بحوث فی قراءة النص الدینی

اشارة

سرشناسه : سند، محمد، 1340-

عنوان و نام پدیدآور : بحوث فی قراءة النص الدینی/ محمد سند.

مشخصات نشر : قم: سعیدبن جبیر، 1384، = 2005م، = 1426ق.

مشخصات ظاهری : 284ص.

یادداشت : عربی.

موضوع : اسلام -- عقاید

موضوع : Islam -- Doctrines

رده بندی کنگره : BP225/3/ع6ش4 1393

رده بندی دیویی : 297/464

ص :1

اشارة

ص :2

ص :3

ص :4

ص :5

ص :6

کلمة الأستاذ

بسم الله الرحمن الرحیم

والحمد للّه الذی قال :( وَ أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَی الطَّرِیقَةِ لَأَسْقَیْناهُمْ ماءً غَدَقاً ) کما أمر بالأخذ بالمحکم وردّ المتشابه إلیه وأبی أن یجعل من المتشابه رائداً یُؤخذ به دون المحکم .

والصلاة والسلام علی مَن جعلت حجّیته منجّزة للنذارة وموجبة لاستحقاق البشارة الذی أُوتی جوامع الکلم وترک للعباد الکتاب والعترة الهداة المنعم علیهم المنعوتین بغیر المغضوب علیهم ولا الضالین .

و بعد فإنّ الحدیث عن منهج المعرفة وبالأخص المعرفة الدینیّة ترامت فیه جهود قوافل العلماء وتجاذبت فیه التحقیقات وتدافعت فیه الآراء کیف لا والحدیث عن منهج المعرفة عبارة عن منطقیة میزان دلیلیة الأدلّة فَبِهِ یُبان عن عیار الدلیل وتثمینه ومؤدّی مَداه ومداره ورتبته ودرجته .

وخطُورة البحث فیه تکمن فی معرفة المحکم من المتشابه سواء کان هذان النعتان مطلقین أو نسبیّین بلحاظ مراتب القوّة فی الأدلّة .

فإنّ الأخذ بالمحکم لا ینحصر بالصورة الأولی بل یعّم الثانی أیضاً وکم حصلت غفلات مهلکة فی الصورة الثانیة .

ص:7

فکلّما تظافر التنقیب والتدقیق فی هذا المجال کلّما ازدادت البصیرة واشتدّ نور المعرفة وهذا الکتاب یتکفّل معالجة بعض الإثارات فی الدلیل النقلی والعقلیّ وأطر الموازین الأدویّة فی معرفة الأدلّة ، فهی لمنهج المعرفة وقد اشتمل علی قسمین :

الأوّل : فی میزان الأدلّة فی البحوث الاعتقادیّة؛ وقد رقّمه العلّامة الجلیل السید عماد الحکیم .

والقسم الثانی : فی نبذ من الاُصول القانونیّة الهامّة فی التراث الحدیثی وقد رقّمه العلّامة الفطن الشیخ مصطفی الإسکندری .

محمّد السند

قم / 25 محرم 1426ه

ص:8

القسم الأوّل : میزان الأدلّة فی المعارف الاعتقادیّة

اشارة

تقریراً لما أفاده استاذنا المحقّق

آیة اللّه الشیخ محمّد السند

السیّد عماد الحکیم

ص:9

ص:10

وصلّی اللّه علی خیر خلقه ، وخاتم رسله ، البشیر النذیر ، والسراج المنیر والداعی إلی العلیّ ، الکامل الکبیر ، والذی أکمل الدین ببیعة الغدیر وعلی أهل بیته الطاهرین الهداة المیامین .

وبعد فهذه مستلّة ممّا حرّرته فی تقریرات بحث الإمامة لأُستاذنا الجلیل والعالم النبیل الحریص علی الدین والغیور علی شریعة سیّد المرسلین المحقّق آیة اللّه الشیخ محمّد السند - حفظه اللّه وسدّد خطاه - وتشتمل علی نقاط کمقدّمة وبحث فی میزان الأدلّة فی البحوث الاعتقادیّة

سائلاً المولی اللطیف الخبیر أن یجعلها فی سبیله وخالصة لوجهه ، وأن یعیننی علی تعلّمها وتعلیمها والعمل بها إنّه سمیع مجیب .

ص:11

ص:12

تمهید

اشارة

الغرض المهمّ من هذا الکتاب هو تعمیق فقه النصوص المسلّمة ، واستیعاب دقائقها وفوائدها ، والترکیز علی جعل منهج عقلیّ برهانیّ لفهم تلک النصوص ، بغیة الوصول إلی « الحدّ » الحقیقیّ للإمامة حسب ما اتیح للبشر من طاقة وقدرة واللّه المستعان .

وقبل الخوض فی لُبّ البحث لا بدّ من تقدیم نقاط :

النقطة الاُولی : تأثیر الجانب المادّی علی الباحث

إنّ معضلة البحث فی الإمامة لیست فی فقدان الأدلّة والبراهین أو نقصها ، بل فی ما وراء ذلک ، وبالتحدید فی النزعة المادّیة المغروزة فی الطبیعة البشریّة والتی تؤثّر فی سلوک البشر من جهة ، وفی فهمهم لحقائق الأشیاء من جهة اخری . والمنشأ لهذه النزعة هو نحو وجود البشر ، فإنّ وجود الإنسان یشتمل علی جنبتین :

1 - جنبة المادّة والبدن .

2 - جنبة الروح والمعنی وعالم الغیب .

ومِن ثَمّ تری صیَغ وأسالیب الإنکار للإمامة والتشکیک فیها ، هی بعینها صیغ الإنکار والتشکیک فی الرسالات والنبوّات کما یستعرضها القرآن الکریم .

والواقع أنّ کلا المنهجین ناشئان عن إباء النزعة المادّیة عن الإذعان بوجود

ص:13

الارتباط بالغیب والاتّصال بالسماء ، سواء کانت صورة الارتباط من قبیل وحی النبوّة أو الرسالة ، أم من مثل العصمة العلمیّة للإمام - من خلال العلم ( اللّدُنیّ ) الإلهامیّ - أو العصمة العملیّة - بالتسدید النوریّ الإلهیّ - .

ومرجع الإنکار فی الحالتین إلی إنکار مقام ( خلیفة اللّه ) فی الأرض ومقام حجّته تعالی بینه وبین خلقه ، والهادی والمعلّم لهم(1) . غایة الأمر أنّ الملل الإلحادیة تنکر - من رأس - أصل الارتباط ، والفِرَق الإسلامیّة المنکرة للعهد الإلهیّ المتمثّل بالإمامة ، تنکر بقاء الارتباط ، وإن اعترفت بأصل وجوده فی الأنبیاء علیهم السلام ولکنّه - بزعمها - انقطع بانقطاع النبوّة ، وأنّ السماء ترکت الأرض لأهل الأرض ، ولیت شعری ما الذی أوجب الاتّصال آنذاک وسوّغ الإنقطاع الآن ! ؟ هل استغنی البشر عن السماء أو تحقّق الهدف المنشود من الارتباط بها أو عجزت السماء عن هدایة أهل الأرض(2) أو ماذا ؟

والحاصل أنّ کلتا المدرستین تُنکرانِ الاتّصال الفعلیّ بالسماء بنفس الأسالیب ونفس الحجج . فهَلُمّ معی نستعرض ما یرسمه القرآن ویصوّره من مدارس مادّیة تقصر الموجود علی المادّة ولا تفسّره إلّاعلی أساس الهوی والغرائز ، ولذلک ( تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ) (3) وإن اختلفت تعابیرهم وصیاغات ألفاظهم .

فمن هذه المدارس ما حکاه قوله تعالی : ( هَلْ هذا إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُکُمْ أَ فَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ) (4) فإنّهم من شدّة انغماسهم فی الجانب البدنی ( المادّی )

ص:14


1- (1) ( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِکُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) الرعد 13 : 7 .
2- (2) ( وَ قالَتِ الْیَهُودُ یَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَیْدِیهِمْ وَ لُعِنُوا بِما قالُوا ) المائدة 5 : 64 .
3- (3) البقرة 2 : 118 .
4- (4) الأنبیاء 21 : 3 .

للإنسان حصروا کلّ الظواهر والقابلیات والقوی الإنسانیّة فیها ! وغایة ما یحتملونه فی القوی الخارقة للعادة لدی مدّعی الارتباط بالغیب أن یکون من السحر ویجحدون ما وراءه .

وقال تعالی عن لسان اخری : ( بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ ) (1) حیث قایسوا المرتبط بالوحی بأنفسهم ، لأنّهم وجدوا عدم تلقّیهم المعانی الجدیدة والکاشفة عن الغیب والمستقبل إلّامن خلال الأحلام والتی قد تطابق الواقع وقد تخالفه وبالتالی جحدوا ارتباطه بالغیب .

وقال عزّ من قائل عن لسان ثالثة : ( بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ ) (2) ( وَ إِنّا لَفِی شَکٍّ مِمّا تَدْعُونَنا إِلَیْهِ مُرِیبٍ * قالَتْ رُسُلُهُمْ أَ فِی اللّهِ شَکٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) (3)وهذه المدرسة تعتمد التشکیک والتردید فی ما یقوله المرتبط بالسماء وفی ما جاء به من آیات من خلال الطعن فی صدقه وأمانته ، وفی سلامة عقله ، وأنّ قواه الدانیة ( الهوی والغرائز وقوّة الخیال أو الوهم ) هی المسیطرة علیه .

وبعبارة جامعة ؛ أنکروا عصمته العملیّة ، وأسندوا أفعاله وأقواله إلی القوی الدانیة ، وهؤلاء أیضاً وقعوا فی قیاس المرتبط بالوحی بأنفسهم حیث لا یجدون عندهم منبعاً للمعانی الجدیدة سوی تسریح قوّتی الخیال والوهم فی معانی خزانة الذاکرة ، فیما کانت إجابة الرسل علیهم السلام لهم أن هذا التشکیک یؤول إلی التشکیک فی قدرة اللّه علی إیجاد هذا الارتباط بین العوالم العلویة والسفلیة ، مع أنّه تعالی هو الذی خلقها جمیعاً ، فهو الذی فطر السماوات والأرض ،

ص:15


1- (1) الأنبیاء 21 : 5 .
2- (2) الأنبیاء 21 : 5 .
3- (3) . إبراهیم 14 : 9 و 10 .

وهذا الوصف یشیر إلی الاستدلال علی الجواب .

وقال تعالی عن رابعة : ( قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِیدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمّا کانَ یَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِینٍ ) (1) وهؤلاء أیضاً شبّهوا الأنبیاء بأنفسهم ، فکما أنّ منشأ تعصّبهم للسلف وجماعات الصدر الأوّل هو سیطرة قواهم الشهویّة والغضبیّة ، فکذلک إصرار الأنبیاء علیهم السلام علی دعوتهم هی - بزعمهم - بداعی تلک القوی ، ولم یذعنوا بما جاءهم به الأنبیاء من حجج وبراهین ومعاجز ، بل طالبوا بخوارق اخری أکثر بیاناً وأوضح إعجازاً ، لکنّ القرآن الکریم أوضَحَ أنّ المعضلة فی إنکار هؤلاء لا تعود إلی نقص تلک البراهین أو قصورها ، بل إلی المرض المعین فی نفوس تلک الجماعة المتمرّدة .

ویشیر تعالی إلی خامسة فی الآیة ( أَ کانَ لِلنّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَیْنا إِلی رَجُلٍ مِنْهُمْ ) (2) إذ أنّ منشأ إنکار هؤلاء هو أیضاً توهّم التساوی بین البشر فی القوی الوجودیّة والروحیّة ، ولمّا لم یکن فی وسعهم الارتباط بما وراء الطبیعة ، فلیس ذلک فی وسع رجل غیرهم .

وأجابهم سبحانه بأنّ هذا التوهّم باطل ، وأنّه أعلم حیث یجعل رسالته(3) وأنّه یؤیّد مَن یرید بروح القدس(4) وأنّه یخلق ما یشاء ویختار ، لیس لأحدٍ من خلقه أن یختار ویفرض علی اللّه مَن یختار(5) بل ذلک شرک ، یتعالی اللّه ویتنزّه عنه .

ص:16


1- (1) إبراهیم 14 : 10 .
2- (2) یونس 10 : 2 ، ومثلها :( أَ وَ عَجِبْتُمْ أَنْ جاءَکُمْ ذِکْرٌ مِنْ رَبِّکُمْ عَلی رَجُلٍ مِنْکُمْ ) الأعراف7 : 63 ، 69 .
3- (3) ( اللّهُ أَعْلَمُ حَیْثُ یَجْعَلُ رِسالَتَهُ ) الأنعام 7 : 124 .
4- (4) ( وَ أَیَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ) البقرة 2 : 87 و 253 .
5- (5) وَ رَبُّکَ یَخْلُقُ ما یَشاءُ وَ یَخْتارُ ما کانَ لَهُمُ الْخِیَرَةُ سُبْحانَ اللّهِ وَ تَعالی عَمّا یُشْرِکُونَ ) القصص 28 : 68 .

ویتّضح من خلال هذه الآیات وجود التفاوت فی بنی البشر ، وأنّ بعضهم یتأهّل للعهد الإلهیّ وبعضهم لا یتأهّل ، وأنّ العارف بهذا التفاوت هو اللّه عزّ وجلّ أو من یعلِّمُه اللّه لا غیر ، لأنّه الخالق للبشر ، والخالق أعرف بما خلق ( أَ لا یَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اللَّطِیفُ الْخَبِیرُ ) (1) .

کما أنّ دعوی هؤلاء استحقاقهم وقابلیّتهم لتعیین السفیر الإلهیّ ، هی شرک باللّه تعالی(2) باعتبار أنفسهم نِدّاً له فی الإحاطة والعلم والمشیئة ، مع أنّه ( لَیْسَ کَمِثْلِهِ شَیْ ءٌ ) (3) فی أیّ وصفٍ من صفاته ، ولذلک کان نصب الواسطة بینه تعالی وبین خلقه من خواصّ أفعاله التی لا یشارکه فیها أحد ، فإذا نصبوا شخصاً من عند أنفسهم کان شِرکاً به وتعدّیاً علی حقّه عزّ وجلّ . وسیأتی مزید توضیح لهذه الحقیقة فی مقدّمة لاحقة إن شاء اللّه تعالی .

ونظیر هذا المنطق ما قصّه تعالی فی الآیة ( وَ قالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَیْهِ مَلَکٌ ) (4)حیث طالبوا بإنزال ملک واسطة بینهم وبین السماء ، واستبعدوا تأهّل الرسول لذلک ، قیاساً له علی أنفسهم وحصراً للقابلیة والأهلیة بالملائکة .

فأجابهم تعالی : (وَ لَوْ جَعَلْناهُ مَلَکاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَ لَلَبَسْنا عَلَیْهِمْ ما یَلْبِسُونَ ) (5)بمعنی أنّ صاحب الحقیقة المَلَکیة وإن کان قابلاً للاتّصال بالغیب وللوساطة بین اللّه تعالی وخلقه ، ولکنّه لابدّ أن یکون فی الصورة من جنسهم کی یتمّ الارتباط

ص:17


1- (1) الملک 67 : 14 .
2- (2) بناء علی ما حقّق فی محلّه - من علم الکلام والتفسیر - أنّ للشرک مراتب من أشدّها ما یخرج عن الإسلام کشرک الوثنیّة ، ومنها ما لا یخرج عن الإسلام کالریاء .
3- (3) الشوری 42 : 11 .
4- (4) الأنعام 6 : 8 .
5- (5) الأنعام 6 : 9 .

بینهم وبینه ، وذلک عندما لا یکون فی نوع البشر أیّ شخص صالح لهذه الوساطة .

وهذا الجواب یتضمّن حقیقتین مهمّتین :

1 - إنّ البشر العادیّین لیس من شأنهم ولا من قابلیّتهم الاتّصال بالملک فی صورته الملکیّة ، بل لابدّ أن یُرسل إلیهم فی صورتهم .

2 - إنّ هناک تفاوتاً فی طبقات البشر ، وإنّ من یختاره اللّه تعالی للسفارة والوساطة الإلهیّة لابدّ أن یتحلّی بصفات ذاتیّة ، تجعل من روحه حقیقة مَلکیة غیبیّة لکی یصلح للتلقّی من السماء فی عین قابلیته البشریّة لکی یمکن ارتباطه بسائر الناس والتوسّط بینهم وبین ربّهم .

ونظیر ذلک ما بیّنه سبحانه فی قوله : ( لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَیْنَا الْمَلائِکَةُ أَوْ نَری رَبَّنا ) فأجابهم أوّلاً ( وَ لَوْ أَنْزَلْنا مَلَکاً لَقُضِیَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا یُنْظَرُونَ ) وثانیاً ( لَقَدِ اسْتَکْبَرُوا فِی أَنْفُسِهِمْ وَ عَتَوْا عُتُوًّا کَبِیراً ) (1) .

وقوله : ( بَلْ یُرِیدُ کُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ یُؤْتی صُحُفاً مُنَشَّرَةً ) (2) .

وقوله : ( وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلی رَجُلٍ مِنَ الْقَرْیَتَیْنِ عَظِیمٍ ) (3) .

وقوله : ( أَ أُنْزِلَ عَلَیْهِ الذِّکْرُ مِنْ بَیْنِنا بَلْ هُمْ فِی شَکٍّ مِنْ ذِکْرِی بَلْ لَمّا یَذُوقُوا عَذابِ ) (4) .

وقوله : ( کَلاّ بَلْ لا یَخافُونَ الْآخِرَةَ ) (5) ، وغیر ذلک من الآیات التی تذکر عدم

ص:18


1- (1) الفرقان 25 : 21 .
2- (2) المدّثّر 74 : 52 .
3- (3) الزخرف 43 : 31 .
4- (4) سورة ص 38 : 8 .
5- (5) المدّثّر 74 : 53 .

قابلیتهم للسفارة وإنّ إنکارهم علی السفیر المختار والشکّ ناشئ عن وضعهم لأنفسهم فی غیر مواضعها وهو الإستکبار والعتوّ والشکّ وعدم الخوف من الآخرة ونحو ذلک .

وقال تعالی ردّاً علی طائفة سادسة : ( وَ ما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّیاطِینُ * وَ ما یَنْبَغِی لَهُمْ وَ ما یَسْتَطِیعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ) (1) .

( وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شَیْطانٍ رَجِیمٍ ) (2) .

( وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِیلاً ما تُؤْمِنُونَ * وَ لا بِقَوْلِ کاهِنٍ قَلِیلاً ما تَذَکَّرُونَ ) (3) .

( فَذَکِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّکَ بِکاهِنٍ وَ لا مَجْنُونٍ ) (4) .

فدعوی هذه الطائفة تترکّز علی حصر التلقّی النفسانیّ والروحیّ بالإرتباط بالجنّ والشیاطین ، کما هو شأن الکاهن والساحر وبعض حالات الشعر ، حیث یکون الإخبار عن بعض المغیّبات عبر ایحاء الجنّ أو الشیاطین .

هذا مع الغفلة أو التغافل عن بعض الحالات الاُخری الحاصلة من ترقّی النفس البشریّة وتقبّلها لتلقّی الأنوار الإلهیّة والتی تختلف تماماً عن الاُولی من جهة شخصیّة المرتبط وأخلاقه والتزامه ، ومن جهة قدرة من أرسله وسعة رحمته وعظم لطفه وجلیل کرمه وإحاطة علمه وقیّومیّته سبحانه وتعالی ، ومن جهة ما جاء به الرسول وأوصیاؤه صدقاً ومتانة ومطابقة للعقل والحکمة والفطرة ، ومن جهة الحجج والبراهین القاطعة علی صحّة مدّعاه ، ولذا أجابهم سبحانه

ص:19


1- (1) الشعراء 26 : 210 - 212 .
2- (2) التکویر 81 : 25 .
3- (3) الحاقّة 69 : 41 و 42 .
4- (4) الطور 52 : 29 .

بقَسم مغلّظ فی سورة التکویر ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ کَرِیمٍ * ذِی قُوَّةٍ عِنْدَ ذِی الْعَرْشِ مَکِینٍ * مُطاعٍ ثَمَّ أَمِینٍ * وَ ما صاحِبُکُمْ بِمَجْنُونٍ * وَ لَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِینِ * وَ ما هُوَ عَلَی الْغَیْبِ بِضَنِینٍ * وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شَیْطانٍ رَجِیمٍ * فَأَیْنَ تَذْهَبُونَ * إِنْ هُوَ إِلاّ ذِکْرٌ لِلْعالَمِینَ * لِمَنْ شاءَ مِنْکُمْ أَنْ یَسْتَقِیمَ ) (1) .

فمثل هذه الشخصیّة یستحیل علیها الکذب أو سیطرة الجنّ أو الشیاطین أو خطأ الحواسّ أو اختلالها أو البخل عن إبداء الحقائق النازلة إلیه والتی یراد لها التنزّل إلی مَن دونه ، فیتعیّن أن یکون حقّاً وصدقاً وهدایة للعالمین ، ولذا فلا یوجد خلل فی الرسول .

کما لا یوجد خلل فی المرسِل سبحانه لأنّه ( عَلی کُلِّ شَیْ ءٍ قَدِیرٌ ) (2) .

( وَ ما کانَ اللّهُ لِیُعْجِزَهُ مِنْ شَیْ ءٍ فِی السَّماواتِ وَ لا فِی الْأَرْضِ إِنَّهُ کانَ عَلِیماً قَدِیراً ) (3) .

إِنَّ فِی خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّیْلِ وَ النَّهارِ لَآیاتٍ لِأُولِی الْأَلْبابِ (4) .

الَّذِی أَحْسَنَ کُلَّ شَیْ ءٍ خَلَقَهُ (5) .

هُوَ الَّذِی جَعَلَ الشَّمْسَ ضِیاءً وَ الْقَمَرَ نُوراً وَ قَدَّرَهُ مَنازِلَ (6) .

ص:20


1- (1) التکویر 81 : 19 - 28 .
2- (2) البقرة 2 : 20 ، 106 ، 109 . آل عمران 3 : 29 . الشوری 42 : 50 . الأحقاف 46 : 33 .
3- (3) فاطر 35 : 44 .
4- (4) آل عمران 3 : 190 .
5- (5) السجدة 32 : 7 .
6- (6) یونس 10 : 5 .

وَ لَمْ یَکُنْ لَهُ شَرِیکٌ فِی الْمُلْکِ وَ خَلَقَ کُلَّ شَیْ ءٍ (1) .

وَ رَبُّکَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ یُؤاخِذُهُمْ بِما کَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ (2) .

وَ لَوْ یُؤاخِذُ اللّهُ النّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَکَ عَلَیْها مِنْ دَابَّةٍ (3) .

وَ ما أَرْسَلْناکَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِینَ (4) .

کَذلِکَ یُوحِی إِلَیْکَ وَ إِلَی الَّذِینَ مِنْ قَبْلِکَ اللّهُ الْعَزِیزُ الْحَکِیمُ (5) .

تِلْکَ آیاتُ الْکِتابِ الْحَکِیمِ * هُدیً وَ رَحْمَةً لِلْمُحْسِنِینَ (6) .

یُدَبِّرُ الْأَمْرَ یُفَصِّلُ الْآیاتِ لَعَلَّکُمْ بِلِقاءِ رَبِّکُمْ تُوقِنُونَ (7) .

وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَیْبِ لا یَعْلَمُها إِلاّ هُوَ وَ یَعْلَمُ ما فِی الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاّ یَعْلَمُها وَ لا حَبَّةٍ فِی ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَ لا رَطْبٍ وَ لا یابِسٍ إِلاّ فِی کِتابٍ مُبِینٍ (8) .

( وَ هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَ یُرْسِلُ عَلَیْکُمْ حَفَظَةً ) (9) .

( اللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْحَیُّ الْقَیُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لا نَوْمٌ لَهُ ما فِی السَّماواتِ وَ ما فِی الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِی یَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ یَعْلَمُ ما بَیْنَ أَیْدِیهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا یُحِیطُونَ

ص:21


1- (1) الفرقان 25 : 2 .
2- (2) الکهف 18 : 58 .
3- (3) النحل 16 : 61 .
4- (4) الأنبیاء : 21 : 107 .
5- (5) الشوری : 42 : 3 .
6- (6) لقمان 31 : 2 و 3 .
7- (7) الرعد 13 : 2 .
8- (8) الأنعام 6 : 59 .
9- (9) الأنعام 6 : 61 .

بِشَیْ ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاّ بِما شاءَ وَسِعَ کُرْسِیُّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ لا یَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَ هُوَ الْعَلِیُّ الْعَظِیمُ ) (1) .

کما لیس هناک خلل ولا نقص فی الرسالة ، لا فی القرآن ولا فی السنّة ولا فی العترة المفسِّرة لهما ( إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ یَهْدِی لِلَّتِی هِیَ أَقْوَمُ ) (2) .

( قُرْآناً عَرَبِیًّا غَیْرَ ذِی عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ یَتَّقُونَ ) (3) .

( وَ لَوْ کانَ مِنْ عِنْدِ غَیْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِیهِ اخْتِلافاً کَثِیراً ) (4) .

( لَقَدْ کانَ لَکُمْ فِی رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) (5) .

( قُلْ أَطِیعُوا اللّهَ وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَیْهِ ما حُمِّلَ وَ عَلَیْکُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَ إِنْ تُطِیعُوهُ تَهْتَدُوا ) (6) .

( إِنَّما یُرِیدُ اللّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَ یُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیراً ) (7) .

( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّکْرِ إِنْ کُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (8) .

( أَطِیعُوا اللّهَ وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِی الْأَمْرِ مِنْکُمْ ) (9) .

ص:22


1- (1) البقرة 2 : 255 .
2- (2) الإسراء 17 : 9 .
3- (3) الزمر 39 : 28 .
4- (4) النساء 4 : 82 .
5- (5) الأحزاب 33 : 21 .
6- (6) النور 24 : 54 .
7- (7) الأحزاب 33 : 33 .
8- (8) النحل 16 : 43 .
9- (9) النساء 4 : 59 .

( فَأَقِمْ وَجْهَکَ لِلدِّینِ حَنِیفاً فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِی فَطَرَ النّاسَ عَلَیْها ) (1) .

وقال الرسول صلی الله علیه و آله و سلم :

« إنی تارک فیکم الثقلین : کتاب الله و أهل بیتی،و إنهما لن یفترقا حتی یردا علی الحوض » (2) .

هذا ولیس هناک خلل فی البراهین علی أصل الرسالة ولا علی خلودها واستمرارها وتمامیتها ، فهناک المعجزة الکبری - المشتملة علی معاجز عدیدة سابقة ولاحقة - وهی القرآن الکریم . وهناک معاجز اخری عظیمة - تستقصی فی مظانّها - وهناک الأدلّة العقلیّة الساطعة والنصوص النقلیّة القاطعة ، وقبل کلّ ذلک شهادة الفطرة وبداهة الفکرة ، فهل إلی إنکارِ المنکرین من سبیل ؟ ! ( بَلْ یُرِیدُ کُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ یُؤْتی صُحُفاً مُنَشَّرَةً ) (3) .

والحاصل أنّ ما استعرضه القرآن الکریم من مدارس بشریة لإنکار أصل الارتباط بالسماء هی بعینها صیاغات ومدارس الفرق المنکرة لاستمرار الارتباط بالسماء وبقاء الخلافة الإلهیّة .

نعم هناک صیاغتان أو دعویان لتبریر انقطاع الارتباط بالسماء بقاءً مع الاعتراف بالحاجة إلیه وجوداً ، وهما وإن کانتا راجعتین إلی بعض ما سبق - لُبّاً - إلّاأنّ ظاهرهما خلاف ذلک ، فاقتضی التنبیه علی بطلانهما وعدم مغایرتهما . وهما :

1 - إنّ بقاء الارتباط بالسماء موجب لجمود البشریّة عن الحرکة والتطوّر وخمول التجربة عن الازدهار نزوعاً إلی التواکل واعتماداً علی السماء .

ص:23


1- (1) الروم 30 : 30 .
2- (2) المستدرک علی الصحیحین للحاکم : 3 : 148 ، وصحّحَه علی شرط الشیخین ، وذکره الذهبی أیضاً وصحّحه علی شرطهما .
3- (3) المدّثّر 74 : 52 .

2 - إنّ القول باستمرار هذا الاتّصال بالسماء هو نوع من الإفراط فی النزعة الباطنیة وتضییع للطاقات المادّیة والفکریة .

ومقتضی الاعتدال أن نعترف بانقطاعه بعد الرسول محمّد صلی الله علیه و آله و سلم فإنّه المنطقة الوسطی بین إفراط الباطنیّة وتفریط المادّیة .

ونظیر هذه الدعوی ما یتبنّاه بعض العِلمانیین أو المتغرِّبین - من أدعیاء الثقافة فی بلاد الشرق - أنّ مفاد ختم النبوّة وسرّ نهایة الوحی الإلهیّ هو تطوّر البشریّة ورُقیّ الفکر الإنسانی إلی مرحلة ( الإکتفاء الذاتی ) والاستغناء عن هدایة السماء من خلال العقل والمنطق والتجارب المدروسة والحقائق العلمیّة . وبالتالی فلا حاجة إلی وجود نبیّ آخر أو رابطٍ یرفد الناس بالعلم والمعرفة ، ولیس لأنّ هذه الشریعة خالدة ما دام الإنسان ، ذلک لأنّها ترکت الکثیر من مساحات الفراغ ولم تُجِب علی أبسط المسائل العلمیّة التجریبیّة .

هذا ما ذکرته هاتان المقولتان ، وهما بجمیع أشکالهما تتّفقان علی الاستغناء عن هدایة السماء ، غیر أنّ الأخیرة تملک التصوّر علی صعید التنظیر والتطبیق ، والأولی علی صعید التطبیق فحسب ، وإن کانت هی الاُخری تستدعی التنظیر أیضاً .

وهما واِن استخدمتا بریق المعانی المبهمة والألفاظ الرنّانة ، إلّاأنّهما واضحتا الوهن بیّنتا الخلل . فإنّ ابتعاد أکثر الناس عن السماء خلال قرون عدیدة لم یثمر سوی ضیاع الحقائق الدینیّة وتسافل القیم الخُلقیة وانتشار الأوبئة الروحیّة وتضارب المصالح المادّیة إلی أبعد الحدود ، حتّی صار الإنسان - المادّی - وحشاً ضاریاً لا یتورّع حتّی عن افتراس أخیه الإنسان - وهی حالة نادرة فی الوحوش الکاسرة - بل القتل الجماعیّ للبشر لمجرّد شهوة أو نزوة أو حسد أو غضب ،

ص:24

فضلاً عن اغتصاب حقوقهم ومصادرة حرّیاتهم وانتهاک حرماتهم .

وصدق اللّه العلیّ العظیم حیث یقول : ( إِنْ هُمْ إِلاّ کَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِیلاً ) (1) .

ذلک لأنّ الحیوان المفترس لا یقتل حیواناً آخر إلّالجوع أو خوف أو نحوهما من حاجاته الأساسیّة ، ولا یتلذّذ بسفک الدماء ولا یستعبد الحیوانات الاُخری وإنّما یأکل القویّ الضعیف عند الحاجة . أمّا الإنسان - المادّی - فإنّه تمادی وتدنّی إلی أسفل من قانون الغاب ! فأین التطوّر والازدهار والتقدّم الفکری والاکتفاء الذاتی ؟ ! وأین النظرة الواقعیّة والحکمة والاعتدال ؟

فهل من الحکمة والاعتدال أن یتلذّذ فرد وتشقی امّة فی سبیل لذّته ، وهل من النظرة الواقعیّة إغفال الروح وتناسی قوانین العقل والفطرة(2) وإشباع الغرائز والشهوات وقصر النظر علیها ؟

کلّا بل حَلیت الدنیا فی أعینهم وراقهم زِبرجُها فأنستهم ذکر اللّه العظیم .

والخلاصة : أنّ المدارس الإلحادیّة بشتّی صورها ، کانت دعامتها الأساسیة لإنکار الرابطة بین السماء والأرض هی دعواهم - علی طول الخطّ - انقطاع العالم المادّی - السفلی - عن عالم الغیب وما وراء المادّة - العلویّ - وکان منشأ ذلک الإنکار غلبة النزعة المادّیة المتأصّلة فی کیانهم ، والتی أدّت - تدریجاً - إلی إهمال الجانب الروحی وتناسیه أو إخضاعه إلی مقاییس المادّة وضوابطها .

( ظاهرة تأریخیة ) والباحث لا یجد ذلک مقصوراً فی مجال الاعتقاد

ص:25


1- (1) الفرقان 25 : 44 .
2- (2) کالحکمة والعدالة والتحسین والتقبیح والصفات الإنسانیّة النبیلة .

والمذهب ، بل یری لمسات ذلک جلیّة حتّی فی کتابة التأریخ منذ العهود القدیمة وإلی العصور الحدیثة . فالملاحظ اهتمام المؤرّخین برصد حیاة الملوک والحکّام وأصحاب الفنون والعلوم ونحو ذلک ممّا یخصّ الحیاة المادیّة ، بعیداً عن ذکر السماء وعلاقة الناس بها ، بینما اتّبع القَصَص القرآنی - والسماویّ بشکل عامّ - أسلوب الترکیز علی هدایة السماء وحاجة الناس إلیها وضرورة الارتباط بها وسلّط الضوء بالدرجة الأولی علی تأریخ الأنبیاء وسیرتهم وتکفّلهم بالسفارة الإلهیّة ، وأبرزهم وأوصیاءهم کنجوم بشریّة تنذر وتبشّر وتهدی إلی سواءالسبیل .

والمأمول بعد کلّ ذلک أن یلتفت الإنسان إلی هذه الحقیقة ویؤوب إلی جادّة الاعتدال ، لأنّ وجوده لا یختصّ بالمادة والجسد ، بل هو مرکّب من الروح والبدن ، والروح موجود مجرّد عن المادّة فی الذات والإدراک والعدید من الأفعال(1) ومقتضی الاعتدال الإقرار بتمام وجود الإنسان لا بعضه ، وأداء حقّ الروح وحقّ البدن معاً .

أمّا النزعة البشریّة إلی المادّة ، فالمأمول أن تؤوب إلی جادّة الصواب إذا قام الإنسان بواجبه فی التدبّر والبحث عن الحقیقة ، فإنّ الدلائل علی عالم الغیب واضحة ، والحجج کثیرة وقاطعة ، وأسفر الصبح لذی عینین (سَنُرِیهِمْ آیاتِنا فِی الْآفاقِ وَ فِی أَنْفُسِهِمْ ) (2) .

نعم ، إنّ من تأمّل فی خلق نفسه وحقیقة الروح التی تعیش فی بدنه وصفاتها وأفعالها ، وحقیقة الفطرة التی جُبل علیها ومن أین جاءت وکیف بدأت ، یعلم ویجزم بوجود عالم آخر غیر عالم المادّة ، فکیف إذا تعمّق فی أکثر من ذلک

ص:26


1- (1) کما قرّر فی الفلسفة واُقیم علیه البرهان .
2- (2) فصّلت 41 : 53 .

من مخلوقات معروفة أو مخلوقات مجهولة بعیدة المنال ؟

وسوفَ یزداد یقیناً کلّما ازداد وعیاً وخبرة ، وینبغی الاعتبار فی ماحلّ بساحة الغرب من طغیان وانحراف وضیاع نتیجة التشبّث بالمادّة والبعد عن تعالیم السماء .

النقطة الثانیة : القدسیّة رهینة الحقیقة

اشارة

التقدیس حالة من حالات التعظیم والتنزیه والاحترام الفائق والخضوع التام لحقیقة من الحقائق . ویقال : قدّس فلان فلاناً ، إذا احترمه وقدّره ونزّهه وخضع له ، وبتحلیل أدقّ : هی عبارة عن خضوع القوی العملیّة لدی النفس الناطقة للقوی الإدراکیّة .

وتوضیح ذلک : أنّ لدی النفس الناطقة مجموعة من القوی ، من أهمّها : العقلیّة والشهویّة والغضبیّة والوهمیّة .

والقوّة العقلیّة إمّا عقل نظریّ یستفاد منه فی ما ینبغی أن یدرک ویعرف ویعلم ، أو عقل عملیّ یستفاد منه فی ما ینبغی أن یفعل أو لا یفعل .

ووظیفة العقل النظریّ - حسب التعریف - مجرّد الإدراک والعلم ، ووظیفة العملیّ وبقیة القوی الاُخری هی القبول والتسلیم بمدرکات العقل النظریّ وتفعیلها والعمل علی أساسها ، وبالتالی الخضوع لها .

فإذا أدرکت النفس حقیقةً مّا وأذعنت بها بواسطة العقل النظریّ ، فطبیعة النفس بل الفطرة قاضیة بخضوع العقل العملیّ والقوی العملیّة الاُخری لما أدرکته قوّة العقل النظریّ .

والمنشأ فی ذلک أنّ بقیة القوی لها بصیرة وقدرة علی الإدراک ، وتعرف أن قوّة

ص:27

العقل النظریّ هی الأکفأ والأقدر علی تمییز المدرکات والتعرّف علیها ، فلابدّ أن تشقّ طریقها للهدایة بتوسّط قوّة العقل النظریّ ، والتسلیم والخضوع له وعدم التمرّد علیه ، وإلّا لکانت فی غوایة وضلال .

وحقیقة التقدیس هی خضوع القوی العملیّة للقوی الإدراکیّة ، فهی فعل من أفعال النفس ، والاحترام والتعظیم والتوقیر لحقیقةٍ مّا ادرکت بتوسّط العقل النظریّ ظاهرة صحیحة لازمة بمقتضی طبیعة وفطرة النفس الناطقة ، وخلاف ذلک إخلال مخالف للفطرة المودعة فی الإنسان .

نعم ، لا ینبغی الخلط بین التقدیس الصحیح المبتنی علی ما ذکرناه ، وبین التقدیس الذی لا أساس له ولا دلیل علیه .

وحینئذ ، فما یقال من أنّ ( القدسیّة المضفاة علی بعض العقائد والحقائق الثابتة نوع من الجمود العقلیّ وعقبة أمام قافلة التحقیق ) لیس بتامّ ، وظاهر الضعف ، إذ الإنسان حینما یصل إلی حقیقة ما عبر مقدّمات صحیحة منتِجة ، لابدّ أن تأخذ هذه الحقیقة قسطاً من التقدیس والتنزیه والاحترام لدیه .

الشکّ بوّابة المعارف

إن قلت : أو لیس الشکّ یتولّد منه الأسئلة المختلفة ویوصل الإنسان إلی معرفة حقائق جدیدة ویدفع عجلة التطوّر إلی الأمام ؟ فإذا اصطدم بالقدسیّة فَقَدَ الإنسان کلّ ذلک !

قلت : إنّ التشکیک منه ما هو مذموم قبیح ومُضرّ ، ومنه ما هو ممدوح حسن ونافع . وهذا التقسیم قد ذکر فی علم المنطق فی باب صناعة الجدل ، وأنّ المجادل یجب أن لا یعرِّض الحقائق الثابتة ، للتشکیک والتردید بخلاف الأمور النظریّة غیر المبرهنة .

ص:28

والقرآن الکریم یصرّح مراراً وتکراراً بذمّ ذلک التشکیک ، کما فی قوله تعالی :

( کَذلِکَ یُضِلُّ اللّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ ) (1) .

وقوله : ( وَ ارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِی رَیْبِهِمْ یَتَرَدَّدُونَ ) (2) .

وقوله سبحانه : ( وَ لکِنَّکُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَکُمْ وَ تَرَبَّصْتُمْ وَ ارْتَبْتُمْ وَ غَرَّتْکُمُ الْأَمانِیُّ ) (3).

وغیرها من الآیات الذامّة للتشکیک والإرتیاب فی الحقائق . کما ذمّت الآیات العدیدة الاُخری التقلید الأعمی للآباء والتقدیس للسّلف من دون دلیل .

الشکّ الضارّ المذموم

فالقبیح من الشکّ ما کان یعرض علی الحقائق الثابتة التی أنتجتها المقدّمات الصحیحة والتی ابتنت علی سلامة الاستدلال . فإذا وصل الإنسان إلی حقیقةٍ مّا بتوسّط مقدّمات صحیحة وأدلّة منتجة ، ثمّ بدأ یشکّک فی ما وصل إلیه ، واعترته حالة من التذبذب والتردّد ، فهذا یعنی أنّ الإدراکات العقلیّة غیر قادرة علی تولید الإذعان فی نفسه ، وعدم رضوخ القوی العمّالة لدیه إلی القوی الإدراکیّة .

وهی حالة مرضیّة تعتری النفس البشریّة ، إذ هو من سیطرة قوّة المخیلة أو الوهم أو القوی السفلیّة الاُخری علی القوی العاقلة .

فإذا بقیت النفس ملتفتة دائماً إلی حالة الشکّ والتردید ، تکون حینئذ غیر سلیمة ، لأنّ الصحّة والسلامة فی التناسق والإنسجام بین قوی النفس ، ووضع کلّ شیء فی موضعه . والإدراک لما هو واقعیّ ؛ یجب أن یولّد الإذعان ، والإذعان

ص:29


1- (1) غافر 40 : 34 .
2- (2) التوبة 9 : 45 .
3- (3) الحدید 57 : 14 .

یجب أن یولّد القدسیّة والاحترام من جانب قوّة العقل العملیّ وما دونها من القوی العمّالة ، بمعنی خضوعها وانقیادها ومتابعتها لمدرکات العقل النظریّ .

الشکّ قنطرة الحقیقة

فالشکّ ما هو إلّاقنطرة ووسیلة ومقدّمة لتمحیص الحقائق والمعتقدات ، فإمّا أن یصل الإنسان بعد البحث والتحقیق إلی حالة الإذعان بالنفی أو الإذعان بالثبوت ، وأمّا بقاؤه مرابطاً فی منطقة الشکّ مع کفایة ما یصلح للاستدلال علی الحقیقة ، فإنّها حالة مرضیّة غیر طبیعیّة ، فإنّ حالة الشکّ عبارة عن تذبذب واضطراب وتحیّر فی النفس من جانب القوی العملیّة فی انصیاعها للقوی الإدراکیّة ومن ثمّ أرشدت الشریعة ونهت عن البقاء فی حالة الشکّ وعن جعل الیقین شکّاً کقوله علیه السلام :

« لا تجعلوا یقینکم شکا،و لا جزمکم تردیدا » (1) .

وکذا قوله علیه السلام :

« لا تنقض الیقین بالشک » (2) .

وغیرها أمثالها من تعابیر الروایات وفی العلوم الموروثة ، کالفلسفة والحکمة والکلام والأخلاق وغیرها ، والعلوم الحدیثة کالسیکولوجیا والإجتماع ، فإنّها تؤکد علی أنّ البقاء فی حالة الشکّ والتردّد سواء فی جانب الإدراکات العقلیّة أو غیرها هو حالة مرضیّة وسقم یصیب النفوس ، ولذا ورد عن الصادق علیه السلام :

«من شک

ص:30


1- (1) راجع الأحادیث الأربعمائة فی الخصال .
2- (2) أقول : ینبغی أن یعلم أنّ الیقین فی کلمات الشارع لا یراد منه حالة الجزم وسرعة القناعة ، وإن نشأ عمّا لا یصلح للدلیلیّة والحجّیّة ، بل هی النتیجة المستفادة من مقدّمات تامّة سلیمة . کما أنّ المقصود من العبارة المذکورة لیس خصوص الاستصحاب ، بل النهی عن التعویل علی الشکّ مع وجود الحجّة ، والاستصحاب قاعدة متفرّعة عن قاعدة فوقیّة أوسع منها ، وقد حقّق شیخنا الاُستاذ هذا المطلب فی علم الاُصول .

أو ظن و أقام علی أحدهما،أحبط الله عمله . إن حجة الله هی الحجة الواضحة » (1) .

قیل : إنّ الفخر الرازی مع ما أنتجته تشکیکاته من فوائد جمّة ، مات وهو فی حالة شکّ فی التوحید ، فلم ینفع نفسه فی الإدمان علی التشکیک وإن انتفع الآخرون من تشکیکاته عندما اتّخذوها مقدّمة للوصول إلی الحقائق . إذ الإدمان علی الشکّ موجب لعناد القوی العملیّة وعدم رضوخها للقوی العقلیّة ، فبقی علی حالة الشکّ ومات علیها ، وأصبح التشکیک عنده مطلوباً بالذات ، مع أنّ حقّه أن یُطلب بالعرض .

الشکّ الحسن الممدوح

أمّا الشکّ الحسن ، فهو تدبّر النفس فی الأدلّة والفحص فی المقدّمات لمعرفة صحیحها من سقیمها وإثارته للکشف عن المجهولات ، فهو ممّا رغّبت إلیه الشریعة ویدفع باتّجاهه العقل السلیم .

والخلاصة : القول بأنّ القدسیّة التی تحاط ببعض الثوابت والمعتقدات عائق أمام فتح المجال للتحقیق والتنقیب إن قُصِد منه التأمّل والتدبّر فی الأدلّة للوصول إلی الواقع والدعوة للفحص السلیم عن صحّة وسقم الأدلّة ، فهو ممّا لا شک فی رجحانه وحسنه ، ولا یخدش بقدسیّة المقدّس ولا یقلّل من سموّه ومنزلته .

وإن کان بمعنی البقاء علی حالة التردّد والشکّ والإرتیاب إلی نهایة المطاف والبناء العملیّ علی الشکّ وترتیب آثاره حتّی بعد قیام الدلیل الکافی علیه ، فهذا سلوک مَرَضیّ سقیم بإتّفاق العلوم القدیمة والحدیثة ، ویمکن أن نجیب عنه(2)

ص:31


1- (1) الکافی : 2 : 400 ، الحدیث 8 .
2- (2) کما أفاده بعض الأکابر .

بما یلی : إن أردتم أن لا نجعل شیئاً مقدّساً قبل البحث عنه ومن دون قیام دلیل علیه ، فکلامکم صحیح ، لکن لا یخالفکم علیه أحد ! وإن أردتم أن لا یکون هناک مقدّس أصلاً حتّی بعد قیام الدلیل علیه ، فما فائدة البحث الذی تدعون إلیه ؟

ومن المهمّ التمییز بین المعنیین؛ فحینما یقال : إنّ القدسیّة رهینة الحقیقة یعنی أنّها ظاهرة طبیعیّة معلولة للحقائق ، وهی کالسور والسیاج لحفظ الحقائق عن الإندراس والضیاع ، فهذا الخضوع والتقدیس والتعظیم [ للحقائق الهامّة والمصیریة] ناشئ من سلامة القوی لدی الإنسان ، وعدمه مسبَّب عن سقم ومرض فی النفس البشریّة .

النقطة الثالثة : معانی التوحید والشرک

للتوحید والشرک معانٍ متعدّدة ، من أهمّها :

1 - التوحید فی الذات الإلهیّة ، بمعنی أنّ اللّه واحد لا شریک له ولا نظیر ، وأنّه لم یلد ولم یولد ولم یکن له کفواً أحد؛ ویقابله الشرک فی الذات والقول بتعدّد الآلهة .

2 - التوحید فی الصفات ، ومعناه أنّ الصفات الواجبة عین الذات ، وأنّ الصفات الجیّدة فی المخلوقات ( الصفات الإمکانیّة ) رشحات لتلک الصفات الأزلیّة ، ومسبَّبة عنها ولیست عینها .

3 - التوحید فی الأفعال ، ومعناه أنّ کلّ الأفعال فی الکون مستندة إلی إیجاده تعالی ، وکذا أفعال الفاعل المختار من المخلوقات هی بتمکینه تعالی للفاعل المختار ، ولا حول ولا قوّة إلّاباللّه .

4 - التوحید فی العبادة ، ومعناه أنّ العبادة حقّ له تعالی ، وأنّه لا یستحقّ العبادة

ص:32

سواه ؛ ویقابله الشرک فیها بمعنی عبادة غیر المستحقّ لها .

5 - التوحید فی الطاعة ، وهو من التوحید فی الأفعال أیضاً فی الفاعل المختار بمعنی أن تکون أفعاله ناشئة من متابعة اللّه والإنقیاد إلی إرادته ومشیئته التشریعیّة أی أنّه لا طاعة لأحد سواه ، وأنّ طاعة غیره إنّما تکون بإذنه وأمره لرجوعها إلی طاعته ، وإلّا کانت شرکاً .

والقرآن الکریم فی آیاته المکّیة وإن لم یرکّز الضوء علی التوحید ونفی الشرک فی الطاعة وإنّما رکّز علی التوحید فی الأقسام السابقة ، إذ کان کفّار قریش مشرکین لا ملحدین ، ولم یکونوا منکرین لأصل معرفة اللّه کما هو مفاد ( وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَیَقُولُنَّ اللّهُ ) (1) فکانوا مشرکین فی الذات وفی العبادة أیضاً ولذا ترکّز البحث فی الآیات المکّیة علی نفی ذلک الشرک وما یناسبه .

وهذا بخلاف الآیات المدنیّة ، فإنّ الترکیز فیها قد انصبّ علی القسم الأخیر والنهی عن عقیدة الشرک فی الطاعة ، فهی تدعو إلی طاعة اللّه وطاعة من أمر اللّه بطاعته واتّباعه والتسلیم له من جهته ، والنهی عن طاعة غیر اللّه تعالی بدون إذنه من جهة اخری .

والآیات فی ذلک کثیرة :

فمنها : قوله تعالی : ( إِنَّ اللّهَ لَعَنَ الْکافِرِینَ وَ أَعَدَّ لَهُمْ سَعِیراً * خالِدِینَ فِیها أَبَداً لا یَجِدُونَ وَلِیًّا وَ لا نَصِیراً * یَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِی النّارِ یَقُولُونَ یا لَیْتَنا أَطَعْنَا اللّهَ وَ أَطَعْنَا الرَّسُولاَ * وَ قالُوا رَبَّنا إِنّا أَطَعْنا سادَتَنا وَ کُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِیلاَ ) (2) .

فاعتبرهم کفّاراً لأنّهم عصوا ولم یطیعوا اللّه والرسول ، وأطاعوا سادتهم

ص:33


1- (1) لقمان 31 : 25 . الزمر 39 : 38 .
2- (2) الأحزاب 33 : 64 - 67 .

وکبراءهم ممّن لم یأذن اللّه تعالی بطاعتهم .

ومثلها : قوله عزّ من قائل : ( وَ لا تَأْکُلُوا مِمّا لَمْ یُذْکَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَیْهِ وَ إِنَّهُ لَفِسْقٌ وَ إِنَّ الشَّیاطِینَ لَیُوحُونَ إِلی أَوْلِیائِهِمْ لِیُجادِلُوکُمْ وَ إِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّکُمْ لَمُشْرِکُونَ ) (1) فاعتبر طاعة أولیاء الشیطان شرکاً .

وأکّد القرآن علی النهی عن طاعة الکفّار من أهل الکتاب وغیرهم ، وعن طاعة المنافقین والظالمین والآثمین(2) ، بل نهی عن طاعة أکثر من فی الأرض ، لأنّهم لا یرتبطون بالسماء ، ولم یؤذن فی إطاعتهم ، فقال سبحانه : ( وَ إِنْ تُطِعْ أَکْثَرَ مَنْ فِی الْأَرْضِ یُضِلُّوکَ عَنْ سَبِیلِ اللّهِ ) (3) .

