض الأحکام تختلف بسبب شدّة وضعف العلاقة (انشداد العلامة لذی العلامة.. والشعیرة مع المعنی) وتارة یختلف الحکم بسبب ذی العلامة.. والمعنی الذی جُعلت الشعیرة مَعلماً له وإعلاماً له.. وهذا اختلاف من جنبة أخری.. وکلّ منهما مؤثّر فی حکم الشعائر..

مثلاً: الشعیرة المعیّنة التی تستجدّ وتُستحدَث، تارة توضع شعیرة فی باب الحجّ.. وتارة توضع فی باب الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر.. وتارة توضع فی باب الشعائر الحسینیّة.. أو فی باب حفظ وتلاوة القرآن وتعظیمه .. وتارة فی باب عمارة قبور الأئمّة (علیهم السلام) ، وهکذا..

ص:250

إذن الشعیرة تختلف بحسب المعنی الذی توضع له بمقتضی النقطة الثانیة.. وتارة تختلف الشعیرة بحسب شدّة العُلقة مع المعنی الذی توضع له، فتارة هی شدیدة الصِلة والعلقة والدلالة، بیّنة الدلالة علی المعنی الذی توضع له.. وتارة أخری هی غیر بیّنة. کما تُقسّم الدلالات إلی: بیّنة بالمعنی الأخصّ، وبیّنة بالمعنی الأعمّ.. أو دلالة نظریّة.

والأحکام التی تترتّب علی وجوب تعظیم تلک الشعائر أو العلامات والمعالم الدینیّة من حیث الحکم بالتعظیم ووجوب التعظیم ،وشدّة التعظیم أو خفّته .. کلّها تتبع طبیعة العلاقة بین الشعیرة أو المعلَم والمعنی الذی تشیر إلیه.. فإن کان شدید العُلقة بحیث لا یخفی علی أحد، فلا یُقبل دعوی الشُبهة والبدعیّة فی ذلک أصلاً..

کذلک یختلف المعلَم أو المعنی الذی توضع له الشعیرة، فإن کان معنیً مقدّساً لدرجة عالیة.. فالأحکام المترتّبة علیه تختلف عمّا هی علیه فی المعنی الفرعیّ من فروع الدین مثلاً، وبتبع ذلک اختلاف نوع ودرجة التعظیم والتبجیل وحرمة الابتذال من شعیرة لأخری، حیث لا یکون علی وتیرة واحدة بسبب هاتین النقطتین المذکورتین..

فتعظیم کلّ شعیرة یکون بحسبها.. یعنی بحسب المعنی الذی توضع له ، وبحسب شدّة الصلة التی تتّصل وتتوثّق..

ونعمَ ما ذکر صاحب الجواهر - وقد تقدمت الاشارة إلیه - فی بحث الطهارة، حیث قال: إن کلّ شیء بحسب ما هو معظّم عند الشارع یجب تعظیمه.. ویشیر بذلک إلی الاختلاف بحسب المعنی ؛ وهو مفاد الآیة

ص:251

الکریمة فی سورة الحجّ وَ مَنْ یُعَظِّمْ حُرُماتِ اللّهِ فَهُوَ خَیْرٌ لَهُ ، یعنی کلّ شیء له حریم وحرمة وعظمة عند الشارع یجب أن یراعی درجة الاحترام والتبجیل بحسب ما هو عندالشارع.. ولا ریب فی أنّ حریم حرمات الله مختلف الدرجات.. وأنّها لیست علی درجة واحدة ولا علی وتیرة ثابتة..

النقطة الثالثة: أنّ کلّ متعلَّق ینطبق علی المصادیق علی استواء.. مثل لفظة الإنسان ینطبق علی کلّ أفراد البشر علی حدّ سواء.

وهناک عنوان آخر - کالعَدد - ینطبق علی الألف أشدّ من انطباقه علی العشرة.. وهکذا باب الألوان: فالسَواد: ینطبق علی السواد الشدید أشدّ من انطباقه علی السواد المتوسّط أو الخفیف.. وهناک موارد أخری عدیدة مثل الشِدّة.. تنطبق علی الأشدّ أقوی من انطباقها الأقل شدة..

فالعناوین علی نحوَین.. قِسم منها یسمّی متواطئ، بشکل سواء: یطأ وطأة واحدة علی کلّ مصادیقه.. وقسم تشکیکی أی: ینسبق الذهن إلی بعض مصادیقه قبل انسباقه إلی البعض الآخر ووجود الطبیعة فی بعض الأفراد أشدّ أوأقوی أو أکثر من الأفراد الأخری..

فإذا أمر الشارع بطبیعة تشکیکیّة.. أو نهی عن طبیعة تشکیکیّة.. مثل: الأمر: ببرّ الوالدین، أو بصلة الأرحام، فإنّ صلة الرحم علی درجات: درجة علیا، ودرجة وسطی، ودرجة دانیة.. وکذلک الحال بالنسبة لبرّ الوالدین والعِشرة بالمعروف مع الزوجة..

وهذه الظاهرة موجودة فی القانون الوضعیّ أیضاً، ولا تختصّ

ص:252

بالقانون الشرعیّ، فالطبیعة ذات الدرجات التشکیکیة ذات الحکم الإلزامیّ لا تکون کلّ مراتبها إلزامیّة.. بل أنّ القدر المتیقّن منها بحسب موارده؛ ففی النهی یکون الأعلی هو القدر المتیقّن، وفی الوجوب یکون الأدنی هو المتیقّن.. وهذا هو الإلزامیّ فحسب.. والبقیة ندبیّة راجحة إن کان الحکم طلبیّاً، أو مکروهة إن کان الحکم زَجریاً..

ودیدن الفقهاء علی أنّ القدر المتیقّن هو الإلزامیّ.. مثلاً إذا أمر بصلة الرحم، أو ببرّ الوالدَین.. فإنّ المُلزِم من صلة الرحم أو برّ الوالدین هو الدرجة المتیقّنة منه.. وهی (باعتبار أنّ الحکم وجوبیٌ وإلزامیّ) الدرجة الدنیا.. أی إمتثال الأمر ببرّ الوالدین بنحو لا یلزم منه عقوق الوالدین.. وکذلک صلة الرحم بنحو لایلزم منه قطیعته..

فمن ثمّ عند الاستدلال بحرمة عقوق الوالدَین أو بأدلّة وجوب برّ الوالدَین وصِلتهما تکون النتیجة واحدة.. لأنّ الأمر بصلة الوالدَین وبرّهما حیث کان تشکیکاً.. فالقدر المتیقّن منه هو الدرجة الدنیا.. فتکون النتیجة هی عین قول مَن قال أنّ الحکم فی برّ الوالدین راجح مستحبّ ولیس بإلزامی، وإنّما الإلزام فی حرمة عقوقهما..

وکذلک الحال فی مسألة حکم صلة الأرحام، هل صِلة الأرحام واجبة بکلّ درجاتها، أم أنّ قطع الرحم حرام.. الإستدلال بکلا اللسانَین من الأدلّة یعطی نفس النتیجة، لأنّ المأمور به فی صلة الرحم أو فی برّ الوالدین أمرٌ تشکیکیٌ، فیکون القدر المتیقّن منه هو الأدنی.. أی بمقدار حرمة عقوق الوالدین أو حرمة قطع الرحم..

ص:253

أمّا فی الحرمة فالقدر المتیقّن علی العکس.. إذ لو کان المتعلّق عنواناً تشکیکیّاً تکون الدرجة العلیا منه هی المحرّمة.. وما دون ذلک یُحکم علیه بالکراهة..

والحال کذلک فی محلّ البحث المتعلّق «الذی هو تعظیم الشعائر.. فإنّه ذودرجات متفاوتة.. کلّ تعظیم فوقه تعظیم آخر، وکلّ خضوع فوقه خضوع آخر.. وکلّ بث ونشر فوقه بثّ ونشر آخر.. وکلّ إتمام لنور الدین فوقه إتمام لنور اخر للدین، وهلّم جرّاً..

فهل کلّ هذه الدرجات واجبة، مع أنّ الغالب فی العناوین التشکیکیّة ورود لسانَین: لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ الله بلسان الحرمة ؟

و: ذلِکَ وَ مَنْ یُعَظِّمْ شَعائِرَ اللّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَی الْقُلُوبِ بلسان الوجوب ؟

وهل کلا الحکمَین مقنّن علی نحو الإلزام.. أم أحدهما راجح والآخر إلزامیّ؟ تفصیل هذا البحث فی هذه النقطة الثالثة.. وهی أنّ العنوان هنا تشکیکیّ..فالدرجة اللازمة من التعظیم هی التی یلزم من عدمها الابتذال والهتک.. فتکون هی واجبة.. أمّا بقیّة درجات التعظیم فتکون راجحة..

فلو قیل أنّ الحکم هو حرمة الهتک وحرمة الإهانة، فیکون صواباً.. أو قیل أنّ الحکم هو وجوب التعظیم بدرجة لا یلزم منها الابتذال والهتک أیضاً، فهوصواب أیضاً..

ص:254

علماً بأنّ إهانة کلّ شیء بحسبه، وأیضاً تعظیم کلّ شیء بحسبه.. فآیة: لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللّهِ تحریمٌ ورد علی عنوانٍ متعلّقه تشکیکیّ.. أی: تحریم الابتذال والاستهانة والانتهاک لشعائر الله.. ومن هذا الباب قیل: حسنات الأبرارسیّئات المقرّبین.. وهذه جنبة ثالثة لاختلاف مراتب التعظیم والإهانة، وهی درجة ومقام المخاطب بالتعظیم وطبیعة علاقته مع طرف التعظیم، فعند المقرّبین أدنی ترک للأولی أو للتعظیم لساحة القدس الربوبیّة یعتبر نوع خفّة وتهاون بمقام القُدس الإلهیّ.. والإهانة أیضاً لها درجات.. الخفیف منها لیس إلزامیّاً.. القدر المتیقّن الذی یکون إلزامیّاً هو الشدید.. وهو حرام.. وبقیّة المراتب المتوسّطة أوالدنیا فیها نوع من الکراهة..

فلابدَّ من الالتفات الی النقاط الثلاث المزبورة؛ وننتهی بها إلی أنّ تعظیم کلّ شیء بحسبه، وإهانة کلّ شیء بحسبه.. ولیس ذلک علی وتیرة واحدة.. وأنّ القدر المتیقن من الحکم هو وجوب التعظیم بنحوٍ لو تُرِک للزم منه الهتک والإهانة..ولیس کلّ مراتب التعظیم إلزامیّة.. وإنّما درجات التعظیم الفائقة والعالیة تکون راجحة وندبیّة ولیست إلزامیّة..

هذا هو تمام البحث فی جهة المتعلّق وهی الجهة الخامسة..

الجهة السادسة: النسبة بین حکم القاعدة والحکم الاولی والثانوی:

فی هذ الجهة من البحث نسلّط الأضواء علی العلاقة بین حکم قاعدة الشعائر مع کلّ من الأحکام الأوّلیّة والأحکام الثانویّة..

وقد تقدّم ببیان وافٍ، أنّ الحکم فی قاعدة الشعائر الدینیّة هو من

ص:255

حیث المِلاک حکم أوّلیّ، ومن حیث الموضوع ثانویّ الوجود، وهذا ما اصطلحنا علیه أنّه من الأحکام الثانویّة فی جنبة الموضوع.

النسبة بین حکم قاعدة الشعائر والأحکام الأوّلیّة:

لیس الحکم فی قاعدة الشعائر متّحداً مع الأحکام الأوّلیّة کما قد یتخیّل من خلال الآیة:.. وَ الْبُدْنَ جَعَلْناها لَکُمْ مِنْ شَعائِرِ اللّهِ ، وکما مرّ فی کلمات جملة ممّن تعرّض إلی ذکر تعریف الشعائر بأنّها مناسک الحجّ.. وبعضهم عرّفها بأنّها الدین کلّه.. وبعضهم عرّفها بأنّها حرمات الله..

وقلنا أنّ الصحیح هو ثانویّة القاعدة من جنبة الموضوع لا من جنبة الحکم.. أمّا من جنبة المتعلّق - وهو التعظیم لها - فلها رکنان أساسیّان، وهما: جانب الإعلام، وجانب الإعلاء والإعتزاز المتضمّن للإحیاء والإقامة .. وهذان کفعلَین تدلّ علیهما الشعیرة والشعائر، ولا تفیدهما بقیة الأحکام الأوّلیّة فی باب الفقه؛ نعم تلک الأحکام متکفّلة لملاکات أُخری ومتعلّقات وأفعال أُخری، وقد یتصادق حکمان ومتعلّقان فی وجود واحد.. کما قد یتصادق مثلاً برّ الوالدین مع طاعة الله ومع تحقّق الصدقة أو تحقّق الهدیّة أو ما شابه ذلک.. لکن لا یعنی ذلک أنّ العنوانَیْن و الفعلَیْن، والحکمَیْن هما حکم واحد وبملاک واحد وبمصلحة واحدة..

فإذن تصادق الشعائر مع بعض الأحکام الأوّلیّة وانطباقها فی مصداق واحدلا یعنی أنّ الشعائر حکمها متّحد مع نفس حکم الأحکام الأوّلیّة..

ص:256

وقد جعل بعض المفسّرین حکم الشعائر هو عین الأحکام الأوّلیّة، وفَسّر.. وَ الْبُدْنَ جَعَلْناها لَکُمْ مِنْ شَعائِرِ اللّهِ بنفس إیجاب البُدن هو إیجابٌ للشعیرة..یعنی البُدن جعلناها من وظائف الحجّ ومنسکاً من مناسک الحجّ.. والحال أنّ هذه الآیة فی صدد التعرّض لشیء آخر، کما هو مبیّن فی روایات الأئمّة (علیهم السلام) فی باب الحجّ..

وفی بعض الروایات عن الإمام الصادق علیه السلام فی أبواب الهَدی، یتبیّن افتراق الشعیرة فی البُدن عن وجوب أصل البدنة أو غیرها من أنواع الهدی..

وقد عقد صاحب کتاب الوسائل باباً لاستحباب تعظیم شعیرة البُدن (الهدی).. کما ورد عن الأئمّة (علیهم السلام) الأمر الندبیّ باتّخاذ البُدن السمینة، لأنّه نوع من تعظیم الشعائر، أو باعتبار کون البُدن المسوقة مع الحاجّ عَلَماً من أعلام الحجّ .. وهو نوع من الإعلام والتبلیغ والدعایة والترویج لفریضة الحجّ، ونوع من التظاهرة الشعبیّة للمکلّفین، أو لمجتمع المسلمین فی إظهار علامات الحجّ .. لاسیّما إذا کانت البُدن تُساق من مسافات عدیدة .. فهو نوع من حالة النشر الدینیّ لفریضة ونسک الحجّ والتبلیغ لها..

ففی الروایات الواردة دلالة واضحة علی أنّ جعل الشعیرة کذلک هو أمرآخر غیر جعلها واجبة من فرائض الحجّ..

وأنّ حکم الشعائر - وهو وجوب التعظیم - غیر حکم أصل إیجاب الهدی فی الحجّ، فممّا بحثناه سابقاً عن ماهیّة الشعائر وماهیة متعلّق الحکم فی الشعائر یتبیّن أنّ الحکم فی الشعائر هو غیر الأحکام الأوّلیّة.. نعم هو

ص:257

ینطبق علی الأحکام الأوّلیّة إذا کانت تلک الأحکام الأوّلیّة فی الفعل والمتعلّق المرتبط بها تتضمّن جنبة إعلام وتبلیغ، وتتضمّن جنبة إنذار وإفشاء لحکم من الأحکام الإسلامیّة، أو لعبادة دینیّة معیّنة.. نعم ینطبق علیه أنّها شعیرة.. مثل صلاة الجماعة، ومثل صلاة الجمعة، لا مثل الصلاة فرادی..

علی کلّ حال.. فإنّ الشعیرة ماهیةً وموضوعاً ومتعلّقاً وحکماً وملاکاً تختلف عن الأحکام الأوّلیّة.. نعم، هی قد تتطابق مع الأحکام الأوّلیّة.. لکن لا أنّها هی الأحکام الأوّلیّة بعینها..

فحکمها لیس هو عین الأحکام الأوّلیّة، بل لها حکم أوّلیّ آخر.. وصِرف کونها ثانویّة لا یعنی ثانویّة حکمها.. بل کثیر من الأحکام الأوّلیّة تطرأ علیها العناوین بلحاظ انطباقها فی المصادیق الخارجیّة، کما فی التعظیم أو الاحترام..حیث تتّخذ مصادیق وأسالیب ووسائل مختلفة فی الاحترام مع أنّها لیست حکماً ثانویاً، بل هی حکم أوّلیّ؛ فالثانویّة هنا فی المتعلّق ولیس فی نفس الحکم ،وإلاّ فالحکم هو أوّلیٌّ وملاکه أوّلیّ.. وهکذا الحال فی قاعدة الشعائر الدینیّة..

فالثانویّة فی قاعدة الشعائر الدینیّة هی فی جنبة الموضوع والمصداق لا فی جنبة الحکم والملاک.. والحال علی العکس فی قاعدة لا ضرر ولا ضرار، أوقاعدة لا حرج، أو العناوین التسعة فی حدیث الرفع.. فرفع العناوین التسعة من الاضطرار والنسیان والإکراه التی تطرأ علی الحکم، وهی ثانویّة فی جنبة الحکم..

ص:258

فالعلاقة بین حکم قاعدة الشعائر (التی قلنا بأنّ موضوعها ثانویّ، وحکمها أوّلیٌّ)، مع الأحکام الأوّلیّة ینطوی علی تفصیل فی البَین، لأنّ هذا النمط من الأحکام الأوّلیّة ذی المواضیع الثانویّة لیس هو حکماً أوّلّیاً بقول مطلق، کی یقال أنّه حکم أوّلیّ یندرج فی الأبحاث السابقة.. ولا هو حکم ثانویّ کذلک..

بل فیه ازدواجیّة ثانویّة الموضوع التی ذکرنا أنّه لم یُنبّه علیها اصطلاحاً علماء الأصول، إلاّ أنهم مَضوا علیها ارتکازاً.. ومن جهة المحمول هو حکم أوّلیّ وملاک أوّلیّ، ففیه ازدواجیّة الجنبتَین.. فهل یکون هو موروداً، أو محکوماً، أوحاکماً..

وهل نضعه فی قسم الأحکام الأوّلیّة.. أم نضعه فی ردیف وقسم الأحکام الثانویّة..

ویتّضح بناءً علی ما قدّمنا سابقاً - فی تحریر موضوع قاعدة الشعائر الدینیّة أو متعلّقها - أنّ النسبة بین الحکم فی قاعدة الشعائر الدینیّة والأحکام الأوّلیّة هی أنّ الحکم فی قاعدة الشعائر الدینیّة موضوعه أو متعلّقه عامّ یتناول کلّ مُحلّل بالمعنی الأعمّ بالحلّیّة بالمعنی الأعمّ.. عدا موارد الحرمة.. وإن اتّفق إجتماع موردالحرمة مع بعض الشعائر الدینیّة فهذا لا یوجب التعارض.. بل ولا تقدیم دلیل الحکم الأوّلیّ علی دلیل الشعائر.. وإنّما یکون من قبیل اجتماع الأمر والنهی، لأنّ المفروض أنّ التصادم والتوارد فی ذلک المصداق اتفاقیّ.. فمن ثمّ - نری - أنّ کثیراً من العلماء فی شقوق عدیدة من استفتاءاتهم فی الشعائر الدینیّة المختلفة وفی

ص:259

فرض تصادم الشعائر الدینیّة أحیاناً فی بعض الموارد مع المحرّمات لا یبنون علی التعارض.. وعندما نقول ذلک لا نرید منه أنّ الحاکم أو الفقیه فی سیاسیّته الفتوائیّة یُدیم عُمر تصادق الشعیرة الدینیّة (من أیّ باب کانت) مع ذلک المحرّم.. حیث ذکرنا سابقاً أنّ التزاحم - سواء کان ملاکیّاً أو امتثالیّاً، له ضرورات استثنائیّة تقدّر بقدرها - یجب أن لا یفسح الفقیه المجال أن تعیش هذه الحالة بنحودائم وتکون حالة غالبة، بل یجب أن یتفاداها بقدر الإمکان.. لکن اتّفاق وقوعها لا یدلّ علی التعارض.. هذه کلّه فی نسبة الحکم فی القاعدة والأحکام الأوّلیّة..

تقسیم الأحکام الثانویّة فی جنبة الحکم:

نلاحظ أنّ الأحکام الثانویّة فی جنبة الحکم سنخان:

الأحکام الثانویّة المُثبتة مثل وجوب طاعة الأبوَین، أو حرمة عقوق الأبوَین، ومثلها «المؤمنون عند شروطهم»(1) التی نستفید منها وجوب الوفاء بالشرط، ومنها وجوب النذر ،والیمین والعهد وما شابه.. هذا نمط من الأحکام الثانویّة..

الأحکام الثانویّة النافیة:

وهناک نمط آخر من قبیل: لا ضرر، «لا حرج»، وغیرها الواردة فی حدیث الرفع: «رُفع عن أمّتی تِسعٌ»(2).. وهناک فارق بین السنخَین کما

ص:260


1- (1) التهذیب، ج7، ص371.
2- (2) بحار الأنوار، ج74، ص155.

ذکرنا فی قاعدة لاضرر فی هذا الجزء من الکتاب..

وقد یقرّر بأنّ الحکم فی قاعدة الشعائر الدینیّة هو من النمط الأول من العناوین الثانویّة فی جنبة الحکم، والتی فیها جهة إثبات وإلزام، مثل: «المؤمنون عند شروطهم»، ووجوب أداء النذر والیمین.. کما قد یقرّب أنّ وجوب أداء النذرحکم لیس بثانویّ، بل تعدّ هذه الأحکام (فی الشقّ الأوّل) أحکاماً أوّلیّة.. وهی مسانخة للحکم فی قاعدة الشعائر الدینیّة، وأنّها - من هذه الجهة - هی ثانویّة الموضوع أوّلیة الحکم.. فوجوب الوفاء بالشرط حکم أوّلیّ، ووجوب الوفاء بالعقد حکم أوّلیّ.. ووجوب الوفاء بالنذر والعهد کذلک.. وطاعة الأبوین أو حرمة عقوقهما کذلک.. لکنّ هذه الأحکام ثانویّة الموضوع..

وهذه الدعوی لیست ببعیدة، من جهة أنّ ملاکات الحکم فی هذه العناوین من قبیل الأحکام الأوّلیّة.. لا أنّها أحکام استثنائیة شاذّة..

الفارق بین حکم القاعدة والأحکام الثانویّة المثبتة:

لکن تظل لها میزة وفارق مع الحکم فی قاعدة الشعائر الدینیّة..

فالنذر - مثلاً - قد یکون إنشاؤه مکروهاً.. وکذا الیمین والعهد وحکم طاعة الوالدین، علی الرغم من أنّه کان بنفسه راجحاً، لکن بلحاظ الجهة الأبویّة، یعنی بما یتّصل بالجهة الأبویة، ولیس أنّه یتبدّل حکم الفعل فی نفسه إذ یبقی حکمه الذاتیّ علی حاله.. ولکن باعتباره مقدّمة لطاعة الأبوَین أو لعدم عقوقهما، فإنّه یلزم بفعله ولا یتغیّر عمّا هو علیه.. وکذلک:

ص:261

المؤمنون عند شروطهم حیث أصبح ذلک الفعل واجباً بسبب الإلتزام .

فللشقّ الأوّل من هذه الأحکام الثانویّة میزة تختلف عن نفس الشعائر، إذأنّ الشعائر أمرٌ مرغّب فیه.. ولها ارتباط بکثیر من أبواب الدین وفصول الدین..ولیست من قبیل هذه الأحکام الثانویّة المُثبِتة.. لکن بین هذا الشقّ الأوّل والحکم فی قاعدة الشعائر قواسم مشترکة أکثر من القواسم المشترکة الموجودة بین الحکم فی قاعدة الشعائر والشقّ الثانی من الأحکام الثانویّة النافیة..

وبهذا المقدار یتبیّن نوع من حقیقة الحکم فی الشعائر.. وذلک أنّه حکم أوّلیّ ولیس ثانویّاً استثنائیّاً طارئاً.. بل یرید الشارع أن یُجریه ویطبّقه ویحقّقه..

ولا یرید إقامة النذر والوفاء به.. اللهمّ إلاّ أن یقع النذر فیلزم بوفائه، وکذلک الشروط حسب دلیله: «المؤمنون عند شروطهم..» أو الوفاء بالعقود.. وعلی مقدار تأدیة الضرورات أو الحاجات..

بخلاف باب الصلاة، والعبادات، وأبواب أُخری، وکذلک فی أبواب الشعائر، إذ الإرادة الشرعیّة فی الشعائر تتناسب مع ذی الشعیرة کما مرّ بیان ذلک ،إذ نمط الحکم هو فی مقام الإعلام والإفشاء والتشیید والإعلاء لأحکام الأبواب الشرعیّة.. فالحکم وثیق الصلة بالأحکام الأوّلیّة..

ص:262

النسبة بین قاعدة الشعائر، والأحکام الثانویّة:

بعد بیان أقسام الأحکام الثانویّة نحاول تقریر النسبة بین حکم القاعدة والأحکام الثانویّة، أی الثانویّة فی جنبة الحکم بقسمیها المثبتة والنافیة.. فمن الواضح حینئذ أنّ نسبة الحکم فی قاعدة الشعائر الدینیّة، مع الأحکام الثانویّة فی جنبة الحکم (فی کلا الشقَّین المُثبتة والنافیة) کنسبة الأحکام الأوّلیّة مع الأحکام الثانویّة.. لأنّ حکم الشعائر هو الحکم الأوّلی؛ والأحکام الثانویّة المثبتة أو الرافعة لا تزیل ولا تنفی ولا تلغی الحکم الأوّلی، بل تُقدَّم علیه من باب التزاحم ولکن بشکل مؤقّت وغیر دائم، کما هو شأن الحکم الثانویّ مع الأحکام الأوّلیّة..

حیث یجب أن یُقرّر الفِعل أو الموضوع بلحاظ الأحکام الأوّلیّة، ومن ثَمّ ملاحظة الأحکام الثانویّة کشیء طاریء استثنائیّ علیها.. لأنّ حکم الشعائر هوحکم الطبیعة الأوّلیّة التی لابدَّ من دیمومة بقائها ورعایتها.

فهکذا حال الحکم فی قاعدة الشعائر الدینیّة ووجوب تعظیمها مع الأحکام الثانویّة الأخری المثبتة والنافیة..

وإلّا فلیس من الصحیح ملاحظة الفعل أو الموضوع بلحاظ الأحکام الثانویّة مقدَّماً علی ملاحظة الحکم فی قاعدة الشعائر الدینیّة..

مضافاً إلی ذلک هناک إشکال، وهو: أن لو عُدّ الحکم فی قاعدة الشعائر الدینیّة حکماً ثانویّاً، وعُدّت تلک الأحکام الثانویّة أحکاماً ثانویّة أیضاً.. فیکون کلّ منهما ثانویّاً فتقدیم أحدهما علی الآخر رتبةً ترجیح بلا مرجّح.. بل غایة الأمر أنّهما فی رتبة واحدة، ویقع بینهما التزاحم لا

ص:263

التعارض کما تقدّم..

وهذا جواب نقضیّ.. وإلاّ فالجواب فی الأساس هو أنّ الحکم فی قاعدة الشعائر الدینیّة لیس من قبیل الحکم الثانویّ، بل هو حکم الطبیعة الأوّلیّة التی لابدَّ من بقائها واستمرارها والمحافظة علیها.. فضلاً عن أن یکون الحکم فی القاعدة مؤخّراً رتبةً عن الأحکام الثانویّة..

الخلاصة فی هذه الجهة:

ونستنتج من هذه النقاط التی ذکرناها فی العلاقة بین الحکم فی قاعدة الشعائر الدینیّة، والأحکام الأوّلیّة والأحکام الثانویّة عدّة نتائج.. وقبل ذلک لابأس من التنبیه علی:

أنّه بمقتضی أحد النقاط التی أثرناها فی هذه الجهة، من أنّ مبنی مشهور الفقهاء أنّ نسبة العناوین الثانویّة لُبّاً مع الأحکام الأوّلیّة هی التزاحم الملاکیّ، ومن ثمّ قالوا: حرجُ کلّ شیء بحسبه، أو ضررُ کلّ شیء بحسبه ؛ فمثلاً: الضرر فی الوضوء بأدنی ضرر طفیف یرفع الإلزام بالوضوء أو الغسل..

بینما فی باب أکل حرمة المیتة قالوا أنّ الضَرر الذی یرفع حرمة المَیْتة هو ذلک الضرر الذی یکون بدرجة شدیدة بحیث یُشرف علی الهلکة، وحینئذ یتناول من المَیتة بقدر ما یحفظ به رمق حیاته.. ولا یتعدّی ذلک.. کما یستفاد من الآیة: فَمَنِ اضْطُرَّ غَیْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَیْهِ .. (1).

ص:264


1- (1) البقرة: 173.

وکذلک فی المحرّمات الأخری.. کشُرب الخمر، أو الزنا أو الفجور .. وهو الوجه فی کون الضرر المهلک مسوّغاً لرفع مثل تلک الحرمة دون الیسیر منه.

فالضرر فی الوضوء یختلف عنه فی باب أکل المیتة..

والحال فی عنوان الحرج کذلک.. والفقهاء یعبّرون بهذه العبارة: الحرج فی کلّ شیء بحسبه.. فتجری قاعدة الحرج فی الوضوء، وفی غسل الجنابة بأدنی درجة.. بینما هذه القاعدة فی المحرّمات الشدیدة الکبیرة لابدَّ أن تکون بدرجة العسر الشدید جدّاً.. والوجه فی التفرقة هو أنّه فی المحرّمات الشدیدة لا ترفع تلک الحرمة، أو لا یرفع تنجّزها وعزیمتها إلاّ الحاجة الشدیدة.. بینما فی موارد الحرمة الخفیفة یرفعها أدنی عسر ومشقّة کما تقدّم.. ویطَّرد الکلام فی الاضطرار والإکراه والنسیان..

فالوجه لهذه التفرقة لیس إلاّ مبنی المشهور من أنّ نسبة العناوین الثانویّة مع الأحکام الأوّلیّة هی نسبة التزاحم الملاکیّ لا التخصیص والتقیید؛ ومن ثمّ شملها حکم التزاحم.. فالضرر الیسیر لا یزاحم ولا یمانع الملاک الشدید.. وإنّما یدافع الملاک الخفیف ؛ وکذلک فی الحرج والنسیان وغیرهما..

فالشعائر لیست علی درجة واحدة من التعظیم أو من حرمة الإهانة، بل هی تختلف شدّةً وضعفاً بحسب شدّة وعظمة المعنی الذی تُعلِم عنه وتشیر إلیه، أوبحسب شدّة العلقة کما مثّلنا لذلک سابقاً..

ص:265

اختلاف أحکام الشعائر شدّة وضعفاً:

وبمقتضی هاتین النقطتَین: النقطة التی مضت فی الجهة الخامسة فی المتعلّق، وهی کون الحکم فی قاعدة الشعائر الدینیّة تشکیکیّاً، أی علی درجاتٍ وعلی مستویات متفاوتة..

والنقطة التی نحن بصددها الآن، وهی أنّ الأحکام الثانویّة فی جنبة الحکم نسبتها مع الأحکام الأوّلیّة هی التزاحم.. فیجب أن تُلحظ درجة العنوان الثانویّ مع درجة الحکم الأوّلیّ.. والحال بعینه فی باب الشعائر، أی لیس أیّ ضررٍ یکون رافعاً لکلّ حکم فی الشعائر.. وإذا کان رافعاً لأحد أحکام الشعائر الدینیّة، فإنّ ذلک لا یعنی کونه رافعاً لکلّ درجات أحکام الشعائر الدینیّة الأخری، لأنّهاتختلف بعضها عن البعض شدةً وضعفاً.. فدرجة التعظیم والتقدیس للمصحف الشریف تختلف عن درجة التعظیم والتقدیس للکتاب الدینیّ..

فلیس کلّ ضرر یَرفع کلّ درجة من درجات الشعائر الدینیّة..

ولیس الضرر الرافع منه لدرجة مّا، یکون رافعاً لبقیّة الدرجات أو بقیّة أقسام وأنواع الشعائر الدینیّة.. وکذلک الحال فی الحرج أو الاضطرار..

فهذا مما یجب الإلتفات إلیه جیّداً.. هذا مُجمل الکلام فی الجهة السادسة، وهی جهة العلاقة بین الحکم فی قاعدة الشعائر الدینیّة والأحکام الأوّلیّة من جهة ،ومع الأحکام الثانویّة من جهة أخری..

ص:266

الجهة السابعة: الموانع علی قاعدة الشعائر:

وهی الجهة الأخیرة فی بحث الخطوط العامة للشعائر الدینیّة..

وتدور حول ممانعة الخرافة لقاعدة الشعائر الدینیّة، أو استلزام بعض الشعائر للإهانة والاستهزاء أو الهتک.. وهذه عناوین بالطبع متعدّدة مختلفة، ویجب أن نحلّل کلّ عنوان علی حِدة.. ونری کیف یکون کلّ من هذه العناوین ممانعاً ؟.. وهل هناک موارد للتصادق بین هذه العناوین وقاعدة الشعائر الدینیّة ؟أو لا تصادق فی البَین أصلاً ؟

وبادیء ذی بدء، نقف علی عنوان ومصطلح الخرافة..

الخرافة والشعائر:

الخرافة ما هو موضوعها ؛ وکیف تکون مانعة لقاعدة الشعائر الدینیّة؟

فالبحث فی الخرافة تارة یکون حکمیّاً، وأخری یکون موضوعیّاً..

أمّا من جهة الموضوع: الخرافة فی اللغة وفی العرف تطلق علی أیّ شیءٍ وهمیّ أو تخیّلیّ، أو الذی لا یُمتّ إلی حقیقة واقعیة أو حسّیّة.. فأیّ شیء یُملیه الوَهم أو یملیه الخیال من دون أن یکون له مطابق حقیقیّ فی الواقع - لا عقلیّ ولاحسّیّ - یسمّی خرافة..

والحسّ لیس معصوماً علی الدوام، إذ قد یتطرّق إلیه الخطأ وان کان الحسّ إجمالاً من منابع البدیهیّات.. وکذلک العقل منبع جملة من أقسام البدیهیّات، ولیس کلّ ما لا یُدرَک بالحسّ هو لیس بحقیقة، ولأنّ کثیراً من

ص:267

الأشیاء موجودة وحقیقیّة، مع أنّها لا تُدرک بالحسّ. وعلی کلّ حال، فاقتناص الحقیقة یکون إمّا بأداة العقل، أو بأداة الحسّ أو بأداة القلب فیما یُعاینه من العلوم الحضوریّة.

وفی مقابل الحقائق هناک خرافات.. وهذه هی ماهیّة الخرافة الموضوعة التی لا یقوم علیها دلیل عقلیّ ولا دلیل نقلیّ ولا دلیل حسّیّ ولا دلیل مبرهن ..وإنّما یصوّرها الخیال أو الوهم.. وحینئذٍ تکون خرافة..

وحینما نقرّر أنّ الأداة العقلّیة أو الأداة الحسّیّة تتوسّط لإثبات الحقائق، فلیس ذلک علی الدوام، بل لابدَّ من میزان یعتصم به العقل عن الخطأ.. فی البدیهیات التی هی کرأسمال فطریّ مودع فی الإنسان مِن قِبل الله تعالی، فتلک أداة عصمة للإنسان یستهدی بها فی دوائر الشبهة، وهی من الأمور النظریّة ،وکذلک فی الحسّ هناک دائرة کبیرة من البدیهیات یستهدی بها فی دوائر الشبهة..

وإلاّ فإنّک تری نهایة الجادة والطریق کأنّما یتلاقی طرفاه.. مع أنّ تلاقی طرفی الجادة والطریق فی نهایة مدّ البصر لیس بحقیقة.. لکنّ العقل یهتدی إلی نفی ذلک..

أو تری النار الجوّالة التی یدیرها اللاعب بیده، تراها حلقة ناریة، مع أنّها فی الحقیقة لیست حلقة ناریة.. فهذه من أخطاء الحسّ التی یمیّزها العقل.. علی کلّ حال فعندما یقال بأنّ أداة الحسّ والعقل معصومتان یعنی إذا قُوِّمتا بموازین متقنة..

ص:268

الوهم والخیال:

کذلک الحال فی الأداة الوهمیّة والأداة التخیّلیّة المتصرّفة إذا سخَّرت إحداهما الأخری، فإنّهما غالباً ما تُرکّبان صوراً من قریحتهما لا مساس لها بالواقع..

وقد یکون الوهم والخیال خادمیَن للقوی العقلیّة، فیصیب الإنسان بها الحقیقة.. (نعم قد تخطِّئان الواقع إذا کانتا تُبدیان من أنفسهما أفعالاً فکریّةً وتصرّفاتٍ فی المعانی من دون استخدام العقل لها..) ولکن مع إستخدام العقل فإنّهما تصیبان الواقع..

فالخُرافة فعلٌ من الأفعال الفکریّة والإدراکیّة والتصوّریّة تقوم بها المخیَّلة أو الواهمة من دون هدایة العقل.. ویُذعن الجانب العملیّ )العمّالی( فی النفس إلی تلک الصورة أو إلی ذلک الإدراک..

ثم إنّ فی النفس مشجّرة للطرفَین:

طرف القوة الإدراکیّة: التی تُدرک المعلومات..

وطرف القوة العملیّة: العمّالة..

وهناک أجنحة أُخری فی جهاز النفس ؛ لکنّ الذی یعنینا فی المقام هو هذان الجناحان.. الجناح العملیّ والجناح النظریّ والإدراکیّ..

فالخُرافة إذن مبدأها من فعل إدراکیّ خاطیء بتوسّط المخیّلة أو الواهمة یذعن لها الجانب العملیّ فی النفس، وتبنی علیها النفس عملاً وترتّب علیها آثاراً ،من دون أن یکون المدرَک صحیحاً..

ص:269

وأداة الوهم والخیال إذا کانتا من دون هدایة العقل وإراءته إلیهما فالنتیجة تکون خاطئة.. ولکنّ بعض الأشیاء لا تُدرَک بالحس ولا بالعقل مع أنّها حقائق..وإنّما یدرکها الوهم والخیال بهدایة العقل.. مثلاً: حبّ زید.. بغض عمرو.. حب الأم لطفلها، البغض الخاصّ، والحب الخاصّ.. هذه تُسمّی معانٍ وَهمیّة، لکنّها مطابقة للحقیقة ولها حقائق.. فلولا الوهم والخیال لم یصل الإنسان لإدراکها..

فلا یُحکَم علی کلّ شیء خیالیّ أو کلّ شیء وهمیّ أنّه غیر مصیب وغیر صحیح..

وقد تحصل بعض المغالطات، حیث یحکم بالخرافة علی کلّ شیء یدرک بالخیال والوهم.. فلیس الخیالیّ یساوی اللاواقعیّة ویساوی الخطأ..

الخیال والوهم بدون هدایة العقل واستخدام العقل یساوی الخرافة أو یساوی البطلان..

بخلاف ما یکون بهدایة العقل ؛ مثل بعض الحقائق التی لا یمکن أن یدرکها الحسّ ولا العقل، بل یدرکها الوهم الصادق..

نظیر بعض المنامات الصادقة التی لا یدرکها العقل لأنّها لیست تفکیراً بحتاً، ولا یدرکها الحسّ أیضاً، وتکون صادقة فی الجُملة..

والمُدرَکات العقلیّة لیس لها صورة: طول وعرض وعمق.. ولیست نقوشاً من رأس.. إذ المعانی العقلیّة معانی مجرّدة مصمتة مکبوسة.. بل ظهور تلک المعانی العقلیّة یکون بتوسّط الخیال أو الوهم.. بتخطّطات

ص:270

مقداریّة، أو بتشخّص خواصّ جزئیّة معیّنة.. کما هو الحال فی الرؤیا المنامیّة الصادقة، فالکثیر منّا قد صادف فی حیاته أن رأی رؤیا صادقة طابقت الخارج.. أو قُل: کما هی الحال فی رؤیا الأنبیاء والاوصیاء التی لیس فیها تخلّف..

الرؤیا الصادقة المصوَّرة إنّما یدرکها الإنسان بأداة الخیال، حیث إن الحسّ ینعدم فی النوم فلا یحسّ النائم شیئاً.. وهذه المعلومات تنزل علی الإنسان - کمایقال - من الباطن لا من الخارج، ولیست الرؤیا الصادقة من تصنّع وتسویل النفس.. إذ النفس لا تدرک المستقبلیّات من لدن ذاتها - فی حال النفوس العادیّة - فمن أین أتت هذه الرؤیا الصادقة.. وبأیّ أداة أدرکها الإنسان ؟ وکما ذکرنا من أمثلة حبّ الأم، وبغض العدوّ وما شابه ذلک من المعانی التی یحتاج الإنسان لها فی أصل عیشه.. وإلاّ لما قام عیشٌ ولا استقامت حیاة بدونها..

فالقول أنّ کلّ شیء خیالیّ أو وهمیّ یساوی اللاواقعیّة أو الخرافة هو مغالطة.. نعم قوّة الخیال أو قوّة الوهم إن تجرّدت عن العقل، تکون خرافة حینئذ ولا واقعیّة..

أمّا إذا استُخدمتا من قبل القوی العاقلة.. فیدرک الإنسان بها شطراً وافراً من الحقائق التی لا یمکن له أن یعیش بدونها فی هذه النشأة أو حتّی فی النشآت الأخری..

والوهم ألطف من الخیال.. فهو من عالم ونشأة أخری.. ومعانیه مجرّدة عن الطول والعرض والعمق، وإن کان له تشخّصات معیّنة

ص:271

بالاضافة إلی الجزئیّات المادّیّة..

فاصطلاح الوهم والخیال فی العلوم العقلیّة لیس بمعنی ما لا حقیقة له کی تقع فیه المغالطات.. إنّما القوّة الواهمة أو الخیالیّة إذا لم تُوجّه ولم تستخدم من قِبل العقل فإنّها ستُخطیء الواقع غالباً وکثیراً..

وبذلک یتبیّن موضوع الخُرافة، وأنّها بتوسّط أیّ قوةٍ من قوی النفس یمکن أن تُدرک..

وإذا کان شیء ما خُرافة، فیجب علی الإنسان أن یهمله وأن لا یرتّب علیه آثار الحقیقة.. لأنّ اللازم أن لا یعتدّ بها الإنسان کحقیقة، فضلاً عن أن یتدیّن بها أو یداین بها أو یعظّمها أو یقدّسها أو یُجلّها..

التضادّ بین الشعائر والخرافة:

فهذه مقولة الخُرافة وحکمها.. أمّا العلاقة بین قاعدة الشعائر الدینیّة وحکم العقل فی إبطال وتسفیه الخرافة وادّعاء وجود موارد الاجتماع والتصادق بینهما..

فالشعیرة - کما عرفنا فیما سبق - هی عبارة عن الدلالة والمَعلَم للمعنی الدینیّ.. فإمّا أن یتسرّب البطلان واللاحقیقة إلی العلامة، أو إلی ذی العلامة..والبطلان الذی یتسرّب ویتخلّل إلیها إمّا من جهة أنّها لیست لها علامیّة لذلک المعنی - یعنی إمّا فی العلامة، بحیث لا علامیّة لها علی ذلک المعنی - أو یدبّ الإشکال ویسری فی نفس المعنی (الذی هو ذو العلامة)..

ص:272

والمعانی الدینیّة إذا کانت معانٍ قام الدلیل علیها، سواء الدلیل القطعی الضروریّ الدینیّ، أو الدلیل النقلیّ الظنّیّ المعتبر ؛ یکون الحکم بأنّها خرافة أو لا حقیقة لها تصادماً مع الدلیل الشرعیّ وخلاف الفرض. نعم إذا کان هناک معنیً من المعانی جزئیّاً أو متوسّطاً - وما أکثر المتوسّطات - أو کلّیّاً لم یَقُم علیه دلیل معیّن..فیمکن أن یوصف بذلک..

ومن جهة أخری، فإنّ عدمَ الدلیل غیرُ دلیل العدم ؛ فهناک تارة شیء لم یقُم علیه الدلیل، وهناک تارةً أخری شیء قام الدلیل علی عدمه، ولا ریب حینئذ فی عدم واقعیّته، فیتصادق ویتّفق مع الخرافة، مثل الأدیان الوثنیّة، أو الأدیان الأخری الباطلة ؛ ومثل هذه الأدیان تعتبر شعائرها باطلة وخرافیّة لأنّ شعائرها علامات ومعالم علی معانٍ لیست واقعیّة، بل منحرفة وخاطئة وتخیّلیّة ووهمیّة -مثل: الثنویّة فی الخالق، والثنویّة فی ربّ الوجود.. ولا ریب فی زیف هذه المعانی.. فمن ثمّ الشعائر الدینیّة لهذه الأدیان باطلة خرافیّة من هذه الجهة..

فهذه المعانی التی فی الشریعة: إن قام علیها الدلیل ولو الدلیل العام فلا یصح أن یصدق علیها الخرافة..

فعمدة الکلام فی التحرّی والتحقیق والتثبّت فی ماهیّة المعنی الذی تعکسه تلک الشعیرة؛ ثمّ نتحرّی عن الدلیل علیه.. أمّا إطلاق عبارة الخرافة من دون التدلیل علی ذلک فهو أشبه بالمغالطة أو الإبتداع.. ولابدَّ لکلٍّ من النافی أو المُثبِت أن یستدلّ علی مدّعاه..

فدعوی الخرافیّة فی جنبة المعنی تتوقّف علی إقامة الدلیل علی بُطلان

ص:273

ذلک المعنی المعین.. أمّا إذا کان ذلک المعنی معزّزاً ومؤیّداً بالدلیل.. فحینئذ تکون دعوی الخرافیّة فیه غیر مقبولة.. والغرض من التطرّق لبحث الخرافة الذی یواجه قاعدة الشعائر الدینیّة قدیماً وحدیثاً.. أنّه إن کان یعترض بذلک فی طرف وجنبة الموضوع، فلابدَّ من النظر فی ذلک المعنی.. کی یتبیّن مدی وجود التقاء - من جهة المعنی - بین الشعیرة والخرافة..

وأمّا فی جنبة نفس الشعیرة.. فقد یتوهّم إطلاق الخراقة.. لکنّ العلامة - بماهی علامة - لا یصدق علیها خرافة.. إذ المفروض أنّ الخرافة هی المعنی الذی لیس له حقیقة، أمّا العلامة فی نفسها فلیست من سنخ المعنی.. فکیف نتصوّر فیهاالخرافة، هذا ممّا لا یمکن أن یُتصوّر..

حیث إنّ هذه الشعیرة لها دلالات علی معانٍ معیّنة، والمعانی قد تکون باطلة وغیر صحیحة، وبالتالی تکون خرافیّة.. أمّا الشعیرة فی نفسها فلیست لهاوظیفة إلاّ الدلالة علی معنی والإشارة إلی محتوی فحسب.. نعم قد تکون بعض الشعائر کعلامات ودلالات غیر متناسبة مع المعنی الشامخ الذی وُضعت هی له ،أو تکون موجبة لتضعضعه، وهذا أمر آخر غیر الخرافیّة، بل هو محذور الهوان و الاستهانة..

ممیزات وخصوصیّات الشعائر:

ذکر علماء الإجتماع بعض الممیّزات والخصوصیات للشعائر منها:

تنوع الشعائر:

تنوّع واختلاف الشعائر والرسوم بین المجتمعات المختلفة.. مثلاً

ص:274

أسلوب التعظیم فی بلدة معیّنة، یختلف عن أسلوب التعظیم فی بلدة أخری.. بل قد یعتبر ذلک التعظیم فی بلاد أخری مظهراً لعدم الإحترام مثلاً.. إذ أنّ مدالیل العلامات تختلف بحسب التواضع والقرار المقرر بین أفراد المجموعات البشریّة.. وهذا ممّا لابدَّ من وضعه فی الحسبان.. إذن لا یمکن أن نحمل حکم الشعیرة فی بلد عَلی حکم شعیرة فی بلدآخر..

منشأ الشعیرة وأبعادها الخطیرة:

الشعائر والعلامات لا تکون فی الغالب مبتدأة ومبتکرة من رأس.. وإنّما تکون موروثاً حضاریّاً مکدَّساً.. بمعنی أنّ أیّ عرف أو أیّ قوم أو أیّ مجموعة معیّنة من البشریّة تتوارث أسالیب ووسائل معیّنة، یعرض علیها شیء من التطویر والتغییر.. لکنّ أصل جذور تلک الشعیرة أو تلک الوسیلة هی موروث حضاریّ قدیم یُنقل من الأجداد إلی الأبناء فی إطار حضارات مختلفة، من مؤثّرات و خصوصیّات معیّنة، مثل العِرق المُعیّن، أو القومیّة المعیّنة، أو المنطقة الجغرافیّة..ففی الواقع الشعیرة التی تتّخذ فی مجال دینیّ، أو فی مجال غیر دینیّ، أو مجال معاشیّ، أو فنیّ، أو إجتماعیّ، أو تاریخیّ، أو قومیّ.... هذه الشعیرة کما یعبّرون - تحمل هویّة وخصوصیّات وممیّزات تلک المنطقة أو تلک القومیّة.. یعنی أنّ الشعیرة لیست هی شعیرة فقط، بل تستبطن الهویّة القومیّة والشخصیّة الاجتماعیّة والتاریخیّة بقدر ما تحتوی علی معانی ومبادیء..

ومن ثمّ تری متخصّصی علم الحضارات أو علم التاریخ والاجتماع .. أو علم السیکولوجیا (علم النفس) یشیرون إلی أنّه من الخطورة بمکان

ص:275

تغییر الشعارات الوطنیّة والرموز الوطنیّة والعبث فیها.. لأنّ هذه الرموز والشعارات المعیّنة تحمل هویّة قرون لهذه المنطقة.. وتغییرها مقابل رموز وشعارات بدیلة ،یعنی ذوبان هذه القومیّة فی مقابل سیطرة ثقافات دخیلة.. فهذه الرموز والشعارات لیس من الهیّن والبسیط أن تُستبدل برموز تشکیلیّة جدیدة وتذوب أمام الغزو الفکریّ الجدید.. ولیس من الهیّن أن تتلاشی العادات والتقالید وتضعف الحصیلة التاریخیّة للمنطقة مقابل الفکر الجدید والثقافة البدیلة التی یأتی بها الغزاة والمستعمرون..

فنحن نری - مثلاً - إصرار بعض الدول الغربیة - کبریطانیا - فی ترویج اللغة الإنجلیزیة.. مع أنّ بریطانیا قد انحسر امتداد نفوذها الرسمیّ الظاهریّ حالیّاً.. مع ذلک لدیها إصرار فی تعلیم ونشر اللغة الإنجلیزیّة، السرّ یکمن فی أنّ وراء تعلیم اللغة تحمیل تقالید أصحاب اللغة أنفسهم.. وتحمیل ثقافة وروحیات الإنجلیز..یعنی تذویب القومیّات الأخری مقابل قومیّتهم..

فالرموز والشعارات الإسلامیّة لا یصحّ الاستهانة بها واستصغارها، فإنّ لها دوراً کبیراً فی الحفاظ وتحدید الهویّة الحضاریّة للأمّة الإسلامیّة..

فإذا کانت الشعیرة والشعائر بهذا الموقع من الأهمیّة والحساسیّة، فلیس من الهیّن محاولة تغییرها من دون دراسة مختلفة الجوانب محیطة بالجهات العدیدة ،لأنّ هذه الرموز والشعائر الدینیّة، سواء شعائر الحجّ، أو الشعائر الحسینیّة، أوشعائر الصلاة، أو شعائر المسجد، أو شعائر قبور الأئمّة (علیهم السلام) هی تُعدّ بقاءً للمعالم التاریخیّة والحضاریّة للمسلمین..

ص:276

لذا نجد البشریّة الآن تحتفظ بالتراث، وتهتمّ به وتحرسه بأخطر الأثمان ،وتصرف علی ذلک من الثروات الطبیعیّة الهائلة للبلد، لأنّ التراث - فی الواقع یحافظ ویحکی عن وجود حضارات استنزفت فیها الجهود والطاقات، ثمّ بعد ذلک وصلت إلی هذا العصر الحاضر.. فلیس من الیسیر التفریط بها..

فالخرافة قد تتصادق مع الشعیرة بلحاظ تأویل المعنی المدلول علیه.. لکنّه یجب الحذر والتفطّن من فقد هذه الرموز التی هی مخزون لمعانٍ سامیة، والضمان لأصالة المجتمع الإسلامیّ، ولا یسوغ التفریط بها بدون تدبّر.. بل لابدَّ من دراستها بدقّة وتأنٍّ..

وإذا کانت هذه الشعیرة بالنسبة إلی الآخرین (خارج المجتمع الإسلامیّ) مثل الیهود أو النصاری قد یکون لها مدلول معین، فهذا لا ینتقص من شأن الشعیرة نفسها.. لأنّ المفروض أنّ مدلولها لدی المسلمین هو المؤدّی الرفیع والمعنی السامی.. فکیف یُنتظر منّا أن نتّخذ شعیرة ورمزاً، یکون له مؤدّی مقبول عندهم وهم لا یذعنون بالمبادئ الإسلامیّة، فلو اشترطنا فی الشعیرة قبولهم لمعناها ،فهذا یعنی فقد الشعیرة وظیفتها أو ضیاع الدور المرجوّ منها أو الغرض المأمول منها.. وبعبارة أخری: إنّ التساهل والتهاون بذلک یُعتبر فقداناً لهویّتنا وأصالتنا..

وقد تمّ البیان بما لا مزید علیه أنّ الشعیرة تحتوی علی رکنَین: - رکن النشر والإعلام - ورکن الإعلاء والاعتزاز وحفظ الهویّة.. لَنْ یَجْعَلَ اللّهُ لِلْکافِرِینَ عَلَی الْمُؤْمِنِینَ سَبِیلاً، وَ جَعَلَ کَلِمَةَ الَّذِینَ کَفَرُوا السُّفْلی وَ کَلِمَةُ اللّهِ

ص:277

هِیَ الْعُلْیا .

فوظیفة الشعائر حفظ الهویّة الإسلامیّة والدینیّة المبدئیّة وإعلائها، فإذا فقدناها واستبدلناها بشعارات تروق للأعداء فعلی الإسلام السلام..

وهنا نقطة مهمّة ونکتة فقهیّة مرتبطة بقاعدة الشعائر الدینیّة: وهی أنّ هذه القاعدة تحمل فی ماهیّتها رکن الإعلام والإنذار والبثّ والعلامة والمَعلم ؛ ورکن آخر فی ماهیّتها (کالجنس والفصل) هو الإعلاء والاعتزاز، أی حفظ الهویة بل إعلائها والاعتزاز بها وتقدیمها علی بقیّة الهویّات البشریّة الأخری.. وهی الهویّة السماویّة والشخصیّة الإلهیّة فی الواقع..

دائرة الشعائر الدینیّة:

ومن جهة أخری، فإنّ الشعائر تنقسم بلحاظ المطلوب من الشعائر الدینیّة وهو ثلاثة أنماط من الوظائف:

تارة أن تؤدّی دورها فی الوسط الدینیّ المسلم، وتکون فائدتها للمسلمین أنفسهم فقط..

وتارةً یکون تأثیرها ضمن أبناء الایمان والوسط المؤمن..

وتارة ثالثة أن تؤدّی دوراً لدعوة الآخرین من المِلل والنِحل البشریّة الی الإسلام أو إلی الإیمان..

فهذه الشعائر التی أُمرنا بتحریمها وتعظیمها.. إمّا علی نحو وجوب إقامتهابین المسلمین ثمّ نشرها فی الدار الإسلامیّة أو دار الایمان.. أو أن

ص:278

تکون وسیلة إعلامیّة عامّة یُرجی لها الوجود، ویکون الأمر بها بلحاظ الوسط غیر المسلم، ویتوخّی أن تؤثّر فی الأعمّ من الوسط المسلم وغیر المسلم..

ولا یخفی أنّ المطلوب من الشعائر - بصورة عامة - هو إیجادها فی الوسط المسلم أو المؤمن أوّلاً وبالذات.. والمحافظة علی نفس الوسط المسلم وتوجیهه إلی الهدف، والسمو به إلی القمّة فی نفس الوسط الإسلامی .. نعم توجد بعض الشعائر المعیّنة قد اختصّها الفقه والدین الإسلامی لأجل التبلیغ فی ساحة الوسط غیر المسلم..

مثل: اُدْعُ إِلی سَبِیلِ رَبِّکَ بِالْحِکْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ (1) ونحوه من الأدلّة ممّا یجب أن تکون الدعوة بلغة یفهمها المدعوّ ویستأنس بها.. فلیس من الحکمة استخدام أسلوب صحیح فی ذاته.. ولکن یستهجنه الناس وینفِّر عن الإسلام.. ولا شکّ أنّ هذا لیس من الحکمة بل هو نقض للحکمة..

تباین مِلاکات الأقسام فی الشعائر:

ولکن الکلام هو فی التفرقة والتمییز بین الشعائر التی هی لأجل الوسط المسلم أو الوسط المؤمن.. وتلک التی هی للوسط غیر المسلم.. بل اللازم أیضاً التفرقة بین الشعائر الاسلامیّة والشعائر الإیمانیّة.. فالأولی

ص:279


1- (1) النحل: 125.

للوسط المسلم والثانیة للوسط المؤمن، ولا یطغی حساب وموازنة أحدها علی الاخری، بل کلّ منها فی مورده مطلوب ولازم، إذ الغرض قائم من الأقسام الثلاثة من الشعائر لحفظ هویّة الإیمان وحفظ هویّة الإسلام والإعلام والدعوة لکلّ منهما..

نعم یجب أن یُختار فیها ما یلائم ویناسب المقام.. ولکن فی حدود أن لا تذوب الشخصیّة الإسلامیّة ولا الشخصیّة الإیمانیّة، وشریطة عدم تقدیم التنازلات العقائدیّة والسلوکیّة.. وإلاّ فسوف یُنتقض غرض الدعوة.. لأنّ المفروض من ظاهر الآیة أُدْعُ إلی سَبِیلِ رَبِّک« هو الدعوة إلی سبیل الله ولیس الدعوة إلی سبیل النصاری أو الیهود أو سبیل أهل الضَّلال، المفروض هو الدعوة إلی سبیل ربّک.. لکن بالحکمة والأسلوب المناسب.. الدعوة الی سبیل الله مع حفظ الهویّة.. لکن بالأسلوب والکیفیّة والنمط الذی یستأنسون به وینجذبون إلیه من سبیل الله، فحینئذ تؤثّر الدعوة وتؤتی ثمارها..

غالب الشعائر هو التعظیم بلحاظ دار المسلمین ودار المؤمنین.. ذلِکَ وَ مَنْ یُعَظِّمْ شَعائِرَ اللّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَی الْقُلُوبِ «.. وَ الْبُدْنَ جَعَلْناها لَکُمْ مِنْ شَعائِرِ اللّهِ - ولم یقل سبحانه جعلناها لهم - إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَیْتَ .. ولیس لمن لا یحجّ البیت... وصلاة الجماعة خاصّة بدار المسلمین الذین یحرصون علی أداء الصلاة.. وهی تظاهرة عبادیّة دینیّة.. وصلاة الجمعة کذلک..

وهناک طقوس دینیة کثیرة قد یستخفّ ویستهزأ الآخرون بها ! فقد

ص:280

یقول قائل مثلاً: ما هذا الانحناء ونکس الرأس ورفع العجیزة ؟ ! هذه مظاهر لا یفهمها غیر المسلمین.. لأنّ هذه الطقوس المفروض فیها أن تُقام بنفسها لأجل الحفاظ علی المجتمع المسلم فی نفسه.. وکذلک الحال بالنسبة إلی طقوس الإیمان فی وسط الطائفة، فإنّه لا یعیها غیر المؤمنین، فمن الخبط بمکان تفسیر الشعائر المأمور بهافی وسط خاصّ والحکم علیها بموازین الوسط العامّ فضلاً عن الوسط الأعمّ..وهذا البحث فی الشعائر لیس فقط فی الشعائر الدینیّة، بل یجری فی الشعائر الوطنیّة والقومیّة..

بعض الشعائر الوطنیّة والقومیّة تؤسَّس لأجل حفظ الفِکر والهویّة وربط المواطن بتربة وطنه، أو بقومیّته.. ولیس الغرض من تلک الشعیرة أو الرمز دعوة الأمم الأخری، کلاّ !!

مثلاً لأجل ربط الجنود بالتربة والوطن، أو من أجل تحقّق معانی الدفاع عن الوطن وحمایة مقدّرات البلد وما شابه ذلک، یُربط الجنود برمز معین وإن لم یفهمه الآخرون، أو قد یسیء فهمه الآخرون.. إذ لیس الغرض من هذا الرمزالعسکریّ أو الجهادیّ هو فهم الاخرین.. بل المطلوب فیه هو فهم أهل الوطن..

کذلک الحال فی الشعائر الدینیّة التی یظهر غالب الخطاب فیها، بل مدلول الأدلّة الکثیرة، أنها موجّهة لأجل نفس المجتمع المسلم أو المجتمع المؤمن.. ولأجل حفظ هویّتهما، وحفظ مبادئهما، ویتماسکا ویترابطا.. لا أنّه لأجل التبلیغ لجهة أخری أو لأمّة أخری..

نعم قد یفترض ذلک فی بعض الشعائر، مثل باب الدعوة إلی الجهاد

ص:281

الفکریّ.. ولا ریب فی کون الغرض منه دعوة الآخرین، فیُفترض مثلاً من الکاتب أو المفکّر أو الخطیب أو المحاضر، أو علی صعید منتدی عالمی کمحطة فضائیة أومواقع الکترونیّة مثلاً أن یُختار الأسلوب المقبول والمؤثر.. والمفروض أن یرکّزعلی النقاط المعینة فی القانون الإسلامیّ ومعارف المذهب التی تجذب الآخرین.. مثل موارد الوفاء بالعهد وأداء الأمانة.. لاسیما فی الأبواب التی لهاصلة بالآخرین.. حتّی تتّخذ رموزاً وشعارات وقوانین ومعالم تجذب الآخرین إلی الوسط الإسلامیّ والإیمانیّ لا أن تُنفّر عنه، عملاً بمقولة «کونوا دعاة للناس بغیر ألسنتکم..» (1).

فالخُلق الإیمانیّ الإسلامیّ - مثلاً - ینبغی الدعوة إلیه کما أنّ هناک فی المجتمعات العصریّة دعوة إلی المثال النموذجیّ: سواء المثال الإقتصادیّ أو المثال التربویّ، لابدَّ أن ندعو إلی مثال خلق معین یجذب الآخرین.. وهو المثال الذی یدعو له الإیمان والإسلام.. لأنّ الغرض منه هو الإعلان والتبلیغ والدعوة لجذب الآخرین إلی حوزة الدین..

وأمّا غالب الشعائر التی یفرض أنّها طقوس ورسوم تتّخذ فی دار الإسلام أو الإیمان، فالمفروض فیها هو المحافظة علی هویّتها الأصلیّة الإیمانیّة والإسلامیّة.. والمنع من ضیاعها..

والمتخصّصون من أصحاب الفنون والعلوم العدیدة، کالشعراء والأدباء والخطباء والقرّاء وأصحاب المهارات فی الأنشطة والمراسم الدینیّة

ص:282


1- (1) الکافی، 78/2.

المختلفة یلمسون ذلک مع التحصّن بالمعانی الإسلامیّة العالیة وهضمها والإحاطة بها، فیطمئنّ لهم بأن یبرزوا لنا تشکیلة شعاریّة معیّنة فنّیّة، أدبیّه، شعریّة، قصصیّه ،وبلاغیّه تناسب المعنی السامی القرآنیّ، وأمّا إذا کان المتخصّص متأثّراً بالمعانی والمبادیء الدخیلة علی المذهب أو الدین الإسلامیّ.. فما ینتجه ویرسمه من شعار یشکّل خطورة علی المعالم الإیمانیّة والإسلامیّة..

فهذا البحث ینبغی أن یُلحظ کیفیّةً وحیثیّةً، استعانةً بالأخصّائیّین إخلاصاًوخبرةً، کما ینبغی دراسة هذه الشعیرة مع مقدار إمتداد جذورها التاریخیّة ومدی ارتباطها بمسار الطائفة وبحضارة الأمّة الإسلامیّة، حتّی یمکن البتّ فی سلبیّة أوإیجابیّة هذه الشعیرة أو مؤدّاها الذی تدلّ علیه..

الشعائر والهَتْک:

یبقی الکلام ضمن هذه الجهة السابعة عن ممانعیّة الهتک أو الهوان الذی قدیعرض علی ممارسة الشعائر الدینیّة المستحدثة أو المستجدّة.. فیکون مانعاً خارجیاً لعموم دلیل قاعدة الشعائر الدینیّة.

فی النظرة الأوّلیّة البَدویّة یُتبادر کونه مانعاً، باعتبار استلزامه هوان الدین ،وهتک الدین..

وقد تمسّک البعض بهذا العنوان، واستدلّ به علی ممانعة کثیر من الشعائر المستجدّة المتّخذة.. فلابدَّ - من ثمّ - من تحلیل هذا العنوان ومعرفة ماهیّته العقلیّة واللغویّة..

ص:283

معنی الهَتْک: کشف المستور.. وطبعاً - بالنسبة إلی حرمة الدین أوالمسلمین - قد یُراد منه کشف نقاط الضعف (فی المسلمین أو المؤمنین) وکشف الستر عن ذلک، مثل هتک حرمة المؤمنین والمسلمین وکشف النقص أو الضعف الموجود فیهم ممّا یؤثر فی زوال قوتهم وتضعیف شوکتهم..

والهوان أیضاً فی ماهیّته ومعناه یتقارب من الهتک، ویکون مسبَّباً عن الهتک مثلاً ومعلولاً عن کشف الستر..

فالهتک والهوان أمران متلازمان فی الغالب.. وأحدهما مسبّب عن الآخر ؛وإن کانت الماهیّة الحرفیّة وبالدقّة فی الهتک هی کشف الستر.. لکنّ کشف السترإمّا عن معائب أو عَوار أو نقائص، وکلّها بمعنی واحد.. ومن ثمّ یستلزم الهوان من الطرف الآخر..

ولا ریب أنّ هذه الماهیّة هی مضادّة لأغراض الشارع، ونقیض أهدافه فی التشریع التی بُیّنت فی آیات عدیدة منها:

- وَ جَعَلَ کَلِمَةَ الَّذِینَ کَفَرُوا السُّفْلی وَ کَلِمَةُ اللّهِ هِیَ الْعُلْیا

- وَ لَنْ یَجْعَلَ اللّهُ لِلْکافِرِینَ عَلَی الْمُؤْمِنِینَ سَبِیلاً

- ذلِکَ وَ مَنْ یُعَظِّمْ شَعائِرَ اللّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَی الْقُلُوبِ

- وَ مَنْ یُعَظِّمْ حُرُماتِ اللّهِ فَهُوَ خَیْرٌ لَهُ

إنّ الأغراض الأوّلیّة الضروریّة من التشریع هی الرفعة والعلوّ، وهی أغراض أوّلیّة کبری وأهداف فوقانیّة قصوی فی التشریعات القرآنیّة ؛

ص:284

والهتک بمعنی کشف نقاط الضعف أو عَوار المسلمین أو المتدیّنین، الذی یستلزم الهوان والنقص المعاکس والمناقض لأهداف الشارع ورغباته..

لکنّ الکلام: أنّ هذا الهتک والهوان، هل هو مترتّب علی صِرف الإستهزاءمن قِبل المذاهب الأخری.. أو من قبل الملل الأخری ؟

أقسام الهتک والاستهزاء:

والاستهزاء - سواء کان من الفرق الإسلامیّة الأخری أو من الملل الأخری- یکون علی أقسام:

منه: الاستهزاء باطلاً وبما لیس بحقّ لدواعی مختلفة ومتعددة.. وهذا لا یؤثّر ولیس بمانع.. ولا ریب أنّه لا یستلزم الهتک.. لأن هذا الإستهزاء غیر کاشف عن عَوار ونقص ومعائب فی المؤمنین.. أو فی الدین..

ومنه: الاستهزاء نتیجة اختلاف الأعراف والبیئات والأعراق.. واختلاف الشعائر أو الطقوس حَسب المِلل والبلدان المختلفة فی شعیرة منصوبة لتدلّ علی معنی سامٍ.. لکنّ الآخرین قد ینطبع بأذهانهم معنی آخر، فهذا لا یستلزم ممانعة الشعائر ولا یُعرقل اتّخاذها وتعظیمها.. والسرّ فی ذلک أنّ هذا یرجع إلی حفظالهویّة، کما فی حفظ الهویّة الوطنیّة أو التراثیّة.. وهنا یرجع إلی حفظ الهویة الدینیّة، أو حفظ الهویّة الخاصّة بالطائفة وبهذه الملّة وهذه النحلة..

فلو استجیب لکلّ ما یروق للآخرین ممّا یکون مقبولاً عندهم، لتبدّلت هویّتنا إلی هویّتهم، وکان ذلک نوعاً من الانهزام والانزلاق تحت

ص:285

سیطرتهم، ولأدّی إلی ذوبان شخصیتنا فی بوتقة الفکر الدخیل والأجنبی.. فهذا القسم أیضاًلا یستلزم الهتک أو الهوان..

ومنه: استهزاء لجهات واقعیّة، فهذا یلزم منه هتک وهوان. فعلی ضوء هذاالتقسم الثلاثیّ.. نخرج بهذه النتیجة.. أنّ قسمین من السخریة أو الاستهزاء أوالتعجّب من الآخرین لا یوجب الهتک والهوان وإن تخیّله الباحث أو المتتبّع للشعائر الدینیّة کذلک..

والهتک أو الهوان أو الاستهزاء حیث إنّه من مصادیق وأصناف التحسین والتقبیح العقلیّین، وقد ذکرنا أنّ بعض مواردهما یکون مطابقاً للواقع فیکون صادقاً، وبعض مواردها غیر مطابق للواقع فلا یکون صادقاً، بل کاذباً..

العقل العملیّ والعقل النظریّ: هذا التحسین والتقبیح العقلیّان، فی قوّة العقل العملیّ فی النفس، التی تختلف وظیفتها عن قوّة العقل النظریّ الذی یُدرِک وجودالأشیاء وثبوتها، أو عدمها ونفیها، کما یُقال أن العقل النظری بنفسه لا یوجب تحریکاً فی الإنسان ولا انبعاثاً ولا تربیةً.. ومن ثمّ قالوا أنّ الحکماء (الفلاسفة) لایؤثّرون فی المجتمعات مثل ما یؤثّر الأنبیاء والرسل.. لأنّ الفلاسفة یعتمدون غالباً علی العقل النظریّ.. وهو ینطوی علی جنبة الإدراک فقط..

بینما إذا اتّصل العقل النظریّ - وهو إدراک الأشیاء وثبوتها فی العلوم المختلفة - بالعقل العملیّ.. أی أدرک حُسن وقُبح الأشیاء وتحسینها وتقبیحها، حتّی یکون محفزّاً ومحرّکاً، أو زاجراً ومؤدّباً للنفس.. ففی الواقع

ص:286

فإنّ العقل العملیّ لیس صِرفُ إدراک فقط، ولیس صِرف حجّیّة وتنجیز وتعذیر إدراکیّ فقط..وإنّما هو نوع من الباعثیّة والتحریک والتکوین.. لأنّ التحسین نوع من المدح ونوع من إیجاد الجَذْبة والمَغْنَطة بین النفس وذلک الفعل الحَسن ؛ والتقبیح - فی المقابل - نوع من ایجاد الشرارة والنفرة والبعد بین النفس وذلک الفعل القبیح..فهذا الجذب والوَصل من جهة والنفرة والانقطاع من جهة أخری هما من خاصیّات العقل العملیّ..

فإذا کان التحسین والتقبیح کاذبَین، فإنّ هذا بنفسه یکون عاملاً مُغریاًوخاطئاً ومزیّفاً للنفس لأن یحسّن لها القبیح ویقبّح لها الحَسن.. وسوف یؤدّی إلی تربیة خاطئة للنفس، وإلی نوع من الترویض السیّ ء فی النفس..

الشعائر والآثار الإجتماعیّة:

إذا اتّضح ذلک، علمنا أنّه إذا حصل الإستهزاء والسخریة (اللذین هما من أصناف المدح والذمّ والتحسین والتقبیح) إذا حصلا بسلوکیّة خاطئة ومدلّسة..سیّما إذا کان ذلک علی نحو افتعال جوّ وزخم إعلامیّ شدید وبکثافة إعلامیّة عن طریق الجرائد أو الإذاعات أو النشریّات أو المحافل والأندیة.. فإنّه سیوجب -قهراً - وقوع المسلمین أو المؤمنین فی جوّ خاطیء أو تربیة خاطئة، بأن یستقبحوا ما هو حَسن.. ویستحسِنوا ما هو قبیح..

مثلاً قد یعتبر الشاب المتدیّن فی الجامعة أنّ الصلاة تُقلّل من شأنه

ص:287

فی نظر زملائه، وأنّها عار علیه ولا تلیق به، ثمّ شیئاً فشیئاً یصبح القبیح حسناً، وبالعکس.. ولا ریب فی کون ذلک النوع من التفکیر سلوکاً منحرفاً واستخداماً خاطئاً وخطیراً فی العقل العملیّ، وقد قال أمیر المؤمنین(علیه السلام): کَم مِن عقلٍ أسیرتحت هوی أمیر..

سیما إذا کان العقل الإجتماعیّ أو العقل الأُممیّ، أو العقل العَولمیّ الذین یحاولون ترویجه الآن.. إذا کان خاطئاً..

هذا العقل البشریّ المجموعی سوف یؤول بالبشریّة إلی القبائح باسم المحاسن.. أو یمنعها عن المحاسن والفضائل باسم أنّها قبائح ورذائل کما أخبر بذلک النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله قبل أربعة عشر قرناً، وکان إخباره صلی الله علیه و آله حول علامات آخر الزمان..

فقضیة الإهانة والهتک والاستهزاء ترتبط ارتباطاً بنافذة عقلّیة تربویّة وإجتماعیة وسلوکیّة وممارسة معیّنة.. وقد یحصل اللَّبس أنّ مثل هذه الشعیرة أو الشعائر المتّخذة ربّما توجب الوهن فی الدین بینما هی لیست بوهن، لکن لشدّة علاقة الطرف الآخر ولشدّة نفوذ التبلیغ والدعایة والطُرق والقنوات المتوفّرة لدی الطرف الآخر، یوجب تأثّرنا بمدرکات خاطئة تُملی علینا وتُهیمن علی أفکارناوتزعزع المبادیء والعقائد..

فی مثل هذه الموارد، نقول وإن کان علی صعید التنظیر، بأنّ هذا الاستهزاء وهذا الهتک باطل ولیس بمانع للشعائر.. لکن شریطة أن یکون هناک نوع من الردع أمام التبلیغ المضاد..

ص:288

ممانعة بعض الشعائر تبعاً للمصلحة:

فی بعض الحالات قد یرتسم لدی الفقیه طبق المیزان الشرعیّ أن تُمانع تلک الشعیرة أو الشعائر، لا لأجل أنّها ممانعة فی واقع الأمر.. ولکن لأجل أنّ مثل هذا الجوّ الحالیّ قد یُضعِّف نفوس المؤمنین.. وإن کان هذا التضعیف لیس فی محلّه..ولکن لأجل فترة وقتیّة لشعیرة مستجدّة أو مُستحدَثة قد یری من الصالح لأجل عدم إحداث الضعف والوهن فی نفوس المسلمین والمؤمنین، قد یکون من الصحیح الممانعة.. لا الممانعة من جهة الهتک أو الاستهزاء.. بل فی الواقع ممانعة بسبب ضعف المسلمین نفسیّاً تجاه هذه الشعیرة.. فربّما عَدم ممارسة هذه الشعیرة یکون أثره أفضل فی النفوس.. وبعبارة أخری: فی هذه الموارد قد لا تسمّی ممانعة للشعائر، بل عدم توفّر قیود وشرائط الشعائر، فعدم إقامة الشعیرة یُنسب إلی فقد الشرط ولیس إلی الممانعة عنها.. وقد یکون العکس أولی بالرعایة، بأن یتشدّد الوسط الدینیّ بالشعیرة المتّخذة کی لا یستسلموا ولا یعتادوا الإنهزام أمام تهریج الخصوم وانتقاداتهم، وتحدید ذلک یکون بید الفقهاء الأمناء علی الدین والعقیدة..

دواعی أخری لممانعة الشعیرة:

وقد یکون التزاحم والدوران ناشئاً من جهات أُخری - لیس من جهة مراعاة الهتک والاستهزاء بغیر حقّ من الفرق أو الملل الأخری، بل من جهة ضعف نفوس المسلمین، أو من جهة ضعف شوکتهم، نظیر ما یذکره سبحانه وتعالی فی قوله: إِنْ یَکُنْ مِنْکُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ یَغْلِبُوا

ص:289

مِائَتَیْنِ وَ إِنْ یَکُنْ مِنْکُمْ مِائَةٌ یَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِینَ کَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا یَفْقَهُونَ اَلْآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنْکُمْ وَ عَلِمَ أَنَّ فِیکُمْ ضَعْفاً فَإِنْ یَکُنْ مِنْکُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ یَغْلِبُوا مِائَتَیْنِ وَ إِنْ یَکُنْ مِنْکُمْ أَلْفٌ یَغْلِبُوا أَلْفَیْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَ اللّهُ مَعَ الصّابِرِینَ (1).

من جهة حفظ الشکیمة والحیثیّة یخفَّف التشریع من باب إدراجه فی باب التزاحم بین حُکمَین شرعیّین، ولیس من باب ترتیب الأثر علی الهتک والاستهزاء بغیر حق..

ومع أنّه بحدّ ذاته غیر ممانع، لکنّه یولّد جوّاً أو ظرفاً أو بیئة معینة، وهذا الجو ینتج تصادماً بین حُکمین وآخرین، ولابدَّ أن یراعی الفقیه هذه الجهة..

أو قد تنشأ الممانعة للشعائر من عدم إدراک المؤمنین لها وعدم استیعابهم لأهمیّتها قصوراً أو تقصیراً..أو لعدم تحمّلهم درجة عالیة من التفاعل والاندماج للشعیرة ؛ کمن لا یتفاعل إلّا بالبکاء مثلاً فی الشعائر الحسینیّة، فلیس من المناسب زجّه فی الشعائر الأخری التی تکون أکثر تفاعلاً واندماجاً..

کما ذکر الفقهاء أنّ العُرف الخاطیء والفاسد قد یُلجیء المکلّف إلی ترک المستحبّ، لأنه ربّما یکون سبباً للتشهیر به.. مع العلم أنّ المستحبّ مشروع فی نفسه، فالسبب فی ترکه هو نشوء عرف غیر مألوف - فی بیئة فاسدة - وهذه البیئة الفاسدة من شأنها أن تجعل المکلّف والمتدیّن یترک

ص:290


1- (1) الأنفال: 65 - 66.

ذلک المستحبّ.. أو بالعکس قد یکون هناک شیئاً مکروهاً، لکنّ ذلک المکروه یُرتکب، وعدم ارتکابه قد یصبح منقصة أو عاراً.. فیُرتکب ذلک المکروه حفظاً لشخصیة المؤمن أو المکلّف، وقدخالف جماعة من الفقهاء منهم الشهید الثانی فی کتابه الروضة البهیّة فی أولویّة الترک ومراعاة العُرف الفاسد وتَرک ما هو راجح أو ارتکاب ما هو مرجوح..

طبعاً هذا الإستثناء یجب أن لا یدوم ولا یطول زمناً، والمفروض أنّ سیاسة الفقیه فی الفتوی ناظرة لتربیة المجتمع ولمعالجة هذه الحالات والبیئات الفاسدة أوالممسوخة والمنکوسة والمقلوبة التی هی علی خلاف الفطرة وهی سیاسة حکیمة ومیدانیّة أیضاً..

وکم من مستحبّ ربّما تُرک قروناً من السنین بحیث یکون الممارس له مورد استهزاء، وبطبیعة الحال فإنّ ذلک یحصل فی المجتمعات التی تکون المفاهیم المادیّة والموازین الفاسدة هی السائدة والرائجة فیها..

الشعائر والإصلاح الاجتماعیّ :

وهذا هو أحد وظائف الشعائر الدینیّة حیث تؤدّی دور الإعلام والبثّ الدینیّ والإعلاء، ومن نتائجها الواضحة المحافظة علی الهویّة الدینیّة فی بیئة المسلمین.. لأنّه لولا الشعائر فإنّ الدین سوف ینکفیء شیئاً فشیئاً، وتتغیر المفاهیم الدینیّة، بل تنقلب رأساً علی عقب، وتصبح منکوسة الرایة، بدلاً من أن تکون مرفوعة عالیة مرفرَفة..

فمن الوظائف المهمة للشعائر الدینیّة جانب المحافظة علی الهویّة

ص:291

الدینیّة، وإلّا لمحیت وطمست معالم الدین وأُلغیت الشعائر الواحدة تلو الأُخری، وحَدث نوع من المسخ التدریجیّ..فقاعدة الشعائر الدینیّة هی قاعدة ممضاة من قِبل الشارع، ومُنظرّة فی باب الفقه الإجتماعیّ.. وکما ذکرنا أنّ للشعائر الدینیّة رکنان: رکن الإعلام والبثّ، ورکن الإعلاء والإعتزاز..

والحوزات العلمیّة الدینیّة تقوم بأداء أحد رُکنَی الشعائر الدینیّة، وهو إحیاء الدین ونشره وحفظه عن الإندراس.. وما تقوم به فی هذا الدور - وإن کان بشکل هادیء وبلا ضجیج - هو دور عظیم، لأنّها تحافظ علی أحد رُکنَی الشعائر - أوأحد رُکنَی الدین - وهو جنبة الإعلام والتعلّم والتفقّه وحفظ الدین عن الإنطماس و النسیان، وصیانته عن التحریف والتغییر، وحفظ الجانب التنظیریّ والبُعد العقائدیّ للدین..

ومن الواضح أنّ التحریف والردّة عن الدین قد تکون بصورتَین:

الصورة الأولی: فی جانب العمل، أی الانحراف فی السلوک العملیّ.. فلا تُتَّبَع الأوامر الدینیّة، ولا یُرتدَع عن النواهی..

الصورة الثانیة: وهی الأخطر، وهی الانحراف فی التنظیر، فلا یُذعن المنحرف ولا یؤمن ولا یصدّق، بل یحاول أن یبرّر انحرافه وینظِّر تکذیبه.. وهوالانحراف فی العقیدة.. وهذا أخطر من الأوّل.. بل ربّما یمارس ذلک المنحرف الأوامر الدینیّة ولکن لا یُقرّ بوجودها، وإنّما یمارسها من باب فطرة الطبع أو من باب السنن الإجتماعیّة.. لذا نجد فی عدّة من الآیات:

ص:292

فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ کُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِیَتَفَقَّهُوا فِی الدِّینِ (1) و هُوَ الَّذِی أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدی وَ دِینِ الْحَقِّ لِیُظْهِرَهُ عَلَی الدِّینِ کُلِّهِ (2) و إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّکْرَ وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ (3) وأمثالها ،تُلقی الضوء علی جنبة التنظیر أو الإعلام الدینیّ والبثّ الدینی أو إتمام النور..

وهذه جنبة مهمّة للغایة ؛ نعم، الجنبة الثانیة فی الشعائر - وهی الإعلاء والإعتزاز فی الممارسة العملیة - تکون مطویّة ضمن السلوکیّة السابقة، وتظهربمظاهر ومؤشّرات عدیدة..

فالظروف الإستثنائیّة یشخصّها الفقیه فی موارد مختلفة بحسب سیاسة الفتوی عند الفقیه، وهی موازنة الملاکات فی الأبواب مع الإحاطة بالظروف الموضوعیّة، والفطنة فی تدبیر المعالجة للحالات المختلفة.. والفقیه یتضلّع لحفظ الدین بلحاظ درجات ملاکات الأحکام فی الأبواب المختلفة، فیفحص ویُجری البحث عن الأهمّ عند الشارع ؛ مضافاً إلی فراسته وفِطنته فی کیفیّة التوسّل فی الوصول إلی الغرض الدینیّ عن طریق الفتوی..

هذا تمام البحث فی قاعدة الشعائر الدینیّة مع بیان الخطوط العامّة لها.

الجهة الثامنة: تطبیقات قاعدة الشعائر الدینیة علی (الشعائر الحسینیة نموذجا):

ص:293


1- (1) التوبة: 122.
2- (2) التوبة: 33.
3- (3) الحجر: 9.

تقدّم البحث فی قاعدة الشعائر الدینیّة وقلنا أنّ لدینا ثلاثة طوائف من الأدلّة:

الطائفة الأولی: عامّة مشتملة علی نفس لفظة الشعائر، مثل:

ذلِکَ وَ مَنْ یُعَظِّمْ شَعائِرَ اللّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَی الْقُلُوبِ لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللّهِ . وَ مَنْ یُعَظِّمْ حُرُماتِ اللّهِ فَهُوَ خَیْرٌ لَهُ

الطائفة الثانیة: مدلولها نفس ماهیّة الشعائر، لکن غیر مشتملة علی لفظ الشعائر، مثل: وَ جَعَلَ کَلِمَةَ الَّذِینَ کَفَرُوا السُّفْلی وَ کَلِمَةُ اللّهِ هِیَ الْعُلْیا وغیرذلک، وهذا القبیل من الأدلّة یدلّ علی نفس مضمون الطائفة السابقة .. وذلک بعد الالتفات الی ان معنی الشعائر والشعیرة بتحلیل المعنی الی اجزاء عدیدة من اجناس وفصول فیقرر المعنی الواحد الی معانی عدیدة وعناوین کثیرة کما مر فی صدر البحث بل یدخل فی حد المعنی الواحد غایاته بناء علی دخولها فی حد وتعریف الشیء.

الطائفة الثالثة: مختصّة بأبواب معیّنة.. مثل: وَ الْبُدْنَ جَعَلْناها لَکُمْ مِنْ شَعائِرِ اللّهِ ..

ففی باب الشعائر الحسینیّة هناک عدّة عمومات - فضلا عن ادلة خاصة بکل مصداق من مصادیق الشعائر کما بیناه فی کتاب الشعائر الحسینیة - ومن تلک الأدلة..

الدلیل الأول: حیث حلّلنا أنّ من أهمّ أغراض الشعائر الحسینیّة هو الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر وإبراز الإمامة الحقّة التی تعتبر من

ص:294

أصدق مواردالأمر بالمعروف والنهی عن المنکر فی الأمور الاعتقادیّة.. فأدلّة الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر تتناول هذا الباب.. ویمکن أن تکون دلیلاً وبرهاناً علیه..

مثل: کُنْتُمْ خَیْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْکَرِ (1) ممّا یدلّل علی أنّ الشارع یرید أحیاء هذه الفریضة.. وأنّ تقدیم هذه الأمة وأفضلیّتها علی سائر الأمم من الأوّلین والآخرین هو نتیجة إقامة هذه الفریضة: کُنْتُمْ خَیْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْکَرِ ، وإحیاء هذه الفریضة - الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر - إنّما یتحقق بإقامة الشعائر الحسینیّة بل هی أوضح المظاهر لإحیائها، لأنّ الأغراض والغایات ا لمطویّة فی النهضة الحسینیّة لابدَّ أنّها تنتهی بالتالی إلی الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر.. التی منها تجدید إنکار کلّ مظاهر الإنحراف الساریة فی المجتمع ،وإقامة کلّ معروف غُفل عنه أو هُجِرَ من حیاة الأمة الإسلامیة علی الصعیدَین السلوکیّ والعقیدیّ..

وکذلک المحافظة علی استمرار سلوکیّة المعروف وتطبیقه فی المجتمع مع الالتزام فی نبذ المنکر وإنکارهِ.. فهی نوع من حالة الصحوة والسلامة والتوبة الدینیّة من خلال مواسم ومراسم الشعائر الحسینیّة..

وکذلک الأمر فی الآیات الأخری فی موضوع الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، مثل: وَ لْتَکُنْ مِنْکُمْ أُمَّةٌ یَدْعُونَ إِلَی الْخَیْرِ وَ یَأْمُرُونَ

ص:295


1- (1) آل عمران : 110.

بِالْمَعْرُوفِ وَ یَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْکَرِ (1)؛ ومقتضی أدلّة إقامة فریضة الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر تستلزم فی مقدّماتها التذکیر بهذه الفریضة وإحیائها عبر إحیاء الداعی النفسیّ لدی المؤمنین والمتدیّنین وتحریضهم نحو أداء هذه الفریضة.. وأکبر تحریض هونفس ما قام به أبو الأحرار وسیّد الشهداء(علیه السلام) من إیقاظ الناس من سُباتهم العمیق وإحیاء نفوسهم بالعدل والهدی، وتحریرهم من الظلم والرذیلة والهوی، وتربیتهم علی عدم الخنوع والخضوع للطغاة والتخاذل، وذلک بإقامة فریضة الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر مهما کلّف الأمر، وأینما بلغت التضحیة..

الدلیل الثانی: الأدلّة علی الولایة، کقوله تعالی یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ کُونُوا مَعَ الصّادِقِینَ .. (2).

وقوله تعالی: قُلْ لا أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبی (3) ومن المودّة التأسّی بهم، والفرح لفرحهم، والحزن لحزنهم..

والمودّة فی اللغة تفترق عن الحبّ.. فالحبّ قد یکون أمراً باطناً.. أمّا المودّة فهی تعنی المحبّة الشدیدة التی تلازم الإبراز والظهور.. وهناک - من ثمّ -فارق بین عنوان المودّة وعنوان المحبّة.. هذا أیضاً من العمومات.. إذن کلّ عمومات الولایة تدلّ علی ما نحن فیه..

ص:296


1- (1) آل عمران: 104.
2- (2) التوبة: 119.
3- (3) الشوری: 23.

وَ مَنْ یَتَوَلَّ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الَّذِینَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (1) وأبرز مصداق لها هو أمیر المؤمنین علیه السلام..

وأیضاً آیات التبرّی مثل:

لا تَجِدُ قَوْماً یُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ الْیَوْمِ الْآخِرِ یُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللّهَ وَ رَسُولَهُ (2) ولا ریب أنّ عنوان (مَنْ حَادَّ اللّهَ وَ رَسُولَهُ ) فی هذه الآیة یشمل أعداء الأئمّة (علیهم السلام) ممّن هتک حرمة النبیّ والدین فی أهل بیته.. فینبغی إظهار البراءة وعدم الموالاة لمن حادّ الله ورسوله.. وفی سورة الفاتحة أیضاً:

اِهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِیمَ ، صِراطَ الَّذِینَ أَنْعَمْتَ عَلَیْهِمْ غَیْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَیْهِمْ وَ لاَ الضّالِّینَ (3) فإنّ المؤمن یجب أن یتولّی صراطَهم الذی لیس علیه أیّ غضب إلهیّ وهذا یعنی العصمة العملیّة.. إضافة للعصمة العلمیّة المُشار إلیها بعبارة وَلاَ الضَّآ لِّینَ وهی إشارة إلی أنّه لیس لدیهم هولء الهداة الذین یقتدی بهم, هناک معصیة عملیّة، ولیس هناک أیّ زلّة علمیّة.. إهدنا صراط المعصومین.. لأنّ نفی الغضب بقول مطلق یعنی العصمة العملیّة.. ونفی الضلالة بقولٍ مطلق، یعنی العصمة العلمیّة.. فالمعنی: إهدنا صراط المعصومین.. وکذا التقریب فی آیة: إِنَّ الَّذِینَ یُؤْذُونَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللّهُ فِی الدُّنْیا وَ الْآخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِیناً.. و آیات التولی و التبری کثیرة جدا، کقوله تعالی: لا تَجِدُ قَوْماً یُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ الْیَوْمِ الْآخِرِ یُوادُّونَ مَنْ حَادَّ

ص:297


1- (1) المائدة : 56.
2- (2) المجادلة : 22.
3- (3) الفاتحة : 6 - 7.

اَللّهَ وَ رَسُولَهُ (1)، وقوله تعالی: إِنَّما وَلِیُّکُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِینَ آمَنُوا الَّذِینَ یُقِیمُونَ الصَّلاةَ وَ یُؤْتُونَ الزَّکاةَ وَ هُمْ راکِعُونَ وَ مَنْ یَتَوَلَّ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الَّذِینَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (2)، وقوله تعالی: قَدْ کانَتْ لَکُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِی إِبْراهِیمَ وَ الَّذِینَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنّا بُرَآؤُا مِنْکُمْ وَ مِمّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ کَفَرْنا بِکُمْ وَ بَدا بَیْنَنا وَ بَیْنَکُمُ الْعَداوَةُ وَ الْبَغْضاءُ أَبَداً (3) وقوله تعالی:یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللّهُ عَلَیْهِمْ (4).

وهذه الآیات الکریمة بمجموعها تصبّ فی مصبّ واحد، وتعتبر دلیلاً معتمداً فی باب الشعائر الحسینیّة.. إذ أنّ الأسی والتألّم لمصابهم، والحزن لحزنهم هو نوع من التولّی لهم والتبرّی من أعدائهم، ویکون کاشفاً عن التضامن معهم والوقوف فی صفّهم (علیهم السلام) ..

وکذلک الآیات المبیّنة لصفات المؤمنین بالتحذیر من صفات المنافقین، حیث تقول:

إِنْ تَمْسَسْکُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَ إِنْ تُصِبْکُمْ سَیِّئَةٌ یَفْرَحُوا بِها وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا لا یَضُرُّکُمْ کَیْدُهُمْ شَیْئاً إِنَّ اللّهَ بِما یَعْمَلُونَ مُحِیطٌ (5)؛ أی أنّ المؤمن یجب أن یفرح لفرح أولیاء الله تعالی ویحزن لحزنهم، علی عکس المنافق

ص:298


1- (1) الأحزاب: 57.
2- (2) المائدة: 55 - 56.
3- (3) الممتحنة: 4.
4- (4) الممتحنة: 13.
5- (5) آل عمران: 120.

والناصب، ولو لاحظنا الآیات السابقة علی الآیة المزبورة أیضاً لازدادت الصورة وضوحاً ،حیث یقول تعالی: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِکُمْ لا یَأْلُونَکُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَ ما تُخْفِی صُدُورُهُمْ أَکْبَرُ قَدْ بَیَّنّا لَکُمُ الْآیاتِ إِنْ کُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَ لا یُحِبُّونَکُمْ وَ تُؤْمِنُونَ بِالْکِتابِ کُلِّهِ وَ إِذا لَقُوکُمْ قالُوا آمَنّا وَ إِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَیْکُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَیْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَیْظِکُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِیمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (1) فهذه الآیات تشیر إلی أنّ علامة المودّة هی الفرح لفرح المودود، والحزن لحزنه.. وأنّ علامة البغضاء والعداوة هی الفرح لحزن المبغوض، والحزن لفرح المبغوض..

وکذلک قوله تعالی: کَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوی عَلی سُوقِهِ یُعْجِبُ الزُّرّاعَ لِیَغِیظَ بِهِمُ الْکُفّارَ (2) ومفاد الآیة کالسابقات دالّ علی أنّ علامة البغضاء هو الغیض والحزن من حسن حال المبغوض وفرحه والفرح والسرور من سوء حال المبغوض وحزنه وعلی العکس فی المحبوب فإنّ علامة الحبّ توجب التوافق والتشابه فی الحالة ؛ ومن هذه الآیات بضمیمة ما تقدّم من فریضة مودّة أهل البیت فی آیة المودّة لذوی القربی نستخلص هذه القاعدة القرآنیّة، وهی فریضة الفرح لفرح أهل البیت والحزن لحزنهم (علیهم السلام) .

الدلیل الثالث: شمول عناوین أخری للشعائر الحسینیّة، مثل: عنوان

ص:299


1- (1) آل عمران: 119.
2- (2) الفتح: 29.

إحیاء أمر الأئمّة.. «رحم الله مَن أحیی أمرنا..» (1).

وهذا العنوان وهو: (إحیاء أمرهم (علیهم السلام) ) قد طُبِّق علی إحیاء العزاء الحسینیّ ومذاکرة ما جری علی أهل البیت من مصائب.. فیتناول الشعائر الحسینیّة، سواءالمرسومة فی زمنهم (علیهم السلام) أو المستجدّة المستحدثة المتّخذة، ولا یقتصر علی الشعائر القدیمة..

وقد وردت هذه الروایات فی مصادر معتبرة مثل: بعض کتب الشیخ الصدوق(قدس سره) کالأمالی والخصال وعیون أخبار الرضا(علیه السلام) ومعانی الأخبار وکتاب دعوات الراوندیّ.. وکتاب المحاسن للبرقیّ.. وکتاب بصائر الدرجات للصفّار.. وکتاب المزار للمشهدیّ.. وقُرب الإسناد.. والمُستطرفات فی السرائر لابن ادریس الحلیّ.. بحیث تصل هذه الروایات إلی عشرین طریقاً.. وهناک الکثیر من المصادر یجدها المتتبّع فی مظانّها..

الدلیل الرابع: العمومات التی وردت فی باب الشعائر الدینیّة فی الحثّ علی زیارتهم وتعمیر قبورهم وتعاهدها.. ویتّضح من ألفاظ وأسلوب الزیارة أنّهانوع ندبة ومأتم یقیمه المؤمن خلال فترة الزیارة، لیتذکّر من خلاله ما جری علیهم من مصائب..

مثل: السلام علیک یا قتیل الله وابن قتیله، السلام علیک یا ثار الله وابن ثاره. أشهد أنّ دمَکَ سکَن فی الخُلد، واقشعرّت له أظلّةُ العرش، وبکی له جمیعُ الخلائق، وبکَت له السماواتُ السبع والأرضونَ السبعُ وما

ص:300


1- (1) وسائل الشیعة، ج12، ص20.

فیهنّ وما بینهنّ

- وفی إحدی الزیارات لمولانا أمیرالمؤمنین(علیه السلام): ... السلام علیک یاولیّ الله أنت أوّلُ مَظلومٍ وأوّلُ من غُصِبَ حقّه....

- أشهد أنّک قد أَقَمْتَ الصلاةَ وآتیت الزکاة وأمرت بالمعروف ونهیت عن المنکر ودعوت إلی سبیل ربّک بالحِکمة والموعظة الحسنة، وأشهد أنّ الذین سفکوا دَمک واستحلّوا حُرمتک ملعونون...

-... أشهد أنّک ومن قُتل معک شهداء أحیاء عند ربکم تُرزقون وأشهد أن قاتلک فی النار... وهی نوع رثاء وندبة..

وقد جمع صاحب وسائل الشیعة الشیخ الحرّ العاملیّ(قدس سره) فی هذا العنوان -وهو زیارتهم أو تعمیر قبورهم (علیهم السلام) ، أو إقامة المأتم علیهم، أو إنشاد الشعر أوالرثاء.. فی آخر باب الحجّ، کتاب المزار.. - ما یربو علی أربعین باباً وجلّها من طرق معتبرة، کالصحیح أو الصحیح الأعلی أو الموثّق.. وظاهرها هو الحثّ علی زیارتهم (علیهم السلام) وتعاهد قبورهم وتعمیرها والترغیب فی الرثاء وإنشاد الشعرلمصابهم، وأیضاً الأمر بالبکاء علی مصائبهم وما جری علیهم (علیهم السلام) ..

وینقل صاحب البحار العلّامة المجلسیّ(قدس سره) أیضاً، عن غیر المصادر التی ینقل عنها صاحب الوسائل، وقد عقد فی البحار کتاباً للمزار ج100..وعلاوة علی ذلک، فإنّ بعض علماء الإمامیّة المتقدّمین، مثل ابن قولویه عقد وألّف کتاباً خاصّاً فی ذلک، وهو کتاب: کامل الزیارات وهو کتاب یختصّ فی هذا الباب.. وکذلک صنع تلمیذُه الشیخ المفید والشیخ

ص:301

الطوسیّ فی مصباح المتهجّد..

وأمّا ابن طاووس فقد أکثر فی هذا الباب العشرات من الکتب نقلاً عن المئات من المصادر التی وصلت إلیه.. وألّف الشهید الأول کتاباً بعنوان (المزار)، کما عقد ابن ادریس فی السرائر باباً للمزار.. ویلاحظ هذا الطرز من إدخال باب المزار فی کتب الفقه ممّا یدلّ علی کون ذلک ظاهرة منتشرة فی کتب الفقهاء فی الصدر الأوّل، بدءاً بالمقنع والهدایة للصدوق ورسالة أبیه الشیخ ابن بابویه، والمفید فی المقنعة إلی حوالی القرآن السابع والثامن الهجری وهناک متناثرات عدیدة فی ذلک..

فالمستقرئ فی کتب الشیعة یری أنّ هناک مصادر عدیدة تحتوی هذه العناوین المتنوّعة، من الزیارة وتعهّد القبور والرثاء فی الشعر والنثر وثواب البکاء وما شابه ذلک..

إذن بهذا المقدار نستطیع القول بأنّ الأدلّة فی باب إحیاء الشعائر الحسینیّة تنقسم إلی طوائف مختلفة.. وأنّ ألسنتها عدیدة..فتحصّل أنّ لدینا أدلّة شرعیّة متواترة متعدّدة، سواء فی باب الولایة أو التولّی والتبریّ من إعدائهم.. أو الصنف الثالث المتعلّق بإحیاء أمرهم، أوالرابع: المرتبط بزیارتهم ورثائهم والبکاء علیهم وتعاهد قبورهم وإعمارها.. ممّا یثبت وجود الأدلّة الشرعیّة الخاصّة والعامّة الدالّة علی باب الشعائر الحسینیّة فضلا عن کون الشعائر الحسینیة من مصادیق قاعدة الشعائر الدینیة..

والحمد لله اولا واخرا.

ص:302

قاعدة :توسعة حریم مواسم الشعائر زمانا ومکانا

اشارة

ص:303

ص:304

توسعة حریم مواسم الشعائر زمانا ومکانا(1)

الحمد لله رب العالمین وصلی الله علی خیر خلقه محمد واله الطاهرین واللعن الدائم علی اعدائهم اجمعین إلی قیام یوم الدین... وبعد

تقدیم :

قد تکرر إبداء التساؤل عن وجه توسعة زیارة الأربعین قبل یوم الأربعین من أیام صفر لاسیما منذ بدایة الیوم الحادی من صفر مع أن الزیارة فی ظاهر الروایات والأدلة واردة فی خصوص یوم الأربعین وکذلک الحال بالنسبة إلی الزیارة الشعبانیة فإن هناک الغفیر من المؤمنین یأتون بها قبل النصف من شعبان ولکن بعنوان زیارة النصف من شعبان فکیف یوجه ذلک.. وکذلک یطرح تساؤل آخر وبکثرة الأمر عن وجه توسعة هذه الزیارات الملیونیة من جهة المکان فإن الحجم الغفیر من الزوار یصل فی زیارته إلی مشارف وضواحی کربلاء المقدسة فیزور عند تلک المشارف ویرجع لشدة الزحام أو لخوف الازدحام وبعضهم قد یقترب من الاحیاء القریبة من الحرم الشریف فیزور حیث یشاهد القبة الشریفة فیرجع والبعض الثالث یکتفی بالزیارة من الشوارع المحیطة بالحرم الشریف ثم یرجع فهل تتسع الزیارة مکاناً إلی هذه المدایات الجغرافیة بحیث یصدق أنه زار سید الشهداء فی الأربعین أو فی النصف من شعبان أم أنه لابد من

ص:305


1- (1) تقریراً لبحث أستاذنا الشیخ السند (دام ظله)، بقلم جناب الأخ عباس اللامی دام توفیقه.

دخوله الحرم الشریف. ولمعرفة حقیقة الحال والحکم فی مورد السؤال لابد من تقدیم مقدمة.

قد ثبت لجملة من المناسبات الشرعیة موسم زمانی غیر مضیق بیوم المناسبة الشرعیة والمیقات الزمانی لها فقط ویعبر عن التوسعة فی توقیت المناسبة الشرعیة بالحریم الزمانی سواء السابق علی توقیته الشرعی بقلیل بحسب الحاجة أو متأخر عنه بل قد تقرر ذلک نصا وفتوی فی المیقات المکانی والبقاع المکانیة الشریفة حیث رسم لها اوسع من المحدود المکانی بها ولنأخذ فی تعداد امثلة التوسعة الزمانیة کحریم للمناسبة الزمانیة ثم تقریر الضابطة الکلیة فی التوسعة الزمانیة الدینیة کحریم لمیقات المناسبة الزمانیة.

وإلیک جملة من الوجوه التی یمکن أن یستبدل بها فی المقام.

الوجه الأول:- (الاستقراء المتصید من الابواب الفقهیة لتوسعة الشارع للمیقات الزمانی للمناسبات الشرعیة).

القسم الأول: الحریم الزمانی وفیه أبواب:-

الأوَّل: باب الحج:

أولاً: الوقوف بعرفة: فأنه قد توسع الشارع فی الوقوف بعرفة إلی الوقوف لیلا لمن لم یدرک نهار عرفه بل أفتی جملة الفقهاء باجزاء الوقوف الظاهری مع العامة. مع أنه قد یکون فی الواقع یوم الثامن من ذی الحجة من باب التوسع الزمانی ومن ثم اکتفی جملة من الفقهاء بالوقوف مع العامة حتی مع القطع بالخلاف.

ص:306

واستدلوا علی ذلک بوجوه منها روایة عن الصادق(علیه السلام) (الفطر یوم یفطر الناس والاضحی یوم یضحی الناس)(1). وغیرها من الروایات وقرّبوا ذلک بأن العبادة الشعائریة والشعیریة قوامُها بالعمل الجماعی کشعائر وشعار وتظاهر معلن، فلذا یتسع حریمها بحسب سعة ذلک الإظهار والإبراز.

ثانیاً: الوقوف بمزدلفة: فأن الشارع وسّع الوقوف لیلا. لمن اضطر إلی ذلک ولم یقدر علی الوقوف بین الطلوعین، متقدما علی المیقات الزمانی، کما وسع الوقوف متأخراً الی زوال یوم العید لمن فاته الوقوف بین الطلوعین.

ثالثاًً:- ورد أن من أراد أن یدرک عمرة رجب، یمکنه أن نشئ الاحرام فی أواخر رجب وإن أتی بالأعمال فی شعبان(2)(3)وبذلک یدرک عمرة رجب، وفی ذلک توسعة من ناحیة المیقات المکانی والمیقات الزمانی(4).

ص:307


1- (1) الوسائل/ ابواب ما یمسک عنه الصائم ، 57 ، ح7.
2- (2) الوسائل/12من المواقیت/ح1 صحیحة معاویة بن عمار:- قال سمعت أبا عبدالله(علیه السلام) لیس ینبغی أن یُحرم دون الوقت الذی وقّته رسول الله صلی الله علیه و آله إلاّ أن یخاف فوت الشهر فی العمرة.
3- (3) نفس المصدر/ج2: سألت أبا إبراهیم(علیه السلام) عن الرجل یجیء معتمراً ینوی عمرة رجب، فیدخل علیه الهلال قبل أن یبلغ العقیق فیحرم قبل الوقت، ویجعلها لرجب، أم یؤخر الأحرام الی العقیق ویجعلها لشعبان، قال یحرم قبل الوقت لرجب، فإن لرجب فضلاً وهو الذی نوی.
4- (4) التهذیب ج5 / باب المواقیت /ص51 /ح6 / الوسائل ابواب المواقیت / باب جواز الاحرام قبل المیقات / باب /13 /ح2.

رابعاً:- فی اعمال منی یوم العید، فقد وسع الشارع الاتیان بها فی لیلة العید مسبقاً، للضعفة والعجزة من الحجیج، کما وسع لمن لم یدرکها إلی أیام التشریق الأربع لاحقاً.

خامساً:- فی اعمال مکة یوم العید. فأنه قد سوّغ الشارع المجئ بها قبل یوم التاسع، ولو بأیام، لذوی الاعذار ،کما سوّغ لمن یقدر علیها یوم العید أن یأتی بها أیام التشریق بل إلی آخر ذی الحجة.

الثانی: فی باب الصلاة:

اولاً:- فی صلاة اللیل، فأنه قد سوّغ الشارع المجئ بها قبل منتصف اللیل، لذوی العذر، عن المجئ بها فی وقتها.

ثانیاً:- فی نوافل الظهرین، فقد سوغ الشارع المجئ بها قبیل الزوال، لمن یعجز عن الأتیان بها فی وقتها.

ثالثاً:- فی نافلة الفجر، مع أن الوقت المقرر لها هو بعد الفجر الکاذب، إلا انه وسع الشارع المجئ بها بعد صلاة اللیل.

رابعاً:- فی خطبتی صلاة الجمعة، فأنهما کبدل عن رکعتین بعد الزوال، إلاّ أن الشارع سوّغ المجئ بهما قبل الزوال.

خامساً:- قد ورد أنه من ادرک رکعة من الوقت، أو من آخر الوقت، فقد ادرک الوقت، کما ورد اجزاء من صلی قبل الوقت فأدرک الوقت ودخل علیه قبل أن یسلّم لمن صلی قبل الوقت غفلة.

ص:308

الثالث: موارد متفرقة:

اولاً:- أن یوم عاشوراء یوم عظیم، لذا جعل أهل البیت (علیهم السلام) له حریماً زمانیاً متقدماً علیه بتسعة أیام، فقد ورد عن الإمام موسی بن جعفر(علیه السلام)، أن حزنه(علیه السلام) کان یبدأ من أول یوم من محرم فلا یری باسماً قط، فإذا کان یوم العاشر، کان یوم مصیبته(علیه السلام)(1) فقد روی الصدوق فی أمالیه بسنده عن إبراهیم بن أبی محمود عن الرضا(علیه السلام) أنه قال: کان أبی إذا دخل شهر المحرم لا یری ضاحکاً وکانت الکآبة تغلب علیه حتی یمضی منه عشرة أیام. فإذا کان یوم العاشر کان ذلک الیوم یوم مصیبته وحزنه وبکائه ویقول: هو الیوم الذی قتل فیه الحسین(علیه السلام)(2).

وروی فی البحار عن بعض مؤلفات المتأخرین أنه قال حکی دعبل الخزاعی دخلت علی سیدی ومولای علی بن موسی الرضا(علیه السلام) فی مثل هذه الأیام فرأیته جالساً جلسة الحزین الکئیب وأصحابه من حوله فلما رآنی مقبلاً قال لی مرحباً بک یا دعبل مرحباً بناصرنا بیده ولسانه ثم أنه وسع لی فی مجلسه وأجلسنی إلی جانبه ثم قال لی یا دعبل أحبُّ أن تنشدنی شعراً فإن هذه الأیام أیام حزنٍ کانت علینا أهل البیت وأیام سرور کانت علی أعدائنا. خصوصاً بنی أمیة(3) الحدیث.

وفی هذه الروایة وإن کانت مرسلة تصریح بأن المناسبة وإن کانت

ص:309


1- (1) بحار الانوار ج 44 ص283.
2- (2) أمالی الصدوق ، المجلس رقم 27 ، الرقم 2.
3- (3) البحار ، مجلد 45 ، ص257.

یوماً واحداً إلاّ أن ما یحتف بها من أیام ما قبلها وما بعدها تلک الأیام تتنسب إلی تلک المناسبة وذلک الیوم بحسب العرف والاعراف المختلفة بل هذه الروایات نص بالخصوص علی ما نحن فیه صغرویاً وإن هذه التوسعة فی الارتکاز العرفی قبل أن تکون تناسبیاً شرعیاً وهذا وجه مستقل برأسه وهو استقراء الاستعمال العرفی لعنوان الأیام المضافة إلی مناسبة ما، وکانوا یعدون هذه الأیام أیام الحزن(1).

ثانیاً:- فی لیلة القدر، فإن یومها بمنزلتها(2) بل ورد أن لیلة التاسع عشر والواحد والعشرین حریم زمانی متقدم للیلة الثالث والعشرین(3) بل ورد أن شهر رمضان من اوله، حریم للیلة القدر(4) بل ورد ایضاً أن حریم لیلة القدر یبدأ من لیلة النصف من شعبان(5) کما أن لیلة القدر حریم لولایة آل محمد (علیهم السلام) ، بإعتبارها ظرف زمانی شریف لتنزل روح القدس علیهم (علیهم السلام) .

ثالثاً:- فی غسل یوم الجمعة فأنه سوغ الشارع المجئ به فی یوم الخمیس لمن یعجز عن الماء یوم الجمعة أو یخاف العوز(6).

ص:310


1- (1) بحار الانوار ج45 ص256.
2- (2) الامالی للصدوق ص751.
3- (3) نور الثقلین ج5 ص625.
4- (4) الوسائل ج7 الباب / 18 من ابواب أحکام شهر رمضان ح1 ص219 /تحریر الأحکام ج1 ص516.
5- (5) الحدائق الناظرة / ج13 ص448 / روح المعانی للالوسی ج25 ص113.
6- (6) الوسائل: کتاب الطهارة ابواب الاغسال المسنونة / 9 باب استحباب تقدیم الغسل یوم الخمیس لمن خاف قلة الماء یوم الجمعة.

رابعاً:- قد جعل الشارع حریم للیلة الجمعة، یمتد قبلها، من بعد زوال ظهر یوم الخمیس(1)، کما جعل لأعمال یوم الجمعة حریماً متأخراً وهو لیلة السبت، بل یظهر من الشارع أن کل یوم ذو فضیلة وحرمة، تبدأ حرمته قبله فتکون اللیلة السابقة حریماً له، کلیلة عرفه ولیالی العیدین ولیلة الجمعة ولیلة النصف من شعبان کما تقدم ولیلة المبعث الشریف مع أن المبعث الشریف فی فجر یومها وغیرها من اللیالی التی شرفت کحریم سابق لأیامها الشریفة.

خامساً:- ورد فی فضائل یوم الغدیر أنه مستمر إلی ثلاثة أیام(2) وکذلک ما ورد فی الیوم التاسع من ربیع الأول(3).

القسم الثانی:- موارد توسعة الحریم المکانی، وقد مرّ بعض منها:

أولاً:- أن الکعبة کأول بیت وضع للناس، لها عظمة وحرمة وشرافة، لذا جعل المسجد الحرام حریم لها، وجُعلت مکة المکرمة حریماً للمسجد الحرام، وجعل الحرم المکی حریماً لمکة المکرمة، وجعلت المواقیت حریماً للحرم المکی، وقد ورد بکل ذلک النصوص.

ثانیاً:- فی مرقد الرسول صلی الله علیه و آله ، فقد ذکر السمهودی فی مقدمة کتابه، إجماع أهل الجمهور علی أن قبره صلی الله علیه و آله أعظم حرمة من مکة المکرمة، بل نقل عنهم، أنه اعظم من العرش، لذت جعلت الروضة المبارکة بین القبر والمنبر

ص:311


1- (1) بحار الانوار ج 86 ص361.
2- (2) اقبال الاعمال ج2 ص261.
3- (3) المختصر ص65.

حریماً للقبر الشریف، وجعل المسجد النبوی حریماً للروضة المبارکة، وجعلت المدینة المنورة حریماً للمسجد النبوی، وجعل الحرم المدنی بین الجبلین حریماً للمدینة المنورة، وبعض الروایات عند الفریقین، تبین أن ما بین الحرم المکی والحرم المدنی ،ملحق فی بعض الآثار بهما کما فی الروایة (من مات بین الحرمین، بعثه الله فی الآمنین یوم القیامة)(1) وکذلک فی الروایة (من مات بین الحرمین لم ینشر له دیوان)(2).

ثالثاً:- فی کل مراقد اهل البیت (علیهم السلام) ، فإن قبورهم بیوت أذن الله أن ترفع ویذکر فیها اسمه، فلها الحرمة والعظمة بنص القرآن الکریم والسنة الشریفة، وقد ذکر کاشف الغطاء(قدس سره) فی کتابه کشف الغطاء: 54/عند قراءة الفاتحة بعد الطعام ورجحان الشعائر الحسینیة، أن مراقدهم (علیهم السلام) مشاعر شعّرها الله عَزَّ وَجَلَّ، ویتبعها فی الحرمة، ما حولها من البقاع الشریفة، لذا قد ورد أن الکوفة حرمت لأجل أمیر المؤمنین(علیه السلام)، ومن ثم ذهب الشیخ الطوسی فی المبسوط، إلی أن حکم التخییر الصلاة بین القصر والتمام للمسافر فی مسجد الکوفة بتبع التخییر فی مرقد أمیر المؤمنین(علیه السلام)(3) وما یؤید ذلک ما رواه محمد بن الحسن عن أبیه عن أحمد بن داود عن أحمد بن جعفر المؤدب عن یعقوب بن یزید عن الحسین بن بشار الواسطی قال: سألت أبا الحسن الرضا(علیه السلام) ما لمن زار قبر ابیک قال: زره قلت: فأی شیء

ص:312


1- (1) البحار / ج47 ص341.
2- (2) من لا یحضره الفقیه ، ج2 ، ص229 .
3- (3) النهایة للشیخ الطوسی /ص285.

فیه من الفضل قال فیه من الفضل کفضل من زار قبر والده یعنی رسول الله صلی الله علیه و آله فقلت فأنی خفت فلم یمکننی أن ادخل داخلاً، قال سلم من وراء الحایر (الجسر، الجدار خ ل)(1)، وفیه دلالة علی التوسعة المکانیة.

رابعاً:- ورد فی حرم سید الشهداء(علیه السلام)، أن الَحیْر حریم للقبر الشریف، وحرمت مدینة کربلاء کحریم للقبر الشریف(2) بل ورد أن لمرقد الحسین(علیه السلام) حریم بمقدار فرسخ من کل جانب من القبر الشریف(3) وهذا یطابق ما ورد مستفیضا، من استجابة الدعاء تحت قبته(4) فإنه لیس المراد من ذلک القبة الطینیة فوق المرقد الشریف، بل قبة السماء، فالواقف عند القبر الشریف یکون امتداد القبة بمقدار امتداد نظره فی الأفق حیث یتماس خط السماء بالارض، وهذا المقدار یساوی الفرسخ تقریباً وهو حوالی خمسة کیلومترات ومن ثم ذهب جملة ممن تقدم، الی التخییر بین القصر والتمام فی تمام مدینة کربلاء(5).

والروایات الواردة فیه کالتالی:

1- مرفوعة منصور بن عباس عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال حرم الحسین(علیه السلام) خمسُ فراسخ من أربع جوانبه.

ص:313


1- (1) الوسائل / ابواب المزار وما یناسبه / الباب 80 ح 4.
2- (2) کامل الزیارات /ص268 /الوسائل ابواب المزار 510/14.
3- (3) التهذیب 6/ 70 ، کامل الزیارات ص456 ، مصباح المتهجد 674-675 ، البحار 101 ص111.
4- (4) الوسائل / الباب 76 من المزار ، الأمالی ص317 المجلس 11/ ح 91.
5- (5) الشیخ الطوسی فی المبسوط / السید المرتضی / وبن الجنید.

أی فتکون حوالی شعاع سبعة وعشرین کلیومتر من کل جانب من جوانب القبر ومثلها مرسلة الصدوق فی الفقیه(1).

2- وما رواه الشیخ الطوسی بسنده عن محمد بن إسماعیل البصری عمن رواه عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: حرم الحسین(علیه السلام) فرسخ فی فرسخ من أربع جوانب القبر(2).

3- وما رواه الشیخ الطوسی بسنده عن محمد بن أحمد بن داود بن الحسن بن محمد عن حمید بن زیاد عن سنان بن محمد عن أبی الطاهر (یعنی الورقاء) عن الحجال عن غیر واحد من أصحابنا عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: التربة من قبر الحسین بن علی(علیه السلام) علی عشرة أمیال(3).

4- ما رواه فی کامل الزیارات بسنده عن محمد بن جعفر عن محمد بن الحسین عن رجلٍ عن أبی الصباح الکنانی عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: طینُ قبر الحسین(علیه السلام) فیه شفاء وإن أخذ علی رأس میل(4).

5- وما رواه فی التهذیب بسنده عن سلیمان بن عمر بسراج، عن بعض أصحابه عن أبی عبدالله(علیه السلام): قال یؤخذ طین قبر الحسین(علیه السلام) عن عند القبر علی سبعین ذراعاً(5) ورواه ابن قولویه فی المزار إلاّ أنه قال علی سبعین

ص:314


1- (1) الوسائل ، أبواب المزار ، باب 67 ، ح8.
2- (2) الوسائل ، أبواب المزار ، باب 67 ، ح2.
3- (3) التهذیب ، ج6 ، 136/72.
4- (4) کامل الزیارات ، 275.
5- (5) التهذیب ، 74 : 144/6 ورواه الکافی 588 : 5/4.

باعاً فی سبعین باعٍ (1).

6- وما رواه بسنده عن أبی القاسم جعفر بن محمد عن محمد بن جعفر الرزاز عن محمد بن الحسین ابن أبی الخطاب، عن الحسن بن محبوب عن إسحاق بن عمار قال سمعت أبا عبدالله(علیه السلام) یقول: أن لموضع قبر الحسین(علیه السلام) حرمة معروفة من عرفها واستجار بها أُجیر، قلت: فصل لی موضعها، قال: امسح من موضع قبره الیوم خمسة وعشرین ذراعاً من ناحیة رجلیه، وخمسة وعشرین ذراعاً من ناصیة رأسه وموضع قبره من یوم دفنه روضة من ریاض الجنة، ومنه معراج یُعرج فیه بأعمال زواره إلی السماء، وما من ملک فی السماء ولا فی الأرض إلاّ وهم یسألون الله (أن یأذن لهم) فی زیارة قبر الحسین(علیه السلام) ففوج ینزل وفوج یعرج(2).

ورواه الکلینی والصدوق أیضاً.

7- وفی معتبرة عبدالله بن سنان، عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: سمعته یقول: قبر الحسین(علیه السلام) عشرون ذراعاً مکسّراً روضة من ریاض الجنة(3) ورواه فی کامل الزیارات /225. وهذا التفاوت فی تحدید المکان مضافاً إلی امکان حمله علی تفاوت الفضل فإنه یشیر أیضاً إلی التوسیع فی حریم وحرمة المکان والمیقات المکانی.

خامساً:- ورد أن الله تعالی یدفع البلاء عن مدینة بغداد، بقبر الإمام

ص:315


1- (1) الباع: مسافة ما بین الکفین أن ابسطهما وهو قدر مد الیدین وما بینهما من البدن (لسان العرب).
2- (2) الوسائل ، أبواب المزار ، باب 67/ح4.
3- (3) الوسائل ، أبواب المزار ، باب 67 ، ح6.

موسی بن جعفر(علیه السلام)(1) وورد أیضاً حرمة مدینة سامراء بقبر العسکریین(علیهماالسلام) (2)، وأن مدینة طوس حرم لمرقد الرضا(3) بل ورد أن مابین الجبلین المحیطین بطوس، جعل حریماً لمرقد الرضا(علیه السلام)(4) ومن ذهب السید المرتضی وابن الجنید وظاهر علی بن بابویه وبعض المتقدمین إلی التخییر فی الصلاة بین القصر والتمام للمسافر فی کل المراقد المطهرة لأهل البیت (علیهم السلام) (5) .

سادساً:- ما ورد من تنزیل زیارة المعصومین (علیهم السلام) من علی سطح المنزل بمنزلة الزیارة عن قرب لمن عجز عن السفر لمانع(6).

سابعاً:- ما ورد فی غسل الاحرام فی مسجد الشجرة، فقد سوّغ الشارع الغسل فی المدینة المنورة لمن یعجز عنه فی مسجد الشجرة(7).

ثامناً:- ورد أنه إذا ضاقت مزدلفة بالحجیج، یسوغ لهم أن یصعدوا إلی الجبل(8) وکذلک فی منی إلی وادی محسَّر(9).

ص:316


1- (1) البحار ج 57 / ص220 / دار احیاء التراث.
2- (2) البحار ج 99 ص59.
3- (3) تهذیب الأحکام ج 6 ص 108.
4- (4) تهذیب الأحکام ج 6 ص 109.
5- (5) جُمل العلم والعمل ( رسائل الشریف المرتضی ) ج3 ص 47.
6- (6) کامل الزیارات / باب 96 ح7.
7- (7) ما رواه الحلبی:/سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن الذی یغتسل فی المدینة للاحرام أیجُزیه عن الغسل فی المیقات. قال(علیه السلام) نعم /حوالی اللئالئ ج3 - باب الحج ح28.
8- (8) الوسائل کتاب الحج / ابواب احرام الحج والوقوف بعرفة / باب 11 ح3.
9- (9) نفس المصدر ح4

تاسعاً:- ما ورد فی باب عدم وجوب استلام الحجر وتقبیله وعدم تأکد استحباب المزاحمة علیه واجزاء الإشارة والایماء، وتشیر الی ذلک روایات:

منها:- ما رواه الکلینی عن عدة من اصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الحسین بن سعید عن صفوان بن یحیی عن سیف التمار قال: قلت لأبی عبدالله(علیه السلام) اتیت الحجر الاسود فوجدت علیه زحاماَ فلم الق إلاّ رجلاً من أصحابنا فسألته، فقال: لابد من استلامه فقال: إن وجدته خالیا وإلاّ فسلم ((فاستلم) من بعید(1).

منها:- وعنهم عن أحمد بن محمد بن عیسی عن أحمد بن محمد بن أبی نصر عن محمد بن عبید (عبد) الله قال:- سئل الرضا(علیه السلام) عن الحجر الأسود وهل یقاتل علیه الناس إذا کثروا. قال:- إذا کان کذلک فأوم إلیه إیماء بیدک(2).

منها:- محمد بن یعقوب، عن علی بن إبراهیم عن أبیه عن ابن أبی عمیر عن أبی ایوب الخزاز عن أبی بصیر، عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال:- لیس علی النساء جهر بالتلبیة ولا استلام الحجر ولا دخول البیت ولا سعی بین الصفا والمروة یعنی الهرولة(3)، أی یکفیهن الإیماء من بعد للحجر الأسود.

الوجه الثانی: السیرة العقلائیة الممضاة.

تقرر فی السیرة العقلائیة علی أنه هناک حریم فی البقاع المملوکة

ص:317


1- (1) الوسائل الباب 16 من ابواب الطواف / ح4.
2- (2) نفس المصدر /ح5.
3- (3) الوسائل الباب 18 من ابواب الطواف / ح1.

فللدار حریم، وللبئر حریم، وللطریق حریم من جانبیه، وللمدینة حریم من ضواحیها، وضابطة مقدار الحریم أن یکون بحسب الحاجة التابعة له، فلیس یتحددد بقدر یقف علیه ثابت لا یزید ولا ینقص، بل هو یتسع وینقص بمقدار ما تستدعیه الحاجة.

وهذه السیرة العقلائیة لیست خاصة بتوسعة الحریم المکانی.

بل هی جاریة أیضاً بتوسعة الحریم الزمانی، فنراهم یقولون (عام الفیل) و (عام الحزن) و(عام الفتح)، مع أن الحدث المناسبة حدثت فی أیام قلائل، ولم تمتد لکل العام، کما فی وفاة أبی طالب وخدیجة (علیهم السلام) فی عام الحزن.وکذلک یقال أن النبی صلی الله علیه و آله ولد فی شهر ربیع الأول، أو أن أمیر المؤمنین ولد فی شهر رجب مع أن الولادة حدثت فی ساعة واحدة کما روی الصفار بسنده عن حفص الابیض التمار قال دخلت علی أبی عبدالله(علیه السلام) أیام صلب المعّلی ابن الخنیس(1) والحال أن المعلی صلب فی یوم واحد وروی الحمیری عن جعفر عن أبیه(علیهماالسلام) أن علیاً(علیه السلام) کان یأمر منادیه بالکوفة أیام عید الأضحی(2) والحال أن الأضحی یوم واحد.

وفی روایة أخری عن علی بن رافع اخذنا منها موضع الحاجة وهو (وأنا احب أن تُعرنیه أتجمل به فی أیام عید الأضحی)(3) مع أن عید الأضحی یوم واحد ولکن عبُر عنه بایام وهذا یدل علی أن الشارع جعل

ص:318


1- (1) بصائر الدرجات ص423.
2- (2) الکافی 8 / 196 / ج 244.
3- (3) تهذیب الأحکام للطوسی، ج10 / 154، باب من الزیادة.

لتلک الازمنة حریماً زمانیاً عبّر عنها بالایام کما هو کذلک عند العقلاء.

وهذا مما یبرز لنا وجه التوسعة عند العقلاء، فهو لأجل طبیعة التوسعة فی الظرفیة والاسناد الزمانی

وکذلک الحال فی التوسع فی الظرف المکانی، فیقال أن النبی صلی الله علیه و آله ولد فی مکة وکل ذلک نوع من التقریب فی التحقیق، والتحقیق فی التقریب، من جهة تحقق الاسناد وتوسع الظرف وکأن هذا هو المنشأ للارتکاز العقلائی.

وهذه السیرة العقلائیة هی سیرة متشرعیة أیضا، کما اتضح من الامثلة أعلاه.

الوجه الثالث- قوله تعالی وَ ذَکِّرْهُمْ بِأَیّامِ اللّهِ إِنَّ فِی ذلِکَ لَآیاتٍ لِکُلِّ صَبّارٍ شَکُورٍ (1) حیث یمکن أن یستنبط منها عرفاً، سواء بحسب الارتکاز العقلائی أو المتشرعی، أن التذکیر الوارد فی الآیة المبارکة، لیس لخصوص الیوم الذی فیه المشهد الإلهی العظیم، بل یشمل الأیام المحتفة به أیضا، فیکون مفاد الآیة الکریمة، الاحتفاء والاحتفال بالمیقات الزمانی الشعیری بما یشمل حریم ذلک المیقات الزمانی، من قبل المیقات ومن بعده.

الوجه الرابع:- قاعدة تعدد مراتب المستحبات:

تُبین هذه القاعدة أن طبیعة المستحبات من حیث الأجزاء و الشرائط و القیود والتی منها الزمان والمکان طبیعة ذات مراتب وتعدد فی المطلوب فی أساس جعلها وتشریعها ومن ثم لا یرتکب الفقهاء عملیة التقیید بین المطلق والمقید ولا عملیة التخصیص بین العام والخاص بل یحملون المقید

ص:319


1- (1) ابراهیم /5.

والخاص علی تعدد مراتب الفضل وأن الشرائط والقیود هی شرائط وقیود کمال ولیست شرائط وقیود صحة فمن ثم یکون مقتضی الظهور الأولی فی باب المندوبات هو علی تعدد المطلوب إلّا أن تقوم قرینة علی خلاف ذلک، وهذا یوسع الزیارة المندوبة زمانا ومکانا، وإن کان الأقرب فالاقرب زماناً ومکانا هو الأفضل فالافضل فی مراتب الفضل والکمال.

الوجه الخامس: (قاعدة المیسور لا یسقط بالمعسور):

هذه القاعدة أو قاعدة ما لا یدرک کله لا یترک جلّه. تنطبق علی المراتب الزمانیة والمکانیة للعمل المقیّد بالزمان والمکان، فیکون الأقرب فالأقرب هو المیسور المقدم.

زبد المخاض: المحصلة من الوجوه:

ویتحصل من هذه الوجوه. هو أن کل موضع زمانی أو مکانی، جُعل فی الشریعة میقاتاً لشعیرة دینیة له حریم یحیط به، یسبقه ویتأخر عنه.

وإن ما علیه المتشرعة فی زماننا من التوسع زماناً ومکاناً بحسب الحاجة فی زیارة الأربعین لسید الشهداء(علیه السلام) أو زیارة عاشوراء أو زیارة أمیر المؤمنین(علیه السلام) أو زیارة الجوادین صلی الله علیه و آله أو زیارة العسکریین صلی الله علیه و آله أو غیرها من مواسم الزیارات العظیمة التی یکون فیها الزحام شدید هذا التوسع مطابق لقاعدة فقهیة شرعیة. متصیدة من الأبواب الفقهیة ومعتضدة بوجوه أخری مفادها (أن لکل میقات زمانی أو مکانی لشعیرة دینیة عبادیة حریم یحیط به یتوسع وبحسب ظرفیة وقابلیة الحاجة إلی الحدود التی تتصل بذلک المیقات).

ص:320

قاعدة :المشی الی العبادة عبادة

اشارة

ص:321

ص:322

المشی الی العبادة عبادة(1)

إنّ فضیلة المشی کعبادة قد وردت فیها طوائف من الروایات الآتیة وهو مسألة قد تداولها الفقهاء بحثاً وتنقیباً وتحقیقاً لاسیما فی کتاب الحج بل إن فی طوائف تلک الروایات ما یدل علی أن المشی له خصوصیة ذاتیة عبادیة بغض النظر عن ما هو غایة للمشی من العبادة الأخری وبغض النظر عن کونه موجباً لزیادة ثواب تلک الغایة العبادیة فهذه حیثیات ثلاث:

الأولی: کون المشی عبادة فی حدّ نفسه.

الثانیة: اتصافه بالمقدمیة للعبادة.

الثالثة: زیادة کمال وثواب الغایة العبادیة التی یتوسط المشی مقدمة لها.

الرابعة: ورود الأمر الخاص بخصوص المشی للحج لبیت الحرام والأمر خاص بالمشی إلی زیارة النبی صلی الله علیه و آله وأهل البیت (علیهم السلام) کزیارة أمیر المؤمنین(علیه السلام) وزیارة الإمام الحسین(علیه السلام) وسائر المراقد المطهرة.

الخامسة: ولا یخفی أن المشی فی مقابل الرکوب یوجب مشقة للنفس کما یشیر إلیه قوله تعالی وَ الْأَنْعامَ خَلَقَها لَکُمْ فِیها دِفْ ءٌ وَ مَنافِعُ وَ مِنْها تَأْکُلُونَ * وَ لَکُمْ فِیها جَمالٌ حِینَ تُرِیحُونَ وَ حِینَ تَسْرَحُونَ * وَ تَحْمِلُ أَثْقالَکُمْ إِلی بَلَدٍ لَمْ تَکُونُوا بالِغِیهِ إِلاّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّکُمْ لَرَؤُفٌ رَحِیمٌ * وَ الْخَیْلَ

ص:323


1- (1) تقریرا لبحث أستاذنا الشیخ السند (دام ظله )، بقلم جناب الأخ عباس اللامی دائم توفیقه .

وَ الْبِغالَ وَ الْحَمِیرَ لِتَرْکَبُوها وَ زِینَةً (1).

وما یوجب مشقة النفس یضعضع من النفس ویهونها لدی ذاتها فی مقابل الرفاه والنعیم والاستغناء وهو ما یوجب طغیانها واستکبارها کما یشیر إلیه قوله تعالی إِنَّ الْإِنْسانَ لَیَطْغی * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنی (2).

وقوله تعالی فی وصف أصحاب الشمال إِنَّهُمْ کانُوا قَبْلَ ذلِکَ مُتْرَفِینَ (3). وقد ورد فی قوله تعالی طه * ما أَنْزَلْنا عَلَیْکَ الْقُرْآنَ لِتَشْقی (4) فی صحیحة أبی بصیر عن أبی جعفر(علیه السلام) فی ذیل الآیة وکان رسول الله صلی الله علیه و آله یقوم علی أطراف اصابع رجلیه فانزل الله سبحانه وتعالی ما أَنْزَلْنا عَلَیْکَ الْقُرْآنَ لِتَشْقی (5).

وفی معتبرة أخری عن أبی جعفر وأبی عبید الله کان رسول الله صلی الله علیه و آله إذا صلی قام علی أصابع رجلیه حتی تورمتا فأنزل الله تبارک وتعالی طه * ما أَنْزَلْنا عَلَیْکَ الْقُرْآنَ لِتَشْقی (6).

وفی روایة الاحتجاج أنه کان إذا قام إلی الصلاة... ولقد قام صلی الله علیه و آله عشر سنین علی أطراف أصابعه حتی تورمت قدماه واصفر وجهه یقوم اللیل

ص:324


1- (1) سورة النحل : الآیة 5 - 8.
2- (2) سورة العلق : الآیة 6 - 7.
3- (3) سورة الواقعة : الآیة 45.
4- (4) سورة طه : الآیة 1 - 2.
5- (5) الکافی : مجلد 2 ، ص95 ، الوسائل ، الباب 3 من أبواب القیام ، ح2.
6- (6) تفسیر القمی فی ذیل الآیة.

أجمع حتی عوتب فی ذلک فقال الله عَزَّ وَجَلَّ طه * ما أَنْزَلْنا عَلَیْکَ الْقُرْآنَ لِتَشْقی (1) وروی الطبرسی فی مجمع البیان قال روی عن أبی عبدالله(علیه السلام) أن النبی صلی الله علیه و آله کان یرفع أحد رجلیه فی الصلاة لیزید تعبه فانزل الله تعالی طه * ما أَنْزَلْنا عَلَیْکَ الْقُرْآنَ لِتَشْقی فوضعها(2) وفی موثق ابن بکیر عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال أن رسول الله صلی الله علیه و آله بعد ما عظُم أو بعد ما ثقُل کان یصلی وهو قائم ورفع احدی رجلیه حتی انزل الله تعالی طه * ما أَنْزَلْنا عَلَیْکَ الْقُرْآنَ لِتَشْقی فوضعها(3).

وفعله صلی الله علیه و آله ذلک وإن نُهی عنه إلاّ أن وجه الحکمة فیه هو الاجتهاد وحمازة العمل. فإن ثقل العبادة والخضوع یکسر جموح النفس ویضعضعها ویُذهب أنفتها ویطأطأ شموخها إلی خضوع العبودیة لله تعالی وقد ورد استحباب لبس الخشن والثقیل من الألبسة فی الصلاة وهو یؤدی نفس هذا المؤدّی ومنه یتضح کبری عامة فی العبادات أن الجهد والاجتهاد والجد فیها اخضع خشوعاً فی عبادیة العبادة وهذه قاعدة عامة أخری کبری اوسع من القاعدة التی نحن فیها وهی صغری تطبیقیة لها وقد أفتی الأصحاب بها کما وردت النصوص والدلائل من الآیات والروایات بها.

وقال تعالی وَ مَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَ سَعی لَها سَعْیَها (4) منطبق بعمومه

ص:325


1- (1) الاحتاج ، فی مستدرک الوسائل أبواب القیام الباب ، 2 ، ح2.
2- (2) الطبرسی فی مجمع البیان ، ذیل الآیة طه * ما أَنْزَلْنا....
3- (3) أبواب الوسائل ، الباب 3 ، ح4.
4- (4) سورة الإسراء : الآیة 19.

علی المشی للطاعة وفی صحیح هشام بن سالم عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: ما عبدالله بشیء أفضل من المشی(1).

الفصل الأوَّل: أدلة القاعدة:

وقد وردت طوائف من الروایات دالة علی مفاد القاعدة:

الطائفة الأولی: ما ورد أن مطلق المشی عبادة.

1- صحیحة عبدالله بن سنان عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: ما عبدالله بشیء أشد من المشی ولا أفضل(2).

2- روایة الزبیدی: عن فضل بن عمرو، عن محمد بن إسماعیل بن رجاء الزبیدی عن أبی عبدالله(علیه السلام) ما عبدالله بشیء فضل من المشی(3).

3- صحیحة هشام بن سالم قال دخلنا علی أبی عبدالله(علیه السلام) أنا وعتبة بن مصعب وبضعة عشر رجلاً من أصحابنا فقلنا جعلنا فداک أیهما أفضل المشی أو الرکوب فقال ما عبدالله بشیء أفضل من المشی، فقلنا أیما أفضل نرکب إلی مکة فنعجّل فنقیم بها إلی أن یقدم الماشی أو نمشی فقال الرکوب أفضل(4).

وذیل الحدیث وإن کان فی خصوص المشی إلی الحج إلاّ أن صدره

ص:326


1- (1) الوسائل ، أبواب وجوب الحج ، باب 32 ، ح2.
2- (2) الوسائل ، أبواب وجوب الحج ، ب32 ، ح1.
3- (3) نفس المصدر ، ح4.
4- (4) نفس المصدر ، ح4.

واضح هو فی عموم قضیة المشی کقضیة کلیة لا تختص بالمشی إلی الحج فمن ثم کان الصدرُ قضیة عامة فی عموم المشی وبعبارة أخری أن السؤال فی الذیل حول حکم المشی إلی الحج ناشیٌ من الإثارة الحاصل فتقریب عموم الصدر تام بل الصدر وکذلک الروایتین السابقتین دال علی رجحان عبادیة المشی بغض النظر عن کون غایته عبادیة.

وأما فی ذیل صحیحة هشام من ترجیحه الرکوب علی المشی بعد ما ذکر فی صدر الحدیث من رجحان المشی علی الرکوب فهو لأجل نص الروایة أن المشی أفضل إلاّ أن جهات أخری مزاحمة قد تغلب فضیلته کاعمار مکة بالمؤمنین أو المجیء بمزید من الطوائف ونحو ذلک من الأعمال البالغة الرجحان فی مکة وإلاّ فقد روی کما سیأتی أن الحسن(علیه السلام) حجة عشرین مرة ماشیاً من المدینة وکذلک السجاد(علیه السلام) فلابد من ملاحظات الجهات المختلفة.

وتقریب دلالة هذه الطائفة علی عبادیة المشی الذاتیة فضلاً عن ما إذا مقدمة لعبادة أو لطاعة لله هو أن المشی تواضع والتواضع هو الحالة الأقرب لعبودیة العبد شعوره بالفقر والحاجة والضعة إلی الباری تعالی کما أن فی المشی مشقة تکسر جموح وطغیان النفس فکما أن حالة الإنسان التی وصفت فی قوله تعالی: إِنَّ الْإِنْسانَ لَیَطْغی * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنی فکذلک العکس أن الإنسان لیتّضع أن رآه افتقر ومن ثم کان الفقر شعار الصالحین وهذا بنفسه إشارة إلی تقریب وجه عقلی مستقل فی عبادیة المشی الذاتیة.

ص:327

الطائفة الثانیة: ما ورد فی المشی إلی الحج وهی علی ألسن:

اللسان الأول:- وهو دال علی فضیلة المشی إلی الحج علی الرکوب کما فی:

1- معتبرة أبی الربیع الشامی عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال ما عبدالله بشیء أفضل من الصمت والمشی إلی بیته(1).

2- معتبرة أبی اسامة عن أبی عبدالله(علیه السلام): قال خرج الحسن بن علی(علیه السلام) إلی مکة سنة ماشیاً فورمت قدماه فقال بعض موالیه لو رکبت لسکن عنک هذا الورم فقال کلا، إذا أتینا هذا المنزل فإنه یستقبلک اسود ومعه دهن فاشتری منه ولا تماسکه الحدیث(2).

3- صحیح الحلبی قال سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن فضل المشی فقال: أن الحسن بن علی(علیه السلام) قاسم ربه ثلاث مرات حتی نعلاً ونعلاً وثوباً وثوباً ودیناراً ودیناراً وحج عشرین حجة ماشیاً علی قدمیه(3).

4- روایة أبی المنکدر عن أبی جعفر(علیه السلام) قال: قال ابن عباس ما ندمت علی شی صنعته ندمی علی أن لم احج ماشیاً لأنی سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله یقول من حج بیت الله ماشیاً کتب له سبعة آلاف حسنة من حسنات الحرم قبل یا رسول الله وما حسنات الحرم قال حسنة ألف ألف حسنة وقال فضل المشاة فی الحج کفضل القمر لیلة البدر علی سائر النجوم

ص:328


1- (1) الوسائل ، أبو أب وجوب الحج ، باب 32 ، ح7.
2- (2) نفس المصدر ، ح8.
3- (3) نفس المصدر ، ح3.

وکان الحسین بن علی(علیه السلام) یمشی إلی الحج ودابته تقاد وراءه(1).

5- روی المفضل بن عمر عن الصادق(علیه السلام) عن آبائه (علیهم السلام) أن الحسن بن علی کان أعبد الناس وازهدهم وافضلهم فی زمانه وکان إذا حج حج ماشیاً ورمی ماشیاً وربما مشی حافیاً(2).

6- روی المفید فی الارشاد بسند متصل عن إبراهیم بن علی قال حج علی بن الحسین(علیه السلام) ماشیاً فسار عشرین یوماً من المدینة إلی مکة(3).

7- ما رواه فی علل الشرائع قال أمیر المؤمنین(علیه السلام) حج آدم سبعین حجة ماشیاً وروی أنه(علیه السلام) أتی البیت ألف آتیة وسبعمائة حجة وثلثمائة عمرة.

صحیح حماد بن عیسی عمن اخبره عن العبد الصالح فی حدیث قال، قال رسول الله صلی الله علیه و آله ما من طائفٍ یطوف بهذا البیت حین تزول الشمس حاسراً عن رأسه حافیاً یقارب بین خطاه ویغض بصره ویستلم الحجر فی کل طوائف من غیر أن یؤذی أحداً ولا یقطع ذکر الله عن لسانه إلاّ کتب له عَزَّ وَجَلَّ له بکل خطوة سبعین ألف حسنة ومحی عنه سبعین ألف سیئة ورفع له سبعین ألف درجة واعتق عنه سبعین ألف رقبة ثمن کل رقبة عشرة آلاف درهم. وشفّع فی سبعین من أهل بیته وقضیت له سبعون ألف حاجة إن شاء فعاجلة وإن شاء فآجلة(4).

ص:329


1- (1) نفس المصدر ، ح9.
2- (2) الوسائل ، أبواب وجوب الحج ، باب 32 ، ح10.
3- (3) نفس المصدر ، ح11.
4- (4) الکافی ، مجلد 4 ، ص412.

اللسان الثانی: ما ظاهره إلی الرکوب للحج أفضل من المشی:

1- صحیح رفاعة وابن بکیر جمیعاً عن أبی عبدالله أنه سئل عن الحج ماشیاً أفضل أو راکباً فقال بل راکباً فإن رسول الله صلی الله علیه و آله حج راکباً. وطریق هذه الروایة مستفیض عن رفاعة(1).

2- صحیح سیف التمار قال قلت لأبی عبدالله(علیه السلام) أنه بلغنا وکنا تلک السنة مشاة، عنک انک تقول فی الرکوب ؟ فقال(علیه السلام) أن الناس یحجون مشاة ویرکبون فقلت لیس عن هذا اسئلک فقال عن أی شیء تسألنی فقلت أی شیء أحب إلیک نمشی أو نرکب؟ فقال ترکبون احب الی فإن ذلک اقوی علی الدعاء والعبادة(2).

وصریح هذه الروایة أن أفضلیة الرکوب علی المشی إنما هی بلحاظ جهات طارئة أخری کالتحفظ علی القدرة لأجل الدعاء والعبادة فی الحج لا للرجحان الذاتی للرکوب علی المشی ولعل وجه رکوب رسول الله صلی الله علیه و آله هو لأجل أن لا یشق علی أمته فیضعفوا عن أداء مناسکهم وعن جملة من العبادات الراجحة فی الحج أو أن الرکوب فیه جهة تأسی برسول الله صلی الله علیه و آله وإن کان ما فعله رسول الله صلی الله علیه و آله لیس بداعی جعل السنة منه فی ذلک بل من باب ترک المشی الراجح لئلا تقع أمة فی المشقة أو التفریط فیما هو ارجح من العبادات الأخری.

ص:330


1- (1) أبواب وجوب الحج ، باب 33 ، ح4.
2- (2) نفس المصدر ، باب 33 ، ح5.

3- موثق عبدالله بن بکیر قال قلت لأبی عبدالله(علیه السلام) إنا نرید الخروج إلی مکة فقال لا تمشوا وارکبوا فقلت أصلحک أنه بلغنا أن الحسن بن علی(علیه السلام) حجة عشرین حجة ماشیاً فقال أن الحسن بن علی(علیهماالسلام) کان یمشی وتساق معه محامله ورحاله(1).

ومثله روایة سلیمان عن أبی عبدالله(علیه السلام).

والوجه فی مفاد هذا التعلیل فی هذه الروایة ما سیأتی فی معتبرة أبی بصیر عن الصادق(علیه السلام) أنه سأله عن المشی أفضل أو الرکوب فقال إذا کان الرجل موسراً فمشی لیکون أفضل لنفقته فالرکوب أفضل(2).

ورواه الصدوق فی العلل بسندٍ آخر.

وفی الروایة تصریحٌ بأن أفضلیة الرکوب لا لرجحانه الذاتی علی المشی بل المشی الراجح ذاتاً علی الرکوب وإنما یرجح ویفضل الرکوب لجهاتٍ طارئة أخری لئلا یکون المشی لتقلیل النفقة وفیما کان الرکوب زیادة انفاق للمال فی سبیل الله.

وبذلک یظهر ما فی تعلیل الروایة السابقة من أن حج الإمام الحسن(علیه السلام) ماشیاً لم یکن التقلیل للنفقة بل کان مع بذل کامل لنفقة الرکوب ومن ثم استظهر صاحب الوسائل فی تفسیر الروایة السابقة أن تسوق الرحال والمحامل معه(علیه السلام) الذی أوجب بقاء المشی علی رجحانه

ص:331


1- (1) الوسائل ، أبواب الحج ، باب 33 ، ح6.
2- (2) نفس المصدر ، ح10.

وأوجب معالجة الجهات الطارئة المزاحمة هو لاحتمال الاحتیاج إلیها عند العجز عن المشی أو لیطمئن الخاطر وتطیب النفس بذلک فلا تعانی من المشقة وتعززها بها عن الذل والمهانة الشدیدة فی المشی نظیر ما ورد عن أمیر المؤمنین(علیه السلام) من وثق بماءٍ لم یظمأ ولکونها وسیلة آمنٍ لو واجهه قطاع الطریق والاعداء.

وما یدل علی صحة هذا التفسیر للسان الثانی وأن المشی فی ذاته أفضل من الرکوب لولا الجهات الطارئة ما یأتی فی اللسان الثالث من الروایات الواردة فی لزوم الوفاء بنذر المشی.

اللسان الثالث: فی نذر المشی إنه یلزم الوفاء بع إلا أن یتعب فیرکب، وفی بعض إنحلاله إذا کان مجهداً له.

منها: صحیحة رفاعة بن موسی قال: قلت لأبی عبدالله(علیه السلام): رجل نذر أن یمشی إلی بیت الله قال: فلیمش، قلت فإنه تعب قال فإذا تعب رکب(1).

ومنها: عن الحلبی قال: قلت لأبی عبدالله(علیه السلام) رجل نذر أن یمشی إلی بیت الله وعجز عن المشی قال: فلیرکب ولیسق بدنه، فإن ذلک یجزی عنه إذا عرف الله منه الجهد(2).

ومنها: صحیحة ذریح المحاربی قال: سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن رجل

ص:332


1- (1) الوسائل : الباب 34 /ح1.
2- (2) الوسائل : الباب 34 /ح3.

حلف لیحجّن ماشیاً فعجز عن ذلک فلم یطقه، قال فلیرکب ولیست الهدی(1).

ومنها: روایة أبی بصیر، فقال: من جعل لله علی نفسه شیئاً فبلغ فیه مجهوده فلا شیء علیه، وکان الله أعذر لعبد(2).

ومنها: أحمد بن محمد بن عیسی فی (نوادره) عن محمّد بن مسلم، عن أحدهما علیهما السلام قال: مسألته عن رجل جعل علیه شیئاً إلی بیت الله فلم یستطع، قال: یحج راکباً(3).

وعلی أی تقدیر کلّ هذه الألسن لیس فیها ما یدلّ علی المرجوحیة الذاتیة بل دالّة علی رجحانیة ذات المشی کعبادة.

وخصوص اللسان الثانیة یوهُمْ خلاف ذلک ولکنه غیر تام کما مرّ لأن أفضلیة الرکوب لجهات عارضة مزاحمة، لا تنافی رجحان المشی الذاتی عبادة.

إن قلت: إنّ مفادها مرجوحیّته لکونه ترکاً لسنة رسول الله صلی الله علیه و آله فتعارض اللسان الأول.

قلت: الظاهر عدم المنافاة وذلک إذا أتی بالرکوب تأسّیاً بالنبی صلی الله علیه و آله فقد أدرک الفضل ولکن فعله صلی الله علیه و آله من الرکوب کما مرّ، لعلّه لأجل عدم

ص:333


1- (1) نفس المصدر /ح2.
2- (2) الوسائل الباب /34 من أبواب وجوب الحج /ح7.
3- (3) نفس المصدر /ح9.

إیقاع الأمة فی مشقة المشی لا أن المشی فی نفسه أرجح نظیر ما ورد من الاستقاء فی ماء زمزم فی صحیح الحلبی(1) أنه قال صلی الله علیه و آله «لولا أن أشقّ علی أمتی لاستقیت منها ذنوباً أو ذنوبین» فإنه صریح فی کون الاستقاء، فعلاً راجحاً ولکنه لم یفعله صلی الله علیه و آله لأجل عدم ایقاع الأمة فی المشقة.

وقد روی البرقی بسنده عن أبی جعفر(علیه السلام) قال: قال ابن عباس ما ندمت علی شیء صنعت ندمی علی انی لم أحجّ ماشیاً لأنی سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله یقول من حجّ بیت الله ماشیاً کتب له سبعة آلاف حسنة من حسنات الحرم قیل یا رسول الله ما حسنات الحرم قال:- حسنة ألف ألف حسنة وقال «فضل المشاة فی الحج کفضل القمر لیلة البدر علی سائر النجوم وکان الحسین بن علی(علیه السلام) یمشی إلی الحج ودابته تقاد وراءه»، ومفادها صریح فی تفصیلة له صلی الله علیه و آله ، المشی علی الرکوب وإنه صلی الله علیه و آله قد أمر بالمشی.

إن قلت: ما الفرق بین فعله صلی الله علیه و آله إنشاءً للتشریع وبین قوله صلی الله علیه و آله فکلیهما بمفاد واحد فلو کانت هناک مشقة لما أمر به صلی الله علیه و آله .

قلت: مفادهما وإن کان واحداً إلاّ أنّ فی فعله صلی الله علیه و آله خصیصة زائدة علی الأمر اللفظی وهی عنوان التأسی به صلی الله علیه و آله لقوله تعالی لَکُمْ فِی رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فإنّ هذا العنوان یضیف إلی الفعل ملاکاً زائداً علی الملاک الذاتی الذی فیه بل لو کان الفعل من المباحات العادیات وطرأ علیه عنوان التأسی لکان یحدث فیه ملاکاً أیضاً.

ص:334


1- (1) الوسائل : ابواب أقسام الحج / باب 2 ح4.

إن قلت: فعلی ذلک یشمل التأسی الأفعال العادیة التی کان یأتی بها لا فی مقام التشریع وتبلیغ الأحکام الإلهیة بل ینتهی الأمر حینئذٍ إلی أن کل أفعاله صلی الله علیه و آله لها مدی تشریع.

قلت: إنه مع الاشتراک فی عموم التأسّی هناک فارق بین الافعال العادیة والأفعال التی یأتی بها صلی الله علیه و آله بقصد الانشاء وبقصد تبلیغ أحکام الله فإنّ العادیات لا إنشاء فی إتیانها کمالا رجحان فی ماهیّتها بما هی هی بخلاف الافعال من النمط الثانی کما أنّ العادیات لا یراد بها کلّ فعل یشترک فیها صلی الله علیه و آله مع نوع البشر بل ما تمیز به صلی الله علیه و آله ممّا یدخل فی المکرمات ونحوها.

ثم إن مدرک القول بانحلال أو جواز حلّ النذر إذا قیس متعلّق النذر إلی فعل آخر هو ما ورد(1) فی الیمین من أن الحالف إذا رأی مخالفتها خیراً من الوفاء بها جاز له أن یدعها ویأتی بالذی هو خیر هذا إذا لم تحمل هذه الروایات علی شرطیة عدم مرجوحیة المتعلّق ولو بلحاظ حال المزاحمة بینما الکلام فی أفضلیة الفعل المغایر وإن لم یکن مزاحمة فی البین.

ثمّ إنه لا إشکال فی دلالة الروایات المشار إلیها فی الیمین علی ذلک مضافاً الی دلالة الروایات الورادة فی خصوص النذر. بل الروایات الواردة فی خصوص المسألة مثل صحیح أبی عبید الحذاء، قال سأل أبا جعفر(علیه السلام) عن الرجل نذر أن یمشی الی مکة حافیاً، قال إن رسول الله صلی الله علیه و آله خرج حافیاً

ص:335


1- (1) 18 کتاب الإیمان.

فنظر الی امرأة تمشی بین الأبل، فقال من هذه؟ فقال أخت عقبة بن عامر، نذرت أن تمشی الی مکة حافیة، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله : «یا عقبة إنطلق الی أختک فمرها فلترکب فإن الله غنی عن مشیها وحففیها قال فرکبت» (1).

وقد تعرض الیزدی فی العروة الوثقی الی صور ثلاث فی النذر(2).

الأولی: إذا نذر الحجّ ماشیاً أو نذر الزیارة ماشیاً نذراً مطلقاً عن التقیید بسنة معینة فخالف نذره فحجّ أو زار راکباً حکم المشهور بوجوب الإعادة وعدم الکفّارة لإمکان الامتثال.

نعم عن المحقق فی المعتبر والعلامة فی المختلف والتذکرة والتحریر والمنتهی والإرشاد وظاهر إیمان القواعد احتمال صحة وقوع الحج عن المنذور وحصول الحنث بترک المشی، وکذا حکموا بسقوط القضاء وحصول فیه الحنث فی الصورة الثانیة وهی ما إذا کان التقیید بسنة معینة حیث ذکر فی المختلف (أن یجری فیه ما ذکر فی المطلق لأنه لما نوی بحجّه المنذور وقع عنه وإنما اخلّ بالمشی قبله وبین أفعاله فلم یبقی محل للمشی المنذور لیُقضی إلاّ أن یطوف أو یسعی راکباً فیمکن بطلانهما فیبطل الحجّ والزیارة حینئذٍ إنّ تناول النذر للمشی فیهما) وفی کشف اللثام أنه قوی إلاّ

ص:336


1- (1) الوسائل / باب 34 / أبواب وجوب الحج/ج4.
2- (2) مسألة 31 : إذا نذر المشی فخالف نذره فحج راکباً فإن کان المنذور الحج ماشیاً من غیر تقیید بسنة معیّنة وجب علیه الإعادة ولا کفارة إلاّ إذا ترکها أیضاً وإن کان المنذور الحج ماشیاً فی سنة معینة فخالف وأتی به راکباً وجب علیه القضاء والکفارة ، وإذا کان المنذور المشی فی حج معیّن وجبت الکفارة دون القضاء لقوات محل النذر ، والحجّ صحیح فی جمیع الصور.

أن یجعل المشی شرطاً فی عقد النذر کما فصل فی المختلف وتقریب ما ذکره أنّ نذر الحج ماشیاً أو الزیارة ماشیاً هو النذر لکل من المشی والحجّ والزیارة وحیث السعی والمشی لیس من شرائط صحة الحج والزیارة وإنما هو من المندوبات فی نفسه التی طرفیها قبل الحجّ نظیر السعی لزیارة الحسین(علیه السلام) فإن الثواب علی السعی نفسه بذلک القصد مضافاً للثواب وللزیارة والنذر لا یغیر ماهیة المنذور فی نفسه ولا یتصرف فیه وإنما یتعلق به علی ما هو علیه، ومقتضی ذلک وقوع الحج مصداقاً للحج المنذور أو الزیارة المنذور نظیر ما إذا نذر صیام ثلاثة أیام ولم یصم الثالث فإن الیومین یقعان مصداقاً للصوم المنذور، ویجب علیه قضاء یوم واحد فقط ومن ثم حکم الشیخ الطوسی والمفید فی المحکی عنهما فی مسألة مالو مشی بعضاً أنه یصحّ ما أتی به ماشیاً مصداقاً للنذر ولکن یجب علیه بعد اتیان المشی فی المواضع التی رکب فیها مضافاً إلی ظاهر الروایات الواردة فی نذر مشی الحج نذراً مطلقاً أنه مع عجزه عن المشی لا یسقط وجوب الحج النذری عنه الدال علی التفکیک بینهما فی مقام التحقق.

نعم فی المقام فی الصورة الأولی حیث أن النذر مطلقاً فبإمکانه أداء المشی ولو فی ضمن الحجّ غیر النذری.

وأما صحّة الحج والزیارة فی هذه الصور فلما عرفت من أن المشی لیس من شرائط صحة الحج أو الزیارة ولا النذر یسبّب شرطیة للحج أو الزیارة.

وما استدلّ به علی بطلان الحج المأتی به أمور:

ص:337

أولاً: أن الأمر بالشیء یقتضی النهی عن ضده وقد تقرّر فی محلّه عدم الاقتضاء بل لا یقتضی عدم الأمر بضدّه أیضاً وإنما یقتضی عدم تعیّن تنجیز ضدّه.

ثانیاً: إن البطلان من جهة أن ما قصد لم یقع وهو الحجّ النذری وما وقع هو حجّ النافلة ففیه:

أ - إنّا نبنی وفاقاً للفاضلین علی صحّته مصداقاً للحج المنذور والزیارة المنذورة فی الصورتین فما قصد قد وقع.

ب - أنّ قصد الأمر النذری لا ملزم له لأن عبادیة الحج الفاضلة وکذا الزیارة، إنما هو بالأمر الندبی المتعلق بهما فی نفسه فی رتبة سابقة علی الأمر النذری والأمر النذری توصّلی فی نفسه ومن ثمة لو بنینا علی عدم صحة ما أتی به عن النذر لکان ما أتی به صحیحاً ندباً.

ج- - أن إتیان الحج أو الزیارة - ولاسیما فی الصورة الثالثة وهو فیما لو نذر المشی فی حجّ معیّن أو زیارة معینة، بأن یکون الحج المعین ظرفاً للمنذور لا جزء المنذور - علّة لتفویت متعلق النذر وعلّة المعصیة وإن لم نلتزم بحرمتها الشرعیة إلاّ أن إیجادها قبیح عقلاً فلا تصحّ عبادةً لأن العبادة یشترط فیها أن یکون صدورها حسناً عقلاً.

وفیه: أنّ الکبری المزبورة وإن کانت متینة إلاّ أنها لا صغری لها فی المقام حیث أنه بالترک قبل أعمال الحج یکون قد حنث فی نذره بإرادته متعمداً لا بأعمال الحجّ والزیارة کما فی ترکه للمشی قبل المیقات وبعد

ص:338

المیقات بعد ما أحرم فی المیقات.

نعم یظهر من الشیخین فیما تقدّم حکایته من قولهما فیما لو رکب بعضاً ومشی بعضاً أن نذر المشی استغراقی لا مجموعی وحینئذٍ لا یسقط بقاءً الخطاب النذری بالمشی أثناء الأعمال وهذا إنما یتأتی فی خصوص الصورة الأولی وهی النذر المطلق وأما الصورتین الآخرتین فیتحقق حنث النذر بمجرد ترک المشی إلی المیقات.

وبعبارة أخری: أن الوفاء بالنذر وعدم حنثه ارتباطی مجموعی لأنه تعهد وحدانی غایة الأمر أن متعلّق النذر إذا کان أفعالاً متعددة مستقلة عن بعضها البعض فی نفسها بحسب مشروعیّتها فی نفسها السابق علی طرو النذر علیها تکون صحّتها بنحو منفک عن بعضها البعض دون مقام الوفاء بالنذر هذا مع أن الصورة الأولی وهی النذر المطلق لا وجه للمعصیة بناءً علی قول الشیخین بعد إمکان الامتثال فیما یُعد تبعیضاً فقولهما فی مقام الامتثال وصحّة الأفعال فی نفسها لا فی مقام الوفاء بالنذر ولک أن تقول إنّ هناک ثلاث جهات:

الأولی: صحّة الافعال فی نفسها.

الثانیة: الوفاء بالنذر وهو مجموعی.

الثالثة: سقوط قضاء النذر وهو لیس بمجموعی أی أنّ سقوط قضاء نذر الحج أو نذرالزیارة أو نذر الصوم غیر معلق علی الوفاء بالنذر بل القضاء معلّق علی ترک الصوم النذری والزیارة النذریة والحج النذری وهو

ص:339

لا یصدق مع اتیان الصوم والحج والزیارة ولو منفرداً عن بقیة الأفعال التی ضمها إلیها فی نذر الصوم أو نذر الحج أو نذر الزیارة فمن ثم تبین انفکاک موضوع القضاء عن عدم الوفاء وقد اتضح مما مر ما ینفع فی تنقیح الحال فی الصورتین الباقیتین.

الصورة الثانیة: إذا نذر الحج أو الزیارة فی سنة معینة فخالف وأتی بهما راکباً فلا یجب قضاءهما کما عرفت للصحة وإن تحقق حنث النذر ووجبت الکفارة.

الصورة الثالثة: إذا نذر الحج أو الزیارة ماشیاً مع الاطلاق من دون تقید فی سنة معینة فیجب علیه إعادة المشی ولو فی حج اجاری أو زیارة اجاری أو غیرهما بعد فرض تحقق الحج النذری بناءً علی عدم تبعض المشی وقد تقدمت الإشارة إلی قولی المفید والطوسی وجماعة بتبعیض المشی فی مقام الامتثال مقام الوجوب کافعال مستقلة متعددة لا فی مقام الوفاء فی النذر أی أن کل خطوة فی السعی إلی الحج صحتها کعبادة غیر مرتبطة بالخطوات اللاحقة کما تفیده الروایات الواردة فی فضیلة المشی وهو متین إلاّ أن منصرف التعبیر فی صیغة النذر هو إلی المشی المتواصل بقرینة زیادة المشقة فمن ثم یکون المنذور حصة خاصة لا مطلق المشی. وقد اتضح بذلک الجهات المتعددة فی نذر المشی لحج بیت الله الحرام واجباً أو مستحباً وکذا فی نذر المشی للزیارة.

وقد یقرب بأن امتثال متعلّق النذر بالمصداق الأفضل من طبیعة النذر مجزئ وبأنه إیجاد للطبیعة الواجبة بالنذر فی ضمن أفضل مصادیقها

ص:340

هذا إذا کان الفرد الأفضل من نفس طبیعة النذر نوعاً أو صنفاً لا ما إذا کانتا متباینتین. کما إذا نذر الصلاة فی مسجد المحلة فأتی بها فی المسجد الجامع أو المسجد الحرام لاسّیما مع الالتفات إلی أن ما هو متعلق بالنذر الأمر الندبی المتعلق به فی نفسه وهو شامل للفرد الأفضل والمفروض أنّ النذر یتعلق بالمتعلق بما هو علیه من المشروعیة ولک أن تضمّ مقدمة ثالثة وهی أن ظهور تعلق النذر فی مقام الانشاء عند التقییّد بفرد هو خصوصیة التقیّد بفرد بمعنی التحدید بعدم کونه دون ذلک لا التحدید بعدم کونه فوق ذلک الفرد، وإلا لکان هذا قیداً ثانیاً وبعبارة أخری إن الأمر الندبی قد تعّلق بالطبیعة ولم یتعلق بالخصوصیة إلّا فی الخصوصیات الراجحة بلحاظ ما دونها لا الخصوصیات التی هی بلحاظ ما فوقها من الأفراد.

إن قلت: فعلی ذلک لو نذر الصیام یوماً فله أن یأتی به فی یوم غیره أرجح منه کصوم یوم النصف من شعبان أو یوم الغدیر مع أنه خلاف النص والفتوی.

قلت: إنّ مورد الکلام فی الطبیعة البدلیة ذات الأمر الواحد بحیث یکون امتثال الأفضل لنفس الأمر وهذا بخلاف الطبیعة الاستغراقیة فإن لکل فرد أمر یخصّه وإنّ تفاضلت الأفراد ویدلّ علی ذلک ما ورد من أن من نذر أن یتزوج أمة فتزوج بنت مهیرة أنّ ذلک وفاء.

وحینئذ یقال فی المقام بمقتضی ما تقدم وإن کان السعی إلی الحجّ مشیاً أفضل من الرکوب إلاّ أنه قد تعرّض کما تقدمّ جهات للمشی توجب رجحان الرکوب علیه فحینئذ یکون السعی بالرکوب أفضل من المشی کما

ص:341

مرّ. إلاّ أن ظاهر طائفة أخری من الروایات کصحیحة رفاعة بن موسی قال: قلت لأبی عبدالله(علیه السلام): رجل نذر أن یمشی إلی بیت الله قال: فلیمش، قلت: فإنه تعب، قال: فإذا تعب فلیرکب ،وصحیح ذریح المحاربی سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن رجل حلف لیحجن ماشیاً فعجز عن ذلک فلم یطقه.

قال فلیرکب ویسوق الهدی ونظیرهما روایات اخری(1) وصحیح إسماعیل بن همام عن أبی الحسن الرضا(علیه السلام) قال: قال أبو عبدالله(علیه السلام) فی الذی علیه المشی فی الحج إذا رمی الجمرة زار البیت راکباً ولیس علیه شئ.

وفی صحیحته الأخری عنهم (علیهم السلام) فی الذی علیه المشی إذا رمی الجمرة وزار البیت راکباً وصحیحة السندی بن محمّد عن صفوان الجمّال قال: قلت: جعلت علی نفسی المشی إلی بیت الله الحرام، قال: کفرّ عن یمینک فإنمّا جعلت علی نفسک یمیناً وما جعلته لله فف به(2) وغیرها من الروایات(3) فإن ظاهرها تعیّن المشی فی مقام امتثال نذره، ولعّل وجه عدم أفضلیة الرکوب فی نفسه علی المشی وإنما الأفضلیة بلحاظ جهات أخری کالقوة علی الدعاء واستحباب الانفاق فی طریق الحج ونحوها من الجهات الأجنبیة عن الرکوب الملازمة لها اتفاقاً. فلا تتحقّق صغری الامتثال بأفضل الأفراد لأنها فی موارد أفضلیة الفرد فی نفسه.

فتحصل:- أنّ نذر المشی ینعقد مطلقاً إلاّ أن یطرأ علیه جهات

ص:342


1- (1) ب / 34 أبواب وجوب الحجّ ،ح 1 ، 2.
2- (2) ب /8 أبواب النذر ، ح 4.
3- (3) ب / 21 أبواب النذر و ب 35 أبواب وجوب الحج.

مرجوحة بحیث تکون أقوی من رجحانه الذاتی الذی فیه.

وإلاّ أن یعجز عنه فینحل النذر ویستحب له أن یکفرّ لما تقدم من الروایات الدّالة علیه، هذا کله فی شقوق الصورة الأولی و أمّا فی الصورة الثانیة وهو نذر الحج ماشیاً فقد حکی الماتن الیزدی بانعقاده مطلقاً، وکفایة رجحان المقید وتنقیح الکلام فی المقام یتضح بما قدمّناه فی الصورة الأولی من أن القید إذا کان مباحاً أو راجحاً ینعقد النذر مقصوراً علی تلک الحصة من الطبیعة أو أنّه بشرط لاما دونها من الحصص وأمّا بلحاظ ما فوقها من الحصص فهی بنحو لا بشرط وقد تقدم أنه لو نذر الطبیعة فی ضمن حصّة متشخصة بأوصاف مباحة أو راجحة فإنّه یجوز له امتثال نذر الطبیعة بصحة أرجح بخلاف ما لو نذر الخصوصیة الراجحة أی نذر الرکوب نفسه وکان راجحاً فإنه لا یسوغ له إتیان ما هو أرجح منه إلاّ أن تفرض المزاحمة.

وما فی صحیحة الحذاء من أمر النبی صلی الله علیه و آله برکوب أخت عقبة بن عامر مع کونها ناذرة أن تمشی إلی بیت الله حافیة قضیة فی واقعة یمکن أن یکون لمانع من صحة نذرها لأستلزام کشفها أو تضررّها أو غیر ذلک وهذا ما ذهب إلیه الیزدی(قدس سره)(1) وذهب إلیه الفاضلان وآخرون وتوقف فیه بعض متأخری العصر، وفی الدروس أنه لا ینعقد نذر الحفاء فی المشی للصحیحة وبقصد صحیحة أبی عبیدة الحذاء قال: سألت أبا جعفر(علیه السلام) عن رجل نذر أن یمشی إلی مکة حافیاً؟ فقال إن رسول الله صلی الله علیه و آله خرج حاجاً فنظر إلی أمرأة

ص:343


1- (1) المسألة 27.

تمشی بین الإبل فقال: من هذه؟ فقالوا أخت عقبة بن عامر نذرت أن تمشی إلی مکة حافیة فقال رسول الله صلی الله علیه و آله «یا عقبة انطلق إلی اختک فمرها فلترکب فإن الله غنی عن مشیها وحفاها قال: فرکبت»(1).

ومثلها معتبرة أبی بصیر علی الأصح ویعارضها صحیحة رفاعة و حفص قال: سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن رجل نذر أن یمشی إلی بیت الله حافیاً؟ قال: فلیمش فإذا تعب فلیرکب(2) وحُملت الصحیحة الأولی علی أنها قضیة فی واقعة نظراً إلی کون فرض المسألة فی امرأة وهی تمشی بین الإبل فالفعل بلحاظها مرجوح فلا یعارض صحیحة رفاعة و حفص.

وأشکل علیه بأنّ حکایة الباقر(علیه السلام) قول رسول الله صلی الله علیه و آله فی تلک الواقعة هو بیان للحکم الکلی للنذر المزبور فکیف یکون مخصوص بتلک الواقعة لاسیّما وأن أبا بصیر قد سأل الصادق(علیه السلام) عن ذلک فأجاب بنفس البیان مضافاً إلی أن الجواب فی صحیحة رفاعة قد یفهم منه الإعراض عن انعقاد النذر بخصوصیة الحفاء وأنّ المنعقد منه هو خصوص المشی.

ولا یشکل علیه بأن لا یفکک بین المقیّد والقید فی انعقاد النذر إذ قد یفهم من قصد الناذر تعدد المطلوب فینعقد علی الطبیعة دون القید لأنه مرجوح أو أنّه إذا أنعقد فلا یلزم إتیان تلک الحصّة بنفسها بل له أن یأتی بحصة أفضل بأن یمشی منتعلاً لکن الصحیح عدم التعارض بین الروایات وذلک لأن مفاد الروایتین الاولیتین لو ابقی علی ظاهره البدوی

ص:344


1- (1) ب / 34 أبواب وجوب الحجّ ح 4.
2- (2) ب 8 کتاب النذر و العهد ، ح 2.

لکن دالاً علی مرجوحیة المشی فی نفسه، مع انه قد تقدمّ رجحانه الذاتی فذلک قرینة علی کون المرجوحیة فی المورد المحکی کونها امرأة بین الرجال واختلاطها بالإبل مما یعرّضها إلی المحاذیر فمن ثمّ أضیف فی تعبیر الروایة المشی المستغنی عنه والحفاء إلیها لا مطلق المشی والحفاء.

ندبیة الأحتفاء فی المشی:

وأما وجه بیان الصادقین(علیهماالسلام) قوله صلی الله علیه و آله فی مقام بیان الحکم الکّلی لنذر المشی حافیاً فهو إشارة إلی عدم انعقاده مطلقاً فیما إذا استلزم المرجوحیة نظیر ما ورد فی المشی نفسه من الحث علی الترک واختیار الرکوب فی قبال الروایات الآمرة به والناعتة له بأفضل العبادة ویشیر إلی فضیلة الحفاء فی المشی إلی العبادة ما ورد من الندب إلیه فی مشی إمام الجماعة إلی صلاة الجمعة کما فی فعل الإمام الرضا(علیه السلام) عندما استدعاه المأمون للصلاة بالناس صلاة الجمعة وکان فعله اقتداء بما فعله النبی صلی الله علیه و آله کما هو مورد الندب إلیه أیضا فی صلاة العیدین والاستسقاء حتی للمأمومین فی الاستسقاء، بل لایبعد فی صلاة الجمعة أیضاً، مضافاً إلی أنه زیادة فی الخضوع والخشوع والذلّ فی مقام السعی إلی مواطن العبادة والوفود إلی الله تعالی.

مضافاً إلی ما ورد فی الحجّ أیضاً من استحباب ترک الترفّه فیه وقد ذکر الماتن الیزدی(قدس سره)فی حج العروة(1) ثلاث حالات لنذر المشی العجز

ص:345


1- (1) مسألة 28.

وأخری الضرر وثالثة الحرج، وهی کما تتأی فی الحج تتأتی فی مطلق نذر المشی لزیارة الأئمة (علیهم السلام) أیضاً.

أماّ الأولی:- (العجز): مضافاً إلی أن اخذها بمقتضی نفس النذر إذ لا یتعلق الإلتزام بغیر المقدور قد دلت الروایات علیه ایضاً الواردة فی خصوص نذر المشی فی الأبواب المشار إلیها آنفاً.

وأما الثانیة:- (الضرر): فبعد تحریم الاضرار بالنفس کما علیه المشهور ولو لم یکن إهلاکاً ونحوه لها، یکون المتعلق مرجوحاً فینحلّ النذر.

وأما الثالثة:- (الحرج): فقد فصّل تارة فیها بین الحرج الابتدائی وبین الحرج الطارئ بعد ذلک وأخری بین الحرج المعلوم والمتوقع للناذر وبین الحرج المجهول فقد ذهب الیزدی قده للتفصیل بکون المجهول مسقطاً دون المعلوم معللّا بأن الحرج لا ینافی المشروعیة لکن اللازم علی ذلک عدم التفصیل والتزام المشروعیة فی کلا الشقیّن من دون عزیمة ومن ثم علّل آخرون هذا التفصیل الأول یراد به التفصیل الثانی وإلاّ لا وجه له بخصوصه وقد یقال بمنع شمول قاعدة الحرج للمقام لعدم شمولها للأحکام الإلزامیة التی ینشئها المکلف علی نفسه بالالتزام الحقیّ کما هو الحال فی العقود وکما لو انشأ المکلف العمرة أو الحج الاستحبابییّن فإنه یلزم باتمامهما ولو کانا حرجیین.

وبعبارة أخری أن فی الالتزامات العهدیة والعقدیة إنشاء حقّ للطرف الآخر ومفاد دلیل الحرج رفع التکلیف عزیمةً لا رفع المفاد الوضعی ولا

ص:346

رفع التکلیف المترتب علیه لأنّ ظاهر أدلّته هو فی التکالیف التی یجعلها الله علی المکلف ابتداءاً.

نعم، قد وردت الأدلة بترخیص ترک النذر مع الحرج الشدید البالغ جدّاً کما فی روایة الرجل الذی نذر المشی ورآه الرسول صلی الله علیه و آله یتهادی بین أبنیه(1) دون الحرج المعتاد الذی هو لازم لطبیعة المشی أو الحفاء، ففی صحیحة رفاعة بن موسی قال:- قلت لأبی عبدالله(علیه السلام) «رجل نذر أن یمشی إلی بیت الله ؟ قال: فلیمش قلت فإنه تعب قال فإذا تعب رکب» (2).

- أما بالنسبة الی مسألة المبدأ والمنتهی فمقتضی القاعدة هو بحسب قصد الناذر بحسب المبدأ والمنتهی ولکنّه لیس بحسب القصد التفصیلی فقط بل ولا بحسب القصد الإجمالی بل القصد المراد هو القصد الاستعمالی والتفهیمی علی ما هو علیه ومطوی فیه من اجزاء المعنی، ولو إجمالاً.

فمثلاً لو قصد الناذر أو العاقد فی معاوضة أو منشأ لشرط فی المعاوضة قصد عنوان بما له من المعنی والمعنون والمسمّی مع الجهل بتفصیل ماهیة ذلک المعنی وجهله بتمام آثاره تفصیلاً، فإنّ هذا لا یخلّ بحصول القصد ولا یمانع عن مؤاخذته بما للمعنی من مقتضیات.

نعم لو قصد تفصیلاً خلاف ما للمعنی من طبیعة أولیة ودلّل علی ذلک بقید أو لفظ لتعّین ما قصد تفصیلاً ومن ذلک یظهر ما فی کلمات

ص:347


1- (1) ب 34 / أبواب وجوب الحجّ ، ح 8.
2- (2) ب 34 / أبواب وجوب الحجّ ، ح1.

الأعلام فی المقام ونظائرها من الحوالة علی قصد الناذر أو المنشأ حیث إنّ هذه الحوالة تعلیق لا ینفع فی تحدید وبیان ما للمعنی من طبیعة أولیة فالحری هو بیان مقتضی المعنی الدال علیه اللفظة إذ هو محل التردید لا القصد التفصیلی للناذر فیما إذا دلّل علیه بألفاظ وقیود خاصة.فمن حیث المبدأ نُسب إلی الشیخ فی المبسوط أنه من بلد النذر ونسب الشهید الاوّل من بلد الناذر کذلک وآخرین من اقرب البلدین.

وفی کشف اللثام أنه من حیث یبدأ المسیر إلی الحج ولعّل الأخیر هو الأقرب إذ یکون کقرینة حالیة غالباً، کما أنه لا بد من الالتفات إلی حال الأعراف الخاصة التی تشکلّ قرائن حالیة مختلفة فمثلاً فی زماننا هذا الکائن فی الجزیرة العربیة یکون مسیر الحج من مدینته وهذا بخلاف القاطن خارجها من الدول الأخری بعد إقامة فواصل الحدود الجمرکیة فإنه قد ینصرف إلی المشی من المدینة المنورة.

وأمّا من حیث المنتهی:- فتارة ینذر المشی إلی بیت الله الحرام أو الی مشهد الحسین(علیه السلام) وأخری ینذر الحج أو الزیارة ماشیاً وثالثة ینذر المشی إلی مکة أو کربلاء. ویقصد من تلک الالفاظ مع التدلیل علیها بقرائن هو خصوص منتهی حد معین کمشارف مکة أو الوصول إلی بیت الله الحرام ونحو ذلک فیؤخذ بما قصد تفصیلاً، وأما إذا لم تکن هناک قرائن خاصة أو الالفاظ الخاصة بل من قبیل تلک الأمثلة التی ذکرنا ألفاظها المطلقة فهی فی نفسها تحتمل المشی إلی مجرّد الوصول إلی مکة أو کربلاء أو زیارة البیت بعد الاعمال أو زیارة المرقد الشریف أو تمام الاعمال وقد ورد فی تحدید المعنی

ص:348

صحاح متعدّدة وأنه إلی منتهی رمی الجمرة أی جمرة العقبة والمراد به أعمال یوم النحر فی منی فینقطع المشی حینئذ ویزور البیت راکباً.

ففی بعضها فی الذی علیه المشی إذا رمی الجمرة زار البیت راکباً وفی بعضها الآخر إذا حججت ماشیاً ورمیت الجمرة فقد انقطع المشی وفی بعضها زیادة وحلق رأسه وفی بعضها الآخر التقیید برمی جمرة العقبة(1) ولا تنافی بینها لأن زیارة البیت إنما تشرع بعد رمی جمرة العقبة وإتیان أعمال یوم النحر وظاهر هذه الروایات هو تحدید المنتهی بحسب مقتضی طبع المعنی لا أنها محمولة علی ما إذا کان قصد الناذر التفصیلی ذلک فإنه خلاف ظاهر الروایات فکان العمل بها متعیّن.

نعم فی موثّقة یونس بن یعقوب قال سألت أبا عبدالله(علیه السلام) متی ینقطع مشی الماشی قال: إذا أفاض من عرفات(2) وهی کما ذکر صاحب الوسائل الشرط فیها مطلق قابل للتقیید وإن أشکل علیه أنّ مدلولها فی مقام التحدید فتعارض بقیّة الروایات ولکن کفی بذلک رجحاناً لبقیة الروایات دلالةً وعدداً.

وقد تعرّض الیزدی قده فی مسألة الثلاثین من حج العروة فی نذر الماشی إلی صور ثلاث وتتأتی هذه الصو فی نذر المشی الی زیارة الحسین(علیه السلام) أو احد الأئمة (علیهم السلام) :-

ص:349


1- (1) ب 35 من أبواب وجوب الحج.
2- (2) ب 35 من أبواب الوجوب / ح 6.

الصورة الأولی:- ماذا نذر المشی وکان بإمکانه ذلک مع وجود طریق بحری فلا یجوز له حینئذ الرکوب لأنه محالفة للنذر إذ هو کما لو رکب الدابة نعم لو کان قد قیّد نذره بالمشی بالطریق المتعارف لأهل بلده ولو بانصراف الصیغة لذلک لکان متعلق نذره حینئذٍ هو المشی فی المقدار البری للطریق المتعارف کما قد یدّعی ذلک فی أهل السودان والحبشة وهذا استدراک منقطع.

الصورة الثانیة:- ما إذا اضطرّ إلی ذلک لعروض المانع فی سائر الطرق البریة فحکم بسقوط النذر واستدرک علیه بعض المحشین بسقوط خصوص المشی دون الحجّ أو الزیادة وقد یقال بسقوط المشی فی خصوص المقدار البحری دون ما تبقی من المقدار البری کالذی بین المواقیت إلی آخر الأعمال والوجه فی ذلک أنّ النذر تارةً یتعلق بالمشی فی ظرف ما إذا حجّ أو زار المکّلف فإنّه حینئذٍ الوجه ما ذکره الیزدی قده لأن المنذور هو خصوص المشی معلقاً علی حجّة أو زیارته وقد تعذّر. وأُخری ینذر المشی إلی الحجّ أو الزیارة غیر معلّق المشی المنذور علی ظرف الحجّ أو الزیارة، بل یکون مع نذر الحجّ أیضاً کما هو الغالب فی مثل هذا الاستعمال فحینئذٍ یشکل سقوط النذر حیث إنه بتعذر صورة المنذور الأولیة یعدّ هذا بدل له عرفی وشرعی نظیر ما إذا نذر الصلاة نافلة وتعذّر علیه القیام فیجلس أو الرکوع والسجود فیومی ولا ریب أن الحجّ ماشیاً طوال الطریق یکون الحجّ ماشیاً بعض الطریق بدلاً رتبیاً له.

وبعبارة أخری: البدلیة عرفاً بمعنی تعدّد المطلوب بلحاظ أصل

ص:350

الطبیعة ومارتبها کمالاً ونقصاً.

ویستدل له بمعتبرة السکونی عن جعفر(علیه السلام) عن أبیه عن أبائه (علیهم السلام) أن علیاً(علیه السلام) سُئل عن رجل نذر أن یمشی إلی البیت فعبّر (فمرّ) فی المعبر؟ قال(علیه السلام):- فلیقم فی المعبر قائماً حتی یجوزه(1) وقد أشکل علی سند الروایة بضعف السکونی والنوفلی ولکن قد أجیب فی الأعصار الأخیرة کما قاله الشیخ فی العدة أن العصابة عملت باخبار السکونی مضافاً إلی ما ذکره المیرزا النوری فی خاتمة المستدرک من القرائن علی وثاقته عند تعرضه لکتاب الأشعثیات (الجعفریات) ومنه یستفاد وثاقة النوفلی لأن أکثر روایات السکونی هی بتوسط النوفلی مضافاً إلی قرائن أخری علی توثیق حاله.

أما الدلالة: فقد یشکل علیها تارة بعدم ظهورها فی انحصار الطریق فی ذلک وتکون حینئذٍ مطروحة. وأخری بأن ما تضمّنته هو لزوم القیام حال العبور ولا یلتزم بوجوبه، لأنه علی تقدیر عدم سقوط النذر وانحلاله فإنّما هو بتقریب خروج هذا المقدار عن المتعلّق انصرافاً ونحو ذلک فلا یجب القیام مع أنه لیس میسوراً للمشی کی یلتزم ببدلیته.

ویمکن الإجابة عن ذلک بأن عموم الروایة لا یشمل مورداً یکون فیه قطع الطریق. بمقدار کبیر بالوقوف قیاماً ولذا عبّر الراوی بالمعبر والمرور وهذا تتناوله صیغة النذر لاسیما إذا کان یسیراً جداً وظاهر الروایة وجوب القیام کبدل ولیس من اللازم تخریجه کبدل علی مقتضی القاعدة أو

ص:351


1- (1) ب 37 من أبواب الوجوب ،ح 1.

من باب قاعدة المیسور.

الصورة الثالثة: وهو ما إذا کان الطریق منحصر فیه من الأول فحکم الیزدی(قدس سره) بعدم انعقاد النذر وظاهر المحکی عن العلامة أنه ینعقد فی المقدار الممکن مشبه وهو الأقوی لأن النذر ینصرف إلی ذلک المقدار.

نعم إذا فرض جهل الناذر بذلک فیکون حکمه حکم الصورة الأولی کما تقدّم.

الطائفة الثالثة: طائفة من روایات المشی إلی المساجد.

الروایة الأولی: ما رواه محمد بن الحسن باسناده عن محمد بن أحمد بن یحیی، عن یعلی بن حمزة عن الحجال، عن علی بن الحکم، عن رجل، عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: من مشی إلی مسجد لم یضع رجلاً رطبٍ ولا یابس إلاّ سبّحت له الأرض إلی الأرضین السابعة. محمد بن علی بن الحسین قال: قال الصادق(علیه السلام) وذکر الحدیث...(1).

الروایة الثانیة: وعن أبیه، عن سعد، عن أیوب بن نوح، عن الربیع بن محمد بن المسلّی عن رجل، عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: ما عبدالله بشیء مثل الصّمت والمشی إلی بیته.

الروایة الثالثة: فی (عقاب الأعمال) باسناده تقدم فی عیادة المریض عن رسول الله صلی الله علیه و آله قال: من مشی إلی مسجد من مساجد الله فله بکلّ خطوة خطاها حتی یرجع إلی منزله عشر حسنات، ومحی عنه عشر سیئات ورفع

ص:352


1- (1) تهذیب الأحکام : ج3 ص255 ح706 ، وسائل الشیعة : ب4 من أبواب أحکام المساجد ج1 ج3.

له عشر درجات(1).

الروایة الرابعة: وروی أیضاً (من مشی إلی مسجد یطلب فیه الجماعة کان له بکل خطوة سبعون ألف حسنة ویرفع له من الدرجات مثل ذلک(2).

الطائفة الرابعة: المشی فی حاجة المؤمن:

الروایة الأولی: وعن أبی عبدالله ((علیه السلام):- من مشی فی حاجة أخیه کتب الله له بها عشر حسنات وأعطاه الله عشر شفاعات(3).

الروایة الثانیة: عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: من سعی فی حاجة أخیه المسلم طلب وجه الله کتب الله عَزَّ وَجَلَّ له ألف ألف حسنة یغفر فیها لأقاربه ومعارفه وجیرانه وإخوانه، ومن صنع إلیه معروفاً فی الدنیا فإذا کان یوم القیامة قیل له ادخل النار فمن وجدته فیها صنع إلیک معروفاً فی الدنیا فأخرجه بإذن الله عَزَّ وَجَلَّ إلاّ أن یکون ناصبیاً(4).

روایة المفضل بن صالح روی عن أبی عبدالله(علیه السلام) فی غیر مورد، وهی کثیرة منها: ما رواه محمد بن یعقوب بسنده عن محمد بن علی عن أبی جمیلة: قال سمعت أبا عبدالله(علیه السلام) یقول: «من مشی فی حاجة أخیه ثم لم یناصحه فیها کان کمن خان الله ورسوله وکان الله خصمه»(5).

ص:353


1- (1) الوسائل : أبواب أحکام المساجد / الباب 4 ح3 ، ثواب الأعمال ص259.
2- (2) الوسائل : الباب 1 من أبواب صلاة الجماعة الحدیث 7 - 15.
3- (3) مستدرک الوسائل للنوری ، ج12 ، ص409.
4- (4) وسائل الشیعة ، ج16 ، ص366.
5- (5) الکافی ، ج2 ، کتاب الإیمان والکفر ، 1 ، باب من لم یناصح أخاه المؤمن ، 153.

الطائفة الخامسة روایات (من مشی لصلة رحم ولمطلق الطاعات):

أولاً: وبإسناد الصدوق عن شعیب بن واقد عن الحسین بن زید، عن الصادق(علیه السلام) عن آبائه (علیهم السلام) عن النبی صلی الله علیه و آله فی حدیث المناهی: قال:-

من مشی إلی ذی قرابة بنفسه وماله لیصل رحمه أعطاه الله اجر مائة شهید، وله بکل خطوة اربعون ألف حسنة ومحا عنه أربعین ألف سیئة، ورفع له من الدرجات مثل ذلک، وکان کأنما عبدالله مائة سنة صابراً محتسباً(1).

ثانیاً: وبإسناده عن عماد بن عمرو وأنس بن محمد، عن أبیه جمیعاً عن الصادق(علیه السلام)، عن آبائه - فی وصیة النبی صلی الله علیه و آله لعلی ((علیه السلام) قال: یا علی، لا ینبغی العاقل أن یکون ضاعناً إلاّ فی ثلاث: مرمة لمعاش، أو تزود لمعاد، أو لذة فی غیر محرم - إلی أن قال - یا علی، سر سنتین بر والدیک، سر سنة صل رحمک، سر میلاً عد مریضاً، سر میلین شیع جنازة سر ثلاثة أمیال أحب دعوة، سر أربعة أمیال ذر أخاً فی الله، سر خمسة أمیال أجب الملهوف، سر ستة أمیال انصر مظلوماً وعلیک بالاستغفار(2).

ثالثاً: ما رواه الصدوق بسنده عن سعید بن جبیر بن عباس فی حدیث سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله یقول لو علمتم ما لکم فی رمضان لزدتم الله تعالی ذکره شکراً.

- ثم ذکر أثواباً عظیماً لأول لیلة - ثم قال صلی الله علیه و آله وکتب الله عَزَّ وَجَلَّ لکم الیوم الثانی بکل خطوة تخطونها فی ذلک الیوم عبادة سنة وثواب نبی

ص:354


1- (1) الوسائل : أبواب آداب السفر إلی الحج ، الباب 2 ، ح5.
2- (2) الوسائل : أبواب آداب السفر إلی الحج ، الباب 1 ، ح3.

وکتب لکم صوم سنة(1).

الطائفة السادسة: من مشی فی نیة الخبر أو فعل طاعة:-

منها: فی (التوحید) معتبرة محمد بن أبی عمیر عن حمزة بن حمران عن أبی عبدالله(علیه السلام). قال:-

من همّ بحسنة فلم یعملها کتب له حسنة فإن عملها کتبت له عشراً ویضاعف الله من یشأ إلی سبعمائة(2).

ومنها: محمد بن الحسن فی (المجالس والأخبار) باسناده عن أبی ذر عن النبی صلی الله علیه و آله فی وصیته له قال: یا أبا ذر: همّ بالحسنة وإن لم تعملها لکی تکتب من الغافلین(3).

ومنها: وعن علی بن إبراهیم عن أبیه عن ابن أبی عمیر عن جمیل بن دراج عن بکیر عن أبی عبدالله(علیه السلام). أو عن أبی جعفر(علیه السلام): إن الله تعالی قال لآدم(علیه السلام) یا آدم جعلت لک أن من همّ من ذریتک بسیئة لم تکتب علیه. فإن عملها کتبت علیه سیئة. ومن همّ منهم بحسنة فإن لم یعملها کتبت له حسنة وإن هو عملها کتبت له عشراً(4).

الطائفة السابعة: روایات استحباب المشی إلی زیارة الحسین(علیه السلام).

الأولی: عن الحسین بن ثویر بن أبی فاختة، قال: قال أبو عبدالله(علیه السلام) یا

ص:355


1- (1) أمالی الصدوق ، ص103.
2- (2) الوسائل : أبواب مقدمات العبادات ، الباب 6 ، ح20.
3- (3) الوسائل : أبواب مقدمات العبادات ، الباب ، ح24.
4- (4) نفسه المصدر ، ح8.

حسینُ إنه من خرج من منزله یرید زیارة قبر الحسین بن علی(علیه السلام) إن کان ماشیاً کتب الله له بکل خطوةٍ حسنة ومحا عنه سیئة(1).

الثانیة: عن بشیر الدهّان، عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: إن الرجل لیخرج إلی قبر الحسین(علیه السلام) فله إذا خرج من أهله بأول خطوة مغفرةٌ ذنوبه ثم لم یزل یقدّس بکل خطوة حتی یأتیه فإذا أتاه ناجاه الله تعالی فقال: عبدی سلنی أُعطِک ادعُنی أجیبک اطلب منی أُعطیک سلنی حاجة أقضها لک، قال: وقال أبو عبدالله(علیه السلام): وحقّ علی الله أن یعطی ما بذل(2).

الثالثة: عن الحارث بن المغیرة، عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال أن لله ملائکة موکلین بقبر الحسین(علیه السلام): فإذا هَمّ الرجلُ بزیارته أعطاهم الله ذنوبه فإذا خطی محوها ثم إذا خطی ضاعفوا له حسانه، فما تزال حسناته تتضاعف حتی توجب له الجنة(3).

عن جابر المکفوف، عن أبی الصامت قال: سمعت أبا عبدالله(علیه السلام) وهو یقول: من أتی قبر الحسین(علیه السلام) ماشیاً کتب الله له بکل خطوة ألف حسنة، ومحا عنه ألف سیئة ورفع له ألف درجة، فإذا أتیت الفرات إغتسل وعلّق نعلیک وامشی حافیاً وامشی مشی العبد الذلیل، فإذا أتیت باب الحائر فکبّر أربعاً ثم إمشی قلیلاً ثم کبّر أربعاً ثم أتی رأسه فقف علیه فکبّر

ص:356


1- (1) ثواب الأعمال 116 - 117 ، کامل الزیارات 252 - 253 ، وسائل الشیعة 420/14 ، بحار الأنوار ، 27/101 - 28 و 72.
2- (2) کامل الزیارات : 253 - 254 ، ثواب الأعمال 117. بحار الأنوار : 24/101 ، وسائل الشیعة : 420/14، أبواب المزار ب 37 / ج 28.
3- (3) کامل الزیارات : باب 62 / ج3 /254 ، مستدرک الوسائل ، 246/10.

أربعاً واسأل حاجتک(1).

الرابعة: روایة رفاعة النخاس: عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال اخبرنی أبی أن من یخرج إلی قبر الحسین(علیه السلام) عارفاً غیر مستکبرٍ، وبلغ الفرات ووقع فی الماء وخرج من الماء کان مثل الذی یخرج من الذنوب وإذا مشی إلی الحسین(علیه السلام) فرفع قدماً ووضع أخری، کتب الله له عشر حسنات ومحی عنه عشر سیئات(2).

الخامسة: روایة علی بن میمون الصائغ عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال یا علی زر الحسین(علیه السلام) ولا تدعه قال: قلت ما لمن أتاه من الثواب قال من أتاه ماشیاً کتب الله له بکل خطوة حسنة ومحی عنه سیئة ورفع له درجة الحدیث...(3).

ومثلها روایة سدیر الصیرفی(4).

وفی روایة عبدالله بن مسکان أن لکل خطوة ألف حسنة ویمحی عنه ألف سیئة وترفع له ألف درجة(5).

السادسة: وفی روایة أبی سعید القاضی عند أبی عبدالله(علیه السلام) من أتی قبر الحسین(علیه السلام) ماشیاً کتب الله له بکل قدم یرفعها ویضعها عتق رقبة من

ص:357


1- (1) کامل الزیارات : 254 - 255 ، جامع أحادیث الشیعة ، 432/12.
2- (2) الوسائل ، أبواب المزار ، الباب 59 ، ح4.
3- (3) کامل الزیارات ، باب 49 ، ح6.
4- (4) نفس المصدر ، ح7 - 8.
5- (5) نفس المصدر ، ح7 - 8.

ولد إسماعیل(1).

السابعة: معتبرة بشیر الدهان قال قلت لأبی عبدالله(علیه السلام) ربما فاتنی الحج فاعرف عند قبر الحسین(علیه السلام) فقال احسنت یا بشیر إیّما مؤمن اتی قبر الحسین(علیه السلام) عارفاً بحقه فی غیر یوم عید کتب الله له عشرین حجة وعشرین عمرة مبرورات مقبولات وعشرین حجة وعمرة مع نبی مرسل أو امام عدل قال قلت کیف لی بمثل الموقف قال فنظر الی مثل المغضب ثم قال لی یا بشیر أن المؤمن إذا اتی قبر الحسین(علیه السلام) یوم عرفة واغتسل من الفرات ثم توجه إلیه کتب الله له بکل خطوة حجة بمناسکها ولا أعلمه إلاّ قال وغزوة(2).

الثامنة: روی ابن قولویه بسند متصل عن قدامة بن مالک عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: من زار الحسین(علیه السلام) محتسباً لا أشرٍ ولا بطراً ولا ریاءً ولا سمعة محصت عنه ذنوبه کما یمحص الثوب فی الماء فلا یبقی علیه دنس ویکتب له بکل خطوة حجة وکل ما رفع قدماً عمرة(3) ورواه الشیخ فی التهذیب(4).

التاسعة: وفی معتبرة أخری لبشیر الدهان سمعت أبا عبدالله(علیه السلام) وهو نازل بالحیرة وعنده جماعة من الشیعة فأقبل التی بوجهه فقال یا بشیر حجة

ص:358


1- (1) نفس المصدر ، ح9.
2- (2) الکافی ، مجلد 4 ، ص580 ، کامل الزیارات ، الباب 70 ، ح1.
3- (3) کامل الزیارات ، الباب 57 ، ح1.
4- (4) التهذیب ، مجلد 6 ، ص44.

العام قلنا جعلت فداک ولکن عرّفت بالقبر قبر الحسین(علیه السلام) فقال یا بشیر والله ما فاتک شئ من أصحاب مکة بمکة قلت جعلت فداک فیه عرفات فسر لی فقال یا بشیر أن الرجل منکم یغتسل علی شاطئ الفرات ثم یأتی قبر الحسین(علیه السلام) عارفاً بحقه فیعطیه الله بکل قدم یرفعها أو یضعها مائة حجة مقبولة ومعها مائة عمرة مبرورة ومائة غزوة مع نبی مرسل إلی اعداء الله وأعداء الرسول صلی الله علیه و آله (1).

بالطائفة الثامنة: ستحباب زیارة أمیر المؤمنین(علیه السلام) ماشیاً ذهاباً وعوداً:

الروایة الأولی:- محمد بن الحسن باسناده عن محمد بن أحمد بن داود عن محمد بن همام قال: وجدتُ فی کتاب کتبه ببغداد جعفر بن محمد قال: حدثنا عن محمد بن الحسن الرازی عن الحسین بن إسماعیل الصمیری، عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: من زار أمیر المؤمنین(علیه السلام) ماشیاً کتب الله له بکل خطوة حجة وعمرة، فإن رجع ماشیاً کتب الله له بکل خطوة حجتین وعمرتین(2).

الروایة الثانیة: وبإسناده عن محمد بن أحمد بن داود، عن أحمد بن محمد المجاور، عن أبی محمد ابن المغیرة عن الحسین بن محمد بن مالک عن أخیه جعفر عن رجاله یرفعه قال: کنت عند جعفر بن محمد الصادق علیهما السلام وقد ذکر أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب(علیه السلام)؟ فقال: یا ابن مارد من زار جدی عارفاً بحقه کتب الله له بکل خطوة حجة مقبولة وعمرة مبرورة، والله یا ابن مارد ما تطعم النار قدماً تغیرت فی زیارة أمیر

ص:359


1- (1) کامل الزیارات ، الباب 75 ، ح3.
2- (2) الوسائل : الباب 24 / ح1 أبواب المزاد.

المؤمنین(علیه السلام) ماشیاً کان أو راکباً یا ابن مارد اکتب هذا بماء الذهب(1).

الروایة الثالثة: وروی ابن المشهدی عن الحسن بن محمد، عن بعضهم، عن سعد بن عبدالله، عن أحمد بن محمد عن الحسن بن عیسی، عن هشام بن سالم، عن صفوان الجمال قال: لما وافیت مع جعفر بن محمد الصادق(علیه السلام) الکوفة نرید أبا جعفر المنصور قال لی: یا صفوان أنخ الراحلة فهذا قبر جدی أمیر المؤمنین(علیه السلام) فانختها ثم نزل فاغتسل وغیر ثوبه وتخفی، وقال لی: افعل کما افعل، ثم أخذ نحو الذکوات ثم قال لی: قصر خطاک وألق ذقنک إلی الأرض یکتب لک بکل خطوة مائة ألف حسنة، وتمحی عنک مائة ألف سیئة، وترفع لک مائة درجة، وتفضی لک مائة ألف حاجة، ویکتب لک ثواب کل صدیق وشهید مات أو قتل، ثم مشی ومشیت معه وعلینا السکینة والوقار نسبح ونقدس ونهلل إلی أن بلغنا الذکوات وذکر الزیارة إلی أن قال: وأعطانی دراهم وأصلحت القبر(2).

ویُستخلص مما تقدم جملة من آداب المشی والسنن الراجحة المرعیة فیه ولا یخفی أن هذه الآداب لها مسیس بحقیقة وجوهر عبادیة المشی والإخلال بماهیّة عبادیة المشی بحقیقة وجوهر عبادیة المشی والاخلال بها یوجب الاخلال بماهیة عبادیة المشی.

1- الاحتفاء أی المشی حافیاً فقد مرّ فی روایات مستفیضة أن مشی العبادة یزداد ثواباً مع الاحتفاء.

ص:360


1- (1) الوسائل : أبواب المزار ، الباب 23 ، ح3.
2- (2) الوسائل : أبواب المزار ، باب 29 الحدیث 7.

2- دوام ذکر الله علی لسان الماشی.

3- غضّ البصر.

4- عدم الایذاء أو المدافعة لأحد أثناء مشیه فی ما أداء ازدحم المشاة.

5- حسر الرأس لما فیه من حالة التذلل.

6- أن یکون مشیه لا أشراً ولا بطراً، والاشر فی اللغة المرح وفسر الأشر بالبطر أیضاً وهو المتسرع ذو حدة وقیل الأشر أشد البطر ومن معانی البطر التبختر والتجبر وشدة الفرح وکذلک شدة المرح، وقیل الأشر والبطر النشاط للنعمة والفرح بها ومقابلة النعمة بالتکبر والخیلاء والفخر بها وکفرانها بعدم شکرها، وکذلک من معانی البطر: الطغیان عند النعمة وطول الغنی.

7- أن یخلص فی مشیه بنیة الطاعة من الریاء والسمعة.

8- أن یسوق معه محمله مما فیه مؤونته.

9- أن لا یکون مشیه بداعی تقلیل النفقة.

والحمد لله اولا واخرا

ص:361

ص:362

قاعدة :رجحان الشعائر ولو مع الخوف

اشارة

ص:363

ص:364

رجحان الشعائر ولو مع الخوف(1)

رجحان الشعائر الحسینیة ولو مع الخوف علی النفس

الحث علی زیارة الحسین علیه السلام مع الخوف:

وردت روایات مستفیضة فی الحث علی زیارة الحسین(علیه السلام) ولو مع الخوف علی النفس, وقد أشار الشیخ المجلسی فی البحار إلی أن الأسانید الواردة فی ذلک جمة, بل فیها التحذیر من ترک زیارة الحسین من أجل الخوف(2).

وقد استفاد منها جماعة من الفقهاء رجحان عموم الشعائر الحسینیة ولو مع الخوف علی النفس فضلاً عمّا دونه من الأضرار.

وقد ذهب إلی ذلک کل من الشیخ خضر بن شلالّ فی أبواب الجنان(3), والشیخ محمد حسین کاشف الغطاء.

والروایات الآتیة لا تقتصر علی الحث علی زیارة الإمام الحسین(علیه السلام) عند الخوف, بل تشدد ذلک وتوجب الزیارة إجمالاً کما سیظهر, بل ولا

ص:365


1- (1) تقریراً لأبحاث شیخنا الأستاذ السند (دام ظله)، بقلم جناب الأخ السید ریاض الموسوی دام توفیقه.
2- (2) بحار الأنوار: ج10 :98.
3- (3) وسیأتی نقل کلامه والمصدر.

تکتفی بذلک, وإنما ترتقی إلی درجة رابعة وهی التحذیر من ترک الزیارة بسبب الخوف.

ولا یخفی مدی قوة هذه الدلالة علی تأکید رجحان الزیارة کأبرز مصداق فی طبیعة الشعائر الحسینیة ولو مع الخوف علی النفس من الهلاک؛ وأن ملاک الرجحان فی الزیارة والشعائر الحسینیة تُسترخص فیه بذل النفس لإقامة وتشیید تلک الأغراض الشرعیة فی الشعائر.

وکیف لا تُسترخص النفس فی زیارة الحسین(علیه السلام) وإقامة شعائره, وقد استُرخص بذل النفس فی فضیلة دون ذلک بکثیر. کالذی ورد فی النص والفتوی المتفق علیهما عند المشهور أن من قُتل دون ماله فهو شهید کما قال رسول الله صلی الله علیه و آله : (من قتل دون ماله فهو بمنزلة الشهید)(1), مع أن خطب الدفاع عن حرمة الأموال وردع الغیر والعدوان عن الأموال لا یضاهی ولا یقایس بحرمة الولایة لأهل البیت (علیهم السلام) .

- ومن الروایات الواردة:

1- صحیحة معاویة بن وهب, بل هی قطعیة الصدور عنه لکثرة الطرق إلی معاویة بن وهب لکل من الکلینی والصدوق وابن قولویه، بل الأخیر بإنفراده له عدة طرق عن معاویة بن وهب. ومن الطرق ما اشتمل جمیع سلسلته علی رؤساء المذهب؛ کطریق الصدوق عن أبیه عن سعد بن عبد الله عن یعقوب بن یزید عن ابن أبی عمیر عن معاویة بن وهب قال

ص:366


1- (1) الکافی ج52 :5.

عن أبی عبدالله(علیه السلام): قال لی: (یا معاویة, لا تدع زیارة قبر الحسین(علیه السلام) لخوف, فإن من ترک زیارته رأی من الحسرة ما یتمنّی أنّ قبره کان عنده, أما تُحب أن یری الله شخصَک وسوادک فیمن یدعو له رسول الله صلی الله علیه و آله وعلی وفاطمة والأئمة (علیهم السلام) (1).

وقال الشیخ خضر بن شلال: بعد ما ذکر أن الأخبار الواردة فی فضیلة زیارة الحسین(علیه السلام), فائقة حدّ الإحصاء مذکورة فی مطولات الأصحاب وأنه لکثرتها ذکر والد الشیخ المجلسی(2) أن الاحتیاط لکل من زار الحسین أو جدّه أو أباه أو أحد الأئمة (علیهم السلام) فی أول مرة أن لا یقصد الاستحباب بل ینوی القربة المطلقة, أی حیطة للوجوب.

واستحسنه, ثم نقل عنه أنه حمل الأخبار الواردة فی زیارة الحسین مع الخوف والتقیة علی خصوص ما لم یبلغ من الخوف والتقیة إلی مظنّة الضرر وعدم السلامة, أو خصوص ما یُخشی منه فوات العزة والجاه وفوات المال, لا تلف النفس والعِرض الذی قد یکون أعظم من النفوس, وإن احتمل الجواز أیضاً, وخصوصاً فی ابتداء الأمر الذی قد نقول بوجوب زیارة الحسین(علیه السلام) فیه, ولو مع العلم بتلف النفس؛ نظراً إلی أنه من باب حفظ بیضة الإسلام الذی قد کان السرّ فی قدوم الحسین(علیه السلام) وأصحابه علی

ص:367


1- (1) الکافی ج582 :4/ 11ثواب الأعمال: 120/ 44کامل الزیارات/ ابن قولویه/ باب 40/ ح7 ,6 ,5 ,4 ,3 ,2 ,1.باب 45/ ح3.
2- (2) الشیخ خضر شلال فی کتاب أبواب الجنان: 259 - 261.

القتال، مع العلم بما یؤول إلیه الأمر الفظیع حفظ بیضته, وبیان ما قد یخفی علی بعض طغام المسلمین من فسادها)(1).

- وقال المجلسی بعد نقل الروایات الدالة علی أفضیلة زیارة الحسین(علیه السلام), والتی تحث علی زیارته فی الخوف, قال: (لعلّ هذا الخبر (یشیر إلی خبر معاویة بن وهب) بتلک الأسانید الجمّة محمول علی خوف ضعیف یکون مع ظن السلامة, أو علی خوف فوات العزّة والجاه وذهاب المال, لا تلف النفس والعرض, لعمومات التقیة والنهی عن إلقاء النفس إلی التهلکة والله یعلم.

ثم اعلم أن ظاهر أکثر أخبار هذا الباب وکثیر من أخبار الأبواب الآتیة وجوب زیارته(علیه السلام), بل کونها من أعظم الفرائض وآکدها, ولا یبعد القول بوجوبها فی العمر مرّة مع القدرة إلیه کما کان یمیل الوالد العلامة (نوّر الله ضریحه), وسیأتی التفصیل فی حدّها القریب والبعید ولا یبعد القول به أیضاً. والله یعلم)(2).

- وقد شرح هذه العبارة, الشیخ خضر بن شلال فی عبارته قائلاً:

وما قد صَدَر فی السقیفة التی قد أولدت فتنتها ما أولدته من عزل الوصی, المنصوص علیه من الله ورسوله, وغصب الزهراء البتول(علیهاالسلام), وحرب الجمل, وصفین والنهروان, ووقفة الطف التی یهون من أجلها

ص:368


1- (1) أبواب الجنان ص259 - 261.
2- (2) (بحار 10 :98)/ باب: زیارته(علیه السلام) واجبة مفترضة مأمور بها وما ورد من الذنب والتأنیب والتوّعد علی ترکها, وأنها لا تترک من الخوف).

انطباق السماء علی الأرض, وسائر المفاسد التی من أقلّها تقدیم معادن الأُبَن واللؤم, علی معادن العلم والکرم, فتدبّر فی ما قد یستفاد منه حُسن ما ذکره المجلسی من الاحتیاط....

ثم ذکر جملة أخری من الروایات إلی غیر ذلک مما قد یستفاد منه وجوب الإستنابة علی من لم یتمکن من زیارته فی العمر مرة، کما یُندب إلیها فی سائر الأوقات حتی لمن قد کان مصاحباً لنائبه الذی لو کان متعدداً لکان أفضل, وخصوصاً إذا کان من العلماء الذین قد لا یرتاب ذو مسکة فی أن زیارة واحد من أتقیائهم خیر من زیارة عالم من غیرهم(1).

وفی الصحیحة المتقدمة هذا الموضع أیضاً من قول الصادق(علیه السلام) فی دعائه لزوار الحسین: «وأصحبهم, وأکفِهم شرّ کل جبار عنید, وکل ضعیف من خلقِک أو شدید, ومن شر شیاطین الجن والإنس» مما یشیر إلی احتفاف زیارته(علیه السلام) آنذاک بل غالباً وفی معظم الأزمان بمخاطر ومخاوف تهدد الزوّار.

2 - ما ورد من روایات مستفیضة بل متواترة عن الصادق(علیه السلام), بل عن سائر أئمة أهل البیت (علیهم السلام) فی الحث علی زیارة الحسین(علیه السلام) فی عصورهم بالإضافة إلی الحث المطلق علی ذلک؛ حثاً أکیداً, بل والتوبیخ الشدید علی ترکها, مع أن الزیارة فی عصورهم (علیهم السلام) کانت محفوفة بالخوف علی النفس, والمخاطر والملاحقة من بنی أمیة وبنی العباس, بل إن الطریق إلی

ص:369


1- (1) أبواب الجنان/ الباب الرابع/ الفصل الثانی/ بیان فضل زیارة الحسین(علیه السلام): (260).

الحسین(علیه السلام) کان خلال بعض المناطق التی یسکنها النواصب.

بل إن فی هذه الروایات الحثّ الشدید لرؤساء الشیعة, أمثال زرارة, والفضیل بن یسار, وأبان بن تغلب, وأبی الجارود، ومعاویة بن وهب، ومحمد بن مسلم، ویونس بن ظبیان, وعبد الله بن بکیر, وعبد الملک بن حکیم الخثعمی، وهؤلاء رؤساء المذهب والشیعة وممن یظنّ بهم ولا یُفرطّ بهم, ومع ذلک یزجّهم الإمام(علیه السلام) لزیارة الحسین(علیه السلام) مع المخاوف ویعاتبهم عتاباً شدیداً:

3 - ما رواه ابن قولویه بسنده المتصل المُعتبر عن زرارة قال, قلت لأبی جعفر(علیه السلام): ما تقول فی من زار أباک علی خوف. قال(علیه السلام): یؤمنه الله یوم الفزع الأکبر, وتلّقاه الملائکة بالبشارة, ویقال له: لا تَخف ولا تحزن هذا یومک الذی فیه فوزُک»(1).

ولا یخفی دلالة هذه الروایة علی جهات عدیدة,

الأولی: أن زیارة الحسین(علیه السلام) فی زمن الإمام الصادق(علیه السلام) کانت محفوفة بالخوف والمخاطر, وسیأتی الدلالة علی ذلک فی روایات عدیدة, فقد کان الحال کذلک منذ شهادته(علیه السلام) إلی عصر المتوکل العباسی, وإلی زماننا هذا. وسنذکر الأدلة علی هذه الحقیقة التاریخیة بجملة من الروایات الآتیة.

الثانیة: حث الإمام الباقر(علیه السلام) لشخص زرارة علی ذلک, مع أنه من

ص:370


1- (1) ) کامل الزیارات 1 باب 41/ ح1.

رؤوساء المذهب.

4- وفی صحیح آخر لزرارة ومحمد بن مسلم (بل مقطوع الصدور) عن أبی جعفر قال: کم بینکم وبین قبر الحسین(علیه السلام). قال قُلت ستة عشر فرسخاً, أو سبعة عشر فرسخاً, قال: ما تأتونه؟ قلت: لا, قال: ما أجفاکم»(1).

5 - وکذلک فی صحیح الفضیل بن یسار (بل هو مقطوع الصدور): قال: قال أبو عبد الله(علیه السلام): «ما أجفاکم.... یا فضیل, لا تزورون الحسین, أما علمتم أن أربعة آلاف ملک شعثاً غبراً یبکونه إلی یوم القیامة»(2).

6 - ومعتبرة سلیمان بن خالد, قال سمعتُ أبا عبد الله(علیه السلام) یقول: عجباً لأقوامٍ یزعمون أنهم شیعة لنا ویقال (یقولون): إن أحدهم یمرّ به دهراً لا یأتی قبر الحسین(علیه السلام) جفاءً منهم, وتهاوناً وعجزاً وکسلاً, أما والله لو یُعلم ما فیه من الفضل, ما تهاون وما کسل.

قلت: جُعلت فداک وما فیه من الفضل, قال(علیه السلام): فضلٌ وخیر کثیر, أما أوّل ما یصیبه أن یُغفر ما مضی من ذنوبه, ویُقال له: استأنف العَمل»(3).

ص:371


1- (1) الوسائل/ أبواب المزار ب 38/ ح/ 20.کامل الزیارات: باب 97/ ح7.
2- (2) کامل الزیارات/ باب 97/ ح8).الوسائل/ أبواب المزار/ باب38/ ح1).
3- (3) کامل الزیارات/ باب 97/ ح8).(الوسائل/ أبواب المزار/ باب 38/ ح1:).

7 - أیضاً: ما رواه, فی کامل الزیارات بعدة أسانید عن حنّان بن سدیر, وفیها الصحیح, عن أبیه, عن أبی عبد الله(علیه السلام): «یا سدیر, تزور قبر الحسین(علیه السلام) فی کل یوم, قلت: جعلت فداک: لا. قال: ما أجفاکم, فتزوره فی کل جمعة, قلت: لا. قال: فتزوره فی کل شهر, قلت: لا. قال: فتزوره فی کل سنة, قلت: قد یکون ذلک. قال: یا سدیر, ما أجفاکم بالحسین(علیه السلام), أما علمت أن لله ألف ملک شعثاًغبراً, یبکونه, ویرثونه لا یفترون، زواراً لقبر الحسین(علیه السلام), وثوابهم لمن زاره». مع أنه(علیه السلام) یعلم أن سدیراً قاطن فی الکوفة، والطریق مرحلتان من الکوفة إلی کربلاء ویستغرق آنذاک علی الدواب یوماً ومع ذلک فإنه یحثُّه علی الزیارة کل یوم من موضعه.

8 - وفی طریق آخر: «... زره ولا تجفه فإنه سید الشهداء, وسید شباب أهل الجنة»(1).

9 - وفی طریق ثالث: «... إنک لمحروم من الخیر».

وفی متن لطریق رابع, قال: قال لی أبو عبد الله. یا سدیر, تُکثر من زیارة قبر أبی عبد الله. قلت: أنه من الشغل. الحدیث.

- وفی متن لطریق خامس, قال: قال أبو عبد الله: یا سُدیر, وما علیک أن تزور قبر الحسین فی کل یوم جمعة خمس مرات, وفی کل یوم مرة. قلت:

ص:372


1- (1) کامل الزیارات/ باب 97/ 2 ,4 ,9).الوسائل/ أبواب المزار/ باب 38/ ح17 ,18).

جُعلت فداک, إن بیننا وبینه فراسخ کثیرة. الحدیث(1).

وفی متن لطریق سادس قال قال لی أبو عبدالله یا سدیر تکثر من زیارة قبر أبی عبدالله قلت انه من الشغل الحدیث.

وفی متن لطریق سابع قال، قال أبو عبد الله: یا سدیر وما علیک أن تزور قبر الحسین فی کل جمعه خمس مرات، وفی کل یوم مرة، قلت: جُعلت فداک، إن بیننا وبینه فراسخ کثیرة(2).

10- ما رواه فی کامل الزیارات بسنده عن أبی الجارود قال: کم بینک وبین قبر الحسین(علیه السلام), قلت: یوم للراکب, ویوم وبعض یوم للماشی. قال: أفتأتیه کل جمعة, قلت: لا, ما آتیه إلّا فی حین, قال: ما أجفاکم. أما لو کان قریباً منا لاتخذناه هجرة, أی نهاجر إلیه(3).

11 - وفی صحیح محمد بن مسلم, عن أبی جعفر(علیه السلام) قال: من لم یأت قبر الحسین(علیه السلام) من شیعتنا کان منتَقص الإیمان, منتقص الدین(4). (وإن دخل الجنة کان من دون المؤمنین فی الجنة).

12- فی مصحح هشام بن سالمٌ عن أبی عبدالله(علیه السلام), فی حدیث طویل, قال: أتاه رجل فقال: یا ابن رسول الله, هل یُزار والدک, قال: فقال: نعم, ویصلّی عنده, ویُصلّی خلفه, ولا یُتقدم علیه... قال: فما لمن أتاه؟ قال:

ص:373


1- (1) کامل الزیارات/ باب 97/ 2.
2- (2) کامل الزیارات/ باب 78/ ح
3- (3) کامل الزیارات/ باب 97/ ح11 ,10.
4- (4) کامل الزیارات/ باب 96/ ح5.

الجنة إن کان یأتمّ به.. قال: قلت: فما لمن قُتل عنده, جار علیه سلطان فقتله. قال أول قطرة من دمه یُغفر له بها کل خطیئة, وتُغسل طینته التی خلق منها الملائکة, حتی تخلص کما خلصت الأنبیاء المخلصین. ویذهب عنها ما کان خالطها من أجناس أهل الکفر, ویُغسل قلبه, ویُشرح صدره ویُملأ إیماناً, فیلقی الله وهو مُخلص من کل ما تخالطه الأبدان والقلوب, ویکتب له شفاعة فی أهل بیته وألف من إخوانه, وتولّی الصلاة علیه الملائکة مع جبرئیل وملک الموت. ویؤتی بکفنه وحنوطه من الجنة. ویوسّع قبره علیه, ویوضع له مصابیح فی قبره, ویُفتح له باب من الجنة, وتأتیه الملائکة بالطُرَف من الجنة. ویُرفع بعد ثمانیة عشر یوماً إلی حظیرة القُدس, فلا یزال فیها مع أولیاء الله, حتی تصیبه النفخة التی لا تُبقی شیئاً.. فإذا کانت النفخة الثانیة, وخرج من قبره کان أول من یصافحه رسول الله صلی الله علیه و آله وأمیر المؤمنین(علیه السلام) والأوصیاء, ویبشرونه, ویقولون له إلزَمنا, ویقیمونه علی الحوض, فیشرب منه؛ ویسقی من أحب. قال: قلت: فما لمن حُبس فی إتیانه. قال: له بکل یوم یُحبس ویُغتم فرحة إلی یوم القیامة. فإن ضُرب بعد الحبس فی إتیانه, کان له بکلّ ضربة حوراء؛ وبکل وجع یدخل علی بدنه, ألف ألف حسنة, ویُمحی عنه بها ألف ألف سیئة, ویُرفع له بها ألف ألف درجة, ویکون من محدّثی رسول الله صلی الله علیه و آله , حتی یفرغ من الحساب, فیصافحه حملة العرش. ویُقال له سل ما أحببت, ویؤتی بضاربه للحساب, فلا یُسأل عن شیء, ولا یُحتسب بشیء؛ ویؤخذ بضبعیه حتی یُنتهی به إلی مَلَک یحبوه ویُتحفه بشربة من الحمیم.. وشربة من غسلین,

ص:374

ویوضع علی مقال(1) من نار, فیُقال له ذُق بما قدمت یداک, فیما أتیت إلی هذا الذی ضربته, وهو وفد الله, ووفد رسوله, ویؤتی بالمضروب إلی باب جهنّم, ویُقال له أنظر إلی ضاربک, وإلی ما قد لقی, فهل شفیت صدرک, وقد اقتص لک منه؛ فیقول: الحمد لله الذی انتصر لی ولولد رسوله منه(2).

ویظهر من سؤال هشام بن سالم, وهو من فقهاء أصحاب الصادق والکاظم(علیه السلام), أن زیارة الحسین(علیه السلام) آنذاک بحیث یتعرض الزائر إلی القتل أو السجن أو التعذیب, وأن ذلک کان متعارفاً معهوداً لدی الشیعة, وأن سیرتهم بالزیارة للحسین(علیه السلام) رغم هذه المخاطر هی بدفع وتحریک من الأئمة (علیهم السلام) , لاسیما الباقر والصادق, ومع کونها فی معرض القتل أو الحبس, أو التعذیب والتنکیل, وسیأتی مصححّ الحسین بن بنت أبی حمزة الثمالی, الدالّ علی ذلک.

13 - وروی مثلها بنفس المضمون بطریق مصحح, صفوان الجمّال عن أبی عبد الله(3).

14 - وفی معتبرة زرارة, قال: قلت لأبی جعفر(علیه السلام): ما تقول فیمن زار أباک علی خوف؛ قال: یؤمنه الله یوم الفزع الأکبر, وتلقاه الملائکة بالبشارة, ویقال له: لا تخف ولا تحزن هذا یومک الذی فیه فوزک(4).

ص:375


1- (1) قلی الشیء: أنضجه وشواه حتی ینضج، والمقلی والمقلاة الآلة، جمعها مقالی.
2- (2) کامل الزیارات: باب 44/ ح2.
3- (3) کامل الزیارات: باب 68/ ح3.
4- (4) کامل الزیارات: باب 45/ ح1).

14 - معتبرة یونس بن ظبیان عن أبی عبد الله, قال: قلت له, جُعلت فداک, زیارة قبر الحسین(علیه السلام) فی حال التقیة. قال: إذا أتیت الفرات فاغتسل, ثم ألبس أثوابک الطاهرة, ثم تمر بأزاء القبر وقل: «صلّی الله علیک یا أبا عبد الله, صلّی الله علیک یا أبا عبد الله, صلی الله علیک یا أبا عبد الله, ثلاث مرات, فقد تمت زیارتک»(1).

- وظاهر هذه الروایة بوضوح الحث علی زیارة الحسین(علیه السلام) ولو فی حالة التقیة کما تدل علی ابتلاء الزوار بالخوف الشدید فی ذلک الزمان, ومن ثمّ علّمه(علیه السلام) طریقة للزیارة, یواری فیها توجّهه للقبر الشریف, بأن یمرّ بحذائه من دون أن یتجه إلیه مباشرة.

مع أن یونس بن ظبیان ممّن یحافَظ ویُهتم بسلامته من أصحاب الإمام(علیه السلام).

16 - روی محمد بن مسلم فی حدیث طویل, قال: قال لی أبو جعفر محمد بن علی(علیه السلام):

هل تأتی قبر الحسین(علیه السلام) قلت: نعم, علی خوف ووجل؛ فقال: ما کان من هذا أشدّ فالثواب فیه علی قدر الخوف, ومن خاف فی إتیانه, آمن الله روعته یوم القیامة. یوم یقوم الناس لربّ العالمین, وانصرف بالمغفرة, وسلّمت علیه الملائکة؛ وزاره النبی صلی الله علیه و آله , ودعا له, وانقلب بنعمة من الله

ص:376


1- (1) کامل الزیارات: باب 45/ ح4.- الفقیه ج361 :2/ 1616.- التهذیب ج115 :6/ ح 204.

وفضل لم یمسسه سوء واتبع رضوان الله, ثم ذکر تتمة الحدیث(1).

ومفاد هذه الروایة إطلاق رجحان الزیارة مع مطلق درجات الخوف, وإن بلغ ما بَلَغ, لاسیما مع ما تقدّم من الروایات المستفیضة أن الخوف کان علی النفس, وأهونه السجن والضرب والأذی, فمعرضیة الخوف علی النفس معتادة فی الزیارة آنذاک بکثرة, حتی أن أکثر رؤساء الشیعة من أصحاب الإمام الباقر والصادق(علیه السلام) کانوا ینقطعون عن الزیارة بسبب الخوف عن النفس أو السجن والملاحقة والإیذاء والاستهداف لأشخاصهم, وکذلک سائر الرواة ذوی الفضیلة وکذلک عموم الشیعة؛ ومع ذلک ورد التأکید الشدید علی خصوص رؤسائهم کزرارة ومحمد بن مسلم وأبان بن تغلب, وهشام بن سالم, وعبد الله بن بکیر ومعاویة بن وهب, ویونس بن ظبیان, والحلبی, وعبد الله بن سنان, والمفضل بن عمر وعبد الملک بن حکیم الخثعمی, وغیرهم من أکابر فقهاء الشیعة , ورد التأکید بالالتزام بالزیارة رغم الظروف الصعبة, فضلاً عن عموم الفضلاء وعموم الشیعة.

17 - معتبرة عبد الملک الخثعمی, عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال: قال لی: یا عبد الملک, لا تدع زیارة الحسین بن علی(علیه السلام), ومُر أصحابک بذلک».

- ورواها کل من: ابن قولویه فی کامل الزیارات(2). والصدوق فی

ص:377


1- (1) کامل الزیارات: باب 45/ ح5.
2- (2) باب 61/ 6.

ثواب الأعمال والفقیه(1).

18 - وروی ابن قولویه, والکلینی فی الکافی بسند صحیح أعلائی عن محمد بن مسلم عن أبی جعفر الباقر(علیه السلام), قال: مُروا شیعتنا بزیارة قبر الحسین» ثم علّل(علیه السلام) ذلک بأن إتیانه مفترض علی کل مؤمن یقرّ للحسین(علیه السلام) بالإمامة من الله(2).

وظاهر مفاد هذه الصحیحة القطعیة الصدور, حیث أن رواتها کلّهم من زعماء الشیعة. أن توصیة الإمام الباقر(علیه السلام) لمحمد بن مسلم الذی هو من فقهاء الشیعة ومراجعهم فی الکوفة, أن یتصدی لحث عموم الشیعة بإقامة شعیرة زیارة الحسین(علیه السلام) رغم الظروف الصعبة التی فیها المخاطرة فی الأنفس والتعرّض للمصاعب والملاحقة من المسالح (نقاط عسکریة وأمنیة للتفتیش) من الدولة الظالمة الأمویة والعباسیة, والتضییق فی المعیشة علی من یعرف ویشتهر بذلک, کما تقدمت روایات بذلک.. فإن الإمام الباقر(علیه السلام) یعلّل هذا الأمر بأن الزیارة فریضة. وهذا ممّا یشیر بوضوح أن الشعائر المرتبطة بالحسین(علیه السلام), درجة الوجوب فیها - ولو کان کفائیاً, فضلاً عن الوجوب العینی, والتخییری فضلاً عن التعیینی - یفوق ملاک حکم حفظ النفس.

نظیر باب الجهاد بل هو من أعظم أبوابه, لأنه جهاد لإقامة صرح

ص:378


1- (1) 116 - ج347 :2.
2- (2) کامل الزیارات : باب 61/ ح1. الکافی: ج4/ 551.

الإیمان.

ولا یخفی أنه لم یختص هذه التوصیة من الإمام الباقر(علیه السلام) لمحمد بن مسلم الفقیه, بل قد مرّ توصیته(علیه السلام) لعبد الملک بن حکیم الخثعمی, وقد کان عیناً وجیهاً. ذا موقعیة فی الشیعة..

زیارة الحسین(علیه السلام) فی حالة الخوف:

ویدل علی رجحان الزیارة زیارته(علیه السلام) ولو کان هناک خوف علی النفس فضلاً عمّا دونها, جملة من الروایات.

ولا یخفی أن مقتضی مفادها, لیس رجحان الزیارة ومشروعیتها فی هذه الحالة فحسب, بل یستفاد من هذه المادة التشریعیة جملة من التشریعات الهامة فی باب الشعائر الحسینیة, من قبیل درجة الضرر والإضرار المشروع تحمله فی باب الشعائر الحسینیة, کما یستفاد من دلالتها درجة أهمیة الشعائر الحسینیة فی معالم الدین وأرکانه وجملة أخری من الفوائد الصناعیة والفقهیة والمعرفیة التی سنشیر إلیها فی جملة من الأبحاث.

19 - ما رواه ابن قولویه بسند محسّن, عن مسمع بن عبد الملک کردین البصری قال: قال لی أبو عبد الله(علیه السلام): یا مسمع أنت من أهل العراق؟ أما تأتی قبر الحسین(علیه السلام), قلت: لا, أنا رجل مشهور عند أهل البصرة, وعندنا من یتبع هوی هذا الخلیفة, وعدونا کثیر من أهل القبائل من النصّاب وغیرهم, ولست آمنهم أن یرفعوا حالی عند وِلد سلیمان فیمثلون بی، قال لی: أفما تذکر ما صُنع به؟ قلت: نعم. قال: فتجزع. قلت:

ص:379

إی والله واستعبر لذلک. الحدیث(1).

- ولا یخفی أن مبادرته(علیه السلام) لمسمع بحثّه علی زیارة الحسین(علیه السلام) فی ظل ظروف حکم خلفاء بنی مروان وسلیمان بن عبد الملک المروانی, لا تخفی علی الإمام(علیه السلام) شدة وإرهاب السلطة لشیعة أهل البیت (علیهم السلام) , کما لا یخفی علیه وضع وظروف قبائل البصرة آنذاک, ولا یخفی علیه العذر الذی تذّرع به الراوی کسبب لعدم زیارة سید الشهداء(علیه السلام)، ورغم ذلک یبادر(علیه السلام) بالسؤال الاستنکاری علی مسمع من ترکه لزیارة الحسین(علیه السلام). ویعاتبه علی ذلک.

وأن هذه الظروف رغم قساوتها وشدتها, لیست عذراً فی ترک هذا الأمر المطلوب شرعاً.

مع أن الإمام الصادق(علیه السلام) وسائر أئمة أهل البیت شدّدوا فی التزام التقیة, وتجنّب الاشتهار والإذاعة والإفشاء, لما یوجب المخاطرة بالنفس أو بالمؤمنین, ورغم کلّ ذلک فی باب التقیة, إلّا أنه(علیه السلام) لم یر أن التقیة مبرر لترک زیارة الحسین(علیه السلام), ولا عذر فی ذلک. ثم لمّا رأی ضعفاً وتردداً فی الراوی من القیام بالزیارة, لم یترک المجال للانقطاع وترک الارتباط بشعائر سید الشهداء فأخذ یحثه علی طریقة وآلیة أخری للشعائر الحسینیة وهی إقامة العزاء والمأتم وذکر المُصاب ممّا یبین مدی إصرار الشریعة علی الشعائر الحسینیة, بل ولم یکتف(علیه السلام) بالدرجة النازلة من إقامة الشعائر, بل طالب

ص:380


1- (1) کامل الزیارات/ باب 32/ ح7.

الراوی بالجزع رغم ظروف التقیة.

- وهناک روایات کثیرة دالة علی: أن الحالة آنذاک التی صدرت فیها الروایات عن الباقر والصادق(علیه السلام), وقبلهما عن أمیر المؤمنین(علیه السلام), الحاثّة علی زیارة الحسین(علیه السلام), وکذا من مطلقات الروایات الحاثّة علی ذلک؛ صدرت فی ظرف الخوف والشدة.

فبالتالی یکون حثّها, وإن لم یکن منحصراً بذلک الزمن, بل بنحو القضیة الحقیقیة, إلّا أنها واردة فی ذلک الظرف. وهی موجهة فی بادی الأمر إلی زمن صدور النص؛ وعلی هذا الأساس, فکل عمومات الروایات المتواترة والمستفیضة الآمرة بزیارة الحسین(علیه السلام), بل وکذا زیارة أبی الحسن موسی بن جعفر(علیه السلام) هی تحثّ علی الزیارة فی ظرف الخوف, وإن لم تشتمل ألفاظها علی لفظ الخوف صریحاً.

فتکون کافة هذه الروایات هی آمرة, ومشتملة علی طلب الزیارة فی حالة الخوف, ومن تلک الروایات أیضاً:

20 - ما رواه بسنده إلی الحلبی, ولا یبعد اعتباره قال: قال لی أبو عبد الله(علیه السلام) فی حدیث عن قتل الحسین(علیه السلام).. فقال له الحلبی: جُعلت فداک إلی متی أنتم ونحن فی هذا القتل والخوف والشدة.

فقال: حتی یأتی سبعون فرجاً أجواب, ویدخل وقت السبعین فإذا دخل وقت السبعین, أقبلت الرایات تتری کأنها نظام. فمن أدرک ذلک

ص:381

الوقت قرّت عینه. الحدیث(1).

- وأجواب: جمع جوبة, والجوب جمع قطعة القِطع, والجوبة الفجوة بین البیوت والفرجة بین السحاب والجبال, ولعلّ مراده(علیه السلام), أی أن بین کل فرج وآخر انقطاع وتخلل شدة, أو بین کل شدة وشدة انقطاع وفرج فلا یتصل بعضه ببعض.

21 - ما رواه فی محسنة عبد الله بن حماد البصری عن أبی عبد الله(علیه السلام), قال: قال لی: إن عندکم (أو قال: فی قربکم) لفضیلة ما أوتی أحد مثلها, وما أحسبکم تعرفونها کنه معرفتها, ولا تحافظون علیها ولا علی القیام بها, وإن لها لأهلاً خاصة قد سُمّوا لها, وأُعطوها بلا حولٍ منهم ولا قوة, إلّا ما کان من صنع الله لهم, وسعادة حباهم الله بها ورحمة ورأفة وتقدّم. قلت: جعلت فداک, وما هذا الذی وصفته ولم تسمّه؟ قال: زیارة جدّی الحسین بن علی.... إلی أن قال(علیه السلام): لا یأتیه إلّا من امتحن الله قلبه للإیمان وعرّفه حقنا, فقلت له: جعلت فداک, قد کنت آتیه حتی بُلیت بالسلطان وفی حفظ أموالهم, وأنا عندهم مشهور, فترکت للتقیة إتیانه وأنا أعرف ما فی إتیانه من الخیر, فقال: هل تدری ما فضل من أتاه, وما له عندنا من جزیل الخیر, فقلت: لا, فقال: أما الفضل فیباهیه ملائکة السماء وأما ما له عندنا فالترحّم علیه کل صباح ومساء. الحدیث(2).

ثم قال(علیه السلام): بلغنی أن قوماً یأتونه من نواحی الکوفة وناساً من

ص:382


1- (1) کامل الزیارات/ باب 108/ ح5.
2- (2) کامل الزیارات/ باب 108/ ح1.

غیرهم, ونساء یندبنه, وذلک فی النصف من شعبان, فمن بین قارئ یقرأ, وقاص یقص, ونادب یندب, وقائل یقول المراثی. فقلت له: نعم, جُعلت فداک, قد شهدت بعض ما تصف, فقال(علیه السلام): الحمد لله الذی جعل فی الناس من یفد إلینا ویمدحنا ویرثی لنا, وجعل عدونا من یطعن علیهم من قرابتنا وغیرهم یُهدرونهم, ویقبحون ما یصنعون. الحدیث(1).

أی یهدرون دمائهم فهذا تصریح منه(علیه السلام) علی ظرف الزائرین للحسین(علیه السلام) آنذاک ورغم ذلک فهو(علیه السلام) یحث علی الزیارة کشعیرة عظیمة من الشعائر الحسینیة.

22 - ما رواه ابن قولویه بإسناده عن محمد بن سلیمان, عن أبی جعفر الجواد(علیه السلام) فی حدیث, سأل: فأیهما أفضل, هذا الذی قد حجّ حجة الإسلام یرجع فیحج أیضاً, أو یخرج إلی خراسان, إلی أبیک علی بن موسی الرضا(علیه السلام), فیسلّم علیه, قال: بل یأتی خراسان فیسلّم علی أبی الحسن أفضل, ولیکن ذلک فی رجب. ولکن لا ینبغی أن تفعلوا هذا الیوم, فإن علینا وعلیکم خوفاً من السلطان وشنعة(2).

- ومفاد هذا الحدیث وإن کان فی زیارة الإمام الرضا(علیه السلام), وأن الأولی ترک الزیارة مع الخوف؛ إلّا أن فی زیارة الحسین(علیه السلام) الأمر علی العکس, وهو شاهد علی کون زیاراتهم (علیهم السلام) مشتملة علی الخوف من بنی أمیة وبنی العباس.

ص:383


1- (1) باب 108/ ح1).
2- (2) کامل الزیارات (باب 101/ 7).

23 - وروی أیضاً فی الصحیح إلی الحسین بن یسار الواسطی, قال: سألت أبا الحسن الرضا(علیه السلام): ما لمن زار قبر أبیک(علیه السلام): قال, فقال(علیه السلام): زوروه. فقلت: أی شیء فیه من الفضل. قال: له من الفضل کمن زار والده یعنی رسول الله صلی الله علیه و آله .

قلت: فإن خفت ولم یمکن لی الدخول داخله؛ قال: سلّم من وراء الجدار. وفی نسخة بدل (من وراء الحائر)(1).

- وفیه دلالة علی أن زیارة موسی بن جعفر(علیه السلام) فی بغداد کانت علی خوف وتقیة, فکیف بزیارة الحسین(علیه السلام)...

24 - وفی روایة أخری أیضاً, فی طریق مصحح إلی الحسین بن یسار الواسطی قال: قلت للرضا(علیه السلام): أزور قبر أبی الحسن(علیه السلام): فی بغداد؟

قال: إن کان لا بد منه فمن وراء الحجاب»(2), وهو أیضاً دال علی وقوع الخوف فی زیارة موسی بن جعفر(علیه السلام) آنذاک.

وتوصیته(علیه السلام) بالتحفّظ بالتقیة, هو علی خلاف ما ورد عنهم (علیهم السلام) فی زیارة الحسین(علیه السلام) فی الحث علی الزیارة مع الخوف من دون مراعاة التحفظ.

25 - مصحح الحسین بن بنت أبی حمزة الثمالی, قال خرجت فی آخر زمان بنی مروان إلی زیارة قَبر الحسین(علیه السلام) مستخفیاً من أهل الشام حتی

ص:384


1- (1) کامل الزیارات: باب 99: ح6. الوسائل/ أبواب المزار/ باب 80/ ح4. التهذیب ج82 :6/ 161.
2- (2) کامل الزیارات: باب 99/ ح3 - الوسائل/ أبواب المزار/ باب 80/ ح7.

انتهیت إلی کربلاء فاختفیت فی ناحیة القریة, حتی إذا ذهب من اللیل نصفه, أقبلت نحو القبر فلما دنوت منه, أقبل نحوی رجلٌ فقال لی: انصرف مأجوراً فإنک لا تصل إلیه, فرجعتُ فزعاً حتی إذا کان(1) یطلع الفجر, أقبلتُ نحوه حتی إذا دنوت منه, خرج إلیّ الرجل, فقال: یا هذا, إنک لا تصل إلیه؛ فقلت له: عافاک الله. ولم لا أصل إلیه, وقد أقبلتُ من الکوفة أرید زیارته فلا تُحل بینی وبینه, وأنا أخاف أن أُصبح فیقتلونی أهل الشام إن أدرکونی ها هنا......

فأقبلت حتی إذا طلع الفجر, أقبلتُ نحوه, فلم یُحل بینی وبینه أحد فدنوت من القبر, وسلّمت علیه, ودعوت الله علی قَتلته, وصلّیتُ الصبح, وأقبلتُ مسرعاً مخافة أهل الشام»(2).

26 - معتبرة عبد الله بن بکیر, عن أبی عبد الله(علیه السلام), قال: قلت: إنی أنزل الأرجان(3) وقلبی ینازعنی إلی قبر أبیک, فإذا خرجتُ فقلبی وجلٌ مشفق حتی أرجع خوفاً من السلطان والسعاة وأصحاب المسالح؛ وقال: یا بن بکیر, أما تُحب أن یراک الله فینا خائفاً, أما تعلم أنه من خاف لخوفنا أظلّه الله فی ظلّ عرشه؛ وکان محدّثه الحسین(علیه السلام) تحت العرش, وآمنه الله من أفزاع یوم القیامة, یفزع الناس ولا یفزع, فإن فزع وقّرته الملائکة, وسکّنت قلبه بالبشارة»(4).

ص:385


1- (1) . لعله النسخة الأصح (کاد).
2- (2) ) کامل الزیارات: باب 38/ ح2, ح6 ,5.
3- (3) . مدینة من بلاد فارس ولعلها ما تسمی حالیاً أرگان قرب الأهواز.
4- (4) ) کامل الزیارات: باب 45/ ح2.

وقد تقدم معنی المسالح أنها نقاط تفتیش عسکریة أمنیة من الحکم الأموی والعباسی.

وهذه الروایة دالة علی أن حکومة سلطان بنی أمیة وبنی العباس کانت تمانع من زیارة الحسین(علیه السلام) أشدّ ممانعة بالإرهاب الأمنی والعسکری وکانت تقیم شبکات مخابراتیّة, لرصد ومراقبة الطریق إلی الزیارة, والموضع الشریف, وهو المعبّر عنه ب- «السعاة» - کما أنها کانت تقیم سیطرات عسکریة مسلحة علی الطریق. فهذه الروایة تبین بوضوح أن زیارة الحسین(علیه السلام) فی عهد الصادق(علیه السلام) کانت محفوفة بکل هذه المخاطر, کما أشارت إلیه بقیة الروایات السابقة, وتشیر إلی أن الروایات المطلقة الحاثة علی زیارة الحسین(علیه السلام), هی صادر فی هذه الظروف الصعبة وهذا الجو المملوء بالمخاطر. ولا ریب أن تلک الروایات المطلقة الصادرة عن الباقر والصادق(علیه السلام) مستفیضة بل متواترة..

فیتم تقریب الأمر بزیارة الحسین(علیه السلام) مع الخوف علی النفس, فضلاً عن الخوف علی البدن والأطراف والأعضاء والأموال والعرض.

ومن ثمّ یظهر فی هذه الروایة أن ابن بکیر بعد ما ذکر للإمام(علیه السلام) هذه الحالة فی زیارة الحسین(علیه السلام) رغم الخوف علی النفس, والوجل, والإشفاق والاضطراب النفسی, مع کل ذلک حث الإمام علی زیارة الحسین(علیه السلام) ببالغ التأکید والتشدید, وعظیم الأجر الخاص الذی لا یُترقب من سائر الطاعات حتی من القتل فی سبیل الله فی ساحات الجهاد, بل اختص بزیارة الحسین(علیه السلام) ومع أن مثل عبد الله بن بکیر من فضلاء وفقهاء الرواة

ص:386

وتلامذته(علیه السلام) ممن یضن بهم.

27 - موثقة المفضل بن عمر, قال: قال أبو عبد الله(علیه السلام), فی حدیث عن ثواب زیارة الحسین(علیه السلام), وفیه: «.... وکأنی بالمؤمنین یزورونه ویسلّمون علیه, فیقول الله لهم: أولیائی: سلونی فطالما أوذیتم وذللتم واضطُهدتم. فهذا یوم لا تسألونی حاجة من حوائج الدنیا والآخرة إلّا قضیتها لکم, فیکون أکلهم وشربهم فی الجنة. فهذا والله الکرامة التی لا انقضاء لها ولا یُدرک منتهاها»(1).

- وظاهر الروایة حصول الإیذاء والذًلّ والاضطهاد فی الزیارة والطریق إلیها؛ بسبب حکام الجور.

28 - محسنة أحمد بن عبدوس عن أبیه, قال: قلت للرضا: إن زیارة قبر أبی الحسن(علیه السلام) علینا فیها مشقة. وإنما نأتیه فنسلّم علیه من وراء الحیطان, فما لمن زاره من الثواب. قال: والله مثل ما لمن أتی قبر رسول الله صلی الله علیه و آله (2).

29- صحیحة معاویة بن وهب التی رواها الکلینی وابن قولویه والصدوق بأسانید متعددة فیها الصحاح قطعیة الصدور.. قال: استأذنت علی أبی عبد الله(علیه السلام) فقیل لی: ادخل، فدخلت فوجدته فی مصلاّه، فی بیته، فجلست حتی قضی صلاته، فسمعته وهو یناجی ربه، ویقول: یا من

ص:387


1- (1) ) کامل الزیارات: باب 50/ ح3.
2- (2) ) الوسائل/ أبواب المزار/ باب 80/ ح10.

خصّنا بالکرامة، وخصنا بالوصیة، ووعدنا الشفاعة، وأعطانا علم ما مضی، وما بقی، وجعل أفئدة من الناس تهوی إلینا، اغفر لی ولإخوانی، ولزوار قبر أبی عبد الله الحسین(علیه السلام)، الذین أنفقوا أموالهم وأشخصوا أبدانهم رغبةً فی برّنا، ورجاءً لما عندک فی صلتنا، وسروراً أدخلوه علی نبیک صلواتک علیه وآله، وإجابة منهم لأمرنا، وغیظاً أدخلوه علی عدونا، أرادوا بذلک رضاک، فکافهم عنا بالرضوان، واکلأهم باللیل والنهار، واخلف علی أهالیهم وأولادهم الذین خلفوا بأحسن الخلف، واصحبهم واکفهم شر کل جبار عنید، وکل ضعیف من خلقک، أو شدید، وشر شیاطین الإنس والجن. وأعطهم أفضل ما أمّلوا منک فی غربتهم عن أوطانهم، وما آثرونا به علی أبنائهم وأهالیهم وقراباتهم.

اللهم إنَّ أعداءنا عابوا علیهم خروجهم، فلم ینههم ذلک عن الشخوص إلینا، وخلافاً منهم علی من خالفنا. فارحم تلک الوجوه التی قد غیّرتها الشمس، وارحم تلک الخدود التی تقلّبت علی حفرة أبی عبد الله(علیه السلام)، وارحم تلک الأعین التی جرت دموعها رحمة لنا، وارحم تلک القلوب التی جزعت واحترقت لنا، وارحم الصرخة التی کانت لنا، اللهم إنی أستودعک تلک الأنفس، وتلک الأبدان حتی نوافیهم علی الحوض یوم العطش، - فما زال وهو ساجد یدعو بهذا الدعاء، فلما انصرف قلت: جعلت فداک، لو أن هذا الذی سمعت منک کان لمن لا یعرف الله، لظننت أن النار لا تطعم منه شیئاً، والله لقد تمنّیت أن کنت زرته ولم أحج، فقال لی: ما أقربک منه، فما الذی یمنع من إتیانه، ثم قال: لِمَ تدع ذلک؟ قلت: جعلت

ص:388

فداک، لم أدر أن الأمر یبلغ هذا کلّه، قال: یا معاویة، من یدعو لزواره فی السماء أکثر ممن یدعو لهم فی الأرض) (1).

30 - مارواه الکلینی فی حسنة الحسن بن عباس بن الحریش , عن أبی جعفر(علیه السلام) فی حدیث , قال : ( ... ولا أعلم فی هذا الزمان جهاداً إلّا الحج والعمرة والجوار )(2) .

أی جوار البقاع المقدسة ومراقد الأئمة (علیهم السلام) .

- ویتحصل من هذه الروایات المستفیضة، بل هی مع جملة الروایات المطلقة تکون متواترة، بأن زیارة الحسین(علیه السلام) باعتبارها من أبرز الشعائر الحسینیة، فلا یقوی علی رفع مطلوبیتها، الخوف من هلاک النفس، فإن ملاکها أعظم من ملاک حفظ النفس، کما هو الحال فی الجهاد فی سبیل الله وغیره، بل یظهر من هذه الروایات المستفیضة والمتواترة أن باب زیارته من أعظم أبواب الجهاد، فی سبیل الله. وفی سبیل الإیمان فی قبال الجاحدین والمعاندین، الذین یریدون أن یطفئوا نور الله وهو الإیمان، وبعبارة أخری أن زیارة سید الشهداء(علیه السلام) - کشعیرة من الشعائر لا یُنظر إلیها من الخصوصیة الفردیة وأن الزیارة مستحبة، فکیف تُقدَّم علی حفظ النفس من الهلاک الذی هو واجب، وهو أعظم من کثیر من الواجبات، فکیف یتم هذا بحسب قواعد وصناعة الفقه؛ والجواب:

ص:389


1- (1) الکافی ج583 :4 - کامل الزیارات: باب 2/40.
2- (2) الکافی ج251 :1 -

أن زیارة الحسین وبقیة الشعائر المرتبطة به(علیه السلام)، بل والمرتبطة بأهل البیت (علیهم السلام) من زیاراتهم والشعائر المرتبطة بهم، هی متضمنة لطبائع واجبة، نظیر إقامة وحفظ الولایة، ونشر نور الإیمان، وهدایة البشر، وإقامة فریضة التولّی والتبرّی، وتجدید العهد بولایتهم ومحبتهم، والبیعة لهم، إلی غیر ذلک من طبائع الواجبات المرتبطة، ببیضة الدین والإیمان، فکیف لا تقدّم هذه الواجبات علی حفظ النفس. ومن السطحیة بمکان ملاحظة الطبیعة الفردیة للشعیرة کزیارة ونحوها من نماذج أفراد وأصناف الشعائر الحسینیة، أو شعائر أهل البیت (علیهم السلام) مع الإغفال عن جملة الطبائع الواجبة العظیمة، المرتبطة بأصول الدین وأرکانه، والمنطویة فی الشعائر الحسینیة تضمناً.. وقد وقع فی هذه الغفلة، عدة کثیرة من أصحاب النظر والأعلام.. وقد ذکرنا شطراً وافراً من هذه النکتة الصناعیة فی مبحث (أحکام العتبات المقدسة).

ثم لا یخفی أنه فی جملة کثیرة من هذه الروایات المتقدمة التعلیل بعموم أهمیة الملاک والمصلحة الشامل لکل الشعائر المضافة لأهل البیت (علیهم السلام) .

- نظیر قوله(علیه السلام): (أما تحب أن یراک الله فینا خائفاً) .

الذی قد مر تحت رقم الحدیث (26)

الدال علی عموم موضوع الحکم وهو لیس لزیارتهم (علیهم السلام) فحسب, بل لکل شعیرة تضاف إلیهم (علیهم السلام) . وبالتالی یدل علی رجحان الشعائر الحسینیة ولو مع الخوف علی النفس .

ص:390

قاعدة :عمارة مراقد الأئمة فریضة شرعیة هامة

اشارة

ص:391

ص:392

عمارة مراقد الأئمة فریضة شرعیة هامة(1)

هناک بقاع مقدّسة مبارکة، تُعظّم ویتقرّب فیها إلی الله سبحانه وتعالی.. وقد قال عَزَّ وَجَلَّ: فِی بُیُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ یُذْکَرَ فِیهَا اسْمُهُ یُسَبِّحُ لَهُ فِیها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ (2).

ففی هذا البحث نحاول إثبات أن عمارة قبور النبی صلی الله علیه و آله وقبور عترته، هی من أرکان ومعالم الدین، باعتبارها مشاعر إلهیة.

وتمهیداً نذکر النقاط التالیة:

النقطة الأولی: إن ما یُقرّر من وجوب عمارة المسجد الحرام - ومکة المکرمة علی مدار السنة وما بقی الدین, کما ورد بذلک الآیات والروایات وضرورة الدین - , فإنه یقرّر کذلک فی عمارة قبر النبی صلی الله علیه و آله , وقبور الأئمة (علیهم السلام) سواء فی البقیع أم فی العراق أم فی خراسان.

النقطة الثانیة: کما أن فریضة عمارة المسجد الحرام تشتمل علی جملة من الواجبات وفصول من الوظائف, نظیر عمارة مدینة مکة لاستقبال الحجیج والزائرین علی مدار السنة من دون اختصاص ذلک بموسم الحج الذی یستمر ثلاثة أشهر, إذ موسم العُمرة لا یُحدّ بحدّ, بل هو ممتد علی

ص:393


1- (1) تقریراً لأبحاث شیخنا الأستاذ السند (دام ظله)، بقلم جناب الأخ السید ریاض الموسوی دام توفیقه.
2- (2) النور: 36.

مدار السنة؛ کذلک الحال فی قبر النبی صلی الله علیه و آله والمدینة المنورة وقبر أمیر المؤمنین(علیه السلام) فی مدینة النجف الأشرف والکوفة, وبقیة قبور الأئمة(علیهم السلام) والمدن الواقعة فیها, عمارةً لتلک المدن ولتلک المراقد والقیام بتسهیل السُبل للزیارة وبقیة الشعائر والطقوس التی تقام فیها, علی مدار السنة فضلاً عن المواسم الخاصة.

أدلة القاعدة:

ولتقریب هذه القاعدة: أولاً نستعرض الأدلة الواردة بشأن مکة المکرمة والمدینة المنورة علی هذه الفریضة الکبیرة .

أما الآیات:

الآیة الأولی: قوله تعالی: أَ جَعَلْتُمْ سِقایَةَ الْحاجِّ وَ عِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ کَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ الْیَوْمِ الْآخِرِ وَ جاهَدَ فِی سَبِیلِ اللّهِ (1).

ومفاد الآیة یقرّر فریضیة عمارة المسجد الحرام, ورعایة الحاج فی تمام شؤون الرعایة, وإن کانت فی صدد أعظمیة فریضة الإیمان والجهاد علی فریضة العمارة والرعایة..

والآیة الکریمة توجز هذه الفریضة فی شعبتین هامتین:

الأولی: عمارة المسجد الحرام.

الثانیة: رعایة خدمات الحاج وخدمة الزائر لبیت الله الحرام وهذان

ص:394


1- (1) التوبة: 9

عمودان أساسیان فی هذه الفریضة.

الآیة الثانیة: قوله تعالی: وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَیْتَ مَثابَةً لِلنّاسِ وَ أَمْناً وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِیمَ مُصَلًّی وَ عَهِدْنا إِلی إِبْراهِیمَ وَ إِسْماعِیلَ أَنْ طَهِّرا بَیْتِیَ لِلطّائِفِینَ وَ الْعاکِفِینَ وَ الرُّکَّعِ السُّجُودِ .

وَ إِذْ یَرْفَعُ إِبْراهِیمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَیْتِ وَ إِسْماعِیلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنّا إِنَّکَ أَنْتَ السَّمِیعُ الْعَلِیمُ (1).

وهاتان الآیتان تدلان علی جملة من الوظائف فی هذه القاعدة والفریضة.

1 - جَعل البیت الحرام مثابة للناس أی مکاناً یُقصد ویُؤتی ویؤم, ویُشد الرحال إلیه وهذا نمط من عمارته وإحیائه باستمرار وفود الناس إلیه.

2 - توفیر الأمن فیه وکونه أمان ومأمن لجمیع الناس من دون استثناء لحرمة الاستجارة بالحرم.

