بحوث معاصره فی الساحه الدولیه

اشارة

سرشناسه:عابدینی، حسین، 1349 -

عنوان و نام پدیدآور: بحوث معاصره فی الساحه الدولیه: اثارات العلمانیه الغربیه حول الاسلام ... / تالیف محمد السند.

مشخصات نشر:قم: مرکزالابحاث العقائدیه، 1428ق. 1386.

مشخصات ظاهری:417ص.

فروست: دراسات فی الفکر الاسلامی المعاصر فی ضوء مدرسه اهل البیت علیهم السلام ؛3.

شابک:964-319-527-9

وضعیت فهرست نویسی:فهرستنویسی توصیفی

یادداشت: عربی.

یادداشت: کتابنامه: ص.[409]- 417؛ همچنین به صورت زیرنویس.

شماره کتابشناسی ملی:1148527

ص :1

اشارة

ص :2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص :3

بحوث معاصره فی الساحه الدولیه: اثارات العلمانیه الغربیه حول الاسلام ...

محمد السند

ص :4

ص :5

ص :6

مقدمّة المرکز

بسم الله الرحمن الرحیم

یلاحظ أنّ العقود الأخیرة من حیاتنا المعاصرة - الأربعین سنة الأخیرة - شهدت فی أُروبا تیارات ثقافیّة متنوّعة، یَسِمها طابع التمرّد والتشکیک والتحوّل من تیار إلی آخر ..

بید أنّ ما یُطلق علیه مصطلح (التیار التفکیکی) یظلّ هو التیار الأشدّ حضوراً فی السنوات المعاصرة، بالرغم من انحساره نسبیاً، وظهور تیارات أُخری، ک (التاریخانیة) وما سواها من التیارات الیساریة الجدیدة ..

إنّ التیار المذکور مع بعض أجنحته ، ک (تیار الاستجابة والتلقّی) ونحوهما، یتمیّز عن سواه بکونه ینطلق من خلفیة فلسفیة هی (التشکیک) فی المعرفة والکینونة و ... ، حتّی إنّه أُطلق علی العصر الذی شهد هذا التیار ب (عصر الشکّ)، وکانت انطلاقته من فرنسا - البلد الذی ینفرد بإحداث الموضات الجدیدة فی الصعید الثقافی بعامّة ..

وقد واکب هذه الفلسفة التشکیکیّة تطویر الدراسات اللغویة التی بدأت مع العقد الثالث من القرن العشرین ، حیث استثمر التیار التفکیکی أو التشکیکی معطیات هذه التیارات (الألسنیّة)، ووظّفها لصالح تفکیکیّته أو تشکیکیّته، وذلک

ص:7

بأن فصل بین (دوال اللغة) و(مدلولاتها) ، فحذف الأخیر وجعلها غائبة، لیشیر بذلک إلی عدم وجود مرکز معرفی ثابت بقدر ما یخضع الأمر لقراءات استمراریّة لا نهائیة، أی جعل استخلاص الدلالة المعرفیة لا نهایة أو لا ثبات لها، وهو أمر یتساوق ویتناغم مع الفلسفة التشکیکیّة التی لا تجنح إلی یقینٍ معرفی أو المعرفة الیقینیّة، ومن ثمّ یظلّ (المعنی) أو (الدلالة) أو (القیم) لا ثبات ولا استقرار لمفهوماتها ..

ومن الطبیعی حینما ینسحب هذا التشکیک علی الظواهر جمیعاً ، فإنّ النتیجة تظلّ تشکیکاً بکلّ شیء، وفی مقدّمة ذلک: التشکیک أساساً بما وراء الوجود (المبدع) وإرسالات السماء، وکلّ ما هو (مقدّس) بحسب تعبیر الموضة المشار إلیها ..

وإذ کان المناخ الأُوربی یسمح بولادة أمثلة هذه التیارات ، نظراً - من جانب - إلی الیأس الذی طبع مجتمعات الغرب من حضارتها المادیة الصرفة، خصوصاً بعد الحرب العالمیة الثانیة ..

وإذا کان المناخ المذکور - من جانب آخر - طبعه الترف الفکری أو التخمة الثقافیة، بحیث تقتاده إلی تولید جدید للفکر حتّی لو لم تسمح به الضرورة ..

ثمّ - من جانب ثالث - إذا أخذنا بنظر الاعتبار (وهذا أهم الأسباب بطبیعة الحال) عزلة المجتع الأُروبی عن السماء ومبادئها:

حینئذٍ، فإنّ ولادة التیارات التفکیکیّة والتشکیکیّة والمتمرّدة والفوضویة وبالإضافة إلی عودة بعض التیارات المنتسبة إلی الیسار الجدید .. أُولئک جمیعاً تفسّر لنا ولادة التیارات المذکورة فی مجتمع أُوربی له أرضیّته الخاصّة .

إلّاأنّ من المؤسف کثیراً أن نجد انعکاسات التیارات المذکورة علی (الشرق)، وفی مقدّمتها: المجتمعان العربی والإسلامی، حیث هرع أفراد کثیرون

ص:8

إلی معانقة هذه التیارات المتعاقبة (المتداخلة والمتضادة أیضاً) ، مع أنّها (غریبة) تماماً علی المناخ العربی والإسلامی!

إلّا أنّ (نزعة التغریب) التی تطبّع علیها هؤلاء الأفراد تفسّر لنا تبنّیهم الفکر الغربی، وتخلّیهم عن قیم الوحی ومبادئ الإسلام العلیا ..

ولکن الأسی الأشدّ مرارة أن نلحظ (الإسلامیین) بدورهم ، قد بهرَتهم زینة الحیاة المنعزلة عن السماء فی المناخ الأُوربی، فهرعوا بدورهم إلی محاورة (الانحراف) المذکور، وبدأوا ینشرون دراساتهم التفکیکیّة والتشکیکیّة حول مختلف ضروب المعرفة، وفی مقدّمتها التعامل مع النصّ القرآنی الکریم، بدءاً بالوحی، وانتهاءً ب (التفسیر بالرأی)، بحسب ما تلقّوه من التیار الأُوربی الذی أطلق العنان لمفهوم (القراءة) أو السلطة للقارئ یعبث ما یشاء بدوال النصّ، حافراً ومنقبّاً ومهدّماً، تقلیداً لأسیاده المنعزلین عن السماء ومبادئها ..

وإذا أضفنا - أخیراً - إلی ما تقدّم ، ظاهرة (العولمة) فی سنواتنا المعاصرة، وما تستهدفه من السیطرة علی الإیدیولوجیات جمیعاً؛ حینئذٍ نجد أنّ الضرورة الإسلامیة تفرض علینا أن نتّجه إلی (تأصیل) ما هو ضرورة فی حیاتنا المعاصرة، ومن ثمّ (الردّ) علی الانحرافات المذکورة ..

بصفة أنّ التزامنا بمبادئ الدین، وإدرکنا لمهمّة خلافة الإنسان، أی إدراکنا للوظیفة التی أوکلها اللّه تعالی إلینا، وهی مقولة:«وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِیَعْبُدُونِ »1 ، أولئک جمیعاً تفرض علینا:

أوّلاً: أن نتعامل مع الظواهر وفقاً لما یفرضه القانون العقلی ویتلاءم مع التصوّر الإسلامی حیالها، وفی مقدمة ذلک (الیقین المعرفی)، ولیس (التشکیک).

ص:9

ومن ثمّ القیام بمهمّة (تأصیل) ما یتّفق مع مبادئنا، و(الردّ) علی الانحرافات التی طبعت سلوک ما یسمّی ب (الإسلامیین) المنشطرین بین مَن (یشکّک) وبین (یساریّ) إسلامی یستعین حتّی بالمبادئ المنتسبة إلی الإلحاد ..

وفی ضوء الحقائق المتقدمة، وتلبیة للتوجیهات الصادرة من سماحة المرجع الدینی الأعلی آیة اللّه العظمی السیّد علی الحسینی السیستانی «دام ظلّه الوارف» بضرورة التصدّی لأفکار العلمانیة وردّ شبهاتها، قرّر مرکزنا أن یضطلع بالمهمّة المشار إلیها، داعیاً الأقلام الإسلامیة الراصدة لما یجری فی الساحة بأن یجعلوا من أولویات اهتماماتهم کتابة البحوث المناسبة للموضوع، أی المتسقة مع مشکلات حیاتنا المعاصرة .

وفعلاً فقد باشرنا بإصدار سلسلة «دراسات فی الفکر الإسلامی المعاصر فی ضوء مدرسة أهل البیت علیهم السلام »، فصدر الکتاب الأوّل من هذه السلسلة «الدیمقراطیة علی ضوء نظریة الإمامة والشوری» للعلّامة الشیخ محمّد السند .

وصدر الکتاب الثانی منها «أوضاع المرأة المسلمة ودورها الاجتماعی فی منظور إسلامی» للعلّامة الأُستاذ الشیخ حسن الجواهری .

وهذا الکتاب - الذی بین أیدیکم - هو الإصدار الثالث من هذه السلسلة، وهو للعلّامة الشیخ محمّد السند ، وهو عبارة عن مجموعة محاضرات ألقاها المولّف فی مدینة المنامة البحرانیة، فی أیام شهر محرّم الحرام خلال أربع سنوات ابتداءً بسنة 1423ه .

وقد قام السیّد هاشم الموسوی باختصار هذه المحاضرات ونقلها من الأشرطة المسجلة ، فجزاه اللّه خیر الجزاء.

وقام المرکز بمراجعة هذه الأوراق وتصحیحها واستخراج کلّ ما یحتاج إلی استخراج ، وطبعها فی مجلّد واحد تعمیماً للفائدة، وهی تحتوی علی أربع رسائل:

ص:10

(1) إثارات العلمانیّة الغربیّة حول الإسلام .

(2) النهضة الحسینیّة ومفهوم الإرهاب والسلام .

(3) عاشوراء ومفهوم العولمة .

(4) العدالة الاجتماعیة .

وفی الختام نتقدّم بجزیل شکرنا وتقدیرنا لکافّة الإخوة الأعزاء الذین ساهموا فی إخراج هذا الکتاب ، ونخصّ بالذکر فضیلة الشیخ عبد اللّه الخزرجی الذی قام بمراجعته وتصحیح واستخراج ما یحتاج إلی استخراج، فللّه درهم وعلیه أجرهم ، والحمد للّه ربّ العالمین .

محمّد الحسّون

مرکز الأبحاث العقائدیة

3 جمادی الأُولی 1428ه

Muhammad

aqaed .com

Site aqaed .com/ Mohammad

ص:11

ص:12

1- إثارات العلمانیة الغربیة حول الإسلام

اشارة

ص:13

ص:14

المقدّمة

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ

الحمد للّه ربّ العالمین والصلاة والسلام علی محمّد وآله الطیّبین الطاهرین وبعد:

فقد کلّفنی وشرّفنی سماحة العلّامة الشیخ محمّد السند بتقریر البحوث التی ألقاها فی مأتم السّماکین فی المنامة فی موسم عاشوراء ، فابتدأت بما ألقاه من محاضرات یردّ فیها علی إثارات العلمانیین الغربیین من خلال أشهر وأبرز مدارسهم الفکریة وهی العلمانیة«السکولارزم» ، المدرسة الفلسفیة التی تتبنّی فصل الدین عن الحیاة ، ومدرسة التعددیة«البلوری ألسم» وهی المدرسة المنطقیة التی تتبنّی تعدّد الإدراک، والمدرسة الهرمونطیقیة وهی المدرسة الأدبیة التی تتبنّی نظریة تعدّد القراءات الأدبیة ، وقد قضیت أوقاتاً جمیلة کنت أتلذّذ فیها بمتعة العلم والاستدلال وأنا أستمع لأشرطة الکاسیت التی تحتوی تلک المحاضرات وأستنیر بکلامه الذی اعتمد فیه سماحته علی آراء مدرسة أهل البیت علیهم السلام ، حیث کانت ردوده مستمدّة من الفکر الذی ینتمی إلی هذه المدرسة الطاهرة، وأسأل اللّه العلی القدیر أن یوفّقنی لکتابة وتدوین باقی محاضراته ، ونسأل اللّه أن یجعل ذلک فی میزان حسناته، وأن یجمعنا وإیّاه مع محمّد وآل محمّد فی دار کرامته إنّه سمیعٌ مجیب .

سید هاشم سید حسن الموسوی

التاسع من جمادی الأولی 1424 هجریة

الموافق 2003/7/9 میلادیة

ص:15

ص:16

المحاضرة الأولی :الفرق بین الشریعة والدین

اشارة

محاور المحاضرة:

أوّلاً : الإسلام الدین الخالد .

ثانیاً : الخطأ الشائع فی استخدام مصطلح الدین کمرادف لمصطلح الشریعة .

ثالثاً : النسخ یقع فی الشرائع، ولا یقع فی العقائد .

رابعاً : مصطلح الدین والشریعة، وقضیة الغدیر.

خامساً : آیة المودّة ، وإلحاق الإمامة بأصول الدین .

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ

قال تعالی:«وَ ما أَرْسَلْناکَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِینَ »1 .

وقال تعالی:«تَبارَکَ الَّذِی نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلی عَبْدِهِ لِیَکُونَ لِلْعالَمِینَ نَذِیراً»2 .

هذه الآیات وغیرها تثبّت أبدیّة الدین الإسلامی ، وأنّه الدین السماوی الخالد. فقوله تعالی:«لِلْعالَمِینَ » هو قول مطلق یشمل کل الأُمم التی تأتی بعد النبی محمّد صلی الله علیه و آله .

وقال تعالی:«ما کانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِکُمْ وَ لکِنْ رَسُولَ اللّهِ وَ خاتَمَ النَّبِیِّینَ

ص:17

وَ کانَ اللّهُ بِکُلِّ شَیْ ءٍ عَلِیماً»1 .

وقال تعالی:«إِنَّ الدِّینَ عِنْدَ اللّهِ الْإِسْلامُ وَ مَا اخْتَلَفَ الَّذِینَ أُوتُوا الْکِتابَ إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْیاً بَیْنَهُمْ وَ مَنْ یَکْفُرْ بِآیاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ سَرِیعُ الْحِسابِ »2 .

وقال تعالی:«وَ مَنْ یَبْتَغِ غَیْرَ الْإِسْلامِ دِیناً فَلَنْ یُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِی الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِینَ »3 .

وهذه الآیة مطلقة وعامّة سواءً کان ذلک قبل محمّد صلی الله علیه و آله و سلم أو بعده أیضاً.

الدین الإسلامی خالد

هذا البحث، وهو بحث خلود الدین الإسلامی إلی یوم القیامة، هو بحثٌ أدیانیٌ، أو بحثٌ أیدیولوجی بالتعبیر اللاتینی، یعنی: بحثٌ عقائدی .

وهو محل جدل واسع ، وصخب علمی کبیر بین الأدیان والثقافات الشرقیة والغربیة والتیارات الفکریة المختلفة سواءً کانت تلک التیارات اجتماعیة أو حقوقیة أو قانونیة ، ومن هذه التیارات تیار العلمانیین من المسلمین أو المتعلمنین من المسلمین أو العلمانیین من الغرب ، ومن المعلوم أنّ للعلمانیین أمواجاً مختلفةً، وأنَّ هذه الأمواج لیست علی وتیرةٍ واحدة، والآیات التی ذکرناها تثبّت خلود الإسلام وعالمیته.

المجتمعات العلمانیة لم تُطلّق الدین طلاقاً مؤبّداً

وما نرید أن نشیر إلیه هنا أنّ المجتمع الغربی أو مجتمع جنوب شرق أسیا کالیابان ، وهی مجتمعات تعتمد علی المؤسسات المدنیة ، ویعبّر عنها بالمجتمع

ص:18

المدنی ، أنَّ هذه المجتمعات وإن کانت علمانیة إلّاأنّها لم تُطلّق الدین طلاقاً مؤبّداً ، وأنّهم حفظوا - ولو بالشکل - موروثهم الحضاری الثقافی الدینی کلٌّ بحسب دینه سواءً کانوا فی الیابان أو فی الهند أو فی أوروبا المسیحیة ؛ وذلک لأنّ طبیعة المجتمعات البشریة تجعل منها مخزناً تختزن فیه الموروثات الحضاریة ، ومن المستحیل أن یبدأ مجتمعٌ بشریٌ من الصفر، بل لا بدَّ أن یرث من الأُمم السابقة ما یرث، فنحن نلاحظ أنّ العلمانیین الغربیین أسماؤهم أسماء مسیحیة ، وتکون عندهم إلی جانب القوانین المدنیة قوانین کنائسیة ، وکذلک أُصول التقنین الغربی متأثّرة بالتقنین المسیحی ، فإذاً هؤلاء العلمانیون الغربیون لم یطلّقوا الدین طلاقاً مؤبّداً ، ولکنّهم حاولوا أن یمزجوا بین الموروث القدیم وما ابتکروه من قوانین ، وممّا یدلّل علی کلامنا هذا هو أنَّ الرئیس الأمریکی السابق جورج بوش الأب عندما شنّ حرب الخلیج الثانیة کان یستنجد بالکنیسة واسم الرب وما شابه ذلک ، وکذلک استخدم جورج بوش الابن تعبیر«الحرب الصلیبیة» بعد الهجوم علی نیویورک وواشنطن ، وهذا ما نشاهده عند الیابانیین أصحاب الدیانة البوذیّة ، حیث إنّهم لم یطلّقوا دیانتهم طلاقاً مؤبّداً .

الدین واحد والشرائع متعدّدة

من الأخطاء الشائعة فی الصحافة والإعلام وبین عامّة الناس هو تعبیر «الأدیان» ، فنسمع عن حوار الأدیان ، والبحث عن أوجه الاختلاف أو التلاقی بین هذه الأدیان ، وهذا ما یتعارض مع المفهوم القرآنی والمفاهیم التی جاءت بها الأحادیث الشریفة ، حیث إنّ المفهوم القرآنی یؤکّد علی أنّ الدین واحد ولیس متعدّد ، فتکون النتیجة أنّ تعبیر«الأدیان» تعبیرٌ خاطیء ؛ لأنّه یتعارض مع الطرح القرآنی.

ص:19

وکذلک ینبغی التفریق بین مصطلحات«الدین والشریعة والملّة والمنهاج» التی وردت فی القرآن الکریم ، ولابدَّ من تعریف هذه المصطلحات قبل الخوض فی البحوث المقبلة ؛ لأنَّ الکثیر من الناس یستخدم الدین کمصطلح مرادف للشریعة ، وهذا من الاستخدام اللغوی والدینی الخاطیء.

الدین: عبارة عن مجموعة من أُصول اعتقادیة ، وأُصول معارف کونیة ، ویضمّ الیه أرکان الفروع ، ویضمّ إلی الفروع الآداب.

الشریعة: الشریعة تختلف عن الدین ؛ لأنّ الإسلام اسم للدین ولیس للشریعة .

وتسمّی الشریعة المحمّدیة صلی الله علیه و آله ، کما توجد شریعة موسویة ، وشریعة عیسویة ، وشریعة نوحیة ، وشریعة إبراهیمیة.

والشریعة لغةً هی الضفّة الجانبیة المتفرّعة من رافد النهر ، وهذا ما یحدّثنا به أرباب المقاتل عندما یتحدّثون عن العباس حین استقی الماء من الشریعة.

قال ابن منظور فی لسان العرب:«والشرعة والشریعة فی کلام العرب : مشرعة الماء وهی مورد الشاربة التی یشرعها الناس فیشربون منها ویستقون»(1) .

الأُسس هی منطقة الدین ، أُصول الاعتقاد وأُصول المعارف هی التی تمثّل دائرة الدین ، أمّا الدائرة التی هی أکثر تشعّباً وأکثر ترامیاً وأکثر بُعداً عن المرکز هی دائرة الشریعة ، وتشتمل علی تفاصیل الأحکام والقوانین.

قال تعالی:«لِکُلٍّ جَعَلْنا مِنْکُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً»2 .

ولم یستخدم تعبیر«لکل جعلنا منکم دیناً ومنهاجاً» ؛ وذلک لأنّ الدین واحد.

فدین نوح وإبراهیم وموسی عیسی ومحمّد هو دین واحد ، وأصحاب الشرائع هم

ص:20


1- (1) لسان العرب 7: 86، مادة «شرع».

الأنبیاء أولوا العزم ، وهذا ما ورد عن المعصومین حیث وصفوهم بأنّهم أصحاب شرائع ، ولیس أصحاب أدیان متعددة ، بل بُعثوا بدین واحد(1) .

النسخ یقع فی الشرائع ، ولا یقع فی العقائد

هل یعقل أن یأتی آدم علیه السلام بدین وعقائد حقّة ، ثمّ تکون هذه العقائد مؤقّتة بزمن معیّن ، فیأتی نوح علیه السلام وینسخ العقائد التی أتی بها آدم ، ثمّ یأتی إبراهیم وینسخ العقائد التی أتی بها نوح علیه السلام وهکذا؟!

إنَّ هذا أمر لا یعقل ؛ لأنّ الدین عبارة عن رؤی کونیة ، وإذا کانت هذه الرؤی الکونیة صادقة فهی غیر قابلة للتبدیل والتغییر.

فیستحیل نسخ التوحید أو المعاد أو النبوة ، وإنّما یقع النسخ فی الشرائع.

بل حتّی أرکان الفروع هی من الدین ولا یقع علیها النسخ ، فأصل وجوب الصلاة والزکاة ثابتة فی شریعة کلّ نبی ، قال تعالی علی لسان عیسی :

«وَ أَوْصانِی بِالصَّلاةِ وَ الزَّکاةِ ما دُمْتُ حَیًّا»2.

وکذلک الحجّ فکلّ الأنبیاء حجّوا بیت اللّه الحرام ، وکذلک الجهاد والصوم. نعم ، قد یختلف شکل الصلاة أو الصیام ، ولکن أصل وجوبها ثابت فی کلّ الشرائع ، وهذا ینطبق علی المحرّمات وتحریم الفواحش کالزنا والخمر ، فأصل تحریم الفواحش ثابت فی کلّ الشرائع وإن اختلفت سعة وضیقاً ، حتّی أُصول أحکام الأسرة والزوجیة والتعاقد التجاری وتحریم الربا ؛ ولذلک فإنّ اللّه تعالی یندّد بالمجتمع الیهودی ؛ لأنّه یتعامل بالربا.

ص:21


1- (1) الفصول المهمة 1: 428، الحدیث 587.

قال تعالی:«وَ أَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَ قَدْ نُهُوا عَنْهُ »1 . وتحریم الربا یدخل ضمن أرکان أُصول التشریع ، وهذه الأرکان تدخل ضمن إطار الدین ولیس الشریعة.

قال تعالی:«وَ أَنْزَلْنا إِلَیْکَ الْکِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَیْنَ یَدَیْهِ مِنَ الْکِتابِ وَ مُهَیْمِناً عَلَیْهِ »2.

فصاحب الشریعة اللاحقة لا یُکذّب دین صاحب الشریعة السابقة ، بل یُصدّقه فی منطقة دائرة الدین من حیث إنّ الدین واحد لا یتعدّد.

قال تعالی«إِنَّ الدِّینَ عِنْدَ اللّهِ الْإِسْلامُ »3.

ومفهوم هذه الآیة لا یقتصر علی أنّ الدین بعد محمّد صلی الله علیه و آله هو دین الإسلام ، بل مفهومها یشمل کلّ الأزمان من لدن آدم إلی یوم القیامة، فالدین عند اللّه الإسلام منذ بدء الخلیقة .

قال تعالی:«فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِی فَطَرَ النّاسَ عَلَیْها لا تَبْدِیلَ لِخَلْقِ اللّهِ ذلِکَ الدِّینُ الْقَیِّمُ »4.

فالدین لا یقبل النسخ . نعم ، قد تزداد معارف نبی عن نبی آخر ، وأکملها وأوسعها وأعمقها ما بعث بها النبی الخاتم صلی الله علیه و آله لمنزلته من القرب الإلهی حیث إنّ الإحاطة التی زوّد بها صلی الله علیه و آله ، والرؤی الکونیة التی یمتلکها أوسع ممّن سبقه من الأنبیاء.

قال تعالی:«وَ أَنْزَلْنا إِلَیْکَ الْکِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَیْنَ یَدَیْهِ مِنَ الْکِتابِ وَ مُهَیْمِناً عَلَیْهِ »5 .

ص:22

فالقرآن الکریم مهیمن علی ما سبقه من کتب ؛ لأنّ فیه من المعارف الجمّة مالم یتعرّف علیه من خلال الشرائع السابقة . نعم ، الدین فی حالة تبلور وتجلّی أکثر من قبل السماء إلی البشریة، هذا صحیح ومقبول ، أمّا أن نقول بوجود النسخ فی الدین فهذا مستحیل ؛ لأنّه متعلّق بالعقائد کما مرّ ، ولا یقع النسخ إلّافی الشرائع ، وذلک حسب الظروف والبیئات.

آیات قرآنیة تدلّ علی أنَّ الدین واحد

قال تعالی:«شَرَعَ لَکُمْ مِنَ الدِّینِ ما وَصّی بِهِ نُوحاً وَ الَّذِی أَوْحَیْنا إِلَیْکَ وَ ما وَصَّیْنا بِهِ إِبْراهِیمَ وَ مُوسی وَ عِیسی أَنْ أَقِیمُوا الدِّینَ وَ لا تَتَفَرَّقُوا فِیهِ »1.

وقال تعالی:«قُلْ إِنَّنِی هَدانِی رَبِّی إِلی صِراطٍ مُسْتَقِیمٍ دِیناً قِیَماً مِلَّةَ إِبْراهِیمَ حَنِیفاً وَ ما کانَ مِنَ الْمُشْرِکِینَ »2.

وقال تعالی علی لسان إبراهیم ویعقوب:«وَ وَصّی بِها إِبْراهِیمُ بَنِیهِ وَ یَعْقُوبُ یا بَنِیَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفی لَکُمُ الدِّینَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ »3.

وقوله تعالی علی لسان السحرة بعد أن تابوا وواجهوا فرعون:«رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَیْنا صَبْراً وَ تَوَفَّنا مُسْلِمِینَ »4.

وقوله تعالی علی لسان یوسف علیه السلام :«تَوَفَّنِی مُسْلِماً وَ أَلْحِقْنِی بِالصّالِحِینَ »5 .

وقوله تعالی:«قُولُوا آمَنّا بِاللّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَیْنا وَ ما أُنْزِلَ إِلی إِبْراهِیمَ وَ إِسْماعِیلَ وَ إِسْحاقَ وَ یَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ وَ ما أُوتِیَ مُوسی وَ عِیسی وَ ما أُوتِیَ النَّبِیُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَیْنَ أَحَدٍ

ص:23

مِنْهُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ »1 .

الدین عند اللّه الإسلام بصورة مطلقة عند کلّ الأنبیاء ، کما هو واضح فی الآیات المتقدّمة.

الشریعة والدین وقضیة الغدیر

نشیر إلی هذه القضیة وإن لم تکن من صلب الموضوع إلّاأنّها ثمرة من ثمار التفریق بین الشریعة والدین ، وجدیرٌ بنا أن نجنی هذه الثمرة .

قال تعالی:«اَلْیَوْمَ أَکْمَلْتُ لَکُمْ دِینَکُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَیْکُمْ نِعْمَتِی وَ رَضِیتُ لَکُمُ الْإِسْلامَ دِیناً»2 .

وبناءً علی ما ذکرنا من الفرق بین الدین والشریعة یتّضح أنّ هذه الآیة النازلة فی قضیة الغدیر وفی ولایة علی علیه السلام ، تجعل قضیة الإمامة وتنصیب علی علیه السلام تحت مظلّة الدین ولیس تحت مظلّة الشریعة ، وهذا یدلّل علی أنّ الإمامة من أُصول الدین ولیس من فروع الدین ، وأنّ إمامة علی علیه السلام کانت من صلب الدین الذی بعث به الأنبیاء ؛ لأنّهم جمیعاً بعثوا بدین الإسلام ، کما أثبتنا من خلال الآیات السابقة ومن خلال قوله تعالی:«إِنَّ الدِّینَ عِنْدَ اللّهِ الْإِسْلامُ »3 .

الدین عند اللّه الإسلام بصورة مطلقة عند کلّ الأنبیاء ، کما هو واضح فی الآیات المتقدّمة .

والذی هو عند کلّ الأنبیاء السابقین ولیس عند النبی محمّد صلی الله علیه و آله لوحده کما مرّ سابقاً.

ص:24

إذاً تکون النتیجة أنّ ولایة علی علیه السلام من صلب الدین الذی بعث به کلّ الأنبیاء السابقین.

ونستنتج أیضاً أنّ الدین من دون ولایة علی علیه السلام غیر مرضی عند اللّه ؛ لقوله تعالی:«وَ رَضِیتُ لَکُمُ الْإِسْلامَ دِیناً»1 . ومن غیر المعقول أبداً أن یبعث الأنبیاء بدین غیر مرضی عند اللّه.

وقد جاءت الروایات الکثیرة التی تؤکّد أنَّ ولایة علی علیه السلام قد بعث بها الأنبیاء السابقین(1) .

وولایة علی لم تر الوجود فی یوم الغدیر ، وإنّما هی موجودة قبل ذلک ، وإنّما أظهرت وأبرزت فی ذلک الیوم ، کما أنّ التوحید موجود قبل محمّد صلی الله علیه و آله ، ولکن أظهر وأبرز ببعثته صلی الله علیه و آله ، فکذلک کانت قضیة الغدیر.

وقوله تعالی:«یا أَیُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَیْکَ مِنْ رَبِّکَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ »3.

وهذه الآیة أیضاً تدلّ علی أنّ الإمامة رکن رکین من الدین ولیست قضیة ثانویة فی الشریعة ؛ لأنّ عدم التبلیغ بإمامة علی علیه السلام تساوی عدم تبلیغ الرسالة بأکملها کما تنصّ الآیة.

آیة المودّة وقضیة الإمامة

وقال تعالی:«قُلْ لا أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبی »4 . الضمیر«علیه»

ص:25


1- (2) الاختصاص 12 : 250 .

راجع إلی الإسلام علی رأی بعض المفسّرین(1) أو راجع إلی الجهد والمعاناة التی عاناها النبی صلی الله علیه و آله فی تبلیغ الرسالة الإسلامیة.

مودّة أهل البیت علیهم السلام جعلت أجراً للرسالة ، والأجرُ هو العدل أو المعاوضة ، فیکون عندنا عوض ومعوّض ، وینبغی أن تتوفّر المساواة بینهما ، فلیس من الصحیح أن تشتری جوهرةٌ ثمینةٌ بثمن بخس .

فإذا کانت مودّة أهل البیت علیهم السلام فی کفّة والکفّة الأُخری فیها الإسلام أو معاناة الرسالة التی قیمتها بلحاظ نفس الدین، إذاً نستنتج من الآیة بأنّ المودّة لأهل البیت علیهم السلام لیست من الشریعة ، بل هی رکن رکین من أصول الدین ؛ لأنّ أجر الرسالة لیس من المناسب إدراجه فی الشریعة ، واللّه هوالذی أعطی هذا المقام لأهل البیت علیهم السلام ، وعندئذٍ لا محلّ لاتهام الشیعة بالغلو فی أهل البیت علیهم السلام ؛ لأنّ اللّه هو الذی وضعهم فی هذا الموضع الرفیع ، واللّه ینهی عن الغلو ، فإذا وضعهم اللّه فی الموضع الرفیع فإنّ هذا الموضع لیس من الغلو فی شیء .

وهذه المودّة مخصوصة بالمعصومین الأربعة عشر ، ولا تشمل جمیع السادة - أبناء الرسول صلی الله علیه و آله - وإن کان یترشّح منها الاحترام لهم والتقدیر .

ص:26


1- (1) المیزان فی تفسیر القرآن 18: 42 .

المحاضرة الثانیة المدارس الغربیة الحدیثة التی واجهت الکنیسة وتحکّم رجال الدین المسیحیین

اشارة

محاور المحاضرة:

أوّلاً : الأجواء التی نشأت فیها العلمانیة.

ثانیاً : مدرسة العلمانیة « السکولارزم » - فصل الدین عن الحیاة السیاسیة والاجتماعیة - « مدرسة فلسفیة » .

ثالثاً : مدرسة « البلوری ألسم » - تعدد الإدراک « مدرسة منطقیة » .

رابعاً : مدرسة الهرمونطیقیة - تعدّد القراءات - « مدرسة أدبیة » .

الأجواء التی نشأت فیها العلمانیة

فی البدایة نستعرض لمحة تاریخیة عن علاقة أوروبا بالمسیحیة والعلمانیة .

دخلت أوروبا الغربیة فی الدین المسیحی فی القرن الثانی الهجری ، أی:

السادس المیلادی .

وهذا أمرٌ مؤسف ، ووجه الأسف لیس الانتقال من الوثنیّة إلی المسیحیة ، وإنّما وجه الأسف هو أنَّ الدین الإسلامی وهو فی ریعان شبابه فاتته فرصة إدخال هؤلاء القوم فی الإسلام ، وکانت النتیجة أن احتضن المسیحیون المبشّرون الذین انطلقوا من الروم أو الیونان إلی أوروبا الغربیة لدعوتهم إلی الدین المسیحی ،

ص:27

واستمر الدین المسیحی بقوّة فی تلک البلدان إلی أن وصل إلی القرن الثامن عشر المیلادی ، وفی هذه الفترة بدأت تعلو الصیحات الثوریة علی غطرسة الملوک والنظم السیاسیة الغربیة التی کانت تحرق الطبقات الفقیرة بنار الفقر وسطوة الاضطهاد ، وفی هذا الجو ظهرت التیارات المعادیة لهذه الأنظمة .

وتحالف الملوک ورجال الکنیسة ، فرجال الکنیسة یعطون الملوک الشرعیة فیما یعملون ، والملوک یدعمون رجال الکنیسة بنفوذهم ، وأمام هذا التحالف بدأت قوی إصلاحیة تعتمد علی مواجهة الملوک وتحطیم شرعیة الکنیسة المتحکّمة فی المجتمع آنذاک ، فبدأت عملیات تنظیر عدیدة ، وإن لم تنتج عن انفصال أبدی للدین کما قلنا سابقاً ، إلّاأنّها کانت تستهدف الحدّ من هیمنة الدین المسیحی علی المجتمع .

وعدم حدوث الانفصال الأبدی هو أنّ سرّ الخلقة مرتبطة بالجانب الروحی والغیبی ، وأنّ الدین حتّی وإن حُرّف یکون قابلاً للتأثیر فی المساحة غیر المحرّفة منه ، حتّی الدیانات الهندیة قد یکون بعضها لها أُصول سماویة ؛ لأنّ الأنبیاء کانوا منتشرین فی بقاع العالم قال تعالی:«وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاّ خَلا فِیها نَذِیرٌ»1.

حتّی بعض أصول البوذیة تتوافق مع الدیانات السماویة الأُخری، وهذا ینطبق علی بعض الدیانات الموجودة فی شرق آسیا.

وفی هذه الأجواء تبلورت ثلاث مدارس فکریة تأثّر بها المتّفقون والجامعیّون المسلمون ، ونتج عن هذه المدارس ما نسمّیه بالعلمانیة.

والعلمانیون الغربیون یتنبّؤون بسقوط الدین الإسلامی ، کما سقطت المسیحیة .

ونحن نقول لهم إنّ المسیحیة لم تسقط ، وإنّما سقط التحالف بین رجال الکنیسة

ص:28

الذین کانوا یبحثون عن مصالحهم الدنیویة والطبقات الإقطاعیة متمثّلة فی ملوک الظلم والاضطهاد.

المدرسة الأولی: العلمانیة «السکولارزم» فصل الدین عن السیاسة والمجتمع

وهی مدرسة فلسفیة أیدیولوجیة تبنّاها مجموعة من فلاسفة القانون والحقوق والسیاسة ، ولهذه المدرسة عدّة اتجاهات ، ولکنّها تعتمد أساساً علی نظریة فصل الدین عن النظام السیاسی والاجتماعی ، وأنّ الدین عبارة عن طقوس عبادیة وریاضات روحیة ، هدفها إشباع الظمأ الروحی عند الإنسان ، فالروح لها برنامجها الخاص ، والدین معترفٌ به بهذا المقدار فی هذه المدرسة ، سواءً أکان هذا الدین دینٌ سماویٌ حقیقی أم کان دین خرافی زائف ، وهذه النظریة لا یعنیها حقّانیة الدین أو بطلان إلّاأنّها تری أنّه ضروری لإشباع حاجات الإنسان الروحیة ، وکلمة«سکولار» تعنی باللاتینیة«الفصل» ؛ لأنّ هذه النظریّة تفصل الدین عن باقی الأُمور السیاسیّة والاجتماعیّة والنظام المالی وغیره.

ولازالت هذه النظریة لها تأثیرات فکریة إلی یومنا هذا بالرغم من مرور قرنین من الزمان علیها ، والنظام الغربی الحالی ینتمی إلی هذه المدرسة .

المدرسة الثانیة: نظریة التعددیة «البلوری ألسم»

وهی مدرسة منطقیة ولیست مدرسة فلسفیة ، وتعتمد علی منهج الإدراک وکیفیة استقاء المعلومات ، والمناهج المنطقیة القدیمة والحدیثة ، والغربیة والشرقیة ، والمادیة وغیر المادیة ، جمیعها تهتمّ بکیفیة الإدراک ونظم المعلومات والاستنتاج من تلک المعلومات .

ص:29

تعتمد هذه النظریة علی أساسین :

1- إنَّ الإنسان لا یستطیع أن یحیط بالحقیقة بمفرده.

2- إنّ الإنسان وإن قدر علی إدراک بعض الحقیقة ، ولکن لا یستطیع إدراکها کلّها .

العلماء جمیعاً یبحثون عن الحقیقة ، سواءً کانوا من العلماء الذین یؤمنون بالغیب أو کانوا من العلماء المادیین ؛ لأنّهم یؤمنون بالعلوم التجریبیة بحثاً عن الحقیقة .

القائلون بهذه النظریة یقولون بما أنّک لا تستطیع أن تدرک الحقیقة بمفردک ، وأنّک إذا أدرکت بعضها لا تدرکها کلّها ، إذاً فالآخرین أیضاً یمتلکون سهماً من الحقیقة ، فالحقیقة أشبه ما تکون بالشرکة المساهمة بعض أسهمها عندک والأسهم الأُخری عند الآخرین ، ومن هنا لا یحق لک أن تخطّیء الآخرین ، وتفنّد آراءهم من منطلق تعدّد الإدراک ونسبیة إدراک الحق أو الحقیقة ، فکل رأی من الآراء - فی نظرهم - یجب أن یکون فی دائرة الاحتمال ، وهناک من تأثّر بهذه النظریة ، فقال:

إنّ کلّ الأدیان حق ، وکلّها توصل إلی اللّه تعالی ، بحجّة أنّ الإسلام أو نبی الإسلام لا یملک کلّ الحقیقة ، ومن هنا قبلوا بتعدّد الأدیان ، وأنّها کلّها حق .

وهذه النظریة تکون مفیدة إذا وضعت لها شروط ، وقیّدت بقیود معیّنة ، أمّا ترکها علی إطلاقها فذو نتائج سلبیة مهلکة ، وعلی سبیل المثال فسح المجال أمام الشذوذ الجنسی بعنوان الحریة ، وتعدّد الآراء ، فتکون النتیجة أنّک لا تستطیع أن تمنع هذه الحالة ؛ لأنّک لا تملک الحقیقة ، وإذا عرفت شیئاً منها فإنّک لن تحیط بها کلّها وهذه النظریة تجتاح الکثیر من المباحث ، فهناک من یؤمن بالاستنساخ للفرد البشری رغم مضارّه الجمّة بالحجّة نفسها ، والجدیر بالذکر أنَّ لکلّ نظریة عدّة اتجاهات ولها منظورها وآراؤها وفرقها ، ولکن نحن نرکّز علی الفکرة الرئیسیة

ص:30

لکلّ مدرسة من هذه المدارس.

المدرسة الثالثة: المدرسة الهرمونطیقیة

وهی مدرسة أدبیة تختلف عن مدرسة العلمانیة«السکولارزم» الفلسفیة والتعددیة«البلوری ألسم» المنطقیة ، وهذه المدرسة تعنی بالعلوم النقلیة وکیفیة قراءة وفهم النص ، سواءً کانت نصوص سماویة کالتوراة والإنجیل والقرآن ، أو کان نصاً بشریاً .

وکان روّاد هذه المدرسة فلاسفة من آلمان متخصّصون فی الألسنیات وعلوم اللغة.

وعلی المستوی السیاسی هناک تأثیر کبیر فی مجریات الأحداث جرّاء التأثّر بهذه النظریة ، فمثلاً : لو أصدرت منظمة الأمم المتحدة بیاناً تدعم فیه العرب والمسلمین ، ثمّ أتی بعض المتخصّصین الیهود ، وحاولوا قراءة النص قراءةً تدعم مصالحهم معتمدین علی تعدّد القراءات .

والفرق بین هذه المدرسة ومدرسة التعددیة«البلوری ألسم» هو أنَّ المدرسة الهرمونطیقیة تعتمد علی تعدّد القراءات للنص ، بینما التعددیة«البلوری ألسم»تعتمد علی تعدّد الإدراک .

والمدرسة الهرمونطیقیة ترفض القراءة الفردیة للنص ، وهی تتعامل مع النص کما تتعامل مع اللغز الذی له العدید من الحلول ، فتسمح بقراءة النص من القراءات المتعددة ، وتقبل کلّ هذه القراءات ، ونقصد من القراءات هنا الدلالات والاستظهارات والاستنباطات والأفهام .

ومن هنا ترفض هذه المدرسة رفضک لأیّ رأی من الآراء ، فربما فهمت أنت شیئاً معیّناً من قراءتک ، وتکون لصاحب الرأی قراءة مختلفة عن قراءتک یستطیع

ص:31

من خلافها أن یبرّر ما تنتقده أنت .

ولهذه النظریة ثمارٌ إیجابیة ومهمّة جدّاً وإن لم تکن جمیع هذه الثمار إیجابیة إلّا أنّ بعضها مفید ونافع ، وهذه النظریة معترف بها فی المحافل الأکادیمیة والبحوث الجامعیة والعلوم الإنسانیة .

وتقول هذه النظریة : إنَّ المعنی هو ولید ذهن القاریء والسامع ولیس ولید ذهن المتکلّم والکاتب ، وبناءً علی هذا فمن حق الإنسان أن یُعدِّد القراءات للنص الواحد ، فمثلاً : قراءة التوراة والإنجیل والقرآن أو قراءة قانون معیّن أو قراءة الدستور نجد فی کلّ هذه الأُمور جدلاً سیاسیاً وقانونیاً محتدماً فی تفسیر النص بین الأحزاب والمجموعات فی البلد الواحد - فضلاً عن الدول المختلفة - وکلّ منها یدّعی الوصل بلیلی ، ویجرّ النار إلی قرصه ، ویدّعی أنّه علی حق ، ویفسّر النص ، ویقرأه حسب ما یتطابق مع مصالحه ومشتهیاته .

الأثر الإیجابی للمدرسة الهرمونطیقیة علی النقد الأدبی

وظیفة الناقد الأدبی هی تحلیل النص الأدبی بتوسّط علوم اللغة ، وطبعاً لا یقتصر علی المفردات ، وإنّما یشمل النحو والصرف والبلاغة والاشتقاق اللغوی وغیرها ، سواءً کان هذا النقد فی اللغة العربیة أم غیرها .

ویستطیع الناقد الأدبی أن یستخرج من قصیدة شعریة أو نص نثری فی زمان غابر - العصر الجاهلی علی سبیل المثال - البیئة الجغرافیة التی کان الشاعر یعیش فیها ، والجو النفسی والمحیط الاجتماعی والنظام السیاسی والعادات والتقالید فی ذلک المجتمع ، والنظام الأُسری فیه والحقائق التاریخیة وغیرها ، ومن هذا العمل یستطیع الناقد الأدبی أن یخدم علوماً عدیدة ، ویقدّم لها معلومات مفیدة فی هذا المجال ، کلّ هذا یتمّ من خلال التحلیل الأدبی الذی یقوم به الناقد ، ووظیفة هذا

ص:32

الناقد شبیهة بعمل عالم الآثار الذی یستطیع من خلال القطعة الأثریة أن یحدّد الزمان الذی تنتمی إلیه هذه القطعة من خلال الأدلة والبراهین التاریخیة .

هذه بعض إیجابیات هذه النظریة ، ولا یعنی کلامنا هذا أنّ هذه النظریة خالیة من السلبیات . نعم ، هناک بعض السلبیات التی سنذکرها لاحقاً .

وتعدّد القراءات شبیهٌ بالتأویل الذی یقول به أتباع مدرسة أهل البیت علیهم السلام وإن کان مرفوضاً من قبل المدارس الإسلامیة الأُخری ، فالتأویل هو نوع من تعدّد القراءات ، وهو أمرٌ إیجابیٌ إذا کان خاضعاً لضوابط وقوانین تحکمه ، أمّا إذا کان بشکلٍ عشوائی وغیر مستند إلی البراهین والأدلة ، وکان بشکل سائب ، یکون بلا شک أمراً سلبیاً مضرّاً بفهم النص.

فتعدّد القراءات هو تجاوز القشور فی النص ، والغوص فی أعماق النص کی یستخرج منه المعانی المکنونة فی بواطنه .

نعم ، البعض یرمی مذهب أهل البیت علیهم السلام أنّه مذهبٌ باطنی وغنوصی ؛ لأنَّ هؤلاء یرفضون فکرة التأویل جملة وتفصیلاً ، وهذا خطأ.

نعم ، لو طالب هؤلاء بإیجاد أُسس وموازین لهذا التأویل لاتّفقنا معهم ، وهؤلاء یقرّون بجدارة المدرسة الهرمونطیقیة ، ولکنّهم حین یأتون إلی التأویل یرفضونه مع أنَّ الأمرین یحملان نفس المعنی ؛ ولهذا فهم یناقضون أنفسهم بأنفسهم .

والتأویل مثبت فی القرآن الکریم ، قال تعالی:

«هُوَ الَّذِی أَنْزَلَ عَلَیْکَ الْکِتابَ مِنْهُ آیاتٌ مُحْکَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْکِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِینَ فِی قُلُوبِهِمْ زَیْغٌ فَیَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِیلِهِ وَ ما یَعْلَمُ تَأْوِیلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَ الرّاسِخُونَ فِی الْعِلْمِ یَقُولُونَ آمَنّا بِهِ کُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَ ما یَذَّکَّرُ إِلاّ أُولُوا الْأَلْبابِ »1 .

ص:33

الغریب أنّ البعض ینفی التأویل بصورة کلیة ، وهذا یتناقض مع الحدیث القائل بأنّ القرآن ظاهره أنیق وباطنه عمیق .

ورفض التأویل بهذه الطریقة هو تحجیم للنص القرآنی ، حیث تکون القراءة مقتصرة علی الظاهر والقشور.

قال تعالی:

«فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ * وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِیمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ کَرِیمٌ * فِی کِتابٍ مَکْنُونٍ * لا یَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِیلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِینَ »1 .

فالقرآن یصرّح بأنّ له حقیقة مکنونة ، ولا یَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ ، ولم یقل تعالی :

المتطهّرون ، بل قال: المطهّرون ، وهم الذین طهّرهم اللّه تعالی ، حیث قال :

«إِنَّما یُرِیدُ اللّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَ یُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیراً»2 .

فدرجات القرآن لیست واحدة ، قال تعالی:

«بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِیدٌ* فِی لَوْحٍ مَحْفُوظٍ»3 .

مجید ، أی : ذو مجدٍ وعظمة ، أی : له درجات غیبیة فی لوح محفوظ عن أن یناله الإنس والجن .

وقال تعالی متکلّماً عن القرآن الکریم:

«بَلْ هُوَ آیاتٌ بَیِّناتٌ فِی صُدُورِ الَّذِینَ أُوتُوا الْعِلْمَ »4 .

فهل من المعقول أن تحلّل القصیدة تحلیلاً عمیقاً ، وأن تقف عند قشور القرآن بحجّة رفض التأویل؟!

ص:34

المحاضرة الثالثة إثارات العلمانیین الغربیین حول الإسلام

محاور المحاضرة :

أوّلاً : شبهة أنّ النبوة نوع من النبوغ البشری.

ثانیاً : شبهة أنّ النبی لا یملک الحقیقة.

ثالثاً : شبهة أنّ توقف النبوة تعنی نضوج البشریة واستغناؤها عن السماء.

فی البدایة نودّ أن نذکر أنّ الدین الإسلامی أقوی من هذه الإثارات والإشکالات ، وأنّه لا یزداد إلّاقوّة ونصاعة وثباتاً بعد هذه الریاح التی تهب علیه من هنا أو هناک .

البعض ینظر إلی الدین علی أنّه أسطورة لیس إلّا، والبعض یرتاح إلی الدین ، لیس إیماناً منه بأنّه منزل من عند اللّه ، ولکن لأنّ الدین یحارب الجریمة ، وینظّم المجتمع .

ومن خلال النظریات والمدارس التی ذکرناها حاول الغربیون أن یوجّهوا العدید من الإشکالات علی الدین الإسلامی ، وعلی مذهب أهل البیت علیهم السلام ؛ لأنّه المذهب الأکثر تمسّکاً بالحجج المنطقیة ، وتطابق العلوم الدینیة مع العقل والمنطق .

وسنطرح الإثارات ونردّ علیها حسب مذهب أهل البیت علیهم السلام ، وأمّا حسب باقی المذاهب الإسلامیة فالرّد علیها ممتنع ، بل إنّهم یتبنّون نفس المبانی التی یثیرها

ص:35

العلمانیون الغربیون ، ویکررها العلمانیون من المسلمین والعرب ؛ لأنّ هؤلاء یطرحون ما یطرحه الغربیون ، وترجع أساساً إلی المدارس التی ذکرناها .

ومن الإثارات المطروحة هی أنّ الباری سبحانه وتعالی ذاتٌ أزلیة غیر محدودة فی اعتقاد الموحّدین الذین یعتقدون بالألوهیة ، فذات الباری غیر متتاهیة ، ولا یشک أحدٌ فی ذلک من أصحاب الدیانات السماویة ، بل وحتّی المشرکین یعدّون من الملل الإلهیة ؛ لأنّهم یقولون بوجود الإله ، وهم لم یبنوا فکرهم علی الوثنیة إلّالأنّهم یقرّبونهم إلی اللّه زلفی ، وأمّا الملحدون الذین یؤمنون بالمادة فکلّ البشر یذعنون بفطرتهم أنَّ هناک حقیقة غیر متناهیة فی الوجود وإن اختلفوا فی تسمیتها ، والإثارة المطروحة هی :

کیف یمکن للنبی صلی الله علیه و آله الإحاطة بکلّ الحقائق ، وهو مخلوق ولا یحیط بالحقائق کلّها ، وأنّنا إذا سلّمنا بکلّ ما قاله محمّد صلی الله علیه و آله فإنّ العقل البشری سیصیبه الجمود وتتعطّل عجلة الفکر الإنسانی.

وهم یعبّرون عن النبوة بأنّها نوعٌ من التجربة البشریة شبیهة بریاضة المرتاضین والمتصوّفة ، وأنّ النبوة نوعٌ من أنواع النبوغ البشری ، إذاً فمصدر عظمة الأنبیاء هو العقل أو الروح.

والمذاهب الإسلامیة الأخری - غیر مذهب أهل البیت علیهم السلام - یقولون بأنّ النبی علومه محدودة فی إطار التشریع ، وهذا ما یرویه مسلم بأنّ النبی صلی الله علیه و آله مرّ بقوم یلقّحون. فقال «لولم تفعلوا لصلح» قال فخرج شیصاً فمرّ بهم فقال: «ما لنخلکم»؟ قالوا: قلت کذا وکذا ، قال: أنتم أعلم بأمر دنیاکم(1) .

ص:36


1- (1) صحیح مسلم 4: 1464، کتاب الفضائل، باب وجوب امتثال ما قاله شرعاً دون ما ذکره من معایش الدنیا علی سبیل الرأی، الحدیث 2363 .

وهم یقولون فی مواضع عدیدة بأنّ النبی اجتهد فأخطأ(1) ، وفی کتب أصول الفقه عندهم یذکرون موارد اجتهاد النبی ثم تخطئته(2) ، ویذکرون أنّ القرآن نزل موافقاً لرأی الصحابة ومخطئاً لرأی النبی صلی الله علیه و آله(3).

ولو حوّلنا جملة«أنتم أعلم بأمر دنیاکم» التی ینسبونها إلی النبی صلی الله علیه و آله و سلم إلی التعبیر اللاتینی لأصبحت «سکولار» فصل الدین عن الحیاة العامة ، أو کما یقال :

ما للّه للّه وما لقیصر لقیصر ، إذاً هذا الطرح موجود فی المذاهب الإسلامیة الأخری غیر مذهب أهل البیت علیهم السلام .

ونستطیع أن نقول أنّ المذاهب الإسلامیة الأخری تمثّل العلمانیة القدیمة فی محتواها وفی معناها ، وهذه لیست مجرد روایات مذکورة ، وإنّما هم یتبنّونها ویبنون علیها آثار کثیرة .

وفی ذیل هذه الآیة:«وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِکَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِیٍّ إِلاّ إِذا تَمَنّی أَلْقَی الشَّیْطانُ فِی أُمْنِیَّتِهِ فَیَنْسَخُ اللّهُ ما یُلْقِی الشَّیْطانُ ثُمَّ یُحْکِمُ اللّهُ آیاتِهِ وَ اللّهُ عَلِیمٌ حَکِیمٌ »4 .

یرون أنّ النبی قد تسلط الشیطان علی قلبه وروحه ، ثم حکی آیات لیست من عند اللّه ، وتسمی هذه القضیة قضیة الغرانیق ،«أفرأیتم اللّات والعُزّی ومناة الثالثة الأُخری وإنهنّ من الغرانیق العلا وإنّ شفاعتهم لترتجی»(4) . وأنّ قریش قد

ص:37


1- (1) عمدة القاری شرح صحیح البخاری 18: 61 ، کتاب المغاری ، باب 81 فی حدیث کعب ابن مالک .
2- (2) الإحکام فی أصول الأحکام 4: 221 فما بعدها ، الاجتهاد بالرأی فی مدرسة الحجازالفقهیة: 112 فما بعدها .
3- (3) صحیح البخاری 1: 308 ، کتاب الجنائز ، باب الکفن فی القمیص الذی یکف ، الحدیث 1269 .
4- (5) مجمع الزوائد 6: 24 ، الحدیث 9850 .

استبشرت بمداهنة الرسول لها ، فنزل جبرئیل وسدّد النبی ، وقال له : إنّ تلک الآیات آیات شیطانیة ولیست آیات رحمانیة ، القضیة لیست مذکورة فی کتب الحدیث فحسب ، بل توجد فی کتب الأصول والتفسیر والکلام .

والنص فی کتاب البخاری لا یذکر لفظ الغرانیق ، وإنّما یذکر أنّ الشیطان یلقی فی قراءة النبی صلی الله علیه و آله(1)، وإن اختلف النص إلّاأنّ المعنی واحد ، والإیمان بهذه الأُمور فی حق النبی ، یعنی فیما یعنی الإیمان بالبلو ری ألسم وتعدّد الإدراک ، وأنّ کلام النبی صلی الله علیه و آله ، قد یصیب وقد یخطیء ، وأنّ النبی لا یدرک کلّ الحقیقة ، ولیس له أن یفنّد رأی الآخرین ، وهذا ینتج منه عدم صحة القول بخلود الشریعة الإسلامیة ، وکیف تخلد وهی لا تمتلک الحقیقة؟!

ومن ثم یظهر لنا مصطلح عقلنة الخطاب الدینی ، وهناک من یطرح نفس الطرح حتّی من وسطنا الداخلی ، ویقولُ : إنّه یحق للعقل أن ینتقد بعض خطوات الأنبیاء من باب البلوری السم أو تعدّد الإدراک.

وهم یفسّرون«خاتَمَ النَّبِیِّینَ »2 ، وقوله صلی الله علیه و آله :«لا نبی بعدی»(2) ، أنَّ إرسال الرسل إلی الأُمم السابقة إنّما حدث بسبب عدم تأهّل تلک الأُمم ، وأنّها لم تبلغ سن الرشد ، فلذلک احتاجت إلی نبی یرشدها ، أمّا الأُمم من بعد محمّد صلی الله علیه و آله فهی قد بلغت سن الرشد ، ولا تحتاج إلی قیمومة ووصایة السماء ، وهی قادرة بواسطة الحوار والمجتمع المدنی والدیمقراطیة والتجارب العملیة والانفتاح والحریة علی الاستغناء عن السماء وشریعتها ، فیکون خاتم الأنبیاء .

ص:38


1- (1) صحیح البخاری 3: 238 ، کتاب التفسیر، سورة الحج .
2- (3) مسند أحمد 3: 114 ، الحدیث 1532 .

وهم یقولون : إنَّ الشریعة لا تعالج الأُمور المعاشیة والمتعلّقة بالحیاة العامة ، فأین قوانین النظم العسکریة والمصارف والبنوک والاقتصاد والإدارة وغیرها؟ وهذا الإشکال وقعت فیه المذاهب الإسلامیة الأُخری وإن هم أنکروا علی العلمانیین الغربیین والعلمانیین المسلمین ، بل کفّروهم أو حکموا بضلالهم ، ولکنّهم یتبنّون نفس المعنی وإن اختلف اللفظ ، فهم یتخبّطون فی فهم قوله تعالی:«وَ نَزَّلْنا عَلَیْکَ الْکِتابَ تِبْیاناً لِکُلِّ شَیْ ءٍ»1 بعد أن أقرّوا أنّ القرآن لیس تبیاناً لکل شیءٍ من أُمور الدنیا ، فبعضهم قال: إنّ القرآن لیس فیه تبیان لکل شیء من الدین والدنیا ، وإنّما فقط من الدین ، مع أنّ بعض المفسّرین کالمفسّر الطنطاوی له تفسیر یبیّن فیه المعجزات العلمیة العدیدة التی ذکرها القرآن ثمّ أثبتها العلم بعد عدّة قرون.

والذین قالوا : إنّ القرآن فیه کل شیء من الدین اصطدموا بأنّ القرآن لیس فیه کل شیءٍ من الدین ، فیقول البعض - متوسّلاً فی الخروج من هذه المشکلة - : إنّ السنّة النبویة داخلة فی هذا النطاق ؛ لقوله تعالی:«ما آتاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاکُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا»2 ، فتکون السنة النبویة داخلة فی تبیان لکل شیء المذکور فی الآیة الکریمة ، وعندما رأوا أنّ السنة لیس فیها تبیان لکل شیء ضمّوا لهما الإجماع باعتبار مصدراً من مصادر التشریع ، وأنّه حجّة ، ولکن هذا لم یحل المشکلة ، ثم ضمّوا القیاس والظن والرأی(1) .

ومن هنا فإنّهم وقعوا فی مشکلة أنّ القرآن والسنة لیس فیهما تبیان لکل أُمور الدین - فضلاً عن الدنیا - ففتحوا باب العقول والتجارب البشریة ، وهذا عین ما یدعو إلیه العلمانیون ، وهم کفّروا نصر حامد أبو زید ، ونحن لسنا بصدد تصحیح مسلکه ، ولکن نقول: إنّ ما طرحه هو تتبنّونه أنتم وإن اختلف اللفظ ، وحکمت

ص:39


1- (3) روح المعانی 7: 452 ، ذیل سورة النحل (16): 89 .

المحکمة الشرعیة ببینونة زوجته منه ، وهو یعیش الآن فی الغرب .

وهنا نقاط لابدّ من ذکرها :

النقطة الأُولی: هی وجود الحقیقة ، ولابدّ من وجود الحقیقة سواءً کانت هذه الحقیقة هی حقیقة الحقائق ومحقّق الحقائق وموجد الحقائق ومقرّر الحقائق والمثبت للحقائق ، وهو اللّه سبحانه وتعالی علی مبنی الموحّدین أو حتّی علی مبنی المادیین الذین یؤمنون بأنّ المادة لها حقیقة أو الذی ولّد المادة له حقیقة وإلّا لو لم تکن للمادة حقیقة فلِمَ هذه البحوث العلمیة الکثیرة ، هل هی بحث وراء سراب أو بحث وراء حقائق؟ طبعاً بحث وراء الحقائق .

إذاً البحث العلمی یجب أن یبحث عن الحقیقة .

النقطة الثانیة : أنّ السیر البشری فی العلوم التجریبیة وإن ازدادت وتیرته بصورة مضاعفة إلّاأنّه لن یقف عند حدّ من الحدود وعند درجة من الدرجات .

والنتیجة أنّ البشر لن یصلوا إلی الکمال العلمی بحسب الواقع والحقیقة ، بل إنّ البشریة ستظلّ تبحث وتبحث عن الحقیقة ، وهذا دلیل علی النقص والعجز البشری فی بلوغ الکمال ، والحاجة إلی اللّه جلّ جلاله ؛ لأنّه هو المحیط بکلّ الحقائق ومطلق الوجودات ، ویعلم بکلّ القوانین والمعادلات .

ومن خلال النقطتین السابقتین نستطیع أن نردّ بأنّ البشریة لم تصل إلی مرحلة النضج البشری ، وعدم الوصول هذا یدلّ علی الجهل البشری ، واللّه یعلم إلی أیّ درجة سیکون الفارق بیننا وبین الأجیال القادمة فی التقدّم العلمی وأسالیب المعیشة .

إذاً البشر لم یصلوا إلی سنّ الرشد ، ولم یستغنوا عن وصایة السماء ؛ لأنّهم لا یزالون یعیشون المحدودیة فی التفکیر ، ولا یستغنون عن العالم المطلق الذی یحیط بالأدوار الزمنیة والعوالم المختلفة وأُصول الخلقة البشریة والموجودات

ص:40

الأُخری وأسرارها وکیفیة ارتباطها وتأثیرها علی بعضها وتأثیرها علی الإنسان ، والبشریة لن تصل فی یوم من الأیام إلی اکتشاف کلّ أسرار الکون ، ومن هنا تأتی ضرورة النبوة ؛ لأنّ البشریة غیر کاملة ، ومن هنا تحتاج إلی حبل متصل بین الأرض والسماء الذی یحیط بکلّ الأُمور .

ص:41

ص:42

المحاضرة الرابعة مناقشة آراء مدرسة التعدّدیة «البلوری ألسم»

اشارة

محاور المحاضرة :

أوّلاً : ما نتّفق مع التعدّدیة «البلوری ألسم»، وما نختلف علیه .

ثانیاً : أهمیّة وجود ضوابط وأدوات فی قبول الآخر أو رفضه .

ثالثاً : الإسلام سبق البلوری ألسم فی التعدّدیة وقبول الآخر .

رابعاً : کیف یکون الکتاب تبیاناً لکلّ شیء .

المدارس الثلاث التی تکلّمنا عنها کلّها تنطلق من قناعات تصبّ فی ضرورة أبدیة الدین الإسلامی والشریعة المحمّدیة من حیث لا تشعر .

سنبداً بمناقشة المدارس الثلاث ، وأوّل مدرسة سنناقشها هی المدرسة المنطقیة التعددیة«البلوری ألسم» لما لها من بریق وجاذبیة فی الأوساط الثقافیة ، وهذه المدرسة التی تعتمد فی طرحها علی أنّ الإنسان لا یدرک الحق لوحده ، بل یشارکه الآخرون فی معرفة الحقیقة ، وأنّ الإنسان وإن أدرک شیئاً من الحقیقة إلّا أنّه لا یدرک الحقیقة بشکل یجعله یحیط بها إحاطة کاملة.

وهم یقولون: إذا کان اللّه تعالی هو المحیط بالحقیقة بشکل کامل فذلک لأنّه هو المطلق اللامتناهی ، أمّا الرسول - أی رسول حتّی لوکان محمّد صلی الله علیه و آله - فهو مخلوق ومتناهی ، وهو لا یمتلک الحقیقة لوحده ، ولا یمتلکها بشکل مطلق.

ص:43

وما تعیشه البشریة من تطوّر فی السیر العلمی ناتج من قصورها وحاجتها إلی الکمال المطلق وهو اللّه تعالی .

وهذه النظریة هی تطویر لنظریة آینشتین النسبیة ، وأنّ الحق نسبی . وهم یطرحون طرحاً فکریاً یتبنّی الرأی القائل بأنّه لا یحق لأحد تخطئة غیره ؛ لأنّ الحق منتشر ومتوزّع ، ولا یحتکره أحد أو جهة معیّنة .

الرّد علی هذه الشبهة

أنتم تقولون : إنّ الحقیقة متفرّقة ، وأنّه لا یحق لأحد أن یدّعی أنّه یمتلک الحقیقة لوحده ویحیط بها إحاطة کاملة ، وأنتم بهذا تمیلون إلی جمع الحقائق من کلّ الأطراف ، وأنّکم ترفضون أن تتوقعوا فی جزءٍ من الحقیقة عند هذا الشخص أو ذاک ، وعند هذه الجهة أو تلک ، وأنّ الإنسان بطبیعته یسیر نحو الکمال المطلق ، والبحث عن الحقیقة والکمال المطلق هو اللّه تعالی ، قال تعالی:«قُلِ ادْعُوا اللّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَیًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنی »1 ، فکلّ اسم من أسماء اللّه یمثّل کمالاً من الکمالات الإلهیة .

والمنطلق الذی عند القوم هو أنّه إذا ادّعی شخص أنّ الحقیقة کلّ الحقیقة عنده ، والصحیح أنّ عنده بعضها وبعضها الآخر عند الآخرین ، فستکون النتیجة أنّه سیلغی وینفی جزء الحقیقة عند الآخرین ، وبهذه الطریقة ستضیع الحقیقة أو سیضیع جزؤها الذی عند الآخرین ، وهم فی حذرٍ شدید من ضیاع بعض الحقیقة عند هذا الطرف أو ذاک ، وأنّه ینبغی علی الإنسان أن یبحث عن الحقیقة عند کلّ الأطراف ؛ لکلی یحصل علی صورتها الکاملة ، إذاً هم یتّجهون للبحث عن الحقیقة بصورة کاملة من حیث یشعرون أو لا یشعرون ، ونحن نتّفق معهم فی أنّنا یجب أن

ص:44

نبحث عن الحقیقة بصورة کاملة .

ونحن أتباع الطرح الإلهی المقابل للطرح المادی نقول لهم : إنّ بعض الحقیقة التی یمتلکها هذا الشخص أو ذاک ، وهذه الفئة أو تلک ، غیر کافیة للوصول إلی الحقیقة بشکل کامل ، والنتیجة هی أنّنا لابدّ لنا من طریقة تجمع لنا الحقیقة بقدر ما یستطیع الإنسان أن یدرکها ، لا الحقیقة المطلقة والعلم المطلق الذی یمتلکه اللّه تعالی ؛ لأنّ ذلک مختص به تبارک وتعالی ، وبالتالی فإذا أردنا أن نحافظ علی الحقیقة یجب أن لا نبعّضها وأن لا نوزّعها فی هذا الطرف وذاک ؛ کی نحتفظ بها ، ولا تضیع بین هذه الأطراف ، وأنّه لابدّ من صیغة عقلیة ذهنیة فکریة تضمن لنا حفظ الحقیقة من الضیاع عندما تقسّم عند عدّة أشخاص أو فئات ، وأنّ الطرح الذی یطرحونه من توزّع الحقیقة عند الفئات أو الأشخاص لا یؤمّن لنا الوصول إلی الحقیقة.

وقد ورد فی الدعاء:«یا دائم الفضل علی البریة، یا باسط الیدین بالعطیّة ، یا صاحب المواهب السنیّة»(1) ، وصاحب المواهب السنیّة هو صاحب الحقیقة المطلقة التی تفیض الکمالات علی الإنسان .

ومن ضمن ما یطرحه العلمانیون الغربیون ، وتبعهم العلمانیون من العرب والمسلمین هو عدم نفی وإلغاء الطرف الآخر باعتبار أنّه یمتلک جزءاً من الحقیقة ، ولکنّنا نقول لهم : إلی أیّ مدی نعترف بالآخر ، هل نصحّح آراءه بشکل مطلق؟ أم نصحّحها بشکل نسبی؟ وعندما نصحّحها بشکل نسبی ، ما هی النسبة التی نصحّحها بها ، هل هی نسبة التسعین فی المئة أم العشرة فی المئة؟ ثم ماذا نفعل عندما تکون آراء الآخر آراء سراب ولیست آراء صواب ، هل نعترف بها بحجّة عدم إلغاء

ص:45


1- (1) المصباح للکفعمی: 647، الفصل السادس والأربعون فیما یعمل فی شهر شوال .

الآخر؟ إذاً فنحن بحاجة إلی وضع ضوابط وأدوات للاعتراف بالآخر .

صحیح إنّنی لا أستطیع أن أدّعی امتلاک الحقیقة باعتباری إنسان عادی غیر معصوم ، والقرآن الکریم والمذهب الإمامی یدعو إلی العقل الجماعی ، قال علی علیه السلام :«حق علی العاقل أن یضیف إلی رأیه رأی العقلاء، ویضمّ إلی علمه علوم الحکماء»(1) ، هذا صحیح لوجود لفظ حق علی العاقل أن یضیف إلی رأیه رأی العقلاء الناس ، والحدیث لم یقل أعقل الناس من جمع أهواء الناس إلی هواه ، ولم یقل أعقل الناس من جمع سفاهات الناس إلی سفاهته ، ولذلک من المفید أن نضیف إلی علمنا علم الغربیین من حیث التکنلوجیا والتقنیات الحدیثة والدراسات العلمیة والتعدّدیة السیاسیة ، ولکن ینبغی علینا أن نترک ما یعتبر من التخلّف فی المجتمعات الغربیة من الانحلال الخلقی والتفسّخ والرقص والمجون التی تضجّ منها أوروبا والهند والیابان مع کونهم غیر مسلمین إلّاأنّهم یخشون علی أنفسهم من شراسة الجنس والإغراء والتحلّل والمجون الذی تصدره أمریکا .

والعقل الجماعی الذی تکلّمنا عنه هو الشوری فی المفهوم الإسلامی ، العقل الجماعی ولیس الإرادة الجماعیة ، ونحن نحترم التعدّدیة فی هذا الإطار ، وهی جیّدة ومفیدة ، ولکن المهم هو انتقاء الفکر الصحیح عند الآخر ، لا قبوله بشکل مطلق بحجّة قبول الآخر والتعدّدیة ، وإذا لم یکن فیه شیء صحیح لا نقبل منه شیء ، وإذا کان یحتوی علی نسبة ضئیلة من الصحة لا نقبل غیر هذه النسبة الضئیلة ، ونرفض الفکر الخاطیء منها .

ومن الأخطاء الشائعة فی هذا الزمان اقتحام الحوار من قبل أشخاص لا یعلمون من التخصّص الذی یدور حوله الحوار شیئاً ، فلیس من المعقول أن یدیر

ص:46


1- (1) میزان الحکمة 4: 1525، الحدیث 9863.

الحوار الطبی مهندس میکانیکی ، وینصب هذا المهندس المیکانیکی نفسه حکماً علی ذلک الحوار الطبی ، وهو لا یعرف من الطب حتّی أبجدیّاته .

صحیح أنّه من المهم أن لا یستبدّ الإنسان برأیه ، وأنّ من استبدّ برأیه هلک(1) ، وهذه هی ثقافة الإسلام التی سبق بها التعددیة«البلوری ألسم» وإن کانت هذه الثقافة قد شوّهتها وجود الحکومات الظالمة المستبدّة التی کانت تحکم باسم الإسلام من حیث المظهر والشکل .

والسعی للحصول علی تمام الحقیقة یدعونا إلی الانفتاح علی الآخرین ، وأنّ البحث عن الحقیقة یحتاج إلی سلسلة من تجارب البشر حتّی یصلون إلی الحقیقة ، ونحن نعتقد أنّ اللّه قد بعث محمّداً صلی الله علیه و آله قبل أربعة عشر قرناً ، وقد جعله سیّد البشریة من حیث الروح والأخلاق والعقل، وقد أعطاه اللّه مالم یعط غیره ، فقال تعالی «وَ إِنَّکَ لَعَلی خُلُقٍ عَظِیمٍ »2 ، ویتجلّی لطف اللّه بمحمّد صلی الله علیه و آله و سلم فی سورة الشرح والضحی وغیرهما .

واللّه قد أعطی محمّداً صلی الله علیه و آله و سلم قواعد العلوم ، وقد زقّة العلم زقّاً ، واللّه تعالی یحیط بالحقیقة بصورة غیر قابلة للخطأ إطلاقاً ، وبکم وکیف لا یصل إلیه البشر فی سیرهم العلمی القائم علی التجربة فی العلوم السیاسیة والإنسانیة والحقوقیة وغیرها .

قال تعالی«أَ لا یَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اللَّطِیفُ الْخَبِیرُ»3 ، اللّه یعلم ما خلق من الذرّة إلی المجرّة ، وهو اللطیف الخبیر الذی لا یخفی علیه شیء ، وهذا لیس ادّعاءً منّا لکی نرفع من شأن محمّد صلی الله علیه و آله ، بل هذا هو ما أخبر به اللّه تعالی حیث قال تعالی

ص:47


1- (1) میزان الحکمة 8 : 3464، الحدیث 21272 .

«وَ ما مِنْ غائِبَةٍ فِی السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِلاّ فِی کِتابٍ مُبِینٍ »1 ، وفی هذه الآیة لا یقتصر الأمر علی التشریع فی الکرة الأرضیة ، بل یتجاوز إلی الغائبة فی السماء والأرض ، حیث توجد فی الکتاب المبین وهو القرآن ولکن لیس القرآن النازل ، بل هو القرآن فی اللوح المحفوظ.

وقال تعالی:«وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَیْبِ لا یَعْلَمُها إِلاّ هُوَ وَ یَعْلَمُ ما فِی الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاّ یَعْلَمُها وَ لا حَبَّةٍ فِی ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَ لا رَطْبٍ وَ لا یابِسٍ إِلاّ فِی کِتابٍ مُبِینٍ »2.

«وَ ما یَعْزُبُ عَنْ رَبِّکَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِی الْأَرْضِ وَ لا فِی السَّماءِ وَ لا أَصْغَرَ مِنْ ذلِکَ وَ لا أَکْبَرَ إِلاّ فِی کِتابٍ مُبِینٍ »3.

«وَ کُلَّ شَیْ ءٍ أَحْصَیْناهُ فِی إِمامٍ مُبِینٍ »4.

«حم * وَ الْکِتابِ الْمُبِینِ * إِنّا أَنْزَلْناهُ فِی لَیْلَةٍ مُبارَکَةٍ إِنّا کُنّا مُنْذِرِینَ »5.

وسنورد معنی الکتاب المبین بصورة مقتضبة ، حیث یقول تعالی«إِنّا أَنْزَلْناهُ » والتنزیل تخفیف ، کما لو قلنا سننزّل هذا المطلب ، أی: سنخفّفه ، لأنّ حقیقة الکتاب المبین لا تستوعبه الدنیا ، أُصول المطالب الموجودة فی الکتاب المبین موجودة فی القرآن الکریم المقدّس العظیم ، والکتاب المبین هو حقیقة القرآن وعلومه الغیبیة بنص سورة الدخان ، ونستدل بها ولیس بالرویات ؛ لکی لا تبقی حجّة لمن

ص:48

یتّهمنا بالباطنیة.

«حم * وَ الْکِتابِ الْمُبِینِ * إِنّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِیًّا لَعَلَّکُمْ تَعْقِلُونَ »1 ، أی: جَعْلاً مُخَفّفاً یتحمّله الوجود الأرضی ، وإلّا فإنّه فی حقیقته لیس عربیاً ولا فارسیاً ولا إنجلیزیاً ، وهذا ما نستفیده من کلمة«جعلناه» الواردة فی الآیة ، وإنّما هو وجود تکوینی وحقیقة من الحقائق ، وأمّا ما هی هذه الحقیقة فهذه بحث آخر لسنا فی صدد الخوض فیه .

وقال تعالی«فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ * وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِیمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ کَرِیمٌ * فِی کِتابٍ مَکْنُونٍ * لا یَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِیلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِینَ * أَ فَبِهذَا الْحَدِیثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ »2.

القرآن یقول هل أنتم مرتابون بهذه الحقیقة ولا تصدّقونها .

وهذا القرآن الذی هو تنزیل ونزول ، والنزول هو مقابل الصعود کما هو معروف فی اللغة .

والقرآن الکریم ینبئنا أنّ کثیراً من المغیّبات والحقائق موجودة فی الکتاب المبین، یقول تعالی«وَ نَزَّلْنا عَلَیْکَ الْکِتابَ تِبْیاناً لِکُلِّ شَیْ ءٍ وَ هُدیً وَ رَحْمَةً وَ بُشْری لِلْمُسْلِمِینَ »3 .

إنّ هذا ادّعاءٌ کبیر ، ومن یستطع فی هذا العصر أن یثبت هذا الادّعاء أنّ القرآن فیه کلّ شیء؟

باللّه علیکم لولم یکن للقرآن قریناً آخر وهم أهل البیت علیهم السلام ، کیف یمکننا أن نثبت هذه الحقیقة أمام الأُمم الأخری؟

وقد حاول بنو أمیة وبنو العباس أن یُحرجوا أهل البیت علیهم السلام ، کیف یمکننا أن

ص:49

نثبت هذه الحقیقة أمام الأُمم الأخری؟

وقد حاول بنو أمیة وبنو العباس أن یُحرجوا أهل البیت علیهم السلام ، فکانوا یأتون بالعلماء لکی یناقشوا أهل البیت ، وبالتالی ینتصرون علیهم فتقلّ منزلة أهل البیت علیهم السلام عند الجماهیر ، ولکنّهم فشلوا فی هذا الأمر ، وانتصر أهل البیت علیهم السلام علی جمیع المستویات العلمیة بما فیها الطب ، والتاریخ یشهد للإمام الصادق والإمام الرضا ، والمقام العالی للإمام الرضا علیه السلام هو الذی جعل المأمون ینجذب إلی الإمام الرضا ویجعله ولی العهد ، ولو قرأنا کتاب المجروحین لابن حبان وهو من علماء العامة فی ترجمة علی بن موسی الرضا علیه السلام لرأیناه یقول: «یروی عن أبیه العجائب»(1) ، وهذا المقام العالی لأهل البیت علیهم السلام جعلهم القرین الآخر للکتاب .

ص:50


1- (1) کتاب المجروحین 2: 106 .

المحاضرة الخامسة مناقشة مدرسة العلمانیة «السکولارزم»

اشارة

محاور المحاضرة:

أوّلاً : التطوّر الذی طرأ علی المجتمعات الإنسانیة.

ثانیاً : کیف یبقی الدین ثابتاً مع التطوّر العلمی والعملی الهائل؟

ثالثاً : ما هی نسبة الثابت والمتغیّر فی حیاة الإنسان؟

رابعاً : الباحث العلمی یبحث عن القوانین الثابتة ولیست المتغیّرة .

قلنا فی الحدیث السابق إنّنا لا نرفض مدرسة التعددیة«البلوری ألسم» بشکل مطلق ، وأشرنا إلی الجوانب الإیجابیة ، وذکرنا أنّنا نستنتج من آراء هذه المدرسة استنتاجات تصبّ فی ضرورة النبوّة والرسالة ووصایة السماء ، ولیست هی ضدّ هذه المفاهیم کما یتراءی للمطلّع علیها من أوّل وهلة ، وسنشیر إلی تطبیقات هذه المدرسة فی المجال السیاسی فیما بعد إن شاء اللّه .

وفی هذا الیوم سنناقش مدرسة العلمانیة«السکولارزم» ، وهی أقدم المدارس الثلاث ، ولازالت تتطوّر وتتبلور بصیاغات فکریة جدیدة وإضافات علمیة متعدّدة . ملخّص إثارات هذه المدرسة - وإن کنّا لسنا فی مقام استقصاء هذه الإثارات - یرتکز علی الجانب المتغیّر فی النظام الاجتماعی أو الاقتصادی أو

ص:51

العسکری أو السیاسی أو المالی أو الإداری فی حیاة البشر ، هذا بالإضافة إلی نظام الأُسرة والفرد ، وطبیعة المعیشة وتطوّرها من السکن فی الکهف ثم الصحراء ثم الغابات ثم الأودیة ثم القریة ثم المدینة ، فلو قارنّا معیشتنا فی هذا الزمان مع من عاشوا قبل خمسین سنة - فضلاً عمّن عاشوا لقرون - لوجدنا أنّ طبیعة الأُسرة تختلف من حیث المتطلّبات والتعقیدات الحضاریة ، وأنّ طبیعة المشارکة بین الزوج والزوجة اختلفت .

وفی الزمان الماضی لم یکن المال هو الوسیط الاقتصادی ، وإنّما کان عن طریق المقایضة والمبادلة بین بضاعة وأُخری فی فترة من فترات الزمن ، وکان فی فترة من الفترات البضاعة السائدة هی النقد ، فمثلاً: البلد الذی یکون فیه الشای هو البضاعة السائدة یکون الشای هو النقد فی ذلک المجتمع ، ثم تحوّلت هذه الحالة إلی وضعیة النقد المالی الذی بدأ بالنحاس ثم بالفضة والذهب ثم النقد الورقی ، والآن تحوّل النقد الورقی إلی النقد الاعتباری بالشیکات والحوالات وبطاقات الائتمان أو الفیزاکارد کما تسمّی ، والنقد الورقی آخدٌ فی الاضمحلال شیئاً فشیئاً .

وهکذا فی الجانب السیاسی الذی بدأ بصورة قبلیة بسیطة ثم تطوّر إلی نظام الدیوان والکتّاب والشرطة والجیش العسکری التقلیدی بأسلحته التقلیدیة ، ولکن هناک فرق شاسع بین هذه الحالة وحالة الحکومات فی زماننا المعاصر ، وتشکیل الوزارات والانتخابات والتطوّر الإلکترونی الذی دخل کلّ المجالات ، وأدوات النظام کذلک فلم یکن فی الماضی الفصل بین السلطات الثلاث التشریعیة والقضائیة والتنفیذیة ، ولم تکن القوانین فی الأزمنة الغابرة علی ما هی علیه فی هذا الزمان من التشریعات الثابتة أو الدستور أو التشریعات المتغیّرة أو مصوّبات المجالس النیابیة وغیرها .

والقوی التشریعیة تضاهی القوّة الفکریة عند الإنسان ، والقوی العسکریة

ص:52

تضاهی القوّة الغضبیة الرادعة عند الإنسان ، ووزارات التربیة والتعلیم تضاهی الإدراک عند الإنسان ، فأصبح جهاز الدولة کإنسان کبیر متطوّر وأعمال الصرافة التی تطوّرت حتّی أصبح البنک بحدّ ذاته کدولة مستقلة ، وهذا ما ینطبق علی التطوّر الزراعی والصناعی وغیرهما .

الشبهة التی یطرحونها

کیف یبقی الدین ثابتاً مع کلّ هذا التطوّر الذی جری علی البشریة؟ ولو لاحظنا نسخ شریعة موسی بشریعة عیسی جاء فی فترة لم تکن فیها قفزة تطوّریة فی نظم الحیاة ، وهکذا بالنسبة لنوح وإبراهیم ومحمّد صلی الله علیه و آله ، وإنّما حدثت القفزات والتطوّرات الهائلة فی العصور المتأخرة والأزمنة المعاصرة ، فکیف یبقی الدین ثابتاً مع هذا التطوّر العلمی؟

فمن باب أولی أن یحدث النسخ فی الزمان الحاضر لحدوث التطوّر الهائل فإنّ المجتمع لم یعد مجتمع قبائل وعشائر ، بل تحوّل النظام إلی وطن وجنسیة ومواطنة وبطاقة سکّانیة وجواز وإثبات هویة وغیرها

وأنا أطرح هذه الإثارات بکلّ صراحة ؛ لأنّ دیننا دین خالد ، ویستطیع أن یستوعب کلّ الأُمور ، عنده قابلیة الردّ علی کلّ الإشکالات ، بل إنّه یمتلک قدرة تلبیة العطش البشری ، ونحن لا نعیش فی ذلک الزمان الذی ینغلق فیه کلّ قوم علی أنفسهم ، وإنّما نحن فی زمان أصبح فیه العقل البشری کلّه علی طاولة واحدة ، ولا یمکن إخفاء أیّ شیء .

ومن إشکالاتهم أنّ النبی قد بعث فی مجتمع یغلب علیه البداوة ، ولم یکن فی مجتمع حضاری کالفرس والروم ، وهذا الأمر یدلّ علی عظمة محمّد صلی الله علیه و آله الذی استطاع أن یحوّل هذا المجتمع البدوی إلی مجتمع یحکم العالم ویسیطر علیه ،

ص:53

وهذا محلّ إعجاب الباحثین والعلماء ، فهم یقولون مع هذا الإعجاب والانبهار بالدور الذی قام به محمّد صلی الله علیه و آله إلّاأنّ المجتمع الذی کان یعیش فیه کان مجتمعاً بدویاً ، ولا یمکن أن نبقی علی أحکامه فی ظلّ التطوّر العصری الهائل ، فلا یمکن الاعتماد علی البیّنة والشاهد کما یطرحه الفقه الإسلامی ؛ لأنّ ملف القضاء فی الزمان المعاصر قائم علی التحقیقات والاستخبارات القضائیة ، وفی باب المرور یأتی المختصّون فی هذا الاختصاص لیفصلوا الخصومة.

نحن قلنا : إنّ مدرسة العلمانیة«السکولارزم» مدرسة فلسفیة ، وهی لا تناقش قدرة النبی محمّد صلی الله علیه و آله الفردیة کما هو الحال فی التعددیة«البلوری ألسم» ، وإنّما تناقش مسألة المنهج والقانون والدین ، وهم یناقشون البحوث المختلفة فی البحوث القضائیة والأُسریة والمصرفیة ، وفی بحوث الدیات والقصاص والحدود ، فهم مثلاً : یعترضون علی قطع الید والجلد وغیرها من العقوبات الإسلامیة ، ویعتبرونها غیر مناسبة للعصر الحاضر ، وینبغی - حسب رأیهم - التفکیر فی أسالیب رادعة أُخری لمحاربة الجرائم والجنایات ، وأنّ العقاب الإسلامی قد أکل الدهر علیه وشرب ، ولا یناسب النظام النفسی والسیکولوجی والاجتماعی الحدیث .

والمدرسة الإمامیة حاولت عبر عقود عدیدة ، ورجالاتها فی الحقل العلمی ناقشوا هذه القضایا فی جوّ علمی هادیء بعید عن التعصّب .

الجواب الأوّل :

أوّل ما یثار علی هذه التساؤلات هو ، هل کلّ ما هو فی البیئة التی تحیط بالإنسان بکلّ أنواعها وأشکالها متغیّرة أم ثابتة؟

نحن نطرح هذا التساؤل ؛ لأنّ مدرسة العلمانیة«السکولارزم» ترید أن تفصل

ص:54

الدین عن الحیاة بکلّ أطیافها بحجّة أنّ البیئة تتغیّر دون أن تراعی أنّ هناک ثوابت إلی جانب المتغیّرات .

ونحن نطرح سؤالاً آخر ، وهو ما هی نسبة الثابت والمتغیّر فی حیاة الإنسان ؟

الإنسان منذ آدم وحتّی زماننا هذا هو الإنسان لم یتغیّر من الناحیة الخلقة والبدنیة والنفسیة والفسلجیّة ، فالجهاز الهضمی والعصبی ، والدورة الدمویة والأعضاء البدنیة وغیرها هذه کلّها ثابتة.

الحاجات الإنسانیة لم تتغیّر ، فالإنسان فی زمن آدم لدیه حاجات جنسیة ، ویحتاج إلی نظام الزواج ، والإنسان فی زماننا هذا کذلک ، وهو فی ذلک الزمان یحتاج إلی الرعی والزراعة من أجل تأمین الجانب الغذائی ، وفی زماننا هذا کذلک ، والبیئة والصیف والشتاء والحرارة والبرودة ، والقوی الشهویة والغضبیة والإحساسات والعواطف والقوی الروحیة کلّ هذه الأُمور ثابتة ولیست متغیّرة.

الإنسان صاحب عواطف وأحاسیس ، ولا یمکن تهمیش هذا الجانب المهم فی حیاة الإنسان ، کما تنطلق بعض الدعوات التی تدعو لذلک ، فالإنسان یحبّ ویکره ، وینقبض وینبسط ، ویحزن ویفرح ، وهذا هو الجانب الحیوی فی الإنسان ، ولا یمکن أن نفرض الجانب الفکری ، والجانب التربوی یعتمد علی الجانب العاطفی والوجدانی بدرجة کبیرة ، ولا یمکن بحال من الأحوال الاستغناء عنه ، ولا یمکن إخضاعه للفکر بصورة مطلقة .

نحن ذکرنا فی المحاضرات الأُولی أنّ الدین هو الدین لا یتغیّر بین نبی وآخر ، وأنّ الذی یتغیّر هو أحکام الشریعة ، فالتوحید الذی یحتاج الیه الإنسان فی الغابة والکهف هو التوحید الذی یحتاج إلیه الإنسان فی عصر المعلومات وغزو الفضاء .

التشریع الإسلامی یعالج الجوانب الثابتة فی حیاة الإنسان ، کما أنّ التشریع یحارب الرذیلة ، والرذیلة وإن تطوّرت فی أسالیبها وأشکالها إلّاأنّها هی الرذیلة

ص:55

التی یجب أن نحاربها ونجتثّها من المجتمع .

وعندما نردّ علی نظریة مّا لا یعنی أنّنا ننسف النظریة التی نردّ علیها ردّاً نسفیاً ینسفها من الأساس ، وقد تکون فیها جوانب إیجابیة ، ونحن نرحّب بالنوازع الفطریة التی أصابها بعض الانحراف ، ونحاول أن نهذّب الانحراف فیها ، وأن نرجعها إلی أُصولها الفطریة النقیّة ، وأهل البیت علیهم السلام قد علّمونا أن ننفتح علی جمیع الآراء .

کما نری أنّ الإمام الصادق علیه السلام یناقش عبد الکریم بن أبی العوجاء وغیره من المنحرفین فکریاً(1) ، أمّا بقیة أئمة المذاهب الأُخری لو دخل علیهم داخل وأثار إثارات وإشکالات غامضة فإنّهم یطردونه ویتّهمونه بالزندقة ، کما ینقل أبو نعیم الإصفهانی فی ترجمة مالک(2)بینما الإمام الصادق علیه السلام کان لا یستعمل معهم هذا الأُسلوب ، وهذه الإثارات قد تفتح ذهن الإنسان علی حقّانیة الدین .

الجواب الثانی :

الباحث العلمی فی شتّی حقول المعرفة یبحث عن الحقائق والمعادلات الثابتة ، ولیست النتائج المتغیّرة ، فالفیزیائی عندما یبحث عن قانون لحساب السرعة فی مجال معیّن ، هل یبحث عن قانون یتبدّل أم قانون ثابت؟ طبعاً قانون ثابت .