ثمّ عقّب ذلک بما یفید التعلیل وحکمة النهی ، فقال ( إِنْ یَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ إِنْ هُمْ إِلاّ یَخْرُصُونَ * إِنَّ رَبَّکَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ یَضِلُّ عَنْ سَبِیلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِینَ ) (4) .

وبذلک فلا یفلح الإنسان ولا یهتدی إلّابالرجوع إلی السماء للتعرف علی المهتدین الصالحین للإتّباع والتأسّی وعلی الضالّین المضلّین للحذر منهم ومن سلوکهم وضلالاتهم .

فإنّ تلک الآیة وما قبلها دلّت علی استخلافه تعالی لخلیفة فی الأرض وأنّه مؤهّل للعلم ، قادر علی إنباء الملائکة بما لا یعلمون ، وأنّه أفضل منهم وعلیهم طاعته والتعلّم منه والخضوع والسجود له ، وأنّ من لم یسجد له فقد کفر(5) ،

ص:34


1- (1) الأنعام 6 : 121 .
2- (2) آل عمران 3 : 100 . الکهف 18 : 28 . الأحزاب 33 : 1 ، 48 . الإنسان 76 : 24 . العنکبوت29 : 8 ، وغیرها .
3- (3) الأنعام 6 : 116 .
4- (4) الأنعام 6 : 116 و 117 .
5- (5) البقرة 2 : 30 - 34 .

ومعنی ذلک أنّ عدم الطاعة لمن أمر اللّه بطاعته شرک وکفر واستکبار ، وإلّا فإبلیس لم یکفر باللّه ولم یدع إلهاً غیره ، وإنّما عصاه فی عدم الخضوع لمن أمر بالخضوع له ، فهو شرک طاعة وشرک تمرّدٍ علی خلیفة اللّه وولیّه .

وهذه القصّة المبارکة قد کرّرها القرآن الکریم سبع مرّات فی السور المدنیّة(1) .

وقد ذمّ القرآن الکریم أهل الکتاب لإطاعتهم أحبارهم ورهبانهم فی غیر ما أذن اللّه تعالی ، واعتبرهم کفّاراً یعبدون أحبارهم ورهبانهم؛ وذلک لأنّ أحبارهم أمروهم بعبادة عیسی واتّخاذه إلهاً بدون حجّة فأطاعوهم ، وأمروهم بالاعتقادات الباطلة مثل أنّ عیسی علیه السلام ابن اللّه أو أنّ عزیر ابن اللّه ، فاتّبعوهم بغیر علم ، فذمّهم واعتبر ذلک عبادة لهم؛ فقال تعالی : ( اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ ) (2) ، مع أنّ أهل الکتاب لا یعتبرون علماءهم أرباباً بالمعنی المعروف للربوبیّة کما هو واضح ، فیکون المقصود مجرّد الطاعة فی غیر ما أذن اللّه تعالی .

وعن الصادق علیه السلام - فی ذیل تفسیر الآیة - أنّه قال :

« و الله ما دعواهم إلی عبادة أنفسهم ، و لو دعواهم إلی عبادة أنفسهم ما أجابوهم ،و لکن أحلوا لهم حراما و حرموا علیهم حلالا ، فعبدوهم من حیث لا یشعرون » (3) .

وفی حدیث آخر :

« و لکن أطاعوهم فی معصیة الله » (4) .

ویمکن استخلاص ذلک من سیاق قوله تعالی : ( وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِکَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِیسَ أَبی وَ اسْتَکْبَرَ وَ کانَ مِنَ الْکافِرِینَ ) (5) .

ص:35


1- (1) البقرة والأعراف والإسراء والکهف وطه والحجر وص .
2- (2) التوبة 9 : 31 .
3- (3) الکافی : 2 : 398 ، الحدیث 7 .
4- (4) وسائل الشیعة : 27 : 133 ، الحدیث 33406 .
5- (5) البقرة 2 : 34 .

ومنها : قوله تعالی : ( قُلْ إِنْ کُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِی یُحْبِبْکُمُ اللّهُ وَ یَغْفِرْ لَکُمْ ) (1) ومفهوم الآیة : إن لم تتّبعونی فلستم تحبّون اللّه ، فجعلت علامة صدق محبّة اللّه والایمان به ، ولازمه هو متابعة من أمر اللّه بطاعته واتّباعه والإنقیاد له .

نظیر قوله تعالی : ( مَنْ یُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللّهَ ) (2) .

والکثیر من الآیات التی قرنت بین طاعته صلی الله علیه و آله و سلم وطاعة اللّه کقوله تعالی :

( وَ أَطِیعُوا اللّهَ وَ الرَّسُولَ لَعَلَّکُمْ تُرْحَمُونَ ) (3) .

وقوله : ( وَ ما آتاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاکُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) (4) .

وقوله : ( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ لِیُطاعَ بِإِذْنِ اللّهِ ) (5) .

ومنها : قوله : ( وَ مِنَ النّاسِ مَنْ یَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللّهِ أَنْداداً یُحِبُّونَهُمْ کَحُبِّ اللّهِ وَ الَّذِینَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلّهِ وَ لَوْ یَرَی الَّذِینَ ظَلَمُوا إِذْ یَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِیعاً وَ أَنَّ اللّهَ شَدِیدُ الْعَذابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِینَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِینَ اتَّبَعُوا وَ رَأَوُا الْعَذابَ وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ * وَ قالَ الَّذِینَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا کَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ کَما تَبَرَّؤُا مِنّا کَذلِکَ یُرِیهِمُ اللّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَیْهِمْ وَ ما هُمْ بِخارِجِینَ مِنَ النّارِ ) .(6)

وهکذا اعتبرت الآیات المتبوع والمحبوب بدون إذن اللّه تعالی ندّاً مقابلاً للّه عزّ وجلّ ، فالندّیّة فی هذه الآیات لیست ندّیّة من قبیل عبادة الأصنام ، وإنّما هی

ص:36


1- (1) آل عمران 3 : 31 .
2- (2) النساء 4 : 80 .
3- (3) آل عمران 3 : 132 . وتشبهها : آل عمران 3 : 32 . المائدة 5 : 92 . الأنفال 8 : 1 ، وغیرها .
4- (4) الحشر 59 : 7 .
5- (5) النساء 4 : 64 .
6- (6) البقرة 2 : 165 - 167 .

باعتبار اتّباع من لم یأمر اللّه بطاعته وتولّیه ، بل أمر بالتبرّی منه . فإطاعة جماعة لجماعة سالفة لم یأمر اللّه عزّ وجلّ باتّباعهم هو نوع من أنواع الشرک ، وجعل الندّ له تعالی یؤدّی إلی بطلان جمیع الأعمال ویجعل أعمالهم حسرات علیهم ویجرّهم إلی الخلود فی النار .

وفی مقابل ذلک قال تعالی : ( إِنَّما وَلِیُّکُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِینَ آمَنُوا الَّذِینَ یُقِیمُونَ الصَّلاةَ وَ یُؤْتُونَ الزَّکاةَ وَ هُمْ راکِعُونَ ) (1) فأمر تعالی بتولّی الرسول صلی الله علیه و آله و سلم وتولّی من أقام الصلاة وآتی الزکاة [ حال الرکوع ، والولایة تعنی الأوْلی بکم والوالی علیکم ولزوم الإطاعة والانقیاد] .

ومثلها : ( یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا أَطِیعُوا اللّهَ وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِی الْأَمْرِ مِنْکُمْ ) (2) ، فإنّها دلّت علی لزوم طاعة الرسول وأولی الأمر ووجوب ذلک ، ولکنّ العاصی لهذا الواجب لا یخرج عن الإسلام بذلک وإن کان مشرکاً فی الطاعة وعاصیاً مهملاً لفریضة من فرائض الإسلام .

ومنها : قوله تعالی : ( وَ رَبُّکَ یَخْلُقُ ما یَشاءُ وَ یَخْتارُ ما کانَ لَهُمُ الْخِیَرَةُ ) (3) ، فهذه الآیة الکریمة مع کونها مکّیة النزول تعرّضت للتوحید ونفی الشرک فی طاعة ولیّ اللّه والتسلیم بما اختاره اللّه وطاعة من أمر بطاعته ، وأنّ هذا الموضوع إلزامیّ ولیس لأحد أن یختار غیر ما اختاره اللّه ، أو ینتخب غیر مَن عیّنه اللّه تعالی .

وکذا قوله تعالی : ( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ لِیُطاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُکَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّاباً رَحِیماً *

ص:37


1- (1) المائدة 5 : 55 .
2- (2) النساء 4 : 59 .
3- (3) القصص 28 : 68 .

فَلا وَ رَبِّکَ لا یُؤْمِنُونَ حَتّی یُحَکِّمُوکَ فِیما شَجَرَ بَیْنَهُمْ ثُمَّ لا یَجِدُوا فِی أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَیْتَ وَ یُسَلِّمُوا تَسْلِیماً ) (1) .

فقیّد سبحانه وجود الإیمان والتوحید بطاعته صلی الله علیه و آله و سلم وتمام متابعته والإنقیاد والتسلیم له فی القول والفعل ، والرضا به نفسیّاً أیضاً .

فالعقیدة التوحیدیّة منوطة بمنتهی الطاعة العملیّة والقلبیّة للرسول صلی الله علیه و آله و سلم ، وتعتبر التمرّد علیه صلی الله علیه و آله و سلم شرکاً قلبیّاً ، ووجه إناطة التوحید والإیمان بطاعة من أمر اللّه بطاعته ، وتلازم أقسام التوحید الخمسة هو أنّ مَن یوحّد اللّه بالبرهان - مثلاً - من دون أن یسلّم بنبوّة النبیّ الخاتم صلی الله علیه و آله و سلم أو یذعن بإمامة وولایة الوصیّ ، فلا یقبل منه ذلک ، لکونه یؤول إلی عدم الإذعان بالذات الأزلیّة اللّامحدودة فی القدرة واللّامحدودة فی کلّ الصفات .

وسیأتی بسط وجه التلازم بینها وأنّه کیف یؤول إلی تحدید الذات والقول بالذات غیر الأزلیّة .

ومثلها : قوله تعالی : ( وَ ما کانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَی اللّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ یَکُونَ لَهُمُ الْخِیَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَنْ یَعْصِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِیناً ) (2) ، فإنّها دلّت علی نفس المضمون ، وأنّ التسلیم وعدم فرض الرأی والإذعان باختیار اللّه والرسول من شروط الإیمان ، وبدون ذلک لا یتمّ الإیمان .

والمعروف لدی أصحاب الحدیث من العامّة وجماعة السلفیّین وأتباع مذهب محمّد بن عبدالوهاب : أنّ القرآن الکریم یرکّز علی التوحید فی مقابل عقیدة الشرک ، حیث أنّ کفّار قریش والجزیرة العربیّة قبل الإسلام لم یکونوا ملحدین ،

ص:38


1- (1) النساء 4 : 64 و 65 .
2- (2) الأحزاب 33 : 36 .

بل کانوا یشرکون مع اللّه غیره ، کما تصرّح بذلک العدید من الآیات مثل ( وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَیَقُولُنَّ اللّهُ ) (1) ، ومن ثَمّ رکّز القرآن الکریم علی نفی الشرک فی العقیدة والعبادة ، ومن هنا قالوا بأنّ تشدّد القرآن یتمحور حول ذلک .

وهذا الأمر وإن سبقهم فیه بقیة الطوائف الإسلامیّة إلّاأنّ العقیدة التوحیدیّة ونفی الشرکیّة فی القرآن الکریم ، علی أقسام : فالآیات المکّیّة رکّزت علی التوحید فی الذات والصفات والعبادة ، وأمّا الآیات المدنیّة فقد رکّزت علی التوحید فی الطاعة ونفی الشرک فیها ، أی توحید اللّه فی طاعة من أمر اللّه بطاعته ، ونفی الشرک فی طاعة من لم یأمر اللّه بطاعته ونهی عنها ، کما تقدّمت الإشارة إلی ذلک فی المقدّمة السابقة .

النقطة الرابعة : الوحدة الإسلامیّة وفریضة الاعتصام باللّه

البحث فی العقائد وتحقیقها ، هل ینافی الوحدة الإسلامیّة ؟

لا شکّ فی حثّ القرآن الکریم والسنّة النبویّة علی الاتّحاد والتکاتف بین المسلمین ، وأنّهم کالجسد الواحد إذا اشتکی منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمّی ،قال تعالی : ( وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِیعاً وَ لا تَفَرَّقُوا ) (2) .

فقضیّة الوحدة الإسلامیّة قضیّة مسلّمة أجمعت علیها الأمّة ودلّت علیها الأدلّة القطعیّة ، ولکن هل أنّ البحث فی العقائد الحقّة ینافی ذلک ؟

الحقّ أنّه لا ینافیه ولا یعارضه ولا یخدش فیه قید أنملة !

ص:39


1- (1) لقمان 31 : 25 .
2- (2) آل عمران 3 : 103 .

ذلک لأنّ طرح النظریات المتبنّاة من الفرق المختلفة حول الزعامة والقیادة للمسلمین ، ومداولة الأوراق المطروحة فی بورصة التحقیق ، إذا کان بحثاً عن الحقیقة للحقیقة وعلی طاولة الإنصاف وبنحو لا یتصادم مع توحید الصفّ فی المشترکات - الکثیرة - ، هذا الطرح وهذا البحث لیس تکریساً للفرقة ولا تشتیتاً للاُمّة ، بل لا یعدو الامتثال للواجب والأداء للفریضة التی یقطع بها العقل ویؤکّدها النقل ، حتّی أنّ نفس هذه الآیة الکریمة تدلّ علی وجوب الوحدة من خلال التمسّک بحبل اللّه ، لا الوحدة کیفما وقعت !

فقال عزّ من قائل : ( وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِیعاً) وجعل قطب الاتّحاد هذا الحبل ومرکز الاتّفاق هذا الاتّصال ، وهو حبل طرفه بین أیدینا وطرفه الآخر عند اللّه تعالی ، فهو حبل الاتّصال بالسماء وجوهر الارتباط بالکامل المطلق الواحد الأحد .

والباء فی ( بِحَبْلِ ) إمّا للتعدیة فیکون الحبل هو المعتصَم به ومفعول الإعتصام ، وإمّا للإلصاق فهو تقیید للإعتصام بالحبل ولیس کل إعتصام ، أو للإستعانة ، فیکون الحبل وسیلة للإجتماع وعوناً علی الاتّحاد ، وکیف کان فالمطلوب هو الإعتصام بالحبل والتمسّک به والإلتفاف حوله والتجمّع من خلاله لا مجرّد الاتّحاد ولو کان علی اللات والعزّی والظلم والطاغوت !

ولا یخفی ما فی التعبیر بالحبل فی الآیة الکریمة والحدیث النبویّ الشریف من لطف وظرافة ومناسبة ، فهو إمّا تشبیه کما ینبغی أن تکون علیه جماعة المسلمین من التکاتف والترابط بحیث تکون کالحبل الواحد المتجمّع من خیوط منفصلة المشدود برکن وثیق ، أو تشبیه للمسلمین فی حاجتهم إلی حبل اللّه بالغریق المتمسّک بحبل النجاة ، وذلک من خلال تضمین الفعل معنی التمسّک لتکون

ص:40

الغایة حصول العصمة من الهلاک والضلال .

وهل التمحیص عن صحیح المقال من الفرق والطوائف والمذاهب إلّافحصاً عن الحبل الذی أمرنا بالإعتصام والتمسّک به للنجاة لیکون الأساس الذی ترسو علیه الوحدة المأمور بها بقوله تعالی ( وَ لا تَفَرَّقُوا ) .

وهذا المقطع إمّا تأکید للمقطع السابق ( وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِیعاً ) إذا فسّرناه بلزوم تمسّک الجمیع بالحبل وعدم تفرّق بعضهم عنه .

وإمّا فریضة اخری لها کمال المناسبة مع الأولی فکأنّه قال : إعتصموا وتمسّکوا جمیعاً بحبل اللّه ، ثمّ أمر بعدم التفرّق .

وکلّ هذا الحثّ والتأکید علی فریضة الاتّحاد وعدم التفرّق موجّه إلی کلّ مَن دخل فی حظیرة الإسلام وتشهّد بالشهادتین ، فتوفّرت له حصانة الإسلام وحقن دمه وحُرِّم مالُه وعرضُه وفتحت أبواب الارتباط به ، وحلّت مناکحته ، وکان له ما للمسلمین ، وعلیه ما علیهم ، ممّا یدلّ علی أنّ المسلمین وإن اشترکوا فی مثل تلک الأحکام الاجتماعیة العامّة واشترکوا فی وجوب الذبّ عن بیضة الإسلام ومقدّساته ومدافعة أعداء الدین صفّاً واحداً وحمایة الثغور ودفع الفئة الباغیة إذا اقتتلت فئتان منهم ، والأمر بالمعروف وتثبیته والنهی عن المنکر ودفعه فی مختلف أصعدة حیاتهم ، وغیر ذلک من الأحکام السیاسیّة العامّة .

واشترکوا فی توزیع بیت المال وموارده المالیّة والطبیعیّة ، ووجوب الوفاء بالعقود بینهم ، وغیر ذلک من الأحکام الاقتصادیّة العامّة .

کما اشترکوا فی إقامة الحدود والتعزیرات ، وإقامة القسط والعدل فی فصل التنازع والخصومات ، ونحو ذلک من الأحکام القضائیّة والجزائیّة العامّة .

واشترکوا فی إقامة الصلاة ، وإیتاء الزکاة ، واستقبال القبلة ، وأداء الصیام ،

ص:41

والحجّ ، وغیرها من الأحکام العبادیّة والروحیّة العامّة ، بالإضافة إلی اشتراکهم قبلُ فی الإیمان باللّه وتوحیده ، وبنبوّة نبیّه الخاتم صلی الله علیه و آله و سلم ، وبالکتاب المنزل علیه صلی الله علیه و آله و سلم ، والاعتقاد بیوم الحساب ، والعقاب والثواب ، وغیر ذلک من الأحکام العقائدیّة العامّة .

فالصحیح من ناحیة الأدلّة الفقهیّة المحضة - مع غضّ النظر عن المصالح الثانویة - هو إشتراک المسلمین فی کلّ ذلک عقیدةً وعبادةً وقضاءً وجزاءً وسیاسةً واقتصاداً وحصانةً وحقوقاً لهم وعلیهم - علی ما بنی علیه مشهور الإمامیّة - وهذه هی ما یسمّی أحکام الإسلام فی قبال أحکام الإیمان .

ولکن هل إنّ هذه الحقیقة الفقهیّة تتصادم مع ذکر العقائد وتحقیقها ؟ وهل هناک تنافٍ بین آیة التآخی والإجتماع ( وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِیعاً وَ لا تَفَرَّقُوا ) وبین تحقیق العقیدة وتحصیل المذهب الحق ؟

کلّا وکلّا فإنّ هذه الحقیقة الفقهیّة والآیة الکریمة لا ینافیان ذلک البحث سواء کانت فقرة ( وَ لا تَفَرَّقُوا ) أمراً مؤکّداً لسابقها ، أو فرضاً جدیداً ، وإن أقررنا أنّها آیة عزیمة لا رخصة ، لأنّها من قبیل تحدید الإعتصام بحبل اللّه وبیان کیفیّته إذ أنّه أمر أوّلاً بالاعتصام ، فقد یُتوهّم أنّ ذلک یعنی لزوم التمسّک بحبل اللّه ولو استلزم الفرقة والتشتّت ، فأکّد مراده وبیّن لزوم کون الإعتصام بنحو لا یوجب الفرقة بل یکون منشأ للاتّحاد والإجتماع والألفة والإشتراک .

وتوضیح عدم التصادم : أنّ جمیع أنواع التوحّد الثابتة فقهیّاً والمأمور بها قرآنیّاً وروائیّاً ، لا تحقّق الحصن المنیع والحفظ من الغوایة إلّاإذا تمّ الاعتصام بحبل اللّه ، وإذا لم ترسُ علیه وتستند إلیه ، فهی وحدة صوریّة سیاسیّة لا جوهریّة حقیقیّة ، فإنّهم وإن اشترکوا فی کلّ ذلک إلّاأنّ هذه المظاهر من الوحدة وسبل النجاة

ص:42

تتهدّدها الفرقة والهلکة ، ویفتّ فی عضدها الشقاق والإنحراف والضلال ما لم یمتثل المسلمون ما فرضه اللّه علیهم وهو الإعتصام بحبله تعالی ، لأنّه هو الأمان من الفرقة والهلکة .

وهذا یعطی معنی أنّ الحبل دعامة تدور علیها رحی الإسلام وتلتفّ حوله بقیة الأحکام وترتکز علیه خیمة المجتمع الإسلامیّ وهو مصدر قوّتهم وعزّتهم ونجاحهم وفلاحهم .

فکلّ تلک الأبواب التی اشترکوا فیها لا تحمیهم من التنازع فیها ، سواء باب القضایا الاجتماعیّة أم السیاسیّة أم باب الاقتصاد أم القضاء والأمن أم العقائد أم مصادر العلم بالدین الحنیف أم منابع التقنین والتشریع ، وذلک الحبل هو المتکفّل لحلّ الاختلاف فی تلک الأبواب وغیرها أجمع .

فهل لعمرک رأیت باباً یُطرق أهمّ من هذا الباب ، وملاذاً یُلجأ إلیه أوسع من هذا الملاذ ، وحبلاً تتّسق به خرز الدین ، أقوی وأمتن من هذا الحبل الوثیق ؟

خصوصاً وأنّ فی استخدام مفردة ( الحبل ) نکتتین ظریفتین :

1 - أنّ الحبل عادة یستخدم للنجاة ، ویکون أحد طرفیه عند المنقِذ وطرفه الآخر فی ید المنقَذ ، وهذا یدلّ علی استمرار الاتّصال بالسماء وعدم الإکتفاء بما وصل إلینا من أحکام وأدلّة ونظریّات عقلیّة ونقلیّة ، بل لابدّ من التمسّک بحبل السماء وعدم ترکه ، وهذا الحکم عامّ لکلّ المسلمین السابقین والحاضرین والقادمین إلی یوم القیامة ، فلابدّ من وجود حبل متّصل بالسماء فی کلّ هذه العصور ، وعدم انقطاع الفیض الإلهیّ والرحمة النازلة .

2 - وردت کثیر من روایات العامّة فی أنّ الحبل هو الکتاب ، وفی بعضها أنّه حبلان : حبل الکتاب وحبل آل الرسول صلی الله علیه و آله و سلم ، فإذا صحّت الطائفة الثانیة فهو

ص:43

المطلوب ، وهو قریب جدّاً إذ أنّها لم ترد ممّن ینتمی إلی مذهب أهل البیت کی یتّهم فی النقل وکانت الأجواء الاجتماعیة وأهواء الحکّام تقتضی الوضع ضدّهم لا لهم علیهم السلام .

وإن لم تتمّ هذه الطائفة بل ثبتت الأولی ، فلا یُحتمل أنّ المراد بالحبل هو ظواهر الکتاب فقط ، إذ أنّ ظواهر الکتاب الشریف لم تمنع من الفرقة والتشتّت والتقاتل والتنابذ والضلال ، بل کثر حصول کلّ ذلک مع تمسّکهم جمیعاً بالکتاب الظاهر ، فلابدّ من وجود مفسِّر لهذا الکتاب ، ومستنبط لحقائقه ، وموضّح لمتشابهاته ، عالم بجزئیّاته وکلّیاته لکی یطبّقه علی کلّ مشکلة ومعضلة ، لأنّ فیه تبیان کلّ شیء ، ولا حافظ ومفسّر کذلک سوی العترة الطاهرة ، ولم یدّع ذلک سواهم ، ولم یبطل اللّه سبحانه دعواهم ، بل أکّدها بالمعاجز الباهرة والکرامات المستمرّة الظاهرة .

* * *

ص:44

میزان الدلیل فی المعارف الاعتقادیّة

اشارة

وفیه مقامات :

الأوّل : فی إمکان التعبّد بالظنّ فی تفاصیل العقائد

الثانی : فی ضابطة اصول الاعتقادات

الثالث : نهج مدارس المعارف

ص:45

ص:46

المقام الأوّل : فی إمکان التعبّد بالظنّ فی تفاصیل العقائد

لا بدّ من الإشارة إلی أنّ التحقیقات الأخیرة فی اصول الفقه قد انتهت إلی إمکان إثبات تفاصیل المسائل الاعتقادیّة بالظنّ والحجج التعبّدیة دون اصول العقائد واُسسها ، کما ذکر ذلک المحقّق الشیخ الأنصاریّ فی الرسائل(1) حاکیاً له عن جماعة ، منهم المحقّق الطوسیّ ، والأردبیلیّ ، وتلمیذه صاحب « المدارک » ، والشیخ البهائیّ ، والعلّامة المجلسیّ ، والمحدّث الکاشانیّ ، وغیرهم قدس سرهم ، وقد ذهب الشیخ إلی إمکانه بحسب الصناعة وإن منع منه بحسب الوظیفة الشرعیّة ، کما حکی عن الشیخ الطوسیّ (2) کفایة الجزم والظنّ فی الاعتقاد إذا طابق الواقع وإن عصی المکلّف بترک تحصیل الاعتقاد عن دلیل قطعیّ لأنّه واجب مستقلّ .

بل یظهر من کلام المانعین من العمل به فی الاعتقادیّات إمکان وقوعه ، ومن المتأخّرین قد ذهب الحکیم الفقیه المحقّق الإصفهانیّ فی کتابه « نهایة الدرایة »(3)

ص:47


1- (1) مبحث الظنّ ، تنبیهات دلیل الإنسداد ، الأمر الخامس : إعتبار الظنّ فی اصول الدین والأقوال المستفادة من تتبّع کلمات العلماء فی هذه المسألة من حیث وجوب مطلق المعرفة .
2- (2) نقله قدس سره عن الشیخ الطوسی فی العدّة ، مسألة حجّیة أخبار الآحاد وفی آخر العدّة .
3- (3) نهایة الدرایة للأصفهانی : 3 : 399 .

إلی تصویر ذلک وکفایة الإیمان بالظنّ ، وکذا المحقّق القمّی رحمه الله(1) ، وکذا ذهب السیّد الخوئیّ إلی حجّیة الظنّ فی تفاصیل الاعتقادات(2) .

ولیعلم أنّ مسلک الفقهاء فی الحکم الأوّل فی تفاصیل الاعتقادات ، وهو وجوب الإیمان فقهیّاً ، هو کونه کبقیّة أحکام الفقه الفرعیّة ، من أنّه :

إن کان ضروریّاً فی الدین ، فإنکاره خروج عن الدین - بالشرائط المذکورة عندهم - وإن کان ضروریّاً فی المذهب ، فإنکاره خروج عن المذهب عند الأکثر ، أو خروج عن الدین أیضاً کما عند المجلسیّ والمحقّق القمیّ رحمه الله .

وإن لم یکن ضروریّاً فلا یوجب سوی الفسق إذا تنجّز علیه ، وبالجملة هو من الأعمال الفرعیّة العملیّة ، غایة الأمر أنّها علی نحوین : أعمال الجوارح وأعمال الجوانح .

ولأجل تحقیق المسألة لابدّ من البحث فی مرحلتین :

الاُولی : فی إمکان ووقوع التعبّد بالحکم التکلیفیّ الشرعیّ فی الاعتقادیات من وجوب وحرمة ، وغیرهما ، والذی یُسمّی فی مصطلح علم اصول الفقه بالحکم الواقعیّ الأوّلیّ ، أی بلحاظ الموضوع والفعل فی حدّ نفسه وبعنوانه الأوّلیّ .

الثانیة : فی إمکان ووقوع التعبّد بالکاشف الظنّیّ الذی یسمّی اصولیّاً بالحکم الظاهریّ ، وهل یمکن تدخّل الشارع فی کیفیّة الإحراز والإدراک للإعتقادیّات التی هی أفعال قلبیّة ؟

أمّا المرحلة الاُولی : فوجه الحاجة للبحث فیها أنّ التعبّد بالظنّ شرعاً إنّما

ص:48


1- (1) قوانین الاُصول : 2 : 164 ، 220 .
2- (2) مصباح الاُصول للبهسودی : 2 : 273 .

یتعقّل بعد إمکان التعبّد بالحکم التکلیفیّ فی الاعتقادیات کوظیفة ، وإلّا فلا معنی للتعبّد بالظنّ حینئذٍ .

وقد ذکر جماعة إمکان التکلیف الشرعیّ بالاعتقاد بالنبوّة والإمامة والمعاد .

وذکر آخرون إمکانه فی الإمامة والمعاد فقط ، وعلّلوا ذلک بعدم المحذور العقلیّ من دور وغیره حینئذ ، لا سیّما أنّ الترغیب والترهیب نافع للنفس بلحاظ العقل العملیّ ، حیث أنّ الذمّ والمدح یؤثر فی الإرادة والأفعال الجانحیّة ، لأنّ الاعتقاد والإذعان فیه جهتان :

جهة الإدراک والإنکشاف ، وجهة أنّه فعل من أفعال النفس .

بخلاف التوحید ؛ فإنّ التعبّد به کوظیفة شرعاً یستوجب الدور المحال .

فوجوب المعرفة فیه عقلیّ محض ولا یمکن وجوبه شرعاً .

هذا ، والتحقیق إمکان التعبّد شرعاً فی الاعتقادیّات مطلقاً حتّی التوحید ، وذلک بالالتفات إلی أمور :

الأوّل : أنّ النفس فی فعلها - وهو الاعتقاد - تقوم بثلاثة أفعال :

1 - الفحص من المجهول إلی المعلوم ، وبالعکس .

2 - إدراک المجهول کنتیجة متولّدة من مقدّمات معلومة .

3 - الإذعان بما أدرکته .

وقد بُیّن فی الفلسفة أخیراً - کما حقّقه الملّاصدرا فی رسالة التصوّر والتصدیق - : أنّ الإذعان هو الحکم المتعلّق بالقضایا ، وهو مغایر للإدراک المنقسم إلی التصوّر والتصدیق ، فکلّ من القسمین تصوّر بالمعنی الأعمّ ، غایة الأمر أنّ التصدیق تصوّر موجب لإذعان النفس ، فهو علّة للإذعان لا متضمِّن له .

ص:49

فالإدراک والتصوّر بقسمیه فعل للقوی الإدراکیّة للنفس ، بینما الإذعان هو فعل للقوی العملیّة فی النفس ، وحقیقة هذا الإذعان هو قیام النفس بدمج صورتی المحمول والموضوع فی صورة واحدة ، فإذا دُمجتا معاً یکون ذلک إذعاناً ، نظیر الصورة الحسّیّة التی تدرکها النفس ، حیث أنّ هذه الصورة المحسوسة البدیهیة هی عبارة عن موضوع وعدّة محمولات أذعنت النفس بثبوتها للموضوع ، فتدرکها فی صورة واحدة مندمجة .

فالدمج فعل نفسانیّ عملیّ متعلّقه الإدراک ، ولذا یقال أیضاً : إنّ الإدراک فعل قوّة العقل النظریّ ، والدمج والإذعان فعل قوّة العقل العملیّ ، وکلّ من هذین الفعلین اختیاریان للنفس ، وإن کان الإدراک من نمط الانفعال ، والإذعان من نمط الفعل والإیجاد ، إذ باختیار الفحص بین المعلومات والمجهولات تتهیّأ النفس لإدراک المقدّمات ومن ثمّ إدراک النتیجة ، ثمّ إذا شاءت تقرّ وتذعن بتلک النتیجة .

والنفس فی الحالات السلیمة من الأمراض الإدراکیّة ، والصفات العملیّة ، تقوم بهذین الفعلین باسترسال طبیعیّ موافق لفطرتها ، فلکلّ من القوّتین الإدراکیّة والعملیّة أدوات تقیها وتصونها عن تلک الأمراض العائقة لهما عن ممارسة فعلهما.

ومن الأمراض الإدراکیّة حبّ الشیء أو بغضه ، ففی الخبر

« حبک للشیء یعمی و یصم »(1) ، أی أنّه یمنع من الإدراک السلیم .

ومن المقرّر فی علم النفس أنّ الترغیب والترهیب ، من الأدوات المعالجة للقوی العملیّة وغالب الأمراض الإدراکیّة نابعة من الأمراض العملیّة . ومع ذلک ، فالإدراک السلیم بمفرده إذا قامت به القوی الإدراکیّة لا یکفی لقیام النفس وقوی العقل العملیّ بالحکم والإذعان ، إذ قد تبتلی النفس بصفات وهیئات ردیئة تعیقها

ص:50


1- (1) من لا یحضره الفقیه : 4 : 380 ، الحدیث 5814 .

عن ذلک ، کما یشیر إلیه قوله تعالی : ( وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَیْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ) (1) .

وقوله عزّ وجلّ : ( ثُمَّ کانَ عاقِبَةَ الَّذِینَ أَساؤُا السُّوای أَنْ کَذَّبُوا بِآیاتِ اللّهِ وَ کانُوا بِها یَسْتَهْزِؤُنَ ) (2) .

ولذا قال الحکماء : إنّ البرهان وحده لا یکفی لتحقیق الإذعان بالنتیجة ، ولم یعدّوا الفیلسوف حکیماً حتّی یکون مرتاضاً وسالکاً طریق تهذیب النفس ، بل قال شیخ الإشراق - السهروردی - :

« إنّه لا یکون حکیماً إلّاإذا اقتدر علی خلع النفس عن بدنه » .

فهم یلحظون فی ذلک أنّ ( الإدراک التامّ المطابق للواقع ) کما هو تعریف الحکمة ، لا یتحقّق مع ممانعة النفس عن الوصول إلی الحقائق .

فالبرهان لیس علّة فاعلیة تامّة للنتیجة ، بل هو علّة مُعدّة قریبة جدّاً لإفاضة النتیجة ، والعلمُ الیقینیّ إنّما هو من إفاضة العوالم العلویّة ، فلابدّ من عدم المانع من الإفاضة ، ورفعُ المانع إنّما یتمّ بتهذیب النفس وترویضها لکی تتقبّل الحقّ وتذعن به . ومن الواضح أنّ الترهیب والترغیب طریق إلی ذلک ، وهو متولّد ومسبّب عن الحکم والتکلیف الشرعیّ .

الثانی : أنّه لا یخفی أنّ الإیمان لیس من سنخ الإدراک المجرّد کفعلٍ لقوّة إدراکیّة ، بل هو فعل علمیّ من قوّة العقل العملیّ ، کما هو سنخ أفعال العقل العملیّ وهی أفعال لیست عملیّة بحتة ولا إدراکیّة بحتة ، بل فیها کلّ من الجنبتین ، کما تقدّم فی الأمر الأوّل ، وأنّ الإذعان وإن ارتبط بإدراک القضایا إلّاأنّه من فعل

ص:51


1- (1) النمل 27 : 14 .
2- (2) الروم 30 : 10 .

العقل العملیّ ، والإیمان من سنخ الإذعان ، ولذا تصدق علیه ماهیّة التسلیم والإخبات والإنقیاد القلبیّ ، وهو مغایر للمعرفة بمعنی الإدراک والإنکشاف المجرّد ، کما یشیر له قوله تعالی ( وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَیْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ) (1) ، فإدراکهم المجرّد من دون التسلیم والإذعان والإخبات لا ینطبق علیه الحدّ الماهویّ للإیمان ، بل یصدق علیه کفر الجحود کما صرّحت به الآیة الشریفة .

نعم ، قد تُطلق المعرفة وتستعمل فی ما یترادف مع الإیمان .

الثالث : بعد إذ تبیّن مغایرة الإدراک للإذعان ومغایرة المعرفة للإیمان ، لا بدّ من الالتفات إلی کون الإذعان والإیمان لهما درجات تشکیکیّة بتبع ما للإدراک من درجات تشکیکیّة .

وعلی هذا الأساس یتصوّر من النفس الإذعان والبناء والتسلیم والإنقیاد لدرجة الإدراک الاحتمالیّة ، کما قد تسلّم النفس وتذعن لدرجة الإدراک الظنّی وکذا لدرجة الإدراک الیقینیّ ، مثل موارد الإدراک لمحتملٍ ذی أهمّیة خطیرة ، فإنّ النفس تراعی ذلک الاحتمال وتنقاد وتذعن بالمحتمل ، ولا تراعی الإحتمال القویّ المقابل .

کما إنّها قد تنقاد وتتابع الإدراک الظنّی ، فما قد یوهمه کثیر من کلمات الحکماء أو المتکلّمین - حیث قالوا : إنّ الإذعان والجزم لا یکون إلّامع الیقین أو العلم - یقبل الحمل علی العلم بالمعنی الأعمّ الشامل لمطلق التصوّر والإدراک فی مقابل الجهل المرکبّ ، لاخصوص التصدیق والعلم المرکّب ، ویشیر إلیه قوله سبحانه :

( الَّذِینَ یَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَ أَنَّهُمْ إِلَیْهِ راجِعُونَ ) (2) .

ص:52


1- (1) النمل 27 : 14 .
2- (2) البقرة 2 : 46 .

وقوله تعالی : ( إِنِّی ظَنَنْتُ أَنِّی مُلاقٍ حِسابِیَهْ ) (1) .

وقوله تعالی : ( أَ لا یَظُنُّ أُولئِکَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِیَوْمٍ عَظِیمٍ ) (2) .

وقوله تعالی : ( قالَ الَّذِینَ یَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللّهِ کَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِیلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً کَثِیرَةً بِإِذْنِ اللّهِ ) (3) .

بل فی قوله تعالی : ( فَمَنْ کانَ یَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْیَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً ) (4) دلالة علی حصول الإیمان بمجرّد الرجاء الذی لا یبلغ مرتبة الظنّ ولا الاطمئنان فضلاً عن مرتبة الیقین .

وکذلک قوله سبحانه : ( مَنْ کانَ یَرْجُوا لِقاءَ اللّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللّهِ لَآتٍ ) (5) .

وقوله سبحانه : ( لَقَدْ کانَ لَکُمْ فِی رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ کانَ یَرْجُوا اللّهَ وَ الْیَوْمَ الْآخِرَ ) (6) .

وقوله سبحانه : ( إِنَّ الَّذِینَ لا یَرْجُونَ لِقاءَنا وَ رَضُوا بِالْحَیاةِ الدُّنْیا . . ) (7) .

وقوله سبحانه : ( فَنَذَرُ الَّذِینَ لا یَرْجُونَ لِقاءَنا فِی طُغْیانِهِمْ یَعْمَهُونَ ) (8) .

وقوله سبحانه : ( فَقالَ یا قَوْمِ اعْبُدُوا اللّهَ وَ ارْجُوا الْیَوْمَ الْآخِرَ ) (9) .

ص:53


1- (1) الحاقّة 69 : 20 .
2- (2) المطفّفین 83 : 4 و 5 .
3- (3) البقرة 2 : 249 .
4- (4) الکهف 18 : 110 .
5- (5) العنکبوب 29 : 5 .
6- (6) الأحزاب 33 : 21 .
7- (7) یونس 10 : 7 .
8- (8) یونس 10 : 11 .
9- (9) العنکبوت 29 : 36 .

وقوله سبحانه : ( أَ فَلَمْ یَکُونُوا یَرَوْنَها بَلْ کانُوا لا یَرْجُونَ نُشُوراً ) (1) ، وغیرها .

فإنّ هذه الآیات تشیر إلی تحقّق الإذعان والتسلیم والإیمان والإخبات ولو بدرجات ضعیفة منه من دون تحقّق الإدراک بالدرجة العالیة التامّة ، بل یحصل بتبع الإدراک الضعیف .

وحمل الظنّ والرجاء علی العلم والخوف مجاز لا قرینة ولا دلیل علیه ، ومن ثَمّ فلا وجه له سوی ما هو مرتکز من توهّم لزوم الجزم الیقینی فی ماهیّة الإیمان والنجاة الاُخرویّة ، مع أنّ الیقین درجة من درجات الإیمان ، ومن أعزّ الکنوز الإلهیّة ، ففی الروایة الشریفة أنّه :

« لم یقسم بین الناس شیء أقل من الیقین » (2) .

وقد نُبّه علی ذلک فی علمی الفلسفة والعرفان(3) ، وتشیر إلی ذلک الآیة الکریمة ( کَلاّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْیَقِینِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِیمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَیْنَ الْیَقِینِ ) (4) ، إذ أنّها تبیّن الملازمة بین تحقّق درجة ( علم الیقین ) ورؤیة الجحیم .

ویشیر إلی ذلک أیضاً إحتجاج الرضا علیه السلام علی أحد الزنادقة بأنّ الإحتیاط بالإیمان بالنبیّ وبقوله صلی الله علیه و آله و سلم موجب للنجاة علی کلّ تقدیر ، سواء طابق الواقع أم لا ؛ بخلاف عدم الإحتیاط به ، فإنّه محتمل للهلاک الأبدیّ والعذاب المقیم علی تقدیر المطابقة ، والعقل یدعو إلی الإحتیاط حینئذ ، فإنّ مؤدّی هذا الإحتجاج

ص:54


1- (1) الفرقان 25 : 40 .
2- (2) الکافی : 2 : 52 .
3- (3) کما قدّمنا قولهم : إنّ المقدّمات والبراهین لیست علّة تامّة لحصول الیقین بالنتیجة ، لتوقّف الیقین علی خلوّ النفس من الهیئات الردیئة والصفات المَرَضیّة ، وإنّما یفاض الیقین علی النفس الطاهرة .
4- (4) التکاثر 102 : 5 - 7 .

هو إمکان تحقّق الإیمان بدرجة الإحتمال ، وتَترتّب علیه النجاة کما هو مفاد الآیات المتقدّمة .

وإذ اتّضحت هذه الأمور الثلاثة ، یتّضح أنّ کلّاً من البیان أو المعرفة أو الإدراک مغایر للإذعان والإیمان ، وأنّ کلّاً منهما مغایر للفحص؛ فللنفس أفعال ثلاثة :

فحص ، فإدراک ، فإذعان . کما اتّضح أیضاً إمکان تحقّق الاعتقاد الظنّیّ ، بل الإذعان الاحتمالیّ والتسلیم الرجائی ، ویترتّب علی ذلک أنّ ما یقال من أنّ وجوب المعرفة یتعیّن کونه عقلیّاً محضاً ، إن ارید به وجوب الفحص فهو تامّ لا غبار علیه ، إذ لا یمکن افتراض تشریعه قبل معرفة التشریع ، للزوم الدور ، وکذا الحال إذا ارید منه وجوب الإدراک والبیان(1) .

وأمّا إن ارید منه الإذعان والتسلیم والإیمان ، فلا مانع من تصویر التشریع والتکلیف به وإن کان المتعلّق هو أوّل اصول الدین وهو التوحید ، بل التشریع نافع فی ذلک کما عرفت ، ولذا ورد التعبیر عن الإیمان بالتوحید بأنّه ( أوّل الفرائض ) و( أکبرها ) من دون لزوم الدور أو الخُلف ، لأنّ من فحص بإلزام من عقله وأدرک وجود الباری والخالق عزّ وجلّ ، وأدرک قدرته اللامحدودة ، وأدرک أنّ له إرادة ورغبة بأن یؤمن الإنسان ویذعن به تعالی ، فإنّه لا یلزم من ذلک دور ولا خلف ، بل یکون أدعی لتحریکه إلی الإیمان ، علی ما تقدّم من أنّ الترغیب والترهیب علاج للقوی العملیّة فی تحقیق متابعة مدرکات القوی النظریّة ، ویشیر إلی هذا التفکیک فی معنی المعرفة ما ورد فی الروایات ، کما عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال :

« لیس لله علی خلقه أن یعرفوا قبل أن یعرفهم ،و للخلق علی الله أن یعرفهم ،

ص:55


1- (1) أقول : لا موجب لذکر هذه المفردة ( البیان ) ، إذ لا یتوهّم أحد وجوب البیان علی المکلّف ، بل البیان لطف للمکلّف .

ولله علی الخلق إذا عرفهم أن یقبلوه » (1) .

فإنّها تصرّح بلزوم القبول والتسلیم والإذعان بعد الإدراک والمعرفة ، فهی تفکّک بینهما .

وفی اخری عن عبد الأعلی(2) : « قال : قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : أصلحک اللّه ، هل جُعل فی الناس أداة ینالون بها المعرفة ؟

قال : فقال : لا .

قلت : فهل کُلِّفوا المعرفة ؟

قال : لا ، علی الله البیان( لا یُکَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها ) (3)،( لا یُکَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ ما آتاها ) (4) .

فإنّها دلّت علی أنّه تعالی یکلّف النفوس الإیمان والإذعان بعد ما آتاها الإدراک والبیان ، ومنها التوحید(5) . ومن ثمّ یظهر أنّ ما ورد فی الشریعة کثیراً ما ظاهره

ص:56


1- (1) التوحید : 412 ، باب التعریف والبیان والحجّة والهدایة .
2- (2) التوحید : 411 ، باب التعریف والبیان والحجّة والهدایة .
3- (3) البقرة 2 : 286 .
4- (4) الطلاق 65 : 7 .
5- (5) أقول : قد یعترض علی هذا المطلب من جهتین : 1 - التشکیک فی التفکیک بین الإذعان من جهة والتصوّر والتصدیق من جهة اخری . 2 - بعد التسلیم بالتفکیک المذکور ، فالتکلیف بالإیمان إن ارید به الإرشادیّ ، فلا ممانعة منه ، لکن لا أظنّ أن یمنعه أحد ! وإن ارید به المولویّ ، فإنّ الحکم العقلیّ بلزوم دفع الضرر المحتمل یغنی عنه فلا أثر له ، لأنّ داعویّته ومحرّکیّته تکتمل بحکم العقل ، وبدونه لا محرّکیّة له . ومع حکم العقل لا أثر له إلّاالتذکیر زائداً علی الإرشاد إلی حکم العقل ، ولا دلالة فیما ذکر من الآیات والروایات علی أکثر من ذلک .»« ویمکن الجواب عن کلتا المناقشتین ، أمّا الاُولی فتندفع بالتأمّل فی الأدلّة السابقة التی ذکرها شیخنا الاُستاذ علی التفکیک المذکور ، ولا معنی للتشکیک من دون دفع تلک الأدلّة . وأمّا الثانیة فقد اشیر للجواب عنها فی ما تقدّم ، وتوضیح دفعها بالنقض والحلّ ، کما یلی : أمّا النقض ، فهو أنّ وجوب شکر المنعم وحده کافٍ لحکم العقل بلزوم طاعة اللّه تعالی وامتثال أوامره ، لکن حکمة اللّه تعالی اقتضت أن یضاف إلی ذلک ، الترغیب بالجنّة وأنواع الثواب علی الطاعة ، والترهیب بالنار وأنواع العقاب علی المعصیة ، فهل یصحّ القول بأنّ هذا الترغیب والترهیب بلا ثمرة ما دام وجود شکر المنعم کافیاً للمحرّکیّة . والحلّ هو أنّ الحکم العقلیّ - عند الاُصولیّین - مدرک لا آمر ولا ناهٍ ، ومن ثمّ قالوا : إنّ إدراکه یتطابق مع الحکم الشرعیّ ، لأنّه عند إدراکه العقوبة علی المخالفة أو الترک ویدرک المثوبة علی الفعل ، فقد أدرک المولویّة ، ولا معنی للمولویّة غیر ذلک؛ لأنّ قوام المولویّة بإرادة المولی - التکوینیّة التی تترتّب علیها المثوبة والعقوبة - .علی هذا ، فما یدرکه العقل هو نفس المولویّة الشرعیّة التی لیس المدار فیها علی الاعتبار الشرعیّ ومجرّد الإنشاء ، بل مبادئ ذلک الاعتبار والإنشاء ، وهی الإرادة المولویّة المترتّب علیها المثوبة والعقوبة . فالإرشاد إنّما یکون فی موارد مثل وجوب الطاعة ووجوب العلم بالامتثال ، وهی الأحکام الشرعیّة التی تکون معلولة للحکم المولویّ - کما أفاده النائینی - أمّا إذا کان للأمر فائدة فوق ذلک کزیادة الترغیب فی تحریک المکلّف إلی الطاعة فلا یکون إرشادیّاً. بل حتّی إذا طابق الحکم الشرعیّ الحکم العقلیّ یکون من قبیل إدراک العقل لنفس مفاد ذلک الحکم المولویّ ، ولا یقلب ذلک الحکم عن کونه مولویّاً . والملحوظ أنّ الشارع المقدّس لم یقتصر علی محرّک واحد للامتثال والإطاعة ، وإلّا فإنّ وجوب شکر المنعم کافٍ للبعث والتحریک ، لکنّ الشارع جعل معه الترهیب من العذاب الألیم ، وهذا محرّک کافٍ للبعث لوجوب دفع الضرر المحتمل ، ولم یکتف الشارع بذلک بل جعل الترغیب بالجنّة وأنواع الثواب ، ولم یقتصر الشارع علی ذلک أیضاً ، بل جعل » « الثواب علی کلّ مقدّمة من مقدّمات الواجب أو المستحبّ. هذا کلّه مع أنّ الاُصولیّین صرّحوا بأنّ الأصل فی الأمر ، المولویّة لا الإرشاد ، ومع احتمال وجود الداعی المولویّ للبعث - ولو لأجل اهتمام الشارع بتحریک العباد إلی الطاعة - یتعیّن حمل الأوامر علی المولویّة ، إلّامع قیام الدلیل علی خلاف ذلک .

ص:57

کون الإیمان بالتوحید فرضاً وتکلیفاً لا موجب لتأویله ، وقد کانت دعوات الأنبیاء غالباً أو کثیراً أوّلها ومبدؤها الدعوة إلی التوحید وإبطال الشرک والمحاجّة علیه وإقامة المعاجز علیه ، ثم بعد حصول المعرفة یبلّغونهم فریضة الإیمان بالتوحید .

ومن هنا ننتهی إلی أنّ هناک وجوباً عقلیّاً للمعرفة بمعنی الفحص والبحث وإزالة الموانع للتأهّل لإفاضة بیان وإدراک التوحید ، ووجوباً آخر عقلیّاً وشرعیّاً بالإیمان والإذعان بالتوحید .

نعم ، هناک وجوب عقلیّ ثالث وهو لزوم بناء فعل الإذعان علی مقدّمات یقینیّة وإن لم یکن الإذعان نفسه بدرجة الیقین ، إلّاأنّ المنشأ له لابدّ أن یکون یقینیاً بمعنی أنّ المقدّمات لابدّ أن یکون من شأنها تولید الیقین .

علماً أنّه لو أخلّ بالوجوب الثالث ولکن إذعانه طابق الواقع ، کفی فی تحقّق النجاة الأخرویة وإدراک الحقیقة بدرجة احتمالیة ، وإن کان عاصیاً بالإخلال المزبور ، وقد صرّح بذلک شیخ الطائفة قدس سره .

وهناک وجوب رابع عقلیّ وشرعیّ ، وهو المحافظة علی طهارة النفس والابتعاد عن الظلمانیّة المتولّدة من فعل القبائح والمعاصی ، والتی تستوجب زیغ القلب عن الإذعان والتسلیم بالحقّ ، کما یشیر إلیه قوله تعالی : ( ثُمَّ کانَ عاقِبَةَ الَّذِینَ أَساؤُا السُّوای أَنْ کَذَّبُوا بِآیاتِ اللّهِ وَ کانُوا بِها یَسْتَهْزِؤُنَ ) (1) ، فلأجل

ص:58


1- (1) الروم 30 : 10 .