3 - اتخاذه مقام ومحل عبادة وصلاة.

4 - القیام بتطهیره ونظافته وتهیئته للزیارة والمکث فیه والصلاة.

5 - بناء عمارته, وتشییده.

وهذه الخمسة من الواجبات تفصیل للواجبین الذین مرّا فی الآیة السابقة.

الآیة الثالثة: قوله تعالی: رَبَّنا إِنِّی أَسْکَنْتُ مِنْ ذُرِّیَّتِی بِوادٍ غَیْرِ ذِی

ص:395


1- (1) البقرة : 127 ,125.

زَرْعٍ عِنْدَ بَیْتِکَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِیُقِیمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِی إِلَیْهِمْ وَ ارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ یَشْکُرُونَ (1).

وهذه الآیة تبیّن أن من الأمور وأشکال الأعمال المفترضة فی فریضة عمارة المسجد الحرام ورعایة الحجیج.

6 - هو القیام بإسکان المجاورین والمقیمین لاسیما الصالحین.

7 - إنشاء عمران المدینة السکنیة لأن ذلک یوطّأ ویمهد لرعایة الزائرین والحجاج.

8 - إضافة إلی إقامة الصلاة فإنها من مقومات عمارة المسجد الحرام.

9 - تسهیل مجیء الزائرین.

10 - توفیر تموین الطعام للمجاورین والزائرین فیحصل بذلک عمارة البلد.

الآیة الرابعة: قوله تعالی: إِنَّ أَوَّلَ بَیْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِی بِبَکَّةَ مُبارَکاً وَ هُدیً لِلْعالَمِینَ فِیهِ آیاتٌ بَیِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِیمَ وَ مَنْ دَخَلَهُ کانَ آمِناً (2).

وتفید الآیة الکریمة:

11 - تشعیر البیت الحرام من قبل ربّ العالمین سبحانه وتعالی

ص:396


1- (1) إبراهیم: 37.
2- (2) آل عمران: 97 ,96.

کموطن عبادة أبدی.

12- ومرکز نبراس للهدایة ویندرج فی ذلک مطلق الأنشطة التعلیمیة والتربویة التثقیفیة والدینیة.

الآیة الخامسة: وقوله تعالی: جَعَلَ اللّهُ الْکَعْبَةَ الْبَیْتَ الْحَرامَ قِیاماً لِلنّاسِ (1) ومفادها, نظیر ما تقدم من الآیات فی مشعریة البیت الحرام, وإنه مرکز لتوافد الناس علیه, وکونه قائم ومعموراً بذلک إلی یوم القیامة.

الآیة السادسة: وقوله تعالی: وَ یَصُدُّونَ عَنْ سَبِیلِ اللّهِ وَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِی جَعَلْناهُ لِلنّاسِ سَواءً الْعاکِفُ فِیهِ وَ الْبادِ وَ مَنْ یُرِدْ فِیهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِیمٍ (2).

(العاکف), هو الساکن المقیم بمکة والبادی هو الزائر الوارد.

13 - ومفاد هذه الآیة الکریمة استحقاق جمیع الناس من المسلمین زیارة البیت الحرام والوفود إلیه والإقامة فیه, وأن هذا الاستحقاق متساوی فیه المجاور والآفاقی.

ویعزّز هذا الحکم، بحرمة الصدّ عنه، وقد استدل جملة من الفقهاء بهذه الآیة علی حرمة تملک أراضی مکة وحرمة إجارتها لاستواء استحقاق الناس لها بمقتضی الآیة, وأنه لا ینبغی أن یُمنع الحاج شیئاً من دور مکة

ص:397


1- (1) المائدة: 97.
2- (2) الحج: 25.

ومنازلها(1).

وفی الروایة عن الصادق(علیه السلام): فقال: فکانت مکة لیس علی شیء منها باب, وکان أول من علّق علی بابها المصراعین معاویة بن أبی سفیان ولیس ینبغی لأحدٍ أن یمنع الحاج شیئاً من الدور ومنازلها(2).

- وحکی فی المختلف (العلامة الحلّی) عن کتاب الجمل للسید المرتضی, المنع من التقصیر (ووجوب الإتمام تعییناً) فی الصلاة فی مکة المکرمة, ومسجد النبی صلی الله علیه و آله ومشاهد الأئمة (علیهم السلام) القائمین مقامه, وکذا حکی عن ابن الجنید أنه قال: والمسجد الحرام لا تقصیر فیه علی أحد لأن الله(عزوجل) جعله سواء العاکف فیه والبادی.

واستدلّ فی منتهی المطلب, لاستواء استحقاق الناس فی مطلق المساجد, وإن اعتاد أحدهم الجلوس فی موضع خاص استدلالاً بالآیة الکریمة(3). ویظهر من المسالک أن هذا الاستدلال اعتمده الکثیر من

ص:398


1- (1) الخلاف للشیخ الطوسی ج189 :3/ مسألة 313.- المبسوط ج384 :1/ فصل فی الزیارات من فقه الحج.ج167 :2/ باب ما یصح بیعه وما لا یصح.- النهایة للشیخ الطوسی: 284/ باب آخر من فقه الحج.- المهذب لابن براج, ج273 :1/ فی أحکام الحرم.- السرائر لابن إدریس ج644 :1.- تذکرة الفقهاء ج442 :8 - ج39 :10.- المختلف ج367 :4 - ج60 :5.
2- (2) التهذیب ج420 :5/ ح1 ص1457.
3- (3) (المنتهی: باب صلاة الجمعة).

الأصحاب(1).

وفی زبدة البیان للأردبیلی حکی, أن الإلحاد فی الحرم منع الناس من عمارته وقیل الاحتکار..

- ویتبیّن معنی الإلحاد من هذه الروایة، ففی صحیح الحلبی قال سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن قول الله(عزوجل) وَ مَنْ یُرِدْ فِیهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِیمٍ فقال(علیه السلام): کل الظلم فیه إلحادٌ, حتی لو ضربت خادمک ظلماً خشیت أن یکون إلحاداً. فلذلک کان الفقهاء یکرهون سکنی مکة(2).

- وذکر فی التذکرة أن الخلاف فی جواز بیع دور مکة وعدمه فی غیر مواضع النسک, أما بقاع المناسک کبقاع السعی والرمی وغیرها فحکمها حکم المساجد.

- وعلی أی تقدیر فالذی ذهب إلی کراهة أخذ الأجرة للسکن فی مکة, وبیع الأبنیة, لم ینفی استحقاق الزائر الوارد السکنی فی مکة ولو بأجرة, وإنما نفی وجوب ذلک مجاناً، أما أصل الاستحقاق فمحل تسالم بینهم, ومن ثمّ استدلوا بالآیة الکریمة إلی عموم استحقاق المسلمین سواسیة فی المساجد لمن سبق منهم إلی ما لم یسبقه غیره.. ولا یخفی عدم اختصاص هذا الحکم بمکة، بل یعم المدینة المنورة والنجف وکربلاء والکاظمیة وسامراء وطوس من مراقد المعصومین (علیهم السلام) التی شُعرّت مشاعر،

ص:399


1- (1) (مسالک ج435 :12).
2- (2) (التهذیب ج420 :5).

وافتُرض عمارتها بالزیارة کما سیأتی بیانه. فهی بحکم المساجد بل أعظم لأنها مشاعر, وبمثابة المسجد الحرام حرمةً.

أحکام المسجد الحرام والعتبات المقدسة:

ویتحصل من مجموع الآیات الشریفة جملة من الأحکام العامة للمسجد الحرام ومکة المکرمة, ومسجد النبی والمدینة المنورة وبقیة مدن مراقد الأئمة (علیهم السلام) المشرّفة:

1 - کون عمارة المسجد الحرام ورعایة الحاج فی تمام شؤون الرعایة فریضة إلهیة - وتشمل شؤون الرعایة الخدمات المختلفة.

2 - إن من وظائف وآلیات عمارة المسجد الحرام تسهیل جعل البیت الحرام مکاناً یُقصد ویُزار وتسهیل السفر إلیه من أجل استمرار وفود الزوار والحجاج إلیه..

3 - ومن وظائف عمارة المسجد الحرام توفیر الحالة الأمنیة والاستقرار لجمیع الناس, سواء المجاور أو الوافد.

4 - اتخاذه محل ومقام عبادة وصلاة, لإقامة الصلاة فیه.

5 - القیام بتطهیره ونظافته وتهیئته للزیارة والمکث والصلاة فیه.

6 - بناء عمارته وتشیید بنیانه.

7 - إسکان الناس لاسیما أهل الصلاح کمجاورین ومقیمین وإنشاء عمران السکنی فی مکة المکرمة مما یمّهد لرعایة الزائرین والمجاورین.

ص:400

8 - توفیر تموین الطعام والغذاء للمجاورین والزائرین.

9 - تشعیر البیت الحرام من قِبل الله سبحانه, کمشعر إلهی, وکموطن عبادی, ونبراس للهدایة أبدی.

10 - جعله وإقامته کمرکز لأنشطة التعلیم والثقافة الدینیة والإسلامیة.

11 - استحقاق جمیع الناس من المسلمین زیارة البیت الحرام والوفود إلیه والإقامة فیه بنحو متساوٍ بین المجاور والآفاقی.

12 - حرمة الصدّ عنه, وحرمة الصد عن السفر والوفود إلیه..

وقد فرع بعض الفقهاء علی ذلک جملة من الأحکام حول إعمار مکة والسکن فیها.

عمومیة هذه الأحکام لکل مساجد المراقد:

ولا یخفی أن جملة هذه الأحکام غیر مخصوصة بمکة المکرمة والمسجد الحرام, بل تعم المدینة المنورة والمسجد النبوی الشریف والنجف الأشرف وکربلاء المقدسة, وبقیة مراقد الأئمة الطاهرین (علیهم السلام) فی الکاظمیة ومشهد وسامراء.

1 - کما تعدی الفقهاء فی استواء الناس فی مطلق المساجد من قوله تعالی: سَواءً الْعاکِفُ فِیهِ وَ الْبادِ وأن هذا حکماً عاماً لکل المساجد لاسیما ما شعّر منها کمشعر إلهی علی حذو المسجد الحرام.

2 - بعد ظهور هذه الآیات فی ترتّب هذه الأحکام علی المسجد

ص:401

الحرام بما هو مسجد کطبیعة عامة, غایة الأمر: أشدّیة هذه الأحکام فی المسجد الحرام.

3 - مضافاً إلی ورود جملة من هذه الأحکام فی عموم المسجد, یکون شاهداً آخر علی ذلک.

4 - عموم التعلیل الوارد فی تلک الآیات, کقوله تعالی: فِیهِ آیاتٌ بَیِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِیمَ وقوله تعالی: وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِیمَ مُصَلًّی , حیث یظهر منها أن إضافة المقام لإبراهیم هو منشأ الأمر بالعبادة فی ذلک الموضع, وتعظیم ثوابه, وتعظیم ذلک المقام وتقدیسه, وأنه بسبب شرافة المکان وإضافته لنبی الله إبراهیم(علیه السلام) تأهّل لیکون مکاناً ومحلاً یُتقرب فیه إلی الله سبحانه وتعالی .

وأما الروایات الدالة علی هذه القاعدة:

1 - ففی صحیح عبد الله بن سنان عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال:

لو عطّل الناس الحج لوجب علی الإمام أن یجبرهم علی الحج إن شاؤوا وإن أبوا، فإن هذا البیت إنما وضع للحج(1).

2 - وفی صحیح الفضلاء, عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: لو أن الناس ترکوا الحج لکان علی الوالی أن یجبرهم علی ذلک أو علی المقام عنده, ولو ترکوا زیارة النبی لکان علی الوالی أن یجبرهم علی ذلک, أو علی المقام عنده,

ص:402


1- (1) وسائل الشیعة: أبواب وجوب الحج/ ب5/ ح1.

فإن لم یکن لهم أموال أنفق علیهم من بیت مال المسلمین(1).

ومفاد هذین الحدیثین:

1 - فریضیة عمارة بیت الله الحرام الحاصلة عن طریق عبادة الحج وکذلک فریضیة عمارة قبر النبی صلی الله علیه و آله ومسجده الحاصلة بزیارة النبی صلی الله علیه و آله .

2 - وأن هذه الفریضة لیست موکولة إلی المکلفین واختیارهم فحسب, بل اللازم علی الوالی إجبارهم علی ذلک لو امتنعوا.

3 - یجب علی الوالی أن یمدّهم بالمؤونة المالیة من بیت المال فیما إذا عجزوا عن ذلک.

4 - یجب علی عموم المسلمین الإقامة فی مکة المکرمة وجوباً کفائیاً وکذلک الحال فی المدینة المنورة, وأن عمارة المدینتین فریضة تتأدّی بالإقامة والعمران فیها.

5 - أن هذه الفریضة لیست فریضة کفائیة علی المسلمین فحسب بل هی وظیفة من وظائف الدولة والنظام الإسلامی کما هو الحال فی إحجاج الناس لبیت الله الحرام, وتشیید زیارة النبی صلی الله علیه و آله .

6 - أن هذا الواجب یتعین علی الدولة الإسلامیة إقامته, وکوظیفة مالیة.

7 - صحیحة عبد الله بن سنان, عند الصادق(علیه السلام): إن لله(عزوجل) حرمات ثلاثاً لیس کمثلهن شیء: کتابه وهو حکمته ونوره؛ وبیته الذی جعله قبلة

ص:403


1- (1) وسائل الشیعة: أبواب وجوب الحج/ ب5/ ح2.

للناس لا یُقبل من أحد توجهاً إلی غیره, وعترة نبیکم (علیهم السلام) (1).

ومفاد هذه الصحیحة أن الحفاظ علی الکتاب العزیز, والحفاظ علی المسجد الحرام بعمارته وغیرها, والحفاظ علی العترة کما هو حاصل بعمارة قبورهم ومراقدهم الشریفة، هی من أعظم الفرائض, وأعظم أُسس الدین وبقائه, وبذلک یتبین تعاظم وأساسیة هذه الفریضة فی صرح الدین.

أدلة فریضیة عمارة مراقد النبی صلی الله علیه و آله وأهل بیته:

- مضافاً لما تقدم من الأدلة فی عمارة المسجد الحرام من الآیات والروایات, نستعرض جملة من الآیات والروایات الأخری الخاصة بذلک, أما الآیات:

1 - قوله تعالی: اَللّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ کَمِشْکاةٍ فِیها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِی زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ کَأَنَّها کَوْکَبٌ دُرِّیٌّ یُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَکَةٍ زَیْتُونَةٍ لا شَرْقِیَّةٍ وَ لا غَرْبِیَّةٍ یَکادُ زَیْتُها یُضِیءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلی نُورٍ یَهْدِی اللّهُ لِنُورِهِ مَنْ یَشاءُ وَ یَضْرِبُ اللّهُ الْأَمْثالَ لِلنّاسِ وَ اللّهُ بِکُلِّ شَیْ ءٍ عَلِیمٌ فِی بُیُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ یُذْکَرَ فِیهَا اسْمُهُ یُسَبِّحُ لَهُ فِیها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ رِجالٌ لا تُلْهِیهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَیْعٌ عَنْ ذِکْرِ اللّهِ وَ إِقامِ الصَّلاةِ وَ إِیتاءِ الزَّکاةِ یَخافُونَ یَوْماً تَتَقَلَّبُ فِیهِ الْقُلُوبُ وَ الْأَبْصارُ (2).

وقد بسطنا القول فی بیان هذه الآیة أنها واردة فی الخمسة أصحاب

ص:404


1- (1) معانی الأخبار: 117.
2- (2) النور 35 - 37.

الکساء, والتسعة من ذریة الحسین(علیه السلام), فی کتاب الإمامة الإلهیة(1), وکتاب عمارة قبور النبی وأهل بیته.

حیث أن بیوتهم ومراقدهم بنص هذه الآیة قد جُعلت من قبله تعالی مشعراً إلهیاً, وفرض تعالی أن تعظّم وتُرفع, وأن تُجعل مواطن للعبادة ولذکر الله تعالی.

وقد أشارت الآیة أن العمارة لیست بالبناء والعمران فحسب بل بالزیارة والتواضع وإقامة العبادة لله تعالی فیها, فالإذن هنا بمعنی الأمر, والرفع أن تعظم وتجلل وتقدس, ولا یخفی أنه من هذا المفاد یستفاد جملة النقاط الاثنی عشرة المستخلصة من الآیات والست نقاط من الروایات فی إعمار مکة المکرمة.

2 - قوله تعالی: وَ کَذلِکَ أَعْثَرْنا عَلَیْهِمْ لِیَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ وَ أَنَّ السّاعَةَ لا رَیْبَ فِیها إِذْ یَتَنازَعُونَ بَیْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَیْهِمْ بُنْیاناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِینَ غَلَبُوا عَلی أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَیْهِمْ مَسْجِداً (2).

وذکر القرآن الکریم لهذه الواقعة تقریر للمؤمنین الذین کانت لهم الغلبة بقرینة ذکر اتخاذ المسجد, تقریر منه لهم علی ذلک. ولم یفند اتخاذهم المسجد, بل هو فی مقام المدح والإطراء علیهم.

3 - ومن هذا القبیل قوله تعالی: وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِیمَ مُصَلًّی (3)

ص:405


1- (1) الإمامة الإلهیة ج5 ,4.
2- (2) الکهف: 21.
3- (3) البقرة: 125.

فإن مفادها تشعیر مقام إبراهیم وتخلید ذکره بذلک, الذی هو سبب لخلود التوحید وباعثاً للناس علی التمسک بدینهم.

فإذا کان الحجر قد لامَس بدن نبی الله إبراهیم, یعظم بهذه المثابة ویتخذ مکاناً للعبادة. وقد بسطنا دلالة الآیة علی ذلک فی المصادر المتقدمة.

حیث أن إضافة المقام إلی إبراهیم مشعر بالعلیّة للحکم.

فکیف الحال بمن هو أعظم من إبراهیم, وتقریب الدلالة فیه أیضاً بما تقدّم.

ثم شمول هذا التقریب لمراقد آل النبی بما تکاثرت الأدلة من الآیات والروایات علی أفضلیتهم.

ولا یخفی أن التعبیر فی الآیة للتعظیم والتفخیم, نظیر قوله تعالی: عَسی أَنْ یَبْعَثَکَ رَبُّکَ مَقاماً مَحْمُوداً .

- ویشیر إلیه قوله تعالی: إِنَّ أَوَّلَ بَیْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِی بِبَکَّةَ مُبارَکاً وَ هُدیً لِلْعالَمِینَ فِیهِ آیاتٌ بَیِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِیمَ (1).

وفی هذه الآیة دلالة علی عظمة البیت الحرام والمسجد الحرام بأن فیه مقام إبراهیم.

- ویشیر إلی نفس هذا التعلیل: رَبَّنا إِنِّی أَسْکَنْتُ مِنْ ذُرِّیَّتِی بِوادٍ غَیْرِ ذِی زَرْعٍ عِنْدَ بَیْتِکَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِیُقِیمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِی

ص:406


1- (1) آل عمران : 97 ,96.

إِلَیْهِمْ وَ ارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ (1).

فجُعل فی هذه الآیة من غایات الوفادة والزیارة لبیت الله الحرام هو مودة وهوی قلوب المؤمنین لذریة إبراهیم(علیه السلام) لا إلی البیت الحرام.

- ونظیر ذلک قوله تعالی: وَ أَذِّنْ فِی النّاسِ بِالْحَجِّ یَأْتُوکَ رِجالاً وَ عَلی کُلِّ ضامِرٍ یَأْتِینَ مِنْ کُلِّ فَجٍّ عَمِیقٍ (2).

فجعلت الآیة من غایات الحج المجیء والإتیان إلی إبراهیم, فالحج لبیت الله الحرام, وفادة علی ولی الله..

وبذلک یظهر أن جملة الآیات المتقدمة فی بیت الله الحرام والروایات کلّها, تشمل مراقد النبی صلی الله علیه و آله وأهل بیته (علیهم السلام) .

ویشیر إلی تعلیل عظمة البیت الحرام بما اصطفاهم الله سبحانه, قوله تعالی: وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِی کُنْتَ عَلَیْها إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ یَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ یَنْقَلِبُ عَلی عَقِبَیْهِ وَ إِنْ کانَتْ لَکَبِیرَةً إِلاّ عَلَی الَّذِینَ هَدَی اللّهُ (3).

حیث تبین الآیة أن عظمة وقدسیة القبلة من جهة طاعة الرسول صلی الله علیه و آله وولایته فی قبول العبادات.

- فیستفاد من هذه الطائفة من الآیات أن مشاهد الأنبیاء والأوصیاء هی مواطن قربات ومشاعر لعبادة الله سبحانه, ولاسیما أعظم الأنبیاء,

ص:407


1- (1) إبراهیم: 37.
2- (2) الحج: 26.
3- (3) البقرة: 133

وکذلک أهل بیته من بعده, فکیف ببقاع ثوت فیها الأجساد الطاهرة, وهذه القاعدة فی القداسة لتلک البقاع ضروریة عند المسلمین.

حیث حکی السمهودی فی مقدمة کتابه وفاء الوفاء إجماع المسلمین علی أفضلیة قبر النبی صلی الله علیه و آله علی الکعبة(1). وفی الحقیقة هذا هو ما استفاض بین الفریقین, ما ورد عن رسول الله صلی الله علیه و آله : «ما بین قبری ومنبری روضة من ریاض الجنة». أو: «ما بین منبری وبیوتی روضة من ریاض الجنة فإن اقتراب بقعة المسجد من قبره وبیوته جعلته مشعراً مقدساً إلی درجة صیرورته روضة من ریاض الجنة, وبیوته شاملة لبقاع أهل بیته, کما سیأتی مفصلاً فی المبحث الروائی».

4 - قوله تعالی: «یَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِی کَتَبَ الله لَکُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَی أَدْبَارِکُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِینَ» (2).

- وسیأتی أن مراقد النبی وأهل البیت (علیهم السلام) من أعظم البقاع والأراضی المقدسة.

وقد روی إسماعیل عن أبیه موسی بن جعفر عن آبائه عن رسول الله صلی الله علیه و آله قال: «من زار قبری بعد موتی کان کمن هاجر إلیّ فی حیاتی» (3).

وقوله تعالی: وَ إِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْیَةَ فَکُلُوا مِنْها حَیْثُ شِئْتُمْ

ص:408


1- (1) و فاء الوفاء ج31 :1.
2- (2) المائدة : 21.
3- (3) کامل الزیارات / ب 2 ح 17.

رَغَداً وَ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَ قُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَکُمْ خَطایاکُمْ وَ سَنَزِیدُ الْمُحْسِنِینَ فَبَدَّلَ الَّذِینَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَیْرَ الَّذِی قِیلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَی الَّذِینَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما کانُوا یَفْسُقُونَ (1).

وقوله تعالی: وَ إِذْ قِیلَ لَهُمُ اسْکُنُوا هذِهِ الْقَرْیَةَ وَ کُلُوا مِنْها حَیْثُ شِئْتُمْ وَ قُولُوا حِطَّةٌ وَ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَکُمْ خَطِیئاتِکُمْ سَنَزِیدُ الْمُحْسِنِینَ (2).

قالُوا یا مُوسی إِنَّ فِیها قَوْماً جَبّارِینَ وَ إِنّا لَنْ نَدْخُلَها حَتّی یَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ یَخْرُجُوا مِنْها فَإِنّا داخِلُونَ قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِینَ یَخافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَیْهِمَا ادْخُلُوا عَلَیْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّکُمْ غالِبُونَ وَ عَلَی اللّهِ فَتَوَکَّلُوا إِنْ کُنْتُمْ مُؤْمِنِینَ قالُوا یا مُوسی إِنّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِیها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّکَ فَقاتِلا إِنّا هاهُنا قاعِدُونَ قالَ رَبِّ إِنِّی لا أَمْلِکُ إِلاّ نَفْسِی وَ أَخِی فَافْرُقْ بَیْنَنا وَ بَیْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِینَ (3).

ویستفاد من هذه الآیات جملة من الأحکام:

1 - وجوب عمارة البقاع المقدسة بالتوافد إلیها وزیارتها.

2 - تشعیر الله(عزوجل) لجملة من الأراضی والبقاع وتعظیمها وتقدیسها.

3 - هذه الأراضی المقدسة جعلت مواطن لتطهیر العباد عن الذنوب,

ص:409


1- (1) البقرة: 58.
2- (2) الأعراف: 161.
3- (3) المائدة: 21 - 26.

وذلک بزیارتها والوفود إلیها, وإقامة العبادة والاستغفار فیها, کما یشیر إلیه قوله تعالی: قُولُوا حِطَّةٌ وأن هذه الأرض کتبها الله لهم, لاسیما وقد ورد أن الزیارة لهم بمثابة الهجرة إلیهم(1). هذا فضلاً عن طرق الخاصة التی نقلت هذه الروایات.

4 - قطیعة هذه البقاع وجفاؤها ارتداد عن الإیمان علی الأدبار وانقلاب بالخسران.

5 - أن هذه الأراضی والبقاع المقدسة یجب الجهاد لتحریرها من أیدی الجبارین علیها, فیجب نزعها عن أیدی وسلطة الجبارین, وإقامة حکم عادل فیها علی الدوام.

6 - التخاذل عن تحریر الأراضی المقدسة, وعدم الوفود علیها حوبته وعقوبته التیه فی الأرض.

أدلة کون مراقد النبی صلی الله علیه و آله وأهل بیته من الأراضی المقدسة المندرجة فی عموم الآیة:

1 - لا یخفی أنه قد وردت فی روایات الفریقین إن علی بن أبی طالب وأهل بیته بمنزلة باب حطة(2).

ص:410


1- (1) مجمع الزوائد للهیثمی ج168 :9 - المصنف لابن أبی شیبة الکوفی ج503 :7.
2- (2) ونذکر علی سبیل المثال بعض المصادر لا علی سبیل الاستقصاء, الدر المنثور فی ذیل الآیة ج160 :1 - المعجم الأوسط الطبرانی ج139 :1 - ج10 :4. الجامع الصغیر للسیوطی ج176 :8 - کنز العمال ج603 :11 ج434 :2.

2 - وقد تقدم أن بِقاع مراقد أهل البیت(علیهم السلام) تتضمن البیوت التی أمر الله تعالی بتعظیمها ورفعتها, وشعّرها أماکن مقدسة.

فی قوله تعالی: فِی بُیُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ یُذْکَرَ فِیهَا اسْمُهُ .

3 - ویشهد لذلک أیضاً علی أن مراقدهم من الأراضی المقدسة الإشارة لقوله تعالی: وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِیمَ مُصَلًّی حیث أن جهة اتخاذه عبادة لتکریم مقام الإضافة إلی النبی إبراهیم(علیه السلام).

4 - قوله تعالی: وَ إِذا قِیلَ لَهُمْ تَعالَوْا یَسْتَغْفِرْ لَکُمْ رَسُولُ اللّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَ رَأَیْتَهُمْ یَصُدُّونَ وَ هُمْ مُسْتَکْبِرُونَ (1).

- وقوله تعالی: وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُکَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّاباً رَحِیماً (2).

- وقوله تعالی: وَ ما أَرْسَلْناکَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِینَ فبینّت الآیات أن رسول الله صلی الله علیه و آله من أعظم أبواب حطة الذنوب, بشروط ثلاثة, التوجه واللواذ بحضرة النبی صلی الله علیه و آله , استغفار المذنب, واستغفار النبی صلی الله علیه و آله له, أی شفاعته له. ومن ثمّ ورد مستفیضاً من طرق الفریقین عنه صلی الله علیه و آله : أن ما بین منبره الشریف وقبره (أو بیوته) - واللفظ الثانی وهو البیت أکثر وروداً فی الأحادیث - روضة من ریاض الجنة.

ومن بیوته صلی الله علیه و آله بیت علی وفاطمة وذریاتهما المطهرین وقد روی ذلک

ص:411


1- (1) المنافقون 5.
2- (2) النساء: 64.

الفریقان فی ذیل الآیة.

وقد قال الله تعالی فی تعظیم بیوت النبی یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُیُوتَ النَّبِیِّ إِلاّ أَنْ یُؤْذَنَ لَکُمْ (1).

وقد روی الفریقان فی ذیل هذه الآیة الأخیرة, أنها بیوت الأنبیاء وأن بیت علی وفاطمة من أفاضلها(2).

5 - ما مر من إشارة الآیات, نظیر قوله تعالی: وَ إِذْ قالَ إِبْراهِیمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَ اجْنُبْنِی وَ بَنِیَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ کَثِیراً مِنَ النّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِی فَإِنَّهُ مِنِّی وَ مَنْ عَصانِی فَإِنَّکَ غَفُورٌ رَحِیمٌ رَبَّنا إِنِّی أَسْکَنْتُ مِنْ ذُرِّیَّتِی بِوادٍ غَیْرِ ذِی زَرْعٍ عِنْدَ بَیْتِکَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِیُقِیمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِی إِلَیْهِمْ (3), ونظیر قوله تعالی: وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِی کُنْتَ عَلَیْها إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ یَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ یَنْقَلِبُ عَلی عَقِبَیْهِ وَ إِنْ کانَتْ لَکَبِیرَةً إِلاّ عَلَی الَّذِینَ هَدَی اللّهُ (4).

حیث مر أن هذه الآیات تبین قدسیة الکعبة والمسجد الحرام والقبلة إنما هو لتعظیم ذریة إبراهیم الذی هو سید الأنبیاء, وأهل بیته.

وکذلک قوله تعالی: فِیهِ آیاتٌ بَیِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِیمَ (5), أن جهة

ص:412


1- (1) الأحزاب: 53.
2- (2) السیوطی فی ذیل آیة النور, وکذلک مصادر الإمامیة.
3- (3) إبراهیم: 35 - 37.
4- (4) البقرة: 143.
5- (5) آل عمران: 96.

تقدیس البیت لاشتماله علی الآیات البینات ومن أعظمها مقام إبراهیم, وکذا قوله تعالی: إِنَّمَا الْمُشْرِکُونَ نَجَسٌ فَلا یَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا , حیث تبین الآیة أن إبعادهم عن المسجد الحرام لأجل عدم إقرارهم بکل من الشهادة الأولی والشهادة الثانیة. فلا قیمة لحجهم وصلاتهم بدون ولایتهم لله ولرسوله أیضاً, وهذا یفید أن عظمة الصلاة والحج کعبادات فی بیت الله الحرام إنما قیمتها بالولاء لله والولاء للرسول, وهو نظیر الغایة المذکورة فی کلام إبراهیم, أن الغایة بإقامة بیت الله الحرام هو ولایة الله, وهوی القلوب إلی ذریة إبراهیم, وکذلک ما فی قوله تعالی: وَ أَذِّنْ فِی النّاسِ بِالْحَجِّ یَأْتُوکَ رِجالاً وَ عَلی کُلِّ ضامِرٍ یَأْتِینَ مِنْ کُلِّ فَجٍّ عَمِیقٍ فجعل غایة الحج الوفود علی الله وعلی أنبیاء الله, لا مجرد أحجار الکعبة وبیت الله الحرام.

وذریة إبراهیم من ذریة إسماعیل والتی دعا إبراهیم وإسماعیل أن تکون من ذریتهما أمة مسلمة, کما فی سورة البقرة, وسورة الحج, وأن یُبعث سید الأنبیاء فیهم, هم من یکون الرسول منهم بنص الآیة فی قوله تعالی: وَ ابْعَثْ فِیهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ (1).

وهم أمة موحدة لم تشرک بالله طرفة عین, استجابة لدعائهما ولیسوا إلّا من شهد القرآن بطهارتهم من أهل الکساء من أهل بیته..

ص:413


1- (1) البقرة: 129.

وقد بسطنا الحدیث عن جمیع هذه الآیات فی محلّه(1) ویتحصل من ذلک أن عظمة المسجد الحرام والکعبة المشرفة, التی هی أعظم المساجد هی بعظمة الأنبیاء, وذریاتهم المصطفون, وأعظمهم سید الأنبیاء وأهل بیته.

فمن ثم تبیّن صحة ما ذکره السمهودی فی وفاء الوفاء, من (إجماع الأمة علی أن قبر النبی صلی الله علیه و آله أعظم من الکعبة المطهرة). وکذلک الحال فی مراقد أهل بیته.

ویتبین أن ما جاء مستفیضاً فی روایات أهل البیت (علیهم السلام) من أن أعظم وأقدس بیوت الأرض, وبیوت السماء وأرفعها تعظیماً عند الله وطهارة وقدساً هی بیوت النبی وأهل بیته (علیهم السلام) ..

وکذلک ورد عنهم أن البیت المقدس, وإن کان اسماً لمسجد الصخرة التی صلت فیه الأنبیاء إلّا أن الأعظم منه قدسیة مسجد الکوفة ومسجد النبی صلی الله علیه و آله . نعم ثواب الصلاة فی المسجد الحرام أعظم, ثم مسجد النبی, ثم مسجد الکوفة.. بل إن البیت المقدس, کما ورد عنهم(علیهم السلام), فی الدرجة السابقة علی مسجد الصخرة هو بیت الإمام المعصوم الحی.

6 - ما ورد متواتراً ومستفیضاً من الروایات من قدسیة وعظمة مراقد قبورهم الشریفة وقد جمع صاحب الوسائل فی أبواب المزار ما یزید علی المائة باب فی ذلک فضلاً عما جمعه غیره کالمحقق الشیخ النوری فی المستدرک والعلامة المجلسی فی البحار وغیرهم.

ص:414


1- (1) (الإمامة الإلهیة ج4/ 5).

فتحصل أن أعظم البقاع قدسیة علی الأرض, هو قبر النبی صلی الله علیه و آله وقبور أهل بیته (علیهم السلام) اندراجاً تحت هذه الطائفة من الآیات, فی ترتیب الأحکام الستة السابقة.

- وقد روی عن الباقر(علیه السلام): «ولا أعلم أن فی هذا الزمان جهاداً إلّا الحج والعمرة والجوار» (1).

وأما الروایات: فی فریضیة عمارة مرقد النبی صلی الله علیه و آله ومراقد أهل بیته:

الطائفة الأولی: بالنسبة لقبر النبی صلی الله علیه و آله , فقد استفاض بین الفریقین بل تواتر التشعیر لقبر النبی صلی الله علیه و آله , وتشعیر الروضة المبارکة فی مسجده الشریف. بل تمتد الروضة, إلی قبره الشریف, لقوله صلی الله علیه و آله المستفیض بین الفریقین: «ما بین قبری ومنبری روضة من ریاض الجنة» (2) بل وفی الطرق الکثیرة منها (ما بین منبری وبیوتی روضة من ریاض الجنة) وبیوته تمتد إلی بیت أم زمعة فیشمل بیت علی وفاطمة(علیهماالسلام) . وفی لفظ آخر: «ما بین بیتی ومنبری روضة من ریاض الجنة».

وفی المصحّح عن جمیل بن دراج, قال سمعت أبا عبد الله(علیه السلام) یقول: قال رسول الله صلی الله علیه و آله : «ما بین منبری وبیوتی روضة من ریاض الجنة, ومنبری علی ترعة من تُرع الجنة, وصلاة فی مسجدی تعدل ألف صلاة فیما سواه من المساجد إلّا المسجد الحرام؛ قال جمیل: بیوت النبی صلی الله علیه و آله وبیت علی منها, قال:

ص:415


1- (1) الکافی ج251 :1.
2- (2) (کامل الزیارات: 51 باب 3).

نعم وأفضل»(1).

أی أن السائل سأل أن بیت علی من بیوت النبی التی هی من ریاض الجنة, ولا تختص بالبیوت التی جعل فیها أزواجه, بل تشمل بیوت قرابته الخاصة, من أصحاب الکساء, کما هو مقتضی التحدید ما بین المنبر والبیوت, فبیوت النبی صلی الله علیه و آله شاملة لبیت علی وفاطمة والحسن والحسین(علیهم السلام), بل والأئمة من ذریة الحسین, وأنها أفضل بیوت النبی, والمراد مضافاً إلی تحدید البقعة الواقعة فی البین أن کل طرف فی نفسه علی روضة من ریاض الجنة, بمقتضی العموم الاستغراقی والمجموعی معاً, وهذا مطابق لما رواه السیوطی فی الدر المنثور عن ابن مردویه عن أنس بن مالک وبریدة, أن المراد من قوله تعالی: فِی بُیُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ عن النبی صلی الله علیه و آله : «أنها بیوت الأنبیاء, وأن بیت علی وفاطمة من أفاضلها» (2).

وهذا دال علی أن بیت علی وفاطمة نسبته إلی النبی أتم من نسبة بیوت وغرف أزواجه إلیه. وبالتالی فعموم بیوته شامل لبیوت ذریته المطهرة, وقد ورد مستفیضاً عن أهل البیت (علیهم السلام) فی الزیارات, هذا الدعاء المأثور فی الإذن للدخول لمشاهدهم ومراقدهم المطهرة: «اللهم إنی وقفت علی بابٍ من أبواب بیوت نبیک».

ویتطابق هذا المفاد المستظهر مع الروایات الخاصة الواردة فی کون مرقد کل منهم (علیهم السلام) روضة من ریاض الجنة, وکالمستفیضة الواردة فی کون

ص:416


1- (1) الکافی ج4/ باب المنبر والروضة ح556 :10. (وقد ذکر فیه صحاح عدیدة).
2- (2) (الدر المنثور/ سورة النور/ ج36 :5).

حرم الحسین(علیه السلام) روضة من ریاض الجنة(1).

وفی صحیح أبی هاشم الجعفری قال: سمعت أبا جعفر, محمد بن علی الرضا(علیه السلام) یقول: «إنّ بین جبلی طوس قبضة قبضت من الجنة, من دخلها کان آمناً یوم القیامة من النار»(2).

الطائفة الثانیة: ما ورد من تواتر الروایات فی زیارة قبورهم(3), نظیر ما رواه الصدوق فی الصحیح عن یاسر الخادم قال: قال علی بن موسی الرضا(علیه السلام): «لا تُشدّ الرحال إلی شیء من القبور إلّا إلی قبورنا, ألا وإنی مقتول بالسمّ ظلماً ومدفون فی موضع غربة, فمن شدّ رحله إلی زیارتی استجیب دعاؤه وغُفر له ذنوبه»(4).

وقد استفاض فی هذه الطائفة من الروایات کون زیارتهم وعمارة قبورهم من معالم شعائر الدین الکبری, فقد عقد صاحب الوسائل ستة وتسعین باباً وأخرج مئات الأحادیث فیها. ونظیر هذه الأبواب, أبواب المزار فی البحار للمجلسی, وفی مستدرک الوسائل للمیرزا النوری فضلاً عما أوردوه فی أبواب أحکام المساجد وغیرها؛ بل قد ورد الحث منهم علی زیارة قبورهم وعمارتها فی حال الخوف علی النفس, وهی سیرة شیعتهم منذ القرن الأول إلی یومنا هذا.

ص:417


1- (1) الوسائل أبواب المزار/ باب 67.
2- (2) أبواب المزار/ باب 82/ ح: 11.
3- (3) أبواب المزار فی الوسائل, وکتابی المزار للشیخ المفید, ومصباح المتهجد, وکامل الزیارات, وغیرها من کتب الزیارات.
4- (4) عیون أخبار الرضا ج285 :1.

الطائفة الثالثة: ما استفاض بل تواتر فی الروایات أن مراقدهم(علیهم السلام), حرم من حرم الله وحرم رسوله, نظیر ما فی لسان تلک الروایات فی آداب الزیارة: «ثم امش حافیاً فإنک فی حرم الله وحرم رسوله»(1).

وقد تعددت الروایات الواردة عنهم (علیهم السلام) أن الکوفة أفضل البقاع بعد حرم الله وحرم رسوله صلی الله علیه و آله , وبعدها مراقد الأئمة (علیهم السلام) , وأن ثواب الصلاة فیها, یأتی فی الفضل والعظمة بعد فضیلة المسجد الحرام والمسجد النبوی(2), ولا یقاس بها فضیلة بیت المقدس, أو غیرها من المراقد.. بل إن خصوص موضع قبورهم أعظم شأناً من الکعبة, کما صرّح بذلک السمهودی فی وفاء الوفاء, ونقل إجماع الأمة علی أن مرقد النبی صلی الله علیه و آله أعظم من الکعبة.

وفی صحیح جمیل بن دراج قال, قلت لأبی عبدالله(علیه السلام): الصلاة فی بیت فاطمة مثل الصلاة فی الروضة؟ قال(علیه السلام): «وأفضل».

وفی موثق یونس بن یعقوب؟ قال: قلت لأبی عبدالله(علیه السلام): الصلاة فی بیت فاطمة أفضل أم فی الروضة؟ قال(علیه السلام): «فی بیت فاطمة».

وغیرها من الطوائف الکثیرة, والذی یظهر من حاصلها, ترتب جملة الأحکام المتقدمة ذکرها للحرم المکی والحرم المدنی علی مراقد وعتبات بقیة الأئمة المعصومین (علیهم السلام) وهذا مما یقرّر مفاد هذه القاعدة الفقهیة .

ص:418


1- (1) لاحظ الوسائل/ أبواب المزار: آداب الزیارات التی أوردها.
2- (2) الوسائل/ أبواب أحکام المساجد/ کتاب الصلاة.

قاعدة :تعدد طرق الحکایة والإخبار عن الواقع

اشارة

ص:419

ص:420

تعدد طرق الحکایة والإخبار عن الواقع(1)

فی تحری الوقائع والأحداث:

لسان الحال - التصویر - التمثیل:

لا یخفی أن کشف الواقع, والوقائع الحادثة وحقیقة مجریات الأمور لا ینحصر بنقل الکلام والأقاویل للأشخاص الذین کانوا فی أطراف الحَدث والواقعة, فإنّ ما دار بینهم من أقوال وکلمات لا یمثل تمام مساحة الحَدث بالضرورة, بل هناک مساحات لم تحکِها الکلمات وکذلک الشأن بالنسبة إلی الشخص الشاهد للحدث, فإن ما تحکیه کلماته الواصفة للحدث من عدسة عینیه ولاقطة أذنیه, لا تمثل تلک الکلمات تمام مساحة حقیقة الحدث, وإن کانت کلمات هذا الشاهد المشاهد والراوی والناقل تتطرق وتغطّی مساحات من الحدث لیست هی أقوال وکلمات کل أطراف الحدث, بل تشمل ما یکون من قبیل الأفعال والحالات والظروف الأخری المحیطة والملابسات المختلفة, ولکن تبقی کلمات هذا الراوی المشاهد الناقل للحدث هی تعبّر عن جزء من مساحة حقیقة الحدث.. وتبقی مساحات کثیرة لا تُسجّل من حروف، وکلمات الرواة المشاهدین النقلة للحَدث، فیما إذا جمدنا علی حرفیة الحروف والکلمات التی وصفوا

ص:421


1- (1) تقریراً لأبحاث شیخنا الأستاذ السند (دام ظله)، بقلم جناب الأخ السید ریاض الموسوی دام توفیقه.

بها الحدث؛ وهو ما یُعبّر عنه فی علم البلاغة بالمفاد والمدلول المطابقی للکلام.

ومن ثمّ تقصّی الباحثون عن الحقیقة، کما فی علم القضاء، والبحث الجنائی, وفی علم التاریخ, وغیرها من العلوم التی یهمّها تحرّی الوقائع والأحداث، کعلم الفقه والکلام وغیرها من العلوم الدینیة والشرعیة, حیث أن مستند الحجیة, لا ینحصر فی قول المعصوم(علیه السلام), بل یشمل فعله وتقریره, وفعله یشمل سیرته وحالاته وسجایاه وعاداته وشؤونه.. کما أن تقریره یشمل سیرة من عاصره من الناس وأحوالهم وشؤونهم.

بل یشمل الارتکازات المطویة الغامضة التی یجری علیها العُرف المعاصر له.

فنقل تمام هذه المساحات من الحقیقة، أو الوصول إلیها لا یمکن الاقتصار فیه علی الکلمات المنقولة من جمیع الأشخاص الشاهدین للحدث فضلاً عن الاقتصار علی الکلام المنقول بکلام الراوی, ومن ثمّ تعدّدت طرق الحجیة فی الوصول إلی حقیقة الأحداث عَبر جملة من القنوات والآلیات:

الطریق الأول: دلالة الفعل:

دلالة الفعل، فالفعل مضافاً إلی حجیة إسناده للفاعل, له دور آخر, وهو دلالته علی مقاصد, ودواعی الفاعل من الفعل, فمن ثمّ أُطلق الکلام الإلهی علی أفعال الله تعالی، کقضاء الله سبحانه فعل من أفعال الله، وقدره کفعل آخر, وکذلک فعل مشیئته, فکلٌ منها مرتبة من الکلام الإلهی

ص:422

یکشف به عن مقاصد إلهیة, فالفعل والإیجاد فی عالم الخلقة کلامٌ حقیقی, دال علی معانی ومقاصد وراءه, وذلک بتوسط التحلیل المُمعن غوراً, ومن أمثلة قراءة قضاء الله تعالی وقدره ککلام وإرادة ما جری من خطاب عبید الله بن زیاد لعنه الله للعقیلة زینب سلام الله علیها, من قوله: «کیف رأیت صنع الله بأخیک, قالت: ما رأیت إلّا جمیلاً».

فإنه حاول أن یجعل قراءة قضاء الله وقدره کفعل إلهی دال علی قصد الله تعالی بالنکایة والنکال لسید الشهداء(علیه السلام) وهذه قراءة مزیفة لمدلول فعل الله بما هو بمثابة کلام إلهی دال علی مقاصد إلهیة.

فأجابته(علیهاالسلام) بأن مدلول قضاء الله وقدره, جمال مدیح لموقف سید الشهداء، ودللّت علی ذلک بما قالت(علیه السلام): «وسیجمع الله بینک وبینهم فتحاج وتخاصم, فانظر لمن الفلَج, ثکلتک أمک یا بن مرجانة».

فأشارت بأن قضاء الله وقدره فی کربلاء إنما یُحسن قراءته, والصواب فی قراءته هو بضمیمة قضاء الله وقدره فی العاقبة, فلا یصح بتر الأفعال الإلهیة عن بعضها البعض لأنها بمثابة کلام یفسّر بعضه بعضاً, وعلی أیة حال, فهذا دلیل علی أن الفعل الإلهی, حقیقته کلام وتکلّم منه تعالی مع البشر والمخلوقات, ولکنه إنما یحصّل قراءته من یلمّ بمجموع الأفعال الإلهیة, لیکون متوفراً علی مجموع الکلام والکلمات الإلهیة.

ونظیر ذلک ما قاله عبیدالله بن زیاد لعنه الله للإمام السجاد(علیه السلام), «ألم یقتل الله علیاً», فأجابه(علیه السلام): «کان لی أخ یدعی علیاً قتله الناس...».

فحاول ابن زیاد زیفاً أن یُسند فعل الناس إلی الباری, ویجعله فعلاً

ص:423

له, کی یقرأ منه أن المقصد الإلهی السخط علی نهضة سید الشهداء؛ فکذبّه الإمام زین العابدین(علیه السلام), بأن هذا الفعل هو فعل الناس ولیس فعل الله, فهذا وأمثاله نمط لقراءة الفعل بمثابة کلام دال علی غایات ومقاصد وهذا منبع ومصدر لقراءة الوقائع والأحداث.

الطریق الثانی: حجیة التقریر:

حجیة التقریر والإمضاء, مع أن التقریر لیس من القول المنطوق ولا من إبراز الفعل, بل هو حال صامت ودلالة مبطنة کامنة فی طیات ملابسات الظروف.

الطریق الثالث: الدلالات الالتزامیة للکلام:

لوازم القول, وهو نوع انکشاف للمعنی من قول القائل بما یستلزمه, أو تکلّمه بما یدل علیه من التزام, وقد تترامی هذه المدالیل الإلتزامیة عبر وسائط إلی حلقات بعیدة لم یقصدها القائل بالذات, ولم یلتفت إلیها تفصیلاً ولکنها مطویة فی کلامه بنحو یتوقف علیها من

دون أن یشعر القائل بذلک, ومن ثمّ یُحتج علی المتکلم بأقاریر کلامه من المدلولات الإلتزامیة وإن لم یفطن لها المتکلم, ویکون من باب: إقرار العقلاء علی أنفسهم جائز ونافذ.

وهذا نمط من استکشاف الحقیقة بعیداً عن الکلام المنقول وهو باب واسع.

ومن ثمّ تنسب هذه الأقاریر من وإلی المتکلم أنه اعترف بها.

ص:424

الطریق الرابع: إنشاء المعانی فی النفس:

وهو ما یسمّی بحدیث النفس, وهو نحو تخاطب بین النفس وذات الإنسان, وکثیراً ما یُحکی کمقولة یقولها الإنسان, ومن هذا القبیل النوایا والخواطر وقد یُجعل من أمثلة هذا القسم, ما فی قوله تعالی فی وصف أصحاب الکساء: وَ یُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلی حُبِّهِ مِسْکِیناً وَ یَتِیماً وَ أَسِیراً إِنَّما نُطْعِمُکُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لا نُرِیدُ مِنْکُمْ جَزاءً وَ لا شُکُوراً .

مع أن هذا الکلام لم یکن منهم (علیهم السلام) باللسان.

فحدیث النفس وإنشاء المعانی فی صفحة الخاطر أو غیره من بیوت النفس هو حدیث وتکلّم للنفس. بل إنشاء الحالات التکوینیة للنفس الحاملة لهویة وماهیة المعانی هو تکلّم نفسانی.

الطریق الخامس: المجمل والمفصل:

وهو بأن یتکلم المتکلم بکلامٍ مُجمل لا بمعنی الإبهام, بل بمعنی إجمال ینطوی فیه تفاصیل کثیرة غیر مصرّح بها ولکنها مُدمجة فی المعنی الإجمالی، وتُستخرج بالتدبّر والتمعّن. نظیر قوله تعالی للملائکة عندما اعترضوا علی استخلاف آدم: قالَ إِنِّی أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ - ثم عاود سبحانه وتعالی الخطاب مع الملائکة.

- بعد تعلیمه الأسماء وإنباء آدم للملائکة بالأسماء واعتراف الملائکة بقصور علمهم من علم الله تعالی وحکمته - عاود سبحانه بقوله قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَکُمْ إِنِّی أَعْلَمُ غَیْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما کُنْتُمْ تَکْتُمُونَ .

ص:425

فبیّن سبحانه وتعالی, تفصیلاً فی معاودته للخطاب لهم, وأسنَد التفصیل إلی ما أجمله سابقاً «مَا لاَ تَعْلَمُونَ» المجمَل, والمفصّل غیب السماوات والأرض.... «ما تُبْدُونَ وَ ما کُنْتُمْ تَکْتُمُونَ ».

- ونظیر قوله تعالی لنوح لمّا سأله فی ابنه وأنه من أهله وَ نادی نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِی مِنْ أَهْلِی وَ إِنَّ وَعْدَکَ الْحَقُّ وَ أَنْتَ أَحْکَمُ الْحاکِمِینَ فأجابه تعالی: قالَ یا نُوحُ إِنَّهُ لَیْسَ مِنْ أَهْلِکَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَیْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّی أَعِظُکَ أَنْ تَکُونَ مِنَ الْجاهِلِینَ قالَ رَبِّ إِنِّی أَعُوذُ بِکَ أَنْ أَسْئَلَکَ ما لَیْسَ لِی بِهِ عِلْمٌ وَ إِلاّ تَغْفِرْ لِی وَ تَرْحَمْنِی أَکُنْ مِنَ الْخاسِرِینَ . هود/ 45.

حیث أن سؤال نبی الله نوح, عن وعد الله الحق هو إشارة إلی قوله تعالی لنوح قبل الطوفان فَاسْلُکْ فِیها مِنْ کُلٍّ زَوْجَیْنِ اثْنَیْنِ وَ أَهْلَکَ إِلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَیْهِ الْقَوْلُ فکان استثناؤه تعالی مجملاً أوضح تفصیله لنوح فی قوله تعالی: إِنَّهُ لَیْسَ مِنْ أَهْلِکَ ، أن کنعان ابنه ممن سبق علیه القول.

فیصحّ إسناد الکلام المفصّل لمن تکلّم بالمُجمل بالمعنی المزبور کما یصح ا لعکس, أی إسناد المُجمل لمن تکلّم بالمفصّل ولعلّ هذا أحد الوجوه المفسِّرة لاختلاف نوع العرض للکلام والکلمات التی یسندها القرآن الکریم لأشخاص بین موضع وآخر فی القرآن الکریم, سواء فی تجاذب حوار أو کلام تخاطب.

الطریق السادس: لسان الحال والتصویر:

لسان الحال - ما دلّ علی حالة الشیء من ظواهر أمره: وقد عُرِّف بعدة تعاریف, من أنه انکشاف المعنی عن الشیء لدلالة صفة من صفاته,

ص:426

وحال من أحواله علیه, سواء شعر به أم لا کما تُفصح آثار الدیار الخربة عن حال ساکنیها, ودلالة سیماء البائس علی فقره.

ولا بأس فی البدءِ أن ننقل کلاماً حول حقیقة لسان الحال وحکمه، فی الحکایة والإخبار للسید ابن طاووس فی کتابه إقبال الأعمال.

قال: (ومن ذلک ما یتعلق بوداع شهر رمضان فنقول : إن سأل سائل فقال: ما معنی الوداع لشهر رمضان، ولیس هو من الحیوان الذی یُخاطب ویعقل ما یقال له باللسان. فاعلم، أن عادة ذوی العقول قبل الرسول ومع الرسول وبعد الرسول یخاطبون الدیار والأوطان والشباب وأوقات الصفا والأمان والإحسان، ببیان المقال، وهو محادثة لها بلسان الحال، فلمّا جاء أدب الإسلام أمضی ما شهدت بجوازه من ذلک أحکام العقول والأفهام، ونطق به مقدّس القرآن المجید، وقال: جلّ جلاله: (یوم نقول لجهنم هل امتلأت و تقول هل من مزید) - فأخبر أنّ جهنّم ردت الجواب بالمثال. وهو إشارة إلی لسان الحال وذکر کثیراً فی القرآن المجید، وفی کلام النبی صلی الله علیه و آله والأئمة (علیهم السلام) .

وکلام أهل التعریف، فلا یحتاج ذوو الألباب الإطالة فی الجواب (1).

- وقد قُرّر للسان الحال ضوابط وقواعد لضبط الدقة والصواب والسداد فیه, ونقدّم جملة من الأمثلة القرآنیة الواردة علی نمط لسان الحال, وقبل ذلک لا بد من الإشارة إلی أدلة واقعیة الحکایة بلسان الحال وصدقها:

ص:427


1- (1) إقبال الأعمال ج481 :1

واقعیة لسان الحال:

الأول: أنه قد تسالم بین المفسرین من الفریقین علی أن القرآن الکریم قد استعمل طریقة لسان حال فی إسناد جملة من الکلام والأقوال للأشخاص مع کون ذلک من باب لسان الحال, أی أن تلک الکلمات والکلام لم یصدر من أولئک الأشخاص بنحو الصوت الصادر من لسان المقال بل إنما هو حال وحالات أولئک دالة کلسان علی تلک المعانی التی أسند صدور کلماتها عنهم, وهذا أکبر شاهد علی کون طریقة لسان الحال طبق قواعد وضوابط هی مسوّغة لإسناد المقال إلی الأشخاص, وکذا إسناد الأفعال الإنشائیة والمعانی الاعتباریة إلیهم..

الثانی: قد تقدّم دلیل ضرورة تعدد الطرق المتنوعة فی الکشف عن الحقیقة لأن مساحاتها لا یمکن أن یغطیّها لسان القال والمقال وهی أعظم مساحة فی الأحداث, إذ مشاهد الحال, بحرٌ مترامی فیها, ولسان المقال لیس إلّا بمثابة قشرة السطح.

الثالث: ما سیأتی من شواهد استعمالیة فی القرآن الکریم علی ذلک.

الرابع: ما ورد عن أمیر المؤمنین(علیه السلام) من أن لسان الحال أصدق من لسان المقال.

وفی نقل آخر, أفصح منه, وفی نقل ثالث أبین. وفی نقل رابع «أصدق المقال ما نطق به لسان الحال»(1).

ص:428


1- (1) عیون الحکم والمواعظ: 124. وأیضاً: حکم الأمیر لعلی بن محمد اللیثی الواسطی.

والوجه فی ما قاله(علیه السلام) أن لسان الحال یندرج فی قسم سابع فی بیان الحقیقة ألا وهو الکلام والکلمة التکوینیة, حیث أن دلالة الأثر التکوینی علی المؤثر أو الآیة علی ذی الآیة لیست بالوضع والاعتبار, بل بالدلالة العلمیة والتسبّب التکوینی, وانعکاس الأثر عمّا فی المؤثر من صفات.

الخامس: أن فی لسان الحال معنی تصویریا للحدث هو أبلغ تأثیراً فی تحسّس ولمس المشاهد بواقع المجریات والإدراک التفاعلی للوقائع من المعنی السمعی أو الفکری.

- أما استعراض شواهد استعمالیة فی القرآن الکریم علی لسان الحال ولیس من الضروری صحة هذه الأمثلة بأجمعها أنها من لسان الحال ولا یعنی استعراضها, الموافقة علی کون الجمیع من مصادیق لسان الحال. ولکن یکفی صحة بعضها فضلاً عن غیرها من الموارد التی لم نستقص ذکرها فی المقام, کما أن هذه الأمثلة بغض النظر عن صحتها تبین تسالم المفسرین علی وجود لسان الحال کأسلوب فی الحکایة عن الواقع والأحداث:

1 - قوله تعالی: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَکَنُودٌ وَ إِنَّهُ عَلی ذلِکَ لَشَهِیدٌ .

ومعنی کنود: أی لکفور, أی الکفر العملی لا الکفر المقالی.

2 - قوله تعالی: فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِیا طَوْعاً أَوْ کَرْهاً قالَتا أَتَیْنا طائِعِینَ .

فإن جملة من المفسرین, فسّروا إسناد القول أَتَیْنا طائِعِینَ إلی أن

ص:429

المراد هو لسان الحال وأن حالهما هو الانقیاد التکوینی له تعالی, وهو الطوع التکوینی, کما أن إسناد القول له تعالی مخاطباً للسماء والأرض یُراد به الفعل التکوینی منه تعالی الذی هو بمثابة تکلّم تکوینی لا قولی ومقالی, وعلی هذا التفسیر للآیة یُقرر أن الکلام التکوینی أصدق فی انطباق عنوان القول علیه من المقال والکلام الصوتی.

3 - قوله تعالی: وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّکَ مِنْ بَنِی آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّیَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلی أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّکُمْ قالُوا بَلی شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا یَوْمَ الْقِیامَةِ إِنّا کُنّا عَنْ هذا غافِلِینَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَکَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَ کُنّا ذُرِّیَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَ فَتُهْلِکُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ الأعراف: 172.

فقد فسّر الآیة غیر واحد من المفسّرین أن خطاب الله للذریة فی عالم الذر وإسناد القول له إنما هو بلسان الحال لا التخاطب بلسان المقال, بأن رکّب تعالی فی فطرهم ما یشهد تکویناً بربوبیته تعالی.

4 - وقوله تعالی: یَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِیدٍ . فقد ذکر غیر واحد أن إسناد ردّ الجواب المقالی إلی جهنم إشارة إلی لسان الحال.

بل وحملوا جملة من الآیات الواردة فی عوالم المیثاق والعهد السابقة لنشأة الدنیا علی لسان الحال واقتضاء الاستعداد کما فی المثال اللاحق.

5 - قوله تعالی: وَ إِنْ مِنْ شَیْ ءٍ إِلاّ یُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لکِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِیحَهُمْ أن الموجودات ناطقة بالحمد بلسان الحال حیث تشهد عظمة خلقتها علی عظمة الباری سبحانه فهو بمنزلة ثناء وحمد وتمجید.

ص:430

ونظیره قوله تعالی: وَ النَّجْمُ وَ الشَّجَرُ یَسْجُدانِ بأنها فاعلة لذلک کأفعال قصدیة بلسان الحال.

6 - قوله تعالی: لَقَدْ کانَ لِسَبَإٍ فِی مَسْکَنِهِمْ آیَةٌ جَنَّتانِ عَنْ یَمِینٍ وَ شِمالٍ کُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّکُمْ وَ اشْکُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَیِّبَةٌ وَ رَبٌّ غَفُورٌ فکونهم یخاطبون ب- کُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّکُمْ وَ اشْکُرُوا... بلسان الحال لا لسان المقال ومع ذلک ذکر فی الآیة کإسناد مقال.

7 - وقوله تعالی: یَسْئَلُهُ مَنْ فِی السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ کُلَّ یَوْمٍ هُوَ فِی شَأْنٍ . فقد فسّر السؤال کثیر من المفسرین بأنّه لیس نطقاً وإنما باقتضاء حال وطبیعة المخلوقات أنها تفتقر إلی مَدد باریها فسؤالها هو بلسان الحال.

8 - وقوله تعالی: ما کانَ لِلْمُشْرِکِینَ أَنْ یَعْمُرُوا مَساجِدَ اللّهِ شاهِدِینَ عَلی أَنْفُسِهِمْ بِالْکُفْرِ فقد فُسّرت شهادة الکافرین علی أنفسهم لا بنطق اللسان بل أن حالهم وموقفهم, وما هم علیه من ملّة شاهد علی جحودهم وإنکارهم. فإصدارهم لأفعالهم بمثابة الشهادة من أنفسهم علی کفرهم.

الوجه السابع: النقل بالمعنی ولسان الحال:

9 - وقوله تعالی: وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً .

فقد اعتمد جملة من المفسرین - وهو الذی یظهر من الروایات الواردة فی ذیلها - أن عباد الرحمن, حالهم فی مقابلة جهالة الجهال أنهم یغضّون الطرف ویصفحون لئلا ینشغلوا بهم, وبترّهاتهم.

فإسناد قولهم أن ما یبدون من فِعال بمثابة هذا القول وأن ما یجیبون به

ص:431

خطاب الجهال کلاماً ینطبق علیه عنوان السِلم والصَفح، فإسناد لفظة السلامة إلی مقالهم بلحاظ المعنی وحال المضمون, وهو قریب من لسان الحال.

وهذا الوجه ینبّه علی وجه آخر لاعتبار وحجیة لسان الحال, وهو أن النقل بالمعنی معتبر ومعتد به, مع أنه لیس نقلاً حرفیاً لألفاظ المقال لاسیما وأن النقل بالمعنی علی طبقات ودرجات, فمنه القریب من ألفاظ مقال القائل, ومنه البعید عن تلک الألفاظ, ولکن حقیقة المعنی متقررة فی تلک المعانی, وهو نظیر ما مرّ فی باب الإقرار المقالی من الشخص المقر وعموم باب التقاریر, حیث أنه یسند إلی المقر فی ما قاله جملة من المعانی والأمور التی لم یلتفت إلیها وإلی تفاصیلها, لا بالالتفات التفصیلی ولا بالالتفات الإجمالی.

فإسناد الإقرار إلی مقاله, وأنه أقرّ بذلک مقال قریب من لسان الحال, وهذا ما یفتح الباب واسعاً لاستکشاف الحقائق. وأن الطریق إلیها, لا یقتصر علی الألفاظ وحدود المعانی التی تکلم بها فی نطاق السطح المطابقی للکلام.

الوجه الثامن: الکلام التکوینی للأفعال:

ویمکن تقریر هذا الوجه ببیان آخر وهو أن کل فعلٍ یبدیه الإنسان یُعد نمطاً من التکلّم, وإبرازاً لما هو مضمر فی مکنونه, وهذا یشمل أفعال البدن والخواطر أی المعانی التی یوجدها فی خاطره, والحالات الروحیة التی تتکون متولدة منه ویکون له دور وتسبیب فی تکوینها ولو بلحاظ المقدمات البعیدة, وإنما یکون قوله اللسانی کلاماً لا بلحاظ الأصوات الدالة علی المعانی فحسب, بل یکون متکلماً بلحاظ أنه یبرز منه بمقاله

ص:432

والمعانی التی یستعملها مضمرات مکنونة فی شخصیته, وهذا الذی یشیر إلیه قول أمیر المؤمنین(علیه السلام): «المرء مخبوّ تحت لسانه» (1).

وقوله(علیه السلام): «المرء مخبو تحت لسانه فإذا تکلم ظهر»(2).

ونظیر قوله تعالی: «وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِی لَحْنِ الْقَوْلِ » فإن دلالة القول هنا علی حالة النفاق فی الأشخاص لیست من جهة أصوات الکلمات ودلالتها الاعتباریة الوضعیة علی المعانی الذهنیة بل من جهة أن القول فعل من أفعال الإنسان یبرز مکنون حاله.

فمعالم شخصیة المرء, وطابع توجهه یُکشف ویبرز بإقدامه علی التعاطی بجملة من المعانی والأصوات, فهی تکشف تکویناً عن ما وراءها.

فجملة حرکات الإنسان وسکناته وأفعاله تکلّم تکوینی من الإنسان. وقولٌ کونی وجودی.

- کما فی قوله(علیه السلام): «ما أضمر أحدٌ شیئاً إلّا وظهر فی فلتات لسانه وصفحات وجهه»(3).

10 - وقوله تعالی: لِمَنِ الْمُلْکُ الْیَوْمَ لِلّهِ الْواحِدِ الْقَهّارِ .

فإن جملة من المفسرین ذهبوا إلی أن حال المخلوقات یومئذ من الفناء والهلاک بحیث لا توجد قدرة إلّا له سبحانه وتعالی, وحال کل ما سواه

ص:433


1- (1) بحار الأنوار ج166 :74.
2- (2) مناقب آل أبی طالب ج326 :1.
3- (3) شرح نهج البلاغة لابن ابی الحدید ج137 :18.

تتجلّی بکونها مقهورة له تعالی.

لا أنه یُخلق نداء بهذه الألفاظ, فهو من قبیل لسان الحال.

11 - وقوله تعالی: قالَتْ نَمْلَةٌ یا أَیُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساکِنَکُمْ لا یَحْطِمَنَّکُمْ سُلَیْمانُ وَ جُنُودُهُ وَ هُمْ لا یَشْعُرُونَ فَتَبَسَّمَ ضاحِکاً مِنْ قَوْلِها (1). فإنه قد ذکر عدة من المفسرین أن قول النملة لیس کلاما لها وإنما فعلها مع بقیة أفراد مجموعتها حالها بمثابة قول لها.

12 - وقوله تعالی: فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَ جِئْتُکَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ یَقِینٍ (2)

فإن کثیراً من المفسرین حملها علی لسان الحال, من النملة ومن الهدهد.

13 - وقوله تعالی: وَ أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما کُنْتُمْ تَکْتُمُونَ .

وهذه الآیة وإن کانت قد تقدمت أنها من المفصّل لما کان مجملاً إلّا أن مفادها ینطبق علی وجه آخر أیضاً بلحاظ جهة أخری فی مفادها, وهو أن التکلم عبارة عن إبراز وإظهار ما فی النفس من المعانی، فقوام القول والکلام هو إنشاء المعانی فی النفس بإنشاء تکوینی, من أحاسیس وخواطر ومشاعر وهواجس وإحساسات, وخیالات وأوهام وأفکار ووجدانیات ورؤی وآمال وغیرها من المعانی الکثیرة التی تنشئها النفس بتفاعل فإنها بمثابة درجة من التکلم.

ص:434


1- (1) النمل: 19 ,18.
2- (2) النمل: 22.

ومن ثم أطلق علیها بالکلام النفسی والنفسانی وحدیث النفس, فإنه درجة من الکلام, وکأن فطرة الإنسان ومعدن طینته کالأمر المضمر والمُجمل والمُکمَّم, فیُفتّق رتقه لإنشاء وإبراز ذلک المُضمَر المدفون والمعدن المطمور والکنز المستور, فکل درجة من درجات الإبراز والظهور فی طبقات صفحات النفس تُعدّ درجة من درجات التکلّم, ومنه یظهر أن لسان الحال هو من حقیقة التکلّم والکلام وأنه لا یقتصر علی الإبراز بلُحمة اللسان, ولا بالصوت القارع بشحمة الآذان, فیندرج لسان الحال حقیقةً فی الکلام والقول لأنه إبراز ما فی معدن وطینة الإنسان, فمن ثم تکون کل أفعال الإنسان تکلّماً وقولاً.

الوجه التاسع: التمثیل والتصویر:

یعتبر التمثیل والتصویر نمطان بارزان من أنماط لسان الحال ولا یقتصر التمثیل والاستعمال للسان الحال بمنزلة الکلام والقول علی الآیات الشریفة, بل هناک من الروایات الشیء الکثیر..

1 - (ما أضمر أحدٌ شیئاً إلّا ظهر فی فلتات لسانه وصفحات وجهه)(1). ومفاد هذا الحدیث یطابق ما مرّ تقریره من أن حقیقة الکلام غیر منحصرة بإبرازه بلحمة اللسان, بل یشمل ما یُضمر فی النفس والوجدان من ما ینشئ فی صفحاتها من معانی وأحادیث.

2 - ما ورد فی بعض الروایات عن الإمام الصادق(علیه السلام) أنه قال: (ما

ص:435


1- (1) شرح نهج البلاغة لابن ابی الحدید ج137 :18.

من یوم یأتی علی ابن آدم إلاّ قال له ذلک الیوم: یا ابن آدم، أنا یوم جدید، وأنا علیک شهید، فقل خیراً واعمل فیّ خیراً، أشهد لک به یوم القیامة، فإنک لن ترانی بعدها أبداً) (1).

3 - وما ورد فی دعاء وداع شهر رمضان للإمام السجاد(علیه السلام)، حیث یقول(علیه السلام) فیه: «... فنحن قائلون: السلام علیک یا شهر الله الأکبر، ویا عید أولیائه، السلام علیک یا أکرم مصحوب من الأوقات...» (2).

4 - ما ورد فی ثواب صوت المؤذن وأنه یشهد له کلّ رطب ویابس یصل إلیه صوته، کما ورد عن النبی صلی الله علیه و آله أنه قال: (المؤذنون یخرجون من قبورهم یوم القیامة یؤذنون ویغفر للمؤذن مدّ صوته، ویشهد له کل شیء سمعه من شجر أو مدر أو حجر رطب، أو یابس...) (3).

5 - ما ورد فی مصحح أبی هارون المکفوف, قال: قال: أبو عبد الله(علیه السلام): یا أبا هارون أنشدنی فی الحسین(علیه السلام), قال: فانشدته فبکی, فقال: أنشدنی کما تنشدون - یعنی بالرقة - قال فأنشدته:

أمرر علی جَدث الحسین فقل لأعظمه الزکیة

یا أعظماً لا زلت من وطفاء ساکبة رویة

وإذا مررت بقبره فأطل به وقف المطیة

ص:436


1- (1) الکافی ج523 :2.
2- (2) الصحیفة السجادیة: 229.
3- (3) مستدرک الوسائل ج37 :4.

وابک المطهّر للمطهّر والمطهرةِ النقیة

کبکاء معولة أتت یوماً لواحدها المنیة

قال: فبکی, ثم قال: زدنی, فأنشدته القصیدة الأخری, قال: فبکی. وسمعت البکاء من خلف الستر, قال: فلما فرغت: قال لی: یا أبا هارون من أنشد فی الحسین(علیه السلام) شعراً فبکی وأبکی عشراً کتبت له الجنة, ومن أنشد فی الحسین(علیه السلام) شعراً فبکی وأبکی خمساً کتبت له الجنة, ومن أنشد فی الحسین شعراً فبکی وأبکی واحداً کتبت لهما الجنة» الحدیث(1).

وتقریب الاستدلال: أن مضمون الأبیات التی ذکرها المُنشد, هو تمثیل وتصویر بلسان الحال, ولیس من الإخبار وکلام المقال, وإلّا فلیس هناک حوار بین الزائر, وبین عظام سید الشهداء(علیه السلام), فهی استعارة تمثیلیة ذکرها المُنشد, لأجل تصویر حیاة الإمام الحسین(علیه السلام), وأن قلوب المؤمنین منجذبة ومرتبطة به, وأن قرحة المصاب وآلام الحزن لا زالت تُبکی عیون المحبین من شیعة الحسین(علیه السلام).

وبهذا التقریب یکون أمره(علیه السلام) لهذا المنشد, بالإنشاد هو بهذا المنوال والشاکلة الذی یکون الغالب فیه؛ طریقة لسان الحال ممّا یتم الترکیز فیه علی المعانی والحالات المعنویة؛ والمشاعر الروحیة, والعواطف النفسانیة؛ والتی هی جزء من الواقع, حیث مرّ أن الواقع والحقیقة لا یقتصر علی المحسوس بالحواس الخمس. فإن المشهد الروحی والنفسانی والفکری والقلبی والعقلی

ص:437


1- (1) کامل الزیارات: باب 33/ 1.

فی واقعة الطف عالم کبیر, حافل بکثیر من الحقائق والمقامات والأهوال ومضمار المیادین الواسعة, التی هی أوسع أُفقاً ورحابةً من البقعة الجغرافیة لواقعة الأبدان فی معرکة الطف فإن الزخم الروحی, والتفاعل النفسانی, هو ذو مشاهد کبیرة, وکثیرة بل هو بحور هائلة من المعانی لا تحصی ولا تُعد. فأین الآلیة الراصدة والمجهر الکاشف لکل تلک المساحات الغائبة عن أعین البصر المادی والجسمانی, وعن أذان البدن المادی.

فبالله علیک, هل لعاقل أن ینحسر نظره عن کل تلک المساحات من حقیقة واقعة الطف, والتی هی بمثابة الروح واللب للواقعة, ویقتصر علی القشور والهوامش, فإن منازلة الطف هی منازلة روحیة فی أساسها وأصلها, ومواجهة عقلیة ومقابلة فکریة, ومحاربة نفسانیة. أکثر مما هی اشتباک عسکری بالأبدان والأجساد.

- وبتقریب ثان للروایة, أنه(علیه السلام): عندما أمر الراثی بالإنشاد, فقرأ قصیدته الأولی, والتی مرّت أنها بلسان الحال حیث تعکس الجوانب الروحیة والمعنویة فی بحر واقعة الطف, لم یردعه(علیه السلام) عن ذلک, بل أکّد له بمزید من الطلب والأمر والحث والترغیب علی مثل هذا الشعر والإنشاد؛ ورغّبه بعظیم الثواب والجزاء.

- وبتقریب ثالث: إن أمرهم (علیهم السلام) بإنشاد الشعر بعنوان الشعر لا بعنوان النثر والکلام النثری, هو بنفسه دال علی تقریر باب لسان الحال فی التذکیر بواقعة الطف وأن هذا الباب, من أعظم الأبواب التی یمکنها کشف مساحات عظیمة مغفول عنها فی تلک الملحمة.

ص:438

حیث أن الشعر بطبعه فیه حالة التحلیق فی عالم الخیال وإثارة الأحاسیس النفسانیة, وتکثر فیه البراعة فی التصویر, والإثارة النفسانیة, کل ذلک مع وقع تفعیلة الأوزان الشعریة, و وقع صوت الکلمات, فمن أجل ذلک جُعلت المباینة بینه وبین القرآن الکریم الذی هو کلام الله کما فی قوله تعالی: وَ ما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَ ما یَنْبَغِی لَهُ إِنْ هُوَ إِلاّ ذِکْرٌ وَ قُرْآنٌ مُبِینٌ یس: 69 وکذا قوله تعالی: وَ الشُّعَراءُ یَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ أَ لَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِی کُلِّ وادٍ یَهِیمُونَ وَ أَنَّهُمْ یَقُولُونَ ما لا یَفْعَلُونَ إِلاَّ الَّذِینَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ وَ ذَکَرُوا اللّهَ کَثِیراً وَ انْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا (1).

فبینت هذه الآیات أن الشعر بطبیعته التخیّلیة, غوایة عن الحق, وأنه یسلک بصاحبه إلی کل اتجاه عبثاً, وأن أقواله لیست نابعه من إلتزام وصدقیة, وإنما ثرثرة معانی وتزویق کلمات.

القرآن والدعوة للإنشاد والشعر فی أهل البیت (علیهم السلام) :

ولکنه سبحانه وتعالی, استثنی المؤمنین العاملین للصالحات والذاکرین الله کثیراً والذین یستخدمون آلة الشعر لنصرة المظلوم, وتقریع الظالم وهذا باب عظیم لتقسیم وتصنیف الشعر, أبداه القرآن الکریم؛ فذکر لمواصفات الشعر الصالح الهادف.

أولاً: أن یکون منطلقاً من مقتضیات الإیمان والاعتقادات الحقة.

ثانیاً: أن یکون منطلقاً وداعیاً إلی العمل الصالح بخلاف الشعر الذی

ص:439


1- (1) الشعراء: 24 - 27.

یدعو إلی البطر والأشر واللهو والمجون والفسق والتحلّق وغیر ذلک..

ثالثاً: أن یوجب التذکیر بالله تعالی کثیراً, بخلاف النمط الآخر من الشعر الذی یصدق علیه قوله تعالی: وَ مِنَ النّاسِ مَنْ یَشْتَرِی لَهْوَ الْحَدِیثِ لِیُضِلَّ عَنْ سَبِیلِ اللّهِ بِغَیْرِ عِلْمٍ وَ یَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِکَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِینٌ لقمان: 6.

رابعاً: أن یکون نصرةً للمظلوم, ومواجهةً للظالم.

فهذه أرکان أربعة للشعر الهادف الممدوح أساساً فی القرآن الکریم؛ فنلاحظ انطباق هذه الأسس الأربعة, علی الشعر الذی یُنشد فی فضائل أهل البیت, وفی رثائهم, وذکر مصائبهم, وفی فضح أعدائهم.

ومن أعظم مصائبهم (علیهم السلام) ما جری علی سید الشهداء(علیه السلام).

- أما الأساس الأول: فهو مقتضی فریضة الإیمان بولایتهم وخلافتهم من الله ورسوله, ووصایتهم للنبی صلی الله علیه و آله .

وأما الأساس الثانی: فلأن إنشاد الشعر فی أهل البیت هو امتثال للأمر بصلتهم, وهم أعظم رحم أوصی به القرآن الکریم.

فیکون من أبرز الأعمال الصالحة. وکذلک هو طاعة للمودّة لهم.

وأما الأساس الثالث: فلأنهم جُعلوا السبیل إلی الله بنص القرآن, حیث قال تعالی: قُلْ لا أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبی الشوری: 23.

- وقال تعالی: قُلْ ما سَأَلْتُکُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَکُمْ .

- وقال تعالی: قُلْ ما أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاّ مَنْ شاءَ أَنْ یَتَّخِذَ إِلی

ص:440

رَبِّهِ سَبِیلاً فبیّن سبحانه وتعالی: أن أجر الرسالة هی مودة قربی النبی صلی الله علیه و آله , وأن هذا الأجر نفعه عائد للبشریة, وأن هذه المودة لأهل البیت (علیهم السلام) هی السبیل إلی الله سبحانه: «فکانوا هم السبیل إلیک والمسلک إلی رضوانک.

وأما الأساس الرابع: فإنَّهم (علیهم السلام) ظُلموا واُبعدوا عن الحق الذی جعله الله لهم واضطهدوا, ودُفعوا عن مراتبهم التی رتبّهم الله فیها.

وفی الحقیقة أن نصرتهم هی نصرة للدین القویم کما أشار إلیه قوله تعالی: قُلْ ما سَأَلْتُکُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَکُمْ .

ومن ذلک نری سیرة النبی صلی الله علیه و آله علی حث الشعراء, فی عصره, کحسان بن ثابت وغیره فی إنشاد الشعر فی أهل البیت (علیهم السلام) . والفضائل التی أنزلها القرآن فیهم (علیهم السلام) . ولأجل ذلک قد ورد مستفیضاً الحث علی إنشاد الشعر فیهم (علیهم السلام) .

- وقد روی الصدوق فی عیون أخبار الرضا(علیه السلام). (المتضمنة للحث علی إنشاد الشعر فیهم (علیهم السلام) ).

- وقد عقد السید البروجردی فی جامع أحادیث الشیعة, باباً فی استحباب انشاد الشعر فی الحسین(علیه السلام) وأهل البیت, وذکر فیه ثمان وعشرین روایة فی ج12.

وعقد صاحب الوسائل باباً فی استحباب إنشاد الشعر فیهم (علیهم السلام) باب 104/ من أبواب المزار.

فتحصّل أن إسناد القول والکلام إلی الشخص بلحاظ واقع حاله

ص:441

لسان أصدق وأبین وأثبت من لسان المقال، وأن هذا الإسناد حقیقی سواء بلحاظ الفعل الصادر عنه علی مستوی جوارح البدن أو علی مستوی الجوانح. أو کان حالاً من الأحوال وسواء کان للبدن أو للنفس, وإن رجع الحال إلی کونه فعلاً صادراً منه بحسب النظر الدقیق الممعِن, وأن هذا الإسناد لیس علی نحو المجاز أو التوسّع شریطة أن یکون الحال حقیقیاً.

التصویر:

أما ما ورد فی التصویر، فعدة روایات:

1- ففی مصححة أبی هارون المکفوف, قال: دخلتُ علی أبی عبد الله(علیه السلام), فقال لی: أنشدنی, فأنشدته, فقال(علیه السلام): لا, کما تنشدون, وکما ترثیه عند قبره. فقال: وأنشدته:

أمرر علی جَدث الحسین فقل لأعظمه الزکیة

قال: فلما بکی، أمسکتُ أنا. فقال: مُرّ.

فمررتُ. قال: ثم قال: زدنی, زدنی. فأنشدته:

یا مریم قومی فاندبی مولاکِ وعلی الحسین فاسعدی ببکاکِ

قال فبکی وتهایج النساء. الحدیث(1) .

- وتقریب الاستدلال, أن الشاعر والمنشد (الرادود) القارئ والملّا

ص:442


1- (1) کامل الزیارات: باب 33/ ح5.

قام بعملیة تصویر فی کل من البیتین مشیراً للمشاعر والعواطف بنحو التصویر الذی یقوم به الشعراء، ففی البیت الأول, قام بتصویر شخص یخاطب آخر, ویأمره بالمرور علی قبر الحسین(علیه السلام), وأیضاً صوّر الشاعر حوار وتخاطب بینه وبین العظام الزاکیات لسید الشهداء(علیه السلام).

فقام بعملیة حوار مفصّل فی الأبیات الأخری بین شخص الزائر وجثمان سید الشهداء(علیه السلام).. وقد أقرّه الإمام(علیه السلام) علی هذا التصویر, بقوله(علیه السلام): مُر. أی (أمض فی تصویرک وتابع بقیة المشهد التصویری الذی أنشأته).

- وأما القصیدة الثانیة التی مطلعها البیت الثانی.

فلا یخفی وجه التصویر فیه, حیث صوّر تعاطف وتعاون رجل وامرأته علی الرثاء والبکاء علی الحسین(علیه السلام) وأنهما أقاما مأتماً یتناشدان فیه مصاب سید الشهداء(علیه السلام). فهنا نری أن هذا التصویر زاد من حرقة بکاء نساء وحرم الصادق(علیه السلام), وتهایجن بالبکاء. وأشعل مزید من الحزن لدیهن بصراخ, وقد أقرّ الإمام(علیه السلام) المنشد (الرادود) علی ذلک, وحثّه علی هذا الطریق وحثّ غیره من المؤمنین(علیه السلام), بذکر مدی الثواب العظیم لذلک.

2- ما رواه الشیخ المفید فی المزار، والسید ابن طاووس والشهید الأول فی مزاره، أنه إذا أردت زیارة النبی صلی الله علیه و آله فیما عدا المدینة الطیبة، من البلدان، فاغتسل ومثّل بین یدیک شبه القبر، واکتب علیه اسمه الشریف، ثم قف، وتوجّه بقلبک إلیه، وقل: (أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا

ص:443

شریک له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله...) (1).

3 - وروی المشهدی فی المزار الکبیر، بسنده الصحیح عن عبد الله بن سنان، عن الصادق(علیه السلام)، فی حدیث عن کیفیة الزیارة لسید الشهداء من البعد، وفیها: ... ثم تسلّم وتحوّل وجهک نحو قبر الحسین(علیه السلام)، ومضجعه، فتمثل لنفسک مصرعه، ومن کان معه، وتلعن قاتلیه، وتبرأ من أفعالهم، یرفع الله عَزَّ وَجَلَّ لک بذلک فی الجنة من الدرجات، ویحط عنک من السیئات) (2).

ویتحصّل من کلّ ما مرّ، استعراض تسعة وجوه وطرق للحکایة عن الواقع، تختلف عن حکایة الکلام الإخباری بل هی طرق أخری ترصد فی الأصل مساحات من الحقیقة والواقع غیر محسوسة بالبصر ولا مسموعة بالأُذن، إلاّ أنّ الواقع یعیشها، ویتعامل معها بتفاعل، فلإنکشافها وإظهارها آلیات، تغایر قالب وإطار الکلام والنطق باللسان. فلا یمکن حصر القنوات الرافعة للستار والکاشفة اللثام، والمزیلة للغطاء عن الواقع، إلاّ بضمیمة هذه الطرق والقنوات الأخری، وما استعرضناه، لیس استقصاءاً نهائیاً لتلک الطرق، وإنما، ذکرنا جملة مهمة منها.. والأمر بعد یحتاج إلی المزید من الاستقراء وإمعان من التحلیل والتتبّع.

ص:444


1- (1) الإقبال لابن طاووس/ ط حجریة: 604 - وفی بحار الأنوار ج 183 :97 - باب 3/ من أبواب زیارة النبی صلی الله علیه و آله من البعد.
2- (2) المزار الکبیر للمشهدی/ باب 12/ قسم 4/ الزیارة السادسة/ ص: 473.

فائدة:فی عموم مانعیة الغرر عن الصحة

اشارة

ص:445

ص:446

فائدة فی عموم مانعیّة الغرر والشروط

العقلائیة للصحة

وتطبیقها فی عقد التامین انموذجا

اشارة

وهو مبنی علی عموم مانعیّة الغرر فی العقود وعدم اختصاصه بالبیع، أی علی تمامیّة تلک الکبری، فقد وقع الکلام عن الدلیل علی ذلک؛ إذ النصّ الوارد المعتبر إنّما هو «نهی النبیّ صلی الله علیه و آله عن بیع الغرر»(1). ولیس «نهی النبیّ عن الغرر» کی یعمّ. ولم یعثر علی روایة ولو مرسلة فیها التعمیم وإن ادّعی البعض العثور علیها، فغایة ما ثبت «نهی النبیّ عن بیع الغرر.

نعم، استظهر البعض عدم خصوصیّة البیع، وأنّ النهی أعمّ وإن ورد فیه.

والصحیح أنّ الغرر مانع فی کلّ العقود لا فی خصوص البیع، والوجه فی ذلک هو البناء العقلائی علی مانعیّة الغرر فی بقیّة العقود، خلافاً لما قیل من: أنّ الغرر لیس من الشروط العامّة فی صحّة کلّ العقود، فلا یسلّم بمانعیّته فی عقد التأمین.

ولا یخفی أنّ أدلّة الصحّة فی العقود موضوعها المعاملة العقلائیّة العرفیّة، مثلًا:

ص:447


1- (1) وسائل الشیعة، ج17، ص447.

وَ أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ (1) کدلیل للصحّة أخذ فی موضوعه البیع العرفی لا الشرعی، وإلّا لکان تحصیلًا للحاصل.

و هذا البیع العرفی الذی یصحّحه الشارع یجب أن یکون فی الرتبة السابقة واجداً للشروط العقلائیّة العرفیّة؛ إذ بدونها لا یکون البیع فی نظرهم موجوداً، فلا یکفی فی البیع توفّر الشروط الشرعیّة التأسیسیّة فقط.

نعم، العرف هاهنا بمعنی لغة القانون البشری الوضعی، وهذا باب ینفتح منه اعتبار الشروط فی المعاوضات وإن لم یرد فیه نصّ خاصّ. نعم، قد یفرض أن یضیف الشارع بعض الشروط أو یلغی بعضها، وهذا تقدیر آخر.

و مانعیّة الغرر عند العقلاء غیر مخصوصة بالبیع، بل فی مطلق ماهیّة المعاوضة؛ إذ التعاوض نوع مساواة مالیّة بین الطرفین ولا تتمّ المعاوضة والمساواة بین المالین إلّا بالعلم بذات وقدر الطرف الآخر وتقرّره، فلابدَّ من الإحاطة بکلّ من الطرفین کی یتمکّن من عملیّة المعاوضة بینهما، وإلّا لم تکن معاوضة، بل هبة مبتدأة أو شبهها أو صالحاً لا یبتنی علی التعاوض، بل علی التقابل بالرضا.

ولذلک قیل بجواز هدیة المجهول، مثل: «وهبتک ما فی الکیس»، وکذا فی الوقف، وفی المضاربة، وغیرها من العقود الإذنیّة، وهذا بخلاف المعاوضات.

ص:448


1- (1) البقرة: 275.

ولا نقصر الکلام فی الإحاطة والعلم بالعوضین علی خصوصیّتهما أو مالیّتهما، بل الکلام فی مطلق جعل التقابل بینهما، فمثلًا: فی البیع عند ما یقابل بعوض مالی، معیار هذه المقابلة هی الموازنة والمساواة المالیّة، ولو بحسب اختیار المتعاقدین، ومن ثمّ فلو لم تکن مساواة بحسب الواقع لا یبطل البیع، بل غایة الأمر یثبت خیار الغبن، فالمقابلة قائمة علی التوزین المالی، وهو متوقّف علی معرفة العوض کی تجری فیه المعاوضة والمساومة والمساواة، فثبوت خیار الغبن لا ینافی اعتبار مانعیّة الغرر، بل یتوقّف علیها؛ إذ لا یمکن فرض الغبن وخیاره إلّا مع عدم الغرر.

بیان ذلک: أنّ کلاً من المتعاقدین یوازن ویقابل العوضین عالماً بالمقابلة، وإن لم یعلم القیمة الواقعیّة، فالمقابلة معلومة فی البین، ومن ثمّ تُقایَس مع القیمة الواقعیّة کی یُتبیّن وجود الغبن أو عدمه، فتصویر الغبن وعدمه مبتن علی معلومیّة أصل المقابلة، وظهور الغبن لا ینافی کون البیع الواقع خالیاً من الغرر؛ إذ لیس انتفاء الغرر والجهالة هو بحسب الإحاطة والعلم بذات العوض علی ما هو علیه فی الواقع بجمیع صفاته وخصوصیّاته، بل هو بحسب أحد صفات العوض المهمّة التی یمکن ضبط بقیّة صفاته الاخری- وإن کانت مجهولة- بها، فیکفی فی تحقّق المقابلة فی المعاوضات العلم بالمقابلة بحسب أحد الصفات المهمّة، فمدار انتفاء الغرر وعدمه لا ینافی وقوع الجهل بصفة المالیّة الواقعیّة، فلا ینافی تصویر خیار الغبن؛ ولذلک اشترطوا فی البیع عدم الغرر مع قولهم بخیار الغبن فیه، ولم یعدّ ذلک تهافتاً لإمکان تصوّر وقوع البیع الصحیح الخالی عن الغرر الموجب

ص:449

مع ذلک لخیار الغبن، وأنّ الغرر ینتفی بالعلم بالمالیّة الجعلیّة المسمّاة بحسب المقابلة لا بخصوص العلم بالمالیّة الواقعیّة وتسمیة المالیّة هی عین المقابلة بخلاف المالیّة الواقعیّة، فالغبن قائم علی حیثیّة تختلف عن الحیثیّة التی تقوم علیها المقابلة.

تذییل بنکتة:

إنّ طبیعة المعاوضات من المعانی التشکیکیّة، کما هو الحال فی الغرر، والجهالة أیضاً، فالمعاوضة فی البیع قائمة علی المقابلة بنمط دقیق لوقوع نقل رقبة العین فیه، وحیث أنّ العین بتمامها تُنقل فیتشدّدون فی إبعاده عن الغرر، فالغرر بحسب البیع یتفاوت مع الغرر بحسب الشرکة أو القرض مثلًا، وکذا الحال فی الإجارة؛ لأنّ المنقول فیها المنفعة فقط، وإن اشتهر أنّ الإجارة صنو البیع، وهذا التفاوت لا ینافی اعتبار عدم الغرر فی مطلق المعاوضات، إلّا أنّه فی کلّ عقد بحسبه لاختلاف درجات المعاوضات.

فتحصّل تمامیّة کبری مانعیة الغرر فی العقود، وعلیه فالتأمین إمّا ضمان أو ماهیّة مستقلّة، وعلی کلا التقدیرین فهی معاوضة، فیشترط فیه عدم الغرر.

لکن یبقی الکلام صغرویاً بحسب الخارج فی کون عقد التأمین یستلزم الغرر- کی یتأتّی الإشکال الأوّل- أو لا؟

و الجواب: أنّ علم التأمین بحسب أدواته الحدیثة قد أوجب انخفاض نسبة الجهالة وتصاعد النسبة الاحتمالیّة إلی درجة متّفقة عند

ص:450

العقلاء؛ إذ بات علماً یدرس فی الجامعات، فیعیّن فیه درجة الخطورة ودرجة الثمن الذی یقابل الخطر، ومدّة التأمین، والبلد الذی یجری فیه عقد التأمین، والحرَف التی یجری علیها التامین، وهلم جرّاً.

فهناک آلات الإحصاء بدرجة تخمینیّة تقارب الواقع، فتُدرس کلّ هذه الزوایا ویحدّد جمیعها فی عقد التأمین، ومع کلّ هذه الدراسات والبرامج لا مجال لدعوی الغرر فی عقد التأمین، بل المتداول منه حالیاً یجری مع نسبة کبیرة من إبصار الواقع بالأدوات والدراسات الحدیثة. نعم، إشکال الغرر کان متأتّیاً فی الأزمان السابقة لعدم إمکان الاحصائیّات الدقیقة.

ومن هذا القبیل المسألة الواقعة فی البیع فی العصر الحاضر بدائرة وسیعة، لا سیّما

فی البیوعات الخطیرة وذات الکمّیات الکبیرة، حیث یتمّ التصافق علی بیع الأشیاء بوجودها الشخصی بقیمة یوم التخلیص من الجمرک أو بقیمة یوم القبض، وقد أفتی جملة من أعلام العصر ببطلان هذا البیع لعدم تحدید الثمن فیه، وهذا النمط من البیع هو الرائج حالیاً فی بیع النفط والغاز وغیرها من المنتوجات الطبیعیّة لکلّ بلد من بقیّة المعادن أو الزراعات أو المنتوجات المصنّعة.

وتنقیح الحال فیها: أنّ الجهالة والغرر بحسب سوق المال والتجارة العصریّة یقرّرونه ویجدونه حالیا فی تعیین الثمن فی مثل هذه الموارد حیث أنّ تعیینه لا یُعلم فیه مدی اجور الکلفة التی سوف تقع علی عاتق البائع،

ص:451

کما أنّ فی تعیینه بحسب وقت التعاقد لا یحصل العلم بنسبة الربح والخسارة؛ وذلک لأنّ الأسعار فی مثل هذه الموارد تُعیّنها أسواق البورصة، وبیاناتها فی القیمة إنّما هو بلحاظ السعر الحاضر الفعلی لا القیمة المستقبلیّة، وبالتالی فیعدّ تعیین البائع الثمن فی عدد معیّن هو بمثابة اللاتعیین واللاتحدید، بخلاف ما لو حدّد الثمن بقیمة البورصة أو السوق یوم التقابض، فإنّ هذا القید الزمنی أضبط تحدیداً وأدقّ تعییناً للقیمة من العدد والحساب الکمّی، وکذلک الحال فی جانب المشتری، وهذا التبدّل فی ضوابط التعیین والتحدید، وفی نحو تقرّر وجود الغرر والجهالة هو بسبب تغیّر عالم الأسواق المالیّة وبیئة التعامل التجاری، فهو من التغییر فی المصادیق لا فی المفاهیم والمعانی، ولا ریب أنّ تقرّر وجود المصادیق إنّما هو بحسب الأنظار العقلائیّة والعرفیّة الجاریة.

ص:452

فائدة :لوازم مخالفة عقد المضاربة للقاعدة

اشارة

ص:453

ص:454

لوازم مخالفة عقد المضاربة للقاعدة

توطئة:

أنّ المضاربة وأخویها علی خلاف مقتضی القاعدة وذلک فی موارد:

المورد الاول:

إنّ النماء یجب أن یکون تابعاً للأصل ویملک الفرع من یملک الأصل، بینما الحال فی هذه العقود الثلاثة لیس کذلک، حیث أنّ مالک مال التجارة لا تکون الأرباح کلّها له، بل تکون بینه وبین عامل المضاربة، وهذا علی خلاف مقتضی القاعدة.

المورد الثانی:

إنّ المضاربة لیس معاملة واحدة غالباً، بل معاملات یرد بعضها علی بعض یجریها عامل المضاربة، فإذا کان رأس مال مائة دینار- مثلًا- وکان للعامل نصف الربح، فاتّجر العامل به واشتری سلعة بمائة دینار، ثمّ باعها بمأتی دینار، کان مقتضی العقد اختصاص المالک بمائة وخمسین دیناراً، واختصاص العامل بخمسین دیناراً فقط، فلو اشتری بعد ذلک شیئاً بمأتی دینار ثمّ باعه بأربعمائة دینار، فمقتضی العقد أن یکون للعامل مائة وخمسون دیناراً، وللمالک مائتان وخمسون دیناراً، وهو مخالف للقاعدة من حیث أنّ مأتی الدینار الحاصلة من التجارة الثانیة إنّما هی ربح لمجموع خمسین دیناراً- أی حصّة العامل- ومائة وخمسین دیناراً- أی حصّة المالک-

ص:455

ومقتضی القاعدة أن یکون رُبع هذا المبلغ وثلاثة الأرباع الباقیة بینه وبین الملک، وهذا یعنی أن یکون العامل- من مجموع الأربعمائة- مائة وخمسة وسبعون دیناراً، وللمالک منه مائتان و خمسة وعشرون دیناراً فقط، والحال أنّه لا یأخذ إلّا مائة وخمسین دیناراً، ولازمه أن یکون ربح العامل أیضاً مناصفة بینه وبین المالک، وهو علی خلاف القاعدة، حیث أنّ المالک لم یعمل فیه شیئاً، بل ذلک المال حصّة العامل بتمامه فی العمل فیه من العامل، فلا وجه لأن یکون للمالک نصف ربحه فی ما إذا بُنی علی أنّ النماء منذ أوّل ظهوره لا یدخل فی ملک مالک الأصل، فتکون المضاربة مخالفة للقاعدة من جهتین: جهة مالک المال، وجهة العامل.

و أمّا إذا بُنی علی أنّ النماء لا یملّک إلی غیر مالک الأصل- منذ أوّل آن الظهور، وإنّما بعد الظهور، أی: أنّ النماء أوّل ما یظهر یدخل فی ملک المالک، ومن ثَمّ یملّک للأجنبی لکی لا یکون خلاف مقتضی القاعدة- فهو خلاف آخر لمقتضی القاعدة سنذکره فی المورد التالی.

المورد الثالث:

إنّ فی عقد المضاربة تملیکاً لشیء معدوم علی نحو التعلیق، أی: تملیک تعلیقی لمعدوم لم یظهر، بنحو شرط النتیجة لا بنحو شرط الفعل.

فتارة یقول صاحب المال: اذهب واتّجر بمالی، فإذا ظهر الربح سأُملّکک کذا، فهذا من شرط الفعل وهو یغایر عقد المضاربة، فإنّه یتمّ التملیک بنحو شرط النتیجة بنفس عقد المضاربة، فمن الآن الأوّل الملکیّة انشئت معلّقة للمملوک المعدوم، وهو خلاف القاعدة ,کبیع ما لا یملک

ص:456

وبیع ما لیس عنده. فالتملیک بعد الوجود وبعد الدخول فی ملک صاحب الأصل تملیک لشیء معدوم بنحو شرط النتیجة.

المورد الرابع:

یظهر من کلمات الشهید الأوّل والمحقّق الکرکی أنّ مخالفة القاعدة فی عقد المضاربة وأخویها من جهة الغرر الکائن فیها؛ لأنّ عامل المضاربة قد یعمل ویذهب عمله سُدی؛ إذ قد لا یکون ربح فی البین فهو نوع إقدام علی الجهالة، وکذلک بالنسبة إلی صاحب المال أو الأرض عند عدم الربح، ففیه جهالة وغرر، فیقتصر فی رفع الید عن دلیل بطلان الغرر علی القدر المتیقّن، وهو ما کان الربح مشاعاً، ویبقی الباقی مشمولًا لأدلّة الغرر الحاکمة ببطلان تلک الصور.

الفائدة: إنّ لوازم کون عقد المضاربة مخالف للقاعدة هو:

أوّلًا: عدم إمکان التمسّک بالعمومات والإطلاقات الواردة فیها، وإن کانت نسبتها مع عمومات القواعد نسبة الدلیل الخاصّ إلی العامّ- وإن کان إطلاق الخاصّ مقدّماً علی إطلاق العامّ- ووجه ذلک: أنّ عمومات القواعد الأوّلیّة اصول مقرّرة فی الأبواب العدیدة، فعمومها کالآبی عن التخصیص، لا یرفع الید عنه إلّا مقدار القدر المتیقّن الأقوی دلالةً منه، لا بمجرّد درجة ظهور الخاصّ، فضلًا عن إطلاق الخاصّ. فیلتزم بالقدر المتیقّن بخلاف ما لو کانت دلالة مدلول الخاص مطابقة لمقتضی القواعد، فیمکن التمسّک بالعمومات فی المضاربة التی هی من قبیل اطلاق الخاص.

ص:457

ثانیاً: إنّ المضاربة نوع مشارکة بین العمل ورأس المال، والشرکة فیهما غیر صحیحة، إلّا فی ضمن تلک العقود الثلاثة، فمع کون تلک الثلاثة علی خلاف القاعدة أیضاً، یقتصر فی تصحیح شرکة الأعمال مع الأموال علی تلک العقود بخلاف ما لو کانت العقود الثلاثة مطابقة للقاعدة، فإنّه یمکن التعدّی والقول بأنّه لا خصوصیّة فی المضاربة وأخویها، فتصحّح مطلق شرکة العمل والمال.

ویستظهر التعمیم ممّا ورد فی أخبار المساقاة، بأنّ أهل الحجاز یصعب علیهم مباشرة البساتین بأنفسهم؛ إذ یسقون من الآبار، فیحتاجون إلی المساقاة، وهذا التعلیل یؤیّد تعمیم صحّة شرکة الأعمال والأموال لموارد الحاجة، ولهذا البحث محلّ آخر.

وذهب صاحب المهذّب السیّد السبزواری(قدس سره) إلی کون العقود الثلاثة علی مقتضی القاعدة، ولذلک خالف المشهور فی کثیر من أبحاث المضاربة، وقرّر ذلک بأنّ:

أولاً: إنّها معاملة عقلائیّة لم یخترعها الشارع فیتوسّع فیها قدر الإطلاق العرفی، إلّا أن یردع الشارع عنها، فما ورد من الأدلّة الشرعیّة إمضاء لا تأسیس، بخلاف ما لو کانت هی معاملة مخترعة من قِبل الشارع فیجب أن یقتصر علی القدر المتیقّن، أو قدر ما دلّ علیه الشارع. ویشهد لعقلائیّتها أنّها بحاجة معاشیّة فی النظام الاقتصادی؛إذ قد یکون صاحب المال لا یحسن الاتّجار، وقد لا یکون مال عند من یحسن الاتّجار، فلأجل ذلک تتولّد الحاجة إلی معاملة عقلائیّة فی البین، فالمضاربة معاملة إمضائیّة

ص:458

ولیست بتعبّدیّة، فیمکن أن نتمسّک بالإطلاق فیها.

ثانیاً: إنّ مقتضی «النّاس مسلّطون علی أموالهم) (1) أنّ لصاحب المال أن یملّک النماء لغیره، أو یجعل النماء غیر تابع للأصل؛ إذ هو مِلکه وتحت سلطنته، فیستطیع أن یجعل النماء ملکاً لآخر، کما فی منافع الدار تجعل ملکاً لغیر مالک الدار بالإجارة- مثلًا- مع أنّ منافع الدار معدومة تنوجد طوال عشر سنین- مثلًا- فی عقد الإجارة، وقد مُلّکت تلک المنافع المعدومة فی ذلک الظرف.

ثالثاً: إنّ تملیک المعدوم لیس ممنوعاً مطلقاً؛ إذ فی ما ترتّبت علیه ثمرات فلا بأس به.

وأمّا أقوال العامّة:

ففی المساقاة ذهبوا إلی أنّها من مخترعات الشارع ولیست لها سابقة عقلائیّة عَقَدها النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله مع یهود خیبر؛ إذ لو بنی علی کونها تأسیسیّة فیقتصر علی مقدار دلالة الأدلّة، وإذا بنی علی أنّها ماهیّة عقلائیّة إمضائیّة فلابدَّ من معرفة ماهیّتها عندهم.

ففی بدایة المجتهد لابن رشد یذکر أنّه: «لا خلاف بین المسلمین فی جوار القراض، وأنّه ممّا کان فی الجاهلیّة فأقرّه الإسلام، وأجمعوا علی أنّ صفته أن یعطی الرجل الرجل المال علی أن یتّجر به علی جزء معلوم یأخذه العامل من ربح المال، أی جزء کان ممّا یتّفقان علیه، ثلثاً أو ربعاً أو نصفاً،

ص:459


1- (1) بحار الأنوار، ج2، ص272.

وأنّ هذا مستثنی من الإجارة المجهولة، وأنّ الرخصة فی ذلک إنّما هی لموضع الرفق بالناس، وأنّه لا ضمان

علی العامل فی ما تلف عن رأس المال اذا لم یتعدّ، وکذلک أجمعوا بالجملة علی أنّه لا یقترن به شرط یزید فی مجهلة الربح أو فی الغرر الذی فیه، انتهی کلامه.

وقال عبد الرحمن الجزیری فی الفقه علی المذاهب الأربعة أنّ: «المضاربة فی اللغة عبارة عن أن یدفع شخص مالًا لاخر یتّجر فیه علی أن یکون الربح بینهما علی ما شرط أو الخسارة علی صاحب المال، وعند الفقهاء عبارة عن عقد بین اثنین یتضمّن أن یدفع أحدهما للآخر مالًا یملکه لیتّجر فیه بجزء شائع معلوم من الربح، کالنصف أو الثلث أو نحوهما بشرائط مخصوصة.

الحنفیّة قالوا: «عقد المضاربة بالنظر لغرض المتعاقدین یکون شرکة فی الربح؛ لأنّه دفع من جانب المالک، وبذل عمل من جانب المضارب بأن یتّجر فی المال لیشترک مع صاحبه فی ربحه. فالغرض من ذلک العقد هو الاشتراک فی الربح، ومن أجل ذلک عرّفوه: بأنّه عقد علی الشرکة فی الربح بمال من أحد الجانبین وعمل من الآخر.

المالکیّة قالوا: «المضاربة فی الشرع عقد توکیل صادر من ربّ المال لغیره علی أن یتّجر بخصوص النقدین (الذهب والفضّة) المضروبین ضرباً یتعادل به، ولابدَّ أن یدفع ربّ المال للعامل القدر الذی یرید أن یتّجر فیه عاجلاً.

ص:460

الحنابلة قالوا: «المضاربة عبارة عن أن یدفع صاحب المال قدراً معیّناً من ماله إلی من یتّجر فیه بجزء مشاع معلوم من ربحه، ولابدَّ فی ذلک المال من أن یکون نقداً مضروباً ویقوم مقام دفع المال، وأن یکون قد أودع عند شخص مالًا ثمّ قال له: اعمل

فی ذلک المال المودع مضاربة، فتصبح المضاربة عندهم بالودیعة.

الشافعیّة قالوا: «المضاربة عقد یقتضی أن یدفع شخص لآخر مالًا یتّجر فیه علی أن یکون لکلّ منهما نصیب فی الربح بشروط مخصوصة.

دلیل المضاربة الإجماع، «فقد أجمع المسلمون علی جواز ذلک النوع من المعاملة، ولم یخالف فیه أحد، وقد کان معروفاً فی الجاهلیّة فأقرّه الإسلام؛ لما فیه من المصلحة، فالمضاربة عقد قد یکون فیه مصلحة ضروریّة للنّاس، وعند ذلک یکون داخلًا فی القاعدة العامّة، وهی الحثّ علی عمل ما فیه المصلحة، ویکون له حکم الفائدة المترتّبة علیه، فکلّما عظمت فائدة المضاربة کان طلبها مؤکّداً فی نظر الشارع.

فیتبیّن ممّا ذکره فی المهذّب والبدایة وکتاب الجزیری أنّها قاعدة عقلائیّة أمضاها الشارع، فبعض منهم یرونها شرکة، وبعض آخر إجارة أو ودیعة، لکنّ هذا الإمضاء یجب أن لا یتنافی مع القاعدة المحکّمة وهی النهی عن الغرر والتعامل علی الشیء المجهول.

ثمّ إنّه لابدَّ من تنقیح الحال فی أنّ المضاربة وإن کانت عقلائیّة، فهل تجب أن تکون علی وفق القواعد والعمومات أم لا؟ إذ مع کون المعاملة

ص:461

عقلائیّة أمضاها الشارع، فلا تجب أن تکون علی وفق العمومات؛ لأنّ إمضاء الشارع لتلک العقود مع کونها خلاف القاعدة المحکّمة- التی لدی الشارع، وهی: بیع ما لیس عنده (ما لا یُخلَق)، أی: تملیک ما لا یملک وتملیک المعدوم- دالّ علی أنّ الإمضاء بملاک آخر، فیؤخذ بإطلاقه.

فتلک القواعد العامّة تکون محکّمة فی جمیع المعاملات، وأرجع الشارع المتشابه والمستجدّ منها إلیها بخلاف المضاربة وأخویها، ولکن قد یقال: إنّها حیث کانت علی خلاف مقتضی القواعد الشرعیّة فإنّ بنی علی أنّها إجارة مجهولة أو جعالة أو شرکة کذلک، فالشرکة تقتضی الاشتراک فی کلّ الربح بنحو الشیوع بالنسبة المقرّرة، وفی الإجارة تکون النسبة مجهولة بهذا المقدار الجائز لا الأزید من ذلک وکذلک الجعالة.

فماهیّة تلک العقود الثلاثة ترجع إمّا إلی الإجارة، أو الجعالة، أو الشرکة، فلیست بماهیّة جدیدة تأسیسیّة، ومع کونها تنافی قاعدة الغرر وعدم جواز تملیک ما لا یملک، فلا إطلاق فیها فی ماهیّتها العقلائیّة ولا إمضاؤها تعبّد صرف بملاک معاملی مستقلّ، بل برزخ بینهما.

ففی ما نحن فیه یجب أن تکون الإشاعة فی الربح، بعد کون الأکثر ذهبوا إلی أنّها شرکة ومقتضاها الإشاعة فی کلّ الربح لا فی بعضه دون بعض، وأمّا إذا کانت جعالة أو إجارة ففیهما أیضاً یجری لزوم کون العوض معلوماً فیهما، ولا یکون غرریاً ولا عن الجهالة.

غایة الأمر هو رفع الید عن الغرر فی فرد، وهو النسبة الشائعة بأدلّة إمضائها، وأمّا الزائد علی هذا فیدخل فی دلیل النهی عن الغرر، فلو کنّا

ص:462

نحن ومقتضی القاعدة، فاللازم عدم تسویغ بقیّة الصور.

وممّا یؤیّد ذلک: نفس تعریفات المضاربة، کالضرب بسهم فی الربح، أو تعریفها بأنّ القراض مع الموازنة (و الموازنة هی المساهمة، أی الشرکة).

فالمضاربة إن کانت شرکة بین العمل والمال فهی تقتضی الإشاعة لا التمیّز، وإن کانت إجارة وجعالة فلابدَّ فیهما من اشتراط جزء معلوم. غایة الأمر رفع الشارع یده عن تعیین العلم أو اشتراط العلم بعوض الإجارة والجعالة، بلحاظ وجود نسبة کسریّة فی المضاربة، ولا یخفی أنّ النسبة الکسریّة أفضل الطرق للاطمئنان بالاجرة؛ لأنّه إن اشترط قدراً معیّناً لمالک المال فیحتمل أن لا یکون لعامل المضاربة أی عوض، فهو نوع تغریر زائد علی أصل التغریر الأوّل فی أصل عقد المضاربة.

وإن کان القدر المعیّن شرطاً لعامل المضاربة لا لمالک المال، فهو علی وفاق مع الإجارة، إلّا أنّه خلاف مقتضی قاعدة تبعیّة النماء للملک.

فهاهنا إمّا تخصّص قاعدة أنّ النماء تابع للأصل فی ما إذا کان التملیک بنحو شرط النتیجة، أی أنّه یدخل فی ملک العامل ابتداءً من دون دخوله فی ملک مالک المال، أو أنّ المعدوم لا یملک بخلاف ما إذا کان بنحو شرط الفعل أو الشرط المعلّق علی تملّک مالک المال للنماء ثمّ تملیکه للعامل، فهاهنا عمومان تخالفهما المضاربة.

فلو فرض أنّ المضاربة إجارة، فلابدَّ أن تفرض إجارة وشیء آخر، ولیست بإجارة فقط؛ لأنّ مقتضاها لیس مجدّد تملیک للعامل، بل تملیک

ص:463

للمالک أیضاً، فلابدَّ أن تفترض شرکة وإجارة، وأنّ بین مالیّة عمل العامل ومال المالک شرکة، فعمل العامل مورد للإجارة فهو لحاظ لمالیّة اخری.

أمّا إذا لم نرد إرجاع المضاربة إلی عقود اخری، فلا أقلّ هی شبیهة بماهیّة الشرکة، فمقتضی عقد المضاربة فی نفسه مخالف لاشتراط القدر المعیّن.

ص:464

فائدة :فی المعاملات المستجدة

ص:465

ص:466

فی المعاملات المستجدة

ان مقتضی القاعدة الاولیة بحسب عمومات النکاح وامضاء الشروط ان عقد المتعة صحیح - کما بینا فی محله من سند النکاح ، وقد اشار الی ذلک بعض المتقدمین من الاصحاب.

لانّ العمومات فی الآیات والسنة الدالة علی امضاء مطلق النکاح شاملة للمتعة کما حررنا بیانه فی سند النکاح ان نکاح المتعة ماهیته ماهیة النکاح، وتختلف عن ماهیة الزنا والسفاح والاخدان، غایة الامر ان الشروط النافذة بین المسلمین قد تصوغ العقد بصیاغاتواشکال مختلفة، فیسمی ذات العقد بتسمیات متعددة مادامت تلک الشروط لاتخالف الکتاب والسنة ولاتناقض مقتضی العقد، ومن الواضح ان اشتراط الاجل فی النکاح فضلاً عن المهر لاینافی مقتضی ماهیة النکاح، لأنّه انّما هو یقتضی اقتران الزوجین وتملیک البضع، غایة الامر اذا اطلق کان مرسلا ً للملکیة فتکون مطلقة، ومرسلة للاقتران فتکون دائمة مؤبدة بخلاف ما اذا قیّد بالاجل وحدد فیرتفع الارسال والاطلاق والتأبید، نظیر ما قیل فی الفرق بین البیع والاجارة، فانّ کلاً منهما تملیک للعین، ومن ثم تتعلق الاجارة وتسند الی العین نفسها، ویقع بالتملیک کل من العقدین، غایة الامر ان التملیک فی الاجارة محدد بالاجل خلاف البیع، ومن ثم قیل بان الاجارة متولدة من البیع، وقد وردت نصوص مستفیضة علی وقوع الایجاب فی الاجارة بلفظ البیع مع ضم التقیید بالمدة.

ص:467

وأما عدم مخالفة الشرط للکتاب فلما یظهر من الآیة من سورة النساء لاسیّما بقراءة (الی اجل مسمی) واشعار لفظ الاجرة بذلک فی الآیة، وامّا ما یقال بأنّ آیات الطلاق بعمومها تخالف هذا الشرط فمن ثمّ قیل بأنّها ناسخة لآیة المتعة.

ففیه: ان الظاهر من الطلاق رفع وفسخ مافیه اقتضاء البقاء والدوام لا ما کان فی نفسه متصرما وزائلا، فشمول عمومات الطلاق للنکاح المؤقت محل تأمل واضح، ومن ثم یظهر وهن دعوی النسخ أیضاً. مضافا الی وجوه أخری متقدمة.

وکذلک الحال من عدم مخالفة هذا الشرط للسنّة; بعدما عرفت من روایات الفریقین مع أنّ العمدة هو ما تبینه العترة من سنّة النبی المطهرة.

ویتحصّل أنّ صحة عقد المتعة هو بمقتضی القاعدة فی عمومات النکاح وعمومات الشروط، ومما یشیر الی ما ذکرناه من اختلاف صیاغات العقد کالنکاح بالشروط، وتلونه بتسمیات بحسب هذه الشروط، ما یشاهد حالیاً من تولد عقود نکاحیه جدیدة کعقد المسیار وعقد نهایة الاسبوع والعقد الصیفی للاصطیاف والزواج بشرط الطلاق وجملة من الصیاغات التابعة للتبانی علی شروط مختلفة، لانّ هذه التسمیات والانواع الجدیدة والعناوین لم تخرجها عن ماهیة النکاح مادام الشروط لاتخالف الکتاب والسنة ولاتنافی مقتضی ماهیة عقد النکاح، ولیس هذا خاص بعقد النکاح، بل هو سیّان فی جملة من العقود الصحیحة فانّه بحسب مقتضی ما جاءت البیئات العصریة الحدیثة، تتجدد شروط تلبی الحاجات

ص:468

فتتلون تلک العقود بتسمیات جدیدة، وعندما تترامی تتوالد هذه العقود بالشروط فتندمج انواع والوان من العقود لایکاد الناظر والباحث فیها یتفطن الی أصلها المنحدرة منه، بل قد تدمج ماهیتان صحیحتان أو ماهیات من العقود الصحیحة فی معاوضة فوقانیة فتتلون بتسمیة جدیدة، وهذه ضابطة تحلیلیة نافعة جدا فی باب المعاملات المستجدة، بل وکذا فی باب المعاملات التقلیدیة الاولیة.

ص:469

ص:470

فائدة :فی الفرق بین القیود العلامیة والتوصیفیة

ص:471

ص:472

فی الفرق بین القیود العلامیة والتوصیفیة

اعلم انّ القیود التی تذکر فی موضوعات الأحکام أو القیود للاحکام نفسها تارة تکون وصفا دخیلا فی تمامیة الملاک فتکون مخصصة للموضوع، کالعدالة فی الشاهدین والمفتی والقاضی، وأخری تکون أمارة وعلامة محضة لاحراز الموضوع غیر دخیلة فی واقع الموضوع اصلا کالبینة ورؤیة الهلال، وثالثة قیودا فی الموضوع لکن علامیة أیضا ففیها کل من خاصیة القسم الأول والثانی، واطلق علیها فی الفقه انها تحدید فی تقریب وتقریب فی تحدید کخفاء الأذان والجدران وتحدید الکر بالحجم، کما اطلق علیها انها اسباب شرعیة معرفات حقیقیة. وهذه التقسیمات الثلاث تطابق ما یذکر فی علم الاصول فی القطع من أنه یؤخذ فی الموضوع بنحو الصفتیة وثانیة لا یؤخذ بل یکون طریقا محضا وثالثة یؤخذ فی الموضوع بنحو الطریقیة. ولا یخفی اختلاف آثار کل قسم من الاقسام الثلاثة عن الاخر وبرزخیة آثار القسم الثالث کما حرر ذلک فی علم الاصول، وحیث ان الظاهر من التقادیر المأخوذة فی الروایات المتقدمة انها من النمط الثالث وهو یختلف عن الأولین کما لا یخفی.

فإن کان مع العلم بزوال الاسم أو القید الاخر فهو مجری للاصول المفرغة دون الاستصحاب لتبدل الموضوع إلا أن یبنی علی احتمال کون مثل الجلل حیثیة تعلیلیة بقاء حتی تنقضی مدة الاستبراء، لکن العموم اللفظی لحلّ الانعام أو انواع الحیوان مقدم- بناء علی العموم الازمانی منه

ص:473

کما هو الصحیح فی العمومات الاولیة- علی استصحاب حکم المخصص. وکذا الحال لو فرض الشبهة مفهومیة، نعم لو غض النظر عن العموم فلا اشکال فی استصحاب الجلل بناء علی احتمال التعلیلیة فیه وان کانت الشبهة مفهومیة کما تقدم التفصیل فیها، وأما الشبهة المصداقیة لحدوث الجلل فاستصحاب العدم محرز لعموم الحل واما الموضوعیة بقاء فاستصحاب البقاء.

ص:474

فائدة :فی کثرة الشک

ص:475

ص:476

فی کثرة الشک

المشهور بین المتأخرین - لا اعتبار بشک کثیر الشک سواء کان فی الاجزاء أم فی الشرائط أم الموانع - و یدل علیه عموم التعلیل الوارد فی أکثر أخبار کثیر الشک بل قد یستفاد منها الاعتداد بالتظنی فی الافعال المرکبة مطلقا، کصحیح زرارة وأبی بصیر قالا: «قلنا له: الرجل یشک کثیرا فی صلاته حتی لا یدری کم صلّی ولا ما بقی علیه؟ قال: یعید. قلنا: فانّه یکثر علیه ذلک کلما أعاد شک؟ قال: یمضی فی شکّه، ثم قال: لا تعودوا الخبیث من أنفسکم نقض الصلاة فتطمعوه، فانّ الشیطان خبیث معتاد لما عوّد، فلیمض أحدکم فی الوهم، ولا یکثرن نقض الصلاة، فانّه اذا فعل ذلک مرات لم یعد إلیه الشک.

فإن الشخص المتعارف السالم القوی والحواس لا یأتیه اعتیاد وکثرة الشک من نفسه کیف وقد فرض سالما، فدخول الوهم علی المصلّی منشأه الصور والاحتمالات التی یحدثها فی صفحة الذهن، نعم اذا کان منشأها ضعف القوی واختلال التوازن فیدخل فی الوسواس ونحوه، فلا یشکک بأن الکثرة فی غیر الصلاة لا یحرز أن منشأها شیطانی، والا لتأتی ذلک فی الصلاة أیضا فلا یصح الاطلاق فی کثرة الشک، فاذا کانت القیمة الاحتمالیة للشک الناشئ من الکثرة والاعتیاد والتکرار، لا یعتد بها لعدم نشئوها من إراءة الواقع بل من الصور الوهمیة، فلا یفرق فی ذلک بین ما کانت الکثرة المزبورة فی الصلاة أو بقیة الأفعال کالحج والغسل والخمس والزکاة ونحوها.

ص:477

و من ثم لو فرض انّ شکا حدث لکثیر الشک مغایر للکثرة التی اعتاد علیها أی کان من منشأ معتد به عقلائیا لما کان مشمولا لحکم کثرة الشک. وهذا من خواص التعلیل انّه معمم من جهة ومخصص من اخری.

وکذلک صحیح ابن سنان ذکرت لأبی عبد الله علیه السّلام رجلا مبتلی بالوضوء والصلاة وقلت: هو رجل عاقل فقال ابو عبد الله علیه السّلام «و أی عقل له وهو یطیع الشیطان؟ فقلت له: وکیف یطیع الشیطان فقال علیه السّلام: سله هذا الذی یأتیه من أی شیء هو؟ فانّه یقول لک من عمل الشیطان).

فانّ مفاده خروج الاعتداد بالشک الناشئ عن غیر الأسباب المتعارفة عن الرویّة العقلیة الی طاعة الشیطان الوهمی، ولا یختص ذلک بالشک الناشئ من ضعف القوی کما فی الوسواس بل یعم الناشئ من الکثرة والاعتیاد من الصور الوهمیة وان کان عنوان المبتلی ظاهر فی الوسواس لکن الجواب والتعلیل عام. بل انّ التعلیل فی الصحیح والذی قبله یعم الشک الناشئ من غیر الکثرة وغیر الوسواس أی من المنشأ الذی لا یعتنی به عقلائیا کالمتناهی فی الضعف والضآلة.

و نظیرهما صحیح محمد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السّلام قال: «اذا کثر علیک السهو فامض فی صلاتک، فانّه یوشک أن یدعک، انّما هو من الشیطان»(1).

فانّ ظاهره التعلیل لعدم الاعتناء بفساد منشأ الشک، فیعم بقیة الأبواب.

ص:478


1- (1) الکافی، ج3، ص359.

فائدة :فی المرتد وأحکامه

اشارة

ص:479

ص:480

فی المرتد وأحکامه

قال السید الیزدی فی العروة : (لا فرق فی الکافر بین الأصلی والمرتد الملی بل الفطری أیضا علی الأقوی- من قبول توبته باطنا وظاهرا أیضا فتقبل عباداته ویطهر بدنه نعم یجب قتله إن أمکن وتبین زوجته وتعتد عدة الوفاة وتنتقل أمواله الموجودة حال الارتداد إلی ورثته ولا تسقط هذه الأحکام بالتوبة لکن یملک ما اکتسبه بعد التوبة ویصح الرجوع إلی زوجته بعقد جدید حتی قبل خروج العدة علی الأقوی) (1).

اقول: أما فی الأول وهو الأصلی فبالضرورة وأما الثانی فلا خلاف محکی فیه وأما الثالث الذی عن فطرة فعن المشهور أنها لا تقبل.

وحمل الشهید الثانی وجماعة نفی القبول بلحاظ الظاهر لا الباطن، وذهب آخرون من متأخری الأعصار الی عدم قبولها بلحاظ الاحکام الثلاثة فقط دون الباطنة والظاهرة فی بقیة الأحکام.

وعن ابن الجنید أنها تقبل مطلقا کالملی ومال إلیه الشهید فی المسالک والمجلسی فی البحار وحقّ الیقین.

وقد ذکرنا فی قاعدة کفر منکری الضروری - فی جزء الاول من هذا الکتاب(2) - عبارة کل من المفید فی أوائل المقالات والشیخ فی الاقتصاد

ص:481


1- (1) العروة الوثقی، ج1، ص142.
2- (2) بحوث فی القواعد الفقهیة، ج1، ص413.

والحمصی فی المنقذ أن المرتد المنکر للضروری ان کان عن شبهة یستتاب أی تقبل توبته وکذا عبارة کاشف الغطاء ومال إلیه صاحب الجواهر لا سیما مع الدخول فی اسم أحد الطوائف المنتحلة للاسلام وعلله بالشک فی شمول أدلّة المرتد الفطری له، وکأنه للتعبیر الوارد فیها بالکفر بأحد الأصلین أو هتک أحد المقدسات العلیا فی الدین، وأما الدخول فی اسم أحد الطوائف فکأنه لما فی روایات کفر تلک الطوائف من قبول توبتهم اذا رجعوا فتکون خاصة فی منکر الضروری ونحوه. وقد یظهر من المسالک فی بعض کلامه التفصیل بنحو اخر وهو قبول توبة المرتد الفطری لو تاب دون استتابته نظرا لأن الروایات الخاصة فیه تنفی الاستتابة دون التوبة.

وقد فصّل بعض المعاصرین بین ما اذا کان الارتداد عاما بین جماعة عن شبهة وما اذا کان خاصا بفرد واستدل له بسیرتهم (علیهم السلام) من مناظرة ومحاجّة أصحاب الزندقة کابن أبی العوجاء وغیره وکما فی مصحح زرارة «لو لا أنی أکره أن یقال انّ محمدا استعان بقوم حتی اذا ظفر بعدوّه قتلهم لضربت اعناق قوم کثیر»(1).

ولکنه أضعف الأقوال حیث ان سیرتهم (علیهم السلام) لم تکن مع بسط یدهم مع ان کثیرا من طائفة الزنادقة کانوا مدسوسین من الخلفاء للمناظرة معهم (علیهم السلام) ، ولذلک تری انّ الامام(علیه السلام) مع بنی ناجیة قد قاتلهم فی القصة المعروفة، وأما الشبهة فان لم یصاحبها إنکار وإنشاء للارتداد فلا عبرة بها.

ص:482


1- (1) الکافی، ج8، ص345.

هذا، والظاهر من روایات حدّ المرتد لا ینطبق علی قول ابن الجنید، لأن الروایات وإن کان فیها لسان الاطلاق فی الاستتابة فإن لم یتب یقتل، کما ورد فیها لسان الاطلاق بنفی التوبة، إلا أن هناک طائفة ثالثة مفصلة أو خاصة فی المرتد الفطری تبلغ الخمس روایات ذکرها الشیخ فی التهذیب .

فتکون مخصصة لکلا الاطلاقین حتی فیما ورد من استتابة امیر المؤمنین(علیه السلام) للمرتدین فی عدة من الموارد، فانها قابلة للحمل علی الملی بعد کون العهد قریب من بدء الدعوة وانتشار الاسلام.

و أما قول الشهید الثانی الأخیر فیدفعه صحیح محمد بن مسلم قال: «سألت أبا جعفر(علیه السلام) عن المرتد: فقال: من رغب عن الاسلام وکفر بما انزل علی محمد صلی الله علیه و آله بعد اسلامه فلا توبة له وقد وجب قتله وبانت منه امرأته ویقسم ما ترک علی ولده»(1).

ثم ان الظاهر البدوی من هذا الصحیح أیضا نفی التوبة بقول مطلق ظاهرا وباطنا بلحاظ الأحکام الثلاثة وغیرها، وأما بقیة الروایات الخاصة فی المرتد الفطری فانّها کلها مشتملة علی نفی الاستتابة ولزوم القتل، فان حمل ذلک علی نفی التوبة- بقرینة أن لو کانت التوبة مقبولة لشرعت ولزمت الاستتابة بعد فتح باب التوبة فنفی الاستتابة لازمه نفی التوبة- فیکون مفادها کالصحیح المزبور، وان لم یحمل علی نفی التوبة- لأن نفی الاستتابة أعم من نفیها اذ لعله من باب التشدید فی الفطری- فتکون دالّة

ص:483


1- (1) الکافی، ج6، ص174.

علی ثبوت حکم الارتداد والکفر والاحکام الثلاثة علی تقدیر عدم التوبة فقط دون ما لو تحققت التوبة.

نعم یحتمل فی نفی التوبة أن یکون بلحاظ الاحکام الثلاثة وما هو من وظیفة الحاکم من عدم اسقاط الحدّ والآثار الظاهریة دون سائر الأحکام الأخری وان کانت الظاهریة، ولا أقلّ من الأحکام الباطنیة أی التی فیما بینه وبین الله تعالی، لکن بالالتفات الی ما ورد فی روایات الشهادتین والآثار المترتبة علی الاقرار بهما من حرمة دمه وماله وجواز نکاحه، والتی هی أمثلة أمهات الأحکام الظاهریة یظهر أن نفیها بالارتداد مثال لذهاب تلک العصمة والحصانة التی ترتبت بالاقرار بالشهادتین، کحقن دمه وماله وعرضه وحلّ ذبیحته ونکاحه، له ما للمسلمین وعلیه ما علی المسلمین. وأنه بالاقرار بالارتداد أی بالخروج من الاسلام تذهب تلک الآثار المترتبة علی الشهادتین ولا تعود بالاقرار والتلفظ بهما مرة أخری.

وبعبارة أخری: أن الاسلام - کما هو محرر فی مبحث نجاسة الکافر - علی درجات الأولی انشائی اعتباری ظاهری ینشأ ویوجد بالاقرار والذی هو نحو ایقاع والتزام. والثانیة وما بعدها هو تکوینی خارجی بحسب القلب والجوانح والجوارح. وکل من الدرجات وقعت موضوعا لطائفة من الأحکام، فالدرجة الأولی هی اعتباریة قائمة بلحاظ الآخرین وبحسب الالزام والالتزام البینی فی دار الاسلام وما یسمی حدیثا بأحکام التعایش الاجتماعی والحصانة الاجتماعیة، کحرمة الدم والمال والعرض.

ص:484

وأما الدرجة الثانیة فهی موضوع لصحة العبادة ولتعلق التکالیف الشرعیة، فالدرجة الأولی بمنزلة العقد الاجتماعی للمجتمع المبنی علی العقیدة کرابطة للعقدة الاجتماعیة هی دار الاسلام بخلاف دار الایمان. ومن ذلک یظهر أن النفی هاهنا بلحاظ الأحکام الظاهریة فقط، لما تقدم فی مبحث نجاسة الکافر من أن الاقرار بالشهادتین والآثار المترتبة علیهما بما هو اقرار ملحوظ فیه جانب الالزام والالتزام من الغیر، کذلک الاقرار بالخروج والارتداد، وأما الآثار التی بحسب الواقع کصحة العبادات والایمان وثواب الآخرة فهو مرتبط بعقد القلب وان اشترط فیه التسلیم باللسان أیضا. فمن ذلک یظهر أن المحصل من مفاد نفی التوبة هو ذلک لا نفی الایمان والاسلام بحسب الواقع لو تاب ولا ارتفاع التکلیف لکون شرطه غیر مقدور وهو الاسلام والطهارة ونحو ذلک، وکذا یظهر قوّة ما ذکره فی الجواهر من التفصیل فی الطهارة لبدنه بالإضافة الی نفسه بخلاف الاضافة الی الآخرین فیحکمون بالنجاسة فانّه لیس من باب أن الحکمین نسبیین، بل من اختلاف الحکم بثبوت الموضوع وعدمه، کما هو الحال فی العکس ای فیمن أقرّ بالشهادتین ولم یبرز ارتداده، ولکن کان فی الواقع جاحدا للربوبیة أو للنبوة فانّه نجس بحسب الواقع وباطلة عباداته، وان حکم علیه فی الظاهر بالطهارة والصحة للاعمال وهو المراد من اماریة الاقرار بالشهادتین علی الاسلام وان کان فی الاقرار جهة أخری وهی الالزام والأخذ بمؤدی الاقرار.

ومن ذلک یظهر الخلل فی ما استدل به علی قبول التوبة بقول مطلق

ص:485

أو فیما عدا الاحکام الثلاثة:

أولاً: بإن عدم القبول تکلیف بما لا یطاق، اذ لا یمکن القول بسقوط التکلیف عنه فی هذه الفترة.

وثانیا: ان تأکید عمومات التوبة لا یمکن رفع الید عنها.

وثالثا: ان الدین رحمة والشریعة سمحاء وأنه قد سبقت رحمته غضبه.

ورابعا: بقوله تعالی : وَ مَنْ یَرْتَدِدْ مِنْکُمْ عَنْ دِینِهِ فَیَمُتْ وَ هُوَ کافِرٌ فَأُولئِکَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِی الدُّنْیا وَ الْآخِرَةِ (1).

فانّه قیّد بالموت فی حال الکفر.

وکذا قوله تعالی : إِنَّ الَّذِینَ آمَنُوا ثُمَّ کَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ کَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا کُفْراً لَمْ یَکُنِ اللّهُ لِیَغْفِرَ لَهُمْ (2).

ظاهر فی تحقق الایمان بعد الکفر.

وکذا قوله تعالی : إِنَّ الَّذِینَ کَفَرُوا بَعْدَ إِیمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا کُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ (3).

وخامسا: ان النفی للتوبة مقید بحسب السیاق بالأحکام الثلاثة.

وسادسا: ان النفی فی الفطری من باب التشدید من الحاکم لا کون

ص:486


1- (1) البقرة: 217.
2- (2) النساء: 137.
3- (3) آل عمران: 80.

حکمه مغایرا للملی، بقرینة الاطلاقات والموارد الخاصة، وبعد کونها کلها فی الفطری، کما ورد التشدید بالقتل فی المرتدة أم الولد التی تنصرت وتزوجت نصرانی.

الجواب عن الادلة والوجوه:

وجه ذلک أن التوبة المنفیة کما عرفت هی الظاهریة بالمعنی الذی عرفت وان المستدل به فی هذه الوجوه انما هو التوبة بحسب الواقع والباطن لا بحسب آثار الظاهر والنسبة عند الآخرین، وأما بقاء تلک الأحکام الظاهریة للارتداد مع قبول التوبة بحسب الظاهر، فلعل وجه الحکمة فیه هو ردع فتح باب المروق من الدین، وأنها من قبیل بقیة الحدود التی لا تسقط بالتوبة بعد الثبوت لدی الحاکم الشرعی. ومن ذلک یظهر لک ضعف التفکیک بین الأحکام الثلاثة وبقیة الأحکام الظاهریة بعد ما عرفت من ان لسان هذه الأحکام الثلاثة هی لسان ترتب اضدادها عند الدخول فی الاسلام یراد بها أمهات الأحکام الظاهریة فی الأبواب، بلحاظ حرمة النفس والمال والعرض، وبذلک یظهر لک عدة امور اهمها:

الأول: فلا یصح نکاحه من زوجته لا فی العدّة ولا بعدها ولا من مسلمة أخری، نعم یصح نکاحه من الکتابیة.

الثانی: وأما بالنسبة الی أمواله التی یکتسبها، بعد سواء حال الارتداد أو بعد التوبة بحسب الباطن فیملکها کما هو الحال فی الکافر لکن لا تکون ملکیته محترمة کبقیة الکفار، ویحتمل أن الأولی بها حینئذ هو ورثته عطفا علی حکم أمواله السابقة، اذ هو بعد ما ارتد سقطت عصمة نفسه وأمواله

ص:487

کما عرفت من لسان الروایات، وهو مقتضی القاعدة فیکون الحکم بکون أمواله لورثته لأنهم أولی الناس به، لا ما قیل من کون الحکم المزبور لأجل عدّه کالمیت لوجوب قتله کما ذهب إلیه المیرزا القمی، اذ لیس کل من وجب قتله بالحدّ قسمت أمواله بین ورثته، فیستظهر أن التقسیم بلحاظ الأولویة المزبورة بعد ذهاب حرمة ماله.

الثالث: أنه لا تسقط عنه التکالیف الشرعیة العبادیة وغیرها سواء حال الارتداد وبعد التوبة، لما عرفت من أنه قادر علی التوبة بحسب الواقع.

حصر المرتد الفطری بمنکر الشهادتین:

الرابع: الظاهر هو عدم عموم حکم المرتد الفطری لکل ردة وانکار لکل ضروری بل اختصاصها لمنکر الاصلین ونحوه کما ذهب إلیه صاحبی کشف الغطاء والجواهر وتقدم نسبته الی المفید والشیخ والحمصی، والوجه فی ذلک أن ما ورد فی الروایات المزبورة هو انکار الأصلین أو هتک أحد المقدسات الأولیة فی الدین ونحو ذلک، مضافا الی ظهور بعض الروایات فی قبول توبتهم، وکذا ورد اطلاق الکفر علی عدة من الطوائف المنکرة لبعض الضرورات کالجبریة والمجسمة ونحوهما مع انّ السیرة المعاصرة لهم (علیهم السلام) علی ترتیب الاحکام الظاهریة علیهم، مع تقریر ذلک فی روایات التذکیة والنکاح فلاحظ ما تقدم فی المجسمة والمجبرة. لکن الصحیح ان الانکار ان عدّ ردّة أی اقرار بالخروج عن الاسلام فهو رغبة عن الاسلام فیصدق العنوان الماخوذ فی صحیح ابن مسلم، نعم غایة الامر ان بعض الضروریات حیث وقع الاختلاف فیها کنفی التجسیم

ص:488

والاختیار ونحوهما، فلا یعد المنکر له مرتدا وان کفر بحسب الواقع، وهذا ما یومی إلیه تقیید صاحب الجواهر عدم ترتیب أحکام المرتد الفطری علیه بما اذا صدق علیه اسم أحد الطوائف المنتحلة للاسلام، وکذا هو محط کلام الشیخ المفید والطوسی والحمصی .

الخامس: أن المرتد الملی یظهر من معتبرة مسمع بن عبد الملک تحدید استتابته بثلاثة أیام وکذا عزل زوجته وأکل ذبیحته أی سائر ما یترتب علی الاسلام فان تاب وإلا فقتل الظاهر فی عدم قبول توبته ورجوعه الظاهری الی عقد الاسلام الاعتباری، وهی بطریق الکلینی والشیخ. ولکن فی معتبرة السکونی بطریق الصدوق تحدیده ب- (ثلاث) من دون تقییدها بالیوم وهی اما ظاهرة فی ذلک أو مجملة مرددة بین ذلک وبین ثلاث مرات فلا تقوی علی معارضة المعتبرة السابقة، نعم لو بنی علی التعارض لوصلت النوبة الی العمومات الواردة فی أبواب حدّ المرتد بأنه یستتاب فان تاب وإلا یقتل الظاهرة فی کفایة صرف الوجود من الاستتابة، کما لا معارضة بین الروایات العدیدة الواردة فی تلک الابواب، من فعل أمیر المؤمنین(علیه السلام) من استتابة المرتد فی المجلس الواحد ثم قتله عند إبائه التوبة المحمولة علی المرتد الملی إما لکونه فعلا مجملا لا یناهض الدلالة اللفظیة، واما لترجیح مضمون الاستتابة الی ثلاث علیها للاحتیاط فی الدماء، وهو مرجح مضمونی متبع عند التعارض فی روایات الحدود، وإما لحملها علی المرتد الفطری غایة الأمر ان استتابته(علیه السلام) لهم لا لقبول التوبة الظاهریة وسقوط الحدّ بل لهدایتهم الی التوبة بحسب القلب والباطن وان لم یسقط الحد

ص:489

لینجون فی الآخرة، وإما للاعتداد بما مضی من المدة فی الاستتابة ثلاثا، وإما لأن الردّة من بعضهم کانت باطنیة بحسب الواقع ولم تکن انشائیة لفسخ عقد الاسلام الانشائی فالاستتابة لأجل فعل المعصیة والاصرار علیها یعد بعد ذلک إنشاء للردة.

ثم ان الظاهر من التحدید بثلاثة هو من ضرب الحاکم مدة کمبدإ للاستتابة.

السادس: أن مما مرّ فی الفرع الرابع یتبین أن المنکر للضروری ونحوه یلزم فی الحکم علیه بالارتداد حکم الحاکم، لکونه من الموضوعات المستنبطة الخلافیة المبتنی علی تشخیص الموضوع فیه علی مقدمات اجتهادیة.

السابع: أن الشاک ما لم یبرز شکه ویبنی علیه فی الظاهر محکوم ببقاء اسلامه الاعتباری، بخلاف ما اذا أبرزه کإنشاء للالتزام والبناء علی الشک، فإنه یعدّ حینئذ إنشاء للردة والخروج عن عقد الالتزام والاقرار بالاسلام ولو کان عن قصور، اذ هو نحو من الجحود ومن ثم لو أتی فی الخفاء بفعل علی الملّة الاخری من دون قصده لابرازه وإنشاء الردة والخروج، واتفق أن اطّلع علیه غیره لا یعدّ ذلک منه ردة إنشائیة، وان کان ردّة واقعیة ونفاق کما وقع مثل ذلک فی الصدر الأول من بعضهم.

ص:490

فائدة :فی حدود ما یسوغ النظر إلیه عند إرادة التزویج

ص:491

ص:492

فی حدود ما یسوغ النظر إلیه عند إرادة التزیج

أن مقتضی لسان الروایات الواردة بلسان الاستثناء هو حرمة طبیعة هذا الفعل، لولا العنوان المرخّص به و هو إرادة التزویج، و إن کان الجواز شاملًا لما لو علم بوقوع التلذّذ، فإن الجواز لیس بلحاظ ذلک؛ و لذلک لا یجوز له استدامة النظر عند حصول الالتذاذ، مضافاً إلی ما فی مرسلة عبد الله بن الفضل من اشتراط عدم الالتذاذ.

ثمّ إن ظاهر حسنة أو مصححة عبد الله بن سنان، المتضمّنة لجواز النظر إلی شعر من یرید تزویجها و کذلک صحیحة یونس بن یعقوب و موثّق الیسع، حیث إنه فی صحیح یونس بن یعقوب، إنها ترقق له الثیاب، و فی موثّق الیسع الباهلی: النظر إلی محاسنها، و کذلک موثّقة غیاث و مرسل عبد الله بن الفضل عنه عن أبیه، إذ یظهر منها التعمیم إلی عموم الأعضاء التی هی محل اهتمام، لکن الانصاف إنها لا یظهر منها جواز النظر إلی تلک المواضع بدون ثیاب، لا سیما إذا فسرت کلمة (ترقق) بمعنی تخفف، لا بمعنی ما یحکی ما تحته من البشرة، و المحاسن یتم النظر إلیها و لو من وراء الثیاب الرقیقة، و إن لم تکن تشف ما تحتها من البشرة، و لکن یظهر بها حجم الأعضاء و ما شابهه، و لقد ورد نظیره فی روایات النظر إلی الأمة التی یرید شراءها، حیث یتضمن النظر إلی محاسنها .

و ما جاء فی روایة الحسین بن علوان من الکشف عن ساقیها، مضافاً إلی ضعف سندها و کون موردها الجاریة، لا یظهر منها جواز النظر إلیها

ص:493

مع التعری فی مواضع ما عدا العورة، بل لعل المراد من الساقین ما دون الفخذین فقط.

فالمحصل من الروایات جواز النظر إلی الشعر و الرقبة و الجید و الید و نحوها، مما لا یستره الإزار، فینظر إلی باقی الأعضاء من خلال الثیاب الرقیقة، کالخصر و الورک، و بذلک یتحقق النظر إلی محاسنها، کما ورد فی

موثّق أو صحیح یونس بن یعقوب الآخر من أنها تحتجز، و احتجازها بالإزار فقط نظیر ترقیق الثیاب، ثمّ إن مقتضی التعبیر فی الروایة السابقة بالإزار انکشاف الساقین فی الجملة جواز النظر إلیهما.

وأما التقیید فی جملة من الروایات الأخری بالوجه و المعصم و نحوهما، فلا یعارض الروایات الناصّة علی الشعر و المحاسن، لضعف المفهوم فی قبال المنطوق المنصوص، مع احتمال الوجه للإمام فی قبال الخلف، و أن التدرج فی بیان الجواز أخذاً بالحیطة و التحفظ فی الأعراض، کما یشیر إلیه موثّق أو صحیح یونس بن یعقوب الثانی.

وأما الاستئذان فنقل عدم الخلاف فی أنه لا یشترط فی جواز النظر، إلّا أن الظاهر المتراءی منه محل تأمل؛ لأن النظر و إن لم یکن حقاً محضاً للمنظور إلیه، بل فیه حق الله و الحکم الشرعی، لکنّه متضمّن لحق الناس أیضاً، إلّا أن یقال: إن الأصحاب تمسکوا بإطلاق الروایات فی المقام، نظیر جواز أکل المار للثمر، الذی عرف بحق المارّة.

لکن بین المقامین فرق، حیث إن جعل جواز أکل المارّة هناک ظاهر

ص:494

أدلته ابتداءً هی بدون إذن لا بتوسط الإطلاق، بخلاف المقام، فإن المنساق غالباً منه هو عند المقاولة و مشارفة الطرفین للتراضی بالعقد، فالتمسک بالإطلاق محل تأمل، فالاحتیاط لا یترک.

ولعل مراد الأصحاب أن الإذن هو بظاهر حال المقاولة، و یشهد لذلک التعبیر فی بعض الروایات بأنها تحتجز له بإزار أو ترقق له الثیاب ، فالظاهر منه أنه إقدام منها.

أما الشروط الأخری التی ذکرها الأصحاب، من کونها خلیة و أن لا تکون ذات عدّة و لا أخت الزوجة، فالظاهر إنها شروط مسلّمة فی فرض موضوع الروایات و لا حاجة للتنبیه علیها.

ص:495

ص:496

فائدة :فی عدم اعتبار الشروط المتبانی علیها قبل عقد النکاح من دون التصریح بها فی العقد

اشارة

ص:497

ص:498

فی عدم اعتبار الشروط المتبانی علیها قبل النکاح من دون التصریح بها فی العقد

والبحث فی مقامین:

الأول: الروایات:

اما الروایات فعلی طوائف، منها ما ورد فی ان ترک ذکر الأجل یوجب ان ینعقد النکاح دائماً کموثّق عبد الله بن بکیر قال: قال أبو عبدالله(علیه السلام): (ما کان من شرط قبل النکاح هدمه النکاح و ما کان بعد النکاح فهو جائز) و قال: (إن سمی الأجل فهو متعة، و إن لم یسم الأجل فهو نکاح بات) (1).

وصدر الروایة ظاهر فی تأسیس عموم دال علی عدم نفوذ الشروط التی یتقاول علیها قبل النکاح إذا لم یصرّح بها لفظاً أثناء إنشاء الصیغة، ثمّ ذکر(علیه السلام) تطبیقاً لهذا العموم ذکر الأجل فی النکاح، و من ثمّ لا یکفی التبانی علیه، بل لابدَّ من التصریح به أثناء النکاح کی یقع متعة، و بهذا التقریب فی تطبیق العموم علی شرطیة الأجل فی النکاح تفید الروایة المطلوب فی المثال الذی نحن فی صدده، و هو لو أنه تشارطا علی الأجل فی المقاولة قبل صیغة النکاح ثمّ لم یذکر الأجل فی الصیغة، فإنه ینعقد نکاحاً باتاً، و بعبارة أخری: إن ذیل الروایة أورده صاحب الوسائل فی ذلک الباب مع حذف

ص:499


1- (1) الکافی، ج5، ص456.

صدر الروایة، فتوهم من هذا الذیل أنه(علیه السلام) فی صدد بیان مغایرة المتعة مع النکاح الدائم بذکر الأجل وعدم ذکره، بینما بقرینة صدر الروایة المحذوف یتبیّن أنه(علیه السلام) فی صدد تطبیق العموم الذی ذکره فی صدر الروایة بعد الفراغ عن تباین المنقطع والدائم بشرطیة الأجل، وإنما هو(علیه السلام) فی صدد بیان أن هذه الشرطیة للأجل المفرّقة بین العقدین إنما تعدّ مشروطة فی العقد إذا ذکرت مع الصیغة، ولایعتدّ بذکر الأجل والشرط فی المقاولة قبل العقد مع متارکة ذکره مع الصیغة، فمع هذا التقریب تکون الموثّقة نصّ فیما ذهب إلیه المشهور.

وفی معتبرة أبان بن تغلب، قال: (قلت لأبی عبدالله(علیه السلام) کیف أقول لها إذا خلوت بها؟ قال: تقول أتزوّجک متعة علی کتاب الله وسنة نبیه صلی الله علیه و آله لا وارثة ولا موروثة کذا وکذا یوماً، وإن شئت کذا وکذا سنة بکذا وکذا درهماً، وتسمّی من الأجر ما تراضیتما علیه قلیلًا کان أم کثیرة، فإذا قالت نعم فقد رضیت فهی امرأتک وأنت أولی الناس بها، قلت: فإنی أستحیی أن أذکر شرط الأیام؟ قال: هو أضر علیک، قلت: وکیف؟ قال: إنک إن لم تشترط کان تزویج مقام ولزمتک النفقة فی العدّة، وکانت وارثة ولم تقدر علی أن تطلقها إلّا طلاق السنة) (1).

وقد رواها الکلینی بطریقین عن إبراهیم بن الفضل عن أبان والأول صحیح، وأما إبراهیم بن الفضل فهو وإن لم یوثق إلّا أن الشیخ قال عنه فی رجاله أسند عنه، أی أنه ممن یروی عنه، وهو یفید قرینة فی الحسن علی

ص:500


1- (1) الکافی، ج2، ص455.

الأصح فی معنی هذه اللفظة، مضافاً إلی روایة جعفر بن بشیر عنه، وقد استشعر الوحید فی تعلیقته الوثاقة من ذلک، فلا أقل من الحسن بل فوق الحسن ویکفی ذلک فی اعتبار الروایة، لا سیما وأن الروایة عن الراوی فی عرف الرواة تلمّذ.

وأما دلالة الروایة فهی نص بالمطلوب أیضاً، فإنه بیّن قصده للمنقطع فی الانشاء إلّا أنه لم یذکر شرط الأجل استحیاءً لفظا فی العقد.

وقد یقال: إن مفاد هذه المعتبرة فی خصوص مَن کان ملتفتاً إلی شرطیة الأجل ولم یذکره تعمّداً، ولو بداعی الاستحیاء، وهذا بخلاف مَن لم یذکره نسیاناً.

وبعبارة أخری: إن مورد الروایة مَن تعمّد بناء اللفظ علی العدم، فکأنه قصد العدم وبنی اللفظ علیه بخلاف الناسی والغافل؟

فیقال: إن هذا الفرق إن تم فی معتبرة أبان فلیس بتام فی موثّقة ابن بکیر مضافاً إلی ان ما فی معتبرة أبان وان کان تعمد من جهة الموضوع إلّا انه ناشئ عن الجهل بالحکم، وبالتالی فلیس عمد تام؛ إذ لیس کل عامد بالموضوع عالم بالحکم، فالمورد مشوب بالجهل والغفلة أیضاً وبناءه علی کفایة قصد الشرط من دون التصریح له فلم یبن اللفظ علی العدم، أی لم یستعمل الترکیب المجموعی للجملة فی إرادة الدائم بنحو الجد، ولو من باب تعدّد الدال والمدلول، إذ أن المعنی المستعمل فیه النکاح فی القسمین واحد وإنما التغایر آت من ضمیمة الشرط، وهذا بنفسه تقریب آخر لدلالة الموثّقة والمعتبرة سیأتی بیانه فی الطائفة الثانیة، الدالة علی أن قوام التغایر بین

ص:501

القسمین هو الضمیمة لماهیة النکاح لا بنفس الماهیة.

وروایة هشام بن سالم قال: قلت لأبی عبدالله(علیه السلام) أتزوّج المرأة متعة مرةً مبهمة؟ قال: ذاک أشدّ علیک ترثها وترثک، ولا یجوز لک ان تطلقها إلّا علی طهر وشاهدین قلت: أصلحک الله فکیف أتزوّجها؟ قال: أیاماً معدودة بشیء مسمّی مقدار ما تراضیتم به، فإذا مضت أیامها کان طلاقها فی شرطها ولا نفقة ولا عدّة لها علیک) (1).

والروایة لیس فی سندها ما یتوقف فیه إلّا موسی بن سعدان الحنّاط وعبدالله بن القاسم الحضرمی، وقد ضعف النجاشی الحناط فی الحدیث، قال: ضعیف فی الحدیث کوفی له کتب کثیرة ثمّ ذکر سنده إلی کتبه، وفیه: الراوی لکتبه محمد بن الحسین بن أبی الخطاب الکوفی الثقة الجلیل ولکن الشیخ فی الفهرست لم یضعفه وسنده إلی کتابه صحیح، عن ابن أبی سعید عن ابن الولید عن الصفار عن ابن أبی الخطاب عن موسی بن سعدان، ویظهر من ذلک اعتماد بن الولید القمی شیخ الصدوق علی کتابه والصفار، هذا مع ما عرف من تشدّد بن الولید الا انه اعتمد علی کتابه مضافاً إلی ابن أبی الخطاب الکوفی، وقال ابن الغضائری ضعیف فی مذهبه واعترض الشیخ الوحید علی تضعیفه بأن ضعف الحدیث غیر ضعف الرجل وان نسبة الغلو من القدماء لا یعتنی بها وذکر جملة من الروایات التی رواها فی المعارف: وقال: لأمثال هذه رمی بالغلو، نظیر أن الأئمة یزدادون علماً فی لیلة الجمعة. وذکر أن رمیه بالغلو لعلّه لروایته عن عبدالله بن القاسم الحضرمی.

ص:502


1- (1) التهذیب: ج7، ص267.

ثمّ ذکر جملة من القرائن للاعتماد علیه، وأما عبدالله بن القاسم الحضرمی، فهو وإن ضعفه ابن الغضائری والنجاشی، وذکر أنه کذّاب غال وذکر سنده إلی کتابه والرمی بالکذب معلول عند القدماء للرمی بالغلو مع التصریح بکلا الصفتین، وجملة روایاته فی المعارف من نفائس الروایات التی یمج من قبولها المشرب الکلامی السطحی الجاف مثل ما رواه الکافی عنه فی باب أن الأئمة نور الله عَزَّ وَجَلَّ، وما رواه الصدوق عنه من أنه ینادی یوم القیامة أن علی بن أبی طالب یدخل الجنة من شاء ویدخل النار من شاء . وکذلک روی حدیث اللوح فی أسماء الأئمة، وذکر بعض ذلک النمازی فی مستدرکاته، هذا مع أن الروایة فی المقام لیست فی المعارف، أی لیس فی الباب الذی ضعف فیه الروایات، وهذه نکتة یجدر الالتفات إلیها، وهی أن التضعیف إذا کان مخصوصاً بباب علی تقدیر التسلیم بصحة مدرکه یخص ببابه، کما لو کان التضعیف من جهة المذهب الاعتقادی، أی المسائل الاعتقادیة التی یعتقد بها الراوی أو کان التضعیف من جهة الوقف، أو من جهة مذهب فقهی فی بعض المسائل الفقهیة، کما یقع ذلک لبعض الرواة ونحو ذلک فیخصّ بذلک الباب.

أما دلالة الروایة فهی منطبقة علی المقام، حیث یقصد من النکاح المتعة إلّا انه لا یقید علی صعید الانشاء اللفظی جهلًا منه بالحکم، کما مر فی تقریر ما سبق.

ومنها عنوان: عدم نفوذ الشروط المتبانی علیها عند المتعاقدین خاصة الروایات الواردة من أن الشرط السابق علی النکاح لیس بنافذ بخلاف

ص:503

الذی یذکر مع العقد کروایة بن بکیر قال: قال أبو عبدالله(علیه السلام): «اذا اشترطت علی المرأة شروط المتعة فرضیت به وأوجبت التزویج فاردد علیها شرطک الأوّل بعد النکاح فإن أجازته فقد جاز وإن لم تجزه فلا یجوز علیها من شرط قبل النکاح.

وتقریب الدلالة: أن ظاهر الروایة أن شروط المتعة والذی عمدته الأجل والمهر إذا ذکر فی المقاولة قبل العقد فلا یعتد به ولا ینفذ إذا کانت الصیغة مطلقة، وأنه لابدَّ فی نفوذ الشرط مع نفوذ العقد مرتبطاً فی ضمنه من ذکر الشروط مع الصیغة. ولا یخفی دلالتها بالاقتضاء أن العقد فی الصورة الأولی نافذ دواماً وإن قصد به ما تشارطا من المنقطع فی المقاولة.

ومثلها صحیحة محمد بن مسلم قال: (سألت أبا عبدالله(علیه السلام) عن قول الله عَزَّ وَجَلَّ: وَ لا جُناحَ عَلَیْکُمْ فِیما تَراضَیْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِیضَةِ فقال: ما تراضوا به من بعد النکاح فهو جائز وما کان قبل النکاح فلا یجوز إلّا برضاها وبشیء یعطیها فترضی به)(1). نعم مقدار ما یستفاد من هذه الطائفة هو کون النکاح یهدم الشروط السابقة المتبانی علیها عند المتعاقدین خاصّة دون ما کان التبانی علیها عند نوع العقلاء والعرف، کما هو صریح مورد تلک الروایات کالتعبیر بشرطک أو (اشترطت) وکذا فی موثّق بن بکیر مما یوهم الإطلاق أنه بقرینة التعبیر ب- (قبل) الدال علی تشخیص الشروط بالخاصة عند المتعاقدین، أی مما جری تداولها بینهما فی العقد، بخلاف الشروط النوعیة عند العقلاء فلا توصف بالقبلیة، فالقدر المتیقن

ص:504


1- (1) الکافی، ج5، ص456.

من هذه الطائفة هدم الشروط الخاصة عند المتعاقدین ویبقی الباقی علی مقتضی القاعدة وهو الصحة.

ومنها: ما ورد فی بیان أن صیغة المتعة متقوّمة بالشروط کموثّقة سماعة عن أبی بصیر عنه قال: (لابدَّ من أن یقول فیه هذه الشروط: أتزوّجک متعة کذا وکذا یوماً بکذا وکذا درهماً نکاحاً غیر سفاح علی کتاب الله وسنة نبیه وعلی ان لا ترثینی ولا أرثک علی أن تعتدّی خمسة وأربعین یوماً. وقال بعضهم: حیضة)(1). وظاهر الموثّقة أن قوام المتعة بالشروط وبالتالی تخالفها مع الدائم بذلک لا فی مادة وماهیة النکاح وأن المتعة طور من النکاح متولّد من الشروط وغیرها من الروایات فی هذا المضمون.

فتحصل من کلّ ذلک أن الاختلاف بالشرط هو أنه لا تباین فی أصل قصد النکاح، وأنه لا اختلاف فی أصل قصد النکاح وإنما الاختلاف فی الشروط علی ذلک لو أنشأ النکاح مع الغفلة عن الشروط عن ذکرها مع الصیغة أو لم یذکرها لأسباب أخری فإن النکاح یقع باتاً.

الثانی: مقتضی الأصل:

وعلی ذلک عند الشک فی کون العقد دائم أو منقطع، فإن أصالة عدم الاشتراط تقتضی دوام العقد، کما هو الحال لو حصل نزاع بین الزوجین فإن مدّعی الدوام یکون منکراً، ولا یتوهم أن هذا من الأصل المثبت وذلک لأن موضوع الدوام هو صرف العقد لا وصف التجرد لیشکل بأن

ص:505


1- (1) الکافی، ج5، ص455.

هذا العنوان وجودی لا یمکن إحرازه، کما أن موضوع المنقطع مرکب.

فالأصل عدمه وهو محرز للموضوع وهو الدوام ویترتب علیه حرمة نکاح الخامسة وغیرها من آثار النکاح الدئم.

ص:506

فائدة :فی تحقق قاعدة الفراش والعدة من إراقة الماء علی الفرج

ص:507

ص:508

فی تحقق قاعدة الفراش والعدة من إراقة الماء علی الفرج

ثم انّه فی حکم الدخول لو باشر المرأة ولکن لم یدخل، ولکنه أراق ماءه علی فم الفرج، أو فیه، کما حکم المشهور بتحقق قاعدة الفراش فی المجبوب وهو مقطوع الذکر والانثیین، ولکنه ینزل، أو مع سلامة الانثیین لکی ینزل بهما وقد صرّح فی کشف اللثام فی باب اللعان بتعمیمهم لقاعدة الفراش للوطی دون الفرج، ویمکن ان یستدل له بصحیحة علی بن جعفر عن أخیه أبی الحسن(علیه السلام) قال: «سألته عن رجل طلق امرأته قبل أن یدخل بها، فادّعت أنها حامل فقال: ان اقامت البینة علی انّه أرخی علیها ستراً ثم انکر الولد لاعنها، ثم بانت منه(1) الحدیث.

بتقریب ان المراد من ذلک الخلوة والمباشرة ولو دون الوطی فی الفرج.

وفی روایة أبی البختری عن جعفر بن محمد عن أبیه (علیهم السلام) «ان رجلاً أتی علی بن أبی طالب(علیه السلام) فقال: ان امرأتی هذه حامل وهی جاریة حدثة وهی عذراء وهی حامل فی تسعة أشهر، ولا أعلم الاّ خیراً، وأنا شیخ کبیر ما افترعتها وإنها لعلی حالها، فقال له علی(علیه السلام) نشدتک الله هل کنت تهریق علی فرجها قال: نعم. فقال: علی(علیه السلام)... إنّ لکل فرج ثقبین، ثقب یدخل

ص:509


1- (1) أبواب اللعان، باب 2 ح1.

فیه ماء الرجل، وثقب یخرج منه البول وان افواه الرحم تحت الثقب الذی یدخل فیه ماء الرجل فاذا دخل الماء فی فم واحد من أفواه الرحم حملت المرأة بولد(1) الحدیث، ومثلها مارواه المفید فی الارشاد(2) وفی صحیحة الحلبی عن أبی عبدالله(علیه السلام): «سألته عن الرجل یطلق المرأة وقد مسّ کل شیء منها الا أنّه لم یجامعها ألها عدّة؟ فقال: ابتلی أبو جعفر(علیه السلام) بذلک، فقال له أبوه علی بن الحسین صلی الله علیه و آله ، اذا اغلق بابا وارخی ستراً فوجب المهر والعدّة(3).

ومثلها موثق زرارة(4) وموثق اسحاق بن عمار(5).

ومفادها وان کان معارضاً بما دل علی عدم العدة وعدم المهر من دون الدخول، الا انّ الجمع بین المفادین ممکن بتقیید الروایات النافیة بما اذا لم ینزل الماء علی فرجها، بقرینة ما فی صحیح الحلبی مع أنه مسّ کل شیء منها دون الدخول وهو شامل لما لو وضعه فی فم الفرج.

مضافاً الی تأیید هذا الجمع بما تقدم من روایة أبی البختری وروایة المفید فی الارشاد، بل فی موثق اسحاق بن عمار عن أبی الحسن(علیه السلام) قال: «سألته عن الرجل یتزوج المرأة فیدخل بها، فیغلق علیها باباً، ویرخی علیها

ص:510


1- (1) أبواب أحکام الاولاد، باب 16 ح1.
2- (2) أبواب أحکام الاولاد، باب 16 ح2.
3- (3) أبواب المهور، باب 55 ح2.
4- (4) أبواب المهور، باب 55 ح3.
5- (5) أبواب المهور، باب 55 ح4.

ستراً، ویزعم أنّه لم یمسّها، وتصدقه هی بذلک، علیها عدّة؟ قال: لا، قلت فانّه شیء من دون شیء، قال: ان اخرج الماء اعتدّت، یعنی اذا کانا مأمونین صدقا(1) وفسرها المجلسی فی مرآة العقول «بأنه ألصق الذکر بالفرج أو ادخل اقل من الحشفة، وأنه مع الانزال احتمل دخول الماء فی الرحم فیجب علیه العدّة وتستحق المهر لکنه قال: انه لم یری بهذا التفصیل قائلاً(2).

ثم ذکر ان الذیل الذی بلفظ (یعنی) من کلام الکلینی.

ویعضد هذا المفاد بموثق اسحاق بن عمّار ما فی صحیح عبدالله بن سنان عند أبی عبدالله(علیه السلام) قال: «سأله أبی وأنا حاضر عن رجل تزوج امرأة فادخلت علیه فلم یمسّها، ولم یصل الیها حتی طلقها هل علیها عدّة منه؟ قال: انما العدّة من الماء(3)، الحدیث.

ص:511


1- (1) أبواب المهور، باب 56 ح2.
2- (2) مرآة العقول: ج21 ص188.
3- (3) أبواب المهور، باب 54 ح1.

ص:512

فائدة :فی أن جدة میقات للتمتع

ص:513

ص:514

فی أن جدة میقات للتمتع

هذا والبحث وإن کان عاماً لا فی خصوص جدة إلا انّه یجدر الالفات إلی بعض ما یتعلّق بها مقدمةً لبحوث عدیدة وذلک لکثرة الابتلاء بالسفر الیها حالیاً عن طریق الجوا. وتلک المقدمة هی:

انّ جدة کما هو ثابت بالتواریخ مأهولة ومسکونة قبل الاسلام بل فی بعض الروایات(1) انّ آدم(علیه السلام) وصل من سرندیب إلی جدة بعد هبوطه إلی الارض وان داود(علیه السلام) فی حجته إلی مکة اتجه منها الیها. وقد اتخذ مرفأ لمکة من عهد عثمان کمیناء بحری وکانت القوافل البحریة تمر علیها بل فی بعض الروایات وقع السؤال عن جواز الخروج بین عمرة التمتع والحج لعروض حاجة إلی جدة.

والصحیح انّ جدة لیست خارجة عن منطقة المواقیت بل هی امّا علی خط محیط المنطقة المزبورة أو داخلها ودون المواقیت وخلفها، کما انّ الصحیح امتناع ما فرضه فی الشرائع والقواعد من عدم تأدیة بعض الطرق إلی المواقیت ولا إلی محاذاتها.

وذلک مضافاً إلی ما تقدم ویقرر بالوجوه التالیة:

الأول: التمسّک بالعموم الوارد فی میقات التمتع انّه بقدر مرحلتان، وان ذلک هو المقوم لماهیة التمتع، کما هو الحال فی قرن المنازل ویلملم

ص:515


1- (1) بحار الأنوار، ج10، ص78، ج11 ص143.

وذات عرق التی هی علی قدر مرحلتین. خلافاً لما ذهب إلیه العلّامة فی القواعد وولده فی الشرح من الاجتزاء بالاحرام بأدنی الحل فیما لو لم یؤدی الطریق إلی المحاذاة واستحسنه فی المدارک وقال فی الحدائق: قیل انّه یحرم من مساواة أقرب المواقیت إلی مکة، أی محل یکون بینه وبین مکة بقدر ما بین مکة وبین أقرب المواقیت الیها، وهو مرحلتان کما تقدم أنه عبارة عن ثمانیة وأربعین میلًا قالوا لأن هذه المسافة لا یجوز لأحد قطعها إلا محرماً من أی جهة دخل وإنّما الاختلاف فیما زاد علیها، ورد بأن ذلک انّما ثبت مع المرور علی المیقات لا مطلقاً، ثمّ ذکر الأقوال السابقة وتوقف لعدم النص . والصحیح انّ هذه المسافة حکمها لیس مقیداً بمن مرّ علی المواقیت بل انّ هذا الحکم شامل لمن کان بمکة وأراد التمتع وذلک لتقوم ماهیة التمتع به کما حرر فی أقسام الحج.

ویدلّ علیه موثق سماعة عن أبی عبد اللّه(علیه السلام) قال: «وان اعتمر فی شهر رمضان أو قبله وأقام إلی الحج فلیس بتمتع وانّما هو مجاور أفرد العمرة فإن هو أحب أن یتمتع فی أشهر الحج بالعمرة إلی الحج فلیخرج منها حتی یجاوز ذات عرق أو یجاوز عسفان فیدخل متمتعاً بالعمرة إلی الحج فإن هو أحب أن یفرد إلی الحج فلیخرج إلی الجعرانة فیلبی منها»(1).

و صریح هذه الموثقة الاجتزاء فی احرام عمرة التمتع بذلک القدر من المسافة بأی نقطة تبعد ذلک القدر وهو المرحلتان الثمانیة والاربعون میلًا.

ص:516


1- (1) من لا یحضره الفقیه، ج2، ص449؛ وسائل الشیعة، ج11 ص271، باب 10، من أبواب أقسام الحج، ح2.

والذی هو الحدّ الفاصل بین الحاضر والنائی المأخوذ فی ماهیّة التمتع فی الآیات والروایات، مع انّ عسفان لیست میقاتاً خارج منطقة المواقیت بل هی دون الجحفة ومسجد الشجرة لکنها بقدر الحد الذی علیه ذات عرق وقرن المنازل ویلملم.

وموضوع هذه الموثقة هو من لم یمرّ علی المواقیت البعیدة لا خصوص المقیم فی مکة. وینطبق هذا الموضوع علی الآتی من جدة من منطقة المطار المستحدث حالیاً حیث انّه یبعد عن مکة بقدر مرحلتین ونصف وهو أکثر من بعد عسفان من مکة کما دلّت علی ذلک الخرائط الجغرافیة الحدیثة.

وکذا مصحح اسحاق بن عبد اللّه قال: «سألت أبا الحسن(علیه السلام) عن المعتمر بمکة یجرد الحج أو یتمتع مرّة أخری فقال: یتمتع أحب الیّ ولیکن احرامه من مسیرة لیلة أو لیلتین»(1) وهذا الحد الذی ذکره(علیه السلام) هو حدّ قرن المنازل الذی هو علی بعد مرحلتین، فتدلّ علی انّ الضابط فی احرام المتمتع الذی لم یمر علی المواقیت البعیدة هو احرامه من بعد ذلک القدر من دون تقید ذلک بالذهاب إلی خصوص قرن المنازل أو یلملم أو ذات عرق أو عسفان مما یدلل علی انّ منطقة المواقیت حوالی مکة هی دائرة قطرها ذلک القدر من کل جوانب مکة کما تشیر إلیه روایات أخری آتیة.

والتردید فی الروایة باللیلة واللیلتین لیس للتردید فی القدر بل لأن

ص:517


1- (1) وسائل: ج11، ص252، باب 4، من أبواب أقسام الحج، ح20.

ذلک وهی المرحلتان إذا اتصل سیر النهار باللیل فیطوی فی لیلة واحدة وإذا انقطع فیطوی فی لیلتین نظیر ما ورد فی تحدید حدّ مسافة التقصیر فی روایات صلاة المسافر فلاحظ.

ومثلهما صحیحة زرارة قال: «قلت لأبی جعفر(علیه السلام) قول اللّه عَزَّ وَجَلَّ فی کتابه ذلِکَ لِمَنْ لَمْ یَکُنْ أَهْلُهُ حاضِرِی الْمَسْجِدِ الْحَرامِ قال(علیه السلام): یعنی أهل مکة لیس علیهم متعة کل من کان أهله دون ثمانیة وأربعون میلًا ذات عرق وعسفان کما یدور حول مکة فهو ممن دخل فی هذه الآیة وکل من کان أهله وراء ذلک فعلیهم المتعة».

ومثلها صحیحه الآخر وفیه فما حدّ ذلک قال(علیه السلام) «ثمانیة واربعین میلًا من جمیع نواحی مکة دون عسفان وذات عرق».

وقد ذکرنا فی بحث الحج - فی أقسام الحج - بیان انّ الآیة دالّة علی أخذ البعد المزبور فی احرام عمرة التمتع، وانّ محصل الروایات فی الحاضر والنائی انّ مشروعیة التمتع تدور مدار ذلک البعد کمیقات لاحرام عمرة التمتع، وغیرها من الروایات، وبذلک یرفع الید عن العموم الأولی الفوقانی الذی تمسک به العلّامة وجماعة وهو المنع عن دخول مکة والحرم إلا محرماً المقتضی لاجتزاء الاحرام من أدنی الحل.

وقد صرّح بذلک صحیح عبد الرحمن بن الحجاج الوارد فی احرام المجاور الذی وظیفته الافراد من أدنی الحل واعتراض سفیان من فقهاء العامة علی ذلک بقوله: أما علمت انّ أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله أحرموا من المسجد فقال(علیه السلام): «انّ اولئک کانوا متمتعین فی أعناقهم الدماء وإن هؤلاء

ص:518

قطنوا مکة فصاروا کأنهم من أهل مکة وأهل مکة لا متعة لهم فأحببت أن یخرجوا من مکة إلی بعض المواقیت وأن یستغبوا به أیّاماً» ویرید(علیه السلام) من بعض المواقیت الجعرانة ونحوها من معالم أدنی الحل فهذه الصحیحة صریحة فی تخصیص العموم الفوقانی الأول لمیقات أدنی الحل بغیر من یرید التمتع فی حالة الاختیار.

والغریب ممّن جمع بین الحکم فی المجاور بمکة أقل من المدة التی ینقلب فیها فرضه بأن یحرم من المواقیت البعیدة، أو المسافة بقدر مرحلتین کما دلّت علی ذلک الروایات، وإن وردت روایات اخری دالّة علی احرامه من ادنی الحل لکنها محمولة علی التعذر کما تقدم، وبین الحکم فیمن سلک طریقاً لا یؤدی الی المحاذاة بأن احرامه ادنی الحل، فانّ الموضوع فیها واحد وهو من لم یمر علی المواقیت البعیدة، وکذلک الحال فی الجمع بین ذلک وبین الحکم فی الناسی والجاهل للاحرام من المواقیت البعیدة وقد دخل الحرم أو مکة بأن علیه العود والاحرام من المیقات وإلا بقدر ما یستطیعه من الرجوع.

ثمّ انّه لا یخفی انّ هذا الوجه یتم بعد عدم لزوم المرور علی المواقیت کما نسب للمشهور، ولعله متسالم بینهم بل الروایات المزبورة دالّة علیه، کما انّ مفاد لسان الروایات الواردة فی المواقیت البعیدة عدم جواز تجاوزها إلا بالاحرام مقیداً بمن مرّ علیه.

الثانی: انّ الواصل إلی جدة من الحجیج لا یخلو امّا أن یکون محاذیاً للمواقیت کما هو الصحیح لدینا فی معنی المحاذاة وهو الوقوف علی محیط

ص:519

منطقة المواقیت البعیدة وهو الخط الواصل بین المواقیت المزبورة، أو هو دون المواقیت البعیدة، بدعوی ملاحظته للجحفة والشجرة، ولا یحتمل انّه خارج منطقة المواقیت، لأن أهالی جدة ونحوهم من المدن الواقعة علی ساحل البحر لا یجب علیهم الذهاب إلی أحد المواقیت المعروفة بل یحرمون من دویریة أهلهم، وحینئذ فیجزئ الاحرام منها، أما علی الأول فظاهر، وأمّا علی الثانی فیشمله عموم من کان منزله دون المواقیت فاحرامه منه ولا یلزم بالذهاب للمواقیت البعیدة، لأن الفرض أنه لم یمر علیها، وقد عرفت التسالم علی عدم لزوم المرور علیها، ولا یصدق علیه انّه تجاوزها ولم یحرم منها، فهو نظیر من دخل منطقة المواقیت ثمّ بدا له أن یعتمر فإنّ احرامه من منزله الذی نوی فیه، وقد عرفت انّ بُعد جدة هو علی القدر الذی أخذ فی ماهیّة التمتع. کما یستدل للاجتزاء بالاحرام علی التقدیر الثانی بعموم عقد الاحرام بالتلبیة ونحوها، غایة الأمر قد خصص هذا العموم بالمواقیت البعیدة لمن مرّ علیها وبالعموم الآخر «لا یدخل الحرم إلا محرما» وبما دلّ علی انّ ماهیة التمتع متقومة بالاحرام من بعد مرحلتین ثمانیة وأربعین میلًا، والمفروض انّ جدة علی هذا البعد حیث المطار الذی یصل إلیه الحجیج.

و لو سلّم جدلًا انّ جدة قبل المواقیت وانّ حدّه- بالحاء المهملة- الواقعة وسط الطریق بین جدة ومکة هی نقطة المحاذاة للمواقیت فانّه یحرم من جدة ویستمر علی تجدید التلبیة إلی أن یتجاوز المدن الواقعة فی الطریق المحتملة للمحاذاة. لکن هذا التقدیر الثالث لا مجال لاحتماله بعد ما عرفت من الأدلّة الدالّة علی تقوم ماهیّة التمتع بالاحرام من علی بعد مرحلتین فما

ص:520

زاد، والمدن الواقعة فی الطریق هی دون المرحلتین.

الثالث: کون جدّة واقعة علی حدود منطقة المواقیت، أی محاذیة للمواقیت کما ذکر ذلک ابن ادریس، ویدلل علیه بشواهد، منها ما تقدم فی معنی المحاذاة من أنّها عبارة عن المحیط الواصل بین المواقیت البعیدة، غایة الأمر انّه لا یوصل بالخط المحیط بین الجحفة ویلملم لا یوصل بخط مستقیم، بل بخط یمر علی جدة بمقتضی مفاد موثق سماعة المتقدم وصحیحتی زرارة وغیرها من الروایات المتقدمة فی الوجه الأول الدالّة علی انّ منطقة المواقیت قرب مکة هی عبارة عن دائرة مرکزها مکة وقطرها بقدر ثمانیة وأربعین میلًا، غایة الأمر انّ تلک الدائرة یتوسع محیطها شمالًا إلی مسجد الشجرة والجحفة، ومقتضاها بالتالی المرور علی جدّة.

ثم ان هناک معاضدات:

منها: أنّ أهالی جدّة ومقیمیها لا یلزم علیهم الذهاب إلی المواقیت بعیدة کیلملم والجحفة، بل احرامه نفس جدّة کما علیه أکثر الخاصّة والعامّة، أو باحرامهم من الطریق إلی مکة عند بئر الشمیس أو حدة کما ذهب إلیه البعض النادر، وهو ضعیف لأنه لو کان لبان لما عرفت من تقادم عهد حاضرة جدّة وأنّها کانت مرفأً منذ عهد عثمان، مع انّ وظیفتهم هی التمتع.

ومنها: أنّه صلی الله علیه و آله قد وضع المواقیت شمالًا وجنوباً وشرقاً ولم یضع فی الغرب حداً ووقتاً معیناً، مع انّ جدّه منذ عهد الثالث أو ما قبله کانت مرفأ بحریاً هامّاً لکثیر من الحجیج ولا زالت کذلک، بل أصبحت الیوم مرفأً

ص:521

جویاً هامّاً للحجیج، فلو کانت خارجة من منطقة المواقیت مع خروج النواحی الغربیة الساحلیة لکان من المناسب وضع میقات من ذلک الاتجاه، مع انّه قد تقدم صعوبة تحدید المحاذاة واحرازها من جهة الشبهة المفهومیة الموضوعیة لعامّة الناس، مع انّ المتعارف عند رسم شکل محیط ذی اضلاع مختلفة هو بیان اختلاف الاضلاع، أمّا المتشابه فیکتفی ببیانه عن بقیتها، فالمواقیت القریبة المحیطة من جهة الشرق والجنوب هی علی بعد مرحلتین وهو نفس القدر لجدّة.

فالمحصّل انّ الآتی جواً أو بحراً إلی جدة أو بقیة المدن الساحلیة بین یلملم والجحفة یصدق علیه انّه حاذی المواقیت بلحاظ الشکل والخط المحیط المرسوم بمجموعها ویصدق علیه المدار المأخوذ مستفیضاً فی الروایات أنّه لم یحرم قبلها ولا بعدها علی من یحرم من جدّة ونحوها، أی أنّه أحرم من منطقة المواقیت لا قبلها ولا بعدها، بخلاف من یمر علی الجحفة أو یلملم مثلًا ثمّ یتوجه إلی جدّة فانّه یحرم بعد المیقات، کالذی مرّ علی الشجرة ولم یحرم واتّجه إلی الجحفة، أی من مرّ علی میقات ولم یحرم منه وأمامه میقات آخر.

ص:522

المجلد 4

اشارة

سرشناسه:سند، محمد، 1962- م.

عنوان و نام پدیدآور:بحوث فی القواعد الفقهیه [کتاب]: تقریرات محمدالسند/ بقلم مشتاق الساعدی.

مشخصات نشر:قم: موسسه محکمات الثقلین؛ تهران: نشر صادق، 13 -

مشخصات ظاهری:5ج.

شابک:978-600-5215-35-9

یادداشت:عربی.

یادداشت:فهرستنویسی بر اساس جلد چهارم، 1437ق.= 2016م.= 1395.

یادداشت:کتاب حاضر بر اساس تقریرات محمد السند نوشته شده است.

موضوع:فقه -- قواعد

موضوع:Islamic law -- *Formulae

موضوع:اصول فقه شیعه

شناسه افزوده:ساعدی، مشتاق

رده بندی کنگره:BP169/5/س9ب3 1300ی

رده بندی دیویی:297/324

شماره کتابشناسی ملی:4803290

ص :1

اشارة

ص :2

بحوث فی القواعد الفقهیه المجلد 4

تقریرات محمدالسند

بقلم مشتاق الساعدی

ص :3

هویة الکتاب

عنوان الکتاب: بحوث فِی القواعد الفقهیة ---- الجزء الرابع

المؤلف: تقریر لأبحاث المرجع الدینی المحقق الشَّیْخ مُحمَّد السَّنَد

بقلم: الشَّیْخ مشتاق الساعدی

سنة الطبع: 2015 میلادیة

عدد صفحات الکتاب:

الإخراج الفنی: السِّیّد عبدالله الهاشمی - النجف الأشرف

حقوق الطبع محفوظة

ص:4

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله رب العالمین والصلاة والسلام علی محمد وعلی اله الطاهرین المعصومین واللعن الدائم علی أعداء الدین.

نظراً لأهمیة إثراء المکتبة الإسلامیة ب - (القواعد الفقهیة) تواصل الشیخ الأستاذ (دام ظله) بطرح تلک القواعد بمحاور ثلاثة, تارة بشکل بحث مستقل وتارة استطرادا فی بحث خارج الفقه وفی بحث خارج الأصول وقد نتج عن ذلک أربعة اجزاء.

فجاء هذا الجزء الرابع استکمالاً لما طرحه فی الأجزاء الثلاثة من کتاب (بحوث فی القواعد الفقهیة).

وهذه المجموعة من القواعد الفقهیة فی هذا الجزء من الکتاب بحثها الشیخ الأستاذ ایة الله المحقق محمد السند (دام ظله) استطرادا فی بحوث الخارج لعلم الفقه, وقد اتصفت هذه البحوث - کما عودنا سماحته - بالتجدید والابداع بل لم یطرح بعضها من قبل کقاعدة فقهیة وانما طرح کمسالة او کفائدة او لم یطرح من قبل تفصیلاً.

ص:5

واکثر ما تجد ذلک التجدید فی طرح قواعد عدیدة فی الفقه المرتبط بباب القصاص وما یرتبط بالفقه الجنائی والقضائی, فکان بذلک هذا الجزء.

وقواعد هذا الکتاب هی:

1 - قاعدة الاقتصاص من السب او الإهانة.

2 - قاعدة فی ثبوت القصاص بالتسبیب.

3 - قاعدة فی تداخل القصاص والدیات وعدمه.

4 - قاعدة فی القصاص بین الکفار بعضهم مع بعض.

5 - قاعدة فی القضاء بین الکفار وبین اهل الکتاب وبین اهل الخلاف.

6 - قاعدة فی اسلام او کفر ابن الزنا.

7 - قاعدة الجب.

8 - قاعدة فی ثبوت القصاص علی کل جنایة عدوانیة فی النفس أو الطرف.

9 - قاعدة لا تقیة فی الدماء.

10 - قاعدة فی حرمة دم المسلم وعِرضه وماله.

11 - قاعدة فی ضرورة التمییز بین السیرة فی صدر الإسلام.

ص:6

12 - قاعدة فی مودّة أهل البیت علیهم السلام.

13 - قاعدة شوری الأمّة فی نظام الحکم.

14 - قاعدة فی بناء نظام القدرة والقوّة فی الکیان والنظام الإسلامی.

15 - قاعدة فی العدالة.

16 - قاعدة اشتراک الحد والقصاص فی ماهیة جامعة واحدة.

17 - قاعدة القصاص یدرء بالشبهات.

18 - قاعدة فی صلاحیات المرأة.

19 - قاعدة فی صلاة المسافر تماما فی کل مراقد آل البیت لا خصوص الأماکن الأربعة.

20 - قاعدة: فی أن الأعواض المحرمة مُسقطة للضّمان.

مشتاق الساعدی

النجف الاشرف 1436 ه -

ص:7

ص:8

القاعدة الأولی: قاعدة الاقتصاص من السب أو الإهانة

ص:9

ص:10

القاعدة الأولی: قاعدة الاقتصاص من السب أو الإهانة

وهی قاعدة مرتبطة بالعدوان المأخوذ فی قصاص العمد.

او هی قاعدة فی الرد او الاقتصاص فی السب والشتم او الاهانة ولها عنوان اخر وهو ضبط النفس (الحلم) فی ادارة الدفع لئلّا ینقلب الدفع الی عدوان.

وهذا البحث علیه جدل کبیر لا علی مستوی الرد والقصاص الفردی بل حتی علی المستوی الدولی والجماعی.

وبالحقیقة یوجد عندنا عناوین ثلاثة فی القاعدة: (العدوان - الدفع - القصاص), والضابطة فی تمییزها فی النزاعات سواء کانت نزاعات دولیة او فردیة, ان الرد المحض لا یستلزم تسویغ العدوان, فمثلا السب واللعن للمومن محرم سواء کانت الحرمة لحرمة المومن بنفسه او لکونه من اولیاء الله, فلو لعن المعتدی ولکنه متصف بالایمان لا یجوز لعنه وسبه واهانته فضلاً عن اشعال الفتنة فی ذات البین سواء کان بین فردین او جماعتین او حزبین او دولتین او شعبین, فهناک

ص:11

فرق بین الرد وبین العناوین المحرمة الاخری, فرد الساب لا یکون بسبه وانما یکون بتکذیبه, وتسویغ الرد له لا یعنی ان نسوغ مطلق الرد ای حتی بالعناوین المحرمة, وبعبارة ان الرد المحض لا یستلزم تسویغ العدوان وارتکاب المحرمات بل لا بد ان نقتصر علی الرد المحض. وهذا الرد المحض هو غیر الدفع, فیکون لدینا اربعة عناوین.

وهذه القاعدة لها ارتباط بقصد العدوان, وان العدوان الشدید وان وظفه الضارب فی قطع العضو ثم سرت الی القتل فانه وان لم یقصد القتل تفصیلا الا انه قصده ارتکازا او اجمالا بتوسط قصد العدوان فینطوی بذلک علی قصد القتل لان الاندفاع بهذا القدر قصد اجمالی للقتل.

وهذا البحث فی القاعدة یعطینا ضابطة فی النزاعات, وهی ان المعتدی علیه قد ینقلب الی معتدی وجانی کما هو حال البادی بالعدوان.

ولذلک شواهد منها:

ما قرره الاعلام فی بحث حد القذف من ان التعزیر علی السب بالتساوی علی کلا الطرفین.

واستدل القائلین بجواز السب بالسب بایة الاعتداء: (فَمَنِ اعْتَدی عَلَیْکُمْ فَاعْتَدُوا عَلَیْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدی عَلَیْکُمْ) (1).

ص:12


1- (1) سورة البقرة: الآیة 194.

ومقابل ذلک استدل المانعین بروایات منها:

أوَّلاً: ما فی ابواب حد القذف من الوسائل باب 18 و 19 والتی منها هذه الروایات:

1 - معتبرة ابی مخلد السراج عَنْ أَبِی عَبْدِالله علیه السلام أَنَّهُ قَالَ: «قَضَی أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام فِی رَجُلٍ دَعَا آخَرَ ابْنَ الْمَجْنُونِ فَقَالَ لَهُ الْآخَرُ أَنْتَ ابْنُ الْمَجْنُونِ فَأَمَرَ الْأَوَّلَ أَنْ یَجْلِدَ صَاحِبَهُ عِشْرِینَ جَلْدَةً وَقَالَ لَهُ اعْلَمْ أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ مِثْلَهَا عِشْرِینَ فَلَمَّا جَلَدَهُ أَعْطَی الْمَجْلُودَ السَّوْطَ فَجَلَدَهُ نَکَالًا یُنَکِّلُ بِهِمَا»(1).

2 - صحیحة عَبْدِالله بْنِ سِنَانٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ الله علیه السلام«عَنْ رَجُلَیْنِ - افْتَرَی کُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَی صَاحِبِهِ - فَقَالَ یُدْرَأُ عَنْهُمَا الْحَدُّ ویُعَزَّرَانِ»(2). وغیرهما.

ثانیاً: ما فی روایات ابواب احکام العشرة باب 145 وباب 147 وباب 158.

منها: صحیحة ابن الحجاج الاتیة والتی قرر فیها ان الساب وراد السب ظالمان, الا ان البادی یحمل وزره ووزر صاحبه, الا ان ثبوت المثلیة للرد علی البادی لا ینفی الوزر عن الراد وهو ظاهر قول الامام علیه السلام

ص:13


1- (1) وسائل الشیعة، باب 19 من أبواب حدّ القذف: ح 3.
2- (2) المصدر، باب 18، ح 1.

ففی صحیحة عبد الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَجَّاجِ عَنْ أَبِی الْحَسَنِ مُوسَی علیه السلام فِی رَجُلَیْنِ یَتَسَابَّانِ فَقَالَ: «الْبَادِی مِنْهُمَا أَظْلَمُ ووِزْرُهُ ووِزْرُ صَاحِبِهِ عَلَیْهِ مَا لَمْ یَتَعَدَّ الْمَظْلُومُ»(1). ولیس معناه ان الوزر یمحی من الثانی وانما یکتب علی الاول زیادة علی وزره ووزر صاحبه لا ان یمحی الوزر عن الراد بل ان وزر الراد موجود غایة الامر ان مثل وزر الراد یضاف الی وزر البادی.

ویوید ذلک ما رواه فی عوالی اللئالی العزیزیة؛ ج 3، ص: 595 عن مُحَمَّدٌ الْحَلَبِیُّ عَنِ الصَّادِقِ علیه السلام قَالَ سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ ضَرَبَ رَأْسَ رَجُلٍ بِمِعْوَلٍ فَسَالَتْ عَیْنَاهُ عَلَی خَدَّیْهِ فَوَثَبَ الْمَضْرُوبُ عَلَی ضَارِبِهِ فَقَتَلَهُ قَالَ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ الله علیه السلام«هَذَانِ مُتَعَدِّیَانِ جَمِیعاً...».

وکذلک یستدل علی المنع بحرمة التنابز بالألقاب: (وَ لا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) (2). والتنابز هو تبادل من الطرفین فالنهی موجه لکلیهما, فالتفاعل وان استعمل للفعل من طرف ولکنه شامل لکلا الطرفین.

فتبین مما مر القول بمنع ردّ السّب بالسّب او الإهانة بالاهانة.

ص:14


1- (1) وسائل الشیعة: ج 12 ص 297.
2- (2) سورة الحجرات: الآیة 11.

القاعدة الثانیة:

قاعدة فی ثبوت القصاص بالتسبیب

ص:15

ص:16

القاعدة الثانیة: قاعدة فی ثبوت القصاص بالتسبیب

اشارة

وتحریر القاعدة فی نقاط:

النقطة الأولی: نقل کلام الاعلام فی المقام:

وننقل ابتداء کلمات الاعلام فی جملة من حیثیات المسالة علی شکل مواطن:

الموطن الأول: إسقاط القصاص فی مورد الشرکة سواء أکانت طولیة أم عرضیة

حیث ان ظاهر کلمات جملة منهم ان اسقاط القصاص یفتح باب الفساد ویبطل حکمة تشریع القصاص, وقد ذکروا ذلک فی مسالة اشتراک جماعة فی قتل شخص, حیث ذهبوا لثبوت القصاص علی الجمیع خلافا لاکثر العامة الذین اسقطوا القصاص, والمسالة وان کانت غیر ما نحن فیه الا ان بینهما بعض الاشتراک وهو جامع الشرکة

ص:17

الاعم من الاشتراک العرضی او الطولی.

قال الشیخ فی الخلاف: «فلو کانت الشرکة تسقط القصاص لبطل حفظ الدم بالقصاص، لأن کل من أراد قتل غیره شارکه آخر فی قتله، فبطل القصاص. وقال الله تعالی(وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِیِّهِ سُلْطاناً فَلا یُسْرِفْ فِی الْقَتْلِ) ومن قتله ألف أو واحد فقتل مظلوما، وجب أن یکون لولیه سلطان فی القود به»(1).

وقال السید فی الانتصار: «و الذی یدل علی الفصل الأول: زائدا علی إجماع الطائفة، قوله تعالی: (وَ لَکُمْ فِی الْقِصاصِ حَیاةٌ) ، ومعنی هذا أن القاتل إذا علم أنه إن قتل قتل کف عن القتل، وکان ذلک أزجر له عنه، وکان داعیا إلی حیاته وحیاة من هم بقتله، فلو أسقطنا القود فی حال الاشتراک سقط هذا المعنی المقصود بالآیة، وکان من أراد قتل غیره من غیر أن یقتل به شارک غیره فی قتله فسقط القود عنهما»(2).

وقریب منهما ما ذکره ابن زهرة فی الغنیة وابن ادریس فی السرائر وجامع الخلاف والوفاق.

وذکر ابن حمزة فی الوسیلة فی مسالة اذا امر انسان احدا بقتل غیره ما نصه: «وإذا أمر إنسان أحدا بقتل غیره لم یخل إما أمر حرا أو عبدا فإن أمر حرا لم یخل إما کان عاقلا بالغا أو طفلا أو مجنونا فإن أمر عاقلا

ص:18


1- (1) الخلاف: ج 5، ص 157.
2- (2) الانتصار: ص 534.

وقتل لزم القود المباشر والمراهق فی حکم العاقل وإن أمر صبیا أو مجنونا ولم یکرهه لزم الدیة عاقلته وإن أکرهه کان نصف الدیة علی الآمر ونصفها علی عاقلة القاتل. وإن أمر عبدا صغیرا أو کبیرا غیر ممیز لزم الأمر القود وإن کان ممیزا کان القصاص علی المباشر وإذا لزم القود المباشر خلد الأمر فی الحبس وإن لزم الأمر خلد المباشر فی الحبس إلا أن یکون صبیا أو مجنوناً»(1).

فقرر التنصیف فی الدیة مع ان الاشتراک طولی, وهو یقرر ان الاسناد الطولی فی الضمان المالی یمکن فرضه کالعرضی.

وقد ذکرنا فی کتاب القصاص المسالة الحادیة عشرة امکان استناد القتل الی طرفین طولیین معا, کما ذهب الیه المشهور خلافا للعامة.

وقال المحقق الاردبیلی فی مجمع الفائدة والبرهان فی شرح إرشاد الأذهان؛ ج 13، ص: 395«وإن کان ممیّزا فیحتمل کون القصاص علی الآمر أیضا لعدم التکلیف علی المکره وإسقاط الدّم غیر معقول، بل والدّیة أیضا لأنّه عمد. ویحتمل الدیة علی عاقلة المکره لأنّ عمده خطأ وخطائه علی عاقلته وحینئذ یحتمل حبس الآمر للخبر... و یحتمل الدیة علی الآمر»(2).

ص:19


1- (1) الوسیلة الی نیل الفضیلة: ص 437.
2- (2) مجمع الفائدة والبُرهان: ج 13، ص 395.

الموطن الثانی: کلمات الأعلام فی الصبی المأمور:

وقال الشیخ فی المبسوط فی فقه الإمامیة؛ ج 7، ص: 43: «فأما إن کان المأمور حرا صغیرا لا یعقل أو کبیرا جاهلا، فأمره بقتل رجل فالقود علی الآمر، لأنه کالآلة له، وإن قال له اقتل نفسک فان کان کبیرا فلا شیء علی الآمر لما مضی وإن کان صغیرا لا تمییز له فعلی الآمر القود، لأنه کالآلة فی قتل نفسه. هذا إذا کان المأمور لا یعقل لصغر أو جهالة مع الکبر فأما إن کان المأمور عاقلا ممیزا إما بالغا أو صبیا مراهقا فأمره بقتل رجل فقتله فالحکم یتعلق بالمأمور، ویسقط الأمر وحکمه، لأنه إذا کان عاقلا ممیزا فقد أقدم علی ما یعلم أنه لا یجوز باختیاره فان کان عبدا کبیرا فعلیه القود، وإن کان صغیرا فلا قود، ولکن یجب الدیة متعلقة برقبته»(1).

ونقل ذلک فی الخلاف ایضا ج 5 ص 170(2).

وکلامه رحمه الله وان کان مورده امر شخص بقتل نفسه - وهی مسالة اتیه - الا انها تشترک مع البقاء فی التسبیب.

وقال ابن حمزة فی الوسیلة إلی نیل الفضیلة؛ ص: 437: «وإذا أمر إنسان أحداً بقتل غیره لم یخل إما أمر حراً أو عبداً فإن أمر حراً لم یخل

ص:20


1- (1) المبسوط: ج 7، ص 43.
2- (2) الخلاف: ج 5، ص 170.

إما کان عاقلاً بالغاً أو طفلاً أو مجنوناً فإن أمر عاقلاً وقتل لزم القود المباشر والمراهق فی حکم العاقل وإن أمر صبیا أو مجنونا ولم یکرهه لزم الدیة عاقلته وإن أکرهه کان نصف الدیة علی الآمر ونصفها علی عاقلة القاتل. وإن أمر عبدا صغیرا أو کبیرا غیر ممیز لزم الأمر القود وإن کان ممیزا کان القصاص علی المباشر وإذا لزم القود المباشر خلد الأمر فی الحبس وإن لزم الأمر خلد المباشر فی الحبس إلا أن یکون صبیا أو مجنونا ً»(1).

وکلامه رحمه الله قریب من کلام الشیخ فی المبسوط.

واحتمل المجلسی فی کتابه الحدود والقصاص ان مبنی المشهور حبس الامر مؤبدا وتعزیر الصبی الممیز.

واشکل کاشف اللثام علی عدم تحقق الاکراه فی الصبی الممیز بقوله: أنّ الظاهر تحقّق الإکراه بالنسبة إلیه فإنّه لا یقاد منه إذا قتل، وإذا تحقّق فالسبب أقوی فینتفی القود. نعم إذا لم یتحقّق إلّا الأمر اتّجه ما ذکر) ای عدم التسبیب.

وتبنی ذلک فی الجواهر صریحا ج 42 ص 50.

واحتمله السید الخمینی فی تحریر الوسیلة ج 2، ص: 514 مسالة 34: «... و لو أمر شخص طفلاً ممیزاً بالقتل فقتله لیس علی واحد

ص:21


1- (1) الوسیلة: ص 437.

منهما القود، والدیة علی عاقلة الطفل، ولو أکرهه علی ذلک فهل علی الرجل المکره القود أو الحبس أبدا؟ الأحوط الثانی».

وقال السید السبزواری فی مهذب الأحکام؛ ج 28، ص: 198 مسالة 31: «... و لو کان المباشر مجنونا أو طفلا غیر ممیز فالقود علی الآمر، ولو کان الآمر ممیزا فلا قود علی أحدهما، والدیة علی عاقلة الطفل، ویحبس الآمر أبدا ً».

وقال الشیخ التبریزی فی تنقیح مبانی الأحکام - کتاب القصاص؛ ص: 49: «لو قال اقتل نفسک فإن کان المأمور ممیّزا أو بالغا عاقلا فقتل نفسه لم یتعلّق بالمکره قود ولا دیة بل یحبس إلی أن یموت لما تقدّم. وإن کان غیر ممیّز یتعلّق بالمکره القود. وقد یقال بتحقّق الإکراه المجوّز لقتل النفس فیما إذا کان ما توعّد به من القتل من نوع أصعب. و لکن هذا غیر صحیح لعدم جواز قتل النفس بوجه وإلّا جاز قتل النفس اضطرارا فیما إذا کان مرضه المهلک موجبا لتحمّل الزجر مدّة طویلة، وأمّا إذا لم یکن فی البین إلّا مجرّد الأمر من دون توعّد فقد ذکر الماتن قدس سره عدم شیء علی الملزم فیما إذا کان المأمور ممیزا. ولکن لا یبعد جریان الحبس علیه لعدم احتمال الفرق بین الأمر بقتل الغیر أو بقتل نفسه کما لا یخفی».

ص:22

الموطن الثالث:

کلمات الأعلام فی التسبیب فیما لو امر شخص غیره ان یقتل نفسه, وکان الغیر بالغا کاملا مع الاکره والتهدید بالقتل او ما یزید علیه کالتعذیب حتی القتل صبرا, فللاصحاب اقوال: قول بقتل الامر مطلقا وقول بعدم القتل وقول بالتفصیل بین ما لو کان التهدید بما یزید علی القتل فیقتل الامر ویتحقق الاکراه.

واختلافهم فی هذا الفرع لا ینسجم مع ذهاب اکثرهم الی عدم تحقق الاکراه فی مسالة ما اذا امر شخصا غیره بان یقتل ثالثا واکرهه وتوعده بالقتل او بما یزید وذلک لان الاکراه فی المکره بالفتح علی قتل النفس اصعب تحققه من الاکراه علی قتل ثالث لان حب النفس ممانع قوی, والاغرب انهم فی هذا الفرع فیما لو کان المأمور المکره ممیزا غیر بالغ لم یترددوا فی نفی القود عن الامر والحال انهم ترددوا فی القود فی الامر للمأمور البالغ المکره بالقتل او ما یزید.

ففی شرائع الإسلام فی مسائل الحلال والحرام؛ ج 4، ص: 185«الثانی لو قال اقتل نفسک فإن کان ممیزا فلا شیء علی الملزم وإلا فعلی الملزم القود وفی تحقق إکراه العاقل هنا إشکال».

ومثله فی القواعد والتحریر, مع ان العلامة جزم بالنفی فی الارشاد, وفی الایضاح ذکر وجه الاشکال والتردد, ومثله الصیمری

ص:23

فی غایة المراد.

قال فی إیضاح الفوائد فی شرح مشکلات القواعد؛ ج 4، ص: 566 فی قصاص الاطراف: «والأقوی عندی أن الإکراه إذا بلغ حدّ الإلجاء کان القصاص علی المکره لان المکره یصیر کالآلة وفعل المکره فی الحقیقة مستند الی المکره».

وفی کشف اللثام: «وهل یتحقّق إکراه العاقل هنا؟ إشکال: من أنّه لا معنی للاضطرار إلی قتل نفسه خوفاً من قتله فلا قود، ومن أنّه ربما خوف بنوع من القتل أصعب من قتل نفسه فیدفعه به فیقاد من الآمر وإن کان المخاطب غیر ممیّز فعلی الملزم القود ألجأه إلیه أم لا»(1).

وحکی فی الجواهر عن المسالک وکشف اللثام فی مسالة«ما لو امره بقتل نفسه انه ان کان المتوعد به اشد من القتل اتجه الاکراه والقود من الامر».

وفی مسالک الأفهام إلی تنقیح شرائع الإسلام؛ ج 15، ص: 90: «ولو أکرهه علی قتل نفسه، بأن قال: اقتل نفسک وإلا قتلتک، فقتل نفسه، ففی وجوب القصاص علی المکره وجهان، منشؤهما أن الإکراه هل یتحقّق للعاقل علی هذا الوجه أم لا؟ أحدهما: نعم، فیجب القصاص علی المکره، لأنه بالإکراه علی القتل والإلجاء إلیه قاتل له.

ص:24


1- (1) کشف اللّثام: ج 11، ص 35.

وأظهرهما: المنع، وأن ذلک لیس بإکراه حقیقة، لأن المکره من یتخلّص بما أمر به عمّا هو أشدّ علیه، وهو الذی خوّفه المکره به، وهنا المأمور به القتل المخوّف به القتل، ولا یتخلّص بقتل نفسه عن القتل، فلا معنی لإقدامه علیه. فظهر بذلک رجحان عدم تحقّق إکراه العاقل علیه. نعم، لو کان التعدّد بقتل أشدّ ممّا یقتل به المکره نفسه، کقتل فیه تعذیب، اتّجه تحقّق الإکراه حینئذ، لأن المکره یتخلّص بما أمر به عمّا هو أشدّ علیه، وهو نوع القتل الأسهل من النوع الأشقّ، فیجب القصاص فیه کغیره».

ولا یخفی التقابل بین الاکراه بالمعنی الاخص والالجاء وان کان کل منهما اکراه بالمعنی الاعم.

الموطن الرابع:

اشارة

کلمات الاعلام فیما لو اکرهه علی جرح او قطع ید وهدده بالقتل فالمشهور ان القصاص علی الامر لا المباشر.

ففی قواعد الأحکام فی معرفة الحلال والحرام؛ ج 3، ص: 590 فی بحث التسبیب: «ویتحقّق فیما عداه - کقطع الید والجرح - فیسقط القصاص عن المباشر. وفی وجوبه علی الآمر إشکال ینشأ: من أنّ السبب هنا أقوی، لضعف المباشرة بالإکراه، ومن عدم المباشرة. و علی کلّ تقدیر یضمن الآمر فیما یتحقّق فیه الإکراه».

وعلق علیه فی إیضاح الفوائد فی شرح مشکلات القواعد؛ ج 4،

ص:25

ص: 566: «ذکر المصنف طرفی الاشکال، والأقوی عندی أن الإکراه إذا بلغ حدّ الإلجاء کان القصاص علی المکره لان المکره یصیر کالآلة وفعل المکره فی الحقیقة مستند الی المکره».

تنقیح الحال فی التسبیب بالإکراه علی القتل:

ان الامر والمامور علی درجات فان المامور تارة صبی غیر ممیز او مجنون مع الاکراه او بدونه والصبی الممیز کذلک مع الاکراه او بدونه, کما ان الصبی تارة ابن الامر او من ذویه وتارة اجنبی, وتارة المامور عبد والعبد تارة مغرور واخری مکره, وغیر ذلک, فضلا عن کون العبد صبیا. وتارة العبد عبده واخری عبد غیره, وتارة للعبد شخصیة واخری بلا شخصیة.

فدرجات قوة امریة الامر من جهات وکذا ضعف المامور والعکس کذلک, وکلها لابد ان توخذ فی الحسبان, وبالتالی التفصیل بین هذه الدرجات.

کما ان التسبیب درجات فی ما دون القتل من الجنایات وتختلف قوة وضعفا بین الاکراه والالجاء الذی ذهب الیه فخر المحققین فی الایضاح فی کل من القتل وما دونه.

نعم لا تردد فی ثبوت الضمان المالی وکون قرار الضمان علی الامر, کما ان دفع القصاص عن الامر فیما لو کان المباشر - فی جنایة ما دون القتل - غیر ملجا لانه لیس کالالة فلا یتعلق القصاص بالامر.

ص:26

الموطن الخامس:

ما ذهب الیه المشهور فی شهادة الزور عمدا, من انهم یقتلون مع ان الفعل قد صدر بتوسط ارادة اختیاریة من الحاکم او المباشر للحد, ومع ذلک فان الفعل ها هنا اسند الی السبب, فکذا الحال فی الامر المکره للصبی الممیز, وان لم یکن الاکراه قاهرا له فان فعل الصبی الممیز غیر العارف خطا کخطا الحاکم, وکذا الحال فی المامور البالغ العاقل المکره فی جنایة الاطراف, نعم قد یقال بالفرق بان فی فرض شهادة الزور یکون الحاکم مجبورا شرعا کالمجبور عقلا مسلوب الارادة بخلاف فرض الامر, نعم لو فرضت شهادة الزور فی القصاص وباشر ولی الدم القصاص فولی الدم لیس مجبورا علی القتل, غایة الامر ان علیه دیة الخطا.

الموطن السادس:

ما ذکروه فی مسالة اذا رکبت جاریة جاریة اخری فنخست ثالثة المرکوبة فقمصت فوقعت الراکبة فماتت فالضمان علی الناخسة اذا کانت ملجأ للقموص کما ذهب الیه السرائر والارشاد والایضاح واشکله الشهید ودفعه المهذب البارع بان قمص المرکوبة کفعل النائم.

الموطن السابع: الإکراه فی الجنایة علی الأطراف:

اشارة

قال فی الروضة: «ویکون القصاص علی المکره بالکسر علی

ص:27

الأقوی، لقوة السبب بضعف المباشر بالإکراه خصوصا لو بلغ الإکراه حد الإلجاء» (1)وقریب من التفصیل بین الالجاء وعدمه ما ذکره الشهید فی تمهید القواعد«إذا أکره علی القتل، فإنه لا یباح إجماعا، ویجب به القصاص إن لم یبلغ حد الإلجاء، وإلا فالدّیة»(2). وفی النهایة: «ولا حدّ أیضا مع الإلجاء والإکراه. وإنّما یجب الحدّ بما یفعله الإنسان مختاراً»(3).

ضابطتان فی الحکم بالقصاص فی موارد التسبیب:

الأولی: ان درجة الاسناد فی الضمان المالی یکفی فیها مجرد اقوائیة التسبیب من المباشر, بخلاف القصاص فانه لابد فیه من توفر اقوائیة فی التسبیب والاسناد بدرجة عالیة, والکلام یقع فی تحدیدها.

الثانیة: لا یفرق فی الاشتراک باسناد القتل او الجنایة الموجبة للقصاص بین الاسناد الطولی والعرضی, والاشتراک وجه اخر فی تقریر القصاص علی الامر بانه مشترک مع المباشر وانه من قبیل الاشتراک العرضی, وقد مر ذهاب ابن حمزة فی الوسیلة فی تنصیف الدیة علی الامر والمامور فیما لو کان المامور صبیا, وهذا دال علی ان

ص:28


1- (1) الروضة البهیّة: ج 10، ص 28 حاشیة کلانتر.
2- (2) تمهید القواعد: ص 76.
3- (3) النّهایة فی مجرّد الفقه والفتاوی: ص 699.

الاسناد الطولی فی الضمان المالی یمکن بعینه فرضه فی القصاص کالاسناد العرضی کما مر فی مسالة 11 من بحث القصاص, من ان الاسناد الطولی فی بعض درجاته قد یعد بمنزلة الاشتراک العرضی فیسند القتل لکلا الطرفین. فالاشتراک بالقتل سواء العمدی او غیره ینصف او یوزع وان کان الاشتراک مختلف بالنسبة وفی درجة قوة التسبیب.

النقطة الثانیة: الأدلة فی المقام:

وفیما یلی نستعرض جملة من روایات التسبیب:

الطائفة الاولی: الروایات الواردة فی العبد:

الأولی: ما فی وسائل الشیعة؛ ج 29، ص: 45 صحیحة زُرَارَةَ عَنْ أَبِی جَعْفَرٍ علیه السلام«فِی رَجُلٍ أَمَرَ رَجُلًا بِقَتْلِ رَجُلٍ - فَقَالَ یُقْتَلُ بِهِ الَّذِی قَتَلَهُ - ویُحْبَسُ الْآمِرُ بِقَتْلِهِ فِی الْحَبْسِ حَتَّی یَمُوتَ».

الثانیة: وفی وسائل الشیعة؛ ج 29، ص: 46 موثقة الْوَلِیدِ بْنِ صَبِیحٍ قَالَ: قَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِیٍّ لِأَبِی عَبْدِ الله علیه السلام - مَا أَنَا قَتَلْتُهُ یَعْنِی مُعَلّی قَالَ فَمَنْ قَتَلَهُ - قَالَ السِّیرَافِیُّ وکَانَ صَاحِبَ شُرْطَتِهِ - قَالَ أَقِدْنَا مِنْهُ قَالَ قَدْ أَقَدْتُکَ - قَالَ فَلَمَّا أُخِذَ السِّیرَافِیُّ وقُدِّمَ لِیُقْتَلَ - جَعَلَ یَقُولُ یَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِینَ - یَأْمُرُونِّی بِقَتْلِ النَّاسِ فَأَقْتُلُهُمْ لَهُمْ ثُمَّ یَقْتُلُونِّی فَقُتِلَ السِّیرَافِیُّ.

الثالثة: وسائل الشیعة؛ ج 29، ص: 47 موثقة إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ

ص:29

عَنْ أَبِی عَبْدِ الله علیه السلام فِی رَجُلٍ أَمَرَ عَبْدَهُ أَنْ یَقْتُلَ رَجُلًا فَقَتَلَهُ قَالَ فَقَالَ: «یُقْتَلُ السَّیِّدُ بِهِ».

الرابعة: وفی الوسائل الشیعة؛ ج 29، ص: 47 موثقة السَّکُونِیِّ عَنْ أَبِی عَبْدِ الله علیه السلام قَالَ: قَالَ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام فِی رَجُلٍ أَمَرَ عَبْدَهُ أَنْ یَقْتُلَ رَجُلًا فَقَتَلَهُ - فَقَالَ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام وهَلْ عَبْدُ الرَّجُلِ إِلَّا کَسَوْطِهِ أَوْ کَسَیْفِهِ - یُقْتَلُ السَّیِّدُ ویُسْتَوْدَعُ الْعَبْدُ السِّجْنَ.

وقد قال الشیخ فی الخلاف؛ ج 5، ص: 169«فرووا فی بعضها: أن علی السید القود. و فی بعضها: أن علی العبد القود، ولم یفصلوا. والوجه فی ذلک انه ان کان العبد ممیزا عاقلا یعلم ان ما أمره به معصیة، فإن القود علی العبد، وان کان صغیرا أو کبیرا لا یمیز، ویعتقد أن جمیع ما یأمره سیده به واجب علیه فعله، کان القود علی السید. والأقوی فی نفسی أن نقول: ان کان العبد عالما بأنه لا یستحق القتل، أو متمکنا من العلم به، فعلیه القود. وان کان صغیرا أو مجنونا فإنه یسقط القود ویجب الدیة»(1).

وهذا التزام من الشیخ فی التفصیل بدرجات التسبیب وحکم القصاص فی ذلک, ولعله یشیر الی الروایات المطلقة فی القصاص من العبد القاتل للحر.

ص:30


1- (1) الخلاف: ج 5، ص 169.

ویستفاد من الروایات الواردة فی العبد الکلیة التی بنی علیها ابن حمزة فی الوسیلة من انه اذا لزم القود المباشر خلد الامر بالحبس وهذا یستفاد مما تقدم فی الحر وان لزم القود الامر خلد المباشر فی السجن مع تقصیره واستجابته للامر المکره وان کانت ارادته مقهورة له, وهذا مستفاد من الروایات الواردة بالعبد, نعم یستثنی من ذلک الصبی والمجنون لکون ارادتهما غیر تامة.

وقد ذکر فی الریاض قرینة علی ارادة غیر الصغیر من العبد لان الصغیر لا یحبس ابدا حیث ان فی نسخة الفقیه«رجل أمرَ رجلاً حراً».

الطائفة الثانیة: ما ورد فی شهود الزور علی ما یوجب القتل:

الروایة الأولی: ما فی وسائل الشیعة؛ ج 29، ص: 128 وهی الروایة المعتبرة عن أَبِی عَبْدِ الله علیه السلام«فِی أَرْبَعَةٍ شَهِدُوا عَلَی رَجُلٍ مُحْصَنٍ بِالزِّنَا - ثُمَّ رَجَعَ أَحَدُهُمْ بَعْدَ مَا قُتِلَ الرَّجُلُ فَقَالَ - إِنْ قَالَ الرَّابِعُ وَهَمْتُ ضُرِبَ الْحَدَّ وغُرِّمَ الدِّیَةَ - وإِنْ قَالَ تَعَمَّدْتُ قُتِلَ».

الروایة الثانیة: ما فی وسائل الشیعة؛ ج 29، ص: 129 المصححة عَنْ مِسْمَعٍ عَنْ أَبِی عَبْدِالله علیه السلام«أَنَّ أَمِیرَ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام قَضَی فِی أَرْبَعَةٍ شَهِدُوا عَلَی رَجُلٍ - أَنَّهُمْ رَأَوْهُ مَعَ امْرَأَةٍ یُجَامِعُهَا - فَیُرْجَمُ ثُمَّ یَرْجِعُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ - قَالَ یُغَرَّمُ رُبُعَ الدِّیَةِ إِذَا قَالَ شُبِّهَ عَلَیَّ - فَإِنْ رَجَعَ اثْنَانِ وقَالا شُبِّهَ عَلَیْنَا - غُرِّمَا نِصْفَ الدِّیَةِ وإِنْ رَجَعُوا وقَالُوا شُبِّهَ عَلَیْنَا غُرِّمُوا الدِّیَةَ -

ص:31

وإِنْ قَالُوا شَهِدْنَا بِالزُّورِ قُتِلُوا جَمِیعاً».

وقریب من مضمونها روایة الفتح بن یزید ومحسنة مسمع وصحیحة حریز.

الحمد لله رب العالمین

ص:32

القاعدة الثالثة

فی تداخل القصاص والدیات وعدمه

ص:33

ص:34

القاعدة الثالثة: فی تداخل القصاص والدیات وعدمه

اشارة

و یستدل لهذه القاعدة بعدة ادلة, منها:

الدلیل الأول:

حسنة سَوْرَةَ بْنِ کُلَیْبٍ عَنْ أَبِی عَبْدِ الله علیه السلام قَالَ: «سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ قَتَلَ رَجُلًا عَمْداً - وکَانَ الْمَقْتُولُ أَقْطَعَ الْیَدِ الْیُمْنَی - فَقَالَ إِنْ کَانَتْ قُطِعَتْ یَدُهُ فِی جِنَایَةٍ جَنَاهَا عَلَی نَفْسِهِ - أَوْ کَانَ قُطِعَ فَأَخَذَ دِیَةَ یَدِهِ مِنَ الَّذِی قَطَعَهَا - فَإِنْ أَرَادَ أَوْلِیَاؤُهُ أَنْ یَقْتُلُوا قَاتِلَهُ - أَدَّوْا إِلَی أَوْلِیَاءِ قَاتِلِهِ دِیَةَ یَدِهِ الَّذِی قِیدَ مِنْهَا - إِنْ کَانَ أَخَذَ دِیَةَ یَدِهِ ویَقْتُلُوهُ - وإِنْ شَاءُوا طَرَحُوا عَنْهُ دِیَةَ یَدٍ وأَخَذُوا الْبَاقِیَ - قَالَ وإِنْ کَانَتْ یَدُهُ قُطِعَتْ - فِی غَیْرِ جِنَایَةٍ جَنَاهَا عَلَی نَفْسِهِ - ولَا أَخَذَ لَهَا دِیَةً قَتَلُوا قَاتِلَهُ ولَا یُغَرَّمُ شَیْئاً - وإِنْ شَاءُوا أَخَذُوا دِیَةً کَامِلَةً - قَالَ وهَکَذَا وَجَدْنَاهُ فِی کِتَابِ عَلِیٍّ علیه السلام»(1).

ومفادها ان تلف العضو من المجنی علیه فی جنایة سابقة وان لم

ص:35


1- (1) وسائل الشیعة: ج 29 ص 191.

تمانع القصاص الا انه تقتطع قیمتها من الضمان المجموعی للشخص.

الدلیل الثانی:

معتبرة أَبِی بَصِیرٍ عَنْ أَبِی عَبْدِالله علیه السلام «فِی رَجُلٍ شَجَّ رَجُلًا مُوضِحَةً ثُمَّ یَطْلُبُ فِیهَا - فَوَهَبَهَا لَهُ ثُمَّ انْتَفَضَتْ بِهِ فَقَتَلَتْهُ - فَقَالَ هُوَ ضَامِنٌ لِلدِّیَةِ إِلَّا قِیمَةَ الْمُوضِحَةِ - لِأَنَّهُ وَهَبَهَا ولَمْ یَهَبِ النَّفْسَ...» (1).

فاستثنی علیه السلام قیمة الموضحة من مجموع ضمانه وهو مما یدل علی حسبان واستثناء قیمة الجنایات السابقة فی ضمان الاشخاص.

الدلیل الثالث:

محسنة الْحَسَنِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ الْحَرِیشِ عَنْ أَبِی جَعْفَرٍ الثَّانِی علیه السلام قَالَ: «قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الْأَوَّلُ علیه السلام«لِعَبْدِ الله بْنِ عَبَّاسٍ یَا أَبَا عَبَّاسٍ أَنْشُدُکَ الله هَلْ فِی حُکْمِ الله تَعَالَی اخْتِلَافٌ قَالَ فَقَالَ لَا قَالَ فَمَا تَرَی فِی رَجُلٍ ضَرَبَ رَجُلًا أَصَابِعَهُ بِالسَّیْفِ حَتَّی سَقَطَتْ فَذَهَبَتْ وأَتَی رَجُلٌ آخَرُ فَأَطَارَ کَفَّ یَدِهِ فَأُتِیَ بِهِ إِلَیْکَ وأَنْتَ قَاضٍ کَیْفَ أَنْتَ صَانِعٌ قَالَ أَقُولُ لِهَذَا الْقَاطِعِ أَعْطِهِ دِیَةَ کَفٍّ وأَقُولُ لِهَذَا الْمَقْطُوعِ صَالِحْهُ عَلَی مَا شِئْتَ أَوْ أَبْعَثُ إِلَیْهِمَا ذَوَیْ عَدْلٍ فَقَالَ لَهُ جَاءَ الِاخْتِلَافُ فِی حُکْمِ الله ونَقَضْتَ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ أَبَی الله أَنْ یُحْدَثَ فِی خَلْقِهِ شَیْ ءٌ مِنَ الْحُدُودِ ولَیْسَ تَفْسِیرُهُ فِی الْأَرْضِ اقْطَعْ یَدَ قَاطِعِ الْکَفِّ أَصْلًا ثُمَّ أَعْطِهِ دِیَةَ الْأَصَابِعِ هَذَا حُکْمُ

ص:36


1- (1) المصدر: ص 387.

الله تَعَالَی» (1).

ومفادها مطابق للروایة السابقة فی استثناء قیمة الاصابع المقطوعة التی ضمنت له من الکف.

الدلیل الرابع:

صحیحة أَبِی عُبَیْدَةَ الْحَذَّاءِ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ علیه السلام عَنْ رَجُلٍ ضَرَبَ رَجُلًا بِعَمُودِ فُسْطَاطٍ - عَلَی رَأْسِهِ ضَرْبَةً وَاحِدَةً فَأَجَافَهُ - حَتَّی وَصَلَتِ الضَّرْبَةُ إِلَی الدِّمَاغِ فَذَهَبَ عَقْلُهُ - قَالَ: «إِنْ کَانَ الْمَضْرُوبُ لَا یَعْقِلُ مِنْهَا الصَّلَاةَ - ولَا یَعْقِلُ مَا قَالَ ولَا مَا قِیلَ لَهُ - فَإِنَّهُ یُنْتَظَرُ بِهِ سَنَةً - فَإِنْ مَاتَ فِیمَا بَیْنَهُ وبَیْنَ السَّنَةِ أُقِیدَ بِهِ ضَارِبُهُ - وإِنْ لَمْ یَمُتْ فِیمَا بَیْنَهُ وبَیْنَ السَّنَةِ - ولَمْ یَرْجِعْ إِلَیْهِ عَقْلُهُ أُغْرِمَ ضَارِبُهُ الدِّیَةَ فِی مَالِهِ - لِذَهَابِ عَقْلِهِ قُلْتُ - فَمَا تَرَی عَلَیْهِ فِی الشَّجَّةِ شَیْئاً قَالَ لَا - لِأَنَّهُ إِنَّمَا ضَرَبَ ضَرْبَةً وَاحِدَةً - فَجَنَتِ الضَّرْبَةُ جِنَایَتَیْنِ - فَأَلْزَمْتُهُ أَغْلَظَ الْجِنَایَتَیْنِ وهِیَ الدِّیَةُ - ولَوْ کَانَ ضَرَبَهُ ضَرْبَتَیْنِ فَجَنَتِ الضَّرْبَتَانِ جِنَایَتَیْنِ - لَأَلْزَمْتُهُ جِنَایَةَ مَا جَنَتَا کَائِناً مَا کَانَ - إِلَّا أَنْ یَکُونَ فِیهِمَا الْمَوْتُ - فَیُقَادَ بِهِ ضَارِبُهُ - فَإِنْ ضَرَبَهُ ثَلَاثَ ضَرَبَاتٍ وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ - فَجَنَیْنَ ثَلَاثَ جِنَایَاتٍ - أَلْزَمْتُهُ جِنَایَةَ مَا جَنَتِ الثَّلَاثُ الضَّرَبَاتِ - کَائِنَاتٍ مَا کَانَتْ مَا لَمْ یَکُنْ فِیهَا الْمَوْتُ - فَیُقَادَ بِهِ ضَارِبُهُ - قَالَ فَإِنْ ضَرَبَهُ عَشْرَ ضَرَبَاتٍ - فَجَنَیْنَ

ص:37


1- (1) الکافی: ج 7، ص 317.

جِنَایَةً وَاحِدَةً أَلْزَمْتُهُ تِلْکَ الْجِنَایَةَ - الَّتِی جَنَتْهَا الْعَشْرُ ضَرَبَاتٍ»(1).

وحسنة أَبِی حَمْزَةَ الثُّمَالِیِّ عَنْ أَبِی جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: قُلْتُ لَهُ جُعِلْتُ فِدَاکَ - مَا تَقُولُ فِی رَجُلٍ ضَرَبَ رَأْسَ رَجُلٍ بِعَمُودِ فُسْطَاطٍ - فَأَمَّهُ حَتَّی ذَهَبَ عَقْلُهُ - قَالَ عَلَیْهِ الدِّیَةُ - قُلْتُ فَإِنَّهُ عَاشَ عَشَرَةَ أَیَّامٍ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَکْثَرَ - فَرَجَعَ إِلَیْهِ عَقْلُهُ أَ لَهُ أَنْ یَأْخُذَ الدِّیَةَ - قَالَ لَا قَدْ مَضَتِ الدِّیَةُ بِمَا فِیهَا - قُلْتُ فَإِنَّهُ مَاتَ بَعْدَ شَهْرَیْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ - قَالَ أَصْحَابُهُ نُرِیدُ أَنْ نَقْتُلَ الرَّجُلَ الضَّارِبَ - قَالَ إِنْ أَرَادُوا أَنْ یَقْتُلُوهُ - ویَرُدُّوا الدِّیَةَ مَا بَیْنَهُمْ وبَیْنَ سَنَةٍ - فَإِذَا مَضَتِ السَّنَةُ فَلَیْسَ لَهُمْ أَنْ یَقْتُلُوهُ - ومَضَتِ الدِّیَةُ بِمَا فِیهَا(2).

ومفادهما تداخل الجنایتین فی ضربة واحدة الی دیة اغلظ الجنایتین بخلاف الضربتین او الاکثر فیلزم بها کلها ما لم تودی الی الموت, فاذا مات تداخلت الدیات فی دیة القتل او القصاص.

وکذلک روایة ابی بصیر عَنْ أَبِی عَبْدِ الله علیه السلام فِی رَجُلٍ شَجَّ رَجُلًا مُوضِحَةً ثُمَّ یَطْلُبُ فِیهَا - فَوَهَبَهَا لَهُ ثُمَّ انْتَفَضَتْ بِهِ فَقَتَلَتْهُ - فَقَالَ: هُوَ ضَامِنٌ لِلدِّیَةِ إِلَّا قِیمَةَ الْمُوضِحَةِ - لِأَنَّهُ وَهَبَهَا ولَمْ یَهَبِ النَّفْسَ الْحَدِیثَ (3).

الدلیل الخامس:

صحیح محمد بن قیس عن احدهما: «فِی رَجُلٍ فَقَأَ عَیْنَیْ رَجُلٍ

ص:38


1- (1) وسائل الشیعة: ج 29 ص 366.
2- (2) وسائل الشیعة: ج 29، ص 376.
3- (3) المصدر: ص 387.

وقَطَعَ أُذُنَیْهِ ثُمَّ قَتَلَهُ - فَقَالَ إِنْ کَانَ فَرَّقَ ذَلِکَ اقْتُصَّ مِنْهُ ثُمَّ یُقْتَلُ - وإِنْ کَانَ ضَرَبَهُ ضَرْبَةً وَاحِدَةً - ضُرِبَتْ عُنُقُهُ ولَمْ یُقْتَصَّ مِنْهُ» (1).

و معتبرة حفص بن البختری قال: «سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ الله علیه السلام عَنْ رَجُلٍ ضُرِبَ عَلَی رَأْسِهِ فَذَهَبَ سَمْعُهُ وبَصَرُهُ - واعْتُقِلَ لِسَانُهُ ثُمَّ مَاتَ فَقَالَ - إِنْ کَانَ ضَرَبَهُ ضَرْبَةً بَعْدَ ضَرْبَةٍ اقْتُصَّ مِنْهُ ثُمَّ قُتِلَ - وإِنْ کَانَ أَصَابَهُ هَذَا مِنْ ضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ قُتِلَ ولَمْ یُقْتَصَّ مِنْهُ»(2).

ومفادهما التفصیل بین الضربة والضربات فی القصاص فان کانت ضربة فیدخل الاقل فی الاکثر, اما اذا کانت ضربات فیقتص منه بعددها وان اقتص منه بالقتل فی النهایة بخلاف باب الدیات فان الضربة الواحدة موجبة لتداخل الدیات, ومع التعدد لا تداخل ایضا الا ان یموت فتتداخل, وهذا فارق بین باب الدیات والقصاص بالتداخل وعدمه. ومن الروایات الدالة علی عدم التداخل فی الدیات مع عدم الموت کصحیحة ابْرَاهِیمَ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِی عَبْدِ الله علیه السلام قَالَ: «قَضَی أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام فِی رَجُلٍ ضَرَبَ رَجُلًا بِعَصًا - فَذَهَبَ سَمْعُهُ وبَصَرُهُ ولِسَانُهُ - وعَقْلُهُ وفَرْجُهُ وانْقَطَعَ جِمَاعُهُ وهُوَ حَیٌّ بِسِتِّ دِیَاتٍ»(3).

وقد افتی بذلک العلامة فی التحریر: ج 5، ص 608: «و لو جنی

ص:39


1- (1) المصدر: ص 112.
2- (2) المصدر السابق والصفحة.
3- (3) المصدر: ص 365.

علیه فأذهب عقله وسمعه وبصره وکلامه، فأربع دیات مع أرش الجراح إن حصل جراح أو قطع عضو. ولو مات بالجنایة لم یجب سوی دیة واحدة».

وخالف الشیخ فی المبسوط فی فقه الإمامیة؛ ج 7، ص: 81 فقال: «إذا قطع أطراف غیره یدیه ورجلیه وأراد أن یأخذ الدیة: قال قوم له أن یأخذ دیة الأطراف ولو بلغت دیات، مثل أن قطع یدیه ورجلیه وأذنیه، فله أن یستوفی ثلاث دیات قبل الاندمال، کما له أن یستوفی القصاص قبل الاندمال. و قال بعضهم له أن یستوفی دیة النفس ولا یزید علیها، وإن کانت الجنایات أوجبت دیات کثیرة وهو الذی یقتضیه مذهبنا وقال قوم لیس له أخذ دیة الطرف قبل الاستقرار، وله أخذ القود فی الطرف فی الحال».

وظاهر کلام الشیخ عدم الحکم بالتعدد قبل الاندمال.

وذهب الی ذلک ابن البراج فی المهذب: «وإذا قطع أطراف غیره، مثل ان یکون قطع یدیه، ورجلیه، وأذنیه، فله ان یأخذ دیة النفس دون ما زاد علیها، ولیس له ان یأخذ ثلاث دیات».

ثم ان هذا العموم یخصص بروایة ابی الصباح وموسی بن بکر ونحوهما الدالتان علی ان تعدد الضربات مع الموت یتم التداخل فیه فی القصاص ایضا اذا کان المقصود من الضربات القتل, ففی صحیحة أَبِی

ص:40

الصَّبَّاحِ الْکِنَانِیِّ والحلبی جَمِیعاً عَنْ أَبِی عَبْدِ الله علیه السلام قَالا سَأَلْنَاهُ عَنْ رَجُلٍ ضَرَبَ رَجُلًا بِعَصًا - فَلَمْ یُقْلِعْ عَنْهُ الضَّرْبَ حَتَّی مَاتَ - أَ یُدْفَعُ إِلَی وَلِیِّ الْمَقْتُولِ فَیَقْتُلَهُ قَالَ: نَعَمْ - ولَکِنْ لَا یُتْرَکُ یَعْبَثُ بِهِ - ولَکِنْ یُجِیزُ عَلَیْهِ بِالسَّیْفِ (1).

وموثقة مُوسَی بْنِ بَکْرٍ عَنِ الْعَبْدِ الصَّالِحِ علیه السلام فِی رَجُلٍ ضَرَبَ رَجُلًا بِعَصًا - فَلَمْ یَرْفَعِ الْعَصَا عَنْهُ حَتَّی مَاتَ - قَالَ: یُدْفَعُ إِلَی أَوْلِیَاءِ الْمَقْتُولِ - ولَکِنْ لَا یُتْرَکُ یُتَلَذَّذُ بِهِ - ولَکِنْ یُجَازُ عَلَیْهِ بِالسَّیْفِ (2).

وکذلک صحیحة سُلَیْمَانَ بْنِ خَالِدٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِالله علیه السلام عَنْ رَجُلٍ ضَرَبَ رَجُلًا بِعَصًا - فَلَمْ یَرْفَعْ عَنْهُ حَتَّی قُتِلَ أَ یُدْفَعُ إِلَی أَوْلِیَاءِ الْمَقْتُولِ - قَالَ: نَعَمْ ولَکِنْ لَا یُتْرَکُ یُعْبَثُ بِهِ ولَکِنْ یُجَازُ عَلَیْهِ.

وقد افتی بها الشیخ الطوسی ومفادها دال علی التداخل فی المجلس الواحد بین الطرف والنفس, کما لو جنی علی الطرف ثم قتل.

فالمحصل ما یلی من نقاط:

النقطة الاولی: الجمع بین طوائف الروایات کالتالی:

اللسان الاول: الذی هو روایة کل من الکنانی والحلبی وسلیمان بن خالد الظاهرة جمیعها فی کون القصاص مع تفرق الضربات فی

ص:41


1- (1) وسائل الشیعة: ج 29، ص 126.
2- (2) المصدر: ص 39.

واقعة واحدة موجب لتداخل القصاص.

اللسان الثانی: الذی هو روایة ابن قیس وروایة البختری المفصلتان بین تعدد الضربات او اتحاد الضربة ولا یبعد ظهورها او انصرافها فضلا عن شمولها للواقعة الواحد.

اللسان الثالث: الذی هو کل من صحیحة الحذاء وحسنة الثمالی وروایة ابی بصیر, وجمیعهن ظاهرات بان المدار علی التفصیل بین احاد الضربة وتعددها بشرط عدم القتل والا فتتداخل الضربات سواء اکان قصاصا ام دیات. وظهورهن جمیعا منصرف الی الواقعة الواحد فضلا عن شمولها له.

النسبة بین الألسن الثلاثة:

وحینئذ نلاحظ النسبة بین الالسن الثلاثة, کما فی روایة ابی عبیدة الظاهرة فی تداخل القصاص مع اتحاد الضربة فی الواقعة الواحدة وان کانت الجنایة متعددة, بخلاف تعدد الضربات الا فی صورة القتل فتتحد. بینما صحیح ابن قیس والبختری دالا علی عدم التداخل مطلقا مع تعدد الضربات وان مات المجنی علیه.

فالتعارض فی فرض الموت مع تعدد الضربات, وکذا التنافی مع اللسان الاول فی تداخل تعدد الضربات مع القتل. فتنافی صحیح ابن قیس والبختری الناصة علی عدم التداخل فی تعدد الضربات مع القتل.

ص:42

وجه الجمع بینها:

ووجه الجمع حینئذ بینها اما بحمل عدم التداخل فی صحیح ابن قیس والبختری علی کون تعدد الضربات لیس قاتلا وانما القاتلة هی الضربة الاخیرة بنحو الانفراد, بینما یحمل مفاد الالسن الاخری (الاول والثالث) علی تداخل ضمان تعدد الضربات مع القتل علی کون کل منها قاتل ولو بنحو الاشتراک لا الاستقلال, فیکون موضوع تعدد الضمان وعدم التداخل له قیدان, هما تعدد الضربات وعدم کون کل منهما قاتلا ولو اشتراکا.

النقطة الثانیة: صور تعدد الضربات والضمانات وعدمه:

ان جنایة الطرف مع تعدد الضربات تتعدد الا ان یراد بجنایة الطرف الجنایة علی النفس فلا تتعدد اذا حصلت الجنایة علی النفس فیکون فی تعدد الضربات صور عدیدة:

الصورة الأولی: تعدد الضربات مع عدم الموت سواء اتحد الموضع او تعدد فیتعدد الضمان.

الصورة الثانیة: تعدد الضربات مع الموت ولکن کل من الضربات لا تشترک فی سببیة الموت بل الموت مستند للضربة الاخیرة مستقلا وحکمها تعدد الضمان.

الصورة الثالثة: تعدد الضربات مع اشتراک کل الضربات بالقتل

ص:43

وحکمها تداخل الضمان.

الصورة الرابعة: تعدد الضربات فی موضع واحد مع الموت فتتداخل الضمانات.

الصورة الخامسة: تعدد الجنایة فی موضع واحد من دون قتل فیدخل الاقل فی الاکبر.

النقطة الثالثة: فذلکة اخری للجمع بین الروایات:

ان صحیح محمد بن قیس والبختری موردهما الضارب الواحد بالتفصیل فی القصاص, بینما حسنة سورة بن کلیب موردها هو اختلاف الجانی الضارب وتعدده مع جنایة النفس, واما صحیحة الحذاء فانها فی التداخل من ضارب واحد فی الضربة الواحدة فی الموضع الواحد من المجنی علیه, بخلاف ما اذا تعدد الموضع او الضربة ولم یبلغ الموت.

النقطة الرابعة: فذلکة ثالثة للجمع بین الروایات

اما التعارض بین صحیح محمد بن قیس والبختری من جهة وصحیح ابی عبیدة الحذاء من جهة اخری فی مورد الضارب الواحد مع تعدد الضربات, اذ ان مفاد روایة ابی عبیدة الحذاء استثناء وتداخل تعدد الضربات فیما کان کل منهما قاتل, ای فیما ادت الی القتل, بینما فی صحیح البختری وابن قیس تعدد ضربات غیر القاتل کل منها وان قتل فی الضربة الاخیرة وهذا جمع غیر ما ذکرناه وان تقاربا.

ص:44

النقطة الخامسة: مقتضی حسنة سورة بن کلیب استثناء دیة کل عضو قید منه للمجنی علیه او دفعت دیته, فلو ارید الاقتصاص من القاتل لابد من رد مقدار دیة العضو المجنی علیه سواء اخذت دیته او اخذ القود له, وکذا الحکم فی استثناء دیة الجرح کما دلت علیه معتبرة ابی بصیر التی ذکرناه انفا فی الدلیل الثانی من القاعدة اعلاه.

النقطة السادسة: ظهر مما مر ان التداخل تارة فیما بین الدیات الثابتة اصالة واخری فیما بین القصاص وثالثة فیما بین الدیات والقصاص, وقد ظهر عموم او تنصیص الروایات علی التداخل وعدمه بحسب التفصیل فی کتاب القصاص.

ص:45

ص:46

القاعدة الرابعة

فی القصاص بین الکفار بعضهم مع بعض

ص:47

ص:48

القاعدة الرابعة: فی القصاص بین الکفار بعضهم مع بعض

اشارة

البحث فی القاعدة یقع فی مقامین:

المقام الاول:

الاقوال فی المسالة:

القول الاول: الشیخ الطوسی:

استدل الشیخ فی مسألة ( 33 و 34) بعموم الایة بین الکفار لو قتل بعضهم بعضا:

قال فی الخلاف؛ ج 5، ص: 171: فی مسألة 33 [قتل المرتد للذمی]: «إذا قتل مرتد نصرانیا له ذمة ببذل جزیة أو عهد، فان رجع الی الإسلام فإنه لا یقاد به، وان لم یرجع فإنه یقاد به... دلیلنا: علی أنه لا یقتل إذا رجع: قوله علیه السلام: لا یقتل مسلم بکافر ولم یفصل. ودلیلنا علی أنه یقتل إذا لم یرجع: قوله تعالی(النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) وقوله

ص:49

(الْحُرُّ بِالْحُرِّ) . ولم یفصل. و قوله تعالی(وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِیِّهِ سُلْطاناً فَلا یُسْرِفْ فِی الْقَتْلِ إِنَّهُ کانَ مَنْصُوراً ( 33) .

وفی مسألة 34 [قتل النصرانی للمرتد): «إذا قتل نصرانی مرتدا وجب علیه القود. ولیس للشافعی فیه نص، ولأصحابه فیه ثلاثة أوجه: قال أبو إسحاق: لا قود له ولا دیة. و منهم من قال: علیه القود، فان عفی فعلیه الدیة. و قال أبو الطیب ابن سلمة: علیه القود، فان عفی فلا دیة له. دلیلنا: قوله تعالی(النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) و(الْحُرُّ بِالْحُرِّ) ولم یفصل».

ووافقه علی ذلک جملة من الاعلام.

القول الثانی: قال فی المختصر النافع فی فقه الإمامیة؛ ج 2، ص: 303: «ولا دیة لغیرهم من أهل الکفر».

وان کان ظاهر العبارة فی نفی الدیة علی المسلم لو قتل الکفار, ووافقه ابن فهد فی المهذب البارع والسید فی الریاض وغیرهما.

القول الثالث: شرائع الإسلام فی مسائل الحلال والحرام؛ ج 4«ویقتل الذمی بالذمی وبالذمیة بعد رد فاضل الدیة والذمیة بالذمیة وبالذمی من غیر رجوع علیها بالفضل».

القول الرابع: تحریر الأحکام الشرعیة علی مذهب الإمامیة (ط - الحدیثة)؛ ج 5، ص: 454«یشترط فی المقتصّ منه مساواته للجانی أو

ص:50

کونه أخفض منه، فیقتل المسلم بمثله، والکافر بمثله، وإن کانا حربیّین علی إشکال وبالمسلم».

وقال «یقتل الذّمّی بمثله وبالذمّیة بعد ردّ فاضل دیته، والذمیّة بالذّمّیة، و لا یرجع علیها بالفضل، وسواء اتّفق القاتل والمقتول فی الملّة أو اختلفا، فیقتل الیهودیّ بالنصرانی والمجوسیّ وبالعکس».

وقال: «ولا دیة لغیر الأصناف الثلاثة من الکفّار، کعبّاد الأوثان وغیرهم سواء کانوا ذوی عهد أو لا، وسواء بلغتهم الدّعوة أو لا».

القول الخامس: الروضة البهیة فی شرح اللمعة الدمشقیة (المحشی - سلطان العلماء)؛ ج 2، ص: 406: «ویقتل الذمی بالذمی وإن اختلفت ملتهما کالیهودی والنصرانی - وبالذمیة مع الرد أی رد أولیائها علیه فاضل دیته عن دیة الذمیة - وهو نصف دیته - وبالعکس تقتل الذمیة بالذمی مطلقاً - ولیس علیها غرم کالمسلمة إذا قتلت المسلم لأن الجانی لا یجنی علی أکثر من نفسه».

القول السادس: ریاض المسائل (ط - الحدیثة)؛ ج 16، ص: 244: «ویقتل الذمّی بالذمّی وإن اختلفت ملّتهما، کالیهودی والنصرانی وبالذمّیة بعد ردّ أولیائها فاضل دیته عن دیة الذمّیة، وهو نصف دیته».

القول السابع: قواعد الأحکام فی معرفة الحلال والحرام؛ ج 3، ص: 605«ویقتل الذمّیّ بمثله وبالذمّیّة بعد ردّ فاضل دیته، وتقتل

ص:51

الذمّیّة بالذمّیّة وبالذمّیّ، ولا یرجع فی ترکتها بشیء. و یقتل الکفّار بعضهم ببعض وإن اختلفت مذاهبهم. و یقتل الذمّیّ بالمستأمن، والمستأمن بمثله وبالذمّیّ. و لو قتل مرتدّ ذمّیّا ففی قتله به إشکال ینشأ من تحرّمه بالإسلام، ومن المساواة فی الکفر، لأنّه کالملّة الواحدة. أمّا لو رجع إلی الإسلام لم یقتل، وعلیه دیة الذمّیّ».

وقال: «ولو قتل ذمّیّ مرتدّا قتل به، سواء کان ارتداده عن فطرة أو لا، لأنّه محقون الدم بالنسبة إلی الذمّیّ».

وقال: «ولو قتل حربیّ حربیّا لم یقتل به، وکذا لو قتله ذمّیّ، ویقتل الحربیّ بالذمّیّ».

القول الثامن: إیضاح الفوائد فی شرح مشکلات القواعد؛ ج 4، ص: 596: «ولو قتل مرتد مرتدا قتل به ولو قتل حربی حربیا لم یقتل به وکذا لو قتله ذمی ویقتل الحربی بالذمی».

القول التاسع: کشف اللثام والإبهام عن قواعد الأحکام؛ ج 11، ص: 92: «ولو قتل مرتدّ مرتدّاً قتل به للتکافؤ مع تحرّمهما بالإسلام الموجب لعصمة الدم. و لو قتل حربیّ حربیّاً لم یجب أن یقتل به لأنّ المقتول غیر معصوم الدم وکذا لو قتله ذمّی وأولی، ولا یجوز لأنّه معصوم الدم. وفی الإرشاد یقتل به ولیس بجیّد. و یقتل الحربیّ بالذمّیّ».

القول العاشر: کشف الغطاء عن مبهمات الشریعة الغراء (ط -

ص:52

الحدیثة)؛ ج 4، ص: 423: «ولو قتل مرتدّاً مثله، لم یُقتل به. ولو قتل متشبّثاً بالإسلام، قتل به؛ دون العکس. ولو قتل کافراً معتصماً، قتل به علی إشکال».

القول الحادی عشر: جواهر الکلام فی شرح شرائع الإسلام؛ ج 42، ص: 163: «إذا قتل مرتد ذمیا ففی قتله تردد کما فی القواعد منشأه تحرم المرتد بالإسلام المانع من نکاحه الذمیة، ومن إرث الذمی له، ومن استرقاقه، والمقتضی لوجوب قضاء الصلاة علیه لو أسلم ولکن مع ذلک یقوی أنه یقتل وفاقا للفاضل وغیره ممن تأخر عنه، بل وللمحکی عن المبسوط والخلاف للتساوی فی الکفر، کما یقتل النصرانی بالیهودی، لأن الکفر کالملة الواحدة ولإطلاق أدلة القصاص المقتصر فی الخروج عنها علی عدم قتل المسلم بالکافر، إذ لا دلیل علی اعتبار التساوی علی وجه یقتضی خروج المفروض، بل لعل المراد من اشتراط التساوی فی عبارة الأصحاب ولو بقرینة التفریع هو عدم قتل المسلم بالکافر. و من ذلک یعلم عدم أثر لما سمعته من أحکام المرتد فی سقوط القود عنه الذی یمکن مقابلته بما یقتضی کونه أسوأ حالا من الذمی، کوجوب قتله مع عدم التوبة دونه، وعدم حل ذبیحته إجماعا بخلاف الذمی الذی اختلف فیه، وعدم إقراره بالجزیة وغیر ذلک. نعم هذا کله مع بقائه علی الارتداد».

ص:53

المقام الثانی:

وفیه مبحثان:

المبحث الأول: ما دل علی ما ینافی القاعدة:

وجه عدم عموم القاعدة للکفار:

الوجه الأول: قد تمسک کثیر من الاعلام بعموم قوله تعالی(النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) للقصاص من المرتد للذمی وهو اعتماد علی عموم الایة, وقد یخدش بوجوه:

الأول: ان الایة منسوخة بقوله تعالی (الْحُرُّ بِالْحُرِّ) و (وَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ) لان الحریة تعنی الکفائة بالدین بخلاف الذمی فانه اذا نکث ذمته یسترق, کما تشیر الیه مرسلة: مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ الْبَرْقِیِّ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا عَنْ أَبِی عَبْدِ الله علیه السلام فِی قَوْلِ الله عَزَّ وجَلَّ: (یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا کُتِبَ عَلَیْکُمُ الْقِصاصُ) أَهِیَ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِینَ - قَالَ هِیَ لِلْمُؤْمِنِینَ خَاصَّةً».

والروایة تشیر الی شرطیة الکفاءة بالدین کما مر بحثه فی کتاب القصاص.

الثانی: انه لا حرمة لدمائهم - وهو وجه معاکس للوجه السابق - فلا قصاص ولا دیة الا ما استثنی نظیر الذمی بسبب الذمة.

والحاصل: ان القول بالقود للکفار درجة من الاحترام لهم نظیر القول بعموم(النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) .

ص:54

الثالث: ان ایة النفس بالنفس خاصة ببنی إسرائیل کما هو ظاهر الایة(... کَتَبْنا عَلَیْهِمْ...), أی یغایر الکفار لاسیما فی زمانهم واوان شریعتهم.

فیبقی مفاد النفس بالنفس هو النفس المومنة المحترمة لا مطلق النفس الإنسانیة فتکون کلا الایتین فی حکم القصاص فی المنتسب للایمان.

الوجه الثانی: (وَ قالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَی الْأَرْضِ مِنَ الْکافِرِینَ دَیّاراً ( 26)

إِنَّکَ إِنْ تَذَرْهُمْ یُضِلُّوا عِبادَکَ وَ لا یَلِدُوا إِلاّ فاجِراً کَفّاراً ( 27) (1).

قد یقرب ظاهر الایة لان الکفار لا حرمة لهم مطلقا وان الدعاء علیهم بالابادة الجماعیة.

ویرد:

ان الکفار الذین دعی علیهم من قبله من أبناء قومه انما هم الذین القی المعاذیر علیهم وکانوا من العتات والجحدة والمعاندین والمعتدین ولم تبقی لهم ذریه.

المبحث الثانی: أدلة القاعدة (عموم القصاص للکفار):

الدلیل الأول: القران الکریم:

الآیة الأولی: قد یستظهر عموم القصاص بین الکفار فی جملة من الایات کقوله تعالی فی المائدة بعد ذکر قتل قابیل لهابیل: (کَتَبْنا

ص:55


1- (1) سورة نوح: الآیة 26-27.

عَلی بَنِی إِسْرائِیلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَیْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِی الْأَرْضِ فَکَأَنَّما قَتَلَ النّاسَ جَمِیعاً وَ مَنْ أَحْیاها فَکَأَنَّما أَحْیَا النّاسَ جَمِیعاً ... إِنَّما جَزاءُ الَّذِینَ یُحارِبُونَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ یَسْعَوْنَ فِی الْأَرْضِ فَساداً أَنْ یُقَتَّلُوا) (1).

تقریب عموم دلالة الایة بجملة من القرائن:

منها: قوله تعالی: (بغیر نفس) أی لا لاجل القصاص.

ومنها: ترتیب مفاد الایة علی ما جری بین هابیل وقابیل.

ومنها: عطف الفساد فی الأرض وهو انتهاک حرمة النفوس کما هو الحال فی المحارب واهل الحرابة علی من قتل نفسا بغیر نفس.

ومنها: توحید نتیجة الفعلین بانه بمنزلة قتل الناس جمیعا.

ومنها: کون هذه النتیجة (قتل الناس) تقتضی القصاص لان من یقتل الناس جمیعا یقتص منه او یحد علی ذلک.

ومن مجموع القرائن یتضح ان الحکمة فی تشریع القصاص لا تقتصر علی کون المقتول محترم الدم بل هناک حکمة أخری وهو عدم حصول الفساد فی الأرض بسفک الدماء ومن ثم قد یقال ان قتل الکافر بالکافر هو من باب الحد للحرابة ونحوها لان القتل بظلم هو بمثابة الحرابة والمحارب.

ص:56


1- (1) سورة المائدة: الآیة 32.

الایة الثانیة: دعم العموم بما فی ذیل الایة: (وَ کَتَبْنا عَلَیْهِمْ فِیها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ الْعَیْنَ بِالْعَیْنِ وَ الْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَ الْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَ السِّنَّ بِالسِّنِّ وَ الْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ کَفّارَةٌ لَهُ وَ مَنْ لَمْ یَحْکُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِکَ هُمُ الظّالِمُونَ ( 45) )(1).

حیث ان الذیل حکم مشترک.

والحاصل انه یمکن الالتفات الی عموم النفس بالنفس بضمیمة مفاد ایة من قتل نفسا بغیر نفس حیث ان التعریف بالقصاص والحرابة واحد وهو حفظ النفس البشریة عن سفک الدماء.

الایة الثالثة: وحدة التعلیل فی القصاص والحرابة وهو حفظ النفس البشریة عن سفک الدماء. (وَ لَکُمْ فِی الْقِصاصِ حَیاةٌ یا أُولِی الْأَلْبابِ لَعَلَّکُمْ تَتَّقُونَ ( 179) ) (2)(أَوْ فَسادٍ فِی الْأَرْضِ فَکَأَنَّما قَتَلَ النّاسَ جَمِیعاً) (3).

الایة الرابعة: ما جاء فی سورة النساء (وَ ما لَکُمْ لا تُقاتِلُونَ فِی سَبِیلِ اللّهِ وَ الْمُسْتَضْعَفِینَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ الَّذِینَ یَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْیَةِ الظّالِمِ أَهْلُها وَ اجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْکَ وَلِیًّا وَ اجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْکَ نَصِیراً ( 75) )(4).

ص:57


1- (1) سورة المائدة: الآیة 45.
2- (2) سورة البقرة: الآیة 179.
3- (3) سورة المائدة: الآیة 32.
4- (4) سورة النساء: الآیة 75.

فالایة تدعم ان عموم المستضعفین من الکفار اذا کان یقاتل لاجل نجاتهم من الجبابرة والطغاة فهم محل رعایة من التشریع الإلهی, والمستضعفین حقیقة هم ما یطلق علیهم فی العرف الحدیث بالمدنیین الأبریاء أی غیر المنخرطین فی اجندة الحرب والعدوان علی المسلمین أی لم یکونوا من المرتزقة, وهم بالحقیقة لیسوا بحربیین علی ما هو الصحیح من مذهب ال البیت وان لم یکونوا اهل ذمة ولیس بینهم وبین المسلمین صلح ولا عهد. وهذا قد یستفاد من قوله تعالی - حیث تدل ان لهم درجة من الحرمة فیتساووا فیما بینهم فی ذلک -: (لا یَنْهاکُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِینَ لَمْ یُقاتِلُوکُمْ فِی الدِّینِ وَ لَمْ یُخْرِجُوکُمْ مِنْ دِیارِکُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَیْهِمْ إِنَّ اللّهَ یُحِبُّ الْمُقْسِطِینَ ( 8) إِنَّما یَنْهاکُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِینَ قاتَلُوکُمْ فِی الدِّینِ وَ أَخْرَجُوکُمْ مِنْ دِیارِکُمْ وَ ظاهَرُوا عَلی إِخْراجِکُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَ مَنْ یَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِکَ هُمُ الظّالِمُونَ ( 9) (1).

نعم ان ظاهر کثیر من کلمات الاصحاب قد توهم عدهم من الحربیین نظیر مبنی العامة.

ان مودی هذا الوجه الدلالة علی حرمة نفوس المستضعفین مقابل الحربی العدوانی.

الایة الخامسة: قوله تعالی: (وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِی حَرَّمَ اللّهُ

ص:58


1- (1) سورة الممتحنة: 8-9.

إِلاّ بِالْحَقِّ ذلِکُمْ وَصّاکُمْ بِهِ لَعَلَّکُمْ تَعْقِلُونَ ( 151) (1).

وهذا المقطع ورد فی ثلاثة سور (الانعام والاسراء والفرقان), ففی الانعام بدأ بقوله تعالی(قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّکُمْ عَلَیْکُمْ) وفی ذیلها(وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِی حَرَّمَ اللّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِیِّهِ سُلْطاناً فَلا یُسْرِفْ فِی الْقَتْلِ إِنَّهُ کانَ مَنْصُوراً ( 33) (وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِیِّهِ سُلْطاناً) (2).

فکل السور الثلاثة اشتملت علی أصول المحرمات المدرکة بالعقل, ومما یدعم عموم النفس فی السور الثلاثة الروایات المستفیضة الواردة فی الکبائر وان من اکبرها قتل النفس التی حرم الله, وتسمیتها بالکبائر یفید عموم الحکم للکفار لکونها من أصول الدیانات واصول العقل والفطرة.

وهذه الایة تدل علی حرمة النفس, نعم قصاص هذا من هذا مع التکافئ والتساوی بالحرمة.

قد یشکل:

ان الموضوع قد قید بقید التی حرم الله أی المحترمة دون غیر المحترمة وتقریر کون نفوس الکفار محترمة اول الکلام بل هو خلاف قاعدة حقن الدم بالإسلام.

ص:59


1- (1) سورة الأنعام: الآیة 155.
2- (2) سورة الإسراء: الآیة 33.

وفیه: ان احترام الدم بالإسلام لا ینافی اصل احترام النفس ولو کانت کافرة بل غایته مزید احترام للدم فی الإسلام سواء من جهة الدیة او القصاص ونحو ذلک. کما ان الایمان یزید من حرمة النفس.

ومن ثم فصل فی الأدلة بین الکافر الحربی وغیره, والمراد بالحربی المعتدی والعدوانی, وهذا مما یفید ان الموجب لهدر الدم کونه حربیا.

الآیة السادسة: (لا یَنْهاکُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِینَ لَمْ یُقاتِلُوکُمْ فِی الدِّینِ وَ لَمْ یُخْرِجُوکُمْ مِنْ دِیارِکُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَیْهِمْ إِنَّ اللّهَ یُحِبُّ الْمُقْسِطِینَ ( 8) إِنَّما یَنْهاکُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِینَ قاتَلُوکُمْ فِی الدِّینِ وَ أَخْرَجُوکُمْ مِنْ دِیارِکُمْ وَ ظاهَرُوا عَلی إِخْراجِکُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَ مَنْ یَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِکَ هُمُ الظّالِمُونَ ( 9) (1).