نحن لا ننکر وجود الجانب المتغیّر ، ولکن نقول : إنّ الباحث فی شتّی المجالات لا یستطیع أن یتنکّر للجانب الثابت فی حیاة الإنسان ، وهذه الجوانب الثابتة هی المهیمنة علی کلّ المتغیّرات

ص:56


1- (1) الاحتجاج 2: 200 .
2- (2) حلیة الأولیاء 6: 355 ، رقم الترجمة 386 .

المحاضرة السادسة الإمام هو الذی یطبّق الشریعة علی المتغیّرات

اشارة

محاور المحاضرة :

أوّلاً : وجود مجهولات فی علم ما لا یعدّ نقصاً فی العلم ، وإنّما یعدّ نقصاً فی من یستنبط العلم .

ثانیاً : الإمام هو الذی یعرف تأویل الکتاب وتفاصیل الشریعة.

ثالثاً : الغیبة مقابل الظهور ، ولیس الغیبة مقابل الحضور .

رابعاً : العالم یدار من قبل الأجهزة السریة.

خامساً : لیس من الضروری أن یکون الشخص المؤثّر ظاهراً ومعلنا .

قلنا: إنّ اللّه قد أهّل محمّداً صلی الله علیه و آله و سلم أن یحمل رسالة تحتوی علی أُصول التشریع ، وهی أُصول کلیة وقواعد عامّة کشف عنها التشریع الإسلامی بواسطة محمّد صلی الله علیه و آله ، واللّه هوالذی یعلم ما خلق وهو اللطیف الخبیر ، أمّا المتغیّرات فهی موجودة ، وقد تطوّرات بشکل أکبر ممّا هی علیه من تطوّر بین الرسالات السابقة التی نسخت بعضها ، وهی رسالات عیسی وموسی وإبراهیم ونوح ، وأنّ منطقة الثبات فی الدین هی منطقة أُصول الدین وأرکان الفروع ، أمّا التفاصیل التشریعیة والعبادیة والنظام السیاسی والقضائی فخاضعة إلی التغییر ، والأُصول التشریعیة جامعة وثابتة .

ص:57

مجهولات العلوم وحلولها

ولکن هنا یطرح إشکال وهو : من یضمن سلامة وإتقان استنباط القضایا التفصیلیة من الأُصول والقواعد الکلیة بنحو یرتبط بدقّة بالشریعة الإسلامیّة؟

وعلی سبیل المثال : علم الریاضیات والهندسة والجبر والحساب ، والتی تعدّ من العلوم البدیهیة تقریباً إلّاأنّ المجهولات الهندسیة والجبریة والریاضیة والمیکانیکیة إلی الآن لم یستطع علماء الریاضیات أن یجدوا حلولاً لها ، مع أنّ حلولها توجد فی الأُسس الأولیة لعلم الریاضیات من عملیات الطرح والجمع والضرب والقسمة ، وعلم الریاضیات علم معصوم ، وإذا حدث خطأ ما فالخطأ فی الشخص الذی استعمل الریاضیات بصورة خاطئة لا فی علم الریاضیات نفسه ، وقد استمعت للعدید من المقابلات مع نجوم علوم الریاضیات ، وقد قالوا : إنّ علم الریاضیات الموجود بصورته الحالیة یرجع إلی تسع معادلات - حسب کلامهم - وبعضهم قال: إنّها ست معادلات إلّاأنّ العقل البشری لا یستطیع استیعاب الأُسس التی قامت علیها هذه المعادلات ، ولا یعرف ما وراءها ، وقد أکّد لی أحد حاملی شهادة الدکتوراه هذه الحقیقة .

وهم یقولون : إنّنا لو استطعنا معرفة الأسرار التی تقف وراء هذه المعادلات لاستطعنا أن نکتشف العدید من الأسرار المذهلة فی الکون ، وهذا العجز البشری فی معرفة هذه الأسرار لا یعنی عجز علم الریاضیات فی نفسه ، وإنّما النقص فی من یستنبط هذه النتائج من هذا العلم ، وهذا لا یقتصر علی علم الریاضیات ، وإنّما ینطبق علی باقی العلوم .

الإمام عنده علم تأویل الکتاب

من الذی یستطیع من بعد محمّد صلی الله علیه و آله أن یحفظ شریعة محمّد صلی الله علیه و آله التی تغطّی کلّ

ص:58

المتغیّرات؟ وهذا السؤال لا یجد جواباً إلّاعند مدرسة أهل البیت علیهم السلام ، بحیث تعتقد أنّ الإمام عند علم الکتاب کلّه ، ومن هنا نحن نقول : إنّ هذا المقام یعدل مقام أُولی العزم من الأنبیاء السابقین علیهم السلام ، وإن کنت لست فی مقام إثبات هذا الأمر إلّاأنّها إشارة معترضة؛ لأنّ الذی یحیط بأُسس شریعة وأُصول عامّة تغطّی المتغیّرات لملایین البشر حتّی یوم القیامة ، هوالذی یستطیع الإحاطة بعلم الکتاب کلّه ، وهذا علمه یزید علی علم الأنبیاء السابقین ، والفترة التی کانت فیها شرائع الأنبیاء السابقین شرائع محدودة بفترة معیّنة قد تطول أو تقصر ، وکلّها نسخت بشریعة النبی ، فالذی یقوم مقام النبی فی خلافته - باستثناء النبوّة - فی تغطیة حاجیات البشر من خلال المتغیّرات التی تطرأ علی البشر ، فهو الحافظ للشریعة ، کما یعرّفه الإمامیة بهذا التعریف باعتباره القادر علی تغطیة الشریعة للمتغیّرات.

التأویل لا یعلمه إلّااللّه والراسخون فی العلم ، وللتأویل معان عدیدة ، منها :

تطبیق الأُسس علی المتغیّرات ، کما حدث بین موسی علیه السلام والخضر فی قضیة السفینة والغلام والجدار التی یذکرها القرآن فی سورة الکهف ، بحیث یکون الانطباق بین الشریعة والمتغیّرات انطباقاً یقینیاً یؤثّر فی مستقبل القضیة ، فبقاء الجدار وعدمه ، وبقاء الغلام وعدمه ، وخرق السفینة وعدمها ، یترتب علیه أُمور عدیدة ونتائج مختلفة ، ولو بقی هذا الغلام لانقطع نسل سبعین نبیاً ، کما ورد فی بعض الروایات التی یرویها الفریقان(1) ، أی : سیحدث منعطف خطیر فی حیاة البشریة لو قدّر لهذا الغلام أن یبقی .

ص:59


1- (1) تفسیر نور الثقلین 3: 286 ، ذیل سورة الکهف ، الحدیث 171 - 174 .روح المعانی 8: 334 ، ذیل الآیة 81 من سورة الکهف .

أین یوجد الإمام المهدی ؟

المشکّکون فی وجود المهدی یطرحون إشکالاً مفاده: أنّه أین یوجد المهدی ، وما هی نشاطاته؟

النشاط المهم فی الدولة هو النشاط السری والاستخباری ، والقوّة تکمن فی الخفاء ولیس الغیاب عن میدان العمل الذی یعنی تلاشی التأثیر والفاعلیة.

الغیبة مقابل الظهور ، ولیس مقابل الحضور

هناک غیبة مقابل الظهور ، وهناک غیبة مقابل الحضور ، وغیبة الإمام المهدی هی من نوع الغیبة مقابل الظهور ولیس الغیبة مقابل الحضور ؛ لأنّ الإمام المهدی (عجّل اللّه فرجه) حاضر، ونحن نعبّر عن عصره بعصر الظهور ، ونتکلّم عن علامات الظهور ، ولا نعبّر عنه بعصر الحضور ، وعلامات الحضور ، وعصر الظهور هو العصر الذی تنکشف فیه هویة الإمام المهدی (عجّل اللّه فرجه الشریف) للملأ ، والإمام المهدی (عجّل اللّه فرجه الشریف) موجود ونشط .

اختلاف أنماط الحکومات ، وأهمیة الأجهزة السریة

الآن أنماط الحکومة تختلف حتّی القبیلة هی نمط من أنماط الحکومة ، والعشیرة والطائفة التی تمتلک مواردها الخاصة وقوانینها الخاصة وقدراتها الخاصة وروافدها الثقافیة الخاصة .

إذاً المجتمع مجموعة قوی کلّ قوّة لها إمکانیاتها الخاصة ، ولذلک الأدبیات السیاسیة التی تحلّل المرجعیة الشیعیة تقول: إنّها حکومة ، ولکن حکومة شبه رسمیة أو نصف رسمیة ، حیث إنّ المرجعیة الشیعیة لها وزارة ثقافة تتصدّی للغزو الثقافی والوضع الفکری المنحرف وتنشر الوعی ، ووزارة دفاع تتمثّل فی فتاوی الجهاد ، ووزارة مالیة تتمثّل فی جمع الضرائب والأخماس وغیرها ، وهذه

ص:60

الوزارات لیست وزارات لها مبانی ، وإنّما هی وزارات لها نفوذ اجتماعی ، والحکومات لیست هی الحکومات الرسمیة فقط ، وإنّما الحکومات هی القوی التی تمتلک النفوذ الاجتماعی سواءً کانت رسمیة أو غیر رسمیة ، وهناک أجهزة تدیر العالم فی زماننا هذا فی الحقل المالی ، وحقل التسلّح العسکری والمصرف والإعلام ، هذه کلّها أجهزة سریة تدیر العالم ، ولا نعرف من یقف وراءها ، فلیس معنی النفوذ والنشاط أن یکون هذا النشاط معلناً ومن یقف وراءه معلناً ، ولا یوجد رابط بین القدرة علی الحکم وبین إعلان الحاکم ، بل حتّی الحکومات المعلنة تقف وراءها أجهزة سریة .

الإمام المهدی (عجل اللّه فرجه الشریف) حاضر وموجود ونشط فی مختلف القضایا ، ولو تأمّلنا فی هذه الآیة من سورة الکهف«فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَیْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَ عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنّا عِلْماً»1 . لوجدنا أنّ هذه القصّة تشیر إلی مجموعة من العباد الذین آتاهم اللّه رحمة من عنده وعلماً لدنّیاً یقومون بأدوار خفیّة علی طبق البرنامج والأوامر الإلهیة فی إدارة المجتمعات .

یقول الإمام الباقر علیه السلام :

«إنّ علیاً علیه السلام کان محدّثاً... یحدّثه ملک. قلت: تقول: إنّه نبی؟ [قال] فحرّک یده هکذا: أو کصاحب سلیمان ، أو کصاحب موسی...»(1).

ولولا علم التأویل لم یقتنع موسی علیه السلام بما فعله الخضر علیه السلام ،«ذلِکَ تَأْوِیلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَیْهِ صَبْراً»3 ، عندما عرف التأویل اقتنع ورضی بما فعله الخضر علی ضوء أُسس شریعته التی تغطّی هذه المتغیّرات ، والنبی موسی لم یکن عنده هذا

ص:61


1- (2) تفسیر کنز الرقائق 8: 105 .

التأویل ، مع أنّه کان من أنبیاء أُولی العزم بنص سورة الکهف ، بل کان عند غیره ، واللّه تعالی لم یصف الخضر بأنّه نبی من الأنبیاء أو رسول من الرسل ، وإنّما وصفه بأنّه عبد من عباد اللّه ، وقال تعالی آتیناه علماً لدنّیاً حینما عبر ب «من لدنا» ، والعلم اللدنّی هو السبب المتصل بین الأرض والسماء .

وقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : «أنا أقاتل علی التنزیل ، وعلی یقاتل علی التأویل»(1) ، والعلم الذی عند الإمام علی علیه السلام هو من عند رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، وهو القائل«علّمنی رسول اللّه صلی الله علیه و آله ألف باب یفتح کلّ باب ألف باب»(2) .

إذاً سورة الکهف تثبت بأنّ الإنسان الذی یمتلک العلم اللدنّی یستطیع أن یغطّی کلّ المتغیّرات حتّی ولولم یکن نبیاً ، فهو باعتباره یمتلک العلم اللدنّی من عند اللّه فهو لا یخطیء ، وهو یستطیع أن یربط بین هذه الحلقة فی هذا الزمن بحلقات أُخری فی أزمنة قادمة ، وهذا عمل جبّار ، فلا یستطیع أحدنا أن یخطّط لعمل اجتماعی لخمسین سنة قادمة ، مع معرفة کلّ العوائق والسلبیات التی ستعترضه فی هذا المجال ، فجمیع التخطیط البشری یتبیّن فشله أو فشل أجزاء منه بنسب مختلفة بسبب قصور الفکر البشری عن استیعاب کلّ الجوانب ، فبعد إتمام المشروع تتبیّن النواقص التی فیه.

والإمام هو صاحب العلم اللدنّی ، وهذا العلم اللدنّی یؤهّله أن یخبر عن اللّه ، ولکن لیس بمعنی أن یکون نبیاً أو یکون صاحب شریعة جدیدة ، وهذا تماماً ما حدث للخضر الذی حاور موسی بنفس الأُسس الشرعیة فی شریعته هو ، فسورة الکهف تخبرنا عن مقام إلهی تحتاج إلیه البشریة ، وهذا المقام یستوجب الاطلاع

ص:62


1- (1) الفصول المهمة فی أُصول الأئمة 1: 569، الحدیث 859 .
2- (2) الفصول المهمة فی أصول الأئمة 1: 565، الحدیث 848 .

علی إرادة اللّه ، کما ورد فی الآیة«وَ أَمَّا الْجِدارُ فَکانَ لِغُلامَیْنِ یَتِیمَیْنِ فِی الْمَدِینَةِ وَ کانَ تَحْتَهُ کَنْزٌ لَهُما وَ کانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّکَ أَنْ یَبْلُغا أَشُدَّهُما وَ یَسْتَخْرِجا کَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّکَ وَ ما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِی ذلِکَ تَأْوِیلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَیْهِ صَبْراً»1.

ولو تأمّلنا فی الآیة لوجدنا أنّ الخضر مطّلع علی إرادة اللّه من خلال قوله «فأراد ربک»، وهذا القول لا یعنی أنّ الخضر قد أتی بشریعة جدیدة من عند اللّه ، وإنّما هو تطبیق للشریعة بأُسسها العامّة التی تغطّی کلّ المتغیّرات

المتغیّرات کثیرة ، ولکن الشریعة تغطّیها

إذاً نحن نتّفق مع مدرسة العلمانیة«السکولارزم» بأنّ المتغیّرات کثیرة وکبیرة ، ولکن الأُسس الدینیة قادرة علی التغطیة والاستیعاب لکلّ هذه المتغیّرات ، کما أنّ الأُسس العامّة للریاضیات تغطّی جمیع المجهولات الریاضیة.

لا یمکن الاکتفاء بظاهر اللفظ القرآنی

الذی یدّعی أنّ الشریعة مقتصرة علی ظواهر القرآن یجنی علی الشریعة ، والقرآن یقول: إنّه تبیان لکل شیء(1) ، ویقول: إنّ الراسخین فی العلم یعلمون تأویل القرآن(2) ، والآیات المحکمات والمتشابهات هی فی القرآن المنزل وفی ظواهر القرآن ، أمّا الکتاب المبین فی لوح محفوظ فی کتاب مکنون(3) فی عوالم الغیب ذلک موجود فیه کلّ شیء وهو تبیان لکل شیء ، أمّا ظواهر القرآن فهی لیست تبیاناً لکلّ شیء فی التشریع - فضلاً عن العلوم الأُخری - وإلّا فکیف نجمع

ص:63


1- (2) النحل (16): 89 .
2- (3) آل عمران (3): 7.
3- (4) الواقعة (56): 78 .

بین وجود المحکمات والمتشابهات وبین قوله تعالی«بَلْ هُوَ آیاتٌ بَیِّناتٌ فِی صُدُورِ الَّذِینَ أُوتُوا الْعِلْمَ »1 ، وهذه الآیة تقول: إنّ هذه الآیات البیّنات فی صدور الذین أوتوا العلم ، ولم تقل: إنّه فی المصحف.

هل یمکن أن یوجد کتاب فی الریاضیات یحتوی علی حلّ جمیع المجهولات الریاضیة؟ طبعاً لا یوجد .

العالمون بالتأویل، وأصحاب العلم اللدنّی موجودون فی أُمّة محمّد، وهم الأئمة علیهم السلام

إذا کان القرآن یحدّثنا عن وجود التأویل عند الذین أوتوا العلم اللدنّی فی زمن موسی ، فهل هذا الموقع شاغر فی أُمّة محمّة صلی الله علیه و آله أم أنّ هناک من لدیه العلم اللدنّی فی أُمّة محمّة صلی الله علیه و آله ؟

إذا کانت شریعة محمّد صلی الله علیه و آله سیدة الشرائع ، وهی الشریعة الخالدة ، فلا بدّ من وجود هذا الموقع ، وینبغی الإشارة إلی أنّ المسلمین مجمعون علی الخضر ، قال الإمام الصادق علیه السلام :«... إنّ اللّه تعالی لمّا کان فی سابق علمه أن یقدِّر من عمر القائم علیه السلام فی أیّام غیبته ما یقدّره ، وعلم ما یکون من إنکار عباده بمقدار ذلک العمر فی الطول، طوّل عمر العبد الصالح من غیر سبب أوجب ذلک ألا لعلة الاستدلال به علی عمر القائم علیه السلام ...»(1) .

اللّه تعالی یقول: إنّ فی هذه الأُمّة یوجد راسخون فی العلم یعلمون التأویل ، والکتاب کلّه بیّن«بَلْ هُوَ آیاتٌ بَیِّناتٌ فِی صُدُورِ الَّذِینَ أُوتُوا الْعِلْمَ »3 ، الآیات

ص:64


1- (2) کتاب الغیبة: 172، الحدیث 129 .

عندهم کلّها بیّنة لیس بعضها محکم والآخر متشابه فی صدور أولئک الذین أوتوا العلم .

فمدرسة العلمانیة«السکولارزم» تثبت - من حیث لا تشعر - ضرورة وجود من یحیط بالمتغیّرات فی الشریعة ، وهذا ما تجیب علیه المدرسة الإمامیة التی تعتقد بوجود الأئمة علیهم السلام بعد رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، وتعطیهم منصب الإحاطة بالشریعة والمتغیّرات التی توجد حلولها فی هذه الشریعة ، وفی عصر الغیبة تعتقد بوجود صاحب الزمان عجّل اللّه فرجه ، وتعتقد باستحقاقه لهذا المقام .

ص:65

ص:66

المحاضرة السابعة مناقشة مدرسة الهرمونطیقیة

اشارة

محاور المحاضرة:

أوّلاً : تطوّر النقد الأدبی وظهور تعدّد القراءات .

ثانیاً : تطوّر علم الفقه .

ثالثاً : تأویل النص الدینی یوازی التعمّق فی التحلیل الأدبی .

رابعاً : أهل البیت علیهم السلام هم الذین ینطبق علیهم قوله تعالی «صِراطَ الَّذِینَ أَنْعَمْتَ عَلَیْهِمْ غَیْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَیْهِمْ وَ لاَ الضّالِّینَ »1 .

تمّ بشکل إجمالی مناقشة المدرستین العلمانیة والتعددیة«السکولارزم والبلوری ألسم» ، واستعراض بعض أفکارهما والردّ علیها بصورة سریعة ، وحیث إنّنی قد عرضت بعض الإشکالات التی طرحوها فمن اللازم أن أردّ علیها .

إشکالٌ : إنّ القضاء الإسلامی یعتمد علی البیّنة والحلف ، مع أنّ القضاء تجاوز بتطوّر هذه المرحلة

الرد: إنّ القضاء الإسلامی لا یعتمد علی البیّنة والحلف کحلّ منحصر ، وإنّما یعتمد الحلف والبیّنة إذا لم یکن هناک طریق لعلم القاضی ، أمّا إذا أمکن القاضی أن یعلم عن طریق البراهین والأدلة والتحقیق القضائی ، فإنّه یحکم به ، فإذا لم یتوفّر

ص:67

أی من هذه الأدلة والبراهین ، فحینئذٍ یعتمد القاضی علی الشهود والحلف ، وهذا لا یقتصر علی القضاء الإسلامی ، بل هو العرف القانونی عند غیر المسلمین ، فإذا انسدّت الأبواب فی التحقیقات القانونیة والقضائیة تصل النوبة حینئذٍ للحف ، فکلّ بلد یحلف بالرمز المقدّس الذی یعتقد به سواءً کان هذا الرمز دینیاً عند من یؤمنون بالدین أو رمزاً وطنیاً مقدّساً عند من یؤمنون به ، ولو راجعنا قضاء أمیر المؤمنین علی علیه السلام لوجدناه یبحث ویحقّق عن أسباب النزاع والأدلة والبراهین القضائیة التی توصله إلی الحقیقة ، بل إنّ أکثر قضاء أمیر المؤمنین علیه السلام کان بهذه الطریقة ، ولیس بالاعتماد علی الحلف والشهود ، والذین أثاروا هذا الإشکال لم یطّلعوا علی القضاء الإسلامی بصورة عمیقة.

الإشکال الثانی: لماذا تطالب القبیلة والعصبة بدفع الدیة ؟

الدین الإسلامی یدعو للمحافظة علی الأُسرة وعلی وشائج القربی ، بل هو یحافظ علی لحمة السبب بالإضافة إلی لحمة النسب ، فنحن نلاحظ أنّ بعض الأشخاص عندما یخرج من بلده إلی بیئة أُخری بعیدة عن الرقابة الاجتماعیة ینحرف سلوکه ، بینما کان محافظاً علی سلوکه عندما کان یعیش فی البیئة المحافظة ، ولذلک من المفید الحفاظ علی الأعراف التی لا تتعارض مع الدین ، ولذلک لم یقطع النبی أوصال شبکة القبائل الموجودة فی ذلک الزمان مع أنّ الإسلام قد عانی من هذه القبائل ، ووجّهت له ضربات قاسیة ، کما حدث ذلک فی معرکة الأحزاب حینما تحزّبت القبائل لمواجهة النبی صلی الله علیه و آله ودین الإسلام ، مع ذلک حافظ النبی علی بناء القبیلة لما فیه من إیجابیات ، منها: أنّها نوع من النظام الاجتماعی الذی یحفظ الإنسان - من خلال الانتماء إلیه - عن حالة الانفلات والخروج عن الرقابة الاجتماعیة .

ص:68

المدرسة الهرمونطیقیة «قراءة النص»

هذه المدرسة تحمل فی طیّاتها فکرة التعدّدیة التی تحمله البلوری ألسم ، وهی مدرسة الألسنیات التی تهتم بقراءة النص ، فالنقد الأدبی أخذ یتوسّع بصورة کبیرة ، وعلوم اللغة آخذة فی التوسّع فی کلّ اللغات ، بشکل علوم متعدّدة ، فعلی سبیل المثال: کانت اللغة العربیة مقتصرة علی علم المفردات اللغویة وعلم النحو والصرف ثم البلاغة، ومن الجدیر بالذکر أنّ مؤسس علم النحو هو أمیر المؤمنین علی علیه السلام ، کما ذکر السید حسن الصدر فی کتابه الشریف«تأسیس الشیعة لعلوم الإسلام»(1) ، أمّا الآن فعلوم اللغة قد توسّعت فأصبحت تضمّ فقه اللغة والاشتقاق وهو علم غیر علم الصرف والنحو والنقد ، وغیرها .

وعلم البلاغة لیس مقتصراً علی علم اللغة العربیة وهو موجود فی اللغات الأُخری ، مثل: اللغة الإنجلیزیة ، مع أنّ الإنجلیزیة تنتمی إلی أُسرة لغویة تختلف عن الأُسرة اللغویة التی تنتمی إلیها اللغة العربیة ، والمعانی فی اللغات واحدة ، وإنّما الألفاظ مختلفة ، فلفظة«ماء» فی العربیة و«آب» فی الفارسیة و«واتر» فی الإنجلزیة جمیعها تدل علی حقیقة واحدة لهذا السائل المعروف .

أمّا کیفیة الترکیب والدلالة فهی مشترکة بین اللغات ، فالجملة الإسمیة یمکن أن تکون فی کلّ لغة من اللغات ، وهکذا الجملة الفعلیة والفعل والفاعل...

نشأة النقد الأدبی

النقد الأدبی لا یقتصر علی لغة معیّنة ، بل هو یشمل کلّ اللغات ، وقد کان فی بدایاته یعتمد علی تفسیر المفردات وبعض التراکیب اللغویة ، ثم أخذ النقد الأدبی بدراسة النص دراسة شاملة تحلّل کلّ حیثیات النص الأدبی ، ودراسة البیئات

ص:69


1- (1) تأسیس الشیعة لعلوم الإسلام: 40 .

المحیطة بقائل النص ، ومن هذا المنطلق استطاع النقد الأدبی أن یخدم العلوم الأُخری بصورة واسعة ، واستطاع النقد الأدبی أن یکشف بعض جوانب اللاشعور عند کاتب أو قائل النص ، وهذا التحلیل الأدبی شبیهٌ بالتحقیقات الجنائیة التی تحاول أن تستفید بکلّ ما یحیط بالجریمة من أجواء ، کذلک المحلّل الادبی یحاول أن یستفید بکلّ ما یحیط بالنص من أجواء .

التعمّق فی النص الأدبی یوازی التأویل فی النص الدینی

وهذا النقد الأدبی الذی یعتمد علی أُسس وأدلة فی الاستنتاجات یوازی تأویل النص الدینی ، ونری أنَّ الجمیع یحترم النقد الأدبی حتّی أولئک الذین یتّهمون التشیّع بالباطنیة والغنوصیة والخرافات والأساطیر یحترمون هذا النقد الأدبی العمیق ، ونحن فتحنا باب التأویل الذی یعتمد علی الموازین الصحیحة لا التأویل القائم علی التخرّ صات والکذب .

تطوّر علم الفقه

إنّنا نلاحظ أنّ الفقه بدأ بصورة بدائیة فبدأ بصورة بسیطة ، ثم ظهرت محاولات فی تبویب الفقه ، ثم استخرج العلماء القواعد الشرعیة ، ثم أبواب التضارب أو التعارض وعلاجها فی النص الدینی ، وتوسّعت الأبواب الفقهیة والتحلیلات الاستدلالیة ، فلم یعد الأمر مقتصراً علی الفقه ، بل تعدّاه إلی أُصول الفقه والقواعد الفقهیة ، فکلّ هذه الأُمور تبحث فی قراءة النص الدینی ، فکم هو الفارق بین الفقه فی عصوره الأُولی وما علیه الفقه فی زماننا هذا ، فلو قارنّا بین کتاب فقهی من القرن الرابع وکتاب منهاج الصالحین للسید الخوئی رحمه الله أو تحریر الوسیلة للإمام الخمینی رحمه الله نجد أنّ البون واسع حتّی نمط الاستدلال بین العلماء المعاصرین وبین العلماء المتقدّمین یوجد فیه اختلاف کبیر ، فسیر الفتاوی وآراء الفقهاء فی تحلیل

ص:70

القوانین کان بنمط والآن بنمط آخر ، فکان الشهید الأوّل والشیخ جعفر کاشف الغطاء وغیرهما یحاولون قراءة النص الدینی والاستفادة ممّا وراء النص الدینی بعد الاستفادة من النص نفسه ، وما ذکرناه فی الفقه أیضاً ینطبق علی العقائد والمعارف ، ولازالت جهود الاجتهاد متواصلة .

القبول بالتعدّد لیس مطلقاً

المدرسة الهرمونطیقیة تقول بتعدّد القراءات فلیس لک أن تلغی قراءة من القراءات التی تفهم النص بصورة معیّنة ، وهی تدعو إلی فتح الباب علی مصراعیة أمام الاجتهاد فی فهم النص ، ونحن نقبل بعض ما تطرحه هذه المدرسة ، کما أشرنا فی المدرستین السابقتین .

وأمّا إذا کان قبول هذا التعدّد یفرض علینا أن نشکّک بما قد توصّلنا إلیه من حقائق علی أُسس علمیة وعقلیة فإنّنا نرفض قبول القراءة الأُخری ، وهذا ما أثرناه مع مدرسة التعددیة«البلوری ألسم» ، وما قلناه من أنّنا نبحث عن الحق المتوزّع عند هذا الطرف أو ذاک فی تلک المدرسة ، نقوله أیضاً فی الردّ علی هذه المدرسة بحیث إنّنا نرید أن نجمع الحقیقة ونحصل علیها کاملة ، وهی فی عقیدتنا توجد کاملة عند المعصوم الذی یستطیع قراءة النصوص الدینیة بشکل صحیح ، وهو الذی یمتلک الحقیقة عندما وضعه اللّه فی هذا المنصب ، حتّی الفقیه والمرجع مهما وصل إلی درجة عالیة فإنّه یبقی دون درجة المعصوم فی عقیدتنا ؛ لأنّ المعصوم له قنواته الخاصة التی لا یمتلکها غیره ولذلک فقد أخطأ من یعتقد أن الشیعة عندما فتحوا باب الاجتهاد فهم تنازلوا عن شرط العصمة والإمامة ، والصحیح أنّ دور الفقیه یأتی بعد وجود المعصوم ، ودور الفقیه ضروری ، وقد نص علیه القرآن الکریم بقوله :

ص:71

«فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ کُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِیَتَفَقَّهُوا فِی الدِّینِ وَ لِیُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَیْهِمْ لَعَلَّهُمْ یَحْذَرُونَ »1 .

فالفقیه ینهل من الأُسس التی وضعها النبی صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام ، وهم الذین عبَّر اللّه عنهم بأنّهم«أُوتُوا الْعِلْمَ » فی قوله تعالی«بَلْ هُوَ آیاتٌ بَیِّناتٌ فِی صُدُورِ الَّذِینَ أُوتُوا الْعِلْمَ »2 ، وهذا التعبیر لا یشیر إلی طلب العلم العادی عند العلماء ، وإنّما یشیر إلی العلم اللدنّی الذی عند أهل البیت علیهم السلام .

وقوله تعالی:

«إِنّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِیها هُدیً وَ نُورٌ یَحْکُمُ بِهَا النَّبِیُّونَ الَّذِینَ أَسْلَمُوا لِلَّذِینَ هادُوا وَ الرَّبّانِیُّونَ وَ الْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ کِتابِ اللّهِ وَ کانُوا عَلَیْهِ شُهَداءَ»3.

فالترتب عند الإمامیة یکون هکذا : الأنبیاء ثم الأوصیاء ثم العلماء ، وهذا ما أشارت إلیه هذه الآیة من سورة المائدة ، فالنبیّون هم الأنبیاء ، والربّانیّون هم الأوصیاء ، والأحبار هم العلماء .

فکما أنّ جمیع المجهولات الریاضیة یمکن حلّها بالأُسس الریاضیة الصحیحة ، وعدم حلّ بعض المسائل من قبل بعض الأشخاص لا یعنی عدم وجود الحلّ فی الأُسس ، فکذا الکلام ینطبق علی تغطیة الشریعة لکلّ المتغیّرات، ولذلک عندما یظهر صاحب الزمان ، وهوالذی یمتلک علم تأویل الکتاب وفهم الشریعة بصورة مطلقة ، فهو الذی لدیه کنوز العلوم .

«اَلْیَوْمَ أَکْمَلْتُ لَکُمْ دِینَکُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَیْکُمْ نِعْمَتِی وَ رَضِیتُ لَکُمُ الْإِسْلامَ دِیناً»4 ،

ص:72

القران الکریم یثبت أنّ الدین کمل وتمّت النعمة ورضی الرب به ، ولکن من یستطیع فهم النص الدینی بأعمق معانیة ، ویستخرج منه کلّ الحلول لکلّ القضایا .

وما تذهب إلیه مدرسة أهل البیت علیهم السلام لیس من الخرافة ، کما یتّهمنا البعض ، بل هو الحقیقة بعینها ، ویظهر الإمام الذی یستطیع أن یسدّ کلّ الثغرات العلمیة التی لازالت کثیرة رغم الجهود الجبّارة التی یبذلها العلماء .

والمدارس التی ذکرناها کلّها تشیر بصورة أو بأُخری إلی ضرورة العلم الجمعی والإحاطة بالحقیقة ، وهذا هو هدف البشریة والتی ستصل إلیه بواسطة الإمام المهدی (عجل اللّه فرجه الشریف) .

حتّی سورة الفاتحة التی نقرأها صباحاً ومساءً فیقول اللّه تعالی:

«اِهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِیمَ * صِراطَ الَّذِینَ أَنْعَمْتَ عَلَیْهِمْ غَیْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَیْهِمْ وَ لاَ الضّالِّینَ »1 .

اللّه تعالی أنعم علیهم بنعمة خاصة وهم أهل البیت علیهم السلام الذین طهّرهم دون غیرهم ، قال تعالی:«إِنَّما یُرِیدُ اللّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَ یُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیراً»2 ،«قُلْ لا أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبی »3 .

وهل هناک عائلة أو أُسرة أعطاها اللّه ما أعطی آل محمّد صلی الله علیه و آله من الفضل والشرف ، وهذا لیس توارث قیصری أو توارث کسروی ، وإنّما هو توارث اصطفائی«إِنَّ اللّهَ اصْطَفی آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِیمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَی الْعالَمِینَ * ذُرِّیَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَ اللّهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ »4 .

ص:73

فهذه الذریة مؤهّلة لأن ترتبط باللّه ، وهذه الذریة واصطفاؤها ذکرها القرآن ، فلِمَ یستنکر علینا أن نؤمن بأنّ اللّه اصطفی آل محمّد؟!

إذاً إنّ الذین أنعم اللّه علیهم دون غیرهم هم أهل البیت علیهم السلام ، وهم علیهم السلام الذین ینطبق علیهم قوله تعالی«غَیْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَیْهِمْ » ، فهذا الوصف ینطبق علی أهل البیت علیهم السلام ، وحتّی بعض الصحابة الکبار من البدریین الذین قاتلوا مع الرسول فی بدر نزل فیهم قول اللّه تعالی«لَوْ لا کِتابٌ مِنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّکُمْ فِیما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِیمٌ »1 .

فلولا أنّ اللّه قد أخذ علی نفسه أن لا یعذّب المسلمین ورسول اللّه فیهم لعذّبهم «وَ ما کانَ اللّهُ لِیُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِیهِمْ وَ ما کانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ یَسْتَغْفِرُونَ »2 ، فإذا کان هذا حال البدریین فما حال سائر المسلمین .

والذین کانوا مع رسول صلی الله علیه و آله فی معرکة أُحد لامهم وغضب علیهم ثمّ عفا عنهم لوجود الرسول صلی الله علیه و آله و سلم بینهم ، أمّا أهل البیت علیهم السلام فلم یغضبوا اللّه تعالی ، وهذه هی العصمة العملیة ، وهذا ما تثبته سورة الفاتحة لأهل البیت علیهم السلام ، ولیس کما یتّهموننا بأنّ أفکارنا أتی بها عبد اللّه بن سبأ .

«وَ لاَ الضّالِّینَ » کیف نهتدی بهداة قد یضلّون عن الحق ، ویخرجون من الإیمان إلی الفسق ولو فی بعض الأُمور ، وهؤلاء هم الذین لا تنطبق علیهم العصمة ، وأمّا المعصومون فهم منزّهون عن الخطأ وینطبق علیهم«غَیْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَیْهِمْ وَ لاَ الضّالِّینَ » .

ص:74

ص:75

ص:76

2- النهضة الحسینیة ومفهوم الإرهاب والسلام

اشارة

ص:77

ص:78

المقدّمة

بسم الله الرحمن الرحیم

بین یدیک عزیزی القاریء مجموعة من المحاضرات المکتوبة ، التی ألقاها سماحة العلّامة الشیخ محمّد السند فی مأتم السمّاکین فی المنامة فی شهر محرم الحرام عام 1423ه بعنوان (النهضة الحسینیة ومفهوم الإرهاب والسلام) .

وقد عالج سماحته هذا الملف الساخن ، وبیّن أهداف الذین یرفعون قمیص تهمة الأرهاب ضدّ المسلمین ، کما رفع معاویة قمیص عثمان ضدّ الإمام علی علیه السلام ، واستعرض سماحته الخلفیّات الحقوقیة والأخلاقیة والعقائدیة للقوانین الإلهیة والمادیة، ثمّ استعرض العدید من تعریفات الإرهاب التی تتداولها صفحات القانون الدولی وعلّق علیها بالإیجاب والسلب ، وبیَّن بعض النواقص فیها ، وسبب غیاب بعض الألفاظ فی هذه التعریفات .

کما أنّه بیّن الضابطة الصحیحة فی اعتبار الإرهاب جریمة ، وبیّن الفرق بین الإرهاب لردّ العدوان والإرهاب الذی یعتدی علی حقوق الآخرین ، مستشهداً بآیات من القرآن الکریم.

کما کان سماحته یطبّق فی بحثه تطبیقات علی حیاة المعصومین علیهم السلام ، وتطبیقات أُخری علی الواقع المعاصر وما یدور فیه من ملابسات وإشکالیات حول مفهوم الإرهاب والسلام ، رابطاً ذلک بنهضة سید الشهداء علیه السلام .

ص:79

کما أشار سماحته إلی خطورة التلاعب بالمصطلحات القانونیة من أجل خدمة أطماع ومصالح معیّنة .

کما أنّه قارن بین بعض المصطلحات الفقهیة والمصطلحات القانونیة ، مبیّناً بعض النقاط التی غابت عن فهم المهتمّین بهذا الموضوع .

وفی الختام أشکر اللّه تعالی أن وفّقنی لکتابة هذه المحاضرات ، ثمّ أشکر سماحة الشیخ الذی فتح لی باباً من أبواب العلم التی یحبّها اللّه ورسوله ، أسأل اللّه أن یجعلها فی میزان حسناته ویوفّقه للعلم والعمل الصالح إنّه سمیع مجیب .

سید هاشم سید حسن الموسوی

12 جمادی الأولی 1425

2004/7/30م

ص:80

المحاضرة الأُولی إحیاء الشعائر الحسینیة

اشارة

محاور المحاضرة :

أوّلاً: إحیاء الشعائر الحسینیة.

ثانیاً: الشعائر الدینیة لا تقتصر علی شعائر الحجّ .

ثالثاً : للشعیرة عدّة مصادیق ویشترط فیها عدم الحرمة الشرعیة.

رابعاً: تطبیق علی المولد النبوی .

خامساً : استحداث أُسلوب جدید فی إحیاء الشعیرة لا یعتبر بدعة .

سادساً: للمعنی اللغوی دور مهم فی فهم النصّ الشرعی .

سابعاً: الفرح لفرح أهل البیت علیهم السلام والحزن لحزنهم من مصادیق مودّتهم .

ثامناً: تعظیم من عظّمه اللّه أمرّ راجح فی الدین.

تاسعاً: أهل البیت علیهم السلام بیّنوا بعض مصادیق الشعائر.

عاشراً: المحافظة علی قدسیة الذکری.

إحیاء الشعائر الحسینیة

إنّ إحیاء الشعائر الحسینیة ، التی هی من الشعائر الدینیة ، التی ورد الحث علیها متواتراً من طرق الفریقین ، أمر لا شکّ فی مشروعیته«ذلِکَ وَ مَنْ یُعَظِّمْ شَعائِرَ اللّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَی الْقُلُوبِ »1 . والآیة الکریمة لا تختصّ بالشعائر التی تعبَّدنا اللّه

ص:81

تعالی بها لکونها شعیرة ، وذلک لأنّ کلّ عمل ورد فی الشریعة ، إذا لم یکن موضوعه قد عُیّن وحُدّد من قبل الشرع ، فإنّ المتعارف لدی علماء الفقه والاُصول کمنشأ قانونی شرعی أن یحمل علی معناه اللغوی .

الشعائر الدینیة لا تقتصر علی شعائر الحجّ

وهنا فی الآیة الکریمة قد اضیفت کلمة«شعیرة» ،«شعائر» ، اضیفت إلی اللّه تعالی ، حیث إنّ معنی«الشعیرة» : العلامة والدلالة ، فهذا العنوان الذی أُخذ من الآیة اضیف إلی اللّه تعالی ، فکلّ ما یکون معلماً دینیاً یؤهّله ذلک لأن یکون شعیرة دینیة ، وإلّا فالآیة لیست مختصة بشعائر الحجّ ، مع أنّها واردة فی سورة الحجّ وتتکلّم عن موضوع یتعلّق بالحجّ .

للشعیرة عدّة مصادیق ، ویشترط فیها عدم الحرمة الشرعیة

والدعوی أنّها حقیقة شرعیة ولا بدّ فیها من التعبّد ، فهذا خلاف ما یذهب إلیه فقهاء کلّ الفرق الإسلامیة وعلماء الأُصول ، وهناک ما یسمّی الحقیقة اللغویة للحقیقة الشرعیة ، ومقصودهم من الحقیقة الشرعیة ذلک المعنی الذی انشأه الشارع بتحدید وترتیب أجزاء معیّنة فی أمر معیّن ، کما فی الصلاة التی لها معنی خاصّ بها ، حدّده الشارع وتعبّد المکلّفین به ، وإذا لم یرد التعبّد فی أمر معیّن ولم یرتّب حکماً من الأحکام علیها ، فحینئذ یبقی المعنی علی حاله ، فإذا کان الحال کذلک فأیّ مصداق یکون مؤهّلاً لأن یکون من شعائر اللّه ، إضافة لتلک المصادیق التی جعلها اللّه من الشعائر .

ومن الطبیعی أنّه یجب أن تکون هذه الشعیرة مباحة أو راجحة شرعاً ، ولیس من المعقول أن یکون هذا العمل المراد اعتباره شعیرة عملاً محرّماً شرعاً ؛ لأنّ

ص:82

العمل المحرّم یرفضه الشرع ، ولا یصلح أن یکون علامة للدین باعتبار أنّ الشعیرة علامة .

تطبیق علی المولد النبوی

فإذن التحدید الموضوعی والقانونی لأیّ مصداق من مصادیق الشعائر أن یکون موضوعاً مباحاً فی نفسه ، ولذلک لم یتحرّج أحدٌ من فقهاء المذاهب الإسلامیة - عدا الشاذ النادر منهم - من اعتبار إحیاء المولد النبوی المبارک أمراً حسناً وإیجابیاً ، رغم أنّه لم یرد ما یدلّ علی إحیائه بصورة خاصة دلیل من الشرع ، إلّاأنّ المذاهب الأربعة - فضلاً عن مذهب الإمامیة لم تتحرّج من الاحتفال بهذه المناسبة الکریمة لأنّ الاحتفال بمولد النبی صلی الله علیه و آله یحمل فی طیاته التکریم والتبجیل والتعظیم للنبی محمّد صلی الله علیه و آله ، وهذا یعتبر تعظیماً للدین ، ویکون مولده شعیرة من الشعائر الدینیة .

استحداث أُسلوب جدید فی إحیاء الشعیرة لا یعتبر بدعة

إذن فی الشعائر الدینیة لا یرد اعتراض علی استحداث أسالیب لإحیاء الدین باعتبارها بدعة ، و«کلّ بدعة ضلالة»(1) البدعة إنّما تکون فی مالم یرخص به الشارع المقدّس ، وذلک لأنّ الشعائر الدینیة لم تکن محدّدة بمصداق معیّن بحیث تنطبق علی غیره ، نعم هناک بعض العبادات محدّدة کالصلاة ، حیث حدّد الشارع بدایتها بالتکبیر ، ونهایتها بالتسلیم ، وثلثها الرکوع ، وثلثها السجود ، ولها کیفیة معینة: أمّا إذا لم یحدّد الشارع کیفیة معیّنة ، فیستساغ إحیاء الشعیرة بشرط کونها مباحة أو راجحة .

ص:83


1- (1) الکافی 1: 56 ، الحدیث 8 ، کتاب فضل العلم ، باب البدع والرأی والمقائیس .

للمعنی اللغوی دور مهم فی فهم النصّ الشرعی

وکذلک قوله تعالی:«أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ »1 ، هذا نصّ شرعی ، ولا یعنی هذا النصّ أنّ البیع قد استجدّ معناه وحمل معنی معیناً ، بل معناه هو المعنی اللغوی ، أی:

نحمله علی ما یفهمه عرف العقلاء، وأنّ الشارع لم یردع عن هذا المعنی اللغوی ، وهذا دأب حتی أولئک الذین یحکمون بالبدعة علی کلّ ما استجدّ من الشعائر الدینیة والطقوس والمراسم الدینیة فی إحیاء وتشیید معان دینیة سامیة، حتی أولئک یعتمدون فی فهم النصّ فی أبواب الفقه علی المعنی اللغوی الوارد فیه ، إلّا إذا تتاقض هذا الفهم اللغوی للنصّ مع معنی من المعانی التعبدیة الشرعیة .

الشعیرة علامة

وکما أنّ الیافطات والإعلانات تدلّ علی أُمور معیّنة ، کما لو رأینا إعلاناً مکتوباً علیه«عیادة» فإنّ هذا الإعلان دلیل علی وجود طبیب وأجهزة طبیة تمثّل العیادة ، کذلک«الدین» له علامات وشعائر . وتارة تکون هذه الشعائر محدّدة من قبل اللّه تعالی، کما قال سبحانه وتعالی«إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَیْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَیْهِ أَنْ یَطَّوَّفَ بِهِما»2 ، وتحدید الشارع لبعض مصادیق الشعائر لا یعنی رفضه للمصادیق الأُخری التی لم یحدّدها .

الفرح لفرح أهل البیت علیهم السلام والحزن لحزنهم من مصادیق مودّتهم

وکلامنا هذا لا یعنی أنّه لم یرد من الشرع شیء فی الحثّ علی إحیاء الشعائر الحسینیة ، فالآیة الکریمة التی تقول:«قُلْ لا أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی

ص:84

اَلْقُرْبی »1 ، المودّة تقید أنّ الفرح لفرح المودود الذین هم آل محمّد علیهم السلام ، والحزن لحزنهم أمر لابدّ منه فی تحقیق هذه المودّة ، وذلک لأنّ المودّة أرقی وأعلی وأشد من المحبة ، ویشترط فی المودّة صدق الحب من المحب للمحبوب ، وکذلک المودّة تتضمن موضوع إبراز المحبّة وإظهارها ، ومن هذا المنطلق نحن نفرح لفرحهم ، ونحزن لحزنهم ؛ لکی نحقق مفهوم المودّة

تعظیم من عظّمه اللّه أمرٌ راجح فی الدین

ونفس هذه الآیة ، تدل علی أنّ إحیاء ذکری عاشوراء ، هی من الشعائر الدینیة ؛ لأنّ هذا الأمر أمرٌ راحجٌ فی الدین ، وقد ورد فی کتب العامة متواتراً:«الحسن والحسین سیّدا شباب أهل الجنة»(1) «وانهما ریحانتا رسول اللّه صلی الله علیه و آله »(2) .

وما حصل علیه أهل البیت علیهم السلام ، من مقامات عالیة فی القرآن ، کما هو شأن آیة المباهلة(3) ، وآیة المودّة(4) ، وآیة التطهیر(5) ، وسورة الدهر(6) ، وغیرها(7) ، فیجب تعظیمهما وتبجیلهما ؛ لأنّ لهما ذلک المکان العالی الذی لابدّ للإنسان المؤمن أن یتعاطی معه بما یلیق به .

ص:85


1- (2) المعجم الأوسط 3: 203، الحدیث 4332. مجمع الزوائد 9: 211، الحدیث 15082 فما بعد. کنز العمال 12: 48، الحدیث 34187 .
2- (3) صحیح البخاری 2: 477، الحدیث 3753، کتاب فضائل أصحاب النبی، باب مناقب الحسن والحسین. الجامع الکبیر 6: 114، الحدیث 3770 .
3- (4) آل عمران (3) ، 61 .
4- (5) الشوری (42): 23 .
5- (6) الأحزاب (33) : 33 .
6- (7) الانسان (76) :
7- (8) المائدة (5): 55 ، الأعراف (7): 172 .

وقد ورد فی کتب العامة أنّ مخلوقات اللّه ، کالسماء والأرض ، وکل حجر ومدر ، والملائکة ، قد بکت علی الحسین علیه السلام(1)، وهذا ما لا یترک للمشککین منفذاً للتشکیک فی شرعیة إحیاء ذکری الحسین علیه السلام .

وقد ذکر الشیخ جعفر آل کاشف الغطاء: أنّ مشاهدهم وقبورهم قد شُعرتْ من قبل الرسول صلی الله علیه و آله حیث قد ورد عن طرق العامة(2) - فضلاً عن طرق الخاصة(3) - الحثّ علی زیارتهم ، وإعمار قبورهم ، وما شابه ذلک ، مما یدلّ علی رغبة الشارع فی إشادة هذا البنیان کمعلم للدین ، إذن کون هذه الشعیرة من الشعائر العظیمة للدین ، أمر مسلّمٌ به .

أهل البیت علیهم السلام قد بیّنوا بعض مصادیق الشعائر

وقد بیّن أهل البیت علیهم السلام بعض الأسالیب والمصادیق فی إحیاء الشعائر الحسینیة ، إلّاأنّ بیانهم علیهم السلام لتلک الأسالیب لا یدلّ علی الحصر ، وأنّ غیرها من الأسالیب والمصادیق مرفوضة فی الشرع .

ولنا أن نتساءل عن کیفیة اختیار الشعائر المناسبة؟ ذکرنا : أنّ الشرط الأوّل فی الشعائر الدینیة - فضلاً عن الشعائر الحسینیة - أن تکون هذه الشعائر عملاً مباحاً ، وهذا أمرٌ جلیٌ واضحٌ . وقد مرّ علینا أنّ الشعائر تعنی العلامات لمعنی دینی معیّن ،

ص:86


1- (1) تفسیر القرآن العظیم 4: 138 ، عند قوله تعالی«فَما بَکَتْ عَلَیْهِمُ السَّماءُ وَ الْأَرْضُ »،الدخان (44): 29 .
2- (2) ورد فی الدرّ المنثور 5: 91، ذیل سورة النور (24): 36، وأخرج ابن مردویه عن أنس بن مالک وبریدة قال: قرأ رسول اللّه صلی الله علیه و آله هذه الآیة«فِی بُیُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ »فقام إلیه رجل فقال: أی بیوت هذه یا رسول اللّه؟ قال: بیوت الأنبیاء. فقام الیه أبو بکر فقال: یا رسول اللّه هذا البیت منها؟ البیت علی وفاطمة قال: نعم، ومن أفاضلها .
3- (3) جامع احادیث الشیعة 15: 90 ، 149 ، باب ما ورد فی فضل زیارة الائمة المعصومین علیهم السلام ، وباب استحباب عمارة قبور الأئمة علیهم السلام .

ونحن نری أنّ الشعائر الحسینیة تؤتی ثمارها إلی یومنا هذا ، لیس علی صعید مذهب أهل البیت علیهم السلام فحسب ، وإنما علی صعید المذاهب الإسلامیة الأُخری أیضاً ، کما هو حال شباب الانتفاضة الفلسطینیة الذین اتخذوا من شباب المقاومة فی جنوب لبنان نموذجاً لمحاربة إسرائیل ، والجنوبیون اتخذوا الحسین علیه السلام مناراً فی حربهم وتحریرهم لبلادهم من رجس العدو الصهیونی .

فی روایات أهل البیت علیهم السلام قد حدّد المعنی الذی یجب أن تکون الشعائر الحسینیة دالة علیه ، وقد جمع الحر العاملی ، فی کتاب وسائل الشیعة قسم کتاب الحج فی نهایته ، روایات تتحدّث عن الزیارة ، مبوّبة فی ما یربو علی المائة باب ، ومن الباب السابع والثلاثین إلی ما بعد الباب السبعین ، خصّها صاحب الوسائل للشعائر الحسینیة .

روایات وسائل الشیعة فی إحیاء الشعائر الحسینیة

ولابد لمن یرید أن یقیم دراسة معمّقة عن الشعائر الحسینیة ، من الاطلاع علی هذه الأبواب التی ذکرناها ، فمن المصادیق المذکورة فی روایاتهم علیهم السلام البکاء والجزع ، ویعنی : شدّة الحزن علی سید الشهداء وزیارة الحسین علیه السلام وإنشاد الشعر .

والشعائر الحسینیة لها عدّة وجوه :

الوجه الأوّل:

هو الحزن والجزع والتفجع والبکاء.

والوجه الثانی:

هو الحماس وإثارة المشاعر وتجییش العواطف والفداء والتضحیة والاستبسال والشجاعة.

ص:87

والحماس علی أنواع: فقد یکون حماساً متصلاً باللّعب والحرص والطمع ، وقد یکون متصلاً بالعمل والجدّ ، وقد یتصل بأُمور دنیویة ، ولکن الحماس فی الشعائر الحسینیة ، فهو أمرٌ مختلف ، لأنّه یتصل بالحزن علی سید الشهداء .

والوجه الثالث:

والوجه الثالث للشعائر الحسینیة ، هو وجه المبادیء والقیم النبیلة التی استشهد من أَجلها الإمام الحسین علیه السلام ، ومن المعروف أنّ الإمام الحسین علیه السلام هو أکثر إمام من الأئمة المعصومین علیهم السلام ، ورد الحثّ علی زیارته ، وهذه الزیارات المأثورة تشدّ الزائر إلی المعانی التی من أجلها استشهد الحسین علیه السلام ،«لم تنجّسک الجاهلیة بأنجاسها ولم تُلبسک من مُدلهمّات ثیابها وأُشهد أنّک من دعائم الدین وأرکان المؤمنین»(1) .

وقد ورد من آداب الزیارة للحسین أن لا یملأ الزائر بطنه بالطعام والشراب ، بل یکون جائعاً وعطشاناً(2) ، لکی یعیش أجواء استشهاد الحسین علیه السلام المقتول عطشاناً ، وقد أنّب الإمام الصادق علیه السلام ، بعض الشیعة الذین کانوا یتهادون الحلوی عند قبر الإمام الحسین علیه السلام ، وقال لهم :«بلغنی أنّ قوماً إذا زاروا الحسین بن علی علیه السلام حملوا معهم السفرة فیها الحلاوة والأخبصة وأشباهها ولو زاروا قبور أحبائهم ما حملوا معهم ذلک»(3) ، باعتبار أنّ تهادی الحلوی لا یناسب أجواء المصیبة والحزن .

ص:88


1- (1) زیارة وارث .
2- (2) جامع أحادیث الشیعة 15: 376 ، باب جملة مما یستحب للزائر من الآداب وما فیه من الثواب وما یستحب ترکه .
3- (3) جامع أحادیث الشیعة 15: 381 ، الحدیث 21026، باب جملة مما یستحب للزائر من الآداب وما فیه من الثواب وما یستحب ترکه .

ینبغی أن تکون ذکری عاشوراء خالیة من مظاهر الفرح

وقد ذکر الشیخ المفید : أنّه یستحب فی یوم العاشر للمؤمن ، أن لا یلتذّ بالطعام والشراب ، ولا یتزین بزینة ، ولا تکون حالته الظاهرة حالة فرح ، بل حالة حزن ومصاب(1) ، وقد أُثر عن الکثیر من فقهاء الإمامیة ، أنّهم کانوا لا یتناولون الفواکه فی أیام عاشوراء ، باعتبارها مظهراً من مظاهر التلذّذ . وطبعاً ، وکان الأئمة علیهم السلام تبدو علیهم علامات الحزن بمجرد دخول شهر محرم الحرام .

المحافظة علی قدسیّة الذکری

وکانت عاشوراء فی السابق أکثر تفجّعاً وحزناً فی البحرین ، کما ینقل بعض من عاصر تلک الحقبة ، أمّا الآن فکثرة الأکل ، وإن کان علی حبّ الحسین علیه السلام والأکل علی حب الحسین علیه السلام من الشعائر - إلّاأنّ المبالغة فی الأکل ، لا سیما إذا أُضیفت له الفواکه والحلویات ، لا یتناسب مع الحزن علی مصاب سید الشهداء علیه السلام ، کما أنّ البعض فی موسم محرم لا یراعی حرمة المناسبة فیلبس لباساً مثیراً ، ویُعتبر هذا اللباس محرّماً شرعاً ، أو علی أقل التقادیر مقدّمة لمحرم ، وکذلک بعض الألحان التی تکون فی مواکب العزاء ، لا تتناسب مع الحزن والفاجعة فی هذه الذکری الألیمة .

وقد ورد فی بعض الروایات الحثّ علی قرآءة القرآن بحزن(2) ، لأنّ اللحن الحزین یساعد علی التدبّر والتحلیق فی معانی القرآن الکریم ، وأتذکّر الألحان القدیمة لحمزة الصغیر ، وغیره من الروادید رحمهم اللّه ، کانت ألحان مفجعة .

ص:89


1- (1) المقنعة: 378 .
2- (2) وسائل الشیعة 6: 208 ، باب استحباب القراءة بالحزن، من أبواب قراءة القرآن ولو فی غیر الصلاة .

إذاً المطلوب من الألحان أن تکون ألحاناً حماسیة حزینة ، لا ألحاناً حماسیةً مطربة ، وهذا الأمر لیس أمراً هامشیاً ، وإنّما أمراً مهماً ، لأنّ الموکب واجهة مهمة ، تُبرز الشعائر الحسینیة للناس .

ص:90

المحاضرة الثانیة البکاء ، وعلاج ظاهرة الإرهاب والقسوة

اشارة

محاور المحاضرة :

أولاً : أرکان الشعیرة الحسینیة .

ثانیاً : یجب أن تدل الشعیرة الحسینیة علی أهداف وقیم الثورة الحسینیة .

ثالثاً : یجب تطبیق مواقف وأهداف الإمام الحسین علیه السلام علی الواقع .

رابعاً : هل البکاء ظاهرة سلبیة؟

خامساً : البکاء علاج لأمراض الروح والنفس.

سادساً : الإسلام والقرآن الکریم یثنی علی البکائین.

سابعاً : البکاء یُقرّب الإنسان إلی الفضائل ، ویرقق القلب.

ثامناً : هل الإرهاب مرادفٌ للصلابة والشدّة؟

تاسعاً : المراحل التی تستند إلیها القضایا القانونیة.

عاشراً : الإمام الحسین علیهم السلام یرجع أعداءه إلی الأصول الأخلاقیة.

أرکان الشعیرة الحسینیة

مرّ علینا اللیلة الفائتة ، أنّ الروایات المتواترة عن أهل البیت علیهم السلام ذکرت بأنّ الشعیرة الحسینیة یجب أن تتقوّم بأرکان ثلاثة :

الرکن الأوّل: تَضمّن معنی الحزن والمصاب والتفجّع.

الرکن الثانی: الحماس والعاطفة الجیّاشة.

والرکن الثالث: المبادیء والقیم النبیلة رسمها الحسین علیه السلام فی نهضة .

ص:91

وقد تقدّم الکلام عن الرکنین الأوّل والثانی وبقی الکلام عن الرکن الثالث.

یجب أن تدل الشعیرة الحسینیة علی أهداف وقیم الثورة الحسینیة

فإنّ ضرورة کون الشعیرة الحسینیة دالة علی المعانی والفضائل والقیم النبیلة والأهداف الإصلاحیة والتی کانت منعطفاً مهمّاً فی التاریخ الإسلامی ، وحیث إنّ أهل البیت علیهم السلام ، هم العِدل الثانی الذین أُمرنا بالتمسک بهم ، فلابد أن تکون أقوالهم وأفعالهم وسیرتهم حجة ، ومن ثَمّ فإنّ الشعیرة الحسینیة لابد أن تکون دالة علی الأهداف والفضائل والقیم النبیلة التی قام من أجلها الحسین علیه السلام ، وصحّح مسیرة الأُمة.

یجب تطبیق مواقف وأهداف الإمام الحسین علیه السلام علی الواقع

ویجب أن تجعل الشعیرة الحسینیة ، من منطلقات الإمام الحسین علیه السلام وأهدافه ، محوراً وقطباً ومنهلاً تنتهل منه الحلول لقضایانا الراهنة ، وإذا کان استعراض القضایا الراهنة بعیداً عن فکر کربلاء وعطاء الحسین علیه السلام ، فإنّ الشعیرة الحسینیة لا تُؤدّی غرضها کما ینبغی ، وکذلک استعراض السیرة الحسینیة بعیداً عن ربطها بالقضایا الراهنة المعاصرة یقف عائقاً أمام تحقیق غرض الشعیرة الحسینیة ، ولا یمکن للشعیرة الحسینیة أن تُؤدّی غرضها ، إلّاإذا قمنا بتحلیل مواقف الإمام الحسین علیه السلام ، وکلماته وتطبیقها علی الواقع ، وحینئذٍ نکون قد تمسّکنا بالإمام الحسین علیه السلام الذی هو مصباح الهدی وسفینة النجاة.

هل البکاء ظاهرة سلبیة ؟

ومن المعروف أنّ البکاء من الأُمور المؤکّدة التی حثّ علیها أهل البیت علیهم السلام(1)،

ص:92


1- (1) جامع أحادیث الشیعة 15: 429 ، باب أنّه یستحب البکاء لما أصاب أهل بیت النبی صلی الله علیه و آله وخصوصاً الحسین علیه السلام .

بل هو من أبرز الشعائر الحسینیة .

ومن القضایا المثارة حول شعائر الحسین علیه السلام ، هی قضیة البکاء والجزع ، التی تثیر اعتراضات من قبل غیر المسلمین أو غیر الشیعة من المذاهب الإسلامیة ، وهذه الاعتراضات اعتراضات غیر مدروسة ، لأنّ البکاء ظاهرة نفسیة تستحق البحث والدراسة فی حقول علم النفس .

فهل أنّ البکاء ظاهرة سلبیة بما تحمله من حالة الانکسار والضعف وعدم الشجاعة فی مواجهة الواقع - کما یقولون؟

البکاء علاج لأمراض الروح والنفس

والدراسات الغربیة تؤکّد أنّ الکثیر من العُقَد والأمراض النفسیة والاجرام والاضطرابات الروحیة ، إنّما تحصل نتیجة غیاب وفقدان البکاء ، وأنّ فی البکاء علاج لهذه الأمراض الروحیة والنفسیة ، وقد عمل بعض الأطباء الغربیین علی تهیئة أجواء البکاء لبعض المرضی ، أو کما یصطلحون علیه بالبکاء الاصطناعی فی مقابل البکاء الطبیعی ؛ لأنّ فی البکاء علاج نفسی .

الإسلام والقرآن الکریم یثنی علی البکّائین

فمسألة البکاء یجب أن تخضع لدراسة ، ولا ینبغی أن یحکم علیها بالسلبیة ، خصوصاً أنّ الإسلام قد حثّ علی البکاء من خشیة اللّه والتوبة من الذنوب والرجوع إلی اللّه .

ونلاحظ أنّ القرآن الکریم قد أثنی علی القسیسین والرهبان ، لأنّ أعینهم تفیض من الدمع قال تعالی:«لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النّاسِ عَداوَةً لِلَّذِینَ آمَنُوا الْیَهُودَ وَ الَّذِینَ أَشْرَکُوا وَ لَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِینَ آمَنُوا الَّذِینَ قالُوا إِنّا نَصاری ذلِکَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّیسِینَ

ص:93

وَ رُهْباناً وَ أَنَّهُمْ لا یَسْتَکْبِرُونَ * وَ إِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَی الرَّسُولِ تَری أَعْیُنَهُمْ تَفِیضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ یَقُولُونَ رَبَّنا آمَنّا فَاکْتُبْنا مَعَ الشّاهِدِینَ »1 .

البکاء یُقرّب الإنسان إلی الفضائل ، ویرقق القلب

الکبر والعجب والتعجرف والاستعلاء والعصبیة أمراض ، وتعتبر ظاهرة البکاء علاج لهذه الأمراض ، ویستطیع البکاء أن یقتلع الکثیر من جذور الصفات المذمومة فی النفس.

ولا یقترب الإنسان - فی أغلب الأحیان - من البکاء إلّاإذا اقترب إلی الفضائل والقیم النبیلة والمبادیء الإنسانیة العالیة ، وتکون نتیجة هذا البکاء هو تخلّص الإنسان من الرذائل ، وابتعاده عن الأفراد والجماعات التی تمارس هذه الرذائل الروحیة ، ویقرّب البکاء الإنسان إلی الفضائل ویجعله یحبّ ، ویقترب إلی أهل الفضائل والمحسنین والصالحین .

الحکمة الإلهیة لخلق حالة البکاء عند الإنسان

ولو تساءلنا ، لِمَ خلق اللّه حالة البکاء ، وجعلها مرتبطة بالإنسان؟ الجواب هو :

أنّ البکاء تصحیح ، وطب نفسی سریع جداً للأمراض المتجذّرة ، والتی ربما تکون أمراضاً نفسیة سرطانیة خطیرة تهدّد مستقبل الإنسان والمجتمع ، ومن ناحیة أُخری فإنّ البکاء یبنی الفضائل والمحاسن فی نفس الإنسان بشکل سریع أیضاً ، فعلی سبیل المثال : الخشوع للّه، وهو من أفضل الکمالات التی یحصل علیها الإنسان ، ورقّة القلب والصفاء النفسی له علاقة وثیقة بالبکاء ، ویختصر البکاء الطریق إلی اللّه ویقرب إلیه .

ص:94

الآثار الإیجابیة للبکاء

ولا نجد فی المصادر الإسلامیة من القرآن(1) وأحادیث أهل البیت علیهم السلام(2)بل حتّی روایات أهل السنّة المذکورة فی صحاحهم(3) ؛ إلّاالثناء والمدح للبکاء والتنویه بآثاره الإیجابیة ، لأنّ البکاء یقف مقابل الرعونة والخشونة والقساوة ، والمجتمع الدولی یعانی الیوم من الإرهاب والقساوة والعنف والفرعنة والأنانیة .

ویصلح البکاء إذا ما نجحنا فی تفعیله فی النفس أن یذهب القساوة والعنف والإرهاب من نفس الإنسان ، فمن الخطأ الاستخفاف والاستهزاء بالبکاء ، لأنّ البکاء من أفضل العبادات ، والإنسان یکون فی أقرب الحالات إلی اللّه تعالی إذا کان فی حالة الانکسار والتضرّع والضعف .

الحسین قتیل العَبرة

والبکاء یصاحب هذه الحالات النفسیة العالیة ، ومن هنا کانت روایات أهل البیت علیهم السلام تعبّر عن الحسین علیه السلام أنّه«قتیل العَبرة»(4) ، والعَبرة هی الدمعة والبکاء المرتبط بالفضائل ، والنبی صلی الله علیه و آله یقول:«إنّما بعثت لأُتمم مکارم الأخلاق»(5) ، إذاً العَبرة الحسینیة تصبّ فی مصبّ بناء مکارم الأخلاق وتتناغم مع أهداف الرسالة المحمّدیة .

لا بدّ من التفاعل مع القضیة ، لکی نستطیع تفعیل دور البکاء

وبعض الروایات تشیر إلی أنّ من أسرار استشهاد الإمام الحسین علیه السلام ، هو بکاء

ص:95


1- (1) الاسراء (17): 109 . مریم (19): 58 .
2- (2) وسائل الشیعة 7: 74، باب استحباب الدعاء مع حصول البکاء .
3- (3) صحیح مسلم 2: 530، الحدیث 923 ، کتاب الجنائز (11) .
4- (4) وسائل الشیعة 14: 422، الحدیث: 19506 .
5- (5) جامع أحادیث الشیعة 17: 519 ، الحدیث 24267 ، باب مکارم الأخلاق .

المؤمنین علیه(1) ، باعتبار أنّ البکاء له دور کبیر فی البناء الاجتماعی وتحصینه من الآفات وحثّه علی المکرمات .

ولا یمکن للبکاء أن یفعل مفعوله فی النفس ، إلّاإذا عرف الإنسان آثاره الإیجابیة ، وسعی إلیه وتفاعل مع القضیة التی بکی من أجلها ، وبکی باعتبار البکاء باباً من أبواب الفضیلة والکمال الإنسانی ، ومن المعروف أنّ اللّه قریب من الخاشعة قلوبهم وبعید عن القاسیة قلوبهم .

هل الإرهاب مرادف للصلابة والشدّة

الآن سنبحث عن موضوع الإرهاب کمرادف للوحشیة والحیوانیة والرعونة والخشونة والقسوة والعدوان ، وفی مقابله اللین والرفق والسلام ، وما نرید أن نبیّنه هنا ، هو هل کل موقف من مواقف الشدّة والصلابة هو موقف إرهابی وحشی؟

الإجابة القانونیة لهذا السؤال

وللجواب عن هذا السؤال لابد أن نستعرض الإجابة القانونیة سواءً کان القانون قانوناً إلهیاً سماویاً أو قانوناً أرضیاً وضعیاً ، وقبل الإجابة عن السؤال ، لابد من معرفة الخلفیّات الحقوقیة لهذا الموضوع ، وتسبق هذه الخلفیة الحقوقیة مرحلة أخلاقیة ، ثمّ رؤیة فلسفیة عقائدیة ، وهذا أمر متسالم علیه عند فقهاء القانون الإلهی والوضعی ، إذاً هناک أربع مراحل :

المرحلة الأولی: رؤیة عقائدیة وفلسفیة ، والمرحلة الثانیة : المرحلة الأخلاقیة ، والمرحلة الثالثة : القضیة الحقوقیة ، والمرحلة الرابعة: القضایا القانونیة .

ص:96


1- (1) بحار الأنوار 44: 279 ، الحدیث 5 و6 ، باب ثواب البکاء علی مصیبته، ومصائب سائرالائمة علیهم السلام .

المراحل التی تستند إلیها القضایا القانونیة

المرحلة الأُولی: رؤیة عقائدیة فلسفیة ، سواءً کانت دینیة تعتقد بوجود الخالق ، أو رؤیة مادیّة لا تعتقد بوجود الخالق هل الإنسان هو المحور؟ أم اللّه هو المحور؟ أو المجتمع هو المحور؟ ولابدّ من تحدید الرؤیة العقائدیة والنظرة الفکریة للکون ، وحتی الدساتیر الغربیة التی کانت تعتبر الفرد هو المحور والحریات الفردیة هی المقدّمة علی غیرها ، قالت: ینبغی الموازنة بین حریة الفرد وحریة المجتمع علی کلّ حال ، هذه الدساتیر تستند إلی رؤیة عقائدیة معیّنة ، أیّاً کانت هذه الرؤیة ، وهو ما یسمی فی العلوم الإسلامیة ب«علم الکلام» أو«نظریة المعرفة» .

المرحلة الثانیة : القضایا الأخلاقیة .

المرحلة الثالثة: القضایا الحقوقیة .

المرحلة الرابعة: القضایا القانونیة .

لا یمکن الحکم علی القانون دون معرفة خلفیّاته الحقوقیة والأخلاقیة

والعقائدیة

ومن المستعصی أن تعرف أنّ هذا القانون قانون عادلٌ ظالم ، وأنت لا تعرف خلفیته الحقوقیة ، ومن الممتنع أن تحکم علی أمر معیّن بالصحة أو الخطأ ، وأنت لا تعرف فلسفته الأخلاقیة ، ومن الممتنع أن تحکم علی رؤیة أخلاقیة ، من دون أن تتعرّف علی الرؤیة العقائدیة التی تستند إلیها تلک الرؤیة الأخلاقیة ، فمثلاً : بعض فلاسفة الغرب یعتقدون أنّ کل منظومة الأخلاق ، هی ولیدة الغرائز الجنسیة ، ویدعون إلی الإباحة الجنسیة ، أمّا الرأی الآخر فیقول : هناک روح وهناک قوّة عقلیة یجب أن تهذّب الغریزة الجنسیة وتضبطها عن الخروج من الإطار الذی حدّد لها . ومن الواضح أنّ حکم هؤلاء القانونی سیختلف عن حکم أولئک ، باعتبار

ص:97

الاختلاف الناتج عن الخلفیات العقائدیة الفلسفیة والأخلاقیة والحقوقیة.

وهناک مدرسة البارا سیکلوجیة أو علماء الأثیر ، ولهم نظرة مخالفة للمادیین ، ونظریاتهم مشابهة للنظریّات الدینیة والملل الموحّدة ، ولهم مدارس وبحوث وجامعات وأکادیمیات ومنتدیات علمیة ومباحثهم معطاءة وخلّابة

لابدّ من دراسة الخطوط الحمراء والخضراء بناءً علی هذه الخلفیّات

وإذا أردنا دراسة الإرهاب کمرادف للوحشیة والرعونة والخشونة والحیوانیة والقسوة وإثارة الحروب والبغض والکراهیة ، وفی مقابلة اللّین والرفق والسلام والهدوء والأمن والحوار والتأنّی فی الحکم والإخاء والصداقة والمحبّة ، فلابدّ أن ندرس القانون وخلفیاته الحقوقیة والرؤیة العقائدیة الفلسفیة التی تستند إلیها هذه الخلفیة ، من أجل معرفة الصحیح من السقیم فی کل هذه الأمور التی ذکرناها ؛ لکی تتبیّن الخطوط الحمراء والصفراء والخضراء ، وأین یکون التجاوز وأین یجوز الحکم...

رؤیتنا العقائدیة تبتنی علی وجود الخالق وتوحیده

وإذا کان بحثنا بحثاً علمیّاً منطقیاً ، فلا بدّ لنا أن نلتزم بهذا التسلسل ، ولابدّ من البدایة من الرؤیة العقائدیة ، ولا داعی للتفصیل فی هذه الرؤیة العقائدیة ؛ لأنّنا مسلمون وموحّدون ، وهذا من المسلّمات التی نعیشها ، وأمر مفروغ منه .

لکل فعل منشأ أخلاقی

وقبل الدخول فی المرحلة الأخلاقیة أُنوّة إلی قاعدة ذکرها علماء الفلسفة وعلماء الأخلاق ، وهی: «أنّ لکل فعل ، جذر أو منشأ أخلاقی عند الفرد وعند المجتمع» ، ای : کل ظاهرة فردیة أو اجتماعیة أو أُسریة ، لها منشأ نفسانی

ص:98

أخلاقی ، وکل عمل فردی أو اجتماعی ، لابدّ أن ینطلق من رؤیة عقائدیة معرفیّة معیّنة .

الارتباط بین المراحل الأربع

والنزاع القانونی لایمکن حلحلته ، وتتبّع أوراقة وحقائقه ، إلّاعبر هذه المراحل الأربع التی ترتبط فیما بینها ارتباطاً شدیداً ، ونحن نلاحظ أنّ الدساتیر فی البلدان الإسلامیة تشیر إلی أنّ دین الدولة الإسلام ، وأنّ القرآن مصدر التشریع أو بعبارات قریبة من هذا المعنی ، ومن هذا المنطلق یجب أن یتنبّه القانونیّون إلی أنّ الأصول القانونیة لیست هی فقط المواد الدستوریة ، ونقصد من الأصول القانونیة«البنی الأساسیة التی یرجع إلیها فی سَنّ القوانین ، وترجع إلیها تفاصیل القوانین والقوانین الفرعیة» ، فیجب الالتفات إلی أنّ الأصول القانونیة لیست مقتصرة علی المواد الدستوریة الأم - الأصلیة - ، بل إلی المواد الأخلاقیة التی یؤمن بها ذلک المجتمع ، التی هی نفسها أصول قانونیة بناء علی ما ذکرناه من ارتباط المراحل الأربع .

روح الشریعة وفقه المقاصد

وما ذکره فقهاء الإمامیة : من أنّ هناک روح الشریعة وفلسفة«الأحکام ترجع إلی أصول قانونیة ، ولکن لا تقتصر علی الأصول القانونیة الفرعیة ، وما یسمی ب «فقه المقاصد» لا یعنی : إرجاع الفقه إلی المقاصد الفرعیة ، بل هناک ما هو أکثر أصالة من الأحکام الفرعیة ، وهی البنیة التحتیة الأخلاقیة التی تهیمن علی القوانین الفرعیة.

صحیح أنّ هناک فرق بین الباحث القانونی والباحث الأخلاقی باعتبار اختلاف التخصّص ، والقاضی أیضاً سواءً کان قاضیاً مدنیاً أو شرعیاً إلّاأنّ علیهم

ص:99

أن یفصلوا النزاع بالمواد القانونیة التی ترجع إلی الهیمنة الأخلاقیة ، کما ذکرنا .

الإمام الحسین علیه السلام یرجع أعداءه إلی الأصول الأخلاقیة

وفی واقعة الطف یخاطب سید الشهداء علیه السلام الوجدان العربی ، فمثلاً : عندما اعتدی الجیش الأموی علی مخیم الإمام الحسین علیه السلام ، وعلی حرم رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، قال لهم الحسین علیه السلام :«ویحکم یا شیعة آل أبی سفیان! إن لم یکن لکم دین ، وکنتم لا تخافون المعاد ، فکونوا أحراراً فی دنیاکم وارجعوا إلی أحسابکم إذ کنتم أعراباً ، فناداه شمر فقال: ما تقول یا ابن فاطمة؟ قال: أقول: أنا الذی أُقاتلکم ، وتقاتلونی ، والنساء لیس علیهنّ جناح...»(1) ، أی أنّ الحسین علیه السلام عندما شعر أنّ القانون والشرع لم یؤثّرا فی هؤلاء الأعداء ، حاول إرجاعهم إلی الأصول الأخلاقیة ، فقال لهم : کیف تقومون بهذا الفعل المتناقض مع الأخلاق والإنسانیة؟!

ص:100


1- (1) بحار الأنوار 45: 51 ، باب سائر ماجری علیه بعد بیعة الناس لیزید بن معاویة .

المحاضرة الثالثة استناد الأحکام القانونیة للقاعدة الأخلاقیة فی التشریع الإسلامی

اشارة

محاور المحاضرة:

أوّلاً: الاختلاف بین التعامل القانونی والتعامل الأخلاقی .

ثانیاً: فصل النزاعات بالقانون أم بالأخلاق؟

ثالثاً: الصلة بین الموازین الأخلاقیة والموازین القانونیة .

رابعاً: القانون یهدّد فی حالة الحدیّة فی تطبیق القانون مع استبعاد العنصر الأخلاقی .

خامساً : القرآن یأمر بالأخذ بالعفو والإعراض عن الجاهلین .

سادساً : الرفق فی مرحلة نص القانون، وفی مرحلة تطبیق القانون .

سابعاً : سَنّ القوانین وتفسیرها تبعاً لمصالح شخصیة .

ثامناً: الفرق بین العفو والإعراض عن الجاهلین .

تاسعاً : کظم الغیظ ، والسیطرة علی القوّة الغضبیة .

عاشراً: أحادیث أهل البیت علیهم السلام فی الرفق والحلم .

الاختلاف بین التعامل القانونی والتعامل الأخلاقی

وإکمالاً لحدیثنا السابق نطرح تساؤلاً وهو :

کیف تکون الأخلاق أساساً ، وبنیة تحتیة للقانون ، مع أنّ الأخلاق والقانون

ص:101

أمران مختلفان ، سواء کانا فی نطاق الفرد أو الأُسرة أو المجتمع أو بین الدول؟

وکیف یکون ذلک مع أنّ التعامل القانونی تعامل صارم حاد وجاف ، والتعامل الأخلاقی یعتمد علی المرونة والدماثة واللّین والرفق والإحسان للمسیء؟

فصل النزاعات بالقانون أم بالأخلاق ؟

تارة یتم فصل النزاع بین الأفراد أو الأُسر أو المجتمعات أو الدول عن طریق القانون ، وتارة یتم ذلک عن طریق التعامل الأخلاقی بین الطرفین المتنازعین أو بمبادرة أحد الطرفین المتنازعین .

وفی تفسیر قوله تعالی:«وَ الَّذِینَ یَصِلُونَ ما أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَنْ یُوصَلَ وَ یَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَ یَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ »1 ، قال الإمام الصادق علیه السلام فی تفسیر«سُوءَ الْحِسابِ » ، أی:«الاستقصاء والمداقة...»(1) .

وأخوف ما یخاف العبد من اللّه تعالی أن یعامله بالعدل ؛ لأنّ الإنسان إذا عامله اللّه بعدله فلن ترجّح کفة حسناته علی کفة سیئاته ، وسیکون مصیر العبد هو الخسران المبین ، ولذلک فنحن نرجو أن یعاملنا اللّه بفضله وعفوه ، ولا یعاملنا بعدله ، إذن هناک فرق بین القضاء والحکم بالقانون ، وبین القضاء والحکم بالأخلاق ، ومن المفترض أن یربط البحث القانونی بالعدالة والحقوق لا بالفضل والإحسان والأخلاق ، ومن هنا یطرح الإشکال الذی یثیر علامة استفهام علی جعل القوانین تستند إلی الأخلاق .

الصلة بین الموازین الأخلاقیة والموازین القانونیة

وقالوا فی إشکالهم : لا صلة بین النصوص القانونیة والنصوص الأخلاقیة ، ولا

ص:102


1- (2) وسائل الشیعة 18: 350 ، الحدیث 23824 .

یصلح أن تستنبط الأحکام القانونیة استناداً إلی الموازین الأخلاقیة . وکما یقال :

أنّ القانون یمهّد إلی الحیاة الخلقیة ، ولکن هناک اختلاف کما أشرنا بین الأمرین باعتبار أنّ الموازین القانونیة تستلزم استیفاء کل حدود القضیة .

القانون یُهدّد فی حالة الحدیّة فی تطبیق القانون مع استبعاد العنصر الأخلاقی

وللرد علی هذا الإشکال نقول : إذا سلّمنا أنّه إذا کانت الموازین القانونیة أقل مرتبة من الموازین الأخلاقیة ، وأنّ الموازین القانونیة أقل مرتبة من الموازین الأخلاقیة ، وأن الموازین القانونیة تهدف إلی غرس الفضیلة فی المجتمع ، فإنّ المشرّع القانونی الدینی أو المشرّع القانونی الوضعی یضع نصب عینیه الوصول إلی الغایات الأخلاقیة حینما یسنّ القوانین فی المجتمع ، ولو بنی النظام القانونی علی القصاص الحدّی فی جمیع النزاعات بدون أی مرونة أو عفو أو تعاطی فی هذه القضیة ، لکان ذلک منشأ اختلال نفس ذلک القانون ؛ لأنّ ذلک یمثّل جفافاً ، والجفاف سریع الاشتعال ، وهذا الاشتعال سواءً بین الأطراف المتنازعة علی مستوی الأفراد والأُسر والمجتمعات والدول سیؤدی إلی تأزّم القضیة ، وإلی القضاء علی القانون الذی ابتعد عن الموازین الأخلاقیة وألغاها تماماً ، والنفس البشریة لا تتلاءم مع الانصیاع والخضوع للموازین القانونیة الحدّیة التی تستبعد الموازین الأخلاقیة وتقضی علیها ، إذن من المستحیل الاستغناء عن العنصر الأخلاقی فی الموازین القانونیة ، وأنّ هذا العنصر هوالذی یساهم فی حفظ استقرار القانون وصونه ، ومع هذا نقول : أنّه لیس من الضروری أن یؤمِّن القانون جمیع الدرجات فی الموازین الخُلقیة ، بل إنّه قد یبتعد بنسبة معیّنة حسب متطلبات القضیة ، وهذا الأمر مسلّم به عند علماء المسلمین .

ص:103

القرآن یأمر بالأخذ بالعفو والإعراض عن الجاهلین

یعتبر الإسلام ، بل حتّی الدیانات الأُخری ، أنّ الرفق واللّین والرویّة والتعقّل والحلم والحوار ، هو الأصل فی قوانین الإسلام علی المستوی الاجتماعی والفردی ، ففی الآیة الکریمة التی یعبّر عنها المفسّرون ، أنّها من التوصیات القانونیة التی أوصی بها اللّه تعالی نبیّه فی القرآن الکریم ، وهی قوله تعالی«خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِینَ »1 ، خذ العفو ، أی : أنّ العفو رکیزة أساسیة ، رئیسیة فی سیرة النبی صلی الله علیه و آله ، القانونیة والسیاسیة والقضائیة والإجرائیة والتشریعیة ، و«خُذِ الْعَفْوَ» إذا کان للعفو سبیل ، وهذا الأمر إلزامی من اللّه لنبی الرحمة محمّد صلی الله علیه و آله .

«وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ» البعض قال: أنّ العرف هو ما تعارف علیه الناس(1) ، وهذا قول مردود ؛ لأنّ النبی صلی الله علیه و آله یعمل طبقاً لخطة الوحی الإلهی ، وأنّ عرف الناس قد یحمل الکثیر من رواسب الجاهلیة ، وهذا یتناقض مع دور النبی الذی عبّر عنه القرآن الکریم:«یَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ یَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْکَرِ وَ یُحِلُّ لَهُمُ الطَّیِّباتِ وَ یُحَرِّمُ عَلَیْهِمُ الْخَبائِثَ وَ یَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِی کانَتْ عَلَیْهِمْ »3 ، والبعض الآخر قال:

«وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ» ، أی : ما تعرفه الفطرة البشریة ، أی : ما یعرفه العقل من الحسن والقبح(2) ، وهذا المعنی صحیح فی نفسه ؛ لأنّ الدین الإسلامی دین الفطرة«فَأَقِمْ وَجْهَکَ لِلدِّینِ حَنِیفاً فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِی فَطَرَ النّاسَ عَلَیْها لا تَبْدِیلَ لِخَلْقِ اللّهِ ذلِکَ الدِّینُ الْقَیِّمُ

ص:104


1- (2) المیزان 8: 380 ، عند قوله تعالی«وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ» ، الأعراف (7) : 199 .
2- (4) مجمع البیان 4: 787 ، عند قوله تعالی«خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ» ، الأعراف (7) :199 .

وَ لکِنَّ أَکْثَرَ النّاسِ لا یَعْلَمُونَ »1 ، والروایات تشیر إلی أنّ النبی هو الرسول الظاهر ، والعقل هو الرسول الباطن(1) ، وهذا المعنی وإن کان صحیحاً فی نفسه ، إلّاأنّ ظاهر اللفظ لا یساعد علیه ، وینبغی تهیئة الجو الاجتماعی لتقبّل القانون ، وأن لا یتمّ إقحام القانون فی أجواء لا تتفاعل معه ، وأنّ أیّ قانون جدید إذا أردنا أن نطبّقه فی مجتمع مّا ، لابدّ أن یسبقه وعیّ قانونی ، وثقافة قانونیة ناضجة ، لأنّه لا یکفی أن یکون القانون متکاملاً ، بل یجب مراعاة استیعاب الناس لهذا القانون ، ولهذا السبب نزول القرآن بشکل مفصّل وتدریجی ، حتی تتهیأ النفوس للتفاعل معه ، ولأنّ الناس لا تستوعب التربیة القرآنیة علی شکل دفعة واحدة بدون تهیئة .

قال السید الطباطبائی ، فی ذیل تفسیر هذه الآیة الکریمة:«خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِینَ »3 قال: «الأخذ بالشیء هو لزومه أو عدم ترکه فأخذ العفو ملازمة الستر علی إساءة من أساء إلیه ، والإغماض عن حق الانتقام الذی یعطیه العقل الاجتماعی لبعضهم علی بعض . هذا بالنسبة إلی إساءة الغیر بالنسبة إلی نفسه والتضییع لحق شخصه ، وأمّا ما أُضیع فیه حق الغیر بالإساءة الیه فلیس مما یسوغ العفو فیه ، لأنّه إغراء بالإثم ، وتضییع لحق الغیر بنحو أشد، وإبطال للنوامیس الحافظة للاجتماع ، ویمنع عنه جمیع الآیات الناهیة عن الظلم والإفساد وإعانة الظالمین والرکون إلیهم ، بل جمیع الآیات المعطیة لأُصول الشرائع والقوانین ، وهو ظاهر .

فالمراد بقوله:«خُذِ الْعَفْوَ» ، هو الستر بالعفو فیما یرجع إلی شخصه صلی الله علیه و آله وعلی ذلک کان یسیر فقد تقدم فی بعض الروایات المتقدمة فی أدبه صلی الله علیه و آله : أنّه لم ینتقم من

ص:105


1- (2) الکافی 1: 16 ، الحدیث 12 ، کتاب العقل والجهل .

أحدٍ لنفسه قط»(1) .

وفی تفسیر الأمثل ، فی ذیل هذه الآیة الکریمة ، قال: «العفو قد یأتی بمعنی الزیادة فی الشیء أحیاناً ، کما قد یأتی بمعنی الحد الوسط ، کما یأتی بمعنی قبول العذر والصفح عن المخطئین والمسیئین ، ویأتی أحیاناً بمعنی استسهال الأُمور... ، ومن البدیهی أنّه لوکان القائد أو المبلغ شخصاً فظّاً صعباً ، فإنّه سیفقد نفوذه فی قلوب الناس ، ویتفرقون عنه ، کما قال القرآن الکریم:«وَ لَوْ کُنْتَ فَظًّا غَلِیظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِکَ »2 ، ثمّ تعقب الآیة بذکر الوظیفة الثانیة للنبی صلی الله علیه و آله ... ، وهی تشیر إلی أنّ ترک الشدّة لا یعنی المجاملة ، بل هو أن یقول القائد أو المبلغ الحق ، ویدعو الناس إلی الحق ولا یخفی شیئاً»(2).

الرفق فی مرحلة نص القانون ، وفی مرحلة تطبیق القانون

ونرید أن ننوّه أنّ اللّین والرفق تارةً یکون فی النص القانونی والمادة القانونیة ، وتارةً یکون فی الأداء والإجراء القانونی والقضائی المتخذ مع المتهم ، فقد تکون المادة القانونیة خالیة من الحدّة والقساوة والظلم ، ولکن الإجراء القانونی وتطبیق المادة القانونیة هوالذی یحمل الحدّة والقساوة .

سَنّ القوانین وتفسیرها تبعاً لمصالح شخصیة

وهذا الأمر قد یستفاد منه بشکل إیجابی ، وقد یستفاد منه بشکل سلبی وبصور خطیرة ؛ لأنّ أصحاب المصالح الشخصیة قد یتلاعبون فی المادة القانونیة ، ویفرغونها من محتواها حسب مصالحهم ، أو یفسّرونها بتفسیرات تتناسب مع

ص:106


1- (1) المیزان 8: 379 ، عند قوله تعالی«خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ» ، الأعراف (7): 199 .
2- (3) الأمثل 5: 339، عند قوله تعالی«خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ» الأعراف (7): 199 .

میولهم ومصالحهم وأطماعهم ، والتلاعب فی المواد القانونیة أمر فی غایة الخطورة ، حتی فی النزاعات الدولیة بین الدول التی ترید تسخیر القوانین وتفسیرها حسب مصالحها ، فعلی سبیل المثال : قد یسمی التحریر إرهاباً ، وهذه مغالطة جلیّة وواضحة ، وهناک فرق کبیر بین الإرهاب والتحریر ، والغرض من تغییر الإسم ، هو أنّ القوی الکبری لا تستطیع الاعتراض علی شعب یرید تحریر أرضه ؛ لأنّ هذا حق طبیعی مکفول ، ولکنّها تسمی التحریر إرهاباً من أجل عرقلة التحریر ، ووضع السدود أمامه ، ولکی تکون هذه العرقلة مصبوغة بصبغة شرعیة ومقبولة لدی المجتمع الدولی ، وهی صبغة محاربة الإرهاب ، وهم فی هذه الحالة یعملون علی صناعة رأی عام مزوّر من أجل تطبیق قوانین مزوّرة ومزیّفة وظالمة قائمة علی التحایل والغش القانونی ، فی المقابل نحن نحتاج إلی أن نعمل علی صناعة رأی عام صادق من أجل أن یتقبّل المجتمع القانون القضائی الصادق .