المحافظة علی بقاء الإیمان بالحقّ ، تجب المحافظة علی طهارة النفس .

یتبیّن من کلّ ذلک تصوّر التکلیف الشرعیّ المتعلّق بالاعتقاد - والذی هو فعل نفسانیّ - المتعلّق بالتوحید فضلاً عن غیره من اصول الدین ، وأوضح منه تصوّر التکلیف بتفاصیل المعارف والاعتقادات وإمکانه بل ووقوعه علی ما یتّضح من سبر الآیات والروایات القطعیّة . کما تبیّن أنّ الإذعان والإیمان علی درجات تتناسب مع درجة الإدراک ومدی سلامة النفس . فالاعتقاد الظنّیّ أمر ممکن وکذا الاحتمالی ، وإن تعلّق بما هو حقّ .

هذا مضافاً إلی ما یأتی من فوائد التعبّد بالکاشف عن الاعتقاد الحقّ ، من هدایة الوحی للعقل المحدود إلی الحقائق التی لا ینالها بنفسه(1) .

المرحلة الثانیة : هل یمکن التعبّد بالظنّ الناشئ من أسباب خاصّة ومقدّمات نقلیّة معیّنة فی تفاصیل العقائد ، وهل یُحتجّ به فیها کما یحتجّ به فی الفروع ؟

المعروف والمشهور عند الأکثر عدم الاعتداد بالظنّ فی الاعتقادیات أصلاً بل ادّعی علیه الإجماع ، لکنّک عرفت ذهاب بعض الأعلام ومحقّقی الطائفة إلی التفصیل فی ذلک ، وإمکان الاعتداد بالظنّ المعتبَر فیها . واستدلّوا علی المشهور :

أوّلاً : إنّ المطلوب فی الاعتقاد الجزم ، وهو ممّا لا یتصوّر تحقّقه بمجرّد الظنّ .

ویمکن صیاغته ببیان آخر هو : إنّ التعبّد بالظنّ فی الاعتقادیات إمّا هو تحصیل للیقین بالظنّ وهو محال ، أو هو تحصیل للظنّ بالظنّ وهو تحصیل للحاصل .

وثانیاً : الظنّ فی اصول الاعتقادات لا یسمن ولا یغنی من جوع جزماً ، وإنّما یتوهّم حجّیّته فی تفاصیل الاعتقادیّات ، ولا معنی محصَّل لحجّیته حتّی فیها ،

ص:59


1- (1) کما سیأتی إن شاء اللّه فی نهایة الفصل ذکر العلاقة بین الوحی والرسول الباطن .

لأنّ وجوب الاعتقاد بها معلّق علی حصول العلم بخلاف اصول الاعتقادات ، فإنّ وجوبها مطلق یبعث إلی الفحص عنها وتحصیلها . وعلی هذا الأساس فتفاصیل الاعتقادات قبل العلم بها لا وجوب لها واقعاً کی یحرزه الظنّ وتقوم علیه الحجّة الظنیّة ، فلا یتصوّر فیها الحکم الظاهریّ ، وبعد العلم بها لا مجال للظنّ .

وثالثاً : الآیات الناهیة عن اتّباع الظنّ مطلقاً والناهیة عن اتّباعه فی الاعتقادیّات ، مثل قوله تعالی : ( إِنْ یَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ إِنْ هُمْ إِلاّ یَخْرُصُونَ ) (1) .

و : ( وَ ما یَتَّبِعُ أَکْثَرُهُمْ إِلاّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا یُغْنِی مِنَ الْحَقِّ شَیْئاً ) (2)

و : ( وَ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ یَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ إِنَّ الظَّنَّ لا یُغْنِی مِنَ الْحَقِّ شَیْئاً ) (3).

و : ( وَ مِنَ النّاسِ مَنْ یُجادِلُ فِی اللّهِ بِغَیْرِ عِلْمٍ وَ لا هُدیً وَ لا کِتابٍ مُنِیرٍ ) (4) ، وغیرها من الآیات الکریمة الذامّة للظنّ والعمل بغیر علم ولا سیّما فی العقائد .

ورابعاً : إنّ الواجب فی الاعتقادات والمعارف ، هو الوصول إلی الهدایة والحقائق الواقعیّة ، والتحرّز عن الوقوع فی الضلال ، وهذا الوجوب عقلیّ وشرعیّ ، والرکون إلی الظنّ لا یؤمّن ذلک .

وخامساً : الإجماع علی عدم حجّیة الظنّ مطلقاً فی الاعتقادات اصولاً أو تفاصیل ، إذ قد اختلف فی جواز العمل بالظنّ فی الأحکام الفرعیّة الشرعیّة ، فکیف بالأحکام العلمیّة الاعتقادیّة .

وقد حکی عن الشیخ الطوسی فی « العدّة » أنّ « عدم جواز التعویل علی أخبار

ص:60


1- (1) الأنعام 6 : 116 .
2- (2) یونس 10 : 36 .
3- (3) النجم 53 : 28 .
4- (4) لقمان 31 : 20 .

الآحاد فی اصول الدین إتفاقیّ ، إلّاعن بعض غَفَلة أصحاب الحدیث » ونظیره ما حکی عن السیّد المرتضی قدس سره(1) .

وسادساً : عموم قوله تعالی : ( وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِیَعْبُدُونِ ) (2)المفسّرة فی الروایات الکثیرة بالمعرفة وأنّه لم یخلقهم إلّالیعرفون . وغیرها من أدلّة وجوب المعرفة ، ومن الواضح أنّ المعرفة لا تتحقّق بالظنّ .

وقبل الخوص فی تحقیق الحال لابدّ من تنقیح أمور :

1 - لا بدّ من التنبّه إلی أنّ کثیراً من تفاصیل الاعتقادات قامت علیها طوائف من الآیات القرآنیّة والروایات المستفیضة والمتواترة فی الأبواب المختلفة ، وهی خارجة عن محلّ النزاع فی المقام ، وإن دخلت فی بحث المقام الأوّل .

فما قد یُعترض علی التمسّک بها ، منشؤه هو النزاع فی المقام الأوّل ، لا هذا المقام؛ لأنّ المفروض حصول العلم بها ، فلا موجب للکلام فی حجّیة الظنّ فیها ، بل الصحیح أنّ مَن بنی علی عدم الحکم التکلیفیّ فی الاعتقادات - فی المقام الأوّل - هو الآخر لابدّ أن یبنی استدلاله علیها ، لأنّ المفروض حصول العلم بالوحی وقول المعصوم ، وقد حقّق فی علم المعقول أنّ الوحی وقول المعصوم وسط برهانیّ فی الاستدلال .

فما اعتاده جماعة - عند التحقیق فی مسائل المعارف - من التقلیل فی شأن الآیات والروایات ، والاکتفاء بالبراهین العقلیّة المجرّدة ، تقصیر فی البحث ، وغلق لبابٍ واسعٍ موصلٍ للحقائق والمعارف ، إذ الحکمة هی استفراغ الوسع بقدر الطاقة البشریّة لمعرفة حقائق الأشیاء ، وبعد ثبوت أنّ الوحی وقول

ص:61


1- (1) عدّة الاُصول : 1 : 131 . رسائل الشریف المرتضی : 1 : 24 . الانتصار : 120 .
2- (2) الذاریّات 51 : 56 .

المعصوم صالحٌ للوقوع وسطاً برهانیّاً ، فلابدّ أن تتّسع دائرة البحث لتشمل ما ورد فی الکتاب والسنّة بالفحص عن الطرق القطعیّة المؤدّیة إلیه عبر طوائف الآیات الکریمة والروایات المتواترة أو المستفیضة .

إلّاأنّ الشأن کلّ الشأن فی الإحاطة بجمیع الآیات والروایات بجانب الاضطلاع العلمیّ الوافر بعمق فی جهات مسائل المعارف کی یحصل التنبّه إلی تصنیف الروایات إلی طوائف بحسب مغزاها ولوازمها .

2 - لا بدّ من البحث والفحص فی الآیات والروایات ، حتّی الظنّیة ، واستقصاء الدلالات الظنّیة فی الآیات وأخبار الآحاد ، وإن بُنی علی عدم حجّیة الخبر الظنّی فی مطلق المعارف والاعتقادات فی المقام الثانی ، وعدم إمکان التکلیف الشرعیّ فی الاعتقادات فی المقام الأوّل .

حیث إنّ الدلالة والروایة الظنّیتین لا تقصر عن إحداث إحتمال زائد فی البحث العقلیّ فی مسائل المعارف والاعتقادات ، لإنّ القیمة العلمیّة للتصوّر بالغة الأهمّیة بعد کون التصوّر بنفسه علماً بسیطاً فی قبال الجهل المرکّب ، فلا یقصر الفحص عن الخبر الظنّی أو الضعیف فی مسألة من مسائل المعارف عن التنقیب والبحث فی قول أحد الحکماء والفلاسفة حینما یقوم الباحث فی الحکمة بالإلمام بأطراف الأقوال ووجوه الاستدلال فی المسألة لاستکمال دائرة الفحص الذهنیّ والفکریّ .

إذ بعد کون التفکّر هو عبارة عن حرکة الفکر بین المعلوم والمجهول لأجل الوصول إلی معرفة المجهول ، کانت إستعانة الباحث بمخزن الذاکرة الموجود لدی العقول الاُخری هو من تمامیّة وکمال عملیّة التفکیر ، وهو ما یشیر إلیه الحدیث الشریف :

« أعلم الناس من جمع علم الناس إلی علمه » (1) .

ص:62


1- (1) من لا یحضره الفقیه : 4 : 394 .

فإنّ الغفلة عن تصوّر من التصوّرات فی البحث ، وعدم الالتفات إلیه ، قصور فی حرکة الفکر لمعرفة الحقائق ، فإذا کان ذلک حال أقوال العقول المتعارفة غیر المرتبطة بالوحی ومنبع الفیض الإلهیّ ، فکیف بالخبر الحاکی - إحتمالاً - لقول الوحی ؟

قال ابن سینا :

« وأمّا المتحیّر فعلاجه حلّ شبهته وذلک لأنّ المتحیّر لا محالة إنّما وقع فی ما وقع فیه ، إمّا لما یراه من تخالف الأفاضل الأکثرین ویشاهده من کون رأی کلّ واحد منهم مقابلاً لرأی الآخر الذی یجده قرناً له لا یقصر عنه فلا یجب عنده أن یکون أحد القولین أولی بالتصدیق من الآخر » .

إلی أن یقول :

« أمّا حلّ ما وقع فیه ، فمن ذلک أن یعرِّفه أنّ الناس ناس لا ملائکة ومع ذلک فلیس یجب أن یکونوا متکافئین فی الإصابة ، ولا یجب إذا کان واحد أکثر صواباً فی شیء من آخر ، أن لا یکون الآخر أکثر صواباً منه فی شیء آخر . وأن یعرف أنّ أکثر المتفلسفین یتعلّم المنطق ولیس یستعمله ، بل یعود آخر الأمر إلی القریحة فیرکبها رکوب الراکض من غیر کفّ عنان أو جذب خطام . وأنّ من الفضلاء من یرمز أیضاً برموز ویقول ألفاظاً ظاهرة مستشنعة أو خطأً وله فیها غرض خفیّ ، بل أکثر الحکماء بل الأنبیاء الذین لا یؤتون من جهة غلطاً أو سهواً ، هذه وتیرتهم »(1) .

ص:63


1- (1) إلهیّات الشفاء : فصل 8 ، المقالة 1 .

ومن الواضح أنّ هذه الفائدة العلمیّة من الخبر الضعیف لا ربط لها بالتعبّد فی کلا المقامین ، وإنّما هی فائدة تکوینیّة بحتة ! لا سیّما إذا اشتمل ذلک المدلول أو ذلک الخبر - کما هو الغالب فی آیات وروایات المعارف - علی الإشارة إلی نکتة الاستدلال عقلاً .

3 - إنّ الیقین والظنّ کما یطلقان علی درجة الجزم والإذعان والتسلیم النفسیّ فی قبال الحیرة والإضطراب فی الشکّ کذلک یُطلقان علی نفس مقدّمات القیاس باعتبار أنّ المقدمات إن کانت بدیهیّة أو برهانیّة ، أی یقینیّة نظریّة ؛ کان الاستناد إلیها فی معرفة النتیجة برهانیّاً فیرادف الیقین البرهانیّ ، وإن کانت درجة الجزم بالنتیجة غیر مستحکمة وذلک لإبتلاء النفس بموانع مرّ ذکرها سابقاً .

وقد یکون العکس بأن تکون المقدّمات غیر یقینیّة ولا برهانیّة ، ولکن درجة الجزم وإذعان بعض النفوس بها تکون مستحکمة .

وقد أشار القرآن الکریم إلی حصول المرض بالنحو الثانی فی قوله تعالی :

( وَ قالُوا ما هِیَ إِلاّ حَیاتُنَا الدُّنْیا نَمُوتُ وَ نَحْیا وَ ما یُهْلِکُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَ ما لَهُمْ بِذلِکَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاّ یَظُنُّونَ ) (1) ، فإنّهم وُصفوا بحالة الظنّ وعدم العلم مع ادّعائهم الجازم ، فیظهر أنّ إطلاق الظنّ إنّما هو علی مدرکهم ودلیلهم فی نفسه باعتبار أنّه لیس بمقدّمات علمیّة یقینیّة وإن حصل لدیهم الإذعان التامّ والاعتقاد الجازم .

وأشار تعالی إلی مرض النفوس بالنحو الأوّل بقوله سبحانه : ( وَ إِذا قِیلَ إِنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ وَ السّاعَةُ لا رَیْبَ فِیها قُلْتُمْ ما نَدْرِی مَا السّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاّ ظَنًّا وَ ما نَحْنُ بِمُسْتَیْقِنِینَ ) (2) .

ص:64


1- (1) الجالثة 45 24.
2- (2) الجالثة 45 32.

حیث إنّ فی الآیة دلالة علی أنّ ما أقامه اللّه لهم من حجج برهانیّة یقینیّة ینبغی أن توجب الإذعان ، ولکنّهم - لمرضهم - لم یحصل لدیهم حالة الجزم المستحکم والإذعان الکامل ، ومثلها قوله تعالی ( ثُمَّ کانَ عاقِبَةَ الَّذِینَ أَساؤُا السُّوای أَنْ کَذَّبُوا بِآیاتِ اللّهِ ) (1) .

فإنّها تفترض أنّ آیات اللّه بیّنة توجب التصدیق ولکنّهم بسبب إساءتهم لم یحصل لدیهم الإذعان والتسلیم المناسب لها .

وغالب إطلاق الکتاب الکریم وروایات المعارف لمفردةالعلم و الیقین هو علی المقدّمات الیقینیّة المنتجة بطبعها ، لا علی درجة الجزم ، وکذلک جری اصطلاح الفلاسفة والمتکلّمین والمناطقة علی ذلک ، وقد حرّرنا فی علم الاُصول أنّ الحجّیة صفة ومحمول لتلک المقدّمات لا لدرجة الجزم .

وبعد اتّضاح هذه الأمور الثلاثة یتبیّن الحال فی أدلّة المانعین من العمل بالظنّ :

أمّا الأوّل : فلما تقدّم من أنّ الجزم علی درجات ، وکذا الاعتقاد ، وأنّ النجاة والإیمان یتحقّق بأدنی درجات الجزم ، بعد فرض تسلیم النفس وطوعانیّتها وحصول الإنقیاد والمتابعة ، غایة الأمر أنّ هناک وظیفة عقلیّة وشرعیّة اخری ، وهی لزوم تحصیل المقدّمات الیقینیّة والبرهانیّة علی المعارف والمعتقدات ، وهی مغایرة لفریضة مطلق الإیمان ، بل هی درجة خاصّة من الإیمان .

ثمّ إنّ هذه الوظیفة هی کما ذکره المانعون فی ثانی أدلّتهم ، مخصوصة باُسس الاعتقادیّات ، وأمّا تفاصیلها فلیس من الواجب أصل الاعتقاد بها إذا لم یحصل العلم بها ، فضلاً عن لزوم تحصیل الیقین فیها .

ص:65


1- (1) الروم 30 : 10 .

وأمّا دعوی أنّ وجوب الاعتقاد بالظنّ إمّا أمر بالمحال إذا کان المراد منه الجزم الیقینیّ ، أو تحصیل للحاصل إذا کان المراد منه الظنّی ، فهی غفلة عمّا سبق تنقیحه من أنّ للنفس ثلاثة أفعال :

1 - الفحص .

2 - الإدراک بدرجاته .

3 - الإذعان والتصدیق والجزم بدرجاته .

وهذا القائل بنی إستدلاله علی وحدة الفعلین الأخیرین من الدرجة الإدراکیّة والإذعان بدرجاته ، إذ مع افتراض تعدّد الفعل قد تدرک النفس بدرجة الظنّ ، لکنّها لا تذعن ولا تجزم بدرجة تلائمه ، فلا تنقاد ولا تبنی علی ذلک الإدراک کما بسطنا بیانه فی ما سبق .

وحینئذٍ یکون الترغیب والترهیب من قبل الشرع المقدّس نافعاً فی انقیاد النفس بدرجة الجزم الظنّی ، وذلک بتوسّط الحکم الشرعیّ فی المقام الثانی الذی هو من سنخ الحکم الظاهری .

کما تبیّن من ذلک عدم إرادة الجزم بدرجة الیقین بتوسّط الظنّ کی یکون أمراً بالمحال ؛ علی أنا بیّنا فی ما سبق أنّه لیس بمحال فی حالات النفس وأفعالها ، فکما أمکن لِمن یظنّ بالباطل أن یجزم به بالجزم الکامل ، کذلک یمکن لبعض المؤمنین أن یذعنوا إذعاناً تامّاً ویجزموا لأجل ما یوجب الظنّ بالواقع ، کالأحلام والأخبار الضعیفة فضلاً عن الصحیحة . وهذا ممکن ، بل واقع للکثیر من عوامّ الناس .

علی أنّ هذا الاستدلال علی المنع آتٍ بعینه فی الیقین ، حیث أشکل علی تصویر وجوب الإیمان - حتّی مع الیقین - بأنّه إمّا تحصیل للحاصل أو أمر بغیر

ص:66

المقدور ، والجواب عنهما هو ما بسطناه فی المقام الأوّل .

وأمّا الدلیل الثانی : فیردُ علیه أنّ عموم أدلّة وجوب المعرفة التی أشیر إلیها فی الدلیل السادس عند المانع ، وکذا أدلّة وجوب التعلّم ، یقرب دلالتها علی وجوب الفعل الثالث وهو الإذعان والتسلیم ، غایة الأمر یقیّد هذا الوجوب المطلق فی تفاصیل الاعتقادات بما إذا قام العلم الوجدانیّ أو الدلیل الظنّیّ المعتبر تعبّداً .

مضافاً إلی دلالة طائفة من الروایات الصحیحة والمعتبرة المستفیضة علی وجوب الإذعان الظنّی والانقیاد والمتابعة للظنّ المعتبر شرعاً .

فمنها : صحیحة عمر بن یزید ، قال : « قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : أرأیت مَن لم یُقرّ [ بما یأتیکم فی لیلة القدر کما ذکر](1) ولم یجحده ؟

قال :

أما إذا قامت علیه الحجة ممن یثق به فی علمنا فلم یثق به ،فهو کافر ، و أما من لم یسمع ذلک فهو فی عذر حتی یسمع (2) .

ثم قال أبو عبداللّه علیه السلام :

یؤمن بالله و یؤمن للمؤمنین » (3) .

ومنها : موثّقة زرارة عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال :

« لو أن العباد إذا جهلوا وقفوا و لم یجحدوا لم یکفروا » (4) .

ص:67


1- (1) فی نسخة : « بأنّکم فی لیلة القدر کما ذکرت » .
2- (2) أقول : ظاهر هذا النصّ لزوم الوثوق إذا کان الناقل للمسألة العقائدیّة ثقة ، ولا معنی لکون الوثوق بمعنی مجرّد الإدراک ، لأنّه حاصل ، بل بمعنی التسلیم والقبول والإذعان ، وإن لم یقبل فهو کافر بالمعنی الأعمّ للکفر ، وهو الجحود لا الکفر المخرج عن الإسلام ، واللّه العالم . ( المقرّر )
3- (3) وسائل الشیعة : 1 : 38 ، الباب 2 ( ثبوت الکفر والإرتداد بجحود بعض الضروریات وغیرها ممّا تقوم الحجّة فیه بنقل الثقات ) ، الحدیث 19 .
4- (4) المصدر المتقدّم : 32 ، الحدیث 8 .

بتقریب : أنّ الجحود إنّما یطلق علی الإنکار مع وجود الدلیل وفرض الجهل مع ذلک باعتبار أنّ الدلیل لیس یقیناً تفصیلیّاً بل ظنّیّاً إجمالیّاً ، بل یکفی دلالتها علی لزوم الفحص عند ورود الدلیل الظنّی .

ومنها : روایة علیّ بن سوید عن أبی الحسن موسی علیه السلام ، قال : « سألته عن الضعفاء .

فکتب إلیّ :

الضعیف من لم ترفع إلیه حجة و لم یعرف الاختلاف،فإذا عرف الاختلاف فلیس بمستضعف » (1).

بتقریب : أنّه اطلق علی نقل الاختلاف أنّه ترفع إلیه حجّة ، أی علی الشخص المنقول إلیه ، وقد ورد للتعبیر عن رشید الهجری رضی الله عنه بأنّه مستضعف مع صحّة اعتقاده فی الاُصول وجملة من التفاصیل ، لکنّه بلحاظ من فوقه فهو مستضعف .

والحاصل : أنّ المتتبّع للروایات المستفیضة الدالّة علی حجّیّة خبر الواحد یجد عمومها لموارد تفاصیل المعارف ، بل جملة منها نصّ فی تلک الموارد ، فلاحظ .

وأمّا الدلیل الثالث : فقد أجیب عنه بعدّة أجوبة :

1 - إنّ النهی المزبور عن الظنّ إنّما هو فی الاُصول الرئیسیّة کالتوحید والنبوّة ، بینما الأدلّة الدالّة علی حجّیة الظنّ إنّما هی فی تفاصیل الاعتقادات ، فهی أخصّ من العمومات الناهیة عن العمل بالظنّ .

2 - إنّ الظنّ المنهیّ عنه إنّما هو فی مقابل الیقین ، ولیس النهی عن مطلق

ص:68


1- (1) الکافی : 2 : 406 ، باب المستضعف ، ح11 . وللمزید راجع الکافی : 1 : 378 ، باب ما یجب علی الناس عند مضیّ الإمام .

الظنّ ، مثل تقلید الآباء المورث للظنّ فی قبال المعجزة المورثة للیقین(1) .

3 - إنّ المنهیّ عنه منحصر بصورة إمکان تحصیل الیقین ، ولا یمکن فی تفاصیل الاعتقادات تحصیل الیقین کما اعترف به الفلاسفة(2) ، فقد ذکر ابن سینا فی إثبات المعاد الجسمانی مع أهمّیته وکونه من اصول المعارف والاعتقادیّات - أنّ العقل لم یصل إلی إثباته ولا یمکنه ذلک ، وقد کفتنا الشریعة المحمّدیة مؤونة ذلک(3) .

وأشار الملّاصدرا فی « الأسفار » إلی أنّ تفاصیل البرزخ والمعاد والجنّة والنار وأحوال العوالم والنشآت الاُخری کلّها ممّا لا یحیط بها العقل الجزئیّ بما له من العلم الحصولیّ من مجموع القضایا الیقینیّة والنظریّة ، فلابدّ حینئذٍ من التوسّل بالوحی المحیط بعوالم الوجود .

کما أنّه بمقدور من یتّصل بالغیب الدلالة علی أسرار المعارف عبر ما یمتلکه

ص:69


1- (1) أقول : نعم ، مورد هذه الآیات ذلک ، لکنّ المورد لا یخصّص الوارد ، وأجابنی سماحة الشیخ حفظه اللّه بأنّ المورد بنوعه یخصّص الوارد ، وإن لم یخصّصه بشخصه .
2- (2) أقول : هذا الکلام غیر دقیق ، فإنّ الکثیر من تفاصیل العقائد ثابتة بالیقین من خلال القرآن أوالروایات المتواترة ، وغیر ذلک من الأدلّة القطعیّة ، ولا ینحصر الیقین باُصول العقائد . هذا إذا کان المقصود عدم الیقین بجمیع التفاصیل . أمّا إذا کان المقصود نفی الیقین ببعضها ، فلا مانع منه ، ولا یجب علی المکلّف الاعتقاد بجمیع التفاصیل ، بل اللازم هو الاعتقاد بما قامت الحجّة علیه ، والقدر المتیقّن من الحجّة هو الیقین . وأجاب سماحة الشیخ بأنّ جملة الموارد وهی أکثر تفصیلاً حیث لا یوجد دلیل یقینی علیه فتخرج عن موضوع النهی وتعیّن الرکون إلی الحجّة الظنّیّة .
3- (3) أقول : نعم ، کفتنا ذلک بالدلیل القطعی من القرآن .

العقل الذی لدی سائر البشر من قضایا بتنبیهه علی کیفیّة تألیف تلک الأسرار للوصول إلی النتائج المرجوّة بنحو لم یکن فی مقدور أفراد البشر العادیین التعرّف علیها بدون تنبیه السماء ، کما هو الحال فی مفاد ظواهر الکتاب العزیز ، فإنّ باستطاعة المعصوم علیه السلام تألیفها بنحو تنتج أسرار المعارف وإن لم یکن مقدوراً للعقل البشریّ بدون الارتباط بالسماء .

هذا مع أنّ الأدلّة العقلیّة النظریّة إذا ترامت وتکثّرت بعیداً عن البدیهیّات ، تقلّ درجة الجزم بمواد الأقیسة النظریّة إلی درجة الظنّ ، وإن کانت فی صورة الاستدلال - بحسب تطبیق ضوابط علم المنطق - واجدة لشرائط البرهان .

فالتفکیک بین درجتی الظنّ لا وجه له .

4 - إنّ الظنّ المنهیّ عنه هو الذی لا یرجع إلی الیقین ، أی لا یکون مستند حجّیته الیقین ، بخلاف الذی یرجع إلیه ، لأنّ النهی عنه إنّما هو من جهة الاعتماد علیه فی حدّ نفسه ، بینما الظنّ الذی قام علی اعتباره الیقین یکون الاعتماد فیه علی الیقین لا علی الظنّ نفسه ، حیث أنّ الدلیل علی اعتبار الخبر الواحد ودلالة الظهور قطعیّ ، فیخرج الظنّ المعتبر تخصّصاً من أدلّة النهی .

وحقیقة هذه الأجوبة أنّ الظنّ والیقین فی إصطلاح الشریعة لیس المراد منه الدرجة الإدراکیّة ولا الدرجة الإذعانیّة - العملیّة - بل المراد منهما هو ما یصحّ الرکون إلیه من مقدّمات الاستدلال ، فیسمّی یقیناً ، وما لا یصحّ الرکون إلیه ، فیسمّیه القرآن والشرع ظنّاً ، کما فی إطلاق القرآن الظنّ علی الحسّ فی مورد اعتقاد الیهود بقتل المسیح عیسی بن مریم فی مقابل ترکهم دلیل معجزات الوحی بأنّه نبیّ قد أبلغهم بکونه باقی .

فربّما یتّبع الإنسان إدراکاً ظنّیّاً اعتقد به وأذعن له لأجل نوریّته ، ویسمّیه الشرع

ص:70

هدایة ویقیناً ، وقد مرّ أنّ هذا هو إصطلاح المناطقة ، إذ یعتبرون فی الیقین أن یکون ممّا یصلح للاعتماد علیه ولا یلحظون درجة الإدراک والإذعان .

وأمّا الدلیل الرابع : الذی افترض أنّ الظنّ لیس هادیاً ولا موصلاً للحقائق ولا عاصماً عن الضلال ، فیلاحظ علیه :

أوّلاً : إنّ الظنّ درجة من درجات العلم لکونه تصوّراً فی قبال الجهل المرکّب علی أقلّ تقدیر ، وقد ذکرنا أنّه لذلک یحکم العقل بالفحص عنه کی تتمّ عملیة البحث الفکریّ واستقصاء المحتملات . فهو وإن لم یکن بدرجة الیقین لکنّه فوق الجهل المرکّب ، ویحتوی علی درجة من انکشاف الواقع وأقرب وصولاً للواقع من الغفلة ، فیتلو الیقین .

وثانیاً : قد بیّنا أن مورد البحث عن الظنّ إنّما هو فی تفاصیل الاعتقادات والمعارف لا فی اصولها مع فقدان الأدلّة الیقینیّة فی جزئیّات المعارف ، فلا خروج عن ثوابت الهدایة وصراط الحقّ الثابتة التی هی فی الاُصول الثابتة بالأدلّة الیقینیّة .

وثالثاً : إنّه بعد فرض قیام الدلیل الیقینیّ علی اعتباره یکون معذراً ومؤمناً لا غوایة وضلالاً .

ورابعاً : أنّ الحدّ الماهوی للإیمان هو التسلیم القلبیّ والإنقیاد والإذعان ولو بأدنی درجاته ، بعبارة اخری : إنّ التسلیم الباطنیّ القلبیّ والجری العملیّ بالاذعان متابعةً لأیّ درجة إدراکٍ من العقل النظریّ مُحقِّقٌ لحدّ الإیمان ، ومن ثمّ قیل أنّه عقد للقلب من سنخ الأفعال العملیّة العلمیّة فی النفس . فما استدلّ به علی امتناع الاعتقاد بالظنّ بأنّ الاعتقاد یساوق الیقین ، لا وجه له .

وأمّا الدلیل الخامس : فالظاهر أنّ المراد من معقد الإجماع لیس هو عدم

ص:71

النجاة باتّباع الدلیل الظنّی إذا أصاب الحقّ فی اصول الدین فضلاً عن تفاصیل الاعتقادات ، بل مرادهم بیان وظیفة اخری هی لزوم وقایة المعرفة والإیمان عن التزلزل والزوال ، وتحکیمها بالأدلّة الیقینیّة وهی وظیفة شرعیّة اخری غیر أصل فریضة المعرفة والإیمان ، وهی وظیفة خاصّة باُصول الدین وضروریّاته اللازم الثبات علیها ، والواجب معرفتها مطلقاً بخلاف التفاصیل المقیّد وجوب الاعتقاد بها علی حصول الحجّة ، کما أنّ النجاة لیست معلّقة علیها ، وإنّما ارتفاع الدرجات فی الإیمان مرهون بالتفاصیل . وقد عرفت إشارة الآیات العدیدة إلی تحقّق الإیمان بمجرّد الرجاء ، فضلاً عن الظنّ فیما إذا کان هناک إذعان وتسلیم بدرجة الرجاء ، وقد صرّح الشیخ الطوسی قدس سره بذلک کما تقدّم .

هذا فضلاً عمّا نقلناه عن عدّة من أعلام الطائفة المحقّقین ، باعتباره والإستناد إلیه فی تفاصیل الاعتقادات .

وأمّا الدلیل السادس : فکون المعرفة الواجبة والعلم المفروض تحصیله هو خصوص التصدیق الیقینیّ ، مصادرة علی المطلوب ، لأنّ المعرفة والعلم صادقان علی کلا قسمی العلم من التصوّر والتصدیق ، غایة الأمر أنّ مجرّد التصوّر من دون إذعان وانقیاد - ولو بدرجة مناسبة له - لا یحقّق حدّ الإیمان والمعرفة ، فإنّ للعلم والمعرفة درجات ، وبعضها یتعلّق التکلیف بأدنی ما یقترن بالتسلیم والانقیاد منها . هذاأوّلاً (1) .

وثانیاً : لو سُلّم إرادة المعرفة الخاصّة والدرجة العالیة من الإیمان من أدلّة

ص:72


1- (1) أقول : هذا الوجه دفع المصادرة بمصادرة اخری مثلها أو أضعف منها!! فإنّ ظاهر ( المعرفة ) هو العلم وصدق ( المعرفة ) علی الظنّ أو محض التصوّر مجاز لغة وعرفاً ویحتاج إلی دلیل! ومع الشکّ فی سعة المفهوم یقتصر فیه علی القدر المتیقّن ، کما قرّر فی علم الاُصول .

الوجوب ، لکانت مقیّدة باُصول العقائد بالضرورة والاتّفاق ، إذ لم یذهب أحد إلی إطلاق وجوب تحصیل المعرفة الخاصّة فی تفاصیل العقائد . وحینئذٍ فالإطلاق إمّا مقیّد باُصول العقائد إذا کان المراد به العلم ، وإمّا علی إطلاقه إذا کان المراد به ما یشمل المعرفة الظنّیّة المعتبرة ، وحیث أنّ الآیة مطلقة ، یتعیّن الثانی(1).

وبهذا یتبیّن إمکان التعبّد بالظنّ فی تفاصیل العقائد ، ولکن یبقی علینا إثبات وقوع ذلک .

وقد استدلّ علیه :

أوّلاً - بعدّة آیات :

أظهرها آیة النفر(2) بتقریب أنّها بصدد بیان وجوب التفقّه فی الدین ، ثمّ وجوب الإنذار بما استفاده من علوم الدین ، والدین - کمجموع أحکام - شامل للأحکام الفرعیّة والاعتقادیّة وأحکام الآداب والأخلاق والسنن ، فالتفقّه یتعلّق بها أجمع .

ص:73


1- (1) أقول : یمکن للخصم أن یختار الأوّل بقرینة أنّ الآیة نسبت العبادة إلی اللّه تعالی ( لِیَعْبُدُونِ ) بتقدیر یاء المتکلّم ووضع الکسرة علامةً علیها ، وقد فسّرت العبادة فی الروایات بالمعرفة ، فالمقصود هو معرفته تعالی لا معرفة سائر العقائد ، غایة الأمر أنّ أدلّة اخری دلّت علی أنّ معرفة اللّه تعالی لا تتمّ إلّابشرطها وشروطها ، فلا بدّ معها من معرفة اصول العقائد الاُخری ، ولا دلیل علی إرادة معرفة جمیع المعارف حتّی التفاصیل بحیث یجب التعرّف علیها لا یقیناً ولا ظنّاً أیضاً ، فالآیة الکریمة لا تصلح للاستدلال بها علی عموم وجوب الاعتقاد لتفاصیل العقائد لأنّها لیست فی صددها ، ولا یصحّ الدلیل السادس من الخصم ، کما لا یصحّ الاستدلال بها علی حجّیّة الظنّ فی العقائد .
2- (2) وهی( وَ ما کانَ الْمُؤْمِنُونَ لِیَنْفِرُوا کَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ کُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِیَتَفَقَّهُوا فِی الدِّینِ وَ لِیُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَیْهِمْ لَعَلَّهُمْ یَحْذَرُونَ ) التوبة 9 : 122 .

وإلی ذلک أشار بعض شرّاح الحدیث ، فذکروا أنّ الفقه فی الآیات والروایات لیس مختصّاً بالفقه الإصطلاحی ( الأصغر ) بل هو شامل للأکبر - أی فقه العقائد - ومن ذلک یتّضح أنّ متعلّق الوجوب الکفائیّ الأوّل فی الآیة هو مطلق أحکام الدین ، وکذلک یکون متعلّق الوجوب الثانی - أی وجوب الإنذار - والثالث الاستغراقیّ یعنی وجوب الحذر وقبول الإنذار ، هو مطلق الأحکام .

وبالجملة فبعین ما تقرّب دلالة الآیة علی حجّیة الخبر فی الفروع تقرّب علی حجّیته فی المعارف عدا التوحید والنبوّة عند الکلّ وعدا الاُصول الخمسة عند جماعة .

وکذا تقریب الاستدلال فی آیة الکتمان ( إِنَّ الَّذِینَ یَکْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَیِّناتِ وَ الْهُدی مِنْ بَعْدِ ما بَیَّنّاهُ لِلنّاسِ فِی الْکِتابِ أُولئِکَ یَلْعَنُهُمُ اللّهُ وَ یَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ ) (1) .

وکذا آیة الاُذن ( وَ یَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَیْرٍ لَکُمْ یُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ یُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِینَ ) (2) .

وکذا آیة ( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِکَ إِلاّ رِجالاً نُوحِی إِلَیْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّکْرِ إِنْ کُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (3) .

وآیة النبأ ( إِنْ جاءَکُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَیَّنُوا أَنْ تُصِیبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلی ما فَعَلْتُمْ نادِمِینَ ) (4) .

وقد یُناقش فی الاستدلال بالآیات بأنّه استدلال بالظنّ علی حجّیة الظنّ

ص:74


1- (1) البقرة 2 : 159 .
2- (2) التوبة 9 : 61 .
3- (3) النحل 16 : 43 .
4- (4) الحجرات 49 : 6 .

فیلزم الدور .

ویندفع بأنّ مفاد هذه الآیات إثبات حجّیة خبر الواحد الذی هو ظنّ خاصّ بتوسّط حجّیة ظنّ آخر هو الظهور الذی ثبتت حجّیته بالقطع بإمضاء الشارع له ، وبذلک فلا یتمّ الدور .

مضافاً إلی أنّ الکلام لیس فی الإمکان الثبوتیّ ، بل فی الوقوع والإثبات بعد البرهنة علی الإمکان الثبوتیّ علی ما تقدّم .

وثانیاً - من أدلّة المثبتین للتعبّد بالخبر الظنّیّ - :الروایات :

وقد أشرنا إلی بعض منها فی أجوبة المانعین .

ومنها : أیضاً صحیحة عبدالعزیز المهتدی ، قال : « قلت لأبی الحسن الرضا علیه السلام : جُعلت فداک ، إنّی لا أکاد أصل إلیک أسألک عن کلّ ما أحتاج إلیه من معالم دینی ، أفیونس بن عبدالرحمن ثقة آخذ عنه ما أحتاج إلیه من معالم دینی ؟

فقال :نعم »(1) .

ولا ریب أنّ معالم الدین أعمّ من الفروع والمعارف .

ومنها : إطلاق روایات عدیدة شامل للمعارف ، مثل صحیحة عبداللّه بن أبی یعفور ، قال : « قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : إنّه لیس کلّ ساعة ألقاک یمکن القدوم ویجیء الرجل من أصحابنا فیسألنی ولیس عندی کلّ ما یسألنی عنه .

قال :

فما یمنعک من محمد بن مسلم الثقفی،فإنه قد سمع أبی و کان عنده مرضیا وجیها» (2) .

ص:75


1- (1) جامع أحادیث الشیعة : 1 ، باب حجّیة أخبار الثقاة ، الحدیث 24 .
2- (2) نفس المصدر : الحدیث 19 .

فإنّها دلّت علی جواز الرجوع إلی کلّ من سمع وکان مرضیّاً وجیهاً مهما کانت المسألة ، عقائدیّة أو فرعیّة .

ومثلها : ما صدر عن الإمام أبی الحسن الثالث علیه السلام وهی تکاد تکون قطعیّة الصدور ، وموردها الإخبار عن تولّد الحجّة فهی نصّ فی حجّیة خبر الواحد فی المعارف .

فقد قال عبداللّه بن جعفر الحمیری فی حدیث : وقد أخبرنی أبو علیّ أحمد بن إسحاق ، عن أبی الحسن علیه السلام ، قال : « سألته وقلت : من اعامل أو عمّن آخذ وقول من أقبل ؟

فقال له :

العمری ثقتی،فما أدی إلیک عنی فعنی یؤدی،و ما قال لک عنی فعنی یقول ، فاسمع له و أطع،فإنه الثقة المأمون .

وأخبرنی أبو علیّ : أنّه سأل أبا محمّد علیه السلام عن مثل ذلک .

فقال له :

العمری و ابنه ثقتان ، فما أدیا إلیک عنی فعنی یؤدیان،و ما قالا لک فعنی یقولان ،فاسمع لهما و أطعهما،فإنهما الثقتان المأمونان »، فهذا قول إمامین قد مضیا فیک .

قال : فخرّ أبو عمرو ساجداً وبکی .

ثمّ قال : سل حاجتک .

فقلت له : أنت رأیت الخلف من بعد أبی محمّد علیه السلام ؟

فقال : إی واللّه . . الخ »(1) .

الدلیل الثالث : سیرة العقلاء والمتشرّعة علی حجّیة خبر الثقة ، فإنّها عامّة

ص:76


1- (1) الکافی : 1 : 329 .

وشاملة لأخباره فی تفاصیل الاعتقادات ، کما تشمل الفروع .

ویستوضح هذا الشمول بما ألفتنا إلیه فی صدر هذه المقدّمة من أنّ وجوب الاعتقاد فی التفاصیل وزانه وزان الأحکام الفرعیّة العملیّة ، بل هو منها حقیقة ، غایة الأمر أنّ إحداها أعمال جارحیّة والاُخری جانحیّة .

وممّا یشهد لوجود السیرتین دأبُ الرواة من الخاصّة والعامّة علی نقل تفاصیل الاعتقادات ، ولذلک تری هذا الکمّ الهائل من روایات المعارف .

وقد یُعترض بأنّ دأبهم علی ذلک إنّما هو لتحصّل الاستفاضة والتواتر لا اعتماداً علی خبر الواحد بما هو .

ویُجاب عنه : بأنّه وإن تمّ ذلک وصحّ إلّاأنّ نقل واحد لآخر فی سلسلة الأسانید ظاهر فی اعتمادهم علی الراوی الواحد ، وإلّا لروی کلّ راوٍ عن جماعة فی سلسلة السند . والسیرة عکس ذلک کما هو واضح فی اعتماد المفسّرین علی الدلالة الظنّیة المعتبرة فی الآیات ، بل ومطلق المتشرّعة یعتمدون علی ذلک فی إثبات تفاصیل المعارف ، بل إنّ أمّهات المباحث المغلقة فی المعارف یُتنبّه إلی وجه الحقیقة فیها بإشارة الآیات والروایات .

وهذا ما ذکرناه سابقاً فی المقام الأوّل من أنّه حتّی لو بنی علی عدم حجّیة الظنّ وعلی عدم التکلیف بالإیمان فی العقائد ، یبقی لزوم الفحص فی الآیات والروایات ثابتاً عقلاً ، إذ العقل یلزم باستیفاء الفحص فی حرکة الفکر بین المحتملات فی عملیّة استنتاج المطلوب .

فکما أنّ الباحث العقلیّ فی المعارف یتتبّع الوجوه المختلفة فی الاستدلال والنظریّات المتعدّدة ، ولا یعتمد فی دائرة الفحص علی حدود المعلومات والمحتملات التی لدیه ، بل یشرک عقول ومعلومات الآخرین مع عقله

ص:77

ومعلوماته ، فالأحری به عقلاً أن یبحث عن مؤدّیات الطرق إلی الوحی الذی هو نافذة علی الغیب لا تصل العقول الجزئیّة إلیها بالتفصیل ، فهذا وجه ثالث للزوم الفحص فیما نقل عن الوحی .

ومفاد هذا الوجه هو مفاد ما ورد من الشرع الحنیف من الحثّ علی الاستشارة ومشارکة عقول الرجال وعدم الاستبداد بالرأی ، وهو مفاد ما یصطلح علیه من الرجوع إلی بنک المعلومات فی کلّ حقل من حقول العلم .

بل هناک وجه رابع غیر مبنیّ أیضاً علی وجود الحکم الشرعیّ فی المقام الأوّل والثانی ، وحاصله أنّ الوحی القطعیّ یقع وسطاً برهانیّاً فی القیاس العقلیّ للنتیجة العقلیّة البحتة من دون ارتباط بالحکم الشرعیّ الاعتقادی ، لما تبیّن من برهانیّة معاجز الأنبیاء والأوصیاء علیهم السلام علی صدق اطّلاعهم علی الغیب وواقعیّات الأشیاء بتوسّط الوحی بنحو أرفع من القضایا الیقینیّة البدیهیّة .

وحیث کان کذلک ، فیلزم العقل بالفحص وتحصیل الطریق القطعیّ إلی الوحی ، ویتمّ استحصال ذلک عبر تراکم الدلالات والطرق الظنّیة حتّی یرتقی الاحتمال فیها إلی القطع علی ما حقّق فی بحث الاستقراء من علم المنطق .

وهذا الوجه یفترق عن الثالث بأنّه مبنیّ علی الحجّیة العقلیّة للوحی والاستفادة منها فی التصدیق والإذعان ، أمّا الثالث فقد بُنی علی مجرّد استفادة أصل التصوّر المحتمل فی عملیّة الفحص .

فهذه وجوه أربعة تلزم عقلاً بالرجوع فی المعارف إلی منقولات الوحی .

ومن المناسب فی المقام التعرّض إلی ما ذکره کلّ من الفخر الرازی والمحقّق الخواجة نصیرالدین الطوسی فی تلخیص المحصّل ( نقد المحصّل ) فی المقدّمة الثانیة من الرکن الأوّل المعقودة لأحکام النظر فی مسألة : « لا حاجة فی معرفة اللّه

ص:78

تعالی إلی المعلّم(1) ، حیث قال الفخر الرازی :

« لا حاجة فی معرفة اللّه ( تعالی وتقدّس ) إلی المعلّم خلافاً للملاحدة .

لنا : أنّه متی حصل العلم بأنّ العالم ممکن ، وکلّ ممکن فله مؤثّر ، علمنا أنّ العالم له مؤثِّر سواء کان هناک معلّم أو لا .

واعتمد الجمهور منّا(2) ومن المعتزلة فی إبطال قولهم علی أمرین :

أحدهما : أنّ حصول العلم بالشیء لو افتقر إلی معلّم لافتقر المعلّم فی کونه معلّماً إلی معلّم آخر ، ولزم التسلسل .

والثانی : أنّا لا نعلم کون المعلّم صادقاً إلّابعد العلم بأنّ اللّه تعالی صدّقه بواسطة إظهار المعجزة علی یدیه ، فلو توقّف العلم باللّه سبحانه علی قوله ، لزم الدور .

وهذان الوجهان ضعیفان عندی .

أمّا الأوّل : فلاحتمال أن یکون عقل النبیّ والإمام أکمل من عقول سائر الخلق ، فلا جرم کان عقله مستقلّاً بإدراک الحقائق ، وعقل غیره لم یکن مستقلاً ، فکان محتاجاً إلی التعلیم .

وأمّا الثانی : فلأنّ ذلک إنّما یلزم علی من یقول : العقل معزول مطلقاً وقول المعلّم وحده مفید للعلم .

ص:79


1- (1) تلخیص المحصّل : 50 .
2- (2) یعنی الأشاعرة .

أمّا من یقول : العقل لابدّ منه لکنّه غیر کافٍ ، بل لابدّ معه من معلّم آخر یرشدنا إلی الأدلّة ویوقفنا علی الجواب فی الشبهات ، لا یلزمه ذلک .

لأنّه یقول : عقولنا غیر مستقلّة بمعرفة الدلائل والجواب عن الشبهات ، فلابدّ من إمام یعلّمنا تلک الأدلّة والأجوبة ، حتّی أنّا بواسطة تعلیمه وقوّة عقولنا نعرف تلک الحقائق ، ومن جملة تلک الحقائق هو أنّه یعلّمنا ما یدل علی إمامته ، وعلی هذا التقدیر لا یلزم الدور والتسلسل .

واحتجّوا بأنّا نری الاختلاف مستمرّاً بین أهل العالم ، ولو کفی العقل لَما کان کذلک ، ولأنّا نری أنّ الإنسان وحده لا یستقلّ بتحصیل أضعف العلوم ، بل لابدّ له من استاذ یهدیه ، وذلک یدلّ علی أنّ العقل غیر کاف .

والجواب عنالأوّل : أنّ من أتی بالنظر علی الوجه المذکور لا یعرض له ما ذکرت .

وعنالثانی : أنّه لا نزاع فی التعبیر ، لکن الإمتناع ممنوع ، وإلّا لزم التسلسل . ثمّ إنّا نطالبهم بتعیین ذلک الإمام ونبیّن أنّه من أجهل الناس . انتهی کلام الرازی .

وقد علّق علیه المحقّق الخواجه نصیر الدین الطوسی رحمه الله بقوله :

« أقول : هم لا ینکرون استلزام مقدّمات إثبات الصانع لنتائجها ، لکن یقولون هذا وحده لا یجزی ولا تحصل به النجاة إلّاإذا اتّصل به تعلّم ، لقول النبیّ صلی الله علیه و آله و سلم :

امرت أن اقاتل الناس حتی یقولوا : لا إله

ص:80

إلا الله . (1)

وکثیر من الناس کانوا یقولون بالتوحید ، لکنّهم لما لم یأخذوا ذلک منه ما کان یقبل قولهم .

وأمثال هذه کثیرة ، مثل : ( قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ ) (2) و : (

فاعلم أنه لا إله إلا الله ) (3) ، فاُمِر بهذا القول وهذا العلم ، فإن لم یقبلوا قوله کفّرهم ، مع أنّهم معترفون بوجود الصانع ، کما حکی عنهم قوله عزّ من قائل : ( وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ لَیَقُولُنَّ اللّهُ ) (4) ، وفی أمثاله ، فلو کانت العقول کافیة لقالت العرب : نحن نثبت الصانع بعقولنا ونعرف توحیده ولا نحتاج فی ذلک إلیک .

وقد اختصر مقدّمهم هذا فی کلام موجز وهو قوله : العقل یکفی أو لا ؟ فإن کان یکفی فلیس لأحد من الخلق حتّی الإنبیاء علیهم السلام هدایة غیره من العقلاء ، وإن لم یکف فهو اعتراف بالاحتیاج إلی التعلیم .

ولهم کلام کثیر فی إثبات مذهبهم .

والحقّ أنّ التعلیم فی المعقولات لیس بضروریّ مع أنّه إعانة وهدایة وحثّ علی استعمال العقل ، وفی المنقولات ضروریّ ، والأنبیاء ما جاءوا لتعلیم الصنف الأوّل وحده ، بل له وللصنف

ص:81


1- (1) بحار الأنوار : 37 : 113 .
2- (2) التوحید : 1 .
3- (3) محمّد صلی الله علیه و آله و سلم 47 : 19 .
4- (4) العنکبوت 29 : 61 .

الثانی؛ فإنّ العقل لا یتطرّق إلی ما یرشدون إلیه .

وأما قوله : « إنّا نطالبهم بتعیین ذلک الإمام ونبیّن أنّه من أجهل الناس » فغیر لازم علیهم؛ لأنّهم ما یدّعون أنّ إمامهم یعلّمهم علماً ، إنّما یدّعون أنّ متابعته والاعتراف بإمامته إذا صار مضافاً إلی المعارف العقلیّة وغیرها حصّل النجاة ، وإلّا فلا ، وضعف هذه الدعوی وتعرّیها عن الحجّة ظاهر غیر محتاج فیهما إلی إطناب » ، انتهی کلام الخواجه رحمه الله .

أقول : قد عرفت أنّ لزوم استعانة العقل بالوحی یمکن أن یصاغ بأربعة وجوه ولا ینحصر بالوجهین الأوّلین وإن کانا تامّین کما تقدّم(1) .

وقد أشار الفخر الرازی إلی الوجه الثالث الذی ذکرناه فی تضعیفه للدلیل الأوّل من أدلّة المعتزلة والأشاعرة ، بتقریب أنّ عقل النبیّ والإمام ( الوحی ) أکمل من عقول سائر الخلق ، وبالتالی احتاجت عقولهم إلی الإستعانة بالتعلیم أی فی أصل إحداث التصوّر .