والایتان نص فی تقسیم الکافر الی مسالم ومحارب وان حکم الاثنین مختلف.

الآیة السابعة: (سَمّاعُونَ لِلْکَذِبِ أَکّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُکَ فَاحْکُمْ بَیْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ إِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ یَضُرُّوکَ شَیْئاً وَ إِنْ حَکَمْتَ فَاحْکُمْ بَیْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ یُحِبُّ الْمُقْسِطِینَ ( 42) )(2).

قد مر ان مفاد الایة قاعدة للقضاء والقسط بین عموم الکفار ولیس خاصا باهل الکتاب وان کان هو مورد الایة, وذلک لجملة من القرائن:

ص:60


1- (1) سورة الممتحنة: الآیة 9-10.
2- (2) سورة المائدة: الآیة 42.

الأولی: التعلیل بالقسط وهو موجب للتعمیم.

الثانیة: ما ذکر فی الایة علیها (یا أَیُّهَا الرَّسُولُ لا یَحْزُنْکَ الَّذِینَ یُسارِعُونَ فِی الْکُفْرِ مِنَ الَّذِینَ قالُوا آمَنّا بِأَفْواهِهِمْ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَ مِنَ الَّذِینَ هادُوا سَمّاعُونَ لِلْکَذِبِ سَمّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِینَ لَمْ یَأْتُوکَ یُحَرِّفُونَ الْکَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ یَقُولُونَ إِنْ أُوتِیتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَ إِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا )(1).

من ان النزاع مع غیر اهل الکتاب ایضا هو تعمیم للحکم بین الکفار مطلقا.

الثالثة: ما ذکرناه فی الإرث من عموم حکمنا بین کل الکفار سواء اکانوا اهل کتاب ام لا.

الرابعة: عموم تکلیف الکفار بالفروع مما یقضی ان القسط فی الحکم عام ومقتضاه عموم الحکم سواء اکان قضائیا ام فتوائیا, لا سیما وان القضاء مبنی علی الفتوی کما فصلناه فی کتابنا الاجتهاد والتقلید الاصولی.

نعم یستثنی من ذلک ان القضاء او الدفاع او الولایة رعایة وخدمة لیست واجبة فیستحقها الکفار لذا خیرت الایة فی الحکم بینهم.

کما یستثنی من الاحکام ما کان مبنی علی درجة من الاحترام والحرمة لحیثیة الدین والایمان.

ص:61


1- (1) سورة المائدة: الآیة 41.

الایة الثامنة: (وَ مِنْ أَهْلِ الْکِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ یُؤَدِّهِ إِلَیْکَ وَ مِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِینارٍ لا یُؤَدِّهِ إِلَیْکَ إِلاّ ما دُمْتَ عَلَیْهِ قائِماً ذلِکَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَیْسَ عَلَیْنا فِی الْأُمِّیِّینَ سَبِیلٌ وَ یَقُولُونَ عَلَی اللّهِ الْکَذِبَ وَ هُمْ یَعْلَمُونَ ( 75) بَلی مَنْ أَوْفی بِعَهْدِهِ وَ اتَّقی فَإِنَّ اللّهَ یُحِبُّ الْمُتَّقِینَ ( 76) إِنَّ الَّذِینَ یَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَ أَیْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِیلاً أُولئِکَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِی الْآخِرَةِ وَ لا یُکَلِّمُهُمُ اللّهُ وَ لا یَنْظُرُ إِلَیْهِمْ یَوْمَ الْقِیامَةِ وَ لا یُزَکِّیهِمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِیمٌ ( 77) (1).

قال فی تفسیر القمی: «قال ذلک بانهم قالوا لیس علینا فی الامیین سبیل فان الیهود قالوا یحل لنا ان ناخذ مال الامیین, والامیون الذین لا کتاب معهم, فرد الله علیهم فقال ویقولون علی الله الکذب وهم یعلمون».

ثم قال: «وقوله ان الذین یشترون بعهد الله وایمانهم ثمنا قلیلا قال یتقربون للناس بانهم مسلمون فیاخذون منهم ویخونونهم وما هم بمسلمین علی الحقیقیة».

واستدل بها المشهور علی لزوم العهد فی الودیعة والامانه حتی مع الکفار.

الدلیل الثانی: الروایات:
اشارة

1 - موثقة السَّکُونِیِّ عَنْ أَبِی عَبْدِ الله علیه السلام أَنَّ أَمِیرَ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام

ص:62


1- (1) سورة آل عمران: الآیة 75-77.

«کَانَ یَقُولُ یَقْتَصُّ (الْیَهُودِیُّ والنَّصْرَانِیُّ والْمَجُوسِیُّ) بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ - ویَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِذَا قَتَلُوا عَمْداً» (1).

قد یقرر ان الموثقة وان کانت مطلقة من جهة کون الکافر ذمی او غیر ذمی الا انها تشعر بان دائرة القصاص فی الکفار هی فیما بین اتباع الدیانات الثلاثة دون غیرهم.

2 - معتبرة أَبِی بَصِیرٍ قَالَ: «سَأَلْتُهُ عَنْ ذِمِّیٍّ قَطَعَ یَدَ مُسْلِمٍ قَالَ تُقْطَعُ یَدُهُ إِنْ شَاءَ أَوْلِیَاؤُهُ - ویَأْخُذُونَ فَضْلَ مَا بَیْنَ الدِّیَتَیْنِ - وإِنْ قَطَعَ الْمُسْلِمُ یَدَ الْمُعَاهَدِ خُیِّرَ أَوْلِیَاءُ الْمُعَاهَدِ - فَإِنْ شَاءُوا أَخَذُوا دِیَةَ یَدِهِ - وإِنْ شَاءُوا قَطَعُوا یَدَ الْمُسْلِمِ - وأَدَّوْا إِلَیْهِ فَضْلَ مَا بَیْنَ الدِّیَتَیْنِ - وإِذَا قَتَلَهُ الْمُسْلِمُ صُنِعَ کَذَلِکَ»(2).

وحملها الحر فی الوسائل علی المسلم المعتاد لذلک.

3 - معتبرة جَابِرِ بْنِ یَزِیدَ عَنْ أَبِی جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلی الله علیه وآله «أَوَّلُ مَا یَحْکُمُ الله فِیهِ یَوْمَ الْقِیَامَةِ الدِّمَاءُ - فَیُوقَفُ ابْنَا آدَمَ فَیَفْصِلُ بَیْنَهُمَا - ثُمَّ الَّذِینَ یَلُونَهُمَا مِنْ أَصْحَابِ الدِّمَاءِ - حَتَّی لَا یَبْقَی مِنْهُمْ أَحَدٌ - ثُمَّ النَّاسُ بَعْدَ ذَلِکَ حَتَّی یَأْتِیَ الْمَقْتُولُ بِقَاتِلِهِ - فَیَتَشَخَّبَ فِی دَمِهِ وَجْهُهُ فَیَقُولَ هَذَا قَتَلَنِی - فَیَقُولُ أَنْتَ قَتَلْتَهُ فَلَا یَسْتَطِیعُ أَنْ یَکْتُمَ الله

ص:63


1- (1) وسائل الشیعة: ج 29، ص 184.
2- (2) الکافی: ج 7، ص 310.

حَدِیثاً»(1).

والکلام فی الروایة فی جهتین:

الاولی: السند:

سند الروایة: حال المفضل (أبو جمیلة):

المفضل بن صالح، وحاله معروف عند المشهور وإن کنا لا نبنی علی ضعفه لکون القدح فیه بدعوی غلوه فإن تضعیف النجاشی له مستند إلی تضعیف الغضائری وحال تضعیفه معروف، ولم یضعفه الشیخ، وقد مال الوحید البهبهانی إلی صلاح حاله؛ لروایة الأجلاء وأصحاب الإجماع عنه، مضافاً إلی کثرة روایاته وصحة مضامینها فی الأبواب العدیدة مع روایة عدّة من أکابر أصحاب الاجماع عنه بسند صحیح.

الثانیة: دلالة الروایة:

وهی دالة علی ان الأصل الاولی فی الدماء الحرمة وان کانت الدماء تتفاوت بالاحترام.

کما انها تدل بوضوح علی عموم القصاص بین الناس کل الناس, ومفاد الروایة داعم لعموم الایة: (وَ لا یَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِی حَرَّمَ اللّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ) (2) التی مر بیانها.

ص:64


1- (1) وسائل الشیعة: ج 29، ص 12.
2- (2) سورة الفرقان: الآیة 68.

4 - ما فی نهج البلاغة؛ ص: 365«وَ لَا تَمَسُّنَّ مَالَ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ مُصَلٍّ ولَا مُعَاهِدٍ إِلَّا أَنْ تَجِدُوا فَرَساً أَوْ سِلَاحاً یُعْدَی بِهِ عَلَی أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ لَا یَنْبَغِی لِلْمُسْلِمِ أَنْ یَدَعَ ذَلِکَ فِی أَیْدِی أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ فَیَکُونَ شَوْکَةً عَلَیْهِ»(1).

ومودی الروایة حرمة مال المعاهد فضلاً عن نفسه ومقتضاه التساوی والتقاص بین المعاهدین.

ویستفاد من ذیل کلام الأمیر علیه السلام أمور:

الأول: ان الکافر غیر الحربی وان کانت له درجة من الحرمة کالمسالم والمعاهد والذمی ونحوهم الا ان ذلک لا ینفی عنهم عنوان انهم أعداء الإسلام.

الثانی: بمقتضی عداوتهم للاسلام لا یمکنون من القوة والقدرة التی فی معرض توظیفها للعدوان علی الإسلام والمسلمین وهذا یندرج فی الدفاع الاستباقی.

الثالثة: عدم تمکین الکفار وان لم یکونوا حربیین فی التمدد والتنامی فی القوة الحربیة او التی تستخدم قوی ضغط علی المسلمین.

الرابعة: ان المعاهد واهل الهدنه قد یطلق حتی علی المخالف فیجری به اجمالا هذه الاحکام.

ص:65


1- (1) نهج البلاغة: ص 365.

الخامسة: ان المال اذا تصاعد کما وکیفا یتحول الی سلطة وقدرة وعامة وولایة وهذا الحد لا حرمة للعدو فیه لانه لا ولایة لهم علیه.

5 - الروایات الواردة فی الإرث وان الکفار یرث بعضهم بعضا, وقد استدل الشیخ الطُّوسی فی المبسوط علی ان الشرک ملة واحدة بانهم یورث بعضهم بعضا:

منها:

الأولی: الصحیح عن ابْنِ أَبِی عُمَیْرٍ عَنْ غَیْرِ وَاحِدٍ عَنْ أَبِی عَبْدِ الله علیه السلام«فِی یَهُودِیٍّ أَوْ نَصْرَانِیٍّ یَمُوتُ ولَهُ أَوْلَادٌ غَیْرُ مُسْلِمِینَ - فَقَالَ هُمْ عَلَی مَوَارِیثِهِمْ»(1).

الثانیة: موثقة حَنَانِ بْنِ سَدِیرٍ عَنْ أَبِی عَبْدِالله علیه السلام قَالَ: «سَأَلْتُهُ یَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَیْنِ قَالَ لَا»(2).

الثالثة: موثقة عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَعْیَنَ قَالَ: «سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ الله علیه السلام عَنْ قَوْلِهِ ص لَا یَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَیْنِ - قَالَ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ الله علیه السلام نَرِثُهُمْ ولَا یَرِثُونَّا - إِنَّ الْإِسْلَامَ لَمْ یَزِدْهُ فِی مِیرَاثِهِ إِلَّا شِدَّةً»(3).

الرابعة: موثقة أَبِی الْعَبَّاسِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِالله علیه السلام یَقُولُ: «لَا

ص:66


1- (1) وسائل الشیعة: ج 26، ص 25.
2- (2) المصدر: ص 16.
3- (3) الکافی: ج 7، ص 143.

یَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَیْنِ یَرِثُ هَذَا هَذَا - ویَرِثُ هَذَا هَذَا إِلَّا أَنَّ الْمُسْلِمَ یَرِثُ الْکَافِرَ - والْکَافِرَ لَا یَرِثُ الْمُسْلِمَ» (1).

اعتراضات علی عموم القاعدة بلحاظ الایة:

دلیل اول معارض للقاعدة:

وقد تعارض القاعدة بما دل علی هدر دم الکافر مطلقا کما فی قوله: «وقَالَ نُوحٌ رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَی الْأَرْضِ مِنَ الْکَافِرِینَ دَیَّاراً إِنَّکَ إِنْ تَذَرْهُمْ یُضِلُّوا عِبَادَکَ ولاَ یَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً کَفَّاراً»(2).

والصحیح انها واردة فی العتات والجحدة والمعاندین والمعتدین لا فی مطلق الکفار.

دلیل ثانی معارض للقاعدة:

وقد یعترض علی العموم بما رواه العیاشی عن البرقی عن بعض اصحابنا عن ابی عبدالله علیه السلام: «فی قول الله عز وجل() اهی لجماعة المسلمین قال هی للمومنین خاصة»(3).

دلیل ثالث معارض لعموم القاعدة:

قد یشکل شمول العموم فی ما اذا قتل المرتد الذمی, فان التمسک

ص:67


1- (1) الاستبصار: ج 4، ص 191.
2- (2) سورة نوح: الآیة 26-27.
3- (3) وسائل الشیعة: ج 29، ص 118.

بالعموم لهذه الصورة یعتمد علی عموم الایة وهی قد یقال بنسخ عمومها بقوله تعالی الحر بالحر والعبد بالعبد لان الحریة تعنی الکفائة فی الدین فی مقابل العبودیة بسبب الاسترقاق حیث ان المرتد لا یسترق لانتحاله الإسلام بخلاف الذمی فانه اذا نکث ذمته یسترق.

فان الکفار لا حرمة لدمائهم فلا قصاص ولا دیة الا ما استثنی نظیر الذمی بسبب الذمة, ان القول بالقود فی الکفار درجة من احترام لهم کما هو مقتضی عموم ایة النفس بالنفس.

کما ان ایة النفس بالنفس لبنی إسرائیل یغایر الکفار فی زمانهم واوان شریعتهم فیکون موضوع النفس بالنفس هی المومنة المحترمة لا مطلق النفس الإنسانیة.

فتکون کلا الایتین فی المنتسب للایمان.

تقییم الاعتراض الثانی والثالث:

ومحصل الاعتراضین غایته اخذ الکفاءة الدینیة فی القصاص والتساوی فی الدین لا المعارضة للقاعدة من راس, مضافا الی ان عدم الحرمة لدمائهم وعدم الدیة انما بالإضافة للمسلمین والمومنین لا بالإضافة للکفار انفسهم.

مع ان عدم الحرمة لیس بقول مطلق فان الحرمة التکلیفیة مالم

ص:68

یکن حربیا معادیا ولیس فحوی مفاد حقن الدماء بالشهادتین استباحة دماء الکفار ولو لم یکونوا حربیین وانما مفاده مزید حرمة للإنسان بالإسلام سواء من حیث الضمان والقصاص والدیة.

فان هذه الدرجة ثابت بالإسلام لا نفی مطلق حرمة دم الانسان. والکفر وان اوجب مهانة الانسان عن درجة الإنسانیة وبعض درجات الحرمة کالحرمة الوضعیة من الضمان والقصاص الا انه لا ترتفع اصل الحرمة التکلیفیة الا بالعنوان المجوز وهو الحربی المعتدی.

اما المسالم والمستامن والمعاهد فلا یسوغ استباحة دمائهم تکلیفا بالنسبة لنا فضلا عما فیما بینهم.

والنتیجة: فلو لم یکونوا کفارا حربیین فمن باب العدل یقتص منهم فیما بینهم, لذا یظهر من ذلک قوة ما بنی علیه الشیخ من عموم ایة القصاص(النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) للکفار فیما بینهم.

قاعدة فرعیة: من احترم ماله من الکفار فله دیة الذمی:

الصحیح القول بثبوت الدیة للمرتد الذی یستتاب لان امواله محترمة ومع احترام ماله لا محالة تحترم نفسه مالیا. لان نفسه اعظم أمواله وحرمة ماله فرع حرمة نفسه وضعیا وان لم یحترم من ناحیة القصاص سواء اکان مرتدا او مستامنا او معاهدا او ذمیا, ویدعم ذلک قوله تعالی: (وَ إِنْ کانَ مِنْ قَوْمٍ بَیْنَکُمْ وَ بَیْنَهُمْ مِیثاقٌ

ص:69

فَدِیَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلی أَهْلِهِ وَ تَحْرِیرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ یَجِدْ فَصِیامُ شَهْرَیْنِ مُتَتابِعَیْنِ تَوْبَةً مِنَ اللّهِ وَ کانَ اللّهُ عَلِیماً حَکِیماً ( 92) (1).

وقد ورد ان النبی الأعظم اعطی دیة بعض الکفار الذین بینه وبینهم میثاق.

وکذلک روایات ابن الزنا ودیته.

کالصحیحة الی جَعْفَرِ بْنِ بَشِیرٍ عَنْ بَعْضِ رِجَالِهِ قَالَ: «سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ الله علیه السلام عَنْ دِیَةِ وَلَدِ الزِّنَا - قَالَ ثَمَانُمِائَةِ دِرْهَمٍ - مِثْلُ دِیَةِ الْیَهُودِیِّ والنَّصْرَانِیِّ والْمَجُوسِیِّ»(2).

بتقریب بناء علی ان ابن الزنا لا یحکم باسلامه سیما لو کان فقیرا ولم یلحق بأحد فکانما هنا تأسیس لقاعدة کل کافر محترم المال دیته کدیة الذمی.

وکذا ما فی وسائل الشیعة؛ ج 29، ص: 221

موثقة سَمَاعَةَ قَالَ: «سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ الله علیه السلام عَنْ مُسْلِمٍ قَتَلَ ذِمِّیّاً - فَقَالَ هَذَا شَیْ ءٌ شَدِیدٌ لَا یَحْتَمِلُهُ النَّاسُ - فَلْیُعْطِ أَهْلَهُ دِیَةَ الْمُسْلِمِ - حَتَّی یَنْکُلَ عَنْ قَتْلِ أَهْلِ السَّوَادِ وعَنْ قَتْلِ الذِّمِّیِّ - ثُمَّ قَالَ لَوْ أَنَّ مُسْلِماً

ص:70


1- (1) سورة النساء: الآیة 92.
2- (2) وسائل الشیعة: ج 29، ص 222.

غَضِبَ عَلَی ذِمِّیٍّ فَأَرَادَ أَنْ یَقْتُلَهُ - ویَأْخُذَ أَرْضَهُ ویُؤَدِّیَ إِلَی أَهْلِهِ ثَمَانَمِائَةِ دِرْهَمٍ - إِذاً یَکْثُرُ الْقَتْلُ فِی الذِّمِّیَّیْنِ - ومَنْ قَتَلَ ذِمِّیّاً - ظُلْماً - فَإِنَّهُ لَیَحْرُمُ عَلَی الْمُسْلِمِ أَنْ یَقْتُلَ ذِمِّیّاً حَرَاماً - مَا آمَنَ بِالْجِزْیَةِ وأَدَّاهَا ولَمْ یَجْحَدْهَا» (1).

الروایة فیها اشعار علی منع القتل عن النفس المحترمة من الکفار.

والخلاصة: تحصل مما تقدم من ادلة التلازم بین حرمة قتل الکافر وثبوت القصاص له ممن یساویه بالحرمة من الکفار فضلا عن الدیة وان حرمة المال لبعض أصناف الکفار غیر الحربیین یلازم حرمة النفس وتقرر الدیة لها وانها بقدر دیة الذمی او مادونها فیما هو مقرر بینهم.

ص:71


1- (1) وسائل الشیعة: ج 29، ص 221.

ص:72

القاعدة الخامسة:

فی القضاء بین الکفار وبین اهل الکتاب

وبین أهل الخلاف

ص:73

ص:74

القاعدة الخامسة: فی القضاء بین الکفار وبین اهل الکتاب وبین اهل الخلاف

توطئة:

لایخفی ان هذه القاعدة متداخلة او متدافعة او متواردة مع عدة قواعد أخری قد وردت فی احکام الکفار ولابد من ملاحظة النسبة بینها.

منها: قاعدة شروط الذمة لاهل الکتاب.

ومنها: قاعدة لکل قوم نکاح.

ومنها: قاعدة الالزام بما الزموا به انفسهم.

کما ان الحال کذلک فی النسبة فی ما بین تلک القواعد, فهل قاعدة لکل قوم نکاح مخصصة بما فی قاعدة شروط الذمة وهل هناک تداخل فی القضاء بینهم واحکام الذمة.

ص:75

فقد یُقال: ان عموم لکل قوم نکاح مستثنی منه ما قرر فی احکام الذمة ان انهم لا یظهروا نکاح المحارم.

وماذا عن الاختلاف عن العامة هل یشملهم حکم غیر المسلمین ام ان القاعدة هی التخییر بین الحکم لهم بحکمنا او بحکمهم کما هو الحال فی الفتوی لهم.

والبحث یقع فی مقامین:

المقام الأول: الاقوال:

القول الأوَّل: غنیة النزوع إلی علمی الأصول والفروع؛ ص: 332«ومن أصحابنا من قال: یورث المجوس وغیرهم من أهل الملل المختلفة فی الکفر إذا تحاکموا إلینا علی ما قرره شرع الإسلام، من الأنساب والأسباب الصحیحة والسهام، ومنهم من قال: یورثون علی ما یرونه فی ملتهم، والدلیل علی ذلک کله - سوی ما لم یتعین المخالف من الطائفة فیه - إجماعها علیه، وفیه الحجة علی ما بیناه»(1).

القول الثَّانی: السرائر الحاوی لتحریر الفتاوی؛ ج 3، ص: 287: «اختلف قول أصحابنا فی میراث المجوس إذا تحاکموا الی حکام الإسلام علی ثلاثة أقوال. فقال قوم انهم یورثون بالأنساب والأسباب

ص:76


1- (1) الغُنیة: ص 332.

الصحیحة التی تجوز فی شرع الإسلام، ولا یورثون بما لا یجوز فیه علی کلّ حال. و قال قوم انهم یورّثون بالأنساب علی کل حال، ولا یورّثون بالأسباب إلّا بما هو جائز فی شریعة الإسلام. و قال قوم انهم یورثون من الجهتین معا، سواء کان ممّا یجوز فی شریعة الإسلام أولا یجوز، وهذا القول الأخیر الذی هو ثالث الأقوال، خیرة شیخنا أی أبو جعفر الطوسی فی نهایته، وسائر کتبه، وأوّل الأقوال اختیار شیخنا المفید، محمّد بن محمّد بن النعمان، فإنه قال فی کتاب الاعلام وشرحه، فاما میراث المجوس فإنه عند جمهور الإمامیة، یکون من جهة النسب الصحیح، دون النکاح الفاسد، وهو مذهب مالک، والشافعی، ومن اتبعهما فیه من المتأخرین، وسبقهما الیه من المتقدمین، هذا أخر کلامه رحمه الله»(1).

والی هذا القول اذهب، وعلیه اعتمد، وبه افتی، لأنّ اللّه تعالی قال: (فَاحْکُمْ بَیْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ) وقال فی موضع أخر(وَ قُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّکُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْیُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْیَکْفُرْ) وقال تعالی: (فَإِنْ جاؤُکَ فَاحْکُمْ بَیْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ إِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ یَضُرُّوکَ شَیْئاً وَ إِنْ حَکَمْتَ فَاحْکُمْ بَیْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) (فَإِنْ جاؤُکَ فَاحْکُمْ بَیْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ إِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ یَضُرُّوکَ شَیْئاً وَ إِنْ حَکَمْتَ فَاحْکُمْ بَیْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) فإذا حکم الحاکم بما لا یجوز فی شرع الإسلام فقد حکم بغیر الحق وبغیر ما انزل اللّه، وبغیر القسط

ص:77


1- (1) السرائر: ج 3، ص 287.

وأیضا فلا خلاف بیننا ان الحاکم لا یجوز له ان یحکم بمذاهب أهل الخلاف مع الاختیار...».

وحکی الاقوال الثلاثة جملة من الفقهاء المتقدمین کالشیخ فی الخلاف وابن ابی عقیل فی المحکی من فتاواه وغیرهم.

ومفاد کلامه فی نقاط:

1 - ان الحکم بالتوریث وعدمه نحو حکم قضائی منا بینهم فما ذکر من جملة الاقوال بین الاصحاب فی المیراث بینهم یتاتی کاقوال ووجوه فی مطلق مبحث قاعدة القضاء بینهم بل قد یتاتی فی مطلق الاحکام القضائیة بین الکفار.

ولذا صرح فی عبارته اذا تحاکموا الی حکام الإسلام.

2 - ان القول الأول الذی نقله عبارة عن ضابطة فی ان القضاء بینهم لابد ان یکون مطابق للموازین التی عندنا. والقول الثانی التفصیل بالقضاء بین الموضوعات التکوینیة والموضوعات الاعتباریة ففی التکوینیة یحکم باثارها مطلقا وان کانت ناتجة من أسباب محرمة لانها موجودة واقعا علی أیة حال بخلاف الموضوعات الاعتباریة فانها لایقرر وجودها بناء علی فسادها عند الشرع. والقول الثالث انهم یورثون بما هو الصحیح عندهم.

ونسب القول الثالث للشیخ الطوسی فی جملة کتبه والأول الی

ص:78

المفید فی کتاب الاعلام والقول الثانی نسبه للمشهور وذهب الیه ابن شاذان ومحکی ابن ابی عقیل والصدوق فی الفقیه والعلامة فی القواعد ونسب الی اکثر المتاخرین, وهو مذهب مالک والشافعی من العامة.

وزیادة علی ما نقله ابن ادریس ان بعض العامة یذهبون الی الإرث مطلقا کما حکی ذلک الشیخ فی الخلاف.

وفی المغنی لابن قدامة دعوی الاجماع علی عدم الإرث فی السبب الفاسد من نکاح المحارم دون غیره من الأسباب الفاسدة.

3 - لا یخفی ان القول الثانی یقرب من الأول ومال الیه ابن ادریس کما یظهر من العبارة.

4 - ان اکثر الاصحاب بل ادعی الاجماع علی عدم الإرث من السبب الفاسد ووصفت الروایة الاتیة فی المقام الثانی الدالة علی الإرث بالسبب الفاسد بالشذوذ وترک العمل.

5 - ان الوجه فی اقحام اقوال الاصحاب فی میراث المجوس وغیرهم من الملل والنحل فی هذه القاعدة هو ان التوریث نحو من الحکم والقضاء بل ونمط من التذمم فیندرج التوریث فیما بحثه الاصحاب من ترافع الذمیین بل المشرکین الینا فی حکم القضاء بینهم.

6 - ذکر العلامة فی نکاح القواعد وکاشف اللثام فی شرحها انهم اذا تحاکموا الینا فی النکاح یحکم علیهم ویقرون بما لو اسلموا اقر

ص:79

علیهم النکاح, قال فی کشف اللثام والإبهام عن قواعد الأحکام؛ ج 7، ص: 225 «و إذا تحاکموا إلینا فی النکاح، أقرّ کلّ نکاح لو أسلموا أقرّوهم علیه الإمام، وهو ما کان صحیحا عندهم».

وهذا تبیان من العلامة لتداخل باب القضاء واحکام الذمة, ووجهه ان القضاء نحو رعایة وولایة وهو مضمون ماهیة عقد الذمة.

7 - المختار فی المسالة القول الثانی لما یأتی من الأدلة.

المقام الثانی: أدلّة الأقوال فی القاعدة:

اشارة

وهی ثلاثة اقوال کما مر فی نقل کلام ابن ادریس.

استدل للقول الأول والثانی بجملة من الأدلة: منها:

الدلیل الأول: القران:

قوله تعالی: (وَ أَنْزَلْنا إِلَیْکَ الْکِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَیْنَ یَدَیْهِ مِنَ الْکِتابِ وَ مُهَیْمِناً عَلَیْهِ فَاحْکُمْ بَیْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمّا جاءَکَ مِنَ الْحَقِّ لِکُلٍّ جَعَلْنا مِنْکُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً وَ لَوْ شاءَ اللّهُ لَجَعَلَکُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لکِنْ لِیَبْلُوَکُمْ فِی ما آتاکُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَیْراتِ إِلَی اللّهِ مَرْجِعُکُمْ جَمِیعاً فَیُنَبِّئُکُمْ بِما کُنْتُمْ فِیهِ تَخْتَلِفُونَ ( 48) أَ فَحُکْمَ الْجاهِلِیَّةِ یَبْغُونَ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُکْماً لِقَوْمٍ یُوقِنُونَ ( 50) (1).

ص:80


1- (1) سورة المائدة: الآیة 49-50.

وقوله تعالی: (وَ قُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّکُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْیُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْیَکْفُرْ) (1).

وقوله تعالی: (سَمّاعُونَ لِلْکَذِبِ أَکّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُکَ فَاحْکُمْ بَیْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ إِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ یَضُرُّوکَ شَیْئاً وَ إِنْ حَکَمْتَ فَاحْکُمْ بَیْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ یُحِبُّ الْمُقْسِطِینَ ( 42) )(2).

تقریب الاستدلال بالایات:

ان مفاد الایة لیس خاصا باهل الکتاب بل عاما لکل الکفار بقرینة التعلیل (بالقسط), وبقرینة ما ذکر فی الایة 41 من سورة المائدة من ان النزاع مع غیر اهل الکتاب, وبقرینة ما قرر فی الإرث من عموم حکمنا بینهم باحکام الإرث لغیر اهل الکتاب. وبقرینة عموم قاعدة تکلیف الکفار بالفروع, یتبین ان القسط فی الحکم عام ولیس قضائیا فقط بل یشمل الفتوی سیما علی القول بان القضاء فی اصله حکم فتوائی.

الدلیل الثانی: الإجماع:

حیث حکی الاجماع فی کلمات الفقهاء من ان الحاکم لا یجوز له ان یحکم بمذاهب اهل الخلاف بالاختیار.

ص:81


1- (1) سورة الکهف: الآیة 29.
2- (2) سورة المائدة: الآیة 12.
الدلیل الثالث:

مقتضی ما قرر فی کتاب القضاء ان الحاکم الشرعی مخیر بین الحکم علیهم بحکم الإسلام او بحکمهم, ومقتضی الأول التفصیل بین السبب والنسب الفاسدین.

الدلیل الرابع:

مقتضی احکام الذمة انهم لا یقرون علی السبب الفاسد کنکاح الأمهات والمحارم هو التفصیل بین النسب الفاسد والسبب الفاسد.

نعم هذا الوجه مختص باهل الکتاب وبما بعد دخولهم فی الذمة.

قال ابن ادریس: «... فکیف یجوز لنا ان نقرّهم علی نکاح المحرمات فی شرعنا، ونحکم لهم بذلک، وبصحته إذا تحاکموا إلینا، وأخذ علینا ان لا نقرهم علی ذلک...»(1).

فمن مقررات شروط الذمة ان لا یظهروا المحرمات کنکاح المحارم والربا وشرب الخمر وغیرها, وتوریثهم ومجیئهم الینا هو اظهار واعلان, ولا یبعد عموم الحکم بالمحرمات بالمصاهرة لانهم لو اسلموا لما اقروا علیه کما دلت النصوص وان المجوسی اذا اسلم عن سبع لم یقر الا علی اربع مع ان نکاح محرم بالاجتماع لا التابید.

ص:82


1- (1) السرائر: ج 3، ص 296.
الدلیل الخامس:

الروایات: یمکن الاستدلال بعدة روایات وهی علی طوائف:

الطائفة الأولی: (لو ثنیت لی الوسادة...)

ان الصفار فی بصائر الدرجات ج 3 باب 13 ص 249-253 قد عنون بابا فی تسع روایات: «باب قول امیر المومنین علی علیه السلام لو ثنیت لی الوسادة لحکمت بما فی التوراة والانجیل والزبور والفرقان».

وذکر فیها صحیحة ابی حمزة الثمالی وموثقة الاصبغ بن نباته ومصحح داوود بن فرقد ومعتبرة القداح وغیرها.

وفی بعضها عبارة (لقضیت بدل لحکمت...).

وفی بعضها (لو استقامت لی الامة وثنیت لی الوسادة....)

ومن تلک الروایات التی نقلها الصفار:

صحیحة ابی حمزة الثمالی عن ابی عبدالله علیه السلام: قال عَلِیّ علیه السلام«لَوْ ثُنِّیَتْ لِیَ الْوِسَادَةُ َ لحکمت بَیْنَ أَهْلِ الْقُرْآنِ بالقران حتی یزهر الی الله, ولَحکمت بَیْنَ أَهْلِ التَّوْرَاةِ بِالتوراة حتی یزهر الی الله، وَلحکمت بَیْنَ أَهْلِ الْإِنْجِیلِ بِإِلانجیل حتی یزهر الی الله، ولحکمت بَیْنَ أَهْلِ الزَّبُورِ بِالزبور حتی یزهر الی الله...»(1).

ص:83


1- (1) بصائر الدرجات: ج 3، ص 249.

وقریب منه ما ذکره الصدوق فی التوحید والطوسی فی الامالی وغیرهم, بل مصادرنا مستفیضة بهذا المضمون.

والمحصل من هذه الروایات لیس الحکم بالاسباب الفاسدة المبتدعة عندهم تحریفا لکتابهم بل غایته امضاء النسب والسبب الصحیح فی شریعة التوراة والانجیل والزبور وان نسخ فی شریعتنا.

واما الأسباب الفاسدة باتفاق الشرائع السماویة وان استحلها اهل الکتاب بتحریفهم فلا یحکم بها.

فالنتیجة التفصیل.

الطائفة الثانیة: ما ورد فی شروط الذمة منها:

صحیحة زُرَارَةَ عَنْ أَبِی عَبْدِالله علیه السلام قَالَ: «قَالَ: إِنَّ رَسُولَ الله صلی الله علیه وآله قَبِلَ الْجِزْیَةَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَی أَنْ لَا یَأْکُلُوا الرِّبَا ولَا یَأْکُلُوا لَحْمَ الْخِنْزِیرِ ولَا یَنْکِحُوا الْأَخَوَاتِ ولَا بَنَاتِ الْأَخِ ولَا بَنَاتِ الْأُخْتِ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِکَ مِنْهُمْ فَقَدْ بَرِأَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ الله وذِمَّةُ رَسُولِ الله صلی الله علیه وآله قَالَ ولَیْسَتْ لَهُمُ الْیَوْمَ ذِمَّةٌ»(1).

ورواه الصدوق فی الفقیه باسناده الی علی بن رئاب.

ومفاد الروایة التفصیل أیضا بین النسب والسبب.

ص:84


1- (1) المصدر السابق.

ولا یخفی ارتباط احکام الذمة بالقضاء بینهم فیما کانوا یسکنون فی دار الإسلام لان إعطاء الذمة لهم نحو من الحکم یصدره الولی الشرعی وان لم یکن حکما قضائیا.

الطائفة الثالثة: الروایات الواردة فی «لکل قوم نکاح».

مجمل الکلام فی قاعدة «لکل قوم نکاح»:

الصحیح صحة نکاح أهل الکفر فیما بینهم مع اختلاف مللهم ونحلهم، سواء اتفق فی الملّة أو اختلف، أما مع اتفاقهما فی الملّة والنحلة فلعموم قوله صلی الله علیه وآله: «لکل قوم نکاح»، کما فی صحیحة أبی بصیر، قال: «سمعت أبا عبدالله علیه السلام یقول: نهی رسول الله صلی الله علیه وآله أن یقال للأمة: یا بنت کذا وکذا. وقال: لکل قوم نکاح». وکذا یدل علیه الروایات الوارد فیها: «هما علی نکاحهما» وصریح کلام الشیخ فی المبسوط، بل الأکثر، بل ربما یقال المشهور عموم صحة النکاح ولو اختلفت الملّة والنحلة، مع أنّه قد یستشکل بأن بعض تلک الملل والنحل لا تسوّغ النکاح من غیرهم، وظاهر قوله صلی الله علیه وآله: «لکل قوم نکاح» أنه بحسب ما تبنّوه من ماهیة وشروط وعقد فیما بینهم، ومن ثمَّ قد یشکل فی البناء علی الصحة فی الزواج المدنی المتعارف فی الحیاة العصریة المدنیة الراهنة فی الغرب والشرق. لکن یمکن أن یوجّه بأن المراد من (کل قوم) لیس مقیداً بالنحلة والملّة، بل المراد ما یُتبانی علیه فی أعراف الجماعات، ولو الذین صبوا عن مللهم ونحلهم کجملة من العلمانیین فی العصر الحدیث،

ص:85

بخلاف ما إذا کانت صورة الزواج لا یقرها عرف من الأعراف، کما فیما یشذ به بعض صور الزیجات فی العصر الحدیث.

ومن الروایات الدالة علی ذلک:

1 - موثقة إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ«قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ الله علیه السلام مَالُ النَّاصِبِ وکُلُّ شَیْ ءٍ یَمْلِکُهُ حَلَالٌ إِلَّا امْرَأَتَهُ - فَإِنَّ نِکَاحَ أَهْلِ الشِّرْکِ جَائِزٌ وذَلِکَ أَنَّ رَسُولَ الله صلی الله علیه وآله قَالَ - لَا تَسُبُّوا أَهْلَ الشِّرْکِ فَإِنَّ لِکُلِّ قَوْمٍ نِکَاحاً - ولَوْ لَا أَنَّا نَخَافُ عَلَیْکُمْ أَنْ یُقْتَلَ رَجُلٌ مِنْکُمْ بِرَجُلٍ مِنْهُمْ - ورَجُلٌ مِنْکُمْ خَیْرٌ مِنْ أَلْفِ رَجُلٍ مِنْهُمْ - لَأَمَرْنَاکُمْ بِالْقَتْلِ لَهُمْ ولَکِنَّ ذَلِکَ إِلَی الْإِمَامِ»(1).

2 - صحیحة أَبِی بَصِیرٍ قَالَ: «سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله علیه السلام یَقُولُ نَهَی رَسُولُ الله صلی الله علیه وآله أَنْ یُقَالَ لِلْإِمَاءِ یَا بِنْتَ کَذَا وکَذَا وقَالَ لِکُلِّ قَوْمٍ نِکَاحٌ» (2).

3 - ما فی التهذیب عن عبدالله بن سنان فی الحسن قال: «قذف رجل رجلاً مجوسیّاً عند أبی عبدالله علیه السلام فقال: مه، فقال الرجل: إنه ینکح امه وأخته، فقال: ذاک عندهم نکاح فی دینهم».

4 - عن أبی بصیر عن أبی عبد الله علیه السلام قال: «کل قوم یعرفون النکاح من السفاح فنکاحهم جائز»(3).

ص:86


1- (1) وسائل الشیعة: ج 15، ص 80.
2- (2) تهذیب الأحکام: ج 7، ص 472.
3- (3) المصدر: ص 486.

5 - صحیحة عَبْدِالله بْنِ سِنَانٍ قَالَ: «قَذَفَ رَجُلٌ مَجُوسِیّاً عِنْدَ أَبِی عَبْدِ الله علیه السلام - فَقَالَ مَهْ فَقَالَ الرَّجُلُ إِنَّهُ یَنْکِحُ أُمَّهُ وأُخْتَهُ - فَقَالَ ذَاکَ عِنْدَهُمْ نِکَاحٌ فِی دِینِهِمْ»(1).

قال فی جواهر الکلام فی شرح شرائع الإسلام؛ ج 29، ص: 266«والمراد منه أن ما بأیدیهم من العقود الفاسدة لها حکم النکاح، لا أن المراد منه أنه نکاح حقیقة، ضرورة معلومیة بطلان نکاح الأم والأخت».

أقول: ان غایة المستفاد من روایات القاعدة وکذا کلمات الاصحاب ان ما یترتب من نسب او بعض الاثار علی انکحة فاسدة سابقة یقرون علیه من ما مضی منها لا انهم یقرون بقاء علی النکاح الفاسد فی حکمنا کما لو اصبحوا اهل ذمة او تقاضوا لدینا کما فی نکاح المحارم, نعم لو کان الفساد فی شروط صیغة العقد او فی المهر فالظاهر امضاء صحته بقاء لما ورد من روایات عدیدة فی إقرار نکاح الکفار اذا اسلموا معا او اسلم الزوج.

بخلاف مثل نکاح المحرمات سواء کان بالنسب او المصاهرة فان القاعدة غیر شاملة لذلک, وذلک یعلم من مقتضی ادلتها عدم رفع الشارع یده عن تحریمها بل ان حرمتها مطلقة ومبغوضیتها لا یرفع الشارع یده عنها فی ایة حال.

وکذلک ان القاعدة دالة علی الحاق الأولاد بهم لا علی معذوریتهم فی هکذا انکحة.

ص:87


1- (1) وسائل الشیعة: ج 21 ص 200.
الدلیل السادس:

قد یستدل بقاعدة الزموهم بما الزموا به انفسهم علی المطلوب، فقد روی: «إِنَّ کُلَّ قَوْمٍ دَانُوا بِشَیْ ءٍ یَلْزَمُهُمْ حُکْمُهُ»(1).

ویرد علیه:

أولاً: ان هذه القاعدة فی موارد التعامل بیننا وبینهم فی الاثار التی هی نفع للمسلمین والمومنین وضرر علی الکافرین والمخالفین, وأین هذا من القضاء والحکم فیما بین بعضهم البعض سواء کان بضررهم او نفعهم.

ثانیاً: ان هذه القاعدة لا تسوغ المحرمات المبغوضة التی علم من الشارع مبغوضیتها بنحو مطلق کنکاح المحرمات والمعاملات المحرمة کالربا فلا یستدل بها علی تجویز ارتکاب الفواحش التی یستحلونها.

الدلیل السابع:

الروایات الواردة فی ارث المجوس فیستدل بها للقول الثالث:

منها: موثقة السَّکُونِیِّ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِیهِ علیه السلام«أَنَّهُ کَانَ یُوَرِّثُ الْمَجُوسِیَّ إِذَا تَزَوَّجَ بِأُمِّهِ وبِابْنَتِهِ - مِنْ وَجْهَیْنِ مِنْ وَجْهِ أَنَّهَا أُمُّهُ ووَجْهِ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ»(2).

ص:88


1- (1) الاستبصار: ج 4، ص 189.
2- (2) وسائل الشیعة: ج 26، ص 417.

روایة أَبِی الْبَخْتَرِیِّ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِیهِ عَنْ عَلِیٍّ علیه السلام: «أَنَّهُ کَانَ یُوَرِّثُ الْمَجُوسَ إِذَا أَسْلَمُوا - مِنْ وَجْهَیْنِ بِالنَّسَبِ ولَا یُوَرِّثُ (عَلَی النِّکَاحِ)»(1).

وروایة ابی البختری وان کانت ضعیفة سندا ومعارضة لموثقة السکونی ودالة علی التفصیل فی القولین الاولین الا ان مضمونها مدعوم بالروایات الواردة فی عقد الذمة من ان الکفار لا یقرون علی الانکحة الباطلة, فلا یعتمد علی موثق السکونی.

ومن ذلک یتبین ان قاعدة لکل قوم نکاح مخصصة بمفاد الروایات الواردة فی شروط الذمة, مثل ان لا یظهروا نکاح المحارم.

تتمة القاعدة: فی القضاء بین المخالفین:

اشارة

هل ان المخالفین مشمولیون بالحکم السابق او ان القاعدة هی التخییر بین الحکم لهم بحکمنا او بحکمهم نظیر ما هو مقرر فی باب الفتوی؟

والجواب: انه علی موازین القضاء الذی عندنا:

ویقرب ذلک بأدلة:

ص:89


1- (1) المصدر: ص 418.
الدلیل الأول: الروایات:

منها: حسنة أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِی عَبْدِ الله علیه السلام: «إِنِّی أَقْعُدُ فِی الْمَسْجِدِ - فَیَجِیءُ النَّاسُ فَیَسْأَلُونِّی - فَإِنْ لَمْ أُجِبْهُمْ لَمْ یَقْبَلُوا مِنِّی - وأَکْرَهُ أَنْ أُجِیبَهُمْ بِقَوْلِکُمْ ومَا جَاءَ عَنْکُمْ - فَقَالَ لِیَ انْظُرْ مَا عَلِمْتَ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِهِمْ - فَأَخْبِرْهُمْ بِذَلِکَ»(1).

محسنة مُعَاذِ بْنِ مُسْلِمٍ النَّحْوِیِّ عَنْ أَبِی عَبْدِالله علیه السلام: «قَالَ: بَلَغَنِی أَنَّکَ تَقْعُدُ فِی الْجَامِعِ فَتُفْتِی النَّاسَ قُلْتُ نَعَمْ - وأَرَدْتُ أَنْ أَسْأَلَکَ عَنْ ذَلِکَ قَبْلَ أَنْ أَخْرُجَ - إِنِّی أَقْعُدُ فِی الْمَسْجِدِ - فَیَجِیءُ الرَّجُلُ فَیَسْأَلُنِی عَنِ الشَّیْ ءِ - فَإِذَا عَرَفْتُهُ بِالْخِلَافِ لَکُمْ أَخْبَرْتُهُ بِمَا یَفْعَلُونَ - ویَجِیءُ الرَّجُلُ أَعْرِفُهُ بِمَوَدَّتِکُمْ - فَأُخْبِرُهُ بِمَا جَاءَ عَنْکُمْ - ویَجِیءُ الرَّجُلُ لَا أَعْرِفُهُ ولَا أَدْرِی مَنْ هُوَ - فَأَقُولُ جَاءَ عَنْ فُلَانٍ کَذَا وجَاءَ عَنْ فُلَانٍ کَذَا - فَأُدْخِلُ قَوْلَکُمْ فِیمَا بَیْنَ ذَلِکَ قَالَ - فَقَالَ لِیَ اصْنَعْ کَذَا - فَإِنِّی کَذَا أَصْنَعُ»(2).

تقریب ذلک:

ان الحکم القضاء کما هو مقرر فی محلة لیس هو الا الحکم الفتوائی الکلی بتطبیق علی المورد الجزئی بین المتنازعین علی ان یتم التطبیق بموازین قضائیة لا فتوائیة.

ص:90


1- (1) وسائل الشیعة: ج 16، ص 233.
2- (2) المصدر: ج 27، ص 148.

فموازین التطبیق وان کانت قضائیة لا فتوائیة الا ان الحکم المنزل هو الفتوائی الکلی.

ومن ثم اعتبر فی المفتی ما یعتبر فی القاضی والعکس کذلک فی الجهة المشترکة بین البابین.

الدلیل الثانی: جملة من قواعد الأبواب الفقهیة الأخری الشاملة لموارد النزاع فیما بین المخالفین وان کانت مختصة بأحد الأبواب الفقهیة او بأکثر من باب دون کل الأبواب:

1 - قاعدة لکل قوم نکاح.

2 - قاعدة الالزام فیما لو کان نزاع بین المومن والمخالف فیقضی للمومن علی المخالف.

ولا یخفی ان الوجه الأول غیر الثانی اذ ان الوجه الأول التخییر فی بیان حکمنا وحکمهم واما الوجه الثانی فهو التعیین لبیان حکمنا.

ویمکن التوفیق بین الوجه الثانی والأول بان نحمل الوجه الأول علی النزاعات المدنیة أی فی باب المعاملات بخلاف الوجه الثانی فانه خاص فی باب تلک القاعدة.

الدلیل الثالث: قواعد القصاص والحدود والدیات.

هناک جملة من الروایات الدالة علی تصدی ال البیت لاقامة

ص:91

الحدود والقصاص والدیات علی المخالفین.

وهو نحو من التعیین وخاص بالنزاعات الجنائیة.

ومن اهم مصادیق ذلک ما روی مستفیضا فی روایات الفریقین من ردع الثلاثة المستولین علی الخلافة عن حکمهم القضائی فی کثیر من الموارد فی نزاعات جنائیة مختلفة وغیرها من النزعات المدنیة والقضاء بینهم بحکم الله الواقعی.

وکذلک تصدی بقیة أئمة ال البیت لبیان الاحکام القضائیة وغیرها امام خلفاء بنی امیة وبنی العباس.

والیک جملة روایات:

1 - الکافی (ط - الإسلامیة)؛ ج 7، ص: 249

موثقة أَبِی بَصِیرٍ عَنْ أَبِی عَبْدِ الله علیه السلام قَالَ: «لَقَدْ قَضَی أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ ص بِقَضِیَّةٍ مَا قَضَی بِهَا أَحَدٌ کَانَ قَبْلَهُ وکَانَتْ أَوَّلَ قَضِیَّةٍ قَضَی بِهَا بَعْدَ رَسُولِ الله ص وذَلِکَ أَنَّهُ لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ الله ص وأَفْضَی الْأَمْرُ إِلَی أَبِی بَکْرٍ أُتِیَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَقَالَ لَهُ أَبُو بَکْرٍ أَ شَرِبْتَ الْخَمْرَ فَقَالَ الرَّجُلُ نَعَمْ فَقَالَ ولِمَ شَرِبْتَهَا وهِیَ مُحَرَّمَةٌ فَقَالَ إِنَّنِی لَمَّا أَسْلَمْتُ ومَنْزِلِی بَیْنَ ظَهْرَانَیْ قَوْمٍ یَشْرَبُونَ الْخَمْرَ ویَسْتَحِلُّونَهَا ولَوْ أَعْلَمُ أَنَّهَا حَرَامٌ فَأَجْتَنِبُهَا قَالَ فَالْتَفَتَ أَبُو بَکْرٍ إِلَی عُمَرَ فَقَالَ مَا تَقُولُ یَا أَبَا حَفْصٍ فِی أَمْرِ هَذَا الرَّجُلِ فَقَالَ مُعْضِلَةٌ وأَبُو الْحَسَنِ لَهَا فَقَالَ أَبُو بَکْرٍ یَا غُلَامُ ادْعُ لَنَا

ص:92

عَلِیّاً قَالَ عُمَرُ بَلْ یُؤْتَی الْحَکَمُ فِی مَنْزِلِهِ فَأَتَوْهُ ومَعَهُ سَلْمَانُ الْفَارِسِیُّ فَأَخْبَرَهُ بِقِصَّةِ الرَّجُلِ فَاقْتَصَّ عَلَیْهِ قِصَّتَهُ فَقَالَ عَلِیٌّ علیه السلام لِأَبِی بَکْرٍ ابْعَثْ مَعَهُ مَنْ یَدُورُ بِهِ عَلَی مَجَالِسِ الْمُهَاجِرِینَ والْأَنْصَارِ فَمَنْ کَانَ تَلَا عَلَیْهِ آیَةَ التَّحْرِیمِ فَلْیَشْهَدْ عَلَیْهِ فَإِنْ لَمْ یَکُنْ تَلَا عَلَیْهِ آیَةَ التَّحْرِیمِ فَلَا شَیْ ءَ عَلَیْهِ فَفَعَلَ أَبُو بَکْرٍ بِالرَّجُلِ مَا قَالَ عَلِیٌّ علیه السلام فَلَمْ یَشْهَدْ عَلَیْهِ أَحَدٌ فَخَلَّی سَبِیلَهُ فَقَالَ سَلْمَانُ لِعَلِیٍّ علیه السلام لَقَدْ أَرْشَدْتَهُمْ فَقَالَ عَلِیٌّ علیه السلام إِنَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أُجَدِّدَ تَأْکِیدَ هَذِهِ الْآیَةِ فِیَّ وفِیهِمْ أَ فَمَنْ یَهْدِی إِلَی الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ یُتَّبَعَ أَمَّنْ لا یَهِدِّی إِلّا أَنْ یُهْدی فَما لَکُمْ کَیْفَ تَحْکُمُونَ».

2 - السرائر الحاوی لتحریر الفتاوی؛ ج 3، ص: 480 «عن شیخنا المفید محمّد بن محمّد بن النعمان الحارثی رضی الله عنه فی کتابه الإرشاد، فی قضایا أمیر المؤمنین علیه السلام فی امرة عمر بن الخطاب، بحضور جماعة من الصحابة، فسألهم عمر عن ذلک، فاخطأوا وأمیر المؤمنین جالس فقال له عمر، ما عندک فی هذا یا أبا الحسن، فتنصّل من الجواب، فعزم علیه، فقال له ان کان القوم قد قاربوک، فقد غشوک، وان کانوا ارتاءوا، فقد قصروا، الدیة، علی عاقلتک، لان قتل الصبیّ خطأ، تعلق بک فقال أنت واللّه نصحتنی من بینهم، واللّه لا تبرح حتی تجری الدیة علی بنی عدی...».

3 - الکافی (ط - الإسلامیة)؛ ج 7، ص: 199

مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعَرْزَمِیِّ عَنْ أَبِیهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِی عَبْدِ

ص:93

الله عَنْ أَبِیهِ علیه السلام قَالَ: «أُتِیَ عُمَرُ بِرَجُلٍ وقَدْ نُکِحَ فِی دُبُرِهِ فَهَمَّ أَنْ یَجْلِدَهُ فَقَالَ لِلشُّهُودِ رَأَیْتُمُوهُ یُدْخِلُهُ کَمَا یُدْخَلُ الْمِیلُ فِی الْمُکْحُلَةِ فَقَالُوا نَعَمْ فَقَالَ لِعَلِیٍّ علیه السلام مَا تَرَی فِی هَذَا فَطَلَبَ الْفَحْلَ الَّذِی نَکَحَهُ فَلَمْ یَجِدْهُ فَقَالَ عَلِیٌّ علیه السلام أَرَی فِیهِ أَنْ تُضْرَبَ عُنُقُهُ قَالَ فَأَمَرَ بِهِ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ ثُمَّ قَالَ خُذُوهُ فَقَدْ بَقِیَتْ لَهُ عُقُوبَةٌ أُخْرَی قَالُوا ومَا هِیَ قَالَ ادْعُوا بِطُنٍّ مِنْ حَطَبٍ فَدَعَا بِطُنٍّ مِنْ حَطَبٍ فَلُفَّ فِیهِ ثُمَّ أَخْرَجَهُ فَأَحْرَقَهُ بِالنَّارِ قَالَ ثُمَّ قَالَ إِنَّ لِلَّهِ عِبَاداً لَهُمْ فِی أَصْلَابِهِمْ أَرْحَامٌ کَأَرْحَامِ النِّسَاءِ قَالَ فَمَا لَهُمْ لَا یَحْمِلُونَ فِیهَا قَالَ لِأَنَّهَا مَنْکُوسَةٌ فِی أَدْبَارِهِمْ غُدَّةٌ کَغُدَّةِ الْبَعِیرِ فَإِذَا هَاجَتْ هَاجُوا وإِذَا سَکَنَتْ سَکَنُوا».

4 - یُونُسَ عَنْ عَبْدِ الله بْنِ سِنَانٍ قَالَ قَالَ أَبُو عَبْدِ الله علیه السلام: «الْحَدُّ فِی الْخَمْرِ إِنْ شُرِبَ مِنْهَا قَلِیلًا أَوْ کَثِیراً قَالَ ثُمَّ قَالَ أُتِیَ عُمَرُ بِقُدَامَةَ بْنِ مَظْعُونٍ وقَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ وقَامَتْ عَلَیْهِ الْبَیِّنَةُ فَسَأَلَ عَلِیّاً علیه السلام فَأَمَرَهُ أَنْ یَجْلِدَهُ ثَمَانِینَ فَقَالَ قُدَامَةُ یَا أَمِیرَ الْمُؤْمِنِینَ لَیْسَ عَلَیَّ حَدٌّ أَنَا مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْآیَةِ لَیْسَ عَلَی الَّذِینَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ جُناحٌ فِیما طَعِمُوا قَالَ فَقَالَ عَلِیٌّ علیه السلام لَسْتَ مِنْ أَهْلِهَا إِنَّ طَعَامَ أَهْلِهَا لَهُمْ حَلَالٌ لَیْسَ یَأْکُلُونَ ولَا یَشْرَبُونَ إِلَّا مَا أَحَلَّهُ الله لَهُمْ ثُمَّ قَالَ عَلِیٌّ علیه السلام إِنَّ الشَّارِبَ إِذَا شَرِبَ لَمْ یَدْرِ مَا یَأْکُلُ ولَا مَا یَشْرَبُ فَاجْلِدُوهُ ثَمَانِینَ جَلْدَةً».

5 - وسائل الشیعة؛ ج 29، ص: 125

أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ عَمَّنْ أَخْبَرَهُ عَنْ أَحَدِهِمَا علیه السلام قَالَ: «أُتِیَ عُمَرُ بْنُ

ص:94

الْخَطَّابِ بِرَجُلٍ قَدْ قَتَلَ أَخَا رَجُلٍ - فَدَفَعَهُ إِلَیْهِ وأَمَرَهُ بِقَتْلِهِ - فَضَرَبَهُ الرَّجُلُ حَتَّی رَأَی أَنَّهُ قَدْ قَتَلَهُ - فَحُمِلَ إِلَی مَنْزِلِهِ فَوَجَدُوا بِهِ رَمَقاً فَعَالَجُوهُ فَبَرَأَ - فَلَمَّا خَرَجَ أَخَذَهُ أَخُو الْمَقْتُولِ الْأَوَّلِ - فَقَالَ أَنْتَ قَاتِلُ أَخِی ولِی أَنْ أَقْتُلَکَ - فَقَالَ قَدْ قَتَلْتَنِی مَرَّةً - فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَی عُمَرَ فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ - فَخَرَجَ وهُوَ یَقُولُ والله قَتَلْتَنِی مَرَّةً - فَمَرُّوا عَلَی أَمِیرِ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام فَأَخْبَرَهُ خَبَرَهُ - فَقَالَ لَا تَعْجَلْ حَتَّی أَخْرُجَ إِلَیْکَ - فَدَخَلَ عَلَی عُمَرَ فَقَالَ لَیْسَ الْحُکْمُ فِیهِ هَکَذَا - فَقَالَ مَا هُوَ یَا أَبَا الْحَسَنِ - فَقَالَ یَقْتَصُّ هَذَا مِنْ أَخِی الْمَقْتُولِ الْأَوَّلِ مَا صَنَعَ بِهِ - ثُمَّ یَقْتُلُهُ بِأَخِیهِ - فَنَظَرَ الرَّجُلُ أَنَّهُ إِنِ اقْتَصَّ مِنْهُ أَتَی عَلَی نَفْسِهِ - فَعَفَا عَنْهُ وتَتَارَکَا».

الی غیرها من الروایات فی أبواب مختلفة من الوسائل کما فی باب 19 من أبواب کیفیة الحکم وباب 21 کذلک, وفی باب 1 من أبواب اقسام حدود الزنا وباب 3 من أبواب حد اللواط مع الاعقاب وغیرها.

الدلیل الرابع:

وهو فی القضاء بین الکفار الکتابیین, ویلحق بهم المخالفین سواء بنی علی اسلامهم او علی کونهم منتحلین للاسلام فیکونوا بمنزلة اهل الکتاب:

وهو عموم ما دل من الحکم بین اهل الکتاب بما انزل الله کقوله تعالی فی سورة المائدة: (وَ أَنْزَلْنا إِلَیْکَ الْکِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَیْنَ یَدَیْهِ

ص:95

مِنَ الْکِتابِ وَ مُهَیْمِناً عَلَیْهِ فَاحْکُمْ بَیْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمّا جاءَکَ مِنَ الْحَقِّ لِکُلٍّ جَعَلْنا مِنْکُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً )(1).

وقوله تعالی: (وَ أَنِ احْکُمْ بَیْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَ احْذَرْهُمْ أَنْ یَفْتِنُوکَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللّهُ إِلَیْکَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما یُرِیدُ اللّهُ أَنْ یُصِیبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَ إِنَّ کَثِیراً مِنَ النّاسِ لَفاسِقُونَ ( 49) أَ فَحُکْمَ الْجاهِلِیَّةِ یَبْغُونَ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُکْماً لِقَوْمٍ یُوقِنُونَ ( 50) (2).

ووقوله تعالی: (وَ إِنْ حَکَمْتَ فَاحْکُمْ بَیْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ یُحِبُّ الْمُقْسِطِینَ ( 42) (3).

الدلیل الخامس:

وهو دلیل عام فی إقامة القسط بین کل البشر فیشمل اهل الکتاب والمخالفین, وهی الایات الامرة بالقیام بالقسط:

قوله تعالی: (یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا کُونُوا قَوّامِینَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلّهِ وَ لَوْ عَلی أَنْفُسِکُمْ أَوِ الْوالِدَیْنِ وَ الْأَقْرَبِینَ) (4).

قوله تعالی: (یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا کُونُوا قَوّامِینَ لِلّهِ شُهَداءَ

ص:96


1- (1) سورة المائدة: الآیة 48.
2- (2) سورة المائدة: الآیة 47-50.
3- (3) سورة النساء: الآیة 135.
4- (4) سورة هود: الآیة 85.

بِالْقِسْطِ )(1).

قوله تعالی: (وَ یا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِکْیالَ وَ الْمِیزانَ بِالْقِسْطِ )(2).

قوله تعالی: (قُلْ أَمَرَ رَبِّی بِالْقِسْطِ وَ أَقِیمُوا وُجُوهَکُمْ عِنْدَ کُلِّ مَسْجِدٍ وَ ادْعُوهُ مُخْلِصِینَ لَهُ الدِّینَ کَما بَدَأَکُمْ تَعُودُونَ ( 29) (3).

قوله تعالی: (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَیِّناتِ وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْکِتابَ وَ الْمِیزانَ لِیَقُومَ النّاسُ بِالْقِسْطِ) (4).

وغیرها من الایات.

ص:97


1- (1) سورة الأعراف: الآیة 29.
2- (2) سورة هود: الآیة 85.
3- (3) سورة الأعراف: الآیة 29.
4- (4) سورة الحدید: 25.

ص:98

القاعدة السادسة:

قاعدة فی اسلام او کفر ابن الزنا

ص:99

ص:100

القاعدة السادسة: قاعدة فی اسلام او کفر ابن الزنا

هذه القاعدة تتمحورفی بیان حقیقة ابن الزنا وحکمه من حیث الاسلام والکفر وما یتبع ذلک من احکام:

والبحث فی القاعدة یقع فی مقامین:

المقام الأول:

أقوال الأعلام فی المسالة:

انقسمت اقوال الاعلام بین اثبات الکفر او الاسلام او الواسطة بینهما.

والیک جملة منها:

1 - رسائل الشریف المرتضی؛ ج 3، ص: 131: «حکم عبادة ولد الزنا: مسألة: ما یظهر من ولد الزنا من صلاة وصیام وقیام لعبادة کیف القول فیه، مع الروایة الظاهرة أن ولد الزنا فی النار. وأنه لا یکون

ص:101

قط من أهل الجنة.

الجواب: هذه الروایة موجودة فی کتب أصحابنا، الا أنه غیر مقطوع بها. ووجهها ان صحت: أن کل ولد زنیة لا بد أن یکون فی علم اللّه تعالی أنه یختار الکفر ویموت علیه، وأنه لا یختار الایمان. ولیس کونه من ولد الزنیة ذنبا یؤاخذ به، فان ذلک لیس ذنبا فی نفسه وانما الذنب لأبویه، ولکنه انما یعاقب بأفعاله الذمیمة القبیحة التی علم اللّه أنه یختارها ویصیر کذا، وکونه ولد زنا علامة علی وقوع ما یستحق من العقاب، وأنه من أهل النار بتلک الاعمال، لا لانه مولود من زنا».

2 - الشیخ البحرانی فی الحدائق الناضرة: «محل الخلاف فی المسألة انه هل یقع من ابن الزنا الایمان والتدین أم یقطع بعدمه؟ وحمله القول بکفره علی معنی انه لا یقع منه إلا الکفر وإلا فإنهم لا ینکرون انه لو فرض ایمانه وتدینه أمکن دخوله الجنة بل وجب. فإنه لیس فی محله بل هؤلاء القائلون بکفره یقولون به وان أظهر الایمان وتدین به کما هو ظاهر النقل عنهم، وبه صرح جملة من أصحابنا: منهم - شیخنا خاتمة المحدثین غواص بحار الأنوار.

حیث قال فیه: ونسب الی الصدوق والمرتضی وابن إدریس (قدس الله أسرارهم) القول بکفره وان لم یظهره، ثم قال: وهذا مخالف لأصول العدل إذ لم یفعل باختیاره ما یستحق به العقاب فیکون عقابه ظلما وجورا ولیس بظلام للعبید. انتهی.

ص:102

أقول: وهذا الذی نقله عن المشایخ الثلاثة هو الذی تدل علیه الأخبار وهی التی أوجبت مصیرهم الیه کما ستمر بک ان شاء الله تعالی فإنها صریحة فی حرمانه الجنة وان أظهر التدین والایمان، نعم ما ذکره من القول بالکفر انما هو وجه تأویل حیث حمل القائلون بإسلام ولد الزنا الأخبار الدالة علی عدم دخوله الجنة علی انه لکونه یظهر الکفر فجعلوه جوابا عن الاخبار المذکورة مع انها صریحة فی رده ایضا کما سیظهر لک لا ان ذلک مذهب القائلین بکفره».

ثم قال مبینا مختاره: «وبالجملة فالمفهوم من الاخبار التی سردناها ان ابن الزنا له حالة ثالثة غیر حالتی الایمان والکفر، لان ما تقدم من الاخبار الدالة علی أحکامه فی الدنیا من النجاسة وعدم العدالة مع الاتصاف بشروطها وحکم دیته وکذا اخبار عدم دخوله الجنة وکذا الأخبار الأخیرة لا یجامع الحکم بالایمان بوجه، وأسباب الکفر الموجبة للحکم بکونه کافرا غیر موجودة لأن الفرض انه متدین بظاهر الایمان کما عرفت من ظاهر الاخبار المذکورة».

2 - فی کتاب الطهارة (للشیخ الأنصاری)؛ ج 5، ص: 155:

«حکم ولد الزنا: المشهور بین أصحابنا رضوان اللّه علیهم طهارة ولد الزنا وإسلامه؛ لأصالة الطهارة وأصالة الإسلام؛ لحدیث الفطرة؛ لما دلّ علی ثبوته لمن أظهره وتدیّن به.

ص:103

خلافاً للمحکیّ عن الصدوق والسیّد والحلّی: من القول بکفره ونجاسته. وعن المختلف: نسبته إلی جماعة. ویظهر من المعتبر: أنّ بعضاً منهم ادّعی الإجماع علی ذلک. وعن الحلّی: نفی الخلاف فی ذلک».

ثم قال مبینا مختاره:

«ثمّ إنّ الأخبار المذکورة لا دلالة فیها علی الکفر إلّا بناءً علی نفی الواسطة بین الکفر والإسلام، مضافاً إلی عموم طهارة کلّ مسلم. و قد منع صاحب الحدائق عن المقدّمة الأُولی، فاختار أنّه نجس وله حالة غیر حالتی الإیمان والکفر والمحکی عن عبارة الصدوق أیضاً: عدم جواز التوضّؤ بسؤره، فلم یبقَ مع الحلیّ روایة تدلّ علی کفره، ولا فتوی یوافقه إلّا علم الهدی، فکیف ینفی الخلاف؟ ثمّ إنّ الأخبار فی مجازاة ولد الزنا مختلفة، والذی یحصل من الجمع بین مجموعها: أنّه لا یدخل الجنّة ولا یعذّب فی النار إن لم یعمل عملًا موجباً له».

3 - مسالک الأفهام إلی تنقیح شرائع الإسلام؛ ج 14، ص: 222:

«وعلّله ابن إدریس بأن ولد الزنا کافر، محتجّا بالإجماع، فمن ثمَّ لا تقبل شهادته کغیره من الکفّار. والدعوی للحکم والإجماع ممنوعان».

4 - مستند الشیعة فی أحکام الشریعة؛ ج 1، ص: 219:

«والأظهر الأشهر: طهارته، للأصل. وعن الصدوق والسید والحلّی نجاسته. وفی المعتبر عن بعض الأصحاب الإجماع علیها، لروایتی حمزة

ص:104

بن أحمد وابن أبی یعفور المتقدمتین فی غسالة الحمام، والمرویات فی عقاب الأعمال وثواب الأعمال، والمحاسن، والعلل.

[الأولیان]: «إنّ نوحا حمل فی السفینة الکلب والخنزیر، ولم یحمل فیها ولد الزنا».

والثالثة: «لا خیر فی ولد الزنا، ولا فی بشره، ولا فی شعره، ولا فی لحمه، ولا فی دمه، ولا فی شیء منه».

والرابعة: وفیها مخاطبا له یوم القیامة: «وأنت رجس، ولن یدخل الجنة إلّا طاهر».

ومرسلة الوشاء: «کره سؤر ولد الزنا، والیهودی، والنصرانی، وکل ما خالف الإسلام». فإن المراد بالکراهة فیها الحرمة، بقرینة البواقی لئلّا یلزم استعمال اللفظ فی الحقیقة والمجاز.

مع أن سیاقها یدلّ علی مخالفته الإسلام، فیکون کافرا، کما تدلّ علیه أیضا استفاضة الأخبار «بأنّه لا یدخل الجنة إلّا من طابت ولادته» و «بأنّ دیته کدیة الیهودی والنصاری» وهذا وجه آخر لنجاسته.

ویجاب عن الروایتین: بأنهما تنفیان الطهوریة دون الطهارة، ولا تلازم بینهما کما مرّ.

و الطهارة المنفیة فی ثانیتهما غیر ما یوجب انتفاؤه النجاسة قطعا، لنفیها عن سبعة آبائه.

ص:105

وعن الروایات الأربع: بعدم الدلالة، لأن حمل الکلبین دونه لمطلوبیة بقاء نوعهما دون نوعه، لا لکونه أنجس منهما.

و نفی الخیر لا یثبت النجاسة.

وثبوت الرجسیة أو نفی الطهارة عنه یوم القیامة لا یدلّ علیه فی الدنیا، مع أن کون الرجس والطهارة بالمعنی المفید هنا لغة غیر ثابت.

وعن المرسلة: بأن الکراهة غیر الحرمة، وذکر البواقی لا یثبت إرادتها، لجواز إرادة القدر المشترک الذی هو معناها اللغوی. ودلالة سیاقها علی کفره ممنوعة.

وعدم دخوله الجنة - لو سلّم وخلا ما یدلّ علیه عن المعارض - لا یستلزم الکفر، إذ غایته عدم الإیمان، وقد أثبت بعضهم له الواسطة. کما لا یستلزمه کون دیته کدیة الکافر لو سلّم، مع أنّ نجاسة کل کافر ممنوعة کما مر».

المقام الثانی:

الاخبار: وهی طوائف تدل علی کفره:

منها: «ان عمله لا یقبل ولا تطیب ذاته ابدا»:

وفی هذه الطائفة روایات منها:

1 - المحاسن (للبرقی)؛ ج 1، ص: 108 «موثقة زُرَارَةَ قَالَ

ص:106

سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ علیه السلام یَقُولُ لَا خَیْرَ فِی وَلَدِ الزِّنَا ولَا فِی بَشَرِهِ ولَا شَعْرِهِ ولَا فِی لَحْمِهِ ولَا فِی دَمِهِ ولَا فِی شَیْ ءٍ مِنْهُ یَعْنِی وَلَدَ الزِّنَا» (1).

وَ فِی رِوَایَةِ أَبِی خَدِیجَةَ عَنْ أَبِی عَبْدِالله علیه السلام، قَالَ: «إ ِنْ کَانَ أَحَدٌ مِنْ أَوْلَادِ الزِّنَا نَجَا لَنَجَا سَائِحُ بَنِی إِسْرَائِیلَ فَقِیلَ لَهُ ومَا سَائِحُ بَنِی إِسْرَائِیلَ قَالَ کَانَ عَابِداً فَقِیلَ لَهُ إِنَّ وَلَدَ الزِّنَا لَا یَطِیبُ أَبَداً ولَا یَقْبَلُ الله مِنْهُ عَمَلًا قَالَ فَخَرَجَ یَسِیحُ بَیْنَ الْجِبَالِ ویَقُولُ مَا ذَنْبِی»(2).

تقریب الاستدلال:

ومعنی انه لا خیر فیه ان اعماله لا تقبل ولا تطیب وهذا لیس الا لعدم ایمانه نظیر ما ورد انه لا یحبنا الا طیب الولادة کما ذکرنا.

ومعنی ذلک انه فاقد لشرطیة الایمان. بل هو اسوا حالا من المستضعف اذ ان الأخیر یمتحن فان امن ادخل الجنه اما ابن الزنا فلا.

ویعضد ان دیته اقل من ابن الحلال ان الروایات عبرت عنه انه لا خیر فیه.

ویدل أیضا انه لا حرمة مالیة فیه فیناسب الروایات القائلة ان دیته بمقدار ما انفق علیه فان الدیة لا لاجل ذاته بل لاجل من تولی عیلولته.

منها: ما دل علی نجاسة سوره:

ص:107


1- (1) المحاسن: ج 1، ص 108.
2- (2) وسائل الشیعة: ج 20 ص 443.

وهذه الطائفة فیها روایات منها:

1 - الکافی (ط - الإسلامیة)؛ ج 3، ص: 11:

عن الْوَشَّاءِ عَمَّنْ ذَکَرَهُ عَنْ أَبِی عَبْدِ الله علیه السلام: «أَنَّهُ کَرِهَ سُؤْرَ وَلَدِ الزِّنَا وسُؤْرَ الْیَهُودِیِّ والنَّصْرَانِیِّ والْمُشْرِکِ وکُلِّ مَا خَالَفَ الْإِسْلَامَ وکَانَ أَشَدَّ ذَلِکَ عِنْدَهُ سُؤْرُ النَّاصِبِ».

2 - الکافی (ط - الإسلامیة)؛ ج 3، ص: 14:

عَنِ ابْنِ أَبِی یَعْفُورٍ عَنْ أَبِی عَبْدِالله علیه السلام قَالَ: «قَالَ: لَا تَغْتَسِلْ مِنَ الْبِئْرِ الَّتِی تَجْتَمِعُ فِیهَا غُسَالَةُ الْحَمَّامِ فَإِنَّ فِیهَا غُسَالَةَ وَلَدِ الزِّنَا وهُوَ لَا یَطْهُرُ إِلَی سَبْعَةِ آبَاءٍ وفِیهَا غُسَالَةَ النَّاصِبِ وهُوَ شَرُّهُمَا».

3 - وسائل الشیعة؛ ج 1، ص: 218: «عَنْ حَمْزَةَ بْنِ أَحْمَدَ عَنْ أَبِی الْحَسَنِ الْأَوَّلِ علیه السلام قَالَ: سَأَلْتُهُ أَوْ سَأَلَهُ غَیْرِی عَنِ الْحَمَّامِ - قَالَ ادْخُلْهُ بِمِئْزَرٍ وغُضَّ بَصَرَکَ - ولَا تَغْتَسِلْ مِنَ الْبِئْرِ الَّتِی یَجْتَمِعُ فِیهَا مَاءُ الْحَمَّامِ - فَإِنَّهُ یَسِیلُ فِیهَا مَا یَغْتَسِلُ بِهِ الْجُنُبُ - ووَلَدُ الزِّنَا والنَّاصِبُ لَنَا أَهْلَ الْبَیْتِ وهُوَ شَرُّهُمْ».

ومنها: انه لا تقبل شهادته ولا یصلی خلفة ولا یولی القضاء:

وهذا قد دلت علیه الروایات واتفقت علیه کلمات الاصحاب لاشتراط طهارة المولد فیها.

ص:108

ففی کل مورد اشترط فیه العداله لا یجتزی بابن الزنا.

وقد یقال ان هذا یدل علی فسقه فقط لا علی عدم ایمانه واسلامه؟

فیقال: ان الحکم بعدم عدالته او عدم الاجتزاء فی مواطن اشتراط العدالة لیس بموجب بروز فسق عملی منه بل بمجرد انه ابن زنا, وهذا انسب لسببیة عدم ایمانه او عدم تمامیة ایمانه نظیر المخالف او المستضعف انه لا یحکم بعدالته لعدم تحقق الایمان منه وان لم یبرز من المستضعف الفسق العملی.

ومن هذه الروایات:

1 - وسائل الشیعة؛ ج 27، ص: 375:

مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِالله علیه السلام: «لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ وَلَدِ الزِّنَا»(1).

2 - الخلاف؛ ج 1، ص: 561:

و روی أبو بصیر عن أبی عبدالله علیه السلام قال: «خمسة لا یأمون الناس علی کل حال: المجذوم، والأبرص، والمجنون، وولد الزنا، والأعرابی»(2).

منها: ما دل علی انه اسوا حالا من الکلب والخنزیر:

ص:109


1- (1) وسائل الشیعة: ج 27، ص 375.
2- (2) الخلاف: ج 1، ص 561.

وفی ذلک روایات منها:

1 - وسائل الشیعة؛ ج 27، ص: 377:

عَنْ إِبْرَاهِیمَ عَنْ أَبِی عَبْدِالله علیه السلام قَالَ: «إِنَّ نُوحاً حَمَلَ الْکَلْبَ فِی السَّفِینَةِ ولَمْ یَحْمِلْ وَلَدَ الزِّنَا»(1).

2 - الکافی (ط - الإسلامیة)؛ ج 5، ص: 355 زُرَارَةَ بْنِ أَعْیَنَ عَنْ أَبِی جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: «سَمِعْتُهُ یَقُولُ لَا خَیْرَ فِی وَلَدِ الزِّنَا ولَا فِی بَشَرِهِ ولَا فِی شَعْرِهِ ولَا فِی لَحْمِهِ ولَا فِی دَمِهِ ولَا فِی شَیْ ءٍ مِنْهُ عَجَزَتْ عَنْهُ السَّفِینَةُ وقَدْ حُمِلَ فِیهَا الْکَلْبُ والْخِنْزِیرُ»(2).

3 - المحاسن (للبرقی)؛ ج 1، ص: 185: «عَنْ أَبِی بَصِیرٍ لَیْثٍ الْمُرَادِیِّ عَنْ أَبِی عَبْدِالله علیه السلام قَالَ: «إِنَّ نُوحاً حَمَلَ فِی السَّفِینَةِ الْکَلْبَ والْخِنْزِیرَ ولَمْ یَحْمِلْ فِیهَا وَلَدَ الزِّنَاءِ وإِنَّ النَّاصِبَ شَرٌّ مِنْ وَلَدِ الزِّنَاءِ»(3).

وهذه الروایات دالة علی عدم ایمانه بل اسوا من المسلم المستضعف والا فان الأخیر لا یقال له انک اسوا من الکلب والخنزیر, نعم الناصب شر منه, وهذا دال علی عدم ایمانه وانه کالمنتحل للاسلام وانه اسوا من المستضعف الذی هو مسلم ظاهراً.

ص:110


1- (1) وسائل الشیعة: ج 27، ص 377.
2- (2) الکافی: ج 5، ص 355.
3- (3) المحاسن: ج 1، ص 185.

وهذا یقوی ان دیته لیست کالمستضعف.

منها: ان ابن الزنا لا یدخل الجنه:

وفیها روایات منها:

1 - المحاسن (للبرقی)؛ ج 1، ص: 139:

المعتبرة الی الحسن بن راشد عن شریس الوابشی عن سَدِیرٍ الصیرفی قالَ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ علیه السلام: «مَنْ طَهُرَتْ وِلَادَتُهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ»(1).

2 - المحاسن (للبرقی)؛ ج 1، ص: 139:

معتبرة عَبْدِ الله بْنِ سِنَانٍ عَنْ أَبِی عَبْدِ الله علیه السلام: «قَالَ خَلَقَ الله الْجَنَّةَ طَاهِرَةً مُطَهَّرَةً لَا یَدْخُلُهَا إِلَّا مَنْ طَابَتْ وِلَادَتُهُ»(2).

3 - الفصول المهمة فی أصول الأئمة - تکملة الوسائل؛ ج 3، ص: 265: مرفوعة مُحَمَّدِ بْنِ سُلَیْمَانَ الدَّیْلَمِیِّ، عَنْ أَبِیهِ رَفَعَ الْحَدِیثَ إِلَی الصَّادِقِ قَالَ: «یَقُولُ وَلَدُ الزِّنَا: یَا رَبِّ مَا ذَنْبِی؟ فَمَا کَانَ لِی فِی أَمْرِی صُنْعٌ، قَالَ: فَیُنَادِیهِ مُنَادٍ فَیَقُولُ: أَنْتَ شَرُّ الثَّلَاثَةِ، أَذْنَبَ وَالِدَاکَ فَنَبَتَّ عَلَیْهِمَا وأَنْتَ رِجْسٌ، ولَنْ یَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا طَاهِرٌ»(3).

4 - المحاسن (للبرقی)؛ ج 1، ص: 149:

ص:111


1- (1) المحاسن: ج 1، ص 139.
2- (2) المحاسن: ج 1، ص 139.
3- (3) الفصول المهمة: ج 3، ص 265.

مصحح أَیُّوبَ بْنِ حُرٍّ عَنْ أَبِی بَکْرٍ قَالَ: «کُنَّا عِنْدَهُ ومَعَنَا عَبْدُ الله بْنُ عَجْلَانَ فَقَالَ عَبْدُ الله بْنُ عَجْلَانَ مَعَنَا رَجُلٌ یَعْرِفُ مَا نَعْرِفُ ویُقَالُ إِنَّهُ وَلَدُ زِنًا فَقَالَ مَا تَقُولُ فَقُلْتُ إِنَّ ذَلِکَ لَیُقَالُ لَهُ فَقَالَ إِنْ کَانَ ذَلِکَ کَذَلِکَ بُنِیَ لَهُ بَیْتٌ فِی النَّارِ مِنْ صَدْرٍ یُرَدُّ عَنْهُ وَهَجُ جَهَنَّمَ ویُؤْتَی بِرِزْقِهِ»(1).

5 - قرب الإسناد (ط - الحدیثة)؛ ص: 25:

معتبرة عَبْدِ الله بْنِ مَیْمُونٍ الْقَدَّاحِ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِیهِ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَی عَلِیٍّ علیه السلام فَقَالَ: جَعَلَنِیَ الله فِدَاکَ، إِنِّی لَأُحِبُّکُمْ أَهْلَ الْبَیْتِ. قَالَ: وکَانَ فِیهِ لِینٌ. قَالَ: فَأَثْنَی عَلَیْهِ عِدَّةٌ. فَقَالَ لَهُ: کَذَبْتَ، مَا یُحِبُّنَا مُخَنَّثٌ، ولَا دَیُّوثٌ، ولَا وَلَدُ زِنًا، ولَا مَنْ حَمَلَتْ بِهِ أُمُّهُ فِی حَیْضِهَا. قَالَ: فَذَهَبَ الرَّجُلُ، فَلَمَّا کَانَ یَوْمُ صِفِّینَ قُتِلَ مَعَ مُعَاوِیَةَ».

وغیرها من الروایات.

وهذه الروایات مستفیضة فی مفاد عدم دخول ابن الزنا الجنة وعلی تقدیر صلاحه نادرا فلا یعذب فی النار وان دخلها.

ویتحصل من هذا المفاد عدم تحقق الایمان منه حقیقة وان تشدق به لسانا او میولا وخطورا الا انه لا یکون ایمانا فی الأعماق واللب بل صوریا.

ص:112


1- (1) المحاسن: ج 1، ص 149.

ولک ان تقول انه لو تحقق الایمان منه فلا یکون ایمانا مستقرا.

وعن الشیخ البهائی فی شرح الأربعین حمل مفاد الاخبار أعلاه علی حرمانه الجنه مدة طویلة او علی حرمانه لطبقات خاصة من الجنة.

وحمله هذا اعتراف بنقص الایمان وعدم تحقق تمامیته فیه.

الثانی: طوائف تدل علی الحکم باسلامه ظاهرا:

منها:

1 - موثقة ابْنِ أَبِی یَعْفُورٍ قَالَ قَالَ أَبُو عَبْدِ الله علیه السلام: «إِنَّ وَلَدَ الزِّنَا یُسْتَعْمَلُ إِنْ عَمِلَ خَیْراً جُزِئَ بِهِ وإِنْ عَمِلَ شَرّاً جُزِئَ بِهِ»(1).

وشرح الروایة کل من صاحب البحار والمرآة:

قال فی مرآة العقول فی شرح أخبار آل الرسول؛ ج 26، ص: 194:

«قوله علیه السلام: «إنْ عمل خیراً جُزی به» الظاهر أن المراد أنه لا یحکم بکفره بل یؤمر بالأعمال فإن عمل خیرا یثاب علیه، وإن عمل شرا یعاقب علیه کما هو المشهور بین الأصحاب، وهذا لا ینافی ما یظهر من بعض الأخبار أنه یفعل باختیاره ما یستوجب النار، إذ هذا حکم ظاهر حاله، وذاک بیان ما یؤول إلیه أمره، وعلی مذهب من قال - کالسید المرتضی رحمه الله - أنه بحکم الکفار وإن لم یظهر منه ما یوجب کفره، یمکن

ص:113


1- (1) قرب الإسناد: ص 25.

أن یحمل الجزاء علی الأجر المنقطع الذی یکون للکفار أیضا لا علی الثواب الدائم، وقد سبق الکلام فیه فی شرح کتاب الطهارة).

قال فی بحار الأنوار (ط - بیروت)؛ ج 5؛ ص 288:

«أقول یمکن الجمع بین الأخبار علی وجه آخر یوافق قانون العدل بأن یقال لا یدخل ولد الزنا الجنة لکن لا یعاقب فی النار إلا بعد أن یظهر منه ما یستحقه ومع فعل الطاعة وعدم ارتکاب ما یحبطه یثاب فی النار علی ذلک ولا یلزم علی الله أن یثیب الخلق فی الجنة ویدل علیه خبر عبد الله بن عجلان ولا ینافیه خبر ابن أبی یعفور إذ لیس فیه تصریح بأن جزاءه یکون فی الجنة وأما العمومات الدالة علی أن من یؤمن بالله ویعمل صالحا یدخله الله الجنة یمکن أن تکون مخصصة بتلک الأخبار وبالجملة فهذه المسألة مما قد تحیر فیه العقول وارتاب به الفحول والکف عن الخوض فیها أسلم ولا نری فیها شیئا أحسن من أن یقال الله أعلم».

یتحصل من کلام المجلسی عدم منافاة هذه الروایة للطائفة السابقة کما لا یخفی علی اللبیب.

2 - الکافی (ط - الإسلامیة)؛ ج 7، ص: 62:

صحیحة عَمَّارِ بْنِ مَرْوَانَ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِی عَبْدِ الله علیه السلام: «إِنَّ أَبِی حَضَرَهُ الْمَوْتُ فَقِیلَ لَهُ أَوْصِ فَقَالَ هَذَا ابْنِی یَعْنِی عُمَرَ فَمَا صَنَعَ فَهُوَ

ص:114

جَائِزٌ فَقَالَ لَهُ أَبُو عَبْدِ الله علیه السلام فَقَدْ أَوْصَی أَبُوکَ وأَوْجَزَ قُلْتُ فَإِنَّهُ أَمَرَ لَکَ بِکَذَا وکَذَا فَقَالَ أَجْرِهِ قُلْتُ وأَوْصَی بِنَسَمَةٍ مُؤْمِنَةٍ عَارِفَةٍ فَلَمَّا أَعْتَقْنَاهُ بَانَ لَنَا أَنَّهُ لِغَیْرِ رِشْدَةٍ فَقَالَ قَدْ أَجْزَأَتْ عَنْهُ إِنَّمَا مَثَلُ ذَلِکَ مَثَلُ رَجُلٍ اشْتَرَی أُضْحِیَّةً عَلَی أَنَّهَا سَمِینَةٌ فَوَجَدَهَا مَهْزُولَةً فَقَدْ أَجْزَأَتْ عَنْهُ» (1).

علق علی الروایة:

1 - قال فی الحدائق: أقول: فیه إشارة إلی کفر ابن الزنا کما هو أحد القولین.

2 - روضة المتقین فی شرح من لا یحضره الفقیه؛ ج 11، ص: 138.

أی کان ولد زناء ویظهر منه أن ولد الزنا لیس بمؤمن کما یظهر من التمثیل ویمکن حمله علی نفی الکمال.

الحاصل من دلالة الروایة انها اقرب دلالة علی نفی الایمان منها الی اثباته. بل قد تکون نصا فی المطلوب.

ان ابن الزنا محکوم بظاهر الإسلام ولیس مسلم حقیقة نظیر المخالف الذی هو منتحل للاسلام.

و التمسک بالشهادتین اعم من الحکم بالإسلام والانتحال کما مر فی اسلام المخالف وان کان الأصل العمل بظاهر الإقرار بالشهادتین.

ص:115


1- (1) الکافی: ج 7، ص 62.

فمجرد الإقرار بالشهادتین ظاهراً لا یکفی فی ترتیب اثار القصاص والقود بل لابد من ضمیمة باقی الشروط کالکفائة فی الدین.

ان قلت:

ان ابن الزنا لو ادرک التمییز والبلوغ وتشهد الشهادتین او الشهادات الثلاثة فهل یرفع الید عن ظاهر الشهادتین بالحکم باسلامه او ظاهر الشهادات الثلاثة عن الحکم بظاهر ایمانه لاسیما وان بعض الاحتمالات ان ایمانه مستودع فغایة الامر الحکم باسلامه وایمانه فعلیا مالم یبرز منه ما یخرجه من الإسلام والایمان فغایة الامر ان عاقبة عمره یسلب عنه الایمان لا انه فعلا مسلوب الایمان.

قلت:

ان عموم الإقرار بالشهادتین او الثلاثة وان کان مقتضی القاعدة ترتیب اثار الإسلام والایمان فی الظاهر بغض النظر عن حقیقة الواقع ومن ثم ذهب مشهور المتاخرین الی ذلک وان الروایات الواردة حول حقائق القلوب ناظرة الی أحوال الجزاء والحساب الاخروی او تجسم الاعمال البرزخیة لا الی الاثار والاحکام الفقهیة الدنیویة الا ان ورود جملة من طوائف الروایات فی جملة من الاحکام الفقهیة مما یتوقف علی الایمان والعدالة کعدم امامته للجماعة وعدم قبول شهادته وعدم تولیه القضاء والا المناصب الشرعیة الأخری وکون دیته کدیة الذمی

ص:116

ونجاسة غسالته وان حمل علی النجاسة بدرجة الکراهة وعدم التوارث وغیرها من الاحکام لیست أحوال اخرویة بل اثار فقهیة دنیویة منوطة بالایمان والعدالة فاذا انتفت کان ذلک مقتضیا اما لنفی الموضوع او لکونه حالة متوسطة بین النفی والاثبات, نظیر ما قرره مشهور القدماء فی المخالف بنفس التقریب, فالجمع بین مقتضی قاعدة الإقرار بالشهادتین او الثلاثة مع هذه الأدلة الفقهیة لجملة من الاحکام هو الحاقة ببعض احکام الإسلام انتحالاً لا اندراجاً فی الموضوع بلحاظ کل الاثار کما فی المستضعف مثلاً.

وبعبارة أخری: انه ظاهر اقراره بالشهادتین او الثلاثة مع مقتضی حسن الظاهر ما لو اتَّصف به هو ترتیب اثار ظاهر الإسلام والایمان والعدالة ولکن لابد ان نرفع الید عن ذلک بنفی هذه الجملة من الاحکام باتفاق النصوص والفتاوی.

وحینئذ لا محالة من رفع التدافع بین مقتضیات القواعد وطوائف الروایات بما قررنا مبسوطا تبعا لمشهور القدامی للمخالف وابن الزنا.

ص:117

ص:118

القاعدة السابعة:

قاعدة الجب

ص:119

ص:120

القاعدة السابعة: قاعدة الجب

اشارة

مر فی الجزء الأول من کتابنا الکلام عن قاعدة الجب وهنا نضیف أمور أخری:

ادلة القاعدة:

1 - للحدیث النبوی «الإسلام یجبُّ ما قبله ویهدم»(1).

2 - ونظیره ما رواه ابن شهرآشوب فِی المناقب فیمن طلّق زوجته فِی الشرک تطلیقة وفی الإسلام تطلیقتین قَالَ علی علیه السلام «هدم الإسلام ما کَانَ قبله هِیَ عندک عَلَی واحدة»(2).

3 - بَلْ لقوله تَعَالَی: (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهی فَلَهُ ما سَلَفَ

ص:121


1- (1) رواه القمی فی تفسیره فی ذیل الآیة 90 من الأسراء والآیة 93 من النساء وظاهر کلامه وکلام جملة من المُتقدّمین التسالم علی الحدیث، وذکره الرضی فی المجازات النبویة.
2- (2) البحار: 230/40 عن المناقب: 364/2.

وَ أَمْرُهُ إِلَی اللّهِ) (1).

4 - ومفهوم قوله تَعَالَی فِی آیة غافر(2) کَمَا تشیر إلیه روایة جعفر بن رزق الآتیة وأنَّ قاعدة الجبّ مفادها مسقطیة التوبة لما تَقَدَّمَ فِی مورد التوبة مِنْ الکفر الأصلی، وَقَدْ قرّب فِی المبسوط تقریب الاستدلال بالآیة أنَّ مفاد الآیة قبول إسلام الکافر کَمَا هُوَ مُقتضی أحادیث نبویة کثیرة وأنَّهم إذَا أسلموا وتشّهدوا الشهادتین عصموا دمائهم وأموالهم ومُقتضاه عدم ملاحقتهم وعدم مُتابعتهم فیما أتوه فِی حال الکفر مما یوجب هدر الدم، لکنَّ غایة هَذَا التقریر مفاد الآیة هُوَ سقوط ما أتوه فِی الأموال والدماء بعنوان الاحتراب بسبب عنوان الکفر وأمَّا ما أتوه مِنْ جهة تعامل فردی فلا صلة لَهُ بالدیانة وتبدلها.

وروی العیاشی عَنْ علی بن درّاج الأسدی قَالَ: دخلت عَلَی أبی جعفر علیه السلام فقلت لَهُ: إنِّی کُنْت عاملاً لبنی أُمیة فأصبت مالاً کثیراً فظننت أنَّ ذَلِکَ لا یحلّ لی، قَالَ: فسألت عَنْ ذَلِکَ غیری قَالَ: قلت: قَدْ سألت فَقِیلَ لی: أنَّ أهلک ومالک وَکُلّ شیء لک حرام؟ قَالَ: «لَیْسَ کَمَا قالوا لک: قلت جعلت فداک فلی توبة؟ قَالَ: نعم توبتک فِی کتاب اللة(قُلْ لِلَّذِینَ کَفَرُوا إِنْ یَنْتَهُوا یُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) ».

ص:122


1- (1) سورة البقرة: الآیة 275.
2- (2) سورة النساء: الآیة 2.

وفی القاعدة جهات:

الأولی: موارد تدعم القاعدة:

أنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِی جملة مِنْ الموارد جبّ ما سبق:

1 - کَمَا فِی الربا... (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهی فَلَهُ ما سَلَفَ وَ أَمْرُهُ إِلَی اللّهِ وَ مَنْ عادَ فَأُولئِکَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِیها خالِدُونَ ( 275) )(1).

2 - النکاح لزوجة الاب: (وَ لا تَنْکِحُوا ما نَکَحَ آباؤُکُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ کانَ فاحِشَةً وَ مَقْتاً )(2).

3 - الجمع بین الاختین: (وَ أَنْ تَجْمَعُوا بَیْنَ الْأُخْتَیْنِ إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللّهَ کانَ غَفُوراً رَحِیماً ( 23) )(3).

4 - ما ورد فی الصوم من صحاح کصحیح عیص بن القاسم قال: سألت أبا عبدالله عن قوم أسلموا فی شهر رمضان وقد مضی منه أیام هل علیهم أنء یصوموا ما مضی منه أو یومهم الذی أسلموا فیه؟ فقال: «لیس علیهم قضاء ولا یومهم الذی أسلموا فیه، إلا أنء یکونوا أسلموا قبل طلوع الفجر»(4).

ص:123


1- (1) سورة النساء: الآیة 23.
2- (2) سورة النساء: الآیة 22.
3- (3) سورة النساء: الآیة 23.
4- (4) وسائل الشیعة: ج 10، ص 328.

5 - ومفهوم روایة جعفر بن رزق جَعْفَرِ بْنِ رِزْقِ الله قَالَ: «قُدِّمَ إِلَی الْمُتَوَکِّلِ رَجُلٌ نَصْرَانِیٌّ - فَجَرَ بِامْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ وأَرَادَ أَنْ یُقِیمَ عَلَیْهِ الْحَدَّ فَأَسْلَمَ - فَقَالَ یَحْیَی بْنُ أَکْثَمَ قَدْ هَدَمَ إِیمَانُهُ شِرْکَهُ وفِعْلَهُ - وقَالَ بَعْضُهُمْ یُضْرَبُ ثَلَاثَةَ حُدُودٍ - وقَالَ بَعْضُهُمْ یُفْعَلُ بِهِ کَذَا وکَذَا - فَأَمَرَ الْمُتَوَکِّلُ بِالْکِتَابِ إِلَی أَبِی الْحَسَنِ الثَّالِثِ ع - وسُؤَالِهِ عَنْ ذَلِکَ - فَلَمَّا قَدِمَ الْکِتَابَ کَتَبَ أَبُو الْحَسَنِ ع - یُضْرَبُ حَتَّی یَمُوتَ - فَأَنْکَرَ یَحْیَی بْنُ أَکْثَمَ وأَنْکَرَ فُقَهَاءُ الْعَسْکَرِ ذَلِکَ - وقَالُوا یَا أَمِیرَ الْمُؤْمِنِینَ سَلْهُ عَنْ هَذَا - فَإِنَّهُ شَیْ ءٌ لَمْ یَنْطِقْ بِهِ کِتَابٌ - ولَمْ تَجِئْ بِهِ السُّنَّةُ - فَکَتَبَ أَنَّ فُقَهَاءَ الْمُسْلِمِینَ قَدْ أَنْکَرُوا هَذَا - وقَالُوا لَمْ تَجِئْ بِهِ سُنَّةٌ ولَمْ یَنْطِقْ بِهِ کِتَابٌ - فَبَیِّنْ لَنَا بِمَا أَوْجَبْتَ عَلَیْهِ الضَّرْبَ حَتَّی یَمُوتَ - فَکَتَبَ علیه السلام بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِیمِ فَلَمّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنّا بِاللّهِ وَحْدَهُ - وکَفَرْنا بِما کُنّا بِهِ مُشْرِکِینَ - فَلَمْ یَکُ یَنْفَعُهُمْ إِیمانُهُمْ لَمّا رَأَوْا بَأْسَنا - سُنَّتَ اللّهِ الَّتِی قَدْ خَلَتْ فِی عِبادِهِ - وخَسِرَ هُنالِکَ الْکافِرُونَ - قَالَ فَأَمَرَ بِهِ الْمُتَوَکِّلُ فَضُرِبَ حَتَّی مَاتَ»(1).

الجهة الثانیة: مورد القاعدة:

إنَّ ظاهر جملة کلمات الأصحاب أنَّ مورد القاعدة هُوَ حقّ الله تَعَالَی لا حق الناس وغالباً فِی العبادات لا فِی الواجبات لأبواب المعاملات، وأنَّ الساقط لَیْسَ خصوص العذاب والعقوبة، بَلْ کُلّ ما

ص:124


1- (1) تفسیر العیاشی: 55/2 - ح 47.

یوجب عَلَیْهِ کلفة مِنْ القضاء وغیره، نعم فِی عِدَّة مِنْ الکلمات أنَّهُ لا یرجع علیهم بما أتلفوه مِنْ نفس أو مال إذَا أسلموا، والظاهر إرادة ما أتلفوه فِی الحرب مَعَ المسلمین ولو فرادی بعنوان العدوان مِنْ منطلق المباینة فِی الدین. بَلْ عَنْ الدروس «وکذا جنایة حرب عَلَی حربی هدر إذَا أسلما».

کَمَا أنَّهُ ظاهر جملة مِنْ کلماتهم الاستدلال بالحدیث لعدم مؤاخذة ومتابعة ما وقع منهم مُطلقاً مِنْ تعامل محرم سواء مِنْ جهة نفس المعاملة أو العوض فیها أو المُتعاقد وَأنَّهُ نهی أنَّ یؤخذ بَعْدَ الإسلام بدخل الجاهلیة وحمل عَلَیْهِ النهی عَنْ استحلال قتال الأمین البیت الحرام مِنْ أسلم.

الجهة الثالثة: اشکال ودفعه:

ثمَّ أنَّ ههنا إشکال یعترض به عَلَی التکلیف بالقضاء وقاعدة الجبّ بأنه لَهُ أمَّا تکلیف بالمحال أو لغو لِإنَّهُ الکافر لا قدرة لَهُ عَلَی الامتثال مَعَ الکفر إلَّا بالإسلام وَمَعَ دخوله فِی الإسلام یجبّ دخوله القضاء فلا محصل للتکلیف بالقضاء.

ویردّه أنَّ ثمرة التکلیف هُوَ تأثمه مَعَ عدم دخوله فِی الإسلام وَهُوَ قادر عَلَی تخلیص نفسه مِنْ العقوبة ولو بتوسّط قاعدة الجبّ.

ص:125

ص:126

القاعدة الثامنة:

فی ثبوت القصاص علی کل جنایة

عدوانیة فی النفس او الطرف

ص:127

ص:128

القاعدة الثامنة: فی ثبوت القصاص علی کل جنایة عدوانیة فی النفس او الطرف

ادلة القاعدة:

ویدل علیها جملة من الادلة:

الدلیل الاول:

عمومات وإطلاقات أدلة القصاص:

قوله تعالی: (یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا کُتِبَ عَلَیْکُمُ الْقِصاصُ فِی الْقَتْلی الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ الْأُنْثی بِالْأُنْثی) (1).

وقوله تعالی: (وَ لَکُمْ فِی الْقِصاصِ حَیاةٌ) (2).

ص:129


1- (1) سورة البقرة: الآیة 178.
2- (2) سورة البقرة: الآیة 179.

وقوله تعالی: (وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِی حَرَّمَ اللّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِیِّهِ سُلْطاناً فَلا یُسْرِفْ فِی الْقَتْلِ إِنَّهُ کانَ مَنْصُوراً )(1).

وقوله تعالی: (وَ مَنْ یَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِیها وَ غَضِبَ اللّهُ عَلَیْهِ وَ لَعَنَهُ وَ أَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِیماً ( 93) (2).

وقوله تعالی: (وَ ما کانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ یَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاّ خَطَأً )(3).

وقوله تعالی: (وَ کَتَبْنا عَلَیْهِمْ فِیها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ الْعَیْنَ بِالْعَیْنِ وَ الْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَ الْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَ السِّنَّ بِالسِّنِّ وَ الْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ کَفّارَةٌ لَهُ )(4).

وقوله تعالی: (وَ لَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِکَ ما عَلَیْهِمْ مِنْ سَبِیلٍ )(5).

وقوله تعالی: (وَ جَزاءُ سَیِّئَةٍ سَیِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَ أَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَی اللّهِ) (6).

وقوله تعالی: (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَ الْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ

ص:130


1- (1) سورة الإسراء: الآیة 33.
2- (2) سورة النساء: الآیة 93.
3- (3) سورة الأحزاب: الآیة 36.
4- (4) سورة المائدة: الآیة 45.
5- (5) سورة الشوری: الآیة 41.
6- (6) سورة الشوری: الآیة 40.

اِعْتَدی عَلَیْکُمْ فَاعْتَدُوا عَلَیْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدی عَلَیْکُمْ) (1).

مفاد الآیات إجمالاً:

ان القاعدة الاولیة ثبوت القصاص فی کل الجنایات, فالخروج عن العموم یحتاج الی دلیل.

الدلیل الثانی: ما استدل به جملة من المتقدمین کما مر من ان اسقاط القصاص یفتح باب الفساد ویبطل حکمة القصاص. وان مجرد الشرکة لا تسقط القصاص والا لبطل حفظ الدم.

الدلیل الثالث: ما دل علی عصمة دم المسلم لا سیما فی قبال العدوان. فمع تحقق العدوان فالقصاص ثابت, فاذا بنی علی سقوط القصاص للزم بطلان تلک العصمة.

الدلیل الرابع: ما مر مبسوطا فی قاعدة التسبیب, فان مقتضاها تحمیل الامر - لاسیما اذا کان مکرها بالکسر - المسؤولیة, وخصوصا اذا کان الاکراه بدرجة الالجاء.

ص:131


1- (1) سورة البقرة: الآیة 194.

ص:132

القاعدة التاسعة

قاعدة: لا تقیة فی الدماء

ص:133

ص:134

القاعدة التاسعة: قاعدة: لا تقیة فی الدماء

لا ریب فی الحرمة لثبوت حرمة الدم, وان مقدار التهدید بالقتل او التوعد به غیر رافع للحرمة ولا مسوغ لارتکاب القتل لقاعدة لا تقیة فی الدماء.

أدلة القاعدة:

ان مفاد الروایات دال علی ذلک, والتی منها:

1 - صحیحة مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِی جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: «إِنَّمَا جُعِلَتِ التَّقِیَّةُ لِیُحْقَنَ بِهَا الدَّمُ - فَإِذَا بَلَغَ الدَّمَ فَلَیْسَ تَقِیَّةٌ»(1).

وهذه الروایة مرویة فی المحاسن ایضا.

2 - موثقة أَبِی حَمْزَةَ الثُّمَالِیِّ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ الله علیه السلام: «لَمْ تَبْقَ

ص:135


1- (1) وسائل الشیعة: ج 16، ص 234.

الْأَرْضُ إِلَّا وفِیهَا مِنَّا عَالِمٌ - یَعْرِفُ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ - قَالَ إِنَّمَا جُعِلَتِ التَّقِیَّةُ لِیُحْقَنَ بِهَا الدَّمُ - فَإِذَا بَلَغَتِ التَّقِیَّةُ الدَّمَ فَلَا تَقِیَّةَ - وایْمُ الله لَوْ دُعِیتُمْ لِتَنْصُرُونَا - لَقُلْتُمْ لَا نَفْعَلُ إِنَّمَا نَتَّقِی - ولَکَانَتِ التَّقِیَّةُ أَحَبَّ إِلَیْکُمْ مِنْ آبَائِکُمْ وأُمَّهَاتِکُمْ - ولَوْ قَدْ قَامَ الْقَائِمُ - مَا احْتَاجَ إِلَی مُسَاءَلَتِکُمْ عَنْ ذَلِکَ - ولَأَقَامَ فِی کَثِیرٍ مِنْکُمْ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ حَدَّ الله» (1).

بیان القاعدة فی نقاط:

النقطة الاولی: ان مفاد روایات القاعدة اعم من الاکراه بما دون القتل بل هی شاملة للإکراه بالقتل.

النقطة الثانیة: ان مفاد هذه الروایات لیس نفی التقیة فحسب بل حرمتها اذا بلغت الدم.

النقطة الثالثة: لا یدخل التوعد بالقتل لاجل الاکراه علی القتل فی باب التزاحم والتخییر فی احد الامرین وذلک لتنصیص الروایات علی حرمة قتل الغیر وانه لا یسوغ.

ومن ثم ذکر المشهور ان التوعد بالقتل لا یسوغ قتل الغیر.

ص:136


1- (1) المصدر: ص 235.

القاعدة العاشرة

حرمة دم المسلم وعِرضه وماله

ص:137

ص:138

القاعدة العاشرة: حرمة دم المسلم وعِرضه وماله

اشارة

وحاصل هذه القاعدة هو أنّ کلّ من تشهّد الشهادتین، کان مسلماً وحقن دمه وعرضه وماله.

هناک عدد من الأدلّة القرآنیّة والروائیّة تدلّ علی أنّ مَن تشهّد الشهادتین فقد حقن دمه وعِرضه وماله، ومن هذه الأدلّة:

الأدلّة علی القاعدة:

الدلیل الأوّل:

قوله تعالی: (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لکِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمّا یَدْخُلِ الْإِیمانُ فِی قُلُوبِکُمْ وَ إِنْ تُطِیعُوا اللّهَ وَ رَسُولَهُ لا یَلِتْکُمْ مِنْ أَعْمالِکُمْ شَیْئاً إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِیمٌ ( 14) (1).

ص:139


1- (1) سورة الحجرات: الآیة 14.

وهی واضحة الدلالة علی أنّ الإسلام عبارة عن الإقرار بالشهادتین، وبها تحقن الدماء والأعراض والأموال.

من الواضح أنّ الإسلام یختلف عن الإیمان، إذ الإیمان عبارة عن الیقین الثابت فی قلوب المؤمنین، المقارن للإقرار اللّسانیّ بالشهادتین، وبذلک یتّضح أنّ الإیمان أعلی مرتبة من الإسلام.

فقد روی الکلینی عن القاسم الصیرفی، قال: «سمعت أبا عبدالله علیه السلام یقول: الإسلام یحقن به الدم، وتؤدّی به الأمانة، وتستعمل به الفروج والثواب علی الإیمان»(1).

وروی سماعة، قال: «قلت لأبی عبدالله علیه السلام: أخبرنی عن الإسلام والإیمان أهما مختلفان؟

فقال: إنّ الإیمان یشارک الإسلام، والإسلام لا یشارک الإیمان.

فقلت: فصفهما لی.

فقال: الإسلام شهادة أن لا إله إلّاالله، والتصدیق برسول الله صلی الله علیه وآله، وبه حقنت الدماء، وعلیه جرت المناکح والمواریث، وعلی ظاهره جماعة الناس.

والإیمان: الهدی وما یثبت فی القلوب من صفة الإسلام، وما ظهر

ص:140


1- (1) الکافی: 20/2.

من العمل به، والإیمان أرفع من الإسلام درجة. إنّ الإیمان یشارک الإسلام فی الظاهر، والإسلام لا یشارک الإیمان فی الباطن وإن اجتمعا فی القول والصفة»(1).

وقال الفیض الکاشانی فی تفسیر الصافی: «الإیمان تصدیق مع ثقة وطمأنینة قلب، ولم یحصل لکم، ولکن قولوا أسلمنا، فإنّ الإسلام انقیاد، ودخول فی السلم، وإظهار الشهادة، وترک المحاربة یشعر به»(2).

قال الزمخشریّ - فی تفسیر الآیة المبارکة آنفة الذکر -:

«الإیمان: هو التصدیق مع الثقة وطمأنینة النفس، والإسلام:

الدخول فی السلم، والخروج من أن یکون حرباً للمؤمنین بإظهار الشهادتین، ألا تری إلی قوله تعالی: ولَمَّا یَدْخُلِ الْإِیمانُ فِی قُلُوبِکُمْ، فاعلم أنّ ما یکون من الإقرار باللسان من غیر مواطأة القلب فهو إسلام، وما واطأ فیه القلب اللسان فهو إیمان»(3).

وقال القرطبی فی تفسیره: «وحقیقة الإیمان التصدیق بالقلب، وأمّا الإسلام فقبول ما أتی به النبیّ صلی الله علیه وآله فی الظاهر، وذلک یحقن الدم»(4).

ص:141


1- (1) الکافی: 21/2.
2- (2) تفسیر الصافی: 55/5.
3- (3) الکشّاف: 376/4.
4- (4) الجامع لأحکام القرآن: 299/16.

وبنفس المضمون ما ورد فی (إرشاد الساری) للقسطلانی و (صفوة التفاسیر) للصابونی(1).

وقال ابن کثیر فی تفسیره: «وقد استفید من هذه الآیة الکریمة:

أنّ الإیمان أخصّ من الإسلام، کما هو مذهب أهل السنّة والجماعة - إلی أن قال: - فدلّ هذا علی أنّ هؤلاء الأعراب المذکورین فی هذه الآیة لیسوا بمنافقین؛ وإنّما هم مسلمون لم یستحکم الإیمان فی قلوبهم، فادّعوا لأنفسهم مقاماً أعلی ممّا وصلوا إلیه، فادِّبوا فی ذلک».

ثمّ قال: «ولو کانوا منافقین لعنّفوا وفضحوا، کما ذُکر المنافقون فی سورة براءة؛ وإنّما قیل لهؤلاء تأدیباً: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا ولکِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا ولَمَّا یَدْخُلِ الْإِیمانُ فِی قُلُوبِکُمْ، أی: لم تصلوا إلی حقیقة الإیمان بعد»(2).

وقال الطبری فی تفسیره لقوله تعالی: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا...): «أسلمنا: بمعنی دخلنا فی الملّة والأموال والشهادة الحقّ»(3).

وقال البیضاوی فی تفسیره: «إنّ الإسلام انقیاد ودخول فی السلم، وإظهار الشهادتین، وترک المحاربة»(4).

ص:142


1- (1) إرشاد الساری: 110/1. صفوة الصفوة: 203/3.
2- (2) تفسیر القرآن العظیم: 1607.
3- (3) جامع البیان: 166/13.
4- (4) تفسیر البیضاوی: 220/5.

الدلیل الثانی:

قوله تعالی: (وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقی إِلَیْکُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً) (1).

حیث نزلت هذه الآیة المبارکة - باتّفاق المسلمین - فی رجل من الکفّار أظهر الإسلام عندما غشیتهم خیول المسلمین فقتلوه.

والذی یستفاد من الآیة المبارکة أنّ من أظهر الإسلام، یحقن دمه ویکون مسلماً لا یجوز قتله، وإن لم یعلم منه الإیمان القلبیّ، فإنّ الله تعالی هو الذی یتولّی السرائر، فلا یجوز أن یقتل بحجّة أنّه لیس مؤمناً، أو لا یعلم الإیمان من ظاهره.

ولذا قال رسول الله صلی الله علیه وآله لقاتله - حینما اعتذر بأنّه نطق بالشهادتین خوفاً من السلاح -: «أفلا شققت عن قلبه»(2) ، أی لا یلزم من دخوله الإسلام لیحقن الدم والمال أن یکون مؤمناً، بل بمجرّد تشهّده بالشهادتین.

الدلیل الثالث: الروایات:

اشارة

هناک عدد وافر من روایات الفریقین تدلّ علی هذه القاعدة، ومن هذه الروایات:

ص:143


1- (1) سورة النساء: الآیة 94.
2- (2) سنن أبی داوود: 595/1، الحدیث 2643.

اولا: من طرق الشیعة:

1 - صحیحة حمران بن أعین، عن الباقر علیه السلام، قال: «الإسلام ما ظهر من قول أو فعل، وهو الذی علیه جماعة الناس من الفرق کلّها، وبه حقنت الدماء، وعلیه جرت المواریث، وجاز النکاح»(1).

2 - روایة سفیان بن السمط، عن الصادق علیه السلام، قال: «الإسلام هو الظاهر الذی علیه الناس، شهادة أن لا إله إلّاالله، وأنّ محمّداً رسول الله صلی الله علیه وآله، وإقام الصلاة، وأداء الزکاة، وحجّ البیت، وصیام شهر رمضان،...»(2).

3 - عن سماعة، عن الصادق علیه السلام، قال: «الإسلام شهادة أن لا إله إلّا الله، والتصدیق برسول الله صلی الله علیه وآله، به حقنت الدماء، وعلیه جرت المناکح والمواریث، وعلی ظاهره جماعة من الناس»(3).

4 - ما روی عن أبی عبدالله علیه السلام، حیث قال: «قال رسول الله صلی الله علیه وآله:

أیّها الناس، إنّی امرت أن اقاتلکم حتّی تشهدوا أن لا إله إلّاالله، وأنّی محمّد رسول الله، فإذا فعلتم ذلک حقنتم أموالکم ودماءکم إلّا بحقّها، وکان حسابکم علی الله»(4).

ص:144


1- (1) اصول الکافی: 26/2.
2- (2) اصول الکافی: 24/2.
3- (3) اصول الکافی: 45/2.
4- (4) المحاسن: 284.

5 - عن الباقر علیه السلام، قال - فی جوابه لشخص سأله عن الإیمان -: «الإیمان ما کان فی القلب، والإسلام ما کان علیه المناکح والمواریث، وتحقن به الدماء، والإیمان یشرک الإسلام، والإسلام لا یشرک الإیمان»(1).

6 - عن أمیر المؤمنین علیّ علیه السلام، قال: «مَن استقبل قبلتنا، وأحلّ ذبیحتنا، وآمن بنبیّنا، وشهد شهادتنا، دخل فی دیننا، أجرینا علیه حکم القرآن وحدود الإسلام...»(2).

ونحوها من الروایات(3).

ثانیا: من طرق السنّة:

1 - أخرج مسلم فی صحیحه عن أبی شیبة، قال: «بعثنا رسول الله صلی الله علیه وآله فی سریّة فصبّحنا الحرقات من جهینة، فأدرکت رجلًا فقال: لا إله إلّاالله، فطعنته، فوقع فی نفسی من ذلک، فذکرته للنبیّ صلی الله علیه وآله، فقال رسول الله صلی الله علیه وآله: أقال لا إله إلّاالله وقتلته؟

قال: قلت: یا رسول الله، إنّما قالها خوفاً من السلاح.

قال صلی الله علیه وآله: أفلا شققت عن قلبه حتّی تعلم أقالها أم لا، فما زال

ص:145


1- (1) المحاسن: 285.
2- (2) الکافی: 361/8.
3- (3) انظر اصول الکافی: 45/2.

یکرّرها حتّی تمنّیت أنّی أسلمت یومئذٍ.

قال: فقال سعد: وأنا والله لا أقتل مسلماً حتّی یقتله ذو البطین - یعنی اسامة -.

قال: قال رجل: ألم یقل الله: (وَ قاتِلُوهُمْ حَتّی لا تَکُونَ فِتْنَةٌ وَ یَکُونَ الدِّینُ کُلُّهُ) (1).

فقال سعد: قد قاتلنا حتّی لا تکون فتنة، وأنت وأصحابک تریدون أن تقاتلوا حتّی تکون فتنة» (2).

2 - کذلک أخرج مسلم فی صحیحه عن المقداد بن الأسود، أنّه أخبره أنّه قال: «یا رسول الله، أرأیت إن لقیت رجلًا من الکفّار فقاتلنی فضرب إحدی یدیّ بالسیف فقطعها، ثمّ لاذ منّی بشجرة فقال: أسلمت للَّه، أفاقتله یا رسول الله بعد أن قالها؟

قال رسول الله صلی الله علیه وآله: لا تقتله.

قال: فقلت: یا رسول الله، إنّه قد قطع یدی ثمّ قال بعد أن قطعها! أفأقتله؟

قال رسول الله صلی الله علیه وآله: لا تقتله، فإن قتلته فإنّه بمنزلتک قبل أن

ص:146


1- (1) سورة الأنفال: الآیة 39.
2- (2) صحیح مسلم: 67/1.

تقتله، وأنت بمنزلته قبل أن یقول کلمته التی قال»(1).

3 - أخرج البخاری فی صحیحه عن أنس بن مالک، قال: «قال رسول الله صلی الله علیه وآله: امرت أن اقاتل الناس حتّی یقولوا: لا إله إلّاالله، فإذا قالوها وصلّوا صلاتنا واستقبلوا قبلتنا وذبحوا ذبیحتنا، فقد حرمت علینا دماؤهم وأموالهم إلّابحقّها، وحسابهم علی الله»(2).

وفی لفظ آخر: «قال رسول الله صلی الله علیه وآله: امرت أن اقاتل الناس حتّی یقولوا: لا إله إلّاالله، فمن قال لا إله إلّاالله فقد عصم منّی نفسه وماله إلّا بحقّه، وحسابه علی الله»(3).

ونحو ذلک من الروایات التی وردت بهذا المضمون التی تدلّ علی أنّ مجرّد الإقرار بالشهادتین یدخل قائلها الإسلام، ویحقن دمه وماله(4).

ویستفاد من ذلک: أنّ تحقّق الإسلام یتوقّف علی الإقرار بالشهادتین وإن کان إقراراً صوریّاً، ولم یکن معتقداً به حقیقة وقلباً.

وهذه الروایات واضحة الدلالة علی أنّ ملاک صدق الإسلام هو الشهادتین، التی بها تحقن الدماء والأعراض والأموال.

ص:147


1- (1) صحیح مسلم: 66/1.
2- (2) صحیح البخاری: 102/1 و 103.
3- (3) صحیح البخاری: 110/2 و: 5/4 و 6.
4- (4) انظر صحیح مسلم: 38/1-40، باب تحریم قتل الکافر بعد أن قال لا إله إلّا الله.

الدلیل الرابع: سیرة النبی صلی الله علیه وآله:

اشارة

فهناک الکثیر من موارد سیرة النبیّ صلی الله علیه وآله تکشف بوضوح هذه الحقیقة، وهی أنّه صلی الله علیه وآله کان یتعامل مع کلّ مَن تشهّد الشهادتین معاملة المسلم، وإن لم یدخل الإیمان فی قلبه، بل وإن کان صلی الله علیه وآله عالماً بعدم کونهم جمیعاً معتقدین بالإسلام حقیقة، کما فی الآیات الکثیرة النازلة فی المنافقین، کما فی سورة المنافقین وسورة البراءة والبقرة، وغیرها من السور، ومع ذلک فکان النبیّ صلی الله علیه وآله والقرآن یتعامل معهم معاملة بقیّة المسلمین فی حقن دمهم وأموالهم وغیرها من أحکام ظاهر الإسلام، وکذلک قوله تعالی: (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنّا) (1).

حیث أنکر الله تعالی علی الأعراب دعواهم الإیمان القلبیّ مع إقرارهم بالشهادتین، ولکن مع ذلک کان النبیّ صلی الله علیه وآله یعاملهم معاملة المسلمین لإظهارهم الشهادتین.

ومن هذه الموارد:

1 - ما أخرجه ابن شهرآشوب فی مناقبه: عن ابن عبّاس، فی قوله تعالی: (وَ یَوْمَ یَعَضُّ الظّالِمُ) (2): «نزلت فی ابن أبی معیط وابیّ بن خلف، وکانا توأمین فی الخلّة، فقدم عقبة من سفره وأولم جماعة

ص:148


1- (1) سورة الفرقان: الآیة 27.
2- (2) سورة الحجرات: الآیة 14.

الأشراف، وفیهم رسول الله صلی الله علیه وآله، فقال النبیّ صلی الله علیه وآله: لا آکل طعامک حتّی تقول: لا إله إلّاالله، وأنّی رسول الله، فتشهّد الشهادتین، فأکل طعامه» (1).

ومحلّ الشاهد فی هذه الروایة أنّ رسول الله صلی الله علیه وآله حکم بإسلام الرجل، وعامله معاملة المسلمین من الطهارة ونحوها بمجرّد إظهار الشهادتین، ولذا شرط الرسول صلی الله علیه وآله علی الرجل بأنّه لا یأکل معه إلّا بعد التشهّد بالشهادتین، فرتّب صلی الله علیه وآله أحکام الإسلام علی الشهادتین فقط.

2 - عن النعمان بن سالم: «إنّ عمرو بن أوس أخبره أنّ أباه أوساً قال: إنّا لقعود عند النبیّ صلی الله علیه وآله وهو یقصّ علینا ویذکّرنا، إذ أتاه رجل فسارّه، فقال النبیّ صلی الله علیه وآله: اذهبوا فاقتلوه.

فلمّا ولّی الرجل دعاه رسول الله صلی الله علیه وآله فقال: هل تشهد أن لا إله إلّا الله؟

قال: نعم.

قال: اذهبوا فخلّوا سبیله، فإنّما امرت أن اقاتل الناس حتّی یقولوا: لا إله إلّاالله، فإذا فعلوا ذلک حرم علَیَّ دماؤهم وأموالهم»(2).

3 - ما تقدّم فی صحیح البخاری من قوله صلی الله علیه وآله: «إنّ صیانة الدماء

ص:149


1- (1) مناقب آل أبی طالب: 118.
2- (2) مسند أحمد بن حنبل: 8/4.

والأموال ونحوها من الآثار، مترتّبة علی إظهار الشهادتین، ولا یشترط فی ترتیب هذه الآثار الاعتقاد بالإسلام قلباً وحقیقة.

نعم، یشترط فی الإیمان، العقد القلبیّ، کما تقدّم.

إلی غیر ذلک من الشواهد علی السیرة المبارکة للنبیّ الأکرم صلی الله علیه وآله.

تنقیح موضوع:
ما یوجب الخروج عن الإسلام:

بعد أن تبیّن أنّ الدخول فی الإسلام یتحقّق بالإقرار بالشهادتین، ینبغی بیان ما یوجب الخروج عن الإسلام.

ویتحقّق الخروج عن الإسلام بأحد امرین علی تفصیل مر فی کتاب الطهارة وغیره:

الامر الاول: إنکار أحد اصول الإسلام الأساسیّة، کالتوحید والنبوّة والمعاد، سواء اکان إنکاره عن عمد أم جهل.

وأجمع المسلمون علی الحکم بکفر من أنکر هذه الاصول الثلاثة، وقد دلّت علی ذلک جملة وافرة من الآیات المبارکة.

أمّا بالنسبة إلی التوحید، فکقوله تعالی: (لَقَدْ کَفَرَ الَّذِینَ قالُوا إِنَّ اللّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلاّ إِلهٌ واحِدٌ وَ إِنْ لَمْ یَنْتَهُوا

ص:150

عَمّا یَقُولُونَ لَیَمَسَّنَّ الَّذِینَ کَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِیمٌ ( 73) (1).

وأمّا بالنسبة إلی أصل النبوّة، فکقوله تعالی: (وَ إِنْ کُنْتُمْ فِی رَیْبٍ مِمّا نَزَّلْنا عَلی عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا شُهَداءَکُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ کُنْتُمْ صادِقِینَ ( 23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النّارَ الَّتِی وَقُودُهَا النّاسُ وَ الْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْکافِرِینَ ( 24) (2).

وأمّا بالنسبة إلی أصل المعاد، فکقوله تعالی: (وَ الَّذِینَ کَفَرُوا بِآیاتِ اللّهِ وَ لِقائِهِ أُولئِکَ یَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِی وَ أُولئِکَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِیمٌ ( 23) )(3).

الامر الثانی:

إنکار ضروریّ من ضروریّات الإسلام، فیما إذا استلزم ذلک الإنکار، تکذیب النبیّ صلی الله علیه وآله وإنکار رسالته.

والمقصود من الضروریّ فی المقام: هو ما علم من الدین بالضرورة، بمعنی أنّ المسلم یعلم به بالبداهة لکونه مسلماً، ولا یحتاج إلی دلیل، کوجوب الصلاة والصوم والحجّ والزکاة، ونحوها.

وعلی هذا الأساس، فلو أنکر واحدة من ضروریّات الدین مع العلم بکون حکمها ضروریّاً فی الشریعة المقدّسة، وأنّ النبیّ صلی الله علیه وآله أتی

ص:151


1- (1) سورة المائدة: الآیة 73.
2- (2) سورة البقرة: الآیة 23-24.
3- (3) سورة العنکبوت: الآیة 23.

بها، حینئذٍ یکون إنکاره موجباً للارتداد والکفر، والخروج عن الإسلام، وهو فی الحقیقة تکذیب للنبیّ صلی الله علیه وآله وإنکار لرسالته، وهذا بخلاف ما إذا لم یستلزم إنکاره للضروریّ تکذیباً للنبیّ صلی الله علیه وآله، أو إنکاراً لرسالته الخاتمة، کما إذا أنکر ضروریّاً باعتقاد عدم ثبوته فی الشریعة الإسلامیّة، وأنّه لم یأت به النبیّ صلی الله علیه وآله، فإنّ إنکاره هذا لا یرجع إلی تکذیب النبیّ صلی الله علیه وآله أو إنکار رسالته، ولا یکون کفراً عند المتأخّرین من کلمات علماء جملة وافرة من المذاهب الإسلامیّة.

فعلی سبیل المثال: لو کان أحد فی أوّل إسلامه، وسئل عن الربا، فأنکر حرمته باعتقاد حلّیّته، فإنّه لا یکون إنکاره موجباً لکفره وارتداده، وإن کانت حرمة الربا من ضروریّات الدین لعدم استلزام إنکاره تکذیب النبیّ صلی الله علیه وآله أو إنکار رسالته.

وقد تقرّرت قاعدة حرمة المسلم دمه وعرضه وماله المنصوص علیها بألسنة متعدّدة، منها:

1 - عن النبیّ صلی الله علیه وآله، قال: «المسلم أخو المسلم، لا یحلّ دمه ولا ماله إلّامن طیبة نفسه»(1).

2 - عن زید الشحّام، عن أبی عبدالله الصادق علیه السلام، قال: «قال

ص:152


1- (1) انظر وسائل الشیعة: الباب 13 من أبواب العِشرة، کتاب الحجّ.

رسول الله صلی الله علیه وآله: لا یحلّ دم امرئ مسلم ولا ماله إلّابطیب نفسه» (1).

3 - عن أبی هریرة، عن رسول الله صلی الله علیه وآله، قال: «کلّ المسلم علی المسلم حرام، دمه وماله وعِرضه»(2).

ونحوها من الروایات التی بلغت حدّ التواتر، وهی واضحة الدلالة علی وجوب احترام دم المسلم وعِرضه وماله.

النتیجة:

ومن مجموع هذه الروایات یتّضح:

أنّ أدلّة حقن الدماء بالشهادتین قطعیّ لا ظنّی، ومن ثمّ فإنّ رفع الید عن هذا الدلیل القطعی لا بدّ أن یکون بدلیل قطعیّ، فلا یسوغ رفع الید عنها بدلیل ظنّیّ، ولا یسوغ التکفیر واستباحة الدماء لکلّ من تشهّد الشهادتین، بالاعتماد علی دلیل ظنّیّ؛ وذلک لما هو مقرّر فی قواعد المنهج الفقهی الذی یبحث فی اصول فقه الأحکام أنّ العموم القطعی ذی الحکم الخطیر آبّ عن التخصیص بالدلیل الظنّی.

وبعبارة أُخری: إنّ عموم الحکم بدخول الإسلام لکلّ من اعتنق الشهادتین، هذا العموم لم یقرّر بدلالة ظنّیّة بل بدلالة قطعیّة، فالحکم

ص:153


1- (1) الکافی: 273/7. من لا یحضره الفقیه: 17/4.
2- (2) صحیح مسلم: 1986/4.

قطعیّ.

مضافاً إلی أنّ ملاک الحکم والمصلحة والمفسدة المترتّبة علیه هی من الخطورة بمکان، والقاعدة تقتضی فی مثل ذلک قوّة الدلیل الدالّ علی الحکم، وهذه القاعدة أساسیّة مطّردة فی نظام معرفة الأحکام الشرعیّة، أی أنّ قوّة الدلیل لا بدّ أن تتناسب مع أهمّیّة الحکم، فلا یمکن أن ینصب الشارع دلیلًا متوسّطاً - فضلًا عن دونه - علی حکم خطیر مهمّ، بل لا بدّ من توفّر الداعی لنصب وبیان أدلّة قویّة توازی قوّة وأهمیّة الحکم.

والوجه فی اعتماد هذه القاعدة هو أنّ أهمّیّة الحکم لا بدّ أن تتناسب طردیّاً مع درجة قوّة الدلیل الذی سیق علیه؛ للتناسب الطردیّ فی الأهمیّة ودرجة خطورته.

ومن ثمّ کانت الأدلّة المقامة تکویناً وشرعاً علی اصول الدین، أکثر قوّة وبیاناً ودلالة من الأدلّة التی تقام علی الفروع، وکذلک أدلّة الأرکان فی الدین بالقیاس إلی أدلّة التفاصیل.

وعلی هذا الأساس، فإنّ عدم مراعاة هذه القاعدة فی منهاج وطریق معرفة الأحکام یؤدّی إلی الهرج والمرج فی الاستنتاج، وفی المعرفة الدینیّة، وفی طریقة التفکیر، ومن ثمّ یتسبّب فی الجرأة والاجتراء علی التکفیر واستباحة الدماء والتجاوز علی حرمات ومقدّسات الدین

ص:154

لمجرّد استدلال واستظهار ظنّیّ، ومن ثمّ حکم الفقهاء تبعاً للروایات أنّ الحدود تدرأ بالشبهات وذلک لخطورة حرمة الدماء فی المقاصد الشرعیّة، فلا یجترئ علیها بمجرّد إیهام ظنّیّ.

إذن درجة قدسیّة الأحکام إنّما تستعلم بحسب قوّة الدلیل وأهمّیّة غایة التشریع.

ومن ذلک نخلص إلی أنّ المجترئ علی المسلمین بتکفیرهم واستباحة دمائهم تحت ذریعة الغیرة والحمیّة الدینیّة، هو فعل فی الطرف النقیض من قوله وادّعائه الغیرة والحمیّة علی الدین؛ لأنّه بفعله هذا قد أخذ بمعول هدّام لتقویض الدین والملّة، إذ أنّ مقتضی قدسیّة الشهادتین هو الالتزام الشدید بآثارهما، لا الاستخفاف بمقتضاهما، والتعویل علی أمر ودلیل ظنّیّ وجعله الأساس فی الملّة والدین ممّا یعنی تغییر الملّة والدین من الشهادتین إلی ذلک الأصل الظنّیّ، وجعله المحور والمرکز بدل الشهادتین، وهذا من لوازم عدم مراعاة القاعدة المنهجیّة السابقة من جعل الظنّیّ فی مصاف درجة القطعی الیقینی، فإنّه یصاعد بالحکم الظنّیّ إلی مصاف الحکم القطعی الیقینی ممّا یجعله یکتسب آثار الحکم الیقینی من المرکزیّة والامومة مع أنّ الحکم الظنّیّ لیس شأنه إلّا الفرعیّة والتبعیّة. وهذا ممّا یبیّن خطورة تلک القاعدة وأنّها حافظة لمنظومة أحکام الدین عن الانفراط والتبدّل.

ص:155

ص:156

القاعدة الحادی عشرة:

ضرورة التمییز بین السیرة فی صدر الإسلام

ص:157

ص:158

القاعدة الحادی عشرة: ضرورة التمییز بین السیرة فی صدر الإسلام وبین سیرة بنی امیّة

اشارة

وتتمحور هذه القاعدة حول ضرورة التمییز بین السیرة فی صدر الإسلام وبین سیرة بنی امیّة وبنی العبّاس الدخیلة علی دین الإسلام، سواء علی الصعید الاعتقادیّ أم علی صعید قواعد الفقه السیاسیّ والاجتماعیّ والقضائیّ، وغیره من المجالات.

والمقصود من السیرة فی صدر الإسلام هو سیرة المسلمین قبل وبعد وفاة النبیّ صلی الله علیه وآله الجیل الأوّل من المهاجرین والأنصار.

فإنّ هناک فرقاً رئیسیّاً فی محاور وجوانب متعدّدة، یجب الترکیز علیها، وتنبیه عموم المسلمین تجاهها؛ لئلّا ینبذوا شعار سیرة الأوائل، وإن کان تلک الشعارات لم تتنجّز علی صعید الواقع بشکل حقیقیّ تامّ، إلّاأنّه علی الرغم من ذلک فهی تختلف وتتاقطع مع سیرة الأمویّین فی کثیر من المحاور المتعدّدة.

ص:159

الفروق الرئیسیّة بین السیرة فی صدر الإسلام وبین سیرة بنی امیّة:

الفارق الأوّل: فی طریق إقامة الحکم:

إنّ شعار سیرة الأوائل للخلافة کان اختیار الحاکم إمّا بالنصّ أو بالشوری، وهو یختلف ویتقاطع کثیراً مع سیرة الأمویّین الذین انتهجوا منهج الملکیّة الوراثیّة للحکم، للاستئثار بالسلطة، مضافاً إلی نهج الاستبداد فی ممارسة الحکم.

ومع الأسف نجد أنّ سیاسة بنی امیّة ونهجهم لا زال موجوداً بعینه وممارساً من قِبل کثیر من أنظمة الدول العربیّة منذ عهد الأمویّین إلی یومنا هذا.

الفارق الثانی: منهج النقد والرقابة للحاکم والحکم:

وهذا الأمر یعدّ من الامور التی سنّها رسول الله صلی الله علیه وآله فی عهده، حیث کان صلی الله علیه وآله یفتح الباب لاعتراض الناس ونقدهم ورقابتهم للولاة الذین ینصّبهم فی البلدان، کما یفتح المجال للشکاوی والاعتراضات التی یبدیها عموم الناس تجاه جهاز الحکم.

فعلی الرغم من عصمته صلی الله علیه وآله عن الخطأ، إلّا أنّه صلی الله علیه وآله أراد من سنّته لذلک هو معاونته ومناصرته فی مراقبة الجهاز البشری للحکم الذی

ص:160

یقوده وما یترتّب علیه من فوائد وثمرات مهمّة نافعة للمسلمین، من قبیل تفاعل الناس مع أنشطة الحکومة والحاکم وقیامهم بالمسؤولیّة، وکذا صیرورة عموم الناس عین مراقبة لاستقامة الذین ینتسبون إلی جهاز الحکم، وغیرها من الفوائد.

وهذه السنّة النبویّة مستمدّة من اصول قرآنیّة، کأصل الشوری والتشاور، لإدارة امورهم الخاصّة بهم دون الامور التی هی من شؤون الباری تعالی، کالنبوّة والإمامة، کما فی قوله تعالی:

(وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِیاءُ بَعْضٍ یَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ یَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْکَرِ وَ یُقِیمُونَ الصَّلاةَ وَ یُؤْتُونَ الزَّکاةَ وَ یُطِیعُونَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ أُولئِکَ سَیَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِیزٌ حَکِیمٌ ( 71) )(1) ، ونحوها من الآیات التی تشارکها فی المضمون ذاته، التی تؤکّد علی أهمّیّة مراقبة الجهاز الحاکم.

وهذا المنهج لم نجده فی سیرة بنی امیّة وبنی العبّاس.

الفارق الثالث: مشروعیّة طاعة السلطان الجائر:

من الواضح أنّ الشریعة الإسلامیّة أکّدت علی عدم جواز طاعة الحاکم الجائر، کما أشارت إلی ذلک جملة من النصوص القرآنیّة والروائیّة

ص:161


1- (1) سورة التوبة: الآیة 71.

المتظافرة، منها:

قوله تعالی: (وَ لا تَرْکَنُوا إِلَی الَّذِینَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّکُمُ النّارُ) (1).

وقوله: (وَ تَعاوَنُوا عَلَی الْبِرِّ وَ التَّقْوی وَ لا تَعاوَنُوا عَلَی الْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ )(2).

وقوله: (وَ لْتَکُنْ مِنْکُمْ أُمَّةٌ یَدْعُونَ إِلَی الْخَیْرِ وَ یَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) (3).

وعن رسول الله صلی الله علیه وآله، قال: «من رأی منکم سلطاناً جائراً، مستحلّاً لحرم الله، ناکثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله، یعمل فی عباد الله بالإثم والعدوان، ثمّ لم یغیّر بقول أو فعل، کان حقیقاً علی الله أن یدخله مدخله»(4).

وقال صلی الله علیه وآله: «لا طاعة لمخلوق فی معصیة الخالق»(5).

وهذه النصوص الشریفة تحدّد ضوابط طاعة وولایة الحاکم والوالی، والتی من أهمّها هو أن لا تتجاوز طاعة الله وطاعة رسوله بل فی الحقیقة یستفاد من النصوص الآنفة الذکر عدم ولایة للجائر، وعدم الطاعة له.

وفی قبال هذا الأصل العظیم من قواعد الدین، أسّس بنو امیّة ما

ص:162


1- (1) سورة هود: الآیة 113.
2- (2) سورة المائدة: الآیة 2.
3- (3) سورة آل عمران: الآیة 104.
4- (4) بحار الأنوار: 382/44.
5- (5) من لا یحضره الفقیه: 621/2.

یلغی هذا الأصل، وذهبوا إلی وجوب طاعة السلطان وإن کان جائراً، متذرّعین بحجّة أنّ السلطان ظلّ الله فی الأرض.

وأنّ طاعة السلطان واجبة، والخروج علیه مروق من الدین ما لم یظهر الکفر البواح (البیّن).

وقد أخرج السیوطی عدداً من روایاتهم فی هذا المقام، منها:

1 - «السلطان ظلّ الله فی الأرض، فمن أکرمه أکرمه الله، ومن أهانه أهانه الله».

2 - «السلطان ظلّ الله فی الأرض، یأوی إلیه کلّ مظلوم من عباده، فإن عدل کان له الأجر وکان علی الرعیّة الشکر، وإن جار أو حاف أو ظلم کان علیه الوزر وکان علی الرعیّة الصبر، وإذا جارت الولاة قحطت السماء، وإذا منعت الزکاة هلکت المواشی، وإذا ظهر الزنا ظهر الفقر والمسکنة».

3 - «السلطان ظلّ الله فی الأرض، یأوی إلیه الضعیف، وبه ینتصر المظلوم، ومن أکرم سلطان الله فی الدنیا أکرمه الله یوم القیامة».

4 - «السلطان ظلّ الله فی الأرض، فإذا دخل أحدکم بلداً لیس به سلطان فلا یقیمنّ به».

5 - «السلطان ظلّ الله فی الأرض، فمن غشّه ضلّ، ومن نصحه اهتدی».

ص:163

6 - «السلطان ظلّ الرحمن فی الأرض، یأوی إلیه کلّ مظلوم من عباده، فإن عدل کان له الأجر وعلی الرعیّة الشکر، وإن جار وحاف وظلم کان علیه الإصر وعلی الرعیّة الصبر».

7 - «السلطان العادل المتواضع ظلّ الله ورمحه فی الأرض، یرفع له عمل سبعین صدّیقاً».

وغیرها من الروایات(1).

وعلی ضوء ذلک قاموا بإلغاء وتحریم ملفّ المعارضة بکلّ درجاتها، وانتهجوا سیاسة الاستبداد، ومن ثمّ عمدوا إلی تثقیف الامّة علی الخنوع والخضوع والسبات وعدم المشارکة فی تحدید مصیرها.

وقد نجم جرّاء هذه السیاسة أمر خطیر، وهو تجییر وتوظیف علماء الدین کعلماء بلاط السلطة لخدمة سیاساتهم ومصالحهم، بدلًا من أن یکون العلماء حکّاماً علی السلاطین.

ومن ثمّ نتج من ذلک نهجٌ خطیر من تبعیّة بعض من یتسمّون بعلماء الدین، للحکومات والأنظمة، وفقدهم الاستقلالیّة، وهذا أمر خطیر ابتلیت به الامّة، بل هو الطامّة الکبری علی الدین؛ لأنّ العلماء بدل أن یقوموا بمهمّتهم الأساسیّة من حفظ الدین، أصبحوا یحفظون الأنظمة والحکومات ویغیّروا من الدین بما یخدم الحکّام والسلاطین

ص:164


1- (1) الجامع الصغیر: 69/2 و 70.

الظلمة.

ومن المؤسف جدّاً هو ما نجده فی عصرنا الحاضر من تبنّی واتّباع نهج بنی امیّة، کما نلمسه من بعض علماء الدین، وتبنّیهم لمشاریع الأنظمة والحکومات فی الأقطار الإسلامیّة لأجل تمریر مخطّطاتهم وأغراضهم السیاسیّة.

ومن أهمّ مخاطر هذه السیاسة هو منح علماء الدین فی بلاط السلطة، المشروعیّة لتبعیّة الأنظمة الإسلامیّة لأعداء الإسلام فی الغرب، ولو علی حساب ثوابت ومصالح الدین الحنیف، وهذا بدوره یشکّل خطراً کبیراً، لأنّه یؤدّی إلی طمس معالم الشریعة والفرائض والواجبات التی یحیی بها الدین.

الفارق الرابع: الموالاة للمسلمین دون الکافرین:

فی الوقت الذی فتح الإسلام المجال للمسلمین للتعاطف والتواصل مع الکافرین الذین لا یتحرّکون بشکل عدوانیّ ضدّ الإسلام والمسلمین بالقتال أو الفتنة، کما فی قوله تعالی: (لا یَنْهاکُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِینَ لَمْ یُقاتِلُوکُمْ فِی الدِّینِ وَ لَمْ یُخْرِجُوکُمْ مِنْ دِیارِکُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَیْهِمْ إِنَّ اللّهَ یُحِبُّ الْمُقْسِطِینَ ( 8) (1).

ص:165


1- (1) سورة الممتحنة: الآیة 8.

إلّا أنّه من جانب آخر شدّدت الشریعة الإسلامیّة علی عدم موالاة الکافرین الذین یتحرّکون بشکل عدوانیّ علی المسلمین، وقد تظافرت النصوص القرآنیّة والروائیّة علی ذلک.

منها قوله تعالی: (إِنَّما یَنْهاکُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِینَ قاتَلُوکُمْ فِی الدِّینِ وَ أَخْرَجُوکُمْ مِنْ دِیارِکُمْ وَ ظاهَرُوا عَلی إِخْراجِکُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَ مَنْ یَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِکَ هُمُ الظّالِمُونَ ( 9) )(1).

وقوله: (لا یَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْکافِرِینَ أَوْلِیاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِینَ) (2).

وقوله: (یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْکافِرِینَ أَوْلِیاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِینَ) (3).

وقوله: (یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّی وَ عَدُوَّکُمْ أَوْلِیاءَ تُلْقُونَ إِلَیْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ قَدْ کَفَرُوا بِما جاءَکُمْ مِنَ الْحَقِّ) (4).

وهذه النصوص القرآنیّة تبیّن طبیعة علاقة المسلمین مع الکافرین الذین یکیدون ویخطّطون ضدّ الإسلام، فمثل هذا الصنف من الکفّار لا بدّ أن تکون علاقة المسلمین معهم قائمة علی الحذر والیقظة، ولا یجوز التحالف معهم ضدّ المسلمین، کلّ ذلک لأجل عدم الانهزام

ص:166


1- (1) سورة الممتحنة: الآیة 9.
2- (2) سورة آل عمران: الآیة 28.
3- (3) سورة النساء: الآیة 144.
4- (4) سورة الممتحنة: الآیة 1.

والاستسلام أمام الأعداء؛ إذ أنّ طبیعة الموالاة تقتضی النصرة والمتابعة والمودّة لأعداء الدین، مضافاً إلی ما تحمله فی طیّاتها من الذوبان فی هویّة الکافرین وثقافتهم علی حساب الثقافة الدینیّة؛ لأنّ ذلک یؤدّی إلی إضعاف شعار الدین، وبالتالی یتسبّب فی إضعاف ومهانة المسلمین، وسیطرة الکافرین علیهم فی کلّ المجالات، وتمزیق الصفّ الإسلامیّ الواحد، کما فی قوله تعالی: (إِنَّ اللّهَ یُحِبُّ الَّذِینَ یُقاتِلُونَ فِی سَبِیلِهِ صَفًّا کَأَنَّهُمْ بُنْیانٌ مَرْصُوصٌ ( 4) (1) التی تؤکّد علی ضرورة ووجوب تراصّ صفوف المسلمین فی مواجهة الأعداء کالبنیان المرصوص الذی لا یمکن فیه الانشقاق والفرقة، لا سیّما وأنّ القتال لا ینحصر بالمواجهة العسکریّة، وإنّما هو شامل لکلّ مجالات المواجهة من الثقافیّة والسیاسیّة والاقتصادیّة، ونحوها.

وکذلک قوله تعالی: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّهِ وَ الَّذِینَ مَعَهُ أَشِدّاءُ عَلَی الْکُفّارِ رُحَماءُ بَیْنَهُمْ ) (2) التی تؤکّد علی ضرورة تلاحم المسلمین وصمودهم وثباتهم الجماعیّ فی مواجهة الأعداء، وأنّ أساس التعامل بینهم قائم علی أساس التراحم والتعاطف، والالفة والمحبّة.

إلّا أنّ بنی امیّة وبنی العبّاس قد نهجوا منهج الموالاة مع الکافرین ضدّ المسلمین بشکل سافر وواضح فی موالاتهم لأعداء

ص:167


1- (1) سورة الصَّف: الآیة 4.
2- (2) سورة الفتح: الآیة 29.

الإسلام، بل وصل الحال عند العبّاسیّین إلی قیام الخلیفة العبّاسی بإغراء المغول والتتر بالهجوم علی شمال طبرستان (شمال إیران) للإطاحة بالدولة الإسماعیلیّة(1).

وقد أوغل التتر والمغول فی سفک دماء المسلمین فی کلّ أرجاء مدن إیران، وفی ذلک الوقت قام قاضی القضاة العبّاسی فی بغداد بزیارة سرّیّة إلی المغول فی إیران لإغرائهم بالهجوم علی بغداد أیضاً.

والشیء المؤسف هو ما نلمسه بوضوح من وجود نهج بنی امیّة وبنی العبّاس لدی جملة من حکّام المسلمین فی عصرنا الراهن الذین أعلنوا موالاتهم للکافرین ضدّ المسلمین، علی الرغم من تشدید النهی القرآنی عن ذلک.

الفارق الخامس: استباحة المحرّمات:

وهذه السیاسة تبنّاها بنو امیّة بشکل ملحوظ وواضح، وهی سیاسة ترمی إلی إشاعة المنکرات والفواحش والفجور بین المسلمین، وبشکل رسمیّ معلن، ومدعوم من قِبل السلطات الحاکمة، لأجل تغطیة ممارسة الحکّام لنزواتهم وشهواتهم من دون اعتراض المسلمین، ومن دون أن یخدش ذلک بصلاحیّتهم فی الحکم.

ص:168


1- (1) من شواهد ذلک: انظر کتاب جوامع التاریخ للهمدانی.

وقد أشار إلی هذا النهج، الإمام الحسین وسیّد شباب أهل الجنّة علیه السلام حینما قال: «یزید شارب الخمور، ورأس الفجور، یدّعی الخلافة علی المسلمین، ویتآمر علیهم بغیر رضی منهم، مع قصر حلم، وقلّة علم، لا یعرف من الحقّ موطئ قدمیه، فاقسم بالله قسماً مبروراً، لجهاده علی الدین أفضل من جهاد المشرکین» (1).

وهذا النهج نجده الیوم بشکل واضح، مکرّس لدی الحکومات فی بلاد المسلمین، وهی سیاسة مدروسة من قِبل أعداء الإسلام؛ لأجل تمزیق المسلمین وإبعادهم عن دینهم الذی هو مصدر قوّتهم وعزّتهم، ومن ثمّ یفسح المجال لهم للسیطرة علی مقدّرات البلاد الإسلامیّة.

ص:169


1- (1) اللهوف فی قتلی الطفوف: 26 و 27.

ص:170

القاعدة الثانی عشرة:

مودة أهل البیت علیهم السلام ضرورة إسلامیّة

ص:171

برای ادامه مشاهده محتوای کتاب لطفا عبارت امنیتی زیر را وارد نمایید.

ص:

برای ادامه مشاهده محتوای کتاب لطفا عبارت امنیتی زیر را وارد نمایید.

ص:

برای ادامه مشاهده محتوای کتاب لطفا عبارت امنیتی زیر را وارد نمایید.

ص:

برای ادامه مشاهده محتوای کتاب لطفا عبارت امنیتی زیر را وارد نمایید.

ص:

برای ادامه مشاهده محتوای کتاب لطفا عبارت امنیتی زیر را وارد نمایید.

ص:

برای ادامه مشاهده محتوای کتاب لطفا عبارت امنیتی زیر را وارد نمایید.

ص:

برای ادامه مشاهده محتوای کتاب لطفا عبارت امنیتی زیر را وارد نمایید.

ص:

برای ادامه مشاهده محتوای کتاب لطفا عبارت امنیتی زیر را وارد نمایید.

ص:

برای ادامه مشاهده محتوای کتاب لطفا عبارت امنیتی زیر را وارد نمایید.

ص:

برای ادامه مشاهده محتوای کتاب لطفا عبارت امنیتی زیر را وارد نمایید.

ص:

ص:182

القاعدة الثالثة عشرة: قاعدة شوری الأمّة فی نظام الحکم

اشارة

ونستطیع أن نخلص إلی قاعدة مفادها تعمیم السلطة والقدرة والصلاحیات بنحو منتشر. وهذه القاعدة قد یعبّر عنها فی لسان النصوص «نبذ الاستئثار فی الولایات العامّة» فإنّ هناک مفاصل عدیدة فی قواعد النظام السیاسی والولائی فی الأدلّة کلّها کفیلة بإزالة وتفتیت تمرکز القدرة والحیلولة دون وقوع الاستبداد.

وهذه القاعدة مطّردة ومتّبعة فی الإطار العام وفی الأطر المتوسطة والجزئیة الاخری وفی جملة الموارد.

ویعبّر عنها فی الأدبیات القانونیّة الحدیثة بالدیمقراطیة فی اللغة اللاتینیة أو بالجمهوریة الشعبیة کلغة موازیة لها فی العربیة.

ولا یخفی أنّ هذا الأساس لا یتقاطع مع حصر الولایة العامّة فی کلّ المجالات بالله وبرسوله وبأولی الأمر من أوصیاء نبیّه فی قوله

ص:183

تعالی: (إِنَّما وَلِیُّکُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِینَ آمَنُوا الَّذِینَ یُقِیمُونَ الصَّلاةَ وَ یُؤْتُونَ الزَّکاةَ وَ هُمْ راکِعُونَ ( 55) (1).

وذلک لأنّ هذا الحصر إنّما هو فی رأس الهرم دون بقیّة طبقات النظام وفصوله وفقراته لأنّ النظام الّذی رسم للمعصوم تشکیله وبناءه لا یطلق لغیر المعصوم الاستئثار والاستبداد والتملّص من مشارکة ومداولة الآخرین والعموم معهم.

بل إنّ الحال فی المعصوم أیضاً لیس هو بانقیاد العموم له عن عمایة، بل عن معرفة ودرایة وعلم وانتخاب له بمعنی استکشاف الحقیقة لا تحکیم الناس لما یستهویهم من آراء مع أن أکمل وأبرع ما یمکن تصوره من مشارکة العموم هو فی ظلّ النظام الّذی یرأسه المعصوم علیه السلام کما فی الحکومة النبویة والعلویة والحسنیة والمهدویة علیهم السلام.

وبعبارة أخری: إنّ المشورة والرقابة والمشارکة مفروضة لغایة الوصول إلی الصواب وکمال الحقیقة کما یحکم بذلک العقل وأقرّ به المذهب العقلی فی القوانین الوضعیة البشریّة الراهنة، حیث إنّهم یقیّدون انتخاب الجمهور لمواقع الرئاسة بمواصفات خاصّة یحکم بها العقل ویکون دور الانتخاب هو استکشاف الواجد لتلک المواصفات فالحکم العقلی فی هذا الجانب أیضاً متطابق مع الحکم الإلهی فی تعیینه

ص:184


1- (1) سورة المائدة: الآیة 55.

والتنصیص علی مواصفات ذی الصلاحیّات القیادیّة والرئاسیة.

فکون المعصوم معیّناً بالنصّ الإلهی لا یعنی تغییب دور الأمّة فی الرقابة والمشارکة فی إقامة ذلک النظام فی کلّ المراتب والطبقات بل إنّ کون المعصوم فی رأس السلطة هو أکبر الضمانات لشورویّة تدبیر الأمّة.

ویمکن ترسیم هیکل المراتب فی الولایة أنّه یبتدئ من ولایة الله عزّوجل ثم ولایة الرسول صلی الله علیه وآله وسلم وهی لیست فی عرض ولایة الله وإنّما امتداد لولایة الله وتنفیذ لها کما هو الحال فی ولایة الرسول صلی الله علیه وآله وسلم فی التشریع من سننه فإنّها تنزیل لفرائض الله بحسب ما لها من سعة وعموم. وکذلک الحال فی جانب الولایة السیاسیّة والقضائیّة، ثمّ من بعد ذلک ولایة أولی الأمر أوصیائه من أهل بیته سواء فی ولایتهم التشریعیّة أو السیاسیّة وغیرها من مجالات الولایات، فإنّها لیست فی عرض فرائض الله وسنن النبیّ بل امتداد وتبع له وتنزیل لفرائض الله وسنن نبیّه فیما للفرائض من سعة وعموم، وکذلک الحال فی ولایة القضاء وولایة السیاسة وبقیة الولایات.

ثم بعد هذه المرحلة حیث تفتقد العصمة سواء من ناحیة العلم أو فی الجانب العملی والخبروی فتتّخذ الصلاحیّات والولایات المحدودة طابعاً جماعیاً مشارکیاً وإن لم یکن العموم بصیغة وبهیئة المجموع بل بصیغة الجمیع الاستغراقی المستغرق لکل الأفراد، سواء فی ذلک النظام الّذی قرّره القرآن والأحادیث فی نیابة الفقهاء فی

ص:185

منصب الفتیا والسلطة التشریعیّة أو فی المجالات الاخری کالسلطة القضائیّة أو فی السلطة الولائیة، فإنّه مضافاً إلی عدم کون هذا النظام - المقرر فی القرآن والأحادیث - حصریاً فی فرد بل استغراقیاً لجمیع من هو واجد للشرائط والمواصفات فی الأدلّة المقرّرة من قبلهم علیهم السلام. فإنّه مضافاً إلی ذلک أنّ تقلید هذا المنصب قد أوکلّ من قبل المعصومین إلی مشورة الأمّة ورقابتها ومشارکتها فی إحراز الواجدین لتلک المواصفات.

ومن ثمّ یمکن أن نستخلص أنّ شوری الأمّة فی عرض نیابة الفقهاء فی المرتبة الولائیة الّتی تأتی بعد ولایة المعصوم وأنّه کما تکون نیابة الفقیه فی امتداد وتبع ولایة المعصوم علیه السلام ونیابة عنها فإنّ دور شوری الأمّة کذلک امتداد وتبع لولایة المعصوم أی أنها تأخذ طابعاً تطبیقیّاً وتنزیلیاً للمقرّرات والمواصفات والموازین المقرّرة فی القرآن والسنّة ولأحکام الله وولایة رسوله وولایة أولی الأمر من الأوصیاء.

وهذا لا یتقاطع مع ولایة المعصوم کما أنّ فتوی الفقهاء لا تتقاطع مع فرائض الله وسنن النبیّ ومنهاج المعصومین علیهم السلام، لأنّ الفتوی تطبیق وتشعب وإنفاذ للفرائض والسنن کذلک الحال فی دور الشوری ولک أن تقول: إنه فی الامور الّتی حدّد الأمر سلفاً فهو للَّه ولرسوله ولأولی الأمر وإن أطلق الأمر ووسّع فتطبیقه وإقامته لِشوری الأمّة کما فی آیتی الشوری حیث عبّر «وأمرهم» وکذا قوله علیه السلام.

«فانظروا»

ص:186

و «فارضوا» فی روایة

«انظروا إلی رجل قد روی حدیثنا... فارضوا به حکماً فإنّی قد جعلته علیکم حاکماً»(1).

فکما هو الحال مما بیّنت العلاقة بین فرائض الله وسنن النبیّ أو بینها وبین سنن المعصومین فکذلک الحال فیما بین دور الشوری وولایة الله ورسوله وأولی الأمر أنها فیما وسّع لا ما ضیّق.

بل قد تقدّم أنّ شور الأمّة لا یتقاطع مع تعیّنیّة الخیار والحقیقة حتّی بلحاظ معرفة الله ومعرفة الرسول وأولی الأمر فإنها فی ذلک المقام تأخذ طابع الاستکشاف والتعرّف وتحصیل العلم کما هو حقیقة مفاد الشور فی کلّ الأصعدة من استکشاف الصواب والحقیقة بنحو منفتح علی کلّ العقول.

فوارق الدیمقراطیّة والشوری:

اشارة

إنّ بین الدیمقراطیّة الغربیّة وشوری الأمّة جهات اتحاد کما أنّ بینهما جهات افتراق، فإنّهما یتّحدان فی مشارکة عامّة الناس فی أنشطة الحکم وإسهامهم فی تشکیل الحکومات والقیام بالدور الرقابی وضرورة مداولة الشأن العام لا سیّما فی الموارد الخطیرة معهم مع تجویز

ص:187


1- (1) الکافی: 412:7، الحدیث 5.

الآلیات المختلفة لتحقیق هذه المحاور بحسب البیئات الزمانیّة المختلفة، إلّاأنّه تظلّ فوارق بینهما:

الأوّل: موقعیة الشوری والمشارکة:

إنّ مرتبة دور الأمّة وصلاحیّاتها فی النظام الغربی والأنظمة الوضعیة هو الدور الأساس ولو علی صعید الشعار والنظریّة - إذ فی کونهم قد أنجزوا ذلک علی صعید الهیکل العینی الموجود فی الخارج بنحو تامّ مطلق محل نظر ومنع -.

وهذا بخلاف دور شوری الأمّة فی النظام الإسلامی ولا سیّما فی منهاج أهل البیت علیهم السلام فإنه دور یأتی فی المرتبة الرابعة کما مرّ بلحاظ وبلحاظ آخر یأتی کدور شریک فی کلّ المراتب لکنه یکون بمعنی الاستعلام والاستکشاف والإحراز وضرورة الاطلاع، فإنّ القرآن الکریم یری للأمّة شخصیة اعتباریة واحدة ذات عقل وفکر مجموعیّین وذات ذمّة ومسؤولیة مشترکة فیصف القوم فی قوله تعالی:

(وَ کَذلِکَ نُفَصِّلُ الْآیاتِ وَ لِتَسْتَبِینَ سَبِیلُ الْمُجْرِمِینَ ( 55) ، وکقوله: (إِنَّ فِی ذلِکَ لَآیاتٍ لِقَوْمٍ یَعْقِلُونَ) (1) ، وقد ورد هذا التعبیر بکثرة وهذا نوع من ملاحظة العقل الجمعی والفکر الجمعی والموقف الجمعی تجاه الامور الخطیرة ومن ثم ورد فی القرآن وصف

ص:188


1- (1) سورة الرعد: الآیة 4؛ سورة النحل: الآیة 12؛ سورة الروم: الآیة 24.

القوم بحکم عام واحد سواء فی محلّ الإدانة أو فی موضع المدیح والتحسین کما فی قوله تعالی: (قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) (1) أو(قَوْمٌ مُنْکَرُونَ) (2) أو قوله: (قَوْمٌ یَعْدِلُونَ) (3) أو(قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) (4) و(الْقَوْمَ الظّالِمِینَ) (5) و(قَوْماً فاسِقِینَ) (6) و(قَوْماً طاغِینَ) (7) و(قَوْمٌ لا یَفْقَهُونَ) (8) و(وَ هُمْ یَخِصِّمُونَ) (قَوْمٌ خَصِمُونَ) (9) وقوله تعالی: (لِقَوْمٍ یُؤْمِنُونَ) (10) أو(لِقَوْمٍ عابِدِینَ) (11) أو(لِقَوْمٍ

ص:189


1- (1) سورة الحجر: الآیة 58؛ سورة الذاریات: الآیة 32.
2- (2) سورة الحجر: الآیة 62؛ سورة الذاریات: الییة 25.
3- (3) سورة النمل: الآیة 60.
4- (4) سورة الأعراف: الآیة 138؛ سورة النمل: الآیة 55.
5- (5) سورة البقرة: لاآیة 258؛ سورة آل عمران: الآیة 86؛ سورة المائدة: الآیة 51؛ سورة الأنعام: الآیة 68، 144؛ سورة الأعراف: الآیة 47، 50؛ سورة التوبة: الآیة 19، 109؛ سورة المؤمنون: الآیة 28، 94؛ سورة الشعراء: الآیة 10؛ سورة القصص: الآیة 21، 25، 50؛ سورة الأحقاف: الآیة 10؛ سورة الصفّ: الآیة 7؛ سورة الجمعة: الآیة 5؛ سورة التحریم: الآیة 11.
6- (6) سورة التوبة: الآیة 53؛ سورة النملک الآیة 12؛ سورة القصص: الآیة 32؛ سورة الزخرف: الآیة 54؛ سورة الذاریات: الآیة 46.
7- (7) سورة الصّافّات: الآیة 30.
8- (8) سورة الأنفال: الآیة 65؛ سورة التوبة: الآیة 127؛ سورة الحشر: الآیة 13.
9- (9) سورة الزخرف: الآیة 58.
10- (10) سورة الأنعام: الآیة 99؛ سورة الأعراف: الآیة 52، 188، 203؛ سورة یوسف: الآیة 111؛ سورة النحل: الآیة 64، 79؛ سورة النمل: الآیة 86؛ سورة القصص: الآیة 3؛ سوة ر العنکبوت: الآیة 24، 51؛ سورة الروم: الآیة 37.
11- (11) سورة الأنبیاء: الآیة 106.

یَسْمَعُونَ) (1).

فمقتضی اعتبار العقل الواحد والفکر الواحد والمسؤولیّة الواحدة لمجموع الأمّة أمام أیّ حدث وواقعة بدءً من التوحید والنبوّة ووصولًا إلی الإمامة الإلهیّة والقیادة السیاسیّة ونظام الحکم، فإنّ الأمّة هی الطرف الآخر فی کلّ تلک المعادلات والنظم، فإنّه متقوّم بطرفین ولیس السنن الإلهیّة فی هذه النظم قائمة علی الإلجاء والفرض من دون علم أو بیّنة أو دلائل وبراهین والشور والمداولة فی ملأ الأمّة طریق لتحصیل العلم ولحضور الأمّة فی ساحة الحدث وتحمّل المسؤولیّة. ومن ثمّ خاطب القرآن هذه الشخصیّة الواحدة للأمّة بقوله: (وَ اتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِیبَنَّ الَّذِینَ ظَلَمُوا مِنْکُمْ خَاصَّةً) (2) لتبیان أنّ للأمّة مسؤولیّة مشترکة فی کلّ الواجبات والوظائف وهو نوع من إسهام للأمّة فی جمیع الامور.

الثانی: الشوری بین الذاتیّة والطریقیّة:

إنّ فی الدیمقراطیّة الغربیة - بعد غلبة المذهب الفردی علی المذهب العقلی فیها - لا یتقنّن دور المشارکة فی ضوابط وثوابت تتحمّل الأمّة مسؤولیّة القیام بها مقرّرة بشکل مسبق کحقائق ثابتة، بل ما یتصالح علیه العموم من أعراف لیحکم فیما بینهم ولو علی طبق أهواء

ص:190


1- (1) سورة یونس: الآیة 67؛ سورة النحل: الآیة 65؛ سورة الروم: الآیة 23.
2- (2) سورة الأنفال: الآیة 25.

ومیول الجمیع وهذا بخلاف دور الأمّة فی النظام الإسلامی فإنّه قائم علی تحمّل الأمّة مسؤولیة إقامة الفرائض والوظائف الثابتة المقرّرة مسبقاً فی الشریعة الإلهیّة وأنّ دور الأمّة فی جانبها العقلانی وشخصیّتها الجمعیّة الروحیّة لا فی بعدها الغرائزی ومیول الأهواء.

الثالث: المدافعة بین الدیمقراطیّة واللیبرالیّة (بین الشوری والحریات الفردیّة):

إنّ هناک تضادّاً بین النزعة الفردیة والنزعة الجماعیّة وبین الحقّ الخاص والحقّ العام وأنّ التأکید علی عدم الاستبداد یقضی بتحدید الحریة الفردیة بحدود لا تؤدّی إلی مصادرة الدور العامّ لشخصیّة الأمّة وتغییبها عن موقع التحکّم فی المسیر العامّ، فإصرارهم علی الدیمقراطیّة ومشارکة عموم الأمّة فی الحاکمیّة لا ینسجم مع إفراطهم فی النزعة والحقوق الفردیّة فإنّها لا محالة لها تداعیات تقوّض إسهام الجمهور وتمانع فاعلیة حضوره ودوره.

الرابع: تنامی القوّة الفردیّة والاستبداد:

إنّ قدرة الفرد أو الفئة والجماعة الخاصّة إذا اشتدّت فی المال والإعلام ووسائل النقل والتصنیع وغیرها من المجالات، وتنامی القدرة والقوی، یعطیها طابعاً عامّاً بدل أن تکون فردیّة وإن فرض جدلًا أنّ استحصال هذه القدرة المتنامیة هو من المنابع المشروعة

ص:191

وبطریقة مرخّصة یقرّها القانون والأعراف؛ إلّاأنّ تنامی القدرة والقوّة لا محالة یؤثّر بشکل سلبی علی دور الأمّة وممانعة مشارکتها وإسهامها أی أنّ التنامی المزبور یوجب الاستبداد ومن ثمّ لابدّ أن یکون فی التقنین ونظام الحقوق ما یحول دون حصول الاستبداد الفردی أو الفئوی أو بعض الجماعات لئلّا یوأد الدور العام للأمّة وإسهامها ومشارکتها. وهذا ممّا لم یضمنه النظام الدیمقراطی فی الغرب وهذا بخلاف النظام الإسلامی فی منهاج أهل البیت علیهم السلام.

الخامس: الترقّی الإنسانی فی مقابل الحضیض:

حیث إنّ فی النظام الإسلامی ومنهج أهل البیت علیهم السلام تلک الخاصّیة حیث إنّه فی حین لا یُعدم الطابع الفردی کما هو الحال فی النظام الشیوعی والاشتراکی بل یصنع حریماً للحقوق الفردیة ویقی عن حصول الاستبداد بضمانة القانون والحقوق ویحافظ علی الدور الشوروی الجمعی وعلاوة علی ذلک فإنّه یؤکّد علی ضمانة أخری وهی تذویب النزوات الفردیّة وتبدیلها إلی تلوین عامّ تتجلّی فیه العبودیة وتندحر فیه حرص الأنانیّة الذاتیّة الفردیة بنظام التهذیب وتطهیر الأعراق بینما لا یمکن للنظام الغربی بحسب منطلقاته ومبادئه تذویب هذه النزعات الفردیة بعد عدم تبنیهم لنظام العدل الإلهی والتسویة العبودیة للجمیع قباله تعالی.

ص:192

القاعدة الرابعة عشرة

قاعدة فی بناء نظام القدرة والقوّة

فی الکیان والنظام الإسلامی

ص:193

ص:194

القاعدة الرابعة عشرة: قاعدة فی بناء نظام القدرة والقوّة فی الکیان والنظام الإسلامی

ضرورة البحث:

إنّ البحث عن القوّة والقدرة فی طابعها العام المنتشر - أی الّتی تتّخذ مساحة کبیرة فی المجتمع - هو بحث فی الحاکمیّة والحکم، لأنّهما یبحثان علی أصعدة متعدّدة. فهناک عدة مراحل للبحث عن الحکم والحاکمیّة، فهناک بحث تنظیری وهناک بحث تطبیقی عملی:

المرحلة الاولی: فی بحث الحکم والحاکمیّة هو البحث فی المشروعیّة.

المرحلة الثانیة: بیان الصیغة الإجمالیة لمحاور الحکم والحاکمیّة ومراتب الحکم.

المرحلة الثالثة: الصیغة التفصیلیة لنظام الحکم.

إلّا أنّ هذه المراحل رغم الجدل التنظیری الواسع فیها تبقی

ص:195

بحوثاً تنظیریة لا تسهم بتأثیر کبیر فی تغییر الواقع نحو الغایات المنشودة ما لم یبحث فی الحکم والحاکم والحکومة بمعنی آخر، وهی القدرة والقوّة الراهنة أو المتولّدة فی المستقبل؛ فإنّ البحث فی هیکل ومخطّط القوّة والقدرة هو بحث عینی فی الحکم والحکومة وما لم یکن هناک تطابق بین خریطة القوّة والقدرة مساحة وقواعد ومحاور مع خریطة مشروعیة الحکم وسلسلة مراتبها، فإنّ البحث فی المشروعیّة وأطرها یظلّ بحثاً عقیماً أجوف لا یحصد ثماراً عملیاً.

فالبحث عن العدالة والحریّة وعن أسلمة نظام الحکم یظلّ بحثاً شعاریاً رمزیاً لا مصداقیّة له ما لم یبحث عن خریطة مخطط القدرة وهذا یحتّم البحث بکثافة وترکیز وبنحو مستمر عن جغرافیا القدرة الراهنة وخرائط المستقبل لها الشامل لجمیع أنواع وأنماط القوّة فی المجالات المختلفة وکیفیّة تأثیر بعضها علی البعض الآخر.

فمتابعة جغرافیا القدرة سواء الاقتصادیّة أو الزراعیّة أو المالیّة أو التجاریّة أو العسکریّة أو الثقافیة وغیرها من المجالات هو بحث عن واقع الحکم العینی لا بحث تنظیری تجریدی.

ومتابعة وملاحظة جغرافیا القدرة والقوّة وإن کان من شأن العلوم الاستراتیجیة والأمنیّة إلّا أنّ ترسیم هیکل ونظام القدرة یساهم بشدّة فی التطبیق العینی لخریطة المشروعیّة وأطر الأهداف الغائیّة للحکم والحکومة.

ص:196

وبکلمة واضحة: فإنّ الحکم والحکومة تنطلق من نقطة المشروعیّة والغایات إلی مرتبة الصلاحیات والمفاصل والمحاور ثم إلی مرتبة تفاصیل النظم والآلیات إلی أن تصل إلی الحکومة والحکم الواقعی وهی الموجودة فی القدرة العینیّة الخارجیّة.

فهناک نظام للحکم والحکومة اسمی وحامل للشعار وهناک نظام للحکم واقعی وعینی وهو نظام القوّة والقدرة الفعلیّة العینیّة فی الخارج. وبهذا یتبیّن ضرورة هذا البحث وعدم الاکتفاء ببحوث المشروعیّة وأطرها وسلسلة مراتبها والآلیات وضرورة ضمّ البحوث الدائرة حول نظم القدرة لأنّها الطریق التطبیقی العملی لأهداف نظام الحکم علی مستوی المشروعیّة والتنظیر.

المحور الأوّل: أنواع القدرة والقوّة ودوائرها:

لا یخفی أنّ القدرة والقوّة علی أنماط وأنواع مختلفة؛ والاختلاف تارة بحسب قوّة وضعف القدرة وبلحاظ دائرة ومساحة القدرة کمّاً وکیفاً وأخری بلحاظ موضوع القدرة وبیئتها.

فتارة فی المجال السیاسی أو الاقتصادی والمالی والتجاری والصناعی والزراعی أو العسکری والأمنی.

کما أنّه قد تخلق بحسب متغیّرات البیئة بیئات جدیدة کالإعلام والمنظّمات الحقوقیّة ومراکز المعلومات ومن هذا القبیل فی التقسیم

ص:197

تقسیم القوّة والسلطة فی أنظمة الدول إلی التنفیذیّة والتشریعیّة والقضائیّة والإعلامیة وغیرها من التقسیمات الّتی یمکن استقصاؤها فی الواقع الحدیث والقدیم.

إلّا أنّ المهم فی المقام هو التمییز بین المساحات وحدود القدرات ذات الطابع الفردی وبین القوّة والقدرة ذات الطابع العامّ. فإنّ القدرة تبدأ بطابع فردی فی مساحة ودائرة فردیة محدودة فی نطاق الفرق کعنصر من عناصر أعضاء المجتمع یباشر القدرة کبقیّة العناصر فی تفاعل وتأثیر وتأثّر مع بقیّة الأعضاء والأفراد، کما أنها فیما بعد قد تتسّع إلی نطاق أوسع کدائرة ربّ الأسرة أو مدراء المؤسسات والهیئات الأهلیّة وقد تتسع بالتدریج إلی دوائر أوسع فأوسع سواء کان نمط القدرة مالیّة أو ثقافیّة أو سیاسیّة أو اجتماعیّة، فالقدرة کلّما اتسعت دائرتها أخذت طابعاً عامّاً واتّسعت فی تأثیرها علی عموم المجتمع وإن صنّفت فی قسم القطاع الخاص دون القطاع العام الّذی هو طابع الدولة الرسمیّة، إلّا أنّ حقیقة الحال أنّ التقسیم الحقیقی للقوّة لایدور مدار التقسیم والتنظیم الحالی للقطاع العام والقطاع الخاص أو لما یندرج فی أجزاء الدولة وما لا یندرج فیها.

بل التقسیم یدور مدار ذوی السلطات العامّة سواء کانت رسمیّة أو تقلیدیّة اجتماعیّة الّتی تمتلک نفوذاً إما بسبب المال الواسع أو بسبب الموقعیّة الدینیّة أو الموقعیّة العشائریة أو بسبب تملّک مؤسّسات

ص:198

وشرکات عملاقة فی المجالات المختلفة؛ فإنّ طابع القدرة فی کلّ هذه الموارد والنماذج هو من السلطات العامّة، کما أنّ هناک سلطات وقدرات متوسّطة سواء کانت رسمیّة کالمدراء المتوسّطین فی إدارات الدولة أو فی المجال التقلیدی والبیئات الحرّة الاخری.

فالقدرة الّتی لها تأثیر عام فی المجتمع هی من السلطات العامّة ولها تأثیر علی عموم المجتمع والأفراد وإن لم تصنّف فی القانون الوضعی أو فی الدساتیر أنّها من أجزاء الدولة ولا من القطاع العام وجعل لها حکم القطاع الفردی الخاصّ.

ولا ریب أنّ القدرات العامّة حیث إنّ المفروض أن لا تکون بید الإرادة الفردیّة لا یعنی بذلک وقوعها بید الدولة والنظام والّذی هو بدوره ربما یکون فی تحکّم أفراد أو شرائح خاصّة فإنّ هذا کرّ علی المحذور بعد الفرار منه.

بل المراد هو لزوم وقوع القدرات المطلقة ذات الطابع العام فی ید نظامٍ تحکمه الإرادة الجمعیّة وتحکمه القوانین العادلة أیضاً بتوسط الآلیات والمؤسّسات الّتی تعیق تمرکز القدرة عند فئة بل تعمل علی انتشار متوازن للقدرة بنحو رقابی.

المحور الثانی: أنماط العموم والعمومیّة وأنواع الخاص والتخصیص والتدافع بین أنماط العموم

ص:199

قد بحث وقرّر فی علم أصول القانون أنّ هناک أنواعاً وأنماطاً من العموم کما أنّ هناک أنواعاً من الخصوص والتخصیص وهذه البحوث الجاریة لیست کما یتخیّل بحوثاً فی الأدب واللغة کما أنها لیست بحوثاً تقتصر علی بیئة قوالب المعانی وأطرها کبحوث فقهیّة وقانونیة بل هی بحوث منطقیّة أیضاً وفلسفیّة.

وبعبارة أخری: أنّ موضوع بحوث العام والعموم وبحوث الخاص والخصوص لا یقتصر علی موضوعات الألفاظ ولا علی بیئة المعانی الاعتباریّة الأدبیة القانونیة بل یجدان طریقهما إلی الوجود العینی الخارجی وهو موضوع بحث المنطق والفلسفة وإن کان البحث المنطقی موضوعه المعانی من حیث إراءتها للحقائق.

وعلی ضوء ذلک فیأخذ العام والعموم والخاص والخصوص طابعاً هندسیّاً وریاضیّاً ترتسم منهما ومن أنواعهما وأقسامهما صور وخرائط وهیاکلّ وأبنیة مختلفة الأشکال والملامح والطبائع ویکون من قبیل البحث عن البعد التطبیقی الجغرافی للتنظیرات القانونیّة فی العموم والخصوص والشیوع والاختصاص.

وعلی ضوء ذلک یتبیّن أنّ ما یذکر من أقسام العموم لیس یختصّ بمقام الدلالة الأدبیّة وبحوث الألفاظ بقدر ما یرتبط بقواعد وأطر القوانین والأحکام سواء المرتبطة بالفقه والقوانین السیاسیّة أو بالمجال الاقتصادی أو بالمجال الحقوقی أو بالمجال النظمی الإداری أو غیرها

ص:200

من المجالات.

ولابدّ من تبیان جملة من أقسام العموم لیتبیّن الفوارق فیما بینها کما یتبیّن کونها قوالب هندسیّة هیکلیّة وقوالب للمسح المیدانی ساریة فی الظواهر والطبائع المختلفة:

القسم الأوّل: العموم البدلی وهو العموم الّذی یلحظ فیه سریان الطبیعة الواحدة فی کلّ أفرادها وانتشارها وشمولها فی مصادیقها لکن الملحوظ هو الفرد الواحد بنحو العموم، أی یکتفی فی إسناد ذلک الحکم إلی الطبیعة المأخوذة موضوعاً ویکتفی بالفرد الواحد من دون تقیّده وتضیّقه بمشخّصات خاصّة.

وهذا النمط من ملاحظة العموم فی الطبائع تلحظ فی الأحکام الّتی لا تکون فیها الفرصة لأکثر من فرد أو أفراد قلائل وذلک نظیر المناصب العلیا ومواقع الإرادة العالیة حیث لا یقیّد القانون تلک المواقع لأشخاص بأسمائهم عدا منصب النبوّة والإمامة.

وفی هذا العموم رغم سریانه إلّا أنّه فی المآل یختصّ تطبیقیاً بدائرة محدودة وبالتالی لا یکون مشتملًا علی مساحة کبیرة للجمیع.

القسم الثانی: العموم الاستغراقی وهو أیضاً طابع من العموم والشمول والسریان والانتشار إلّا أن الانتشار فیه ملحوظ بنمط یلحظ فیه جمیع أفراد الطبیعة بنحو یکون الحکم أو الوصف ثابت لکلّ

ص:201

واحد واحد منهم؛ ومن ثمّ السریان فی هذا القسم لیس لون الاختصاص فیه کالقسم السابق فی دائرة محدودة ضیّقة بل هو فی دائرة لا یشذّ منها أیّ فرد من الطبیعة أو المجتمع أو المحیط والمجال إلّا أنّه رغم ذلک فإنّ الوصف أو الحکم ثابت بنحو الاستقلال والانفراد لکلّ واحد واحد من أفراد الطبیعة والمجتمع.

وکثیر من بحوث وأحکام وقوانین المدارس الحقوقیّة الباحثة عن المذهب الفردی تلحظ الأحکام والأوصاف فی ثبوتها للإنسانیّة علی نحو الاستغراق لکلّ فرد فرد علی حدة، وتغرق فی ملاحظة العموم بهذه الشاکلة، ومن ثمّ فیقع الإخلال لدیها فی ملاحظة طبیعة المصالح بنحو العموم المجموعی الآتی بیانه، فإنّ طبیعة المصالح والمنافع والکمالات لیست موجودة ومتحقّقة بشاکلة الوجود الاستغراقی لکلّ فرد فرد علی حدة. بل الکثیر من تلک المصالح والمنافع هیئة تکوّنها بنمط العموم المجموعی فی القسم الآتی.

القسم الثالث: العموم المجموعی، وفی هذا النمط من العموم تلحظ الطبیعة ساریة أیضاً ومنتشرة وشمولیّة إلّاأنّ السریان هنا لکلّ الأفراد لیس لکل فرد فرد علی حدة، بل للمجموع بهیئته المجموعیة، وفی هذا النمط من العموم والعمومیّة والاشتراک والشیوع یکون لون العموم أکثر ترکیزاً ویکاد ینعدم لون الخصوص للأفراد.

وقد نزع نحو هذه الشاکلة فی ترسیم المصالح والمنافع بإغراق

ص:202

شدید المذهب الشیوعی، وحمل وسام الانتشار والشمول والشیوع بین مجموع الأفراد بنحو لا یبقی للأفراد علی حدة أی اختصاص وإن کان هذا الاختصاص ثابت لجمیع الأفراد.

ففی المذهب الشیوعی لم یعترف بالملکیّة الفردیّة، وجعلت الأموال بنحو الشیوع والانتشار ملکاً للجمیع، إلّاأن ولایة تدبیرها بید الدولة وبالتالی نشأت تداعیات سلبیّة کبیرة من إماتة النزعة الفردیة سواء فی المجال الاقتصادی والتجاری والزراعی أو السیاسی.

ومن ثمّ خفّفت الشیوعیة إلی الاشتراکیة حیث یراعی العموم من النمط الثانی أکثر من النمط الثالث وتبنّته کثیر من المدارس الغربیة فی العلوم الاجتماعیّة والاقتصادیّة والسیاسیّة فی مقابل الإفراط الّذی لدیها فی العموم من النمط الأوّل وخلق بذلک حالة التوازن النسبی.

وفی مقابل ذلک فإنّ الرأسمالیة واللیبرالیة شدّدت فی الشعار علی العموم الاستغراقی وعلی مخاطبة واستمالة الضمیر الجمعی بعنوان الجمیع وکذلک مدارس الدیمقراطیّة وهی المشارکة السیاسیّة واتّکأت علی العموم الاستغراقی وإن کان جملة هذه المدارس فی المآل لا تفتح المجال للعموم المجموعی إلّا بقدر ما یصبّ فی العموم الاستغراقی کما أنها لا تفتح المجال للعموم الاستغراقی إلّابقدر ما یؤدّی إلی العموم البدلی ومن ثمّ تتمرکز القدرة والقوّة العامّة فی دائرة محدودة من طبقات المجتمع وفئاته وهو ما یرکّز الإقطاع والاستبداد الطبقی ولکن

ص:203

بنظم متوازن یحافظ علی الحدّ الأدنی من منافع عموم الأفراد استغراقاً بالحدّ الأدنی أو المتوسّط، لا سیّما وأنّ العموم من النمط الأوّل یرفع عنوان وشعار العمومیة إلّاأنّه فی اللبّ والمآل لا یتباعد عن الخصوص والخصوصیّة کما مرّ بیانه.

نسبة العدالة مع العموم والمساواة والحریّة:

لا یخفی أنّ العموم والعمومیّة والشمول یحمل فی طیّاته المساواة فی انتساب وانتماء واندراج الأفراد بنمط واحد ومتساوٍ إلی الطبیعة. فمن ثمّ هناک ترابط تکوینی بین العموم والمساواة کما أنّ هناک ارتباطاً بین هذین المحورین ومحور وحدة الطبیعة إلّاأنها وحدة فی ضمن العموم، إذ الوحدة فی الخصوص هی کثرة ولیست بوحدة حقیقیة؛ وبالتالی هناک ارتباط بین هذه المحاور الثلاثة معنی وماهیّة ووجوداً مع العدل والعدالة، ومن ثمّ یستغلّ عنوان العموم لتوظیفه کشعار للعدالة والمساواة والمشارکة والدیمقراطیّة والحریّة واللیبرالیّة، إلّاأنّه کما عرفت أنّ العموم علی أنماط وسیأتی أنماط أخری له وهی تختلف بحسب طبائع الموضوعات والصفات والأحکام ولیست کلّها تؤدّی إلی نفی الخصوصیة بشاکلة واحدة، بل قد مرّ أیضاً أن التصادم والتضادّ بین العموم بنحو الاستغراق (النمط الثانی) والعموم بنحو المجموع (النمط الثالث) لابدّ أن یوازن بینهما فی القوانین والأحکام

ص:204

بنحو لا یغرق ویفرط فی جانب علی حساب الجانب الآخر فإنّه یؤدّی إلی نقض الغرض المطلوب.

وأمّا ارتباط هذه المحاور مع الحرّیة فمن جهة أن فی العموم والشیوع هناک انسیاب وسریان وسیولة سیاقیّة لتواجد طبیعة کلّ شیء فی الأفراد من دون فقدان الأفراد لتوفّر الأفراد علی الحکم والصفة والاختصاص المرتبط بالطبیعة والمترتبّة علیها.

وبعبارة أخری: إنّ العموم والشیوع ینفی الاستبداد الفئوی أو الفردی کما أنّه یزیل الحرمان وتمرکز القوّة والقدرة للبعض علی البعض الآخر. ومن ذلک یتّضح أن هناک ارتباطاً ماهویاً وعینیاً تکوینیاً بین العدالة والمشارکة العمومیّة والحرّیات العامّة والخاصّة وأنّ هذه محاور وحقائق لا تنفکّ عن بعضها البعض کما أنّ لکلّ منها أنماطاً ترتبط وتتناسب طردیّاً مع أقسام بعضها البعض.

ولا یخفی أنّ العموم أو المساواة أو الحریّة لیست فی حدّ ذاتها عین العدالة وإنّما هی أسباب أو آلیات لتحقیق العدالة، والعدالة أمر أسمی وأشرف منها والعدالة حسنها ذاتی بخلاف تلک الامور.

وبعبارة أخری: إنّ العمومیة لا تلازم العدالة بنحو الدوام وکذلک الحال فی الحرّیة والمساواة، وإنّما تلازم هذه الامور مع العدالة بنحو غالبی. أی أنّ التخصیص والخصوص والتفاضل والافتراق والحدّ

ص:205

والقیود قد تکون فی جملة من الموارد هی الموجبة للعدالة والتعمیم والمساواة وإطلاق الحریّة موجبة للظلم.

وهناک ضابطة تناسبیة معادلیة طردیة وانعکاسیة بین هذه العناوین والعدالة وهی کما سیأتی یمکن تلخیصها بأنّ الطبیعة الّتی تکون مناطاً ومداراً لحکم ما أو حق واستحقاق، تارة تکون بطبعها عامّة سریانیة وتواجدها بین الأفراد بنحو التساوی، وأخری لا تکون تلک الطبیعة منتشرة بل تکون بطبعها لا تتواجد إلّافی بعض الأفراد أو أنّ تواجدها بدرجة متفاوتة شدّة وضعفاً بین الأفراد؛ ففی النمط الأوّل یکون العموم والمساواة موجباً للعدالة، وأما فی النمط الثانی فالاختصاص والتفاضل هو الموجب للعدالة. وهذا التفصیل والتقابل والاختلاف بیّن بعد کون المدار فی الحکم أو الحق والاستحقاق هو الطبیعة الّتی تکون مناط الحکم.

وهذا فی الحقیقة مراعاة لوحدة المیزان والمعیار من دون تفرقة فی المعیار إلّا أنّ مقتضی الطبیعة الّتی هی المناط فی الاستحقاق مراعاة وحدة المعیار والتفاضل والاختصاص فی بعض تلک الطبائع.

ومن أمثلة النمط الأوّل حاجة الإنسان إلی الهواء والماء والعناصر المعیشیة الضروریة؛ فإنّ طبیعة الحاجة فی أفراد البشر متساویة ومتقاربة علی وتیرة واحدة فی الحدّ الأدنی من الضرورات. ومن ثمّ لابد من مراعاة التعمیم والتساوی وفتح أبواب الفرص بنحو متساوٍ لاقتناء

ص:206

وتأمین تلک الحاجیات من المنابع العامّة.

ومثال النمط الثانی العلم والکفاءة والأمانة؛ فإنّ هذه الطبائع لیست منتشرة بنطاق واسع بدرجة واحدة متساویة، ولا محالة فإنّ الأحکام والحقوق والاستحقاقات المترتّبة علیها لا تعمیم فیها علی الأفراد بنمط متساو بل هناک اختصاصات وتفاضل فی الدرجات. ومن ثم فإنّ للنخب وأهل الخبرة والخبرویّة اختصاصات وتفاضل علی بقیّة الطبقات.

نعم، فتح باب تحصیل العلم والکفاءة والتربیة لابدّ أن یکون بنحو متساوٍ للعموم وهو شأن آخر یختلف مع الحالة المبحوث عنها بعد وجود تلک الطبائع.

التغیّر والتدویل والتبدیل ضمانة للعموم:

إنّ التغیّر والتبدیل عضید مهمّ لبقاء السریان والانتشار والشمولیة؛ فإنّ الطبیعة بحکم سریانها ومقتضی عمومیّتها وعدم الوقوف علی دائرة من الأفراد بخصوصها فإنّ وقوف الطبیعة علی دائرة معیّنة من الأفراد یوجب انقطاع السریان والعموم؛ ومن ثمّ کان التدویل والتبدیل الفردی أو بین الأفراد موجب للمحافظة علی الشمولیة والسریان.

فمثلًا العموم البدلی إذا أصابته حالة الثبات بمعنی الوقوف علی أفراد معیّنین فإنّه تنسلخ هویّته من عموم بدلی إلی خصوص متشخّص

ص:207

عادم للون العموم من رأس، فیلاحظ أنّ التغییر والتبدیل والتدویل یُبقی أصل هویّة العموم وفی الحقیقة أنّ المحافظة علی التغییر والتدویل والتبدیل یقارب ویشارف العموم من النمط الأوّل إلی العموم من النمط الثانی وکأنّه یرتقی من العموم من النمط الأوّل إلی العموم من النمط الثانی ویجعله استغراقیاً بعدما فرض بدلیّاً.

والحال کذلک فی العموم من النمط الثانی وهو الاستغراقی، فإنّ وقوف العموم علی دائرة محدودة کما فی مثال الثروات الطبیعیّة وصرفها علی عموم أفراد الأمّة فی حقبة زمنیة معیّنة فإنّ الاقتصار فی لحاظ العموم علی دائرة خاصّة بالموجودین یوجب انقلاب هذا العموم من النمط الثانی إلی النمط الأوّل، فصرف ثروات البلاد علی جیل معین من الأمّة بنحو العموم الاستغراقی من دون ملاحظة وتوسعة الدائرة إلی الأجیال اللاحقة یوجب تطبیق العموم بنحو بدلی علی صعید الأجیال لا بنحو استغراقی.

ومن ثمّ فلأجل المحافظة علی العموم الاستغراقی لابدّ من تدویل دائرة انطباق الطبیعة استغراقاً بنحو یبدّل حدود الدائرة بنحو متغیّر لا ثابت واقف وإلّا لفقد العموم الاستغراقی هویّته وماهیّته وحقیقته.

وکذلک الحال فی العموم المجموعی فإنّه إذا لوحظت المصلحة بلحاظ المجموع ولم یلحظ جانب التغیّر فی دائرة المجموع فإنّه یوجب

ص:208

تبدّل فرض عموم المجموعی إلی عموم بدلی أیضاً. کما أنّ عدم توطید العموم المجموعی لیؤول إلی العموم الاستغراقی یوجب سلب العموم المجموعی عن کونه عموماً مجموعیّاً بل یستلزم إمّا فرض التلف وانعدام أصل الطبیعة أو صیرورتها إلی فرد أو دائرة أفراد خاصّة.

اختلاف مراتب العموم شدّة وضعفاً بنحو متفاوت:

إنّ مقتضی الطبائع فی عمومیّتها وشمولها تختلف فی حالاتها وانتساب أفرادها إلیها. فإنّ طبیعة العلم مثلًا أو الخبرویّة أو المهارة أو الکفاءة والأمانة تختلف فی انطباقها وسریانها فی أفرادها قوّة وضعفاً وکثرة وقلّة. ومن ثمّ فإنّ سریان الطبیعة وشمولها لا یکون علی وتیرة واحدة ویکون العموم فی هذه الطبائع بنحو بدلی لا استغراقی فضلًا عن أن یکون مجموعیاً کما هو الحال فی القوّة والضعف فی العلم والخبرة والأمانة والکفاءة ففی الحقیقة العموم البدلی یحافظ علی أصل الطبیعة الّتی هی عامّة بینما الاستغراقی أو المجموعی عادم لأصل الطبیعة.

وهذا بخلاف الطبائع الّتی یتساوی تواجدها وتوفّرها فی الأفراد بدرجة واحدة فإنّها تتّخذ شاکلة النمط الثانی وإذا ازدادت وأوغلت فی التساوی فإنّها تأخذ طابع النمط الثالث.

ص:209

الاختصاص والعدل:

وعلی ضوء ذلک یتبیّن أنّ الطبائع فی سریانها تختلف اقتضاءً وحالات فی انتشارها فی الأفراد وأن مقتضی العدل والاستحقاق یختلف بحسب الطبائع شکلًا وقالباً، فلیس أحد أنماط العموم یلازم العدالة بنحو الدوام.

ویتجلّی بذلک أنّ العدل لا یلازم العموم بنحو الدوام بل یتناسب فی بعض الطبائع مع لون التخصیص والاختصاص، کما قد مرّ أن الفرق بین أنماط العموم هو فی الامتزاج بدون الاختصاص والخصوصیة بدرجات مختلفة بین أقسام العموم وهو الّذی أوجب انقسام العموم إلی أنماط.

کما أنّه یتّضح من ذلک أنّ المحافظة علی المصالح والمنافع فی بعض الطبائع لابدّ أن یکون بنحو الاختصاص وهذا الاختصاص لا یمثّل الاحتکار والاستبداد بل یکون عین العدل وإیفاء للاستحقاق.

ومنه یظهر وجه الاختصاص فی الاصطفاء والعصمة والنبوّة والإمامة کما یرتسم لنا من ذلک أنّ هیئة وشکل نظام الطبائع هو بنحو هرمی من نقطة رأس مخروط الهرم الخاصّة إلی القاعدة العریضة الوسطیة وإنّما بینهما طبقات، وأنّه لابد من تمییز بین مقتضیات الطبائع.

وهذا برهان ریاضی وعقلی وقانونی لنظریّة الإمامة فی نظام إدارة

ص:210

الحکم فی النظام الاجتماعی البشری.

العدالة شعار الأنبیاء وبقیة العناوین شعار المدارس الغربیّة

من الامور الملاحظة بوضوح أنّ القرآن الکریم یرفع شعار العدالة أو ما هو محقّق للعدل وملازم له بنحو الدوام کالقسط والمیزان کما فی قوله تعالی:

(وَ إِذا حَکَمْتُمْ بَیْنَ النّاسِ أَنْ تَحْکُمُوا بِالْعَدْلِ) (1).

وقوله تعالی: (وَ إِنْ حَکَمْتَ فَاحْکُمْ بَیْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) (2).

وقوله تعالی: (وَ أَقِیمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَ لا تُخْسِرُوا الْمِیزانَ )(3).

ولا یخفی تلازم المیزان والقسط کآلیتین دائمیتین لتحقیق العدالة. والمیزان یشیر إلی المعیار والقانون الّذی یزن کلّ شیء بحسبه وقدره من الاستحقاق.

وغیر خفی أنّ المعیار فی کلّ صعید هو من نمط متناسب مع ذلک الصعید، والقسط هو التجزئة والتوزیع بإعطاء کلّ ذی حقّ حقّه وقدره المستحقّ له کما یشیر إلیه قوله تعالی: (وَ أَوْفُوا الْکَیْلَ وَ الْمِیزانَ بِالْقِسْطِ) (4).

ص:211


1- (1) سورة النساء: الآیة 58.
2- (2) سورة المائدة: الآیة 42.
3- (3) سورة الرحمن: الآیة 9.
4- (4) سورة الأنعام: الآیة 152.

ومن الواضح أنّ القسط والمیزان یختلف عن عنوان المساواة بل هو متّحد مع العدل والعدالة، بخلاف عنوان المساواة وعنوان العمومیّة والمشارکة فإنّها عناوین لا تطّرد تلازماً مع العدالة کما مرّ توضیحه.

وهذا بخلاف ما یرفعه الغرب فی مدارسه الفکریّة والفلسفیّة والحقوقیة من شعار المساواة والحریة (اللیبرالیة) والمشارکة الشعبیة (الدیمقراطیّة) فإنها کما تقدّم غیر مطّردة - فی الأصول الّتی تنبنی علیها کنظام - لا تطّرد مع العدالة دوماً کما مرّت الإشارة إلیه. ومن ثم نلاحظ أنّ شعارات الحرکة الغربیة فی مسار تغییر دائم فمن الرأسمالیة إلی الشیوعیة إلی الاشتراکیة إلی الدیمقراطیّة واللیبرالیة وذلک لعدم دوام تولید هذه الأنظمة للعدالة ومن ثمّ یجرون علیها تغییرات تدعوهم إلیها فطرتهم.

النظرة المجموعیّة والتجزّئیّة فی رسم العدالة:

لا ریب أنّ العدالة فی الأحکام والقوانین المتعلّقة بالأفعال لا یمکن ملاحظتها بنحو تجزیئی مبعثر بل لابدّ من ملاحظتها بنحو منظومی مجموعی وذلک لأنّ الجهات والحیثیّات المختلفة لا تستوعب فی تشریع واحد وحکم واحد بل فی الغالب یتمّ استیعابها ضمن تشریعات متعدّدة.

ص:212

ومن ثم لا یصحّ أن یقارن بین تشریع معیّن من مدرسة تشریعیّة أو قانونیّة مع تشریع آخر من مدرسة أخری بنحو تجریدی بل لابد من المقارنة بین التشریعین ضمن مجموعة التشریعات.

فمثلًا لا یصحّ ملاحظة سهم الإرث للمرأة فی التشریع الإسلامی مقارنة بالتشریعات فی القوانین الوضعیّة إلّابملاحظة مجموعة التشریعات المالیّة فی الشریعة المرتبطة بالمرأة، حیث إنّ کفالتها المالیّة قد الزم بها الرجل کما أنّه أسقط عنها بقیّة الالتزامات المالیّة إلّاالشیء الیسیر؛ هذا مع فتح الباب لها لإنماء الثروة فی المجالات المختلفة.

والحاصل أنّ التشریع الواحد لفعلٍ مّا هو علی ارتباط شبکی بمجموعة أفعال وظواهر متعدّدة فی البیئة الاجتماعیّة.

ص:213

ص:214

القاعدة الخامسة عشر

قاعدة فی العدالة

ص:215

ص:216

القاعدة الخامسة عشر: قاعدة فی العدالة

اشارة

وقعت العدالة کشرط فی بعض الموضوعات الشرعیة کشرطیة العدالة فی المرجع وامام الجماعة والقاضی او الشاهد وغیرها.

وهنا نبحثها من حیث شرطیتها فی المرجع فقط.

أدلة العدالة:

وهی جملة من الأخبار المعتبرة، کقوله علیه السلام: «المأمون علی الدین والدنیا»(1) ، وأیضاً روایة العسکری علیه السلام: «مخالفاً لهواه مطیعا لأمر مولاه»(2) ، فإنها تدل بوضوح علی اعتبار العدالة بل قیل أنها تدل علی ما یزید علیها.

وأیضا یمکن أن یستدل بما فی التوقیع المبارک: «وأما الحوادث

ص:217


1- (1) وسائل الشیعة: ج 27 أبواب صفات القاضی، ب 11 ص 246 ح 27.
2- (2) المصدر نفسه، ص 131 ح 20.

الواقعة فارجعوا فیها إلی رواة حدیثنا، فإنهم حجتی علیکم وأنا حجة الله» (1) ، فإن مقام الحجیة لا یتصف به فاسق وأیضا بالأولیة القطعیة علی اعتبارها فی الامور الیسیرة کصلاة الجماعة فمن باب أولی أعتبارها فی النیابة عن المعصوم علیه السلام ومن الواضحات بمکان تناسب مقام الحجیة وأتساقه مع مقام العادلة...

وأیضاً مصححة عمر بن حنظلة: «الحکم ما حکم به أعدلهما...»(2) ، تدل علی المفروغیة من اعتبار العدالة إلا أنه فی الترجیح یأخذ بمن تزید درجة عدالته.

وأما الاشکال علی اختصاصها بالقضاء وهو لا یعم الفتوی والافتاء فالجواب هو الجواب المتقدم وهو أن القضاء متقوم بالفتیا والاستنباط فما أخذ فی القضاء إن کان یتناسب مع خصوصیات میزان القضاء فهو خاص به وأما ما کان مرتبطا بأصل استنباط الحکم الکلی کحیثیة الفقاهة والاستنباط فی القاضی فهو عام للفقیه والقاضی.

وهناک روایات مستفیضة أخری، حیث سُئل علیه السلام إلی من یرجع قال: «إلی حاکم أهل العدل» وهو فی قبال أهل الجور، وقد مر بنا فی بحث الاجتهاد والتقلید أن المراد من أهل العدل هم أهل القول بالعدل، وهذا یتناسب مع وصفه بأهل القول بالعدل وأهل العمل به

ص:218


1- (1) المصدر نفسه، ص 240 ح 9.
2- (2) وسائل الشیعة: ج 27 أبواب صفات القاضی، ب 9 ص 106-107 ح 1.

فی قبال أهل الجور فی القول والعمل به، وأیضا مثل ما جاء فی صحیح عهد أمیر المؤمنین علیه السلام لمالک الأشتر رحمه الله: «أختر للحکم بین الناس أفضل رعیتک»(1) ، وواضح أنه یشمل العدالة وغیرها.

ولو یتصفح الباحث الباب التاسع والباب العاشر والحادی عشر یجد أخبارا کثیرة علی اعتبار العدالة وما ذکرناه فیه الکفایة.

ملاحظة ودفعها:

وقد أشکل علی أن المراد بالعدالة هی الوثاقة لا العدالة المصطلحة باعتبار ان الفتیا اخبار کما فی الروای فغایة ما یشترط الوثاقة اللسانیة لا الوثاقة فی الدین والعمل المعبر عنها بالعدالة، ومما یؤید ذلک وجود اخبار أخذت لفظ الوثاقة بدل العدالة....

والجواب عن هذ الاشکال: هو أنه کما مر أن الفتیا منصب وزعامة ولیست اخبار محض بل هی ولایة نیابیة وقدرة وسلطة فالوثاقة فی هذا المنصب هی الأمانة العامة والوثاقة بالقیام بالمسؤولیات الدینیة والدنیویة علی الوجه المطلوب شرعا وظاهر أنها لیست بوثاقة فی اللسان فحسب بل هی وثاقة فی کل المسؤولیات وهی عبارة أخری عن العدالة، ولذلک ورد فی ما تقدم من الاخبار فی حق زکریاء ابن آدم فقال علیه السلام: «المأمون علی الدین والدنیا»، وکل ذلک لأنه زعامة لیست فی

ص:219


1- (1) وسائل الشیعة: ج 27 أبواب صفات القاضی، ب 8 ص 224 ح 9.

مجرد استنباط الاحکام بل مرتبط بالامور المعاشیة باشراف التشریع الدینی فی نظم أمور المعاش ولذلک لم یقتصر علی کونه (مأموناً علی الدین) فقط بل قال علیه السلام: «علی الدین والدنیا».

فالصحیح لهذه المناصب عدم الاکتفاء بصرف الوثاقة اللسانیة.

و هذا بخلاف الراوی فإنه لیس له منصب حتی یؤخذ منه الدین کله بل یؤخذ منه الخبر فی مسألة وفرع من الفروع وأما أن یؤخذ منه باب کامل قد تفرد به فلا؛ وذلک لأن الروایة لیست بمنصب یؤخذ منها الدین وأیضاً أغلب ما یرویه فی الأبواب له شواهد من المعتبرات والحسان.

فیفترق باب الروایة عن باب الفتیا لأن الفتیا استحفاظ للدین بتبع استحفاظ الانبیاء لأنه نیابة الهیة عن الانبیاء والاوصیاء کما دل علیه الآیة قوله تعالی: (إِنّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِیها هُدیً وَ نُورٌ یَحْکُمُ بِهَا النَّبِیُّونَ الَّذِینَ أَسْلَمُوا لِلَّذِینَ هادُوا وَ الرَّبّانِیُّونَ وَ الْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ کِتابِ اللّهِ وَ کانُوا عَلَیْهِ شُهَداءَ) (1) ، فنفس الاستحفاظ یتطلب الأمانة وهی لیست فقط فی الإخبار بل فی کل أداء المسؤولیات التی هی عبارة أخری عن العدالة.

و هل یشترط فی العدالة الورع وعدم منافاة المروة أی التحرز عن

ص:220


1- (1) سورة المائدة: الآیة 44.

منافی المروة؟

الصحیح أن العدالة معناها واحد إلا أنها ذات درجاتها وذلک لأختلاف المسؤلیات فکل بحسبه فکلما تکثرت المسؤولیات والواجبات والمحرمات اتسعت دائرة العدالة وکلما عظم المنصب کانت المسؤولیة أعظم وأکبر بحیث تراعی حتی جنبة نفس المنصب الذی ینافیه ما ینافی المروءة.

ص:221

ص:222

القاعدة السادسة عشر:

اشتراک الحد والقصاص فی ماهیة جامعة واحدة

ص:223

ص:224

القاعدة السادسة عشر: اشتراک الحد والقصاص فی ماهیة جامعة واحدة

ومما یدعم وحدة الحد والقصاص فی جامع ماهوی واحد بعنوان الحد بالمعنی الاعم جملة من الشواهد, وبوحدة هذا العنوان یتم العموم الوارد فی صحیح فضیل لکل من الحد والقصاص بعد کون هذا العموم عام لکل قاصر من الصبی والمجنون وغیرهما:

الشاهد الأول: ما فی صحیح ابی بصیر المتقدم من اطلاق الحد فی کلام السائل علی القصاص.

الشاهد الثانی: ما مر فی قتل الکافر للکافر من قوله تعالی: (کَتَبْنا عَلی بَنِی إِسْرائِیلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَیْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِی الْأَرْضِ فَکَأَنَّما قَتَلَ النّاسَ جَمِیعاً) (1) فان الشق الأول فی الایة فی القصاص والثانی فی الحد, لا سیما وقد ذکر فی الایة اللاحقة جزاء الشق الثانی(إِنَّما جَزاءُ الَّذِینَ یُحارِبُونَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ یَسْعَوْنَ فِی

ص:225


1- (1) سورة المائدة: الآیة 32.

اَلْأَرْضِ فَساداً أَنْ یُقَتَّلُوا) (1) فهل هذا الجزاء للمفسد فی الأرض هو قصاص او حد؟ مع ان مفاد الایة الأولی ان النتیجة(فَکَأَنَّما قَتَلَ النّاسَ جَمِیعاً) هی کمفسدة جزء من تعریف الماهیة بجامع فی الجنس الماهوی متحد.

الشاهد الثالث: ما ورد من قتل من اعتاد قتل اهل الذمة او الکافر المعاهد او غیرهم کالعبد والمجنون وانه یقتل واختلف فی کونه حد او قصاصا علی قولین مشهورین.

وهذا التردید بین القولین موشر للتقارب بین ماهیة القسمین.

الشاهد الرابع: ان الحد لغة شامل للقصاص جنسا فی الشروط العامة الماهویة.

الشاهد الخامس: ما یأتی من قاعدة درء الشبهة للقصاص کما فی الحدود, وکذا وردت روایة معتبرة فیه ومفادها ان القصاص حد فیدرء بالشبهة.

الشاهد السادس: ان قاعدة لا حد لمن لا حد علیه مطابقة لعنوان لا قود لمن لاقود علیه لسانا وموضوعا ومحمولا وکذا بالوصف المشعر بالتعلیل.

الشاهد السابع: ما ورد فی باب لا یقاد الوالد بولده کما فی الروایة الصحیحة عن حُمْرَانَ عَنْ أَحَدِهِمَا علیه السلام قَالَ: «لَا یُقَادُ وَالِدٌ بِوَلَدِهِ

ص:226


1- (1) سورة المائدة: الآیة 33.

- ویُقْتَلُ الْوَلَدُ إِذَا قَتَلَ وَالِدَهُ عَمْداً» (1).

وما ورد من انه لا یحد الوالد للولد کما فی موثقة إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِیهِ«أَنَّ عَلِیّاً علیه السلام کَانَ یَقُولُ لَا یُقْتَلُ وَالِدٌ بِوَلَدِهِ إِذَا قَتَلَهُ - ویُقْتَلُ الْوَلَدُ بِالْوَالِدِ إِذَا قَتَلَهُ - ولَا یُحَدُّ الْوَالِدُ لِلْوَلَدِ إِذَا قَذَفَهُ - ویُحَدُّ الْوَلَدُ لِلْوَالِدِ إِذَا قَذَفَهُ»(2).

فهذان التعبیران (لا یحد) و (لا یقاد) بلسان واحد, بل فی الموثقة اعلاة ورد کلا الامرین لا یقتل ولا یحد, وهذا مشعر بوحدة الشرط فی الماهیة الجامعة.

وقد ذکرت بعض الروایات العبد فی سیاق الولد مما یدلل علی اتحاد وجه الشرط وکونه ولایة الوالد مما یعم الجد فی الشرط الثالث فی القصاص کما سیاتی.

الشاهد الثامن: اطلاق الحدود علی القصاص فی بعض الروایات کصحیح جَمِیلِ بْنِ دَرَّاجٍ ومُحَمَّدِ بْنِ حُمْرَانَ عَنْ أَبِی عَبْدِ الله علیه السلام قَالَ: «قُلْنَا أَ تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِی الْحُدُودِ فَقَالَ فِی الْقَتْلِ وَحْدَهُ إِنَّ عَلِیّاً علیه السلام کَانَ یَقُولُ لَا یَبْطُلُ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ»(3).

ص:227


1- (1) تهذیب الأحکام: ج 10، ص 236.
2- (2) وسائل الشیعة: ج 29، ص 79.
3- (3) المصدر: ص 137.

ص:228

القاعدة السابعة عشرة: القصاص یدرء بالشبهات

اشارة

ص:229

ص:230

قاعدة: القصاص یدرء بالشبهات

ویستدل للقاعدة بوجوه:

الوجه الأول:

اشارة

روایة بُرَیْدِ بْنِ مُعَاوِیَةَ الْعِجْلِیِّ قَالَ: «سُئِلَ أَبُو جَعْفَرٍ علیه السلام عَنْ رَجُلٍ قَتَلَ رَجُلًا عَمْداً - فَلَمْ یُقَمْ عَلَیْهِ الْحَدُّ ولَمْ تَصِحَّ الشَّهَادَةُ عَلَیْهِ - حَتَّی خُولِطَ وذَهَبَ عَقْلُهُ ثُمَّ إِنَّ قَوْماً آخَرِینَ - شَهِدُوا عَلَیْهِ بَعْدَ مَا خُولِطَ أَنَّهُ قَتَلَهُ - فَقَالَ إِنْ شَهِدُوا عَلَیْهِ أَنَّهُ قَتَلَهُ حِینَ قَتَلَهُ - وهُوَ صَحِیحٌ لَیْسَ بِهِ عِلَّةٌ مِنْ فَسَادِ عَقْلٍ قُتِلَ بِهِ - وإِنْ لَمْ یَشْهَدُوا عَلَیْهِ بِذَلِکَ - وکَانَ لَهُ مَالٌ یُعْرَفُ دُفِعَ إِلَی وَرَثَةِ الْمَقْتُولِ - الدِّیَةُ مِنْ مَالِ الْقَاتِلِ - وإِنْ لَمْ یَکُنْ لَهُ مَالٌ أُعْطِیَ الدِّیَةُ مِنْ بَیْتِ الْمَالِ - ولَا یَبْطُلُ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ»(1).

اما السند:

وهی لیست شدیدة الضعف وان کان خضر الصیرفی مجهول

ص:231


1- (1) وسائل الشیعة: ج 29، ص 72.

الحال وذلک لان الروای عنه الحسن بن محبوب ووقد رواها المحمدون الثلاثة عن کتاب الحسن بن محبوب.

وظاهر جملة من الاصحاب الفتوی بصدرها.

واما الدلالة:

وموضع الاستشهاد فی ذیلها من نفی القصاص لعدم احراز موجبه مع انه قد تحقق من ارتکابه القتل.

قاعدة أخری:

ومفادها أیضا یدل علی قاعدة ثانیة«اخذ المتهم لوثا بالدیة» أی ان اللوث یوجب الدیة علی المتهم بالقتل وان احتمل انه خطا تحمله العاقلة, فان ذلک الاحتمال لا یدفع ولا یسقط الضمان للدیة, فان الضمان للدیة حکم متوسط بین القود وبین تحمل العاقلة للدیة بسبب اللوث, وسیاتی مزید البحث فیها فی بحث القسامة وفی ذیک الوجه الثالث والرابع الاتیین.

الوجه الثانی:

المرسل کالمصحح عن جَمِیلِ بْنِ دَرَّاجٍ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ عَنْ أَحَدِهِمَا علیه السلام: «أَنَّهُ قَالَ: إِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ عَلَی نَفْسِهِ بِالْقَتْلِ - قُتِلَ إِذَا لَمْ یَکُنْ

ص:232

عَلَیْهِ شُهُودٌ - فَإِنْ رَجَعَ وقَالَ لَمْ أَفْعَلْ تُرِکَ ولَمْ یُقْتَلْ» (1).

وهذه الروایة نص فی المطلوب, والوجه فی التفصیل بین الإقرار والشهود کما هو الحال فی الحد ان الرجوع فی الإقرار متجه بخلاف الشهود فانه فی الشهود غیر مسموع, فان المثبت للقصاص او الحد لیس قوله نفسه بل شهادة الشهود بخلاف الإقرار فان المثبت للقصاص او الحد قوله.

الوجه الثالث:

موثق السَّکُونِیِّ عَنْ أَبِی عَبْدِالله علیه السلام قَالَ: «کَانَ قَوْمٌ یَشْرَبُونَ فَیَسْکَرُونَ - فَیَتَبَاعَجُونَ بِسَکَاکِینَ کَانَتْ مَعَهُمْ - فَرُفِعُوا إِلَی أَمِیرِ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام فَسَجَنَهُمْ - فَمَاتَ مِنْهُمْ رَجُلَانِ وبَقِیَ رَجُلَانِ - فَقَالَ أَهْلُ الْمَقْتُولَیْنِ یَا أَمِیرَ الْمُؤْمِنِینَ ع - أَقِدْهُمَا بِصَاحِبَیْنَا فَقَالَ لِلْقَوْمِ مَا تَرَوْنَ - فَقَالُوا نَرَی أَنْ تُقِیدَهُمَا - فَقَالَ عَلِیٌّ علیه السلام لِلْقَوْمِ - فَلَعَلَّ ذَیْنِکَ اللَّذَیْنِ مَاتَا قَتَلَ کُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ - قَالُوا لَا نَدْرِی فَقَالَ عَلِیٌّ ع - بَلْ أَجْعَلُ دِیَةَ الْمَقْتُولَیْنِ عَلَی قَبَائِلِ الْأَرْبَعَةِ - وآخُذُ دِیَةَ جِرَاحَةِ الْبَاقِیَیْنِ مِنْ دِیَةِ الْمَقْتُولَیْنِ - قَالَ وذَکَرَ إِسْمَاعِیلُ بْنُ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَأَةَ - عَنْ سِمَاکِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ عُبَیْدِ الله بْنِ أَبِی الْجَعْدِ - قَالَ کُنْتُ أَنَا رَابِعَهُمْ فَقَضَی عَلِیٌّ علیه السلام هَذِهِ الْقَضِیَّةَ فِینَا»(2).

حیث علل نفی القود والقصاص بالشبهة, کما یدل علی ان اللوث

ص:233


1- (1) وسائل الشیعة: ج 28، ص 27.
2- (2) المصدر: ج 29، ص 234.

موجب للدیة بنفسه فیدل علی القاعدة الثانیة اعلاة

الوجه الرابع:

موثق السَّکُونِیِّ عَنْ أَبِی عَبْدِ الله علیه السلام قَالَ: «رُفِعَ إِلَی أَمِیرِ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام سِتَّةُ غِلْمَانٍ - کَانُوا فِی الْفُرَاتِ فَغَرِقَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ - فَشَهِدَ ثَلَاثَةٌ مِنْهُمْ عَلَی اثْنَیْنِ أَنَّهُمَا غَرَّقَاهُ - وشَهِدَ اثْنَانِ عَلَی الثَّلَاثَةِ أَنَّهُمْ غَرَّقُوهُ فَقَضَی عَلِیٌّ علیه السلام بِالدِّیَةِ أَخْمَاساً - ثَلَاثَةَ أَخْمَاسٍ عَلَی الِاثْنَیْنِ - وخُمُسَیْنِ عَلَی الثَّلَاثَةِ» (1).

ومثله صحیح ابن قیس.

ان التعارض فی البینتین اوجب شبهة فی المقام فلم یثبت الأمیر القصاص وانما اثبت الدیة, ولو حملت علی اختلال شروط البینة لم یخرج الفرض عن الشبهة وثبت الدیة بلوث الاتهام.

فان تعارض البینتین لا تجری القرعة بل الدیة علی الجمیع, ومفادها دال علی القاعدتین, فان احد المجموعتین لیست علیها ضمان ومع ذلک اغرمت للوث, فان اللوث سبب للتغریم.

الوجه الخامس:

مرفوعة عَلِیِّ بْنِ إِبْرَاهِیمَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا رَفَعَهُ إِلَی أَبِی عَبْدِ

ص:234


1- (1) وسائل الشیعة: ج 29، ص 142.

الله علیه السلام قَالَ: «أُتِیَ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام بِرَجُلٍ وُجِدَ فِی خَرِبَةٍ - وبِیَدِهِ سِکِّینٌ مُلَطَّخٌ بِالدَّمِ - وإِذَا رَجُلٌ مَذْبُوحٌ یَتَشَحَّطُ فِی دَمِهِ - فَقَالَ لَهُ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام مَا تَقُولُ - قَالَ أَنَا قَتَلْتُهُ قَالَ اذْهَبُوا بِهِ فَأَقِیدُوهُ بِهِ - فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ أَقْبَلَ رَجُلٌ مُسْرِعٌ إِلَی أَنْ قَالَ - فَقَالَ أَنَا قَتَلْتُهُ - فَقَالَ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام لِلْأَوَّلِ - مَا حَمَلَکَ عَلَی إِقْرَارِکَ عَلَی نَفْسِکَ - فَقَالَ ومَا کُنْتُ أَسْتَطِیعُ أَنْ أَقُولَ - وقَدْ شَهِدَ عَلَیَّ أَمْثَالُ هَؤُلَاءِ الرِّجَالِ وأَخَذُونِی - وبِیَدِی سِکِّینٌ مُلَطَّخٌ بِالدَّمِ - والرَّجُلُ یَتَشَحَّطُ فِی دَمِهِ وأَنَا قَائِمٌ عَلَیْهِ - خِفْتُ الضَّرْبَ فَأَقْرَرْتُ - وأَنَا رَجُلٌ کُنْتُ ذَبَحْتُ بِجَنْبِ هَذِهِ الْخَرِبَةِ شَاةً - وأَخَذَنِی الْبَوْلُ فَدَخَلْتُ الْخَرِبَةَ - فَرَأَیْتُ الرَّجُلَ مُتَشَحِّطاً فِی دَمِهِ - فَقُمْتُ مُتَعَجِّباً فَدَخَلَ عَلَیَّ هَؤُلَاءِ فَأَخَذُونِی - فَقَالَ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام خُذُوا هَذَیْنِ - فَاذْهَبُوا بِهِمَا إِلَی الْحَسَنِ - وقُولُوا لَهُ مَا الْحُکْمُ فِیهِمَا - قَالَ فَذَهَبُوا إِلَی الْحَسَنِ وقَصُّوا عَلَیْهِ قِصَّتَهُمَا - فَقَالَ الْحَسَنُ علیه السلام قُولُوا لِأَمِیرِ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام - إِنْ کَانَ هَذَا ذَبَحَ ذَاکَ فَقَدْ أَحْیَا هَذَا وقَدْ قَالَ الله عَزَّ وجَلَّ ومَنْ أَحْیاها فَکَأَنَّما أَحْیَا النّاسَ جَمِیعاً یُخَلَّی عَنْهُمَا - وتُخْرَجُ دِیَةُ الْمَذْبُوحِ مِنْ بَیْتِ الْمَالِ»(1).

ویمکن توجیه مفاد عدم القتل فیها لاجل الشبهة فی القصاص لا سیما ان الدیة من بیت المال لا بالقرعة ولا من الثانی, وقد تم تفصیلها فی مسالة 108 من بحث القصاص.

ص:235


1- (1) وسائل الشیعة: ج 29، ص 143.

ص:236

القاعدة الثامنة عشر:

قاعدة فی صلاحیات المرأة

ص:237

ص:238

القاعدة الثامنة عشر: قاعدة فی صلاحیات المرأة

توطئة:

بحث الفقهاء صلاحیات المراة فی القیادة والحکم ومنها القیادة الدینیة کالمرجعیة, وذکروا ان شرط من شروط المرجع ان یکون رجلا فلا تقلد المراة, نعم المرأءة لها أن تکون مجتهدة وإن لم یکن لها الافتاء لغیرها، وهذا الکلام نبحثه هنا کقاعدة فی احکام المراة وصلاحیاتها فی النظام الدینی بشکل مفصل وإن لم یکن بشکل مسهب جدا إلا إنا سنذکره بشکل منقط ومفهرس:

محل البحث:

فی المناصب الثلاثة لا فی الفتیا فقط.

فالبحث لا یقع فی منصب الافتاء فقط - نعم جملة من الاعلام تناولوا البحث وکانوا یجزمون باشتراط الرجولة إلا أنه فی البحث

ص:239

یخوضون فیها بشکل تردیدی فی دلالة الأدلة وفی الحقیقیة مقدار ما خاضوه من البحث مقتضب جداً - بل یقع البحث فیه وفی منصب القضاء ومنصب الولایة، وعدم تقلدها هذا المنصب عند الامامیة أمر متسالم علیه فی القضاء والفتیا والولایة، فالسلطة التنفیذیة والولایة التشریعة والسلطة القضائیة کلها مندرجة فی منصب الفتیا فالفتیا جامعة لهذه السلطات الثلاثة غایة الامر ان القضاء والولایة احکام جزئیة مستمدة من احکام کلیة هی الفتیا.

وقد نقل السیدالحکیم فی المستمسک قولا عن متأخری علمائنا بجواز افتاء المرأة(1) إلا أنه خلاف المسلم عندنا.

فالمناصب العلیا لهذه السلطات والمناصب التی هی رأس الهرم قد حصل التسالم علی عدم تولیها لها وهی محل بحثنا.

وأما الطبقات المتوسطة لهذه السلطات - وهی المراتب الدونیة من مراتب القضاء والفتیا مثل استنطاق الشهود وغیرها فالقاضی والفقیه یستنطق الشهود واستنطاق المتخاصمین وتحریر مورد الدعوی والنزاع وتحدید المدعی من المنکر - فهل هذه المقدمات من أعمال القضاء تشارک المرأة الرجل أم لا؟

هذا أمر آخر، فإن کثیراً من القضاة لیسوا بقضاة فی الأصل بل

ص:240


1- (1) مستمسک العروة ج 1 ص 43.

بالنیابة عن الفقیه - فیقضون بفتاوی الفقیه وسیأتی أن القضاء بالفتوی أو بالصلح - فهو بمنزلة النائب والید للفقیه فهو یحرر موضوع الدعوی - بحسب فتاوی الفقیه - ویقضی فهو لیس قاضیاً مستنبطاً بل هو من أعوان القاضی والقاضی فی الحقیقة هو الفقیه والکثیر ممن یتولی القضاء الآن لیس بمجتهد أصلا ومع ذلک یتولی القضاء بفتاوی الفقیه نعم له فضل لأنه یحرر محل الدعوی بضوابط وموازین وما أن یستعصی علیه جانب یرجع فیه إلی المجتهد الفقیه.

فادوار الفقیه کثیرة جداً ولیست خاصة بالمرجعیة العلیا بل لها تشعبات کثیرة جداً والفضلاء بدورهم یملؤون هذه الحاجات والتشعبات نیابة عنه ومن هنا أنبثق عند الأعلام بحث فی المسائل المستحدثة فی القضاء من أن القضاء وحل الخصومة خاص بالفقیه أو یوجد قضاء بالنیابة وقضاء بالفتوی وقضاء بالصلح وحل النزاع بالتراضی وتولی الفضلاء لهذه الأدوار نیابة عن الفقیه لاینافی اختصاص القضاء بالفقیه فهم فی الحقیقة تابعون لما یراه الفقیه.

و هذا شبیه بالقاضی فی محکمة کبیرة یدیر فیها جمیع شؤون البلد الکبیر فهو فی منصبه الأعلی لا یحرر جمیع القضایا بل یوجد عنده من یقوم بهذه الامور المقدمیة من مراهقین علمیا فیحرروا موضع النزاع علی وفق موازین قاضی المحکمة ثم هو بعد ذلک یقوم بالاشراف علی ما فعلوه، وأما فی الاشیاء التی لا یعلمونها فیرجعون إلیه ویعبر عن

ص:241

هذا بالتوکیل فی مقدمات القضاء وکذا أیضا فی المسائل والاستفتاءات من المقلدین الذین لا یمکنهم الوصول إلی مرجع التقلید فبواسطة المراهقین للاجتهاد ولاحاطتهم بمبانی الفقیه والمجتهد یوصلون الاحکام بتحدید موضوعاتها للناس وهکذا تترامی القدرات التی هی فی طول قدرة الفقیه العلیا حتی تغذی کافة المجتمعات فی کافة المجالات.

وقد تبین أن هذه المناصب الثلاثة لها مراتب علیا ومتوسطة ودنیا وموقع البحث یختلف بحسب هذه المراتب.

الاقوال فی المسالة:

وقبل الخوض فی البحث نذکر بعض أقوال الخاصة والعامة:

ویمکن تحصیل الاجماع عند الخاصة بالنسبة إلی المرتبة العلیا أما بقیة المراتب فتحصیل الاجماع غیر واضح من عبائرهم ولاسیما فی القطاع الخاص، فمن باب المثال: کانت ابنة الشیخ الطوسی قدس سره مجتهدة وکذا ابنة العلامة الحلی قدس سره وابنة الشهید الأول قدس سره وکانت تسمی بسیدة النسوان، وکانت تدرّس من وراء حجاب، وکانوا یستجیزونها، وکذا ابنة المجلسی قدس سره الأول - زوجة الملا صالح المازندرانی قدس سره - کانت مجتهدة، بل إن السیدة حکیمة علیها السلام کانت نائبة عن الامام الحجة عجل الله تعالی فرجه الشریف، وکذا العقیلة زینب علیهما السلام کانت نائبة عن الامام زین العابدین علیه السلام، وکذا أم سلمة فقد استودعها الامام الحسین علیه السلام ودائع النبوة، وهذا لیس

ص:242

بالامر الیسیر.

فبحسب سیرة علماء الأمامیة - فضلا عن سیرة المعصومین علیهم السلام - نری أنه یُقرُّ للمرأة دوراً فی غیر المناصب العلیا سواء فی جانب السلطة التشرعیة أوالقضائیة ولا یستفاد من أقوال الامامیة منع المرأة من الشعب النازلة ولا من سیرتهم العملیة فالقدر المتیقن من المتسالم علیه فی المنع عند الامامیة هی المناصب العلیا.

نعم، توجد فی الشعب النازلة ضوابط مرعیة إذا لم تراع تفقد المرأة صلاحیاتها کما لو استلزم ذلک فقد حجابها ولو علی مستوی التعامل بحیث امتنع الحجاب أو العفة فی التعامل فإنها تفقد تلک صلاحیات، وإلا ففرق بین أن نقول لا أهلیة للمرأة أصلًا لهذه المناصب وبین أن نقول لها تلک الأهلیة ولکن بشروط مرعیة إذا فقدتها فقدت تلک الصلاحیات ولابد من إیقاع البحث علی حسب تدرج هذه المناصب.

هذا بالنسبة إلی أقوال الخاصة.

وأما أقوال العامة، فقال فی ابن قدامة: «إن المتسالم لدیهم فی الامامة العظمی بل عند المسلمین وحتی الولایة فی البلدان عدم تولی المرأة»(1).

ص:243


1- (1) المغنی: ج 11 ص 380.

وأما فی الافتاء فمتسالم عندهم جواز تصدی المرأة اللافتاء وأما تصدیها للقضاء فالمشهور شهرة کبیرة عندهم جوازه إلا من ابن جریر وأما أبو حنیفة فیجوّز لها القضاء أیضاً عدا الحدود.

هذا مع اعترافهم أن الفتیا منصب ومن ثم لدیهممنصب (مفتی الدیار)، ومع ذلک یتعاملون مع الفتیا معاملة الامارة المحضة. والصحیح أنها ولایة وسلطة تشریعة فکما أنها ممنوعة من منصب الولایة فهی ممنوعة من منصب الافتاء.

ادلة القاعدة:

الآیات والأخبار الدالة علی عدم تولی المرأة:

اشارة

والاستدلال بالآیات أو الأخبار علی منع المرأة من تولی هذه المناصب لا یقتصر فیه علی الدلالة المطابقیة والحرفیة بل یستدل علیه بما تدل علیه الآیات بالدلالة الالتزامیة کما هو منهج الاستدلال بصناعة التحلیل.

الآیات المستدل بها علی طوائف:

الطائفة الأولی: ما یدل علی ضعف المرأة ولیونتها:
اشارة

استدل علی ضعف المرأة ولیونتها المانع من تولیها هذه المناصب بعدة آیات:

ص:244

منها: (أَ لَکُمُ الذَّکَرُ وَ لَهُ الْأُنْثی ( 21) (1).

ومنها: (إِنَّ الَّذِینَ لا یُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَیُسَمُّونَ الْمَلائِکَةَ تَسْمِیَةَ الْأُنْثی ( 27) )(2).

ومنها: (إِنْ یَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاّ إِناثاً وَ إِنْ یَدْعُونَ إِلاّ شَیْطاناً مَرِیداً ( 117) (3).

ومنها: (فَلَمّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّی وَضَعْتُها أُنْثی وَ اللّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَ لَیْسَ الذَّکَرُ کَالْأُنْثی) (4).

ومنها: (أَ فَأَصْفاکُمْ رَبُّکُمْ بِالْبَنِینَ وَ اتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِکَةِ إِناثاً إِنَّکُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِیماً ( 40) (5).

ومنها: (فَاسْتَفْتِهِمْ أَ لِرَبِّکَ الْبَناتُ وَ لَهُمُ الْبَنُونَ ( 149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِکَةَ إِناثاً وَ هُمْ شاهِدُونَ ( 150) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْکِهِمْ لَیَقُولُونَ ( 151) وَلَدَ اللّهُ وَ إِنَّهُمْ لَکاذِبُونَ ( 152) أَصْطَفَی الْبَناتِ عَلَی الْبَنِینَ ( 153) ما لَکُمْ کَیْفَ تَحْکُمُونَ ( 154) (6).

ومنها: (أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَ لَکُمُ الْبَنُونَ ( 39) (7).

ص:245


1- (1) سورة النجم: الآیة 21.
2- (2) سورة النجم: الآیة 27.
3- (3) سورة النساء: الآیة 117.
4- (4) سورة آل عمران: الآیة 37.
5- (5) سورة الإسراء: الآیة 40.
6- (6) سورة الصّافّات: الآیات 149-154.
7- (7) سورة الطّور: الآیة 39.

ومنها: (وَ یَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَ لَهُمْ ما یَشْتَهُونَ ( 57) وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثی ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ کَظِیمٌ ( 58) یَتَواری مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَ یُمْسِکُهُ عَلی هُونٍ أَمْ یَدُسُّهُ فِی التُّرابِ أَلا ساءَ ما یَحْکُمُونَ ( 59) لِلَّذِینَ لا یُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَ لِلّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلی وَ هُوَ الْعَزِیزُ الْحَکِیمُ ( 60) (1).

إشکالیة استحقار الاسلام للمرأة:

هذه الآیات تشیر وتدل علی ضعف المرأة ولیونتها ونقصان قوتها لا علی سبیل ونهج ذمها واستحقارها فقبل الاستدلال بهذه الآیات الکریمة علی المطلوب نبین بعض ما أورد علی النصوص والتشریعات الأسلامیة من تقلیلها من شأن المرأة ووصفها بالضعف واللیونة المستوجب لذمها واستحقارها ولا یخفی أن منشأ هذه الاشکالیات قصور النظر وعدم القراءة الصحیحة للشریعة المقدسة کما یتبین.

فمِن قائل:

إن الأسلام یستحقر المرأة ویستنقصها ولا یبالی بحقوقها وأن القرآن کتاب تاریخی خاص بحقبة زمنیة قد انقضت وتصرمت وغیرها من الترهات.

ص:246


1- (1) سورة النحل: الآیات 57-60.

والجواب عن هذا:

أن الاسلام جاء مربیاً ومعلماً ومخرجاً للناس من الظلمات إلی النور فلیست وظیفته التعییر والذم والاستحقار فمثله مثل الطبیب لما یبین مرض المریض أو خواص بدن ومزاج الشخص الذی هو نقص فی الواقع لکی یتفادی المریض ما یزید فی مرضه ونقصه أو یفعل ما یزیل ذلک النقص والمرض أو یبیّن خواص الطبیعة لما لها من نظام تعامل خاص یمکن استثماره إیجابیا من جهات ضعفه ونقصه إذ کل طبیعة لها جانب ایجابی وقوة ولها جانب سلبی وضعف فالشارع فی مقام الناصح الشفیق والمرشد المربی.

فالقرآن والشارع المقدس یستعمل لفظ المرأة والانوثة بما هو مظهر للضعف واللیونة والعطوفة والرحمة من جانبین وذلک فی قبال صفة الرجولة فإنها مظهر قوة وشدة وقساوة وجفاف قال بعض الحکماء: «الخالق رجل والمخلوقات إناث»، یقصد أنه ذو قوة وغنیً بالذات وکل ما یذب فیه النقص فهو منفعل فسمی بالأنثی؛ لأن الأنوثة فی اللغة العربیة وبقیة اللغات بمعنی الضعف والنقص.

و هذا لا یعنی استحقار المرأة وتنقیصها وتعییرها وذلک لعدم الملازمة بین النقص والضعف وبین الاستحقار لاسیما وأن هذه الصفة لطبیعة المرأة هی ملازمة لصفة أخری إیجابیة عظیمة هی صفة الرحمة والعطف فبالنظر إلی مفاد سورة النحل فمع بیانها لضعف المرأة

ص:247

ولیونتها فهی تصرح أیضاً بعدم قبول استحقارها والنهی عن التبرم والتشائم منها وتذم الخجل منها حتی تدس فی التراب.

فذمهم فی هذه السورة علی ما یفعلونه عندما یبشرون بالأنثی فقال تعالی: (أَلا ساءَ ما یَحْکُمُونَ) . فالقرآن یدین ما یفعلونه فی الجاهلیة إلا أنه یبین أن المرأة ضعیفة من جانب البنیة البدنیة مثلًا مع أن القرآن والسنة یبینان أنها أقوی من الرجل من جهة الحنان والعطف والرحمة.

فالنقص والضعف شیء والذم شیء آخر فانظر إلی الکمال فی قول أمیر المؤمنین علیه السلام: «کفی بی عزا أن أکون لک عبداً»، فحدد الکمال

فی عبودیة المخلوق للخالق وفی الحقیقة أن النقص خاضع للقابلیات والذم راجع للتقصیر والتمرد وهذا یغایر ما یتوهمه الحداثویون والعلمانیون بل حتی من تأثر بهذه الشبهة من الباحثین فی العلوم الدینیة.

فإن الشریعة قائمة علی الموازین والمعادلات الدقیقة فی نظامها واحکامها فتراها تجعل وتصب أحکاماً خاصة بالرجل تارة وأحکاماً خاصة بالمرأة تارة أخری وأحکاماً مشترکة بینهما أخری، وذلک لقیام الاختلاف بین طبیعة المرأة وطبیعة الرجل فکما یوجد مشترکات بینهما توجد أیضاً خصوصیات وممیزات مختصة بکل منهما واحکام الشریعة تنصب علیهما بما یتناسب مع طبیعتهما.

ص:248

ولابد فی فهم حقیقة الشریعة المقدسة من خلال قوانینها أن ینظر إلی جمیع أحکامها حتی تتضح الموازنة والمعادلة ولا یکفی فی الحکم بالحسن أو القبح علی شیء من قوانینها إلا بعد معرفة منظومتها القانونیة کلها حتی یعرف مقدار حکمتها من عدمها فهل الشارع حکیم فی تصرفاته أم تنظیمه تنظیماً عشوائیاً.

النصوص الشرعیة فی مکانة المرأة:

فلابد من النظر إلی جمیع مایتعلق بالمرأة عند الشارع حتی یعرف مدی احاطة الشارع بخصائصها الروحیة والجسدیة فکما أنه قد تعرض للمرأة فی جوانب الادارة والقیادة فقد تعرض لها فی جوانب أخری.

کما تشیر إلیه النصوص المستفیضة بالتصریح أو التلمیح فی عظمة وفضل المراة بأصنافها کبنت وأخت وزوجه وأم، ونذکر بعض ما یدل علی مکانتها:

منها: أنه صلی الله علیه وآله أبو البنات، ومنزلة وفضل البیت الذی فیه بنات:

منها: روایة حماد بن عثمان، عن أبی عبدالله علیه السلام قال: «کان رسول الله صلی الله علیه وآله أبا بنات»(1).

ومنها: ما رواه القطب الراوندی عن النبی صلی الله علیه وآله أنه قال: «رحم

ص:249


1- (1) وسائل الشیعة: ج 21 أبواب أحکام الأولاد، ب 4 ص 361 ح 2.

الله أبا البنات البنات مبارکات محببات والبنون مبشرات وهن الباقیات الصالحات» (1).

ومنها: روایة الراوندی أیضاً عنه صلی الله علیه وآله قال: «من کان له ابنة فالله فی عونه ونصرته وبرکته ومغفرته»(2).

ومنها: ما روایته أیضاً عنه صلی الله علیه وآله قال: «من کانت له ابنة واحدة کانت خیرا له من ألف حجة وألف غزوة وألف بدنة وألف ضیافة» (3).

ومنها: ما رواه فی الصدوق عن النبی صلی الله علیه وآله قال: «من کن له ثلاث بنات فصبر علی لأوائهن وضرائهن وسرائهن کن له حجابا یوم القیامة»(4).

ومنها: ما رواه فی جامع الاخبار عن رسول الله صلی الله علیه وآله قال: «ما من بیت فیه البنات إلا نزلت کل یوم علیه اثنتا عشرة برکة ورحمة من السماء ولا تنقطع زیارة الملائکة من ذلک البیت یکتبون لأبیهم کل یوم ولیلة عبادة سنة»(5).

وصیته صلی الله علیه وآله بالاحسان للأنثی وتقدیمها علی الابن:

ص:250


1- (1) مستدرک الوسائل: ج 15 أبواب أحکام الأولاد، ب 3 ص 115 ح 3.
2- (2) المصدر نفسه، ح 5.
3- (3) المصدر نفسه، ح 7.
4- (4) وسائل الشیعة: ج 21 أبواب أحکام الأولاد، ب 4 ص 362 ح 6.
5- (5) مستدرک الوسائل: ج 15 أبواب أحکام الأولاد، ب 3 ص 116 ح 12.

منها: ما رواه فی العوالی، عن النبی صلی الله علیه وآله قال: «من کان له أنثی فلم یبدها ولم یهنها ولم یؤثر ولده علیها أدخله الله الجنة»(1).

ومنها: روایة السکونی، قال دخلت علی أبی عبدالله علیه السلام وانا مغموم مکروب فقال لی: «یا سکونی مما غمک». قلت: ولدت لی ابنة. فقال لی: «یا سکونی، علی الأرض ثقلها وعلی الله رزقها، تعیش فی غیر اجلک وتأکل من غیر رزقک». فسری والله عنی فقال (لی): «ما سمیتها». قلت: فاطمة. فقال: «آهٍ آه»، ثم وضع یده علی جبهته - إلی أن قال - «أما إذا سمیتها فاطمة فلا تسبها ولا تلعنها ولا تضربها»(2).

منها: ما رواه فی العوالی، عن النبی صلی الله علیه وآله قال: «من کان له اختان أو بنتان فأحسن إلیهما کنت أنا وهو فی الجنة کهاتین وأشار بإصبعیه السبابة والوسطی»(3).

منها: ما رواه فی العوالی، عن النبی صلی الله علیه وآله قال: «من ابتلی بشیء من هذه البنات فأحسن إلیهن کن له سترا من النار»(4).

منها: ما رواه فی العوالی عن الصادق علیه السلام قال: «إذا أصاب الرجل ابنة بعث الله عز وجل إلیها ملکا فأمر جناحه علی رأسها

ص:251


1- (1) المصدر نفسه، ب 5 ص 118 ح 2.
2- (2) وسائل الشیعة: ج 21 أبواب أحکام الأولاد، ب 87 ص 482 ح 1.
3- (3) مستدرک الوسائل: ج 15 أبواب أحکام الأولاد، ب 5 ص 118 ح 3.
4- (4) المصدر نفسه، ح 4.

وصدرها وقال ضعیفة خلقت من ضعف المنفق علیها معان» (1).

ومنها: ما رواه الطبرسی - من کتاب نوادر الحکمة - عن ابن عباس عن النبی صلی الله علیه وآله قال: «من دخل السوق فاشتری تحفة فحملها إلی عیاله کان کحامل صدقة إلی قوم محاویج، ولیبدأ بالأناث قبل الذکور فإنه من فرح ابنته فکأنما أعتق رقبة من ولد إسماعیل ومن أقر عین ابن فکأنما بکی من خشیة الله ومن بکی من خشیة الله أدخله الله جنات النعیم»(2).

قوله صلی الله علیه وآله: «مبارکات» و «مؤنسات» و «ریحانة»:

منها: ما رواه فی الجعفریات - کما فی نسخة الشهید - بإسناده عن علی علیه السلام قال: «قال رسول الله صلی الله علیه وآله: نعم الولد البنات ملطفات مجهزات مؤنسات باکیات مبارکات»(3).

ومنها: روایة السکونی عن أبی عبدالله علیه السلام قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله: «نعم الولد البنات ملطفات مجهزات مؤنسات مبارکات مفلیات»(4).

ومنها: روایة الجارود بن المنذر قال: قال لی أبو عبدالله علیه السلام: «بلغنی أنه ولد لک ابنة فتسخطها وما علیک منها، ریحانة تشمها وقد

ص:252


1- (1) المصدر نفسه، ح 5.
2- (2) مستدرک الوسائل: ج 15 أبواب أحکام الأولاد، ب 5 ص 118 ح 1.
3- (3) المصدر نفسه، ب 3 ص 115 ح 2.
4- (4) الکافی: ج 6، ص 5.

کفیت رزقها وقد کان رسول الله صلی الله علیه وآله أبا بنات» (1).

ومنها: روایة القطب الراوندی عن النبی علیه السلام قال: «نعم الولد البنات ملطفات مؤنسات ممرضات مبدیات»(2).

ومنها: ما رواه فی الصدوق، عن إبراهیم بن هاشم، عن البرقی رفعه قال: «بشر النبی صلی الله علیه وآله بابنة، فنظر فی وجوه أصحابه فرأی الکراهة فیهم فقال: مالکم! ریحانة أشمها ورزقها علی الله (عز وجل)»(3).

ومنها: ما فی الجعفریات بإسناده عن علی بن أبی طالب علیه السلام قال: «کان رسول الله صلی الله علیه وآله إذا بشر بجاریة قال: ریحانة ورزقها علی الله»(4).

ومنها: ما رواه الکلینی عن إبراهیم الکرخی عن ثقة حدثه من أصحابنا قال: تزوجت بالمدینة فقال لی أبو عبدالله علیه السلام: «کیف رأیت؟». قلت: ما رأی رجل من خیر فی امرأة إلا وقد رأیته فیها ولکن خانتنی. فقال: «و ما هو؟». قلت: ولَدَت جاریة. قال: «لعلک کرهتها!! إن الله (عز وجل) یقول: (لا تَدْرُونَ أَیُّهُمْ أَقْرَبُ لَکُمْ نَفْعاً) (5)»(6).

ص:253


1- (1) المصدر نفسه، ب 5 ص 364 ح 3.
2- (2) مستدرک الوسائل: ج 15 أبواب أحکام الأولاد، ب 3 ص 115 ح 8.
3- (3) المصدر نفسه، ب 4 ص 117 ح 4.
4- (4) المصدر نفسه، ب 3 ص 114-115 ح 1.
5- (5) سورة النساء: الآیة 11.
6- (6) وسائل الشیعة: ج 21 أبواب أحکام الأولاد، ب 5 ص 363 ح 1.
عظمة ادخال السرور علی المرأة:

منها: روایة سلمان الجعفری، عن أبی الحسن الرضا علیه السلام قال: «قال رسول الله صلی الله علیه وآله: إن الله (تبارک وتعالی) علی الإناث أرأف منه علی الذکور، وما من رجل یدخل فرحة علی امرأة بینه وبینها حرمة إلا فرحه الله تعالی یوم القیامة»(1).

البنات حسنات وجهات فضلهن علی الابناء:

منها: روایة أحمد بن عبد الرحیم، عن بعض أصحابه، عن أبی عبدالله علیه السلام قال: «البنات حسنات والبنون نعمة فإنما یثاب علی الحسنات ویسأل عن النعمة»(2).

ومنها: روایة أحمد بن الفضل، عن الصادق علیه السلام قال: «البنون نعیم والبنات حسنات، والله یسأل عن النعیم ویثیب علی الحسنات» (3).

ومنها: روایة الکلینی عن الحسین بن سعید اللخمی، قال: ولد لرجل من أصحابنا جاریة فدخل علی أبی عبدالله علیه السلام فرآه متسخطا فقال له أبو عبدالله علیه السلام: «أرأیت لو أن الله (تبارک وتعالی) أوحی إلیک أن أختار لک أو تختار لنفسک ما کنت تقول؟». قال: کنت أقول: یا رب تختار لی. قال: «فإن الله قد اختار لک». قال: ثم قال: «إن الغلام

ص:254


1- (1) وسائل الشیعة: ج 21 أبواب أحکام الأولاد، ب 7 ص 367 ح 1.
2- (2) المصدر نفسه، ح 2.
3- (3) المصدر نفسه، ح 3.

الذی قتله العالم الذی کان مع موسی علیه السلام وهو قول الله (عز وجل): (فَأَرَدْنا أَنْ یُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَیْراً مِنْهُ زَکاةً وَ أَقْرَبَ رُحْماً ( 81) (1) أبدلهما الله به جاریة ولدت سبعین نبیا» (2).

ومنها: ما رواه الطبرسی، عن حذیفة الیمانی قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله: «خیر أولادکم البنات»(3).

ومنها: ما رواه فی روضة الواعظین، قال رسول الله صلی الله علیه وآله: «نِعْمَ الولد البنات المخدرات من کانت عنده واحدة جعلها الله له سترا من النار ومن کانت عنده اثنتان أدخله الله بهما الجنة ومن کانت له ثلث أو مثلهن من الأخوات وضع عنه الجهاد والصدقة»(4).

عظمة کفالتهن:

منها: ما رواه الصدوق، عن یعقب بن یزید یرفعه إلی أحدهما الإمامین الباقر أو الصادق علیهما السلام قال: «إذا أصاب الرجل ابْنَةً بعث الله إلیها ملکا فأمر جناحه علی رأسها وصدرها وقال: ضعیفة خلقت من ضعف المنفق علیها معان إلی یوم القیامة»(5).

ص:255


1- (1) سورة الکهف: الآیة 81.
2- (2) مستدرک الوسائل: ج 15 أبواب أحکام الأولاد، ب 4 ص 117 ح 2.
3- (3) المصدر نفسه، ب 3 ص 116 ح 11.
4- (4) المصدر نفسه، ص 117 ح 10.
5- (5) وسائل الشیعة: ج 21 أبواب أحکام الأولاد، ب 7 ص 368 ح 5.

ومنها: ما رواه الراوندی، عن النبی صلی الله علیه وآله قال: «من عال ابنتین أو ثلاثا کان معی فی الجنة»(1).

ومنها: ما رواه الشریف الزاهد فی کتاب التعازی، عن أصحابه، عن رسول الله صلی الله علیه وآله أنه قال فی حدیث: «ومن عال واحدة أو اثنتین من البنات جاء معی یوم القیامة کهاتین وضم إصبعیه»(2).

ومنها: ما رواه الراوندی، عن النبی صلی الله علیه وآله: «من ابتلی من هذه البنات باثنتین کن له براءة من النار ومن کانت له ثلاث بنات فأعینوه وأقرضوه وارحموه»(3).

ومنها: ما رواه الرواندی، عن الصادق علیه السلام قال: «من عال ابنتین أو أختین أو عمتین أو خالتین حجبتاه عن النار»(4).

ومنها: ما روایة عمر بن یزید، عن أبی عبدالله علیه السلام قال: «قال رسول الله صلی الله علیه وآله: من عال ثلاث بنات أو ثلاث أخوات وجبت له الجنة. فقیل یا رسول الله، واثنتین؟ فقال: (واثنتین) فقیل: یا رسول الله وواحدة؟ فقال: وواحدة»(5).

ص:256


1- (1) مستدرک الوسائل: ج 15 أبواب أحکام الأولاد، ب 3 ص 115 ح 4.
2- (2) المصدر نفسه، ب 3 ص 116 ح 13.
3- (3) المصدر نفسه، ح 9.
4- (4) جامع أحادیث الشیعة: ج أبواب أحکام الأولاد والاستیلاد، ص ح 12.
5- (5) وسائل الشیعة: ج 21 أبواب أحکام الأولاد، ب 4 ص 361 ح 3.

ومنها: ما رواه فی عدة الداعی، النبی صلی الله علیه وآله قال: «من عال بنات أو مثلهن من الأخوات وصبر علی ایوائهن حتی یبن إلی أزواجهن أو یمتن فیصرن إلی القبور کنت أنا وهو فی الجنة کهاتین وأشار بالسبابة والوسطی». فقیل: یا رسول الله واثنتین؟ وذکر نحوه(1).

ومنها: ما رواه الراوندی، عن النبی صلی الله علیه وآله قال: «من عال ثلاث بنات یعطی ثلاث روضات من ریاض الجنة کل روضة أوسع من الدنیا وما فیها»(2).

حق المرأة کأم ومکانتها:

منها: ما رواه الحسین بن سعید، عن علی بن الحسین صلی الله علیه وآله قال: «جاء رجل إلی النبی صلی الله علیه وآله فقال: یا رسول الله، ما من عمل قبیح إلا قد عملته، فهل لی من توبة؟ فقال رسول الله صلی الله علیه وآله: فهل من والدیک أحد حی؟». قال: أبی، قال: «فاذهب، فبره»، قال: فلما ولیّ، قال رسول الله صلی الله علیه وآله: «لو کانت أمه!»(3).

ومنها: ما رواه الصدوق فی (فقه الرضا) علیه السلام قال: «واعلم أن حق الأم أ لزم الحقوق وأوجب، لأنها حملت حیث لا یحمل أحد أحدا،

ص:257


1- (1) المصدر نفسه، ص 362 ح 7.
2- (2) مستدرک الوسائل: ج 15 أبواب أحکام الأولاد، ب 3 ص 115 ح 6.
3- (3) مستدرک الوسائل: ج 15 أبواب أحکام الأولاد، ب 70 ص 179 ح 1.

ووقت بالسمع والبصر وجمیع الجوارح، مسرورة مستبشرة بذلک، فحملته بما فیه من المکروه الذی لا یصبر علیه أحد، ورضیت بأن تجوع ویشبع، وتظمأ ویروی، وتعری ویکتسی، وتظله وتضحی، فلیکن الشکر لها والبر والرفق بها علی قدر ذلک، وان کنتم لا تطیقون بأدنی حقها الا بعون الله» (1).

ومنها: مارواه أبو القاسم الکوفی فی (کتاب الأخلاق) قال: قال رجل لرسول الله صلی الله علیه وآله: إن والدتی بلغها الکبر، وهی عندی الآن، أحملها علی ظهری، وأطعمها من کسبی، وأمیط عنها الأذی بیدی، وأصرف عنها مع ذلک وجهی استحیاء منها واعظاما لها، فهل کافأتها؟ قال: «لا؛ لأن بطنها کان لک وعاء، وثدیها کان لک سقاء، وقدمها لک حذاء، ویدها لک وقاء، وحجرها لک حواء، وکانت تصنع ذلک لک وهی تمنی حیاتک، وأنت تصنع هذا بها وتحب مماتها»(2).

ومنها: ما رواه القطب الراوندی، عن النبی صلی الله علیه وآله، أنه قال: «الجنة تحت أقدام الأمهات». وقال صلی الله علیه وآله: «تحت أقدام الأمهات، روضة من ریاض الجنة». وقال صلی الله علیه وآله: «إذا کنت فی صلاة التطوع، فان دعاک والدک فلا تقطعها، وان دعتک والدتک فاقطعها»(3).

ص:258


1- (1) المصدر نفسه، ص 180 ح 2.
2- (2) مستدرک الوسائل: ج 15 أبواب أحکام الأولاد، ب 70 ص 180 ح.
3- (3) المصدر نفسه، ص 180-181 ح 4.

ومنها: ما رواه الفتّال عن الباقر علیه السلام قال: «قال موسی بن عمران علیه السلام: یا رب، أوصنی، قال: أوصیک بی، قال: فقال: رب أوصنی قال: أوصیک بی، ثلاثا. قال: یا رب أوصنی، قال: أوصیک بأمک، قال: رب أوصنی، قال: أوصیک بأمک، قال: رب أوصنی قال: أوصیک بأبیک، قال: (فکان یقال) لأجل ذلک أن للأم ثلثی البر وللأب الثلث»(1).

منها: ما رواه الطبرسی فی (المشکاة) عن الصادق علیه السلام، قال: «جاء رجل فسأل رسول الله صلی الله علیه وآله، عن بر الوالدین، فقال: أبرر أمک، أبرر أمک، أبرر أمک، أبرر أباک، أبرر أباک، أبرر أباک، وبدأ بالأم»(2).

ومنها: ما رواه قال: قلت للنبی صلی الله علیه وآله: یا رسول الله، من أبرر؟ قال: «أمک» قلت: ثم من؟ قال: «ثم أمک» قلت: ثم من؟ قال: «ثم أمک» قلت: ثم من؟ قال: «ثم أباک، ثم الأقرب فالأقرب»(3).

ومنها: ما رواه فی (العوالی) فی حدیث عنه صلی الله علیه وآله، قیل: یا رسول الله، ما حق الوالد؟ قال صلی الله علیه وآله: «أن تطیعه ما عاش» فقیل: وما حق الوالدة؟ فقال: «هیهات هیهات، لو أنه عدد رمل عالج، وقطر المطر أیام الدنیا، قام بین یدیها، ما عدل ذلک یوم حملته فی بطنها»(4).

ص:259


1- (1) المصدر نفسه، ص 181 ح 5.
2- (2) مستدرک الوسائل: ج 15 أبواب أحکام الأولاد، ص 181 ح 6.
3- (3) المصدر نفسه، ح 7.
4- (4) المصدر نفسه، ص 182 ح 8.

ومنها: ما رواه (العوالی) أیضاً عنه صلی الله علیه وآله قال له رجل: یا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتی؟ قال: «أمک». قال: ثم من؟ قال: «أمک» قال: ثم من؟ قال: «أبوک». وفی روایة أخری أنه جعل ثلاثاً للأم، والرابعة للأب(1).

ومنها: ما رواه الکراجکی: أنّ رجلا قال للنبی صلی الله علیه وآله: یا رسول الله، أی الوالدین أعظم؟ قال: «التی حملته بین الجنبین، وأرضعته بین الثدیین، وحضنته علی الفخذین، وفدته بالوالدین»(2).

ومنها: ما رواه فی (المستدرک): وقیل للامام زین العابدین علیه السلام: أنت أبر الناس، ولا نراک تواکل أمک! قال: «أخاف أن أمد یدی إلی شئ، وقد سبقت عینها علیه، فأکون قد عققتها»(3).

مکانة وشأن المرأة کزوجة وترک ضربها والعفو عن ذنبها:

منها: ما رواه عبد الرحمن بن کثیر، عن أبی عبدالله علیه السلام قال: «فی رسالة أمیر المؤمنین علیه السلام إلی الحسن علیه السلام: لا تملک المرأة من الامر ما یجاوز نفسها فإن ذلک أنعم لحالها، وأرخی لبالها، وأدوم لجمالها، فإن المرأة ریحانة ولیست بقهرمانة ولا تعد بکرامتها نفسها، واغضض بصرها

ص:260


1- (1) المصدر نفسه، ح 9.
2- (2) مستدرک الوسائل: ج 15 أبواب أحکام الأولاد، ص 182 ح 10.
3- (3) المصدر نفسه، ح 11.

بسترک واکففها بحجابک ولا تطمعها أن تشفع لغیرها فیمیل علیک من شفعت له علیک معها واستبق من نفسک بقیة فإن إمساکک نفسک عنهن وهن یرین أنک ذو اقتدار خیر من أن یرین منک حالا علی انکسار» (1).

ومنها: ما رواه الصدوق: سئل النبی صلی الله علیه وآله عن الرجل یقبّل امرأته وهو صائم؟ قال: «هل هی إلا ریحانة یشمها»(2).

ومنها: ما رواه الصدوق: وقال صلی الله علیه وآله: «من عال ثلاث بنات أو ثلاث أخوات وجبت له الجنة» قیل: یا رسول الله واثنتین، قال: «واثنتین»، قیل: یا رسول الله وواحدة؟ قال: «وواحدة»(3).