الفرق بین العفو والإعراض عن الجاهلین

«وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِینَ »1 وهذا أیضاً نوع من أنواع اللّین والرفق ، وهناک فرق بین الإعراض عن الجاهلین ، وبین العفو عنه ، لأنّک قد تعفو عن إنسان مّا ، ولکن یبقی فی نفسک شیء تتذکّر به ذلک الفعل السیّ ء الذی فعله ذلک الجاهل ، والمقصود من الجاهل هو ذلک الشخص الذی یتعدّی الحدود ویظلم ، والجهل هنا مقابل العقل الذی یعنی : التقیّد بالتعالیم الدینیة ، ولیس الجهل هنا فی مقابل العلم ، لأنّ العلم قد یدعوک إلی التعقّل ، وقد یسیء الإنسان الاستفادة من العلم .

الفرق بین الإعراض والعفو ، أنّ الإعراض مرتبة أعلی من العفو ، لأنّ العفو وإن کان متضمّناً لمسامحة الجاهل ، إلّاأنّه یبقی فی النفس شیءٌ من ذلک الأمر ، وربما

ص:107

تحدّثک نفسک بالانتقام منه والنقمة علیه ، ولکن الإعراض لا یبقی فی نفس الإنسان بعد أن یعفو عن الجاهل شیءٌ ، وقد یعبّر عن الإعراض بالصفح ،«فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِیلَ »1 ، وذکر علماء الأخلاق والتفسیر والفقه والقانون أنّ هذه الآیة «خُذِ الْعَفْوَ...»2 من أمهات الآیات ، وقد جمعت أُصول علم الأخلاق ، والبحث فیها طویل .

کظم الغیظ ، والسیطرة علی القوّة الغضبیة

الآیة الأُخری تقول:«وَ الْکاظِمِینَ الْغَیْظَ وَ الْعافِینَ عَنِ النّاسِ وَ اللّهُ یُحِبُّ الْمُحْسِنِینَ »3 ، وکظم الغیظ یعنی : مسک النفس وحبس الغیظ والسیطرة علی القوّة الغضبیة ، وتعالیم أهل البیت علیهم السلام تحثّنا علی أن لا نؤدّب أولادنا فی حالة الغضب والغیظ (1) لأنّ الغضب قد یخرج التأدیب عن هادفیته ، فکظم الغیظ یعنی : إخماد سَوْرَة الغضب ، وهذه توصیة اجتماعیة ، ولیست توصیة فردیة فقط ، والغضب قد یخرج القاضی حینما یقضی عن إطار تحکیم العقل بصورة صحیحة لما للقوّة الغضبیة من أثر سلبی فی هذا المجال ، وعندما یهدأ الغضب یبدأ العقل فی العمل بصورة طبیعیة بعیدة عن أیّ مؤثّرات قد تؤثّر علی الحکم الصحیح .

اختلاف المصطلحات

إذن عندنا ثلاثة مصطلحات : الأوّل : هو العفو ، وهو أن تسامح المعتدی علیک ،

ص:108


1- (4) بحار الأنوار 71: 428 ، کتاب الایمان والکفر ، باب الحلم والعفو وکظم الغیظ ، کقول علی علیه السلام : «ولا نسب أوضع من الغضب» .

ولکن یبقی فی نفسک شیء . والثانی : کظم الغیظ یبقی فی نفسک شیءٌ تجاهه .

والثالث : وهو الأفضل منهما ، الصفح والإعراض ، وهو أن تنسی أنّک قد عفوت عنه ، وهناک الصفح(1) وهناک الصفح الجمیل(2) ، وهو مرتبة أعلی .

قال تعالی:«اِدْفَعْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِی بَیْنَکَ وَ بَیْنَهُ عَداوَةٌ کَأَنَّهُ وَلِیٌّ حَمِیمٌ »3 وقال تعالی:«اِدْفَعْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ السَّیِّئَةَ »4 ، وتارة یکون التعبیر ب «الحسنة»(3) ، وتارة ب «التی هی أحسن» ، وأمّا تعبیر«وَ إِنَّکَ لَعَلی خُلُقٍ عَظِیمٍ »6 ، فهذه هی أرفع الدرجات علی الإطلاق .

أحادیث أهل البیت علیهم السلام فی الرفق والحلم

قال النبی صلی الله علیه و آله :«بعثت بالحنیفیة السمحة ، ومن خالف سنّتی فلیس منّی»(4) .

وقال النبی صلی الله علیه و آله :«لو کان الرفق خلقاً یُری ما کان مما خلق اللّه شیء أحسن منه»(5) .

وقال صلی الله علیه و آله علیهم السلام«لو کان الخرق - الحدّة - خُلقاً یُری ما کان فی شیء من خلق اللّه أقبح منه»(6) .

ص:109


1- (1) البقرة (2) : 109 .
2- (2) الحجر (15) : 85 .
3- (5) الرعد (13) : 22 .
4- (7) میزان الحکمة 2: 952 ، الحدیث 6279 .
5- (8) وسائل الشیعة 15: 270 ، الحدیث 20482 .
6- (9) وسائل الشیعة 16: 27 ، الحدیث 20874 .

وعنه صلی الله علیه و آله :«إنّ الرفق لم یوضع علی شیء إلّازانه ، ولا نزع من شیءٍ إلّاشانه»(1) .

ومن الأحادیث الواردة فی هذا المجال:«إنّ لکل شیءٍ قفلاً ، وقفل الإیمان الرفق»(2) ، أی الحافظ للإیمان ، الرفق .

ومنها:«ما اصطحب اثنان إلّاکان اعظمهما أجراً وأحبهما إلی اللّه ، أرفقهما بصاحبه»(3) .

ومنها : عن النبی صلی الله علیه و آله :«الرفق یمن ، والخرق شؤم»(4) .

ومنها :«الرفق نصف العیش»(5) .

وعن علی علیه السلام :«الحدّة ضرب من الجنون ، لأنّ صاحبها یندم ، فإن لم یندم فجنونه مستحکم»(6) .

ومنها : عن الصادق علیه السلام :«الغضب مفتاح کل شرّ»(7) .

عن النبی صلی الله علیه و آله :«أعقل الناس أشدّهم مداراة للناس»(8) .

ومنها : عن الصادق علیه السلام :«الغضب ممحقة لقلب الحکیم»(9) .

ومنها : عن الصادق :«من لم یملک غضبه لم یملک عقله»(10) .

ص:110


1- (1) وسائل الشیعة 15: 270 ، الحدیث 20485 .
2- (2) الکافی 2: 118 ، الحدیث 1: کتاب الایمان والکفر ، باب الرفق .
3- (3) وسائل الشیعة 15: 271 ، الحدیث 20490 .
4- (4) وسائل الشیعة 15: 269 ، الحدیث 20477 .
5- (5) وسائل الشیعة 15: 270 ، الحدیث 20483 .
6- (6) میزان الحکمة 1: 442 ، الحدیث 2659 .
7- (7) وسائل الشیعة 15: 358 ، الحدیث 20733 .
8- (8) میزان الحکمة 3: 1102 ، الحدیث 7363 .
9- (9) وسائل الشیعة 15: 360 ، الحدیث 20741 .
10- (10) وسائل الشیعة 15: 360 ، الحدیث 20741 .

ومنها :«العاقل من یملک نفسه إذا غضب ، وإذا رغب ، وإذا رهب»(1) .

ومنها :«إنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله أتاه رجل فقال له : یا رسول اللّه علّمنی عظة أتعظ بها ، فقال له : انطلق ولا تغضب ، ثمّ عاد إلیه فقال له : انطلق ولا تغضب - ثلاث مرات»(2) .

ومنها :«لیس الخیر أن یکثر مالک وولدک ، ولکن الخیر أن یکثر علمک ، وأن یعظم حلمک وأن تُباهی الناس بعبادة ربّک»(3) .

ومنها : عن النبی صلی الله علیه و آله :«العفو لا یزید العبد إلّاعزّاً ، فاعفوا یعزّکم اللّه»(4) .

ومنها :«ما التقت فئتان قطّ إلّانصر أعظمهما عفواً»(5) .

وعن الصادق علیه السلام :«أما علمت أنّ إمارة بنی أُمیة کانت بالسیف والعسف والجور ، وأنّ إمامتنا بالرفق والتألف والوقار والتقیّة وحسن الخلطة والورع والاجتهاد...»(6) .

ص:111


1- (1) میزان الحکمة 5: 2046 ، الحدیث 13477 .
2- (2) میزان الحکمة 5: 2264 ، الحدیث 14985 .
3- (3) میزان الحکمة 7: 2986 ، الحدیث 19354 .
4- (4) میزان الحکمة 5: 2013 ، الحدیث 13182 .
5- (5) میزان الحکمة 5: 2013 ، الحدیث 13186 .
6- (6) وسائل الشیعة 16: 165 ، الحدیث 21248 .

ص:112

المحاضرة الرابعة الحوار هو الخیار الأوّل فی الفکر الإسلامی وسیرة أهل البیت علیهم السلام

اشارة

محاور المحاضرة :

أوّلاً: لماذا کان التعقّل هو الطبیعة الأوّلیة فی القوانین الشرعیة؟

ثانیاً : البناء والإعمار لیس من طبیعة القوّة الغضبیة .

ثالثاً: الدمار هو نتیجة إطلاق عنان القوّة الشهویة والقوّة الغضبیة .

رابعاً: یجب أن نطلق عنان القوی العقلیة والفکریة ، ونجعلها حاکمة علی بقیّة القوی .

خامساً: التعقّل هو أنسب الخیارات للطبیعة البشریة .

سادساً: الفرق بین العقوبة والردع .

سابعاً: «وَ ما کُنّا مُعَذِّبِینَ حَتّی نَبْعَثَ رَسُولاً»1 .

ثامناً: الحوار فی النزاعات القضائیة .

تاسعاً: ممارسة الحکومات الدکتاتوریة ، شوّهت صورة الإسلام .

عاشراً : أمیر المؤمنین علیه السلام ، وحواره مع حزب الخوارج .

لماذا کان التعقّل هو الطبیعة الأوّلیة فی القوانین الشرعیة ؟

وصل بنا البحث إلی أنّ الطبیعة الأوّلیة فی القوانین الشرعیة هی السماحة

ص:113

والسهولة واللّین والهدوء، کما بیّنا فی اللیلة الماضیة.

ویجدر بنا البحث عن فلسفة هذا الأمر وعلّته ، لِمَ کان اللّین والهدوء هو الطبع الأوّلی؟ حتی أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله عنون رسالته بهذا العنوان :

«بعثت بالحنیفیة السمحة»(1) ، ولماذا کل هذا الترکیز علی هذه الطبیعة الأوّلیة؟

وعندما نقول أنّ هذه هی الطبیعة الأوّلیة ، یُفهم من کلامنا أنّ هناک استثناءات ، ستأتی فی ما بعد .

البناء والإعمار لیس من طبیعة القوّة الغضبیة

السبب فی أنّ اللّین والهدوء والتعقّل هو الطبیعة الأوّلیة فی القوانین الشرعیة ، إنّ الغضب والحدّة مظهر من مظاهر القوّة الغضبیة ، والقوّة الغضبیة سواءً کانت علی نطاق الفرد أو علی نطاق الأُسرة أو علی نطاق المجتمع أو فی النظام السیاسی ، لیست بنّاءة ، ولا مشیّدة لبناء ، بل طبیعتها أنّها مانعة رادعة للتجاوزات والظلم الذی یحلّ بالفرد ، ویمثّل الجیش والشرطة القوّة الغضبیة فی أیّ دولة من الدول ، والجیش والشرطة والقوّة الغضبیة لیس من طبیعتها البناء والهندسة والتخطیط والتنمیة والإعمار والبحث العلمی والبناء الفکری ، بل الحرب والقتال والمواجهة ، وتمثّل أیضاً درعاً یحفظ باقی قطاعات المجتمع المختلفة من الأخطار الأمنیة والعسکریة .

الدمار هو نتیجة إطلاق عنان القوّة الشهویة والقوّة الغضبیة

وما قلناه فی القوّة الغضبیة ینطبق علی القوّة الشهویة ، فلا یصح أن یطلق العنان للشهوات والغرائز ، فإذا کانت سیاسات الفرد أو الأُسرة أو الدولة منصبّة کلها علی

ص:114


1- (1) میزان الحکمة 2: 952 ، الحدیث 6279 .

إطلاق العنان للقوّة الشهویة فمن الواضح أنّ النتیجة ستکون انهیار الفرد والأُسرة والدولة التی أطلقت عنان الشهوة.

فالسیاحة علی سبیل المثال: قد تکون سیاحة تثقیفیّة تعلیمیة ، مثل: زیارة الأماکن الأثریّة ، والتعرّف علی معالمها التاریخیة ، فتکون فی مثل هذه الحالة سیاحة إیجابیة ، وقد تکون السیاحة ترکّز علی توفیر أجواء الدعارة والفساد فهی سیاحة مدمّرة هدّامة للقیم والمبادئ والشعوب .

یجب أن نطلق عنان القوی العقلیّة والفکریة ، ونجعلها حاکمة علی بقیّة القوی

الإسلام یرفض إطلاق عنان القوّة الشهویة والغضبیة ، بل ینبغی أن توضع حدود تضبط هاتین القوّتین. أمّا ینبغی أن یطلق عنانه فهی القوّة الفکریة المتمثّلة فی میدان البحث العلمی والفکری والاجتماعی والصناعی ونشر الفضیلة وسیطرة القوی العالیة علی القوی الدانیة.

والحال أنّ القانون الغربی جعل الفرد هو محور التقنین ، ومؤخراً جعلوا المجتمع هو المحور ، ولذلک فقد بنوا تشریعاتهم ، ونظام الحقوق عندهم علی إطلاق الحریّات ، کما أنّ المشرّع القانونی فی الغرب یطلق عنان القوّة الغضبیة ، فیتوفر السلاح حتّی بید الصبیان ، وتکثر عندئذٍ الجرائم ، وتنتشر ثقافة العنف والإجرام من خلال أفلام الرعب السینمائیة التی تشعل القوّة الغضبیة ، وأمّا فی إطلاق العنان للقوّة الشهویة فحدّث ولا حرج ، مع أنّ القوّتین الشهویة والغضبیة یجب أن تکونا محدودتین.

التعقّل هو أنسب الخیارات للطبیعة البشریة

إذن اختیار الإسلام للتعقّل والتریّث والهدوء والحوار والأخلاق کخیار أوّل ؛

ص:115

لأنّه أنسب الخیارات للطبیعة البشریة ، ولأنّ القوی الغضبیة والشهویة موجودة فی الحیوان، کما هی موجودة فی الإنسان ، أمّا القوی العقلیّة فهی خاصة بالإنسان .

ولذلک ، فإنّ الإسلام یطرح قاعدة:«لا عقوبة إلّابعد قیام الحجّة» وهذه قاعدة أُصولیة وکلامیة وتقنینیة هامّة ، ویقول علماء الأُصول : إنّ تنجیز الأحکام لا یتمّ إلّا بالعلم(1) فی القانون الوضعی ، والقانون الشرعی ، والسرّ فی ذلک یرجع إلی نفس النکتة السابقة ، وهی أنّ الإنسان موجود عاقل ذو فکر ، ویجب أن یکون عقله مسیطر علی باقی قواه الأُخری ، ومن الخطأ إقحام العقوبات والردع ، وإطلاق العنان للقوّة الغضبیة بدون المرور بمحطة العقل والفکر ، باعتبار أنّ العقل هو الذی یدبّر باقی القوی الأُخری کما قلنا .

الفرق بین العقوبة والردع

وهناک فرق بین اصطلاح«العقوبة» واصطلاح«الردع» ، فالعقوبة هی نوع من الجزاء للمجرم علی ما ارتکب من الإثم والجرم ، بعد ارتکابه لذلک الإثم والجرم ، أمّا الردع ، فقد یطلق علی الدفع ، وقد یطلق علی الرفع ، ویعنی الردع : أنّ المخالف ، والذی اجرم جرماً ، وهو لا یعلم أنّ هذا الأمر جرم ، فهذا الشخص لا یعاقب ، وذلک لأنّه لا یعلم ، ولکن یجب أن یُنهی عن الاستمرار فی هذا الأمر الممنوع والمخالف. وقد یکون الردع من باب الدفع ، کما لو أراد أن یُقدم إنسان ما علی منکر وفاحشة معیّنة ، وهو لا یعلم ، ولکن یردع بدرجة مناسبة لانتهائه عن ذلک المنکر ، مع أنّ الحجیّة لم تتمّ علیه.

إذن الردع لایحتاج إلی قیام الحجّة ، ویتحقق القیام بالردع وإن کان بالفعل السیء لم تتمّ علیه الحجة ، والسرّ فی ذلک أنّ مصلحة المجتمع قد تتطلب هذا

ص:116


1- (1) أصول الفقه 3: 35 عند قوله: «وغایة ما نقوله فی دخالة العلم ..» .

الأمر ، لأنّ المسألة لا تحتمل التأخیر والمماطلة فینبغی المبادرة بالردع لحفظ تلک المصلحة ، وللردع درجات ، منها: إعلام وتعلیم القائم بالمنکر ، أنّ هذا الأمر منکر .

«وَمَا کُنَّا مُعَذِّبِینَ حَتَّی نَبْعَثَ رَسُولاً

»

وهذا هو منطق الإسلام ، وقد دلّت علیه العدید من النصوص ، قال تعالی:«وَ ما کُنّا مُعَذِّبِینَ حَتّی نَبْعَثَ رَسُولاً»1 ، فإذا کان الإسلام یقول :«لا عقوبة إلّابعد قیام الحجة» ، فهذا یعنی : أنّ الحوار والتعقّل هو الأصل ، والحجیّة تتقوّم بالإیصال العلمی ، ولا تتمّ الحجّة إلّابعد أن یکون ذلک الشخص علی درایة وعلم وإلمام تام بذلک الجرم وبحکمه المحرّم ، وإذا لم یتمّ الإلمام التام بذلک لا تقام الحجّة علیه ، ومن ثَمّ لا یعاقب .

القساوة فی المرحلة الثانیة

ثمّ تأتی النوبة للعقوبة والخشونة والقساوة بعد تجاوز تلک المرحلة ، ولذلک فإنّ فی باب الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر ، یذکر الفقهاء : أنّه یشترط فی الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر بالید ، التأکّد من علم الطرف الآخر ، وإحاطته بالحکم(1) ، لا أن یضرب قبل التأکّد من علمه بذلک ، فلا یجوز المبادرة بعقابه بالید ، وما شابه ذلک ، قبل التأکّد من علمه بالحکم الشرعی لما قد عمله من منکر ، وبعد إعلامه بالمنکر أو بوجوب المعروف ، یتمّ نصحه وإرشاده ووعظه ، وإذا لم ینفع کل ذلک ، یتم الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر ، بالید أو بالمدافعة وما شابه ذلک بإذن الحاکم الشرعی.

ص:117


1- (2) تذکرة الفقهاء 9: 443 .

الحوار فی النزاعات القضائیة

وفی فصل النزاعات أیضاً الحوار هو المتقدّم علی غیره ، ففی القضاء الشرعی الإسلامی یُدلی المتنازعان برأیهما ، ویطرح کل منهما الأدلّة والبراهین علی صحة ما قاله ، وقد یکون النزاع بین فردین أو بین دولتین أو أنّ المجتمع یرفع قضیة معیّنة ضدّ حکومته ، ومن هذا المنطق وجدت المحکمة الدستوریة فی الأنظمة الحدیثة ، وهذه المحکمة الدستوریة تمثّل القضاء الذی یحکم القضایا التی تحدث بین السلطة الحاکمة والمجتمع فی تلک الدولة ، ولسنا الآن فی مقام الکلام عن تفاصیل هذه المحکمة .

ممارسة الحکومات الدکتاتوریة شوّهت صورة الإسلام

إذن الحوار لیس شعاراً جدیداً علی التشریع الإسلامی ، ولکن ممارسة الحکومات الدکتاتوریة التی کانت تحکم باسم الإسلام ، کالدولة الأمویة والدولة العباسیة ، أعطت الرأی العام صورة سیّئة عن الحوار الإسلامی من خلال ممارساتها القمعیّة مع من یخالفها ویعارضها من قطاعات الشعب الذی تحکمه ، فهذه الحالة مرفوضة ، ویجب أن یکون التحاکم الثقافی والتحاکم العلمی هو السائد ، کما یطرح ذلک الدین الإسلامی .

الشوری لا تعنی إرادة الأکثریّة ، وإنّما هی الأخذ بأفضل الآراء

قال اللّه تعالی:«وَ شاوِرْهُمْ فِی الْأَمْرِ»1 وقال تعالی:«وَ أَمْرُهُمْ شُوری بَیْنَهُمْ »2 ، والشوری هی الحوار ، وهی جمع العقول ، وجمع المعلومات ، وجمع

ص:118

الخبرات ، وتلاقح الأفکار ، أی : هی ظاهرة ثقافیة فکریة ، ولیست ظاهرة غضبیة ، ولیست ظاهرة تحمیلیة ، أی : تحمل الطرف الآخر علی قبول رأیک بالقوّة ، ویخطأ من یقول أنّ الشوری هی إرادة الأکثریة ؛ لأنّ الشوری لیست إرادة ، وإنّما هی رأی ، والإرادة من القوی العملیّة ، والشوری من القوی العلمیّة ، وفرق بین هذا وذاک .

قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله :«أعلم الناس من جمع علم الناس إلی علمه»(1) ، وقال علی علیه السلام :«حق علی العاقل أن یضیف إلی رأیه رأی العقلاء ویضم إلی علمه علوم الحکماء»(2) .

وأحادیث أهل البیت علیهم السلام تحثّ علی المشوَرَة(3) ، وتعتبر المشورة من أعظم أنواع الخیرة ، وإن کانت الخیرة بالسبحة مستحبّة ، ولکن المشورة متقدّمة علیها ، لأنّ الشوری تُوفّر للإنسان فرصة دراسة الموضوع الذی یرید الإنسان أن یُقدم علیه من جمیع الجوانب ، وتتکامل عنده الصورة بشکل أوضح ، وهناک شروط لمن تصح مشاورته .

ولیست الشوری بمعنی مجموعة الإرادات أو الإرادة الجمعیّة أو الحاکمیة للأکثریة ، بل الشوری تعنی : الحاکمیة للصواب وإن کان الصواب یمثّل رأی الأقلیّة فی تلک المجموعة ، والشوری تعنی : حاکمیة العلم وإن کانت لفرد واحد إذا کان أخبر القوم وأعلمهم ، وهو صاحب الرأی الصحیح فی قبال مجموعة کبیرة ، الشوری مداولة الآراء لمعرفة الخطأ من الصواب ، ولا تعنی : القهر والفرض والاستبداد .

ص:119


1- (1) میزان الحکمة 5: 2108، الحدیث 14164 .
2- (2) میزان الحکمة 4: 1525 ، الحدیث 9863 .
3- (3) میزان الحکمة 4: 1524، الشوری المرقمة ب «281» .

یُفتح باب القتال إذا أُغلق باب الحوار

ولو جئنا إلی الآیة الکریمة:«وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَیْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَی الْأُخْری فَقاتِلُوا الَّتِی تَبْغِی حَتّی تَفِیءَ إِلی أَمْرِ اللّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَیْنَهُما بِالْعَدْلِ وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اللّهَ یُحِبُّ الْمُقْسِطِینَ »1 ، فبعد أن فشل الإصلاح بینهما تأتی مرحلة قتال الفئة الباغیة ، ولا یصلح النقاش والحوار الفکری بعد هذه المرحلة ؛ لأنّ الأمر مرتبط بالنزاع العسکری الذی لا یُحلّ بالنقاش الفکری مع إصرار إحدی الطائفتین علی البغی ، وأمّا إذا تخلّت عن إصرارها فیأتی دور الإصلاح مرّة أُخری .

الإمام علی علیه السلام طرق کل أبواب الحوار قبل القتال

والحوار هو أسلوب أهل البیت علیهم السلام فی التعامل مع الآخرین حتّی لو کانوا أعداءهم ، فهذا الإمام علی بن أبی طالب علیه السلام رفض البدء بالقتال مع أصحاب الجمل ، وقد أرسل الإمام الحسن علیه السلام وعبد اللّه بن عباس إلی الطرف الآخر قبل بدء الحرب إلی درجة أنّهم قالوا: إنّ بنی هاشم لدیهم من الحجج والبراهین الکثیرة ، ولا نقوی علی حججهم(1) ، وهذا دلیل علی أنّ معسکر الإمام علی علیه السلام کان یتوسّل إلی القوی العقلیّة لفضّ النزاع ، ولم یلجأ إلی القوّة الغضبیة إلّابعد أن استنفذ کل الوسائل والطرق العقلیّة ، وذلک حرصاً علی وحدة المسلمین وحقن دمائهم ، ومن یتابع أمیر المؤمنین علی علیه السلام فی کل موقف من مواقف حیاته ، سیجد هذه الصفة متجلّیة عنده ، فلا یُقدّم القوّة الغضبیة علی القوّة العقلیّة ، وهذا ما فعله فی

ص:120


1- (2) کتاب الجمل وصفین والنهروان: 163 .

صفین ، حیث کان یقول : «أنا أکره قتالکم قبل الإعذار إلیکم»(1) ، وهذه لا تعنی :

الکراهة بمعنی أنّ هذا الفعل مکروه شرعاً ، بل هو محرّم ، أی : أُحرّم علی نفسی أن أبدأهم بقتال .

أمیر المؤمنین علیه السلام ، وحواره مع حزب الخوارج

وفی تعامل أمیر المؤمنین علیه السلام مع الخوارج نموذج رائع ، مع أنّهم کانوا تحت سلطته حیث کان الکثیر من المحیطین بالإمام علی علیه السلام یحثّونه علی قتال الخوارج وإبادتهم قبل معرکة النهروان ، ولکنّه رفض مقاتلتهم إلّابعد أن أتمّ الحجة علیهم بالحوار(2) .

وما فعله الإمام علیه السلام مع الخوارج یصلح لأن یکون أنموذجاً فی التعامل مع المعارضة حیث کان الإمام علیه السلام یعطیهم کل الحقوق المتعلّقة بإبداء الرأی وطرح الفکر ، وهناک دراسات فی جامعة الأزهر تحاول أن تغوص غمار هذه التجربة العلویة المبارکة مع الحزب المعارض المتمثّل بالخوارج ، ومن المعروف أنّ الخوارج لم یکونوا أفراداً ، بل حزباً سیاسیاً وأیدلوجیاً ، وحتّی هؤلاء الخوارج لم یبدأهم الإمام علی علیه السلام بالقتال ، ولم یقصِهم أو یقم علیهم الإقامة الجبریّة ، بل فتح لهم باب الحوار علی مصراعیه ، ممّا جعل الخوارج یفتحون الجبهة الإعلامیة بشکل قوی ، مع ذلک لم یحاربهم ، واقتصر علی رد الرأی بالرأی ، وطرح بیّناته وحججه ، وتحمّل الإمام علی علیه السلام الطرف المعارض إلی أقصی حدّ ، مادام الطرف

ص:121


1- (1) جواهر التاریخ 1: 287 .
2- (2) کتاب الجمل وصفین والنهروان : 426 .

الآخر قد اعتمد لغة الحوار ، والأکثر من ذلک أنّ أمیر المؤمنین علیه السلام کان یقبل المقاضاة ، وهو حاکم الدولة وخلیفة المسلمین وأمیر المؤمنین فی قضیة مالیة ، فیقبل أن یقف أمام شریح القاضی هو والطرف الذی رفع الشکوی علیه(1) ، وهذه النماذج لا نجدها إلّاعند أهل البیت علیهم السلام .

النبی صلی الله علیه و آله یقدّم الحوار علی القتال

والنبی صلی الله علیه و آله وهو معلّم الإمام علی علیه السلام کان کذلک ، وتقسیم الدعوة إلی مرحلتین :

المرحلة المکّیة والمرحلة المدنیّة دلیل علی ما نقول ، حیث کان فی مکّة یطرح البراهین والحجج والدلائل علی صدقه لمدة ثلاثة عشر سنة ، وهی مدّة لیست بالقلیلة ، وفی المدینة بعد أن أسس الدولة والنظام الإسلامی ، وتشکّلت القوّة الإسلامیة العسکریة ، ومع هذا نری فی غزوة بدر لم یبدأ النبی صلی الله علیه و آله بالقتال(2) ؛ لأنّ هذه هی سنَّة النبی صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام ، فقد کانوا یرفضون البدء بالقتال ، ولا یقاتلون إلّابعد أن یبدأ الطرف الآخر بالقتال .

الإمام الحسین علیه السلام ، والحوار مع الأعداء

ولو تتبّعنا حرکة الإمام الحسین علیه السلام لرأینا الحوار حاضرٌ فی کل محطّة من محطّاته ، کحواره مع أهل الکوفة ، ومع عمر بن سعد ، ومع جیش بنی أمیة ، ولم یبدأ الإمام الحسین علیه السلام جیش بنی أمیة بالقتال(3) .

ص:122


1- (1) وسائل الشیعة 27: 265 ، الحدیث 33737 .
2- (2) الصحیح من سیرة النبی الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم 5: 41 .
3- (3) الارشاد 2: 84 ، قوله علیه السلام : «ما کنت لأبدأهم بالقتال» .أبعاد النهضة الحسینیة : 144 .

المحاضرة الخامسة الجهاد الابتدائی والحروب العدوانیة

اشارة

محاور المحاضرة :

أوّلاً : المعترضون علی الإسلام .

ثانیاً : هل الإسلام دین القوّة والعنف والإرهاب؟

ثالثاً : طمع الجیوش الفاتحة فی الأموال والنساء .

رابعاً : لماذا دخلت أوروبا فی الدین المسیحی فی القرن الثانی الهجری؟

خامساً : هل الجهاد الابتدائی هو الحرب العدوانیّة؟

سادساً : بعض الکتَّاب المصریین تنکّروا لوجود الجهاد الابتدائی .

سابعاً : حروب النبی صلی الله علیه و آله کلّها دفاعیّة .

ثامناً : الجواب الصحیح عن إشکال الجهاد الابتدائی .

تاسعاً : القرآن الکریم ینهی عن إهلاک الحرث والنسل .

عاشراً : الإسلام یکرّم بنی آدم .

المعترضون علی الإسلام

هناک بعض الاعتراضات علی الطرح الذی یقول: إنّ الدین الإسلامی ذو طبیعة أوّلیة تتسم بالرفق واللّین والتعقّل الهدوء والحوار ، وأنّ طبیعته لا تتسم بالرعونة والإرهاب والعنف والشدّة ، وسنستعرض هذه الاعتراضات ، وسنری أنّها مردودة علی أصحابها .

ص:123

هل الإسلام دین القوّة والعنف والإرهاب ؟

اعترض مجموعة من المستشرقین : أنّ الإسلام هو دین السیف والقوّة والعنف والإرهاب ، ویقولون : أنّ فی الفترة التی قضاها النبی صلی الله علیه و آله فی المدینة المنوّرة فی عشر سنوات ، نشبت ثمانون حرباً ، وهذا العدد یدلّ علی أنّ الإسلام یرتکز علی السیف والقوّة والخشونة ، ولا یرتکز علی الحوار والعرض العلمی والتفاهم .

طمع الجیوش الفاتحة فی الأموال والنساء

وفی عصر الفتوحات الذی کان یحتوی علی الکثیر من المخالفات الإنسانیة ، سطّرتها کتب المسلمین - فضلاً عن غیرهم - ففی آذربایجان دخل أهل هذه المنطقة الإسلام ، ولکن ما یسمی بالجیوش الفاتحة لم تعترف بإشهار أهل تلک المنطقة لإسلامهم ، وذلک رغبة فی الحصول علی السبی والنساء الجمیلات والغنائم والأموال ، لأنّهم لو أذعنوا بإسلام أهل تلک المنطقة ، لما حصلوا علی شیء من ذلک أبداً .

وحدث مثل هذا فی أطراف الهند والصین ، حتی إن ابن أبی الحدید المعتزلی فی شرحه لنهج البلاغة ، یذکر : من المصادر التاریخیة القدیمة ، القصص الطویلة التی تقشعرّ منها الأبدان .

وکذلک الأقباط فی مصر ، والبربر فی بلدان المغرب العربی ، وکذلک فی إسبانیا ، إلی درجة أنّ الإسبانیین عندهم یوم خاص ، یحتفلون به بهزیمة المسلمین فی کل عام ، وهناک مؤلف إسلامی ، عنده العدید من الکتب حول الأندلس ، ولعلّه کتاب الغصن الرطیب فی تاریخ الأندلس ، یبیّن فیه أنّ الإسبانیین انتقموا من المسلمین بنفس الطریقة التی عوملوا بها ، فسبوا النساء واسترقوهنّ ، وهدموا المساجد ، کما هدم المسلمون الکنائس ، ومازالت آثار تلک المعاملة تستعر فی

ص:124

قلوب الآخرین تجاه الإسلام والمسلمین .

وفی البوسنة والهرسک ، وما فعله الصرب بالمسلمین ، کان نتیجة مخلّفات تاریخیّة ، وأقرأ ما فعلته الدولة العثمانیة الترکیة من ممارسات خاطئة .

لماذا دخلت أوروبا فی الدین المسیحی فی القرن الثانی الهجری ؟

والشیء الملفت أنّ أوروبا إنّما دخلت فی المسیحیّة فی القرن الثانی الهجری ، وکانت قبل ذلک وثنیّة ، ولازال الإسلام فتیّاً ، ومن المفترض أنّ نور بریقه یسطع فی أوروبا ، فکیف نجح المسیحیّون فی نشر دیانتهم فی أوروبا فی وقت کان الإسلام یتمتع بالعنفوان والقوّة والانتشار؟ بینما کان بین تلک الحقبة التاریخیة ، وبین بعثة النبی عیسی علیه السلام ستة قرون ، وهذا شیء مؤسف وخسارة کبیرة للإسلام والمسلمین ، وقد انطلق المبشّرون المسیحیون بمفاهیم السلام والرحمة والتعامل بالحسنی ، وغزوا کل أوروبا فی تلک الفترة ، وقد انتقلت هذه الأفکار إلی الأمریکتین ، والعدید من دول العالم ، ولازال المسیحیون إلی زماننا هذا یتفوّقون عددا علی المسلمین فی تلک المناطق ، فلابد من دراسة الأسباب التی حوّلت أوروبا للدین المسیحی ، وجعلتها تعرض عن الإسلام .

هل الجهاد الابتدائی هو الحرب العدوانیّة ؟

ولو أنّنا قرأنا کتاب الجهاد فی الفقه الإسلامی لرأینا مصطلح«الجهاد الابتدائی» ، ولو ترجمنا هذا المصطلح إلی لغة القانون الحدیثة لکان«الحرب العدوانیّة» التی تحمل فی طیّاتها الحدّة والعنف والشدّة والقتل .

بعض الکتَّاب المصریین تنکّروا لوجود الجهاد الابتدائی

وطَرْح هذا الإشکال ، جعل بعض الکتّاب المصریین قبل ما یقارب من خمسة

ص:125

عقود یتنکّرون لوجود الجهاد الابتدائی فی الإسلام ، وأنّ الجهاد المذکور فی القرآن الکریم هو جهاد دفاعی ، ولیس جهاد ابتدائی ، وقالوا : إنّ هناک فرق بین التشریع الإسلامی ، وممارسة المسلمین ، وقد استدلّوا ما قالوا : بالعدید من الآیات والروایات النبویّة ، وقبل أن نستعرضها نودّ الإشارة إلی أنّ تنصّل هؤلاء مما حصل أثناء الفتوحات ، إقرار بوجود أخطاء ، وتجاوزات قامت بها جیوش الفتح .

ومن الآیات التی استدلّوا بها ، وهی آیات مدنیّة قوله تعالی:«وَ قاتِلُوا فِی سَبِیلِ اللّهِ الَّذِینَ یُقاتِلُونَکُمْ وَ لا تَعْتَدُوا إِنَّ اللّهَ لا یُحِبُّ الْمُعْتَدِینَ »1 ، واعتبروا هذا النص نصاً مقیّداً لباقی النصوص القرآنیة التی تدعوا إلی الجهاد ، واستدلّوا بقوله تعالی:«لا یَنْهاکُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِینَ لَمْ یُقاتِلُوکُمْ فِی الدِّینِ وَ لَمْ یُخْرِجُوکُمْ مِنْ دِیارِکُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَیْهِمْ إِنَّ اللّهَ یُحِبُّ الْمُقْسِطِینَ »2 ، وقوله تعالی:«وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِباطِ الْخَیْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّهِ وَ عَدُوَّکُمْ وَ آخَرِینَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ یَعْلَمُهُمْ وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ شَیْ ءٍ فِی سَبِیلِ اللّهِ یُوَفَّ إِلَیْکُمْ وَ أَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ * وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَ تَوَکَّلْ عَلَی اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِیعُ الْعَلِیمُ »3 ، عند کثیر من المذاهب أنّ هذه الآیة لیست منسوخة ؛ لأنّ هذه الآیة تدلّ علی تشریع المهادنة مع الکفار ، وعقد العهد والأمان معهم ، وهذا یدلّ علی أنّ قتال الکفار فی القرآن الکریم لیس بشکل مطلق ، وقوله تعالی :«وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِکِینَ اسْتَجارَکَ فَأَجِرْهُ حَتّی یَسْمَعَ کَلامَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِکَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا یَعْلَمُونَ »4 ، وهذه السورة من أواخر السور التی نزلت ،

ص:126

وقیل : آخر سورة نزلت بالمدینة(1) ، وإن کان الأصح بین المفسّرین أنّ سورة المائدة هی آخر سورة نزلت .

حروب النبی صلی الله علیه و آله کلّها دفاعیّة

وطَرْحُ مثل هذه الآیات هدفه التأمّل ، ومراجعه الأحکام الواردة فی کتب الجهاد عند المسلمین فی تشریع الجهاد الابتدائی ، أمّا بالنسبة لسیرة النبی صلی الله علیه و آله فیقولون: إنّنا یجب أن نفرّق بین سیرة النبی ، وسیرة من بعده عموماً ، وأنّ حروب النبی ابتداءً من بدر ، وحتی تبوک لم تکن حروباً تمثّل الجهاد الابتدائی ، بل کلها حروب دفاعیّة ، والشاهد علی ذلک أنّ غزوة بدر لم یقم بها النبی صلی الله علیه و آله إلّابعد أن قامت قریش بالاعتداء علی المسلمین ، وعلی أموالهم فی مکّة المکرّمة ، بل کانت قریش تعتدی علی المسلمین حتّی فی المدینة المنوّرة علی شکل غارات لیلیّة ، فکان هدف النبی صلی الله علیه و آله وقف العدوان القرشی ، والاقتصاص من قریش فلذلک هجم علی قافلة قریش التی کان یقودها أبو سفیان ، وحینها نزل قوله تعالی:«وَ إِذْ یَعِدُکُمُ اللّهُ إِحْدَی الطّائِفَتَیْنِ أَنَّها لَکُمْ وَ تَوَدُّونَ أَنَّ غَیْرَ ذاتِ الشَّوْکَةِ تَکُونُ لَکُمْ وَ یُرِیدُ اللّهُ أَنْ یُحِقَّ الْحَقَّ بِکَلِماتِهِ وَ یَقْطَعَ دابِرَ الْکافِرِینَ »2 ، ونجت قافلة أبی سفیان من المسلمین الذین کانوا یبنون علی المقاصّة المالیة ، والمقاصّد المالیة منطق دفاعی ، ولیس منطقاً عدوانیّاً ، ولیس جهاداً ابتدائیاً ، کما هو مطروح فی فقه المذاهب الإسلامیة ، وأنّ أبا سفیان قد أرسل إلی جیش قریش قائلاً : إنّ العیر قد نجت ، ولا حاجة للحرب ، إلّاأنّ قریش بخیلائها وکبریائها أبت الرجوع عن الحرب(2) ، وعتبة قد

ص:127


1- (1) القائل: قتادة ومجاهد ، مجمع البیان 5: 3 ، سورة التوبة .
2- (3) شرح نهج البلاغة 14: 106 .

نصح قریش أن لا تعتدی علی النبی صلی الله علیه و آله ، وأن لا تحاربه ، وکان النبی صلی الله علیه و آله یقول: إن یکن فی القوم أحد یأمر بخیر فعسی أن یکون صاحب الجمل الأحمر(1) ، وکان عتبة هو الراکب علی الجمل الأحمر ، حیث کان یرید أن یثنیهم عن ذلک ، إلّاأنّ أبا جهل قال له : «جبنت وانتفخ سحرک» ، فابتدأ القتال(2) ، ولکن لم یکن الابتداء من طرف النبی صلی الله علیه و آله ، بل هو من طرف قریش ، بدءاً بالعدوان المالی والعرضی والأمنی ، وانتهاء بساحة المعرکة ، إذن هذه هی معرکة دفاعیّة ، وفی غزوة أُحد کان الکفّار قد أتوا للانتقام من المسلمین ، وفی غزوة الخندق کذلک ابتدأ الکفّار بالحرب ، وأمّا غزوة تبوک فهی عبارة عن الاستعداد الرادع لطغیان الروم الذین کانوا یهدّدون المسلمین ، وکذلک غزوة مؤتة التی استشهد فیها زید بن حارثة ، وعبد اللّه بن رواحة ، وجعفر الطیّار ، والصحیح أنّ جعفر الطیّار هو أوّل من استشهد فی هذه المعرکة ، ولیس زید بن حارثة ، کما تذکر بعض المصادر(3) ، وکذلک فی غزوة حنین ، وما فعلته قبیلة هوازن من تهدید المسلمین ، وعندما دخل النبی صلی الله علیه و آله إلی مکّة فاتحاً أخذ الرایة أحد الصحابة قائلاً :«الیوم یوم الملحمة الیوم تستحل الحرمة» فأمر النبی صلی الله علیه و آله علیاً أن یأخذ الرایة ، ویقول:«الیوم یوم المرحمة الیوم تحفظ فیه الحرمة»(4) حتی إنّ النبی عامل البیت الذی طالما ناصبه العداء والحقد ، وهو بیت أبی سفیان برفق ، حیث قال صلی الله علیه و آله :«من دخل دارک یا أبا سفیان فهو آمن» ،وعندما قال لهم صلی الله علیه و آله :«ما تظنّون وما أنتم قائلون؟» قال سهیل:«أخٌ کریم وابن عمّ کریم»(5) .

ص:128


1- (1) کنز العمال 10: 180 ، الحدیث 29927 ، کتاب الغزوات والوفود.
2- (2) مناقب آل أبی طالب 1: 239 ، فصل فی غزواته صلی الله علیه و آله .
3- (3) تاریخ الیعقوبی 2: 42 ، «غزاة مؤته» . الکامل فی التاریخ 2: 236 .
4- (4) السیرة الحلبیة 3: 118 ، باب ذکره مغازیة صلی الله علیه و آله . المبسوط للسرخسی 10: 45 ، کتاب السیر ، باب معاملة الجیش مع الکفار .
5- (5) تاریخ الیعقوبی 2: 38 - 39 ، فتح مکة .

هذه إجابات هؤلاء الباحثین ، وبین الفینة والأُخری نری بعض الدراسات التی تحاول إثبات أنّ الجهاد الابتدائی لا تدلّ علیه النصوص الشرعیة القرآنیة أو النبویّة .

أمّا رأینا فی هذه الإجابات هو أنّها تحمل بعض اللفتات الصحیحة ، والاستدلالات المحقّة إلّاأنّها لا تصلح أن تکون جواباً للإشکال المطروح .

الجواب الصحیح عن إشکال الجهاد الابتدائی

الجواب الصحیح عن هذا الإشکال : أنّ الجهاد الابتدائی لیس معناه الابتداء بالعدوان ، وإن کانت کلمة«الابتدائی» توحی للسامع هذا المعنی ، والمعنی الصحیح لهذا المصطلح ، هو بدء إظهار القوّة العسکریة ، وإظهار لغة القوّة ، ولکن هذا المصطلح لا یتضمّن البدء بالحرب ، بل یعنی : استعمال الأسلوب الضاغط ، وأسلوب القوّة فی معالجة عدم خضوع الدولة الأُخری أو الجهة الأُخری التی تعادی المسلمین لمیزان العدالة فی التعامل مع المسلمین .

الجهاد الابتدائی له خلفیّة حقوقیة دفاعیّة

وفی الواقع أنّ الجهاد الابتدائی له خلفیّة حقوقیة دفاعیّة ، بمعنی إذا تعرّضت حقوق المسلمین للانتهاک ، کما لو نکث الطرف الآخر العهد معهم ، وأقیمت الحجّة علی الطرف الآخر ، ولم یستجب للغة الإنصاف والعدل ، فمن الواضح أنّ الإسلام لن یبقی علی طبیعته الأوّلیّة ، وهی الحوار والتعقّل والرفق واللّین ؛ لأنّ المفترض أنّ الحجّة قد أُقیمت ، ولم ینفع الخطاب العقلانی مع الطرف الآخر ، ولم یبق مجال إلّا لمنطق القوّة ، والساحات العسکریة ، واستخدام لغة القوّة یهدف إلی کبح جماح النزوات الغریزیّة الحیوانیة فی الطرف الآخر المعتدی ، ولا یتضمّن استخدام القوّة فی المفهوم الإسلامی ، إهلاک الحرث والنسل ، فالقرآن الکریم یبغض ، وینهی عن

ص:129

إهلاک الحرث والنسل .

القرآن الکریم ینهی عن إهلاک الحرث والنسل

قال تعالی:«وَ إِذا تَوَلّی سَعی فِی الْأَرْضِ لِیُفْسِدَ فِیها وَ یُهْلِکَ الْحَرْثَ وَ النَّسْلَ وَ اللّهُ لا یُحِبُّ الْفَسادَ»1 ، فلیس من المنطق الإسلامی أن تحرق مکتبة الإسکندریّة ، وتبقی مدّة طویلة تلتهمها النیران ، هذا لیس منطق النبی صلی الله علیه و آله و سلم ، ولا منطق الإمام علی علیه السلام ، وهذه أوراق یجب أن تبحث بصراحة .

أمّا منهج أهل البیت علیهم السلام فیعتمد علی الانفتاح علی العلوم البشریة ، وتهذیبها وترشیدها ، والاستفادة من الخبرات البشریة ، والإنجازات التی حققها الآخرون فی تدبیر المعیشة ، وخدمة العلوم الدنیویة - فضلاً عن العلوم الأُخرویة - .

الإسلام یکرّم بنی آدم

الأصل الأوّلی فی الإنسان عموماً ، هو أن یکون مکرّماً ، قال تعالی:«وَ لَقَدْ کَرَّمْنا بَنِی آدَمَ »2 ، وهذا یشمل المسلمین وغیر المسلمین ، هذا هو الأصل الأوّلی ، وکما یقول الإمام علی علیه السلام :«إمّا أخ لک فی الدین ، أو نظیر لک فی الخلق»(1) والتی رفعها شعاراً الأمین العام للأُمم المتّحدة کوفی عنان ، وقال : إنّها یجب أن تکون شعاراً لحوار الحضارات .

إذن ، الجهاد الابتدائی ، یعنی : التلویح بالقوّة لحفظ حقوق المسلمین المسلوبة ، ولا یعنی : الاعتداء علی دولة أُخری بدون سبب ، أو ترویع شعب مسالم آمن .

ص:130


1- (3) میزان الحکمة 8: 3691 ، الحدیث 22799 .

المحاضرة السادسة الخلفیّات الحقوقیة للجهاد الابتدائی

اشارة

محاور المحاضرة:

أوّلاً: الجهاد الابتدائی والإرهاب .

ثانیاً : قوی الاستکبار وآیات الجهاد .

ثالثاً : الإسلام لیس مسؤول عن المخالفات الشرعیة التی یقوم بها المسلمون .

رابعاً : لا یصح أن نحمل اصطلاحات علم علی اصطلاحات علم آخر .

خامساً : الجهاد الابتدائی یستند إلی خلفیّة حقوقیة .

سادساً : الجهاد الابتدائی جهاد دفاعی فی المصطلح الحقوقی .

سابعاً : لایوجد مصطلح الجهاد الابتدائی فی النصوص الشرعیة .

ثامناً : مبررات القتال فی القرآن الکریم .

تاسعاً : الجهاد الابتدائی له شروط خاصّة ، وله أهداف محدّدة .

عاشراً : الفیتو عند الإمامیة الاثنی عشریة لایکون إلّاعند المعصوم .

الجهاد الابتدائی والإرهاب

کان الکلام فی ما سبق ، هو الإثارة المطروحة الآن فی محافل بشریّة عدیدة ، من أنّ الدین الإسلامی یحمل فی طیّاته لغة الإرهاب ، وما یتمسک به القائلون بهذه الدعوة المضادّة ، هو وجود مفهوم الجهاد الابتدائی فی القرآن الکریم والتشریع الإسلامی .

ص:131

طبعاً أصل هذه الإثارة حول الجهاد الابتدائی أو جهاد الدعوة ، لها منشأ مرتبط بالموروث التاریخی المتعلّق بالفتوحات الإسلامیة ، وهذا البحث یتصل بالفتوحات ، کما یتصل بموقف علی علیه السلام ، حیث انکفأ فی حکومته علی الإصلاح الداخلی ، والترکیز علی السیاسة الداخلیة ، وترتیب أوراق الوضع الداخلی .

ذکرنا فی اللیلة الماضیة مجمل الأدلّة التی استند إلیها بعض الکتّاب فی نفی وجود لغة العنف فی الدعوة الإسلامیة ، وأنّه لیس هناک ما یدعو للقتال والعنف والقوّة وقهر الآخرین وإجبارهم علی الدخول فی الدین الإسلامی .

قوی الاستکبار وآیات الجهاد

هذا الأمر جدّیٌ جدّاً ، وملحّ فی الوسط الدولی ، ونحن نلاحظ أنّ أمریکا والعالم الغربی یریدون إقناع العالم بأنّ هذا الأمر یعتبر أمراً إرهابیّاً ، ولابد من الضغط علی المسلمین من أجل حذف هذه الآیات من القرآن الکریم والشریعة الإسلامیة والفقه الشرعی .

فالمسألة من الخطورة بمکان بحیث تتجاوز مرحلة التنظیر والبحث النظری ، بدل یراد لها أن ترسوا علی خطوات خطیرة جدّاً ، إذ ینبغی علی فقهاء الشریعة أن یفهموا هذه الإشکالیة بعمق ، وأن تتمّ دراستها دراسة مستفیضة ، والردّ علیها بشکل قوی ، لأنّ هذه المسألة لیست مسألة نظریة ، ولیست ثرثرة فکریة ، بل هی مسألة قد أخذت طابعاً عملیّاً إلی درجة أنّ بعض البلدان الآن تمنع قراءة آیات الجهاد فی الإذاعة والتلفزیون والمحافل العامّة ، وأنّ هناک توصیة غربیة مفروضة علی بعض البلدان الإسلامیة لکی تمنع قراءة آیات الجهاد ، وحذفها من المناهج الدراسیة .

الإسلام لیس مسؤول عن المخالفات الشرعیة التی یقوم بها المسلمون

فی البدء لابد أن نستعرض التنظیر العلمی لهذه القضیة ، وهناک فرق بین البحث

ص:132

النظری والتطبیق العملی ، بمعنی أنّ النظریة الإسلامیة غیر مسؤولة عن الممارسات الخاطئة التی قام بها المسلمون ، وأنّها لیست مسؤولة إلّاعن ما یستند إلی التشریع الإسلامی الصحیح ، فلیس من العدل أن نحمل النظریة ، التطبیقات الخاطئة ، والممارسات غیر المسؤولة لمن یعتقد بهذه النظریة .

لا یصح أن نحمل اصطلاحات علم علی اصطلاحات علم آخر

النقطة الأُخری التی نرید الإشارة إلیها ، هی أنّ جهاد الدعوة أو الجهاد الابتدائی لیس مطروحاً فی الفقه الإسلامی ، بمعنی ابتداء العدوان أو الحرب العدوانیّة ، وبعبارة أُخری : من الخطأ الفادح أن نحمل اصطلاحات فی علم معیّن علی اصطلاحات أُخری فی علم آخر ، ومن الخطأ أیضاً أن یقرء باحث فی بیئة معیّنة ، مفاهیماً معیّنة ، ویطبّقها علی بیئة أُخری ، لأنّ لکل بیئة مفاهیمها وأفکارها الخاصّة بها .

الجهاد الابتدائی یستند إلی خلفیّة حقوقیة

وما ذکره الفقهاء من أنّ الجهاد الابتدائی بند من بنود الشریعة الإسلامیة ، لیس المراد منه العدوان واستخدام لغة القوّة ، وقد یفهم السامع لکلمة«الابتدائی» معنی العدوان ، بینما هی لیست کذلک فی الفقه الإسلامی ، بل إنّ معنی الجهاد الابتدائی هو المبادرة العسکریة التی تحمل فی طیّاتها غطاءً حقوقیاً ، وهذا باتفاق جمیع المذاهب الإسلامیة ، وإن کان هناک خلاف فی بعض التفاصیل بین مذهب أهل البیت علیهم السلام ، والمذاهب الأُخری إلّاأنّ جمیع المسلمین یعتقدون أنّ الجهاد الابتدائی یتضمّن غطاءً حقوقیاً فیکون جهاداً دفاعیّاً فی المصطلح الحقوقی ، ولیس حرباً عدوانیّة ، کما ترجمة البعض .

ص:133

الجهاد الابتدائی جهاد دفاعی فی المصطلح الحقوقی

إذن ، کل الجهاد یرجع إلی الجهاد الدفاعی ، کما أشار إلی ذلک : الشیخ جعفر آل کاشف الغطاء والشیخ الکلینی ، وقد قسّم الفقهاء الجهاد إلی قسمین : جهاد ابتدائی وجهاد دفاعی ، والمقصود من الجهاد الدفاعی ، هو استخدام لغة القوّة ردّاً علی استخدام العدو للغة القوّة ، أمّا الجهاد الابتدائی فهو جهاد دفاعی أیضاً مع فارق أنّ فیه مبادرة باستخدام القوّة العسکریة مع وجود الغطاء الحقوقی ، وبالتالی یکون جهاداً دفاعیاً فی المصطلح الحقوقی .

وتطبیقاً لما ذکرنا یتّضح أنّ معرکة بدر وحنین ومؤتة کانت جهاداً ابتدائیاً بالمصطلح الفقهی ، وحروباً دفاعیّة بالمصطلح القانونی .

لایوجد مصطلح الجهاد الابتدائی فی النصوص الشرعیة

الجهاد الابتدائی مصطلح فقهی ، ولا یوجد هذا اللفظ فی النصوص الشرعیة ، نعم بعض الروایات عبّرت عنه بجهاد الدعوة(1) وإذا استعرضنا المبررات الشرعیة لهذا الجهاد فلن یکون حرباً عدوانیّة ، بل سیکون جهاد إصلاح وإنماء وإرساء للعدالة .

الجهاد الابتدائی بین الفطرة الإنسانیة والنظام العالمی

ولو تساءلنا هل للجهاد الابتدائی - فی المصطلح الفقهی ولیس الحقوقی - أو جهاد الدعوة منشأ فی الفطرة الإنسانیة ، وفی البحوث العقلیّة باعتبار أنّ الشریعة الإسلامیة توافق الفطرة الإنسانیة؟

ص:134


1- (1) وسائل الشیعة 15: 42 ، باب وجوب الدعاء إلی الإسلام قبل القتال إلّالمن قوتل علی الدعوة وعرفها .

نعم، العقل یرجّح نصرة المظلوم ، والوقوف فی وجه الظالم ، وعلی الصعید الدولی نری أنّ المجتمع الدولی یرفع شعار مکافحة الإرهاب حتّی لولم یکن ذلک الإرهاب فی نفس الدولة التی رفعت الشعار .

أمّا فی إطار النظام العالمی الموحّد نری أنّ أمریکا تعطی لنفسها الحق فی التدخل فی شؤون الدول بعنوان مکافحة الإرهاب أو حقوق الإنسان ، وحتّی البنک الدولی یفرض شروطه ، ویتدخل فی الشؤون والسیاسات الداخلیة للبلد التی تطلب منه قرضاً مالیاً ، فلا یدعمها ویقرضها إلّاإذا أذعنت لشروطه وضغوطه .

إذن ، أصل استخدام لغة القوّة لدفع ظاهرة عدوانیّة وإن کانت فی بلد آخر أمر موجود عقلاً ومعمول به دولیّاً ومتعارف علیه من قبل المجتمع الدولی

إذن ، الکلام کل الکلام لیس فی استخدام القوّة ، وإنّما الکلام فی الخلفیّة الحقوقیة ، والتبریر الحقوقی لاستخدام القوّة .

ما هو الإرهاب ؟

ولذلک تری جدلاً کبیراً فی تحدید مفهوم الإرهاب ، وإلی الآن لم یرسُ هذا علی مفهوم متفق علیه علی طاولة الجدل البشریّة .

الإرهاب بما هو مفهوم یعتبر مفهوماً مذموماً ، لا یساوی المبادرة بالقوّة العسکریة ، فربما یبادر الشعب المظلوم باستخدام القوّة اتجاه الجهات التی تظلمه ، وهذا یتم فی غیاب أجواء الحوار ، وعندها تعطی تلک الجهة الظالمة لنفسها الحق فی استخدام القوّة اتجاه تلک القوّة الضعیفة ، وتعتبر أیّ فعل یشکّل مبادرة عسکریة من قبل تلک الجهة الضعیفة إرهاباً ، ومن الإجحاف اعتبار هذا العمل إرهاباً ، بل هو مقاومة مشروعة لاسترداد الحق ، کما هو حال المقاومة فی جنوب لبنان .

ص:135

مبررات القتال فی القرآن الکریم

العنف واستخدام القوّة لیس من طبیعة الإنسان الأولیّة لا فی التقنین ولا فی التشریع ، ولکنّها تکتسب الشرعیة من خلال بعض الظروف المحیطة بها.

نحن نری أنّ التشریع الإسلامی والآیات الکریمة تحمل شعاراً یتناغم مع الفطرة ، فمن الآیات المحکمة قوله تعالی:«وَ ما لَکُمْ لا تُقاتِلُونَ فِی سَبِیلِ اللّهِ وَ الْمُسْتَضْعَفِینَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ الَّذِینَ یَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْیَةِ الظّالِمِ أَهْلُها وَ اجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْکَ وَلِیًّا وَ اجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْکَ نَصِیراً»1 ، والقرآن الکریم بیّن أنّ هدف الجهاد وغرضه وغایته هو تثبیت شرع اللّه تعالی ، ونصرة المظلومین والمستضعفین .

إذن : جهاد الدعوة یحمل فی طیّاته نصرة المظلومین، وانجاز حقوق اللّه علی عباده، والاستضعاف تارةً یکون استضعافاً مالیاً ومادیّاً، وتارةً یکون استضعافاً عقائدیاً وفکریاً وهو من أشدّ الاستضعاف ، قال تعالی:«إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِینَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ لا یَسْتَطِیعُونَ حِیلَةً وَ لا یَهْتَدُونَ سَبِیلاً»2 ، فهنا«لا یَسْتَطِیعُونَ حِیلَةً » ، هو الاستضعاف المالی والمادی ، ولا یهتدون سبیلاً هو الاستضعاف الفکری والعقائدی .

دور الإعلام فی استضعاف الشعوب

الآن الأعراف الدولیة والقوانین البشریة تقرّأنّ الشعوب المستضعفة مقهورة ، وتقع تحت التضلیل الإعلامی للدول القویّة باعتبار أنّ الإعلام هو السلطة الرابعة ، بل قد یکون أخطر من السلطات التنفیذیّة والتشریعیّة والقضائیّة ؛ لأنّ الإعلام

ص:136

هوالذی ینشر الفکر أو یجمّده هنا وهناک .

ویقال : أنّ الشعوب المستضعفة أکثر وعیاً فی الجانب السیاسی من غیرها من الشعوب ، لأنّها تقع تحت الظلم ، وهذا الظلم یجعلها تتابع الأحداث حتی تتوصل إلی نقطة الخلاص ، والإعلام له دور کبیر فی تضلیل الرأی العام ، وقلب الحقائق .

تعالیم القرآن وممارسات بعض المسلمین

ومن آیات الجهاد الابتدائی قوله تعالی:«یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِی سَبِیلِ اللّهِ فَتَبَیَّنُوا وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقی إِلَیْکُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَیاةِ الدُّنْیا فَعِنْدَ اللّهِ مَغانِمُ کَثِیرَةٌ کَذلِکَ کُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَیْکُمْ فَتَبَیَّنُوا إِنَّ اللّهَ کانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِیراً»1 .

هذا علی سبیل النظریة ، أمّا علی سبیل التطبیق فهناک من الممارسات الخاطئة فی ما یسمی بالفتوحات الإسلامیة ما یقرح القلوب .

صفات المجاهدین فی القرآن الکریم

کذلک اشترط الدین الإسلامی فی المجاهدین صفاتاً خاصّة فضلاً عن القائد لهؤلاء المجاهدین الذی یقوم بالوصایة علی جهاد الدعوة ، ولم یرض الإسلام بتأهیل أی شخص لهذه الوصایة .

قال تعالی:«إِنَّ اللّهَ اشْتَری مِنَ الْمُؤْمِنِینَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ یُقاتِلُونَ فِی سَبِیلِ اللّهِ فَیَقْتُلُونَ وَ یُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَیْهِ حَقًّا فِی التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِیلِ وَ الْقُرْآنِ وَ مَنْ أَوْفی بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَیْعِکُمُ الَّذِی بایَعْتُمْ بِهِ وَ ذلِکَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِیمُ »2 ، ثم یصف اللّه تعالی المجاهدین بقوله :«اَلتّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السّائِحُونَ الرّاکِعُونَ السّاجِدُونَ

ص:137

اَلْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النّاهُونَ عَنِ الْمُنْکَرِ وَ الْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِینَ »1 .

وفی روایة لطیفة عن الإمام السجاد علیه السلام حینما کان متوجّهاً إلی الحج ، حیث التقی به عبّاد البصری ، فقال له : یا علی بن الحسین ترکت الجهاد وصعوبته ، وأقبلت علی الحج ولینه ، إنّ اللّه عزّ وجلّ یقول:«إِنَّ اللّهَ اشْتَری مِنَ الْمُؤْمِنِینَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ یُقاتِلُونَ فِی سَبِیلِ اللّهِ »2 الآیة ، فقال علی بن الحسین صلوات اللّه علیه : أتم الآیة فقال«اَلتّائِبُونَ الْعابِدُونَ » الآیة ، فقال علی بن الحسین علیه السلام : إذا رأینا هؤلاء الذین هذه صفتهم فالجهاد معهم أفضل من الحج(1) .

الجهاد الابتدائی له شروط خاصّة ، وله أهداف محدّدة

إذن جهاد الدعوة : والجهاد الابتدائی بالمصطلح الفقهی لیس مفتوحاً لکل من هبّ ودبّ ، وإنّما کان مفتوحاً لفئة خاصّة تتمیز بصفات معیّنة فی التشریع الإسلامی .

إذن غرض جهاد الدعوة هو نصرة المظلومین ، وانجاز حقوق اللّه علی الناس، وقد یتسائل البعض هل للّه حقوق علی البشر؟ وهذه جدلیّة کتبت فیها الکتب ، وأنّ أیّ مصدر من مصادر الحقوق للّه، فیها حق کحق الحاکمیّة الذی تقرّ حتی المسیحیّة به ، ولکنّهم یقولون : أنّ اللّه قد أعفی عباده من هذا الحق .

الجهاد الابتدائی من حقوق الإمام المعصوم الخاصّة

المبرر الحقوقی لجهاد الدعوة هو إنجاز حقوق اللّه علی الناس ، والنقطة الثانیة التی نرید الإشارة إلیها هو أنّ الذی جعله اللّه وصیّاً علی البشریة هو لیس أیّ فرد

ص:138


1- (3) وسائل الشیعة 15: 46 ، الحدیث 19956 .

من الأفراد ، وإنّما هناک أشخاص معیّنون للجهاد ، لیس کل من ربّی لحیته أو وضع علی رأسه عمامة فهو مؤهّل لهذا الجهاد ، وأنّ جهاد الدعوة حق للمعصوم ، وهذا ما علیه إجماع الإمامیة إلّامن شذّ .

وأنّ جهاد الدعوة هو صلاحیة خاصّة للمعصوم علماً وعملاً ، وهو الإنسان الکامل ، حتی أنّ الإمام الخمینی رحمه الله رغم أنّه یری صلاحیات أوسع للفقیه ، أی :

ولایة الفقیه المطلقة ، استفتی عدّة استفتاءات ، وإلی آخر أیام حیاته کان یری أنّ الجهاد الابتدائی هو حق للمعصوم لا غیره ، وهذا ما تظافرت علیه الروایات .

وفی روایة عن الإمام الصادق علیه السلام فی قوله تعالی :«وَ اللّهُ یَدْعُوا إِلی دارِ السَّلامِ وَ یَهْدِی مَنْ یَشاءُ إِلی صِراطٍ مُسْتَقِیمٍ »1 ، إنّ اللّه هو أوّل داع لنفسه ، ثم الرسول صلی الله علیه و آله ، حیث قال تعالی:«اُدْعُ إِلی سَبِیلِ رَبِّکَ بِالْحِکْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ »2 ، ثم یستعرض الإمام الصادق علیه السلام صلاحیة الدعوة بعد ذلک ، فیبیّن أنّ الذی یصلح للدعوة والجهاد هو من یکون ملتزماً بشرع اللّه عزّ وجلّ فی الجهاد ، ومن لم یکن ملتزماً بشرع اللّه فی الجهاد فلیس بمأذون له فی الجهاد والدعوة إلی اللّه حتّی یحکم فی نفسه ما أخذه اللّه من شرائط الجهاد(1) .

أمریکا والتناقض بین الشعار والواقع

فی زماننا أمریکا أو الأُمم المتحدة ترفع شعار مکافحة الإرهاب ، وکل ما یعکّر صفو الأمن البشری أو ما یتناقض مع حقوق الإنسان ، ولکن هل تحقق أمریکا أو الأُمم المتحدة العدالة ، ففی أمریکا هناک امتیازات للجنس الأبیض علی

ص:139


1- (3) وسائل الشیعة 15: 34 ، الحدیث 19949 .

الجنس الأسود ، وهذا هو الواقع وإن کانت القوانین المدوّنة لا تعترف بهذه الحقیقة .

الإسلام یدعو إلی العدالة ویطبّقها

ولکن عند المسلمین دالأمر یختلف فالکل سواسیة کأسنان المشط ، بینما عند المسیحیین لا یمکن للأسود أن یکون باباً للکنیسة هذا هو الواقع ، وهذا هو المتعارف عندهم وإن لم یکن مدوّناً ، ولکنّهم أشدّ التزاماً بالأعراف من القوانین ، بینما نری الإسلام یفتح المجال أمام الأبیض والأسود لکی یصل إلی أعلی المناصب ما عدا الإمامة المعصومة التی تعتمد علی الاصطفاء الإلهی ، وهی «ارستقراطیة إلهیة» لا یستطیع أحد أن یعارضها .

إذن ، الإسلام عندما یدعو إلی العدالة فإنّه یطبّق هذه العدالة ، والتشریع الإسلامی یمتاز بهذه المیزة التی تفتقر إلیها الدیانات المحرّفة ، والمدارس الوضعیة الأُخری ، نحن نتکلم عن النظریة ، ولیس عن التطبیق .

الفیتو عند الإمامیة الاثنی عشریة لا یکون إلّاعند المعصوم

قانون الفیتو یجب أن یکون له مبرر حقوقی ، وهو سیطرة الأعقل علی العاقل ، ووصایة الأخبر علی من هو أقل خبرة منه .

فی مذهب الإمامیة لا یسمح للفقیه والمرجع أن یکون له حق النقض«الفیتو» ، ولا یمتلک هذا الحق إلّاالإمام المعصوم المتصل علمه بعلم اللّه تعالی ، وهو صاحب العلم اللدنی ، بینما نری - فی القانون الغربی - أنّ حق النقض«الفیتو» متاح للقوی الذی یخضع بدوره إلی مصالحه الخاصّة ونزواته وغرائزه وشهواته فیکون هذا الفیتو باب من أبواب تکریس الظلم فی المجتمع البشری .

ص:140

النزوع الفطری نحو العصمة

کیف نبرر مفهوم«الفیتو» فی المنطق الغربی علی المستوی القانونی والحقوقی ، إذن لا بد لقیمومة الأعدل والأعلم علی غیره ، وهذا الأعلم والأعدل والأخبر والأعقل هو المعصوم فی مذهب أهل البیت علیهم السلام ، والتسلیم بهذا المبدأ یعنی :

النزوع الفطری نحو العصمة ؛ لأنّ الإنسان بفطرته یرید أن یعطی حق الفیتو للمعصوم الذی لا یخطأ علی المستویین العلمی والعملی .

ص:141

ص:142

المحاضرة السابعة الرد علی شبهة الرق وحقوق الإنسان

اشارة

محاور المحاضرة :

أوّلاً : مسألة الرق وحقوق الإنسان .

ثانیاً : قراءات جدیدة تفسّر النصوص الشرعیة .

ثالثاً : الحداثیّون : أحکام الإسلام لیست أبدیّة .

رابعاً : الدین یتناسب مع کل الأزمان وکل البیئات .

خامساً : کرامة الإنسان فی التشریع الإسلامی .

سادساً : هناک فرق بین الکفار فی الفکر الإسلامی .

سابعاً : الجزء الوافر من الشریعة الإسلامیة مستمد من الفطرة الإنسانیة .

ثامناً : معنی الرق فی الفقه الإسلامی .

تاسعاً : الإسلام شجّع علی تحریر العبید ومعاملتهم بالحسنی .

عاشراً : نیویورک مدینة بیضاء .

مسألة الرق وحقوق الإنسان

من الأمثلة التی یعترض بها المعترضون علی الإسلام ، هی مسألة الرق والاستعباد المذکورة فی القرآن الکریم وفی التشریع الإسلامی ، وهی مسألة قدیمة حدیثة ، وهناک مخطط أمریکی یستهدف فرض الوصایة علی الإرشاد الدینی ، والمناهج فی الدول الإسلامیة باعتبار أنّ بعض تعالیم الإسلام تحرّض

ص:143

علی الإرهاب ، وتناقض حقوق الإنسان ، وتحاول أمریکا الضغط علی الدول الإسلامیة من أجل التخلّی عن مفاهیم بعض الآیات القرآنیة التی تدّعی أنّها تحرّض علی الإرهاب أو تناقض حقوق الإنسان .

قراءات جدیدة تفسّر النصوص الشرعیة

وهناک بعض الحداثیّین من العالم الإسلامی یحاول أن یجد إجابة عن هذه التساؤلات ، ویوجد الحل بأن یقول : أنّ جملة من التشریعات القرآنیة والنبویّة هی تشریعات کانت مقنّنة ومؤسسة علی ضوء البیئة العربیة الجاهلیة ، أو البیئة البشریة فی أعراف ذلک الزمن ، وبعضهم یتمادی فی هذا المجال ، ویسمّیه قراءة حدیثة للقرآن الکریم ، ویقول : حتّی الحجاب بهذا التشدّد الوارد فی التشریع الإسلامی ، إنّما کان باعتبار أنّ المرأة العربیة السابقة کانت تعیش فی مجتمع عربی بدوی کان فیه العطش الجنسی شدید ، وکان أیّ بریق من جمال المرأة یثیر ذلک المجتمع ، فلذلک أمرها القرآن بالجلباب(1) ، وهو ما یسمی ب «العباءة والخمار» ، وهو الربطة التی فی الرأس أو الحجاب ، وللأسف الشدید أنّ المرأة قد ترکت العباءة ، واستبدلتها بما یسمی ب«البالطو» الذی یتفنّن مصمّموا الأزیاء فی تشکیله بشکل یظهر مفاتن المرأة من الخصر والصدر والبطن ، فتمشی المرأة بهذا اللباس ، وکأنّها فی استعراض لمفاتتها .

الحداثیّون : أحکام الإسلام لیست أبدیّة

فی الرد علی هذه القراءة ، أقول: أنا لست بصدد الرد علی مثل هذه القراءات الحداثیة ، وبیان أُصول الاستنابط الشرعی ، لأنّ هذا موضوع قائم بنفسه ، ویحتاج

ص:144


1- (1) محمد شحرور فی کتابه الکتاب والقرآن .

إلی سلسلة بحوث کثیرة ، ولکن من الواضح أنّ من یدّعون أنّهم یقرأون القرآن قراءة حداثیّة أو قراءة جدیدة یحاولون إثبات أنّ بعض الأحکام الإسلامیة لیست أحکاماً أبدیّة ، وإنّما کانت تناسب بیئة معیّنة ، کما هو الحال فی الرق والاستعباد ، لأنّ هذا الموضوع مرفوض عند البشریة جمعاء فی زماننا الحالی ، أمّا فی العرف القانونی فی الزمان الذی رافق ظهور الإسلام کان العرف القانونی یقر الأسر والسبی والرق والاستعباد ، أمّا الآن وبعد أن أُلغی الرق فی الأعراف البشریة ، آن الأوان أن تُعاد قراءة هذا الباب ، وأن نقرأه قراءة جدیدة تغیّر بعض الأحکام الواردة فیه - کما یقولون - .

الدین یتناسب مع کل الأزمان وکل البیئات

أمّا نحن فنقول: إنّ الدین باعتباره دیناً ربّانیاً إلهیاً فهو یغطّی کل الأجیال ، وکل أشکال وأنواع النظام الإجتماعی ، وهو یقدّم موقفاً قانونیاً ونظاماً یتناسب مع کل المجتمعات ، سواء ذلک المجتمع مجتمعاً قبلیاً أو حضریاً أو مدنیاً أو قرویاً ، وهناک ثابت دینی ومتغیّر دینی ، ولکنّنا لسنا فی مقام تفصیل هذه المصطلحات الآن .

کرامة الإنسان فی التشریع الإسلامی

وهنا علامة استفهام : هل أنّ الرق والعبودیة المطروحة فی الشریعة الإسلامیة تستند إلی الخشونة والقساوة وعدم احترام حقوق الإنسان أم أنّ الأمر لیس کذلک؟

هناک قاعدة أُصولیة ، وهی من القواعد الأُم فی التشریع الإسلامی ، ألا وهی :

«أنّ الطبیعة الأوّلیة هی کرامة الإنسان فی التشریع الإسلامی» یعنی : أنّنا فی کل مورد من الموارد لا نجد فیه نصاً خاصّاً أو تعبّداً خاصّاً علی الاستثناء أو التخصیص أؤ الرفع عن هذه الطبیعة الأوّلیة التی هی کرامة الإنسان فی التشریع

ص:145

الإسلامی ، فإنّنا نعتمد علی هذه القاعدة فی التشریع ، وقد صرّح بهذه القاعدة فی تطبیقاتها الفرعیة فی الأیواب ، کحرمة التمثیل بالمیت ولو کان عدوّاً وأیضاً حرمة قتل النساء والشیوخ والصبیان . الکثیر من علماء الإمامیة الاثنی عشریة ، وربما جملة من بقیّة المذاهب الإسلامیة الأُخری ، وتستند إلی الکثیر من النصوص القرآنیة ، منها قوله تعالی:«وَ لَقَدْ کَرَّمْنا بَنِی آدَمَ »1 ، وقوله تعالی:«لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِی أَحْسَنِ تَقْوِیمٍ »2 ، وقوله تعالی:«اَللّهُ الَّذِی خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَکُمْ وَ سَخَّرَ لَکُمُ الْفُلْکَ لِتَجْرِیَ فِی الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَ سَخَّرَ لَکُمُ الْأَنْهارَ * وَ سَخَّرَ لَکُمُ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ دائِبَیْنِ وَ سَخَّرَ لَکُمُ اللَّیْلَ وَ النَّهارَ»3 ، وهذه الآیات هی قواعد قانونیة ، ولا تندرج تحت فقه المقاصد ، أو روح الشریعة ، أو أنّها ثقافة قرآنیة عامّة ، وأنّ أکثر ما خلقه اللّه إنّما سخّره للإنسان ، إذن فالأُمور التی توجب إهانته أو سلبه للکرامة الإنسانیة ، هذه الأُمور بما إنّها منافیة للکرامة الإنسانیة فهی أُمور مرفوضة فی الشریعة ، والقرآن لم یخصص المؤمنین أو المسلمین ، بل قال:«وَ لَقَدْ کَرَّمْنا بَنِی آدَمَ »4 ، إذن الإنسان بما هو إنسان ، لا الإنسان بما هو مادی أو ملحد أو مجرم ؛ لأنّ هذه عناوین أُخری ، الطبیعة الفطریة للإنسان کریمة عند اللّه ، قال تعالی:«فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِی فَطَرَ النّاسَ عَلَیْها لا تَبْدِیلَ لِخَلْقِ اللّهِ ذلِکَ الدِّینُ الْقَیِّمُ وَ لکِنَّ أَکْثَرَ النّاسِ لا یَعْلَمُونَ »5 ، أو بتعبیر قرآنی آخر :«صِبْغَةَ اللّهِ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً »6 ، وهذا لیس من باب فلسفة التشریع ، بل هو قالب

ص:146

قانونی قرآنی ، وفی تعبیر الإمام علی علیه السلام :«إمّا أخ لک فی الدین أو نظیر لک فی الخلق»(1) ، أو قول الإمام الحسین علیه السلام :«إن لم یکن لکم دین ، وکنتم لا تخافون المعاد ، فکونوا أحراراً فی دنیاکم»(2) ؛ لأنّ نبع الفطرة لها مقتضیات قانونیة یحترمها التشریع الإسلامی تؤکّد علی کرامة الإنسان ، والذین ینادون الیوم بکرامة الإنسان قد سبقهم الإسلام بأربعة عشر قرناً بالمناداة بکرامة الإنسان ، وأنّها الأصل ، ولا تهتک کرامة الإنسان إلّابموجب .

هناک فرق بین الکفار فی الفکر الإسلامی

أمّا بالنسبة للکفار فالقرآن الکریم یفرّق فی التعامل بینهم فهناک کافر عدو وکافر لیس بعدو ، انظروا إلی التعبیر القرآنی الوارد فی قصّة إبراهیم مع آزر :«وَ ما کانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِیمَ لِأَبِیهِ إِلاّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِیّاهُ فَلَمّا تَبَیَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِیمَ لَأَوّاهٌ حَلِیمٌ »3 ، لاحظوا أنّه کان یعلم أنّه کان کافراً ، ولکن فرق بین الکافر العدو والکافر غیر العدو ، وهناک مصطلح الکافر ومصطلح المشرک ، والکافر الذی یستحق النار والکافر الذی لا یستحق النار ، وقد یستغرب البعض من الکفار الذی لا یستحق النار ، نعم الکافر الذی هو فی معرض الهدایة ، وفی طریق البحث عن الحقیقة لا یستحق النار .

الجزء الوافر من الشریعة الإسلامیة مستمد من الفطرة الإنسانیة

ص:147


1- (1) میزان الحکمة 8: 3691 ، الحدیث 22799 .
2- (2) بحار الأنوار 45 : 51 ، باب ما جری علیه بعد بیعة الناس لیزید .

الجزء الوافر من الشریعة الإسلامیة مستمد من الفطرة الإنسانیة ، وهی الفطرة التی أودعها اللّه فی الإنسان ، وهی قواسم مشترکة بیننا وبین باقی أبناء البشر ، وهذا مصدر مهم فی التشریع ، وفی مذهب الإمامیة بشکل بارز ربما أکثر من المذاهب الأُخری ، وأنّ أحد المصادر والحجج الربّانیة هو العقل ، والعقل یرجع إلی الفطرة ، سواءً کان العقل النظری أو العقل العملی ، علی الأقل فی البدیهیّات التی لیست نظریات مختلف علیها بین أصحاب العقول ، وهی نقطة اشتراک بین الأصولیین والأخباریین ، کما یذهب إلی ذلک الشیخ یوسف البحرانی رحمه الله(1)، وقد ورد فی روایات أهل البیت علیهم السلام : أنّ العقل رسول باطنی کما أنّ النبی رسول ظاهر(2) ، إذن فنحن ندور فی دائرة اللغة الثابتة الشاملة للمتغیّرات ، وهی اللغة العقلیّة الفطریة نحن مع الأُمم الأُخری .

معنی الرق فی الفقه الإسلامی

أمّا بالنسبة لظاهرة الرق والسبی وما شابه ذلک ، فلنعرف ما معنی العبودیة أوّلاً؟ حیث تصاحب هذه اللفظة معانی التقزّز والتنفّر ، وهذا صحیح ، ولکن عبودیة شخص لشخص آخر لها عدّة معانی وعدّة درجات، إذا لم یدرکها الإنسان قد یستبشع العنوان فی نفسه أو یحصل له الاشتباه فی هذا المفهوم ، ونحن عندنا أنّ الأجیر إذا أجّر نفسه صار سخرة للمستأجر ، بمعنی : أنّ نتاج جهده یکون لمصلحة المستأجر ، وهذا یفرض نوع من طاعة الأجیر إلی المستأجر ، ومطلق الطاعة من المطیع إلی المطاع هو نوع من الخضوع

الإسلام شجّع علی تحریر العبید ومعاملتهم بالحسنی

وقد وردت الکثیر من النصوص الشرعیة عند المسلمین ترغّب الإنسان فی

ص:148


1- (1) الحدائق الناظرة 1: 155 .
2- (2) میزان الحکمة 5: 2036 ، الحدیث 13358 .

تحریر العبید بالثواب الجزیل(1) کما أنّ التشریع الإسلامی جعل بعض الکفارات عتق رقبة عبد ، بل الکثیر من الکفارات لا تقع إلّابتحریر رقبة لأجل تطویق ظاهرة الرق ، کما أنّ الإسلام قد حثّ علی معاملة العبید بالرفق والحسنی(2) ، إذن الإسلام کان عنده برنامج للقضاء علی هذه الظاهرة ، قد تحمل لون العقوبة فی الکفارة علی الشخص المخالف للحکم الشرعی ، ولکنّها تحمل فی طرفها الآخر تحریر للعبد ، کما أنّ التشریع قد أوجب علی السید الذی یملک الأسیر نفقته وضمانه الصحی وضمانه الاجتماعی ومسؤولیته الجنائیة ، وسیتحمّل الکثیر من أجل أن یبقی هذا العبد تحت عهدته .

فالأحری بالغربیین الذین یتّهمون الإسلام أن یقرّوا بما فضحهم به مؤتمر مکافحة العنصریة الذی عقد فی جنوب أفریقیا أشهر أو فی العام الماضی بأنّ ضمانات العبید الذین استعبدوا بأشنع وأفضع وأشد وأقمع وأقبح طریقة بشریة من قبل البیض لهؤلاء السود ضمانات ضائعة .

نیویورک مدینة بیضاء

حتی الیوم لیس الأبیض کالأسود فی الدول الغربیة ، وفی خطابه الأخیر بکل وقاحة وقلّة حیاء ، یصرّح الرئیس الأمریکی : أنّ مدینة نیویورک یجب أن ترجع مدینة بیضاء ، أی : فقط للجنس الأبیض ، فهل هذا منطق إنسان یحترم حقوق الإنسان ، بینما الإسلام یجعل من الرق نظام ضمان وکفالة للعبد أو الأسیر مقنّنة

ص:149


1- (1) وسائل الشیعة 23: 9 ، باب استحباب العتق .
2- (2) جامع أحادیث الشیعة 24: 373 ، باب وجوب نفقة المملوک ورعایة حقوقه واستحباب البرّبه .

ومشروطة ، ومع ذلک یخطط للقضاء علی الرق بشکل کلی فی عدّة تشریعات فقهیة.

الرق یعنی الخدمة فی التشریع الإسلامی

یجب أن نحذّر من الانسیاق وراء العناوین القانونیة ، حیث یتم الخداع والمغالطات وخدمة المصالح وترجیح طرف الباطل علی طرف الحق ، ولابد من الالتفات إلی نفس المعنی مهما حاولوا تسمیته وبأیّ تسمیة .

الرق فی التشریع الإسلامی ، یعنی : الخدمة وملکیّة الخدمة لیس إلّا، ولا یعنی :

القهر والظلم ، والآن لازالت الکثیر من الدول لا یتمتع الخادم فیها بالضمان الذی یضمن الحمایة لهذا العبد أو الخادم ، والموجود فی القرآن الکریم والشریعة الإسلامیة ، والتاریخ رصد لنا ماذا فعل الجنس الأبیض بالجنس الأسود ، والمفروض أن یطرحوا هذه الإشکالات علی حضارتهم التی تستنقص العنصر الأسود ، وتمنعه من الوصول إلی العدید من المناصب .

استئصال الغدّة السرطانیة

هناک العدید من الاعتراضات علی التشریع الإسلامی سأجیب عنها إجابات عامّة ، ولن أخوض فی تفاصیلها لضیق المقام .

منها : أنّه لو فسد عضو من أعضاء الإنسان بسبب مرض مّا کمرض السکری بحیث لا تسلم بقیة الأعضاء إلّاإذا بتر ذلک العضو ، فمن الواضح أنّ بتر ذلک العضو بتر مستساغ ، ولا یعد بتره مخالفاً للإنسانیة والحق الطبیعی أو خلاف التشریع الدینی ، بالعکس هو من صلب الإنسانیة والتشریع الدینی والحق الطبیعی ؛ لأنّه سیحفظ حیاة إنسان .

ولکم فی القصاص حیاة

وهذا ما ینطبق علی الشخص أو الجماعة التی تهدّد نظاماً اجتماعیاً من خلال الجریمة والتعدّی علی المجتمع وتهدید الأمن والاستقرار وسلب الأموال

ص:150

والاعتداء علی الحرمات ، فی مثل هذه الأُمور یعبّر القرآن الکریم:«وَ لَکُمْ فِی الْقِصاصِ حَیاةٌ یا أُولِی الْأَلْبابِ »1 ، باعتبار أنّ ردع الجانی یهییء الجو لسیادة الأمن وقطع دابر الجرائم ، وهناک العدید من الاعتراضات علی الحدود والتعزیرات الإسلامیة .

مفهوم الإرهاب

مفهوم الإرهاب الدولی وموقف الإسلام منه ، ومتی یستخدم ومتی لایستخدم ، وسیکون البحث فی اللیالی القادمة حول مفهوم الإرهاب فی مقابل السلم ، ومتی یسوغ وقوعه ومتی لا یسوغ وقوعه ، وسنختم هذه المراحل الثلاث بموقف الإمام الحسین علیه السلام باعتبار قرآناً متجسداً ناطقاً ، لا سیّما أنّ واقعة عاشوراء اجتمعت فیها عدّة ظروف عدیدة شملت الکثیر من المواقف والموضوعات والمحاور ، وکأنّها نقطة لاستقطاب معرفة المواقف من خلال منطلقات الإمام الحسین علیه السلام الذی انطلق منها .

تعریف الأُمم المتّحدة للإرهاب

ذکر فی النصوص القانونیة لبعض المجامیع البشریة ، لا سیّما فی الأُمم المتّحدة ، أَنّ الإرهاب هو «استخدام الرعب کعمل رمزی للتأثیر علی السلوک السیاسی بوسائل غیر معتادة مهدّدة عنیفة»(1) ، وقولهم عمل رمزی یشیر إلی الفرق بین الإرهاب والحرب ، فالإرهاب لیس حرباً ، فالحرب تعتمد علی التوسّع الجغرافی والغنائم المادّیة ، أمّا الإرهاب فلیس من أهدافه تحقیق مکاسب مادّیة ،

ص:151


1- (2) الإرهاب الدولی ، تألیف : أحمد محمد رفعت وصالح بکر الطیّار - إصدار مرکز الدراسات العربی الاوروبی .

وقد یکون للإرهاب دور یفوق دور الحروب أحیاناً فی تحقیق بعض الأهداف .

النصر بالرعب

وعندنا روایات تشیر إلی أنّ النبی صلی الله علیه و آله قد نصر بالرعب(1) ، حیث یکون الرعب أنجح وأنجع من الحرب المیدانیة ، وقد أشار الإمام الخمینی رحمه الله فی معرض حدیثه عن القوی الکبری : أنّ هذه القوی تستخدم الإرهاب أکثر من الحروب المیدانیة لتحقیق أهدافها .

وهناک قواسم مشترکة بین الحرب وبین الإرهاب ، وهذا التعریف صحیح فی بعض أجزائه ، وسنستعرض تعاریف أُخری للإرهاب ، ولکن هذا التعریف یغفل نقاطاً مهمّة من أجل أن یتّهموا جهات معیّنة بالإرهاب ، کالشعوب التی تنشد الحریة وغیرها ، لأنّ هؤلاء المقننین یخدمون الاستکبار العالمی لکی تتهیّأ له الأجواء القانونیة فی استکباره ، ولکی تلقی خططه العدوانیة تأییداً تحت مسمّیات مزوّرة .

ص:152


1- (1) الخصال: 201 ، باب الأربعة، الحدیث 14 .

المحاضرة الثامنة مناقشة تعریفات الإرهاب وتطبیقاتها

اشارة

محاور المحاضرة :

أوّلاً : العملیات الإرهابیة لا تستهدف الحصول علی مکاسب مادّیة .

ثانیاً: العملیات الإرهابیة ترتبط بالأهداف السیاسیة وتستهدف الضغط النفسی .

ثالثاً: الإرهاب هو العنف المتطرف .

رابعاً: لابد من وجود ضوابط للقوّة .

خامساً : أقسام الإرهاب .

سادساً : ارتباط ثورة الإمام الحسین علیه السلام بالشرع والمُثل والمبادیء والقیم فی کل مراحلها .

سابعاً : الحکم لیس إلّاوسیلة لإقامة العدل .

ثامناً : أهل البیت علیهم السلام یرفضون قاعدة «دفع الأفسد بالفاسد» .

تاسعاً : الفرق بین جیش الإمام علی وجیش الإمام الحسن علیهم السلام .

عاشراً : المرجعیة الشیعیة تعتبر شبه دولة .

العملیات الإرهابیة لا تستهدف الحصول علی مکاسب مادّیة

مرّ علینا أحد تعریفات الإرهاب وهو.«استخدام الرعب کعمل رمزی للتأثیر علی العمل السیاسی بوسائل مهدّدة عنفیة غیر معتادة» .

ص:153

قد تستخدم الآلات العسکریة فی الحرب ، وفی العملیات الإرهابیة ، ولکن فی العملیات الإرهابیة لا ترتبط - غالباً - هذه العملیات بالحصول علی مکاسب مادّیة أو توسیع الرقعة الجغرافیة ، ولا یکون استخدام هذه الآلات بشکل متواصل ودائم ، بینما تکون للحرب - غالباً - أهداف مادّیة ، وتستهدف التوسع الجغرافی ، وتستخدم الآلات الحربیة بشکل دائم .