کما أشار هو نفسه إلی الوجه الرابع الذی قدّمناه فی تضعیفه للدلیل الثانی من أدلّة الأشاعرة والمعتزلة ، حیث ذکر أنّ العقل لیس بمعزول ، والمعلّم وحده غیر مفید ، بل العقل لابدّ منه کما لابدّ معه من معلّم آخر یرشدنا إلی الدلائل ویوقفنا علی الحقائق .

وأمّا جواب الرازی عن أدلّة لزوم التعلیم : بأنّ مَن أتی بالنظر وأقام الاستدلال لم یعرض له الاختلاف أو الحیرة ، وأنّ امتناع استقلال الإنسان وحده ممنوع .

ص:82


1- (1) الصفحة 61 ، 63 .

فیلاحظ علیه : أنّ الحقیقة لما کانت واحدة فمن اختلاف أهل النظر یعلم عدم إصابة جمیعهم للحقیقة ، ولذا لا یُری فی الأنبیاء والرسل ( سفراء الوحی ) أیّ اختلاف فی الاُصول الأوّلیّة .

فالناظر یری أنّ الحکماء اختلفوا فی الصفات الذاتیّة الاُمّ للذات الأزلیّة کالاختلاف فی صفة العلم بین مدارس المشّاء والإشراق والحکمة المتعالیة والعرفان ، والاختلاف بین الأشاعرة وغیرهم ، کما لم یتمکّن الحکماء من إثبات المعاد الجسمانیّ طیلةَ قرون متمادیة ، حتّی قال ابن سینا فی « الشفاء » :

« یجب أن یعلم أنّ المعاد منه ما هو منقول من الشرع ولا سبیل إلی إثباته إلّامن طریق الشریعة وتصدیق خبر النبوّة وهو الذی للبدن عند البعث ، وخیرات البدن وشروره معلومة لا یحتاج إلی أن تُعلم ، وقد بسطت الشریعة الحقّة التی أتانا بها نبیّنا وسیّدنا ومولانا محمّد صلی الله علیه و آله و سلم حالَ السعادة والشقاوة التی بحسب البدن . ومنه ما هو مُدرک بالعقل والقیاس البرهانیّ وقد صدّقته النبوّة وهو السعادة والشقاوة الثابتتان بالقیاس اللتان للأنفس »(1) ، انتهی .

فهذا حال الفلاسفة إلی عصر الملّا صدرا الذی تمکّن من الالتفات إلی وجوه الاستدلال العقلیّ علی المعاد الجسمانی ، وذلک ببرکة تنبیه الوحی من آیاتٍ وروایاتٍ (2) علی بقاء هویّة الشخص ببقاء روحه .

ومثل ما هو معروف ، من أنّ الفلسفة الیونانیة کانت تشتمل علی ثلاثمائة مسألة

ص:83


1- (1) إلهیات الشفاء : المقالة 9 ، الفصل 7 .
2- (2) أقول : مراده ( حفظه اللّه ) من جعل الروایات وحیاً أنّ منبع علم الأئمّة علم النبیّ وهو صلی الله علیه و آله و سلم( وَ ما یَنْطِقُ عَنِ الْهَوی * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْیٌ یُوحی ) .

ثمّ اثری البحث فیها - ببرکة معارف الشریعة - إلی ما یربو علی ثمانمائة مسألة(1) .

فإنّ مقتضی ما أفاده رحمه الله استناد تضاعف أعداد أبواب المعرفة فی الحکمة الإسلامیّة إلی ما یقدحُه الوحی من أصل تصوّر تلک الأبواب بعد أن کانت مسدودة بالجهل المرکّب ، فضلاً عن إرشادات الوحی وتنبیهاته إلی وجوه الأدلّة العقلیّة التی من خلالها یتوصّل إلی إقامة الأقیسة العقلیّة البحتة علی النتیجة .

هذا وقد ذکر الملّاصدرا وغیره من الحکماء وأصحاب التراجم أنّ عدّة من الفلاسفة الأوائل کانوا من الأنبیاء علیهم السلام ، ومن هنا کان طابع المدرسة المشّائیّة ومن بعدها الإشراقیّة ثمّ مدرسة الحکمة المتعالیة - وهو الدرجة القصوی ممّا وصلت إلیه الفلسفة البشریّة - علی المزاوجة بین منابع المعرفة ، بین الوحی من جانب وبین ذائقة القلب فی مشاهداته وإدراکات العقل فی المعانی المفهومة من جانب آخر .

قال الملّاصدرا فی فصلٍ عَقَدَه فی طریق التوفیق بین الشریعة والحکمة فی دوام فیض الباری وحدوث العالم :

« قد أشرنا مراراً إلی أنّ الحکمة غیر مخالفة للشرائع الحقّة الإلهیّة ، بل المقصود منهما شیء واحد هی معرفة الحق الأوّل وصفاته وأفعاله ، وهذه تحصل تارة بطریق الوحی والرسالة فتُسمّی بالنبوّة ، وتارة بطریق السلوک والکسب فتُسمّی بالحکمة والولایة .

وإنّما یقول بمخالفتهما فی المقصود من لا معرفة ( له ) بتطبیق

ص:84


1- (1) وقد یصل إلی تسعمائة مسألة .

الخطابات الشرعیّة علی البراهین الحِکَمیّة ، ولا یقدر علی ذلک إلّا مؤیّد من عند اللّه ، کامل فی العلوم الحِکَمیّة مُطّلِع علی الأسرار النبویّة ، فإنّه قد یکون الإنسان بارعاً فی الحکمة البحثیّة ولا حظّ له من علم الکتاب والشریعة أو بالعکس .

فالعقل السلیم إذا تأمّل تأمّلاً شافیاً وتشبّث بذیل الإنصاف متبرّیاً عن المیل والانحراف والعناد والاعتساف ، وتدبّر أنّ طائفة من العقول الزکیّة والنفوس المطهّرة - الذین لم تتنجّس بواطنهم بأرجاس الجاهلیّة ، ولم ینحرفوا عن سبیل التقدیس ، ولم یأتوا بباطل ولا تدلیس ، وکانوا مؤیّدین من عند اللّه بأمور غریبة فی العلم والعمل ، معجزاتٍ وخوارق للعادات من غیر سحرٍ وحِیلٍ ولا غشّ ولا دغل - ثم أصرّوا علی القول بحدوث هذا العالم وخرابه وبواره وانشقاق أسقافه وانهدام طاقاته وتساقط کواکبه وانکدارها ، وطیّ سماواته وبَیْدِ أرضه وانفجار بحارها وسَیَران(1) جبالها ونسفها وبالغوا فی ذلک وتشدّدوا فی الإنکار علی منکریه(2) مع أنّه لا یضرّهم القول بقِدم العالم مع بقاء النفوس بعد الأبدان الشخصیّة وإثبات الخیرات والشرور النفسانیة فی المعاد ، ولا یُخلّ بالشریعة فی ظاهر الأمر ، فیجزم لا محالة بأنّهم ما نطقوا عن الهوی ، وأنّ ما أخبروا عن یقین حقّ واعتقاد صدق . ثمّ إذا رجعنا إلی البراهین العقلیّة . . . » .

ص:85


1- (1) کذا فی الأصل ، والأصحّ : « تسییر » .
2- (2) أی حدوث العالم .

إلی أن یقول :

« فإذن الجمع بین الحکمة والشریعة فی هذه المسألة العظیمة لا یمکن إلّابما هدانا اللّه إلیه وکشف الحجاب عن وجه بصیرتنا . .

الخ »(1) .

فإنّک تراه یزاوج فی منبع المعرفة لمدرسة الحکمة المتعالیة ، ویصرّح بأنّ قول المعصوم وسط برهانیّ ، حتّی أنّه فی مسألة حدوث العالم المادّی التی اشتهر إنکارها عن الحکماء الأوائل ، لم یعبأ بآرائهم فی قبال قول المعصوم علیه السلام المقطوع به ، وقد وصف هذه المسألة بالمسألة العظیمة فی معارف الحکمة .

وقال ابن سینا فی إلهیات الشفاء :

« واعلم أنّ أکثر ما یقرّ به الجمهور وینزع إلیه ویقول به فهو حقّ ، وأنّما یدفعه هؤلاء المتشبّهة بالفلاسفة ، جهلاً منهم بعلله وأسبابه ، وقد عملنا فی هذا الباب کتاب البِرّ والإثم ، فتأمّل شرح هذه الأمور من هناک وصدّق بما یحکی من العقوبات الإلهیّة النازلة علی مدنٍ فاسدة ، وأشخاص ظالمة ، وانظر أنّ الحقّ کیف یُنصر ؟ »(2) .

هذا والملاحظ أنّ کثیراً من الأجیال البشریّة إلی یومنا هذا ، حتّی الکثیر من عامّة المسلمین ، یذهبون إلی تجسیم ربّ العزّة سبحانه واشتقاق الخلق منه بالتولید . ولولا برکات هدایة العترة من آل محمّد علیهم السلام لقال قاطبة المسلمین بذلک ، إذ أنّهم علیهم السلام قد تصدّوا لنفی التجسیم عنه تعالی ونفی الأین والمکان ،

ص:86


1- (1) الأسفار الأربعة : 7 : 326 .
2- (2) إلهیّات الشفاء : 439 ، المقالة 10 .

ونفی الکیف والزمان ، کما تصدّوا لنفی التعطیل بإخراجه تعالی عن حدّ التعطیل وحدّ التشبیه(1) .

کما إنّهم علیهم السلام تصدّوا لنفی شبهتی الجبر والتفویض ، ودفع شبهات القدریّة والمرجئة ، وأوضحوا الجادّة الحنیفیّة بقولهم علیهم السلام : «

لا جبر و لا تفویض ، و إنما هو أمر بین أمرین » (2) .

وکذلک بیّنوا الحقائق وکشفوا الکثیر من المعضلات فی معارف التوحید ، ومنها العدل ومعارف المعاد والنبوّة والإمامة .

وبالجملة ، فالعقل وإن استقلّ بالحکم والاستدلال فی المعارف ابتداءً وانتهاءً ، إلّا أنّه فی حاجة إلی التنبیه والدلالة من وحی السماء کی یصل إلی الحقائق التی لم یکن من شأنه إدراکها بمفرده ، وإلّا لم یکن هناک فرق بین العقول المحیطة الأولی والعقول الجزئیّة فی سعة الإحاطة الوجودیة بالحقائق ، وسیأتی المزید من بیان العلاقة بین العقل والوحی فی نهایة هذا الفصل إن شاء اللّه ، ومن ثمّ سیقع الکلام فی هذا الفصل عن میزان الاستدلال بکلّ من طریقی الوحی ( الکتاب والسنّة ) وطریقی النفس العقل والقلب .

وفی ختام هذه المقدّمة لا بدّ من التنبیه علی أنّه حیثُ کان کلٌّ من طریقی الوحی وطریقی النفس منبعاً للمعارف ، فیجب الإحاطة - فی کلّ مسألة معرفیّة - بکلّ هذه الطرق(3) ، ففی طریقی الوحی یجب الإحاطة بآیات المعارف والتفاسیر الواردة فی ذیلها ، وباستقصاء أبواب روایات المعارف لتحصیل المتواتر منها

ص:87


1- (1) الکافی : 1 : 82 . معانی الأخبار : 213 ، وغیرهما .
2- (2) بحار الأنوار : 4 : 197 .
3- (3) أقول : هذا التعمیم لا یخلو من إشکال ، بل منع ، فلاحظ .

والمستفیض وغیرهما ، بالإضافة إلی التدرّب العمیق فی فنون درایة فقه المعارف . وفی طریقی النفس لابدّ من الإلمام بالوجوه العقلیّة والذوقیّة - المبرهنة - بتفاصیلها .

ص:88

المقام الثانی : فی البحث عن ضابطة اصول الاعتقادات

اشارة

یُطلق الأصل فی اللغة علی معنیین :

أحدهما : أساس الشیء ، فکأنّ الشیء تابع وفرع له .

والثانی : العقل ، وهو بلحاظ ما یوزن به الشیء ویقاس به .

ویُطلق فی إصطلاح أهل الفنّ :

أوّلاً : علی القاعدة التی یستفاد منها فی مقام التطبیق . کالقواعد الفقهیّة وقواعد الحِکمة العامّة ، فإنّ الاستفادة منها تطبیقیّة ، وما یستنتج منها هو صغریات لهذه القاعدة ، وبهذا اللحاظ سمّیت أصلاً .

وثانیاً : علی ما یحدّد المنهَجَة والأسلوب فی البحث والاستدلال وموازینهما من قبیل علم المنطق بالنسبة إلی الفلسفة ، وعلم الاُصول بالنسبة إلی الفقه .

والمراد بالتطبیق هو مجیء المحمول - المأخوذ فی کبری الاستدلال - بعینه فی النتیجة ، ویتشکّل من قیاس حقیقیّ ، وأمّا میزان الاستدلال وقواعده ، فلا تکون هی عین النتیجة فی قیاس الاستدلال ، وإنّما یکون الاستدلال والقیاس بهیئة وصورة تلک القواعد ، ومن ثمّ لم تکن قواعد علم المنطق وعلم اصول الفقه واقعة فی محمولات أقیسة الاستنتاج والاستنباط للأحکام العقلیّة أو الشرعیّة .

فتحصّل : أنّ للأصل معنیین اصطلاحیّین منقولین من المعنیین اللغویین .

وعلی ضوء هذین المعنیین یتّضح أنّ لاُصول المعارف والاعتقادات معنیین أیضاً :

أوّلهما : القواعد العامّة المنطبقة علی جزئیّات قضایا المعارف والاعتقادات ،

ص:89

وهی مبحوثة فی کلّ علم من علوم الکلام والفلسفة والعرفان ، وعلمَی التفسیر والحدیث .

ثانیهما : قواعد المنهجة وموازین الاستدلال فی المعارف والاعتقادات - أی علم منطق المعارف والاعتقادات - وهی مبحوثة فی کلّ من علمَی المنطق واُصول الفقه .

فالمنطق توزَن به صحّة الاستدلال بالأدلة العقلیّة ، وعلم اصول الفقه بمنزلة منطق العلوم الدینیّة أجمع ، إذ المراد بالحکم الشرعیّ - فی تعریفه وهو « العلم بالقواعد الممهّدة فی إستنباط الحکم الشرعی » - هو الأعمّ من الحکم الاعتقادیّ والفرعیّ ، سواء فی مسائل المعارف أم الآداب أم الأخلاق والسنن أم مسائل الفقه .

بل إنّ التمعّن والتدقیق فی العلوم یؤکّد للباحث دخول علم المنطق فی کلّ إستدلال من أیّ علم ، لأنّ هیئة القیاس تُعرف به ، کما یدلّه علی دخول اصول الفقه فی منهجة علوم المعرفة ، دینیّة کانت أو عقلیّة ، فإنّ الملاءمة بین الحجج العقلیّة والنقلیّة والکشفیّة - وهی مسألة بحثها الملّاصدرا فی العدید من کتبه - من مسائل علم اصول الفقه ، وتعرّض لها الأصولیون بنحو مبسوط لم یلحظ فی أیّ علم آخر .

وکذا بحثوا دائرة حجّیة العقل ، وهی مسألة ضروریّة فی أبحاث المعارف ، ولذا تجد علماء الکلام وأمثالهم من علماء المعارف یبحثونها فی مقدّمة أبحاثهم قبل مسائل العلم .

وقد سمعتَ قبلُ کلام إبن سینا فی البحث عن المعاد الجسمانیّ ، حیث مهّد فی مستهلّ ذلک الفصل وجه حجّیة النقل عن الشریعة فی الاستدلال علی المعاد

ص:90

الجسمانیّ ، کما تقدّم کلام الملّاصدرا فی التوفیق بین الحجج(1) .

وبذلک یتّضح أنّ لکلٍّ من علم المنطق وعلم اصول الفقه دوراً فی منهجة الاستدلال ، فالأوّل من ناحیة هیئة الاستدلال وأشکال الأقیسة والبراهین ، والثانی من جهة مواد الاستدلال ، وإن کان الأوّل یتضمّن البحث فی المواد إجمالاً ، کباب صناعة التحلیل والترکیب من علم المنطق ، کما أنّ الثانی یتضمّن البحث فی الهیئات إجمالاً ، کالبحث فی العموم والخصوص والمطلق والمقیّد .

ومن ذلک تری بعض البحوث المشترکة بین العلمَین ، کالبحث عن حجّیة التواتر والاستقراء ، وحجّیة القطع والیقین الذاتیّة والقیاس المنصوص العلّة .

هذا ، لکن المنطقیّ یبحث فی الحجّیة من حیث تولیدها الإذعان تارة عند المستدِل نفسه إذا استندت إلی مقدّمات یقینیّة کما فی البرهان ، واُخری تفید إذعاناً جازماً وإن لم تستند إلی مقدّمات یقینیّة تفید إلزام المقابل وقطع العذر علیه وهو صناعة الجدل ، وثالثة ورابعة وخامسة فی جهات اخری هی صناعة المغالطة وصناعة الخطابة وصناعة الشعر(2) .

والاُصولیّ یبحث فی الحجّیة ذات الموادّ الیقینیّة أو المنتهیة إلی الیقین ،

ص:91


1- (1) وهما مسألتان اصولیّتان ، کما إنّ العلّامة الطباطبائی قدس سره فی رسالة الاعتباریّات وفی کتاب اسس الفلسفة والمذهب الواقعی فی فصل الاعتباریّات ، عندما بیّن أهمّیة البحث عن الاعتباریّات ، وأنّه فصل قد أغفله الفلاسفة المتقدّمون ، کانت جلّ المباحث التی ذکرها فیهما ممّا نقّحه علماء الاُصول ، أمثال المحقّق النائینی والعراقی والإصفهانی رحمهم الله .
2- (2) إعلم أنّ المغالطة هی الاستدلال المفید تصدیقاً جازماً یجعل المطلوب فی صورة الحقّ مع أنّه لیس بحقّ واقعاً . وصناعة الخطابة : ما یفید تصدیقاً غیر جازم لأجل إقناع الجمهور ، والشعر : ما یفید التخیّل والتعجّب ونحوهما دون التصدیق ، والغرض منه حصول الانفعالات النفسیّة .

عن الإلزام ( التنجیز ) وقطع العذر ، ویمتاز علم الاُصول باستیفاء البحث عن دلیلیّة جمیع الحجج - وکلّ ما یتوقّع له الحجّیة - والبحث عن النسبة بین الأدلّة ، فرتبته تستشرف علی العلوم الباحثة فی منهجة الاستدلال ، ومن ثمّ کان عبارة عن ضوابط وموازین خطیرة فی ( نظریّة المعرفة الدینیّة ) بل فی ( نظریّة المعرفة ) .

غایة الأمر أنّ علم الاُصول یبحث عن تلک الموازین بما هی ممهّدة لتلک الأمور بلحاظ ارتباطها بالحکم الشرعیّ لا بما هی هی .

وبهذا یتّضح أنّ هناک تعاوناً وتکافلاً بین العلوم بعضها وبعض ، کما هو الحال بین علمَی المنطق واُصول الفقه ، وبینهما وبین مدارس المعرفة الاُخری من الفلسفة والکلام وعلم التفسیر وغیرها ، وقد یتقدّم بعضها باعتبار ، ویتأخّر باعتبار آخر .

الرابطة بین علم اصول الفقه والعلوم القلبیّة

انتهینا للتوّ إلی أنّ علم الاُصول میزان منطقیّ فی المعارف ، فهل هو کذلک بالنسبة إلی مدرسة العرفان والمشاهدات القلبیّة ؟

من المناسب هنا التعرّض لما صرّح به القیصریّ فی مقدّمات شرحه للفصوص حیث قال :

« وکما أنّ النوم ینقسم لأضغاث أحلام وغیرها ، کذلک ما یری فی الیقظة ینقسم إلی أمور حقیقیّة محضة واقعة فی نفس الأمر ، وإلی أمور خیالیة صرفة لا حقیقة لها شیطانیّة ، وقد یخالطها الشیطان بیسیر من الأمور الحقیقیّة لیضلّ الرائی ، لذلک یحتاج السالک إلی مرشد یرشده وینجیه من المهالک .

والأوّل إمّا أن یتعلّق بالحوادث أو لا . فإن کان متعلّقاً بها ، فعند

ص:92

وقوعها کما شاهدها ، أو علی سبیل التعبیر وعدم وقوعها ، یحصل التمییز بینها وبین الخیالیّة الصرفة ، وعبور الحقیقة عن صورتها الأصلیّة إنّما هو للمناسبات التی بین الصور ، الظاهرة هی فیها ، وبین الحقیقة ، ولظهورها فیها أسباب کلّها راجعة إلی أحوال الرائی وتفصیله یؤدّی إلی التطویل .

وأمّا إذا لم یکن کذلک ، فللفرق بینها وبین الخیالیّة الصرفة موازین یعرفها أرباب الذوق والشهود بحسب مکاشفاتهم ، کما أنّ للحکماء میزاناً یفرّق بین الصواب والخطأ ، وهو المنطق .

منها ما هو میزان عامّ وهو القرآن والحدیث المنبئ کلّ منهما عن الکشف التام المحمدی صلی الله علیه و آله و سلم .

ومنها ما هو خاصّ ، وهو ما یتعلّق بحال کلّ منهم الفایض علیه من الإسم الحاکم والصفة الغالبة علیه ، وسنومئ فی الفصل التالی بعض ما یعرف به إجمالاً » .

وقال فی الفصل السابع :

« ولمّا کان کلّ من الکشف الصوریّ والمعنویّ علی حسب استعداد السالک ومناسبات روحه وتوجّه سرّه إلی کلّ من أنواع الکشف - وکانت الإستعدادات متفاوتة والمناسبات متکثّرة - صارت مقامات الکشف متفاوتة بحیث لا یکاد ینضبط . وأصحّ المکاشفات وأتمّها إنّما یحصل لمن یکون مزاجه الروحانیّ أقرب إلی الاعتدال التامّ ، کأرواح الأنبیاء والکمّل من الأولیاء علیهم السلام »(1) ، انتهی .

ص:93


1- (1) شرح فصوص الحکم : الفصل 6 و 7 من الفصول التی ذکرها فی المقدّمة .

أقول : وقد برهن فی ذیل کلامه علی أنّ المیزان للواردات القلبیّة والمکاشفات والمشاهدات - أی میزان المعرفة القلبیّة المائز بین الحقّ الحقیقیّ منه والباطل الشیطانیّ أو الخیالیّ - هو القرآن الکریم والسنّة المطهّرة ، وهو کشف الأنبیاء والرسل علیهم السلام المتجلّی فی الکتب السماویّة التی بُعثوا بها ، وفی أقوالهم وفی أفعالهم . ولا یخفی أنّ ضابطة العرض علی الکتاب والسنّة منوطة بما یتوصّل إلیه البحث فی علم الاُصول .

ونظیر ذلک ما قاله السید حیدر الآملی :

« وأمّا الإلهام العامّ فیکون بسبب وغیر سبب ، ویکون حقیقیّاً وغیر حقیقیّ . فالذی یکون بالسبب ویکون حقیقیّاً ، فهو بتسویة النفس وتحلیتها وتهذیبها بالأخلاق المرضیّة والأوصاف الحمیدة ، موافقاً للشرع ومطابقاً للإسلام ، لقوله تعالی : ( وَ نَفْسٍ وَ ما سَوّاها * فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها ) (1) .

والذی یکون بغیر سبب ویکون غیر حقیقیّ ، فهو یکون لخواصّ النفوس واقتضاء الولادة والبلدان ، کمایحصل للبراهمة والکشایش(2) والرهبان .

والتمییز بین هذین الإلهامین محتاج إلی میزان إلهیّ ومحکّ ربّانیّ ، وهو نظر الکامل المحقّق والإمام المعصوم والنبیّ المرسل المطّلع علی بواطن الأشیاء علی ما هی علیه ، واستعدادات الموجودات وحقائقها .

ص:94


1- (1) الشمس 91 : 7 و 8 .
2- (2) أی القساوسة .

ولهذا احتجنا بعد الأنبیاء والرسول علیهم السلام إلی الإمام المرشد ، لقوله تعالی : ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّکْرِ إِنْ کُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (1) .

لأنّ کلّ واحد لیس له قوّة التمییز بین الإلهامَین ، الحقیقیّ وغیر الحقیقیّ ، وبین الخاطر الإلهیّ والخاطر الشیطانیّ ، وغیر ذلک .

والذکر هو القرآن أو النبیّ ، وأهله هم أهل بیته من الأئمّة المعصومین المطّلعین علی أسرار القرآن وحقائقه ودقائقه . ولقوله تعالی أیضاً تأکیداً لهذا المعنی : ( فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِی شَیْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَی اللّهِ وَ الرَّسُولِ ) (2) أی إلی أهل اللّه تعالی وأهل رسوله .

والآیات الدالّة علی متابعة الکامل والمرشد الذی هوالإمام المعصوم أو العلماء الورثة من خلفائهم ، کثیرة ، فارجع إلیها لأنّ هذا لیس موضعها .

فنرجع ونقول : وإن تحقّقتَ ، عرفتَ أیضاً أنّ الخواطر - التی قسّموها إلی أربعة أقسام : إلهیّ وملکیّ وشیطانیّ ونفسانیّ - کان سببه ذلک ، أی عدم العلم بالإلهامین المذکورین ، أعنی الحقیقیّ وغیر الحقیقیّ ، لأنّها کلّها من أقسام الإلهام وتوابعه »(3) ، انتهی .

ونقل المتّقی الهندی صاحب کتاب « کنز العمال » فی کتابه « البرهان فی علامات مهدیّ آخر الزمان » عن الحسن الشاذلیّ المالکیّ رئیس الطریقة الشاذلیّة ( الصوفیّة ) أنّه قال :

ص:95


1- (1) النحل 16 : 43 . الأنبیاء 21 : 7 .
2- (2) النساء 4 : 59 .
3- (3) جامع الأسرار ومنبع الأنوار : 455 .

« إنّ اللّه تعالی ضمِن العصمة فی جانب الکتاب والسنّة ولم یضمنها فی جانب الکشف والإلهام ، انتهی .

ونقل عن أبی القاسم القشیریّ النیشابوریّ الأشعریّ الشافعیّ أنّه قال :

لا ینبغی للمرید أن یعتقد فی المشایخ العصمة من الخطأ والزلل »(1) ، انتهی .

وما ذکروه یشیر إلی ما روی عن أهل البیت علیهم السلام : «

إن للقلب اذنین ینفث فیهما الملک المرشد و الشیطان المفتن » (2) .

إشارة إلی قوله عزّ وجلّ : ( عَنِ الْیَمِینِ وَ عَنِ الشِّمالِ قَعِیدٌ ) (3) ، وقوله سبحانه : ( وَ أَیَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ) (4) .

فتحصّل أنّ المعارف القلبیّة لابدّ من تمحیصها ووزنها بکلّ من الوحی الإلهیّ والعقل ، وقد عرفت دور علم اصول الفقه فی وضع المنهج والمیزان للأدلّة .

وفی نهایة المطاف یتبیّن أنّه لا مکابرة فی القول بأنّ اصول الفقه هو منطق العلوم الدینیّة من الکلام والتفسیر والآداب والأخلاق وسائر المعارف الدینیّة بالإضافة إلی الفقه ، بل ومنطق المعارف مطلقاً ، کما هو حال علم المنطق المعروف ، فتکون موازین العلم الأوّل هی أحد معنیی اصول الاعتقادات واُصول المعارف .

هذا إذا ارید المعنی الأوّل للأصل ، وهو میزان الاستدلال وضابطة منهج البحث

ص:96


1- (1) البرهان فی علامات مهدیّ آخر الزمان : 66 .
2- (2) الکافی : 2 : 266 .
3- (3) ق 50 : 18 .
4- (4) المجادلة 58 : 22 .

فی الاستنتاج .

أمّا إذا ارید المعنی الثانی - أی القواعد التطبیقیّة العامّة فی المعارف - فقد عرفت عدم حصرها بالقواعد العامّة الفلسفیّة - غیر الحدسیّة الظنّیّة - فی بحث الإلهیّات ، بل تشمل القواعد الکلامیّة والذوقیّة المبرهنة ، وهی مدرکات القلب المتنزّلة بلغة عقلیّة مبرهنة أو متطابقة مع الأدلّة النقلیّة القطعیّة .

هذا من جانب ، ومن جانب آخر - هو العمدة - تشمل قواعد معارف القرآن الکریم والأبواب الروائیّة المتعدّدة ، أعنی القواعد المستقاة منهما بلغة عقلیّة وذوقیّة موزونة لا بلسانٍ بحثیّ بحتٍ !

وبعدما اتّضح الأصل بالمعنی السابق ، یتبیّن أنّ جمیع تلک القواعد تشکلّ اصول المعارف - بالمعنی الثانی - وتتمّ الملاءمة بینها - فی مقام الاستدلال - بعلمَی اصول الفقه والمنطق .

ص:97

المقام الثالث : لمحة عن مناهج مدارس المعارف

اشارة

تنقسم مدارس المعارف إلی علوم الفلسفة والعرفان والکلام والعلوم الغریبة بالإضافة إلی مدرستی التفسیر والحدیث فی بُعد الأسرار والمعارف .

1 -علم الفلسفة : وقد بدأ بالفلسفة الهندیّة التی هی أعرق الفلسفات البشریّة وتمتاز بالإعتماد علی الإدراکات القلبیّة والوجدانیّات والأخلاقیّات ، وهی صبغة تتمیّز بها الفلسفة الهندیّة عن الیونانیّة الأرسطیّة . وفی کتاب اوپانیشادها - ومعناه السرّ الأکبر ، والمراد به ( اللّه ) تعالی الذی هو رمز فی کثیر من الفلسفات الهندیّة - یتوفّر فیه نبذة عن أکثر الفلسفات الهندیّة .

ثمّ بعد ذلک جاءت الفلسفة الفهلویّة ، وقد امتازت بتنظیر قواعد عامّة فی الوجود ونوریّته وجوانب هامّة فی الحکمة العملیّة فی الأخلاق وتدبیر المدن وقد احتذت الفلسفة الیونانیّة - اللاحقة - حذوهم فی الکثیر من أمثلتهم .

ثمّ تلتها الفلسفة الحرّانیّة فی الموصل والبابلیّة فی بابل ، ثمّ الفلسفة الإسکندریّة ، ثمّ عقبتها الفلسفة الیونانیة ، وقد تمیّزت بمسلکین : مسلک الفلسفة الإشراقیّة ومسلک الفلسفة المشّائیة . والملحوظ أنّها استفادت من الفلسفات البشریّة السابقة حتّی أنّک تجد الکثیر من أمثلة الیونانیّین کما فی کلمات أفلاطون وسقراط وأرسطو مأخوذة من الفلسفة الفارسیّة أو الهندیّة أو الحرّانیّة ، وارتفع نجمها فی المسلک الثانی .

أمّا الإشراقیّة فقد کانت تشدّد علی المعرفة القلبیّة ، وهی تعتمد علی المعارف القلبیّة المتنزّلة بلسان العقل .

ص:98

ثمّ جاء دور الفلسفة الإسلامیّة التی أثْرت المباحث الفلسفیّة إستقاءً من معارف الدین الإسلامیّ ، وأضافت إلیها حتّی بلغت ما یقارب تسعمائة مسألة بعد أن کانت لا تزید علی ثلاثمائة مسألة .

وکانت هی الأقوی فی المسلکین المتقدّمین ، حتّی وصلت ذروتها فی منهج الفلسفة الصدرائیة ، أعنی الحکمة المتعالیة ، والتی سیأتی الکلام فی امتیازاتها - إن شاء اللّه - .

2 -علم الکلام : وهو یعتمد علی الدلیل العقلیّ والنقلیّ والمواءمة بینهما ، ویعتمد غالباً علی العقل العملیّ دون النظریّ ، کما أنّه یمتاز عن الفلسفة بتقید الأحکام المستنتجة فیه بموافقة الشرع الحنیف .

وقد نشأ هذا العلم مع نشأة الأدیان السماویّة ، حیث جاء بعض ألسنتها بلسان هذا العلم ، ثمّ أخذ فی التوسّع والتطوّر وتعدّدت المناهج فیه إلی یومنا هذا کما سیأتی بسطها إن شاء اللّه .

3 -علم العرفان : ویعتمد علی المعارف والمشاهدات القلبیّة ، سواء تنزّلت بلسان قوّة العقل أو قوّة الوهم أو قوّة الخیال ، بخلاف فلسفة الإشراق فإنّها محصورة بما یتنزل بلسان العقل .

وینقسم إلی العرفان النظریّ الباحث عن معارف التوحید والمعاد وسائر المعارف ، والعرفان العملیّ الباحث عن تهذیب الإنسان وسیره وسلوکه إلی لقاء اللّه سبحانه .

4 -العلوم الغریبة : کعلم الحروف والأعداد والعزائم والجفر والرمل وغیرها ، وهی وإن کانت علوماً آلیّة لأغراض معیّنة ، إلّاأنّها یُتطرّق فیها أیضاً إلی تفسیر کثیر من الظواهر والخصوصیّات الکونیّة بنحو العموم .

ص:99

5 -المدارس المنقولة عن الوحی : ومنها مدرسة التفسیر للقرآن الکریم ، وقد امتازت بمباحث وتفاصیل فی المعارف بتبع انتشار المعارف فی الآیات والسور ، سواء بدرجة مفاد العبارة ، أو نکات الإشارة أو دقائق اللطائف أو استشمام عیون الحقائق ، وقد غلبت علی المفسّرین فی ترجمة معارف الوحی لغة إحدی المدارس المتقدّمة - العقلیّة أو الذوقیّة أو الکلامیّة - .

ومنها مدرسة فقه الحدیث ، وقد اعتنت بتحریر مسائل المعارف الواردة فی الأبواب الروائیّة ، ومن ثمّ امتازت هی وسابقتها بمباحث عدیدة لم تتطرّق إلیها بقیّة المدارس ، نظراً لقصور المدارس البشریّة عن الإحاطة بتفاصیل النشآت والعوالم . وهذه المدرسة هی الاُخری قد غلب علی فقهائها فی ترجمة معارف الروایة لغة إحدی المدارس المتقدّمة ، وإن لم ینتهجوا مبانی تلک المدرسة .

ثمّ إنّ الملّاصدرا فی « الحکمة المتعالیة » حاول أن یجمع بین اللغة العقلیّة والذوقیّة والنقلیّة ، أی الجمع بین کلّ مدارس المعارف المتقدّمة .

کما أنّه قد ظهرت مناهج کلامیّة جدیدة ، اعتمد بعضها علی التفکیک بین لغة العقل المحدود والعقل اللامحدود ، أی بالترکیز علی المعارف القرآنیّة والاستعانة بالسنّة علی طریقة البحث العقلیّ (1) ، وبعضها الآخر علی طریقة البحث الذوقی(2) .

حصیلة المقدّمات الثلاث
اشارة

مقتضی ما ذکرناه فی المقدّمات السابقة أنّ مصدر المعارف والحجّة علیها علی

ص:100


1- (1) وهی مدرسة المیرزا مهدی الإصفهانی قدس سره .
2- (2) وهی مدرسة المحقّق الملّا هادی الطهرانی ، من تلامیذ الشیخ الأنصاری 0 .

نحوین :

1 - قناة الوحی .

2 - قناة النفس .

والدلیل فی الاُولی هو الکتاب والسنّة .

والدلیل فی الثانیة عبارة عن العقل والقلب .

فتکون أدلّة المعارف أربعة ، سواء جعلنا البحث متقیّداً بحیثیة متابعة الشرع أم جعلناه باحثاً عن الحقائق بما هی هی ، کما دلّلنا علی ذلک فی تلک المقدّمات ولاسیّما الأولی .

ومن هنا نوقع البحث فی هذه الأدلّة الأربعة تباعاً .

الأدلّة المعارف أربعة
الدلیل الأوّل : الکتاب العزیز

وهو دلیل قطعیّ یقینیّ بإعجازه للبشر طیلة أربعة عشر قرناً من جهات عدیدة کالبلاغة والدقّة العلمیّة مع کثرة العلوم وتنوّعها ، من دون اضطراب ولا اختلاف ( وَ لَوْ کانَ مِنْ عِنْدِ غَیْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِیهِ اخْتِلافاً کَثِیراً ) (1) ، بالإضافة إلی إخباراته الغیبیّة ، ونبوءاته المستقبلیّة وغیرها ، الأمر الذی جعله یهیمن علی افق الذهن البشری الذی لا ینفکّ عن التطوّر والتوسّع باستمرار . والقرآن الکریم ثابت بالتواتر عند جمیع البشر - فضلاً عن المسلمین - عن النبیّ الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم .

ولذلک یقع مفاده وسطاً فی القیاس البرهانیّ ، ولیس الحدیث فی المقام عن وجوده ، إعجازه الشریف ونحوه من المباحث الاُخری ، بل نتعرّض لخصوص

ص:101


1- (1) النساء 4 : 82 .

بعض المسائل المثارة حدیثاً فی ما قد یُصطلح علیه ب ( علم الکلام الحدیث )(1) .

المسألة الاُولی : نظریة تفسیر القرآن بالقرآن

هذه النظریّة طُرقت أخیراً عند عدّة من المفسّرین ، الخاصّة والعامّة ، وقد اعتُمدت فی القرن الأخیر ، وهی فی قبال النظریّة الاُخری القائلة بالاقتصار فی تفسیر القرآن علی المأثور والمنقول من الروایات ، وقد التزم بها جماعة من الخاصّة والعامّة .

ولابدّ من تقییم کلتا النظریتین بأقوی ما قیل فی توجیههما وتقریبهما وقد تبنّی بعض المتأخّرین النظریّة الاُولی ، بینما تبنّی الأخباریّون النظریّة الثانیة .

أمّا الثانیة فقد بحثت فی علم الاُصول مفصّلاً وبیّنت جهات الخلل فیها .

وأمّا النظریّة الأولی فهی - بحسب ما قررّه بعض الأکابر - :

« إنّ الطریق إلی فهم القرآن الکریم غیر مسدود ، وإنّ البیان الإلهیّ والذکر الحکیم بنفسه هو الطریق الهادی إلی نفسه ، أی أنّه لا یحتاج فی تبیین مقاصده إلی طریق ، فکیف یُتصوّر أن یکون الکتاب الذی عرّفه اللّه تعالی بأنّه هدی وأنّه نور وأنّه تبیان لکلّ شیء ، مفتقراً إلی هادٍ غیره ومستنیراً بنور غیره ومبیّناً بأمر غیره » .

ثمّ تعرّض لمؤدّی حدیث الثقلین فقال - فی نفس الصفحة - :

ص:102


1- (1) إن صحّت دعوی هذا التعبیر ، لأنّ الملحوظ فی العلم المذکور هو حداثة ألفاظ المسائل لا معانیها ، کما إنّ مجموع مسائله - فی الحقیقة - عبارة عن ترجمان الموروث الغربیّ من مجموع نظراته حول الدیانة المسیحیّة ، ولکن بصیاغة حدیثة متّجهة نحو الدین الإسلامیّ الحنیف ، غیر أنّ هذه الحقیقة لا تخفی علی الباحث المنقّب فی ما کُتب عن علاقة الکنیسة بالمجتمع الغربیّ .

« وإنّ معناه معنی اتّباع بیان النبیّ صلی الله علیه و آله و سلم وهو کون شأن النبیّ صلی الله علیه و آله و سلم فی هذا المقام هو التعلیم فحسب بهدایة المعلّم الخبیر ذهن المتعلّم وإرشاده إلی ما یصعب علیه العلم به والحصول علیه ، لا ما یمتنع فهمه من غیر تعلیم ، ولا معنی لإرجاع معانی الآیات إلی بیان النبیّ صلی الله علیه و آله و سلم . . .

نعم ، تعلیمه تسهیل للطریق وتقریب للمقصد ، لا إیجاد للطریق وخلق للمقصد ، أی أنّه ممّا یؤدّی إلیه اللفظ ولو بعد التدبّر والتأمّل والبحث .

وبعین هذا المعنی یکون معنی حجّیة الثقل الآخر ، فللقرآن الدلالة علی معانیه والکشف عن المعارف الإلهیّة ، ولأهل البیت الدلالة علی الطریق وهدایة الناس إلی أغراضه ومقاصده .

فالمتعیّن فی التفسیر الإستمداد بالقرآن علی فهمه وتفسیر الآیة بالآیة وذلک بالتدرّب علی الآثار المنقولة عن النبیّ وأهل بیته صلّی اللّه علیه وعلیهم ، وتهیئة ذوقٍ مکتسب منها ، ثمّ الورود . . .

ومعنی قول رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم :

« من فسر القرآن برأیه . . .» (1) یفید معنی الاختصاص والانفراد والاستقلال بأن یستقلّ فی تفسیر القرآن بما عنده من الأسباب فی فهم الکلام العربیّ ، فیقیس کلامه تعالی بکلام الناس ، فإنّ قطعة من الکلام من أیّ متکلّم إذا ورد علینا لم نلبث أن نعمل فیه القواعد المعمولة فی کشف المراد الکلامیّ ونحکم بذلک أنّه أراد کذا ، کما نجری علیه فی الأقاریر والشهادات

ص:103


1- (1) وسائل الشیعة : 27 : 190 .

وغیرها .

کلّ ذلک لکون بیاننا مبنیّاً علی ما نعلمه من اللغة ونعهده من مصادیق الکلمات حقیقة ، والبیان القرآنی غیر جارٍ هذا المجری ، بل هو کلام موصول بعضه ببعض فی عین أنّه مفصول ینطق بعضه ببعض ویشهد بعضه علی بعض ، کما قال علیّ علیه السلام فلا یکفی ما یتحصّل من آیة واحدة بإعمال القواعد المقرّرة فی العلوم المربوطة فی انکشاف المعنی المراد منها دون أن یتعاهد جمیع الآیات المناسبة لها ، ویجتهد فی التدبّر فیها ، کما یظهر من قوله تعالی :

( أَ فَلا یَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ کانَ مِنْ عِنْدِ غَیْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِیهِ اخْتِلافاً کَثِیراً ) (1) .

فالتفسیر بالرأی المنهیّ عنه ، أمر راجع إلی طریق الکشف دون المکشوف ، وبعبارة اخری إنّما نهی علیه السلام عن تفهّم کلامه علی نحو ما یتفهّم کلام غیره ، وإن کان هذا النحو من التفهم ربّما صادف الواقع .

والدلیل علی ذلک قوله صلی الله علیه و آله و سلم فی الروایة الاُخری :

من تکلم فی القرآن برأیه فأصاب فقد أخطأ (2) .

فإنّ الحکم بالخطأ مع فرض الإصابة لیس إلّالکون الخطأ فی الطریق ، وکذا قوله علیه السلام فی حدیث العیاشی :

إن أصاب لم یؤجر (3) .

ویؤیّده ما کان علیه الأمر فی زمن النبیّ صلی الله علیه و آله و سلم فإنّ القرآن لم یکن

ص:104


1- (1) النساء 4 : 82 .
2- (2) بحار الأنوار : 89 : 111 .
3- (3) وسائل الشیعة : 27 : 203 .

مؤلّفاً بعد ، ولم یکن منه إلّاسور أو آیات متفرّقة فی أیدی الناس فکان فی تفسیر کلّ قطعة قطعة خطر الوقوع فی خلاف المراد ، والمحصّل أنّ المنهیّ عنه هو الاستقلال فی تفسیر القرآن واعتماد المفسِّر علی نفسه من غیر رجوع إلی غیره ، ولازمه وجوب الاستمداد من الغیر بالرجوع إلیه ، وهذا الغیر لا محالة إمّا هو الکتاب أو السنّة » .

واختار أنّ ذلک الغیر هو خصوص الکتاب ، واستدلّ علی ذلک بأمور :

«الأوّل : لیس اختلاف کلامه سبحانه مع کلام غیره فی نحو استعمال الألفاظ وسرد الجُمل وإعمال الصناعات اللفظیّة ، بل هو کلام عربیّ روعیّ فیه جمیع ما یراعی فی الکلام العربیّ ، وإنّما الاختلاف من جهة المراد والمصداق الذی ینطبق علیه مفهوم الکلام ، بسبب انغماس أذهاننا فی المصادیق المادّیة فقط ، وذلک یؤدّی إلی الإخلال بالترتیب المعنویّ الموجود فی مضامین الآیات ، وإلی معارضة بعضها ببعض ، المعبّر عنه بضرب القرآن بعضه ببعض فی قبال تصدیق بعضه بعضاً .

الثانی : الآیات الآمرة بالتدبّر فی القرآن ولاسیما قوله تعالی : ( أَ فَلا یَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ کانَ مِنْ عِنْدِ غَیْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِیهِ اخْتِلافاً کَثِیراً ) ، فإنّها تدل دلالة واضحة علی أنّ المعارف القرآنیّة یمکن أن ینالها الباحث بالتدبّر والبحث ، ویرتفع بذلک ما یتراءی من الاختلاف بین الآیات ، ولمّا کانت الآیة فی مقام التحدّی ، فلا معنی لإرجاع فهم معانی الآیات إلی فهم الغیر ، حتّی إلی بیان النبیّ صلی الله علیه و آله و سلم . فإنّ ما بیّنه إمّا یکون معنیً یوافق ظاهر الکلام ، فهو ممّا یؤدّی إلیه اللفظ - ولو بعد التدبّر والتأمّل والبحث - وإمّا أن یکون معنیً لا یوافق الظاهر ، ولا أنّ الکلام یؤدّی إلیه فهو ممّا لا یلائم التحدّی ولا تتمّ به الحجّة ، وهو ظاهر .

ص:105

نعم ، تفاصیل الأحکام ممّا لا سبیل إلی تلقّیه من غیر بیان النبیّ صلی الله علیه و آله و سلم کما أرجعها القرآن إلیه صلی الله علیه و آله و سلم فی قوله تعالی : ( وَ ما آتاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاکُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) (1) ، وما فی معناه من الآیات ، وکذا تفاصیل القصص والمعاد مثلاً .

الثالث : ما فی العدید من الآیات من تعیین وظیفته صلی الله علیه و آله و سلم فی تبیان الذکر وتعلیم الکتاب ، کقوله تعالی : ( وَ أَنْزَلْنا إِلَیْکَ الذِّکْرَ لِتُبَیِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَیْهِمْ ) (2) ، وقوله تعالی : ( وَ یُعَلِّمُهُمُ الْکِتابَ وَ الْحِکْمَةَ ) (3) .

فالنبیّ صلی الله علیه و آله و سلم إنّما یعلّم الناس ویبیّن لهم ما یدلّ علیه القرآن بنفسه ، ویبیّنه اللّه سبحانه بکلامه ، ویمکن للناس الحصول علیه بالنتیجة ، لأنّه صلی الله علیه و آله و سلم إن کان یبیّن لهم معانی لا طریق إلی فهمها من کلام اللّه تعالی ، فإنّ ذلک لا ینطبق مطلقاً علی مثل قوله تعالی : ( کِتابٌ فُصِّلَتْ آیاتُهُ قُرْآناً عَرَبِیًّا لِقَوْمٍ یَعْلَمُونَ ) (4) ، وقوله :

( وَ هذا لِسانٌ عَرَبِیٌّ مُبِینٌ ) (5) .

الرابع : النصوص المتواترة عنه صلی الله علیه و آله و سلم المتضمّنة لوصیّته بالتمسّک بالقرآن الکریم ، والأخذ به وعرض الروایات علیه ، ولا یستقیم معناها إلّامع کون جمیع ما نقل عنه صلی الله علیه و آله و سلم ممّا یمکن استفادته من الکتاب ، ولو توقّف ذلک علی بیانه صلی الله علیه و آله و سلم کان من الدور الباطل . مضافاً إلی أنّ نفس الروایات لا تخلو من المتشابه ، ولیست کلّها محکمات ، فکیف یفسّر القرآن بالروایات والحال هذه ؟ !

الخامس : ما یقتضیه توصیفه سبحانه للکتاب - بأنّه ( هُدیً ) و ( النُّورِ ) ،

ص:106


1- (1) الحشر 59 : 7 .
2- (2) النحل 16 : 44 .
3- (3) البقرة 2 : 129 . آل عمران 3 : 164 . الجمعة 62 : 2 .
4- (4) فصّلت 41 : 3 .
5- (5) النحل 16 : 103 .

و ( تِبْیاناً لِکُلِّ شَیْ ءٍ ) و ( بَصائِرُ ) و ( آیاتٍ بَیِّناتٍ ) (1) ، وأنّه خطاب للجمیع لا لفئة دون فئة - من أنّ الکتاب غیر مفتقر إلی هادٍ غیره ، وغیر مستنیر بنورٍ غیره ولا مبیّناً بأمرٍ غیره .

السادس : الروایات الدالّة علی أنّ :

« من زعم أن کتاب الله مبهم فقد هلک و أهلک » (2) .

وأنّ کلّ شیء یحدّث به المعصومون علیهم السلام فلیُسأل عنه من کتاب اللّه ، والکثیر من الروایات تستدلّ علی مراد آیةٍ بآیة اخری ، وتستشهد منه بمعنی علی معنی منه آخر ، ولا یستقیم ذلک إلّامع کون المعانی القرآنیّة ممّا یناله المخاطَب ویستقلّ به ذهنه عند وروده من طریقه المتعیّن له .

السابع : أنّ حجّیة السنّة منبثقة من حجّیة الکتاب ورتبة السنّة فی طول رتبة الکتاب ، لأنّ الکتاب هو المعجزة وهو الدلیل علی حجّیة قوله صلی الله علیه و آله و سلم ولزوم تصدیقه ، والکتاب هو الآمر بطاعته والتسلیم له وتحکیمه والتأسّی به ، ومن ثَمّ کان النسخ للقرآن ممنوعاً حتّی بالسنّة القطعیّة - وإن ادّعی إجماع الفریقین علی الجواز - فضلاً عن السنّة الظنّیة .

کما تدلّ علیه الآیة الکریمة : ( لا یَأْتِیهِ الْباطِلُ مِنْ بَیْنِ یَدَیْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ ) (3)فلا یبطله شیء ، وإنّما هو بنفسه ینسخ بعض آیاته بالمعنی الصحیح للنسخ - من انتهاء أمد الحکم زماناً ، لا النسخ الحقیقیّ - وأمّا قوله تعالی : ( وَ ما آتاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاکُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) ، فإنّما یدلّ علی جواز التخصیص لآیات القرآن

ص:107


1- (1) فی آیات متفرّقة من القرآن الکریم .
2- (2) بحار الأنوار : 89 : 90 .
3- (3) فصّلت 41 : 42 .

وعموماته ، لا جواز نسخه بغیره .

والحاصل أنّ هذه النظریّة تتلخّص فی ما یلی :

1 - إنّ القرآن یتکفّل ببیان نفسه ولا یحتاج فی تفسیره إلی غیره .

2 - لا بدّ من حصول الملکة والقدرة علی تفسیر القرآن بالقرآن نفسه - لا بغیره کالتفسیر بالرأی - وذلک یحصل بالتدریب والتمعّن فی روایات التفسیر .

3 - إنّ الروایات المفسّرة للآیات هی من التفسیر بالمصداق والتطبیق ، لا لتحدید عموم المعنی؛ فلا یسقط ظهور الکتاب بما فسّرته الروایة .

4 - إنّ حجّیة السنّة من القرآن وفی طوله .

5 - إنّه لا یجوز نسخ الکتاب إلّابه .