ومنها: ما رواه الصدوق: قال الصادق علیه السلام: «من عال ابنتین أو أختین أو عمتین أو خالتین حجبتاه من النار»(4).

ومنها: ما رواه الصدوق: قال الصادق علیه السلام: «إذا أصاب الرجل ابنة بعث الله (عز وجل) إلیها ملکا فأمرّ جناحه علی رأسها وصدرها، وقال: ضعیفة خلقت من ضعف، المنفق علیها معان»(5).

ص:261


1- (1) وسائل الشیعة: ج 20 أبواب مقدمة النکاح وآدابه، ب 87 ص 361 ح 1.
2- (2) المصدر نفسه، أبواب وجوب الصوم، ب 33 ص 98 ح 4.
3- (3) من لا یحضره الفقیه، ج 3 ص 482 ح 1501.
4- (4) وسائل الشیعة: ج 21 أبواب أحکام الأولاد، ب 12 ص 527 ح 1.
5- (5) المصدر نفسه، ب 7 ص 368 ح 5.

ومنها: ما رواه الصدوق: قال أمیر المؤمنین علیه السلام فی وصیته لابنه محمد بن الحنفیة: «یا بنی إذا قویت فاقو علی طاعة الله، وإذا ضعفت فاضعف عن معصیة الله (عز وجل)، وإن استطعت أن لا تملک من أمرها ما جاوز نفسها فافعل فإنه أدوم لجمالها وأرخی لبالها وأحسن لحالها، فإن المرأة ریحانة ولیست، بقهرمانة فدارها علی کل حال، وأحسن الصحبة لها لیصفو عیشک»(1).

استحباب اکرام الزوجة وترک ضربها:

منها: روایة أبی مریم، عن أبی جعفر علیه السلام قال: «قال رسول الله صلی الله علیه وآله: أیضرب أحدکم المرأة ثم یظل معانقها!» (2).

ومنها: روایة السکونی، عن أبی عبدالله علیه السلام قال: «قال رسول الله صلی الله علیه وآله: إنما المرأة لعبة من اتخذها فلا یضیعها»(3).

ومنها: روایة سماعة، عن أبی عبدالله علیه السلام قال: «اتقوا الله فی الضعیفین یعنی بذلک الیتیم والنساء»(4).

ومنها: روایة عمار الساباطی، عن أبی عبدالله علیه السلام قال: «أکثر

ص:262


1- (1) من لا یحضره الفقیه: ج 3 ص 556 ح 4911.
2- (2) وسائل الشیعة: ج 20 أبواب مقدمة النکاح وآدابه، ب 86 ص 167 ح 1.
3- (3) المصدر نفسه، ح 2.
4- (4) المصدر نفسه، ص 167-168 ح 3.

أهل الجنة من المستضعفین النساء علم الله ضعفهن فرحمهن» (1).

ومنها: ما رواه الصدوق، وصیة أمیر المؤمنین علیه السلام لولده محمد بن الحنفیة، قوله: «ولیست بقهرمانة، فدارها علی کل حال، وأحسن الصحبة لها لیصفو عیشک»(2).

ومنها: روایة اسحاق بن عمار، قال: قلت لأبی عبدالله علیه السلام: ما حق المرأة علی زوجها الذی إذا فعله کان محسنا؟ قال: «یشبعها ویکسوها وان جهلت غفر لها»، وقال أبو عبد الله علیه السلام: «کانت امرأة عند أبی علیه السلام تؤذیه فیغفر لها»(3).

ومنها: روایة محمد بن مسلم، عن أبی عبدالله علیه السلام قال: «قال رسول الله صلی الله علیه وآله: أوصانی جبرئیل بالمرأة حتی ظننت انه لا ینبغی طلاقها إلا من فاحشة مبینة»(4).

ومنها: ما رواه الصدوق: قال الصادق علیه السلام: «رحم الله عبدا أحسن فیما بینه وبین زوجته فإن الله (عز وجل) قد ملکه ناصیتها وجعله القیم علیها»(5).

ومنها: ما رواه الصدوق قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله: «ملعون

ص:263


1- (1) المصدر نفسه، ص 168 ح 4.
2- (2) من لا یحضره الفقیه: ج 3 ص 556 ح 4911.
3- (3) وسائل الشیعة: ج 20 أبواب مقدمة النکاح وآدابه، ب 88 ص 169 ح 1.
4- (4) المصدر نفسه، ص 170 ح 4.
5- (5) المصدر نفسه، ح 5.

ملعون من ضیع من یعول» (1).

ومنها: ما رواه الصدوق قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله: «خیرکم خیرکم لأهله وأنا خیرکم لأهلی»(2).

ومنها: ما رواه الصدوق قال: وقال صلی الله علیه وآله: «عیال الرجل اسراؤه وأحب العباد إلی الله عز وجل أحسنهم صنعا إلی اسرائه»(3).

وغیرها من الاخبار الدالة علی موضوعیة المرأة فی نفس المنظومة الدینیة بما هی أم وبما هی بنت وبما هی أخت وبما هی زوجة وبما هی مرأة. فلابد من الناظر والباحث أن لا ینظر نظرة دونیة وتجزئیة بدون الاطلاع علی تمامیة الاحکام المتعلقة بالمرأة وعظمتها وعدم الاطلاع علی خصائص المرأة التکوینیة.

فالآیات التی تذکر المرأة أو الأنثی لیست ذات نظرة دونیة ومنطلقة من نزعة ذکوریة تغالبیة ولا بصدد الذم والتنقیص والإزراء بل هی بصدد بیان طبیعة ترکیبة المرأة واختلافها عن ترکیبة وفسلجة وطبیعة الرجل وعلیه یکون تکامل کل نوع بحسب اختلاف طبیعته وبیئته ولیست الآیات بصدد بیان ذم واستحقار المرأة ومدح الرجل علی نحو الاطلاق کی یقال أن التشریع الاسلامی ذو نزعة دونیة ذکوریة.

ص:264


1- (1) وسائل الشیعة: ج 20 أبواب مقدمة النکاح وآدابه، ب 88 ص 171 ح 6.
2- (2) المصدر نفسه، ح 8.
3- (3) المصدر نفسه، ح 9.

و هذا مثل الطبیب یقول للرجل: أنت فیک الطبیعة المعینة أو المرض الفلانی أو طبیعتک ومزاجک حار لا یناسبک بعض الأغذیة وأنک تستطیع أن تتجنب الامراض مثلا بترکک کذا وکذا فإن الطبیب لیس فی مقام الذم وإنما هو فی مقام النصیحة التوصیة باراءة خصائص الواقع وزوایا الحقائق وبیان طبیعة هذا الانسان لأجل أن یتفادی الارتطام بالعوائق ولیس فی مقام الذم والتقریع.

فمثلًا قوله علیه السلام: «إن النساء نواقص الایمان، نواقص الحظوظ، نواقص العقول»(1) ، لیس بمعنی لا عقل لها بل لها أصل وطبیعة العقل إلا أن الله زود المرأة بعاطفة جیّاشة وحیث إن ظروف الحیاة فیها الشدة والضعف والجانب الروحی والجانب الجسدی تمیز الرجل فی طبیعته بخصائص جسدیة وروحیة وتمیزت المرأة أیضا بخصائص جسدیة وروحیة، ولهذا عبر عنها النبی صلی الله علیه وآله أنها «ریحانة»(2).

والریحانة لابد منها فی نظام الحیاة الأسری والإجتماعی، ولهذا تبتلی الأسرة التی لا مرأة فیها بصلافة الاخلاق والخشونة الشدیدة والبعد عن الحنان والعاطفة، بخلاف الأسرة التی یتواجد فیها إناث أکثر تتوفر فیها نعومة الأخلاق وکثرة العاطفة وذلک لأن المرأة ینبوع الرحمة والعاطفة والحنان والشفقة فهی تفیض من رحمتها وعاطفتها

ص:265


1- (1) نهج البلاغة، الخطبة 80.
2- (2) مستدرک الوسائل: ج 15 أبواب أحکام الأولاد، ب 3 ص 117 ح 4.

وشفقتها علی الأولاد ومن فی البیت فتارة تزیل اتعاب الرجل حینما یأتی للبیت مع ماله من التعب الجسدی وعلیه ما علیه من أتعاب نفسیة وروحیة مما یلقاه خارج المنزل فبنعومة وعطوفة المرأة تزیل هذا کله عنه وهذا لیس فی الاسرة فقط بل فی المجتمع فإنها تجعل المجتمع متعادل حیث أن الطفل الذی لا یترعرع فی أحضان الأم ینشأ وحشی ومیهئ للاجرام وذلک لما عنده من نقص فی الجانب العاطفی وهذه الآن بحوث وظواهر أصبحت مسلمة.

فهذ الآیات تبین وتکشف عن أن المرأة منبع روحی وعاطفی وأن جانب الصرامة والحسم والشدة فیها ضعیف فالشارع یقول للنساء والرجال بما أن طبیعة المرأة معبئة بطاقة روحیة عاطفیة فلابد أن توازن بین هذه الامور وبین العقل وکذا یقال للرجل أنه إنسان صلب شزر إذا استمر بهذا الحال فسیکون ذا أخلاق خشنة فلابد من التوازن ولا یکون التوازن إلا بأن تکون المرأة مستندة فیما هو ناقص من طبیعتها للرجل وهو یستند لها فیما هو ناقص من طبیعته لها فعن الصادق علیه السلام: «العبد کلما ازداد للنساء حبا ازداد فی الایمان فضلا»(1).

فمفاد الطائفة الأولی التی ذکرناها هو ضعف المرأة وأنها لیست بمظهر قوة ولا مظهر صلابة فلا یناسبها مظاهر السلطة العلیا التی

ص:266


1- (1) وسائل الشیعة: ج 20 أبواب مقدمة النکاح وآدابه، ب 3 ص 23-24 ح 10.

تحتاج إلی طبیعة الصلابة والقوة والشدة والحزم.

ویدل علی هذه الحقیقة:

قوله تعالی: (أَ وَ مَنْ یُنَشَّؤُا فِی الْحِلْیَةِ وَ هُوَ فِی الْخِصامِ غَیْرُ مُبِینٍ ) (1) فإن الآیة تصرح بأن من یتربی فی الحلیة والزینة یعنی النساء لا یصلح للخصام والشدة والمجادلة فهی ضعیفة البیان فهذه الأیة واضحة الدلالة علی أن المرأة ترعرعها فی الدلال والنعومة یسلبها قوة المخاصمة والمجادلة والحجاج والاحتجاج.

وقد ورد فی الاخبار عند الفریقین وبعضها صحیح، منها: «إنما النساء عی وعورة، فاستروا العورة بالبیوت، واستروا العی بالسکوت»(2) ، أی ضعیفة البیان عند الفریقین، والبعض یخدش فیها سندا أومضمونا، والحال أنه مضمون القرآن الکریم.

فالآیة تفید: أن النساء علی الدوام اهتمامهن فی الزینة والجمال الجسدی فعقلهن منشد اهتمامه فی الجمال البدنی کما ورد عن أمیر المؤمنین علیه السلام: «عقول النساء فی جمالهن، وجمال الرجال فی عقولهم»(3). فکل مناشئها ماضمین قرآنیة وهو نفس مضموم الآیة(أَ وَ مَنْ یُنَشَّؤُا فِی الْحِلْیَةِ) ، أی طبیعتها - دوماً إلی أن تهرم - میّالة للزینة والحلیة

ص:267


1- (1) سورة الزُّخرف: الآیة 18.
2- (2) وسائل الشیعة: ج 20 أبواب مقدمة النکاح وآدابه، ب 24 ص 65-66 ح 4.
3- (3) الأمالی، الشیخ الصدوق: ص 298.

وهو فی الخصام غیر مبین یعنی أن عیاء المرأة یمتد إلی المنطق وهذه صفة غالبة لا صفة دائمة.

فهذه الطائفة دالة علی ضعف المرأة حیث قرر القرآن ذلک فی قوله تعالی: (أَمِ اتَّخَذَ مِمّا یَخْلُقُ بَناتٍ وَ أَصْفاکُمْ بِالْبَنِینَ ( 16) (1) ، وتشیر إلی ضعف المرأة وأن البنات مظهر الضعف، وکذا قوله تعالی: (وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ کَظِیمٌ ( 17) (2) وغیرها من الآیات المتقدمة.

وقال بعضهم: إن هذا المضمون لیس مراداً للقرآن وإنما هو مجاراة لأعراف العرب أو أعراف البشریة الخاطئة آنذک، لا أنه یرید أن یبین أن المرأة ضعیفة واقعاً وحقیقة.

والبعض الآخر قال: إن القرآن یجادل العرب آنذاک بمنطقهم وبما یعتقدونه أو لأنه یجاریهم علی ما عندهم من اعراف فاسدة وهذا کله شطط من القول وذلک لأن القرآن یعلل قوله: (وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ کَظِیمٌ) (3) بأمور تکوینیة فیقول تعالی: (أَ وَ مَنْ یُنَشَّؤُا فِی الْحِلْیَةِ وَ هُوَ فِی الْخِصامِ غَیْرُ مُبِینٍ) فأن المرأة موضعها ومعیشتها علی الدوام فی النعومة

ص:268


1- (1) سورة الزُّخرف: الآیة 16.
2- (2) سورة الزخرف: الآیة 17.
3- (3) سورة الزخرف: الآیة 17.

والرقة واللیونة والدلال وبالتالی تکون عیاً فی المنطق والخطاب.

وهذا کله بحسب الغالب لا العموم الاستقصائی لتمام أفراد النساء وسیأتی توجیهه وهو خلاف نظرة الحداثویین إلی هذه الآیات بأن القرآن نظرته للمرأة دونیة واستحقاریة والصحیح أنه غیر ما ذهبوا إلیه بل الآیات فی وادی آخر وقد عزف بعض المحققین عن هذه الروایات واستنکرها أو شکک فی سندها أو مضمونها مع أنها کلها مضامین قرآنیة ففی الأحادیث المرأة عی وعورة فالعی تثبته سورة الزخرف بقوله تعالی: وهو فی الخصام غیر مبین وأما أنها عورة فسیأتی فی طائفة أخر من الآیات تدل علی أن المرأة عورة لا بمعنی القباحة بل الإثار الجنسیة فهی کتلة ومنشأ لانشداد الغریزة الجنسیة.

فدعوة ونظرة القرآن تغایر النظرة الجاهلیة باجحاف المرأة کما یأتیک زیادة بیان والغریب من أهل التحصیل والبصیرة ترجلوا فی هذا البحث وتنکروا لهذه المضامین مع أنها مضامین قرآنیة إلا أن هناک من تجرأ وقال: إن القرآن یجاری الاعراف الفاسدة أو من باب الجدل وهذه أجوبة وتفسیرات زائغة عن الحقیقة والحق وغیر صحیحة وأن التفسیر الصحیح غیر هذا کما سیأتی مفصلا وکون القرآن یثبت أن من یعمل من ذکر وأنثی له جزاءه لا یتنافی مع هذه الأخبار.

فالطائفة الأولی من الآیات القرآنیة بما أنها من أصول القانون أو روح الشریعة تدل علی أن المرأة لیست مظهر القوة والبسالة والشدة بل

ص:269

مظهر الضعف والنقص واللیونة والنعومة فضعف فی جهات عدیدة، وهذا لا یعنی الدونیة للمرأة کما فی حدیث النبی صلی الله علیه وآله«المرأة ریحانة ولیست بقهرمانة»(1) ، فإنه تعبیر دقیق - وهذه الطائفة من الآیات لا تدل علی عدم تولی المراة بالمطابقة وإنما تدل علیه بالالتزام، لأن المواقع الخطیرة فی النظام السیاسی أو الاجتماعی او القضائی أو النظام الفتوائی أو النظام الولائی تحتاج إلی ارادة وعزیمة وصلابة وشجاعة وجرأة وقوة شخصیة ومظهر اللیونة والرقة والنعمومة واللطافة والضعف لا یتناسب مع هذه المناصب.

الطائفة الثانیة: من الآیات التی ذکرت أن المرأة عورة وآیات الحجاب:
اشارة

أما الطائفة الثانیة من الآیات التی تعرضت لکون النساء عورة فآیات الحجاب وغیرها من الاحادیث التی تأمر بستر المرأة وذلک لما مرّ من أن الاسلام قائم علی نظام ومنظومة المعادلات فتارة ینظر إلی الصفات الروحیة للمرأة والرجل وتارة ینظر إلی صفاتهما البدینة فتراه یبین أحکام کل منهما بحسب ما لدیه من خصائص جسدسة وهو - کما تقدم - کبیان الطبیب للمریض خصائصه الجسدیة لیرتب علیها بعض العلاجات البدنیة أو یتفادی العوائق المرضیة وبالوجدان الذی

ص:270


1- (1) وسائل الشیعة: ج 20 أبواب مقدمة النکاح وآدابه، ب 87 ص 361 ح 1.

لا ینکر أن طبیعة جسد المرأة جذاب وملفت ومغری فلا تکاد امرأة تبرز جسدها إلا أخذت بالانظار والافکار فجسدها بطبیعته فریسة، وهذه الآیات تبین أن المرأة عورة فیجب أن تحتجب فمجموع آیات الحجاب دالة علی ذلک وأن المرأة محل الافتراس.

ولهذا تکون الروایات - المصرحة بأن خیر للمرأة أن لا تری الرجال ولا الرجال یروها وغیرها من الاخبار - وإن کانت ضعیفة السند إلا أن مضمونها قرآنی مثل قوله تعالی: (یا نِساءَ النَّبِیِّ لَسْتُنَّ کَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَیْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَیَطْمَعَ الَّذِی فِی قَلْبِهِ مَرَضٌ وَ قُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً ( 32) وَ قَرْنَ فِی بُیُوتِکُنَّ وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِیَّةِ الْأُولی) (1).

وهذا یبین شکل المرأة ومظهرها عورة ولیس العوار بمعنی القبح فی المرأة - وقد تقدم دفع شبهة العلمانیین والحداثویین - بل بمعنی أنها معرضیة للافتراس لذوی الشهوات النزویة فلذا قال: فلا تخضعن بالقول فیطمع الذی فی قلبه مرض فإذا کان صوتها یطمع إلی هذه الدرجة فما بالک بجسدها فالعورة هی بمعنی وجود موجبات الانجذاب نحو المرأة من جهة صوتها أو جسدها لهجوم أو تعدی ذوی الافتراس علیها، فالاسلام وضع حجاب الرؤیة وحجاب

ص:271


1- (1) سورة الأحزاب: الآیة 33.

السمع علیها لحفظها من کل ما یسوء لها فقال: (وَ قَرْنَ فِی بُیُوتِکُنَّ وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِیَّةِ الْأُولی) .

فإذا کانت المرأة بهذه الموضعیة من الصون والحجاب فیجب علیها غض الصوت ویجب علیها القرار فی البیت فمع هذا کیف تقلد زمام الامامة العامة أو القضاء أو الزعامة حتی تتحاور وترتبط بالقاعدة الشعبیة الجماهریة... فطبیعة جسدها عائق لها عن ذلک. والقرار فی البیت هو حالة طبیعیة للمرأة وهذا لیس معنی حرمانها عن التعلم ورفع مستوی کفائتها وما اشبه ذلک، بل معنی أن المرأة وظیفتها الکبری هی تربیة الاسرة وبث روح العطف والحنان فی الاسرة، فالقرار فی البیت یمثل أن دورها الأساسی هو الأسرة وهذا لا یعنی حرمانها من العلم والمواهب الأخری وإنما دورها الاساسی الاسرة فالبیوت هی الخلایا الأولیة التی ینتشر منها مکوّنات المجتمع.

وأیضا قوله: (وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِیَّةِ الْأُولی) ، فالبروز وخفض الصوت والحجاب الجید موانع تحول عن ارتباط المرأة مع الرعیة بینما الرئس والمفتی یخوض المیادین ویبرز فی المجالات المختلفة فلا تتناسب مع أدلة الاحتجاب بالنسبة إلی المرأة.

فخفض الصوت وعدم التبرج والبروز والقرار فی البیت تدل علی عدم تناسب المرأة مع تلک الوظائف المقررة لمنصب الافتاء.

ص:272

وقوله تعالی: (وَ إِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِکُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِکُمْ) (1). فإذا کان السؤال والتعاطی بالحدیث من وراء حجاب مع النساء فلا یتناسب مع تلک المقامات بل احتجاب النساء عن الرجال موجب لطهارة القلوب من النزوات والإثارات الجنسیة.

وهذه الآیات لیست خاصة بنساء النبی صلی الله علیه وآله باعتبار أنهن نساء زعیم الدین، والبعض أراد أن یخص هذه الآیات بنساء النبی صلی الله علیه وآله باعتبارهن زوجات خلیفة الله فی ارضه دون باقی النساء.

وهو غیر تام باعتبار أن تشریع الله لنساء النبی صلی الله علیه وآله قدوة لبقیة النساء فی الأخذ به فقوله تعالی: (لَسْتُنَّ کَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَیْتُنَّ) فهذه التشریع تشریع قدوة لا انکن تختلفن عن بقیة النساء بل أولویة تقیدهن بالتشریع فالتشریع للجمیع وهن أولی بالتقید به لا أن هذه الآیات خاصة بهن دون غیرهن وفرق بین المقامین، فنفس التشریع التحریمی أو الالزامی فی قوله: (لَسْتُنَّ کَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَیْتُنَّ) ثابت لجمیع النساء إلا أن نساء النبی صلی الله علیه وآله یتقرر علیهم التعامل مع التشریع بموجب أولویة أخذهن به لإضافتهن للنبی صلی الله علیه وآله بالمصاهرة ولهذا یختلف عقابهن قال تعالی: (یا نِساءَ النَّبِیِّ مَنْ یَأْتِ

ص:273


1- (1) سورة الأحزاب: الآیة 53.

مِنْکُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَیِّنَةٍ یُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَیْنِ وَ کانَ ذلِکَ عَلَی اللّهِ یَسِیراً ( 30) (1). مع أن هذا ثابت لغیر لنساء النبی صلی الله علیه وآله إلَّا أنه فی نساء النبی صلی الله علیه وآله فیه یضاعف أجرهن وعقابهن لا أن هذا التشریع خاص بنساء النبی صلی الله علیه وآله ولا یشمل غیرهن.

وأیضاً قوله تعالی: (یا أَیُّهَا النَّبِیُّ قُلْ لِأَزْواجِکَ وَ بَناتِکَ وَ نِساءِ الْمُؤْمِنِینَ یُدْنِینَ عَلَیْهِنَّ مِنْ جَلاَبِیبِهِنَّ ذلِکَ أَدْنی أَنْ یُعْرَفْنَ فَلا یُؤْذَیْنَ وَ کانَ اللّهُ غَفُوراً رَحِیماً ( 59) (2).

فالآیة تأمر بوضع اللباس وما شابهه لإقامة الجدار العازل بینهن وبین الرجال فکل هذه التشریعات للحجاب فی موارد عدیدة دالة علی عدم امکان تولی المرأة مناصب الزعامة لممانعة الحجاب لها؛ وأن وظائف الأمهات الأصلیة فی المنزل کما یبینه قوله: (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ کُرْهاً...)3.

مضامین أخبار النساء عی وعورة مضامین قرآنیة وبیان عدم کونه نقصا وازدراءا:

فهذه الآیات وغیرها من آیات الحجاب دالة علی عدم تولی المرأة بالدلالة الالتزامیة، فالطاعن فی مضمون أخبار أن النساء (عی)

ص:274


1- (1) سورة الأحزاب: الآیة 30.
2- (2) سورة الأحزاب: الآیة 59.

و (عورة) یطعن فی القرآن لأنها مضامین قرآنیة وأما مسألة أن القرآن یتأثر بالتاریخ فهو تاریخی ومراده من کون أن القرآن تاریخی أن الوحی لما یتنزل ببئیة یتأرخ ویفقد وحیانیته ویتلون بلون تلک البئیة التاریخیة بما هی علیه من علاتها، وحیث کانت تلک البئیة آنذاک تحتقر المرأة فکذا القرآن حیث إنه عبر عن اغراضه بتلک اللغة المبنیة علی تلک الثقافة بعلاتها.

فجوابه هو ما تقدم من أن المرأة عورة لیس نقصاً فضلا عن کونه إذماً بل إن هذه الخطابات الشرعیة لبیان حقیقة أن جسم المراة طبیعته مثیرة للطرف الآخر فهو یسبب فتنة وغیرها... فالقرآن یبین أهمیة قیمة جسد المراة فالشارع بصدد أن لجسد المرأة قیمة، حتی جاء أن أکثر جند الشیطان المرأة وذلک باعتبار أن بدن المرأة بما له من خصوصیات تفتن به بحیث یجعل النفس تنجدب وتمیل إلیه ولهذا تجد الدول الاجنبیة تروج لبضائعها بواسطة المرأة بإبداء محاسنها، فالمرأة لدیهم سمسار یعرض بها البضائع ویسوق به کل ما یراد تسویقه بل حتی ثقافاتهم یروجونها بجسد المرأة، فالغرب لا یقرر حقوق المرأة حقیقة بل هو فی الواقع استغلال المرأة وجهل بقیمة بدنها حتی جعله مبتذل یروج به ما یرید ترویجه. وإذا ما هرمت وکبرت تعزل جانباً ولاقیمة لها لا فی الاسرة ولا فی المجتمع وما ذلک إلا لأنهم یتعاملون مع جسد المرأة معاملة الجسد بلا روح فإذا ما ذهب جمال جسدها انتهت صلاحیتها وبار سوقها وکسدت تجارتها، وبخلافهذا، الحضارة الأسلامیة فإن

ص:275

الاسلام کرم الانسان وأعطی کل ذی حق حقه فیتعامل مع المرأة بما لها من روح وجسد وبما هی بنت وأخت وزوجة وأم بل وبما هی أمرة ذات خصائص تکوینیة... ولا یستغل جسدها لأشباع الملذات بل یحترمها ویقدرها بما لها من روح وجسد بحیث یحافظ علی جسدها من الأجانب الذین همهم من المرأة اشباع غرائزهم فقط وفقط ویبیح لها إشباع غرائزها بما یتناسب مع طبیعتها بنحو منظم مقنن بدون إنفلات فالأمر بالحجاب والتحجب هو صون وحفظ لها وللمجتمع من الانحطاط لما لبدنها من التأثیر الکبیر فی زلق المجتمع ولهذا یبین أن طبیعة المرأة عورة - لا ذمّا لها - إذ إثارة جسد المرأة للفتنة والریبة من الأمور الوجدانیة التی لا ینکرها جملة العقلاء.

وبعد ذهاب زهرة بدنها وکبرها یزداد وقارها واحترامها فتحترم أکثر فأکثر فإنها تکون أم البیت وجدة الأسرة وغیرها من عناوین الافخام والاجلال والاعظام فالمرأة کل ما تزداد سنا تزداد شخصیتها أو قیمتها بروحیتها وکمالها لا بجسدها بینما فی الغرب إذا ما کبرت کأنها علک عُلٍکَ ویُتفَل؛ وما ذلک إلا لأنهم جعلوا قیمتها فی جسدها، ولیس لها کوافل أسریة بل هی تتکفل نفسها بنفسهاوبشأنها.

وأما عند الاسلام فلیس من وظیفتها ودورها الکوافل الامالیة بل دورها الکوافل الروحیة فالمتکلف بالتوازن الروحی والعاطفی فی البیت فالشارع جعل وظیفتها بما یتناسب مع طبیعتها فالاسلام قائم علی الدقة فی توزیع الوظائف، فتری وظائف المرأة هی کل ما یتناسب

ص:276

مع طبیعتها من الحنان فکل ما یوجب الهدوء والروحیة والعاطفیة فهو من وظائفها الأولیة فقد جاء عن النبی صلی الله علیه وآله: «جهاد المرأة حسن التبعل»(1) ، وأیضا کل ما یوجب الشدة والکلفة والحزم کحفظ الأسرة وإیجاد الأمان فهو من وظائف الرجل، وما ذلک إلا لأن الاسلام یتعاطی مع الطبائع البشریة بحسبها لا بحسب الملذات التی هی لطرف علی حساب طرف آخر.

وقد صدر تقریر عن نساء انجلترا أنهن أعلنَّ بأن المسؤولیة علیهن تزداد وذلک لأنهن یتولین مسؤولیة الدار وخارجه، وهذا ما قضی به النبی صلی الله علیه وآله وأخذته سیدة النساء فاطمة الزهراء الحجة علی الخلق علیها السلام: کما فی أکثر من خبر بهذا المضمون، فعن أبی جعفر علیه السلام قال: «إن فاطمة علیها السلام ضمنت لعلی علیه السلام عمل البیت والعجین والخبز وقم البیت وضمن لها علی علیه السلام ما کان خلفالباب من نقل الحطب وأن یجئ بالطعام»(2).

فدور المرأة فی البیت دور آخر فهو دور تربوی، وأما هؤلاء الغرب ومن حدا حدوهم باسم المراة سلبوها حقوقها حتی استعملت کدابةٍ تمتطئ وسلعة تشتری وتباع إلی أن تکسد وتبور فأعطوها دور الحمل ودور البیت ومع ذلک أعطوها دور الخارج فتکون لعبة بأیدی

ص:277


1- (1) وسائل الشیعة: ج 15 أبواب جهاد العدو، ب 4 ص 23 ح 2.
2- (2) مستدرک الوسائل: ج 13 أبواب مقدمات (التجارة)، ص 25 ح 11.

الأجانب من الرجال فیهتکون سترها ویتلاعبون بشرفها، فالقرآن حینما یعبر عنها بألفاظ متعددة مضمونها أنها عی وعورة فلیس بصدد ذم المرأة بل بصدد اثارة الحفظیة لحمایة المرأة وللاهتمام بها.

فهذه الطوائف من الآیات لیست بصدد تنقیص المراة أو النظرة الدونیة والتحقیر أبدا بل هی بصدد تشخیص طبیعة المراة وفسلجتها وهندستها التکوینیة لتتعاطی مع ما یناسبها، ولهذا أمرها بعدم التشبه بالرجال کما نهی الرجل عن التشبه بها فذم الرجل المتخنث وهو من یتشبه بالنساء.

وکما مرّ أن هذه الاخبار لا تقتضی التنقیص والازدراء والتحقیر والسخریة بالمرأة بل هی لبیان طبیعتها الفسلوجیة مثل نصیحة وارشاد الطبیب لما یحدد ویبین مزاجک وهذا هو ما یقتضیه اختلاف الطبائع والوظائف فانظر فی هذه الأزمنة التی بدأ فیها تعین الوظائف الصناعیة بحسب أمزجة البشر فالطیار لابد أن من تتوفر فیه بعض الخصوصیات وکذا الطبیب وکذا مطفئ الحریق وأیضا مجری للعملیات الجراحیة وقیادة الجیوش فإنهم لا یولونها المرأة فلا یقوم بها إلا الرجال لما تحتاجه من قسوة وشدة وجسارة لا تتناسب مع عاطفتها وروحیتها وطبیعتها بل تتناسب مع طبیعة الرجل وهذا لا یعنی أن المرأة مذمومة ومحقرة.

فالشارع لو لم یبیّن هذه الفوارق الطبیعیة بین الجنسین لما کان هادیاً ومرشداً لأتباعه کما أن الطبیب لو لم یخبر مرضاه بطبائعهم التی

ص:278

یتعرفون من خلالها علی ما ینفعهم ویضرهم لکان مقصرا فی وظیفته، فبیان طبایع البشر لمعرفة خواصها لا یعنی الذم مثل بیان أقسام وأنواع الدم التی بعضها لا یتناسب مع بعض أنواع الدم الأخری وأیضا مثل معرفة المعادن وأنواعها لمعرفة قیمتها وآثارها کلها معادن إلا أن الذهب لیس بالحدید وغیرها من الخصوصیات التی هی ثمرة معرفة طبائع الاشیاء مع أن ذلک لا یعنی التنقیض والحط من شأنها.

و هذا نظیر ما جاء عن أمیر المؤمنین علیه السلام قال: «المرأة شر کلها وشر ما فیها أنه لا بد منها»(1).

فکونها شر أی کل ممیزاتها یمکن أن تستغل وتستخدم للشر بحیث تکون من حبائل الشیطان وجهة الشر أن التی تحتوی علی هذه الصفات لابدّ منها فالحاجة إلی المرأة ضروریة لا یستغنی عنها بحال ولها هذه الصفات وبسبب الاضطرار والحاجة إلیها یمکن أن یسیطر أصحاب السوء علی الانسان فلابُدَّ من الحذر فإن الهدایة والتوصیة الدینیة مربیة وهذا فی مقام التحذیر لا فی مقام التنقیص والذم، فإن قوله: (یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِکُمْ وَ أَوْلادِکُمْ عَدُوًّا لَکُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) (2) ، لیس فی مقام الاغراء بالزوج علی معاداة زوجته وأولاده، وإنما الاسلام فی مقام بیان الوظیفة التی یتفادی بها عداوة الزوجة والأولاد وتحثه علی حسن التدبیر والادارة کی لا یؤدی

ص:279


1- (1) نهج البلاغة: ص 53، الخطبة 238.
2- (2) سورة التغابن: الآیة 14.

الحال بالاسرة إلی التفکک والطلاق وضیاع الأولاد، وهذا ما یفصح عنه ذیل قوله تعالی: (وَ إِنْ تَعْفُوا وَ تَصْفَحُوا وَ تَغْفِرُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِیمٌ) (1).

فلابد من أن ننظر إلی توجیه الدین کمربی مثل قوله صلی الله علیه وآله: «من زوج ابنته شارب خمر فقد قطع رحمه»(2) فهو لیس فی مقام ذم وتنقیص وازدراء بل فی مقام تعلیم وتربیة. ولهذا لما تراه یأمر المرأة بالستر فلسفته هو تعقیم الجو العام عن الامراض الاخلاقیة. ومن هذا حین یأمر بالستر عن الفواحش وعدم اشاعة الفحشاء فهو تعقیم للجو العام أیضا عن مثل هذه الامراض لأنها تسقط بالفرد وبالمجتمع فتسقط الفرد بالفضیحة والرذیلة وتسقط المجتمع فی الکادورات وعدم صفاءه من المظاهر السیئة التی تقود المجتمع إلی السوء والنقص بحیث یتفشی وینتشر ذلک الوباء ولهذا تراه یأمر بالعفو وهو شیء وبالصفح وهو شیء آخر وبالغفران وهو شیء ثالث وهذه الآیة یمکن الاستدلال بها علی ولایة الزوج علی الزوجة أیضاً.

وأما أن فی المرأة صفات خیر وکمال فهذا لا تنکره الشریعة وأن کل صفاتها یمکن أن تستخدم للخیر فهی خیر کله إلا أن الشارع إذا کان فی مقام التحذیر لابد له من أن یبین الجانب السلبی الذی یحذر منه

ص:280


1- (1) سورة التغابن: الآیة 14.
2- (2) وسائل الشیعة: ج 25 أبواب الأشربة المحرمة، ب 11 ص 312 ح 7.

وإذا کان فی مقام الاغراء والبعث إلی الجانب الایجابی تراه یقول: أحب من دنیاکم ثلاث منها النساء وغیرها من الاخبار المادحة.

مسألة غلبة طابع الذکوریة فی القوانین الالهیة وعدم مساوة المرأة للرجل:

وأما مسألة أن الغرب والعلمانیین فهم لایفقهون مثل هذه الحقائق إلا أن هذا لا یسبب مشکلة فی المبادئ وإنما هو نقص التوجیه الاعلامی الذی ینصب علی بیان الحقائق الطبیعیة الخاضة للموازین العقلیة والعقلائیة، فهذا البیان للطبائع لیس تنقیصاً بل هو لتکامل الادوار فکون المرأة ناقصة للعقل لزیادة العاطفة لدیها لا لخلل فی أصل العقل فیها فلابد أن تُکمِّله بالرجل وکما أن الرجل عنده نقص فی العاطفة فیتکامل بالمرأة فتجد التکافل بین الجنسین.

والعجیب من الغرب الذی یدعی بأنه رائد المجتمعات وهو ینتکس ویتردی فی حضارته فتراه یقرأ القوانین الدینیة بتشویش والخطأ عند من یتأثر به فی قراءته لهذه العناوین بدون تفهم لحقیقة النظرة الدینیة، فقوله تعالی: (وَ لَیْسَ الذَّکَرُ کَالْأُنْثی) - مثلًا - أمر واقعی وجدانی من وجود الاختلافات بین الرجل والمرأة بحیث یتمیز کل منهما عن الآخر والاسلام یتعامل مع هذه الخصوصیات بنظام دقیق وعادل لا یشوبه أی خلل وتخلخل فی نفس النظام الطبیعی.

ص:281

والدلیل الواضح - الذی یرد مزاعم الغرب المدعی لانفتاح المرأة علی کل شیء وأنها تصلح لمنصب الوزارات وکل شیء ویترنمون بهذا الانفتاح - أنک تری أن عدّة النساء اللواتی یشغلن هذه المناصب فعلًا بالنسبة للوظائف الوزاریة لا تصل خمسة فی المائة من تلک الوظائف بل غالبا یشغلها الرجال وذلک لأنهم بوجدانیاتهم یدرکون عدم تناسب هذ المناصب مع العنصر النسوی بل یتولها العنصر الذکوری لما له من الحزم والشدة فانظر إلی جمیع الوزارات - التی تتکون أفرادها مثلا من العشرات أو المئات - لا تجد إلا امرأة واحدة أو امرأتین یشغل منصب وزیر فی تلک الوزارات وبقیة مناصب الورزاء یشغلها رجال وما ذلک إلا لأن طبیعة ادارة الولایات والشوؤن یحتاج إلی حزم وربط لا تتوفر فی طبیعة المرأة العاطفیة والروحیة.

فأین من ینادنی بالمساواة - لا بالعدل - بین الرجل والمراة؟ ولماذا لا یجعل نصف الوزراء نساء ونصف البرلمان ونصف مجلس النواب أو المجلس البلدی الذی هو أقل بکثیر؟ فإنک لم تجد ولا تجد بل ولن تجد حتی خمسة بالمائة فضلًا عن النصف.

وقد جاء فی عدة من التقریرات الاستراتیجیة الأمنیة أن المرأة أکبر خطراً وطعمة للأختراق الأمنی فهذه بحوثهم تؤید ما یذکره القرآن الذی هو یناغی الطبیعة والوجدان السلیم فالاسلام یعین ویحدد ما هو صالح للمرأة وأنها لو جعلت فی غیر موضعها ومکانها

ص:282

ستکون طعمة وضحیة وسلعة مبتدلة.

فتشریعات الغرب دائماً تصب فی ابتذال وحط وإزراء واثقال واشقاء المرأة، بینما تشریعات الدین رحمة وعنایة وحمایة وکرامة للمرأة.

القول بتاریخیة القرآن:

فقول الحداثیین بأن القرآن تاریخی بمعنی أن الوحی حینما ینزل یفقد ما هو علیه فیکون مواکباً وجاریاً لتلک الحقبة الزمنیة فحسب، فیتأثر القرآن بالبیئة التاریخیة فیفتقد روحانیته ویتکیف بتلک البئیة بعلاتها، فتکون صیاغته صیاغة تابعة لتلک الثقافات بعلاتها کما لو کانت معلوماتها خاطئیة فالنبی یصیغ القرآن علی حسب تلک الثقافة بما هی وعلی علاتها واخطائها إذ الغرض یتحقق وأن کانت تلک المفاهیم خاطئة مادام الناس یعتقدون صحتها إذ الغرض هو التمثیل لبیان الغرض الالهیة فیمکن أیبرز ذلک الغرض کبیان قدرة الله بقوله(فَکَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً) (1) فإنه یصح علی حسب اعتقادهم السائد آنذاک وإن کان فی نفسه خطأ، وهذا النظریة الغربیة هی التی تفسر النبوة بأنها تجربة بشریة مثلها مثل بقیة التجارب استهلکت وأکل علیها

ص:283


1- (1) وکل الاشکالات الموجهة تجاه القرآن من جهة علمیة ناتجة من الخلط بین الحقیقة العلمیة وبین النظریة العلمیة والفرضیة العلمیة بل والخیال العملی فیشکل بالنظریة أو الفرضیة مع انها لیست حقیقة حتی تصلح للاشکال بها أو للخلط فی الفهم کفهم العظام فی قوله تعالی: فَکَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً غیر المراد القرأنی.

الدهر وشرب، فالأسلام خاص بتلک الحقبة الزمنیة لا یتعداها. وهذا غیر صحیح لأن هذا مصادم لأصول ثابتة قام علیها الدلیل بأن الوحی شامل لکل البیئات ولیست الأعراف التاریخیة تکبله ببیئاتها وثقافتها بعلاتها وذلک لأن الوحی شیء شفاف لا ینحبس بظرف خاص، فمن باب المثال لدفع هذه الشبهة فی توجیه هذه الآیات - وهذا القول ینظر لقدسیة القرآن - فالثابت فرضه لیس بمحال والبشریة دوماً فی البحث والسیرة العلمیة لکافة العلوم فی السعی للوصول إلیه کمعادلات ثابتة إلا أنها لم تصل إلیه لقصورها وعدم اطلاعها علی حقائق الاشیاء الجسمیة والروحیة.

إلا أننا لو فرضنا أن آخر جیل بشری تکاملت فیه مسیرة العقل البشری ولدیه النوابغ بحیث یحمل جمیع الجهود البشریة والاکتشافات والعلوم عبر التاریخ باعتباره آخر جیل وبالتالی یتوصل إلی قوانین عامة ومعادلات کلیة شاملة ومعالجات لجمیع الامور ولجمیع البیئات لفرض أنه توصل إلی کل ما یمکن أن یتوصل إلیه البشر فإذا کان هذا حال القدرة البشریة فکیف بک بالله خالق الخلق!!

وعلیه فالله خالق الکون بما یحوی من اسرار مادیة وروحیة محیط بتلک الامور وتلک الأسس وخواصها بحیث یقدر علی أن یوحیها إلی أحد من خلقه فتکون هذه الأسس التابعة لواقعیة الاشیاء عامة لجمیع الاجیال فلا قصور فیها عن الشمولیة والعمومیة ولا تتغیر بل هی

ص:284

برای ادامه مشاهده محتوای کتاب لطفا عبارت امنیتی زیر را وارد نمایید.

ص:

برای ادامه مشاهده محتوای کتاب لطفا عبارت امنیتی زیر را وارد نمایید.

ص:

برای ادامه مشاهده محتوای کتاب لطفا عبارت امنیتی زیر را وارد نمایید.

ص:

برای ادامه مشاهده محتوای کتاب لطفا عبارت امنیتی زیر را وارد نمایید.

ص:

برای ادامه مشاهده محتوای کتاب لطفا عبارت امنیتی زیر را وارد نمایید.

ص:

برای ادامه مشاهده محتوای کتاب لطفا عبارت امنیتی زیر را وارد نمایید.

ص:

برای ادامه مشاهده محتوای کتاب لطفا عبارت امنیتی زیر را وارد نمایید.

ص:

تناسب طبیعة الأحکام مع الطبیعة التکونیة للمرأة والرجل:

فطبیعة وفسلجة المرأة روحا وبدنا تحتاج إلی حام یحمیها لا أنها تحمی نفسها بنفسها فمثلًا بمجرد أن تترک المرأة فی المنزل بدون رجل یختل أمن المنزل فالمرأة بدون رجل لا آمان لها بخلاف طبیعة الرجل فإنه بنفسه أمان لنفسه ولغیره وهذا أمر عقلائی تکونی فالمرأة کطبیعة فریسة أی طبیعتها أن تکون فریسة إلا أن تحمی، وهذا یقر به حتی دعاة الحداثة من الغرب وغیرهم وأنهم یطالبون بحمایة المرأة ولو إدعاءاً إلا أنهم یختلفون مع النظام الاسلامی فی نفس ما هو المحقق لحمایتها ولهذا ینادون بحمایة المرأة بالاسالیب المتطورة مع أن الاسلام لا یمنع من التطور والرقی بل یحث ویشجع علیه کما قال تعالی: (أَنِّی لا أُضِیعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْکُمْ مِنْ ذَکَرٍ أَوْ أُنْثی) (1) ، وأن أکرمکم عند الله أتقاکم لیس هو الرجل بل التقی سواء امرأة أو رجل، أما التسویة فی البدن والنزعات الروحیة وما یناسبها وما یلائمها فالاسلام عادل یعطی کلًا حسب طبیعته وفسلجته مع مراعاة کلا الجانبین ولا ینظر الاسلام إلی المتطلبات الذاتیة التی تکون علی حساب النظام القائم بین الرجل والمرأة ولأجل التفریط فی طبیعة ترکیب وتوازن الأسرة نری أغلب البلدان الاوربیة مهددة حالیاً بالشیخوخة ومستقبلًا بالانقراض

ص:292


1- (1) سورة آل عمران: الآیة 195.

بعد عقود من الزمن وکل ذلک لعدم النظم فی الأسرة وذلک لکون الهم الأکبر عندهم الترکیز علی ملذات الذات فإن الحمل وتربیة الاطفال عبأ وثقل وبتقنیاتهم لا یحافظون علی المسؤولیة تجاه المجتمع بقدر الترکیز علی افراط ملذات الذات بقطع النظرعن المجتمع فإن الحمل وتربیة الأولاد والمسؤولیة الزوجیة یعیق عن افراط تلذذ المرأة بالرجل وبالعکس فالمنطق المحکم هو منطق الشهوة والذاتیة فالجیل الراهن لا یضحی لأجل الأجیال الآتیة وبذلک أن یتهدد النسل البشری عندهم بالانقراض وسبب ذلک هو عدم معرفتهم بالطبیعة البشریة.

وکلامنا لیس مع الشرق والغرب بل الکلام مع النظام الغربی وفی الوقت الحاضر تشیر احصایئات فی العالم الأعم من الشرقی والغربی تبین أن تسعین بالمائة من النساء اللواتی یعملن فی القطاعات العامة والخاصة یتعرض لتحرش الرجال بالعین أو بالید إلی أن یصل إلی ما یصل إلیه وهذا مؤشر برهانی دامغ دال علی تکوینیة قانون قوله تعالی: (وَ قَرْنَ فِی بُیُوتِکُنَّ) (1) ، فإن قیمتها فی روحها ونفسها وعاطفتها وبدنها أما غیر النظام الأسلامی فقیمتها عندهم فی بدنها وجمالها فقط وعندما یذهب جمال بدنها تسقط قیمتها لدیهم من رأس.

بینما الشارع یعادل فی توزیعه للوظائف کل حسب فسلجته

ص:293


1- (1) سورة الأحزاب: الآیة 33.

وطبیعته، وإلی هذا یشیر أمیر المؤمنین علیه السلام بقوله: «خیار خصال النساء شرار خصال الرجال: الزهو والجبن والبخل فإذا کانت المرأة مزهوة لم تمکن من نفسها، وإذا کانت بخیلة حفظت مالها ومال بعلها. وإذا کانت جبانة فرَّت من کل شیء یعرض لها»(1).

فانظر إلی هذه الصفات التی یختلف موطنها فی الرجل عنه فی المرأة وما ذلک إلا بحسب ما یناسب طبیعة الرجل والمرأة فتری الاسلام یعین الجهاد للرجل فی الحروب وأما المرأة، فجهادها هو حسن التبعل لزوجها وأما جهاد الرجل یختلف موطنه وموضوعه بحسب طبیعته وفسلجته، وأحد الاخطاء المصیریة هو الخلط بین طرق تحصیل الکمالات لکل صنف فأن طرق الکمالات للمرأة تختلف عن طرق وشاکلة العمل الذی یصل به الرجل إلی کمالاته ومن الخطأ الفاضح أن یجعل طریقهما واحد مع اختلاف طبیعتهما فالخطأ الذی یقع فیه المشرع والمقنن الغربی هو أنه یجعل کل صفة للرجل والمرأة تجعل بشکل وزیٍّ واحد، فارد فیجعل اظهار قوة المرأة بمظهر قوة الرجل ویجعل مظهر کمالات المرأة بمظهر کمالات الرجل وهذا خطأ واضح بعد معرفة اختلاف الطبیعتین وأما الاسلام فتراه یجعل الجبن فی المرأة من الکمالات ومن النقائص فی الرجل والبخل للمرأة من کمالاتها ومن نقائص الرجل وهکذا کل تکامله علی حسب وظیفته

ص:294


1- (1) نهج البلاغة: ص 52 الخطبة 234.

وهذا مثل اللباس فإن وظیفة اللباس هو ستر البدن إلا أنه یختلف زیه عن زین الآخر فالهدف واحد إلا أن الصورة تختلف وتفترق بین الرجل والمرأة. فمن الغلط الفاضح هو مساواة وجعلهما نسخة طبق الاصل فی توحید ازیاء الرجال والنساء فإنه هذا لیس منالمساواة الموصلة کل إلی کماله فی شیءإذ المساواة والعدل هو بأن یخالف کل صاحبه علی حسب طبیعته فی السلوک العملی لا أن تشابه وتطابق.

فبیان ضعف المرأة لبیان صورة ما یناسبها فی التکامل بأنه یختلف عن صورة ما یتکامل به الرجل، فهذه الاخبار تفسر وتبین فلسفة الطائفة الأولی والطائفة الثانیة.

منها: موثقة السکونی عن أبی عبدالله علیه السلام قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله: «إنما المرأة لعبة، من اتخذها فلا یضیعها»(1).

وروی الکلینی بثلاثة طرق مسندة وهذا یوجب الوثوق بصدورها - عن عبد الرحمن بن کثیر، عن أبی عبدالله علیه السلام قال: «فی رسالة أمیر المؤمنین علیه السلام إلی الحسن علیه السلام: لا تملک المرأة من الامر ما یجاوز نفسها فإن ذلک أنعم لحالها، وأرخی لبالها، وأدوم لجمالها، فإن المرأة ریحانة ولیست بقهرمانة ولا تعد بکرامتها نفسها، واغضض بصرها بسترک واکففها بحجابک ولا تطمعها أن تشفع لغیرها فیمیل علیک

ص:295


1- (1) وسائل الشیعة: ج 20 أبواب مقدمة النکاح وآدابه، ب 86 ص 167 ح 2.

من شفعت له علیک معها واستبق من نفسک بقیة فإن إمساکک نفسک عنهن وهن یرین أنک ذو اقتدار خیر من أن یرین منک حالا علی انکسار» (1).

فقوله علیه السلام هذا جامع من جومع الکلم یبین فلسفة منظومة التشریع فی الاسلام، فالاسلام فی مقام بیان نعومتها ورحمتها ولیس فی مقام التنقیص والحط من شأنها، والبیان النبوی یفلسف کل منظومة التشریع فی تلک الجملتین فإذا کانت المرأة ریحانة من النعومة والخضوع فالولایة والسیطرة تتنافی مع أصل خلقتها إذ خلقتها ریحانیة حتی قال صلی الله علیه وآله: «رفقا بالقواریر»(2) ، فالقاروریة بمعنی ظرافة الخلقة لما فیها من النعومة والنزاکة فلیس نظرة الاسلام نظرة منطلقة من اضطهاد المرأة أو الازراء بها بل هو نوع من الحمایة للمرأة لأنها موجود ذو نعومة وریحانیة فهی مثل الوردة التی لیست لها خشونة الغصون فضعفها لیس بمعنی الازراء بل لزوم الصیانة والحمایة والوقایة بأن لا تستهدف وتبتز وتکسر فانظر کیف اختلاف حمایة الورد عن حمایة الاشجار الصلبة فالورود تحتاج إلی حمایة أکثر وأشد عنایة وجهد.

فانظر إلی دقة التعبیر النبوی وإعجازه فإنه ینظر بنظرة اکرام واعزاز واحترام وعنایة بحالها لا بمثل النظرة الیهودیة المنحرفة

ص:296


1- (1) المصدر نفسه، ب 87 ص 168 ح 1.
2- (2) المجازات النبویة ص 30.

والمسیحیة المنحرفة من أن المرأة نجسة أو أنها شؤم أو أنها قاذورة أو یتطیر منها ویتشائم بل المرأة ریحانیة فینظر لها نظرة احترام وعنایة.

الطائفة الخامسة: الآیات الدالة علی أنهن نواقص حظوظ:

قوله تعالی: (یُوصِیکُمُ اللّهُ فِی أَوْلادِکُمْ لِلذَّکَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَیَیْنِ) فهذه الآیة تدل علی أن المرأة حقها أنقص من حق الرجل فلامعنی لرد الاخبار التی تدل علی أن النساء نواقص حظوظ ونواقص إیمان أو دین إذ أن کونها ناقصة حظ ودین مضامین قرآنیة کما هو فی آیات الارث وآیات اسقاط الصلاة عن النساء فی الحیض، والسبب عند هؤلاء المعترضین أو المشتبهین هو عدم فهمهم لما یصبو إلیه القرآن الکریم من بیان طبیعة المرأة والرجل واعطاء کل علی حسب طبیعته کما تقدم بیان ذلک فی طوائف الآیات المتقدمة، ولیس هو فی مقام الازدراء والتشنیع والذم بل هو دائما فی مقام التربیة والتهذیب، فلا معنی لرد الأخبار بعد تضمنها هذه المضامین القرآنیة.

ومن خطبة لأمیر المؤمنین علیه السلام بعد حرب الجمل: «معاشر الناس إن النساء نواقص الإیمان، نواقص الحظوظ نواقص العقول. فأما نقصان إیمانهن فقعودهن عن الصلاة والصیام فی أیام حیضهن. وأما

ص:297

نقصان حظوظهن فمواریثهن علی الانصاف من مواریث الرجال. وأما نقصان عقولهن فشهادة امرأتین کشهادة الرجل الواحد. فاتقوا شرار النساء. وکونوا من خیارهن علی حذر ولا تطیعوهن فی المعروف حتی لا یطمعن فی المنکر» (1).

فأمیر المؤمنین علیه السلام یرجع هذه المضامین إلی مضامین قرآنیة. والصلاة اطلق علیها (ایمان) فی القرآن: (وَ ما کانَ اللّهُ لِیُضِیعَ إِیمانَکُمْ) (2) ، ولیس المقصود أن الرجل لا یفعل المعروف بل یفعله ولکن بدون أن یکون فعله للمعروف مستنداً إلی أمر المرأة وطلبها وتحکیم سلطنة المرأة وسیطرتها لکی لا تطمع فی أمره بالمنکر.

ویمکن أن یقرب الاستدلال بهذه الطائفة بأن المرأة إذا کانت ناقصة حظ فی المجتمع الأسری الصغیر فکیف بها فی المجتمع الکبیر الذی هو أکبر بکثیر فنقصان حظها بطریق أولی فلا ترقی إلی درج حظ الرجل من تلک المناصب بحسب طبیعتها.

وبتقریب آخر إذ کان حظ المرأة أنقص من الرجل لکونها مکفولة للرجل فی الجانب الأسری فکیف تکون کافلة للجوانب العظیمة والخطیرة. فهی لم تولَّ مسؤولیة الکفالة الخاصة بل کانت مکفولة لما تحتاجه فالکفالة من الوظائف التی لا تتناسب مع طبیعة المرأة فکیف تتولی کفالة المجتمعات ذات المسؤلیات الخطیرة التی تحتاج إلی حزم

ص:298


1- (1) نهج البلاغة: ص 129-130 الخطبة 80.
2- (2) سورة البقرة: الآیة 143.

وشدة وقوة لا یستهان بها.

وأیضا من جهة أنها ناقصة إیمان ودین بمعنی أن مسؤولیتها أخف من الرجل باعتبار طبیعتها فکیف تولی المناصب ذات المسؤلیات الثقیلة والخطیرة وهذه مثل غیر البالغ الذی لا ذمة له فکیف یسلم المناصب التی تحتاج إلی تحمل وذمة، خصوصاً أن هذه الرئاسة وظیفة وخدمة لا أنها سلطنة تجبر وتکبر وبطش حتی یتهافت علیها ذو القابلیة وغیره حتی تعرض هذه الولایة علی الجمیع فیقال: إن للمرأة نصیب کما للرجل نصیب.

الطائفة السادسة: الآیات التی تعرض لملکة سبأ:

قوله تعالی: (إِنِّی وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِکُهُمْ وَ أُوتِیَتْ مِنْ کُلِّ شَیْ ءٍ وَ لَها عَرْشٌ عَظِیمٌ ( 23) وَجَدْتُها وَ قَوْمَها یَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللّهِ وَ زَیَّنَ لَهُمُ الشَّیْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِیلِ فَهُمْ لا یَهْتَدُونَ ( 24) (1).

وتقریب الاستدلال أن القرآن صور وقرر ما جری بین الهدهد وبین النبی علیه السلام حیث رکز تقریره عن قوم سبأ بالاهم والغریب وهو أن امرأة تملکهم وقدم المرأة لما فی ذلک من الغرابة والعجب والاستنکار فترک تقدیم خبر الشرک بالله ورکز علی ما هو عجیب ومستنکر فطریاً

ص:299


1- (1) سورة النمل: الآیة 23-24.

من أن المرأة تملک أمر القوم.

ویؤید ما ذکرناه ما جاء عن الامام الحسین علیه السلام: «ولقیه أبو هرة الأسدی فسلم علیه ثم قال: یا ابن رسول الله، ما الذی أخرجک عن حرم جدک محمد صلی الله علیه وآله. فقال علیه السلام: ویحک یا أبا هرة إن بنی أمیة اخذوا مالی وشتموا عرضی فصبرت وطلبوا دمی، فهربت وأیم الله لتقتلنی الفئة الباغیة ولیلبسنهم الله ذلا شاملا وسیفا قاطعا ولیسلطن الله علیهم من یذلهم حتی یکونوا أذل من قوم سبا إذ ملکتهم امرأة فحکمت فی أموالهم ودمائهم»(1).

وبلسانها ما جاء عن أمیر المؤمنین علیه السلام فی ذم من خرج مع عائشة من أهل البصرة: «کنتم جند المرأة. وأتباع البهیمة»(2).

وقد أشکل البعض علی هذا: بأنه مجرد سرد خبری لا یستفاد منه تنقیص وحط لولایة المرأة بل هو حکایة عما هو موجود فی الخارج.

وفیه: أنه تقریر لکلام الهدهد وإن کان سردا خبریاً إلا أن التقریر لصاحب الشأن یرکز فیه علی الجوانب ذات الأهمیة والحساسة والغریبة وأکثر هذه الجوانب غرابة هو ما قدمه علی جمیع الاخبار والحوادث التی صادفها من کون المرأة تملکهم وهو جانب ازدراء

ص:300


1- (1) اللهوف فی قتلی الطفوف: ص 43، مثیر الأحزان: ص 33.
2- (2) نهج البلاغة: ص 44 الخطبة 13.

وتنقیص وذم لتولیة المرأة علیهم وهذا مثل ما جاء فی الخبر: «ما ولی قوما امرأة إلا ذُلِّوا». وسنبین أن هذا الخبر یوجد بطریق صحیح.

والقرآن حینما نقل الاحداث والمشاهد البشریة لا یستعرض کل ما هب ودب بل یرکز علی الأمور المهمة التی فیها حکمة وعبرة فلا یقتطع مقطوعة من تلک الأحداث إلا لما لها من الخصوصیة والأهمیة فی بیان الحکمة التی یرید إیصالها.

ولهذا ینقل القرآن بعض أقوال أهل النار وذلک لما فی تلک الأقوال من حکمة وعبرة للغیر وهذا لا یدل علی أن أهل النار أناس معتبرون حتی یقال هل کلام الهدهد معتبر أم لا؟ فترکیز القرآن الکریم علی ما قیل لا علی من قال!. ولم یفند القرآن ما ذکره الهدهد أو أقوال أهل النار فهذا یدل علی أن القرآن یعتبرها.

وهنا نکتة لابد من الالتفات إلیها حاصلها أن غیر المعصوم لیس المیزان علی شخصه بل علی الدلائل بحیث یخضع کلامه للموازین والأدلة بخلاف المعصوم فإن المیزان فی حجیة کلامه هو شخصه.

فالهدهد کان بصدد تحفیز سلیمان علیه السلام علی اقامة الحق فی القضیة التی یذکرها له بذکر الموجبات لقیامه قبال بلقیس وقومها باعتبار أن وظیفة النبی سلیمان علیه السلام الاصلاح واقامة النظام العادل ومن تلک الامور التی توجب له الخروج: کون المالک لأمر هؤلاء امرأة، ولکونه علیه السلام بصدد

ص:301

العلاج واقامة الحق، لذا(قالَ سَنَنْظُرُ أَ صَدَقْتَ أَمْ کُنْتَ مِنَ الْکاذِبِینَ ( 27).

والقرینة أخری أن الولایة لو کانت للرجل والمراة سیان فلم التعجب الدال علی أن ولایتها من الامور غیر الطبیعیة.

ومع رجحان عقلها وجزالته ومع ذلک لم یرتضها لهذه المنصب.

فانظر إلی ما یدل علی رجحان عقلها من خلال ما تعرضه الآیات المبارکة: (قالَتْ یا أَیُّهَا الْمَلَأُ إِنِّی أُلْقِیَ إِلَیَّ کِتابٌ کَرِیمٌ ( 29) إِنَّهُ مِنْ سُلَیْمانَ وَ إِنَّهُ بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ ( 30) أَلاّ تَعْلُوا عَلَیَّ وَ أْتُونِی مُسْلِمِینَ ( 31) قالَتْ یا أَیُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِی فِی أَمْرِی ما کُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتّی تَشْهَدُونِ ( 32) )(1).

فمن رجحان عقلها - مع کون الادارة بیدها فقط کملکة وحاکمة - إلا أنها تستشیر قومها - وذلک لأن الاستشارة لا تنافی الامارة بل هی صاحبة الأمر الأول - لتکامل النظرة والحصول علی الرأی الجامع الجازل فالاستشارة هی مداولة الرأی للوصول للقول الصائب فهذا معنی الاستشارة عند الامامیة وأما عند العامة فهی تحکیم رأی الأکثر وإن کان خلاف الواقع ولهذا جعلوا شق عصا الجماعة مخالفة للدین وإن کان خلاف الواقع بل خلاف الدین نفسه. فهذه ثمرة من ثمار وفوائد الاستشارة.

ومن فوائدها أیضا غیر الوصول والاستکشاف، بل تأثر المستشارین

ص:302


1- (1) سورة النمل: الآیات 29-33.

لیتفاعلوا مع قائدهم، فهکذا کان یستشیر النبی صلی الله علیه وآله لا أنه یستشیر إلی الوصول للصواب، وأیضا متعلق الشوری هو الفعل لا الفاعل والحکم لا الحاکم فیستشار فی الفعل وفی الحکم ولا یستشار فی الحاکم وتحدیده وتحدید ارادته وذلک لکونه صاحب الاردة والعزم فالشوری لا تحد الارادة، ولهذا قال تعالی: (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَ لَوْ کُنْتَ فَظًّا غَلِیظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِکَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شاوِرْهُمْ فِی الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَکَّلْ عَلَی اللّهِ إِنَّ اللّهَ یُحِبُّ الْمُتَوَکِّلِینَ ( 159) )(1).

و مما یدل علی رجحان عقلها أیضا أنه لما استفتتهم عرضوا لها قوتهم وشدتهم فلم تسمع بکلامهم وإنما تعاملت بحنکة ورجحان لمعرفة أحوال النبی سلیمان علیه السلام وارسلت طعماً - کما هو مضمون الأخبار - لکی تستکشف إن کان ملکاً أو نبیاً (قالَتْ یا أَیُّهَا الْمَلَأُ إِنِّی أُلْقِیَ إِلَیَّ کِتابٌ کَرِیمٌ ( 29) إِنَّهُ مِنْ سُلَیْمانَ وَ إِنَّهُ بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ ( 30) أَلاّ تَعْلُوا عَلَیَّ وَ أْتُونِی مُسْلِمِینَ ( 31) قالَتْ یا أَیُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِی فِی أَمْرِی ما کُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتّی تَشْهَدُونِ ( 32) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَ أُولُوا بَأْسٍ شَدِیدٍ وَ الْأَمْرُ إِلَیْکِ فَانْظُرِی ما ذا تَأْمُرِینَ ( 33) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوکَ إِذا دَخَلُوا قَرْیَةً أَفْسَدُوها وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَ کَذلِکَ یَفْعَلُونَ ( 34) وَ إِنِّی مُرْسِلَةٌ إِلَیْهِمْ بِهَدِیَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ یَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ( 35) )(2).

فلما عرضوا علیها الشدة والقوة لم تتسرع بل ذکرت لهم ما هو

ص:303


1- (1) سورة آل عمران: الآیة 159.
2- (2) سورة النمل: الآیات 32-35.

أنفع ومع هذا القرآن لم یرتض ولایتها ولهذا عد من المؤاخذات علی قوم سبأ تولی امرأة علیهم بحیث خصه بالذکر فی بدایة کلامه بطریقة تعجبیة وأنه أمر غیر طبیعی حتی قدمه علی محذور الشرک وعبادة الشمس وغیره والقرآن الکریم إذا لم یرد ولم یدفع ما جاء به الهدهد من تعجبه واستغرابه فهو یُقرُّه ویثبته، ولیس الأمر أنه من باب سرد الأمر الواقع فی الخارج فحسب.

وأیضاً ما یدل علی رجحان عقلها فی جوابها للنبی سلیمان علیه السلام لما أوهم لها قصرها فأجابت بالایهام. فالقرآن مع مایراه من عدم تولی المرأة لهذه المناصب بمقتضی طبیعتها إلا أنه لا ینکر رشادتها ورجحانها بل یقر صفات الکمال فیها - لو وجدت - ولا ینکرها بل یشید بها.

والبعض یشکل بأن القرآن مع اقراره برشادتها وحنکتها لماذا ینکر ولایتها وقیادتها.

والجواب: أن القیادة لا تحتاج إلی العلم والرشادة فقط بل تحتاج إلی صفات أخری من الحزم والشدة والصلابة وعدم اللیونة.

وقد أشکل البعض: بأن هناک أخبار تدل علی أن النبی سلیمان علیه السلام أقرّ بلقیس علی ولایتها ولم یعزلها، وهذا یدل علی جواز تولی المرأة لهذه المناصب.

وفیه: أن هذه الاخبار لم تثبت ذلک وإنما الثابت منها أنه علیه السلام تزوجها وکان یذهب إلیها، وهذا لایدل علی عدم عزلها.

ص:304

خلاصة ما تقدم من هذه الطوائف:
أن الطائفة الأولی من الآیات:

تدل علی أن فسلجة وطبیعة المرأة من الضعف والنعومة واللیونة والرقة لا تتناسب مع تولی هذه المناصب التی تحتاج إلی القوة والبأس والحزم والشدة التی تتنافی مع طبیعتها فشأن المرأة لیس شأن الولایة والسلطة بحسب ما یتناسب ویتناغم مع طبیعتها.

والطائفة الثانیة وهی آیات الحجاب والتستر:

وهی دالة علی وضع السیاج بین اختلاط المرأة بالرجال وأن المرأة طبیعتها من جهة بدنها وروحها فریسة وطعم تحتاج إلی حمایة وعزل عن الرجال فلا یناسبه المناصب التی تحتاج إلی مباشرة الأمور والاطلاع علیها فالقرآن یجدر الأعراف التی تتناسب مع طبیعتها حفاظاً علیها مع أنه لا یمنعها من المشارکة فی القطاعات الأهلیة مثل التجارة بأموالها لأنه أمر خاص بها بخلاف السلطنة العامة علی المجتمع.

والطائفة الثالثة:

وهی الدالة علی عدم مساواة شهادة المرأة لشهادة الرجل وإنها فی التوثیق الخبری لا کفاءة لها بمفردها فکیف تکون لها الکفاءة فی ادارة الأمور الخطیرة التی تقوِّم مصیر الأمة.

ص:305

والطائفة الرابعة:

وهی الآیات الدالة علی قیومیة الرجل علی المرأة فی غیر الاسرة بل أنه لو دلت علی عدم قیومیتها علی الرجال فی الاسرة فنفی ولایتها علیه فی غیرها بالأولویة القطعیة فی الامور الخطیر.

والطائفة الخامسة:

الدالة علی أن النساء نواقص حظوظ وإیمان: فهی تدل علی أنها مکفولة فکیف تکفل غیرها؟ وأیضا تدل علی أن مسؤولیتها ضعیفة فکیف تولی المناصب ذات المسؤویات الخطیرة کالقیادة والسلطنة.

والطائفة السادسة وهی ما تقدم قریباً فی سورة سبأ:

وهذا ما توصلنا إلیه بحسب استقرائنا من الآیات القرآنیة، ولعل الباحث یصل إلی بعض آیات أخر لم نقف علیها.

وقد قلنا: إن هذه الطوائف لا تدل علی تنقیص المرأة وتحقیرها وإنما هو بیان طبیعتها التی لا تتناسب مع هذه المناصب وإلا فالقرآن لا یمنع من تکامل المرأة بل هی مع الرجل فی التکامل علی حد سواء.

قال تعالی: (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّی لا أُضِیعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْکُمْ مِنْ ذَکَرٍ أَوْ أُنْثی بَعْضُکُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِینَ هاجَرُوا وَ أُخْرِجُوا مِنْ دِیارِهِمْ وَ أُوذُوا فِی سَبِیلِی وَ قاتَلُوا وَ قُتِلُوا لَأُکَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَیِّئاتِهِمْ وَ لَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِی

ص:306

مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللّهِ وَ اللّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ ( 195) )(1).

وقوله تعالی: (وَ مَنْ یَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ مِنْ ذَکَرٍ أَوْ أُنْثی وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِکَ یَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَ لا یُظْلَمُونَ نَقِیراً ( 124) (2).

وقوله تعالی: (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَکَرٍ أَوْ أُنْثی وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْیِیَنَّهُ حَیاةً طَیِّبَةً وَ لَنَجْزِیَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما کانُوا یَعْمَلُونَ ( 97) )(3).

وقوله تعالی: (مَنْ عَمِلَ سَیِّئَةً فَلا یُجْزی إِلاّ مِثْلَها وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَکَرٍ أَوْ أُنْثی وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِکَ یَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ یُرْزَقُونَ فِیها بِغَیْرِ حِسابٍ ( 40) (4).

وقوله تعالی: (یا أَیُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْناکُمْ مِنْ ذَکَرٍ وَ أُنْثی وَ جَعَلْناکُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَکْرَمَکُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاکُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِیمٌ خَبِیرٌ ( 13) )(5).

فهی دالة علی أن التکامل - بالنسبة للرجل والمرأة - علی حد سواء ولا یتمیز الرجل عن المرأة ولا هی تتمیز علیه فی التکامل فی شیء، بل کلیهما سواء إلا أن طریق التکامل بالنسبة للرجل یختلف عنه بالنسبة للمرأة وهو مقتضی العدل ووضع الشیء فی موضعه بأن ینصب لکل

ص:307


1- (1) سورة آل عمران: الآیة 195.
2- (2) سورة النساء: الآیة 124.
3- (3) سورة النحل: الآیة 97.
4- (4) سورة غافر: الآیة 40.
5- (5) سورة الحجرات: الآیة 13.

طریق یتناسب ویتناغم مع طبیعته البدنیة والروحیة ومن هنا یتضح قوله تعالی: (وَ لَیْسَ الذَّکَرُ کَالْأُنْثی) (1) ، وهذا حتی لو کان من قول مریم علیها السلام فالقرآن أقره ولم یرده وهو ناظر إلی الاختلاف الطبیعی الذی تختلف لأجله الوظائف الملقاة علی عاتق الرجل والمرأة من خدمة المعبد إذ النساء تمنع من الدخول فی أوقات طمثها دون الرجال.

طوائف الاخبار:
اشارة

وهی أحادیث مستفیضة عند الفریقین ومتواترة تواترا اجمالیا أو معنویاً وهی علی طوائف مثل طوائف الآیات المبارکة المتقدمة فمنها ما یدل علی ضعف المرأة ومنها ما یدل علی صون المرأة بالحجاب والحفاظ ومنها ما یدل علی عدم ضبط المرأة مثل شهادة امرأتین بمنزلة شهادة رجل ومنها ما یدل علی أن الرجال قوامون علی النساء ومنها ما یدل علی أنهن نواقص حظوظ ونواقص دین ومنها ما یدل علی ذم تولی المرأة لهذه المناصب الموافقة للطائفة السادسة.

وحیث إن مضامین الاخبار مضامین آیات قرآنیة ومع تعددها وتعاضدها فلا معنی للبحث عن صحة وضعف السند لکون مضامینها مضامین قرآنیة والاخبار بمنزلة الشرح للمتن القرآنی ولهذا قدمنا بحث الآیات ثم عقبناه بالاخبار لکی یتنبه لما فی الأخبار إذ

ص:308


1- (1) سورة آل عمران: الآیة 36.

الشرح لا یوقف علی مفاده الصحیح والدقیق إلا بعد ملاحظة المتن الذی هو بصدد بیانه.

الطائفة الأولی: الموافقة للطائفة الرابعة من الآیات الدالة علی ولایة الرجل علی المرأة:
أنها لا تتولی القضاء:

1 - ما رواه الصدوق بإسناده عن جعفر بن محمد، عن آبائه علیهم السلام فی وصیه النبی صلی الله علیه وآله لعلی علیه السلام - قال: «یا علی، لیس علی النساء جمعة ولا جماعة، ولا أذان، ولا إقامة، ولا عیادة مریض، ولا اتباع جنازة، ولا هرولة بین الصفا والمروة، ولا استلام الحجر، ولا حلق، ولا تولی القضاء، ولا تستشار، ولا تذبح إلا عند الضرورة، ولا تجهر بالتلبیة، ولا تقیم عند قبر، ولا تسمع الخطبة، ولا تتولی التزویج بنفسها، ولا تخرج من بیت زوجها إلا بإذنه، فان خرجت بغیر اذنه لعنها الله (عز وجل) وجبرئیل ومیکائیل، ولا تعطی من بیت زوجها شیئا إلا باذنه، ولا تبیت وزوجها علیها ساخط وإن کان ظالما لها»(1).

و هذا الخبر فیه جملة غیر موثقین وهو یدل علی أن المرأة إذا لم تول القضاء لم تول ما هو أعظم منه مثل الفتیا بالأولویة القطعیة، وهذه

ص:309


1- (1) الخصال للصدوق: وضع عن النساء تسعة عشر شیئا ص 511 ح 2.

الطائفة موافقة لطائفة آیات: (الرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَی النِّساءِ) (1).

وأما مسألة إن کان ظالماً لها، فلابد من الالتفات إلی أن الإسلام علاجاته حیثیة فمنبع الفساد هو ما یغلق لا أنه یسقط حقوق الزوج بمجرد ظلم الزوج لزوجته کما أن حقوق المرأة لا تسقط بمجرد ظلم المرأة لزوجها، فحین تراه یؤکد علی طاعة المرأة لزوجها یؤکد علی معاملة الزوج لزوجته کما فی الآیات والروایات إلا أنها تدل علی أن حق الزوج أعظم من حق الزوجة علی زوجها باعتبار مسؤولیته تجاهها.

2 - مارواه الکلینی بثلاثة طرق عن کل من عمرو بن أبی المقدام، عن أبی جعفر علیه السلام، وعن عبد الرحمن بن کثیر، عن أبی عبدالله علیه السلام قال: فی رسالة أمیر المؤمنین علیه السلام إلی الحسن علیه السلام. وعن الاصبغ بن نباته، عن أمیر المؤمنین علیه السلام قال: «لا تملک المرأة من الامر ما یجاوز نفسها فإن ذلک أنعم لحالها، وأرخی لبالها، وأدوم لجمالها، فإن المرأة ریحانة ولیست بقهرمانة، ولا تعد بکرامتها نفسها، واغضض بصرها بسترک واکففها بحجابک ولا تطمعها أن تشفع لغیرها فیمیل علیک من شفعت له علیک معها واستبق من نفسک بقیة فإن إمساکک نفسک عنهن وهن یرین أنک ذو اقتدار خیر من أن یرین منک حالا علی انکسار»(2).

وهذا الخبر له ثلاثة طرق متباینة تماماً وهو موجب للوثوق

ص:310


1- (1) سورة النساء: الآیة 34.
2- (2) الکافی للکلینی أبواب المتعة باب حق المرأة علی الزوج ح 3.

بالصدور لتعاضدها وهو نص فی المطلوب وأیضا لتشاهد مضمونه مع روایات أخری ولوجود هذا المضمون فیها، ووجه الاستدلال أن المرأة إذا کانت لا تملک من الامر ما یجاوز نفسها فلا تملک أمر غیرها فمن باب أولی أن لا تولی الامور العامة، فهی مثل الاخبار التی وردت فی القضاء.

فهذه الاخبار تدرج فی الطائفة الرابعة من الآیات القرآنیة التی هی نص فی المطلوب وهی کون الرجال قوامون علی النساء ولا یخفی أن استدلال أمیر المؤمنین علیه السلام بقول النبی صلی الله علیه وآله: «المرأة ریحانة ولیست بقهرمانیة» هو استدلال بضعف المرأة ولیونتها علی عدم تولیها هذه المناصب فهو استدلال بلسان الطائفة الأولی علی الرابعة، وأیضا یحتوی هذا الخبر علی الاستدلال بطائفة الحجاب علی مفاد الطائفة الرابعة ایضاً فهذا الخبر فیه استدلال بطوائف من الاخبار علی الطائفة الرابعة.

3 - ما جاء فی صحیحة سلیمان بن خالد عن أبی عبدالله علیه السلام: «أن قوماً أتوا رسول الله صلی الله علیه وآله فقالوا: یا رسول الله إنا رأینا أناسا یسجد بعضهم لبعض فقال رسول الله صلی الله علیه وآله: لو أمرت أحدا أن یسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها»(1).

ص:311


1- (1) الکافی للکلینی أبواب المتعة باب حق المرأة علی الزوج ح 6.

فهذه یمکن أن تعد نصاً فی المطلوب لکونها مأمورة بطاعة زوجها فهو ولیها وهی تابعة له فی أمورها.

ولا یخفی أن طرق الاستدلال علی المطلوب تارة بالآیات والروایات الدالة مطابقةً بالمباشرة وحرفیة النص، وتارة بالملازمات والتحلیل کما فی (الخلاف) حیث قال: «لا یجوز أن تکون المرأة قاضیة فی شئ من الأحکام، وبه قال الشافعی. وقال أبو حنیفة: یجوز أن تکون قاضیة فیما یجوز أن تکون شاهدة فیه، وهو جمیع الأحکام إلا الحدود والقصاص. وقال ابن جریر: یجوز أن تکون قاضیة فی کل ما یجوز أن یکون الرجل قاضیا فیه، لأنها تعد من أهل الاجتهاد. دلیلنا: أن جواز ذلک یحتاج إلی دلیل، لأن القضاء حکم شرعی، فمن یصلح له یحتاج إلی دلیل شرعی.

وروی عن النبی صلی الله علیه وآله قال: «لا یفلح قوم ولیتهم امرأة»(1).

وقال صلی الله علیه وآله: «أخروهن من حیث أخرهن الله»(2) فمن أجاز لها أن تلی القضاء فقد قدمها وأخر الرجل عنها. وقال: من فاته شئ فی صلاته فلیسبح، فإن التسبیح للرجال والتصفیق للنساء، فإن النبی صلی الله علیه وآله منعها من النطق لئلا یسمع کلامها، مخافة الافتتان بها، فبأن تمنع

ص:312


1- (1) المستدرک علی الصحیحین (الحاکم النیسابوری): ج 4 ص 39.
2- (2) عمدة القاری: ج ص، المصنف (لعبد الرزاق) ج ص.

القضاء الذی یشتمل علی الکلام وغیره أولی)(1) أنتهی کلامه.

4 - منها ما جاء بالفاظ متعددة عند الفریقین:

عن النبی صلی الله علیه وآله: «لن یفلح قوم یدبر أمرهم امرأة»(2).

وعن أمیر المؤمنین علیه السلام: «کل امرئ تدبره امرأة فهو ملعون»(3).

وعنه علیه السلام قال: «طاعة المرأة ندامة»(4).

وروی أحمد بن حنبل، عن أبی بکرة بکار بن عبد العزیز ابن أبی بکرة قال: سمعت أبی یحدث عن أبی بکرة انه شهد النبی صلی الله علیه وآله أتاه بشیر یبشره بظفر جند له علی عدوهم ورأسه فی حجر عائشة، فقام فخر ساجدا، ثم أنشأ یسائل البشیر فأخبره فیما أخبره أنه ولی أمرهم امرأة فقال النبی صلی الله علیه وآله: «الآن هلکت الرجال إذا أطاعت النساء، هلکت الرجال إذا أطاعت النساء ثلاثا»(5).

وما رواه البخاری عن أبی بکرة قال: لقد نفعنی الله بکلمة سمعتها من رسول الله صلی الله علیه وآله أیام الجمل بعد ما کدت ان الحق بأصحاب الجمل فأقاتل معهم قال لما بلغ رسول الله صلی الله علیه وآله أن أهل فارس قد ملکوا

ص:313


1- (1) الخلاف (للشیخ الطوسی): ج 6 ص 213-214.
2- (2) مستدرک سفینة البحار (للشیخ النمازی): ج 5 ص 99.
3- (3) المصدر نفسه، وأیضاً ج 3 ص 255.
4- (4) بحار الأنوار: ج 100 ص 227 ح 22.
5- (5) المسند: ج 5 ص 45.

علیهم بنت کسری قال: «لن یفلح قوم ولوا امرهم امرأة»(1).

وما رواه الترمیذی عن أبی بکرة قال: عصمنی الله بشئ سمعته من رسول الله صلی الله علیه وآله، لما هلک کسری قال: «من استخلفوا؟» قالوا: ابنته. فقال النبی صلی الله علیه وآله: «لن یفلح قوم ولوا أمرهم امرأة». قال فلما قدمت عائشة - یعنی البصرة - ذکرت قول رسول الله صلی الله علیه وآله فعصمنی الله به. هذا حدیث صحیح(2).

وهذه الطائفة من الطائفة الرابعة من طوائف الآیات ومفادها نص فی المقام ولها طرق متعددة عند الفریقین وقد وقفت علی طریق معتبر فی الوسائل لم یذکره الأعلام ولا الشیخ.

5 - صحیحة عبد الصمد قال: دخلت امرأة علی أبی عبدالله علیه السلام فقالت: أصلحک الله إنی امرأة متبتلة فقال: «و ما التبتل عندک؟». قالت: لا أتزوج، قال: «و لم؟» قالت: ألتمس بذلک الفضل، فقال: «انصرفی، فلو کان ذلک فضلا لکانت فاطمة علیها السلام أحق به منک إنه لیس أحد یسبقها إلی الفضل»(3).

و هذا الخبر یدل أن من کمال المرأة أن یکون علیها ولایة من الزوج.

ص:314


1- (1) صحیح البخاری: ج 5 ص 136 وأیضاً ج 8 ص 97.
2- (2) سنن الترمذی: ج 3 ص 360.
3- (3) الکافی للشیخ الکلینی باب اکرام الزوجة ج 5 ص 509 ح 3.

6 - موثقة السکونی عن أبی عبدالله صلی الله علیه وآله قال: «قال رسول الله صلی الله علیه وآله: إنما المرأة لعبة، من اتخذها فلا یضیعها»(1).

وهذه أیضا تدرج فی الطائفة الاولی والطائفة الرابعة، ولیس المراد من قوله: «المرأة لعبة» وصف عقلها وروحها بل بدنها وهذه حقیقة یثبتها الشارع فهو یبین جسد المرأة وکیفیته فالمراد باللعب ببدنها کونه بطبعه جذاباً وموضوع لاستلذاذ الزوج؟ فالشارع لایستهین بها بل المراد أن بدنها ینفس به الزوج ویرتاح إلیها ویستلد بها ویلهو بها ولهذا ورد لهو المؤمن فی ثلاثة حتی تحضره الملائکة إذا جاءها... فی أخبار متعددة:

7 - ما رواه الشیخ الصدوق بسنده عن أبی جعفر علیه السلام قال: «لهو المؤمن فی ثلاثة أشیاء: التمتع بالنساء ومفاکهة الاخوان والصلاة باللیل. من اجتمعت له ثلاث خصال فکأنما حیزت له الدنیا»(2).

8 - مرفوعة علی بن اسماعیل عن رسول الله صلی الله علیه وآله - فی حدیث قال: «کل لهو المؤمن باطل إلا فی ثلاث: فی تأدیبه الفرس، ورمیه عن قوسه، وملاعبته امرأته فإنهن حق»(3).

9 - محسنة أبی بصیر عن أبی عبدالله علیه السلام قال: «لیس شیء تحضره

ص:315


1- (1) الکافی للشیخ الکلینی باب حق المرأة علی الزوج ج 5 ص 510 ح 2.
2- (2) الخصال للصدوق ص 161 ح 2210.
3- (3) الکافی للکلینی باب ارباض الخیل ج 5 ص 50 ح 13.

الملائکة إلا الرهان وملاعبة الرجل أهله» (1).

فالمدابع أهله له من الأجر ما له لأنه فی طاعة الله فیلتذ کل بالآخر وبه یبتعد عن الحرام ولیس کما یفعله الغرب من التلاعب بالمراة بحیث یجعلها رخیصة کآلة النفایات یروج بها سلعاته وثقافته، ولهذا جاء أن لهو المؤمن فی التمتع بالنساء وملاعبتهن وهو من الحق لا من الباطل، وتحضره الملائکة وذلک لما فیه من حالة نورانیة فیها اقبال علی حلال الله وابتعاد وصد عن حرامه.

10 - معتبرة ضریس الکناسی - علی الأصح - عن أبی عبدالله علیه السلام قال: «إن امرأة أتت رسول الله صلی الله علیه وآله لبعض الحاجة فقال لها: لعلک من المسوفات، قالت: وما المسوفات یا رسول الله؟ قال: المرأة التی یدعوها زوجها لبعض الحاجة فلا تزال تسوفه حتی ینعس زوجها وینام فتلک لا تزال الملائکة تلعنها حتی یستیقظ زوجها»(2).

وقد عقد الکلینی قدس سره باباً فی حق المراة علی زوجها: وهیتبین حقوق المولی علیه للولی وذکر فیه أخباراً:

11 - موثقة إسحاق بن عمار قال: قلت لأبی عبدالله علیه السلام: ما حق المرأة علی زوجها الذی إذا فعله کان محسنا؟ قال: «یشبعها ویکسوها

ص:316


1- (1) نفسه ح 10.
2- (2) الکافی للکلینی باب کراهة أن تمنع النساء أزواجهن ج 5 ص 508 ح 2.

وإن جهلت غفر لها»، وقال أبو عبدالله علیه السلام: «کانت امرأة عند أبی علیه السلام تؤذیه فیغفر لها»(1).

12 - مارواه الکلینی بسنده عن عمرو بن جبیر العزرمی، عن أبی عبدالله علیه السلام قال: «جاءت امرأة إلی النبی صلی الله علیه وآله فسألته عن حق الزوج علی المرأة، فخبرها، ثم قالت: فما حقها علیه؟ قال: یکسوها من العری ویطعمها من الجوع وإن أذنبت غفر لها، فقالت: فلیس لها علیه شیء غیر هذا؟ قال: لا، قالت: لا والله لا تزوجت أبدا، ثم ولت، فقال النبی صلی الله علیه وآله: ارجعی فرجعت، فقال: إن الله (عزّ وجل) یقول: (وَ أَنْ یَسْتَعْفِفْنَ خَیْرٌ لَهُنَّ) (2)»(3).

وظاهرأن لسان هذین الخبرین لسان حق المولی علیه للولی فهی ترجع إلی الطائفة الرابعة وأما الاستعفاف فهو مطلوبلکن لا بالاعتزال عن الزواج. وقد عقد الشیخ الکلینی قدس سره بابا بعنوان: (ما یجب عن طاعة الزوج علی المرأة) وذکر أخباراً من هذه الطائفة.

14 - معتبرة عبدالله بن سنان - علی الأصح - عن أبی عبدالله علیه السلام قال: «إن رجلا من الأنصار علی عهد رسول الله صلی الله علیه وآله خرج فی بعض حوائجه فعهد إلی امرأته عهدا ألا تخرج من بیتها حتی یقدم قال: وإن

ص:317


1- (1) نفسه باب حق المرأة علی الزوج ج 5 ص 510 ح 1.
2- (2) سورة النور: الآیة 60.
3- (3) الکافی للکلینی باب حق المرأة علی الزوج ج 5 ص 510 ح 1.

أباها مرض فبعثت المرأة إلی النبی صلی الله علیه وآله فقالت: إن زوجی خرج وعهد إلی أن لا أخرج من بیتی حتی یقدم وإن أبی قد مرض فتأمرنی أن أعوده؟ فقال: رسول الله صلی الله علیه وآله: لا اجلسی فی بیتک وأطیعی زوجک، قال: فثقل فأرسلت إلیه ثانیا بذلک، فقالت: فتأمرنی أن أعوده؟ فقال: اجلسی فی بیتک وأطیعی زوجک، قال: فمات أبوها فبعثت إلیه أن أبی قد مات فتأمرنی أن أصلی علیه؟ فقال: لا اجلسی فی بیتک وأطیعی زوجک، قال: فدفن الرجل فبعث إلیها رسول الله صلی الله علیه وآله إن الله قد غفر لک ولأبیک بطاعتک لزوجک»(1).

وهذا محمول علی الاستحباب أو أن الرجل کان متشدداً وبمخالفته تحصل فتنة، وإلا فلیس للزوج أن یمنع المرأة من صلة الأرحام وهو من العشرة بالمعروف نعم فیما لا ینافی حقه.

15 - معتبرة أبی بصیر قال: سمعت أبا عبدالله علیه السلام یقول: «خطب رسول الله صلی الله علیه وآله النساء فقال: (یا معاشر النساء تصدقن ولو من حلیکن ولو بتمرة ولو بشق تمرة فإن أکثر کن حطب جهنم إن کن تکثرن اللعن وتکفرن العشیرة، فقالت امرأة من بنی سلیم لها عقل: یا رسول الله ألیس نحن الأمهات الحاملات المرضعات، ألیس منا البنات المقیمات والأخوات المشفقات فرق لها رسول الله صلی الله علیه وآله فقال: حاملات

ص:318


1- (1) الکافی للکلینی باب ما یجب من طاعة الزوج علی المرأة ج 5 ص 513 ح 1.

والدات مرضعات رحیمات، لولا ما یأتین إلی بعولتهن ما دخلت مصلیة منهن النار)» (1).

والطریق وإن أشتمل علی البطائنی إلا أن روایته هذه قبل انحرافه لأنه فی أیام انحرفه قاطعته الشیعة وکون الروای عنه أحد الأجلاء مثل علی بن الحکم الامامی دلیل علی أن الروایة عنه قبل انحرافه.

فمع هذا الدور الانسانی العظیم لولا ما یأتین من المعاصی، فیلاحظ أن نظرة الشارع العظیمة مجانبة للنظرة الدونیة للمرأة فهی نظرة منصفة تبین القوة فی المرأة کما تبیّن جهات الضعف فیها وکل ذلک للحذر عن استغلالها فی الشرور أو انزلاقها فیه وهذا مخالفلمن یتعامل مع المرأة باسم حریة المرأة بحیث جعل قیمتها فی بدنها لا فی عقلها ولهذا تری المرأة مثلًا فی الفضائیات والأعلام لا یستعمل عقلها لأنه لا یشتریه أحد من تلک الشعوب بفلس فهو غیر تجاری وغیر مربح إذ المربح فیها - بنظرتهم الدونیة - هو بدنها وجمالها وما إن تذهب نظارتها تلقی فی الحضیض.

16 - موثقة السکونی عن أبی عبدالله علیه السلام قال: «قال رسول الله صلی الله علیه وآله: (أیما امرأة خرجت من بیتها بغیر إذن زوجها فلا نفقة لها حتی ترجع)» (2).

ص:319


1- (1) الکافی للکلینی باب ما یجب من طاعة الزوج علی المرأة ج 5 ص 513 ح 2.
2- (2) الکافی للکلینی باب ما یجب من طاعة الزوج علی المرأة ج 5 ص 514 ح 5.

وهذه لیست بصدد حق الزوج من الجانب الجنسی بأنه إذا لم تنافِ استمتاعاته الجنسیة فإنه یصح لها الخروج؛ إذ إن عقد النکاح الذی یقرّه العرف والعقلاء والشرع لیس مقتصراً فی الحقوق علی الاستمتاع الجنسی بل لأمر آخر کسکون النفس إذ وجود المرأة فی بیتها سکون نفسی للزوج ولهذا یستوحش الزوج بدون زوجته.

فنفس الکون فی المنزل بل حتی لو لم یکن الزوج فی البیت إذ بمجرد کون المرأة فی بیته یوجب قرار نفسی له، هذا لو سلمنا صغرویاً أن الخبر بلحاظ المنافع وإلا فالخبر مطلق.

17 - منها صحیحة عبد الله بن سنان عن أبی عبدالله علیه السلام قال: «لیس للمرأة أمر مع زوجها فی عتق ولا صدقة ولا تدبیر ولا هبة ولا نذر فی مالها إلا بإذن زوجها إلا فی زکاة أو بر والدیها أو صلة قرابتها»(1).

وقد اختلف فی مفادها الفقهاء هل یشترط فی هذه الامور أذن الزوج وممانعته تنفسخ أو فیما زاحم حقه وعلی أی فهو یدل علی قیمومة الزوج علی تصرفات زوجته.

18 - ومنها ما رواه الشیخ الکلینی عن الجعفی، عن أبی جعفر علیه السلام قال: «خرج رسول الله صلی الله علیه وآله یوم النحر إلی ظهر المدینة علی جمل عاری

ص:320


1- (1) نفسه ح 4.

الجسم فمر بالنساء فوقف علیهن، ثم قال: (یا معاشر النساء، تصدقن وأطعن أزواجکن فإن أکثرکن فی النار فلما سمعن ذلک بکین، ثم قامت إلیه امرأة منهن فقالت: یا رسول الله فی النار مع الکفار؟! والله ما نحن بکفار فنکون من أهل النار، فقال لها رسول الله صلی الله علیه وآله: إنکن کافرات بحق أزواجکن)» (1).

وهذه الاخبار من الطائفة الرابعة الدالة علی أن قیمومة الزوج علی زوجته.

19 - صحیح ابن أبی عمیر، عن غیر واحد، عن الصادق، عن أبیه، عن آبائه علیهم السلام، قال: «شکا رجل من أصحاب أمیر المؤمنین علیه السلام نساءه، فقام علیه السلام خطیبا، فقال: (معاشر الناس، لا تطیعوا النساء علی حال، ولا تأمنوهن علی مال، ولا تذروهن یدبرن أمر العیال، فإنهن إن ترکن وما أردن أوردن المهالک، وعدون أمر المالک، فإنا وجدناهن لا ورع لهن عند حاجتهن، ولا صبر لهن عند شهوتهن، البذخ لهن لازم وإن کبرن، والعجب بهن لا حق وإن عجزن، لا یشکرن الکثیر إذا منعن القلیل، ینسین الخیر ویحفظن الشر، یتهافتن بالبهتان، ویتمادین بالطغیان، ویتصدین للشیطان، فداروهن علی کل حال، وأحسنوا لهن المقال، لعلهن یحسن الفعال)»(2).

ص:321


1- (1) الکافی للکلینی باب ما یجب من طاعة الزوج علی المرأة ج 5 ص 514 ح 3.
2- (2) الأمالی ص 274، علل الشرائع ج 2 - ص 512.

والخبر صحیح أعلائی؛ لأن المراد من «وغیر واحد»: مشایخ ابن أبی عمیر وجلهم أجلاء ولیست هذه من مراسیله، وهو نص فی عدم ولایتهن وقد تقدم جملة من الاخبار الصحیحة السند المعتبرة وذلک لأن من خصائص القضاء والطاعة ثبوت الولایة وقد نهینا عن طاعتهن.

وفیها نهی بقوله علیه السلام: «معاشر الناس لا تطیعوا النساء علی حال» وبقوله: «ولا تأمنوهن علی مال، ولا تذروهن یدبرن أمر العیال»، فالنهی عن ادارتهن للبیت وشؤونه فیکون النهی عن ادارتهن لما هو أخطر کادارة المجتمع من باب أولی. فقوله: «وجدناهن لا ورع لهن عند حاجتهن، ولا صبر لهن عن شهوتهن، البذخ لهن لازم وإن کبرن، والعجب بهن لاحق وإن عجزن، لا یشکرن الکثیر إذا منعن القلیل، ینسین الخیر ویحفظن الشر، یتهافتن بالبهتان، ویتمادین بالطغیان، ویتصدین للشیطان، فداروهن علی کل حال، وأحسنوا لهن المقال، لعلهن یحسن الفعال» تعلیل للطائفة الرابعة بالطائفة الأولی الدالة علی ضعفهن ولیونتهن مما یوجب علیهن الحذر لکی لا یقعن فی هذه المهالک.

والغریب من بعض المعاصرین أنه ذهب إلی عدم تسریة احکام باب النکاح إلی باب الفقه السیاسی مع أنه إذا کانت الولایة الضعیفة لم تجعل للمرأة کولایة التدبیر فی الأسرة والأحوال الشخصیة بل جعلت مولی علیها ومدبر أمرها فلا تولاها لضعفها وغیره من خصائصها الطبیعیة فلئن لا تولی الامور السیاسیة الاجتماعیة مما لا شک فیه ولا ریب.

ص:322

هذا لو فرضنا أن مسألة الرجال قوامون علی النساء خاصة بالازواج وإلا فالدلالة مطابقیة علی المطلوب فهی عامة بلفظ المرأة والرجل أو النساء.

وقوله: «یردن المهالک» موافق للطائفة الثالثة من ضعف رأیهن.

وکما قلنا إن الشارع لما کانت وظیفته تربویة فإنه حینما یبین هذه الخصائص والنقائص لکی یتفاداها المبتلی بها وهکذا ما ورد فی الاکراد وغیرهم فإنه یبین أن هذه الخصائص لابد من ملاحظتها والحذر منها وکل ذلک لأن الشارع لیس بصدد الإزدراء والذم وإنما هو بصدد حث هؤلاء القوم علی معالجة تلک الامور ببیان مقتضیاتها فإن لسان الشارع لسان الطبیب المرشد الذی لا یعلاج إلا بعد تشخیصه حالة المریض.

فالشارع بصدد أن البیئة المعینة تحمل هذا الموروث فیجب علی المبتلی مراعاتها حتی لا ینزلق فی مهاویها، فالخطأ فی الفهم عند بنی البشر إنهم إذا رأوا نقصا اعتقدوا أنه التقدیر الذی لا یتغیر کما قد یتوهم ذلک أیضا من ما ورد من أن المرأة مثل الضلع الأعوج إن أقمته أنکسر وهکذا وما ورد: شر لابد منه، فإنه محمول علی طبیعة المرأة العاطفیة فلا یمکن ازالة أصل طبیعتها ومعنی أنها شر لابد منه أی أن خیرها أکثری وذلک لأن الشر أکثریاً لا یکون لابد منه وإنما الذی لابد منه هو الخیر الأکثری غایة الأمر یلازم ویصاحب شر قلیل وإلا

ص:323

لو کان شرها أکثر فالمفروض تبعد وتقصی، فخیرها کثیر نظیر کونها ریحانه ومراح ومنها النسل وبها سکون النفس وغیر ذلک من المصالح والمنافع العظیمة.

فبیانات الشارع بیان لطبیعتها التکوینیة لما لها من تداعیات لابد من تفادیها من جهة الرجل والمرأة فالشارع فی مقام العلاج وتفادی هذه السلبیات، وإلا فإنه قد ورد علی لسان الشارع: «حُبب لی من دنیاکم ثلاث»(1) ، وورد: «کلما ازداد العبد إیماناً ازداد حباً للنساء»(2) وغیرها. فیعرف أن الشارع بصدد بیان الجهات القلیلة من الشر التی یجب تفادیه علی المرأة والرجل.

قوله: «العجب لهن لاحق» هو عدم الاتزان فی الصفات العملیة.

وقوله: «لا یشکرن الکثیر إذا منعن القلیل» عد الاتزان فی الصفات العملیة والعلمیة

وقوله: «ینسین الخیر ویحفظن الشر» وهذا من ضعف الرأی الموافق لطائفة الشهادة.

وقوله: «یتهافتن بالبهتان» فإذا تفادین هذه الظواهر نجینَ».

وقوله: «ویتصدین للشیطان» یعنی سریعات للانزلاق لأبواب

ص:324


1- (1) وسائل الشیعة: ج أبواب آداب الحمام والتنظیف، ب 89 ص 144 ح 12.
2- (2) المصدر نفسه، ج 20 أبواب مقدمات النکاح وآدابه، ب 3 ص 21-22 ح 1.

المعاصی.

وقوله: «داروهن علی کل حال» هذا العلاج فلا یتشدد معهن، لأن الشدة قسوة علیها فإن لهذه الطبائع السلبیة تداعیات فإذا لم تدبر ولم تنظم تنشط هذه التداعیات ولهذا یأتی العلاج بقوله علیه السلام: «وداروهن» واحسنوا إلیهن الفعال لا تحتدوا معهن فی القول، وهذا موافقة للطائفة الرابعة، والنتیجة ایجابیة ولعلهن یحسن الفعال.

و هذا الخبر جمعَ کل الطوائف وهو لا یقصر عن لسان الاخبار النبویة: «لن یفلح قوم ولوا أمرهم امرأة»(1) بل لعل هذا الخبر أصرح فلا معنی لأشکال بعضهم: بأن هذا ارشاد إلی عدم حسن تولیة المرأة للأمور لا أنه منع وتحریم.

وإن کان هذا الاشکال غیر صحیح لان المفروض فی الوالی أن یجعل وینصب بغایة تحصیل مصلحة الولایة والتدبیر فإذا کانت نتائجه سلبیة لم تؤهله سلبیاته لذلک.

و هذا الخبر یمکن أن یعترض علی دلالته بما ذکر بل أن ما تقدم من الاخبار التی منها لا تطیعوا النساء علی حال وغیرها أصرح منه.

وواضح أن من آثار الحاکمیة الطاعة فإذا لم تطع فکیف تقلد

ص:325


1- (1) صحیح البخاری ج 5 ص 136.

منصب الطاعة، أو قوله: «ولا تأمنوهن علی مال» فإن الوالی من وظائفه حفظ الأمور فإذا لم تأمن علی الاموال کیف تدبر الأمور. وهذه أکثر نصوصیة ووضوحا.

وعدم ذکر الاعلام هذه الاخبار لعدم نقل صاحب الوسائل لها فی باب القضاء وذکرها فی باب العشرة والتتبع لازم فی الفقه والاستنباط إذ الاعتماد علی تبویب صاحب الوسائل وتتبعه فیه مخاطر کثیرة لأن هذا کله اجتهاده واستنباطه ولایصح متابعته فی استنباطاته إقتصاراً.

20 - معتبرة أبی الجارود - الذی وإن کان زیدیا ملعونا إلا أن له وثاقة لسانیة - عن أبی جعفر، عن أبیه، عن جده علیه السلام قال: قال أمیر المؤمنین علیه السلام: «اتقوا شرار النساء وکونوا من خیارهن علی حذر، إن أمرنکم بالمعروف فخالفوهن کیلا یطمعن منکم فی المنکر»(1).

21 - صحیح عبدالله بن سنان عن أبی عبدالله علیه السلام قال: «ذکر رسول الله صلی الله علیه وآله النساء فقال: اعصوهن فی المعروف قبل أن یأمرنکم بالمنکر وتعوذوا بالله من شرارهن وکونوا من خیارهن علی حذر»(2).

ومفادهما یدل علی عدم ولایتها وآمریتها لأنه لا یؤمن جانب

ص:326


1- (1) الأمالی (للصدوق): ص 282 ح 483.
2- (2) وسائل الشیعة: ج أبواب مقدمات النکاح، باب 94 ص ح 1.

المنکر منها فهذه من الاخبار التی بینت أن من خصوصیات النساء ما یتنافی مع الولایة وهذه الطائفة تندرج فی لسان الطائفة الرابعة والثالثة وهو عدم متانة رأیهن.

22 - موثقة مسعدة بن صدقة، قال: حدثنی جعفر بن محمد، عن أبیه صلی الله علیه وآله قال: «من اتخذ نعلا فلیستجدها، ومن اتخذ ثوبا فلیستنظفه، ومن اتخذ دابة فلسیتفرهها، ومن اتخذ امرأة فلیکرمها، فإنما امرأة أحدکم لعبته فمن اتخذها فلایضعها...» الحدیث(1).

فلیس إکرام المرأة بأن تجعل ادوارها کأدوار الرجل فهذه توصیات من الشارع بمعنی أن نعومتها ولیونتها العاطفیة تذهب بالتعکیر فی الخلق فبلیونتها تمتص اعباء التعب واللعبیة هی ما یسبب سرور الخاطر فهی تشارک فی ترویح الرجل من هذه الزاویة فالمرأة فیها کمالات یحتاج إلیها الرجل وفی الرجل کمالات تحتاج إلیها المرأة، فالحزم من شؤون الرجل وفی موضوع الحزم یحتاج إلی الرجل فمن الوهم الکبیر أن نصور المرأة بأنها رجل تماماً أو الرجل امرأة تماماً أونتصور أن طبیعتهما واحدة حتی نجری ونوحد الاحکام بینهما وهذا غفلة وخلط بین هاتین الطبیعتین.

و هذا المفاد یندرج فی الطائفة الرابعة من ولایة الرجل علی المرأة.

ص:327


1- (1) وسائل الشیعة: ج 5 أبواب أحکام الملابس، باب 32 ص 61 ح 4.

ومن جهة أنها لعبة بمعنی ضعیفة ورقیقة فتندرج فی الطائفة الأولی.

23 - موثقة مسعدة، عن جعفر، عن آبائه علیهم السلام: «إن رسول الله صلی الله علیه وآله قال: أصناف لا یستجاب لهم: منهم من ادان رجلا دینا إلی اجل فلم یکتبعلیه کتابا ولم یشهد علیه شهودا، ورجل یدعو علی ذی رحمورجل تؤذیه امرأته بکل ما تقدر علیه، وهو فی ذلک یدعو الله علیهاویقول: اللهم أرحنی منها. فهذا یقول الله له: عبدی، أوما قلدتک أمرها، فإنشئت خلیتها، وإن شئت أمسکتها...» الحدیث(1).

فقوله: «قلدتک أمرها» دال علی أن المرأة مولی علیها وتقلید أمرها بید الرجل، فبیده الطلاق وغیره من شؤونها فهی تندرج فی الطائفة الرابعة.

24 - ما رواه الشیخ بسنده: أن النبی صلی الله علیه وآله قال: «إن أکمل المؤمنین إیمانا أحسنهم خلقا، وخیارکم خیارکم لنسائه»(2).

فمفاده رعایة الزوج أی ولایة الزوج علی زوجته.

25 - موثقة غیاث، عن أبی عبدالله علیه السلام قال: «إن المرأة خلقت من الرجل وإنما همتها فی الرجال فأحبوا نساءکم، وإن الرجل خلق من الأرض فإنما همته فی الأرض»(3).

ص:328


1- (1) وسائل الشیعة: ج 7 أبواب الدعاء، باب 50 ص 127 ح 7.
2- (2) الأمالی (للطوسی): ص 393 ح 227.
3- (3) علل الشرائع باب 245 ح 1.

وهذا المضمون مستفیض فی الاخبار وهو یدل علی تبعیة المرأة للرجل ومنشأ کون الرجال قوامین علی المرأة.

26 - ومنها ما رواه الشریف الرضی، عن أمیرالمؤمنین علیه السلام إنه قال: «معاشر الناس، إن النساء نواقص العقول، فأما نقصان إیمانهن فقعودهن عن الصلاة والصیام فی أیام حیضهن، وأما نقصان عقولهن فشهادة امرأتین منهن کشهادة الرجل واحد، وأما نقصان حظوظهن فمواریثهن علی الانصاف من مواریث الرجال، فاتقوا شرار النساء وکونوا من خیارهن علی حذر، ولا تطیعوهن فی المعروف حتی لا یطمعن فی المنکر»(1).

ومضمونه مطابق للطائفة الثالثة وهی نواقص عقول ومضمون الطائفة الخامسة وهی نقص الحظوظ فإنه علیه السلام جعل هاتین الطائفتین تفید مضمون الطائفة الرابعة فقال علیه السلام: «فاتقوا شرار النساء وکونوا من خیارهن علی حذر ولا تطیعوهن فی المعروف فیطمعن فی المنکر».

27 - مصحح خلد بن نجیح عن أبی عبدالله علیه السلام قال: تذاکروا الشوم عند أبی عبدالله علیه السلام فقال: «الشوم فی ثلاث: فی المرأة والدابة والدارفأما شوم المرأة فکثرة مهرها وعقم رحمها»(2).

ص:329


1- (1) سائل الشیعة: ج 2 أبواب الحیض، ب 39 ص 344 ح 4.
2- (2) سائل الشیعة: ج 2 أبواب مقدمات النکاح، باب 51 ص 53 ح 2.

فثبوت عقوق الزوجة لزوجها دال اقتضاءا علی أن له ولایة علیها وهو مفاد الطائفة الرابعة.

28 - روایة أنس بن محمد، عن أبیه، عن جعفر بن محمد، عن أبیه، عن جده، عن علی بن أبی طالب علیهم السلام قال: «قال رسول الله صلی الله علیه وآله فی وصیته لی: یا علی، أربعة من قواصم الظهر: إمام یعصی الله ویطاع أمره، وزوجة یحفظها زوجها وهی تخونه، وفقر لا یجدصاحبه له مداویا، وجار سوء فی دار مقام)»(1).

وهی دالة أیضا علی أن حفظ الزوجة وتدبیر شؤونها من مسؤولیة الزوج فهو مولی علیها.

29 - موثقة السکونی عن أبی عبدالله علیه السلام قال: «قال رسول الله صلی الله علیه وآله: من أطاع امرأته أکبه الله علی وجهه فی النار، قیل: وما تلک الطاعة؟ قال: تطلب منه الذهاب إلی الحمامات والعرسات والعیدات والنیاحات والثیاب الرقاق»(2).

وهذه لها عدة طرق فی هذا الباب.

ولا یتوهم حمل الطاعة فی الروایات التی تقدمت بالنهی عن طاعة المرأة خاصة بهذه الأمور فیحمل المطلق علی هذا المقید؟ وذلک

ص:330


1- (1) الخصال للصدوق باب الاربعة ح 24.
2- (2) الکافی للکلینی باب ترک طاعتهن ج 5 ص 517 ح 3.

للتصریح فی کثیر منها بعدم طاعتهن فی المعروف فضلًا عن مطلق المنکر لا خصوص الأربعة.

30 - روایة الحسین بن یزید، عن الصادق عن أبائه علیهم السلام أن النبی صلی الله علیه وآله: «ونهی أن تخرج المرأة من بیتها بغیر إذن زوجها، فإن خرجت لعنها کل ملک فی السماء وکل شئ تمر علیه من الجن والإنس حتی ترجع إلی بیتها. ونهی أن تتزین المرأة لغیر زوجها، فإن فعلت کان حقا علی الله عز وجل أن یحرقها بالنار. ونهی أن تتکلم المرأة عند غیر زوجها وغیر ذی محرم منها أکثر من خمس کلمات مما لابد لها منه. ونهی أن تحدث المرأة بما تخلو به مع زوجها»(1).

و ذلک باعتبار أنها فریسة یطمع فی أنوثتهاحتی فی حدیثها فإن کثرة الحدیث یسقط جدار الحشمة کما فی قوله تعالی: (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَیَطْمَعَ الَّذِی فِی قَلْبِهِ مَرَضٌ) .

31 - ما رواه الصدوق عن النبی صلی الله علیه وآله: «ونهی أن یدخل الرجل حلیلته إلی الحمام»(2).

32 - ما رواه الصدوق عن النبی صلی الله علیه وآله: «أیما امرأة آذت زوجها بلسانها لم یقبل الله منها صرفا ولا عدلا ولا حسنة من عملها حتی

ص:331


1- (1) الأمالی (للصدوق): ص 510 فی حدیث المناهی.
2- (2) المصدر نفسه.

ترضیه وإن صامت نهارها وقامت لیلها وأعتقت الرقاب وحملت علی جیاد الخیل فی سبیل الله وکانت أول من یرد النار، وکذلک الرجل إذا کان لها ظالما» (1).

33 - ما رواه الصدوق عن النبی صلی الله علیه وآله: «ألا ومن صبر علی خلق امرأة سیئة الخلق واحتسب فی ذلک الاجر أعطاه الله ثواب الشاکرین فی الآخرة، ألا وأیما امرأة لم ترفق بزوجها وحملته علی ما لا یقدر علیه وما لا یطیق لم تقبل منها حسنة وتلقی الله وهو علیها غضبان»(2).

34 - مصحح علی بن جعفر، عن أخیه علیه السلام قال: «سألته عن المرأة العاصیة لزوجها هل لها صلاة وما حالها؟ قال: لا تزال عاصیة حتی یرضی عنها»(3).

34 - مصحح علی بن جعفر، علی عن أخیه علیه السلام قال: وسألته عن المرأة هل لها أن تعطی من بیت زوجها بغیر إذنه؟ قال: «لا، إلا أن یحلها»(4).

فهذه کلها تدل علی أن المرأة مولی علیها فتندرج فی الرابعة.

35 - معتبرة ضریس، عن أبی عبدالله علیه السلام قال: «إن الله (تبارک

ص:332


1- (1) المصدر نفسه.
2- (2) الأمالی (للصدوق): ص 510 فی حدیث المناهی.
3- (3) قرب الإسناد: ص 226 ح 884.
4- (4) المصدر نفسه، ح 885.

وتعالی) جعل الشهوة عشرة أجزاء تسعة منها فی النساء وواحدة فی الرجال، ولولا ما جعل الله (عزّ وجل) فیهن من أجزاء الحیاء علی قدر أجزاء الشهوة لکان لکل رجل تسع نسوة متعلقات به» (1).

36 - مارواه الراوندی باسناده، عن موسی بن جعفر، عن آبائه علیهم السلام قال: «قال رسول الله صلی الله علیه وآله: (اضربوا النساء علی تعلیم الخیر)»(2).

37 - صحیح محمد بن مسلم، عن الباقر علیه السلام قال: «جاءت امرأة إلی رسول الله صلی الله علیه وآله فقالت: یا رسول الله، ما حق الزوج علی المرأة؟ فقال لها: تطیعه ولا تعصیه ولا تتصدق من بیته بشیء إلا باذنه ولا تصوم تطوعا إلا باذنه ولا تمنعه نفسها وإن کانت علی ظهر قتب، ولا تخرج من بیته إلا باذنه، فان خرجت بغیر إذنه لعنتها ملائکة السماء وملائکة الأرض وملائکة الغضب وملائکة الرحمة حتی ترجع إلی بیتها. فقالت: یا رسول الله، من أعظم الناس حقا علی الرجل؟ قال: والده، قالت: فمن أعظم الناس حقا علی المرأة؟ قال: زوجها. قالت: فما لی علیه من الحق مثل ما له علی؟ قال: لا، ولا من کل مائة واحد. فقالت: والذی بعثک بالحق لا یملک رقبتی رجل أبدا»(3).

38 - ما رواه العلامة المجلسی وقال النبی صلی الله علیه وآله: «إنی أتعجب ممن

ص:333


1- (1) الخصال للصدوق باب العشرة ح 28.
2- (2) نوادر الراوندی ص 118.
3- (3) الکافی للکلینی باب حق الزوج علی المرأة ج 5 ص 507 ح 1.

یضرب امرأته وهو بالضرب أولی منها، لا تضربوا نساءکم بالخشب فإن فیه القصاص، ولکن اضربوهن بالجوع والعری حتی تربحوا فی الدنیا والآخرة، وأیما رجل تتزین امرأته وتخرج من باب دارها فهو دیوث ولا یأثم من یسمیه دیوثا. والمرأة إذا خرجت من باب دارها متزینة متعطرة والزوج بذلک راض یبنی لزوجها بکل قدم بیت فی النار. فقصروا أجنحة نسائکم ولا تطولوها فإن فی تقصیر أجنحتها رضی وسرورا ودخول الجنة بغیر حساب، احفظوا وصیتی فی أمر نسائکم حتی تنجوا من شدة الحساب، ومن لم یحفظ وصیتی فما أسوء حاله بین یدی الله». وقال صلی الله علیه وآله: «النساء حبائل الشیطان»(1).

39 - ما رواه الصدوق، قال: خطب النبی صلی الله علیه وآله فقال: «یا أیها الناس، إن النساء عندکم عوار لا یملکن لأنفسهن ضرا ولا نفعا أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بکلمات الله، فلکم علیهن حق، ولهن علیکم حق، ومن حقکم علیهن أن لا یوطؤوا فرشکم ولا یعصینکم فی معروف، فإذا فعلن ذلک فلهن رزقهن وکسوتهن بالمعروف ولا تضربوهن»(2).

40 - منها مارواه الصدوق بسند معتبر علی الأصح، عن أبی عبد الله عن آبائه علیهم السلام عن أمیر المؤمنین علیه السلام: «جهاد المرأة حسن التبعل»،

ص:334


1- (1) بحار الأنوار: ج 100 ص 249.
2- (2) الخصال: ص 468.

وقال: «لتطیب المرأة المسلمة لزوجها» (1).

41 - معتبرة عبد العظیم الحسنی، عن محمد بن علی الرضا، عن أبیه الرضا، عن أبیه موسی بن جعفر، عن أبیه جعفر بن محمد، عن أبیه محمد بن علی، عن أبیه علی بن الحسین، عن أبیه الحسین بن علی، عن أبیه أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب علیه السلام قال: «دخلتُ أنا وفاطمة علی رسول الله صلی الله علیه وآله فوجدته یبکی بکاءً شدیدا، فقلت: فداک أبی وأمی یا رسول الله! ما الذی أبکاک؟ فقال: یا علی، لیلة أسری بی إلی السماء رأیت نساء من أمتی فی عذاب شدید فأنکرت شأنهن فبکیت لما رأیت من شدة عذابهن، ورأیت امرأة معلقة بشعرها یغلی دماغ رأسها، ورأیت امرأة معلقة بلسانها والحمیم یصب فی حلقها، ورأیت امرأة معلقة بثدییها، ورأیت امرأة تأکل لحم جسدها والنار توقد من تحتها، ورأیت امرأة قد شد رجلاها إلی یدیها وقد سلط علیها الحیّات والعقارب، ورأیت امرأة صمّاء عمیاء خرساء فی تابوت من نار یخرج دماغ رأسها من منخرها، وبدنها متقطع من الجذام والبرص، ورأیت امرأة معلقة برجلیها تنور من نار، ورأیت امرأة تقطع لحم جسدها من مقدمها ومؤخرها بمقاریض من نار، ورأیت امرأة تحرق وجهها ویداها وهی تأکل أمعائها، ورأیت امرأة رأسها رأس الخنزیر وبدنها بدن الحمار وعلیها ألف ألف لون من العذاب، ورأیت امرأة علی صورة

ص:335


1- (1) الخصال: ص 621 فی حدیث الاربعمائة.

الکلب والنار تدخل فی دبرها وتخرج من فیها والملائکة یضربون رأسها وبدنها بمقامع من نار فقالت فاطمة علیها السلام: حبیبی وقرّة عینی، أخبرنی ما کان عملهن وسیرتهن حتی وضع الله علیهن هذا العذاب!! فقال: یا بنیتی، أما المعلقة بشعرها فإنها کانت لا تغطی شعرها من الرجال، وأما المعلقة بلسانها فإنها کانت تؤذی زوجها، وأما المعلقة بثدییها فإنها تمتنع من فراش زوجها، وأما المعلقة برجلیها فإنها کانت تخرج من بیتها بغیر اذن زوجها، وأما التی تأکل لحم جسدها فإنها کانت تزین بدنها للناس، والتی شد یداها إلی رجلیها وسلط علیها الحیّات والعقارب فإنها کانت قذرة الوضوء قذرة الثیاب وکانت لا تغتسل من الجنابة والحیض ولا تتنظف وکانت تستهین بالصلاة، وأما الصماء العمیاء الخرساء فإنهاکانت تلد من الزنا فتعلقه فی عنق زوجها وأما التی تقرض لحمهابالمقاریض فإنها کانت تعرض نفسها علی الرجال وأما التی کانت تحرق وجههاوبدنها وتأکل أمعائها فإنها کانت قوّادة وأما التی کان رأسها رأسالخنزیر وبدنها بدن الحمار فإنها کانت نمامة کذابة وأما التی کانت علی صورة الکلب والنار تدخل فی دبرها وتخرج من فیها فإنها کانت قینة نواحة حاسدة ثم قال علیه السلام: ویل لامرأة أغضبت زوجها وطوبی لامرأة رضی عنهازوجها» (1).

42 - معتبرة سعد الجلاب، عن أبی عبدالله علیه السلام قال: «إن الله تعالی

ص:336


1- (1) عیوان أخبار الرضا علیه السلام: ج 1 ص 13 ح 24.

لم یجعل الغیرة للنساء، إنما تغار المنکرات منهن، فاما المؤمنات فلا، وإنما جعل الله تعالی الغیرة للرجال لأن الله قد أحل تعالی له أربعا، وما ملکت یمینه ولم یجعل للمرأة إلا زوجها وحده، فان بغت معه غیره کان زانیة» (1).

43 - ما فی تفسیر القمی: (الرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَی النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلی بَعْضٍ وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ) (2) ، یعنی فرض الله

علی الرجال أن ینفقوا علی النساء ثم مدح النساء فقال:

(فَالصّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَیْبِ بِما حَفِظَ اللّهُ) ، یعنی تحفظ نفسها إذا غاب عنها زوجها، وفی روایة أبی الجارود، عن أبی جعفر علیه السلام فی قوله (قانِتاتٌ ) «أی مطیعات»(3).

44 - منها صحیح الولید بن صبیح، عن أبی عبدالله علیه السلام قال: «قال رسول الله صلی الله علیه وآله: «أی امرأة تطیبت ثم خرجت من بیتها فهی تلعن حتی ترجع إلی بیتها متی رجعت»(4).

45 - موثقة أو قویة موسی بن بکر، عن أبی إبراهیم علیه السلام قال:

ص:337


1- (1) علل الشرائع: ب 272 ح 1.
2- (2) سورة النساء: الآیة 34.
3- (3) تفسیر القمی: ص 137.
4- (4) ثواب الأعمال للصدوق عقاب الشک والمعصیة ص 259.

«جهاد المرأة حسن التبعل»(1).

46 - معتبرة سلمان بن خالد، عن أبی عبدالله علیه السلام: «أن قوما أتوا رسول الله صلی الله علیه وآله فقالوا: یا رسول الله إنا رأیناأناسا یسجد بعضهم لبعض فقال رسول الله صلی الله علیه وآله: لو أمرت أحدا أن یسجد لأحد لأمرتالمرأة أن تسجد لزوجها»(2).

47 - ما رواه الطبرسی عن النبی صلی الله علیه وآله قال: «من صبر علی سوء خلق امرأته أعطاه الله من الاجر ما أعطاه داود علیه السلام علی بلائه، ومن صبرت علی سوء خلق زوجها أعطاها مثل ثواب آسیة بنت مزاحم»(3).

وهذا الباب هو مضمون روایات الکافی ومعزز ومثبّت لاستفاضتها فکون بعض ما مر ضعیف السند یجبره تکاثرها ویعضد بعضها بعضا فتولد وثوق بالصدور وتصب فی الدلالة علی قیمومة الزوج للزوجة.

48 - صحیحة معاویة بن وهب قال: سمعت أبا عبدالله علیه السلام یقول: «انصرف رسول الله صلی الله علیه وآله من سریة قد کان أصیب فیها ناس کثیر من المسلمین، فاستقبلته النساء یسألنه عن قتلاهن، فدنت منه امرأة. فقالت: یا رسول الله، ما فعل فلان؟ قال: وما هو منک؟ قالت: أبی قال: احمدی الله واسترجعی فقد استشهد، ففعلت ذلک، ثم قالت: یا

ص:338


1- (1) الکافی: کتاب الجهاد ج 5 ص 9 ب وجوب الجهاد ح 1.
2- (2) الکافی: باب حق الزوج علی المرأة ج 5 ص 506 ح 6.
3- (3) بحار الأنوار: ج 100 ص 247 ح 30.

رسول الله ما فعل فلان؟ فقال: وما هو منک؟ فقالت أخی، فقال: احمدی الله واسترجعی فقد استشهد، ففعلت ذلک، ثم قالت: یا رسول الله، ما فعل فلان؟ فقال: وما هو منک؟ فقالت: زوجی، قال: احمدی الله واسترجعی فقد استشهد، فقالت: واویلی. فقال رسول الله صلی الله علیه وآله: ما کنت أظن أن المرأة تجد بزوجها هذا کله حتی رأیت هذه المرأة» (1).

49 - ما رواه الطبرسی عن النبی صلی الله علیه وآله قال: «کان إبراهیم أبی غیورا وأنا أغیر منه، وأرغم الله أنف من لا یغار من المؤمنین»(2).

50 - ما رواه المجلسی عن جامع الأخبار عن رسول الله صلی الله علیه وآله قال: «من قذف امرأته بالزنا خرج من حسناته کما تخرج الحیة من جلدها، وکتب له بکل شعرة علی بدنه ألف خطیئة»(3).

51 - ما رواه الطبرسی عن النبی صلی الله علیه وآله قال: «لا تقذفوا نساءکم بالزنا فإنه شبه بالطلاق، وإیاکم والغیبة فإنها شبه بالکفر، واعلموا أن القذف والغیبة یهدمان عمل مائة سنة»(4).

52 - ما رواه الطبرسی عن النبی صلی الله علیه وآله قال: «من قذف امرأته بالزنا

ص:339


1- (1) الکافی: ج 5 باب حق الزوج علی المرأة ص 506 ح 1.
2- (2) بحار الأنوار: ج 100 ص 248 ح 33.
3- (3) المصدر نفسه، ح 34.
4- (4) المصدر نفسه، ح 35.

نزلت علیه اللعنة ولا یقبل منه صرف ولا عدل»(1).

53 - ما رواه الطبرسی عن النبی صلی الله علیه وآله قال: «لا یقذف امرأته إلا ملعون أو قال: منافق، فإن القذف من الکفر والکفر فی النار، لا تقذفوا نساءکم فإن فی قذفهن ندامة طویلة وعقوبة شدیدة»(2).

و هذا المفاد بمثابة تحذیر الرجل عن التمادی فی استغلال موقعه ومقامه لظلم المرأة.

54 - ما رواه المجلسی عن نوادر الراوندی باسناده عن موسی بن جعفر، عن آبائه علیهم السلام قال: «قال رسول الله صلی الله علیه وآله: (اضربوا النساء علی تعلیم الخیر)»(3).

فمن شعب القیّومیة هو تولیته تربیتها اخلاقیاً فی محیط الجو الأسری.

55 - ما رواه المجلسی عن الراوندی بالاسناد نفسه، قال: «إن فاطمة دخل علیها علی بن أبی طالب علیه السلام وبه کآبة شدیدة فقالت فاطمة علیها السلام: یا علی ما هذه الکآبة؟ فقال علی علیه السلام سألنا رسول الله صلی الله علیه وآله عن المرأة ما هی؟ فقلنا عورة، فقال فمتی تکون أدنی من ربها؟ فلم ندر فقالت فاطمة لعلی علیه السلام: ارجع إلیه فأعلمه أن أدنی ما تکون من ربها أن

ص:340


1- (1) المصدر نفسه، ح 36.
2- (2) بحار الأنوار: ج 100 ص 249 ح 37.
3- (3) المصدر نفسه، ح 39.

تلزم قعر بیتها، فانطلق فأخبر رسول الله صلی الله علیه وآله ما قالت فاطمة علیها السلام، فقال رسول الله صلی الله علیه وآله: إن فاطمة بضعة منی»(1).

وهذا مفاد آیة الحجاب الذی تقدم تقریب دلالتها وأما قوله علیه السلام: «فلم ندر» فبحسب ظاهر الحال وحال الآخرین وبغیة ظهور شأن فاطمة علیها السلام وأن حالهم علیهم السلام علی حسب مراتب أبدانهم ونفوسهم النازلة یختلف عن شأنهم بحسب مراتب نورهم علیهم السلام والاشارة إلی هذا الاختلاف کثیر فی الروایات.

56 - ما رواه المجلسی عن الراوندی بالاسناد نفسه: قال علی علیه السلام: «أقبلت امرأة إلی رسول الله صلی الله علیه وآله فقالت: یا رسول الله صلی الله علیه وآله إن لی زوجا وله علی غلظة وإنی صنعت به شیئا لأعطفه علی فقال رسول الله صلی الله علیه وآله: أفٍّ لک کدرت دینک، لعنتک الملائکة الأخیار، لعنتک ملائکة السماء (لعنتک) ملائکة الأرض فصامت نهارها وقامت لیالیها ولبست المسوح ثم حلقت رأسها فقال رسول الله صلی الله علیه وآله: إن حلق الرأس لا یقبل منها إلا أن یرضی الزوج»(2).

57 - ما رواه المجلسی عن الراوندی بالاسناد نفسه: قال رسول الله صلی الله علیه وآله: «إنما المرأة لعبة فمن اتخذها فلیبضعها»(3).

ص:341


1- (1) بحار الأنوار: ج 100 ص 250 ح 40.
2- (2) المصدر نفسه، ح 41.
3- (3) بحار الأنوار: ج 100 ص 250 ح 42.

والاتخاذ دال علی تملکه أمرها فی الجملة.

58 - ما رواه المجلسی عن الراوندی بالاسناد نفسه: قال رسول الله صلی الله علیه وآله: «النساء عورة احبسوهن فی البیوت واستعینوا علیهن بالعری»(1).

و هذا مما یقتضی قیمومته علیها.

59 - روایة أبی عبیدة الحذاء، عن أبی عبدالله علیه السلام، قال: «أتی النبی صلی الله علیه وآله بأساری فأمر بقتلهم خلا رجل من بینهم، فقال الرجل: بأبی أنت وأمی - یا محمد - کیف أطلقت عنی من بینهم؟ فقال: أخبرنی جبرئیل عن الله (عزّ وجل) أن فیک خمس خصال یحبها الله عز وجل ورسوله: الغیرة الشدیدة علی حرمک، والسخاء، وحسن الخلق، وصدق اللسان، والشجاعة، فلما سمعها الرجل أسلم وحسن إسلامه، وقاتل مع رسول الله صلی الله علیه وآله قتالا شدیدا حتی استشهد»(2).

وفی روایة قال صلی الله علیه وآله: «إن الغیرة من الایمان»(3).

وفی روایة: «غیرة المرأة کفر وغیرة الرجل إیمان»(4).

فغیرة الرجل علی امرأته تقتضی اشرافه علیها وتولّیه تدبیر شؤونها.

ص:342


1- (1) المصدر نفسه، ح 43.
2- (2) الأمالی (للصدوق): ص 435 ح 417.
3- (3) من لا یحضره الفقیه: ج 3 ص 444 ح 4541.
4- (4) خصائص الأئمة: ص 100.

60 - ما رواه المجلسی عن الراوندی بالاسناد المتقدم: قال رسول الله صلی الله علیه وآله: «کتب الله الجهاد علی رجال أمتی والغیرة علی نساء أمتی فمن صبر منهم واحتسب أعطاه أجر شهید»(1).

وکتب بمعنی ابتلی واختصاص الرجل بالجهاد الذی هو من الشأن العام دون المرأة.

61 - ما رواه المجلسی عن الراوندی بالاسناد نفسه: قال علی علیه السلام: «أتی النبی صلی الله علیه وآله رجل من الأنصار بابنة له فقال: یا رسول الله إن زوجها فلان بن فلان الأنصاری فضربها فأثر فی وجهها فأقیده لها؟ فقال رسول الله صلی الله علیه وآله: لک ذلک فأنزل الله تعالی قوله: (الرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَی النِّساءِ) فقال رسول الله صلی الله علیه وآله: أردت أمرا وأراد الله تعالی غیره»(2).

واختلاف الارادتین اشارة إلی تعدد مراتب الارادة الالهیة نظیر القضاء والقدر وحصول البداء أو البداء الأعظم.

62 - ما رواه المجلسی عن الراوندی بالاسناد المتقدم: قال رسول الله صلی الله علیه وآله: «أیما رجل رأی فی منزله شیئا من الفجور فلم یغیر بعث الله تعالی طیرا أبیض یظل علیه أربعین صباحا فیقول کلما دخل وخرج غیر غیر فإن غیر وإلا مسح رأسه بجناحیه علی عینیه، فإن رأی

ص:343


1- (1) بحار الأنوار: ج 100 ص 251 ح 45.
2- (2) المصدر نفسه، ص 252 ح 46.

حسنا لم یستحسنه وإن یری قبیحا لم ینکره» (1).

وتولیة الرجل التغییر تقتضی قیمومته فی الاسرة علی المرأة.

63 - صحیحة هشام بن سالم عن أبی عبدالله علیه السلام قال: «قال رسول الله صلی الله علیه وآله: النساء عی وعورة فاستروا العورات بالبیوت واستروا العی بالسکوت»(2).

ومفاده مطابق لمفاد الطائفة الأولی من الآیات.

64 - روایة أبی المفضل بن عمر عن أبی عبدالله علیه السلام قال: «سألَتْ أم سلمة رسول الله صلی الله علیه وآله: عن فضل النساء فی خدمة أزواجهن، فقال صلی الله علیه وآله: ما من امرأة رفعت من بیت زوجها شیئا من موضع إلی موضع ترید به صلاحا إلا نظر الله إلیها، ومن نظر الله إلیه لم یعذبه. فقالت أم سلمة: زدنی فی النساء المساکین من الثواب بأبی أنت وأمی. فقال: یا أم سلمة، إن المرأة إذا حملت کان لها من الاجر کمن جاهد بنفسه وماله فی سبیل الله (عزّ وجل)، فإذا وضعت قیل لها: قد غفر لک ذنبک فاستأنفی العمل، فإذا أرضعت فلها بکل رضعة تحریر رقبة من ولد إسماعیل»(3).

ص:344


1- (1) بحار الأنوار: ج 100 ص 251 ح 47.
2- (2) الکافی: ج 5 باب الغیرة ص 535 ح 4.
3- (3) الأمالی (للطوسی): ص 612 ح 9.

و هذا النوع من الاخبار فیه دلالة واضحة علی أن منشأ ولایة الرجل علی المرأة هو ضعف المرأة وکون بدنها فتنة.

65 - روایة تحف العقول: من وصیة أمیر المؤمنین علیه السلام لابنه الامام الحسن المجتبی علیه السلام: «وإیاک ومشاورة النساء فإن رأیهن إلی أفن وعزمهن إلی وهن واکفف علیهن من أبصارهن بحجبک إیاهن فإن شدة الحجاب خیر لک ولهنولیس خروجهن بأشد من إدخالک من لا یوثق به علیهن وإن استطعت أن لا یعرفن غیرک فافعل ولا تمک المرأة من أمرها ما جاوز نفسها، فإن ذلک أنعم لحالها وأرخی لبالها وأدوم لجمالها، فإن المرأة ریحانة ولیست بقهرمانة ولا تعد بکرامتها نفسها ولا تطمعها أن تشفع لغیرها فتمیل مغضبة علیک معها، ولا تطل الخلوة مع النساء فیملنک أو تملهن. واستبق من نفسک بقیة من إمساکک فان إمساکک عنهن وهن یرین أنک ذو اقتدار خیر من أن یظهرن منک علی انتشار وإیاک والتغایر فی غیر موضع غیرة فإن ذلک یدعو الصحیحة منهن إلی السقم ولکن أحکم أمرهن، فإن رأیت ذنبا فعاجل النکیر علی الکبیر والصغیر...»(1).

ومضمون هذا الخبر یحوی مفاد عدة طوائف متقدمة فقوله علیه السلام: «واکفف علیهن من أبصارهن بحجابک إیاهن فان شدة الحجاب أبقی

ص:345


1- (1) تحف العقول: ص 86-87.

علیهن، ولیس خروجهن بأشد من إدخالک من لا یوثق به علیهن، وإن استطعت أن لا یعرفن غیرک فافعل».

وهذا مضمون طائفة الحجاب وهو یبیّن کونها فریسة تنتهز وتصطاد برمق العین بنظرة تخدع توقع فی هتک عرضها فالحجاب هو أن لا توضع أمام الرجال لأنها دوماً فریسة وضحیة ولهذا قال علیه السلام: «إن شدة الحجاب أبقی علیهن» والمراد بالخروج هو الذی تکون فیه المرأة فی معرض الرجال لا صرف الخروج وهذا لیس سجناً وحبساً بل المرأة لها أن تنطلق فی مجالاتها النسویة أومع مراعاة الحجاب فهو لا مانع منه فالتشریع الاسلامی لا یحضر علی المرأة التواجد الحیوی فی مجال السیاسة والعلم کما فعلته السیدة خدیجة علیها السلام من الاتجار وغیره والادوار السیاسیة التی قامت بها سید النساء فاطمة الزهراء علیها السلام وابنتها زینب علیها السلام وإنما یحضر ویمنع من البئیة الإثاریة الجنسیة التی تهدم الاسرة وتفسد الأولاد فالشراع علی الدوام ینهی عن التبرج ونحوه ویأمر بالحجاب ولیس حبساً لها کما یصورها العلمانیون والحداثویون لأنهم نظروا إلی المرأة کجسد یتمتع بها ویأخذ منه اللذات ولم یرع فیها الجانب الروحی والفکری بخلاف نظرة الشارع لها وللمجتمع فهو یقیها وینشلها من البیئة الجنسیة الهدامة التی همها الإنفلاتی الارتباط ببدنها وجمالها بل یراعی بدنها ویوفر له الأمان أولًا وثانیا لا یحصر دورها بالارتباطات البدنیة بل یقیّمها بالارتباط

ص:346

العلمی... فالشارع یرفعها عن الانزلاق فی البیئة المثیرة الجنسیة الهدامة ویقرر ویثبت البیئة النظیفة الطاهرة.

وقوله علیه السلام: «رأیهن إلی أفن» مضمون الطائفة الثالثة، وهذه الخطابات إلی الرجل فهو المولی علیها والقائم بشؤونها، وهو مضمون الطائفة الرابعة وکذا قوله علیه السلام: «و لا تملک من أمرها ما یجاوز نفسها».

66 - مصحح یونس بن یعقوب، عن أبی عبدالله علیه السلام قال: «ملعونة ملعونة امرأة تؤذی زوجها وتغمه، وسعیدة سعیدة امرأة تکرم زوجها ولا تؤذیه وتطیعه فی جمیع أحواله» (1) . ومفاده من الطائفة الرابعة:

67 - روایة الکراجکی: من کلام أمیر المؤمنین (صلوات الله علیه وآله) فی ذکر النساء: «إیاک ومشاورة النساء إلا من جربت بکمال عقلها فإن رأیهن یجر إلی الأفن وعزمهن إلی وهن وقصر علیهن أجنحتهن فهو خیر لهن ولیس خروجهن باشد علیک من دخول من لا یوثق به علیهن وان استطعت ان لا یعرفن غیرک فافعل لا تملک المراة امرها ما یجاوز نفسها فإن ذلک أنعم لبالها وبالک وإنما المراة ریحانة ولیست بقهرمانة ولا تطعها ان تشفع لغیرها ولا تطیلن الخلوة مع النساء فیمللنک وتملهن واستبق من نفسک بقیة وإیاک والتغایر فی غیر موضع غیره فإن ذلک یدعو الصحیحة إلی السقم وان رأیت منهن ریبة

ص:347


1- (1) کنز الفوائد (للکراجکی): ص 63.

فعجل النکیر وأقل الغضب علیهن الا فی عیب أو ذنب».

وقال: «لا تطلعوا النساء علی حال ولا تأمنوهن علی مال ولا تثقوا بهن فی الفعال فإنهن لا عهد لهن عند عامدهن ولا ورع لهن عند حاجتهن ولا دین لهن عند شهوتهن یحفظن الشر وینسین الخیر فالطفوا لهن علی کل حال لعلهن یحسن الفعال» (1).

والاستثناء بقوله: «إلا فی عیب أو ذنب» دال علی عدم امتناع تکامل المرأة رغم أن طبیعتها فی الخلقة الاولیة مفطورة لوظائفها الخاصة فی التربیة وخدمة الاسرة داخلیاً.

68 - روایة محمد بن مسلم، عن أبی عبدالله علیه السلام قال: «قال رسول الله صلی الله علیه وآله: أوصانی جبرئیل علیه السلام بالمرأة حتی ظننت أنه لا ینبغی طلاقها إلا من فاحشة مبینة»(2).

فالطلاق الذی بید الرجل فرع تملک أمرها.

69 - روایة شهاب بن عبد ربه قال: قلت له: ما حق المرأة علی زوجها؟ قال: «یسد جوعتها ویستر عورتها ولا یقبح لها وجها فإذا فعل ذلک فقد والله أدی إلیها حقها». قلت: فالدهن؟ قال: «غبا یوما ویوما لا». قال: قلت: فاللحم؟ قال: «فی کل ثلاثة أیام مرة، فی الشهر

ص:348


1- (1) کنز الفوائد: ص 66.
2- (2) الکافی: ج 5 باب حق المرأة علی الزوج، ص 512 ح 6.

عشر مرات لا أکثر من ذلک»، قلت: فالصغ؟ قال: «فی کل ستة أشهر، ویکسوها فی کل سنة أربعة أثواب ثوبین للشتاء وثوبین للصیف، ولا ینبغی أن تقفر بیتک من ثلاثة أشیاء: الخل والزیت ودهن الرأس، وقوتهن بالمد فانی أقوت عیالی بالمد، ولیقدر کل انسان منهم قوته فان شاء اکله وان شاء وهبه وان شاء تصدق به، ولا یکون فاکهة عامة إلا أطعم عیاله منها، ولا یدع أن یکون للعیدین من عیدهم فضلا من الطعام ان ینیلهم من ذلک شیئا لا ینیلهم فی سائر الأیام»(1).

ومفاده تولیه شأن المرأة، وهذه تصب فی مفاد الطائفة الرابعة وهی ولایة الرجل علی المرأة.

وقد أورد المجلسی قدس سره باباً تحت عنوان (جوامع احکام النساء ونوادرها) وذکر أخباراً، منها:

70 - روایة جابر بن یزید الجعفی قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علی الباقر علیهم السلام یقول: «لیس علی النساء أذان ولا إقامة، ولا جمعة، ولا جماعة، ولا عیادة المریض، ولا اتباع الجنائز، ولا إجهار بالتلبیة، ولا الهرولة بین الصفا والمروة، ولا استلام الحجر الأسود، ولا دخول الکعبة، ولا الحلق إنما یقصرن من شعورهن، ولا تولی المرأة القضاء، ولا تولی الامارة، ولا تستشار، ولا تذبح إلا من اضطرار، وتبدء فی

ص:349


1- (1) تهذیب الأحکام: ج 7 ص 457-458 ح 38.

الوضوء بباطن الذراع والرجل بظاهره، ولا تمسح کما یمسح الرجال بل علیها أن تلقی الخمار من موضع مسح رأسها فی صلاة الغداة والمغرب، وتمسح علیه وفی سائر الصلوات تدخل إصبعها فتمسح علی رأسها من غیر أن تلقی عنها خمارها فإذا قامت فی صلاتها ضمت رجلیها ووضعت یدیها علی صدرها، وتضع یدیها فی رکوعها علی فخذیها، وتجلس إذا أرادت السجود سجدت لاطئة بالأرض، وإذا رفعت رأسها من السجود جلست ثم نهضت إلی القیام، وإذا قعدت للتشهد رفعت رجلیها وضمت فخذیها، وإذا سبحت عقدت بالأنامل لأنهن مسؤولات، وإذا کانت لها إلی الله عز وجل حاجة صعدت فوق بیتها وصلت رکعتین وکشفت رأسها إلی السماء فإنها إذا فعلت ذلک استجاب الله لها ولم یخبها، ولیس علیها غسل الجمعة فی السفر، ولا یجوز لها ترکه فی الحضر، ولا یجوز شهادة النساء فی شئ فی الحدود، ولا یجوز شهادتهن فی الطلاق، ولا فی رؤیة الهلال، وتجوز شهادتهن فیما لا یحل للرجل النظر إلیه، ولیس للنساء من سروات الطریق شیء ولهن جنبتاه، ولا یجوز لهن نزول الغرف، ولا تعلم الکتابة، ویستحب لهن تعلم المغزل، وسورة النور، ویکره لهن تعلم سورة یوسف، وإذا ارتدت المرأة عن الاسلام استتیبت، فإن تابت وإلا خلدت فی السجن، ولا تقتل کما یقتل الرجل إذا ارتد، ولکنها تستخدم خدمة شدیدة، وتمنع من الطعام والشراب إلا ما تمسک به نفسها، ولا تطعم إلا جشب

ص:350

الطعام ولا تکسی إلا غلیظ الثیاب وخشنها، وتضرب علی الصلاة والصیام، ولا جزیة علی النساء، وإذا حضر ولادة المرأة وجب إخراج من فی البیت من النساء کیلا یکن أول ناظر إلی عورتها، ولا یجوز للمرأة الحائض ولا الجنب الحضور عند تلقین المیت لان الملائکة تتأذی بهما، ولا یجوز لهما إدخال المیت قبره، وإذا قامت المرأة من مجلسها فلا یجوز للرجل أن یجلس فیه حتی یبرد، وجهاد المرأة حسن التبعل وأعظم الناس حقا علیها زوجها، وأحق الناس بالصلاة علیها إذا ماتت زوجها، ولا یجوز للمرأة أن تنکشف بین یدی الیهودیة والنصرانیة، لأنهن یصفن ذلک لأزواجهن، ولا یجوز لها أن تتطیب إذا خرجت من بیتها، ولا یجوز لها أن تتشبه بالرجال لان رسول الله صلی الله علیه وآله لعن المتشبهین من الرجال بالنساء ولعن المتشبهات من النساء بالرجال، ولا یجوز للمرأة أن تعطل نفسها ولو أن تعلق فی عنقها خیطا، ولا یجوز أن تری أظافیرها بیضاء، ولو أن تمسحها بالحناء مسحا، ولا تخضب یدیها فی حیضها لأنه یخاف علیها الشیطان، وإذا أرادت المرأة الحاجة وهی فی صلاتها صفقت بیدیها والرجل یومی برأسه وهو فی صلاته ویشیر بیده ویسبح، ولا یجوز للمرأة أن تصلی بغیر خمار إلا أن تکون أمة فإنها تصلی بغیر خمار مکشوفة الرأس، ویجوز للمرأة لبس الدیباج والحریر فی غیر صلاة وإحرام، وحرم ذلک علی الرجال إلا فی الجهاد، ویجوز أن تتختم بالذهب وتصلی فیه، وحرم

ص:351

ذلک علی الرجال [إلا فی الجهاد]، قال النبی صلی الله علیه وآله: (یا علی لا تتختم بالذهب فإنه زینتک فی الجنة، ولا تلبس الحریر فإنه لباسک فی الجنة)، ولا یجوز للمرأة فی مالها عتق ولا بر إلا بإذن زوجها، ولا یجوز لها أن تصوم تطوعا إلا بإذن زوجها، ولا یجوز للمرأة ان تصافح غیر ذی محرم إلا من وراء ثوبها، ولا تبایع إلا من وراء ثوبها، ولا یجوز أن تحج تطوعا إلا بإذن زوجها، ولا یجوز للمرأة أن تدخل الحمام فان ذلک محرم علیها، ولا یجوز للمرأة رکوب السرج إلا من ضرورة، أو فی سفر، ومیراث المرأة نصف میراث الرجل، ودیتها نصف دیة الرجل وتقابل المرأة الرجل فی الجراحات حتی تبلغ ثلث الدیة فإذا زادت علی الثلث ارتفع الرجل وسفلت المرأة، وإذا صلت المرأة وحدها مع الرجل قامت خلفه ولم تقم بجنبه، وإذا ماتت المرأة وقف المصلی علیها عند صدرها ومن الرجل إذا صلی علیه عند رأسه، وإذا دخلت المرأة القبر وقف زوجها فی موضع یتناول ورکها، ولا شفیع للمرأة أنجح عند ربها من رضا زوجها، ولما ماتت فاطمة علیها السلام قام علیها أمیر المؤمنین علیه السلام وقال: (اللهم إنی راض عن ابنة نبیک، اللهم إنها قد أوحشت فأنسها، اللهم إنها قد هجرت فصلها، اللهم إنها قد ظلمت فاحکم لها وأنت خیر الحاکمین)» (1).

فقوله: «و لا تولی القضاء ولا تستشار» صریح فی المطلوب وهی

ص:352


1- (1) الخصال: ص 585 ح 12.

من الطائفة الرابعة والمقصود بالمشاورة لیس مطلق المشورة بل المشورة فی المواضع التی تحتاج إلی صلابة وجرأة وشجاعة وذلک لضعفها وعدم حزمها، نعم لو جربت وعرف فهمها ودقتها فلا مانع من الاسشتارة ففی الاخبار أن النبی صلی الله علیه وآله کان یستشیر خدیجة علیها السلام فی أمور مهمة فی الإسلام وقبوله مشورة أم سلمة علیها السلام فی قضیة عصیان وتمرد الصحابة فی صلح الحدیبیة فی حلق الرؤوس والتحلل من إحرام العمرة... ونفس الاستشارة من المعصوم لا یدل علی نقص فیه کما حققناه فی موراد کثیرة....

ویوجد فی هذا الخبر عدة سنن منها ما هو بلسان الطائفة الثالثة کقوله: «و لا تجوز شهادة النساء فی شئ من الحدود ولا یجوز شهادتهن فی الطلاق، ولا فی رؤیة الهلال».

ومنها بلسان الطائفة الرابعة کقوله: «وجهاد المرأة حسن التبعل وأعظم الناس حقا علیها زوجها، وأحق الناس بالصلاة علیها إذا ماتت زوجها»(1). وقوله: «و لا یجوز للمرأة فی مالها عتق ولا بر إلا بإذن زوجها، ولا یجوز أن تخرج من بیتها إلا بإذن زوجها، ولا یجوز لها أن تصوم تطوعاً إلا بإذن زوجها»(2).

ومنها بلسان الطائفة الثانیة کقوله علیه السلام: «و لا یجوز للمرأة أن

ص:353


1- (1) الکافی: ج 5، ص 507.
2- (2) وسائل الشیعة: ج 20، ص 222.

تصافح غیر ذی محرم إلا من وراء ثوبها، ولا تبایع إلا من وراء ثوبها، ولا یجوز لها أن تحج تطوعا إلا بإذن زوجها» (1).

71 - ما رواه الصدوق، عن أنس بن محمد أبی مالک، عن جعفر بن محمد، عن أبیه، عن جده، عن علی بن أبی طالب علیهم السلام عن النبی صلی الله علیه وآله أنه قال فی وصیته له: «یا علی، لیس علی النساء جمعة ولا جماعة، ولا أذان، ولا إقامة، ولا عیادة مریض، ولا اتباع جنازة، ولا هرولة بین الصفا والمروة، ولا استلام الحجر، ولا حلق، ولا تولی القضاء، ولا تستشار، ولا تذبح إلا عند الضرورة، ولا تجهر بالتلبیة، ولا تقیم عند قبر، ولا تسمع الخطبة، ولا تتولی التزویج، ولا تخرج من بیت زوجها إلا بإذنه، فإن خرجت بغیر إذنه لعنها الله وجبرئیل ومیکائیل ولا تعطی من بیت زوجها شیئا إلا بإذنه، ولا تبیت وزوجها علیها ساخط وإن کان ظالما لها»(2).

قوله علیه السلام: «ولا تولی القضاء، ولا تستشار» فإنه من لسان الطائفة الرابعة».

72 - منها ما فی تفسیر الإمام العسکری علیه السلام عن أمیر المؤمنین علیه السلام فی قوله (عز وجل): (فَإِنْ لَمْ یَکُونا رَجُلَیْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتانِ) (3) قال:

ص:354


1- (1) وسائل الشیعة: ج 20، ص 222.
2- (2) الخصال: ص 511 ح 12.
3- (3) سورة البقرة: الآیة 282.

«عُدلت امرأتان فی الشهادة برجل واحد، فإذا کان رجلان، أو رجل وامرأتان، أقاموا الشهادة قضی بشهادتهم. قال أمیر المؤمنین علیه السلام: کنا نحن مع رسول الله صلی الله علیه وآله وهو یذاکرنا بقوله تعالی: (وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِیدَیْنِ مِنْ رِجالِکُمْ) ، قال: أحرارکم دون عبیدکم فان الله تعالی قد شغل العبید بخدمة موالیهم عن تحمل الشهادات وعن أدائها، ولیکونوا من المسلمین منکم فان الله (عز وجل) إنما شرف المسلمین العدول بقبول شهاداتهم، وجعل ذلک من الشرف العاجل لهم، ومن ثواب دنیاهم قبل أن یصلوا إلی الآخرة إذ جاءت امرأة، فوقفت قبالة رسول الله علیه السلام وقالت: بأبی أنت وأمی یا رسول، الله أنا وافدة النساء إلیک، ما من امرأة یبلغها مسیری هذا إلیک إلا سرها ذلک، یا رسول الله، إن الله (عز وجل) رب الرجال والنساء، وخالق الرجال والنساء، ورازق الرجال والنساء، وإن آدم أبو الرجال والنساء، وإن حواء أم الرجال والنساء، وإنک رسول الله إلی الرجال والنساء. فما بال امرأتین برجل فی الشهادة والمیراث؟ فقال رسول الله علیه السلام: یا أیتها المرأة إن ذلک قضاء من ملک عدل، حکیم لا یجور، ولا یحیف، ولا یتحامل، لا ینفعه ما منعکن، ولا ینقصه ما بذل لکن، یدبر الامر بعلمه، یا أیتها المرأة لأنکن ناقصات الدین والعقل. قالت: یا رسول الله وما نقصان دیننا؟ قال: إن إحداکن تقعد نصف دهرها لا تصلی بحیضة، وإنکن تکثرن اللعن، وتکفرن النعمة تمکث إحداکن عند الرجل عشر سنین

ص:355

فصاعدا یحسن إلیها، وینعم علیها، فإذا ضاقت یده یوما، أو خاصمها قالت له: ما رأیت منک خیرا قط. فمن لم یکن من النساء هذا خلقها فالذی یصیبها من هذا النقصان محنة علیها لتصبر فیعظم الله ثوابها، فأبشری...» (1).

وهذا التفسیر معتمد عندنا اجمالًا، ومفاد هذه الروایة هو اعتبار تکامل طبیعة المرأة بالرجل فهی مندرجة فی الطائفة الرابعة.

73 - روایة عبد الله بن سلیمان، عن أبی عبدالله علیه السلام قال: «قال أمیر المؤمنین علیه السلام: لیأتین علی الناس زمان یظرف فیه الفاجر ویقرب فیه الماجن ویضعف فیه المنصف، قال: فقیل له: متی ذاک یا أمیر المؤمنین؟ فقال: إذا اتخذت الأمانة مغنماً. والزکاة مغرماً. والعبادة استطالة. والصلة منا، قال: فقیل: متی ذلک یا أمیر المؤمنین؟ فقال: إذا تسلطن النساء وسلطن الإماء وأمر الصبیان»(2).

وهذا ظاهر فی الطائفة الرابعة من ذم تولی المرأة وسلطنتها.

74 - صحیحة حمران، عن أبی عبدالله علیه السلام قال: «فإذا رأیت الحق قد مات وذهب أهله، ورأیت الجور قد شمل البلاد، ورأیت القرآن قد خلق واحدث فیه ما لیس فیه ووجه علی الأهواء، ورأیت النساء وقد

ص:356


1- (1) تفسیر الإمام العسکری علیه السلام: ص 658-659 ح 374.
2- (2) الکافی: ج 8 ص 69 ح 25.

غلبن علی الملک وغلبن علی کل أمر لا یؤتی إلا ما لهن فیه هوی» (1).

فهذا من لسان الطائفة الرابعة وهو ذم غلبة النساء«علی الملک» وأیضا اللسان الثالث وهو قوله: «لا یؤتی إلا ما لهن فیه هوی» یعنی رأیهن تابع للشهوة والعاطفة لا للحذر والجزم. ومثلها الروایة الآتیة:

75 - روایة عطا بن أبی رباح، عن عبد الله بن عباس قال: حججنا مع رسول الله صلی الله علیه وآله حجة الوداع فأخذ بحلقة باب الکعبة ثم أقبل علینا بوجهه فقال: «ألا أخبرکم بأشراط الساعة؟»، وکان أدنی الناس منه یومئذ سلمان رحمه الله، فقال: بلی یا رسول الله، فقال صلی الله علیه وآله: «إن من اشراط القیامة إضاعة الصلوات واتباع الشهوات، والمیل إلی الأهواء وتعظیم أصحاب المال، وبیع الدین بالدنیا، فعندها یذوب قلب المؤمن فی جوفه کما یذاب الملح فی الماء مما یری من المنکر فلا یستطیع أن یغیره»، قال سلمان وإن هذا لکائن یا رسول الله؟ قال إی والذی نفسی بیده - إلی قوله - یا سلمان، فعندها تکون امارة النساء ومشاورة الإماء وقعود الصبیان علی المنابر...»(2).

وتوجد أخبار کثیرة ومستفیضة بهذه المضامین فالقول بعدم صحة السند إما للغفلة عن استفاضتها بل لا یکون مجازفا من ادعی تواترها مع وجود الصحاح أو للغفلة عن دلالة النص القرآنی

ص:357


1- (1) الکافی: ج 8 ص 36 ح 7.
2- (2) تفسیر القمی: ج 2 ص 303.

بمضمون هذه الطوائف الست.

والأخبار کثیرة موزعة فی الأبواب، ومن تلک: ما جاء فی أبواب مقدمات النکاح.

76 - معتبرة محمد بن سنان قال: إن أبا الحسن علی بن موسی الرضا علیه السلام کتب إلیه فیما کتب من جواب مسائله قال: «علة المهر ووجوبه علی الرجال ولا یجب علی النساء أن یعطین أزواجهن، قال: لان علی الرجال مؤنة المرأة، لأن المرأة بایعة نفسها، والرجل مشتری، ولا یکون البیع بلا ثمن ولا شراء بغیر اعطاء الثمن مع النساء محظورات عن التعامل والمتجر مع علل کثیرة»(1).

وکون المرأة بایعة نفسها هو لسان الطائفة الرابعة بأن له الولایة علیها ویمتلک بعض شؤون المرأة، وقوله مع أن النساء محظورات عن التعامل والمتجر هو اللسان الثانی وهو الحجاب والقرار فی البیوت.

77 - مرسلة یعقوب بن یزید، عن رجل من أصحابنا (یکنی أبا عبدالله)، رفعه إلی أبی عبد الله علیه السلام قال: «قال أمیر المؤمنین علیه السلام: فی خلاف النساء البرکة»(2).

فما تبدیه المرأة من آراء - باعتبار ما فیها من العواطف - مشوب

ص:358


1- (1) علل الشرائع: ج 2 ص 500، ورواه عنه فی عیون أخبار الرضا بأکثر من طریق.
2- (2) الکافی: ج 5 باب التستر، ص 517 ح 9.

بالضعف والعجز.

78 - وبالاسناد المتقدم أیضاً عن أبی عبد الله علیه السلام قال: «قال أمیر المؤمنین علیه السلام: کل امرء تدبره امرأة فهو ملعون»(1).

ومفادها نفی تولیتة المرأة أمر الرجل، فکیف بتولیتها أمر الرجال؟!

79 - صحیحة معاویة بن عمار، عن الحسن بن عبد الله عن آبائه عن جده الحسن بن علی بن أبی طالب علیهم السلام قال: «جاء نفر من الیهود إلی رسول الله صلی الله علیه وآله فسأله اعلمهم عن مسائل، فکان فیما سأله ان قال له: ما فضل الرجال علی النساء؟ فقال النبی صلی الله علیه وآله: کفضل السماء علی الأرض، وکفضل الماء علی الأرض، فالماء یحیی الأرض، وبالرجال تحیی النساء لولا الرجال ما خلقت النساء یقول الله (عز وجل): (الرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَی النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلی بَعْضٍ وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ) ، قال الیهودی: لأی شئیء کان هکذا؟ فقال النبی صلی الله علیه وآله: خلق الله تعالی آدم من طین، ومن فضلته وبقیته خلقت حواء، وأول من أطاع النساء آدم، فأنزله الله تعالی من الجنة، وقد بین فضل الرجال علی النساء فی الدنیا ألا تری إلی النساء کیف یحضن ولا یمکنهن العبادة من القذارة والرجال لا یصیبهم شیء من الطمث، قال

ص:359


1- (1) الکافی: ج 5 باب التستر، ص 517 ح 10.

الیهودی: صدقت یا محمد» (1).

ففی الروایة دلالة واضحة علی أن النساء لا تطاع ولاویة لها علی الرجل وهی تندرج فی الطائفة الربعة وهی تبین الوجه فی کون الرجل قوام علی المرأة وهی العلة التکونیة وهی کونها مخلوقة من الرجل.

80 - قول أمیر المؤمنین علیه السلام: «یأتی علی الناس زمان لا یقرب فیه إلا الماحل، ولا یظرف فیه إلا الفاجر، ولا یضعف فیه إلا المنصف، یعدون الصدقة فیه غرما، وصلة الرحم منا، والعبادة استطالة علی الناس، فعند ذلک یکون السلطان بمشورة النساء وإمارة الصبیان وتدبیر الخصیان»(2).

ومن الاخبار التی یستدل بها علی المطلوب مباشرة: أخبار عدم امامة المرأة فی الصلاة، فإنها وإن کانت من المناصب الیسیرة إلا أنهاتدل علی أن الرجل یؤم المرأة وهی لا تؤمه ففیه بیان القوامیة وأن المرأة لا یمکن أن تکون فی عرض الرجل.

وأیضا یستدل بالاخبار الدالة علی قصور المرأة عن ولایة الصبی والمجنون، فکیف بالولایة العظمی؟! فهذه کأصول مسلّمة فی عدم امامة المرأة للرجل.

ص:360


1- (1) علل الشرائع: ج 2 ص 512 ح 1.
2- (2) نهج البلاغة ص 22 الخطبة 102.

هذا مضافا إلی الروایات الدالة بالنص علی المطلوب.

روایات ضعف المرأة المعبر عنها بالطائفة الأولی:

ومن هذه الطائفة اخبار غیرة النساء وحسدها، وقد عقد لها الشیخ الکلینی قدس سره بابا مستقلًا، منها:

1 - مرسلة یوسف بن حماد: عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبی عبد الله، عن محمد بن الحسن، عن یوسف بن حماد، عمن ذکره، عن جابر قال: قال أبو جعفر علیه السلام: «غیرة النساء الحسد والحسد هو أصل الکفر، إن النساء إذا غرن غضبن وإذا غضبن کفرن إلا المسلمات منهن»(1).

ودلالتها بتقریب عدم توازن قرار رأیها لنشوّه من هیجان العاطفة المنافی لشأن التوازن المطلوب فی الولایة.

2 - مرسلة عثمان بن عیسی عن بعض أصحابه عن أبی عبد الله علیه السلام قال: «لیس الغیرة إلا للرجال وأما النساء فإنما ذلک منهن حسد والغیرة للرجال ولذلک حرم الله علی النساء إلا زوجها وأحل للرجال أربعا وإن الله أکرم أن یبتلیهن بالغیرة ویحل للرجال معها ثلاثا»(2).

وهذه الاخبار تدل اجمالًا علی بیان فسلجة وطبیعة المرأة بنقص

ص:361


1- (1) الکافی: ج 5 باب غیر النساء، ص 505 ح 4.
2- (2) المصدر نفسه، ص 504 ح 1.

عقلها بسبب هیجان العواطف والغرائز ولیس هذا بذم کما تقدم مرارا وتکرارا بل بیان حالها من عدم التوازن فی العاطفة ولهذا تخرج عن ضبط العقلاء انفسهم.

3 - مرفوعة عبد الرحمن بن الحجاج قال: «بینا رسول الله صلی الله علیه وآله قاعد إذ جاءت امرأة عریانه حتی قامت بین یدیه، فقالت: یا رسول الله إنی فجرت فطهرنی قال: وجاء رجل یعد وفی إثرها وألقی علیها ثوبا، فقال: ما هی منک؟ فقال: صاحبتی یا رسول الله، خلوت بجاریتی فصنعت ما تری، فقال: ضمها إلیک، ثم قال: إن الغیراء لا تبصر أعلی الوادی من أسفله»(1).

وهذه الاخبار تبین ضعف المرأة فلم تخاطب بالغیرة کما خاطب الرجل ولم یجعل للمراة زوجاً إلا زوجها.

4 - معتبرة أبی بکر الحضرمی، عن أبی عبد الله علیه السلام قال: «إن الله (عز وجل) لم یجعل الغیرة للنساء وإنما تغار المنکرات منهن، فأما المؤمنات فلا، إنما جعل الله الغیرة للرجال؛ لأنه أحل للرجال أربعا وما ملکت یمینه ولم یجعل للمرأة إلا زوجها، فإذا أرادت معه غیره کانت عند الله زانیة»، ورواه القاسم بن یحیی عن جده الحسن بن راشد عن أبی بکر الحضرمی عن أبی عبد الله علیه السلام إلا أنه قال: «فإن بغت معه

ص:362


1- (1) الکافی: ج 5 باب غیر النساء، ص 505 ح 3.

غیره» (1).

والجعل للرجل بمعنی تملّکه شأنهن بخلافهن وجعل الغیرة له بنفس المفاد.

5 - مصححة خالد القلانسی قال: ذکر رجل لأبی عبد الله علیه السلام امرأته فأحسن علیها الثناء فقال له أبو عبد الله علیه السلام: «أغَرْتَهَا؟» قال: لا، قال: «فأغرها»، فأغارها فثبتت، فقال لأبی عبد الله علیه السلام: إنی قد أغرتها فثبتت، فقال: «هی کما تقول»(2).

ومفاده أن حسن المرأة فی التسلیم للرجل لا التمرد علیه، فإن هذا الخبر یدل علی أن طبیعة المرأة هی الغیرة غیر المتّزنة وإن کان منشأ هذه الغیرة هو الحب کما جاء فی موثق اسحاق بن عمار، قال: قلت لأبی عبد الله علیه السلام: «المرأة تغار علی الرجل تؤذیه، قال: ذلک من الحب»(3).

حسد المرأة وحق الزوج علیها:

وقد عقد الشیح الکلینی قدس سره باباً آخر فی حسد المرأة وباباً فی حق الزوج علی المرأة، وهذه الطوائف من الاخبار لا تدل علی ذم المرأة وإنما تدل علی اختلاف الأدوار علی حسب اختلاف طبیعة کل من الرجل

ص:363


1- (1) الکافی: ج 5 باب غیر النساء، ص 505 ح 2.
2- (2) المصدر نفسه، ح 5.
3- (3) المصدر نفسه، ص 506 ح 6.

والمرأة. منها:

1 - صحیحة محمد بن مسلم، عن أبی جعفر علیه السلام قال: «جاءت امرأة إلی النبی صلی الله علیه وآله فقالت: یا رسول الله، ماحق الزوج علی المرأة؟ فقال لها: أن تطیعه ولا تعصیه ولا تصدق من بیته إلا بإذنه ولا تصوم تطوعا إلا بإذنه، ولا تمنعه نفسها وإن کانت علی ظهر قتب، ولا تخرج من بیتها إلا بإذنه وإن خرجت من بیتها بغیر إذنه لعنتها ملائکة السماء وملائکة الأرض وملائکة الغضب وملائکة الرحمة حتی ترجع إلی بیتها، فقالت: یا رسول الله من أعظم الناس حقا علی الرجل؟ قال والده، فقالت: یا رسول الله، من أعظم الناس حقا علی المرأة؟ قال: زوجها، قالت: فمالی علیه من الحق مثل ماله علی؟ قال: لا، ولا من کل مائة واحدة، قال: فقالت: والذی بعثک بالحق نبیا لا یملک رقبتی رجل أبدا»(1).

ومفاده جامع لأکثر مضامین الطوائف المتقدمة کما لا یخفی.

2 - معتبرة سعد بن أبی عمرو الجلاب قال: قال أبو عبد الله علیه السلام: «إیما امرأة باتت وزوجها علیها ساخط فی حق لم تقبل منها صلاة حتی یرضی عنها وأیما امرأة تطیبت لغیر زوجها لم تقبل منها صلاة حتی تغتسل من طیبها کغسلها من جنابتها»(2).

ص:364


1- (1) الکافی: ج 5 باب حق الزوج علی المرأة، ص 506 ح 1.
2- (2) الکافی: ج 5 باب حق الزوج علی المرأة، ص 507 ح 2.

والمتأخرون یحملون هذه الاخبار علی الاستمتاع وأما المتقدمون فیحملونها علی حسن العشرة بما تداریه وکذا الرجل مأمور بحسن العشرة لها مع الحفاظ علی قیمومته الاداریة للأمر.

مدارة المرأة:

وقد عقد الکلینی قدس سره فی الکافی بابا فی مداراة الزوجة، منها:

1 - موثقة أو صحیحة اسحاق بن عمار - علی الاختلاف فی الصیرفی الامامی أو السباطی الفطحی - عن أبی عبد الله علیه السلام قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله: «إنما مثل المرأة مثل الضلع المعوج إن ترکته انتفعت به وإن أقمته کسرته. وفی حدیث آخر: استمتعت به»(1).

ولیس المراد الذم والاستنقاص من المرأة بل بیان هندسة المرأة وطبیعتها من أنها مشتملة علی تجاذبات متعاکسة.

2 - روایة محمد الواسطی قال: قال أبو عبدالله علیه السلام: «إن إبراهیم علیه السلام شکا إلی الله (عز وجل) ما یلقی من سوء خلق سارة، فأوحی الله تعالی إلیه: إنما مثل المرأة مثل الضلع المعوج إن أقمته کسرته وإن ترکته استمتعت به، اصبر علیها» (2).

ص:365


1- (1) الکافی: ج 5 باب مداراة الزوجة، ص 513 ح 1.
2- (2) الکافی: ج 5 باب مداراة الزوجة، ص 513 ح 2.

فالمقصود أن المرأة طبیعتها وفسلجتها التکوینیة لها تداعیات سلبیة وتجاذبات متعددة فإذا استطاع الزوج أن یتفادی هذه التداعیات السلبیة یستطیع أن یحصل علی التوفیق بین تلک الجهات والجانب الایجابی فی المرأة، وهذا مثل قوله: «شر لابد منه» أی نقصها لابد منه لیکمل الرجل ما عنده من الجانب العاطفی فلابد منه لأن المرأة عنصر ضروری وکمال للرجل إلا أنها تحوی علی نقائص فالمراد من الاعوجاج هو الخاصیات الایجابیة فی المرأة لها تداعیات سلبیة فتستغل من أجل عاطفیتها وتستثمر من قبل الشیطان ومن قبل أصحاب الاغراض السیئة کاصحاب الشرکات الدعائیة والافلام وغیرها فتستعمل المرأة کطعم وسلعة تروّج بها بضاعتها وترویج ثقافات الدول وسیاساتها ذلک لسبب ما للمرأة من جذابیة من جهة بدنها وروحها وعطفها وحنانها... فالقرآن والتشریع الاسلامی لا یستغل جانب الشر وإنما ینبه علیه ویحذر منه فینبه المرأة ویحذرها لکی لا تنساق مع تلک التداعیات ولهذا بیَّن طبیعة المرأة حتی بالنسبة إلی طبیعة سارة تلک المرأة التی هی زوجة نبی ومن بنات الانبیاء وأم الانبیاء.

وهذه الطائفة تندرج فی الطائفة الأولی من کون المرأة ضعیفة لابد من مراعاتها.

3 - معتبرة اسحاق بن عمار، قال: قال أبو عبد الله علیه السلام: «من

ص:366

أخلاق الأنبیاء (صلی الله علیهم) حب النساء» (1).

4 - روایة عمر بن یزید، عن أبی عبد الله علیه السلام قال: «ما أظن رجلا یزداد فی هذا الامر خیرا إلا ازداد حبا للنساء»(2).

5 - روایة حفص البحتری، عن أبی عبدالله علیه السلام قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله: «ما أحب من دنیاکم إلا النساء والطیب»(3).

6 - روایة الراوندی: قال رسول الله صلی الله علیه وآله: «أعطینا أهل البیت سبعة لم یعطهن أحد کان قبلنا ولا یعطاهن أحد بعدنا: الصباحة والفصاحة والسماحة والشجاعة والعلم والحلم والمحبة للنساء»(4).

7 - فی الجعفریات: أخبرنا عبد الله، أخبرنا محمد، حدثنی موسی قال: حدثنا أبی، عن أبیه، عن جده جعفر بن محمد، عن أبیه، عن جده علی بن الحسین، عن أبیه، عن علی علیهم السلام، قال: «قال رسول الله صلی الله علیه وآله: کلما ازداد العبد إیمانا، ازداد حبا للنساء»(5).

8 - وبالاسناد المتقدم قال: «قال رسول الله صلی الله علیه وآله: أعطینا أهل البیت سبعة لم یعطهن أحد قبلنا ولا یعطاها أحد بعدنا: الصباحة، والفصاحة

ص:367


1- (1) الکافی: ج 5 باب حب النساء، ص 320 ح 1.
2- (2) المصدر نفسه، ح 5.
3- (3) المصدر نفسه، ص 321 ح 6.
4- (4) النوادر: ص 123.
5- (5) مستدرک الوسائل: ج 14 ص 157 ح 1.

والسماحة، والشجاعة، والحلم، والعلم، والمحبة من النساء» (1).

9 - قول أمیر المؤمنین علیه السلام قال: «المرأة عقرب حلوة اللبسة»(2).

وهی تدل علی أن المرأة فیها نزعات لابد من أن یحذر منها ویجب علیها أن تحذر من نفسها لئلا تستثمر فی غیر الخیر.

قلة الصلاح فی المرأة:

وقد عقد الکلینی قدس سره باباً آخر تحت عنوان قلة الصلاح فی النساء، وهذه الطائفة من الروایات تندرج فی الطائفة الاولی التی تبین جهات ضعف فی المرأة، منها:

1 - روایة الثمالی عن أبی جعفر علیه السلام قال: «قال رسول الله صلی الله علیه وآله: «الناجی من الرجال قلیل ومن النساء أقل وأقل، قیل: ولم یا رسول الله؟ قال: لأنهن کافرات الغضب مؤمنات الرضا»(3).

أی حین الغضب یکفرن وحین الرضا یؤمنًّ إذ عند الغضب ینکرن حق الله أو حق الزوج فهن عند الغضب لایمسکن انفسهن اندفاعیات علی الدوام، وهذا یدل علی عدم تماسک المرأة نتیجة الجانب العاطفی.

ص:368


1- (1) المصدر نفسه، ح 2.
2- (2) نهج البلاغة، الخطبة ح 61.
3- (3) الکافی: ج 5 باب قلة الصلاح فی النساء، ص 514 ح 1.

2 - معتبرة سعد الجلاب، عن أبی عبدالله علیه السلام أنه قال لامرأة سعد: «هنیئا لک یا خنساء، فلو لم یعطک الله شیئا إلا ابنتک أم الحسین لقد أعطاک الله خیرا کثیرا، إنما مثل المرأة الصالحة فی النساء کمثل الغراب الأعصم فی الغربان وهو الأبیض إحدی الرجلین»(1).

وهو یدل علی الأقلة وأن تکامل المرأة لیس ممتنعاً بل صعباً.

3 - صحیحة حفص البختری، عن أبی عبدالله علیه السلام قال: «مثل المرأة المؤمنة مثل الشامة فی الثور الأسود»(2).

وهو یدل علی قلة الصلاح الکامل فی النساء.

4 - معتبرة محمد بن مسلم، عن أبی جعفر علیه السلام: «قال رسول الله صلی الله علیه وآله: «إنما مثل المرأة الصالحة الغراب الأعصم الذی لا یکاد یقدر علیه، قیل: وما الغراب الأعصم الذی لا یکاد یقدر علیه؟ قال: الأبیض إحدی رجلیه»(3).

5 - مرسلة الواسطی، عن أبی جعفر علیه السلام: «إن المرأة إذا کبرت ذهب خیر شطریها وبقی شرهما، ذهب جمالها وعقم رحمها واحتد لسانها»(4).

ص:369


1- (1) المصدر نفسه، ص 515 ح 2.
2- (2) الکافی: ج 5 باب قلة الصلاح فی النساء، ص 515 ح 3.
3- (3) المصدر نفسه، ص 518 ح 4.
4- (4) المصدر نفسه، ح 6.

وهی تدل علی ضعف المرأة وعدم تماسکها وخصوصاً إذا کبرت.

6 - صحیحة عبد الله بن سنان، عن أبی عبدالله علیه السلام قال: ذکر رسول الله صلی الله علیه وآله النساء فقال: «اعصوهن فی المعروف قبل أن یأمرنکم بالمنکر وتعوذوا بالله من شرارهن وکونوا من خیارهن علی حذر»(1).

و هذا اللسان یندرج فی الطائفة الأولی ویندرج فی طائفة شهادة المرأة نصف شهادة الرجل فإن هذا یدل علی ضعف قول المرأة وتصرفاتها وهذا لیس بذم وإنما هو لأجل بیان مواطن الضعف عند المرأة لکی تکون المرأة والرجل علی حذر.

تأدیب النساء:

عقد الکلینی قدس سره باباً بعنوان (تأدیب النساء) (2) ، وهو نوع من التعالیم للمرأة، وتندرج فی الطائفة الرابعة وتندرج فی الأولی باعتبار ضعف طبیعتها لدلاتها علی مواقع الضعف فی المرأة وکذا الطائفة الثانیة.

ترک طاعة النساء:

وقد عقد الشیخ الکلینی باباً فی ترک طاعتهن:

1 - منها موثق اسحاق بن عمار، قال: قلت لأبی الحسن علیه السلام

ص:370


1- (1) المصدر نفسه، ح 2.
2- (2) الکافی: ج 5 ص 515.

وسألته عن المرأة الموسرة قد حجت حجة الاسلام فتقول لزوجها: أحجنی من مالی، أله أن یمنعها؟ قال: «نعم، ویقول: حقی علیک أعظم من حقک علی فی هذا»(1).

2 - وموثقة السکونی عن أبی عبد الله علیه السلام قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله: «من أطاع امرأته أکبه الله علی وجهه فی النار، قیل: وما تلک الطاعة؟ قال: تطلب منه الذهاب إلی الحمامات والعرسات والعیدات والنیاحات والثیاب الرقاق»(2).

فهذه الاخبار تبین أن لا طاعة للمرأة فی المعاصی - والنهی عن الطاعة فی المعاصی لا یدل علی سلب وعدم الطاعة إن لم یدل علی ثبوت الطاعة - ومفادها النهی عن طاعتها فی المعاصی ولا دلالة فیها علی النهی مطلقا لأن هذا اللسان ورد فی قوله تعالی فی طاعة الأبوین علی المعاصی: ولا تطعهما وقل لهما قولا معروفا.

3 - منها موثقة السکونی بإسناده قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله: «طاعة المرأة ندامة»(3).

وهذه الروایة مطلقة فلا تجعل لها الولایة. وهی أیضاً من الاخبار التی هی نص فی المطلوب.

ص:371


1- (1) الکافی: ج 5 باب ترک طاعتهن، ص 516 ح 1.
2- (2) الکافی: ج 5 باب ترک طاعتهن، ص 516 ح 3.
3- (3) المصدر نفسه، ح 4.

4 - مرسلة الحسین بن المختار - بارسالة خفیف - عن أبی عبد الله علیه السلام قال: «قال أمیر المؤمنین علیه السلام فی کلام له: اتقوا شرار النساء وکونوا من خیارهن علی حذر وإن أمرنکم بالمعروف فخالفوهن کیلا یطمعن منکم فی المنکر»(1).

5 - مرفوعة أبی عبد الله علیه السلام قال: «ذکر عند أبی جعفر علیه السلام النساء فقال: لا تشاوروهن فی النجوی ولا تطیعوهن فی ذی قرابة»(2).

لأن النجوی إشارة إلی الأمور الخطیرة التی من شأنها أن تکتم فلا تشاور النساء فیها لأنهن تفشین السر ولا تمسکن ألسنتهن.

6 - مرفوعة المطلب بن زیاد، عن أبی عبد الله علیه السلام قال: «تعوذوا بالله من طالحات نسائکم وکونوا من خیارهن علی حذر ولا تطیعوهن فی المعروف فیأمرنکم بالمنکر»(3).

7 - روایة سلمان بن خالد - وهی قابلة للاعتبار - قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام یقول: «إیاکم ومشاورة النساء فإن فیهن الضعف والوهن والعجز»(4).

8 - مرفوعة محمد بن یحیی قال: «کان رسول الله صلی الله علیه وآله إذا أراد

ص:372


1- (1) الکافی: ج 5 باب ترک طاعتهن، ص 517 ح 5.
2- (2) المصدر نفسه، ح 6.
3- (3) المصدر نفسه، ح 7.
4- (4) المصدر نفسه، ح 8.

الحرب دعا نساءه فاستشارهن ثم خالفهن» (1).

و ذلک لأن موطن الحرب مورد قوة وشدة لا یتناسب مع لیونة طبیعة المرأة.

9 - مرسلة عمرو بن عثمان، عن الصادق علیه السلام قال: «استعیذوا بالله من شرار نسائکم وکونوا من خیارهن علی حذر ولا تطیعوهن فی المعروف فیدعونکم إلی المنکر»، وقال: «قال رسول الله صلی الله علیه وآله: النساء لا یشاورن فی النجوی ولا یطعن فی ذوی القربی، إن المرأة إذا أسنت ذهب خیر شطریها وبقی شرهما وذلک أنه یعقم رحمها ویسوء خلقها ویحتد لسانها وأن الرجل إذا أسن ذهب شر شطریه وبقی خیرهما وذلک أنه یؤوب عقله ویستحکم رأیه ویحسن خلقه»(2).

وبهذه الاخبار یتضح أن النهی عن استشارة المرأة مقیدة بالامور الخطیرة ویدل علیه قوله: «فی النجوی» أی الأمور التی تحتاج إلی الکتم والمواطن التی تتطلب القوة والشدة وهی الامور الخطیرة الهامة.

فهذا الباب یندرج فی الطائفة الاولی لدلالتها علی ضعف المرأة وفی الطائفة الثالثة وهی عدم الاعتداد بقولها خصوصاً فی الموارد الخطیرة والتی تتطلب قوة وشدة وذلک لأن هذه الموارد لیست من

ص:373


1- (1) الکافی: ج 5 باب ترک طاعتهن، ص 518 ح 11.
2- (2) المصدر نفسه، ح 12.

شؤونها ولا من طبیعتها بل هو خلاف طبیعتها.

10 - منها روایة غیاث بن إبراهیم، عن الصادق جعفر بن محمد، عن أبیه، عن جده علیهم السلام، قال: «قال علی بن أبی طالب علیه السلام: عقول النساء فی جمالهن، وجمال الرجال فی عقولهم»(1).

هذا بیان الخاصیة فی طبیعة الجنسین وهو أن من خصوصة المرأة أن یکون إهتمامها فی الجمال فتجعل هذه الروایة فی الطائفة الأولی الدالة علی ضعف المرأة أو تضاف إلی الطائفة الثالثة من عدم متانة رأی المرأة فیما لها من عقل إلا أنها ترکزه فی جانب الجمال دون غیره.

11 - روایة الحسین بن علوان، جعفر الصادق، عن أبیه قال: «قال رسول الله صلی الله علیه وآله: اتقوا الله، اتقوا الله فی الضعیفین: الیتیم، والمرأة، فإن خیارکم خیارکم لأهله»(2).

ومفادها قصور المرأة علی حذو قصور الیتیم فی الولایة.

12 - موثقة سماعة - لورود علی بن السندی فیها، وهو وإن لم یرد فیه توثیق إلا أنه یمکن اعتباره - عن أبی عبد الله علیه السلام قال: «اتقوا الله فی الضعیفین یعنی بذلک الیتیم والنساء»(3).

ص:374


1- (1) الأمالی (للصدوق): ص 298 ح 9.
2- (2) قرب الاسناد: ص 92 ح 306.
3- (3) الخصال: ص 37 ح 13.

وهذه الاخبار مرت عن الکافی وهی تندرج فی الطائفة الأولی بل یمکن من جهة القصور أن تندرج فی الطائفة الرابعة.

13 - معتبر الاصبغ بن نباته قال: «قال أمیر المؤمنین علیه السلام: الفتن ثلاث: حب النساء وهو سیف الشیطان، وشرب الخمر وهو فخ الشیطان وحب الدینار والدرهم وهو سهم الشیطان، فمن أحب النساء لم ینتفع بعیشه، ومن أحب الأشربة حرمت علیه الجنة، ومن أحب الدینار والدرهم فهو عبد الدنیا، وقال: قال عیسی بن مریم علیه السلام: الدینار داء الدین، والعالم طبیب الدین فإذا رأیتم الطبیب یجر الداء إلی نفسه فاتهموه، واعملوا أنه غیر ناصح لغیره»(1).

وکیف یکون حب النساء هو سیف الشیطان مع أنه ورد عنه صلی الله علیه وآله: «حبب لی من دنیاکم ثلاث»(2) ، وورد: «کلما ازداد العبد إیماناً ازداد حباً للنساء»(3) وغیرها، فلیس مثل هذا مناقضاً لما تقدم وذلک لأن المقصود ان حب النساء سیف الشیطان هو ما کان من طریق الحرام وأما من طریق الحلال أو لأجله فهو من علامات الایمان ویمکن أن المراد بالحب هنا هو اتباع المرأة فی نزعاتها العاطفیة التی تکون صد له عن أهله وارحامه، وأما حبها لدفع الحرام عن نفسه فهو

ص:375


1- (1) الخصال: ص 113 ح 91.
2- (2) وسائل الشیعة: ج أبواب آداب الحمام والتنظیف، ب 89 ص 144 ح 12.
3- (3) المصدر نفسه، ب 3 ص 21-22 ح 1.

من الایمان والمقرب لله تعالی فهذا هو الجمع بین هذه الطوائف.

14 - مرفوعة البرقی الأب إلی أبی عبد الله علیه السلام أنه قال: «خمس من خمسة محال: النصیحة من الحاسد محال، والشفقة من العدو محال، والحرمة من الفاسق محال، والوفاء من المرأة محال، والهیبة من الفقیر محال»(1).

وهذه أیضاً تندرج فی الطائفة الأولی وهی بیان ضعف المرأة المنافی لقوة شخصیة الولی.

15 - موثقة السکونی، عن أبی عبدالله علیه السلام قال: قال رسول الله علیه السلام أو قال أمیر المؤمنین علیه السلام: «النساء أربع: جامع مجمع وربیع مربع وکرب مقمع وغل قمل» (2).

وقال الصدوق قدس سره: «جامع مجمع» أی کثیر الخیر مخصبة، و «ربیع مربع» التی فی حجرها ولد وفی بطنها آخر، و «کرب مقمع» أی سیئة الخلق مع زوجها، و «غل قمل» أی هی عند زوجها کالغل القمل، وهو غل من جلد یقع فیه القمل فیأکله فلا یتهیأ أن یحل منه شیء، وهو مثل للعرب(3).

ص:376


1- (1) الخصال: ص 269 ح 5.
2- (2) الکافی: ج 5 باب أصناف النساء ص 322 ح 1.
3- (3) الخصال: ص 241-242 ح 92.

وهذه تدل علی أن النساء یستطعن أن یتغلبن علی تلک صفات ونزعات النقص التی یحملنها وتبلغ درجات الکمال.

وقد ذکر صاحب البحار باباً فی صفات النساء بحاره یبین دور المرأة فی الأسرة وتصنیف انماط النساء فجل ما فی هذا الباب یندرج فی الطائفة الأولی والثانیة فلا حاجة لاستعراضه وتفسیره وهو الباب الثالث من أبواب النساء.

16 - روایة مسعدة بن صدقة، عن جعفر بن محمد، عن أبیه صلی الله علیه وآله قال: «إن الله (تبارک وتعالی) جعل للمرأة صبر عشرة رجال، فإذا حملت زادها قوة صبر عشرة رجال أخری»(1).

17 - منها موثقة اسحاق بن عمار - عن أبی عبد الله علیه السلام قال: «سمعته یقول: إن الله (عز وجل) جعل للمرأة صبر عشرة رجال فإذا هاجت کان لها قوة عشرة رجال»(2).

و هذا بیان لجهات القوة فی المرأة تتمیز بها علی الرجل فإن هذه الاخبار تبین مدی تحمل المرأة وأنها أقوی من الرجل فی تحمل آلام البدن بل هی أقوی من عشرین رجل فإن الولادة والحمل شبیه بنزع الروح من شدته وأما مسألة الولادة بالسقوط - فما بالک بالاسقاط -

ص:377


1- (1) الخصال: ص 439 ح 31.
2- (2) الخصال: ص 439 ح 32.

کما یقال إنه یعادل عشر ولادات من شدته - لعن الله الظالمین لک یا فاطمة - لأنه ینزع من الجوف نزعا وقلعا، فهذه من الاخبار المادحة والمبینة لکمال من کمالات المرأة.

تکامل الرجل والمرأة بالآخر:

فالمرأة أعطیت قوة فی الدور الذی وظفت له بینما لم تعط القوة فی الادوار التی وظف لها الرجل کما أن الرجل عنده قوة فی الادارة التی وظف لها وهو ضعیف فی الأدوار التی وظفت لها المرأة.

ولا یخفی أن هذه القوة تدریجیة لا دفعیة ولنمثل لتنوع نماذج القوی فی الاصناف فإن سرعة النمر کما یقولون تقارب خمسین أو ستین کیلو متر فی الساعة ولکنها لا تستمر إلا دقائق وبعدها تنهار وتضعف وأما الجمل فإنه لا سرعة له ولکن له قوة علی تحمل قطع المسافات تدریجیة أقوی بکثیر من النمر فقوة النمر فی السرعة قوة وهی أقوی من الجمل ولکنها دفعیة. وأما الجمل فقوته الدفعیة ضعیفة إلا أن قوته التدریجیة أقوی بکثیر من النمر فکذا قوة المرأة علی تحمل المتاعب بالاستمرار والتدرج أقوی بکثیر من الرجل فإن قوة الرجل الدفعیة أقوی بکثیر من المرأة فکل بحسب فسلجته وطبیعته.

والبیانات الشرعیة تبین التوازن بین الرجل والمرأة وذلک لأن الشارع المقدس صاحب منظومة متکاملة ومتوازنة فلابد من النظر إلی

ص:378

جمیع الجوانب وعلیه فلیس من الصحیح النظر إلی جنبة واغفال الآخری.

18 - روایة عنبسة عن أبی عبد الله علیه السلام قال: «فی کتاب علی علیه السلام الذی املی رسول الله صلی الله علیه وآله (إن کان الشوم فی شئ ففی النساء)»(1).

وهذه تندرج فی الطائفة الأولی وهی الضعف فالخوف یکون من جهة المرأة فهی نافذة من نوافذ تخویف وتهدید الرجل أی یمکن اختراقه والنفوذ إلی استهدافه من خلالها.

الطائفة الثالثة: ضعف الرأی:

1 - محسنة عبد الله بن سنان، عن أبی عبدالله علیه السلام: «قال رسول الله صلی الله علیه وآله: إن أول ما عصی الله (عز وجل) به ست: حب الدنیا، وحب الرئاسة وحب الطعام، وحب النوم، وحب الراحة، وحب النساء»(2).

والمراد من «حب النساء» هو ما یودی إلی المعصیة لا ما یودی إلی العفاف والطهارة فإنه زیادة فی الایمان.

2 - روایة أبی المجبر قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله: «أربع مفسدة للقلوب: الخلوة بالنساء، والاستماع منهن، والأخذ برأیهن، ومجالسة الموتی»، فقیل له: یا رسول الله وما مجالسة الموتی؟ قال: «مجالسة کل

ص:379


1- (1) بصائر الدرجات: ص 185 ح 15.
2- (2) الکافی ج 2 باب فی أصول الکفر وأرکانه ص 289 ح 3.

ضال عن الإیمان وجائر فی الأحکام» (1).

وهی تندرج فی الطائفة الأولی والثالثة وهی ضعف الرأی.

3 - منها موثقة سماعة - وعلی بن السندی وإن لم یرد فیه توثیق إلا أنه یمکن اعتباره - عن أبی عبدالله علیه السلام قال: «اتقوا الله فی الضعیفین یعنی بذلک الیتیم والنساء»(2).

و هذا الخبر یندرج فی الطائفة الأولی - وهی ضعف المرأة - والثانیة والرابعة باعتبار أنها مولی علیها من الرجل.

4 - مصحح عمر بن یزید، قال: قال أبو عبد الله علیه السلام: «جاءت امرأة من أهل البادیة إلی النبی صلی الله علیه وآله ومعها صبیان حاملة واحدا وآخر یمشی، فأعطاها النبی صلی الله علیه وآله قرصا ففلقته بینهما، فقال رسول الله صلی الله علیه وآله: الحاملات الرحیمات لولا کثرة لعبهن لدخلت مصلیاتهن الجنة»(3).

فإنها من الاخبار الدالة علی خصائص المرأة الایجابیة من کونها من ینابیع الرحمة.

5 - ما رواه فی مستطرفات السرائر: عن أبی عبد الله صلی الله علیه وآله قال: «کل من اشتد لنا حبا، اشتد للنساء حبا وللحلواء»(4).

ص:380


1- (1) الأمالی (للشیخ المفید): ص 315.
2- (2) الخصال: ص 37 ح 13.
3- (3) علل الشرائع: ج 2 ص 598 ح 47.
4- (4) السرائر: ص 635-636.

فحبها موجب للعفاف والطهارة وهو نوع من المدارة والحنان علیها.

6 - مرفوعة اسحاق بن عمار قال: «کان رسول الله صلی الله علیه وآله إذا أراد الحرب دعا نساءه فاستشارهن ثم خالفهن»(1).

وهی تندرج فی الطائفة الثالثة الدالة علی ضعف رأیهن.

7 - معتبرة المحاربی، عن جعفر بن محمد، عن أبیه، عن آبائه علیهم السلام عن علی علیه السلام قال: «قال النبی صلی الله علیه وآله: ثلاث یحسن فیهن الکذب: المکیدة فی الحرب، وعدتک زوجتک، والاصلاح بین الناس. وثلاث یقبح فیهن الصدق: النمیمة، وإخبارک الرجل عن أهله بما یکرهه. وتکذیبک الرجل عن الخبر. قال: وثلاثة مجالستهم تمیت القلب: مجالسة الأنذال والحدیث مع النساء، ومجالسة الأغنیاء»(2).

و هذا لیس خاصا بالمرأة بل یشمل الاغنیاء والانذال فهذه الروایة تندرج فی الطائفة الثالثة بأن رأیها غیر حازم وأنها ذات انجذاب إلی الحرص المادی أیضا باعتبار أن کثرة الحدیث معهن تدخله الأمور العاطفیة حتی ینجر إلی شؤونها وخواصها من ضعف الرأی.

8 - موثق بن صدقة، عن جعفر بن محمد، عن أبیه صلی الله علیه وآله قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله: «أربع یُمتْن القلب: الذنب علی الذنب، وکثرة مناقشة

ص:381


1- (1) الکافی ج 5 باب التستر، ص 518 ح 11.
2- (2) الخصال: ص 87 ح 20.

النساء - یعنی محادثتهن - ومماراة الأحمق تقول ویقول ولا یرجع إلی خیر أبدا، ومجالسة الموتی، فقیل له: یا رسول الله صلی الله علیه وآله وما الموتی؟ قال کل غنی مترف. لا تخلو الأرض من أربعة من المؤمنین»(1).

9 - معتبرة عامر بن عبد الله قال: قلت لأبی عبد الله علیه السلام: إن امرأتی تقول بقول زرارة ومحمد بن مسلم فی الاستطاعة وتری رأیهما؟ فقال: «ما للنساء وللرأی والقول لها (أو بهما أو بقولهما)، انهما لیسا بشیء فی ولایة، قال: فجئت إلی امرأتی فحدثتها، فرجعت عن ذلک القول»(2).

و هذا الخبر قابل للاعتبار وهو مما یندرج فی اللسان الثالث بعدم الاعتبار بقولها.

10 - موثقة مسعدة بن صدقة بن زیاد قال: سمعت أبا الحسن علیه السلام یقول لأبیه: «یا أبة، إن فلانا یرید الیمن، أفلا أزود ببضاعة لیشتری لی لها عصب الیمن؟ فقال له: یا بنی، لا تفعل. قال: ولم؟ قال: لأنها إن ذهبت لم تؤجر علیها ولم تخلف علیک، لان الله (تبارک وتعالی) یقول: (وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَکُمُ الَّتِی جَعَلَ اللّهُ لَکُمْ قِیاماً) فأی سفیه أسفه - بعد النساء - من شارب الخمر؟!»(3).

ص:382


1- (1) الخصال: ص 228 ح 65.
2- (2) اختیار معرفة الرجال: ج 1 ص 392 ح 282.
3- (3) قرب الاسناد: ص 314 ح 1222.

11 - موثقة السکونی، عن جعفر بن محمد، عن أبیه، عن آبائه علیهم السلام قال: قال أمیر المؤمنین علیه السلام: «المرأة لا یوصی إلیها لأن الله تعالی یقول: (وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَکُمُ) ».

قال محمد بن الحسن: هذا الخبر محمول علی ضرب من الکراهیة

لأنا قد بینا فیما تقدم جواز الوصیة إلی النساء. أنتهی کلامه(1).

قال الشیخ الصدوق: وفی خبر آخر: سئل أبو جعفر علیه السلام عن قول الله (عز وجل): (وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَکُمُ) قال: «لا تؤتوها شارب الخمر ولا النساء، ثم قال: وأی سفیه أسفه من شارب الخمر». قال: إنما یعنی کراهة اختیار المرأة للوصیة، فمن أوصی إلیها لزمها القیام بالوصیة علی ما تؤمر به ویوصی إلیها فیه إن شاء الله تعالی. أنتهی(2).

وهی محمولة علی الکراهة عند المشهور وإن عمل بظاهرها جماعة وعلی کلا التقدیرین فهی دالة علی المطلوب لأن الکراهة فی تولیتها الأمور الشخصیة یلزم منه الکراهة فی الأمور العامة.

12 - ما قاله الشیخ الحویزی: اختلف فی المعنی بالسفهاء علی أقوال، أحدها: انهم النساء والصبیان، رواه أبو الجارود عن أبی جعفر علیه السلام. وثالثها: انه عام فی کل سفیه من صبی أو مجنون أو محجور

ص:383


1- (1) تهذیب الأحکام: ج 9 ص 245-246 ح 953.
2- (2) من لا یحضره الفقیه: ج 4 ص 226 ح 5534.

علیه للتبذیر وقریب منه ما روی عن أبی عبد الله علیه السلام أنه قال: «إن السفیه شارب الخمر، ومن جری مجراه»(1).

وهاتان الموثقتان تندرجان فی الطائفة الثالثة الدالة علی ضعف الرأی.

13 - ما فی روایة أبی الجارود عن أبی جعفر علیه السلام فی قوله(وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَکُمُ) قال: «فالسفهاء النساء والولد، إذا علم الرجل ان امرأته سفیهة مفسدة وولده سفیه مفسد لا ینبغی له یسلط واحدا منهما علی ماله الذی جعله الله له»(2).

و هذا بمقتضی سعة اطلاع الرجل وتجاربه وطبیعته وأما قوتها وحنکتها فدونه.

و هذا الخبر مسند فی الکافی إلا أنه مقتطع متنه وهو یدل علی أن ضعف الرأی من طبیعة الولد والمرأة إلا أن یزول عن الطفل بکبره وعن المرأة بکمالها.

14 - قول أمیر المؤمنین علیه السلام: «و إن النساء همهن زینة الحیاة الدنیا والفساد فیها»(3).

ص:384


1- (1) تفسیر نور الثقلین: ج 1 ص 442 ح 54.
2- (2) تفسیر القمی: ج 1 ص 131.
3- (3) نهج البلاغة، من الخطبة رقم 153 ص 43.

وقد تقدم أن هذا لیس بلسان ذم بل تحذیر لکی لا تقع النساء فی تداعیات سلبیة لطبیعتها.

15 - عن أمیر المؤمنین علیه السلام: «و أما فلانة فأدرکها رأی النساء»(1).

16 - روایة الشیخ الطبرسی، عن أمیر المؤمنین علیه السلام: «و أما عائشة فأدرکها رأی النساء، ولها بعد ذلک حرمتها الأولی والحساب علی الله یعفو عمن یشاء، ویعذب من یشاء»(2).

وهو یدل علی أن طبیعة النساء رأیهن ضعیف لا اعتبار به.

17 - عن أمیر المؤمنین علیه السلام: «ولا تهیجوا النساء بأذی وإن شتمن أعراضکم وسببن أمراءکم، فإنهن ضعیفات القوی والأنفس والعقول، إن کنا لنؤمر بالکف عنهن وإنهن لمشرکات. وإن کان الرجل لیتناول المرأة فی الجاهلیة بالفهر أو الهراوة فیعیر بها وعقبه من بعده»(3).

فإنه علیه السلام یعلل بأمور تکوینیة فی المرأة موجبة لمراعاتها، فالشارع المقدس یحذر تحذیراً شدیداً من الاعتداء الجسدی علی المرأة وإنما هو بالتسییس والتدبیر ومع ذلک یأمره بأن لایحکم صفات المرأة فی الأسرة والمجتمع فأنظر أی حمایة للمرأة وأی صیانیة لها وللمجتمع

ص:385


1- (1) نهج البلاغة، خطبة رقم 156 ج 2 ص 47 فی کلامه لأهل البصرة.
2- (2) الاحتجاج: ج 1 ص 248.
3- (3) نهج البلاغة، باب المختار من کتبه ورسائله، ج 3 ص 15 ح 14.

والتشریع الاسلامی ینظم کل ذلک لها مع ما مرّ منه صلی الله علیه وآله من بیان جهات النقص فإن الدین یحمل الزوج أعباء المرأة ونفقتها ویأمره بأن لا یتعدی علیها.

الطائفة الثانیة: الآمرة بالحجاب:
ستر المرأة:

1 - موثقة الصدوق بالاسناد قال قال علی علیه السلام: «للمرأة عشر عورات فإذا زوجت سترت لها عورة واحدة وإذا ماتت سترت عوراتها کلها»(1). وهذه تندرج فی الطائفة الثانیة أیضاً وقد مر أن العورة هنا لیس معناها الازدراء والقباحة بل هی مواضع الضعف والانتهاز من الآخرین لهاوفریسة لابد من الحفاظ علیها.

2 - موثقة السکونی عن أبی عبدالله علیه السلام قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله: «لا تنزلوا النساء بالغرف ولا تعلموهن الکتابة وعلموهن المغزل وسورة النور»(2).

والمراد ب (الغرف) أماکن الفتنة کما هو الحال فی الطابق الثانی من البناء للاستشراف، فهذه دالة علی مسألة الحجاب وان النساء موراد للفتنة الجنسیة.

ص:386


1- (1) عیون أخبار الرضا: ج 1 ص 42 ح 116.
2- (2) الکافی: ج 5 باب فی ترک طاعتهن، ص 516 ح 1.

3 - مرفوعة یعقوب بن سالم قال: قال أمیر المؤمنین علیه السلام: «لا تعلموا نساءکم سورة یوسف ولا تقرؤوهن إیاها فإن فیها الفتن وعلموهن سورة النور فإن فیها المواعظ»(1).

4 - روایة ابن القداح عن أبی عبد الله علیه السلام قال: «نهی رسول الله صلی الله علیه وآله أن یرکب سرج بفرج»(2).

ومفاده فی محدودیة حرکة المرأة جسمانیاً.

5 - منها روایة الحارث الأعور قال: قال أمیر المؤمنین علیه السلام: «لا تحملوا الفروج علی السروج فتهیجوهن للفجور»(3).

وهذه تدل علی حرمة الاستمناء بالأولویة لکون النهی عن الرکوب للتهییج فما بلک بالاستمناء.

وهی دالة علی ولایة الرجل علی المرأة بسلطنته علیها بحیث لا یرکَّبها السروج فالروایة من الاخبار الدالة علی ولایة الرجل علی المرأة إذ هو الذی یقوم بمنعها عن هذه الأمور وأن أمرها بیده.

6 - منها مرسلة ابن سنان عن أبی جعفر علیه السلام، قال رسول الله صلی الله علیه وآله: «ما لإبلیس جند أعظم من النساء والغضب»(4).

ص:387


1- (1) الکافی: ج 5 باب فی ترک طاعتهن، ص 516 ح 2.
2- (2) المصدر نفسه، ح 3.
3- (3) المصدر نفسه، ح 4.
4- (4) الکافی: ج 5 باب فی ترک طاعتهن، ص 516 ح 5.

و هذا لیس بتنقیص للمرأة وإنما هو باعتبار ما لها من جذابیة فی جمال بدنها وصوتها وروحیتها من مصیدة قد تستغل ویوقع الشیطان الآخرین فهذه الاخبار من باب التحذیر وفهذا الخبر یندرج فی الطائفة الثانیة. وقد عقد الشیخ الکلینی باباً فی التستر، وهو موافق للطائفة الثانیة وهی الحجاب والعزلة، منها:

7 - صحیح الولید بن صبیح عن أبی عبد الله علیه السلام قال: «قال رسول الله صلی الله علیه وآله: لیس للنساء من سروات الطریق شیء ولکنها تمشی فی جانب الحائط والطریق»(1).

8 - صحیحة الولید بن صبیح، عن أبی عبد الله علیه السلام قال: «قال رسول الله صلی الله علیه وآله: أی امرأة تطیبت ثم خرجت من بیتها فهی تلعن حتی ترجع. إلی بیتها متی ما رجعت»(2).

ومفادها النهی عن الخروج التبرجی لا مطلق الخروج حتی العبادی.

9 - موثق ابن بکیر عن رجل، عن أبی عبد الله علیه السلام قال: «لا ینبغی للمرأة أن تجمر ثوبها إذا خرجت من بیتها»(3).

10 - منها صحیحة هشام بن سالم، عن أبی عبد الله علیه السلام قال: قال

ص:388


1- (1) الکافی: ج 5 باب فی التستر، ص 518 ح 1.
2- (2) المصدر نفسه، ح 2.
3- (3) الکافی: ج 5 باب فی التستر، ص 519 ح 3.

رسول الله صلی الله علیه وآله: «لیس للنساء من سراة الطریق ولکن جنبیه»(1). ومعنی سراة: وسط.

11 - صحیحة حفص البحتری، عن أبی عبد الله علیه السلام قال: «لا ینبغی للمرأة أن تنکشف بین یدی الیهودیة والنصرانیة فإنهن یصفن ذلک لأزواجهن»(2).

وهذه تندرج فی الطائفة الثانیة الدالة علی حجاب المراة المانع من اتصالها المجتمعی.

12 - معتبرة مسمع أبی سیار، عن أبی عبد الله علیه السلام قال: «فیما أخذ رسول الله صلی الله علیه وآله من البیعة علی النساء أن لا یحتبین ولا یقعدن مع الرجال فی الخلاء»(3).

ومفاده دال علی ما ذهبنا إلیه من أن الخلوة المحرمة خلوة التعداد القلیل من الرجال بالنساء کخلوة ثلاثة رجال أجانب بنساء أو رجلین بنساء خلوة منقطعة فإنه یشکل الحال فإنها تلحق بخلوة الرجل والمرأة الواحدة. فإن جملة من أدلة حرمة الخلوة لا تحصر الخلوة بالرجل والمرأة منفردین بل حتی إذا کان ثلاثة رجال ونساء فی موضع مریب.

ص:389


1- (1) المصدر نفسه، ح 4.
2- (2) المصدر نفسه، ح 5.
3- (3) المصدر نفسه، ح 5.
مصافحة النساء:

ویدل علی مضمون الطائفة الثانیة أیضا ما رواه الکلینی قدس سره تحت عنوان مصافحة النساء، منها:

1 - موثقة سماعة قال: سألت أبا عبد الله علیه السلام عن مصافحة الرجل المرأة، قال: «لا یحل للرجل أن یصافح المرأة إلا امرأة یحرم علیه أن یتزوجها: أخت أو بنت أو عمة أو خالة أو ابنة أخت أو نحوها فأما المرأة التی یحل له أن یتزوجها فلا یصافحها إلا من وراء الثوب ولا یغمز کفها»(1).

2 - صحیحة أبی بصیر قال: قلت لأبی عبد الله علیه السلام: «هل یصافح الرجل المرأة لیست بذی محرم؟ فقال: لا، إلا من وراء الثوب»(2).

3 - روایة سیعدة وآمنة ابنتا أبی عمید بیاع السابری قالتا: دخلنا علی أبی عبد الله علیه السلام فقلنا: تعود المرأة أخاها؟ قال: «نعم»، قلنا: تصافحه؟ قال: «من وراء الثوب»، قالت إحداهما: إن أختی هذه تعود إخوتها!! قال: «إذا عدت إخوتک فلا تلبسی المصبغة»(3).

ص:390


1- (1) الکافی: ج 5 باب مصافحة النساء، ص 525 ح 1.
2- (2) المصدر نفسه، ح 2.
3- (3) الکافی: ج 5 باب مصافحة النساء، ص 525 ح 3.
کیفیة مبایعة النبی صلی الله علیه وآله للنساء:

وعقد بابا لروایات بعنوان (صفة مبایعة النبی صلی الله علیه وآله النساء)، منها:

1 - معتبرة سعدان بن مسلم: قال: قال أبو عبد الله علیه السلام: «أتدری کیف بایع رسول الله صلی الله علیه وآله النساء؟»، قلت: الله أعلم وابن رسوله أعلم، قال: «جمعهن حوله ثم دعا ب (تور برام) (1)فصب فیه نضوحا ثم غمس یده فیه، ثم قال: اسمعن یا هؤلاء أبایعکن علی أن لا تشرکن بالله شیئا ولا تسرقن ولا تزنین ولا تقتلن أولادکن ولا تأتین ببهتان تفترینه بین أیدیکن وأرجلکن ولا تعصین بعو لتکن فی معروف، أقررتن؟ قلن: نعم. فأخرج یده من التور. ثم قال لهن: اغمسن أیدیکن، ففعلن فکانت ید رسول الله صلی الله علیه وآله الطاهرة أطیب من أن یمس بها کف أنثی لیست له بمحرم»(2).

فقوله: «ولا تعصین بعو لتکن فی معروف» واضح فی ولایة الزوج.

النهی عن الدخول علی النساء:

وقد عقد الشیخ الکلینی قدس سره باباً فی الدخول علی النساء:

1 - روایة جعفر بن عمر، عن أبی عبدالله علیه السلام قال: «نهی رسول

ص:391


1- (1) التور: اناء یشرب فیه. و ویرام جبل فی بلاد بنی سلیم عند الحرة من ناحیة البقیع. (المراصد).
2- (2) الکافی: ج 5 باب مصافحة النساء، ص 525 ح 1.

الله صلی الله علیه وآله أن یدخل الرجال علی النساء إلا بإذنهن» (1).

2 - منها بالاسناد المتقدم: «أن یدخل داخل علی النساء إلا بإذن أولیائهن»(2).

وهی تندرج فی الطائفة الثانیة، إذ أن هذه الاخبار دلت علی أن الدخول علی النساء لیس کیفما کان بل له مقدمات لتأخذ المرأة حجابها.

السلام علی النساء:

وقد عقد الشیخ الکلینی بابا فی التسلیم علی المرأة بروایات، منها:

1 - موثقة مسعدة بن صدقة، عن أبی عبد الله علیه السلام قال: «قال أمیر المؤمنین علیه السلام: لا تبدؤوا النساء بالسلام ولا تدعوهن إلی الطعام فإن النبی صلی الله علیه وآله قال: النساء عی وعورة فاستروا عیهن بالسکوت واستروا عوراتهن بالبیوت»(3).

فالعی هو الضعف عن منطق الاحتجاج والحجة والسکوت والستر هو الحجاب، وهذا الخبر فیه دلالة علی الطائفة الأولی والثالثة.

موثقة غیاث بن ابراهیم، عن أبی عبد الله علیه السلام قال: «لا تسلم علی المرأة»(4).

ص:392


1- (1) الکافی: ج 5 باب الدخول علی النساء، ص 528 ح 1.
2- (2) المصدر نفسه، ح 2.
3- (3) الکافی: ج 5 باب التسلیم علی المرأة، ص 534 ح 1.
4- (4) المصدر نفسه، ح 2.
المیزان فی درجات حکم الاختلاط:

3 - صحیحة ربعی بن عبد الله، عن أبی عبد الله علیه السلام قال: «کان رسول الله صلی الله علیه وآله یسلم علی النساء ویرددن علیه وکان أمیر المؤمنین علیه السلام یسلم علی النساء وکان یکره أن یسلم علی الشابة منهن ویقول: أتخوف أن یعجبنی صوتها فیدخل علی أکثر مما طلبت من الاجر»(1).

وهذا الصحیح یشیر إلی أن الخلطة والاختلاط بالنساء علی درجات بحسب درجات الاثارة والفتنة وبحسب عمر المرأة وبحسب الملابسات الأخری فالحکم یختلف بحسب ذلک ولیس علی نمط واحد، وهذا میزان عام فی باب العلاقة بین الجنسین.

4 - صحیحة هشام بن سالم عن أبی عبد الله علیه السلام: «قال رسول الله صلی الله علیه وآله: النساء عیٌّ وعورة، فاستروا العورات بالبیوت واستروا العیَّ بالسکوت»(2).

وهی تندرج فی الطائفة الثانیة.

5 - ما رواه المجلسی عن الراوندی عن جعفر الصادق علیه السلام عن أمه رضی الله عنه: «إن فاطمة علیها السلام دخل علیها علی بن أبی طالب علیه السلام وبه کآبة شدیدة فقالت فاطمة علیها السلام: یا علی ما هذه الکآبة؟ فقال علی علیه السلام: سألنا

ص:393


1- (1) المصدر نفسه، ص 535 ح 3.
2- (2) الکافی: ج 5 باب التسلیم علی المرأة، ص 535 ح 4.

رسول الله صلی الله علیه وآله عن المرأة ما هی؟ فقلنا: عورة، فقال: فمتی تکون أدنی من ربها؟ فلم ندر فقالت فاطمة لعلی علیه السلام: ارجع إلیه فأعلمه أن أدنی ما تکون من ربها أن تلزم قعر بیتها. فانطلق فأخبر رسول الله صلی الله علیه وآله بما قالت فاطمة علیها السلام: فقال رسول الله صلی الله علیه وآله: إن فاطمة بضعة منی» (1).

وقد تقدم مفاد هذه الروایة، وهی تندرج فی الطائفة الثانیة.

6 - موثقة سماعة، عن أبی عبدالله علیه السلام قال: «اتقوا الله فی الضعیفین - یعنی بذلک الیتیم والنساء - وإنما هن عورة» (2).

وهذا الخبر له لسانان الأول وبیان ضعف المرأة واللسان الثانی بکون المرأة عورة لا بمعنی النقص وإنما لکون طبیعتها فریسة للرجال فهی موضوع طمع لهم.

7 - ما رواه الشیخ الطبرسی: قال صلی الله علیه وآله: «صلاة المرأة وحدها فی بیتها کفضل صلاتها فی الجامع خمسا وعشرین درجة»(3).

بعض الأدلة التی استدل بها علی ولایة المرأة:
1 - منها: الاطلاقات:

والجواب أولا بالاجمال وهو أنه لو وجدت اطلاقات دالة علی تولی

ص:394


1- (1) بحار الأنوار: ج 100 ص 250 ح 40.
2- (2) الکافی: ج 5 باب حق المرأة علی الزوج، ص 511 ح 3.
3- (3) مکارم الأخلاق ص 233.

هذه المناصب للأعم من الرجل والمرأة فهذه الطوائف الست مقیدة لها وإن کانت الأدلة هی الاخبار الخاصة علی فرض وجودها فتصل النوبة إلی التعارض والتنافی والترجیح لجانب تلک الطوائف الست لتواترها.

2 - منها: الأصل العملی:

إذ الأصل عدم التقیید بالذکورة.

و هذا التقریر خاطئ جداً لأنه یوجد فرق بین جریان الاصل العملی فی الاحکام التکلیفیة وبین جریانه فی الاحکام الوضعیة کالاسباب والمسببات، فالشک فی الشرط فی باب الواجبات التکلیفیة مثل الأقل والأکثر الارتباطی فتجری البراءة فی الزیادة أما فی الاسباب والمسبابات الوضعیة کالعقود والایقاعات فالشک فی أخذ شیء فی السبب یوجب الشک فی المسبب وجریان البراءة فی أخذه شیء فی السبب لا یثبت وجود المسبب إلا بالأصل المثبت.

فمثلاً الشک فی اشتراط عقد البیع بالعلم بالعوض فلو اجرینا البراءة فی هذا الشرط لا یرفع الشک فی تحقق البیع المسبب والنقل والانتقال.

فالبیع غیر محرز وجوده لا بدلیل لفظی لکونه خلاف فرض الشک لعدم الدلیل اللفظی إذ لا تأتی النوبة للأصل معه ومجری الاصل العملی هو العقد اللفظی السبب وهو لاثبت البیع المسبب إلا بالأصل المثبت فجریان الاصول فی الأسباب لا یوجب ثبوت المسببات

ص:395

إلا علی القول بالأصل المثبت.

فالشک فی نفوذ ولایة تصرف المرأة یحتاج إلی دلیل فی النفوذ

والاصل الجاری هو عدم النفوذ.

وجریان البراءة فی فعل المرأة لا یثبت نفوذ تصرفاتها إلا بالاصل المثبت.

3 - منها: الأخبار الواردة:

وقد استدل علی ذلک بما جاء فی صحیحة عمر بن حنظلة من قوله الصادق علیه السلام: «انظروا إلی رجل منکم روی حدیثنا»(1).

وما فی معتبرة أبی خدیجة قال: قال أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق علیه السلام: «إیاکم أن یحاکم بعضکم بعضا إلی أهل الجور ولکن انظروا إلی رجل منکم یعلم شیئا من قضایانا فاجعلوه بینکم فأنی قد جعلته قاضیا فتحاکموا إلیه»(2).

ووجه الاستدلال بقوله«انظروا إلی رجل منکم» أن تخصیصه بلفظ الرجل مثبت ولیس فیه نفی، واثبات شیء لشیء لا ینفی ما عداه فإن قوله علیه السلام: «رواة حدیثنا» یشمل النساء إلا أن التذکیر للتغلیب، وأیضا

ص:396


1- (1) وسائل الشیعة: ج 27 أبواب صفات القاضی، ب 11 ص 13 ح 7.
2- (2) المصدر نفسه، ح 5.

قوله تعالی: (وَ ما کانَ الْمُؤْمِنُونَ لِیَنْفِرُوا کَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ کُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِیَتَفَقَّهُوا...)1 یشمل النساء. فمع وجود هذه المطلقات لا تصلح کلمة رجل فی هذه الاخبار للتقیید.

فطائفة من الأدلة تبین صلاحیة الرجل وطائفة آخری تبین صلاحیة کل من یکون فقیها ولا تنافی بینهما وهذا موافق للدلیل الأول.

والجواب: أنه توجد أدلة کثیرة مخصصة ونافیة لولایة المرأة کما تقدم من الطائفة الرابعة.

4 - منها: الاستدلال بآیة ملک بلقیس لقوم سبأ.

والجواب قد تقدم من أن ذکر الخبر الفظیع والعجیب الذی قدمه الهدهد حتی علی الشرک بالله تعالی هو قوله تعالی: (وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِکُهُمْ) (1).

وأما مدح القرآن الکریم لها بما یدل علی رجحان عقلها فهذا أدل دلیل علی عدم تولیها هذه المناصب وسلب صلاحیة الملک فإنه مع رجحان عقلها ومع ذلک ذم أولئک القوم الذین خالفوا السیر الفطریة العقلائیة وأمّروا امرأة علیهم.

وأما أن النبی سلیمان علیه السلام قد أثبتها فی الملک، فهذا لم یثبت بدلیل

ص:397


1- (2) سورة النمل: الآیة 23.

منک، علیک بدنة ولیس علیها شیء» (1).

وفیه:

أن هذین الخبرین یدلان علی وصول المرأة إلی مرتبة الفقاهة ولا دلالة علی تولیها مقام ومنصب الفقاهة، فکونها تصل لمقام الفقاهة شیء وأنها تتولی هذه المناصب شیء آخر ولیس ما ذکرناه یمنع من وصولها إلی مرحلة الفقه والفقاهة تکویناً نعم من الصلاحیات الثابتة للمرأة أنها إذا وصلت إلی مرحلة الفقاهة یحرم علیها التقلید ویجب علیها العمل علی وفق رأیها لأنها عالمة ولیست جاهلة کی ترجع إلی غیرها.

وأیضا لها مقام ومنصب حجیة الروایة فإنها مع وثاقتها یؤخذ بخبرها وهذا کله بخلاف ما نحن فیه من تولی منصب القضاء والفتیا.

4 - مصححة أحمد بن إبراهیم، قال: دخلت علی حکیمة بنت محمد بن علی الرضا، أخت أبی الحسن صاحب العسکر علیهم السلام فی سنه اثنتین وستین ومائتین فکلّمتها من وراء حجاب وسألتها عن دینها فسمّت لی من تأتم بهم، ثم قالت: والحجة ابن الحسن بن علی، فسمته. فقلت لها: جعلنی الله فداک، معاینة أو خبرا؟ فقالت: خبرا عن أبی محمد علیه السلام کتب به إلی أمه. فقلت لها: فأین الولد؟ فقالت: مستور.

ص:401


1- (1) وسائل الشیعة ج 13 أبواب کفارات الاستمتاع فی الاحرام، باب 5 ص 508 ح 7.

فقلت: إلی من تفزع الشیعة؟ فقالت: إلی الجدة أم أبی محمد علیه السلام. فقلت لها: أقتدی بمن وصیته إلی امرأة؟! فقالت: اقتداءً بالحسین بن علی علیهما السلام فإن الحسین بن علی علیهما السلام أوصی إلی أخته زینب بنت علی فی الظاهر، فکان ما یخرج عن علی بن الحسین علیهما السلام من علم ینسب إلی زینب سترا علی علی بن الحسین علیهما السلام، ثم قالت: إنکم قوم أصحاب أخبار، أما رویتم أن التاسع من ولد الحسین بن علی علیهما السلام یقسم میراثه وهو فی الحیاة...(1).

وأیضاً ما فی باب الحجج، فقد وردت عدة نصوص قابلة للاعتبار:

8 - صحیحة عبد الرحمن بن الحجاج قال: قلت لأبی عبد الله علیه السلام:

إن معنا صبیا مولودا فکیف نصنع به؟ فقال: «مر أمه تلقی حمیدة فتسألها کیف تصنع بصبیانها»، فأتیتها فسألتها کیف تصنع، فقالت: إذا کان یوم الترویة فأحرموا عنه وجردوه وغسلوه کما یجرد المحرم وقفوا به المواقف فإذا کان یوم النحر فارموا عنه وأحلقوا عنه رأسه ومری الجاریة أن تطوف به بین الصفا والمروة. قال: وسألته عن رجل من أهل مکة یخرج إلی بعض الأمصار ثم یرجع إلی مکة فیمر ببعض المواقیت أله أن یتمتع؟ قال: «ما أزعم أن ذلک لیس له لو فعل وکان

ص:402


1- (1) کمال الدین وتمام النعمة: باب 45 ص 507 ح 36 ومثله فی ص 501 ح 27.

الاهلال أحب إلی» (1).

فقولها: (إلی الجدة أم أبی محمد) تعنی أم الامام العسکری علیه السلام.

وقد ورد عن حکیمة علیها السلام أنها کذلک تجیب المسائل.

وکذا ما یروی عن فاطمة المعصومة علیها السلام بنت الامام الکاظم علیه السلام کما هو مسموع وإن لم نتتبع الوقوف علی مصدره.

وفی بعض الروایات أن فاطمة الزهراء علیها السلام کانت تفتی الناس، وقد ذکرنا مفصلًا فی کتاب (مقامات فاطمة علیها السلام) أنه قد ثبت لها ما هو أعظم من ذلک وأنها حجة علی الائمة علیهم السلام فإن لها مقام الحجیة والعصمة وولایة التشریع بعد الله ورسوله ووصیه.

وأما بالنسبة للاخبار الدالة علی أن الجدة والدة الامام العسکری علیه السلام أو حکمیة أو زینب علیهما السلام فهذه مناصب خاصة بل ورد أن أم سلمة (رضوان الله علیها) قد أوصاها الامام الحسین علیه السلام بمواریث الامامة أی أنه أودعها عندها فهذه مناصب خاصة لبعض النساء دل علیها الدلیل ولا ننکرها وما مر فی الأدلة لیس امتناع عقلی بل هو شرعی وتطابقه مع الحکمة التکونیة غالباً.

بل إن بعض النساء یتکاملن إلی مقامات عالیة کأن تکون من الأوتاد والارکان کتکامل خدیجة وزینب علیهما السلام، فإن هذه الاستثناءات

ص:403


1- (1) الکافی: ج 4 باب کیفیة حج الصبیان والحج بهم، ص 300 ح 5.

لا ننکرها إلا أنه لا یستفاد منها دلیل عام.

و مثل هذا ما جاء أن من اصحاب الامام العسکری علیه السلام خمسون امرأة. وهذا أیضا استثناء خاص مثل بقیة الاستثناءات، وزیادة علی ذلک أن هذه الموارد - عدا فاطمة الزهراء علیها السلام - لیست من موارد المناصب بل هی ولایات خاصة من قبیل التبشیر بالایمان وغیرها من المناصب الخاصة المندرجة تحت ولایة الامام العامة.

وقد حملت هذه الاخبار علی الروایة أی ثبوت حجیة روایة النساء.

والصحیح أنها مناصب خاصة دون الفتیا والقضاء عدا مقام فاطمة الزهراء وابنتها زینب الکبری علیهما السلام.

8 - منها: الاستدلال بالسیرة وما فیه:

والجواب: أنه لا توجد سیرة فی تلک الأمور العلیا. نعم توجد سیرة فی الصلاحیات المتوسطة، أی دون تلک الولایات العامة.

ص:404

القاعدة التاسعة عشر:

قاعدة فی اتمام المسافرالصلاة فی کل مراقد ال البیت

ص:405

ص:406

القاعدة التاسعة عشر: قاعدة فی اتمام الصلاة فی کل مراقد آل البیت

اشارة

مجمل الاقوال فی المسالة:

قد ذهب جمع من المتقدمین وبعض المتأخرین إلی عموم حکم التخییر بین القصر والتمام للمسافر فی مراقد جمیع المعصومین علیهم السلام ولا تختص فضیلة الإتمام للمسافر فی الرباعیة بخصوص الأماکن الأربعة، بل تعم مراقد المعصومین علیهم السلام أجمع، کمشهد الامام الکاظم والامام الجواد ومشهد الامام الرضا ومشهد الامامین العسکریین علیهم السلام فضلًا عن النجف الأشرف مشهد أمیر المؤمنین علیه السلام، حیث أنه مندرج فی الأماکن الأربعة، بلْ هو الأصل للإتمام فی مسجد الکوفة.

تفصیل الأقوال فی المسألة: أقوال الأصحاب فی التعمیم:

أقوال فی التوسعة من جهات أُخری.

ملحق الأقوال:

ص:407

أقوال الأصحاب فی التعمیم:

اشارة

ظاهر کلام السید المرتضی وابن الجنید المنع من التقصیر فی المواضع الأربعة، وألحقا بها فی ذلک أیضاً المشاهد المشرّفة والضرائح المنوّرة، وکذلک ابن قولویه - استاذ المفید فی الفقه - ذهب إلیه فی کامل الزیارات، کما سیأتی.

1 و 2 - قال فی المختلف: «قال السیّد المرتضی فی (الجمل): لایقصر فی مکّة ومسجد النبیّ صلی الله علیه وآله ومسجد الکوفة ومشاهد الأئمّة القائمین مقامه»(1).

ونقل عن ابن الجنید: «والمسجد الحرام لاتقصیر فیه علی أحد، لأنّ الله عزّ وجلّ جعله سواء العاکف فیه والباد»(2).

3 - عبارة علیّ بن بابویه یلوح منها التعمیم لجمیع المشاهد، کما استظهره المجلسی فی البحار. قال فی الفقه الرضوی: «إذا بلغت موضع قصدک من الحجّ والزیارة والمشاهد وغیر ذلک ممّا قد بیّنته لک فقد سقط عنک السفر، ووجب علیک الإتمام»(3).

ولایبعد أن یکون هذا المتن هو متن فقه ابن أبی عزاقر الشلمغانی

ص:408


1- (1) جمل العلم والعمل: ص 77 ط الآداب.
2- (2) المختلف ج 3 ص 135.
3- (3) الفقه الرضوی ص 160.

أیّام استقامته قبل انحرافه، إذ هو متن رسالة ابن بابویه فی الأصل، وعمّم صاحب الوسائل بجزم عدم سقوط النوافل النهاریة لکلّ المشاهد المشرّفة، مع أنّ الموضوع لعدم سقوط النوافل متّحد مع موضوع إتمام الفرائض فی السفر.

وقال المجلسی فی ذیل عبارة الفقه الرضوی: «وظاهره الإتمام فی جمیع المشاهد، کما قیل وسیأتی ذکره»(1).

وقال الوحید البهبهانی فی مصابیح الظلام - بعد ذکره القول بالإتمام فی جمیع المشاهد للمرتضی وابن الجنید: «نعم، عبارة الفقه الرضوی ربّما یدلّ علی قولهما وقیاس المنصوص العلّة التی فی صحیحة علیّ بن مهزیار، حیث قال: قد علمت فضل الصلاة فی الحرمین فی مقام التعلیل للإتمام فی الحرمین، والحقّ أنّه حجّة، لکن یلزم التمام فی کلّ موضع للصلاة فیه فضل، کما أنّ عبارة الفقه الرضوی أیضاً ظاهرها کذلک، وهما لایقولان به، ومع ذلک لایفیان لاثبات ما یخالف الأخبار المتواترة والخبر المجمع علیه والإجماعات»(2).

وقال السید فی الریاض: «وخلاف المرتضی والإسکافی فیها نادر، فلایفیدهما التمسّک ببعض التعلیلات والظواهر. نعم، فی الرضوی - ثمّ ذکر عبارته - لکن فی الخروج به عن مقتضی الأصل والعمومات

ص:409


1- (1) البحار ج 86 ص 67.
2- (2) مصابیح الظلام ج 2 ص 211.

المعتضدة بالشهرة العظیمة القریبة من الإجماع، بل الإجماع، مشکل، لاسیّما مع تضمّنه الحکم بوجوب التمام، لما مرّ من شذوذه ومخالفته الإجماع والأخبار المستفیضة بل المتواترة، إلّا أن یحمل الوجوب علی مطلق الثبوت»(1).

واستشکل النراقی فی المستند(2) فی استظهار ذلک من عبارة الرضوی، وتشبّث بما ذکر قبل هذه العبارة من اشتراط قصد المباح فی السفر، نظیر الحجّ والزیارة ونحوهما، وهو عجیب، لأنّه العبارة السابقة فی التقصیر، وهذه العبارة فی التمام، مع أنّه ذکر فی الفقه الرضوی قبل العبارتین الإتمام عند دخول منزل أخیک لأنّه مثل منزلک.

واستظهر فی الجواهر (3) التعمیم فی عبارة الفقه الرضوی، ولعلّ مستند المرتضی وابن الجنید التعلیلات فی النصوص، واستفادة علیّة شرفیّة المکان بقوله: «وشرف قبورهم، وأنّها مساویة للمسجدین أو تزید».

أقول:

اعترف الشیخ الوحید وسیّد الریاض بدلالة صحیح ابن مهزیار علی عموم الإتمام فی المشاهد، إلّا أنّهما استشکلا فی العمل به بأنّه مخالف للإجماع وللأخبار المتواترة والمجمع علیه من الخبر، وبأنّه یلزم

ص:410


1- (1) ریاض المسائل ج 4 ص 382.
2- (2) مستند الشیعة ج 3 ص 138.
3- (3) الجواهر ج 14 ص 344.

منه التمام فی کلّ موضع للصلاة فیه فضل.

وفیه:

أمّا الأوّل، فلاإجماع علی الخلاف:

لما مرّ وسیأتی من ذهاب ابن بابویه وابن قولویه، ومحتمل ابن ابن عزاقر - أیّام استقامته - وابن الجنید والمرتضی وتمایل الکیدری فی الإصباح إلیه ومن المتأخّرین المیرداماد والشیخ حسین العصفوری البحرانی، ثمّ إنّ القائلین بالمنع من الإتمام فی الأماکن الأربعة - فضلًا عن غیرها - لیس اتّفاقهم بسیط مع الحاصرین بالأربع، بل المسألة ثلاثیّة الأقوال من عهد روایة الأئمّة علیهم السلام، کما یشیر إلی ذلک صحیح ابن مهزیار وغیره، بل لو جعلنا أحد الأقوال ذهاب الشیخ إلی الإتمام عند قبر أمیر المؤمنین علیه السلام والنجف وکذا الکیدری فی الإصباح لزاد تشعّب الأقوال.

وأمّا الثانی - وهی المخالفة للأخبار المتواترة:

فإنّ قصدا عمومات التقصیر فی السفر، فالمخالفة بالعموم والخصوص، کما فی الأماکن الأربعة، وإنّ قصدا روایات الأماکن الأربعة فسیأتی فی الوجه الثالث، أنّ ألسنة الروایات متعدّدة بین ما اقتصر علی ذکر مکّة والمسجد الحرام فقط، وبین ما اقتصر علی ذکر المسجدین والحرمین، وثالث إضافة عند قبر الحسین علیه السلام، ورابع إضافة

ص:411

مسجد الکوفة إلی المسجد، وخامس ذکر الأماکن الأربعة، وسادس إضافة عنوان مشاهد النبیّ صلی الله علیه وآله، فأین الحصر فی الأربعة؟

وأمّا الثالث - وهو التعمیم لکلّ مکان ذی فضیلة:

فهو انما یلزم لکل مکان أمر باکثار الصلاة فیه لتعاظم فضیلتها فیه لا ما إذا أمر بإکثار الصلاة لأجل رجحان ذات طبیعة الصلاة فی نفسها من حیث هی صلاة کما هو الحال فی الصلاة فی مطلق المسجد أو المسجد الجامع الذی هو من النمط الثانی، فإنّ الصلاة فیه وإن اکتسبت مزیّة ورجحانا، لکنّ الأمر بإکثار الصلاة حینئذٍ لیسَ إلّا من جهة طبیعة نفس الصلاة وأنّها خیر موضوع مَن شاء استکثر ومَن شاء استقلّ لا من جهة سببیة المکان نفسه لرجحان الإکثار، فالمسجد أو الجامع یضیفان مزیّة علی طبیعة الصلاة، نظیر نظافة الثیاب واستخدام الطیب ولبس العمامة والتحنّک بها، ونحو ذلک وهذه المزایا لیست سببا لرجحان إکثار الصلاة، وهذا بخلاف ما إذا کانت الأرض مقدّسة معظّمة کما سیأتی فی قوله تعالی: (فِی بُیُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ یُذْکَرَ فِیهَا اسْمُهُ) (1) ، فإنّ إذنه تعالی هو أمره بتعظیم وتقدیس تلک البیوت، وأمره بأن یذکر فیها، وأمره تعالی أن یسبّح له فیها بالغدوّ والآصال، فیستحب إکثار الصلاة فیها بهذا الأمر بغض النظر عن

ص:412


1- (1) سورة النور: الآیة 36.

الأمر بإکثار ذات الصلاة فی نفسها، فلو لم یکن فی البین دلیل علی الأمر بإکثار ذات طبیعة الصلاة لالتزمنا باستحباب الإکثار فی خصوص هذه البیوت المعظمة المقدسة.

ویشهد لهذه التفرقة أن صلاة النوافل الیومیة وغیرها یندب إتیانها فی البیوت والمنازل إستتاراً وروماً للإخلاص والخلاص عن الریاء، أفضل من إتیانها فی عموم المساجد ولو کان المسجد الجامع وإنما المندوب المجیء بصلاة الفریضة فی عموم المساجد کشعیرة عامة، وهذا بخلاف المسجد الحرام والمسجد النبوی والمواطن الأربعة ومشاهد جمیع الأئمة علیهم السلام فإنه یندب المجیء بجمیع النوافل الیومیة وغیرها فضلًا عن الفرائض فیها وکفی بهذا فارقاً بین الموضوعین. وسیأتی الإشارة إلی الروایات الدالة علی ذلک فی الوجوه اللاحقة.

4 - وعنون ابن قولویه فی کامل الزیارات الباب ( 82) بقوله: «التمام عند قبر الحسین علیه السلام وجمیع المشاهد»، مع أنّه لم یورد فی الباب إلّا روایات الإتمام فی الأماکن الأربعة، والظاهر أنّ استظهر من التعلیل فیها العموم وهو فی محلّه.

وعنون ابن قولویه الباب ( 81) من کتاب کامل الزیارات بقوله: «التقصیر فی الفریضة والرخصة فی التطوع عنده وجمیع المشاهد» وذکر فی ذلک الباب روایات استحباب التطوع فی الأماکن الأربعة للمسافر وفی مشاهد النبی صلی الله علیه وآله وهو عنوان خامس وموضوع فضیلة التطوع فی

ص:413

السفر هو موضوع التخییر فی الفریضة، فیظهر منه اعتماده علی وجه آخر فی التعمیم.

5 - وقد یستظهر من الشیخ المفید التمایل إلی التعمیم لکل مراقد الأئمة علیهم السلام وذلک لما رواه فی المزار الکبیر والصغیر من ثواب وفضیلة صلاة الفریضة عند الحسین علیه السلام ففی باب ( 59) من المزار الکبیر الذی عنونه بقوله «باب فضل الصلاة عند مشهد الحسین علیه السلام» وقال فی مقدمة هذا الباب: «قد کنا دعونا فی ما تقدم إلی الإکثار من الصلاة فی مشهد أبی عبدالله علیه السلام لفضل ذلک وعظم ثوابه ویجب أن یؤدی الفرائض بأسرها والنوافل کلها طول المقام هناک فیه وأفضل المواضع للصلوات منه عند رأس الإمام علیه السلام».

ثم روی فی الباب فضیلة کل رکعة فریضة عند الحسین علیه السلام وفضیلة کل رکعة نافلة، وروی الحدیث الثالث فی الباب بسنده عن هارون بن مسلم عن أبی علی الحرانی عن الصادق علیه السلام فی من أتاه وزاره وصلی عنده رکعتین أو أربع رکعات کتبت له حجة وعمرة وفی ذیل الروایة «قال قلت له: جعلت فداک وکذلک لکل من أتی قبر إمام مفترضة طاعته قال: نعم»(1) وقد روی هذا الحدیث عن هارون بن

ص:414


1- (1) کتاب المزار: الأول (الکبیر): باب 59 ح 3 ص 116-118. ط. قم ممدرسة الإمام المهدی عجل الله تعالی فرجه الشریف.

مسلم بطرق متعددة وبألفاظ مختلفة فی کامل الزیارات(1) وفی التهذیب(2) وفی المزار الکبیر للمشهدی(3) ، ورواه الشیخ المفید أیضاً بطریق آخر فی المزار الصغیر(4).

وقال فی المزار الثانی (الصغیر) الباب ( 18) «باب مختصر: فضل زیارة السیدین أبی الحسن علی بن محمد وأبی محمد الحسن بن علی العسکریین علیهم السلام» ثم روی الحدیث الثانی بقوله وتقدم أیضا عن أبی عبدالله علیه السلام: «من زار إماما مفترض الطاعة بعد وفاته وصلی عنده أربع رکعات کتب الله له حجة وعمرة»(5) انتهی. فحکم قدس سره باستحباب إکثار الصلاة عند العسکریین علیهما السلام بعین ما تقدم من الدلیل علی استحباب إکثار الصلاة عند الحسین علیه السلام، حیث قال فی المزار الأول (الکبیر) فی الباب ( 56) بعد ذکر زیارة الحسین والعباس علیهما السلام: «ثم ارجع إلی مشهد الحسین علیه السلام وأکثر من الصلاة فیه والزیارة والدعاء»(6) ومن ثَمّ قال فی العبارة المتقدم نقلها فی صدر الباب ( 59): «قد کنا دعونا فی ما تقدم إلی الإکثار من الصلاة فی مشهد أبی عبدالله علیه السلام

ص:415


1- (1) کامل الزیارات: باب 83 ح 3 ص 434.
2- (2) التهذیب: ج 6 کتاب المزار باب 26 ح 4 ص 79.
3- (3) المزار الکبیر: القسم الأول، الباب الأول: ح 16 ص 39.
4- (4) کتاب المزار: الثانی (الصغیر): باب 11 ح 3 ص 160.
5- (5) کتاب المزار: الثانی (الصغیر): باب 18 ح 2 ص 173.
6- (6) کتاب المزار: الأول (الکبیر): الباب 56 ص 111.

لفضل ذلک وعظم ثوابه ویجب أن یؤدی الفرائض بأسرها والنوافل کلها طول المقام هناک فیه وأفضل المواضع للصلوات منه عند رأس الإمام علیه السلام».

وقال فی الباب اللاحق لذلک الباب ( 60) والذی عنونه بقوله: «باب فضل إتمام الصلاة فی الحرمین وفی المشهدین علی ساکنهما السلام» قال: «الأصل فی صلاة السفر التقصیر، لطفا من الله جل اسمه لعباده، ورحمة لهم وتخفیفا عنهم، وجاءت آثار لا شبهة فی طریقها، ولا شک فی صحتها بإتمام الصلاة فی الأربعة مواطن لشرفها وتعظیمها، فکان التقصیر فیها علی الأصل للرخصة جائزا والإتمام أفضل»(1). فجعل (قدس سره) موضوع الإتمام فضیلة إکثار الصلاة فی تلک البقاع وموضوع استحباب إکثار الصلاة هو شرف وعظمة البقاع، وهذا بعینه ما ذکره ونبه علیه فی زیارة العسکریین علیهما السلام وما ذکره من ذیل الروایة المتقدمة أن ذلک لکل من أتی قبر إمام مفترضة طاعته.

بلْ إنَّ فی الباب ( 60) أفتی باستحباب إتمام الصلاة فی مشهد أمیر المؤمنین علیه السلام مع أن النصوص التی أوردها فی الکوفة ومسجدها، کما أن جعله عنوان موضوع الإتمام هو الآخر یشعر باستظهار عموم

ص:416


1- (1) کتاب المزار: الأول (الکبیر): الباب 60 ص 119.

هذا العنوان لکل مشاعر المعصومین علیهم السلام لإتحاد عنوان المشهد. بل قد صرح فی باب ( 44) باب صلاة زیارة أمیر المؤمنین علیه السلام بقوله «فإنْ أردت المقام فی المشهد أو لیلتک فأقم فیه وأکثر من الزیارة والصلاة والتحمید والتسبیح والتکبیر والتهلیل وذکر الله تعالی بتلاوة القرآن والدعاء والاستغفار، فإذا أردت الانصراف فودع أمیر المؤمنین صلوات الله علیه»(1) وبنفس العبارة أفتی الشیخ فی المصباح(2) فی مشهد أمیر المؤمنین علیه السلام مع أنَّ الشیخ یفتی صریحاً بالإتمام فی مشهد أمیر المؤمنین علیه السلام ومدینة النجف الأشرف.

6 - وقال الکیدری البیهقی فی إصباح الشیعة: «ویستحبّ الإتمام فی السفر فی أربعة مواطن: مکّة والمدینة ومسجد الکوفة والحائر. وروی فی حرم الله وحرم الرسول وحرم أمیر المؤمنین علیه السلام وحرم الحسین علیه السلام، فعلی هذه الروایات یجوز الإتمام خارج المسجد بالکوفة والنجف، وعلی الأوّل لایجوز إلّا فی نفس المسجد، وقال المرتضی»، ثمّ نقل کلامه المزبور(3). ولم یعلق علیه بشیء فیظهر منه التمایل إلی التعمیم.

7 - وفی التنقیح الرائع للسیوری قوّی قول المشهور علی قول الصدوق بالمنع فی الأماکن الأربعة، بقوله: «والأقوی قول الأصحاب،

ص:417


1- (1) کتاب المزار: الأول (الکبیر): الباب 44 ص 81.
2- (2) مصباح المتهجد: الباب الرابع: ص 321.
3- (3) إصباح الشیعة ص 92.

لأنّها أماکن شریفة، فناسب کثرة الطاعات فیها، ولروایات کثیرة بذلک... ثمّ إنّ السیّد وابن الجنید جعلا مجموع المشاهد داخلة فی هذا الحکم، والفتوی علی خلافه»(1).

وظاهر کلامه یعطی توقّفه فی التعمیم من دون جزم بالنفی.

8 - وقال المیرداماد: «وألحق السیّد المرتضی وابن الجنید مشاهد الأئمّة علیهم السلام بین القصر والإتمام، والمستحبّ الأفضل هناک هو الإتمام، وظاهرهما تحتّمه، وعمّم الصدوق القصر تحتّما، والأقرب تخصیص التخییر مع استحباب الإتمام بالمساجد الثلاثة وما دار علیه سور الحضرة الحسینیّة، وما حوته قبب المشاهد المنوّرة دون البلدان. وقال بعض الأصحاب بذلک فی البلدان، وقال فی المعتبر: الحرمان کمسجدیهما بخلاف الکوفة»(2). ثمّ نقل عبارة المبسوط.

وظاهره التعمیم لکلّ المشاهد المنوّرة للمعصومین علیهم السلام، لأنّه فی صدر کلامه نقل کلا الخلافین فی التعمیم موضوعاً وفی المحمول من جهة الوجوب أو التخییر أو المنع، فاختار التخییر فی الحکم والتعمیم فی الموضوع.

ثمّ إنّه یستفاد من کلامه قدس سره استظهار أنّ العدد (أربعة) من الروایات

ص:418


1- (1) التنقیح الرائع: ج 1 ص 291.
2- (2) عیون المسائل ص 210.

قید للبلدان، وإلّا فالمشاهد عنوانها عام غیر مقید بالأربعة، وتقریبه ما سیأتی فی الوجه الثالث من ورود عنوان مشاهد النبیّ صلی الله علیه وآله باندراجها فیه، کاندراج بیوت أهل البیت علیهم السلام فی بیوت النبیّ صلی الله علیه وآله، والظاهر أنّ ابن بابویه وابن قولویه والمرتضی وابن الجنید اعتمدوا علیه لاعلی التعلیل فقط.

وقال فی منتهی المطلب فی مقام الردّ علی منع الصدوق من الإتمام فی الأماکن الأربعة: «ولأنّها مواضع اختصّت بزیادة شرف، فکان إتمام العبادة فیها مناسباً لتحصیل فضیلة العبادة فیها، فکان مشروعاً»(1).

وفی المختلف قال فی ردّ الصدوق: «لنا: أنّها مواطن شریفة یستحبّ فیها الإکثار من الطاعات والنوافل، فناسب استحباب إتمام الفرائض»(2).

9 - وقال الشیخ حسین العصفوری فی کتابه سداد العباد: «شرط تحتّم القصر أن لایکون بمکّة ولابالمدینة ولابالکوفة ولاالحائر الحسینی، بل الحرم له أجمع ومشاهد الأئمّة علیهم السلام علی الأحوط، لأنّه یخیّر فی هذه الأمکنة کلّها والتمام أفضل، بل کاد أن یکون متعیّناً، لاسیّما فی الکوفة وحائر الحسین علیه السلام، وأخبار تحتّم القصر محمولة علی

ص:419


1- (1) منتهی المطلب: ج 6 ص 365.
2- (2) مختلف الشیعة: ج 3 ص 132.

التقیّة لئلّا ینسبونا إلی التلاعب فی الدین»(1).

وقال الشیخ العصفوری فی کتاب الفرحة الانسیّة: «ولابأس بالتمام فی المشاهد کلّها، کما هو ظاهر المرتضی والإسکافی، ویشهد لهما خبر الفقه الرضوی، وظاهره أنّ الفضل فیه، والجمع بین القصر والتمام فیها طریق الاحتیاط والسلامة من الخلل»(2).

أقول: ذکر نمطین للاحتیاط: الأول باختیار الإتمام، والثانی بالجمع بین القصر والتمام، وذلک مراعاة للقول بتعین الإتمام الذی ذهب إلیه ابن الجنید والسید المرتضی، والقول بتعین القصر الذی ذهب إلیه الصدوق وجملة من فقهاء الرواة، فما عرف من أن الإتمام أفضل والقصر أحوط، علی إطلاقه لیس فی محله، بل الاحتیاط هو بالجمع بینهما، والإتمام أفضل.

وحکی عنه تلمیذه الشیخ عبدالله الستری فی کتابه الکنز، قال: «والمرتضی والإسکافی ظاهرهما تحتّم الإتمام فی جمیع مشاهد الأئمّة علیهم السلام وشیخنا خیّر فیها کلّها، وزاد مسجد براثا).

وقال فی المختلف أیضاً: «وقال السیّد المرتضی: لاتقصیر فی مشاهد الأئمّة علیهم السلام، وهو اختیار ابن الجنید.

ص:420


1- (1) سداد العباد ورشاد العباد: ص 169.
2- (2) الفرحة الإنسیة ص 175.

لنا: الأصل الدالّ علی وجوب القصر علی المسافر.

احتجّا بأنّها من المواضع المشرّفة فاستحب فیها الإتمام کالأربعة».

وقال: «قال ابن الجنید: والمسجد الحرام لاتقصیر فیه علی أحد، ومکّة عندی یجری مجراه، وکذلک مسجد رسول الله صلی الله علیه وآله ومشاهد الأئمّة القائمین مقام الرسول علیه السلام، فأمّا ما عدا مکّة والمشاهد من الحرم فحکمها حکم غیرها من البلدان فی التقصیر والإتمام»(1).

وقال الشریف المرتضی فی جمل العلم والعمل: «ولاتقصیر فی مکّة ومسجد النبیّ صلی الله علیه وآله ومسجد الکوفة ومشاهد الأئمّة القائمین مقامه»(2) ، وقال بنفس اللفظ فی رسائله.

ومن ذلک یتحصّل ذهاب کلّ من علیّ بن بابویه والشلمغانی - فترة استقامته - وابن قولویه فی کامل الزیارات، وابن الجنید، والمرتضی، والمیرداماد فی رسالته(3) عیون المسائل، والشیخ حسین العصفوری البحرانی - ابن أخی صاحب الحدائق - فی السداد، ویستظهر من کلام الشیخ المفید فی المزار الأول والثانی، وتمایل إلیه المجلسی والبروجردی فی مسجد براثا، ویظهر تمایل الکیدری فی إصباح الشیعة إلی قول المرتضی، وتوقف السیوری فی التعمیم ولم یجزم بالنفی. بلْ قدْ مرَّ اعتراف

ص:421


1- (1) مختلف الشیعة ج 3 ص 135-137.
2- (2) جمل العلم والعمل ص 78.
3- (3) عیون المسائل (الرسائل الإثنی عشر) ص 210.

الوحید وصاحب الریاض بتمامیة مستند التعمیم لولا خوف

مخالفة الإجماع ودعوی منافاته للأخبار المتواترة، وقد تقدم منع دعوی الإجماع ووهن دعوی المنافاة للأخبار.

أقوال فی التوسعة من جهات أخری:

اشارة

1 - قال الشیخ المفید فی المزار الأول (الکبیر) الباب ( 60) تحت عنوان «باب فضل إتمام الصلاة فی الحرمین وفی المشهدین علی ساکنهما السلام» وقد مر تقریب صراحة هذا التعبیر فی فتواه بالإتمام فی مشهد أمیر المؤمنین علیه السلام ومدینة النجف، ویستظهر من کلامه: أنَّ الأصل فی الإتمام فی الکوفة هو حرم أمیر المؤمنین علیه السلام ومشهده ومرقده، وأن المسجد تابع له، وهو الذی أشار إلیه تلمیذه الشیخ الطوسی فی عبارة المبسوط الآتیة.

2 - وذهب الشیخ الطوسی فی المبسوط والنهایة إلی الإتمام عند مرقد أمیر المؤمنین علیه السلام. قال: «وقد روی الإتمام فی حرم الله وحرم الرسول وحرم أمیر المؤمنین علیه السلام، فعلی هذه الروایة یجوز الإتمام خارج المسجد بالکوفة والنجف، وعلی الروایة الاولی لایجوز إلّا فی نفس المسجد، ولو قصّر فی هذه المواضع کلّها کان جائزاً، غیر أنّ الأفضل ما قدّمناه»(1).

ص:422


1- (1) المبسوط: ج 1 / ص 141.

ونقل فی المختلف عن النهایة والمبسوط قولهما: «وقد رویت روایة بلفظ آخر وهو أن یتمّ الصلاة فی حرم الله وفی حرم رسوله وفی حرم أمیر المؤمنین علیه السلام وفی حرم الحسین علیه السلام، فعلی هذه الروایة جاز التمام خارج المسجد بالکوفة وبالنجف، وعلی الروایة الاخری لم یجز، إلّا فی نفس المسجد».

وقال الشیخ فی التهذیب «لمّا روی حدیث زیاد القندی قال: قال أبو الحسن موسی: احبّ لک ما احبّ لنفسی، وأکره لک ما أکره لنفسی، أتمّ الصلاة فی الحرمین وعند قبر الحسین علیه السلام وبالکوفة. وحدیث أبی بصیر قال سمعت أبا عبد الله علیه السلام یقول: تمّم الصلاة فی أربعة مواطن: فی المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلی الله علیه وآله، ومسجد الکوفة، وحرم الحسین علیه السلام، ولیس لأحد أن یقول لأجل هذا الخبر والخبر المتقدّم الذی رواه ابن منصور، أنّ الإتمام مختصّ بالمسجد الحرام ومسجد الکوفة، فإذا خرج الإنسان منهما فلاتمام، لأنّه لایمتنع أن یکون فی هذین الخبرین قدْ خصّا بالذکر تعظیماً لهما، ثمّ ذکر فی الأخبار الاخر ألفاظ یکون هذان المسجدان داخلین فیه، وإن کان غیرهما داخلًا فیه، وهذا غیر مستبعد ولامتناف.

وقد قدّمنا من الأخبار ما یتضمّن عموم الأماکن التی من جملتها هذان المسجدان منها: حدیث حمّاد بن عیسی، عن الصادق علیه السلام أنّه قال: فی حرم رسول الله صلی الله علیه وآله، وحرم أمیر المؤمنین علیه السلام وبعده حدیث

ص:423

زیاد القندی، فإنّه قال: أتمّ الصلاة فی الحرمین وبالکوفة ولم یقل مسجد الکوفة، وما تقدّم من الأخبار فی تضمّن ذکر الحرمین علی الإطلاق، فهی أکثر من أن تحصی، وإذا ثبت أنّ الإتمام فی حرم رسول الله صلی الله علیه وآله هو المستحبّ دون المسجد علی الاختصاص، وإنْ کان قد خصّ فی هذین الخبرین، فکذلک فی مسجد الکوفة، لأنّ أحداً لم یفرّق بین الموضعین، وکذا قال فی الاستبصار»(1).

3 - وذهب إلی ذلک الکیدری فی إصباح الشیعة(2).

4 - وقال فی الذکری: «فهل الإتمام مختصّ بالمساجد نفسها أو یعمّ البلدان؟ ظاهر أکثر الروایات أنّ مکّة والمدینة محلّ لذلک، فعلی هذا یتمّ فی البلدین، أمّا الکوفة ففی مسجدها خاصّة قاله فی المعتبر، والشیخ ظاهره الإتمام فی البلدان الثلاثة» ثمّ نقل قول ابن إدریس والمختلف بالاختصاص إلی خصوص المشهد والمسجد، ثمّ قال: «وقول الشیخ هو الظاهر من الروایات وما فیه ذکر المسجد منها فلشرفه لالتخصیصه»(3).

أقول: ما ذکره من عدم تخصیص البلدان بما ورد بعنوان المساجد، وأنّ ذکر المساجد من بایب الأبرز شرفیّة، وإلّا فالعنوان

ص:424


1- (1) مختلف الشیعة ج 3 ص 135-137.
2- (2) إصباح الشیعة ص 94.
3- (3) الذکری ج 4 ص 291.

العامّ باق علی عمومه بعد کونهما مثبتین استغراقیّین، یتأتّی بعینه - کما ذکر ابن قولویه فی کامل الزیارات والمیرداماد - بین عنوان الأماکن الأربعة وعنوان مشاهد النبیّ صلی الله علیه وآله الذی ذکر خامساًفی الروایات، وکذلک عنوان فضل إکثار الصلاة وزیادة الخیر، فإنّه عنوان یعمّ ما ثبت من الشرع قدسیّته وشرفه وکونه روضة وبقعة من بقاع وریاض الجنّة یستحبّ فیه إکثار الصلاة.

هذا، ثمّ قال فی الذکری: «والشیخ نجیب الدین یحیی بن سعید - فی کتاب السفر له - حکم بالتخییر فی البلدان الأربعة حتّی فی الحائر المقدّس لورود الحدیث بحرم الحسین علیه السلام، وقدّر بخمسة فراسخ وبأربعة وبفرسخ، قال: والکلّ حرم، وإن تفاوتت الفضیلة». وفی الحقیقة أنّ الشهید ارتکز لدیه کلّ من عمومیّة الموضوع - وهو الوجه الأوّل الآتی، وعلیّة شرفیّة المکان وفضیلته - وهو الوجه الثانی الآتی. وقد مر أن هذین الوجهین للتعمیم ذکرهما الشیخ المفید فی المزار الأول والثانی.

5 - وفی مزار المفید فی بابٍ عقده للإتمام فی کربلاء بعنوان «باب فضل الحائر وحرمته وحدّه» ونقل فیه عدّة روایات، ثمّ قال: «وکأنّ أقصی الحرم علی الحدیث الأوّل خمسة فراسخ، وأدناه من المشهد فرسخ، وأشرف الفرسخ ( 25) ذراعاً، وأشرف ( 25) ذراعاً ( 20) ذراعاً، وأشرف العشرون ذراعاً ما شرف به، وهو الجدث نفسه،

ص:425

وشرف الجدث الحالّ فیه صلوات الله علیه»(1).

6 - وفی الدروس: «ویستشفی بترتبه من حریم قبره، وحدّه خمسة فراسخ من أربع جوانبه»(2).

7 - وقال الفیض الکاشانی فی معتصم الشیعة: (ثمّ هاهنا نوع اختلاف بین الأصحاب نشأ من اختلاف الروایات؛ فقیل: إنّه یجوز الإتمام فی مکّة والمدینة وإنْ وقعت الصلاة خارج المسجدین. وقیل: بلْ لا یجوز إلا فیهما.

وأمّا الحرمان الآخران فقیل: إنّ الجواز فیهما مختصّ بمسجد الکوفة والحائر، وهو ما دار سور المشهد والمسجد علیه علی ما قاله ابن إدریس. وقیل: بل یعمّ خارج المسجد والنجف، وخارج الحائر إلی خمسة فراسخ أو أربعة فراسخ أیضاً.

والمعتمد فی الأوّل الأوّل، وفی الأخیر الأخیر - کما علیه الأکثر -، لأنّه المستفاد من الأخبار المعتبرة إن ثبت إطلاق حرم الحسین علیه السلام علی ذلک فی نصّ یعتدّ به، وإلا فیختص فیه خاصّة بالحائر أخذاً بالمتیقّن»(3).

ص:426


1- (1) المزار الباب 61 ص 140.
2- (2) الدروس: ج 2 ص 11.
3- (3) معتصم الشیعة فی أحکام الشریعة: ج 1 ص 164.

8 - وقال المجلسی بعد نقل عبارة النهایة والمبسوط فی توسعة الإتمام للنجف: «وکأنّه نظر إلی أنّ حرم أمیر المؤمنین علیه السلام ما صار محترماً بسببه واحترام الغریّ أکثر من غیره، ولایخلو من وجه یومئ إلیه بعض الأخبار، والأحوط فی غیر المسجد القصر»(1) ، انتهی.