العملیات الإرهابیة ترتبط بالأهداف السیاسیة وتستهدف الضغط النفسی

وتمثّل العملیات الإرهابیة عاملاً مادّیاً آلیاً یستهدف الضغط النفسی علی الطرف الآخر الذی قد یکون دولة أو شعباً أو طائفة أو حزباً منافساً أو فرداً معیّناً ، وفی الغالب تکون العملیات الإرهابیة مرتبطة بالأغراض السیاسیة ، وهناک بعض العملیات الإرهابیة مرتبطة بالحصول علی مبالغ مالیة ، والهدف منها مادی ، کما هو حال المافیا الدولیة التی تمارس الإرهاب فی العالم من أجل هذا الغرض

الإرهاب هو العنف المتطرف

التعریف الثانی للإرهاب هو :«العنف المتطرف لأهداف سیاسیة الذی تنتهک به المعتقدات الإنسانیة والأخلاقیة» ، والتعبیر هنا ب«المتطرف» إشارة إلی أنّ استخدام القوّة شیءٌ حسن إذا خضع للضوابط ، ولکن فی التعریف أشار بکلمة «المتطرف» لکی یشیر إلی أنّ استخدام القوّة فی العملیات الإرهابیة أمر غیر صحیح ، وغیر خاضع للضوابط .

ضوابط المبارزة العسکریة

فی حروب العرب السابقة ، وکذلک الأُمم المعاصرة لها ، کان الجیشان یلتقیان ، ویبرز من کل جیش منهما أفراد من أجل المبارزة العسکریة ، وکانت هناک أُصول

ص:154

قانونیة تحکم کیفیة القتال بین هذین الفارسین المبارزین ، أو یخرج من کل جیش مجموعة وتبارز المجموعة التی خرجت من الجیش الآخر ، وفی هذه الحالة یصح أن یعین کل محارب من هو فی جیشه ، کما أعان الإمام علی علیه السلام عمّه الحمزة فی غزوة بدر ، والإمام علی علیه السلام قد قتل ابن عتبة ، ثمّ أعان عمّه الحمزة علی قتل عتبة ، کما شارک فی قتل شیبة أیضاً ، فنلاحظ أنّ المبارزة لها قوانین وضوابط ، وما کان یصح أن یأتی من جیش المسلمین أو جیش المشرکین غیر هؤلاء الستة قبل انتهاء المبارزة العسکریة .

لابدّ من وجود ضوابط للقوّة

وهذا حصل مع عبید اللّه بن زیاد حیث نهاه بعض جلسائه عن استخدام لغة القوّة مع السبایا لأنّهنّ نسوة ، وهذا یدل علی وجود ضوابط لاستخدام القوّة منذ الزمن الإسلامی القدیم ، بل حتّی فی زمن الجاهلیة کانت توجد أعراف قانونیة یتقیّد بها ، وقد ذکر القرآن لفظ الجاهلیة الأُولی فی قوله تعالی:«وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِیَّةِ الْأُولی »1 ، والبعض یقول : إنّ القرآن قد تتبّأ بوجود جاهلیة ثانیة(1) ، ویبدو أنّ الجاهلیة الأُولی کانت لها ضوابط أکثر من الجاهلیة الثانیة التی تمارس الفحشاء بلا حدود ، وتقنّن قوانینها بالخداع واللعب بالمصطلحات وتفسیرها تفسیراً مخادعاً .

قتل المدنیین فی الحروب مخالف لقوانین الحرب

النتیجة هی أنّه لو احتجنا لاستخدام القوّة فنستخدمها ، ولکن ضمن ضوابط وحدود وأُطر تنظّم استخدام هذه القوّة ، فمثلاً : یجب أن لا یقتل المدنیّون فی

ص:155


1- (2) تفسیر القمی 2: 168 ، ذیل هذه الآیة مسنداً عن أبی عبد اللّه عن أبیه علیهما السلام .

الحروب التی تکون بین دولة ودولة أُخری أو بین دولة وفئة معارضة داخل تلک الدولة أو خارجها ، یجب أن لا یُقتل المدنیّون الأبریاء فی هذه الحرب ، کما هو منصوص فی القوانین الدولیة ، ولا یقتل فی هذه الحرب إلّاالعسکریون ، ومن أمثلة هذه الضوابط إذا أرادت دولة مّا أن تلقی القبض علی إرهابیین فالقانون یرفض أن یکون المدنیّون من النسوة والأطفال والشیوخ وغیرهم ضحیّة فی هذه العملیة ، هذا ما یقوله القانون وإن کان حبراً علی ورق ، أمّا الواقع فالأمر مختلف .

استخدام الأسلحة الکیمیاویة والجرثومیة

أو استخدام الأسلحة الکیمیاویة أو الجرثومیة أو استخدام الیورانیوم المخصّب أو استخدام الأسلحة التی تکون لها انعکاسات سلبیة علی البیئة والحالة الصحّیة للمجتمع ، فممارسة جمیع هذه الأُمور تندرج تحت عنوان الإرهاب ولیس تحت عنوان الحرب ؛ لأنّ الحرب لها أخلاقیاتها وأُصولها وقوانینها ، وهی تستهدف ردع القوّة الغضبیة عند الطرف الآخر .

الآثار السلبیة للانتقام

ومن الخطأ مواجهة العدوان بعدوان أکبر ، والإرهاب بإرهاب أکثر ، ولهذا نجد أنّ الانتقام یحمل فی طیّاته الکثیر من السلبیات ؛ لأنّه یؤدّی إلی هذه النتیجة ، ومن هنا کان العفو أقرب للتقوی فی الموارد التی یمکن فیها العفو ؛ لأنّ القوّة الغضبیة کثیراً مّا تکون فی حالة الانفلات ، وعدم السیطرة عند الانتقام .

أقسام الإرهاب

التعریف الثالث للإرهاب هو:«الإرهاب الحربی والثوری والقمعی والمالی» ، وکأنّهم بصدد بیان أقسام الإرهاب .

ص:156

معنی الإرهاب الحربی

فالإرهاب الحربی ، یعنی : استخدام ورقة الإرهاب ضمن تلک الحرب ، کإسقاط طائرة مدنیّة تابعة للدولة التی نحاربها بهدف الضغط النفسی ، وإضعاف القرار الإداری علی تلک الدولة ، إذن الحرب قد تتضمّن الإرهاب ، مع الالتفات إلی الفرق بین الحرب والإرهاب .

معنی الإرهاب القمعی

والقسم الثانی هو الإرهاب القمعی : وهو الإرهاب الذی تمارسه الدول والأنظمة الحاکمة ضدّ رعایاها أو ضدّ المعارضین لها ، من أحزاب وأفراد ، والإرهاب فی هذا القسم ، یعنی : تجاوز القوانین الدولیة والعرفیة التی تنظّم علاقة الحاکم بالمحکوم ، کأن تعتقل مجموعة من الأبریاء وتعذّبهم من أجل إخافة المعارضین الحقیقیین الذین ربما لم ینکشفوا بعد ، وهی بهذا تختصر الطریق بتخویف المعارضین ، ولکن یدفع ثمن هذا الاختصار مجموعة من الضحایا الأبریاء ، وهذا أمر مُدان من التشریع الإسلامی والتقنین الدولی .

معنی الإرهاب الثوری

أمّا الإرهاب الثوری : وهو إرهاب مجموعة لدیها مطالب معیّنة تقوم بعملیات إرهابیة من أجل تحقیق هذه المطالب ، کما کانت المجموعات الیساریة تمارس هذه العملیات تحت شعار«أنّ الغایة تبرّر الوسیلة» فیتعرضون للأبریاء أو المؤسسات أو المصالح العامة أو الخاصّة

ارتباط ثورة الإمام الحسین علیه السلام بالشرع والمُثل والمبادیء والقیم فی کل مراحلها

ص:157

والإمام الحسین علیه السلام رغم أنّه قام بهذه الثورة المقدّسة العظیمة إلّاأنّها لم تنفک عن أخلاقه وقیمه ومبادئه العظیمة ، بل کانت ملتزمة بحذافیر التشریع الإسلامی ، والمُثل العُلیا للدین ، وهذا ما یتجلّی فی سلوکه وسلوک أصحاب وأهل بیته وسفرائه ، کمسلم بن عقیل الذی رفض أن یغدر بعبید اللّه بن زیاد ، مع أنّ هذا الأمر کان أمراً مهمّاً ، وربما یغیّر مجری التاریخ ، مع ذلک رفضه مسلم بن عقیل ؛ لأنّه یتنافی مع مبادئه ، وقد أثنی الإمام الحسین علیه السلام علی مسلم بن عقیل ، فمع حرصهم علی الهدف الذی یجاهدون من أجله ، وهو وصول المعصوم إلی الحکم الذی هو حقّه ، ومع سموّ هدفهم ، إلّاأنّهم ما تجاوزوا حدودهم أبداً هذا مع رعونة الطرف الآخر وعدم تقیّده لا بالدین ولا بقیم العرب ولا بالأعراف الإنسانیة ، مع ذلک کله إلّا أنّه لا یُدفع الفساد بالفساد ، وإنّما یدفع الفساد بالصلاح .

الحکم لیس إلّاوسیلة لإقامة العدل

قال الإمام علی علیه السلام :«... واللّه لَهی أحبّ إلیّ من إمرتکم إلّاأقیم حقاً أو أدفع باطلاً»(1) فالحکم فی منطق القرآن وأهل البیت علیهم السلام لیس إلّاوسیلة من وسائل الوصول إلی الحق ، أمّا إذا کان الحکم بنفسه غایة أو هدفاً نهائیاً فلا قیمة لهذا الحکم فی میزان القرآن وأهل البیت علیهم السلام .

أهل البیت علیهم السلام یرفضون قاعدة «ادفع الأفسد بالفاسد»

وعند مذهب أهل البیت علیهم السلام لا تصح القاعدة التی تقول:«ینبغی دفع الأفسد بالفاسد» ، وربما تبنّی هذا الرأی بعض المذاهب الإسلامیة ، ولکن مذهب أهل البیت علیهم السلام لا یوافق علیه ، لأنّ الأفسد قد فعله غیرک ، وهو مسؤول عنه ، وهذا لا

ص:158


1- (1) میزان الحکمة 2: 900 ، الحدیث 5855 .

یسقط عنک الحساب علی فعل الفساد ، ولا یبرّر لک أن تفعل الفاسد وإن کان من أجل دفع الأفسد .

إذا وصلت التقیّة إلی الدم فلا تقیّة

ونحن عندنا فی مذهب أهل البیت علیهم السلام أنّ التقیّة شرّعت من أجل حقن الدماء ، أمّا إذا وصلت التقیّة إلی الدم فلا تقیّة ، بمعنی أنّه لو قیل لک : اقتل زیداً وإن لم تقتله بأنّ ذلک الطاغی سیقتل عشرة ، فهنا التقیّة لا تجوز ، لأنّه لو قتل الطاغی العشرة فهو محاسب أمام اللّه ، أمّا أنت فستکون محاسب أمام اللّه إذا قتلت زیداً حتّی لو کان ذلک بحجّة بعنوان حفظ النفس ، لأنّها مرتبطة بقتل نفس أُخری ، نعم هناک بعض المسائل الشرعیة المنصوص علیها بنصوص خاصّة ، ومثالها : لو تترّس المشرکون ببعض المسلمین ، وکانت الضرورة تقتضی الهجوم علی المشرکین ، حینئذ یجوز الهجوم علیهم وحربهم حتّی لو کان أولئک المسلمون الذین تترّس بهم المشرکون من بین الضحایا .

العملیات الاستشهادیة لا تتدرج تحت عنوان ارتکاب المحرم

بعض علماء الأزهر یُدرج العملیات الاستشهادیة التی یقوم بها الفلسطینیّون أو اللبنانیّون ضدّ العدو الصهیونی تحت عنوان ارتکاب المحرم من أجل الوصول إلی النصر ، وهذا الرأی خاطیء وسیأتی الردّ علیهم ، ثمّ أنّ تحدید الأفسد والفاسد ، فیه قیل وقال حتّی بین الفقهاء أنفسهم

فصل الإمام الحسین علیه السلام عن القبائل الموالیة له

ولا تستبعد أنّ الإمام الحسین علیه السلام قد اجتمع علیه سبعون ألفاً ، لأنّ الغرض من هذا العدد لیس مقاتلة الحسین علیه السلام قتالاً میدانیاً ، وإنّما تطویق الإمام الحسین علیه السلام بحیث لا یستطیع الالتقاء بالقبائل المجاورة وکسبها إلی جانبه ، ولکی یعرقل هذا

ص:159

العدد الهائل قدوم القبائل التی کانت توالی الإمام الحسین علیه السلام ، ولکی یضمن الحکم الأموی عدم قیام ثورة أو انتفاضة من قبل شیعة الکوفة الموالین للإمام الحسین علیه السلام ، فلولم یکن هذا العدد الضخم موجود لأتت القبائل الموالیة للحسین علیه السلام بهدف نصرته ، وقتال جیش بنی أُمیة

معنی الإرهاب المالی

أمّا الإرهاب المالی فمن أمثلة : عصابات المافیا التی تتمتع بقدرات هائلة تهدد الدول والحکومات من أجل الحصول علی مکاسب مالیة ، ومن الإرهاب المالی :

ضغط أمریکا علی پاکستان من أجل إخضاع پاکستان للموافقة علی التواجد الأمریکی فی المنطقة ، کما صرّح بذلک الرئیس الپاکستانی الذی قال :«إنّ بلاده هُدّدت بضرب مفاعلها النووی فی حال معارضتها للوجود الأمریکی فی المنطقة» ، وقال:«إنّ احتفاظنا بالقنبلة النوویة مصدر عزّ لپاکستان والدول الإسلامیة» ، فصارت القنبلة النوویة محفوظة بدل أن تکون حافظة ، وصارت موجبة للذلّ بدل أن تکون موجبة للعزّ ، وهذا هو الإرهاب المالی الذی مارسته أمریکا بتهدیدها للپاکستان باعتبار أنّ الأعیان التی تقوِّم الجانب الاقتصادی أو الجانب العسکری وما شابهه تکون تحت سیاط التهدید بالنسف والتدمیر ، ومن ثمّ تخضع للجانب القوی .

أسباب صالح الإمام الحسن علیه السلام

وممّا یتصل ببحث الإرهاب أنّ الکثیر ممن کانوا فی رکب الإمام الحسن علیه السلام ، ومنهم بعض أصحابه المخلصین حلّلوا ظاهرة الصلح التی أقدم علیها ، أنّه علیه السلام إنّما أقدم علی الصلح ؛ لأنّه قد وقع تحت ضغط الإرهاب والتهدیدات الأمویة ، وکانت مکاتبات معاویة تستخدم لغة الإرهاب والتخویف بشکل مکثّف ، وقال المسیب بن نجبة الفزاری وسلیمان بن صرد الخزاعی للحسن بن علی علیه السلام :

ص:160

ما ینقض تعجبنا منک ، بایعت معاویة ومعک أربعون ألف مقاتل من الکوفة سوی أهل البصرة والحجاز!(1) . ظنّا منهم أنّ الإمام الحسن علیه السلام وقع تحت ضغط الإرهاب الأموی ، وهذا التحلیل خاطیء ؛ لأنّ الأرقام التاریخیّة تدلّل أنّ قبائل العراق التی کان أغلبها مهاجر من الجزیرة العربیة ، ومنها : ربیعة ومضر وکندة کانت تقع تحت الإغراء الذی یقدّمه معاویة لکی تقف هذه القبائل مع معاویة وتتخلّی عن الإمام الحسن علیه السلام ، یضاف إلی ذلک وجود خیانات لدی بعض قوّاد الإمام الحسن علیه السلام کعبید اللّه بن العباس وغیره .

الفرق بین جیش الإمام علی وجیش الإمام الحسن علیهما السلام

وهناک فرق بین جیش الإمام الحسن وجیش الإمام علی علیهما السلام فی نهایة أیامه ؛ لأنّ جیش الإمام علی علیه السلام کان معدّا لضرب معاویة ضربة نهائیة بعد شهر رمضان ، حیث کان جیشه هائلاً وقویّاً لولا أنّ اللّه تعالی اختار الإمام علی علیه السلام واستشهد ، أمّا جیش الإمام الحسن علیه السلام فهو جیش منخور تکثر فیه الخیانة والمیل لإغراءات معاویة ، بالإضافة إلی اختلاف موقع الإمام علی علیه السلام عن موقع الإمام الحسن علیه السلام فی عیون الناس .

الدولة تتکوّن من مجموعة من القوی

الآن فی الدراسات الأکادیمیة السیاسیة یقول الباحثون فی هذا العلم : أنّ أیّ دولة فی العالم تتکوّن من مجموعة من النظم والدویلات داخل هذه الدولة فمثلاً :

الولایات المتّحدة الأمریکیة تتکوّن من العدید من الولایات ، وکلها تجتمع فی دولة واحدة اسمها الولایات المتّحدة الأمریکیة ، وتسمی فیدرالیة ، والواقع أنّ کل الدول تتکوّن من مجموعة من الأنظمة تکوّن الدولة ؛ لأنّ الدولة تشتمل علی

ص:161


1- (1) مناقب آل أبی طالب 4 : 40 .

الأنظمة الأُسریة أو القبلیة أو الحزبیة أو المذهبیة وخصوصاً النظام المذهبی الذی له ضرائب خاصّة به ، وله تجمّعات وتکتّلات وآراء وأعراف اجتماعیة ومواقف معیّنة وثقافة خاصّة ، وکل هذه الأنظمة تساهم بشکل أو بآخر فی مجریات الأحداث فی تلک الدولة .

المرجعیة الشیعیة تعتبر شبه دولة

ولذلک فالسیاسیون الغربیون یعتبرون المرجعیة الشیعیة شبه دولة باعتبار أنّ لها نظامها المالی الخاص ، ولها توجیهات معیّنة ، وجماهیر تتبعها ، ونفوذ فی القرار السیاسی والاقتصادی والعسکری والأُمور الأُخری ، وهذا ینطبق علی المرجعیات السنیّة إذا کانت لها قواعد جماهیریة أیضاً ، وبعبارة أُخری : إنّ النظام السیاسی ما هو إلّاتوازن لمجموعة من القوی والأنظمة فی المجتمع .

نفوذ الأئمة وقواعدهم الجماهیریة

وما نرید أن نبیّنه فی ضوء هذا الکلام أنّ الأئمة علیهم السلام وإن لم یتسلّموا زمام الحکم إلّاأنّ لهم نفوذ واسع فی القواعد الجماهیریة فی العدید من الفترات التی عاشوها ، کما کان نفوذ واسع للإمام علی علیه السلام خلال الخمسة وعشرین سنة التی أعقبت وفاة النبی ، وقبل أن یستلّم الخلافة کان له شیعة وأنصار وأتباع ونفوذ ، وکان هؤلاء الأتباع والشیعة تحت نظام الإمام علی علیه السلام العقائدی والمالی والفکری والثقافی الخاص به .

وقد قال محمد بن إسماعیل لهارون الرشید :«ما ظننت أنّ فی الأرض خلیفتین حتی رأیت عمّی موسی بن جعفر یسلّم علیه بالخلافة ، فأرسل هارون إلیه بمائة ألف درهم..»(1) .

ص:162


1- (1) الکافی 1: 486 ، الحدیث 8 ، باب مولد أبی الحسن موسی بن جعفر .

وکلام صحیح ، کما یذهب إلی ذلک السیاسیون فی زماننا باعتبار أنّ وجود قواعد جماهیریة للإمام موسی الکاظم علیه السلام یشکّل شبه دولة لها قوّتها وتأثیرها ، وکان هذا النفوذ یشکّل هاجس وقلق فی الدولة الأمویة والدولة العباسیة اتجاه الإمام المعصوم الذی عاصرها .

من أهداف الإمام الحسن علیه السلام من الصلح الإبقاء علی نفوذه فی أتباعه

فالإمام الحسن کان یدرک أنّ له نفوذ معیّن فی شیعته ، وکان حریصاً علی المحافظة علیه ، والذی فعله فی صالح معاویة هو أمر شبیه بالکرّ والفرّ الذی تقرضه التوازنات السیاسیة ، وأنّه لو حارب معاویة لهزم وفقد هذا النفوذ .

أحادیث نبویّة فی فضل الإمام الحسن علیه السلام

ومع ما تمیّز به الإمام علی عن الإمام الحسن علیهما السلام من أنّ الإمام علی علیه السلام أوّل من أسلم بالإضافة لقتاله مع النبی ومنزلته وقربه منه إلّاأنّ الإمام الحسن علیه السلام له ممیّزات لم تکن علی علیه السلام ، لأنّه سبط النبی والسبطیّة لها مدلولاتها ومؤداها الخاص ، بمعنی الامتداد الشرعی لذلک النبی ، وهذا حدیث عقائدی لا أرید الخوض فیه .

قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله«ابنای هذان إمامان قاما أو قعدا»(1) ، وقال صلی الله علیه و آله :«الحسن والحسین سیّدا شباب أهل الجنّة»(2) ، وهذا الحدیث رواه الترمذی(3) وأحمد بن حنبل(4) والحاکم الذی قال :«قد صحّ من أوجه کثیرة ، وأنا أتعجب أنّهما - أیّ :

ص:163


1- (1) میزان الحکمة 1: 153 ، الحدیث 1117 .
2- (2) میزان الحکمة 1: 152 ، الحدیث 1108 .
3- (3) الجامع الکبیر 6 : 113 ، الحدیث 3768 ، باب مناقب أبی محمد الحسن بن علی بن أبی طالب والحسین بن علی .
4- (4) مسند الإمام أحمد بن حنبل 17: 31 ، الحدیث 10999 .

البخاری ومسلم - لم یخرجاه»(1) ، وقال الألبانی فی تصحیحاته الأخیرة :

«فالحدیث صحیح بلا ریب ، بل هو متواتر»(2) ، والألبانی من العلماء المعتمدین عند إخواننا أهل السنّة .

وقال صلی الله علیه و آله :«هما ریحانتای من الدنیا» رواه البخاری(3) ، وقال صلی الله علیه و آله :«اللّهمّ إنّی أُحبّهما فأحبّهما» رواه البخاری(4) ، وقال صلی الله علیه و آله :«ابنی هذا سیّد ، ولعل اللّه أنّ یصلح به بین فئتین من المسلمین» رواه البخاری(5) ، وقبل ذلک آیة المباهلة(6) التی خصّ بها أهل البیت علیهم السلام .

ظروف الإمام الحسن علیه السلام تختلف عن ظروف الإمام علی علیه السلام

وکان الإمام الحسن علیه السلام فی الکوفة یطعن فی شرعیّة معاویة ، وما کان الإمام الحسن علیه السلام لیفعل ذلک لولا نفوذه وقواعدة الجماهیریة ، وکان معاویة یحذر من الدخول فی تصعید سیاسی مع الإمام الحسن علیه السلام ، وما أتیح للإمام الحسن علیه السلام من فرصة فی الطعن فی شرعیّة معاویة لم یتح للإمام علی علیه السلام ، مع أنّه لم یکن یری شرعیّة الخلفاء بعد النی صلی الله علیه و آله إلّاأنّ المصلحة العامّة للمسلمین لم تسمح له بإعلان المعارضة لحکم من سبقه من الخلفاء ، فلم یکن المعارضة إلّافی فترات قصیرة

ص:164


1- (1) المستدرک علی الصحیحین 3: 376 ، الحدیث 4839 ، ومن مناقب الحسن والحسین ابنی بنت رسول اللّه صلی الله علیه و آله .
2- (2) سلسلة الأحادیث الصحیحة 2: 431 ، الحدیث 796 .
3- (3) صحیح البخاری 4: 86 ، الحدیث 5994 ، باب رحمة الولد وتقبیلة، کتاب الأدب .
4- (4) صحیح البخاری 2: 476 ، الحدیث 3747 ، باب مناقب الحسن والحسین رضی اللّه عنهما ، کتاب فضائل أصحاب النبی .
5- (5) صحیح البخاری 2: 476 ، الحدیث 3746 ، باب مناقب الحسن والحسین رضی اللّه عنهما ، کتاب فضائل النبی .
6- (6) آل عمران (3) : 61 .

ومحدودة حسب ما سنحت له الفرصة کاحتجاجه علیه السلام مع الزهراء بعد وفاة النبی صلی الله علیه و آله أمام الصحابة(1) ، إذن صالح الإمام الحسن علیه السلام کان فیه حفاظ علی نفوذه فی قواعده الجماهیریة من خلال الصلح الذی أقدم علیه حتی یحافظ علی التوازن بینه وبین معاویة .

ص:165


1- (1) الامامة والسیاسة 1: 28 .

المحاضرة التاسعة من یقف وراء مخططات الإرهاب ؟

اشارة

محاور المحاضرة :

أوّلاً : إرهاب الدولة

ثانیاً : الإرهاب والإیدلوجیة .

ثالثاً : الإرهاب الصهیونی .

رابعاً : اتهام الإسلام بالإرهاب .

خامساً : القوی الخفیّة وراء عملیات الإرهاب العالمیة .

سادساً : تسلیط الأضواء الإعلامیة من أجل تمریر مخططات شیطانیة .

سابعاً : دور الإعلام الخطیر والمشبوه .

ثامناً : إغفال عنصر الخفاء .

تاسعاً : ما هو المیزان والفیصل فی تحدید الإرهاب؟

عاشراً : القوی السامیة فی أعلی الإنسان .

إرهاب الدولة

التعریف الرابع للإرهاب هو: «إعمال العنف المسلّح لأهداف سیاسیة أو أیدلوجیة أو دینیة باستخدام قنوات العنف المسلّح للتهدید بها» ، وبحسب هذا التعریف المفروض أن یدخل عنف الدولة . والإرهاب قد قسّم إلی أقسام : إرهاب فردی وإرهاب جماعة أو تنظیم ، وحاول البعض أن یقصر التقسیم علی هذین

ص:166

القسمین إلّاأنّ العدید من المحافل والدول أصرّت علی وجود إرهاب الدولة ، ویتضمّن إرهاب دولة لدولة أُخری أو إرهابها لشعبها ، والمعسکر الغربی یصرّ علی حذف هذا النوع من الإرهاب ، والسبب واضح ، وهو أنّهم یمارسون هذا النوع من الإرهاب بشکل خفی ، ویرفضون أن یدرج إرهاب الدولة فی تعریف الإرهاب ؛ لکی لا یدانوا بالإرهاب ، ولکن حسب التعریف السابق یندرج إرهاب الدولة فی تعریف الإرهاب ؛ لأنّهم لم یقیّدوا ، ولم یستثنوا من هذا التعریف إرهاب الدولة .

الإرهاب والإیدلوجیة

التعریف الخامس للإرهاب هو : «أیدلوجیة وقناعات تبرّر العنف الفتّاک لردع المعارض السیاسی» ، هذا التعریف التحیّز فیه واضح من قبل واضع القانون ؛ لأنّه یصف عقیدة مّا بأنّها إرهاب ، کأن یعتقد قوم أنّ دولة أُخری أو قومیّة أُخری یجب أن تباد ، فهذا التعریف یعتبر نفس هذه العقیدة قنبلة ملغومة أو سلاح فتّاک قد ینطلق فی أیّ وقت لإبادة الطرف الآخر ، ومن ثمّ فإنّ هذه الأیدلوجیة التی تبرّر العنف تجاه الطرف الآخر یطلق علیها إرهاب ، فإذا کان المقصود من الأیدلوجیة فی هذا التعریف الدین ، فسنبیّن فی ما یأتی ، ما هی ضابطة الإرهاب ، وما هو میزان الإرهاب ؟

وهناک نقاش محتدم بین الدول حول تحدید الأُسس القانونیة لمفهوم الإرهاب ، وهناک الکثیر من المزایدات والمغالطات فی أروقة الأُمم المتّحدة أو فی الفضائیات أو غیرها من وسائل الإعلام التی تعمل علی إضفاء أجواء غائمة قاتمة حول مفهوم الإرهاب ، وعدم وضع النقاط علی الحروف فی ما هو غائم فی مفهوم الإرهاب .

ص:167

الإرهاب الصهیونی

ولو أردنا أن نحکم علی أیدلوجیة معیّنة بأنّها إرهاب ، لکانت الأیدلوجیة الیهودیة الصهیونیة هی أکثر الأیدلوجیات إرهاباً فی العالم ، وقد تمّ بیان هذا المطلب فی المؤتمر الذی عُقد مؤخّراً فی جنوب أفریقیا حول موضوع العنصریّة ، وهذا جلّی وواضح من خلال البروتوکولات الصهیونیة ، أو حتّی فی التوراة المحرّفة ، والتی تدعو الیهود إلی إشاعة الرذیلة والاضطراب والفوضی والاستعباد فی المجتمع البشری ، أی : ینبغی للناس أن یکونوا عبیداً للعنصر الیهودی باعتبارهم شعب اللّه المختار ، والذی یقرأ بروتوکولات الصهیونیة یستشف وجود نفسیّة معقّدة حاقدة تقف وراء هذه البروتوکولات ، وأنّها لیست مبنیّة علی أُسس عقلیّة ومنطقیّة صحیحة ، وهم یسعون بشتّی الطرق والوسائل لنشر التحلّل الخلقی ، وهم یقفون وراء التحلّل الأخلاقی فی أمریکا وأوروبا .

وقد سجّلت الإحصائیات أنّ أکثر دولة ینتشر فیها السطو المسلّح هی فرنسا ، وقد حاولت بعض الدراسات التعرّف علی الأسباب ، فکانت النتیجة هی تأثیر أفلام الجریمة الأمریکیة فی هذا المجال .

الهندوس والبوذیّون والثقافة المنحلّة

وحتّی الهندوس والبوذیین فی الهند والیابان أیضاً ضجّوا خوفاً من اختراق هذه الثقاقة المنحلّة إلی مجتمعهم ، وهذه الثقافة تقف وراءها أصابع صهیونیة وبصمات إسرائیلیة التی تهدف إلی ترویج الشذوذ الجنسی والإجرام وعبادة الشیطان واختراع الأدیان الزائفة وتدمیر الأدیان الأُخری غیر الدین الیهودی .

لماذا غضّ النظر عن الإرهاب الصهیونی

نحن نقول لمن وضع هذا التعریف : لماذا لا تحارب العقیدة الیهودیة التی تحمل

ص:168

هذه الأفکار الهدّامة؟! ومع هذا وقفت الدول الأروبیة لمساندة الکیان الصهیونی بکل وقاحة وصلافة وقلّة حیاء ، فلماذا یتنکّرون للمبادیء التی یعتقدونها ، والشعارات التی یرفعونها؟! بحیث انسحبوا من المؤتمر الذی یدین العنصریّة ، والذی اعتبر الکیان الصهیونی کیاناً عنصریاً .

إذن الأقویاء فی العالم یتلاعبون فی القوانین من أجل أن یستبّدوا بالضعفاء ، لا سیّما إذا کان هؤلاء الضعفاء لا یمتلکون وعیاً سیاسیاً وثقافة قانونیة .

اتهام الإسلام بالإرهاب

ولماذا تمتد أصابع الاتهام للإسلام بأنّه یؤیّد الإرهاب ، ولا تمتد هذه الأصابع للرأسمالیة ودول الاستکبار بأنّها مدمّرة لسلام وأمن العالم علی المستوی الاقتصادی والمالی والخُلقی ، وتهدّد هویّات الدول والقومیات المختلفة؟! فهم یکیلون بمکیالین بحیث یطبّقون مصداق التعریف علی الإسلام ، وینکرون انطباقه علی الصهیونیة والأنظمة الغربیة .

القوی الخفیّة وراء عملیات الإرهاب العالمیة

التعریف السادس للإرهاب هو: «العمل الإجرامی المصحوب بالرعب والفزع لغایة مّا» ، وهذا تعریف عام یشمل إرهاب الدولة .

الآن المافیا الأمنیّة ، وهم مجموعة من المرتزقة الدولیین أو أشرار العالم ، الذین لا یحملون هویّة ولا مبدأ ، نتساءل : من الذی یُؤسس هذه المافیا؟ فإن کانت غائبة عن الجهاز الأمنی فکیف تدّعی أجهزة الأمن الغربیة أنّها مسیطرة علی الوضع الأمنی العالمی ، وإذا کانت مطّلعة ومتمکّنة من اختراق هذه المجموعات فلماذا لا تخترقها؟

هناک مافیا اغتیالات ، ومافیا إجرام لزعزعة الأمن فی الدول الأُخری بواسطة

ص:169

مافیا إعلامیة تربک الوضع الأمنی عبر إذاعة أو فضائیة أو برنامج معیّن یضرب علی أوتار حسّاسة.

تسلیط الأضواء الإعلامیة من أجل تمریر مخططات شیطانیة

فمثلاً : هناک روابط بین ضرب العراق والاعتراف بإسرائیل ، ولذلک فهم یسلّطون الأضواء علی جانب معیّن من أجل أن یمرّروا مخططاتهم الشیطانیة فی جانب آخر ، والضجّة الإعلامیة هنا قد تخدم أغراضاً معیّنة هناک ، قال تعالی:

«وَ إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَی الرَّسُولِ وَ إِلی أُولِی الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِینَ یَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ »1 .

دور الإعلام الخطیر والمشبوه

الإعلام الآن مرتبط بالتاریخ وبعلم النفس والسیاسة والأمن والجانب المالی والجانب الاجتماعی ، ویعمل علی إجراء غسیل لأدمغة الشعوب وغیرها ، کأن یقوم الإعلام بعملیة تلقین لشعب مّا أنّه شعب متخلّف ، وعندما یقتنع بأنّه شعب متخلّف سوف یبحث عن التحضّر والتقدّم ، ولکن أین یجد هذا التحضّر؟ یجده عند الجهة التی کانت تستخدم الإعلام لإقناع هذا الشعب بأنّه متخلّف ، وتکون النتیجة تبعیّة هذا الشعب لتلک الجهة فیعیش حالة التقهقر والانکسار والتراجع وعدم الثقة فی النفس .

نشر أخبار کاذبة لخدمة جهات معیّنة

أو خبر واحد یقلّب الأسعار فی سوق النفط والأسهم وغیرها ، ولا یستند هذا الخبر إلی حقائق ، بل إلی إشاعات وأوهام ، والقرآن الکریم یقول :«وَ الْفِتْنَةُ

ص:170

أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ »1 ، فتکون الفتنة الإعلامیة أشدّ وقعاً من السلاح الحربی ، وذلک لأنّ البشر موجود ذو شعور وإدراک ، ویتأثّر بالفکر ، وعن طریق الفکر تستطیع أن تغیّر اتجاهات ، وتثیر حروب أو توقف حروب ، وأن تقلب الموازین هنا وهناک .

العالم الغربی یحتکر التطوّر ولا یکشف أسراره ، ولکن یصدّر الرذیلة والتلوّث البیئی والتلوّث الأخلاقی والتلوّث النفسی ، والبعض من المتأثّرین بالفکر الغربی یعیب علی الفقه الإسلامی بأنّه یحلّل ویحرّم ویتکلّم عن الطهارة والنجاسة وغیرها ، والآن تبیّن أنّ التشریع الإسلامی له دور کبیر فی حفظ المسلمین من الأمراض ، وأنّ أحکامه تحافظ علی البیئة وصحة المجتمع .

التعریف السابع للإرهاب هو : «العنف الشدید ضدّ الأبریاء والمسالمین» ، وهذا تعریف صحیح ، وقد تکلّمنا عنه آنفاً.

التعریف الثامن للإرهاب هو : «الاستعمال غیر المشروع للقوّة والعنف والعدوان علی الأرواح والأموال العامّة والخاصّة ، وأنّه منهد نزاع عنیف یقصد الفاعل بمقتضاه ، وبواسطته الرغبة الناجمة إلی تغلیب رأیه السیاسی ، وسیطرته علی الطرف الآخر من مجتمع أو دولة» .

هذا التعریف لا بأس به إلّاأنّه لا یبیّن مناط الشرعیة وعدم الشرعیة ، ومن هی الجهة التی تحدّد هذه الشرعیة؟ وعلی أیّ أُسس تحدّد هذه الممارسة أو تلک بأنّها شرعیة أو لیست شرعیة؟ وهل هی سلمیة ومنطقیة ودفاعیة أو أنّها إرهابیة وعدوانیة؟

فی الإرهاب الإعلامی تحاول الجهة القائمة علیه أن تمارس ضغوطاً معیّنة

ص:171

من أجل استمالة أطراف معیّنة ، وقد یحدث هذا فی الطائفة الواحدة من أجل تغییر بعض الموازین .

وهناک مؤاخذتان علی هذه التعاریف التی ذکرناها :

المؤاخذة الأولی : إغفال عنصر الخفاء.

أنّ هذه التعاریف أغفلت عنصر الخفاء ، مع أنّ العملیات الإرهابیة تقوم بها عناصر خفیّة وغیر معروفة ، ووراءها أصابع مشبوهة ، ولیست کالحرب التی یُعرف الطرفان المتنازعان فیها ، وإغفال عنصر الخفاء جاء متعمّداً حتّی لا تسلّط الأضواء علی القوی الکبری التی تعمل وتقف وراء العملیات الإرهابیة فی هذا البلد أو ذاک ، فمثلاً : الفتنة الطائفیة فی پاکستان من الواضح أنّ هناک أصابع استکباریة تعمل من تحت الستار ، علی إذکاء هذه الفتنة الطائفیة التی لا طائل منها سوی تشویه الدین الإسلامی ، وإظهاره بصورة وحشیّة ، بل هم یعملون علی زرع ، وتأسیس الفکر المتطرّف ، کتأسیس حکومة طالبان ، وإمدادها بالسلاح لتشویه الإسلام ، والتشویش علی التجربة المشرقة فی الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة فی تطبیق الإسلام ، وقد انقلب السحر علی الساحر ، وتضرّرت أمریکا فی نهایة الأمر من تأسیس حرکة طالبان وحلفائها .

ومن الأمثلة علی هذا الموضوع : إثارة النعرات القومیّة للبربر فی المغرب العربی ، فنلاحظ أنّ إذاعة ال «بی بی سی» تفتح ملفّات قدیمة عن البربر ، وعن تعلیم لغتهم ، والضرب علی أوتار حسّاسة حتّی لو جنوا الثمار بعد سنین متمادیة وهذا ما یحدث بالنسبة لنزاع الأقباط فی مصر مع المسلمین ، وفی کل بلد یشعلون فتنة مدمّرة ؛ لکی یضغطوا علی جهات معیّنة مستفیدین من تلک الفتنة التی حصلت

ص:172

هنا أو هناک ، وهذا هو إرهاب الدولة بعینه .

إذن إغفال عنصر الخفاء یمثّل ممالئة من قبل القانونیین إلی الدول التی تمارس الإرهاب .

المؤاخذة الثانیة : ما هو المیزان والفیصل فی تحدید الإرهاب ؟

من الواضح أنّه لابد من استخدام القوّة فی بعض الموارد ، وأنّ وجود القوّة الغضبیة لها حکمة إلهیّة ، وهی ردع العدوان الذی یحصل من الطرف الآخر ، ولذلک یثنی القرآن الکریم علی الإرهاب الذی یکون هدفه صدّ الاعتداء ، قال تعالی:«وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِباطِ الْخَیْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّهِ وَ عَدُوَّکُمْ وَ آخَرِینَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ »1 ، وکذلک مدح القرآن الکریم الرهبان ، قال تعالی:«لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النّاسِ عَداوَةً لِلَّذِینَ آمَنُوا الْیَهُودَ وَ الَّذِینَ أَشْرَکُوا وَ لَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِینَ آمَنُوا الَّذِینَ قالُوا إِنّا نَصاری ذلِکَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّیسِینَ وَ رُهْباناً وَ أَنَّهُمْ لا یَسْتَکْبِرُونَ »2 ، والراهب إنّما سمّی راهباً ؛ لأنّه یعیش الرهبة والخوف والخشیة من اللّه تعالی ، کما هو أحد وجوه التسمیة .

ومن المسلّم به أنّ هدف القانون الجنائی والجزائی أو تشریع فقه الحدود والقصاص هو ردع المتعدّی ، ومن ثم السیطرة علی شروره ، وقطع الطریق أمام أهدافه المدمّرة ، فهذا کله إرهاب محمود ، ویقبله العقل والشرع .

أمّا الإرهاب المذموم فهو إرهاب العدوان والاستغلال والاستئصال وتجاوز الحدود ، ولیس منه ما یفعله الآن مجاهدو فلسطین ولبنان الذین یرهبون العدوان الصهیونی ، ویوقفون عدوان العدو .

ص:173

الضابطة فی قبول الإرهاب

الضابطة فی قبول الإرهاب أو رفضه هو تجاوزه للحدود فإذا کان الإرهاب متجاوزاً للحدود وعدوانیاً کان إرهاباً غیر شرعی ومُداناً ، ویجب التصدی له ، أمّا إذا کان الإرهاب لردع العدوان فهو إرهاب إیجابی ، وردّ العدوان بالإرهاب الإعلامی أفضل من الحرب ؛ لأنّ الحرب تکون نتیجتها الضحایا والقتلی والخسائر المادیة والبشریة .

وإذا کان الإرهاب لنیل الحقوق بدون التعدّی علی حقوق الآخرین فهو إرهاب ممدوح ، أمّا إذا کان الإرهاب للتعدّی علی الحقوق فهو إرهاب سلبی ، والشهید محمد باقر الصدر قدس سره له کلام فی قبح الظلم وحسن العدل ، أی : کیف نعرّف الظلم؟ الظلم هو تجاوز حدود الآخرین ، والعدل هو أن تستوفی حقوقک من دون أن تتعدّی علی حقوق الآخرین .

الخلفیّة الحقوقیة والأخلاقیة والعقائدیة للقوانین

والحقّ یقنّنه المشرّع ، وهنا نرجع إلی البحوث الأولی فی سلسلة بحوثنا هذه التی بیّنا فیها أنّ القانون یستند إلی خلفیّة حقوقیة ، والحقوق تستند إلی خلفیّة أخلاقیة ، والأخلاق تستند إلی رؤیة کونیة عقائدیة .

فلا یمکن فرض الحقوق التی تستند إلی رؤیة أخلاقیة ترجع إلی رؤیة عقائدیة مادیة علی من یعتقد بالرؤیة الکونیة والعقائدیة الإلهیة ؛ لأنّ المؤمن باللّه یعتقد بأنّ اللّه هو خالق الکون ، وهو أعلم به من غیره ، قال تعالی:«أَ لا یَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اللَّطِیفُ الْخَبِیرُ»1 ، وهؤلاء المادیین لا یعترفون بالخالق ، وإنّما یجعلون الفرد هو المحور ، ویرکّزون علی حریّته التی تطلق العنان لغرائزه وشهواته ونزواته ، وهکذا

ص:174

شعار تحریر المرأة ، حیث تکون النتیجة أن تصبح المرأة سلعة تباع وتشتری ، وفی أحد خطاباته ، قال الرئیس الأمریکی:«سنحرّر العالم الإسلامی من البرقع ، وسنطلق الحقوق الجنسیة» ، ومن قال إنّ ما یسمّیه الحقوق الجنسیة هی حقوق؟! بل هی مجموعة من الرذائل والسقوط الأخلاقی .

القوی السامیة فی أعلی الإنسان

وهنا لفتة لطیفة ، وهی : أنّ اللّه قد جعل القوی السامیة فی الإنسان فی أعلاه ، وجعل القوی السافلة فی أسفله فجعل القوی العقلیّة والبصر والسمع والنطق فی أعلاه ، والقوی الشهویة فی أسفله ، وهؤلاء یریدون أن یقلبوا الموازین بحیث یجعلون أسفله أعلاه وأعلاه أسفله .

وحتّی لو قلنا أنّ الفرد هو المحور فلماذا لا نرکّز علی القوی السامیة فی هذا الفرد؟!

والواقع إنّهم یرکّزون علی القوی الشهویة والغضبیة لا القوی العقلیّة .

لا للعبودیّة للاستکبار

قال اللّه تعالی :«قُلْ یا أَهْلَ الْکِتابِ تَعالَوْا إِلی کَلِمَةٍ سَواءٍ بَیْنَنا وَ بَیْنَکُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَ لا نُشْرِکَ بِهِ شَیْئاً وَ لا یَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنّا مُسْلِمُونَ »1 ، أی : إنّنا نسلّم أنّ الکبریاء للّه، والعظمة للّه، والحاکمیة للّه، والتشریع للّه ، وأنّ الملک للّه، والخلق عبیده ، ولا یمکن تحقیق العدالة فی کل جوانبها الاقتصادیة والقانونیة والسیاسیة إلّاإذا جعلنا المحور هو اللّه تعالی ، وأمّا إذا أصبحت الربوبیّة والألوهیة والملک والعظمة للجانب البشری فهنا تقع الکارثة

ص:175

وتدبّ الفتن بین الناس ، وإذا ترکنا الأمر لتحدید الحدود بید البشر فإنّ کل جهة ستعمل علی تحقیق مصالحها ، کما هو حاصل الآن ، حیث یستخدم مصطلح الإرهاب لمحاربة جهات تجاهد من أجل تحریر أراضیها ، ولا یستخدم ضدّ المحتل العدوانی ، فهذا منطق تعسّفی .

ص:176

المحاضرة العاشرة الإمام الحسین علیه السلام اختار الشهادة ، ولم یرضخ للإرهاب

اشارة

محاور المحاضرة :

أوّلاً : من رضی بعمل قوم أشرک معهم .

ثانیاً : لابد من وضوح الموقف تجاه الحق والباطل .

ثالثاً : أسباب الإرهاب فی النصوص الدولیة .

رابعاً : معالجة أسباب الإرهاب .

خامساً : عدم الرضوخ للإرهاب .

سادساً : مقارنة بین موقف النبی صلی الله علیه و آله وموقف الإمام الحسین علیه السلام .

سابعاً : هل اختبرت نیّة أصحابک ؟

من رضی بعمل قوم أشرک معهم

نعزّی سید المرسلین صلی الله علیه و آله فی مصیبة ولده الإمام الحسین علیه السلام ، ونتبرّأ ممّن قتله وظلمه وانتهک حرمته.

وبعد فإنّ هناک حقیقة قرآنیة یخاطب بها اللّه الیهود الذین عاصروا النبی صلی الله علیه و آله ، ویحمّلهم ما اقترفه آباؤهم قبل عدّة قرون ، فنلاحظ ذلک فی سورة البقرة(1)، ومن ذلک قتل الأنبیاء وتحریف الکتاب وإعانة الظالمین ، وقد علّل المفسرون هذا الخطاب بأنّ الجیل الذی عاصر النبی صلی الله علیه و آله کان مقرّاً وراض . عمّا فعله أسلافه فی

ص:177


1- (1) البقرة (2) : 51 ، آل عمران (3) : 183 .

تلک القرون ، فلذلک فإنّ الغضب الإلهی الشدید للیهود الذین عاصروا النبی صلی الله علیه و آله وکأنهم هم أولئک الذین اقترفوا تلک الجرائم فی تلک العهود .

لابد من وضوح الموقف تجاه الحق والباطل

ونحن نتعلّم من هذا درس أن نقف مع الحق وأن نتبرّأ من الباطل ، ویجب أن نوالی الحق ونسانده ونحبّه ، ومن هذا المنطلق یجب علی الأُمة الإسلامیة أن نتبرّأ مما فعله بنو أمیة من جرائم وفظائع وظلم لأهل البیت علیهم السلام ، وأن توالی سید الشهداء علیه السلام ؛ لأنّ موقفها هذا هو بمثابة الحضور فی ساحة کربلاء لنصرة الحسین علیه السلام ، أمّا الراضون بقتله فهم بمثابة الذین حضروا کربلاء لکی یقتلون سید الشهداء علیه السلام .

فی النصوص الدولیة یذکرون عدّة أسباب للإرهاب وهی :

1 - عدم احترام حقوق الإنسان وحریاته الأساسیة .

2 - عدم احترام حقوق الطوائف والأقلیات .

3 - عدم الإقرار بحق الشعوب فی تقریر مصیرها .

4 - التمییز العنصری والطائفی .

5 - العدوان علی شعوب العالم الثالث .

6 - التدخّل فی الشؤون الداخلیة للدول المتحرّرة من قبل الدول العظمی .

7 - احتلال الأراضی .

معالجة أسباب الإرهاب

ولقد أحسنت إحدی الدول الإسلامیة عندما نصحت الدول الکبری بأنّ معالجة الإرهاب إنّما تتم بمعالجة أسبابه لا بالتصدّی لآثاره فإنّ هذا لن یحلّ المشکلة ، والحلّ یکمن فی إعطاء کل ذی حق حقه .

ص:178

عدم الرضوخ للإرهاب

ولقد أعطانا الإمام الحسین علیه السلام درساً فی الصمود فی میدان المطالبة بالحق مهما بلغ بطش الطغاة ، قال علیه السلام :«ألا وإنّ الدعی ابن الدعی قد رکّز بین اثنتین بین السلّة والذلّة ، وهیهات منّا الذلّة یأبی اللّه لنا ذلک ورسوله...»(1) ، والطاغی إنّما جعل له خیارین : إمّا الخضوع والذل والاستسلام ، وإمّا القتال والاستشهاد فاختار الإمام علیه السلام لغة القوّة وان لم یبتدء بها ، ولکنّه رفض الخضوع أمام القوّة والتهدید ، وهذا هو الدرس المستفاد من عاشوراء ، وهو عدم الاستسلام لبغی وبطش الدول الکبری علی حساب المبادیء والقیم والالتزام بالخط الإلهی العظیم .

وحینئذٍ تکون مجابهة القوّة بالقوّة مجابهة مشروعة ، وکان الإمام الحسین علیه السلام له حدود لا یخرج عنها ، وله موازین لا یتعدّاها ، وهی الموازین الشرعیة الإسلامیة .

مقارنة بین موقف النبی صلی الله علیه و آله وموقف الإمام الحسین علیه السلام

هل کان أصحاب الحسین علیه السلام فی لیلة عاشوراء مستعدّین لتلک المواجهة الصعبة؟ ولماذا استمرّوا فی نصرة سید الشهداء ، مع أنّ الحسین علیه السلام قد برّأ ذمّتهم ، وجوّز لهم الانصراف؟ وحینها سیکون وحده یواجه هذا الجیش الجرّار ، وقد أمر اللّه النبی أن یجاهد الکفار حتّی لو وصل به الأمر أن یبقی لوحده فی المیدان ، قال تعالی:«فَقاتِلْ فِی سَبِیلِ اللّهِ لا تُکَلَّفُ إِلاّ نَفْسَکَ »2 ، فالحسین مستعدّ للقتال حتّی لو کان ویحداً ، وهذا یدلّل علی أنّ موقف الحسین علیه السلام فی قتال بنی أمیة یضاهی ویماثل موقف النبی صلی الله علیه و آله فی قتال الکفار ، وهذا لم یکن للإمام علی علیه السلام ؛ لأنّ وظیفة

ص:179


1- (1) الملهوف علی قتلی الطفوف : 156 ، المسلک الثانی فی وصف حال القتال ، خطبة الامام الحسین علیه السلام أمام معسکر ابن سعد .

الإمام علی علیه السلام ، وکذلک الإمام الحسن علیه السلام أن یستنصر المسلمین فی قتال أعدائه فإن نصروه جاهدهم وإن لم یفعلوا فلا یبقی لوحده فی المیدان ویسقط عنه التکلیف ، أمّا الإمام الحسین علیه السلام فوظیفته الشرعیة أن یبقی ولو کان وحده ، کما أمر اللّه نبیّه صلی الله علیه و آله فی الآیة الآنفة الذکر .

هل اختبرت نیّة أصحابک ؟

وهکذا ثبت الإمام الحسین علیه السلام ، وثبت معه أهل بیته وأصحابه ، وکان الإمام علیه السلام قد ورث الشجاعة من جدّه صلی الله علیه و آله الذی کان الإمام علی علیه السلام یقول عنه :«لقد رأیتنا یوم بدر ونحن نلوذ برسول اللّه صلی الله علیه و آله ..»(1) وقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله :«أمّا الحسن فإنّ له هیبتی وسؤددی ، وأمّا الحسین فإنّ له شجاعتی وجودی»(2) . والملفت فی سیرة سید الشهداء علیه السلام أن غربل وصفّی واختبر أصحابه منذ خروجه من مکة المکرمة ، وهذا ما کان یثیر قلقاً عند الحوراء زینب علیها السلام حین قالت له فی کربلاء :«أخی ، هل استعملت من أصحابک نیاتهم فإنّی أخشی أن یسلّموک عند الوثبة واصطکاک الألسنة!»(3) ، ولکن الحسین علیه السلام کان مطمئناً من وقوف هؤلاء الأبطال فی هذا الزلزال الرهیب وقوف الجبال الرواسی ، وکانت المهمة صعبة ، وکربلاء لا ترضی أن یکون أبطالها إلّاعمالقة فی الإنسانیة ، وقمم فی الفضیلة .

ولذلک لا تجد باحثاً أخلاقیاً ، ولا باحثاً قانونیاً یستطیع أن یسجّل مخالفة أخلاقیة أو قانونیة ارتکبها أصحاب الإمام الحسین علیه السلام رغم صعوبة الظروف وشدّة الموقف .

ص:180


1- (1) میزان الحکمة 5: 224 ، الحدیث 14886 .
2- (2) میزان الحکمة 1: 153 ، الحدیث 1114 .
3- (3) موسوعة کلمات الامام الحسین : 493 ، علاج سیفه وکلامه مع اخته .

ص:181

ص:182

ص:183

ص:184

ص:185

ص:186

ص:187

ص:188

3- عاشوراء ومفهوم العولمة

اشارة

ص:189

ص:190

المقدّمة

بسم الله الحمن الرحیم

وصلّی اللّه علی أشرف الأنبیاء والمرسلین محمّد وآله الطیّبین الطاهرین .

أمّا بعد ،

فهذه عدّة محاضرات ألقاها سماحة العلّامة الشیخ محمّد السند فی مأتم السّماکین فی المنامة عام 1425ه فی موسم عاشوراء ، وکانت بعنوان عاشوراء ومفهوم العولمة ، وقد کتبت هذه المحاضرات بعد أن سمعتها من قرص مدمج ، ولخّصت کل محاضرة علی حدة ، ووضعت محاورها فی عدّة نقاط ؛ لکی یتسنّی للقاریء معرفة المضامین التی تحتوی علیها المحاضرة .

وفی هذه المحاضرات شرح سماحته معنی العولمة ، وذکر تحقق هذا المعنی فی الأُمم السابقة ، ووجود محاولات فی هذا المجال فی التاریخ البشری ، ثم قارن بین العولمة بالمفهوم الإسلامی ، والعولمة بالمفهوم غیر الإسلامی ، وبیان الثغور الواقعة فیه ، کما أنّه وضّح أنّ العولمة ینبغی أن تُبنی علی العامل الثقافی بالدرجة الأُولی ، وقد استشهد فی محاضراته بنصوص من القرآن الکریم ومن سیرة النبی صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام ، لا سیّما الإمام علی علیه السلام والإمام الحسین علیه السلام ، وقد تطرّق أیضاً إلی موضوع الأُمم المتّحدة ، وتقییم نموذجها من خلال مفهوم العولمة .

ص:191

ثم طرح بعض الملاحظات علی أفکار العاملین فی مسیرة التقریب بین المذاهب الإسلامیة ، وما ینبغی أن یکون علیه الحوار بین هذه الطائفة وتلک ، ونوّه إلی بعض جوانب النقص والخلل فی هذه المسیرة ، کما أنّه أثنی علی القائمین علیها علی جهودهم لتوحید الصفّ الإسلامی .

أتمنّی للقاریء العزیز أن یستفید من هذه المحاضرات المکتوبة ، وأن یضیف إلی سلّة معلوماته باقة جمیلة من العلم المفید ، ولا یفوتنی أن أشکر سماحة الشیخ علی تکلیفه لی بهذه المهمّة النبیلة ، وأسأل اللّه له ولنا التوفیق وصحبة محمّد وآله یوم لا ینفع مال ولا بنون إلّامن أتی اللّه بقلب سلیم .

سید هاشم سید حسن الموسوی

21 جمادی الأولی 1425ه

9 / 7 / 2004م

ص:192

عناوین المحاضرات

اشارة

المحاضرة الأُولی: الموقف من أحداث التاریخ وشخصیّاته .

المحاضرة الثانیة : إشکالات حول الشعائر الحسینیة .

المحاضرة الثالثة : الحسین والخطاب العولمی ، والعولمة فی العصور السابقة .

المحاضرة الرابعة : الوحدة الثقافیة أوّلاً .

المحاضرة الخامسة : الإسلام یعترف بالشعوب والقبائل ، ولکن لا یجعلها أساساً للمفاضلة .

المحاضرة السادسة : نتائج اهتمام المجتمع بقیمه ، ونتائج إهمالها .

المحاضرة السابعة : الحوار الحقیقی یوازن بین نقاط الاختلاف ونقاط الاتفاق .

المحاضرة الثامنة : الحفاظ علی الوحدة الإسلامیة مع وجود الخلاف فی الأصول والفروع .

المحاضرة التاسعة : الحسین علیه السلام وتهمة شقّ عصا المسلمین .

ص:193

ص:194

المحاضرة الأُولی :الموقف من أحداث التاریخ وشخصیّاته

اشارة

محاور المحاضرة :

أوّلاً: القرآن الکریم یحاکم الشخصیّات التاریخیة ، وکذلک السنّة المطهّرة والفطرة الإنسانیة والعقل البشری .

ثانیاً: سنّة الرثاء فی القرآن الکریم .

ثالثاً: موقف القرآن الکریم من البدریین الذین کانوا مع النبی محمّد صلی الله علیه و آله .

رابعاً: اللعن مفهوم قرآنی یراد منه البراءة من الظالم ومساندة المظلوم .

خامساً: اتخاذ الموقف من أحداث التاریخ وشخصیّاته بناءً علی مفهوم انکار المنکر .

سادساً: انکار المنکر التاریخی فی القرآن الکریم .

سابعاً: ولعن اللّه أمّة رضیت بذلک .

ثامناً: البراءة علی صعید العلاقات الدولیة .

القرآن الکریم یحاکم الشخصیّات التاریخیة ، وکذلک السنّة المطهّرة والفطرة الإنسانیة والعقل البشری

من الاُمور التی تثیر الآخرین ، ویکثرون التساؤل عنها ، هی أنّ أتباع أهل البیت علیهم السلام یصرّون علی التنقیب فی التاریخ وعلی القضاء التاریخی ، أی: یتّخذون

ص:195

مواقف قضائیة تجاه الأحداث التاریخیة ، وهم یعترضون علی الشیعة بحجّة أنّ ذلک یوجب الشحناء والبغضاء فی صفوف الاُمّة الإسلامیة ، وإثارة النعرات الطائفیة فی وقت نحن أحوج ما نکون فیه إلی تألیف القلوب وتوحید الصفوف أمام التحدّیات الراهنة.

ونحن سنجیب علی هذا الإشکال ، وذلک من خلال الآیات القرآنیة الشریفة والسنّة المطهّرة والأدلة المتّفق علیها بین الفریقین والدلیل العقلی والقانون البشری ، کل هذه الأُمور تحثّ الإنسان علی نبش التاریخ والتنقیب عنه واتخاذ مواقف ممّا حدث فی التاریخ .

سنّة الرثاء فی القرآن الکریم

وقد تکلّمت فی العالم الماضی عن سنّة قرآنیة عظیمة، ولم أقف علی من ذکر هذه السنّة القرآنیة - فی حدود استقصائی - ولم أقف علی من آثار هذه الدلالة القرآنیة من علمائنا - فضلاً عن علماء المذاهب الاُخری - ألا وهی استعراض القرآن الکریم للظلامات التاریخیة ابتداءً من قصّة هابیل وقابیل(1) ومروراً بأصحاب الأُخدود(2) وقتل الأنبیاء(3) ومظلومیة النبی یوسف(4) وأصحاب الکهف الذین وحّدوا اللّه بفطرتهم(5) ، ولم یکونوا ینتسبون إلی دین من الأدیان ، «کما هو أحد الآراء التفسیریة» ، وللأسف لم أسمع أحداً من الأُدباء من أتباع الإمامیة من طرق هذا الباب، وهذا السبق سبق أدبی وسبق قرآنی وسبق تربوی وسبق

ص:196


1- (1) المائدة (5) : 27 - 31 .
2- (2) البروج (85): 4 - 8 .
3- (3) البقرة (2): 61 .
4- (4) یوسف (12): 4 - 33 .
5- (5) الکهف (18): 9 - 26 .

اجتماعی وسبق اعتقادی ، وهو وجود أدب الرثاء والندبة والعزاء فی القرآن الکریم، وللأسف لم یثر مفسّروا الإمامیة هذا الباب، وهو باب أدب الرثاء، مع أنّ القرآن الکریم یحمل الأُسلوب الرثائی بطریقة عاطفیّة جیّاشة، وهذا الباب - أدب الرثاء - یقف إلی جانب أدب الحکم والمواعظ والأمثال والوعید والبشارة .

والرثاء فی القرآن الکریم بأُسلوب عاطفی جیّاش یهدف إلی إیصال المستمع للقرآن إلی التضامن مع المظلوم، والتندید بالظلم والظالمین، ولو حلّلنا سورة البروج فی موضوع أصحاب الأُخدود، وحلّلنا قصّة هابیل وقابیل لرأینا أنّها فی منتهی الإثارة العاطفیّة للقاریء ، وهذا لیس أدب رثاء فقط ، ولکن کل ختمة نختمها من القرآن الکریم تتطوی علی العدید من المراثی والندب ، وهذا مطلب قرآنی یهدف إلی فتح الملفّات التاریخیة ، ومن الملفّات التی فتحها القرآن الکریم الملفّات التاریخیة المتعلّقة بالنبی وأصحابه ، فنری أنّ القرآن الکریم یفتح هذه الملفّات ویصنّف المحیطین بالنبی ، ویصفهم بأوصاف إیجابیة وسلبیة بدرجات مختلفة ، فیصف بعضهم بالمنافقین والمرجفین فی المدینة(1) والمعوّقین والمبطئین والمتخلّفین(2) ، کما أنّ هناک أوصافاً إیجابیة تصفهم بأنّهم أشدّاء علی الکفّار رحماء بینهم تراهم رکَّعاً سجَّداً یبتغون فضلاً من ربّهم(3)

موقف القرآن الکریم من البدریین الذین کانوا مع النبی محمّد صلی الله علیه و آله

فی هذا العام زرت مکان معرکة بدر الکبری ، والتی تبعد 150 کم عن المدینة المنورة ببرکات النبی محمّد صلی الله علیه و آله وأئمة البقیع علیهم السلام والبضعة الطاهرة علیها السلام ، وهناک

ص:197


1- (1) التوبة (9): 73 - 87 .
2- (2) الأحزاب (33): 18 ، الفتح (48): 11 .
3- (3) الفتح (48): 29 .

رأینا أحد المشایخ ، وقال لی : هل جئتم هنا إلی زیارة القبور؟ فقلت له : لا ، وإنّما أتیت هنا لأری مسرح المعرکة التی انتصر فیها المسلمون ، وکان لعلی علیه السلام دور أساسی ومحوری فی هذا النصر ، وهناک فتحنا القرآن ، وحاولنا معرفة مکان العدوة الدنیا والعدوة القصوی ومکان الرکب الموصوف فی الآیة ب«أَسْفَلَ مِنْکُمْ » (1) ، حیث کان الإمام الصادق علیه السلام یوصی ابن أبی یعفور ، ویقول: لا یفوتنّک مشهد من مشاهد النبی إلّاواشهده(2) ، ولعلّ فی بعض الروایات وصلّ فیه رکعتین(3) .

وهناک ، ونحن ننظر إلی ساحة المعرکة ففتحنا القرآن ، وقرأنا فی سورة الأنفال، وقرأنا هذه الآیة أمام ذلک الشیخ الذی أنکر علینا زیارة القبور ،«إِذْ یَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِینَ فِی قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِینُهُمْ وَ مَنْ یَتَوَکَّلْ عَلَی اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ عَزِیزٌ حَکِیمٌ »4 .

واستنتجنا من الآیة الکریمة أنّه کانت فئتان یذمّهما القرآن من بین البدریین أنفسهم - فضلاً عن جمیع الصحابة - وهاتان الفئتان هما : المنافقون والذین فی قلوبهم مرض، وعندما واجهنا ذلک الشیخ بهذه الآیة قال: إنّ بدر لم تکن مدینة مسکونة .

فقلت له: إنّ القرآن لا یتکلّم عن سکّان بدر ، وإنّما یتکلّم عن بعض الصحابة الذین کانوا مع النبی یحاربون ولکنّهم کانوا منافقین .

وعندها قال الشیخ : إنّی مرتبط بعمل وأرید الانصراف .

ص:198


1- (1) الأحزاب (33): 10 .
2- (2) کامل الزیارات: 66 ، الحدیث 52 .
3- (3) جامع أحادیث الشیعة 15: 70 ، الحدیث 20598 .

قلنا له: انصرف .

یقول السید الطباطبائی فی المیزان فی ذیل هذه الآیة: «أی: یقول المنافقون ، وهم الذین أظهروا الإیمان وأبطنوا الکفر ، والذین فی قلوبهم مرض ، وهم الضعفاء فی الإیمان ممّن لا یخلو نفسه من الشکّ والارتیاب . یقولون - مشیرین إلی المؤمنین إشارة تحقیر واستدلال - غرَّ هؤلاء دینهم إذ لولا غرور دینهم لم یقدموا علی هذه المهلکة الظاهرة ، وهم شرذمة أذلّاء لا عدّة لهم ولا عُدّة ، وقریش علی ما بهم من العدّة والقوّة والشوکة»(1) .

القرآن الکریم یندّد ببعض البدریین ، کما هو صریح الآیة المذکورة ، و«... مع ذلک نری بعض المسلمین یعتقدون أنّ کل أهل بدر مغفور لهم حتی لو ارتکبوا ما ارتکبوا ، ولعلّ اللّه عزّ وجلّ إطلع علی أهل بدر ، فقال: إعملوا ما شئتم فقد غفرت لکم...»(2) ، والسید الطباطبائی یردّ علی هذه الروایة(3) ؛ لأنّها تخالف صریح القرآن الذی ندّد ببعض البدریین .

اللعن مفهوم قرآنی یراد منه البراءة من الظالم ومساندة المظلوم

ونحن نرکّز علی القرآن فضلاً عن کتب التاریخ والسیر والمراجع التی یعتمد علیها الفریقان ، القرآن یعلّمنا نبش التاریخ ومحاکمة الشخصیات التاریخیة واتخاذ المواقف منها، ونحن هنا نعلن شرعیة اللعن المتمثّل بالبراءة من الظالم والوقوف مع المظلوم ، واللعن لیس مفهوماً شیعیاً عصبیاً خرافیاً أُسطوریاً ناشئاً من العُقَد النفسیّة ، وإنّما هو مفهوم قرآنی إسلامی أصیل ، وحتی فی العرف القانونی

ص:199


1- (1) المیزان 9: 99 .
2- (2) صحیح البخاری 3: 300، الحدیث 4890، کتاب التفسیر 65، سورة الممتحنة 60، باب«لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّی وَ عَدُوَّکُمْ أَوْلِیاءَ» .
3- (3) المیزان 19: 236 .

الحدیث فیها اللعن بتسمیات أُخری ، وهی الاستنکار والشجب والإدانة ، وفی مقابلها التضامن والمساندة والتأیید والدعم ، وهذا هو التبرّی والتولّی ، ولکن بمصطلحات حدیثة لیس إلّا.

القرآن لا یدعو إلی نصرة المظلومین والمصلحین الشرفاء فحسب ، وإنّما یدعو إلی شجب وإدانة واستنکار ولعن الظالمین الذین لوّثوا التاریخ البشری ، وتعدّوا علی حق البشریة حتی لو صاروا رفاتاً وتراباً ، والاستنکار من صمیم الوجدان البشری ، ومن فطرة الإنسان .

والبعض حتی من المثقفین یستوحشون من اللعن ، والمشکلة لا تکمن فی حروف اللعن «ل ع ن» ، وإنّما فی مضمون اللعن ، واتخاذ الموقف المضاد للظالمین ، ولهذا فاللعن الوارد فی زیارة عاشوراء ینطلق من هذا المنطلق ، وهذا هو منطق القرآن الکریم .

اتخاذ الموقف من أحداث التاریخ وشخصیّاته بناءً علی مفهوم انکار المنکر

وأضیف لما ذکرته فی العام الماضی - وهو أنّ القرآن کتاب رثاء وندبة - أنّ القرآن الکریم یدعو إلی اتخاذ الموقف ، ومحاکمة الأحداث التاریخیة وشخصیّاته ، ومن الضروریات الفقهیة المتسالم علیها بین الفریقین هی إنکار المنکر ، ویشمل مفهوم إنکار المنکر إنکار المنکر التاریخی ، والذی مرّ علیه زمان طویل ، ومن المعروف أنّ مراتب إنکار المنکر هی الإنکار بالقلب ثمّ باللسان ثمّ بالید ، وحیث إنّنا لا نتمکن من إنکار المنکر التاریخی بالید واللسان إلّاأنّنا نستطیع إنکاره بالقلب ، وأحداث التاریخ لها موضوع قائم فیجب إنکاره إنکاراً قلبیّاً ، نحن نقول: یجب ، ولا نقول : یجوز ؛ لأنّ اتخاذ الموقف من المنکر التاریخی ممکن بالقلب .

ص:200

انکار المنکر التاریخی فی القرآن الکریم

وهذا الکلام له شاهد من القرآن الکریم ، فالقرآن الکریم یعاتب ویؤنّب ویندّد بالیهود المعاصرین للنبی محمّد صلی الله علیه و آله بما فعل أجدادهم قبل قرون عدیدة ؛ لأنّهم متعاطفون مع أجدادهم ، والقرآن الکریم لا یخاطبهم مخاطبة المتعاطف مع الظالم ، وإنّما یخاطبهم مخاطبة الظالم والمرتکب للجریمة ، وله شواهد عدیدة ، منها قوله تعالی:«اَلَّذِینَ قالُوا إِنَّ اللّهَ عَهِدَ إِلَیْنا أَلاّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتّی یَأْتِیَنا بِقُرْبانٍ تَأْکُلُهُ النّارُ قُلْ قَدْ جاءَکُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِی بِالْبَیِّناتِ وَ بِالَّذِی قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ کُنْتُمْ صادِقِینَ »1 ، مع أنّ الیهود المعاصرین للنبی صلی الله علیه و آله لم یقتلوا رسل اللّه ، ولکن اللّه خاطبهم بهذا الخطاب ؛ لأنّ هؤلاء رضوا بفعلهم ولم ینکروا علیهم .

وکذلک قوله تعالی:«وَ إِذْ واعَدْنا مُوسی أَرْبَعِینَ لَیْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَنْتُمْ ظالِمُونَ »2 ، مع أنّ الیهود المعاصرین للنبی لیسوا هم الذین عبدوا العجل .

ولعن اللّه امّة رضیت بذلک

ومن هذا المنطلق یحارب الإمام المهدی (عجل اللّه فرجه الشریف) أتباع بنی أُمیة باعتبار أنّهم رضوا بقتل الحسین علیه السلام ، وهذا ما فعله القرآن الکریم مع بنی إسرائیل المعاصرین للنبی صلی الله علیه و آله ، وحملهم مسؤولیة ما فعله أسلافهم .

وهناک حدیث یقول : «بحشر المرء مع من أحب»(1) ، أمثال قابیل وقارون وفرعون؟!

وهناک دلیل عقلی فطری یحسّن الحسن ویقبّح القبیح، فکیف نحارب فطرتنا ونطمسها؟!

ص:201


1- (3) بحار الأنوار 69: 81 ، کتاب الایمان والکفر، باب أنّ العمل جزء الایمان .
البراءة علی صعید العلاقات الدولیة

أمّا علی صعید العلاقات الدولیة ، ففی مطلع هذا العام المیلادی زار الرئیس الیابانی قبور الجنرالات الیابانیین الذین شارکوا فی الحرب العالمیة فثارت ثائرة الصین وکوریا الجنوبیة ، فلِمَ ثارت ثائرتهم ونبشوا التاریخ؟ ولِمَ ینبش الرئیس الیابانی هذا التاریخ ؟

الصین تقول: أنّ هؤلاء الجنرالات قد قاموا بجرائم فی حق الإنسانیة ، ویجب اتخاذ موقف سلبی منهم والبراءة منهم ، ومن غیر المناسب زیارة قبورهم ، بل طالب الصینیّون والکوریّون من الرئیس الیابانی الاعتذار من هذا الفعل الذی یعدّ مساندة للمجرمین فی حق الإنسانیة ، وأنّ هذا الفعل یربّی الشعب الیابانی علی الإجرام ، ویرسّخ التجاوزات التی یقوم بها المجرمون فی الأجیال القادمة .

إذن التاریخ یؤثّر فی النفوس ، وهو مجموعة من العلوم التی یمکن تطبیقها فی الواقع ، والتاریخ أبلغ تأثیراً فی صیاغة أفکار وعواطف المجتمع البشری من غیره .

وعندما یتساوی عند الإنسان الظلم والعدل ، ولم یتخذ المواقف المناسبة منهما فإنّه یصبح ظالماً بصورة تلقائیة ، ولذلک یُرفض النازیّون والفاشیّون ، وتُرفض الإشادة بهتلر وموسیلینی ؛ لأنّ التضامن مع مثل هذه النماذج السیئة یسبّب أزمة فی المجتمع البشری ، ولهذا یرکّز القرآن علی الأحداث والسنن التاریخیة والاستفادة منها .

التاریخ وعلم السیرة وتراجم الشخصیّات لیس تاریخاً قد مضی ، وإنّما هی عقیدة وعبرة وعظة وقراءة دینیة ، وعدم الاعتبار من التاریخ یسبّب تکرار الخطأ الذی قام به الأوّلون .

ص:202

إذن الإنسان الحضاری هوالذی یتمسک بالتاریخ ویستفید منه فی جوّ هادیء ، وفی جوّ الحوار العلمی الموضوعی ، وتکرار الأخطاء قد یُعطی إنطباعاً أنّها لیست أخطاء ؛ لأنَّ الناس یتفاعلون معها بشکل طبیعی ویعتادون علیها ولا ینظرون إلی الجانب السلبی منها .

ص:203

ص:204

المحاضرة الثانیة إشکالات حول الشعائر الحسینیة

اشارة

محاور المحاضرة:

أوّلاً: إشکالات حول إحیاء الشعائر الحسینیة .

ثانیاً: هذه الإشکالات لا تختص بالشعائر الحسینیة .

ثالثاً: لا یمکن فرض ثقافة علی الثقافات الأُخری وإلغاء خصوصیاتها .

رابعاً: خطورة طرح العولمة .

خامساً: من التقلید ما هو إیجابی ، ومنه ما هو سلبی .

سادساً : هل البکاء والحزن ظاهرة سلبیة وهدّامة؟

إشکالات حول إحیاء الشعائر الحسینیة

الإشکال الأوّل:

إذا کانت الشعائر الحسینیة عادات وتقالید ، وتمثّل موروثاً بشریّاً ، فمن المعروف أنّ العادات والتقالید قد تتغیّر أو تُلغی بحسب ما یملیه التطوّر البشری ؛ لأنّ العادات والتقالید تتأثّر بالبیئة وبالحضارات الأُخری.

والذین یطرحون هذه الإشکالات یطرحون بعض الشعائر الحسینیة ، ویربطونها ببعض الطقوس التی کانت تمارسها الأُمم الأُخری والحضارات الدینیة والحضارات التی لا ترتبط بدین معیّن .

ص:205

الإشکال الثانی :

البعض یری أنّ الشعائر الحسینیة تعتبر مجموعات أُسطوریة ترسمها وتشکّلها وتنتجها وتخلقها المخیّلة الإنسانیة المثالیّة أو النزعة فی الإنسان التی تنزع لحب البطل المثالی أو الشخصیّة النموذجیة المثالیّة التی تجذب الجمهور إلیها .

وهم عندما یطرحون هذا الإشکال لا یطرحونه باعتباره أمراً سلبیاً محضاً ، وإنّما یطرحونه باعتباره یحمل بعض الإیجابیات التی یتربّی من خلالها الجمهور الذی یستفید من سلوکیات هذه الشخصیة المثالیّة الأُسطوریة ، ویتعلّم منها النبل والشجاعة والإیثار...

الإشکال الثالث :

ومن الإشکالات التی تطرحها مدارس علم النفس الحدیث ، هی ظاهرة الحزن والبکاء واللطم ، وبقیة المظاهر فی الشعائر الحسینیة ، حیث تقول: أنّ هذه الشعائر ظاهرة سلبیة علی المستوی الفکری والنفسی والاجتماعی ؛ لأنّها تکبت المجتمع وتسبّب العُقَد النفسیّة وتشلّ حیویة ونشاط النفس وتقتل روح الأمل وتشیع حالة الیأس والقنوط والإحباط فی المجتمع ، ولها آثار سلبیة علی مستوی الروح العقل .

الإشکال الرابع :

نحن لدینا رسالة نشر الإسلام ، ونشر مذهب أهل البیت علیهم السلام ، ومعارف الإسلام وأهل البیت علیهم السلام ، فإذا کانت هذه اللغة لغة غیر موصلة لمعارف أهل البیت علیهم السلام ، بل هی لغة مشوّهة وغیر مقبولة ، ولا یمکن أن یتفاعل معها الآخرون ، بل إنّهم ینفرون منها ویستوحشون ، فینبغی البحث عن وسائل ناجحة لنشر الإسلام ومعارف أهل البیت علیهم السلام ، وإجراء إصلاحات فی الخطاب الدینی وخطاب مدرسة أهل البیت علیهم السلام .

ص:206

الإشکال الخامس :

هذه الطقوس تعتبر نوع من العقوبة التی یوقعها الإنسان علی نفسه - علی نحو التکفیر عن الذنب - لأنّ أتباع مذهب أهل البیت علیهم السلام یشعرون بالتقصیر فی نصرة الحسین علیه السلام وتخاذلهم فی الوقوف معه ، ولذلک فهم یوقعون بأنفسهم العقوبات البدنیّة والنفسیّة المتمثّلة فی إحیاء الشعائر الحسینیة ، ویستشهدون بثورة التوابین بقیادة سلیمان بن صرد الخزاعی .

الإشکال السادس :

أنّ الشعائر الحسینیة لا تواکب الزمان ولا تناسب العصر ، ولماذا لا یتم تجدید الطقوس ونبذ الأسالیب القدیمة ودفنها فی مقابر التاریخ؟! وقد یطرح بعض أبنائنا هذا الإشکال .

وهناک اشکالات أُخری ، ولکنّنا نقتصر علی هذا المقدار .

هذه الإشکالات لا تختص بالشعائر الحسینیة

هذه الإشکالات والتساؤلات لیست مطروحة علی الشعائر الحسینیة فحسب ، بل هی مطروحة علی عموم الشعائر الدینیة ، والآن یناقشها المفکّرون فی إطار حوار الحضارات ، وفی قضایا العولمة ، ولذلک اخترت هذه الإشکالات لتوطئة بحث العولمة ، والکلام لیس فی العادات والتقالید ؛ لأنّ العادات والتقالید آلیات ، ولکن المهم هو الفکرة التی تتضمننها العادات والتقالید .

لا یمکن فرض ثقافة علی الثقافات الأُخری وإلغاء خصوصیاتها

ومن أهم ما یعترض مسألة العولمة هی قضیة اختلاف العادات والتقالید والهویات القومیة واختلاف اللغة اللسانیة واللغة غیر اللسانیة المتمثلة بأفعال معیّنة تحمل معان معیّنة ؛ لأنّ الإنسان یحمل العدید من اللغات ، وکل تصرف یعمله

ص:207

یعتبر لغة توصل مفهوماً معیّناً ، فمثلاً : القیام للشخص الآخر یدل علی الاحترام ، مع أنّ القیام فعل ولیس کلاماً، واختلاف الأعراف فی المجتمعات المختلفة قد یصل إلی مرحلة النقیض ، فیکون الفعل حسناً عند أُمّة ویکون هذا الفعل نفسه قبیحاً عند أمّة أُخری ، ولا یمکن تذویب اللغات المختلفة فی لغة واحدة ، وتذویب الآداب المختلفة فی أدب واحد ، وحمل الهویات المختلفة علی هویة واحدة ، وقد واجه هذا الطرح العدید من الاعتراضات من قبل العدید من الأُمم التی تخاف علی هویتها وعلی عاداتها وتقالیدها .

خطورة طرح العولمة

وطرح العولمة یهدّد هویتنا الوطنیة والقومیة والدینیة والمذهبیة والفکریة والروحیة ؛ لأنّ لکل أُمّة عاداتها وتقالیدها بغض النظر عن إیجابیة هذه العادات والتقالید أو سلبیتها ، إلّاأنّها موجودة عند کل أُمّة من الأُمم ، وتعتبر جزءاً من هویة هذه الأُمّة ، ومن المستحیل أن تعیش أُمّة من دون عادات وتقالید ، ولا توجد أُمّة من الأُمم لم تتأثّر بأُمم أُخری .

من التقلید ما هو إیجابی ، ومنه ما هو سلبی

إذن الأُمّة لابدّ لها من التقلید ، والتقلید لا یعتبر سلبیاً فی کل الأحوال ، بل هو إیجابی فی بعض الأحوال ، بل هو ضروری ولازم فی أحوال أُخری ، کما فی تقلید أهل التخصّص ، حیث لابدّ من توزیع التخصّصات والمهمّات وفق رؤیة علمیة صحیحة یستطیع الإنسان أن یرکن إلیها ، وذلک لأنّ الکائن البشری لا یستطیع أن یکون خبیراً فی کل شیء .

وکلامنا هذا لا یقتصر علی التقلید الفقهی ، وإنّما یعم جمیع التخصّصات ؛ لأنّ التقلید منهج علمی شریطة أن یخضع لرؤیة علمیة سلیمة ، وموازین صحیحة تعتمد

ص:208

علی کفاءة المقلَّد فی تخصّصه ، وأن لا تدخل المحسوبیات فی تقییم الشخصیّات المقلَّدة.

والذی یرفض التقلید بشکل تام یؤدّی رفضه إلی سدّ الطریق أمام العلم لکی لا یأخذ مجراه بشکل صحیح ، والقرآن إنّما ذمّ التقلید غیر المبنی علی العلم ، قال تعالی«وَ کَذلِکَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِکَ فِی قَرْیَةٍ مِنْ نَذِیرٍ إِلاّ قالَ مُتْرَفُوها إِنّا وَجَدْنا آباءَنا عَلی أُمَّةٍ وَ إِنّا عَلی آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ »1 .

والنزوع إلی التقلید أمر فطری ، والإنسان یقلّد مئات المرّات یومیاً .

وإذا أخذ الشیعة بعض الآلیات من الأُمم الأُخری للتعبیر عن حزنهم علی سید الشهداء وأهل البیت علیهم السلام ، فإنّ ذلک لیس عیباً مادامت تلک الآلیة صحیحة وسلیمة ، وهذا یقع فی سیاق التبادل الثقافی والحضاری بین الأُمم(1) .

إذن لیست المشکلة أنّ هذه الأسالیب الحسینیة مأخوذة من أُمم أُخری أم أنّها مبتکرة من أبناء الطائفة ، وإنّما المناط هو صحة الأُسلوب وعدم صحته ، فکون هذا الطقس مأخوذ من الأتراک أو من الهنود أو من غیرهم لا یطعن فی هذا الأُسلوب ، وکل الأُمم تتأثّر بالأُمم الأُخری فی أسالیبها ، ولکن المهم هو أن تبقی المعانی والمُثُل والقیم والمبادیء وإن اختلفت الأسالیب .

ص:209


1- (2) ومن شواهد کلام سماحة الشیخ (حفظه اللّه)، ما شهدته البحرین فی السنوات الأخیرة من تطویر فی إحیاء الشعائر الحسینیة، لا سیّما حملة الإمام الحسین علیه السلام للتبرع بالدم والموسم الحسینی ، حیث إنّ هذه الأسالیب مأخوذة من أُمم أُخری، وتمّ إدراجها فی الشعائر الحسینیة بنجاح ، حیث لاقت الکثیر من الترحیب والتلقی الإیجابی من مختلف قطاعات المجتمع الذی نظر إلیها علی أنّها ظاهرة حضاریة تعکس وعی المنتمین إلی ثقافة الإمام الحسین علیه السلام وخدمتهم لمجتمعهم .
هل البکاء والحزن ظاهرة سلبیة وهدّامة؟

وأمّا الجواب عن الإشکال الذی یقول : إنّ الحزن ظاهرة هدّامة للمجتمع ، وتفتقد للحیویة والنشاط والهمم ، وتسبّب الکبت والتراجع النفسی والفکری والاجتماعی ، وأنّها عُقدة تکفیر الذنب .

فالجواب : إذا کان من یطرح هذا الإشکال بعض أبناء المسلمین من المذاهب الأُخری ، فنقول لهم : - کما قلنا فی اللیلة السابقة - أن ظاهرة الحزن والبکاء ظاهرة قرآنیة یحث علیها القرآن - کما بیّنا - فی سورة البروج وسورة یوسف وفی قصّة قابیل وهابیل ، بل إنّ القرآن الکریم یحثّ علی البکاء ویمتدح النفس اللوّامة فی بدایة سورة القیامة المبارکة ، ویذمّ الفرح حتی اعتقد البعض أنّ الفرح مذموم بصورة مطلقة ، وهذا لیس صحیحاً ؛ لأنّ القرآن یرفض الفرح فی بعض الحالات ، کتلک التی تؤدّی إلی بطر الإنسان ونسیانه للآخرة ، فالفرح مذموم ، ولکن لیس بصورة مطلقة .

هذا ، ووجود المجتمع المتدیّن یحدّ من الجریمة نتیجة وجود الحساب الداخلی والرقابة الذاتیة وتهذیب شراسة الشهوات والغرائز ، وهذا الأمر یعتمد علی التوازن بین الخوف والرجاء فی النفس الإنسانیة .

إذن من الخطأ رفض ظاهرة الحزن بشکل مطلق ، بل إنّنا فی أمسّ الحاجة لظاهرة الحزن والبکاء بالمقدار المطلوب وبشکل متوازن ، ومن المعروف أنّ الطائفة الشیعیة ، الاثنا عشریة لدیها محطّات أفراح تتمثل فی إحیاء موالید الأئمة علیهم السلام ، ونحن نفرح فی هذه المحطّات ، ویتم تعلیق الزینة ونشر مظاهر السرور فی مقابل الأحزان المتمثّلة فی البکاء والحزن فی الأیام التی توفّی فیها الأئمة علیهم السلام .

ص:210

الشعائر الدینیة تمثّل الإعلام الدینی ، والفرق بین الإعلام الدینی والإعلام غیر الدینی هو أنّ الإعلام الدینی إعلام مبدئی .

وإنّنی أدعوا أبناءنا للتخصّص فی المجال الإعلامی ؛ لأنّه یشهد إفتقاراً کبیراً فی الطاقة البشریة ، فی مجال الصحافة والأدب والقصّة والروایة والمسرح وغیرها ، ولا یخفی علیکم أنّ الإعلام هو السلطة الرابعة ، بل قد یکون هو السلطة الأولی الذی یقرر الحرب والسلم فی کثیر من الأحیان .

وما حدث فی العراق فی ذکری الأربعین السابقة(1) بتوفیق من اللّه وببرکات الأئمة علیهم السلام فی المجتمع الملیونی الکبیر الذی أقل ما یقال عنه أنّه یضمّ ثلاثة إلی خمسة ملایین شخص لزیارة سید الشهداء علیه السلام ، وکان تنظیمهم عجیب فی ظلّ غیاب السلطة والدولة والشرطة والکهرباء والخدمات المدنیّة بدون حدوث أیّ حوادث قتل أو سرقة أو تدافع ، وقد تعجبت المحطّات الفضائیة من التنظیم العجیب لزّوار سید الشهداء علیه السلام ، ونحن ننشر الإسلام عن طریق نشر مبادیء وأهداف سید الشهداء الحسین بن علی علیه السلام .

ونحن أحوج ما نکون إلی التقوِّی بالإعلام ، وأن یکون لنا إعلام قوی نستطیع من خلاله إیصال أفکارنا ، ونردّ علی إشکالات المخالفین بصورة ناجحة ومؤثرة .

وأمّا دعوی الأُسطوریة ، فیفنّدها حقیقة الوقائع الموثّقة فی کتب السیر والتاریخ والحدیث عن عظائم أحداث کربلاء وما رافقها من وقائع وشدّة الهول والمصائب النفسیة المقرحة صبغت منها أعظم حدث یقرح ضمیر الفطرة الإنسانیة لم ولن تشهد البشریة له مثیل ، والمصادر من الفریقین ، بل ومن غیر المسلمین ببابک ، وعلیک بالتتبع والتحرّی والفحص المضنی .

ص:211


1- (1) سنة 2003 .

ص:212

المحاضرة الثالثة الحسین والخطاب العولمی والعولمة فی العصور السابقة

اشارة

محاور المحاضرة :

أوّلاً : الشعائر الحسینیة فی دائرة العولمة .

ثانیاً : الشعائر الحسینیة تدعو إلی التضحیة والفداء لا إلی التقهقر والیأس .

ثالثاً : الحثّ علی زیارة الحسین علیه السلام فی أشدّ الظروف صعوبة .

رابعاً : الإمام الهادی علیه السلام یأمر أبا هاشم الجعفری بزیارة الحسین علیه السلام فی عصر المتوکل .

خامساً: الأنبیاء یحملون أرقی نماذج العولمة

سادساً: نزعة البشر للتوحّد ، ونزعتهم للتفرّق .

سابعاً: الأُمم المتحدة مظهر من مظاهر الوحدة .

ثامناً : العولمة فی العصور السابقة وحکومة الإمام المهدی (عجل اللّه فرجه الشریف) العالمیّة .

تاسعاً: العولمة تصبّ فی عدّة مجاری .

عاشراً: تعریف الأُمم المتّحدة للعولمة .

الشعائر الحسینیة فی دائرة العولمة

إذا أردنا أن ندرس الشعائر الحسینیة دراسة شاملة : فلابدّ أن ندرسها فی إطار بحث العولمة ، وذلک بسبب وجود حالة الانفتاح والحوار بین الأُمم ، ویمکننا أن ندرس الخطاب الحسینی فی إطار العولمة باعتبار أنَّ الإمام الحسین علیه السلام إمام

ص:213

معصوم ، وهو القرآن الناطق .

الشعائر الحسینیة وخطاب العولمة

هل نستطیع أن نستخلص خطاباً حسینیاً عولمیاً یعطی حلولاً للبشریة ککل فی شتّی المجالات؟ وهل الکلمات الحسینیة والخطب الحسینیة تتضمّن الصفة العولمیة ، وتخاطب العالم خطاباً یضع یده علی الداء فیطیب؟

الشعائر الحسینیة تدعو إلی التضحیة والفداء لا إلی التقهقر والیأس

واستکمالاً لحدیث اللیلة الماضیة فی الردّ علی الإشکال الذی یقول: أنّ الشعائر الحسینیة شعائر تتضمّن عُقدة الذنب ، وإیقاع العقوبة علی النفس من أجل التکفیر عن الذنب ، وأنّها نتیجة الفشل والیأس والتقهقر والانتکاس الذی یعیشه الشیعة ، وقد مرّ علینا أنّه لابدّ أن ندرس الشعائر الحسینیة من حیث المضامین التی تنطوی علیها هذه الشعائر ، من الفداء والتضحیة والإباء والتغییر الإیجابی ورفض الظلم ، وتحشید الطاقات من أجل النهوض بالمعروف والنهی عن المنکر والجهاد وعدم الرکون للدنیا وزخرفها وزبرجها ، والثبات والصمود والاستبسال .