هذه النظریّة وإن اشتملت علی نکات ظریفة من قبیل الإشارة إلی رأی الملّاصدرا فی تفسیر المتشابه بالاعتماد علی وضع الألفاظ لروح المعانی لا لخصوص المصادیق المادّیة منها ، أی للماهیّة الأصلیّة لا للماهیة الفردیّة ، فمثلاً لفظة ( العین ) و( الید ) لیستا موضوعتین للجارحتین الخاصّتین فقط ، بل لکلّ ما یبصر به ویبطش به ، فتطلقان علی بعض الموجودات التی لیس لها تلک الجارحتان .

ومصدر هذا الرأی ما اشیر إلیه فی روایات أهل البیت علیهم السلام الصادرة فی القرن الأوّل والثانی ، أنّه تعالی بصیر بغیر آلة وسمیع بغیر جارحة ، ثم أخذ بذلک العرفاء والفلاسفة وشرحها الملّاصدرا رحمه الله ببسط وتفصیل .

ومن قبیل تفسیر القرآن بالقرآن وهو ممّا بیّنه الأئمّة علیه السلام أنفسهم تعلیماً منهم لرفع المتشابه منه بالمحکم ، والمغایر لضرب القرآن بعضه ببعض - أی معارضة بعضه ببعض - بل ملاحظة التناسب والإنسجام بین آیاته ، ومن قبیل أنّ التشابه

ص:108

الموصوف به بعض الآیات إنّما هو وصف للآیات بلحاظ ذهن السامع والقارئ لا للآیات بما هی هی فی نفس الأمر ، ومن قبیل أنّ القرآن فیه تبیان کلّ شیء وأنّه هادٍ بکلّ أنواع الهدایة ، وأنّه بیان للناس جمیعاً ، وأنّه الجامع والشافی والکافی ، فکلّ ذلک حقّ .

ولکنّ هذه النظریّة لا تخلو من مؤاخذات عدیدة :

الاُولی : إنّ تمامیة الکتاب الکریم وکماله واستغناءه عن غیره فی أنوار الهدایة لا تلازم استغناء البشر عن قیّمٍ وحافظ ومعلّم . توضیح ذلک بمثال من علم الریاضیّات ، فإنّه من أکثر العلوم بدیهة وقبولاً عند البشر ، وهو علم متکامل لحلّ جمیع الرموز من دون اعتماد علی علم آخر فی قضایاه ، لکن حیث کان مشتملاً علی نظریّات فی قبال البدیهیات ، فهو محتاج إلی قیّم خبیر وحافظ مطّلع یرسم دقیق النظریّات وینظّمها ویرشد إلی اسلوب الاستفادة منها .

بل الإحاطة بهذا العلم مع بداهته بنحو یحقّق المعرفة بجمیع مسائله ، خارج عن قدرة البشر المتعارفة ، ولا یتوفّر إلّافی المعصوم(1) ، ولذلک بقیت معادلات ریاضیّة وحسابیّة غیر محلولة فی ذلک العلم إلی یومنا هذا ، کالمعادلات المتضمّنة لعدد کبیر من المجهولات مع عدد قلیل من الأرقام ، مع أنّه من المقطوع به أنّ علم الریاضیّات بنفسه حلّال لمعضلاتها بلا حاجة إلی علم آخر ، وما ذلک إلّا لأنّ الذهن البشریّ محدود ومتفاوت .

بل صرّح بعض خبراء الریاضیّات فی العصر الحاضر : إنّ امّهات قواعد علم الریاضیات تنتهی إلی ستّة تقریباً ، وإنّ البشر یذعنون بها اضطراراً ، وإنّه لو أمکن

ص:109


1- (1) کما اثر عن أمیر المؤمنین علیه السلام حلّ العدید من المسائل الریاضیّة والمعادلات الغامضة بسرعة البدیهة .

للعقل البشریّ الوصول إلی خلفیّة تلک القواعد ، فسوف یفتح للبشریة فتحاً عظیماً فی أسرار العلم والکون ، ولم یتیسّر ذلک لحدّ الآن ، وما ذلک إلّالأنّ العقل البشریّ لا یصل إلی فهم کلّ شیء بنفسه ، باعتبار تفاوت الأذهان عمقاً واستیعاباً وحفظاً وسرعة استحضار ، ویقصر الذهن المتعارف عن بلوغ الغایة فی جمیع ذلک ، وبعبارة اخری : المنهج الصحیح لا یلازم التطبیق الصحیح والمراعاة الصائبة الدائمة ، کما فی علم المنطق ومراعاته .

الثانیة : کون بیانیّة القرآن داخلیّة لا ینافی أن یکون الکاشف عنه هو المعصوم ، وأدلّ شاهد علی ذلک ما حصل من اختلاف کبیر بین المفسّرین حتّی بعض القائلین بنظریة تفسیر القرآن بالقرآن ، وذلک لأنّ الوصول للدرجات العالیة من المعانی لا یتیسّر لجمیع القابلیّات ، بل بعضها ممتنع لغیر المعصوم ، ولک أن تتمثّل بالقصیدة الشعریة التی ینشدها الشاعر وتجری المسابقات الأدبیة بین حذّاق الأدباء فی قراءة نفسیّة هذا الشاعر عبر تطبیق قواعد العلوم الأدبیّة ، فمع کون القصیدة عربیّة فصیحة ، ومع الاتّفاق علی القواعد الأدبیّة ، لا یلزم تکافؤ قدرة الأذهان فی استنطاق الکلام بتوسّط تلک القواعد للوصول إلی بطون المعانی لنفسیّة المتکلّم ، وقد قیل : إنّه یمکن بکلام المتکلّم قراءة کلّ دفائن نفسه ، لکن ذلک لا یتیسّر لأغلب حذّاق العلم والأدب فضلاً عن سائر الناس . ومن ثَمّ ورد فی الحدیث :

« فالعبارة للعوام ،و الإشارة للخواص ،و اللطائف للأولیاء، و الحقائق للأنبیاء» (1) .

الثالثة : فی الآیات القرآنیّة ما یشیر إلی أنّ بعض درجات القرآن الکریم وکُنه بطونه لا یتیسّر نیلها إلّاللمعصوم ، ولا تثبت للغیر إلّابتوسّط المعصوم وبحسب

ص:110


1- (1) بحار الأنوار : 85 : 278 .

قابلیّة هذا الغیر ، نظیر قوله تعالی : ( وَ ما یَعْلَمُ تَأْوِیلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَ الرّاسِخُونَ فِی الْعِلْمِ ) (1) ، فإنّه حصر مؤکّد ، وهو لا یقتضی نفی العلم بالمتشابه لغیر المعصوم فحسب ، بل یدلّ علی نفی الإحاطة التامّة لمحکمات الکتاب أیضاً .

بتقریب : أنّ الآیات السابقة وصفت الآیات المحکمات بأنّهنّ ( امّ الکتاب ) ومفاد هذا الوصف أنّها أساسه وأصله وأنّ باقی الآیات فرع علیها بما فیها المتشابهات ، وحیث لا تتعقّل الإحاطة التامّة بالأصل مع العجز عن تأویل المتشابه ، فنفی القدرة علی تأویل المتشابه لغیر المعصوم دلیل علی عدم الإحاطة بالمحکم أیضاً .

وکذلک قوله تعالی ( وَ نَزَّلْنا عَلَیْکَ الْکِتابَ تِبْیاناً لِکُلِّ شَیْ ءٍ ) (2) مع أنّ أصحاب نظریّة تفسیر القرآن بالقرآن یعترفون بأنهم لم یتبیّنوا کلّ شیء ، وقوله تعالی :

( بَلْ هُوَ آیاتٌ بَیِّناتٌ فِی صُدُورِ الَّذِینَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) (3) ، وقوله تعالی : ( إن علینا جمعه و قرآنه ... ثُمَّ إِنَّ عَلَیْنا بَیانَهُ ) (4) ومقتضی آیتَی البیان کما تقدّم .

الرابعة : إنّ حجّیة قول الرسول صلی الله علیه و آله و سلم وفعله وتقریره ، لیس منشؤها خصوص معجزة القرآن الکریم وإن کان هو أکبر المعاجز ، فانشقاق القمر وتکلّم الشجرة والحصی والذئب وغیرها من المعجزات ، کلّ واحد منها دالّ واضح وتامّ علی تصدیق رسالته وأمانته ، کما هو الحال فی أوائل البعثة فی أوّل صبیحة دعا فیها صلی الله علیه و آله و سلم إلی رسالته ، فإنّه احتجّ علیهم بصفات شخصه صلی الله علیه و آله و سلم من منتهی الصدق

ص:111


1- (1) آل عمران 3 : 7 .
2- (2) النحل 16 : 89 .
3- (3) العنکبوت 29 : 49 .
4- (4) القیامة 75 : 17 - 19 .

وغایة الأمانة والعفّة والنزاهة وعلوّ الأخلاق وطیب الأعراق .

بل إنّ فی الآیات الکریمة ما یشیر إلی أنّ أحد وجوه حجّیة القرآن هو صفاته صلی الله علیه و آله و سلم کقوله تعالی : ( قَدْ کانَتْ آیاتِی تُتْلی عَلَیْکُمْ فَکُنْتُمْ عَلی أَعْقابِکُمْ تَنْکِصُونَ * مُسْتَکْبِرِینَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ * أَ فَلَمْ یَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ یَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِینَ * أَمْ لَمْ یَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْکِرُونَ * أَمْ یَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَ أَکْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ کارِهُونَ ) (1)

فإنّه تعالی قد احتجّ علیهم بمعرفتهم لِشخص النبیّ وصفاته ، إذ أنکر علیهم عدم معرفتهم للنبیّ بالاستفهام التقریریّ .

ومنها قوله عزّ من قائل : ( وَ إِذا تُتْلی عَلَیْهِمْ آیاتُنا بَیِّناتٍ قالَ الَّذِینَ لا یَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَیْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما یَکُونُ لِی أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِی إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّ ما یُوحی إِلَیَّ إِنِّی أَخافُ إِنْ عَصَیْتُ رَبِّی عَذابَ یَوْمٍ عَظِیمٍ * قُلْ لَوْ شاءَ اللّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَیْکُمْ وَ لا أَدْراکُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِیکُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ ) (2) .

حیث ذکرت الآیة علی لسانه صلی الله علیه و آله و سلم احتجاجه علی نسبة القرآن إلی اللّه عزّ وجلّ بسابقة لبثه بین ظهرانیهم عمراً طویلاً ومعرفتهم السابقة له صلی الله علیه و آله و سلم ، ولم یکن قد أتاهم به من قبل ، فلیس مجیئه صلی الله علیه و آله و سلم بالقرآن إلیهم نابعاً من نزوة نفسیّة أو اتّباعٍ للهوی بل هو صلی الله علیه و آله و سلم فی کلّ ذلک متبّع مسلّم لربّه ، فقد عرفوه بالصدق والأمانة والنزاهة والاستقامة ، لا یغرّه هوی ولا یغریه مال ولا جاه .

فإنّ هذه الآیات وغیرها ممّا یجده المتتبِّع فی القرآن تکشف عن حجّیّة قول

ص:112


1- (1) المؤمنون 23 : 66 - 70 .
2- (2) یونس 10 : 15 و 16 .

النبیّ صلی الله علیه و آله و سلم بنفسه ، ولیس فی طول حجّیّة القرآن الکریم ، ومن ذلک یتضح أنّ ما اتّفق علیه کلّ من الخاصّة والعامّة من إمکان نسخ القرآن بالسنّة القطعیّة ، حقّ لا غبار علیه ، ولیس فی ذلک منافاة لقوله تعالی : ( لا یَأْتِیهِ الْباطِلُ مِنْ بَیْنِ یَدَیْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ ) (1) لأنّ الکتاب المجید قد أمر بالأخذ والعمل بما أتی به الرسول صلی الله علیه و آله و سلم ویکون نسخ القرآن بالسنّة القطعیّة من نسخ القرآن بالقرآن .

مضافاً إلی ما قدّمنا من أنّ أحد وجوه حجّیة القرآن هو شخص الرسول صلی الله علیه و آله و سلم وهو الآتی بالقرآن والمأمون علیه ، فإذا کان مأموناً علی تبلیغ الوحی وعزائم أمر اللّه سبحانه وحافظاً لتمام القرآن ، فکیف لا یکون مأموناً علی الإخبار عن نسخ بعض أحکامه عن اللّه عزّ وجلّ .

ولعلّه حصل الخلط لدی هذا البعض بین الإخبار عن النسخ والإنشاء له ، أو لعلّه خلط بین نسخ الحکم ونسخ التلاوة - مع أنّه لا قائل من الخاصّة بنسخ التلاوة وإنّما قال به بعض العامّة - هذا مع أنّ لازم هذه الدعوی عدم جواز تخصیص القرآن ولا تقییده بالسنّة القطعیّة ، إذ لیس النسخ بالمعنی الصحیح أسوأ حالاً من التخصیص ، والتخصیص ثابت عنده وعند الجمیع .

الخامسة : إنّ الروایات الواردة فی بیان الآیات القرآنیّة علی أقسام :

فبعضها بصدد تأویل الآیات وبیان بطونها ، وهذا الصنف لا یعنی سقوط ظهورها عن الاعتبار .

وبعضها فی صدد بیان مصداق الآیة أو أبرز موارد انطباقها ، وهذا الصنف هو الآخر لا یضرّ بالظهور ولا یمنع المعنی الکلّی للآیة عن الانطباق علی

ص:113


1- (1) فصّلت 41 : 42 .

موارد اخری .

وبعض ثالث فی صدد تفسیر الظاهر کأن تبیّن قرینة خفیّة اشتمل علیها ظهور الآیة ، أو تنفی معنیً معیّناً عن مفاد الآیة ، أو تبیّن خصوصیّة فی المعنی الظاهر لا یمکن تواجدها إلّافی مصادیق معیّنة ، وهذا الصنف یتعیّن حمل ظهور الآیة علی ما أفادته الروایة لأنّهم علیهم السلام أعرف بقرائن الکتاب وأسالیبه . فلا ینبغی الخلط بین أقسام الروایات والحکم علیها بحکم مطلق !

نهایة المطاف

والحاصل : إنّ التکافل بین محکمات الکتاب والسنّة لرفع التشابه فی کلّ منهما ، لا یعنی النقص فی الکتاب العزیز ولا العجز فی بیانه؛ بل مؤدّاه لزوم القیّم والهادی والمرشد للعقول إلی حقائق حبل اللّه المتین وصراطه المستقیم وبطون الکتاب المبین ، فإنّ الأخذ بالظواهر مقدّمة للأخذ بالبطون تلو بعضها البعض .

ولا یمکن ذلک إلّابهدایة من یحیط بتمام حقائق القرآن ، ظهوره وبطونه ، بل لا یمکن معرفة ظاهره إلّالمن أحاط بجمیع محتملاته ووجوهه وأسالیبه ، وعرف محکمه ومتشابهه وعامّه وخاصّه وناسخه ومنسوخه ، فلابدّ من التمسّک بمن له ذلک العلم ، وسیأتی توضیح النسبة بین الحجج الشرعیّة - الکتاب والسنّة والعقل - إن شاء اللّه تعالی .

المسألة الثانیة : نظریة إنکار خلود الکتاب العزیز

هذه النظریّة قد تبدو حدیثة وتتردّد فی العصر الحاضر بصیاغات متعدّدة ، بعضها بطریقة الصوفیّة ، وبعضها باُسلوب علم النفس البشریّ ، وبعضها بلغة القانون ، وبعضها بصیاغة علم الاجتماع إلّاأنّها قدیمة قد تعرّض لها غیر واحد

ص:114

من الصوفیّة الماضین(1) ولیست نظریة جدیدة .

ومدّعاها : أنّ الذات الأزلیّة اللامحدودة حیث أنّ فیضها عمیم دائم لا محدود فلا یمکن أن یحیط بذلک الفیض ذاتُ ممکنٍ من الممکنات ، فما تلقّاه النبیّ الخاتم صلی الله علیه و آله و سلم من وحی القرآن إنّما هو بحسب قابلیّته صلی الله علیه و آله و سلم لا بحسب کلّ ما یمکن أن یفاض من الذات الأزلیّة ، ومن هنا یبقی باب الاستفاضة والاستیحاء من الذات الأزلیّة مفتوحاً کما کان قبل الرسالة الخاتمة ، کما إنّ معرفة الذات الأزلیّة حیث لا یمکن الإحاطة بها ولا التعرُّف علی کنهها ، فما یوجد من معارف الشریعة الخاتمة إنّما هی بحسب ما توصّل إلیه النبیّ صلی الله علیه و آله و سلم فی المعرفة ، لا بحسب منتهی سیر المعرفة للذات الأزلیّة ، کما یشیر إلیه قوله صلی الله علیه و آله و سلم :

« ما عرفناک حق معرفتک » (2) .

ونظیره ما یؤثر عنه صلی الله علیه و آله و سلم بمضمون :

« رب زدنی فیک تحیرا» (3) .

ولها صیاغة اخری : إنّ معنی النبوّة الخاتمة هو : رقیّ البشریّة عن الحاجة إلی النبوّة ، وتکامل عقول الناس إلی درجة الإکتفاء عن النبوّة بقدرتهم الذهنیّة والفکریّة فی الاستیحاء والاستلهام .

ولها صیاغة ثالثة : إنّ الشریعة حیث کانت مجموعة من المعارف والقوانین الاعتباریة ، فلا یمکن أن تکون خالدة دائمة ما دامت الحیاة الإنسانیّة علی الأرض ، لأنّ المعارف والحقائق الواقعیّة بابها مفتوح أمام الذهن البشریّ المتجدّد المتطوّر باستمرار ، وأمّا القوانین الاعتباریّة فهی متقوّمة بالاعتبار وفقاً للمصالح

ص:115


1- (1) مثل شمس التبریزی ، وهو أستاذ الشاعر المعروف ، جلال الدین محمّد الرومی ( المولوی ) .
2- (2) بحار الأنوار : 68 : 23 .
3- (3) شرح الأسماء الحسنی لملّا هادی السبزواری : 198 .

والمفاسد وهی متغیّرة بحسب الظروف والأحوال .

ولها صیاغة رابعة : إنّ مقتضی إنفتاح التکامل البشریّ والسماح للتجربة الإنسانیّة أن تتحرّک ، هو استمرار الشرائع وتحرّکها وعدم الوقوف علی شریعة خاصّة کما جرت سیرة البشریّة فی الشرائع السابقة ، ولذا فإنّ سَنّ السنن والقوانین فی عصرنا الحاضر أصبح مرهوناً بالعقول وما تستکشفه من حقائق جیلاً بعد جیل .

وینکشف خداع رونق هذه النظریّة باُمور :

الأوّل : إنّ عناصر الفرضیّة - بالصیاغة الأولی - لم تعیّن ، حیث أنّها من جانب افترضت الذات الأزلیّة غیر محدودة ، ومن جانب آخر جعلت الطرف الإنسانیّ عائماً غائماً غیرَ معیّن وکأنّه قابل غیر محدود ، مع أنّه فی الحقیقة محدّد معیّن ، إذ المفروض إستمرار البشریّة إلی حدّ معیّن هو یوم المعاد واُفول هذه النشأة الدنیویّة لهذه القافلة التی بدأت بآدم علیه السلام وتنتهی بنفخة الصور .

فالمستفیض بالفیض الإلهیّ فی الجانب الثانی محدود من جهتین أمداً وعدداً فی هذه النشأة ، فبلحاظ هذا الظرف المحدود لا محالة یمکن افتراض فرد بشریّ سابق للجمیع فی القرب والدنوّ والاستفاضة من الذات الإلهیّة ، ومن الواضح عدم تدخّل التأخّر الزمانیّ فی ذلک ، ولا ضرورة توجب أن یکون هذا الفرد الکامل هو آخر الأفراد زماناً ، فالعمدة الالتفات إلی أنّ البشریّة المحدودة بهذه النشأة الدنیویّة لیست من حیث الأفراد والامتداد الزمانی قوابل لا محدودة للفیض الإلهیّ .

الثانی : إنّ هذا الإشکال لو تمّ لورد علی الأسماء الإلهیّة أیضاً مثل ( اللّه ) الجامع ، حیث أنّ هذا الإسم وباقی الأسماء المقدّسة هی مظاهر للذات الأزلیّة

ص:116

وتجلٍّ لها ، فکیف تتلاءم أبدیّة هذه الأسماء وأزلیّتها مع لا محدودیّة المظاهر والتجلّیات .

والحلّ للإشکال فی کلا المقامین : أنّ الأسماء الإلهیّة ونور(1) الحقیقة المحمّدیّة صلی الله علیه و آله و سلم هی أبواب ممرّ الفیض الدائم ، ومجری العین الأزلیّة ومسلک الفیوضات الإلهیّة ، فالأسماء المتقدّمة فی توسّع فی الظهور وزیادة فی التجلّیات وکذلک الحقیقة المحمّدیة فی استفاضة دائمة من العین الأزلیّة ، لکن هذا لا یمنع بوّابیّتها أو ینافی وساطتها فی الفیض .

وهذا مطابق لما برهن علیه فی الحکمة النظریّة من علم الفلسفة بأنّ الصوادر الأولی واسطة فی الفیض الإلهیّ ابتداءً واستدامةً ، ومن ثمّ یظهر أنّ القرآن المجید - بما له من مدارج من حدّ ظهوره إلی درجات بطونه إنتهاءً بدرجة ( الکتاب المبین ) و ( أمّ الکتاب ) الذی یکتب فیه کلّ شیء ممّا کان ویکون فی عالم الإمکان إلی یوم القیامة - هو الوسط الخالد فی إفاضة العلوم والمعارف ، وهو بوّابة الأبواب لأنوار الذات الأزلیّة .

ولذلک وُصِف القرآن ب ( لا یَأْتِیهِ الْباطِلُ مِنْ بَیْنِ یَدَیْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ ) (2) .

وبالمهیمن ( وَ أَنْزَلْنا إِلَیْکَ الْکِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَیْنَ یَدَیْهِ مِنَ الْکِتابِ وَ مُهَیْمِناً عَلَیْهِ ) (3) .

وبالکتاب - ومعناه الشیء الجامع لجمیع الکلمات ، والکلمة مصداقها الحقیقیّ الشیء الدالّ تکویناً بذاته علی مراد الفاعل لذلک الشیء ، کما أطلق علی

ص:117


1- (1) « أوّل ما خلق اللّه نور نبیّک یا جابر » فی الحدیث المعروف .
2- (2) فصّلت 41 : 42 .
3- (3) المائدة 5 : 48 .

عیسی علیه السلام أنّه کلمة اللّه سبحانه - .

وبأنّه ( ذِکْرٌ لِلْعالَمِینَ ) (1) .

ووصف بأنّه ( مَجِیدٌ * فِی لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ) (2) وذو المجد والعظمة لا یبلی ولا یندثر .

وکونه ( تِبْیاناً لِکُلِّ شَیْ ءٍ ) (3) .

وأنّ المحو والإثبات للمشیئة الإلهیّة موجودة فیه ( یَمْحُوا اللّهُ ما یَشاءُ وَ یُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْکِتابِ ) (4) .

وأنّه تعالی قد صرّف فیه وضرب فیه من کلّ مَثَل ( وَ لَقَدْ صَرَّفْنا فِی هذَا الْقُرْآنِ لِلنّاسِ مِنْ کُلِّ مَثَلٍ ) (5) و : ( وَ لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنّاسِ فِی هذَا الْقُرْآنِ مِنْ کُلِّ مَثَلٍ ) (6) .

ووُصِف بأنّه ( تَفْصِیلَ کُلِّ شَیْ ءٍ ) (7) .

وکذلک وصف الرسول بأنّه رحمة للعالمین(8) .

وأنّه انزل إلیه الفرقان لیکون للعالمین نذیراً(9) .

وأنّ دینه دین الحقّ ( هُوَ الَّذِی أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدی وَ دِینِ الْحَقِّ لِیُظْهِرَهُ عَلَی

ص:118


1- (1) التکویر 81 : 27 .
2- (2) البروج 85 : 21 و 22 .
3- (3) النحل 16 : 89 .
4- (4) الرعد 13 : 39 .
5- (5) الکهف 18 : 54 .
6- (6) الزمر 39 : 27 .
7- (7) یوسف 12 : 111 .
8- (8) الأنبیاء 21 : 107 .
9- (9) الفرقان 25 : 1 .

اَلدِّینِ کُلِّهِ ) (1) ، ممّا یدلّ علی أنّه الدین الأبدیّ الذی لا یبطله دین ، ولا تنسخه شریعة .

وأنّ دینه لیس إلّالکافّة الناس ( وَ ما أَرْسَلْناکَ إِلاّ کَافَّةً لِلنّاسِ بَشِیراً وَ نَذِیراً ) (2) .

بالإضافة إلی أنّه خاتم النبیّین الذی لیس بعده دین ولا نبوّة ( ما کانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِکُمْ وَ لکِنْ رَسُولَ اللّهِ وَ خاتَمَ النَّبِیِّینَ ) (3) .

بل إنّ من ضرورات الإسلام أنّ النبیّ لا نبیّ بعده ولا شریعة تنسخ شریعته ، قال تعالی : ( وَ إِذْ أَخَذَ اللّهُ مِیثاقَ النَّبِیِّینَ لَما آتَیْتُکُمْ مِنْ کِتابٍ وَ حِکْمَةٍ ثُمَّ جاءَکُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَکُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلی ذلِکُمْ إِصْرِی قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَ أَنَا مَعَکُمْ مِنَ الشّاهِدِینَ فَمَنْ تَوَلّی بَعْدَ ذلِکَ فَأُولئِکَ هُمُ الْفاسِقُونَ أَ فَغَیْرَ دِینِ اللّهِ یَبْغُونَ وَ لَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِی السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ طَوْعاً وَ کَرْهاً وَ إِلَیْهِ یُرْجَعُونَ قُلْ آمَنّا بِاللّهِ وَ ما أُنْزِلَ عَلَیْنا وَ ما أُنْزِلَ عَلی إِبْراهِیمَ وَ إِسْماعِیلَ وَ إِسْحاقَ وَ یَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ وَ ما أُوتِیَ مُوسی وَ عِیسی وَ النَّبِیُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَیْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ وَ مَنْ یَبْتَغِ غَیْرَ الْإِسْلامِ دِیناً فَلَنْ یُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِی الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِینَ ) (4) .

الثالث : إنّ الوجدان حاکم بعدم توقّف السعی البشریّ فی أیّ مجال من المجالات حتّی فی التقنین الوضعیّ عند غیر المتمسّکین بالدین وقوانینه ، فهذا الفحص والتنقیب العلمیّ تلمس کلّ فطرة وجوده وتحسّ الإذعان باستمراره ،

ص:119


1- (1) الفتح 48 : 28 .
2- (2) سبأ 34 : 28 .
3- (3) الأحزاب 33 : 40 .
4- (4) آل عمران 3 : 81 - 85 .

وهذه البدیهة تثبت أمرین :

1 - وجود حقیقة واقعیّة یحاول البشر الوصول إلیها فی کلّ المجالات حتّی القانون الوضعیّ ، إذ لا یعقل السعی نحو اللاموجود والبحث عن اللاشیء .

2 - عدم إحاطة البشر بتمام أطراف تلک الحقیقة والواقعیّة فی أیّ مجال من مجالات التطوّر ، لأنّه لو حصلت الإحاطة التامّة بالحقیقة لما احتیج إلی السعی ولتوقّف البحث العلمیّ ، وهو خلاف الفطرة والوجدان .

وبهذا نستنتج أنّ البشریّة بعقلها المحدود الساعی حثیثاً إلی التکامل ، لا یصل فی یومٍ ما إلی الإحاطة بسعة الحقیقة تماماً حتّی فی مجال القانون الوضعیّ ، ولذلک نجد القوانین - غیر الإلهیّة - هی دائماً فی تغیّر وتبدیل إلّاما طابق السنن والشرائع الإلهیّة .

ومن ثَمّ تظهر الحاجة المُلحّة إلی عنایة الباری ولطف ربّ الخلیقة المحیط بحقیقتها وواقعیّتها بما لها من السعة فی الأفراد والإمتداد فی الزمان لکی یرشد البشریّة إلی تلک الحقیقة ویهدیها إلی تلک الواقعیّة ، ومن الإرشاد التشریع السماویّ الکاشف عن الحقائق ، وبهذا یثبت الاحتیاج الدائم إلی الشرع المقدّس وعدم استغناء العقول عنه مهما تطوّرت وتکاملت ، فإنّ سعیها دلیل حاجتها لبارئها سبحانه وتعالی .

الرابع : إنّ هذا الإشکال لو تمّ لورد علی الأحکام العقلیّة کحسن العدل والإنصاف ، وقبح الظلم والإجحاف ، وحسن الإحسان والرأفة ، وقبح الإیذاء والقسوة ، وسائر أحکام العقل العملیّ ، وکذلک أحکام العقل النظریّ مثل امتناع التناقض ، وأنّ الکلّ أکبر من الجزء ، مع أنّ کلّ فطرة بشریّة تری أنّ هذه الأحکام ثابتة دائمة ومحیطة بکلّ الأفراد فی کلّ الظروف والتغیّرات .

ص:120

ویتّضح بذلک بداهة وجود معادلة قانونیّة وقضیّة حاکمة محیطة بتمام الأفراد فی جمیع الظروف ، والتی لا یطّلع علیها إلّااللّه أو من علّمه اللّه سبحانه .

ومع التمحیص فی ما أسلفناه ، تظهر وساطة الحقیقة المحمّدیّة صلی الله علیه و آله و سلم فی الفیض الإلهیّ ، وأنّ اختیاره لختم الرسالات - الثابتة ببدیهة الوحی - باعتبار تکامل شریعته وجمعها لکلّ الکمالات التی یمکن للبشر التوصّل إلیها إلی یوم القیامة .

ونظیر هذا المقام الجامع فی الحقیقة المحمّدیة إحاطة البدیهیات العقلیّة وشمولها لجمیع الأزمان .

الخامس : إنّ الحقیقة الواضحة المبرهنة أنّ الإنسان مرکّب من بدن وروح ، وأنّ لکلّ من هذین الجزءین قوی مختلفة ، وأنّ هذه الترکیبة لم تتبدّل من عصر أبینا آدم علیه السلام إلی الآن ، ولن تتبدّل إلی یوم القیامة مهما تبدّلت وسائل المعیشة وتنوّعت ، ومهما اتّسعت حضارة العمران واختلفت أسالیب المدنیّة .

وهناک حاجات روحیّة وطبائع خُلُقیّة وقوی نفسیّة ثابتة مهما تغیّرت أنماط التعامل البشریّ ، سواء فی داخل الأسرة أم المجتمعات الضیّقة ، أم المجتمع الإنسانیّ ککلّ ، فإنّ الإنسان یحتاج - بدناً وروحاً - إلی الترکیبة الاجتماعیة فی اطرها المختلفة ابتداءً من الأسرة فإنّه بحاجة إلی التربیة والنموّ تحت رعایة الأبوین وحضانتهما مادیّاً وروحیّاً ، مروراً بالأقارب والعشیرة ، ثمّ احتیاجه إلی التکافل والتعاون مع أبناء القریة أو المدینة ، وصولاً إلی حاجاته فی المجتمع الإنسانیّ الکبیر المحتاج إلی قانون عادل ونظام شامل لکلّ تفاصیل حیاته ، وإلی رائد عادل مقتدر منفّذ لذلک القانون ، وغیر ذلک ممّا یفصّله علماء النفس والاجتماع والحکماء وخبراء القانون .

کلّ ذلک یدلّ علی وجود جهة ثابتة فی البشریّة ما دامت موجودة علی وجه

ص:121

البسیطة . وتلک الجهة الثابتة لها قانون واحد یناسبها ویلائمها ویقتدر علی إیصالها إلی الکمال ، وهو ثابت لا یتغیّر بتغیّر الظروف ولا بتغیّر الزمان أو المکان ، لأنّه مقنّن للثابت لا للمتغیّر .

فالتکامل حینئذ هو بثبات هذا القانون الملائم لتلک الجهة البشریّة الثابتة ، وافتراض التطوّر - أی أخذ طور آخر وراء تلک الجهة الثابتة - مصادم لتلک الحقیقة الثابتة ، بل التطوّر - بالمعنی الصحیح - هو أخذ المجموع البشریّ أطوار الکمال اللامتناهی المؤدّی إلیه ذلک القانون الثابت .

ثمّ وصف الصراط إلی اللّه فی مواضع عدیدة من الکتاب العزیز ب ( المستقیم ) :

( وَ أَنَّ هذا صِراطِی مُسْتَقِیماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِکُمْ عَنْ سَبِیلِهِ ) (1) .

( ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاّ هُوَ آخِذٌ بِناصِیَتِها إِنَّ رَبِّی عَلی صِراطٍ مُسْتَقِیمٍ ) (2) .

( لِتُخْرِجَ النّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَی النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلی صِراطِ الْعَزِیزِ الْحَمِیدِ ) (3) ، فإنّ المستقیم هو الثابت الذی لا انعطاف فیه ، وهو قوام الوصول فی حرکة المتحرّک وسلوک السالک .

والحاصل أنّ هذه الحقیقة الثابتة لا تقبل التغییر والتبدّل مهما تغیّرت الظروف أو تکاملت النفوس ، بل سرّ الکمال والتطوّر هو الخضوع لهذه الحقیقة والتحرّک علی أساسها .

ص:122


1- (1) الأنعام 6 : 153 .
2- (2) هود 11 : 56 .
3- (3) إبراهیم 14 : 1 .
المسألة الثالثة : نظریّة المعرفة القرآنیّة والمعرفة الدینیّة ، وأنّ موروث الشریعة أفهام العلماء

تتلخّص هذه النظریّة بدعوی أنّنا نلمس ظاهرة الاختلاف وتبدّل الرأی فی العلوم الدینیّة - علی مرّ العصور - فالفقه مثلاً نجد فیه العدید من الفتاوی والقواعد قد تبدّلت وتغیّرت ، ولازالت تتبدّل ، ولا یکاد الناظر یقف علی حدٍّ ینتهی عنده اختلاف الفتوی ، والأمثلة علی ذلک کثیرة یصعب حصرها ، ولا حاجة إلی سردها .

وکذلک علم الکلام ، فلیس أحسن حظّاً من الفقه ، فإنّ الاختلاف فیه مشهود وواضح فی ما بین الطوائف ، کالتجسیم ونفیه ، وخلق القرآن وقدمه ، والجبر والتفویض والإختیار المتوسّط بینهما ، وذاتیّة الصفات الإلهیّة أو زیادتها ، ونوعیّة المعاد الجسمانیّ ، بل وقع الخلاف بین علماء الطائفة الواحدة ، فقد حکی السیّد ابن طاووس فی کتابه « المحجّة » ما یقرب من خمسمائة مسألة وقع الخلاف فیها بین علمین من أعلام المتقدّمین .

وکذلک الحال فی علم التفسیر ، فإنّ الملحوظ بین الفینة والفینة صدور تفسیر یختلف عمّا سبقه من التفاسیر . وهذا التغایر والاختلاف بدأ منذ الصدر الأوّل وحتّی عصرنا الحاضر .

وکذا علم الأخلاق وتهذیب النفس ، فإنّک تشاهد مشارب وطرقاً لا تکاد تجتمع علی هیئة واحدة . فسار الفقهاء علی التقیّد بظواهر الشریعة والتزموا حرفیّاً بالأحکام والآداب والسنن ، وجری الصوفیّة والعرفاء علی الریاضات والقواعد السلوکیّة ونزعوا إلی البواطن .

وتشدّد علماء الأخلاق فی أحکام العقل العملیّ واقتناء الفضائل الممدوحة ونبذ الرذائل المذمومة ، کما جری دیدن المحدّثین علی توثیق الارتباط بأولیاء اللّه

ص:123

واُمنائه ، والتوسّل بهم والإستشفاع بهم ، وتقویة الاتّصال بهم علیهم السلام . وبهذا یتجلّی لک الاختلاف فی مناهج السلوک والأخلاق .

وکذا علم الإستنباط وما یصطلح علیه فی العلم الحدیث ( اصول فقه القانون والقراءة القانونیّة ) فقد وقع الخلاف الکبیر فی میزان الحجّیة والاستدلال وطریق المعرفة الدینیّة بین الأصولیین والأخباریین من الخاصّة والعامّة(1) ، مع أنّ هذا العلم متکفّل للبحث عن موازین المعرفة الدینیّة وموازین المعرفة القرآنیّة ، بل یشمل موازین المعرفة لکلّ العلوم الدینیّة ، وقد تقدّم التعبیر عنه أنّه بمثابة ( منطق العلوم الدینیّة ) وشرحناه شرحاً وافیاً(2) .

کما وقع الخلاف بین علماء الحدیث ودرایته فی کیفیّة تصحیح الحدیث وضوابط الإعتماد علیه ، وضوابط اعتماد المضمون والمتن ، فنشأ اتّجاه الحشویّة فی قبال أصحاب النقد والترجیح .

أضف إلی ذلک الخلاف فی نهج المعرفة بین المتکلّمین والفلاسفة والعرفاء والصوفیّة والمحدّثین والمفسّرین .

فهذا مقدار یسیر ممّا وقع فیه الخلاف المستمرّ الذی لم یمکن حسمه ولم یقِف عند حدٍّ !

والاستقراء المذکور یوصلنا إلی نتیجة هامّة بملاحظة مقدّمتین :

الاُولی : هی وقوع الخلاف فی النظر .

والثانیة : إنّ من البدیهیّ وحدة الحقیقة الدینیّة وعدم اختلاف الشریعة

ص:124


1- (1) یسمّی أخباریّو العامّة بالظاهریّین وأهل الظاهر .
2- (2) فی بحث الاُصول .

الواقعیّة ، وأنّ ما هو الحقّ واحد ، وإنّ الکثرة إنّما هی فی جانب الزیغ والباطل ، وإلّا لجمعت الحقیقة المتناقضین ، ووجد فی الواقع الواحد المتخالفان .

ونتیجة لهاتین المقدّمتین یلزم التسلیم بأحد فرضین لا یخلو الواقع منهما :

إمّا الحکم ببطلان تکثّر الأفهام وأنّ هذا الموروث من التراث الدینیّ لیس إلّا حصاد أفهام بشریّة لا تعکس الحقیقة الدینیّة ، وإمّا الإلتزام بتغیّر الشریعة الواقعیّة وأنّها لا ثبات فیها ، بل تصاغ بحسب جهود الباحثین فی المعارف الدینیّة وبحسب ظروفهم وأفکارهم .

وعلی کلا الفرضین یظلّ الباب مفتوحاً للأنظار الجدیدة والأفهام العصریّة کما هو الحال فی القانون التجریبیّ الوضعیّ .

ویمکن تقریب ذلکبتقریب ثان حاصله : من المسلّم تأثرّ الباحث فی قراءة النصّ برسوبات بیئة العصر الذی یعیش فیه ، ومن ثمّ تمتزج الحقیقة التی یتوخّاها من وراء النصّ مع هذه الرسوبات ، ویتراءی من مجموع نظریّته التلوّن بالحقیقة الثابتة .

کما أنّ هناک عوامل اخری لامتزاج الحقیقة الدینیّة بغیرها ، وهی خصوصیّات وأشکال التطبیق التی لا تمتّ بصلة إلی تلک الحقیقة الکلّیة العامّة ، ویؤول المقروء من النص إلی أخذ خصوصیّات المورد التطبیقیّ فی المعنی الکلّیّ .

کما أنّ هناک لوناً ثالثاً من ا لمعانی المغایرة الممتزجة بالحقیقة ، وهی الناشئة من خصوصیّات الاُفق الفکریّ للباحث نفسه ، سعةً وضیقاً وسطحیّةً وعمقاً .

مضافاً إلی الدواعی التی ینطلق الباحث فی البحث من أجلها ، کما إذا کانت لدیه نظریّة مسبقة یقصد تحمیلها علی النصّ ولم یجرّد نفسه لاستنطاق النصّ .

وغیر ذلک من العوامل التی تشوب البحث فی قراءة النصّ الدینیّ .

ص:125

ویمکن تدعیم ذلکبتقریب ثالث : إنّ من الطبیعی المحتمل فی کیفیّة تولّد الضرورات الدینیّة ، افتراض المعنی المدّعی ضرورته ولزومه ، قد قرأه أحد کبار العلماء ذوی الهالة الکبیرة والوجاهة والموقع ، ثمّ أخطأ فی فهم النصّ ، غیر أنّ اللاحقین له - بسبب ما یمتلکه العالم السابق من موقعیّة فی نفوسهم - قد تأثّروا بذلک الفهم فی بدایة مدارجهم العلمیّة ، وترسّخ ذلک فی نفوسهم حتّی أصبحوا وجوهاً وأکابر لمن یلیهم ، وبقی ذلک الفهم فی أذهانهم .

هذا مع متابعة عامّة الناس لهم فی عصرهم ، فما حال من یأتی بعدهم من العلماء إلّاأن یتلقّی ذلک بالقبول ؟ ولا سیّما أنّه فی نفس البیئة ونفس المدرسة ، وبذلک یعود ذلک الفهم الخاطئ موروثاً بدیهیّاً وحقیقة دینیّة ضروریّة ، حتّی أنّ من یرید أن یجیز لنفسه التفکیر فی ما یخالف ذلک المعنی فی قراءة النصّ یجد نفسه معرّضاً للهجوم والمقاطعة ، وهکذا تتوارث الطبقات ذلک کضرورة دینیّة ! !

ومن ثمّ تری أنّ الملل المختلفة والطوائف المتفاوتة فی الملّة الواحدة توجد متواترات وضروریّات فی معتقداتها ، تمثّل الطابع العامّ لذلک المذهب ، بینما الضروریّ المتواتر لمذهب آخر علی خلاف ذلک ! مع أنّ من البدیهیّ وحدة الحقیقة ، فلابدّ من صحّة واحدة منها بالخصوص ، أو أن نقول بصحّة کلّ المعارف الدینیّة وإن اختلفت أو تناقضت !

وبتقریب رابع : أثبت الاستقراء - بحسب التحقیقات الأدبیّة الأخیرة فی اللغة - أنّ المعانی تطرأ علیها زوائد أحیاناً وینقص منها بعض أجزائها أحیاناً اخری بحسب تعاقب وتفاوت الأجیال ، فکلّ جیل یتعایش مع المعنی بما یتلاءم مع حاجات عصره ، وتلک الحاجات تتحکّم فی المعنی سعةً وضیقاً وترکیباً وتفکیکاً ، ومن هنا تختلف دلالة الألفاظ علی المعانی بحسب العصور والأجیال

ص:126

والحاجات ، سواء فی المادّة اللفظیّة أو الهیئة الأفرادیّة أو الترکیبیّة .

وممّا یدلّ علی ذلک اختلاف الأمثال المضروبة جیلاً بعد جیل ، واختلاف إیحاءات الکلام الواحد والجملة الواحدة بحسب الزمان ، بل المحقّق الأدیب یلمس ذلک جلیّاً فی العصر الواحد بین أهل البقاع المختلفة ، نظیر اختلاف القبائل العربیّة فی شؤون اللغة الواحدة .

وهو ما قد یصطلح علیه البعض ب ( النحت فی المعنی ) أو التبدّلات والتقلّبات فی أطواره .

وبتقریب خامس : لا ریب أنّ الفهم والمعرفة فی النصوص والمتون الدینیّة تتأثّر بتطوّر العلوم التجریبیّة والطبیعیّة الکونیّة وتلاحق الإکتشافات الجدیدة التی کانت مستورة عن البشر ، وذلک :

إمّا بسبب أنّ الموضوعات الفقهیّة یختلف إدراک حقائقها باختلاف التطوّر العلمیّ . وإمّا بسبب عدم الیقین فی دلالة المتون الفقهیّة ، فیقدّم علیها القطع الحاصل من العلوم التجریبیة الصاعدة فی التطوّر والتقدّم ، ولأجل ذلک تجد الکثیر من التفسیرات للنصوص الدینیّة التی ابتنت علی فرضیّات علمیة خاطئة ، قد تبدّلت بتبدّل تلک الفرضیّات ، نظیر ما حدث فی العلوم الفلسفیّة المبتنیة علی فرضیّات طبیعیّة خاطئة کهیئة بطلمیوس(1) والعناصر الأربعة(2) الأوّلیّة ، وغیرهما ، فإنّ ذلک یدلّ علی الارتباط والملازمة فی تطوّر الفهمین فی المعرفة الدینیّة والمعرفة الکونیّة .

ص:127


1- (1) وهی کون الأرض مرکز العالم ، وأنّ الشمس تدور حولها ، وأنّ الکواکب مخلوقات حیّة ذات شعور ، وأنّ المجرّات البعیدة هی العرش أو الکرسیّ الإلهیّ .
2- (2) وهی نظریة أنّ العناصر الأولیّة لخلقة عالم المادّة کلّه هی : الماء والهواء والتراب والنار .
مناقشة النظریّة

هذه النظریّة بتمام صیاغاتها اشتملت علی مغالطة أبعدتها عن موازین قراءة النصّ واُصوله وضوابطه .

علینا بادئ ذی بدء التنبیه إلی أنّ العلوم الإسلامیّة طوال أربعة عشر قرناً رکّزت علی قراءة النصّ وتحقیق القواعد والمناهج الصحیحة لفهمه وتطبیقه ، وازدهرت بحوثها بتعمیق ذلک إلی حدٍّ لم تصل إلیه سائر الملل والأقوام الاُخری ، بل إنّها اقتبست الکثیر من التحقیقات التی توصّل المسلمون إلیها فی علوم الأدب المختلفة ، کعلم البلاغة ، والمعانی ، والبیان ، والبدیع ، وفقه اللغة ، والنحو ، والصرف ، وعلوم النقد الأدبیّ ، وغیرها من علوم الأدب ، بالإضافة إلی علم اصول الفقه(1) الزاخر بالتحقیقات المعمّقة التی قلّ نظیرها ، وکذا مباحث الألفاظ فی علم المنطق وعلوم النقد الأدبیّ . وفی خصوص النصّ القرآنی ، التفاسیر التی لا تحصی ، وفی خصوص الحدیث ، کتب شرح الحدیث التی لا تعدّ هی الاُخری .

فعلوم اللغة بالمعنی الوسیع ، وعلم قراءة النصّ ، ینتهجان قواعد للوصول إلی المدلول وإلی فهم المعنی الذی رمی إلیه المتکلّم .

هذا من جانب ، ومن جانب آخر ، لم یتخطّ الشارع أسلوب المحاورة بما یتضمّن من قواعد متّبعة - عقلانیاً - فإن کان ثمّة اختلاف فی فهم کلام الشارع ، فهو لأجل خطأ الباحث فی تطبیق تلک القواعد ، لا لخطأ نفس القواعد ، ولا لتغیّر الحقیقة بتغیّر الزمان والمکان ! فظاهرة الاختلاف أدلّ علی لزوم الرکون إلی قواعد

ص:128


1- (1) وهو ما یصطلح علیه الآن ( اصول فقه القانون ) ، أی ضوابط فهم النصّ القانونی ، بل ینفع فی فهم أیّ کلام آخر .

وضوابط لمعرفة الخطأ من الصواب .

هذا مع أنّ ما استعرضه القائل من اختلافات فی العلوم الدینیّة بین علماء الأدیان ، بل بین علماء العلم الواحد فی المذهب الواحد ، لا یرجع دائماً إلی التناقض والتکاذب ، وإنّما یشکّل أحیاناً نوعاً من التکامل فی فهم الشریعة وتتعاضد الأفهام والتحقیقات تلو بعضها البعض ، وتتراکم النتائج إلی حدّ ما وصلت إلیه فی العصر الحاضر ، ولا بدّ من التفریق بین الاختلاف فی الإجمال والتفصیل ، والسطحیة والتّعمق ، والقلّة والکثرة من جانب ، والتکاذب والتناقض من جانب آخر !

ویمکن تشبیه ذلک بالتطوّر والاختلاف فی علم الریاضیّات والهندسة وعلم القُوی ( المیکانیک ) وغیرها من العلوم الریاضیّة ، حیث أنّ الدرجة التی وصلت إلیها فی العصر الحاضر من القواعد الجدیدة المبرهنة ، تختلف عن الدرجات القدیمة ، إلّاأنّ ذلک لیس بمعنی تخطئة القواعد القدیمة البرهانیّة ، بل هو اتّساع وتطوّر فی استنتاج القواعد فی العلوم الریاضیّة ، أشبه ما یکون بالبذرة سُقیت بماء البحث العلمیّ ، فظهر لها ساق ، ثمّ اردفت بمزید من التنقیب والبحوث ، فاشتدّ ساقها ، ثمّ تلاحقت البحوث فتفرّعت أغصانها وأینعت ثمارها ، ثمّ ازدادت البحوث فتکثّرت الشجرة إلی أشجار ، وهکذا حتّی أصبحت جنّة واسعة !

فمسیرة التحقیق تندفع إلی الأمام قدماً مستندة إلی تعاون الجهود وتعاقب الأفکار ، ولولا الحلقات الاُولی لما وصلنا إلی هذه الحلقات التی نجدها فی الواقع المعاصر ، فالمجموع القائم منها لیس فقط لا یتناقض ولا یتدافع مع السابق ، بل هو فی وجوده مرتکز علی ما سبق من تحقیقات وبحوث .

نعم ، ذلک کلّه بجانب وجود نسبة معیّنة من الأفکار التصحیحیّة ، أی إنّها

ص:129

تصحّح السقیم ممّا سبق من العلوم النظریّة ، کما هو الشأن فی کلّ علم بشریّ ، ولکنّه لیس نسخاً لأصول العلم وقواعده الیقینیّة ، بل إنّ النظریّة التی یثبت خطؤها لا یتعقّل أن تکون جمیع موادّها باطلة ، وإلّا لما اشتبهت علی أحد ! بل لابدّ أن یکون فیها نسبة من المجهود العلمیّ المساهم فی الوصول إلی النتیجة الصائبة .

وبذلک یتبیّن أنّه لیس کلّ اختلاف یساوی التناقض والتدافع ، بل منه ما یکون تطوّراً وتکاملاً ، ومنه ما یکون تشذیباً وتهذیباً لما سلف ، فهناک فرق بین الأفکار والآراء التی تتکامل فی طول بعضها البعض ، وبین الأفکار التی تتدافع فی عرض بعضها البعض ، فإنّ الاُولی لا تعنی بطلان الضابطة ولا سقم المیزان الذی اتّخذه المتقدّمون ، وإنّما تعنی التوسّع فی تطبیق تلک الضابطة والاستفادة من الثمرات والنتائج المتلاحقة .

والمتحصّل من تقییمالتقریب الأوّل لهذه النظریّة ، أنّه قد حصل الخلط فیه بین الاختلاف بمعنی التقابل والتنافر بین الآراء ، وبین الاختلاف بمعنی مطلق التعدّد بنحو الضیق والسعة والبسط والاختصار ، ولعلّ منشأ وقوع القائل فی ذلک سببان :

الأوّل : ابتعاد القائل عن الاختصاص وقصور باعه فی العلوم الإسلامیّة ، فإنّ بعضهم قد یکون تخصّصه فی فلسفة التاریخ أو السیاسة أو الاقتصاد أو الأدیان الاُخری أو غیر ذلک من التخصّصات المغایرة لعلوم قراءة النصّ الإسلامیّ ، فإنّه لا یتوصّل إلی عمق ما توصّل إلیه المتخصّصون فی هذه المسیرة العریقة من أبحاث العلوم الإسلامیّة باعتبار کثرة المسائل وتشعّب الأبحاث بنحو لم یشهده أیّ نصّ من النصوص الدینیّة الاُخری ، ولم تشهد لغة من لغات العالم جهوداً کاللغة العربیّة ، حتّی أنّ الکثیر من اللغات کالإنجلیزیّة والفارسیّة والاُردیّة

ص:130

قد اقتبست من علوم الأدب والنقد العربیّ ، والطریف أنّنا نشهد هذه الأیّام تبجّحاً وتفاخراً بالأسالیب الأدبیّة الغربیّة الحدیثة ، والتحقیق أنّها لم تنتج عُشر ما أنتجته الأبحاث فی علوم الأدب العربیّ ، کما أنّ المتتبّع فی علوم النصّ الدینی أو القانونیّ یجد البون الشاسع بین ما وصلت إلیه العلوم عندنا ، بالقیاس إلی ما توصّلوا إلیه حتّی الآن ، وکذلک علم التفسیر وعلوم شرح الحدیث التی وصلت عندنا إلی عدد هائل کمّاً وکیفاً .