9 - فقد ذهب إلی عدم سقوط النوافل الیومیّة فی الأماکن الأربعة کلّ من الشهید فی الذکری، والسبزواری فی الذخیرة.

10 - وکذلک صاحب الوسائل، بل عمّم صاحب الوسائل عدم سقوطها لکلّ المشاهد المشرّفة، مع أنّ موضوع عدم سقوط النوافل متّحد مع موضوع الإتمام، حیث عنون الباب ( 26) من أبواب صلاة المسافر: «باب استحباب تطوّع المسافر وغیره فی الأماکن الأربعة وفی سائر المشاهد، لیلًا ونهاراً، وکثرة الصلاة بها وإن قصّر فی الفریضة» وفتواه هذه تشیر إلی وجه دلالة الروایات الواردة فی هذا الباب وهو التطوع فی الأماکن الخمسة.

ویتحصل أن من ذهب من الأصحاب الأعلام إلی الإتمام فی مدینة النجف ومرقد أمیرالمؤمنین علیه السلام ما یزید علی إثنی عشر قائل، وذلک بضمیمة من ذهب إلی التعمیم مطلقاً.

ص:427


1- (1) البحار ج 86 ص 88.
ملحق الأقوال:

ذهب الشهید الأول إلی أفضلیة قبور أئمة أهل البیت علیهم السلام فضلًا عن قبر النبی صلی الله علیه وآله علی مکة المکرمة قال فی الدروس: «مکَّة أفضل بقاع الأرض ما عدا موضع قبر رسول الله صلی الله علیه وآله، وروی فی کربلاء علی ساکنها السلام مرجّحات، والأقرب أنّ مواضع قبور الأئمّة علیهم السلام کذلک، أمّا البلدان التی هم بها فمکَّة أفضل منها حتّی من المدینة»(1). وهذا نظیر ما نقله السمهودی فی وفاء الوفاء من إجماع علماء المسلمین بل ضرورتهم علی أفضلیة تراب قبر علیهما السلام» علی الکعبة، بل نقل عن جملة منهم أن عموم حرم المدینة المنورة أفضل من الکعبة المکرمة(2).

تقریب الأدلّة علی التعمیم فی موضوع التخییر:

الوجه الأوّل:

اصطیاد العموم فی الموضوع من الأدلَّة.

الوجه الثانی:

عموم التعلیل (قدسیة المکان) یعمم الموضوع.

الوجه الثالث: تعدد ألسنة الموضوع للإتمام:

ص:428


1- (1) الدروس: ج 1 ص 470 الدرس 118.
2- (2) وفاء الوفاء ج 1: الفصل الأول فی تفضیلها علی غیرها من البلاد.

الوجه الرابع: التنصیص الخاص علی الإتمام عند قبور بقیة الأئمة المعصومین علیهم السلام.

الوجه الخامس: عموم موضوع الإتمام حرم الله وحرم رسوله صلی الله علیه وآله، وحرم أمیر المؤمنین علیه السلام للمشاهد المشرفة.

وهو ما یظهر من أدلّة الإتمام فی الأماکن الأربعة أنّ الموضوع للإتمام هو قدسیّة الموضع الموجبة لتضاعف ثواب الصلاة فیه، فیستحبّ إکثار الصلاة لذلک. والتقریب بعده وجوه:

الوجه الأوّل: اصطیاد العموم فی الموضوع من الأدلَّة:

وهو فضیلة إکثار الصلاة لشرف المکان:

1 - محسّنة إبراهیم بن شیبة، قال: «کتبت إلی أبی جعفر علیه السلام أسأله عن إتمام الصلاة فی الحرمین؟

فکتب إلیَّ: کان رسول الله صلی الله علیه وآله یحبّ إکثار الصلاة فی الحرمین، فأکثر فیهما وأتمّ» (1).

وهذه المحسّنة صریحة الدلالة علی أنّ موضوع الإتمام هو الموضع الذی یستحب فیه إکثار الصلاة لعظم فضیلة الثواب فیه، فعطْف علیه السلام الإتمام فی الحرمین علی ذلک کالتفریع، وابتدأ علیه السلام جواب السؤال

ص:429


1- (1) وسائل الشیعة: أبواب صلاة المسافر ب 25 ح 18.

بتقدیم بیان الموضوع، وهو استحباب إکثار الصلاة، تبیانا لکون هذا العنوان هو أصل الموضوع، فهذا من باب اصطیاد عموم الموضوع لاالتعلیل للحکم کی یردّد فیه بین کونه علّة للحکم أو حکمة له لایتعدّی منها، ومن ثمّ استظهر ابن قولویه والمرتضی وابن الجنید عموم الموضوع، ویلوح ذلک من المفید فی المزار.

والغریب أنّ العلّامة فی المختلف مع اعتراضه علیهم بأنّ هذا قیاس ولانقول به أنّه نفسه قدس سره جعله عنوانا لموضوع إتمام الصلاة فی الأماکن الأربعة رداً علی الصدوق المانع من الإتمام فیها بقوله استدلالًا علیه: «لنا: أنّها مواطن شریفة یستحبّ فیها الإکثار من الطاعات والنوافل، فناسب استحباب إتمام الفرائض»(1).

فالتدافع واضح لدی العلّامة قدس سره ومَن استشکل بذلک، فإنّهم جعلوا موضوع الإتمام ما استظهروه من الروایات وهو شرافة الموطن وکثرة ثواب الصلاة فیه.

نعم، شرافة الموطن بکونه مشهداً شهده نبیّ أو وصیّ نبیّ وصلّیا فیه، وکونه روضة من ریاض الجنّة فی الأرض، کما ورد توصیف الأماکن الأربعة بذلک لامطلق استحباب إکثار الصلاة

ص:430


1- (1) المختلف: ج 3 ص 132.

لأجل طبیعة الصلاة نفسها، کما فی المسجد الجامع لکلّ بلد وإن اکتسبت مزیة لأجله، بل الاستحباب لقدسیّة المکان کما فی قوله تعالی: (وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِیمَ مُصَلًّی) (1) ، وقوله تعالی: (فِی بُیُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ یُذْکَرَ فِیهَا اسْمُهُ یُسَبِّحُ لَهُ فِیها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ ( 36) )(2) ، فالموضوع کلّ موطن شعّر تقدیساً منه تعالی کروضة من ریاض الجنّة.

2 - وکذا صحیح علیّ بن مهزیار، قال: «کتبت إلی أبی جعفر الثانی علیه السلام: إنّ الروایة قد اختلفت عن آبائک علیهم السلام فی الإتمام والتقصیر للصلاة فی الحرمین، فمنها: أن یأمر بتتمیم الصلاة ولو صلاة واحدة، ومنها: أن یأمر بتقصیر الصلاة ما لم ینو مقام عشرة أیّام، ولم أزل علی الإتمام فیهما إلی أن صدرنا من حجّنا فی عامنا هذا، فإنّ فقهاء أصحابنا أشاروا علَیَّ بالتقصیر إذا کنت لاأنوی مقام عشرة، وقد ضقت بذلک حتّی أعرف رأیک.

فکتب بخطّه علیه السلام: قد علمت - یرحمک الله - فضل الصلاة فی الحرمین علی غیرهما، فأنا احبّ لک إذا دخلتهما أن لاتقصّر، وتکثر فیهما من الصلاة.

فقلت له بعد ذلک بسنتین مشافهة: إنّی کتبت إلیک بکذا فأجبت بکذا.

ص:431


1- (1) سورة البقرة: الآیة 125.
2- (2) سورة النور: الآیة 36.

فقال: نعم.

فقلت: أیّ شیء تعنی بالحرمین؟

فقال: مکّة والمدینة...» الحدیث(1).

وتقریب الدلالة فی هذه الصحیحة من جهتین:

الاولی: صدر جوابه علیه السلام - حیث قال علیه السلام: «فضل الصلاة فی الحرمین علی غیرهما» - بمثابة بیان الموضوع للإتمام، ولم یورد علیه السلام أیّ لفظ للتعلیل، فالدلالة من باب اصطیاد العموم (عموم الموضوع) من سیاق الجواب، وسیأتی أنّ التخصیص بالحرمین من باب أبرز الأفراد، وإلّا فقد ورد فی الروایات ذکر الثلاثة، وذکر الأربعة، وذکر مکّة فقط، وفی لسان آخر ذکر خمسة بضمیمة مشاهد النبیّ صلی الله علیه وآله کما سیأتی.

الثانیة: قوله علیه السلام: «إذا دخلتهما أن لا تقصّر، وتکثر فیهما من الصلاة»، فهذا بیان لتلازم إکثار الصلاة مع الإتمام فی الموضوع، وهو کلّ موضع شریف ومقدّس - کما استظهر ذلک جملة من المتقدّمین ارتکازاً، کابن بابویه وابن قولویه والمرتضی وابن الجنیدوالمفید فی المزار - یستحبّ فیه إکثار الصلاة لأجل شرافته یرجح فیه إتمام الصلاة فی السفر؛ لأنّ الموضع لیس موضعاً تنقص فیه الصلاة، بل یستحبّ

ص:432


1- (1) الوسائل: أبواب صلاة المسافر: ب 25 ح 4. عن التهذیب ج 5 ص 429 رقم الحدیث ( 1487).

إکثارها، ویدعم ذلک ما سیأتی فی المؤیّدات والشواهد من جعل ثواب کلّ رکعة فریضة عند الحسین علیه السلام بمنزلة ثواب حجّة، وثواب کلّ رکعة نافلة بمنزلة ثواب عمرة، وهذا الثواب بعینه قد قرّر فی الصلاة عند بقیّة المعصومین علیهم السلام.

ثمّ إنّ فی هذه الصحیحة عدّة فوائد لبحث المقام:

الفائدة الاولی: أنّ هذه الصحیحة نصّ فی تعمیم الإتمام فی کلّ المدینة وکلّ مکّة، ولیس خصوص المسجدین، لأنّه علیه السلام مع ذکره عنوان الحرمین فی جوابه الأوّل، إلّا أنّه فسّرهما فی جوابه الثانی بمکّة والمدینة دون خصوص عنوان المسجدین، ممّا یدلّ علی أنّ ما ورد فی ألسن الروایات من اختلاف، سواءً فی العدد أو المساحة، من باب تعدّد مراتب الفضیلة لاالحصر.

الفائدة الثانیة: أنّ الصحیحة حاکمة فی جهة الصدور علی الروایات المتعارضة فی الظاهر، ونظیر حکومة هذه الروایة جهتیّاً حکومة مصحّح عبدالرحمن بن الحجّاج(1) الناظر إلی الطائفتین جهتیّاً، فلامعنی لترجیح روایات القصر جهة علی روایات الإتمام، مع أنّه لامعنی للتقیّة فی الإتمام عند قبر الحسین علیه السلام.

الفائدة الثالثة: أنّه مع جعل موضوع الإتمام فضیلة إکثار

ص:433


1- (1) الوسائل: أبواب صلاة المسافر: ب 25، ح 6.

الصلاة، إلّا أنّه قد ورد فی الحرم المکّی والمدنی عدم استواء الفضیلة فی کلّ مواضعهما:

کصحیحة أبی عبیدة، قال: «قلت لأبی عبدالله علیه السلام: الصلاة فی الحرم کلّه سواء؟

فقال: یا أبا عبیدة، ما الصلاة فی المسجد الحرام کلّه سواء، فکیف یکون فی الحرم کلّه سواء.

قلت: فأی بقاعه أفضل؟

قال: ما بین الباب إلی الحجر الأسود» (1).

ومثله موثّقة الحسن بن الجهم، قال: «سألت أبا الحسن الرضا علیه السلام عن أفضل موضع فی المسجد یصلّی فیه؟ قال: الحطیم ما بین الحَجَر وباب البیت.

قلت: والذی یلی ذلک فی الفضل؟ فذکر: أنّه عند مقام إبراهیم.

قلت: ثمّ الذی یلیه فی الفضل؟ قال: فی الحِجر. قلت: ثمّ الذی یلی ذلک؟ قال: کلّ ما دنا من البیت» (2).

وغیرها من الروایات فی هذا الباب أیضاً.

ص:434


1- (1) الوسائل: أبواب أحکام المساجد: ب 53 ح 5.
2- (2) الوسائل: أبواب أحکام المساجد: ب 53 ح 2.

بل قد ورد أنّ فضیلة الصلاة فی المسجد الحرام تعدل ألف ضعف الصلاة فی مسجد الرسول صلی الله علیه وآله کما فی مرسلة الصدوق(1) ، وفی موثقة مسعدة عشرة أضعاف(2) ، کما قد ورد أنّ الصلاة فی بیت فاطمة علیها السلام أفضل من الصلاة فی الروضة(3).

وهذا یقرب أنّ درجات الفضیلة - مع اختلافها بعد قدسیّة المقام وشرافته - مندرجة فی الموضوع العامّ، وأنّ التعمیم لکلّ الحرم المکّی والحرم المدنی قرینة علی عموم الموضوع بما یشمل مراقد المعصومین علیهم السلام.

3 - معتبرة أبی شبل (عبدالله بن سعید الأسدی)، قال: «قلت لأبی عبدالله علیه السلام: أزور قبر الحسین علیه السلام؟ قال: زر الطیّب، وأتمّ الصلاة عنده.

قلت: اتمّ الصلاة؟! قال: أتمّ.

قلت: بعض أصحابنا یری التقصیر؟ قال: إنّما یفعل ذلک الضعفة» (4).

ولا یخفی دلالة الروایة علی أنّ موضوع التمام قداسة المکان بقدسیّة المکین، وهی تومئ إلی عموم الموضوع، کما أنّها تشیر إلی قید آخر فی الموضوع، وهو کلّ مکان مقدّس تشدّ إلیه الرحال.

ص:435


1- (1) الوسائل: أبواب أحکام المساجد: ب 52 ح 3.
2- (2) الوسائل: أبواب أحکام المساجد: ب 52 ح 5.
3- (3) الوسائل: أبواب أحکام المساجد: ب 59 ح 1 وح 2.
4- (4) الوسائل: أبواب صلاة المسافر: ب 25 ح 12.

وقد عقد ابن قولویه أستاذ الشیخ المفید فی کامل الزیارات بابین فی التعمیم لکلّ مشاهد الأئمّة علیهم السلام وهما الباب ( 81) والباب ( 82)، وباباً خاصّاً وهو الباب ( 83) لفضیلة صلاة الفریضة عند الحسین علیه السلام، وأنّها تعدل حجّة، وأنّ النافلة تعدل عمرة، والباب ( 81) عقد بعنوان «التقصیر فی الفریضة والرخصة فی التطوّع عنده وجمیع المشاهد»، والباب ( 82) عقده بعنوان «التمام عند قبر الحسین وجمیع المشاهد» وعلّق العلّامة الأمینی - حیث صحّح کامل الزیارات - علی فتوی ابن قولویه فی عنوان الباب ( 82) بتعمیم الإتمام لجمیع المشاهد بقوله: «لیس فی أخبار الباب ما یدلّ علی الإتمام فی غیر المواطن الأربعة، فالتعبیر بجمیع المشاهد لاوجه له» وقد أوّل البعض کلام ابن قولویه بإرادة المواطن الأربعة من المشاهد، وهو خلاف شدید للظاهر، لأنّه فی الباب السابق أورد روایات بلفظ «مشاهد النبیّ صلی الله علیه وآله» فی قبال المسجدین والحرمین وقبر الحسین علیه السلام، وأضاف المشاهد إلی النبیّ صلی الله علیه وآله.

وسنذکر فی روایات الإتمام فی الفریضة عدّة من الروایات الصحاح والموثّقات المشتملة علی لفظ (مشاهد النبیّ صلی الله علیه وآله فی قبال المواطن الأربعة فی الوجه الثالث الآتی.

4 - وقد روی فی کامل الزیارات بسنده عن أبی علیّ الحرّانی، قال: «قلت لأبی عبدالله علیه السلام: ما لمَن زار قبر الحسین؟ قال: مَن أتاه وزاره وصلّی عنده رکعتین أو أربع رکعات کتب الله له حجّة وعمرة.

ص:436

قال: قلت: جُعلت فداک، وکذلک لکلّ مَن أتی قبر إمام مفترض الطاعة؟

قال: وکذلک لکلّ مَن أتی قبر إمام مفترض الطاعة» (1).

ورواه الشیخ المفید فی المزار عن أبی القاسم قال: حدثنی علی بن الحسین رحمه الله، عن محمد بن یحیی العطار، عن محمد بن أحمد، قال: وحدثنی محمد بن الحسین بن مت الجوهری، عن محمد بن أحمد، عن هارون بن مسلم، عن أبی علی الحرانی قال: «قلت لأبی عبدالله علیه السلام: ما لمن زار قبر الحسین صلوات الله علیه؟

قال: من أتاه وزاره وصلی عنده رکعتین أو أربع رکعات کتبت له حجة وعمرة.

قال: قلت له: جعلت فداک، وکذلک لکل من أتی قبر إمام مفترضة طاعته؟ قال: نعم» (2).

ورواه بطریق ثالث عن الشریف أبی عبدالله محمد بن محمد بن طاهر الموسوی، عن أحمد بن محمد بن سعید - ابن عقدة - قال: أخبرنی أحمد بن یوسف قال: حدثنا هارون بن مسلم قال حدثنی أبو عبد الله الحرانی قال: قلت لأبی عبد الله علیه السلام(3). الحدیث.

ص:437


1- (1) کامل الزیارات: ب 83 ح 3 ص 265.
2- (2) المزار الأول (الکبیر) ب 59 ح 3 ص 117-118.
3- (3) المزار الثانی (الصغیر) ب 11 ح 3 ص 160.

ورواها بطریق موثّق الطوسی فی التهذیب بسنده عن أحمد بن محمّد بن سعید، قال: أخبرنا أحمد بن یوسف، قال: حدّثنا هارون بن مسلم، عن أبی عبدالله الحرّانی - ولعله عیسی بن راشد - ومتنه کما فی نسخة التهذیب - قال: «قلت لأبی عبدالله علیه السلام: ما لمَن زار قبر الحسین علیه السلام؟

قال: مَن أتاه وزاره وصلّی عنده رکعتین کُتب له حجّة مبرورة، فإن صلّی عنده أربع رکعات کُتبت له حجّة وعمرة.

قلت: جُعلت فداک، وکذلک لکلّ مَن زار إماماً مفترضة طاعته؟

قال: وکذلک لکلّ مَن زار إماماً مفترضة طاعته» (1).

ورواه المشهدی فی المزار الکبیر بالاسناد عن أحمد بن محمد بن سعید بن عقدة، قال: أخبرنا أحمد بن یوسف، قال: حدثنا هارون بن مسلم، قال: حدثنی أبو عبد الله الحرانی، قال: قلت لأبی عبد الله علیه السلام(2). الحدیث.

وأبو علی الحرّانی قد روی عنه ابن أبی عمیر بسند صحیح فی الفقیه(3). وقال عنه النجاشی: «أبو علی الحرانی، ابن بطة عن أحمد بن محمد بن خالد عنه أبیه عن أبی علی بکتابه» وقال الشیخ: «أبو علی

ص:438


1- (1) التهذیب ج 6 کتاب المزار ب 26 ح 4 ص 79.
2- (2) المزار الکبیر للمشهدی القسم الأول الباب الأول ح 16 ص 39.
3- (3) من لا یحضره الفقیه ج 1 ص 408 ح 1217.

الحرانی له کتاب رویناه بهذا الإسناد عن أحمد بن أبی عبد الله عنه» ویرید بهذا الإسناد: (عدة من أصحابنا عن أبی المفضل عن ابن بطة عن أحمد بن أبی عبد الله) فظهر من ذلک أنه صاحب کتاب رواه الأصحاب وروی عنه ابن أبی عمیر الذی لا یروی إلا عن الثقات، کما روی عنه الثقة الجلیل هارون بن مسلم والطرق مستفیضة إلی هارون بن مسلم. فطریق الروایة مصحح.

5 - صحیحة معاویة بن عمار عن أبی عبدالله علیه السلام قال: سأله ابن أبی یعفور کم أصلی؟ فقال: صل ثمان رکعات عند زوال الشمس فان رسول الله صلی الله علیه وآله قال: الصلاة فی مسجدی کألف فی غیره إلا المسجد الحرام فان الصلاة فی المسجد الحرام تعدل ألف صلاة فی مسجدی)(1).

وهذه الصحیحة صریحة فی مشروعیة نوافل الظهر - التی تتحد موضوعا مع الإتمام - للمسافر فی مسجد النبی صلی الله علیه وآله والتعلیل بفضیلة المکان یعنی عموم موضوع الإتمام لکل مکان ذی فضیلة وشرف یستحب فیه إکثار الصلاة.

ثم إنَّ هناک ملحقا لهذا الوجه الأوَّل لتبیان مزید دلائل موضحة لعموم الموضوع.

ص:439


1- (1) الوسائل: أبواب أحکام المساجد: ب 57 ح 6.
الوجه الثانی: عموم التعلیل (قدسیة المکان) یعمم الموضوع:
اشارة

تضمنت جملة من الروایات الواردة فی الإتمام فی المواطن الأربعة تعلیل الإتمام بأنه زیادة خیر - أی: ثواب - وکذلک قد تضمنت ذلک التعلیل الروایات الآمرة بإکثار التطوّع وهو صلاة النافلة فی المواطن الأربعة وإن قصّر فی الفریضة ولم یقم:

1 - محسنة عمران بن حمران، قال: «قلت لأبی الحسن علیه السلام: اقصّر فی المسجد الحرام أو اتمّ؟

قال: إن قصّرت فلک، وإن أتممت فهو خیر، وزیادة الخیر خیر» (1).

2 - صحیح الحسین بن المختارعن أبی إبراهیم علیه السلام، قال: «قلت له: إنّا إذا دخلنا مکّة والمدینة نتمّ أو نقصّر؟

قال: إن قصّرت فذلک، وان أتممت فهو خیر تزداد» (2).

3 - التعلیل بالخیریّة الوارد فی جملة روایات(3) التطوّع فی الأماکن الأربعة الآتی الإشارة إلی بعضها.

4 - التعلیل لفضیلة الحرمین والمسجدین بأنّه قد صلّی فیهما

ص:440


1- (1) الوسائل: أبواب صلاة المسافر: ب 25 ح 11.
2- (2) الوسائل: أبواب صلاة المسافر: ب 25 ح 16.
3- (3) الوسائل: أبواب صلاة المسافر: ب 26.

الأنبیاء وإضافة الروضة إلی النبیّ صلی الله علیه وآله وإلی فاطمة علیها السلام، وهذا من قبیل علّة العلّة وتعلیل التعلیل، أی تعلیل الإتمام بفضیلة المسجدین والحرمین، ثمّ تعلیل فضیلتهما بأنّ الأنبیاء قد صلّوا فیهما أو إضافتهما لأهل البیت علیهم السلام.

ویدلّ علی ذلک:

أ - مصحّحة ابن أبی عمیر، عن بعض أصحابنا، عن أبی عبدالله علیه السلام، قال: «قال رسول الله صلی الله علیه وآله: ما بین قبری ومنبری روضة من ریاض الجنّة، ومنبری علی تُرعة من تُرع الجنّة، لأنّ قبر فاطمة علیها السلام بین قبره ومنبره، وقبرها روضة من ریاض الجنّة، وإلیه تُرعة من تُرع الجنّة»(1).

وفی هذا المصحّح تعلیل لفضیلة المسجد النبویّ، بل لأفضل موضع منه بکونه موضع قبر فاطمة علیها السلام.

ب - صحیحة أبی عبیدة، عن أبی جعفر علیه السلام، قال: «مسجد کوفان روضة من ریاض الجنّة، صلّی فیه ألف نبیّ وسبعون نبیّاً، ومیمنته رحمة، ومیسرته مکر، فیه عصا موسی، وشجرة یقطین، وخاتم سلیمان، ومنه فار التنّور ونجرت السفینة وهی صرّة بابل، ومجمع الأنبیاء»(2).

وظاهر الصحیحة أنّه علّل فضیلته بأنّه روضة من ریاض الجنّة و

ص:441


1- (1) الوسائل: أبواب المزار: ب 18 ح 5.
2- (2) الوسائل: أبواب أحکام المساجد: ب 44 ح 1.

(أنّه قد صلّی فیه الأنبیاء).

ج - وفی روایة أبی بصیر، عن أبی عبدالله علیه السلام: «نعم، المسجد مسجد الکوفة، صلّی فیه ألف نبیّ وألف وصیّ»(1).

د - وفی معتبرة هارون بن خارجة عن أبی عبدالله علیه السلام تعلیل فضله: «وتدری ما فضل ذلک الموضع؟ ما من عبد صالح ولانبیّ، إلّا وقد صلّی فی مسجد کوفان، حتّی إنّ رسول الله لمّا أسری الله به... ثمّ ذکر علیه السلام صلاة رسول الله صلی الله علیه وآله فی المسجد»(2).

ه -- وفی روایة لأبی حمزة الثمالی: «أنّ علیّ بن الحسین أتی مسجد الکوفة عمداً من المدینة فصلّی فیه رکعات، ثمّ عاد حتّی رکب راحلته وأخذ الطریق»(3).

و - وفی محسنة أبی بکر الحضرمی عن أبی جعفر الباقر علیه السلام، قال: «قلت له: أی البقاع أفضل بعد حرم الله وحرم رسوله؟

قال: الکوفة - یا أبا بکر - هی الزکیّة الطاهرة، فیها قبور النبیّین والمرسلین وغیر المرسلین والأوصیاء الصادقین، وفیها مسجد سهیل الذی لم یبعث الله نبیّاً إلّا وقد صلّی فیه» (4).

ص:442


1- (1) الوسائل: أبواب أحکام المساجد: ب 44 ح 2.
2- (2) الوسائل: أبواب أحکام المساجد: ب 44 ح 3.
3- (3) الوسائل: أبواب أحکام المساجد: ب 44 ح 6.
4- (4) الوسائل: أبواب أحکام المساجد: ب 44 ح 10.

وفی هذه الروایة دلالة علی قدسیة کل الکوفة لا خصوص مسجدها ومسجد السهلة.

ز - ما رواه ابن طاووس فی فرحة الغریّ بسند متّصل عن أبی اسامة، عن أبی عبدالله علیه السلام، قال: «سمعته یقول: الکوفة روضة من ریاض الجنّة، فیها قبر نوح وإبراهیم، وقبور ثلاثمائة نبیّ وسبعین نبیّاً وستّمائة وصیّ، وقبر سیّد الأوصیاء وأمیر المؤمنین علیه السلام»(1).

وفی هذه الروایة إطلاق الکوفة وشمولها لکل النجف الأشرف.

فذلکة فی التعلیل:

وظاهر تلک الروایة تعلیل فضیلة الکوفة وشرفها وقدسیّتها بکونها روضة من ریاض الجنّة، ولایخفی أنّ التعلیل فی هذه الروایة - بل فی ما تقدم - هو فی سیاق بیان علّة الحکم لاعلّة وجود عنوان تکوینی للکوفة أو للمسجد الحرام أو للحرم النبویّ، بل فی صدد بیان علّة موضوعیّة الموضوع للحکم، وقد بنی المحقّق النائینی فی الفرق بین علّة الحکم وحکمته أنّ کلّ عنوان یدرک العرف وجوده وموارد تواجده، ویفهم عرفاً ویکون صالحاً لدیهم کضابطة، فإنّه یکون من قبیل علّة الحکم، أی الموضوع الأصلی لذلک الحکم، وأنّ ما بیّن من عنوان آخر للموضوع فإنّه من أفراده ومصادیقه.

ص:443


1- (1) الوسائل: أبواب المزار: ب 27 ج 6.

وهذا التقریب مطّرد فی کلّ روایات هذا الوجه الثانی.

ثمّ إنّ فی الروایة فائدة اخری، وهی تعلیل کون الکوفة روضة من ریاض الجنّة، أی تعلیل عنوان الروضة بأنّ فیها قبر الأنبیاء والأوصیاء ممّا یفید أنّ قبورهم علیهم السلام کلّها روضة من ریاض الجنّة فی الأرض.

ثمّ إنّ الروایة أبدت تمییزاً خاصّاً لقبر سیّد الأوصیاء، کما هو الحال فی روایات ذلک الباب الذی عقده صاحب الوسائل فی أبواب المزار الباب ( 27).

وممّا یشیر إلی ما ذکرناه من تقریب التعلیل ما استدلّ به العلّامة الحلّی فی منتهی المطلب وفی المختلف لردّ قول الصدوق المانع من الإتمام فی الأماکن الأربعة، قال فی المختلف: «منع الصدوق من الإتمام فی هذه المواطن... وتبعه ابن البرّاج، والمشهور استحباب الإتمام. اختاره الشیخ والسیّد المرتضی وابن الجنید وابن إدریس وابن حمزة.

لنا: أنّها مواطن شریفة یستحبّ فیها الإکثار من الطاعات والنوافل، فناسب استحباب إتمام الفرائض» (1).

وذکر نفس العبارة فی المنتهی فی مقام الردّ علی الصدوق.

وفی التنقیح الرائع للسیوری قوّی قول المشهور علی قول الصدوق بالمنع فی الأماکن الأربعة، بقوله: «والأقوی قول الأصحاب، لأنّها

ص:444


1- (1) مختلف الشیعة: ج 3 ص 131-132.

أماکن شریفة، فناسب کثرة الطاعات فیها، ولروایات کثیرة بذلک... ثمّ إنّ السیّد وابن الجنید جعلا مجموع المشاهد داخلة فی هذا الحکم، والفتوی علی خلافه» (1).

وظاهر کلامه یعطی توقّفه فی التعمیم من دون جزم بالنفی.

وقال الشهید الثانی فی حاشیة الشرائع فی شرح قوله: «ولو صلّی واحدة بنیّة التمام لم یرجع... قال: المراد صلّی رباعیّة بنیّة التمام، واحترز بالنیّة عمّا لو صلّاها لشرف البقعة کأحد المواطن الأربعة»(2).

5 - ما ورد فی فضل مسجد الغدیر ففی صحیحة عبد الرحمان بن الحجاج قال: سألت أبا إبراهیم علیه السلام عن الصلاة فی مسجد غدیر خم بالنهار وأنا مسافر، فقال: «صل فیه فان فیه فضلا، وقد کان أبی علیه السلام یأمر بذلک»(3).

وفی صحیحة أبان عن أبی عبد الله علیه السلام قال: «إنه تستحب الصلاة فی مسجد الغدیر لأنَّ النبی صلی الله علیه وآله أقام فیه أمیر المؤمنین علیه السلام، وهو موضع أظهر الله عَزَّ وَجَلَّ فیه الحق»(4). فإن التعلیل فیهما لعدم سقوط النوافل النهاریة للمسافر بأن فیه فضلا إشارة إلی عموم الموضوع الذی جعل

ص:445


1- (1) التنقیح الرائع: ج 1 ص 291.
2- (2) حاشیة الشرائع: ص 143.
3- (3) الوسائل: أبواب أحکام المساجد ب 61 ح 2.
4- (4) الوسائل: أبواب أحکام المساجد ب 61 ح 3.

لعدم سقوط النوافل النهاریة، وهو متحد مع موضوع الإتمام فی الفریضة فی السفر، هذا إن لم یکن عنوان الصلاة فیهما عام ظهورا للفریضة، ومثله التعلیل بأن فیه ظهر الحق.

الوجه الثالث: تعدِّد ألسنة الموضوع للإتمام الواردة فی الروایات عدداً وعنواناً شاهد علی عموم الموضوع:
إختلاف الألسنة فی عدد المواطن:

بعضها اقتصر علی الحرم المکّی، کصحیح معاویة بن عمّار(1).

وبعضها اقتصر علی الحرمین، کموثّق مسمع عن أبی إبراهیم علیه السلام، قال: «کان أبی یری لهذین الحرمین ما لایراه لغیرهما، ویقول: إنّ الإتمام فیهما من الأمر المذخور»(2).

مع أنّ لسانه یوهم الحصر فی الاثنین دون غیرهما، ومع ذلک رفع الید عنه بدلالة ما دلّ علی غیره، ومنه نرفع الید عن الأربع أو الثلاث بما دلّ علی عموم الموضوع لکلّ موضع مقدّس بدلالة من الشرع علیه استحبّ فیه إکثار الصلاة والعبادة، کما هو مفاد الآیتین: (فِی بُیُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ) (أی تعظم) (وَ یُذْکَرَ فِیهَا اسْمُهُ) (أی یتعبد

ص:446


1- (1) الوسائل: أبواب صلاة المسافر: ب 25 ح 3.
2- (2) الوسائل: أبواب صلاة المسافر: ب 25 ح 2.

إلیه) (یُسَبِّحُ لَهُ فِیها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ) وکذلک قوله تعالی: (وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِیمَ مُصَلًّی) ، وکذا صحیح علیّ بن مهزیار(1) المتقدم اقتصر علی الاثنین.

وبعضها اقتصر علی الثلاثة الحرمین وعند قبر الحسین علیه السلام أو مسجد الکوفة دون قبر الحسین علیه السلام بلفظ: (ثلاثة مواطن)، وبعضها اشتمل علی الأربعة.

ویستفاد من ذلک أنّ عنوان الأربعة الوارد فی الأدلّة لیس للتحدید، بل من باب أبرز المصادیق والأفراد.

اللسانان الآخران: المشاهد ومشاهد النبی صلی الله علیه وآله:

ومن ثمّ ورد فی روایات التطوّع والنوافل فی الأماکن الأربعة لسان وعنوان خامس وهو مشاهد النبیّ صلی الله علیه وآله (2) وهو عنوان آخر غیر البلدان الأربعة، کما قرّب ذلک عدة من القدماء وبعض المتأخرین کالمیر داماد.

وسنذکر التلازم بین موضوعی التطوع النهاری والإتمام فی الصلاة کما هو مفاد مصححة أبی یحیی الحناط قال: سألت أبا عبد الله علیه السلام عن صلاة النافلة بالنهار فی السفر فقال: «یا بنی لو صلحت

ص:447


1- (1) الوسائل: أبواب صلاة المسافر: ب 25 ح 4.
2- (2) الوسائل: أبواب صلاة المسافر: ب 26.

النافلة فی السفر تمت الفریضة» (1).

1 - صحیحة ابن أبی عمیر، عن أبی الحسن علیه السلام، قال: «سألته عن التطوّع عند قبر الحسین علیه السلام وبمکّة والمدینة وأنا مقصّر؟

فقال: تطوّع عنده وأنت مقصّر ما شئت، وفی المسجد الحرام، وفی مسجد الرسول، وفی مشاهد النبیّ صلی الله علیه وآله، فإنّه خیر» (2).

فإنّه لا یخفی دلالتها من وجهین:

الأوّل: ما مرّ من التعلیل بأنّ إکثار الصلاة خیر فی الأرض ذات الشرافة والقدس، وهو جزء الموضوع للإتمام.

الثانی: عنوان مشاهد النبیّ صلی الله علیه وآله، فإنّه - کما استظهره جملة من القدماء وعدة من المتأخرین کما مَرَّ - یغایر عنوان المساجد وعنوان البلدان الأربعة، بل هو ناصّ علی شرافة المکان بإضافته للنبیّ صلی الله علیه وآله ویندرج فیه ما اضیف إلی أهل بیته، کما قرّر فی روایات الفریقین الواردة فی أنّ من بیوته بیت علیّ وفاطمة علیها السلام.

2 - روایة علیّ بن أبی حمزة الظاهر روایتها عنه فترة استقامته، فتکون معتبرة، قال: «سألت العبد الصالح علیه السلام عن زیارة قبر الحسین علیه السلام، فقال: ما احبّ لک ترکه.

ص:448


1- (1) الوسائل: أبواب أعداد الفرائض ونوافلها: ب 21 ح 5.
2- (2) الوسائل: أبواب صلاة المسافر: ب 26 ح 2.

قلت: وما تری فی الصلاة عنده وأنا مقصّر؟

قال: صلّ فی المسجد الحرام ما شئت تطوّعاً، وفی مسجد الرسول صلی الله علیه وآله ما شئت تطوّعاً، وعند قبر الحسین علیه السلام، فإنّی احبّ ذلک.

قال: وسألته عن الصلاة بالنهار عند قبر الحسین علیه السلام ومشاهد النبیّ صلی الله علیه وآله والحرمین تطوّعاً ونحن نقصّر؟

فقال: نعم، ما قدرت علیه» (1).

والامتیاز فی دلالة هذه الروایة هو رغم أنّ جوابه علیه السلام الأوّل لم یشتمل علی عنوان مشاهد النبیّ صلی الله علیه وآله إلّا أنّ الراوی ارتکازاً جعله عنواناً مقابلًا للحرمین وفهم واستظهر من لسان الأدلة عموم عنوان الموضوع وجوابه علیه السلام تقریر لهذا الارتکاز، ممّا یدلّ علی إرادة الأرض التی فیها إضافة له صلی الله علیه وآله ممّا حصل مشهداً مهمّاً استحقّ به قدسیّة، وهذا تقریب صریح بالمغایرة بین عنوان المشاهد وعنوان الحرمین والمسجدین، کما تقدّم تقریب ذلک فی صحیحة ابن أبی عمیر.

3 - موثّق إسحاق بن عمّار، عن أبی الحسن علیه السلام، قال: «سألت عن التطوّع عند قبر الحسین علیه السلام ومشاهد النبیّ صلی الله علیه وآله والحرمین والتطوّع فیهنّ بالصلاة ونحن مقصّرون؟ قال: نعم، تطوّع ما قدرت علیه هو خیر»(2).

ص:449


1- (1) الوسائل: أبواب صلاة المسافر: ب 26 ح 1.
2- (2) الوسائل: أبواب صلاة المسافر: ب 26 ح 4.

والتقریب فیه کما مرّ.

4 - ما رواه ابن قولویه صحیحاً عن أبیه، عن سعد بن عبدالله، قال: «سألت أیّوب بن نوح عن تقصیر الصلاة فی هذه المشاهد مکّة والمدینة والکوفة وقبر الحسین علیه السلام، والذی روی فیها، فقال: أنا اقصّر، وکان صفوان یقصّر، وابن أبی عمیر وجمیع أصحابنا یقصّرون»(1).

وهذه الصحیحة وإن کانت فی سیرة الرواة وما ذهب إلیه فقهاء الرواة من مشروعیّة التقصیر أو رجحانه أو تعیّنه حسب محتملات مفادها، إلّا أنّ وجه الاستظهار للمطلوب منها هو تقریر الارتکاز لدی الأصحاب أنّ الأماکن الأربعة من باب مصادیق عنوان المشاهد الذی هو عنوان عامّ لا للحصر فی شخص العناوین الأربعة، فیدعم بقیّة الروایات.

5 - صحیحة عبد الرحمان بن الحجاج قال: سألت أبا إبراهیم علیه السلام عن الصلاة فی مسجد غدیر خم بالنهار وأنا مسافر، فقال: «صل فیه فان فیه فضلا، وقد کان أبی علیه السلام یأمر بذلک»(2).

6 - صحیحة أبان عن أبی عبد الله علیه السلام قال: «إنه تستحب الصلاة فی مسجد الغدیر لأنَّ النبی صلی الله علیه وآله أقام فیه أمیر المؤمنین علیه السلام، وهو موضع أظهر الله عَزَّ وَجَلَّ فیه الحق»(3) فإن التعلیل فیهما بأن النبی صلی الله علیه وآله أقام أمیر

ص:450


1- (1) کامل الزیارات ب 81 ح 9 ص 429.
2- (2) الوسائل: أبواب أحکام المساجد ب 61 ح 2.
3- (3) الوسائل: أبواب أحکام المساجد ب 61 ح 3.

المؤمنین علیه السلام إشارة إلی عنوان مشاهد النبی وأهل بیته (صلوات الله علیهم)، وأن السفر لا یسقط فضیلة صلاة النافلة نهارا فیه، بل عموم طبیعة الصلاة ولو فریضة.

مع أن عبد الرحمن بن الحجاج وهو فقیه قد ارتکز لدیه سببیة السفر لسقوط النفل فی النهار وعدم مشروعیتها فمن ثم استفهم عن عمومیة فضیلة الصلاة فی مسجد الغدیر للمسافر ولو نهارا.

7 - الصدوق فی الفقیه قال: قال رسول الله صلی الله علیه وآله: «من أتی مسجدی مسجد قبا فصلی فیه رکعتین رجع بعمرة»(1).

8 - محسنة عقبة بن خالد قال: «سألت أبا عبدالله علیه السلام إنا نأتی المساجد التی حول المدینة فبأیها أبدأ؟

فقال: ابدأ بقبا فصل فیه وأکثر فإنه أول مسجد صلی فیه رسول الله صلی الله علیه وآله فی هذه العرصة ثم ائت مشربة أم إبراهیم فصل فیها، فإنها مسکن رسول الله صلی الله علیه وآله ومصلاه ثم تأتی مسجد الفضیخ فتصلی فیه فقد صلی فیه نبیک صلی الله علیه وآله، فإذا قضیت هذا الجانب أتیت جانب أحد فبدأت بالمسجد الذی دون الحیرة فصلیت فیه، ثم مررت بقبر حمزة بن عبد المطلب فسلمت علیه، ثم مررت بقبور الشهداء فقمت عندهم فقلت: «السلام علیکم یا أهل الدیار أنتم لنا فرط وإنا بکم لاحقون» ثم تأتی

ص:451


1- (1) الوسائل: أبواب أحکام المساجد ب 60 ح 3.

المسجد الذی فی المکان الواسع إلی جنب الجبل عن یمینک حتی تأتی أحدا فتصلی فیه فعنده خرج النبی صلی الله علیه وآله إلی أحد حین لقی المشرکین فلم یبرحوا حتی حضرت الصلاة فصلی فیه، ثم مر أیضا حتی ترجع فتصلی عند قبور الشهداء ما کتب الله لک ثم امض علی وجهک حتی تأتی مسجد الأحزاب فتصلی فیه وتدعو الله، فإن رسول الله صلی الله علیه وآله دعا فیه یوم الأحزاب وقال: یا صریخ المکروبین، ویا مجیب دعوة المضطرین، ویا مغیث المهمومین اکشف همی وکربی وغمی فقد تری حالی وحال أصحابی» (1).

ولا یخفی دلالة الروایة علی فضیلة إکثار الصلاة فی مشاهد رسول الله صلی الله علیه وآله فی مواضع عدیدة، معللة إستحباب إکثار الصلاة بإرتباط الموضع بالنبی صلی الله علیه وآله کمشهد شهد حدثاً من الأحداث التی مرَّت علی النبی صلی الله علیه وآله وهی تتفاوت فی الفضیلة بحسب عظمة وأهمیة ذلک الحدث الذی مرَّ به.

الوجه الرابع: التنصیص الخاص علی الإتمام عند قبور بقیة الأئمة المعصومین علیهم السلام:
اشارة

1 - روی فی کامل الزیارات فی مصححة أبی علیّ الحرّانی«وهو عیسی بن راشد ظاهراًوقد تقدم الکلام فی توثیق رواة الطریق) قال: قلت لأبی عبدالله علیه السلام: ما لمَن زار قبر الحسین علیه السلام؟

ص:452


1- (1) الوسائل: أبواب المزار: ب 12 ح 2.

قال: مَن أتاه وزاره وصلّی عنده رکعتین أو أربع رکعات کتب الله له حجّة وعمرة.

قال: قلت: جُعلت فداک، وکذلک لکلّ مَن أتی قبر إمام مفترضة طاعته؟

قال: وکذلک لکلّ مَن أتی قبر إمام مفترض طاعته» (1).

تعدّد ألفاظ المتن وتعدّد الطرق:

وقد تقدم جملة من الکلام فی ذلک وأنه قد رواه کل من المفید فی المزارین والطوسی فی التهذیب والمشهدی فی المزار الکبیر، وهذا المتن قد روی بطرق متعدّدة ومستفیضة عن هارون بن مسلم، عن أبی علیّ الحرّانی (الخزاعی)، وهی صحیحة السند.

ومضافاً لماتقدم من الطرق والمصادر فقد رواه ابن طاووس فی مصباح الزائر عن الصادق علیه السلام فی حدیث ومتنه: «أنّ مَن زار إماماً مفترض الطاعة بعد وفاته، وصلّی عنده أربع رکعات کتبت له حجّة وعمرة»(2).

رواه بهذا المتن فی البلد الأمین أیضاً. وهذا المتن رواه - قبل ابن

ص:453


1- (1) کامل الزیارات ب 83 ح 3.
2- (2) الوسائل: أبواب المزار ب 69 ح 10.

طاووس - المفید فی موضع من المزار الثانی (الصغیر) فی الباب: مختصر فضل زیارة العسکریّین علیهما السلام(1) ، وکذلک رواه فی المقنعة تحت عنوان: (باب فضل زیارة أبی الحسن وأبی محمّد علیّ بن محمّد والحسن بن علیّ علیهما السلام: «مَن زار إماماً مفترض الطاعة بعد وفاته وصلّی عنده أربع رکعات کتب الله له حجّة وعمرة»(2).

والمدّعی فی تقریب دلالة الروایة أنّ التردید فیها بین الرکعتین والأربع للتخییر فی الفریضة بین القصر والتمام، اذ کما أنّه یستحبّ عمارة هذه المشاهد المقدّسة بالزیارة یستحبّ مؤکّداً أیضاً إقامة الفرائض والنوافل وإکثار الصلاة فیها، کما هو مفاد قوله تعالی فی معلمیة البیت الحرام أنه لإقامة الصلاة ولتولی ذریة إبراهیم الخلیل علیه السلام وهم النبی وأهل بیته (صلوات الله علیهم أجمعین): (رَبَّنا إِنِّی أَسْکَنْتُ مِنْ ذُرِّیَّتِی بِوادٍ غَیْرِ ذِی زَرْعٍ عِنْدَ بَیْتِکَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِیُقِیمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِی إِلَیْهِمْ) (3).

وعلی هذا التقریر الآتی تفصیله تکون هذه الصحیحة ناصّة علی التخییر فی جمیع مراقد المعصومین علیهم السلام، بینما احتمل المجلسی فی ملاذّ الأخیار أنّ المراد بالصلاة صلاة زیارة کلّ إمام، وأنّ أقلّها رکعتان،

ص:454


1- (1) المزار الثانی (الصغیر) ب 18 ح 2.
2- (2) المقنعة: ج 1 ص 486.
3- (3) سورة إبراهیم: الآیة 37.

والأربع أفضل، ویدفع هذا الاستظهار ما یدل علی التقریر المتقدم من الشواهد التالیة:

فقه ودلالة الروایة:

1 - ما فی مزار المفید، حیث أورد هذه الروایة فی باب (فضل الصلاة فی مشهد الحسین بن علیّ علیهما السلام وقال: «ویجب أن تؤدّی الفرائض بأسرها والنوافل کلّها طول المقام هناک فیه، وأفضل المواضع للصلوات عند رأس الإمام علیه السلام. حدّثنی أبو القاسم جعفر بن محمّد، قال: حدّثنی جعفر بن محمّد بن إبراهیم، عن عبدالله بن نهیک، عن ابن أبی عمیر، عن رجل، عن أبی جعفر علیه السلام، قال: (قال لرجل: یا فلان، ما یمنعک إذا عرضت لک حاجة أن تأتی قبر الحسین فتصلّی عنده أربع رکعات، ثمّ تسأل حاجتک؟ فإنّ الصلاة الفریضة عنده تعدل حجّة وصلاة النافلة عنده تعدل عمرة»(1).

وهذا سند صحیح إلی ابن أبی عمیر.

ولا یخفی أنّ هذه الصحیحة إلی ابن أبی عمیر نصّ فی إرادة الإتمام فی الفریضة من (الأربع رکعات) الواردة فی صحیحة الحرّانی، وأنّ التردید بین الاثنتین والأربع، هو التخییر بین القصر والتمام.

ص:455


1- (1) المزار الأول (الکبیر): ب 59 ح 1.

وقد أورد صحیحة ابن أبی عمیر المصرّحة بإرادة الفریضة من الأربع رکعات ابن قولویه فی کامل الزیارات(1). ورواه فی التهذیب(2) أیضاً.

2 - ما فی معتبرة عبدالله بن سعید الأسدی (أبی شبل)، قال: «قلت لأبی عبدالله علیه السلام: أزور قبر الحسین علیه السلام؟ قال علیه السلام: زر الطیّب، وأتمّ الصلاة عنده. قلت: اتمّ الصلاة؟ قال: أتمّ. قلت: بعض أصحابنا یری التقصیر؟ قال: إنّما یفعل ذلک الضعفة»(3).

وقد رواه کلّ من الکلینی فی الکافی، وابن قولویه فی کامل الزیارات، والشیخ فی التهذیبین.

وهذه الروایة ناصّة علی أنّ شدّ الرحال والسفر إلی قبر الحسین علیه السلام لغایتین:

الاولی: زیارته علیه السلام، والثانیة: إقامة الفریضة عنده، وإتمامها فضل آخر، فکما أنّ إقامة الفریضة فی المسجد الحرام والمسجد النبویّ لها من الفضل العظیم، فکذلک إقامة الفریضة عند الحسین علیه السلام حتّی أنّه قد روی المفید فی المزار، وابن قولویه فی کامل الزیارات أنّ فضیلة کلّ رکعة من الفریضة عند الحسین علیه السلام تعدل ثواب ألف حجّة وألف

ص:456


1- (1) کامل الزیارات: ب 83 ح 1.
2- (2) التهذیب: ج 6 ص 73 ح 141.
3- (3) الوسائل: أبواب صلاة المسافر: ب 25 ح 12.

عمرة، وإعتاق ألف رقبة، وکأنّما وقف فی سبیل الله ألف مرّة مع نبیّ مرسل(1).

فبذلک یظهر أنّ الأمر بالزیارة لقبر المعصوم علیه السلام، والعطف علیه بالأمر بالصلاة عنده المراد منه هو إقامة الفریضة فی الدرجة الاولی، وإتمامها وإتیان النوافل والإکثار من التطوّع فی الدرجة الثانیة، فیکون الظاهر من مصححة الحرّانی من إتیان قبر الحسین علیه السلام وزیارته والصلاة عنده رکعتین أو أربع هو إقامة الزیارة والفریضة نظراً لِعظَم فضیلتها بإقامتها عنده مخیّراً بین التقصیر (رکعتین) والإتمام (أربع).

وما یعزّز هذا الشاهد أنّ إقامة الفریضة عند الحسین علیه السلام أحد الغایات العبادیّة ذات الفضیلة العظمی - مضافاً إلی ما تقدّم - ما أورده ابن قولویه فی الباب الذی عقده الباب ( 83) تحت عنوان: (إنّ الصلاة الفریضة عنده تعدل حجّة، والنافلة عمرة) فقد أورد فی هذا الباب مصحّحة شعیب العقرقوفی، عن أبی عبدالله علیه السلام، قال: «قلت له: مَن أتی قبر الحسین علیه السلام ما له من الثواب والأجر، جُعلت فداک؟ قال: یا شعیب، ما صلّی عنده أحد الصلاة إلّا قَبِلَها الله منه...»(2) الحدیث.

ومفادها صریح فی کون أحد غایات قصد السفر والذهاب إلی قبر الحسین علیه السلام، وشدّ الرحال إلیه، هو إقامة صلاة الفریضة عنده

ص:457


1- (1) کامل الزیارات ب 83 ح 2. المزار الأول للمفید ب 59 ح 2.
2- (2) کامل الزیارات ب 83 ح 4.

وقبولها ببرکته.

3 - إنّه قد نصّ فی جملة من الروایات أنّ ثواب الحجّ والعمرة هو علی التفصیل من أنّ ثواب الحجّة لرکعة الفریضة وثواب العمرة لرکعة النافلة، کما مرّ فی الصحیح إلی ابن أبی عمیر، عن رجل، عن أبی جعفر علیه السلام المتقدّمة(1).

4 - الشاهد الرابع: إنّ لسان ما ورد من الحثّ علی إقامة الصلاة عند قبر الحسین علیه السلام وقبر کلّ إمام مفترض الطاعة، ورد بعنوان (الصلاة عنده) وثواب إقامتها عنده، ومن الواضح أنّ التقیید ب - (عنده) فی تلک الروایات المستفیضة أنّ هذه الصلاة رجحانها لیس من جهة کونها صلاة زیارة، وأنّ صلاة الزیارة مخیّرة بین الرکعتین والأربع فی زیارة کلّ إمام، بل من جهة إقامة هذه الصلاة عند المعصوم، وإقامة الصلاة هذه من حیث هی هی عند المعصوم، وأبرز ذلک صلاة الفریضة والنوافل الیومیّة والنوافل ذات الأسباب.

5 - الشاهد الخامس: أنّ عنوان (الأربع) فی الصلاة باتَ عنواناً للإتمام فی الفریضة، فالأمر بالرکعتین أو بالأربع بلفظة (أو) لسان من ألسنة التخییر بین القصر والإتمام. ویبدو هذا واضحاً لمَن راجع مستفیض الروایات ومتواترها فی أبواب صلاة المسافر، نظیر مرفوعة محمّد بن أحمد بن یحیی، عن بعض أصحابنا، رفعه إلی أبی عبدالله علیه السلام،

ص:458


1- (1) المزار الأول (الکبیر) للمفید: ب 59. ح 1.

قال: «مَن صلّی فی سفره أربع رکعات، فأنا إلی الله منه بریء»(1).

وفی مرسلة الصدوق إسناد هذا القول إلی الرسول صلی الله علیه وآله(2).

کما قد أورد صاحب الوسائل فی الباب ( 17) من أبواب صلاة المسافر عدّة من الأحادیث بلفظ: (مَن صلّی - أو مَن یصلّی - فی السفر أربع رکعات) عنواناً للإتمام وغیرها من أبواب صلاة المسافر، کما قد ورد فی تلک الأبواب أیضاً.

6 - وقدْ روی الصدوق فی ثواب الأعمال بسند متّصل عن أبی النمیر، قال: «قال أبو جعفر علیه السلام: إنّ ولایتنا عرضت علی أهل الأمصار فلم یقبلها قبول أهل الکوفة [شیء]؛ وذلک أنّ قبر أمیر المؤمنین علیه السلام فیه، وإنّ إلی لزقِهِ لقبراً آخر - یعنی قبر الحسین علیه السلام - وما من آت أتاه یصلّی عنده رکعتین أو أربعاً، ثمّ سأل الله حاجته إلّا قضاها له، وإنّه لیحفّه کلّ یوم ألف ملک»(3).

ورواه ابن قولویه فی کامل الزیارات بطریقین: أحدهما عن محمّد بن ناجیه، عن عامر بن کثیر، عن أبی النمیر، وهو غیر طریق الصدوق إلی عامر بن کثیر، عن أبی النمیر، والطریق الآخر لابن قولویه بإسناد معتبر عن الحلبی عن أبی عبدالله علیه السلام.

ص:459


1- (1) الوسائل: أبواب صلاة المسافر: ب 22 ح 8.
2- (2) الوسائل: أبواب صلاة المسافر: ب 22 ح 3.
3- (3) الوسائل: أبواب المزار ب 69 ح 4 وثواب الأعمال ص 114 ح 20.

ومفاد هذه الروایة المعتبرة (بطریقین) خصوصیّة إقامة الصلاة عند قبر أمیر المؤمنین علیه السلام، وأنّه مخیّر بین القصر برکعتین أو الإتمام بالأربع، وأنّ ثوابها قضاء الحاجة. وهذه الروایة مختصّة بفضیلة إقامة الصلاة عند قبر أمیر المؤمنین علیه السلام، والتخییر بین القصر والتمام، کما أنّها دالّة علی أنّ الرکعتین أو الأربع هی التخییر فی الفریضة لاصلاة الزیارة النافلة.

ومتنها بطریق ابن قولویه عن الحلبی أنّ أبا عبدالله قال: «إنّ الله عرض... وإنّ إلی جانبها قبراً لایأتیه مکروب فیصلّی عنده أربع رکعات إلّا رجعه الله مسروراً بقضاء الحاجة»(1).

الوجه الخامس: عموم موضوع الإتمام (حرم الله وحرم رسوله صلی الله علیه وآله، وحرم أمیر المؤمنین علیه السلام للمشاهد المشرفة:

قدْ مرَّ فی الوجه الثالث أن عنوان (المشاهد) و (مشاهد النبی) قدْ ورداً عدیداً فی الروایات، ومضافا إلی ذلک قد ثبت نعت مراقدهم علیهم السلام بأنّها من حرم الله وحرم الرسول، کما ورد فی الزیارات المستفیضة وغیرها، وأنّها من بیوت النبیّ صلی الله علیه وآله، کما مرّت الإشارة إلیه، منها ما ورد فی صحیحة الحسین بن ثویر الواردة فی آداب زیارة الإمام الحسین علیه السلام عن أبی عبد الله علیه السلام: «إذا أتیت أبا عبدالله علیه السلام فاغتسل علی شاطئ الفرات والبس ثیابک الطاهرة، ثم امش حافیا فإنک فی حرم من حرم

ص:460


1- (1) کامل الزیارات ب: 69 ح 4.

الله وحرم رسوله» (1) وحینئذ یندرج فی لسان ما ورد فی إتمام المسافر فی حرم الله وحرم الرسول، ولایشکل بظهورهما فی القضیّة الخارجیّة، وأنّ التنزیل لیس بلحاظ مطلق الآثار، فإنّه یدفع بأنّ ظاهر أدلّة الإدراج أنّها بلحاظ حکم التعظیم والتقدیس والفضیلة، فهی توسعة لعنوان الحرمین، لاسیّما مع ما مرّ فی جملة من الروایات المعتبرة أنّ بیوت النبیّ وأهل بیته أعظم فضیلة من المسجدین، وأنّ أهم أسباب فضیلة المسجد الحرام هی أنّه صلّی فیه الأنبیاء وفیه قبور سبعین نبیّاً أو أکثر فی مواضع متعدّدة حول الکعبة.

ویعضده إطلاق الحرم علی کل مراقدهم فی الروایات، وقد أخذ عنوان الحرم فی روایات الإتمام فی المواطن الأربعة کما فی الباب ( 25) من أبواب صلاة المسافر وهو مشعر بعلیة الحرمیة للإتمام.

ص:461


1- (1) الوسائل: أبواب المزار ب 62 ح 1.

ص:462

الملحقات والتبیهات

اشارة

ملحق الوجه الأول لتبیین عموم الموضوع:

تنبیهات مسألة عموم التخییر وأفضلیة الإتمام فی مشاهد الأئمة علیهم السلام:

ملحق الوجه الأوَّل: لتبیین عموم الموضوع: فضیلة وشرف مشاهد المعصومین:
اشارة

قال الشیخ خضر بن شلّال (تلمیذ العلّامة بحرالعلوم) فی أبواب الجنان فی صدر کتابه تحت عنوان (شرف المشاهد): (والبیت الذی لا ریب أنّ مزید شرفه عند أهل السماوات السبع والأرضین السبع کنار علی علم، کمزید شرف المدینة والنجف الأشرف وکربلاء وسائر المشاهد المشرّفة علی ما عداها عندهم، سیّما ما اشتملت علیه من الروضات التی لاریب أنّها من ریاض الجنّة... (إلی أن قال ما یستفاد منه): ما یستفاد من کثیر من وجوه العقل والنقل من أنّ روضة النبیّ وروضة ابن عمّه والأئمّة المعصومین أفضل من المسجد الحرام

ص:463

الذی قد مرّ أنّ الصلاة فیه بألف صلاة فی مسجد رسول الله صلی الله علیه وآله الذی قد مرّ أنّ الصلاة فی مسجده بعشرة آلاف صلاة، سیّما بعد ملاحظة ما ورد عن الصادق علیه السلام أن المبیت عند علیّ یعدل(1) عبادة سبعمائة عام(2) ، وعند الحسین سبعین عاماً(3) ، وأنّ الصلاة عند علیّ مائتی ألف صلاة.

وعن مولانا الرضا علیه السلام، أنّه قال: «جوار أمیر المؤمنین یوماً خیر من عبادة سبعمائة سنة، وعند الحسین خیر من عبادة سبعین عاماً»، وخصوصاً بعد ملاحظة الاعتبار وتتبّع السیر والآثار، وما جاء فی قبر النبیّ صلی الله علیه وآله والمدینة وقبر فاطمة وقبور الأئمّة المعصومین علیهم السلام ومشاهدهم من مزید الفضل.

ثمّ ذکر فضائل للمدینة المنوّرة والغریّ وکربلاء، ثمّ نقل قول الشهید فی الدروس: (إنّها (أی مکّة) أفضل بقاع الأرض ما عدا موضع قبر رسول الله صلی الله علیه وآله، وروی فی کربلاء مرجّحات، والأقرب أنّ قبور الأئمّة کذلک، أمّا البلدان التی هم بها فمکّة أفضل منها حتّی من المدینة)، انتهی کلام الدروس(4).

ص:464


1- (1) والصحیح کما فی الروایة أفضل کذا عند الحسین علیه السلام.
2- (2) لاحظ کتاب الذریعة للطهرانی فی حرف (میم) فی ترجمة مدینة العلم للصدوق حیث ذکر سنداً عن أحد الأعلام لروایة متضمنة لذلک وقد تضمنت فضل المبیت عند الحسین علیه السلام أیضا أنه أفضل من سبعین عاما أیضا.
3- (3) مضافاً لما تقدم من کتاب الذریعة روی ذلک ابن قولویه فی کامل الزیارات فی بابین بطریقین أن المبیت عند الحسین علیه السلام أفضل من عبادة سبعین عاماً.
4- (4) الدروس الشرعیة ج 1 ص 457 (أفضل بقاع الأرض، وما یستحب فیها).

ثمّ قال الشیخ ابن شلّال شرحاً لکلام الدروس: «کالصریح فی (تفضیل) روضة قبر النبیّ وقبور الأئمّة علی الکعبة الحرام، وفی کلام الأصحاب کقریب من ذلک الذی لایشکّ فیه ذو مسکة، کما لایشکّ فی تفضیل بلدانهم علی مکّه من سائر البلدان، وإن تأمّل فی تفضیلها علی مکّة التی قد یوجد فی الأخبار المتواترة معنی ما یدلّ علی مزید فضل المدینة والنجف الأشرف وسائر بلدان الأئمّة علی مکّة أیضاً، بل علی الکعبة التی قد ورد أنّها تفاخرت مع کربلاء ففخرتها».

ثمّ ذکر جملة من الروایات الدالّة علی تفضیل کربلاء علی مکّة ومزایاها العدیدة، وذکر أنّ حریم قبر الحسین علیه السلام إلی خمسة فراسخ مستشهداً لعدّة من الروایات، ونقل عن المجلسی قدس سره فی البحار عن المصباح أنّ تعدّد حرمة حریم قبر الحسین من ترتّب هذه المواضع فی الفضل.

ثمّ حکاه عن التهذیب، وهو موجود فی المقنعة أیضاً، ثمّ قال: «قلت: والأمر فی ذلک سهل بعد ما عرفت من کون المراد منه ترتّب الفضل الذی لاریب أنّه کلّما قرب من الجدث الشریف کان آکد فی سائر المشاهد التی لایشکّ فی کون روضاتها أفضل من الکعبة الحرام التی لایشکّ فی مزید فضلها وفضل بلادها ومواقعها علی ما عدا المشاهد الشریفة التی قد یعلم من النصوص وکثیر من الوجوه أنّ بلدانها أفضل من سائر البلاد، وإن کان فی تفضیلها علی الکعبة الحرام إشکال لایخلو منه تفضیله علی المسجد الحرام، بل سائر المساجد وإن

ص:465

ورد فی المدینة والنجف وکربلاء والکوفة وغیرها ما ورد من النصوص التی قد تحمل علی خصوص الروضة وما قاربها بأذرع، ولعلّه هو الوجه الجامع بین النصوص التی لاتلتئم إلّا علی تقدیره الذی قد یکون هو المعلوم من مذهب الأصحاب وطریقتهم خلفاً عن سلف، وإن اشتهر من أمثال عصرنا تفضیل کربلاء علی الکعبة الحرام حتّی نقل فی الأشعار، وقال العلّامة الطباطبائی:

وفی حدیث کربلاء والکعبة لکربلاء بان علوِّ الرتبة

وقد لایرید إلّا ما أشرنا إلیه من مزید فضل الروضة الشریفة وما قاربها علی الکعبة وسائر المساجد وغیرها، کما قد لایرید غیر ذلک معظم مَن قد أشرنا إلیه، فلاتغفل وتدبّر فی ما یستفاد من أنّ مثل الصحن الشریف والرواق فی النجف وکربلاء وسائر المشاهد المشرّفة أفضل من سائر المساجد حتّی المسجد الأعظم، بلْ والکعبة الحرام، فضلًا عن خصوص الروضات المشرّفة التی لاینبغی التأمّل فی مزید فضلها وفضل مساکنهم فی أیّام حیاتهم علی کلّ بقعة من بقاع الأرض علی اختلاف فی مراتبها من الفضل الذی لاریب أنّه لرسول الله صلی الله علیه وآله، ثمّ لأخیه علیه السلام، ثمّ لولدیه علیهم السلام، ثمّ لسائر الأئمّة علیهم السلام، ثمّ لسائر الأنبیاء علیهم السلام علی اختلاف مراتبهم أیضاً»(1).

ص:466


1- (1) أبواب الجنان: ص 52-58.

وقال المحقّق السبزواری فی الذخیرة فی الصلاة عند القبور: «ولاریب أنّ الإمامیّة مطبقة علی مخالفة قضیّتین من هذه، إحداهما البناء، والاخری الصلاة فی المشاهد المقدّسة... والأخبار الدالّة علی تعظیم قبورهم وعمارتها وأفضلیّة الصلاة عندها، وهی کثیرة».

وفی العروة قال الیزدی فی فصل مکان المصلی فی الأمکنة المستحبّة: «مسألة 5: یستحبّ الصلاة فی مشاهد الأئمّة (علیهم السلام) وهی البیوت التی أمر الله تعالی أن ترفع ویذکر فیها اسمه، بل هی أفضل من المساجد، بلْ قدْ ورد فی الخبر أنّ الصلاة عند علیّ علیه السلام بمائتی ألف صلاة، وکذا یستحبّ فی روضات الأنبیاء ومقام الأولیاء والصلحاء والعلماء والعباد، بل الأحیاء منهم أیضاً».

آیة بیوت النور:

ثمّ إنّه هناک آیتان متطابقتان مع مفاد أدلّة تعمیم الموضوع للإتمام، وبعبارة أُخری هما واردتان فی بیان الموضوع لحکم الإتمام:

الاولی: وهی الکبری الأصلیّة للموضوع، قوله تعالی: (بُیُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ یُذْکَرَ فِیهَا اسْمُهُ) (1).

وتقریب دلالة الآیة علی تحقق قیود موضوع الإتمام فی جمیع

ص:467


1- (1) سورة النور: الآیة 36.

مشاهد المعصومین علیهم السلام لاخصوص الأماکن الأربعة:

القید الأوّل: کون هذه البیوت هی بیوت المعصومین الأربعة عشر وبیوت الأنبیاء وبعض المساجد العظیمة المقدّسة، وأفضلها بیت النبیّ وبیوت آله.

القید الثانی: تقدیس هذه البیوت، أی تشعیرها مشاعر من قِبله تعالی، کما قرّر هذا القید الشیخ جعفر کاشف الغطاء.

القید الثالث: رجحان إکثار الصلاة ومطلق العبادة وذکر الله فیها.

وبهذا التقریر یندرج مفاد قوله تعالی علی لسان إبراهیم فی سورة إبراهیم تحت هذا المفاد الذی هو کالقاعدة الکلّیّة فی آیة النور، وهو قوله تعالی: (رَبَّنا إِنِّی أَسْکَنْتُ مِنْ ذُرِّیَّتِی بِوادٍ غَیْرِ ذِی زَرْعٍ عِنْدَ بَیْتِکَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِیُقِیمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِی إِلَیْهِمْ ) (1) وکذا قوله تعالی - کما سیأتی -: (وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِیمَ مُصَلًّی) (2).

وأمّا القید الأوّل (3) ، فقد استفاضت روایات أهل البیت علیهم السلام فی أنّ أبرز مصادیق البیوت فی الآیة هی بیوت النبیّ وأهل بیته (صلوات الله علیهم أجمعین)، کما فی مستفیض الزیارات کالجامعة وروایات المعارف، بل قد بسطنا تقریب دلالة آیات النور الثلاث قبلها وبعدها علی

ص:468


1- (1) سور ة إبراهیم: الآیة 37.
2- (2) سورة البقرة: الآیة 125.
3- (3) لاحظ الإمامة الإلهیة ج 4.

إرادة النبیّ وأهل بیته، کما نبّه علی ذلک فی إشارات الروایات، بل ورد فی روایات الفریقین(1) ، کما رواه السیوطی فی ذیل الآیة، وأخرجه عن جمع من المحدّثین المتقدّمین عندهم أنّ سائلًا سأل النبیّ عن هذه البیوت أهی بیوت الأنبیاء؟ فأجاب صلی الله علیه وآله: نعم، فقام أبو بکر وأشار إلی بیت علیّ وفاطمة وقال: أهذا منها؟ فقال النبیّ صلی الله علیه وآله: هو من أفاضلها»(2).

وقد ورد فی مستفیض روایات الزیارات استحباب الاستئذان قبل دخول مشاهدهم، وأفتی بذلک جماعة کثیرة من الأعلام وقد تضمّن لفظ الإستئذان کون المشهد بیتاً من بیوت النبیّ صلی الله علیه وآله، فقد ورد فی بعض نصوص الإستئذان فقرة: «وَقَفْتُ عَلی بابِ بَیْت مِنْ بُیُوتِ نَبِیِّکَ وَآلِ نَبِیِّکَ عَلَیْهِ وَعَلَیْهِمُ السَّلَامُ، وَقَدْ مَنَعْتَ النّاسَ الدُّخولَ إِلَی بُیُوتِهِ إِلَّا بِ - إِذْنِ نَبِیِّکَ صلی الله علیه وآله...».

کما فی المزار الکبیر لابن المشهدی(3). وأیضاً تحت عنوان: الزیارة الاولی الجامعة لسائر المشاهد علی أصحابها أفضل السلام(4) ، وفی زیارة أمیر المؤمنین فی یوم الغدیر(5) ، وفی البلد الأمین(6) ، ومصباح

ص:469


1- (1) صحیح جمیل بن دراج فی الکافی: ج 4 556.
2- (2) الدر المنثور: ذیل الآیة.
3- (3) المزار لابن المشهدی ص 55.
4- (4) المزار لابن المشهدی: ص 555.
5- (5) المزار لابن المشهدی: ص 64.
6- (6) ص 76.

الکفعمی(1) ، ومزار الشهید(2). وذکر السیّد ابن طاووس فی آداب السرداب(3) نقلًا عن نسخة قدیمة من أصحابنا.

وأمّا القید الثانی: وهو تقدیس البیوت وتشعیرها، وقد بسطنا الکلام فی ذلک فی کتابنا الإمامة الإل - هیّة فی التوسّل، وقرّر غیر واحد من الأعلام کالشیخ الکبیر، أنّه یستفاد من الآیة تشعیر مراقد المعصومین علیهم السلام، لاسیّما بضمیمة الأحادیث المستفیضة من الفریقین کالحدیث النبویّ الوارد: «ما بین بیوتی ومنبری روضة من ریاض الجنّة»(4).

وقد فسّر تلک البیوت ببیوته وبیت علیّ وفاطمة وسائر المعصومین علیهم السلام، فلاحظ ثمّت.

أمّا القید الثالث: وهو رجحان إکثار الصلاة، فقد وردت فی ذلک روایات عظیمة الدلالة:

1 - معتبرة یاسر الخادم، عن الرضا علیه السلام: «لاتشدّ الرحال إلی شیء من القبور إلّا إلی قبورنا»(5).

ص:470


1- (1) ص 472.
2- (2) ص 19.
3- (3) نقلناه عن البحار ج 99 ص 83 وص 145.
4- (4) الکافی: ج 4 ص 554. ومسند أحمد ج 4 حدیث عبد الله بن زید بن عاصم ص 39.
5- (5) الوسائل: أبواب المزار ب 84 ح 1.

وفی هذه المعتبرة دلالة واضحة علی أنّ شدّ الرحال هو لزیادة نیل الخیر والفضل فی العبادة، وإکثارها عند قبورهم، وأنّها بمثابة المسجدین اللذین یشدّ إلیهما الرحال لقصد ذلک، فإنّه ورد فی الحدیث: «لاتشدّ الرحال إلّا إلی ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول، ومسجد الکوفة»(1).

وروی مسلم فی صحیحه عن أبی هریرة عن رسول الله صلی الله علیه وآله: «إنما یسافر إلی ثلاثة مساجد، مسجد الکعبة ومسجدی ومسجد إیلیا»(2).

2 - مصحّحة جمیل بن درّاج، قال: «سمعت أبا عبدالله علیه السلام یقول: قال رسول الله صلی الله علیه وآله: ما بین منبری وبیوتی روضة من ریاض الجنّة، ومنبری علی تُرعة من تُرع الجنّة، وصلاة فی مسجدی تعدل عشرة آلاف صلاة فی ما سواه من المساجد، إلّا المسجد الحرام. قال جمیل: قلت له: بیوت النبیّ وبیت علیّ منها؟ قال: نعم، وأفضل»(3).

وتقریب الدلالة فی هذه المصحّحة أنّها ناصّة علی أفضلیّة الصلاة والعبادة فی بیت علیّ وبیت النبیّ وأهل بیته المعصومین علی فضیلة الصلاة فی مسجد النبیّ صلی الله علیه وآله، فهی نصّ فی أنّ ما ورد مستفیضاً فی الحثّ

ص:471


1- (1) مرسلة الصدوق، الوسائل: أبواب أحکام المساجد ب 44 ح 16.
2- (2) صحیح مسلم: ج 2 ص 1015 رقم الحدیث المسلسل ( 1397) کتاب الحج: باب المسجد الذی أسس علی التقوی.
3- (3) الوسائل: أبواب أحکام المساجد: ب 57 ح 4.

علی السفر إلی المسجدین وشدّ الرحال، والحثّ علی إکثار العبادة والصلاة فی مسجد النبیّ بعینه وارد بنحو آکد فی بیوت النبیّ وعلیّ وفاطمة وولدهما علیهم السلام، ومن ثمّ یقرب التطابق مع قول النبیّ فی روایة الفریقین أنّ تلک البیوت هی بیوت الأنبیاء، وأنّ بیت علیّ وفاطمة من أفاضل تلک البیوت.

3 - موثّقة یونس بن یعقوب: «قلت لأبی عبدالله علیه السلام: الصلاة فی بیت فاطمة أفضل أو فی الروضة؟ قال: فی بیت فاطمة» (1).

4 - مصحّحة جمیل بن درّاج: «قلت لأبی عبدالله علیه السلام: الصلاة فی بیت فاطمة مثل الصلاة فی الروضة؟ قال: وأفضل» (2).

ولایخفی أنّ موثّقة یونس صریحة فی أنّ بیوت أهل البیت علیهم السلام کبیت النبیّ صلی الله علیه وآله أعظم فضیلة من الصلاة فی مسجد النبیّ صلی الله علیه وآله، وهذا النصّ ناصّ علی أنّ الفضیلة الواردة فی الصلاة وإکثارها فی مسجد النبیّ هی ثابتة بعینها لبیت النبیّ وبیت علیّ وفاطمة وأهل البیت علیهم السلام.

5 - وروی الکلینی عن الحسین بن محمّد الأشعریّ، قال: حدّثنی شیخ من أصحابنا یقال له عبدالله بن رزین، قال: «کنت مجاوراً بالمدینة مدینة الرسول صلی الله علیه وآله وکان أبو جعفر علیه السلام یجیء فی کلّ یوم مع الزوال إلی

ص:472


1- (1) الوسائل: أبواب أحکام المساجد: ب 59 ح 1.
2- (2) الوسائل: أبواب أحکام المساجد: ب 59 ح 2.

المسجد فینزل فی الصحن ویصیر إلی رسول الله صلی الله علیه وآله ویسلّم علیه ویرجع إلی بیت فاطمة علیها السلام» (1) الحدیث.

6 - مصحّحة ابن أبی عمیرعن بعض أصحابنا المتقدّمة، عن أبی عبدالله علیه السلام قال: «قال رسول الله صلی الله علیه وآله: ما بین قبری ومنبری روضة من ریاض الجنة، ومنبری علی ترعة من ترع الجنة، لان قبر فاطمة علیها السلام بین قبره ومنبره، وقبرها روضة من ریاض الجنة وإلیه ترعة من ترع الجنة»(2).

7 - وروی المجلسی: وجدت بخطّ الشیخ حسین بن عبدالصمد ما هذا لفظه: «ذکر الشیخ أبو الطیّب الحسین بن أحمد الفقیه: مَن زار الرضا علیه السلام أو واحداً من الأئمّة علیهم السلام فصلّی عنده صلاة جعفر، فإنّه یکتب له بکلّ رکعة ثواب من حجّ ألف حجّة، واعتمر ألف عمرة، وأعتق ألف رقبة، ووقف ألف وقفة فی سبیل الله مع نبیّ مرسل، وله بکلّ خطوة ثواب مائة حجّة، ومائة عمرة، وعتق مائة رقبة فی سبیل الله، وکتب له مائة حسنة، وحطّ منه مائة سیّئة»(3).

8 - روایة أبی عامر واعظ أهل الحجاز، عن الصادق علیه السلام، عن أبیه، عن جدّه علیهم السلام، قال: «قال رسول الله صلی الله علیه وآله لعلیّ علیه السلام: إنّ الله جعل قبرک وقبور ولدک بقاعاً من بقاع الجنّة، وعرصة من عرصاتها، وإنّ الله

ص:473


1- (1) الکافی: ج 1 ص 493، باب مولد أبی جعفر محمد بن علی الثانی.
2- (2) الوسائل: أبواب المزار: ب 18 ح 5.
3- (3) البحار: ج 97 ص 137 کتاب المزار ب 3 آداب الزیارة وأحکام الروضات ح 25.

جعل قلوب نجباء من خلقه... فیعمرون قبورکم، ویکثرون زیارتها تقرّباً منهم إلی الله، ومودة منهم لرسوله...» الحدیث(1).

ولا یخفی أنّ الروایة متعرّضة لکلا القیدین فی الموضوع، کون قبورهم من ریاض الجنّة مقدّسة، واستحباب شدّ الرحال إلیها لعمارتها بالعبادة وکثرة الطاعة والصلاة.

9 - موثّقة الحسن بن علیّ بن الفضّال التی رواها الصدوق والطوسی عن أبی الحسن الرضا علیه السلام: «إنّ بخراسان لبقعة یأتی علیها زمان تصیر مختلف الملائکة، فقال فلایزال فوج ینزل من السماء وفوج یصعد إلی أن ینفخ فی الصور. وقیل له: یا ابن رسول الله، وأیّة بقعة هذه؟ قال: هی بأرض طوس، فهی والله روضة من ریاض الجنّة، مَن زارنی فی تلک البقعة کان کمَن زار رسول الله، وکتب الله تبارک وتعالی له ثواب ألف حجّة مبرورة، وألف عمرة مقبولة، وکنت أنا وآبائی شفعاءه یوم القیامة» (2).

10 - روی الصدوق فی الأمالی والعیون بطریقین مختلفین حسن کالصحیح عن الصقر بن دلف، قال: «سمعت سیّدی علیّ بن محمّد بن علیّ الرضا علیهم السلام یقول: مَن کانت له إلی الله عزّ وجلّ حاجة فلیزر

ص:474


1- (1) الوسائل: أبواب المزار: ب 26 ح 1.
2- (2) الفقیه ج 2 ص 585 والتهذیب ج 6 ص 108 وأمالی الصدوق المجلس 15 ص 36 والعیون ج 2 ص 256.

قبر جدّی الرضا علیه السلام بطوس، وهو علی غسل، ولیصلِّ عند رأسه رکعتین، ولیسأل الله تعالی حاجته فی قنوته، فإنّه یستجیب له ما لم یسأل مأثم وقطیعة رحم، فإنّ موضع قبره لبقعة من بقاع الجنّة، لایزورها مؤمن إلّا أعتقه الله تعالی من النار وأدخله دار القرار» (1).

11 - صحیح أبی هاشم داود بن القاسم الجعفری، قال: «سمعت أبا جعفر محمّد بن علیّ الرضا علیه السلام یقول: إنّ بین جَبَلَی طوس قبضة قُبضت من الجنّة، مَن دخلها کان آمناً یوم القیامة من النار» وقد رواها کلّ من الشیخ والصدوق(2).

ولا یخفی دلالة الصحیح والموثّق الذی قبله علی قدسیّة وشرافة أرض طوس المتضمّنة لقبر الإمام الثامن من أهل البیت علیهم السلام، ویثبت ذلک لأرض الکاظمیّة المتضمّنة لاثنین من أئمّة أهل البیت علیهم السلام، وسیأتی أمر الرضا علیه السلام بالصلاة فی المساجد حول قبر أبیه موسی بن جعفر علیهما السلام، کما فی محسّنة علیّ بن حسّان(3).

12 - حسنة کالمصحّحة لسلیمان بن حفص المروزی، قال: «سمعت

ص:475


1- (1) الوسائل: أبواب المزار ب 88 ح 2. والعیون: ب 66 ح 32، وأمالی الصدوق المجلس 86 ص 684.
2- (2) الوسائل: أبواب المزار ب 82 ح 13. والتهذیب ج 6 ص 109 ح ( 192). والفقیه ج 2 ص 349 ح ( 1602) والعیون ج 2 ص 256.
3- (3) المزار الکبیر ص 547.

أبا الحسن موسی بن جعفر علیه السلام یقول: مَن زار قبر ولدی علیّ علیه السلام کان له عند الله عزّ وجلّ سبعون حجّة مبرورة. قلت: سبعون حجّة مبرورة؟! قال: نعم، وسبعون ألف حجّة. قلت: سبعون ألف حجّة؟! فقال: ربّ حجّة لاتقبل. مَن زاره أو بات عنده کان کمَن زار الله فی عرشه. قلت: مَن زار الله فی عرشه؟!

قال: نعم، إذا کان یوم القیامة کان علی عرش الله جلّ جلاله أربعة من الأوّلین وأربعة من الآخرین، فأمّا الأوّلون فنوح وإبراهیم وموسی وعیسی، أمّا الأربعة الآخرون فمحمّد وعلیّ والحسن والحسین، ثمّ یمدّ المطمار فیقعد معنا زوّار قبور الأئمّة علیهم السلام، ألاأنّ أعلاهم درجة وأقربهم حبوة زوّار قبر علیّ علیه السلام».

ورواه الصدوق فی الأمالی والعیون، ورواه ابن قولویه فی کامل الزیارات(1) ، والشیخ فی التهذیب عن الکلینی بطریق آخر عن یحیی بن سلیمان المازنی، عن أبی الحسن موسی علیه السلام(2) ، ورواه المشهدی فی المزار الکبیر عن الکلینی(3).

ولا یخفی دلالة الروایة علی عظمة زیارة قبورهم وفضیلتها علی

ص:476


1- (1) أمالی الصدوق المجلس 25 ح 186؛ وعیون أخبار الرضا ج 2 ص 291؛ وکامل الزیارات ب 101 ح 13؛ والوسائل: أبواب المزار ب 86 ح 1.
2- (2) التهذیب ج 6 ص 85.
3- (3) الوسائل أبواب المزار ب 81 ح 2.

زیارة المسجد الحرام، وبالتالی زیادة فضیلة الصلاة عندها علی الصلاة فیه، کما ورد فی فضیلة الصلاة فی بیت فاطمة علیها السلام علی الصلاة فی الروضة، کما أنّها دالّة علی فضیلة زیارة الرضا علیه السلام نظیر فضیلة زیارة الحسین علیه السلام.

وکذلک حرم العسکریّین علیهما السلام، ویعضده أنّ تربتهم علیهم السلام کانت واحدة(1) ، وقد مرّ فی مصحّح ابن أبی عمیر أنّ قبر فاطمة روضة من ریاض الجنّة(2) ، وفی مصحّح جمیل بن درّاج أنّ الصلاة فی بیت فاطمة أفضل من الصلاة فی روضة النبیّ (3).

13 - روایة محمّد بن سلیمان الزرقان، عن علیّ بن محمّد العسکری علیهما السلام، قال: «قال لی: یا زرقان، إنّ تربتنا کانت واحدة، فلمّا کان أیّام الطوفان افترقت التربة فصارت قبور شتّی والتربة واحدة»(4).

ومفاد هذه الروایة وحدة قدسیّة قبور الأئمّة مع قبر النبیّ صلی الله علیه وآله وقبر علیّ علیه السلام وقبر الحسین علیه السلام.

وفی حدیث الخصال المعتبر بإسناده عن علیّ علیه السلام فی حدیث

ص:477


1- (1) راجع الوسائل أبواب المزار ب 13 ح 1.
2- (2) الوسائل: أبواب المزار: ب 18 ح 5.
3- (3) الوسائل: أبواب أحکام المساجد ب 59 ح 2.
4- (4) الوسائل: أبواب المزار ب 13 ح 1. باب استحباب التبرک من مشهد الرضا ومشاهد الأئمة علیهم السلام والمزار للمفید باب مختصر فی فضل زیارات العسکریین: ص 201 ح 4. وفی التهذیب ج 6 ص 109 ح 10.

الأربعمائة، قال: «ألّموا [وأتمّوا] برسول الله صلی الله علیه وآله حجّکم إذا خرجتم إلی بیت الله الحرام، فإنّ ترکه جفاء، وبذلک امرتم، وألِمّوا بالقبور التی ألزمکم الله حقّها وزیارتها، واطلبوا الرزق عندها»(1).

وقد استفیض فی الزیارات أنّ طینتهم واحدة طابت وطهرت بعضها من بعض، وفی معتبرة محمّد بن مسلم حیث کان محمّد بن مسلم وجعاً، فأرسل إلیه أبو جعفر علیه السلام شراباً فتشافی منه فقال علیه السلام: «یا محمّد، إنّ الشراب الذی شربته فیه من طین قبور آبائی، وهو أفضل ما استشفی به، فلاتعدلنّ به، فإنّا نسقیه صبیاننا ونساءنا، فنری فیه کلّ خیر» الحدیث(2) ، فأضاف علیه السلام الطین إلی کلّ آبائه.

14 - وفی کامل الزیارات: روی ابن قولویه بإسناده عن الأصمّ، عن عبدالله بن بکیر - فی حدیث طویل - قال: «قال أبو عبدالله علیه السلام: یا ابن بکیر، إنّ الله اختار من بقاع الأرض ستّة: البیت الحرام، والحرم، ومقابر الأنبیاء، ومقابر الأوصیاء، ومقاتل الشهداء، والمساجد التی یذکر فیها اسم الله...»(3) الحدیث.

ولا یخفی تقیید (المساجد) بالتی یُذکر فیها اسم الله إشارة إلی الآیة الشریفة(فِی بُیُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ یُذْکَرَ فِیهَا اسْمُهُ) وهی

ص:478


1- (1) الوسائل: أبواب المزار ب 2 ح 10.
2- (2) کامل الزیارات ب 91 ح 7.
3- (3) کامل الزیارات ب 44 ح 3.

إشارة إلی بیوت الأنبیاء، ومن أفاضلها بیوت أهل البیت علیهم السلام کما فی الروایة المرویّة عند الفریقین، وبیوتهم أعم من مقابرهم.

15 - مصحّحة الهروی، قال: «سمعت الرضا علیه السلام یقول: إنّی ساقتل بالسمّ مظلوماً واقبر إلی جانب هارون، ویجعل الله تربتی مختلف شیعتی وأهل محبّتی، فمَن زارنی فی غربتی وجبت له زیارتی یوم القیامة.

والذی أکرم محمّداً صلی الله علیه وآله بالنبوّة، واصطفاه علی جمیع الخلیقة، لایصلّی أحد منکم عند قبری رکعتین إلّا استحقّ المغفرة من الله عزّوجلّ یوم یلقاه.

والذی أکرمنا بعد محمّد صلی الله علیه وآله وخصّنا بالولایة إنّ زوار قبره لأکرم الوفود علی الله یوم القیامة» الحدیث(1).

وهذه المصحّحة دالّة - کما مرّ فی جملة من الروایات ویأتی أیضاً - علی أنّ قبورهم علیهم السلام تقصد وتشدّ الرحال إلیها لغایتین الاولی زیارتهم، والثانیة الصلاة عندهم، وفی بعض الروایات ثالثة: وهی البیتوتة فی جوارهم وقد عد جوارهم سواء فی المدة القصیرة أو الطویلة من الجهاد.

والصلاة عندهم أعمّ من الفریضة والنافلة الراتبة أو التطوّعیّة، وهی غیر صلاة الزیارة، بل إقامة الصلاة عندهم بالقرب من مراقدهم ذات فضیلة یستحبّ إکثار الصلاة عند قبورهم لأجل ذلک، کما أنّها

ص:479


1- (1) عیون أخبار الرضا ج 2 ص 248 باب 25 ح 1.

دالّة علی أنّ زوّار الرضا علیه السلام لهم امتیاز علی زوّار قبور سائر الأئمّة علیهم السلام، فیدلّ علی قدسیّة الموضع وفضیلته.

معتبرة سلیمان بن حفص المروزی، قال: «سمعت أبا الحسن موسی بن جعفر علیهما السلام یقول: إنّ ابنی علیّاً مقتول بالسمّ ظلماً، ومدفون إلی جنب هارون بطوس، فمَن زاره کمَن زار رسول الله صلی الله علیه وآله»(1).

16 - اللسان الموحّد لزیارة قبورهم فی العدید من الزیارات الجامعة التی نصّ علی أن یؤتی بها عند أی قبر من قبورهم علیهم السلام، وهی وإن کانت واردة فی متن الزیارة وألفاظ الثناء والتحیّة والتشهّد بالإقرار والعهد لهم علیهم السلام، إلّا أنّها مصرّحة بوحدة حکم المشهد لمراقدهم، کما فی الزیارة الرجبیّة والزیارة الجامعة الکبیرة والصغیرة، والتعبیر فی آدابها: «إذا زرت واحداً منکم» وقوله علیه السلام فیها: «فإذا دخلت ورأیت القبر»، وکذا الزیارة الجامعة الاخری المرویّة فی العیون عن أبی الحسن الرضا علیه السلام، فقال: «صلّوا فی المساجد حوله «أی حول أبیه موسی» ویجزی فی المواضع کلّها أن تقول:...»(2).

وکذا ذیل زیارة أمین الله، قال جابر: «قال لی الباقر علیه السلام: ما قال هذا الکلام... عند قبر أمیر المؤمنین علیه السلام، أو أحد من الأئمّة، إلّا رفع

ص:480


1- (1) الوسائل أبواب المزار ب 82 ح 5.
2- (2) عیون أخبار الرضا: ب 68 ح 1.

دعاؤه» (1).

وتوحید اللسان والطلب والحثّ لکلّ قبورهم علیهم السلام شاهد علی وحدة الفضیلة والحکم لقبورهم علیهم السلام.

17 - ما رواه فی کامل الزیارات والتهذیب فی الصحیح، عن ابن بزیع، عن بعض أصحابه، یرفعه إلی أبی عبدالله علیه السلام، قال: «قلت: نکون بمکّة أو بالمدینة أو الحَیْر أو المواضع التی یرجی فیها الفضل، فربّما یخرج الرجل یتوضّأ فیجیء آخر فیصیر مکانه؟ قال: مَن سبق إلی موضع فهو أحقّ به یومه ولیلته»(2) ، ففیها تصریح أنّ الفضیلة موضوعها أعمّ من المواضع الأربعة، بل هی مواطن عدیدة.

18 - ما ورد فی عدّة روایات فیها المعتبر من أنّ فضل زیارة قبر أبی الحسن موسی بن جعفر علیهما السلام مثل فضل زیارة قبر الحسین علیه السلام، کما فی معتبرة الوشّاء، عن الرضا علیه السلام(3).

وفی روایة الحسن بن محمّد القمّی، عن الرضا علیه السلام: «مَن زار قبر أبی ببغداد کان کمَن زار قبر رسول الله صلی الله علیه وآله وقبر أمیر المؤمنین، إلّا أنّ لرسول الله صلی الله علیه وآله ولأمیر المؤمنین علیه السلام فضلهما»(4).

ص:481


1- (1) مصباح المتهجد وکامل الزیارات ب 11.
2- (2) کامل الزیارات ب 108 ح 6. التهذیب ج 6 ص 110.
3- (3) الوسائل أبواب المزار ب 80 ح 6 وح 1.
4- (4) الوسائل أبواب المزار ب 80 ح 2.

وفی مصحّحة الحسین بن بشّار الواسطی، قال: «سألت أبی الحسن الرضا علیه السلام: ما لمَن زار قبر أبیک؟ قال: زره. قلت: فأیّ شیء فیه من الفضل؟ قال: فیه من الفضل کمَن زار قبر والده - یعنی رسول الله صلی الله علیه وآله -. فقلت: فانّی خفت فلم یمکنّی أن أدخل داخلًا؟ فقال: سلّم من وراء الحائر». وفی نسخة التهذیب المطبوع حالیاً: «سلم من وراء الجسر» وقد أشار إلیه فی الوسائل(1).

19 - وفی الصحیح إلی یحیی - وکان فی خدمة أبی جعفر الثانی علیه السلام - عن علی عن صفوان الجمال عن أبی عبدالله فی حدیث، قال: «قلت له: فما لمَن صلّی عنده رکعتین؟ قال: لم یسأل الله شیئاً إلّا أعطاه» (2) الحدیث.

20 - عن علیّ بن إبراهیم وأحمد بن مهران جمیعاً، عن محمّد بن علیّ، عن الحسن بن راشد، عن یعقوب بن جعفر قال: «کنت عند أبی إبراهیم علیه السلام وأتاه رجل من أهل نجران الیمن من الرهبان ومعه راهبة، فاستأذن لهما الفضل بن سوار، فقال له: إِذَا کانَ غَداً فَأْتِ بِهِمَا عِنْدَ بِئْرِ أُمِّ خَیْر.

قال: فوافینا من الغد، فوجدنا القوم قد وافوا، فأمر بخصفة بواری، ثمّ جلس وجلسوا، فبدأت الراهبة بالمسائل، فسألت عن مسائل کثیرة، کلّ ذلک یجیبها، وسألها أبو إبراهیم علیه السلام عن أشیاء لم

ص:482


1- (1) الوسائل أبواب المزار ب 80 ح 4، التهذیب ج 6 ص 82.
2- (2) الوسائل أبواب المزار ب 58 ح 5.

یکن عندها فیها شیء، ثمّ أسلمت.

ثمّ أقبل الراهب یسأله، فکان یجیبه فی کلّ ما یسأله، فقال الراهب: قد کنت قویّاً علی دینی، وما خلّفت أحداً من النصاری فی الأرض یبلغ مبلغی فی العلم، ولقد سمعت برجل فی الهند إذا شاء حجّ إلی بیت المقدس فی یوم ولیلة، ثمّ یرجع إلی منزله بأرض الهند، فسألت عنه بأی أرض هو؟ فقیل لی: إنّه بسُبذان، وسألت الذی أخبرنی، فقال: هو علم الاسم الذی ظفر به آصف صاحب سلیمان لمّا أتی بعرش سبأ، وهو الذی ذکره الله لکم فی کتابکم، ولنا - معشر الأدیان - فی کتبنا.

فقال له أبو إبراهیم علیه السلام: فَکَمْ للهِ مِنِ اسْم لَا یُرَدُّ؟

فقال الراهب: الأسماء کثیرة، فأمّا المحتوم منها - الذی لایردّ سائله - فسبعة.

فقال له أبو الحسن علیه السلام: فَأَخْبِرْنِی عَمَّا تَحْفَظُ مِنْها.

قال الراهب: لا، والله الذی أنزل التوراة علی موسی، وجعل عیسی عبرة للعالمین، وفتنة لشکر اولی الألباب، وجعل محمّداً برکة ورحمة، وجعل علیّاً عبرة وبصیرة، وجعل الأوصیاء من نسله ونسل محمّد ما أدری، ولو دریت ما احتجت فیه إلی کلامک، ولاجئتک ولاسألتک.

فقال له أبو إبراهیم علیه السلام: عُدْ إِلی حَدِیثِ الْهِنْدِیِّ.

ص:483

فقال له الراهب: سمعت بهذه الأسماء ولاأدری ما بطانتها ولاشرائحها؟ ولاأدری ما هی؟ ولاکیف هی ولابدعائها؟ فانطلقت حتّی قدمت سُبْذان الهند، فسألت عن الرجل، فقیل لی: إنّه بنی دیراً فی جبل، فصار لایخرج ولایری إلّا فی کلّ سنة مرّتین، وزعمت الهند أنّ الله فجّر له عیناً فی دیره، وزعمت الهند أنّه یُزرع له من غیر زرع یُلقیه، ویُحرث له من غیر حرث یعمله، فانتهیت إلی بابه، فأقمت ثلاثاً لاأدقّ الباب، ولااعالج الباب.

فلمّا کان الیوم الرابع فتح الله الباب، وجاءت بقرة علیها حطب، تجرّ ضرعها یکاد یخرج ما فی ضرعها من اللّبن، فدفعت الباب فانفتح، فتبعتها ودخلت، فوجدت الرجل قائماً ینظر إلی السماء فیبکی، وینظر إلی الأرض فیبکی، وینظر إلی الجبال فیبکی، فقلت: سبحان الله! ما أقلّ ضربک فی دهرنا هذا! فقال لی: والله، ما أنا إلّا حسنة من حسنات رجل خلّفته وراء ظهرک.

فقلت له: اخبرت أنّ عندک اسماً من أسماء الله تبلغ به فی کلّ یوم ولیلة بیت المقدس، وترجع إلی بیتک؟

فقال لی: وهل تعرف بیت المقدس؟

قلت: لاأعرف إلّا بیت المقدس الذی بالشام.

قال: لیس بیت المقدس، ولکنّه البیت المقدّس، وهو بیت آل محمّد.

ص:484

فقلت له: أما ما سمعت به إلی یومی هذا فهو بیت المقدس.

فقال لی: تلک محاریب الأنبیاء، وإنّما کان یقال لها: حظیرة المحاریب، حتّی جاءت الفترة التی کانت بین محمّد وعیسی صلّی الله علیهما، وقرب البلاء من أهل الشرک، وحلّت النقمات فی دور الشیاطین، فحوّلوا وبدّلوا ونقلوا تلک الأسماء، وهو قول الله تبارک وتعالی - البطن لآل محمّد، والظهر مَثَلٌ: (إِنْ هِیَ إِلاّ أَسْماءٌ سَمَّیْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُکُمْ ما أَنْزَلَ اللّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) (1).

فقلتُ له: إنّی قد ضربت إلیک من بلد بعید، تعرّضت إلیک بحاراً وغموماً وهموماً وخوفاً، وأصبحت وأمسیت مؤیساً، ألاأکون ظفرت بحاجتی؟

فقال لی: ما أری امّک حملت بک إلّا وقد حضرها ملک کریم، ولاأعلم أنّ أباک حین أراد الوقوع بامّک إلّا وقد اغتسل وجاءها علی طهر، ولاأزعم إلّا أنّه قد کان درس السفر الرابع من سهره ذلک، فختم له بخیر، ارجع من حیث جئت، فانطلق حتّی تنزل مدینة محمّد صلی الله علیه وآله - التی یقال لها: طیبة، وقد کان اسمها فی الجاهلیّة یثرب - ثمّ اعمد إلی موضع منها یقال له: البقیع، ثمّ سل عن دار یقال لها: دار مروان، فانزلها، وأقم ثلاثاً، ثمّ سل عن الشیخ الأسود الذی یکون علی

ص:485


1- (1) سور ة النجم: الآیة 23.

بابهایعمل البواری، وهی فی بلادهم اسمها الخصف، فالْطفْ بالشیخ، وقل له: بعثنی إلیک نزیلک الذی کان ینزل فی الزاویة فی البیت الذی فیه الخشیبات الأربع، ثمّ سله عن فلان بن فلان الفلانی، وسله: أین نادیه؟ وسله: أی ساعة یمرّ فیها؟ فلیریکاه أو یصفه لک، فتعرفه بالصفة، وسأصفه لک.

قلت: فإذا لقیته فأصنع ماذا؟

قال: سله عمّا کان، وعمّا هو کائن، وسله عن معالم دین مَن مضی ومَن بقی.

فقال له أبو إبراهیم علیه السلام: قَدْ نَصَحَکَ صاحِبُکَ الَّذِی لَقِیتَ.

فقال الراهب: ما اسمه جُعلت فداک؟

قال: هُوَ مُتَمِّمُ بْنُ فَیْرُوز، وَهُوَ مِنْ أَبْناءِ الْفُرْسِ، وَهُوَ مِمَّنْ آمَنَ بِاللهِ وَحْدَهُ لَا شَرِیکَ لَهُ، وَعَبَدَهُ بِالْاخْلَاصِ وَالْایقانِ، وَفَرَّ مِنْ قَوْمِهِ لَمَّا خافَهُمْ، فَوَهَبَ لَهُ رَبُّهُ حُکْماً، وَهَداهُ لِسَبِیلِ الرَّشادِ، وَجَعَلَهُ مِنَ الْمُتَّقِینَ، وَعَرَّفَ بَیْنَهُ وَبَیْنَ عِبادِهِ الْمُخْلَصِینَ، وَما مِنْ سَنَة إِلَّا وَهُوَ یَزُورُ فِیها مَکَّةَ حاجّاً، وَیَعْتَمِرُ فی رَأْسِ کُلِّ شَهْر مَرَّةً، وَیَجِیءُ مِنْ مَوْضِعِهِ مِنَ الْهِنْدِ إِلی مَکَّةَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَعَوْناً، وَکَذلِکَ یَجْزِی اللهُ الشَّاکِرِینَ.

ثمّ سأله الراهب عن مسائل کثیرة، کلّ ذلک یجیبه فیها، وسأل الراهبَ عن أشیاء لم یکن عند الراهب فیها شیء، فأخبره بها.

ص:486

ثمّ إنّ الراهب قال: أخبرنی عن ثمانیة أحرف نزلت، فتبیّن فی الأرض منها أربعة، وبقی فی الهواء منها أربعة، علی مَن نزلت تلک الأربعة التی فی الهواءومَن یفسّرها؟

قال: ذَاکَ قائِمُنا یُنْزِلُهُ اللهُ عَلَیْهِ فَیُفَسِّرُهُ، وَیُنَزِّلُ عَلَیْهِ ما لَمْ یُنَزِّلْ عَلَی الصِّدِّیقِینَ وَالرُّسُلِ وَالْمُهْتَدِینَ.

ثمّ قال الراهب: فأخبرنی عن الاثنین من تلک الأربعة الأحرف التی فی الأرض ما هما؟

قال: أُخْبِرُکَ بِالْارْبَعَةِ کُلِّها: أَمَّا أَوَّلُهُنَّ فَ - لَا إِل - هَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِیکَ لَهُ باقِیاً، وَالثَّانِیَةُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله صلی الله علیه وآله مُخْلَصاً، وَالثَّالِثَةُ نَحْنُ أَهْلُ الْبَیْتِ، وَالرَّابِعَةُ شِیعَتُنا مِنَّا، وَنَحْنُ مِنْ رَسُولِ الله صلی الله علیه وآله وَرَسُولُ اللهِ مِنَ اللهِ بِسَبَب.

فقال الراهب: أشهد أن لاإله إلّا الله، وأنّ محمّداً رسول الله، وأنّ ما جاء به من عند الله حقّ، وأنّکم صفوة الله من خلقه، وأنّ شیعتکم المطهّرون المستبدلون، ولهم عاقبة الله، والحمد لله ربّ العالمین.

فدعا أبو إبراهیم علیه السلام بجبّة خزّ، وقمیص قوهیّ، وطیلسان، وخفّ، وقلنسوة، فأعطاه إیّاها، وصلّی الظهر وقال له: اخْتَتِنْ.

فقال: قد اختتنت فی سابعی» (1).

ص:487


1- (1) الکافی ج 1 ص 481-484 باب مولد أبی الحسن علیه السلام ح 5.

ونقلنا هذه الروایة بطولها تبرکاً وموضع الشاهد تقریره علیه السلام ما قاله الهندی من أنَّ بیت المقدس بالدرجة الأولی هو بیت محمد وآل محمد (صلوات الله علیهم) وأما الذی فی فلسطین فهو فی الدرجة الثانیة ومثل ظاهر لحقیقة خفیة علی کثیرین من کون بیت المقدس فی الأصل بیت محمد وآل محمد (صلوات الله علیهم) بل إن بیت المقدس فی فلسطین إنما نال القدسیة فی ذلک الأوان بسبب صلاة الأنبیاء السابقین فیه وهذا شاهد علی الکبری المتقدمة من أن الأرض التی تحفل بالأنبیاء والمرسلین والأوصیاء والمصطفین تکتسب شرفا وقدسیة فتصبح مقدسة وتکون من البیوت التی أذن الله أن ترفع ویذکر فیها اسمه، وأشرفها وأعلاها وأقدسها بیت محمد وآل محمد (صلوات الله علیهم)، وهذا هو الذی ورد فی إحدی زیارات الحسین علیه السلام التی رواها السید ابن طاووس فی مصباح الزائر (1)وفیها الخطاب لعلی بن الحسین علیهما السلام: «والله ما ضرک القوم بما نالوا منک ومن أبیک الطاهر صلوات الله علیکما ولا ثلموا منزلتکما من البیت المقدس».

21 - وروایة محمّد بن الفضیل بن بنت داود الرقی، قال: (قال الصادق علیه السلام: «أربع بقاع ضجّت إلی الله تعالی من الغرق أیّام الطوفان: البیت المعمور فرفعه الله، والغریّ، وکربلاء، وطوس»(2).

ص:488


1- (1) مصباح الزائر ص 235.
2- (2) الوسائل: أبواب المزار: ب 83 ح 2.

22 - محسّنة علیّ بن حسّان، عن الرضا علیه السلام، قال: «سئل عن إتیان قبر أبی الحسن موسی علیه السلام، فقال: صلّوا فی المساجد حوله، ویجزئ فی المواضع کلّها أن تقول: (السلام علی أولیاء الله وأصفیائه...). هذا یجزی فی الزیارات کلّها، وتکثر من الصلاة علی محمّد وآله، وتسمّی واحداً واحداً بأسمائهم، وتبرأ إلی الله من أعدائهم، وتخیّر لنفسک من الدعاء ما أحببت وللمؤمنین والمؤمنات»(1).

ورواها الصدوق والکلینی والشیخ، وظاهر الروایة أنّ قبورهم کما تقصد لزیارتهم علیهم السلام فهی تقصد لإتیان الصلاة عندها لتضاعف ثوابها، وتقصد للدعاء ثالثاً، ومن أجل البیتوتة عندها رابعاً کما مر، والجامع ما ذکرته الآیة: (فِی بُیُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ یُذْکَرَ فِیهَا اسْمُهُ یُسَبِّحُ لَهُ فِیها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ ( 36) وقوله تعالی: (وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِیمَ مُصَلًّی) .

ویدعم ذلک ما ورد فی مشاهد جمیع المعصومین بلسان واحد من النهی عن الصلاة متقدّماً علی قبر المعصوم، بل الصلاة خلفه وعند رأسه وأنّ ثواب الصلاة یتضاعف بالقرب منه، کما فی معتبرة هشام بن سالم عن أبی عبدالله علیه السلام - فی حدیث طویل - قال: «أتاه رجل فقال له: یابن رسول الله، هل یزار والدک؟ فقال: نعم، وتصلّی عنده. وقال:

ص:489


1- (1) الوسائل: أبواب المزار: ب 81 ح 2.

یصلّی خلفه، ولایتقّدم علیه» (1).

فإنّها واضحة الدلالة فی تضاعف ثواب الصلاة عند قبر الباقر علیه السلام، وقد یراد الحسین علیه السلام، ویدلّ علی العموم أیضاً صحیح الحمیری، قال: «کتبت إلی الفقیه علیه السلام أسأله عن الرجل یزور قبور الأئمّة، هل یجوز أن یسجد علی القبر أم لا؟ وهل یجوز لمَن صلّی عند قبورهم أن یقوم وراء القبر ویجعل القبر قبلة، ویقوم عند رأسه ورجلیه؟ وهل یجوز أن یتقدّم القبر ویصلّی ویجعله خلفه أم لا؟

فأجاب وقرأت التوقیع ومنه نسخت: أمّا السجود علی القبر فلایجوز فی نافلة ولافریضة ولازیارة، بل یضع خدّه الأیمن علی القبر، وأمّا الصلاة فإنّها خلفه یجعله الإمام، ولایجوز أن یصلّی بین یدیه، لأنّ الإمام لایُتقدّم، ویصلّی عن یمینه وشماله»(2).

وهذه الصحیحة دالّة بوضوح أنّ قبور الأئمّة علیهم السلام کما تقصد للزیارة تقصد لإتیان الصلاة عندهالفضیلة إتیانها عندها، سواء کانت فریضة أو تطوّعاً، وهذا المفاد مرتکز عند الفقیه الراوی الحمیری، وجوابه علیه السلام یقرّر ذلک، ومنشأه - مضافاً إلی ما مرّ ویأتی - هو قدسیّة أماکن قبورهم علیهم السلام لکونها رمساً لهم وطیّبها الله تعالی بهم.

ص:490


1- (1) الوسائل: أبواب مکان المصلی ب 27 ح 7.
2- (2) الوسائل: أبواب مکان المصلی ب 26 ح 1.

وهذا هو مفاد قوله تعالی: (فِی بُیُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ یُذْکَرَ فِیهَا اسْمُهُ یُسَبِّحُ لَهُ فِیها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ ( 36) ، فإنّها قد فسّرت ببیوت النبیّ صلی الله علیه وآله وأهل بیته علیهم السلام وهی مراقدهم، ومن ثمّ ورد کما فی الروایات المتقدّمة وکما فی روایة عمارة بن زید - أی عامر واعظ أهل الحجاز - عن الصادق، عن أبیه، عن جدّه علیهم السلام، قال: «قال رسول الله صلی الله علیه وآله لعلیّ علیه السلام: إنّ الله جعل قبرک وقبور ولدک بقاعاً من بقاع الجنّة، وعرصة من عرصاتها، وإنّ الله جعل قلوب نجباء من خلقه... فیعمرون قبورکم، ویکثرون زیارتها تقرّباً منهم إلی الله، ومودة منهم لرسوله...» الحدیث(1).

24 - أفضلیّة زیارة قبورهم علیهم السلام والصلاة عندها علی الحجّ والعمرة الندبیّان.

1 - مصحّح جمیل بن درّاج، قال: «الصلاة فی بیت فاطمة مثل الصلاة فی الروضة؟ قال: وأفضل».

ومثله موثّق یونس بن یعقوب(2) ، ومفاده واضح فی أنّ ثواب الصلاة فی بیت فاطمة علیهم السلام لامن جهة کونها من مسجد الرسول صلی الله علیه وآله، بل ورد إنّه لیس من المسجد وإنّما أدخله الأمویون فیه، کما ذکر ذلک الصدوق أنّه روی أنّها علیهم السلام دفنت فی بیتها، فلمّا زادت بنو امیّة فی

ص:491


1- (1) الوسائل: أبواب المزار ب 26 ح 1.
2- (2) الوسائل: أبواب أحکام المساجد: ب 59 ح 1 وح 2.

المسجد صارت فی المسجد(1).

2 - وفی مصحح ابن أبی عمیر عن أصحابنا عن أبی عبد الله علیه السلام قال: «قال رسول الله صلی الله علیه وآله ما بین قبری ومنبری روضة من ریاض الجنة، ومنبری علی ترعة من ترع الجنة، لأن قبر فاطمة علیها السلام بین قبره ومنبره، وقبرها روضة من ریاض الجنة وإلیه ترعة من ترع الجنة»(2).

وفی هذا المصحّح دلالة من وجهین:

أوّلًا: إن قبرها روضة من ریاض الجنّة، أی إنّ قبورهم علیهم السلام روضة من ریاض الجنّة، فیعظم عندها ثواب الصلاة.

ثانیاً: إنّ استحباب وفضیلة الصلاة فی الروضة فی المسجد النبویّ إنما هو لمکان قبرها علیها السلام.

3 - موثّق الحسن بن الجهم، قال: «قلت لأبی الحسن الرضا علیه السلام: أیّهما أفضل رجل یأتی مکّة ولایأتی المدینة، أو رجل یأتی النبیّ صلی الله علیه وآله ولایبلغ مکّة؟

قال: فقال لی: أیّ شیء تقولون أنتم؟

فقلت: نحن نقول فی الحسین علیه السلام، فکیف فی النبیّ صلی الله علیه وآله؟

ص:492


1- (1) الوسائل: أبواب المزار ب 18 ح 4.
2- (2) الوسائل: أبواب المزار ب 18 ح 5.

فقال: أما لئن قلت ذلک لقد شهد أبو عبدالله علیه السلام عیداً بالمدینة فدخل علی النبیّ صلی الله علیه وآله فسلّم علیه، ثمّ قال لمَن حضره: لقد فضلنا أهل

البلدان کلّهم - مکّة فما دونها - لسلامنا علی رسول الله صلی الله علیه وآله» (1).

4 - موثّق آخر للحسن بن الجهم، قال: «سألت أبا الحسن علیه السلام: أیّهما أفضل المقام بمکّة أو بالمدینة؟

فقال: أیّ تقول أنت؟

قال: فقلت: وما قولی مع قولک؟

قال: إنّ قولک یردّک إلی قولی.

قال: فقلت له: أمّا أنا فأزعم أنّ المقام بالمدینة أفضل من المقام بمکّة.

فقال: أمّا لئن قلت ذلک لقد قال أبو عبدالله علیه السلام ذلک یوم فطر، وجاء إلی رسول الله صلی الله علیه وآله فسلّم علیه فی المسجد، ثمّ قال: لقد فضلنا الناس الیوم بسلامنا علی رسول الله صلی الله علیه وآله»(2).

5 - ما رواه الصدوق مرسلًا فی الفقیه، قال: «لمّا دخل رسول الله صلی الله علیه وآله المدینة قال: اللّهمّ حبّب إلینا المدینة کما حبّبت إلینا مکّة أو أشدّ، وبارک فی صاعها ومدّها، وانقل حماها ووباءها إلی الجحفة»(3).

ص:493


1- (1) الوسائل: أبواب المزار ب 10 ح 1.
2- (2) الوسائل: أبواب المزار ب 9 ح 2.
3- (3) الوسائل: أبواب المزار: ب 9 ح 5.

6 - ما تقدّم من مصحّحة سلیمان بن حفص المروزی، عن أبی الحسن موسی بن جعفر صلی الله علیه وآله، «أنّ ثواب زیارة ابنه علیّ علیه السلام تعدل سبعون ألف حجّة، وقال علیه السلام: وربّ حجّة لا تقبل»(1).

وبهذا البیان واللسان یتبیّن أنّ ما ورد مستفیضاً من ثواب زیارة کلّ واحد من المعصومین علیهم السلام من أنّها تعدل آلاف الحجج دالّة وناظرة إلی التفضیل.

7 - ما تقدّم من جملة من الروایات وغیرها ممّا لم نذکره الدالّة علی أنّ الصلاة رکعة عند قبر أحد المعصومین علیهم السلام تعدل حجّة فی الفریضة أو عمرة فی النافلة، بل فی بعض الصلوات تعدل آلاف الحجج وآلاف العمر.

الآیة الثانیة: آیة مقام إبرهیم علیه السلام:

وهی تمثیل موردٍ لکبری الموضوع، قوله تعالی: (وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِیمَ مُصَلًّی) (2).

وقد بُحث فی آیات الأحکام تقریب دلالة الآیة الشریفة علی جعل حجر وصخرة مقام إبراهیم قبلة وإماماً وأماماً فی صلاة الطواف، کما قد أشرنا فی بحث التوسّل فی الإمامة الإلهیّة إلی جملة من نکات وفوائد مفاد هذه الآیة الکریمة، وأنّ أمره تعالی للاتّخاذ تشعیر

ص:494


1- (1) الوسائل: أبواب المزار: ب 86 ح 1. عن العیون والأمالی وکامل الزیارات.
2- (2) سورة البقرة: الآیة 125.

منه تعالی نظیر تشعیر المسجد الحرام، فلیس هو عنوان المسجدیّة فقط، بل هو تشعیر لمشعر إلهی، کما أنّ متعلّق الاتّخاذ لأن یکون مصلّی - أی محلًا للصلاة وبقیّة العبادات - وهو عنوان آخر قریب لعنوان المسجدیّة والمشعر الإلهی، کما أنّ التعبیر ب - (المقام) یراد به التعظیم والتقدیس، وهو عنوان آخر لتشعیر المشعر.

مضافاً إلی دلالة الآیة علی تقدیسه وتعظیمه نظیر مفاد الآیة السابقة(فِی بُیُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ) أی تقدّس وتعظّم، ونظیره فی الآیة الثانیة التعبیر ب - (المقام) فإن هذا اللفظ للتعظیم والتفخیم ونظیر قوله تعالی: ویُذْکَرَ فِیهَا اسْمُهُ عنوان (المصلّی).

ثمّ إضافة المقام إلی إبراهیم نموذج وعنوان لکلّ مشهد وبیت ومقام ومکان یضاف إلی الأنبیاء والأوصیاء، لاسیّما من یعلو النبیّ إبراهیم فی الفضیلة، کما قال تعالی: (تِلْکَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلی بَعْضٍ) (1) ، وقوله: (وَ لَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِیِّینَ عَلی بَعْضٍ) (2).

فمقامات النبیّ ومشاهده أحری بالتعظیم والتفخیم وباتّخاذها محلًّا لعبادة الله والصلاة من مقام إبراهیم، ومن ثمّ ورد فی روایات المقام کما تقدم فی الوجه الثالث، الحثّ علی الصلاة وإکثارها فی جمیع مشاهد النبیّ صلی الله علیه وآله وبیوته، وأنّ من بیوته صلی الله علیه وآله بیت علیّ وفاطمة وسائر

ص:495


1- (1) سورة البقرة: الآیة 253.
2- (2) سورة الإسراء: الآیة 55.

المعصومین علیهم السلام، وقد أشیر إلی ذلک کله فی الروایات العدیدة الدالة علی عدم سقوط التطوع فی السفر نهارا فی مشاهد النبی صلی الله علیه وآله.

وممّا یشیر إلی عموم مفاد هذه الآیة موضوعاً وحکماً ما فی مفاد الروایة الواردة فی صلاة أمیر المؤمنین علیه السلام بالإتمام فی بقعة مسجد براثا، ونصب الصخرة التی وضعت مریم النبیّ عیسی علیها من عاتقها، ثمّ صلّی إلی الصخرة وجعل منها حرماً وأتمّ هناک الصلاة أربعة أیّام.

ما ورد من إتمام أمیر المؤمنین علیه السلام: الصلاة فی مسجد براثا أربعة أیّام:

روی الشیخ فی أمالیه بسنده عن حمید بن قیس قال: «سمعت أبا الحسن علیّ بن الحسین بن علیّ بن الحسین قال: سمعت أبی یقول: سمعت أبا جعفر محمّد بن علیّ بن الحسین علیهم السلام یقول: إنّ أمیر المؤمنین علیه السلام لمّا رجع من وقعة الخوارج اجتاز بالزوراء (وذکر مرور أمیر المؤمنین علیه السلام بمسجد براثا.

فلمّا أتی یَمنة السواد إذا هو براهب فی صومعة له، فقال له: یا راهب، أنزل هاهنا؟

فقال له الراهب: لاتنزل هذه الأرض بجیشک.

قال: ولِمَ؟

ص:496

قال: لأنّه لاینزلها إلّا نبیّ أو وصیّ نبیّ بجیشه، یقاتل فی سبیل الله عزّ وجلّ، هکذا نجد فی کتبنا.

فقال له أمیر المؤمنین علیه السلام: فأنا وصیّ سیّد الأنبیاء، وسیّد الأوصیاء.

فقال له الراهب: فأنت إذن أصلع قریش ووصی محمّد صلی الله علیه وآله. فقال له أمیر المؤمنین علیه السلام: أنا ذلک، فنزل الراهب إلیه، فقال: خذ علَیَّ شرائع الإسلام، إنّی وجدت فی الإنجیل نعتک، وأنّک تنزل أرض براثا بیت مریم، وأرض عیسی علیه السلام.

فقال أمیر المؤمنین علیه السلام: قف ولاتخبرنا بشیء.

ثمّ أتی موضعاً فقال: الکزوا هذه، فلکَزه برجله علیه السلام، فانبعقت عین خرّارة، فقال: هذه عین مریم التی نبعت لها.

ثمّ قال: اکشفوا هاهنا علی سبعة عشر ذراعاً، فکشف، فإذا بصخرة بیضاء،] فقال علیه السلام: علی هذه وضعت مریم عیسی من عاتقها، وصلّت هاهنا، فنصب أمیر المؤمنین علیه السلام الصخرة وصلّی إلیها، وأقام هناک أربعة أیّام یتمّ الصلاة، وجعل الحرم فی خیمة من الموضع علی دعوة، ثمّ قال: أرض براثا هذا بیت مریم علیها السلام، هذا الموضع المقدّس صلّی فیه الأنبیاء»(1).

ودلالتها واضحة فی أنّ الإتمام لکون الموضع مقدّساً وذلک لصلاة

ص:497


1- (1) الأمالی: ص 200 ح 42/340.

الأنبیاء علیهم السلام فیه.

فقوله علیه السلام: «فنصب أمیر المؤمنین الصخرة وصلّی إلیها وأقام هناک أربعة أیّام یتمّ الصلاة، وجعل الحرم فی خیمة من الموضع علی دعوة، ثمّ قال: أرض براثا بیت مریم هذا الموضع المقدّس صلّی فیه الأنبیاء» مفاده متطابق مع مفاد الآیة الآمر باتّخاذ مقام الأنبیاء والمصطفین مکاناً للصلاة وعبادة الله تعالی.

فکما تجعل صخرة مقام إبرهیم أماماً فی الصلاة جعل علیه السلام صخرة مریم والنبیّ عیسی أماماً لاتجاه القبلة فی صلاته.

کما أنّ ذکره علیه السلام أنّه صلّی فیه الأنبیاء تبیان لکون الموضع کبیوت أذن الله أن ترفع ویذکر فیها اسمه، ووجه ثالث أنّه جعل الموضع بمثابة الحرم، وهذه الوجوه بمثابة الموضوع لإتمامه علیه السلام للصلاة، وقد تقدّم أنّ المجلسی والسیّد البروجردی احتملا إلحاق مسجد براثا بالأماکن الأربعة.

وروی الصدوق بسنده عن جابر بن عبدالله الأنصاری أنّه قال: «صلّی بنا علیّ علیه السلام ببراثا بعد رجوعه من قتال الشراة ونحن زهاء عن مائة ألف رجل... [قال الراهب:] أنّه لایصلّی فی هذا الموضع بهذا الجمع إلّا نبیّ أو وصیّ نبیّ، وقد جئت اسلم، فأسلم وخرج معنا إلی الکوفة، فقال له علیّ علیه السلام: فمَن صلّی هاهنا؟

قال: صلّی عیسی بن مریم وامّه.

ص:498

فقال له علیّ علیه السلام: فاخبرک مَن صلّی هاهنا؟

قال: نعم.

قال: والخلیل علیه السلام»(1).

وقال السیّد البروجردی فی أبواب صلاة المسافر، الباب ( 22) من کتاب جامع أحادیث الشیعة بعد إشارته إلی هذه الروایة: «وأقام علیّ علیه السلام هناک (أی فی أرض براثا بیت مریم علیها السلام أربعة أیّام یتمّ الصلاة» «إنّما أشرنا إلی هذه الروایة، لأنّه یمکن أن یستفاد منها جواز الإتمام للمسافر فی هذا المکان کالأماکن الأربعة»(2).

وقال المجلسی فی البحارفی ذیلها: «ثمّ اعلم أنّه یستفاد من هذا الخبر أنّ هذا الموضع أیضاً من المواضع التی یجوز للمسافر إتمام الصلاة فیها، ولم یقل به أحد»(3).

ویعضد روایة الإتمام فی براثا موثقة حفص بن غیاث قال رأیت أبا عبدالله علیه السلام یتخلل بساتین الکوفة، فانتهی إلی نخلة فتوضأ عندها ثم رکع وسجد، فأحصیت فی سجوده خمسمائة تسبیحة ثم استند إلی النخلة فدعا بدعوات، ثم قال: «یا حفص إنها النخلة التی قال الله

ص:499


1- (1) الفقیه: ج 1 ص 232 ح 698. التهذیب ج 3 ص 264 باب فضل المساجد ح 67.
2- (2) جامع أحادیث الشیعة: أبواب صلاة المسافر ب 22 ح 38.
3- (3) البحار: ج 102 أو 99 ص 28.

لمریم(وَ هُزِّی إِلَیْکِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَیْکِ رُطَباً جَنِیًّا ( 25) »(1).

ومفادها ظاهر فی فضیلة المکان مما سبب فضیلة العبادة والإکثار منها فیه، وقد خلد القرآن ذکری هذا المکان لحادث لصدّیقة وصدّیق فیه.

ما ورد فی فضل النوافل ولو النهاریة للمسافر فی مسجد الغدیر:

ففی صحیحة عبد الرحمن بن الحجاج التی رواها کل من الکلینی والصدوق والشیخ فی التهذیب قال: سألت أبا إبراهیم علیه السلام عن الصلاة فی مسجد غدیر خم بالنهار وأنا مسافر، فقال: «صل فیه فان فیه فضلا، وقد کان أبی علیه السلام یأمر بذلک»(2).

وفی صحیحة أبان عن أبی عبد الله علیه السلام أنه قال: «إنه تستحب الصلاة فی مسجد الغدیر لان النبی صلی الله علیه وآله أقام فیه أمیر المؤمنین علیه السلام، وهو موضع أظهر الله عز وجل فیه الحق»(3) ورواها المحمدون الثلاثة فی کتبهم.

وفی هاتین الصحیحتین إشارة واضحة إلی الموضوع المتقدم المشترک لعدم سقوط النوافل النهاریة والإتمام فی الفریضة وهی فضیلة

ص:500


1- (1) وسائل: أبواب السجود: ب 23 ح 6.
2- (2) الوسائل: أبواب المزار ب 21 ح 1 وأبواب أحکام المساجد ب 61 ح 2.
3- (3) الوسائل: أبواب أحکام المساجد ب 61 ح 3.

المکان النابعة من قدسیته الحاصلیة من کونه مشهداً للنبی والمعصومین (صلوات الله علیهم أجمعین).

مؤیّدات أخری للتعمیم:

1 - ما مرّ من روایة أمالی الشیخ بسنده عن حمید بن قیس من صلاة أمیر المؤمنین علیه السلام تماماً أربعة أیّام فی مسجد براثا فی سفره عند رجوعه من قتال أهل النهروان، وأنّه ذکر علیه السلام فی سیاق بیان ذلک أنّه صلّی فیه الأنبیاء، وصلّت فیه مریم، وجعل حرماً، وأنّ الصخرة فیه مقام ومشهد لوضع مریم عیسی علیها من عاتقها، وتقدّم دلالتها من وجوه.

2 - ما تقدم من ذهاب جماعة من الأصحاب إلی تعمیم عدم سقوط النوافل النهاریة للمسافر فی جمیع مشاهد المعصومین علیهم السلام وقد تقدم سرد قائمة بأقوال من ذهب إلی ذلک، کما تقدم الإشارة إلی العدید من الروایات الصحیحة المعتبرة فی ذلک والتی عقد لها ابن قولویه وصاحب الوسائل باب مستقلًا، مع أن موضوع الحکم فی النوافل للمسافر مع موضوع الفریضة واحد کما هو مفاد مصححة أبی یحیی الحناط قال: سألت أبا عبد الله علیه السلام عن صلاة النافلة بالنهار فی السفر فقال: «یا بنی لو صلحت النافلة فی السفر تمت الفریضة»(1).

ص:501


1- (1) الوسائل: أبواب أعداد الفرائض ونوافلها: ب 21 ح 5.

3 - ما استظهره جماعة من الأصحاب بتعمیم صیام قضاء الحاجة ثلاثة أیّام الأربعاء والخمیس والجمعة الوارد عند قبر النبیّ صلی الله علیه وآله لمشاهد المعصومین علیهم السلام.

قال فی المقنعة: «وصوم ثلاثة أیّام للحاجة أربعاء وخمیس وجمعة متوالیات عند قبر النبیّ صلی الله علیه وآله، أو فی مشهد من مشاهد الأئمّة علیهم السلام»(1).

وقال فی إیضاح الفوائد: «ذهب قوم إلی تحریم صوم النفل إلّا ثلاثة أیّام للحاجة الأربعاء والخمیس والجمعة عند قبر النبیّ صلی الله علیه وآله أو مشهد من مشاهد الأئمّة علیهم السلام»(2).

وقال ابن فهد فی المهذّب: «إلّا ثلاثة أیّام الحاجة بالمدینة، وألحق المفید المشاهد والصدوقان وابن إدریس الاعتکاف فی مواطنه الأربعة»(3).

تنبیهات مسألة عموم التخییر وأفضلیّة الإتمام فی مشاهد الأئمّة علیهم السلام.

التنبیه الأول: فی حدود الإتمام فی مراقد المعصومین علیهم السلام:

فقد تقدّم فی کلام المحقّق المیرداماد أنّه ما دارت علیه سور المشاهد، وهو ظاهر تعبیر علیّ بن بابویه فی الفقه الرضوی، وابن قولویه فی کامل الزیارات، والمرتضی فی الجمل، وابن الجنید وغیرهم ممّن عبّر

ص:502


1- (1) المقنعة: 350.
2- (2) إیضاح الفوائد: ج 1 ص 243.
3- (3) المهذب البارع ج 2 ص 53.

بالمشاهد المشرّفة. ویدعم ما ذهبوا إلیه صدق عنوان (عند القبر) الوارد فی الأدلّة المتقدّمة، وکذا عنوان الصلاة فی بیوتهم علیهم السلام التی هی عبارة عن حرمهم بل وعنوان مشاهد النبیّ صلی الله علیه وآله الوارد فی الوجه الثالث بعد إضافة مشاهدهم إلی مشاهد النبیّ صلی الله علیه وآله، کما هو الحال فی بیوتهم أنّها بیوت النبیّ صلی الله علیه وآله.

ویدعمه أیضاً ما ورد فی محسّنة علیّ بن حسّان عن الرضا علیه السلام - المتقدّمة - الواردة فی إتیان قبر أبی الحسن موسی علیه السلام، قوله علیه السلام: «صلّوا فی المساجد حوله»(1).

هذا مضافاً إلی معاضدة ذلک بإشارات فی الأدلّة شاملة للأوسع من المشاهد للبلد الذی هو فیه، وإن لم تصل إلی الدلالة التامّة، نظیر صحیح أبی هاشم الجعفری: «إنّ بین جَبَلَی طوس قبضة قُبضت من الجنّة»(2).

ومثلها موثّقة ابن فضّال(3) وهو نظیر تعدد مراتب الفضیلة الوارد فی الأماکن الأربعة، فتعدّدت الألسن فی کل واحد منها تارة بعنوان المسجد، واخری بعنوان البلد، وثالثة بعنوان الحرم ورابعة بغیر ذلک.

ص:503


1- (1) الوسائل: أبواب المزار ب 81 ح 2.
2- (2)
3- (3) التهذیب: ج 6 ص 108. والفقیه ج 2 ص 585.
الثانی: توسعة محل التخییر للبلدان الأربعة:

توسعة محلّ التخییر وأفضلیّة الإتمام فی المواطن الأربعة لکلّ البلدان الأربعة لاخصوص المساجد ولا خصوص الحائر القریب من قبر الحسین علیه السلام، فقد تقدّم ذهاب جماعة کثیرة من الأصحاب إلیه، لاسیّما المتقدّمین، بل ذهاب الشیخ والکیدری وأکثر المتقدمین إلی الإتمام فی کلّ النجف والکوفة، فضلًا عن العدّة التی ذهبت إلی الإتمام فی جمیع المشاهد.

وقد تقدّمت الإشارة إلی وجه ذلک، وهی ورود الروایات المعتبرة بألسن متعدّدة، فمنها صحیح حمّاد، عن أبی عبدالله علیه السلام أنّه قال: «من مخزون علم الله الإتمام فی أربعة مواطن: حرم الله، وحرم رسوله صلی الله علیه وآله، وحرم أمیر المؤمنین علیه السلام، وحرم الحسین بن علیّ علیه السلام»(1).

وقد رواه کلّ من الصدوق وابن قولویه والشیخ، وهو بلفظ وعنوان الحرم لاخصوص عنوان المدینة ولاعنوان المسجد.

وفی روایة زیاد القندی، قال: «قال أبو الحسن علیه السلام: یا زیاد، احبّ لک ما احبّ لنفسی، وأکره لک ما أکره لنفسی، أتمّ الصلاة فی الحرمین والکوفة وعند قبر الحسین علیه السلام»(2) ، فقد ورد عنوان الکوفة کما ورد فی

ص:504


1- (1) الوسائل: أبواب صلاة المسافر ب 25 ح 1.
2- (2) الوسائل: أبواب صلاة المسافر ب 25 ح 13.

العدید من الروایات عنوان مکّة والمدینة، والمصحّح إلی عبدالحمید خادم إسماعیل بن جعفر، عن أبی عبدالله علیه السلام، قال: «تمّم الصلاة فی أربعة مواطن: فی المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلی الله علیه وآله، ومسجد الکوفة، وحرم الحسین علیه السلام»(1).

فذکر عنوان الحرام فیه خاصّة مضافاً إلی الحسین علیه السلام دون الثلاثة، مع أنّ عنوان الحرمین ورد فی عدّة صحاح مضافاً إلی مکّة والمدینة.

ومثله مصحّح حذیفة بن منصور(2) وموثّق أبی بصیر(3).

ومرسل الشیخ فی المصباح قال بعد روایته عن حذیفة بن منصور المزبور: «وفی خبر آخر: فی حرم الله، وحرم رسوله، وحرم أمیر المؤمنین علیه السلام، وحرم الحسین علیه السلام»(4).

فمع:

1 - عموم لسان الدلیل لاموجب لحمله علی اللسان الخاصّ بعد کونهما مثبتین، وبنحو الاستغراق موضوعاً.

2 - مضافاً إلی ما تقدّم من تفاوت الفضل فی لسان الأدلّة فی نفس

ص:505


1- (1) الوسائل: أبواب صلاة المسافر ب 25 ح 14.
2- (2) الوسائل: أبواب صلاة المسافر ب 25 ح 23.
3- (3) الوسائل: أبواب صلاة المسافر ب 25 ح 25.
4- (4) الوسائل: أبواب صلاة المسافر ب 25 ح 24.

المسجد الحرام والحرم المکّی ومکّة مع وجود الفضل فی کلّ ذلک، وکذلک فی المسجد النبویّ والروضة وبیت فاطمة علیها السلام وبیوت النبیّ صلی الله علیه وآله والمدینة والحرم المدنی، فکذلک الحال فی مسجد الکوفة والکوفة ومرقد وحرم أمیر المؤمنین علیه السلام.

3 - مع ورود جملة من الروایات الصحیحة الواردة فی زیارته علیه السلام أنّ أصل حرم الأمیر علیه السلام هو مرقده علیه السلام، واستوجه المجلسی استظهار الشیخ فی النهایة والمبسوط أنّ الأصل فی حرمة الکوفة ومسجدها مرقده علیه السلام.

4 - فذکر المساجد من باب الأبرز شرفیّة فی نقاط تلک البلدان، کما تقدّم فی کلام الذکری، وهذا وجه التخصیص بعنوان المساجد فی بعض الروایات.

وأمّا حرم الحسین علیه السلام فقد تقدّم أنّ المفید فی المزار حمل الحائر علی نفس معنی الحرم، وأنّ التحدید بخمسة فراسخ وفرسخ وبالأذرع محمول علی تفاوت درجات القدسیّة والفضل، ووافقه یحیی بن سعید فی کتاب السفر، وأنّه قدّر بخمسة فراسخ وأربعة فراسخ وبفرسخ، وقال: (والکلّ حرم وإنْ تفاوتت الفضیلة).

ص:506

قاعدة العشرون: قاعدة: فی ان الاعواض المحرمة مسقطة للضمان

ص:507

ص:508

قاعدة العشرون: قاعدة: فی ان الاعواض المحرمة مسقطة للضمان

اشارة

قال السید الیزدی فی العروة الوثقی کتاب الطهارة:

(مسألة 8): لو تبین فساد العقد - بأن ظهر لها زوج أو کانت اخت زوجته أو أمها مثلا ولم یدخل بها - فلامهر لها، ولو قبضته کان له استعادته، بل لو تلف کان علیها بدله، وکذا ان دخل بها، وکانت عالمة بالفساد، واما ان کانت جاهلة فلها مهر المثل، فان کان ما اخذت ازید منه استعاد الزائد، وان کان أقل أکمله.

ونبحث القاعدة فی محاور ثلاثة:

المحور الأول: تحریر المسألة:

لو اخلت المرأة ببعض المدّة فیسقط من المهر بحسبها، فی غیر موارد العذر کالحیض.

ص:509

امّا توزیع المهر علی المدة فهو مقتضی کونها اجارة، الا ان الکلام فی المقدار الذی یوزع من المهر علی المدة، هل هو نصف المهر باعتبار ان الدخول یقابل بنصف أیضاً أو تمام المهر، ظاهر عبارات الاصحاب الثانی، وان کان مقتضی التزامهم بمقابلة الدخول نصف المهر عند عدمه هو الاوّل، لاسیما مع تصریحهم ان استقرار المهر مشروط بکل من الدخول والوفاء بالمدة، فالصحیح هو الاوّل.

وعلی أی تقدیر فیدل علی التوزیع ما ورد فی موثقة اسحاق بن عمار وصحیح عمر بن حنظلة(1) ، وفی صحیح آخر لعمر بن حنظلة قال: قلت لأبی عبدالله علیه السلام: أتزوج المرأة شهراً بشیء مسمی فتأتی بعض الشهر ولا تفی ببعض، قال: یحبس عنها من صداقها مقدار ما احتبست عنک، الا ایام حیضها فانها لها»(2).

نعم فی معتبرة(3) أُخْرَی له عن أبی عبدالله علیه السلام قال: قلت له أتزوج المرأة شهراً فاحبس عنها شیئاً فقال: نعم، خذ منها بقدر ما تخلفک، ان کان نصف الشهر فالنصف وان کان ثلثا فالثلث»(4).

ص:510


1- (1) أبواب المتعة باب 27 ح 1 و 3.
2- (2) أبواب المتعة، باب 27 ح 4.
3- (3) صالح بن السندی غیر موثق لکن حالة مستحسن لانه صاحب کتاب ویروی عنه ثقات وکبار الطائفة ویروی کتابه البرقی، ویروی عنه علی بن ابراهیم وابراهیم بن هاشم، والشیخ الطوسی له طریق الی کتابه فی الفهرست.
4- (4) أبواب المتعة، باب 27 ح 2.

الثانی: تحریر القاعدة: فی ضابطة التوزیع:

فان ظاهر جلّ الروایات هو التوزیع بحسب المدّة من دون التصریح بان تمام المهر یوزع أو نصف المهر، نعم فیمکن حمله علی مقتضی ما تقدم من ان الدخول یقابل بالنصف، والنصف الآخر یوزع علی المدّة، ولکن ظاهر خصوص معتبرة عمر بن حنظلة هو توزیع تمام المهر علی المدّة، وکذلک ظاهر عباراتهم فی التوزیع، الا انّ ما تقدم من قرائن اقوی وجها فی مقابلة الدخول بنصف المهر ووفاء المدة بالنصف الآخر، اذ لو فرض دخل بها بعد العقد علیها سنة أو سنوات ثم اخلّت بباقی المدة بعد الدخول فلازم احتمال توزیع تمام المهر هو ان لا یقابل الدخول الا بالنزر الیسیر وهو کما تری، بل ان موثق اسحاق بن عمار المتقدم فی ذیله من قوله علیه السلام بعد ما ذکر من توزیع المهر علی المدة بحسب ما اخلت ما خلی ایام الطمث قال علیه السلام: «ولا یکون لها الا ما احل له فرجها»(1) ، والجملة وان کانت لا تخلو من اجمال الاّ انّه بقرینة ما فی صحیحة حفص بن البختری عن أبی عبدالله علیه السلام قال: «اذا بقی علیه شیء من المهر وعلم ان لها زوجاً فما اخذته فلها بما استحل من فرجها، ویحبس علیها ما بقی عنده»(2) حیث ان ظاهر الصحیح ان

ص:511


1- (1) أبواب المتعة، باب 27 ح 3.
2- (2) أبواب المتعة، باب 28 ح 1.

اصل الوط ء والدخول واستحلال الفرج یقابل بشطر من المهر کما استفید فی موثقة سماعة من هبة المدّة من دون الوط ء، فلیس المهر یقابل بالمدة فقط، وکذلک الحال فی مکاتبة الریان بن شبیب, ومن ثمّ تفرض فی المقام صورة اخری وهی ما لو تبین فساد العقد، بان کان لها زوج، أو کان هناک مانع شرعی من موانع النکاح، وموجبات تحریمه، فانها وان لم تستحق المسمی بالعقد لفساده، الاّ انها تستحق مهر المثل مع الجهل، واما لو فرض انها کانت عالمة بالفساد فلا تستحق شیئاً لانه لا مهر لبغی، ولو فرض اخذها شیئاً من المهر وکانت قد اتلفته مع تحقق الوط ء فهل تضمن وتغرمه للرجل العاقد علیها، قد یقال بذلک، لانه فرض عدم استحقاقها لشیء من ذلک، لا مهر المثل ولا مهر المسمی، لکن قد یقال ان الرجل العاقد کان اقدامه غیر مجانی کما ان المرأة لم تمکّن من هذا الفعل علی أنه مجانی، وکون الفعل من ناحیتها حراماً أو فی الواقع فی نفسه حراماً لا مالیة له وان استلزم عدم استحقاقها القیمة المسماة ولا المثل الا انّ ضمانها لا یترتب علی عدم استحقاقها، بل هو مترتب علی ان ما بذله من المال وضع یدها علیه لم یکن باذن منه.

لایقال: ان اذنه کان مقیداً بالعقد الصحیح والوط ء الحلال، ولم یتم ذلک له ولم یستوفه لاسیما وانه تقرر ان لا مهر لبغی.

فانه یقال: ان المهر المسمی وان کان کذلک الا انّ طبیعی المهر والمال المبذول کان بازاء الوط ء، ولک أن تقول قد استوفی ذلک طبیعی

ص:512

الوط ء غایة الامر انه لم یتم له الوصف المطلوب، وان کان بنحو وحدة المطلوب لا تعدد المطلوب، الا انّه علی أی تقدیر قد استوفی حصة من المطلوب، وهذه الحصة وان لم تکن لها مالیة ومن ذلک لا تستحق المرأة البغی شیئاً، الا انّ استیفاء هذه الحصة لم تکن المرأة لتمکِّن الرجل منه بدون ذلک البذل، ولعل هذا البیان یستخرج منه قاعدة عامة فی باب الضمان فی الأعواض المحرمة انها وان لم تکن مضمونة لا بالقیمة المسماة ولا بقیمة المثل، الا انها توجب نفی الضمان القیمة التالفة مع فرض استیفاءها من الباذل للمال، ولعل هذا تفسیر ما تقدم من صحیح حفص بن البختری وان اعرض عن العمل به جماعة. ومثله ما رواه فی حسنة علی بن أحمد بن اشیم(1) قال: «کتب الیه الریان بن شبیب - یعنی ابا الحسن علیه السلام - الرجل یتزوج المرأة متعة بمهر الی اجل معلوم واعطاها بعض مهرها واخرته بالباقی ثم دخل بها وعلم بعد دخوله بها قبل أن یوفیها باقی مهرها انّه زوّجته نفسها ولها زوج مقیم معها، أیجوز حبس باقی مهرها أم لایجوز؟ فکتب لایعطیها شیئاً لانها عصت الله عزّوجل».

وظاهر قوله علیه السلام وان نفی اعطائها شیئاً، مما یفید عدم استحقاقها لکن الظاهر ان نفی الاعطاء هو بلحاظ الباقی لا بمعنی استرجاع المأخوذ، کما انّ عدم تعرضه علیه السلام لاسترجاع المأخوذ لیس

ص:513


1- (1) أبواب المتعة، باب 28 ح 2.

بمعنی استحقاقها للمقدار الذی أخذته، کیف والتعلیل الذی ذکره علیه السلام شامل لکلا المقدارین ولعدم استحقاقها شیئاً من رأس، بل الوجه فی ذلک محمول علی ما هو فی صیح حفص بن البختری، أی ان عدم الاسترجاع لما استحل من فرجها وانه لم یقدم علی ذلک مجاناً، وقد استوفی فی الجملة ما اقدم علیه وان لم یکن ذلک بمعنی استحقاقها للعوض، لکنه یقتضی عدم ضمانها، ولک ان تمثل لمن اقدم علی شراء طعام ما، فتبین بعدما اکل ذلک الطعام انه غیر الذی کان سمی وبذل العوض بازائه. کما انّه لابد من الالتفات الی تحریم الشیء علی انماط لاتوجب جمیعها سلب وهدر مالیة الشیء، فمثلاً حرمة المغصوب لا تعدم مالیته، وکذلک الامور المحرمة کالخنزیر والمیتة والخمر عند اهل الکتاب والکفار فیما لو تعاوضوا علیها ثم اسلموا، ونحو ذلک من الموارد، لاسیما وان الرجل فی المقام الوط ء من جهته وطی شبهة، و وط ء الشبهة له مالیة وان لم تستحق المرأة تلک المالیة من جهتها لان الوط ء من جهتها بغی وزنا(1).

ص:514


1- (1) وکذا صحیح الولید بن صبیح عن أبی عبدالله علیه السلام فی رجل تزوج امرأة حرة فوجدها أمة قد دلّست نفسها له قال: ان کان الذی زوجها ایاه من غیر موالیها فالنکاح فاسد قلت: فکیف یصنع بالمهر الذی اخذت منه، قال: ان وجد مما اعطاها شیء فلیأخذه، وان لم یجد شیئاً فلاشیء له الحدیث. الوسائل ابواب نکاح العبید والاماء باب 67 ح 1 ویعضد مفاد القاعدة ما فی ذیل هذا الصحیح من فرض آخر وهو تدلیس ولی الامة لکن المدلّس علیه یغرم عُشرها بما استحل من فرجها: أی ان

المحور الثالث: مثالان تطبیقیان للقاعدة:

مثال تطبیقی 1:

قال السید الیزدی فی العروة:

(مسألة 10): اذا قالت زوجتک نفسی الی شهر أو شهراً مثلاً، واطلقت اقتضی الاتصال بالعقد، وهل یجوز ان تجعل المدّة منفصلة عن العقد، بأن تعیّن المدّة شهراً مثلاً، ویجعل مبدأه بعد شهر من حین وقوع العقد أم لا؟ قولان: أحوطهما الثانی، بل لایخلو من قوة.

الشرح:

نسب الی المشهور صحة المدّة المنفصلة، وذهب جماعة الی عدم الصحة. وعلی الصحة هل یسوغ ان تعقد نفسها لغیره فیما بین ذلک أو بعد ذلک، وهل التحدید للمدة راجع الی المسبب للعقد وهی الزوجیة أو هو راجع للانتفاع کفعل مشروط، أو لملک المنفعة؟

ولو اطلق المدّة أو ابهمها من جهة الاتصال والانفصال فالاکثر علی انه ینصرف الی الاتصال وذهب ابن ادریس الی البطلان للجهالة.

ص:515

وعلی أی تقدیر فتقرب الصحة بأن عقد المتعة نظیر الاجارة، فکما یمکن عقدها علی مدة متأخرة علی العقد کاستئجار الأجیر للحج قبل موسم الحج بمدّة، فانّ عقد الاجارة منجّز فعلی، والملکیة للعوضین أیضاً فعلیة، غایة الامر ان المملوک متأخر، فالانشاء فعلی، والمنشأ فعلی وهو المسبب للعقد، الاّ ان متعلق المسبب متأخر، وکذلک الحال فی المقام فان انشاء الزوجیة فعلی، والمنشأ وهو المسبب وهی الزوجیة أیضاً وملکیة البُضع فعلیة الاّ أنّ المملوک - وهو منفعة البضع - متأخرٌ فالزوجیة فعلیة وهی زوجة بالفعل وان تأخرت مدة الاستمتاع عن العقد، الا انّه یبقی الکلام فی ترتب آثار الزوجیة، فمنها ما لاریب فی ترتبه نظیر حرمة تزویج الغیر منها، وتواضع مثل هذا الحکم.

وَمِنْهَا: ما هو محل الاختلاف کما لو مات الزوج فتعتدّ منه عدّة الوفاة، ومن هذا القبیل جواز نظره الیها، بل لو فرض انّه باشرها قبل المدّة فهل یکون قد فعل حراماً، کوط ء غیر الزوجة، أم انّه قد ارتکب خلاف الشرط فقط، فان مقتضی الزوجیة حلیة الوط ء والاستمتاع، وان کان یحرم من جهة الشرط، لکن مقتضی تخصیص ملکیة البضع للمدة المتأخرة هو عدم جواز وطئه فی نفسه، فکأنّه بمنزلة انقضاء المدّة. وعلی ضوء هذا التردد فی الآثار قد التزم البعض بانّ المدّة المتأخرة عبارة عن تحدید منتهی الزوجیة، أی ان منتهی تلک المدّة المتأخرة هو منتهی عقد الزوجیة، وأما مبدأ الزوجیة فهو من حین وقوع العقد،

ص:516

وأمّا مبدأ المدّة المتأخرة فهو مبدأ لما عینا من منافع المملوکة; وهذا نظیر لو ما اشترطت علیه ان لا یطؤها فی الفرج ویستمتع منها ما شاء فان غایة ذلک هو التبعیض فی استیفاء منافع الزوجیة بحسب الشرط من دون أن یکون تعلیق فی الزوجیة.

ان قلت: ان فی باب اجارة العین لو اقدم المستأجر علی الانتفاع بالعین قبل المدة المعینة المتأخرة فکان غاصباً، لا انه خالف الشرط فقط، فکذلک فی المقام، فهو زوج لها فی تلک المدة المعینة لا قبلها.

قلت: انه فرق بین باب ملکیة الاعیان والمنافع فی المعاوضات وباب نکاح عقد الزوجیة وملکیة البضع، فان الزوجیة غیر قابلة للتبعیض ولا للتقیید للحیثیة وانما الاجل غایة مفاده انقطاع الزوجیة ورفعها، نظیر الطلاق الرافع لدوام النکاح.

ألا تری ان المرأة المتمتع بها فی المدّة المتصلة بالعقد لایجوز لها أن تعقد نفسها للغیر فی المدّة المتأخرة عن انقضاء عقد الاجل الاول ومدته(1) بینما یجوز ذلک فی ملکیة الاعیان المستأجرة بأنّ یتصافق ویعقد علی العین الواحدة عقود اجارة متعددة فی آن واحد، ولکن بمدد زمانیة متعاقبة ومتناوبة.

ومن ثمّ ورد عدم جواز عقد الزوج الاول نفسه علی امرأته

ص:517


1- (1) أبواب المتعة، باب 23.

المتمتع بها لتحدید الزوج قبل أن یتم الاجل الاول أو هبته المدّة لها، وعلّل ذلک بأن ذلک شرطین فی شرط وهو فاسد(1).

فتحصل الفرق بین باب الزوجیة والنکاح وباب ملکیة الاعیان وان المدة المتأخرة عبارة عن تحدید فترة استیفاء وانتهاء الاجل. والظاهر ان هذا التقریر علی مقتضی القاعدة وتفسیر مارواه بکار بن کردم قال: قلت لأبی عبدالله علیه السلام رجل یلقی المرأة فیقول لها زوجینی نفسک ولا یسمی الشهر بعینه ثم یمضی فیلقاها بعد سنین فقال: له شهره ان کان سماه فان لم یکن سماه فلا سبیل له علیها(2).

فالشق الاول معمول علی انه عیّن شهراً متأخراً عن وقت العقد فیلقاها بعدُ قبل مضی الشهر المعیّن فیکون له شهره لانّها زوجته ولم تنته مدّة الاجل. واما اذا ابهم الشهر واطلقه فینصرف الی الاتصال، فاذا القاها بعده فتکون العلقة الزوجیة قد تصرمت ولاسبیل له علیها.

نعم حکی عن الشیخ فی التهذیب حمل الشق الثانی علی البطلان لعدم تعیین المدّة ولکنه تأویل من دون موجب، وظاهر السیاق خلافه.

هذا کله اذا لم یکن التقیید بالمدّة المتأخرة یوجب ظهور الانشاء والمنشأ فی التعلیق، والا فلایصحّ، ولکن بمجرد تقیید المدة المتأخرة

ص:518


1- (1) أبواب المتعة، باب 24.
2- (2) أبواب المتعة، باب 35 ح 1.

لاظهور له فی ذلک کما هو الحال فی اجارة العین مع التقیید للمدة المتأخرة.

مثال تطبیقی 2:

قال السید الیزدی فی العروة الوثقی: (مسألة 15): إذا کانت الموطوءة بالشبهة عالمة، بأن کان الاشتباه من طرف الواطئ فقط، فلا مهر لها إذا کانت حرّة، إذ لا مهر لبغی و لو کانت أمة ففی کون الحکم کذلک، أو یثبت المهر لأنه حق السید وجهان، لا یخلو الأوّل منهما من قوة.

الشرح:

أما فی الحرّة فانتفاء المهر واضح، إذ للعاهر الحجر و غیرها من النصوص الواردة فی نفی المهر عن البغی، بل هو مقتضی القاعدة لسقوط حرمة منفعة بضعها بإقدامها علی هدر بضعها(1).

وأما فی الأمة فقد حکی عن الشیخ فی المبسوط و ابن إدریس ثبوت المهر، و عن الشرائع عدم ثبوت شیء لها، و یظهر منه أن ما ورد فی الروایة من ثبوت العشر ونصفه من قیمتها تحدید شرعی کمهر تعبّدی بدل عن مهر المثل، وأنه إنما یثبت مع الجهل والاشتباه لا العلم.

وحکی عن ابن حمزة والمقنع والنهایة والقاضی والمدارک والریاض

ص:519


1- (1) وسائل الشیعة، أبواب العیوب و التدلیس: ب 9، ح 1، أبواب المتعة: ب 28، ح 2؛ و أبواب حد الزنا: ب 27، ح 6؛ أبواب حد الزنا: ب 18، ح 5.

ثبوت العشر فی البکر ونصف العشر فی الثیب، واختاره فی الجواهر.

واستدل بسقوط المهر بحسب مقتضی القاعدة بأنها بغی، ولا مهر لبغی نصاً عاماً، وبمقتضی إقدامها علی هدر منفعة بضعها، بل یُتأمل فی أصل ثبوت المالیة لمنفعة البضع فی الأمة، فإن ذلک ثابت فی الحرة، ومن ثمّ یقال لها: مهیرة، وعلی ضوء ذلک فیُتأمل فی إثبات الأرش فی موردها، الذی هو مفاد صحیح الفضیل والولید الآتیین، إذ لم یفرض فیهما علم الأمة بالحرمة.

ویرد علیه:

أولًا: إن منفعة البضع ذات مالیة فی الحرة والأمة سواء، غایة الأمر أن هناک فارقاً فی القیمة کما هو الحال فی أرش البکارة أیضاً فیهما، ولا یقاس منفعة البضع بسائر الاستمتاعات، مع أنه یظهر من روایة زرارة ثبوت مالیة لسائر الاستمتاعات فی الأمة، وهو غیر بعید بحسب العرف السوقی فی باب الإماء والعبید.

ثانیاً: إن إقدام الأمة علی الحرام لا یهدر منفعة بضعها؛ لأن حرمة المنفعة لیست متعلّقة بالأمة فقط وإنما متعلّقة بسیّدها أصالة، ولم یحصل منه هدر من المالیة، ومن ثمّ صحّ ما قیل: من أن ما ورد فی النصوص العامة من عدم المهر للبغی إنما هو مختص بالحرّة.

ثالثاً: إن الظاهر أن ما فی صحیح الفضیل والولید هو تحدید

ص:520

شرعی لمهر الأمة فی غیر موارد مهر المسمّی.

وما یقال: من اختصاص شبهة المهر بالحرة دون الأمة، لا ینافی ثبوت المالیة لبضع الأمة، ومن ثمّ یطلق علیه فی الحرّة فی موارد الاشتباه بالعقر، فعن الصحاح: أن العقر مهر المرأة إذا وطئت علی شبهة، فاستبدل عنوان المهر بالعقر فی المرأة فی هذه الحالة ولو کانت حرّة.

ومن ثمّ کان الأقرب فی مفاد الصحیحین کما ذکر صاحب الجواهر ثبوت التعبّد الشرعی کتحدید لقیمة مهر المثل للأمة فی کلّ موارد ثبوته من دون اختصاصه بمورد الصحیحین.

أما صحیح الفضیل بن یسار، قال: «قلت لأبی عبدالله علیه السلام: إن بعض أصحابنا قد روی عنک أنک قلت إذا أحل الرجل لأخیه جاریته فهی له حلال، فقال: نعم یا فضیل، قلت: فما تقول فی رجل عنده جاریة له نفیسة وهی بکر أحل لأخیه ما دون فرجها أله أن یفتضّها؟ قال: لا، لیس له إلّا ما أحلّ له منها، ولو أحل له قبلة منها لم یحلّ له سوی ذلک، قلت: أ رأیت إن أحل له ما دون الفرج فغلبته الشهوة فافتضها؟ قال: لا ینبغی له ذلک، قلت: فإن فعل أ فیکون زانیاً؟ قال: لا ولکن یکون خائناً ویغرم لصاحبه عشر قیمتها إن کانت بکراً وإن لم تکن فنصف عشر قیمتها»(1).

ص:521


1- (1) وسائل الشیعة، أبواب نکاح العبید و الإماء: ب 35، ح 1.

و أما صحیحة الولید بن صبیح عن أبی عبدالله علیه السلام: «فی رجل تزوج امرأة حرّة فوجدها أمة قد دلّست نفسها له، قال: إن کان الذی زوجها إیاه من غیر موالیها فالنکاح فاسد، قلت: فکیف یصنع بالمهر الذی أخذت منه؟ قال: إن وجد مما أعطاها شیئاً فلیأخذه وإن لم یجد شیئاً فلا شیء له، وإن کان زوجها إیاه ولی لها ارتجع علی ولیها بما أخذت منه ولموالیها علیه عشر ثمنها إن کانت بکراً وإن کانت غیر بکر، فنصف عشر قیمتها بما استحل من فرجها... الحدیث»(1) ، وفی کلا الصحیحین إثبات الغرامة للمالک، لحرمة ماله، وهی منفعة البضع، مما یقتضی عدم سقوط حرمته ببغی الأمة وأن العشر ونصفه بمثابة مهر المثل ولیس هو لخصوص البکارة، ومن ثمّ ثبت فی الثیّب فلیس هو أرش مقابل المهر.

والتعبیر فی الصحیحة الثانیة بما استحل من فرجها المراد به بما انتفع من بضعها، وإلا فلیس فی البین حلیة واقعیة.

ص:522


1- (1) وسائل الشیعة، أبواب نکاح العبید و الإماء: ب 67، ح 1.

ص:523

ص:524

فهرس الموضوعات

هویة الکتاب 4

المقدمة 5

القاعدة الأولی: قاعدة الاقتصاص من السب أو الإهانة 11

القاعدة الثانیة: قاعدة فی ثبوت القصاص بالتسبیب 17

الموطن الأول: إسقاط القصاص فی مورد الشرکة 17

سواء أکانت طولیة أم عرضیة 17

الموطن الثانی: کلمات الأعلام فی الصبی المأمور: 20

الموطن الثالث: 23

الموطن الرابع: تنقیح الحال فی التسبیب بالإکراه علی القتل 25

الموطن الخامس: 27

الموطن السادس: 27

الموطن السابع: الإکراه فی الجنایة علی الأطراف: 27

ضابطتان فی الحکم بالقصاص فی موارد التسبیب: 28

النقطة الثانیة: الأدلة فی المقام: 29

القاعدة الثالثة: فی تداخل القصاص والدیات وعدمه 35

النسبة بین الألسن الثلاثة: 42

القاعدة الرابعة: فِی القصاص بین الکفار بعضهم مَعَ بعض 49

المبحث الأول: ما دل علی ما ینافی القاعدة: 54

وجه عدم عموم القاعدة للکفار: 54

المبحث الثانی: أدلة القاعدة (عموم القصاص للکفار): 55

الدلیل الأول: القران الکریم: 55

الدلیل الثانی: الروایات: 62

قاعدة فرعیة: من احترم ماله من الکفار فله دیة الذمی: 69

القاعدة الخامسة: فِی القضاء بین الکفار وبین أهل الکتاب 75

توطئة: 75

ص:525

المقام الثانی: أدلّة الأقوال فی القاعدة: 80

الدلیل الأول: القران: 80

الدلیل الثانی: الإجماع: 81

الدلیل الثالث: 82

الدلیل الرابع: 82

الدلیل الخامس: 83

الدلیل السادس: 88

الدلیل السابع: 88

تتمة القاعدة: فی القضاء بین المخالفین: 89

الدلیل الأول: الروایات: 90

الدلیل الرابع: 95

الدلیل الخامس: 96

القاعدة السادسة: قاعدة فی إسلام أو کفر ابن الزنا 101

القاعدة السابعة: قاعدة الجب 121

الأولی: موارد تدعم القاعدة: 123

الجهة الثانیة: مورد القاعدة: 124

الجهة الثالثة: اشکال ودفعه: 125

القاعدة الثامنة: فی ثبوت القصاص علی کل جنایة عدوانیة 129

القاعدة التاسعة: قاعدة لا تقیة فی الدماء 135

القاعدة العاشرة: حرمة دم المسلم وعرضه وماله 139

الدلیل الثالث: الروایات: 143

ثانیا: من طرق السنّة: 145

الدلیل الرابع: سیرة النبی صلی الله علیه وآله: 148

تنقیح موضوع: 150

ما یوجب الخروج عن الإسلام: 150

النتیجة: 153

القاعدة الحادی عشرة: ضرورة التمییز بین السیرة فی صدر الإسلام 159

الفروق الرئیسیّة بین السیرة فی صدر الإسلام وبین سیرة بنی أمیة 160

ص:526

الفارق الأوّل: فی طریق إقامة الحکم: 160

الفارق الثانی: منهج النقد والرقابة للحاکم والحکم: 160

الفارق الثالث: مشروعیّة طاعة السلطان الجائر: 161

الفارق الخامس: استباحة المحرّمات: 168

القاعدة الثانی عشرة 173

مودة أهل البیت علیهم السلام ضرورة إسلامیّة 173

القاعدة الثالثة عشرة: قاعدة شوری الأمة فی نظام الحکم 183

فوارق الدیمقراطیّة والشوری: 187

الأوّل: موقعیة الشوری والمشارکة: 188

الثانی: الشوری بین الذاتیّة والطریقیّة: 190

الثالث: المدافعة بین الدیمقراطیّة واللیبرالیّة 191

(بین الشوری والحریات الفردیّة): 191

الرابع: تنامی القوّة الفردیّة والاستبداد: 191

الخامس: الترقّی الإنسانی فی مقابل الحضیض: 192

القاعدة الرابعة عشرة: قَاعدَِة فِی بناء نظام القدرة والقوة 195

ضرورة البحث: 195

المحور الأوّل: أنواع القدرة والقوّة ودوائرها: 197

نسبة العدالة مع العموم والمساواة والحریّة: 204

التغیّر والتدویل والتبدیل ضمانة للعموم: 207

اختلاف مراتب العموم شدّة وضعفاً بنحو متفاوت: 209

الاختصاص والعدل: 210

النظرة المجموعیّة والتجزّئیّة فی رسم العدالة: 212

القاعدة الخامسة عشر: قاعدة فی العدالة 217

أدلة العدالة: 217

ملاحظة ودفعها: 219

القاعدة السادسة عشر: اشتراک الحد والقصاص فی ماهیة جامعة واحدة 225

قاعدة: القصاص یدرء بالشبهات 231

الوجه الأول: 231

ص:527

قاعدة أخری: 232

الوجه الثانی: 232

الوجه الثالث: 233

الوجه الخامس: 234

القاعدة الثامنة عشر: قاعدة فی صلاحیات المرأة 239

توطئة: 239

محل البحث: 239

الاقوال فی المسالة: 242

ادلة القاعدة: 244

الآیات والأخبار الدالة علی عدم تولی المرأة: 244

الطائفة الأولی: ما یدل علی ضعف المرأة ولیونتها: 244

إشکالیة استحقار الاسلام للمرأة: 246

النصوص الشرعیة فی مکانة المرأة: 249

عظمة ادخال السرور علی المرأة: 254

البنات حسنات وجهات فضلهن علی الابناء: 254

عظمة کفالتهن: 255

حق المرأة کأم ومکانتها: 257

مکانة وشأن المرأة کزوجة وترک ضربها والعفو عن ذنبها: 260

استحباب اکرام الزوجة وترک ضربها: 262

الطائفة الثانیة: 270

من الآیات التی ذکرت أن المرأة عورة وآیات الحجاب: 270

القول بتاریخیة القرآن: 283

الطائفة الثالثة: 287

الآیة التی تجعل شهادة المرأة بنصف شهادة الرجل: 287

الطائفة الرابعة: 288

الآیات الدلالة علی ولایة الرجل علی المرأة: 288

تناسب طبیعة الأحکام 292

مع الطبیعة التکونیة للمرأة والرجل: 292

ص:528

الطائفة الخامسة: 297

الآیات الدالة علی أنهن نواقص حظوظ: 297

الطائفة السادسة: 299

الآیات التی تعرض لملکة سبأ: 299

خلاصة ما تقدم من هذه الطوائف: 305

أن الطائفة الأولی من الآیات: 305

والطائفة الثانیة وهی آیات الحجاب والتستر: 305

والطائفة الثالثة: 305

والطائفة الرابعة: 306

والطائفة الخامسة: 306

والطائفة السادسة وهی ما تقدم قریباً فی سورة سبأ: 306

طوائف الاخبار: 308

الطائفة الأولی: الموافقة للطائفة الرابعة من الآیات 309

الدالة علی ولایة الرجل علی المرأة: 309

أنها لا تتولی القضاء: 309

حسد المرأة وحق الزوج علیها: 363

مدارة المرأة: 365

قلة الصلاح فی المرأة: 368

تأدیب النساء: 370

ترک طاعة النساء: 370

تکامل الرجل والمرأة بالآخر: 378

الطائفة الثالثة: ضعف الرأی: 379

الطائفة الثانیة: الآمرة بالحجاب: 386

ستر المرأة: 386

مصافحة النساء: 390

کیفیة مبایعة النبی صلی الله علیه وآله للنساء: 391

النهی عن الدخول علی النساء: 391

السلام علی النساء: 392

ص:529

المیزان فی درجات حکم الاختلاط: 393

بعض الأدلة التی استدل بها علی ولایة المرأة: 394

1 - منها: الاطلاقات: 394

2 - منها: الأصل العملی: 395

3 - منها: الأخبار الواردة: 396

القاعدة التاسعة عشر: قاعدة فی إتمام الصلاة فی کل مراقد آل البیت 407

تفصیل الأقوال فی المسألة: 407

أقوال الأصحاب فی التعمیم: 407

أقوال الأصحاب فی التعمیم: 408

وأمّا الثانی - وهی المخالفة للأخبار المتواترة: 411

وأمّا الثالث - وهو التعمیم لکلّ مکان ذی فضیلة: 412

أقوال فی التوسعة من جهات أخری: 422

ملحق الأقوال: 428

تقریب الأدلّة علی التعمیم فی موضوع التخییر: 428

الوجه الأوّل: اصطیاد العموم فی الموضوع من الأدلَّة: 429

الوجه الثانی: عموم التعلیل 440

(قدسیة المکان) یعمم الموضوع: 440

فذلکة فی التعلیل: 443

الوجه الثالث: تعدِّد ألسنة الموضوع للإتمام الواردة فی الروایات عدداً وعنواناً شاهد علی عموم الموضوع: 446

إختلاف الألسنة فی عدد المواطن: 446

اللسانان الآخران: المشاهد ومشاهد النبی صلی الله علیه وآله: 447

الوجه الرابع: التنصیص الخاص علی الإتمام 452

عند قبور بقیة الأئمة المعصومین علیهم السلام: 452

تعدّد ألفاظ المتن وتعدّد الطرق: 453

فقه ودلالة الروایة: 455

الوجه الخامس: عموم موضوع الإتمام 460

الملحقات والتبیهات 463

ملحق الوجه الأول لتبیین عموم الموضوع: 463

تنبیهات مسألة عموم التخییر وأفضلیة الإتمام فی مشاهد الأئمة علیهم السلام: 463

ص:530

ملحق الوجه الأوَّل: لتبیین عموم الموضوع: 463

فضیلة وشرف مشاهد المعصومین: 463

آیة بیوت النور: 467

ما ورد من إتمام أمیر المؤمنین علیه السلام: 496

الصلاة فی مسجد براثا أربعة أیّام: 496

مؤیّدات أخری للتعمیم: 501

الثانی: توسعة محل التخییر للبلدان الأربعة: 504

القاعدة العشرون: فِی أنَّ الأعواض المحرمة مسقطة للضمان 509

المحور الأول: تحریر المسألة: 509

الثانی: تحریر القاعدة: 511

فی ضابطة التوزیع: 511

المحور الثالث: مثالان تطبیقیان للقاعدة: 515

فهرس الموضوعات 525

فهرست إجمالی لکتاب بحوث فی القواعد الفقهیة 533

ص:531

ص:532

فهرست إجمالی لکتاب بحوث فی القواعد الفقهیة

فی أجزائه الأربعة

الجزء الأول

ثمانیة عشر قَاعدَِة، وَهِیَ:

1 - قاعدة سوق المسلمین.

2 - قاعدة التقیة.

3 - قاعدة الإمکان فی الحیض.

4 - قاعدة حرمة إهانة المقدسات.

5 - قاعدة نجاسة کل مسکر.

6 - قاعدة الأصل فی الأموال الاحتیاط.

7 - قاعدة إخبار ذی الید.

8 - قاعدة الإقرار بحق مشاع.

9 - قاعدة حق الله وحق الناس.

10 - قاعدة فی المیتة.

11 - قاعدة فی انفعال الماء القلیل.

12 - قاعدة کل کافر نجس.

13 - قاعدة الإیمان والکفر.

14 - قاعدة تکلیف الکفار بالفروع.

15 - قاعدة التبعیة.

16 - قاعدة فی عبادة الکافر والمخالف.

17 - قاعدة عموم ولایة الأرحام.

18 - قاعدة أصالة عدم التذکیة.

ص:533

الجزء الثانی

أربعة وعشرون قاعدة وهی:

19 - قاعدة (الفراش).

20 - قاعدة (یحرم من الرضاع ما یحرم من النسب).

21 - قاعدة (المرأة مصدقة فی قولها علی نفسها وشؤونها).

22 - قاعدة (حرمة تلذذ غیر الزوجین).

23 - قاعدة (فی وحدة ماهیة النکاح).

24 - قاعدة (فی تداخل العدد).

25 - قاعدة (عموم حرمة المس فی الأجنبیة).

26 - قاعدة (فی التبرج بالزینة).

27 - قاعدة (فی الفرق بین النکاح والسفاح).

28 - قاعدة (فی المال او الحق المأخوذ استمالة أو اکراها).

29 - قاعدة فی لزوم الفحص الموضوعی قبل البینة أو الیمین

30 - قاعدة: فی نظام التحکیم والصلح فی النزاعات.

31 - قاعدة (حق المرأة العشرة بالمعروف أو التسریح بإحسان).

32 - قاعدة (شرطیة الإسلام فی الولایة).

33 - قاعدة (فی عموم قاعدة ولایة الأرحام).

34 - قاعدة (فی حرمة وقوع الفتنة الشهویة).

35 - قاعدة (بطلان الإحرام ببطلان النسک).

36 - قاعدة (فی تقوّم مشروعیة التمتع بالإحرام من بُعْد).

37 - قاعدة (فی صحة النسک مع الخلل غیر العمدی فی الطواف والسعی).

38 - قاعدة (بطلان إدخال نسک فی نسک).

39 - قاعدة (لزوم الحج من قابل بفساد الحج).

40 - قاعدة (تباین أو وحدة أنواع الحج).

41 - قاعدة (دفع الأفسد بالفاسد).

42 - قاعدة (المصلحة).

ص:534

الجزء الثالث

ستة عشر قاعدة وهی:

43 - قاعدة العرض علی الکتاب والسنة.

44 - قاعدة العقود تابعة للقصود.

45 - قاعدة لا تبع ما لیس عندک.

46 - قاعدة عمد الصبی خطا.

47 - قاعدة لزوم العسر والحرج.

48 - قاعدة لا ضرر.

49 - قاعدة ان المتنجس ینجس.

50 - قاعدة فی تعیین المالک لما یقابل الدین والوصیة من الترکة.

51 - قاعدة شرطیة اذن الاب فی اعمال الصبی.

52 - قاعدة من ادرک المشعر فقد ادرک الحج.

53 - قاعدة الشعائر الدینیة.

54 - قاعدة توسعة حریم مواسم الشعائر زمانا ومکانا.

55 - قاعدة المشی الی العبادة عبادة.

56 - قاعدة رجحان الشعائر ولو مع الخوف.

57 - قاعدة عمارة مراقد الائمة فریضة هامة.

58 - قاعدة تعدد طرق الحکایة والإخبار عن الواقع.

الجزء الرابع

عشرون قاعدة وهی:

59 - قاعدة الاقتصاص من السب او الإهانة.

60. - قاعدة فی ثبوت القصاص بالتسبیب.

61 - قاعدة فی تداخل القصاص والدیات وعدمه.

62 - قاعدة فی القصاص بین الکفار بعضهم مع بعض.

63 - قاعدة فی القضاء بین الکفار وبین اهل الکتاب وبین اهل الخلاف.

64 - قاعدة فی اسلام او کفر ابن الزنا.

ص:535

65 - قاعدة الجب.

66 - قاعدة فی ثبوت القصاص علی کل جنایة عدوانیة فی النفس او الطرف.

67 - قاعدة لا تقیة فی الدماء.

68 - قاعدة فی حرمة دم المسلم وعِرضه وماله.

69 - قاعدة فی ضرورة التمییز بین السیرة فی صدر الإسلام

70 - قاعدة فی مودّة أهل البیت علیهم السلام

71 - قاعدة شوری الأمّة فی نظام الحکم.

72 - قاعدة فی بناء نظام القدرة والقوّة فی الکیان والنظام الإسلامی

73 - قاعدة فی العدالة.

74 - قاعدة اشتراک الحد والقصاص فی ماهیة جامعة واحدة.

75 - قاعدة القصاص یدرء بالشبهات.

76 - قاعدة فی صلاحیات المرأة.

77 - قاعدة فی صلاة المسافر تماما فی کل مراقد ال البیت لا خصوص الاماکن الاربعة.

78 - قاعدة الاعواض المحرمة مسقطة للضمان.

وسیاتی تتمة باقی القواعد فی اجزاء قادمة ان شاء الله تعالی

ص:536

المجلد 5

اشارة

سرشناسه:سند، محمد، 1962- م.

عنوان و نام پدیدآور:بحوث فی القواعد الفقهیه [کتاب]: تقریرات محمدالسند/ بقلم مشتاق الساعدی.

مشخصات نشر:قم: موسسه محکمات الثقلین؛ تهران: نشر صادق، 13 -

مشخصات ظاهری:5ج.

شابک:978-600-5215-35-9

یادداشت:عربی.

یادداشت:فهرستنویسی بر اساس جلد چهارم، 1437ق.= 2016م.= 1395.

یادداشت:کتاب حاضر بر اساس تقریرات محمد السند نوشته شده است.

موضوع:فقه -- قواعد

موضوع:Islamic law -- *Formulae

موضوع:اصول فقه شیعه

شناسه افزوده:ساعدی، مشتاق

رده بندی کنگره:BP169/5/س9ب3 1300ی

رده بندی دیویی:297/324

شماره کتابشناسی ملی:4803290

ص :1

اشارة

بحوث فی القواعد الفقهیه المجلد 5

تقریرات محمدالسند

بقلم مشتاق الساعدی

ص :2

هویة الکتاب

عنوان الکتاب: بحوث فِی القواعد الفقهیة ---- الجزء الخامس

المؤلف: تقریرا لأبحاث المرجع الدینی المحقق الشَّیْخ مُحمَّد السَّنَد

بقلم: الشَّیْخ مشتاق الساعدی

سنة الطبع: 2017 میلادیة

عدد صفحات الکتاب: 520

الإخراج الفنی: السِّیّد عبدالله الهاشمی - النجف الأشرف

حقوق الطبع محفوظة

ص:3

ص:4

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله رب العالمین والصلاة والسلام علی خیر الخلق اجمعین محمد النبی الامین واله الطاهرین المعصومین.

بین یدی القارئ العزیز نطرح الجزء الخامس من موسوعة(بحوث فی القواعد الفقهیة) التی هی نتاج استاذنا المحقق سماحة المرجع الدینی الشیخ محمد السند(دام ظله الشریف).

وقد جاء هذا الجزء متمما للاجزاء الاربعة الماضیة التی بحث فیها مجموعة من القواعد الفقهیة فی ابحاث الخارج الفقهیة والاصولیة, بالاضافة الی فوائد لها صلة بتلک القواعد.

وجاء هذا الجزء حاویا لقواعد متنوعة اکثرها من باب القصاص والقضاء بالاضافة لقواعد اخری.

وقواعد هذا الجزء هی:

1 - قاعدة لا یبطل دم امرئ مسلم.

2 - قاعدة فی هدر دم من هتک او اعتدی علی غیره دفعا او عقوبة.

3 - قاعدة فی اللوث والتهمة واثارها القانونیة.

ص:5

4 - قاعدة فی جواز التحری والفحص من قبل القاضی للمتهم باللوث.

5 - قاعدة قضائیة: قبول الدعاوی لتعدد المتنازعین عرضا وطولا.

6 - قاعدة فی باب الجنایات: (تقدیم الأسبق زمنا فی حق الجنایة).

7 - قاعدة باب الجنایات: (لا یجنی الجانی علی اکثر من نفسه).

8 - قاعدة فی(تقدیم حق جنایة العضو علی حق قصاص النفس)

9 - قاعدة فی هدر دم المعتدی لا یحسب قصاصا.

10 - قاعدة فی القصاص العرفی.

11 - قاعدة المثلیة فی الاطراف والاعضاء والجروح لوحدة العنوان او المحل.

12 - قاعدة فی سقوط القصاص.

13 - قاعدة فی غایة القصاص.

14 - قاعدة فی قصاص الاطراف وانها لمجرد ابانة العضو او للشین ایضا؟.

15 - قاعدة فی تبعیض القصاص فی الاطراف والجراحات.

16 - قاعدة: ان الدیة فی طول القصاص استیفاء وفی عرضه موضوعا وموجبا.

17 - قاعدة فی باب الصلاة: (فِی إجزاء الاضطراری بَعْض الوقت).

18 - قاعدة فی فقه العقیدة: (التوسل عبادة توحیدیة) وهی من تقریر فضیلة الاخ الشیخ محمد عیسی ال مکباس دام توفیقه.

19 - قاعدة فی الفقه الاجتماعی والسیاسی: قاعدة التعایش السلمی(التقریب

ص:6

بین المذاهب), وهی من تقریر فضیلة الاخ الشیخ علی حمود العبادی دام توفیقه.

20 - قاعدة فی(شرطیة الولایة فی صحة التوبة والعبادات وقبولها ونیة القربة), وهی من تقریر فضیلة الاخ الشیخ قیصر التمیمی دام توفیقه.

هذا تمام القواعد التی بحثها سماحة الشیخ الاستاذ دام ظله فی هذا الجزء راجیا من الله تعالی ان یمد بعمره الشریف لخدمة الاسلام والمسلمین انه قریب مجیب.

وقع الفراغ منه فی جوار مولی الموحدین

وسید الوصیین علیه السلام فی 15 من ذی القعدة 1437.

مشتاق الساعدی

ص:7

ص:8

القاعدة الأولی: لا یطل أو (لا یبطل) دم امرئ مسلم

ص:9

ص:10

القاعدة الاولی: لا یطل أو (لا یبطل) دم امرئ مسلم أو (کل مقتول غیر عدوانی تضمن دیتة من بیت المال)

محل القاعدة:

مورد القاعدة فیما اذا استند القتل الی انسان قاتل ولکن اما عدوانی لم یعثر علیه او کان القاتل معذورا کالمدافع مع قصور المقتول او المقتول بحکم القاضی المعذور ومن ثم فما ورد فی(الجبار) وهو الهدر انما استند القتل الی غیر انسان قاتل وسیاتی ذکر جملة روایات دالة علی تحدید موضوع القاعدة.

تحریر المسالة:

ان دیة المجنون المقتول مدافعة من القاتل یمکن تقریر ثبوتها بعدة امور, منها:

الامر الأول: صحیحة ابی بصیر: قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ علیه السلام عَنْ رَجُلٍ قَتَلَ رَجُلًا مَجْنُوناً - فَقَالَ إِنْ کَانَ الْمَجْنُونُ أَرَادَهُ - فَدَفَعَهُ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا شَیْ ءَ عَلَیْهِ مِنْ قَوَدٍ وَلَا دِیَةٍ - وَیُعْطَی وَرَثَتُهُ دِیَتَهُ مِنْ بَیْتِ مَالِ الْمُسْلِمِینَ - قَالَ وَإِنْ کَانَ قَتَلَهُ مِنْ غَیْرِ أَنْ یَکُونَ الْمَجْنُونُ أَرَادَهُ - فَلَا قَوَدَ لِمَنْ لَا یُقَادُ مِنْهُ - وَأَرَی أَنَّ عَلَی قَاتِلِهِ الدِّیَةَ فِیمَالِهِ - یَدْفَعُهَا إِلَی وَرَثَةِ الْمَجْنُونِ وَیَسْتَغْفِرُ الله وَیَتُوبُ إِلَیْهِ).

وکذلک الروایة الصحیحة الی ابی الورد قَالَ: قُلْتُ لِأَبِی عَبْدِالله أَوْ أَبِی

ص:11

جَعْفَرٍ علیهما السلام أَصْلَحَکَ الله رَجُلٌ حَمَلَ عَلَیْهِ رَجُلٌ مَجْنُونٌ فَضَرَبَهُ الْمَجْنُونُ ضَرْبَةً فَتَنَاوَلَ الرَّجُلُ السَّیْفَ مِنَ الْمَجْنُونِ فَضَرَبَهُ فَقَتَلَهُ فَقَالَ أَرَی أَنْ لَا یُقْتَلَ بِهِ وَلَا یُغْرَمَ دِیَتَهُ وَتَکُونُ دِیَتُهُ عَلَی الْإِمَامِ وَلَا یَبْطُلُ دَمُهُ (1) .

الامر الثانی: طائفة من روایات(لا یطل او (لا یبطل) دم امرئ مسلم):

1 - روایة بُرَیْدِ بْنِ مُعَاوِیَةَ الْعِجْلِیِّ قَالَ سُئِلَ أَبُو جَعْفَرٍ علیه السلام عَنْ رَجُلٍ قَتَلَ رَجُلًا عَمْداً فَلَمْ یُقَمْ عَلَیْهِ الْحَدُّ وَلَمْ تَصِحَّ الشَّهَادَةُ حَتَّی خُولِطَ وَذَهَبَ عَقْلُهُ ثُمَّ إِنَّ قَوْماً آخَرِینَ شَهِدُوا عَلَیْهِ بَعْدَ مَا خُولِطَ أَنَّهُ قَتَلَهُ فَقَالَ إِنْ شَهِدُوا عَلَیْهِ أَنَّهُ قَتَلَ حِینَ قَتَلَ وَهُوَ صَحِیحٌ لَیْسَ بِهِ عِلَّةٌ مِنْ فَسَادِ عَقْلٍ قُتِلَ بِهِ وَإِنْ لَمْ یَشْهَدُوا عَلَیْهِ بِذَلِکَ وَکَانَ لَهُ مَالٌ یُعْرَفُ دُفِعَ إِلَی وَرَثَةِ الْمَقْتُولِ الدِّیَةُ مِنْ مَالِ الْقَاتِلِ وَإِنْ لَمْ یَتْرُکْ مَالًا أُعْطِیَ الدِّیَةُ مِنْ بَیْتِ الْمَالِ وَلَا یُطَلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ (2)).

یقرب ذلک:

ان الضمان باللوث مع احتمال عدم ضمان المتهم لیس الا حیطة علی حرمة دم المسلم.

2 - معتبرة ابی بصیر: سألتُ أبا عبد الله.... فَإِذَا ادَّعَی الرَّجُلُ عَلَی الْقَوْمِ أَنَّهُمْ قَتَلُوا کَانَتِ الْیَمِینُ لِمُدَّعِی الدَّمِ قَبْلَ الْمُدَّعَی عَلَیْهِمْ فَعَلَی الْمُدَّعِی أَنْ یَجِیءَ بِخَمْسِینَ یَحْلِفُونَ أَنَّ فُلَاناً قَتَلَ فُلَاناً فَیُدْفَعُ إِلَیْهِمُ الَّذِی حُلِفَ عَلَیْهِ فَإِنْ شَاءُوا عَفَوْا وَإِنْ شَاءُوا قَبِلُوا الدِّیَةَ وَإِنْ لَمْ یُقْسِمُوا کَانَ عَلَی الَّذِینَ ادُّعِیَ عَلَیْهِمْ أَنْ یَحْلِفَ مِنْهُمْ

ص:12


1- (1) وسائل الشیعة: ج 29، ص 72.
2- (2) تهذیب الأحکام: ج 10، ص 232.

خَمْسُونَ مَا قَتَلْنَا وَلَا عَلِمْنَا لَهُ قَاتِلًا فَإِنْ فَعَلُوا أَدَّی أَهْلُ الْقَرْیَةِ الَّذِینَ وُجِدَ فِیهِمْ وَإِنْ کَانَ بِأَرْضِ فَلَاةٍ أُدِّیَتْ دِیَتُهُ مِنْ بَیْتِ مَالِ الْمُسْلِمِینَ فَإِنَّ أَمِیرَ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام کَانَ یَقُولُ لَا یُطَلَّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ (1) .

3 - ما رواه جَمِیلِ بْنِ دَرَّاجٍ وَابْنِ حُمْرَانَ عَنْ أَبِی عَبْدِ الله علیه السلام قَالَ: قُلْنَا أَ تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِی الْحُدُودِ قَالَ فِی الْقَتْلِ وَحْدَهُ إِنَّ عَلِیّاً علیه السلام کَانَ یَقُولُ لَا یُطَلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ (2) .

الامر الثالث:

موثقة ابی بصیر عَنْ أَبِی عَبْدِ الله علیه السلام قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ غَشِیَهُ رَجُلٌ عَلَی دَابَّةٍ - فَأَرَادَ أَنْ یَطَأَهُ فَزَجَرَ الدَّابَّةَ - فَنَفَرَتْ بِصَاحِبِهَا فَطَرَحَتْهُ وَکَانَ جِرَاحَةٌ أَوْ غَیْرُهَا فَقَالَ لَیْسَ عَلَیْهِ ضَمَانٌ - إِنَّمَا زَجَرَ عَنْ نَفْسِهِ وَهِیَ الْجُبَارُ(3).

قد یقال:

ان الروایة نافیة للضمان من بیت المال نظرا لقوله علیه السلام وهی الجبار؟

فانه یقال:

الصحیح انها نافیة للضمان عن القاتل المدافع وعن تسبیبه فلم یبق الا فعل الدابة وهی جبار, فضم کلا المقدمتین وهی نفی الضمان عن نفسه وهو الزاجر واسناد الفعل للدابة ینتج عدم الدیة لا من الزاجر ولا من بیت المال, ومفهوم

ص:13


1- (1) وسائل الشیعة: ج 29، ص 157.
2- (2) الکافی: ج 7، ص 390.
3- (3) وسائل الشیعة: ج 29، ص 275.

ذلک انه لو لم یکن الفعل مستندا للعجماء ونحوها من أفعال السوانح الطبیعیة لتقرر الضمان من بیت المال.

الامر الرابع:

ان فی جملة من الروایات حصر المهدور دمه من المسلمین بالمعتدی بوصفه دمه هدر, ومفهومها هو ان دم المسلم محترم ومع عدم ضمان دمه لاحد فلا محال ان ضمانه من بیت المال.

ویدل علی ذلک:

روایة الْحَلَبِیِّ عَنْ أَبِی عَبْدِ الله علیه السلام قَالَ: أَیُّمَا رَجُلٍ قَتَلَهُ الْحَدُّ فِی الْقِصَاصِ فَلَا دِیَةَ لَهُ - وَقَالَ أَیُّمَا رَجُلٍ عَدَا عَلَی رَجُلٍ لِیَضْرِبَهُ - فَدَفَعَهُ عَنْ نَفْسِهِ فَجَرَحَهُ أَوْ قَتَلَهُ فَلَا شَیْ ءَ عَلَیْهِ - وَقَالَ أَیُّمَا رَجُلٍ اطَّلَعَ عَلَی قَوْمٍ فِی دَارِهِمْ - لِیَنْظُرَ إِلَی عَوْرَاتِهِمْفَفَقَئُوا عَیْنَهُ - أَوْ جَرَحُوهُ فَلَا دِیَةَ عَلَیْهِمْ - وَقَالَ مَنْ بَدَأَ فَاعْتَدَی فَاعْتُدِیَ عَلَیْهِ فَلَا قَوَدَ لَهُ (1)).

وروایة السَّکُونِیِّ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ آبَائِهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلی الله علیه و آله مَنْ شَهَرَ سَیْفاً فَدَمُهُ هَدَرٌ(2).

وغیرهما.

ویقرب بان عمومات احترام دم المسلم تدل علی ان دمه محترم وبضمیمة عدم ضمان القاتل بموجب ما یسقط الضمان والمفروض ان المقتول فی قتله لم یکن عدوانیا فلا محالة یکون مقتضی اطلاق حرمة دمه ضمان دیته من بیت المال.

ص:14


1- (1) وسائل الشیعة: ج 29، ص 59.
2- (2) المصدر: ص 239.

القاعدة الثانیة: فی هدر دم من هتک او اعتدی علی غیره دفعا او عقوبة

ص:15

ص:16

القاعدة الثانیة: فی هدر دم من هتک أو اعتدی

علی غیره دفعا أو عقوبة

تحریر القاعدة:

وتحریر القاعدة فی مقامین مع ذکر فائدة:

اما القاعدة فتدرس حیثیة عامة وهی وظیفة الزوج تجاه المعتدی علی زوجته بالزنا.

واما الفائدة فتذکر حیثیة خاصة وهی حکم ووظیفة الزوج تجاه زوجته الزانیة.

القاعدة فی مقامین:

المقام الأول:

الاقوال:

الشیخ فی النهایة وابن ادریس السرائر قیدا الحکم بکون الزانی والزانیة محصنین, ویستفاد من هذا القید انه من باب الترخیص فی إقامة الحد بینهما.

والمحقق الحلی فی النکت جزم بالاطلاق, قال قدس سره: (وقد روینا فیما سلف

ص:17

عن جماعة: أن من دخل داراً للتلصّص أو الزنا، فدمه هدر).

حکی العلامة فی التحریر عن الشیخ قد رخص فی الغیبة إقامة الحدود علی المملوک والولد والزوجة ان امن الضرر.

وفی الفقه علی المذاهب الأربعة ان قتل الزانی بامراته مما اتفقت علیه کل الشرائع.

المقام الثانی:

الأدلة:

وتدل علی ذلک عدة ادلة:

الدلیل الأول:

القران الکریم: قوله تعالی: (وَ جَزاءُ سَیِّئَةٍ سَیِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَ أَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَی اللّهِ)1 .

وقوله تعالی: (فَمَنِ اعْتَدی عَلَیْکُمْ فَاعْتَدُوا عَلَیْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدی عَلَیْکُمْ)2 .

وقوله تعالی: (إِنَّما جَزاءُ الَّذِینَ یُحارِبُونَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ یَسْعَوْنَ فِی الْأَرْضِ فَساداً أَنْ یُقَتَّلُوا أَوْ یُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَیْدِیهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ یُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِکَ لَهُمْ خِزْیٌ فِی الدُّنْیا وَ لَهُمْ فِی الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِیمٌ ( 33)3 .

فالایات کما تشرع الرد علی الاعتداء بعد وقوعه کذلک یمکن استفادة

ص:18

شمولها لما قبل وقوع الاعتداء بالقتل مثلا, وذلک لان من استباح حریم الغیر بالمخاطرة والمعرضیة للقتل او مادونه فقد قام بالاعتداء علی الغیر, فللغیر ان یقابل ذلک بالمثل لدفع المخاطر فهو نحو من انحاء الدفع, وهو کما یکون علی صعید فردی فهو قد یکون علی صعید جماعی کما حصل من الرسول الأعظم مع بنی النظیر وبنی قریظة وغیرهم.

الدلیل الثانی:

طوائف من الروایات:

الطائفة الأولی:

مصححة عَبْدِ الله بْنِ سِنَانٍ عَنْ أَبِی عَبْدِالله علیه السلام قَالَ: قُلْتُ لَهُ رَجُلٌ تَزَوَّجَ امْرَأَةً - فَلَمَّا کَانَ لَیْلَةُ الْبِنَاءِ - عَمَدَتِ الْمَرْأَةُ إِلَی رَجُلٍ صَدِیقٍ لَهَا - فَأَدْخَلَتْهُ الْحَجَلَةَ - فَلَمَّا ذَهَبَ الرَّجُلُ یُبَاضِعُ أَهْلَهُ - ثَارَ الصَّدِیقُ فَاقْتَتَلَا فِی الْبَیْتِ فَقَتَلَ الزَّوْجُ الصَّدِیقَ - وَقَامَتِ الْمَرْأَةُ فَضَرَبَتِ الرَّجُلَ فَقَتَلَتْهُ بِالصَّدِیقِ - قَالَ تَضْمَنُ الْمَرْأَةُ دِیَةَ الصَّدِیقِ وَتُقْتَلُ بِالزَّوْجِ (1).

ورواها الشیخ الطوسی والکلینی باسناد اخر.

الطائفة الثانیة:

ما ورد انه من اطلع علی دار قوم لینظر عوراتهم:

وهنا نقاط:

1 - لسان هذه الطائفة لیس جواز ذلک للدفاع بل ظاهرها انه جزاء وحد

ص:19


1- (1) وسائل الشیعة: ج 29، ص 258.

عقوبة, بشهادة عدم کونه دفعا بحسب اطلاق هذه الروایات المرخصة بفقأ العین من دون انذار وزجر مسبق.

2 - ان کثیر منها صحاح.

3 - ان للاطلاع علی العورات مراتب منها ما یصل الی اباحة دمه.

4 - ان الحکم بجواز العقوبة غیر متوقف علی اثبات ذلک بالبینة وان کان الاثبات هو لدرء القصاص.

وهی عدة روایات:

1 - صحیح حَمَّادِ بْنِ عِیسَی عَنْ أَبِی عَبْدِالله علیه السلام قَالَ: بَیْنَمَا رَسُولُ الله فِی بَعْضِ حُجُرَاتِهِ - إِذِ اطَّلَعَ رَجُلٌ فِی شَقِّ الْبَابِ وَبِیَدِ رَسُولِ الله صلی الله علیه و آله مِدْرَاةٌ - فَقَالَ لَوْ کُنْتُ قَرِیباً مِنْکَ لَفَقَأْتُ بِهِ عَیْنَکَ (1).

2 - معتبرة مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِی جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: عَوْرَةُ الْمُؤْمِنِ عَلَی الْمُؤْمِنِ حَرَامٌ - وَقَالَ مَنِ اطَّلَعَ عَلَی مُؤْمِنٍ فِی مَنْزِلِهِ - فَعَیْنَاهُ مُبَاحَةٌ لِلْمُؤْمِنِ فِی تِلْکَ الْحَالِ - وَ مَنْ دَمَرَ عَلَی مُؤْمِنٍ بِغَیْرِ إِذْنِهِ - فَدَمُهُ مُبَاحٌ لِلْمُؤْمِنِ فِی تِلْکَ الْحَالَةِ الْحَدِیثَ (2).

3 - معتبرة عُبَیْدِ بْنِ زُرَارَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله علیه السلام یَقُولُ بَیْنَمَا رَسُولُ الله صلی الله علیه و آله فِی حُجُرَاتِهِ مَعَ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ - وَمَعَهُ مَغَازِلُ یَقْلِبُهَا إِذْ بَصُرَ بِعَیْنَیْنِ تَطَّلِعَانِ - فَقَالَ لَوْ أَعْلَمُ أَنَّکَ تَثْبُتُ لِی لَقُمْتُ حَتَّی أَنْخُسَکَ - فَقُلْتُ نَفْعَلُ نَحْنُ مِثْلَ هَذَا إِنْ فُعِلَ مِثْلُهُ - فَقَالَ إِنْ خَفِیَ لَکَ فَافْعَلْهُ (3).

ص:20


1- (1) من لا یحضره الفقیه: ج 4، ص 101.
2- (2) وسائل الشیعة: ج 29، ص 66.
3- (3) وسائل الشیعة: ج 29، ص 67.

4 - مصحح الْعَلَاءِ بْنِ الْفُضَیْلِ عَنْ أَبِی عَبْدِالله علیه السلام قَالَ: إِذَا اطَّلَعَ رَجُلٌ عَلَی قَوْمٍ یُشْرِفُ عَلَیْهِمْ - أَوْ یَنْظُرُ مِنْ خَلَلِ شَیْ ءٍ لَهُمْ فَرَمَوْهُ - فَأَصَابُوهُ فَقَتَلُوهُ أَوْ فَقَئُوا عَیْنَیْهِ فَلَیْسَ عَلَیْهِمْ غُرْمٌ - وَقَالَ إِنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ مِنْ خَلَلِ حُجْرَةِ رَسُولِ الله صلی الله علیه و آله فَجَاءَ رَسُولُ الله صلی الله علیه و آله - بِمِشْقَصٍ لِیَفْقَأَ عَیْنَهُ فَوَجَدَهُ قَدِ انْطَلَقَ - فَقَالَ رَسُولُ الله صلی الله علیه و آله أَیْ خَبِیثُ - أَمَا وَالله لَوْ ثَبَتَّ لِی لَفَقَأْتُ عَیْنَکَ (1).

5 - صحیح الْحَلَبِیِّ عَنْ أَبِی عَبْدِ الله علیه السلام فِی حَدِیثٍ أَیُّمَا رَجُلٍ اطَّلَعَ عَلَی قَوْمٍ فِی دَارِهِمْ لِیَنْظُرَ إِلَی عَوْرَاتِهِمْ - فَفَقَئُوا عَیْنَهُ أَوْ جَرَحُوهُ فَلَا دِیَةَ عَلَیْهِمْ - وَقَالَ مَنِ اعْتَدَیفَاعْتُدِیَ عَلَیْهِ فَلَا قَوَدَ لَهُ (2).

الطائفة الثالثة:

ما ورد فی جواز قتال اللص والمحارب:

1 - موثق السَّکُونِیِّ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِیهِ عَنْ عَلِیٍّ علیه السلام أَنَّهُ أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ یَا أَمِیرَ الْمُؤْمِنِینَ - إِنَّ لِصّاً دَخَلَ عَلَی امْرَأَتِی فَسَرَقَ حُلِیَّهَا - فَقَالَ أَمَا إِنَّهُ لَوْ دَخَلَ عَلَی ابْنِ صَفِیَّةَ - لَمَا رَضِیَ بِذَلِکَ حَتَّی یَعُمَّهُ بِالسَّیْفِ (3).

2 - وفی روایة جَعْفَرٍ عَنْ أَبِیهِ علیهما السلام قَالَ: إِنَّ الله لَیَمْقُتُ الْعَبْدَ یُدْخَلُ عَلَیْهِ فِی بَیْتِهِ فَلَا یُقَاتِلُ)(4).

3 - روایة وَهْبٍ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِیهِ علیهما السلام أَنَّهُ قَالَ: إِذَا دَخَلَ عَلَیْکَ رَجُلٌ یُرِیدُ

ص:21


1- (1) المصدر: ص 68.
2- (2) المصدر: ص 68.
3- (3) وسائل الشیعة: ج 15، ص 119.
4- (4) وسائل الشیعة: ج 15، ص 119.

أَهْلَکَ وَمَالَکَ - فَابْدُرْهُ بِالضَّرْبَةِ إِنِ اسْتَطَعْتَ - فَإِنَّ اللِّصَّ مُحَارِبٌ لله وَلِرَسُولِهِ - فَمَا تَبِعَکَ مِنْهُ شَیْ ءٌ فَهُوَ عَلَیَّ (1).

4 - ومثلها قویة الحسین بن علوان.

5 - مرسل ابْنِ أَبِی عُمَیْرٍ عَنْ أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ رَجُلٍ عَنِ الْحَلَبِیِّ عَنْ أَبِی عَبْدِ الله علیه السلام قَالَ: قَالَ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام إِذَا دَخَلَ عَلَیْکَ اللِّصُّ الْمُحَارِبُ فَاقْتُلْهُ - فَمَا أَصَابَکَ فَدَمُهُ فِی عُنُقِی(2).

6 - مصحح الْحُسَیْنِ بْنِ أَبِی الْعَلَاءِ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ الله علیه السلام عَنِ الرَّجُلِ یُقَاتِلُ دُونَ مَالِهِ - فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلی الله علیه و آله مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ - فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الشَّهِیدِ فَقُلْتُ أَ یُقَاتِلُ أَفْضَلُ أَوْ لَایُقَاتِلُ - فَقَالَأَمَّا أَنَا فَلَوْ کُنْتُ لَمْ أُقَاتِلْ وَتَرَکْتُهُ (3).

7 - معتبرة الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ عَنِ الرِّضَا علیه السلام«فِی کِتَابِهِ إِلَی الْمَأْمُونِ قَالَ: (وَمَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِیدٌ»(4).

8 - وَ بِأَسَانِیدَ تَقَدَّمَتْ فِی إِسْبَاغِ الْوُضُوءِعَنْ رَسُولِ الله صلوات الله علیه وعلی اله: قَالَ: یُبْغِضُ الله تَبَارَکَ وَتَعَالَی رَجُلًا - یُدْخَلُ عَلَیْهِ فِی بَیْتِهِ فَلَا یُقَاتِلُ (5).

وغیرها.

ص:22


1- (1) المصدر السابق.
2- (2) المصدر: ص 121.
3- (3) وسائل الشیعة: ج 15، ص 122.
4- (4) المصدر: ص 123.
5- (5) المصدر: ج 29، ص 60.

الطائفة الرابعة:

ما جاء فی السارق الداخل علی امراة او کابرها مطلقا.

1 - معتبرة عَبْدِ الله بْنِ سِنَانٍ عَنْ أَبِی عَبْدِ الله علیه السلام قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ سَارِقٍ دَخَلَ عَلَی امْرَأَةٍ لِیَسْرِقَ مَتَاعَهَا - فَلَمَّا جَمَعَ الثِّیَابَ تَبِعَتْهَا نَفْسُهُ فَوَاقَعَهَا - فَتَحَرَّکَ ابْنُهَا فَقَامَ فَقَتَلَهُ بِفَأْسٍ کَانَ مَعَهُ - فَلَمَّا فَرَغَ حَمَلَ الثِّیَابَ - وَذَهَبَ لِیَخْرُجَ حَمَلَتْ عَلَیْهِ بِالْفَأْسِ فَقَتَلَتْهُ - فَجَاءَ أَهْلُهُ یَطْلُبُونَ بِدَمِهِ مِنَ الْغَدِ - فَقَالَ أَبُو عَبْدِ الله علیه السلام یَضْمَنُ مَوَالِیهِ - الَّذِینَ طَلَبُوا بِدَمِهِ دِیَةَ الْغُلَامِ - وَیَضْمَنُ السَّارِقُ فِیمَا تَرَکَ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ - بِمَا کَابَرَهَا عَلَی فَرْجِهَا - لِأَنَّهُ زَانٍ وَهُوَ فِی مَالِهِ یَغْرَمُهُ - وَلَیْسَ عَلَیْهَا فِی قَتْلِهَا إِیَّاهُ شَیْ ءٌ لِأَنَّهُ سَارِقٌ (1).

2 - روایة عَبْدِ الله بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِی عَبْدِ الله علیه السلام قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ سَارِقٍ دَخَلَ عَلَی امْرَأَةٍ لِیَسْرِقَ مَتَاعَهَا - فَلَمَّا جَمَعَ الثِّیَابَ تَابَعَتْهُ نَفْسُهُ - فَکَابَرَهَا عَلَی نَفْسِهَا فَوَاقَعَهَا - فَتَحَرَّکَ ابْنُهَا فَقَامَ فَقَتَلَهُ بِفَأْسٍ کَانَ مَعَهُ - فَلَمَّا فَرَغَ حَمَلَ الثِّیَابَ - وَذَهَبَ لِیَخْرُجَ حَمَلَتْ عَلَیْهِ بِالْفَأْسِ فَقَتَلَتْهُ - فَجَاءَ أَهْلُهُ یَطْلُبُونَ بِدَمِهِ مِنَ الْغَدِ - فَقَالَ أَبُو عَبْدِ الله علیه السلام اقْضِ عَلَی هَذَا کَمَا وَصَفْتُ لَکَ - فَقَالَ یَضْمَنُ مَوَالِیهِ الَّذِینَ طَلَبُوا بِدَمِهِ دِیَةَ الْغُلَامِ - وَیَضْمَنُ السَّارِقُ فِیمَا تَرَکَ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ - بِمُکَابَرَتِهَا عَلَی فَرْجِهَا - إِنَّهُ زَانٍ وَهُوَ فِی مَالِهِ عَزِیمَةٌ - وَلَیْسَ عَلَیْهَا فِی قَتْلِهَا إِیَّاهُ شَیْ ءٌ قَالَ رَسُولُ الله صلی الله علیه و آله مَنْ کَابَرَ امْرَأَةً لِیَفْجُرَ بِهَا فَقَتَلَتْهُ فَلَا دِیَةَ لَهُ وَلَا قَوَدَ(2).

3 - روایة مُحَمَّدِ بْنِ الْفُضَیْلِ عَنِ الرِّضَا علیه السلام قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ لِصٍّ دَخَلَ عَلَی

ص:23


1- (1) المصدر السابق.
2- (2) المصدر السابق.

امْرَأَةٍ وَهِیَ حُبْلَی - فَقَتَلَ مَا فِی بَطْنِهَا - فَعَمَدَتِ الْمَرْأَةُ إِلَی سِکِّینٍ فَوَجَأَتْهُ بِهَا فَقَتَلَتْهُ - فَقَالَ هَدَرٌ دَمُ اللِّصِّ (1) .

4 - معتبرة عبْدِ الله بْنِ سِنَانٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله علیه السلام یَقُولُ فِی رَجُلٍ أَرَادَ امْرَأَةً عَلَی نَفْسِهَا حَرَاماً - فَرَمَتْهُ بِحَجَرٍ فَأَصَابَتْ مِنْهُ مَقْتَلًا - قَالَ لَیْسَ عَلَیْهَا شَیْ ءٌ فِیمَا بَیْنَهَا وَبَیْنَ الله عَزَّ وَجَلَّ - وَإِنْ قُدِّمَتْ إِلَی إِمَامٍ عَادِلٍ أَهْدَرَ دَمَهُ (2).

الطائفة الخامسة:

هدر دم مطلق المعتدی (قاعدة فی هدر دم من اعتدی علی الامن المدنی):

1 - صحیح سُلَیْمَانَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ أَبِی عَبْدِ الله علیه السلام قَالَ سَمِعْتُهُ یَقُولُ مَنْ بَدَأَ فَاعْتَدَی فَاعْتُدِیَ عَلَیْهِ فَلَا قَوَدَ لَهُ (3).

ویستفاد من هذه الروایة قاعدة عامة مفادها:

1 - ان المعتدی لا حرمة له وضعا ولا تکلیفا.

2 - ان مدافعته مشروعة.

3 - ان هذه المدافعة لو استلزمت او توقفت علی ما یزید علی عدوان المعتدی فلا قود فیها.

4 - ان هذه القاعدة لا تختص بحق الفرد بل تشمل الحق العام وحق عامة الناس أی انها لا تختص بالفقه الفردی بل تشمل الفقه الاجتماعی والسیاسی لا

ص:24


1- (1) وسائل الشیعة: ج 29، ص 62.
2- (2) المصدر: ص 61.
3- (3) المصدر: ص 60.

سیما مع الإشارة فی الصحیح الی وهب عن جعفر عن ابیه انه قال: (اذا دخل علیک رجل یرید اهلک ومالک فابدره بالضربة ان استطعت فان اللص محارب لله ولرسوله صلی الله علیه و آله فما تبعک منه من شی فهو علیه).

وهذه الروایة لها طریق اخر - طریق الحمیری - غیر طریق الشیخ الطوسی مثله الا انه قال(فاقتله فما تبعک منه من شی فهو علیه).

وهذا المضمون هو ما فی موثق ابان عن رجل عن الحلبی عن ابی عبد الله قال امیر المومنین علیه السلام: (اذا دخل علیک اللص المحارب فاقتله فما اصابک فدمه فی عنقی).

والظاهر انه یمکن استفادة تقریر القاعدة بالتقریر التالی ان المعتدی اذا اعتدی ولو علی ما هو دون النفس ودون العرض کالمال لکنه کان لا یبالی بحرمة النفس والعرض وباقی الحرمات فی الوصول الی غایته فانه یکون محاربا وان الحرابة لا تختص بقطاع الطرق بل تشمل کل من یقوم بعدوان ولا یبالی فی عدوانه بالاعتداء علی الحرمات الثلاثة, أی یعتدی علی ما یسمی فی عصرنا الحاضر بالامن المدنی وهو حرمة النفس والعرض والمال.

5 - ومن ذلک یتبین الوجه فی ما مر من قضیة بنی قریظة والقصاص الجماعی وهو الذی جری من رسول الله تجاه الیهود من بنی النظیر وبنی قریظة وغیرهم وانها من قاعدة هدر حرمة المعتدی علی الامن المدنی والمتجاوز والهاتک للحرمات المدنیة(النفس والعرض والمال) وان کل ذلک ینطوی تحت عموم الایة من اعتدی علیکم فاعتدوا علیه.

ص:25

6 - ان قاعدة المحارب فی الحقیقة قاعدة غیر مختصة بقطاع الطرق والسراق بل موضوعها کل من یزعزع امن الحرمات الثلاثة المدنیة کما فی المخاطرة البالغة فی الأموال العامة او افشاء الارجاف المربک للامن العام فی شتی الأصعدة سواء کانت امنیة او عسکریة او اقتصادیة او أخلاقیة.

7 - لا یخفی ان درجة الحرابة لقطاع الطرق واللصوص بالمعنی المعهود لا تبلغ درجات الافساد الضارة بالمجتمع فی مجالات عدیدة وهذا ما یعرف فی القانون الوضعی بعقوبات الإعدام المسجلة علی الخیانة العظمی للوطن او الامن القومی, کما ان عقوبة المحارب علی درجات کما ذکر فی حد المحارب.

2 - الْحَلَبِیِّ عَنْ أَبِی عَبْدِ الله علیه السلام فِی حَدِیثٍ أَیُّمَا رَجُلٍ اطَّلَعَ عَلَی قَوْمٍ فِی دَارِهِمْ لِیَنْظُرَ إِلَی عَوْرَاتِهِمْ - فَفَقَئُوا عَیْنَهُ أَوْ جَرَحُوهُ فَلَا دِیَةَ عَلَیْهِمْ - وَقَالَ مَنِ اعْتَدَی فَاعْتُدِیَ عَلَیْهِ فَلَا قَوَدَ لَهُ (1).

3 - الْعَلَاءِ بْنِ الْفُضَیْلِ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ الله علیه السلام إِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ یَضْرِبَ رَجُلًا ظُلْماً - فَاتَّقَاهُ الرَّجُلُ أَوْ دَفَعَهُ عَنْ نَفْسِهِ - فَأَصَابَهُ ضَرَرٌ فَلَا شَیْ ءَ عَلَیْهِ (2).

فائدة بمثابة صغری للقاعدة:

فی إقامة الزوج الحد علی الزوجة بلا رجوع للحاکم الشرعی.

الأدلة الخاصة:

الدلیل الأول:

ما تقدم فی القاعدة من اثبات إقامة الحد علی المعتدی.

ص:26


1- (1) وسائل الشیعة: ج 29، ص 59.
2- (2) المصدر السابق.

الدلیل الثانی:

الایة الکریمة: (وَ اللاّتِی یَأْتِینَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِکُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَیْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْکُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِکُوهُنَّ فِی الْبُیُوتِ حَتّی یَتَوَفّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ یَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِیلاً ( 15)1 .

بتقریب دلالتها علی جواز إقامة الحد من قبل الأزواج علی زوجاتهم, حیث ان الخطاب فی الظاهر لهم.

(الرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَی النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلی بَعْضٍ وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَیْبِ بِما حَفِظَ اللّهُ وَ اللاّتِی تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَ اهْجُرُوهُنَّ فِی الْمَضاجِعِ وَ اضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَکُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَیْهِنَّ سَبِیلاً إِنَّ اللّهَ کانَ عَلِیًّا کَبِیراً ( 34)2 .

وصدر الایة دالة علی ولایة الزوج علی زوجته وذیلها ترخیص فی التعزیر والتعزیر نحو من انحاء الحد.

ویعضد هذا المفاد ما ورد فی جملة من الروایات من لزوم طاعة الزوجة للزوج وان ولایته علی المراة اجمالا کولایة المراة علی العبد فی جواز اجراء الحدود علیه.

الدلیل الثالث: الروایات:

فی (روایة سَعِیدِ بْنِ الْمُسَیَّبِ): (أَنَّ مُعَاوِیَةَ کَتَبَ إِلَی أَبِی مُوسَی الْأَشْعَرِیِّ - أَنَّ ابْنَ أَبِی الْجِسْرَیْنِ وَجَدَ رَجُلًا مَعَ امْرَأَتِهِ فَقَتَلَهُ - فَاسْأَلْ لِی عَلِیّاً عَنْ هَذَاقَالَ أَبُو

ص:27

مُوسَی - فَلَقِیتُ عَلِیّاً علیه السلام فَسَأَلْتُهُ إِلَی أَنْ قَالَ - فَقَالَ أَنَا أَبُو الْحَسَنِ إِنْ جَاءَ بِأَرْبَعَةٍ - یَشْهَدُونَ عَلَی مَا شَهِدَ وَإِلَّا دُفِعَ بِرُمَّتِهِ (1) .

وقد رواها العامة فی مصادرهم.

ومفادها ان الشهود الأربعة لدرء القصاص لا لاصل اجراء القتل, ولو خرج الزانی من البیت فبقاء الحکم غیر معلوم الا ان یکون محصنا مع توفر البینة.

وصحیح عَبَّادِ بْنِ صُهَیْبٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ علیهما السلام قَالَ: لَا بَأْسَ أَنْ یُمْسِکَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إِنْ رَآهَا تَزْنِی - إِذَا کَانَتْ تَزْنِی وَإِنْ لَمْ یُقَمْ عَلَیْهَا الْحَدُّ - فَلَیْسَ عَلَیْهِ مِنْ إِثْمِهَا شَیْ ءٌ(2)).

وحَدَّثَنِی مُوسَی قَالَ حَدَّثَنَا أَبِی عَنْ أَبِیهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ عَلِیٍّ صلوات الله علیهم «أَنَّ رَسُولَ صلی الله علیه و آله قَالَ لِرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَهُوَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ أَ رَأَیْتَ لَوْ وَجَدْتَ رَجُلًا مَعَ امْرَأَةٍ فِی ثَوْبٍ وَاحِدٍ مَا کُنْتَ صَانِعاً بِهِمَا قَالَ سَعْدٌ أَقْتُلُهُمَا یَا رَسُولَ الله فَقَالَ رَسُولُ الله صلی الله علیه و آله فَأَیْنَ الشُّهَدَاءُ الْأَرْبَعَةُ»(3)).

وقد رواها العامة بطرق عدیدة.

وتُؤیِّد هذه الأدلة:

1 - روایة دعائم الإسلام: عن رسول صلی الله علیه و آله أنّه قال من جهد البلاء أن یقدّم الرّجل فیقتل صبراً والأسیر ما دام فی الوثاق والرّجل یجد علی بطن امرأته

ص:28


1- (1) وسائل الشیعة: ج 29، ص 135.
2- (2) المصدر: ج 20، ص 436.
3- (3) الجعفریات: ص 144.

رجلاً(1).

2 - ومرسلة الدروس, مُحَمَّدُ بْنُ مَکِّیٍّ الشَّهِیدُ فِی الدُّرُوسِ قَالَ رُوِیَ أَنَّ مَنْ رَأَی زَوْجَتَهُ تَزْنِی فَلَهُ قَتْلُهُمَا(2).

3 - وما فی عوالی اللئالی العزیزیة: رُوِیَ فِی الْحَدِیثِ أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَیَّةَ قَذَفَ زَوْجَتَهُ بِشَرِیکِ بْنِ شَحْمَاءَ فَقَالَ النَّبِیُّ صلی الله علیه و آله الْبَیِّنَةَ وَإِلَّا حُدَّ فِی ظَهْرِکَ فَقَالَ یَا رَسُولَ الله یَجِدُ أَحَدُنَا مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا یَلْتَمِسُ الْبَیِّنَةَ فَجَعَلَ رَسُولُ الله صلی الله علیه و آله یَقُولُ الْبَیِّنَةَ وَإِلَّا فَحُدَّ فِی ظَهْرِکَ فَقَالَ وَالَّذِی بَعَثَکَ بِالْحَقِّ إِنَّنِی لَصَادِقٌ وَسَیُنْزِلُ الله مَا یُبْرِئُ ظَهْرِی مِنَ الْجَلْدِ فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَی وَالَّذِینَ یَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ الْآیَةَ (3)).

4 - ما ورد فی اللعان ان قوله مقبول فی اثبات الحد علیها الا تشهد بتکذیبه.

5 - موثق زرارة - فی تفسیر القمی - قَالَ سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ علیه السلام یَقُولُ لَمَّا مَاتَ إِبْرَاهِیمُ بْنُ رَسُولِ الله صلی الله علیه و آله حَزِنَ عَلَیْهِ حُزْناً شَدِیداً - فَقَالَتْ عَائِشَةُ مَا الَّذِی یَحْزُنُکَ عَلَیْهِ - فَمَا هُوَ إِلَّا ابْنَ جَرِیحٍ، فَبَعَثَ رَسُولُ الله صلی الله علیه و آله عَلِیّاً وَأَمَرَهُ بِقَتْلِهِ - فَذَهَبَ عَلِیٌّ علیه السلام إِلَیْهِ وَمَعَهُ السَّیْفُ - وَکَانَ جَرِیحٌ الْقِبْطِیُّ فِی حَائِطٍ وَضَرَبَ عَلِیٌّ علیه السلام بَابَ الْبُسْتَانِ - فَأَقْبَلَ إِلَیْهِ جَرِیحٌ لِیَفْتَحَ لَهُ الْبَابَ - فَلَمَّا رَأَی عَلِیّاً علیه السلام عَرَفَ فِی وَجْهِهِ الْغَضَبَ - فَأَدْبَرَ رَاجِعاً وَلَمْ یَفْتَحِ الْبَابَ - فَوَثَبَ عَلِیٌّ علیه السلام عَلَی الْحَائِطِ وَنَزَلَ إِلَی الْبُسْتَانِ وَاتَّبَعَهُ وَوَلَّی جَرِیحٌ مُدْبِراً - فَلَمَّا خَشِیَ أَنْ یُرْهِقَهُ صَعِدَ فِی نَخْلَةٍ وَصَعِدَ عَلِیٌّ علیه السلام فِی أَثَرِهِ - فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ رَمَی بِنَفْسِهِ مِنْ فَوْقِ النَّخْلَةِ - فَبَدَتْ عَوْرَتُهُ فَإِذَا لَیْسَ

ص:29


1- (1) دعائم الإسلام: ج 2، ص 411.
2- (2) وسائل الشیعة: ج 28، ص 149.
3- (3) عوالی اللئالی: ج 3، ص 411.

لَهُ مَا لِلرِّجَالِ وَلَا مَا لِلنِّسَاءِ - فَانْصَرَفَ عَلِیٌّ علیه السلام إِلَی النَّبِیِّ صلی الله علیه و آله فَقَالَ یَا رَسُولَ الله إِذَا بَعَثْتَنِی فِی الْأَمْرِ - أَکُونُ فِیهِ کَالْمِسْمَارِ الْمُحْمَی فِی الوتر [الْوَبَرِ] أَمْ أَثَّبَّتُ قَالَ فَقَالَ لَا بَلِ اثَّبِّتْ، فَقَالَ وَالَّذِی بَعَثَکَ بِالْحَقِّ مَا لَهُ مَا لِلرِّجَالِ وَلَا مَا لِلنِّسَاءِ - فَقَالَ رَسُولُ الله صلی الله علیه و آله الْحَمْدُ لله الَّذِی یَصْرِفُ عَنَّا السُّوءَ أَهْلَ الْبَیْتِ (1) .

ومفاد الموثقة وان کان محمولا علی محامل أراد بها رسول الله ان یفضح افک المنافقین الا انه متضمن لقاعدة استحقاق إقامة الزوج الحد علی الزانی بزوجته.

النتیجة:

فتبین من مجموع ما ذکرنا استفادة صحة ما ذهب الیه المشهور المنصور فی مسالة ان من رای زوجته یزنی بها رجل وهی مطاوعة جاز له قتلهما وهو الأقوی.

ص:30


1- (1) تفسیر القمی: ج 2، ص 99.

القاعدة الثالثة: قاعدة فی اللوث والتهمة واثارها القانونیة

ص:31

ص:32

القاعدة الثالثة: قاعدة فی اللوث والتهمة وأثارها القانونیة أو (ضابطة فی اللوث وتحدیده)

اشارة

والبحث فی القاعدة یقع فی مقامات:

المقام الأول:

الاقوال فی المسالة وآثار اللوث وموضوعه ودرجاته مع بیان فائدة فی المقام:

بعض کلمات الاصحاب والقانونیین:

ظاهر الشیخ فی التهذیبین والنهایة وابن البراج والوسیلة والشرائع ان قتیل القریة علی مقتضی قاعدة اللوث ومن ثم ترتب القسامة لا انه تعبد خاص.

وکذا ظاهر الصدوق والدعائم فی ثبوت اللوث والقسامة بمجرد وجود القتیل بین ظهرانیهم وان الحلف لدفع القود, وهذا هو الأقوی خلافا

ص:33

لجملة من اطلاقات الروایات الموهمة لذلک وخلافا لظاهر المفید وابی الصلاح.

وقالوا فی القانون الوضعی: القرائن قد تکون مصطنعة مرتبة بقصد تضلیل العدالة... لذلک یجب علی القاضی اتقاء الوقوع فی الخطا ان یظهر کثیرا من الحکمة والحذر فیما یستنتجه من الظروف وقرائن الأحوال فعلیه ان یتحقق لیس من ان القرینة ثابتة ثبوتا تاما فقط ولکن تتفق من عناصر الدعوی الأخری.

وظاهر القانون الوضعی عموم اللوث لکل الجنایات لا خصوص القتل والطرف بل لمثل الزنا ونحوه من الجرائم.

ضابطة موضوعیة للوث:

لا یخفی ان اللوث وان کان ناشئا من قرائن دالة ظنا علی وقوع الجنایة من المتهم ولیست دلالتها بالظن المعتبر فضلا عن الیقین الا انها تکون اجمالا لوثا فی البین, هذا بلحاظ دلالة القرائن الموجبة للوث علی صدور القتل من المتهم. واما اصل وجود القرائن فلا بد من العلم بها لا الظن والا لترامی الظن وکانت سلسلة من رجوم الظن فلا یعد لوثا بل یکون تظنیا وتمحلا للظن, وهذا الشرط لا بد منه فی قرائن اللوث.

آثار اللوث:

ان للوث آثارا وان لم یکن بدرجة البینة ویدل علی ذلک روایات اتیة فی بیان اللوث واثاره کما یدل علیه صحیح زرارة والحلبی:

ص:34

فصحیح - (زُرَارَةَ عَنْ أَبِی عَبْدِ الله علیه السلام قَالَ: إِنَّمَا جُعِلَتِ الْقَسَامَةُ احْتِیَاطاً لِلنَّاسِ - لِکَیْمَا إِذَا أَرَادَ الْفَاسِقُ أَنْ یَقْتُلَ رَجُلًا - أَوْ یَغْتَالَ رَجُلًا حَیْثُ لَا یَرَاهُ أَحَدٌ - خَافَ ذَلِکَ فَامْتَنَعَ مِنَ الْقَتْلِ)(1) - نص فیه, فی قوله علیه السلام(حیث لا یراه احد) علی عدم وجود البینة.

وصحیح الْحَلَبِیِّ عَنْ أَبِی عَبْدِالله علیه السلام قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنِ الْقَسَامَةِ کَیْفَ کَانَتْ - فَقَالَ هِیَ حَقٌّ وَ هِیَ مَکْتُوبَةٌ عِنْدَنَا - وَ لَوْ لَا ذَلِکَ لَقَتَلَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً ثُمَّ لَمْ یَکُنْ شَیْ ءٌ - وَ إِنَّمَا الْقَسَامَةُ نَجَاةٌ لِلنَّاسِ (2).

فقوله: (ولولا ذلک لقتل الناس... لم یکن شی) أی لیس هناک مثبت یدینهم.

درجات اللوث:

قد یقرر من روایات قتیل القریة ان اللوث فی الدیة یکفی فیه درجة اقل من درجة اللوث فی القصاص, کما ان اثبات القتل علی قاتل مبهم اجمالی فی القریة غایته اثبات الدیة فقط لعدم تعین القاتل بخلاف القصاص علی معین, ومنه یعرف ان إقامة القسامة علی اهل قریة لا یثبت القصاص بل غایته اثبات الدیة.

فائدة فی حقیقة الیمین فی القضاء بالقسامة:

الظاهر ان هذا التشریع النبوی مستل من قوله تعالی فی اللعان: (وَ الَّذِینَ یَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَ لَمْ یَکُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ

ص:35


1- (1) وسائل الشیعة ج 29 ص 151 ط ال البیت.
2- (2) المصدر ص 152.

أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصّادِقِینَ وَ الْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللّهِ عَلَیْهِ إِنْ کانَ مِنَ الْکاذِبِینَ وَ یَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْکاذِبِینَ وَ الْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللّهِ عَلَیْها إِنْ کانَ مِنَ الصّادِقِینَ)1.

فعبر فی الایة عن الیمین فی اللعان انه شهادة مغلظة فی الحلف وقید موضوع الیمین بعدم البینة واعتبرت شهادة المراة فی نفی الحد.

ثم ان فی القسامة کثرة فی العدد وتغلیظ فلیست هی مجرد شهادة وتغلیظ بالیمین کالذی فی اللعان بل تکرار للتاکید فتکون کالتواتر والاستفاضة, نعم مع تکرار القسم فی القسامة من عدد قلیل او من شخص واحد یکون من تشدید التغلیظ.

المقام الثانی:

شواهد القاعدة:

علی ان اللوث هو مطلق ویثبت بمجرد وجود القتیل:

الشاهد الأول: کلمات اللغویین:

منها: ما فی المصباح المنیر فی غریب الشرح الکبیر للرافعی(1): (اللَّوْثُ: بِالْفَتْحِ البَیِّنَةُ الضَّعِیفَةُ غَیْرُ الْکَامِلَةِ قَالَهُ الْأَزْهَرِیُّ وَ مِنْهُ قِیلَ لِلرَّجُلِ الضَّعِیفِ الْعَقْلِ (أَلْوَثُ) وَ فِیهِ(لَوْثَةٌ) بِالْفَتْحِ أَیْ حَمَاقَةٌ و(اللُّوثَةُ) بِالضَّمِّ الاسْتِرْخَاءُ و الحُبْسَةُ فِی اللِّسَانَ و(لَوَّثَ) ثَوْبَهُ بِالطِّینِ لَطَخَهُ و(تَلَوَّثَ)

ص:36


1- (2) ج 2 ص 560.

الثَّوْبُ بِذلِکَ).

وفی مجمع البحرین(1): (و اللوث أمارة یظن بها صدق المدعی فیما ادعاه من القتل کوجود ذی سلاح ملطخ بالدم عند قتیل فی دار. و فی النهایة اللوث هو أن یشهد شاهد واحد علی إقرار المقتول قبل أن یموت أن فلانا قتلنی، أو یشهد شاهدان علی عداوة بینهما أو تهدید منه له أو نحو ذلک، و هو من التلوث التلطخ).

وفی تاج العروس من جواهر القاموس(2): (قال أَبو منصورٍ: و اللَّوْثُ عند الشّافِعیّ: شِبْه الدَّلَالَةِ و لا یکونُ بَیِّنَةً تَامّ)

وفی کتاب العین(3): (اللوث: إدارة الإزار و العمامة و نحوهما مرتین، و الکور فی العمامة أحسن).

وغیرها.

ومحصل کلماتهم:

أولا:

ان البینة اذا کانت غیر واجدة للشروط او غیر کاملة فانها بمثابة القرینة علی التهمة واللوث, فهذا مطرد فی کل موارد عدم استتمام شروط البینة فلا تکون البینة غیر الواجدة الشروط عدیمة الأثر بل موجبة للوث والتهمة

ص:37


1- (1) ج 2 ص 263.
2- (2) ج 3 ص 257.
3- (3) ج 8 ص 237.

وهو اثر مهم.

ثانیا: یستفاد من کلام الطریحی ان مطلق الامارة لیس لوث لانه قیدها بکونها موجبة للظن.

ثالثا: ان اللوث ما یلتصق ویحیط بالشخص.

الشاهد الثانی: الایات الکریمة.

قوله تعالی: (قالَ هِیَ راوَدَتْنِی عَنْ نَفْسِی وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ کانَ قَمِیصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَ هُوَ مِنَ الْکاذِبِینَ ( 26) وَ إِنْ کانَ قَمِیصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَکَذَبَتْ وَ هُوَ مِنَ الصّادِقِینَ ( 27)1 .

ویقرب ذلک:

بان الایة فیها بیان للاعتداد بالقرائن الحالیة وشاهد الحال وانها قد تصل الی درجة العلم العرفی(الاطمئنان).

وقوله تعالی: (وَ جاؤُ عَلی قَمِیصِهِ بِدَمٍ کَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَکُمْ أَنْفُسُکُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِیلٌ)2 .

وورد فی تفسیرها.

فی بحار الأنوار (ط - بیروت)(1) عن تفسیر القمی: (وَ قَالُوا یَا رَبِّ اکْتُمْ عَلَیْنَا هَذَا ثُمَّ جَاءُوا إِلَی أَبِیهِمْ عِشاءً یَبْکُونَ وَ مَعَهُمُ الْقَمِیصُ قَدْ لَطَّخُوهُ

ص:38


1- (3) ج 2 ص 224

بِالدَّمِ فَ قالُوا یا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ أَیْ نَعْدُو وَ تَرَکْنا یُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَکَلَهُ الذِّئْبُ إِلَی قَوْلِهِ عَلی ما تَصِفُونَ ثُمَّ قَالَ یَعْقُوبُ مَا کَانَ أَشَدَّ غَضَبَ ذَلِکَ الذِّئْبِ عَلَی یُوسُفَ وَ أَشْفَقَهُ عَلَی قَمِیصِهِ حَیْثُ أَکَلَ یُوسُفَ وَ لَمْ یَمْزِقْ قَمِیصَهُ قَالَ فَحَمَلُوا یُوسُفَ إِلَی مِصْرَ...)

وبقرینة الروایة یفهم تکذیب دعوی اخوة یوسف من قبل ابیهم, وهو عدم تمزق قمیصه بالرغم من انها امارة ظنیة.

الشاهد الثالث: الروایات

منها:

زُرَارَةَ عَنْ أَبِی عَبْدِ الله علیه السلام قَالَ: إِنَّمَا جُعِلَتِ الْقَسَامَةُ لِیُغَلَّظَ بِهَا فِی الرَّجُلِ - الْمَعْرُوفِ بِالشَّرِّ الْمُتَّهَمِ - فَإِنْ شَهِدُوا عَلَیْهِ جَازَتْ شَهَادَتُهُمْ (1).

تقریب الاستدلال:

وتقیید الموثق موضوع القسامة بالمتهم دال علی اخذ اللوث فی موضوعها, وهو اعم من بصمات القتل بل یشمل العداوة وکذا القید الأول(المعروف بالشر) فی نسخة الفقیه والوسائل.

هذا کله ضمیمة لقوة اللوث.

الروایة الثانیة:

صحیح مَسْعَدَةَ بْنِ زِیَادٍ عَنْ جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: کَانَ أَبِی رَضِیَ الله عَنْهُ إِذَا لَمْ

ص:39


1- (1) وسائل الشیعة ج 29 ص 154

یُقِمِ (وفی التهذیب یقسم) الْقَوْمُ الْمُدَّعُونَ الْبَیِّنَةَ عَلَی قَتْلِ قَتِیلِهِمْ وَ لَمْ یُقْسِمُوا بِأَنَّ الْمُتَّهَمِینَ قَتَلُوهُ حَلَّفَ الْمُتَّهَمِینَ بِالْقَتْلِ خَمْسِینَ یَمِیناً بِالله مَا قَتَلْنَاهُ وَ لَا عَلِمْنَا لَهُ قَاتِلًا ثُمَّ تُؤَدَّی الدِّیَةُ إِلَی أَوْلِیَاءِ الْقَتِیلِ وَ ذَلِکَ إِذَا قُتِلَ فِی حَیٍّ وَاحِدٍ فَأَمَّا إِذَا قُتِلَ فِی عَسْکَرٍ أَوْ سُوقٍ أَوْ مَدِینَةٍ فَدِیَتُهُ تُدْفَعُ إِلَی أَوْلِیَائِهِ مِنْ بَیْتِ الْمَالِ (1).

ومثلها کثیر من الروایات التی وقع فیها المقابلة بین القتیل فی القریة وفی السوق والمکان العام.

اما ما ذکره صاحب الجواهر - فقال ما نصه: (و لکن العمدة ما عرفته من الإجماع السابق، ضرورة منع الإجمال فی الإطلاقات المزبورة الفارقة بین الدماء و الأموال، و صحیح مسعدة لا ظهور فیه فی الاشتراط علی وجه إن لم تحصل أمارة للحاکم لم تشرع القسامة، و لا الخبر الآخر و الفرق المزبور بین قتیل الزحام و غیره إنما هو بالنسبة إلی أداء الدیة لا فی اللوث، کما ستعرفه فی نصوصه، فتأمل جیدا)(2).

فلا یتم اذ ان التفصیل فی الموثقة والروایات ناظر الی کل من القتل وثبوت الدیة لا خصوص دفع الدیة.

تنظیر لهذا الحکم:

ونظیر هذا التفصیل والتقیید ما رواه علی بن فضیل عَنْ أَبِی عَبْدِالله علیه السلام قَالَ: إِذَا وُجِدَ رَجُلٌ مَقْتُولٌ فِی قَبِیلَةِ قَوْمٍ - حَلَفُوا جَمِیعاً مَا قَتَلُوهُ وَ لَا یَعْلَمُونَ

ص:40


1- (1) وسائل الشیعة ج 29 ص 153
2- (2) ج 42 ص 231.

لَهُ قَاتِلًا - فَإِنْ أَبَوْا أَنْ یَحْلِفُوا - أُغْرِمُوا الدِّیَةَ فِیمَا بَیْنَهُمْ فِی أَمْوَالِهِمْ سَوَاءً - بَیْنَ جَمِیعِ الْقَبِیلَةِ مِنَ الرِّجَالِ الْمُدْرِکِینَ (1).

وصحیح برید عن ابی عبد الله علیه السلام: (إِنَّمَا حُقِنَ دِمَاءُ الْمُسْلِمِینَ بِالْقَسَامَةِ - لِکَیْ إِذَا رَأَی الْفَاجِرُ الْفَاسِقُ فُرْصَةً مِنْ عَدُوِّهِ - حَجَزَهُ مَخَافَةُ الْقَسَامَةِ أَنْ یُقْتَلَ بِهِ فَکَفَّ عَنْ قَتْلِهِ - وَ إِلَّا حَلَّفَ الْمُدَّعَی عَلَیْهِ - قَسَامَةَ خَمْسِینَ رَجُلًا مَا قَتَلْنَا وَ لَا عَلِمْنَا قَاتِلًا - وَ إِلَّا أُغْرِمُوا الدِّیَةَ إِذَا وَجَدُوا قَتِیلًا بَیْنَ أَظْهُرِهِمْ - إِذَا لَمْ یُقْسِمِ الْمُدَّعُونَ)(2).

ومعتبرة أبی بصیر سألتُ أبا عبد الله... فَإِنْ فَعَلُوا أَدَّی أَهْلُ الْقَرْیَةِ الَّذِینَ وُجِدَ فِیهِمْ - وَ إِنْ کَانَ بِأَرْضِ فَلَاةٍ أُدِّیَتْ دِیَتُهُ مِنْ بَیْتِ الْمَالِ - فَإِنَّ أَمِیرَ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام کَانَ یَقُولُ لَا یَبْطُلُ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ (3).

وجملة من روایات أخری کما فی الباب الثامن والعاشر من أبواب دعوی القتل من کتاب قصاص الوسائل.

الروایة الثالثة:

صحیح زرارة قَالَ أَبُو عَبْدِ الله علیه السلام إِنَّمَا جُعِلَتِ الْقَسَامَةُ - احْتِیَاطاً لِدِمَاءِ النَّاسِ کَیْمَا إِذَا أَرَادَ الْفَاسِقُ أَنْ یَقْتُلَ رَجُلًا - أَوْ یَغْتَالَ رَجُلًا حَیْثُ لَا یَرَاهُ أَحَدٌ - خَافَ ذَلِکَ فَامْتَنَعَ مِنَ الْقَتْلِ (4).

ومثلها صحیح برید.

ص:41


1- (1) وسائل الشیعة ج 29 ص 153.
2- (2) المصدر ص 152
3- (3) المصدر 156.
4- (4) المصدر والصفحة.

ولفظ الفسق فی الروایة والذی معناه من برز عصیانه وشره یوجب التهمة واللوث, کما ان التقیید بالخوف دال علی وجود راس خیط وبصمة کقرینة علی القتل.

الروایة الرابعة:

(عَنْ أَبِی جَعْفَرٍ وَ أَبِی عَبْدِالله علیه السلام أَنَّهُمْ قَالُوا فِی حَدِیثٍ وَ لَا یَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِی الطَّلَاقِ وَ لَا فِی الْحُدُودِ إِلَی أَنْ قَالُوا وَ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِی الْقَتْلِ لَطْخٌ یَکُونُ مَعَ الْقَسَامَةِ)(1).

تقریب الدلالة:

وهی دالة علی ان الشهادة غیر کاملة الشروط وان لم تکن معتبرة فی اثبات القصاص الا انها توجب اللوث کما تدل الروایة علی ان اللوث ماهیته لطخ والتصاق بصمات واثار.

هذا وقد یقرر من الروایات الوارة فی القسامة فی لوث اهل القریة ونحوها ان اللوث فی الدیة یکفی فیه درجة اقل من اللوث فی القصاص.

کما ان اثبات القتل بالقسامة علی قاتل مجمل مبهم فی القریة غایته اثبات الدیة لعدم تعین القاتل بخلاف القصاص حیث ان الدعوة فیه لابد ان تکون علی معین.

والمحصل فی تعریف اللوث والتهمة انها قرائن مادیة تلصق جنایة القتل وغیره بشخص او اشخاص سواء اکان بوصف العمل ام الاعم منه ومن الخطا.

ص:42


1- (1) دعائم الاسلام ج 2 ص 512

فوائد اللوث والتهمة:

من فوائد اللوث والتهمة فی غیر القتل کفائدته فی القتل موضوعا:

1 - انها تقلب المدعی منکرا والمنکر مدعیا, وان کان القتل یختص بحکم قضائی بالقسامة کما ذکرنا فی بحث القسامة من سند القصاص.

2 - ما ذکروه فی باب الاجارة ونحوها فی باب المعاملات کالودیعة والعاریة ان المتهم ضامن للعین مع التلف او مطلقا, وقد یخرج بان ید المتهم علی العین لیست مضمونة فهی ضامنة ما لم یثبت عدم التفریط, فهی لیست مامونة ولا ماذونة بل العقد والتعاقد بنی علی ضمانها ما لم یثبت عدم التقصیر وهو مضمون ما ورد(کل اجیر یعطی الاجرة علی ان یصلح فیفسد فهو ضامن) فهو شرط ضمنی لا انه من باب ضمان المتهم.

3 - قاعدة فی جواز التحری والاستدراج والفحص والمسالة من قبل القاضی للمنکر المتهم مع اللوث وعدم جوازه بدون ذلک, وقد فصلنا ذلک فی تنبیهات بحث القسامة واللوث.

4 - انه یمکن للمنکر اقامة البینة دون الیمین لدفع التهمة عن نفسه بخلاف غیر موارد التهمة فان المتعین علیه الیمین.

5 - الفرق بین اللوث والریبة, ان المتتبع لکلمات اللغویین یقف علی ان الریبة ما تکون منشأ للشک وان لم یکن بدرجة اللوث فالریبة دون اللوث, والتهمة اعم منهما.

ص:43

ص:44

القاعدة الرابعة: فی جواز التحری والفحص من قبل القاضی للمتهم باللوث

ص:45

ص:46

القاعدة الرابعة: فی جواز التحری والفحص من قبل القاضی للمتهم باللوث

اشارة

ادلة القاعدة مع بیان مفادها:

الروایة الأولی:

صحیحة أَبِی بَصِیرٍ یَعْنِی الْمُرَادِیَّ عَنْ أَبِی عَبْدِ الله علیه السلام قَالَ: لَا یُضَمَّنُ الصَّائِغُ وَ لَا الْقَصَّارُ وَ لَا الْحَائِکُ - إِلَّا أَنْ یَکُونُوا مُتَّهَمِینَ فَیُخَوِّفُ بِالْبَیِّنَةِ وَ یَسْتَحْلِفُ - لَعَلَّهُ یَسْتَخْرِجُ مِنْهُ شَیْئاً - وَ فِی رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ جَمَّالًا فَیَکْسِرُ الَّذِی یَحْمِلُ أَوْ یُهَرِیقُهُ - فَقَالَ عَلَی نَحْوٍ مِنَ الْعَامِلِ - إِنْ کَانَ مَأْمُوناً فَلَیْسَ عَلَیْهِ شَیْ ءٌ - وَ إِنْ کَانَ غَیْرَ مَأْمُونٍ فَهُوَ ضَامِنٌ (1).

الروایة الثانیة:

صحیح سُلَیْمَانَ بْنِ خَالِدٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ الله علیه السلام عَنْ رَجُلٍ سَرَقَ سَرِقَةً - فَکَابَرَ عَنْهَا فَضُرِبَ فَجَاءَ بِهَا بِعَیْنِهَا - هَلْ یَجِبُ عَلَیْهِ الْقَطْعُ قَالَ نَعَمْ - وَ لَکِنْ لَوِ اعْتَرَفَ وَ لَمْ یَجِئْ بِالسَّرِقَةِ لَمْ تُقْطَعْ یَدُهُ - لِأَنَّهُ اعْتَرَفَ عَلَی الْعَذَابِ (2).

ص:47


1- (1) وسائل الشیعة ج 19 ص 125
2- (2) المصدر ج 28 ص 261

تقریب الاستدلال:

وهی وان نفت الحد او فصلت الا ان سکوته عن تعذیب المتهم بلوث یفید بالفحوی انه سائغ, وظاهرها ان استخراج حقیقة الحال باستخراج المستندات المورثه للعلم من المتهم امر مشروع.

الروایة الثالثة:

موثق إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِیهِ أَنَّ عَلِیّاً علیه السلام کَانَ یَقُولُ لَا قَطْعَ عَلَی أَحَدٍ یُخَوَّفُ مِنْ ضَرْبٍ - وَ لَا قَیْدٍ وَ لَا سِجْنٍ وَ لَا تَعْنِیفٍ إِلَّا أَنْ یَعْتَرِفَ فَإِنِ اعْتَرَفَ قُطِعَ - وَ إِنْ لَمْ یَعْتَرِفْ سَقَطَ عَنْهُ لِمَکَانِ التَّخْوِیفِ (1).

تقریب الاستدلال: وموردها هو ان الاعتراف بعد الاقرار اکراها یعتد به فالاعتراف الطوعی ولو جاء عقب الإقرار الاکراهی لا یخدش به.

الروایة الرابعة:

معتبرة عَمْرِو بْنِ أَبِی الْمِقْدَامِ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِأَبِی جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ وَهُوَ یَطُوفُ - یَا أَمِیرَ الْمُؤْمِنِینَ إِنَّ هَذَیْنِ الرَّجُلَیْنِ طَرَقَا أَخِی لَیْلًا - فَأَخْرَجَاهُ مِنْ مَنْزِلِهِ فَلَمْ یَرْجِعْ إِلَیَّ - وَ وَ الله مَا أَدْرِی مَا صَنَعَا بِهِ فَقَالَ لَهُمَا مَا صَنَعْتُمَا بِهِ - فَقَالا یَا أَمِیرَ الْمُؤْمِنِینَ کَلَّمْنَاهُ ثُمَّ رَجَعَ إِلَی مَنْزِلِهِ - إِلَی أَنْ قَالَ فَقَالَ لِأَبِی عَبْدِ الله جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ علیه السلام - اقْضِ بَیْنَهُمْ إِلَی أَنْ قَالَ - فَقَالَ یَا غُلَامُ اکْتُبْ بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِیمِ - قَالَ رَسُولُ الله صلی الله علیه و آله کُلُّ مَنْ طَرَقَ رَجُلًا بِاللَّیْلِ - فَأَخْرَجَهُ مِنْ مَنْزِلِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ - إِلَّا أَنْ یُقِیمَ عَلَیْهِ الْبَیِّنَةَ أَنَّهُ قَدْ رَدَّهُ إِلَی مَنْزِلِهِ - یَا غُلَامُ نَحِّ

ص:48


1- (1) المصدر والصفحة.

هَذَا فَاضْرِبْ عُنُقَهُ - فَقَالَ یَا ابْنَ رَسُولِ الله - وَ الله مَا أَنَا قَتَلْتُهُ وَ لَکِنِّی أَمْسَکْتُهُ - ثُمَّ جَاءَ هَذَا فَوَجَأَهُ فَقَتَلَهُ فَقَالَ أَنَا ابْنُ رَسُولِ الله - یَا غُلَامُ نَحِّ هَذَا فَاضْرِبْ (عُنُقَهُ لِلْآخَرِ) - فَقَالَ یَا ابْنَ رَسُولِ الله مَا عَذَّبْتُهُ - وَ لَکِنِّی قَتَلْتُهُ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ - فَأَمَرَ أَخَاهُ فَضَرَبَ عُنُقَهُ - ثُمَّ أَمَرَ بِالْآخَرِ فَضَرَبَ جَنْبَیْهِ وَ حَبَسَهُ فِی السِّجْنِ - وَ وَقَّعَ عَلَی رَأْسِهِ یُحْبَسُ عُمُرَهُ - وَ یُضْرَبُ فِی کُلِّ سَنَةٍ خَمْسِینَ جَلْدَةً (1).

تقریب الاستدلال: ومفاد الروایة انه علیه السلام هدده واوهمه بحکم القتل فاعترف.

الروایة الخامسة:

معتبرة سَعْدُ بْنُ طَرِیفٍ عَنِ الْأَصْبَغِ بْنِ نُبَاتَةَ قَالَ أُتِیَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِجَارِیَةٍ فَشَهِدَ عَلَیْهَا شُهُودٌ أَنَّهَا بَغَتْ وَ کَانَ مِنْ قِصَّتِهَا أَنَّهَا کَانَتْ یَتِیمَةً عِنْدَ رَجُلٍ وَ کَانَ لِلرَّجُلِ امْرَأَةٌ وَ کَانَ الرَّجُلُ کَثِیراً مَا یَغِیبُ عَنْ أَهْلِهِ فَشَبَّتِ الْیَتِیمَةُ وَ کَانَتْ جَمِیلَةً فَتَخَوَّفَتِ الْمَرْأَةُ أَنْ یَتَزَوَّجَهَا زَوْجُهَا إِذَا رَجَعَ إِلَی مَنْزِلِهِ فَدَعَتْ بِنِسْوَةٍ مِنْ جِیرَانِهَا فَأَمْسَکْنَهَا ثُمَّ اقْتَضَّتْهَا بِإِصْبَعِهَا فَلَمَّا قَدِمَ زَوْجُهَا سَأَلَ امْرَأَتَهُ عَنِ الْیَتِیمَةِ فَرَمَتْهَا بِالْفَاحِشَةِ وَ أَقَامَتِ الْبَیِّنَةَ مِنْ جِیرَانِهَا عَلَی ذَلِکَ قَالَ فَرُفِعَ ذَلِکَ إِلَی عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَلَمْ یَدْرِ کَیْفَ یَقْضِی فِی ذَلِکَ فَقَالَ لِلرَّجُلِ اذْهَبْ بِهَا إِلَی عَلِیِّ بْنِ أَبِی طَالِبٍ فَأَتَوْا عَلِیّاً وَ قَصُّوا عَلَیْهِ الْقِصَّةَ فَقَالَ لِامْرَأَةِ الرَّجُلِ أَ لَکِ بَیِّنَةٌ قَالَتْ نَعَمْ هَؤُلَاءِ جِیرَان یَشْهَدْنَ عَلَیْهَا بِمَا أَقُولُ فَأَخْرَجَ عَلِیٌّ علیه السلام السَّیْفَ مِنْ غِمْدِهِ وَ طَرَحَهُ بَیْنَ یَدَیْهِ ثُمَّ أَمَرَ بِکُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الشُّهُودِ

ص:49


1- (1) المصدر ج 29 ص 51

فَأُدْخِلَتْ بَیْتاً ثُمَّ دَعَا بِامْرَأَةِ الرَّجُلِ فَأَدَارَهَا بِکُلِّ وَجْهٍ فَأَبَتْ أَنْ تَزُولَ عَنْ قَوْلِهَا فَرَدَّهَا إِلَی الْبَیْتِ الَّذِی کَانَتْ فِیهِ ثُمَّ دَعَا بِإِحْدَی الشُّهُودِ وَ جَثَا عَلَی رُکْبَتَیْهِ وَ قَالَ لَهَا أَ تَعْرِفِینِی أَنَا عَلِیُّ بْنُ أَبِی طَالِبٍ وَ هَذَا سَیْفِی وَ قَدْ قَالَتِ امْرَأَةُ الرَّجُلِ مَا قَالَتْ وَ رَجَعَتْ إِلَی الْحَقِّ وَ أَعْطَیْتُهَا الْأَمَانَ فَاصْدُقِینِی وَ إِلَّا مَلَأْتُ سَیْفِی مِنْکِ فَالْتَفَتَتِ الْمَرْأَةُ إِلَی عَلِیٍّ فَقَالَتْ یَا أَمِیرَ الْمُؤْمِنِینَ الْأَمَانَ عَلَی الصِّدْقِ فَقَالَ لَهَا عَلِیٌّ علیه السلام فَاصْدُقِی فَقَالَتْ لَا وَ الله مَا زَنَتِ الْیَتِیمَةُ وَ لَکِنِ امْرَأَةُ الرَّجُلِ لَمَّا رَأَتْ حُسْنَهَا وَ جَمَالَهَا وَ هَیْئَتَهَا خَافَتْ فَسَادَ زَوْجِهَا فَسَقَتْهَا الْمُسْکِرَ وَ دَعَتْنَا فَأَمْسَکْنَاهَا فَاقْتَضَّتْهَا بِإِصْبَعِهَا فَقَالَ عَلِیٌّ علیه السلام الله أَکْبَرُ الله أَکْبَرُ أَنَا أَوَّلُ مَنْ فَرَّقَ بَیْنَ الشُّهُودِ إِلَّا دَانِیَال... الحدیث)(1)) .

وروها الشیخ الکلینی بسند صحیح عن معاویة بن وهب.

الروایة السادسة: الشَّیْخُ بِأَسَانِیدِهِ السَّابِقَةِ إِلَی کِتَابِ ظَرِیفٍ عَنْ أَمِیرِ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام مِثْلَهُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ وَ أَفْتَی علیه السلام فِیمَنْ لَمْ یَکُنْ لَهُ مَنْ یَحْلِفُ مَعَهُ - وَ لَمْ یُوثَقْ بِهِ عَلَی مَا ذَهَبَ مِنْ بَصَرِهِ - أَنَّهُ یُضَاعَفُ عَلَیْهِ الْیَمِینُ - إِنْ کَانَ سُدُسَ بَصَرِهِ حَلَفَ وَاحِدَةً - وَ إِنْ کَانَ الثُّلُثَ حَلَفَ مَرَّتَیْنِ - وَ إِنْ کَانَ النِّصْفَ حَلَفَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ - وَ إِنْ کَانَ الثُّلُثَیْنِ حَلَفَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ - وَ إِنْ کَانَ خَمْسَةَ أَسْدَاسٍ حَلَفَ خَمْسَ مَرَّاتٍ - وَ إِنْ کَانَ بَصَرَهُ کُلَّهُ حَلَفَ سِتَّ مَرَّاتٍ ثُمَّ یُعْطِی - وَ إِنْ أَبَی أَنْ یَحْلِفَ - لَمْ یُعْطَ إِلَّا مَا حَلَفَ عَلَیْهِ وَ وُثِقَ مِنْهُ بِصِدْقٍ - وَ الْوَالِی یَسْتَعِینُ فِی ذَلِکَ بِالسُّؤَالِ وَ النَّظَرِ وَ التَّثَبُّتِ - فِی الْقِصَاصِ وَ الْحُدُودِ وَ الْقَوَدِ(2).

ص:50


1- (1) المصدر ج 27 ص 278
2- (2) المصدر ج 29 ص 292

ومفادها مشروعیة تحری القاضی بتوسط الوالی ابتداء فی باب القصاص والحدود والدیات سواء فی النفوس ام الجروح.

وکذا یستفاد منها استعانة القاضی بالوالی فی التحری کما هو الحال فی القانون الوضعی الجاری.

فائدة جانبیة:

أولاً: قضایا امیر المومنین علیه السلام جلها تحریات وتحقیقات ومفادها ظاهر بوضوح انها فی مقام استخراج الحال والحقیقة فی موارد التهمة.

ثانیا: قد یظهر من بعض اقضیة امیر المومنین جواز تحری القاضی وان لم یکن فی البین لوث بقرینة خاصة فتکفی ادنی درجات الریبة.

ثالثا: ان ظاهر هذه الروایة والروایات الاتیة جواز الاخافة والتهدید النفسی والارعاب النفسانی فی مورد التحری القضائی.

رابعا: جواز المکایدة لاجل استلال حقیقة الحال من لسان المتهم والشهود.

خامسا: لزوم التدقیق بالقرائن والتثبت بدقة منها ومقارنة إفادات الشهود الاخرین لاستکشاف الحقیقة.

سادسا: جواز تفریق الشهود لاجل استکشاف صدق افاداتهم وتطابقها او عدم تطابقها.

سابعا: لا یبعد جواز استفادة واستعمال مطلق الطرق المحللة العقلائیة لاستکشاف الحقیقة.

ص:51

ثامنا: ان الأمیر علیه السلام اعتمد علی الیات متعددة بحسب الموضوعات لکشف الخداع والتلبیس وإظهار الحقیقة فی کل مورد وموضوع وکل بحسبه.

وهذه النقاط وغیرها واضحة فی الروایات التی تنقل جملة من قضایا امیر المومنین علیه السلام فی أسالیب التحری القضائی.

هذه جملة منها مع تعلیق علی جلها:

الروایة السابعة:

مرفوعة علی بن إبراهیم عن بعض أصحابه عن أَبِی عَبْدِالله علیه السلام قَالَ: (أُتِیَ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام بِرَجُلٍ وُجِدَ فِی خَرِبَةٍ - وَ بِیَدِهِ سِکِّینٌ مُلَطَّخٌ بِالدَّمِ - وَ إِذَا رَجُلٌ مَذْبُوحٌ یَتَشَحَّطُ فِی دَمِهِ - فَقَالَ لَهُ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام مَا تَقُولُ - قَالَ أَنَا قَتَلْتُهُ قَالَ اذْهَبُوا بِهِ فَأَقِیدُوهُ بِهِ - فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ أَقْبَلَ رَجُلٌ مُسْرِعٌ إِلَی أَنْ قَالَ - فَقَالَ أَنَا قَتَلْتُهُ - فَقَالَ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ ع لِلْأَوَّلِ - مَا حَمَلَکَ عَلَی إِقْرَارِکَ عَلَی نَفْسِکَ - فَقَالَ وَ مَا کُنْتُ أَسْتَطِیعُ أَنْ أَقُولَ - وَ قَدْ شَهِدَ عَلَیَّ أَمْثَالُ هَؤُلَاءِ الرِّجَالِ وَ أَخَذُونِی - وَ بِیَدِی سِکِّینٌ مُلَطَّخٌ بِالدَّمِ - وَ الرَّجُلُ یَتَشَحَّطُ فِی دَمِهِ وَ أَنَا قَائِمٌ عَلَیْهِ - خِفْتُ الضَّرْبَ فَأَقْرَرْتُ - وَ أَنَا رَجُلٌ کُنْتُ ذَبَحْتُ بِجَنْبِ هَذِهِ الْخَرِبَةِ شَاةً - وَ أَخَذَنِی الْبَوْلُ فَدَخَلْتُ الْخَرِبَةَ - فَرَأَیْتُ الرَّجُلَ مُتَشَحِّطاً فِی دَمِهِ - فَقُمْتُ مُتَعَجِّباً فَدَخَلَ عَلَیَّ هَؤُلَاءِ فَأَخَذُونِی - فَقَالَ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام خُذُوا هَذَیْنِ - فَاذْهَبُوا بِهِمَا إِلَی الْحَسَنِ - وَ قُولُوا لَهُ مَا الْحُکْمُ فِیهِمَا - قَالَ فَذَهَبُوا إِلَی الْحَسَنِ وَ قَصُّوا عَلَیْهِ قِصَّتَهُمَا - فَقَالَ الْحَسَنُ علیه السلام قُولُوا لِأَمِیرِ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام - إِنْ کَانَ هَذَا ذَبَحَ ذَاکَ فَقَدْ أَحْیَا هَذَا وَ قَدْ قَالَ الله عَزَّ وَ جَلَّ وَ مَنْ أَحْیاها فَکَأَنَّما

ص:52

أَحْیَا النّاسَ جَمِیعاً یُخَلَّی عَنْهُمَا - وَ تُخْرَجُ دِیَةُ الْمَذْبُوحِ مِنْ بَیْتِ الْمَالِ) (1).

مر شرح شطر من الروایة اذ انها احد وجوه قاعدة اخذ المتهم باللوث بالدیة فی ج 1 من سند القصاص فراجع.

واجمالا یستفاد من الروایة:

ووجه مفاد الروایة ما ذکرنا من نظیره فی مسالة 155 من بحث القصاص من ان بعض الافعال ینزلها الشارع منزلة فعل اخر نظیر قصاص ولی المقتول من الجانی بضربة علی رقبته ولم تزهق روحه فجعل هذا الفعل بمنزلة قصاص النفس کما فی روایة ابان التی افتی بها جماعة, وکذا الحکم فی الهارب الذی اقر بالزنا فان اقراره بالزنا وتمکینه نفسه توطینا علی الحد اعتبره الشارع بمثابة اقامة للحد وکذا فی المقام فان اقرار الثانی وتمکینه نفسه بمثابة قصاص تنزیلی فتثبت الدیة من بیت المال لانقاذ المقر الاول.