إذن الإعلام الحسینی ، مع أنّه ینطوی علی الحزن والجزع إلّاأنّه یضخّ فی وجدان الأُمّة وفکرها وروحها ، ویعمل علی تعبئة النفوس بمفاهیم التضحیة والفداء ، وهذا ما لا یتناسب مع الکسل والخمول والفشل والتراجع والیأس والتقهقر کما یطرحه ، هذا الإشکال وحالة تعبئة المقاتلین بالحماس ، وبحبّ الوطن حالة متعارفة عند أصحاب القتال والعسکریین .

الحثّ علی زیارة الحسین، فی أشدّ الظروف صعوبة

ونلاحظ أنّ الحسینیین - علی مرّ التاریخ - یتمیّزون بالتفانی واسترخاص النفس وبذل الغالی والنفیس، وهناک العدید من الفقهاء یفتون بجواز زیارة

ص:214

الحسین علیه السلام حتّی مع وجود المخاطر والظروف الأمنیة الصعبة.

کما أنّ هناک روایات مستفیضة تحثّ علی زیارة الحسین علیه السلام حتی فی الظروف الصعبة(1) ، وهناک العدید من شواهد التاریخ علی ذلک .

وهناک روایات یمکن قراءتها فی کتاب الوسائل فی نهایة کتاب الحج ، وفیها حثّ أکید شدید علی زیارة سید الشهداء علیه السلام من قبل الأئمة علیهم السلام فی ظل تشدید الدولة آنذاک علی الأئمة علیهم السلام ، حتّی أنّ الإمام الهادی والإمام العسکری علیهم السلام ، قد سجنا فی سجن عسکری ، ومن المعروف أنّ السجن العسکری فیه تشدید أکثر من السجن المدنی ؛ لأنّه یعتبر قاعدة عسکریة للجیش ، ولو دققنا فی الأمر لوجدنا أنّ الإمامین العسکریین علیهما السلام قد سجنا فی سجن عسکری فی سامراء ، مع أنّ الإمام موسی الکاظم علیه السلام قد سجن فی سجون مدنیّة ، ومع أنّها کانت ردیئة ومعاملتهم معه سیئة إلّاأنّ السجن العسکری للإمامین العسکریین یدلّ علی توتر الأجواء الأمنیّة، واستنفار الدولة العباسیة، وإلّا لما سجنت هذین الإمامین فی أکبر قاعدة عسکریة لأکبر دولة عظمی آنذاک ، وهذا یدل علی ترقب الدولة العباسیة لظهور الإمام المهدی (عجل اللّه فرجه الشریف) ، ولن نستغرق فی الکلام عن هذه النقطة المعترضة للحدیث .

الإمام الهادی علیه السلام یأمر أبا هاشم الجعفری بزیارة الحسین علیه السلام فی عصر

المتوکل

یحدّثنا التاریخ عن مرض الإمام الهادی علیه السلام فی سامراء، ولم تکن سامراء مدینة کما نراها الآن ، بل کانت قاعدة عسکریة مدجّجة بالسلاح والجنود ، وقد

ص:215


1- (1) وسائل الشیعة 14: 456، باب استحباب زیارة الحسین والأئمة علیهم السلام فی حال الخوف والأمن .

انتدب الإمام الهادی علیه السلام داود أبا هاشم الجعفری ، وهو أحد کبار تلامیذ الإمام ، وهو فقیه من الفقهاء الکبار ، والذی کان من نسل جعفر الطیار ، وکان من تلامیذ الرضا والجواد والهادی علیهم السلام ، وهذا الشخص شخص عزیز لا یفرّط به ، مع ذلک انتدبه الإمام الهادی علیه السلام للدعاء له تحت قبة الحسین علیه السلام ، وکان ذلک فی زمن المتوکل المعروف ببغضه للحسین وأهل البیت علیهم السلام ، وفتکه بشیعتهم حتّی أنّه کان یقطع أیدی زوّار الحسین علیه السلام .

إذن إرسال الإمام الهادی علیه السلام لأبی هاشم الجعفری فی هذا الجو الخطر رغم مقامه العلمی الشامخ یدل علی اهتمام الإمام البالغ بزیارة الإمام الحسین علیه السلام ، وعندما استغرب أبو هاشم الجعفری من هذا الطلب من الإمام المعصوم المستجاب الدعوة ، قال له الإمام الهادی علیه السلام : «... إنّ للّه مواضع یحب أن یعبد فیها ، وحائر الحسین علیه السلام من تلک المواضع»(1) .

الأنبیاء یحملون أرقی نماذج العولمة

العولمة تنطوی علی معنی التوحید فی الرؤیة والتجارة والقانون والاتصال والسیاسة والأمن والحاکمیة والثقافة والفکر ، وهی مضادّة للتفرقة والاختلاف والتمییز .

قد مرّت البشریة بأدوار عدیدة ، مع وجود الرسل الذین کانوا یتمیّزون بوحدة الهدف ، ویحملون نفس المشروع الإصلاحی الإلهی علی الأرض ، وقد تکبّدت البشریة التی رفضت هذه الرسالات السماویة خسائر فادحة نتیجة عدم الاستجابة للأنبیاء ، فعانت من التفرقة والتمییز والعنصریة .

ص:216


1- (1) کامل الزیارات: 459 ، الحدیث 698 ، الباب (90) أنّ الحائر من المواضع التی یحب اللّه أن یدعی فیها .

إذن الأنبیاء یحملون مشروع العولمة الإلهیة لجمیع البشر وهو یضمن لهم السعادة والنظام والعدل .

نزعة البشر للتوحّد ، ونزعتهم للتفرّق

هناک نزعتان للبشریة: إحداهما للوحدة ، والأُخری للاختلاف والتکتل والتحزّب والتفرق ، ومن مظاهر النزوع للاختلافِ نظام الحکم الملکی والنظامِ السلطانی ونظام القبائل ونظام التمییز العرقی المنتشر فی إفریقیا ، بل فی الحضارات الغربیة ، فنسمع عن النازیة فی ألمانیا - علی سبیل المثال وکذلک النظام القومی الذی برز فی ترکیا ودور أتاتورک فیها ، وإیران والقومیة الفارسیة ودور شاه ایران فیها ، والقومیّون العرب ، وهناک النظام الوطنی ، هذه أنظمة تضمن التوحّد فی الإطار الضیّق المتمثّل فی الوطن والعرق والقومیة ، ولکنها تمثّل تفرّقاً علی مستوی المجموع البشری والعالم ، فهی توحّد من جانب ، وتفرّق من جانب آخر . وکذلک نری هذه التفرقة علی مستوی الطرح الرأسمالی التی تتجلّی فیه التفرقة بین طبقات المجتمع بصورة واضحة.

الأُمم المتحدة مظهر من مظاهر الوحدة

ولو ألقینا نظرة علی الأُمم المتحدة التی بدأت بعد الحرب العالمیة الثانیة ، فکانت من مصادیق الوحدة علی عدّة محاور ، منها : المحور الثقافی والتعلیم المتمثّل فی الیونیسکو ، وعلی محور القضاء محکمة لاهای الدولیة ، وعلی المحور الاقتصادی المتمثّل فی البنک الدولی ، وکذلک الوحدة فی الأمن المتمثّل فی مجلس الأمن ، والوحدة فی القانون ، مثل: قانون الفیتو .

وظهرت قبل الأُمم المتحدة تحالفات سیاسیة وعسکریة کانت تمثّل توحّد نسبی ، أی : توحّد من جهة ضیّقة ، وتفرّق من جهة أُخری ، وهی الجهة التی

ص:217

تمثّل التوحّد العالمی .

وقد ترقّت مظاهر الوحدة إلی أن تجسّدت فی الأُمم المتحدة ، مع أنّها تعترف بأنّ لکل دولة قانونها الخاص بها .

الإمام المهدی (عجّل اللّه فرجه الشریف) سیقیم حکومة عالمیة

والنزوع الی الوحدة فی البشریة مطلب بشری یتحقق فی حکومة عالمیة یقودها الإمام المهدی المنتظر عجل اللّه فرجه الشریف الذی سیقیم حکومة عالمیة - باتفاق المسلمین بغض النظر عن بعض الفروقات الجانبیة - تکون فی توحّدها أرقی من نظام الأُمم المتحدة التی تتعرّض إلی الکثیر من الانتقادات من هذه الجهة أو تلک ، وذلک لما تتمتع به حکومة الإمام المهدی عجل اللّه فرجه الشریف بقیادة معصومة تستمد نهجها من الخط الإلهی والنظرة الإلهیة للکون والإنسان .

العولمة تصبّ فی عدّة مجاری

النظام العالمی الواحد یتمثّل فی النظام السیاسی الذی یحکم العالم ، وهناک النظام العالمی العقائدی الذی یوحّد العالم فی العقیدة ، والبحث عن القواسم المشترکة بین المذاهب یصبّ فی هذا المجال باعتبار أنّ الحوار بین المذاهب مقدّمة للحوار بین الأدیان ، وهناک الوحدة التجاریة والاقتصادیة والمالیة ، وهناک عولمة جغرافیة ، وعولمة لغویة تجعل لغة واحدة تسود جمیع البشر باعتبارها اللغة الأقوی ، بل والعولمة فی الإعلام ووحدة مشهد الحدث ، حیث ینظر الجمیع إلی مشهد واحد من خلال وسائل الإعلام ، بل وحتّی وحدة الأزیاء والملابس والعادات والتقالید ، والإعلام له دور کبیر حتی فی الحروب لا یقل أهمیة عن الجوانب الأُخری فی کسب الأطراف ، وفی بیان أحقیّة الفئة التی تستخدم هذه

ص:218

الوسائل الإعلامیة فی صالحا ؛ لأنّ الإعلام یعتمد علی الفکر والفکر هوالذی یؤثّر فی صنع الرأی العام ، بل وفی اتخاذ الموقف العسکری المناسب .

بل هناک سعی لحاکمیة النظام العالمی الموحّد ، وتذویب الأنظمة الصغیرة ، وجعلها خاضعة إلی النظام العالمی الکبیر .

العولمة نظام سبق له أن طبّق فی العصور السابقة

علی الصعید الإسلامی نری أنّ نهضة سید المرسلین صلی الله علیه و آله وتبلیغه لرسالة الإسلام ونوع من أنواع العولمة .

وقد عاشت البشریة عدّة نماذج للعولمة ، منها : دولة الإسکندر أو ذی القرنین کما یعبّر عنه القرآن الکریم ، وقد سمّی ذو القرنین ؛ لأنّه حکم المشرق والمغرب ، وقد اختلف المفسّرون فی أنّ الإسکندر هو ذو القرنین أم غیره ، وقد أسس ذو القرنین عولمة .

کما أنّ النبی سلیمان علیه السلام قد أسس عولمة فی العصور السابقة ، حیث وردت روایات عن أهل البیت علیهم السلام فی أنّه لم یملک الدنیا إلّاأربعة ، وعدّت منهم النبی سلیمان علیه السلام(1)الذی ورد فی القرآن الکریم :«قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِی وَ هَبْ لِی مُلْکاً لا یَنْبَغِی لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِی إِنَّکَ أَنْتَ الْوَهّابُ »2 .

وقال تعالی:«وَ شَدَدْنا مُلْکَهُ وَ آتَیْناهُ الْحِکْمَةَ وَ فَصْلَ الْخِطابِ »3 .

والأُمم المتحدة أغفلت هذه العولمة التی حدثت فی العصور السابقة؛ لأنّهم یعتمدون علی العلوم الحدیثة فقط مما یجعل طرحهم ناقصاً .

ص:219


1- (1) البرهان فی تفسیر القرآن 7: 261، الحدیث 7984 .

ونحن نعتقد أنّ الجانب الوحید من جوانب العولمة القادر علی التوحید هو الوحدة علی الصعید العقائدی

تعریف الأُمم المتحدة للعولمة

تعریف الأُمم المتحدة للعولمة ، وهل نحن نعترف بهذا التعریف الذی أُعدّ عام 1995م ؟ وهو :

«مزج الإقتصاد والسیاسة ونظم الإجتماع والثقافة والسلوک بإلغاء الحدود الجغرافیة والإجراءات الحکومیة» ، فهل نحن نوافق علی هذا التعریف؟ وما هو رد فعل مدرسة أهل البیت علیهم السلام وکلمات سید الشهداء علیه السلام من هذا التعریف؟ هذا ما سنتعرّض له لاحقاً إن شاء اللّه .

ص:220

المحاضرة الرابعة الوحدة الثقافیة أوّلاً

اشارة

محاور المحاضرة :

أوّلاً : آلیة تطبیق العولمة .

ثانیاً : من أمثلة الوحدة فی العالم الغربی .

ثالثاً : الأُمم المتحدة لا تمثّل نموذجاً متکاملاً للوحدة .

رابعاً : الوحدة الثقافیة أوّلاً ، والمجتمع الإسلامی قائم علی الوحدة الفکریة .

خامساً : الوحدة العسکریة والإقتصادیة تزول بزوال ضغوطها

سادساً : مفهوم الطاعة من نافذة تراث أهل البیت علیهم السلام .

سابعاً : أهل البیت علیهم السلام فی مقام فتح أفق الطاعة والعبادة أمام الإنسان المؤمن.

ثامناً : لابد من العامل الثقافی والاقتناع الفکری فی الطاعة والاتباع.

تاسعاً : نمتلک الفکر القوی ونفتقر إلی الإعلام .

عاشراً : الغزو الثقافی ولیس الحوار الثقافی .

آلیة تطبیق العولمة

تعریف الأُمم المتحدة للعولمة هو : «مزج الاقتصاد والسیاسة ونظم الاجتماع والثقافة والسلوک» ، والآلیة التی تؤدّی إلی هذه العولمة هی : «إلغاء الحدود وتفکیک الحلقات الوطنیة» ، والمقصود بالحلقات : الحلقة الأمنیة والحلقة الثقافیة والحلقة السیاسیة والحلقة الاقتصادیة .

ص:221

إذن العولمة تزیل الحدود وتذیب السیاج القائم بین القومیات والأُمم الختلفة .

من أمثلة الوحدة فی العالم الغربی

یمکن دراسة العولمة علی صعید النظریة أو علی صعید التطبیق ، وقد ضرب المفکّرون مثالاً فی الجانب الغربی أو غیر الإسلامی علی الاتحاد الفیدرالی القائم فی الولایات المتحدة الذی یضمّ ما یقارب من خمسین ولایة قائم علی وحدة سیاسیة وأمنیة ، أمّا الإتحاد الأوروبی فهو یشکّل وحدة قائمة علی الوحدة الاقتصادیة وإن کان البعض یری أنّ الوحدة القائمة فی أوروبا لیست قائمة علی أساس اقتصادی ، وإنّما علی أساس دینی مسیحی ، ولذلک رفض الاتحاد انضمام ترکیا إلی الاتحاد الأوروبی باعتبار أنّها بلد مسلم .

الأُمم المتحدة لا تشکّل نموذجاً متکاملاً للوحدة

المهم أنّ البعض من منظّری العولمة یری أنّه یمکن تأسیس وحدة علی أساس أمنی أو اقتصادی ، والأُمم المتحدة تشکّل بذرة فی تکوین الوحدة فی النظام السیاسی والأمنی ، ولذلک حاول البعض إقامة نظام عالمی موحّد باعتبار أنّ الأُمم المتحدة لا تمثّل نظاماً عالمیاً موحّداً .

الوحدة الثقافیة أوّلاً ، والمجتمع الإسلامی قائم علی وحدة فکریة وعقائدیة

والبعض قال: بالوحدة الاقتصادیة ، وتمثّل منظّمة «الجات» الاقتصادیة نموذجاً لهذه الوحدة ، والبعض یری : أنّ الوحدة المنشودة هی الوحدة الثقافیة ، ولا یمکن لغیر هذه الوحدة أن تتحقق إلّاإذا تحققت الوحدة الثقافیة ، وذلک لأنّ التوحّد یحتاج إلی قانون ، والقانون یندرج تحت مظلّة الثقافیة .

وتتکوّن السلطات فی الدولة الحدیثة : من السلطة القضائیة والسلطة التشریعیة

ص:222

والسلطة التنفیذیة ، والقانون ملف ثقافی ، ولیس ملفّاً إقتصادیاً ولا سیاسیاً ، والفکر هوالذی یتحکّم فی شؤون الإنسان ، وفی غرائزه ومیوله ، وهذا ما ینطبق علی المجتمع حیث یستطیع الفکر أن یوحّد المجتمع ، ولذلک یری المفکّرون أنّ الوحدة الموجودة عند المجتمع الإسلامی رغم کل المعوّقات والمصاعب ، ورغم التمزّق السیاسی والأمنی والاقتصادی ، تعتبر وحدة قویّة جدّاً تستطیع أن تجمع المسلمین فی مشارق الأرض ومغاربها ؛ لأنّها قائمة علی أساس فکری .

إذن فلسفة القانون وعلم النفس وعلم الاجتماع والبحث العقلی الفلسفی یؤکّد أنّ الوحدة الثقافیة - بالمعنی الشامل للثقافة الذی یضمّ العقائد والأخلاق والآداب والقانون - لابدّ أن تؤثّر علی الجانب السیاسی والأمنی والعسکری والاقتصادی باعتبار أنّ کل هذه الجوانب تتأثّر بالثقافة ، لا سیما بالجانب القانونی من الثقافة .

الوحدة العسکریة والاقتصادیة تزول بزوال ضغوطها

لا یمکن أن تتحقق هذه الأُمور إلّابالجانب الثقافی ، وإذا تحققت بالقوّة والضغط فإنّها سرعان ما تتبدّل وتزول ، ولذلک حتی الإرهاب العسکری قد یستطیع أن یقهر الجانب الضعیف ، ولکن الأمر لا یبقی ، بل یزول بمجرد زوال القوّة العسکریة ، وهذا ما نراه متمثلاً فی الشروط التی یملیها صندوق النقد الدولی ، ونری أنّ الدول تستجیب إلی هذه الضغوط طمعاً فی المال أو خوفاً من الأزمات المالیة ، ولکن هذه الأُمور لا تتحرّک فی دائرة قناعة تلک الدولة بتلک الشروط التی أملاها صندوق النقد الدولی .

مفهوم الطاعة من نافذة تراث أهل البیت علیهم السلام

وفی تراث أهل البیت علیهم السلام نری أنّ الطاعة قد تکون ناتجة عن الحب أو عن الطمع أو عن الخوف ، والطاعة التی تُبنی علی الحب والاقتناع هی الطاعة المثالیة

ص:223

والعلیا ، أمّا الطاعة التی تنتج عن الطمع فهی غیر مضمونة شأنها شأن الطاعة المبنیّة علی الخوف .

ویمکن تطبیق هذا الحدیث علی تعامل العبد مع باقی الناس ، مع أنّه یتکلّم عن طاعة العبد لربه ، حیث یقول الإمام علی علیه السلام : «ما عبدتک خوفاً من نارک ، ولا طمعاً فی جنّتک ، ولکن وجدتک أهلاً للعبادة فعبدتک» ، وعبارة وجدتک أهلاً للعبادة فعبدتک تدلّل علی الحب والاقتناع المبنی علی الفکر والعلم والوجدان .

وهذا ما نراه فی دعاء کمیل «فهبنی یا الهی وسیّدی ومولای وربّی ، صبرت علی عذابک ، فکیف أصبر علی فراقک ، وهبنی صبرت علی حرّ نارک ، فکیف أصبر عن النظر إلی کرامتک ، أم کیف أسکن فی النار ورجائی عفوک» ، الخوف من انقطاع العلاقة مع اللّه أشدّ عندهم علیهم السلام من نار جهنّم. وعندما خرج الإمام زین العابدین علیه السلام فی لیلة باردة ، «.. فقال له : جعلت فداک فی مثل هذه الساعة علی هذه الهیئة إلی أین؟ قال: فقال: إلی مسجد جدی رسول اللّه صلی الله علیه و آله أخطب الحور العین إلی اللّه عزّ وجلّ»(1) ، وکان یعنی بذلک : التهجّد وطاعة اللّه .

أهل البیت فی صدد بیان درجات الطاعة ، ولیس التقلیل من شأن الطمع

والخوف

أهل البیت علیهم السلام لیسوا فی صدد نکران الطاعة المبنیّة علی الخوف من اللّه أو التقلیل من شأن الاشتیاق إلی الجنّة ، ولکن فی صدد بیان درجات الطاعة ، وأنّ جمیع هذه الأنواع من العبادات هی عبادات منجیه ، وأنّه لابد للنفس البشریة أن تحفز بجاذبیة الجنّة ونور انیتها ولطافتها الأثیریة المتلألئة وبهجتها وبهائها وسنائها ونعیمها ، کما لا بد من الخوف من النار وعقاربها وزفیرها وشهیقها .

ص:224


1- (1) وسائل الشیعة 5: 228 ، للحدیث 6407 .
الحب والطمع والخوف أُمور مطلوبة فی الإنسان المؤمن

إذن جهة الحب وجهة الخوف وجهة الطمع کل هذه الجهات مطلوبة فی الإنسان وإن کان بینها تفاوت ، وبیان ذلک : أنّ الإنسان له ثلاثة أبعاد فالفکر یسبح فی عالم المعانی ، ولا یناسبه جمال البدن ، کما لا یناسبه لسع النار، فلابد أن یکون الداعی للفکر فی عبادته هو الحب الإلهی وجماله ، وهناک البعد السبعی الغضبی فی الإنسان ، وهذا لا یناسبه إلّاالتخویف من النار لکی نستطیع ترویض هذا الجانب ، وهناک غریزة حب التملک وجانب الشهوة الموجود عند الإنسان والتی یناسبها التشویق بالجنّة .

أهل البیت علیهم السلام لا یریدوننا أن نقتصر علی الخوف ونترک الحب والطمع

وتعبیر أهل البیت علیهم السلام عن الذین یعبدون اللّه خوفاً بأنّها عبادة العبید ، إنّما یریدون بها أنّه إذا اقتصر الإنسان فی عبادته للّه علی دافع الخوف وترک جانب الطمع والحب ، فإنّ هذه هی أدنی مرتبة من مراتب العبادة للّه

إذن فأهل البیت علیهم السلام لیسوا فی مقام ذمّ العبادة خوفاً من النار ، ولذلک نری الکثیر من النصوص الشرعیة ، من آیات القرآن الکریم(1) وادعیة لأهل البیت علیهم السلام(2)تحتوی علی کلمات مؤثّرة فی التخویف من النار .

أهل البیت علیهم السلام فی مقام فتح الأُفق أمام الإنسان المؤمن

وإنّما أهل البیت علیهم السلام فی مقام فتح الأُفق أمام الإنسان لکی یطّلع علی أنواع العبادة الراقیة ، ویطبّقها جمیعاً فی حیاته ، وما قلناه فی عبادة العبید خوفاً من النار ینطبق علی عبادة التجار والطمع فی الجنّة والأعلی منهما وهو ذلک الذی یشتاق

ص:225


1- (1) البقرة (2): 24: آل عمران (3): 131 . وغیرهما کثیر .
2- (2) کدعاء کمیل، وغیره کثیر .

إلی الجنة ویخاف من النار ویتمتع بالحب الإلهی الذی یمثّل عبادة الأحرار ، فتتکامل عبادته فی جوانبها الثلاثة .

لابد من وجود الاقتناع والعامل الثقافی فی الطاعة والاتباع

النظام العالمی الموحّد لا یستطیع أن یفرض نفسه بالقوّة العسکریة والأساطیل والجیوش ، ولا یستطیع أن یفرض نفسه عن طریق الضغط بالقوّة الاقتصادیة وبشروط بنک النقد الدولی ؛ لأنّ الطرف المقابل سیتمرّد بمجرد انتهاء هذه القوّة ، ولأنّه لا ینطلق من قناعات .

الحرب العراقیة الإیرانیة کنموذج

وکشاهد علی ما نقول : فإنّ الرئیس الأمریکی ، ولعلّه بوش الأب ، قال: عندما انتهت الحرب البعثیة ضدّ الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة ، والتی دامت ثمان سنوات ، قال حینها : «لقد أخطأنا فی حربنا ؛ لأنّه بالعمل العسکری زاد عدوّنا قوّة ، وأنفقنا الکثیر واستهلکت طاقاتنا ، ولم نصل إلی النتائج المرجوّة» ، وکان یطرح فی خطابه السنوی بدیلاً عن الحرب ، فقال: «سوف ندخل لهم عن طریق الثقافة ، وتغییر الفکر الثقافی ، وهی وسیلة أقل تکلفّة ، وهی أسلم وأنجع وأنفع وأجدی وأکثر تأثیراً» .

وهذا ما یؤکّد أنّ الثقافة هی المقدّمة علی الجوانب العسکریة والأمنیة والاقتصادیة والمالیة .

نمتلک الفکر ونفتقد الإعلام ، أمّا هم فیمتلکون الإعلام ویفتقدون الفکر القوی

ومن هنا نحن نؤکّد علی الإعلام الذی هو أداة فتّاکة نفتقدها ویتمتّع بها عدوّنا ، وأهم وسیلة آلیّة فی العولمة وهو آلیّة تطبیقیة تنجز الوحدة الثقافیة ، والسلام

ص:226

الثقافی هو الإعلام .

المفکّرون الغربیّون رغم أنّهم یمتلکون آلة إعلامیة فتّاکة إلّاأنّ فکرهم معرّض للاختراق ، ولا یستطیع الصمود أمام الفکر الإسلامی ، وفی المقابل فإنّ الفکر الإسلامی رغم أنّه یفتقد الوسائل الإعلامیة المناسبة لوسائل العدو إلّاأنّه یتمتّع بقوّة وقدرة علی معالجة المشاکل الاجتماعیة والثقافیة والفکریة والاقتصادیة وفی شتّی الجوانب والمجالات .

الغزو الثقافی ولیس الحوار الثقافی

وفی الجانب التطبیقی لا یوجد حوار بین الأُمم وأمّا فی الجانب الثقافی الموجود هو الغزو الثقافی ، والإمام الحسین علیه السلام حینما حاول فتح حوار مع أعدائه إلّا أنّ أعداءه کانوا یغلقون هذا الباب ویفتحون باب الحرب والسهام والسیوف ؛ لأنّهم یعرفون أنّهم لن یصمدوا أمام حوار الحسین علیه السلام ، وکما قال الشاعر فی هذا الموقف :

لم أنسه إذ قام فیهم خاطبافإذا هم لایملکون خطابا

یدعو ألست أنا ابن بنت نبیکموملاذکم إن صرف الدهر نابا

هل جئتُ فی دین النبی ببدعةٍ أم کنت فی أحکامهِ مرتاباً

أم لم یوص بنا النبی وأودع الث قلین فیکم عترة وکتابا

إن لم تدینوا بالمعاد فراجعواأحسابکم إن کنتم أعراباً

فغدوا حیاری لا یرونَ لوعظهِ إلّا الأسنّة والسهام جواباً(1)

وهذا هو دین الأئمة علیهم السلام ، فالإمام علی علیه السلام فی صفین وفی باقی حروبه لم یبدأ بالحرب، بل بدأ الحرب الطرف المعادی له علیه السلام ، وکان یقول علیه السلام : «أنا أکره قتالکم

ص:227


1- (1) أعیان الشیعة 7: 26، والشاعر هو السید رضا الهندی .

قبل الإعذار إلیکم»(1) ، وکانت جمیع الحروب فی زمانه علیه السلام حروب مفروضة علیه ؛ لأنّ الطرف المعادی لا یمتلک قوّة الحوار والاقناع العلمی .

إذن ما یوجد الآن لیس حوار ؛ لأنّ الحوار یعتمد علی أن تطرح رأیک ویطرح غیرک رأیه بالتساوی والتوازی ، لا أن یفرض الطرف الآخر رأیه علیک باعتبار أنّه الطرف القوی وأنت الطرف الضعیف ، وهذا یسمّی الغزو الثقافی باعتبار أنّ الأسلامیین لا یمتلکون الآلیات الإعلامیة الکافیة لبیان آرائهم .

وهناک اعتراض علی طرح العولمة الذی یسمح لأمریکا أن تفرض آراءها علی الآخرین حتی من قبل الدول الأوروبیة التی تخشی الغزو الثقافی الأمریکی ، وذلک لعدم وجود قناعات وآلیات متساویة بین الأطراف .

وتفتقد هذه العولمة العدالة والمساواة بین الأطراف

دعوة لمواجهة الغزو الثقافی المتمثّل فی الجنون الجنسی

ومن المعروف أنّ الیهود یمتلکون الکثیر من النفوذ فی أمریکا ، ولهم ید فی قضیة العولمة ، ولهم أهداف ومآرب .

ومن آثار هذه العولمة هو نشر جنون الجنس وجنون الإثارة والهستیریا الجنسیة ولیس الجنس فقط ، وإنّ الآباء والأمهات والإخوان والأخوات مدعّوون لمواجهة هذه الهجمة الشرسة فی ظلّ غیاب الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر .

ص:228


1- (1) جواهر التاریخ 1: 287 .

المحاضرة الخامسة الإسلام یعترف بالشعوب والقبائل ولکن لا یجعلها أساساً للمفاضلة

اشارة

محاور المحاضرة :

أوّلاً : الإمام الحسین علیه السلام وخطاب العولمة .

ثانیاً : منابع غریزة الوحدة ، ومنابع غریزة الفرقة .

ثالثاً : القران الکریم یشیر إلی نزعتین فی حیاة الإنسان .

رابعاً : الدین الإسلامی لا یتنکّر لنزعة التفرقة عند الإنسان ، ولکن یهذّبها .

خامساً : الإسلام یعترف بالوطنیة والقومیة ، ولکنه لا یجعلها أساساً للتفاضل .

سادساً : الاعتراف بالشعوب والقبائل فی القرآن الکریم ، والحکمة الإلهیة فی خلقها .

سابعاً : التعارف بین الشعوب عولمة بالمصطلح القرآنی .

ثامناً : أهل الاختصاص مدعوّون لخدمة الدین من خلال اختصاصهم .

تاسعاً : التقوی والجوهر مناط تقییم الإنسان ، لا المظاهر والترف المادی .

عاشراً : لقمان الحکیم بین المظهر والجوهر .

الحسین علیه السلام وخطاب العولمة

من ضمن خطابات سید الشهداء علیه السلام ، والتی سندرسها فی ظلّ خطاب العولمة هی : «... فلعمری ما الإمام إلّاالحاکم بالکتاب ، والقائم بالقسط ، والدّائن بدین

ص:229

الحقّ الحابس نفسه علی ذات اللّه...»(1) ، والإمام هو تعبیر عن رئاسة البشریة المُنصّبة من قبل اللّه تعالی .

وقال علیه السلام :«.. وأنا أدعوکم إلی کتاب اللّه وسنّة نبیه ، فإنّ السنة قد أمیتت ، وإنّ البدعة قد أحییت»(2) .

وقال علیه السلام :«إنّا أهل بیت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائکة ، وبنا فتح اللّه ، وبنا ختم اللّه ، ویزید رجل فاسق شارب الخمر ، قاتل النفس المحرّمة ، معلن بالفسق ، ومثلی لا یبایع مثله...»(3) .

فالإمام الحسین علیه السلام یؤسس محاور فی النظام الاجتماعی السیاسی للمسلمین وللبشریة ، حیث یقوم هذا النظام علی کتاب اللّه وسنّة نبیه صلی الله علیه و آله و سلم ، والعدل والقسط ، وهو متمسّک بهذه المبادیء فی صراعه مع بنی أُمیّة .

منابع غریزة الوحدة ، ومنابع غریزة الفرقة

من منابع غریزة التفرقة عند الإنسان القوّة الغضبیة والقوّة الشهویة وحبّ التملّک والانتماء إلی العائلة والقبیلة والقومیّات والأعراق ، وهذا الانتماء یحثّ الإنسان علی التفرقة ، والنظر بعین مختلفة إلی الآخر ، وأمّا منابع غریزة الوحدة والتوحّد مع الآخرین عند الإنسان ، فهی روح الإنسان فلا یمکن تمییز روح عن روح ، فلا یمکن وصف الروح بأنّها فی ذاتها روح عربیة أو أعجمیة ، أو سوداء أو بیضاء ، أو شرقیة أو غربیة ، أو شمالیة أو جنوبیة ، أو روح أفریقیة أو آسیویة ، وهذه الوحدة الروحیة تشمل الذکر والأُنثی فکلها روح انسان .

ص:230


1- (1) الإرشاد 2: 39 .
2- (2) البدایة والنهایة 8: 110 ، قصة الحسین بن علی وسبب خروجه من مکة فی طلب الإمامة .
3- (3) بحار الأنوار 44: 325 ، باب ما جری علیه بعد بیعة الناس لیزید بن معاویة .

إذن التفرقة من الأرض ، ومن الطین ، ومن الجغرافیا ، ومن الإنسان نفسه الذی یکبّل نفسه بأنواع من القیود والتفرقات ، والنزوع نحو التوحّد والوحدة کامن فی أصل خلق الروح الواحدة التی خلقها اللّه تعالی .

القرآن الکریم یشیر إلی نزعتین فی حیاة الإنسان

قال تعالی:«فَأَزَلَّهُمَا الشَّیْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمّا کانا فِیهِ وَ قُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُکُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَ لَکُمْ فِی الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلی حِینٍ »1 .

وقال تعالی:«قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِیعاً فَإِمّا یَأْتِیَنَّکُمْ مِنِّی هُدیً فَمَنْ تَبِعَ هُدایَ فَلا خَوْفٌ عَلَیْهِمْ وَ لا هُمْ یَحْزَنُونَ »2 .

فالقرآن الکریم یشیر إلی أنّ الإنسان یحمل نزعتین : النزعة الأُولی تتمثّل فی نزعة العداوة المصاحبة للهبوط إلی الأرض ، وقال المفسّرون : إنّ العداوة مترتبة علی التعب والنصب والکدح التی تحتاج إلیها الحیاة الدنیا ، فیحتاج الإنسان إلی القوّة الغضبیة لکی یحمی نفسه ، ویحتاج إلی القوّة الشهویة لکی یأکل ویشرب وینکح ویتکاثر .

وهذه القوّة عندما تُنظَّم تخدم الإنسان ، ولکن عندما تتفلت تسبّب الکوارث والحروب والاعتداءات وانتهاک الأعراض وسفک الدماء والفساد فی الأرض وغصب الأموال ونشر الظلم .

وتشیر الآیة إلی أنّ هدی اللّه هو الضمان وصمّام الأمان للإنسان ، لکی یحافظ علی السلام والحب والعدل وخدمة البشر ، والاستقرار النفسی والروحی والسیطرة علی الغرائز والشهوات وتشیر إلی وجود هذه النزعة التابعة لهدایة

ص:231

السماء ، وقد یعبّر عنها فی سائر الآیات بالفطرة وإلهام التقوی والنفس المطمئنة واللّوامة ونحو ذلک .

الدین الإسلامی لا یتنکّر لنزعة التفرقة عند الإنسان ، ولکن یهذّبها

الدین الإسلامی لا یتنکّر لنزعات التفرقة ، ولا یدعو إلی هدمها ، ویعتبرها من حکمة اللّه ، ولکنه یحذّر من الإفراط فیها أو التمادی فیها الذی یسبّب الحروب والکوارث والظلم ، قال تعالی«وَ إِذْ قالَ رَبُّکَ لِلْمَلائِکَةِ إِنِّی جاعِلٌ فِی الْأَرْضِ خَلِیفَةً قالُوا أَ تَجْعَلُ فِیها مَنْ یُفْسِدُ فِیها وَ یَسْفِکُ الدِّماءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِکَ وَ نُقَدِّسُ لَکَ قالَ إِنِّی أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ »1 .

الإسلام یعترف بالوطنیة والقومیة ، ولکنه لا یجعلها أساساً للتفاضل

وهل یعترف الإسلام بالقومیة والوطنیة والعنصریة والهویة أم أنّه ینفیها تماماً؟

القرآن الکریم لا یتنکّر ولا ینفی ولا یدعو إلی إزالة الهویّات ، والانتماء إلی الوطن أو العرق أو القوم .

ونحن نعتقد بخطأ رأی من قال من الکتّاب الإسلامیین : إنّ الإسلام لا یعترف بالمواطنة أصلاً والقومیة والهویة التی یتّصف بها الإنسان

هناک إفراط وتفریط فی هذه المسألة عند البعض ، أمّا آیات سورة البقرة فتوازن بین الإفراط والتفریط فی هذه المسألة.

الإسلام یعترف بالمواطنة والهویة القومیة والعرقیة ، ولکنه یوازنها بجانب الوحدة المتمثّل فی الجانب الروحی الذی یتحرّک فی أجواء الهدایة التی تطرحها الآیات المذکورة ، والتقوی التی هی أساس التفاضل .

ص:232

القومیات والوطنیات آلیات للمعیشة ، ولیست أساساً لتقییم الإنسان

القومیات والوطنیات والعنصریات والأعراق المختلفة هی آلیات للمعیشة ولیست أُسساً للتقییم ، فلا یمکن تقییم الإنسان وتفضیلة بموطنه أو قومیته أو عنصره أو عرقه .

الاعتراف بالشعوب والقبائل فی القرآن الکریم ، والحکمة الإلهیة فی خلقها

قال تعالی:«یا أَیُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْناکُمْ مِنْ ذَکَرٍ وَ أُنْثی وَ جَعَلْناکُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَکْرَمَکُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاکُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِیمٌ خَبِیرٌ»1 .

وفی الآیة عدّة ملاحظات ، الملاحظة الأُولی هی : أنّها خاطبت الناس جمیعاً ، والملاحظة الثانیة هی : «أنّها ساوت بین جمیع البشر من خلال رجوعهم جمیعاً إلی آدم وحواء ، فالمصدر واحد ، ولا تفاضل بین هذا وذاک ، والملاحظة الثالثة :

أنّ الآیة قالت: «شعوباً» جمع شعب ، إذن الآیة تعترف بتعدد الشعوب ، و«قبائل» ، وتعترف بتعدد القبائل وتعدد الأوطان وتعدد الأنساب ، قال تعالی:

«اُدْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللّهِ »2 .

وبعد أن اعترفت الآیة بکل هذه النزعات التی تمیّز البشر ذکرت : أنّ الحکمة من خلق الإنسان فی مجموعات تمثّلها الشعوب والقبائل ،«لِتَعارَفُوا» ، قال المفسّرون لکی یعرف کل منّا صاحبه ، فلو کان کل البشر بنفس اللون ونفس القالب ونفس الشکل فسیستحیل النظام الاجتماعی ، ویزول الأمن البشری ، ولا تعرف حینها مع من تعاملت ، وإلی من أحسنت ، وإلی من أسَأت ، ومن تزوجت ، وممن

ص:233

اشتریت ، وممن بعت...(1) .

التعارف بین الشعوب عولمة بالمصطلح القرآنی

وهناک رأی آخر ذکره المفسّرون ، أی : یتبادل بعضکم بعضاً الخبرات والتجارب ، وهذه هی العولمة ، والقرآن الکریم بحث موضوع العولمة المبنیّة علی الحوار وتبادل الاستفادة .

والکثیر من الشباب الجامعیین والمثقفین یسمعون بأبحاث جدیدة ، ویدّعون أنّ الدین لم یعالج هذه المشکلة - نظراً لعدم اطلاعهم الکافی - فیصیبهم الإحباط والتراجع عن الفکر الدینی ، والانبهار بالغرب ، وما یطرحه من أفکار .

ولکن من المهم أن نعرف المرادفة اللغویة بین اللغة العصریة وبین لغة الدین ولغة القرآن ، ومن المهم البحث عن المصطلحات المترادفة التی تعبّر عن معنی واحد .

هناک جوانب ثابتة وجوانب متغیّرة فی الإنسان ، فالبیئة والوطن والعرق جوانب متغیّرة ، أمّا جانب الروح وکمالات الروح والأُمور التی تُصلح الروح وتُفسدها والقیم الأخلاقیة فهذه أُمور ثابتة ولیست متغیّرة .

غریزة الأکل والشرب والغضب والشهوة والعقل کل هذه الأُمور ثابتة فی کل زمان ومکان .

نعم ، قد تتغیّر البیئات ، ولکن المعانی هی هی لم تتغیّر ، وهناک معالجات عدیدة یطرحها القرآن الکریم بلغته وبمصطلحاته .

وقد ذکرنا علی سبیل المثال : مصطلح اللعن ومرادفاته الحدیثة المتمثّلة فی

ص:234


1- (1) المیزان 18: 326 .

الشجب والاستنکار والرفض والبراءة من الطرف الظالم(1) .

وهذه البحوث تعالجها البحوث المقارنة التی تقارن الفکر «أ» بالفکر «ب» .

أهل الاختصاص مدعّوون لخدمة الدین من خلال اختصاصهم

ونحن نوجّه عتبنا علی النخب المتخصّصة ؛ لأنّ بإمکانهم المساهمة فی خدمة الدین من خلال تخصّصاتهم المختلفة ، فالأطباء مدعوّون لبحث الطب الدینی ، والباحث فی علم النفس مدعو إلی الاطلاع علی التراث الدینی وأحادیث أهل البیت علیهم السلام فی معالجة المشاکل النفسیة ، والاقتصادیون مدعوّون إلی الإطلاع علی توصیات الدین فی الجانب الاقتصادی ، ویستطیعون خدمة الفقهاء فی مجال تخصّصهم ، وهکذا بالنسبة للسیاسیین والإداریین أیضاً مدعوّون أیضاً لدراسة عهد الإمام علی علیه السلام لمالک الأشتر ، ونلاحظ أنّ کوفی عنان الأمین العام للامم المتحدة ، ذلک المسیحی الذی لا صلة له بعلی علیه السلام لا فی اللغة ولا فی القوم ولا فی الدین ، مع ذلک طالب بأن تکون قولة الإمام علی علیه السلام لمالک الأشتر ، فإنّهم صنفان :

«إمّا أخٌ لک فی الدین ، أو نظیر لک فی الخالق»(2) هذه المقولة ینبغی أن تکون شعاراً لجمیع المنظّمات الحقوقیة فی العالم ، وطالب أن تصوّت دول العالم علی أن یکون عهد علی علیه السلام لمالک الأشتر مصدراً من مصادر الأُمم المتحدة ، وفعلاً صوّتوا علی ذلک ، فأین نحن من هذا التراث ، وماذا قدّمنا له؟ وقد سمعت أنّ الأُمم المتحدة تعتمد علی تراث الإمام علی علیه السلام فی بعض تشریعاتها ، ونحن مطالبون

ص:235


1- (1) راجع المحاضرة الأُولی ، تحت عنوان : اللعن مفهوم قرآنی یراد منه البراءة من الظالم ومساندة المظلوم .
2- (2) میزان الحکمة 5: 2013 ، الحدیث 13198 .

بإقامة مؤتمر أو حفل تکریم لهذا الرجل الذی کرّم تراث علی علیه السلام .

نحن نرجو أن نحقق أعلی مراتب العلم ، والوصول إلی النجومیة العلمیة فی کلّ المجالات ، لکی نرسم صورة مشرفة لدیننا ومذهبنا ووطننا .

التقوی والجوهر مناط تقییم الإنسان ، لا المظاهر والترف المادی

إذن قیمة الإنسان فی تقواه ، کما أشارت الآیة الکریمة من سورة الحجرات ، والقرآن الکریم یهذّب وجود التعدد ، ویطالب بعلومة الهدایة والتقوی ، واعتبارها أساساً للتفاضل .

والقرآن یطلق کلمة القری علی المدن التی لا تتمتع بالعنایة الروحیة ، ویطلق کلمة المدینة علی القریة التی تعتنی بالروح وتهذّب النفس ؛ لأنّ القرآن الکریم ینظر إلی المدنیّة الروحیة ویعطیها الجانب المتقدّم علی المدنیّة المادیة .

وحضارة البدن والصناعة مطلوبة ، ولکنها لا تستطیع أن تسمو بالإنسان إلی الدرجات العالیة والقرب من اللّه ، والتخلّف قد یکون تخلّفاً روحیاً ، وقد یکون تخلّفاً مادیاً ، وهناک عدّة شواهد علی أنّ الحضارة الغربیة رغم ما توصلت إلیه من مستویً راقٍ فی المستوی الروحی إلّاأنّها تعیش فی صحراء روحیة قاتلة .

لقمان الحکیم بین المظهر والجوهر

لقمان الحکیم کان حبشیاً أسوداً ، وکان من أقبح الناس وجهاً ، ومع ذلک خیره اللّه بین النبوة والحکمة فاختار الحکمة ، وکان یأنس النبی داود علیه السلام به ، مع أنّ النبی داود کان بهیّ المظهر ، وله السؤدد علی بنی إسرائیل والملک العظیم ، کان یأنس بلقمان ویجالسه ویستمع الحکمة منه .

إذن فالمظهر لیس کل شیء ، بل هو لا یمثّل شیء إذا لم یستند إلی الجمال الروحی ، ولذلک فالآیات السابقة علی الآیة التی ذکرناها فی سورة الحجرات قالت :«یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا یَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسی أَنْ یَکُونُوا خَیْراً مِنْهُمْ وَ لا نِساءٌ مِنْ

ص:236

نِساءٍ عَسی أَنْ یَکُنَّ خَیْراً مِنْهُنَّ وَ لا تَلْمِزُوا أَنْفُسَکُمْ وَ لا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِیمانِ وَ مَنْ لَمْ یَتُبْ فَأُولئِکَ هُمُ الظّالِمُونَ »1 .

النهی هنا عن الاستهزاء ، وذلک لأنّ المظهر قد یکون مظهراً بسیطاً ، والجوهر یکون جوهراً عظیماً ، ولذلک نهت الروایات عن الاستهزاء بشخص ما ، فقد یکون هذا الشخص عبداً مقرّباً من اللّه فیغضب اللّه له(1) .

القرآن الکریم یشیر إلی نظریة بالغة الأهمیة فی الحضارة والثقافة ، ونحن نعیش تحدّیاتها ، وهی : أنّ الأُمم أو الأقوام أو الدول تعیش بینها التحقیر والاستنقاص والسخریة والاستهزاء والتوهین والإهانة والتناکر والتهکّم والتنفّر والتقبیح والطعن والتذمّر والنبز والغمز واللمز ، وفی مقابلة التحسین والمعاضدة والتعارف والاحترام والتجمیل والاستصلاح والانجذاب والتوقیر والتبجیل والمیل .

ص:237


1- (2) وسائل الشیعة 1: 116 ، الحدیث 291 .

ص:238

المحاضرة السادسة نتائج اهتمام المجتمع بقیمه ، ونتائج إهمالها

اشارة

محاور المحاضرة :

أوّلاً: الأفعال التی تتفشّی من خلالها القیم الاجتماعیة .

ثانیاً : إذا استهزء المجتمع بقیمة مّا ، فإنّه یتخلّص منها ویبعدها .

ثالثاً : عدم العمل بالحق ، وعدم التناهی عن الباطل هو سبب ثورة الحسین علیه السلام .

رابعاً : لا یمکن أن نطمئن إلی الفطرة الجماعیة والعقل الجماعی إذا کانا ملوّثین .

خامساً : من أبعاد الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر .

سادساً : المجتمع مسؤول عن الحفاظ علی قیم المعروف .

سابعاً : القرآن الکریم یأمر بالإصلاح المبنی علی العدل .

ثامناً : العولمة فی مرحلة التطبیق الإسلامی .

تاسعاً : العولمة الإسلامیة قائمة علی الحوار والاقتناع الفکری .

عاشراً : الحسین علیه السلام یحیی دین النبی ویعید مبادءه .

شعر منسوب إلی الحسین علیه السلام

من الأشعار التی تُؤثر عن سید الشهداء علیه السلام ظهر عاشوراء ، قوله علیه السلام :

أنا ابن علی الحر من آل هاشمکفانی بهذا مفخر حین أفخرُ

و فاطم أمی ثم جدی محمدٌوعمی یدعی ذا الجناحین جعفرُ

ص:239

ونحن ولاة الحوض نسقی محبنا بکأس رسول اللّه ما لیس ینکرُ

إذا ما أتی یوم القیامة ظامئاً إلی الحوض یسقیه بکفیه حیدرُ(1)

فهل یعتبر هذا النوع من الفخر من التعصّب للحسب والنسب؟! بل هو فخر بالدین ، والقرب من رب العالمین ، ومن رسول اللّه علیه السلام وما أعطاه اللّه لأهل البیت علیه السلام یوم القیامة ، وقد قلنا أنّ الدین لا یلغی النسب والقبیلة والانتماء إلی الوطن ، ولکنه یرفض أن تکون هی مناط التفاضل ، بل یجعل التقوی هی المناط فی التفاضل بین البشر .

الأفعال التی تتفشّی من خلالها القیم الاجتماعیة

وهناک عدّة أفعال یمارسها البشر تتفشّی من خلالها القیم الاجتماعیة الصحیحة أو الخاطئة ، منها : التنافر ویقابله التعارف ، والتحسین ویقابله التقبیح ، والاستنقاص ویقابله الامتداح ، والسخریة والاستهزاء والتهکّم ویقابلها الاحترام والتوقیر والتبجیل ، واللمز والغمز والطعن ویقابله الفخر والتعریف والتجمیل ، النبز ویقابله الاستصلاح ، التذمّر والتنفّر ویقابله الانجذاب والمیل ، التوهین والإهانة ویقابله المعاضدة والمساندة .

هذه الأفعال عندما یمارسها المجتمع ، فهی تشیر إلی تفشّی وانسیاب وتمحور قیمة معیّنة فی المجتمع ، وعندما یقبّح المجتمع معنیً معیّناً فإنّ فی هذا دلیل علی أنّ هذا المعنی قد سلب من هذا المجتمع ، إذن القیم قد توجد فی هذا المجتمع ، وقد تفقد من هذا المجتمع سواءً کانت هذه القیم قیماً سامیة تمثّل الفضیلة أم قیماً هابطة تمثّل الرذیلة

ص:240


1- (1) تفسیر نور الثقلین 3: 565 ، سورة المؤمنون، قوله تعالی: فَإِذا نُفِخَ فِی الصُّورِ فَلا أَنْسابَ ، الرقم 157 .
إذا استهزء المجتمع بقیمة ما ، فإنّه یتخلّص منها ویبعدها

الآیة المذکورة فی سورة الحجرات التی تتکلّم عن الاستهزاء ، والتی ذکرناها فی المحاضرة السابقة یمکن الاستفادة منها ، أنّه إذا استهزء مجتمع ما بقیمة معیّنة ، فإنّ هذه القیمة تذبّل وتتلاشی وتبتعد عن هذا المجتمع ، وفی المقابل فإنّ الفخر والتضامن والاحترام والتبجیل والمساندة والمعاضدة والتجمیل والتحسین والاستصلاح والتوقیر کل هذه الأُمور تبعث علی ترکیز القیمة فی المجتمع ، فإن کانت هذه القیمة قیمة حسنة ، فإنّ تثبیت هذه القیمة من خلال احترامها وتبجیلها ومساندتها أمر حسن وممدوح ویرضی اللّه تعالی ، أمّا إذا کانت القیمة التی احترمها ذلک المجتمع قیمة هابطة ورذیلة ، فإنّ هذا الأمر یبعث علی غضب اللّه ، وفساد الفرد والمجتمع ، وستتبدل هویة المجتمع من مجتمع صالح إلی مجتمع فاسد

عدم العمل بالحق ، وعدم التناهی عن الباطل هو سبب ثورة الحسین علیه السلام

وهذا الأمر نفسه کان سبباً رئیسیاً فی ثورة سید الشهداء علیه السلام ، حیث یقول: «ألا ترون أنّ الحق لا یعمل به ، وأنّ الباطل لا یتناهی عنه»(1) فهو یشیر علیه السلام إلی لزوم تأصیل قیم الحق والخیر فی المجتمع ، وإزالة قیم الباطل والشر عن البیئة الاجتماعیة .

وقد قال اللّه تعالی :«لا یَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسی أَنْ یَکُونُوا خَیْراً مِنْهُمْ وَ لا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسی أَنْ یَکُنَّ خَیْراً مِنْهُنَّ »2 ، ولکن ما هو معیار الخیریّة ومعیار الشریّة ، ومعیار الحسن ومعیار القبح ، وهل هو الفطرة والعقل الاجتماعی؟

ص:241


1- (1) میزان الحکمة 8: 359 ، الحدیث 22114 .
لا یمکن أن نطمئن إلی الفطرة الجماعیة والعقل الجماعی إذا کانا ملوّثین

المدارس المنطقیة المختلفة قد تعتمد فی تصویب الأمر المعیّن أو تخطئته فی أیّ علم من العلوم حتی فی العلوم الإنسانیة والاجتماعیة ، علی الجانب الفکری فقط ، ویستنتجون ویقولون : إنَّ هذا استنتاجٌ عقلیٌ لا ریب فیه ، أمّا فی مدرسة المنطق التی تنتمی إلی فکر الإسلام وأهل البیت علیهم السلام ، فإنّها تعتمد علی أنّ النفس الإنسانیة لیست جانباً فکریاً تجریبیاً فقط ، بل إنّ النفس الإنسانیة تؤثّر فیها مجموعة قواها ، مثلاً : إذا أحب أحدکم شیئاً أصمه وأعمی بصره ، کما أنّ بغض الشیء یُعمی ویُصم ، وکذلک تربیة الإنسان تؤثّر فی تفکیره وإدراکه لما هو حسن وما هو قبیح ، ولا یمکن أن نطمئن لاستنتاجاتنا إذا کانت نفوسنا لیست فی حالة الطهارة ؛ لأنّه حتی البدیهیات والفطرة الإنسانیة تکون ممسوخة ومقلوبة ، وحتی العقل الجماعی فی المجتمع غیر المؤمن یکون عقلاً مقلوباً منکوساً ، وحینها تتبدل الأعراف والسیر الإنسانیة ، وحینها یأتی آتٍ ویقول: «هذا عامل متغیّر فی المجتمع ، فیجب قراءة النص علی وفق العقل الجماعی» ، وکیف نستطیع التعامل مع عقل منکوس ومقلوب وممسوخ ، ونغیّر النص إلی فکر منحرف ، وحیث إنّ المجتمع قد احترم القیم الهابطة أصبح مجتمعاً هابطاً فاسداً فلابدّ أن یکون تقییمه وعقله وقضاؤه وآراؤه فاسدة ، وحینها تکون قراءة النص وفق نظرة المجتمع المنحرف انحرافاً ، ولا یجدی التبریر بأنّ الدین یجب أن یواکب العصر والأعراف المختلفة والتغیّرات الاجتماعیة ؛ لأنّ الدین یواکب المتغیّرات إذا لم تکن تصطدم مع ثوابته ، ولا یمکنه أن یواکب قیم الانحراف والهبوط الفکری والأخلاقی والرذیلة .

وفی الحدیث: «لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنکر أو لیستعملنّ علیکم

ص:242

شرارکم فیدعوا خیارکم فلا یستجاب لهم»(1) ، وفی الحدیث:«... کل مولود یولد علی الفطرة ، فما یزال علیها حتّی یعرب عنها لسانه فأبواه یهوّدانه أو ینصّرانه أو یمجّسانه»(2) إذن الفطرة قد تتلوّث فتصیر فطرة منکوسة ، وهکذا بالنسبة للعقل الجماعی .

من أبعاد الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر

إذن من أبعاد الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر أن نقبّح القبیح وأن لا نستحسن القبیح أو نحترم القبیح أو نجمّل القبیح ، حیث إنّ الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر لا یقتصر علی کلمة نطلقها هنا أو هناک ، بل هو تقبیح القبیح والاستهزاء به ونبذه ورفضه ونکرانه والتهکّم به والسخریة به وطعنه ولمزه وغمزه ، وهذا ضمن الحدود الشرعیة ، لأنّنا لسنا فی مقام الدعوة إلی إسقاط شخصیات بغیر مبرر شرعی .

المجتمع مسؤول عن الحفاظ علی قیم المعروف

الأمر بالمعروف یعنی أنّه هناک مجموعة من القیم السامیة الإلهیة یکون المجتمع مسؤول عنها وعن الحفاظ علیها وعن تسلیمها للأجیال القادمة بنقائها وصفائها ، وأن نفتخر بالمعروف ونعزّزه فی المجتمع وندعوا إلیه .

والاستهزاء بالمنکر ورفضه ونبذه یشکّل مصداقاً من مصادیق النهی عن المنکر ، وإذا افتقد المجتمع هذه الحالة فإنّه یمر فی حالة خطیرة جدّاً تهدّد علاقته باللّه تعالی وبمبادیء الدین وقیمه. والآیات «9 - 13» من سورة الحجرات تعالج

ص:243


1- (1) میزان الحکمة 5: 1945 ، الحدیث 12728 .
2- (2) میزان الحکمة 2: 781 ، الحدیث 4916 .

موضوع العولمة من جهات مختلفة ، وتوازن بین جهات الوفاق وجهات الاختلاف .

القرآن الکریم یأمر بالإصلاح المبنی علی العدل

ومن الآیات التی تکلّمت حول بحث العولمة ، هی قوله تعالی:«وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَیْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَی الْأُخْری فَقاتِلُوا الَّتِی تَبْغِی حَتّی تَفِیءَ إِلی أَمْرِ اللّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَیْنَهُما بِالْعَدْلِ وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اللّهَ یُحِبُّ الْمُقْسِطِینَ »1 .

لِمَ قیّد القرآن الکریم الإصلاح بالعدل؟ وهو یعنی : إنهاء القتال والمواجهة العسکریة ، والتراضی لا عن طریق الضغط العسکری أو الضغط الإعلامی ، والقرآن لایدعو إلی الصلح بأیّ طریقة ، وإنّما الصلح القائم علی العدل والقسط .

العولمة فی مرحلة التطبیق الإسلامی

النبی صلی الله علیه و آله فی السنة الثالثة من الهجرة دعا المقوقس ملک القبط ، ودعا هرقل ملک الروم ، ودعا کسری ملک الفرس ، ودعا النجاشی ملک الحبشة إلی الإسلام ، وکان خطاب النبی صلی الله علیه و آله لهم بهذا الشکل : «بسم اللّه الرحمن الرحیم. من محمّد رسول اللّه عبده ورسوله إلی هرقل عظیم الروم - مثلاً - وسلام علی من اتّبع الهدی.

أمّآ بعد فإنّی أدعوک برعایة الإسلام أسلم تسلم...»(1) ، وذکر النبی فی رسالته إلی هرقل والمقوقس ، قوله تعالی«قُلْ یا أَهْلَ الْکِتابِ تَعالَوْا إِلی کَلِمَةٍ سَواءٍ بَیْنَنا وَ بَیْنَکُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَ لا نُشْرِکَ بِهِ شَیْئاً وَ لا یَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا

ص:244


1- (2) بحار الأنوار 20: 386 ، باب مراسلاته الی الملوک ، وکذا دراسات فی ولایة الفقیه وفقه الدولة الاسلامیة 2: 706 ، فقد ذکر الرسائل جمیعاً .

اِشْهَدُوا بِأَنّا مُسْلِمُونَ »1 .

العولمة الإسلامیة قائمة علی الحوار والاقتناع الفکری

هذه هی العولمة الإسلامیة التی خاطب بها النبی صلی الله علیه و آله والأُمم الأُخری ، العولمة المنطلقة من مفاهیم القرآن الکریم القائمة علی المساواة والحوار المنطقی«کَلِمَةٍ سَواءٍ» ، وقد رفع القرآن الکریم فی زمان کانت البشریة ترزح تحت نیر العبودیة والتفرقة العنصریة والتخلّف العلمی والحضاری .

إذن الحوار لا علی فرض الآراء بالقوّة العسکریة أو الاقتصادیة ، بل من العولمة المنطلقة من الاقتناع الفکری والعامل الثقافی ، لا من الترهیب والترغیب .

والآیة تشیر إلی عدّة أُمور ، أوّلاً : الکلمة السواء ، ثانیاً ، العبودیة للّه، ثالثاً :

رفض التسلّط من قبل بعض البشر علی بعض ، ووجود الحریة للبشر ، وعدم خضوع بعضهم لبعض .

إذن القرآن جعل لغة العولمة هی لغة الحوار ، وهذا منطق متمدّن راق طرحه القرآن فی تلک الأزمة المتخلّفة علی صعید النظریة ، وعلی صعید التطبیق فکان النبی صلی الله علیه و آله یساوی بین بلال الحبشی وصهیب الرومی وسلمان الفارسی وبین العرب ، بل إنّه قد فضّل سلمان الفارسی ، وقال: «سلمان منّا أهل البیت»(1) لا لعنصره ، وإنّما للمستوی الروحی الذی ملکه وتمیّز به .

أخلاق النبی صلی الله علیه و آله وسیاسته ومبادئه عامل أساسی فی العولمة الإسلامیة

المستشرقون یعترفون أنّ العامل الأساسی فی نشر الإسلام هو أنّ أهالی البلدان المفتوحة کانوا یساعدون المسلمین علی فتح بلدانهم ؛ لأنّهم کانوا یعانون

ص:245


1- (2) بحار الأنوار 20: 198 ، باب غزوة الأحزاب وبنی قریظة .

من أنظمة دکتاتوریة ظالمة تضطهدهم وتذیقهم أنواع الذل والظلم ، وأنّ سیرة النبی الأعظم البسیطة وتواضعه ومساواته بین المسلمین کان لها الأثر الأکبر فی تقبّل الناس لهذا الدین ، والنبی لم یلغ القبائل ولم یحلها ، بل أبقی النظام القبلی کآلیّة للمعیشة ، ولکنه لم یجعل هذا الانتماء لهذه القبیلة أو تلک معیاراً للتفاضل والتفاخر والاستعلاء علی الآخرین ، وعلی الرغم من أنّ المنهج الإسلامی الذی أسس له النبی محمّد صلی الله علیه و آله سرعان ما تعرّض إلی التشویه والانحراف الذی کان یمارسه ملوک بنی أمیة وبنی العباس إلّاأنّه رغم ذلک استطاع أن یحقق الکثیر ، وأن یجذب النفوس ، وأن یستقطب قطاعات واسعة من المجتمعات المختلفة

اختلاف المنهج بعد النبی صلی الله علیه و آله

وهناک مؤاخذات تؤخذ علی الخلفاء الثلاثة بعد النبی تخالف سیرته صلی الله علیه و آله ، ونحن نطرح هذه الأُمور من باب البحث العلمی ، لا من باب التعصّب المذهبی ، منها : - علی سبیل المثال لا الحصر - هو التفرقة فی السیاسة المالیة ، حیث فرّق فی العطاء بین الموالی والعرب ، وبین قریش وغیر قریش ، ومنع الموالی من دخول المدینة ، وأنّ ولاة الأمصار لایمکن أن یکونوا من الموالی(1) ، حتی أنّ الشعوب الأُخری غیر العربیة صار لدیها ردود فعل تجاه العرب ، وظهر تیار الشعوبیة المعادی للعرب کردّ فعل علی تصرفات کانت بعیدة عن منهج النبی محمّد صلی الله علیه و آله .

حتی أنّ المهاجرین والأنصار طالبوا علیاً علیه السلام بأن یمیّز هم بالعطاء ، ولکنه قال لهم : إنَّ نصرتهم للنبی محمّد لها أجرها الأُخروی ، ولیس من حقّهم المطالبة بالتمیّز علی الآخرین فی الدنیا(2) .

ص:246


1- (1) من حیاة الخلیفة عمر بن الخطاب : 180 .
2- (2) میزان الحکمة 7: 2995، الحدیث 19416 .

وعندما جاء علی علیه السلام لم یشأ أن یتوسّع فی رقعة البلاد الإسلامیة ، والداخل الإسلامی یعانی من الخواء والفساد ، فتوجّه إلی الإصلاح الداخلی ، وللأسف فقد واجهه أصحاب الجمل ، وواجه العصبیات القبلیة ، والعصبیات القرشیة ، والأحزاب التی لم یکن یروق لها عدل علی علیه السلام . ودوافع حرب الجمل معروفة .

الحسین علیه السلام یحیی دین النبی ویعید مبادءه

ومنهج النبی محمّد صلی الله علیه و آله نراه عند سبطه الإمام الحسین علیه السلام فی یوم عاشوراء الذی أخذ علی عاتقه إحیاء مبادیء جدّه محمّد صلی الله علیه و آله التی تعرّضت للتشویه والانحراف علی أیدی بنی أمیة ، فنری أنّ الحسین بن علی علیه السلام فی یوم عاشوراء یضع خدّه علی خدّ جون ذلک العبد ، وهذا نوع عظیم من أنواع الاحترام عند العرب ، ویساوی الحسین علیه السلام بین جون - العبد الأسود - وبین علی الأکبر ، السید القرشی الذی ینتسب لرسول اللّه صلی الله علیه و آله .

ومبدأ العدل متجذّر فی مذهب أهل البیت علیهم السلام الذی یرفض أن یکون الخروج علی ولی الأمر حراماً ، کما هو فی المذاهب الأُخری ، والإمامیة تضع شروطاً للإمام أشدّ ممّا تنشده البشریة ، فنحن نعتقد أنّه معصوم ، فیتوصل إلی النظام الحقوقی العدل ، والنظام المالی العادل ، والنظام القضائی العادل ، والنظام السیاسی العادل ، والسیرة العادلة بدون أیّ تفرقة بین مؤمن ومؤمن ، وأنّ الحاکم لیس الإمام المعصوم أو الرسول ، بل الحاکم الأوّل هو اللّه ، وأنّه لیس من حق الرسول صلی الله علیه و آله أو الإمام التشریع بدون أمر اللّه ونهیه ، وأنّ الإمام المعصوم لا یشاء إلّا ما یشاء اللّه ، ولا یفعل ما لا یرضی اللّه تعالی ، إذن حاکمیة اللّه تتجلّی فی فعل المعصومین الذین هم عباد مکرمون لا یعصون اللّه ما أمرهم ، ویفعلون ما یؤمرون ، وهذا لیس مغالاة ، بل هو التوحید فی الحاکمیة الذی یتمیّز به مذهب أهل البیت علیهم السلام .

ص:247

ص:248

المحاضرة السابعة الحوار الحقیقی یوازن بین نقاط الاختلاف ونقاط الاتفاق

اشارة

محاور المحاضرة:

أوّلاً: الحوار یجب أن یکون متوازناً بین نقاط الاختلاف ونقاط الاتفاق .

ثانیاً : یجب أن تکون نقاط الاتفاق حقیقیة وواقعیة لا مختلقة ولا مصطنعة .

ثالثاً : یجب أن یعالج الحوار أسباب الفتنة .

رابعاً : یجب أن یشمل الحوار جمیع الطوائف فی مؤتمرات التقریب .

خامساً : جهات الاتفاق بین المجتمعات الإنسانیة .

سادساً : الدین واحد بین جمیع الأنبیاء .

سابعاً : أُصول الدین وأرکان فروع الدین وأُصول المحرّمات ثابتة فی کل الشرائع .

ثامناً : بعض الآیات التی تدل علی أنَّ کل الأنبیاء مسلمون .

تاسعاً : جمیع الأنبیاء أنصار النبی محمّد صلی الله علیه و آله .

الحوار یجب أن یکون متوازناً بین نقاط الخلاف ونقاط الاتفاق

الباحث فی الأدیان تنتابه وتعتوره نزعة للوحدة ، وکذلک تنتابه نزعة خلافیّة بین هذا الدین وذاک .

وهنا أیضاً نؤکّد علی التوازن بین هاتین النزعتین عند الباحث ، فإذا غلبت نزعة الوحدة ، فإنّها ستحاول إلغاء معالم هذا الدین وذاک ، وستتنکّر لنقاط

ص:249

الخلاف ، إذن الإفراط فی نقاط الاتفاق یعمی عن نقاط الاختلاف ، وإذا غلبت نزعة الفرقة ربما اتهمت الدین الآخر بما لیس فیه من أجل إسقاطه وتوهینه ، ویکون الإفراط فی نقاط الاختلاف یعمی عن نقاط الاتفاق أیضاً .

وما قلناه فی الخلاف بین الأدیان نقوله فی التقریب بین المذاهب . ونحن لسنا بصدد رفض حوار الأدیان أو تقریب المذاهب ، ولکن یجب أن یکون هذا الحوار وهذا التقریب مبنیّاً علی حالة التوازن والموضوعیة، فالتعدّد فی الآراء والقناعات والمسائل العقلیة والعقائدیة ، وفی مقابل هذا التعدّد هناک نقاط مشترکة بین المذاهب والأدیان ، وکذلک علی الصعید الإنسانی .

وغیاب الحوار له آثار سلبیة علی البشریة، فعلی سبیل المثال: توتر العلاقات بین المسلمین والمسیحیین فی أکثر من بلد نتیجة وجود خلافات، وغیاب حالة الحوار التی تحافظ علی أرواح وأموال الناس من هاتین الدیانتین .

یجب أن تکون نقاط الاتفاق حقیقیة وواقعیة لا مختلقة ولا مصطنعة

یجب أن لا نفتعل نقاط اشتراک وهی غیر موجودة ، وذلک لخلق حالة الحوار ؛ لأنّها لیست واقعیة وحقیقیة ، فیکون الحوار قائماً علی أساس هش ، ومن الصعب الاستمرار علی حوار قائم علی أساس غیر واقعی ، ومن الأُمور الصحیحة أن نعترف بنقاط الاختلاف بصورة واقعیة وجدّیة ، وأن نرکّز علی نقاط الاشتراک الواقعیة والصحیحة لا المختلقة والمصطنعة ، ونحن لا ننفی أنّ المجاملة فی الحوار لها ثمرة طیّبة ، وتعمل علی إزالة أجواء التوتّر وإخماد الفتنة ، وتخلق جوّاً من الود ، ولکننا ندعوا أن یکون الحوار مبنیّاً علی أُسس صحیحة .

یجب أن یعالج الحوار أسباب الفتنة

الحوار یجب أن یبحث عن أسباب الفتن وبؤر التوترات ، فمثلاً : ما یحدث من

ص:250

مجازر فی پاکستان ، ومن قبلها أفغانستان ، وما یحدث من تقاتل بین المسلمین والمسیحیین ، والکتب التی تکفّر المسلمین وتبیح دماءهم ، ونحن لا ندعوا إلی الاصطدام بهؤلاء وتصفیتهم ، وإنّما نرکّز الجهود لمنعهم من هذه الأعمال وإیقافهم عند حدّهم ، فهؤلاء یغضّون بصرهم عن الفسق والفساد المنتشر فی الأسواق والمجمّعات والجامعات التی تعجّ وتضجّ بالسلوکیات الهابطة، ویثیرون الفتن حتّی فی المناهج الدراسیة التی تطعن الطائفة ، وتعتبرها طائفة تمارس البدع، مع أنّ هذه الطائفة هی الأکثریة فی هذا البلد ، وهم الذین ساهموا بشکل فعّال ، وبفضلهم حققت البحرین استقلالها من خلال التصویت علی الاستقلال عن إیران فی بدایة السبعینیات من القرن الماضی الذی أقامته الأُمم المتحدة ، فکیف تحتوی المناهج الدراسیة فی هذا البلد علی طعن واضح یعتبر التوسّل بالأولیاء بدعة ، ولا یتم الالتفات إلی هذه المشکلة

فی أفغانستان بعد سقوط حکومة طالبان ، الدستور یعترف بوجود مذهبین ، المذهب الحنفی والمذهب الجعفری ، مع أنّ الجعفریین یمثّلون الثلث ، والأحناف یمثّلون الثلثین ، ویدرّس المذهب الجعفری هناک إلی جانب المذهب الحنفی ، فکیف بنا ونحن فی البحرین ونحن أکثریة تطعننا المناهج الدراسیة ولا تراعی مذهبنا ، وحتی لولم نتکلّم باعتبارنا أکثریة ، یجب علی وزارة التربیة والتعلیم أن تحترم مذهبنا کما احترمت باقی المذاهب الإسلامیة فی البحرین ، وأن لا تسمح للأقلام المدسوسة أن تنخر فی الوحدة بین السنة والشیعة فی البحرین ، وخصوصاً أنّ البحرین احتضنت مؤخّراً مؤتمراً للتقریب بین المذاهب ، وهذا السلوک فی وزارة التربیة والتعلیم لا یناسب هذا التوجّه .

یجب أن یشمل الحوار جمیع الطوائف فی مؤتمرات التقریب

نلاحظ أنّ مؤتمرات التقریب تستبعد الإسماعیلیین ، مع أنَّ أعدادهم کبیرة

ص:251

جدّاً ، وکذلک تستبعد طائفة العلویین ، وهم یمثّلون ثلاثاً وعشرین ملیوناً فی ترکیا ، بل بعض المؤتمرات استبعدت حتی الفرقة الزیدیة ، والأکثر من ذلک استبعاد قیادات الفرقة الصوفیة التی تمثّل عدداً هائلاً جدّاً من إخواننا السنّة الذین ینتشرون فی مصر وتونس والجزائر والسودان وأندونیسیا ومالیزیا والهند ، فلماذا هذا التغییب لطوائف عدیدة من المسلمین؟! وهذا یکرّس الفرقة ، ولا یکرّس الوحدة ؛ لأنّ هؤلاء المغیّبون یشعرون بأنّهم مستبعدون من الصف الإسلامی .

جهات الاتفاق بین المجتمعات الإنسانیة

قال تعالی:«وَ لَقَدْ کَرَّمْنا بَنِی آدَمَ وَ حَمَلْناهُمْ فِی الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّیِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلی کَثِیرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِیلاً»1 ، هناک بعض الباحثین فی الحوزة العلمیة یعتبرون أنّ هذه الآیة تمثّل أصلاً قانونیاً من أُسس التقنین الإسلامی ، وهو أنّ الأصل فی الإنسان أن یکون محترماً ، وأن تکون له حرمة إلّاما أخرجه الدلیل ، أی : أی : الإنسان الذی یرتکب جریمة أو إثماً فیکون له عقاب یحدّده الشرع .

وکذلک آیة الفطرة ، قوله تعالی«فَأَقِمْ وَجْهَکَ لِلدِّینِ حَنِیفاً فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِی فَطَرَ النّاسَ عَلَیْها لا تَبْدِیلَ لِخَلْقِ اللّهِ ذلِکَ الدِّینُ الْقَیِّمُ وَ لکِنَّ أَکْثَرَ النّاسِ لا یَعْلَمُونَ »2 .

ونشیر إلی أنّ الکثیر من التشریعات عند الأُمم الأُخری تراعی الفطرة الإنسانیة ، وقد لاتکون فی تفاصیلها مطابقة للحکم الإسلامی ، ولکنها تراعی الفطرة .

الدین واحد بین جمیع الأنبیاء

القرآن الکریم یقرر أنّ الدین دین واحد ، وأنّ جمیع الأنبیاء قد جاؤوا بدین

ص:252

واحد ، والشرائع هی المتغیّرة من نبی إلی آخر ، وهذا الدین بعث به أولوا العزم الخمسیة ، وهم نوح وإبراهیم وموسی وعیسی ومحمد صلی الله علیه و آله ، وقد وقع بعض الباحثین فی إشکال ، وهو أنّ النبی آدم لم یبعث بشریعة ، إذن لم یبعث بدین ، إذن لم یکن آدم نبیاً ، والمشکلة أنّ هولاء لم یفرّقوا بین الدین والشریعة ، ولذلک وقعوا فی هذا الإشکال ، والصحیح أنّ الأنبیاء قد بعثوا بالشرائع ، والدین لا یتعدّد .

أُصول الدین وأرکان فروع الدین وأُصول المحرّمات ثابتة فی کل الشرائع

الدین یمثّل أُصول الاعتقاد وأرکان الفروع ، کالصلاة والصوم والحج والزکاة ، فمثلاً : آدم علیه السلام صلّی وزکّی وحجّ وصام. نعم ، قد تختلف تفاصیل الصلاة أو تفاصیل الحجّ أو الصوم ، ولکنها فی نفسها ثابتة لکل الأنبیاء ، ولایمکن نسخ الاعتقادات ؛ لأنّها مرتبطة بتوحید اللّه والعدل والآخرة ، ولا یمکن أن یبعث نبی بصلاة ولا یبعث نبی آخر بصلاة ، وهکذا بالنسبة لأُصول المحرّمات والمنکرات ، مثل: الزنا واللواط والسحاق وتحریم الربا ، ولا یمکن أن یحلّها نبی ویحرّمها نبی آخر ، فکلّ هذه الأُمور أُمور فطریة ، والفطرة البشریة ترفض هذه الممارسات التی تحوّل المجتمع الإنسانی إلی غابة الإباحة الجنسیة التی تهدم الکیان الإنسانی ، وکلّما ابتعد الإنسان عن فطرته کلّما انتشرت الرذیلة والفواحش ، وکلّما انتشر الرعب والخوف ، سلب الأمن والاستقرار علی صعید الفرد والمجتمع .

قال تعالی«شَرَعَ لَکُمْ مِنَ الدِّینِ ما وَصّی بِهِ نُوحاً وَ الَّذِی أَوْحَیْنا إِلَیْکَ وَ ما وَصَّیْنا بِهِ إِبْراهِیمَ وَ مُوسی وَ عِیسی أَنْ أَقِیمُوا الدِّینَ وَ لا تَتَفَرَّقُوا فِیهِ »1 .

وقال تعالی:«وَ أَنْزَلْنا إِلَیْکَ الْکِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَیْنَ یَدَیْهِ مِنَ الْکِتابِ وَ مُهَیْمِناً عَلَیْهِ فَاحْکُمْ بَیْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمّا جاءَکَ مِنَ الْحَقِّ لِکُلٍّ

ص:253

جَعَلْنا مِنْکُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً»1.

بعض الآیات التی تدل علی أنَّ کل الأنبیاء مسلمون

إذن«إِنَّ الدِّینَ عِنْدَ اللّهِ الْإِسْلامُ »2 ، وهذا الإسلام لیس دین محمّد صلی الله علیه و آله فقط ، وإنّما هو دین کل الأنبیاء ، ومن هذا المنطلق یکون التعبیر عن شریعة سیّد المرسلین صلی الله علیه و آله بالشریعة المحمّدیة صلی الله علیه و آله أدق من التعبیر عنها بالشریعة الإسلامیة ؛ لأنّ الإسلام هو دین الأنبیاء جمیعاً ، ولا یختص بالنبی محمّد صلی الله علیه و آله .

قال تعالی:«وَ إِذْ یَرْفَعُ إِبْراهِیمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَیْتِ وَ إِسْماعِیلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنّا إِنَّکَ أَنْتَ السَّمِیعُ الْعَلِیمُ رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَیْنِ لَکَ وَ مِنْ ذُرِّیَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَکَ وَ أَرِنا مَناسِکَنا وَ تُبْ عَلَیْنا إِنَّکَ أَنْتَ التَّوّابُ الرَّحِیمُ رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِیهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ یَتْلُوا عَلَیْهِمْ آیاتِکَ وَ یُعَلِّمُهُمُ الْکِتابَ وَ الْحِکْمَةَ وَ یُزَکِّیهِمْ إِنَّکَ أَنْتَ الْعَزِیزُ الْحَکِیمُ وَ مَنْ یَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِیمَ إِلاّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَ لَقَدِ اصْطَفَیْناهُ فِی الدُّنْیا وَ إِنَّهُ فِی الْآخِرَةِ لَمِنَ الصّالِحِینَ إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِینَ وَ وَصّی بِها إِبْراهِیمُ بَنِیهِ وَ یَعْقُوبُ یا بَنِیَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفی لَکُمُ الدِّینَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ »3 .

هذه الآیات من القرآن الکریم تبیّن بوضوح أنّ هؤلاء الأنبیاء جمیعاً مسلمون ، ودینهم الإسلام ، والأنبیاء جمیعاً یتحرّکون فی خط واحد ، ویعبدون إلهاً واحداً .

وقد رضی اللّه عن الدین بإمامة علی علیه السلام فی یوم الغدیر ، فقال تعالی:«اَلْیَوْمَ أَکْمَلْتُ لَکُمْ دِینَکُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَیْکُمْ نِعْمَتِی وَ رَضِیتُ لَکُمُ الْإِسْلامَ دِیناً»4 ، ولذلک فإمامة

ص:254

علی علیه السلام جزء من الإسلام ، أی : من الدین ، وهذا لا یعنی تکفیر من لا یقول بإمامته علیه السلام ، ونحن نعترف ونقرّ أنّ الذین لا یقولون بإمامته علیه السلام جمیعاً مسلمون ، وإنّما هذا یقع فی بحث الإیمان .

جمیع الأنبیاء أنصار النبی محمّد صلی الله علیه و آله

«وَ إِذْ أَخَذَ اللّهُ مِیثاقَ النَّبِیِّینَ لَما آتَیْتُکُمْ مِنْ کِتابٍ وَ حِکْمَةٍ ثُمَّ جاءَکُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَکُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلی ذلِکُمْ إِصْرِی قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَ أَنَا مَعَکُمْ مِنَ الشّاهِدِینَ »1 .

ومن الملاحظ أنّ القرآن الکریم قد أخذ علی النبیین میثاقاً لنصرة سیّد المرسلین صلی الله علیه و آله ، وجمیع الأنبیاء أنصار لمحمّد صلی الله علیه و آله ، وقد أقرّوا بذلک ، أمّا بالنسبة للنبی فلم یؤخذ علیه المیثاق احتراماً له ، مع أنّ القرآن ینص بصراحة أنّ النبی یؤمن بالسابقین من الأنبیاء والمرسلین .

وهنا نذکر ملاحظة ، وهی أنّه لا یصح أن ننکر ونرفض کل ما ورد فی التوراة والإنجیل ، صحیحٌ أنّهما قد تعرّضا للتحریف ، ولا یمکن الاعتماد علیهما کمصدر سلیم تماماً ؛ لأنّ هناک بعض ممّا ذکر فی التوراة والإنجیل صحیح ، ولا یصح أن نرفضه کله تماماً ولا نقبل بأیّ شیء ، بل ما ورد یجب أن نغربله ونعرضه علی الأدلة ، ونری هل هو صحیح أم لا؟ وهل یتعارض مع القرآن الکریم أم لا؟

علی سبیل المثال : هناک الکثیر من الأُمور المشترکة بین الدین الإسلامی وشریعة النبی محمّد صلی الله علیه و آله وبین ما ذکر فی التوراة والإنجیل .

ص:255

ص:256

المحاضرة الثامنة الحفاظ علی الوحدة الإسلامیة مع وجود الخلاف فی الأُصول والفروع

اشارة

محاور المحاضرة:

أوّلاً : آراء فی الخلاف بین المذاهب الإسلامیة .

ثانیاً : الخلاف بین المذاهب واقع فی العقائد کما هو واقع فی الفقه .

ثالثاً : ضرورة التفریق بین الإسلام والإیمان .

رابعاً : المنافقون یعتبرون من المسلمین ؛ لأنّهم یظهرون الإسلام .

خامساً : الإیمان مرتبة أرقی من الإسلام .

سادساً : الإمامة والعدل من أُصول الدین عند أتباع مذهب أهل البیت علیهم السلام .

سابعاً : أُصول الدین فی مرتبة الإیمان تختلف عن أُصول الدین فی مرتبة الإسلام .

ثامناً : أُصول الدین تتضمّن مفهوم التوحید .

تاسعاً : الإمامة توصل إلی طاعة اللّه .

عاشراً : الإیمان النظری والإیمان العملی فی سورة الحمد .

آراء فی الخلاف بین المذاهب الإسلامیة

من الأُمور التی نود الإشارة لها فی إطار التقریب بین المذاهب الإسلامیة ، هو أنّ البعض یقول : أنّ المذاهب الإسلامیة قائمة علی الاجتهادات المحضة المستندة

ص:257

إلی الأدلة الظنیة التی قد تکون معتبرة عند هذا المجتهد وقد لا تکون معتبرة عند ذاک المجتهد ، والبعض یقول : أنّ الخلاف بین المذاهب خلاف فقهی ولیس عقائدی ، والبعض یقول: أنّ أُصول الدین عند کل المسلمین واحدة ولا خلاف بین المذاهب علیها .

نحن نعتقد أنّ هذه الأُمور لا تخدم مسیرة التقریب التی نتمنی لها کل التوفیق ، وذلک لأنّ هذه الأُمور بعیدة عن الواقع والحقیقة ، ونحن تهمّنا الوحدة الإسلامیة وکل الأُمة الاسلامیة من منطلق أنَّ الإمام الحسین علیه السلام قد أعلن أنّ الإصلاح فی أُمّة جدّه ، هو هدف الثورة الحسینیة ، ولم یقل الإصلاح فی شیعة أبیه ، ممّا یدل علی اهتمام الحسین علیه السلام بعموم الأُمة الإسلامیة لا بفئة دون فئة .

إذن یجب أن تکون الصراحة والبحث عن الحقیقة وعدم التنکّر لها هی مدار الحوار . والآراء الحقیقیة لا تتنافی مع البحث عن المشترکات ، ویمکن للحوار أن یشق طریقه بصراحة وعلی أُسس واقعیة ، والقفز علی الحقیقة قد یخلق من الطائفتین طائفة ثالثة تزید من حدّة الشقاق والخلاف .

الخلاف بین المذاهب واقع فی العقائد ، کما هو واقع فی الفقه

البعض یعتقد أنّه إذا أقرّ أنّ المذاهب الإسلامیة تعیش الخلاف العقائدی فیما بینها ، فإنّ ذلک سیؤدّی إلی تکفیر طائفة لأُخری ، وأنّ أصحاب المذهب المعیّن یری أنّ أدلته قطعیة ویقینیة ، وحینها سوف یکفّر أتباع المذاهب الأُخری بناءً علی أدلته .

وهم من أجل أن یتخلّصوا من هذه العقدة نفوا أنّ هناک خلاف عقائدی بین المذاهب الإسلامیة ، ولکننا نری أنّ الخلاف العقائدی موجود ، مع أنّه لا یستلزم تکفیر طائفة لأُخری .

ص:258

ضرورة التفریق بین الإسلام والإیمان

الدین یتضمّن مرتبتین ، المرتبة الأُولی : ظاهر الإسلام الذی یتضمّن الإقرار بالشهادتین بلسانه «الإیمان باللّه والرسول صلی الله علیه و آله » ، والإیمان بالمعاد وبعض ضرورات الدین ، کمودّة أهل البیت علیهم السلام والصلاة وغیرها من ضرورات الدین ، ومن وصل إلی هذه المرتبة ، فله ما للمسلمین وعلیه ما علی المسلمین ، ویحرم دمه وماله وعرضه ، وله حقوق المواطنة الإسلامیة فی الأحوال الشخصیة والمعاملات ، وهذا لیس رأی مدرسة أهل البیت علیهم السلام ، بل هذا هو رأی المسلمین جمیعاً إذا استثنینا التکفیریین منهم .

المنافقون یعتبرون من المسلمین ؛ لأنّهم یظهرون الإسلام

ویندرج تحت اسم المسلمین المنافقون الذین یظهرون الإسلام ویبطنون الکفر ، وهذه الفئة التی توعّدها اللّه تعالی بأشدّ العذاب ، وأنزل فیهم سورة کاملة فی القرآن الکریم ، والذین فتحت ملفّاتهم فی سورة البراءة التی تتضمّن ثلاثة عشر فرقة تناویء النبی صلی الله علیه و آله ، مع ذلک لم یخرجهم النبی صلی الله علیه و آله من ظاهر الإسلام ومن دائرة المسلمین ، وهذا الطرح یسانده القرآن الکریم ، قال تعالی:«قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لکِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمّا یَدْخُلِ الْإِیمانُ فِی قُلُوبِکُمْ »1 .

فالقرآن الکریم یفرّق بوضوح بین المسلمین والمؤمنین ، وهذه حقائق قرآنیة لا یمکن معارضتها ، کما لا یوجد أیّ کتاب کلامی ینکر التفریق بین المسلمین والمؤمنین ، وهذا ممّا أجمعت علیه الأُمّة الإسلامیة .

الإیمان مرتبة أرقی من الإسلام

والمرتبة الثانیة : وهی المرتبة الأرقی ، وهی مرتبة الإیمان ، والإیمان هو

ص:259

الإسلام الحقیقی الواقعی فی الظاهر والباطن ، وهی المرتبة التی تؤهّل الإنسان المؤمن للوصول إلی رضا اللّه تعالی ، ودخول الجنّة ، والحصول علی ثواب اللّه تعالی .

الإمامة والعدل من أُصول الدین عند أتباع مذهب أهل البیت علیهم السلام

أتباع مدرسة أهل البیت علیهم السلام یعتقدون أنّ العدل والإمامة من أُصول الدین ، ویستندون إلی أدلة قطعیة کما یعتقدون ، منها علی سبیل المثال : قوله تعالی«اَلْیَوْمَ أَکْمَلْتُ لَکُمْ دِینَکُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَیْکُمْ نِعْمَتِی وَ رَضِیتُ لَکُمُ الْإِسْلامَ دِیناً»1 .

فالدین الذی یتضمّن التوحید والعدل والنبوة والمعاد لم یتم إلّاوالمعاد لم یتم إلّا بعد إثبات إمامة علی علیه السلام یوم الغدیر ، فکیف لا نجعل الإمامة من أُصول الدین ، والدین لم یکن مرضیاً عند اللّه تعالی إلّابالإمامة؟!

وکذلک آیة المودة«قُلْ لا أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبی »2 .

أی : أنّ الدین فی کفّه بما یتضمّنه من توحید وعدل ونبوة ومعاد ، ومودة أهل البیت علیهم السلام فی کفّة أُخری ، فهل من المناسب أن تکون الإمامة ومودّة أهل البیت علیهم السلام من ضمن فروع الدین وهی أجر الرسالة وجهد النبی صلی الله علیه و آله وهذه حقائق قرآنیة ولیست من باب المغالاة ، کما یتّهمنا البعض .

أُصول الدین فی مرتبة الإیمان تختلف عن أُصول الدین فی مرتبة الإسلام

فی مدرسة أهل البیت علیهم السلام هناک أُصول الدین فی مرتبة الإیمان ، وتتکوّن من التوحید والعدل والنبوة والإمامة والمعاد یوم القیامة ، أمّا أُصول الدین فی مرتبة الإسلام ، فتتضمّن التوحید والنبوة والمعاد ، وهی الأُمور التی إذا أظهرها إنسان

ص:260

معیّن أصبح مسلماً فی الظاهر .

أُصول الدین تتضمّن مفهوم التوحید

أُصول الدین کلها تتضمّن مفهوم التوحید ، فهناک توحید فی الذات وتوحید فی الصفات ، والنبوة توحید فی التشریع ، والإمامة توحید فی الحاکمیة السیاسیة والحاکمیة القضائیة والحاکمیة التنفیذیة ، ونحن نعتقد أنّ الإمام مرتبط باللّه فی کل شیء ، ابتداءً من الأُمور الجزئیة وانتهاءً بالأُمور الکلیة ؛ لأنّ الإمام یمثّل مشیئة اللّه لا یعصی اللّه ما أمره ویفعل ما یؤمر .