الثانی : الخلطُ بین الاختلاف فی الضروریّات والاختلاف فی النظریّات ، والوهن إنّما یکون مع الاختلاف فی الضروریّات لأنّها ثوابت الشریعة ، فلا یمکن تلقّیها خطأ ولا یتطرّق الریب فی کونها جزءاً من الشریعة ، بخلاف النظریّات ، وتشابک المسائل ودقّتها هو الذی یورث مثل هذا الخلط .

أمّاالتقریب الثانی للنظریة ، فیلاحظ علیه :

أوّلاً : إنّ البشریّة فی کلّ لغة سارت علی الأخذ بموازین اللغة وقواعد الأدب فی قراءة النصوص الواردة بتلک اللغة ، وهذه الموازین ثابتة متقرّرة فی الأذهان لدی جمیع أفراد البشر ، ومدارج الإنتقال بین بعض هذه المعانی وبعضها الآخر - مثل الإنتقال من المعنی الذی استعمل فیه اللفظ إلی المعنی الذی یراد تفهیمه ومنه إلی المعنی الذی یراد بنحو الجدّ - لها موازین وقواعد مقرّرة یمکن الاستفادة منها ، کعلم البلاغة وعلوم النقد الأدبیّ المتعدّدة(1) وکعلم اصول فقه القانون وضوابط قراءة النصّ .

ص:131


1- (1) کالنقد الأدبیّ للأدیان ، والنقد الأدبیّ لنصوص علم الاجتماع ، أو للسیاسة ، أو للتاریخ و الحضارات ، أو للشعر ، أو غیر ذلک.

ففی جانب العمق فی علوم الحقائق العقلیّة والإنسانیّة والتجریبیّة - المؤدّی إلی العمق فی المعانی - تجد أیضاً الثبات فی وسائل إیصال المعانی والعلوم عبر قوانین الألفاظ وأسالیب استخدامها وتحدید معانیها . ولذا تری البشر فی أیّ لغة کانوا یقومون بقراءة النصوص الغابرة لأبناء لغتها قبل قرون سحیقة ، بل تجد خبراء الأدب یقومون بقراءة اللغات المندثرة کاللغة السریانیّة والمسماریّة واللاتینیّة وغیرها ، شریطة الإلمام بتلک اللغة وقواعدها .

نعم ، کلّ ذلک فی جانب التوصیة بالدقّة فی تلک العلوم للعثور علی القرائن الحالیّة والمقالیّة والعقلیّة ، حرصاً علی الوصول إلی الفهم الصحیح فی قراءة النصّ . فهناک ضوابط ثابتة للبحث العلمیّ تفسح المجال للمتخصّص الموضوعیّ المنصف أن یقرأ النصّ ویفهمه علی حقیقته .

وثانیاً : إنّ الرسوبات - المدّعی تأثیرها فی قراءة النصّ - إمّا أن تفرض فی قراءة النصّ القانونیّ الدینیّ (1) ، وإمّا فی نصوص المعارف الدینیّة الاُخری ، وإمّا فی نصوص التأریخ والسیرة ، وإمّا فی النصوص التخصّصیّة العلمیّة ، وإمّا فی باقی النصوص .

أمّا تأثیرها فی القسم الأوّل ، فإن کان من ناحیة الموضوع للقضیّة القانونیّة المقروءة ، فهو أمر لابدّ منه ، إذ مرجعه إلی تطبیق القضیّة الکلّیّة القانونیّة علی الموضوعات المستجدّة الحدیثة ، وشمول تلک القضیّة للموضوعات ( الهیاکل ) العصریّة والمستقبلیّة ، فالقارئ للنصّ - بما له من تعایش ببیئته وارتباط بعصره ومعرفة بخصوصیّات ظروفه - یمکنه معرفة اندراج ذلک الموضوع ( الهیکل ) تحت أیّ الموضوعات ، فملاحظته للرسوبات الذهنیّة عبارة اخری

ص:132


1- (1) یعنی قراءة النصوص المبیّنة للقواعد الاُصولیّة.

عن تجسیم موضوع زمانه وتحدید موقعه من الموضوعات الکلّیّة ، لکی یجد المحمول المناسب .

إذن ، فالتفات کلّ قارئ للنصّ إلی محیط زمانه وتطبیقه علی موضوعات النصّ لیس إلّالشمولیّة الشریعة والدین لکلّ الظروف والعصور ، ولأنّ القرآن یجری علی وقائع الزمان مجری الشمس ، وهو لا یؤول إلی اختلاف المعرفة الدینیّة ، بل یکشف عن أبدیّة الشریعة والدین إلی یوم القیامة ، نظیر ما یقال : إنّ کلّ عقد من الزمان یحتاج إلی تفسیر القرآن بما یتناسب واستخراج حلول المشاکل المعاصرة لأنّ فی القرآن کنوزاً لا یُلتفت إلیها إلّاعند مسیس الحاجة إلیها .

وأمّا إن کان تأثیر الرسوبات - المدّعی - من ناحیة المحمول ، فهو لا یتصوّر أصلاً؛ لأنّ الاختلاف فی المحمول یعنی فقدان القواعد والمعاییر ، والمفروض ارتهان قراءة النصّ بموازین أدبیّة محدّدة ، وضوابط من علم اصول الفقه لا تتأثّر باختلاف البیئة ولا بتطوّر المعرفة ، لا فی العلوم التجریبیّة ولا غیرها .

نعم ، قد یحصل التفاوت فی تطبیق تلک الموازین ومقدار الدقّة والعمق فی مراعاتها أو بسبب الإطّلاع علی القرائن العقلیّة المرتبطة بموضوع الحکم ، وهو یمکن علی مسلک التخطئة(1) ، إلّاأنّ مقتضی الإذعان بمسلک التخطئة هو وحدة المیزان الذی تجب مراعاته من قبل کلّ المستنبطین والقارئین للنصّ .

وأمّا إذا فرض التأثیر فی نصوص المعارف الدینیّة ( یعنی القسم الثانی ) ، فحیث أنّ لها أسراراً وبطوناً ، یتّضح أنّه کلّما اتّسعت وتعمّقت المعرفة الکونیّة للبشر فی الحقول المختلفة ، ازداد عمق الفهم والاستیعاب لتلک المعارف ، إلّاأنّ ذلک لیس تغییراً فی حدود وقوالب المعانی المأخوذة فی تلک النصوص ،

ص:133


1- (1) وهو المذهب المقابل للقول بالتصویب .

بل الحدود ثابتة والاختلاف إنّما یکون بنحو التطوّر من الإجمال إلی التفصیل ، ومن الضیق إلی السعة ، ونحو ذلک ، من قبیل الاختلاف فی قوله تعالی ( رَفَعَ السَّماواتِ بِغَیْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ) (1) ، حیث أنّ المنفیّ فی الآیة هو الأعمدة المرئیّة ، ممّا یشیر إلی وجود عمود غیر مرئیّ إجمالاً ، وبتطوّر العلوم التجریبیّة الحدیثة ونظریّة قوی الطاقة ، اتّضح أنّ المراد بها هی هذه القوی .

وکذا قوله تعالی : ( وَ أَرْسَلْنَا الرِّیاحَ لَواقِحَ ) (2) فإنّه بتطوّر العلوم الحدیثة فی الأحیاء والنباتات ، عرف المعنی الدقیق للآیة ، وأنّ الریاح تحمل اللقاح النباتیّ من الذکر إلی الاُنثی ، وکذلک قوله تعالی : ( وَ السَّماءَ بَنَیْناها بِأَیْدٍ وَ إِنّا لَمُوسِعُونَ ) (3) ، فإنّ علم الفیزیاء الفلکیّ الحدیث أثبت توسّع السماء ، وأنّ المجرّات فی حال انشطار وتوسّع .

وکذا التفسیر الحدیث لقوله تعالی : ( إِنَّ اللّهَ لا یُغَیِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتّی یُغَیِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ) (4) بما حُرّر أخیراً فی علم النفس الاجتماعیّ من الشخصیّة الواحدة للمجتمع وتأثّر المجموع بالأبعاض ، ودور الجانب التربویّ - کالأمر بالمعروف والنهی عن المنکر - فی سعادة أو شقاء المجتمع ، وکیفیّة تأثیر القسر الاجتماعی علی الإرادة الفردیة فی الأفراد ، وغیر ذلک من الأمثلة التی یجدها المتتبّع فی أسرار الشریعة ، وتطوّر الفهم بتطوّر البحث العلمیّ ، فإنّ کلّ ذلک لا یعنی التبدّل والتغیّر لمتن النصّ الدینیّ ، وإنّما هو انجلاء للإجمال فی حقیقة المعنی ، لا أنّ

ص:134


1- (1) الرعد 13 : 2 .
2- (2) الحجر 15 : 22 .
3- (3) الذاریات 51 : 47 .
4- (4) الرعد 13 : 11 .

اطُر حدود المعانی قد تبدّلت .

وأمّا الأنواع الاُخری من النصوص - غیر الدینیّة - فهی لا تعنینا فی هذا البحث .

وأمّاالتقریب الثالث فیلاحظ علیه :

أوّلاً : یجب التفریق بین التسالم والضرورة ، فالأوّل هو التوافق والتبانی علی أمرٍ مّا ، ولو کان مستنده نظریّاً ، کما أنّ التسالم قد یسود مدّة مدیدة ولو کانت قروناً عدیدة ، ولکنّها لا تتّصل بصاحب الشریعة ، أی أنّها تکون متولّدة بعد عصر النصّ بمدّة بخلاف الضرورة .

وثانیاً : لابدّ من التمییز بین الضرورة النابعة من الطریق ، أی کون الطریق قطعیّاً ضروریّاً ، وبین ضرورة ذی الطریق ، أی المؤدّی بالطریق؛ فإنّ التواتر فی نقل أمر معیّن لا یوجب واقعیّة ولا یُثبِت حقّاً ، لاحتمال کون المؤدّی باطلاً وإن کان النقل صادقاً والرواة صادقون ، کما لو کان المؤدّی منتسباً إلی غیر من قامت الحجّة علی تصدیق فعله وقوله .

ولذا تری فی کلّ الملل والأدیان منقولات متواترة أو مستفیضة عن غیر المعصوم الذی تحترمه تلک الطائفة ، ولکن ذلک لا یستلزم ضروریّة وحقّانیّة کلّ تلک المعتقدات ، کما ینقله النصاری أو الیهود عن أفعال موسی وعیسی علیهما السلام نقلاً عمّن صاحَبَهم ، وفیها جملة من الأفعال والقصص التی لا تصدر عن مؤمن عادل ، فضلاً عن نبیّ معصوم ، وکذا ما ینقل فی بعض صحاح العامّة من أفعال نبیّنا محمّد صلی الله علیه و آله و سلم عن بعض الصحابة ، فقد یکون السند صحیحاً إلی الصحابیّ ، لا إلی نفس النبیّ صلی الله علیه و آله و سلم ، وهذا بخلاف ضرورة المؤدّی الذی یقطع بصدوره من نفس النبیّ الحقّ صلی الله علیه و آله و سلم .

ومع ملاحظة ما تقدّم ، لا بدّ من التفریق بین الضرورة المتّصلة بعصر صاحب

ص:135

الشریعة وبین ما لا تتّصل حلقاتها إلیه صلی الله علیه و آله و سلم ، کما لابدّ من التفریق فی ضرورات المؤدّی بین ضرورة حدّ اللفظ والدلیل المنقول عن صاحب الشریعة ، وبین التفسیرات والتأویلات للدلیل الصادر ضرورة .

أمّاالتقریب الرابع فنحن لا ننکره إلی حدٍّ مّا کما قرّر فی کتب اللغة والعلوم الأدبیّة ، إلّاأنّ ذلک لا یعنی انقطاع البشریّة عن تراثها المأثور کلّ بحسب لغته ، بحیث یستوجب زوال ضروریّات وبدیهیّات ذلک التراث ، هذا بالإضافة إلی أنّ التغیّرات الطارئة تکون معروفة المنشأ والسبب غالباً ، لا أنّها تضیع وتخفی بانعدام ذلک الجیل !

وأمّاالتقریب الخامس لهذه النظریّة ، فلابدّ أوّلاً من الالتفات إلی أنّ المعرفة الدینیّة تنقسم إلی قسمین إجمالاً :

الأوّل : ما یرتبط بالمعارف والاعتقادات .

الثانی : ما یرتبط بالأعمال والوظائف .

وثانیاً لابدّ من التنبّه إلی أنّ القضیّة التی تتعلّق بها المعرفة تنقسم إلی موضوع ومحمول ، وبالنسبة إلی القضایا المرتبطة بالأعمال ، وهی اصطلاحاً ( الفقه أو القانون الدینیّ ) فتبدّل المعرفة الکونیّة للموضوعات لا ینسحب علی معرفة المحمول فی تلک القضایا ، سواء کان حکماً شرعیّاً تکلیفیّاً - من الأحکام الخمسة - أم کان حکماً وضعیّاً . نعم ، تبدّل الموضوعات یؤثّر علی تجدّد أفراد جدیدة للموضوع أو زوال أفراد سابقة .

وأمّا بالنسبة إلی ما یرتبط بالمعارف ، فقد تقدّم فی الجواب عن التقریب الثالث أنّ قالب المعنی واللفظ الواصل عن صاحب الشریعة صلی الله علیه و آله و سلم والذی هو من

ص:136

متن الشریعة وإن کان ضروریّاً ، إلّاأنّ التفسیرات أو التأویلات أو التطبیقات التی یذهب إلیها روّاد العلوم الدینیّة قد لا تکون ضروریّة ، کما فی تفسیر ( سبع سماوات ) حیث کان التفسیر السائد لها قائماً علی أساس نظریّة ( بطلمیوس ) فی الهیئة ووجود الأفلاک الجسمانیّة فی مجموعتنا الشمسیّة ، وقد ثبت فی علم الهیئة الحدیث خطأ ذلک ! مع أنّ فی تفسیر إحدی هذه الآیات عن الرضا علیه السلام أنّ کلّ ما یُری من نجوم وکواکب فهو تحت قبة السماء الدنیا(1) ، فإنّ التفسیر الأوّل لا یعنی بطلان نظریّة ( سبع سماوات ) التی جاء بها الشرع ، بل ولا عدم ضروریّتها وإنّما الذی یبطل تأویلها أو تفسیرها المزبور لأنّه تفسیر نظریّ - لا ضروریّ - وتبیّن خطؤه .

إذن فتطوّر العلوم البشریّة التجریبیّة قد یوجب زیادة القدرة علی تفسیر وتطبیق المعارف الدینیّة القطعیّة ، ولا یوجب بطلان نفس تلک المعارف .

هذا بالإضافة إلی أنّ الکثیر من النظریّات فی العلوم التجریبیّة الحدیثة هی محض فرضیّات حدسیّة أو ظنّیّة ، ولم یقم علیها البرهان التجریبیّ ، وإنّما هی تصوّرات صیغت متلائمة مع شواهد وآثار محسوسة من دون أن یقوم علیها البرهان .

والواقع أنّ من معجزات الدین الحنیف عدم التنافی بین الحقائق العلمیّة الیقینیّة وبین العقائد الضروریّة الإسلامیّة ، بل إنّ الأرقام والإحصائیّات العلمیّة تعزّز المفاهیم الدینیّة یوماً بعد یوم ، والأمثلة علی ذلک عدیدة ولسنا هنا بصدد بیانها .

ص:137


1- (1) تفسیر القمّی : 2 : 328 ، تفسیر قوله تعالی :( وَ السَّماءِ ذاتِ الْحُبُکِ ) حدیث الحسین بن خالد ، عن أبی الحسن الرضا علیه السلام .
الدلیل الثانی : السنّة الشریفة

البحث هنا لیس فی ما أشیر إلیه فی علم الاُصول ، ولا فی ما تعرّضَت له البحوث المتعارفة فی کتب الکلام .

وإنّما ینصبّ علی الإشکالات المستجدّة حول الفکر الدینیّ بما یسمّی ( تصحیح التراث الدینیّ ) فی عدّة مسائل :

المسألة الأولی : أقسام الحدیث ومعرفتها

ینقسم سند الحدیث الشریف إلی ثلاثة أقسام :

1 - الخبر المتواتر .

2 - الخبر المستفیض .

3 - خبر الواحد .

وکلّ واحد من هذه الأقسام ینقسم بدوره إلی أقسام اخری .

1 - المتواتر : هو الخبر الذی نقله أفراد کثیرون بحیث یمتنع اتّفاقهم وتواطؤهم علی الکذب ، ویحصل الیقین بمطابقته للواقع ، إمّا بسبب کثرة العدد کمّاً فقط ، أو بسبب الملابسات الکیفیّة للناقل ، أو للخبر المنقول مع کثرة العدد ، علماً أنّ تولّد الیقین من التواتر ناشئ من قاعدة ریاضیّة فی حساب الاحتمالات یراعی فیها ارتفاع قوّة الاحتمال إلی حدّ الیقین التامّ بسبب العوامل الکمّیة والکیفیّة کما حرّر فی علم الاُصول وهو : ینقسم بحسب التواتر إلی لفظیّ ومعنویّ وإجمالیّ .

والمراد من اللفظیّ هو الذی حصلت فیه ضابطة التواتر وتکرّر الخبر بلفظ واحد أو عبارة واحدة .

ص:138

والمراد من المعنویّ هو الخبر الذی تعدّدت عباراته ، إلّاأنّ مضمونها ومؤدّاها أو بعض مضامینها واحد ، وحینئذٍ یکون المضمون المتکرّر کثیراً متواتراً ، ولابدّ من الإشارة هنا إلی أنّ أصناف اتّحاد المعنی فی الأخبار لا یتفطّن إلیها کلّ ناظر أو قارئ ، بل تحتاج إلی خبرة وفطنة وعمق نظر کی یلتفت إلی وحدة المعانی الإلتزامیّة بین آحاد الأخبار فی المسائل المختلفة والأبواب المتباعدة ، ولاسیّما المسائل النظریّة العالقة والغامضة ، فهناک کثیر من الحقائق فی المعارف والأحکام الشرعیّة فی الفروع ، تجد الأدلّة العدیدة علیها فی طیّات الروایات ، ولم یتنبّه لها إلّا الأوحدیّ من المحقّقین .

والمقصود من الإجمالیّ هو العلم بصدور بعضٍ من مجموعة کبیرة من الأخبار من دون وجود جامع مشترک بینها من جهة اللفظ ولا من جهة المعنی ، وإنّما نعلم بصدور بعضها .

وللمتواتر تقسیمات اخری ینبغی بیانها :

منها : ما یکون نطاقه واسعاً لجمیع الناس .

ومنها : ما یکون تواتره فی نطاق أهل اللغة الواحدة .

ومنها : ما یکون تواتره فی نطاق أهل الدین الواحد .

ومنها : ما یکون تواتره فی نطاق أهل المذهب الواحد .

ومنها : ما یکون تواتره فی نطاق أهل الفنّ الواحد أو الحرفة الواحدة ، دون سائر شرائح المجتمع .

فمثال الأوّل : تواتر وجود البلدان المعروفة ، کالقدس ومکّة وباریس ، والوقائع التأریخیّة العالمیّة کالحرب العالمیّة الاُولی .

ومثال الثانی : قواعد اللغة ومفرداتها عند أهلها ، کتواتر مفردات العربیّة إجمالاً

ص:139

عند العرب وإن جهلها أبناء لغة اخری .

ومثال الثالث : القرآن عند المسلمین ، وکذلک واقعة بدر واُحُد والأحزاب ، ومثل عصا موسی عند الیهود . نعم ، لابدّ من الالتفات هنا إلی أنّ التواتر فی النقل والطریق لا یلازم یقینیّة المضمون إلّامع اتّصال حلقات التواتر بشخص المعصوم علیه السلام ، کما سبق .

ومثال التواتر عند أهل الحِرَف والفنون : الخبرات المنقولة عند أهل کلّ علم ، کخصوصیّات اللغة وقواعدها العمیقة ، فإنّها قد لا تکون متواترة عند أهل تلک اللغة ، ولکنّها متواترة عند علماء اللغة .

وهذا یعنی أنّ المحقّق للتواتر لیس هو کلّ أبناء اللغة ، بل هو فئة خاصّة من أبنائها وهم علماء اللغة والأدب .

نعم ، لابدّ من الإشارة إلی أنّ الیقین الحاصل من هذه الأقسام لیس علی مستوی واحد ، لأنّ الیقین - کما حقّق فی محلّه - مشکّک علی درجات ، وبعض هذه الأقسام یوجب الیقین بدرجة عالیة وبعضها بدرجة دانیة أو متوسّطة .

وبهذا یظهر أنّ دوائر التواتر تختلف سعة وضیقاً ، وتضیُّق دائرته لا یضرّ بتحقّقه وصدق تعریفه ما دامت ضابطته موجودة ، وکثیراً مّا تحصل الغفلة عن ذلک ، فیری الباحث أنّ التواتر غیر حاصل فی دائرته الوسیعة ، ویظنّ أنّه لا وجود له ، فهناک مثلاً ضرورات متواترة عند الفقهاء ولکنّها لیست متواترة عند باقی المتشرّعة ، کما أنّه یوجد خبر مأثور عن النبیّ صلی الله علیه و آله و سلم متواتر فی کلّ طبقاته وأسناده إلّا أنّه لیس بدائرة کلّ الاُمّة الإسلامیّة ، وإن رواه العدیدون من الطوائف العدیدة بحیث تبلغ عدّتهم التواتر ، وهذا یعنی أنّ الحامل للتواتر فی کلّ جیل ونسل قد یکون محدوداً فی دائرة محدودة فی جملة من الرواة لا کلّهم ، فضلاً عن عموم

ص:140

الاُمة الإسلامیّة ومع ذلک لا یختلّ التواتر ما دام الشرط محفوظاً ، وهو القطع بعدم تواطئهم علی الکذب بسبب تکرّر الرواة وتعدّد مشاربهم .

ولمزید التوضیح نُلفت الإنتباه إلی أنّ الخبر المتواتر قد یتنقّل من دائرة إلی اخری سعةً وضیقاً ، فقد یکون خبراً فی ابتداء أمره ذا دائرة وسیعة جدّاً ثمّ تتضیّق تلک الدائرة بسبب بعض الظروف ، ولکن ضابطة التواتر تبقی موجودة حتّی فی أضیق الدوائر ، وقد تقدّم أنّها ضابطة ریاضیّة نظیر العدید من الأحادیث النبویّة المتّفق علی تواترها ، فإنّها حین صدورها شهدها عشرات الآلاف ، کالتی صدرت عنه صلی الله علیه و آله و سلم فی حجّة الوداع ، إلّاأنّها وصلت إلینا من خلال مئات الطرق ، فإنّها حین صدورها ذات دائرة وسیعة جدّاً ثمّ بدأت بالتناقص علی مرّ الزمان إلی دائرة محدودة ، ولکنّها تحقّق التواتر حتّی بهذا المستوی ، بل إنّ هذا العدد یزید علی ما یحقّق التواتر بأضعاف عدیدة ، ومنشأ هذا التضیُّق فی الدائرة عدّة عوامل :

1 - منع تدوین الحدیث منذ عصر الشیخین إلی قرابة سنة 150 هجریة .

2 - الأغراض والدواعی السیاسیّة العامّة التی کانت ترمی إلی تحریف الإسلام وقلب حقائقه ، ولذلک کثر الکذّابون وقمع الصادقون من المحدّثین .

3 - الأغراض والدواعی الخاصّة ببعض الأحادیث ، کالأحادیث الواردة فی موضوع النصّ علی خلافة أمیر المؤمنین علیه السلام والأئمّة من بعده علیهم السلام ، أو الأحادیث الواردة فی فضح بعض الشخصیّات التی تصدّت للحکم أو مَن یدور فی فلکه ، وغیر ذلک ممّا لا ینسجم مع سیاسة الأمراء والحکّام .

4 - عدم تصدّی الکثیرین ممّن سمعوا تلک الأحادیث للروایة ، إمّا لقصور فی الحفظ ودقّة النقل ، أو للخوف من السلطة ، أو لاشتهار الموضوع وشِیاعه بما لا یستدعی نقله وروایته ، وغیر ذلک .

ص:141

إذا اتّضح ذلک ، فلا مجال حینئذٍ للاستغراب من تفاوت سعة التواتر فی عدّة أحادیث بحسب الطبقات ، لأنّ العدید من الرواة فی بعض الطبقات ممّن لم یحملوا التواتر لتلک الأحادیث ، کانوا جاهلین بها ولم یسمعوا بها ، فإنّ خصوصیّات مسائل العلوم العربیّة لیس الحامل لتواترها جمیع أهل اللغة ، بل شریحة أهل الاختصاص منهم ، وهذا الأمر موجود منذ العهود الاُولی ، وهو لا یضرّ بتواتر تلک الخصوصیّات والقواعد اللغویّة .

ولذا فإنّ ما یثار من تساؤلات حول حدیث الغدیر وأحادیث النصّ علی الأئمّة الإثنی عشر علیهم السلام : أنّه کیفَ یجهله عدّة من الرواة فی الطبقات المختلفة مع فرض تواتره ؟ فإنّ السلطة التی حاربت وقتلت ونکّلت بمن یتولّی علیّاً أو یروی عنه حدیثاً فی الفقه أو التفسیر کیف یمکن أن تسمح بروایة فضائله ؟ ثمّ کیف تسمح بروایة التنصیص علیه بالخلافة والإمامة ؟ ! هذا کلّه بالنسبة إلی تحقّق التواتر من جهة العامل الکمّیّ .

وأمّا تأثیر العامل الکیفیّ مع الکمّیّ فی تحقّق التواتر ، فمثاله :

سلسلة أسناد الطرق من بلدان مختلفة أو من الفرق والأذواق المختلفة ولا سیّما إذا کان الرواة من أتباع مذهب لا توافق معتقداته مضمون الخبر ، ولا یخفی أنّ الإلمام بعلم الرجال والدرایة ینفع الباحث فی الکثیر من هذه الخصوصیّات فی رجال السند وأذواقهم وعقائدهم وحفظهم وضبطهم وتثبّتهم وسائر صفاتهم .

ثمّ إنّه هل یتکوّن الخبر المتواتر من خصوص الأخبار الصحیحة ، أو یتولّد من ضعاف الأخبار أیضاً ؟ فهذا ما سوف نثیره فی ذیل بحث الخبر الضعیف .

2 - الخبر المستفیض : وهو غیر المقطوع بصدوره ، ولکنّه یطمئنّ بصدوره

ص:142

بسبب کثرة نقله کمّاً مع توفّر الجانب الکیفیّ الداعم لقوّة احتمال صدوره .

وهو أیضاً ینقسم إلی نفس الأقسام الثلاثة الأولی المتقدّمة فی التواتر : أی المستفیض اللفظی والمعنویّ والإجمالیّ ، وینقسم أیضاً إلی درجات من الاستفاضة ، وسیأتی الکلام فی تکوّنه من الخبر الضعیف .

3 - خبر الواحد : وهو الخبر الذی لا یحصل القطع ولا الإطمئنان بصدوره بسبب الکثرة ، وینقسم إلی خبر معتبر شرعاً ، وخبر ضعیف .

وما یهمّنا بحثه الآن هو خصوص الضعیف ، حیث أنّه قد وقع کثیر من اللغط والاشتباه فی تمییز هذا القسم وفی أحکامه ، حتّی ظهرت دعوات إلی غربلة کتب الحدیث وتنقیتها من ضعاف الأخبار ، والإبقاء علی خصوص الأحادیث المعتبرة فی المجامیع الروائیّة .

وقد عُلّل ذلک بأنّ الأخبار الضعیفة أخبار مدسوسة مجعولة وموضوعة ! وأنّ الخبر الضعیف لا یوزن بجناح بعوضة ! أو أنّ من وصف فی تراجم الرجال ( کذّاب ) أو ( مخلِّط ) أو ( لا یعتمد علیه ) أو ( أحادیثه منکرة ) ونحو ذلک ، فإنّ جمیع أخباره موضوعة ومجعولة ! کما تعالت الأصوات من هنا وهناک قائلة :

ما دام الخبر الضعیف لا أثر ولا شأن له ، فلا وجه لبقائه فی المجامیع الروائیّة ، وغیر ذلک من الطروحات .

وکلّ هذا وذاک ناجم من الخلط فی أقسام الحدیث ، وقلّة الاطّلاع علی أولّیات علم الدرایة والحدیث ، فإنّ فی ( الخبر الضعیف ) اصطلاحین :

1 -ما لیس معتبراً علی نحو یشمل الموضوع والمدلّس .

2 -ما لیس معتبراً بمفرده لعدم توثیق رجال السند ، إمّا بعضهم أو کلّهم ، ولکنّه یباین الخبر الموضوع والمدلّس .

ص:143

وبیان ذلک : أنّ المدلّس والموضوع والمجعول هو ما علم بوضعه أو جعله وعثر علی قرائن التّدلیس ، بینما الخبر الضعیف هو الخبر الذی لیس بمعتبر فی حدّ نفسه ، إلّاأنّه لا دلیل ولا شواهد علی وضعه أو دسّه ، بل الغالب فیه روایته من قبل الثقة عن غیر الثقة أو مجهول الحال ، إذ لا أقلّ من إیداع الثقة لهذا الخبر فی کتابه ، بل إنّ أصحاب المجامیع المتقدّمة ، ولا سیّما أصحاب الکتب من الرواة کانوا لا یکتبون فی کتبهم إلّاما أمنوا فیه البعد عن شبهة الدسّ والوضع ولا یکتفون بمجرّد عدم العلم بالوضع أو الدسّ ، بل کانوا رحمهم الله علاوة علی ذلک لا ینقلون فی کتبهم إلّاما قامت القرائن لدیهم علی صحّة مضمونه وعدم منافاته للعمومات والقواعد العامّة من القرآن والسنّة القطعیّة ونحو ذلک .

وسیأتی تفصیل الحدیث فی ذلک عند التعرّض لدعوی العلم الإجمالیّ بوجود الدسّ والتحریف فی الحدیث ، فمن الخطأ بمکان حسبان کلّ الروایات التی یرویها من وُصِف بالکذب ؛ موضوعة ، لأنّ الکذّاب قد یصدق ، ولابدّ من التفریق بین من یتعمّد الکذب والوضع ومن لا یهتمّ بالصدق والکذب ، بل إنّ العادل قد یکذب فی بعض الأحیان ، فلا یلزم من ثبوت الکذب مرّةً أن یکون کاذباً فی جمیع أقواله وروایاته ! فضلاً عمّن لم یوصف بالکذب وإنّما کان مجهولاً أو ممدوحاً(1) ، هذا بالإضافة إلی ما أشرنا إلیه من تثبت أصحاب المجامیع .

مع أنّ العدید من الأخبار الضعاف المذکورة فی کتبنا الحدیثیّة تکون سلسلة سندها قد وقع فیها عدّة من الثقات أو الأجلّاء الثقات ، فکثیراً ما یکون الضعف لوجود راوٍ أو راویین أو ثلاثة لم یوثّقوا ، لا کلّ سلسلة السند .

فمن المهمّ جداً التفطّن إلی نقطة بالغة الأهمّیّة وهی أنّ الخبر الضعیف - مضافاً

ص:144


1- (1) بنحو لا یثبت التوثیق .

إلی مباینته للخبر المدسوس والموضوع - یشتمل علی درجات متعدّدة من احتمال الصدور ، فلا ینبغی جعله بدرجة واحدة ، فمثلاً :

المرسَل وإن کان بکلّ أصنافه من الضعیف ، إلّاأنّ درجات الإرسال تختلف حیث أنّ منه : ما هو مرسل فی أغلب طبقاته ( رفیع الإرسال ) .

ومنه : ما هو مرسل فی طبقة أو طبقتین .

کما أنّ المرسِل قد یکون من أکابر الرواة وممّن عُرف بالضبط والدقّة والتثبّت وأنّ الإرسال إنّما طرأ فی روایاته لانمحاء کتبه ، کابن أبی عُمیر الفقیه الضابط النقّاد .

وکذا الحال فی المقطوع والمرفوع وأقسامهما فضلاً عن الأحادیث الحسنة والقویّة وأقسامهما إن لم نقل بحجّیتهما کما بنی علی ذلک مشهور روّاد علم الرجال والفقه ، وهو الصحیح .

ومن کلّ ذلک یتّضح خلل الدعاوی السابقة ، إذ حصل لدی القائلین بها الإلتباس والخلط بین الضعیف الاصطلاحیّ والموضوع ، لعدم الاضطلاع بعلم الحدیث والرجال ، کما تقدّم .

کما تتّضح خطورة هذه الدعاوی علی التراث الدینیّ ! لأنّ الضعیف المصطلح له عدّة آثار شرعیّة وعلمیّة مهمّة مع افتراض عدم حجّیّته فی حدّ نفسه ! نذکر من تلک الآثار :

1 - تولید التواتر منه ، ویتبیّن ذلک جلیّاً من الضابطة الریاضیّة المتقدّمة للتواتر ، فعندما تتکثّر الطرق الضعیفة المتباینة الوسائط فی کلّ طبقاتها مع اختلاف أذواق ومشارب الرواة وتباعد أمکنتهم وغیر ذلک من الخصوصیات الکمّیة والکیفیّة التی تزید من قوّة احتمال الصدور إلی درجة یحصل القطع

ص:145

بالصدور - فعندئذٍ - تتحقّق ضابطة التواتر ، مع أنّ کلّ فرد من الأخبار لیس حجّة فی حدّ نفسه !

وبعبارة اخری : إنّ الخبر الضعیف الاصطلاحیّ فی مجامیعنا الروائیّة أشرنا إلی أنّ الأصحاب لا یکتفون فیه بعدم العلم بالوضع ، بل لا ینقلون الخبر حتّی یأمنوا ویضمنوا بُعده عن شبهة الوضع والتحریف ، فهو یتضمّن درجة من الظنّ غیر المعتبر بالصدور ، ومع تراکم الاحتمالات تتصاعد ، حتّی ینعدم احتمال المخالفة للواقع .

هذا ولابدّ من التنبّه إلی أنّ التواتر لا ینحصر تولّده من الخبر الضعیف ، بل ربّما یتولّد من الأحادیث الصحیحة المتعدّدة أو منها ومن الضعیفة بما یحقّق الضابطة .

ومَن یستغرب من تولّده من الضعاف المتکثّرة ینبغی له الشکّ فی تولّده من الأخبار الصحیحة ، والحلّ فی المقامین ما ذکرناه من الضابطة الریاضیّة فی کیفیّة تحقّق التواتر .

2 - تولّد الاستفاضة منه أیضاً بنفس التقریب المتقدّم فی التواتر ، وتقدّم أنّه یکون إمّا بتکرّر الضعاف أو هی مع الصحاح مع اختلاف الحجم الکمّیّ والکیفیّ باختلاف الفرضین .

وبهذا یتبیّن عمق الخطر فی تلک الدعاوی لإسقاط الضعیف ، حیث أنّها تؤدّی إلی ضیاع واندراس الضرورات الدینیّة الناشئة من التواتر واندراس الأحکام المسلّمة الناشئة من الاستفاضة .

والعجب من القائلین بهذه الدعاوی کیف یتحرّجون من الخبر الصحیح مع کونه ظنّیّاً ، ولا یتحرّجون من طرح الأحکام الیقینیّة - بالتواتر - أو المتاخمة للعلم - بالإستفاضة - ؟ ! مع التنبّه إلی أنّ بعض أصناف التواتر المعنویّ یختصّ ببعض

ص:146

محقّقی علماء الشریعة کما تقدّم فی التواتر المعنویّ ، فراجع .

3 - إنّ المتسالم علیه فی مذهب أهل البیت علیهم السلام حرمة ردّ الخبر الضعیف ؛ وقد وردت روایات کثیرة عنهم علیهم السلام فی إفادة ذلک(1) ، إذ ربّما یکون الخبر صادراً عنهم واقعاً ، فتکذیبه تکذیب لهم علیهم السلام .

ولکن هذا لا یعنی حجّیة الأخبار الضعیفة ، فلا ینبغی مثل هذا التوهّم لأنّ تحریم ردّ ما یحتمل صدوره ، غیر الإلتزام بمفاده والعمل بمضمونه ، وعدم الإلتزام به لا یسوِّغ الحکم ببطلانه والردّ له ، بل یتعیّن التوقّف فیه وانتظار قیام الحجّة الشرعیّة علی حقیقة الحال .

ولعلّ سبب غفلة هذا القائل عن حرمة الردّ هو اعتقاد مساواة الضعیف للموضوع ونحوه ، واللّه العالم .

4 - ماتقدّم الحدیث عنه - فی بحث إمکان التعبّد بالظنّ فی الأحکام الاعتقادیّة - وهو أنّ أدنی فائدة للخبر الضعیف ولا سیّما فی المعارف والآداب والسنن :

أن یکون منبّهاً للعقل وسبباً لتصوّر المعانی المحتملة والتی قد یغفل الباحث عنها ، فإنّ التصوّر - وإن لم یتعقّبه التصدیق - یَفتَح نافذة علی العلم .

وبعبارة اخری : إنّ الروایة المنسوبة إلی المعصوم ، المحتملة الصدور لا تقلّ أهمّیة عن الأقوال المنسوبة إلی بعض العلماء والمفکّرین مع أنّهم لیسوا معصومین .

هذا مع أنّ الحکم بضعف الخبر أو اعتباره ، مختلف باختلاف المبانی

ص:147


1- (1) وسائل الشیعة : 27 : 35 ، کتاب القضاء ، باب 6 من أبواب صفات القاضی . الاُصول الستّة عشر : 61 .

وبحسب الأنظار . وحسب التحقیقات والإجتهادات فی التصحیح والتضعیف ، فإنّ بعض المبانی لا تحصر التوثیق بالأصول الخمسة الرجالیة المتقدّمة(1) ، بل یعتمد أیضاً علی جمع القرائن والبحث عن حال الرواة والإطّلاع علی خصوصیّاتهم من خلال وقوعهم فی الأسانید المختلفة ، ومضمون ما یروونه ، والتنقیب عنهم فی المصادر التأریخیّة والروائیّة ، وغیرها .

وحینئذٍ فلو أغمضنا الطرف عن کلّ ما تقدّم ، فإنّ حذف الروایات الضعیفة فی تشخیصٍ معیّن یعنی تضییع التراث الدینیّ بحسب الأنظار الاُخری التی لا تراها ضعیفة ، وقد یکون الحقّ والصواب - فی التصحیح والتضعیف - هو النظر الآخر ؛ علماً أنّ الأئمّة علیهم السلام قد نصبوا ضوابط وعلامات لمعرفة حال الخبر الضعیف ، هل هو موضوع أو لا ؟ وهی عرض تلک الروایات علی محکمات الکتاب ومحکمات السنّة والعقل ، ومقتضاه الضمان العلمیّ بعدم الأخذ بالمدسوس .

وقد أحصوا فی علم الدرایة القرائن الکثیرة لاستعلام الخبر الصحیح وتمییزه عن المدسوس والموضوع ، وأنهاها الدربندی إلی عشرین قرینة ، من قبیل قوّة المتن ، وعلوّ المضمون العلمیّ عن السطح العلمیّ للرواة آنذاک ، نظیر حلّ مسألة الجبر والتفویض وبیان الاختیار ، بدقّة وببساطة .

وکذلک البلاغة العالیة ، والسلاسة المنطقیّة ، والمعارف العمیقة الدقیقة ، ووجود المضمون متعدّداً حتّی فی کتب العامّة مع کون المضمون لا ینسجم مع مذاقهم .

ص:148


1- (1) وهی ( رجال الکشّی ) و ( النجاشی ) و ( رجال الطوسی وفهرسته ) و ( رجال البرقی ) ،وقد یضاف إلیها رجال العقیقی و مشیخة الفقیه و مشیخة التهذیبین .

وکذلک الشهرة أعمّ من الروائیّة والفتوائیّة والعملیّة(1) .

وکذلک روایة بعض الرواة المعروفین بالدقّة والضبط مثل أصحاب الإجماع .

وکذا روایة الخبر من قبل شخص لا یعتقد بمفاد الخبر ، کالواقفیّ الذی یروی إمامة الإمام المتأخّر عمّن وقف علیه ، وغیرها من القرائن .

هذا ولابدّ من الالتفات إلی أنّ هذه القرائن التی یذکرها الرجالیّون ، لا یقصدون کفایة کلّ واحدة منها فی تحقّق الوثوق ، وإنّما یعنون أنّ کلّ واحدة منها ذات قیمة احتمالیّة ، فإذا اجتمع فی مورد واحد أکثر من قرینة ، یوجب تراکم الاحتمال حتّی یحصل الوثوق ، وهذا اسلوب متّبع فی کلّ العلوم ، ولذا فمناقشة السیّد الخوئیّ رحمه الله لها جمیعها مبنیّة علی توّهم اعتماد الرجالیّین علی کلّ واحدة منها منفردة فی تحقّق الوثوق ، وعلی هذا تکون جمیع مناقشاته رحمه الله فی غیر محلّها ، لأنّهم کما قلنا لا یریدون ذلک .

ویشیر إلی مفاد قاعدة تراکم الإحتمال ما دلّ علی علائم العدالة ، فقد تعرّضت لذلک بعض الروایات(2) وذکرت عدّة علامات للعدالة ، مع أنّ کلّ واحدة من تلک

ص:149


1- (1) المقصود من الشهرة الروائیّة کثرة نقل الروایة ، ومن الفتوائیّة کثرة الفتوی بین الفقهاء ، ومن العملیّة شیاع العمل بروایةٍ مّا من دون اتّفاق علی تفسیر مضمونها .
2- (2) کما فی موثّقة ابن أبی یعفور ، قال : « قلت لأبی عبداللّه علیه السلام : بما تعرف عدالة الرجل عندالمسلمین حتّی تقبل شهادته لهم وعلیهم؟ قال : فقال : أن تعرفوه بالستر ، والعفاف ، والکفّ عن البطن والفرج ، والید ، واللسان ، ویعرف باجتناب الکبائر . . . إلی أن قال علیه السلام : والدالّ علی ذلک کلّه ، والساتر لجمیع عیوبه ، حتّی یحرم علی المسلمین تفتیش ما وراء ذلک من عثراته وغیبته ، ویجب علیهم تولّیه ، وإظهار عدالته فی الناس المتعاهد [ التعاهد] للصلوات الخمس إذا واظب علیهنّ وحافظ مواقیتهنّ » « بإحضار جماعة المسلمین ، وأن لا یتخلّف من جماعتهم ومصلّاهم إلّامن علّة ، وذلک أنّ الصلاة ستر وکفّارة للذنوب ، ولولا ذلک لم یکن لأحد أن یشهد علی أحد بالصلاح . . . إلی أن قال : ومَن لزم جماعتهم حرمت علیهم غیبته ، وثبتت عدالته بینهم » الاستبصار : 3 : 12 .

العلامات لا تکفی فی تحقّق العدالة ، ولکن اجتماعها أو بعضها یوجب العلم أو الاطمئنان بالعدالة .

المسألة الثانیة : کیفیّة تحقیق الکتب الروائیة

من المؤسّف جدّاً أنّ ( مرض ) طرح الروایات الضعیفة لم یقتصر علی آحاد الروایات ، بل تعدّاها لیشمل طرح کتب بأکملها لمجرّد عدم العلم بأسناد صحیحة إلی تلک الکتب ، وإذا ضاع فی الحالة الأولی أخبار آحاد ، فقد ضاع هنا تراث بأکمله .

هذا مع أنّ بعض تلک الحالات نشأت من الکسل والتوانی فی تحقیق تلک الکتب الروائیّة ، فی حین أنّ تحقیق الکتب یحتاج إلی علم خاصّ هو علم الدرایة وإن لم یذکر أعلام الفنّ له منهجاً خاصّاً إلّاأنه یمکن تصیّد المنهج والضابطة من طیّات کلامهم رحمهم الله .

ویمکن تلخیص ذلک فی النقاط التالیة :

الاُولی : مراجعة هویّة الکتاب من خلال کتب الفهارس(1) وأخذ ترجمته منها .

الثانیة : معرفة أسانید أصحاب الفهارس إلیه وکذلک أسانید أصحاب المجامیع الروائیة المتأخّرة إلی ذلک الکتاب .

ص:150


1- (1) من قبیل فهرست کلّ من الطوسی والنجاشی ونجم الدین ، وکتاب الذریعة ، ومستدرک وسائل الشیعة .

الثالثة : التعرّف علی درجة اشتهار الکتاب فی الطبقات المتلاحقة وهی خطوة هامّة جداً وتتمّ بتوسّط مقدّمتین :

1 - ملاحظة سلسلة الإجازات ، کإجازات العلّامة الحلّی لابن زهرة ، وإجازات الشهید الثانی لتلامیذه - کالشیخ حسین بن عبدالصمد الحارثیّ - وذلک من خلال مراجعة الکتب المعدّة لذلک ، وکإجازات العلّامة المجلسیّ وطرقه إلی الکتب المستفاد منها فی « البحار » .

2 - ملاحظة الکتب الاستدلالیّة عبر الطبقات التأریخیة المختلفة ، سواء کانت فی علم الفقه أو المعارف الاعتقادیّة ، وکذلک الکتب الروائیّة المتعاقبة زماناً فمن خلال استخراج روایاتٍ من ذلک الکتاب فی تلک الکتب ، یکون شاهداً علی توفّر نسخته عند المؤلفین آنذاک .

الرابعة : ملاحظة ومراجعة الأسانید والطرق عند أصحاب المجامیع الروائیّة المتأخّرة ، لأنّ هذه الطرق هی التی اعتمدها أصحاب المجامیع فی تألیف کتبهم مثل « الوسائل » و« مستدرک الوسائل » و« الوافی » وکتب السیّد هاشم البحرانی ، فإنّها کلّها اعتمدت علی أسانید وطرق فی روایاتها .

فإنّ وصول الکتاب إلی أربعة أو ثلاثة من روّاد الحدیث الکبار بطرق متّصلة مسندة ، دالّ علی توفّر النسخ ، خصوصاً مع اختلاف طرقهم إلی ذلک الکتاب .

وبعبارة اخری : عندما یتّصل سند الکتاب من أصحاب المجامیع المتأخّرة إلی أصحاب الفهارس المتقدّمة ، کالصدوق والطوسیّ والنجاشیّ ، الذین لدیهم أسانید إلی مؤلف الکتاب ، فعندئذ تکتمل سلسلة السند إلینا ویصبح من الکتب المسندة .

الخامسة : محاولة التعرّف والاطّلاع علی جمیع النسخ المتوفّرة فی المکتبات

ص:151

الخطّیة فی العصر الحاضر ، فإنّ تکثّر العدد بضمیمة ملاحظة الخطوط التی علیها وتوقیعات العلماء والنسّاخ وأسمائهم ومکان وزمان الإستنساخ ، هذا التکثّر یستشرف بالمتتبّع ویرشده إلی مدی استفاضة النسخ فی الطبقات المتلاحقة ، وبعبارة اخری : إنّ هذه العملیّة تنفع فی تحصیل موسوعة عن الکتب الروائیّة .

السادسة : یجب التعرّف علی خطّ الکتاب ومطابقة العدد الموجود فیه من الروایات مع العدد المذکور عن الکتاب فی الکتب الاُخری ، کما یلزم المطابقة بین مضمون روایات النسخة ومضامین روایات الکتب الاُخری المسندة .

إلی غیر ذلک من الأمور التی یجب مراعاتها لتحصیل الإعتماد علی النسخة المذکورة فی علم الدرایة ، بل أنّ تصحیح النسخ أصبح الیوم علماً قائماً برأسه ویعتمد علی مناهج علمیّة مفصّلة ودقیقة ، فلاحظ الکتب المؤلّفة فی هذا الصدد ، حتّی أنّه قد کشف هنا تزویر نُسَخ ادّعی فیها القِدَم الأثریّ وبیعتْ بالأموال الطائلة ، ویضاف إلی ذلک علم جدید ناشئ أیضاً هو علم فهارس الکتب والمکتبات ، ویتعرّف من خلاله علی زمن النسخة وزمن التألیف ، وکذا فهارس المکتبات فی البیئات العلمیّة المختلفة مع اختلاف الأزمنة والأمکنة ، فلاحظ .

السابعة : لابدّ من تمحیص طرق المشیخة إلی الکتب الروائیّة ، والمراد من ذلک عدم الاقتصار - فی استخراج طرق الشیخ مثلاً إلی کتب الرواة المتقدّمین - علی ما ذکره فی مشیخة التهذیبین ولا علی ما ذکره فی الفهرست ، بل یضمّ إلیهما ما یذکره فی کتبه الاُخری ک « الأمالی » و« الغیبة » و« المصباح » وکذا ما له من طرق مشترکة مع النجاشیّ من طریق شیخ واحد ، وکذا الحال فی الصدوق ، فیلزم التتبّع فی سائر کتبه وعدم الإقتصار علی ما ذکره فی مشیخة الفقیه ، وکذلک الکلینی رحمه الله یلزم التتبّع فی طیّات کتابه وکتاب تلمیذه النعمانی ، بعد الالتفات إلی أنّ ما یذکره

ص:152

فی مبدأ الطریق من رجال السند إنّما هو طریق إلی الکتاب ولیس فقط إلی هذه الروایة وکذا الحال فی غیرهم من مشایخ المتقدّمین ، بالإضافة إلی ما ذکرناه سابقاً من تحصیل طرق أصحاب المجامیع فی العصور المتأخّرة وضَمّها إلی طرق المشایخ المتقدّمین .

المسألة الثالثة

ادّعی وجود علم إجمالیّ بالدسّ والوضع فی مجموع الروایات المنسوبة

للأئمة علیهم السلام ،

هذه الدعوی وقعت محلّاً للبحث قدیماً ولکنّها طرحت فی الآونة الأخیرة برونق حدیث . ویستدلّ لها بشواهد عدّة :

1 - ما فی کتاب الکشّی فی ترجمة المغیرة بن سعید فی ما أسنده عن یونس ابن عبدالرحمن ، أنّه قال : « حدّثنی هشام بن الحکم أنّه سمع أبا عبداللّه علیه السلام یقول :

لا تقبلوا علینا حدیثا إلاما و افق القرآن و السنة ،أو تجدون معه شاهدا من أحادیثنا المتقدمة ، فإن المغیرة بن سعید - لعنه الله - دس فی کتب أصحاب أبی أحادیث لم یحدث بها أبی، فاتقوا الله و لا تقبلوا علینا ما خالف قول ربنا تعالی و سنة نبینا صلی الله علیه و آله و سلم ،فإنا إذا حدثنا قلنا : قال الله عز و جل ، و قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم .

قال یونس : وافیت العراق فوجدت بها قطعة من أصحاب أبی جعفر علیه السلام ووجدت أصحاب أبی عبداللّه علیه السلام متوافرین ، فسمعت منهم وأخذت کتبهم ، فعرضتها من بعد علی أبی الحسن الرضا علیه السلام فأنکر منها أحادیث کثیرة أن یکون من أحادیث أبی عبداللّه علیه السلام ، وقال لی :

إن أبا الخطاب کذب علی أبی عبد الله علیه السلام ، لعن الله أبا الخطاب ،وکذلک أصحاب أبی الخطاب یدسون هذه الأحادیث إلی یومنا هذا فی کتب أصحاب أبی عبد الله علیه السلام ، فلا تقبلوا علینا خلاف القرآن ، فإنا إن تحدثنا حدثنا بموافقة القرآن و موافقة السنة ،

ص:153

إنا عن الله و عن رسوله نحدث و لا نقول : قال فلان و فلان ،فیتناقض کلامنا؛ إن کلام آخرنا مثل کلام أولنا و کلام أولنا مصادق لکلام آخرنا؛ فإذا أتاکم من یحدثکم بخلاف ذلک فردوه علیه و قولوا : أنت أعلم و ما جئت به ، فإن مع کل قول منا حقیقة و علیه نورا، فما لا حقیقة معه و لا نور علیه ، فذلک من قول الشیطان »(1) .

وبنفس الإسناد عن یونس بن عبدالرحمن ، عن هشام بن الحکم أنّه سمع أبا عبداللّه علیه السلام یقول :

« کان المغیرة بن سعید یتعمد الکذب علی أبی و یأخذ کتب أصحابه، و کان أصحابه المستترون بأصحاب أبی یأخذون الکتاب من أصحاب أبی فیدفعونها إلی المغیرة،فکان یدس فیها الکفر و الزندقة و یسندها إلی أبی،ثم یدفعها إلی أصحابه و یأمرهم أن یبثوها فی الشیعة،فکل ما کان فی کتب أصحاب أبی من الغلو فذلک ما دسه المغیرة بن سعید فی کتبهم » (2) .

کما حدّث الکشّی أیضاً عن محمّد بن مسعود ، قال : حدّثنا ابن المغیرة ، قال :

حدّثنا الفضل بن شاذان ، عن ابن أبی عمیر ، عن حمّاد ، عن حریز ، عن زرارة ، قال : قال - یعنی أبا عبداللّه علیه السلام - :

« إن أهل الکوفة قد نزل فیهم کذاب . أما المغیرة فإنه کان یکذب علی أبی - یعنی أبا جعفر علیه السلام -

قال : حدثه أن نساء آل محمد إذا حضن قضین الصلاة ، و کذب و الله علیه لعنة الله ، ما کان من ذلک شیء و لاحدثه .

و أما أبو الخطاب فکذب علی ، و قال : إنی أمرته أن لا یصلی هو و أصحابه المغرب حتی یروا کوکب کذا، یقال له القندانی؛ و الله إن ذلک کوکب ما أعرفه » (3) .

هذا بالإضافة إلی ما ذکروه فی تراجم عدّة من الرواة مثل وهب بن وهب ،

ص:154


1- (1) اختیار معرفة الرجال : 2 : 489 ، الحدیث 401 .
2- (2) نفس المصدر : 491 ، الحدیث 402 .
3- (3) نفس المصدر : 494 ، الحدیث 406 .

الذی قیل عنه : إنّه کذّاب ، وکذلک الستّة الکذّابین ، وغیر ذلک من القرائن التی یمکن الإستشهاد بها للعلم الإجمالی بوجود الدسّ والوضع . وإذا ثبت مثل هذا العلم الإجمالیّ ، فلابدّ من التوقّف عن العمل بالروایات .

ویُلاحظ علی هذه الدعوی :

أوّلاً : إنّ القرائن المذکورة کلّها متضمنّة لشواهد علی تنقیة الأحادیث فی عهد أصحاب الأئمّة علیهم السلام ، ذلک لأنّ تلک الأحادیث مذیّلة - غالباً - بقرائن رافعة للإشکال ، فمثلاً نجد فی ذیل الروایة الأولی منهجاً للرواة لإیداع الروایات فی کتبهم ، وهو منهج لغربلة الأحادیث وتمییز الصحیح منها عن السقیم .

کما نجد فی الثانیة أنّ الراوی لم یکتف بمجرّد أخذ الکتب من أصحابنا ، بل عرضها علی الإمام الرضا علیه السلام وحَذَفَ السقیم وأبقی الصحیح .

وأمّا الثالثة فمفادها أیضاً تصدّی الإمام علیه السلام ومتابعته للروایات وحثّ أصحابه علی تنقیة الروایات من أحادیث الدسّ والغلوّ !

وکذلک الرابعة بإضافة التصریح بالمسائل التی وقع فیها الدسّ والوضع ، وکذلک غیرها ، فتدبّر جیداً .

وثانیاً : إنّ العدید من الکتب الروائیّة عرضت بتمامها علی الأئمّة علیهم السلام مثل کتاب الفرائض لمحمّد بن قیس(1) .

وکتاب الحلبی(2) ، وقد عقد فی « الوسائل » باباً من أبواب کیفیّة القضاء لذکر الکتب المعروضة علیهم علیهم السلام ککتب یونس بن عبدالرحمن التی عرضت علی

ص:155


1- (1) الکافی : 6 : 324 . وسائل الشیعة : 18 : 60 .
2- (2) وسائل الشیعة : 18 : 60 .

الإمام الرضا علیه السلام(1) .

وکذلک کتاب الفضل بن شاذان(2) .

ومثله کتاب حریز حیث ذکر فی ترجمته أنّ کتابه عُرِض علی الأئمّة علیهم السلام .

ومن هذا القبیل کتب الحسین بن سعید الأهوازی ، وأخیه الحسن ، وهی ثلاثون کتاباً وقد تضمّنت أکثر الاُصول الأربعمائة .

ونظیر ذلک کتاب ظریف(3) الذی ذکر فی ترجمته عرض کتابه علی الأئمّة علیهم السلام ، وکذلک عبدالملک بن جریح ، ومنها کتب ابن أبی عزاقر الشلمغانی حیث عرضت علی النائب الثالث أبی القاسم الحسین بن روح رحمه الله .

والحاصل أنّ المتتبّع فی تراجم الکتب یری بوضوح عرض الکثیر منها علی الأئمّة علیهم السلام ، ولاسیّما الإمام الرضا علیه السلام فمَن بعده من الأئمّة علیهم السلام ، واستمرّ عرض الکتب إلی الربع الأوّل من القرن الرابع ؛ فقد عرضتْ الکثیر من الروایات علی الإمام الحجّة فی الغیبة الصغری ، فلاحظ ما ذکره الشیخ الطوسی فی « الغیبة » والصدوق فی « إکمال الدین » .

وثالثاً : تشدّد القمّیّین وغیرهم فی النقل والروایة ، حتّی أنّهم لا یروون عن الضعاف ، بل یرفضون ویطردون من یروی عن الضعاف ، فضلاً عمّن یروی الموضوعات . وقد قاموا بطرد عدّة من فضلاء الشیعة وأکابرهم عن قم ، لمجرّد روایتهم عن الضعاف أمثال البرقیّ مع جلالته وعلمه قدس سره .

کما طردوا سهل بن زیاد ، لروایته عن الضعاف لا لعدم وثاقته .

ص:156


1- (1) وسائل الشیعة : 18 : 72 ، 74 و 75 ، 80 ، 85 .
2- (2) نفس المصدر : 72 . الکشّی : 335 .
3- (3) الکافی : 7 : 324 . وسائل الشیعة : 18 : 60 .

کما أنّ علیّ بن الحسن بن فضّال لم یرو عن أبیه مع أنّه أدرک أباه وقرأ علیه کتبه ولکنّه - لشدّة تثبّته - لم یروها واعتذر بأنّه عندما قرأها علی أبیه کان حدیث السنّ .

کما أنّ العدید من الثقات هُجرت روایاتهم ، لمجرّد عدم الإطمئنان لتثبّتهم وضبطهم ، حتّی أنّ ابن الجنید الاسکافی ترکت روایاته لمجرّد اعتماده علی القیاس ، مع أنّ الاعتماد علیه إنّما یکون فی الفقه والفتوی لا فی الروایة ، فترکوا روایاته مع وثاقته ، لخطئه فی الإجتهاد ، وهو کما تری إفراط فی التثبّت .

والأشدّ من کلّ ذلک أنّ القمّیین طرحوا روایات یونس التی وصلتهم من طریق تلامذته ، إلّاإذا وصلتهم بسند آخر عن غیره أو عنه من طریق غیر تلامذته ، وما ذلک إلّالاحتمال روایة تلامیذه عنه بعض فتاواه باعتقاد أنّها روایات .

ومن هذا التشدّد أیضاً ما نقله الشیخ الطوسی وغیره عن عدّة من الرواة أنّ العصابة أجمعت علی تصحیح ما یصحّ عنهم ، مثل ابن أبی عمیر ، والبزنطی وصفوان ، والفضل بن شاذان ، فإنّهم عرفوا بتجنّب الروایة عن الضعاف ، وکانوا ملتزمین بالمقابلة والتثبّت وعدم الروایة إلّاعن الثقات ، وکان ابن أبی عمیر لا یروی عن العامّة ، وذکر المجلسیّ الأوّل(1) أنّه تتبّع أحواله خمسین سنة فلم یجد فی الضبط مثله ! وهذا یدلّ علی حالة فائقة من التثبّت والتشدّد آنذاک ، حتّی رُموا بالإفراط فی التشدّد فی الروایة .

رابعاً : الکمّ الهائل من کتب الفهارس والرجال ، وقد أحصی الکثیر منها المحقّق الشیخ آغا بزرک الطهرانی فی « مصفّی المقال » ، ویذکر هناک أنّ السیّد ابن طاووس قدس سره وحده کَتَبَ مائة مؤلّف ونیّف فی الفهرسة والترجمة لرجال الحدیث ممّا صنّفه المتقدّمون ، وأنّه بدأ ذلک برجال الأزمنة السابقة من زمان

ص:157


1- (1) فی مقدّمة شرحه الفارسی علی من لا یحضره الفقیه .

الحسن بن محبوب صاحب کتاب المشیخة ، ولا شکّ فی أنّه نوع من الغربلة والتنقیة والمراقبة الدقیقة حتّی لرجال القرون الأولی ؛ فالحسن بن محبوب من أصحاب القرن الثانی ولم تقتصر التنقیة علی القرون المتأخّرة .

وکذا الصدوق من خلال کتابة فهرست خاصّ به وذکره فی مقدّمة « من لا یحضره الفقیه » ، وکذلک کتاب « رجال البرقیّ » ، وهو أقدم کتاب رجالیّ وصل إلینا ، وهو دلیل واضح علی الاهتمام بأحوال الرجال وتحقیق الروایات ، وهکذا سائر کتب الرجال ، بل وکتب الفهارس أیضاً لأنّها تبحث فی ترجمة الکتب وطرقها وأسانیدها ممّا یحافظ علی النصوص وناقلیها .

خامساً : إنّ دیدن الأصحاب لم یکن مبنیّاً علی الروایة بالوجادة ، بل بالمقابلة والسماع ، وإذا اتّفق أن وجدوا کتاباً وجادة أو أجیز لهم بالوجادة ، فإنّهم لا یستحلّون روایتها .

وبقی هذا الأسلوب عندهم إلی عهد الشهید الثانی ، حیث نقل المیرزا النوری فی « خاتمة المستدرک » - فی إحدی الفوائد التی عقدها هناک فی فضل علم الحدیث - عبارة عن « ایضاح الفوائد » لفخر المحقّقین رحمه الله مضمونها : اختلاف نظر والده العلّامة الحلّی قدس سره فی تفسیر حدیثٍ فی دورتین من دراسة کتاب « التهذیب » سنداً ومتناً ، ومقتضی کلامه بقاء هذا الاُسلوب إلی زمانه قدس سره .

وکذا ذکر صاحب « المستدرک » أنّ نسخاً من کتاب « التهذیب » مستنسخة بتواقیع من تلامیذ الشهید الثانی ، کتبوا فیها : إنّهم قرأوا کتاب « التهذیب » سنداً ومتناً ودلالة بإملاء الشهید الثانی رحمه الله ، بل بقی دیدن الفقهاء علی قراءة الکتب متناً وسنداً ودلالة إلی زمان العلّامة ، ولذا ذکر السیّد البروجردیّ قدس سره أنّ الکتب المشهورة کالکتب الأربعة مضبوطة جدّاً لأنها مدروسة متناً وسنداً وإعراباً

ص:158

ولیست بالوجادة .

سادساً : قیام الأصحاب فی الغیبة الصغری وما بعدها إلی أواخر القرن الرابع بتحقیق وتنقیة الأحادیث بنحو المسح الکامل ، فالکلینی قدس سره - مثلاً - قد أجهد نفسه طوال عشرین عاماً فی تألیف کتاب « الکافی » لأجل ضبط الحدیث ، مع أنّه کان قادراً علی تألیفه فی سنتین أو ثلاث ، وقد صرّح هو بطول المدّة وعلّله بالضبط والدقّة فی ما رواه من الأحادیث .

ونظیر ذلک ما ذکره الصدوق فی مقدمة کتابه « من لا یحضره الفقیه » وکذلک الشیخ فی مقدمّة التهذیب .

وکذا تجد نفس المضمون فی ما ذکره ابن قولویه فی کتابه « کامل الزیارات » ، وکذا علیّ بن إبراهیم القمّی فی مقدّمة تفسیره .

حتّی إنّ هذا المنوال الذی تقیّد به أصحاب الکتب الروائیة المتأخّرة ، وما تقدّم من قرائن اخری ، أوجب دعوی القطع بصدور جمیع أخبار الکتب الأربعة ، کما ذهب إلیه الأخباریون .

کما أدّی بالسیّد الخوئی قدس سره وغیره إلی القول بتوثیق جمیع الرواة المذکورین فی أسانید « کامل الزیارات » و« تفسیر علیّ بن إبراهیم » . والإفتاء علی أساس ذلک مدّة من الزمان .

کما دفع المیرزا النوریّ إلی القول بالاطمئنان بصدور جمیع روایات « الکافی » ونُسِب ذلک أیضاً إلی المیرزا النائینی .

وکذلک نجد هذه الطریقة عند الطبرسی فی مقدّمة « الاحتجاج » ، وابن شعبة الحرّانیّ فی مقدّمة « تحف العقول » ، حیث قال کلّ منهما 0 : انّه لم یخرّج روایاتِ کتابه إلّامن المشایخ الثقاة وذوی الکتب المشهورة .

ص:159

سابعاً : ما ذکره الأئمّة علیهم السلام من ضابطة لتمییز الخبر الموضوع والمدسوس وهو ما تواتر عنهم علیهم السلام من لزوم العرض علی الکتاب والسنّة القطعیّة وترک ما خالفهما ، لا سیّما أنّ بعض الروایات تُقیّدُ العلم الإجمالیّ ببعض المسائل فی المعارف الاعتقادیّة کالغلوّ والتجسیم أو بعض المسائل الفرعیّة المعیّنة التی خالفت فیها الفرق المنحرفة عن الإمامیة کمخالفة الخطّابیة فی وقت الغروب ، ومخالفة أصحاب المغیرة فی نواقض الوضوء ، وکلّها قد علم فیها الضابط من الکتاب أو السنّة القطعیّة ، ومن ثمّ أنکرنا انعقاد العلم الإجمالیّ بوجود الوضع والدسّ فی الکتب المعتبرة لدی الطائفة .

ثامناً : لو غضضنا الطرف عن الأجوبة السابقة وعن واقع الحال ، وأذعنّا - جدلاً - بتحقّق العلم الإجمالیّ المدّعی ، فإنّ هناک علماً إجمالیاً آخر بصدور مقدار کثیر من الروایات فی نفس الدوائر المدّعی وجود علم إجمالیّ بوجود الوضع والدسّ فیها . ومقتضی الجمع بینهما هو عدم الإعتماد علی الخبر الواحد والروایة الاُحادیة کأمارة معتبرة وحجّة شرعیّة ، ولکن یجب العمل بها من باب الإحتیاط ولزوم تفریغ الذمّة من التکالیف المعلومة بالإجمال ، علی ما حُرّر مبسوطاً فی علم الاُصول .

وفی نهایة المطاف : لابدّ من التنبیه علی الضابطة العقلیّة البرهانیّة التی وردت بها روایات متواترة أو مستفیضة فی میزان القبول للروایات الواردة فی معرفة مقامات الأئمّة وهی :

« نزهونا عن مقام الربوبیة و قولوا فینا ما شئتم ، و لن تبلغوا» .

وهذه ضابطة اخری توضّح الصحیح من السقیم فی تلک الروایات ، کما أنّ هنالک ضوابط اخری أسّسوها علیهم السلام فی أبواب المعارف ، مثل النهی عن التشبیه والتعطیل ، والأخذ بالتنزیه فی باب التوحید ، والأخذ بالأمر بین الأمرین فی باب

ص:160

الجبر والتفویض ، وغیرها من الضوابط البرهانیّة المأثورة عنهم علیهم السلام والتی یمکن من خلالها تحقیق الحال فی سائر الروایات .

ومع وجود هذه المحکمات ، تنجلی غمّة المتشابهات . هذا تمام ما سنح بالخاطر فی باب السنّة .

الدلیل الثالث : العقل

قُسّم العقل اصطلاحاً إلی قسمین: نظریّ وعملیّ.

وقد عرِّفالعقل النظریّ بأنّه : القوّة الإدراکیّة المجرّدة التی یدرک بها المعانی المجرّدة عن المادّة والمقدار ، وهی درجة من درجات وجود الإنسان .

مبادؤه الإدراکیّة

هذه القوّة لها رأس مالٍ تستعین به فی مجمل إدراکاتها کمبادئ تصوّریّة أو تصدیقیّة لتحصیل الإدراکات النظریّة الاُخری ، ویعبّر عن رأس المال هذا ب ( البدیهیّات أو الفطرة العقلیّة )(1) .

کما أنّ للإنسان ( عصمة إدراکیّة ) نسبیة فی حدود دائرة بدیهیّاته وما یقرب منها ، وأمّا المدرکات النظریّة فقد تخطئ وقد تصیب ، لاسیّما إذا تکثرّت المقدّمات بینها وبین البدیهیّات ، ولا خلاف فی وجود دائرة العصمة فی إدراکات الإنسان فی حدودٍ مّا إلّا السوفسطائیین - القدماء منهم والمحدّثین - کالذین یذهبون الآن إلی النسبیّة المطلقة أو القائلین بنظریّة التضادّ الذاتی ونحوهما

ص:161


1- (1) والمقصود بالفطرة هنا ما یشمل البدیهیّات الستّ جمیعها لا خصوص الفطریّات .

ممّا سیأتی شرحه ومناقشته فی طیّات البحث إن شاء اللّه .

ومن هنا عبّر المحقّق المیرزا القمّی أنّ إدراک العقل نوع من أنواع الإلهام وإن لم یکن وحیاً اصطلاحیّاً(1) ، وإنّما عبّر بذلک وجعله من الأمور الغیبیة باعتبار أنّ العلم لیس من سنخ المادّیّات ، بل إنّنا من خلال العلم والإدراک للمعانی المجرّدة عن المادّة والمقدار ، نکتشف تجرّد بعض مراتب وجود الإنسان .

تعاریف اخری

عرّف العقل النظریّ ، بأنّه قوّة درّاکة یحصل بها إدراک المدارج العلویّة - أی الواقعیة - .

وعرّف أیضاً(2) بالقوّة التی تُدرَک بها القضایا التی لا ترتبط بعمل الفاعل المختار وإنّما ترتبط بالکلّیات الواقعیة بما هی واقعیّة ، بخلاف العقل العملیّ وقضایاه .

وهذا التمییز بین العقل النظریّ والعملیّ إنّما هو بلحاظ المدرَک لا بلحاظ المدرِک ، فإنّه قوّة واحدة ، فیکون تصنیفاً وتقسیماً اعتباریاً .

وفی قبال ذلک مذهب الفارابی وفلاسفة الیونان حیث میّزوا العقل النظریّ بأنّه القوّة المدرِکة للقضایا ، سواء ارتبطت بعمل الفاعل المختار أم لم ترتبط ؛ والعملیّ بأنّه قوّة عَمّالة محرّکة باعثة .

وستأتی الإشارة إلی ثمرات هذین المنهجین .

ص:162


1- (1) القوانین : ج2 ، حجّیّة العقل .
2- (2) وهذا هو تعریف ابن سینا .
تکامل السیر الإدراکیّ للعقل النظریّ

لقد بقی العقل النظریّ قاصراً عن إدراک العدید من المسائل النظریّة ، إمّا للعجز عن أصل تصوّرها ، أو العجز عن إقامة البرهان علیها تصدیقاً ، ثمّ من خلال تتابع الأبحاث وتطوّر الفکر ، توصّل إلی حلّها وإدراکها ، من قبیل مسألة المعاد الجسمانیّ ، إذ لم یؤثَر عن المدرسة المشّائیّة ولا الإشراقیّة إقامة دلیل عقلیّ نظریّ علیه ، واستمرّ العجز عن البرهنة العقلیّة علیه إلی عصور متأخّرة(1) ، حتّی أنّ ابن سینا فی « إلهیّات الشفاء »(2) قال :

« إنّ المعاد : منه ما هو منقول من الشرع ، ولا سبیل إلی إثباته إلّا من طریق الشریعة وتصدیق خبر النبوّة ، وهو الذی للبدن عند البعث ؛ وخیرات البدن وشروره معلومة لا تحتاج إلی أن تعلم ، وقد بسطت الشریعة الحقّة التی أتانا بها نبیّنا وسیّدنا ومولانا محمّد صلی الله علیه و آله و سلم حال السعادة والشقاوة التی بحسب البدن .

ومنه ما هو مدرک بالعقل والقیاس البرهانیّ ، وقد صدّقته النبوّة ، وهو السعادة والشقاوة الثابتتان بالقیاس اللتان للأنفس » ، انتهی .

وبقی العجز عن البرهنة العقلیّة علی المعاد الجسمانیّ حتّی وصلت النوبة إلی الحکیم المجدِّد الملّاصدرا ، حیث استطاع أن یقیم قواعد عقلیّة نظریّة محضة من خلال ما استفاده من الإشارات إلی نکات المعارف فی الآیات وروایات أهل البیت علیهم السلام .

ص:163


1- (1) إلی القرن العاشر حیث برهن علیه الملّا صدرا .
2- (2) إلهیّات الشفاء : الفصل 7 ، المقالة 9 .

ومن هذا القبیل مسألة الرجعة ، فإنّها ثابتة بالروایات المتواترة ، وقد حکی عن السیّد نعمة اللّه الجزائریّ أنّ الروایات الواردة فی الرجعة ستّمائة حدیث ونیّف .

ثمّ أقام علیها البرهان العقلیّ کلّ من الحکیم الفقیه السیّد أبو الحسن الرفیعی(1)والعلّامة الطباطبائی(2) فی بحث الرجعة ، وقد استفادا ذلک من خلال الإشارات العقلیّة فی الآیات والروایات .

وعلی هذا ، فإنّ ظاهرة تکامل الفکر والنشاط العقلیّ مشهودة لا تنکر ، وإن استبشعها البعض جموداً علی دعوی أنّ ما حرّر فی العقلیّات لیس وراءه شیء یمکن التوصّل إلیه .

ولکن مع الالتفات إلی أنّ الحکماء مهما بلغ مقامهم وعبقریّتهم ودقّتهم وتمحیصهم ، فإنّهم أقلّ من مراتب الأنبیاء ، ولا یمتنع أن یخفی علیهم الکثیر من الحقائق ، ولذا عرّفوا الحکمة : أنّها معرفة الحقائق بحسب الطاقة البشریّة .

قال ابن سینا :

« ویجب أن تعلم أنّ فی نفس الأمر طریقاً إلی أن یکون الغرض من هذا العلم تحصیل مبدأ إلّابعد علم آخر . فإنّه سیتّضح لک فی ما اشارة إلی أنّ لنا سبیلاً إلی إثبات المبدأ الأوّل لا من طریق الاستدلال من الاُمور المحسوسة ، بل من طریق مقدّمات کلّیة عقلیة توجب للوجود مبدأً واجب الوجود ، وتمنع أن یکون متغیّراً أو متکثّراً فی جهةٍ ، وتوجب أن یکون هو مبدأً للکلّ ، وأن یکون الکلّ یجب

ص:164


1- (1) مجموعة رسائل ومقالات فلسفی - فارسی .
2- (2) المیزان فی تفسیر القرآن : 2 : 106 - 108 .

عنه ، علی ترتیب الکلّ ؛ لکنّا لعجز أنفسنا لا نقوی علی سلوک ذلک الطریق البرهانی الذی هو سلوک عن المبادئ إلی الثوانی ، وعن العلّة إلی المعلول إلّافی بعض جُمَل مراتب الموجودات دون التفصیل »(1) ، انتهی .

وقد ذکر الملّاصدرا فی حاشیة الشفاء :

« إنّ المراد بذلک هو وجود طریق ( لمّی ) - بالإستدلال من العلّة إلی المعلول - لإستکشاف کلّ الموجودات المخلوقة ومعرفة کلّ الحقائق ، بحیث یغنی عن کلّ العلوم الطبیعیّة والتجریبیّة والریاضیّة وغیرها من العلوم ، وهو علم إلهیّ یستغنی به صاحبه عن بقیّة العلوم ، بل یفوقها .

ولکنّ ذلک العلم الإلهیّ لا یتحقّق إلّالمن ارتبط بالسماء ، کالأنبیاء دون الآخرین من الفلاسفة ، فإنّ علم الفلاسفة بالإلهیّات یکون من طریق ( الإنّ ) - بالإستدلال من المعلول إلی العلّة - والملازمات ، وتعجز عقولهم عن إدراک ذلک الطریق اللمّی ، ولأجل ذلک لم تغنِ فلسفة الإلهیّات عن باقی العلوم »(2) .

والحاصل : إنّ نهج الفطرة العقلیّة البشریّة هو التکامل والرقیّ من خلال استکشاف براهین جدیدة لإثبات حقائق غیر معروفة أو غیر مبرهن علیها سابقاً ، إنّما من المهم للغایة البحث فی صحّة البراهین المذکورة .

فظاهرة التنقیب والبحث عن براهین فی المسائل العقلیّة المستحدثة

ص:165


1- (1) إلهیّات الشفاء : الفصل 3 ، المقالة 1 .
2- (2) حاشیته الحجریّة فی ذیل الشرح : الفصل 3 ، المقال 1 .

أو القدیمة ، موافقة لصحّة وسلامة سیر الفطرة العقلیّة .

الشریعة الحقّة وسط فی البرهان

هذه الحقیقة من مخترعات الفلسفة الإسلامیّة ، فقد برهن الفلاسفة الإسلامیّون علی أنّ کلّ ما ثبت صدوره من الوحی إلی نبیّنا صلی الله علیه و آله و سلم - علی سبیل القطع والیقین - فإنّه یقع وسطاً فی القیاس العقلیّ البرهانیّ ویصلح الاستدلال به فی المباحث العقلیّة کما صرّح بذلک الفارابی فی بعض کتبه ، وابن سینا فی إلهیّات الشفاء(1) وصرّح به الملّاصدرا مراراً .

والدلیل علی ذلک علی سبیل الإختصار : أنّه بعد ثبوت الشریعة الحقّة بالمعجزات - وهی براهین عقلیة - فکلّ ما یکون جزءاً معلوماً من هذه الشریعة ثابت قطعاً ببرهان المعجزات . وبذلک امتازت الفلسفة الإسلامیّة عن غیرها ، وصارت تشترک مع علم الکلام فی بعض الجهات ، وإن اختلفت عنه فی أنّها لا یعتمد فیها إلّاعلی المقدّمات العقلیّة فی ما یعتمد فی علم الکلام علیها وعلی المقدّمات النقلیّة ، وإن کانت ظنّیّة أحیاناً .

وقد تسبّب ذلک فی تطویر وتوسعة الفلسفة بحیث أنّ المسائل الجدیدة التی بحثت وزیدت علی المباحث الفلسفیّة ، تفوق فی حجمها وعمقها المسائلَ الفلسفیّة السابقة بعدّة أضعاف(2) ، فمن هذا القبیل مسألة العدل الإلهیّ ، والنبوّة العامّة ، والنبوّة الخاصّة ، والإمامة ، وأقسام النشآت .

ص:166


1- (1) وذلک فی مبحث المعاد الجسمانی ، وقد أشرنا إلی ذلک سابقاً .
2- (2) کان عدد المسائل الفلسفیّة قبل الإسلام حدود ( 300 ) مسألة فی ما وصلت الآن إلی ثمانمائة مسألة ونیّف ، کما ذکر ذلک الاُستاذ الشهید المطهّری رحمه الله فی موارد عدیدة .
الإشارات العقلیّة فی الآیات والروایات

یجد الباحث الکثیر من هذه الإشارات فی الکتاب والسنّة الشریفة فی ضمن ردّ دعاوی الجاحدین أو المشکّکین وغیرها ، ولکن ذلک یتوقّف علی وجود ملَکة علمیّة فی العقلیّات تنبّهه إلی هذه الإشارات وصولاً إلی البراهین والمقدّمات العقلیّة ، وبالتالی یکون الإذعان بتلک المعارف برهانیّاً عقلیّاً لا تعبّدیاً شرعیّاً(1) .

وبهذا نستحصل فوائد علمیّة عقلیّة بحتة من خلال الفحص فی الآثار النقلیّة المشیرة إلی المواد الاستدلالیّة فی البرهان ، وهذا أمر قد یغفل عنه فی البحوث العقلیّة .

تعریف العقل العملیّ

وقد عُرّف بتعریفین ینسجم کلٌّ منهما مع مذهب القائل به :

الأوّل : إنّ القوّة المدرکة لقضایا العقل العملیّ ، هی نفس قوّة العقل النظریّ ولا شأن لها سوی الإدراک والاکتشاف ، غایة الأمر أنّها تارة تدرک النظریّات واُخری تدرک العملیّات من دون أن تعمل شیئاً . فالإختلاف بینهما فی الاعتبار بلحاظ المُدرَک ، فیکون المدرَک فی قضایا العقل العملیّ هو ما ینبغی فعله أو ینبغی ترکه .

الثانی : إنّه قوّة عَمّالة محرّکة للقوی العملیّة التی دونها ، فهو الواسطة بین القوّة

ص:167


1- (1) علماً أنّه قد تقدّم سابقاً بیان أنّ ما ثبت بالبرهان العقلیّ لا یحتاج فی إثباته إلی التعبّد ،ولکنّه قد یکون تعبّدیّاً بلحاظ التکلیف الشرعیّ بالإذعان والإخبات والاعتقاد بتلک النتائج ، فإن هوی النفس وغیره من الأمراض النفسیّة أو الإدراکیّة قد یَجرّ إلی الجموح والعناد عن الإخبات والاعتقاد بتلک النتائج من دون الترغیب والترهیب.

المُدرِکة والقوی العملیّة ، ومفاد ذلک تعدّد القوّتین النظریّة والعملیّة .

وقد ذهب إلی القول الثانی الفارابی وقدماء الفلاسفة ومنهم الیونانیّون ، بل ذهب إلیه ابن سینا أیضاً فی بعض کتبه ، ولکنّه قال بالقول الأوّل فی أکثر أبحاثه .

والحقّ هو الثانی .

والدلیل الأوّل علی التعدّد : من کمالات الإنسان أن یکون عقله مسیطراً وحاکماً علی ما دونه من القوی ، وإذا کان کذلک فلابدّ أن یکون فاعلاً فیها ، سواء کانت القوی الدانیة إدراکیّة کالخیالیّة والوهمیّة ، أو عملیّة کالشهویّة والغضبیّة .

فإذا کان من کمال القوی الدانیة سیطرة العقل علیها ، فلابدّ من فرض عملٍ للعقل ، لأنّ السلطنة والسیطرة لیست إدراکاً محضاً بل إدراک وعمل وتحکیم لهذا الإدراک ، وإلّا لکانت القوی الدانیة منفلتة عنه عاملة بما تقتضیه فطرتها ، لأنّها لیست عاقلة کی تعمل بما یدرکه العقل ، فتعمل الشهویّة بالشهوات ، والغضبیّة بالغضب ، والوهمیّة بالوهم ، وهکذا ، ویحصل الهرج والمرج فی جهاز هذا الإنسان ! فلا بدّ من فرض قوّة عاقلة عَمّالة تفرض سیطرتها وطاعتها علی القوی الاُخری . نعم ، سیطرة العقل علی القوی الدانیة لیس دائمیاً فی جمیع الناس ، فربّما تطغی قوّة دانیة أو أکثر علی النفس البشریّة وتسیطر أحیاناً أو دائماً علی سلوک الإنسان کما ورد :

« کم من عقل أسیر عند هوی أمیر » (1) .

ولکن لا بدّ من فرض قوّة عَمّالة تصلح للإمارة والسیطرة فی الإنسان السویّ والنفوس الدارجة إلی الکمال ، ولو کانت محکومةً لقوّة أو أکثر من القوی الدانیة فی النفوس المتسافلة ، ولکن هذه القوّة موجودة علی کلّ حال ! وکلّما ازداد الإنسان کمالاً ازداد العقل سیطرة وعملاً فی ما دونه ، حتّی تکون جمیع أفعال

ص:168


1- (1) نهج البلاغة : 506 .

ما دونه تحت إمرة العقل وطاعته .

الدلیل الثانی : إنّ هناک قاعدة عقلیة برهانیة متّبعة ومسلّمة عند الفلاسفة والکلامیّین تقول : « إنّ تعدّد أفعال النفس یدلّ علی تعدّد مراتبها » فإذا رأینا فی النفس إدراکاً ، عرفنا أنّ فیها قوّة إدراکیّة ، واذا وجدت شهوة عرفنا أنّ فیها قوّة شهویّة ، وإذا وجدنا غضباً عرفنا أنّ فیها قوّة غضبیّة ، وهکذا . فتعدّد مراتب النفس ودرجاتها یعرف من خلال تعدّد أفعالها . وحیث أنّ القوی الدانیة تتأثّر بالعقل فلابدّ من وجود قوّة مؤثّرة تؤدّی إلی هذا التأثیر ، لأنّ الإنفعال لا یحصل بدون فعل ، ولا یحصل الفعل بدون فاعل ، وهذا الفاعل لا یمکن أن یکون من القوی الدانیة فلابدّ أنه من جهة العقل ، ولا بدّ أنّ فی العقل قوّة عملیّة تؤثّر فی القوی السافلة ، وهو المطلوب .

الدلیل الثالث : إنّ التحقیقات الفلسفیّة الأخیرة - التی حقّقها العَلمان الحکیمان الملّاصدرا والعلّامة الطباطبائی - نقّحت الجدل القائم بین المناطقة والفلاسفة ، فی أنّه : ما الفرق بین التصوّر والتصدیق ؟ وهل الحکم جزء من القضیّة أو لا ؟

فأثبتت هذه التحقیقات أنّ التصدیق لیس إلّاالصورة الموجبة للإذعان ، فهو تصوّر وزیادة ، أمّا التصوّر فهو صورة محضة لا توجب الإذعان حتّی لو کان المتصوّر هو کلّ أجزاء القضیّة من موضوع ومحمول ونسبة ( وجود رابط ) إلّاأنّه لا یستتبع الإذعان إذا لم یحصل فیه الدمج وتوحید الصورة ، فکلاهما صورة إدراکیّة ، وإنّما الفرق فی أثرهما ، فالإذعان أثر للتصدیق دون التصوّر .

وأثبتت هذه التحقیقات أنّ الإذعان فعل من أفعال النفس ، حقیقته أنّ النفس أوّلاً تتصوّر أفراد القضیّة ، فالحالة حالة ( تصوّر ) فإذا صار التصوّر موجباً للإذعان

ص:169

صار تصدیقاً ، وهو الصورة المدموجة الموحّدة من الموضوع والمحمول ، وهذه الصورة المدموجة لیست متعدّدة مرکبّة من صورتین ، بل هی صورة واحدة بسیطة منطویة علی صورة الموضوع والمحمول ، ولکن هذا الدمج الذی فی التصدیق لیس مجرّد إدراک ، بل هو فعل من أفعال النفس یسمی ( الحکم ) وحینئذ یوجد الإذعان .

وعلی هذا ، فالتصوّر غیر الدمج ( الحکم ) وغیر الإذعان وإنّما یکون دور التصوّر لأجزاء القضیّة دور المعِدّ للدمج والإذعان ، ومعنی ذلک أنّ للنفس فعلاً وعملاً غیر التصوّر والإدراک ، وهذا الفعل لمّا کان فعلاً مرتبطاً بالمعانی المجرّدة(1)فلابدّ أن یکون من فاعلٍ ومتصرّفٍ مجرّد ولا یعقل أن یکون من القوی الدانیة .

والحاصل أنّ العقل کما یتصوّر أطراف القضیّة العقلیّة تصوّراً محضاً ثمّ تصوّراً یستتبع الإذعان ، فإنّه هو الذی یحکم ویذعن ویصدِّق ، وبهذا یثبت وجود قوّة عقلیة(2) عَمّالة ولا ینحصر العمل بالقوی الدانیة . وعلی هذا ، فإذا کانت نفس الإنسان سلیمة وقواه الدانیة سلیمة غیر متمرّدة ، فإنّ عقله یکون حاکماً ومسیطراً ومتصرّفاً فی ما دونه من القوی ، وکما ورد :

« العقل ما عبد به الرحمن ،و اکتسب به الجنان » (3) .

وبهذا یتّضح الفرق بین العقل النظریّ الذی یکون دوره الإدراک للحقائق من دون عمل فی القوی الدانیة والعقل العملیّ ، فدور العقل العملیّ استیعاب ما أدرکه

ص:170


1- (1) لأن الدمج کما یکون فی القضایا الحسّیّة والوهمیّة والخیالیّة یکون کذلک فی القضایاالعقلیّة .
2- (2) أو مجرّدة ، وهذا هو المهمّ .
3- (3) الکافی : 1 : 11 .

النظریّ والعمل فی القوی الدانیة بما یتناسب مع ذلک الإدراک ، وهذا هوالفارق الأوّل بینهما .

الفارق الثانی : أنّ مرتبة العقل العملیّ دون مرتبة النظریّ فی مراتب وجود النفس ، لأنّ العقل النظریّ أعلی من القوی الدانیة ، ولا یرتبط بها إلّاعبر العقل العملیّ ، والذی یعمل فیها مباشرة هو العملیّ ، ومن هنا نعلم أنّ العملیّ إنّما یذعن بتوسّط إدراک العقل النظریّ ، وإدراک النظریّ أعمّ من ما یرتبط بالعمل ، وهو ما ینبغی فعله وما ینبغی ترکه - أی الحسن والقبح - وما لا یرتبط بالعمل کإدراک استحالة اجتماع النقیضین واستحالة ارتفاعهما ، وأنّ الممکن متناهٍ وهکذا .

والعقل العملیّ دوره :

1 - الإذعان بتلک المدرکات .

2 - تحریک القوی الدانیة إلی ما ینبغی ، والزجر عمّا لا ینبغی .

وعلیه ، فکمال العقل العملیّ فی الانصیاع للعقل النظریّ وطاعته وترتیب الأثر علی مدرکاته الصحیحة الصادقة . کما أن من کمال العقل النظریّ ، الانصیاع للعوالم العالیة ، لأنّه إنّما یدرک ما یدرک بتوسّط العوالم العلویّة ، فإنّ : «

العلم نور یقذفه الله فی قلب من یشاء » (1) .

لأنّ العقل النظریّ بما هو فاقد للعلم ، وفاقد الشیء لا یعطیه ، فلابدّ أنّ العلم من إفاضة ما فوقه علیه ، ولذا یلزمه الارتباط بالعوالم العلویّة وأن یأخذ علومه منها .

ونستفید من ذلک فائدة مهمّة هی أنّ الایمان حیث أنّه لیس إدراکاً محضاً

ص:171


1- (1) مصباح الشریعة : 16 .

بل هو إذعان ، والإذعان فعل من أفعال العقل العملیّ لا النظریّ ، فإنّه یختلف فی حقیقته عن الفحص والإدراک ، لأنّ الفحص هو استعداد العقل النظریّ وتحرّکه وبحثه لأجل الإستعداد للتلقّی والإستلهام من العوالم العلویّة ، والإدراک هو وصول العقل النظریّ لتلک المعلومات ، بینما الإیمان هو الإذعان بتلک المدرکات .

وبناء علی ذلک یمکن صدور الأمر الشرعیّ بالإیمان وبالتوحید ونحوهما ولا یستلزم الدور ، لأنّ الإذعان غیر الإدراک(1) ، فإذا توقّف الاعتقاد والإیمان علی الشریعة ، وتوقّفت الشریعة علی وصولها وإدراکها من العقل النظریّ لم یحصل الدور ، لأنّ نفس الشریعة لا تتوقّف علی الإذعان ، بخلاف ما إذا کان الاعتقاد هو الإدراک فإنّه یلزم الدور ، لأنّ الإدراک متوقّف علی الشریعة ، والشریعة متوقّفة علی إیجاب الشریعة للزوم الاعتقاد بالتوحید مثلاً ، وبهذا یلزم کون وجوب الاعتقاد متوقّفاً علی نفسه .

ولهذا لو کان وجوب الفحص ووجوب الإدراک شرعیّاً ، للزم الدور .

وعلی ضوء ما تقدّم من تعریف العقل العملیّ والنظریّ والفوارق بینهما ، یقع الکلام فی مدرکات العقل العملیّ .

ص:172


1- (1) أقول : ینبغی تصویر المطلب ببیان آخر حاصله : أنّ الامتثال یتوقّف علی وجود الوجوب الشرعیّ ، ولا یصدر الوجوب من الحکیم إلّامع صلاحیّته للبعث والتحریک ، فإذا کان الإدراک غیر الاعتقاد ، صحّ الأمر بالاعتقاد ، لأنّ امتثاله یتوقّف علی إدراک الأمر به لا علی نفس الاعتقاد. أمّا إذا کان الإدراک نفس الاعتقاد والإذعان ، لم یصحّ الأمر به ، لتوقّف صدور الوجوب من الحکیم علی صلاحیّته للبعث ، ولا یصلح الأمر للبعث من دون إدراکه ، ومع إدراکه یکون الأمر به تحصیلاً للحاصل. ( المقرّر )
الحسن والقبح العقلیّان تمهید فی التعلّق والتجرّد

ذکر الفلاسفة وغیرهم من علماء المعارف أنّ للنفس حالتین متناوبتین ( التعلّق والتجرّد ) أو ما یسمّی أحیاناً ( الصعود والهبوط ) فکلّما کان توجّهها إلی المادّة والمادّیّات ، کانت أکثر تعلّقاً وهبوطاً ، وکلّما ابتعدت عن المادّة واتّجهت إلی ما وراء عالم المادّة کانت أکثر تجرّداً وصعوداً .

وتوضیح ذلک : أنّ النفس الإنسانیة لها أفعال متنوّعة ، فهی تدرک إدراکات متفاوتة وتفعل أفعالاً مختلفة . ففی جانب الإدراکات مثلاً نجد أنّها تدرک القضایا الحسّیّة والخیالیّة والوهمیّة والعقلیّة ، بل وتدرک المعانی القلبیّة أیضاً ، فالإدراک الحسّیّ هو أدنی المراتب لأنّه أکثر قرباً للمادّة وإن کان مجرّداً عن المادّة الغلیظة ولکنّه یتعلّق بالجزئیّ الحقیقیّ ( المحسوس الخارجیّ ) ویقاربه ، وله نسبة معه .

والإدراک الخیالی هو ثانی أدنی المراتب لأنّه فوق الإدراک الحسّیّ ودون سائر الإدراکات ، لأنّه لا یتعلّق بالجزئیّ الحقیقیّ ولکنّه یشتمل علی المقدار ( الطول والعرض والعمق ) .

والإدراک الوهمیّ فوقهما لأنّه لا یشتمل علی المقدار ، ولکنّه یرتبط بالجزئیّ فهو معنی غیر محدّد بالأبعاد الثلاثة ، ولکنّه مضاف إلی الجزئیّات .

وهکذا نعرف أنّ الإدراک الخیالیّ خالٍ من الإضافة إلی الجزئیّات ، ولکنّه ذو مقدار ، والإدراک الوهمیّ بالعکس ، غیر أنّ ارتباط المحدود بالمقدار بالمادّة أکثر من ارتباط المضاف إلی الجزئیّ بالمادّة ، ولذا کان الوهمیّ أرقی من الخیالیّ .

ص:173

والإدراک العقلیّ یکون مجرّداً عن المادّة فی کلّ أصنافها ، حتّی عن المقدار والإضافة .

والإدراک القلبیّ یکون مجرّداً أیضاً عن المادّة ، بل یکون فوق الإدراک العقلیّ ، فإذا صقل الإنسان نفسه بمرتبة عالیة فإنّه یتوجّه بقلبه إلی ما فوق عالم العقل لیدرک بالشهود والرؤیة القلبیّة ، وهذا الإدراک القلبیّ نفسه ذو مراتب ثلاثة متفاوتة بحسب آثارها ، ممّا یدلّ علی تعدّد درجاتها الوجودیة(1) ، وبهذا تکون الدرجات الإدراکیّة سبعة ، وهی فی الحقیقة درجات وجودیّة فی الإنسان .

والإنسان فی أغلب حالاته یتعاطی بالإدراکات الحسّیّة ، غایته أنّه یدبّرها بالمعانی الوهمیّة ، أی بالإدراک الوهمیّ (2) .

فإذا توجّه الإنسان إلی المدرکات الخیالیّة ، کان فی درجة أرقی من الحسّ وإذا بحث فی المدرکات الوهمیّة ، صعد إلی مرتبة أرقی ، وهکذا ، وإذا انخفض إلی المدرکات الحسّیة أو نزل عن مرتبته التی هو فیها ، کان فی درجة أدنی ممّا کان علیه ، ولذا قالوا : إنّ للإنسان تجرّداً وتعلّقاً ، وکلّما ازداد صقالةً وابتعاداً عن المادّة کان أکثر تجرّداً وصعوداً ، وکلّما ارتبط بالمادّة أو مارس المادّیّات ، کان أکثر تعلّقاً وهبوطاً .

وإنّما ذکرنا هذه الخصوصیّة لأنّها تنفع فی معرفة درجات النفس ، وبالتالی معرفة جانب من جوانب أکمل المراتب الإنسانیّة وهی مرتبة المعصوم علیه السلام ، کما أنّ هذه المراتب تنفع فی بحث النبوّة والمعاد أیضاً ، فلاحظ .

ص:174


1- (1) وسیأتی مزید توضیح لهذه المراتب وشیء من الاستدلال علیها ، وإن شئت المزید فراجع الکتب المخصّصة لذلک .
2- (2) ولیس المراد به الاصطلاح الآخر للوهم الذی یقابل الظنّ .
تاریخ مسألة الحسن والقبح

علی صعید علم الکلام هناک مذهب ینفی عقلیّة هذه المسألة ، هو مذهب الأشاعرة فی ما تسالم متکلّمونا علی أنّهما عقلیّان بدیهیّان ، وقد بنی متکلّمو الإمامیّة الکثیر من الأدلّة علیه .

أمّا الفلاسفة ، فهم منذ عهد ابن سینا إلی العلّامة الطباطبائی یرَون أنّ قضایا الحسن والقبح من المشهورات ، وأنّها اعتبارات عقلائیّة لیس لها واقع وراء تطابق العقلاء ، بل إنّ المعروف نسبة هذا المذهب إلی کافّة الفلاسفة ، ولکنّ الصحیح أنّ هذه النسبة من إبن سینا فَمَن بعده ، لأنّ مَن سبقه کالفارابی وفلاسفة الیونان وفارس والعراق والهند(1) کلّهم قائلون بذاتیة الحسن والقبح وعقلیّتهما .

ومنشأ الخطأ فی نسبة هذا الرأی للفلاسفة مطلقاً هو أنّ ابن سینا طرح هذه النظریّة فی ضمن عرضه لآراء المشّائین ، فإنّ غالب کتبه وضعها کترجمة لآراء الیونانیّین ، ولذلک کانت کتبه مرجعاً فی معرفة آراء الفلاسفة المتقدّمین ، وکانت هذه الکتب محلّ اعتماد من بعده ، حتّی إنّ المتأخّرین عنه أخذوا ما نقله عنهم أخذ المسلّمات ولم یراجعوا کتب الیونانیّین حتّی الکتب المترجمة الموجودة بین أیدیهم ککتب أرسطو وأفلاطون وغیرهما .

وذلک لما امتاز به من جمع لمبانی المشّائین وترتیبها وتبویبها - فقد بذل فی ذلک جهداً کبیراً وهامّاً - بالإضافة لما عرف عنه من العمق والدقّة العلمیّة والذکاء والعبقریّة ! ممّا جعله مرجعاً فی معرفة آراء من سلفه ، وضاعت فی ضمن ذلک

ص:175


1- (1) ذکر الشیخ الاُستاذ ( حفظه اللّه ) أنّ أسبق الفلسفات علی التحقیق الفلسفة الهندیّة ، ثمّ الحرّانیّة فی العراق ، ثمّ الفارسیّة ، ثمّ الیونانیّة ، وأنّ کلّاً منها استفادت من تحقیقات ما سبقها .

حقیقة آراء الفلاسفة المتقدّمین ، والظاهر أنّه عدل عن رأیهم وکتب رأیه فی هذه المسألة من دون تنبیه علی آراء الفلاسفة ، مع أنّه فی سائر المسائل کان ینبّه علی آرائهم ویصرّح بعدوله - إذا عدل عن آرائهم - ، لانّه کتب هذا الرأی فی ضمن کتبه التی کانت ترجمة لآرائهم لا فی مؤلفات آرائه ونظریّاته ، فلو کان ما ذکره فی کتاب حکمة المشرقیین ، لکان رأیاً له ، ولکنّه جعله فی ضمن أقوالهم ومبانیهم ممّا أوجب اللبس علی من تأخّر عنه وأوهم أنّ رأی الفلاسفة ذلک .

وأمّا ابن سینا نفسه ، فلماذا تبنّی هذا الرأی المخالف للفلاسفة ؟ !

الظاهر أنّه تأثّر بمغالطة أبی الحسن الأشعریّ ومن تبعه ، ممّا جعلها مغالطة ناضجة ، لأنّ إبن سینا تأخّر عن الأشعریّ بحوالی قرنین ، وکان إبن سینا علی اطّلاع تامّ بآراء المتکلّمین ، ویعتنی بمباحثهم حتّی التی لم تذکر فی الفلسفة .

فطرحه لنظریّة الأشعریّ کاملة مع تمام أدلّتها وشواهدها ، یقرّب تأثّره بها .

وکیف کان ، فإنّ تلبیس آراء الفلاسفة هنا وتضییعها کان بسببه ! !