الروایة الثامنة:

معتبرة أَبِی بَصِیرٍ عَنْ أَبِی جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: دَخَلَ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام الْمَسْجِدَ فَاسْتَقْبَلَهُ شَابٌّ یَبْکِی وَ حَوْلَهُ قَوْمٌ یُسْکِتُونَهُ فَقَالَ عَلِیٌّ علیه السلام مَا أَبْکَاکَ فَقَالَ یَا أَمِیرَ الْمُؤْمِنِینَ إِنَّ شُرَیْحاً قَضَی عَلَیَّ بِقَضِیَّةٍ مَا أَدْرِی مَا هِیَ إِنَّ هَؤُلَاءِ النَّفَرَ خَرَجُوا بِأَبِی مَعَهُمْ فِی السَّفَرِ فَرَجَعُوا وَ لَمْ یَرْجِعْ أَبِی فَسَأَلْتُهُمْ عَنْهُ فَقَالُوا مَاتَ فَسَأَلْتُهُمْ عَنْ مَالِهِ فَقَالُوا مَا تَرَکَ مَالًا فَقَدَّمْتُهُمْ إِلَی شُرَیْحٍ فَاسْتَحْلَفَهُمْ وَ قَدْ عَلِمْتُ یَا أَمِیرَ الْمُؤْمِنِینَ أَنَّ أَبِی خَرَجَ وَ مَعَهُ مَالٌ کَثِیرٌ فَقَالَ لَهُمْ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام

ص:53


1- (1) المصدر 243

ارْجِعُوا فَرَجَعُوا وَ الْفَتَی مَعَهُمْ إِلَی شُرَیْحٍ فَقَالَ لَهُ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام یَا شُرَیْحُ کَیْفَ قَضَیْتَ بَیْنَ هَؤُلَاءِ فَقَالَ یَا أَمِیرَ الْمُؤْمِنِینَ ادَّعَی هَذَا الْفَتَی عَلَی هَؤُلَاءِ النَّفَرِ أَنَّهُمْ خَرَجُوا فِی سَفَرٍ وَ أَبُوهُ مَعَهُمْ فَرَجَعُوا وَ لَمْ یَرْجِعْ أَبُوهُ فَسَأَلْتُهُمْ عَنْهُ فَقَالُوا مَاتَ فَسَأَلْتُهُمْ عَنْ مَالِهِ فَقَالُوا مَا خَلَّفَ مَالًا فَقُلْتُ لِلْفَتَی هَلْ لَکَ بَیِّنَةٌ عَلَی مَا تَدَّعِی فَقَالَ لَا فَاسْتَحْلَفْتُهُمْ فَحَلَفُوا فَقَالَ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام هَیْهَاتَ یَا شُرَیْحُ هَکَذَا تَحْکُمُ فِی مِثْلِ هَذَا فَقَالَ یَا أَمِیرَ الْمُؤْمِنِینَ فَکَیْفَ فَقَالَ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام وَ الله لَأَحْکُمَنَّ فِیهِمْ بِحُکْمٍ مَا حَکَمَ بِهِ خَلْقٌ قَبْلِی إِلَّا دَاوُدُ النَّبِیُّ علیه السلام یَا قَنْبَرُ ادْعُ لِی شُرْطَةَ الْخَمِیسِ فَدَعَاهُمْ فَوَکَّلَ بِکُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ رَجُلًا مِنَ الشُّرْطَةِ ثُمَّ نَظَرَ إِلَی وُجُوهِهِمْ فَقَالَ مَا ذَا تَقُولُونَ أَ تَقُولُونَ إِنِّی لَا أَعْلَمُ مَا صَنَعْتُمْ بِأَبِی هَذَا الْفَتَی إِنِّی إِذاً لَجَاهِلٌ ثُمَّ قَالَ فَرِّقُوهُمْ وَ غَطُّوا رُءُوسَهُمْ قَالَ فَفُرِّقَ بَیْنَهُمْ وَ أُقِیمَ کُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ إِلَی أُسْطُوَانَةٍ مِنْ أَسَاطِینِ الْمَسْجِدِ وَ رُءُوسُهُمْ مُغَطَّاةٌ بِثِیَابِهِمْ ثُمَّ دَعَا بِعُبَیْدِ الله بْنِ أَبِی رَافِعٍ کَاتِبِهِ فَقَالَ هَاتِ صَحِیفَةً وَ دَوَاةً وَ جَلَسَ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ صَلَوَاتُ الله عَلَیْهِ فِی مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَ جَلَسَ النَّاسُ إِلَیْهِ فَقَالَ لَهُمْ إِذَا أَنَا کَبَّرْتُ فَکَبِّرُوا ثُمَّ قَالَ لِلنَّاسِ اخْرُجُوا ثُمَّ دَعَا بِوَاحِدٍ مِنْهُمْ فَأَجْلَسَهُ بَیْنَ یَدَیْهِ وَ کَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ ثُمَّ قَالَ لِعُبَیْدِ الله بْنِ أَبِی رَافِعٍ اکْتُبْ إِقْرَارَهُ وَ مَا یَقُولُ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَیْهِ بِالسُّؤَالِ فَقَالَ لَهُ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام فِی أَیِّ یَوْمٍ خَرَجْتُمْ مِنْ مَنَازِلِکُمْ وَ أَبُو هَذَا الْفَتَی مَعَکُمْ فَقَالَ الرَّجُلُ فِی یَوْمِ کَذَا وَ کَذَا قَالَ وَ فِی أَیِّ شَهْرٍ قَالَ فِی شَهْرِ کَذَا وَ کَذَا قَالَ فِی أَیِّ سَنَةٍ قَالَ فِی سَنَةِ کَذَا وَ کَذَا قَالَ وَ إِلَی أَیْنَ بَلَغْتُمْ فِی سَفَرِکُمْ حَتَّی مَاتَ أَبُو هَذَا الْفَتَی قَالَ إِلَی مَوْضِعِ کَذَا وَ کَذَا قَالَ وَ فِی مَنْزِلِ مَنْ مَاتَ قَالَ فِی مَنْزِلِ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ قَالَ وَ مَا کَانَ مَرَضُهُ قَالَ کَذَا وَ کَذَا قَالَ وَ کَمْ یَوْماً مَرِضَ قَالَ کَذَا وَ کَذَا قَالَ فَفِی

ص:54

أَیِّ یَوْمٍ مَاتَ وَ مَنْ غَسَّلَهُ وَ مَنْ کَفَّنَهُ وَ بِمَا کَفَّنْتُمُوهُ وَ مَنْ صَلَّی عَلَیْهِ وَ مَنْ نَزَلَ قَبْرَهُ فَلَمَّا سَأَلَهُ عَنْ جَمِیعِ مَا یُرِیدُ کَبَّرَ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام وَ کَبَّرَ النَّاسُ جَمِیعاً فَارْتَابَ أُولَئِکَ الْبَاقُونَ وَ لَمْ یَشُکُّوا أَنَّ صَاحِبَهُمْ قَدْ أَقَرَّ عَلَیْهِمْ وَ عَلَی نَفْسِهِ فَأَمَرَ أَنْ یُغَطَّی رَأْسُهُ وَ یُنْطَلَقَ بِهِ إِلَی السِّجْنِ ثُمَّ دَعَا بِآخَرَ فَأَجْلَسَهُ بَیْنَ یَدَیْهِ وَ کَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ ثُمَّ قَالَ کَلَّا زَعَمْتُمْ أَنِّی لَا أَعْلَمُ مَا صَنَعْتُمْ فَقَالَ یَا أَمِیرَ الْمُؤْمِنِینَ مَا أَنَا إِلَّا وَاحِدٌ مِنَ الْقَوْمِ وَ لَقَدْ کُنْتُ کَارِهاً لِقَتْلِهِ فَأَقَرَّ ثُمَّ دَعَا بِوَاحِدٍ بَعْدَ وَاحِدٍ کُلُّهُمْ یُقِرُّ بِالْقَتْلِ وَ أَخْذِ الْمَالِ ثُمَّ رَدَّ الَّذِی کَانَ أَمَرَ بِهِ إِلَی السِّجْنِ فَأَقَرَّ أَیْضاً فَأَلْزَمَهُمُ الْمَالَ وَ الدَّمَ فَقَالَ شُرَیْحٌ یَا أَمِیرَ الْمُؤْمِنِینَ وَ کَیْفَ حَکَمَ دَاوُدُ النَّبِیُّ علیه السلام فَقَالَ إِنَّ دَاوُدَ النَّبِیَّ علیه السلام مَرَّ بِغِلْمَةٍ یَلْعَبُونَ وَ یُنَادُونَ بَعْضَهُمْ بِیَا مَاتَ الدِّینُ فَیُجِیبُ مِنْهُمْ غُلَامٌ فَدَعَاهُمْ دَاوُدُ علیه السلام فَقَالَ یَا غُلَامُ مَا اسْمُکَ قَالَ مَاتَ الدِّینُ فَقَالَ لَهُ دَاوُدُ علیه السلام مَنْ سَمَّاکَ بِهَذَا الِاسْمِ فَقَالَ أُمِّی فَانْطَلَقَ دَاوُدُ علیه السلام إِلَی أُمِّهِ فَقَالَ لَهَا یَا أَیَّتُهَا الْمَرْأَةُ مَا اسْمُ ابْنِکِ هَذَا قَالَتْ مَاتَ الدِّینُ فَقَالَ لَهَا وَ مَنْ سَمَّاهُ بِهَذَا قَالَتْ أَبُوهُ قَالَ وَ کَیْفَ کَانَ ذَاکِ قَالَتْ إِنَّ أَبَاهُ خَرَجَ فِی سَفَرٍ لَهُ وَ مَعَهُ قَوْمٌ وَ هَذَا الصَّبِیُّ حَمْلٌ فِی بَطْنِی فَانْصَرَفَ الْقَوْمُ وَ لَمْ یَنْصَرِفْ زَوْجِی فَسَأَلْتُهُمْ عَنْهُ فَقَالُوا مَاتَ فَقُلْتُ لَهُمْ فَأَیْنَ مَا تَرَکَ قَالُوا لَمْ یُخَلِّفْ شَیْئاً فَقُلْتُ هَلْ أَوْصَاکُمْ بِوَصِیَّةٍ قَالُوا نَعَمْ زَعَمَ أَنَّکِ حُبْلَی فَمَا وَلَدْتِ مِنْ وَلَدٍ جَارِیَةٍ أَوْ غُلَامٍ فَسَمِّیهِ مَاتَ الدِّینُ فَسَمَّیْتُهُ قَالَ دَاوُدُ علیه السلام وَ تَعْرِفِینَ الْقَوْمَ الَّذِینَ کَانُوا خَرَجُوا مَعَ زَوْجِکِ قَالَتْ نَعَمْ قَالَ فَأَحْیَاءٌ هُمْ أَمْ أَمْوَاتٌ قَالَتْ بَلْ أَحْیَاءٌ قَالَ فَانْطَلِقِی بِنَا إِلَیْهِمْ ثُمَّ مَضَی مَعَهَا فَاسْتَخْرَجَهُمْ مِنْ مَنَازِلِهِمْ فَحَکَمَ بَیْنَهُمْ بِهَذَا الْحُکْمِ بِعَیْنِهِ وَ أَثْبَتَ عَلَیْهِمُ الْمَالَ وَ الدَّمَ وَ قَالَ لِلْمَرْأَةِ سَمِّی ابْنَکِ هَذَا عَاشَ الدِّینُ ثُمَّ إِنَّ الْفَتَی وَ الْقَوْمَ اخْتَلَفُوا فِی مَالِ الْفَتَی کَمْ کَانَ فَأَخَذَ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام خَاتَمَهُ و

ص:55

َجَمِیعَ خَوَاتِیمِ مَنْ عِنْدَهُ - ثُمَّ قَالَ أَجِیلُوا هَذَا السِّهَامَ فَأَیُّکُمْ أَخْرَجَ خَاتَمِی فَهُوَ صَادِقٌ فِی دَعْوَاهُ لِأَنَّهُ سَهْمُ الله وَ سَهْمُ الله لَا یَخِیبُ) (1).

ان هذه الروایة تدل ان علم التحری ومهارة التحری علم ممضی من الشارع فی موارد الریبة مع کونه طرفا فی القضیة, وهذه قاعدة فی نفسها.

الروایة التاسعة:

الصحیح الی عمر بن یزید عن أَبِی الْمُعَلَّی(العلاء) عَنْ أَبِی عَبْدِ الله علیه السلام قَالَ: أُتِیَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِامْرَأَةٍ - قَدْ تَعَلَّقَتْ بِرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَ کَانَتْ تَهْوَاهُ - وَ لَمْ تَقْدِرْ لَهُ عَلَی حِیلَةٍ - فَذَهَبَتْ وَ أَخَذَتْ بَیْضَةً - فَأَخْرَجَتْ مِنْهَا الصُّفْرَةَ - وَ صَبَّتِ الْبَیَاضَ عَلَی ثِیَابِهَا بَیْنَ فَخِذَیْهَا - ثُمَّ جَاءَتْ إِلَی عُمَرَ فَقَالَتْ یَا أَمِیرَ الْمُؤْمِنِینَ - إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ أَخَذَنِی فِی مَوْضِعِ کَذَا وَ کَذَا - فَفَضَحَنِی قَالَ فَهَمَّ عُمَرُ أَنْ یُعَاقِبَ الْأَنْصَارِیَّ - فَجَعَلَ الْأَنْصَارِیُّ یَحْلِفُ وَ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام جَالِسٌ - وَ یَقُولُ یَا أَمِیرَ الْمُؤْمِنِینَ تَثَبَّتْ فِی أَمْرِی - فَلَمَّا أَکْثَرَ الْفَتَی قَالَ عُمَرُ لِأَمِیرِ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام - مَا تَرَی یَا أَبَا الْحَسَنِ فَنَظَرَ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام - إِلَی بَیَاضٍ عَلَی ثَوْبِ الْمَرْأَةِ وَ بَیْنَ فَخِذَیْهَا - فَاتَّهَمَهَا أَنْ تَکُونَ احْتَالَتْ لِذَلِکَ - فَقَالَ ائْتُونِی بِمَاءٍ حَارٍّ قَدْ أُغْلِیَ غَلَیَاناً شَدِیداً - فَفَعَلُوا فَلَمَّا أُتِیَ بِالْمَاءِ - أَمَرَهُمْ فَصَبُّوا عَلَی مَوْضِعِ الْبَیَاضِ - فَاشْتَوَی ذَلِکَ الْبَیَاضُ - فَأَخَذَهُ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام فَأَلْقَاهُ فِی فِیهِ - فَلَمَّا عَرَفَ طَعْمَهُ أَلْقَاهُ مِنْ فِیهِ - ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَی الْمَرْأَةِ حَتَّی أَقَرَّتْ بِذَلِکَ - وَ دَفَعَ الله عَزَّ وَ جَلَّ عَنِ الْأَنْصَارِیِّ عُقُوبَةَ عُمَرَ(2).

ص:56


1- (1) المصدر ج 27 ص 280.
2- (2) المصدر ص 282.

قوله علیه السلام - فَاتَّهَمَهَا أَنْ تَکُونَ احْتَالَتْ لِذَلِکَ - فیه دلالة علی ان التحریات والتحقیقات موضوعها المسوغ لها ادنی الاسترابة والریبة الحادثة للقاضی من دعوی احد المتنازعین.

الروایة العاشرة:

روایة عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ السَّلُولِیِّ فِی حَدِیثٍ أَنَّ غُلَاماً ادَّعَی عَلَی امْرَأَةٍ أَنَّهَا أُمُّهُ - فَأَنْکَرَتْ فَقَالَ عُمَرُ عَلَیَّ بِأُمِّ الْغُلَامِ - فَأُتِیَ بِهَا مَعَ أَرْبَعِ إِخْوَةٍ لَهَا - وَ أَرْبَعِینَ قَسَامَةً یَشْهَدُونَ أَنَّهَا لَا تَعْرِفُ الصَّبِیَّ - وَ أَنَّ هَذَا الْغُلَامَ غُلَامٌ مُدَّعٍ غَشُومٌ ظَلُومٌ - یُرِیدُ أَنْ یَفْضَحَهَا فِی عَشِیرَتِهَا - وَ أَنَّ هَذِهِ جَارِیَةٌ مِنْ قُرَیْشٍ لَمْ تَتَزَوَّجْ قَطُّ - وَ أَنَّهَا بِخَاتَمِ رَبِّهَا إِلَی أَنْ قَالَ - فَقَالَ عَلِیٌّ علیه السلام لِعُمَرَ - أَ تَأْذَنُ لِی أَنْ أَقْضِیَ بَیْنَهُمْ - فَقَالَ عُمَرُ سُبْحَانَ الله کَیْفَ لَا وَ قَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ الله ص - یَقُولُ أَعْلَمُکُمْ عَلِیُّ بْنُ أَبِی طَالِبٍ - ثُمَّ قَالَ لِلْمَرْأَةِ أَ لَکِ شُهُودٌ قَالَتْ نَعَمْ - فَتَقَدَّمَ الْأَرْبَعُونَ قَسَامَةً فَشَهِدُوا بِالشَّهَادَةِ الْأُولَی - فَقَالَ عَلِیٌّ علیه السلام لَأَقْضِیَنَّ الْیَوْمَ بَیْنَکُمْ بِقَضِیَّةٍ - هِیَ مَرْضَاةُ الرَّبِّ مِنْ فَوْقِ عَرْشِهِ - عَلَّمَنِیهَا حَبِیبِی رَسُولُ الله صلی الله علیه و آله ثُمَّ قَالَ لَهَا أَ لَکِ وَلِیٌّ - فَقَالَتْ نَعَمْ هَؤُلَاءِ إِخْوَتِی - فَقَالَ لِإِخْوَتِهَا أَمْرِی فِیکُمْ وَ فِی أُخْتِکُمْ جَائِزٌ - قَالُوا نَعَمْ قَالَ أُشْهِدُ الله - وَ أُشْهِدُ مَنْ حَضَرَ مِنَ الْمُسْلِمِینَ - أَنِّی قَدْ زَوَّجْتُ هَذِهِ الْجَارِیَةَ مِنْ هَذَا الْغُلَامِ بِأَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَ النَّقْدُ مِنْ مَالِی - یَا قَنْبَرُ عَلَیَّ بِالدَّرَاهِمِ - فَأَتَاهُ قَنْبَرُ بِهَا فَصَبَّهَا فِی یَدِ الْغُلَامِ - فَقَالَ خُذْهَا فَصُبَّهَا فِی حَجْرِ امْرَأَتِکَ - وَ لَا تَأْتِنِی إِلَّا وَ بِکَ أَثَرُ الْعُرْسِ یَعْنِی الْغُسْلَ - فَقَامَ الْغُلَامُ فَصَبَّ الدَّرَاهِمَ فِی حَجْرِ الْمَرْأَةِ - ثُمَّ تَلَبَّبَهَا فَقَالَ لَهَا قُومِی - فَنَادَتِ الْمَرْأَةُ النَّارَ النَّارَ یَا ابْنَ عَمِّ مُحَمَّدٍ - تُرِیدُ أَنْ تُزَوِّجَنِی مِنْ وَلَدِی

ص:57

هَذَا وَ الله وَلَدِی - زَوَّجَنِی إِخْوَتِی هَجِیناً فَوَلَدْتُ مِنْهُ هَذَا - فَلَمَّا تَرَعْرَعَ وَ شَبَّ أَمَرُونِی أَنْ أَنْتَفِیَ مِنْهُ وَ أَطْرُدَهُ - وَ هَذَا وَ الله وَلَدِی (1).

وقوله علیه السلام لعمر اتاذن لی ان اقضی بینهم تسمیة وتوصیف للتحری والتحقیق الجنائی بالقضاء لانه قضاء, وکذلک قوله علیه السلام لاقضین الیوم علیکم بقضیة هی مرضاة الرب... ولا ریب ان اجراء التحقیق من احکام ولایة القاضی وانه شان وعمل قضائی ونحو اجراء قضائی, واعتماد من القاضی علی الیة کاشفة لواقع الحال والنزاع, کما انه یقوم بسلسلة التحقیقات بالزامات وظیفیة عملیة للمتنازعین.

الروایة الحادیة عشر:

مصحح ابی الصَّبَّاحِ الْکِنَانِیِّ عَنْ أَبِی عَبْدِ الله علیه السلام قَالَ: أُتِیَ عُمَرُ بِامْرَأَةٍ قَدْ تَزَوَّجَهَا شَیْخٌ - فَلَمَّا أَنْ وَاقَعَهَا مَاتَ عَلَی بَطْنِهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ - فَادَّعَی بَنُوهُ أَنَّهَا فَجَرَتْ وَ تَشَاهَدُوا عَلَیْهَا - فَأَمَرَ بِهَا عُمَرُ أَنْ تُرْجَمَ فَمُرَّ بِهَا عَلَی عَلِیٍّ علیه السلام - فَقَالَتْ یَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ الله إِنَّ لِی حُجَّةً - قَالَ هَاتِی حُجَّتَکِ - فَدَفَعَتْ إِلَیْهِ کِتَاباً فَقَرَأَهُ - فَقَالَ هَذِهِ الْمَرْأَةُ تُعْلِمُکُمْ بِیَوْمَ تَزَوَّجَهَا - وَ یَوْمَ وَاقَعَهَا وَ کَیْفَ کَانَ جِمَاعُهُ لَهَا - رُدُّوا الْمَرْأَةَ فَلَمَّا کَانَ مِنَ الْغَدِ دَعَا بِصِبْیَانٍ أَتْرَابٍ - وَ دَعَا بِالصَّبِیِّ مَعَهُمْ فَقَالَ لَهُمْ - الْعَبُوا حَتَّی إِذَا أَلْهَاهُمُ اللَّعِبُ - قَالَ لَهُمْ اجْلِسُوا حَتَّی إِذَا تَمَکَّنُوا صَاحَ بِهِمْ - فَقَامَ الصِّبْیَانُ وَ قَامَ الْغُلَامُ فَاتَّکَی عَلَی رَاحَتَیْهِ - فَدَعَا بِهِ عَلِیٌّ علیه السلام وَ وَرَّثَهُ مِنْ أَبِیهِ - وَ جَلَدَ إِخْوَتَهُ الْمُفْتَرِینَ حَدّاً حَدّاً - فَقَالَ عُمَرُ

ص:58


1- (1) المصدر ص 283

کَیْفَ صَنَعْتَ فَقَالَ عَرَفْتُ ضَعْفَ الشَّیْخِ فِی تُکَأَةِ الْغُلَامِ عَلَی رَاحَتَیْهِ) (1).

وفیه اعتماد علی علم الوراثة واحکامها فی التحریات والتحقیقات الجنائیة وان العلوم المرتبطة بالعلوم المختلفة تعتمد نتائجها بالحریات اذا أوصلت الی العلم او الاطمئنان صلی الله علیه و آله اذ قوله علیه السلام عرفت ضعف الشیخ فی تکاة الغلام علی راحته تعلیل لوجه حصول العلم من هذه الالیة فی التحقق بتوسط قواعد علم الوراثة.

الروایة الثانیة عشر:

مرسلة عَبْدِ الله بْنِ عُثْمَانَ عَنْ أَبِی عَبْدِالله علیه السلام أَنَّ رَجُلًا أَقْبَلَ عَلَی عَهْدِ عَلِیٍّ علیه السلام مِنَ الْجَبَلِ حَاجّاً - وَ مَعَهُ غُلَامٌ لَهُ فَأَذْنَبَ فَضَرَبَهُ مَوْلَاهُ - فَقَالَ مَا أَنْتَ مَوْلَایَ بَلْ أَنَا مَوْلَاکَ - فَمَا زَالَ ذَا یَتَوَعَّدُ ذَا وَ ذَا یَتَوَعَّدُ ذَا - وَ یَقُولُ کَمَا أَنْتَ حَتَّی نَأْتِیَ الْکُوفَةَ یَا عَدُوَّ الله - فَأَذْهَبَ بِکَ إِلَی أَمِیرِ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام - فَلَمَّا أَتَیَا الْکُوفَةَ أَتَیَا أَمِیرَ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام - فَقَالَ الَّذِی ضَرَبَ الْغُلَامَ أَصْلَحَکَ الله - هَذَا غُلَامٌ لِی وَ إِنَّهُ أَذْنَبَ فَضَرَبْتُهُ فَوَثَبَ عَلَیَّ - وَ قَالَ الْآخَرُ هُوَ وَ الله غُلَامٌ لِی - إِنَّ أَبِی أَرْسَلَنِی مَعَهُ لِیُعَلِّمَنِی - وَ إِنَّهُ وَثَبَ عَلَیَّ یَدَّعِینِی لِیَذْهَبَ بِمَالِی - قَالَ فَأَخَذَ هَذَا یَحْلِفُ وَ هَذَا یَحْلِفُ - وَ هَذَا یُکَذِّبُ هَذَا وَ هَذَا یُکَذِّبُ هَذَا - فَقَالَ انْطَلِقَا فَتَصَادَقَا فِی لَیْلَتِکُمَا هَذِهِ - وَ لَا تَجِیئَانِی إِلَّا بِحَقٍّ - قَالَ فَلَمَّا أَصْبَحَ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام - قَالَ لِقَنْبَرٍ اثْقُبْ فِی الْحَائِطِ ثَقْبَیْنِ - وَ کَانَ إِذَا أَصْبَحَ - عَقَّبَ حَتَّی تَصِیرَ الشَّمْسُ عَلَی رُمْحٍ یُسَبِّحُ - فَجَاءَ الرَّجُلَانِ وَ اجْتَمَعَ النَّاسُ - وَ قَالُوا قَدْ وَرَدَ عَلَیْهِ قَضِیَّةٌ - مَا وَرَدَ عَلَیْهِ مِثْلُهَا لَا یَخْرُجُ مِنْهَا فَقَالَ لَهُمَا - مَا تَقُولَانِ فَحَلَفَ هَذَا أَنَّ هَذَا عَبْدُهُ - وَ حَلَفَ هَذَا أَنَّ هَذَا عَبْدُهُ - فَقَالَ لَهُمَا

ص:59


1- (1) المصدر والصفحة.

قُومَا فَإِنِّی لَسْتُ أَرَاکُمَا تَصْدُقَانِ - ثُمَّ قَالَ لِأَحَدِهِمَا أَدْخِلْ رَأْسَکَ فِی هَذَا الثَّقْبِ - ثُمَّ قَالَ لِلْآخَرِ أَدْخِلْ رَأْسَکَ فِی هَذَا الثَّقْبِ - ثُمَّ قَالَ یَا قَنْبَرُ عَلَیَّ بِسَیْفِ رَسُولِ الله ص - عَجِّلْ أَضْرِبْ رَقَبَةَ الْعَبْدِ مِنْهُمَا - قَالَ فَأَخْرَجَ الْغُلَامُ رَأْسَهُ مُبَادِراً - فَقَالَ عَلِیٌّ علیه السلام لِلْغُلَامِ - أَ لَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّکَ لَسْتَ بِعَبْدٍ - وَ مَکَثَ الْآخَرُ فِی الثَّقْبِ - قَالَ بَلَی إِنَّهُ ضَرَبَنِی وَ تَعَدَّی عَلَیَّ - قَالَ فَتَوَثَّقَ لَهُ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام وَ دَفَعَهُ إِلَیْهِ (1).

فی هذه الروایة بیان لجواز استخدام المکیدة فی التحری القضائی کما مر.

الروایة الثالثة عشر:

صحیحة عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَجَّاجِ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ أَبِی لَیْلَی یُحَدِّثُ أَصْحَابَهُ قَالَ: قَضَی أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام بَیْنَ رَجُلَیْنِ اصْطَحَبَا فِی سَفَرٍ - فَلَمَّا أَرَادَ الْغَدَاءَ أَخْرَجَ أَحَدُهُمَا مِنْ زَادِهِ خَمْسَةَ أَرْغِفَةٍ - وَ أَخْرَجَ الْآخَرُ ثَلَاثَةَ أَرْغِفَةٍ - فَمَرَّ بِهِمَا عَابِرُ سَبِیلٍ فَدَعَوَاهُ إِلَی طَعَامِهِمَا - فَأَکَلَ الرَّجُلُ مَعَهُمَا حَتَّی لَمْ یَبْقَ شَیْ ءٌ - فَلَمَّا فَرَغُوا أَعْطَاهُمَا الْمُعْتَرُّ بِهِمَا - ثَمَانِیَةَ دَرَاهِمَ ثَوَابَ مَا أَکَلَهُ مِنْ طَعَامِهِمَا - فَقَالَ صَاحِبُ الثَّلَاثَةِ أَرْغِفَةٍ لِصَاحِبِ الْخَمْسَةِ أَرْغِفَةٍ - اقْسِمْهَا نِصْفَیْنِ بَیْنِی وَ بَیْنَکَ - وَ قَالَ صَاحِبُ الْخَمْسَةِ لَا - بَلْ یَأْخُذُ کُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا مِنَ الدَّرَاهِمِ - عَلَی عَدَدِ مَا أَخْرَجَ مِنَ الزَّادِ - فَأَتَیَا أَمِیرَ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام فِی ذَلِکَ - فَلَمَّا سَمِعَ مَقَالَتَهُمَا قَالَ لَهُمَا - اصْطَلِحَا فَإِنَّ قَضِیَّتَکُمَا دَنِیَّةٌ - فَقَالا اقْضِ بَیْنَنَا بِالْحَقِّ - قَالَ فَأَعْطَی صَاحِبَ الْخَمْسَةِ أَرْغِفَةٍ سَبْعَةَ دَرَاهِمَ - وَ أَعْطَی صَاحِبَ الثَّلَاثَةِ أَرْغِفَةٍ دِرْهَماً - وَ قَالَ أَ لَیْسَ أَخْرَجَ أَحَدُکُمَا مِنْ زَادِهِ خَمْسَةَ أَرْغِفَةٍ - وَ أَخْرَجَ الْآخَرُ ثَلَاثَةً قَالا نَعَمْ قَالَ - أَ لَیْسَ أَکَلَ ضَیْفُکُمَا مَعَکُمَا مِثْلَ مَا أَکَلْتُمَا قَالا نَعَمْ -

ص:60


1- (1) المصدر ص 284

قَالَ أَ لَیْسَ أَکَلَ کُلُّ وَاحِدٍ مِنْکُمَا - ثَلَاثَةَ أَرْغِفَةٍ غَیْرَ ثُلُثٍ قَالا نَعَمْ - قَالَ أَ لَیْسَ أَکَلْتَ أَنْتَ یَا صَاحِبَ الثَّلَاثَةِ - ثَلَاثَةَ أَرْغِفَةٍ غَیْرَ ثُلُثٍ - وَ أَکَلْتَ أَنْتَ یَا صَاحِبَ الْخَمْسَةِ ثَلَاثَةَ أَرْغِفَةٍ غَیْرَ ثُلُثٍ - وَ أَکَلَ الضَّیْفُ ثَلَاثَةَ أَرْغِفَةٍ غَیْرَ ثُلُثٍ - أَ لَیْسَ قَدْ بَقِیَ لَکَ یَا صَاحِبَ الثَّلَاثَةِ - ثُلُثُ رَغِیفٍ مِنْ زَادِکَ - وَ بَقِیَ لَکَ یَا صَاحِبَ الْخَمْسَةِ رَغِیفَانِ وَ ثُلُثٌ - وَ أَکَلْتَ ثَلَاثَةً غَیْرَ ثُلُثٍ - فَأَعْطَاکُمَا لِکُلِّ ثُلُثِ رَغِیفٍ دِرْهَماً - فَأَعْطَی صَاحِبَ الرَّغِیفَیْنِ وَ ثُلُثٍ سَبْعَةَ دَرَاهِمَ - وَ أَعْطَی صَاحِبَ الثُّلُثِ رَغِیفٍ دِرْهَماً (1).

فی هذه الصحیحة بیان لاعتماد النظم الریاضیة الحسابیة لکشف الأسهم بالمداقة.

الروایة الرابعة عشر:

معتبرة مُحَمَّدِ بْنِ قَیْسٍ عَنْ أَبِی جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: کَانَ لِرَجُلٍ عَلَی عَهْدِ عَلِیٍّ علیه السلام جَارِیَتَانِ - فَوَلَدَتَا جَمِیعاً فِی لَیْلَةٍ وَاحِدَةٍ - فَوَلَدَتْ إِحْدَاهُمَا ابْناً وَ الْأُخْرَی بِنْتَا - فَعَمَدَتْ صَاحِبَةُ الْبِنْتِ - فَوَضَعَتْ بِنْتَهَا فِی الْمَهْدِ الَّذِی فِیهِ الِابْنُ وَ أَخَذَتْ ابْنَهَا - فَقَالَتْ صَاحِبَةُ الْبِنْتِ الِابْنُ ابْنِی - وَ قَالَتْ صَاحِبَةُ الِابْنِ الِابْنُ ابْنِی - فَتَحَاکَمَا إِلَی أَمِیرِ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام - فَأَمَرَ أَنْ یُوزَنَ لَبَنُهُمَا وَ قَالَ - أَیَّتُهُمَا کَانَتْ أَثْقَلَ لَبَناً فَالابْنُ لَهَا(2).

الروایة تدل علی اعتماد العلوم المختصة بالموضوعات لتحری الحقیقة.

ص:61


1- (1) المصدر ص 285
2- (2) المصدر 286

ومثلها روایة حفص بن غالب فی نفس الباب.

الروایة الخامسة عشر:

روی مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُفِیدُ فِی الْإِرْشَادِ قَالَ رَوَتِ الْعَامَّةُ وَ الْخَاصَّةُ أَنَّ امْرَأَتَیْنِ تَنَازَعَتَا عَلَی عَهْدِ عُمَرَ - فِی طِفْلٍ ادَّعَتْهُ کُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَلَداً لَهَا بِغَیْرِ بَیِّنَةٍ - وَ لَمْ یُنَازِعْهُمَا فِیهِ غَیْرُهُمَا - فَالْتَبَسَ الْحُکْمُ فِی ذَلِکَ عَلَی عُمَرَ - فَفَزِعَ فِیهِ إِلَی أَمِیرِ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام - فَاسْتَدْعَی الْمَرْأَتَیْنِ وَ وَعَظَهُمَا وَ خَوَّفَهُمَا - فَأَقَامَتَا عَلَی التَّنَازُعِ فَقَالَ عَلِیٌّ علیه السلام - ائْتُونِی بِمِنْشَارٍ فَقَالَتِ الْمَرْأَتَانِ فَمَا تَصْنَعُ بِهِ - فَقَالَ أَقُدُّهُ نِصْفَیْنِ لِکُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْکُمَا نِصْفُهُ - فَسَکَتَتْ إِحْدَاهُمَا وَ قَالَتِ الْأُخْرَی - الله الله یَا أَبَا الْحَسَنِ علیه السلام إِنْ کَانَ لَا بُدَّ مِنْ ذَلِکَ فَقَدْ سَمَحْتُ بِهِ لَهَا - فَقَالَ الله أَکْبَرُ هَذَا ابْنُکِ دُونَهَا - وَ لَوْ کَانَ ابْنَهَا لَرَقَّتْ عَلَیْهِ وَ أَشْفَقَتْ - وَ اعْتَرَفَتِ الْأُخْرَی أَنَّ الْحَقَّ لِصَاحِبَتِهَا - وَ أَنَّ الْوَلَدَ لَهَا دُونَهَا - قَالَ وَ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ یَا أَمِیرَ الْمُؤْمِنِینَ - إِنَّهُ کَانَ بَیْنَ یَدَیَّ تَمْرٌ فَبَدَرَتْ زَوْجَتِی - أَخَذَتْ مِنْهُ وَاحِدَةً فَأَلْقَتْهَا فِی فِیهَا - فَحَلَفْتُ أَنَّهَا لَا تَأْکُلُهَا وَ لَا تَلْفِظُهَا - فَقَالَ لَهُ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام تَأْکُلُ نِصْفَهَا وَ تَلْفِظُ نِصْفَهَا - وَ قَدْ تَخَلَّصْتَ مِنْ یَمِینِکَ (1).

وهذه الروایة من أسالیب الکید المحلل الذی یتخذه القاضی لکشف الحقیقة.

الروایة السادسة عشر:

موثق السَّکُونِیِّ عَنْ أَبِی عَبْدِ الله علیه السلام قَالَ: إِنَّ النَّبِیَّ صلی الله علیه و آله کَانَ یَحْبِسُ فِی تُهَمَةِ

ص:62


1- (1) المصدر ص 289

الدَّمِ سِتَّةَ أَیَّامٍ - فَإِنْ جَاءَ أَوْلِیَاءُ الْمَقْتُولِ بِثَبَتٍ وَ إِلَّا خَلَّی سَبِیلَهُ (1).

والحبس اجراء تنفیذی کما لا یخفی ولو کان المتهم برئ فی الواقع, ومفادها کما یتعلق بقاعدة التحری للقاضی والوالی فهو یتعلق أیضا باثار التهمة.

ص:63


1- (1) المصدر ص 160

ص:64

القاعدة الخامسة، قاعدة قضائیة: قبول الدعاوی لتعدد المتنازعین عرضا وطولا

ص:65

ص:66

القاعدة الخامسة: قبول الدعاوی لتعدد المتنازعین عرضا وطولا قاعدة قضائیة

اشارة

الادلة:

یستدل لتکرار الیمین بوجوه:

أولا:

ان اطلاق النصوص المتضمنة لحلف الخمسین وان حلف الخمسین کالفعل فی الواجب الکفائی بالنسبة للولی وقومه من غیر فرق بین صدورها منهم فی جمع علی التوزیع او علی التفریق ولا بین الولی وغیره.

وهذا التقریب من کون الیمین وظیفة کفائیة علی المجموع ذکره صاحب الجواهر, وان الخمسین کافیة لکل المتهمین والمدعی علیهم اذا تعددوا مع کون الدعوی مشترکة علیهم فی الفعل لاسیما ان مضمون مفاد عنوان لفظ المحلوف علیه المتکرر فی الروایات(ما قتلناه ولا علمنا له قاتلا) فالنفی لاسناد القتل للمجموع وبضمیر الجمع ولیس بضمیر المفرد, کما ان النفی اعم من نفی اسناده لهم کمتهمین او نفی اسناده للغیر مما یدل علی جواز حلف غیر المتهمین عن المتهمین لکن مع کونهم من اولیائهم وارحامهم.

ص:67

وهذا نظیر صحیح مَسْعَدَةَ بْنِ زِیَادٍ عَنْ جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: کَانَ أَبِی رَضِیَ الله عَنْهُ إِذَا لَمْ یُقِمِ الْقَوْمُ الْمُدَّعُونَ - الْبَیِّنَةَ عَلَی قَتْلِ قَتِیلِهِمْ - وَ لَمْ یُقْسِمُوا بِأَنَّ الْمُتَّهَمِینَ قَتَلُوهُ - حَلَّفَ الْمُتَّهَمِینَ بِالْقَتْلِ خَمْسِینَ یَمِیناً بِالله - مَا قَتَلْنَاهُ وَ لَا عَلِمْنَا لَهُ قَاتِلًا - ثُمَّ یُؤَدِّی الدِّیَةَ إِلَی أَوْلِیَاءِ الْقَتِیلِ - ذَلِکَ إِذَا قُتِلَ فِی حَیٍّ وَاحِدٍ - فَأَمَّا إِذَا قُتِلَ فِی عَسْکَرٍ أَوْ سُوقِ مَدِینَةٍ - فَدِیَتُهُ تُدْفَعُ إِلَی أَوْلِیَائِهِ مِنْ بَیْتِ الْمَالِ (1).

حیث ورد فیها حلف المتهمین بالقتل خمسین یمینا, بعد حمل خمسین علی الاطلاق فقد لا یکونوا خمسین شخصا قد حلفوا بل لعلهم عشرة وحلفوا خمسین یمینا, فکما ان الدیة تتوزع علیهم لو کانوا دون الخمسین فکذا الامر بالحلف, فالاسناد فی الدیة والحلف علی نسق واحد الی مجموعهم.

ویدعم الاطلاق ان الیمین فی الأصل کما مر انه علی المتهم لا غیره وانما شمل ذویه لانهم اولیائه فی الدیة.

ومثلها روایة علی بن فضیل فی نفس الباب.

ویوید ذلک ما بیناه فی مسالة 114 من سند القصاص, من حلف المتهمین عن غیر المتهمین.

ولولا ما ورد من جواز استعانة المتهم(المدعی علیه) بغیره بالقسم لکان المقتضی الاولی ان القسم کله علیه, یقسم بنفسه خمسین قسما.

وما ورد فی جملة من الروایات من وصف القسامة بخمسین رجلا لیس قیدا بل مورد وسبب صدور وبدء هذه السنة النبویة کما فی روایة ابی بصیر

ص:68


1- (1) المصدر ص 153.

عن بدء تشریع القسامة ففی روایة أَبِی بَصِیرٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ الله علیه السلام عَنِ الْقَسَامَةِ أَیْنَ کَانَ بَدْوُهَا - فَقَالَ کَانَ مِنْ قِبَلِ رَسُولِ الله صلی الله علیه و آله - لَمَّا کَانَ بَعْدَ فَتْحِ خَیْبَرَ - تَخَلَّفَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ عَنْ أَصْحَابِهِ - فَرَجَعُوا فِی طَلَبِهِ فَوَجَدُوهُ مُتَشَحِّطاً فِی دَمِهِ قَتِیلًا - فَجَاءَتِ الْأَنْصَارُ إِلَی رَسُولِ الله صلی الله علیه و آله - فَقَالُوا یَا رَسُولَ الله قَتَلَتِ الْیَهُودُ صَاحِبَنَا - فَقَالَ لِیُقْسِمْ مِنْکُمْ خَمْسُونَ رَجُلًا عَلَی أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ...)(1)

وکذا معتبرة لَیْثٍ الْمُرَادِیِّ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ الله علیه السلام عَنِ الْقَسَامَةِ عَلَی مَنْ هِیَ - أَ عَلَی أَهْلِ الْقَاتِلِ أَوْ عَلَی أَهْلِ الْمَقْتُولِ - قَالَ عَلَی أَهْلِ الْمَقْتُولِ - یَحْلِفُونَ بِالله الَّذِی لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَقَتَلَ فُلَانٌ فُلَاناً(2).

ومفادها یقرب ما ذکره المحقق صاحب الجواهر من کون الحلف وظیفة کفائیة علی أولیاء المقتول والا فعلی أولیاء القاتل لاسیما علی القول بکون الحالفین للقسامة یلزم کونهم من اولیائه کما ذهبنا الیه واختاره جماعة فانه لا محیص ان العصبة والاولیاء لیس من الضروری ان یبلغوا الخمسین بل فی کثیر من الموارد اقل من ذلک, ولا سیما ان العصبة تضمن فی العمد مع عجز القاتل, والقاتل یضمن بالخطا مع عجز العصبة فهنا مسوولیة طولیة دائرة بینهم وهذا یفید قاعدة فی باب الدعاوی فی القضاء وهو قبول الدعاوی لتعدد المتنازعین عرضیا وطولیا.

وکذا مفاد صحیح برید المتقدم ان المسوول عن الحلف هو المسوول عن

ص:69


1- (1) المصدر ص 156
2- (2) المصدر ص 157

الدیة(فان ابوا اغرموا الدیة) ولیس من الضروری ان یکونوا خمسین, فکذا المسوولیة فی الحلف فهی کفائیة جماعیة.

ثانیا:

ومن ادلة صحة التکرار فی القسامة, صحیح یونس وموثق ابن فضال, حیث قال علیه السلام فیها(فان لم یکن للمصاب من یحلف معه ضوعفت علیه الایمان).

ثالثا: روایة ظریف بن ناصح عن امیر المومنین علیه السلام: (... وَ کَذَلِکَ الْقَسَامَةُ کُلُّهَا فِی الْجُرُوحِ - وَ إِنْ لَمْ یَکُنْ لِلْمُصَابِ بَصَرُهُ مَنْ یَحْلِفُ مَعَهُ - ضُوعِفَتْ عَلَیْهِ الْأَیْمَانُ...)(1)

ویقرب الاستدلال: ان القسامة تکرر علی المدعی ان لم یأت معه غیره لیحلف.

وَ رَوَاهُ الشَّیْخُ بِأَسَانِیدِهِ السَّابِقَةِ إِلَی کِتَابِ ظَرِیفٍ عَنْ أَمِیرِ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام مِثْلَهُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ وَ أَفْتَی علیه السلام فِیمَنْ لَمْ یَکُنْ لَهُ مَنْ یَحْلِفُ مَعَهُ - وَ لَمْ یُوثَقْ بِهِ عَلَی مَا ذَهَبَ مِنْ بَصَرِهِ - أَنَّهُ یُضَاعَفُ عَلَیْهِ الْیَمِینُ...)(2).

وفی الروایة تعمیم الحکم لکل من القسامة فی النفس والجروح.

فائدة رجالیة:

فی اعتبار کتاب ظریف:

قد عقد صاحب الوسائل الباب الثانی فی أبواب دیات الأعضاء ذکر

ص:70


1- (1) المصدر ص 292
2- (2) المصدر والصفحة

فیها عدة روایات موثقة وصحیحة مستفیضة دالة علی عرض کتاب الفرائض علی الامامین الصادق والرضا علیهما السلام وانهما امضیا الکتاب, وانه مما کتبه امیر المومنین الی امرائه وعماله.

فهو کتاب معتمد مروی باسانید عدیدة من الشیخ فی التهذیب والصدوق فی التهذیب والکلینی فی الکافی وهو معتمد فی کتاب القصاص والدیات, ویعرف تارة بکتاب ظریف بن ناصح وأخری بکتاب ما افتی به امیر المومنین فی الدیات وثالثة بکتاب الفرائض, بل هذا الکتاب هو الکتاب العمدة لاصحاب الکتب الأربعة فی أبواب الدیات.

ص:71

ص:72

القاعدة السادسة: قاعدة فی باب الجنایات: تقدیم الأسبق زمنا فی حق الجنایة

ص:73

ص:74

القاعدة السادسة: قاعدة فی باب الجنایات تقدیم الأسبق زمنا فی حق الجنایة

ویستدل علی القاعدة بوجهین:

الوجه الاول:

محسنة حَبِیبٍ السِّجِسْتَانِیِّ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ علیه السلام عَنْ رَجُلٍ قَطَعَ یَدَیْنِ لِرَجُلَیْنِ الْیَمِینَیْنِ - قَالَ فَقَالَ یَا حَبِیبُ تُقْطَعُ یَمِینُهُ لِلَّذِی قَطَعَ یَمِینَهُ أَوَّلًا - وَ تُقْطَعُ یَسَارُهُ لِلرَّجُلِ الَّذِی قَطَعَ یَمِینَهُ أَخِیراً - لِأَنَّهُ إِنَّمَا قَطَعَ یَدَ الرَّجُلِ الْأَخِیرِ - وَ یَمِینُهُ قِصَاصٌ لِلرَّجُلِ الْأَوَّلِ قَالَ فَقُلْتُ - إِنَّ عَلِیّاً علیه السلام إِنَّمَا کَانَ یَقْطَعُ الْیَدَ الْیُمْنَی وَ الرِّجْلَ الْیُسْرَی - فَقَالَ إِنَّمَا کَانَ یَفْعَلُ ذَلِکَ فِیمَا یَجِبُ مِنْ حُقُوقِ الله - فَأَمَّا یَا حَبِیبُ حُقُوقُ الْمُسْلِمِینَ - فَإِنَّهُ تُؤْخَذُ لَهُمْ حُقُوقُهُمْ فِی الْقِصَاصِ الْیَدُ بِالْیَدِ - إِذَا کَانَتْ لِلْقَاطِعِ یَدٌ - وَ الرِّجْلُ بِالْیَدِ إِذَا لَمْ یَکُنْ لِلْقَاطِعِ یَدٌ - فَقُلْتُ لَهُ أَ وَ مَا تَجِبُ عَلَیْهِ الدِّیَةُ وَ تُتْرَکُ لَهُ رِجْلُهُ - فَقَالَ إِنَّمَا تَجِبُ عَلَیْهِ الدِّیَةُ إِذَا قَطَعَ یَدَ رَجُلٍ - وَ لَیْسَ لِلْقَاطِعِ یَدَانِ وَ لَا رِجْلَانِ - فَثَمَّ تَجِبُ عَلَیْهِ الدِّیَةُ لِأَنَّهُ لَیْسَ لَهُ جَارِحَةٌ یُقَاصُّ مِنْهَا(1).

ص:75


1- (1) المصدر ص 274.

ومفاد الروایة مجموعة أمور:

أولاً: تقدیم حق أولیاء المجنی الأول زمنا للاستیفاء, ومن ثم مکنوا من ید الجانی الیمنی کما نصت الروایة, واما المجنی علیه الثانی فیبدل عن الیمنی الی قطع الید الیسری للجانی.

ثانیاً: انه مع فوت محل القصاص وبدله یتعین علیه الدیة.

ثالثاً: إنَّما تجب علی الجانی الدیة اذا کان هو المانع من استیفاء القصاص لاولیاء المجنی علیه الثانی.

الوجه الثانی: قد یقرب تقدیم الأسبق عند التعاقب بان حق أولیاء المقتول الأول ثبت علی الجانی وحقوق اللاحقین قد طرات علی مکان مشغول وشخص مرهون والی هذا یشیر مفاد محسنة حبیب السجستانی المار الذکر الوارد فی قطع الیدین, فی قوله علیه السلام(أَنَّهُ إِنَّمَا قَطَعَ یَدَ الرَّجُلِ الْأَخِیرِ - وَ یَمِینُهُ قِصَاصٌ لِلرَّجُلِ الْأَوَّلِ)(1).

تتمة للقاعدة:

مع اشتغال المحل لاولیاء المقتول الأول تثبت الدیة الی أولیاء المقتول اللاحق لانه مع أی مانع من القصاص او محذور فی البین یترتب علی أولیاء المقتول فانه یثبت لهم الدیة, نعم لهم القصاص مع عفو أولیاء المقتول الأول عن القصاص.

واما تعلیق الدیة علی رضی الجانی فذلک فیما لم یکن مانعا عن استیفاء

ص:76


1- (1) المصدر والصفحة.

القصاص, وبضم قاعدة لا یبطل دم امرئ مسلم یثبت لاولیاء المقتول اللاحق الدیة.

وبعبارة أخری:

ان ثبوت الدیة کالقصاص علی القاعدة الا انه رفعت الید عن ذلک بما دل علی شرطیة رضا الجانی, وغایة هذا دلیل الشرطیة یقتصر به علی موارد ثبوت القصاص لاولیاء المقتول وعدم الضرر الزائد علیهم فان تخلف احد القیدین, فینحسر دلیل شرطیة رضی الجانی ویرجع الی مقتضی القاعدة فی الضمان کما هو الحال فی الموارد المنصوصة للزوم رد المال فی القصاص علی أولیاء المقتول لان الرد ضرر علی أولیاء المقتول فی القصاص.

ص:77

ص:78

القاعدة السابعة؛ قاعدة باب الجنایات: لا یجنی الجانی علی أکثر من نفسه

ص:79

ص:80

القاعدة السابعة: قاعدة باب الجنایات لا یجنی الجانی علی اکثر من نفسه

اشارة

ادلة القاعدة:

ان مضمون هذه القاعدة مفتی به عند الاصحاب, وقد دلت علیه الروایات, منها:

1 - صحیح عَبْدِ الله بْنِ سِنَانٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله علیه السلام یَقُولُ فِی رَجُلٍ قَتَلَ امْرَأَتَهُ مُتَعَمِّداً - قَالَ إِنْ شَاءَ أَهْلُهَا أَنْ یَقْتُلُوهُ قَتَلُوهُ - وَ یُؤَدُّوا إِلَی أَهْلِهِ نِصْفَ الدِّیَةِ - وَ إِنْ شَاءُوا أَخَذُوا نِصْفَ الدِّیَةِ خَمْسَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ - وَ قَالَ فِی امْرَأَةٍ قَتَلَتْ زَوْجَهَا مُتَعَمِّدَةً - قَالَ إِنْ شَاءَ أَهْلُهُ أَنْ یَقْتُلُوهَا قَتَلُوهَا - وَ لَیْسَ یَجْنِی أَحَدٌ أَکْثَرَ مِنْ جِنَایَتِهِ عَلَی نَفْسِهِ (1).

2 - صحیح هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ عَنْ أَبِی عَبْدِ الله علیه السلام فِی الْمَرْأَةِ تَقْتُلُ الرَّجُلَ مَا عَلَیْهَا - قَالَ لَا یَجْنِی الْجَانِی عَلَی أَکْثَرَ مِنْ نَفْسِهِ.(2)

3 - صحیح الْحَلَبِیِّ عَنْ أَبِی عَبْدِالله علیه السلام قَالَ: فِی الرَّجُلِ یَقْتُلُ الْمَرْأَةَ مُتَعَمِّداً - فَأَرَادَ أَهْلُ الْمَرْأَةِ أَنْ یَقْتُلُوهُ - قَالَ ذَاکَ لَهُمْ إِذَا أَدَّوْا إِلَی أَهْلِهِ نِصْفَ الدِّیَةِ - وَ إِنْ قَبِلُوا الدِّیَةَ فَلَهُمْ نِصْفُ دِیَةِ الرَّجُلِ - وَ إِنْ قَتَلَتِ الْمَرْأَةُ الرَّجُلَ -

ص:81


1- (1) المصدر ص 81
2- (2) لمصدر ص 83

قُتِلَتْ بِهِ لَیْسَ لَهُمْ إِلَّا نَفْسُهَا الْحَدِیثَ (1).

4 - الصحیح الی ابن مسکان عَنْ أَبِی عَبْدِ الله علیه السلام قَالَ: إِذَا قَتَلَ الرَّجُلُ الرَّجُلَیْنِ أَوْ أَکْثَرَ مِنْ ذَلِکَ قُتِلَ بِهِمْ (2).

5 - مثلها روایة الدعائم عَنْ أَمِیرِ الْمُؤْمِنِینَ وَأَبِی عَبْدِ الله علیه السلام أَنَّهُمَا قَالا فِی الرَّجُلِ یَقْتُلُ الْمَرْأَةَ عَمْداً یُخَیَّرُ أَوْلِیَاءُ الْمَرْأَةِ [بَیْنَ] أَنْ یَقْتُلُوا الرَّجُلَ وَ یُعْطُوا أَوْلِیَاءَهُ نِصْفَ الدِّیَةِ أَوْ أَنْ یَأْخُذُوا نِصْفَ الدِّیَةِ مِنَ الرَّجُلِ الْقَاتِلِ إِنْ بَذَلَ لَهُمْ ذَلِکَ وَ إِنْ قَتَلَتِ امْرَأَةٌ رَجُلًا عَمْداً قُتِلَتْ بِهِ لَیْسَ عَلَیْهَا وَ لَا عَلَی أَحَدٍ بِسَبَبِهَا أَکْثَرَ مِنْ أَنْ تُقْتَلَ)(3).

وغیرها من الروایات والاقوال کما ذکرها المیرزا النوری فی المستدرک والسید البروجردی فی جامع احادیث الشیعة.

بعض الاقول:

1 - قال الشَّیْخُ الطُّوسِیُّ فِی النِّهَایَةِ: (وَ إِذَا قَتَلَتِ امْرَأَةٌ رَجُلًا وَ اخْتَارَ أَوْلِیَاؤُهُ الْقَوَدَ فَلَیْسَ لَهُمْ إِلَّا نَفْسَهَا یَقْتُلُونَهَا بِصَاحِبِهَا وَ لَیْسَ لَهُمْ عَلَی أَوْلِیَائِهَا سَبِیلٌ وَ قَدْ رُوِیَ أَنَّهُمْ یَقْتُلُونَهَا وَ یُؤَدِّی أَوْلِیَاؤُهَا تَمَامَ دِیَةِ الرَّجُلِ إِلَیْهِمْ وَ الْمُعْتَمَدُ مَا قُلْنَا).(4)

2 - قال الصَّدُوقُ فِی الْمُقْنِعِ، (فَإِنْ قَتَلَ رَجُلٌ امْرَأَةً مُتَعَمِّداً فَإِنْ شَاءَ

ص:82


1- (1) المصدر ص 81
2- (2) المصدر والصفحة.
3- (3) ج 2 ص 408
4- (4) ص 748

أَوْلِیَاؤُهَا قَتَلُوهُ وَ أَدَّوْا إِلَی أَوْلِیَائِهِ نِصْفَ الدِّیَةِ وَ إِلَّا أَخَذُوا خَمْسَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ وَ إِذَا قَتَلَتِ الْمَرْأَةُ رَجُلًا مُتَعَمِّدَةً فَإِنْ شَاءَ أَهْلُهُ أَنْ یَقْتُلُوهَا قَتَلُوهَا فَلَیْسَ یَجْنِی أَحَدٌ جِنَایَةً أَکْثَرَ مِنْ نَفْسِهِ وَ إِنْ أَرَادُوا الدِّیَةَ أَخَذُوا عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ).(1)

مورد القاعدة:

نعم هذه القاعدة موردها الجنایة الواحدة وجنایة المراة علی الرجل وهی ان لا تتحمل اکثر من القصاص.

شبهة معارضة ودفعها:

ولا تعارض الروایات السابقة بموثق أَبِی مَرْیَمَ الْأَنْصَارِیِّ عَنْ أَبِی جَعْفَرٍ علیه السلام أَنَّهُ قَالَ: فِی امْرَأَةٍ قَتَلَتْ رَجُلًا قَالَ تُقْتَلُ وَ یُؤَدِّی وَلِیُّهَا بَقِیَّةَ الْمَالِ (2).

لما رده الشیخ فی الاستبصار قائلاً: (فَهَذِهِ الرِّوَایَةُ شَاذَّةٌ لَمْ یَرْوِهَا إِلَّا أَبُو مَرْیَمَ الْأَنْصَارِیُّ وَ إِنْ تَکَرَّرَتْ فِی الْکُتُبِ فِی مَوَاضِعَ مُتَفَرِّقَةٍ وَ مَعَ ذَلِکَ فَإِنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِظَاهِرِ الْکِتَابِ قَالَ الله تَعَالَی وَ کَتَبْنا عَلَیْهِمْ فِیها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ فَحَکَمَ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ لَمْ یَذْکُرْ مَعَهَا شَیْئاً آخَرَ وَ الرِّوَایَاتُ الَّتِی قَدَّمْنَاهَا صَرِیحَةٌ بِأَنَّهُ لَا یَجْنِی الْجَانِی عَلَی أَکْثَرَ مِنْ نَفْسِهِ وَ أَنَّهُ لَیْسَ عَلَی أَوْلِیَائِهَا شَیْ ءٌ فَإِذَا وَرَدَتْ هَذِهِ الرِّوَایَةُ مُخَالِفَةً لِذَلِکَ یَنْبَغِی أَنْ لَا یُلْتَفَتَ إِلَیْهَا وَ لَا إِلَی الْعَمَلِ بِهَا)(3).

ص:83


1- (1) ص 515
2- (2) وسائل الشیعة ج 29 ص 85
3- (3) استبصار ج 4 ص 268

ص:84

القاعدة الثامنة: فی تقدیم حق جنایة العضو علی حق قصاص النفس

ص:85

ص:86

القاعدة الثامنة: فی تقدیم حق جنایة العضو علی حق قصاص النفس

الاقوال:

ذهب مشهور الفقهاء الی تقدیم حق القصاص من العضو علی حق القصاص من النفس حتی لو کانت الجنایة علی النفس متقدمة زمنا.

الادلة:

ویستدل للقاعدة:

أولا:

محسنة حَبِیبٍ السِّجِسْتَانِیِّ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ علیه السلام عَنْ رَجُلٍ قَطَعَ یَدَیْنِ لِرَجُلَیْنِ الْیَمِینَیْنِ - قَالَ فَقَالَ یَا حَبِیبُ تُقْطَعُ یَمِینُهُ لِلَّذِی قَطَعَ یَمِینَهُ أَوَّلًا - وَ تُقْطَعُ یَسَارُهُ لِلرَّجُلِ الَّذِی قَطَعَ یَمِینَهُ أَخِیراً - لِأَنَّهُ إِنَّمَا قَطَعَ یَدَ الرَّجُلِ الْأَخِیرِ - وَ یَمِینُهُ قِصَاصٌ لِلرَّجُلِ الْأَوَّلِ قَالَ فَقُلْتُ - إِنَّ عَلِیّاً علیه السلام إِنَّمَا کَانَ یَقْطَعُ الْیَدَ الْیُمْنَی وَ الرِّجْلَ الْیُسْرَی - فَقَالَ إِنَّمَا کَانَ یَفْعَلُ ذَلِکَ فِیمَا یَجِبُ مِنْ حُقُوقِ الله - فَأَمَّا یَا حَبِیبُ حُقُوقُ الْمُسْلِمِینَ - فَإِنَّهُ تُؤْخَذُ لَهُمْ حُقُوقُهُمْ فِی الْقِصَاصِ الْیَدُ بِالْیَدِ - إِذَا کَانَتْ لِلْقَاطِعِ یَدٌ - وَ الرِّجْلُ بِالْیَدِ إِذَا لَمْ یَکُنْ لِلْقَاطِعِ

ص:87

یَدٌ - فَقُلْتُ لَهُ أَ وَ مَا تَجِبُ عَلَیْهِ الدِّیَةُ وَ تُتْرَکُ لَهُ رِجْلُهُ - فَقَالَ إِنَّمَا تَجِبُ عَلَیْهِ الدِّیَةُ إِذَا قَطَعَ یَدَ رَجُلٍ - وَ لَیْسَ لِلْقَاطِعِ یَدَانِ وَ لَا رِجْلَانِ - فَثَمَّ تَجِبُ عَلَیْهِ الدِّیَةُ لِأَنَّهُ لَیْسَ لَهُ جَارِحَةٌ یُقَاصُّ مِنْهَا (1).

تقریب القاعدة:

ان هذه القاعدة تعلل بقاعدة سبق الجنایة من باب تقدیم الأسبق حقا, واذا کان الأسبق حقا لا ینفی موضوع المتاخر لان الأسبق متعلق بالنفس والأخر متعلق بالعضو, والتعلیل بثبوت الدیة اذا کان لیس للجانی جارحه یقاص منها والفرض ان فی المقام لیس متعلق الجنایة السابقة هی الجارحة, فلا یکون السبق موجبا لنفی حق القصاص للجنایة المتاخرة, وکذا التعلیل توخذ لهم حقوقهم بالقصاص الرجل بالید اذا لم یکن للقاطع ید.

ثانیا:

قد یقال لو کان حق جنایة النفس مقدما زمنا وحق جنایة الطرف موخر فلصاحب الطرف الاستیفاء أولا, لانه غیر مزاحم لصاحب جنایة النفس کما انه جمع بین الحقین, هذا فضلا عما اذا سبقت الجنایة علی الطرف الجنایة علی النفس فالامر فیها واضح.

قد یقال:

مع سبق الجنایة علی النفس فان من حق أولیاء المقتول ان یقتصوا من الجانی وهو کامل الأعضاء فاذا اقتص منه عضو قبل إقامة القصاص علی

ص:88


1- (1) وسائل الشیعة ج 29 ص 174

نفسه فانه قصاص من انسان ناقص.

فانه یقال:

انه تقدمت القاعدة انه لا یجنی علی اکثر من النفس, نعم لو کان المجنی علیه ناقص العضو وکان قد استوفی حقه اما بقصاص او بدیة فحینئذ اللازم اذا أراد أولیاء المقتول القصاص من الجانی ان یدفعوا دیة العضو للجانی ثم یقتصون منه.

واما ثبوت الدیة لو بادر أولیاء المقتول الی القصاص قبل قصاص العضو, وهل الدیة علی الجانی او علی أولیاء المقتول المبادرین؟

نعم تثبت علی الجانی الدیة بمقتضی ذیل محسنة السجستانی ألمتقدمة وما مر من مسالة لو قتل شخص اثنین, واما الاولیاء المبادرون فعلیهم الاثم فحسب.

ص:89

ص:90

القاعدة التاسعة: هدر دم المعتدی لا یحسب قصاصا (لا یسقط الضمان عن المعتدی)

ص:91

ص:92

القاعدة التاسعة: هدر دم المعتدی لا یحسب قصاصا لا یسقط الضمان عن المعتدی

عبارات الاعلام فی المسالة:

قال فی الشرائع: (الزحفان العادیان یضمن کل منهما ما یجنیه علی الأخر، و لو کف أحدهما فصال الأخر فقصد الکاف الدفع، لم یکن علیه ضمان إذا اقتصر علی ما یحصل به الدفع و الأخر یضمن)(1).

وعلق الجواهر علیه: (لقاعدة الضمان بعد فرض عدوان کل منهما بقصد کل منهما قتل الآخر أو أخذ ماله أو النیل من عرضه أو نحو ذلک و لعله علیه یحمل النبوی «إذا اقتتل المسلمان بسیفهما فهما فی النار»)(2).

وقال ابن حمزة فی الوسیلة إلی نیل الفضیلة: (ومن اعتدی علی المعتدی علیه لم یضمن)(3).

ثم ذکر قویة عبد الله بن طلحة الاتیة فی الأدلة.

ص:93


1- (1) ج 4 ص 178
2- (2) ج 41 ص 666
3- (3) ص 455

وافتی بها المقنع والنهایة والتحریر وابن فهد وفی کثیر من الکلمات عملوا بها فی کون دم المعتدی هدرا لا یقع قصاصا.

وردها ابن ادریس والمسالک وغیرهم.

وتعرض لها فی الشرائع فی لواحق موجبات الضمان المسالة الرابعة دون ان یردها وانما قال(فی تضمین دیة الصدیق تردد اقربه ان دمه هدر).

الادلة:

ویستدل علیها بادلة, منها:

ما ورد فی هدر دم اللص:

وفیه عدة روایات منها:

1 - صحیح الْحَلَبِیِّ عَنْ أَبِی عَبْدِ الله علیه السلام قَالَ: أَیُّمَا رَجُلٍ قَتَلَهُ الْحَدُّ فِی الْقِصَاصِ فَلَا دِیَةَ لَهُ - وَ قَالَ أَیُّمَا رَجُلٍ عَدَا عَلَی رَجُلٍ لِیَضْرِبَهُ - فَدَفَعَهُ عَنْ نَفْسِهِ فَجَرَحَهُ أَوْ قَتَلَهُ فَلَا شَیْ ءَ عَلَیْهِ - وَ قَالَ أَیُّمَا رَجُلٍ اطَّلَعَ عَلَی قَوْمٍ فِی دَارِهِمْ - لِیَنْظُرَ إِلَی عَوْرَاتِهِمْ فَفَقَئُوا عَیْنَهُ - أَوْ جَرَحُوهُ فَلَا دِیَةَ عَلَیْهِمْ - وَ قَالَ مَنْ بَدَأَ فَاعْتَدَی فَاعْتُدِیَ عَلَیْهِ فَلَا قَوَدَ لَهُ (1).

2 - معتبرة الْعَلَاءِ بْنِ الْفُضَیْلِ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ الله علیه السلام إِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ یَضْرِبَ رَجُلًا ظُلْماً - فَاتَّقَاهُ الرَّجُلُ أَوْ دَفَعَهُ عَنْ نَفْسِهِ - فَأَصَابَهُ ضَرَرٌ فَلَا شَیْ ءَ عَلَیْهِ (2).

ص:94


1- (1) وسائل الشیعة ج 29 ص 59
2- (2) المصدر والصفحة.

3 - مصحح مُحَمَّدِ بْنِ الْفُضَیْلِ عَنِ الرِّضَا علیه السلام قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ لِصٍّ دَخَلَ عَلَی امْرَأَةٍ وَ هِیَ حُبْلَی - فَقَتَلَ مَا فِی بَطْنِهَا - فَعَمَدَتِ الْمَرْأَةُ إِلَی سِکِّینٍ فَوَجَأَتْهُ بِهَا فَقَتَلَتْهُ - فَقَالَ هَدَرٌ دَمُ اللِّصِّ (1).

4 - موثق السَّکُونِیِّ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ آبَائِهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلی الله علیه و آله مَنْ شَهَرَ سَیْفاً فَدَمُهُ هَدَرٌ(2).

ومثلها صحیح سلیمان بن خالد وموثق ابان وغیرها.

تقریب الاستدلال بالروایات:

اذا کان اللص وما دونه دمه هدر فکیف بمن یعتدی علی المجنی علیه ویشرف به علی الموت وان لم یمت فللمجنی علیه قتل الجانی من باب الهدر فضلا عن الدفع.

5 - محسنة مَنْصُورٍ عَنْ أَبِی عَبْدِ الله علیه السلام قَالَ: اللِّصُّ مُحَارِبٌ لله وَ لِرَسُولِهِ فَاقْتُلُوهُ - فَمَا دَخَلَ عَلَیْکَ فَعَلَیَّ (3).

ومثله موثق غیاث فی نفس الباب.

6 - موثق السَّکُونِیِّ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِیهِ عَنْ عَلِیٍّ علیه السلام أَنَّهُ أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ یَا أَمِیرَ الْمُؤْمِنِینَ - إِنَّ لِصّاً دَخَلَ عَلَی امْرَأَتِی فَسَرَقَ حُلِیَّهَا - فَقَالَ أَمَا إِنَّهُ لَوْ دَخَلَ عَلَی ابْنِ صَفِیَّةَ - لَمَا رَضِیَ بِذَلِکَ حَتَّی یَعُمَّهُ بِالسَّیْفِ (4).

ص:95


1- (1) المصدر ص 61
2- (2) المصدر والصفحة.
3- (3) المصدر ج 28 ص 320
4- (4) المصدر ج 15 ص 119

وفی نفس الباب روایات مستفیضة علی هدر دمه.

7 - صحیح عَبْدِ الله بْنِ سِنَانٍ عَنْ أَبِی عَبْدِالله علیه السلام قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ سَارِقٍ دَخَلَ عَلَی امْرَأَةٍ لِیَسْرِقَ مَتَاعَهَا - فَلَمَّا جَمَعَ الثِّیَابَ تَبِعَتْهَا نَفْسُهُ فَوَاقَعَهَا - فَتَحَرَّکَ ابْنُهَا فَقَامَ فَقَتَلَهُ بِفَأْسٍ کَانَ مَعَهُ - فَلَمَّا فَرَغَ حَمَلَ الثِّیَابَ - وَ ذَهَبَ لِیَخْرُجَ حَمَلَتْ عَلَیْهِ بِالْفَأْسِ فَقَتَلَتْهُ - فَجَاءَ أَهْلُهُ یَطْلُبُونَ بِدَمِهِ مِنَ الْغَدِ - فَقَالَ أَبُو عَبْدِ الله علیه السلام یَضْمَنُ مَوَالِیهِ - الَّذِینَ طَلَبُوا بِدَمِهِ دِیَةَ الْغُلَامِ - وَ یَضْمَنُ السَّارِقُ فِیمَا تَرَکَ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ - بِمَا کَابَرَهَا عَلَی فَرْجِهَا - لِأَنَّهُ زَانٍ وَ هُوَ فِی مَالِهِ یَغْرَمُهُ - وَ لَیْسَ عَلَیْهَا فِی قَتْلِهَا إِیَّاهُ شَیْ ءٌ لِأَنَّهُ سَارِقٌ (1).

وظاهر الصحیح ان قتل السارق لا یعد قصاصا مع وقوعه بعد قتل الغلام بل هو هدر ومن ثم توخذ دیة الغلام من ترکة السارق.

8 - قویة عَبْدِ الله بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِی عَبْدِالله علیه السلام قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ سَارِقٍ دَخَلَ عَلَی امْرَأَةٍ لِیَسْرِقَ مَتَاعَهَا - فَلَمَّا جَمَعَ الثِّیَابَ تَابَعَتْهُ نَفْسُهُ - فَکَابَرَهَا عَلَی نَفْسِهَا فَوَاقَعَهَا - فَتَحَرَّکَ ابْنُهَا فَقَامَ فَقَتَلَهُ بِفَأْسٍ کَانَ مَعَهُ - فَلَمَّا فَرَغَ حَمَلَ الثِّیَابَ - وَ ذَهَبَ لِیَخْرُجَ حَمَلَتْ عَلَیْهِ بِالْفَأْسِ فَقَتَلَتْهُ - فَجَاءَ أَهْلُهُ یَطْلُبُونَ بِدَمِهِ مِنَ الْغَدِ - فَقَالَ أَبُو عَبْدِ الله علیه السلام اقْضِ عَلَی هَذَا کَمَا وَصَفْتُ لَکَ - فَقَالَ یَضْمَنُ مَوَالِیهِ الَّذِینَ طَلَبُوا بِدَمِهِ دِیَةَ الْغُلَامِ - وَ یَضْمَنُ السَّارِقُ فِیمَا تَرَکَ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ - بِمُکَابَرَتِهَا عَلَی فَرْجِهَا - إِنَّهُ زَانٍ وَ هُوَ فِی مَالِهِ عَزِیمَةٌ - وَ لَیْسَ عَلَیْهَا فِی قَتْلِهَا إِیَّاهُ شَیْ ءٌ قَالَ رَسُولُ الله - صلی الله علیه و آله مَنْ کَابَرَ امْرَأَةً لِیَفْجُرَ بِهَا فَقَتَلَتْهُ فَلَا دِیَةَ لَهُ

ص:96


1- (1) المصدر ج 29 ص 60

وَ لَا قَوَدَ(1).

وتقریب الاستدلال بها ما مر فی صحیح ابن سنان.

9 - صحیح أَبِی حَمْزَةَ عَنْ أَبِی جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: قُلْتُ لَهُ لَوْ دَخَلَ رَجُلٌ عَلَی امْرَأَةٍ وَ هِیَ حُبْلَی فَوَقَعَ عَلَیْهَا فَقَتَلَ مَا فِی بَطْنِهَا فَوَثَبَتْ عَلَیْهِ فَقَتَلَتْهُ قَالَ ذَهَبَ دَمُ اللِّصِّ هَدَراً وَ کَانَ دِیَةُ وَلَدِهَا عَلَی الْمَعْقُلَةِ (2).

10 - محسنة الْفَتْحِ بْنِ یَزِیدَ الْجُرْجَانِیِّ عَنْ أَبِی الْحَسَنِ علیه السلام فِی رَجُلٍ دَخَلَ دَارَ آخَرَ لِلتَّلَصُّصِ أَوِ الْفُجُورِ - فَقَتَلَهُ صَاحِبُ الدَّارِ أَ یُقْتَلُ بِهِ أَمْ لَا - فَقَالَ اعْلَمْ أَنَّ مَنْ دَخَلَ دَارَ غَیْرِهِ - فَقَدْ أَهْدَرَ دَمَهُ وَ لَا یَجِبُ عَلَیْهِ شَیْ ءٌ(3).

11 - فی الدعائم: رُوِّینَا عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِیهِ عَنْ آبَائِهِ عَنْ عَلِیٍّ صلی الله علیه و آله أَنَّهُ قَضَی فِی رَجُلٍ دَخَلَ عَلَی امْرَأَةٍ فَاسْتَکْرَهَهَا عَلَی نَفْسِهَا وَ جَامَعَهَا وَ قَتَلَ ابْنَهَا فَلَمَّا خَرَجَ قَامَتِ الْمَرْأَةُ إِلَیْهِ بِفَأْسٍ فَأَدْرَکَتْهُ فَضَرَبَتْهُ بِهِ فَقَتَلَتْهُ فَأَهْدَرَ دَمَهُ وَ قَضَی بِعُقْرِهَا وَ دِیَةِ ابْنِهَا فِی مَالِهِ وَ قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ علیه السلام إِذَا رَاوَدَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ عَنْ نَفْسِهَا فَدَفَعَتْهُ عَنْ نَفْسِهَا فَقَتَلَتْهُ فَدَمُهُ هَدَرٌ قَالَ وَ دَمُ اللِّصِّ هَدَرٌ وَ لَا شَیْ ءَ عَلَی مَنْ دَفَعَ عَنْ نَفْسِهِ (4).

وغیرها من الروایات.

ص:97


1- (1) المصدر ص 62
2- (2) المصدر ص 61
3- (3) المصدر ص 70
4- (4) ص 426

مجمل مفاد روایة ابن طلحة:

ثم ان ظاهر المحقق النجفی فی الجواهر وغیره من الاعلام: ان قتل اللص فی قویة عبد الله بن طلحة وصحیح عبد الله بن سنان وان کان دفعا عن ثیابها المسروقة فضلا عن کونه هدرا لکونه لصا محاربا فلا یقع قصاصا ولا قود له ولا دیة فمن ثم توخذ الدیة للغلام مع ان الروایتین تعللا الهدر بکونه کابرها علی فرجها مع کون الغصب والاغتصاب قد وقع ومع ذلک قد جعل علیه السلام القتل المتعقب لذلک مصداقا للقاعدة فی قویة ابن طلحة, نعم فی صحیحة عبد الله بن سنان جعل الهدر لکونه سارقا کذلک بقیة روایات القاعدة کصحیح ابن فضیل حیث علل هدر الدم انه لکونه سارقا لا لکونه قاتلا او مغتصبا فیدلل علی ان المعتدی کاللص محارب.

الاشکال علی القاعدة ودفعه:

وقد یشکل علی القاعدة:

واشکل السید الخوئی صغرویا علی تطبیق القاعدة فی المقام بان قتل الجانی قبل موت المجنی علیه یکون ظلما وعدوانا.

ویرد: ان الاشکال محل تامل بعد کون الجانی قد جاح علی المجنی بما یودی الی زهوق روحه, وهذا الوصف صادق فی مشهد الجنایة بل وکذا یصدق خارج مشهد الجنایة.

اشکالان اخران علی القاعدة:

ص:98

وقد یشکل باشکالین اخرین علی تطبیق القاعدة:

حتی لو قلنا ان القاعدة فی نفسها متینه ولکن قد یشکل فی تطبیقها فی المقام باشکالین:

الاشکال الأول:

ان سرایة فعل الجانی مع العمد فی الجنایة وحصول السرایة یکشف عن معرضیة القتل وحینئذ فالجنایة لا تکون متمحضة فی الطرف من الأول.

الاشکال الثانی:

ان القاعدة لا تنطبق فی المقام لان الهدر فی المقام انما هو بموجب عنوان خاص وهو فیما أدی قصاص الطرف بنحو موزون معتاد بینما موضوع القاعدة انما هو فی مهدور الدم بوصف انه لص او محارب او معتدی.

دلیل الصورة الثالثة:

وقد یقرب التهاتر فی الصورة الثالثة:

اذ بعد موت المجنی علیه یتحقق فی ذمة الجانی حق القصاص علیه لولی المجنی علیه فیما لو کان القاتل ولی المجنی علیه کما ثبت للجانی حق القصاص علی ولی المجنی فیتهاترا.

ص:99

ص:100

القاعدة العاشرة: قاعدة فی القصاص العرفی

ص:101

ص:102

القاعدة العاشرة: قاعدة فی القصاص العرفی

قال السید الخوئی قدس سره فی مسالة 152 من بحث القصاص: (واما علی الثانی وهو - فیما إذا کان موته بها قبل موته - فالمشهور أنّها تقع هدراً، و علی ذلک یجری فیه جمیع الوجوه المتقدّمة. و لکن الأظهر هو أنّها لا تقع هدراً، و ذلک لأنّ موته حیث إنّه کان مستنداً إلی المجنیّ علیه فهو و إن لم یکن قصاصاً کما عرفت إلّا أنّه وقع فی محلّه، لأنّه اعتداء بالمثل، و قد عرفت أنّ الجانی لا یجنی أکثر من نفسه. و لا فرق فی ذلک بین أن یکون موته بعد موت المجنیّ علیه أو قبله، و قد جرت علی ذلک السیرة العقلائیة أیضاً. هذا، و یمکن استفادة ما ذکرناه من معتبرة السکونی المتقدّمة فی المسألة 87).

ادلة القاعدة:

موثق السَّکُونِیِّ عَنْ أَبِی عَبْدِالله علیه السلام قَالَ: کَانَ قَوْمٌ یَشْرَبُونَ فَیَسْکَرُونَ - فَیَتَبَاعَجُونَ بِسَکَاکِینَ کَانَتْ مَعَهُمْ - فَرُفِعُوا إِلَی أَمِیرِ الْمُؤْمِنِینَ فَسَجَنَهُمْ - فَمَاتَ مِنْهُمْ رَجُلَانِ وَبَقِیَ رَجُلَانِ - فَقَالَ أَهْلُ الْمَقْتُولَیْنِ یَا أَمِیرَ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام - أَقِدْهُمَا بِصَاحِبَیْنَا فَقَالَ لِلْقَوْمِ مَا تَرَوْنَ - فَقَالُوا نَرَی أَنْ تُقِیدَهُمَا - فَقَالَ عَلِیٌّ علیه السلام لِلْقَوْمِ - فَلَعَلَّ ذَیْنِکَ اللَّذَیْنِ مَاتَا قَتَلَ کُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ - قَالُوا لَا نَدْرِی فَقَالَ

ص:103

عَلِیٌّ علیه السلام - بَلْ أَجْعَلُ دِیَةَ الْمَقْتُولَیْنِ عَلَی قَبَائِلِ الْأَرْبَعَةِ - وَآخُذُ دِیَةَ جِرَاحَةِ الْبَاقِیَیْنِ مِنْ دِیَةِ الْمَقْتُولَیْنِ - قَالَ وَذَکَرَ إِسْمَاعِیلُ بْنُ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَأَةَ - عَنْ سِمَاکِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ عُبَیْدِ الله بْنِ أَبِی الْجَعْدِ - قَالَ کُنْتُ أَنَا رَابِعَهُمْ فَقَضَی عَلِیٌّ هَذِهِ الْقَضِیَّةَ فِینَا. (1)

اقول:

ظاهره الالتزام بالقصاص العرفی فی اصل الاعتداء لا فی المعتدی فیه أی وان لم یکن قصاصا فی النفس لان قتل الجانی قبل موت المجنی علیه فی احد الصورتین کما هو الحال فیما لو اقتص فیما لا یقتص منه لخوف التغریر کالهاشمة والدامیة فان المجنی علیه لو اقتص ولم تسری للنفس فلا حق له فی الدیة.

وهذه القاعدة اما من باب التهاتر بین الحقین او انه اقتصاص بالمعنی الاعم, وهذا هنا ینافی ما التزم به فی المسالة 153 من بحثه فی القصاص.

ص:104


1- (1) وسائل الشیعة ج 29 ص 224

القاعدة الحادیة عشر: قاعدة المثلیة فی الاطراف والاعضاء والجروح لوحدة العنوان او المحل

ص:105

ص:106

القاعدة الحادیة عشر: قاعة المثلیة فی الأطراف والأعضاء والجروح لوحدة العنوان او المحل

الاقوال:

عمم ابو الصلاح الحلبی البحث فی المقام الی اصابع الیدین والرجلین والعینین والاسنان بل من الرجل الی الید لمن لا رجل له.

واستشکل العلامة فی التحریر الانتقال من الید الی الرجل مع عدم وجودها خلافا للمشهور بین الاصحاب عملا بالنص الوارد.

واشترط فی المبسوط وحدة المحل فی الزائدة فضلا عن الاصلیة.

ومال الاردبیلی لجواز الانتقال مع عدم المثلیة, وذهب الی ذلک جملة من المعاصرین.

وذکرنا فی مسالة( 189 و 190) من سند القصاص نظیر هذا البحث فی الاسنان کالسن الاصلیة والزائدة.

وفی الخلاف ان فی السن الزائدة ثلث الدیة و ورد فی الاصبع الزائدة کذلک.

ومثله فی موتلف الطبرسی.

وفصل فی المبسوط بان السن الاصلیة لا تقلع بالزائدة

ص:107

وتقلع الزائدة بالزائدة مع وحدة المحل.

ومثله ابن البراج والعلامة فی القواعد.

وذهب الغنیة والکیدری ان فی السن الزائدة الارش وقیل ثلث الدیة.

وادعی فی الجواهر عدم الخلاف لاشتراط وحدة المحل فی الزائد للقصاص, واحتمل فی عبارة الشرائع عدم وحدة المحل فی الاصبع لکنه اشترط فی الاسنان التساوی فی المحل, ولعل عبارته فی السن الاصلی ودیة اصابع الید الاصلیة متساویة عند المشهور وهو یشعر بالتماثل وان اختلف المحل.

وفصل السید الخوئی فی اشتراط المحل بین الاعضاء والاسنان والاصابع فاشترط فی الاعضاء دون الاسنان والاصابع.

وفی المبسوط فان لم یکن(الیسری) قطعت الیمنی وهو مذهبنا.

وفی المهذب(1): وان لم یکن له یدان وکانت له رجلان قطعت رجله الیمنی بالیمنی.

وفی مفتاح الکرامة(2): قل المصرح - أی بشرط وحدة المحل - وتمسک بعموم النص والفتوی فی الانتقال من الید الیمنی الی الیسری مع اشارته للنص الخاص.

وحکی عن الشرائع والتحریر والارشاد والروض ومجمع البرهان انهم

ص:108


1- (1) ج 2 ص 179
2- (2) ج 11 ص 143 ط ق.

لم یشترطوا تساوی المحل بخلاف المبسوط والمسالک واستظهر من کلامهم الشمول لاختلاف المحل.

الادلة:

الدلیل الاول: الروایات الخاصة

اولا:

محسنة حَبِیبٍ السِّجِسْتَانِیِّ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ علیه السلام عَنْ رَجُلٍ قَطَعَ یَدَیْنِ لِرَجُلَیْنِ الْیَمِینَیْنِ - قَالَ فَقَالَ یَا حَبِیبُ تُقْطَعُ یَمِینُهُ لِلَّذِی قَطَعَ یَمِینَهُ أَوَّلًا - وَ تُقْطَعُ یَسَارُهُ لِلرَّجُلِ الَّذِی قَطَعَ یَمِینَهُ أَخِیراً - لِأَنَّهُ إِنَّمَا قَطَعَ یَدَ الرَّجُلِ الْأَخِیرِ - وَ یَمِینُهُ قِصَاصٌ لِلرَّجُلِ الْأَوَّلِ قَالَ فَقُلْتُ - إِنَّ عَلِیّاً علیه السلام إِنَّمَا کَانَ یَقْطَعُ الْیَدَ الْیُمْنَی وَ الرِّجْلَ الْیُسْرَی - فَقَالَ إِنَّمَا کَانَ یَفْعَلُ ذَلِکَ فِیمَا یَجِبُ مِنْ حُقُوقِ الله - فَأَمَّا یَا حَبِیبُ حُقُوقُ الْمُسْلِمِینَ - فَإِنَّهُ تُؤْخَذُ لَهُمْ حُقُوقُهُمْ فِی الْقِصَاصِ الْیَدُ بِالْیَدِ - إِذَا کَانَتْ لِلْقَاطِعِ یَدٌ - وَ الرِّجْلُ بِالْیَدِ إِذَا لَمْ یَکُنْ لِلْقَاطِعِ یَدٌ - فَقُلْتُ لَهُ أَ وَ مَا تَجِبُ عَلَیْهِ الدِّیَةُ وَ تُتْرَکُ لَهُ رِجْلُهُ - فَقَالَ إِنَّمَا تَجِبُ عَلَیْهِ الدِّیَةُ إِذَا قَطَعَ یَدَ رَجُلٍ - وَ لَیْسَ لِلْقَاطِعِ یَدَانِ وَ لَا رِجْلَانِ - فَثَمَّ تَجِبُ عَلَیْهِ الدِّیَةُ لِأَنَّهُ لَیْسَ لَهُ جَارِحَةٌ یُقَاصُّ مِنْهَا(1).

وَ رَوَاهُ الْبَرْقِیُّ فِی الْمَحَاسِنِ عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ مِثْلَهُ إِلَی قَوْلِهِ قِصَاصٌ لِلرَّجُلِ الْأَوَّلِ ثُمَّ قَالَ - فَقُلْتُ تُقْطَعُ یَدَاهُ جَمِیعاً فَلَا تُتْرَکُ لَهُ یَدٌ یَسْتَنْظِفُ بِهَا - فَقَالَ نَعَمْ إِنَّهَا فِی حُقُوقِ النَّاسِ - فَیُقْتَصُّ فِی الْأَرْبَعِ جَمِیعاً - فَأَمَّا فِی حَقِّ الله فَلَا یُقْتَصُّ مِنْهُ

ص:109


1- (1) وسائل الشیعة ج 29 ص 124

إِلَّا فِی یَدٍ وَ رِجْلٍ - فَإِنْ قَطَعَ یَمِینَ رَجُلٍ وَ قَدْ قُطِعَتْ یَمِینُهُ فِی الْقِصَاصِ - قُطِعَتْ یَدُهُ الْیُسْرَی وَ إِنْ لَمْ یَکُنْ لَهُ یَدَانِ - قُطِعَتْ رِجْلُهُ بِالْیَدِ الَّتِی قَطَعَ - وَ یُقْتَصُّ مِنْهُ فِی جَوَارِحِهِ کُلِّهَا - إِذَا کَانَتْ فِی حُقُوقِ النَّاسِ.

والتعلیل فی ذیل الروایة یقتضی التعمیم لبقیة الجوارح کالاذنین والحاجبین والعینین, کما تعلیله - لان لیس له جارجة یقاص منها - شامل لقطع ید من لا رجل له وقد قطع رجل شخص اخر.

ولا یخفی امکان تقریب دلالته ایضا علی الاصابع أی فی الانتقال من الیمنی الی الیسری والعکس لاطلاق الید علی الاصابع کما فی حد السرقة واطلاق الرجل علی اصابع الرجل ایضا.

فکذلک الحال فی تقریب عنوان الید والرجل فی هذه الروایة.

ثانیا:

صحیح مُحَمَّدِ بْنِ قَیْسٍ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِی جَعْفَرٍ علیه السلام أَعْوَرُ فَقَأَ عَیْنَ صَحِیحٍ - فَقَالَ تُفْقَأُ عَیْنُهُ قَالَ - قُلْتُ یَبْقَی أَعْمَی قَالَ الْحَقُّ أَعْمَاهُ (1).

بتقریب ان مفاده شامل للانتقال من الیسری للیمنی والعکس, مع ان العین من اشرف الاعضاء وقد عمل المشهور بالنص.

وفی المسالة شقوق:

فهل یتعدی الی العینین فیما بینهما او مع الیدین والرجلین والاذنین والحاجبین

ص:110


1- (1) المصدر ص 178

والشفتین والجفنین علی اشکال فی الاخیرین لاختلاف المنفعة؟ احتمالان.

اما الانتقال من الیدین والرجلین الی غیرهما من الجوارح فلاینتقل لتنصیص الروایة علی الانتقال للدیة لا الانتقال للجوارح.

واما التعمیم بین الاذنین والعینین فیقربهما عموم التعلیل فی الذیل لعنوان الجوارح.

الدلیل الثانی:

عموم لفظ العین بالعین والسن بالسن والجروح قصاص:

ویوید هذا العموم بنظیر له فی الحدود کالانتقال بحد السرقة من الید الی الرجل, فغایة ما یقتضیه هو الانتقال من الیمنی الی الیسری والعکس لا الانتقال من نوع عضو الی نوع عضو اخر.

الدلیل الثالث:

ویمکن تقریبه ایضا:

انه مع صدق العنوان کنوع عنوان الید او العین او السن او الاصبع فیقتصر علیه مع توفره والا فتنتقل النوبة الی الدیة لا سیما فی الاطراف بعد کون القصاص نظیر الضمان فی الاعیان المالیة فالاصل فیه شخص العین بکل خصوصیاتها ثم المثل والمثلی ثم القیمة والقیمی, وعلی ضوء ذلک یجری فی باب القصاص وهو عموم العنوان ثم الی الدیة وهی القیمة.

ص:111

ص:112

القاعدة الثانیة عشرة: قاعدة فی سقوط القصاص

ص:113

ص:114

القاعدة الثانیة عشرة: قاعدة فی سقوط القصاص

الاقوال:

المشهور لا یقول بثبوت القصاص فی کسر العظام.

ذهب ابن حمزة الی ثبوت القود فی الهاشمة والمنقلة, قال فی الوسیلة: (و الهاشمة ما یهشم العظم و لا یحتاج إلی النقل و فیها القصاص إن کان عمدا أو الدیة و هی عشرة أبعرة و حکم الخطإ و عمده فیها و فیما علی ما ذکرنا فی الموضحة. و المنقلة ما یکسر العظم و یخرج إلی النقل من موضع إلی موضع و دیتها خمسة عشر بعیرا و فی عمدها القصاص أو الدیة).(1)

ومن یذکر القصاص فی کسر العضد والمنکب بل اقتصر علی الدیة.

واطلق الشیخان القصاص بلا استثناء للهاشمة والمنقلة والمأمومة.

قال الشیخ فی النهایة: (و القصاص ثابت فی جمیع هذه الجراح إلّا فی المأمومة خاصّة، لأنّ فیها تغریرا بالنفس، و لیس فیها أکثر من دیتها)(2).

وقال فی المقنعة: (وفی کسر العظم من عضو خمس دیة ذلک الموضحة...

ص:115


1- (1) ص 444.
2- (2) ص 775.

واذا کسر العظم عثم وعیب کان دیته اربعة اخماس کسره... وینبغی ان ینتظر الحاکم بالمجروح والمکسور حتی یعالج ویستبرا حاله باهل الصناعة فان صلح بالعلاج لم یقتص له ولکن یحکم علی الجانی بالارش فیما جنی فان لم یصلح بعلاج حکم له بالقصاص) (1).

وقال الشیخ فی الخلاف: (مسألة 56: إذا جرحه، فسری الی نفسه و مات، وجب القصاص فی النفس، و لا قصاص فی الجرح، سواء کان مما لو انفرد کان فیه القصاص، أو لم یکن فیه القصاص... و ان کان مما لو انفرد و اندمل لا قصاص فیه مثل الهاشمة، و المنقلة، و المأمومة، و الجائفة، و قطع الید من بعض الذراع، و الرجل من بعض الساق. فاذا صارت نفسا فهل لولیه أن یقتص منها، ثم یقتل أم لا؟ علی قولین: أحدهما: لیس له ذلک. و الثانی: له ذلک.

دلیلنا: إجماع الفرقة و أخبارهم. و روی العباس بن عبد المطلب أن النبی علیه السلام قال: لا قصاص فی المنقلة) (2).

وقال ایضا: (مسألة 58: الموضحة فیها نصف العشر، خمس من الإبل بلا خلاف، و فیها القصاص أیضا بلا خلاف. و ما بعدها من الهاشمة فیها عشرة، و المنقلة فیها خمسة عشر بعیرا، و المأمومة فیها ثلث دیة النفس بلا خلاف أیضا، و لا قصاص فیها و لا فیما فوق الموضحة بلا خلاف. و لا یجوز عندنا أن یوضح و یأخذ فضل ما بینهما, و قال بعض الفقهاء: له أن یوضح و

ص:116


1- (1) ص 761
2- (2) ج 5 ص 191

یأخذ فضل ما بین الجنایتین، فان کانت هاشمة له أن یوضح و یأخذ خمسا، و إن کانت منقلة له أن یوضح و یأخذ عشرا، و کذلک فی المأمومة. دلیلنا: إجماع الفرقة و أخبارهم (1) .

ونقلها فی المبسوط ج 7 ص 73 مع اختلاف یسیر.

وفی المراسم لا قصاص فیما یبرا ویصح ولم یستثنی الا الجائفة والمامومة بخلاف الهاشمة والمنقلة صلی الله علیه و آله فقال: (و لا قصاص إلا فی سبع منهن، و ما عدا المأمومة و الجائفة فإن فیهما تعذر بالنفس و لا قصاص فیهما).(2)

وقال فی الکافی: (ولا یجوز القصاص بجرح ولا قطع ولا کسر ولا خلع حتی یحصل الیاس من صلاحه فان اقتص بجرح فبرا المجروح والمقتص منه لم یبرا فلا شی لاحدهما علی صاحبه وان برا احدهما والتائم جرحه اعید القصاص من الاخر ان کان القصاص باذنه وان کان بغیر اذنه رجع المقتص منه علی المعتدی دون المجنی علیه فان کان الجرح مما یخاف للاقتصاص به تلف المقتص منه کالجائفة والمامومة وما یجری مجراها لم یجز الاقتصاص به...)(3).

وفی غنیة النزوع إلی علمی الأصول و الفروع(ثم الهاشمة: و هی التی تهشم العظم، و فیها عشر الدیة. ثم المنقلة: و هی التی تحوج مع کسر العظم إلی نقله من موضع إلی آخر، و فیها عشر و نصف عشر. ثم المأمومة: و هی التی تصل إلی أم الدماغ، و فیها ثلث الدیة، و فی هذه الثلاث ما ذکرناه من

ص:117


1- (1) () المصدر ص 192
2- (2) ص 247
3- (3) الکافی فی الفقه 288

المقدر بلا خلاف، و لیس فیها قصاص بلا خلاف) (1).

وفی الجامع(اذ کان فی الجرح تغریر النفس او کان مما یبرا فلیس فیه قصاص)(2).

وفی المبسوط(اذا قطع اذن رجل فابانها ثم الصقها المجنی علیه فی الحال کان علی الجانی القصاص لان القصاص علیه بالابانه وقد ابانها, نعم لو قال الجانی ازیل اذنه ثم اقتصوا منی قال قوم تزال لانه الصق بنفسه میتة)(3).

ومثله ابن براج فی الجواهر والمهذب.

وقال فی نکت النهایة:

(قوله: «والقصاص ثابت فی جمیع هذه الجراح إلّا فی المأمومة خاصّة». الهاشمة کیف یمکن أن یقتصّ منها؟ لأنّ الرضّ قد یزید و ینقص فی طول العظم و عرضه، و ربما أدّی ذلک الاقتصاص إلی نقل العظم الذی اقتصّ منه. الجواب: قد حقّق رحمه الله البحث فی هذه المسألة فی غیر النهایة بما هو الحقّ، فقال فی الخلاف: الموضحة فیها القصاص بلا خلاف، وما بعدها من الهاشمة والمنقلة والمأمومة لا قصاص فیها بلا خلاف، ولا یجوز عندنا أن یوضح ویأخذ فضل ما بینهما. واستدلّ بإجماع الفرقة وأخبارهم. فإذن المعوّل علیه هذا. ولأنّه موضع غرر فلا یشرع فیه القصاص لأنّ القصاص مساواة و هی متعذّرة هنا فی الأغلب. و لما روی عن علیّ علیه السلام أنّه قال: لیس فی

ص:118


1- (1) ص 419
2- (2) الجامع للشرائع ص 572
3- (3) ج 7 ص 92

عظم قصاص)(1).

قال فی الدعائم: (و الأصل فیما یقتص منه من الجراحات و الجنایات علی أعضاء و غیر ذلک أن کل ما یوصل إلی القصاص منه بلا زیادة و لا نقصان و یؤمن فیه الاعتداء و لا یخاف فیه موت المقتص منه فالقصاص فیه مباح و ما عدا ذلک فالدیة فیه من مال الجانی إذا کان حرا بالغا جائز الأمر متعمدا للفعل و الدیة فیما تجب فیه الدیة علی العاقلة من الخطإ و قد ذکرنا ما تعقله العاقلة من جراحات الخطإ)(2).

وفی الوسیلة إلی نیل الفضیلة(و الهاشمة ما یهشم العظم و لا یحتاج إلی النقل و فیها القصاص إن کان عمدا أو الدیة و هی عشرة أبعرة و حکم الخطإ و عمده فیها و فیما علی ما ذکرنا فی الموضحة و المنقلة ما یکسر العظم و یخرج إلی النقل من موضع إلی موضع و دیتها خمسة عشر بعیرا و فی عمدها القصاص أو الدیة)(3).

وفی الشرائع: (و لا یثبت القصاص فیما فیه تغریر، کالجائفة و المأمومة. و یثبت فی الحارصة و الباضعة و السّمحاق و الموضحة...)(4).

وفی فقه القرآن(للراوندی) (وأما الجروح فإنه یقتص منها إذا کان الجارح مکافئا للمجروح علی ما بیناه فی النفس فیقتص بمثل جراحته الموضحة

ص:119


1- (1) ج 3 ص 453
2- (2) ج 2 ص 421
3- (3) ص 455
4- (4) ج 4 ص 219

بالموضحة و الهاشمة بالهاشمة و المنقلة بالمنقلة و لا قصاص فی المأمومة و هی التی تبلغ أم الرأس و لا الجائفة و هی التی تبلغ الجوف لأن فی القصاص منهما تضریرا بالنفس. و لا ینبغی أن یقتص الجراح بعد أن یندمل من المجروح فإذا اندمل اقتص حینئذ من الجارح و إن سرت إلی النفس کان فیها القود. و کسر العظم لا قصاص فیه و إنما فیه الدیة) (1).

السرائر الحاوی لتحریر الفتاوی: (و الذی اخترناه نحن هو الظاهر، و تعضده الأدلّة، و جمیع الظواهر تشهد بصحته. ثم قال فی نهایته، و القصاص ثابت فی جمیع هذه الجراح، إلّا فی المأمومة خاصة، لأن فیها تغریرا بالنفس، فلیس فیها أکثر من دیتها. الّا انه رجع فی مسائل خلافه و مبسوطة الی ما اخترناه. و هو الأصح، لأن تعلیله فی نهایته لازم له فی الهاشمة و المنقلة)(2).

تحریر الأحکام الشرعیة علی مذهب الإمامیة(ط - الحدیثة): (لا قصاص فی الهاشمة و المنقّلة و المأمومة و الجائفة، لما فیها من التّغریر، و لیس له أن یقتصّ فی الموضحة بالسّمحاق و یأخذ دیة الزائد، لإمکان القصاص فی الجنایة، و لو اتّفقا علی ذلک جاز)(3).

وقال الکیدری فی إصباح الشیعة بمصباح الشریعة: (و الهاشمة: و هی التی تهشم العظم، و فیها عشر الدیة. و المنقلة: و هی التی تحوج مع کسر العظم إلی نقله من موضع إلی آخر، و فیها عشر و نصف عشر. و المأمومة: و

ص:120


1- (1) ج 2 ص 417
2- (2) ج 3 ص 408
3- (3) ج 5 ص 615

هی التی تصل إلی أم الدماغ و فیها ثلث الدیة، و لیس فی هذه الثلاثة قصاص، و قیل: فی جمیع ذلک القصاص إلا فی المأمومة، لأن فیها تغریرا بالنفس) (1).

وفی مختلف الشیعة فی أحکام الشریعة(و کأنّ الشیخین - رحمهما الله - لم یصرّحا بثبوت القصاص فی الهاشمة و المنقلة، بل علی تعمیم القصاص فی الجراح، و الهشم و النقل کأنّهما خارجان عن الجراح)(2).

وفی کشف الرموز فی شرح مختصر النافع: (و یثبت القصاص فیما لا تعزیر فیه کالخارصة و الموضحة، و یسقط فیما فیه التعزیر کالهاشمة و المنقّلة و المأمومة و الجائفة و کسر العظام(3).

اقول: ویظهر من عبارته ان عنوان کسر العظام مغایر للهاشمة والمنقلة والمامومة, أی ما اقتصر علی کسر العظم فقط بلا هشمه او نقله, ومنا یظهر عدم التدافع فی عبارة الراوندی المارة.

ویتحصل:

ان مشهور المتقدمین یذهبون الی ثبوت القصاص فی الکسر اذا لم یصلح علی التفصیل اعلاه بخلاف مشهور المتاخرین.

وظاهر کلمات الاصحاب انهم عللوا عدم القصاص فی الهاشمة والمنقلة بالتغریر بالنفس او عدم الضبط بالزیادة والنقیصة.

ص:121


1- (1) ص 509
2- (2) ج 9 ص 416
3- (3) ج 2 ص 623

الادلة:

الوجه الاول:

الروایات منها:

1 - موثقة اسحاق بن عمار: عَنْ جَعْفَرٍ أَنَّ عَلِیّاً علیه السلام(کَانَ یَقُولُ لَیْسَ فِی عَظْمٍ قِصَاصٌ...)(1).

2 - روی أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِیسَی فِی نَوَادِرِهِ عَنْ أَبِیهِ عَنْ أَبِی عَبْدِ الله علیه السلام أَنَّ أَمِیرَ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام قَالَ: لَا یَمِینَ فِی حَدٍّ وَ لَا قِصَاصَ فِی عَظْمٍ (2).

3 - موثق إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ الاخر عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِیهِ علیه السلام أَنَّ رَجُلًا قَطَعَ مِنْ بَعْضِ أُذُنِ رَجُلٍ شَیْئاً - فَرُفِعَ ذَلِکَ إِلَی عَلِیٍّ علیه السلام فَأَقَادَهُ - فَأَخَذَ الْآخَرُ مَا قُطِعَ مِنْ أُذُنِهِ - فَرَدَّهُ عَلَی أُذُنِهِ بِدَمِهِ فَالْتَحَمَتْ وَ بَرَأَتْ - فَعَادَ الْآخَرُ إِلَی عَلِیٍّ علیه السلام فَاسْتَقَادَهُ - فَأَمَرَ بِهَا فَقُطِعَتْ ثَانِیَةً وَ أَمَرَ بِهَا فَدُفِنَتْ - وَ قَالَ علیه السلام إِنَّمَا یَکُونُ الْقِصَاصُ مِنْ أَجْلِ الشَّیْنِ (3).

4 - مقطوعة أَبَانٍ أَنَّ فِی رِوَایَتِهِ الْجَائِفَةُ مَا وَقَعَتْ فِی الْجَوْفِ - لَیْسَ لِصَاحِبِهَا قِصَاصٌ إِلَّا الْحُکُومَةُ - وَ الْمُنَقِّلَةُ تُنَقَّلُ مِنْهَا الْعِظَامُ - وَ لَیْسَ فِیهَا قِصَاصٌ إِلَّا الْحُکُومَةُ - وَ فِی الْمَأْمُومَةِ ثُلُثُ الدِّیَةِ - لَیْسَ فِیهَا قِصَاصٌ إِلَّا الْحُکُومَةُ (4).

ص:122


1- (1) وسائل الشیعة ج 29 ص 185
2- (2) ص 143
3- (3) وسائل الشیعة ج 29 ص 185
4- (4) لمصدر ص 179

5 - مقطوعة أَبِی حَمْزَةَ فِی الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ - وَ فِی السِّمْحَاقِ دُونَ الْمُوضِحَةِ أَرْبَعٌ مِنَ الْإِبِلِ - وَ فِی الْمُنَقِّلَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ مِنَ الْإِبِلِ عُشْرٌ وَ نِصْفُ عُشْرٍ - وَ فِی الْجَائِفَةِ مَا وَقَعَتْ فِی الْجَوْفِ - لَیْسَ فِیهَا قِصَاصٌ إِلَّا الْحُکُومَةُ - وَ الْمُنَقِّلَةُ (تُنَقَّلُ مِنْهَا) الْعِظَامُ - وَ لَیْسَ فِیهَا قِصَاصٌ إِلَّا الْحُکُومَةُ - (وَ فِی) الْمَأْمُومَةِ تَقَعُ ضَرْبَةٌ فِی الرَّأْسِ إِنْ کَانَ سَیْفاً - فَإِنَّهَا تَقْطَعُ کُلَّ شَیْ ءٍ وَ تَقْطَعُ الْعَظْمَ فَتَؤُمُّ الْمَضْرُوبَ - وَ رُبَّمَا ثَقُلَ لِسَانُهُ وَ رُبَّمَا ثَقُلَ سَمْعُهُ - وَ رُبَّمَا اعْتَرَاهُ اخْتِلَاطٌ - فَإِنْ ضُرِبَ بِعَمُودٍ أَوْ بِعَصًا شَدِیدَةٍ - فَإِنَّهَا تَبْلُغُ أَشَدَّ مِنَ الْقَطْعِ یُکْسَرُ مِنْهَا الْقِحْفُ قِحْفُ الرَّأْسِ (1).

6 - وروی دعائم الإسلام عَنْهُ علیه السلام أَنَّهُ قَالَ لَا یُقْتَصُّ مِنَ الْمُنَقِّلَةِ وَ لَا مِنَ السِّمْحَاقِ وَ لَا مِمَّا هُوَ دُونَهُمَا یَعْنِی علیه السلام مَا هُوَ دُونَهُمَا إِلَی الدِّمَاغِ وَ دَاخِلِ الرَّأْسِ قَالَ وَ فِیهَا الدِّیَةُ وَ لَا یُقَادُ مِنَ الْمَأْمُومَةِ وَ لَا مِنَ الْجَائِفَةِ وَ لَا مِنْ کَسْرِ عَظْمٍ وَ فِی ذَلِکَ کُلِّهِ الْعَقْلُ)(2).

ویوید تفصیل القدماء ما رواه فی الدعائم حیث استظهر منها التفصیل بین الراس والبدن ما روی فی الجعفریات - وَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِیهِ عَنْ جَدِّهِ عَلِیِّ بْنِ الْحُسَیْنِ عَنْ أَبِیهِ عَنْ عَلِیِّ بْنِ أَبِی طَالِبٍ علیه السلام قَالَ قَضَی رَسُولُ الله صلی الله علیه و آله فِی الْمُوضِحَةِ فِی الرَّأْسِ وَ الْوَجْهِ سَوَاءً)(3).

ص:123


1- (1) المصدر ص 180
2- (2) ج 2 ص 421
3- (3) ص 246

قد تعارض:

اما صحیحة أَبِی بَصِیرٍ عَنْ أَبِی عَبْدِ الله علیه السلام قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنِ السِّنِّ وَ الذِّرَاعِ یُکْسَرَانِ عَمْداً - لَهُمَا أَرْشٌ أَوْ قَوَدٌ فَقَالَ قَوَدٌ - قَالَ قُلْتُ: فَإِنْ أَضْعَفُوا الدِّیَةَ - قَالَ إِنْ أَرْضَوْهُ بِمَا شَاءَ فَهُوَ لَهُ.(1)

فقد حمل المقنعة والنهایة وابن زهرة العمل بها فیما لا یرجی صلاحه, وحمله المجلسی الاول علی من یعتاد الکسر أی له خبرویة فی تقدیره.

الجمع بین الروایات:

ویمکن الجمع بین الروایات بما یاتی من تفصیل فی الصحیح الی جمیل بن دراج.

ففی الصحیح الی جَمِیلِ بْنِ دَرَّاجٍ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا عَنْ أَحَدِهِمَا علیه السلام فِی رَجُلٍ کَسَرَ یَدَ رَجُلٍ ثُمَّ بَرَأَتْ یَدُ الرَّجُلِ - قَالَ لَیْسَ فِی هَذَا قِصَاصٌ وَ لَکِنْ یُعْطَی الْأَرْشَ.(2)

بِالْإِسْنَادِ اعلاه عَنْ أَحَدِهِمَا علیه السلام أَنَّهُ قَالَ: فِی سِنِّ الصَّبِیِّ یَضْرِبُهَا الرَّجُلُ فَتَسْقُطُ ثُمَّ تَنْبُتُ - قَالَ لَیْسَ عَلَیْهِ قِصَاصٌ وَ عَلَیْهِ الْأَرْشُ - قَالَ عَلِیٌّ وَ سُئِلَ جَمِیلٌ کَمِ الْأَرْشُ فِی سِنِّ الصَّبِیِّ وَ کَسْرِ الْیَدِ - قَالَ شَیْ ءٌ یَسِیرٌ وَ لَمْ یَرْوِ فِیهِ شَیْئاً مَعْلُوماً.(3)

ص:124


1- (1) وسائل الشیعة ج 29 ص 176
2- (2) المصدر ص 177
3- (3) المصدر 178

الوجه الثانی:

انه مقتضی القاعدة وهو ما استدل به الاکثر من استلزام التغریر بالنفس.

اشکل علی ذلک الشهید الثانی ان کسر مطلق العظم لا تغریر فیه.

الوجه الثالث:

انه لا یمکن الاستیفاء بالمثل فی کسر العظم کما استدل به الشهید الثانی.

ویمکن ان یشکل علی ذلک: بما سیاتی من قاعدة التزم بها مشهور القدامی مفادها الاقتصار علی الاقل مع اخذ التفاوت, لاسیما وان اصل القصاص فی النفس مبنی علی المماثلة فی اصل القصاص لا المماثلة فی العدوان ومن ثم فلا یقتص من الجانی بالکیفیة التی قتل بها المجنی علیه, مما یشیر ان باب القصاص لیس مبنیا علی المماثلة المطلقة بل علی المقابلة فی اصل القصاص.

ص:125

ص:126

القاعدة الثالثة عشرة: قاعدة فی غایة القصاص

ص:127

ص:128

القاعدة الثالثة عشرة: قاعدة فی غایة القصاص

الاقوال:

افتی الصدوق والنهایة والخلاف بموثقة اسحاق الاتیة, وظاهر الشیخ فی المبسوط عمل الاصحاب بها, ولم یفت بها العلامة فی القواعد وافتی بها فی المقنعة معکوسا - ای فی ما لو لصق المجنی علیه القطعة المبانة منه - وکانه فهم عکس الفرض من الموثقة, وجمع ابن البراج بین الفرضین بضابطة جامعة.

وقد یقرر مقتضی القاعدة فی ایة القصاص: (وَ کَتَبْنا عَلَیْهِمْ فِیها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ الْعَیْنَ بِالْعَیْنِ وَ الْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَ الْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَ السِّنَّ بِالسِّنِّ وَ الْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ کَفّارَةٌ لَهُ وَ مَنْ لَمْ یَحْکُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِکَ هُمُ الظّالِمُونَ ( 45)1 .

ان غایة القصاص هو نقص العضو کما هو موثقة اسحاق الاتی, لان الایة قابلت بین قصاص الاعضاء وقصاص الجروح والمقابلة انما تتم بکون القسم الاول نقص عضو بخلاف قصاص الجروح فلو اعید العضو الی محله لکان من قصاص الجروح لا الاعضاء.

ص:129

وموثقة إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِیهِ علیه السلام أَنَّ رَجُلًا قَطَعَ مِنْ بَعْضِ أُذُنِ رَجُلٍ شَیْئاً - فَرُفِعَ ذَلِکَ إِلَی عَلِیٍّ علیه السلام فَأَقَادَهُ - فَأَخَذَ الْآخَرُ مَا قُطِعَ مِنْ أُذُنِهِ - فَرَدَّهُ عَلَی أُذُنِهِ بِدَمِهِ فَالْتَحَمَتْ وَ بَرَأَتْ - فَعَادَ الْآخَرُ إِلَی عَلِیٍّ علیه السلام فَاسْتَقَادَهُ - فَأَمَرَ بِهَا فَقُطِعَتْ ثَانِیَةً وَ أَمَرَ بِهَا فَدُفِنَتْ - وَ قَالَ علیه السلام إِنَّمَا یَکُونُ الْقِصَاصُ مِنْ أَجْلِ الشَّیْنِ (1).

ضابطة: غایة القصاص فی معرضیة الهلکة:

وهی جواب علی ما یرد من الاشکال علی صحیح أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ - بسند الفقیه - عَنْ أَحَدِهِمَا علیه السلام قَالَ: أُتِیَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِرَجُلٍ قَدْ قَتَلَ أَخَا رَجُلٍ - فَدَفَعَهُ إِلَیْهِ وَ أَمَرَهُ بِقَتْلِهِ - فَضَرَبَهُ الرَّجُلُ حَتَّی رَأَی أَنَّهُ قَدْ قَتَلَهُ - فَحُمِلَ إِلَی مَنْزِلِهِ فَوَجَدُوا بِهِ رَمَقاً فَعَالَجُوهُ فَبَرَأَ - فَلَمَّا خَرَجَ أَخَذَهُ أَخُو الْمَقْتُولِ الْأَوَّلِ - فَقَالَ أَنْتَ قَاتِلُ أَخِی وَ لِی أَنْ أَقْتُلَکَ - فَقَالَ قَدْ قَتَلْتَنِی مَرَّةً - فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَی عُمَرَ فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ - فَخَرَجَ وَ هُوَ یَقُولُ وَ الله قَتَلْتَنِی مَرَّةً - فَمَرُّوا عَلَی أَمِیرِ الْمُؤْمِنِینَ علیه السلام فَأَخْبَرَهُ خَبَرَهُ - فَقَالَ لَا تَعْجَلْ حَتَّی أَخْرُجَ إِلَیْکَ - فَدَخَلَ عَلَی عُمَرَ فَقَالَ لَیْسَ الْحُکْمُ فِیهِ هَکَذَا - فَقَالَ مَا هُوَ یَا أَبَا الْحَسَنِ - فَقَالَ یَقْتَصُّ هَذَا مِنْ أَخِی الْمَقْتُولِ الْأَوَّلِ مَا صَنَعَ بِهِ - ثُمَّ یَقْتُلُهُ بِأَخِیهِ - فَنَظَرَ الرَّجُلُ أَنَّهُ إِنِ اقْتَصَّ مِنْهُ أَتَی عَلَی نَفْسِهِ - فَعَفَا عَنْهُ وَ تَتَارَکَا(2).

فان روایته علی القواعد وان تعلیله علیه السلام یرید به بیان ان النفس موجبة لاستثناء من عموم قصاص الاطراف اذا کان قصاص الطرف معرضا لهلکة

ص:130


1- (1) وسائل الشیعة ج 29 ص 185
2- (2) المصدر ص 125

النفس مع ان الحق للقصاص مقرر حسب القاعدة الاولیة لکنه اذا ادی الی التغریر بالنفس فانه یسقط وینتقل الی الدیة فکذا فی المقام فان ولی المقتول وان استحق القصاص للنفس لکن ما فعله حیث لم یندرج فی القصاص للنفس وان کان سائغا ظاهرا لا بحسب الواقع للفصل الزمنی مع الضربة القاتلة فلا یندرج فی القصاص للنفس, وحینئذ فالضربة الاولی مضمونة ولو دیة او قصاصا, وحیث لا یقتص لها لکونها فی معرض هلکة النفس للتزاحم فکذا هاهنا لا یقتص للمقتول وذلک لتزاحمه مع ما جری علی الجانی مما لا یستحق ولی المقتول وکانما ما قاله الامیر علیه السلام(ضربة بضربة) ناظر الی هذا, فحاصل معنی روایة ابان ان القصاص الاولی حیث یسقط بسبب استلزامه التعدی کما فی الجائفة والمامومة والهاشمة والناقلة کذا هنا فی المقام لا یقتص ولی المقتول لاستلزامه الزیادة والتعدی فتعلیله علیه السلام لبیان ان القاعدة الاولیة وان کانت القصاص لکنه یسقط اذا استلزم الزیادة کما فی قصاص الطرف المنصوص علیه فی الایة, فکذا فی قصاص النفس فان المقرر وان کان النفس بالنفس کالعین بالعین والاذن وبالاذن لکنه یسقط اذا استلزم الزیادة والتعدی فالتعلیل فی الروایة متقن من المتقنات.

ولا یعترض بمفاد موثق اسحاق لانه لا یستلزم التعدی بخلاف المقام الذی یستلزم التعدی.

ضابطة (فائدة):

(قصاص الطرف فی معرض القتل قصاص نفس) او(تنزیل الفعل منزلة فعل اخر رعایة للحقین).

ما ورد ان قصاص الطرف الذی فی معرض القتل لا یثبت القصاص بل

ص:131

الدیة شاهد علی ان القصاص فی العضو الذی فی معرض القتل هو قصاص نفس لا قصاص طرف فقوله علیه السلام فی روایة ابان ان یقتص منه ما صنع کنایة وتنبیه علی ان هذا - أی ضربة ولی المقتول للجانی - نحو استیفاء لقصاص النفس بنحو تنزیلی کما فی جملة من الموارد کاقرار الثانی بالقتل لانقاذ المقر الاول وکالهارب القار بالزنا, والحاصل ان مفاد الروایة لیس شاذا عن القواعد حتی تطرح, سیما ان الصدوق افتی بها فی الفقیه والکلینی والشیخ فی التهذیب والمبسوط, وسیما ان ضابطة ما یسوغ من الضرب للقتل قصاصا یباین المثلة والتعذیب فللجمع بین الحقین من دون ایکال الضابطة الی العرف لانه غیر منضبط تکون النتیجة بما فی مفاد الروایة تعبدا جما بین الحقین.

تتمة:

یقع البحث فی انه هل یجوز تعدد الضربات فی قصاص القتل او لابد من الوحدة کما فی روایة نهج البلاغة(إِنْ قَتَلْتَ فَضَرْبَةً مَکَانَ ضَرْبَةٍ)(1).

خالف المامقانی فی حاشیة المکاسب انه یسوغ له ان یضرب القاتل عدة ضربات بالسیف لقتله.

ویمکن تقریب ذلک ان القصاص لیس هو الا الضربة الموصوفة بانها قاتلة أی شانها ذلک وفی معرض القتل والتعلیل فی روایة ابان المتقدمة مشیرة الی ذلک وذیلها تنبیه منه علیه السلام الی ان ذلک اقتصاص للجانی من ولی المقتول.

ص:132


1- (1) المصدر ص 128

القاعدة الرابعة عشرة: فی قصاص الاطراف أنها لمجرد إبانة العضو أو للشین أیضا

ص:133

ص:134

القاعدة الرابعة عشرة: فی قصاص الأطراف أنها لمجرد إبانة العضو أو للشین أیضا

اشارة

ویتضح الحال فی القاعدة من خلال عرض صورتان وبیان تطبیق فی مسالة من بحث القصاص.

وهنا صورتان.

الاولی: ان الجانی هو الذی الصق اذنه.

الثانیة: ان المجنی علیه هو الذی الصق اذنه.

ذکرنا فی کتاب القصاص شطر من الکلام فی المسالة 155, وخالف فی التحریر انه لیس للمجنی علیه ازالة اذن الجانی مرة ثانیة.

وفی موثق اسحاق بن عمار عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِیهِ علیه السلام أَنَّ رَجُلًا قَطَعَ مِنْ بَعْضِ أُذُنِ رَجُلٍ شَیْئاً - فَرُفِعَ ذَلِکَ إِلَی عَلِیٍّ علیه السلام فَأَقَادَهُ - فَأَخَذَ الْآخَرُ مَا قُطِعَ مِنْ أُذُنِهِ - فَرَدَّهُ عَلَی أُذُنِهِ بِدَمِهِ فَالْتَحَمَتْ وَ بَرَأَتْ - فَعَادَ الْآخَرُ إِلَی عَلِیٍّ علیه السلام فَاسْتَقَادَهُ - فَأَمَرَ بِهَا فَقُطِعَتْ ثَانِیَةً وَ أَمَرَ بِهَا فَدُفِنَتْ - وَ قَالَ علیه السلام إِنَّمَا یَکُونُ الْقِصَاصُ مِنْ أَجْلِ الشَّیْنِ)(1).

ص:135


1- (1) المصدر ص 185.

ومورد الروایة هو الصاق الجانی اذنه وهو الصورة الاولی, وان احتمل ظهور العکس ایضا.

تقریب الصورة الثانیة بوجوه:

الوجه الاول: ویمکن ان یقرب ما لو الصق المجنی علیه اذنه بان المجنی علیه غایة حقه هو القصاص للنقص والشین فلما الصق المجنی علیه عضوه لم یبق له شین فیکون قد استوفی اکثر من حقه فحینئذ للجانی حق الاقتصاص من المجنی علیه ویدعمه ما ذکرناه فی المسالة 155 من بحث القصاص.

وقد مرت روایة ابان بن عثمان وتقدم بیان مفادها فی ذیل قاعدة عدم جواز التعدی فی القصاص, فاذا تعدی اقتص من المجنی علیه.

الوجه الثانی:

ما ذهب الیه جماعة من سقوط حق قصاص المجنی علیه لو الصق اذن نفسه قبل ان یقتص من الجانی, فان مقتضی سقوط حق القصاص تقوم ذلک الحق بعدم التئام الاذن مرة اخری وبقائها مقطوعة.

الوجه الثالث:

ان مقتضی تعلیل موثق اسحاق المتقدم دال علی ان الموضوع لحق القصاص هو القطع والابانه والشین فاذا ما اختل الموضوع فی جزئه الثانی فلا یتم تحققه ویکون اقتصاص المجنی علیه من الجانی تعدیا, وهذا التقریب للتعلیل فی موثق اسحاق لیس من باب تعمیم التعلیل عن مورد الموثق فی احد الصورتین للاخری.

ص:136

تطبیق وشرح للقاعدة:

فی مسالة 175 من بحث القصاص: (لو قطعت اذن شخص مثلا ثم الصقها المجنی علیه قبل الاقتصاص من الجانی والتحمت, فهل یسقط به حق الاقتصاص؟ المشهور عدم السقوط, ولکن الاظهر الاقوی هو السقوط وانتقال الامر للدیة).

هذه المسالة بمثابة تتمة لشرح للقاعدة.

قال الحلبی فی الکافی: لا یجوز القصاص بجرح ولا قطع ولا کسر ولا خلع حتی الیاس من صلاحه.

وفی المقنعة: وینبغی ان ینتظر الحاکم بالمجروح والمکسور حتی یعالج ویستبرا حاله لاهل الصناعة, فان صلح بالعلاج لم یقتص له لکنهیحکم علی الجانی بالارش فیما جنی فان لم یصلح بعلاج حکم له بالقصاص.

قال فی التحریر: ففی وجب القصاص اشکال ینشا من وجوبه بالابانة وقد حصلت ومن عدم الابانة علی الدوم... والاقرب وجوب القصاص مطلقا وان قلنا بعدمه فله الارش.

وفی القواعد ولو الصقها المجنی علیه لم یومر بالازالة والقصاص.

اقول: التزام المشهور فی المسالة السابقة متدافع مع ما التزموا به فی هذه المسالة, فانهم فی المسالة السابقة بنو علی کون التعلیل وهو الشین جزء للموضوع وفی هذه المسالة بنوا علی ان الابانة هی تمام الموضوع.

وقرب فی الجواهر رفع التدافع, بان المجنی علیه لو الصق ما التحمت اذنه

ص:137

فجاء اخر فقطعها ان للمجنی علیه ان یقتص قصاصا.

وقد یقرب تقریر القاعدة فی قصاص الاطراف بمفاد الایة(وَ کَتَبْنا عَلَیْهِمْ فِیها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ الْعَیْنَ بِالْعَیْنِ وَ الْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَ الْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَ السِّنَّ بِالسِّنِّ وَ الْجُرُوحَ قِصاصٌ...) (1).

التقریب الاول:

قد یقرب ان المستفاد من الایة هو کون القصاص لاجل العضو فاذا ما رجع الی حاله السابق فلا قصاص بمقتضی ظهور المقابلة بین عنوان العضو فی مقابل عضو(الْعَیْنَ بِالْعَیْنِ وَ الْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَ الْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَ السِّنَّ بِالسِّنِّ وَ الْجُرُوحَ قِصاصٌ...) بجعل کبری الجروح کالعام بعد مصادیق وامثلة الخاص فظاهر الباء المقابلة لذات العضو.

ویشهد لهذا التقریب ثانیا: ما یدل علی ان الایة ثلاثة اقسام, النفس والاطراف والجروح وان الثانی عطف علی الاول حکما واما الثالث فالواو استئنافیة کما استظهره التبیان ومجمع البیان, مما یدلل علی ما افتوا به طبقا للنص الوارد من انه یقلع السن بالسن ولو عادت السن فلا قصاص, کما فی صحیح جمیل بن دراج عن احدهما علیهما السلام فی سن الصبی یضربها الرجل فتسقط ثم تنبت قال لیس علیه قصاص وعلیه الارش... الحدیث).

وفی المسالک: سن الصبی فضلة نازلة منزلة الشعر(2).

ص:138


1- (1) المائدة 45
2- (2) مسالک الافهام ج 15 ص 289

ویشهد لهذا لتقریب ثالثا:

مما یدعم المقابلة بین الاعضاء تقدیرهم الحکومة مع عود العضو الی محله والدیة کاملة اذا لم یعد مما یقتضی ذلک.

ویشهد لهذا التقریب رابعا:

مما یدلل علی المقابلة فی العضو لا فی الابانة کالجرح کما بینا فی المسالة 176 من القصاص وغیرها, من ان الاعور یقتص من عینه الصحیحة, وهذا یظهر منه المقابلة فی الاعضاء لا فی اصل الابانة والا فالابانة من العین العوراء یحصل بها الالم, وکذا الحکم فی مقطوع الید او الرجل والا فیقطع مما بقی من العضو ویبان منه شطرا.

التقریب الثانی:

قد یقرب عکس ذلک فی مفاد الایة بان جملة(الجروح قصاص) بمثابة الشرح بما سبق وتبیان ان القصاص للابانة والجرح او عطف مستقل.

ویدعم هذا التقریب بصحیح الحلبی قَالَ: سُئِلَ أَبُو عَبْدِ الله علیه السلام عَنْ جِرَاحَاتِ الرِّجَالِ وَ النِّسَاءِ - فِی الدِّیَاتِ وَ الْقِصَاصِ سَوَاءً - فَقَالَ الرِّجَالُ وَ النِّسَاءُ فِی الْقِصَاصِ السِّنُّ بِالسِّنِّ - وَ الشَّجَّةُ بِالشَّجَّةِ وَ الْإِصْبَعُ بِالْإِصْبَعِ سَوَاءً - حَتَّی تَبْلُغَ الْجِرَاحَاتُ ثُلُثَ الدِّیَةِ.. الحدیث)(1).

وحکم دیة الاطراف حکم دیة الجراحات.

ص:139


1- (1) وسائل الشیعة ج 29 ص 163

وقد تنقد هذه القرینة - صحیح الحلبی - ان تعمیم عنوان الجراحات للعضو فی صحیح الحلبی لیس بمعنی وحدة سنخ الحکم بین الجراحة والعضو بل بلحاظ التسویة فی الفرق بین المراة والرجل الی ثلث الدیة, ومما یدلل علی عدم التسویة بین حکم الشراحات وقطع العضو ان الدیة فی الجراحات مبنیة علی برء الجرح والا ستکون دیة عضو بخلاف دیة العضو فانها مبنیة علی تلف العضو.

وقد یقرب ثالثا:

ان عطف(والجروح قصاص) وان کان مستقلا الا انه شارح لما سبق لان فی الجروح الموضوع هو الفعل نفسه من الجنایة کحدث لا کنتیجة الحدث.

فتحصل ان القصاص فی الاعضاء مباین سنخا لقصاص الجروح وان الغایة فی الاول اتلاف ذات العضو نفسه لا مجرد الابانة والجرح, بینما الغایة فی الثانی فانها لمجرد الجرح والایلام به لا التلف والاتلاف.

ص:140

القاعدة الخامسة عشرة: قاعدة فی تبعیض القصاص فی الاطراف والجراحات

ص:141

ص:142

القاعدة الخامسة عشرة: قاعدة فی تبعیض القصاص فی الأطراف والجراحات

اشارة

والبحث فیها یقع فی ثلاث جهات: الاقوال والادلة وتتمات.

الجهة الاولی:

الاقوال:

ذهب المشهور والمبسوط الی التبعیض فی القصاص عند عدم امکان القصاص التام, ویستشعر من الجواهر - بعد حکایة کلام التحریر حیث قرب العدم - المیل الی الجواز, واحتمل فی القطع من الذراع التبعیض من الاصابع, وهو توسعة فی التبعیض.

وفی المسالک استشکل فی التبعیض من جهة الالزام بالدیة.

وفی قواعد الأحکام: و لو قطع من نصف الکفّ لم یکن له القصاص من موضع القطع، لعدم وقوع القطع علی مفصل محسوس یمکن اعتبار المساواة فیه، و له قطع الأصابع و المطالبة بالحکومة فی الباقی، و لیس له قطع الأنامل و مطالبة دیة باقی الأصابع و الحکومة، فإن رضی بقطعها مع إسقاط الباقی جاز، و لیس له أن یقطع الأنامل ثمّ یکمل القطع فی الأصابع، لزیادة الألم.

ثم ان التبعیض تارة یفرض فی الکم وتارة فی الکیف.

ص:143

الجهة الثانیة: الادلة:

یستدل للتبعیض الذی ذهب الیه المشهور او بعض درجاته بامور:

اولا: بما فی المبسوط وغیره من ان القطع من وسط الذراع کسر محتمل للتعدی فینتقل الی مفاصل الاعضاء.

ثانیا: ان اسناد القطع حاصل للاصابع مع قطع الکف وکذلک اسناده للکف حاصل مع قطع وسط الذراع, وکذا الحال فی المرفق مع العضد مما یحقق موضوع القصاص بنحو متعدد بدلی کالمجموعی لا الاستغراقی لاسیما وان التفکیک بین قطع المفصل من الکوع والقطع من الذراع لازمه ان الزیادة علی المفصل مانعة من القصاص وهو غریب کما قیل.

ثالثا: ان المماثلة الماخوذة فی القصاص من قوله تعالی: (فاعتدوا علیه بمثل ما اعتدی علیکم)(1) هی قید کسقف اعلی لا انها حد مانع عما دونه کما هو الحال فی جملة من ابواب الفقه, من اخذ القید بلحاظ السقف الاعلی ککون الحیض عشرة ایام وکون شهر الصیام ثلاثین یوما فانه لا یمانع ما دل علی ان المدار فی شهر الصیام علی رؤیة الهلال ولو کان تسع وعشرین یوما.

رابعا: قد یقرر ان قصاص الجنایة متقوم ببعدین, بعد الکم وبعد الکیف, فمن جهة الکیف وهو الایلام یحصل مرة واحدة لا تتعدد, ومن جهة الکم فهی قابلة للتعدد والتبعیض, ولکن علی ذلک یشکل ما ذهب الیه المشهور من اخذ الدیة مع القصاص من الکوع.

ص:144


1- (1) البقرة 194.

خامسا: قد یخرج التبعیض انه من باب المصالحة علی العضو عن القصاص لکن بشرط عدم صدق المثلة والتمثیل لانه ورد فی شروط القصاص النهی عن التمثیل.

تتمات:

ضابطتان فی التبعیض:

هذه الضابطة نظیر ما مر فی قصاص النفس انه کلما استلزم قصاص الطرف الرد فلولی الدم ان یلزم الجانی بالدیة, فعلی ذلک کلما استلزم الرد صح التبعیض والحکومة فی مازاد علی المفصل فی مقابل ان یقتص من المفصل الاعلی.

والضابطة الاخری: ان کل مورد لا یضبط تقدیره فیصار فیه الی التبعیض لتفادی التعدی فی القصاص.

فروع فی التبعیض:

الفرع الاول: قد یقرر جواز التبعیض فی قطع الذراع بین التبعیض فی القطع من الکف مع القطع من الاصابع حیث لما لم یمکن القصاص کاملا وجاز التبعیض فکما یجوز اخذ الکف یجوز اخذ الاصابع خاصة, ومال الیه فی الجواهر.

الفرع الثانی: کلما کان علی المجنی علیه الرد فی القصاص ساغ له التبعیض. لو قطع الرجل اصابع من المراة فهل لها التبعیض او کانت دیة الجنایة علی المراة ثلث الدیة او اکثر, او ان لها الاکتفاء بقصاص نصف الجنایة والامتناع عن فاضل الدیة کما فی القواعد واشکل منه اذا قطع ثلاثة اصابع او اثنین؟ اختار فخر المحققین الجواز وکذلک صاحب الجواهر وغیر واحد من المعاصرین, وتردد

ص:145

العلامة والشهید الثانی فی الروضة والمسالک(1) والفاضل فی کشف اللثام(2) وصاحب الریاض(3), وقد استندوا الی قاعدة التبعیض فی قصاص الاطراف التی مر وجهها.

الفرع الثالث: لو کان بعض اعضاء المجنی علیه مصابا بالشلل وکان نفس ذلک العضو من الجانی صحیحا کما لو کانا اصبعا المجنی علیه سالمین وثلاثة شلاء فیقتص من الجانی اصبعین سالمین ویوخذ منه دیة الاصابع الشلاء وهکذا الامر لباقی اقسام الید اذا وقعت علیها الجنایة وکانت معیبة, ذهب الی ذلک المبسوط (4) والعلامة وابن البراج وکاشف اللثام وصاحب الجواهر.

الفرع الرابع: لو کان عضو المجنی ناقصا کالید الفاقدة لبعض الاصابع فقد افتی بالقصاص والدیة والارش فیما قابل المعیب منها کما فی التحریر والمسالک وکشف اللثام والریاض والجواهر.

التبعیض فی الجرحات:

اذا ادی القصاص فی بعض الجراحات الی التغریر فی النفس او التعدی الی غیر موضع الجنایة فلا یجوز القصاص نعم یجوز ان یقتصر علی الموضحة ویاخذ ارش الباقی کما فی المبسوط والشرائع والمسالک وجامع الشرائع والقواعد والتحریر ومجمع الفائدة ومفاتیح الشرائع وکشف اللثام والریاض ومفتاح

ص:146


1- (1) ج 15 ص 111.
2- (2) ج 11 ص 48.
3- (3) ج 2 ص 505 ط القدیمة.
4- (4) ج 7 ص 84.

الکرامة والجواهر, (لو جنی جراحة منقلة او مامومة فینتقل الی الموضحة).

الفرع الخامس: لو کان الجانی او المجنی علیه له عضو زائد کالاصبع فالحکم فی بعض فروض المسالة التبعیض فی القصاص والاکتفاء باقتصاص البعض, وفی حال عدم التمکن او الضرر بتوافق الطرفین او عدم رضی الجانی بطلب المجنی علیه.

الفرع السادس: لو کانت الاصبع الزائدة فی الجانی فقط فالمشهور ان القصاص فی الاصابع الاصلیات دون الکف لاستلازمه التغریر بالعضو الزائد, وقیل بالقصاص وهو مفاد روایة ابن حریش المتقدمة خلافا للمشهور, وسیاتی تتمة لهذا الفرع فی المسالة الاتیة.

اثارات:

الاثارة الاولی: هل یندرج فی التبعیض استبدال قصاص النفس بقصاص العضو واخذ الدیة والارش فی قبال ما نقص من القصاص؟

الاثارة الثانیة: الضرب غیر المودی الی الجرح, هل یثبت فیه القصاص او الدیة؟

ص:147

ص:148

القاعدة السادسة عشرة: ان الدیة فی طول القصاص استیفاء وفی عرضه موضوعا وموجبا

ص:149

ص:150

القاعدة السادسة عشرة: إن الدیة فی طول القصاص استیفاء وفی عرضه موضوعا وموجبا

الاقوال:

فصل فی المبسوط بین العفو عن الجنایة فیسقط القصاص وبین العفو عن عقلها ودیتها.

وفی کشف اللثام ان صدر العفو عنها مع الصلح علی الدیة فتثبت والا فلا... وتثبت علی القول الاخر ما لم یصرح باسقاطها.

وظاهر الشرائع ان الدیة عوض طولی عن القصاص موضوعا ومحمولا.

قال فی المبسوط: (فأما إن قتله قبل الاندمال مثل أن قطع یده ثم قتله، فالولی بالخیار بین القصاص و العفو، فان اختار القصاص کان له القطع، و العفو و القتل بعده و لا یدخل قصاص الطرف فی قصاص النفس، و إن اختار العفو دخل أرش الطرف فی دیة النفس، فلا یکون له غیر الدیة. و أرش الطرف یدخل فی دیة النفس، و قود الطرف لا یدخل فی قود النفس، و قال بعضهم لا فصل بینهما، فلا یدخل أرش الطرف فی دیة النفس کما لا یدخل قصاصه فی قصاص النفس.

ص:151

والذی یقتضیه مذهبنا أنه یدخل کل واحد منهما فی بدل النفس، أما الأول فلا إشکال فیه، و أما القصاص فلأن أصحابنا رووا أنه إذا مثل انسان بغیره فقتله فلم یکن له غیر القتل، و لیس له التمثیل بصاحبه، و قال بعضهم له أن یقطع یده ثم یقتله و لا یکون ذلک قصاصا بل یکون للمماثلة کما لو أجافه ثم قتله کان للولی أن یجیفه ثم یقتله، و إن کان لا قصاص فی الجائفة).(1)

وفی مجمع الفائدة نقل التفصیل بلحاظ الاندمال وعدمه کما فی الشرائع وغیره.

وهنا نقاط لتنقیح وجه القاعدة:

الاولی: وقد بنینا فی کتاب القصاص ان الدیة تثبت بالجنایة لا بالصلح علی اسقاط القصاص غایة الامر هی طولیة مع القصاص فی الاستیفاء وثبوت الحکم فاسقاط القصاص لا یعدم موضوع الدیة بل هو ثابت بالجنایة ومن ثم اذا فکک فی الاسقاط بین القصاص والدیة فان اسقاط القصاص معلق علی اخذ الدیة.

الثانیة: الروایات

1 - موثق إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ جَعْفَرٍ أَنَّ عَلِیّاً علیه السلام کَانَ یَقُولُ(لَا یُقْضَی فِی شَیْ ءٍ مِنَ الْجِرَاحَاتِ حَتَّی تَبْرَأَ).(2)

فمع السرایة لا یکون هناک قصاص طرف وانما قصاص نفس.

2 - موثق أَبِی بَصِیرٍ عَنْ أَبِی عَبْدِ الله علیه السلام(فِی رَجُلٍ شَجَّ رَجُلًا مُوضِحَةً ثُمَّ

ص:152


1- (1) ج 7 ص 22
2- (2) وسائل الشیعة ج 29 ص 280

یَطْلُبُ فِیهَا - فَوَهَبَهَا لَهُ ثُمَّ انْتَفَضَتْ بِهِ فَقَتَلَتْهُ - فَقَالَ هُوَ ضَامِنٌ لِلدِّیَةِ إِلَّا قِیمَةَ الْمُوضِحَةِ - لِأَنَّهُ وَهَبَهَا وَ لَمْ یَهَبِ النَّفْسَ الْحَدِیثَ) (1).

وهی لا تدل علی ان جنایة الطرف مع السرایة لا تتبدل الی جنایة نفس مع عدم الاندمال بل غایة دلالتها انه مع عدم الاندمال ان ابراه عن مقدار دیة الجرح فانه یستثنی من دیة النفس بلا دلالة لهذا الابراء علی الابراء عن دیة النفس ولا عن قصاص النفس فمفادها والتی قبلها ینطبق علی تفصیل المتن, کما انها لا تدل علی ان جنایة الطرف او الجرح مع الاندمال تدخل فی جنایة النفس مطلقا.

الثالثة: وقد یقال بالفرق بین السرایة الی الکف والسرایة الی النفس ان فی الاول لا یکشف عن عدم القصاص فی الاصبع لان القصاص بالید اقل او اکثر, واما فی النفس فیکشف عن عدم کونه قصاصا فی الطرف فیکون العفو عن قصاص الاصبع عفو عن ما لم یجب له فی الثانی دون الاول.

الرابعة: فی مجمع الفائدة وغیره نقل التفصیل بین الاندمال وعدمه, وذلک لانه بالاندمال یتبین ویتحقق ان قصاص طرف وانها لا تسری بخلاف ما قبل الاندمال, ولکن لو عفی قبل ولم تندمل کشف عن انه عفی عن ما لم یجب فلا تسقط دیة العضو ویقتص للنفس منه من دون رد دیة, لکن فی القواعد ان العفو عن الاصابع عفو عن الکف ان ساواه فی النقص او فی الباقی فی الاصبع ویطالب فی الحکومة.

ص:153


1- (1) المصدر ص 387

ویتحصل من مجموع النقاط الاربعة:

ان الدیة فی عرض القصاص من جهة الموضوع والموجب والسبب لثبوتها الا انها فی طول القصاص استیفاء, ومن ثم فسقوط القصاص لا یلازم سقوط الدیة ولا یزیل موضوعها بل هو یوکد تقرر موضوعها بعد سقوطه.

تنبیهات فی المسالة:

التنبیه الاول: لو عفی عن قود الجنایة خاصة دون الدیة فلا یبعد ان یکون هذا السقوط والقصاص مراعی باعطاء دیة له لا مطلقا, فلو امتنع اعطائه للدیة عاد استحقاقه للقصاص وذلک بمقتضی المعاوضة صلحا بین اسقاط القصاص واخذ الدیة.

ودعوی ان الاسقاط ایقاع ولا رجوع فی الایقاع, مدفوعة بامکان الفسخ بحسب العرف العقلائی ودلالة النص الوارد فی العتق المشروط.

التنبیه الثانی: وجه تقیید السرایة فی قصاص الکف بکون السرایة مقصودة او فی معرض الوقوع هو کون القصاص متقوم بالعمد فلابد من تحقق قیود العمد تجاه الجنایة علی الکف او النفس.

ص:154

القاعدة السابعة عشرة؛ قاعدة فی باب الصلاة: فی إجزاء الاضطراری بعض الوقت

ص:155

ص:156

القاعدة السابعة عشرة: فی إجزاء الاضطراری بعض الوقت - قاعدة فی باب الصلاة -

المعروف فِی کلمات مُتأخّری العصر أنَّ مُقْتَضَی القَاعِدَة هُوَ عدم الإجزاء لانکشاف قدرته عَلَی الطبیعی.

ولکن یمکن تقریب الإجزاء بامور:

أوَّلاً: أنَّهُ حین یَکُون عاجزاً فِی جملة الوقت لا یَکُون مُخاطباً عزیمة بالطبیعی الأولی وإنْ کَانَ بلحاظ باقی الوقت لا سیّما مَعَ امتداد فترة العجز أطول مِنْ فترة القدرة مَعَ فرض یأسه.

ثانیاً: إنَّ القَاعِدَة الَّتِی أسسوها مِنْ إضافة العجز والاضطرار بإسناده إلی کُلّ الطبیعة بین الحدّین إنَّما قرّروه عبر الظهور اللفظی مِنْ إسناد أدلّة الاضطرار فِی الأبواب إلی الطبیعة التامَّة وَذَلِکَ عبر الإطلاق فِی الإسناد.

ویمکن دفعه بقرائن عدیدة اعتمد عَلَیْهَا المشهور:

القرینة الاولی: أنَّ الیائس المُضطر مُنجز عَلَیْهِ الناقص والأقل وإنْ کَانَ المطلوب مِنْهُ الکُلّ التّام، ولکن التّام غَیْر مُنجز فِی ظرف الیأس وَذَلِکَ بَعْدَ فرض الجهل المُرکّب، نظیر الشّاک والجهل البسیط فِی الأقل والأکثر الارتباطی حَیْثُ ذهب

ص:157

مُتأخّرو العصر إلی الوسطیّة فِی التنجیز فالکُلّ التّام مُنجز مِنْ ناحیة الأقل المعلوم الناقص وَغَیْر مُنجز مِنْ ناحیة الجزء المشکوک. وکذلک فیما نَحْنُ فیه، وَعَلَی ذَلِکَ وتقرَّر الوسطیّة فِی التنجیز فِی ظرف الیأس تتشکل قرینة عَلَی شمول أدلّة الاضطرار لظرف العجز فِی بَعْض الوقت لا مِنْ ناحیة تخیل المُکَلَّف بَلْ ثبوتاً لفرض مُناسبة التنجیز وَهَذِهِ قرینة عامّة لإسناد أدلّة الاضطرار إلی الطبیعة فِی الجُملة لا إلی الطبیعة بالجُملة بین الحدّین.

وَعَلَی ذَلِکَ فالیأس المضطر لَهُ تنجیز تنجیز بالنَّاقص والأقل وإنْ کَانَ المطلوب مِنْهُ الکُل التَّام ولکنَّ التّام غَیْر مُنجز فِی ظرف الیأس بَعْدَ فرض الجهل المُرکب مِنْهُ بتجدد القُدرة، فَهُوَ فِی ظرف الیأس عاجز عَنْ البقیّة ولو بسبب الجهل مَعَ فعلیّة الأمر بالکُل.

القرینة الثَّانیة: هِیَ ورود أدلَّة الاضطرار الخاصّة فِی الأبواب بکفایة العجز فِی الجُملة فِی بَعْض الوقت فَإنَّها قرینة لإسناد الاضطرار فِی بَقیَّة أجزاء المُرکب لبعض الوقت مَعَ فرض الیأس.

القرینة الثالثة: هِیَ القرائن الخاصّة فی کل باب کالفوریّة فِی الصَّلاة فِی الفضیلة والفوریّة فِی الحجّ.

والحاصل أنَّ تنجیز الأقل یعنی أنَّ الباعثیّة واقعیّة ثبوتیّة للتکلیف به لکنَّ بمقدار الأقلّ الناقص وَهُوَ مُنطبق عَلَی الاضطراری، وَهَذَا یفید أنَّ أوامر الاضطرار الواردة فِی الباب هِیَ باعثة وشاملة للمضطر فِی بَعْض الوقت.

ویعضُد الأجزاء فِی خصوص المقام الإطلاق فِی صحیح جمیل، قَالَ: سألت

ص:158

أبا عبدالله علیه السلام ما حدّ المریض الذی یُصلِّی قاعداً؟ فَقَالَ: «إنَّ الرَّجُل لیوعک ویحرج ولکنه أعلم بنفسه، إذَا قوی فلیقُم»(1) بتقریب شمول الذیل لأثناء الصَّلاة.

وبذلک یَتِمُّ الإطلاق فِی عبارة السید الیزدی فی العروة لما لو تجدّدت القدرة فِی الأثناء بَعْدَ الإتیان بما هُوَ رکن بالهیئة الناقصة المُتأخِّرة مِنْ جلوس او اضطجاع أو استلقاء، هَذَا مَعَ أنَّ التکبیر للإحرام هُوَ جزء رُکنی فِی الابتداء عَلَی أیة حال.

ص:159


1- (1) وسائل الشیعة کتاب الصلاة أبواب القیام: ب 3/6.

ص:160

القاعدة الثامنة عشرة: التوسل عبادة توحیدیة

* هذهِ القاعدة من تقریرات درس الشیخ الأستاذ السند دام ظله، بقلم الأخ الشیخ محمد عیسی آل مکباس دام توفیقه.

ص:161

ص:162

القاعدة الثامنة عشرة: التوسل عبادة توحیدیة

توطئة:

الحمد للّه الذی یصطفی من عبادة ویجعلهم أبوابا لرحمة، ووسیلة الی رضوانه، وکلمات لمغفرة و التوبة الیه، واسماء یدعی بهم، وادلاء یتوجه بهم الیه، و بیوتا اذن ان ترفع یذکر فیها اسمه، وامر باتیانها من ابوابها.

ثم الصلاة و السلام علی شفیع الامة، وصاحب الوسیلة الذی امرنا بالمجیء الیه لیستغفر لنا ذنوبنا، و الذی تعرض علیه و علی أهل بیته علیهم السلام أعمالنا، (وَ قُلِ اعْمَلُوا فَسَیَرَی اللّهُ عَمَلَکُمْ وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ)1 .

کیف لا؟ و قد جعل الباری محبتهم و تولیهم سبیلاً و وسیلة الیه، فقال فی کتابه: (قُلْ لا أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبی)2 .

(قُلْ ما سَأَلْتُکُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَکُمْ)3 .

(قُلْ ما أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاّ مَنْ شاءَ أَنْ یَتَّخِذَ إِلی رَبِّهِ سَبِیلاً)4 .

ص:163

وبعد:

فان التوسل بالنبی صلی الله علیه و آله و أهل بیته علیهم السلام و التوجه بهم الی اللّه تعالی فی مقام التوجه الی اللّه تعالی هو من اعظم الأبواب العبادیة و القربات الزلفی، فقد فرض تعالی عند التوجه الیه تولیة الوجه شطر المسجد الحرام(وَ حَیْثُ ما کُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَکُمْ شَطْرَهُ)1 وقد بیّن تعالی الحکمة فی ذلک حیث قال: (وَ لِلّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ فَأَیْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ واسِعٌ عَلِیمٌ ( 115)2 وقال(سَیَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النّاسِ ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِی کانُوا عَلَیْها قُلْ لِلّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ یَهْدِی مَنْ یَشاءُ إِلی صِراطٍ مُسْتَقِیمٍ ( 142)3 .

ان تولیة الوجه شطره هو لجهة الاضافة الیه تعالی وبهذه الملاحظة فالتولیة للمشرق او المغرب هو قبلة للتوجه الیه تعالی، ومن المعلوم ان وجه اللّه الذی هو ثّم فی التولی للمشرق والمغرب لیس هو الوجه الجسمانی، تعالی اللّه عما یقوله الحشویة المجسمة، بل هو الآیة والعلامة التی تؤدی الیه تعالی، ولذلک فرّع علی استقبال القبلة من جهة انها لله الهدایة الی الصراط المستقیم، ومن هذه الآیات الکریمة یستفاد ان الهادی و السبیل الی الله تعالی هو مما یتوجه به الیه تعالی، وهو فرض عین فی اقامة الوجه للدین الحنیف، وقد وصف تعالی مودة أهل البیت وتولیهم بأنها سبیل الیه، فهم یتوجه بهم الیه تعالی، کما جاء فی زیارتهم علیهم السلام(ومن قصده - تعالی - توجه بکم).

ص:164

ویتبیّن بذلک ان التوجه بهم والتوسل بهم الیه تعالی فریضة من عظائم الفرائض العبادیة و الدینیة.

فالبحث فی هذا الباب لیس یقتصر علی المشروعیة و الرجحان بل یترقی الی بیان فریضیته و کبرویة هذه الفریضة، وقد قام البحاثة الأریب الدرائی المتتبع الفاضل الشیخ محمد عیسی آل مکباس بضبط ما ألقیناه من البحث حول ذلک بعبارة موجزة مقتضبة لیعم نفعه، کما هو المرجو من العلی القدیر، انه خیر معین ونصیر.

تقدیم:

ان احد أبواب عبادة الله تعالی - نظیر الصلاة و الصوم و الدعاء و الذکر و نحوها من أنواع وأجناس وأصناف العبادات - وهو التوسل إلیه تعالی بأصفیاءه وبالذین أخلصهم بقرباه.

فإن التوسل إلیه بهم، نحو زلفی و قربی إلیه تعالی، فإن المتوسل یعطف بزمام قلبه إلی وجه الله تعالی، وان کان(سَیَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النّاسِ ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِی کانُوا عَلَیْها قُلْ لِلّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ یَهْدِی مَنْ یَشاءُ إِلی صِراطٍ مُسْتَقِیمٍ ( 142) وَ کَذلِکَ جَعَلْناکُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَکُونُوا شُهَداءَ عَلَی النّاسِ وَ یَکُونَ الرَّسُولُ عَلَیْکُمْ شَهِیداً وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِی کُنْتَ عَلَیْها إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ یَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ یَنْقَلِبُ عَلی عَقِبَیْهِ وَ إِنْ کانَتْ لَکَبِیرَةً إِلاّ عَلَی الَّذِینَ هَدَی اللّهُ وَ ما کانَ اللّهُ لِیُضِیعَ إِیمانَکُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِیمٌ ( 143) قَدْ نَری تَقَلُّبَ وَجْهِکَ فِی السَّماءِ فَلَنُوَلِّیَنَّکَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَکَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَیْثُ ما کُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَکُمْ شَطْرَهُ)

ص:165

(وَ إِنَّ الَّذِینَ أُوتُوا الْکِتابَ لَیَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَ مَا اللّهُ بِغافِلٍ عَمّا یَعْمَلُونَ ( 144) وَ لَئِنْ أَتَیْتَ الَّذِینَ أُوتُوا الْکِتابَ بِکُلِّ آیَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَکَ وَ ما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَ ما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَکَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّکَ إِذاً لَمِنَ الظّالِمِینَ ( 145) اَلَّذِینَ آتَیْناهُمُ الْکِتابَ یَعْرِفُونَهُ کَما یَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَ إِنَّ فَرِیقاً مِنْهُمْ لَیَکْتُمُونَ الْحَقَّ وَ هُمْ یَعْلَمُونَ ( 146) اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّکَ فَلا تَکُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِینَ ( 147) وَ لِکُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّیها فَاسْتَبِقُوا الْخَیْراتِ أَیْنَ ما تَکُونُوا یَأْتِ بِکُمُ اللّهُ جَمِیعاً إِنَّ اللّهَ عَلی کُلِّ شَیْ ءٍ قَدِیرٌ ( 148)1 .

فإن القبلة لیست إلّا وسیلة للتوجه بها إلیه تعالی، (لَیْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَکُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ لکِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ الْیَوْمِ الْآخِرِ وَ الْمَلائِکَةِ وَ الْکِتابِ وَ النَّبِیِّینَ وَ آتَی الْمالَ عَلی حُبِّهِ ذَوِی الْقُرْبی وَ الْیَتامی وَ الْمَساکِینَ وَ ابْنَ السَّبِیلِ وَ السّائِلِینَ وَ فِی الرِّقابِ وَ أَقامَ الصَّلاةَ وَ آتَی الزَّکاةَ وَ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَ الصّابِرِینَ فِی الْبَأْساءِ وَ الضَّرّاءِ وَ حِینَ الْبَأْسِ أُولئِکَ الَّذِینَ صَدَقُوا وَ أُولئِکَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ( 177)2.)

(وَ لَیْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُیُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَ لکِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقی وَ أْتُوا الْبُیُوتَ مِنْ أَبْوابِها)3 .

ص:166

فالقبلة لیست هی المعبود و انما هی وجهة یتوجه بها إلیه تعالی، و من ذلک صار آدم صفی الله قبلة للملائکة و سجودهم لله تعالی فی قوله تعالی(وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِکَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ 1) ومن ذلک صارت بیوت موسی کلیم الله تعالی قبلة لبنی اسرائیل فی صلاتهم لله تعالی(وَ أَوْحَیْنا إِلی مُوسی وَ أَخِیهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِکُما بِمِصْرَ بُیُوتاً وَ اجْعَلُوا بُیُوتَکُمْ قِبْلَةً وَ أَقِیمُوا الصَّلاةَ وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِینَ ( 87)2 ومن ذلک قوله تعالی(إِذْ قالَ یُوسُفُ لِأَبِیهِ یا أَبَتِ إِنِّی رَأَیْتُ أَحَدَ عَشَرَ کَوْکَباً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ رَأَیْتُهُمْ لِی ساجِدِینَ ( 4)3 ، (فَلَمّا دَخَلُوا عَلی یُوسُفَ آوی إِلَیْهِ أَبَوَیْهِ وَ قالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللّهُ آمِنِینَ ( 99) وَ رَفَعَ أَبَوَیْهِ عَلَی الْعَرْشِ وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَ قالَ یا أَبَتِ هذا تَأْوِیلُ رُءْیایَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّی حَقًّا)4 .

(لَقَدْ کانَ فِی قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِی الْأَلْبابِ ما کانَ حَدِیثاً یُفْتَری وَ لکِنْ تَصْدِیقَ الَّذِی بَیْنَ یَدَیْهِ وَ تَفْصِیلَ کُلِّ شَیْ ءٍ وَ هُدیً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ یُؤْمِنُونَ ( 111)5 .

و قد روی النسائی و الترمذی فی حدیث الاعرابی ان النبی صلی الله علیه و آله علمه قول: یا محمد انی توجهت بک الی الله(1).

ص:167


1- (6) سنن الترمذی، کتاب الدعوات، باب 118، سنن ابن ماجه، کتاب اقامة الصلاة و السنة فیها، باب 189، حدیث 1385.

و روی الترمذی و ابن ماجة حدیث عثمان بن حنیف، ان رجلا ضریر البصر أتی النبی صلی الله علیه و آله فقال: ادع الله ان یعافینی، فقال النبی صلی الله علیه و آله:

إن شئت صبرت فهو خیر لک، و إن شئت دعوت، قال: فادعه، فأمره ان یتوضأ و یدعو بهذا الدعاء: اللهم انی اسألک و أتوجه الیک بنبیک محمد نبی الرحمة، یا محمد انی توجهت بک الی ربی فی حاجتی لیقضیها، اللهم شفعه فیّ. و رواه النسائی و صححه البیهقی، و زاد: فقام و قد أبصر(1).

ومن ذلک یتبین ان التوجه بالنبی صلی الله علیه و آله والاستشفاع به والاستعانة به الیه تعالی وتقدیمه بین یدی الحاجة الیه تعالی، وتوسیطه هی عناوین موازیة للتوسل به صلی الله علیه و آله الی الله تعالی، وقد قال تعالی: (یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ ابْتَغُوا إِلَیْهِ الْوَسِیلَةَ وَ جاهِدُوا فِی سَبِیلِهِ لَعَلَّکُمْ تُفْلِحُونَ ( 35)2 ، وقال تعالی: (وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ لِیُطاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُکَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّاباً رَحِیماً ( 64)3 .

فأمر بابتغاء الوسیلة الیه تعالی، وقد عیّن تلک الوسیلة وهی التوجه فی الاستغفار والتوبة والاوبة بالرسول صلی الله علیه و آله وان استغفار النبی صلی الله علیه و آله وتشفعه دخیل فی توبة الله تعالی علیهم و رحمته لهم.

ص:168


1- (1) سنن الترمذی، کتاب الدعوات، باب 119، حدیث 3578، سنن ابن ماجة، کتاب اقامة الصلاة، باب 189، حدیث 1385.

وقال تعالی: (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَکِّیهِمْ بِها وَ صَلِّ عَلَیْهِمْ إِنَّ صَلاتَکَ سَکَنٌ لَهُمْ وَ اللّهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ ( 103)1 ، فجعل دعاء النبی صلی الله علیه و آله لهم دخیل فی حصول السکینة و الایمان و الطهارة لهم، و قوله تعالی(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللّهُ وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِکَ وَ لِلْمُؤْمِنِینَ وَ الْمُؤْمِناتِ وَ اللّهُ یَعْلَمُ مُتَقَلَّبَکُمْ وَ مَثْواکُمْ ( 19)2 ، وهذا نظیر ما قاله تعالی فی قصة اخوة یوسف علیه السلام(قالُوا تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَکَ اللّهُ عَلَیْنا وَ إِنْ کُنّا لَخاطِئِینَ ( 91) قالَ لا تَثْرِیبَ عَلَیْکُمُ الْیَوْمَ یَغْفِرُ اللّهُ لَکُمْ وَ هُوَ أَرْحَمُ الرّاحِمِینَ ( 92)3 ، وقوله تعالی(قالُوا یا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنّا کُنّا خاطِئِینَ ( 97) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَکُمْ رَبِّی إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِیمُ ( 98)4 ، وقوله تعالی فی شأن قوم موسی علیه السلام(فَادْعُ لَنا رَبَّکَ یُخْرِجْ لَنا مِمّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ)5 ، وقوله تعالی فی شأن قوم فرعون مع النبی موسی علیه السلام(وَ لَمّا وَقَعَ عَلَیْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا یا مُوسَی ادْعُ لَنا رَبَّکَ بِما عَهِدَ عِنْدَکَ)6 ، و قوله تعالی فی شأن النبی عیسی علیه السلام(اسْمُهُ الْمَسِیحُ عِیسَی ابْنُ مَرْیَمَ وَجِیهاً فِی الدُّنْیا وَ الْآخِرَةِ)7 ، وقوله تعالی فی شأن النبی موسی علیه(یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا تَکُونُوا کَالَّذِینَ آذَوْا مُوسی فَبَرَّأَهُ اللّهُ مِمّا قالُوا وَ کانَ عِنْدَ اللّهِ وَجِیهاً ( 69)8 .

ص:169

والوجیه فی اللغة والمعنی هو ذو الحظوة والقرب مما یتوجه به الی الله تعالی ویتوسل به الیه.

وقال الله تعالی: (وَ لَسَوْفَ یُعْطِیکَ رَبُّکَ فَتَرْضی ( 5)1 ، المفسر بمقام الوسیلة و الشفاعة، کما فی الدعاء المأثور(اللهم رب هذه الدعوة التامة و الصلاة القائمة آت محمداً صلی الله علیه و آله الوسیلة والفضیلة وابعثه المقام المحمود الذی وعدته وارزقنی شفاعته یوم القیامة).

و من ذلک ینجلی ان الایمان بمقام الشفاعة له صلی الله علیه و آله یلازم الایمان بالتوسل، لان التوسل به صلی الله علیه و آله ینطوی علی تشفعه بقضاء الحاجة لدیه تعالی، فالاعتقاد بالشفاعة دلیل رجحان التوسل(وَ لا یَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضی)2 ، (لا یَمْلِکُونَ الشَّفاعَةَ إِلاّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً ( 87)3 ، فإذنه تعالی فی الشفاعة متطابق مع امره تعالی، (وَ ابْتَغُوا إِلَیْهِ الْوَسِیلَةَ)4 ، أی بالتوسل الیه تعالی بالوسائل الشافعة لدیه، فالتوسل و الاستشفاع به صلی الله علیه و آله الی الله هو دعاؤه تعالی، و الوسائل التی اذن تعالی ان یدعی بها هی أبواب لدعوته جلّ و علا، لا دعوة من دونه.

و روی الحاکم فی مستدرکه ان آدم لما اقترف الخطیئة قال: یا ربی اسألک بحق محمد صلی الله علیه و آله لما غفرت لی، فقال: یا آدم کیف عرفت؟

قال: لانک لما خلقتنی نظرت الی العرش فوجدت مکتوبا فیه لا إله إلّا الله

ص:170

محمد رسول الله، فرأیت اسمه مقرونا مع اسمک، فعرفته أحب الخلق الیک(1).

وروی البخاری، عن أنس ان عمر بن الخطاب کان اذا اقحط الناس استسقی بالعباس فقال: اللهم انا نتوسل الیک بنبیک فتسقینا، و انا نتوسل الیک بعم نبیک، و نستشفع الیک بشیبته، فسقوا(2).

و روی أحمد بن حنبل ان عائشة قال لها مسروق: سألتک بصاحب هذا القبر ما الذی سمعت من رسول الله؟ - یعنی فی حق الخوارج - قالت: سمعته یقول: انهم شر الخلق و الخلیقة، یقتلهم خیر الخلق و الخلیقة، و أقربهم عند الله وسیلة(3).

وروی فی کنز العمال عن علی علیه السلام ان یهودیا جاء الی النبی صلی الله علیه و آله فقام بین یدیه و جعل یحد النظر الیه، فقال: یا یهودی ما حاجتک؟ فقال: أنت أفضل أم موسی؟ فقال له: انه یکره للعبد ان یزکی نفسه، و لکن قال الله تعالی(وَ أَمّا بِنِعْمَةِ رَبِّکَ فَحَدِّثْ)،) ان آدم لما اصابته خطیئته التی تاب منها کانت توبته اللهم انی اسألک بمحمد وآل محمد لما غفرت لی، فغفر له(4). ویشیر صلی الله علیه و آله الی قوله تعالی(فَتَلَقّی آدَمُ مِنْ رَبِّهِ کَلِماتٍ فَتابَ عَلَیْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوّابُ الرَّحِیمُ)5 .

وقد اطلق القرآن الکلمة علی المقربین عنده تعالی کما فی قوله تعالی(إِنَّ

ص:171


1- (1) مستدرک الحاکم 615/2.
2- (2) صحیح البخاری، کتاب الاستسقاء، باب 3، کتاب فضائل النبی، باب 11.
3- (3) مسند أحمد بن حنبل 140/1، و رواه فی سنن الدارمی، کتاب الجهاد باب 39، و فی سنن ابن ماجة، المقدمة، باب 14، حدیث 170.
4- (4) کنز العمال 455/11.

اَللّهَ یُبَشِّرُکِ بِکَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِیحُ عِیسَی ابْنُ مَرْیَمَ)1 ، وقال تعالی(أَنَّ اللّهَ یُبَشِّرُکَ بِیَحْیی مُصَدِّقاً بِکَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ)2 .

و کیف لا یکون آل محمد صلی الله علیه و آله وسائل الدعاء الی الله تعالی و قد حباهم الله تعالی بالزلفی، و اجتباهم و حظاهم بأنعمه الخاصة، و جعلهم السبیل الیه تعالی، فقال(قُلْ لا أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبی)3 ، وقال: (قُلْ ما سَأَلْتُکُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَکُمْ)4 ، وقال:

(قُلْ ما أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاّ مَنْ شاءَ أَنْ یَتَّخِذَ إِلی رَبِّهِ سَبِیلاً)5 . فمودتهم سبیل الیه، و هم الوسیلة للتوجه الیه تعالی، و قد أبان قربهم الیه من بین الأمة و مزید عنایته بهم حیث قال: (إِنَّما یُرِیدُ اللّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَ یُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیراً)6 .

ثم لا یخفی ان التوسل و الاستشفاع بالمقربین الی الباری تعالی، هو من آداب الدعاء و التوجه الی الحضرة الالهیة، فاننا کما نتوجه بجسمنا فی الصلاة الی المسجد الحرام و الکعبة بقصد التوجه الحقیقی بقلوبنا الی الله تعالی، فلیست الکعبة إلّا وسیلة للتوجه الیه تعالی، و من شرائط عبادته تعالی، فهذا یفصح عن دور الوسیلة و الوسائل فی التوجه و الدعاء، مع ان الشأن اینما تولوا فثم وجه الله

ص:172

لکن ذلک لا ینفی خصیصة المسجد الحرام و الکعبة المشرفة، ألا تری ان الباری تعالی جعل آدم علیه السلام قبلة لسجود الملائکة مع کون السجود هو لله تعالی، و لم یقبل من ابلیس اللعین السجود لله تعالی من دون ان یتخذ آدم قبلة یتجه بها الیه تعالی، و کرر تعالی هذه الواقعة فی سبع سور قرآنیة، کل ذلک لاجل ان یبیّن تعالی ان من آداب عبادته تعالی و دعائه التوجه الیه بأولیائه المقربین، و ان هذا الأدب اللازم هو نمط من التعظیم لله تعالی، کما هو الشأن فی الکعبة المشرفة و البیت الحرام، فقد جعل تعالی لهما حرمة و تقدیس، و جعل حرمتهما و تعظیمهما من حرمته و تعظیمه، و قال تعالی: (وَ مَنْ یُعَظِّمْ شَعائِرَ اللّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَی الْقُلُوبِ)1 .

ولا یخفی علی الفطن اللبیب ان مقتضی قوله تعالی: (قُلْ لِلّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ یَهْدِی مَنْ یَشاءُ إِلی صِراطٍ مُسْتَقِیمٍ * وَ کَذلِکَ جَعَلْناکُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَکُونُوا شُهَداءَ عَلَی النّاسِ وَ یَکُونَ الرَّسُولُ عَلَیْکُمْ شَهِیداً وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِی کُنْتَ عَلَیْها إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ یَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ یَنْقَلِبُ عَلی عَقِبَیْهِ وَ إِنْ کانَتْ لَکَبِیرَةً إِلاّ عَلَی الَّذِینَ هَدَی اللّهُ وَ ما کانَ اللّهُ لِیُضِیعَ إِیمانَکُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِیمٌ * قَدْ نَری تَقَلُّبَ وَجْهِکَ فِی السَّماءِ فَلَنُوَلِّیَنَّکَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَکَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَیْثُ ما کُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَکُمْ شَطْرَهُ وَ إِنَّ الَّذِینَ أُوتُوا الْکِتابَ لَیَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَ مَا اللّهُ بِغافِلٍ عَمّا یَعْمَلُونَ * وَ لَئِنْ أَتَیْتَ الَّذِینَ أُوتُوا الْکِتابَ بِکُلِّ آیَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَکَ وَ ما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَ ما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَکَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّکَ إِذاً لَمِنَ الظّالِمِینَ * اَلَّذِینَ آتَیْناهُمُ الْکِتابَ)

ص:173

(یَعْرِفُونَهُ کَما یَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَ إِنَّ فَرِیقاً مِنْهُمْ لَیَکْتُمُونَ الْحَقَّ وَ هُمْ یَعْلَمُونَ * اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّکَ فَلا تَکُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِینَ * وَ لِکُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّیها)1 .

و قوله تعالی((وَ لِلّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ فَأَیْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ واسِعٌ عَلِیمٌ) )(1).

ان فعله تعالی و خلقته وجها و آیة له تعالی، فان مخلوقیة ما فی الشرق و ما فی الغرب، أی ما فی الکون أجمع آیات تتجه بالمتدبر فیها الی الله تعالی، فهی وجه له تعالی، و القبلة ما یقابل عند الاتجاه، و تولیة الوجه جهة القبلة المقابلة بما هی رمز لوجهه تعالی، فکأنا نستقبل بتولیة وجوهنا تجاه القبلة وجهه تعالی، اذ الاستقبال و المقابلة انما تحصل بتوجه المستقبل - بالکسر - بوجهه تجاه وجه المستقبل - بالفتح - فآیاته الکبری سبحانه وجه له تعالی، و کذلک کلماته التامات هی آیاته، و هی وجهة له تعالی یتجه بها الیه کما مران النبی عیسی علیه السلام کلمته و آیته(إِذْ قالَتِ الْمَلائِکَةُ یا مَرْیَمُ إِنَّ اللّهَ یُبَشِّرُکِ بِکَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِیحُ عِیسَی ابْنُ مَرْیَمَ وَجِیهاً فِی الدُّنْیا وَ الْآخِرَةِ وَ مِنَ الْمُقَرَّبِینَ)3 ، کما وصف بذلک النبی موسی علیه السلام(یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا تَکُونُوا کَالَّذِینَ آذَوْا مُوسی فَبَرَّأَهُ اللّهُ مِمّا قالُوا وَ کانَ عِنْدَ اللّهِ وَجِیهاً)4 . فوجهه تعالی لیس ما یذهب الیه المجسمة الزائغة عن التوحید من اثبات الجسم و الاعضاء، تعالی الله عن ما یقوله الظالمون علوا کبیرا، بل هو آیات خلقته التامة الدلالة علی عظمته و کماله.

ص:174


1- (2) البقرة/ 115.

وان التوجه الی أشرف مخلوقاته هو تولیة لشطر الوجه نحو وجهه الکریم، و فی روایة الصدوق فی أمالیه فی قصة الشاب النباش للقبور حیث کان یبکی علی شبابه بکاء الثکلی علی ولدها واقفا علی باب رسول الله صلی الله علیه و آله، فادخل فسلم فرد صلی الله علیه و آله، ثم قال: ما یبکیک یا شاب؟ قال: کیف لا ابکی و قد رکبت ذنوبا ان اخذنی الله عز و جل ببعضها ادخلنی نار جهنم و لا ارانی إلّا سیأخذنی بها، و لا یغفر لی أبدا، فاخذ رسول الله صلی الله علیه و آله یسائله عن نوع معصیته هل هی الشرک او قتل النفس او غیرها، الی ان أقر الشاب بجنایته، فتنفر نبی الرحمة من فظاعة جرمه، فذهب الشاب الی جبال المدینة و تعبد فیها، و لبس المسوخ، و غلّ یدیه جمیعا الی عنقه ونادی: یا رب، هذا عبدک بهلول بین یدیک مغلول، یا رب، أنت الذی تعرفنی، و زل منی ما تعلم یا سیدی، یا رب، انی أصبحت من النادمین، وأتیت نبیک تائبا فطردنی وزادنی خوفا، فأسألک باسمک و جلالک وعظمة سلطانک ان لا تخیب رجائی سیدی، ولا تبطل دعائی، ولا تقنطنی من رحمتک، فلم یزل یقول ذلک أربعون یوما ولیلة، و تبکی له السباع والوحوش، فأنزل الله تبارک وتعالی علی نبیه صلی الله علیه و آله آیة فی توبته(وَ الَّذِینَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَکَرُوا اللّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَ مَنْ یَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ)1 ، یقول عز وجل:

أتاک عبدی یا محمد تائبا فطردته فأین یذهب و الی من یقصد، و من یسأل ان یغفر له ذنبا غیری، ثم قال عز و جل: (وَ لَمْ یُصِرُّوا عَلی ما فَعَلُوا وَ هُمْ یَعْلَمُونَ * أُولئِکَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ جَنّاتٌ تَجْرِی مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِینَ فِیها وَ نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِینَ)2 .

ص:175

فجعل الباری الاتیان الی نبیه و قصده اتیان الی بابه تعالی و قصد الیه، و من ثم قال تعالی فی آیة اخری: (وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُکَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّاباً رَحِیماً)1 .

اللهم انا نسألک و نتوجه الیک بنبیک نبی الرحمة، و امام الهدی، و آله المطهرین الذین اذهبت عنهم الرجس، و افترضت علینا مودتهم فی کتابک، صلواتک علیه و آله، یا رسول الله، یا رسول الله، انا توجهنا و استشفعنا بکم الی الله، فاشفعوا لنا عند الله، فانکم وسیلتنا الی الله، و بحبکم نرجو النجاة، فکونوا عند الله رجانا.

شبهة و إثارة:

هناک إثارة من قبل بعض أتباع أحد المذاهب الإسلامیة، حول مسألة التوسل بالأولیاء، سواء کان التوسل بالنبی صلی الله علیه و آله أو بأهل البیت علیهم السلام، وهم الخمسة من أصحاب الکساء، من قبیل ما یقال فی دعاء الفرج: یا محمد یا علی، یا علی یا محمد، اکفیانی فانکما کافیان، و انصرانی فانکما ناصران.

و أصحاب هذه الاثارة یعتبرون التوجه و التوسل بالاولیاء أیا کانوا حتی و لو کان رسول الله صلی الله علیه و آله شرکا فی العبادة، و یستدلون بعدة وجوه علی هذا المدعی لاثبات دعواهم.

أدلة القائلین بعدم جواز التوسل بغیر الله تعالی:

أولاً: ان الدعاء عبارة عن النداء، و طلب الحاجة عبادة، و هی لا تجوز لغیر

ص:176

الله تعالی کائنا من کان، نبیا کان أو ولیّا أو ملکا، و الدعاء هو فی حد ذاته عبادة، فیکون دعاء غیر الله عز و جل عبادة لذلک الشخص المدعو.

و الدعاء کما ورد فی الاحادیث هو مخ العبادة و روح العبادة، فالعبادات بمنزلة الجسد، و الدعاء بمثابة الروح و الجوهر، فکیف یسوغ توجیه الدعاء الی غیره تعالی، و کذلک الحال فی الاستغاثة و التوسل بغیره تعالی و الاستنصار بأحد من المخلوقین و الاستعانة به نبیا کان أو ولیا أو ملکا أو جنیا أو صنما أو غیر ذلک من المخلوقات، و کذلک الحال فی السؤال و الالتماس، و بالتالی اذا وجّه الانسان الدعاء و أراد به غیر الله سبحانه و تعالی یکون ذلک نوع شرک فی العبادة، و یعبر عنه بالشرک الصریح أو الشرک الاکبر(1).

ثانیا: ان مقتضی قول(لا إله إلّا الله) هو التوحید فی العبادة، فاذا دعی غیر الله عز و جل کان هذا نوع عبادة و تألیه لغیر الله عز و جل، و فی توضیحه بلحاظ الفقرة الاولی و الثانیة نقول:

اختلف المفسرون و المتکلمون فی معنی(لا إله إلّا الله) هل مؤداها توحید الذات، أو توحید الصفات و الاسماء، أو توحید الافعال، أو توحید العبادة، و

ص:177


1- (1) المقصود من الشرک الاکبر أو الشرک الصریح هو الذی یوجب ردة عن الدین، أما الشرک الاصغر أو الشرک غیر الصریح هو الذی لا یوجب ردة، و هو قلما ینجو منه أحد إلا المخلصین الموحدین، و الشرک الصریح یوجب ردة، لانه مناف لمقررات الدین الاسلامی و ثوابته و اولیاته، و الاذعان و الاقرار بما هو مناف صراحة لاولیات الدین - الاسلامی هو نوع انشاء فسخ، و خروج عن عهود و مواثیق الشهادتین، لان الشهادة بالشهادتین أو بالشهادة الثالثة لحصول الایمان، کما هو عند الامامیة یلزم منه الالتزام بعدة مواثیق و عهود، فلو أنشأ الشهادات الثلاث و التزم بما هو مناف لهم صریحا، فانه یخرج عن العهد و المیثاق الذی التزم به، أما عدم ایجاب الشرک الاصغر ردة، لان المتکلم لا یعی تناقضه مع الشهادتین، و لا یکن ظاهرا عرفا فی الفسخ.

هذا الاختلاف ناشی من معنی الالوهیة و من معنی لفظة الله، حیث ان الله او اسم الجلالة هل هو اسم علم للذات؟ أو اسم مشتق من التألیه؟ فإن کان مشتقا من التألیه فهو باق علی المعنی الوصفی، و یکون المعنیان متحدین أو متقاربین أما ان کان فی الاصل علما للذات فیکون الله بالمعنی الاول خلاف المعنی الآخر.

معنی الإله فی اللغة:

إله و أصله من أله یأله، أذا تحیر، یرید اذا وقع العبد فی عظمة الله تعالی و جلاله و غیر ذلک من صفات الربوبیة(1) ، أو وله یأله، و هو عبارة عن الوله و التوجه نحو الشی، و قال بعض: و له یأله بمعنی عبد یعبد، و قال آخرون: و له یأله، أی اتخذه ربا و خالقا.

فمفاد(لا إله إلّا الله) توجیه و ترکیز العبادة لله سبحانه و تعالی، فاذا توسل أو توجه لغیر الله سبحانه و تعالی کان ذلک شرک عبادة.

ثالثاً: الاستناد الی آیات عدیدة وردت فی القرآن الکریم تنص علی ان التوسل و القصد لا یکون إلّا لله عز و جل و بدون أی وسائط حسب مدعاهم منها:

1 - (وَ لِلّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنی فَادْعُوهُ بِها وَ ذَرُوا الَّذِینَ یُلْحِدُونَ فِی أَسْمائِهِ سَیُجْزَوْنَ ما کانُوا یَعْمَلُونَ)2 فقوله(فَادْعُوهُ بِها) أی أنه فی مقام الدعاء و التوجه لا یدعو الانسان إلّا باسماء الله، (وَ ذَرُوا الَّذِینَ یُلْحِدُونَ فِی أَسْمائِهِ) أی ینحرفون عن أسمائه حیث یذکرون اسماء غیره، مثل یا محمد و یا

ص:178


1- (1) النهایة لابن الاثیر 62/1، مادة (أله).

علی و ما شابه ذلک.

2 - (وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَداً)1 .

3 - (وَ لا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا یَنْفَعُکَ وَ لا یَضُرُّکَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّکَ إِذاً مِنَ الظّالِمِینَ)2 .

4 - (ذلِکَ بِأَنَّ اللّهَ هُوَ الْحَقُّ وَ أَنَّ ما یَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَ أَنَّ اللّهَ هُوَ الْعَلِیُّ الْکَبِیرُ)3 .

5 - (قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّی وَ لا أُشْرِکُ بِهِ أَحَداً)4 .

6 - (وَ مَا النَّصْرُ إِلاّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ الْعَزِیزِ الْحَکِیمِ)5 .

7 - (إِنْ یَنْصُرْکُمُ اللّهُ فَلا غالِبَ لَکُمْ وَ إِنْ یَخْذُلْکُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِی یَنْصُرُکُمْ مِنْ بَعْدِهِ)6 .

8 - (وَ یَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا یَضُرُّهُمْ وَ لا یَنْفَعُهُمْ وَ یَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللّهِ)7 .

9 - (وَ الَّذِینَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِیاءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِیُقَرِّبُونا إِلَی اللّهِ

ص:179

زُلْفی)1 .

فیعلم من هذه الآیات ان التوحید فی العبادة و الدعاء و الاستغاثة هو اصل الدین و أساس الملة، و صحة العبادة مشروطة بصحة العقیدة کما قال الله تعالی(وَ لَقَدْ أُوحِیَ إِلَیْکَ وَ إِلَی الَّذِینَ مِنْ قَبْلِکَ لَئِنْ أَشْرَکْتَ لَیَحْبَطَنَّ عَمَلُکَ وَ لَتَکُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِینَ) ، وقال تعالی(وَ لَوْ أَشْرَکُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما کانُوا یَعْمَلُونَ) ، فجعل صحة العقیدة بالتوحید شرطا فی صحة و قبول العبادات.

رابعا: توجیه قوله تعالی(وَ ابْتَغُوا إِلَیْهِ الْوَسِیلَةَ)2 ، بأن المراد بالوسیلة فی الآیة الطاعات و القربات، و الاعمال الصالحة التی یتقرب بها العبد الی الباری تعالی.

خامسا: ما ورد فی الحدیث أن ابراهیم حین القی فی النار أتاه جبرئیل فقال له: هل لک إلیّ من حاجة؟ فقال إبراهیم: أما الیک فلا، و أما الی رب العالمین فنعم(1).

فیستفاد من الحدیث ان ابراهیم علیه السلام یعطینا درسا بأن عرض الحاجة لا یکون إلّا لله سبحانه و تعالی.

هذه مجموعة من الادلة التی استدلوا بها علی عدم جواز التوسل بغیر الله، و قبل الجواب عنها نقدم و نبین مقولة علی عکس مدعاهم

فنقول:

ص:180


1- (3) تفسیر القمی 73/2.

إن نفی هذه الوسائط و الوسائل فی حال التوسل بالله عز وجل هو الشرک بذاته، و ان التوسل و التشفع بهذه الوسائط لقضاء الحوائج هو التوحید بعینه.

و توضیح ذلک: هو أن هذه الوسائل و الوسائط اذا کانت مجعولة و منصوبة من قبل الله عز و جل فالتوسل و التوجه بها هو التوحید التام، أما اذا لم تکن مجعولة من قبل الله فالتوسل بها یکون شرکا.

وجه ان من الوسائط ما هو مأمور بها من قبل الله عزّ و جل:

و وجه هذه الدعوی بکلا شقیها ان نصب الوسائط و الابواب ان کان من قبل المخلوقین فهو یعد تصرفا فی ارادة الرب، فمن ثم یکون شرکا، و لذلک کان الانکار علی عبدة الاوثان من قبل الله عبر رسله، لانهم هم الذین جعلوا واقترحوا لانفسهم وسائط من دون نصب الله عز وجل لتلک الوسائط والوسائل، فالله تعالی فی انکاره علی عبدة الاصنام والاوثان لم ینکر علیهم أصل فکرة التوسیط، بل انکر الوسائط المقترحة والمجعولة من قبلهم والتی تجاوزا فیها ارادة الرب، ویدل علی هذا الامر - وهو عدم انکار اصل الوساطة بل انکار خصوص الوسائط المقترحة من دون الله عز وجل وان محط الانکار هو اشراک سلطان العبید مع سلطان الله تعالی - طوائف من الآیات المبارکة:

الطائفة الأولی: ما کان بلسان استنکار الاسماء المقترحة من قبل العبید و هوی انفسهم.

1 - (أَ تُجادِلُونَنِی فِی أَسْماءٍ سَمَّیْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُکُمْ ما نَزَّلَ اللّهُ بِها

ص:181

مِنْ سُلْطانٍ)1 .

وقد تقرر فی علم أصول الفقه ان النهی أو النفی اذا ورد علی طبیعة مقیدة فانما یقع علی القید لا ذات المقید، کقولک لا رجل طویل فی الدار، فانه ینفی فی المثال المذکور الصنف و القید و هو الرجل الطویل، لا ذات الطبیعة المقیدة و هو عموم الرجل.

وفی مجال البحث فی الآیة فانها لم تنف أصل الوسائط و الوسائل، و انما نفت الوسائط و الاسماء المقترحة من قبل انفسهم و آبائهم و التی ما انزل الله بها من سلطان، فمصب الانکار کونها من غیر اذن و سلطان الهی، أی کونها مقترحة من قبلهم وإلّا فلو کان أصل الوساطة و التوسیط أمر مستنکر فلا معنی لتقییده بقوله تعالی(ما أَنْزَلَ اللّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) .

2 - (إِنْ هِیَ إِلاّ أَسْماءٌ سَمَّیْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُکُمْ ما أَنْزَلَ اللّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ یَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ ما تَهْوَی)2 .

الطائفة الثانیة: ما کان بلسان تحقق الاشراک بغیر الله من الوسائط بسبب أنه لیس من قبل سلطان الله و ارادته و حکمه.

1 - (سَنُلْقِی فِی قُلُوبِ الَّذِینَ کَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَکُوا بِاللّهِ ما لَمْ یُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَ مَأْواهُمُ النّارُ وَ بِئْسَ مَثْوَی الظّالِمِینَ)3 .

2 - (وَ کَیْفَ أَخافُ ما أَشْرَکْتُمْ وَ لا تَخافُونَ أَنَّکُمْ أَشْرَکْتُمْ بِاللّهِ ما لَمْ)

ص:182

(یُنَزِّلْ بِهِ عَلَیْکُمْ سُلْطاناً)1 .

3 - (وَ أَنْ تُشْرِکُوا بِاللّهِ ما لَمْ یُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً)2 .

الطائفة الثالثة: ان التوسل بالوسائط والشفعاء بغیر سلطان الله واذنه یوجب عبادة من هو دونه.

1 - (وَ یَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لَمْ یُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَ ما لَیْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ)3 .

2 - (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاّ أَسْماءً سَمَّیْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُکُمْ ما أَنْزَلَ اللّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُکْمُ إِلاّ لِلّهِ)4 .

الطائفة الرابعة: ان أخذ التشریع من غیره تعالی شرک فی التشریع و الدیانة ان کان من دون اذنه.

1 - (أَمْ لَهُمْ شُرَکاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّینِ ما لَمْ یَأْذَنْ بِهِ اللّهُ)5 .

2 - (قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَکُمْ أَمْ عَلَی اللّهِ تَفْتَرُونَ)6 .

فمصب الانکار علی الوثنیة و المشرکین لیس فکرة الوساطة و التوسیط بل هی تصرفهم من قبل انفسهم بوضع وسائط و اقتراحها بما لم ینزل اللّه بها من

ص:183

سلطان ولم یأذن بها، فشرکهم بمنازعة سلطانهم لسلطان الله تعالی، وهذه الطوائف من الآیات مفسرة لکل آیات الانکار علی المشرکین و الوثنیین عبدة الاصنام و غیرهم، و أین هذا المعنی من المعنی الذی یتوخاه أصحاب الاثارة و المقالة المذکورة من انکار أصل التوسیط و الوساطة.

أما بالنسبة الی الکلام حول الطوائف الاربع: فنری فی لسان الطائفة الاولی ان مصب التخطئة للوثنیین انما هو لکون الاسماء التی یدعون بها هی أسماء من وضع أنفسهم و اقتراح منهم علی الله ما نزل الله بها من سلطان و لا اذن لهم فیها.

فمدار التخطئة علی تحکیم سلطانهم و ارادتهم علی سلطان الله و ارادته لا علی توسیط الاسماء بینهم و بین الباری عز و جل.

و أما مفاد الطائفة الثانیة فإن سبب الوقوع فی الاشراک لیس فی توسلهم بالوسائط بل فی کون تلک الوسائط لم ینصبها الله عز و جل لهم.

فالاشراک انما تحقق لتشریکهم ارادتهم مع ارادة الباری عز و جل، حیث لم یجعلوا ارادتهم منقادة لارادة الله عز و جل.

و بالتالی فلا یکون خضوعهم لتلک الوسائط خضوعا لله عز و جل بل خضوعا لهوی انفسهم.

و مفاد الطائفة الثالثة ان الموجب لتحقق عبادة من هو دون الله عز و جل هو ان الخضوع لمن هو دون الله عز و جل من دون امر الله و من دون العلم بکرامته عند الله و وجاهته عنده لا یکون طاعة و لا خضوعا لله تعالی.

و بالتالی لا یکون عبادة لله تعالی بل عبادة للاغیار، و ذلک لان الخضوع

ص:184

للغیر اذا کان بأمر الله عز و جل یکون فی الحقیقة خضوعا لله و طاعة له، و الغیر ما هو إلّا وسیلة لتحقق الطاعة و العبادة، بخلاف ما اذا لم یکن فی البین أمر منه تعالی.

و مفاد الطائفة الرابعة فی صدد بیان الشرک فی التشریع و انه ایضا هو الآخر انما یتحقق بسبب عدم اذنه تعالی لاستقاء التشریع من تلک الوسائط.

فالمتحصل ان هذه الطوائف الاربع مفسرة لکل الآیات المبطلة لعقیدة الثنویة و الاصنام، و ان جهة الزیغ و الانحراف فیها لیست من جهة أصل فکرة الوسائط و الوسائل والاحتیاج الیها بل من جهة کونها بارادة العبید وتحکیمها علی ارادة الرب و سلطانه.

مفهوم العبادة:

ذکر للعبادة فی اللغة عدة معان منها:

1 - مملوکیة المنفعة، کقوله تعالی(عَبْداً مَمْلُوکاً لا یَقْدِرُ عَلی شَیْ ءٍ)1 ، و قوله تعالی(وَ لَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَیْرٌ مِنْ مُشْرِکٍ وَ لَوْ أَعْجَبَکُمْ)2 .

2 - سیادة الطاعة، وان لم تکن اصالة للمطاع، کقوله تعالی(أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَیْکُمْ یا بَنِی آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّیْطانَ إِنَّهُ لَکُمْ عَدُوٌّ مُبِینٌ)3 .

3 - الطاعة والخضوع لمعبود علی وجه التقدیس، علی وجه انه غنی بالذات

ص:185

و مصدر کل النعم و الکمالات، و المستحق بالذات و بالاصالة لذلک، و هو المعنی الاهم من بین تلک المعانی.

فیکون الکلام فی حقیقة العبادة حینئذ عینه الکلام المتقدم حیث ان الوسائط اذا کانت من جعل الباری تکون العبادة للباری باعتبار أمره، وذلک من قبیل سجود الملائکة لآدم علیه السلام، حیث کانت العبادة هنا المتحققة بالسجود لآدم علیه السلام هی فی الحقیقة احترام وتعظیم لآدم علیه السلام ولکنها عبادة لله عز وجل باعتبار الامتثال لامره تعالی.

قصة آدم علیه السلام مع إبلیس:

و قد شرح هذه القصة أمیر المؤمنین علیه السلام فی نهج البلاغة فی الخطبة القاصعة، و فی القصة مجموعة من المحاور الهامة إلّا أننا سوف نستعرض منها مسألة سجود الملائکة لآدم علیه السلام.

و فی البدایة نقول: ان القصة قد ذکرت فی عدة سور قرآنیة منها:

1 - (إِذْ قالَ رَبُّکَ لِلْمَلائِکَةِ إِنِّی خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِینٍ * فَإِذا سَوَّیْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِیهِ مِنْ رُوحِی فَقَعُوا لَهُ ساجِدِینَ)1 .

2 - (وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِکَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِیسَ أَبی وَ اسْتَکْبَرَ وَ کانَ مِنَ الْکافِرِینَ)2 .

فعلی ضوء کلام اصحاب الاثارة یکون امتناع ابلیس من السجود لآدم علیه السلام

ص:186

عین التوحید، و سجود الملائکة لآدم علیه السلام عین الکفر و الشرک.

مع ان الامر علی خلاف ذلک حیث اصبح الملائکة فی غایة من القرب من الله عز وجل لامتثالهم لامر الله من خلال سجودهم لآدم علیه السلام، سواء فسر السجود بمعنی جعل آدم قبلة أو بمعنی الاحترام و التعظیم والانقیاد لآدم علیه السلام، واصبح ابلیس فی غایة البعد من الله عز وجل واستحق الطرد من رحمة الله لاستکباره علی طاعة الامر الالهی، لانه اراد ان یحکم ارادته علی ارادة الخالق عز و جل.

ففی الحدیث القدسی: قال ابلیس لله عز و جل: اعفنی من السجود لآدم و اعبدک عبادة لم یعبدک بها احد قبلی و لا یعبدک بها احد بعدی، فقال الله له: لا حاجة لی فی عبادتک، فانی ارید ان اعبد من حیث ارید لا من حیث ترید.

فإذا حقیقة العبادة الامتثال للامر الالهی و الطواعیة و الاذعان، و لیس المدار فی العبادة هو الشکلیة فی هیئة و طقوس العبادة، بل المدار فی العبادة و صحتها و التوحید فیها هو کمال الاستسلام لارادة الباری عز و جل و امتثال امره کما قرر ذلک علماء الکلام و أصول الفقه.

و ههنا یطرح تساؤل و هو ما الفرق فی التوجه لاحجار الکعبة و التوجه للاصنام؟

و یتضح الفرق فی هذا الامر و لیس فی وجود الواسطة و عدمها، إذ فی کلا الموردین الوساطة متحققة، بل فی وجود الامر الالهی وعدمه، حیث یکون التوجه الی احجار الکعبة عبادة بلحاظ الامر الالهی، والتوجه الی احجار الاصنام

ص:187

شرک و عصیان بلحاظ النهی الالهی.

و هنا یطرح سؤال ایضا و هو قد قلتم ان المدار فی العبادة لیس علی وجود الوساطة بل المدار علی وجود الامر و عدمه، فهل یعقل ان یأمر الله عز وجل بأن یعبد غیره؟

و کأن المستشکل یرید ان یجعل الضابطة لیس علی الامر بل علی اسناد الفعل و اضافته و الموجه الیه، و اذا کان کذلک فکیف یأمر بعبادة غیره، و هو ممتنع.

والجواب: ان المدار فی العبادة علی الامر لا غیر کما اسلفنا سابقا، و ان الذی یحقق اضافة العبادة الی الله عز و جل او الی غیره هو نفس الامر.

وتوضیحه: ان المدار فی العبادة لیس علی ایجاد الهیئة و الشکل غیر ملابسة و غیر متصلة بشی و غیر متعلقة و غیر متجهة بشیء، بل جوهر العبادة الخضوع و الاستسلام، فنلاحظ مثلا ان الله یأمر بطاعته و الخضوع له لکن باب التوجه له مثلا الکعبة، أو ایجاد السجود الی آدم علیه السلام.

نفی الوسائط یؤول الی التجسیم:

و هنا مسألة یجدر الاشارة الیها و هی ان القول بنفی الوسائط یؤول الی القول بالتجسیم حیث ان الباری لیس بجسم، فلا یقابل و لا یحاذی و لا یجابه و لا یجسّم بل لا بد من وسائط اخری، و هذا منتف، أو القول بأن الکل أنبیاء سواء فی النشأة السابقة أو النشآت اللاحقة، و هذا منتف ایضا، و الخیار الثالث هو تعطیل الباری عن تدبیر شؤون خلقه، و هذا منتف ایضا، فلا یبقی إلّا القول

ص:188

بالوسائط، و هو وجود الخلیفة فی الارض انطلاقا من قوله(إِنِّی جاعِلٌ فِی الْأَرْضِ خَلِیفَةً)،) و الخلیفة أعم من النبی و الرسول، و وظیفة الخلیفة الوساطة فی تدبیر شؤون العباد، و حیث لا تعطیل کما ذکر و لا تشبیه فلا یبقی إلّا القول بالتنبأ - نبوة کل فرد - و هو باطل، أو الصیرورة الی القول بالوسائط، و هو المطلوب، حیث انتفت جمیع تلک الوجوه.

و هنا نقطة مهمة لا بد من الاشارة الیها و هی المضمنة فی الدعاء المأثور و هو(اللهم عرفنی نفسک فانک ان لم تعرفنی نفسک لم اعرف رسولک، اللهم عرفنی رسولک فانک ان لم تعرفنی رسولک لم اعرف حجتک، اللهم عرفنی حجتک فانک ان لم تعرفنی حجتک ضللت عن دینی).

و مضمون هذا الدعاء ان منظومة المعارف تصح و تکون صائبة بصحة و حقانیة معرفة الانسان بربه، و ان الخلل الناشی فی معرفة الرسول منبعه الخلل فی معرفة الله عز و جل، کما ان الخلل فی معرفة الامام أو الحجة منشأه الخلل فی معرفة الرسول، و الجهل بمعرفة الرسول بالتالی ناشی عن الخلل فی معرفة الله عز و جل.

و یؤید هذا مجموعة من الآیات منها:

1 - (وَ ما قَدَرُوا اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللّهُ عَلی بَشَرٍ مِنْ شَیْ ءٍ)1 . ان هذا الانکار بالرسل ناشی من جهلهم بقدر الباری وعظیم حکمته وتدبیره، وهو ناشی من خلل المعرفة لدیهم فی افعال الباری.

ص:189

2 - (وَ ما کانَ لِبَشَرٍ أَنْ یُکَلِّمَهُ اللّهُ إِلاّ وَحْیاً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ یُرْسِلَ رَسُولاً فَیُوحِیَ بِإِذْنِهِ ما یَشاءُ إِنَّهُ عَلِیٌّ حَکِیمٌ)1 .

أی علیّ عن التجسیم، و حکیم فی فعله أی لا تعطیل لقدرته سبحانه، فعلی ضوء نفی التجسیم یکون وجه الله لیس الوجه الجسمانی، بل هو الآیة المخلوقة التی تکون من اکبر الآیات التی اذا توجه الانسان الیها أو بها صار متوجها الی الله عز و جل.

فاذا الوسیلة و الوساطة امر برهانی ضروری فی کل النشآت، فالقول بعدم الوساطة یلزم منه اما القول بالتجسیم او القول بالتنبأ او القول بالتعطیل، بخلاف القائل بالوسائط المنصوبة من قبله تعالی، فلا یلزمه أی محذور من هذه المحاذیر.

و هذا النظر و الاعتقاد الحق مما امتاز به مذهب اهل البیت علیهم السّلام.

و النقطة الاخری التی ینبغی ان نشیر الیها ان التوسل والشفاعة والتوسط والوسیلة تحمل عدم المحوریة الذاتیة للشفیع والوسیط، أی لیس للوسیط والشفیع و الوسیلة الاستقلالیة عن الله عز و جل.

فلذلک نری ان الوسائط التی اتخذت من دون الله عز و جل أخفقت فی وساطتها و وجاهتها لانها استقلت عن سلطان الله و ارادته و اذنه.

و الغریب من اصحاب هذه المقالة القول بأن الشفاعة و التشفع بالنبی صلی الله علیه و آله فی الآخرة لیس بشرک، و کذلک التشفع بالنبی صلی الله علیه و آله حال حیاته لیس بشرک، أما التشفع به صلی الله علیه و آله حال موته فهو الشرک.

ص:190

فیرد علیهم السؤال التالی: ان منطقة الشرک من أین نتجت فی هذا الکلام، هل من حد المعنی أو من الحد التعبدی، أو من خلال المعنی العقلی؟

فاذا کان المعنی عقلیا فالغیریة اذا أوجبت الشرک فانها توجبه فی کل نشأة سواء نشأة الدنیا او الآخرة، و اذا لم توجب الغیریة الشرک لجهة الوساطة، فما الفرق بین انواع التشفع فی الدنیا و الآخرة أو حال الموت أو الحیاة؟!

الرد علی أدلة المانعین من التوسل:

بعد هذه النقاط التی جعلناها کمقدمة للجواب نجیب علی أدلتهم التی جعلوها مانعة من الشفاعة و الوسیلة، فنقول:

الرد علی الدلیل الأول: انه ینقض علی هذا الدلیل بطلب الانسان الحی الحاجة من الحی، مثل طلب العلاج من الطبیب، و البناء من البنّاء، و من الزراع اصلاح الزراعة، و غیر ذلک.

و قد أتفق المسلمون علی ان هذا الطلب فی تعاملات البشر لا یوجب کفرا و لا شرکا.

وقد أجابوا علی هذا النقض بأمرین:

الأول: بأن سؤال الحی الحاضر بما یقدر علیه و الاستعانة به فی الامور الحسیة التی یقدر علیها لیس ذلک من الشرک بل من الامور الاعتیادیة الحیاتیة.

الثانی: ان الامور العادیة والاسباب الحسیة التی یقدر علیها المخلوق الحی الحاضر لیست من العبادة بل تجوز بالنص والاجماع، بأن یستعین الانسان بالانسان

ص:191

الحی القادر فی الامور العادیة التی یقدر علیها، کأن یستعین به أو یستغیث به فی دفع شر کولده أو خادمه أو کلبه و ما اشبه ذلک، و کأن یستعین الانسان بالانسان الحی الحاضر القادر أو الغائب بواسطة الاسباب الحسیة، کالمکاتبة و نحوها فی بناء بیته أو اصلاح سیارته، و ما أشبه ذلک، و من ذلک الاستغاثة التی جرت لاحد بنی اسرائیل عندما استغاث بموسی علیه السلام فی قوله تعالی(فَاسْتَغاثَهُ الَّذِی مِنْ شِیعَتِهِ عَلَی الَّذِی مِنْ عَدُوِّهِ)1 . و استغاثة الانسان باصحابه فی الجهاد او الحرب و نحو ذلک.

و أما الاستغاثة بالاموات و الجن و الملائکة و الاشجار و الاحجار فذلک من الشرک الاکبر، و هو من جنس عمل المشرکین الاولین مع آلهتهم کاللات و العزی.

دفع الرأیین: أما الکلام فی الامر الاول: فالوهن فیه واضح، حیث ان الغیریة مع الله عز و جل لا تفترق مع الفرد الحی أو المیت، و لیس هناک موجب للفرق.

و أما التعلق بالقادر او القدرة، فإن کانت نابعة من الحی بلحاظ الاستقلال بنفسه فهو الشرک الصریح، و اما ان کانت القدرة من الله و مضافة الی المخلوق من قبل الخالق، فأی فرق بین الحی و المیت، و أما تقیید الاستعانة بالامور الحسیة فانه ناشی عن أصالة الحس و المادة و التنکر للعوالم المخلوقة التی ما وراء الحس و المادة، و یلزم منه الصیرورة الی کلام المادیین.

ص:192

وأما الکلام فی الامر الثانی: و قد استدل القائل هنا بالدلیل النقلی سواء فی الجواز أو النفی، و هو غیر تام، و بیانه ما یلی:

أولا: ان بحث الشرک بحث عقلی، و لو بنینا علی أنه نقلی فلا شک ان لادراک العقل فیه مجال، و النصوص الواردة لیست إلّا منبهة للعقل، و اذا کان عقلیا فهو فی حکم العقل سیان فی الحی و المیت.

ثانیا: الاستدلال بأن الطلب من الاموات من جنس عمل اصحاب الاوثان، و قد مر ان الانکار القرآنی علی اصحاب الاصنام لم یتوجه الی انکار اصل الواسطة بل النکیر علی التصرف و الجعل الانسانی، و الصیرورة الی سلطان الانسان دون تحکیم سلطان الله عز و جل.

ثالثا: انه اذا جازت الاستغاثة بالحی لقیام النص و الاجماع، أی الاذن الشرعی، فلا فرق إذا فی الاستغاثة بین الحی و المیت مادام المجوز لذلک هو الاذن، و من ذلک یتضح ان المدار لیس علی الغیریة مع الله عز و جل کما فرضه القائل بل علی الاذن و عدمه، فاذا وجد الاذن فلا یفرق حینئذ بین الحی أو المیت.

الرد علی الدلیل الثانی:

وهو التمسک بالآیات القرآنیة.

و منها قوله تعالی: (وَ لِلّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنی فَادْعُوهُ بِها وَ ذَرُوا الَّذِینَ یُلْحِدُونَ فِی أَسْمائِهِ)1 .

ان الاسم عبارة عن السمة والعلامة والآیة، وجملة کثیرة من الاسماء الالهیة

ص:193

هی اسماء فعلیة مشتقة من أفعاله تعالی، فهی مخلوقة، و هی نفس الآیات و المخلوقات من جهة افتقارها و بما هی مفتقرة للباری، لا بما هی منفصلة عن الله عز و جل، و لا شک ان افضل المخلوقات و اکرمهم علی الله عز و جل محمد صلی الله علیه و آله و آل محمد علیهم السّلام، فرفض الاسماء، و هی الآیات و الوسائط، و عدم التوجه بها یؤدی الی الالحاد به عز وجل بصریح الآیة(وَ ذَرُوا الَّذِینَ یُلْحِدُونَ فِی أَسْمائِهِ).

و هناک أمر ثانی فی الجواب: و هو ان الاسم استعمل بمعنی الآیة و الکلمة و السمة، و قد اشیر الی ذلک فی عدة آیات قرآنیة منها:

1 - (وَ جَعَلْنَا ابْنَ مَرْیَمَ وَ أُمَّهُ)1 .

2 - (وَ جَعَلْناها وَ ابْنَها آیَةً لِلْعالَمِینَ)2 .

3 - (إِنَّ اللّهَ یُبَشِّرُکِ بِکَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِیحُ عِیسَی ابْنُ مَرْیَمَ)3 .

4 - (إِنَّمَا الْمَسِیحُ عِیسَی ابْنُ مَرْیَمَ رَسُولُ اللّهِ وَ کَلِمَتُهُ)4 .

فأطلق علی عیسی علیه السلام کلمة من الله.

5 - (أَنَّ اللّهَ یُبَشِّرُکَ بِیَحْیی مُصَدِّقاً بِکَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ)5 .

6 - (فَتَلَقّی آدَمُ مِنْ رَبِّهِ کَلِماتٍ فَتابَ عَلَیْهِ)6 .

ص:194

7 - (وَ إِذِ ابْتَلی إِبْراهِیمَ رَبُّهُ بِکَلِماتٍ)1 .

8 - (وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ)2 .

9 - (وَ تَمَّتْ کَلِمَةُ رَبِّکَ صِدْقاً وَ عَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِکَلِماتِهِ)3 .

فکل هذه الاسماء و العلامات و الکلمات یتوجه بها الی الله عز وجل حیث جعلت واسطة فی نیل المطلوب والمراد من قبل الله عز و جل.

والامر الثالث فی الجواب: ما اشار الیه قوله تعالی(إِنَّ الَّذِینَ کَذَّبُوا بِآیاتِنا وَ اسْتَکْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَ لا یَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتّی یَلِجَ الْجَمَلُ فِی سَمِّ الْخِیاطِ)4 .

فبین الله تعالی ان دعائهم لا یستجاب و ذلک بعدم تفتح أبواب السماء لهم من خلال التکذیب بآیات الله المنصوبة من قبله، و الاستکبار عن التوجه بها الی الله، حیث عبرت الآیة بالاستکبار عنها لا بالاستکبار علیها، و هذه الآیة فی نفس سورة آیة دعاء الله تعالی بأسمائه، وهذا التعبیر فی الآیة بعینه ورد فی حق ابلیس فی الآیات الواردة فیه، حیث أبی واستکبر عن التوجه بآدم علیه السلام فی السجود، وکذب بحجیة آدم علیه السلام وفضیلته فی الخلافة الالهیة، فلم یقبل الله أعماله، ولم یزن لها صرفا، وطرد من جوار الله وقربه.

و کذلک ما ورد فی قوله تعالی: (وَ الَّذِینَ کَذَّبُوا بِآیاتِنا وَ اسْتَکْبَرُوا عَنْها

ص:195

أُولئِکَ أَصْحابُ النّارِ)1 .

وقوله تعالی(وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِینُهُ فَأُولئِکَ الَّذِینَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما کانُوا بِآیاتِنا یَظْلِمُونَ * وَ لَقَدْ مَکَّنّاکُمْ فِی الْأَرْضِ وَ جَعَلْنا لَکُمْ فِیها مَعایِشَ قَلِیلاً ما تَشْکُرُونَ * وَ لَقَدْ خَلَقْناکُمْ ثُمَّ صَوَّرْناکُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِکَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِیسَ لَمْ یَکُنْ مِنَ السّاجِدِینَ * قالَ ما مَنَعَکَ أَلاّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُکَ قالَ أَنَا خَیْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِی مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِینٍ * قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما یَکُونُ لَکَ أَنْ تَتَکَبَّرَ فِیها فَاخْرُجْ إِنَّکَ مِنَ الصّاغِرِینَ)2 .

فالسیاق الواحد مدلل علی ان ما فعله ابلیس کان انکارا و ظلما لآیة من آیات الله عز و جل، و هناک آیة اخری تدل علی ان تکذیب الآیات هو تکذیب لله عز و جل و هو قوله تعالی(فَإِنَّهُمْ لا یُکَذِّبُونَکَ وَ لکِنَّ الظّالِمِینَ بِآیاتِ اللّهِ یَجْحَدُونَ)3 حیث ان الآیة هنا هم الانبیاء و الاوصیاء و الوسائط.

الرد علی الدلیل الثالث: وهو التمسک بقوله تعالی(وَ ابْتَغُوا إِلَیْهِ الْوَسِیلَةَ) ، والکلام فی مفاد الوسیلة فی الآیة وتحدیده، فقد اتفقت روایات الفریقین ان مقام الوسیلة هو مقام للرسول صلی الله علیه و آله، وهو المقام المحمود والشفاعة الکبری، فابتغاء الوسیلة الی الله هنا یکون بالتوجه بمقام رسول الله صلی الله علیه و آله، و الظریف فی تعبیر الآیة أنه لیس بالصورة التالیة(و ابتغونی) أو(ابتغوه) بل

ص:196

الابتغاء اسند الی الوسیلة لکن کطریق و عبور و واسطة الیه تعالی، و بالتالی اذا جازت ان تکون للرسول صلی الله علیه و آله شفاعة جاز التشفع به، لان طلب المشروع مشروع، و لا یمکن التفکیک بین المسألتین بأن یکون شافعا و لا یجوز التشفع به.

و قد یشکل علی هذا: ان الشفاعة المذکورة لرسول اللّه صلی الله علیه و آله خاصة بیوم القیامة أو حال کونه حیا فی الحیاة الدنیا، و ان متعلق الشفاعة غفران الذنوب لا غیره من حاجات معاشیة کطلب الرزق و الشفاء و ما شابه ذلک، و غیر هذه الامور یعد شرکا.

ونجیب علی هذا بما یلی:

أما الدعوی الاولی: فان التوسل و التوسط اذا کان شرکا فلا فرق فی الحیاة و الممات، و علی القول بأن الادلة نقلیه فهی مطلقة غیر مخصصة بالدار الدنیا.

وأما الدعوی الثانیة: فلا وجه لها حیث افترض ان متعلق الشفاعة فی الامور الخطیرة الاخرویة، و هی غفران الذنوب و النجاة من النار و الدخول للجنة، و هی حاصلة فیها، أما فی الامور الدنیویة البسیطة غیر حاصلة، مع ان متاع الحیاة الدنیا بجنب الآخرة قلیل، و لعمرک ان اصحاب الاثارة غلب علیهم المذهب الحسی المادی، و عظمت المادة فی اعینهم علی الآخرة و الامور الاخرویة، و هو تفریق بلا فارق، مع ان الشفاعة لیست مختصة بغفران الذنوب بل هی واسعة، تشمل ترفیع الدرجات و المقامات.

الرد علی الدلیل الرابع: و هو ما یتعلق بقضیة ابراهیم علیه السلام حینما ارید ان یلقی فی النار، و عرض جبرئیل علیه السلام المساعدة، فنقول:

ص:197

ان مبدأ المسائلة من جبرئیل علیه السلام لابراهیم علیه السلام ما هو إلّا فی مقام الامتحان لایمان و ثبات و رباطة الجأش عند ابراهیم علیه السلام، و مما یعزز هذا قول ابراهیم لجبرئیل علمه بحالی یغنی عن سؤالی مع ان الدعاء مرغوب فیه علی کل حال، و قد توعد الله عز و جل المستکبر عن دعائه، فهل یتوهم ان ابراهیم علیه السلام خارج عن الادب الالهی، و العیاذ بالله تعالی من هذا الوهم، فإذا قوله هذا انما کان لارادة اظهار الثبات و الحزم و عدم الهلع بل الطمأنینة التامة و الکاملة.

و یمکن ان یقال بان ابراهیم علیه السلام لم یطلب حاجة من جبرئیل لانه افضل منه و لا یمکن التوسل بمن هو ادنی مرتبة بالنسبة للمتوسل.

ملامح من التوسل فی الشعائر العبادیة:

هناک مجموعة من الشعائر العبادیة التی شرعها الشارع المقدس و فی مجموعها حالة من التوسل و التوجه بها الی الله عز و جل و فی صمیم المرکز التوحیدی و هو بیت الله الحرام حیث یقول تعالی: (إِنَّ أَوَّلَ بَیْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِی بِبَکَّةَ مُبارَکاً وَ هُدیً لِلْعالَمِینَ * فِیهِ آیاتٌ بَیِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِیمَ وَ مَنْ دَخَلَهُ کانَ آمِناً)1 . ففی الآیة مزج بین مسألتین الاولی ان البیت الحرام هو اول بیت وضع للعبادة و للحج، و المسألة الثانیة ما یحویه هذا البیت من آیات بینات مثل مقام ابراهیم، و الامان بالنسبة الی داخلیه و للحجاج و المعتمرین، فان الحج فی اللغة هو القصد، و فی الشرع هو القصد الی بیت اللّه الحرام، قصدا الی الوفود علی اللّه تعالی، فالحج الذی هو ضیافة رحمانیة للوافدین و قصد الی الله تعالی جعل

ص:198

مقرونا بآیات الانبیاء و الاصفیاء، لیکون دلیلا و شاهدا علی ان التوجه و السیر الی اللّه تعالی یتم بالتوجه بانبیائه و اصفیائه، و التوسل بهم الی الله عز و جل، و ما شابه ذلک، و نحاول ان نتکلم هنا عن هذه الآیات البینات و هی کثیرة:

الاولی: مقام ابراهیم علیه السلام: قال تعالی(وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِیمَ مُصَلًّی)1.)

فالتعبیر(بمقام) فی قوله تعالی(وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِیمَ مُصَلًّی) عبارة عن التفخیم و التعظیم لذلک المکان، و ذلک لمماسته لجسد ابراهیم علیه السلام، و من ملامح تعظیمه ان الحاج و المعتمر لابد ان یتوجه الیه فی حال صلاة الطواف ثم الی سمت الکعبة، فاذا کانت الحال هذه فکیف لا یتوجه بنفس ابراهیم علیه السلام وبشخصه علما بأن حجر المقام ما نال التشریف إلا بابراهیم علیه السلام، وقد عبر عن المقام و قد جعل آیة، فکیف نمنع ان یکون ابراهیم آیة، فما هذا إلّا عناد و مکابرة و صد عن آیات الله عز و جل.

الثانیة: حجر اسماعیل، و قد ورد فی الروایات ان فیه قبر اسماعیل و أمه و سبعون نبیا، و الملاحظ ان جمیع المسلمین یطوفون بالبیت الحرام و یطوفون بهذه القبور، و قد أمر ابراهیم و اسماعیل بتطهیر البیت بنص القرآن، مع ان اسماعیل هو الذی جعل قبر أمه فی الحجر، فاذا کان الحال ذلک فی مرکز بیت التوحید، و هو بیت الله الحرام، أول بیت وضع للناس، فکیف یقال ان الطواف بالقبور عبادة لتلک القبور، و مع کل ذلک یصف الباری عز و جل ان هذه من الآیات البینات و انها هدی للعالمین.

ص:199

و لسنة أهل الجماعة عدة روایات دالة علی ان قبر اسماعیل فی الحجر منها:

1 - الدر المنثور للسیوطی 103/3 وقد اخرجه عن ابن عساکر بسنده عن ابن عباس.

2 - الدر المنثور للسیوطی 126/1 اخرج عن ابن سعد فی الطبقات و غیره انه لما توفی اسماعیل دفن فی الحجر مع أمه.

الثالثة: المستجار أو الملتزم، و فیه آیة بینة مرتبطة بأصفیاء الله تعالی و منتجبیه حیث انشق جدار الکعبة لفاطمة بنت اسد عندما ارادت الولادة بالامام علی علیه السلام فی قضیة مشهورة معلومة، و هذه آیة بینة ظاهرة فی ولادة الامام علی علیه السلام، و استلام المستجار و الملتزم من الکعبة من الشعائر المستحبة بین عامة المسلمین.

الرابعة: السعی بین الصفا و المروة، و فیه آیة مرتبطة بأولیاء الله تعالی، و قد روی فی قوله تعالی(إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَیْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَیْهِ أَنْ یَطَّوَّفَ بِهِما)1 و فی سبب تسمیة الصفا و المروة أن آدم لما نزل علی الصفا سمی الصفا، لان آدم کان صفی اللّه، و لما نزلت حواء علی المروة سمیت مروة، و هی مشتقة من المرأة.

و فی تشریع السعی یذکر انه کان تأسیا بالسعی الذی قامت به هاجر بین الصفا و المروة من اجل تحصیل الماء لابنها اسماعیل.

الخامسة: بئر زمزم، حیث سن الشرب من زمزم بعد الطواف، و قصة نبوع ماء زمزم مشهورة حیث نبع الماء بفعل تحرک و فحص اسماعیل برجله فی حال

ص:200

کونه رضیعا.

الی غیر ذلک من الآیات الاخری کالوقوف بعرفة والمزدلفة ورمی الجمرات و الذبح و سبب تشریعها و تسمیتها، فنلاحظ ان جمیع تلک الاعمال و الشعائر التی یأتی بها الانسان فی بیت التوحید و فی حرم التوحید ما هی إلّا اعمال قد ارتبطت بالانبیاء و الاصفیاء، و نحن عند ما نأتی بها مرتبطة بهم مع کون تلک الاعمال هی نحو من التوجه بهم الی اللّه تعالی، و بذلک نحن نسیر علی وفق خطاهم و نهجهم فی تلک الاعمال و الافعال تطابق النعل للنعل، و هذا مما یدلل علی ان الوفود الیه سبحانه و تعالی لا یکون إلّا بالتوجه و التوسل باولئک الانبیاء و الاولیاء فی الافعال و الاعمال.

موارد أخری فی التوسل:

و هناک موارد اخری دالة علی التوسل و التشفع و هی کثیرة منها:

الاول: القسم بشخص النبی صلی الله علیه و آله، مع ان القسم بالشی نحو توسیط له و توسل به، و جعله منشأ للتوثیق، و قد ورد القسم بشخصه فی عدة آیات قرآنیة منها:

1 - (لَعَمْرُکَ إِنَّهُمْ لَفِی سَکْرَتِهِمْ یَعْمَهُونَ)1 .

و لم یرد القسم فی القرآن بعمر أحد غیر خاتم الرسل صلی الله علیه و آله.

2 - (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ * وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ)2 .

ص:201

و الآیة علی کلا تفسیری(لا) زائدة أو نافیة فهی دالة علی تعظیم مقام النبی صلی الله علیه و آله.

3 - (ص وَ الْقُرْآنِ ذِی الذِّکْرِ)1 وقد فسر صاد هنا بانه اسم من اسماء النبی صلی الله علیه و آله.

4 - (ق وَ الْقُرْآنِ الْمَجِیدِ)2 .

5 - (یس * وَ الْقُرْآنِ الْحَکِیمِ)3 .

6 - (الر تِلْکَ آیاتُ الْکِتابِ وَ قُرْآنٍ مُبِینٍ)4 .

7 - (طس تِلْکَ آیاتُ الْقُرْآنِ وَ کِتابٍ مُبِینٍ)5 .

و قد روی عن الامام السجاد علیه السلام ان کل اسم جاء بعده قسم بالقرآن أو الکتاب فهو اسم من اسماء النبی صلی الله علیه و آله.

و من المعلوم ان القسم ینبأ عن تعظیم المقسوم به، و هذا مما یدلل هنا علی عظمة النبی صلی الله علیه و آله و وجاهته عند الله تعالی، و بالتالی حظوته و قبول شفاعته، و التشفع به و التوجه به الی الله تعالی.

الثانی: أمر الله بالتوسل بالنبی صلی الله علیه و آله، و قد ورد فی عدة آیات قرانیة منها:

ص:202

1 - (وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُکَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّاباً رَحِیماً)1 .

فأسند المجی الی النبی صلی الله علیه و آله لا الیه تعالی، و جعل المجی الی النبی صلی الله علیه و آله مجی الیه تعالی، ثم جعل شفاعة النبی صلی الله علیه و آله بالاستغفار لهم شرط فی قبول الباری توبتهم.

2 - (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شاوِرْهُمْ فِی الْأَمْرِ)2 .

3 - (وَ إِذا قِیلَ لَهُمْ تَعالَوْا یَسْتَغْفِرْ لَکُمْ رَسُولُ اللّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَ رَأَیْتَهُمْ یَصُدُّونَ وَ هُمْ مُسْتَکْبِرُونَ)3 .

و هذه الآیة مشابهة لآیة استکبار ابلیس عن التوجه بآدم الی اللّه تعالی فی السجود حیث أبی و استکبر و کان من الکافرین، فالذین یستکبرون عن التوسل برسول اللّه و شفاعته لغفران الذنوب و للفلاح و الصلاح و یلوون رؤوسهم، و یصدون عن توسیط الرسول صلی الله علیه و آله لن یغفر اللّه لهم و لا یهدیهم لفسقهم بذلک، کما ورد التعبیر عن عمل ابلیس فی اباءه عن التوجه بآدم علیه السلام بأن فسق عن أمر ربه.

4 - (وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِیمٌ)4 .

فالآیات القرانیة کلها تشیر الی التوسل بالنبی من خلال أمر اللّه عز و جل نبیه بالاستغفار للمؤمنین تارة، و دعوتهم للمجی الی النبی لطلب الاستغفار تارة اخری، و قد عدّ المتخلف عن المجی الی الرسول صلی الله علیه و آله صادا و مستکبرا عن عبادة

ص:203

اللّه سبحانه و تعالی.

5 - (قالَ سَلامٌ عَلَیْکَ سَأَسْتَغْفِرُ لَکَ رَبِّی إِنَّهُ کانَ بِی حَفِیًّا)1 .

فالآیة المبارکة ابانت مقام ابراهیم و حفاوته عند اللّه عز و جل

بحیث یکون شفیعا عبر الاستغفار للغیر، مع ان الملة الحنیفیة التوحیدیة هی ملة ابراهیم.

6 - قول موسی علیه السلام: (قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِی وَ لِأَخِی وَ أَدْخِلْنا فِی رَحْمَتِکَ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرّاحِمِینَ)2 .

7 - قول أبناء یعقوب: (یا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنّا کُنّا خاطِئِینَ)3 .

8 - (الَّذِینَ یَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ یُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ یُؤْمِنُونَ بِهِ وَ یَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِینَ آمَنُوا)4 .

و هذه الآیة تبین وساطة حملة العرش فی غفران الذنوب، وقد روی الفریقان ان حملة العرش فی یوم القیامة هم أربعة من الانبیاء اولی العزم، واربعة من هذه الامة النبی صلی الله علیه و آله واهل بیته، ولا بد من الالفات الی امر هام بالغ الخطورة، و هو ان الغفران و التوبة یعنی القرب الی اللّه تعالی و الرجوع الیه، فاذا کان طریق الرجوع الیه و هو التوبة من الاوبة هو بالتوجه بمن هو وجیه عند اللّه، فمحصل معنی الآیات هو یا وجیها عند اللّه اشفع لنا عند الله، وانه بالتوجه بالنبی صلی الله علیه و آله

ص:204

و أهل بیته علیهم السلام الیه تعالی یحصل القرب و الزلفی.

فنلاحظ فی هذه الآیات ان موسی علیه السلام یطلب المغفرة لأخیه هارون علیه السلام، و ان ابناء یعقوب یتوجهون الی أبیهم لیستغفر لهم ما فرطوا فی حق أخیهم یوسف علیه السلام، و ان حملة العرش و من حوله یستغفرون للذین آمنوا، و ما ذلک إلّا لوجاهة هؤلاء و قربهم من الله عز وجل حتی اصبحوا وجها یتوجه به الی الله سبحانه و تعالی.

الثالث: التوسل بغیر الانبیاء و الاولیاء، و قد وردت موارد عدیدة فی القرآن الکریم منها:

1 - (اذْهَبُوا بِقَمِیصِی هذا فَأَلْقُوهُ عَلی وَجْهِ أَبِی یَأْتِ بَصِیراً)1 .

و فی الآیة اشارة الی جواز التوسل و مشروعیته حتی بما یتعلق بالانبیاء، فنلاحظ فی الآیة ان الشفاء الذی حصل لیعقوب من خلال توسط قمیص یوسف، مما یدلل علی ان وجاهة الرسل و الاولیاء عند الله عز و جل توجب التوجه بهم الی الله تعالی، و انهم محل للشفاعة بل لما هو ادنی من ذلک و هو الشفاء و ما شابهه.

لا یقال: ان هذه قضیة خاصة قد جرت لیوسف و یعقوب و لا یجوز تعدیتها الی غیرها.

لأنا نقول: ان الاشارة فی الآیة کانت الی طبیعی التشفع و التوسل و الاستشفاء، و المورد لا یخصص الوارد، مع ان فی ذیل سورة یوسف(لَقَدْ کانَ

ص:205

فِی قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِی الْأَلْبابِ ما کانَ حَدِیثاً یُفْتَری) ، فدلل ان ما فی قصصهم عبرة لیستن بها و یؤخذ بها،

و کذلک فی صدر السورة(فِی یُوسُفَ وَ إِخْوَتِهِ آیاتٌ لِلسّائِلِینَ) .

2 - (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها کَذلِکَ یُحْیِ اللّهُ الْمَوْتی وَ یُرِیکُمْ آیاتِهِ لَعَلَّکُمْ تَعْقِلُونَ)1 .

فقد توسل لاجل احیاء میت بواسطة بعض حیوان و هی البقرة، فاذا کان بعض البقرة و من خلاله جعل واسطة لامر عظیم و هو الاحیاء فهل تری ان التوسط و التوسل بالاولیاء فی صغار الامور أو کبارها یعد شرکا و کفرا.

3 - (إِنَّ آیَةَ مُلْکِهِ أَنْ یَأْتِیَکُمُ التّابُوتُ فِیهِ سَکِینَةٌ مِنْ رَبِّکُمْ وَ بَقِیَّةٌ مِمّا تَرَکَ آلُ مُوسی وَ آلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِکَةُ)2 .

فنلاحظ ان التابوت قد حصل علی السکینة و البرکة لعلاقته بآل موسی و هارون و ما ذلک إلّا لمقام و وجاهة موسی و هارون.

4 - (قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ یَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَ کَذلِکَ سَوَّلَتْ لِی نَفْسِی)3 .

فبینت الآیة ان لاثر تراب حصان جبرئیل حیث کان یرشد بنی اسرائیل فی طریقهم فی البحر یبسا هذا التأثیر.

ص:206

الرابع: ما ورد من روایات فی التوسل و التشفع و التبرک برسول اللّه صلی الله علیه و آله و هی کثیرة منها:

1 - روی البخاری عن الجعید بن عبد الرحمن قال: سمعت السائب بن یزید قال: ذهبت بی خالتی الی رسول اللّه صلی الله علیه و آله فقالت:

یا رسول اللّه ان ابن اختی وجع، فمسح رأسی و دعا لی بالبرکة، و توضأ و شربت من وضوئه(1).

2 - روی البخاری عن الحکم قال: سمعت أبا جحیفة قال: خرج رسول اللّه صلی الله علیه و آله بالهاجرة الی البطحاء، فتوضأ، ثم صلی الظهر رکعتین، و العصر رکعتین، و بین یدیه عنزة، و زاد فیه عون عن أبیه، عن أبی جحیفة قال: کان یمر من ورائها المرأة، و قام الناس فجعلوا یأخذون یدیه فیمسحون بها وجوههم(2).

3 - روی البخاری عن عون بن أبی جحیفة، عن أبیه قال:

سمعت رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی قبة من ادم، و رأیت بلالا اخذ وضوء رسول اللّه صلی الله علیه و آله، و رأیت الناس یبتدرون ذاک الوضوء، فمن اصاب منه شیئا تمسح به، و من لم یصب منه شیئا اخذ من بلل ید صاحبه(3).

4 - روی السمهودی، والمتقی الهندی ان غبار المدینة شفاء من الجذام، وان غبار المدینة یبری الجذام، وان فی غبارها شفاء من کل داء.

ص:207


1- (1) صحیح البخاری، کتاب المناقب، باب صفة النبی، ص 632.
2- (2) صحیح البخاری، کتاب المناقب، باب صفة النبی ص 633.
3- (3) صحیح البخاری، کتاب الصلاة، باب الصلاة فی الثوب الاحمر ص 92.

5 - (1) روی السمهودی ایضا: ان النبی صلی الله علیه و آله قال: ما لکم یا بنی الحارث روبی؟ قالوا: اصابتنا یا رسول اللّه هذه الحمی، قال: فأین أنتم عن صعیب(2) ؟

6 - فی سنن ابن ماجة، عن عثمان بن حنیف ان رجلا ضریر البصر اتی النبی صلی الله علیه و آله فقال: ادع اللّه لی ان یعافینی، فقال: ان شئت اخرت لک و هو خیر، و ان شئت دعوت، فقال: ادعه، فأمره ان یتوضا فیحسن وضوءه و یصلی رکعتین، و یدعو بهذا الدعاء(اللهم انی اسألک و اتوجه الیک بمحمد نبی الرحمة، یا محمد انی قد توجهت بک الی ربی فی حاجتی هذه لتقضی، اللهم فشفعه فیّ (3).

7 - روی البیهقی فی خبر صحیح انه فی ایام عمر جاء رجل الی قبر النبی صلی الله علیه و آله فقال: یا محمد استسق لامتک، فسقوا(4).

8 - روی النسائی عن عبد اللّه بن عمرو یقول سمعت رسول اللّه صلی الله علیه و آله یقول: اذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما یقول، و صلوا علیّ فانه من صلی علیّ صلاة صلی اللّه علیه عشرا، ثم سلوا اللّه لی الوسیلة، فانها منزلة فی الجنة لا تنبغی إلّا لعبد من عباد اللّه، ارجو ان اکون انا هو، سأل لی الوسیلة حلت له الشفاعة(5).

9 - روی مسلم، عن عائشة، عن النبی صلی الله علیه و آله قال: ما من میت تصلی علیه أمة

ص:208


1- (1) وفاء الوفا للسمهودی 67/1-68 و کنز العمال 205/13.
2- (2) صعیب: وادی بطحان دون الماجشونیة، و فیه حفرة مما یأخذ الناس منه، و هو الیوم اذا وبأ انسان اخذ منه.
3- (3) سنن ابن ماجه، کتاب اقامة الصلاة، باب 189 ما جاء فی صلاة الحاجة، ح 1385، سنن الترمذی کتاب الدعوات، باب 119، ح 3578.
4- (4) سنن البیهقی 326/3.
5- (5) سنن النسائی، کتاب الاذان، الصلاة علی النبی بعد الاذان.

من المسلمین یبلغون مئة، کلهم یشفعون له إلّا شفّعوا فیه(1).

10 - روی مسلم، عن النبی قال: ما من رجل مسلم یموت فیقوم علی جنازته اربعون رجلا، لا یشرکون بالله شیئا إلّا شفعهم الله فیه(2).

11 - نقل عبد الله بن احمد بن حنبل فی کتاب العلل و السؤالات قال: سألت أبی عن الرجل یمس منبر رسول اللّه صلی الله علیه و آله یتبرک بمسه و تقبیله، و یفعل بالقبر ذلک رجاء ثواب الله تعالی، فقال: لا بأس.

12 - عن اسماعیل، ابن المنکدر یصیبه الصمات، فکان یقوم و یضع خده علی قبر النبی صلی الله علیه و آله، فعوتب فی ذلک، فقال: یستشفی بقبر النبی صلی الله علیه و آله.

فما ذکرناه من روایات صریحة فی جواز التوسل و التشفع و الاستشفاء سواء بالنبی صلی الله علیه و آله أو بأهل بیته علیهم السلام أو بالاولیاء او بالصالحین او بالبقاع و البلدان کالمدینة المنورة و غیرها، و هی لم تنل هذه المکانة من الشفاء فی ترابها و غبارها إلّا بشخص النبی صلی الله علیه و آله، فهل بعد کل هذا یبقی مجال للشک فی جواز التوسل و التشفع بالاولیاء؟

موارد عقلیة علی التوسّل:

و هنا نذکر عدة موارد عقلیة دالة علی جواز التوسل و التشفع و هی:

الأول: ذکر الفلاسفة ان اللّه خالق کل شی لکن خلقه للمخلوقات لیس علی رتبة واحدة بل مترتبة، و ذلک لیس لعجز فی الباری، و انما المخلوق منه ما

ص:209


1- (1) صحیح مسلم، کتاب الجنائز، باب 18 من صلی علیه مئة شفعوا فیه، ح 58.
2- (2) صحیح مسلم، کتاب الجنائز باب 19، من صلی علیه اربعون رجلا شفعوا فیه، ح 59.

یمتنع فرض ذاته قبل سلسلة من المخلوقات الاسبق منه، و انما المخلوق السابق یکون سببا لتقرر امکان المخلوق اللاحق و سببیته راجعة مآلا الی تسبیب الباری تعالی، أی ان المخلوق الجسمانی مثلا یمتنع ان یفرض وجوده بلا مادة عنصریة، و بالتالی یکون المخلوق السابق هو افضل و اقرب الی اللّه عز و جل، و یکون بابا للمخلوق اللاحق و وسیلة له.

الثانی: ان طریقة الوفود علی أی شخص فی الآداب العقلائیة و المتعارف الاجتماعی تکون عن طریق الاستئذان من خلال حجابه او بوابه، و هذا العمل نوع من الاحترام و التعظیم فی الوسط الاجتماعی بین افراد الانسان، و قد قرر الاسلام هذا النوع من الادب فی کثیر من آیاته، (وَ أْتُوا الْبُیُوتَ مِنْ أَبْوابِها) ، (إِنَّ الَّذِینَ یُنادُونَکَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَکْثَرُهُمْ لا یَعْقِلُونَ ( 4) ، وروایاته، (أنا مدینة العلم و أنت یا علی بابها، فمن اراد المدینة و الحکمة فلیأتها من بابها)، بل نری ان هذا الادب الالهی قد قرره الشارع المقدس فی الوفود علی بیت اللّه الحرام، فجعل الاحرام مقدمة للتهیؤ و التعظیم، و الوقوف بعرفات ثم المزدلفة ثم قضاء التفث مقدمة علی زیارة البیت ثانیة، فعلیه یکون التوجه بالوسائط و الوسائل الی اللّه نوع من انواع الادب الذی یقره العقل و العقلاء فی تعاملهم.

خاتمة فی التوسل:

الوسائط مظهر قدرة البارئ:

قد یطرح هنا سؤال و هو ان الاعتقاد بالوسائط قد یفضی الی اعتقاد عجز الباری سبحانه و تعالی، و مما لا شک فیه ان الباری غنی عن العالمین، لانه اذا اراد

ص:210

شیئا فانما یقول له کن فیکون.

ویجاب عن هذا السؤال بعدة أمور:

الاول: جواب حلی، و هو ان اقدار الله لبعض مخلوقاته لا یعنی الافتقار منه عز و جل، کما لا یعنی اقدار الباری للوسائط استقلالها عن قدرة الباری و إلّا لکانت فی وجودها مستقلة عنه فی مرحلة البقاء، و لاقتصر احتیاجها الیه فی مرحلة الحدوث فقط، و هذه مقولة بعض المعتزلة، و العیاذ بالله تعالی منها، بل المخلوقات کما هی محتاجة فی وجودها حدوثا هی محتاجة فی وجودها بقاء الی الباری، و لو قطع الباری عنایته لحظة او فی اقل من اللحظة عنها لبطلت و انعدمت و صارت فانیة، فکذلک المخلوقات فی قدراتها علی ما یصدر منها من افعال لا تستقل عن قدرة الباری تعالی حدوثا و بقاء، و من ذلک یظهر ان القائل بحصر تخلیق الله تعالی للخلق عن طریق الابداع فقط التزم بذلک لتوهمه بأن التخلیق من المادة المخلوقة سابقا مثلا هناک شراکة فی التخلیق من الله و من المادة، و ان المادة مستقلة فی عرض الباری، و العیاذ بالله، و هذا الوهم جهالة، بل هو نوع من التوسیط بینه و بین مخلوقاته عبر اولیائه و مقربیه الذین اصطفاهم و جعلهم ابوابا لرحمته و محلا لنیل شفاعته.

الثانی: جواب نقضی، و هو ان نقرب اشکالهم ببیان فلسفی و هو ان کل فعل من افعال الباری لا بد ان یکون حسب مدعاهم ابداعی أی بلا واسطة بل من الباری مباشرة، فکل ما کان غیر ابداعی یکون عجزا من الباری، إلّا اننا نشاهد اکثر الموجودات مخلوقة غیر ابداعیة بل کانت مخلوقات بتوسط اسباب.

فهذه المخلوقات التی نشاهدها اما ان ننسبها للباری بتوسط الوسائط،

ص:211

فیکون العجز حسب ما ادعوا، و اما ان لا ننسبها للباری لانها مخلوقات غیر ابداعیة یعنی لیست بکن فیکون، فتکون المشکلة اعظم حیث تجرد نسبة هذه المخلوقات عن الله عز و جل.

و عند ما یقال بتوسط شی فی مخلوقاته لا یستوجب بالضرورة نسبة العجز للباری، بل الاشیاء مفتقرة الیه، و فی کل الاحوال تلک الاشیاء لا تنفک عن قدرة وارادة الباری، بل هی مرتبطة و مفتقرة الی الباری وارادته فی کل الاحوال و الازمان.

الثالث: وجود طوائف من الآیات القرآنیة دالة علی وقوع التخلیق من الله عبر الوسائط من ملائکة و رسل و غیر ذلک و هی:

الطائفة الأولی: وفاة الانفس و فیها عدة اسنادات:

الأول: الاسناد فی وفاة الانفس الی الملائکة

1 - (إِنَّ الَّذِینَ تَوَفّاهُمُ الْمَلائِکَةُ ظالِمِی أَنْفُسِهِمْ)1 .

2 - (حَتّی إِذا جاءَ أَحَدَکُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَ هُمْ لا یُفَرِّطُونَ)2 .

3 - (الَّذِینَ تَتَوَفّاهُمُ الْمَلائِکَةُ ظالِمِی أَنْفُسِهِمْ)3 .

4 - (الَّذِینَ تَتَوَفّاهُمُ الْمَلائِکَةُ طَیِّبِینَ)4 .

ص:212

5 - (حَتّی إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا یَتَوَفَّوْنَهُمْ)1 .

6 - (وَ لَوْ تَری إِذْ یَتَوَفَّی الَّذِینَ کَفَرُوا الْمَلائِکَةُ یَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبارَهُمْ وَ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِیقِ)2 .

7 - (فَکَیْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِکَةُ یَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبارَهُمْ)3 .

8 - (وَ لَوْ تَری إِذِ الظّالِمُونَ فِی غَمَراتِ الْمَوْتِ وَ الْمَلائِکَةُ باسِطُوا أَیْدِیهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَکُمُ الْیَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ)4 .

ففی مجموع الآیات نلاحظ ان الله سبحانه و تعالی قد نسب و اسند وفاة الانفس الی الملائکة فهل هذا یعنی ان اللّه عاجز ان یقبض ارواح العباد بنفسه، فلیس هذا العمل إلّا من باب التوسیط فی شؤون مخلوقاته لا غیر.

الثانی: الاسناد فی وفاة الانفس الیه سبحانه و تعالی

1 - (اللّهُ یَتَوَفَّی الْأَنْفُسَ حِینَ مَوْتِها وَ الَّتِی لَمْ تَمُتْ فِی مَنامِها)5 .

2 - (وَ هُوَ الَّذِی یَتَوَفّاکُمْ بِاللَّیْلِ وَ یَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ)6 .

3 - (وَ اللّهُ خَلَقَکُمْ ثُمَّ یَتَوَفّاکُمْ)7 .

ص:213

4 - (وَ لکِنْ أَعْبُدُ اللّهَ الَّذِی یَتَوَفّاکُمْ)1 .

الثالث: الاسناد فی وفاة الانفس الی ملک الموت

1 - (قُلْ یَتَوَفّاکُمْ مَلَکُ الْمَوْتِ الَّذِی وُکِّلَ بِکُمْ)2 .

الطائفة الثانیة: تصریح الباری بإیکال بعض الامور الی بعض مخلوقاته من غیر ان یکون ذلک تفویض عزلی تنعزل فیه قدرة الباری فان الاشیاء جمیعها قائمة بقدرته حدوثا و بقاء.

1 - (قُلْ یَتَوَفّاکُمْ مَلَکُ الْمَوْتِ الَّذِی وُکِّلَ بِکُمْ) .

2 - (فَإِنْ یَکْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَکَّلْنا بِها قَوْماً لَیْسُوا بِها بِکافِرِینَ)3 .

3 - (وَ ما لَنا أَلاّ نَتَوَکَّلَ عَلَی اللّهِ وَ قَدْ هَدانا سُبُلَنا)4 .

فهذه الوکالة من الله لیس هی عزل لقدرة الله سبحانه و تعالی، فاننا نری فی الموکل الاعتباری حینما یوکل شخصا لا ینعزل باعطاء الوکالة تماما، فکیف بالمولی و الموکل الحقیقی سبحانه و تعالی علوا کبیرا، فلیس توکیل و تفویض عزلی تنحسر فیه قدرة الباری عن الفعل الموکل فیه بل الاشیاء برمتها قائمة به تعالی، و هو قیوم علی کل شی فضلا عن افعال الاشیاء.

الطائفة الثالثة: الدالة علی توسیط بعض المخلوقات فی الخلق، و هو توسط

ص:214

الماء فی خلق کثیر من المخلوقات کالنبات و الانسان و ما شابه ذلک.

1 - (الَّذِی جَعَلَ لَکُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَ السَّماءَ بِناءً وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَکُمْ)1 .

2 - (وَ هُوَ الَّذِی أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ کُلِّ شَیْ ءٍ)2 .

3 - (وَ اللّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْیا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِی ذلِکَ لَآیَةً لِقَوْمٍ یَسْمَعُونَ)3 .

4 - (وَ ما أَنْزَلَ اللّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْیا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ بَثَّ فِیها مِنْ کُلِّ دَابَّةٍ)4 .

5 - (وَ یُنَزِّلُ عَلَیْکُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِیُطَهِّرَکُمْ بِهِ وَ یُذْهِبَ عَنْکُمْ رِجْزَ الشَّیْطانِ)5 .

6 - (وَ کانَ عَرْشُهُ عَلَی الْماءِ)6 .

7 - (وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ کُلَّ شَیْ ءٍ حَیٍّ أَ فَلا یُؤْمِنُونَ)7 .

8 - (وَ اللّهُ خَلَقَ کُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ)8 .

ص:215

9 - (وَ هُوَ الَّذِی خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً)1 .

الطائفة الرابعة: اسناد کثیر من الافعال الی المخلوقات:

1 - (أَ وَ لَمْ یَرَوْا أَنّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمّا عَمِلَتْ أَیْدِینا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِکُونَ)2 .

فأسند الخلق هنا الی الید و هی القدرة المخلوقة المباشرة للمادة المخلق منها الانعام، و هی غیر الذات الالهیة.

2 - (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّکَ الْأَعْلَی * اَلَّذِی خَلَقَ فَسَوّی)3 .

و اسند الخلق هنا الی اسم الرب و هو غیر الذات الالهیة ایضا.

3 - (وَ یَبْقی وَجْهُ رَبِّکَ ذُو الْجَلالِ وَ الْإِکْرامِ)4 .

و لیس المراد من الوجه جزء الذات کما یتوهمه المجسمة الحشویة تعالی الله عن ذلک علوا کبیرا، بل المراد منه الآیة الکبری الدالة علی عظمة الذات الالهیة، فأینما تولوا فثم وجه الله، و قد اطلق علی البیت الحرام و الکعبة القبلة أنها وجه الله فی سیاق آیات سورة البقرة التی تتحدث عن القبلة(وَ حَیْثُ ما کُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَکُمْ شَطْرَهُ) ، و قال: (فَأَیْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ) .

4 - (وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُیِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ کُلِّمَ بِهِ الْمَوْتی بَلْ لِلّهِ الْأَمْرُ جَمِیعاً)5 . وهنا اسند تسییر الجبال و تقطیع الارض و

ص:216

تکلیم الموتی أی احیاء الموتی الی القرآن.

الطائفة الخامسة: ما عبر عنها بالملک لغیر الله مع عدم الاعتزال عن الله و قدرته و لا عن امداده و توسیطه(1).

1 - (وَ آتَیْناهُمْ مُلْکاً عَظِیماً)2 .

ذکر تعالی ذلک عن آل ابراهیم و من البیّن عدم ارادة ملک الرئاسة الاجتماعیة السیاسیة، اذ لم یقع ذلک فی التاریخ، بل المراد الملک اللدنی الایتائی أی فی الملکوت، نظیر ما قاله تعالی(وَ کَذلِکَ نُرِی إِبْراهِیمَ مَلَکُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ) ، و(ادْعُهُنَّ یَأْتِینَکَ سَعْیاً) ، و(وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً یَهْدُونَ بِأَمْرِنا) ، و الحدیث عن اسماعیل و اسحاق و یعقوب یهدون بأمر الهی ملکوتی.

2 - (قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِی وَ هَبْ لِی مُلْکاً لا یَنْبَغِی لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِی)3 .

3 - (وَ إِذا رَأَیْتَ ثَمَّ رَأَیْتَ نَعِیماً وَ مُلْکاً کَبِیراً)4 .

4 - (وَ شَدَدْنا مُلْکَهُ وَ آتَیْناهُ الْحِکْمَةَ وَ فَصْلَ الْخِطابِ)5 .

5 - (وَ قالَ لَهُمْ نَبِیُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَکُمْ طالُوتَ مَلِکاً)6 .

6 - (قُلِ اللّهُمَّ مالِکَ الْمُلْکِ تُؤْتِی الْمُلْکَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ الْمُلْکَ مِمَّنْ تَشاءُ)7 .

ص:217


1- (1) سند، محمد، التوسل عبادة توحیدیة، 1 جلد، سعید بن جبیر - بیروت - لبنان، چاپ: 1، 1426 ه -. ق.

7 - (وَ نادَوْا یا مالِکُ لِیَقْضِ عَلَیْنا رَبُّکَ)1 .

فوصف خازن النیران الملک الموکّل بالنار و طبقاتها بمالک.

8 - (وَ الْمَلَکُ عَلی أَرْجائِها وَ یَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّکَ فَوْقَهُمْ یَوْمَئِذٍ ثَمانِیَةٌ)2 .

الحمل بمعنی العلم لا ان القدرة الالهیة تقع مفعولة محتاجة، و العیاذ باللّه تعالی عما یقوله المجسمة الحشویة.

9 - (فَإِنَّ اللّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَ جِبْرِیلُ وَ صالِحُ الْمُؤْمِنِینَ وَ الْمَلائِکَةُ بَعْدَ ذلِکَ ظَهِیرٌ)3 .

فجعل الظهارة والاعانة لجبرئیل وصالح المؤمنین علیا علیه السلام والملائکة مع انه تعالی قیوم علی جبرئیل وصالح المؤمنین وعلی الملائکة إلّا انا بیان لوسائط قدرته تعالی، کما قال تعالی(هُوَ الَّذِی أَیَّدَکَ بِنَصْرِهِ وَ بِالْمُؤْمِنِینَ)4 مع انه تعالی قال: (وَ مَا النَّصْرُ إِلاّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ)5 ، وقال: (إِنْ تَنْصُرُوا اللّهَ یَنْصُرْکُمْ وَ یُثَبِّتْ أَقْدامَکُمْ)6 .

10 - (إِذْ تَسْتَغِیثُونَ رَبَّکُمْ فَاسْتَجابَ لَکُمْ أَنِّی مُمِدُّکُمْ بِأَلْفٍ مِنَ)

ص:218

(الْمَلائِکَةِ مُرْدِفِینَ)1 .

11 - (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِینَ أَ لَنْ یَکْفِیَکُمْ أَنْ یُمِدَّکُمْ رَبُّکُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِکَةِ مُنْزَلِینَ)2 .

12 - (هذا یُمْدِدْکُمْ رَبُّکُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِکَةِ مُسَوِّمِینَ)3 .

الطائفة السادسة: ما ذکر فیها نسبة الاهلاک الی نفسه سبحانه و تعالی أو الی بعض مخلوقاته

1 - (وَ لَقَدْ أَهْلَکْنا ما حَوْلَکُمْ مِنَ الْقُری وَ صَرَّفْنَا الْآیاتِ لَعَلَّهُمْ یَرْجِعُونَ)4 .

2 - (فَأَمّا ثَمُودُ فَأُهْلِکُوا بِالطّاغِیَةِ)5 .

3 - (وَ أَمّا عادٌ فَأُهْلِکُوا بِرِیحٍ صَرْصَرٍ عاتِیَةٍ)6 .

4 - (وَ لَمّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِیمَ بِالْبُشْری قالُوا إِنّا مُهْلِکُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْیَةِ)7 .

5 - (فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَیْهِ حاصِباً وَ مِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّیْحَةُ وَ)

ص:219

(مِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَ مِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا)1 .

الطائفة السابعة: الاسناد الی الریاح فی انشاء بعض الخلق.

1 - (وَ أَرْسَلْنَا الرِّیاحَ لَواقِحَ)2 .

2 - (اللّهُ الَّذِی یُرْسِلُ الرِّیاحَ فَتُثِیرُ سَحاباً)3 .

3 - (وَ هُوَ الَّذِی أَرْسَلَ الرِّیاحَ بُشْراً بَیْنَ یَدَیْ رَحْمَتِهِ)4 .

4 - (وَ مِنْ آیاتِهِ أَنْ یُرْسِلَ الرِّیاحَ مُبَشِّراتٍ)5 .

5 - (وَ اللّهُ الَّذِی أَرْسَلَ الرِّیاحَ فَتُثِیرُ سَحاباً)6 .

ص:220

القاعدة التاسعة عشرة: قاعدة فی الفقه الاجتماعی والسیاسی قاعدة التعایش السلمی (التقریب بین المذاهب)

ص:221

ص:222

القاعدة التاسعة عشرة: فی الفقه الاجتماعی والسیاسی قاعدة التعایش السلمی (التقریب بین المذاهب)

اشارة

من الواضح أنّ مسألة الوحدة الإسلامیّة، وبالأحری مسألة التعایش المذهبی بین المسلمین، تعدّ أمل وطموح کلّ مسلم یرید الخیر والصلاح لأبنائها؛ إذ أنّ الفرقة والعداوة والبغضاء هی عمل الشیطان، المتمثّل فی بؤر العداء ذات النزعة الاستعماریّة، التی تسعی إلی إثارة الفتن والتناحر بین أبناء الامّة الإسلامیّة، من خلال إطلاق العنان للنعرات الطائفیّة، کلّ ذلک لأجل تحقیق مآربهم ومصالحهم علی ضوء المقولة المعروفة: «فرّق تسد».

ومن هنا نجد النصوص القرآنیّة طافحة فی التأکید علی ضرورة التآلف والتآخی بین المسلمین، محذّرة فی الوقت ذاته من الفرقة والاختلاف، کما فی قوله تعالی: (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُکُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّکُمْ فَاعْبُدُونِ)1 .

وقوله: (وَ إِنَّ هذِهِ أُمَّتُکُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّکُمْ فَاتَّقُونِ)2 .

ص:223

وقوله: (وَ أَطِیعُوا اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَ تَذْهَبَ رِیحُکُمْ وَ اصْبِرُوا إِنَّ اللّهَ مَعَ الصّابِرِینَ)1,2.

وفی هذا المسار سارت بیانات الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام فی التأکید علی أهمّیّة وحدة وتلاحم المسلمین وتآلفهم، وهو ما یکشف عنه ذلک الحشد المتنوّع من الروایات الواردة عنهم علیهم السلام التی جاءت مشفوعة بتحدید الآلیّات والإجراءات الکفیلة بضمان الوحدة والتعایش بین المسلمین.

ولم یقتصر الأمر علی ما ورد عنهم علیهم السلام من نصوص روائیّة فی هذا الصدد، بل بادروا علیهم السلام إلی تجسید ذلک عملیّاً من خلال سیرتهم مع المسلمین، ولعلّ أوّل بادرة فی هذا المسار هو ما قام به الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله من عملیة المؤاخاة بین المهاجرین والأنصار، وذلک منذ اللحظات الاولی من وصوله إلی المدینة المنوّرة، فی خطوة اولی لجعل الإسلام والوحدة محور حرکة المسلمین وقوّتهم.

وبهذا استطاع صلی الله علیه و آله من القضاء علی العصبیّات الجاهلیّة والنزعات المختلفة، التی کادت تمزّق وحدة الصفّ الإسلامیّ آنذاک.

وهکذا الحال بالنسبة إلی سیرة الأئمّة من أهل البیت علیهم السلام - کما هو واضح - کما نلمس ذلک بوضوح فی سیرة الإمام أمیر المؤمنین علیّ بن أبی طالب علیه السلام، فعلی الرغم من إقصائه من حقّه فی الخلافه، إلّاأنّه علیه السلام وحرصاً منه علی وحدة المسلمین، کان مشیراً ومعلّماً ومدبّراً وناقداً وناصحاً، ولا تأخذه فی الله لومة لائم.

ص:224

وتابع هذه المسیرة من بعده أولاده المعصومین علیهم السلام من خلال سیرتهم العملیّة فی الحفاظ علی وحدة وتلاحم المسلمین، وهی سیرة ملیئة بالشواهد فی هذا المجال والتی لا یسع المقام لاستقصائها.

فإنّهم علیهم السلام علی الرغم من قناعتهم بأحقّیّتهم بالخلافة وصواب خطّهم الفکریّ والفقهیّ، وقناعتهم بخطأ غیرهم ممّن لم یهتدوا بهداهم، فعلی الرغم من ذلک فإنّهم علیهم السلام لا یفرضون قناعاتهم علی أحد، وإنّما أخذوا فی مخاطبة العقول والتعامل مع الناس علی وفق برنامج حکیم یعتمد المحبّة والبرهان والدلیل والحکمة والموعظة الحسنة، مؤکّدین فی الوقت ذاته علی ضرورة وحدة وتلاحم المسلمین.

ومن هنا نجد کثافة النصوص الروائیّة التی سلّطت الضوء علی إعطاء تعریف للإسلام والمسلم، بحیث لا یلغی الآخرین ولا یخرجهم من دائرة الإسلام، ولا یصادر حریّة الأفکار والعقول.

یقول الإمام أبو جعفر محمد بن علیّ الباقر علیه السلام موضّحاً معنی الإسلام: «والإسلام ما ظهر من قول أو فعل، وهو الذی علیه جماعة من الناس من الفِرق کلّها، وبه حقنت الدماء، وعلیه جرت المواریث، وجاز النکاح، واجتمعوا علی الصلاة والزکاة والصوم والحجّ، فخرجوا بذلک عن الکفر، واضیفوا إلی الإیمان»(1).

ویقول الإمام أبو عبدالله الصادق علیه السلام: «الإسلام هو الظاهر الذی علیه

ص:225


1- (1) المحاسن: 285.

الناس، شهادة أن لا إله إلّا الله، وأنّ محمّداً رسول الله صلی الله علیه و آله، وإقامة الصلاة، وإیتاء الزکاة، وحجّ البیت، وصیام شهر رمضان» (1) .

وقال علیه السلام: «الإسلام شهادة أن لا إله إلّاالله، والتصدیق برسول الله صلی الله علیه و آله، وبه حقنت الدماء، وعلیه جرت المناکح والمواریث، وعلیه جماعة الناس»(2).

وهذه الأحادیث الشریفة والمواقف الواضحة من قِبل أهل البیت علیهم السلام تکشف بوضوح عن الموقف الحریص لأئمّة أهل البیت علیهم السلام علی وحدة المسلمین، واجتماع کلمتهم.

وعلی نفس الخطّ سار مراجع الدین الکبار من أتباع أهل البیت علیهم السلام من أجل تحقیق الوحدة والتعایش بین المسلمین.

إلّاأنّ الشیء الذی یسترعی الالتفات هو وجود بعض القواعد المهمّة، سواء فی المجال الفقهیّ أم العقائدی، لم یتعرّض لها ولم تؤخذ بنظر الاعتبار، مع أنّ لهذه القواعد دور کبیر فی رسم المعالم المهمّة فی منظومة التعایش بین المذاهب الإسلامیّة، بل بین الأدیان جمیعاً.