الإمامة توصل إلی طاعة اللّه

الإمامة توصل إلی طاعة اللّه فی الأُمور الدینیة والشؤون المالیة والقضایا السیاسیة والعسکریة والتشریعیة ، وفی کل الأُمور قال تعالی:«تَنَزَّلُ الْمَلائِکَةُ وَ الرُّوحُ فِیها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ کُلِّ أَمْرٍ* سَلامٌ هِیَ حَتّی مَطْلَعِ الْفَجْرِ»1 ، ففی کل سنة یتنزّل البرنامج السنوی الذی یتضمّن کل أمر من اللّه علی الإمام فی لیلة القدر .

الإیمان النظری والإیمان العملی فی سورة الحمد

سورة الحمد تتضمّن جزئین ، الجزء الأوّل : یتضمّن الإیمان النظری والتوحید والنبوة والمعاد ، «بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِیمِ* الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِینَ * اَلرَّحْمنِ الرَّحِیمِ * مالِکِ یَوْمِ الدِّینِ * إِیّاکَ نَعْبُدُ وَ إِیّاکَ نَسْتَعِینُ »2 .

الجزء الثانی : یتضمّن الإیمان العملی ، ویتضمّن مفهوم الإمامة ،«اِهْدِنَا الصِّراطَ

ص:261

اَلْمُسْتَقِیمَ * صِراطَ الَّذِینَ أَنْعَمْتَ عَلَیْهِمْ غَیْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَیْهِمْ وَ لاَ الضّالِّینَ »1 .

وهذا الصراط هم أهل البیت علیهم السلام ؛ لأنّهم مطهّرون ومعصومون ، فهم صراط مستقیم ، وهذا الصراط لیس صراط النبی صلی الله علیه و آله لوحده ؛ لأنّ الآیة لم تقل : (صراط الذین أنعمت علیه) ، وإنّما قالت:«صِراطَ الَّذِینَ أَنْعَمْتَ عَلَیْهِمْ » بالجمع ، فهم أهل البیت المعصومین علیهم السلام الذین لا یصحّ وصفهم مطلقاً بأنّهم مغضوب علیهم أو أنّهم ضالین ، أمّا غیر المعصوم فقد یغضب اللّه علیه إذا عصی ، وقد یضل کما یضل الآخرون ؛ لأنّه غیر معصوم ، وأهل البیت علیهم السلام هم الذین باهل بهم النبی نصاری نجران ، واختارهم من بین جمیع الأُمّة بما فیها الصحابة وزوجات النبی صلی الله علیه و آله ، ولو تتبعنا تاریخ أهل البیت علیهم السلام لما رأینا أنّهم ضلّوا فی أیّ جانب من جوانب الحیاة ، أو أنّهم ظلموا أحداً ، أو غضب اللّه علیهم ، أو أنّهم عبدوا وثناً ، أو شربوا خمراً ، أو عصوا اللّه ، أو أشرکوا به طرفة عین أبداً .

حدیث الفرقة الناجیة کدلیل علی ما نقول

وفی حدیث الفرقة الناجیة الذی رواه المسلمون ، واتّفقوا علیه ، والذی یتضمّن هذا المعنی : «ستفترق أُمتی علی ثلاث وسبعین فرقة ، فرقة منها ناحیة... نفس هذا الحدیث یستفاد منه ما ذکرناه من التفریق بین الإسلام والإیمان ، فهو لم یخرج غیر الناجین من الإسلام ، ولکنه اعتبرهم من «أُمتی» ، أی : من المسلمین ، مع أنّهم من غیر الناجین ، ومن غیر المعقول أن تکون النجاة التی اعتمدت علیها الفرقة الناجیة هی نجاة تعتمد علی فرع من الفروع ، ولیس علی أصل من الأُصول .

إخوانناً أهل السنة والجماعة یرون أنّ من لا یعتقد بفضائل الخلفاء الثلاثة

ص:262

الذین حکموا بعد النبی صلی الله علیه و آله ، أو فضائل زوجات النبی ، ومن ینتقد هؤلاء وینکر علیهم أفعالهم ، یعتقدون أنّ هذا الشخص لیس مؤمناً ، وإنّما هو مسلم فقط ، وإن کانوا یعتقدون بأنّ الخلافة من فروع الدین ، ولیست من أُصول الدین ، کما ذهب إلی هذا الرأی التفتازانی فی شرح المقاصد(1) ، والشریف الجرجانی فی شرح المواقف(2) .

إذن أهل السنّة یبنون العقیدة علی ما حدث بعد النبی صلی الله علیه و آله ، وهم یعتقدون أنّ فضائل الثلاثة الذین حکموا بعد النبی صلی الله علیه و آله أدلتها قطعیة ، وینفون الإیمان عمّن لا یعتقد بها ، ولکن لا یقولون بکفره ، هذا إذا استثنینا التکفیر بین المتعصّبین .

ومذهب أهل البیت علیهم السلام یعتقد أنّ أدلة إمامة الأئمة علیهم السلام واعتبار الإمامة من أُصول الدین تستند إلی أدلة قطعیة ، وأنّها من لوازم الإیمان إلّاأنّهم لا یکفّرون من لا یعتقد بها ، بل یعتبرونه مسلماً ، ولکنه لیس مؤمناً .

السید المرتضی والشیخ الطوسی والشیخ المفید ، قالوا : إنّ النص تارة یکون نصّاً جلیّاً ، وتارة یکون نصّاً خفیّاً ، والمنکر للنّص الجلی یخرج عن ظاهر الإسلام ، أمّا المنکر للنصّ الخفی ، فلا یخرج عن ظاهر الإسلام ؛ لأنّه ربما یعذر لعدم فهمه للنصّ الخفی ، وقد یکون النصّ خفیاً ومع ذلک یحمل فی طیّاته دلیلاً یقینیاً(3) .

وهنا ملاحظة نود الإشارة إلیها ، وهی أنّه قد یرد تعبیر الکفر لبعض المسلمین ، ولکن لا یعتبر تکفیراً فی مقابل الإسلام أو أنّه إخراج من الدین الإسلامی ؛ لأنّ الکفر علی درجات ، منها : کفر النعمة - علی سبیل المثال - وقد ورد الکفر تعبیراً عن عدّة معانی فی القرآن الکریم .

ص:263


1- (1) شرح المقاصد 5: 232 ، الفصل الرابع - فی الإمامة .
2- (2) شرح المواقف 8: 344 ، المرصد الرابع فی الإمامة ومباحثها .
3- (3) الشافی فی الامامة 2: 67 . تلخیص الشافی 2: 65 .

ونحن إذ نشکر روّاد الوحدة الإسلامیة ، والتقریب بین المذاهب علی جهودهم المبارکة فی توحید الأُمّة الإسلامیة نلفت نظرهم إلی هذه المسائل المهمّة .

وفقهاء أهل البیت وکتبهم شاهدة علی أنّهم یحترمون المسلمین ، ویدعون إلی حفظ دمائهم وأموالهم وحقوقهم ، وکذلک علماء أهل السنّة یقولون بهذا الرأی فی کتبهم الفقهیة ، ولکن یجب التصدّی لأولئک المتعصّبین الظالمین الذین یثیرون الفتن الطائفیة فی پاکستان وأفغانستان وفی باقی بلاد المسلمین .

ص:264

المحاضرة التاسعة الحسین علیه السلام وتهمة شقّ عصا المسلمین

اشارة

محاور المحاضرة :

أوّلاً : الحسین علیه السلام یقرّر الخروج علی السلطان الجائر .

ثانیاً : بنو أُمیة کانوا یسمّون المنتمین إلی حکوماتهم الجائزة ب «الجماعة» .

ثالثاً : بدایة مصطلح الجماعة .

رابعاً : عدم طاعة الخلیفة لا یعتبر ردّة عن الدین .

خامساً : حجّة شقّ عصا المسلمین حجّة واهیة .

سادساً : صعوبة الظروف التی مرّ بها النبی صلی الله علیه و آله فی مواجهة قریش .

سابعاً : فقأت عین الفتنة .

ثامناً : هل یشقّ عصا الأُمّة من اختاره اللّه للمباهلة دون کبار الصحابة؟!

تاسعاً : کربلاء نجحت فی إزالة الشرعیة عن سلطات بنی أُمیّة .

عاشراً : الذین یفرحون لحزن رسول اللّه صلی الله علیه و آله .

الحسین علیه السلام یقرّر الخروج علی السلطان الجائر

قال الإمام الحسین علیه السلام نقلاً عن جدّه المصطفی صلی الله علیه و آله :

«من رأی منکم سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم اللّه ، ناکثاً لعهد اللّه ، مخالفاً لسنّة رسول اللّه ، یعمل فی عباد اللّه بالإثم والعدوان ثمّ لم یغیّر بقول ولا فعل ، کان حقیقاً علی اللّه أن یدخل مدخله» ، ثمّ قال علیه السلام :«وقد علمتم أنّ هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشیطان، وتوّلوا عن طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود ، واستأثروا

ص:265

بالفیء ، وأحلّو حرام اللّه ، وحرّموا حلاله»(1) .

ونادی رسول والی یزید علی مکة عمرو بن سعید یحیی بن سعید - الامام الحسین علیه السلام حینما أراد الخروج إلی کربلاء : «یا حسین ألا تتق اللّه؟ تخرج من الجماعة ، وتفرّق بین الاُمّة بعد اجتماع الکلمة» فردّ علیه الإمام الحسین علیه السلام .

«لی عملی ولکم عملکم أنتم بریئون مما أعمل وأنا بریء مما تعملون»(2) .

بنو أُمیة کانوا یسمّون المنتمین إلی حکوماتهم الجائرة ب «الجماعة»

وکان التعبیر بالجماعة یشیر إلی السلطات الأمویة الحاکمة ، وإلی الخلافة المسیطرة علی أُمور المسلمین ، وکذلک عمرو بن الحجاج الذی کان أبرز معاونی عمر بن سعد ، قال وهو یستنفر جیوش الظلم الأمویة ضدّ سید الشهداء الحسین بن علی علیه السلام : «ألزموا طاعتکم وجماعتکم ولا ترتابوا فی قتل من مرق من الدین وخالف الإمام»(3) .

فکان الأمویّون یعتقدون أنّ السلطات الحاکمة الظالمة هی التی تمثّل «الجماعة» وأنّ الخروج علیها مروق من الدین .

ومن المؤسف أنّ إبراهیم بن یعقوب بن إسحاق السعدی الجوزجانی الذی کان یسکن فی الشام ، وکان ورده سب ولعن علی بن أبی طالب علیه السلام یُعبّر عنه بأنّه صلب فی السنّة»(4) ، ولا ندری کیف یکون من کان ورده سب علی علیه السلام صلباً فی السنّة؟! ثم أنّه رأی رأی الخوارج فأخذ ینکر علی السلطان وإن لم یعتقد بوجوب الخروج علیه .

ص:266


1- (1) بحار الأنوار 44: 382 ، باب ما جری علیه بعد بیعة الناس لیزید .
2- (2) البدایة والنهایة 8: 116 . الآیة فی سورة یونس (10) : 41 .
3- (3) بحار الأنوار 45: 19، باب ما جری علیه بعد بیعة الناس لیزید .
4- (4) تهذیب التهذیب 1: 181 ، الرقم 332 .

فنلاحظ أنّ تعبیر «سنّة الجماعة کان له جذور تمثّل الانتماء والولاء للسلطات الحاکمة والجهات التی تعادی أهل البیت علیهم السلام ، ومن أراد أن یراجع فلیراجع کتب رجال الحدیث حول ما کتبته عن هذا الرجال «إبراهیم بن یعقوب» .

بدایة مصطلح «الجماعة»

أمّا مصطلح «الجماعة» فابتدیء به منذ ما سمّی بحروب الردّة فی زمن الخلیفة الأوّل ، صحیح أنّ الردّة کانت موجودة ، وکان یقودها مسیلمة الکذّاب وغیره ، إلّا أنّ الواقع أنّه لیس کل من رفض حکم الخلیفة الأوّل هو مرتد ، فقبائل حضر موت وکندة والبحرین لم تکن مرتدّة عن الدین ، ولم تتخلّی عن أصل من أُصول الدین أو فروعه ، إلّاأنّها لم تعط الزکاة للخلیفة الأوّل ، لا لأنّها تنکر وجوب الزکاة ، وإنّما رفضت الطاعة للخلیفة الأوّل ؛ لأنّها لا تعتقد بأحقیّته بالخلافة ، وهذه الأُمور مذکورة فی مصادر التاریخ ، ککتاب ابن أعثم(1) والمسعودی(2) والیعقوبی(3)وغیرها من المصادر .

ومن الأدلّة علی أنّهم لم یرتدّوا أنّ جهاز الخلافة لم یقتل أسری هذه القبائل ؛ لأنّهم لم یرتدّوا عن الدین ، وإنّما أبوا طاعة السلطان ، ومن المعروف أنّ حکم المرتد القتل .

عدم طاعة الخلیفة لا یعتبر ردّة عن الدین

نحن نعتقد أنّ الذی لا یعتقد بأحقیّة خلیفة معیّن لیس مرتدّاً ، وأنَّ هؤلاء لیسوا مرتدّین ، ولا ندری لم یحکم البعض بردّتهم ؛ لأنّهم رفضوا حکم الخلیفة الأوّل ،

ص:267


1- (1) کتاب الفتوح 1: 18 .
2- (2) التنبیه والاشراف: 247 .
3- (3) تاریخ الیعقوبی 2: 89 .

ولا یعتبر من خرجوا علی حکم الإمام علی علیه السلام فی الجمل وصفین والنهروان من المرتدّین؟! ولماذا الباء هناک تجر ، وهنا لا تجر؟!

ومن المعروف أنّ أهل السنّة لا یعتقدون أنّ الخلافة من أُصول الدین . إذن لم یحکم علی من لا یعتقد بحکم خلیفة مّا بأنّه مرتد؟!

وکان تعبیر سنّة الجماعة یطلق علی السلطات الحاکمة والجهات المناوئة لأهل البیت علیهم السلام ، کما رأینا فی مقالة عمرو بن سعید ، وفی ترجمة إبراهیم بن یعقوب .

حجّة شقّ عصا المسلمین حجّة واهیة

ومن هنا استنکر البعض خروج الحسین علیه السلام علی حکم یزید بن معاویة(1) ، وکانوا قد أنکروا علی علی بن أبی طالب علیه السلام حربه مع معاویة بن أبی سفیان وأصحاب الجمل ، ولِمَ لمْ یساوم الإمام علی علیه السلام معاویة؟ ویبقیه فی الحکم ، ویخضع لأطماع الطامعین ، ویتنازل عن مبادئة ، ولا یطبّقها بهذه الحدّة والشدّة ؛ لکی یوحّد الأُمة ویحفظ دماءها .

صعوبة الظروف التی مرّ بها النبی صلی الله علیه و آله فی مواجهة قریش

النبی صلی الله علیه و آله عندما بدأ حرکته فی مکة کان یواجه قریش ، ولم تکن قریش تعبد الأصنام ، بل هم علی ملّة إبراهیم الحنیفیّة ، ومن نسل إبراهیم وإسماعیل ، وهم أهل الکعبة ، ولهم حرمة خاصّة ، والنبی صلی الله علیه و آله کان یواجه معادلة صعبة فی فرض الإسلام بدلاً من الحنیفیّة الإبراهیمیّة ، حتی أنّ بعض المسلمین کانوا یتخوّفون من مواجهة فکریّة أو مواجهة عسکریّة ، حتی قال بعضهم ، حینما سألهم النبی صلی الله علیه و آله عن رأیهم فی حرب قریش : «إنّها قریش وخیلاءها ، ما أمنت منذ

ص:268


1- (1) العواصم من القواصم: 237 .

کفرت ، ولا ذلّت منذ عزّت...»(1) .

وأبو سفیان کان یعتبر أنّ النبی صلی الله علیه و آله یخرّب الدین ، ویعنی بهذا : الملّة الحنیفیّة .

وقد واجهت النبی صلی الله علیه و آله نظم قومیّة وإقلیمیّة ؛ لأنّ مکّة کانت مهدّدة من الحبشة ، کما دلّلت علی هذا سورة الفیل وقصّة أبرهة الحبشی ، وکذلک تهدیدات من کسری الفرس ، ومن الروم ، فی الوقت الذی بقت فیه قریش علی دین إبراهیم الحنیف ، إذن کان النبی صلی الله علیه و آله یواجه تهدیدات قبلیّة من قبل قریش ، وإقلیمیة من قبل دول أُخری ، وتهدیدات عسکریة ، وتهدیدات دینیّة من قبل الدیانات الأُخری ، وکانت الوضعیّة الجغرافیة لمکّة وضعیّة تجعلها محاطة بالأعداء الأقویاء .

أسلم بنوا أُمیة تحت ضغط السیف ، ولمّا سنحت لهم الفرصة عاودوا حرب

الإمام علی علیه السلام

النبی صلی الله علیه و آله لم یبدأ بالحروب ، وإنّما کانت حروبه دفاعیّة ، وأنّه اعتمد لغة الحوار ، ولکن الحوار لا یعنی الذوبان فی الباطل ، فدافع النبی صلی الله علیه و آله عن الإسلام ، وکان النبی صلی الله علیه و آله یعتمد علی سیف علی علیه السلام ، هذا السیف الذی جعل بنی أُمیة یسلمون فی عام الفتح بالضغط ، وأسلم بنوا أمیة فی الظاهر ، ولکن بلا روح ؛ ولذلک حاربوا علیاً بعد النبی صلی الله علیه و آله وواجهوا سیفه ؛ لأنّهم لا یمتلکون الإیمان الحقیقی ، ولو کانوا مؤمنین حقاً لم یفعلوا ذلک .

الحجج التی طرحها أعداء الإمام علی علیه السلام

السیف الذی شیّد بناء الإسلام هو السیف الذی فرض اللّه علیه أن یشیّد الإیمان فی حروبه الثلاثة التی خاضها فی زمن خلافته علیه السلام . وکما أنّ النبی صلی الله علیه و آله قد واجه

ص:269


1- (1) بحار الأنوار 19: 247 ، تاریخ نبیّنا صلی الله علیه و آله ، باب غزوة بدر الکبری. والقائل أبو بکر .

حجج قریش باعتبارهم من أتباع دین إبراهیم الحنیف ، وأنّهم أهل حرم اللّه ، کذلک واجه الإمام علی علیه السلام حجج المخالفین له بأنّ من المخالفین له أُمّ المؤمنین ، ووجود کبار الصحابة کطلحة والزبیر فی الجیش المناویء له ، أمّا الخوارج فکانت حجّتهم «لا حکم إلّاللّه» ، فی حین أنّنا نعتقد أنّ التوحید فی الحاکمیة لا یوجد فی أیّ مدرسة من المدارس الدینیة والفکریة غیر مدرسة أهل البیت علیه السلام التی تطبّق التوحید فی الحاکمیة من خلال أصل الإمامة الذی تعتقد به .

فقأت عین الفتنة

ولذلک قال الإمام علی علیه السلام : «إنّی فقأت عین الفتنة ، ولم یکن لیجتریء علیها»(1) . فحارب الإمام علی علیه السلام من کانت تحمل لقب أُمّ المؤمنین ، وهذا اللقب ورد فی القرآن الکریم(2) ، وتمّ بالفعل تفضیل زوجات النبی صلی الله علیه و آله ، ولکن بشرط التقوی ، ومع سقوط هذا الشرط لا یبقی لهم التفضیل ، قال تعالی:«یا نِساءَ النَّبِیِّ لَسْتُنَّ کَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَیْتُنَّ »3 .

وکانت حرب علی علیه السلام لبعض من یُدعی أنّه من العشرة المبشّرین بالجنّة تکشف زیف هذه الفکرة ، وتبثّ الوعی فی الأُمّة ، والإمام علی علیه السلام الذی قاتل علی التنزیل هوالذی قاتل علی التأویل .

اتهام شقّ عصا المسلمین لعلی والحسین علیهما السلام

وکما اتُّهم الإمام علی علیه السلام بأنّه قد شقّ عصا المسلمین(3) ، کذلک اتُّهم الإمام

ص:270


1- (1) میزان الحکمة 2: 737 ، الحدیث 4668 .
2- (2) الأحزاب (33) : 6 .
3- (4) الأمالی للطوسی: 50، الحدیث 66 .

الحسین علیه السلام بهذا الاتهام(1) ، واعتبر خارجاً عن سنّة الجماعة .

هل یشقّ عصا الأُمّة من اختاره اللّه للمباهلة دون کبار الصحابة؟!

الإمام الحسین علیه السلام الذی اصطفاه اللّه للمباهلة(2) ، والذی شارک فی المباهلة هو شریک للنبی صلی الله علیه و آله فی دعوته ، ولیس دخیلاً علیها ، وهو صغیر السن اختاره اللّه دون باقی الصحابة من أصحاب اللحی والعمائم ، هذا الاعتبار الذی یحمله الحسین ، وهذه الشهادة الإلهیّة القرآنیة التی برهنت أنّ اللّه اصطفی هذا الطفل الصغیر من دون سائر المسلمین لمباهلة النصاری ، کما اصطفی عیسی للنبوّة وهو فی المهد ؛ لکی ینقدح فی عقلیّة الأُمّة قدر هذا العملاق ، وما یستحق من التکریم والتبجیل الذی هو أحد إمامین قاما أو قعدا(3) ، وهو الذی یحمل وسام حسین منّی وأنا من حسین(4) .

کربلاء نجحت فی إزالة الشرعیّة عن سلطات بنی أُمیّة

وقد صدق من قال أنّ کربلاء نجحت فی فصل الشرعیة عن السلطات الحاکمة آنذاک ، والتی کانت تتذرّع بسنّة الجماعة من أجل اتّهام المصلحین بالمروق والخروج عن الدین ، وقد کشفت دماء الحسین الزکیّة زیف هذه الحکومات الطاغوتیة المتجبّرة ، وقد احتجّ من احتجّ منهم علی خروج الحسین علیه السلام بأنّه یسبّب الهرج والمرج ، ونحن نقول : إنّ تربّع الفساد الخلقی والإداری علی رأس السلطة

ص:271


1- (1) بحار الأنوار 44: 357 ، باب ما جری علیه بعد بیعة الناس لیزید .
2- (2) آل عمران (3) : 61 .
3- (3) میزان الحکمة 1: 153 ، الحدیث 1117 .
4- (4) میزان الحکمة 1: 158 ، الحدیث 1127 .

هوالذی یوجب الهرج والمرج ، وإنّ إزاحة هذا الفساد هوالذی یساهم فی إزاحة الهرج والمرج والقضاء علیه

إذن هدف الإمام الحسین علیه السلام هو الاصلاح فی أُمّة جدّه رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، والأمر بالمعروف والنهی عن المنکر ، وقد ضرب الحسین علیه السلام مثالاً رائعاً للمعارضة للحکم ، هذه المعارضة التی تفرض مراقبتها علی السلطات الحاکمة ، وتسجّل اعتراضاتها للفساد الموجود فی هذه السلطة .

الذین یفرحون لحزن رسول اللّه صلی الله علیه و آله

أمّا الذین یبتهجون ویفرحون فی هذه اللیلة - لیلة العاشر من المحرم الحرام - فهم مصداق لقوله تعالی:«إِنْ تَمْسَسْکُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَ إِنْ تُصِبْکُمْ سَیِّئَةٌ یَفْرَحُوا بِها»1 .

فهم یفرحون لحزن رسول اللّه صلی الله علیه و آله بالفاجعة الألیمة التی ألمّت به فی کربلاء

وآخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمین وصلّی اللّه علی محمد وآله الطیّبین الطاهرین .

ص:272

ص:273

ص:274

ص:275

ص:276

ص:277

ص:278

4- العدالة الاجتماعیة

اشارة

ص:279

ص:280

بسم الله الرحمن الرحیم

المقدّمة

الحمد للّه ربّ العالمین والصلاة والسلام علی أشرف الأنبیاء والمرسلین محمّد وآله الطیّبین الطاهرین ، وبعد :

فهذه مجموعة من المحاضرات التی ألقاها سماحة آیة اللّه الشیخ محمّد السند فی مأتم السّماکین فی المنامة فی موسم عاشوراء 1426ه الموافق لشهر فبرایر 2005م ، وتدور حول العدالة الاجتماعیة ، وقد تعرّض فیها سماحته للنظرة الإسلامیة للعدالة الاجتماعیة ، مع بیان بعض المقدّمات حول الروح والبدن وعلاقتهما بالتاریخ ، وأهمیة التاریخ لا سیّما التاریخ الحسینی کعنصر من عناصر القوّة فی المذهب الشیعی .

کما بیّن - حفظه اللّه - أنّ عملیة الإصلاح لابدّ لها من الاستفادة من التاریخ ، ومن دراسة شخصیّاته واتّجاهاته .

کما أکّد علی محوریة العدل ورفض محوریة القانون الذی لا یستند إلی العدل فی تشریعاته ، وبیَّن ضوابط العدل ومنطلقاته بالإضافة إلی بیان أنّ رأی الأکثریة لا یحالف الصواب دائماً .

کما بحث فی موضوع مفهوم الخلیفة فی القرآن الکریم ، والمصادیق التی ینطبق علیها هذا اللفظ ، ثمّ ناقش بعض تعریفات العدالة ، وتعرّض إلی مصادقة

ص:281

الأُمم المتّحدة علی عهد الإمام علی علیه السلام لمالک الأشتر ، واعتباره مصدراً من مصادر التشریع ، منوّهاً علی أهمیة نشر ثقافة أهل البیت علیهم السلام ، ومشیراً إلی التقصیر الکبیر فی نشر ثقافتهم علیهم السلام .

کما تعرّض إلی الدور الکبیر الذی یلعبه الإمام الحجّة عجّ اللّه فرجه الشریف فی غیبته ، وتأثیره حتّی فی زمن الغیبة فی مجریات الأُمور رابطاً هذا الموضوع بتفسیر سورة القدر المبارکة ، وسیجد القاریء تطبیقات عدیدة فی البحث علی مواقف الإمام الحسین والإمام علی علیهما السلام کمصادیق لتطبیق العدالة ، ومواقف بنی أُمیّة کمصادیق للظلم والانحراف ، کما ضرب بعض الأمثلة من الواقع المعاصر .

وقد کتبت هذه المحاضرات ، وجعلت فی بدایة کلّ محاضرة تلخیصاً لأهم أفکارها فی عشرة محاور أو أقل ، کما أکثرت من العناوین تسهیلاً للقاریء العزیز کی یستوعب الفکرة، وأنوّه أنّ المحاضرة الثانیة مبتورة بسبب مشکلة فنیّة فی أشرطة التسجیل ، وأسأل اللّه سبحانه وتعالی أن یوفّق سماحة الشیخ للمزید من العطاء، وأن یوفّقنا للاستزادة من علوم محمّد وآل محمّد إنّه سمیع مجیب والحمد للّه ربّ العالمین .

سید هاشم سید حسن الموسوی

مملکة البحرین

الثانی من رجب المرجب 1426

الموافق 9 فبرایر 2005م

ص:282

المحاضرة الأُولی :التاریخ بین الروح والبدن

اشارة

محاور المحاضرة :

أوّلاً : الإحیاء العاشورائی .

ثانیاً : الفرق بین طبیعة البدن وطبیعة الروح وأحکامهما .

ثالثاً : التاریخ بالنسبة للروح شیء حاضر .

رابعاً : تکالیف الروح تختلف عن تکالیف البدن .

خامساً : للروح شرف خاص یمیّزها عن باقی المخلوقات .

سادساً : تعمیم أحکام البدن علی الروح خطأ جسیم .

سابعاً : جدوی نبش التاریخ .

ثامناً : الحبّ والبغض مسؤولیة کبیرة .

تاسعاً : الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر البدنی والقلبی .

عاشراً : معیاریة الثورة الحسینیة .

الإحیاء العاشورائی

رافدیة ذکری عاشوراء تتمثّل فی إحیاء حقبة تاریخیة عاشها الإمام الحسین علیه السلام وما جری فیها من أحداث ، ومن المثمر أن یهتمّ الإنسان لإحیاء التاریخ ، لا سیّما إذا کان یتعلّق بسیّد شباب أهل الجنّة وباقی الأئمّة علیهم السلام .

ص:283

تأثیر إحیاء التاریخ فی شخصیة الإنسان وهویّته

عموماً إحیاء التاریخ وتعایش الإنسان معه له أبعاده فی شخصیة الإنسان وهویّته ، حیث إنّه لابدّ أن نفرّق بین حیاة الإنسان کروح وعقل وذات حیویّة مدرکة من جهة وبین حیاة البدن من جهة أُخری .

الفرق بین طبیعة البدن وطبیعة الروح وأحکامهما

الکثیر من الناس یخلط بین أحکام البدن وأحکام الروح ، الباریء قدّر للروح أن تعیش فی نشأة تتجاوز أُفق البدن سواء من جهة البدء أو من جهة الانتهاء ؛ لأنّ طبیعة الروح هی أنّها موجود غریب جدّاً عن البدن ؛ لأنّها مخلوق ذو أفق کبیر واسع ، والبدن فی تواجده ونموّه واستوائه وتطوّره یعیش هذه الحقبة من العمر ربّما ستّین أو سبعین أو مائة سنة ، فهو موجود محدود بوقت معیّن ، بینما الروح تبقی ومداها یکون واسعاً جدّاً . والأجیال السابقة مؤثّرة فی البدن من ناحیة الجینات الوراثیة .

علاقة التاریخ بالبدن والروح

ومن ثمّ فإنّ التاریخ إنّما یکون بلحاظ البدن ، أمّا من ناحیة الروح فإنّها لا تتعلّق بالسابق واللاحق ، ولو ضربنا مثلاً ببعض الصفات الإلهیة کأوّلیّة اللّه وآخریّته ، لا یمکن التعبیر عن أوّلیّة اللّه بأنّها شیءٌ فی الماضی فقط - والعیاذ باللّه - وإنّما أوّلیّة اللّه کما هی فی الماضی هی فی الحاضر والمستقبل ، وکذلک آخریّة اللّه لا تعنی أنّها شیء فی المستقبل ، ولا علاقة له بالحاضر والماضی ، بل آخریّة اللّه هی فی الماضی والحاضر والمستقبل .

ولو افترضنا أنّ أوّلیّة اللّه وآخرویّته مرتبطة بالماضی فقط أو المستقبل فقط ، للزم أن یحصل التبعیض فی ذات اللّه عزّ وجلّ ، فلا یصح أن نقول إنّ اللّه تعالی قد

ص:284

تصرّم منه شیء أو أنّه سیتحقق منه شیء فی المستقبل - تعالی اللّه عن ذلک علواً کبیراً - لأن اللّه تعالی کلُّه تَحَقُقْ ، وما کان منه تعالی وما سیأتی هو علی نحو الکینونة المنجّزة ، وهذا فی صفات اللّه ، ونحن لا نرید أن نقیس المخلوق باللّه تعالی .

التاریخ بالنسبة للروح شیء حاضر

الروح شرّفها اللّه تعالی بشرف خاص وأضافها إلی ذاته ، وقد أطلق لفظ الروح علی الذات الإلهیة المقدّسة فقال تعالی :«فَإِذا سَوَّیْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِیهِ مِنْ رُوحِی فَقَعُوا لَهُ ساجِدِینَ »1 ، إنَّ التاریخ بالنسبة للروح لیس تاریخاً ، بل شیء حاضر ، والمستقبل بالنسبة للروح لیس مستقبلاً ، بل شیء حاضر ، والإنسان یتفاعل مع الشیء الحاضر بصورة مرنة ، والروح بالنسبة إلی ما مضی وما سیأتی من خلال إدراکاتها ومواقفها شیء حاضر لدیها ولیس شیئاً ماضیاً .

تکالیف الروح تختلف عن تکالیف البدن

تکالیف الروح تختلف عن تکالیف البدن ؛ لذلک أهّلت الروح لمسؤولیات تختلف عن البدن ، فالبدن لا یکلّف بنشأة البرزخ أو النشأة الآخرة ، وإنّما یکلّف بمسؤولیات بقدر طاقته وقدرته ، ولا یستطیع البدن التعامل مع ما مضی ، فلیس بمقدوره اختراق أعماق التاریخ والتعامل مع الماضی ، إذن البدن لا یستطیع أن یفعل فیما مضی شیئاً ، ولا یستطیع أن یفعل فیما سیأتی شیئاً ، وإنّما یستطیع أن یفعل فیما هو کائن بینهما وهو الحاضر ، ومن خلال هذه المقدّمة یتّضح أنّ التکالیف منها ما یتعلّق بالروح ، ومنها ما یتعلّق بالبدن ، وأنّ البدن لضیق أفقه لا یستطیع أن یؤدّی التکالیف التی تختصّ بالروح ، فمن تکالیف الروح العظیمة

ص:285

والشریفة التی کلّفها بها اللّه عزّ وجل أن تحدّد هذه الروح بما أتیت من درجات وقوی حقیقة الحقائق وهی اللّه عزّ وجلّ ، والروح هی المسؤولیة عن تحدید الموقف من وجود اللّه عزّ وجلّ ، ووجود الجنّة والنّار ، وکیفیة بدء خلق الکون قبل خلقه ، فالروح مؤهّلة لأن تکتشف وجود الخالق ، بل إنّ اللّه یخاطب الروح بمفاهیم مثل الکرسی والعرش وغیرهما ، وهذا دلیل علی أنّ الروح لها سعة کبیرة وقابلیّة عظیمة ، ولیس من الإنصاف مساواة الروح بالبدن .

للروح شرف خاص یمیّزها عن باقی المخلوقات

وهویة الإنسان لیست ببدنه وإنّما بروحه ، وقد ثبت أنَّ للروح مثل هذا الشرف العظیم ، والقرآن الکریم قد أشار إلی أنّ عوالم الخلقة مختلفة ، فقد أشار إلی خلق السماوات والأرض ، وخلق الملائکة ، وخلق الجن ، وخلق الروح ، ولکنّه یجعل للروح شرفاً خاصّاً ؛ لأنّها مجهّزة بشرائط وجودیة خاصّة ، ولا نستطیع أن نقیّد الروح بالدار الدنیا ، فضلاً عن تقییدها بعمر الإنسان المحدود .

الروح تصاحب البدن

والروح تصاحب البدن ، وهی شیء غیر البدن ، ولیس من الصحیح أن نقول أنّها استحالت من روح إلی بدن .

ولازالت الروح متعلّقة بعالم نشأتها ، وتکلیف اللّه للإنسان بتکالیف متعلّقة بالروح دلیل علی أنّ الإنسان مزوّد بهذه الإمکانیات الروحیة القادرة علی تنفیذ هذه التکالیف ، وإلّا لما کان للتکلیف معنی .

تعمیم أحکام البدن علی الروح خطأ جسیم

ورد لفظ الروح عدّة مرّات فی القرآن الکریم ، ومن الروح ما هو أفضل من الملائکة ، وأفضل من الجن ، وأفضل من السماوات والأرض ، مع الإشارة إلی أنّ

ص:286

الروح علی درجات ، والروح تمثّل أساسیاً من أرکان الدراسات الإنسانیة والنفسیة والروحیة والاجتماعیة ، ومن الخطأ الجسیم تعمیم أحکام وعناصر البدن علی الروح ، ولو فعلنا ذلک سیکتب لنا الإخفاق فی تفسیر کثیر من التکالیف ، ولن نفهم کثیراً من فلسفات التکالیف الإلهیة والروح تخاطب بعوالم سابقة علی خلق السماوات ، وعوالم ما بعد الدنیا کالبرزخ أو الجنّة أو النّار ، والروح علی درجات بحسب العلم وحسب المعرفة، ولم تخاطب الروح بالجنّة فحسب ، وإنّما خوطبت بما وراء الجنّة ، کما قال تعالی :«وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِینَ وَ الْمُؤْمِناتِ جَنّاتٍ تَجْرِی مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِینَ فِیها وَ مَساکِنَ طَیِّبَةً فِی جَنّاتِ عَدْنٍ وَ رِضْوانٌ مِنَ اللّهِ أَکْبَرُ ذلِکَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِیمُ »1 ، فرضوان اللّه أکبر من الجنّة وقد خوطبت الروح به .

جدوی نبش التاریخ

هناک من یطرح إشکالیة تتعلّق بجدوی نبش صفحات التاریخ ، وهنا ینبغی الالتفات إلی أنّ التاریخ یتعلّق بالبدن ولیس بالروح ، والروح تعایش کلّ شیء معاصر لها الآن ، ولذلک فأنت تری أنّنا شیئاً فشیئاً نری أنّ مکوّنات الروح لیست الأشیاء الحاضرة ، ولو کانت الروح کذلک لأصبح الإنسان بدائیّاً کما عاش الإنسان الأوّل فی الغابة - کما یدّعی - ولو تعایش الإنسان مع عناصر زمنه البدنیة لکان إنساناً وحشیّاً ؛ لأنّ الروح هی مخزون من التجارب البشریة ، وتتضمّن المیول والمواقف الإنسانیة تجاه مختلف القضایا .

موقف القرآن من الحوادث التاریخیة

القرآن الکریم کتاب تاریخ ومواقف ، ومن المعروف أنّه یستعرض الملفّات

ص:287

التاریخیة ، وتمثّل هذه الملفّات قائمة کبیرة من القصص التاریخیة ، ابتداء من النشأة البشریة حیث یبیّن فیها العناصر الظالمة والعناصر المظلومة ، ویربّی الإنسان علی استخلاص الدروس والعبر ، ویطالب القرآن الکریم قارئه علی التضامن مع المظلومین فی مثل قصص هابیل وقابیل ، وقصّة أصحاب الأخدود ، وقصّة النبیّ یوسف إلی أن یصل إلی زمن النبی صلی الله علیه و آله ، ویندّد القرآن الکریم بالظالمین ، ویحدّد موقفه بالتصحیح والتخطئة .

کما یوازن الأفکار ، ویحدّد صوابیة المدارس الفکریة وانحرافاتها ، ویطالب قارئه أن یقف حیّاً ومتحرّکاً تجاه ما یحدّده القرآن الکریم من مواقف من هؤلاء الأقوام .

القرآن الکریم یخاطب الروح

والقرآن الکریم لا یخاطب البدن ، وإنّما یخاطب الروح ، والروح حاضرة فی کلّ هذه الخطابات ، وترتبط الروح بالأحداث الخارجیة عن طریق قناة الإدراک ، وهذه القناة کما هی موجودة بین الروح وبین الأحداث الراهنة ، هی موجودة أیضاً بین الروح وبین ما مضی علی البدن وما سیأتی علیه ، فالروح علی استواء فی التفاعل والإدراک والتعایش والتأثیر والتأثّر مع کلّ أحداث العالم الجسمانی فیما مضی وفیما سیأتی ، وهذا ما یفسّر لنا القاعدة الاعتقادیة الفکریّة الشریفة التی تقول : إنَّ الإنسان ملزم بأن یحبّ الصالحین ، ویکره وینفر ویتبرّأ ویشجب ویستنکر الظالمین ، وأنّ من مراتب الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر حبّ المعروف قلباً ، کما أنّ من مراتب النهی عن المنکر کراهة المنکر قلباً ، فإن کان المعروف واجباً کان حبّه واجباً وإن کان المنکر حراماً فکرهه یکون واجباً أیضاً ، وعن جابر بن عبد اللّه الأنصاری ، قال : قال فی حدیث :

«یا عطیّة ، سمعت حبیبی رسول اللّه صلی الله علیه و آله یقول : من أحبّ قوماً حشر معهم ، ومن

ص:288

أحبّ عمل قوم أشرک فی عملهم»(1) .

الحبّ والبغض مسؤولیة کبیرة

وهذا یفسّر لنا لماذا یتعلّق الحبّ بهذه المرتبة الکبیرة؟ وقد تمیّزت مدرسة أهل البیت علیهم السلام بهذه القضیة ، فلا تجد مذهباً من المذاهب التی تنتمی إلی الدیانات السماویة أو من غیرها من الملل والنحل یتحسّس من موضوع الحبّ والبغض کما هو مذهب أهل البیت علیهم السلام ، فهو مذهب یحثّ علی التضامن والمساندة ووحدة الموقف کما هو فی المصطلحات الحدیثة ، أو التولّی کما هو فی المصطلح الدینی ، وفی مقابل ذلک الاستنکار والشجب والإدانة ، وبالمصطلح الدینی التبرّی ، وسواء استخدمنا المصطلح الحدیث أم المصطلح الدینی فالموقف المطلوب الذی یطلبه أهل البیت علیهم السلام من أتباعهم هو موقف واحد یتمثّل فی التضامن مع المظلوم والبراءة من الظالم انطلاقاً من مسؤولیة الموقف تجاه الظالم والمظلوم .

الروح هی المسؤولة عن الحبّ والبغض

والروح هی المسؤولة عن الحبّ والبغض ، وما حدث فی التاریخ وما سیحدث له أثره الکبیر علی الروح وتلوین الروح وتشخیص هویّة الروح ، فالحوادث التاریخیة لیست شیئاً أکل الدهر علیها وشرب ، وإنّما هی حوادث حاضرة ومؤثّرة علی الروح ، وقد یعبّر عن الروح بأنّها حصیلة معلومات ، ولا یمکننا أن نتصوّر الروح من غیر معلومات .

تشدّد القرآن الکریم وأهل البیت علیهم السلام فی مسألة الحبّ والبغض

وتشدّد أهل البیت علیهم السلام فی هذه المسألة یتوافق مع التشدّد القرآنی فی المسألة

ص:289


1- (1) مستدرک الوسائل 12: 108 ، الحدیث 13648 .

ذاتها ، والسبب فی ذلک أنّ ما حدث فی التاریخ یؤثّر فی الروح ، فکلّ الأُمور التی مضت حاضرة لدی الروح ومؤثّرة فیها ، والروح هی حصیلة المعلومات فلا یمکن تصوّر الروح بلا معلومات ، فکلّ ما هو حی متعلّق بالروح ، کما قیل : «فالناس موتی وأهل العلم أحیاء»(1) ، والعلم هو حیاة الروح ، وتمام هویّة الروح ووجودها هی المعلومات ، والجهل هو موت الروح ، ومن الخطأ أن نتحسّس من إحیاء ما مضی من التاریخ ؛ لأنّ الروح هی بطبیعتها حیّة بما مضی وبما سیأتی ، وأنّ ما مضی ماض بلحاظ البدن ، أمّا بالنسبة للروح فما مضی هو حی حاضر لدیها ، فیجب علی الإنسان أن یکون له وعی وموقف فیما صاحب ماضی الزمان من الأحداث ، والذی لا یعی ما مضی من الأحداث فهذا لا بدّ أنّه یعانی من نقص فی هویّته الإنسانیة والروحیة ، ویکون بمثابة المیّت الذی لا یتمتع بحیاة الروح ، وهو شبیه بأجزاء معطّلة من ذاکرة الحاسب الآلی ، فإذا کانت هذه الذاکرة معطّلة فلا فائدة منها ، وکذلک الروح إذا کانت بدون معلومات فلا فائدة منها .

وکلّما ازدادت دائرة علم الروح المدرک للحقیقة اتّضحت لها الحقیقة ، فلا تری البیاض بصورة السواد ، ولا السواد بصورة البیاض ، وحینئذٍ تکون الروح حیّة وناضجة ، إذن نبش التاریخ وتقلیب صفحاته سنّة قرآنیة ، والروح تتأقلم مع هذا التقلیب لصفحات التاریخ وتتکامل به .

الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر البدنی والقلبی

نستطیع أن نفهم جملة من التکالیف الإلهیة التی بعضها مفاهیم عقائدیة وبعضها مسائل فقهیة ، فمثلاً : الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر القلبی یختلف عن الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر البدنی ، والأمر بالمعروف والنهی عن المنکر هدفه

ص:290


1- (1) العلم والحکمة فی الکتاب والسنة : 352، نقلاً عن الدیوان المنسوب للإمام علی علیه السلام .

تصحیح المسار البشری وتصحیح الفکر البشری وإزالة الفساد الفکری ، وتبدیل الأعراف الفاسدة إلی أعراف صحیحة ، والمحافظة علی الأعراف الصحیحة ، وکلّ هذه الأُمور من الممکن أن تستفاد من شعائر سید الشهداء علیه السلام .

تساند من ؟ تتضامن مع منّ

ومن خلال ما قدّمنا نستطیع أن نستنبط کیف أنیطت بالروح کلّ هذه المسؤولیة ، لأنّ الروح تمیل للأحداث حتّی ولو کانت هذه الأحداث تاریخیة ، والأمر بالمعروف والنهی عن المنکر ینطلق من منطلق مسؤولیة الموقف تجاه الفرد الإنسانی والفرد المؤمن ، فالمسؤولیة یعنی : أنت مع منّ ومع من تقف؟ ومع من تتضامنّ وتساند من؟ هذه المسؤولیة لا تقف عند حدّ الحاضر ، بل هی متعلّقة بأعماق التاریخ ، ونلاحظ أنّ الإنسان بفطرته ینفر من الطغیان والوحشیة ، کما هو الحال فی النفور الفطری من النازیة مع أنّها مضت مع الأیام ، ولکن لابدّ أن یکون الموقف منها موقفاً سلبیاً .

الفائدة من الموقف السلبی تجاه الطغیان التاریخی

وموقف المسلمین من الخوارج فی التاریخ القدیم له فوائد ، ومن فوائده أنّه یفیدهم فی أن لا یخرج من بینهم من یتبنّی موقف الخوارج ، ویهدّد حالة السلام التی یعیشها المسلمون ، ونحن هنا لا ننتقد فرقة الخوارج کفرقة فقط ، وإنّما ننتقد فکر الخوارج حتّی ولو کان عند غیرهم ممّن یتسمّون بتسمیات أُخری ، کمن یبیحون دماء المسلمین استناداً إلی فهم خاطیء للدین ، کما هو حال الفرق المتشدّدة والإرهابیة التی تحمل نفس فکر الخوارج ، وترفع شعار الحق وترید به الباطل ، وتنسف مبادیء الدین بشعارات دینیة .

ومن هنا تتبیّن أهمیّة إحیاء ذکری عاشوراء ؛ لکی تربّی الأجیال جیلاً بعد

ص:291

جیل ؛ ولأنّ البشریة تحتاج دائماً إلی إصلاح ، والوعی البشری یتضمّن برنامجاً إصلاحیاً متکاملاً ، وإنّ عدم إحیاء ما حدث فی التأریخ ، وتحدید الموقف تجاهه یسبّب عودة الغدد السرطانیة إلی جسم العالم الإسلامی ، وتهدّده من جدید .

خلود الروح الحسینیة

والحسین مخلّد ، والخلود هنا هو خلود الروح ، وإلّا فما فائدة خلود جسد فرعون ، خلود الحسین یعنی خلود الروح والأطروحة الحسینیة، فعاشوراء لا زالت حیّة وغضّة وطریّة تربّی الأجیال علی قیم الثورة والتحرّر ورفض العبودیة .

معیاریّة الثورة الحسینیة

ونستطیع من خلال الثورة الحسینیة أن نکتشف الزلّات والثغرات فی الأطروحات المنحرفة ، ونستطیع أن نجعل الثورة الحسینیة معیار الإصلاح الذی نقیس به أیّ حرکة إصلاحیة ، وعندما یقع الفساد فإنّنا بحاجة إلی رایات الإصلاح ، نحن نمتلک برامج ثریّة وغنیّة لا یمکن أن یدخلها الفساد . ونستطیع من خلال الحسین علیه السلام أن نسابق البشریة علی صعید حقوق الإنسان ، وعلی صعید السلم البشری .

ومدرسة سید الشهداء علیه السلام فیها ما شاء اللّه من الکنوز والعطایا ، وعندما نتکلّم عن الإحیاء العاشورائی فإنّنا لا نقصد بذلک حضور المجالس الحسینیة فحسب ، بل قراءة الوقائع التاریخیة الحسینیة وتحلیلها وتطبیقها علی الواقع من مصادیق الإحیاء أیضاً ، ونشر هذه الثقافة وتداولها یصبّ فی مصبّ الإحیاء.

الآن الکل یدّعی الإصلاح ویتبجّج به ، ولکن ما إن ینکشف الغطاء قلیلاً حتّی یتبیّن خطأ ذلک المنهج وثغراته وزلّاته وسلبیاته بعد فوات الأوان .

ص:292

النموذج الحسینی لن یتکرر بنفس المستوی

نحن علی ثقة بأنّ النموذج الحسینی لن یتکرر بنفس المستوی، ولن تصل أیّ حرکة إصلاحیة إلی المستوی الذی وصل إلیه النموذج الحسینی ، ویمثّل النموذج الحسینی ضمانة للأُمّة فی عدم الوقوع فیما وقع فیه بعض المسلمین فی الأزمان السابقة ، وما وقع فیه المسلمون فی الزمن الحاضر .

ص:293

ص:294

المحاضرة الثانیة مواجهة عناصر القوّة الشیعیة

اشارة

محاور المحاضرة

أوّلاً : عاشوراء النموذج الأمثل للإصلاح .

ثانیاً : لابدّ من دراسة التاریخ دراسة موضوعیة .

ثالثاً : الأعراف تمثّل خطوط حمراء .

رابعاً : الجذور التاریخیة لظاهرة الإرهاب .

خامساً : الحسین علیه السلام یواجه الطواغیت فی کلّ العصور .

سادساً : کربلاء سرّ قوّة الشیعة .

سابعاً : عنصر المرجعیة نقطة قوّة أُخری .

ثامناً : خطط منظّمة لإضعاف دور المرجعیة .

عاشوراء النموذج الأمثل للإصلاح

ما تسالمت علیه البشریة من نبذ العنف والإرهاب ومکافحة الفساد فی المجتمع نستطیع أن نستفیده من ثورة سید الشهداء علیه السلام ؛ لأنّ سید الشهداء علیه السلام لم یبدأهم بقتال ، ولم یغلق باب الحوار مع جیش بنی امیّة .

وتعتبر ثورة سید الشهداء علیه السلام هی النموذج الأمثل والأکمل للإصلاح ، ومن فوائد الإحیاء العاشورائی هو الاستزاده من التجربة الإصلاحیة الحسینیة لأیّ حرکة إصلاح معاصرة .

ص:295

لابدّ من دراسة التاریخ دراسة موضوعیة

لا یمکن أن تتم عملیة إصلاح فی الوقت الراهن بدون الرجوع إلی التاریخ ومحاسبة المواقف والشخصیات التاریخیة ، ومن یعتقد أنّ نبش التاریخ وتقلیب صفحاته یعود علینا بالتشنّج فإنّه لا یسیر علی جادّة الصواب . نعم ، نحن نقول :

یجب أن ندرس التاریخ بصورة موضوعیة وعلمیة هادئة لا أن ندرسه دراسة متعصّبة أو انفعالیة عاطفیة .

هناک من یقول : دعونا نبتر أنفسنا عن التاریخ ، ونغضّ بصرنا عنه ، ونرکّز علی إصلاح أنفسنا استناداً إلی قوله تعالی :«یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا عَلَیْکُمْ أَنْفُسَکُمْ لا یَضُرُّکُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَیْتُمْ إِلَی اللّهِ مَرْجِعُکُمْ جَمِیعاً فَیُنَبِّئُکُمْ بِما کُنْتُمْ تَعْمَلُونَ »1 ، وهذا الاستشهاد فی غیر محلّه .

الأعراف تمثّل خطوط حمراء

الروح هی حصیلة معلومات وأعراف اجتماعیة مکتسبة من الأسرة والبیئة الاجتماعیة ، وهذه الأعراف قد تکون أعرافاً اجتماعیة أو قوانین حقوقیة ، وهذه الأعراف والقوانین أشدّ نفوذاً من الحکومات السیاسیة ؛ لأنّها تشکّل خطوطاً حمراء لا یستطیع الناس تجاوزها ، وهذه الأعراف تشکّل برنامجاً یحرّک أفراد المجتمع بشکل تلقائی ، وقد یکون ذلک فی اللاشعور أو علی مستوی الوعی الباطنی ، ولو حاول إنسان أن یعارض هذه الأعراف فإنّه سیواجه بمعارضة شدیدة ، وهذه الأعراف مرتبطة برموز وأشخاص یکنّ لها المجتمع الاحترام والتقدیر ، وتستمد منها هذه النوامیس والنظم والمراسم والأحکام .

ص:296

الجذور التاریخیة لظاهرة الإرهاب

ظاهرة الإرهاب وظاهرة غیاب الحوار هی ظاهرة متولّدة من أعراف معیّنة ، ولا یمکن اجتثاثها إلّابالبحث عن المسبّبات التی أدّت إلی ظهورها ، ونحن نحتاج إلی فتح ملفّات الماضی من أجل الوصول إلی بعض النتائج ؛ لأنّ هذا الإرهاب والعنف وغیاب الحوار مرتبط بالماضی من حیث المصدر والمشروعیة والتکوّن ، ومن هنا تبرز أهمیة الإحیاء العاشورائی الذی یتمثّل فی محاسبة فکریة لا تقتصر علی الماضی فقط أو علی الحاضر فقط ، بل هی محاسبة مطلقة ، وهی تمسّ حتّی الأنظمة الفعلیة فی هذا الزمان .

الحسین علیه السلام یواجه الطواغیت فی کلّ العصور

وما کان من عرقلة لزیارة الإمام الحسین علیه السلام منذ استشهاده إلی زماننا هذا ینطلق من أنّ الحسین علیه السلام لا یحاسب عصره فقط ، وإنّما یحاسب الطواغیت فی کلّ زمان ومکان ، ویحاسب الأعراف الخاطئة التی تولّدت من تلک المدارس المنحرفة ؛ ولذلک فإنّ هناک توجّس وتحسّس من قبل الظالمین تجاه مدرسة سید الشهداء علیه السلام ، وهناک محاولات من أجل قطع العلاقة بین الشیعة وبین الإحیاء العاشورائی الذی یحرصون علیه .

کربلاء سرّ قوّة الشیعة

وقد صدر عن مرکز الاستخبارات الأمریکیة کتاب ، نشرت عنه بعض الصحف فی إیران ، للکاتب مونیکال براینز ، یذکر أنّ الشیعة لا زالوا یحتفظون بفاعلیة وحرکیة تقاوم المخططات الغربیة دون بقیة المسلمین ، ویذکر أمثلة ، منها : الثورة الإسلامیة فی إیران ، ومنها : حزب اللّه فی لبنان ، وکیف أنّه أخرج الجیش الإسرائیلی من الجنوب ، وأنّ نداءات یا حسین ویا أبا الفضل العباس قد ألهبت

ص:297

الشارع الجماهیری الشیعی ، وکذلک فی العراق حیث فشل النظام البعثی - کما یذکر هو - رغم کلّ ما أوتی من قدرة وأنظمة أمنیة فتّاکة فی اقتلاع وتعطیل حوزة النجف الأشرف ، والشیعة تمثّل القطاع الحی والنابض فی العالم الإسلامی ، وهم أتباع أهل البیت علیهم السلام وأتباع سید الشهداء علیه السلام ، ومن ثمّ فإنّه یقرّر أنّ عنصر قوّة الشیعة یتمرکز فی شیئین ، هما : عزاء الإمام الحسین علیه السلام والارتباط بالإمام الحسین علیه السلام وهو الذی یبعثهم علی استرخاص النفس ، ورفض منطق العدوان والظلم ، والتحلّی بالعزّة والإباء والحماس والأنفة ، وفی کلّ سنة تتجدّد الطاقات من خلال الإحیاء العاشورائی .

السید السیستانی وموقفه من الانتخابات

الموقف الصلب للسیستانی الذی أصرّ علی الانتخابات ، ورفض مقابلة أیّ مسؤول أمریکی هو موقف جهادی ، کما کان سید الشهداء علیه السلام الذی لم یبدأهم بقتال ، ولکنّه فی المقابل ثابت علی المبدأ .

ثمّ یذکر هذا الاستخباری الأمریکی أنّ الشیعة یمثّلون مصدر قلق لأمریکا .

عنصر المرجعیة نقطة قوّة أُخری

ثمّ یقول : إنّ العنصر الثانی من عناصر القوّة الشیعیة هو عنصر المرجعیة الدینیة ، ویستشهد بفتوی ثورة التنباک ، وفتوی ثورة العشرین ، والثورة الإسلامیة فی إیران .

ثمّ یبحث فی کیفیة مواجهة العنصر الأوّل ، وهو ارتباط الشیعة بسید الشهداء علیه السلام ، وهو التشکیک فی مصداقیة إحیاء مراسم عاشوراء ، والادعاء بأنّها من قبیل الخرافات والأساطیر، وتشجیع کتّاب الشیعة علی مثل هذا الاتّهام للشعائر الحسینیة .

ص:298

خطط منظّمة لإضعاف دور المرجعیة

وقد نقل لی أحد الطلاب الذین یحضرون عندی بحث الفقه والأصول ، وهو من العراق أنّ هناک دورات قصیرة ومکثّفة فی العراق یحصل من یحضرها علی مائتی دولار ، وهذه الدورات ترکّز علی الفلسفة الغربیة ، ونبذ الخرافات والأساطیر، کما ترکّز علی رفض التقلید ، واعتبار التقلید أنّه من عمل الببغاوات والحیوانات وأنّ الإنسان یجب أن یکون حرّاً .

وقد ذکر هذا الکاتب الاستخباری خطّة زمنیة تهدف إلی تشویه صورة المرجعیة الدینیة بحلول عام 2010 ، وکذلک إظهار الشیعة بصورة الإرهابیین من خلال الإحیاء العاشورائی ، وهم یستهدفون مراسم الإحیاء العاشورائی باعتباره نقطة قوّة عند الشیعة ؛ لأنّها تنبض بالتضحیة والفداء والحماس والتعبئة ، التی أشار إلیها أئمة أهل البیت علیهم السلام فی روایاتهم ، وقد ذکر الحر العاملی ثمانین باباً تحت عنوان المزار ، ویستفاد منها التعبئة والحماس والتضحیة والفداء والانشداد لأهل البیت علیهم السلام عبر عاطفة البکاء ، وبالتالی الذوبان فی مبادیء الحسین وأهل البیت علیهم السلام ، ویکونون علیهم السلام هم القدوة للشیعی ، وطریق البکاء طریق جذّاب جدّاً ، وهو أقصر الطرق للتفاعل مع القدوة التی یقتدی بها الإنسان ، والنموذج الحسینی الماثل أمام أعین المسلمین جمیعاً ولیس الشیعة فقط ، هو النموذج الذی یقلق الدوائر الاستکباریة .

ص:299

ص:300

المحاضرة الثالثة محوریة العدل لا محوریة القانون

اشارة

محاور المحاضرة :

أوّلاً : ترکیز أهل البیت علیهم السلام علی العدل .

ثانیاً : العدل من أصول الدین عند الشیعة دون غیرهم .

ثالثاً : البشریة تتّجه نحو العدل بالفطرة .

رابعاً : مصادقة الأمم المتحدّة علی عهد الإمام علی علیه السلام لمالک الأشتر .

خامساً : عداوة القوی الإقطاعیة للعدل .

سادساً : هل القانون هو مصدر الخیر دائماً؟

سابعاً : الفساد القانونی .

ثامناً : حسن العدالة وقبح الظلم هل هو أمر حقیقی أم اعتباری؟

تاسعاً : هل المحرّمات والأخلاق تتغیّر بتغیر البیئة ؟

عاشراً : الجواب علی هذه الشبهات .

محوریة العدل فی خطاب سید الشهداء علیه السلام

من ضمن النداءات التی أطلقها الإمام الحسین علیه السلام نداءات ترتبط بالعدالة ، مثل قوله علیه السلام : «فلعمری ما الإمام إلّاالعامل بالکتاب ، والقائم بالقسط الدائن بدین

ص:301

بالحق ، الحابس نفسه علی ذات اللّه»(1) ، إذن من المحاور التی نادی بها سید الشهداء علیه السلام هو محور القسط والعدل .

ترکیز أهل البیت علیهم السلام علی العدل

وقد بیّن أهل البیت علیهم السلام أنّ صفة العدل من الصفات الإلهیة ، وهی أصل من أصول الدین ، وهی من الصفات المتمیّزة للذات الإلهیة ، ویجب الاعتقاد بها .

مثل هذا الترکیز فی حقیقة العدل ینطوی علی سر ومغزی ، کما روی عن سید الکائنات من جوامع کلمه : «یبقی الملک بالعدل مع الکفر ولا یبقی بالجور مع الإیمان»(2) .

فباب العدل لا یمکن إغفاله فی السنن الإلهیة التی فطر الناس علیها ، فلا یمکن أن یستقیم النظام الاجتماعی مع التفریط فی العدل ، وکلّ نظام یخالف العدل ویختار الظلم بدیلاً عنه یکتب له الزوال ، وإنّ الظلم الفاحش یعجّل بتقویض نظام الحکم الظالم .

العدل من أصول الدین عند الشیعة دون غیرهم

العدل من أصول الدین ، ومن طبیعة أصول الدین أن تکون فی قمّة الهرم ، حیث تصبغ بلونها کافة حیثیات الدین ، ومن هذه الأصول العدل الذی له هذه الخاصّیة ، وجعل العدل فی قمّة الهرم یدل علی أنّ أبواب الدین لا تستقیم إلّابالعدل ، ویتمیّز مذهب أهل البیت علیهم السلام باهتمامه بالعدل بصورة لا نجدها فی غیره من المذاهب ،

ص:302


1- (1) الإرشاد 2 : 39 .
2- (2) شرح رسالة الحقوق 1 : 385 .

حتّی فرقة المعتزلة التی تسمّی بالعدلیة فهی لا تجعل العدل من أصول الدین - فضلاً عن الأشاعرة الذین یمثّلون غالبیة المذاهب الإسلامیة - کما لا یوجد من الأدیان الأخری من یهتمّ بالعدل بالمستوی الذی یهتمّ به مذهب أهل البیت علیهم السلام .

البشریة تتّجه نحو العدل بالفطرة

الآن البشریة تنشد العدل ، وهناک نزوع بشری قوی نحو العدل الذی هو من أصول الدین کما علّمنا أهل البیت علیهم السلام ، وهذا نفسه إعجاز علمی باعتبار أنّ الدین یوافق الفطرة ، والفطرة البشریة تنزع نحو العدل ، ونحن نری أنّ ثورة الإمام الحسین علیه السلام لیس فیها أی ثغرات أو مؤاخذات ، بل بالعکس أصبحت ثورة الحسین علیه السلام منارة من منارات العدل ، والوعی البشری یزداد کلّما قرأ سیرة أهل البیت علیهم السلام .

مصادقة الأمم المتحدة علی عهد الإمام علی علیه السلام لمالک الأشتر

وقد صادقت الأمم المتحدة علی عهد الإمام علی علیه السلام لمالک الأشتر ، وهو قانون دُوِّن قبل ألف وأربعمائة سنة ، ومع ذلک نری أنّ نخبة القانونیین تقف إجلالاً للقانون الذی وضعه الإمام علی علیه السلام ، وأرباب القانون لا یجدون أیّ ثغرة فیه رغم الشوط الکبیر الذی قطعته القوانین البشریة علی الصعید القانونی والحقوقی . وعهد مالک الأشتر یتعرّض بصورة کاملة للنظم السیاسیة والنظم الحقوقیة والنظم القضائیة والنظم العسکریة والأمنیة والنظم الإداریة فی الدولة . والأمم المتحدة رشّحت عهد الإمام علی علیه السلام لمالک الأشتر کمصدر من مصادر القانون الدولی ، وهذا یصبّ فی مصبّ نزوع البشریة نحو العدل(1) .

تقصیر الشیعة فی نشر فکر أهل البیت علیهم السلام

وفی الواقع إنّ أتباع مذهب أهل البیت علیهم السلام مقصّرین فی نشر تعالیم أهل

ص:303


1- (1) نهج البلاغة ، رسائل أمیر المؤمنین ، رقم 53 .

البیت علیهم السلام مقصّرین فی نشر تعالیم أهل البیت علیه السلام بلغات مختلفة وإلی البلدان المختلفة ، ولو فعلنا ذلک ووصلت هذه التعالیم إلی ذوی الفکر العلمی الذین یبتعدون عن العصبیة لتغیّرت الکثیر من المعادلات ؛ لأنّ تعالیم أهل البیت علیهم السلام عبارة عن منظومات وإعجاز علمی لا یأتیه الباطل من بین یدیه ولا من خلفه ؛ لأنّه فکر معصوم .

عداوة القوی الإقطاعیة للعدل

لنتعرّض الآن إلی بحث العدل فی أدلّته وأُسسه ، حیث تعتبر القوی الإقطاعیة والمستبدّة من أکثر القوی عداوة للعدل ، ومن هنا نستطیع أن نتعرّض للإقطاع الأموی الذی کان یعادی العدل ، وکذلک الرأسمالیة الحدیثة والدول الغربیة التی ترفع العدل کشعار إلّاأنّ العدل لا یوجد فی طیّات فکرها ، وإنّما تنادی بالعدل من أجل تضلیل الشعوب لا أکثر ، ومن المثیر أنّهم ینادون بما لا یطبّقونه وهو العدل ، وهو من أصول الدین عند مذهب أهل البیت علیهم السلام ومن صفات اللّه تعالی .

شبهة حاجة الحق إلی تشریع قانون

ومن الشبهات التی یطرحها الرأسمالیون والإقطاعیون شبهة إعطاء کلّ ذی حقّ حقه ، إذن یحتاج الحق إلی تشریع قانون ، فإذا کان العدل یحتاج إلی تشریع الحق ، والحق یحتاج إلی تشریع قانون فإذن العدل تابع للتشریعات والتقنینات ، والتقنینات أُمور تعاقدیة یتعاقد ویتواضع علیها الناس ، أیّ : إنّها توضع کقوانین من قبل الناس ، بمعنی أنّ المقنّن إذا لم یقنّن حقّاً معیّناً فلا یمکن تحقیق العدالة التی ینبغی أن تکون تابعة لذلک القانون .

شبهة أنّ العدالة اعتبار أدبی لیس لها وجود خارجی

ویقولون : إنّ العدالة هی إعطاء کلّ ذی حق حقه ، والحق هو اعتبار أدبی ، إذن

ص:304

لیست العدالة أمراً عینیّاً خارجیاً ، وإنّما هی متغیّرة ، ولیس لها ثبات ، والعدالة تنحصر فی التشریعات القانونیة التی یشرّعها المقنّن ، وبعد أن یشرّعها المقنّن تأتی منظومة الحقوق المنبثقة من منظومة القانون ، ومن ثمّ تأتی العدالة .

وهذه الشبهة هی نوع من اللعبة القانونیة لأجل الاستئثار وحرمان الضعفاء ، وتصبّ فی مصبّ تقدیس القانون من أجل نشر الظلم والاضطهاد والحرمان .

هل القانون هو مصدر الخیر دائماً؟

الغرب الیوم یروّج العدالة ، ولکنّه لا یؤمن بها حقیقة ، وإنّما یتلاعب بمفهومها بما یحمله من أُسس ومبادیء ، فیقولون : کل قانون یعتبر خیراً ، أی : أنّ مصدر الخیر هو القانون ، والقانون یصاغ بأیدی الإقطاعیین ، والعدالة أمر متغیّر لیست أمراً ثابتاً ، ولیس لها واقع خارجی ، والواقع الخارجی یتمثّل فی المادة والقدرة والطاقة ، أمّا العدالة فلیس لها واقع خارجی ، إذن المطلوب هو تسخیر القانون فی حمایة الإقطاع ، والذی لا یفهم اللعبة القانونیة یضیع .

المرجعیة للکمال لا للقانون

والرأی الصحیح أن نعتبر «أنّ کلّ کمال ینبغی أن یکون قانوناً ، لا أنّ کلّ قانون کمال» فإذن المرجعیة یجب أن تکون للکمال والخیر لا للقانون ؛ لأنّ هذا القانون قد یکون جائراً ، فلا خیر فی قانون ینسف الخیر لدی الناس ، ویشلّ الطاقات البشریة .

الکمال والخیر هما اللذان یوصلان الناس إلی العدل لا القانون الذی یضعه من یضعه من أجل مصالحه ضارباً بمصالح الناس عرض الحائط ، فالقدسیّة والمحوریّة للعدل فی منطق القرآن الکریم وأهل البیت علیهم السلام ، والکمال هو الخیر وهو الذی ینبغی أن یکون قانوناً .

ص:305

الفساد القانونی

وهناک میزان لفساد القانون ، ومفهوم الفساد لیس مقتصراً علی الفساد الإداری والفساد المالی ، وإنّما - أیضاً - هناک فساد قانونی ، أی : فساد فی التقنین ، وهو الطّامة الکبری ، فهم یضعون القانون ویقولون : إنّ کلّ ما یخالف هذا القانون یعدّ إرهاباً وعنفاً وخروجاً عن الشرعیة ، وهم یسخّرون الأدوات القانونیة والمحافل القانونیة الدولیة ضدّ الإسلام والمسلمین ، وهذا هو دیدن النظام العالمی .

وینبغی علینا أن نبحث عن الفساد القانونی فی النظام العالمی ، فهل کلّ من یعارض النظام العالمی یعتبر إرهابیاً؟ نعم ، هم یصوّرون أنّ الذین یعارضون هذا النظام العالمی أنّهم من الإرهابیین ، ومن الذین یقطعون الرؤوس ، وغیر ذلک من الأفعال المشینة ، ویخوّفون الشعوب الغربیة من المسلمین ، بینما منشأ الظلم هو القانون العالمی المتمثّل فی النظام العالمی الجدید ، وهو قانون متعجرف وبذیء یریدون فرضه علی العالم ، فهم انطلقوا من أیّ أصل؟ انطلقوا من أصل أنّ کلّ قانون عدل .

أمّا فی منطق أهل البیت علیهم السلام فإنّ منطقهم قائم علی أنّ : «بالعدل قامت السماوات والأرض»(1) ، وقال اللّه تعالی :«وَ السَّماءَ رَفَعَها وَ وَضَعَ الْمِیزانَ »2 وهناک علاقة بین رفع السماء ووضع المیزان .

الفرق بین القانون العادل والقانون الظالم

إذن ینبغی التفریق بین القانون العادل والقانون الظالم ، ویجب أن نرفض القول القائل أنّ ما یطابق القانون عدل وما یخالف القانون ظلم بدون البحث عن عدالة

ص:306


1- (1) تفسیر کنز الدقائق 12: 553، ذیل آیة«وَ السَّماءَ رَفَعَها ».

القانون نفسه ، إذن ما یطابق العدل من القوانین یعتبر قانوناً عادلاً وما یخالف العدل من القوانین یعتبر قانوناً جائراً وظالماً وغاشماً أسّسه الإقطاع والمستأثرون سواء علی المستوی الإقلیمی أو العالمی .

حسن العدالة وقبح الظلم هل هو أمر حقیقی أم اعتباری ؟

ومن الشبهات التی یوردونها - وقد أوردها الأمویّون من قبلهم - : أنّ حسن العدالة وقبح الظلم هو اعتبار أدبی ولیس له واقعیة ، بدلیل أنّ کلّ عرف بشری منذ مرحلة الطفولة إلی المراحل الأخری له أعراف معیّنة ، وکلّ ما یخالف هذه الأعراف هو قبیح وما یوافقها فهو حسن ، فلو ذهبت إلی الهند ومارست عادات معیّنة فإنّ تلک العادات قد تکون قبیحة عندهم ، مع أنّها حسنة عندنا ، ولو قام أهل الهند بممارسة بعض عاداتهم فی البلاد العربیة قد تکون هذه العادات مستقبحة ، وکذلک بالنسبة لأهل البلاد الغربیة أو أتوا إلی البلاد العربیة ، ولو ذهب العربی إلی البلاد الغربیة بطریقة أکل معیّنة لاستقبح أهل البلاد هذه الطریقة أیضاً ، فهذه القبائح والمحاسن لیس لها ثبات ، بل هی متغیّرة بحسب البیئات .

هل المحرمات والأخلاق تتغیّر بتغیّر البیئة ؟

إذن فهم یحاولون أن یزرعوا فی الفهم الإسلامی أنّ المحرمات التی حرّمها اللّه تعالی التی تتعلّق بحفظ عفاف المرأة أو المحرمات الأخلاقیة التی ترتبط بالرجل أیضاً ، هذه محرمات أخلاقیة بحسب بیئة الجزیرة العربیة السابقة ، ولیست بحسب البیئات الغربیة أو الحدیثة ، فهم یقولون : إنّ الأخلاق تتغیّر بتغیّر البیئة ، فلیس عندنا عدالة أخلاقیة ثابتة لا تتغیّر ، ولا عدالة اقتصادیة ثابتة ، ولا عدالة قانونیة ثابتة ، ولا عدالة سیاسیة ثابتة ، أصلاً العدالة لیس لها واقعیة إنّما هی تتغیّر بتغیّر البیئة ، فإذا استطعنا أن نغیّر البیئة الإسلامیة إلی بیئة أُخری

ص:307

فینبغی علینا أن نأخذ بأخلاق البیئة غیر الإسلامیة ، وهذا الغزو الثقافی یستهدف تمییع المجتمعات الإسلامیة بحیث تستسیغ وجود المیوعة الأخلاقیة والزواج بین المثلین إلی غیرها من مشاکل الانحطاط الأخلاقی ، حتّی أنّهم قد لا یبیحون أموراً منحرفة ، ولکنّهم یقولون : إذا تغیّرت البیئة فستکون هذه الأُمور المنحرفة أُموراً مستساغة وتکتسب الصفة القانونیة ، ومن یعارضها حینئذٍ فهو معارض للقانون وخارج علیه ، وهم یقولون : إنّ العرب باعتبارهم یعیشون قوّة فی الغریزة الجنسیة فلذلک حرّم علیهم السلام النظر إلی شعر المرأة ؛ لأنّهم یستثارون بسرعة ، أمّا غیرهم فالأمر یختلف ، ففی المجتمعات التی لیس لدیها قوّة فی الغریزة الجنسیة لا بأس أن یباح النظر إلی شعر المرأة ، مع أنّ الإحصائیات التی نشرتها جریدة الشرق الأوسط قبل مدّة تبیّن أنّ أکثر من 90% من الموظّفات الأمریکیات فی القطاع الخاص یتعرّضن للتحرّش الجنسی من قبل الرجال ابتداءً من رمش العیون مروراً بسطو الأیدی وصولاً إلی الاغتصاب ، وهذا یناقض ما یقولونه من أنّ شعر المرأة وجسمها غیر مثیر لتلک المجتمعات ، وأکبر دولة حققت رقماً قیاسیاً فی اعتداء الآباء علی بناتهن هی بریطانیا ، فهم ینقلبون علی الفطرة ویدخلون الجحیم ، ومع هذا فإنّهم یدعوننا لدخول جحیمهم .

الشبهة قدیمة حدیثة

وهذه الشبهة قد ذکرها فی الزمان الماضی أبو الحسن الأشعری(1) الذی تتبعه الکثیر من المذاهب الإسلامیة .

ص:308


1- (1) کتاب اللمع : 115 . شرح المقاصد 4 : 282 .

شبهة أنّ المدح والذم یمثّلان اعتباراً أدبیاً ولیس وجوداً حقیقیاً

والشبهة الأُخری هی أنّ المدح والثناء یمثّلان الحسن ، والذم یمثّل القبح ، وهذا یمثّل إنشاءً أدبیاً ولیس وجوداً خارجیاً .

الدول الغربیة تحاول السیطرة علی وسائل الإعلام

نحن نری أنّ الدول الغربیة تحاول السیطرة علی وسائل الإعلام ، ویزعجها أیّ خروج علی ما ترید تخطیطه ، ومثال ذلک : منع قناة المنار الفضائیة فی الدول الأوربیة ، والحجاب الإسلامی یمنع فی بعض البلدان الغربیة ، وهذا لا یمثّل خطأ فی نظرهم ؛ لأنّهم یعتبرون أنّ الثقافة الإسلامیة تمثّل خطراً علیهم ، والتضییق علی المسلمین فی أمریکا لیس ناشئاً من مشکلة 11 سبتمبر ، وإنّما هو خوف أمریکا علی هویّتها من الإسلام ، وإنّ الإرهابیین قدّموا خدمة جلیلة لأمریکا مکّنتها من محاصرة الإسلام ، وتجمید الأرصدة المالیة التی تهدف إلی نشر الإسلام فی أمریکا حیث وفّر الإرهابیون الذریعة للغرب لمحاربة الإسلام وتعطیل مشاریعه .

الجواب علی هذه الشبهات

الشبهة الأُولی تقول : «إنّ العدل أمر أدبی ولا وجود له فی الخارج» ، وهذه الشبهة قد طرحها أبو الحسن الأشعری منذ ذلک الزمان(1) ، وهذه الفکرة تخدم سلاطین الجور ؛ لأنّهم حین یجورون فإنّ العدل هو أمر أدبی لا یتناقض مع جورهم ، وحینئذٍ یجدون مخرجاً من جورهم .

کیف یکون المدح أمراً أدبیاً؟ أنت حینما تحمد اللّه عزّ وجل فهل هذا الحمد یکون شیئاً أدبیاً أم أمراً واقعیاً؟

ص:309


1- (1) کتاب اللمع : 115 . شرح المقاصد 4 : 282 .

وبعبارة أُخری : نحن نسأل الإقطاع الرأسمالی أو الإقطاع الأموی والعباسی ما الفرق بین الکمال والمدح؟ وما الفرق بین النقص والذم؟ وما الفرق بین الملائم والشیء والحسن؟

یقولون : هناک فرق بین الملائم والشیء الحسن ، وهناک فرق بین الشیء غیر الملائم والذم ، وهذه مغالطة انطوت للأسف علی جملة من الفلاسفة الإسلامیین لقرون عدیدة .

والردّ علی هذه الشبهة هو : هل إنّک سمعت أنّ إنساناً یمدح إنساناً لنقص؟ أم أنّ الإنسان یمدح للکمال ، وإذا کان المدح أمراً أدبیاً خیالیاً ، کما هو حال بعض الشعراء الذین یصوّرون الأسود علی أنّه أبیض ، والأبیض علی أنّه أسود ، فهل هذا یغیّر من الواقع شیئاً؟ وهل هذا یحوّل النقص إلی کمال؟ وهل یتحوّل الجوع إلی شبع؟ وهل یتحوّل الاضطهاد إلی سلم؟ وهل یتحوّل الإیذاء إلی راحة؟ وهل یتحوّل الضیق والخناق إلی حریة؟ المدح والثناء نفس الحمد، فهل نحمد اللّه ما هو نقص فیه؟

طبعاً لا ، وإنّما نحمده علی ما هو کمال فیه ، فلا یمکن أن ینفصل المدح عن الکمال إلّامن شخص مهرّج أو مغالط أو من یتّخذ من الدجل منهجاً ، فإذا کان المدح لصیق العدالة فلا بدّ أن تکون العدالة ملازمة للکمال ، بل العدالة هی عین الکمال ، إذن العدل أمر واقعی فی کلّ المجالات ، والعدالة التی لیست کمالاً هی لیست عدالة ، ولا یمکن أن لا یکون الکمال عدلاً ، وکیف یکون النقص عدلاً؟

الظلم أیضاً ملازم للنقص ، وبالتالی الذمّ یکون ملازماً للنقص وملازماً للظلم ، وحینئذٍ لا یمکن أن یکون التعسّف قانوناً ، ویجب أن یخضع القانون للکمال ، لا أن یخضع الکمال للقانون ، القانون یجب أن یؤمّن الکمال لا العکس ، أیّ قانون هذا إنّه قانون الغابات وقانون الأنیاب وامتصاص الثروات والخیرات ، وحتّی

ص:310

الحیوانات تمتلک قانوناً معیّناً ، وهذا ما نشاهده فی الأفلام التی ینتجها الغرب ، حتّی السبعیة لها قانون ، فکلّما کان السبع أقوی کلّما تمکّن أکثر ، ولا تستطیع الدول الغربیة بإقناع شعوبها بخلاف العدل ؛ لأنّ العدل أمر فطری ، ولا زالت الشعوب الأوربیة ترفض الصهیونیة رغم کلّ الجهود والإمکانیات الضخمة من أجل التسویق للصهیونیة إلّاأنّهم اصطدموا بالفطرة عند الإنسان الأوربی .

ص:311

ص:312

المحاضرة الرابعة ضوابط العدل ومنطلقاته

اشارة

محاور المحاضرة :

أوّلاً : العدالة فی القرآن الکریم .

ثانیاً : اختلاف الأمر الاعتباری عن الأمر التکوینی .

ثالثاً : هل کلّ قانون عدل؟

رابعاً : محوریة العدل فی خطاب سید الشهداء علیه السلام .

خامساً : تسرّب فکرة أنّ العدل أمر أدبی للفقه الإمامی .

سادساً : الأشاعرة : العدل بمعنی المدح التخیّلی الفرضی .

سابعاً : نسأل الأشاعرة : ما هی ضابطة العدل؟

ثامناً : هل الإنسان مرکز التقنین أم اللّه؟

تاسعاً : العدالة الحقوقیة تکوینیة ولیست ولیدة التقنین .

عاشراً : اللّه جعل للإنسان المعادلة التی تحقق سعادته .

العدالة فی القرآن الکریم

إِنَّ اللّهَ یَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إِیتاءِ ذِی الْقُرْبی وَ یَنْهی عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْکَرِ وَ الْبَغْیِ یَعِظُکُمْ لَعَلَّکُمْ تَذَکَّرُونَ »1 ، أمر اللّه بعناوین ثلاثة ، ونهی عن عناوین ثلاثة فی هذه

ص:313

الآیة ، وفی آیة أُخری قال تعالی :«شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ وَ الْمَلائِکَةُ وَ أُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْعَزِیزُ الْحَکِیمُ »1 ، فجعل القیام بالقسط مقارناً للشهادة الأُولی ، وقال تعالی :«یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا کُونُوا قَوّامِینَ لِلّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَ لا یَجْرِمَنَّکُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلی أَلاّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوی وَ اتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِیرٌ بِما تَعْمَلُونَ »2 ، وقال تعالی :«وَ أَقِیمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَ لا تُخْسِرُوا الْمِیزانَ »3 ، فکون العدالة من الصفات الإلهیة ، ومن أصول الدین ، ومن أصول المجتمع الدینی هذا أمر بیِّن فی آیات القرآن الکریم ، والعدل هو العنوان الذی نادی به سید الشهداء علیه السلام ، وکان محوراً من محاور ثورته علیه السلام ، وجعله من علل نهضته .

محوریة العدل أم القانون ؟

تکلّمنا سابقاً عن إشکالیة هل العدل هو المدار أم القانون والتقنین هو المدار؟ وهل العدل حقیقة تکوینیة واقعیة عینیّة خارجیة ثابتة أم أنّ العدل فی أیّ مجال من المجالات أمر أدبی اعتباری یقنّنه المقنّن فی ظلّ اعتبار قانونی یُفترض ویُعتبر ویُنشأ ویُتعاقد علیه؟

اختلاف الأمر الاعتباری عن الأمر التکوینی

الأمر الاعتباری غیر الأمر التکوینی ، الأمر التکوینی له وجود فیزیائی ، ویقابله وجود ما وراء الفیزیاء المادیّة ، مثل : عوالم البرزخ وعوالم الآخرة .

والوجود الاعتباری فی العلوم أمر یُفترض فی الذهن ویُتصوّر ، فإذا کان لأجل أغراض ومصالح یکون اعتباراً هادفاً له ثمرات ، ولدینا منظومة من العلوم

ص:314

والمسائل تقوم علی الاعتبار ، فمثلاً : علم القانون یقوم علی الاعتبار ، وعلوم اللغة جانب کبیر منها یقوم علی الاعتبار ؛ لأنّ ألفاظ أی لغة لها ارتباطها مع المعنی بتعاقد أبناء تلک اللغة ، وإلّا فما الرابط بین هذه اللفظة والمعنی؟

فالرابط بین اللفظة والمعنی ارتباط أدبی اعتباری ولیس ارتباطاً تکوینیاً ، کذلک سائر علوم اللغة من الصرف والنحو والبلاغة والاشتقاق ، کلّ تلک العلوم علوم اعتباریة .

جعلوا العدل أمراً اعتباریاً خدمة لمصالحهم

هذا یقع الکلام فی هل أنّ العدل وأحکام العدل ، مثل : لزوم العدل وضرورة العدل من الأُمور الاعتباریة؟ بمعنی هل أنّ العدل من الأُمور التی یتّفق علیها الناس ، ویضعونها فی قانون کما یشاؤون؟ کما هو حال اللفظ والمعنی حیث یمکن أن یتغیّر أمرها ، کما غیَّر أتاتورک حروف اللغة الترکیة من حروف عربیة إلی حروف لاتینیة .

هذا الجدل فی الفکر البشری قدیم وحدیث ، وأصحاب الإقطاع المالی قد تبنّوا رأی أنّ العدل أمر اعتباری خدمة لمصالحهم ؛ وذلک تسخیراً للأُمور الفکریة لخدمة مصالحهم المادیة ، ومن أجل بسط قدرتهم فی المجتمع .

هل کلّ قانون عدل ؟

وقد حدث هذا الأمر فی الیونان ، کما حدث فی أیام حکم بنی أمیة ، حیث سخّروا العدید من الأقلام والشخصیات العلمیة للترویج لمثل هذه الأفکار من أجل خدمة مصالحهم ، وهم یریدون أن یجعلوا العدل أمراً أدبیاً اعتباریاً حتّی یکون المدار علی القانون ، فیقنّنون ما أرادوا وما یخدم مصالحهم ، ویجعلون هذا القانون ملزماً ، وبذلک تتحقق مصالحهم فتکون العدالة متمثّلة فی تطبیق القانون

ص:315

الذی وضعوه ، والخروج علی القانون الظالم فی منطقهم خروج علی العدالة - کما یزعمون - وحینئذٍ یکون المدار علی القانون لا العدل، ومن ثمّ وضعواقاعدة: «کل قانون عدل» ، وهذا القانون عندما یکون بأیدی ذوی القدرة والنفوذ یقنّنون فیه ما یشاؤون ، والخارج علی القانون یعتبر خارج عن العدالة ، ویحاسب ، ویکون إرهابیاً وعنجهیاً وخارجاً عن القانون ، بینما إذا جعلنا العدالة هی المدار فتکون القاعدة «کلّ عدل قانون ، ولیس کلّ قانون عدلاً» ، فحینئذٍ أیّ قانون من القوانین إذا لم یتوافق مع العدل یکون هباءً منثوراً ؛ لأنّ المدار علی العدل .

ومتی یکون المحور هو العدل فی الفکر البشری والفکر القانونی والفکر السیاسی والفکر الفلسفی والفکر الثقافی؟ یکون العدل هو المدار إذا جعلنا للعدل عینیة خارجیة ، ورفضنا فکرة أنّ العدل أمر اعتباری .

محوریة العدل فی خطاب سید الشهداء علیه السلام

وهذا ما نلمسه فی خطابات سید الشیهداء علیه السلام التی کانت تُعنی بتعبئة وعی الأُمّة بهذه الصحوة ، حیث کان العدل هو المحور فی فکر سید الشهداء علیه السلام ، بینما السلطة الأمویة کانت تتشبّث بقوانین ظالمة وتجعلها هی المدار ، وتجعل سیرة الخلفاء الذین سبقوا هی الشرعیة بینما الحقیقة والواقع أنّ العدل هو المحور ، وسید الشهداء علیه السلام حاول أن ینسف هذه النظریة التی کانت تحاول أن تجعل القوانین هی الحاکمة حتّی ولو کانت قوانین لا صلة لها بالعدل .

تسرّب فکرة أنّ العدل أمر أدبی للفقه الإمامی

مرّ بنا قولهم : إنّ العدل أمر أدبی ، والتقبیح للظلم أیضاً أمر أدبی اعتباری ، وقد تسرّبت هذه الفکرة الخاطئة إلی الفقه الإمامی نتیجة تأثّر بعض فلاسفة الإمامیة ، مثل : ابن سینا بهذه الفکرة .

ص:316

ابن سینا من الفرقة الإسماعیلیة

وکان والد ابن سینا من الفرقة الإسماعیلیة ، وهی من فرق الشیعة ، وابن سینا کان یتمتّع بنبوغ وقدرة فکریة کبیرة ، وقد ولد بعد قرن من مدرسة أبی الحسن الأشعری الذی تتّبعه أکثر المذاهب الإسلامیة من غیر المذهب الإمامی ، وقسم آخر من المسلمین یتّبع المذهب المعتزلی .

تأثیر ابن سینا علی قافلة الفلاسفة من بعده

وکان ابن سینا النابغة الذی وصفه البعض لشدّة نبوغة أنّه واحد لا ثانی له ، وإن کنت لا أعتقد فیه هذا ، ولکن من المسلم أنّه نابغة ، مع ذلک تأثّر ابن سینا وقال :

حسن العدل وقبح الظلم لیس أمراً بدیهیاً ، وبعد تأثّر ابن سینا تأثّرات قافلة الفلاسفة من بعده ، وحتّی فلاسفة الإمامیة تأثّروا بهذا الرأی ، وتسرّب هذا الرأی إلی الکتب الفقهیة ، ولکن بحمد اللّه فإنّ الأکثریة من الفقهاء لم یتأثّروا بهذه الشبهة .

استقلال المذهب الإمامی عن الأنظمة الحاکمة

وقد سخّرت السلطات الحاکمة هذه الأفکار فی خدمة بقائها وسیطرتها علی الأُمور ، وقد تمیّز المذهب الإمامی بأنّه مذهب مستقل فکریاً ، ومتحرّر من سیطرة الأنظمة الحاکمة .

رأی الأشعری فی حسن العدل وقبح الظلم

أبو الحسن الأشعری کان ممّن تبنّی رأی أنّ العدالة لیس لها حقیقة عینیة ، وإنّما هی أمر فرضی أدبی .

والحسن له معان ثلاث : المعنی الأول : هو الکمال .

والمعنی الثانی : هو الملائمة ، أی : ما یستحسنه الإنسان ، وأمّا ما لا یلائمه فهو ما ینفر منه ویستقبحه ، فالملائم حسن للطبع .

ص:317

والمعنی الثالث : هو المدح ، وقال : إنّ المدح هو أمر تخیّلی فرضی أدبی . وهذه المعانی الثلاثة للحسن یقابلها معانی القبح بمعنی النقص ، والقبح فی مقابل الکمال وهو أمر تکوینی ولیس أمراً افتراضیاً أدبیاً ، والقبح بمعنی الشیء المنفّر للطبع ، والقبح بمعنی الذم .