ومن هذا المنطلق بادر سماحة الاستاذ المدقّق الشیخ آیة الله محمّد السند حفظه الله تعالی فی محاولة لتقویم هذه المسیرة، فکانت بادرة موفّقة أشار فیها سماحة الشیخ حفظه الله تعالی إلی عدد من القواعد المهمّة التی تمثّل القاعدة التحتیّة التی ینهض علیها نظام التعایش والوحدة بین المسلمین، والتی ینبغی

ص:226


1- (1) اصول الکافی: 26/2.
2- (2) اصول الکافی: 45/2.

مراعاتها وأخذها بعین الاعتبار لکلّ العاملین والمهتمّین والساعین إلی توحید کلمة المسلمین ووحدة صفّهم. علماً أنّ هذه القواعد مبثوثة فی ثنایا الکتب الکلامیّة والأبواب الفقهیّة، إلّاأنّها لم تتقولب ولم تتأطّر بشکل قواعدی.

وقد تنوّعت هذه القواعد إلی قواعد خاصّة بنظام الوحدة، واخری خاصّة بنظام التقریب، وإلی قواعد تتعلّق بنظام الانسجام والتوافقات.

ومن الجدیر بالذکر أنّ هذا البحث جاء مشفوعاً بإعطاء نقدٍ تحلیلیٍّ والکشف عن بعض الأخطاء ونقاط الضعف التی تعتور هذه المسیرة التی رسم خطوطها العریضة أهل البیت علیهم السلام.

وممّا ینبغی الإشارة إلیه أنّ هذا البحث کان یمثّل تقریراً لعدد من الأبحاث التی تناولها سماحة الشیخ حفظه الله تعالی فی هذا المجال، استجابة لدعوات بعض الإخوة المؤمنین الذین التمسوا من سماحته وبإلحاح علی بیان بعض الملاحظات فی هذا المجال، وقد قمت - بعونه تعالی وتوفیقه - بتدوینها وترتیبها وإخراجها علی هذا الشکل الماثل بین یدی القارئ الکریم.

خطّة البحث:

انطلقت خطّة البحث بتقسیمه إلی فصول ثلاثة:

تناول الفصل الأوّل التعریف بأقسام الوحدة، وبیان القواعد الخاصّة بنظام الوحدة، والأدلّة علیها.

أمّا الفصل الثانی، فقد اضطلع ببیان نظام التقریب، والحوار والاتّحاد،

ص:227

والتعرّض لأهمّ أهداف التقریب، مع بیان أهمّ القواعد الخاصّة فی نظام التقریب.

بینما کرّس الفصل الثالث فی البحث عن نظام التنسیق والتوافقات الوقتیّة وغایاته، وامتیازه عن نظام الوحدة ونظام التقریب، مع بیان القواعد الخاصّة به.

وفی الختام أتضرّع إلی الله تعالی أن یتقبّل منّی هذا الیسیر، وأن یجعله عملًا صالحاً تقرّ به العیون.

کما أسأله تعالی أن یرفع أجر هذا العمل إلی سیّدنا ومولانا أمیر المؤمنین وسیّد الموحّدین الإمام علیّ بن أبی طالب علیه السلام.

تمهید:

النظم القرآنیّة فی نبذ الفرقة والتنازع:

بادی ذی بدء نقول: إنّ القرآن الکریم طرح ثلاثة نظم تؤمّن فی حدّها الأدنی مسألة تجنّب ونبذ الفرقة والتنازع بین المسلمین، بل بین أتباع الدیانات السماویّة، وکذا بین مطلق المذاهب والنِّحل فی المجتمعات البشریّة، وهذه الأنظمة هی:

النظام الأوّل: نظام الوحدة.

النظام الثانی: نظام التقریب والحوار والاتّحاد.

النظام الثالث: نظام التنسیق والانسجام والتوافقات.

وسوف نلج فی إعطاء لمحة تصوّریّة لکلّ من هذه الأنظمة.

ص:228

الفصل الأول: نظام الوحدة

تعریف الوحدة:

الوحدة: هی الاصول المشترکة، سواء کانت فی المسائل العقدیّة أم فی الاسس التشریعیّة، وقد تعرف بأنّها نظام مبادئ ومنطلقات واسس.

أقسام الوحدة:

تقسّم الوحدة إلی عدّة أقسام، منها:

1 - الوحدة الفعلیّة:

وهی عبارة عن الاصول المشترکة المتوفّرة بالفعل بین المذاهب الإسلامیّة، أو بین أتباع الدیانات، أو بین المدارس البشریّة.

2 - الوحدة المنظورة المستقبلیّة:

وهی الوحدة التی یتطلّع إلیها فی دائرة أوسع من الاصول المشترکة.

3 - الوحدة فی نِحلة الإسلام:

ص:229

وهی ما یبحث فیها عن اصول مشترکة فی الملّة والنِّحلة الإسلامیّة.

4 - الوحدة الأدیانیّة:

وهی الاصول المشترکة بین أتباع الدیانات السماویّة.

5 - الوحدة الإنسانیّة:

وهی الاصول الفطریّة المشترکة بین المدارس البشریّة.

6 - الوحدة السیاسیّة:

وهی الوحدة التی تنطبق علی نظام التنسیق والانسجام والتوافقات، کما سیأتی.

القواعد الأساسیّة فی بناء نظام الوحدة

هنالک عدد من القواعد الأساسیّة المهمّة والمؤثّرة علی صعید نظام الوحدة منها:

القاعدة الاولی: ضرورة البحث والتنقیب فی التاریخ الإسلامیّ

الأدلّة علی القاعدة

الدلیل الأوّل: دراسة التاریخ جزء لا یتجزّأ عن عقیدة الإنسان

من المعلوم أنّ دراسة تاریخ الأدیان والمذاهب وتاریخ رعاتها وحماتها، بات طریقاً فطریّاً؛ لأجل الوقوف علی صحّة وحقّانیّة وسداد ذلک الدین أو المذهب.

ومن هنا نجد أنّ القرآن الکریم یعدّ سیرة النبیّ صلی الله علیه و آله أحد الدلائل علی

ص:230

صدق وحقّانیّة دعوته، کما فی قوله تعالی: (قُلْ لَوْ شاءَ اللّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَیْکُمْ وَ لا أَدْراکُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِیکُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ)1 ،) حیث یقول النبیّ صلی الله علیه و آله - کما یحکیه القرآن الکریم - إنّی قد عشت معکم هذا العمر الطویل واطّلعتم علی سیرتی، فهل عرفتمونی بالکذب یوماً، أم هل ادّعیت یوماً بشیء من نفسی، وهل ما جئت به من کلام معجز هو من نفسی وأنا علی ما تعرفون من الصدق...؟

وهکذا الأمر بالنسبة لرعاة المذاهب الإسلامیّة، سواء العقائدیّة أم الفقهیّة، فانّ دراسة تاریخهم وأحوالهم وسیرتهم تجاه الإسلام والحقّ، تعطی رؤیة واضحة للناقد والباحث تساهم فی تحدید موقفه تجاه منهجهم ومدی درجة اعتباره.

وعلی هذا الأساس تتّضح أهمّیّة البحث والتنقیب عن تاریخ صدر الإسلام، وما جری فیه من الأحداث؛ لأنّ الجیل الأوّل من الإسلام أصبح کلّ واحد منهم رائداً وقائداً لمناهج وتوجّهات عقائدیّة متعدّدة، فلأجل التمییز والوقوف علی أحقّیّة تلک المناهج؛ لا بدّ من دراسة تاریخ ومواقف کلّ واحد من هؤلاء لیتسنّی للمسلم أن یبنی عقیدته علی أساس البصیرة والدلائل.

ومن الواضح أنّ منهج البحث والتنقیب فی التاریخ منهج فطریّ وتربویّ أکّد علیه القرآن الکریم فی مواضع متعدّدة، کما نلمس ذلک فیما یشیر إلیه القرآن الکریم فی استعراضه للأحداث التی جرت فی صدر

ص:231

الإسلام بشکل مفصّل ودقیق، کما نلاحظ ذلک فی حدیثه عن أحوال المسلمین الذین شارکوا فی معرکة بدر فی سورة الأنفال، وفی معرکة احُد فی سورة آل عمران، وکذلک حدیثه عن أحوال المسلمین فی غزوة حنین فی سورة البراءة، وفی معرکة الخندق فی سورة الأحزاب، وغیرها.

فهذا منهج تربویّ یوصی القرآن الکریم به المسلمین؛ لأجل أن یتقیّدوا بمنهج البحث التاریخی والتنقیب عمّن یؤخذ منه الدین.

وهناک عدد وافر من الروایات النبویّة الشریفة تؤکّد علی هذا المضمون، وترشد إلی ضرورة البحث عن مواقف الأصحاب والتمیز بین المواقف وتمییز من نکص مقابل من ثبت علی الحقّ.

وعلی ضوء هذا، فکیف یتسنّی للباحث عن الحقّ والحقیقة، التعرّف علی حقیقة دینه ومذهبه من دون الوقوف علی تاریخ ذلک الدین أو المذهب؟ وما هی جذور ومناشئ صیرورته وولادته؟

وکیف یصدّق ویوثّق حَمَلة التراث ویأمنهم علی دینهم، وهو لا یعرف حالهم ولا سیرتهم ولا مواقفهم ومسالکهم؟

الدلیل الثانی: مَن أحبّ عمل قوم اشرک معهم

فقد ورد عن الرسول صلی الله علیه و آله أنّه قال: «من أحبّ عمل قوم اشرک معهم، ومن أحبّ حجراً حُشر معه»(1) ، وقد وردت هذه الروایات بألفاظ متعدّدة

ص:232


1- (1) عیون أخبار الرضا علیه السلام: 628/2. بحار الأنوار: 16/29. صحیح البخاری: کتاب الأدب - باب علامة الحبّ فی الله. صحیح مسلم: کتاب البرّ والصلة - باب المرء مع مَن أحبّ.

وبطرق مستفیضة فی مصادر الفریقین.

وإطلاق الحدیث الشریف فی قوله: «مَن أحبّ عمل قوم...» شامل لکلّ قوم وإن لم یکونوا من المعاصرین لذلک العمل أو الفعل

الذی قام به جماعة أو فرد، ویمتدّ هذا الشمول إلی أعماق التاریخ منذ صدر البشریّة، بل یتّسع لما سیأتی من امم وأقوام لاحقة أنبأ القرأن الکریم عن أحوالهم.

وهذه قاعدة مهمّة وشریفة تؤکّد علی أنّ الإنسان مسؤول عن میوله النفسیّة وهواه وموقفه الفکریّ والثقافی تجاه الامم السابقة واللاحقة، وأنّ تضامنه معه، أو قطیعته لهم، هو فعل من أفعاله وأعماله التی تقع فی دائرة مسؤولیّته.

فالتضامن هو الالتقاء فی الموقف.

وهو خلاف القطیعة، فإنّها تمثّل جانب التباین فی الموقف.

وهذا هو معنی التولّی والتبرّی أو الولاء والبراءة، الذی یمثّل عنصراً تربویّاً بالغ الأهمیّة والتأثیر فی النفس الإنسانیّة تجاه الفئات والنماذج البشریّة المختلفة، سواء کانت فی الماضی أو الحاضر أو المستقبل.

إذن جانب المحبّة یضفی بتأثیره علی الإنسان وعلی صیاغة فکره ومنهجه وسیرته؛ لأنّه یعتمد علی نهج وفکر من والاه وأحبّه ومال إلیه.

ومن هنا یتّضح أنّ باب المحبّة، باب بالغ الأهمیّة، لأنّه یفتح للإنسان من صحائف الأعمال ما یتجاوز حدود عمره القصیر إلی مساحات زمنیّة

ص:233

شاسعة، ولذا یثاب بثوابهم.

إذن فلسفة بقاء المناهج والأفکار الماضیة قائمة علی أساس المحبّة والولاء.

فالقاعدة الشریفة التی أکّدتها الروایات المتظافرة، فیها بشارة من جهة، وإنذار وتحذیر من جهة اخری. فهی بشارة وحثّ علی محبّة الصالحین، وتحذیر وإنذار من محبّة الطالحین والضالّین.

وهذا المنهج القرآنی لا یرمی إلی التربیة علی الأحقاد والکراهیة، ولا یهدف إلی إشعال ضغینة أو سخیمة، بل فلسفته هی أن یتربّی الإنسان علی کیفیّة التمییز بین الموقف الصحیح؛ لیتبنّاه، وبین الموقف الفاسد لینبذه، من خلال اطّلاعه علی التاریخ.

وعلی هذا الضوء تتّضح ضرورة البحث والتنقیب عن التاریخ الإسلامیّ، لیتبیّن للمسلم مواقف وأعمال الأقوام والجماعات، لکی یتحمّل مسؤولیّة موقفه إزاء هؤلاء، من محبّة وتضامن، وولاء أو کراهة، وقطیعة أو براءة.

وقد ورد عن أمیر المؤمنین علیه السلام فی تفسیر قوله تعالی: (فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِینَ) 1 قال علیه السلام: «إنّما یجمع الناس الرضا والسخط، وإنّما عقر ناقة ثمود رجل واحد، فعمّم الله بالعذاب لما عمّوه بالرضا، فقال سبحانه: (فَأَصْبَحُوا نادِمِینَ)...»2.

ص:234

وعن سماعة، قال: «سمعت أبا عبدالله علیه السلام یقول فی قول الله: (قُلْ قَدْ جاءَکُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِی بِالْبَیِّناتِ وَ بِالَّذِی قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ کُنْتُمْ صادِقِینَ)1 .

قال علیه السلام: وقد علم أنّ هؤلاء لم یقتلوا، ولکن کان هواهم مع الذین قتلوا، فسمّاهم الله قاتلین لمتابعة هواهم ورضاهم لذلک الفعل»(1).

الدلیل الثالث: قاعدة الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر:

من الواضح أنّ المرتبة الاولی من قاعدة الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر هی المیل والمحبّة للمعروف وإنکار المنکر فی وعاء القلب.

وعلی ضوء هذا تتّضح أهمّیّة وضرورة البحث فی التاریخ الإسلامی، وذلک أنّ المسلم - لکی یتّخذ موقفاً من المعروف والمنکر - لا بدّ أن یطّلع علی العمل، فإن کان عدلًا، فهو معروف یجب علی کلّ إنسان - بحسب قاعدة الأمر بالمعروف - أن یحبّه بقلبه ویأمر الآخرین بالأخذ به، وما کان ظلماً وجوراً یجب علی الإنسان إنکاره قلباً وینهی عن الإتیان بمثله.

وبعبارة اخری: أنّ قاعدة الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر لها مراتب متعدّدة، ابتداءً من مرتبة القلب، ثمّ مرتبة اللسان، ثمّ مرتبة الید.

ومن الواضح أنّ مرتبة القلب لا تختصّ بأعمال وأفعال الأحیاء، وإنّما تعمّ کلّ مساحات التاریخ، وتشمل امتدادات المستقبل، وهذا من بدائع

ص:235


1- (2) تفسیر العیّاشی: 208/1.

التشریع الإسلامی؛ لأنّ الإنسان فی مرتبة روحه وقلبه یشرف علی الدهور والأزمنة الغابرة واللاحقة.

وعلی هذا الأساس، ینبغی تمییز المعروف والمنکر فی المواقف والأعمال فی صدر الإسلام؛ لکی یقوم المسلم بأداء وظیفة الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، التی هی من أعظم فرائض الله تعالی حیث تقام بها بقیّة الفرائض.

دلیل مانعی البحث فی التاریخ الإسلامی:

من الذرائع التی تمسّک بها مانعو البحث فی التاریخ الإسلامی هو قوله تعالی: (تِلْکَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما کَسَبَتْ وَ لَکُمْ ما کَسَبْتُمْ وَ لا تُسْئَلُونَ عَمّا کانُوا یَعْمَلُونَ)1 .

وقوله تعالی: (وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْری ثُمَّ إِلی رَبِّکُمْ مَرْجِعُکُمْ فَیُنَبِّئُکُمْ بِما کُنْتُمْ فِیهِ تَخْتَلِفُونَ)2 .

بتقریب: أنّ الآیات القرآنیّة ظاهرة فی المنع عن البحث فی تاریخ الامم السالفة، وما جری فیها من أحداث؛ لأنّها قد خلت وانقضت ومضت، وهم یتحمّلون وزر أعمالهم وأفعالهم، ولا یتحمّل من یأتی بعدهم مسؤولیّة ما کانوا یعملون؛ لأنّ الله تعالی هو الذی یقضی بینهم ویحکم علی ما فعلوه، فلا نحاسب نحن علی أعمالهم، ولسنا مطالبین بتقییمها، ولا بتعیین الصائب منها من الخاطئ، ولا الحقّ من الباطل.

ص:236

ومن هنا فالآیة توجب غلق باب البحث والتنقیب عمّا حصل فی التاریخ الإسلامی، وما قام به من کان یعیش فی تلک الحقب الزمنیّة، وغیر ذلک من المبرّرات لمنع دراسة التاریخ.

الجواب علی دلیل المانعین:

إنّ التأمّل فی الآیة الکریمة یکشف عن أنّها تدلّ علی عکس ما استدلّوا به وما استظهروه منها؛ لأنّ هذه الآیات القرآنیّة فی صدد إبطال التبعیّة والتقلید للُامم السالفة من دون فحص وتحقیق، وهذا ما یکشف عنه سیاق الآیات السابقة لها، حیث کانت فی بیان جدال أهل الکتاب مع النبیّ صلی الله علیه و آله والمسلمین وإصرارهم علی شریعتهم وما علیه أسلافهم واممهم السابقة.

وکان الجواب القرآنیّ لدحضهم وإبطال مدّعاهم هو التندید بتقلیدهم لأسلافهم من الامم السابقة التی تابعوها من دون فحص وتنقیب.

فالإنسان مطالب بالبحث عن الحجّة والتنقیب عن الأدلّة، ولا یسوغ له الاعتماد علی منهاج أسلافه من دون دلیل وحجّة؛ لأنّ ذلک لا ینفعه بل یضرّه فیما إذا خالف أمر الله تعالی.

فالآیة تشیر إلی أنّ الأجیال اللاحقة ممّن کانوا فی عهد رسول الله صلی الله علیه و آله، یحرم علیهم متابعة من سلف من آباء أهل الکتاب ممّن کان علی ملّة الیهودیّة والنصرانیّة من دون فحص وتدبّر.

وعلی ضوء هذا یتّضح أنّ الآیة المبارکة ظاهرة فی ضرورة التمحیص والتنقیب والوقوف علی اصول المعرفة الحقّة.

ص:237

إذن فالآیة المبارکة فی مقام نبذ التقلید، ولزوم التحرّی والفحص، فلا یحتجّ بالامّة التی قد خلت، بل یحتجّ بالدلیل.

وعلی هذا الأساس یتّضح بطلان ما ذهب إلیه البعض من دلالة الآیة علی المنع من البحث فی التاریخ.

ومن هنا یظهر البون الواسع بین المعنی الواقعیّ والحقیقیّ الذی ترمی إلیه الآیة المبارکة، وبین المعنی المحرّف الذی ذهب إلیه مانعو البحث عن التاریخ.

أمّا قوله تعالی: (وَ لا تُسْئَلُونَ عَمّا کانُوا یَعْمَلُونَ) فهو فی صدد بیان ضرورة ووجوب العمل علی أساس الحجّة والدلیل والبرهان الذی قام لدیه.

أمّا الحجّة والدلیل الذی اعتمده أسلافکم، وعملوا علی أساسه، فأنتم لستم فی معرض التساؤل والمساءلة عنه، بل أنتم مسؤولون عن الدلیل والحجّة والبرهان الذی تقدّموه أنتم لا دلیل أسلافکم، ولا تُعذرون بالتقلید والاتّباع.

تداعیات وسلبیّات القول بالمنع:

هناک جملة من التداعیات والآثار السلبیّة لمقولة المنع عن البحث فی التاریخ، التی ترسم للُامم السابقة حصانة عن النقد والفحص والتفتیش والمحاسبة، وتوجب وصف ونعت وتلمیع السابقین بالنعوت الجمیلة، وإضفاء الحجّیّة لهم من دون سبر وغور فی الأدلّة، وهذا ینافی الأدلّة السابقة، مضافاً إلی منافاته لضرورة العقل القاضی بنبذ التقلید الأعمی.

ص:238

ومن هنا نجد أنّ دیدن القرآن الکریم علی استعراض أحوال الامم السابقة، الصالحة والطالحة، وما جری من شؤونهم واختلافهم منذ عهد آدم، وما جری بین هابیل وقابیل، وما فعله الفراعنة وأصحاب الاخدود، قوم عاد وثمود، ونحوهم من الامم، حیث استقصی القرآن الکریم صفائح وسجلّات أعمالهم وأفعالهم؛ کلّ ذلک لأجل أن یکون عبرة للأجیال اللاحقة، حتّی لا یقعوا مواقع الظالمین وأهل القبائح، وکذلک لأجل التأسّی بأهل الحقّ والصلاح؛ لذا قال تعالی: (لَقَدْ کانَ فِی قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِی الْأَلْبابِ ما کانَ حَدِیثاً یُفْتَری)1 .

وقوله تعالی: (تِلْکَ الْقُری نَقُصُّ عَلَیْکَ مِنْ أَنْبائِها)2 .

وقوله تعالی: (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ یَتَفَکَّرُونَ)3 .

القاعدة الثانیة: حرمة دم المسلم وعِرضه وماله

وحاصل هذه القاعدة هو أنّ کلّ من تشهّد الشهادتین، کان مسلماً وحقن دمه وعرضه وماله.

هناک عدد من الأدلّة القرآنیّة والروائیّة تدلّ علی أنّ مَن تشهّد الشهادتین فقد حقن دمه وعِرضه وماله، ومن هذه الأدلّة:

الأدلّة علی القاعدة:

ص:239

الدلیل الأوّل:

قوله تعالی: (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لکِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمّا یَدْخُلِ الْإِیمانُ فِی قُلُوبِکُمْ وَ إِنْ تُطِیعُوا اللّهَ وَ رَسُولَهُ لا یَلِتْکُمْ مِنْ أَعْمالِکُمْ شَیْئاً إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِیمٌ)1 .

وهی واضحة الدلالة علی أنّ الإسلام عبارة عن الإقرار بالشهادتین، وبها تحقن الدماء والأعراض والأموال.

من الواضح أنّ الإسلام یختلف عن الإیمان، إذ الإیمان عبارة عن الیقین الثابت فی قلوب المؤمنین، المقارن للإقرار اللّسانیّ بالشهادتین، وبذلک یتّضح أنّ الإیمان أعلی مرتبة من الإسلام.

فقد روی الکلینی عن القاسم الصیرفی، قال: «سمعت أبا عبدالله علیه السلام یقول: الإسلام یحقن به الدم، وتؤدّی به الأمانة، وتستعمل به الفروج والثواب علی الإیمان»(1).

وروی سماعة، قال: «قلت لأبی عبدالله علیه السلام: أخبرنی عن الإسلام والإیمان أهما مختلفان؟

فقال: إنّ الإیمان یشارک الإسلام، والإسلام لا یشارک الإیمان.

فقلت: فصفهما لی.

فقال: الإسلام شهادة أن لا إله إلّاالله، والتصدیق برسول الله صلی الله علیه و آله، وبه

ص:240


1- (2) الکافی 20/2.

حقنت الدماء، وعلیه جرت المناکح والمواریث، وعلی ظاهره جماعة الناس.

والإیمان: الهدی وما یثبت فی القلوب من صفة الإسلام، وما ظهر من العمل به، والإیمان أرفع من الإسلام درجة. إنّ الإیمان یشارک الإسلام فی الظاهر، والإسلام لا یشارک الإیمان فی الباطن وإن اجتمعا فی القول والصفة»(1).

وقال الفیض الکاشانی فی تفسیر الصافی: «الإیمان تصدیق مع ثقة وطمأنینة قلب، ولم یحصل لکم، ولکن قولوا أسلمنا، فإنّ الإسلام انقیاد، ودخول فی السلم، وإظهار الشهادة، وترک المحاربة یشعر به»(2).

قال الزمخشریّ - فی تفسیر الآیة المبارکة آنفة الذکر -:

«الإیمان: هو التصدیق مع الثقة وطمأنینة النفس، والإسلام:

الدخول فی السلم، والخروج من أن یکون حرباً للمؤمنین بإظهار الشهادتین، ألا تری إلی قوله تعالی: وَ لَمَّا یَدْخُلِ الْإِیمانُ فِی قُلُوبِکُمْ، فاعلم أنّ ما یکون من الإقرار باللسان من غیر مواطأة القلب فهو إسلام، وما واطأ فیه القلب اللسان فهو إیمان»(3).

وقال القرطبی فی تفسیره: «وحقیقة الإیمان التصدیق بالقلب، وأمّا الإسلام فقبول ما أتی به النبیّ صلی الله علیه و آله فی الظاهر، وذلک یحقن الدم»(4).

وبنفس المضمون ما ورد فی(إرشاد الساری) للقسطلانی و(صفوة

ص:241


1- (1) الکافی: 21/2.
2- (2) تفیر الصافی: 55/5.
3- (3) الکشّاف: 376/4.
4- (4) الجامع لأحکام القرآن: 299/16.

التفاسیر) للصابونی(1).

وقال ابن کثیر فی تفسیره: «وقد استفید من هذه الآیة الکریمة:

أنّ الإیمان أخصّ من الإسلام، کما هو مذهب أهل السنّة والجماعة - إلی أن قال: - فدلّ هذا علی أنّ هؤلاء الأعراب المذکورین فی هذه الآیة لیسوا بمنافقین؛ وإنّما هم مسلمون لم یستحکم الإیمان فی قلوبهم، فادّعوا لأنفسهم مقاماً أعلی ممّا وصلوا إلیه، فادِّبوا فی ذلک».

ثمّ قال: «ولو کانوا منافقین لعنّفوا وفضحوا، کما ذُکر المنافقون فی سورة براءة؛ وإنّما قیل لهؤلاء تأدیباً: (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لکِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمّا یَدْخُلِ الْإِیمانُ فِی قُلُوبِکُمْ) ، أی: لم تصلوا إلی حقیقة الإیمان بعد»(2).

وقال الطبری فی تفسیره لقوله تعالی: (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنّا...) : «أسلمنا: بمعنی دخلنا فی الملّة والأموال والشهادة الحقّ»(3).

وقال البیضاوی فی تفسیره: «إنّ الإسلام انقیاد ودخول فی السلم، وإظهار الشهادتین، وترک المحاربة»(4).

الدلیل الثانی:

قوله تعالی: (وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقی إِلَیْکُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً) حیث نزلت هذه الآیة المبارکة - باتّفاق المسلمین - فی رجل من الکفّار أظهر

ص:242


1- (1) إرشاد الساری: 110/1. صفوة الصفوة: 203/3.
2- (2) تفسیر القرآن العظیم: 1607.
3- (3) جامع البیان: 166/13.
4- (4) تفسیر البیضاوی: 220/5.

الإسلام عندما غشیتهم خیول المسلمین فقتلوه.

والذی یستفاد من الآیة المبارکة أنّ من أظهر الإسلام، یحقن دمه ویکون مسلماً لا یجوز قتله، وإن لم یعلم منه الإیمان القلبیّ، فإنّ الله تعالی هو الذی یتولّی السرائر، فلا یجوز أن یقتل بحجّة أنّه لیس مؤمناً، أو لا یعلم الإیمان من ظاهره.

ولذا قال رسول الله صلی الله علیه و آله لقاتله - حینما اعتذر بأنّه نطق بالشهادتین خوفاً من السلاح -: «أفلا شققت عن قلبه»(1) ، أی لا یلزم من دخوله الإسلام لیحقن الدم والمال أن یکون مؤمناً، بل بمجرّد تشهّده بالشهادتین.

الدلیل الثالث: الروایات

هناک عدد وافر من روایات الفریقین تدلّ علی هذه القاعدة، ومن هذه الروایات:

من طرق الشیعة:

1 - صحیحة حمران بن أعین، عن الباقر علیه السلام، قال: «الإسلام ما ظهر من قول أو فعل، وهو الذی علیه جماعة الناس من الفرق کلّها، وبه حقنت الدماء، وعلیه جرت المواریث، وجاز النکاح»(2).

2 - روایة سفیان بن السمط، عن الصادق علیه السلام، قال: «الإسلام هو الظاهر الذی علیه الناس، شهادة أن لا إله إلّاالله، وأنّ محمّداً رسول الله صلی الله علیه و آله،

ص:243


1- (1) سنن أبی داوود: 595/1، الحدیث 2643.
2- (2) اصول الکافی: 26/2.

وإقام الصلاة، وأداء الزکاة، وحجّ البیت، وصیام شهر رمضان،...» (1).

3 - عن سماعة، عن الصادق علیه السلام، قال: «الإسلام شهادة أن لا إله إلّا الله، والتصدیق برسول الله صلی الله علیه و آله، به حقنت الدماء، وعلیه جرت المناکح والمواریث، وعلی ظاهره جماعة من الناس»(2).

4 - ما روی عن أبی عبدالله علیه السلام، حیث قال: «قال رسول الله صلی الله علیه و آله: أیّها الناس، إنّی امرت أن اقاتلکم حتّی تشهدوا أن لا إله إلّاالله، وأنّی محمّد رسول الله، فإذا فعلتم ذلک حقنتم أموالکم ودماءکم إلّا بحقّها، وکان حسابکم علی الله»(3).

5 - عن الباقر علیه السلام، قال - فی جوابه لشخص سأله عن الإیمان -: «الإیمان ما کان فی القلب، والإسلام ما کان علیه المناکح والمواریث، وتحقن به الدماء، والإیمان یشرک الإسلام، والإسلام لا یشرک الإیمان»(4).

6 - عن أمیر المؤمنین علیّ علیه السلام، قال: «مَن استقبل قبلتنا، وأحلّ ذبیحتنا، وآمن بنبیّنا، وشهد شهادتنا، دخل فی دیننا، أجرینا علیه حکم القرآن وحدود الإسلام...»(5).

ص:244


1- (1) أصول الکافی: 24/2.
2- (2) اصول الکافی: 45/2.
3- (3) المحاسن: 284.
4- (4) المحاسن: 285.
5- (5) الکافی: 361/8.

ونحوها من الروایات(1).

من طرق السنّة:

1 - أخرج مسلم فی صحیحه عن أبی شیبة، قال: «بعثنا رسول الله صلی الله علیه و آله فی سریّة فصبّحنا الحرقات من جهینة، فأدرکت رجلًا فقال:

لا إله إلّاالله، فطعنته، فوقع فی نفسی من ذلک، فذکرته للنبیّ صلی الله علیه و آله، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله: أقال لا إله إلّاالله وقتلته؟

قال: قلت: یا رسول الله، إنّما قالها خوفاً من السلاح.

قال صلی الله علیه و آله: أفلا شققت عن قلبه حتّی تعلم أقالها أم لا، فما زال یکرّرها حتّی تمنّیت أنّی أسلمت یومئذٍ.

قال: فقال سعد: وأنا والله لا أقتل مسلماً حتّی یقتله ذو البطین - یعنی اسامة -.

قال: قال رجل: ألم یقل الله: (وَ قاتِلُوهُمْ حَتّی لا تَکُونَ فِتْنَةٌ وَ یَکُونَ الدِّینُ کُلُّهُ لِلّهِ) (2).

فقال سعد: قد قاتلنا حتّی لا تکون فتنة، وأنت وأصحابک تریدون أن تقاتلوا حتّی تکون فتنة» (3).

2 - کذلک أخرج مسلم فی صحیحه عن المقداد بن الأسود، أنّه أخبره

ص:245


1- (1) انظر اصول الکافی: 45/2.
2- (2) الأنفال 39:8.
3- (3) صحیح مسلم: 67/1.

أنّه قال: یا رسول الله، أرأیت إن لقیت رجلًا من الکفّار فقاتلنی فضرب إحدی یدیّ بالسیف فقطعها، ثمّ لاذ منّی بشجرة فقال: أسلمت لله، أفاقتله یا رسول الله بعد أن قالها؟

قال رسول الله صلی الله علیه و آله: لا تقتله.

قال: فقلت: یا رسول الله، إنّه قد قطع یدی ثمّ قال بعد أن قطعها! أفأقتله؟

قال رسول الله صلی الله علیه و آله: لا تقتله، فإن قتلته فإنّه بمنزلتک قبل أن تقتله، وأنت بمنزلته قبل أن یقول کلمته التی قال»(1).

3 - أخرج البخاری فی صحیحه عن أنس بن مالک، قال: «قال رسول الله صلی الله علیه و سلم: امرت أن اقاتل الناس حتّی یقولوا: لا إله إلّاالله، فإذا قالوها وصلّوا صلاتنا واستقبلوا قبلتنا وذبحوا ذبیحتنا، فقد حرمت علینا دماؤهم وأموالهم إلّابحقّها، وحسابهم علی الله»(2).

وفی لفظ آخر: «قال رسول الله صلی الله علیه و سلم: امرت أن اقاتل الناس حتّی یقولوا: لا إله إلّاالله، فمن قال لا إله إلّاالله فقد عصم منّی نفسه وماله إلّا بحقّه، وحسابه علی الله»(3).

ونحو ذلک من الروایات التی وردت بهذا المضمون التی تدلّ علی أنّ

ص:246


1- (1) صحیح مسلم: 66/1.
2- (2) صحیح البخاری: 102/1 و 103.
3- (3) صحیح البخاری: 110/2 و: 5/4 و 6.

مجرّد الإقرار بالشهادتین یدخل قائلها الإسلام، ویحقن دمه وماله(1).

ویستفاد من ذلک: أنّ تحقّق الإسلام یتوقّف علی الإقرار بالشهادتین وإن کان إقراراً صوریّاً، ولم یکن معتقداً به حقیقة وقلباً.

وهذه الروایات واضحة الدلالة علی أنّ ملاک صدق الإسلام هو الشهادتین، التی بها تحقن الدماء والأعراض والأموال.

الدلیل الرابع: سیرة النبیّ صلی الله علیه و آله

فهناک الکثیر من موارد سیرة النبیّ صلی الله علیه و آله تکشف بوضوح هذه الحقیقة، وهی أنّه صلی الله علیه و آله کان یتعامل مع کلّ مَن تشهّد الشهادتین معاملة المسلم، وإن لم یدخل الإیمان فی قلبه، بل وإن کان صلی الله علیه و آله عالماً بعدم کونهم جمیعاً معتقدین بالإسلام حقیقة، کما فی الآیات الکثیرة النازلة فی المنافقین، کما فی سورة المنافقین وسورة البراءة والبقرة، وغیرها من السورء، ومع ذلک فکان النبیّ صلی الله علیه و آله والقرآن یتعامل معهم معاملة بقیّة المسلمین فی حقن دمهم وأموالهم وغیرها من أحکام ظاهر الإسلام، وکذلک قوله تعالی: (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنّا...)2 .

حیث أنکر الله تعالی علی الأعراب دعواهم الإیمان القلبیّ مع إقرارهم بالشهادتین، ولکن مع ذلک کان النبیّ صلی الله علیه و آله یعاملهم معاملة المسلمین لإظهارهم الشهادتین.

ومن هذه الموارد:

ص:247


1- (1) انظر صحیح مسلم: 38/1-40، باب تحریم قتل الکافر بعد أن قال لا إله إلّا الله.

1 - ما أخرجه ابن شهرآشوب فی مناقبه: عن ابن عبّاس، فی قوله تعالی: (وَ یَوْمَ یَعَضُّ الظّالِمُ)1 : «نزلت فی ابن أبی معیط وابیّ بن خلف، وکانا توأمین فی الخلّة، فقدم عقبة من سفره وأولم جماعة الأشراف، وفیهم رسول الله صلی الله علیه و آله، فقال النبیّ صلی الله علیه و آله: لا آکل طعامک حتّی تقول: لا إله إلّاالله، وأنّی رسول الله، فتشهّد الشهادتین، فأکل طعامه»(1).

ومحلّ الشاهد فی هذه الروایة أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله حکم بإسلام الرجل، وعامله معاملة المسلمین من الطهارة ونحوها بمجرّد إظهار الشهادتین، ولذا شرط الرسول صلی الله علیه و آله علی الرجل بأنّه لا یأکل معه إلّا بعد التشهّد بالشهادتین، فرتّب صلی الله علیه و آله أحکام الإسلام علی الشهادتین فقط.

2 - عن النعمان بن سالم: «إنّ عمرو بن أوس أخبره أنّ أباه أوساً قال: إنّا لقعود عند النبیّ صلی الله علیه و آله وهو یقصّ علینا ویذکّرنا، إذ أتاه رجل فسارّه، فقال النبیّ صلی الله علیه و آله: اذهبوا فاقتلوه.

فلمّا ولّی الرجل دعاه رسول الله صلی الله علیه و آله فقال: هل تشهد أن لا إله إلّا الله؟

قال: نعم.

قال: اذهبوا فخلّوا سبیله، فإنّما امرت أن اقاتل الناس حتّی یقولوا: لا إله إلّاالله، فإذا فعلوا ذلک حرم علَیَّ دماؤهم وأموالهم» (2).

ص:248


1- (2) مناقب آل أبی طالب: 118.
2- (3) مسند أحمد بن حنبل: 8/4.

3 - ما تقدّم فی صحیح البخاری من قوله صلی الله علیه و آله: إنّ صیانة الدماء والأموال ونحوها من الآثار، مترتّبة علی إظهار الشهادتین، ولا یشترط فی ترتیب هذه الآثار الاعتقاد بالإسلام قلباً وحقیقة.

نعم، یشترط فی الإیمان، العقد القلبیّ، کما تقدّم.

إلی غیر ذلک من الشواهد علی السیرة المبارکة للنبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله.

ما یوجب الخروج عن الإسلام:

بعد أن تبیّن أنّ الدخول فی الإسلام یتحقّق بالإقرار بالشهادتین، ینبغی بیان ما یوجب الخروج عن الإسلام.

ویتحقّق الخروج عن الإسلام بأحد الامور التالیة:

1 - إنکار أحد اصول الإسلام الأساسیّة، کالتوحید والنبوّة والمعاد، سواء کان إنکاره عن عمد أم جهل.

وأجمع المسلمون علی الحکم بکفر من أنکر هذه الاصول الثلاثة، وقد دلّت علی ذلک جملة وافرة من الآیات المبارکة.

أمّا بالنسبة إلی التوحید، فکقوله تعالی: (لَقَدْ کَفَرَ الَّذِینَ قالُوا إِنَّ اللّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلاّ إِلهٌ واحِدٌ وَ إِنْ لَمْ یَنْتَهُوا عَمّا یَقُولُونَ لَیَمَسَّنَّ الَّذِینَ کَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِیمٌ)1 .

ص:249

وأمّا بالنسبة إلی أصل النبوّة، فکقوله تعالی: (وَ إِنْ کُنْتُمْ فِی رَیْبٍ مِمّا نَزَّلْنا عَلی عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا شُهَداءَکُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ کُنْتُمْ صادِقِینَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النّارَ الَّتِی وَقُودُهَا النّاسُ وَ الْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْکافِرِینَ)1 .

وأمّا بالنسبة إلی أصل المعاد، فکقوله تعالی: (وَ الَّذِینَ کَفَرُوا بِآیاتِ اللّهِ وَ لِقائِهِ أُولئِکَ یَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِی وَ أُولئِکَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِیمٌ)2 .

2 - إنکار ضروریّ من ضروریّات الإسلام، فیما إذا استلزم ذلک الإنکار، تکذیب النبیّ صلی الله علیه و آله وإنکار رسالته.

والمقصود من الضروریّ فی المقام: هو ما علم من الدین بالضرورة، بمعنی أنّ المسلم یعلم به بالبداهة لکونه مسلماً، ولا یحتاج إلی دلیل، کوجوب الصلاة والصوم والحجّ والزکاة، ونحوها.

وعلی هذا الأساس، فلو أنکر واحدة من ضروریّات الدین مع العلم بکون حکمها ضروریّاً فی الشریعة المقدّسة، وأنّ النبیّ صلی الله علیه و آله أتی بها، حینئذٍ یکون إنکاره موجباً للارتداد والکفر، والخروج عن الإسلام، وهو فی الحقیقة تکذیب للنبیّ صلی الله علیه و آله وإنکار لرسالته، وهذا بخلاف ما إذا لم یستلزم إنکاره للضروریّ تکذیباً للنبیّ صلی الله علیه و آله، أو إنکاراً لرسالته الخاتمة، کما إذا أنکر ضروریّاً باعتقاد عدم ثبوته فی الشریعة الإسلامیّة، وأنّه لم یأت به النبیّ صلی الله علیه و آله، فإنّ إنکاره هذا لا یرجع إلی تکذیب النبیّ صلی الله علیه و آله أو إنکار رسالته، ولا یکون

ص:250

کفراً عند المتأخّرین من کلمات علماء جملة وافرة من المذاهب الإسلامیّة.

فعلی سبیل المثال: لو کان أحد فی أوّل إسلامه، وسئل عن الربا، فأنکر حرمته باعتقاد حلّیّته، فإنّه لا یکون إنکاره موجباً لکفره وارتداده، وإن کانت حرمة الربا من ضروریّات الدین لعدم استلزام إنکاره تکذیب النبیّ صلی الله علیه و آله أو إنکار رسالته.

وقد تقرّرت قاعدة حرمة المسلم دمه وعرضه وماله المنصوص علیها بألسنة متعدّدة، منها:

1 - عن النبیّ صلی الله علیه و آله، قال: «المسلم أخو المسلم، لا یحلّ دمه ولا ماله إلّامن طیبة نفسه»(1).

2 - عن زید الشحّام، عن أبی عبدالله الصادق علیه السلام، قال: «قال رسول الله صلی الله علیه و آله: لا یحلّ دم امرئ مسلم ولا ماله إلّابطیب نفسه»(2).

3 - عن أبی هریرة، عن رسول الله صلی الله علیه و آله، قال: «کلّ المسلم علی المسلم حرام، دمه وماله وعِرضه»(3).

ونحوها من الروایات التی بلغت حدّ التواتر، وهی واضحة الدلالة علی وجوب احترام دم المسلم وعِرضه وماله.

ومن مجموع هذه الروایات یتّضح:

أنّ أدلّة حقن الدماء بالشهادتین قطعیّ لا ظنّی، ومن ثمّ فإنّ رفع الید

ص:251


1- (1) انظر وسائل الشیعة: الباب 13 من أبواب العِشرة، کتاب الحجّ.
2- (2) الکافی: 273/7. من لا یحضره الفقیه: 17/4.
3- (3) صحیح مسلم: 1986/4.

عن هذا الدلیل القطعی لا بدّ أن یکون بدلیل قطعیّ، فلا یسوغ رفع الید عنها بدلیل ظنّیّ، ولا یسوغ التکفیر واستباحة الدماء لکلّ من تشهّد الشهادتین، بالاعتماد علی دلیل ظنّیّ؛ وذلک لما هو مقرّر فی قواعد المنهج الفقهی الذی یبحث فی اصول فقه الأحکام أنّ العموم القطعی ذی الحکم الخطیر آبّ عن التخصیص بالدلیل الظنّی.

وبعبارة اخری: إنّ عموم الحکم بدخول الإسلام لکلّ من اعتنق الشهادتین، هذا العموم لم یقرّر بدلالة ظنّیّة بل بدلالة قطعیّة، فالحکم قطعیّ.

مضافاً إلی أنّ ملاک الحکم والمصلحة والمفسدة المترتّبة علیه هی من الخطورة بمکان، والقاعدة تقتضی فی مثل ذلک قوّة الدلیل الدالّ علی الحکم، وهذه القاعدة أساسیّة مطّردة فی نظام معرفة الأحکام الشرعیّة، أی أنّ قوّة الدلیل لا بدّ أن تتناسب مع أهمّیّة الحکم، فلا یمکن أن ینصب الشارع دلیلًا متوسّطاً - فضلًا عن دونه - علی حکم خطیر مهمّ، بل لا بدّ من توفّر الداعی لنصب وبیان أدلّة قویّة توازی قوّة وأهمیّة الحکم.

والوجه فی اعتماد هذه القاعدة هو أنّ أهمّیّة الحکم لا بدّ أن تتناسب طردیّاً مع درجة قوّة الدلیل الذی سیق علیه؛ للتناسب الطردیّ فی الأهمیّة ودرجة خطورته.

ومن ثمّ کانت الأدلّة المقامة تکویناً وشرعاً علی اصول الدین، أکثر قوّة وبیاناً ودلالة من الأدلّة التی تقام علی الفروع، وکذلک أدلّة الأرکان فی الدین بالقیاس إلی أدلّة التفاصیل.

ص:252

وعلی هذا الأساس، فإنّ عدم مراعاة هذه القاعدة فی منهاج وطریق معرفة الأحکام یؤدّی إلی الهرج والمرج فی الاستنتاج، وفی المعرفة الدینیّة، وفی طریقة التفکیر، ومن ثمّ یتسبّب فی الجرأة والاجتراء علی التکفیر واستباحة الدماء والتجاوز علی حرمات ومقدّسات الدین لمجرّد استدلال واستظهار ظنّیّ، ومن ثمّ حکم الفقهاء تبعاً للروایات أنّ الحدود تدرأ بالشبهات وذلک لخطورة حرمة الدماء فی المقاصد الشرعیّة، فلا یجترئ علیها بمجرّد إیهام ظنّیّ.

إذن درجة قدسیّة الأحکام إنّما تستعلم بحسب قوّة الدلیل وأهمّیّة غایة التشریع.

ومن ذلک نخلص إلی أنّ المجترئ علی المسلمین بتکفیرهم واستباحة دمائهم تحت ذریعة الغیرة والحمیّة الدینیّة، هو فعل فی الطرف النقیض من قوله وادّعائه الغیرة والحمیّة علی الدین؛ لأنّه بفعله هذا قد أخذ بمعول هدّام لتقویض الدین والملّة، إذ أنّ مقتضی قدسیّة الشهادتین هو الالتزام الشدید بآثارهما، لا الاستخفاف بمقتضاهما، والتعویل علی أمر ودلیل ظنّیّ وجعله الأساس فی الملّة والدین ممّا یعنی تغییر الملّة والدین من الشهادتین إلی ذلک الأصل الظنّیّ، وجعله المحور والمرکز بدل الشهادتین، وهذا من لوازم عدم مراعاة القاعدة المنهجیّة السابقة من جعل الظنّیّ فی مصاف درجة القطعی الیقینی، فإنّه یصاعد بالحکم الظنّیّ إلی مصاف الحکم القطعی الیقینی ممّا یجعله یکتسب آثار الحکم الیقینی من المرکزیّة والامومة مع أنّ الحکم الظنّیّ لیس شأنه إلّا الفرعیّة والتبعیّة. وهذا ممّا یبیّن خطورة تلک القاعدة وأنّها

ص:253

حافظة لمنظومة أحکام الدین عن الانفراط والتبدّل.

القاعدة الثالثة: ضرورة التمییز بین السیرة فی صدر الإسلام وبین سیرة بنی امیّة

وتتمحور هذه القاعدة حول ضرورة التمییز بین السیرة فی صدر الإسلام وبین سیرة بنی امیّة وبنی العبّاس الدخیلة علی دین الإسلام، سواء علی الصعید الاعتقادیّ أم علی صعید قواعد الفقه السیاسیّ والاجتماعیّ والقضائیّ، وغیره من المجالات.

والمقصود من السیرة فی صدر الإسلام هو سیرة المسلمین قبل وبعد وفاة النبیّ صلی الله علیه و آله الجیل الأوّل من المهاجرین والأنصار.

فإنّ هناک فرقاً رئیسیّاً فی محاور وجوانب متعدّدة، یجب الترکیز علیها، وتنبیه عموم المسلمین تجاهها؛ لئلّا ینبذوا شعار سیرة الأوائل، وإن کان تلک الشعارات لم تتنجّز علی صعید الواقع بشکل حقیقیّ تامّ، إلّاأنّه علی الرغم من ذلک فهی تختلف وتتاقطع مع سیرة الأمویّین فی کثیر من المحاور المتعدّدة.

الفروق الرئیسیّة بین السیرة فی صدر الإسلام
وبین سیرة بنی امیّة:
الفارق الأوّل: فی طریق إقامة الحکم:

إنّ شعار سیرة الأوائل للخلافة کان اختیار الحاکم إمّا بالنصّ أو بالشوری، وهو یختلف ویتقاطع کثیراً مع سیرة الأمویّین الذین انتهجوا

ص:254

منهج الملکیّة الوراثیّة للحکم، للاستئثار بالسلطة، مضافاً إلی نهج الاستبداد فی ممارسة الحکم.

ومع الأسف نجد أنّ سیاسة بنی امیّة ونهجهم لا زال موجوداً بعینه وممارساً من قِبل کثیر من أنظمة الدول العربیّة منذ عهد الأمویّین إلی یومنا هذا.

الفارق الثانی: منهج النقد والرقابة للحاکم والحکم:

وهذا الأمر یعدّ من الامور التی سنّها رسول الله صلی الله علیه و آله فی عهده، حیث کان صلی الله علیه و آله یفتح الباب لاعتراض الناس ونقدهم ورقابتهم للولاة الذین ینصّبهم فی البلدان، کما یفتح المجال للشکاوی والاعتراضات التی یبدیها عموم الناس تجاه جهاز الحکم.

فعلی الرغم من عصمته صلی الله علیه و آله عن الخطأ، إلّاأنّه صلی الله علیه و آله أراد من سنّته لذلک هو معاونته ومناصرته فی مراقبة الجهاز البشری للحکم الذی یقوده وما یترتّب علیه من فوائد وثمرات مهمّة نافعة للمسلمین، من قبیل تفاعل الناس مع أنشطة الحکومة والحاکم وقیامهم بالمسؤولیّة، وکذا صیرورة عموم الناس عین مراقبة لاستقامة الذین ینتسبون إلی جهاز الحکم، وغیرها من الفوائد.

وهذه السنّة النبویّة مستمدّة من اصول قرآنیّة، کأصل الشوری والتشاور، لإدارة امورهم الخاصّة بهم دون الامور التی هی من شؤون الباری تعالی، کالنبوّة والإمامة، کما فی قوله تعالی: (وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ)

ص:255

(أَوْلِیاءُ بَعْضٍ یَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ یَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْکَرِ وَ یُقِیمُونَ الصَّلاةَ وَ یُؤْتُونَ الزَّکاةَ وَ یُطِیعُونَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ أُولئِکَ سَیَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِیزٌ حَکِیمٌ)1 ،) ونحوها من الآیات التی تشارکها فی المضمون ذاته، التی تؤکّد علی أهمّیّة مراقبة الجهاز الحاکم.

وهذا المنهج لم نجده فی سیرة بنی امیّة وبنی العبّاس.

الفارق الثالث: مشروعیّة طاعة السلطان الجائر:

من الواضح أنّ الشریعة الإسلامیّة أکّدت علی عدم جواز طاعة الحاکم الجائر، کما أشارت إلی ذلک جملة من النصوص القرآنیّة والروائیّة المتظافرة، منها:

قوله تعالی: (وَ لا تَرْکَنُوا إِلَی الَّذِینَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّکُمُ النّارُ)2 .

وقوله: (وَ تَعاوَنُوا عَلَی الْبِرِّ وَ التَّقْوی وَ لا تَعاوَنُوا عَلَی الْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ)3.)

وقوله: (وَ لْتَکُنْ مِنْکُمْ أُمَّةٌ یَدْعُونَ إِلَی الْخَیْرِ وَ یَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ)4 .

وعن رسول الله صلی الله علیه و آله، قال: «من رأی منکم سلطاناً جائراً، مستحلّاً لحرم الله، ناکثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله، یعمل فی عباد الله بالإثم

ص:256

والعدوان، ثمّ لم یغیّر بقول أو فعل، کان حقیقاً علی الله أن یدخله مدخله» (1).

وقال صلی الله علیه و آله: «لا طاعة لمخلوق فی معصیة الخالق»(2).

وهذه النصوص الشریفة تحدّد ضوابط طاعة وولایة الحاکم والوالی، والتی من أهمّها هو أن لا تتجاوز طاعة الله وطاعة رسوله، بل فی الحقیقة یستفاد من النصوص الآنفة الذکر عدم ولایة للجائر، وعدم الطاعة له.

وفی قبال هذا الأصل العظیم من قواعد الدین، أسّس بنو امیّة ما یلغی هذا الأصل، وذهبوا إلی وجوب طاعة السلطان وإن کان جائراً، متذرّعین بحجّة أنّ السلطان ظلّ الله فی الأرض.

وأنّ طاعة السلطان واجبة، والخروج علیه مروق من الدین ما لم یظهر الکفر البواح(البیّن).

وقد أخرج السیوطی عدداً من روایاتهم فی هذا المقام، منها:

1 - «السلطان ظلّ الله فی الأرض، فمن أکرمه أکرمه الله، ومن أهانه أهانه الله».

2 - «السلطان ظلّ الله فی الأرض، یأوی إلیه کلّ مظلوم من عباده، فإن عدل کان له الأجر وکان علی الرعیّة الشکر، وإن جار أو حاف أو ظلم کان علیه الوزر وکان علی الرعیّة الصبر، وإذا جارت الولاة قحطت السماء، وإذا منعت الزکاة هلکت المواشی، وإذا ظهر الزنا ظهر الفقر والمسکنة».

ص:257


1- (1) بحار الأنوار: 382/44.
2- (2) من لا یحضره الفقیه: 621/2.

3 - «السلطان ظلّ الله فی الأرض، یأوی إلیه الضعیف، وبه ینتصر المظلوم، ومن أکرم سلطان الله فی الدنیا أکرمه الله یوم القیامة».

4 - «السلطان ظلّ الله فی الأرض، فإذا دخل أحدکم بلداً لیس به سلطان فلا یقیمنّ به».

5 - «السلطان ظلّ الله فی الأرض، فمن غشّه ضلّ، ومن نصحه اهتدی».

6 - «السلطان ظلّ الرحمن فی الأرض، یأوی إلیه کلّ مظلوم من عباده، فإن عدل کان له الأجر وعلی الرعیّة الشکر، وإن جار وحاف وظلم کان علیه الإصر وعلی الرعیّة الصبر».

7 - «السلطان العادل المتواضع ظلّ الله ورمحه فی الأرض، یرفع له عمل سبعین صدّیقاً».

وغیرها من الروایات(1).

وعلی ضوء ذلک قاموا بإلغاء وتحریم ملفّ المعارضة بکلّ درجاتها، وانتهجوا سیاسة الاستبداد، ومن ثمّ عمدوا إلی تثقیف الامّة علی الخنوع والخضوع والسبات وعدم المشارکة فی تحدید مصیرها.

وقد نجم جرّاء هذه السیاسة أمر خطیر، وهو تجییر وتوظیف علماء الدین کعلماء بلاط السلطة لخدمة سیاساتهم ومصالحهم، بدلًا من أن یکون العلماء حکّاماً علی السلاطین.

ص:258


1- (1) الجامع الصغیر: 69/2 و 70.

ومن ثمّ نتج من ذلک نهجٌ خطیر من تبعیّة بعض من یتسمّون بعلماء الدین، للحکومات والأنظمة، وفقدهم الاستقلالیّة، وهذا أمر خطیر ابتلیت به الامّة، بل هو الطامّة الکبری علی الدین؛ لأنّ العلماء بدل أن یقوموا بمهمّتهم الأساسیّة من حفظ الدین، أصبحوا یحفظون الأنظمة والحکومات ویغیّروا من الدین بما یخدم الحکّام والسلاطین الظلمة.

ومن المؤسف جدّاً هو ما نجده فی عصرنا الحاضر من تبنّی واتّباع نهج بنی امیّة، کما نلمسه من بعض علماء الدین، وتبنّیهم لمشاریع الأنظمة والحکومات فی الأقطار الإسلامیّة لأجل تمریر مخطّطاتهم وأغراضهم السیاسیّة.

ومن أهمّ مخاطر هذه السیاسة هو منح علماء الدین فی بلاط السلطة، المشروعیّة لتبعیّة الأنظمة الإسلامیّة لأعداء الإسلام فی الغرب، ولو علی حساب ثوابت ومصالح الدین الحنیف، وهذا بدوره یشکّل خطراً کبیراً، لأنّه یؤدّی إلی طمس معالم الشریعة والفرائض والواجبات التی یحیی بها الدین.

الفارق الرابع: الموالاة للمسلمین دون الکافرین:

فی الوقت الذی فتح الإسلام المجال للمسلمین للتعاطف والتواصل مع الکافرین الذین لا یتحرّکون بشکل عدوانیّ ضدّ الإسلام والمسلمین بالقتال أو الفتنة، کما فی قوله تعالی: (لا یَنْهاکُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِینَ لَمْ یُقاتِلُوکُمْ فِی الدِّینِ وَ لَمْ یُخْرِجُوکُمْ مِنْ دِیارِکُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَیْهِمْ إِنَّ اللّهَ یُحِبُّ الْمُقْسِطِینَ)1 .

ص:259

إلّاأنّه من جانب آخر شدّدت الشریعة الإسلامیّة علی عدم موالاة الکافرین الذین یتحرّکون بشکل عدوانیّ علی المسلمین، وقد تظافرت النصوص القرآنیّة والروائیّة علی ذلک، کقوله تعالی: (إِنَّما یَنْهاکُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِینَ قاتَلُوکُمْ فِی الدِّینِ وَ أَخْرَجُوکُمْ مِنْ دِیارِکُمْ وَ ظاهَرُوا عَلی إِخْراجِکُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَ مَنْ یَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِکَ هُمُ الظّالِمُونَ)1 .

وقوله: (لا یَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْکافِرِینَ أَوْلِیاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِینَ)2 .

وقوله: (یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْکافِرِینَ أَوْلِیاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِینَ)3 .

وقوله: (یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّی وَ عَدُوَّکُمْ أَوْلِیاءَ)4

الرأی الآخر فی الوحدة و التقریب، ص: 56

(تُلْقُونَ إِلَیْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ قَدْ کَفَرُوا بِما جاءَکُمْ مِنَ الْحَقِّ)5 .

وهذه النصوص القرآنیّة تبیّن طبیعة علاقة المسلمین مع الکافرین الذین یکیدون ویخطّطون ضدّ الإسلام، فمثل هذا الصنف من الکفّار لا بدّ أن تکون علاقة المسلمین معهم قائمة علی الحذر والیقظة، ولا یجوز التحالف معهم ضدّ المسلمین، کلّ ذلک لأجل عدم الانهزام والاستسلام أمام الأعداء؛ إذ أنّ طبیعة الموالاة تقتضی النصرة والمتابعة والمودّة لأعداء الدین، مضافاً إلی ما

ص:260

تحمله فی طیّاتها من الذوبان فی هویّة الکافرین وثقافتهم علی حساب الثقافة الدینیّة؛ لأنّ ذلک یؤدّی إلی إضعاف شعار الدین، وبالتالی یتسبّب فی إضعاف ومهانة المسلمین، وسیطرة الکافرین علیهم فی کلّ المجالات، وتمزیق الصفّ الإسلامیّ الواحد، کما فی قوله تعالی: (إِنَّ اللّهَ یُحِبُّ الَّذِینَ یُقاتِلُونَ فِی سَبِیلِهِ صَفًّا کَأَنَّهُمْ بُنْیانٌ مَرْصُوصٌ)1 التی تؤکّد علی ضرورة ووجوب تراصّ صفوف المسلمین فی مواجهة الأعداء کالبنیان المرصوص الذی لا یمکن فیه الانشقاق والفرقة، لا سیّما وأنّ القتال لا ینحصر بالمواجهة العسکریّة، وإنّما هو شامل لکلّ مجالات المواجهة من الثقافیّة والسیاسیّة والاقتصادیّة، ونحوها.

وکذلک قوله تعالی: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّهِ وَ الَّذِینَ مَعَهُ أَشِدّاءُ عَلَی الْکُفّارِ رُحَماءُ بَیْنَهُمْ)2 التی تؤکّد علی ضرورة تلاحم المسلمین وصمودهم وثباتهم الجماعیّ فی مواجهة الأعداء، وأنّ أساس التعامل بینهم قائم علی أساس التراحم والتعاطف، والالفة والمحبّة.

إلّاأنّ بنی امیّة وبنی العبّاس قد نهجوا منهج الموالاة مع الکافرین ضدّ المسلمین بشکل سافر وواضح فی موالاتهم لأعداء الإسلام، بل وصل الحال عند العبّاسیّین إلی قیام الخلیفة العبّاسی بإغراء المغول والتتر بالهجوم علی شمال طبرستان(شمال إیران) للإطاحة بالدولة الإسماعیلیّة(1).

ص:261


1- (3) من شواهد ذلک: انظر کتاب جوامع التاریخ للهمدانی.

وقد أوغل التتر والمغول فی سفک دماء المسلمین فی کلّ أرجاء مدن إیران، وفی ذلک الوقت قام قاضی القضاة العبّاسی فی بغداد بزیارة سرّیّة إلی المغول فی إیران لإغرائهم بالهجوم علی بغداد أیضاً.

والشیء المؤسف هو ما نلمسه بوضوح من وجود نهج بنی امیّة وبنی العبّاس لدی جملة من حکّام المسلمین فی عصرنا الراهن الذین أعلنوا موالاتهم للکافرین ضدّ المسلمین، علی الرغم من تشدید النهی القرآنی عن ذلک.

الفارق الخامس: استباحة المحرّمات:

وهذه السیاسة تبنّاها بنو امیّة بشکل ملحوظ وواضح، وهی سیاسة ترمی إلی إشاعة المنکرات والفواحش والفجور بین المسلمین، وبشکل رسمیّ معلن، ومدعوم من قِبل السلطات الحاکمة، لأجل تغطیة ممارسة الحکّام لنزواتهم وشهواتهم من دون اعتراض المسلمین، ومن دون أن یخدش ذلک بصلاحیّتهم فی الحکم.

وقد أشار إلی هذا النهج، الإمام الحسین وسیّد شباب أهل الجنّة علیه السلام حینما قال: «یزید شارب الخمور، ورأس الفجور، یدّعی الخلافة علی المسلمین، ویتآمر علیهم بغیر رضی منهم، مع قصر حلم، وقلّة علم، لا یعرف من الحقّ موطئ قدمیه، فاقسم بالله قسماً مبروراً، لجهاده علی الدین أفضل من جهاد المشرکین»(1).

وهذا النهج نجده الیوم بشکل واضح، مکرّس لدی الحکومات فی

ص:262


1- (1) اللهوف فی قتلی الطفوف: 26 و 27.

بلاد المسلمین، وهی سیاسة مدروسة من قِبل أعداء الإسلام؛ لأجل تمزیق المسلمین وإبعادهم عن دینهم الذی هو مصدر قوّتهم وعزّتهم، ومن ثمّ یفسح المجال لهم للسیطرة علی مقدّرات البلاد الإسلامیّة.

القاعدة الرابعة: مودّة أهل البیت علیهم السلام ضرورة إسلامیّة

لقد أضاء القرآن الکریم هذه الحقیقة من خلال قوله تعالی:

(قُلْ لا أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبی)1 الذی یصرّح بوجوب مودّة أهل البیت علیهم السلام الذین هم أصحاب الکساء والتسعة المعصومین من ذرّیّة الحسین علیهم السلام.

ومن الجدیر بالذکر أنّ مودّة أهل البیت علیهم السلام بدیهیّة ومن الضرورات الإسلامیّة، لأنّ القرآن الکریم بکلّ آیاته یعدّ من الضرورات الإسلامیّة.

فعلی أیّ تفسیر من التفاسیر التی ذکرت فی تفسیر قوله تعالی:

(قُلْ لا أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبی)2 ، فإنّ أصحاب الکساء والتسعة المعصومین علیهم السلام هم القدر المتیقّن من عنوان القربی للنبیّ صلی الله علیه و آله، فسواء ارید من ذلک بطون قریش أو فخوذ بنی هاشم، إذ أنّ مفاد الآیة یدلّ علی أنّ مناط المودّة هی القربی للنبیّ صلی الله علیه و آله.

ومن الواضح أنّ درجة القربی کلّما کانت أوثق وأقرب کلّما کانت المودّة أشدّ وأوثق، وکان هو القدر المتیقن به من مفاد الآیة، وعلی ذلک یکون

ص:263

أصحاب الکساء هم الدائرة المرکزیّة فی مفاد الآیة المبارکة.

مضافاً إلی أنّ القرآن الکریم قد بیّن مصادیق أهل البیت بشکل واضح، کما فی قوله تعالی: (إِنَّما یُرِیدُ اللّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَ یُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیراً)1 ، ولم یقتصر الدلیل علی مستوی النصوص القرآنیّة فحسب، بل هناک عدد وافر من الروایات الواردة من طرق الفریقین، التی تؤکّد هذا المضمون، کحدیث الثقلین، والسفینة، ونحوهما.

وقد أجمع المفسّرون علی أنّ المقصود من القربی هم أهل البیت علیهم السلام.

کما صرّح جملة من مفسّری العامّة بأنّ المراد من قربی النبیّ صلی الله علیه و آله هم علیّ وفاطمة والحسن والحسین علیهم السلام.

حیث أخرج الطبرانی وغیره فی تفسیر هذه الآیة بالإسناد إلی ابن عبّاس، قال: «لمّا نزلت هذه الآیة(قُلْ لا أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبی) قالوا: یا رسول الله، مَن قرابتک هؤلاء الذین وجبت علینا مودّتهم؟ قال صلی الله علیه و آله: علیّ وفاطمة وولداهما»(1).

وقال الهیثمی: رواه الطبرانی وفیه جماعة ضعفاء، وقد وثّقوا(2).

وأخرج ابن حنبل فی(الفضائل): عن ابن عبّاس، قال: «لمّا نزلت(قُلْ لا أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبی) قالوا:

ص:264


1- (2) المعجم الکبیر: 47/3.
2- (3) مجمع الزوائد: 266/9.

یا رسول الله، من قرابتک هؤلاء الذین وجبت علینا مودّتهم؟

قال: علیّ وفاطمة وابناهما»(1).

وأخرج الطبرانی بسنده عن ابن الطفیل: «أنّ الحسن(کرّم الله وجهه) قال فی خطبته:... أنا من أهل البیت الذین افترض الله مودّتهم علی کلّ مسلم، فقال لنبیّنا: (قُلْ لا أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبی وَ مَنْ یَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِیها حُسْناً) ، واقتراف الحسنة مودّتنا أهل البیت»(2).

وروی الحدیث، الهیثمی فی (مجمع الزوائد)، وعلّق علیه قائلًا: «رواه الطبرانی فی الأوسط والکبیر باختصار...، وأبو یعلی باختصار، والبزّار وأحمد ونحوه...، وأسناد أحمد وبعض طرق البزّار والطبرانی فی الکبیر، حسان»(3).

وأورده ابن حجر الهیتمی فی صواعقه، وقال: «وأخرج البزّار والطبرانی عن الحسن رضی الله عنه من طرق بعضها حسن»(4).

وأخرج مسلم فی صحیحه عن سعید بن جبیر: أنّه سئل عن قوله: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبی، فقال سعید بن جبیر: قربی آل محمّد علیهم السلام(5).

وممّا یشهد علی ذلک، ما أخرجه الحاکم بسنده إلی أبی هریرة، قال: «نظر

ص:265


1- (1) فضائل الصحابة: 669/2.
2- (2) المعجم الأوسط: 337/2.
3- (3) مجمع الزوائد: 146/9.
4- (4) الصواعق المحرقة: 259.
5- (5) صحیح مسلم: 1819/4.

النبیّ صلی الله علیه و آله إلی علیّ وفاطمة والحسن والحسین، فقال:

أنا حرب لمن حاربکم، وسلم لمن سالمکم».

قال الحاکم: هذا حدیث حسن، وأقرّه الذهبیّ علی ذلک فی التلخیص(1).

وقال الزمخشری: «وروی أنّها لمّا نزلت قیل: یا رسول الله، مَن قرابتک هؤلاء الذین وجبت علینا مودّتهم؟ قال: علیّ وفاطمة وابناهما.

ثمّ قال: ویدلّ علیه ما روی عن علیّ رضی الله عنه: شکوت إلی رسول الله صلی الله علیه و سلم حسد الناس لی، فقال: أما ترضی أن تکون رابع أربعة: أوّل من یدخل الجنّة أنا وأنت والحسن والحسین، وأزواجنا عن أیماننا وشمائلنا، وذرّیتنا خلف أزواجنا.

وعن النبیّ صلی الله علیه و سلم: حرّمت الجنّة علی من ظلم أهل بیتی وآذانی فی عترتی...»(2).

وقال القرطبی: «وقیل: القربی: قرابة الرسول صلی الله علیه و سلم أی لا أسألکم أجراً إلّاأن تودّوا قرابتی وأهل بیتی کما أمر بإعظامهم ذوی القربی.

وهذا قول علیّ بن حسین، وعمرو بن شعیب، والسدّی.

وفی روایة سعید بن جبیر، عن ابن عبّاس: لمّا أنزل الله عزّ وجلّ: (قُلْ لا أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبی) قالوا: یا رسول الله، مَن هؤلاء الذین نودّهم؟

ص:266


1- (1) المستدرک علی الصحیحین: 149/3، وقد أخرج هذا الحدیث ابن حبّان فی صحیحه: 434/15.
2- (2) الکشّاف: 1156/1.

قال: علیّ وفاطمة وأبناؤهما.

ویدلّ علیه أیضاً ما روی عن علیّ رضی الله عنه، قال: شکوت إلی النبیّ حسد الناس لی، فقال: أما ترضی أن تکون رابع أربعة: أوّل مَن یدخل الجنّة أنا وأنت والحسن والحسین، وأزواجنا عن أیماننا وشمائلنا، وذرّیّتنا خلف أزواجنا» الخبر(1).

وقد حثّ النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله علی حبّهم وجعل محبّتهم دلیلًا علی محبّته صلی الله علیه و آله.

فقد روی الحاکم بإسناده إلی ابن عبّاس، قال: «قال رسول الله صلی الله علیه و آله: أحبّوا الله لما یغدوکم به من نعمه، وأحبّونی لحبّ الله، وأحبّوا أهل بیتی لحبّی»(2).

وقال العینی وابن حجر فی معنی الحدیث: «أی: إنّما تحبّونهم لأنّی أحببتهم بحبّ الله تعالی لهم، وقد یکون أمراً بحبّهم؛ لأنّ محبّتهم لهم تصدیق لمحبّتهم للنبیّ صلی الله علیه و سلم»(3).

وقال القرطبی فی معرض حدیثه عن حدیث الثقلین: «وهذه الوصیّة، وهذا التأکید العظیم یقتضی وجوب احترام أهله وإبرارهم، وتوقیرهم ومحبّتهم، وجوب الفروض المؤکّدة التی لا عذر لأحد فی التخلّف عنها، هذا مع ما علم من خصوصیّتهم بالنبیّ صلی الله علیه و آله وبأنّهم جزء منه، فإنّهم اصوله التی نشأ منها، وفروعه التی نشأوا عنه کما قال: «فاطمة بضعة منّی»(4).

وقال ابن کثیر فی تفسیره: «ولا ننکر الوصایة بأهل البیت، والأمر

ص:267


1- (1) تفسیر القرطبی: 20/16.
2- (2) المستدرک: 150/3، وقال: «حدیث صحیح الإسناد»، ووافقه الذهبی. التاریخ الکبیر: 183/1.
3- (3) عمدة القارئ: 222/16. فتح الباری: 79/7.
4- (4) فیض القدیر شرح الجامع الصغیر: 20/3.

بالإحسان إلیهم واحترامهم وإکرامهم، فإنّهم من ذرّیّة طاهرة من أشرف بیت وجد علی وجه الأرض، فخراً وحسباً ونسباً، ولا سیّما إذا کانوا متّبعین للسنّة النبویّة الصحیحة، الواضحة، الجلیّة، کما کان علیه سلفهم، کالعبّاس وبنیه، وعلیّ وأهل بیته وذرّیّته»(1).

فالمودّة لأهل البیت علیهم السلام تعتبر ضرورة قرآنیّة عند کلّ مسلم، ومن أنکر هذه الضرورة أنکر آیة من آیات الذکر الحکیم، الذی اتّفق المسلمون علی ضرورته وتواتره، فالإنسان مسلم وإن أنکر الدرجة العلیا من ولایة أهل البیت علیهم السلام - وهی الإمامة - ووجوب اتّباعهم وطاعتهم، إلّاأنّه لا ینکر مودّتهم ومحبّتهم التی أکّدها القرآن الکریم، فإنّه یبقی علی الإسلام ولا یکون کافراً.

نعم، الذی أنکر هذه المودّة والمحبّة التی هی ضرورة قرآنیّة وإسلامیّة، یکون کمن أنکر ضرورةً من ضروریّات الإسلام، وهو موجب للکفر فی حالة العلم بأنّه ضرورة إسلامیّة، ومن ثمّ یکون إنکاره موجباً لتکذیب النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله والقرآن الکریم.

إذن، مودّة ومحبّة أهل البیت علیهم السلام درجة من درجات الولایة، وهی من ضروریّات المسلمین کافّة، وضرورة قرآنیّة، وقد حثّ النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله المسلمین علی الالتزام بها، کما تقدّم.

وعلی هذا الأساس، فکلّ مسلم لا یؤمن بإمامة أهل البیت علیهم السلام ولم

ص:268


1- (1) تفسیر القرآن العظیم: 122/4.

ینکر مودّتهم فهو مسلم، لکنّه لیس شیعیّاً إمامیّاً اثنی عشریّاً.

إذن، أصل المودّة بالمعنی العامّ لأهل البیت علیهم السلام یعدّ من الضروریّات القرآنیّة والإسلامیّة.

هذا مضافاً إلی جملة الآیات النازلة فی فضائل ومناقب أصحاب الکساء، کآیة المباهلة، وآیة التصدّق بالخاتم، وآیة المبیت، وآیة السبق بالإیمان والهجرة، وآیة مفاضلة الإیمان والجهاد علی سقایة الحاجّ وعمارة المسجد الحرام، ونحوها من الآیات والروایات الشریفة التی تدلّ بوضوح علی أنّ لعلیّ وفاطمة والحسنین علیهم السلام مقاماً وفضائل فی الدین الحنیف والشرع المبین، وأنّهم یجب أن یعظَّموا ویجلُّوا، ولهم حرمة واحترام بمقتضی تلک الفضائل وبحسب درجتها.

فالمساس بتلک الکرامة والحرمة والمکانة لهم، تمثّل تجاوزاً علی المقدّسات القرآنیّة والإسلامیّة.

وعلی هذا یجب علی جمیع المسلمین تشیید هذا الأصل وترویجه والتربیة علیه، لأنّه یکون سبباً للُالفة فیما بینهم، إذ مقتضی وجود المشترکات، هو وجود صیغة الوحدة والاتّحاد علی ضوء تلک المشترکات.

القاعدة الخامسة: ضرورة تنقیح مصادر التراث الإسلامی:

من القواعد المقرّرة فی تعالیم الدین هی قاعدة اشتراط الأمانة والعدالة فیمن یؤخذ عنه، سواء کان راویاً أو فقیهاً أو صاحب سیرة أو مفسّراً للقرآن أو محدّثاً أو حافظاً جامعاً للحدیث، أو من أرباب الجرح والتعدیل، أو تابعیّاً

ص:269

یؤثر عنه جملة من الآثار فی أبواب الدین.

وهذه القاعدة من القواعد المهمّة فی الدین، وقد قرّرها الکتاب والسنّة والعقل، فمن الکتاب قوله تعالی: (یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِنْ جاءَکُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَیَّنُوا أَنْ تُصِیبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلی ما فَعَلْتُمْ نادِمِینَ)1 ، وهی واضحة الدلالة فی التحذیر من الأخذ بقول الفاسق فی الموضوعات، فضلًا عن النقل لأحکام الدین، وکذا ما یبلّغه من أحکام الشریعة.

وکذا قوله تعالی: (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ وَ الْمَسِیحَ ابْنَ مَرْیَمَ وَ ما أُمِرُوا إِلاّ لِیَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمّا یُشْرِکُونَ)2 ، وهی تدلّ علی ذمّ القرآن الکریم لأحبار الیهود والنصاری الذین اشتروا بآیات الله ثمناً قلیلًا، وحرّفوا ما أنزل الله تعالی من البیّنات، وقد ذمّ الله تعالی عوامّ الیهود والنصاری لأخذهم عن علمائهم الذین باعوا دینهم بدنیاهم.

ومن الروایات الدالّة علی ذلک، قوله صلی الله علیه و آله: «کثرت علَیَّ الکذّابة...»(1).

أمّا حکم العقل والفطرة، فهما قاضیان بقبح الاعتماد علی من لا یؤمَن علی الدنیا، فضلًا عن الدین.

أمّا شرطیّة العدالة فیمن یؤخذ عنه الدین، فمن أبرز مقوّماتها الإیمان بالله ورسوله وبما جاء به من عنده تعالی والیوم الآخر، والعمل بالواجبات

ص:270


1- (3) الکافی: 62/1.

وترک المحرّمات، والأخذ بمقرّرات القرآن والسنّة.

مودّة أهل البیت علیهم السلام من جملة مقوّمات العدالة

من الواضح أنّ مودّة أهل البیت علیهم السلام وترک العداء لهم من أهمّ مقوّمات العدالة، وقد دلّ علی ذلک عدد من النصوص القرآنیّة، کقوله تعالی: (قُلْ لا أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبی) - کما تقدّم - مضافاً إلی عدّة من النصوص القرآنیّة الدالّة بوضوح علی لزوم مدح وتعظیم وإجلال أهل البیت علیهم السلام، کما فی آیة المباهلة، التطهیر، وسورة الدهر، ونحوها، التی ترسم للمسلمین منهجاً تعلیمیّاً، وتبنی وصیّة قرآنیّة علی حبّ أهل البیت وإجلالهم.

وعلی هذا، فإنّ عدم الموالاة لأهل البیت علیهم السلام فضلًا عن العداء لهم علیهم السلام یعدّ من موجبات الفسق التی تخلّ بعدالة کلّ من یؤخذ عنه الدین، سواء کان راویاً أم غیره.

إذن من شرائط من یؤخذ عنه الدین هو مودّة أهل البیت علیهم السلام وترک العداء لهم.

وعلی هذا الأساس، تتّضح ضرورة تنقیح التراث الإسلامیّ وفق هذه القاعدة، وهی اشتراط العدالة المتقوّمة بمودّة أهل البیت علیهم السلام وترک مناوءتهم.

ومن هنا یتّضح لزوم الفحص والتنقیب عن سیرة وسلوک وموقف کلّ من یؤخذ عنه الدین - تجاه أهل البیت علیهم السلام وفضائلهم وذکرهم - ونبذ کلّ من کان متحاملًا ومبغضاً وناصباً للعداء لأهل البیت علیهم السلام، سواء فی سیرته أو أقواله وکلماته، فلا یجوز الاعتداد بمثل هؤلاء بقول أو رأی، ولا یحتجّ بهم فی

ص:271

الدین.

وعلی هذا الأساس ینبغی الاجتناب أیضاً عن کلّ من یتبنّی مقالة فاسدة تسالم المسلمون علی بطلانها، کما هو الحال فی المجسّمة والمجبّرة؛ لأنّ التبنّی لمقالة تسالم المسلمون علی فسادها، یعدّ من موجبات الفسق.

اسس نظام الوحدة الاسلامیة وضماناتها:
اشارة

لعلّ التجدید لإحیاء عدالة الدین والإصلاح فی مدرسة ونهج أهل البیت علیهم السلام سبق زمانه، فإنّ اطروحته الإصلاحیّة کانت تختلف عن اتّجاهات الإصلاح، وتیّاراته المعاصرة له، سواء الدینیّة أو القومیّة العربیّة، أو التحرّریّة الوطنیّة، فإنّ مجموع أنشطته الرائدة واتّصالاته وخطاباته، تعطی انطباعاً أنّه انفتح علی:

1 - حوار الأدیان.

2 - حوار المذاهب.

3 - حوار الدول والنُّظُم، وهی أعمدة العولمة الحدیثة، کما أنّ مبادئه التی کان ینطلق منها، هی:

1 - الصلح والأمن.

2 - الکرامة الإنسانیّة.

3 - الاصول الأخلاقیّة العامّة المشترکة فی الفطرة البشریّة.

فهناک سمة ملحوظة فی نهج مدرسة أهل البیت علیهم السلام أنّه امتاز عن بیئة

ص:272

الحرکات الإصلاحیّة الوطنیّة، والقومیّة، والعربیّة، والشیوعیّة، حیث کان یطرح محاور هی أقرب شیء من عولمة العدالة والمساواة، وودة النظام العالمی، فقد کان أسبق من زمانه، والسرّ فی ذلک هو نبع أفکاره من تسویة البشر فی العبودیّة لله تعالی.

فإذا أردنا أن ندرس هذه المعالم فی هذه المدرسة الإلهیّة التی صبغت الحرکة الإصلاحیّة، فعلینا أن نقرأ بعض المحاور المهمّة المعلمیّة الموهّلة لهذه المدرسة، للریادة فی الإصلاح، والوحدة فی افق السلام والعدل والتوحید، وذلک عبر اسس:

الأوّل: ضمان الوحدة:

ولو مع القناعة المخالفة القطعیّة التی هی فوق الاجتهاد، وذلک أنّ الکثیر من اطروحات التقریب الوحدویّة بین المذاهب والنِّحل تبنی وحدتها فی ظلّ أنّ القناعات ظنّیّة واجتهادیّة وقابلة للصواب والخطأ، أومحدودة؛ إذ أنّ هناک جدلیّة تقول بأنّه مع التعایش فلا یفتح باب الحوار، وأنّه مع الحوار لا تعایش؛ لأنّ الحوار یعدم التعایش، والتعایش یعدم الحوار. إذن الحوار مصدر تشنّج وفتنة، ومع الظنّیّة فلا تقاطع مع القناعات الاخری، فلا تضمن الوحدة الالفة بین الجماعات المختلفة لو کانت القناعات قطعیّة فی أنظار المقتنعین بها، فلم یعطوا ضمانة للوحدة والتعایش والالفة المدنیّة لو کانت القناعة غیر ظنّیّة فی رؤیة صاحب المذهب أو النِّحلة المعیّنة، وکانت یقینیّة فی تصوّره، کما أنّهم لم یعطوا البناء الرصین للوحدة والالفة التعایشیّة لو کانت تترتّب علی قناعته النجاة أو الهلاک

ص:273

الاخرویّ، ولو حسب زعمه وتصوّراته.

بینما یؤمن نهج أهل البیت علیهم السلام ویعطی الضمانة بحقن الدماء رغم ذلک، والتعایش الالفویّ المدنیّ، ولو کان الاختلاف فی البنی القطعیّة فی رؤی الأنظار وبزعم البرهان والضرورة. وهذا ما لا نجده مضموناً ومتوفّراً فی أی مذهب أو نحلة اخری؛ ذلک لأنّ الدم الإنسانیّ ولو مع اعتناقه الأباطیل، محقون عن القتل والسفک إلّامع عدوانه وإقدامه علی المواجهة المسلّحة. وأمّا الجهاد الابتدائی، فإنّه لأسلمة النظام السیاسیّ لا الإجبار علی أسلمة العقائد. أی لأسلمة النظام العادل لإنقاذ المستضعفین والمضطهدین، وأکبر شاهد علی هذه القاعدة فی ضرورة مدرسة أهل البیت علیهم السلام أنّ الأسیر لا یقتل بعد وضع الحرب أوزارها وتوقّف الاقتتال، ولو کان وثنیّاً. وهذا الحکم هو تفسیر آیات الأسیر عندهم، وهو ممّا یدلّ علی أنّ الدم الإنسانیّ ممنوع عن سفکه إلّامع عدوانه المسلّح. وهذا ما لا نجده فی المذاهب الإسلامیّة الاخری. بینما نجده فی سیرة علیّ علیه السلام مع مناوئیه أیضاً. وهذه مفارقة عظیمة فی المسار بین مدرسة أهل البیت علیهم السلام والمدارس الاخری، وهو ممّا یؤهّلها لحمل ریادة العولمة المتّحدة الإنسانیّة.

الثانی: العدالة والعدل:

فإنّ من الاسس الضروریّة التی تبتنی علیها الوحدة؛ العدل کما قالت الزهراء علیها السلام فی خطبتها: «بالعدل تنسیق القلوب»(1) ، أی أنّ القلوب

ص:274


1- (1)

لا تتناسق بالوحدة ولا تتّسق، ولا یوجد بینها نسق واحدٍ والفة إلّابالعدل، فإنّه مع الظلم لا یرجی الوئام، بل هو منشأ التشاحن والتدافع والتحارب. والغرابة ممّن یتصوّر بنحو معکوس، وأنّه لأجل الوحدة یلزم أن نفدی ونضحّی بالعدل.

إنّ التأکید علی الوحدة یسدّ الطریق علی المطالبة بالعدل والإنصاف فی الحقوق المدنیّة التعایشیّة، والحال أنّه یجب لأجل الوحدة أن نقیم العدل لا أن نغمض الطرف عنه، ولا یسوغ باسم الوحدة بین الأدیان أو المذاهب، مصادرة الحقوق الإنسانیّة، أو التهمة والطعن بالطائفیّة علی من یناشد حقوقه، أو الرمی بالتعصّب علی المطالبة بالاستحقاقات، ولا تدافع بین الوحدة والمطالبة بالعدالة بین الطوائف والمذاهب، فالوحدة مبنیّة علی العدل والعدالة، ولا تبنی علی الحیف والبخس لأحد الطرفین علی الآخر.

إذا اتّضحت أهمّیّة العدل، فلا بدّ من الالتفات إلی أنّ مدرسة أهل البیت علیهم السلام قد جعلت من العدل أصلًا، ومن اصول الدیانة، وهو مؤشّر لمدی أهمّیّته علی حذو بقیّة اصول الدین، ممّا یجعل هذا النهج هو المؤهّل لریادة الوحدة البشریّة.

والعدل ضامنٌ أساس لاستمرار الوحدة وبقائها، وقد أنبأ القرآن الکریم بهذه الخصوصیّة الریادیّة لأهل البیت علیهم السلام من أنّهم الوحیدون المؤهلّون لإقامة الوحدة البشریّة دون غیرهم، أنبأ بذلک فی ملحمة قرآنیّة فی قوله تعالی: (ما أَفاءَ اللّهُ عَلی رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُری فَلِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِی الْقُرْبی وَ الْیَتامی وَ الْمَساکِینِ وَ ابْنِ السَّبِیلِ کَیْ لا یَکُونَ دُولَةً بَیْنَ الْأَغْنِیاءِ

ص:275

مِنْکُمْ)1 ، فبیّنت الآیة أنّ أموال الأرض وثرواتها، المعبّر عنها بالفیء، هو بید الله وبید رسوله وذی القربی تدبیره وإدارة صرفه علی الطبقات المحرومة، وأنّ العلّة فی إسناد الصلاحیّة والولایة لهم، هو إقامة العدل فی الأرض لکی لا تکون ثروات الأرض دولةً متداولةً فی حکر الأغنیاء والاقطاعیّین، فالآیة تنبأ عن ملحمة، وهی أنّ العدالة لم ولن ولا تقام فی الأرض إلّاعلی ید قربی النبیّ صلی الله علیه و آله، وبالتالی فلن تکون هناک وحدة بشریّة ینعم بها البشر، إلّابأهل البیت علیهم السلام.

الثالث: تقدیس جمیع الأنبیاء علیهم السلام:

بأعلی مکانة من تقدیس أتباعهم لهم، فإنّ فی مدرسة أهل البیت علیهم السلام ینزّه الأنبیاء عن الصغائر، فضلًا عن الکبائر، ولا یوجد نِحلة أو مذهب ینزّههم بهذه الدرجة، فینزّه موسی علیه السلام بأنزه ممّا ینسبه إلیه الیهود، وینزّه عیسی ومریم بأنزه ممّا ینزّههما النصاری، وهکذا الحال فی آدم، ونوح، وإبراهیم، وإسماعیل، وإسحاق، ویعقوب، ویوسف، ویحیی، وبقیّة الأنبیاء علیهم السلام، فیعظم جمیع رموز الدیانات الإلهیّة والسماویّة.

وهذا ما لا تجده فی المذاهب الإسلامیّة الاخری ولا فی أتباع الدیانات. فهذه خصیصة فریدة فی مدرسة أهل البیت علیهم السلام مؤهلّة لریادتها للوحدة الأدیانیّة.

ص:276

الرابع: إنّ الوحدة لا تتمّ إلا بالمحبّة والمودّة:

وإلّا کیف یتصوّر وحدة والفة بدون محبّة ومودّة، وقد جعل القرآن محور وقطب المحبّة والمودّة هو أهل البیت علیهم السلام ومودّتهم فی قوله تعالی: (قُلْ لا أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبی)1 ، فالقرآن یسطّر ملحمة ونبوءة أنّه لم ولن ولا تتحقّق مودّة تأتلف علیها البشریّة إلّا بمحوریّة المودّة فی أهل البیت علیهم السلام، فقال تعالی: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبی، ولم یقل: «إلّا مودّة القربی»، أی جعل أجر الرسالة بحصر المودّة المرکزیّة المحوریّة فی أهل البیت علیهم السلام، فالمجیء بلفظة فِی *) یعطی مفاد الحصر أنّ الآیة فی صدد أصل افتراض مودّتهم، بل فی مورد حصر المودّة العلیا بهم.

یقول أمیر المؤمنین علیّ علیه السلام فی بیان أهمّیّة مودّتهم لحصول الالفة، وبالتالی الوحدة والقوّة والتقدّم التمدّنی:

«فاعْتَبِرُوا بِحالِ وَلَدِ إِسْماعِیلَ وَبَنی إِسْحاقَ وَبَنی إِسْرائِیلَ عَلَیْهِمُ السَّلَامُ. فَما أَشَدَّ اعْتِدالَ الْأَحْوالِ، وَأَقْرَبَ اشْتِباهَ الْأَمْثالِ!

تَأَمَّلُوا أَمْرَهُمْ فی حَالِ تَشَتُّتِهِمْ وَتَفَرُّقِهِمْ، لَیالِیَ کَانَتِ الْأَکاسِرَةُ والْقَیاصِرَةُ أَرْباباً لَهُمْ، یَحْتازُونَهُمْ عَنْ رِیفِ الْآفاقِ، وَبَحْرِ الْعِراقِ، وَخُضْرَةِ الدُّنْیا، إِلَی مَنابِتِ الشِّیحِ، وَمَهافی الرِّیحِ، وَنَکَدِ الْمَعاش، فَتَرَکُوهُمْ عالَةً مَساکِینَ إِخْوانَ دَبَرٍ وَوَبَرٍ أَذَلَّ الْأُمَمِ داراً، وَأَجْدَبَهُمْ قَرَاراً، لَایَأْؤونَ إِلَی جَنَاحِ دَعْوَةٍ یَعْتَصِمُونَ بِهَا، وَلَا إِلَی ظِلِّ أُلْفَةٍ یَعْتَمِدُونَ عَلَی عِزِّهَا. فَالْأَحْوَالُ مُضْطَرِبَةٌ، وَالْأَیْدِی

ص:277

مُخْتَلِفَةٌ، والْکَثْرَةُ مُتَفَرِّقَةٌ؛ فی بَلَاءِ أَزْلٍ، وَأَطْباقِ جَهْلٍ! مِنْ بَناتِ مَوْؤُودَةٍ، وَأَصْنامٍ مَعْبُودَةٍ، وَأَرْحامٍ مَقْطُوعَةٍ، وَغارَاتٍ مَشْنُونَةٍ.

فانْظُرُوا إِلَی مَواقِعِ نِعَمِ الله عَلَیْهِمْ حِینَ بَعَثَ إِلَیْهِمْ رَسُولًا، فَعَقَدَ بِمِلَّتِهِ طاعَتَهُمْ، وَجَمَعَ عَلَی دَعْوَتِهِ أُلْفَتَهُمْ؛ کَیْفَ نَشَرَتِ النِّعْمَةُ عَلَیْهِمْ جَناحَ کَرامَتِها، وَأَسالَتْ لَهُمْ جَدَاوِلَ نَعِیمِها، وَالْتَفَّتِ الْمِلَّةُ بِهِمْ فی عَوَائِدِ بَرَکَتِها، فَأَصْبَحُوا فی نِعْمَتِهَا غَرِقِینَ، وَفی خُضْرَةِ عَیْشِهَا فَکِهِینَ. قَدْ تَرَبَّعَتِ الْأُمُورُ بِهِمْ، فی ظِلِّ سُلْطانٍ قاهِرٍ، وَآوَتْهُمُ الْحالُ إِلَی کَنَفِ عِزٍّ غالِبٍ، وَتَعَطَّفَتِ الْأُمُورُ عَلَیْهِمْ فی ذُرَی مُلْکٍ ثابِتٍ. فَهُمْ حُکّامٌ عَلَی الْعالَمِینَ، وَمُلُوکٌ فی أَطْرافِ الْأَرَضِینَ. یَمْلِکُونَ الْأُمُورَ عَلَی مَنْ کانَ یَمْلِکُها عَلَیْهِمْ، وَیُمْضُونَ الْأَحْکامَ فِیمَنْ کانَ یُمْضِیها فِیهِمْ! لَا تُغْمَزُ لَهُمْ قَناةٌ وَلَا تُقْرَعُ لَهُمْ صَفاةٌ!

أَ لَاوَإِنَّکُمْ قَدْ نَفَضْتُمْ أَیْدِیَکُمْ مِنْ حَبْلِ الطّاعَةِ، وَثَلَمْتُمْ حِصْنَ الله الْمَضْرُوبَ عَلَیْکُمْ، بَأَحْکَامِ الْجَاهِلِیَّةِ. فَإِنَّ الله سُبْحَانَهُ قَدْ امْتَنَّ عَلَی جَماعَةِ هذِهِ الْأُمَّةِ فِیَما عَقَدَ بَیْنَهُمْ مِنْ حَبْلِ هذِهِ الْأُلْفَةِ الَّتی یَنْتَقِلُونَ فی ظِلِّها، وَیَأْوُونَ إَلَی کَنَفِهَا، بِنِعْمَةِ لَایَعْرِفُ أَحَدٌ مِنَ الَمخْلُوقِینَ لَهَا قِیمَةً، لِأَنَّها أَرْجَحُ مِنْ کُلِّ ثَمَنٍ، وَأَجَلُّ مِنْ کُلِّ خَطَرٍ.

واعْلَمُوا أَ نَّکُمْ صِرْتُمْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ أَعْراباً، وَبَعْدَ الْمُوالَاةِ أَحْزاباً.

ما تَتَعَلَّقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا بِاسْمِهِ، وَلَا تَعْرِفُونَ مِنَ الْإِیمانِ إِلَّا رَسْمَهُ»(1)) .

فهو یشیر إلی أنّ الفة الامّة لا تتمّ إلّابهم علیهم السلام وبموالاتهم،

ص:278


1- (1) نهج البلاغة: الخطبة 192. من خطبته علیه السلام المسمّاة بالقاصعة.

وإلّا فیؤول حال الامّة إلی التشتّت أحزاباً، وإلی التعرّب، وأنّ الهجرة عن التعرّب لا تتحقّق إلّابالتعلّق بمودّتهم وموالاتهم علیهم السلام.

ومن کلّ ما مرّت الإشارة الیه یتبیّن أنّه لا توجد بوتقة جامعة للوحدة، وبیئة ململمة لوحدة الصفّ الإنسانیّ أجمع، کمدرسة أهل البیت علیهم السلام، فلو أجرینا مقارنة لا بهدف التعصّب الطائفی والأدیانی، فلا نجد هذه الخصائص والاسس لإرساء صرح الوحدة فی الأدیان الاخری، لعدم اعترافها بالنبیّ الخاتم صلی الله علیه و آله کما لا نجدها فی المذاهب الإسلامیّة لعدم خطورة أصل العدالة والعدل(حقوق الإنسان) لدیهم، ولعدم إمکان الملاءمة عندهم بین القناعة الضروریّة القطعیّة، وبین حقن الدماء(الکرامة الإنسانیّة والصلح والأمن)، سواء مع الملل الاخری أو مع المذاهب الإسلامیّة الاخری، وهذا بخلاف الحال فی مدرسة أهل البیت علیهم السلام، وغیرها من الفوارق التی مرّت الإشارة إلیها. ومنه یتّضح أنّ الضمانة الوحیدة للوحدة، وهی العولمة الصحیحة فی النظام البشریّ لا توجد إلّافی هذه المدرسة، فلا إقامة لُاصول شعارات البشریّة العصریّة من دون هذه المدرسة، ویظهر أنّ العولمة الوحدویّة الإنسانیّة الحدیثة لا تجد بیئتها إلّافی مدرستهم علیهم السلام.

ص:279

ص:280

الفصل الثانی: فی نظام التقریب والحوار والاتحاد

اشارة

التقریب هو عملیّة فتح باب الحوار والمداولة الفکریّة بصورة مستمرّة، وعدم سدّ باب الحوار فی جمیع الظروف، لأجل توسعة دائرة الوفاق الفکریّ، وتقلیص دائرة الاختلاف والتفرّق.

وقد یعرّف التقریب أنّه نظام تقنین وترسیم للحقوق.

ومن أهمّ نتائج التقریب هو الاتّحاد، والوصول إلی محاور فکریّة مشترکة.

هل الاختلافات بین المذاهب الإسلامیّة: هی اختلافات ظنّیّة؟

من الملاحظ أنّ جملة من دعاة الوحدة الإسلامیّة من الفرق والمذاهب الإسلامیّة المختلفة، ومن باب الحرص منهم علی حقن الدماء والحفاظ علی الوحدة فیما بین المسلمین، وحذراً منهم علی عدم وقوع التکفیر بین فرق المسلمین، ذهبوا إلی أنّ کلّ الاختلافات المذهبیّة العقدیّة - فضلًا عن الأحکام الفرعیّة - مبنیّة علی اجتهادات واستنباطات ظنّیّة، وتأویلات استظهاریّة، فالمذهبیّة والتمذهب، رؤیة ظنّیّة، وفهم اجتهادیّ عند جملة من روّاد الوحدة والتقریب.

فأصل المذهبیّة عندهم مبنیّ علی الظنّ، وقد تابع آخرون هذا التنظیر والتأطیر لهذه القاعدة، وذهبوا إلی أنّ الاختلاف بین الإمام علیّ علیه السلام والطرف

ص:281

الآخر، هو اختلاف فی فهم الإسلام لیس إلّا.

وعلی أساس هذه القاعدة، قالوا: إنّ الاختلاف ما دام ظنّیّاً، فهو لا یهدّد الوحدة، بخلاف ما لو کان الاختلاف قطعیّاً بحسب قناعة المختلفین؛ إذ الاختلاف القطعیّ مستلزم للتکفیر؛ وذلک لأجل إخراج من یخالف القطعیّ عن دائرة الإسلام.

ومن ثمّ اعترض غیر واحد من المذاهب الإسلامیّة علی علماء الإمامیّة، لا سیّما من یتبنّی منهم شعار الوحدة بین المسلمین، بأنّ الدعوة إلی الوحدة والالتزام بها لا ینسجم مع القول بأنّ إمامة أهل البیت علیهم السلام من اصول الدین الاعتقادیّة، وأنّ أدلّتها لیست قطعیّة بتنصیص الوحی الإلهیّ، لأنّ ذلک یستلزم خروج بقیّة فِرق المسلمین عن الإسلام، حسب وجهة النظر الشیعیّة.

الأسباب وراء القول بأنّ: الاختلافات بین المذاهب اجتهادات ظنّیّة.

إنّ هذا التصوّر والتنظیر بقواعد نظام الدین والمذهب، وتبنّی الوحدة الإسلامیّة، ناشئ من عدم التنقیح العمیق للقواعد الدینیّة الشرعیّة المشترکة المتّفق علیها بین مذاهب المسلمین، ولعدم التفطّن لقواعد المعرفة الدینیّة المتّفق علیها بین المسلمین أیضاً.

فمن الواضح أنّه لیس کلّ اختلاف قطعیّ یترتّب علیه الحکم بکفر المخالف لذلک الأمر القطعیّ؛ لأنّ الخروج عن الإسلام إنّما یکون بإنکار الشهادتین، وإنکار الضروریّ المتّفق علیه بین المسلمین من دون شبهة فی

ص:282

البین، فإنّ هذه الضابطة متّفق علیها بین المحقّقین من علماء المذاهب الإسلامیّة، ولا یعتنی بالشذّاذ منهم، کما مرّ تنقیح ضابطة الکفر فیما سبق.

وعلی ضوء ذلک، فإنّ مجرّد الاختلاف القطعیّ، بل الیقینیّ، لا یترتّب علیه الحکم بردّة أو کفر المخالف لذلک الأمر المتیقّن، إذ لیس کلّ أمر قطعیّ أو یقینی شرطاً فی تحقّق الإسلام.

فإذا اتّضحت هذه القاعدة المهمّة، یتّضح علی ضوئها القول بأنّ الاختلافات المذهبیّة، وإن کانت مبنیّة علی قناعات قطعیّة عند کلّ أصحاب المذاهب، إلّاأنّها لا توجب هدم أساس الوحدة بین المسلمین.

ولا ربط للاختلافات القطعیّة بین المذاهب الإسلامیّة بالحکم بالإسلام وعدمه کما تقدّم، فیمکن أن یکون الاختلاف بین مذهب وآخر اختلاف قطعیّ لا ظنّی، ومع ذلک یحکم بإسلامهما معاً.

فلیس السبیل إلی إرساء الوحدة الإسلامیّة وتشییدها والمحافظة علی بنیتها، متوقّفاً علی القول بأنّ الاختلافات المذهبیّة اختلافات ظنّیّة، بل نظام الوحدة یتلاءم مع الاختلافات فی الرؤی والقناعات القطعیّة والیقینیّة.

ومن ثمّ لا تنافی بین تبنّی أیّ مذهب من المذاهب الإسلامیّة أمراً، کأصل اعتقادیّ قطعیّ یمتاز به عن المذاهب الإسلامیّة الاخری التی تتبنّی اصولًا اعتقادیّةً اخری تتبنّی قطعیّات ویقینیّات وضرورات مذهبیّة اخری تمتاز بها، فإنّ ذلک لا یصدّع الاصول الاعتقادیّة المشترکة التی یبتنی علیها ظاهر الإسلام، فکما أنّ الإمامیّة تتبنّی إمامة أهل البیت علیهم السلام کأصل اعتقادیّ،

ص:283

ففی نفس الوقت نلاحظ کذلک جملة من المذاهب الإسلامیّة الاخری أیضاً تتبنّی إمامة الشیخین وزعامة الصحابة کأصل اعتقادیّ وضرورة مذهبیّة عندهم.

لکنّ ذلک کلّه لا یستلزم تکفیر أحدهما الآخر، وذلک للاتّفاق بین المسلمین من أهل العلم والتحقیق والتحصیل من علماء المذاهب علی تقسیم الاصول الاعتقادیّة إلی اصول الدین بحسب ظاهر الإسلام، وإلی اصول الدین بحسب حقیقة الإیمان، وهو ما یعبّر عنها باصول المذهب.

فالتعدّد المذهبیّ وإن کان مبنیّاً علی اصول اعتقادیّة یقینیّة إلّاأنّ ذلک الاختلاف یحتضنه صدر الإسلام الرحب.

فهناک فرق بین الإسلام وبین الإیمان، ولذا نجد أنّ کلّ مذهب من المذاهب الإسلامیّة یشترط شروطاً خاصّة فی الإیمان تختلف عن شروط الإسلام، وقد أجمعت الفرق والمذاهب الإسلامیّة علی أنّ مناط الرضا الإلهی متقوّم بالإیمان لا الإسلام فقط.

وإلیک بعض الشواهد الدالّة علی ذلک من کلمات أعلام السنّة:

قال الشوکانی: «مدار قبول الأعمال هو الإیمان»(1).

وقال ابن عاشور: «إنّ الإیمان جعله الله شرطاً فی قبول الأعمال»(2).

وقال المناوی: «إنّ الأعمال بالنیّات وإنّ کلّ من فعل خیراً ریاءً وسمعةً،

ص:284


1- (1) فیض القدیر: 384/23.
2- (2) التحریر والتنور: 810/10.

لم یستحقّ به من الله أجراً»(1).

وفی موضع آخر قال: «إنّ العمل الصالح لا یقبل إلّامع التوحید والإیمان»(2).

إذن مناط ومیزان الرضا الإلهیّ إنّما هو بالإیمان القلبیّ، ولیس مناطه ظاهر الإسلام فقط، فالرضا الإلهی مرتبط بما یدخل القلب وما یلامسه من اعتقادات، أمّا ظاهر الإسلام فهو یحصل بمجرّد التلفّظ بالشهادتین، ولو مع عدم الاعتقاد القلبیّ، کما تقدّم.

فاللازم فی توصیات مشروع الوحدة والتقریب، هو التأکید علی أنّ قطعیّة الخلاف لا تهدم الوحدة، ولا تتناقض مع الحکم بإسلام الآخرین.

وهذه القاعدة بنّاءة ومهمّة فی مشروع الوحدة، یجب التأکید علیها والتثقیف علیها ونشرها فی أوساط عموم المسلمین، درءاً لنار التکفیر، واستباحة دماء المسلمین وأعراضهم وأموالهم، وهدر حقوقهم الدینیّة.

إذن الحرص علی الوحدة والمحافظة علیها، یتوقّف ویستدعی ترسیخ هذه القاعدة الشریفة، والإقرار علیها درءاً للفتنة بین المسلمین، وحیطة من نشوب الحروب بین المذاهب الإسلامیّة، علی عکس التنظیر الذی یذهب إلی أنّ الاختلافات بین المذاهب کلّها اختلافات ظنّیّة، فإنّ مثل هذا التنظیر لقاعدة من قواعد الدین، سوف یهدّد الوحدة الإسلامیّة، ولا یؤمّن بناءها ولا بقاءها؛ وذلک لأنّ أتباع المذاهب من علماء ونخب، من الذین توصّلوا

ص:285


1- (1) تفسیر البیضاوی: 250/1.
2- (2) فیض القدیر: 484/4.

إلی قناعات قطعیّة - بحسب رؤیتهم - لا یرون أنفسهم فیما یتبنّون من مسار مذهبیّ أنّه مسار ظنّیّ ومنهاج اجتهادیّ، فکیف یرون أنفسهم ملتزمین ببناء الوحدة حینئذٍ علی وفق مقولة أنّ المذهبیّة والتمذهب رؤیة ظنّیّة.

بل بناءً علی تلک المقولة، یلزم اندفاع أصحاب المذاهب وتحریضهم وإغرائهم إلی نشوء المعاداة والتکفیر لبعضهم البعض.

فأصحاب هذه المقولة من دعاة الوحدة، بقدر ما هم حریصون علی إرساء الوحدة، إلّاأنّهم بهذه الرؤیة قد أخفقوا فی ترسیم هذه القاعدة المهمّة من قواعد الوحدة الإسلامیّة.

بل یمکن أن تکون رؤیتهم وتقریرهم لهذه المقولة القائلة إنّ الاختلافات اجتهادیّة ظنّیّة، أن تکون من موجبات الفرقة والنزاع، بدلًا من کونها داعمة للوحدة بین المسلمین.

ومن هنا یتّضح أنّ ما قرّرناه لهذه القاعدة من أنّ الاعتقادات القطعیّة والیقینیّة لکلّ مذهب من المذاهب لا یعنی ولا تستلزم تکفیر أحدها للآخر، هو الذی یکون کفیلًا بضمان الوحدة الإسلامیّة؛ لأنّها قائمة علی أساس الواقع والحقیقة، کما تقدّم.

وعلی هذا الأساس یتّضح بطلان الکثیر من مقولات التقریب بین المذاهب التی تتّکئ فی تبنّیها للوحدة، علی المقولة القائلة بأنّ جمیع الاختلافات بین المذاهب، اختلافات ظنّیّة اجتهادیّة قابلة للصواب والخطأ؛ إذ أنّ هذه المقولة لا تضمن الوحدة والالفة بین الجماعات المختلفة؛ لأنّ جملة من الاعتقادات التی تتبنّاها

ص:286

المذاهب الإسلامیّة، هی اعتقادات قطعیّة حسب رؤیتها تعلو علی درجة الاجتهاد والظنّ فی نظر معتنقیها.

وعلی هذا الأساس یتبیّن قوّة ما بیّناه سابقاً من أنّ الضمانة الحقیقیّة للوحدة وحقن الدماء، تکمن فیما قرّرناه من القاعدة السابقة من أنّ الدخول بالإسلام بالتشهّد بالشهادتین، یحقن الدماء، علی الرغم من الإیمان بوجود الاختلافات القطعیّة.

أصالة حقن الدم الإنسانی:

وممّا ینبغی الإشارة إلیه هو أنّ القاعدة الإسلامیّة، لا سیّما عند مذهب أهل البیت علیهم السلام تقول: إنّ الدم الإنسانیّ - فضلًا عن الدم الإسلامی - ولو مع اعتناقه الأباطیل، محقون عن القتل، إلّامع عدوانه وإقدامه علی المواجهة المسلّحة.

إن قیل: کیف ذلک مع وجود الدعوة للجهاد الابتدائی عند المسلمین؟

الجواب: أنّ الحکمة من تشریع الجهاد الابتدائی هی لأجل أسلمة النظام السیاسیّ، ولیس لأجل الإجبار علی أسلمة العقائد، فالجهاد الابتدائی هو لإنقاذ المستضعفین المضطهدین المحرومین، لا إکراه الناس علی الدخول بالإسلام والإیمان، ولعلّ من أبرز الشواهد علی ذلک، هو عدم جواز قتل الأسیر بعد وضع الحرب أوزارها، ولو کان وثنیّاً، وهذا یدلّ علی أنّ الدم الإنسانی محترم، ولا یجوز سفکه إلّامع العدوان المسلّح، وهذا ما لا نجده فی المذاهب الإسلامیّة الاخری.

إذن، حصر طریق الوحدة بالقول بأنّ الاختلاف بین المذاهب ظنّیّ، هو

ص:287

فی الحقیقة سبب للإثارة والفرقة وتأجیج النزاع، أکثر من کونه موجباً لإرساء التآلف والتوحّد؛ وذلک لأنّ هذه الرؤیة لا تقدّم معالجة موضوعیّة سلیمة للواقع الراهن عند أتباع المذاهب من کون القناعات والاعتقادات قطعیّة جزمیّة، کما یراها أصحابها، وبالتالی لا یرون مثل هذا الخطاب بذلک الاطار من مقالة الوحدة علاجاً وبناءً یتوخّی بناء التعایش والالفة فی ظلّ الواقع الراهن والمعطیات القطعیّة بالتحامل علی الآخرین ممّن یخالفوهم علی إخراجهم من ربقة الإسلام.

هل الحوار یقاطع الوحدة؟

الوحدة التعایشیّة الإسلامیّة لا تتقاطع مع فتح باب الحوار ولو کان فی دائرة الاختلافات القطعیّة والمواضیع الحسّاسة المختلف فیها، فیما إذا کان الحوار بلغة هادئة متوازنة.

وعلی هذا الأساس، فلیس من الصحیح ما یردّده بعض روّاد الوحدة من ضرورة إسدال الستار علی کلّ الملفّات التی نشأ منها التعدّد والاختلاف، والسعی لطیّ تلک المباحث ورمیها فی خانة النسیان، بذریعة أنّ الخوض فی تلک المباحث، والمداولة فی تلک الامور الحاصلة فی تلک الحقب التاریخیّة، أو التنقیب عن المواقف التاریخیّة، سوف یسبّب إثارة الکراهیة والحسّاسیّة وتأجیج للصراع الداخلیّ، ولذا قالوا: خیر وسیلة لدرء الفتنة هو إخماد الحدیث عن تلک المواضیع، والترکیز علی نقاط الاشتراک؛ لأنّه وحده الذی یضمن الوحدة والالفة والتلاحم.

ص:288

إلّاأنّنا نقول: إنّ ما ذکروه وإن کان متّجهاً منطقیّاً فی جملة من بنوده، حیث أنّ طبیعة النفس الإنسانیّة کلّما ذکّرت بمناشئ الالفة ألفت، وکلّما استذکرت بشیء من مناشئ الفرقة ازدادت نفرة وتباعداً، إلّاأنّ ذلک لیس هو تمام العلاج السلیم؛ وذلک لأنّ هذه المواضیع من الاختلافات فی الاعتقاد والتبنّی، قد تنفجر فی یوم ما، ومن ثمّ یکون التغافل عنها من رأس، غیر صحیح.

وحاصل ما تقدّم: أنّ الذین تبنّوا الاختلافات بین المذاهب الإسلامیّة، کلّها اختلافات اجتهادیّة، قد انساقوا من حیث یشعرون أو لا یشعرون إلی القول بإنکار وجود ثوابت مذهبیّة خاصّة بکلّ مذهب، أی الثوابت الثابتة بدرجة الیقین من وجهة نظر کلّ مذهب.

ومن هنا نشأ عند البعض تعریف جدید للإیمان، وهو الإقرار القلبیّ بضروریّات الإسلام المشترکة بین المذاهب الإسلامیّة من دون دخل لشیء وراء تلک المشترکات.

والسبب الذی دفعهم لهذا القول هو تصوّرهم بأنّ هذا هو الطریق المؤدّی إلی الإصلاح والوحدة.

إلّاأنّ هذا القول لیس فقط لا یؤدّی إلی الإصلاح والوحدة، بل ینتج نتائج عکسیّة خطیرة تهدّد وحدة النِّحلة الإسلامیّة. والسبب فی ذلک هو أنّ مقولة البعض القائلة بأنّ الاختلافات المذهبیّة راجعة إلی اختلافات اجتهادیّة ظنّیّة، سوف تدفع بطوائف المسلمین إلی امور خطیرة، منها:

ص:289

1 - التغریر والإیهام بطوائف المسلمین، بأن یسلب کلّ طرف صفة الإسلام عن الطوائف الاخری؛ نتیجة ما تراه تلک الطائفة وما تتبنّاه من ثوابت عقائدیّة خاصّة فوق مرتبة الاجتهاد.

2 - الابتعاد عن وحدة النحلة الإسلامیّة، بإیهام أنّ الوحدة لا تتمّ إلّا بإلغاء الثوابت المذهبیّة الخاصّة.

وعلی هذا الأساس یتّضح الخلل فی الکثیر من اطروحات التقریب والوحدة التی تبتنی وحدتها علی ضوء المقولة القائلة بأنّ القناعات ظنّیّة واجتهادیّة، وقابلة للصواب والخطأ، أو محدودة.

کما أنّ هناک جدلیّة قائمة تقول بأنّه مع التعایش لا یفتح باب الحوار، أو أنّه مع الحوار لا تعایش؛ لأنّ الحوار یثیر الفتن والتشنّجات ممّا یفضی إلی تقویض أرضیّة التعایش.

إلّا أنّ الصحیح، أنّ الحوار لا یتقاطع مع التعایش إذا کان مبنیّاً علی الاسس الأخلاقیّة الصحیحة فی الحوار الهادف العلمیّ، وبعیداً عن السیاسات المبرمجة.

وبناءً علی هذا، فإنّ ضمان الوحدة والالفة بین المسلمین لا یتوقّف علی حصر الاختلاف فی القناعات الظنّیّة الاجتهادیّة، ونفی الاختلاف فی القناعات القطعیّة.

والسبب الذی دعا هؤلاء إلی الذهاب إلی مثل هذه المقولات هو عدم استطاعتهم بناء رؤیة رصینة للوحدة والالفة التعایشیّة، تتکیّف مع وجود الاختلافات فی الرؤی القطعیّة، التی یترتّب علیها أمر النجاة من الهلاک الاخرویّ بحسب قناعة کلّ مذهب أو فرقة.

ص:290

ونظیر هذا الاتّجاه ما ذهبت إلیه العلمانیّة الغربیّة من القول بأنّ السلم المدنی لا یمکن مع التوجّه الدینی، إذ الالتزام بالصبغة الدینیّة یؤدّی إلی إثارة الفتن والحروب بین أتباع الأدیان، والسبب فی ذلک هو حکم أتباع کلّ دین علی أصحاب الدیانات الاخری، بالهلاک الاخرویّ، وهذا یعنی مشروعیّة الحرب - علی حسب فهمهم - ضدّ الطرف الآخر.

والصحیح ما تقدّم من فساد وبطلان مثل هذه المقولات التی تتوهّم التلازم بین التخطئة للآخرین والقناعة بالمخالفة القطعیّة، وبین هدر الدم؛ إذ المجازاة الاخرویّة هی من صلاحیّة دیّان یوم الدین، أمّا فی دار الدنیا فهی هدنة تعایش مدنی بصبغة ونیّة مشترکة.

أهداف التقریب:

یمکن تلخیص أهداف وغایات التقریب بالنقاط التالیة:

1 - المحافظة علی الضروریّات المشترکة، والحیلولة دون تمرّد أو مصادرة أیّ فئة لتلک الضروریّات المشترکة.

2 - حرمة الدم والأموال والأعراض وما قد یعبّر عنه بالحرمة المدنیّة والتعایش السلمیّ، والانتصاف فی الحقوق المدنیّة.

3 - العدالة المدنیّة لکلّ الطوائف الإسلامیّة.

4 - اطّلاع المسلمین فیما بینهم علی متبنّیات ومعتقدات ورؤی کلّ مذهب.

5 - تعبئة الطاقات للاهتمام بالعمل من أجل حمایة المصالح الإسلامیّة المشترکة، وتظافر الجهود فی مواصلة بناء النهضة وما فیه مصلحة الإسلام.

ص:291

6 - الحرمة المدنیّة وعدم التفریط فی حقّ المواطَنة للمسلم.

7 - عدم التشنّج فی لغة الحوار، وعدم إثارة الطرف الآخر.

8 - إحیاء دَور الاستشارة والمشارکة فی الحکم، ونبذ الاستبداد.

وبعبارة اخری: یجب عدم التسلیم مع الطرف الآخر فی الامور الخاطئة.

وممّا ینبغی الإشارة إلیه فی سیاق الهدف الأوّل والخامس هو وجود هجمة غربیّة تجاه المقدّسات الإسلامیّة، ومحاولة تغییر الأحکام الإسلامیّة الثابتة والنیل من شخصیّة الرسول صلی الله علیه و آله، والطعن فی القرآن الکریم، وقد تعدّدت أسالیبهم فی ذلک، وتمکّنوا من التأثیر علی الطبقات المثقّفة من المسلمین، وتزریق الأفکار السامّة فی أذهانهم، والتشکیک والإثارات المضادّة تجاه دینهم، بل إنّهم فی صدد محاولة جادّة لتصویر الدین الإسلامیّ بالشکل الذی یشبه المسیحیّة والکنیسة، فی حصرها فی دائرة الطقوس الفردیّة والعلاقة بین الفرد وخالقه، وإنّها علاقة روحیّة لا تمتدّ إلی النظام الاجتماعیّ والسیاسیّ وبقیّة المجالات، ولو أجرینا مسحاً میدانیّاً للأحکام الدینیّة المستهدفة، والتی تعدّ من المسلّمات الإسلامیّة الثابتة عند جمیع المسلمین، لتوفّرنا علی أنّ عدداً کبیراً من هذه المحاولات هدفه طمس الأحکام الإسلامیّة، کما فی طعنهم فی الحجاب الإسلامی وعفاف المرأة، والاستهانة بالاسرة وعلائق الأرحام، وغیر ذلک من المحاولات.

وکذلک الطعن فی حرمة الربا، وفی حرمة جملة من الفواحش والمنکرات(1) ،

ص:292


1- (1) أخیراً صوّتت الجمعیّة العمومیّة بالأغلبیّة علی إلزام العالم الإسلامیّ» «بحریّة المرأة فی ممارسة الجنس، ومن دون ذلک ستعرّض الدولة المخالفة إلی عقوبات.

مضافاً إلی طعنهم بحرمة وقدسیّة القرآن، کما فی

مطالبتهم بحذف آیات الجهاد، بذریعة کون الجهاد یعدّ لوناً من ألوان الإرهاب العدوانیّ.

وکذلک من آلیّات أعداء الإسلام هو خلق طوائف وفرق ومذاهب تنتحل الإسلام، لا سیّما فی الآونة الأخیرة، کالقادیانیّة والبهائیّة التی تتبنّی إنکار جملة من ضروریّات الإسلام.

وفی ظلّ هذه الظروف، وانطلاقاً من الواجب الشرعیّ والدینیّ المشترک، یتحتّم التصدّی لهذه الهجمة الثقافیّة والحضاریّة والسیاسیّة، من خلال تنسیق وتوحید المواقف المشترکة لجمیع الفرق الإسلامیّة، والاصطفاف الفکریّ ببلورة متّفق علیها مع المطالبة بقوّة من قِبل الأنظمة الإسلامیّة باتّخاذ مواقف حازمة حیال هذه الممارسات.

أهمّ القواعد فی نظام التقریب:

القاعدة الأولی: وجود مذاهب للمسلمین فی عصر النبیّ صلی الله علیه و آله نموذج تعایشی موحّد

قد تجاذب الحدیث عند الباحثین عن سبب ظهور المذاهب فی دین الإسلام، وسبب منشأ هذه الظاهرة، وهل أنّ الحال فی عهد الرسول صلی الله علیه و آله بحیث کان المسلمون علی شاکلة واحدة ومنهاج واحد، ثمّ بعد وفاته صلی الله علیه و آله

ص:293

اختلفوا واجتهدوا فتعدّدت اجتهاداتهم واختلفت آرائهم، وبعد ذلک جاءت الأجیال من بعدهم فواصلت تلک الاختلافات والاجتهادات وازدادت کثرةً إلی عصرنا الحاضر؟

أمّ أنّ ظاهرة التعدّد المذهبیّ کانت فی عصر الرسالة وفی حیاة الرسول صلی الله علیه و آله؟

وإلی جانب هذا التساؤل ینبثق تساؤل آخر یتمحور ویترکّز علی بیان المراد من التعدّد فی المذاهب، وهل المراد من التعدّد هو التعدّد فی الفروع النظریّة الظنّیّة؟ أم أنّ التعدّد فی الفروع الیقینیّة، وإن لم تکن ضروریّة عند الجمیع؟

أم أنّ التعدّد فی المذهبیّة هو فی جملة من المعتقدات غیر ما اتّفق علیه؟

وإن کان التعدّد فی المعتقدات النظریّة، فهل ینحصر الاختلاف فی الظنّیّات، أم یشمل المعتقدات الیقینیّة التی لم تصل إلی درجة البدیهیّة عند الکلّ؟

وعلی أی تقدیر، لا ریب أنّ المشهود من تعدّد مذاهب المسلمین، حاصل فی الفروع، کما هو حاصل فی المعتقدات أیضاً، کالمذهب الشیعیّ الإثنی عشریّ، والمذهب المعتزلیّ، والأشعریّ، والمذهب السلفیّ، والمذهب الصوفیّ، وغیرها من المذاهب التی یؤول الخلاف فیها إلی المسائل العقدیّة.

ومن الواضح أنّ البحث فی الاختلاف العقدی لیس فی تحدید الضابطة فی الدخول فی الإسلام والاتّصاف به، وإنّما یتمرکز حول الضابطة وبین الاتّصاف بالإیمان وما به النجاة یوم القیامة.

وعلی ضوء ذلک فإنّ هذا البحث بعینه - وهو البحث عن شرائط

ص:294

الإیمان وما به النجاة یوم القیامة - لم یکن ولیداً ومتولّداً بعد وفاة رسول الله صلی الله علیه و آله، وإنّما کان فی حیاة الرسول صلی الله علیه و آله، کما تشیر إلی ذلک الآیات والروایات التی تقسّم المسلمین إلی أصناف متعدّدة، منهم المسلم غیر المؤمن، ومنهم المؤمن، ومنهم المنافق، ومنهم المستضعف، ومنهم أهل الضلال، ومنهم مرجون لأمر الله، وغیرها من الأصناف التی استعرضتها الآیات حول صفات المسلمین الذین کانوا فی عهده صلی الله علیه و آله، کما فی قوله تعالی: (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لکِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمّا یَدْخُلِ الْإِیمانُ فِی قُلُوبِکُمْ وَ إِنْ تُطِیعُوا اللّهَ وَ رَسُولَهُ لا یَلِتْکُمْ مِنْ أَعْمالِکُمْ شَیْئاً إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِیمٌ)1 .

وقوله تعالی: (إِذا جاءَکَ الْمُنافِقُونَ)2 .

وقوله تعالی: (وَ آخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ إِمّا یُعَذِّبُهُمْ وَ إِمّا یَتُوبُ عَلَیْهِمْ وَ اللّهُ عَلِیمٌ حَکِیمٌ)3 .

وقوله تعالی: (وَ ما لَکُمْ لا تُقاتِلُونَ فِی سَبِیلِ اللّهِ وَ الْمُسْتَضْعَفِینَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ)4 .

وقوله تعالی: (أَمْ حَسِبَ الَّذِینَ فِی قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ یُخْرِجَ اللّهُ أَضْغانَهُمْ)5 .

ص:295

وکذا قوله تعالی: (یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّی وَ عَدُوَّکُمْ أَوْلِیاءَ تُلْقُونَ إِلَیْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ قَدْ کَفَرُوا بِما جاءَکُمْ مِنَ الْحَقِّ یُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَ إِیّاکُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللّهِ رَبِّکُمْ إِنْ کُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِی سَبِیلِی وَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِی تُسِرُّونَ إِلَیْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ أَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَیْتُمْ وَ ما أَعْلَنْتُمْ وَ مَنْ یَفْعَلْهُ مِنْکُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِیلِ)1 .

وقوله تعالی: (وَ مَنْ یَعْصِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِیناً)2 .

وهناک أسماء وعناوین وصفات کثیرة ذکرتها الآیات التی تنعت وتصنّف المسلمین فی عهد رسول الله صلی الله علیه و آله.

ومن الواضح أنّ هذه الآیات تشیر إلی وقائع وحوادث وقعت من قِبل بعض المسلمین فیما یرتبط بالولایة لله ورسوله صلی الله علیه و آله التی لها دور أساسیّ فیما یرتبط بالعقیدة والإیمان، وأنّ التفریط بهذه الولایة والطاعة لله وللرسول صلی الله علیه و آله یوجب الضلال، وغیر ذلک من الآیات التی تصف بعض المسلمین فی عهده صلی الله علیه و آله بأنّهم أهل ضلال.

معالجة إلتباس:

قد یقال إنّ التحذیر القرآنی للمسلمین من موالاة الکفّار بدل المسلمین إنّما هو متوجّه إلی خصوص المنافقین لا المؤمنین.

والجواب: إنّ الآیة واضحة الدلالة علی کون الخطاب موجّه إلی المؤمنین

ص:296

خاصّة لا المنافقین، کما فی قوله تعالی: (یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا) حیث نعتت الآیة المبارکة بعض المسلمین بالضلال بعد أن کانوا مؤمنین.

وکقوله تعالی: (وَ مِنَ النّاسِ مَنْ یَقُولُ آمَنّا بِاللّهِ وَ بِالْیَوْمِ الْآخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِینَ * یُخادِعُونَ اللّهَ وَ الَّذِینَ آمَنُوا وَ ما یَخْدَعُونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما یَشْعُرُونَ * فِی قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِیمٌ بِما کانُوا یَکْذِبُونَ)1 .

ومن الواضح أنّ وصف(الَّذِینَ فِی قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) هو وصف لبعض المسلمین(1).

وعلی هذا فإنّ ظاهرة الإیمان التی هی درجة أرفع من ظاهرة الإسلام، کانت علی عهد رسول الله صلی الله علیه و آله بین صفوف المسلمین، ومن ثمّ تعدّدت فئات المسلمین فی عهد رسول الله صلی الله علیه و آله.

وبالتالی یصحّ، بل یتعیّن القول بأنّ المسار المذهبی کان فی عهده صلی الله علیه و آله، کما یتبیّن من ذلک أیضاً أنّ اصول الإیمان لا تستند إلی الاختلاف فی الاجتهاد والآراء وتفسیر النصوص الدینیّة، وإنّما ترجع إلی التسلیم القلبیّ بثوابت اصول الإیمان أو عدم التسلیم بها، وتکشف عن أنّ ظاهرة المذهبیّة لیس منشأها الاجتهاد فقط، وإنّما منشأها الأصلیّ هو التسلیم القلبیّ بتلک الاصول.

وبعبارة اخری: إنّ المذاهب جمیعاً متّفقة علی أنّ للإیمان اصولًا معیّنة

ص:297


1- (2) انظر: تفسیر الصنعانی: 123/3. جامع البیان: 176/1.

تزید علی صرف الإقرار اللسانی بالشهادتین، غایة الأمر أنّهم اختلفوا فی تحدید تلک الاصول وتعیینها.

وکذلک اتّفاق المذاهب الإسلامیّة علی أنّ ما به النجاة یوم القیامة یتوقّف علی الإیمان القلبیّ، لا علی الإقرار اللسانیّ فقط.

وممّا تقدّم، یتّضح أنّ البحث فی الظاهرة المذهبیّة لیس هو بحث عن الحکم بصفة الإسلام فی دار الدنیا، وإنّما هو بحث عن طریق النجاة فی الآخرة.

وبناءً علی هذا یتّضح أنّ سیرة الرسول صلی الله علیه و آله بین المسلمین قائمة علی إعطاء کافّة المسلمین حقوق المسلم التی أقرّتها الشریعة الإسلامیّة، علی الرغم من اختلافهم فی صفة الإیمان والنفاق والضلال، وغیر ذلک من الصفات.

فمع وجود مثل هذه الفوارق فی توجّهات المسلمین المذهبیّة فی عصر الرسول صلی الله علیه و آله، نجد أنّ الکلّ یعیشون فی بیئة تعایشیّة واحدة وذات وظائف مشترکة، مقابل حقوق عامّة ثابتة.

وعلی هذا الأساس، تکون سیرة الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله فی المسلمین فی النظام التعایشیّ بین المسلمین، نموذجاً متّبعاً فی الأجیال اللاحقة.

کما أنّه یتبیّن ممّا مضی أنّ الظاهرة المذهبیّة رغم کون منشأها الاختلاف العقائدیّ وفی الامور الثابتة، إلّاأنّ ذلک لا یوجب عدم الاشتراک فی صفة الإسلام، وکذلک إنّ الاختلاف فی الامور الثابتة الیقینیّة لا یوجب القول بأنّ موارد الاختلاف بین المسلمین کلّها اجتهادیّة ولیست ثوابت یقینیّة.

القاعدة الثانیة: لزوم شمولیّة التقریب لکلّ الطوائف والمذاهب الإسلامیّة من

ص:298

أهمّ عوامل نجاح عملیّة التقریب بین الطوائف والمذاهب الإسلامیّة هو شمولیّتها لکلّ تلک المذاهب بلا استثناء، فلا یثمر التقریب مع إقصاء مذهب أو طائفة معیّنة.

وبعبارة اخری: إنّه من الظلم استحواذ بعض الطوائف لتمثیل الموقف الإسلامی الرسمیّ، وتهمیش وإبعاد الطوائف الاخری.

ولعلّ السبب فی ذلک یبدو واضحاً؛ وذلک لأنّ الإقصاء والإبعاد لمذهب أو طائفة عن دائرة الحوار والتقریب بین المذاهب الإسلامیّة، سوف یؤدّی بدوره إلی تکریس الفرقة والمباینة بین الطوائف الإسلامیّة، ویشکّل بذرة إشعال فتیل الفتنة، وعدم الشمولیّة والإقصاء لعدّة من الطوائف هو الذی شاهدنا فی ندوات ومؤتمرات الوحدة والتقریب.

وهذه ظاهرة سلبیّة وممارسة لا تطابق الشعارات المرفوعة والأهداف المنادی بها، کما أنّ التمثیل للجمیع لا بدّ أن یکون بنحو متناسب أو متناصف، کما أنّ الجغرافیا المذهبیّة لا بدّ أن تؤخذ بالحسبان.

القاعدة الثالثة: إنّ العدالة أساس نظام التعایش المذهبیّ.

العدالة والعدل من الاسس الضروریّة التی تمثّل القاعدة التحتیّة التی ینهض علیها نظام التعایش والالفة، کما قال تعالی: (قُلْ یا أَهْلَ الْکِتابِ تَعالَوْا إِلی کَلِمَةٍ سَواءٍ بَیْنَنا وَ بَیْنَکُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَ لا نُشْرِکَ بِهِ شَیْئاً وَ لا یَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنّا

ص:299

مُسْلِمُونَ)1 التی ترمی الإشارة إلی أنّ جمیع البشریّة، بما أنّها متساویة النسبة فی العبودیّة لله تعالی المالک للُامور؛ فلا بدّ أن تحصل التسویة والسواسیة بینهم.

وإنّ الاستعلاء والتسلّط واتّخاذ بعض البشر لبعضهم عبیداً لا یحقّق التسویة والوفاق فیما بینهم.

فلا بدّ أن یکون الجمیع متساوین، ولا امتیاز لبعضهم علی بعض ولا استثناء ولا اختصاص؛ لأنّ الأصل فی الأشیاء کلّها، أنّها خاصّة لله تعالی، وأنّ البشر متساوون فی العبودیّة له، إلّاما خصّه الله تعالی لبعض دون البعض، ولا یخفی أنّ العدل لا یقتصر علی إشباع الحاجة وتوفیر متطلّبات الناس، وإنّما هو التسویة فی جمیع الاختصاصات والموارد، ومن ثمّ لو استأثرت طائفة بنسبة عالیة من الثروات والحقوق دون الطوائف الاخری؛ فلن تستتبّ الالفة والتعایش، کما قالت الزهراء علیهاالسلام: «بالعدل تنسیق القلوب».

ولذلک یتخوّف الباحثون الاجتماعیّون من انفجار اجتماعیّ فی الشعوب الغربیّة، وتذمّر فی أوساطهم، کما تشیر إلی ذلک الاستفتاءات والدراسات التی اجریت فی هذا المجال فی الأعوام الأخیرة.

وسبب ذلک هو ما نلمسه من استئثار الأنظمة الغربیّة لموارد الثروات وحصرها فی طبقة معیّنة، علی الرغم من تلبیة تلک الأنظمة لمتطلّبات وحاجیات المعیشة لغالبیّة الشعوب بنسبة متوسّطة بالقیاس إلی الشعوب الشرقیّة.

القاعدة الرابعة: اصول واسس التعرّف علی متبنیّات ومعتقدات الآخرین:

ص:300

من أبرز ما أکّدت علیه النصوص القرآنیّة هو کیفیّة تحقیق وتکوین وتشکیل الرؤیة والحکم تجاه الجماعات والأقوام الآخرین، فیما یتعلّق بعقائدها ومتبنّیاتها الفکریّة، ولعلّ أوضح النصوص القرآنیّة التی یسلّط فیها الضوء علی کیفیّة تشکیل الرؤیة لأیّ طرف آخر، هی:

1 - قوله تعالی: (إِنْ جاءَکُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَیَّنُوا أَنْ تُصِیبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ)1 التی نزلت فی الولید بن عقبة بن أبی معیط بعدما بعثه رسول الله صلی الله علیه و آله فی صدقات بنی المصطلق، فخرجوا یتلقّونه فرحاً به، وقد کان بین الولید وبینهم عداوة فی الجاهلیة، فظنّ أنّهم همّوا بقتله، فرجع إلی رسول الله صلی الله علیه و آله وقال إنّهم ارتدّوا ومنعوا الزکاة، فی حین أنّ الأمر لم یکن کذلک، فعزم المسلمون لغزوهم، إلّاأنّ رسول الله صلی الله علیه و آله بعث إلیهم علیّاً علیه السلام لیثبّت من حالهم، فوجدهم منادین بالصلاة متهجّدین، فسلّموا إلیه علیه السلام صدقاتهم، فرجع علیه السلام، فنزلت الآیة تحذّر المسلمین من الحکم علی الآخرین من دون علم وبیّنة معتبرة، فیما یتعلّق بعقائدهم ومبانیهم الفکریّة ومعتنقهم وانتمائهم الدینیّ والمذهبیّ.

2 - قوله تعالی: (وَ اعْلَمُوا أَنَّ فِیکُمْ رَسُولَ اللّهِ لَوْ یُطِیعُکُمْ فِی کَثِیرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ)2 التی تشیر إلی أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله لو لم یثبّت فی الأمر - بمقتضی عصمته - وتابع رأیهم، لوقع المسلمون فی المشقّة والعنت.

3 - قوله تعالی: (وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا)

ص:301

(بَیْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَی الْأُخْری فَقاتِلُوا الَّتِی تَبْغِی حَتّی تَفِیءَ إِلی أَمْرِ اللّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَیْنَهُما بِالْعَدْلِ وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اللّهَ یُحِبُّ الْمُقْسِطِینَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَیْنَ أَخَوَیْکُمْ وَ اتَّقُوا اللّهَ لَعَلَّکُمْ تُرْحَمُونَ)1 .

حیث تشیر الآیة المبارکة إلی ضرورة اتّخاذ منهج العدل والقسط فی الحکم بین الطوائف الإسلامیّة، ومن الواضح أنّ مثل هذا الحکم لا تکفی فیه البیّنة الشرعیّة الظنّیّة، ولو کانا شاهدین عدلین، بل لا بدّ فیها من تحقیق العلم بالحال؛ لأنّه لیس من قبیل الحکم علی قضیّة فردیّة التی یکتفی فیها بإقامة البیّنة المتمثّلة بشاهدین عدلین، وإنّما هو حکم علی جماعات وأقوام ومجامیع بشریّة، فلا ینهض الطریق الظنّیّ المعتمد فی الشؤون الفردیّة، للحکم علی قضیّة مجتمع أو قبیلة أو جماعة ذات أفراد متعدّدة.

وبعبارة اخری أنّ قوله تعالی: (فَتَبَیَّنُوا أَنْ تُصِیبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ) قاعدة فی نظام الحکم والقضاء فی شؤون الجماعات والأقوام، وأنّه لا بدّ أن یکون مبنیّاً علی التبیّن، وهو العلم لا البیّنة العادلة الظنّیّة فضلًا عن خبر الواحد.

ولعلّ السبب فی ذلک یبدو واضحاً؛ إذ أنّ الحکم فی قضیّة تتعلّق بطائفة من الناس لا یکفی فیها البیّنة التی تقام فی قضیّة فردیّة؛ وذلک لخطورة المقام؛ لأنّه یتعلّق بالجماعات والطوائف، ومن المسائل المرتبطة بالدماء الکثیرة والأعراض والأموال ونحوها، لمجامیع بشریّة متعدّدة فلا یسوغ التساهل والتهاون فی مثل هذه الأحکام.

ص:302

إذن هی النصوص القرآنیّة المبارکة تؤسّس لأمر بالغ الخطورة علی صعید تشکیل وتکوین الرؤیة حول الآخرین ومتبنّیاتهم الفکریّة والعقائدیّة.

وهذه القاعدة تؤکّد علی ضرورة لزوم تحرّی العلم وتبیّن الحال فی الحکم علی أیّ جماعة، بأیّ حکم من الأحکام، لا سیّما الأحکام التی یترتّب علیها هدر الدماء والأعراض، کالتکفیر والارتداد والتضلیل من دون علم وتبیّن الحال.

وبناءً علی هذه القاعدة، لا یسوغ الحکم علی أی طائفة من الطوائف الإسلامیّة بنسبة عقیدة أو متبنّی فکریّ إلیهم أو باعتناقهم لمقال معیّن وغیرها من الأحکام، علی أساس قول ممّن لا ینتمی إلی تلک الطائفة، أو ممّن لم یکن قوله معتمداً لدیهم، بل لا بدّ من التحقّق فیما ورد فی مصادرهم الأساسیّة، وأقوال المشهور من علمائهم، فلا یسوغ الاعتماد علی الأقوال الشاذّة والنادرة التی لا تمثّل المتبنّی الرسمیّ لهم.

وهذه ضابطة وقاعدة مهمّة، لیس من الصحیح التفریط بها وتخطّیها؛ لأنّ ذلک یفضی إلی إیجاد ذرائع وحجج تستغلّ من قِبل آخرین لإثارة الفتن والنزاعات بین المسلمین بغیة تحقیق أهداف سیاسیّة مغرضة.

وعلی هذا، فکلّ آلیّة ووسیلة لمعرفة عقائد ومتبنّیات الآخرین إذا لم تکن مقنّنة ومنضبطة بضوابط علمیّة ومنطقیّة، کمطلق الظنون وأخبار الآحاد، فإنّها سوف تؤدّی إلی الوقوع فی هذه المحاذیر وإشعال الفتن والنزاعات.

وهذه القاعدة تشمل أیضاً الحوار العلمیّ، بل تعدّ رکناً من أرکانه، فلا

ص:303

یتمّ الحیاد ولا الموضوعیّة العلمیّة إلّابالاعتماد علی أداة العلم والتبیان، لا الظنون والتظنّی، إذ لا یثمر مثل ذلک فی الوصول إلی الحقیقة.

خلاصة هذه القاعدة ما یلی:

1 - عدم جواز نسبة أیّ حکم أو متبنّی عقائدیّ أو فقهیّ أو رؤیة دینیّة، إلّامن خلال المصادر المعتبرة لدی تلک الجماعة أو المذهب.

2 - یجب اعتماد المشهور لدی کلّ جماعة وطائفة فی النسبة إلیهم.

3 - لا بدّ من الاعتماد علی العلم الیقینیّ، فلا تکفی الظنون وإن کانت معتبرة؛ لأنّ الحکم علی أیّ مذهب من القضایا ذات الشأن العامّ التی لا یعتمد فیها إلّاعلی الیقین.

القاعدة الخامسة: فی النظام السیاسیّ والمواطَنة:

هنالک ک قاعدة مهمّة حَریّة بالبحث والدراسة، تتعلّق بکیفیّة التعایش المدنیّ وحقّ المواطَنة والنظام السیاسیّ، أشارت إلیها جملة من النصوص القرآنیّة.

ومن النصوص القرآنیّة التی أضاءت هذه الحقیقة، هی قوله تعالی: (إِنَّ الَّذِینَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِی سَبِیلِ اللّهِ وَ الَّذِینَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولئِکَ بَعْضُهُمْ أَوْلِیاءُ بَعْضٍ وَ الَّذِینَ آمَنُوا وَ لَمْ یُهاجِرُوا ما لَکُمْ مِنْ وَلایَتِهِمْ مِنْ شَیْ ءٍ حَتّی یُهاجِرُوا وَ إِنِ اسْتَنْصَرُوکُمْ فِی الدِّینِ فَعَلَیْکُمُ النَّصْرُ إِلاّ عَلی قَوْمٍ بَیْنَکُمْ وَ بَیْنَهُمْ مِیثاقٌ وَ اللّهُ بِما تَعْمَلُونَ

ص:304

بَصِیرٌ)1 .

حیث أشارت هذه الآیة المبارکة إلی أنّ الولاء السیاسیّ، بمعنی الانتماء والعیش فی کنف نظام سیاسیّ معیّن، یتضمّن وینطوی علی تبعیّة مَن یعیش فی ذلک النظام إلی مقرّرات وسلطة ذلک النظام، وهو ما قد یعبّر عنه بالتسلیم والانقهار تحت سلطان وقدرة ذلک النظام.

والولاء السیاسیّ والانتماء والعیش فی ظلّ ذلک النظام، یقتضی وجود واجبات ووظائف فی مقابل حقوق وامتیازات.

أمّا الواجبات والوظائف العامّة تجاه ذلک النظام السیاسیّ، والتی ینبغی الالتزام بها لکلّ من یعیش فی کنف ذلک النظام، فهی من قبیل الدفاع عن الأمن العامّ للمجتمع فی ذلک النظام، ودفع الضرائب، والتقیّد بسائر مقرّرات النظام العامّ، ونحوها من الواجبات.

وأمّا الحقوق والامتیازات التی یلزم توفّرها لکلّ من یعیش تحت ظلّ ذلک النظام السیاسی، فهی من قبیل استحقاق وتوفّر الحمایة المدنیّة علی المال والنفس والعرض، والانتفاع بالخدمات المدنیّة العامّة، والاستحقاق من المال العامّ کالضمان الاجتماعیّ أو الفیء العامّ، ونحوها من الاستحقاقات.

وهذه الحقوق والواجبات التی یقرّرها النظام السیاسیّ غیر مترتّبة علی مجرّد الولاء الدینی، بمعنی عدم کفایة الانتماء إلی الدین الحنیف فی ترتّب آثار الولاء السیاسیّ بل لا بدّ من العیش تحت ظلّ النظام السیاسیّ المتقدّم.

ص:305

فلو فرضنا أنّ مسلماً کان یعیش فی بلاد ونظام الکفر، فلا تثبت له الحقوق المدنیّة التی یوفّرها النظام الإسلامیّ ما دام ولاؤه السیاسیّ تابع لنظام الکفر، إلّاإذا هاجر إلی بلاد المسلمین لیعیش تحت نظامهم.

کذلک العکس، وهو ما لو کان الکافر من أهل الکتاب أو المهادن یعیش فی بلاد المسلمین وتحت ظلّ نظامهم، بمعنی الولاء السیاسیّ، فله جملة من الحقوق المدنیّة والحمایة العامّة.

نعم، لا یثبت للکافر النصرة فی الدین والمعتقد، ولو عاش فی ظلّ النظام الإسلامیّ، کما أنّه تثبت النصرة فی الدین، أی الحمایة للمسلم الذی یعیش فی بلاد الکفر فی البعد الدینیّ، لا النصرة والحمایة فی البعد المعیشیّ المدنیّ.

وهذا ما تشیر إلیه الآیة المتقدّمة: (إِنَّ الَّذِینَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِی سَبِیلِ اللّهِ وَ الَّذِینَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولئِکَ بَعْضُهُمْ أَوْلِیاءُ بَعْضٍ) أی تثبت للمسلمین الذین هاجروا وجاهدوا... مطلق الولایة، أی الشاملة للولایة السیاسیّة المدنیّة والولایة الدینیّة.

وذلک بعد تحمّلهم لأعباء الهجرة، سیکون لهم العیش تحت کنف النظام الإسلامیّ، والقیام بالوظائف العامّة، کدفع الضریبة المالیّة وهو الجهاد بالأموال، والدفاع عن الأمن الاجتماعیّ والدینیّ، وهو الجهاد بالنفس فی سبیل الله.

وفی مقابل ما تقدّم تشیر الآیة إلی الذین لم یقوموا بما قام به اولئک المهاجرون والمجاهدون کما فی قوله تعالی: (وَ الَّذِینَ آمَنُوا وَ لَمْ یُهاجِرُوا ما)

ص:306

(لَکُمْ مِنْ وَلایَتِهِمْ مِنْ شَیْ ءٍ حَتّی یُهاجِرُوا)1 ، أی الذین انتموا إلی هذا الدین، ولکن لم یهاجروا ویعیشوا فی بلاد المسلمین، وإنّما بقوا فی دیار الکفر، فلا یثبت لمثل هؤلاء ما یثبت للمسلمین من حقّ الحمایة وما یرافقها من امتیازات للمسلمین الذین یعیشون فی بلاد الإسلام وتحت ظلّ نظام الإسلام.

نعم، یستثنی من ذلک ما فی قوله تعالی: (وَ إِنِ اسْتَنْصَرُوکُمْ فِی الدِّینِ فَعَلَیْکُمُ النَّصْرُ) ، أی یجب نصرتهم فی الدین، فیما لو اضطهدوا بسبب انتمائهم الدینیّ.

وقد ورد فی(تفسیر العیّاشی) عن زرارة، عن أبی جعفر وأبی عبدالله علیهما السلام، قال: «سألتهما عن قوله: (وَ الَّذِینَ آمَنُوا وَ لَمْ یُهاجِرُوا ما لَکُمْ مِنْ وَلایَتِهِمْ مِنْ شَیْ ءٍ حَتّی یُهاجِرُوا) ، قالا: إنّ أهل مکّة لا یرثون أهل المدینة»(1).

وهذا المعنی یقرّره الشیخ الطوسی بقوله: «الولایة عقد النصرة للموافقة فی الدیانة، ثمّ أخبر تعالی عن الذین آمنوا ولم یهاجروا من مکّة إلی المدینة، فقال: (وَ الَّذِینَ آمَنُوا وَ لَمْ یُهاجِرُوا ما لَکُمْ مِنْ وَلایَتِهِمْ مِنْ شَیْ ءٍ) .

وقیل فی معناه قولان:

أحدهما: ولایة القرابة، نفاها عنهم لأنّهم کانوا یتوارثون بالهجرة والنصرة دون الرحم. فی قول ابن عبّاس والحسن وقتادة والسدّی، وعن أبی جعفر علیه السلام: إنّهم کانوا یتوارثون المؤاخاة الاولی.

ص:307


1- (2) تفسیر العیّاشی: 27/2.

الثانی: إنّه نفی الولایة التی یکونون بها یداً واحدة فی الحلّ والعقد، فنفی عن هؤلاء ما أثبته للأوّلین حتّی یهاجروا»(1).

والحاصل: أنّ الولایة المقرّرة فی الآیة لا تختصّ بولایة المیراث، بل هی شاملة لولایة النصرة، وولایة الأمن، أی الولاء السیاسیّ.

وعلی ضوء هذا لا یرد الاعتراض بأنّ الآیة منسوخة بقوله تعالی:

(وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلی بِبَعْضٍ فِی کِتابِ اللّهِ)2 ؛ وذلک لأنّ النسخ لبعض مفاد الآیة لا یستلزم النسخ لجمیع مفادها، فلا یرفع الید عن بقیّة مفاد الآیة.

ویتحصّل من مفاد القاعدة لما نحن فیه من المقام أنّ الآثار والامتیازات ثابتة للشخص لأجل ولائه السیاسیّ وعیشه فی ظلّ النظام الإسلامیّ، دون من یعیش فی بلاد الکفر، فإنّه لا تثبت له تلک الامتیازات من النصرة والحمایة والأمن، والاستحقاقات من بیت المال.

وهذا المفاد من الآیة لا یتنافی مع آیة: (وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلی بِبَعْضٍ فِی کِتابِ اللّهِ) ؛ لأنّ مورد کلّ منهما أجنبیّ عن الآخر، فلا تکون آیة اولی الأرحام ناسخة للآیة فی المقام، بلحاظ هذا المورد، وإن کانت آیة اولی الأرحام ناسخة لمورد الوراثة فیها.

وممّا یعضد مفاد هذه القاعدة، ما تشیر إلیه آیة الذمّة، والجزیة فی أهل الکتاب من أنّهم بانضوائهم تحت النظام الإسلامیّ، یجب علی المسلمین القیام

ص:308


1- (1) التبیان: 162/5.

بجملة من الواجبات تجاههم، من قبیل حمایتهم من الاعتداء الخارجیّ، وحمایة نفوسهم وأعراضهم وأموالهم من الظلم الداخلیّ، ومنحهم حریّة التدیّن وحریّة العمل والکسب ونحوها من الحقوق.

ویعضد هذه القاعدة قوله تعالی: (فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِیاءَ حَتّی یُهاجِرُوا فِی سَبِیلِ اللّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَ اقْتُلُوهُمْ حَیْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ لا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِیًّا وَ لا نَصِیراً إِلاَّ الَّذِینَ یَصِلُونَ إِلی قَوْمٍ بَیْنَکُمْ وَ بَیْنَهُمْ مِیثاقٌ أَوْ جاؤُکُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ یُقاتِلُوکُمْ أَوْ یُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَ لَوْ شاءَ اللّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَیْکُمْ فَلَقاتَلُوکُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوکُمْ فَلَمْ یُقاتِلُوکُمْ وَ أَلْقَوْا إِلَیْکُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللّهُ لَکُمْ عَلَیْهِمْ سَبِیلاً)1 ، حیث قرّرت أنّ میزان الولاء السیاسیّ یتحدّد علی أساس الهجرة فی سبیل الله إلی دار الإسلام ونظامه، وکذا من یرتبط بنظام الإسلام بمیثاق، یکون تحت ظلّ ولایة النظام الإسلامیّ.

وکذلک قوله تعالی: (وَ إِنْ کانَ مِنْ قَوْمٍ بَیْنَکُمْ وَ بَیْنَهُمْ مِیثاقٌ فَدِیَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلی أَهْلِهِ)2 .

القاعدة السادسة: لزوم إعطاء حقّ المواطَنة

للأفراد من دون تفریق:

علی ضوء ما تقدّم من مفاد هذه القاعدة التی تقول إنّ ترتّب الامتیازات والحقوق التی یوفّرها النظام الإسلامی والخدمات المدنیّة، یکون علی أساس الولاء السیاسیّ لا مجرّد الانتماء الدینی أو المذهبیّ، فعلی هذا الأساس یجب

ص:309

عدم التفریق بین أفراد المسلمین فی الاستحقاقات المدنیة فی النظام الإسلامی فی البلد الواحد، مهما کان انتماؤه المذهبیّ، فإنّ أتباع کلّ مذهب، لهم من الحقوق والاستحقاقات المدنیّة فی ذلک البلد الذی یعیشون فیه، وإن اختلف النظام السیاسیّ فی تلک الدولة فی الانتماء المذهبیّ.

حدیث الفرقة الناجیة والتعایش السلمیّ بین المسلمین:

ذهب جملة من المتطرّفین فی تفسیر حدیث الفرقة الناجیة - وهو قوله صلی الله علیه و آله: «إنّ بنی إسرائیل تفرّقوا علی إحدی وسبعین فرقة، وإنّ هذه الامّة(یعنی امّته) ستفترق علی اثنتین وسبعین فرقة، کلّها فی النار إلّا فرقة واحدة»(1) - إلی تفسیر معنی ومفاد الحدیث الشریف بتفسیر خاطئ، حیث قالوا: لمّا کان حدیث الفرقة الناجیة یفید حصر النجاة فی فرقة واحدة، وکون بقیّة الفرق الإسلامیّة الاخری علی ضلال، فإنّ ذلک یقتضی محاربة جمیع الفرق الضالّة وهدر حرمتها، ونفی صفة الإسلام عنها، وإن کانت تنتحل الإسلام وتتشهّد الشهادتین، لأنّها فرق ضالّة مصیرها إلی النّار، کما هو مقتضی تعبیر الحدیث:

«أنّها فی النار».

إلّاأنّ هذا التوهّم فاسد وباطل، وذلک للنقاط التالیة:

1 - إنّ مسائل العقیدة وقواعد الدین لا یمکن استخلاصها من دلیل واحد کآیة، أو حدیث قطعیّ الصدور من دون فهم بقیّة الأدلّة المتعلّقة بذلک

ص:310


1- (1) مجمع الزوائد: 226/6.

الموضوع؛ لأنّ الدین منظومة واحدة لا تتجزّأ وهی غیر متدافعة مع بعضها البعض، وعلی هذا، فالنظرة التجزیئیّة الاحادیّة زائغة عن الصراط القویم، وهذا ما ندّد به القرآن الکریم بقوله تعالی: (أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْکِتابِ وَ تَکْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ یَفْعَلُ ذلِکَ مِنْکُمْ إِلاّ خِزْیٌ فِی الْحَیاةِ الدُّنْیا وَ یَوْمَ الْقِیامَةِ یُرَدُّونَ إِلی أَشَدِّ الْعَذابِ وَ مَا اللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ)1 .

2 - وجود اختلاف بین أحکام دار الدنیا وبین أحکام دار الآخرة

فإنّ الحکم فی دار الدنیا قائم علی ظاهر الحال - کما تقدّم - من أنّ الإقرار بالشهادتین یوجب حقن الدماء والأعراض والأموال، والحکم علی مَن تشهّد الشهادتین بالإسلام، ویحکم له ما للمسلمین وعلیه ما علیهم، وإن کان منافقاً.

وأمّا أحکام الآخرة، من النجاة من النّار، وجزاء الله وعقابه، فهی أحکام تترتّب علی اعتقاد الإنسان الباطنیّ، وما عقد علیه قلبه، وما استقرّت علیه جوانحه، وما اعتقده ضمیره؛ وذلک بحسب ما تواتر لدی المسلمین من الآیات والروایات التی سبقت الإشارة إلیها فی البحث السابق بأنّ مَن تشهّد الشهادتین دخل فی حظیرة الإسلام.

وهذا المعنی یلتقی مع الألفاظ الواردة فی حدیث الفرقة الناجیة التی نسب فیها رسول الله صلی الله علیه و آله جمیع الفرق المتفرّقة إلی امّته وهی امّة الإسلام، فی حین قصر صلی الله علیه و آله الحکم الاخرویّ من النجاة من النار، علی فرقة واحدة منها

ص:311

دون أحکام دار الدنیا.

إذن، الحدیث فی صدد الإشارة إلی الأحکام الاخرویّة دون أحکام الدنیا.

وممّا یؤکّد هذه القاعدة من التفصیل بین أحکام الآخرة وأحکام الدنیا، هو قوله تعالی: (وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَیْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَی الْأُخْری فَقاتِلُوا الَّتِی تَبْغِی حَتّی تَفِیءَ إِلی أَمْرِ اللّهِ)1 .

فقد أطلقت الآیة الکریمة صفة الإیمان علی کلا الطائفتین المتقاتلتین رغم کون إحداهما باغیة لم تفئ إلی أمر الله، وهناک آیات اخری تؤکّد المضمون ذاته.

وهنالک فهم آخر لحدیث الفرقة الناجیة، یترکّز فیه جانب التفریط، وهو قول المرجئة القائلین بأنّ کلّ من تشهّد الشهادتین بلسانه یکون ناجیاً یوم القیامة، مع أنّ الحدیث الشریف یکشف بشکل واضح عن وجوب الفحص والبحث عن تلک الفرقة المحقّة الموعودة بالنجاة، والتمسّک بها دون بقیّة فرق المسلمین، کسلوک مرتبط بالآخرة، لأنّ مؤدّی الحدیث النبویّ هو أنّ الاختلاف الواقع لیس فی دائرة الظنون والاجتهاد المشروع الموجب للتعذیر، وإنّما الحدیث فی صدد الإشارة إلی أنّ اصول الإیمان وأرکان المعرفة من الامور القطعیّة والیقینیّة، وإن لم تکن ضروریّة عند کلّ المسلمین بسبب اختلاف وجهات النظر بین الفرق الإسلامیّة.

فحدیث الفرقة الناجیة یمثّل منهجاً مهمّاً لغایات وأهداف الوحدة، وهو الحثّ علی ضرورة البحث والتنقیب والحوار لأجل الوصول إلی الحقّ

ص:312

والهدی، وأنّ أفراد الامّة الإسلامیّة وإن اشترکوا جمیعاً بتشهّدهم للشهادتین وتعایشوا فی ظلّ أمن نظام موحد کافل لهم، إلّاأنّ ذلک بحسب ظاهر الإسلام فی النشأة الدنیویّة، أمّا النجاة فی الآخرة، فالمیزان فیها هو الإیمان - کما تقدّم -.

فهنالک صفة الإسلام تتحقّق بالإقرار باللسان وتترتّب علیه أحکام المواطنة فی دار الإسلام ونظامه، وإلی جوار صفة الإسلام توجد صفة الإیمان التی تتحقّق بالاعتقاد القلبیّ وتترتّب علیها الأحکام الاخرویّة من النجاة من النار ونحوها.

ص:313

ص:314

الفصل الثالث: نظام التنسیق والتوافقات الوقتیة

اشارة

وحاصل هذا النظام عبارة عن صیاغة مواقف سیاسیّة مشترکة ضمن آلیّات معیّنة، یمکن أن تقع فی مجالات متعدّدة کمجال السیاسة بین الدول، وفی المجالات الاجتماعیّة والاقتصادیّة ونحوها. وقد یعرف بأنّه نظام تدبیر سیاسیّ بحسب الظرف الراهن.

غایات نظام التنسیق والانسجام والتوافق:

یرمی هذا النظام إلی معالجات آنیّة وسریعة لحفظ المصالح المشترکة بین الأطراف، وتبدید النزاعات والتشنّجات الراهنة.

امتیاز نظام التنسیق عن نظام الوحدة ونظام التقریب:

یتمیّز نظام التنسیق عن نظام الوحدة ونظام التقریب فی تکفّله لمعالجة سریعة وإیجاد الحلول للأزمات الراهنة التی لا یمکن تأخیر معالجتها بالاعتماد علی نظام الوحدة أو التقریب اللذان یتطلّبان وقتاً مستغرقاً وطویلًا.

ص:315

علاقة نظام التنسیق مع نظام الوحدة والتقریب:

من الواضح أنّ نظام التنسیق والتوافقات یتّکئ أیضاً علی بعض المشترکات فی نظام الوحدة، ولا یتوقّف علی إنجازات الوحدة فی دوائرها الوسیعة.

کما لا یتوقّف هذا النظام علی نظام التقریب، بل یقع فی موازاته، فإنّ نظام التنسیق یمکن أن یوجد ویتحقّق وإن لم یکن لنظام التقریب وجود وحیاة. نعم، هناک ثمار وآلیّات مشترکة بین نظام التقریب ونظام التنسیق.

نظام التنسیق یمثّل الحدّ الأدنی للوحدة:

إنّ للوحدة حدّاً أعلی وأدنی، وهذا ما یقرّره عدد من النصوص القرآنیّة، منها:

1 - قوله تعالی: (وَ أَطِیعُوا اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَ تَذْهَبَ رِیحُکُمْ وَ اصْبِرُوا إِنَّ اللّهَ مَعَ الصّابِرِینَ)1 ، حیث یکشف صدر الآیة عن أنّ الحدّ الأعلی للوحدة التامّة هو الطاعة لله وللرسول، أی الانقیاد والولاء التامّ لله ورسوله.

بینما تکفّل ذیل الآیة وهو(وَ لا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا) بیان الحدّ الأدنی للوحدة، وهو تحریم التنازع بین المسلمین.

ولعلّ أروع ما تضمّنته الآیة المبارکة هو أنّها جاءت مشفوعة ببیان فلسفة وحکمة وسبب حرمة التنازع، وهو أنّ التنازع یؤدّی ویفضی إلی الفشل والضعف

ص:316

وذهاب قوّة المسلمین وقدرتهم، کما هو واضح من تعبیر الآیة ب(وَ تَذْهَبَ رِیحُکُمْ) ، أی تذهب غلّتکم وقوّتکم.

وعلی هذا الضوء، فإنّ الحدّ الأدنی من الوحدة، وهو إیجاد الحلول السریعة والآنیّة لتجنّب حصول الأزمات والنزاعات أو لتکوین موقف متّحد تجاه موضوع معیّن، سواء فیما بین المسلمین أنفسهم أم بین المسلمین وغیرهم، هو ما یسمّی بنظام التنسیق والانسجام والتوافق.

2 - قوله تعالی: (وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِیعاً وَ لا تَفَرَّقُوا وَ اذْکُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَیْکُمْ إِذْ کُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَیْنَ قُلُوبِکُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَ کُنْتُمْ عَلی شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ فَأَنْقَذَکُمْ مِنْها کَذلِکَ یُبَیِّنُ اللّهُ لَکُمْ آیاتِهِ لَعَلَّکُمْ تَهْتَدُونَ)1 .

فقد أشار صدر الآیة المبارکة أیضاً إلی أنّ الحدّ الأعلی للوحدة، هو الاعتصام بحبل الله، بمعنی الولاء والاتّباع لله ولرسوله صلی الله علیه و آله.

أمّا ذیل الآیة فقد تصدّی لإبراز وبیان الحدّ الأدنی من الوحدة وهو تجنّب النزاع والفرقة بأیّ شکل من الأشکال، وهذا الحدّ الأدنی من الوحدة یطلق علیه اسم نظام التنسیق والانسجام والتوافق.

إذن، نظام التنسیق والانسجام والتوافق، یمثّل الحدّ الأدنی للوحدة، والتفریط به یؤدّی إلی حصول العداوة بین المسلمین، ویذهب بالنعمة العظیمة التی منّ الله تعالی بها علیهم، وهی الالفة بین القلوب، کما فی تعبیر

ص:317

الآیة ب(فَأَلَّفَ بَیْنَ قُلُوبِکُمْ) .

وهناک عدّة نصوص قرآنیّة اخری تشارکها فی المضمون ذاته مؤکّدة علی خطورة التجاوز والتفریط بالحدّ الأدنی للوحدة، وهو نظام التنسیق والانسجام والتوافق، کقوله: (إِذْ یُرِیکَهُمُ اللّهُ فِی مَنامِکَ قَلِیلاً وَ لَوْ أَراکَهُمْ کَثِیراً لَفَشِلْتُمْ وَ لَتَنازَعْتُمْ فِی الْأَمْرِ)1 .

وقوله: (وَ لَقَدْ صَدَقَکُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتّی إِذا فَشِلْتُمْ وَ تَنازَعْتُمْ فِی الْأَمْرِ وَ عَصَیْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراکُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْکُمْ مَنْ یُرِیدُ الدُّنْیا وَ مِنْکُمْ مَنْ یُرِیدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَکُمْ عَنْهُمْ لِیَبْتَلِیَکُمْ وَ لَقَدْ عَفا عَنْکُمْ وَ اللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَی الْمُؤْمِنِینَ)2 ، وهی واضحة الدلالة علی توقّف أو شرطیّة عدم التنازع والفرقة فی تحقیق المسلمین للنصر.

وفی مقابل ذلک فإنّ معصیة الرسول صلی الله علیه و آله وعدم طاعته، مدعاة للتنازع فی الأمر.

فهذه الآیة المبارکة تلتقی فی التأکید مع ما تقدّم من الآیات، فی أنّ الحدّ التامّ أو الأعلی للوحدة، لا یمکن تحقیقه إلّابتمام الطاعة لله ورسوله صلی الله علیه و آله.

وبناءً علی ما تقدّم یتّضح أنّ أسباب التنازع والفرقة هو اتّباع الأهواء والمیول، والابتعاد عن الله ورسوله صلی الله علیه و آله کما فی قوله تعالی:

(وَ ما تَفَرَّقُوا إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْیاً بَیْنَهُمْ وَ لَوْ لا کَلِمَةٌ)

ص:318

(سَبَقَتْ مِنْ رَبِّکَ إِلی أَجَلٍ مُسَمًّی لَقُضِیَ بَیْنَهُمْ وَ إِنَّ الَّذِینَ أُورِثُوا الْکِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِی شَکٍّ مِنْهُ مُرِیبٍ)1 .

وقوله تعالی: (وَ مَا اخْتَلَفَ الَّذِینَ أُوتُوا الْکِتابَ إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْیاً بَیْنَهُمْ)2 .

وغیرها من الآیات التی تصرّح بأنّ أهمّ أسباب الفرقة والاختلاف هو البغض واتّباع الهوی.

بعض ممارسات حکّام المسلمین سبب للفرقة:

ممّا ینبغی التذکیر به هو أنّ من أهمّ أسباب النزاع والفرقة بین المسلمین وطوائفهم ومذاهبهم، هو ما یقوم به بعض حکّام الشعوب الإسلامیّة من السعی لإشعال فتیل الفتنة بین المسلمین وإیجاد الفرقة بینهم؛ وذلک لأنّ وحدة الصفّ بین المسلمین واتّحادهم وانسجامهم یقلق ویخیف هؤلاء الحکّام، ویهدّد عروشهم؛ إذ الانفتاح بین المسلمین والطوائف الإسلامیّة یحیی مبادئ الإسلام الأصیلة الباعثة علی قوّة المسلمین وإقامة العدالة بینهم، وفتح باب إحیاء فریضة الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر علی مصراعیها، التی من أهمّ بنودها محاسبة الحکّام ومراقبتهم وصدّهم عن الاستبداد والاستئثار بالثروات، وتحکیم قاعدة الاستشارة والشوری، ومشارکة عموم المسلمین فی الحکم.

ص:319

ومن الواضح أنّ إحیاء هذه القواعد والاصول الإسلامیّة، یهدّد مشروعیّه حکوماتهم واستمرارها، ویحدّد من إطلاق عنانها فی التصرّفات، ومن ثمّ یلجأ هؤلاء الحکّام إلی إثارة الفرقة والنزاع بین المسلمین؛ لئلّا یواجهوا بجبهة متّحدة من عموم المسلمین.

قاعدة فی بیان حقیقة المذهبیّة العقائدیّة والفقهیّة:

هناک إثارات وتساؤلات متعدّدة حیال المذهبیّة، فالشخص المعتنق للدین الإسلامیّ حین دخوله الإسلام ینقدح فی ذهنه تساؤل حول تعدّد المذاهب العقائدیّة والفقهیّة فی الدین الواحد، وهل أنّ المذهبیّة من صلب الدین، أم هی مقحمة فی الدین؟

وقد یتساءل عن الفارق بین الدین والمذهب؟

وهل أنّ الدین یشتمل علی مذاهب متعدّدة أم لا؟

وإلی جوار ما تقدّم من تساؤلات، قد یثار تساؤل آخر یتوجّه صوب بیان الفارق بین تعدّد الاجتهادات وتعدّد المذاهب؟

أو أنّ المذاهب هی نفس الاجتهادات، أم شیء آخر؟

وهل أنّ ما قام به روّاد مرحلة تأسیس المذهبیّة العقائدیّة أو الفقهیّة، هو عملیّة اجتهادیّة، أو هی عملیّة تختلف جوهریّاً عن ذلک؟

وعلی تقدیر کونها لیست اجتهادیّة، وإنّما هی شیء آخر، فهل أنّ حقیقة عملیّة تأسیس المذاهب هو فعل یرتقی إلی درجة التشریع فی الدین أم لا؟

ص:320

وقد یعبّر عنه کما فی جملة من الروایات الواردة من أهل البیت علیهم السلام ب(المنهاج) إشارة إلی قوله تعالی: (جَعَلْنا مِنْکُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً)1 .

وغیر ذلک من التساؤلات التی تثار لدی المتابع والمتصفّح لعنوان الدین والشریعة والملّة والنِّحلة والمذهب والمنهاج والطریقة.

ولکی تتّضح الإجابة علی هذه التساؤلات، ینبغی إعطاء لمحة إجمالیّة تصوّریّة عامّة عن حقیقة المذهبیّة العقائدیّة والمذهبیّة الفقهیّة لدی المسلمین.

حقیقة المذهبیّة العقائدیّة عند المسلمین:

لا شکّ أنّ هناک مذاهب عقائدیّة متعدّدة فی الدین الإسلامیّ غیر المذاهب الفقهیّة، فإنّ تنوّع المسلمین إلی شیعة وسنّة، یعدّ تعدّداً مذهبیّاً عقائدیّاً، مضافاً إلی تنوّع المذاهب العقائدیّة عند الشیعة والسنّة أنفسهم، فمذهب الشیعة تعدّد إلی مذهب الإمامیّة الإثنی عشریّه، والإسماعیلیّة، والواقفیّة، والزیدیّة، والصوفیّة، وغیرها.

وهکذا الأمر بالنسبة إلی السنّة التی تنوّعت مذاهبهم العقائدیّة إلی مذاهب متعدّدة، من قبیل مذهب الأشعریّة، والمعتزلة، والسلفیّة، والمرجئة، والقدریّة، والکرامیّة، ونحوها.

إلّا أنّ الشیء الذی یسترعی الالتفات هو أنّ هناک جامعاً مشترکاً بین جمیع هذه المذاهب العقائدیّة، یلتقی فی تحدید میزان وضابطة المذهبیّة العقائدیّة.

ص:321

میزان المذهبیّة العقائدیّة:

إنّ میزان المذهبیّة العقائدیّة یتشکّل من رکائز متعدّدة، وهی:

الاولی: إنّ المسائل الاعتقادیّة مرتبطة بأفعال القلب والجوانح، لا الجوارح.

الثانیة: إنّ المسائل الاعتقادیّة ممّا یتحقّق بها الإیمان الذی به تتحقّق النجاة فی الآخرة.

وعلی هذا الأساس، فلیست کلّ مسألة اعتقادیّة مختلف فیها تشکّل مذهباً عقائدیّاً، بل المسائل التی تدخل فی تحدید دائرة المذهب العقائدی هی المسائل الاعتقادیّة التی تعدّ من أرکان الإیمان عند کلّ مذهب، لا تفاصیل العقائد.

الثالثة: المسائل الاعتقادیّة التی تتنوّع علی ضوئها المذاهب، هی من سنخ المسائل المستندة إلی أدلّة یقینیّة قطعیّة، بخلاف غیرها من المسائل الاعتقادیّة التی تستند إلی أدلّة نظریّة، سواء کانت قطعیّة أم ظنّیّة.

الرابعة: إنّ منزلة الأشخاص الذین ارتبطت أو اتّسمت بهم هذه المسائل الاعتقادیّة، هی منزلة تفوق درجة الفقهاء أو الرواة العدول بحسب ذلک المذهب.

وتصل المنزلة عند کلّ مذهب بحسبه إلی درجة الإمامة فی الدین، ومن ثمّ یتمتّع هؤلاء بقدسیّة خاصّة لدی أتباع المذهب الذی ارتبط بهم، تفوق منزلة الفقهاء والعلماء.

الخامسة: إنّ عملیّة التأصیل العقائدیّ لکلّ مذهب، لیست عملیّة اجتهادیّة

ص:322

استنباطیّة ظنّیّة تتحرّک ضمن دائرة المتغیّرات، بل هی عملیّة بناء ثوابت تمثّل أرکان الإیمان.

ولا یعنی کون هذه المسائل من الثوابت، وخروجها عن دائرة الاستنباط الظنّیّ، أنّها لیست داخلة فی دائرة الفحص العلمیّ؛ لأنّ الفحص والتحرّی العلمیّ وتحصیل العلم شامل لُاسّ الدین، وهو معرفة الخالق والإیمان به، وکذا النبوّة والرسالة والمعاد، فضلًا عن غیرها من المسائل الاخری وإن کانت یقینیّة.

فالبحث فی مسألة من المسائل ومناقشتها لا یعنی اتّکاءها علی أدلّة ظنّیّة اجتهادیّة.

وبعبارة اخری: إنّ استناد مسألة ما علی أدلّة بدیهیّة، فضلًا عن الأدلّة القطعیّة والیقینیّة، لا یعنی أنّها خارجة عن مساحة المناقشة والفحص والتحرّی العلمی عن أدلّة تلک المسألة. فالمسألة وإن کانت بدیهیّة، إلّاأنّ البحث عن أدلّتها وإثارتها یفید - علی الأقل - التنبیه وإجلاء الغموض الذی قد یعتورها ولو من بعض جهاتها.

وعلی هذا، یتبیّن أنّ دائرة الفحص العلمیّ أوسع من دائرة الاجتهاد النظری الظنّی.

حقیقة وموقعیّة عملیّة التأصیل العقائدیّ من الدین:
اشارة

عند التأمّل والتدبّر فی الدور الذی قام به الجیل الأوّل، وهم أهل البیت علیهم السلام عند أتباعهم، أو ما قام به الصحابة لدی أتباعهم أیضاً، نجد

ص:323

أنّ هذا الدور لدی أتباع کلّ طرف لا یکون اعتباره علی حدّ اعتبار الرواة للروایة، ولا یقتصر أیضاً علی حدّ اعتبار درجة مکانة الفقهاء وفتاواهم، وإنّما درجة واعتبار الدور الذی قام به هذا الجیل تتخطّی وتتجاوز درجة اعتبار الرواة والفقهاء، بحیث تکون حجّیّتهم واعتبارهم دخیلة فی حجّیّة الکتاب والسنّة، وأنّ أمانتهم علی الدین واعتبارهم لدی أتباعهم یتوقّف علیها اعتبار الکتاب والسنّة، وأنّ الخدشة فی اعتبارهم یستلزم إبطالًا للکتاب والسنّة؛ لذا کانت حجّتهم ضرورة فی الدین عند أتباعهم، ومن ثمّ لا یتقدّم علیهم أحد فیما بعدهم، ولا یسوغ الردّ علیهم بأیّ حال من الأحوال.

وعلی هذا الأساس، یتّضح أنّ ما قام به هؤلاء من دور فی الدین عند أتباعهم، هو دور فوق النقد والتخطئة وإن لم یکن دورهم لیس فوق الفحص والتحرّی والبحث. ولا یمکن تجاوزه؛ ولذا اطلق علیهم أنّهم الأئمّة فی الدین لدی أتباع کلّ فریق.

وهذا یکشف عن ضرورة وجود حلقة تتوسّط بین عموم الناس وبین الکتاب والرسول صلی الله علیه و آله.

بیان ضرورة الحلقة المتوسّطة بین الامّة وبین الکتاب والرسول صلی الله علیه و آله

ذکرت عدّة أدلّة لهذه الضرورة، نشیر إلیها باختصار:

الدلیل الأوّل: بیان ثوابت الدین:

من الواضح أنّ الکتاب والسنّة یمثّلان المصدرین الأساسیّن للشریعة، وأنّ حجّیتهما قطعیّة، ثابتة عند جمیع المسلمین، کذلک قامت الأدلّة الإعجازیّة علی

ص:324

أنّ القرآن الکریم کلام الله تعالی.

إلّاأنّ الشیء الذی ینبغی الترکیز علیه هو أنّ تلک الأدلّة الإعجازیّة، وإن کانت شاملة لکلّ آیة من القرآن الکریم، إلّاأنّ هناک مساحة واسعة من الأدلّة الإعجازیّة المتنوّعة للکتاب، غیر متیسّرة الإدراک لعموم الناس فی الأجیال اللاحقة للجیل الأوّل، بل وکذا عموم الناس فی الجیل الأوّل.

فلأجل إثبات وبیان هذا المقدار من الموارد الإعجازیّة للقرآن الکریم، الغیر المتیسّرة الفهم لعموم الناس، تحتاج لمن یقوم ببیانها ونقلها للمسلمین، کموارد أسباب النزول أو ملابسات الأحداث لنزول الآیات أو الظروف التاریخیّة والاجتماعیّة المصاحبة والمزامنة، سواء بلحاظ التدوین والکتابة، أو غیرها من الامور الکثیرة.

ومن المعلوم أنّ النقل القطعیّ لا یتحقّق إلّاعبر التواتر، وهو التظافر فی العدد الکمّی والکیفیّ، وهو أمر غیر متوفّر فی الجیل الأوّل فی کلّ الموارد والمشاهد النبویّة؛ لقلّة عدد الناقلین، ولعدم مشاهدة عدد من المسلمین یتحقّق بهم نصاب التواتر.

وهذا یعنی عدم وجود تواتر فی النقل لموارد کثیرة صدرت عن النبیّ صلی الله علیه و آله، کتفسیر وبیان لإعجاز أو مفاد آیات القرآن الکریم غیر المیسّرة الفهم لدی عموم الناس، أو لموارد إعجازیّة أو تشریعیّة صدرت منه صلی الله علیه و آله.

وعلی هذا، فتوجد موارد اخری کثیرة لم یشهدها المسلمون من النبیّ صلی الله علیه و آله بالشکل الذی یوفّر القطع فی النقل والتأدیة عن رسول الله صلی الله علیه و آله،

ص:325

وهذه الموارد تعدّ من الثوابت والضرورات الدینیّة، ولیست من المسائل الفرعیّة التی یکفی فیها الظنّ.

وبناءً علی هذا، فلا بدّ من أن یکون القائمون بالتأدیة والنقل عن رسول الله صلی الله علیه و آله لمثل هذه الثوابت، بدرجة من الصدق فی النقل تفوق اعتبار الرواة، وتفوق فی العلم درجة فقاهة الفقهاء فی الضبط العلمیّ، أی لا یحتمل فیهم الخطأ والاشتباه بنحو یوصد ویسدّ باب الشکّ والریبة.

وهذه الحلقة هی الإمامة فی الدین، التی من مهامّها تأصیل الثوابت العقائدیّة والدینیّة.

الدلیل الثانی: تحقیق وضبط العناصر الدخیلة فی ضروریّات الدین

وهذا الدلیل ینطلق من ضرورة التفسیر الأوّلی للقرآن والسنّة بحسب أسباب النزول، ومنشأ ودواعی صدور الحدیث النبویّ، ولإثبات ما کان من السیرة النبویّة، ممّا له دور مهمّ فی تحدید المعنی الابتدائی الذی تترکّز علیه المراحل الاخری من مراتب المعانی.

وضرورة هذه المرحلة تناظر مرحلة أصل ألفاظ الکتاب والسنّة؛ لأنّها بمثابة نقل الدلالات والعناصر الدخیلة فی الدلالة ممّا هو غیر ملفوظ.

ولا یخفی حجم دور هذه الدلالات فی رسم المعالم النهائیّة للمعنی.

وتحقیق وضبط هذه الملابسات الدخیلة فی ضروریّات الدین، لا بدّ أن تقوم به مجموعة مأمونة عن الخطأ فی الفهم والنقل، وإلّا سوف یتطرّق احتمال الخلاف فی ضرورات الدین وثوابت الشریعة التی اتّکأت وارتکزت

ص:326

علی تلک المعانی الابتدائیّة للآیات والأحادیث الشریفة، ویسری إلی من دونهم ممّن یتلقّون منهم الإدراک والفهم لتلک الآیات والأحادیث من تلک المجموعة.

ومن الواضح أنّ هذه المجموعة غیر بالغة عدداً تلک الکثرة التی یتحقّق فیها القطع فی النقل، من ناحیة الکمّ، وکذلک لم یصل نقل هذه المجموعة إلی درجة البداهة فی الفهم من ناحیة الکیف المستکشف من توافق الکمّ الهائل.

وعلی هذا، فلا یؤمن احتمال الخلاف، إلّامن خلال اعتبار تلک المجموعة یفوق اعتبار العدول فی النقل واعتبار الفقهاء فی الفهم والإدراک.

وبهذا تتّضح ضرورة القیام بهذه المرحلة المتوسّطیّة بین النبیّ صلی الله علیه و آله والامّة.

وهذا الدور المتمیّز فی الاعتبار والأهمّیّة إلی درجة الریادة والقیادة فی الدین، وهو ما یصطلح علیه بالإمامة فی حفظ وبناء معالم الدین.

الدلیل الثالث: القیام بدور التفصیل فی القواعد الاعتقادیّة:

من المعلوم أنّ للعقائد اصولًا ومبادئ واسس عامّة تمثّل البنیة التحتیّة لمنظومة الدین الاعتقادیّة، المتلقّاة من ظاهر الکتاب وسنّة النبیّ صلی الله علیه و آله.

وتنبثق من هذه الاصول الاعتقادیّة قواعد اخری تفصیلیّة، ذات مراتب أکثر تفصیلًا، وهذه القواعد التفصیلیّة المترامیة، قد تسالم المسلمون علی کونها من شرائط تحقّق الإیمان، وارتهان النجاة بها، رغم اختلافهم فی تعیینها وتحدیدها بحسب اختلاف مذاهبهم.

ص:327

وعلی هذا الضوء، فإنّ هذه القواعد التفصیلیّة فی مراحلها الاولی، خارجة عن دائرة الاجتهاد؛ لأنّ ما یرتهن به الإیمان والنجاة لا بدّ أن یکون فی الموضوع بدرجة الضرورة والبداهة عند أتباع کلّ مذهب.

وعلی هذا الأساس، فإنّ القیام ببیان القواعد العقائدیّة التفصیلیّة واستخراجها من الکتاب والسنّة، یفوق فی اعتبار النقل الموثوق أو الاجتهاد الاستنباطی، وهی درجة المصونیّة عن الخطأ والزلل، وهی التی یصطلح علیها بالعصمة.

وهذا هو أحد أدوار الإمامة فی الدین.

حقیقة المذهبیّة الفقهیّة:

لکی یتبیّن میزان وحقیقة المذهبیّة الفقهیّة لا بدّ من بیان الفرق بین المذهب الفقهیّ وبین الاجتهاد فی الفقه فی دائرة المذهب الواحد.

بمعنی أنّ هناک تساؤلًا یثار حول الفرق بین عملیّة الاستنباط الذی مارسه أبو حنیفة ومالک والشافعی وابن حنبل، وبین عملیّة الاستنباط التی یمارسها الفقهاء من أتباع تلک المذاهب، کفقهاء الأحناف والموالک والشوافع والحنابلة...

السبب فی سدّ باب الاجتهاد لدی أهل السنّة:

إلی جوار ما تقدّم من تساؤل، یثار تساؤل آخر یرمی إلی معرفة السرّ، والسبب فی منع وسدّ باب الاجتهاد فی عرض اجتهاد أئمّة تلک المذاهب الأربعة.

ص:328

وعلی فرض وتقدیر أنّ ما مارسه أئمّة المذاهب الأربعة من آراء فقهیّة، هی عملیّة اجتهادیّة بحتة، فعلی هذا التصوّر، فلماذا لا تخضع آراؤهم الفقهیّة للنقد الاجتهادیّ من قِبل بقیّة الفقهاء من بعدهم؟

ولماذا صارت آراؤهم الفقهیّة ثوابت فقهیّة مذهبیّة، مع کون الآراء الاجتهادیّة المستنبطة من الأدلّة الظنّیّة فی معرض التغیّر والتبدّل؟

إذ أنّ من المعلوم أنّ أدوات الإحراز والاستکشاف الظنّیّة قد تصیب وقد تخطئ، فقد یبنی علی رأی استناداً علی دلیل معیّن، ثمّ یظفر بدلیل أقوی من الأوّل، فیبدّل رأیه، وهکذا.

وعلی هذا الأساس، فإنّ السؤال الذی یضغط علی الفکر الإنسانیّ هو: لماذا عادت آراء أئمّة المذاهب الفقهیّة الأربعة ثوابت دینیّة لا یمکن تخطّیها، ولا یمکن لأیّ فقیه آخر تجاوزها ومناقشتها؟ بل یجب علیه أن یکیّف ذهنیّته ومبانیه الفقهیّة فی تبعیّة آراء أئمّة المذاهب، إلی أن صارت آراؤهم اصولًا ونصوصاً دینیّة ذات قداسة ومکانة خاصّة.

وعلی ضفاف هذا التساؤل، هناک إثارة اخری تستفهم عن السبب فی حصر المذاهب الفقهیّة فی أربعة فقط، مع وجود العشرات من الفقهاء المعاصرین لهم ممّن تبعهم بفترة وجیزة؛ کإبراهیم النخعی، وسفیان الثوری، والحکم بن عیینة، والأوزاعی، وعمر بن دینار الأثرم، والحسن البصریّ، والأصمّ وغیرهم؟

ص:329

إجابات لا تخلو من تأمّل:

قد ذکرت إجابات تبرّر سبب حصر المذاهب بالأربعة، وحاصل هذه الإجابات هو أنّ غلق باب الاجتهاد وحصر المذاهب الفقهیّة فی أربعة؛ هو لأجل الخشیة من تکثّر وانتشار المذاهب المتعدّدة بشکل غیر حاصر.

فتح باب الاجتهاد لدی مذهب الإمامیّة:

فی قبال ظاهرة سّد باب الاجتهاد وحصر المذاهب فی الأربعة خشیة تکثّر المذاهب، نجد أنّ هناک ظاهرة معاکسة اخری فی مدرسة أهل البیت علیهم السلام وهو فتح باب الاجتهاد علی مدی أربعة عشر قرناً، مع وحدة المذهب الفقهیّ، ولم یستحدث أیّ مذهب فقهیّ آخر فضلًا عن تکثّرها إلی مذاهب متعدّدة، فما هی البنیة الموجودة فی منهاج أهل البیت علیهم السلام التی لا یخشی معها من فتح باب الاجتهاد، وعلی العکس فهی مفقودة فی المذاهب الاخری فیخشی من فتح باب الاجتهاد.

فهاتان الظاهرتان؛ ظاهرة سدّ باب الاجتهاد لدی السنّة، وظاهرة فتح باب الاجتهاد لدی الشیعة، تضغطان - وبإلحاح - علی الباحثین فی الوصول إلی حقیقة الأسباب الکامنة وراءهما.

موقعیّة عملیّة استنباط أئمّة المذاهب الأربعة من الدین:

بناءً علی ما تقدّم من عدم جواز تخطّی وتجاوز ما قام به أئمّة المذاهب الفقهیّة الأربعة لدی السنّة من استنباط، ولزوم اتّباعهم لکلّ من جاء بعدهم

ص:330

من الفقهاء، یتّضح أنّ الاعتبار والمکانة التی اعطیت لاستنباطات هؤلاء الأربعة، لیست بدرجة اعتبار الحجّیّة الفقهیّة المعتادة، بل حضیت باعتبار ومکانة القواعد الثابتة فی الدین والتی هی خارجة عن دائرة الاجتهاد والاستنباط، وإن اطلق علیها عملیّة استنباط واجتهاد.

وبعبارة اخری: إنّ آراء واستنباطات الأربعة، اعتبرت لدی أتباعهم بمنزلة أقوال الإمام الصادق علیه السلام وأئمّة أهل البیت علیهم السلام لدی أتباع مذهب أهل البیت علیهم السلام، وإن لم یصرّح معتنقو المذاهب الأربعة بما صرّحت الإمامیّة عن أئمّتهم علیهم السلام بکونهم أوصیاء فی الدین.

وهکذا الحال بالنسبة لبقیّة المذاهب الفقهیّة الإسلامیّة کالإسماعیلیّة، والزیدیّة، وغیرهم.

وهذا یعنی أنّ تلک المرحلة التی قام بها أئمّة کلّ مذهب، هی حلقة مفصلیّة ضروریّة فی بناء المنظومة الدینیّة، تتوسّط بین التشریع لمرحلة فرائض وسنن النبیّ صلی الله علیه و آله وبین مرحلة الاستنباط الظنّی الذی یقوم به المجتهدون من الفقهاء، وهی تکشف عن دور الإمامة فی التشریع الفقهیّ، بمعنی أنّها مرحلة تبیین وتفسیر توقیفی واستخراج تعبّدی للأحکام التفصیلیّة من فرائض الله وسنن نبیّه صلی الله علیه و آله.

وبهذا یتّضح أنّ هذه العملیّة التی یقوم بها أئمّة المذاهب لیست عملیّة استنباط ظنّی من الأدلّة، بل هی مرحلة ضروریّة فی التشریع لم ینکرها أیّ مذهب من مذاهب المسلمین، لإدراکهم أنّ منظومة التشریع الإسلامیّ تفرض ضرورة وجود هذه الموقعیّة من التشریع فی بناء الهیکلیّة التشریعیّة

ص:331

للرسالة الإسلامیّة.

الاستدلال القانونیّ علی ضرورة مرحلة الوصایة فی الدین:

ولتوضیح ضرورة هذه المرحلة، یمکن الاستعانة باللغة القانونیّة، حیث بات واضحاً فی علم القانون، أنّ بناء منظومة القانون، إنّما یکون علی شکل هرمیّ، بمعنی أنّه ذو مراتب وحلقات ودرجات، فقمّة الهرم القانونیّ تمثّل الاسس والمبادئ التی تنطلق منها عملیّة الانشعاب والتفریع لما دونه من مراحل وطبقات التقنین، کما هو الحال فیما نشاهده فی النظام القانونیّ السیاسیّ للدولة، حیث یبدأ باولی مراحله التی تمثّل القمّة فی الهرم القانونیّ، وهی الفقه الدستوریّ، ثمّ تلیها المرحلة الثانیة، وهی عملیّة التشریع فی المجالس النیابیّة، ثمّ المرحلة الثالثة، وهی مرحلة التشریع الوزاریّ، ثمّ المرحلة الرابعة، وهی تشریع المجالس البلدیّة.

فهذه المراحل الأربع مترتّبة ومتسلسلة بعضها علی بعض، وکلّ مرحلة متولّدة من المرحلة السابقة لها، ولا یمکن الوصول إلی المرحلة الثالثة إلّاعبر المرحلة الثانیة، کما لا یمکن الوصول إلی المرحلة الرابعة إلّابالمرور بالمرحلة الثالثة، فلا یمکن تخطّی کلّ مرحلة ما سبقها من المراحل.

ومن الواضح أنّ ترتّب هذا النظام القانونیّ بهذا الشکل، لیس من طریق الوضع البشریّ الاعتباریّ، وإنّما هی طبیعة ذاتیّة للقواعد القانونیّة، فإنّ المبادئ العامّة الکلّیّة، کأصل العدالة والحرّیّة والکرامة الإنسانیّة، والثوابت الدینیّة ونحوها، لا یمکن تطبیقها علی الموارد الجزئیّة التفصیلیّة

ص:332

مباشرة، من دون توسّط مراحل تنزیلیّة قانونیّة لتلک الثوابت العامّة، وتتکفّل المراحل المتوسّطة، الموازنة والترکیب والتنسیق بین مجموعات متعدّدة من القواعد، تلتقی وتتشابک فی مراحل وطبقات التنزّل.

بمعنی أنّ فی کلّ طبقة ومرحلة من مراحل التنزیل القانونیّ تتطلّب مراعاة ضوابط وقواعد خاصّة تقوم بدور التنسیق بین التشریعات والقواعد الخاصّة بتلک المرحلة.

وتختلف هذه القواعد والضوابط التی تقوم بدور التنسیق بین المجموعات الاخری من القواعد التشریعیّة من مرحلة إلی اخری.

فعند تنزّل مبدأ العدالة والحرّیّة فی المجالات المختلفة کالمجال السیاسیّ والاقتصادیّ والاجتماعیّ، وغیرها من المجالات، تظهر لها تداعیات متدافعة ومتزاحمة، وأیضاً نجد أنّهما - مبدأ العدالة والحرّیّة - متدافعان فی تنزّل الکرامة الإنسانیّة، وهذا یتطلّب وجود ضوابط للتنسیق بین هذه الاصول لإیجاد صیاغات تشریعیّة متوسّطة.

ولذا نجد أنّ العمل بمرحلة من مراحل القانون، وهی التشریعات الدستوریّة فی القوانین الوضعیّة، لیس من صلاحیّات الحکومة التنفیذیّة، إلّابتوسّط مراحل تشریعیّة اخری، وهو ما تقوم به المجالس النیابیّة لتنزیل وتفصیل القوانین الدستوریّة إلی صیاغات تشریعیّة أکثر تفصیلًا وأضیق دائرةً.

کما أنّ العمل فی تشریعات المجالس النیابیّة هی الاخری لیست من صلاحیّات مدیریّات وشعب الدوائر، إلّابتوسّط تشریعات اخری یقوم بها

ص:333

الوزراء ووکلاؤهم المعتمدین فی اللجان المختصّة، لتفصیل وتنزیل التشریعات النیابیّة إلی تشریعات أکثر تفصیلًا، وهکذا الأمر بالنسبة إلی العمل بالتشریعات الوزرایّة، لیس العمل بها من صلاحیّات عموم الناس إلّابتوسّط التشریعات التی فی المجالس البلدیّة الخاصّة بکلّ منطقة.

ومراعاة ترتیب هذه المراحل بعضها علی بعض لیس أمراً ارتجالیّاً واتّفاقیّاً، ولا من طریق المواضعة والتوافق التصالحیّ علی الاصطلاح، وإنّما هو أمر ذاتیّ تقتضیه کلّ طبیعة عامّة ذات مدار وسیع جدّاً، فهذه الطبیعة لا یمکن أن تأخذ طریقها إلی الموارد الجزئیّة الضیّقة المتشخّصة، إلّاعبر عناوین أضیق دائرة، مترامیة ومتعاقبة طولًا فی سلسلة التنزّل، بحیث تکون کلّ مرتبة لاحقة أضیق ممّا سبقها، إلی أن تصل إلی إمکانیّة تطبیقها علی الموارد الجزئیّة الخارجیّة.

وهذا تحلیل عقلیّ لبیان وجه الاستدلال علی ضرورة المراتب والطبقات والمراحل فی التشریع.

الأدلّة علی ضرورة عصمة الوصیّ فی الدین:

هناک عدّة أدلّة لإثبات ضرورة العصمة للوصیّ فی الدین، الذی یقوم بدور تنزیل القواعد العامّة التی هی نوع من التشریع فی الدین، فی مراحله الاولی من التشریع، ومن هذه الأدلّة:

الدلیل الأوّل: الإحاطة بالروابط والنسب بین التشریعات، یتوقّف علی العصمة اللدنیة.

ص:334

وحاصل هذا الدلیل هو أنّ الإحاطة بمبادئ التشریع الکامل - وهو التشریع الإلهیّ - بنحو تامّ ومتناسب بین النسب والتنسیق بین الروابط لتکون موافقة ومتطابقة عمّا علیه فی الواقع والحقیقة، لا یمکن، بل یستحیل تحقّقها إلّابنحو خاصّ من العلم، وهو العلم الإلهیّ اللدنیّ الذی هو أساس ومبدأ العصمة.

الدلیل الثانی: إدراک المصالح الواقعیّة، یتوقّف علی العصمة اللدنیة.

إنّ العناوین ذات الطبیعة العامّة تتنزّل وتنحدر إلی عناوین اخری وتصل إلی درجة تترامی وکأنّها عناوین متباینة لا صلة فیما بینها.

وإن هذه الرابطة والصلة بین تلک العناوین المنحدرة من العناوین العامّة، لا یمکن أن یطّلع أو یلمس طبیعة الرابطة والعلاقة فیما بینها، إلّامن زُوّد بالعلم الإلهیّ، ووقف علی حقائق تلک العناوین.

والشاهد علی ذلک هو ما نلمسه واضحاً فی مسیرة البشریّة فی التقنین للقوانین والدساتیر الوضعیّة، حیث نجدها دائمة التغیّر والتبدّل فی مبادئها واسسها العامّة، فضلًا عمّا دونها من المراحل، وهذا یکشف عن عدم الإحاطة التامّة بمنظومة الاسس والروابط والنسب بین تلک العناوین، وهو ما یطلق علیه بعدم إدراک المصالح الواقعیّة وعدم الإحاطة بها.

هذا، وما أورد فی هذه الدراسة فی نظام الوحدة والتقریب ونظام التعایش الإسلامی الإسلامی لیس إلّابادرة فی مسیرة التنقیح لمزید من القواعد المنظّمة لعلاقة المسلمین فیما بینهم وفی علاقتهم مع الملل والنحل الاخری.

ص:335

ص:336

القاعدة العشرون: قاعدة فی (شرطیة الولایة فی صحة التوبة وصحة العبادات وقبولها والتقرب)

ص:337

ص:338

القاعدة العشرون: قاعدة فی شرطیة الولایة فی صحة التوبة وصحة العبادات وقبولها والتقرب

اشارة

نرید أن نبیّن تحت هذا العنوان دور التوسّل وشرطیته فی مقامات ثلاث، وهی کالتالی:

المقام الأول: إن من شرائط التوبة وقبولها التوسّل بالنبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام.

المقام الثانی: إن من شرائط قبول وصحة الإیمان(العقیدة) والعبادات مطلقاً التوسّل والتوجّه بالنبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام.

المقام الثالث: إن أی توجّه إلی الحضرة الربوبیة فی صدد نیل مقام من المقامات الإلهیة أو حظوة عند الله تعالی لابدّ فیه من التوجّه بالنبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام والتوسّل بهم.

فإن فقهاء الإمامیة وغیرهم أیضاً ذکروا أن ولایة أهل البیت علیهم السلام شرط فی تلک المقامات الثلاث، بمعنی معرفتهم والإیمان بإمامتهم.

ولیس هذا ما نرید إثباته هنا؛ إذ هو مع وضوحه خارج عن محلّ البحث.

إذن ما نرید بیانه هنا هو شرطیة التوسّل بالنبیّ الأعظم صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام فی

ص:339

تلک المقامات الثلاث.

ولأجل اشتراک ما ادّعیناه فی المقامات الثلاث فی طبیعة الأدلّة نستعرضها ببیان واحد، یکون صالحاً لإثبات المدّعیات الثلاثة فی المقامات المذکورة.

وإلیک فیما یلی استعراض الأدلّة:

الدلیل الأول: معطیات الشهادة الثانیة:

إن المعرفة والعقیدة والإیمان الذی هو من العبادات، بل أعظم الفرائض الإلهیة؛ لأنه إذعان وإخبات وتسلیم وخضوع وانقیاد لله تعالی، وهذه المعرفة الإیمانیة للعقل والقلب هی عبادتهما وطوعانیتهما لله نوع توجّه ولقاء لله تعالی ووفود علی الحضرة الربوبیة وزلفی وقرب بتوسّط الإیمان القلبی، وهذه العبادة القلبیة العظیمة ممتنعة بلا واسطة، وذلک لعظمة الله عزّ وجلّ، فلا اکتناه ولا إحاظة ولا مماسّة ولا ملامسة ولا مواجهة جسمیة أو عقلیة أو نفسیة؛ إذ لا یُجابه الجسم إلّاما یماثله فی الجسمیة، ولا یُجابه النفس أو العقل إلّاما یماثلهما، والله تعالی منزّه عن کونه جسماً أو نفساً أو عقلًا؛ لکونها من الممکنات المحدودة بحدود الماهیة والفقر والحاجة.

إذن لابدّ من الوسیلة والواسطة فی الإیمان، الذی هو أعظم العبادات وأعظم أنواع التوجّه إلی الله تعالی، والواسطة هی الإیمان بالنبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله والإقرار بالشهادة الثانیة فی مقام الإدلاء بالشهادة التوحیدیة المقبولة عند الله تعالی، والموجبة للخروج من حظیرة الشرک إلی التوحید الإسلامی الخالص؛ لأنه أعظم آیة للحقّ سبحانه.

ص:340

وإذا کان للوسیلة هذا الدور الخطیر فی المعرفة وأن التوجّه إلیها فی المعرفة توجّهاً إلی الله تعالی، والمعرفة أعظم شأناً من سائر العبادات، فکیف لا یکون التوجّه فی عبادة البدن والنفس إلی الله تعالی بالوسیلة؟! وکیف لا یسوغ التوجّه فی الخطاب الکلامی بألفاظ الدعاء إلی الوسیلة، ویکون دعاؤها دعاء بها إلی الله تعالی؟!

ففی حاقّ وعمق عبادة الإیمان والتوجّه القلبی لابدّ من التوجّه بالنبیّ صلی الله علیه و آله للوفود علی الله عزّ وجلّ، فلا یتحقّق التوحید ولا یکون المرء مؤمناً، إلّاإذا توجّه بقلبه إلی الله تعالی بالشهادة الأولی والشهادة الثانیة، ومن ینفی أی إسم أو واسطة مع الله تعالی عند التوجّه إلیه فهو واقع فی مغبّة الشرک والوثنیة من حیث یشعر أو لا یشعر، نظیر وثنیة قریش، حیث کانوا لا یدینون الله تعالی بطاعة وولایة نبیّه الأکرم صلی الله علیه و آله.

وإذا کان الإیمان والمعرفة کذلک فکیف بباقی العبادات التی هی أقلّ شأناً وخطورة؟!

والحاصل: أن المعرفة والإیمان والتوحید الذی یتضمّن الدین بأجمعه لا یحصل إلّابالتوسل بآیات الله الکبری، ومزاوجة الشهادة الثانیة بالشهادة الأولی، وهذا یعنی أن أی شأن من الشؤون الدینیة کالتوبة أو العبادة أو نیل مقام من المقامات الإلهیة لا یمکن أن یتحقّق إلّابالمحافظة علی الشهادة الثانیة، والإقرار بها وبمعطیاتها وتداعیاتها ومقتضیاتها فی کافّة أصول وفروع المعارف التوحیدیة، ولا شک أن الإیمان بالشهادة الثانیة توجّه قلبی بالنبیّ الأکرم لله عزّ وجلّ، إذ الإیمان کما أسلفنا طلب للقرب والزلفی ولقاء الله

ص:341

تعالی، وهذا القرب إنما یتحقّق بتوسیط الشهادة الثانیة، وهی شهادة أن محمّداً رسول الله وولیّه وخلیفته فی أرضه.

فالإسلام یدعو إلی التوجّه بالنبیّ صلی الله علیه و آله فی الإیمان والاعتقاد وهو أفضل عبادة، فضلًا عن بقیّة العبادات الأخری، والإباء عن التوجّه فی العبادة بخاتم الأنبیاء إنکار للشهادة الثانیة، ودعوة إلی الشرک باسم التوحید، وهذا ما أخفق فیه السلفیون، حین جحدوا التوسّل بالنبی صلی الله علیه و آله، فلا تراهم یقرنون لون الشهادة الثانیة ومؤداها ومعطیاتها بلون الشهادة الأولی فی رسم بناء التوحید فی أدبیات کتبهم، فیقتصرون علی تفسیر الشهادة الأولی فی التوحید، من دون أن یهتدوا إلی کیفیة رکنیة مؤدّی الشهادة الثانیة فی أرکان التوحید، وکیفیة ضرورة الربط والارتباط بین مؤدّی کل من الشهادتین فی رسم أصل التوحید، ومنه یظهر أن التوسّل والتوجّه بالنبی صلی الله علیه و آله ضرورة ولیس مجرد خیار مشروعیة.

الدلیل الثانی: التوسّل ضرورة عقلیة:

اشارة

علی الرغم من أن هناک من أعلام السنّة من أکّد علی رجحان التوسّل ومشروعیّته، کالقاضی عیاض فی کتابه الشفا بتعریف حقوق المصطفی والسُبکی فی شفاء السقام والسیف الصقیل والسمهودی فی وفاء الوفا وتقی الدین الحصنی الشافعی فی کتابه دفع الشبه عن الرسول والرسالة وغیرهم.

إلّا أن ما نرمی إلیه فی هذه الأبحاث أبعد من ذلک؛ إذ أن الرجحان والمشروعیة لا یثبتان سوی التخییر وکون التوسّل أمراً مرغوباً فیه یجوز

ص:342

للمکلف تعاطیه وله ترکه أیضاً، وما نرید التأکید علیه هنا هو أن مبدأ التوسّل أمر ضروری یحکم العقل بلابدّیته وعدم إمکان المحیص عنه، وذلک لأن نفی الواسطة والوسیلة بین العبد وبین ربّه فی مقام التوجّه إلیه تعالی لا یخرج عن أحد فروض ثلاثة کلّها باطلة:

الأول: فرض المجابهة والمواجهة المباشرة لله تعالی حین التوجّه إلیه فی الدعاء والعبادة، وبطلان هذا الفرض واضح، إذ یلزم منه التشبیه للذات الإلهیة، وقد ثبت بطلانه فی الأبحاث العقائدیة؛ لتنافیه مع الصفات الکمالیة اللّامتناهیة لواجب الوجود.

بیان الملازمة:

إن مجابهة ومواجهة البشر العادیین المباشرة للذات الإلهیة المقدّسة إما أن تکون حسّیة جسمانیة أو نفسانیة روحیة أو عقلیة، وهذه الأقسام الثلاثة من المجابهة المباشرة هی التشبیه الباطل بعینه، وذلک لأن الارتباط المواجهة الجسمیة إنما تفرض مع ما هو جسم، لقانون التضایف بین المتجابهین، وهکذا التوجّه المواجهة الروحیة والقلبیة لما هو روح والمواجهة العقلیة لما هو عقل أیضاً، فکلّ هذه الأقسام المفروضة للمواجهة المباشرة لله تعالی لم تخرج عن دائرة التشبیه للذات المقدّسة بکونها جسماً أو روحاً أو عقلًا، وهو الشرک بعینه، لکونه موجباً لسلب واجب الوجود عن واجبیّته وکماله المطلق اللّامتناهی، ووصفه بصفات المخلوق المحدود بحدود الإمکان والماهیة والفقدان والاحتیاج والافتقار.

ص:343

وحاصل هذا الفرض هو مواجهة البشر العادیین المباشرة لله تعالی، وهو فرض التشبیه الباطل بکلّ مراتبه.

الثانی: القول بالتعطیل وعدم السبیل إلی الله تعالی ومعرفته والتوجّه إلیه، وهو باطل، لأن معرفة الله تعالی واجبة والتی هی نوع لقاء لله عزّ وجلّ وتوجّه إلیه وزلفی.

الثالث: دعوی أن الناس بأجمعهم لهم ارتباط مباشر مع الله تعالی فوق الجسم والروح والقلب والعقل بما لا یستلزم التشبیه، وهذا باطل بالوجدان، وقد رفض القرآن الکریم أیضاً الإیحاء والوحی إلی جمیع البشر واستنکر ذلک علی المشرکین، کما فی قوله تعالی: (بَلْ یُرِیدُ کُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ یُؤْتی صُحُفاً مُنَشَّرَةً)1 .

وردّ الله عزّ وجلّ فی آیات أخری علی هذه المقالة الباطلة، حیث قال: (وَ إِذا جاءَتْهُمْ آیَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتّی نُؤْتی مِثْلَ ما أُوتِیَ رُسُلُ اللّهِ اللّهُ أَعْلَمُ حَیْثُ یَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَیُصِیبُ الَّذِینَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللّهِ وَ عَذابٌ شَدِیدٌ بِما کانُوا یَمْکُرُونَ)2 .

ومع بطلان هذه الفروض الثلاثة تکون النتیجة ضرورة الإیمان بالوسائل والوسائط والآیات، والرجال المؤهّلین للإرتباط بالله تعالی، وهم الأنبیاء والأولیاء والمصطفین، الذین اصطفاهم الله عزّ وجلّ وجعلهم وسائط بینه وبین خلقه فی کلّ ما یحتاج الخلق إلیه وفی کلّ توجّه وطلب

ص:344

ودعاء وزلفی إلی الله تعالی، سواء کان علی مستوی التوبة أو سائر العبادات أو نیل مقام من المقامات الإلهیة، ولیس ضرورة التوسیط إلّالعظمة الله عزّ وجلّ وعلوه عن التجسیم والتشبیه والتعطیل.

ثم إن آیات الله الکبری وأسمائه العظمی التی جعلها واسطة فی التوجّه إلیه هی أیضاً لا تتوجّه إلی الله عزّ وجلّ بالمباشرة ولا تجابهه إلّابذواتها، فتوجّه الوسائط أیضاً إلی الله تعالی إنما یکون بذواتها التی هی آیة لمعرفة الله عزّ وجلّ، ولا توجد أی مجابهة بالمباشرة لأیّ مخلوق من المخلوقات.

التوسّل فی کل النشآت ولأصناف المخلوقات:

والحاصل: أن الله تعالی لعظمته وعظیم صفاته لا یجابه ولا یواجه إلّا بالوسائل والآیات، ولا یستثنی من ذلک القانون وتلک السنّة الإلهیة التکوینیة أی مخلوق من المخلوقات فی کلّ شأن من شؤونه المعرفیة والعبادیة فی هذه النشأة وفی جمیع النشآت، ولذا قالت الصدّیقة فاطمة الزهراء علیهاالسلام فی مستهل خطبتها المعروفة فی هذا المجال:

«فاحمدوا الله الذی بعظمته ونوره ابتغی من فی السماوات ومن فی الأرض إلیه الوسیلة، فنحن وسیلته فی خلقه، ونحن آل رسوله، ونحن حجّة غیبه وورثة أنبیائه» (1).

وکذا قال أمیر المؤمنین علیه السلام:

ص:345


1- (1) شرح نهج البلاغة/ ابن أبی الحدید: ج 16 ص 211، السقیفة وفدک/ أبو بکر الجوهری البغدادی: ص 101.

«وبعظمته ونوره ابتغی من فی السماوات والأرض من جمیع خلائقه إلیه الوسیلة» (1).

إذن قانون ومبدأ التوسّل ضرورة یدرکها العقل ویُقرّ بها، لعظمة الله تعالی، ولیس التوسّل أمراً تخییریاً ولا مشروعاً فحسب.

الدلیل الثالث: عموم طاعة الله ورسوله وأولی الأمر:

اشارة

إن ضرورة المسلمین قائمة علی أن جمیع العبادات فیها ما هو فرائض قرآنیة إلهیة ومنها ما هو سنن نبویّة، کما فی الصلاة والصیام والحجّ والزکاة والجهاد وغیرها، إذ هی فرائض إلهیة فی أصل وجوبها فی الدین، وأما تفاصیلها وأجزائها وشرائطها وأقسامها فهی سنن نبویّة وصلتنا عن طریق أمر النبیّ صلی الله علیه و آله لکلّ المسلمین بتلک التفاصیل والتشریعات الخاصة، ومن أمثلة ذلک ما ورد فی روایات الفریقین من أن الصلوات کان فرضها من الله تعالی رکعتین لکلّ صلاة وما زاد علیها فی کلّ صلاة کان من سنّة النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله وأمره وفرضه(2) وهکذا بقیّة التفصیلات والتشریعات القانونیة النبویّة ضمن الفرائض الإلهیة، وکتب الحدیث ملیئة بالأوامر النبویّة فی مجمل الأبواب الفقهیة وغیرها.

إذن فیکون الإتیان بالصلاة والزکاة والحجّ وغیرها طاعة لأمر الله وأمر رسوله صلی الله علیه و آله، ولا تُستعلم طاعة الله عزّ وجلّ من دون طاعة الرسول الأکرم فی

ص:346


1- (1) الکافی: ج 1 ص 129.
2- (2) وسائل الشیعة: أبواب القراءة فی الصلاة ب 1 ح 4، مسند أحمد: ج 6 ص 241 مسند عائشة، مجمع الزوائد/ الهیثمی: ج 2 ص 154.

أوامره ونواهیه، فهو صلی الله علیه و آله باب طاعته تعالی؛ لأنه هو الدالّ والمبیّن والناطق الرسمی عن أوامر الله عزّ وجلّ ونواهیه.

وهذا ما کنّا نُعبّر عنه بتداعیات ومقتضیات الشهادة الثانیة؛ إذ هی تستدعی الإتیان والالتزام بجملة الدین طاعة لله ورسوله.

وهذا ما تکاثرت ودلّت علیه جملة من الآیات القرآنیة، کما فی قوله تعالی: (قُلْ أَطِیعُوا اللّهَ وَ الرَّسُولَ)1 .

وقوله تعالی: (وَ أَطِیعُوا اللّهَ وَ الرَّسُولَ لَعَلَّکُمْ تُرْحَمُونَ)2 .

ثم إن الله عزّ وجلّ حذّر المسلمین من المخالفة لأوامر الرسول الأکرم، وبیّن فی آیات عدیدة العواقب الوخیمة التی تترتب علی مخالفة النبیّ صلی الله علیه و آله فی أوامره:

کما فی قوله تعالی: (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَیْنَکُمْ کَدُعاءِ بَعْضِکُمْ بَعْضاً قَدْ یَعْلَمُ اللّهُ الَّذِینَ یَتَسَلَّلُونَ مِنْکُمْ لِواذاً فَلْیَحْذَرِ الَّذِینَ یُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِیبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ یُصِیبَهُمْ عَذابٌ أَلِیمٌ)3 .

وکذا قوله تعالی: (وَ أَطِیعُوا اللّهَ وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ وَ احْذَرُوا)4 .

وقوله تعالی: (یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا أَطِیعُوا اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لا تَوَلَّوْا عَنْهُ)

ص:347

(وَ أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ)1 .

وقوله عزّ وجلّ: (یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا أَطِیعُوا اللّهَ وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ وَ لا تُبْطِلُوا أَعْمالَکُمْ)2 .

إلی غیر ذلک من الآیات القرآنیة التی جاءت فی ضمن السلک العام والسنّة الإلهیة الشاملة لطاعة الرسل کافّة، کما فی قوله تعالی: (وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ لِیُطاعَ بِإِذْنِ اللّهِ)3 ، ومن الجدیر بالإلتفات أن تتمة هذه الآیة المبارکة هو قوله عزّ وجلّ: (وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُکَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّاباً رَحِیماً)4 والتی سیأتی الاستدلال بها علی شرطیة التوسّل فی المقامات الثلاث المتقدّمة.

والحاصل: أن أوامر النبیّ صلی الله علیه و آله اقترنت بأوامر الله وفرائضه فی مجمل أحکام الدین الإسلامی، وقد أکّدت الآیات القرآنیة علی وجوب اقتران طاعة الله تعالی بطاعة رسوله صلی الله علیه و آله، وهذه طاعة عامّة کطاعة الله عزّ وجلّ فی کلّ أبواب الدین برمّته بلا استثناء لأی جانب من جوانب الشریعة الإسلامیة والدین الإسلامی، ومعنی ذلک أن نیّة القربة إلی الله تعالی وطاعته فی جمیع العبادات إنما تتحقّق بتوجّه العبد إلی ربّه بطاعة نبیّه، ففی کلّ عبادة إنما یتوجّه العبد إلی الله تعالی للتقرّب إلیه بطاعته وطاعة رسوله.

ص:348

فذلکة صناعیة لأخذ التوسّل فی نیة القربة:

ولا شک أن حقیقة العبادات بالنیّة القربیّة، والنیّة القربیّة إنما تحصل بالسبب المؤدّی إلی القربة، والقربی غایة مسبّبة سببها الطاعة لأوامر لله تعالی، وطاعة الله عزّ وجلّ لا تتحقّق إلّاإذا کانت مقترنة بطاعة رسوله صلی الله علیه و آله، إذ أن النیّة التی هی روح العبادة إنما تحصل بوسیلة وواسطة طاعة النبیّ، ومن لم ینوِ القربة بهذا النحو فی العبادة تکون عبادته شرکاً بالله تعالی، لعدم التوجّه إلی الله عزّ وجلّ بأبوابه التی أمر بتوسیطها وطاعتها وامتثال العبادات انقیاداً لأوامرها.

ومن یرید أن یفصل فی صلاته وحجّه وصومه طاعة الله عن طاعة الرسول یکون علی الوثنیة الجاهلیة التی یشنؤها الله عزّ وجلّ وعبّر عنها فی قرآنه الکریم بالشرک والنجس، وطاعة کلّ من لم یأمر الله بطاعته وثن من الأوثان، بل حتی صلاته تصبح وثناً إذا کانت صادرة عن طاعة غیر من أمر الله بطاعته، وإن کان ذلک المطاع هو الهوی وتحکیم سلطان الذات علی سلطان الله عزّ وجلّ، کما فی الوثنیة القرشیة التی ذمّها القرآن الکریم.

ومن ذلک یتّضح أن أی عبادة من العبادات أو قربة من القربات أو نیل مقام من المقامات القربیة أو الفوز بحظوة عند الله تعالی لا یمکن أن تتحقّق من دون توسیط طاعة النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله فی تلک العبادة أو ذلک المقام.

ففی مقام التقرّب والنیّة والقصد جُعلت القبلة المعنویة طاعة النبیّ صلی الله علیه و آله والتدین بولایته والخضوع له، الذی هو خضوع لله عزّ وجلّ، کخضوع الملائکة لآدم لأنه باب الله تعالی.

ص:349

هذا کلّه فی مقتضیات الشهادة الثانیة وضرورة اقترانها بالشهادة الأولی.

کذلک أکّدت الآیات القرآنیة علی ضرورة الشهادة الثالثة واقترانها بالشهادة الثانیة تبعاً للشهادة الأولی.

والشهادة الثالثة عبارة عن طاعة أولی الأمر، الذین أمر الله بطاعتهم فی قوله تعالی: (یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا أَطِیعُوا اللّهَ وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِی الْأَمْرِ مِنْکُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِی شَیْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَی اللّهِ وَ الرَّسُولِ إِنْ کُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ الْیَوْمِ الْآخِرِ ذلِکَ خَیْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِیلاً)1 ، حیث قرن طاعتهم بطاعته وطاعة رسوله صلی الله علیه و آله.

وقد بیّن الله تبارک وتعالی فی قرآنه الکریم المراد من أولی الأمر الذین تجب طاعتهم، بعد أن بیّن تعالی المقصود من الأمر الذی هم أولیاؤه، وأنه أمر ملکوتی من عالم کن فیکون، کما فی قوله تعالی: (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَیْئاً أَنْ یَقُولَ لَهُ کُنْ فَیَکُونُ)2 ، وقوله تعالی: (وَ ما أَمْرُنا إِلاّ واحِدَةٌ کَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ)3 ، وکذا قوله عزّ وجلّ: (وَ کَذلِکَ أَوْحَیْنا إِلَیْکَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا)4 ، وقوله تعالی: (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ تَبارَکَ اللّهُ رَبُّ الْعالَمِینَ)5 ، ثم أفصحت الآیات القرآنیة عن کون الأمر عبارة عن تدبیر السماوات والأرض، قال تعالی: (یُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَی الْأَرْضِ ثُمَّ یَعْرُجُ إِلَیْهِ فِی یَوْمٍ کانَ)

ص:350

(مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمّا تَعُدُّونَ)1 .

إذن أولو الأمر هم الذین یتنزّل علیهم الأمر فی لیلة القدر وفیها یفرق کلّ أمر حکیم، قال تعالی: (لَیْلَةُ الْقَدْرِ خَیْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِکَةُ وَ الرُّوحُ فِیها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ کُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِیَ حَتّی مَطْلَعِ الْفَجْرِ)2 ، وقال عزّ وجلّ فی وصف لیلة القدر: (إِنّا أَنْزَلْناهُ فِی لَیْلَةٍ مُبارَکَةٍ إِنّا کُنّا مُنْذِرِینَ * فِیها یُفْرَقُ کُلُّ أَمْرٍ حَکِیمٍ * أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنّا کُنّا مُرْسِلِینَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّکَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِیعُ الْعَلِیمُ)3 ، ثم بیّن الله عزّ وجلّ أن شریعة النبیّ الأکرم من ذلک الأمر الحکیم الذی یفرق فی لیلة القدر، حیث قال عزّ وجلّ مخاطباً نبیّه الأکرم صلی الله علیه و آله: (ثُمَّ جَعَلْناکَ عَلی شَرِیعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِینَ لا یَعْلَمُونَ)4 .

وقد صرّحت آیات أخری بأن الأمر الملکوتی یتنزّل علی عباد الله من دون أن تخصّص من لهم الأمر بالأنبیاء والرسل، قال عزّ وجلّ: (یُنَزِّلُ الْمَلائِکَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلی مَنْ یَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنَا فَاتَّقُونِ)5 .

وحاصل ما ذکرناه من الآیات: أن الأمر من عالم الملکوت والغیب، وأنه مرتبط بتدبیر السماوات والأرض وغیر مختصّ بالشؤون الدنیویة المادّیة،

ص:351

وأن الشرائع وهدایة الناس وإنذارهم مرتبطة به، وأنه شامل لأولیاء الله الأصفیاء المجتبین ولیس خاصّاً بمقام النبوّة والرسالة، وذلک لارتباطه المباشر بمقام الهدایة والإیصال إلی المطلوب وهو مقام الخلافة والإمامة کما تقدم؛ ولذا قال تعالی: (وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً یَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمّا صَبَرُوا وَ کانُوا بِآیاتِنا یُوقِنُونَ)1 ، والصبر والیقین للأئمة من أولی الأمر فی هذه الآیة المبارکة إشارة إلی العصمة فی مقام العلم والعمل.

ولا یوجد أولو أمر فی هذه الأمة بعد رسول الله تجب طاعتهم غیر أهل بیته صلی الله علیه و آله، الذین أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهیراً.

ولا یمکن اقتصار الأمر الإلهی علی السیاسة والأمور الاجتماعیة، بل هو أمر ملکوتی من عالم الغیب لهدایة الأمة وتدبیر السماوات والأرض یتنزّل فی لیلة القدر علی أولیاء الله وأصفیائه، وهؤلاء هم أوصیاء رسول الله صلی الله علیه و آله والأئمة من بعده الدالّون علی أوامره والذین أوکل لهم البیان الشرعی والقانونی للأوامر الإلهیة والنبویّة، فکما أن الدالّ علی أوامر الله ونواهیه هو النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله بأمره ونهیه، کذلک الدالّ علی أوامر الرسول الأکرم ونواهیه أولو الأمر من بعده بأمرهم ونهیهم، فالنبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله أمر ونهی فی ضمن إطار الفرائض الإلهیة، وأولو الأمر أیضاً یأمرون وینهون فی ضمن دائرة السنن النبویّة المبارکة، بما یشبه الحالة التراتبیة فی التنزّل القانونی الوضعی فی الأدوار والصلاحیات، فهم الدالّون علی طاعة الرسول صلی الله علیه و آله کما کان هو دالّا علی طاعة ربّه.

ص:352

وبعبارة أخری: إن أصول تشریع الله تعالی وفرائضه یتبعها تشریعات النبیّ صلی الله علیه و آله تفصیلًا وبیاناً، ویتبعها تشریع أولی الأمر علی نحو التنزّل القانونی، الذی هو الفتق بعد الرتق، والتفصیل بعد الإجمال، والبسط بعد القبض للتشریعات، وهذه لغة قانونیة جعلها الله تعالی جسراً لإیصال أحکامه علی ما جری علیه البشر، کالتشریع للفقه الدستوری ثم النیابی ثم الوزاری، علی نحو التبعیة بلا منافاة، وهذا برهان قانونی علی التشریعات التی لابدّ من طاعتها، فالرتق یُفسَّر ویفتق فتقاً قانونیاً تابعاً له.

ویتجلّی ذلک المعنی أکثر إذا علمنا أن معظم بیان تشریع الشرائط والموانع وتفاصیل الأجزاء هی من تشریعات أئمة أهل البیت علیهم السلام، فلا تستعلم تلک الأمور مع ترکهم والإعراض عنهم وعدم الطاعة لأوامرهم.

إذن الطاعة فی الدین بطاعة الله، وطاعة الله بطاعة النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله وأولی الأمر، فالولیّ بعد الله تعالی رسوله صلی الله علیه و آله وبعد الرسول أولی الأمر، الذین لهم حقّ استنباط الدین وبیانه وتفصیله، قال تعالی: (وَ إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَی الرَّسُولِ وَ إِلی أُولِی الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِینَ یَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)1 .

والذی یتّضح مما ذکرناه أن طاعة أولی الأمر علی حدّ طاعة رسول الله مقترنة بها وشاملة للدین کلّه، کما أن ولایة الله تعالی وطاعته کذلک غیر مختصّة ببعض الشؤون السیاسیة أو الاجتماعیة.

ص:353

فالإتیان بجمیع العبادات والطقوس الدینیة طاعة لأمر الله وأمر رسوله وأولی الأمر من بعده وهم أهل بیته علیهم السلام، فالعبد ینقاد ویفد علی الله تعالی ویتقرّب ویتوجّه إلیه بطاعة الرسول وطاعة أولی الأمر، وهذا یعنی أن الشهادة الثانیة والثالثة مأخوذتان واسطتین فی حاقّ عبادة الله تعالی بما فیها عبادة المعرفة، التی هی أعظم العبادات.

ومن ثمّ کان الدین عبارة عن ولایة الله وولایة الرسول وولایة أولی الأمر والطاعة لهم، قال الله تعالی: (إِنَّما وَلِیُّکُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِینَ آمَنُوا الَّذِینَ یُقِیمُونَ الصَّلاةَ وَ یُؤْتُونَ الزَّکاةَ وَ هُمْ راکِعُونَ * وَ مَنْ یَتَوَلَّ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الَّذِینَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغالِبُونَ)1 .

والولایة والطاعة أصالة لله وبالتبع للنبیّ وأولی الأمر بإذن وأمر من الله تعالی، کما أخضع الله عزّ وجلّ ملائکته ومن خلق من الجنّ وغیرهم لولیّ الله وخلیفته آدم، بما هو النموذج والمصداق لخلیفة الله فی الأرض، فکلّ من یتسنّم مقام الخلافة الإلهیة لابدّ من الإنقیاد والخضوع والطاعة له.

وحیث أن التوجّه والقربة والزلفی لا تحصل إلّابالطاعة لله وللرسول، کذلک لا تحصل إلّابطاعة أولی الأمر مقترنة مع طاعة الله ورسوله، فلا یمکن قصد القربة فی العبادة ولا یحصل القرب إلی الله تعالی فی العبادات إلّابالخضوع والطاعة لولیّ الأمر والإتیان بالعبادة امتثالًا لأمره، تبعاً لأمر الله والرسول صلی الله علیه و آله، حیث یستعلم أمرهما بأمره.

ص:354

واتّضح من ذلک البیان أیضاً أن جمیع العبادات فرائض من الله تعالی وسنّة من نبیّه ومنهاج وهدی من أهل بیته علیهم السلام وعلی جمیع المستویات الاعتقادیة والعبادیة.

کذلک تبیّن أن من یعبد الله من دون التوجّه بحجّة الله وولیّه، بطاعته وامتثال أمره عمله هباء؛ إذ لا تتحقّق منه القربة لعدم الطاعة فی مقاماتها الثلاث وعدم ضمّ الشهادات الثلاث إلی بعضها البعض، فلا یُصار إلی التوجّه إلی الله تعالی إلّا عن طریق آیاته وبیّناته، وهم الوسیلة إلیه فی المقامات الثلاث التی ذکرناها فی صدر البحث، بل فی الدین کلّه.

ولو کان إقحام اسم النبیّ صلی الله علیه و آله وذکره والتوجّه القلبی إلیه وإلی أولی الأمر موجباً للشرک لَما قرن الله تعالی طاعته بطاعتهم، فلیس إنکار التوسّل والواسطة إلّا دعوة إلی التفریق بین الله ورسوله وأولی الأمر، وفصل الشهادات الثلاث وبتر بعضها عن البعض الآخر، وهذه هی عبادة الشرک التی آمن بها إبلیس، الذی أراد أن یفرّق بین طاعة الله وطاعة خلیفته، بخلاف الملائکة أهل عبادة التوحید الذین خضعوا لله ولولیّه آدم علیه السلام.

ثم إن مورد هذه الآیة وهی آیة(أَطِیعُوا اللّهَ وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِی الْأَمْرِ مِنْکُمْ)1 التی حکمت بوجوب الطاعة هو الدین کلّه، فکما أن طاعة الله عزّ وجلّ فی الدین کلّه، کذلک ما اقترن بها من طاعة الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله وأولی الأمر من أهل بیته علیهم السلام.

ص:355

وما ورد من قوله تعالی: (إِنِّی جاعِلٌ فِی الْأَرْضِ خَلِیفَةً) لبیان أن محلّ بدن الخلیفة هو الأرض، ولکن خلافته لیست خاصّة بالأرض، ومن ثمّ أطوع له جمیع الملائکة فی جمیع النشآت، والشاهد علی ذلک أیضاً تقدیم الجار والمجرور(فِی الْأَرْضِ) علی الخلیفة، فالدین الذی هو معرفة الله تعالی عامّ لا یستثنی منه أحد فی جمیع النشآت، ومن ثمّ تکون جمیع المخلوفات مکلّفة بالطاعة لأولی الأمر؛ ولذا أمر الله تعالی الملائکة بالسجود بما فیهم إبلیس وهو من الجنّ، فخلافة وطاعة أولی الأمر وولایتهم لا تحدّ بالجنّ والإنس ولا بأمر سیاسی أو اجتماعی، والکلّ یبتغی إلی الله الوسیلة ویخضع لولی الله فی توجّهه إلی خالقه، والتوجّه إلی الله من دون التوجّه إلیه بطاعة نبیّه وولیّه نجس وشرک ووثنیّة قرشیة.

ونیّة القربة إذا لم تکن علی هذا المنوال فی العبادة لا تقبل؛ لعدم تفتّح الأبواب بالآیات.

وبذلک کلّه یتمّ ما ذکرناه من شرطیة التوسّل والتوجّه فی المقامات الثلاثة المتقدّمة، استناداً إلی وجوب الطاعة فی مراتبها الثلاث.

الدلیل الرابع: إقتران اسم النبی صلی الله علیه و آله وأهل بیته:

بأعظم العبادات:

لقد رفع الله عزّ وجلّ ذکر النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله وقرنه باسمه فی مجمل العبادات، التی تقع فی مصافّ أسس الدین وأرکان الإیمان، من حیث محوریتها فی المنظومة الدینیة، ونشیر فیما یلی إلی بعض تلک الشواهد فی هذا

ص:356

المجال:

الشاهد الأول: الإتیان باسم النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله فی تشهّد الصلاة، حیث إن الصلاة علی النبیّ وأهل بیته راجحة بإجماع المسلمین(1) ، وهی شرط واجب فی الصلاة عند بعض المذاهب الإسلامیة، کمذهب أهل البیت علیهم السلام(2) وبعض فقهاء المذاهب الأخری(3) ، تمسّکاً بما روته عائشة من الوجوب، حیث روت عن النبیّ صلی الله علیه و آله أنه قال:

«لا یقبل الله صلاة إلّابطهور والصلاة علیّ» (4).

وقد بیّن النبیّ الأکرم الصلاة علیه عندما سُئل عن کیفیّتها، فقال:

«قولوا: اللّهمّ صلِّ علی محمّد وعلی آل محمّد» (5).

کذلک یستحبّ الصلاة علی النبیّ محمّد صلی الله علیه و آله وآله بعد القنوت فی الصلاة، جزم بذلک النووی تبعاً للغزالی فی المُهذّب ونسبه إلی الجمهور(6).

ولا شک أن ذکر الصلاة علی النبیّ صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام نوع دعاء لهم وتحیّة وسلام، ونوع توجّه لهم بالمحیی والدعاء.

وهذا یعنی أن المصلّی فی صلاته التی هی الرکن الرکین فی العبادات،

ص:357


1- (1) لاحظ المجموع للنووی: ج 3 ص 460 وما بعد.
2- (2) النهایة/ الشیخ الطوسی: ص 89.
3- (3) فتح العزیز/ الرافعی: ج 3 ص 504، المجموع/ النووی: ج 3 ص 467 وغیرهم.
4- (4) سنن الدارقطنی: ج 1 ص 348.
5- (5) صحیح البخاری: ج 4 ص 118، الوسائل: أبواب الدعاء ب 36.
6- (6) المجموع: ج 3 ص 499.

والموجبة للعروج والقربان من الله تعالی، إن قبلت قبل ما سواها وإن رُدّت رُدّ ما سواها علی النبیّ صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام یتوجّه بالدعاء وإلقاء التحیّة والسلام، لکی تقبل صلاته وتوجب مزیداً من القرب إلی الله تعالی، فالصلاة التی هی من دعائم الدین مقرونة بالوسائط والأبواب الإلهیة، لکی تکون صحیحة مقبولة عند الله تعالی أو موجبة لمزید القرب منه، وإذا کانت الصلاة کذلک فکیف بباقی العبادات الأخری؟!

ولو کان إقحام اسم النبیّ صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام فی الصلاة والتوجّه إلیهم بالقلب موجباً للشرک لما کان الأمر فیها علی هذه الحال، فالفرق بین صلاة المشرکین وصلاة الموحّدین فی أن صلاة المشرکین تفتقد لذکر النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله فیها، بخلاف صلاة المسلمین، حیث یقرن فیها إسم النبیّ الأکرم إلی جانب ذکر الله تعالی.

وقد قرن وجوب أو استحباب بعض العبادات الأخری غیر الصلاة باستحباب الصلاة علی النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله، کاستحباب الصلاة علی النبیّ صلی الله علیه و آله إذا فرغ الحاج من التلبیة فی الحجّ (1) ، واستحباب الصلاة علی النبیّ صلی الله علیه و آله عند ذبح الهدی أو الأضحیة(2) ، وقد جعلت الصلاة علی النبیّ صلی الله علیه و آله أحد أرکان الخطبة فی صلاة الجمعة(3).

کذلک من أرکان صلاة المیّت الصلاة علی النبیّ صلی الله علیه و آله وآله علیهم السلام(4) ،

ص:358


1- (1) الأم/ الشافعی: ج 2 ص 171.
2- (2) المجموع/ النووی: ج 8 ص 412.
3- (3) روضة الطالبین/ النووی: ج 1 ص 530.
4- (4) نفس المصدر: ص 640.

ویستحبّ أیضاً الصلاة علی النبیّ وآله قبل الأذان والإقامة وبعدهما، کما نصّ علی ذلک عبد العزیز الهندی نقلًا عن النووی فی شرح الوسیط - فی کتابه الفقهی فتح المعین(1) ، إلی غیر ذلک من الموارد التی لا تحصی فی الفقه، والتی قرنت فیها جملة وافرة من العبادات باسم النبیّ المبارک صلی الله علیه و آله وأهل بیته الطاهرین، ولیس ذلک إلّاتوجّه وتوسّل بهم علیهم السلام لقبول العبادة وحصول القرب من الله تعالی، ولفتح أبواب السماء لصعود العمل.

وهذا ما ورد النصّ علیه فی روایات عدیدة ومتضافرة من طرقنا وطرق السنّة، حیث نصّت علی أن الدعاء محجوب عن السماء ما لم یصلَّ علی النبیّ وآله:

منها: ما ورد عن الإمام علی علیه السلام قال:

«الدعاء محجوب عن السماء حتی یُتبع بالصلاة علی محمّد وآله» (2) .

ومنها: ما ورد عن أبی ذرّ عن النبیّ صلی الله علیه و آله قال:

«لا یزال الدعاء محجوباً حتی یصلّی علیّ وعلی أهل بیتی» (3) .

ومنها: ما جاء عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق علیه السلام قال:

«قال رسول الله صلی الله علیه و آله: صلاتکم علیّ إجابة لدعائکم وزکاة لأعمالکم»(4)) .

ومنها: ما ورد أیضاً عن الإمام الصادق علیه السلام، حیث قال:

ص:359


1- (1) فتح المعین: ج 1 ص 280.
2- (2) لسان المیزان/ ابن حجر: ج 4 ص 53، شعارأصحاب الحدیث/ ابن اسحاق الحاکم: ص 64.
3- (3) کفایة الأثر/ الخزاز القمی: ص 38.
4- (4) الأمالی/ الطوسی: ص 215.

«إن رجلًا أتی رسول الله صلی الله علیه و آله فقال: یارسول الله، إنی جعلت ثلث صلاتی لک، فقال له خیراً، فقال له:

یارسول الله إنی جعلت نصف صلاتی لک، فقال له: ذاک أفضل، فقال: إنی جعلت کلّ صلاتی لک، فقال: إذن یکفیک الله عزّ وجلّ ما أهمّک من أمر دنیاک وآخرتک، فقال له رجل: أصلحک الله کیف یجعل صلاته له؟ فقال أبو عبدالله علیه السلام: لا یسأل الله عزّ وجلّ إلّابدأ بالصلاة علی محمّد وآله» (1).

ومنها: ما رواه فضالة بن عبید، حیث قال: (سمع رسول الله صلی الله علیه و آله رجلًا یدعو فی صلاته لم یمجّد الله تعالی ولم یصلِّ علی النبیّ صلی الله علیه و آله، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله:

«عجّل هذا»، ثم دعاه فقال له أو لغیره:

«إذا صلّی أحدکم فلیبدأ بتحمید ربّه عزّ وجلّ والثناء علیه، ثم یصلّی علی النبیّ، ثم یدعو بعد بما شاء» (2) .

وعن ابن مسعود قال: (إذا أراد أحدکم أن یسأل فلیبدأ بالمدحة والثناء علی الله بما هو أهله، ثم لیصلِّ علی النبیّ صلی الله علیه و آله، ثم لیسأل فإنه أجدر أن ینجح)(3)) ، قال الهیثمی فی زوائده: رواه الطبرانی ورجاله رجال الصحیح(4).

ومنها: ما عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله:

«لا تجعلونی کقدح الراکب، فإن الراکب إذا أراد أن ینطلق علّق

ص:360


1- (1) الکافی: ج 2 ص 493.
2- (2) سنن أبی داود: ج 1 ص 333 ح 1481.
3- (3) المعجم الکبیر/ الطبرانی: ج 9 ص 156.
4- (4) مجمع الزوائد: ج 10 ص 155.

معالقه، وملأ قدح ماء، فإن کانت له حاجة فی أن یتوضّأ توضّأ، وأن یشرب شرب، وإلّا أهراق، فاجعلونی فی وسط الدعاء وفی أوّله وفی آخره» (1).

ومنها: ما أخرجه القاضی عیاض عن رسول الله صلی الله علیه و آله قال:

«کلّ دعاء محجوب دون السماء، فإذا جاءت الصلاة علیّ صعد الدعاء»(2).

ومن الروایات التی من طرقنا أیضاً ما فی موثقة السکونی عن أبی عبدالله علیه السلام قال:

«من دعا ولم یذکر النبیّ صلی الله علیه و آله رفرف الدعاء علی رأسه، فإذا ذکر النبیّ صلی الله علیه و آله رفع الدعاء» (3).

وعن أمیر المؤمنین علیه السلام قال:

«إذا کانت لک إلی الله حاجة فابدأ بمسألة الصلاة علی النبیّ صلی الله علیه و آله ثم سل حاجتک، فإن الله أکرم من أن یُسأل حاجتین فیقضی إحداهما ویمنع الأخری»(4)) .

کذلک عن أبی عبدالله علیه السلام قال:

«إذا دعا أحدکم فلیبدأ بالصلاة علی النبیّ، فإن الصلاة علی النبیّ مقبولة، ولم یکن الله لیقبل بعض الدعاء ویردّ بعضاً» (5).

ص:361


1- (1) المصنف/ الصنعانی: ج 2 ص 216.
2- (2) الشفا بتعریف حقوق المصطفی: ج 2 ص 66.وقال ابن عطاء: للدعاء أرکان وأجنحة وأسباب... وأسبابه الصلاة علی محمّد صلی الله علیه و آله.
3- (3) وسائل الشیعة: ج 7 ص 93-94 ح 8829.
4- (4) نفس المصدر: ص 97 ح 8840.
5- (5) نفس المصدر: ص 96 ح 8836.

وعن الإمام الحسن بن علی العسکری عن آبائه علیهم السلام عن النبیّ صلی الله علیه و آله قال:

«إن الله سبحانه یقول: عبادی من کانت له إلیکم حاجة فسألکم بمن تحبّون أجبتم دعاءه، ألا فاعلموا أن أحبّ عبادی إلیّ وأکرمهم لدیّ محمّد وعلیّ حبیبی وولییّ، فمن کانت له حاجة إلیّ فلیتوسل إلیّ بهما، فإنی لا أردّ سؤال سائل یسألنی بهما وبالطیبین من عترتهما، فمن سألنی بهم فإنی لا أردّ دعاءه، وکیف أردّ دعاء من سألنی بحبیبی وصفوتی وولییّ وحجّتی وروحی ونوری وآیتی وبابی ورحمتی ووجهی ونعمتی؟ ألا وإنی خلقتهم من نور عظمتی، وجعلتهم أهل کرامتی وولایتی، فمن سألنی بهم عارفاً بحقّهم ومقامهم أوجبت له منّی الاجابة، وکان ذلک حقّاً علیّ» (1).

وهذه الروایات بمجموعها والأحکام التی سبقت للصلاة علی النبیّ وآله فی الصلاة وغیرها من العبادة کاشفة عن اقتران اسم النبیّ صلی الله علیه و آله وأهل بیته الطاهرین بأعظم العبادات بل معظمها، وهذا یعنی أن الله عزّ وجلّ جعل تلک الأسماء المبارکة واسطة لفیضه وشرطاً حقیقیاً للتوسل إلیه فی التوبة وسائر العبادات القربیة والمقامات الإلهیة، وأن أبواب السماء مغلقة إلّاعن سبیلهم علیهم السلام وطریقهم، الذی نصبه الله تعالی مناراً لعباده ومحجّة واضحة لخلقه.

هذا کلّه فی الشاهد الأوّل وهو اقتران الصلاة علی النبیّ وأهل بیته بالصلاة وغیرها من العبادات.

الشاهد الثانی: وهو کذلک اقتران اسم النبیّ صلی الله علیه و آله المبارک بالصلاة، وذلک

ص:362


1- (1) المصدر السابق: ص 102 ح 8850.

بالإتیان به فی جزء التسلیم من الصلاة، وهو قول المصلّی: السلام علیک أیها النبیّ ورحمة الله وبرکاته، فإن التسلیم الذی هو جزء من أجزاء الصلاة ولا تتمّ الصلاة إلّابإتمامه والفراغ منه جُعل شطر منه التسلیم علی النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله، فقبل إتمام الصلاة وفی حاقّها یستحبّ للمصلّی أن یسلّم علی نبیّ الإسلام باتفاق فرق المسلمین.

ولا شک أن هذا التسلیم بالکیفیة المذکورة نوع زیارة للنبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله وخطاب ونداء عن قرب ب(أیها) وتوسّل واستغاثة وتوجّه إلیه وبه إلی الله عزّ وجلّ؛ وذلک لأن الله تعالی عندما شرّع التسلیم والتحیّة للنبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله فی الصلاة، التی شُرّعت لذکره عزّ وجلّ والتقرّب منه والعروج إلیه، فإن ذلک یعنی أن ذکر النبیّ ذکر لله تعالی ونداءه نداء للباری عزّ وجلّ، ولیس ذلک إلّالکون النبیّ صلی الله علیه و آله الآیة العظمی والوسیلة المحمودة بین الله وبین خلقه فی الصلاة، التی هی من عظیم العبادات والقربات عند الله تعالی.

إذن طبیعة الزیارة والنداء والندبة والاستغاثة والتوجّه بالنبیّ لنیل مقامات القرب فی الصلاة التی هی قربان کلّ تقی موجودة فی نفس الصلاة التی هی أکبر العبادات التوحیدیة ویمارسها الفرد المسلم فی یومه عدّة مرّات.

والحاصل: إذا کانت الصلاة التی هی من دعائم الدین مقرونة بذکر النبیّ صلی الله علیه و آله لنیل مقامات القرب عند الله تعالی فکیف هو الحال بباقی العبادات والقربات الأخری فی الدین؟!

وعلی هذا کیف یقال: إن ذکر غیر الله تعالی فی التوجّه إلیه عزّ وجلّ شرک؟!

ص:363

وهل هذا إلّاطمس لمعالم الشهادة الثانیة؟!

الشاهد الثالث: اقتران اسم النبیّ صلی الله علیه و آله باسم الله عزّ وجلّ فی الأذان، الذی هو عبادة من العبادات، ویُعدّ بوابة للصلاة التی إن قبلت قبل ما سواها وإن ردّت ردّ ما سواها، کذلک فی الإقامة، حیث أن الفرد المسلم کما یشهد أن لا إله إلّاالله کذلک یشهد أن محمّداً رسول الله، ولیس ذلک إلّالکون إسم النبیّ صلی الله علیه و آله باب الله الأعظم، وأن الصلاة التی هی الرکن الرکین فی العبادات ومعراج المؤمن إلی ربّه مفتاحها وباب الولوج إلیها إسم النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله مقروناً باسم الله تعالی.

ولو کان اسم النبیّ صلی الله علیه و آله وذکره والتوجّه القلبی إلیه أثناء العبادة موجباً للشرک لما أمکن تشریع الأمر علی هذا الحال، ولما أمر الله عزّ وجلّ بالتوجّه إلیه بنبیّه.

الشاهد الرابع: الهجرة التی هی من العبادات العظیمة عند الله تعالی، وأکّدت علیها الآیات القرآنیة فی مواطن عدیدة، لا یمکن أن تحصل إلّابالهجرة إلی الله ورسوله، فلکی تصحّ عبادة الهجرة لابدّ أن یتوجّه فیها إلی الله وإلی رسوله صلی الله علیه و آله.

قال الله عزّ وجلّ: (وَ مَنْ یَخْرُجْ مِنْ بَیْتِهِ مُهاجِراً إِلَی اللّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ یُدْرِکْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَی اللّهِ وَ کانَ اللّهُ غَفُوراً رَحِیماً)1 .

والذی یتحصّل من هذه الشواهد وغیرها أن إسم النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله

ص:364

وکذا أهل بیته علیهم السلام إقترن باسم الله تعالی فی أعظم العبادات کالصلاة والحجّ وغیرهما، هذا فضلًا عمّا دونها من العبادات، وهو اقتران واجب فی بعض موارده کما تقدّم فی الصلاة، ومعنی ذلک شرطیة التوسّل والواسطة فی العبادات کما ادّعیناه فی بدایة البحث.

وقد أحصی بعضهم فی هذا المجال جملة من المواطن العبادیة التی تقرن باسم النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله والصلاة علیه وعلی آله.

منها: فی التشهّد الأول والثانی فی الصلاة وآخر قنوت الصلاة وفی صلاة الجنائز وخطبة العیدین والجمعة والاستسقاء وبعد إجابة المؤذن وعند الإقامة وعند الدعاء وعند دخول المسجد وعند الخروج منه، وعلی الصفا والمروة وعند الفراغ من التلبیة وعند استلام الحجر وعند الوقوف علی قبره الشریف، وعقیب ختم القرآن الکریم، وعند الهمّ والشدائد وطلب المغفرة وعند تبلیغ العلم، وعقب الذنب إذا أراد أن یکفّر عنه وبعد الفراغ من الوضوء وفی کلّ موطن یُجتمع فیه لذکر الله، وعند طلب قضاء الحاجة وعقیب الصلوات فی سائر أجزاء الصلاة غیر التشهّد، إلی غیر ذلک من المواطن.

وقد ذکر أیضاً للصلاة علی النبیّ صلی الله علیه و آله، فوائد کثیرة جدّاً، منها:

1 - أنها سبب لغفران الذنوب.

2 - أنها تُصاعد الدعاء إلی عند رب العالمین.

3 - أنها سبب لشفاعته صلی الله علیه و آله.

4 - أنها سبب کفایة العبد ما أهمّه.

ص:365

5 - أنها سبب لقرب العبد منه یوم القیامة.

6 - أنها سبب لقضاء الحوائج.

7 - أنها سبب لتبشیر العبد قبل موته بالجنّة.

8 - أنها سبب للنجاة من أهوال یوم القیامة.

9 - أنها سبب لتذکّر العبد ما نسیه.

10 - أنها سبب لطیب المجلس.

11 - أنها سبب لنفی الفقر.

12 - أنها سبب لنفی البخل.

13 - أنها ترمی صاحبها علی طریق الجنّة وتخطی بتارکها عن طریقها.

14 - أنها تُنجی من نتن المجلس.

15 - أنها سبب لوفور نور العبد علی الصراط.

16 - أنه یخرج بها العبد من الجفاء.

17 - أنها سبب لابقاء الله سبحانه الثناء الحسن للمصلّی علیه بین أهل السماء والأرض.

18 - أنها سبب للبرکة فی ذات المصلّی وعمله وعمره وأسباب مصالحه.

19 - أنها سبب لنیل رحمة الله له.

20 - أنها سبب لدوام محبته للرسول وزیادتها وتضاعفها.

ص:366

21 - أنها سبب لمحبّته صلی الله علیه و آله للعبد.

22 - أنها سبب لهدایة العبد وحیاة قلبه.

23 - أنها سبب لعرض اسم المصلّی وذکره عنده، إلی غیر ذلک من الفوائد والثمرات.

الدلیل الخامس: ابتغاء الوسیلة ضرورة قرآنیة:

اشارة

إن حقیقة هذا الدلیل الخامس عبارة عن مزید إیضاح وتعمیق ونظرة أدقّ لما تقدم من قوله تعالی: (یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ ابْتَغُوا إِلَیْهِ الْوَسِیلَةَ وَ جاهِدُوا فِی سَبِیلِهِ لَعَلَّکُمْ تُفْلِحُونَ)1 .

وفی المقدّمة لابدّ من التنبیه علی أن التدبر فی الآیة الکریمة یفید أن الابتغاء المأمور به جعل متعلّقاً لکلّ من الوسیلة وذی الوسیلة وهو الله عزّ وجلّ.

فجعل الابتغاء والقصد والتوجّه إلی کلّ من الوسیلة والذات الإلهیة المقدّسة، فکلّ منهما أُمرنا بقصده والتوجّه إلیه، إلّاأن القصد والتوجّه إلی الوسیلة ابتداءً هو الذی یؤدّی وینتهی بنا إلی قصد الله تعالی، فالغایة القصوی هو الله عزّ وجلّ، إلّاأن الذی یقصد ابتداءً هو الوسیلة بداعی القصد إلی منتهی الغایة والأمل وهو الله تبارک وتعالی.

بل لعلّ التدبّر الأعمق والنظر الأدقّ فی الآیة المبارکة یکشف عن أن

ص:367

لفظ «وابتغوا» أُسند إلی الوسیلة فقط، وأن لفظ «إلیه» مرتبط بالوسیلة، لا ب «ابتغوا»، أی أن الوسیلة هی إلیه، فالابتغاء متوجّه إلی الوسیلة فقط، وصفة الوسیلة أنها إلیه.

وبعبارة أخری:

إن فعل «وابتغوا» عمل فی لفظ «الوسیلة» کمفعول به، وأما لفظ «إلیه» فلیس متعلّقاً ب «ابتغوا» وإنما الذی یعمل فی الجار والمجرور هو لفظ «الوسیلة»؛ إذ فیها معنی المصدر والحدث، وأن التوسّل والوسیلة هو إلی الله تعالی، فالابتغاء من جهة الترکیب الإعرابی یعمل فی الوسیلة فقط ویتعلّق بها، والوسیلة تتعلّق بلفظ إلیه وتعمل فیه، وعلیه فیکون الابتغاء والتوجّه والقصد بحسب ظاهر الدلالة متعلّقاً بالوسیلة، فهی التی یتوجّه إلیها النداء والرجاء والخطاب، وحیث أن صفتها الذاتیة أنها تؤدّی إلی الله تعالی فیکون التوجّه إلیها توجّهاً إلی الله عزّ وجلّ ونداؤها نداءً بها إلیه تعالی، وقصدها قصد بها إلیه جلّ ثناؤه، کما فی التوجّه إلی الکعبة واستقبالها، فإنه توجّه بها إلی الله تعالی.

ومن ذلک یظهر أن مقتضی مفاد الآیة هو أن الإلتجاء وتوجیه الخطاب إنما یکون إلی الوسیلة، کقول الداعی والمتوسل: یامحمّد یانبیّ الرحمة إنی أتوجّه بک إلی الله ربی وربک لقضاء حاجتی، فیوجّه الخطاب والنداء إلی النبیّ صلی الله علیه و آله ویکون ذلک منه ابتغاءً للنبیّ صلی الله علیه و آله کوسیلة إلی الله عزّ وجلّ، وإلّا فإن جعل الخطاب لله تعالی فقط من دون التوجّه إلی النبی صلی الله علیه و آله فی الخطاب کوسیلة، لا یکون ابتغاءً وطلباً وتوجهاً إلی الوسیلة، بل ابتغاء مباشری

ص:368

لله تعالی من دون ابتغاء الوسیلة.

وعلی کلا البیانین لدلالة الآیة الشریفة تکون الآیة نصّ فی الدلالة علی الأمر بالتوجّه والنداء ودعاء الوسیلة وأنه دعاء لله تعالی.

ثم إن صیغة الأمر فی الآیة الکریمة یفید ضرورة التوسّل بالنبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله.

حیث أن هذه الآیة المبارکة لیست فی مقام بیان مشروعیة التوسّل فحسب، بل الآیة المبارکة ترمی إلی بیان حتمیة ولابدّیة التوسّل، وأنه أمر تعیینیّ عینیّ، وذلک لأن المقصود من ابتغوا الوسیلة أی اقصدوها وتوجّهوا إلیها فی مقام توجّهکم إلی الله عزّ وجلّ، ومعنیّ(ابتغوا) أیضاً فی الآیة المبارکة أن هناک بُعداً بین العبد والباری تعالی وأن هناک مسافة لابدّ أن تطوی بابتغاء الوسیلة والحضور عندها، ولو کان هناک قُرباً تلقائیاً من طرف العبد إلی ربّه فلا حاجة إلی الوسیلة حینئذٍ للإقتراب من الله تعالی؛ لکونه تحصیلًا للحاصل ولا یکون معنی للوسیلة وابتغائها ولو بنحو التخییر أیضاً.

قرب الله وقرب العبد:

فالأمر بابتغاء الوسیلة وقصدها معناه أن هناک بُعداً بین العبد وبین الله تعالی، وهو بُعد من جهة العبد فقط لا من طرف الباری عزّ وجلّ، لأن الله تعالی قریب أقرب إلی العباد من حبل الورید، کما قال تعالی ذکره: (وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَ نَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَیْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِیدِ)1 ، لکن العبد من طرفه یحتاج إلی الوسیلة لبُعده؛ لأن قرب الله

ص:369

تعالی إلی العبد لیس قرباً جسمانیاً جغرافیاً، لکی یکون هناک تلازم تضایفی بین العبد وربه فی القرب والبُعد، وکذا لیس من نوع القرب العقلی أو الروحیّ لیحصل التجانس أو التماثل فی القرب؛ وذلک لما تقدّم من کون الله تعالی منزّه عن التضایف والتقابل الجسمانی أو العقلی أو الروحی، لأنه تشبیه باطل مناف لعظمة ذات الباری تعالی.

إذن القرب الإلهی تجاه العبد قرب القدرة والسلطنة والهیمنة والإحاطة، فالمقتدر والمهیمن والمحیط کلّما کانت قدرته، وهیمنته وإحاطته أشدّ کلّما کان أقرب من المحاط به، وعلی العکس یکون الطرف المقابل الضعیف، فهو یزداد ضعفاً کلّما کان طرفه المقابل أشدّ قوة واقتداراً، کذلک کلّما ازداد المهیمن إحاطة ازداد الطرف الآخر مُحاطیّة وبُعداً عن أن یحیط بالمحیط، فالقویّ قریب محیط والضعیف بعید محاط، ویبعد کلّما ازداد القویّ قوّة وهیمنة؛ لأن الضعیف حینئذٍ بعید من حیث افتقاده للصفات والکمالات اللّامتناهیة شدّة وعدّة، التی للقویّ المحیط.

والحاصل: إن هناک نمطاً من التعاکس فی القرب والبُعد، فطرف یکون قریباً والآخر بعیداً، کلّما ازداد الباری قرباً وإحاطة من حیث الصفات کلّما ازداد المخلوق بعداً من طرفه بالنسبة إلی الله تعالی، وذلک من حیث التعاکس فی الصفات.

ومن ثمّ لابدّ من ابتغاء الوسیلة التی هی أشدّ کمالًا وأقرب إلی الباری تعالی، لکی یطوی المخلوق شیئاً من ذلک البُعد وینال درجة من درجات القرب برقیّه فی مدارج الکمال عن طریق الواسطة والوسیلة.

ص:370

والوسیلة هی الأقرب إلی الله تعالی من حیث الکمالات، إذ کلّما تکامل المخلوق فی الصفات ازداد قربه من الحضرة الربوبیة، وکلّما عظم المخلوق صفة وکمالًا کلّما کان أقرب من الخالق لازدیاد علمه ومعرفته بصفاته تعالی والعلم درجة من درجات القرب والوصول، إذ طالما تجلّت فی المخلوق صفات الخالق أکثر عرف ذلک المخلوق بتلک الکمالات والصفات، صفات الخالق عزّ وجلّ؛ ولذا یکون أکمل المخلوقات أعرفهم بربّه وأقربهم منه وأکثر دلالة علیه وأشدّهم آیة وعلامة ترشد إلیه وتقرّب منه؛ لأن ما یتجلّی فیه من بدیع الکمالات آیات لکمال الباری عزّ وجلّ، علی العکس من ذلک ما لو قلّت فی المخلوق الکمالات، فإنه تقلّ فیه الآیات الدالّة علی عظمة الله تعالی وقلّت بالطبع معرفته.

ومن هنا کان المخلوق الذی یتّسم بالضعف والفقر والحاجة والبعد عن الله تعالی بحاجة إلی الوسیلة، التی هی أقرب صفة وکمالًا من الله عزّ وجلّ، کی تکون سبباً یقرّبه إلی ربّه.

فالوسیلة والوسائط هی أعاظم المخلوقات، وهی آیات الله وأسمائه وعلاماته الدالّة علیه، والتی یستدلّ الخلق بعظمتها علی عظمة الباری، فتزداد المعرفة ویحصل القرب بنیل الکمالات.

ولا شک أن الخطاب الوارد فی الآیة المبارکة الکاشف عن ضرورة الوسیلة بالبیان المتقدم عامّ وشامل للتوبة ومطلق العبادات وللمعرفة والإیمان أو التوجّه إلی الحضرة الإلهیة لنیل مقام أو حظوة عند الله تعالی.

ص:371

الوسیلة معنی الشفاعة:

فللعلاقة بین العبد وربّه ولقطع مسافة البُعد لابدّ من الوسیلة، سواء فی المعرفة والإیمان أو فی قبول التوبة أو العبادات أو نیل المقامات، وقد أُطلق عن مثل هذا المقام فی لسان الشارع بالشفاعة؛ لأن الشفع فی الأصل بمعنی الزوج والاقتران، وهو فی المقام اقتران الذات الربوبیة بالآیات والأسماء الإلهیة.

ثم إنه سبق أن الآیات العظمی والکلمات التامّات هم النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام، وقد وصف الله تعالی رسوله الکریم صلی الله علیه و آله بالعظمة، وذلک فی قوله تعالی: (وَ إِنَّکَ لَعَلی خُلُقٍ عَظِیمٍ)1 ، فهم علیهم السلام الأسماء الحسنی التی أمر الله أن یُدعی بها وتاب بها علی آدم وامتحن بها إبراهیم علیه السلام لنیل مقام الخلافة والإمامة، وهذا البیان الذی ذکرناه، من ضرورة الواسطة والوسیلة لعظمة الله تعالی هدی إلیه أمیر المؤمنین علیه السلام عند بیانه لقوله تعالی: (أُولئِکَ الَّذِینَ یَدْعُونَ یَبْتَغُونَ إِلی رَبِّهِمُ الْوَسِیلَةَ أَیُّهُمْ أَقْرَبُ وَ یَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَ یَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّکَ کانَ مَحْذُوراً)2 .

حیث بیّن أمیر المؤمنین علیه السلام ضرورة الوسیلة، وأن اشتباه وخطأ المشرکین إنما هو فی اتخاذهم وسیلة اقتراحیة غیر مأذون بها، حیث طبّقوا الوسیلة الأعظم کمالًا علی غیر المصداق والفرد الحقیقی لها، فذمّهم الله عزّ وجلّ علی ذلک.

قال أمیر المؤمنین علیه السلام فی هذا المجال:

ص:372

«فبعظمته ونوره أبصر قلوب المؤمنین، وبعظمته ونوره عاداه الجاهلون، وبعظمته ونوره ابتغی من فی السماوات والأرض من جمیع خلائقه إلیه الوسیلة، بالأعمال المختلفة والأدیان المشتبهة، فکلّ محمول یحمله الله بنوره وعظمته وقدرته لا یستطیع لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حیاة ولا نشوراً»(1)) .

فإن الأعمال المختلفة والأدیان المشتبهة ناتج اتخاذ الخلق الوسیلة إلی الله تعالی، بسبب عظمته ونوره وتعالیه عزّوجلّ.

ومن ذلک کلّه یتّضح أن من ینکر التوسّل أسوء حالًا من قریش، التی آمنت بالوسیلة وأخطأت المصداق، حیث جعلوا وسائط باقتراحهم من غیر سلطان أتاهم؛ لشعورهم بالفطرة التی خلقهم الله علیها بعظمته تعالی عن أن ینال أو یدرک بلا واسطة.

ترامی الوسائل وتعاقبها:

ثم إن الآیات الکبری تتفاوت فیما بینها، فأهل البیت علیهم السلام شفیعهم ووسیطهم إلی الله تعالی النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله فی نیل المقامات، وبالنسبة للنبیّ ذاته فهو بذاته آیة وعلامة عظمی علی صفات الله تعالی، فتکون نفسه من حیث هی مخلوقة وفعل لله تعالی وسیلة لنفسه، نظیر ما ورد فی الروایات: (خلق الله المشیّة بنفسها ثم خلق الأشیاء بالمشیّة)(2).

فالنبیّ صلی الله علیه و آله مرآة الکمالات والصفات الإلهیة له ولغیره فی جمیع جهات الإرتباط بالله تعالی کقبول التوبة أو بقیّة العبادات أو مطلق نیل مقامات

ص:373


1- (1) الکافی: ج 1 ص 130.
2- (2) توحید الصدوق: ص 148.

القرب من الله عزّ وجلّ فهو صلی الله علیه و آله أمینه علی وحیه وعزائم أمره.

الدلیل السادس: شرطیة الاستجارة بالنبی صلی الله علیه و آله

فی طلب المغفرة:

هنا أیضاً نرید التعرّض لبیان أدقّ وأعمق ودالّ علی المطلوب فی المقام لقوله تعالی: (وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُکَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّاباً رَحِیماً)1 .

لقد نصّت هذه الآیة المبارکة علی ثلاثة شروط لقبول التوبة والاستغفار من هذه الأمة، وهی:

1 - المجیء إلی النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله.

2 - ابراز الاستغفار من الله عزّ وجلّ.

3 - امضاء النبیّ صلی الله علیه و آله لذلک الاستغفار، واستغفاره للتائبین.

فهذه الآیة من ضمن مجموع الآیات التی تعرّضت لذکر شرائط التوبة، وأوّل شرط لقبول توبة المذنب والظالم لنفسه لیس إظهار الندامة من العبد أمام الله تعالی مباشرة، بل الشرط الأوّل هو المجیء إلی الحضرة النبویّة والالتجاء إلیه، واللّواذ والاستعاذة والاستجارة به صلی الله علیه و آله، فأولًا لابدّ أن یأتی العبد إلی النبیّ صلی الله علیه و آله ویلوذ به، ثم بعد ذلک یُظهر الندامة والاستغفار؛ إذ الترتیب للشروط فی الآیة المبارکة ترتیب رتبی ترتیبی، حیث أخذت المراتب

ص:374

بعین الاعتبار، لا أنه ذکری فقط بقرینة العطف بالفاء.

والمجیء إلی النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله هو عین التوجّه إلیه والتوسّل به فی قبول التوبة.

وهذه الآیة کشفت النقاب عن شرطیة التوسّل بالنبیّ صلی الله علیه و آله فی أکبر خطر مصیریّ یُحدق بالإنسان وهو الذنب والمعصیة، التی قد تؤدّی بالعبد إلی الهلاک والسقوط فی الهاویة، فی مثل هذا الأمر الخطیر جعل الله تعالی الملاذ والملجأ هو النبیّ صلی الله علیه و آله، فلابدّ من الکینونة فی الحضرة النبویة ثم إظهار عبادة الاستغفار، لأنه صلی الله علیه و آله باب الله تعالی الذی منه یؤتی، فیکون اللّواذ بالله عزّ وجلّ باللّواذ بنبیّه الأکرم صلی الله علیه و آله؛ ولذا بعد الاستجارة بالنبیّ صلی الله علیه و آله قال تعالی: («لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّاباً رَحِیماً».)

إذن الاستعاذة والاستجارة واللجوء إلی الله بنبیّه أُخذ شرطاً فی أخطر موقف للعبد مع ربّه وهو التوبة وغفران الذنوب.

ومن الواضح أیضاً أن الظلم المذکور فی الآیة المبارکة لیس مختصّاً بالذنوب الفردیة التی بین العبد وربّه، وإنما هو شامل للظلم الاجتماعی السیاسی أو النظام الاقتصادی المعاشی أو التعدّی علی المنظومة الحقوقیة والأخلاقیّة، ومعنی ذلک أن استعلام ومعرفة تلک الأمور الفردیة والاجتماعیة لا یمکن أن یتحقّق إلّاعن طریق الإلتجاء واللّواذ بالنبیّ صلی الله علیه و آله، فکلّ حیف أو زیغ یحصل من الفرد أو المجتمع فی تلک الأمور لابدّ من الرجوع فیها إلی الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله، وفی مقابل تعدّد أنواع الظلم یتعدّد أنواع اللجوء والتولّی والتوجّه للنبی صلی الله علیه و آله.

ص:375

ثم إن ذکر التوبة والاستغفار فی الآیة المبارکة لا لخصوصیة فیها، وإنما ذکرت بما هی عبادة من العبادات، لکونها أوبة ورجوع إلی الله تعالی واقتراب منه وقصد وتوجّه إلیه، فلیست الآیة فی ذکرها لشرطیة التوسّل بالنبیّ صلی الله علیه و آله خاصّة بالتوبة، بل هی شاملة فی ذلک لکلّ العبادات.

خصوصاً وأن التوبة هی الأوبة، من آب یؤوب، والأوبة الرجوع إلی الله تعالی، أی الاقتراب والزلفی منه عزّوجلّ، ولا شک أن العبادات بمجموعها طلب الأوبة والقرب والزلفی إلی الله تعالی، فهی نوع من أنواع التوبة، وبناءً علی ذلک لا تکون التوبة عملًا منحازاً ومنفصلًا عن سائر العبادات کالصلاة والحجّ وغیرهما، بل هی عمل عام وشامل لکافّة العبادات.

کذلک التوبة نوع من أنواع الدعاء، لأنها طلب المغفرة من الله تعالی ودعاء بالغفران، فمضمون هذه الآیة المبارکة مشترک مع ما تقدم من الروایات الدالّة علی أن الدعاء وطلب العبد القرب من الله تعالی لا یرتفع إلی السماء ولا تُفتّح له الأبواب ما لم یقترن بذکر النبیّ صلی الله علیه و آله بالصلاة علی محمّد وآل محمّد، وإذا کان کذلک فإن الدعاء وطلب القرب من الله عزّ وجلّ شامل للمقامات الثلاث التی ذُکرت فی صدر البحث، وهو قبول التوبة والعبادة ونیل مقامات القرب، وهو لا یقبل إلّاباللّواذ بالنبیّ صلی الله علیه و آله والتوجّه إلیه والاستعاذة والاستجارة والتوسّل به، بالمجیء فی حضرته المبارکة.

وهذه الآیة الکریمة الدالّة علی شرطیة التوجّه التوسّل وضرورته فی جمیع المقامات لیست خاصّة بحیاة النبیّ صلی الله علیه و آله؛ إذ لیس المراد من المجیء الحضور الفیزیائی لبدن المذنب عند النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله فقط، بل المجیء الفیزیائی

ص:376

والبدنی المکانی أحد المصادیق المقصودة فی الآیة المبارکة، والتعبیر بالمجیء کنائی، یراد به مطلق الاستغاثة والتوسّل والتوجّه القلبی إلی النبیّ صلی الله علیه و آله، والشواهد علی ذلک عدیدة، منها:

1 - إن هذه الآیة المبارکة جاءت لبیان ماهیة التوبة وشرائطها العامة، التی یشترک فیها کافّة المسلمین وفی جمیع الأزمنة، فلا یمکن أن تکون مختصّة بالفترة التی عاشها النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله أو بمن زامن وعایش تلک الفترة، فالمراد من المجی مطلق الارتباط بالنبیّ صلی الله علیه و آله، بالتوجّه إلیه والکینونة فی حضرته المبارکة، ثم الاتیان بعبادة الاستغفار، وهذا المضمون متطابق مع مفاد قوله تعالی: (وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِیمَ مُصَلًّی) ، إذ معنی ذلک أن حضرة الأنبیاء ومحضرهم مشاعر شعّرها الله تعالی لیتقرّب بها إلیه.

ویتّضح هذا الشاهد أکثر إذا علمنا أن النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله بُعث رحمة للعالمین، وهذه من الرحمات العامة للنبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله علی هذه الأمة، وغیر مختصّة بمن حضر الحضور الفیزیائی البدنی عند النبیّ صلی الله علیه و آله.

2 - إن نفس التعبیر بقوله تعالی «جاؤُکَ» یتضمّن معنی اللّواذ واللجوء والاستغاثة والتوسّل والتوجّه القلبی، ولیس فیه دلالة علی الاختصاص بالحضور الجسمانی.

3 - استغفار آدم علیه السلام وتوبته أیضاً کما مرّ - کانت بالمجیء للنبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله، ولکن کان مجیئه إلیه فی أفق القلب والقصد، فقد ورد فی روایات الفریقین أن رسول الله صلی الله علیه و آله قال:

ص:377

«لما اقترف آدم الخطیئة، قال: یاربّ أسألک بحقّ محمّد لما غفرت لی، فقال: یاآدم وکیف عرفت محمّداً ولم أخلقه؟ قال: یاربّ لأنک لما خلقتنی بیدک ونفخت فیّ من روحک رفعت رأسی فرأیت علی قوائم العرش مکتوباً: لا إله إلّاالله محمّد رسول الله، فعلمت أنک لم تُضف إلی اسمک إلّاأحبّ الخلق إلیک، فقال: صدقت یاآدم إنه لأحبّ الخلق إلیّ، ادعنی بحقّه فقد غفرت لک، ولولا محمّد ما خلقتک» (1) .

وغیرها من الروایات الدالّة علی أن مجیء آدم إلی النبیّ صلی الله علیه و آله ولواذه به کان بالتوجّه القلبی به إلی الله تعالی.

وفی هذه الروایة الأخیرة التی نقلناها إشارة أخری إلی اقتران اسم النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله باسم الله عزّ وجلّ فی أعظم عبادة وأشرف کلمة فی الإسلام، وهی کلمة التوحید.

4 - إن المسلمین فی سیرتهم منذ الصدر الأول فهموا من هذه الروایة الشمول والعموم وعدم الاختصاص بالفترة الزمنیة التی عاشها النبیّ صلی الله علیه و آله، وهذا دلیل علی عموم المعنی المستعمل فی ارتکاز أبناء اللغة، ولذا کانوا یتوجّهون إلی النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله فی طلب المغفرة ویأمرون الآخرین بذلک حتی بعد وفاة النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله، والشواهد الروائیة والتاریخیة علی ذلک کثیرة جدّاً:

منها: ما أخرجه النووی عن العتبی قال: «کنت جالساً عند قبر النبیّ صلی الله علیه و آله فجاء أعرابی، فقال: السلام علیک یارسول الله، سمعت الله تعالی یقول: (وَ

ص:378


1- (1) المستدرک علی الصحیحین/ الحاکم النیسابوری: ج 2 ص 615.

لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُکَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّاباً رَحِیماً)1 وقد جئتک مستغفراً من ذنبی مستشفعاً بک إلی ربّی، ثم أنشأ یقول:

یاخیر من دفنت بالقاع أعظمه فطاب من طیبهن القاع والأکم

نفسی الفداء لقبر أنت ساکنه فیه العفاف وفیه الجود والکرم

قال: ثم انصرف، فحملتنی عینای فرأیت النبیّ صلی الله علیه و آله فی النوم، فقال لی:

یاعتبی، إلحق الأعرابی فبشّره بأن الله تعالی قد غفر له» (1).

ومنها: ما أخرجه السیوطی عن أبی حرب الهلالیّ قال: (حجّ أعرابی، فلما جاء إلی باب مسجد رسول الله صلی الله علیه و آله أناخ راحلته فعقلها، ثم دخل المسجد حتی دخل القبر ووقف بحذاء وجه رسول الله صلی الله علیه و آله، فقال: بأبی أنت وأمی یارسول الله، جئتک مثقلًا بالذنوب والخطایا مستشفعاً بک علی ربّک، لأنه قال فی محکم کتابه: (وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُکَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّاباً رَحِیماً)3) وقد جئتک بأبی أنت وأمی مثقلًا بالذنوب والخطایا استشفع بک علی الله ربّک أن یغفر لی ذنوبی وأن یشفع فیّ)(2).

ومنها: ما روی عن أمیر المؤمنین علیّ بن أبی طالب علیه السلام أنه قال:

ص:379


1- (2) الأذکار النوویة/ النووی: ص 206، کذلک فی تفسیر ابن کثیر: ج 1 ص 532.
2- (4) الدرّ المنثور: ج 1 ص 238.

«قدم علینا أعرابی بعد ما دفنّا رسول الله صلی الله علیه و آله بثلاثة أیام فرمی بنفسه علی قبر النبیّ صلی الله علیه و آله وحثا من ترابه علی رأسه، وقال: یارسول الله قلت فسمعنا قولک ووعیت عن الله فوعینا عنک، وکان فیما أنزل الله علیک:

(وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُکَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّاباً رَحِیماً)1 .

وقد ظلمت نفسی وجئتک تستغفر لی، فنودی من القبر أنه غفر لک»(1) ، إلی غیر ذلک من الشواهد.

5 - إن القرآن الکریم قد دلّ علی حیاة النبی صلی الله علیه و آله عند ربّه، کما قال تعالی:

(وَ قُلِ اعْمَلُوا فَسَیَرَی اللّهُ عَمَلَکُمْ وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ سَتُرَدُّونَ إِلی عالِمِ الْغَیْبِ وَ الشَّهادَةِ فَیُنَبِّئُکُمْ بِما کُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)3 بل وکذا قوله تعالی: (یَوْمَ نَبْعَثُ فِی کُلِّ أُمَّةٍ شَهِیداً عَلَیْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ جِئْنا بِکَ شَهِیداً عَلی هؤُلاءِ)4 وغیرها من عشرات الآیات الدالّة علی أن النبی صلی الله علیه و آله یری ویشهد علی جمیع أعمال العباد إلی یوما لقیامة، فهو حیّ عند ربّه، کیف لا وقد دلّ القرآن علی حیاة الشهداء فی قوله تعالی: (وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِینَ قُتِلُوا فِی سَبِیلِ اللّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْیاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ یُرْزَقُونَ)5 ، وقد اتّفقت روایات الفریقین المتواترة أیضاً الدالّة علی حیاة النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله، منها ما ورد

ص:380


1- (2) کنز العمال: ج 2 ص 386، سبل الهدی والرشاد/ الصالحی الشامی: ج 12 ص 390.

عن الإمام الحسن علیه السلام قال:

«إن رسول الله صلی الله علیه و آله قال: حیثما کنتم فصلّوا علیّ فإن صلاتکم تبلغنی»(1)) .

وعن أنس بن مالک قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله: «الأنبیاء أحیاء فی قبورهم یصلّون»

قال الهیثمی: رواه أبو یعلی والبزاز ورجال أبی یعلی ثقات(2).

وقد نقل السقّاف فی کتابه الاغاثة جملة من الروایات وکلمات علماء السنّة التی ادّعی فیها الاجماع والتواتر والعلم القطعی بحیاة النبیّ الأکرم فراجع(3).

وإذا ثبت ذلک ثبت عموم الآیة المبارکة بالرجوع إلی النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله والاستغاثة به.

6 - آیات وروایات عرض الأعمال علی الرسول صلی الله علیه و آله، کما فی قوله تعالی:

(قُلِ اعْمَلُوا فَسَیَرَی اللّهُ عَمَلَکُمْ وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ سَتُرَدُّونَ إِلی عالِمِ الْغَیْبِ وَ الشَّهادَةِ فَیُنَبِّئُکُمْ بِما کُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)4 وهذه الآیة متطابقة ومتشاهدة مع آیة(وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُکَ...) ، وأما الروایات فی هذا المجال فهی کثیرة جدّاً:

منها: ما عن أبی عبد الله الصادق علیه السلام قال:

ص:381


1- (1) المعجم الأوسط/ الطبرانی: ج 1 ص 117.
2- (2) مجمع الزوائد: ج 8 ص 211.
3- (3) الاغاثة: ص 5-7.

«تعرض الأعمال علی رسول الله صلی الله علیه و آله کلّ صباح أبرارها وفجّارها فاحذروها»(1).

ومنها: ما عن أبی جعفر الباقر علیه السلام قال:

«إن الأعمال تعرض علی نبیکم کلّ عشیة خمیس، فلیستحی أحدکم أن یعرض علی نبیه العمل القبیح»(2).

منها: ما ورد عن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله:

«حیاتی خیر لکم تحدّثون وتحدّث لکم، ووفاتی خیر لکم تعرض علیّ أعمالکم، فما رأیت من خیر حمدت الله علیه، وما رأیت من شرّ استغفرت لکم»، قال الهیثمی: رواه البزاز ورجاله رجال الصحیح(3).

وهذه الروایة وغیرها منسجمة المضمون مع الشرط الثالث فی الآیة التی هی محلّ البحث، حیث جاء فیها(وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ) ، فالتائب والمستغفر یتوجّه إلی النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله ویعرض استغفاره عنده لکی یستغفر له الرسول صلی الله علیه و آله ویشفع له عند الله تعالی فی قبول توبته، فعبادات الأمة لابدّ أن یشفع النبیّ صلی الله علیه و آله عند ربّه فی قبولها، وهو المضمون والغرض والحکمة من عرض الأعمال وأن قبولها مشروط بإمضاء النبیّ صلی الله علیه و آله وشفاعته، فکما أن آیات وروایات عرض الأعمال ذکرت أن سبب العرض هو أن یستغفر النبیّ صلی الله علیه و آله لأمته، کذلک فی الآیة المبارکة إنما یعرض العبد استغفاره فی الحضرة النبویّة

ص:382


1- (1) تفسیر البرهان: ج 3 ص 488.
2- (2) تفسیر البرهان: ج 3 ص 490.
3- (3) مجمع الزوائد: ج 9 ص 24.

لکی یستغفر له، وإذا کانت آیات وروایات العرض عامة لحال الحیاة وبعد الممات فکذلک الآیة المبارکة.

وهذا الذی ذکرناه أخیراً هو الشرط الثالث فی الآیة المبارکة وهو استغفار النبیّ صلی الله علیه و آله للمذنب الظالم لنفسه.

7 - أن الأحکام فی الآیات التی أخذ فیها الحکم مرتبطاً بالرسول صلی الله علیه و آله فی الآیات الکثیرة کلّها لا تختص بحیاة الرسول صلی الله علیه و آله کما فی قوله تعالی: (لَقَدْ کانَ لَکُمْ فِی رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)1 وقوله تعالی: (أَطِیعُوا اللّهَ وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ)2 وقوله تعالی: (ما آتاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاکُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)3 وقوله تعالی: (وَ ما أَرْسَلْناکَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِینَ)4 وغیرها من الآیات، فإنه لو توهم اختصاصها بحیاته صلی الله علیه و آله الدنیویة لعُطّل العمل بهذه الآیات، وتقوّضت أرکان الدین.

والذی یتحصّل من الآیة: أن المجیء إلی النبیّ صلی الله علیه و آله والتوجّه إلیه شرط فی قبول التوبة، بل کافّة العبادات ومطلق المقامات القربیة عند الله تعالی.

کما یستفاد من الآیة المبارکة أیضاً أن التوسّل والتوجّه أمر تعیینی ضروری لابدّ منه، ولیس هو أمراً تخییریاً بید العبد فعله أو ترکه.

واتضح أن التوجّه للنبیّ صلی الله علیه و آله فی تلک المقامات لیس خاصّاً بالتوجّه

ص:383

الفیزیائی البدنی، بل شامل للتوجّه القلبی أیضاً.

ثم إن المجیء إلی النبیّ والتوسّل به بمعنی الارتباط به والإنتماء إلیه بکلّ أنحاء الانتماء، کانتماء المواطنة والانتماء الأُسری والوظیفی والتنظیمی، وغیرها من أنحاء الانتماء إلی الرسالة الخاتمة والحاکمیة الإلهیة المتمثّلة بالنبیّ صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام.

کذلک لابدّ أن یعلم أن الآیة الخاصّة فی المقام غیر مختصّة بالرسول الأعظم صلی الله علیه و آله، بل هی سنّة إلهیّة جاریة فی النبیّ صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام فالآیة عامة؛ ولذا نصّت علی هذا العموم آیة عرض الأعمال، حیث شملت الذین آمنوا وهم أولوا الأمر من أهل بیت النبیّ صلی الله علیه و آله، کما نصّ علی ذلک قوله تعالی: (هُوَ اجْتَباکُمْ وَ ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِیکُمْ إِبْراهِیمَ هُوَ سَمّاکُمُ الْمُسْلِمِینَ مِنْ قَبْلُ وَ فِی هذا لِیَکُونَ الرَّسُولُ شَهِیداً عَلَیْکُمْ وَ تَکُونُوا شُهَداءَ عَلَی النّاسِ)1 إذ هم الأمة المسلمة من ذریة إبراهیم وإسماعیل المجتباة الذین بعث فیهم النبی صلی الله علیه و آله وجعلهم الله شهداء علی الناس وأعمالهم وعقائدهم، ویدلّ علی العموم أیضاً الآیات المتقدّمة التی نصّت علی وجوب المجیء إلی إبراهیم فی الحجّ ووجوب الصلاة عند مصلّاه وهویّ القلوب إلی ذرّیته، وسیأتی من الآیات ما یدلّ علی العموم أیضاً.

إذن التوجّه إلی النبیّ صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام فی التوبة والعبادة ونیل المقامات شرط ومشارطة إلهیة لابدّ من توفّرها لنیل ما یبتغیه العبد.

ص:384

الدلیل السابع: التوسّل بالرسول صلی الله علیه و آله میثاق الأنبیاء:

اشارة

قال تعالی: (وَ إِذْ أَخَذَ اللّهُ مِیثاقَ النَّبِیِّینَ لَما آتَیْتُکُمْ مِنْ کِتابٍ وَ حِکْمَةٍ ثُمَّ جاءَکُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَکُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلی ذلِکُمْ إِصْرِی قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَ أَنَا مَعَکُمْ مِنَ الشّاهِدِینَ)1 ، فالمیثاق المذکور فی هذه الآیة المبارکة معناه أن هناک تعاقداً بین الله تعالی والأنبیاء علیهم السلام، والطرفان اللذان وقع علیهم المیثاق والتعاقد هما النبوّة والمقامات الغیبة التی أعطاها الله تعالی للأنبیاء فی مقابل أمر مهمّ وخطیر لابدّ أن یؤمنوا به، وهو قوله تعالی: (ثُمَّ جاءَکُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَکُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ) فالمقامات الإلهیة والمنح الربّانیة إنما تعطی للأنبیاء بشرط الإیمان بخاتمهم ونصرته، ولا شک أن الذی یکون ناصراً إنما هو تابع للمنصور والمنصور قائد له، فالأنبیاء کلّهم مأمومون والرسول الأکرم إمامهم، والأنبیاء سبقوا الناس بالإصطفاء الإلهی الخاصّ وحُبوا بالنبوّة والرسالة والمقامات الغیبیّة بتوسّط إیمانهم بولایة النبیّ صلی الله علیه و آله وتعهّدهم بنصرته ومؤازرته، وهم أسبق الناس شیعة وإسلاماً لخاتم الأنبیاء صلی الله علیه و آله.

الأنبیاء علی دین النبی الأکرم صلی الله علیه و آله:

ومن ثمّ فإن هذه الآیة المبارکة تدلّل علی أن دین الأنبیاء بعد الایمان بالله عزّ وجلّ هو الإیمان بخاتم الأنبیاء ومشایعته ومؤازرته، فالأنبیاء کانوا علی دین النبیّ محمّد صلی الله علیه و آله وهو الإسلام، بیان ذلک:

ص:385

إن قوله تعالی فی الآیة المبارکة(مُصَدِّقٌ لِما مَعَکُمْ) معناه أن النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله لیس تابعاً للأنبیاء، بل تابع للوحی الإلهی جملة، الذی هو فعل الله تعالی؛ ولذا لم یأمر الله عزّ وجلّ نبیّه الأکرم صلی الله علیه و آله بالاقتداء بالأنبیاء وإنما بالهدی الذی هم علیه، قال الله تعالی: (أُولئِکَ الَّذِینَ هَدَی اللّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ)1 .

فالنبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله لیس علی هدی نبیّ من الأنبیاء ولیس هو تابعاً لأحد من الرسل، بل هو علی هدی الله عزّ وجلّ، وهو أوّل المسلمین، والفاتح الأول للهدی الإلهی والدین الاسلامی الواحد هو خاتم الأنبیاء، ولم یُعبَّر عن نبیّ من الأنبیاء فی القرآن الکریم بأنه أوّل المسلیمن علی الاطلاق سوی النبیّ محمّد صلی الله علیه و آله، وذلک فی قوله تعالی: (قُلْ أَ غَیْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِیًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ یُطْعِمُ وَ لا یُطْعَمُ قُلْ إِنِّی أُمِرْتُ أَنْ أَکُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ)2 وقوله تعالی: (قُلْ إِنَّ صَلاتِی وَ نُسُکِی وَ مَحْیایَ وَ مَماتِی لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِینَ * لا شَرِیکَ لَهُ وَ بِذلِکَ أُمِرْتُ وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِینَ)3 وقوله تعالی: (قُلْ إِنِّی أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّینَ * وَ أُمِرْتُ لِأَنْ أَکُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِینَ)4 ، وأما سائر الأنبیاء فقد عُبّر عنهم فی القرآن الکریم بأنهم من المسلمین، بما فیهم أنبیاء أولی العزم، فقد حکی الله عزّ وجلّ علی لسان نوح قوله:

(فَإِنْ تَوَلَّیْتُمْ فَما سَأَلْتُکُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِیَ إِلاّ عَلَی اللّهِ وَ أُمِرْتُ أَنْ

ص:386

أَکُونَ مِنَ الْمُسْلِمِینَ)1 ولم یُعبَّر عنه بأنه أوّل المسلمین، ولا شک أن الدین عند الله عزّ وجلّ واحد، قال تعالی: (إِنَّ الدِّینَ عِنْدَ اللّهِ الْإِسْلامُ)2 ، ولا یتقبّل من مخلوق من المخلوقات غیر الاسلام، قال تعالی: (وَ مَنْ یَبْتَغِ غَیْرَ الْإِسْلامِ دِیناً فَلَنْ یُقْبَلَ مِنْهُ)3 ، فالنبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله أوّل المسلمین وأوّل من نطق بمیثاق التوحید والتسلیم لله عزّ وجلّ، فکان هو أفضل الأنبیاء وهو الإمام المتبوع وهم المأمومون التابعون له فی الدین الاسلامی، فضلًا عن غیرهم من المخلوقین، ولذا ورد فی الحدیث عن أبی عبد الله علیه السلام:

«أن بعض قریش قال لرسول الله صلی الله علیه و آله: بأی شیء سبقت الأنبیاء وأنت بعثت آخرهم وخاتمهم؟ قال: إنی کنت أوّل من آمن بربّی وأوّل من أجاب حین أخذ الله میثاق النبیین (وَ أَشْهَدَهُمْ عَلی أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّکُمْ قالُوا بَلی) فکنت أنا أوّل نبیّ قال بلی، فسبقتهم بالإقرار بالله» (1) .

وفی الحدیث أیضاً عن النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله فی حدیثه لأصحابه قال: «فأخذ لی العهد والمیثاق علی جمیع النبیین، وهو قوله الذی أکرمنی به جلّ من قائل:

(وَ إِذْ أَخَذَ اللّهُ مِیثاقَ النَّبِیِّینَ لَما آتَیْتُکُمْ مِنْ کِتابٍ وَ حِکْمَةٍ ثُمَّ جاءَکُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَکُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلی ذلِکُمْ إِصْرِی قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَ أَنَا مَعَکُمْ مِنَ الشّاهِدِینَ)5 .

ص:387


1- (4) الکافی: ج 1، ص 441.

وقد علمتهم أن المیثاق أخذ لی علی جمیع النبیّین، وأنا الرسول الذی ختم الله بی الرسل، وهو قوله تعالی:

(رَسُولَ اللّهِ وَ خاتَمَ النَّبِیِّینَ)1 .

فکنت والله قبلهم وبعثت بعدهم وأعطیت ما أعطوا وزادنی ربّی من فضله ما لم یعطه لأحد من خلقه غیری، فمن ذلک إنه أخذ لی المیثاق علی سائر النبیّین ولم یأخذ میثاقی لأحد، ومن ذلک ما نَبَّأ نبیّاً ولا أرسل رسولًا إلّاأمره بالإقرار بی وأن یبشّر أمته بمبعثی ورسالتی»(1).

اذن فالدین دین محمّد صلی الله علیه و آله وهو فاتح ذلک الصرح العظیم، وإن کانت الفطرة والملّة ملّة إبراهیم علیه السلام وهی غیر الدین، وکذلک للأنبیاء شرائع ومناهج مختلفة وهی غیر الدین أیضاً، وإنما هی تفصیلات وتنزّلات کلّیات ذلک الدین الحنیف وهو الإسلام، ولذا جاء فی دعاء التوجّه فی الصلاة:

«وجّهت وجهی للذی فطر السماوات والأرض حنیفاً مسلماً علی ملّة إبراهیم ودین محمّد صلی الله علیه و آله وهدی علی أمیر المؤمنین علیه السلام وما أنا من المشرکین»(2).

إذن الإسلام دین النبیّ والأنبیاء علی دینه ومن شیعته، ولذا فُسّر قوله تعالی:

(وَ إِنَّ مِنْ شِیعَتِهِ لَإِبْراهِیمَ)4 بالنبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله وأن إبراهیم من شیعته وعلی دینه الحنیف، حیث ورد عن الإمام الصادق علیه السلام أنه قال:

ص:388


1- (2) الهدایة الکبری/ الحسین بن حمدان الخصیبی: ص 380.
2- (3) الاحتجاج/ الطبرسی: ج 2 ص 307.

«قوله عزّ وجلّ: (وَ إِنَّ مِنْ شِیعَتِهِ لَإِبْراهِیمَ) ، أی إن إبراهیم علیه السلام من شیعة النبیّ صلی الله علیه و آله»(1).

وقد اختار هذا القول الکلبی وابن السائب والفرّاء(2).

فالنبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله لیس تابعاً للأنبیاء بل علی العکس، فهو علی الهدی الذی هو هدی الله تعالی، ومصدّق لما مع الأنبیاء، أی شاهد علی ما هم علیه من دینه الحنیف وبإمضائه یُصدّق ما هم علیه، أما الأنبیاء فهم یؤمنون بخاتم الأنبیاء «لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ» لا أنهم یؤمنون بما معه، فإیمانهم بذات النبیّ صلی الله علیه و آله، فهو صلی الله علیه و آله شاهد مطّلع مصدّق علی ما عندهم، وأما هم فیؤمنون به، وهذا یعنی أنه لا یوجد فی مقامات الأنبیاء ودرجاتهم عند الله تعالی ما هو غیب عن النبیّ صلی الله علیه و آله، وأما الذی یؤمن بذات النبیّ صلی الله علیه و آله وهم سائر الأنبیاء علیهم السلام فهو یؤمن بأمر غیبیّ، فمقام النبیّ صلی الله علیه و آله بالنسبة إلی باقی الأنبیاء غیب الغیوب، وأما مقامات سائر الأنبیاء فالنبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله مطّلع علیها ویعلمها ویشهد لهم علی صدقها، والأنبیاء فی أصل نیلهم لمقام النبوّة إنما استأهلوه بعد أن آمنوا بخاتم الأنبیاء قبل سائر الأرواح فی عالم الأرواح وشرطوا علی أنفسهم نصرته، ولذا فإن النبیّ صلی الله علیه و آله شفیع الکلّ، والأنبیاء لم ینالوا ما نالوا إلّابالدیانة لخاتم الأنبیاء، فهو الشفیع لقبول الأعمال، وهو باب رحمة الله العامّة(وَ ما أَرْسَلْناکَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِینَ)3 .

ص:389


1- (1) البرهان فی تفسیر القرآن/ هاشم البحرانی: ج 6 ص 419.
2- (2) تفسیر القرطبی: ج 15 ص 91.

ومن ذلک کلّه یتّضح أن هذه الآیة المبارکة نصّ فی المقام الثالث، وأن التوجّه إلی الله لنیل أی مقام أو قربی أو زلفی لا یتمّ إلّابالتوسل بالنبیّ صلی الله علیه و آله والتشفّع به، وبالتشفّع به یعطی للعبد أعظم الأرزاق وهو النبوّة والکتاب والحکمة، فکیف بک بسائر الأرزاق الأخری، التی لا تقاس بمقامات الأنبیاء.

ثم إن الآیة الکریمة رسمت خطورة الأمر فی ضمن تأکیدات مغلّظة، حیث جاء فیها قوله تعالی: (أَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلی ذلِکُمْ إِصْرِی) وبعد أن تم الإقرار والمعاهدة والمعاقدة المشدّدة أشهدهم الله تعالی علی ذلک، حیث قال: (فَاشْهَدُوا وَ أَنَا مَعَکُمْ مِنَ الشّاهِدِینَ)1 ، وهذا یعنی أن للتوسل والتوجّه دوراً مهمّاً ومحوریة رئیسیة فی رسم معالم الدین.

وإنکار التوسّل فی المسائل الدنیویة غیر الخطیرة لیس إلّاتعظیماً لصغائر الأمور وتصغیراً لما عظّمه الله عزّ وجلّ، فإن الإیمان بکون الأنبیاء لم یستحقّوا ما استحقّوه إلّابتوسلهم بالإیمان بالنبیّ صلی الله علیه و آله، وإنکار التوسّل فی بعض الأمور الدنیویّة والحاجات المعاشیة لیس له معنی إلّاالاستهانة بتلک المقامات الشامخة وتعظیم وتهویل ما لیس حقّه ذلک.

أهل البیت علیهم السلام شرکاء النبیّ صلی الله علیه و آله فی المیثاق:

ثمّ إن أهل البیت علیهم السلام یشترکون مع النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله فی دائرة المیثاق والدین الحنیف، الذی أخذ علی الأنبیاء الإیمان به ونصرته والدعوة إلیه، وإن کان أهل البیت علیهم السلام تابعین للنبیّ صلی الله علیه و آله وهم یتوجّهون به إلی الله تعالی، وبشفاعته

ص:390

یکونون معه صلی الله علیه و آله فی مقامه، وهو مقام الشفاعة الکبری والوسیلة العظمی.

ویدلّ علی اشتراک أهل البیت علیهم السلام مع النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله فی دائرة المیثاق الذی أخذ علی الأنبیاء وجوه عدیدة، وإلیک بعضها:

1 - إن نصرة الأنبیاء للرسول صلی الله علیه و آله لم تتحقّق إلی یومنا الحاضر، وهی إنما تتحقّق بالنصرة لأهل بیته عند ظهور المهدی من آل محمّد، وعند رجعة الأئمة علیهم السلام، کما نصّت علی ذلک الروایات المتضافرة، حیث جاء فیها أن عیسی علیه السلام وإدریس وغیرهما من الأنبیاء سوف یقاتلون بین یدی الإمام المهدی علیه السلام عند قیامه بدولة الحقّ والعدل، هذا من طرق الفریقین، وأما من طرقنا فقد دلّت الروایات المتضافرة أیضاً علی أن جمیع الأنبیاء والمرسلین سوف یقاتلون مع الأئمة علیهم السلام عند رجوعهم وکرّتهم فی دولتهم العالمیة المبارکة.

بل إن بعض الأنبیاء کإلیاس والخضر علیهما السلام علی القول بنبوّة الخضر علیه السلام الآن هم وزراء فی حکومة الإمام المهدی علیه السلام الخفیّة، وهی حکومة خلیفة الله فی أرضه، التی لا یمکن أن تفتقدها البشریة فی لحظة من اللحظات، وإلّا لساخت الأرض بأهلها.

ونشیر فیما یلی إلی بعض تلک الروایات التی وردت فی هذا المجال:

منها: طوائف الروایات التی دلّت علی أن المسیح عیسی بن مریم علیه السلام ینزل لنصرة المهدی علیه السلام، وإلیک فیما یلی هذه الروایة، ننقلها بطولها لارتباطها بالبحث الذی نحن فیه، قال أبو عبدالله الصادق علیه السلام:

«أتی یهودی النبیّ صلی الله علیه و آله، فقام بین یدیه یحدّ النظر إلیه، فقال: یایهودی ما

ص:391

حاجتک؟ قال: أنت أفضل أم موسی بن عمران النبیّ الذی کلّمه الله، وأنزل علیه التوراة والعصا وفلق له البحر وأظلّه بالغمام؟

فقال له النبیّ صلی الله علیه و آله: إنه یکره للعبد أن یزکّی نفسه، ولکنّی أقول: إن آدم علیه السلام لما أصاب الخطیئة کانت توبته أن قال: اللّهم إنی أسألک بحقّ محمّد وآل محمّد لما غفرت لی فغفرها الله له، وإن نوحاً علیه السلام لما رکب فی السفینة وخاف الغرق، قال: اللّهم إنی أسألک بحقّ محمّد وآل محمّد لما نجّیتنی من الغرق، فنجّاه الله منه، وإن إبراهیم علیه السلام: لما ألقی فی النار قال: اللّهم إنی أسألک بحقّ محمّد وآل محمّد لما نجّیتنی منها، فجعلها الله علیه برداً وسلاماً، وإن موسی علیه السلام لما ألقی عصاه أوجس فی نفسه خیفة، قال اللّهم إنی أسألک بحقّ محمّد وآل محمّد لما آمنتنی منها، فقال الله جلّ جلاله:

(لا تَخَفْ إِنَّکَ أَنْتَ الْأَعْلی)1 .

یایهودی: إن موسی لو أدرکنی ثم لم یؤمن بی وبنبوّتی ما نفعه إیمانه شیئاً ولا نفعته نبوّته.

یایهودی ومن ذریتی المهدی إذا خرج نزل عیسی بن مریم لنصرته، فقدّمه وصلّی خلفه»(1).

وفی حدیث آخر: «فیلتفت المهدی فینظر عیسی علیه السلام فیقول لعیسی: یاابن البتول صلّ بالناس، فیقول: لک أقیمت الصلاة، فیتقدّم المهدی فیصلّی

ص:392


1- (2) الأمالی/ الصدوق: ص 288، روضة الواعظین/ النیسابوری: ص 272.

بالناس ویصلّی عیسی خلفه ویبایعه»(1).

ولا شک أن المبایعة لأجل نصرته علیه السلام لإقامة دولة الحقّ، بقرینة تتمّة الروایة حیث ورد فیها أن المسیح عیسی بن مریم علیه السلام بعد المبایعة یکون من وزراء المهدی علیه السلام ویخرج لقتال الدجال.

ومنها: الروایات التی دلّت علی أن نصرة الأنبیاء للرسول الأکرم صلی الله علیه و آله إنما تحصل بالنصرة لوصیّه أمیر المؤمنین علیّ علیه السلام والقتال بین یدیه عند الکرّة والرجعة فی دولة الحقّ، وذلک نظیر ما أخرجه سعد بن عبدالله القمی عن فیض بن أبی شیبة، قال: سمعت أبا عبدالله علیه السلام یقول، وتلا هذه الآیة: (وَ إِذْ أَخَذَ اللّهُ مِیثاقَ النَّبِیِّینَ):) «لتؤمننّ برسول الله صلی الله علیه و آله ولتنصرنّ علیاً أمیر المؤمنین علیه السلام.

قال: نعم والله من لدن آدم وهلمّ جراً، فلم یبعث الله نبیّاً ولا رسولًا إلّاردّ جمیعهم إلی الدنیا حتّی یقاتلوا بین یدی علیّ بن أبی طالب علیه السلام» (2).

ومن الواضح أن نصرة أمیر المؤمنین علیه السلام نصرة لرسول الله صلی الله علیه و آله وللدین الذی جاء به.

وحاصل هذه النقطة: هو اشتراک أهل البیت علیهم السلام مع النبیّ صلی الله علیه و آله فی المیثاق الذی أخذ علی الأنبیاء، إذ أن إیفاءهم بالعهد إنما یکون بنصرتهم لأهل بیت النبیّ صلی الله علیه و آله.

2 - مرّ بنا أن الدین عند الله الإسلام وهو واحد لا تعدّد فیه، وأن جمیع

ص:393


1- (1) عقد الدرر/ الشافعی: ص 275.
2- (2) مختصر بصائر الدرجات/ الحسن بن سلیمان الحلّی: ص 25.

المخلوقات بما فیهم سائر الأنبیاء عجزوا عن تحمّل الدین والسبق فی فتح سبله وبلوغ مقاماته الرفیعة، سوی الذات النبویّة المبارکة التی لها الأهلیة والاستعداد لتلقّی ذلک عن الله عزّ وجلّ، فکان للنبیّ صلی الله علیه و آله الأسبقیة فی الإسلام والتسلیم لله تعالی؛ ولذا کان الدین دین محمّد صلی الله علیه و آله، إذن دین الإسلام الواحد عبارة عن تلک المقامات السامیة والنور الأعظم الذی لم یتحمّله مخلوق عن الله تعالی سوی خاتم الرسل صلی الله علیه و آله، فأسکن الله عزّ وجلّ ذلک النور فی بیوت أذن الله أن ترفع ویذکر فیها اسمه، وکان بدن النبیّ الأکرم مسکناً لذلک النور، لأنه أوّل من قال بلی عندما قال الله تعالی للبشر: (أَ لَسْتُ بِرَبِّکُمْ) .

ومن هنا یتّضح أن المیثاق والعهد الذی أخذه الله علی أنبیائه هو الإیمان بذات الرسول صلی الله علیه و آله، والإیمان بمقامه صلی الله علیه و آله هو الدین الذی بعث به جمیع الأنبیاء، وهو بدرجاته العالیة غیب الله وسره المکنون الذی أمر الأنبیاء بالإیمان به والتسلیم له، وکان نیل مقامات النبوّة علی قدر درجة التسلیم لذلک الدین، وقد مدح الله تعالی أنبیاءه لکونهم مسلمین، قال عزّ وجلّ: (ما کانَ إِبْراهِیمُ یَهُودِیًّا وَ لا نَصْرانِیًّا وَ لکِنْ کانَ حَنِیفاً مُسْلِماً وَ ما کانَ مِنَ الْمُشْرِکِینَ)1 ، وقد أمر الله تعالی أنبیاءه باتخاذ الاسلام دیناً، کما فی قوله لإبراهیم: (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِینَ)2 .

إذن الدین الواحد هو المیثاق الذی أخذ علی جمیع الأنبیاء التسلیم له

ص:394

والإیمان به ونصرته، وهو دین النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله المتمثّل برسالته ووساطته بین الله وخلقه، فهو دین الله الناطق.

وإذا کان الأمر کذلک فکلّ ما هو داخل فی دائرة الدین یکون من المیثاق الذی أخذ علی الأنبیاء الإیمان به ونصرته والتسلیم له، ومن الدین ولایة أهل البیت علیهم السلام بنصّ القرآن الکریم، وذلک فی قوله تعالی: (الْیَوْمَ یَئِسَ الَّذِینَ کَفَرُوا مِنْ دِینِکُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ الْیَوْمَ أَکْمَلْتُ لَکُمْ دِینَکُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَیْکُمْ نِعْمَتِی وَ رَضِیتُ لَکُمُ الْإِسْلامَ دِیناً)1 حیث نصّت روایات الفریقین علی أن هذا المقطع من الآیة المبارکة نزل عند تنصیب الله عزّ وجلّ أمیر المؤمنین علیه السلام لمقام الخلافة والإمامة بعد رسول الله صلی الله علیه و آله وذلک فی واقعة الغدیر(1).

إذن الولایة والخلافة بعد رسول الله صلی الله علیه و آله من الدین الذی بعث به جمیع الأنبیاء، وقد أُکمل بتنصیب أمیر المؤمنین علیه السلام بعد حجّة الوداع مضافاً إلی أن جملة الآیات والأدلّة القائمة علی إمامة أهل البیت علیهم السلام دالّة علی أن إمامتهم وولایتهم من أصول الدین تتلو أصل النبوّة، سیما وأن الأنبیاء مخاطبون بآیات الولایة والقربی والمودّة عند رجوعهم للنصرة، فهم مأمورون بطاعة أولی الأمر والمودّة للقربی والتوجّه بهم إلی الله تعالی.

والحاصل: إنه لم یبعث نبیّ من الأنبیاء إلّابعد أن آمن وسلّم بالدین الذی هو ولایة النبیّ صلی الله علیه و آله وأهل بیته، فالولایة دین الله الذی بتسلیمه استحقّ

ص:395


1- (2) لاحظ کتاب الغدیر للأمینی وشرح إحقاق الحق، حیث تتبعا الروایات فی هذا المجال.

الأنبیاء مقام النبوّة کلّ بحسب ما بلغه من درجة التسلیم، فإن للولایة والتسلیم درجات وبحسب درجة التسلیم لکلّ نبیّ یعطی ذلک النبیّ مقام الحظوة عند الله تعالی ویستحقّ مقام النبوّة، وإذا ازدادت درجة التسلیم کان ذلک النبیّ من أولی العزم، فتفضیل الأنبیاء الوارد فی قوله تعالی: (وَ لَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِیِّینَ عَلی بَعْضٍ)1 ، کذلک تفضیل الرسل، کما فی قوله تعالی: (تِلْکَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلی بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ کَلَّمَ اللّهُ وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ)2 ، کلّ ذلک التفضیل بحسب درجة التسلیم والتولّی لدین الله عزّ وجلّ، وذلک بالولایة للنبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله وأهل بیته، فالتسلیم للنبیّ وأهل بیته والإیمان بولایتهم نوع توجّه قلبی إلی الله عزّ وجلّ بهم، وهو شرط لنیل المقامات العظیمة عند الله تعالی کالنبوّة والرسالة، فضلًا عن غیرها من العبادات وقبول التوبة واستدرار الأرزاق الإلهیّة.

3 - لقد بیّن الله عزّ وجلّ حقیقة المیثاق الذی أخذه علی الأنبیاء وکیفیة إقرارهم وإیمانهم به وثباتهم علیه، کما فی قصة آدم علیه السلام، حیث جاء فیها أن الأمانة والمیثاق الذی أقرّ به آدم وتحمّله لنیل منصب الخلافة الإلهیة عبارة عن الأسماء الحیّة العاقلة الشاعرة، التی علّمها الله عزّ وجلّ آدم ولیست هی من السماوات والأرض، بل هی ملکوتها وباطنها ومحیطة بها ومهیمنة علیها، والأسماء هم الرسول صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام، کما تقدّم فی الأبحاث السابقة کما نصّت علیه روایات الفریقین، وعلیه فیکون المیثاق الذی تحمّله آدم وآمن به

ص:396

ونال بواسطته مقام الخلافة هو الولایة للنبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله وأهل البیت علیهم السلام.

کذلک الحال فی الکلمات التی ابتلی بها إبراهیم علیه السلام، فلما أتمّهن نال مقام الإمامة، فهذه الکلمات هی میثاق إبراهیم علیه السلام لما أتمّها وآمن بها وأسلم بواسطتها لله ربّ العالمین استحقّ مقام الإمامة الإلهیة، وسبق أیضاً أن تلک الکلمات التی ابتلی بها إبراهیم وکان إتمامها سبباً لنیل المقامات العالیة هم محمّد صلی الله علیه و آله وآله الطاهرین علیهم السلام.

إذن المیثاق عبارة عن أمتحان وابتلاء لنیل المقامات الرفیعة کالنبوّة والإمامة، والمیثاق هو ولایة أهل البیت الذین أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهیراً.

نعم النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله أعلی مقاماً من أهل بیته علیهم السلام وهم یتوجّهون بالنبیّ صلی الله علیه و آله إلی الله عزّ وجلّ وبشفاعته ینالون درجة مقامه عند الله.

4 - إن ولایة أمیر المؤمنین علیه السلام وأهل البیت علیهم السلام ذکرت تلو ولایة النبیّ الأکرم فی جملة من آیات الطاعة والولایة، التی تقدم ذکرها، مما یدلّل علی أن ولایة المعصومین علیهم السلام من الدین الذی بعث به الأنبیاء، إذ الدین دائرته موحّدة بین الأنبیاء، والذی هو عبارة عن أصول العقائد وأصول الواجبات والمحرّمات، التی هی أرکان الفروع کأصل وجوب الصلاة والحجّ والجهاد والأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، فهذه کلّها من دائرة الدین لا الشریعة المختلفة من نبیّ إلی آخر، وولایة أمیر المؤمنین علیه السلام من الدین الذی بعث به جمیع الأنبیاء والرسل.

ص:397

کذلک من الآیات التی قرنت الرسول الأکرم بأهل بیته علیهم السلام آیات الفیء والخمس، کما فی قوله تعالی: (وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَیْ ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِی الْقُرْبی وَ الْیَتامی وَ الْمَساکِینِ وَ ابْنِ السَّبِیلِ)1 فإن الآیة المبارکة تبیّن أن أولیاء الخمس الذین لهم الولایة علی اقتصاد الدولة الإسلامیة هم الله تعالی ورسوله وذوی القربی، بقرینة الاشتراک ب(اللام) الدالّة علی ملکیة التصرف فی أموال الدولة الإسلامیة، وأما الیتامی والمساکین وابن السبیل فهم موارد مصرف الخمس؛ ولذا تغیّر التعبیر فیهم بحذف اللام.

کذلک بنفس البیان ما ورد فی قوله تعالی: (ما أَفاءَ اللّهُ عَلی رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُری فَلِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِی الْقُرْبی وَ الْیَتامی وَ الْمَساکِینِ وَ ابْنِ السَّبِیلِ کَیْ لا یَکُونَ دُولَةً بَیْنَ الْأَغْنِیاءِ مِنْکُمْ)2 ، فلإقامة العدالة المالیة والاقتصادیة علی الأرض لابدّ أن تدار الأموال العامة التی ترجع إلی بلاد الإسلام بولایة الله ورسوله وذوی القربی، وهم قربی الرسول الأکرم الذین جعلت مودّتهم أجراً وعدلًا لما جاء به النبیّ الأکرم من الدین الحنیف، وذلک فی قوله تعالی: (قُلْ لا أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبی)3 .

وهذا یکشف عن أهمیّة تولّی ذوی القربی وأن ولایتهم مفتاح لسائر أبواب الدین ومن دون التوسّل بها یخطأ الشخص ویضلّ طریق التوحید، فیقع فی مثل الجبر أو التفویض أو غیر ذلک، فلابدّ من الولوج إلی الدین عن

ص:398

الطریق والباب الذی نصبه الله عزّ وجلّ لخلقه، ولا یمکن الوقوف علی حقیقة الدین إلّا بالإمامة.

فمودّة ذوی القربی أمر عظیم إذا سَلِم سَلِمت بقیّة أصول الدین، ولا یوجد قربی للنبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله بهذا الشأن الخطیر سوی المعصومین من أهل بیته، فولایتهم عاصمة عن الضلال وهی رکن رکین فی الدین الذی بعث به الأنبیاء کافّة.

ولا شک أن الدین عام - کما ستأتی الإشارة إلی ذلک - لا یستثنی منه أحد فی جمیع النشآت بنحو الأبد وعدم الانقطاع، ومن ثمّ یکون وجوب الطاعة والولایة مکلَّف به جمیع المخلوقات بنحو من التأبید والخلود، فخلافة وولایة أولی الأمر ووجوب طاعتهم لا تختصّ بالجنّ أو الإنس ولا بالأمور السیاسیة الدنیویة ولیس لأمدها حدّ ولا انقطاع.

وهناک أیضاً آیات أخری ستأتی لاحقاً قرنت بین النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله وأهل بیته، مما یکشف عن أن مقامات الأنبیاء ونیل الحظوة الإلهیة لا یتم إلّابالتوسل والتوجّه بهم إلی الله تعالی، وأن تولّیهم واسطة للفیض الإلهی، ولولاهم لما بعث الأنبیاء والمرسلون، فهم الوسیلة إلی الله تعالی فی عظائم الأمور، فکیف بالقضایا الأخری التی هی أقلّ شأناً مما یرتبط بالأمور الحیاتیة والمعیشیة للناس؟!

وهذا کلّه یصلح بیاناً بذاته لتبعیة الأنبیاء جمیعاً لخاتم الأنبیاء وأهل بیته علیهم السلام مع سبقهم الزمنی علیهم.

ص:399

بیان آخر لتوسل الأنبیاء بالرسول الأکرم وأهل بیته فی نیل المقامات: النبی وأهل بیته قدوة للأنبیاء:

مما یشیر إلی کون النبیّ صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام قدوة لجمیع الأنبیاء والمرسلین حتّی أولی العزم منهم، وبالتالی اتّباعهم للنبیّ صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام وسیلة لبلوغهم إلی المقامات العالیة من النبوّة والرسالة والخلّة والإمامة وغیرها، مع أن النبیّ وأهل بیته متأخرین عنهم من حیث الزمان فی النشأة الأرضیة، هو ما دلّت علیه جملة من الآیات والروایات من أن الله تعالی أنبأ آدم ونوح وإبراهیم وموسی وعیسی وغیرهم من الأنبیاء والرسل بالأحوال والحوادث التی تجری علی خاتم الأنبیاء صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام، من المحن والمصائب والابتلاءات والامتحانات والشدائد وکیفیة ثباتهم علیهم السلام فیها وصبرهم ورضاهم وتسلیمهم بقضاء الله وقدره وتنمّرهم فی ذات الله، وأطلعهم علی الکمالات والمقامات الرفیعة التی یکونون علیها، مع عظیم ابتلائهم بتلک الشدائد.

وهذا ما یوجب تربیة روحیة عالیة لهم لیتحلّوا بالکمالات عند مواجهتهم للشدائد والفتن والمحن وبالتالی نیل المقامات التی حظوا بها عند الله تعالی.

وکان فیما أوحی الله عزّ وجلّ لهم عن أحوال النبیّ وأهل بیته بأنماط متعدّدة من الوحی، أی من الوحی الصوری نظیر الرؤیا أو الوحی بالإلهام والمعنی وغیرها من أنماط الوحی.

فکانت سیرة النبیّ صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام تمثالًا منصوباً وشعاراً مرفوعاً لهم یحتذون ویقتدون به، ماثل أمام أعینهم طیلة مسیرة أیام نبوّتهم ورسالتهم.

ص:400

وهذا أحد معانی اقتداء الأنبیاء والمرسلین بالنبیّ وأهل بیته.

أما الآیات التی تشیر إلی هذا المعنی فهی عدیدة نشیر إلی جانب منها:

1 - ما تقدّم من قوله تعالی: (وَ إِذْ أَخَذَ اللّهُ مِیثاقَ النَّبِیِّینَ لَما آتَیْتُکُمْ مِنْ کِتابٍ وَ حِکْمَةٍ ثُمَّ جاءَکُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَکُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ)1 فإنها دالّة علی أن الله عزّ وجلّ أخبرهم عن خاتم الأنبیاء ومقاماته وأن الدین دینه وهو فاتح حصونه، ثم بعد ذلک أمرهم بالتسلیم له والإیمان به ونصرته.

2 - قوله تعالی علی لسان عیسی علیه السلام: (وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ یَأْتِی مِنْ بَعْدِی اسْمُهُ أَحْمَدُ)2 .

3 - قوله تعالی فی یهود المدینة، قُبیل ولادة النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله: (وَ لَمّا جاءَهُمْ کِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَ کانُوا مِنْ قَبْلُ یَسْتَفْتِحُونَ عَلَی الَّذِینَ کَفَرُوا فَلَمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا کَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللّهِ عَلَی الْکافِرِینَ)3 ، فقد نقل المفسّرون فی ذیل هذه الآیة المبارکة أن الیهود من أهل المدینة وخیبر کانوا إذا قاتلوا من یلیهم من مشرکی العرب من الأوس والخزرج یستنصرون بالنبیّ صلی الله علیه و آله علیهم ویستفتحون به، لما یجدون من ذکره وصفاته وشمائله ومحلّ ولادته فی التوراة، وکانوا یدعون ویتوسلون بحقّه للنصرة علیهم، حیث یقولون: (اللّهم إنّا نستنصرک بحقّ النبیّ الأمیّ إلّانصرتنا علیهم).

وعن ابن عباس قال: (کانت یهود خیبر تقاتل غطفان فکلّما التقوا

ص:401

هزمت یهود خیبر، فعاذت الیهود بهذا الدعاء: اللّهم إنا نسألک بحقّ محمّد النبیّ الأمیّ الذی وعدتنا أن تخرجه لنا فی آخر الزمان إلّانصرتنا علیهم، قال: فکانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء فهزموا غطفان، فلما بُعث النبیّ صلی الله علیه و آله کفروا به، فأنزل الله وقد کانوا یستفتحون بک یامحمّد علی الکافرین) (1).

4 - قوله تعالی فی الیهود والنصاری الذین آمنوا بالنبیّ صلی الله علیه و آله: (الَّذِینَ یَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِیَّ الْأُمِّیَّ الَّذِی یَجِدُونَهُ مَکْتُوباً عِنْدَهُمْ فِی التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِیلِ یَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ یَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْکَرِ وَ یُحِلُّ لَهُمُ الطَّیِّباتِ وَ یُحَرِّمُ عَلَیْهِمُ الْخَبائِثَ وَ یَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِی کانَتْ عَلَیْهِمْ فَالَّذِینَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِی أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِکَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)2 .

5 - قوله تعالی فی معرفة أهل الکتاب بصفات وشمائل النبیّ صلی الله علیه و آله: (الَّذِینَ آتَیْناهُمُ الْکِتابَ یَعْرِفُونَهُ کَما یَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَ إِنَّ فَرِیقاً مِنْهُمْ لَیَکْتُمُونَ الْحَقَّ وَ هُمْ یَعْلَمُونَ)3 .

إن هذه الأربع آیات الأخیرة صریحة فی إخبار الأنبیاء علیهم السلام أممهم بأحوال خاتم الأنبیاء صلی الله علیه و آله وسیرته، وهذا یکشف عن أن الله تعالی أطلع أنبیاءه علی سیرة النبیّ الأعظم وما یجری علیه من المحن والشدائد.

6 - قوله تعالی علی لسان إبراهیم فی دعائه لذریّته:

ص:402


1- (1) تفسیر الطبری: ج 1 ص 324، تفسیر القرطبی: ج 2 ص 27.

(فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِی إِلَیْهِمْ)1 فهی دالّة علی أن إبراهیم کان مطّلعاً علی سیرة ذرّیته الطاهرة، ودعا الله عزّ وجلّ بمودّة الناس لهم وهویّ القلوب إلیهم.

هذا بالنسبة إلی الآیات المبارکة، وهی دالّة علی أن الأنبیاء علیهم السلام کانوا علی اطّلاع بالنبیّ الأکرم وأهل بیته الطاهرین وما یجری علیهم من البلایا.

أما الروایات فی هذا المجال فهی کثیرة جدّاً نشیر إلی شطر منها علی سبیل الاختصار:

1 - ما أخرجه القندوزی الحنفی فی الینابیع، عن رسول الله صلی الله علیه و آله قال:

«یاعباد الله إن آدم علیه السلام لما رأی النور ساطعاً من صلبه، إذ کان الله تعالی نقل أشباحنا من ذروة العرش إلی ظهره، رأی النور ولم یتبیّن الأشباح، فقال: یاربّ ما هذه الأنوار؟ قال: أنوار أشباح نقلتهم من أشرف بقاع العرش إلی ظهرک، ولذلک أمرت الملائکة بالسجود لک، إذ کنت وعاءً لتلک الأشباح، فقال آدم علیه السلام: یاربّ لو بیّنتها لی.

فقال الله عزّ وجلّ: انظر یاآدم إلی ذروة العرش.

فنظر آدم علیه السلام ووقع نور أشباحنا من ظهر آدم علیه السلام إلی ذروة العرش، فانطبع فیه صور أنوار أشباحنا التی فی ظهره کما ینطبع وجه الانسان فی المرآة الصافیة، فرأی أشباحنا.

ص:403

فقال: ما هذه الأشباح یاربّ؟ قال الله تعالی: یاآدم هذه الأشباح أشباح أفضل خلائقی وبریّاتی، هذا محمّد وأنا المحمود فی أفعالی، شققت له اسماً من اسمی، وهذا علی وأنا العلیّ العظیم شققت له اسماً من اسمی، وهذه فاطمة وأنا فاطر السماوات والأرض، فاطم أعدائی من رحمتی یوم فصل القضاء، وفاطم أولیائی مما یبیرهم ویشینهم، شققت لها اسماً من اسمی، وهذا الحسن وهذا الحسین وأنا المحسن المجمل ومنّی الاحسان، شققت اسمیهما من اسمی.

وهؤلاء خیار خلقی وکرائم بریّتی، بهم آخذ وبهم أعطی، وبهم أعاقب وبهم أثیب، فتوسل بهم إلیّ یاآدم، وإذا دهتک داهیة فاجعلهم إلیّ شفعائک فإنی آلیت علی نفسی قسماً حقّاً لا أُخیّب لهم آملًا ولا أردّ لهم سائلًا» (1) .

فهذه الروایة صریحة فی أن الله تعالی أطلع خلیفته ونبیّه آدم علی حقائق أهل البیت علیهم السلام، لیکونوا له قدوة یقتدی بهم وشفعاء یتوسل بهم إلی الله تعالی.

2 - روی: أن آدم علیه السلام لما هبط إلی الأرض لم یرَ حواء، فصار یطوف الأرض فی طلبها، فمرّ بکربلاء فاغتمّ وضاق صدره من غیر سبب، وعثر فی الموضع الذی قُتل فیه الحسین علیه السلام حتی سال الدمّ من رجله، فرفع رأسه إلی السماء وقال:

إلهی هل حدث منّی ذنب آخر فعاقبتنی به؟ فإنی طفت جمیع الأرض وما أصابنی سوء مثل ما أصابنی فی هذه الأرض.

فأوحی الله تعالی إلیه یاآدم ما حدث منک ذنب، ولکن یقتل فی هذه

ص:404


1- (1) ینابیع المودّة لذوی القربی/ القندوزی الحنفی: ج 1 ص 289.

الأرض ولدک الحسین ظلماً، فسال دمک موافقة لدمه(1).

3 - ما أخرجه المجلسی فی البحار عن صاحب الدرّ الثمین فی تفسیر قوله تعالی: (فَتَلَقّی آدَمُ مِنْ رَبِّهِ کَلِماتٍ)2 : (أنه رأی ساق العرش وأسماء النبیّ والأئمة علیهم السلام، فلقّنه جبرئیل، قل: یاحمید بحقّ محمّد، یاعالی بحقّ علیّ یافاطر بحقّ فاطمة، یامحسن بحقّ الحسن والحسین ومنک الإحسان.

فلمّا ذکر الحسین سالت دموعه وانخشع قلبه، وقال: یاأخی جبرئیل فی ذکر الخامس ینکسر قلبی وتسیل عبرتی؟ قال: جبرئیل: ولدک هذا یصاب بمصیبة تصغر عندها المصائب، فقال: یاأخی وما هی؟ قال: یقتل عطشاناً غریباً وحیداً فریداً لیس له ناصر ولا معین) (2).

4 - ما أخرجه الصدوق عن علیّ بن موسی الرضا علیه السلام، قال:

«لما أمر الله تبارک وتعالی إبراهیم علیه السلام أن یذبح مکان ابنه إسماعیل الکبش الذی أنزله علیه تمنّی إبراهیم علیه السلام أن یکون یذبح ابنه إسماعیل علیه السلام بیده، وأنه لم یؤمر بذبح الکبش مکانه؛ لیرجع إلی قلبه ما یرجع إلی قلب الوالد الذی یذبح أعزّ ولده بیده فیستحقّ بذلک أرفع درجات أهل الثواب علی المصائب، فأوحی الله عزّ وجلّ إلیه: یاإبراهیم من أحبّ خلقی إلیک؟ فقال: یاربّ ما خلقت خلقاً هو أحبّ إلیّ من حبیبک محمّد صلی الله علیه و آله، فأوحی الله عزّ وجلّ إلیه: یاإبراهیم أفهو أحبّ إلیک أو نفسک؟

ص:405


1- (1) بحار الأنوار: ج 44 ص 242.
2- (3) بحار الأنوار: ج 44 ص 245.

قال: بل هو أحبّ إلیّ من نفسی، قال: فولده أحبّ إلیک أو ولدک؟ قال: بل ولده، قال: فذبح ولده ظلماً علی أیدی أعدائه أوجع لقلبک أو ذبح ولدک بیدک فی طاعتی؟ قال: یاربّ بل ذبحه علی أیدی أعدائه أوجع لقلبی، قال: یاإبراهیم فإن طائفة تزعم إنها من أمة محمّد صلی الله علیه و آله ستقتل الحسین علیه السلام إبنه من بعده ظلماً وعدواناً کما یذبح الکبش، فیستوجبون بذلک سخطی، فجزع إبراهیم علیه السلام لذلک وتوجّع قلبه وأقبل یبکی، فأوحی الله عزّ وجلّ إلیه: یاإبراهیم قد فدیت جزعک علی إبنک إسماعیل لو ذبحته بیدک بجزعک علی الحسین علیه السلام وقتله، وأوجبت لک أرفع درجات أهل الثواب علی المصائب»(1).

5 - ما أخرجه ابن قولویه فی کامل الزیارات عن أبی عبدالله علیه السلام قال:

«إن إسماعیل الذی قال الله تعالی فی کتابه:

(وَ اذْکُرْ فِی الْکِتابِ إِسْماعِیلَ إِنَّهُ کانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَ کانَ رَسُولاً نَبِیًّا)2 .

لم یکن إسماعیل ابن إبراهیم علیه السلام، بل کان نبیّاً من الأنبیاء بعثه الله إلی قومه، فأخذوه فسلخوا فروة رأسه ووجهه، فأتاه ملک عن الله تبارک وتعالی فقال: إن الله بعثنی إلیک فمرنی بما شئت، فقال: لی أسوة بما یصنع بالحسین علیه السلام»(2).

وفی حدیث آخر عنه علیه السلام قال:

ص:406


1- (1) عیون أخبار الرضا علیه السلام / الصدوق: ج 2 ص 188 ب 17 ح 1.
2- (3) کامل الزیارات/ جعفر بن محمد بن قولویه: ص 137.

«ذاک إسماعیل بن حزقیل النبیّ علیه السلام، بعثه الله إلی قومه فکذّبوه فقتلوه وسلخوا وجهه، فغضب الله له علیهم فوجّه إلیه اسطاطائیل ملک العذاب، فقال له: یاإسماعیل: أنا اسطاطائیل ملک العذاب، وجّهنی إلیک ربّ العزّة لأعذّب قومک بأنواع العذاب إن شئت، فقال له إسماعیل:

لا حاجة لی فی ذلک، فأوحی الله إلیه فما حاجتک یاإسماعیل؟ فقال: یاربّ إنک أخذت المیثاق لنفسک بالربوبیة ولمحمّد صلی الله علیه و آله بالنبوّة ولأوصیائه بالولایة، وأخبرت خیر خلقک بما تفعل أمته بالحسین بن علیّ علیه السلام من بعد نبیّها، وأنک وعدت الحسین علیه السلام أن تکرَّهُ إلی الدنیا حتی ینتقم بنفسه ممن فعل ذلک به، فحاجتی إلیک یاربّی أن تکرّنی إلی الدنیا حتّی أنتقم ممن فعل ذلک بی، کما تکرّ الحسین علیه السلام، فوعد الله إسماعیل بن حزقیل ذلک، فهو یکرّ مع الحسین علیه السلام»(1).

6 - عن سعد بن عبدالله القمی فی سؤاله للإمام المهدی علیه السلام فی محضر الإمام الحسن العسکری علیه السلام، حیث قال: فأخبرنی یاابن رسول الله عن تأویل «کهیعص»؟ قال علیه السلام:

«هذه الحروف من أنباء الغیب، أطلع الله علیها عبده زکریّا، ثم قصّها علی محمّد صلی الله علیه و آله، وذلک إن زکریا سأل ربّه أن یعلّمه أسماء الخمسة، فأهبط علیه جبرئیل فعلّمه إیاها، فکان زکریا إذا ذکر محمّداً وعلیاً وفاطمة والحسن والحسین، سری عنه همّه، وانجلی کربه، وإذا ذکر الحسین خنقته العبرة،

ص:407


1- (1) المصدر السابق: ص 138-139.

ووقعت علیه البهرة(1) ، فقال ذات یوم: یاإلهی ما بالی إذا ذکرت

أربعاً منهم تسلّیت بأسمائهم من همومی، وإذا ذکرت الحسین تدمع عینی وتثور زفرتی؟ فأنبأه الله تعالی عن قصّته»

إلی أن قال:

«فلما سمع ذلک زکریا لم یفارق مسجده ثلاثة أیام ومنع فیها الناس من الدخول علیه، وأقبل علی البکاء والنحیب، وکانت ندبته: إلهی أتفجع خیر خلقک بولده؟

إلهی أتنزل بلوی هذه الرزیة بفنائه؟ إلهی أتلبس علیاً وفاطمة ثیاب هذه المصیبة؟ إلهی أتحلّ کربة هذه الفجیعة بساحتهما؟

ثم کان یقول: أللّهم ارزقنی ولداً تقرّ به عینی علی الکبر، واجعله وارثاً وصیّاً، واجعل محلّه منّی محلّ الحسین، فإذا رزقتنیه فافتنّی بحبّه ثم افجعنی به کما تفجع محمّداً حبیبک بولده، فرزقه الله یحیی وفجعه به» (2).

والروایات فی هذا المجال کثیرة جدّاً، وهی دالّة علی ما أردنا التنبیه علیه من تبعیة الأنبیاء لمحمّد وأهل بیته علیهم السلام، وکونهم قدوة لهم وواسطة فی بلوغ ما وصلوا إلیه من المقامات، وذلک عن طریق استعراض سیرتهم والحوادث التی جرت علیهم علیهم السلام.

آیات أخری فی اقتران أهل البیت علیهم السلام بالنبیّ صلی الله علیه و آله فی الصفات:

ص:408


1- (1) البهر: تتابع النفس وانقطاعه کما یحصل بعد الإعیاء والعدو الشدید.
2- (2) کمال الدین وتمام النعمة/ الصدوق: ص 459.

1 - قوله تعالی: (إِنَّما یُرِیدُ اللّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَ یُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیراً)1 ، حیث قرنت هذه الآیة المبارکة بالنبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله أهل بیته علیهم السلام وجعلتهم شرکاء له تابعون فی الطهارة، وهی تعنی درجة العصمة التی للرسول صلی الله علیه و آله، فهو صلی الله علیه و آله سیّد الأنبیاء ویفوق الکلّ فی درجة العصمة والطهارة، إلّا أن سنخ عصمته صلی الله علیه و آله متقاربة ومتقارنة مع سنخ العصمة التی لأهل البیت علیهم السلام، ففی الوقت الذی قرن الله تعالی بنبیّه صلی الله علیه و آله أهل بیته فی العصمة والطهارة، لم یقرن أحداً من الأنبیاء فی نمط التطهیر والعصمة الذی له صلی الله علیه و آله.

2 - قوله تعالی: (فَمَنْ حَاجَّکَ فِیهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَکَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَکُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَکُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَکُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللّهِ عَلَی الْکاذِبِینَ)2 ، فلم یُنزَّل أحد کنفس النبیّ صلی الله علیه و آله إلّاعلیّ علیه السلام، وقرن الله تعالی بالنبیّ صلی الله علیه و آله أهل بیته علیهم السلام فی الحجّیة، فالخمسة علیهم السلام معاً حجج علی جمیع الأدیان السماویة والبشریة عموماً إلی یوم القیامة، فهم علیهم السلام شرکاء النبیّ صلی الله علیه و آله فی الرسالة؛ لأن المباهلة نوع محالفة، وفی الحلف لابدّ أن یحلف الأصیل ولا وکالة فی الحلف، وهذا یعنی أنهم علیهم السلام شرکاء فی الرسالة أصالة، ولکنهم تابعون فی ذلک للنبیّ صلی الله علیه و آله وهو سیّدهم وبشفاعته نالوا الأصالة فی الحجّیة.

والحاصل: إنَّ أهل البیت علیهم السلام مقرونون بسیّد الأنبیاء فی المقامات تبعاً

ص:409

له صلی الله علیه و آله، وهذا یعنی أن الإیمان بأهل البیت والتولّی لهم من الدین الذی أخذ علی الأنبیاء الإیمان به ونصرته لأجل نیل المقامات العالیة عند الله تعالی.

هذا تمام الکلام فی الدلیل السابع علی عموم شرطیة التوسّل بالنبیّ صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام لصحّة الإیمان وللتوبة وسائر العبادات ولنیل مقامات القرب.

الدلیل الثامن:

(فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِی إِلَیْهِمْ)1 .

تقدّم أن هذه الآیة المبارکة دالّة علی مبدأ التوسّل، ونشیر هنا أیضاً إلی أنها دالّة عموم شرطیة التوسّل فی التوجّه إلی الحضرة الإلهیة، فلابدّ من التوسّل بالذریّة والتوجّه بهم وصلتهم والمجیء إلیهم، وسبق کذلک أن التوجّه نوع دعاء وهو لا یرتفع ولا تفتّح له أبواب السماء إلّابالتوسل بالنبیّ صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام وهویّ القلوب إلیهم.

ولذا کانت مودّة أهل البیت علیهم السلام أجر الرسالة الخاتمة، کما فی قوله تعالی:

(قُلْ لا أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبی)2 ، وقال تعالی: (قُلْ ما سَأَلْتُکُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَکُمْ)3 ، مما یعنی أن مودّة أهل البیت علیهم السلام یعود نفعها للأمة جمعاء، وقال عزّ وجلّ: (قُلْ ما أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاّ مَنْ)

ص:410

(شاءَ أَنْ یَتَّخِذَ إِلی رَبِّهِ سَبِیلاً)1 ، ومعنی ذلک أن مودّتهم علیهم السلام هی السبیل الوحید والطریق والوسیلة المنحصرة إلی الله تعالی، فهم السبیل إلیه والمسلک إلی رضوانه.

الدلیل التاسع: الاستکبار والصدّ عن آیات الله تعالی موجب لحبط الأعمال

نرید أن نتعرض هنا فی الاستدلال علی المقام بما تقدّم من قوله عزّ وجلّ: (إِنَّ الَّذِینَ کَذَّبُوا بِآیاتِنا وَ اسْتَکْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَ لا یَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتّی یَلِجَ الْجَمَلُ فِی سَمِّ الْخِیاطِ وَ کَذلِکَ نَجْزِی الْمُجْرِمِینَ)2 ونرید أن نضیف علی ما تقدم من بیان هذه الآیة الکریمة بما له دلالة علی المطلوب فی المقام، وذلک بالبیان التالی:

إن الآیة المبارکة تتعرّض لبعض الأحکام المترتّبة علی التکذیب بآیات الله تعالی.

والمقصود من الآیات هی الحجج الإلهیة، حیث أطلق الله عزّ وجلّ لفظ الآیة علی مریم وعیسی علیهما السلام(وَ جَعَلْنَا ابْنَ مَرْیَمَ وَ أُمَّهُ آیَةً)3 ، وإذا کان عیسی علیه السلام لم ینل ما ناله إلّابولایته وإقراره وإیمانه بسیّد الأنبیاء فکیف بنفس النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله، فهو أعظم آیة لله تعالی؟ وإذا کان عیسی علیه السلام من وزراء الإمام المهدی علیه السلام وتابعاً له فی دولته، فکیف لا یکون أهل البیت علیهم السلام من أعظم آیات الله تعالی؟ خصوصاً وأن الله تعالی قرن بالنبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله أهل

ص:411

بیته علیهم السلام فی الطهارة والعصمة والحجّیة والولایة وغیرها من المقامات التی تقدّم التعرّض لها آنفاً، فلا شک أن النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام المصداق البارز للآیة التی نحن بصدد بیانها، فهم علیهم السلام أوضح وأبرز وأعظم آیات الله تعالی.

والذین یکذّبون بآیات الله تعالی ویصدّون ویستکبرون عنها - کما فعل إبلیس مع آدم علیه السلام - لا تفتّح لهم أبواب السماء، فلکی تفتّح أبواب السماء لقبول الأعمال والعبادات والعقائد وجمیع المقامات، وقد قال تعالی: (إِلَیْهِ یَصْعَدُ الْکَلِمُ الطَّیِّبُ وَ الْعَمَلُ الصّالِحُ یَرْفَعُهُ)1 والکلم الطیب هو العقیدة، فبیّنت الآیة أن الإیمان والعقیدة لابدّ له أن یصعد فی مسیر قبوله عند الله تعالی، والصعود إلی السماء لابدّ أن تفتّح له أبواب السماء، وقد بیّنت الآیة السابقة أن مفتاح أبواب السماء هو کلّ من التصدیق بالآیات الإلهیة والخضوع لها واللُجأ إلیها وعدم الصدّ عنها، ومن أجل الرقی والعروج إلی السماء لابدّ من التوجّه إلی آیات الله تعالی واللجوء إلیها والتصدیق بها وعدم الصدّ عنها، فالآیة صریحة فی أن التوبة والعبادة وأیّ قربی أو زلفی إلی الله عزّ وجلّ تفتقر إلی تفتّح أبواب السماء وأنها لا تفتّح أبداً مع الاستکبار علی الآیات الإلهیة، فلیس الإیمان بآیات الله فحسب کافٍ فی قبول العبادات ورقی المقامات، بل لابدّ من المودّة والصلة والإقبال والتوجّه إلی الآیات والتوسّل بها إلی الله، وعدم الصدّ والإعراض والإستکبار عنها، لأن الآیة جعلت شرطین لفتح أبواب السماء ولدخول الجنّة:

ص:412

الأول: عدم التکذیب، أی التصدیق والإیمان والمعرفة بآیات الله الحجج.

والثانی: عدم الاستکبار عنها، وهذا الأمر یتضمّن شیئین:

أحدهما: عدم الاستکبار أی الخضوع والتواضع، وثانیتهما: عدم الصدّ الذی قد ضُمّن فی فعل الاستکبار بقرنیة عن، نظیر ما ذکرته الآیات فی مسبب کفر إبلیس(أَبی وَ اسْتَکْبَرَ) فالإباء هو الجحود مقابل التصدیق، والاستکبار مقابل الخضوع والاتباع.

ونظیر ذلک ما ورد فی سورة المنافقین فی قوله تعالی: (وَ إِذا قِیلَ لَهُمْ تَعالَوْا یَسْتَغْفِرْ لَکُمْ رَسُولُ اللّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَ رَأَیْتَهُمْ یَصُدُّونَ وَ هُمْ مُسْتَکْبِرُونَ)1 وهذه الآیة الکریمة صریحة فی أن الاستغفار وقبول التوبة متوقّف علی المجیء إلی النبیّ صلی الله علیه و آله، وأن صفة المنافق الصدّ عن الآیات الإلهیة والاستکبار علیها والابتعاد عنها وعدم اللجوء واللواذ إلیها، وهذا نوع من التشاهد بین الآیات القرآنیة، فالآیة تدلّ علی أن الأوبة إلی الله تعالی والقرب إلیه لابدّ فیه من التوجّه أوّلاً إلی الحضرة النبوّیة والتوسّل والاستشفاع بالنبی صلی الله علیه و آله ثم شفاعته.

فالتوسّل خیار حصری لابدّی شرطی منحصر بالمجیء واللجوء إلی الحضرة النبویّة واللّواذ بها والاستغاثة به صلی الله علیه و آله، ثم إبداء التوبة والاستغفار وإمضاء النبیّ صلی الله علیه و آله له باستغفاره وشفاعته لهم من أجل تحقّق التوبة ومقام المغفرة وقبول العبادة التی منها عبادة التوبة.

ص:413

ونظیر هذه الآیات أیضاً قوله تعالی: (وَ الَّذِینَ کَذَّبُوا بِآیاتِنا وَ اسْتَکْبَرُوا عَنْها أُولئِکَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِیها خالِدُونَ)1 .

ومن الشواهد أیضاً علی أن المراد من الآیات هنا هم الأنبیاء والخلفاء الأوصیاء الحجج هو التعبیر ب(کَذَّبُوا) فإنه مقابل التصدیق فیما یزعمون من مناصب وفیما لهم من دعوی، وأما الآیة الکونیة فلیس فیها تکذیب أو تصدیق، بل إنما یقع الغفلة والإعراض عنها؛ إذ لا یوجد فیها زعم أو دعوی معیّنة کی یصدق فی حقّها التصدیق أو التکذیب، فالتصدیق أو التکذیب إنما یکون للحجج الإلهیة التی تدّعی مقاماً إلهیاً وکذا فیما تبلّغه عن الله تعالی، فالمراد بالآیة والآیات فی المقام الحجج الإلهیة من الأنبیاء والرسل والأصفیاء والأوصیاء، الذین أُسندت إلیهم المقامات الإلهیة.

والحاصل: إن هذه الآیات المبارکة تبیّن أن مفتاح أبواب سماء الحضرة الربوبیة الإقرار بالحجج والآیات والتوجّه إلیها والتوسّل والتشبّث بها والإنقطاع إلیها لا عنها، وأبرز وأعظم تلک الآیات النبیّ صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام، فهم مفاتیح أبواب السماء فی قبول وصعود التوبة والعبادة والمعرفة والإیمان والعقیدة ونیل المقامات، فلا ترتفع أی عبادة ولا ینال مقام ولا تتحقّق التوبة مع عدم التصدیق بالآیات وصلتها ومودّتها والتوجّه إلیها والتوسّل بها، والإعراض عنها یوجب حبط الأعمال وامتناع دخولهم الجنّة فی الآخرة(وَ لا یَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتّی یَلِجَ الْجَمَلُ فِی سَمِّ الْخِیاطِ) (أُولئِکَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِیها خالِدُونَ) ، فشرط النجاة یوم القیامة الارتباط بالآیات الإلهیّة

ص:414

والإنتماء إلیها والتوسّل بها، لکونها قنوات غیبیّة توجب القرب إلی الله تعالی.

فالتوسل شرط فی تفتّح الأبواب لقبول وصحّة الإیمان والتوبة وقبول الأعمال وسائر المقامات.

الدلیل العاشر: خضوع الملائکة لآدم علیه السلام

کلّ خلیفة الله الباب الأعظم لملائکته

لقد سبق ذکر الآیات التی تعرّضت لقصة آدم علیه السلام وأمر الملائکة کلّهم أجمعین بالسجود له، وقلنا إن الأمر بسجود الملائکة وخضوعهم وانقیادهم لیس خاصّاً بآدم علیه السلام، لأنها معادلة دائمة فی عالم الخلقة لکلّ من یتحلّی بمقام الخلافة الإلهیة، فمن یتحلّی بهذا المقام یطوع الله عزّ وجلّ له الملائکة ویدینون بأجمعهم لله تعالی بطاعته بما فیهم کبار الملائکة المقرّبین، وهم فی کلّ ما یقومون به من أدوار عظیمة فی عالم الإمکان والکون خاضعون لولیّ الله، وهو خضوع حقیقی قائم علی أساس العلوّ الرتبیّ التکوینی لخلیفة الله تعالی، وحینئذٍ یکون الأمر بالسجود والخضوع للخلیفة شامل للأنبیاء، وخصوصاً أولی العزم منهم کنوح وإبراهیم وموسی وعیسی والرسول الأکرم وأوصیائه علیهم السلام، فالملائکة المقرّبین وغیرهم بابهم إلی الله تعالی خلیفة الله الذی یُنبئهم بالأسماء والمقامات.

ثمّ إن الآیات والروایات ذکرت أن الملائکة عندما اعترضت علی جعل خلیفة الله فی الأرض وهو من ترک الأولی الناشئ من ضیق الأفق وعدم سعة العلم - آبت وتابت إلی الله عزّ وجلّ بالسجود لآدم علیه السلام.

ص:415

إذن سنّة الله للملائکة کدین هو الإقبال علی ولیّ الله، وهو شرط أوبتهم وقبول عبادتهم وحظوتهم بالمقامات العالیة.

ففی عالم الغیب الذی هو خال عن نشأة التشریع الأرضی، ولیس خالٍ عن الدین الإلهی، کما قال تعالی: (وَ لَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِی السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ)1 ، افتقرت الملائکة إلی أن یکون بینهم وبین الله تعالی واسطة فی الخضوع والإنباء والمعرفة والعبادة والتقرّب إلی الله تعالی، فما بالک بالنشآت الأخری؟! وإذا کان آدم أبو البشر نبیّ الملائکة وقناة الإنباء والفیوضات العلمیة وغیرها علیهم من الله تعالی، وهو ولیّهم وهم طائعون له لا یتمرّدون علیه ولا ینبغی لهم ذلک، فکیف بسیّد البشر؟! ألا تکون الملائکة منقادة وطائعة له؟!

ومن هنا تکون الملائکة مشمولة بقوله تعالی: (أَطِیعُوا اللّهَ وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِی الْأَمْرِ مِنْکُمْ)2 من غیر اختصاص بالنشأة الأرضیّة، وهذا لوحدة الدین وشموله لجمیع المخلوقات کما سیأتی لاحقاً بیانه.

فالخلیفة نبیّ الملائکة وله مقام إنبائهم وتعلیمهم؛ لأنه مزوّد بالعلم اللّدنی الأسمائی، فهو نبیّ المعارف وإن لم یکن نبیّ شریعة للناس فی الأرض.

والحاصل: إن المقامات التکوینیّة العالیة للملائکة لا یمکن أن تنال إلّابطاعة ولیّ الله والإقبال علیه والتوجّه إلیه وبه إلی الله تعالی.

أخذ میثاق ولایة أهل البیت علیهم السلام معرفة وتوسّلًا فی جمیع النشآت علی

ص:416

أصناف المخلوقات:

الدین الذی هو عند الله الإسلام لا یختصّ بنشأة من النشآت، بل الکلّ مکلّف بالطاعة لله والإسلام له فی أصول معالم دینه، قال تعالی: (أَ فَغَیْرَ دِینِ اللّهِ یَبْغُونَ وَ لَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِی السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ طَوْعاً وَ کَرْهاً وَ إِلَیْهِ یُرْجَعُونَ)1 ، ولذا کان الأمر بالسجود لآدم غیر خاصّ بالملائکة، بل شامل لکل النشآت ومن هنا عمّ الأمر إبلیس، لأن دین الله عزّ وجلّ وهو التسلیم دین جمیع المخلوقات، فالملائکة أیضاً مأمورة بالتوحید لله تعالی وطاعة ولیّ الله بالسجود له، وعلی هذا فکلّ ما یبیّن فی النصوص القرآنیة بأنه من أرکان الدین فقد أخذ علی جمیع الملائکة الإیمان به، ومن تلک الأرکان تولّی خلیفة الله والطاعة له.

وإذا عرفت ذلک یتّضح لک ما ورد فی الروایات من أن ولایة النبیّ صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام أُخذت من جمیع الملائکة وسائر الکائنات، وذلک لکونها من الدین غیر الخاص بنشأة من النشآت.

إذن فنبوّة خاتم الأنبیاء وولایة سیّد الأوصیاء لا تختصّ بالموجودات الأرضیة، وهذا یعنی أن الشهادة الثانیة والثالثة لم تؤخذ علی أهل هذه الدنیا فحسب، لأن الإنباء ونیل الفیوضات عموماً یحتاج إلی وجود خلیفة الله ولابدّ من التوجّه إلیه لنیل المقامات وقبول الطاعات فی جمیع النشآت؛ لأنه واسطة الله وسفیره بینه وبین خلقه فی کلّ المقامات العلمیة والتکوینیة.

ص:417

تأبید رسالة الرسول صلی الله علیه و آله ووساطته فی الوحی الإلهی لجمیع النشآت:

فمفاد الشهادة الثانیة والثالثة إقرار بالواسطة الأبدیة غیرالخاصة بالنشأة الأرضیة، وهذه هی تداعیات ومقتضیات الشهادة الثانیة والثالثة، التی لا یتمّ التوحید بدونها، ومن دونها لا یتحقّق قرب المخلوق إلی ربّه، ذلک المخلوق البعید عن مقامات الربوبیة وعظمة الصفات الإلهیة.

جحود التوسّل سنّة إبلیس فی الاستکبار:

ومن یأبی ذلک یحصل له العتوّ والاستکبار فی نفسه والتعظیم لها، مع أن نفسه صغیرة فقیرة بعیدة عن ساحة عظمة الصفات الإلهیة، فهی أی النفس - محتاجة إلی الواسطة والسفارة التی یتوجّه بها إلی الله تعالی، کما فی قوله تعالی:

(قالَ یا إِبْلِیسُ ما مَنَعَکَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِیَدَیَّ أَسْتَکْبَرْتَ أَمْ کُنْتَ مِنَ الْعالِینَ * قالَ أَنَا خَیْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِی مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِینٍ * قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّکَ رَجِیمٌ * وَ إِنَّ عَلَیْکَ لَعْنَتِی إِلی یَوْمِ الدِّینِ)1 .

ویتّضح أیضاً أن معطیات الشهادة الثانیة والثالثة ومؤداهما مرتبطة بالمعارف الدینیّة الأبدیّة الشاملة للملائکة والجنّ والإنس والبرزخ والجنّة والنار والآخرة، فضلًا عن النشأة الأرضیة، کذلک الوساطة والشهادة الثانیة والثالثة شاملة لعالم العقول والأرواح، ولذا نجد أن مجری الفیض فی تکامل عقول علماء هذه الأمة ومستویاتها العلمیّة فی الدین هو النبیّ صلی الله علیه و آله وأهل

ص:418

بیته علیهم السلام، حیث تمّ بجهودهم المبارکة تشیید المعارف الصحیحة ورفض الجبر والتفویض والتجسیم والتشبیه والتعطیل وغیرها من العقائد الفاسدة، فهم علیهم السلام وسائط الفیض وسفراء الأرواح والعقول.

وهذا بیان عقلی لمعطیات الشهادة الثانیة والشهادة الثالثة یُضاف إلی البیانات السابقة المعتمدة علی الآیات القرآنیة المبارکة.

والحاصل: إن شرطیة التوسّل فی المقامات الثلاث المذکورة تعمّ جمیع الأنبیاء والرسل وکلّ المخلوقات من الملائکة وغیرها.

ص:419

ص:420

الفصل الرابع: شبهات وردود

اشارة

الشبهة الأولی: التوسّل عبادة لغیر الله تعالی.

الشبهة الثانیة: التوسّل مناف لکلمة التوحید.

الشبهة الثالثة: التوسّل مناف للآیات القرآنیة

الشبهة الرابعة: الأعمال الصالحة هی الوسیلة.

الشبهة الخامسة: التوحید الإبراهیمی یأبی التوسّل بغیر الله.

الشبهة السادسة: التوسّل یعنی التفویض وعجز الله تعالی.

الشبهة السابعة: إیجاد المخلوقات الامکانیة کلّه ابداعیّ بلا واسطة.

شبهات وردود:

قبل الدخول فی بیان الشبهات والأجوبة التفصیلیة عنها لابدّ من التنبیه علی نقطة جدیرة بالإلتفات، وهی إننا لا نخطّئ قول أصحاب الشبهة فی تأثیر التوسّل ومدخلیته المباشرة فی العقیدة التوحیدیة، وذلک لأن فروع الدین الاعتقادیة، بل کلّ فروع الدین ترجع فی لبّها وجذرها إلی أصول الدین، فإن معنی کونها من فروع الدین أنها تنحدر وتنشعب وتتنزّل من

ص:421

الشجرة المبارکة الطیّبة لأصول الدین.

إذن فعبادة التوسّل توحیدیة، بمعنی أن لها عمقاً توحیدیاً وجذراً تنشعب منه یربطها بأصول الدین الکلّیة.

وهذا هو معنی أن التوحید لا یتمّ بکلمة(لا إله إلّاالله)، بل لابدّ من أدبیات ومعطیات الشهادة الثانیة لکی یتمّ التوحید.

والحاصل: إن المسألة لیست مرتبطة بصورة الفعل الذی یأتی به العبد، بل الأمر یعود إلی لبّ ذلک الفعل وجذره وهو التوحید، ولکن بعد أن أثبتنا ضرورة التوسّل فضلًا عن مشروعیته، بل شرطیته فی صحّة العقیدة والأعمال، یکون الأمر علی عکس ما ذکروه من أن التوسّل بغیر الله تعالی یوجب الکفر والخروج عن العقیدة التوحیدیة، بل نقول: إن ترک التوسّل والتوجّه یوجب الجحود والاستکبار والکفر والخروج عن عقیدة التوحید.

کذلک من الجدیر بالإلتفات أن ثبوت ضرورة التوسّل بآیات الله وکلماته من الأنبیاء والأولیاء والأوصیاء معناه ضرورة الإرتباط بکائن حیّ بشری یربطنا مع الحیّ القیوم، فلابدّ من استشعار ضرورة وجود نموذج بشری نرتبط به وله القدرة علی أن یکون حلقة الوصل بین الله عزّ وجلّ وبین عبیده، ولیس ذلک إلّا لعظمة الله تعالی وتنزّهه عن التشبیه والتجسیم والتعطیل.

وفی غیر هذه الصورة تکون جمیع المناسک العبادیة کمناسک الحجّ عبارة عن جمادات لا حیویة فیها، وهذا یعطی استشعاراً بأننا نعظّم أحجاراً جامدة لا حیویة فیها ولا تماسّ لها بالله الذی لا إله إلّاهو الحیّ القیوم.

ص:422

بعد هذا البیان الموجز نقول:

إن المنکرین لمشروعیة التوسّل استدلّوا علی دعواهم ببعض الأدلّة، وهی بعد بیان ما هو الحقّ فی المسألة وأن التوسّل ضرورة لابدّ منها تکون شبهات وتلبیسات لابدّ من الإجابة عنها، وهذه عمدتها:

شبهات المنکرین لجواز التوسّل:
الشبهة الأولی: التوسّل عبادة لغیر الله تعالی:
اشارة

إن الدعاء عبارة عن النداء وطلب الحاجة، ولا شک أن الدعاء عبادة للمدعو؛ لأن الدعاء فیه نوع من التوجّه والقصد والنیّة، وهذه الأمور هی روح العبادة وقوامها، ولذا ورد فی الحدیث«أن الدعاء مخ العبادة وجوهرها».

وبالتالی یکون دعاء غیر الله تعالی وندبته وطلب الحاجة منه عبادة له، وهو من أوضح أنواع الشرک فی العبادة.

ویعبّر عنه بالشرک الصریح أو الشرک الأکبر، الذی یوجب الرّدة والارتداد عن الدین والمنافاة لأولیّات الدین الاسلامی، والخروج عن المواثیق والعهود التی التزم بها الشخص بالتزامه وتشهّده الشهادتین.

مع العلم أن جمیع طقوس العبادة لا تبلغ درجة الدعاء الذی هو قوام حقیقة العبودیة، وهو نوع افتقار إلی الباری تعالی.

والحاصل: إن الدعاء والنداء وطلب الحوائج من غیر الله تعالی من

ص:423

أغلظ أنواع العبادة والتألیه للشخص المدعو، وهو عبارة عن الشرک الصریح أو الأکبر.

الجواب عن الشبهة الأولی:

کان خلاصة الشبهة هو أن الدعاء والنداء وطلب الحاجة عبادة لا تجوز لغیر الله تعالی.

والجواب عن هذه الشبهة اتضح ضمناً سابقاً فی بیان ما هو الحقّ فی المسألة، وأن الدعاء بمعنی النداء، والطلب إنما یکون عبادة للمدعو إذا اعتقد الداعی أن المدعو مستقل بالقدرة غنی بالذات، وأما إذا اعتقد الداعی أن المدعو لا یستقل بالقدرة، بل یستمد القدرة من الباری تعالی وأن الحول والقدرة التی لدیه هی من الباری تعالی وأن المدعو إنما حصل علیها لمکان حظوته وقربه عند الباری وأن الداعی إنما یدعوه نظراً لقربه ووجاهته من الباری وأن تکریم الله له بالقرب والوجاهة حفاوة منه تعالی وإذن منه للاستشفاع والتوسّل والتوجّه به إلیه عزّوجلّ، فإن دعاء ذلک الغیر یعدّ حینئذٍ توجّهاً وقصداً إلی الحضرة الإلهیة، لأن قصد القریب من الحضرة الإلهیة قصد للحضرة، کما أن الصدّ والإعراض عن القریب ابتعاد عن الحضرة الإلهیة، فدعاء ذلک الغیر هو دعاء لله بآیاته العظیمة ودعاء له بأسمائه الحسنی التی یظهر بها.

وینقض أیضاً علی هذه الشبهة بطلب الحیّ الحاجة من الحیّ، مثل طلب العلاج من الطبیب، وطلب البناء من البنّاء، واصلاح الزراعة من الزرّاع، فإنه لا ریب فی عدم توقّف أحد من المسلمین، بل ولا من البشر عموماً فی

ص:424

ذلک.

ولم یقل أحد أن ذلک یوجب کفراً أو زندقة أو شرکاً، والحال إنه علی مقتضی کلامهم لابدّ أن یکون ذلک کفراً وشرکاً؛ لأن الحدّ الذی ذکروه لبیان معنی الشرک ینطبق علی نداء الحیّ للحیّ وطلب الحیّ الحاجة من الحیّ واستغاثته به، کما فی قوله تعالی: (فَاسْتَغاثَهُ الَّذِی مِنْ شِیعَتِهِ)1 وکذا فی التوسّل والتشفّع وتوسیط الحیّ للحیّ، فإنه لم یدّع أحد أن ذلک من الشرک والکفر، مع أن حدّ الشرک الذی زعموه ینطبق علیه تماماً.

لا سیما وأن هذه المباحث من المباحث العقلیة التکوینیة وهی لا تقبل التخصیص، بخلاف المباحث الاعتباریة الجعلیة التی قد لا تکون مطّردة فی جمیع المصادیق.

ثم إن أصحاب هذه المقالة حاولوا أن یجیبوا عن هذا النقض بجوابین:

الأول: إن سؤال الحیّ الحاضر بما یقدر علیه والاستعانة به فی الأمور الحسّیة التی یقدر علیها لیس ذلک من الشرک، بل من الأمور العادیة الحیاتیة الجائزة بین المسلمین.

الثانی: إن الأمور العادیة والأسباب الحسّیة التی یقدر علیها المخلوق الحیّ الحاضر لیست من العبادة، بل تجوز بالنصّ والاجماع، بأن یستعین الإنسان بالإنسان الحیّ القادر فی الأمور العادیة، التی یقدر علیها کأن یستعین به أو یستغیث به فی دفع شرٍ ولده أو خادمه أو کلبه، وما أشبه ذلک،

ص:425

وکأن یستعین الانسان بالانسان الحیّ الحاضر القادر أو الغائب بواسطة الأسباب الحسّیة، کالمکاتبة ونحوها فی بناء بیته أو إصلاح سیارته أو ما أشبه ذلک، ومن ذلک الاستغاثة التی جرت لأحد بنی إسرائیل عندما استغاث بموسی علیه السلام فی قوله تعالی: (فَاسْتَغاثَهُ الَّذِی مِنْ شِیعَتِهِ عَلَی الَّذِی مِنْ عَدُوِّهِ)1 ، وکذا استغاثه الانسان بأصحابه فی الجهاد أو الحرب أو نحو ذلک، وأما الاستغاثة بالأموات والجنّ والملائکة والأشجار والأحجار فذلک من الشرک الأکبر، وهو من جنس عمل المشرکین الأوّلین مع آلهتهم کاللّات والعزّی وغیرهما.

دفع الجوابین: جحود التوسّل یستند إلی التفویض:

أما الجواب الأول: فالوهن فیه واضح؛ لأنه یقول الاستعانة بالانسان الحیّ القادر علی الأمور العادیة الحسّیة لیس من الشرک، وکونه حیّاً أو میّتاً لا یؤثّر فی تحقّق الغیریة مع الله عزّ وجلّ، والشرک - بحسب زعمهم - قائم بالغیریّة مع الله تعالی، والغیریّة لغة وعقلًا لا تختلف سواء جعل مصداق الغیر والغیریّة الحیّ أو المیّت، فإن أحد الأجزاء المقوّمة لحصول الشرک کما ذکروا هو ضمّ غیر الله تعالی إلیه، وهذا لا یختلف فی تحقّقه سواء کان الغیر حیّاً أو میّتاً، فالتفریق بلا فارق.

وأما ما ذکروه من التعلّق بالقادر، حیث قیّد الجواب بالقادر، فنقول فیه: إن کانت القدرة التی یعتقدها للحیّ نابعة من ذاته بلحاظ الاستقلال لا

ص:426

من إقدار الله عزّ وجلّ وتمکینه فهو الشرک الأکبر، وقد کرّ هذا المجیب علی ما فرّ منه.

وأما إن کان یعتقد أن هذه القدرة من الله تعالی ومضافة إلی المخلوق من قبل الخالق فأی فرق بین الحیّ والمیت؟! فکما قد یُقدر تعالی الحیّ یُقدر روح المیّت علی ما أقدر علیه الحیّ.

ثم إنه لا معنی للتفریق أیضاً بین الاستعانة بالأمور العادیة وغیرها، فهل إن قدرة الله تعالی تنحسر فی الأمور العادیة والحسّیة ویکون هناک ندّ فیها لقدرة الربّ عزّ وجلّ وهی قدرة الحیّ الحاضر؟! فإن هذا هو القول بالثنویة، ومعناه أنه فی الأمور غیر العادیة لابدّ من التوحید بقدرة الربّ فیها وأما فی الأمور العادیة فنؤمن بالثنویة.

وحیث أن الثنویة باطلة وشرک صریح فلابدّ من التوحید فی جمیع الأفعال الإلهیة، وأنها کلّها تستند من دون جبر إلی الباری عزّ وجلّ، من دون أی درجة من درجات التفویض، وحینئذٍ یستوی الحال فی الأمور العادیة والأمور غیر العادیة.

جحود التوسّل یستند إلی المذاهب الحسیّة المادیة:

ثم ما هو الفرق فی التوسّل فی شفاء مریض علی ید طبیب نادرة زمانة وبین التوسّل بأحد أولیاء الله تعالی فی الشفاء؟!

فإن مورد الحاجة فی هذا المثال عادی، فهل الکلام فی مورد الحاجة وأنه لابدّ أن یکون من الأمور العادیة أو فی السبب المتوسل به؟ وما هو الفرق فی

ص:427

السبب بین العادی وغیر العادی إذا کان الأمر بید الله تعالی وهو علی کلّ شیء قدیر؟!

مع أن الأدلّة الشرعیة والدراسات الحدیثة العلمیة أثبتت أن طاقات البدن البرزخی لا تقاس بطاقات بدننا المادّی وقدرته، وأن البدن البرزخی یحتوی علی طاقات هائلة تفوق قدرة أبداننا المادّیة بکثیر جدّاً، وعلیه کیف نتصور أن الحیّ قادر علی قضاء الحوائج بما لا قدرة للمیت علیه بروحه وبدنه البرزخی؟!

أضف إلی ذلک کلّه أن تقیید الاستعانة والتوسّل بالأمور الحسّیة ناشی من الایمان بأصالة الحسّ والمادّة والتنکّر للعوالم المخلوقة الأخری التی ما وراء الحسّ والمادّة، وأن کلّ ما غاب عن الحسّ ینکر، وهذا الکلام أشبه بالفلسفات المادّیة الحسّیة، التی آمنت بأضعف العوالم وأدنی المراتب الوجودیة وتنکّرت لبقیّة العوالم العلویة.

هذا بالنسبة إلی دفع الجواب الأول.

تفصیل الجاحدین للتوسّل فی الوسائط:

وأما الجواب الثانی: إن صاحب الشبهة بعد أن استشعر أن الجواب الأوّل غیر موزون من الناحیة العقلیة تشبّث بالنصّ والإجماع وأن توسّل وتشفّع الحیّ بالحیّ فی الأمور العادیة الحسّیة جائزة بالنصّ والإجماع، وأما الاستغاثة والتوسّل بالأموات فهو من جنس عمل الوثنیة.

والتمسّک بالدلیل النقلی فی المقام، سواء فی جانب الجواز أو النفی غیر

ص:428

تام من وجوه:

الأول: إن بحث الشرک بحث عقلی لا سیما فی الشرک الأکبر، فهو من أولیّات العقیدة التی للعقل فیها دور ومجال واسع، وإذا کان عقلیاً یرد علیه ما ورد فی الدفع الأول، من أن حکم العقل وانطباق حدّ الشرک علی الحیّ الحاضر والمیّت سواء.

الثانی: الاستدلال علی التحریم بأن الطلب من الأموات من جنس عمل الوثنیین، تمسّکاً بعموم دلیل التحریم، مع أن موضوعه ومصبّه ما لم یأذن به الله عزّ وجلّ، إذ سبق أن محطّ ومصبّ انکار العقیدة الوثنیة فی القرآن الکریم هو التوجّه إلی ما لم یأذن به الله تعالی ولم ینزل به سلطاناً، وکونه تحکیماً لسلطان العبید وإرادتهم علی سلطان الله وإرادته، ولم یکن المحذور فی أصل الوساطة، وسبق أیضاً أن الله علیّ حکیم، متعال عن الجسمیة والتجسیم وحکیم غیر معطّل، فلابدّ من الوسائط والحجج، والعبادة إنما تتحقّق بالطوعانیة لله تعالی وإن کان التوجّه بالفعل إلی الحجر کالتوجّه إلی الکعبة الشریفة، والشرک إنما یتحقّق بالاستکبار علی الله تعالی حتّی مع نفی الواسطة کما فی إبلیس.

الثالث: إذا کان توسیط غیر الله تعالی شرکاً، فکیف یعقل تجویزه بالنصّ؟! فإن الله عزّ وجلّ لا یأمر بالشرک.

وهذا یعنی أن توسیط الغیر بحدّ ذاته لیس شرکاً، فإذا جازت الاستغاثة بالحیّ لقیام النص والاجماع، أی الإذن الشرعی، فلا فرق إذن فی الاستغاثة بین الحیّ والمیّت ما دام المجوّز لذلک هو الإذن، إذ یتّضح أن المدار

ص:429

فی الشرک لیس علی الغیریة مع الله تعالی کما فرضه القائل، بل علی الإذن وعدمه وعلی وجود الأمر وعدمه، وقد أذن الله عزّ وجلّ بذلک فی کثیر من الآیات القرآنیة، کما تقدّم فی قصة آدم وغیرها.

الشبهة الثانیة: التوسّل خلاف کلمة التوحید:

إن التوجّه والقصد والدعاء والنداء لغیر الله عزّ وجلّ ینافی مقتضی کلمة التوحید، وهی قول(لا إله إلّاالله).

بیان ذلک:

اختلف المفسّرون فی بیان قول(لا إله إلّاالله):

فهل المراد من تلک الکلمة المبارکة التوحید فی الذات أو التوحید فی الصفات والأسماء أو التوحید فی الأفعال أو التوحید فی الخضوع والعبادة؟

وهذا الاختلاف ناشئ من الاختلاف فی تفسیر معنی الألوهیة(لا إله) وتفسیر معنی لفظة(الله).

فهل اسم الجلالة علم للذات أو هو اسم مشتقّ من التألیه؟

فإن کان مشتقّاً من التألیه وباقٍ علی المعنی الوصفیّ حینئذٍ یکون المعنیان متحدّین أو متقاربین.

وأما إذا کان لفظ الجلالة فی الأصل علماً للذات فیکون علی خلاف المعنی الأول وهو الألوهیة والتألیه فی مقطع(لا إله).

وکیفما کان؛ فإن لفظ(إله) الذی جاء فی کلمة التوحید معناه فی اللغة

ص:430

من أله یأله إذا تحیّر، ومعنی ولاه أن الخلق یولهون إلیه فی حوائجهم ویضرعون إلیه فیما یصیبهم، ویفزعون إلیه فی کلّ ما ینوبهم، کما یوله کلّ طفل إلی أمه(1).

إذاً فالمعنی اللغوی یتضمّن طلب الشیء والتوجّه نحوه.

وأما الإله فی الاصطلاح:

فقد اختلفوا فی بیان معناه؛ فبعض قال: هو بمعنی الاتجاه والقصد، وبعض آخر فسّره بالحبّ والعشق، وثالث قال: وله یأله من عبد یعبد، ورابع قال: وله یأله بمعنی اتخذه ربّاً وخالقاً، وغیر ذلک من المعانی التی ذکرت لمعنی(إله).

ولکن اتفقوا علی أن التألیه فعل المخلوق، فأله ووله إنما یحکی شأن المخلوق وهو التوحید فی العبادة، وأما توحید الذات أو الصفات أو الأفعال فإنما هو مرتبط بالواقعیة ونفس الأمر، وأن هناک ذات واجبة قیّومة غنیة الذات لها الأسماء الحسنی والکلمات التامّة وهذا کلّه غیر مرتبط بفعل المخلوقات.

ولذلک یقال إن کلمة(لا إله إلا الله) تختلف عن التعبیر ب(یامن لا هو إلّاهو)، فإن مفاد هذه العبارة غیر مرتبط بفعل العبد، بل هو إخبار عن نفی أی ذات مستقلة واجبة الوجود إلّاذات الله عزّ وجلّ.

ولکن عندما نقول: (لا إله إلا الله) فإن التألیه فیه مادّة مأخوذة من فعل العبد ولیس هو وصفاً أو معنیً قائم بذات واجب الوجود.

ومن ثم یقال إن النبیّ صلی الله علیه و آله بعث بکلمة(لا إله إلّاالله) ولم یبعث ب(یا

ص:431


1- (1) لسان العرب: ج 13 ص 467.

من لا هو إلّا هو)، إذ أن هذا توحید الذات، والبشریّة قد أقرّته واعتقدت به، وهی الآن فی خطیً متقدّمة من التوحید الأفعالی والتوحید فی العبودیة.

والخلاف فی زمن البعثة مع المشرکین لیس فی توحید الذات، بل فی توحید العبودیة وتوحید الدعاء والطلب والتوسّل والتوجّه أو فی توحید الأفعال باسنادها إلی الله عزّ وجلّ.

فالنبیّ صلی الله علیه و آله بُعث بالتوحید فی الألوهیة والعبادة والخضوع والخشیة والوله والتوجّه، فلابدّ من ترک الدعاء والتوسّل والعبادة لغیر الله تعالی، وهو ما کان علیه مشرکی العرب.

والحاصل: أن معنی الشرک الذی حاربه الاسلام بکلمة التوحید هو جعل أنداد لله تعالی یستغاث ویتوسل بهم، فالتوسل جاهلیة جدیدة استُبدلت بالجاهلیة القدیمة.

الجواب عن الشبهة الثانیة:

کان حاصل هذه الشبهة هو أن مقتضی قول: (لا إله إلّاالله) هو التوحید فی العبادة، فإذا دعی غیر الله عزّ وجلّ کان هذا نوعاً من العبادة والتألیه لغیر الله عزّ وجلّ.

والجواب عن هذه الشبهة اتضح مما ذکرناه فی الدلیل العام وکذلک ما ذکرنا من الجواب علی الشبهة الأولی، وحاصله: أن التوسّل بالوسائط الإلهیة التی أمر الله عزّ وجلّ بالتوجّه إلیها هی عبادة لله تعالی وطاعة وانصیاعاً لأوامره ولیس هو عبادة للوسائط، بل قلنا إن التوسّل طوعانیة للأوامر

ص:432

الإلهیة وهو عین التوحید التام، فالتوسل مقتضی التوحید فی العبادة وجحوده وإباؤه هو الاستکبار والکفر المنافی لکلمة التوحید، ونبذ التوسّل جاهلیة إبلیس الذی أبی واستکبر وکان من الکافرین، فالتوسّل بالوسیلة المنصوبة لله تعالی هو قصد لله والصدّ عن تلک الوسیلة صدّ عن التوجّه إلیه تعالی؛ لأن المفروض أن تلک الوسیلة والآیة والکلمة هی علامة یُهتدی بها إلیه تعالی، وتفتّح بها أبواب سماء الحضرة الإلهیة، والعلامة سمة ووسم وإسم إلهی یُدعی به، بل إن قول القائل التوسّل بالله معنی مقلوب غیر صحیح، فإنّ الباری تعالی لا یجعل وسیلة إلی غیره؛ إذ لیس وراء الله منتهی ولا غایة کی یجعل هو تعالی واسطة إلیها، بل هو غایة الغایات، وإلی شموخ عظمته توسّط الوسائط ویتوسّل بالوسائل، وقد تقدّم أن الاعتقاد بضرورة الواسطة والوسیلة إلی الله تعالی هو حاقّ حقیقة تعظیم الله وتنزیهه، ولم ینکر القرآن علی المشرکین هذه العقیدة، وهی ضرورة الحاجة إلی الوسیلة بین العبید وخالقهم؛ لیقتربوا من خالقهم، لضرورة الحاجة إلی التقرّب والنجاة من البعد من جهة العبید، وإن کان الباری تعالی قریب من کل مخلوقاته علی السواء، إلّاأن مخلوقاته لیست فی القرب منه علی استواء ولا فی القرب من عظمته ونوره وعلمه وقدرته علی سواسیة، فضرورة الحاجة إلی الوسیلة والقیام بالتقرب ضرورة نابعة من العبودیة والفقر إلی الغنی المطلق، وهذا ما لم ینکره القرآن علی المشرکین، کیف وهی عین التوحید والتعظیم، بل إنما أنکر علیهم اتخاذ الوسائل والوسائط من قبل أنفسهم ومن قرائحهم ومن فرض إرادتهم فی تعیین الوسیلة علی إرادة الله، وهی من تکبّر المعبود علی العابد، فالإنکار علیهم نشأ من کونهم توسّلوا بوسائل وأسماء ما أنزل الله بها

ص:433

من سلطان، ومن ذلک یکون الجاحدون لضرورة التوسّل بالوسائط المنصوبة من قبله تعالی أشدّ جاهلیة من المشرکین؛ لأنهم لا یرجون لله وقاراً ولا تعظیماً، فیجعلون الباری تعالی منالًا تحت أیدیهم، لأن إنکار الحاجة إلی الوسیلة والوسائل هو إنکار لعظمة الله وکبریائه وعلوّ شأنه ورفعته وعزّته وجبروته وکینونته بالأفق الأعلی، فی حین قاهریته تعالی وهیمنته علی تمام مخلوقاته وأنه خبیر بصیر، إلّاأن الحال من ناحیة المخلوق تجاه الخالق هو بُعد المخلوق عن معرفة خالقه وبعده عن مقام الزلفی لباریه وکذا بعده عن حظوة الکرامة عند خالقه، وبعده عن استحقاق الإجابة والمنّ والتفضّل الإلهی، بعد کون المخلوق فی حُجب التقصیر والقصور والجهل والجهالة، مما یستحق بها الطرد لا القرب والإبعاد لا الدنو والعقوبة لا الثواب والحرمان لا الإنعام، فکل هذه الحجب المانعة عن القرب یزیلها العبد بوجاهة الوسیلة عند الربّ العظیم، لا سیّما وأن اللجوء إلی الوسیلة التی هی آیة للربّ المتعال هو لُجأ إلی الجناب الإلهی، وتعظیمها تعظیم للفعل الإلهی وزیادة خضوع للربّ بالخضوع إلی ما هو بمنزلة صفاته فی مقام الفعل فضلًا عن مقام ذات عزّه تعالی.

الشبهة الثالثة: التوسّل مخالف للآیات القرآنیة:
اشارة

حاول أصحاب هذه الشبه الاستناد إلی بعض الآیات القرآنیة، وادّعوا أنها تدلّ علی أن التوسّل والقصد لا یکون إلّالله عزّ وجلّ، وأن التوسّل بغیره شرک وإلحاد، منها الآیات التالیة:

1 - قوله تعالی: (وَ لِلّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنی فَادْعُوهُ بِها وَ ذَرُوا الَّذِینَ یُلْحِدُونَ فِی)

ص:434

(أَسْمائِهِ سَیُجْزَوْنَ ما کانُوا یَعْمَلُونَ)1 .

فقوله تعالی: («فَادْعُوهُ بِها») معناه أنه فی مقام الدعاء والتوجّه لا یُدعی إلّا بأسماء الله عزّ وجلّ، وأما غیر الأسماء الإلهیة فیشملها قوله تعالی: («وَ ذَرُوا الَّذِینَ یُلْحِدُونَ فِی أَسْمائِهِ») أی ینحرفون عنها إلی أسماء المخلوقات، کقول القائل: یا محمّد ویا علیّ ویا فاطمة، فإن هذا - بحسب زعمهم - انحراف وإلحاد فی أسماء الباری تعالی.

2 - قوله تعالی: (وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَداً)2 .

3 - قوله تعالی: (وَ لا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا یَنْفَعُکَ وَ لا یَضُرُّکَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّکَ إِذاً مِنَ الظّالِمِینَ)3 .

4 - قوله تعالی: (ذلِکَ بِأَنَّ اللّهَ هُوَ الْحَقُّ وَ أَنَّ ما یَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَ أَنَّ اللّهَ هُوَ الْعَلِیُّ الْکَبِیرُ)4 .

5 - قوله تعالی: (قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّی وَ لا أُشْرِکُ بِهِ أَحَداً)5 .

هذه الآیات المبارکة لسانها واحد واستدلالهم بها قریب من الاستدلال بالآیة الأولی، حیث أن هذه الآیات القرآنیة تنهی عن أن یدعو الإنسان مع الله أحداً، أی لا یعبد مع الله مخلوقاً من المخلوقات، وإذا کان الدعاء روح

ص:435

العبادة وقوامها فسوف یکون منهیّاً عنه بمقتضی صریح هذه الآیات الکریمة؛ لکونه من الشرک الصریح.

6 - قوله تعالی: (وَ مَا النَّصْرُ إِلاّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ الْعَزِیزِ الْحَکِیمِ)1 .

7 - قوله تعالی: (إِنْ یَنْصُرْکُمُ اللّهُ فَلا غالِبَ لَکُمْ وَ إِنْ یَخْذُلْکُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِی یَنْصُرُکُمْ مِنْ بَعْدِهِ)2 .

وهذا اللسان من الآیات القرآنیة یؤکّد علی أن التوجّه إلی الغیر بغیة الاستنصار به شرک ومغالاة یوجب الخذلان الإلهی.

8 - قوله تعالی: (وَ یَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا یَضُرُّهُمْ وَ لا یَنْفَعُهُمْ وَ یَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللّهِ)3 .

9 - قوله تعالی: (وَ الَّذِینَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِیاءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِیُقَرِّبُونا إِلَی اللّهِ زُلْفی)4 .

فهاتان الآیتان دلّتا علی وجوب نبذ مقالة المشرکین الذین جعلوا أصنامهم شرکاء فی الدعاء والتوسّل والتقرّب والتشفّع والوساطة بینهم وبین الله عزّ وجلّ، والإسلام جاء لکسر مثل هذه الأصنام وإبطال عقیدة الصنمیة والوثنیة والمغالاة والتشفّع والتوسّل بغیر الله تعالی، وهو ما ابتلی به مشرکو العرب، إذ لم یکن شرکهم فی ذات الله تعالی أو صفاته، بل کان

ص:436

شرکهم شرکاً فی العبادة والدعاء والاستغاثة والتوسّل.

فیُعلم من هذه الآیات أن التوحید فی العبادة والدعاء والاستغاثة والتوسّل أساس الدین، وهدف الرسالة الإسلامیة الخاتمة، وذلک لأن صحة الأعمال والنسک العبادیة مشروطة بصحّة العقیدة، فمن یعمل ویعبد وکان فی معتقده الدینیّ شیء من الغلو والصنمیة للأشخاص یحبط عمله کلّه، ویستدلّون لذلک بقوله تعالی: (لَئِنْ أَشْرَکْتَ لَیَحْبَطَنَّ عَمَلُکَ وَ لَتَکُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِینَ)1 ، وقوله تعالی: (وَ لَوْ أَشْرَکُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما کانُوا یَعْمَلُونَ)2 ، فصحّة العقیدة بالتوحید شرطاً فی صحة وقبول الأعمال، ولابدّ حینئذٍ من نبذ کلّ ما یوجب الشرک وبطلان العقیدة، کالتشفّع والتوسّل بغیر الله تعالی.

الجواب عن الشبهة الثالثة:

الشبهة الثالثة عبارة عن تمسّکهم ببعض الآیات القرآنیة التی زعموا أنها تنهی عن التوجّه والقصد إلی غیر الله عزّ وجلّ منها:

قوله تعالی: (وَ لِلّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنی فَادْعُوهُ بِها وَ ذَرُوا الَّذِینَ یُلْحِدُونَ فِی أَسْمائِهِ)3 ، فلا یجوز التوسّل والدعاء بغیر الأسماء الحسنی التی جاءت فی قوله تعالی: (قُلِ ادْعُوا اللّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَیًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنی)4 .

ص:437

إذن لابدّ من التوحید فی الدعاء الذی هو مخّ العبادة ولا یجوز القصد والتوجّه فی الدعاء إلی غیر الله عزّ وجلّ وأسمائه الحسنی؛ لأنه شرک وإلحاد بالأسماء الإلهیة.

الجواب الأول: حقیقة الأسماء الالهیة مستند للتوسّل:

فی البدء لابدّ من الإجابة عن التساؤل التالی:

ما هو المراد من الأسماء الإلهیة الواردة فی الآیات المبارکة؟

الاسم فی اللغة عبارة عن السّمة والعلامة.

قال ابن منظور: (واسم الشیء علامته).

(قال أبو العباس: الاسم وسمة توضع علی الشیء یُعرف به، قال ابن سیدة: والاسم اللفظ الموضوع علی الجوهر أو العرض لتفصل به بعضه عن بعض، کقولک مبتدئاً: اسم هذا کذا).

(قال أبو إسحاق: إنما جعل الاسم تنویهاً بالدلالة علی المعنی) (1). إذن اسم الشیء سمته وعلامته وصفته الدالّة علیه.

والأسماء والصفات تنقسم إلی ذاتیة وفعلیة، فللّه تعالی أسماء وصفات ذاتیة هی عین ذاته غیر زائدة علیها، وله عزّ وجلّ أسماء وصفات فعلیة هی عین فعله.

فالقدرة والعلم والحیاة صفات ذاتیة یُشتقّ منها القادر والعالم والحیّ،

ص:438


1- (1) لسان العرب: ج 14 ص 401-403.

وهی أسماء ذاتیة غیر زائدة علی الذات الإلهیة المقدّسة.

والخلق والرزق والتدبیر والربوبیة والحکم والعدل وغیرها صفات فعلیة یشتقّ منها أسماء فعلیة، هی الخالق والرازق والمدبّر والربّ والحکم والعدل، ولا ریب أن الأسماء الفعلیة غیر الذات ولیست عینها مخلوقة لها مشتقّة من أفعاله عزّ وجلّ.

ولا ریب أیضاً أن جملة وافرة من الأسماء الإلهیة هی أسماء فعلیة مشتقّة من أفعاله ومخلوقاته تعالی.

والمخلوق یکون اسماً لله عزّ وجلّ بملاحظة صدوره من خالقه وأنه فقیر له متقوّم به لیس له من نفسه شیء، دالّ بسبب افتقاره بما فیه من کمال علی کمال خالقه وباریه، فهو سمة وعلامة علی صانعه، وما فیه من عظمة وحکمة دالّة علی عظمة وحکمة الخالق؛ إذ لیس له من ذاته إلّاالفقر والاحتیاج.

الجواب الثانی: الکلمة والآیة:

إن الکلمة والآیة مع الاسم متقاربة المعنی متّحدة المضمون، فهی وإن لم تکن ألفاظاً مترادفة، إلّاأن مضمونها والمراد منها فی اللغة وفی القرآن الکریم واحد، وهو الدلالة علی الشیء والعلامّیة والمرآتیة له.

ففی لسان العرب:

(الآیة العلامة) (وأیّا آیة: وضع علامة).

وفیه أیضاً: (وقال ابن حمزة: الآیة فی القرآن کأنها العلامة التی یفضی

ص:439

منها إلی غیرها کأعلام الطریق المنصوبة للهدایة) (1).

کذلک قال فی اللسان:

(کلمات الله أی کلامه وهو صفته وصفاته) (2).

أضف إلی ذلک أن الکلمة فی حقیقتها دالّة علی مراد المتکلم وکاشفة عنه.

إذن الأسماء والآیات والکلمات فی شطر وافر منها عبارة عن مخلوقات دالّة بوجودها علی وجود صانعها، ودالّة بعظمتها واتقانها وهادفیتها علی عظمة وقدرة وحکمة الباری عزّ وجلّ، ومن ثمّ یکون کلّ مخلوق إسماً من أسماء الله تعالی وآیة من آیاته وکلمة من کلماته، ولکن الأسماء والآیات والکلمات علی درجات فی الصغر والکبر، فکلّما کان الاسم أعظم والآیة أکبر، لما أعطیت من المقامات والکرامات الإلهیة کلّما کانت آیتیّة ذلک المخلوق وإسمیته أعظم، لا سیما المخلوق الأول وهو نور النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام.

وقد ورد هذا الاستعمال فی القرآن الکریم فی موارد کثیرة جدّاً، منها:

1 - قوله تعالی: (وَ جَعَلْنَا ابْنَ مَرْیَمَ وَ أُمَّهُ آیَةً)3 .

2 - قوله تعالی: (وَ الَّتِی أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِیها مِنْ رُوحِنا وَ جَعَلْناها وَ ابْنَها آیَةً لِلْعالَمِینَ)4 .

ص:440


1- (1) لسان العرب: ج 4 ص 61-62.
2- (2) لسان العرب: ج 12 ص 522.

3 - قوله تعالی: (إِذْ قالَتِ الْمَلائِکَةُ یا مَرْیَمُ إِنَّ اللّهَ یُبَشِّرُکِ بِکَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِیحُ عِیسَی ابْنُ مَرْیَمَ وَجِیهاً فِی الدُّنْیا وَ الْآخِرَةِ وَ مِنَ الْمُقَرَّبِینَ)1 .

4 - قوله تعالی: (إِنَّمَا الْمَسِیحُ عِیسَی ابْنُ مَرْیَمَ رَسُولُ اللّهِ وَ کَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلی مَرْیَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ)2 .

5 - قوله تعالی: (هُنالِکَ دَعا زَکَرِیّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِی مِنْ لَدُنْکَ ذُرِّیَّةً طَیِّبَةً إِنَّکَ سَمِیعُ الدُّعاءِ * فَنادَتْهُ الْمَلائِکَةُ وَ هُوَ قائِمٌ یُصَلِّی فِی الْمِحْرابِ أَنَّ اللّهَ یُبَشِّرُکَ بِیَحْیی مُصَدِّقاً بِکَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ وَ سَیِّداً وَ حَصُوراً وَ نَبِیًّا مِنَ الصّالِحِینَ)3 .

فقد أطلق فی هذه الآیات المبارکة علی مریم علیهاالسلام أنها آیة، وعلی عیسی علیه السلام أنه کلمة الله وآیته للعالمین.

6 - قوله تعالی: (وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ کُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَی الْمَلائِکَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِی بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ کُنْتُمْ صادِقِینَ)4 .

7 - قوله تعالی: (فَتَلَقّی آدَمُ مِنْ رَبِّهِ کَلِماتٍ فَتابَ عَلَیْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوّابُ الرَّحِیمُ)5 .

8 - قوله تعالی: (وَ إِذِ ابْتَلی إِبْراهِیمَ رَبُّهُ بِکَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّی جاعِلُکَ)

ص:441

(لِلنّاسِ إِماماً)1 .

9 - (وَ تَمَّتْ کَلِمَةُ رَبِّکَ صِدْقاً وَ عَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِکَلِماتِهِ)2 .

فإن هذه المخلوقات العظیمة عند الله عزّ وجلّ أسماء وآیات وکلمات وعلامات لله تعالی، وحینئذٍ تکون مشمولة لإطلاق قوله تعالی: (وَ لِلّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنی فَادْعُوهُ بِها وَ ذَرُوا الَّذِینَ یُلْحِدُونَ فِی أَسْمائِهِ)3 فهذه الآیة المبارکة وغیرها، التی ذکروها للتدلیل علی مدّعاهم لا تعنی النهی عن التوجّه إلی الله عزّ وجلّ بالوسائط، بل هی توجب وتعیّن التوجّه إلی الله تعالی بأعاظم مخلوقاته وأسمائه الفعلیة.

إذن لیست الآیة المبارکة غیر صالحة للاستدلال بها علی مدّعاهم فحسب، بل هی تحکمهم وتدینهم بالإلحاد عن أسمائه وتنصّ علی ضرورة توسیط الأسماء الإلهیة والمخلوقات الوجیهة عند الله تعالی، ولابدّ من عدم الالحاد فیها والاعراض عنها فی الدعاء.

لکن لابدّ من الالتفات إلی أن النظرة إلی الوسائط لابد أن لا تکون نظرة استقلالیة وموضوعیة وبما هی هی، بل لابدّ أن تکون نظرة آلیة حرفیة آیتیّة، أی بما هی یُنظر بها إلی الله تعالی، فالتوجّه بها لا إلیها بما هی هی.

وبناء علی ذلک یکون التعاطی مع الأسماء والآیات والوسائط علی ثلاثة مناهج:

ص:442

الأول: منهج إبلیس وهو رفض وساطة الآیات والأسماء والمخلوقات الوجیهة عند الله عزّ وجلّ وإنکارها والإلحاد بها والصدّ عنها، وهذا شرّ المناهج، وهو الکفر والحجاب الأعظم؛ إذ مع الالحاد فی تلک المخلوقات العظیمة والأسماء الإلهیة لا یمکن التوجّه والزلفی إلی الله عزّ وجلّ؛ لأنه لیس بجسم وهو حقیقة الحقائق والمقوّم لها، فلا یجابه ولا یقابل، فلابدّ من التوجّه إلی المظاهر والمجالی والآیات.

الثانی: وهو منهج المغالین الذین ینظرون إلی الأسماء الإلهیة بالنظرة الاستقلالیة وبما هی هی ویتوجّهون إلیها لا بها، وهذا أیضاً من الشرک والحجاب الذی یمنع عن معرفة الله تعالی، ولکنّه أهون من سابقه؛ إذ أصحابه علی سبیل نجاة فیما إذا شملهم الله عزّ وجلّ بلطفه ورأوا ما وراء الآیة من الحقائق، بخلاف من أعرض عن الآیة بالمرّة.

الثالث: التوجّه بالآیات وتوسیطها فی الدعاء، وهذا هو التوحید التام الذی یوصل إلی معرفة الله تبارک وتعالی.

فالنظرة فی هذا المنهج إلی الأسماء الإلهیة الفعلیة من حیث هی مخلوقة للباری تعالی ومرتبطة به ومفتقرة إلیه ودالّة علیه، وأکرم المخلوقات وأعظم الآیات هم النبیّ الأعظم صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام؛ إذ حباهم الله عزّ وجلّ بالکرامات والمقامات التکوینیة، التی تفضل جمیع الأنبیاء والمرسلین والملائکة المقرّبین، فهم علیهم السلام الأسماء التی تعلّمها آدم وفُضل بها علی الملائکة کلّهم أجمعون، وذلک بنصّ سورة البقرة فی قوله تعالی: (وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ کُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَی)

ص:443

(الْمَلائِکَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِی بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ کُنْتُمْ صادِقِینَ)1 ، حیث جاء التعبیر فیها ب(عَرَضَهُمْ) ولم یقل: عرضها، وکذا التعبیر ب(هؤُلاءِ) ولم یقل: هذه، کلّ ذلک یدلّ علی أن تلک الأسماء موجودات نوریة مخلوقة حیّة شاعرة عاقلة، أفضل من جمیع الملائکة، ولم یعلم بها الملائکة ولا یحیطون بها وهی تحیط بهم وهی أوّل ما خلق الله تعالی، فهم عباد لیس علی الله أکرم منهم، أُسند إلیهم ما لم یسند إلی غیرهم، ومکّنهم الله عزّ وجلّ ما لم یمکّن به غیرهم بإرادته وإذنه وسلطانه.

والحاصل: إن تلک الآیات التی ذکروها لنفی التوسّل تدلّ علی ضرورة التوجّه والتشفّع والتوسّل بالآیات الکبری، والأسماء الفعلیة الحسنی والعظمی وهم محمّد صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام - إلی الله عزّ وجلّ، والباء فی قوله تعالی: (فَادْعُوهُ بِها) للتوسیط وجعل الآیات والأسماء واسطة؛ ولذا ورد عن الإمام الصادق علیه السلام أنه قال:

«یا هشام الله مشتق من إله، وإله یقتضی مألوهاً، والاسم غیر المسمّی، فمن عبد الإسم دون المعنی فقد کفر ولم یعبد شیئاً، ومن عبد الاسم والمعنی فقد أشرک وعبد الإثنین، ومن عبد المعنی دون الإسم فذاک التوحید، أفهمت یا هشام؟ قال: قلت: زدنی، قال: لله تسعة وتسعون إسماً فلو کان الإسم هو المسمی لکان کل إسم منها إلهاً، ولکن الله معنی یُدلّ علیه بهذه الأسماء وکلّها غیره، یا هشام الخبز اسم للمأکول والماء اسم للمشروب والثوب اسم للملبوس والنار إسم للمحرق، أفهمت یا هشام فهماً تدفع به وتناضل به

ص:444

أعداءنا المتخذین مع الله عزّ وجلّ غیره، قلت: نعم، فقال: نفعک الله به وثبّتک یا هشام، قال: فوالله ما قهرنی أحد فی التوحید حتی قمت مقامی هذا»(1) ، فبیّن علیه السلام أن الإسم غیر المسمی وهو الذات الإلهیة ومغایر لها، ولو کان الاسم هو عین الذات الإلهیة لکان کل اسم إلهاً ولتکثرت الآلهة، ولکن الله ذات أحدیة واحدة یُدلّ علیه وله علامات هی هذه الأسماء المتکثرة المتعدّدة، فالأسماء آیات وعلامات وکلمات دالّة ووسیلة إلی الذات، فظهر أن قوله تعالی: («لِلّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنی فَادْعُوهُ بِها»2) برهان قرآنی علی ضرورة الوسیلة، وهی الکلمات والآیات الإلهیة، بأن یدعی الله بها، فلا یُدعی الله بدونها، بل لابدّ من توسیطها فی دعاء الله، وذلک بالتوجّه بها إلیه، فلابدّ من تعلّق التوجّه بها کی یتوجّه منها إلی الله، ولابدّ من تعلّق الدعاء بها لیتحقّق دعاء الله تعالی، وقد جعلت الآیة الإعراض عن الأسماء والکلمات والآیات الإلهیة إلحاداً ومجانبة وزیغاً عن الطریق إلی الله، ومن ثمّ قد أُکّد فی الآیة أن الأسماء الإلهیة بکثرتها الکاثرة هی برمّتها ملک لله تعالی مملوکة له، فالاستخفاف بها استخفاف بالعظمة الإلهیة، وجحود وساطتها استکبار وتمرّد علی الشأن الإلهی، ومنه یعرف اتحاد الإسم والوجه وأن الأسماء هی وجه الله التی یتوجّه بها إلیه، وأن من له وجاهة ووجیه عند الله هو وجه لله یتوجّه به إلیه تعالی، فیکون إسماً وآیة وکلمة لله تعالی.

نعم بین الأسماء والکلمات والآیات درجات وتفاضل فی الدلالة علیه

ص:445


1- (1) توحید الصدوق: ص 521، أصول الکافی: ج 1 ص 89 باب معانی الأسماء واشتقاقها ح 2.

تعالی عظمة وکبراً.

وذلک لأن الاسم إذا کان من أسماء الأفعال یکون مخلوقاً لله تعالی وآیة من آیاته، فالعبادة لیست له، بل لباریه تعالی، ومن ثم یتوجّه إلیه کمرآة وآیة یُنظر بها ولا ینظر إلیها؛ ولذا تکون إسماً وعلامة، وأما إذا نظر إلی الاسم بما هو هو، فیکون حینئذٍ صنماً موجباً للشرک والکفر وهو الغلو المنهیّ عنه، ولکن هذا لا یعنی رفض الأسماء والوسائط، فإن ذلک یحجب عن المسمّی أیضاً، فلا یلحد بها ولا ینظر إلیها بالاستقلال بل ینظر بها، وذلک لما بیّناه سابقاً من أنه لا تعطیل ولا تشبیه، فالالحاد فی الأسماء تعطیل للباری بعد عدم کونه جسماً یقابل أو یجابه أو یشابه مخلوقاته وهو نفی الجسمیّة، فلا محیص عن التوجّه بالأسماء، لا سیّما الاسم الأعظم وهو أوّل ما خلق الله عزّ وجلّ، نور النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام، الذین بواسطتهم وصل آدم إلی ما وصل إلیه من الخلافة، عندما علّمه الله عزّ وجلّ تلک الأسماء الحیّة الشاعرة العاقلة المجرّدة النوریّة، التی هی أعظم آیات الباری تعالی وأفضل من جمیع الملائکة.

الکلمات التامّات:

هناک آیات عدیدة تدلّ بمعونة الروایات الواردة فیها - علی أن الکلمات التامّات والآیات الکبری لله عزّ وجلّ هم النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام منها:

1 - ما تقدّم من قوله تعالی: (وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ کُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَی)

ص:446

(الْمَلائِکَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِی بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ کُنْتُمْ صادِقِینَ)1 ، وقد سبق تقریب الاستدلال بهذه الآیة المبارکة، وقد ورد عن الإمام الصادق علیه السلام أنه قال:

«إن الله تبارک وتعالی کان ولا شیء، فخلق خمسة من نور جلاله، وجعل لکلّ واحد منهم إسماً من أسمائه المنزلة، فهو الحمید وسمّی النبیّ محمّداً صلی الله علیه و آله، وهو الأعلی وسمّی أمیر المؤمنین علیه السلام علیّاً، وله الأسماء الحسنی فاشتقّ منها حسناً وحسیناً، وهو فاطر فاشتقّ لفاطمة من أسمائه إسماً، فلمّا خلقهم جعلهم فی المیثاق، فإنهم عن یمین العرش، وخلق الملائکة من نور، فلما نظروا إلیهم عظّموا أمرهم وشأنهم ولقّنوا التسبیح فذلک قوله:

(وَ إِنّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَ إِنّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ)2 .

فلمّا خلق الله تعالی آدم صلوات الله وسلامه علیه نظر إلیهم عن یمین العرش، فقال: یاربّ مَنْ هؤلاء؟ قال: یا آدم هؤلاء صفوتی وخاصّتی، خلقتهم من نور جلالی وشققت لهم إسماً من أسمائی، قال: یاربّ فبحقّک علیهم علّمنی أسماءهم، قال: یاآدم فهم عندک أمانة، سرّ من سرّی، لا یطّلع علیه غیرک إلّابإذنی، قال:

نعم یاربّ، قال: یاآدم أعطنی علی ذلک العهد، فأخذ علیه العهد، ثم علّمه أسماءهم ثم عرضهم علی الملائکة، ولم یکن علّمهم بأسمائهم، (فَقالَ أَنْبِئُونِی بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ کُنْتُمْ صادِقِینَ * قالُوا سُبْحانَکَ لا عِلْمَ لَنا إِلاّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّکَ أَنْتَ الْعَلِیمُ الْحَکِیمُ * قالَ یا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمّا أَنْبَأَهُمْ

ص:447

بِأَسْمائِهِمْ)1 .

علمت الملائکة أنه مستودع وأنه مفضّل بالعلم، وأُمروا بالسجود إذ کانت سجدتهم لآدم تفضیلًا له وعبادة لله، إذ کان ذلک بحقّ له، وأبی إبلیس الفاسق عن أمر ربّه»(1).

2 - قوله تعالی: (فَتَلَقّی آدَمُ مِنْ رَبِّهِ کَلِماتٍ فَتابَ عَلَیْهِ) ، ویمکن تقریب دلالة الآیة إجمالًا علی کون الکلمات هی النبی وأهل بیته بما تقدّمت الإشارة من إطلاق الکلمة فی القرآن الکریم علی النبی عیسی علیه السلام بما هو حجّة لله اصطفاه علی العباد، فمنه یعرف أن الکلمة فی استعمال القرآن تطلق علی حجج الله وأصفیائه، ویشیر إلی ذلک أیضاً قوله تعالی: (وَ تَمَّتْ کَلِمَةُ رَبِّکَ صِدْقاً وَ عَدْلاً)3 حیث تومئ الآیة إلی کون کلمة الله تعرف بالصدق والعدالة وهو وصف لحجج الله، وهذا الوصف أحری بالصدق علی سید الأنبیاء بعد صدقه علی النبی عیسی علیه السلام، وقد وردت بذلک الروایات من الفریقین کما سیأتی معتضداً ذلک بأن الأسماء التی تعلّمها آدم وشرّف بها علی الملائکة قد مرّ أنها عرّفت بضمیر الجمع للحی الشاعر العاقل وأُشیر إلیها بإسم الإشارة للجمع الحی الشاعر العاقل، مما یدلُّ علی أنها موجودات وکائنات حیّة شاعرة عاقلة، نشأتها فی غیب السماوات والأرض لعدم علم ملائکة السماوات والأرض بها، کما أُشیر إلی ذلک بقوله تعالی: (أَ لَمْ أَقُلْ

ص:448


1- (2) تفسیر فرات الکوفی: ص 56، کمال الدین وتمام النعمة: ص 14، الهدایة الکبری للخصیبی: ص 428 (واللفظ للأول).

لَکُمْ إِنِّی أَعْلَمُ غَیْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ)1 ولا ریب أن أشرف الکائنات بنصوصیة الکثیر من الآیات وروایات الفریقین هو سید الأنبیاء، کما قد تبیّن أن الکلمات التی بشرفها قُبلت توبة آدم أوّلها وأسماها هو سید الأنبیاء، وحینئذٍ تُبیّن الآیات أن تلک الأسماء والکلمات حیث عبّر عنها بلفظ الجمع یقتضی أن مع سید الأنبیاء حجج آخرین لله تعالی شُرّف بمعرفتهم آدم وتاب الله بهم علیه، ولا نجد القرآن الکریم یُنزّل منزلة نفس النبی أحداً من الأنبیاء والرسل، بل نزل علی بن أبی طالب منزلة نفس النبی صلی الله علیه و آله وهذه خصیصة اختصّ هو علیه السلام بها، کما لم یُشرک الله تعالی فی طهارة النبی وعصمته ونمط حجیّته وعلمه بالکتاب کلّه مع العدید من المقامات الأخری أحداً من أنبیائه ورسله، لکنه أشرک أهل بیته، وهم علی وفاطمة والحسن والحسین علیهم السلام، کما فی آیة التطهیر والمباهلة ومسّ الکتاب من المطهرین من هذه الأمة وغیرها من الآیات النازلة فیهم.

فتبیّن أن قرین سید الأنبیاء صلی الله علیه و آله فی المراد من الکلمات والأسماء هم أهل بیته علیهم السلام.

وقد ورد فی کتب الفریقین من السنّة والشیعة أن الکلمات التی تلقّاها آدم من ربّه فتاب علیه هم النبیّ صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام، فدعا الله عزّ وجلّ بواسطة الکلمات فتاب علیه.

منها: ما أخرجه الحاکم فی المستدرک عن عمر قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله:

ص:449

«لما اقترف آدم الخطیئة، قال: یاربّ أسألک بحقّ محمّد لمّا غفرت لی، فقال: یاآدم وکیف عرفت محمّداً ولم أخلقه؟، قال: یاربّ لأنک لما خلقتنی بیدک ونفخت فیّ من روحک رفعت رأسی، فرأیت علی قوائم العرش مکتوباً لا إله إلّاالله محمّد رسول الله، فعلمت أنک لم تُضف إلی إسمک إلّاأحبّ الخلق إلیک، فقال: صدقت یاآدم إنه لأحبّ الخلق إلیّ، ادعنی بحقّه فقد غفرت لک ولولا محمّد ما خلقتک» (1) ، قال الحاکم: هذا حدیث صحیح الاسناد.

ومنها: ما أخرجه الحاکم الحسکانی فی شواهد التنزیل عن ابن عباس قال:

«سألت رسول الله صلی الله علیه و آله عن الکلمات التی تلقّاها آدم من ربّه فتاب علیه، قال: سأل بحقّ محمّد وعلیّ وفاطمة والحسن والحسین إلّاتبت علی فتاب علیه» (2).

ومنها: ما أخرجه السیوطی عن الإمام علی علیه السلام أنه ذکر أن الله عزّ وجلّ علّم آدم الکلمات التی تاب بها علیه وهی:

«اللّهم إنی أسألک بحقّ محمّد وآل محمّد سبحانک لا إله إلّاأنت عملت سوءاً وظلمت نفسی فاغفر لی إنک أنت الغفور الرحیم.

اللّهم إنی أسألک بحقّ محمّد وآل محمّد سبحانک لا إله إلّاأنت عملت

ص:450


1- (1) المستدرک: ج 2 ص 615.
2- (2) شواهد التنزیل: ج 1 ص 101.

سوءاً وظلمت نفسی فتب علیّ إنک أنت التواب الرحیم، فهؤلاء الکلمات التی تلقّی آدم» (1) .

3 - قوله تعالی: (إِنَّمَا الْمَسِیحُ عِیسَی ابْنُ مَرْیَمَ رَسُولُ اللّهِ وَ کَلِمَتُهُ)2 .

فالکلمة اطلقت علی عیسی علیه السلام، وهذا الإطلاق غیر خاص به علیه السلام، بل هو شامل لکلّ الأنبیاء لا سیما أولوا العزم منهم ولا سیما خاتم النبیین، فهو أفضل الأنبیاء وسیّدهم وأعظمهم، فلا محالة یکون هو الکلمة الأتمّ، وکذا من هم نفس النبیّ صلی الله علیه و آله وهم أهل بیته علیهم السلام.

4 - قوله تعالی: (وَ إِذِ ابْتَلی إِبْراهِیمَ رَبُّهُ بِکَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ)3 .

فإن إبراهیم علیه السلام بلا شک کلمة وآیة من آیات الله تعالی؛ لأنه أفضل من عیسی علیه السلام، ومع ذلک امتحنه الله عزّ وجلّ بکلمات تفوقه فی المقام والمنزلة، ولمّا ثبت فی الامتحان فاز بمقام الإمامة بعد الخلّة والنبوّة والرسالة، فلا محالة تکون الکلمات هم سید الأنبیاء صلی الله علیه و آله وآخرین غیر النبی إبراهیم والنبی عیسی وموسی وآدم علیهم السلام.

والکلمات کما جاء فی الروایات - هم خمسة أصحاب الکساء، فإبراهیم نال مقام الخلافة فی الأرض والزلفی عند الله عزّ وجلّ بالکلمات، کما أن آدم فضّل علی الملائکة وأصبح مسجوداً لهم لتعلّمه الأسماء الحسنی والآیات العظمی، وهم أهل آیة التطهیر علیهم السلام.

ص:451


1- (1) الدر المنثور: ج 1 ص 60.

وکذلک آدم تسنّم مقام الخلافة الإلهیة بتوسّط علم الأسماء الحیّة العاقلة النوریّة، التی تحیط بجمیع المخلوقات، ولا یحیط بها مخلوق من المخلوقات إلّا بما شاء الله عزّ وجلّ.

عن المفضّل بن عمر عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق علیه السلام، قال: سألته عن قول الله عزّ وجلّ: (وَ إِذِ ابْتَلی إِبْراهِیمَ رَبُّهُ بِکَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ) ما هذه الکلمات؟

قال:

«هی الکلمات التی تلقّاها آدم من ربّه فتاب الله علیه، وهو أنه قال:

أسألک بحقّ محمّد وعلیّ وفاطمة والحسن والحسین إلّاتبت علیّ، فتاب الله علیه إنه هو التواب الرحیم»(1).

5 - قوله تعالی: (وَ تَمَّتْ کَلِمَةُ رَبِّکَ صِدْقاً وَ عَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِکَلِماتِهِ)2 .

وقد کان المعصومون الأربعة عشر کلّهم علیهم السلام یقرأون هذه الآیة عند ولادتهم، فهم الکلمات التامات التی تمّت صدقاً وعدلًا لا مبدّل لکلماته، وقد مرّت الإشارة إلی أن نعت الکلمة بالصدق والعدالة یشیر إلی حجج الله فیما یؤدّونه عن الله وما هی علیه سیرتهم من الصدق والعدل والعدالة، هذا کلّه بالنسبة إلی الجواب الأوّل وتفصیلاته.

ص:452


1- (1) کمال الدین وتمام النعمة: ص 358.
الجواب الثالث: الآیات القرآنیة:

1 - وهو ما جاء فی قوله تعالی: (إِنَّ الَّذِینَ کَذَّبُوا بِآیاتِنا وَ اسْتَکْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَ لا یَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتّی یَلِجَ الْجَمَلُ فِی سَمِّ الْخِیاطِ وَ کَذلِکَ نَجْزِی الْمُجْرِمِینَ)1 .

الاستکبار علی الآیات الوارد فی هذه الآیة المبارکة نظیر ما فعله إبلیس، حیث أبی واستکبر أن یسجد لآدم، فکذّب بآیة من آیات الله تعالی، وذلک عندما قال: (أَنَا خَیْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِی مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِینٍ)2 وقد استند فی تکذیبه هذا إلی القیاس الباطل وهو لا یعلم حقائق دین الله تعالی، ولا یعلم أن جانباً آخر فی آدم نوریّ یعلو علی النار هو الذی أهّله لذلک المقام، ولیس الطین إلّا وجوده النازل المادّی.

ثم إن الآیة المبارکة ذکرت أثراً آخر من آثار التکذیب بالآیات الإلهیة والاستکبار علیها، حیث قالت: (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ) ، ومن الواضح أن أبواب السماء إنما تفتّح حین الدعاء والعبادة والتوجّه إلی الله عزّ وجلّ وحین إرادة الزلفی والقرب، وکذلک لتصاعد الإیمان والعقیدة، کما یشیر إلیه قوله تعالی: (إِلَیْهِ یَصْعَدُ الْکَلِمُ الطَّیِّبُ)3 ، فهذه الآیة المبارکة تقول إن الذین یکذّبون بآیات الله تعالی وأسمائه وکلماته ویستکبرون عنها کما فعل إبلیس لا تفتّح لهم أبواب السماء، فلا یمکنهم أن یدعوا الله أو یتقرّبوا إلیه، ولا یستجاب لهم دعاؤهم ولا عباداتهم کالصلاة والصوم والحجّ.

ص:453

والربط بین ترک الآیة والاعراض عنها والاستکبار علیها وبین عدم القرب وعدم قبول الدعاء وعدم تفتّح الأبواب هو أن الله عزّ وجلّ لیس بمادّی ولا بجسم، فلا یمکن أن یقابل أو یجابه فلا زلفی إلّابالآیات والإیمان بها والطاعة والخضوع لها والتوجّه بها إلی الله عزّ وجلّ: (وَ لِلّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنی فَادْعُوهُ بِها) ، وقد مرّ فی هذا الفصل وفی الفصل الثالث أن الآیات هم الحجج المصطفون، فلابدّ عند إرادة التوجّه إلی سماء الحضرة الإلهیة بالدعاء والعبادة والازدلاف من التوجّه بهم والتوسّل بهم؛ لأن ذلک مفتاح فتح أبواب السماء، فهذه الآیة تتشاهد وتتطابق مع الآیة المتقدمة من قوله تعالی: (وَ لِلّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنی فَادْعُوهُ بِها وَ ذَرُوا الَّذِینَ یُلْحِدُونَ فِی أَسْمائِهِ سَیُجْزَوْنَ ما کانُوا یَعْمَلُونَ)1 وأن الأسماء التی یُدعی بها فی مقام الدعاء والفوز علی الله هی الآیات التی لابدّ من الإیمان بها والخضوع والإقبال علیها والتوجّه بها إلی الحضرة السماویة.

وهذا المضمون هو ما ورد فی الروایات المتواترة من أن ولایة أهل البیت علیهم السلام شرط فی قبول الأعمال والعقائد، فإمامتهم علیهم السلام مقام من مقامات التوحید فی الطاعة، وهی شرط التوحید وکلمة لا إله إلّاالله، فمن لا ولایة ولا طاعة له لا یقبل الله عزّ وجلّ له عملًا، کما هو الحال فی إبلیس، حیث لم یقبل الله عزّ وجلّ أعماله، ولم یقم له وزناً وطُرد من جوار الله وقربه.

إذن من لا یذعن بالواسطة والولایة لا یقبل له عمل، لأنه لا تفتّح له الأبواب، ولا یکون ناجیاً یوم القیامة(وَ لا یَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتّی یَلِجَ الْجَمَلُ)

ص:454

(فِی سَمِّ الْخِیاطِ وَ کَذلِکَ نَجْزِی الْمُجْرِمِینَ) .

2 - وهو قوله تعالی: (وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِینُهُ فَأُولئِکَ الَّذِینَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما کانُوا بِآیاتِنا یَظْلِمُونَ)1 ، فهذه الآیة جاءت فی سیاق واحد مع قوله تعالی:

(وَ لَقَدْ خَلَقْناکُمْ ثُمَّ صَوَّرْناکُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِکَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِیسَ لَمْ یَکُنْ مِنَ السّاجِدِینَ * قالَ ما مَنَعَکَ أَلاّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُکَ قالَ أَنَا خَیْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِی مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِینٍ * قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما یَکُونُ لَکَ أَنْ تَتَکَبَّرَ فِیها فَاخْرُجْ إِنَّکَ مِنَ الصّاغِرِینَ)2 ، فالسیاق الواحد فی هذه الآیات دالّ علی أن ما فعله إبلیس کان إنکاراً وظلماً لآیة من آیات الله تعالی، ودالّ أیضاً علی أن ثقل المیزان والقرب وقبول الأعمال إنما یتمّ بالخضوع للآیات والإیمان بها.

ولیست الأصنام إلّا الوسائل والوسائط المقترحة:

3 - قوله تعالی: (وَ الَّذِینَ کَذَّبُوا بِآیاتِنا وَ اسْتَکْبَرُوا عَنْها أُولئِکَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِیها خالِدُونَ)3 ، وتقریب الاستدلال بهذه الآیة کالتقریب الذی تقدّم فی الآیات التی سبقتها، ولا یخفی ما فی التعبیر ب(عَنْها) دون التعبیر ب(علیها) من دلالة علی الاعراض والإنکار لوساطة الآیات الإلهیة، وأنه موجب لبطلان الأعمال والخلود فی النار.

ص:455

الشبهة الرابعة: الأعمال الصالحة هی الوسیلة
التوسّل والوسیلة حقیقة العقیدة بالنبوّة والرسالة:

لقد قام أصحاب هذا الاتجاه المنکر لمبدأ التوسّل بتوجیه قوله تعالی:

(وَ ابْتَغُوا إِلَیْهِ الْوَسِیلَةَ)1 ، حیث فسّروا الوسیلة فی هذه الآیة بالطاعات والقربات والأعمال الصالحة التی یتقرّب بها العبد إلی ربّه.

وقد ورد فی الأحادیث بأن العبد لا یتقرّب إلی الله عزّ وجلّ إلّابالطاعة والعمل الصالح، فطوعانیة العبد لربّه هی وسیلته الوحیدة، ولیس بین الله وبین خلقه قرابة وقرب إلّابالطاعة(إِنَّ أَکْرَمَکُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاکُمْ) فالجنّة یدخلها المطیع ولو کان عبداً حبشیاً والنار یدخلها العاصی ولو کان سیّداً قرشیّاً.

الجواب عن الشبهة الرابعة:

کان حصیلة الشبهة الرابعة هو تمسّکهم بقوله تعالی: (وَ ابْتَغُوا إِلَیْهِ الْوَسِیلَةَ) حیث فسّروا الوسیلة بالأعمال الصالحة من البرّ والتقوی والورع وسائر العبادات، وأن طوعانیة العبد لربّه هی الوسیلة الوحیدة للنجاة والفوز بالجنة.

وفی المقدّمة نحن لا ننفی کون الأعمال الصالحة وسیلة من وسائل القرب إلی الله عزّ وجلّ، ولکن نرید أن نقول هی أحد مصادیق الوسیلة ولیست الوسیلة منحصرة بها، وذلک بمقتضی نفس زعمهم من أن الوسیلة

ص:456

هی الأعمال الصالحة والطاعات، حیث أن أعظم الأعمال الصالحة والطاعات هو الإیمان بالله ورسوله؛ إذ لا یقاس بالإیمان بقیّة الأعمال من الصلاة والصیام والحج وغیرها، بل إن بقیة الأعمال لا تقبل ولا یثاب علیها الإنسان إلّابالإیمان، فإذا کان الإیمان أعظمها، والإیمان هو الإیمان بالله ورسوله والیوم الآخر، بل إن الإیمان بالرسول صلی الله علیه و آله هو الهادی إلی حقیقة التوحید، فیکون الإیمان بالرسول صلی الله علیه و آله من أعظم ما یتوسّل به إلی الله عند الدعاء وعند العبادة وعند التوجّه إلی الحضرة الإلهیة، فهذا یقتضی کون الرسول صلی الله علیه و آله أعظم وسیلة، لأن الإیمان إنما حاز هذا الشرف العظیم ومکان الوساطة والوسیلیة إلی الله تعالی ببرکة تعلّق الإیمان بالنبی صلی الله علیه و آله، إذ شرف المعرفة بالمعروف الذی تعلّقت به المعرفة، کما أن شرف العلم بالمعلوم الذی تعلّق به العلم، فذات المعلوم والمعروف أشرف من العلم والمعرفة المتعلّقة بهما، ومن شرف ذات المعلوم المعروف ترشّح شرف العلم والمعرفة، فهذا یقضی بالضرورة أن أعظم الوسائل هو النبی الأکرم صلی الله علیه و آله ومن ثم نُعت فی القرآن الکریم بأنه رحمة للعالمین، وهذا ما أشارت إلیه الأدلّة المتضافرة من أنه صلی الله علیه و آله صاحب الوسیلة الکبری والشفاعة العظمی.

ولکی تکون الاجابة واضحة لابدّ من التأمل فی مفاد الآیة المبارکة، وذلک ضمن النقاط التالیة:

النقطة الأولی: ما هو المراد من الوسیلة؟

لقد جاء التعبیر فی الآیة الکریمة هکذا(وَ ابْتَغُوا إِلَیْهِ الْوَسِیلَةَ) ولم یقل الله عزّ وجلّ(و ابتغوه بالوسیلة)،) ولیس ذلک إلّاللتنبیه علی أن الذی

ص:457

یُبتغی ویُقصد لطلب الحوائج هو الوسیلة، التی تکون واسطة فی الفیض بین العبد وربّه، ومعنی الآیة المبارکة وابتغوا الوسیلة إلیه، فالابتغاء والقصد والتوجّه بالوسیلة إلی الله عزّ وجلّ، ولا تتحقّق البُغیة إلی الله تعالی إلّا بالوسیلة؛ ولذا لابدّ من تحدید ما هو المراد من الوسیلة.

إن روایات الفریقین متّفقة علی أن الوسیلة مقام من المقامات المشهودة والسامیة للنبیّ الأعظم صلی الله علیه و آله، وهی علی طوائف متعدّدة:

منها: الطائفة التی فسّرت الوسیلة بالمقام المحمود ومقام الشفاعة المختصّ بالنبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله، وذلک کقوله صلی الله علیه و آله: (سلوا لی الوسیلة فإنها منزلة فی الجنّة لا تنبغی إلّالعبد من عباد الله وأرجو أن أکون أنا هو، فمن سأل لی الوسیلة حلّت علیه الشفاعة)(1) ، وقد فهم بعض الشرّاح من هذا الحدیث أن المقصود من الوسیلة فیه هی الشفاعة ذاتها(2).

ولا شک أن الروایات نصّت علی أن الشفاعة هی المقام المحمود، فالشفاعة التی هی المقام المحمود لا تحلّ علی الشخص إلّابسؤال ذلک الشخص مقام الوسیلة للرسول الأکرم صلی الله علیه و آله.

ومنها: الطائفة التی یظهر منها أن مقام الوسیلة والشفاعة والمقام المحمود مناصب متعدّدة للنبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله، کقوله صلی الله علیه و آله:

«من قال حین یسمع النداء اللّهم ربّ هذه الدعوة التامة والصلاة

ص:458


1- (1) مسند أحمد: ج 2 ص 168.
2- (2) تحفة الأحوذی/ المبارک فوری: ج 10 ص 57.

القائمة آتِ محمّداً الوسیلة والفضیلة وابعثه المقام المحمود الذی وعدته إلّاحلّت له شفاعتی یوم القیامة» (1).

وظاهر هذه الروایة تغایر المقامات الثلاثة وهی الوسیلة والمقام المحمود والشفاعة.

ومنها: الروایات التی ذکرت أن مقام الوسیلة منبر من نور ینصب للنبیّ صلی الله علیه و آله، فعن النبیّ صلی الله علیه و آله فی حدیث له مع أمیر المؤمنین علیه السلام، قال:

«إذا جمع الله الأولین والآخرین یوم القیامة وضع لی منبر بین الجنة والنار من نور، لذلک المنبر مائة مرقاة وهی الدرجة الوسیلة، ثم تحفّ بالمنبر النبیّون ثم الوصیّون ثم الصالحون ثم الشهداء، ثم یجاء إلیّ، فیقال لی: یامحمّد قم فارقه، قال: فأرقی حتی أصیر فی أعلی مرقاة من المنبر - إلی أن قال صلی الله علیه و آله ثم یقال لک: إرقَ یاعلیّ، فترقی یاأبا الحسن حتّی تصیر أسفل منّی بمرقاة، فأناولک یمینی وأقعدک علی جنبی الأیمن، وأقول: هذا الموقف الذی وعدنی ربّی أنه یعطنی فیک» (2).

وعن الإمام أمیر المؤمنین علیه السلام قال:

«وفوق قبّة الرضوان منزل یقال له الوسیلة، ولیس فی الجنّة منزل یشبهه وهو منبر رسول الله صلی الله علیه و آله» (3).

ص:459


1- (1) سنن النسائی: ج 2 ص 27.
2- (2) مناقب أمیر المؤمنین علیه السلام / محمّد بن سلیمان الکوفی القاضی: ج 1 ص 200، میزان الاعتدال/ الذهبی: ج 2 ص 25.
3- (3) کتاب الغیبة/ النعمانی: ص 101.

ومنها: الروایات التی ذکرت أن مقام الوسیلة مقام حظوة وحبوة للنبیّ صلی الله علیه و آله، ویطول المقام بذکرها فلا حاجة إلی استعراضها، وبعض الروایات المتقدّمة فیها إشارة إلی ذلک.

ولا یوجد أی تنافی بین هذه الطوائف من الروایات، حیث أنها تثبت للنبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله مقاماً خاصّاً لا یدرکه ملک مقرّب ولا نبیّ مرسل، وهذا المقام فی جهة من جهاته یسمّی بالمقام المحمود وفی أخری یسمّی بالوسیلة وفی ثالثة یسمّی بالشفاعة، وهذا أیضاً لا یتقاطع مع کون مقام الوسیلة منبر من نور؛ لأن التعبیر بذلک للدّلالة علی حظوة النبیّ صلی الله علیه و آله وحمد مقامه عند الله عزّ وجلّ فی ذلک الیوم العصیب، الذی یکون فیه کلّ الأنبیاء علی جانب عظیم من الوجل والشفقة والخشیة، والکلّ یستغیث وانفساه، والنبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله فی تلک الحال وجیه عند الله عزّ وجلّ علی منبر من نور صاحب حظوة ومکانة دون باقی البشر، فالمنبر کنایة عن الوجاهة والقرب والزلفی والواسطة والشفاعة وأنه یتوسّط به إلی الله عزّ وجلّ ویستغاث به للنجاة من النار، فهو صاحب الشفاعة الکبری، وهو القائل:

«ادّخرت شفاعتی لأهل الکبائر من امتی» (1).

النقطة الثانیة: الرابطة بین الشفاعة والتوسّل:

قلنا فی النقطة السابقة أن المقام المحمود هو الشفاعة، کما نصّت علی

ص:460


1- (1) البدایة والنهایة/ ابن کثیر: ج 10 ص 254.

ذلک الروایات(1) ، وأشرنا أیضاً إلی أن الاستشفاع بشفاعة الشفیع والتوسّل بالوسیلة وجهان لمقام واحد، ونرید الوقوف قلیلًا عند هذه الحقیقة، فإن تفرقة المتکلمین والفقهاء بین الشفاعة والتوسّل صحیحة من جهة وخاطئة من جهة أخری، وذلک لأن التوسّل والشفاعة وجهان لحقیقة واحدة لا ینفصلان عن بعضهما البعض، فالتوسل هو فعل صاحب الحاجة عند الشفیع، والشفاعة هی فعل الشفیع بینه وبین المشفوع عنده، فإذا لاحظنا جهة العلاقة والرابطة بین طالب الشفاعة والشفیع یقال توسّل واستشفاع، وإذا لاحظنا نفس العملیة ولکن من جهة الرابطة بین الشفیع والمشفوع عنده فیقال لذات تلک العملیة شفاعة، فالوسیلة تتلوها الشفاعة والشفاعة یتلوها قضاء الحوائج وغفران الذنوب.

وإذا کان المسلمون قد أجمعوا علی ثبوت المقام المحمود والشفاعة الکبری للنبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله فهو یستلزم اجماعاً آخر وهو جواز التوسّل بالنبیّ صلی الله علیه و آله وإن غفل شرذمة عن هذا اللازم، فإذا جازت الشفاعة من النبیّ صلی الله علیه و آله وهو فعل یقوم به بالإضافة إلی الله عزّ وجلّ فی حقّ أصحاب الحاجات فبالتالی سوف یکون التوسّل راجحاً ومشروعاً لا محالة؛ لعدم تصوّر انفکاک مشروعیة الشفاعة عن مشروعیة التوسّل؛ لأن التوسّل متعلّقه طلب الشفاعة فإذا کانت الشفاعة مشروعه کیف یکون طلب المشروع غیر مشروع؟!، بل حیث إن معتقد الشفاعة للنبی صلی الله علیه و آله دین من أسس الإیمان فلا محالة یکون التوسّل معتقد دینی من أسس الإیمان أیضاً، بل حیث کانت الضرورة قائمة

ص:461


1- (1) لاحظ مسند أحمد: ج 2 ص 478، المعجم الکبیر للطبرانی: ج 2 ص 48.

علی ثبوت مقام الشفاعة للنبی صلی الله علیه و آله فلا محالة الضرورة قائمة أیضاً علی أن التوسّل من أرکان العبادات.

فالذهاب إلی الوسیط وطلب توسیطه فی قضاء الحاجة توسّل وعمل الوسیط شفاعة، والشفع هو الضمّ، فیضمّ الوسیط جاهه إلی حاجة المتوسل فیقضیها المشفوع عنده، فالتوسّل من مقوّمات الدعاء والتوجّه للحضرة الإلهیّة.

إذن دلیل التوسّل القول بمشروعیة وضرورة الشفاعة بقول مطلق.

وبناء علی ذلک یکون عقد بابین مستقلّین للتوسل والشفاعة من المماشاة للغفلة التی وقع فیها أصحاب المقالة الجاحدة لعقیدة التوسّل، وإلّا فإن باب الشفاعة لا یمکن أن ینفک عن باب التوسّل؛ لأن التوسّل هو طلب التشفّع.

النقطة الثالثة: عموم تشریع الشفاعة:

حاول أصحاب هذه المقالة تحدید نطاق الأدلّة الدالّة علی تشریع شفاعة النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله، حیث قالوا تارة بأن الشفاعة فی دار الدنیا لا تجوز إلّاإذا کان النبیّ الأکرم حیّاً فی هذه الدنیا، وأما بعد وفاته فلا مشروعیة للشفاعة إلّایوم القیامة دون الشفاعة فی الدنیا أو البرزخ، وقالوا أخری بأن متعلّق الشفاعة طلب الغفران من الذنوب، ولیس طلب الحاجات الدنیویّة، کشفاء المریض وغیره.

أما المزعمة الأولی: من أن الشفاعة فی الآخرة فقط أو مع حیاة النبیّ صلی الله علیه و آله:

ص:462

فهی مبتنیة علی أن الشرک بالنصّ وعدم النصّ، مع أن الشرک من مدرکات العقل وأحکامه، وهی غیر قابلة للتخصیص، فإذا کان التشفّع شرکاً فلابدّ أن یکون کذلک فی جمیع النشآت وسواء کان النبیّ صلی الله علیه و آله موجوداً فی دار الدنیا أو بعد وفاته.

فالتفرقة لجوء منهم إلی النصّ وأن الشرک لیس له حدّ عقلی منضبط، وهو خلاف ما علیه علماء المسلمین، من أن الشرک إما بحثه عقلی أو عقلی ونقلی ولیس هو نقلیاً محضاً، هذا أولًا.

وثانیاً: مع فرض أن دلیل مشروعیة الشفاعة نقلی، فلا دلیل علی الاختصاص بیوم القیامة؛ لأن الآیة مطلقة، فقوله تعالی: (وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُکَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ) شامل لما بعد وفاة النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله وهو صلی الله علیه و آله حیّ عند ربّه یرزق، مضافاً إلی قوله تعالی: (قُلِ اعْمَلُوا فَسَیَرَی اللّهُ عَمَلَکُمْ وَ رَسُولُهُ) فالنبیّ صلی الله علیه و آله ناظر للأعمال، والآیة الکریمة مطلقة والمخاطب بها کلّ الأجیال، ولو بنی علی اختصاص الأحکام التی تعلّقت بالرسول صلی الله علیه و آله علی خصوص حیاته فی دار الدنیا ونفی شمولها لحیاته عند ربّه لاستلزم ذلک تعطیل جملة الآیات والأحکام فی الدین الحنیف، ولما قامت للدین قائمة، نظیر قوله تعالی: (ما آتاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاکُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)1 وقوله تعالی: (إِنَّما وَلِیُّکُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِینَ آمَنُوا)2 وقوله تعالی: (فَالَّذِینَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اتَّبَعُوا)

ص:463

(النُّورَ الَّذِی أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِکَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)1 وغیرها من الآیات والأحکام، فعلی زعمهم الواهی لابدّ أن تُخصّ هذه الآیات بخصوص حیاته صلی الله علیه و آله فی دار الدنیا دون حیاته فی عند ربّه.

وقد وردت روایات متضافرة تنصّ علی أن الأعمال تُعرض علی رسول الله صلی الله علیه و آله کلّ یوم أو کلّ یوم خمیس أو جمعة، وأنه صلی الله علیه و آله یسمع السلام ویردّه، ویصلّی علی من یصلّی علیه.

فما ذکر من الاختصاص بیوم القیامة باطل عقلًا ونقلًا.

وأما المزعمة الثانیة: وهی أن متعلّق الشفاعة طلب الغفران لا الحاجات الدنیویة:

فالجواب عنها:

أولًا: ما ذکرناه آنفاً من اطلاق الآیة المبارکة، فإن متعلّقها شامل للمسائل الدنیویة أیضاً ولا دلیل علی التخصیص بما ذکروه.

وثانیاً: إذا صحّت المقایسة التی زعموها فإن الحاجات الدنیویة أهون علی الله تعالی من حاجات الآخرة، فکیف یعقل أن الشفاعة تنفذ فیما هو أکثر خطورة وهی الحیاة الأبدیّة، دون ما هو أقلّ خطورة وهی الحیاة الدنیویة المنقطعة؟! وکیف یکون الثانی شرکاً دون الأوّل؟!

ثم إن سیرة المسلمین وکذا الصدر الأول منهم تتنافی مع ما ذکره، حیث أثبتت کتب المسلمین کما سیأتی - توسّل المسلمین بالنبیّ الأکرم بعد وفاته

ص:464

أیضاً، وسیرتهم إلی یومنا هذا جاریة علی التوسّل فی طلب حاجاتهم الدنیویة، ولا یقتصرون فی ذلک علی طلب الحاجات الأخرویّة فقط.

وکذا لیس متعلّق الشفاعة غفران الذنوب والنجاة من النار فحسب، بل حتی فی الرقیّ فی المراتب والمقامات، فالشخص یحتاج إلی الشفاعة لعدم الأهلیة فی عمله للصعود إلی مقام أعلی، کما ورد ذلک فی توسّل الأنبیاء بسیّد الرسل صلی الله علیه و آله، بل هو صلی الله علیه و آله یشفع أیضاً للأئمة المعصومین علیهم السلام لرفع مقامهم ودرجتهم إلی مقامه ودرجته صلی الله علیه و آله.

إذن متعلّق الشفاعة وسیع یشمل النجاة من النار وغفران الذنوب ورفع المقامات وقضاء الحاجات وغیرها، فالشفاعة بإذن الله تعالی متعلّقها مطلق موارد فیض الباری عزّ وجلّ.

وثالثاً: ما ورد من وصف النبیّ موسی وعیسی علیهما السلام بأنهما وجیهان عند الله عزّ وجلّ، کما فی قوله تعالی: (یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا تَکُونُوا کَالَّذِینَ آذَوْا مُوسی فَبَرَّأَهُ اللّهُ مِمّا قالُوا وَ کانَ عِنْدَ اللّهِ وَجِیهاً)1 ، وکذا قوله تعالی: (إِذْ قالَتِ الْمَلائِکَةُ یا مَرْیَمُ إِنَّ اللّهَ یُبَشِّرُکِ بِکَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِیحُ عِیسَی ابْنُ مَرْیَمَ وَجِیهاً فِی الدُّنْیا وَ الْآخِرَةِ وَ مِنَ الْمُقَرَّبِینَ)2 ، وهذا البیان لیس خاصاً بموسی وعیسی علیهما السلام، بل هو شامل علی أقل تقدیر لأنبیاء أولی العزم، خصوصاً سیّد المرسلین وخاتمهم وأفضلهم محمّد صلی الله علیه و آله وأهل بیته الذین أورثوا علم الکتاب کلّه، بل قد أشیر إلی ذلک فی تشریع القبلة، وأنها رغم کونها وجهاً لله تعالی

ص:465

یتّجه إلیه المصلّی فی اتجاه استقباله فی الصلاة، إلّاأن الغایة منها هی الإنقیاد والخضوع لرسول الله صلی الله علیه و آله والولایة له، وهو یؤدّی للأوبة لله تعالی، حیث قال تعالی: (وَ حَیْثُ ما کُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَکُمْ شَطْرَهُ)1 وقال تعالی أیضاً: (فَأَیْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ)2 وقال تعالی: (وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِی کُنْتَ عَلَیْها إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ یَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ یَنْقَلِبُ عَلی عَقِبَیْهِ)3 ، وللتعبیر بالوجیه مدلولان التزامیان عقلی ونقلی:

أما العقلی؛ فلأن الله عزّ وجلّ منزّه عن الجسمیة والمقابلة والمجابهة المادّیة، فلابدّ من وجه یتوجّه به إلیه، فالوجیه معناه هو وجه الله الذی یتقرّب به إلیه وآیته الدالّة علیه، التی لابدّ أن تُوسّط وتُشفّع فی التوجّه.

وأما النقلی؛ فهو ما ورد من أن زکاة الوجاهة الشفاعة فی الخیرات.

إذن الشفاعة والوساطة مدلول التزامی عقلی ونقلی لمفهوم الوجاهة، فالوجیه هو الشفیع والوسیلة والواسطة بین العبد وربّه.

ومقتضی إطلاق کون الأنبیاء علیهم السلام وجهاء عند الله عزّ وجلّ هو کونهم شفعاء فی الخیرات وقضاء الحوائج الدنیویة والأخرویة، ولا تختصّ وجاهتهم وشفاعتهم بغفران الذنوب فقط.

ومعنی ذلک أیضاً أن الأنبیاء وجهاء عند الله وشفعاء فی کلّ الأزمان والأدوار، من دون اختصاص بیوم القیامة أو قبل وفاة النبیّ، وذلک لإطلاق

ص:466

الآیات الدالّة علی الوجاهة التی تلزمها الشفاعة عقلًا ونقلًا.

والحاصل:

إن الوسیلة فی الآیة التی ذکروها هو مقام الشفاعة الکبری للنبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله، واتّضح أن الوسیلة والشفاعة وجهان لمقام واحد، واتّضح أیضاً أن الشفاعة والتوسّل رکن من أرکان الدین قائم فی الدنیا والآخرة، سواء کان النبیّ حیّاً فی دار الدنیا أو عند ربّه تعالی بعد وفاته صلی الله علیه و آله، وهکذا الشفاعة منصوبة فی دیانة الإسلام لطلب الحوائج الدنیویة وغیرها.

وممّا یبرهن علی عموم شفاعة النبی صلی الله علیه و آله لکلّ النشآت والعوالم ولعموم الأمور ما مرّ فی قوله تعالی: (وَ إِذْ أَخَذَ اللّهُ مِیثاقَ النَّبِیِّینَ لَما آتَیْتُکُمْ مِنْ کِتابٍ وَ حِکْمَةٍ ثُمَّ جاءَکُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَکُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلی ذلِکُمْ إِصْرِی قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَ أَنَا مَعَکُمْ مِنَ الشّاهِدِینَ)1 ، حیث مرّ فی الفصل الثالث أن الآیة تبیّن مشارطة الله ومواثقته علی النبیین فی إعطائهم مقام النبوة والرسالة والمقامات الغیبیة أنهم إنما یستأهلوها ویستحقّوها إذا آمنوا بخاتم النبیّین والتزموا بنصرته واتباعه وأقرّوا علی أنفسهم بذلک، فالآیة تبیّن أن سید الأنبیاء صاحب الوسیلة لجمیع المخلوقات، بل ولأشرف المخلوقات وهم الأنبیاء والرسل، وأنهم إنما نالوا المقامات الکبری الغیبیة من النبوّة والرسالة والحکمة بالتوسّل بذیل ولایة سید الأنبیاء وأهل بیته المعصومین، مع أن النبی صلی الله علیه و آله لم یُخلق بدنه حینذاک، وإنما خُلق نوره وأنوار أهل بیته قبل خلق السماوات والأرض وخلق الأنبیاء، کما

ص:467

أشارت إلی ذلک سورة النور والروایات من الفریقین، حسب ما تقدّم فی الفصل الثالث.

فالآیة ترصد أعظم ملحمة فی الخلقة والخلیقة لأعظم توسّل بأعظم متوسّل به لأعظم حاجة، وکفی بذلک بشارة للمؤمنین بهذا الرکن العظیم فی الدین، ونذارة للجاحدین.

وأخیراً نقول:

إذا کانت الأعمال کما قالوا تُزلف وتُقرّب العبد إلی الله عزّ وجلّ وهی فیها ما فیها من عدم الخلوص وخلطها بالصالح والطالح، فکیف ظنک بمقام سیّد الرسل صلی الله علیه و آله؟!

فالعمل موجود مخلوق وکذا النبیّ صلی الله علیه و آله، ولکن لا قیاس ولا نسبة بینهما فی الوجاهة والقرب إذا توسّل بهما العبد.

الشبهة الخامسة: التوحید الإبراهیمیّ یأبی التوسّل بغیر الله:
اشارة

وذلک ما ورد فی الحدیث أن إبراهیم علیه السلام حین ألقی فی النار(عرض له جبرئیل وهو فی الهواء، فقال: ألک حاجة؟ فقال: أما إلیک فلا وأما من الله فبلی)(1) ، (قال جبرئیل: فسل ربّک، فقال: حسبی من سؤالی علمه بحالی، فقال الله عزّ وجلّ: یانار کونی برداً وسلاماً علی إبراهیم)(2) فالنبیّ إبراهیم علیه السلام فی هذا الحدیث یحصر التوجّه فی الحاجات إلی الله عزّ وجلّ

ص:468


1- (1) تفسیر ابن کثیر: ج 3 ص 193.
2- (2) زاد المسیر/ ابن الجوزی: ج 5 ص 254.

ویرفض کلّ واسطة ولو کانت بمنزلة جبرئیل علیه السلام، وهذا هو النفس التوحیدی الصحیح من مؤسّس التوحید ومکسّر الأصنام ومجاهد الوثنیة إبراهیم علیه السلام، إذ لم یوسّط حتی جبرئیل فی طلب حاجته.

إذاً لابدّ من نفی الشرک فی الواسطة وطلب الحاجة؛ إذ لا حجاب بین الله وبین خلقه، ولم یتّخذ الله تعالی أصناماً ولا أحجاراً ولا أشخاصاً لیتوجّه بها إلیه.

الجواب عن الشبهة الخامسة:

وهو ما یتعلّق بقصة إبراهیم علیه السلام عندما أُلقی فی النار، وما جری بینه وبین جبرئیل، حیث أن جبرئیل علیه السلام تدارک إبراهیم وهو فی حال الهویّ فی النار، وهی حالة عصیبة جدّاً، ولکن مع ذلک عندما عرض جبرئیل علیه السلام علیه قضاء حاجته وتخلیصه من محنته، قال علیه السلام: (علمه بحالی یغنی عن سؤالی)، فقالوا إن نفس عدم سؤال إبراهیم علیه السلام من جبرئیل معناه أن السؤال والاستغاثة بغیر الله تعالی غیر جائزة.

الردّ الأول: إن أی حادثة من الحوادث تتضمّن دائماً ملابسات تحتفّ بها لابدّ من معرفتها؛ لمدخلیتها فی استیضاح سیاق تلک الحادثة، وفی المقام مسائلة جبرئیل علیه السلام للنبیّ إبراهیم علیه السلام من أجل امتحانه وابتلائه وتفقّد رسوخ إیمانه وطمأنینته ورباطة جأشه؛ ولذا قال له: (أما إلیک فلا) لیبیّن له أنه لیس فی مقام طلب الحاجة والخوف والهلع وإنقاذ الموقف وأنه مطمئن النفس ثابت الإیمان متوکّل علی ربّه.

ص:469

ویعزّز هذه الدعوی قول إبراهیم علیه السلام لجبرئیل علیه السلام: (علمه بحالی یغنی عن سؤالی) مع أن السؤال والدعاء مرغوب فیه ومحبّب عند الله عزّ وجلّ، وقد حثّ القرآن الکریم فی آیات عدیدة علی السؤال والدعاء وطلب قضاء الحاجة من الله تعالی، وقد توعّد الله تعالی المستکبر علی عبادته ودعائه باللسان والقول.

إذن الدعاء من الأمور المرغوب فیها والمأمور بها، ومن الواضح المتّفق علیه أن الروایة فی المقام لا ترید أن تقول أن الدعاء باللسان أمر مرجوح ومرغوب عنه، بل إن الدعاء وطلب الحاجة بالقول واللسان من الآداب الإلهیة، وقد قال الله تعالی لنبیّه الأکرم صلی الله علیه و آله: (وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِی عِلْماً)1 وحاشا للنبیّ إبراهیم علیه السلام أن یخرج عن أعظم الآداب الإلهیة ولا یتقیّد بها؛ إذ الدعاء أعظم العبادات وروحها.

فهذا شاهد بیّن دامغ علی أن کلام إبراهیم علیه السلام بحسب السیاق فی مقام آخر، وهو مقام الامتحان للثبات علی الإیمان والطمأنینة به.

فأراد إبراهیم علیه السلام باکتفائه بعلم الله عزّ وجلّ بحاله أن یبیّن لجبرئیل علیه السلام أنه لیس علی وجل واضطراب، ویظهر له الثبات والحزم الذی هو علیه فی الحقیقة والواقع.

ودعاؤه علیه السلام فی خصوص ذلک الظرف والمقام قد یکون کاشفاً عن الوجل والتزلزل وعدم الطمأنینة، فهو علیه السلام لکمال ثباته وتوکّله علی الله تعالی

ص:470

أظهر ما هو علیه من رباطة الجأش والحزم وقوّة الإیمان.

فصدر الجواب وذیله فی هذا المقام الذی ذکرناه.

الردّ الثانی:

قد یقال هنا أن إبراهیم علیه السلام لم یستنجد بجبرئیل علیه السلام ولم یسأله لأنه أفضل منه، وذلک إن مقام أنبیاء أولی العزم أفضل من مقام الملائکة الذین أسجدهم وأطوعهم لآدم، وقد ورد فی روایات الفریقین أن جبرئیل علیه السلام فی مواطن عدیدة لم یتقدّم علی آدم لکونه مسجود الملائکة، ففی هذه الحالة یکون مقام السائل أرفع شأناً من مقام المسؤول، ونحن محلّ کلامنا فیما إذا کان السائل یتقرّب بواسطة المسؤول ویتوسل به إلی الله عزّ وجلّ، وإذا کان السائل أقرب مقاماً من المسؤول، فلا معنی للتوسّط والتشفّع والزلفی.

الردّ الثالث: أنه ینقض علیهم بموارد:

منها: أن الجاحدین للتوسّل یقرّون بأن الضرورة قائمة فی الدین - کما تقدّم - علی ثبوت الشفاعة الکبری لسید الأنبیاء یوم المعاد، وأنه یستشفع به صلی الله علیه و آله للنجاة الأبدیة، فإذا کان الاستشفاع شرکاً - حسب زعمهم - وخلاف منهج التوحید الذی هو ملّة إبراهیم الحنیف فکیف یسمح الباری بوقوعه یوم القیامة، ویُبشر به نبیّه، وأنه یعدّه الباری مقاماً محموداً؟!

ومنها: ما تقدّم من استشفاع آدم بسید الأنبیاء، فهل یظن بنبی الله وصفوته مجانبة طریق التوحید؟!

ص:471

الشبهة السادسة: التوسّل یعنی التفویض وعجز الله تعالی:
اشارة

قد یطرح هنا إشکال حول التوسّل بالوسائط، وهو دعوی أن الاعتقاد بالوسائط والتوسّل بها لاستدرار الفیض الإلهی قد یوجب اعتقاد العجز فی قدرة الله تعالی، ومما لاشک فیه أن الباری عزّ وجلّ واجب بالذات وغنی عن العالمین، فلابدّ من رفض الوسائط فی التوجّه إلی الله عزّ وجلّ.

وبعبارة أخری: إن السؤال والتوسّل والتوجّه إلی غیر الله تعالی یستبطن التفویض والغلو وبالتالی یؤدّی إلی الشرک؛ لأن التوسّل یتضمّن إسناد بعض الصلاحیات الإلهیة إلی الوسائل، وهو یعنی إثبات العجز إلی قدرة الباری تعالی وهو التفویض والغلو الباطل.

الجواب عن الشبهة السادسة: قصور الجاحدین للتوسّل عن معرفة التوحید فی الأفعال:

فی مقام ردّ هذه الشبهة نجیب بعدّة أجوبة:

الجواب الأول: إن الله عزّ وجلّ إذا أقدر مخلوقاً من المخلوقات علی بعض الأمور، فهو لا یعنی سلب القدرة عنه تعالی فی تلک الأمور، ولا یعنی أیضاً عزله عن صفاته التی منها الصفات التی أعزاها إلی کلماته ووسائطه، فلا تجافی ولا عزلة فی البین؛ لأن التجافی والعزلة من أحکام المادّة.

إذن الباری تعالی لا یتجافی ولا ینعزل عن القدرة التی أقدر بعض الموجودات علیها، بل هو أقدر من تلک الوسائط علی ما أقدرها علیه.

ص:472

ویقول الإمام زین العابدین علیه السلام فی هذا المقام:

«إن الله تبارک وتعالی لا یطاع باکراه ولا یعصی بغلبة ویهمل العباد فی الهلکة، ولکنه المالک لما ملّکهم، والقادر لما علیه أقدرهم» (1).

وقال أمیر المؤمنین علیه السلام فی وصفه لله عزّ وجلّ:

«لا تشبهه صورة ولا یحسّ بالحواس ولا یقاس بالقیاس، قریب فی بعده بعید فی قربه، فوق کلّ شیء ولا یقال: شیء تحته، وتحت کلّ شیء ولا یقال: شیء فوقه، أمام کلّ شیء ولا یقال له: أمام، داخل فی الأشیاء لا کشیء فی شیء داخل، وخارج من الأشیاء لا کشیء من شیء خارج، فسبحان من هو هکذا، ولا هکذا غیره، ولکلّ شیء مبتدأ» (2).

والحاصل: إن أقدار الله عزّ وجلّ وکّل عطیة إلهیة یجود بها علی مخلوقاته لیس تملیکها تملیکاً عزلیاً وبنحو التجافی، وإنما هو تملیک قیّومی إحاطی، فهو عزّ وجلّ بکلّ شیء محیط وقیّوم علی کلّ شیء، وهو المالک لما ملّکهم والقادر لما علیه أقدرهم، بل إن التملیک بعینه مخلوق من المخلوقات والمُعطی والعطیة کلّها قائمة بالله تعالی حدوثاً وبقاءً، فکیف یستقل المخلوق فی فعله وهو محتاج فی ذاته ومفتقر إلی قیومیّة الباری تعالی؟!

وهذا یعنی أن ذات المخلوق وفعله وتمکینه وتملیکه وإقداره علی بعض الأمور کلّها بحول الله وقوته، ولا یخرج عن حیطة قیومیّته، فلا مجال للتفویض

ص:473


1- (1) فقه الرضا علیه السلام / علی بن بابویه: ص 408.
2- (2) المحاسن/ البرقی: ج 1 ص 240، التوحید/ الصدوق: ص 285.

العزلی فی عالم الخلقة والامکان، ولیست الوسائط إلّامجار لفیض الله عزّ وجلّ وقدرته؛ لأجل عجز بعض القوابل عن التلقّی عن الله تعالی مباشرة.

الجاحدین للتوسّل بنوا جحودهم علی التفویض الأکبر:

الجواب الثانی: إن هذه الشبهة التی ذکروها تستبطن التفویض والغلو فی المخلوق؛ لأنها مبتنیة علی دعوی أن المخلوق مستقلّ عن خالقه فی الوجود بقاءً، وأن الله تعالی عندما ملّک وأقدر بعض الموجودات المادّیة علی بعض الأفعال الحیاتیة الیومیّة، کقدرة الشخص علی تحریک أعضائه مثلًا باختیاره، انعزلت قدرته عن تلک الأفعال، فإنهم فی شبهتهم المذکورة افترضوا أن إقدار الله عزّ وجلّ وتملیکه بعض الأفعال لبعض المخلوقات وأنها استقلال للمملوک عن المالک، کاستدرار الفیض الإلهی عن طریق الوسائط تفویض وغلو فی تلک المخلوقات، وحیث أنه مما لا ریب فیه أن الله تعالی - کما هو المشاهد حسّاً والمعلوم وجداناً - أقدر الموجودات المادّیة علی الکثیر من الأفعال التی نراها یومیاً، فإنه یقتضی اعتقادهم بمقالة المعتزلة التفویضیة المغالیة، وهی أن المخلوق محتاج إلی الخالق حدوثاً لا بقاءً، وأن الله تعالی بعد أن خلق الموجودات انعزلت قدرته عنها فی البقاء والعیاذ بالله -.

ولا فرق بین فعل وفعل من الناحیة العقلیة، فإذا کان التوسّل وجعل الوسیلة والشفاعة لبعض المخلوقات یوجب التفویض العزلی، فکذلک إقدارهم علی أفعالهم الحادثة الیومیة لابدّ أن یکون أیضاً محکوماً بقانون التفویض العزلی، وأن الله تعالی انعزل عن مخلوقاته بعد أن أوجدها وأقدرها

ص:474

وملّکها لأفعالها(1).

ولا شک أن هذا التفکیر مبنیّ علی الموازین الحسّیة المادّیة، ودعوی الفرق بین الأفعال الدنیویة الصغیرة والأفعال التدبیریة الخطیرة، کتدبیر السماوات والأرض، وإیصال فیض الله تعالی إلی الموجودات المادّیة الدانیة فی الوجود، حیث آمنوا ببطلان التفویض بجعل وسائط فی الفیض، وصحّحوا مقولة التفویض فی صغائر الأمور والأفعال المادیة الدنیویّة غیر الخطیرة.

مع أن موازین بطلان التفویض موازین عقلیة لا یفرق فیها بین الأفعال الصغیرة والخطیرة؛ لأن التفویض یوجب الشرک وهو باطل علی جمیع الأحوال.

ونحن نقول: إن المخلوق لا یستقلّ بذاته وفعله عن الباری تعالی حدوثاً وبقاءً، ولا یفعل المخلوق فعلًا أیّاً کان حجمه وخطورته إلّابإقدار الله وتمکینه وبحوله وقوته بدءاً واستدامة.

ولو کان أصحاب هذه الشبهة یرفضون فکرة التفویض مطلقاً ویوحّدون فی الخلقة حدوثاً وبقاءً لما حصلت لهم هذه الشبهة، لأن الله تعالی لا تنحسر قدرته عن المخلوق فی أصل خلقته وبعد خلقته، فهو دائماً یستمدّ وجوده وبقاءه من الفیض والمدد الإلهی، وهم أرادوا أن ینکروا التوسّل، وهو فعل من الأفعال للزوم التفویض، فوقعوا فیما هو أعظم وهو التفویض فی أصل وجود المخلوقات من حیث البقاء فضلًا عن أفعالها، مع أن الله تعالی دائم الفیض علی البریّة، والمخلوق فی کلّ آن من آنات وجوده محتاج إلی فیض

ص:475


1- (1) سند، محمد، الإمامة الإلهیة، 5 جلد، منشورات الإجتهاد - قم - ایران، چاپ: 1، 1427 ه -. ق.

باریه، لا یستقلّ عنه فی وجوده ولا ینادده فی فعله؛ إذ الباری قیّوم علی وجود المخلوق وأفعاله بنحو الأمر بین الأمرین، فلا ننفی المخلوقات وأفعالها کما فعل ذلک بعض جهلة الصوفیة، ولا نعزل قدرة الله تعالی عن مخلوقاته کما فعل المفوّضة، بل نقول کما قال الله عزّ وجلّ: (وَ ما رَمَیْتَ إِذْ رَمَیْتَ وَ لکِنَّ اللّهَ رَمی)1 .

الجواب الثالث: أن الجاحدین للتوسّل حیث کانوا عبّاد المذهب الحسّی المادی من حیث یشعرون أو من حیث تشبّع نفسیاتهم وذهنهم بذلک، حیث یبنون علی أن کلّ فعل حسّی هو فعل للمخلوقات، وکلّ فعل وراء الحسّ فهو فعل لاهوتی إلهی، أو أن الأفعال الصغیرة الحجم هی فعل للمخلوقات أما الأفعال الکبیرة فهی فعل إلهی، وعلی هذا المیزان یکون إماتة الموتی لا یصح إسنادها إلی الملک الموکّل وهو عزرائیل علیه السلام، لا سیما وأن الاماتة لا تقتصر علی بنی البشر فقط، بل تشمل جمیع بنی الجنّ وجمیع النباتات، بل وجملة الملائکة، فهذه القدرة بهذا الحجم کیف تسند وتعزی إلی الملک عزرائیل؟ مع أن قدرة الله تعالی أنفذ فیما أقدر عزرائیل علیه، وکذلک میکائیل الموکّل بتقسیم الأرزاق وتدبیرها لکلّ الکائنات الحیّة علی وجه الأرض، وکذلک جبرئیل الموکّل بالبطش والنقمة الإلهیّة ونشر العلم علی الکائنات المدرکة، وإسرافیل الموکّل بالإحیاء وغیر ذلک من عظائم الأفعال، فإنه علی منطق هؤلاء الجاحدین تکون قدرة الله معزولة عن تلک الأفعال کما توهّمه هؤلاء، وأنّ هذه الأفعال هی صلاحیات إلهیّة لا تقبل الاسناد لغیر

ص:476

الله.

فتبیّن أن الضابطة فی کون الفعل إلهیّاً هو صدوره عن الفاعل بمعزل عن قدرته غیره، ومن ثمّ لا یصحّ توهّم استقلال المخلوق فی الفعل ولو کان حقیراً صغیراً؛ إذ لو استقلّ لکان فاعلًا فعلًا إلهیّاً.

الشبهة السابعة: إیجاد المخلوقات الإمکانیة کلّه ابداعیّ بلا واسطة

قالوا فی المقام لِمَ لا یکون فعل الله تعالی دائماً إبداعیاً بکن فیکون بلا أی واسطة أو وسیلة؟ وهذا من مظاهر القدرة والهیمنة الإلهیة، بخلاف القول بالأفعال غیر الابداعیة، فهی تستبطن القول بعجز الله تعالی واحتیاجه إلی الأسباب فی عملیة الخلق والایجاد.

الجواب عن الشبهة السابعة:

ویُجاب عن هذه الشبهة بنفس الجواب السابق، ونضیف إلیه بعض الأجوبة الأخری:

الجواب الأول: لا ریب أننا نشاهد فی عالم الخلقة الامکانیة أفعالًا لبعض المخلوقات بل موجودات مخلوقة غیر ابداعیة، کما نصّ علی ذلک القرآن الکریم فی آیات عدیدة کما سیأتی - وأن الله تعالی کان عرشه علی الماء، ثم خلق السماوات والأرض، ثم خلق من الأرض النباتات والزرع، ثم خلق من الطین البدن الانسانی، وخلق الجنّ من نار السموم، وخلق من الماء کلّ شیء حیّ، وغیر ذلک من المخلوقات غیر الإبداعیة، التی توجد بعملیة التولید والتوالد بین الأسباب والمسبّبات، وبناءً علی ما ذکروه من الشبهة، من

ص:477

أن کلّ فعل غیر ابداعی، فهو مستبطن للعجز والحاجة إلی الوسیلة والأسباب ویکون اسناد تلک المخلوقات غیر الابداعیة إلی الله تعالی إسناداً للعجز والحاجة إلی الله عزّ وجلّ، وإن لم نُسند تلک المخلوقات إلی الله تعالی نقع فی معضلة الشرک فی الخالقیة وهو شرک أعظم؛ لأن شطراً وافراً من المخلوقات کالموجودات المادّیة فی أصل وجودها فضلًا عن أفعالها یتمّ تخلیقها عن طریق الأسباب والوسائط لا بنحو الابداع، فإن اسندناها إلی الباری تعالی علی زعمهم - یلزم نسبة العجز إلی الخالق، وإن لم نسندها إلیه عزّ وجلّ یلزم القول بالشرک فی الخالقیة وخروج تلک الموجودات عن حیطة قدرته تعالی.

فالصحیح: إن الله تعالی خالق کلّ شیء سواء کان بالابداع أو التخلیق، والسببیّة لا توجب الشرک ولا نسبة العجز إلی الله تعالی؛ لأن المخلوق الذی یکون واسطة ووسیلة فی تخلیق بعض المخلوقات لا یخرج عن حیطة القدرة الإلهیة، فهو بتمام شراشر وجوده مفتقر إلی باریه فی الحدوث والبقاء وفی فعله وأصل وجوده، وإذا صار الماء مثلًا واسطة فی تخلیق کلّ شیء حیّ لا یعنی عجز الباری، لأن الماء بتمام وجوده مفتاق إلی خالقه ولا یستغنی فی فعله عنه، ففعل الماء فعل الله تعالی، والماء مجری الفیض وسبب إعدادیّ لخالقیة الله عزّ وجلّ.

ثم إن البارئ والمصوّر من أسماء الله تعالی، والبَرء عملیة تحویل وإیجاد وإیجاب شیء من شیء آخر، ثم بعد البرء تأتی عملیة تشکیل الصورة، وهذه کلّها دائرة الموجودات غیر الابداعیة، وهی تحت هیمنة الأسماء الإلهیة، کالبارئ والمصوّر ولا تخرج عن حیطة قدرته عزّ وجلّ.

ص:478

سبب جحود التوسّل القصور
فی معرفة کنه ذوات المسبّبات والأسباب:

الجواب الثانی: إن الاحتیاج إلی الأسباب والوسائط لیس لعجز فی الباری تبارک وتعالی، بل لعجز وعدم قابلیة فی ذات الممکن، وذلک لأن بعض الموجودات الممکنة لا یمکن أن تفرض لها شیئیة إلّابعد وجود موجودات أخری سابقة علیها، فالجسم مثلًا لا یمکن أن یخرج إلی الوجود إلّامن المادة؛ لعدم قابلیة الجسم إلّاأن یکون متقوّماً بالمادّة، والله عزّ وجلّ علی کلّ شیء قدیر، ولا شیئیة للجسم قبل المادّة لکی تتعلّق به القدرة؛ إذ اللّاشیئیة عدم وبطلان وعجز وفقدان، ولا معنی لأن تتعلق القدرة الإلهیة بالعجز والبطلان.

نعم إذا فُرض کونه شیئاً بواسطة السبب تتعلّق به القدرة حینئذٍ، فالأشیاء التی هی ذوات أسباب ذواتها متقوّمة ذاتیاً قوامیاً بنیویاً وهویة بتلک الأسباب، فنفی فرض الأسباب نفی لأصل ذواتها، فیرجع إلی التناقض، لا للعجز فی قدرة الباری تعالی، کمن یرید أن یفترض الجسم بلا أن یکون له أبعاد ممتدّة، فهؤلاء تخیّلوا أن الأسباب والوسائط منحازة عن أصل ذوات الأشیاء المخلوقة فی الدرجات المتوسّطة والنازلة من عوالم الخلقة، فیرجع جحودهم للوسائل إلی الجهل بحقائق المخلوقات، ولو کان وجود الأسباب والوسائط یعنی العجز لکانت سنّة الله تعالی فی تدبیر الخلقة بتوسّط الملائکة عجز فی الساحة الإلهیة والعیاذ بالله -، لا سیّما وأن القرآن الکریم یسند جملة

ص:479

أفعال الخلقة وعظائم الأفعال إلی الملائکة.

الجواب الثالث: وهو عبارة عن الشواهد والطوائف القرآنیة الدالّة علی وقوع التخلیق من الله تعالی عبر الوسائط من ملائکة ورسل وغیر ذلک، وأن نظام الخلقة علی نحوین: إبداعیّ وتخلیقیّ، کما قال عزّ وجلّ: (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ)1 .

وإلیک بعض تلک الطوائف:

الطائفة الأولی: آیات الإماتة وتوفّی الأنفس، وقد أسند التوفّی فیها إلی الله عزّ وجلّ وإلی الملائکة وإلی ملک الموت خاصّة:

الاسناد الأول: إسناد توفّی الأنفس إلی الملائکة.

1 - قوله تعالی: (إِنَّ الَّذِینَ تَوَفّاهُمُ الْمَلائِکَةُ ظالِمِی أَنْفُسِهِمْ)2 .

2 - قوله تعالی: (الَّذِینَ تَتَوَفّاهُمُ الْمَلائِکَةُ ظالِمِی أَنْفُسِهِمْ)3 .

3 - قوله تعالی: (الَّذِینَ تَتَوَفّاهُمُ الْمَلائِکَةُ طَیِّبِینَ یَقُولُونَ سَلامٌ عَلَیْکُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما کُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)4 .

4 - قوله تعالی: (حَتّی إِذا جاءَ أَحَدَکُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَ هُمْ لا یُفَرِّطُونَ)5 .

ص:480

5 - قوله تعالی: (حَتّی إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا یَتَوَفَّوْنَهُمْ)1 .

6 - قوله تعالی: (لَوْ تَری إِذْ یَتَوَفَّی الَّذِینَ کَفَرُوا الْمَلائِکَةُ یَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبارَهُمْ وَ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِیقِ)2 .

7 - قوله تعالی: (فَکَیْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِکَةُ یَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبارَهُمْ)3 .

8 - قوله تعالی: (وَ لَوْ تَری إِذِ الظّالِمُونَ فِی غَمَراتِ الْمَوْتِ وَ الْمَلائِکَةُ باسِطُوا أَیْدِیهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَکُمُ الْیَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما کُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَی اللّهِ غَیْرَ الْحَقِّ وَ کُنْتُمْ عَنْ آیاتِهِ تَسْتَکْبِرُونَ)4 .

وغیر ذلک من الآیات المبارکة التی نلاحظ فی مجموعها أن الله سبحانه وتعالی قد نسب وأسند وفاة الأنفس إلی الملائکة من باب التوسیط، مع أن الممیت من أسماء الله تعالی ولا منافاة فی ذلک، ولا یلزم منه العجز؛ لأن الملک بکلّ وجوده وأفعاله قائم بالله تعالی ومفتقر إلیه حدوثاً وبقاءً.

وفی الآیات الثلاثة الأخیرة یسند الله عزّ وجلّ العذاب إلی الملائکة وفی الوقت ذاته ینسب الله عزّ وجلّ العذاب والتعذیب إلی نفسه ولا منافاة فی ذلک لما تقدم.

الاسناد الثانی: وهی الآیات التی یسند الله عزّ وجلّ فیها التوفّی إلیه مباشرة:

ص:481

1 - قوله تعالی: (اللّهُ یَتَوَفَّی الْأَنْفُسَ حِینَ مَوْتِها وَ الَّتِی لَمْ تَمُتْ فِی مَنامِها)1 .

2 - قوله تعالی: (وَ هُوَ الَّذِی یَتَوَفّاکُمْ بِاللَّیْلِ وَ یَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ)2 .

3 - قوله تعالی: (وَ اللّهُ خَلَقَکُمْ ثُمَّ یَتَوَفّاکُمْ)3 .

4 - قوله تعالی: (قُلْ یا أَیُّهَا النّاسُ إِنْ کُنْتُمْ فِی شَکٍّ مِنْ دِینِی فَلا أَعْبُدُ الَّذِینَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ وَ لکِنْ أَعْبُدُ اللّهَ الَّذِی یَتَوَفّاکُمْ وَ أُمِرْتُ أَنْ أَکُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ)4 .

وکما أسلفنا لا تنافی بین الاسناد الأول والثانی وکذلک الثالث الآتی، وکلّ منها اسناد حقیقی، لأن الملائکة لا حول لهم ولا قوة إلّابالله تعالی.

ویدلّ علی هذه الطولیة فی الاسناد السیاق الواحد فی آیتی سورة النحل المتقدّمتین، حیث أسند فی أحدهما التوفّی إلی الله تعالی وفی الأخری إلی الملائکة.

الاسناد الثالث: إسناد التوفّی إلی ملک الموت:

قوله تعالی: (قُلْ یَتَوَفّاکُمْ مَلَکُ الْمَوْتِ الَّذِی وُکِّلَ بِکُمْ)5 .

فإسناد الإماتة إلی ملک الموت والرسل فی وقت واحد یعنی أن بقیّة

ص:482

الملائکة أعوان لملک الموت، تحت هیمنته وقدرته، کما جاء ذلک فی روایات الفریقین.

والحاصل: أن برنامج الإماتة لکلّ ذی روح تحت تدبیر وإدارة

ملک الموت، وهو یدیر ذلک البرنامج التکوینی عن طریق رسله وأعوانه الذین هم تحت إمرته وسلطانه وقدرته، وهو فی الوقت ذاته تحت سلطان الله عزّ وجلّ وقدرته، وافتقاره، واحتیاجه إلی الله عزّ وجلّ حدوثاً وبقاءً أشدّ من احتیاج الملائکة من أعوانه إلیه بما لا یقاس.

ومن هذا البیان یتّضح أن إسناد فعل إلی الملائکة لا یعنی عدم إسناده إلی الباری تعالی، وهکذا إسناد فعل إلی الملائکة لا یعنی عدم إسناده إلی ذات أخری شریفة تهیمن علی الملائکة، وتکون الملائکة رسلًا وأعواناً لها وتحت سلطانها، کملک الموت الذی یدبّر الملائکة بإقدار الله تعالی وتدبیره، ووراء ملک الموت مخلوقات أخری أشرف منه تدبّره وتدیر شؤون عالم الإمکان بإذن الله تعالی وهم خلفاء الله تعالی.

الطائفة الثانیة: وهی الآیات التی صرحت بإیکال بعض الأفعال والأمور التدبیریّة إلی بعض المخلوقات.

1 - قال تعالی: (قُلْ یَتَوَفّاکُمْ مَلَکُ الْمَوْتِ الَّذِی وُکِّلَ بِکُمْ)1 .

2 - وقال عزّ وجلّ: (فَإِنْ یَکْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَکَّلْنا بِها قَوْماً لَیْسُوا بِها)

ص:483

(بِکافِرِینَ)1 .

وهذا التوکیل المذکور فی الآیتین الکریمتین لیس علی نسق إیکال مخلوق إلی مخلوق آخر؛ لأنه فی باب الوکالات الاعتباریة والقانونیة هناک نوع من الاستقلال للوکیل عن الموکّل فی الفعل، وفیه نوع من أنواع التفویض العزلی وإن لم یکن تفویضاً واستقلالًا وانعزالًا تاماً؛ لإمکان عزله فی کلّ آن آن، وأما فی توکیل الله تعالی بعض المخلوقات فلیس هو توکیلًا وتفویضاً عزلیاً تنحسر فیه قدرة الباری عن الفعل الموکّل فیه، لأنها وکالة افتقار وتقوّم فعل الوکیل بالموکّل، فالله تعالی أقدر بعض مخلوقاته وأوکل لهم بعض الأمور بلا انعزال عمّا وکّلهم فیه، بل هو تعالی فیما أقدرهم علیه أقدر بما لا یتناهی من القدرة، لأن وجودهم فضلًا عن فعلهم متقوّم بذات الباری تعالی حدوثاً وبقاءً، وهو الحیّ القیّوم الذی به قامت السماوات والأرض.

ثم إن التوکیل الذی ورد فی سورة الأنعام توکیل لدنّی لجماعة من الانس، وهذه من التعابیر القرآنیة الدالّة علی وجود الارتباط اللّدنی بین الله تعالی ومجموعة من البشر، لم یکفروا بالله عزّ وجلّ طرفة عین.

الطائفة الثالثة: وهی الدالّة علی توسیط بعض المخلوقات فی الخلق:

1 - قوله تعالی: (الَّذِی جَعَلَ لَکُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَ السَّماءَ بِناءً وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَکُمْ)2 ، فإخراج الثمرات لیس إبداعیّ بل توسیطیّ، فالباری تعالی یُخرج بواسطة الماء الثمرات، والخالق هو

ص:484

الله تعالی ولیس الماء إلّاوسیطاً فی جریان الفیض الإلهی.

2 - قوله تعالی: (وَ هُوَ الَّذِی أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ کُلِّ شَیْ ءٍ)1 .

3 - قوله تعالی: (وَ اللّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْیا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِی ذلِکَ لَآیَةً لِقَوْمٍ یَسْمَعُونَ)2 .

4 - قوله تعالی: (وَ ما أَنْزَلَ اللّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْیا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ بَثَّ فِیها مِنْ کُلِّ دَابَّةٍ)3 .

وقد قرّر الحکماء وجود حیاة نباتیة، کما أکّدت ذلک العلوم المادّیة، وهذه الحیاة والإحیاء یحصل بواسطة الماء ولو إعداداً، فکیف یستعظم ذلک علی من هو أشرف من الماء وأعظم عند الله تعالی؟!

5 - قوله تعالی: (وَ یُنَزِّلُ عَلَیْکُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِیُطَهِّرَکُمْ بِهِ وَ یُذْهِبَ عَنْکُمْ رِجْزَ الشَّیْطانِ)4 .

فالطهارة التی هی أمر معنوی ونوری یحصل من الله تعالی بواسطة الماء؛ لأنها لیست من الأفعال الإبداعیة بل التخلیقیة.

6 - قوله تعالی: (وَ هُوَ الَّذِی خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِی سِتَّةِ أَیّامٍ)

ص:485

(وَ کانَ عَرْشُهُ عَلَی الْماءِ لِیَبْلُوَکُمْ أَیُّکُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)1 .

والعرش هو القدرة الإلهیة، فقدرته تعالی علی الماء، والماء واسطة فی فیض القدرة، علی الاختلاف فی المراد من الماء فی الآیة الکریمة.

فالقوابل محدودة ونشأة الماء هی الواسطة فی تقبّل الفیوضات الإلهیة.

7 - قوله تعالی: (وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ کُلَّ شَیْ ءٍ حَیٍّ أَ فَلا یُؤْمِنُونَ)2 .

8 - قوله تعالی: (وَ اللّهُ خَلَقَ کُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ)3 .

9 - قوله تعالی: (وَ هُوَ الَّذِی خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً)4 .

10 - قوله تعالی: (یُنَزِّلُ الْمَلائِکَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلی مَنْ یَشاءُ مِنْ عِبادِهِ)5 .

فالروح الذی هو خلق أعظم من الملائکة سبب وواسطة إلهیة لنزول الملائکة وعروجها.

الطائفة الرابعة: إسناد الخلق والتخلیق إلی بعض المخلوقات:

1 - قوله تعالی: (أَ وَ لَمْ یَرَوْا أَنّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمّا عَمِلَتْ أَیْدِینا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِکُونَ)6 .

ص:486

فأُسند الخلق إلی الأیدی الإلهیة وهی القدرة، إذ لا شک أن الله تعالی لا ید جسمانیة له، فیده قدرته وتصرّفه المخلوق له الخارج عن الذات المقدّسة، وهذه الید المخلوقة تعمل وتخلق الأنعام بالمباشرة.

2 - قوله تعالی: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّکَ الْأَعْلَی * اَلَّذِی خَلَقَ فَسَوّی)1 .

فالتسبیح فی هذه الآیة الکریمة أسند إلی الإسم، و(الَّذِی) وصف للمضاف إلی الربّ وهو الاسم، فالإسم هو الذی خلق فسوّی وقدّر فهدی، والإسم غیر المسمّی قائم به ومخلوق من مخلوقاته، کما جاء ذلک فی سورة الرحمن فی قوله تعالی: (وَ یَبْقی وَجْهُ رَبِّکَ ذُو الْجَلالِ وَ الْإِکْرامِ)2 ، فالجلال والإکرام وصف لوجه الربّ لا لنفس الربّ، وهو مخلوق من المخلوقات وآیة یتوجّه بها إلی الله عزّ وجلّ، والشاهد علی المغایرة ما جاء فی آخر سورة الرحمن، حیث جعل وصف الجلال والإکرام صفة للربّ لا للوجه، حیث قال تعالی: (تَبارَکَ اسْمُ رَبِّکَ ذِی الْجَلالِ وَ الْإِکْرامِ)3 ، ولیس المراد من الاسم والوجه فی الآیة المبارکة جزء الذات الجسمانی، کما توهّم ذلک المجسّمة والحشویة، تعالی الله عن ذلک علواً کبیراً، بل المراد منه الآیة الکبری الدالّة علی عظمة الله عزّ وجلّ والقائمة الوجود به، وقد أطلق علی البیت الحرام والکعبة أنهما وجه الله تعالی الذی یتوجّه به إلیه، کما فی قوله عزّ وجلّ: (وَ حَیْثُ ما کُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَکُمْ شَطْرَهُ) وقال تعالی أیضاً: (فَأَیْنَما تُوَلُّوا)

ص:487

(فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ) مما یدلّل علی أن البیت الحرام أحد الوجوه والآیات الکبری التی یتوجّه إلی الله عزّ وجلّ بها، وکذلک الأنبیاء، حیث أطلق علی موسی وعیسی علیهما السلام أنهما وجیهین عند الله تعالی، کما تقدّم أنهما کلمات الله وأسمائه.

3 - قوله تعالی: (وَ رَسُولاً إِلی بَنِی إِسْرائِیلَ أَنِّی قَدْ جِئْتُکُمْ بِآیَةٍ مِنْ رَبِّکُمْ أَنِّی أَخْلُقُ لَکُمْ مِنَ الطِّینِ کَهَیْئَةِ الطَّیْرِ فَأَنْفُخُ فِیهِ فَیَکُونُ طَیْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَ أُبْرِئُ الْأَکْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ وَ أُحْیِ الْمَوْتی بِإِذْنِ اللّهِ وَ أُنَبِّئُکُمْ بِما تَأْکُلُونَ وَ ما تَدَّخِرُونَ فِی بُیُوتِکُمْ إِنَّ فِی ذلِکَ لَآیَةً لَکُمْ إِنْ کُنْتُمْ مُؤْمِنِینَ)1 .

4 - قوله تعالی: (وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُیِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ کُلِّمَ بِهِ الْمَوْتی بَلْ لِلّهِ الْأَمْرُ جَمِیعاً أَ فَلَمْ یَیْأَسِ الَّذِینَ آمَنُوا أَنْ لَوْ یَشاءُ اللّهُ لَهَدَی النّاسَ جَمِیعاً)2 ، فهنا أسند تسییر الجبال وتقطیع الأرض وتکلیم الموتی أی إحیائهم إلی القرآن الکریم.

الطائفة الخامسة: وهی التی عُبّر فیها بالمُلک، وأن الله تعالی أملک کثیراً من الأمور لمخلوقاته الشریفة من دون أن یکون هذا التملیک عزلی تفویضی، بل کلّما تلقی المخلوق من باریه فیضاً أکثر ومرتبة أعلی وأشرف فی الوجود کلّما کان أکثر فقراً إلی الله عزّ وجلّ من غیره، ومن ثم کان الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله أعبد الخلائق إلی الله تعالی، لأنه أکثرهم فقراً إلی الله عزّ وجلّ، کما أثر ذلک عنه صلی الله علیه و آله حیث کان یقول: (الفقر فخری)، وإلیک بعض تلک الآیات فی المقام:

ص:488

1 - قوله تعالی: (أَمْ یَحْسُدُونَ النّاسَ عَلی ما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَیْنا آلَ إِبْراهِیمَ الْکِتابَ وَ الْحِکْمَةَ وَ آتَیْناهُمْ مُلْکاً عَظِیماً)1 .

والملک العظیم الذی أعطی لآل إبراهیم هو الإمامة، ولم یُعبّر عن غیر الإمامة بالملک العظیم.

2 - قوله تعالی: (قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِی وَ هَبْ لِی مُلْکاً لا یَنْبَغِی لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِی)2 .

3 - قوله تعالی: (وَ إِذا رَأَیْتَ ثَمَّ رَأَیْتَ نَعِیماً وَ مُلْکاً کَبِیراً)3 .

4 - (وَ شَدَدْنا مُلْکَهُ وَ آتَیْناهُ الْحِکْمَةَ وَ فَصْلَ الْخِطابِ)4 .

5 - (وَ قالَ لَهُمْ نَبِیُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَکُمْ طالُوتَ مَلِکاً)5 .

6 - (قُلِ اللّهُمَّ مالِکَ الْمُلْکِ تُؤْتِی الْمُلْکَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ الْمُلْکَ مِمَّنْ تَشاءُ وَ تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِیَدِکَ الْخَیْرُ إِنَّکَ عَلی کُلِّ شَیْ ءٍ قَدِیرٌ)6 .

والملک فی هذه الآیة لیس خاصّاً بالملک الأرضی، بل هو عامّ شامل لمطلق النشآت.

ص:489

7 - (وَ نادَوْا یا مالِکُ لِیَقْضِ عَلَیْنا رَبُّکَ)1 ، فوصف الله عزّ وجلّ خازن النیران الملک الموکّل بالنار بمالک؛ لأنه ملّکه القدرة علی تدبیر النیران.

8 - (وَ الْمَلَکُ عَلی أَرْجائِها وَ یَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّکَ فَوْقَهُمْ یَوْمَئِذٍ ثَمانِیَةٌ)2 ، والعرش هو مقام القدرة والله تعالی أقدر أربعة من الأوّلین وأربعة من الآخرین علی حمله بلا تفویض.

9 - قوله تعالی: (وَ إِنْ تَظاهَرا عَلَیْهِ فَإِنَّ اللّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَ جِبْرِیلُ وَ صالِحُ الْمُؤْمِنِینَ وَ الْمَلائِکَةُ بَعْدَ ذلِکَ ظَهِیرٌ)3 .

10 - قوله تعالی: (إِذْ تَسْتَغِیثُونَ رَبَّکُمْ فَاسْتَجابَ لَکُمْ أَنِّی مُمِدُّکُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِکَةِ مُرْدِفِینَ)4 .

11 - (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِینَ أَ لَنْ یَکْفِیَکُمْ أَنْ یُمِدَّکُمْ رَبُّکُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِکَةِ مُنْزَلِینَ)5 .

12 - (یُمْدِدْکُمْ رَبُّکُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِکَةِ مُسَوِّمِینَ)6 .

الطائفة السادسة: ما ذکر فیها نسبة الإهلاک إلی نفسه تعالی وإلی بعض مخلوقاته.

ص:490

1 - قوله تعالی: (وَ لَقَدْ أَهْلَکْنا ما حَوْلَکُمْ مِنَ الْقُری وَ صَرَّفْنَا الْآیاتِ لَعَلَّهُمْ یَرْجِعُونَ)1 .

2 - (فَأَمّا ثَمُودُ فَأُهْلِکُوا بِالطّاغِیَةِ)2 .

3 - (وَ أَمّا عادٌ فَأُهْلِکُوا بِرِیحٍ صَرْصَرٍ عاتِیَةٍ)3 .

4 - (وَ لَمّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِیمَ بِالْبُشْری قالُوا إِنّا مُهْلِکُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْیَةِ)4 .

5 - (فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَیْهِ حاصِباً وَ مِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّیْحَةُ وَ مِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَ مِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا)5 .

الطائفة السابعة: إسناد تدبیر بعض المخلوقات عن طریق الریاح:

1 - قوله تعالی: (وَ أَرْسَلْنَا الرِّیاحَ لَواقِحَ)6 .

2 - (اللّهُ الَّذِی یُرْسِلُ الرِّیاحَ فَتُثِیرُ سَحاباً)7 .

3 - (وَ هُوَ الَّذِی أَرْسَلَ الرِّیاحَ بُشْراً بَیْنَ یَدَیْ رَحْمَتِهِ)8 .

4 - (وَ مِنْ آیاتِهِ أَنْ یُرْسِلَ الرِّیاحَ مُبَشِّراتٍ)9 .

ص:491

5 - (وَ اللّهُ الَّذِی أَرْسَلَ الرِّیاحَ فَتُثِیرُ سَحاباً)1 .

والحاصل: إنّ نظام الخلقة فی السنّة الإلهیّة نظام الأسباب والمسبّبات، کما نصّ علی ذلک متواتر آیات القرآن الکریم، وما ورد من روایات الفریقین

«أبی الله أن یجری الأمور إلّابأسبابها»، وذلک لأن الأمور ذواتها متقوّمة بالأسباب فی هویتها، فهم یجهلون نظام الخلقة والمخلوقات.

خاتمة فی:

أ - الروایات الواردة فی مشروعیة التوسّل والتشفّع والتبرّک:

الروایات فی هذا المجال کثیرة جدّاً، نشیر إلی بعض ما ورد منها فی الکتب السنّیة:

1 - ما أخرجه البخاری فی صحیحه عن الجعید بن عبد الرحمن قال:

(سمعت السائب بن یزید قال: ذهبت بی خالتی إلی رسول الله صلی الله علیه و آله، فقالت: یارسول الله إن ابن أختی وجع، فمسح رأسی ودعا لی بالبرکة وتوضّأ فشربت من وضوئه) (1).

2 - کذلک روی البخاری فی صحیحه عن عون بن أبی جحیفة عن أبیه قال: (رأیت رسول الله صلی الله علیه و آله فی قبّة حمراء من أدم، ورأیت بلالًا أخذ وضوء رسول الله صلی الله علیه و آله ورأیت الناس یتبدّرون ذاک الوضوء، فمن أصاب منه شیئاً

ص:492


1- (2) صحیح البخاری: ج 4 کتاب المناقب، باب صفة النبی صلی الله علیه و آله ص 163.

تمسّح به، ومن لم یصب منه شیئاً أخذ من بلل ید صاحبه) (1).

3 - وأخرج مسلم فی صحیحه عن أنس قال: (لقد رأیت رسول الله صلی الله علیه و آله والحلّاق یحلقه وأطاف به أصحابه، فما یریدون أن تقع شعرة إلّافی ید رجل)(2).

قال النووی فی شرحه لصحیح مسلم تعلیقاً علی مثل هذه الروایات: (وفی هذه الأحادیث بیان بروزه صلی الله علیه و آله للناس وقربه منهم... وإجابته من سأله حاجة أو تبریکاً بمسّ یده وإدخالها فی الماء کما ذکروا، وفیه التبرّک بآثار الصالحین وبیان ما کانت الصحابة علیه من التبرّک بآثاره صلی الله علیه و آله وتبرّکهم بإدخال یده الکریمة فی الآیة وتبرّکهم بشعره الکریم وإکرامهم إیاه أن یقع شیء منه إلّافی ید رجل سبق إلیه)(3).

إذن هذه الشواهد وغیرها کاشفة عن أن سیرة المسلمین منذ الصدر الأول کانت قائمة علی التبرّک بما یتصل بالنبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله، من دون ردع ونهی، وهذا دالّ علی مشروعیة ما کان یأتی به الصحابة، وقلنا أن التبرّک یجتمع مع التوسّل والاستغاثة فی ماهیة واحدة وهی التوسیط، فالتبرّک طلب البرکة ونوع توسّل واستشفاع بما یرتبط بالأولیاء والأوصیاء والحجج من أشیاء.

4 - وفی الجامع الصغیر للسیوطی: (غبار المدینة شفاء من الجذام)(4) ،

ص:493


1- (1) صحیح البخاری: ج 1 کتاب الصلاة، باب الصلاة فی الثوب الأحمر ص 92.
2- (2) صحیح مسلم: ج 7 ص 79.
3- (3) شرح مسلم: ج 15 ص 82.
4- (4) الجامع الصغیر: ج 2 ص 197.

وقال المناوی فی فیض القدیر بعد نقل مثل هذه الروایات: (قال السمهودی: قد شاهدنا من استشفی به منه وکان قد أضرّ به فنفعه جدّاً)(1).

5 - أخرج الحاکم فی المستدرک عن عثمان بن حنیف أن رجلًا ضریر البصر أتی النبیّ صلی الله علیه و آله فقال: یارسول الله علّمنی دعاءً أدعو به یردّ الله علیّ بصری، فقال له: قل:

«اللّهم إنی أسألک وأتوجّه إلیک بنبیک نبیّ الرحمة، یامحمّد إنی قد توجّهت بک إلی ربّی، اللّهم شفّعه فیّ وشفّعنی فی نفسی».

فدعا بهذا الدعاء، فقام وقد أبصر(2).

6 - روی البیهقی فی خبر صحیح إنه فی أیام عمر جاء رجل إلی قبر النبیّ صلی الله علیه و آله فقال: یامحمّد استسق لأمتک، فسقوا(3).

7 - أخرج النسائی عن عبدالله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله یقول:

«إذا سمعتم المؤذّن فقولوا مثل ما یقول، وصلّوا علیّ، فإنه من صلّی علیّ صلاة صلّی الله علیه عشراً، ثم سلوا الله لی الوسیلة، فإنها منزلة فی الجنّة لا تنبغی إلّا لعبد من عباد الله، أرجو أن أکون أنا هو، فمن سأل لی الوسیلة حلّت له الشفاعة» (4).

8 - روی مسلم عن عائشة عن النبیّ صلی الله علیه و آله قال: «ما من میّت تصلّی علیه

ص:494


1- (1) فیض القدیر شرح الجامع الصغیر: ج 4 ص 526.
2- (2) المستدرک: ج 1 ص 526.
3- (3) سنن البیهقی: ج 3 ص 326.
4- (4) سنن النسائی: ج 2 ص 26.

أمة من المسلمین یبلغون مئة کلّهم یشفعون له إلّاشفّعوا فیه» (1).

9 - روی مسلم أیضاً عن النبیّ صلی الله علیه و آله قال: «ما من رجل مسلم یموت فیقوم علی جنازته أربعون رجلًا، لا یشرکون بالله شیئاً إلّاشفّعهم الله فیه»(2).

. 10 - ما أخرجه الطبرانی وغیره عن أبی سعید الخدری، قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله: «إذا خرج الرجل من بیته إلی الصلاة فقال: اللّهم إنی أسألک بحقّ السائلین علیک وبحقّ ممشای، فإنی لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ریاء ولا سمعة، خرجت اتقاء سخطک وابتغاء مرضاتک، أسألک أن تنقذنی من النار وأن تغفر لی ذنوبی، إنه لا یغفر الذنوب إلّاأنت، وکّل الله عزّ وجلّ به سبعین ألف ملک یستغفرون له، وأقبل الله تعالی علیه بوجهه حتی یقضی صلاته»(3)).

11 - کذلک ما أخرجه الطبرانی عن ابن عباس عن النبیّ صلی الله علیه و آله قال:

«من سرّه أن یوعیه الله عزّ وجلّ حفظ القرآن وحفظ أصناف العلم، فلیکتب هذا الدعاء فی إناء نظیف، أو فی صحفة قواریر بعسل وزعفران وماء مطر ویشربه علی الریق، ولیصم ثلاثة أیام، ولیکن إفطاره علیه، فإنه یحفظها إن شاء الله عزّ وجلّ، ویدعو به فی أدبار صلواته المکتوبة:

اللّهمّ إنی أسألک بأنک مسؤول لم یُسأل مثلک ولا یُسأل، أسألک بحقّ محمّد رسولک ونبیّک وإبراهیم خلیلک وصفیّک وموسی کلیمک ونجیّک وعیسی کلمتک وروحک، وأسألک بصحف إبراهیم وتوراة موسی وزبور

ص:495


1- (1) صحیح مسلم: ج 3 ص 53.
2- (2) المصدر السابق.
3- (3) کتاب الدعاء/ الطبرانی: ص 145، مسند أحمد: ج 3 ص 21.

داود وإنجیل عیسی وفرقان محمّد صلی الله علیه و آله، وأسألک بکلّ وحی أوحیته وبکلّ حقّ قضیته وبکلّ سائل أعطیته، وأسألک بأسمائک التی دعاک بها أنبیاؤک فاستجیب لهم، وأسألک باسمک المخزون المکنون الطهر الطاهر المطهّر المبارک المقدّس الحیّ القیّوم ذی الجلال والاکرام، وأسألک باسمک الواحد الأحد الصمد الفرد الوتر الذی ملأ الأرکان کلّها، وأسألک باسمک الذی وضعته علی السماوات فقامت، وأسألک باسمک الذی وضعته علی الأرضین فاستقرّت، وأسألک باسمک الذی وضعته علی الجبال فرست، وأسألک باسمک الذی وضعته علی اللیل فأظلم، وأسألک باسمک الذی وضعته علی النهار فاستنار، وأسألک باسمک الذی یحیی به العظام وهی رمیم، وأسألک بکتابک المنزل بالحقّ ونورک التام، أن ترزقنی حفظ القرآن وحفظ أصناف العلم وتثبّتها فی قلبی، وأن تستعمل بها بدنی فی لیلی ونهاری أبداً ما أبقیتنی یاأرحم الراحمین) (1).

12 - أخرج الهیثمی فی مجمع الزوائد عن العباس عن النبیّ صلی الله علیه و آله أنه قال:

«قال داود: أسألک بحقّ آبائی إبراهیم وإسحاق ویعقوب» (2).

13 - روی جمال الدین الزرندی الحنفی عن جعفر بن محمّد عن أبیه عن جدّه عن النبیّ صلی الله علیه و آله أنه قال: «إذا هالک أمر فقل: اللّهم صلِّ علی محمّد وآل محمّد اللّهم إنی أسألک بحقّ محمّد وآل محمّد أن تکفینی شرّ ما أخاف

ص:496


1- (1) کتاب الدعاء/ الطبرانی: ص 398.
2- (2) مجمع الزوائد: ج 8 ص 202.

وأحذر، فإنک تکفی ذلک الأمر» (1).

14 - أخرج الحاکم الحسکانی عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله:

«لما نزلت الخطیئة بآدم وأُخرج من جوار ربّ العالمین، أتاه جبرئیل فقال: یاآدم ادع ربّک، قال: یاحبیبی جبرئیل وبما أدعوه؟ قال: قل: یاربّ أسألک بحقّ الخمسة الذین تخرجهم من صلبی آخر الزمان إلّاتبت علیّ ورحمتنی، فقال: حبیبی جبرئیل سمّهم لی، قال: محمّد النبیّ وعلیّ الوصیّ وفاطمة بنت النبیّ والحسن والحسین سبطیّ النبیّ، فدعا بهم آدم فتاب الله علیه، وذلک قوله: (فَتَلَقّی آدَمُ مِنْ رَبِّهِ کَلِماتٍ فَتابَ عَلَیْهِ) وما من عبد یدعو بها إلّااستجاب الله له» (2).

15 - وأخرج الحاکم النیسابوری فی المستدرک عن ابن عباس قال: «أوحی الله إلی عیسی علیه السلام یا عیسی آمن بمحمد وأمر من أدرکه من أمتک أن یؤمنوا به، فلولا محمد ما خلقت آدم ولولا محمد ما خلقت الجنة ولا النار، ولقد خلقت العرش علی الماء فاضطرب فکتبت علیه لا إله إلّاالله محمد رسول الله فسکن».

قال الحاکم: هذا حدیث صحیح الاسناد ولم یخرجاه(3).

وقد تقدّمت هذه الروایة عن السیوطی فی الدرّ المنثور وغیره بألفاظ أخری فراجع، وقد جاء فیها أن سبب جعل تلک الکلمات واسطة ووسیلة

ص:497


1- (1) نظم درر السمطین: ص 49.
2- (2) شواهد التنزیل: ج 1 ص 102.
3- (3) المستدرک: ج 2 ص 615.

هو حفاوتهم وکونهم أحبّ الخلق لله عزّ وجلّ، کما تقدّم فی قول إبراهیم علیه السلام(إِنَّهُ کانَ بِی حَفِیًّا) .

ب - آراء أعلام السنّة فی التوسّل:

1 - قول مالک للمنصور العباسی الدوانیقی عندما سأله قائلًا: أستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول الله صلی الله علیه و آله؟: (ولِمَ تصرف وجهک عنه وهو وسیلتک ووسیلة أبیک آدم علیه السلام إلی الله تعالی یوم القیامة؟ بل استقبله واستشفع به)(1)).

2 - قال أبو بکر تقی الدین الحصنی الدمشقی الشافعی: (ومن أنکر التوسّل به والتشفّع به بعد موته وأن حرمته زالت بموته فقد أعلم الناس ونادی علی نفسه أنه أسوأ حالًا من الیهود، الذین یتوسلون به قبل بروزه إلی الوجود، وأن فی قلبه نزغة هی أخبث النزغات)(2).

3 - قال الحافظ تقیّ الدین السُبکی: (ولم یزل أهل العلم ینهون العوام عن البدع فی کلّ شؤونهم ویرشدونهم إلی السنّة فی الزیارة وغیرها إذا صدرت منهم بدعة فی شیء، ولم یعدّوهم فی یوم من الأیام مشرکین بسبب الزیارة أو التوسّل، کیف وقد أنقذهم الله من الشرک وأدخل فی قلوبهم الإیمان، وأول من رماهم بالإشراک بتلک الوسیلة هو ابن تیمیة وجری خلفه من أراد استباحة أموال المسلمین ودمائهم لحاجة فی النفس)(3).

4 - ما نقله المناوی فی فیض القدیر عن السُبکی مرتضیاً له، حیث قال:

ص:498


1- (1) الشفا بتعریف حقوق المصطفی/ القاضی عیاض: ج 2 ص 41.
2- (2) دفع الشبه عن الرسول والرسالة: ص 137.
3- (3) السیف الصقیل: ص 179.

(قال السبکی: ویحسن التوسّل والاستعانة والتشفّع بالنبیّ صلی الله علیه و آله إلی ربّه، ولم ینکر ذلک أحد من السلف ولا من الخلف، حتی جاء ابن تیمیة فأنکر ذلک وعدل عن الصراط المستقیم، وابتدع ما لم یقله عالم قبله، وصار بین أهل الإسلام مثله) (1).

وهذه العبارة عن السُبکی وسابقتها تکشف عن اجماع الطوائف السنّیة علی مشروعیة التوسّل، ولم ینکر ذلک إلّاابن تیمیة ومن جاء بعده.

5 - قال السمهودی فی وفاء الوفا نقلًا عن کتاب العلل والسؤلات لعبدالله بن أحمد بن حنبل: (قال عبدالله: سألت أبی عن الرجل یمسّ منبر رسول الله صلی الله علیه و آله ویتبرک بمسّه ویقبّله ویفعل بالقبر مثل ذلک رجاء ثواب الله تعالی؟ قال: لا بأس به)(2).

6 - کذلک عن إسماعیل بن یعقوب التیمی، قال: (کان ابن المنکدر یجلس مع أصحابه وکان یصیبه الصمات، فکان یقوم کما هو ویضع خدّه علی قبر النبیّ صلی الله علیه و آله ثم یرجع، فعوتب فی ذلک، فقال: إنه لیصیبنی خطرة، فإذا وجدت ذلک استشفیت بقبر النبیّ صلی الله علیه و آله)(3).

نکتفی بهذا المقدار من الأقوال.

ص:499


1- (1) فیض القدیر: ج 2 ص 169.
2- (2) وفاء الوفا: ج 2 ص 443، کذلک فی سبل الهدی والرشاد/ الصالحی الشامی: ج 12 ص 398.
3- (3) وفاء الوفا: ج 2 ص 444.
خلاصة البحث:

1 - إنّ التوسّل والتوجّه والتشفّع والتبرّک والتشفّی وطلب قضاء الحاجات کلّها عناوین لطبیعة واحدة، وهی ضرورة الواسطة بین العبد وربّه.

2 - إنّ التوسّل والتوجّه والتشفّع والتبرّک بأسماء وآیات وکلمات الله وبأمر منه تعالی هو خالص التوحید ولیس شرکاً ولا کفراً، بل عدم الانصیاع لأمره تعالی بالتوجّه والتوسّل والتشفع بها لطلب القرب والزلفی إلیه تعالی هو کفر واستکبار لأنه خروج علی أمره تعالی.

3 - الذوبان وتمام الانصیاع للوسائط والوسائل لطلب الزلفی إلی الله تعالی هو عبادة لله لا للوسائط أو الوسائل لأنه ذوبان وانصیاع فی تفضیل أمر الله تعالی وهو معنی العبادة.

4 - أن التوسّل شرط شرعی فی قبول التوبة وسائر العبادات ونیل المقامات.

5 - أن التوسّل ضرورة عقلیة وتاریخیة وأدیانیة وقرآنیة وروائیة.

6 - أن الوسائط المرفوضة فی القرآن الکریم هی الوسائط المقترحة من قبل العبید دون الوسائط المنصوبة من الله عزّ وجلّ.

7 - أن من الأسباب المهمّة فی إنکار التوسّل القول بالتجسیم أو نبوءة العقل.

8 - أن الاعراض عن الآیات الإلهیة وترک التوسّل بها موجب لحبط الأعمال والخسران فی الدنیا والآخرة.

9 - لا فرق بین التوسّل والشفاعة إلّاباللحاظ.

ص:500

10 - إن التوسّل والاستغاثة والتبرّک والاستشفاء من وادٍ واحد، وهی مصادیق متعدّدة لماهیة واحدة.

11 - إنّ التوسّل توحید الله الأعظم، وهو أبلغ أنواع التعظیم والخضوع لله تعالی.

12 - إنّ جعل شیء وسیلة یتضمّن فی طیّات معناه عدم التألیه وأنّه واسطة لغیره وغیره هو الغایة، وأنما المشرکون أشرکوا لأنهم اقترحوا الوسیلة إلی الله تعالی من ملء إرادتهم وتحکیمها علی إرادة الله، فجعلوا لأنفسهم صلاحیات الألوهیة.

13 - إن الله تعالی غایة الغایات ولیس وسیلة کی یتوسّل به مباشرة، فمن یجعل الله وسیلة لغایة غیره یکون مشرکاً.

14 - إنّ التوسّل بالوسیلة هو حقیقة معتقد الشهادة الثانیة والثالثة وحقیقة النبوّة والرسالة والولایة.

15 - إنّ التوسّل من أعظم أبواب العبادات والقربات إلی الله تعالی.

ص:501

ص:502

فهرس الموضوعات

هویة الکتاب 3

المقدمة 5

القاعدة الاولی: لا یطل أو (لا یبطل) دم امرئ مسلم 11

محل القاعدة: 11

تحریر المسالة: 11

القاعدة الثانیة: فی هدر دم من هتک أو اعتدی 17

القاعدة الثالثة: قاعدة فی اللوث والتهمة 33

بعض کلمات الاصحاب والقانونیین: 33

ضابطة موضوعیة للوث: 34

آثار اللوث: 34

درجات اللوث: 35

فائدة فی حقیقة الیمین فی القضاء بالقسامة: 35

شواهد القاعدة: 36

تنظیر لهذا الحکم: 40

فوائد اللوث والتهمة: 43

القاعدة الرابعة: فی جواز التحری والفحص 47

فائدة جانبیة: 51

القاعدة الخامسة: قبول الدعاوی لتعدد المتنازعین 67

فائدة رجالیة: 70

القاعدة السادسة: قاعدة فی باب الجنایات 75

القاعدة السابعة: قاعدة باب الجنایات 81

ص:503

شبهة معارضة ودفعها: 83

القاعدة الثامنة: فی تقدیم حق جنایة العضو 87

القاعدة التاسعة: هدر دم المعتدی لا یحسب قصاصا 93

عبارات الاعلام فی المسالة: 93

الاشکال علی القاعدة ودفعه: 98

القاعدة العاشرة: قاعدة فی القصاص العرفی 103

القاعدة الحادیة عشر: قاعة المثلیة فی الأطراف والأعضاء 107

القاعدة الثانیة عشرة: قاعدة فی سقوط القصاص 115

القاعدة الثالثة عشرة: قاعدة فی غایة القصاص 129

القاعدة الرابعة عشرة: فی قصاص الأطراف 135

تطبیق وشرح للقاعدة: 137

القاعدة الخامسة عشرة: قاعدة فی تبعیض القصاص 143

ضابطتان فی التبعیض: 145

فروع فی التبعیض: 145

التبعیض فی الجرحات: 146

القاعدة السادسة عشرة: إن الدیة فی طول القصاص 151

القاعدة السابعة عشرة: فی إجزاء الاضطراری بعض الوقت 157

القاعدة الثامنة عشرة: التوسل عبادة توحیدیة 163

توطئة: 163

تقدیم: 165

شبهة و إثارة: 176

أدلة القائلین بعدم جواز التوسل بغیر الله تعالی: 176

معنی الإله فی اللغة: 178

وجه ان من الوسائط ما هو مأمور بها من قبل الله عزّ و جل: 181

مفهوم العبادة: 185

قصة آدم علیه السلام مع إبلیس: 186

نفی الوسائط یؤول الی التجسیم: 188

الرد علی أدلة المانعین من التوسل: 191

ص:504

ملامح من التوسل فی الشعائر العبادیة: 198

موارد أخری فی التوسل: 201

موارد عقلیة علی التوسّل: 209

خاتمة فی التوسل: 210

الوسائط مظهر قدرة البارئ: 210

القاعدة التاسعة عشرة: فی الفقه الاجتماعی والسیاسی 223

خطّة البحث: 227

تمهید: 228

النظم القرآنیّة فی نبذ الفرقة والتنازع: 228

الفصل الأول: نظام الوحدة 229

تعریف الوحدة: 229

أقسام الوحدة: 229

دلیل مانعی البحث فی التاریخ الإسلامی: 236

الجواب علی دلیل المانعین: 237

تداعیات وسلبیّات القول بالمنع: 238

ما یوجب الخروج عن الإسلام: 249

الفروق الرئیسیّة بین السیرة فی صدر الإسلام 254

وبین سیرة بنی امیّة: 254

الفارق الأوّل: فی طریق إقامة الحکم: 254

الفارق الثانی: منهج النقد والرقابة للحاکم والحکم: 255

الفارق الثالث: مشروعیّة طاعة السلطان الجائر: 256

الفارق الرابع: الموالاة للمسلمین دون الکافرین: 259

الفارق الخامس: استباحة المحرّمات: 262

القاعدة الخامسة: ضرورة تنقیح مصادر التراث الإسلامی: 269

اسس نظام الوحدة الاسلامیة وضماناتها: 272

الأوّل: ضمان الوحدة: 273

الثانی: العدالة والعدل: 274

الثالث: تقدیس جمیع الأنبیاء علیهم السلام: 276

ص:505

الرابع: إنّ الوحدة لا تتمّ إلا بالمحبّة والمودّة: 277

الفصل الثانی: فی نظام التقریب والحوار والاتحاد 281

أصالة حقن الدم الإنسانی: 287

هل الحوار یقاطع الوحدة؟ 288

أهداف التقریب: 291

أهمّ القواعد فی نظام التقریب: 293

معالجة إلتباس: 296

القاعدة الخامسة: فی النظام السیاسیّ والمواطَنة: 304

حدیث الفرقة الناجیة والتعایش السلمیّ بین المسلمین: 310

الفصل الثالث: نظام التنسیق والتوافقات الوقتیة 315

غایات نظام التنسیق والانسجام والتوافق: 315

امتیاز نظام التنسیق عن نظام الوحدة ونظام التقریب: 315

علاقة نظام التنسیق مع نظام الوحدة والتقریب: 316

نظام التنسیق یمثّل الحدّ الأدنی للوحدة: 316

بعض ممارسات حکّام المسلمین سبب للفرقة: 319

قاعدة فی بیان حقیقة المذهبیّة العقائدیّة والفقهیّة: 320

حقیقة المذهبیّة العقائدیّة عند المسلمین: 321

میزان المذهبیّة العقائدیّة: 322

حقیقة وموقعیّة عملیّة التأصیل العقائدیّ من الدین: 323

الدلیل الأوّل: بیان ثوابت الدین: 324

الدلیل الثالث: القیام بدور التفصیل فی القواعد الاعتقادیّة: 327

حقیقة المذهبیّة الفقهیّة: 328

السبب فی سدّ باب الاجتهاد لدی أهل السنّة: 328

إجابات لا تخلو من تأمّل: 330

فتح باب الاجتهاد لدی مذهب الإمامیّة: 330

موقعیّة عملیّة استنباط أئمّة المذاهب الأربعة من الدین: 330

الاستدلال القانونیّ علی ضرورة مرحلة الوصایة فی الدین: 332

الأدلّة علی ضرورة عصمة الوصیّ فی الدین: 334

ص:506

القاعدة العشرون: قاعدة فی شرطیة الولایة فی صحة التوبة 339

الدلیل الأول: معطیات الشهادة الثانیة: 340

الدلیل الثانی: التوسّل ضرورة عقلیة: 342

بیان الملازمة: 343

التوسّل فی کل النشآت ولأصناف المخلوقات: 345

الدلیل الثالث: عموم طاعة الله ورسوله وأولی الأمر: 346

فذلکة صناعیة لأخذ التوسّل فی نیة القربة: 349

الدلیل الرابع: إقتران اسم النبیّ صلی الله علیه و آله وأهل بیته: 356

بأعظم العبادات: 356

الدلیل الخامس: ابتغاء الوسیلة ضرورة قرآنیة: 367

قرب الله وقرب العبد: 369

الوسیلة معنی الشفاعة: 372

ترامی الوسائل وتعاقبها: 373

الدلیل السادس: شرطیة الاستجارة بالنبیّ صلی الله علیه و آله 374

فی طلب المغفرة: 374

الدلیل السابع: التوسّل بالرسول صلی الله علیه و آله میثاق الأنبیاء: 385

الأنبیاء علی دین النبی الأکرم صلی الله علیه و آله: 385

أهل البیت علیهم السلام شرکاء النبیّ صلی الله علیه و آله فی المیثاق: 391

الدلیل الثامن: 410

الدلیل العاشر: خضوع الملائکة لآدم علیه السلام 415

کلّ خلیفة الله الباب الأعظم لملائکته 415

جحود التوسّل سنّة إبلیس فی الاستکبار: 418

الفصل الرابع: شبهات وردود 421

شبهات وردود: 421

شبهات المنکرین لجواز التوسّل: 423

الشبهة الأولی: التوسّل عبادة لغیر الله تعالی: 423

دفع الجوابین: جحود التوسّل یستند إلی التفویض: 426

جحود التوسّل یستند إلی المذاهب الحسیّة المادیة: 427

ص:507

تفصیل الجاحدین للتوسّل فی الوسائط: 428

الشبهة الثانیة: التوسّل خلاف کلمة التوحید: 430

الشبهة الثالثة: التوسّل مخالف للآیات القرآنیة: 434

الجواب عن الشبهة الثالثة: 437

الجواب الأول: حقیقة الأسماء الالهیة مستند للتوسّل: 438

الجواب الثانی: الکلمة والآیة: 439

الکلمات التامّات: 446

الجواب الثالث: الآیات القرآنیة: 453

ولیست الأصنام إلّا الوسائل والوسائط المقترحة: 455

الشبهة الرابعة: الأعمال الصالحة هی الوسیلة 456

التوسّل والوسیلة حقیقة العقیدة بالنبوّة والرسالة: 456

الجواب عن الشبهة الرابعة: 456

النقطة الأولی: ما هو المراد من الوسیلة؟ 458

النقطة الثانیة: الرابطة بین الشفاعة والتوسّل: 461

النقطة الثالثة: عموم تشریع الشفاعة: 462

الشبهة الخامسة: التوحید الإبراهیمیّ یأبی التوسّل بغیر الله: 468

الجواب عن الشبهة الخامسة: 469

الردّ الثالث: أنه ینقض علیهم بموارد: 471

الشبهة السادسة: التوسّل یعنی التفویض وعجز الله تعالی: 472

فی مقام ردّ هذه الشبهة نجیب بعدّة أجوبة: 472

الجاحدین للتوسّل بنوا جحودهم علی التفویض الأکبر: 474

الجواب عن الشبهة السابعة: 477

سبب جحود التوسّل القصور 479

فی معرفة کنه ذوات المسبّبات والأسباب: 479

الاسناد الثالث: إسناد التوفّی إلی ملک الموت: 483

خلاصة البحث: 500

فهرست إجمالی لکتاب بحوث فی القواعد الفقهیة 509

فهرس الموضوعات 503

ص:508

فهرست إجمالی لکتاب بحوث فی القواعد الفقهیة فی أجزائه الخمسة

الجزء الأول ( 18 قاعدة)، وهی:

1 - قاعدة سوق المسلمین.

2 - قاعدة التقیة.

3 - قاعدة الإمکان فی الحیض.

4 - قاعدة حرمة إهانة المقدسات.

5 - قاعدة نجاسة کل مسکر.

6 - قاعدة الأصل فی الأموال الاحتیاط.

7 - قاعدة إخبار ذی الید.

8 - قاعدة الإقرار بحق مشاع.

9 - قاعدة حق الله وحق الناس.

10 - قاعدة فی المیتة.

11 - قاعدة فی انفعال الماء القلیل.

12 - قاعدة کل کافر نجس.

13 - قاعدة الإیمان والکفر.

14 - قاعدة تکلیف الکفار بالفروع.

15 - قاعدة التبعیة.

16 - قاعدة فی عبادة الکافر والمخالف.

17 - قاعدة عموم ولایة الأرحام.

18 - قاعدة أصالة عدم التذکیة.

الجزء الثانی: ( 24 قاعدة) وهی:

19 - قاعدة (الفراش).

20 - قاعدة (یحرم من الرضاع ما یحرم من النسب).

21 - قاعدة (المرأة مصدقة فی قولها علی نفسها وشؤونها).

22 - قاعدة (حرمة تلذذ غیر الزوجین).

ص:509

23 - قاعدة (فی وحدة ماهیة النکاح).

24 - قاعدة (فی تداخل العدد).

25 - قاعدة (عموم حرمة المس فی الأجنبیة).

26 - قاعدة (فی التبرج بالزینة).

27 - قاعدة (فی الفرق بین النکاح والسفاح).

28 - قاعدة (فی المال او الحق المأخوذ استمالة أو اکراها).

29 - قاعدة فی لزوم الفحص الموضوعی قبل البینة أو الیمین

30 - قاعدة: فی نظام التحکیم والصلح فی النزاعات.

31 - قاعدة (حق المرأة العشرة بالمعروف أو التسریح بإحسان).

32 - قاعدة (شرطیة الإسلام فی الولایة).

33 - قاعدة (فی عموم قاعدة ولایة الأرحام).

34 - قاعدة (فی حرمة وقوع الفتنة الشهویة).

35 - قاعدة (بطلان الإحرام ببطلان النسک).

36 - قاعدة (فی تقوّم مشروعیة التمتع بالإحرام من بُعْد).

37 - قاعدة (فی صحة النسک مع الخلل غیر العمدی فی الطواف والسعی).

38 - قاعدة (بطلان إدخال نسک فی نسک).

39 - قاعدة (لزوم الحج من قابل بفساد الحج).

40 - قاعدة (تباین أو وحدة أنواع الحج).

41 - قاعدة (دفع الأفسد بالفاسد).

42 - قاعدة (المصلحة).

الجزء الثالث ( 16 قاعدة) وهی:

43 - قاعدة العرض علی الکتاب والسنة.

44 - قاعدة العقود تابعة للقصود.

45 - قاعدة لا تبع ما لیس عندک.

46 - قاعدة عمد الصبی خطا.

47 - قاعدة لزوم العسر والحرج.

48 - قاعدة لا ضرر.

49 - قاعدة ان المتنجس ینجس.

ص:510

50 - قاعدة فی تعیین المالک لما یقابل الدین والوصیة من الترکة.

51 - قاعدة شرطیة اذن الاب فی اعمال الصبی.

52 - قاعدة من ادرک المشعر فقد ادرک الحج.

53 - قاعدة الشعائر الدینیة.

54 - قاعدة توسعة حریم مواسم الشعائر زمانا ومکانا.

55 - قاعدة المشی الی العبادة عبادة.

56 - قاعدة رجحان الشعائر ولو مع الخوف.

57 - قاعدة عمارة مراقد الائمة فریضة هامة.

58 - قاعدة تعدد طرق الحکایة والإخبار عن الواقع.

الجزء الرابع: ( 20 قاعدة) وهی:

59 - قاعدة الاقتصاص من السب او الإهانة.

60. - قاعدة فی ثبوت القصاص بالتسبیب.

61 - قاعدة فی تداخل القصاص والدیات وعدمه.

62 - قاعدة فی القصاص بین الکفار بعضهم مع بعض.

63 - قاعدة فی القضاء بین الکفار وبین اهل الکتاب وبین اهل الخلاف.

64 - قاعدة فی اسلام او کفر ابن الزنا.

65 - قاعدة الجب.

66 - قاعدة فی ثبوت القصاص علی کل جنایة عدوانیة فی النفس او الطرف.

67 - قاعدة لا تقیة فی الدماء.

68 - قاعدة فی حرمة دم المسلم وعِرضه وماله.

69 - قاعدة فی ضرورة التمییز بین السیرة فی صدر الإسلام

70 - قاعدة فی مودّة أهل البیت علیهم السلام

71 - قاعدة شوری الأمّة فی نظام الحکم.

72 - قاعدة فی بناء نظام القدرة والقوّة فی الکیان والنظام الإسلامی

73 - قاعدة فی العدالة.

74 - قاعدة اشتراک الحد والقصاص فی ماهیة جامعة واحدة.

75 - قاعدة القصاص یدرء بالشبهات.

76 - قاعدة فی صلاحیات المرأة.

ص:511

77 - قاعدة فی صلاة المسافر تماما فی کل مراقد ال البیت لا خصوص الاماکن الاربعة.

78 - قاعدة الاعواض المحرمة مسقطة للضمان.

الجزء الخامس: ( 20 قاعدة) وهی:

79 - قاعدة لا یبطل دم امرئ مسلم.

80 - قاعدة فی هدر دم من هتک او اعتدی علی غیره دفعا او عقوبة.

81 - قاعدة فی اللوث والتهمة واثارها القانونیة.

82 - قاعدة فی جواز التحری والفحص من قبل القاضی للمتهم باللوث.

83 - قاعدة قضائیة: قبول الدعاوی لتعدد المتنازعین عرضا وطولا.

84 - قاعدة فی باب الجنایات: (تقدیم الأسبق زمنا فی حق الجنایة).

85 - قاعدة باب الجنایات: (لا یجنی الجانی علی اکثر من نفسه).

86 - قاعدة فی (تقدیم حق جنایة العضو علی حق قصاص النفس)

87 - قاعدة فی هدر دم المعتدی لا یحسب قصاصا.

88 - قاعدة فی القصاص العرفی.

89 - قاعدة المثلیة فی الاطراف والاعضاء والجروح لوحدة العنوان او المحل.

90 - قاعدة فی سقوط القصاص.

91 - قاعدة فی غایة القصاص.

92 - قاعدة فی قصاص الاطراف وانها لمجرد ابانة العضو او للشین ایضا؟.

93 - قاعدة فی تبعیض القصاص فی الاطراف والجراحات.

94 - قاعدة: ان الدیة فی طول القصاص استیفاء وفی عرضه موضوعا وموجبا.

95 - قاعدة فی باب الصلاة: (فِی إجزاء الاضطراری بَعْض الوقت).

96 - قاعدة فی فقه العقیدة: (التوسل عبادة توحیدیة).

97 - قاعدة فی الفقه الاجتماعی والسیاسی: قاعدة التعایش السلمی (التقریب بین المذاهب).

98 - قاعدة فی (شرطیة الولایة فی صحة التوبة والعبادات وقبولها ونیة القربة).

ص:512

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.