الأشاعرة : العدل بمعنی المدح التخیّلی الفرضی

وقد بنی الأشاعرة مذهبهم أنّ حسن العدل یعتمد علی المعنی الثالث ، وأنّه لیس بناء علی المعنی الأوّل ولا الثانی - حسبما یدّعون - وقبح الظلم لیس بمعنی النقص ، ولیس بمعنی أنّ الإنسان ینفر ویتبرّم منه ، وإنّما هو بمعنی الذم ، بینما الإمام الحسین علیه السلام یصرّح بهذه الحقیقة المتمثّلة ب«إنّی لا أری الموت إلّاسعادة ، والحیاة مع الظالمین إلّابرماً»(1) ، أی : أنّ الظلم أمر تکوینی ، والفکر الأشعری یقول أنّ الإنسان قد یتعوّد علی الظلم فلا ینفر منه ، ویتأقلم ویتعوّد علیه ، وفی الفکر الغربی أیضاً هو کذلک ، ونحن لا نتکلّم علی مستوی الشعارات الغربیة ، وإنّما علی مستوی الحقیقة الغربیة ، حیث الظلم موجود فی التمییز العنصری وتفضیل العنصر الأبیض ، وإن لم یکن هذا الأمر معلناً ، ولکنّه موجود .

نسأل الأشاعرة : ما هی ضابطة العدل ؟

ومن ثمّ فإنّ الأشاعرة بنوا علی أنّ ما أمر اللّه به فهو حسن وما نهی عنه فهو قبیح ، أی : أنّ العدل لیس له حقیقة خارجیة ، فلیس هناک ضابطة للعدل ، وإنّما الضابطة إذا أمر اللّه عزّ وجل ، ولا یقولون : إنّ اللّه یأمر بغیر العدل ، ولکن المبنی عندهم أنّ العدل نفسه لا یمتلک حقیقة خارجیة ، وإنّما أمر اللّه هو العدل ونهی اللّه هو الظلم بحسب مشیئة اللّه ، وربّما یستدلّون بهذه الأدلة ، وهی : أنّه لیس هناک

ص:318


1- (1) میزان الحکمة 4 : 1515 ، الحدیث 9785 .

قانون وأدلة تحکم اللّه تعالی ، بل هو الحاکم علی کلّ القوانین ، وهذا صحیح ، ولکن کیف یتمّ تفسیر «هو الحاکم علی القوانین» ، هل المقسود أنّ القوانین لیس لها سنّة من ذاتها؟

اللّه تعالی ، والهدف والغایة

ویشبّثون بدلیل آخر ، وهو : أنّ اللّه تعالی غنیّ عن اتّخاذ الهدف والغایة ، والفاعل إنّما یفعل شیئاً لهدف أو غایة ، ولکن اللّه غنیّ عن الغایة ، وأنّ اللّه یفعل ما یفعل لیس لغایة ؛ لأنّه غیر محتاج إلی الغایة ، فالحکمة هی ما فَعَلَ اللّه تعالی ، لا أنّ هناک غایة من البدء یسیر الفعل الإلهی نحوها .

العدالة ، وتعذیب البریء ، والإنعام علی المجرم

ویقولون : «لو عذّب اللّه المقتول البریء لکان ذلک هو العدل ، ولو أنعم علی السفّاح الغاشم لکان ذلک هو العدل ، لکن سنّته جرت أن ینعم علی المظلوم ، ویعذّب الظالم باعتبار أنّ اللّه مالک کلّ شیء ولا یملکه شیء»(1) ، وفی ظلّ هذه الأدلة التی ذکروها نشأت مدرسة القدریة ، وهی مدرسة قدیمة ، ولکنّها تبلورت بعد ذلک بصورة أوضح ، وحاولوا تطعیمها بأُطُر علمیّة فی ظلّ المدرسة الأشعریة .

هل ما یقع تکویناً یوافق إرادة اللّه ؟

یزید عندما خاطب العقیلة زینب علیها السلام کان یخاطبها من منطلق أنّ اللّه أعطاه الملک ، واستناداً إلی هذا المنطق ، وهو أنّ ما یقع تکویناً هو الصحیح ، وهو الموافق لإرادة اللّه .

وهذه الشبهات توجب ضعف الأُمّة وإجهاضها وتخاذلها تجاه قضایاها

ص:319


1- (1) راجع أدلة الأشاعرة هذه والردّ علیها إلی دلائل الصدق 2 : 346 ، 431 .

الإسلامیة ، وفی خطاب عبید اللّه بن زیاد للعقیلة علیها السلام : «کیف رأیت صنع اللّه بأخیک وأهل بیتک؟ فقالت : ما رأیت إلّاجمیلاً ، هؤلاء قوم کتب اللّه علیهم القتل فبرزوا إلی مضاجعهم ، وسیجمع اللّه بینک وبینهم فتحاجّ وتخاصم ، فانظر لمن الفلج یومئذٍ ثکلتک أُمّک یابن مرجانه»(1) ، فهو ینطلق من هذا المنطلق ، ولو قلنا بهذا المنطق فسیکون قتل الأنبیاء شیئاً صحیحاً وشیئاً یریده اللّه ؛ لأنّه أمر تحقق فی الخارج ، وکان حقیقة لا یمکن نکرآنها، وهذا التفیسر غیر الصحیح للقضاء والقدر یعتبر أنّ ما یقع هو الصحیح ؛ لأنّ اللّه لا یفعل إلّاما هو حسن ، وهذا فعل اللّه ، إذن هذا الفعل فعل حسن ، ومن ثمّ نشأت مدرسة الجبریة ومدرسة القدریة والمرجئة ، وهذا الاتّجاه یخلط الحابل بالنابل فی الموازین العقائدیة والقانونیة والحقوقیة ، وهذه المدرسة تخدم السلطات الظالمة بفکرها الذی یبرر الظلم ، ومن ثمّ فقد عمدت السلطات الظالمة للترویج لهذه الأفکار .

خطورة دعم السلطات الظالمة للأفکار المنحرفة

وعندما جاء ابن سینا کان یدور جدل فی أنّ حسن العدل وقبح الظلم أمر بدیهی أم أمر فرضی؟ فقال : ابن سینا : إنّ العدل أمر اعتباری فرضی ولیس أمراً بدیهیاً حقیقیاً ، وهنا تتبیّن خطورة دعم السلطات الظالمة للأفکار غیر المستقیمة وآثارها الخطیرة علی الأُمّة .

إعداد الأئمة للکوادر الثقافیة لمواجهة الفکر المنحرف

الأئمة علیها السلام خلال الفترة التی عاصروا فیها الحکومات الظالمة ناهضوا تلک الحکومات ، التی کانت تمثّل الدولة العظمی ، ومع ذلک استطاعوا - رغم تلک

ص:320


1- (1) بحار الأنوار 45 : 115 ، تاریخ الحسین بن علی سید الشهداء علیه السلام ، باب الوقائع المتأخّرة عن قتله علیه السلام .

الظروف الصعبة - أن یربّوا طائفة من الأُمّة علی الوعی العقائدی الثقافی المبنی علی الأُسس السلیمة ، وهذا الأمر بمثابة المعجزة التی تحققت رغم الإمکانیات الضخمة التی تمتلکها الأجهزة الحاکمة آنذاک .

أثر أخلاقیات أهل البیت علیهم السلام علی شیعتهم بعد عدّة قرون

نلاحظ أنّ بعض البدو والفلّاحین الشیعة ، کما هو واضح فی شیعة العراق الطیّبین البسطاء ، لدیهم من الأخلاقیات التی اکتسبوها من أهل البیت علیهم السلام ما لا یمتلکه الکثیر ممّن دخلوا الجامعات وعاشوا الحضارات ، ونلاحظ أنّ الشیعة لا یستحلّون دماء الآخرین وإن اعتدی علیهم ، وهذا ما یحصل فی العراق الیوم ، وهذه التربیة المثالیة هی تربیة أهل البیت علیهم السلام ، وهذه التربیة التی یعیشها الشیعة فی العراق لیست تربیة المرجعیة فی النجف فحسب ، وإنّما هی تربیة موروثة من الأئمة علیهم السلام ، هذا فی وقت الذی نری فیه أنّ لغة القصاص والانتقام هی اللغة السائدة فی کلّ مکان ، وفی کلّ یوم یراق الدم الشیعی فی العراق ، ولا زال الشیعة - هناک - یفتحون باب الحوار ، وهذه هی تربیة سید الشهداء علیه السلام ، والشعارات التی یطلقها الغرب ، مَن الذی یجسّمها ویجسّدها؟ أتباع مذهب أهل البیت علیهم السلام هم الذین یجسّدون هذه الشعارات الإنسانیة ، وهذه ظواهر برهانیة وإعجازیة ؛ لأنّ البشریة التی وصلت إلی هذا الأفق من الشعارات والقوانین التی تنادی بها ، من الحریّة والسلم المدنی والمحافظة علی حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعیة ، یأتی هذا المجتمع البسیط علی سجیّته وفطرته یجسّد کلّ هذه المعانی العالیة .

العدل له وجود تکوینی

الآن سننطلق للمحور الأوّل لبحث العدالة الاجتماعیة ، فنقول : إنّ العدل من أصول الدین ، وهل من الممکن أن تکون أصول الدین أموراً اعتباریة؟! والعدل

ص:321

الذی هو صفة من صفات اللّه ، هل من الصحیح أن تکون هذه الصفة أمراً اعتباریاً؟! بل صفات اللّه أُمور تکوینیة ، إذا کان فی صمیم اعتقادنا وبدایة رؤیتنا أنّ العدل صفة کعلم اللّه وکحیاة اللّه وکقدرة اللّه وغیرها من الصفات الفعلیة والذاتیة هذه الصفات من صمیم التکوین ، إذن العدل له وجود تکوینی ، کما فی منطق أهل البیت علیهم السلام الذی یقول : «بالعدل قامت السماوات والأرض»(1) .

المدح الصادق یلازم الکمال ، والذم الصادق یلازم النقص

المدح غیر الکمال هذه المغالطة طرحها الأشعری ، وهل یمکن للإنسان أن یمدح النقص؟! وهذا یستلزم أن ننکر الکمال وننکر النقص ، وننکر کلّ هذه الأُمور الخارجیة ، وکذلک الأمر بالنسبة للذم فلا یمکن أن نفکّک بین الذم والنقص ، الإنسان یدرک الکمال ، ومن ثمّ ینجذب المدح للکمال ، والمدح یعتبر إخباراً صادقاً عن الکمال ، هذا إذا کان المدح صادقاً ، أمّا إذا کان کاذباً فهو لیس کذلک ، والمدح الصادق یعبّر عن تقریر علمی مطابق للحقیقة ، والمدح معلومة من المعلومات تنبیء عن الکمال ، والذم الحقیقی هو معلومة صادقة تُنبیء عن النقص .

الحقوق الإلهیة قبل سن القانون

والذین قالوا : إنّ من دون القانون لا ترسم الحقوق ، ومن دون رسم منظومة الحقوق لا یستتب العدل ، کلامهم هذا ینطوی علی مغالطة ناشئة من وجود حقوق اعتباریة بعد رسم منظومة القانون ، یعنی : ولیدة للقانون ، لکن هناک منظومة للحقوق هی فی الواقع قبل القانون ، یعنی : حقوق إلهیة تکوینیة .

ص:322


1- (1) تفسیر کنز الدقائق 12 : 553 ، ذیل آیة«وَ السَّماءَ رَفَعَها ».

لابدّ من نظرة شاملة لحقوق الإنسان

نحن لسنا مادیین حتّی نحصر الحقوق فی حقوق الطبیعة ، ولسنا غرائزیین وجنسیین حتّی نحصر الحقوق فی الحقوق الغرائزیة ، بل نسلّم برؤیة تکوینیة بأنّ الإنسان ذو طبقات متعدّدة ، فیه الغرائز الجنسیة ، وفیه العقل ، وفیه الوهم ، وفیه الخیال ، وفیه القلب ، وفیه الضمیر ، وفیه الوجدان ، وهو شبیه بمنبنی ذی طبقات ، وکلّ قوّة من قوی الإنسان لها حقوق ، ولیس من الصحیح أن ننظر إلی طبقة من طبقات الإنسان ونهمل باقی الطبقات ، وهذه الرؤیة تؤثّر فی أُسس الحقوق وأُسس القانون بین المدرسة الإسلامیة والمدرسة الغربیة ، وبین المدرسة الإمامیة والمدارس الأُخری ، هذه کلّها أُسس للانطلاق .

العدل فی تنمیة قوی الإنسان

فمثلاً : من العدل أن ینمّی الإنسان کلّ قواه ، ولا ینمّی قوّة علی حساب القوی الأُخری ، فلیس من الصحیح أن ینمّی الجانب الغریزی ویهمل الجوانب الأُخری کالجانب العقلی - مثلاً - أو إذا اهتمّ بالجانب العقلی فیجب أن یعطی الجانب الغریزی حقّه أیضاً .

هل الإنسان مرکز التقنین أم اللّه ؟

إمّا أن نجعل الإنسان مرکزاً للتقنین والحقوق ، أو نجعل المنطلق فی تقنین الحقوق هو اللّه عزّ وجل ، والصحیح - طبعاً - فی النظر الإسلامی أن یکون المنطلق هو اللّه عزّ وجلّ ولیس الإنسان ، وهذا فرق بین الرؤیة الحقوقیة الإسلامیة وبین الرؤیة الحقوقیة غیر الإسلامیة ، أو بتعبیر أدق هناک فرق بین الرؤیة الحقوقیة الإدیانیة التی تشمل الیهود والنصاری الذین من المفترض أن یجعلوا محور

ص:323

الحقوق هو اللّه تعالی ، وبین المدارس الوضعیة التی جعل الإنسان هو مدار الحقوق .

إهمال المادیین لروح الإنسان

ویا لیتهم یضعون الإنسان بکلّ طبقاته نصب أعینهم ، بل هم یهتمّون بالطبقة البدنیة من الإنسان ویهملون باقی الطبقات الروحیة والعقلیة ، وإن کانت هناک مدارس روحیة غربیة قد خطت خطوات کبیرة فی هذا الجانب ، إلّاأنّ هؤلاء المادیین لا یعترفون بالروح ، فهم فی صراع دائم مع الحالة الروحیة والوجدانیة ، وفی سنة 2001 أعلنت الأمم المتحدة أنّ شعارها هو مقاومة الأمراض الروحیة والعقلیة ؛ لأنّ أکبر نسبة من الأمراض الروحیة والعقلیة وقعت فی الغرب بشکل مذهل وحدّث ولا حرج ، والأرقام تقرأ فی کلّ یوم عن الأزمات الروحیة التی یمرّ بها العالم الغربی ، مثل : تفشّی الجریمة ، وتفکّک الأُسرة ، وتقطّع الأوصال الروحیة ، وما شابه ذلک أرقام کبیرة .

النظرة غیر المتوازنة للإنسان کارثة

ومنشأ هذه الأزمة أنّهم جعلوا مدار الحقوق هو الإنسان ، مع إغفالهم لبعض طبقات الإنسان ، وترکیزهم علی طبقات أُخری ، إذن هناک حقوق اعتباریة ، وهناک حقوق تکوینیة لا تحتاج إلی تقنین .

سلبیات جعل الإنسان هو المدار فی التقنین

الغرائز لها نقائص ولها کمالات ، هل کمال کلّ قوّة ینکر؟ لا ، هل نقص کلّ قوّة ینکر؟ لا ، سواء کاف من قوی الطبیعة .

الآن هم یحاولون أن لا یجعلوا الإنسان وحده مداراً للحقوق ، بل یضیفون إلیه

ص:324

الطبیعة الخضراء والطبیعة الحیوانیة والهوائیة والنباتیة وما یحیط بالإنسان من کائنات أُخری فی هذه المنظومة الحقوقیة ، ولو یفتح للإنسان الباب علی مصراعیه سیدمّر الطبیعة التی تحیط به ویعیش فیها ، وبالتالی سیدمّر نفسه بیده ، والسبب هو عدم وجود توازن فی مدار الحقوق والتقنین .

العدالة الحقوقیة تکوینیة ولیست ولیدة التقنین

إذن العدالة الحقوقیة لیست ولیدة التقنین ، وفی الأساس العدالة الحقوقیة تکوینیة ؛ ولذلک هم یلمسونها بأنفسهم بأنّ تشریع حقّ الصناعة بلغ ما بلغ سیدمّر لنا البشریة ، وتشریع الاستئثار بالمال سینحر الطبقات المحرومة فی المجتمع ، وسیخلق الإرهابیین والعنف ، وإذا جعلنا التقنین الخاضع للمیول والمصالح هو المدار فعلینا أن نتحمّل التبعات والآثار السلبیة ، إذن العدالة لها وجود تکوینی ، والحقوق لها وجود تکوینی .

اللّه جعل للإنسان المعادلة التی تحقق سعادته

العدالة هی وصول کلّ ذی کمال إلی کماله ، وذو الکمال الذی نعنیه : أنّه غیر متوفّر علی الکمال الآن .

اللّه تعالی هو محور العدل ؛ لأنّه عالم بالخلق :«أَ لا یَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اللَّطِیفُ الْخَبِیرُ»1 ، اللّه جعل المعادلة التی توفّر السعادة للإنسان وهو أعلم بها ، ومن هنا جاء الحدیث الذی یقول : «لو بقیت الأرض بغیر إمام لساخت»(1) ، وقال أبو

ص:325


1- (2) الکافی 1 : 179 ، الحدیث 10 ، کتاب الحجة ، باب أنّ الأرض لا تخلو من حجه .

الحسن علیه السلام : «إنّ الأرض لا تخلو من حجّة»(1) ؛ لأن البشر لا زالوا یعیشون النقص ، ویکتشفون أنّه م مخطئون ، ولکن المعصوم لا یخطیء ، ولولا وحی اللّه والعلم اللدنّی عند الأئمة لحفظ الأرض لساخت الأرض بمن علیها .

ص:326


1- (1) الکافی 1 : 179 ، الحدیث 9 ، کتاب الحجة ، باب أنّ الأرض لا تخلو من حجة .

المحاضرة الخامسة العدالة والتوازن ورأی الأکثریة

اشارة

محاور المحاضرة :

أوّلاً : الأرحام تتجاوز الأُسرة إلی العشیرة والقبیلة .

ثانیاً : العدالة والسعادة .

ثالثاً : الأفعال الإلهیة تنطلق من موازین دقیقة جدّاً .

رابعاً : لابدّ من التوازن فی کلّ علاقة .

خامساً : لا ینبغی أن تُحَکَّم الأعراف علی العدالة .

سادساً : الأکثریة لیست دائماً حلیفة الصواب .

سابعاً : متی نحتاج إلی الاعتبار القانونی فی إدراک العدالة ؟

ثامناً : بنیة الحقوق التکوینیة قبل مرحلة التقنین .

تاسعاً : ملکیة اللّه وملکیة الرسول وذی القربی .

عاشراً : سیطرة الإقطاع الأموی علی المناصب الحساسة .

الأرحام تتجاوز الأُسرة إلی العشیرة والقبیلة

قال تعالی :«إِنَّ اللّهَ یَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إِیتاءِ ذِی الْقُرْبی وَ یَنْهی عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْکَرِ وَ الْبَغْیِ یَعِظُکُمْ لَعَلَّکُمْ تَذَکَّرُونَ »1 ، کما مرّ بنا أنّ هذه الآیة تشیر إلی أصول

ص:327

النظام الاجتماعی وأصول العدالة الاجتماعیة ، وهی ثلاثة أصول رکّزت الآیة علیها ، وهی العدل والإحسان وصلة الأرحام ، وصلة الأرحام لیست فقط فی نطاق الأُسرة خلافاً لما ینادی به هذه الأیام من أنّ العشیرة لا محلّ لها فی الحیاة العصریة الحدیثة ، وأنّ دیّة العاقلة کانت مناسبة لذلک المجتمع القدیم فی الجزیرة العربیة باعتباره مجتمع عشائر وقبائل ، ولیست مناسبة للحیاة العصریة الحدیثة ، وقد تأثّر بعض من هو فی وسطنا التخصصی بمثل هذه الشبهات ، القرآن الکریم یؤکّد أنّ صلة الأرحام مهمّة جدّاً ، وهی تشمل العشیرة والقبیلة ، ولا تقتصر علی الأُسرة ، ولقد عفا أمیر المؤمنین علیه السلام عن بعض القبائل التی فی العراق ، والمنحدرة من الجزیرة العربیة ، فیما له الحق فی العفو ضمن صلاحیاته ، وعلل ذلک بقوله :

«لرحم لهم تمسّنی» ، مع أنّها شجرة طویلة من الأفخاذ النسبیة .

صلة الأرحام من أجل التکافل الاجتماعی

القرآن الکریم لا یعزّز النزعة القبائلیة والعشائریة ، وإنّما یعزّز التکافل الاجتماعی فی هذه العشیرة أو تلک القبیلة ، الحسین علیه السلام کان قد نادی بالعدالة الاجتماعیة ، والآیة المذکورة وثیقة الصلة بالعدالة الاجتماعیة ، مضافاً إلی أنّ العدل أصل بنیوی ، فضلاً عن أن یکون أصلاً اعتقادیاً أو أخلاقیاً فی کلّ الأبواب .

التعصّب الإیجابی والتعصّب السلبی

الآیة لم تقتصر علی الأُسرة ، وإنّما أطلقت لفظ ذی القربی ، وهی تهدف إلی أن تقوّی الأواصر والصلة بالأرحام ، أمّا العصبیّة الممقوتة فتتبیّن من خلال هذا الحدیث ، حیث سئل علی بن الحسین علیهما السلام عن العصبیّة ، فقال : «العصبیّة التی یأثم علیها صاحبها أن یری الرجل شرار قومه خیراً من خیار قوم آخرین ، ولیس من

ص:328

العصبیّة ، أنّ یحبّ الرجل قومه ، ولکن من العصبیّة أن یعین قومه علی الظلم»(1) ، إذن إذا تعصّبت لقومک حرصاً علی خدمتهم أو أداء حقوقهم أو المطالبة بحقوقهم فلیست تلک عصبیّة ، بل هی نزعة غرسها اللّه فی الإنسان .

الحسین فی مواجهة الظلم

فالآیة الکریمة تؤکّد علی ثلاثة أصول إیجابیة فی مقابل ثلاثة أصول مدمّرة للمجتمع المتمثّلة فی قوله تعالی«وَ یَنْهی عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْکَرِ وَ الْبَغْیِ »2 ، وقال أبو عبد اللّه الحسین علیه السلام : «عباد اللّه إنّی عُذت بربّی وربّکم أن ترجمون ، أعوذ بربّی وربّکم من کلّ متکبّر لا یؤمن بیوم الحساب»(2) ، الحسین علیه السلام یطلب العون والمدد من اللّه فی مواجهة الاستکبار والظلم .

العدالة والسعادة

انتهینا إلی أنّ العدل له واقعیّة وحقیقة ، وأنّ بالعدل یقنّن القانون ، ومن الخطأ أن یکون القانون هو المحور بدلاً من العدل ، وهناک من یطرح أنّ العدل هو أنشودة وسیمفونیة الضعفاء والمحرومین ، أمّا الأقویاء فلا ینشدون العدالة ، وإنّما ینشدون القانون ، وقد قلنا : إنّ العدل له واقعیة ؛ لأنّ العدل هو وصول کلّ ذی قابلیة إلی کماله المنشود أو کماله المقرر فی التکوین من قبله تعالی ، اللّه قرر لکلّ موجود

ص:329


1- (1) میزان الحکمة 5 : 1992 ، الحدیث 13038 .
2- (3) الکامل فی التاریخ 4 : 63 .

مسیراً للوصول إلی کمال معیّن .

وسنری أنّ هناک نوعاً من التقارب بین السعادة والعدالة ، وهل أنّ السعادة هی العدالة أم أنّ لها تعاریف أُخری؟ باعتبار أنّ العدالة هی التی تؤمِّن وصول کلّ ذی کمال إلی کماله ، والکمال أمر ملائم للإنسان فیه الراحة وفیه السعادة ، ووصول الإنسان إلی کمال یعتبر حقاً طبیعیاً وفرّه اللّه تعالی للإنسان ، وهذا الأمر لا یحتاج إلی قانون ، والمفروض أن یکون القانون هو فرع للعدالة البشریة ، والعدالة هی وصول کلّ ذی قابلیة إلی کماله المنشود ، والعدالة مرتبطة بعناصر تکوینیة ، فالعدل لا یتوقف علی وجود جمعیّة وطنیة أو برلمان أو دستور أو غیر ذلک ، ومن ثمّ یکون الإجحاف والحرمان والاضطهاد أُمور ملموسة تکوینیاً عند أفراد المجتمع ، وُضِع الدستور أم لم یوضع ، رسم الدستور الطریق الصحیح أو لم یرسم ، إذن العدالة لیست أمراً اعتباریاً فرضیاً ، وإنّما العدالة أصل .

الأفعال الإلهیة تنطلق من موازین دقیقة جدّاً

وفی الشبهة الثالثة قالوا : إنّ اللّه یفعل ما یفعل ، کیفما یشاء ، ولا یحکم اللّه عزّ وجل قانون معیّن ، بل هو یخلق القوانین الکونیة - فضلاً عن القوانین غیر الکونیة ، وهی القوانین الاعتباریة والفرضیة - هذا صحیح ، ولکن هذا لا ینفی وجود موازین مخلوقة من اللّه عزّ وجل ؛ لأنّ نفس الذات الإلهیة هی أعلی ما یمکن أن یکون من نظام فی المعرفة بالنظام الربوبی ، وإذا أردنا أن نجد نظاماً متکاملاً ضمن موازین لا متناهیة فی الدقّة فهو نفس الذات الإلهیة ، والذات الإلهیة لها أسماء وصفات ، وقد ورد فی الدعاء «وأیقنت أنّک أنت أرحم الراحمین فی موضع العفو والرحمة ، وأشدّ المعاقبین فی موضع النکال والنقمة ، وأعظم المتجبّرین فی موضع الکبریاء والعظمة»(1) ، ففی موضع معیّن أیّ الاسمین یحکم ، هل هو اسم الرحمن أم اسم المنتقم؟ القابض أم الباسط المحیی أم الممیت؟ وکلّ هذه الأُمور تمثّل نظاماً ، ولیس الأمر أمراً اعتباطیّاً .

ص:330


1- (1) دعاء الافتتاح .

لابدّ من التوازن فی کلّ علاقة

«اَلرَّحْمنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسانَ * عَلَّمَهُ الْبَیانَ * اَلشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ بِحُسْبانٍ * وَ النَّجْمُ وَ الشَّجَرُ یَسْجُدانِ * وَ السَّماءَ رَفَعَها وَ وَضَعَ الْمِیزانَ * أَلاّ تَطْغَوْا فِی الْمِیزانِ * وَ أَقِیمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَ لا تُخْسِرُوا الْمِیزانَ »1 ، فالتوازن مطلوب فی کلّ علاقة ، وفی کلّ تعامل ، وفی کلّ شیء ، وهذا التوازن مطلوب حتّی فی علوم الکیمیاء والفیزیاء فی المعادلات الکیمیائیة والفیزیائیة ، فهذا التوازن له صیغة وإطار وقالب ، قال أمیر المؤمنین علیه السلام : «بالعدل قامت السماوات والأرض»(1) .

إذن کلّ ما طابق العدل ینبغی أن یکون قانوناً ، ولیس کلّ قانون یجب أن نعتبره عدلاً ، ویجب أن لا تنطلی علینا هذه المغالطة ، والقانون ینبغی أن یرسم السعادة للبشریة ، فکیف تُرسم السعادة للبشریة بغیر العدل إذا کان هذا القانون یخالف العدل؟!

لا ینبغی أن تحکم الأعراف علی العدالة

أمّا الأعراف فهی قوانین ، وقد لا تکون مکتوبة ، ولکن ثقافة المجتمع مبنیّة علیها ، فمن الأمثلة التی یمکن أن نطرحها هنا هی : مسألة الرئیس فی الدول الأوربیة ، فلا یوجد قانون مکتوب یمنع وصول الأسوَد إلی سدّة الحکم ، ولکن من المستحیل أن یکون الأسود رئیساً لدولة أوربیة ، والسبب هو العرف ، فالعرف له قوّة کبیرة یطبّقها المجتمع ، حتّی لولم یکن هذا العرف مدوّناً ، إذن الأعراف تمثّل قانوناً نافذاً متجدّراً أقوی نفوذاً من القانون المکتوب ، وهذه الأعراف هی کذلک ما دامت هی قانون علی النحو التطبیقی الفعلی ، ولکن یجب أن لا تحکم علی

ص:331


1- (2) تفسیر کنز الدقائق 12 : 553 ، ذیل آیة«وَ السَّماءَ رَفَعَها ».

العدالة ، مع أنّها متجذّرة ویرتبط بها المجتمع بشدّة ، وتحکیم العدالة ینطلق من منطلق أنّها تکوینیة ، أمّا الأعراف فإنّها أُمور اعتباریة یتواضع علیها المجتمع ، وتختلف من مجتمع لآخر .

الأکثریة لیست دائماً حلیفة الصواب

فی النظریة الإسلامیة ، لا سیّما فی فکر أهل البیت علیهم السلام إنّ الأکثریة لیست دائماً حلیفة الصواب ؛ لأنّ هذه الأکثریة قد تبنی علی أعراف مریضة ، وقد تشکّل هذه الأعراف أغلالاً للمجتمع ، قال تعالی :«اَلَّذِینَ یَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِیَّ الْأُمِّیَّ الَّذِی یَجِدُونَهُ مَکْتُوباً عِنْدَهُمْ فِی التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِیلِ یَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ یَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْکَرِ وَ یُحِلُّ لَهُمُ الطَّیِّباتِ وَ یُحَرِّمُ عَلَیْهِمُ الْخَبائِثَ وَ یَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِی کانَتْ عَلَیْهِمْ فَالَّذِینَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِی أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِکَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ »1 ، فالأعراف المریضة تمثّل إصراً وأغلالاً ، وقد خلّص الرسول صلی الله علیه و آله مجتمعه من هذا الإصر وهذه الأغلال ، وهذا الدور سیمارسه الإمام الحجّة بن الحسن عجّل اللّه فرجه .

الأعراف قد تخرج عن نطاق الفطرة

هناک هوّة کبیرة بین الشعارات التی ترفعها الشعوب والحکومات الغربیة وبین الأعراف السائدة عندهم . نعم ، هم بشر ولدیهم فطرة إنسانیة ، ولکن هذا لا ینفی وجود الأعراف الخارجة عن الفطرة بصورة قویّة فی ذلک المجتمع .

الإدراک العقلی للعدالة له حدود

العدالة فی کلّ مجالاتها السیاسیة والمالیة والاجتماعیة وغیرها لها بُعد

ص:332

تکوینی بحیث یدرکها العقل وتدرکها الفطرة الإنسانیة ، ولکن هذا الإدراک له حدود ، وما وراء تلک الحدود یقصر العقل وتقصر الفطرة عن إدراک العدالة ، وحینئذٍ تأتی الحاجة إلی الاعتبار القانونی .

متی نحتاج إلی الاعتبار القانونی فی إدراک العدالة ؟

إذن تأتی الحاجة إلی الاعتبار بعد أوّلیّات وبدیهیّات الفطرة الإنسانیة فی إدراک العدالة ، وفی حسن العدل وقبح الظلم ، وحسن الصدق وقبح الکذب ، وحسن الإحسان وقبح الإساءة ، وهی مجموعة من الأُصول السلوکیة التی تدرکها الفطرة ، بعد ذلک تأتی الحاجة إلی الاعتبار القانونی ؛ لأنّ هناک أفعالاً غیر واضحة فی النظام الاجتماعی والنظام الفردی والنظام الأسری ، ولابدّ لأهل الخبرة فی تنظیم النظام الاجتماعی بأن یتدخّلوا لبیان العدالة فی هذه الأُمور ، سواء علی صعید البشریة أو علی صعید الإدارة والتدبیر .

التقنین الإلهی والتقنین الوضعی

وهذا التقنین قد یکون بشریاً وضعیاً ، وقد یکون إلهیّاً سماویاً ، والشرع یحترم العقل فی الوصول إلی العدالة ، ویُسمی ب «بناء العقلاء» ، ولکن هذا یکون فی مساحات معیّنة ، وبعد هذه المساحات یصل العقل إلی مساحات لا یدرک فیها العدالة ، وهنا لابدّ من صوابیّة الرؤیة الکونیة بحیث یکون الإیمان بوجود خالق للکون والبشر .

بنیة الحقوق التکوینیة قبل مرحلة التقنین

وهنا البحث حسّاس جدّاً ، فالعدل یرسم لإعطاء الحقوق قبل مرحلة التقنین ، وهنا بنیة الحقوق التکوینیة ، فهل بنیة الحقوق التکوینیة منطلقها الباریء سبحانه

ص:333

وتعالی أو منطلقها الإنسان هناک عدّة مدارس ، منها : المدرسة الإنسانیة أو المدرسة الذاتیة ، وهی : مدرسة تنطلق من ذات الإنسان بغض النظر عن النظام الاجتماعی .

الرؤیة الإسلامیة للعدالة

وهنا یبدأ البحث فی کیفیة الوصول إلی العدل فی النظریة الإسلامیة ، عندنا أنّه بدون جعل المالکیة والحق الأوّل للّه لن تستتب العدالة بتاتاً فی البشر ؛ لأنّ نظام التکوین یبدأ من اللّه ثمّ إلی خلقه ، فلابدّ أنّ نظام الحقوق ونظام التقنین ونظام التدبیر یتطابق مع نظام التکوین ، وإذا تطابق فستکتب العدالة ، وتتحقق السعادة للإنسانیة ، وإذا تمّ مخالفة هذا الأصل الأصیل الذی ترتکز علیه العدالة فلن تعیش البشریة السعادة أبداً ، وستخسر البشریة السعادة .

الملکیّة الحقیقیة للّه

والملکیّة بالذات وقبل کلّ شیء للّه سبحانه وتعالی ، ولذلک قال سید الشهداء علیه السلام : «أعوذ بربّی وربّکم من کلّ متکبّر لا یؤمن بیوم الحساب»(1) ، وهنا یشیر سید الشهداء إلی أنّ الظلم السائد فی النظام الاجتماعی آنذاک بسبب عدم تحکیم هذا الأصل الأصیل ، وهو مالکیّة اللّه للکون وما فیه .

الظاهرة الیزیدیة والظاهرة الأمویة تمثّلان المدرسة الذاتیة التی لا تنطلق من أنّ مالک الملوک هو اللّه ، وإنّما تضع فی هذا الموضع شخصاً آخر ، ومنهج أهل البیت علیهم السلام یرتکز علی أنّ الملک للّه والحق للّه لا للفرد، وإذا سلّمنا أنّ الملک للّه والحقّ للّه فإنّ کلّ قانون وکلّ مبدأ لا ینطلق من التشریع الإلهی فهو فاقد

ص:334


1- (1) الکامل فی التاریخ 4 : 63 .

للمصداقیة والشرعیة ، ولا یمثّل قانوناً عادلاً .

لا تتحقق العدالة من خلال المدرسة الذاتیة أو الإنسانیة

وإذا جعل المحور هو الذاتیة أو الإنسانیة فلن تکتب العدالة للبشریة ، الآن توجد مافیاً المخدّرات ومافیا الجنس ومافیا السلاح التی تنشأ من الإقطاع الدولی الذی یفتح باب الحروب من أجل أن یسوّق سلاحه ، ومن أجل الربح ، ومن خلال ممارسة الجنس غیر المشروع یفتح هذا الباب الذی یهدم أخلاقیات الأُسرة والمجتمع ، وتربک السلامة الروحیة والصحة البدنیة والأمن الاجتماعی ، ولیکن کلّ ذلک ، المهم أن یربحوا من هذا الفساد الأخلاقی ، وکذلک المخدّرات التی تشل الطاقات البشریة والعلمیة والعقلیة عند شرائح کبیرة من المجتمع ولتذهب البشریة للجحیم ، المهم أن یربحوا ، ولیکن بعد ذلک ما یکون .

ملکیّة اللّه وملکیّة الرسول وذی القربی

إذن الأصل الأوّل فی کلّ الحقوق یتبیّن من خلال هذه الآیة فی سورة الحشر ، یقول اللّه تعالی :«ما أَفاءَ اللّهُ عَلی رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُری فَلِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِی الْقُرْبی وَ الْیَتامی وَ الْمَساکِینِ وَ ابْنِ السَّبِیلِ کَیْ لا یَکُونَ دُولَةً بَیْنَ الْأَغْنِیاءِ مِنْکُمْ وَ ما آتاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاکُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَ اتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِیدُ الْعِقابِ »1 ، الثروات الطبیعیة ، بل کلّ الثروات هی ملک للّه تعالی ، واللام الواردة فی الآیة الکریمة هی لام الملکیّة ، وتصرّف وملکیّة ذی القربی لیست ملکیّة قیصریة أو کسرویة ، قال تعالی :«وَ لِذِی الْقُرْبی وَ الْیَتامی » ، ولم یقل وللیتامی ، لیبیّن أنّ المصرف سیکون للطبقات المحرومة توزیعاً عادلاً ، قال تعالی :«کَیْ لا یَکُونَ دُولَةً بَیْنَ الْأَغْنِیاءِ مِنْکُمْ » ، أی :

ص:335

کی لا یکون حقّاً مستأثراً عند هؤلاء الأغنیاء یتداولونه بینهم .

الحق للّه ثمّ للرسول ثمّ لذی القربی

إذا أرادت البشریة أن لا یستأثر أُولی القوّة والنفوذ علیها یجب علیها الرجوع إلی مبدأ : «إنّی عذت بربّی وربّکم أن ترجمون ، أعوذ بربّی وربّکم من کلّ متکبّر لا یؤمن بیوم الحساب»(1) فالحق للّه ثمّ للرسول ثمّ لأُولی القربی ، لِمَ؟ لکی تستتب العدالة ؛ ولکی لا یکون المال دولة بین الأغنیاء منکم ؛ ولکی تتهیّأ فرص للمحرومین حتّی ینالوا حقهم ، واللّه عندما یعطی شخصاً مّا ثروة یعطیها إیّاه لکی یکون عنصراً فعّالاً فی المجتمع لا لکی یحتکر هذه الثروة ، ویمنع الحقوق الشرعیة التی یستحقّها أهلها .

سیطرة الإقطاع الأموی علی المناصب الحسّاسة

والقرآن یتحدّی البشریة أنّ العدالة لن تستتب إلّاإذا کان أُولوا القربی هم أصحاب التدبیر ، وهذا ما شاهدناه فی التاریخ ، فلمّا أتی الخلیفة الأوّل بدأ التمییز فی العطاء بین المسلمین ، وبین زوجات النبی وغیرهن ، وبدأت سیاسة التفریق فی العطاء(2) ، وبدأ إدخال الإقطاع الجاهلی الأموی القدیم ، حیث ولّی یزید بن أبی سفیان علی الشام ، وهو أخو معاویة بن أبی سفیان ، وهو من الطلقاء ، ویولّی علی قطاع کبیر من البلاد الإسلامیة ، ممّا أسّس للإقطاع بصورة قویّة فی المجتمع الإسلامی ، وبعد أن مات یزید بن أبی سفیان تمّ تولیة معاویة بن أبی سفیان إرضاءً لشجرة الإقطاع الأموی فی عهد الخلیفة الثانی ، وتمّ تولیة الطلقاء فی مناصب حسّاسة ، وفی قیادة الجیوش الإسلامیة فعاد الإقطاع بأشرس ما یمکن ، إلی أن

ص:336


1- (1) الکامل فی التاریخ 4 : 63 .
2- (2) من حیاة الخلیفة عمر بن الخطاب : 180 .

وصلت النوبة إلی یزید بن معاویة الذی شرب الخمر واستحلّ الدماء وهدم الکعبة ، وصار لهذه الطبقة الإقطاعیة الأولویة حتّی علی المهاجرین والأنصار فی تولّی المناصب الحسّاسة .

تطبیق العدالة من خلال دور ذوی القربی

وفی المقابل تمّ التضییق علی المَوالی غیر العرب فمُنعوا من الزواج من العرب فی عهد الخلیفة الثانی ، ومُنعوا من دخول عاصمة المسلمین وهی المدینة المنوّرة ، وفی عهد الخلیفة الثالث زادت مثل هذه الممارسات بصورة کبیرة ممّا أدّی إلی انفجار الأوضاع ، ثمّ جاء دور أمیر المؤمنین علیه السلام الذی أعاد العدل إلی نصابه فلم یفرّق بین الأبیض والأسود ، ولا بین العربی والأعجمی ، فأعاد سنّة رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، وهذا هو دور أُولی القربی ، وهو التوزیع العادل للطبقات المحرومة حتّی لا یکون دولة بین الأغنیاء ، وهنا یمثّل سید الشهداء علیه السلام ضمیر العدالة وضمیر الإنسانیة النابض ، ولمّا سفک دمه بثّ الحیاة فی العدالة والمطالبة بها .

ص:337

ص:338

المحاضرة السادسة العدالة ودور الخلیفة فی الأرض

اشارة

محاور المحاضرة :

أوّلاً : هدف الحسین علیه السلام من الخروج علی بنی أمیة .

ثانیاً : هل القدرة هی مصدر الاستحقاق؟

ثالثاً : هل یجب إخضاع القانون للأخلاق؟

رابعاً : العبودیة للّه تؤسّس للعدالة .

خامساً : إنّی جاعل فی الأرض خلیفة .

سادساً : الخلیفة هو الشخص المصطفی من اللّه .

سابعاً : مفهوم أهل القری فی القرآن الکریم .

ثامناً : خلیفة اللّه ید اللّه ، وعین اللّه ، ووجه اللّه فی الأرض .

تاسعاً : الإمام المهدی عجّل اللّه فرجه الشریف یتصدّی لأُمور المسلمین فی غیبته ، ولکن فی الخفاء .

عاشراً : أهمیة الحکم السرّی فی مجریات الأُمور .

هدف الحسین علیه السلام من الخروج علی بنی أمیة

قال تعالی :«إِنَّ اللّهَ یَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إِیتاءِ ذِی الْقُرْبی وَ یَنْهی عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْکَرِ وَ الْبَغْیِ یَعِظُکُمْ لَعَلَّکُمْ تَذَکَّرُونَ »1 ، وقال سید الشهداء علیه السلام من ضمن نداءاته

ص:339

العاشورائیة : «اللهم إنّک تعلم أنّه لم یکن ما کان منّا تنافساً فی سلطان ولا التماساً فی فضول الحطام ، ولکن لنری المعالم من دینک ، ونظهر الإصلاح فی بلادک ویأمن المظلومون من عبادک ، ویُعملُ بفرائضک وسننک وأحکامک»(1) ، ثمّ وجَّهَ خطابه علیه السلام إلی أهل الکوفة والمعسکر الآخر أو جیش الشام : «إن لم تنصرونا وتنصفونا قوی الظلمة علیکم ، وعملوا فی إطفاء نور نبیّکم ، وحسبنا اللّه وعلیه توکّلنا وإلیه أنبنا وإلیه المصیر»(2) .

هل القدرة هی مصدر الاستحقاق ؟

مرّ علینا الکلام عن أُسس الحقوق والتقنین ، بعد الکلام عن أنّ العدالة هی الأساس والقانون یدور مدارها ، وتکلّمنا عن المدرسة الذاتیة ، والتی تعبّر عن الحالة الدکتاتوریة والکسرویة والقیصریة التی تستعبد الإنسان ، وهنا تظهر فکرة أنّ سیطرة الطبقات بعضها علی البعض ظاهرة طبیعیة تتمثّل فی سیطرة القوی علی الضعیف ، فلیس من الطبیعی أن تتساوی الشعوب الأوربیة مع باقی شعوب العالم ، وهی شعوب أکثر تعلّماً وقدرة وتسلّحاً من غیرها ، فکیف نساویها بغیرها؟!

وفکرة الإنتاج والعمل مطلب آخر ، بل هذه المؤهّلات التی یتّصف بها القوی هی التی تؤهّله إلی أن تکون له استحقاقات معیّنة ، وهذه هی نفس الکسرویة والقیصریة القدیمة ، ولکنها الآن بصورة حدیثة ، وإلّا فهی نفس الفکرة ، ونفس المدرسة بالضبط ، وترتکز علی أنّ القدرة مصدر الاستحقاق ، فکلّما کانت الذات تتمتّع بقدرة أکبر کان لها استحقاق أکثر .

ص:340


1- (1) تحف العقول : 170 .
2- (2) تحف العقول : 171 .

هل یخضع النظام لرأی الأکثریة ؟

أمّا المدرسة الإنسانیة فتقول : إنّ مجموع المجتمع البشری له استحقاقات معیّنة ، والمدرسة الإنسانیة تنقسم إلی المذاهب ، وهی تنطلق من إنسانیة الإنسان لا من قدرته وإمکانیّاته ، وهی تنطلق من إدراکات الإنسان وشهواته وغرائزه ، فإذا کانت الأکثریة قد أرادت الإباحیّة الجنسیة فحینئذٍ تصحّ وتشرع الإباحیّة الجنسیة ، وإذا کانت الأکثریة ترید نظاماً مالیاً معیّناً أو نظاماً خلقیّاً معیّناً أو نظاماً قانونیاً معیّناً فیجب إقرار هذا النظام ، وهی تعتمد علی نفوذ رأی الأغلبیة ، واللیبرالیة مدرسة تربّت فی أحضان المدرسة الإنسانیة .

لابدّ من مراجعة الرؤیة الکونیة للمدارس الحقوقیة والسیاسیة

یجب علینا حینما نرید أن نفهم المدارس الحقوقیة والسیاسیة والقانونیة أن نراجع أُسسها الفلسفیة ، أو أُسسها فی الرؤیة الکونیة أو الرؤیة الأخلاقیة ، وإلّا فسیکون الحوار والتجاذب العلمی معها عقیماً ؛ لأنّک إذا فهمت الأُسس استطعت أن تفهم الاستحقاقات التی تطرحها هذه المدرسة أو تلک ، فلابدّ من الرجوع إلی الأُسس .

هل یجب إخضاع القانون للأخلاق ؟

هناک جدل قدیم وحدیث یدور حول : «هل هناک مبادیء أخلاقیة یجب أن تحکم القانون أو لا؟ وما هی الأخلاق ، هل الأخلاق لها ثوابت ، ولها مبادیء ، ولها محاور مقدّسة؟» .

المدارس السماویّة تنظر إلی الأخلاق علی أنّ لها قدسیّة خاصّة ، بینما المدارس الأُخری الوضعیّة لا تنظر إلی الأخلاق علی أنّ لها قدسیّة خاصّة ، وعندها فهی لا تقبل أن تحکّم الأخلاق علی القوانین والمبادیء الحقوقیة وتعتبر

ص:341

أن لیس فی الأخلاق مبدأ مقدّس ، وتعتبر الأخلاق وسیلة آلیّة تعاملیّة ، وتعتبرها عناصر إداریة .

هل العدالة أمر حقیقی أم اعتباری ؟

وهذا یبتنی علی نفی وجود الحسن والقبح أو المدح والذم ، وأنّ هذه الأُمور مصطنعة فی المجتمعات تتبدّل عندما تتبدّل الثقافة فی المجتمع .

وقول سید الشهداء علیه السلام : «إنّی لا أری الموت إلّاسعادة ، والحیاة مع الظالمین إلّا برماً»(1) ، یعتبر أنّ الحیاة مع الظالمین تمثّل برماً ثابتاً ، وأنّ هذا مبدأ مقدّس لا یتغیّر ، وأخلاقیة ثابتة لا تتغیّر بتغیّر المجتمع ، فالظلم هو الظلم .

لا محوریّة للعدالة فی المبادیء الغربیة

الغربیون لیس لدیهم مبادیء أخلاقیة ثابتة ، وإنّما الغایة عندهم هی الوصول إلی المصلحة ، وهذا کلّه ناتج من عدم محوریّة العدالة عندهم ، فإذا وجد الإنتاج الاقتصادی والرفاهیة المادیة ، فلن یکون السقوط والانحدار الأخلاقی مشکلة فی المجتمع کما یعتقدون .

فإذا اختارت البشریة هذا المسار فلن یکتب العدل ، ولن یتحقق لها ، بل سیولد العدید من الفراعنة الجدد ، إذن لکی نناقش هذه المدارس لابدّ من إثبات مقدّمة علمیة ، وهی أنّ العدالة أمر حقیقی واقعی ، ولیس وجودها وجوداً اعتباریاً أدبیاً کما یزعمون ، ولن تستقر العدالة إلّابهدم الأصنام البشریة من أمثال هتلر وصدام وموسیلینی الذین لا یمکن لأحد أن ینکر واقعیة ظلمهم ، وأنّ البشریة قد لاقت الویلات علی أیدیهم ، والمعاناة التی یعیشها الفقراء والمحرومون أیضاً لا یمکن

ص:342


1- (1) میزان الحکمة 4 : 1515 ، الحدیث 9785 .

أن ینکر أحد واقعیتها ، والجرائم الأخلاقیة لا یمکن لأحد أن ینکر واقعیتها ، وتأثیرها السلبی علی المجتمع .

العبودیة للّه تؤسس للعدالة

یجب علینا أن نثبت أنّ مالک الملوک ذا الحق المطلق هو اللّه عزّ وجلّ سواء فی النظام الإسلامی أو فی تعامل أصحاب الأدیان الأُخری مع اللّه تعالی ، کما فی الآیة الکریمة :«قُلْ یا أَهْلَ الْکِتابِ تَعالَوْا إِلی کَلِمَةٍ سَواءٍ بَیْنَنا وَ بَیْنَکُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَ لا نُشْرِکَ بِهِ شَیْئاً وَ لا یَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنّا مُسْلِمُونَ »1 ، والتشریع الدولی والعلاقات الدولیة ، وکلّ العلاقات الأُخری لابدّ أن تبنی علی هذا الأصل ، أمّا إطلاق الحریات بشکل متحرّر من العبودیة للّه تعالی فهو یمثّل استعباد البشر لبعضهم البعض ، والعودة إلی أزمنة التخلّف البشری والعصور الوسطی ، ولکن بأشکال جدیدة ، أمّا العبودیة للّه فإنّها تضمن کون البشر سواسیة أمام اللّه تعالی .

مفهوم الفیء

أمّا الثروات فمصرفها للمحرومین ، وتدبیرها هو کما قالت الآیة :«ما أَفاءَ اللّهُ عَلی رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُری فَلِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِی الْقُرْبی وَ الْیَتامی وَ الْمَساکِینِ وَ ابْنِ السَّبِیلِ کَیْ لا یَکُونَ دُولَةً بَیْنَ الْأَغْنِیاءِ مِنْکُمْ وَ ما آتاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاکُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَ اتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِیدُ الْعِقابِ »2 ، والفیء فی الاصطلاح الإسلامی هو کلّ الثروات الأرضیة ، وهذه الآیة هی من الآیات المحکمة العظیمة .

ص:343

إنّی جاعل فی الأرض خلیفة

اللّه خلق الکون ، وجعل خلیفة اللّه علی الکون هو الشخص المصطفی ، قال تعالی :«وَ إِذْ قالَ رَبُّکَ لِلْمَلائِکَةِ إِنِّی جاعِلٌ فِی الْأَرْضِ خَلِیفَةً قالُوا أَ تَجْعَلُ فِیها مَنْ یُفْسِدُ فِیها وَ یَسْفِکُ الدِّماءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِکَ وَ نُقَدِّسُ لَکَ قالَ إِنِّی أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ »1 ، والملائکة موجود علمی ، وأوّل من انطبق علیه وصف الخلیفة هو آدم علیه السلام ، وتساؤل الملائکة عمّا قالوا عنه أنّه یفسد فیها ویسفک الدماء یطابق المدرسة الذاتیة التی تکلّمنا عنها ، والتی یکون من نتائجها الفساد سواء کان فساداً مالیاً أو خلقیّاً أو صحیّاً :«قالَ إِنِّی أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ » ، أی : إنّ هذا الخلیفة مقدّر له أن یصلح الأرض ، وهذا الخلیفة هو آدم ومن بعده من الأنبیاء والرسل إلی خاتم الأنبیاء ، ومن الإمام علی علیه السلام إلی الإمام الحجّة (عجّل اللّه فرجه الشریف) ، ولولا هؤلاء الخلفاء لکتب الدمار للبشریة ، ولعاشت البشریة الدمار علی الصعید البیئی والترابی والهوائی والصحی وغیرها .

الخلیفة هو الشخص المصطفی من اللّه

وذلک لأنّ هؤلاء مدبّرون ، ولو رفعوا أیدیهم عن تدبیر البشریة فی مجالات عدیدة لکتب علی البشریة ما تنبّأت به الملائکة :«أَ تَجْعَلُ فِیها مَنْ یُفْسِدُ فِیها وَ یَسْفِکُ الدِّماءَ» ، وبالتالی فإنّ الباری تعالی یقول : إنّ هذه الأرض استخلفت فیها الشخص المصطفی من الخلق ، واللّه هو مالک الملوک ، وهو الذی قال عن نفسه :

«أَ لا یَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اللَّطِیفُ الْخَبِیرُ»2 ، فالذی یصلح لتدبیر البشریة ، والذی یتحلّی بکافّة المواصفات والمؤهّلات إنّما هو الخلیفة .

ص:344

لابدّ من رجوع الفیء إلی مدبّره الصحیح

قال تعالی :«وَ ما أَفاءَ اللّهُ عَلی رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَیْهِ مِنْ خَیْلٍ وَ لا رِکابٍ وَ لکِنَّ اللّهَ یُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلی مَنْ یَشاءُ وَ اللّهُ عَلی کُلِّ شَیْ ءٍ قَدِیرٌ»1 ، الکفّار قد یمتلکون الطاقات ، والمسلمون عندما یمتلکون هذه الطاقات من خلال الفیء ، فإنّ هذه الطاقات إنّما ترجع إلی نصابها الصحیح ، وإلی المدبّر الصحیح الذی یرتضیه اللّه تعالی .

مفهوم أهل القری فی القرآن الکریم

قال تعالی :«ما أَفاءَ اللّهُ عَلی رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُری فَلِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِی الْقُرْبی وَ الْیَتامی وَ الْمَساکِینِ وَ ابْنِ السَّبِیلِ کَیْ لا یَکُونَ دُولَةً بَیْنَ الْأَغْنِیاءِ مِنْکُمْ وَ ما آتاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاکُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَ اتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِیدُ الْعِقابِ »2 ، والقری فی جملة من الآیات ، تعنی : المدن ، فلِمَ یُسمی القرآن أهل المدن بأهل القری؟ فالیهود المعاصرون للنبی من الناحیة المادیة متطوّرون علی العرب بدرجات کثیرة ، وکانوا متقدّمین من حیث الکتابة والقراءة ، بینما العرب کانوا متخلّفین ، مع ذلک القرآن الکریم یسمی مناطقهم قری ولا یسمّیها مدن ؛ لأنّ القرآن یعتبر أنّ المدنیة تتمثّل فی الإقرار بأنّ مالک الملوک هو اللّه تعالی ، فالشخص الذی یقر بأنّ مالک الملوک هو اللّه یعتبر شخصاً متمدّناً ، والعلوم أسلحة وقدرات فإذا لم تهذّب بالالتزام الخلقی فإنّها ستکون أسلحة فتّاکة تورث الجحیم للبشریة ، أمّا إذا هذّبت بالالتزام الخلقی فسوف توفّر النعیم للبشریة .

ص:345

الاحتکار ونشر الأمراض الجنسیة من مصادیق الإفساد فی الأرض

ویصل الإنسان إلی إحراق المواد الغذائیة حتّی لا ینزل سعرها فی السوق ، فبدل أن یعمل هؤلاء علی إخراج کنوز اللّه من أرضه ، یعملون علی إبادة المحاصیل الزراعیة ، کلّ ذلک من أجل السیطرة والاحتکار ، وهذا من مصادیق الإفساد فی الأرض ، فالقرآن یقول : إنّ الذی لا یؤمن باللّه هو إنسان قروی وإن کان فی ظاهره متمدّناً ، بینما ذلک الذی یعیش حیاة بسیطة مسالماً طیّباً یؤمن أنّ للناس حقوقاً ولله حقوقاً ، ویحافظ علی حرمة دماء الناس ، فهذا الإنسان إنسان مدنی فی منطق القرآن ، حتّی ولو کان یسکن فی الصحراء أو فی القری التی لا تعرف التطوّر المدنی ، وهذه المدنیة التی یعطیها القرآن لهذا الشخص تنطلق من إرادته التی یرید بها للبشریة الخیر والاطمئنان والسلام ، أمّا ذلک الذی یعمل علی نشر مرض الإیدز والأمراض الأُخری التی تنشأ من معصیة اللّه تعالی ، فهل هذا یصح علیه لفظ مدنی؟! وهل یمکن أن یساهم فی تطوّر البشریة ، وهو من المفسدین فی الأرض؟!

خلیفة اللّه ید اللّه ، وعین اللّه ، ووجه اللّه فی الأرض

إذن منطق اللّه فی القرآن یتّجه إلی أنّ الفیء والثروات هی للّه فی الأصل وللرسل الذین هم خلفاء اللّه فی الأرض ، وهذا الخلیفة یکون ید اللّه فی الأرض ، وعین اللّه فی الأرض ، ووجه اللّه فی الأرض ، فعزرائیل یتوفّی الأنفس ، واللّه یسند هذا الفعل لنفسه فیقول تعالی :«اَللّهُ یَتَوَفَّی الْأَنْفُسَ حِینَ مَوْتِها وَ الَّتِی لَمْ تَمُتْ فِی مَنامِها فَیُمْسِکُ الَّتِی قَضی عَلَیْهَا الْمَوْتَ وَ یُرْسِلُ الْأُخْری إِلی أَجَلٍ مُسَمًّی إِنَّ فِی ذلِکَ لَآیاتٍ لِقَوْمٍ یَتَفَکَّرُونَ »1 ، وقال فی آیة أُخری :«قُلْ یَتَوَفّاکُمْ مَلَکُ الْمَوْتِ الَّذِی وُکِّلَ بِکُمْ ثُمَّ

ص:346

إِلی رَبِّکُمْ تُرْجَعُونَ »1 ، لو کانت الثروات الإنسانیة عند أهل البیت علیهم السلام لوزّعوها بالعدل ، ولما وجدت هذه المجاعات والمآسی ، وعندما کانت عند أولئک الذین لا یؤمنون باللّه فإنّهم قرویّون ولیسوا متمدّنین ، بل یمثّلون خطراً علی البشریة ؛ لأنّ الذی لا یؤمن باللّه فلن یکون له مبدأ یجعله یتورّع عن إثاره الحروب وقتل الشعوب وهدم الأُسر وإفشاء الفساد ، ولن یتوقّف عن نشر المخدّرات والدعوة إلی الإباحیة الجنسیة مادام ذلک یخدم مصالحه ، والإحصائیات حول بیع الفتیات الصغیرات من أوربا الشرقیة إلی أوربا الغربیة ، وفی الدول الکبیرة إحصائیات رهیبة ، وهذا لا یکون بمبارکة قانون مدوّن ، ولکنّه عرف وواقع یعیشه العالم الغربی الیوم ، ألیس هذا هو الاستعباد بعینه؟!

تساؤلات حول العدالة والسعادة والرفاه

هناک جدل قائم الآن حول هل أنّ العدالة هی السعادة والرفاه والتنمیة أم أنّ العدالة تعنی أُموراً أُخری؟ وهل التنمیة تتمثّل فی العلم الذی یجعل الإنسان یکتنز من الأموال أکثر؟ وهل الرفاه یقتصر علی دول العالم المتقدّم أم دول العالم الثالث؟ وهل الطاقة النوویة حق للعالم المتقدّم وحرام علی العالم الثالث؟

المقصود من

«وَ لِذِی الْقُرْبی »

المقصود بذی القربی فی الآیة الکریمة هو المعصوم الذی لا یجهل ، والذی هو الإمام المهدی عجل اللّه فرجه الشریف الغائب غیبة فی مقابل الظهور ، ولیس غیبة فی مقابل الحضور ، فلا یصح أن نقول غائب وسیحضر ، وإنّما غائب وسیظهر ، أی :

أنّه حاضر ولکنّه لیس مکشوفاً ، وأمّا دعوة السفارة فإنّها دعوات تنطلق من

ص:347

أجهزة المخابرات البریطانیة .

الإمام المهدی (عجّل اللّه فرجه) یتصدّی لأُمور المسلمین فی غیبته ، ولکن فی

الخفاء

فهو غائب ، وسینکشف دوره فی البشریة عند الظهور ، ومن الخطأ أن نعتقد أنّ الغیبة بمعنی الزوال ، أو أنّه یعیش بعیداً فی جزیرة خضراء أو حمراء ، فهو غائب بمعنی أنّه متستّر ومتخفّی ، لا أنّه غائب بمعنی أنّه غیر متصدّ أو أنّه متفرّج علی ما یحصل ، وهناک حتّی فی التراث الشیعی بعض المفاهیم المغلوطة ، فهناک من یقول : إنّ علیّاً کان لمدّة خمس وعشرین سنة جلیس البیت ، وهذا خطأ ، هم أزاحوه وأبعدوه عن منصبه الذی نصّبه اللّه فیه ، ولکن کان له دوره .

أهمیة الحکم السرّی فی مجریات الأُمور

ولیس الدور کلّ الدور فی الحکم الظاهری ، الیوم مجریات الأُمور الحقیقیة وخبایاها لا تکشف فی الأخبار ، المعادلات التی تدیر البشر غیر معلنة ، ولا تنشر الأسرار إلّابعد خمسین أو مائة سنة علی شکل مذکّرات یکتبها ذلک الوزیر أو الشخص المعنی ، مع ذلک فإنّ هذه المذکّرات لیس من الضروری أن تکشف کلّ الأسرار والمعادلات التی کانت تمثّل دوافع وأسباباً لحرکة معیّنة أو لتصرّف معیّن ، ما یکتب فی التاریخ من أسرار هو ما یطفح علی السطح ، وما یطفح علی السطح لیس هو الحقیقة .

إذا لم یکتب للبشریة سیادة دین اللّه ، وتدبیر رسول اللّه ، وذی القربی فلن یکتب للبشریة عدالة أبداً ، بل سیکون المنطق السائد هو منطق الإفساد فی الأرض ، وتارة یکون الإفساد بالاعتقال والسجن ، وتارة بالتمییز الطائفی والتمییز فی فرص العمل والتعلیم والظلم الذی یدور فی هذا المدار .

ص:348

المحاضرة السابعة مناقشة بعض تعریفات العدالة

اشارة

محاور المحاضرة :

أوّلاً : نظرة القرآن الکریم إلی الفوارق فی المخلوقات .

ثانیاً : لا إفراط ولا تفریط فی الإسلام .

ثالثاً : الأصول المحرّمة فی الأدیان السماویة .

رابعاً : تطبیق العدالة لن یتمّ إلّاعلی ید المعصوم .

خامساً : العدالة والمساواة .

سادساً : العدالة الوسطیة والرفاه .

سابعاً : تعریف العدالة بسیطرة العقل الجمعی .

ثامناً : خطر طغیان المیول النفسیة الجمعیة .

تاسعاً : الشعب الصینی والشعب الیابانی والمیول النفسیة .

عاشراً : سیطرة العقل الجمعی تفتقر إلی الضمان .

قال تعالی :«إِنَّ اللّهَ یَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إِیتاءِ ذِی الْقُرْبی وَ یَنْهی عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْکَرِ وَ الْبَغْیِ یَعِظُکُمْ لَعَلَّکُمْ تَذَکَّرُونَ »1 ، وقال سید الشهداء علیه السلام : «ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشیطان ، وترکوا طاعة الرحمن ، وأظهروا الفساد ، وعطّلوا

ص:349

الحدود ، واستأثروا بالفیء ، وأحلّوا حرام اللّه ، وحرّموا حلاله ، وأنا أحقّ مَن غیّر»(1) .

هل الفارق الطبقی الفاحش ظاهرة طبیعیة ؟

هناک جملة من المدارس المادیة والمدارس الذاتیة والمدارس الإنسانیة ، تری أنّ ظاهرة الفارق الطبقی الفاحش لیست ظاهرة شاذة ، بل ظاهرة طبیعیة فی النظام الاجتماعی ، والعدالة هی فی نظم النظام الاجتماعی ، وقد تحصل فوارق طبقیّة ولتکن فاحشة مادام هذا ضمن نظام وتنظیم وتدبیر ، فلتکن الفرص مفتوحة بهذا المقدار من النظم والإدارة والتدبیر فی المجتمع لیسعی کلٌّ إلی إکمال عقله وذهنه وکفاءته ، وإلی أن یحصل علی القدرة المطلوبة .

نظرة القرآن الکریم إلی الفوارق فی المخلوقات

بینما منطق القرآن الکریم لیس علی نسج الفارق الطبقی ، ومن المعروف أنّ منطق القرآن الکریم یخالف الفکر الشیوعی الذی یحاول أن تکون فی المجتمع طبقة واحدة ، وهذا غیر ممکن ، قال تعالی :«وَ اللّهُ فَضَّلَ بَعْضَکُمْ عَلی بَعْضٍ فِی الرِّزْقِ فَمَا الَّذِینَ فُضِّلُوا بِرَادِّی رِزْقِهِمْ عَلی ما مَلَکَتْ أَیْمانُهُمْ فَهُمْ فِیهِ سَواءٌ أَ فَبِنِعْمَةِ اللّهِ یَجْحَدُونَ »2 ، إذن القرآن الکریم والمنطق الإسلامی لا ینسف الفارق الطبقی ، ویقر بالتفاوت فی القدرات الذهنیة والروحیة والبدنیة ، وهذه الحالة موجودة حتّی فی الأنبیاء ، قال تعالی :«تِلْکَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلی بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ کَلَّمَ اللّهُ وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَ آتَیْنا عِیسَی ابْنَ مَرْیَمَ الْبَیِّناتِ وَ أَیَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ »3 ، وحتّی

ص:350


1- (1) الکامل فی التاریخ 4 : 48 .

فی الموجودات النباتیة ، قال تعالی :«وَ فِی الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَ جَنّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَ زَرْعٌ وَ نَخِیلٌ صِنْوانٌ وَ غَیْرُ صِنْوانٍ یُسْقی بِماءٍ واحِدٍ وَ نُفَضِّلُ بَعْضَها عَلی بَعْضٍ فِی الْأُکُلِ إِنَّ فِی ذلِکَ لَآیاتٍ لِقَوْمٍ یَعْقِلُونَ »1 ، وفی التراب حیث یفضّل تراب علی تراب ، وهذه الفوارق توجب نوعاً من الحیویة والنشاط ، قال تعالی :«أَ هُمْ یَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّکَ نَحْنُ قَسَمْنا بَیْنَهُمْ مَعِیشَتَهُمْ فِی الْحَیاةِ الدُّنْیا وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِیَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِیًّا وَ رَحْمَتُ رَبِّکَ خَیْرٌ مِمّا یَجْمَعُونَ »2 ، فتستخیر فئة لفئة أُخری لکی یتکامل المجتمع .

لا إفراط ولا تفریط فی الإسلام

ولکن الذی یعارضه الإسلام هو الإفراط المتمثّل فی النظریة المارکسیة والشیوعیة أو الاشتراکیة ، ویرفض التفریط المتمثّل فی نظریة اقتصاد السوق أو النظریة الرأسمالیة التی لا تمانع من التفاوت الطبقی الشاسع مهما بلغ هذا التفاوت ، ولو کان هذا التفاوت بسبب زیادة بذل الجهد والطاقة لا یمنعه الإسلام ولا القرآن ولا الفکر الذی جاء به النبی صلی الله علیه و آله ولا ما أوصی به أمیر المؤمنین علیه السلام مالک الأشتر ولا فی کتبه الأُخری؛ لأنّ الفکر الإسلامی یحترم الجهود والکفاءة ، والعاطل لا یساوی المجد ، وإنّما یمنع الإسلام من استئثار المنابع الطبیعیة وسدّها ثمّ ضخّها لفئة خاصّة دون باقی مستحقیها من غیر أیّ استحقاق ، ویرفض جعل الفرصة للاستثمار لفئة دون باقی مستحقیها ویمنع تطبیق الاحتکار الذی یمثّل سرطان الإقطاع القائم علی عدّة أعمدة ، منها : سیاسات المافیا الاقتصادیة التی لا همّ لها

ص:351

إلّا تحقیق الربح ، بغضّ النظر عن الآثار الأخلاقیة والاجتماعیة التی یخلّفها هذا الربح ، وکذلک المعاملات الباطلة المحرّمة ، کالربا والقمار .

فالفارق الطبقی الفاحش مرفوض فی الفکر الإسلامی إذا کانت موارده غیر شرعیة .

الأصول المحرّمة فی الأدیان السماویة

ومن معاجز الدین الإسلامی أنّه وضع یده علی سرطانات المال منذ أربعة عشر قرناً إلی یومنا هذا ، بل هی من معاجز الشرائع السماویة کلّها ؛ لأنّها اتّفقت علی دین واحد ، وکلّها تُجمع علی تحریم الربا والقمار والفواحش ، هذه الأُمور من الأُمور التی اتّفقت علیها الشرائع السماویة کلّها ، وهی من أُصول المحرّمات ، وهی تعدّ فی دائرة الدین الواحد بین الأنبیاء ، ولیست من الأُمور الشرعیة التی تتعرّض للنسخ ، فلم تُحَلّل الفواحش أو الربا أو القمار فی أیّ دین من الأدیان السماویة ، وأصول المحرّمات وأصول الواجبات تعدّ من الدین الذی تدین به البشریة لتصل إلی السعادة بعد العقائد التی تفلسف وتبرمج نظم الحیاة ، والدین الإسلامی یمثّل کلّ الأدیان السماویة .

الإسلام وضع یده علی الغدد السرطانیة التی تهدّد العدالة فی النظام الاجتماعی فی الجانب الأخلاقی والجانب الاقتصادی والجانب الاجتماعی والجانب المالی والجانب الحقوقی ، والکثیر من المعاملات التجاریة فی البورصات وغیرها معاملات وهمیّة تستهدف ضخّ السیولة فی الأموال لأصحاب الإقطاع ، وهذه من الابتلاءات التی ابتلیت بها البشریة ، والربا لا زال من الابتلاءات البشریة ، ولسنا فی مقام الکلام عن العدالة الاجتماعیة من الناحیة الاقتصادیة ، ولکن الحدیث جرّنا إلی هذه النقطة .

کذلک نری فی الجانب المالی بحث الاحتکار ، ویدخل فی مصادیقه الاحتکار فی الدول الشرقیة والغربیة ، فیصبح الرجل غنیّاً فی ساعة واحدة ، عن طریق

ص:352

الاحتکار ، والاحتکار قد یکون فی الاستیراد أو التصدیر أو الأراضی أو غیر ذلک ، وکذلک نظام التجارة العالمی .

تطبیق العدالة لن یتمّ إلّاعلی ید المعصوم

إذن التفاوت الطبقی الفاحش غیر مقبول فی منطق القرآن الکریم وأهل البیت علیهم السلام ، بل العدالة فی المجتمع أمر أساسی یمکن إقامته وتطبیقه ، وهذا التطبیق للعدالة لن یتمّ إلّاعلی ید المعصوم ، کما أشارت الآیة التی أشرنا إلیها فی سورة الحشر ، والعدالة فی منطق أمیر المؤمنین علیه السلام المطابق للقرآن الکریم والسنة الشریفة ، هی أمر اختیاری .

العدالة والمساواة

والظلم فی النظام الاجتماعی أمر بید النظام الفاسد ، فهو الذی یوجب الاضطهاد والظلم للطبقة المحرومة فی مقابل التضخّم المالی أو المتعلّق بالثروات الأُخری عند فئة ثانیة . إذن العدل أمر ممکن یقوم به النظام الاجتماعی إن صالح .

وهناک تعریفات أُخری للعدالة ، مثل : العدالة هی المساواة ولیس المقصود بالمساواة هی أن یکون جمیع الأفراد فی کلّ الجوانب متساوین ؛ لأنّ بعض الأُمور التی توجب التفاوت بین الأفراد سببها جهد الأفراد وذکاؤهم ، ووجود تفاوت فی هذا الجانب .

المساواة فی إتاحة الفرص للجمیع

إذن المساواة المطلوبة لیست فی نفی الفروق الفردیة علی مستوی المؤهّلات العقلیة والعلمیة والبدنیة ، وإنّما المقصود من المساواة هی المساواة فی إتاحة الفرص أمام الجمیع بالتساوی ، أمّا استثمار الفرص فیعتمد علی القدرات التی یتمتّع بها هذا الفرد أو ذاک .

ص:353

العدالة الوسیطة والرفاه

وقیل : إنّ العدالة هی الوسیطة . وقیل : إنّ العدالة الاجتماعیة هی الرفاه والتنمیة ، ونحن لا نجد هذا الأمر مذکوراً فی القرآن الکریم ، ولا فی عهد أمیر المؤمنین علیه السلام لمالک الأشتر . نعم ، کانت التنمیة الاجتماعیة من أهداف الإسلام هذا أمر صحیح ، ولکن إذا کان الرفاه والتنمیة یخدم طبقة دون باقی الطبقات فإنّ هذا الأمر مرفوض ، ولن تتحقق بذلک العدالة ، أمّا إذا کان الرفاه مقیّداً بقید الشمولیة والعمومیة فإنّه یصبّ فی مصبّ العدالة الاجتماعیة ، وینبغی أن لا یکون من نتائج هذا الرفاه زعزعه الثوابت الإسلامیة والأخلاقیة ؛ لأنّ زعزعة الثوابت الإسلامیة تمثّل زعزعة الینبوغ الأصیل للعدالة الاجتماعیة ، وهی أنّ الملکیة للّه، وأنّ اللّه هو مالک الملوک ، وأنّ اللّه هو المالک الحقیقی .

الرسول والولی من بعده یتولّی الملک

ویتولّی هذا الملک الرسول علیه السلام ، ومن بعده الولی المعصوم من ذی القربی ؛ لکی یبعد الملک عن الاستئثار والحرص والفرعنة ، یعنی : أنّ الباری إنّما اختارهم ؛ لأنّهم لن یکونوا إقطاعاً یهضمون حقوق الآخرین ، وأنّهم لن یکونوا مافیا سیاسیة ، کما کان الیهود الذین هم مافیا سیاسیة تتستّر بالدین الذی حرّفوه وبدّلوه ، وتحرّکوا وفق مصالح الإقطاع والملوک والسلاطین ، وعندهم أنّ الغایة تبرّر الوسیلة .

الاعتقاد بمالکیة اللّه یستلزم إشاعة الثروات

والاعتقاد بأنّ اللّه مالک الملوک یستلزم إشاعة الثروات بین خلق اللّه بدون سیطرة فئة علی فئة ، ولن تتحقق إشاعة الملکیة کما یریدها الشیوعیّون ، وکما یدّعون ، والتی نتج عنها أن تکون الدولة هی إقطاع آخر ، وتمثّل رأسمالیة جدیدة

ص:354

بصورة أُخری ، وقد بنوا علی الشیوعیّة آمالاً ، ولکنّهم لم یصلوا إلیها ، والمشکلة کانت من البدایة ، وهی أنّ الشیوعیّة لم تکن تؤمن باللّه ، فکان الأساس الذی ارتکزت علیه غیر صلب ، فتهدّم ما بنته ، ولم تفلح فی تحقیق أهدافها فی العدالة الاجتماعیة .

متی یصح تعریف العدالة بالرفاه والعدالة الاجتماعیة ؟

إذن هناک شرطان لکی یصح تعریف العدالة بالرفاه والتنمیة الاجتماعیة .

الشرط الأوّل : أن تشاع الثروات بین خلق اللّه .

والشرط الثانی : أن یکون هذا الرفاه ، وهذه التنمیة الاجتماعیة منطلقة من مفهوم أنّ اللّه هو مالک الملوک .

تعریف العدالة بسیطرة العقل الجمعی

وهناک تعریف آخر للعدالة وهو : سیطرة العقل الجمعی علی المیول النفسیة الجمعیة ، وهذه ظاهرة حمیدة أخذت فی الظهور فی البشریة ، ومن بعض ملامحها : رأی الأکثریة ، ومن بعض ملامحها : رقابة الشعب علی الحکومات ، ومن بعض ملامحها : العلم الجمعی ، والاستشاریات ، ومؤسسات المجتمع المدنی ، وهذه ظواهر فی النظم الاجتماعیة تصبّ فی سیطرة العلم الجمعی والعقل الجمعی ، وهذه الظواهر لا یرفضها الدین ، وهی تحکَّم فی حالة غیاب المعصوم ، بل تحکّم حتّی مع وجود المعصوم فما بالک فی غیابه ؛ لأنّ الإسلام یندب إلی العقل الجمعی قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : «أعلم الناس من جمع علم الناس إلی علمه»(1) ، وقال الإمام علی علیه السلام : «حقّ علی العاقل أن یضیف إلی رأیه رأی العقلاء ، ویضمّ

ص:355


1- (1) میزان الحکمة 5 : 2108 ، الحدیث 14164 .

إلی علمه علوم الحکماء»(1) ، وتفعیل العقل الجمعی والعلم الجمعی ببنوده وهیاکله الحدیثة أمر مرحّب به ، ویحبّذه القرآن والإسلام وعهد الإمام علی علیه السلام لمالک الأشتر .

خطر طغیان المیول النفسیة الجمعیة

أمّا إذا طغت المیول النفسیة الجمعیة علی العقل الجمعی فهنا یکون المؤشّر خطیراً ، وقد حدّثنا التاریخ والقرآن عن حوادث طغت فیها المیول النفسیة الجمعیة علی العقل الجمعی ، کما حدث لقوم نوح علیه السلام وقوم لوط علیه السلام الذین کانوا یمارسون تلک الفاحشة التی تهدّد استمرار النسل البشری ، وتوجب انتشار الجریمة ، وتهدّد النظام الاجتماعی بأکمله ، وکذلک قوم شعیب علیه السلام الذین طغوا فی المیزان والمکیال - ولیس المقصود من المکیال خصوص المکیال الاقتصادی - وإذا طغت المیول النفسیة الجمعیة علی العقل الجمعی فسنفقد صمّام الأمان ، وصمّام الأمام یتمثّل فیما ذکرته الآیة :«فَلِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِی الْقُرْبی »2 ؛ لأنّ العقل الجمعی قد یضعف أمام المیول النفسانیة الجمعیة ، وفی الحدیث النبوی :«لن تقدّس أمّة لا یؤخذ للضعیف فیها حقّه من القوی غیر متمتع»(2) ، وهذه من الأوسمة البارزة لاستعلام العدالة البشریة فی الحدیث النبوی .

الشعب الصینی والشعب الیابانی والمیول النفسیة

الشعب الصینی بتوجّس خیفة من الیابانیین ؛ لأنّ عندهم میمول نفسیة تجعلهم یعتقدون أنّ من المفروض أن یکون أصحاب العرق الیابانی لهم السیطرة علی

ص:356


1- (1) میزان الحکمة 4 : 1525 ، الحدیث 9863 .
2- (3) نهج البلاغة ، رسائل أمیر المؤمنین رقم 53 .

باقی الشعوب ، فنلاحظ هنا أنّ هذه المیول تشکّل مصدر خطر علی الآخرین ، لا سیّما وأنّ الیابان تعتبر عملاقاً اقتصادیاً ، ولذلک عندما یزور المسؤولون الیابنیون قبور القتلی فی الحرب العالمیة الثانیة تحتج الصین ، ویحدث الکثیر من الضجیج والصخب ؛ لأنّ هؤلاء القتلی من الجنرالات کانوا یدعون لسیطرة الیابانیین علی غیرهم من الشعوب .

الشیعة کالعسل

قال الإمام الصادق علیه السلام : «إنّما أنتم فی الناس کالنحل فی الطیر ، لو أنّ الطیر تعلم ما فی أجواف النحل ما بقی منها شیء إلّاأکلته ، ولو أنّ الناس علموا ما فی أجوافکم أنّکم تحبّونا أهل البیت لأکلوکم بألسنتهم ، ولنحلوکم فی السرّ والعلانیة ، رحم اللّه عبداً منکم کان علی ولایتنا»(1) ، ونحن الشیعة نعیش فی نظام یرعاه المعصوم علیه السلام ، کما رأینا فی الأربعین الأُولی بعد سقوط الطاغیة صدام کیف أنّ أربعة ملایین شیعی یزورون کربلاء بصورة منتظمة حیّرت العالم والفضائیات مع غیاب الدولة ودعمها دون أن تسجّل حوادث تذکر .

سیطرة العقل الجمعی تفتقر إلی الضمان

إذن سیطرة العقل الجمعی أمر حسن ، ولکن لا ضمان لضعف سیطرة العقل الجمعی أمام المیول العاطفیة الجمعیة التی تخضع للضعف أمام الشهوة والغضب والطمع وغیر ذلک ، وفی مذهب أهل البیت علیهم السلام فإنّ الأکثریة لیس لها الضمانة المطلقة ؛ لأنّ الأکثریة قد تتعرّض لغسیل مخ من قبل الإقطاع والأنظمة الحاکمة ، وسید الشهداء علیه السلام اتّخذ لغة الحوار حتّی آخر لحظة إلی أن استعملوا العنف معه علیه السلام ،

ص:357


1- (1) الکافی 2 : 218 ، الحدیث 5 ، کتاب الإیمان والکفر ، باب التقیّة .

ولکن عندما استجابت له الأکثریة تجاوب معها ، ولکن هذه الأکثریة التی حکّمت العقل الجمعی خضعت للمیول النفسیة الجمعیة التی خضعت للخوف من النظام الحاکم ، وسید الشهداء علیه السلام یعطینا درساً بأنّ العقل الجمعی لا یمثّل ضمانة ، وأنّه قابل للهزیمة أمام المیول النفسیة الجمعیة «وکم من عقل أسیر تحت هوی أمیر»(1) .

ص:358


1- (1) میزان الحکمة 8 : 3479 ، الحدیث 21419 .

المحاضرة الثامنة الأمم المتحدة وعهد الإمام علی علیه السلام لمالک الأشتر

اشارة

محاور المحاضرة :

أوّلاً : الفحشاء ظاهرة فردیة والمنکر ظاهرة اجتماعیة .

ثانیاً : البغی نتیجة انتشار المنکر .

ثالثاً : القانون الذی لا یستند إلی العدل یعطی الصبغة القانونیة للاضطهاد .

رابعاً : عهد الإمام علی علیه السلام لمالک الأشتر لا یتناول مباحث التشریع العامّة .

خامساً : نبذة عن رواة عهد الإمام علی علیه السلام لمالک الأشتر .

سادساً : کوفی عنان یدعو لدراسة عهد الإمام علی علیه السلام لمالک الأشتر .

سابعاً : البابا یبدی إعجابه بالصحیفة السجادیة .

ثامناً : واجبنا نشر ثقافة أهل البیت علیهم السلام .

تاسعاً : ما یوجد فی عهد الإمام علی علیه السلام ولا یوجد فی أدبیات العدالة الدولیة .

عاشراً : الفرق بین فقه النظام والتشریعات العامّة .

الفرق بین العدل والإحسان

قال تعالی :«إِنَّ اللّهَ یَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إِیتاءِ ذِی الْقُرْبی وَ یَنْهی عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْکَرِ وَ الْبَغْیِ یَعِظُکُمْ لَعَلَّکُمْ تَذَکَّرُونَ »1 ، الآیة الشریفة تحتوی علی کنوز من

ص:359

المعارف ، حیث أمر اللّه بالعدل بحیث یکون المجتمع کتلة واحدة تتعاضد فیما بینها ، والعدل أعم نفعاً من الإحسان ، فقد سئل أمیر المؤمنین علیه السلام عن أفضلیة العدل أو الجود؟ قال : «العدل یضع الأُمور مواضعها ، والجود یخرجها من جهتها ، والعدل سائس عامّ ، والجود عارض خاصّ ، فالعدل أشرفهما»(1) ؛ لأنّ العدل هو انتظام الأُمور علی وجهها ، بینما الإحسان یتضمّن تنازلاً عن الحق من قبل طرف من الأطراف ، ثمّ یأمر القرآن الکریم بإیتاء ذی القربی بعد أن یبیّن القرآن الکریم وسیلة لالتحام أفراد المجتمع بعضه مع بعض ، وهی وسیلة العدل .

الترتیب فی الآیة لیس اعتباطیاً

ونلاحظ أنّ الآیة قد بدأت بالعدل ثمّ بالإحسان ؛ لأنّ المجتمع قد یمرّ بمنعطفات یحتاج فیها إلی الإحسان ، مثل : الکوارث والحالات الطارئة ، ثمّ تأمر الآیة الکریمة بإیتاء ذی القربی من أجل تقویة وشائج وروابط المجتمع ، والقربی المذکورة فی الآیة هی عموم القربی ، قرابة الأُسرة والقبیلة والعشیرة ، وهذا الترتیب فی الآیة لیس اعتباطیاً ، وأمّا النواهی فقد بدأت الآیة بالنهی عن الفحشاء ، یعنی : عن الانحدار الخلقی ، والآیة تنذر أنّ هلاک المجتمعات یبدأ بالسقوط الخُلقی، ثمّ نهت عن المنکر والبغی وکأن الآیة تحتوی فی الأوامر علی عکس النواهی من حیث الترتیب ، ففی الأوامر بدأت الآیة بالعدل ، ثمّ بالإحسان ، ثمّ بتقویة شجرة القرابة ، ولکن فی جانب النهی ابتدأت بالفحشاء ، باعتباره أمراً یهدّد النظام الاجتماعی ، حیث إذا ساد الانحطاط الخلقی فسوف یهدّد النظام الاجتماعی ، وغیب المُثُل والمبادیء الأخلاقیة ، مثل : الأمانة والرحمة ، وهذا سیؤثّر علی العدالة والقانون والنظام .

ص:360


1- (1) میزان الحکمة 4 : 1839 ، الحدیث 11981 .

الفحشاء ظاهرة فردیة والمنکر ظاهرة اجتماعیة

والفحشاء تکون ظاهرة فردیة والمنکر ظاهرة اجتماعیة ، والظاهرة الفردیة هی التی تؤثّر فی الظاهرة الاجتماعیة حینما تتکرر من هذا الشخص أو ذاک الشخص ، والظواهر الاجتماعیة السلبیة إذا فشت فی المجتمع تدمّره تدمیراً ، ویقول الحدیث : «کما تکونوا یولّی علیکم»(1) ، فیکون الحاکم هو مجمع جمیع المساویء والسیّئات فی ذلک المجتمع .

البغی نتیجة انتشار المنکر

والبغی الذی تذکره الآیة یأتی فی مرحلة انتشار المنکر ، وانتشار المنکر هو الذی یهیّیء لظهور البغی ، والظاهرة الیزیدیة والأمویة الظالمة لا یمکن دراستها مقطوعة عمّا حدث قبلها من أحداث هیّئت لأمثال معاویة ویزید للظهور والسیطرة علی مقدّرات المسلمین ، والآیة تطرح نوعاً من المعادلات فی العلوم الاجتماعیة والسیاسیة ، حیث تبدأ من الفحشاء ، وهی الجانب الفردی من المعصیة ، ثمّ المنکر الذی یمثّل الظاهرة الاجتماعیة السلبیة ، ثمّ البغی الذی یمثّل الانحراف فی النظام الحاکم الباغی ، وفی الأوامر الواردة فی الآیة فإنّ العدل هو الذی یهیّیء للإحسان .

صفات المجتمع السلیم : العدل والإحسان وإیتاء ذی القربی

وتستطیع أن تحکم علی المجتمع من خلال الحلقات الایجابیة الثلاث ، وهی :

العدل والإحسان وإیتاء ذی القربی ، أو من خلال الحلقات السلبیة الثلاث ، وهی :

الفحشاء والمنکر والبغی حتّی تتعرّف علی المسار الذی یسیر فیه المجتمع .

ص:361


1- (1) کنز العمال 6 : 36 ، الحدیث 14968 .

التمزّق الاجتماعی الغربی أخذ یزحف علی المجتمع المسلم

والملاحظ أنّ المجتمعات الحدیثة یسودها التمزّق ، وهذا التمزّق أخذ یزحف حتّی علی المجتمعات الإسلامیة ، ولو سألنا آباءنا وأجدادنا عن الترابط الاجتماعی فی السابق لوجدنا أنّه کان متقدّماً علی ما هو علیه الآن .

القانون الذی لا یستند إلی العدل یعطی الصبغة القانونیة للاضطهاد

بعد أن مرّ بنا أنّ العدالة أمر تکوینی ، والحقوق ترسو علی الأمر التکوینی ، والعدالة هی وصول کلّ ذی قابلیة للکمال إلی کماله المنشود ، هنا یأتی بحث النظام ، أین موقع النظام العادل فی العدالة الاجتماعیة؟ هل هو نظام فردی أم أُسری أم جماعی أم یغطّی المجتمعات البشریة؟

ثمّ تأتی منظومة الحقوق ثمّ یأتی التقنین والقانون ، لا قیمة له إلّاإذا حقق العدالة ، أما إذا لم یحقق العدالة فلا فائدة منه، ولیس هو المدار بل المدار هی العدالة وهی المحور الذی یجب أن یرتکز علیه القانون ، والقانون الذی لا یرتکز علی العدالة یعتبر قانون الاستسباع والضیم والاضطهاد وامتصاص الدماء والتمییز ، ویعطی هذا القانون للاضطهاد صبغة قانونیة یکون بها مجازاً فی المجتمع ، بحیث لا یمکن لأحد أن یعترض علیه .

عهد الإمام علی علیه السلام لمالک الأشتر لا یتناول مباحث التشریع العامّة

وإذا تجاوزنا بحث التقنین والعدالة ، نأتی الآن إلی النظام ، عهد الإمام علی علیه السلام إلی مالک الأشتر یمثّل نظاماً وقانوناً إداریاً ، وهو لا یتناول البحث فی عمومیات العدالة ، فهو لیس کما ورد فی الآیة الکریمة :«إِنَّ اللّهَ یَأْمُرُ بِالْعَدْلِ »1 ، فالعدل فی الآیة الکریمة أتی بنحو العموم ، بینما عهد أمیر المؤمنین علیه السلام إلی مالک الأشتر لا

ص:362

یتناول مباحث التشریعات العامّة، فبحث النظام له خصائص معیّنة، ویختلف عن التشریعات العامّة، وقبل أن ندخل فی فقه النظام وارتباطه بالفقه الدستوری والفقه البرلمانی أو الفقه الوزاری فی الهیاکل العصریة الحدیثة نأخذ نبذة عن عهد أمیر المؤمنین علیه السلام لمالک الأشتر .

نبذة عن رواة عهد الإمام علی علیه السلام لمالک الأشتر

وهو عهد رواه شیخ الطائفة محمّد بن الحسن الطوسی المدفون فی النجف الأشرف ، وقد سُمّی أحد أبواب حرم أمیر المؤمنین علیه السلام باسمه «باب الشیخ الطوسی» ، وهو الباب الذی یطلّ علی مقبرة وادی السلام ، توفّی سنة 460ه ، وهو من أعلام القرن الخامس ، وکان المرجع الأوّل للطائفة الشیعیة ، وکان ثلثا الطائفة الشیعیة أو ثلاثة أرباعها یرجعون إلیه ، والباقون یرجعون إلی مرجع آخر اسمه «ابن دراج» ، وهو عراقی الأصل ، ولکنّه یقطن الشام، والشیخ الطوسی هو من الرجال العظماء وهو مؤسس حوزة النجف الأشرف حفظها اللّه ورعاها ، وحوزة النجف تقضّ مضاجع الکفر العالمی الذی یراها نقطة من نقاط القوّة فی الطائفة الشیعیة ، وهناک کتاب یعترف بأنّ القوی الکافرة زوّدت النظام الصدامی بأجهزة قمعیّة ، وشجّعته علی قمع حوزة النجف الأشرف بصورة خاصة، والشیعة بصورة عامة، ولکنّهم لم ینجحوا ، والشیخ الطوسی له مؤلفات کثیرة فی الحدیث والتفسیر ، یذکر الشیخ الطوسی سنداً صحیحاً عند المشهور لعهد أمیر المؤمنین علیه السلام لمالک الأشتر ، وکذلک النجاشی الذی هو أحد رجالات العلم فی الطائفة الإمامیة أیضاً روی عهد الإمام علیّ علیه السلام لمالک الأشتر بطریق آخر صحیح عند المشهور، ، ورواه الشریف الرضی أخو الشریف المرتضی ، وکانا بدران فی سماء الإمامیة ، والسید المرتضی کان أستاذ الشیخ الطوسی ، أمّا السید الرضی فلم یکن أستاذ

ص:363

الشیخ الطوسی ، والسید الرضی عاش فی أواخر القرن الرابع وبدایات القرن الخامس ، وروی هذا العهد فی کتاب نهج البلاغة ، ورواه أیضاً ابن أبی شعبة الحرّانی ، الذی کان یعیش فی أواسط القرن الرابع المعاصر للشیخ الصدوق من علماء الإمامیة فی کتابه تحف العقول ، وواقعاً هذا الکتاب اسم علی مسمی ، حیث جمع فیه من حکم أهل البیت علیه السلام فی المجالات المختلفة ، ورواه القاضی النعمان ، وهو من علماء الإمامیة ، وکان قاضیاً أیام حکم الفاطمیین فی مصر فی القرن الرابع والخامس ، رواه فی کتابه دعائم الإسلام ، إذن عهد مالک الأشتر له العدید من المصادر .

کوفی عنان وعهد الإمام علی علیه السلام لمالک الأشتر

وهذا العهد وصل إلی أذن الأمین العام للأُمم المتحدة، ولکن لم یکن هذا التوصیل بفعل الإعلام الشیعی إنّما وصل إلیه ، کما ینقل بعض الإخوة المتتبّعین عبر زوجته السویدیة ، ویقول هذا الأخ : إنّ فی السوید یعتمدون فی دستورهم فی أُمور کثیرة علی نهج البلاغة ، فالسویدیون لهم صلة ثقافیة بنهج البلاغة ، وزوجة کوفی عنان ذکرت له هذه الفقرة من عهد أمیر المؤمنین علیه السلام لمالک الأشتر ، وقد ذکرتُ فی موضع سابق أنّ هذا العهد لا یتناول مباحث التشریعات عامّة ، وإنّما هو فقه نظمی ، وقد قال الأمین العام للأمم المتحدة : إنّ هذه العبارة من عهد الإمام علی علیه السلام لمالک الأشتر یجب أن تعلّق علی کلّ المؤسسات الحقوقیة فی العالم ، والعبارة هی : «وأشعر قلبک الرحمة للرعیة ، والمحبّة لهم ، واللطف بهم ، ولا تکوننَّ علیهم سَبُعاً ضاریاً تغتنم أکلهم ، فإنّهم صنفان : إمّا أخٌ لک فی الدین ، وإمّا نظیر لک فی الخلق»(1) ، وهذه العبارة من ضمن المقاطع النظمیة القانونیة

ص:364


1- (1) نهج البلاغة ، رسائل أمیر المؤمنین رقم 53 .

استهوت الأمین العام للأمم المتحدة .

کوفی عنان یدعو لدراسة عهد الإمام علی علیه السلام لمالک الأشتر

وهذه العبارة جعلت کوفی عنان ینادی بأن تدرس الأجهزة الحقوقیة والقانونیة عهد الإمام علی علیه السلام لمالک الأشتر ، وترشیحه لکی یکون أحد مصادر التشریع للقانون الدولی ، وبعد مداولات استمرّت لمدّة سنتین فی الأمم المتحدة صوّتت غالبیة دول العالم علی کون عهد أمیر المؤمنین علیه السلام لمالک الأشتر کأحد مصادر التشریع للقانون الدولی ، وهذا إقرار من البشریة لعملقة أمیر المؤمنین علیه السلام فی القانون بعد مضی أربعة عشر قرناً . وهذا التصویت لم ینجزه العرب ولا المسلمون ولا الشیعة ، بل أنجزه کوفی عنان ، وهو لیس بمسلم ولا عربی ولا شیعی ، وقد تمّ بعد ذلک إضافة فقرات أُخری من نهج البلاغة غیر عهد الإمام علی علیه السلام لمالک الأشتر کمصادر للقانون الدولی . وأحد الأخوة المستبصرین المختص فی المحاماة أخبرنی بأنّ هناک دراسة فی الدکتوراه تنصّ علی أنّ عصبة الأمم المتحدة التی شکّلت قبل هیئة الأمم المتحدة ، قد ذکرت أنّ من مصادر التشریع التی تستند إلیها هو کتاب نهج البلاغة ، وهذا إن دل علی شیء فإنّما یدل علی أنّ هذا أحد معاجز أهل البیت علیهم السلام ، وأنّهم بشر متّصلون بالغیب ، وأنّهم مصدر سعادة البشریة ، ولکن للأسف نحن مقصّرون کثیراً فی نشر علوم أهل البیت علیهم السلام ، کما قال الإمام الرضا علیه السلام :«فإنّ الناس لو علموا محاسن کلامنا لاتّبعونا»(1) .

البابا یبدی إعجابه بالصحیفة السجادیة

السید مجتبی اللاری ، وهو کبیر علماء مدینة «لار» فی إیران ، والشخصیة

ص:365


1- (1) میزان الحکمة 5 : 2074 ، الحدیث 13797 .

الأُولی فی هذه المدینة ، هذا السید لدیه مؤسسة لنشر مذهب أهل البیت علیهم السلام أُسست منذ أربعین سنة تقریباً ، وأنا علی صلة ومعرفة به ، وطریقته فی النشر لا تعتمد علی نشر الکتب علی عامّة أهل البلدان ، بل ینشر کتب أهل البیت علیهم السلام للنخب الخاصّة والمختصین ، مثل : الحقوقیین والصحفیین والقضاة والسیاسیین وأساتذة الجامعات ، فهو یحاول أن یراسل أمثال هؤلاء ، وفی أحد مراسلاته أرسل رسالة إلی الفاتیکان ، والرسالة موجودة لدیه ، أرسل للفاتیکان الصحیفة السجادیة مترجمة باللغة الإیطالیة ، وقد أتی له الجواب من الفاتیکان مختوم بالختم الرسمی لیس من البابا المعاصر ، وإنّما من أحد الباباوات السابقین ، وأنا قرأت الرسالة عند السید اللاری ، وعاتبته علی عدم نشرها فی وسائل الإعلام ، وقد جاء فی الرسالة اعتراف أنّ المسیحیین یزعمون أنّهم أئمة الناس فی العرفان والروحانیات والأخلاقیات ، ولکن إمامکم السجاد عنده من المعنویات والأخلاقیات ما لا نملک ، وفوق الذی نستوحیه من النبی عیسی علیه السلام .

وقس آخر یبدی إعجابه بها أیضاً

وأرانی رسالة أُخری من أحد القضاة الحقوقیین فی بریطانیا ، أرسل إلیه الصحیفة السجادیة باللغة الإنجلیزیة ، وقد ردّ علیه برسالة ذکر له فیها أنّ القس الذی یشرف علی کلّ البرامج الدینیة فی «بی بی سی» أعجب بها ، وطلب منه نسخة أُخری ، وقال : إنّه یعتمد علیها فی برامجه الدینیة .

واجبنا نشر ثقافة أهل البیت علیهم السلام

المقصود أنّ کتب أهل البیت علیهم السلام لو استطعنا أن نوصلها إلی نخبة الشعوب ومثقّفیها بلغاتهم لینظروا فیها ، لأدّینا جانباً وقسطاً من المسؤولیة الملقاة علینا فی نشر هذه الأنوار التی بها تتحقق سعادة البشریة .

ص:366

ما یوجد فی عهد الإمام علی علیه السلام ولا یوجد فی أدبیات العدالة الدولیة

وقبل الخوض فی هذا العهد سأبیّن بعض الإمتیازات التی ذکرها أمیر المؤمنین علیه السلام لمالک الأشتر ، وحسب استقرائی فإنّ فی جملة من البنود یمتاز بها هذا العهد وإلی الآن لا توجد فی التنظیر الدولی للعدالة ، ولا فی أدبیات العدالة الدولیة ، وهناک أُمور یری أمیر المؤمنین علیه السلام أنّها مصیریّة وحیویّة ورئیسیّة وإعجازیّة لم یتوصّل لها الغرب إلی الآن ، وهی أُمور تختص بإقامة صرح العدالة فی المجتمع البشری سواء فی صفات الحاکمین والمسؤولین ، أو فی السیاسة العامّة لنظام الدولة .

وفی العلاقات الدولیة یذکر أمیر المؤمنین علیه السلام عدّة بنود ، أحدها : یضمن مصیر السلم الدولی ، ولا یمکن لغیره أن یحقق السلم الدولی ، ویرکّز علیه بصورة شدیدة ، ویذکر فی موارد أُخری العلاقات الدولیة ، ومشارکة الأُمّة فی الحکم ، ونفس هذه النظم نظم إعجازیّة ، انجذبت إلیها البشریة .

الفرق بین فقه النظام والتشریعات العامّة

وسنتعرّض إلی البنود الإعجازیة فی عهد الإمام علی علیه السلام إلی مالک الأشتر ، وهنا لا بدّ من ذکر مقدّمة قبل الخوض فی عهد مالک الأشتر ، وهذه المقدّمة تدور حول ما معنی فقه النظام؟ وما الفرق بینه وبین التشریعات العامّة؟

والتشریعات العامّة ، تعنی : إقمة العدالة أو القصاص أو ما یذکره الفقهاء فی الرسائل العملیة سواء کانوا فقهاء الإمامیة أو فقهاء المذاهب الأُخری ، وهذه الکتب الفقهیة فقه وقانون منتشر ، وکذلک فی القانون الوضعی ، فمثلاً : کتاب الوسیط الذی یتکوّن من عشرة مجلّدات لمؤلّفه الدکتور عبد الرّزاق السنهوری فقه منتشر ، وکذلک باب المعاملات ، وما یتعلّق بالفقه الجنائی وما شابه ذلک ، سواء

ص:367

کان من وضع البشر أم من التشریع الإلهی فهو فقه عام منتشر ، أی : الفقه الذی یتناول أحکام الأُسرة وأحکام الفرد والقوانین العامّة والقانون الجنائی والقصاص ، ولکن هذه الأبواب المختلفة فی القانون فی التشریعات العامّة کیف تتصل مع بعضها البعض فی ظل دائرة منظومة یقام صرحها فی المجتمع؟

وبعبارة أُخری : أحد امتیازات فقه النظام عن فقه التشریعات العامّة أنّه یبیّن آلیات وأدوات التطبیق ، وینبغی علی الفقیه الدستوری البرلمانی - سواء کان إسلامیاً أو وضعیاً - أن یعی القوانین العامّة ، ثمّ یعی آلیات تطبیق تلک التشریعات ، إذن یوجد الفقه الدستوری وفقه النظم .

یجب أن لا تصطدم القوانین مع بعضها البعض

والفرق الثانی : أنّ الفقه الدستوری یحاول أن یلائم ویوجد الانسجام بین بنود أبواب القانون ، وکیفیة الحفاظ علیها - مثلاً - علی فقه الأُسرة مع القوانین الأُخری ، وبین قوانین المعاملات وقوانین المرور ، إذن من المهم أن لا تتصادم القوانین مع بعضها البعض ، ولیس فقط أن لا تتصادم أبواب القانون ، بل یدعم هذا الباب ذاک الباب .

إنّ خضوع البشریة لعهد الإمام علی علیه السلام لمالک الأشتر یعنی أنّ الإمام علی لا یعیش عصره فقط ، بل إنّه یلبّی حاجات البشریة جیلاً بعد جیل ، وهذا هو فرق المعصوم عن الصحابی والفقیه والمجتهد والسیاسی والمحارب والداهیة وعن رأی الأکثریة والشوری .

البشریة عاجزة عن تسجیل مؤاخذة فی قانون علی علیه السلام

المعصوم یذعن له نخبة البشر المختصّین فی فقه القانون ، وهو من أصعب العلوم ، ومن المهم الحفاظ علی التوازن بحیث لا یکون التقدّم الصناعی علی

ص:368

حساب تأثّر البیئة الخضراء الزراعیة أو البیئة الترابیة أو الثروة الحیوانیة ، وعلی بن أبی طالب علیه السلام قبل أربعة عشر قرناً یدوّن بنود الفقه النظمی ، ولا زالت البشریة عاجزة أن تسجّل علیه أیّة مؤاخذة مع تغیّر بیئات البشر وتقالیدهم وطبائع الأرض بعد أربعة عشر قرناً ، أین هؤلاء الذین یکرّرون کلام الحداثیین - کما تکرّر الببغاء الکلام - عن هذا الفکر الأصیل فلیسمعوا ماذا یقول علی بن أبی طالب علیه السلام ؟! وهذا التصویب فی الأمم المتحدة کأنّما هو تجدید لبیعة الغدیر .

ص:369

المحاضرة التاسعة الإمام المهدی (عجّل اللّه فرجه الشریف) وفقه التشریعات

اشارة

محاور المحاضرة :

أوّلاً : الفرق بین الفقه النظمی وفقه التشریعات .

ثانیاً : مهمّة الفقه النظمی الملائمة بین الثابت والمتغیّر .

ثالثاً : لابدّ من تحدیث القوانین .

رابعاً : الکثرة المبالغ فیها لمنظومات النظم سلبیة .

خامساً : الإمامة تعنی الإدارة والتدبیر .

سادساً : ملف لیلة القدر فی القرآن الکریم .

سابعاً : معلومات ضخمة تنزل علی المهدی من آل محمّد فی کلّ سنة .

ثامناً : الإمام المهدی (عجّل اللّه فرجه الشریف) یتصدّی للأمر فی غیبته .

تاسعاً : معنی الکتاب المبین فی القرآن الکریم .

عاشراً : لیلة القدر برهان علی تصدّی المهدی (عجّل اللّه فرجه الشریف) .

الفرق بین الفقه النظمی وفقه التشریعات

قال تعالی :«إِنَّ اللّهَ یَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إِیتاءِ ذِی الْقُرْبی وَ یَنْهی عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْکَرِ وَ الْبَغْیِ یَعِظُکُمْ لَعَلَّکُمْ تَذَکَّرُونَ »1 ، وقال سید الشهداء علیه السلام : «فلعمری ما

ص:370

الإمام إلّاالعامل بالکتاب ، والقائم بالقسط ، والدائن بدین الحق ، الحابس نفسه علی ذات اللّه»(1) .

مرّ بنا الحدیث عن عهد أمیر المؤمنین علیه السلام لمالک الأشتر ، وهو کما بیّنا فقه نظام الدولة ، وفقه نظام الدولة یتمیّز عن فقه التشریعات العامّة أنّ فقه التشریعات العامّة ترتکز علی مبادیء قد تدرکها الفطرة ، وتدرک بالنصوص البیّنة المحکمة ، فتکون بیّنة مستبینة ، وأمّا قوانین النظم والأنظمة ، وربّما یعبّر عنها بالفقه الدستوری أو الفقه النظمی والفقه البرلمانی أو الفقه الوزاری ، ففیه صعوبة أکثر من فقه التشریعات العامّة ؛ لأنّ فقه التشریعات العامّة کلّ باب مستقل فیه بنفسه یراعی المصالح المذکورة فی ذلک الباب لا غیر ، فمثلاً : باب الأُسرة یراعی مصالح الأُسرة ، وباب المعاملات یراعی المعاملات ، وباب الجنایات علی حدة ، والقضاء علی حدة ، والجهاد علی حدّة ، والعبادات علی حدة ، وباب الاجتهاد والتقلید والمصادر الدینیة علی حدة ، أمّا التلاحم والتنسیق والملائمة بین هذه الأبواب فهو من اختصاص فقه النظم والفقه الدستوری ، حیث یبحث فی کیفیة تطبیق الأبواب بحیث لا تتصادم مع بعضها البعض ، ولا تتزاحم مع بعضها البعض .

مهمّة الفقه النظمی الملائمة بین الثابت والمتغیّر

والفقه النظمی ینطوی علی تعقیدات وصعوبات ، وهو یلاحظ الأهداف التی یهدف إلیها التشریع العام مع متغیّرات البیئة التی تختلف من مکان إلی مکان ، ومن زمان إلی زمان ، ومهمّته الملائمة بین الثابت والمتغیّر بحیث لا یجرفه المتغیّر بنحو مطلق ، کما لا یعکف بنظره إلی الثابت علی نحو مطلق فی ضمن مصادیق تقلیدیة قدیمة ، وکیف ترسو العدالة فی ضمن متغیّرات مختلفة ، وضمن طبائع مختلفة

ص:371


1- (1) الإرشاد 2 : 39 .

بحسب تغیّر البیئات ، إنّما طبیعة العدالة ساریة ومنتشرة تتبادل أشکال وهیاکل مختلفة علی مرّ الأزمان ، وحینئذٍ یجب أن یکون المقنّن فی وعی تام لکی یحیط بالبیئات المختلفة ، فمثلاً : هناک العدید من البیئات : بیئة المرور وبیئة المعاملات المالیة النقدیة وبیئة المصالح وبیئة الأمن والبیئة العسکریة والبیئة السیاسیة وبیئة رقابة الأُمّة ، وینبغی علی القانون النظمی والمقنن النظمی أن لا یقع فی الجمود الذی یجعله غیر مؤهّل للتعامل مع البیئات المختلفة ، وسیفقد هدفه حینئذٍ .

لابدّ من تحدیث القوانین

قضیة التحدیث فی القوانین وهیکلتها من جدید لابدّ أن تخضع إلی دراسة ومدارسة من خلال مراکز الدراسات والبحوث المتخصّصة ، لماذا؟ لأنّ القانون ربّما صدر فی زمن یختلف عن الزمن الحالی أو فی بیئة مکانیة تختلف عن البیئة المکانیة المراد إصدار القانون لها ، وعلوم الإدارة تشعّبت إلی تخصّصات متعدّدة ، وهی من أعقد العلوم .

الکثرة المبالغ فیها لمنظومات النظم سلبیة

وکما یقولون : فی أمریکا ملیون وأربعمائة منظومة نظام إداری بحسب بعض مراکز الدراسات ، وهم یعترفون أنّ هذه الحالة لیست حالة إیجابیة ، ویقولون : إنّ الدولة النموذجیة ینبغی أن تحتوی علی مائة وأربعین منظومة نظام، وتعنی بمنظومة النظام ، مثل: النظام القضائی ونظام الاتصالات ونظام المرور والنظام المصرفی ونظام البلدیات ونظام المجالس ، وهذا التعقید وهذا التضخّم فی منظومة الأنظمة ظاهره رونقٌ وتطوّر ، ولکن باطنه لا ینمّ عن ذلک ، وهذه الکثرة تؤدّی إلی قابلیة الانکسار والتصادم بصورة أکبر ممّا لو کان عدد المنظومات أقل ، فمثلاً : من جهة العلوم الاستراتیجیة فإنّ منظومة الأنظمة الأمریکیة من أسهل المنظومات

ص:372

القابلة للاصطدام والتفکّک ، فلو توقّفت الکهرباء عن العمل لمدّة ساعات معدودة یزید معدّل الجریمة بصورة مذهلة .

الإرباک الإداری فی مواجهة درجات الحرارة المرتفعة

وفی فرنسا عندما تشتدّ درجات الحرارة یکون عندهم نقصاً إداریاً فی تجهیز ودفن الموتی ، وفی الصین عندما تشتدّ درجات الحرارة ، تقف الصین عاجزة ، وهی من الدول العظمی فی مواجهة هذه الموجة من الحرارة ، فهذه الأنظمة ما إن تعتورها حالة طارئة جدیدة حتّی تتعرّض إلی الخلل والنقص فی الأداء الإداری لمعالجة الأزمات الطارئة ، وهذه من العقد التی تواجه التشریعات التی ترسم النظم فی الدول الحدیثة فی التشریعات الوزاریة والتشریعات البرلمانیة .

الإمامة تعنی الإدارة والتدبیر

البحث إذن معقّد ، وهذا البحث إنّما یصلح بالإمامة کما تطرحها مدرسة أهل البیت علیهم السلام ، والإمامة تعنی الإدارة والتدبیر ، واعترف البشریة أنّ نظام الإدارة والتدبیر من أعقد النظم ، وتطوّر مدنیّة أیّ شعب رهین بفعالیة ونشاط ورقی النظام الإداری ، والشغل الشاغل للدول تطویر الإدارة ، والإدارة تعنی القیادة والتدبیر ، ولفظ الإدارة کمصطلح جدید یرادف مفهوم الإمامة فی المصطلح الدینی .

إعجاز علمی فی عهد الإمام علی علیه السلام لمالک الأشتر

وفی ظل کلّ هذا التعقید ، هم یرشّحون عهد أمیر المؤمنین علیه السلام لمالک الأشتر لذلک ، وهذا یعنی فیما یعنیه إعجاز علمی فی عهد أمیر المؤمنین علیه السلام لمالک الأشتر ، کما سنبیّن ونقرأ منه فقرات ، وهنا نسأل هل نظریة الإمامة عند أهل البیت علیهم السلام تؤمّن هذا الأمر ، وهل بیّنت هذا الأمر؟ نعم ، بیّنته من خلال ترسانة من

ص:373

المعلومات ، ولکن بلغة قد لا نلتفت إلیها ، ولو ترجمناها إلی اللغة الحدیثة لتبیّن لنا هذا الأمر .

السقوط الخلقی یکلّف الدولة کثیراً من الطاقات والأموال

وفی أمریکا أربعة ملایین مدمن علی المخدّرات یشغلون ثمانیة ملایین فرد من موظفی الدولة یلزمهم مراعاة أولئک المدمنین ، انظر إلی هذا التضخّم الإداری بسبب عدم الالتزام الخلقی ، ولو کان الالتزام الأخلاقی موجوداً لوفّر علی الدولة الکثیر من الطاقات والنظم الإداریة .

ملف لیلة القدر فی القرآن الکریم

وفی القرآن الکریم إشارات تشیر إلی النظام الإلهی الذی یطبّقه أهل البیت علیهم السلام ، ولکننا قد غفلنا عمّا یشیر إلیه القرآن الکریم ، ففی القرآن الکریم هناک ملف لیلة القدر ، والقدر هو التقدیر والتدبیر ، ومن أسماء لیلة القدر لیلة التدبیر ، القدر هو التحدید والتأطیر والبرمجة ، وأنّ لیلة القدر حسب روایات الفریقین منذ عهد آدم علیه السلام لا بدّ أن تکون مع خلیفة اللّه فی الأرض ، وماذا یحدث فی لیلة القدر؟ تتنزّل فی لیلة القدر إحصائیات وملفّات علمیة لا تتخلّف عن الواقع إلی لیلة القدر فی العام القادم ، حیث تتحدّد جمیع الآجال ، وإحصائیات الأموات ، وأیّ دولة ستکون أکثر من ناحیة عدد الموتی؟ والشرائح التی سیصیبها الموت؟ ومقدار الزیادة البشریة فی العدد من حیث الموالید بشکل دقیق ، فی کلّ بلد ومدینة .

معلومات ضخمة تنزل علی المهدی من آل محمّد (عجّل اللّه فرجه الشریف)

فی کلّ سنة

هذه المعلومات الضخمة تنزل فی کلّ عام علی المهدی من آل محمّد عجّل اللّه

ص:374

فرجه الشریف الأرزاق ، الرخاء ، الإنعاش الاقتصادی والزراعی والصناعی والحروب والسلم وغیر ذلک ، کلّه ینزل بالدّقة علی صاحب لیلة القدر لا علی أحد آخر ، ولا تنزل فی لیلة القدر معلومات عن الظواهر العامّة فقط ، بل حتّی الظواهر الخاصّة ، یعنی : ملف کلّ شخص ینزل علی صاحب الأمر من ناحیة الصحة والمرض وما سیجری علیه بالدّقة ، والدول الحدیثة لم تصل إلی هذه المعلومات ، ولا تدری ما الفائدة والثمرة منها؟ فضلاً عمّا سیجری علی عامّة المجتمع ، وما یجری بین البلدان والهواء والطقس والحیوانات والبیئة وغیر ذلک ، وهذه الروایات موجودة فی طرق العامّة ، وفی طرق مدرسة أهل البیت علیهم السلام ، وقد قال تعالی :«إِنّا أَنْزَلْناهُ فِی لَیْلَةِ الْقَدْرِ* وَ ما أَدْراکَ ما لَیْلَةُ الْقَدْرِ»1 .

الإدارة هی الشغل الشاغل للبشریة

الآن الشغل الشاغل للبشریة هو الإدارة والتدبیر ، والآیة تقول :«وَ ما أَدْراکَ ما لَیْلَةُ الْقَدْرِ»2 ؛ لأنّ لیلة القدر عظیمة ، حیث تحتوی علی برمجة لتقادیر البشر ، وتعیین ورسم السیاسة ، وتقول :«لَیْلَةُ الْقَدْرِ خَیْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ»3 ؛ لأنّ نجاة البشریة فی لیلة القدر .

القوّة الإداریة تکمن فی الخفاء والسرّیة

والإمام المهدی عجل اللّه فرجه الشریف لیس فی جزیرة خضراء - کما یقال - أو جزیرة حمراء أو زرقاء ؛ لأنّ الغیبة فی مقابل الظهور ، ولیست الغیبة فی مقابل الحضور ، بمعنی أنّ حرکة الإمام الحجّة موجودة ، ولکنها تتصف بالخفاء والسرّیة ،

ص:375

وسنبیّن أنّ فی العلوم الاستراتیجیة تکون البرامج الإداریة والسیاسات والتخطیطات عنصر قوّتها فی الخفاء والسرّیة .

الإمامة هی الشغل الشاغل لمدرسة أهل البیت علیهم السلام

وهذه هی عقائد أهل البیت علیهم السلام وقد عادت البشریة لتطابق هذه العقائد ، ألیس هذا من الإعجاز العلمی لهذه المدرسة؟ الشغل الشاغل عند مدرسة أهل البیت علیهم السلام هو الإمامة ، أی : التدبیر والإدارة ، وهی سرّ سعادة البشریة .

الإمام هو المدبّر الکفؤ

والإمام هو المدبّر والمدیر الکفؤ للبشریة ، قال تعالی :«إِنِّی جاعِلٌ فِی الْأَرْضِ خَلِیفَةً »1 ، أوّل یافطة لوجود البشر ، ولإسعاد البشر فی الدارین ، وفی النشآت المختلفة هو وجود الخلیفة ؛ لأنّ محور سعادة البشر هی الإدارة والتدبیر :«قالُوا أَ تَجْعَلُ فِیها مَنْ یُفْسِدُ فِیها وَ یَسْفِکُ الدِّماءَ»2 .

البشر الآن یرکّزون علی مراکز المعلومات وجمع المعلومات ، الآن یبحثون فی علم الجینات للوصول إلی النوعیّة الجیّدة من البشریة ، وهذه من ضمن المعلومات التی یحاولون الاستفادة منها ، انظر إلی الروایات الواردة فی لیلة القدر حتّی فی تفاسیر أهل السنة فی سورة القدر وسورة الدخان ، قال تعالی :«تَنَزَّلُ الْمَلائِکَةُ وَ الرُّوحُ فِیها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ کُلِّ أَمْرٍ»3 لاحظ قوله تعالی :«کُلِّ أَمْرٍ» ، وماذا یصنع الإمام المهدی عجل اللّه فرجه الشریف بهذه الملفّات النازلة؟ هل یتفرّج علیها؟ وهل تنزل عبثاً واعتباطاً فی کلّ عام؟

ص:376

الإمام المهدی (عجّل اللّه فرجه الشریف) یتصدّی للأمر فی غیبته

وهذه من أبجدیات عقائد الشیعة ، ومع هذا تصدر بعض الکتابات للأسف حتّی من الحوزة العلمیة ، تقول : «إنّ الإمام الحجّة (عجّل اللّه فرجه الشریف) لیس متصدّیاً ، وهذه الإحصائیات الکبیرة المهولة التی لا تمتلکها أیّ دولة من الدول ، وإحصائیاتهم تخفق ولا تصیب الواقع ، ولا تستقصی الواقع ، والکثیر من المجهولات یسعون للحصول علیها بطرق مختلفة وقنوات مختلفة ولا یحصلون علیها ، وکلّها تنزل علی مهدی آل محمّد عجل اللّه فرجه الشریف ، فماذا یصنع بها؟ قال اللّه تعالی :«یُنَزِّلُ الْمَلائِکَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلی مَنْ یَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنَا فَاتَّقُونِ »1 ، والملائکة هی مخلوقات عالمة تنزل بالمعلومات ، وهم رسل المعلومات ، وموجودات حیّة شاعرة تحمل العلم ، والروح الأعظم من عالم الأمر ، أی : الملکوت ، ولم یقل علی من یشاء من رسله أو أنبیائه ، وإنّما قال : من عباده للدلالة علی أنّ الملائکة تنزل علی غیر الأنبیاء وهم الأئمة ، والملائکة لا ینزلون لیلة القدر إلّاعلی منزل له ، ولا ینزلون اعتباطاً ، وقوله تعالی :«عَلی مَنْ یَشاءُ مِنْ عِبادِهِ » ، أی : أنّ الملائکة تنزل علی من اصطفی اللّه من عباده ، ومن شاء اللّه أن یکون مصطفی من بین الخلق ، فهل الملائکة ینزلون اعتباطاً بلا فائدة لیلة القدر؟! والإمام هو مخزن هذه المعلومات التی یتلقاها لیلة القدر ، وهو الذی ترسل إلیه المعلومات ، وبإجماع المسلمین أنّ لیلة القدر لن تنقطع إلی قیام الساعة فمن الذی تتنزل علیه الملائکة؟ وهی لیلة المعلومات ولیلة النظم ولیلة التدبیر لکلّ سنة ، فماذا یقال عن لیلة القدر؟ أیقال إنّها نزعة باطنیة؟! إنّها لیست نزعة باطنیة .

ص:377

الإمام الحجّة یدیر الأُمور فی الخفاء

حیث إنّ فی عقیدة أهل البیت علیهم السلام أنّ العالم یحتاج فی کلّ عام إلی تدبیر ، والغیبة من العقائد التی یجب أن نعیها ، فالإمام حاضر ، والغیبة فی مقابل الظهور ولیست الغیبة فی مقابل الحضور ، فهو (عجّل اللّه فرجه الشریف) عندما یظهر یقول کثیر من الناس إنّنا کنّا نراه ولکنّنا لم نکن نعرفه ، فهو حاضر فی کبد الحدث ، ویدیر الشبکات من الأبدال والأرکان والأوتاد والنقباء ، لا الدجالین من مدعی السفارة ، بل هؤلاء عملاء الدوائر الغربیة ؛ لأن طبیعة السرّیة تخالف ما یدّعیه أهل السفارة ؛ لأنّ العضو السری یبقی عضواً سرّیاً مخفیاً لا یکشف نفسه أبداً ، وفی الأجهزة السرّیة عندما تشعر بانکشاف سرّ من أسرارها من قبل شخص مّا فإنّها تصفیه وتقتله حتّی لا یکشف أسرارها ، وادّعاء السفارة هو عین الجرأة علی الساحة الربوبیة ، لذلک فإنّ فقهاء الشیعة الإمامیة یکفّرون من یدّعی السفارة ؛ لأنّه ینتهک أمن البشر .

الخضر لیس نبیاً ولا رسولاً

الذی جری بین الخضر علیه السلام وموسی علیه السلام فی سورة الکهف کلّها أُمور رمزیة ، وذلک یعنی وجود عنصر إلهی أمنی خفی ، حتّی استغرب موسی علیه السلام من التدابیر التی قام بها الخضر :«فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَیْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَ عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنّا عِلْماً»1 ، هذا بالنسبة للخضر علیه السلام ، فهو لیس نبیاً ولا رسولاً ، وإنّما عبداً عنده علم لدنّی ، وکلّ فعل من أفعاله مؤثّر فی النظام الاجتماعی ، فقتل ذلک الشاب مؤثّر وإلّا کان سیقضی علی سبعین نبیاً(1) ، وکلّنا یمکن أن یتصوّر ماذا یمکن أن یحمله

ص:378


1- (2) تفسیر نور الثقلین 3 : 283 ، الحدیث 158 .

سبعون نبیاً من التراث الحضاری للبشریة ، ولو لم یکن الإمام الحجّة (عجل اللّه فرجه) موجوداً لانتشرت الأوبئة والکوارث والأمراض(1) .

البشر یقدمون علی تجربة معیّنة دون أن یعرفوا عواقبها ، کالطفل الذی یعبث بالمتفجّرات ، ولولا هذا الذی ینزل فی لیلة القدر ، ویزوّد به تدبیر المهدی (عجّل اللّه فرجه) لکان العالم لیس کما هو الآن ، ونلاحظ کم عانت البشریة من أمراض السارس والإیدز ، ولولم یحفظهم (عجل اللّه فرجه) لما بقوا ، فهو له الفضل علی البشر کما أراد اللّه .

الخلفاء الاثنا عشر

علماؤنا شکر اللّه سعیهم بحثوا مباحث لطیفة فی حدیث الخلفاء الاثنا عشر ، قال : جابر بن سمرة : «سمعت النبی صلی الله علیه و آله یقول : «یکون اثنا عشر أمیراً . فقال کلمة لم أسمعها ، فقال أبی : إنّه قال : کلهم من قریش»(2) .

وقد ورد بصیغة أُخری ، عن عبد اللّه بن مسعود الصحابی المعروف أنّه قال :

«ولقد سألنا رسول اللّه صلی الله علیه و آله » ، فقال : «إثنا عشر ، کعدّة نقباء بنی إسرائیل»(3) . نعم ، علماؤنا درسوا أسانید هذه الأحادیث عند العامّة ، ولکن قلّما رأیت من توقّف عند الحدیث القائل : «لا یزال الإسلام عزیزاً إلی اثنی عشر خلیفة»(4) .

معنی الکتاب المبین فی القرآن الکریم

وقال تعالی :«حم * وَ الْکِتابِ الْمُبِینِ * إِنّا أَنْزَلْناهُ فِی لَیْلَةٍ مُبارَکَةٍ إِنّا کُنّا مُنْذِرِینَ *

ص:379


1- (1) کمال الدین وتمام النعمة 1 : باب العلة التی من أجلها یحتاج إلی الإمام علیه السلام .
2- (2) صحیح البخاری 4 : 398 ، الحدیث 7222 ، 7223 ، کتاب الاحکام ، باب 52 .
3- (3) مسند أحمد 6: 321 ، الحدیث 3781 ، مسند عبد اللّه بن مسعود .
4- (4) صحیح مسلم 3 : 115 ، الحدیث 7 و8 ، کتاب الامارة ، باب الناس تبع لقریش والخلافة فی قریش .

فِیها یُفْرَقُ کُلُّ أَمْرٍ حَکِیمٍ * أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنّا کُنّا مُرْسِلِینَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّکَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِیعُ الْعَلِیمُ »1 ، یفرق ، أی : یبرمج . ویدبّر ، الکتاب المبین لیس وصفاً للمصحف الشریف والقرآن الکریم بل الکتاب المبین وصف لوجود ملکوتی علوی ، وفی آیة أُخری«وَ ما مِنْ غائِبَةٍ فِی السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِلاّ فِی کِتابٍ مُبِینٍ »2 ، وهذا لیس المصحف حتّی یقول القائل حسبنا کتاب اللّه(1) ، وقال تعالی :«وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِی الْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ یَطِیرُ بِجَناحَیْهِ إِلاّ أُمَمٌ أَمْثالُکُمْ ما فَرَّطْنا فِی الْکِتابِ مِنْ شَیْ ءٍ ثُمَّ إِلی رَبِّهِمْ یُحْشَرُونَ »4 ، الکتاب المذکور لیس المصحف الشریف والقرآن الکریم ، وإنّما هو الکتاب المبین ، وفی سورة الواقعة :«إِنَّهُ لَقُرْآنٌ کَرِیمٌ * فِی کِتابٍ مَکْنُونٍ * لا یَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ »5 ، فلا یصل إلیه الفقیه ولا المرجع ولا السیاسی وقوله«کَرِیمٌ » وصف للقرآن فی وجوده الملکوتی ، وهذه الآیة من سورة الواقعة تتحدّث عن الثقلین ، وفی سورة البروج :«بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِیدٌ* فِی لَوْحٍ مَحْفُوظٍ»6 ، ولوح محفوظ نفس وحقیقة کتاب الکریم ، وقال تعالی :«وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَیْبِ لا یَعْلَمُها إِلاّ هُوَ وَ یَعْلَمُ ما فِی الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاّ یَعْلَمُها وَ لا حَبَّةٍ فِی ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَ لا رَطْبٍ وَ لا یابِسٍ إِلاّ فِی کِتابٍ مُبِینٍ »7 .

لیلة القدر برهان علی تصدّی المهدی (عجّل اللّه فرجه الشریف)

ولیلة القدر نفسها برهان علی أنّ المهدی عجل اللّه فرجه الشریف هو المتصدّی

ص:380


1- (3) صحیح البخاری 4 : 10 ، الحدیث 5669 ، کتاب المرضی ، باب قول المریض قوموا عنّی .

لأمر البشریة ، وما یحدث عند الظهور هو انکشاف المخفی من حرکة الإمام المهدی (عجّل اللّه فرجه الشریف) وهذا الدور لا یقتصر علی الإمام المهدی (عجّل اللّه فرجه الشریف) ، بل قام به الإمام علی علیه السلام خلال الخمسة وعشرین سنة التی أبعد فیها عن الخلافة وغیرها ، وکذلک قام به آدم وإبراهیم ، حیث قال اللّه :

«وَ إِذِ ابْتَلی إِبْراهِیمَ رَبُّهُ بِکَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّی جاعِلُکَ لِلنّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّیَّتِی قالَ لا یَنالُ عَهْدِی الظّالِمِینَ »1 ، فهل کان لإبراهیم علیه السلام دولة رسمیة یرأسها؟ فأیّ إمامة التی یخبرنا بها القرآن الکریم؟ نعم ، التاریخ یحدّثنا أنّ إبراهیم قلب فکر البشریة من فکر وثنی صنمی إلی فکر إلهی توحیدی ، وتغییر العقائد من أشکل المشکلات ، والنبی بعث بعد الأربعین ، ولکنه خلال الأربعین لم یکن واضعاً یداً علی ید ، بل هو إمام الأئمة صلی الله علیه و آله .

معنی أُولی الأمر فی القرآن الکریم

وقال تعالی :«یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا أَطِیعُوا اللّهَ وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِی الْأَمْرِ مِنْکُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِی شَیْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَی اللّهِ وَ الرَّسُولِ إِنْ کُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ الْیَوْمِ الْآخِرِ ذلِکَ خَیْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِیلاً»2 ، ولا تعنی أُولی الأمر فی الجانب السیاسی فقط فهذا جانب محدود ، بل هو الأمر الملکوتی ، کما یذکر العلامة الطباطبائی(1) .

الخلیفة لیس من الضروری أن یکون نبیاً أو رسولاً

ففی سورة الشوری :«وَ کَذلِکَ أَوْحَیْنا إِلَیْکَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما کُنْتَ تَدْرِی مَا الْکِتابُ وَ لاَ الْإِیمانُ وَ لکِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِی بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَ إِنَّکَ لَتَهْدِی إِلی صِراطٍ

ص:381


1- (3) المیزان فی تفسیر القرآن 4 : 391 .

مُسْتَقِیمٍ »1 ، والروح هی شبکة تضخ المعلومات الضخمة ، وفی سورة غافر :

«رَفِیعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ یُلْقِی الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلی مَنْ یَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِیُنْذِرَ یَوْمَ التَّلاقِ »2 ، فقال من عباده ولم یقل من رسله أو أنبیائه ، کما قال تعالی :«إِنِّی جاعِلٌ فِی الْأَرْضِ خَلِیفَةً »3 ، ولم یقل نبیاً أو رسولاً ، فالخلیفة هو المدبّر والمستخلف والمتصرّف ، وهو عماد النظام البشری ، «الحجّة قبل الخلق ومع الخلق وبعد الخلق»(1) و«لو بقیت الأرض بغیر إمام لساخت»(2) ، فتدمّر البیئة والثروة الحیوانیة والنباتیة والمعدنیة والغازیّة والبشر لو افتقدوا القیادة لساد الهرج والمرج ، فلابدّ للناس من أمیر ، وهذا التحسس الکبیر عند أهل البیت علیهم السلام لهذه الرؤیة العلمیة الوضّاءة قبل أربعة عشر قرناً ، ولا زال البشر عاجزین عن الاحاطة بکلّ دقائق تعلیماتهم علیهم السلام ، ونحن غافلون عن إدراک أبعاد هذا الکم الهائل من المعلومات التی تنزل علی غافلون عن إدراک أبعاد هذا الکم الهائل من المعلومات التی تنزل علی الإمام المهدی (عجّل اللّه فرجه الشریف) ، کما عجزت البشریة عن إدراک ذلک .

ص:382


1- (4) الکافی 1 : 177 ، الحدیث 4 ، باب انّ الحجّة لا تقوم للّه علی خلقه الّا بامام .
2- (5) الکافی 1 : 179 ، الحدیث 10 ، باب انّ الأرض لا تخلو من حجة .

المحاضرة العاشرة المحاور القانونیة فی عهد الإمام علی علیه السلام لمالک الأشتر

اشارة

محاور المحاضرة

أوّلاً : هل القرآن الکریم تبیان لکلّ شیء؟

ثانیاً : الرازی ، الشهید المذکور فی الآیة لابدّ أن یکون معصوماً .

ثالثاً : الرسول صلی الله علیه و آله هو شاهد علی الشهداء .

رابعاً : أوصاف فی القرآن الکریم لا تنطبق إلّاعلی أهل البیت علیهم السلام .

خامساً : القرآن الکریم وحدیث الثقلین .

سادساً : عهد الإمام علی علیه السلام لمالک الأشتر أحد نماذج العدل .

سابعاً : الأمم المتحدة تدعو لنموذج الإمام علی علیه السلام .

ثامناً : المحاور التی أشارت إلیها الأمم المتحدة .

تاسعاً : بعض المحاور فی هذا العهد التی لم تسجّلها المحافل القانونیة .

عاشراً : الأقلام المأجورة .

هل القرآن الکریم تبیان لکلّ شیء؟

قال اللّه تعالی :«وَ یَوْمَ نَبْعَثُ فِی کُلِّ أُمَّةٍ شَهِیداً عَلَیْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ جِئْنا بِکَ شَهِیداً عَلی هؤُلاءِ وَ نَزَّلْنا عَلَیْکَ الْکِتابَ تِبْیاناً لِکُلِّ شَیْ ءٍ وَ هُدیً وَ رَحْمَةً وَ بُشْری لِلْمُسْلِمِینَ * إِنَّ اللّهَ یَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إِیتاءِ ذِی الْقُرْبی وَ یَنْهی عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْکَرِ وَ الْبَغْیِ یَعِظُکُمْ

ص:383

لَعَلَّکُمْ تَذَکَّرُونَ »1 ، وقال سید الشهداء علیه السلام فی آخر خطاب : «تبّاً لکم أیّتها الجماعة وترحاً وبؤساً لکم وتعساً! حین استصرختمونا ولهین ، فأصرخناکم موجفین ، فشحذتم علینا سیفاً کان فی أیدینا ، وحششتم علینا ناراً أضرمناها علی عدوّکم وعدوّنا ؛ فأصبحتم إلباً علی أولیائکم ، ویداً لأعدائکم من غیر عدل أفشوه فیکم ، ولا أمل أصبح لکم فیهم ، ولا ذنب کان منّا إلیکم .

فهلّا ، لکم الویلات إذ کرهتمونا والسیف مشیّم ، والجأش طامن ، والرأی لم یستحصف...»(1) .

وقوله تعالی :«وَ نَزَّلْنا عَلَیْکَ الْکِتابَ تِبْیاناً لِکُلِّ شَیْ ءٍ»3 ، من الملاحم القرآنیة العظیمة التی حار فیها المفسّرون والمحدّثون وعلماء العقیدة المتکلّمون ، فکیف یزعم القرآن الکریم إنّه تبیاناً لکلّ شیء ، فهل فی القرآن الکریم علوم الفیزیاء والکیمیاء؟! القرآن الکریم لیس فیه تفاصیل الأُمور الدینیة ، فضلاً عن الدنیویة ، مثل : تفاصیل الأُمور الحقوقیة والقانونیة والقضائیة والاجتماعیة ، فوصف «اَلْکِتابَ تِبْیاناً لِکُلِّ شَیْ ءٍ وَ هُدیً » لیس وصفاً للقرآن الکریم ، وإنّما هو وصف لدرجة غیبیة من درجات القرآن الکریم ، وهی درجة الکتاب المبین ، والکتاب المبین هو الذی لا یغادر صغیرة ولا کبیرة ، ولا رطب ولا یابس ، ذلک الکتاب الملکوتی العلمی الذی لا یصل إلیه إلّاالمطهّرون کما فی سورة الواقعة ، قال تعالی :«لا یَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ »4 ، جُعل ذلک الکتاب تبیاناً لکلّ شیء ، ویتنزّل فی

ص:384


1- (2) الاحتجاج 2 : 97 ، احتجاجه علیه السلام علی أهل الکوفة .

کلّ لیلة قدر ، ولا یصل إلیه لا فقیه ولا مجتهد ولا صحابی ولا راوی ولا مفسّر ولا محدّث ولا مرتاض ولا عارف ولا صوفی ولا سیاسی ولا داهیة ولا اقتصادی فالآیة حصرت وقالت :«لا یَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ » ، أی : لا یمسّه إلّاأهل آیة التطهیر(1) ، ذلک الکتاب تبیان لکلّ شیء ، وأمّا المصحف الذی بین أیدینا فهو وجود من وجودات القرآن ، ویسمّی تنزیل القرآن ، وذاک حقیقة القرآن .

الرازی ، الشهید المذکور فی الآیة لابدّ أن یکون معصوماً

وفی الکلام عن الآیة 89 من سورة النحل ، یقول الفخر الرازی - وهو من علماء العامة ، وکان متکلّماً ، وإلی حدّ مّا فیلسوفاً ذا باع وإحاطة ، ویعتبر تفسیره من أبرز تفاسیر مذهب العامّة فی آفاق الأُمور الفکریة والرؤی المعرفیّة ، عندما یصل إلی هذه الآیة الکریمة :«وَ یَوْمَ نَبْعَثُ فِی کُلِّ أُمَّةٍ شَهِیداً عَلَیْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ جِئْنا بِکَ شَهِیداً»2 من هو هذا الشهید؟ والأُمّة أیّ أُمّة؟ والأُمّة فی اللغة هی الجماعة التی تعیش فی کلّ مائة عام ، یعنی : هناک شهید بعد رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی الاُمّة الإسلامیة علی هذه الأُمّة یشهد علیهم أعمالهم ، فیقول الفخر الرازی : من غیر المعقول أن یکون هذا الشاهد علی الأُمّة یرتکب الخطأ أو الزلل أو یمکن صدور الخطأ والزلل منه ، ولا بدّ أن یمتنع علیه الخطأ والزلل ، وإلّا فکیف یکون شهیداً؟

فمن باب أولی أن یکون مشهوداً علیه إذا کان من الذین یخطؤون ویزلّون ، فمقام الشهادة والإشراف علی کلّ الأُمّة فی کلّ قرن لابدّ فیه من العصمة فی مقام الشهادة والشهید ، ولکنّه بعد أن یقرّ بهذه المقدّمة ، یقول : ربّما یکون هذا الشهید هو الإجماع(2) ، بدلاً من الإقرار بوجود الإمام المهدی المنتظر (عجّل اللّه فرجه

ص:385


1- (1) الأحزاب (33) : 33 .
2- (3) التفسیر الکبیر 7 : 257 .

الشریف) ، والحال أنّ الأُمّة لم تجمع علی کلّ شیء ، فکیف یکون الإجماع هو المعصوم؟ وفی مسألة الإمامة لم تجمع الأُمّة ، وهناک کثیر من الأُمور لا یتحقق فیها الإجماع ، فی حین أنّ هذا الشهید هو شهید علی کلّ شیء ، فهذا الجواب جواب ضعیف یرید به الرازی أن یسترضی به رأی العامّة واللّه أعلم بنیّته ، وکأنّه یرید أن یستغفل القاریء ؛ لکی لا یقرّ بوجود المعصوم المهدی من آل محمّد صلی الله علیه و آله .

الرسول صلی الله علیه و آله هو شاهد علی الشهداء

الرسول صلی الله علیه و آله هو شاهد علی الشهداء من المعصومین ؛ لأنّ مقامه أعلی ، وملف الشهادة علی الأعمال فی القرآن الکریم ملف حافل ، ومن الواضح فیه أنّ أئمة أهل البیت علیهم السلام یشار إلیهم فی آخر آیة من سورة الحجّ :«وَ جاهِدُوا فِی اللّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباکُمْ وَ ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِیکُمْ إِبْراهِیمَ هُوَ سَمّاکُمُ الْمُسْلِمِینَ مِنْ قَبْلُ وَ فِی هذا لِیَکُونَ الرَّسُولُ شَهِیداً عَلَیْکُمْ وَ تَکُونُوا شُهَداءَ عَلَی النّاسِ فَأَقِیمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّکاةَ وَ اعْتَصِمُوا بِاللّهِ هُوَ مَوْلاکُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلی وَ نِعْمَ النَّصِیرُ»1 ، یعنی : أیّها المخاطبون بالاجتباء والاصطفاء أنتم من نسل إبراهیم ، ولیس عموماً الأُمّة الإسلامیة .

أوصاف فی القرآن الکریم لا تنطبق إلّاعلی أهل البیت علیهم السلام

هناک ثلّة خاصّة انحدرت من نسل إبراهیم ، قال تعالی :«رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَیْنِ لَکَ وَ مِنْ ذُرِّیَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَکَ وَ أَرِنا مَناسِکَنا وَ تُبْ عَلَیْنا إِنَّکَ أَنْتَ التَّوّابُ الرَّحِیمُ »2 ، وهی تلک الذریة المسلمة التی لا تکفر باللّه طرفة عین أبداً ، وبعد ذکر علی علیه السلام یقول بعض أصحاب المذاهب الإسلامیة : کرم اللّه وجهه ؛ لأنّه لم یکفر باللّه ، وقال

ص:386

تعالی :«وَ إِذِ ابْتَلی إِبْراهِیمَ رَبُّهُ بِکَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّی جاعِلُکَ لِلنّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّیَّتِی قالَ لا یَنالُ عَهْدِی الظّالِمِینَ »1 ، یعنی : أنّ المعصومین من ذریّة إبراهیم ، وهم غیر الظالمین ینالون الإمامة ، وقال تعالی :«وَ جَعَلَها کَلِمَةً باقِیَةً فِی عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ یَرْجِعُونَ »2 ، وفی سورة الحجّ یقول تعالی :«هُوَ اجْتَباکُمْ وَ ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِیکُمْ إِبْراهِیمَ هُوَ سَمّاکُمُ الْمُسْلِمِینَ مِنْ قَبْلُ »3 ، أی : أنّ هذا الاصطفاء لیس اصطفاء اعتباطیّاً ، ثمّ یقول تعالی :«وَ فِی هذا لِیَکُونَ الرَّسُولُ شَهِیداً عَلَیْکُمْ وَ تَکُونُوا شُهَداءَ عَلَی النّاسِ » ، وهذه مجموعة من الحلقات والأوصاف التی تنطبق علی أهل البیت علیهم السلام دون غیرهم ، والآیة تبیّن أنّ الرسول شاهد علی الأئمة ، والأئمة شهود علی الناس ، ولیس علی خصوص الأُمّة الإسلامیة ، بل علی جمیع الأنبیاء والمرسلین ، وقال تعالی :«وَ فِی هذا لِیَکُونَ الرَّسُولُ شَهِیداً عَلَیْکُمْ وَ تَکُونُوا شُهَداءَ عَلَی النّاسِ » فأهل البیت علیهم السلام یحتفون بالنبی صلی الله علیه و آله .

القرآن الکریم وحدیث الثقلین

الأحادیث النبویة عن أهل البیت علیهم السلام مدارکها ومستنداتها ومضامینها موجودة فی الآیات الکریمة ، فالصلة بین الآیة 89 من سورة النحل التی ذکرت الثقلین :

«وَ یَوْمَ نَبْعَثُ فِی کُلِّ أُمَّةٍ شَهِیداً عَلَیْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ جِئْنا بِکَ شَهِیداً» ، وقوله تعالی :

«إِنَّ اللّهَ یَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ »4 ، هی الصلة التی فی سورة الحشر :«ما أَفاءَ اللّهُ عَلی رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُری فَلِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِی الْقُرْبی وَ الْیَتامی وَ الْمَساکِینِ وَ ابْنِ السَّبِیلِ کَیْ لا یَکُونَ دُولَةً بَیْنَ الْأَغْنِیاءِ مِنْکُمْ وَ ما آتاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاکُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَ اتَّقُوا

ص:387

اَللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِیدُ الْعِقابِ »1 ، وأنّ الذی یقوم بالعدل فی النظام الاجتماعی هم هؤلاء الشهداء الذین هم عِدل الکتاب ، والذین یعون الکتاب کلّه ولا یعیه أحد غیرهم من هذه الأُمّة ، وهذه الآیة التی یردّدها المسلمون کثیراً :«إِنَّ اللّهَ یَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ » ، کآیة ترمز إلی أُصول العدل فی النظام الاجتماعی ، وقبلها آیة تشیر إلی الثقلین لکی تتضح الصورة عند المسلمین ، وجعل اللّه هذه الثروات فی ید أهل البیت علیهم السلام«کَیْ لا یَکُونَ دُولَةً بَیْنَ الْأَغْنِیاءِ مِنْکُمْ » ، وهذا التعبیر هو نفس التعبیر الذی ورد فی سورة النحل ، حیث قال تعالی :«إِنَّ اللّهَ یَأْمُرُ بِالْعَدْلِ » .

عهد الإمام علی علیه السلام لمالک الأشتر أحد نماذج العدل

فالعدل یقام علی ید المعصوم ، وهذا العدل یتمثّل بنموذج عهد أمیر المؤمنین علیه السلام لمالک الأشتر الذی یحتوی علی بعض الأُمور التی لم تذکر فی أدبیات الحقوق والقانون ، والتی تمثّل تحدّیاً علمیاً فی مبادیء نداءات أهل البیت علیهم السلام التی لا بدّ للبشریة من الإقرار بها ، وأهل البیت علیهم السلام قد رفعوا شعارات منذ ذلک الحین ، وهی تطابق ما تطالب به البشریة الآن من العدالة وحقوق الإنسان والنظام الواحد وغیرها ، والتی تعتبر من الشعارات التی یعتبر العالم الغربی مجبوراً علیها من أجل أن یحسّن صورته أمام العالم ، ولکنّه لا یطبّقها فی الواقع ، ولا تجد مثل هذه الشعارات فی الإنجیل المحرّف أو التوراة المحرّفة ، وغیرها من الملل والنحل ، ولا تجده عند المذاهب الإسلامیة الأُخری غیر مذهب أهل البیت علیهم السلام ، وما تطالب به البشریة لا تجده إلّافی مذهب أهل البیت علیه السلام ، وهذا من الإعجاز العلمی ، وهذا من تدبیر الإمام المهدی (عجّل اللّه فرجه الشریف) سواء شعرنا بذلک أم لم نشعر ، حیث یقود البشریة للاعتراف بشعارات لا یقرّ بها الإنجیل

ص:388

المحرّف أو التوراة المحرّفة ، وکأنّ البشریة تتشیع لأهل البیت علیهم السلام ، وهذه الشعارات لا یقرّها حتّی القانون المدوّن عندهم ، فضلاً عن القانون الحقیقی .

الأمم المتحدة تدعو لنموذج الإمام علی علیه السلام

والأمم المتحدة عندما أشادت بعهد أمیر المؤمنین علیه السلام لمالک الأشتر أشادت بعدّة نقاط فیه ، سأذکرها تباعاً ، وفی تقریر للأمم المتحدة فی التنمیة الإنسانیة العربیة فی عام 2002م ، حیث تدعو الأمم المتحدة - عبر الصندوق العربی للإنماء الاقتصادی - الدول العربیة لاتخاذ أمیر المؤمنین علی علیه السلام مثالاً للحکم الصالح ، أیصل الحال إلی أن یرفع النصاری شعار أنّ علیاً قدوة للبشریة ، ویدعون المسلمین لاتّخاذة قدوة؟! وهذا الذی نعنی به أنّه من تدبیر الإمام المهدی عجل اللّه فرجه الشریف ، وإلّا فنحن الشیعة لم نستطع أن نوصل ثقافة أهل البیت علیهم السلام إلی ما وصلت إلیه ، فالأمم المتحدة بعد أن أقرّت عهد مالک الأشتر کمصدر قانونی دعت الدول العربیة إلیه .

المحاور التی أشارت إلیها الأمم المتحدة

اشارة

النقطة الأُولی : ما فی هذا العهد الشریف من الدعوة إلی المعرفة والتعلیم ، وهو محور مهم تحتاجه البشریة ؛ لأنّه قائم علی وعی الحقوق ، والوعی القانونی - إذا کان القانون قانون عدل ، ولم یکن قانون جور - یکون ضمانة للناس حتّی لا تنطلی علیهم اللعب القانونیة ، واللف والدوران باستخدام القانون أو المسرحیات الخادعة أو الشعارات الزائفة .

النقطة الثانیة : مبادیء العدالة التی أتت فی هذا العهد الشریف .

النقطة الثالثة : تحسین المعیشة .

النقطة الرابعة : عمارة الأرض .

ص:389

النقطة الخامسة : احترام حقوق الإنسان ، فقد ورد فی عهد الإمام علی علیه السلام لمالک الأشتر : «وأشعر قلبک الرحمة للرعیة ، والمحبّة لهم ، واللطف بهم ، ولا تکوننَّ علیهم سَبُعاً ضاریاً تغتنم أکلهم ، فإنّهم صنفان : إمّا أخٌ لک فی الدین ، وإمّا نظیر لک فی الخلق»(1) .

النقطة السادسة : المشارکة الشعبیة فی الحکم .

النقطة السابعة : محاربة الفساد الإداری والمالی ومحاسبة المسؤولین والولاة .

ص:390


1- (1) نهج البلاغة ، رسائل أمیر المؤمنین ، رقم53 .

بعض المحاور فی هذا العهد

التی لم تسجّلها المحافل القانونیة

المحور الأوّل : أهمیة الطبقة العامّة فی المجتمع

وفی فهمی القاصر أنّ هناک بعض المدارک لم تسجلّلها المحافل الحقوقیة والقانونیة ، وهی تعبیر أمیر المؤمنین علیه السلام فی عهده لمالک الأشتر : «ولیکن أحبّ الأُمور إلیک أوسطها فی الحق ، وأعمّها فی العدل ، وأجمعها لرضی الرعیة ، فإنّ سخط العامّة یجحف برضی الخاصّة ، وإنّ سخط الخاصّة یغتفر مع رضی العامّة» ، وهذه معادلة اجتماعیة یطرحها أمیر المؤمنین علیه السلام ، فأمیر المؤمنین یقول : إنّه یجب مراعاة مصلحة العامّة ، وعدم الاکتراث بمصلحة الطبقة الخاصّة ، سواء کانت العائلة الحاکمة ، أو الطبقة الإقطاعیة ذوی القدرة والنفوذ ، وهذا الوباء السرطانی فی النظام الاجتماعی إیاک إیاک أن تراعیه ، وإذا راعیتها کما فعل من سبق أمیر المؤمنین علیه السلام فی الحکم بعد رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، فستکون النتیجة ما آل إلیه أمر المسلمین حین انقضّوا علی مرکز الخلافة ، أمّا أمیر المؤمنین علیه السلام فقد راعی مصلحة العامّة علی حساب مصلحة الطبقة الخاصّة ، وهذا الذی انطلق منه سید الشهداء علیه السلام ، حیث راعی مصلحة العامّة علی حساب مصلحة الخاصّة ، وأهل البیت علیهم السلام ومن قبلهم رسول اللّه صلی الله علیه و آله کانت حربهم مع تلک الشجرة الإقطاعیة المتمثّلة فی بنی أمیة أیام الجاهلیة وأیام الإسلام ؛ لأنّها شجرة تسبب الحرمان لعامّة الناس ، والحرب لم تهدأ بین بنی هاشم من جهة وبنی أمیة وآل زیاد وآل مروان من جهة أُخری ؛ لأنّهم جبهات الإقطاع والاحتکار والاستئثار ، ولذلک لم یداهنهم أهل البیت علیهم السلام أبداً ؛ ولأنّ أهل البیت علیه السلام یریدون عدالة المجتمع وإنصاف

ص:391

المحرومین ، وکان بإمکان سید الشهداء علیه السلام أن یقنع بمصالحة الشخصیة ، والخطر یتمثّل فی انحراف الأُمّة عن روّاد إصلاحها ، کما أشار سید الشهداء علیه السلام فی قوله :

«تبّاً لکم أیّتها الجماعة وترحاً وبؤساً لکم وتعساً! حین استصرختمونا ولهین فأصرخناکم موجفین ، فشحذتم علینا سیفاً کان فی أیدینا ، علی عدوّکم وعدوّنا فأصبحتم إلباً علی أولیائکم ، ویداً لأعدائکم من غیر عدل أفشوه فیکم ، ولا أمل أصبح لکم فیهم ، ولا ذنب کان منّا إلیکم فهلّا لکم ، الویلات إن کرهتمونا والسیف مشیّم ، والجأش طامن والرأی لم یستحصف»(1) .

وهنا تبرز المشکلة عندما یستغفل المجتمع عن روّاد إصلاحه ، وهذا المحور هوالذی قلت أنّنی لم أجده فی الأدبیات الحقوقیة ، رغم ما یرفعون من شعارات ، وهذه القضیة تمثّل ابتلاء فی المدارس الحقوقیة والقانونیة والاجتماعیة والإنسانیة ، وأمیر المؤمنین علیه السلام یقول : إنّ هناک معادلة دائماً فی حالة تجاذب، ودائماً فی حالة اصطدام ، وهی مصلحة العامة المحرومة ومصلحة الخاصّة ، لا سیّما الإقطاع ، ویقول الإمام علی علیه السلام :«ولیس أحد من الرعیة أثقل علی الوالی مؤونةً فی الرخاء ، وأقلّ معونةً له فی البلاء ، وأکره للإنصاف ، وأسأل بالإلحاف ، وأقلّ شکراً عند الإعطاء ، وأبطأ عذراً عند المنع ، وأضعف صبراً عند ملمّات الدهر من أهل الخاصّة . وإنّما عماد الدین ، وجماع المسلمین ، والعدّة للأعداء ، العامّة من الأُمّة فلیکن صغوک لهم ، ومیلک معهم»(2) ، والطبقة المحرومة هی أکثر ولاء لوطنها ، وهی التی تثبت فی الشدّات معه ، وهذه الطبقة العامّة من المجتمع یرکّز علیها أمیر المؤمنین علیه السلام ، ویأمر حاکم المسلمین أن یصغی إلیها ، بدلاً من

ص:392


1- (1) الاحتجاج 2 : 97 ، احتجاجه علیه السلام علی أهل الکوفة .
2- (2) نهج البلاغة ، رسائل أمیر المؤمنین ، رقم53 .

الإصغاء إلی أصحاب المصالح والإقطاعیین ، وکلّ قانون مهما کان نوعه ، قانون تجاری أو جمرکی أو زراعی أو صناعی أو إداری ، یراعی فیه مصلحة الخاصّة ولا یراعی فیه مصلحة العامّة ، فهو قانون جائر ظالم غاشم لا یراعی العدل الاجتماعی ، وتملأ فیه جیوب الإقطاع ، وتحرم من خلاله الطبقات الفقیرة والمستضعفة وعامّة الناس .

المحور الثانی : ظهور مودّة الرعیة

وهو من المحاور المهمّة التی ذکرها أمیر المؤمنین علیه السلام : «وإنّ أفضل قرّة عین الولاة استقامة العدل فی البلاد ، وظهور مودّة الرعیة» ، وظهور مودّة الرعیة ، وارتیاح عامّة الناس دلیل علی نجاح الحاکم ، ومودّة الرعیة لیست بکلام الصحف والأقلام المأجورة والصور المعلّقة هنا وهناک ، یقول أمیر المؤمنین علیه السلام فی عهده لمالک الأشتر : «وإنّما یستدل علی الصالحین - أی : الحکّام الصالحین - بما یُجری اللّه لهم علی ألسن عباده»(1) ، أی : ألسنة الرعیة لا الصحف ولا الثنوات ولا النخبة المنافقة التی ترید التقرّب من السلطان بأیّ وسیلة ، وأنّ ألسنة الرعیة هی الصحف الحقیقیة والقنوات الحقیقیة ، فأمریکا دولة دیمقراطیة عادلة فی منطق الصحف والفضائیات ووسائل الإعلام ، ولکن لو أتیت لألسنة الشعوب لرأیت أنّ أمریکا دولة ظالمة مستبدّة ، وهذه هی الصحافة الحقیقیة ، ففی أمریکا وألمانیا 4% یسیطرون علی الثروات فی هاتین الدولتین .

المحور الثالث : الشفافیة بین الحاکم والرعیة ، وخطر احتجاب الحاکم

ومن المحاور الأُخری التی یذکرها أمیر المؤمنین علیه السلام فی عهده لمالک الأشتر :

ص:393


1- (1) نهج البلاغة ، وسائل أمیر المؤمنین ، رقم 53 .

«وأمّا بعد ، فلا تطوّلنّ احتجابک عن رعیّتک ، فإنّ احتجاب الولاة عن الرعیة شعبة من الضّیق ، وقلّة علم بالأُمور ، والاحتجاب منهم یقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه ، فیصغر عندهم الکبیر ، ویعظم الصغیر ، ویقبح الحسن ، ویحسن القبیح ، ویشاب الحقُ بالباطل ، وإنّما الوالی بشر لا یعرف ما تواری عنه الناس به من الأُمور ، ولیست علی الحق سمات تُعرَف بها ضروب الصدق من الکذب ، وإنّما أنت أحد رجلین : إمّا امرو سخت نفسک بالبذل فی الحق ، ففیم احتجابک من واجب حق تعطیه ، أو فعل کریم تسدیه ، أو مبتلی بالمنع ، فما أسرع کفّ الناس عن مسألتک إذا أیسوا من بذلک ، مع أنّ أکثر حاجات الناس إلیک ممّا لا مؤونة فیه علیک ، من شکاة مظلمة ، أو طلب إنصاف فی المعاملة» ، وهذه الشفافیة المطلوبة التی تنادی بها البشریة المتمدّنة نادی بها أمیر المؤمنین علیه السلام قبل أربعة عشر قرناً ، ولکن یجب أن لا تتلوّث الشفافیة بدجل الإقطاع .

المحور الرابع : ضمانة السلم الدولی والوفاء بالعهد

ویقول علیه السلام فی عهده لمالک الأشتر : «وإن عقدت بینک وبین عدوّک عقدة ، أو ألبسته منک ذمّة فحط عهدک بالوفاء ، وارع ذمّتک بالأمانة ، واجعل نفسک جُنّة دون ما أعطیت ، فإنّه لیس من فرائض اللّه شیءٌ ، الناس أشدّ علیه اجتماعاً ، مع تفرّق أهوائهم ، وتشتّت آرائهم ، من تعظیم الوفاء بالعهود ، وقد لزم ذلک المشرکون فیما بینهم دون المسلمین لما استوبلوا من عواقب الغدر ، فلا تغدرنّ بذمّتک ، ولا تخیسنّ بعهدک ، ولا تختلنّ عدوّک ، فإنّه لا یجتریءُ علی اللّه إلّاجاهلٌ شقی ، وقد جعل اللّه عهده وذمّته أمناً أفضاه بین العباد برحمته ، وحریماً یسکنون إلی مَنَعَتِه ، ویستفیضون إلی جواره ، فلا إدغالَ ولا مدالسة ولاخداع فیه ، ولا تعقد عقداً تُجوّز فیه العلل ، ولا تعوّلنّ علی لحن قول بعد التأکید والتوثقة ، ولا یدعونّک ضیق

ص:394

أمر لزمک فیه عهد اللّه إلی طلب انفساخه بغیر الحق ، فإنّ صبرک علی ضیق أمر ترجو انفراجه وفضل عاقبته ، خیر من غدر تخاف تبعته»(1) ، ومن المعلوم أنّ الحروب تنشأ من نکث العهود ، فإذا فقدت الثقة بین الدول ظهر التزلزل الأمنی والمباغتة العسکریة ، وهذا أیضاً بین الدول وشعوبها ، وبین أبناء الشعب الواحد ، والأمن أهم شیء بالنسبة للإنسان فی النظام الاجتماعی والنظام الدولی ، ولا یستتب الأمن إلّاعندما تثبت الثقة بین الأطراف ، والثقة تحدث بالوفاء بالعهد ، فعندما یوقّع شخص شیئاً ثمّ بعد أسابیع ینکث هذا العهد الذی أعطاه فماذا تکون النتیجة؟

وانظر إلی هذه الأصول التی ذکرها أمیر المؤمنین علیه السلام وما نادی به سید الشهداء علیه السلام ، لا سیّما فی المحور الأوّل ، فی أهداف النظام الاجتماعی ومراعاة مصلحة العامّة علی حساب مصلحة الخاصّة ، وما الذی أجهض النصر المادی للحسین علیه السلام ؟ وإن کان الفتح قد تحقق للحسین علیه السلام ؛ لأنّه فتح الأعراف وفتح السنن الاجتماعیة وفتح العقول ، فلم یسمح لبنی أمیة أن یربّوا الناس علی النهج الإقطاعی ، وفجّر نور الأمل فی الطبقات المحرومة ، واستطاع عن طریق الإباء والصبر والمثابرة أن یحقق العدل فی النظام الاجتماعی فقال : «ربّی إن تکن حبست عنّا النصر...»(2) فالإمام الحسین علیه السلام حقق الفتح حتّی ولولم یحقق النصر ، وهناک فرق بین الفتح والنصر فی المصطلح القرآنی :«إِذا جاءَ نَصْرُ اللّهِ وَ الْفَتْحُ »3 ، فالفتح شیءٌ غیر النصر ، وکذلک فی سورة الفتح :«إِنّا فَتَحْنا لَکَ فَتْحاً مُبِیناً»4 ، مع

ص:395


1- (1) نهج البلاغة ، رسائل امیر المؤمنین ، رقم 53 .
2- (2) الکامل فی التاریخ 4 : 75 .

أنّ الآیة تتکلّم عن صالح الحدیبیة ، ولم تتکلّم عن غزوة أو حرب ، والبعض یخلطون بین الفتح والنصر ، والذی أجهض نصر الحسین علیه السلام المادی هو نکث العهد وشراء الذمم .

والعدالة لا تتحقق إلّاإذا روعیت مصالح الأکثریة العامّة المحرومة کما قال أمیر المؤمنین علیه السلام ، وهذا ما لا یرضی الحاکم الإقطاعی ؛ ولذلک فهو یغذّی نخباً معیّنة ، ویرشیها ویشتریها ویغدق علیها حتّی یستأثر هو بالقسم الأکبر ، ویعطی هؤلاء الذین هم أصحاب المصالح قسماً من الثروات ویحرم الأکثریة من حقوقهم ، وهذا التصرّف ینطلق من بخله وحرصه وعدم أدائه لحقوق رعیّته .

الأقلام المأجورة

هناک کتابات تحاول إسقاط الحسین علیه السلام عن رمزیّته وقیادته ، وقد ذکرت لکم فی موضع سابق عن کتاب الاستخبارات الأمریکیة الذی یعتبر الإمام الحسین نقطة قوّة فی المذهب الشیعی ، ویحاول إبعاد الشیعة عن شعائر الحسین علیه السلام ، فإذا سقطت رمزیّته علیه السلام تتغیّر خارطة المجتمع ، فحذار من إسقاط رمزیّة الحسین الذی یمثّل العدالة ، والذی لا یقض مضاجع الظّلام فقط ، وإنّما یقض مضاجع أولئک النخبة التی اشتراها الظلّام وسخّروها لخدمتهم ، فهذه النخبة تؤنّبها عدالة سید الشهداء علیه السلام ، فحذار من إسقاط رمزیّة بنی هاشم والحسین علیه السلام .

حذار من الأقلام المغرضة

إلی درجة أنّ بعض الأقلام تدافع عن نظام البعث ، الذی ارتکب هذه المذابح والمقابر الجماعیة ، ولا أدری لماذا هذه الوقاحة والصلافة؟! وهذه الأقلام تنتسب إلی الطائفة الشیعیة للأسف الشدید ، وقد ذکر لی الشهید السید محمّد باقر الحکیم - وکان جارنا فی قم المقدّسة - : أنّ صدام قد جمع أعضاء القیادة القطریة السفاکة

ص:396

الدمویة البعثیة ، وعرض علیهم شریط عن أربعینیة الحسین فسألهم ما هذا؟ فجبنوا عن الإجابة ، فقال هو : إنّ ثورة الحسین وبرکان الحسین لم یهدأ .

وفی زیارتنا للمراقد المقدسة کنّا نشعر أنّ البعثیین یعتبرون أنّ قبر الحسین علیه السلام یمثّل تهدیداً للبعث ، وکان البعثیون یتمنّون أن لو لم یکن هذا القبر فی العراق ، بل فی أرض نائیة .

ص:397

ص:398

ص:399

ص:400

ص:401

ص:402

ص:403

ص:404

ص:405

ص:406

ص:407

ص:408

المصادر

1 - أبعاد النهضة الحسینیة - عباس الذهبی - الناشر : مرکز الرسالة - الطبعة الاولی 1425ه .

2 - الاجتهاد بالرأی فی مدرسة الحجاز الفقهیة - خلیفة بابکر الحسن - مکتبة الزهراء ، القاهرة - الطبعة الاولی 1418ه .

3 - الاحتجاج - العلامة أبی المنصور أحمد بن علی بن أبی طالب الطبرسی من علماء القرن السادس - تحقیق : ابراهیم البهادری ، محمد هادی به - دار الاسوة للطباعة والنشر ، ایران - الطبعة الثانیة 1416ه .

4 - الإحکام فی أصول الأحکام - علی بن محمد الآمدی - تحقیق : الدکتور سید الحمیلی - دار الکتاب العربی - الطبعة الثالثة 1418ه .

5 - الاختصاص - الشیخ المفید ت413ه - تحقیق : علی أکبر الغفاری - نشر :

جامعة المدرسین فی الحوزة العلمیة (ضمن مصنفات الشیخ المفید المجلد 12) الطبعة الاولی 1413ه .

6 - الإرشاد فی معرفة حجج اللّه علی العباد - الشیخ المفید الامام أبی عبد اللّه محمد بن محمد بن النعمان العکبری ، المتوفی 413ه - تحقیق ونشر : مؤسسة آل البیت علیهم السلام لاحیاء التراث ، الطبعة الاولی - رجب 1413ه .

7 - أُصول الفقه - محمد رضا المظفر - الناشر : مؤسسة النشر الاسلامی .

8 - أعیان الشیعة - السید محسن الأمین - تحقیق : حسن الأمین - الناشر : دار التعارف للمطبوعات بیروت - سنة الطبع 1403ه .

ص:409

9 - الأمالی - لشیخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسی ت 460ه - تحقیق :

مؤسسة البعثة - نشر : دار الثقافة ، قم - الطبعة الاولی 1414ه .

10 - الإمامة والسیاسة المعروف بتاریخ الخلفاء - ابن قتیبة الدینوری ت :

276ه - تحقیق : علی شیری - الناشر : الشریف الرضی - الطبعة الاولی 1413ه .

11 - الامثل فی تفسیر کتاب اللّه المنزل - ناصر مکارم الشیرازی .

12 - بحار الأنوار - محمد باقر المجلسی ت : 1111ه - المکتبة الإسلامیة ، طهران -

13 - البدایة والنهایة - لا سماعیل بن کثیر القرشی الدمشقی ت : 774ه - تقدیم :

محمد عبد الرحمن المرعشی - الناشر : دار احیاء التراث العربی ، الطبعة الاولی 1417ه .

14 - البرهان فی تفسیر القرآن - هاشم الحسینی البحرانی ت1107ه - تحقیق :

قسم الدراسات الإسلامیة - مؤسسة البعثة - الناشر : مؤسسة البعثة ، الطبعة الأولی 1419ه .

15 - تاریخ الیعقوبی - أحمد بن إسحاق الیعقوبی البغدادی ت : 292ه ، تحقیق :

خلیل المنصور ، الناشر : دار الکتب العلمیة بیروت - لبنان ، الطبعة الأُولی 1419ه .

16 - تأسیس الشیعة لعلوم الإسلام - السید حسن الصدر منشورات الأعلمی - طهران .

17 - تحف العقول عن آل الرسول صلی الله علیه و آله أبو محمد الحسن بن علی بن الحسین بن شعبة الحرّانی من أعلام القرن الرابع - قدم له وعلق علیه : حسین الأعلمی - منشورات مؤسسة الأعلمی للمطبوعات بیروت - لبنان - الطبعة السادسة 1417ه .

18 - تذکرة الفقهاء - العلامة الحلّی ت : 726 - تحقیق ونشر : مؤسسة آل البیت علیهم السلام لاحیاء التراث ، قم - الطبعة الاولی شوال 1419ه .

ص:410

19 - تفسیر القرآن العظیم - اسماعیل بن کثیر ت : 774 - تحقیق : محمد عبد الرحمن المرعشی - الناشر : دار احیاء التراث العربی ، الطبعة الاولی 1420ه ق .

20 - تفسیر القمی - لأبی الحسن علی بن ابراهیم القمی من أعلام القرن الثالث الهجری ، الناشر : مؤسسة الأعلمی للمطبوعات ، الطبعة الاولی 1412ه .

21 - التفسیر الکبیر - الفخر الرازی - اعداد : مکتب تحقیق دار احیاء التراث العربی - نشر : دار احیاء التراث العربی بیروت - لبنان ، الطبعة الاولی 1415ه .

22 - تفسیر کنز الدقائق - المیرزا محمّد المشهدی ، من أعلام القرن الثانی عشر الهجری - تحقیق : حسین درگاهی - دار الغدیر / قم - الطبعة الأولی 1424ه .

23 - تفسیر نور الثقلین - الشیخ عبد علی بن جمعة العروسی الحویزی ت1112ه - تصحیح : هاشم الرسولی المحلاتی - دار الکتب العلمیة - قم ، ایران .

24 - تفصیل وسائل الشیعة إلی تحصل مسائل الشریعة - محمد الحرّ العاملی ت : 1104ه ق - تحقیق ونشر : مؤسسة آل البیت علیهم السلام لاحیاء التراث ، الطبعة الثانیة 1414ه .

25 - تلخیص الشافی - أبو جعفر الطوسی ت460ه - تحقیق : حسین بحر العلوم - الناشر : مؤسسة انتشارات المحبین - الطبعة الاولی .

26 - التنبیه والاشراف - علی بن الحسین بن علی الهذلی المسعودی ت345ه - الناشر : دار صعب - بیروت - لبنان -

27 - تهذیب التهذیب - احمد بن علی بن حجر العسقلانی ت852ه - الطبعة الاولی بمطبعة مجلس دائرة المعارف النظامیة فی الهند .

28 - جامع أحادیث الشیعة فی أحکام الشریعة - اسماعیل المعزّی الملایری ، الناشر : المؤلف ، تاریخ الطبع : 1418ه ق .

29 - الجامع الکبیر - محمد بن عیسی الترمذی ت : 279ه - تحقیق : بشار عوّاد

ص:411

معروف - الناشر : دار الغرب الاسلامی بیروت ، الطبعة الثانیة 1998م .

30 - جواهر التاریخ - علی الکورانی العاملی - الناشر : دار الهدی ، الطبعة الاولی 1425ه ق .

31 - حلیة الأولیاء وطبقات الأصفیاء - أبو نعیم أحمد بن عبد اللّه الإصفهانی الشافعی ت430ه - تحقیق : مصطفی عبد القادر عطا - دار الکتب العلمیة ، بیروت - الطبعة الثانیة 1423ه .

32 - الخصال - لأبی جعفر محمد بن علی بن الحسین بن بابویه القمی ت 381ه ، تحقیق : علی أکبر الغفاری ، منشورات مؤسسة الأعلمی للمطبوعات ، الطبعة الاولی 1410ه .

33 - دراسات فی ولایة الفقیه وفقه الدولة الإسلامیة - الشیخ المنتظری - الناشر : المرکز العالمی للدراسات الإسلامیة ، الطبعة الثانیة 1409ه .

34 - الدر المنثور فی التفسیر المأثور - جلال الدین السیوطی ت : 911ه ق - الناشر : دار الکتب العلمیة بیروت - لبنان ، الطبعة الاولی 1421ه ق .

35 - دلائل الصدق لنهج الحق - الشیخ محمد حسن المظفر ت1375ه - تحقیق ونشر : مؤسسة آل البیت علیهم السلام لاحیاء التراث - الطبعة الاولی 1423ه .

36 - روح المعانی فی تفسیر القرآن العظیم والسبع المثانی - محمد الألوسی البغدادی ت1270ه - تحقیق : علی عبد الباری عطیّة - دار الکتب العلمیة ، بیروت - لبنان - الطبعة الاولی 1415ه .

37 - سلسلة الأحادیث الصحیحة وشیء من فقهها وفوائدها محمد ناصر الألبانی - الناشر : مکتیة المعارف للنشر والتوزیع ، الریاض - سنة الطبعة 1415ه .

38 - سنن ابن ماجة - محمد بن یزید القزوینی ت275ه تحقیق : خلیل مأمون شیحا - الناشر : دار المعرفة بیروت - لبنان - الطبعة الثالثة 1420ه .

ص:412

39 - السیرة الحلبیة - أبی الفرج نور الدین علی بن ابراهیم بن أحمد الحلبی الشافعی ت : 1044ه - تحقیق : عبد اللّه محمد الخلیلی ، الناشر : دار الکتب العلمیة ، الطبعة الاولی 1422ه .

40 - الشافی فی الامامة - للشریف المرتضی - تحقیق : عبد الزهراء الحسینی الخطیب - الناشر : مؤسسة الصادق - طهران ، الطبعة الثانیة 1410ه .

41 - شرح رسالة الحقوق - حسن السید علی القبانجی - مؤسسة دار التفسیر ، الطبعة الثالثة 1416ه .

42 - شرح المقاصد - سعد الدین التفتازانی ت : 793ه - تحقیق : عبد الرحمن عمیرة - منشورات الشریف الرضی ، ایران - قم ، الطبعة الاولی 11370ه ش .

43 - شرح المواقف - السید الشریف علی بن محمد الجرجانی ت812ه - تحقیق : محمد بدر الدین النعسانی - منشورات الشریف الرضی ، ایران - قم - الطبعة الثانیة 1415ه .

44 - شرح نهج البلاغة - ابن أبی الحدید - تحقیق : محمد أبو الفضل ابراهیم دار احیاء التراث العربی - الطبعة الثانیة : 1387ه .

45 - صحیح البخاری - محمد بن اسماعیل البخاری ت : 256 - الناشر : دار الکتب العلمیة بیروت - لبنان ، الطبعة الأولی 1420ه ق .

46 - صحیح مسلم - مسلم بن الحجاج النیسابوری ت261ه - دار ابن حزم - بیروت ، الطبعة الاولی 1416ه .

47 - الصحیح من سیرة النبی الأعظم صلی الله علیه و آله تألیف : جعفر مرتضی العاملی - الناشر : دار السیرة - بیروت لبنان .

48 - العلم والحکمة فی الکتاب والسنة - محمد الریشهری تحقیق ونشر :

مؤسسة دار الحدیث الثقافیة - قم - الطبعة الاولی .

ص:413

49 - عمدة القاری شرح صحیح البخاری - بدر الدین أبی محمد محمود بن أحمد العینی ت855ه - صححه : عبد اللّه محمود محمد عمر - دار الکتب العلمیة بیروت - الطبعة الاولی 1421ه .

50 - العواصم من القواصم - القاضی أبی بکر بن العربی المالکی 543ه - تحقیق : محب الدین الخطیب ، تخریج الاحادیث والتعلیق : محمود مهدی الاستانبولی ، التوثیق : محمد جمیل غازی - الناشر : دار الجیل - بیروت ، الطبعة الثالثة 1414ه .

51 - الفصول المهمة فی أصول الأئمة - محمد بن الحسن الحرّ العاملی ت 1104 - تحقیق : محمد بن محمد الحسین القائینی - دار احیاء التراث العربی ، الطبعة الاولی 1424ه .

52 - الکافی - محمد بن یعقوب الکلینی ت : 329ه ق - تحقیق : علی اکبر الغفاری - الناشر : دار الکتب الاسلامیة ، الطبعة السادسة 1375ش .

53 - کامل الزیارات - لأبی القاسم جعفر بن محمد بن قولویة القمی ت :

368ه - تحقیق : نشر الفقاهة ، الناشر : دار السرور - بیروت ، لبنان - الطبعة الاولی 1418ه .

54 - الکامل فی التاریخ - ابن الأثیر - الناشر : دار صادر ، بیروت - الطبعة السادسة 1415ه .

55 - کتاب الجمل وصفین والنهروان - لأبی مخنف الکوفی ت : 157ه ، جمع وتحقیق : حسن حمید السنید - الناشر : مؤسسة دار الاسلام ، الطبعة الاولی 1423ه .

56 - کتاب الغیبة - شیخ الطائفة أبی جعفر محمد بن الحسن الطوسی ت460ه - تحقیق : عباد اللّه الطهرانی وعلی أحمد ناصح - مؤسسة المعارف الإسلامیة -

ص:414

الطبعة الاولی 1411ه .

57 - کتاب الفتوح - أحمد بن أعثم الکوفی ت314 تحقیق : علی شیری - الناشر : دار الاضواء الطبعة الاولی 1411ه .

58 - کتاب اللمع فی الرد علی أهل الزیغ والبدع - أبو الحسن الأشعری ت330ه - صححه وقدّم له وعلّق علیه : الدکتور حمّوده غرابة - الناشر : المکتبة الأزهریة للتراث .

59 - کتاب المبسوط - ابو بکر محمد بن أحمد بن أبی سهل السرخسی الحنفی ت : 490ه ، تحقیق : ابی عبد اللّه محمد حسن محمد حسن اسماعیل الشافعی ، الناشر : دار الکتب العلمیة ، الطبعة الاولی 1421ه .

60 - کتاب المجروحین - ابن حبان ت354ه - تحقیق : محمود ابراهیم زاید - توزیع : دار الباز للنشر والتوزیع .

61 - کمال الدین وتمام النعمة - الشیخ الصدوق ت381ه تصحیح وتحقیق :

علی أکبر الغفاری - نشر : مؤسسة النشر الإسلامی - الطبعة الرابعة 1422ه .

62 - کنز العمال - المتقی الهندی ت : 975 - تحقیق : محمود عمر الدمیاطی - الناشر : دار الکتب العلمیة ، بیروت ، لبنان ، الطبعة الثانیة 1424ه ق .

63 - لسان العرب - ابن منظور ت711ه - تصحیح : أمین محمد عبد الوهاب ، محمد الصادق العبیدی - دار احیاء التراث العربی ، الطبعة الثالثة 1419ه .

64 - مجمع البیان فی تفسیر القرآن - ابو علی الطبرسی الناشر : ناصر خسرو ، قم ، الطبعة السادسة 1421ه .

65 - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد - نور الدین علی الهیثمی المصری ت : 807 - تحقیق : محمد عبد القادر أحمد عطا - الناشر : دار الکتب العلمیة ، الطبعة الاولی 1422ه ق .

ص:415

66 - المستدرک علی الصحیحین - ابو عبد اللّه محمد بن عبد اللّه النیسابوری المعروف بالحاکم ت405ه - تحقیق : محمود مطرجی - الناشر : دار الفکر بیروت - لبنان ، سنة الطبع 1422ه .

67 - مستدرک الوسائل ومستنبط المسائل - الحاج میرزا حسین النوری الطبرسی ت : 1320ه - تحقیق ونشر : مؤسسة ال البیت علیهم السلام لإحیاء التراث - قم - الطبعة الاولی 1408ه .

68 - مسند الامام أحمد بن حنبل ت241ه - المشرف علی التحقیق : شعیب الأنؤوط - مؤسسة الرسالة ، بیروت الطبعة الثانیة 1420ه .

69 - المصباح - تقی الدین ابراهیم بن علی الحسن بن محمد بن صالح العاملی الکفعمی - منشورات مؤسسة الأعلمی للمطبوعات - الطبعة الثالثة 1403ه .

70 - المعجم الأوسط - سلیمان بن أحمد بن أیوب اللخمی الطبرانی ت : 360 - تحقیق : محمد حسن الشافعی - الناشر : دار الفکر للطباعة والنشر والتوزیع ، الاردن - توزیع : دار الکتب العلمیة ، بیروت - لبنان ، الطبعة الاولی 1420ه ق .

71 - المقنعة - الشیخ المفید ت : 413ه ق - تحقیق ونشر : مؤسسة النشر الاسلامی - (ضمن مصنفات الشیخ المفید المجلد 14) الطبعة الاولی 1413ه ق .

72 - الملهوف علی قتلی الطفوف - علی بن موسی بن جعفر بن طاووس ت :

664ه - تحقیق : فارس الحسون الناشر : دار الأسوة ، الطبعة الثانیة 1417ه .

73 - مناقب آل أبی طالب - أبی جعفر محمد بن علی بن شهرآشوب السروی المازندرانی - تحقیق : یوسف البقاعی - الناشر : ذوی القربی - الطبعة الاولی 1421ه .

74 - من حیاة الخلیفة عمر بن الخطاب - عبد الرحمن أحمد البکری - تحقیق :

ص:416

مرتضی الرضوی - الناشر : الارشاد للطباعة والنشر ، بیروت - لبنان - سنة الطبع 1998م .

75 - موسوعة کلمات الامام الحسین علیه السلام ، تألیف : لجنة الحدیث فی معهد الامام الباقر - الناشر : دار المعروف ، الطبعة الثالثة 1416ه .

76 - میزان الحکمة - محمد الریشهری - تحقیق ونشر : دار الحدیث ، الطبعة الثانیة 1416ه .

77 - المیزان فی تفسیر القرآن - محمد حسین الطباطبائی ت : 1402ه ق ، الناشر : اسماعیلیان ، الطبعة الثانیة 1390ه .

78 - نهج البلاغة - الشریف الرضی - تحقیق : فارس تبریزیان - تعلیق وفهرسة :

صبحی صالح - نشر : مؤسسة دار الهجرة ، الطبعة الاولی 1419ه .

ص:417

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.