أهمّیة مسألة الحسن والقبح

حیث أنّ الکثیر من أدلّة الإمامیّة قد ابتنت علی هذه المسألة ، فقد حظیت بدرجة عالیة من الأهمّیة ، وهذه المسألة وإن بحثت وحقّقت قدیماً ولکنّها تثار الیوم بلغة جدیدة وبلورة حدیثة ، مفادها : أنّها اعتبارات عقلائیّة لا واقع لها وراء تطابق العقلاء ، لأنّ الموادّ المأخوذة فی أحکام العقل العملیّ مستفادة من المشهورات - باصطلاح المناطقة - وبالتالی یکون الاستدلال بها جدلیّاً لا برهانیّاً ، کما یتولّد علی أساس ذلک إشکال آخر علی استمراریّة الشریعة وخلودها - کما یردّده الیوم بعض العلمانیین المبطّنین - بتقریب :

أنّ التشریعات أساسها عقلیّ بمقتضی قاعدة « الأحکام الشرعیّة ألطاف فی

ص:176

الأحکام العقلیّة » یعنی أنّ العقل لو علم بملاکاتها ومصالحها لحکم بها ، فهی ألطاف مکمِّلة للإنسان نفسه ولو أدرکها العقل لقضی بها ، کما هو مبنی العدلیّة ، وعلی هذا یتزلزل أساس الالتزام الدینی ووجوب الإطاعة للأحکام الشرعیّة ، لأنّ اعتباریة الأحکام العقلیّة یجعلها تدور مدار الاعتبار ، والاعتبار أمر تحت سلطة المعتبِر وهو العقلاء ، فإذا اختلف إعتبارهم بحسب تغیّر الزمان والمکان اختلفت الشریعة ، وهو ما یعبّرون عنه ب ( تغیّر الشریعة ) .

وهذا الإشکال - کما سیأتی - یمکن تفنیده بعدّة طرق لا تتوقّف علی کون الحسن والقبح عقلیین ، مثل منهج العنایة الفلسفیّة وغیره ، وإن کان الحقّ أنّهما عقلیّان ، وبالتالی یبطل الإشکال بطریق آخر أیضاً .

نظرة فی کلمات ابن سینا

عرّف مشهور المتأخّرین(1) العقل العملیّ بأنّه « ما یدرک القضایا ذات الارتباط بالعمل » أی التی ینبغی فعلها أو ترکها ، ولیست خاصّة بالأفعال الجارحیة ، بل تعمّ أیضاً الأفعال الجانحیة .

ولکن هذا التعریف ناقص ؛ فإنّ للعقل العملیّ عملاً آخر هو الإذعان مع أنه لیس قضیّة ینبغی فعلها أو ترکها . وقد تقدّم أنّ المتأخّرین تابعوا واعتمدوا علی ابن سینا .

ولکن الحق أنّ إبن سینا نفسه قد اضطربت کلماته فی هذا الموضوع ، فنراه یعرّف المشهورات بأنّها القضایا التی تطابق علیها بناء العقلاء ولا واقع لها وراء اعتبارهم ، وحیث أنّها لا واقع لها فلا یمکن إقامة البرهان علیها ولا تصلح أن

ص:177


1- (1) أی من الفلاسفة بما فیهم ابن سینا .

تکون من موادّ القیاس(1) ، فی حین أنّه - فی قسم الطبیعیّات من نمط النفس(2)- اعترف أنّ قضایا العقل العملیّ یمکن البرهنة علیها ، وأنّ موادّها قد تکون مشهورات وقد تکون أوّلیات - أی یقینیّات - وحینئذ فیمکن الاستدلال علیها ویکون لها واقع .

وذکر فی « الشفاء » أنّها قابلة للبرهنة علیها(3) وأنّها تصیر عقلیّة حینئذ .

کما ذکر فی أواخر « الشفاء »(4) : أنّ أکثر ما یقرّ به الجمهور فهو حقّ وإنّما یدفعه هؤلاء المتشبّهة بالفلاسفة جهلاً منهم بعلله وأسبابه . وهذا التعبیر مناقض جدّاً لما ذکره أنّ قضایا الحسن والقبح مشهورات ، وأنّ المشهورات لا واقع لها سوی اعتبارها العقلائیّ !

وکیف کان ، فقد تأثّر المتأخّرون بمذهب ابن سینا وإیهامه أنّه مذهب الفلاسفة فذهبوا - أکثرهم - إلی اعتباریّة المشهورات ، وأنّها لا یمکن البرهنة علیها أصلاً ونسبوا ذلک إلی الفلاسفة .

نعم ، ذهب الحکیمان الکبیران اللاهیجی والسبزواری إلی أنّ الحسن والقبح تکوینیّان . فقد أنکرا توهّم اعتباریّة الحسن والقبح عند الفلاسفة ، ونسبا إلیهم تکوینیّتهما وفسّرا تمثیل الفلاسفة للمشهورات بالحسن والقبح بأنّ القضیّة الواحدة قد تدخل فی أکثر من واحد من أقسام الموادّ الثمان . فمسألة الحسن والقبح - من جهة تطابق العقلاء علیهما وشیوع الإذعان بهما - تدخل فی

ص:178


1- (1) منطق الشفاء وغیره من کتب ابن سینا المنطقیّة .
2- (2) الإشارات : 2 : 352 ، النمط الثالث .
3- (3) الشفاء : مجلد الطبیعیّات ، کتاب النفس ص30 .
4- (4) الشفاء : 435 ، الفصل الأوّل من المقالة العاشرة .

المشهورات ، ومن جهة قیام البرهان علیهما تدخل فی الواقعیّات البرهانیّة ومن جهة وضوحهما وبداهتهما لکلّ عقل سلیم تدخل فی البدیهیّات .

ومن هذا القبیل قضیّة التوحید ؛ فإنّها من جهة التسالم علیها تدخل فی المقبولات ومن جهة قیام البرهان علیها تدخل فی القضایا الواقعیّة البرهانیّة ، والنظر إلی القضیّة من جهةٍ مّا وإدخالها فی صنف من الموادّ الثمان لا یعنی عدم دخولها فی مادّة اخری ، وهذه اللفتة الجمیلة من هذین الحکیمین الجلیلین مهمّة جدّاً فی تفسیر الکثیر من تداخل القضایا بتعدّد النظرة إلیها !

هذا ویمکن أن یعزی عدول ابن سینا عن مذهب الفلاسفة قبله إلی عدّة أسباب :

الأوّل : تأثّره بمسلک الأشعریّ وتصویره لدعوی اعتباریّة الحسن والقبح ، وقوّة شبهة الأشعریّ من جهة أنّ هذه المسألة لو کانت بدیهیّة لما أنکرها جماعة من المتکلّمین !

وهنا لابدّ لنا من وقفة عند هذه المغالطة وملاحظة تأریخها ، فهذه المغالطة لیست من ابتکارات الأشعریّ ، بل أوّل من قال بها السوفسطائیّون ، کما صرّح بذلک سقراط ، وقام سقراط بدفعها - کما فی بعض کتبه المترجمة المطبوعة حدیثاً - ومنشأ وجود السفسطة وانتشارها آنذاک شدّة الأوضاع الاقتصادیّة وطغیان الأثریاء وسعیهم وراء تحصیل مآربهم وأغراضهم المادّیة الدنیئة ، فحاولوا تضییع القیم والأخلاق وحاربوا الدین ، وأشاعوا فکرة أنّ کلّ المآسی والمشاکل ناتجة من الدین ، فأسّسوا مدارس عدیدة لدراسة الجدل والمغالطة ونشروا نظریّة ( أنّ الخُلُق مصلحة نسبیّة بحسب الأشخاص والظروف ) وأنّ ما یشاع من القیم والأخلاق هو من ابتداع رجال الدین لیتسلّطوا علی الناس ، کما أنّ

ص:179

الدولة لیست من شؤون الدین ، بل من شؤون المجتمع ، والمجتمع هو صاحب الحقّ والقرار فی وجود هذه الدولة أو تلک واتّخاذ هذا النظام أو ذاک ! ثمّ أنکروا تکوینیّة الحسن والقبح وبداهتهما وقالوا باعتباریّتهما من خلال التفکیک بین معانی الحسن والقبح .

وقد أجاب سقراط عن شبهاتهم بأجمعها بقوّة وبرهان قاطع ، بحیث أنّهم عرفوا أن مآربهم لا تتحقّق مع وقوفه ضدّهم ، ولذا حاولوا إغراءه والمساومة معه لیکون معهم أو علی الأقل یسکت ویدع مناهضتهم ، فلم یوافق ، واستمرّ فی دفع شبهاتهم ومجابهتهم حتّی قُتل فی ذلک السبیل ، ثمّ تابع أفلاطون وأرسطو منهجه وطریقه وأکّدوا تکوینیّة الحسن والقبح . ولهذا فالمعروف فی الفلسفة الیونانیة أنّ من ینکر تکوینیّة الحسن والقبح یسمّی سفسطیاً ، لبداهة هذه المسألة ! وما ذکره ابن سینا إنّما هو رأیه لا رأی الفلاسفة .

السبب الثانی : اعتماد ابن سینا علی مبنی باطل فی تعریف العقل العملیّ ، فقد ذهب هناک إلی أنّ العقل العملیّ لا یختلف عن النظریّ إلّافی الاعتبار ، ولیس من شأنه إلّاالإدراک دون العمل ، وإنّما یسمّی عملیّاً بلحاظ المدرَک . فإذا أدرک العقل حکماً مرتبطاً بالعمل یسمّی عملیّاً لا أنّه یفعل شیئاً !

وهذا المبنی أیضاً یختلف عن مبنی الفلاسفة قبله ، فقد ذکر الفارابی للعقل العملیّ عین التعریف الذی ذکرناه ، وأنّ هناک فارقاً تکوینیّاً بین العقل العملیّ والنظریّ ، وأنّ للعملیّ عمل وتأثیر ولیس شأنه محض الإدراک . بل نقول : إذا لم یکن العقل عَمّالاً لم یکن معنیً لطاعته وعصیانه ، وقد ثبت من الشرع الشریف أنّ العقل یطاع ویعصی ، وأنّ الثواب علی طاعته ، والعقاب علی معصیته(1) .

ص:180


1- (1) للتفصیل راجع کتاب العقل والجهل من الکافی وغیره .

ففی صحیحة محمّد بن مسلم ، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال :

« لما خلق الله العقل استنطقه ، ثم قال له : أقبل ، فأقبل . ثم قال له : أدبر، فأدبر . ثم قال : و عزتی و جلالی، ما خلقت خلقا هو أحب إلی منک و لا أکملتک إلافی من أحب ،أما إنی إیاک آمر، وإیاک أنهی، و إیاک أعاقب ، و إیاک أثیب » (1) .

السبب الثالث : إنّ ابن سینا ألغی البرهان العیانیّ ، مع أنّ الفلاسفة قبله مثل أرسطو والفارابی قسّموا البرهان إلی نوعین :

1 - القیاس المنطقیّ بأنواعه وأقسامه .

2 - البرهان العیانیّ ، ومحور هذا البرهان هو الفعل الجزئیّ الخارجیّ وإنّما سمّی عیانیّاً باعتبار حضور المبرهَن علیه بنفسه عند المستدِلّ ، وقد ألغاه ابن سینا هو ومَن جاء بعده من المناطقة والفلاسفة ! ولکن متکلمّی الإمامیة ذکروه وأصرّوا علیه اعتماداً علی مرتکزاتهم الصحیحة ( رضی اللّه عنهم ) .

هذا وحیث أنّ المتأخّرین لم یتعرّضوا لذکر هذا البرهان من قریب ولا بعید ، فمن المناسب إلقاء بعض الضوء علیه ، فنقول :

یتمّ تشکیل النفس لهذا البرهان وإدراکها لنتیجته فی مرحلتین :

أ- إدراک الکلّیات المبرهنة .

ب - إدراک النفس لأحوال الجزئیّات بتوسّط قوّة الفطنة ، فإذا أدرکت الفطنة حال الجزئیّ ، قامت بتطبیق الکلّیات المناسبة علی الجزئیّات ، والفطنة هی قوّة التروّی والتثبّت فی استصدار الأفعال الإرادیة عن داعٍ موافق للحکمة .

وبعبارة اخری : إنّ الجنبة المشرفة علی القوی العملیّة الدانیة فی النفس هی

ص:181


1- (1) الکافی : 1 : 10 ، الحدیث 1 .

قوّة الفطنة ، وهی قوّة دون قوّة العقل العملیّ ، مؤتمرة بأوامرها ، ووظیفتها تطبیق الکلّیات علی الجزئیّات الحقیقیّة ، وإدراک ومعرفة نفس هذه الجزئیّات .

والدلیل علی وجودها : أنّ کلّاً من قوّتی العقل النظریّ والعملیّ یتمّ لهما إدراک الکلّیات والإذعان والحکم بها وإیجاد الشوق - فی النفس - إلیها ، وکلّ ذلک لا یکفی فی تحقّق الکمال البشریّ ، ما لم توجد أداة تشخّص الجزئیّات فی مختلف حالات الإنسان وأفعاله ، وعدم تشخیصه لها یوجب التخبّط فی تطبیق الکلّیات علی الجزئیّات ، لأنّ القوّتین النظریّة والعملیّة لیس من شأنهما تشخیص الجزئیّات ، فضلاً عن تطبیق الکلّیات علیها .

کما أنّ القوی الدانیة لدی النفس لا مجال للإعتماد علیها فی سلامة التطبیق !

فیلزم وجود أداة للعقل یمیّز من خلالها سلامة هذا التطبیق وصوابه عن خطأه وکذبه ، وصدقُ التطبیق وسلامته لا تتحقّق بنحو دائم إلّالمن خلقه اللّه کاملاً معصوماً من الخطأ والزلل ، کما عبّر بذلک أرسطو .

هذا بالإضافة إلی لزوم صدق الکلّیات التی اعتمدها ، ولذا کان المعصوم معصوماً علمیّاً فی إدراک الکلّیات ، وعملیّاً فی تطبیق الجزئیّات . إذن فالتأثیر علی القوی الدانیة بحکمة یحتاج إلی صدق الکلّیات وإلی حسن التطبیق علی الجزئیّات .

ولعلّه أشیر إلی ذلک فی قوله تعالی : ( وَ بِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَ بِالْحَقِّ نَزَلَ ) (1) ، حیث أنّ ظاهره حقّانیّة مرحلتین : مرحلة الکلّیات من طرف الحقّ تعالی ومرحلة التنفیذ ؛ أو فقل : مرحلة الفاعل المنزِل ، ومرحلة القابل المنزَل إلیه وهو النبیّ صلی الله علیه و آله و سلم .

ص:182


1- (1) الأسراء 17 : 105 .

ومن هذا القبیل ما جعل فی عالم الاعتباریّات ، حیث جعلت القضایا الاعتباریّة فی مرحلتین : مرحلة التشریع والجعل ، ومرحلة التنفیذ والإیصال .

وکیف کان ، فلابدّ من قوّة عملیّة عقلانیّة تحت سیطرة العقل العملیّ ، یسمّیها بعضهم ( الفطنة ) وآخرون ( القوّة الشهودیّة ) وبعضهم ( قوّة إدراک البرهان العملیّ العیانیّ ) . نعم ، اختلف - المثبتون لهذه القوّة - فی محلّ هذه القوّة ، فبعضهم یجعلها عین قوّة العقل العملیّ ، وبعضهم یجعلها أداة لها .

وببیان آخر : إنّ الوجودات تنقسم إلی مادّیة وغیر مادّیة ، والمادّیة تنقسم إلی نفس المادّة وإلی ما یوجد فیها کالصورة الجوهریة . وإلی ما یتعلّق بالمادة .

وأمّا غیر المادّیة فهی مثل العقل المجرّد عن المادّة ، وهی مباینة للمادة ، ولکنّها تدرک المادّة والمادّیات ، فبإمکان غیر المادّی أن یدرک الجزئیّات ، وإدراک شیء لشیء لا یعنی صیروة المدرِک ( بالکسر ) مدرَکاً ( بالفتح ) ولا کون الأوّل متأثّراً بالثانی ، ولا جریان أحکام الثانی علی الأوّل ، نظیر إدراک الباری سبحانه للجزئیّات المادّیة ! فلا مانع من القول أنّ العقل یدرک الجزئیّات .

وإذا اتّضح ذلک واتّضح وجود قوّة تدرک الجزئیّات ، یُعرف ضرورة وجود میزان للعصمة عن الخطأ ، أی أنّ الحکمة فی الجزئیّات منوطة ببرهان یسمّی البرهان العیانیّ ، وهو میزان تعصِم مراعاتُه الفطنة من الخطأ فی إدراک الجزئیّات وتطبیق الکلّیات علیها .

والحاصل : أنّه مع عدم إناطة إدراک الجزئیّات بالعقل النظریّ ولا العملیّ ، یتعیّن وجود قوّةٍ عقلیّة أو دونها - فوق القوی الدانیة - قادرةٍ علی التطبیق الصحیح بواسطة البرهان العیانیّ .

والفوارق بین البرهان النظریّ - الکلاسیکیّ - والبرهان العیانیّ ، ثلاثة :

ص:183

1 - إنّ البرهان المتعارف ، مورده النظریّات والکلّیّات ، ولا یتعرّض للتطبیق علی الجزئیّات خارجاً ، بینما البرهان العیانیّ مورده الجزئیّات الخارجیّة ، وإنّما یستعین بالکلّیّات المبرهنة للتطبیق علی الجزئیّات . وبعبارة اخری : إنّ شرائط البرهان النظریّ - فی المادّة مثل أن تکون المادّة کلّیة فی کلّ طرف من أطراف القیاس لا تتأتّی فی مادة البرهان العیانیّ .

2 - إنّ البرهان النظریّ یحکم به العقل النظریّ ولا یتوقّف علی سواه ، بینما البرهان العیانیّ تطبّقه الفطنة ، ولکنّه یتوقّف علی العقل النظریّ والعملیّ والفطنة .

3 - إنّ البرهان النظریّ یوجب تکامل القوّة النظریّة ، والعیانیّ یوجب تکامل القوّة العملیّة .

وبهذا یتّضح البرهان العیانیّ ، ولکن کیف کان إنکار البرهان العیانیّ منشأ لإنکار تکوینیّة الحسن والقبح وعقلیّتهما ؟

الجواب : إنّ ابن سینا لو اعترف بأنّ الجزئیّات یمکن تطبیقها بحکمة وبرهان للزمه الاعتراف بعقلیّة الحسن والقبح وإنّهما علی وفق الحکمة ؛ إذ تبیّن أنّ تطبیق البرهان العیانیّ یتوقّف علی مدرکات وأحکام العقل النظریّ والعملیّ والفطنة ، ولمّا کان من أهمّ مدرکات العقل العملیّ هو الحسن والقبح ، فلابدّ أنّها تکوینیّة عقلیّة لکی تصلح أن تکون مرجعاً فی البرهان ، لأنّه لا یمکن تطبیق البرهان من قضایا مشهورة أو لا واقع لها ، بل یجب إستناده إلی قضایا عقلیّة تکوینیّة .

والحاصل أنّ البرهان العیانیّ - بما هو برهان - لا یستند إلّاإلی التکوینیّات والواقعیّات ، وهو یستند إلی مسائل الحسن والقبح جزماً ، فلابدّ أنّها تکوینیّة عقلیّة لا اعتباریة ، ولذلک فقد ألغی ابن سینا هذا البرهان ولم یشر إلیه بتاتاً .

ص:184

أدلّة القائلین باعتباریّة الحسن والقبح

استدلّ القائلون باعتباریّتهما بأدلّة عدیدة ، وعلینا استعراضها وتوضیحها ، ثمّ نقدها .

الدلیل الأوّل : إنّ الحسن والقبح بمعنی ( المدح والذمّ ) لیسا من الأعراض العینیّة المحسوسة للفعل ، فلیسا موجودَین بوجود نفس الفعل ، کما أنّهما لا یُنزعان من شیء له وجود واقعیّ ، فلا یکون لهما وجود انتزاعیّ أیضاً ، أی إنّهما لیسا من الاعتبارات الفلسفیّة ( المعقولات الثانیة الفلسفیّة ) ولذا یتعیّن أن یکونا من الاعتبارات التخیّلیّة - باصطلاح المناطقة - الجعلیّة التی یضعها العقلاء .

الدلیل الثانی : إنّ الوجدان حاکم بتفاوت الحسن والقبح بحسب الزمان والمکان والقومیات والطوائف والعادات ، فمثلاً نجد بعض التقالید والعادات حسنة مطلوبة عند بعض الناس ، وفی نفس الوقت قبیحة عند قوم آخرین ، وکذلک نوع الأکل أو الملابس أو المعتقدات أو الأخلاق ، فإنّها قد تتفاوت فی الحسن والقبح من مجتمع لآخر ومن زمان لآخر .

وهذا التفاوت فی التقییم والتحسین والتقبیح خیر شاهد علی أنّ مسألة الحسن والقبح تابعة لاعتبار العقلاء ، والاعتبار العقلائیّ یختلف باختلاف الأنظار والمصالح والمفاسد بحسب الظروف ، ومعنی ذلک أنّ الحسن والقبح لا واقعیّة لهما وراء الاعتبار العقلائیّ .

الدلیل الثالث : إنّ الإنسان لو خلّی وطبعه ولم یعرف من العقلاء جعل المحاسن والقبائح ، فإنّه لا یدرکها بعقله محضاً ! فلو فرض أنّ إنساناً ولد فی أرض خالیة من البشر لَمَا وَجَد عقلَه یحکم بحسن العدل وقبح الظلم ، ممّا یدلّ علی أنّهما لیسا ضروریّین عقلیّین ، فإنّ عقل مثل هذا الإنسان یدرک الضروریات

ص:185

کاستحالة اجتماع النقیضین ، وأنّ الکلّ أکبر من الجزء ونحو ذلک ، فلابدّ أنّ الحسن والقبح جعلیّان اعتباریّان ، ولهذا تجد تجذّرهما ورسوخهما فی المجتمعات ذات العادات والتقالید أکثر من المجتمعات التی لا تؤمن بالموروث ، أو لدیها تقالید قلیلة .

الدلیل الرابع : - ویمکن عدّه متمّماً لما سلف - إنّ العقلاء إنّما حکموا بهما لأجل مصلحة النظام الاجتماعیّ ، فلو لم یکن مجتمع أو لم یکن للنظام أهمّیة عند العقلاء لَما جعلوهما .

الدلیل الخامس : - ما ذکره المحقّق الإصفهانیّ - أنّ دعوی کونهما عقلیین لا یخرج عن صورتین : إمّا أن یقال إنّ وجودهما بنحو المسبّب والسبب ، فوجود أحدهما مسبّب والفعل سبب ، فإذا وجد الفعل الملائم حصل الحسن ، وإذا وجد الفعل المنافر حصل القبح ، فالفعل الأوّل علّة والحسن معلول ، والثانی علّة والقبح معلول ، وإمّا أن یقال إنّ وجودهما من قبیل وجود الغایة وذیها ، فإذا کان وجود الغایة لازماً کان وجود ذیها لازماً أیضاً ، والحسن علّة غائیة للفعل تدعو إلی إیجاده .

أمّا إذا أرادوا الأوّل فهذه السببیّة تامّة وهی تکوینیة لا اعتباریة ولکنّها لیست بحکم العقل ، بل بحکم القوی الدانیة ، ولذا تجد الحیوان ینفعل وینزجر ممّن یؤذیه ، ویألف ویحبّ ویعطف علی من أحسن إلیه ، فهذا الحکم تکوینیّ ناشئ من الطبع لا بحکم العقل .

وأمّا إذا أرادوا الثانی فهو أیضاً مسلّم ، ولکنّه لا یدلّ علی عقلیّتهما ، بل إنّ الکثیر من الغایات غایات اعتباریّة ، ومنها الحسن والقبح ، فإنّهما إنّما یرادان بلحاظ الوصول إلی مصالح المجتمع ونظامهم ، ولذلک تجد العقلاء یحثّ

ص:186

بعضهم بعضاً علی فعل المحاسن وترک القبائح لأجل مصلحة النظام الاجتماعی وتکامله واستثمار طاقاته علی الوجه الأحسن ، ولکنّ ذلک لا یعنی کون الحسن والقبح عقلیّین ، فإنّ الأحکام الاجتماعیّة الباعثة إلی ذلک النظام أحکام اعتباریّة یجعلها العقلاء لهذا الغرض ، ولیست أحکاماً عقلیّة .

الدلیل السادس : - وقد صرّح به المحقّق الإصفهانی وغیره - أنّ مسائل الحسن والقبح لو کانت بدیهیّة فهی لا تخرج عن أحد الضروریّات الستّ :

1 -الأوّلیّات ، وهی التی یحکم بها العقل بمجرّد تصوّرها . ولیس الحسن والقبح کذلک وإلّا لما وقع کلّ هذا الخلاف فیهما .

2 -الفطریّات ، وهی القضایا التی قیاساتها معها ، کزوجیّة الأربعة .

3 -التجریبیّات ، وهی القضایا التی یتوصّل إلیها من خلال التجربة .

4 -الحسّیّات ، وهی القضایا التی تدرک بالحواسّ الخمس .

5 -الحدسیّات ، وهی القضایا التی تدرک بالحدس القطعیّ ، ومن الواضح عدم کونهما من هذه الضروریات الأربعة .

6 -الوجدانیّات ، وهی القضایا التی تدرک بالوجدان ، ولا مجال لجعل الحسن والقبح منها لأنّنا لا نجد فی وجداننا الحکم بهما .

الدلیل السابع : أنّ المدح والذم أمران إنشائیّان عند العقلاء کإنشاء القصیدة والخطبة فی مقام المدح أو الهجاء ، والإنشاء أمر إعتباریّ تابع لاعتبار منشئه ولیس له واقع وراء ذلک الاعتبار !

الثامن : ما تفرّد به السیّد الشهید الصدر قدس سره : أنّه بناء علی أنّ قطب المحاسِن ( العدل ) وقطب القبائح ( الظلم ) فعلینا معرفة العدل والظلم .

والعدل هو إعطاء حقّ الغیر أو إعطاء کلّ ذی حقّ حقّه ؛ والظلم تجاوز حقّ

ص:187

الغیر . وعلی هذا فمدار العدل والظلم ، الحقّ ، والحقّ أمر اعتباریّ ، والشیء إذا تقوّم بشیء اعتباریّ کان أمراً اعتباریّاً أیضاً ، وبذلک یثبت أنّ العدل والظلم اعتباریّان ، وبالتالی أنّ جمیع مسائل الحسن والقبح اعتباریّة .

التاسع : - ما ذکره العلّامة الطباطبائی قدس سره وهو شبیه بسابقه - : أنّ الحسن والقبح من سنخ الإهانة والاحترام والتعظیم والتحقیر ، وهی أمور اعتباریّة لا واقعیّة تکوینیّة ، فإنّها تتفاوت وتختلف باختلاف بناء العقلاء ولا واقعیّة لها سوی ذلک ، وعلیه فیکون الحسن والقبح اعتباریین جعلیین لا واقعیین عقلیین .

هذه هی أدّلة القائلین باعتباریّتهما .

ولکن جمیع ما ذکروه من أدلّة قد توجّه لها قدماء الفلاسفة ، وأجابوا عنها بنحو کافٍ ووافٍ .

أمّاالأوّل : - وهو أنّ الحسن والقبح یتقوّمان بالمادح والذامّ ولا وجود لهما فی حدّ أنفسهما - فقد أجاب عنه أرسطو وسقراط والفارابی بنحو یبطل مغالطة السوفسطائیین - والأشعریّ الذی قال بمقالتهم - حیث فکّکوا بین الکمال والنقص من جهة ، والحسن والقبح من جهة اخری ، فأجابوهم من خلال تحقیق الحدّ الماهویّ ل ( الحسن والقبح ) ، فعرّفوا الحسن - بمعنی المدح - بإنّه ( التوصیف بالکمال ) والقبح - بمعنی الذم - : ( التوصیف بالنقص ) .

وهذا التعریف ثابت لهما فی کلّ اللغات ، لأنّه تعریف للمعنی لا للفظ ، فلا یختصّ بلغة دون اخری . وهذا التعریف وحده کافٍ - بالتأمّل - فی إثبات تکوینیّة الحسن والقبح ! وذلک لوضوح أنّ التوصیف بالکمال إنّما یکون لأجل الکمال واقعاً والتوصیف بالنقص لأجل النقص الواقعیّ ، فلا تجد عاقلاً صادقاً یمدح شخصاً من دون اتّصافه بالکمال إلّامع الجهل المرکّب ، ولا عاقلاً صادقاً

ص:188

یذمّ من دون نقص واقعیّ إلّامع الجهل المرکّب . هذاأوّلاً .

وثانیاً : إنّ المدح فی اللغة مرادف للحمد ، وحمد واجب الوجود یستحیل أن یکون اعتباریّاً ویتعیّن أن یکون تکوینیّاً واقعیّاً أی بلحاظ الکمال الواقعیّ ولا یعقل مدحه اعتباراً وجعلاً ، إذن فالمدح والذم یتقوّمان - ماهیةً - بالکمال والنقص .

وثالثاً : إنّ المدح والذمّ إذا طابقا الواقع سمّیا صادقَین ، وإذا خالفاه سمّیا کاذبَین ، فإذا مدح شخص بما لا یستحقّه کان المدح کاذباً کما فی مدح الظلمة والسلاطین بما لا یستحقّون ، بخلاف مدح الکامل أو الساعی إلی الکمال ، فإنّه صادق ، ولیس الصدق إلّامطابقة الخبر للواقع ، ولا الکذب سوی مخالفته له ممّا یدلّ علی وجود الکمال حقیقة إذا صدق المدح ، ووجود النقص حقیقة إذا صدق الذمّ ، وبهذا نعرف أنّ الحسن والقبح - حتّی بمعنی المدح والذم - تکوینیّان لا اعتباریّان .

وقد یعترض علی ذلک بأنّ الصدق والکذب لا یختصّان بالقضایا التکوینیّة ، بل یشملان القضایا الاعتباریّة الفرضیّة من جهة موافقة المعتبَر الجزئیّ للاعتبار الکلّیّ - عند العقلاء أو أیّ معتبِر - وعدم مطابقته . فإذا قلت : إنّ الإشارة الضوئیّة الخضراء علامة جواز العبور - فی قانون المرور - کان صدقاً ، لموافقته للاعتبار الکلّی العقلائیّ ، وإلّا کان کذباً .

والجواب : إنّ الصدق والکذب فی التکوینیّات مطلق غیر مشروط بفرض فارض ولا وجود مدرک عاقل ، فلو فرض تجرّد القضیّة التکوینیّة فی نفس الأمر عن ذهن أیّ عاقل بمعنی ثبوتها وتقرّرها فی نفس الأمر کمعنیً مفهومیّ وصور حصولیّة کما یقال ذلک فی الأعیان الثابتة الأزلیّة ، فإنّها من شأنها أن تطابق الواقع

ص:189

أو لا تطابقه ، فتصدق أو تکذب .

وهذا بخلاف القضایا الاعتباریّة التخیّلیّة ، فإنّ صدقها وکذبها مشروط بلحاظ ومقایسة القضیّة بالافتراض العامّ والاعتبار العامّ عند مجموع المتطابقین علی ذلک الاعتبار ، وبدون ذلک اللحاظ والمقایسة لا تصلح للاتّصاف بالصدق ولا بالکذب مع أنّ اتّصاف المدح للّه سبحانه بالصدق ، والذمّ لأمیر المؤمنین علیه السلام بالکذب لا یتوقّف علی هذه المقایسة ، بل هما فی حدّ أنفسهما وفی نفس الأمر ثابتان متقرّران ، سواء وجد من یلتفت إلی ذلک أو لم یوجد .

ورابعاً : ثبت فی المباحث العقلیّة أنّ الوجود الخارجیّ للمخلوقات ، بنفسه مدح للخالق ، لأنّها آیات من آیاته وحاکیة عن وجوده ، وکمالها حاکٍ عن کماله ، وکلّما کان المخلوق أکبر وأکمل دلّ علی عظم الخالق وکماله ، وهذه الدلالة توصیف تکوینیّ بالکمال ، فهی مدح للخالق ونعت تکوینیّ له بالکمال .

وعلی هذا الأساس فإنّ ماهیّة المدح هی الحکایة عن الکمال الواقعیّ ، فتارة تکون هذه الحکایة من خلال الوجود العینیّ للمخلوق الدالّ علی کمال خالقه ، واُخری من خلال الوجود القولیّ أو الکتبیّ أو نحوهما الدالّ علی الکمال .

وکذلک الذمّ تارة یکون من خلال فعل القبیح فإنّه یکشف تکوینیّاً عن نقص الفاعل ، واُخری من خلال القول والکتابة والإشارة ممّا یدلّ ویکشف عن نقص فی المذموم .

إذن فالرابطة بین المدح والکمال وبین الذمّ والنقص هی رابطة الحاکی والمحکیّ ، ومن المعلوم أنّ العلاقة بین الحاکی والمحکیّ هی علاقة الاتّحاد فی المفهوم والتغایر فی المصداق ، أو فقل الاتّحاد فی الهویّة والاختلاف فی الوجود ، فلفظة ( زید ) هی نفس الإنسان المسمّی بهذا الإسم بحسب المفهوم ،

ص:190

ولکن وجود هذه اللفظة غیر وجود ذلک الإنسان !

والخلط بین التفکیک فی الوجود وبین التفکیک فی الهویّة هو الذی أوقع الخصم بدعوی اعتباریّة المدح والذم ، إذ کیف یکون وجود المحکیّ تکوینیّاً ولا یکون وجود الحاکی تکوینیّاً أیضاً مع أنّ المعنی الذهنیّ لا یکون ارتباطه بالخارج وکشفه اعتباریّاً ، بل إنّ إراءة المعنی الذهنیّ لا یمکن أن تکون إلّاإراءة تکوینیّة ، کیف ومجال الاعتبار منحصر فی المحکیّ دون الحکایة والحاکی(1) .

نعم ، لابدّ من الالتفات إلی أنّ الوجود التکوینیّ یمکن إیجاده بوجود آخر اعتباریّ زیادة علی الأوّل ! بل لعلّ أغلب الموجودات التکوینیّة لها وجودات اعتباریّة أیضاً ؛ فهذا الکتاب له وجود تکوینیّ هو الذی بین یدیک ، وله وجود اعتباریّ هو الوجود اللفظی بقولک ( الکتاب ) ، وله وجود ثالث هو الکتبیّ إذا کتبت هذه الکلمة . ولا ریب أنّ الوجود اللفظیّ والکتبیّ لهذا الموجود الخارجیّ هو وجود اعتباریّ له ، لا عین وجوده الخارجیّ .

وکذا کلّ ما حولک من أشیاء ، لها وجود تکوینیّ ووجود اعتباریّ بأسمائها ، بل حتّی وجود اللّه سبحانه لا ینافی الوجود الاعتباریّ الجعلیّ للتعبیر عنه سبحانه من خلال الألفاظ والکتابة والإشارة ، لأنّ البشر یحتاجون فی التفاهم إلی إحضار المعانی إمّا بوجودها التکوینیّ أو الاعتباریّ ، ولکن الوجود الاعتباریّ لا یعنی صیرورة التکوینیّ اعتباریّاً ، بل یعنی إضافة وجود آخر له .

ولهذا فنحن لا ننکر إمکان وجود الحسن والقبح الاعتباریّ - إذا دعت الحاجة

ص:191


1- (1) لأنّ الحکایة دائماً بلحاظ أمر تکوینیّ ، وهو الاتّحاد فی الهویّة والمفهوم ، والحاکی أیضاً له وجود تکوینیّ ، سواء کان بالوجود التکوینیّ للکمال أو النقص ، أم اللفظیّ ، أم غیر ذلک بحسب الحاکی للکمال .

إلی ذلک - کسائر الموجودات التکوینیّة ، فإنّها تصلح لإیجادها بوجود آخر إعتباریّ ، ولکنّ الذی ننکره هو دعوی انحصار وجودهما بالإعتبار لقیام الدلیل علی وجودهما التکوینیّ ، فمثلاً المدح بقصد الإنشاء فی قولک : سبحان اللّه أو الحمد للّه، له وجود اعتباریّ بلحاظ هذا الإنشاء والاعتبار ، ولکنّه لا ینافی النزاهة الواقعیّة والکمال الإلهیّ الذی أوجب المدح الواقعیّ بإیجاد النعمة والتصرّف بالتدبیر والحکمة .

وقد تبیّن أنّ وجود المخلوق الحَسَن مدح تکوینیّ لخالقه ، وآیة من آیات کماله ومجده وعظمته ! ! فکیف یصحّ اطلاق القول بأنّ المدح والذمّ اعتباریّان لا تکوینیّان ! ؟ بل هما تکوینیّان ، وربّما یکون لهما وجود اعتباریّ أیضاً .

وأمّاالدلیل الثانی - للقائلین بالاعتباریّة وهو أنّ الحسن والقبح لو کانا عقلیّین لما وقع الاختلاف فیهما بحسب الزمان والمکان والمعتقدات والتقالید - فجوابه :

أوّلاً : إنّ هذا الاختلاف لا ینافی تکوینیّة وعقلیّة هذه المسألة ، فإنّ کثیراً من الخلافات تقع علی القضایا الحقیقیة التکوینیة کما فی اختلاف الأطبّاء فی العدید من الأدویة ، وأنّها نافعة أو ضارّة ؟ أو أنّ نفعها أکثر من ضررها أو بالعکس ؟ مع أنّ الواقع واحد لا یتغیّر ولا یختلف ، وهو کون الدواء نافعاً أو ضاراً ولو بنسبةٍ مّا .

وکذلک إذا کان الاختلاف لأجل اختلاف الظروف ، فإنّ مرجعه فی الحقیقة إلی اختلاف الموضوع ! وبالتالی عدم الاختلاف مثل أن یقول زید ( الحائط أبیض ) وأنت تقول ( الباب أسود ) فإنّه لیس اختلافاً حقیقة .

ومن هذا القبیل الکثیر من مسائل الحسن والقبح باختلاف الظروف ، فإنّ الکذب یکون حسناً فی بعض الحالات ، بینما یکون قبیحاً فی حالات اخری ، وهذا لا یعنی الاعتباریة ، بل اختلاف الظرف تکوینیّ ، وبتبعه یختلف الحسن

ص:192

والقبح التکوینیّان .

وثانیاً : إنّ الاختلاف ممکن حتّی فی البدیهیّات لأنّ فی النفس البشریّة صحّة وسقم فی کلّ مراتبها ، سواء مرتبة القوی الإدراکیّة أو مرتبة القوی العملیّة ، فالشکّ وعدم الإحراز مهما قویت الأدلّة مرض فی الإدراک ، والتشکیک والرفض وعدم الإذعان مرض فی القوی العملیّة ، ولذا أجمع علماء المنطق علی أنّ اللجاج والعناد إذا استمرّ فی الإنسان کان مرضاً فی عقله العملیّ ، وهو ما عبّر عنه القرآن الکریم ب ( الطبع ) علی القلوب والصمّ والبکم - أی العقلیین - والاختلاف الحاصل من ذلک لا یضرّ ببداهة البدیهیّ أصلاً .

وثالثاً : إنّ بعض الاختلاف ناشئ من مراعاة المصالح المادّیة لا من الاختلاف الحقیقیّ فی النظریّة ولا فی التطبیق ، کما هو الملحوظ فی بعض الفلاسفة المادّیّین الذین یقصدون من وراء إشاعة الخلاف الوصول إلی مآربهم السیاسیّة أو المادّیّة ولیسوا مخالفین حقیقة ، فهم مخالفون منکرون لنظریّتنا باللسان وقلوبهم عالمة مذعنة بصحّة ما نقول ، لأنّ عقولهم أسیرة للهوی والقوی الدانیة

« کم من عقل أسیر تحت هوی أمیر » (1) .

ومثل هذا الاختلاف لا ینبغی أن یعدّ خلافاً لأنّ الخلاف إنّما یقع فی ما بین العقلاء الذین یعملون بعقولهم ویستنیرون بها ، لا فی ما بین العقلاء وغیرهم ( أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَکْثَرَهُمْ یَسْمَعُونَ أَوْ یَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاّ کَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِیلاً ) (2) .

وأمّاالدلیل الثالث : فلو سلّمنا به ، فغایة ما یدلّ علیه هو عدم کون الحسن

ص:193


1- (1) نهج البلاغة : 506 .
2- (2) الفرقان 25 : 44 .

والقبح أمراً بدیهیّاً لا أنّه لیس حقیقیّاً ، لأنّ النظریّ أیضاً لا یقضی به العقل ابتداءاً ککیفیّة صدور أفعال الباری عنه تعالی ، مع أنّ الحق هو حکم العقل بذلک ولیس حکمه متقوّماً بحالة الإجتماع البشریّ ، بل یقضی فی نفسه بأنّ الصدق حسن أو الکذب قبیح وهکذا .

وأمّاالدلیل الرابع : فجوابه أنّ قضاء العقل بالحسن والقبح لیس متقوّماً بالمجتمع البشریّ ، ولذلک إنّ الملائکة مع عدم وجود القوی الحیوانیّة فیهم ومع أنّ حیاتهم لیست حیاة اجتماعیّة مدنیّة وإنّما ارتباطهم تکوینیّ ، فإنّها تتأثّر وتتنفرّ من مظالم العباد ، والملک وجود عقلانیّ یتأثّر من الظلم ویستحسن الحسن فکذلک الإنسان یحکم بهما بعقله لا بسبب حالته الاجتماعیّة .

ولأجل ذلک عبّر سبحانه فی کتابه المجید عن إبلیس ( مَذْؤُماً مَدْحُوراً ) (1) ، مع أنّه لا یفترض وجود مجتمع بین اللّه تعالی وإبلیس ، لکی یُذمّ إبلیس من قبل ذلک المجتمع العقلائی ، أو أنّ معرفة إبلیس لذلک الذمّ کان بواسطة اعتبار العقلاء ، کما لا یفترض للملائکة مجتمع عقلائیّ وإنّما هم علیهم السلام وجودات عقلانیّة ، وکلّ ما یصدر هناک فهو تکوینیّ لا غیر ! ومن هذا القبیل قوله تعالی ( وَ لَمّا سَکَتَ عَنْ مُوسَی الْغَضَبُ ) (2) ، فإنّ السکوت فی مقابل النطق وهو أمر عقلیّ ، ولم یعبّر بالسکون الذی هو مقابل الحرکة لأنّها خاصّیة الحیوان ممّا یدلّ علی أنّ غضبه علیه السلام وعدمه کان عقلیّاً إلهیّاً لا حیوانیّاً .

کما أنّ ذلک الإنسان - المفترض - لو رأی معونة إنسان کبیر لطفل عاجز لَحَکم عقله بحسن ذلک ، کما أنّه لو رأی ضرب ذلک الکبیر للطفل بلا سبب لحکم عقله

ص:194


1- (1) الأعراف 7 : 18 .
2- (2) الأعراف 7 : 154 .

بقبح ذلک ، ممّا یدلّ علی ثبوت الحسن والقبح فطریّاً ، سواء کان الإنسان فی مجتمع أم لم یکن .

فما ذکره ابن سینا یصادم الوجدان ! وقد قرّر الفارابی - فی منطقیّاته - وجدانیّة الحسن والقبح بما لخصّناه فی هذا الجواب .

وأمّا دلیلهمالخامس - وهو ما ذکره المحقّق الإصفهانی رحمه الله - فیمکن مناقشته بأنّ هناک نوع انفعال عقلیّ کالغضب عقلیّاً ، بمعنی أن یکون المحرِّک للقوّة الدانیة هو العقل من قبیل غضب موسی علیه السلام ، وکما قال الأمیر علیه السلام فی بعض الوقائع التی أحدثها معاویة فی بعض أطراف البلاد الإسلامیّة فسلب ونهب وأرعب نساء المسلمین وأطفالهم .

« فلو أن امرء مسلما مات من بعد هذا أسفا ما کان به ملوما» (1) .

فإنّ هذا الغیظ والأسف - لذلک المسلم - لیس حیوانیّاً غریزیّاً بل عقلانیّ ممدوح . وتفسیر عقلانیّته أنّ العقل إذا أدرک شیئاً حسناً أو قبیحاً ثمّ حرّک القوی الدانیة کان تحریکه بأمارة عقلیّة وسلطة تکوینیّة علی تلک القوی ، فتکون الحرکة حرکة عقلانیّة ویکون الغضب والرضا ناشئین من تحریک العقل وبعثه .

وبعبارة اخری : إنّ المعلول والمسبّب یسند إلی علّة العلل لوجود السببیّة الحقیقیّة وکون الواسطة أو الوسائط لیست إلّاممرّاً وطریقاً إلی إیجاد المسبّب ولذا نجد القرآن الکریم قد أسند الموت تارة إلی ملک الموت ، واُخری إلی بعض الملائکة ( تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا ) (2) ، وثالثة إلی اللّه تعالی .

ونشوء الغضب عن العقل وکذا سائر أفعال القوی الدانیة یستوجب نسبتها إلی

ص:195


1- (1) الکافی : 5 : 4 .
2- (2) الأنعام 6 : 61 .

العقل ، علماً أنّه کمال لتلک القوی ، کما أنّ من کمال العقل العملیّ تلقّی مدرکاته من العقل النظریّ وکذا کمال النظریّ فی تلقّی العلوم من العوالم العلیا وهکذا حتّی تصل النوبة إلی المشیئة الإلهیّة . وهذا هو تفسیر ما ورد مستفیضاً :

« رضا الله رضانا أهل البیت » (1) .

لأنّ قواهم علیهم السلام الدانیة مؤتمرة بأوامر عقولهم ، وعقولهم مؤتمرة ومستنیرة بالحقائق العلویّة ( بَلْ عِبادٌ مُکْرَمُونَ * لا یَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ یَعْمَلُونَ ) (2) .

« إن الله جعل قلوب الأئمة موردا لإرادته ، فإذا شاء شیئا شاؤه » (3) .

فلیس کلّ رضا وکلّ غضب حیوانیّاً ، بل ولیس کلّ ما عدا الحیوانیّ عقلانیّاً فحسب بل هناک رضا وغضب إلهیّان ، أفلیس الجهاد الخالص فی سبیل اللّه ناشئاً عن غضب ورضاً إلهیّین ، کما فی ضربة علیّ علیه السلام لعمرو بن عبدودّ یوم الخندق ، حیث أنّه لم یقتله لغضب نفسه عندما بصق فی وجهه الشریف بل صبر هنیئة حتّی ملک نفسه ثمّ قتله لمحض الأمر الإلهیّ ، فکان فعله لأجل الغضب الإلهیّ ، وبذلک کانت ضربة علیّ علیه السلام یوم الخندق أفضل من عبادة الثقلین ، ومن هذا القبیل ما روی فی فاطمة علیها السلام من طرق العامّة والخاصّة : «

إن الله یغضب لغضبک ، ویرضی لرضاک » (4) .

ص:196


1- (1) شرح الأخبار : 3 : 146 .
2- (2) الأنبیاء 21 : 26 و 27 .
3- (3) کما فی بعض الأحادیث الشریفة . بصائر الدرجات : 537 .
4- (4) المستدرک علی الصحیحین : 3 : 153. المعجم الکبیر : 1 : 108 . کنز العمال : 12 : 674. وفی تاریخ دمشق : 1 : 59 : « یافاطمة ، إن اللّه لیغضب لغضبک ویرضی لرضاک » . وفی الآحاد والمثانی 5 : 362 : « إن فاطمة بَضعة منّی ، یؤذینی ما آذاها ، ویغضبنی ما أغضبها » .

لأنّها لا تغضب ولا ترضی إلّاعن الأمر الإلهیّ .

أقول : بل یستفاد من الحدیث معنی أرقی من ذلک هو : أنّ اللّه تعالی لا یعرضه الکیف النفسانیّ من غضب أو رضا أو فرح وسرور أو ألم وحزن وغیر ذلک ، بل إذا وجد العقل أنّ إحدی هذه الصفات هی التی تنبغی عرضت تلک الکیفیّة علی النفوس الکاملة فکانت تجلّیاً للرضا أو للغضب أو الفرح أو الحزن الإلهیّ وبذلک یکون رضا فاطمة علیها السلام هو رضا اللّه تعالی وغضبها غضبه ، کما ورد عن الحسین علیه السلام :

« رضا الله رضانا أهل البیت » (1) .

فلیس له تعالی رضا غیر رضاهم ولا له غضب سوی غضبهم علیهم السلام .

وعلی هذا ، فحصر الرضا والغضب بالحیوانیّ ، فی غیر محلّه ، بل إنّ ردّ المظلوم علی الظالم قد یکون إنفعالاً حیوانیّاً وقد یکون عقلانیّاً ، وربّما یکون إلهیّاً ، ومن المسلّم فی علوم المعارف الإلهیّة أنّ غضب الکُمّلین لیس حیوانیّاً بل عقلانیّ أو إلهیّ ! فالذی ادّعاه قدس سره : أنّ السببیّة فی الظلم والعدل للحسن والقبح تکوینیّة حیوانیّة فی غیر محلّه ، وکذا دعوی أنّ مسببیّة الحسن والقبح تکوینیّة حیوانیّة ، بل هی تکوینیّة عقلانیّة .

کما تبطل دعواه أنّ الغایة وهی الحسن والقبح والمغیّی أی الظلم والعدل اعتباریّان من اعتبارات العقلاء لأجل حفظ النظام ولیسا تکوینیین ، وذلک لأنّ الحدّ الماهویّ للمدح هو ( التوصیف بالکمال ) فیکون اعتباراً - من الاعتبارات النفس الأمریّة وهی الاعتبارات المنتزعة من التکوین - ولیس اعتباراً تخیُّلیاً ویکون الاعتبار المنتزع منه لغایة الوصول إلی ذلک الحدّ الماهویّ .

کما أنّ هناک غایة اخری هی تذکیر النفس بالکمال أو النقص الذی فی الفعل

ص:197


1- (1) شرح الأخبار : 3 : 146 .

فیکون نوع تکمیل وتزکیة للنفس من خلال تربیتها علی حُبّ الکمال والتقرّب إلیه ، وبغض النقص والابتعاد عنه ! وتلقین لها بالقضایا الحقیقیّة التکوینیّة ، لأنّ خاصیّة الفاعل الإرادیّ الإرادة والجزم المنبعثان عن الإذعان الإدراکیّ ، وهذا التلقینُ للنفوس ومتعلّقُه لیس اعتباریّاًتخیّلیّاً ، بل تکمیل تکوینیّ وتربیة للنفوس .

أمّا الجواب عنالإشکال السادس : فواضح ، لأنّه حیث أخذ فی ماهیّة المدح التوصیف بالکمال ، فالکمال الذی هو منشأ التوصیف هو أمر عینیّ ومن أعراض الفعل ، غایة الأمر الأفعال تارة تتّصف بکمال متوسّط واُخری ابتدائیّ وثالثة نهائیّ وهذا بحث آخر .

فالتوصیف أمر نفس الأمریّ لا اعتباریّ ، نعم ، هو من سنخ الوجود لا من سنخ الماهیّات المقولیّة ، لأنّه توصیف بالکمال لا توصیف بمقولة خاصّة ، فمنشأ المدح وهو الکمال من سنخ الوجود لا من سنخ المقولات وهو عینیّ لا تخیّلیّ اعتباریّ .

وحیث ظهر أنّ المدح هو التوصیف بالکمال ، والذمّ هو التوصیف بالنقص ، یظهر أنّه لا ینحصر بقسم من أقسام القضایا السّتّة ، بل هو تارة من الوجدانیّات کما فی الأخلاقیّات ، واُخری قابل للإندراج فی عدّة من تلک المقولات ، فبعض کمالات الأفعال قد تکون محسوسة ونقائضها کذلک ، وبعضها قد تکون وجدانیّة نفسانیّة کحسن الظنّ أو سوء الظنّ أو غیر ذلک ، فحیث إنّ الکمال من سنخ الوجود أی التوصیف بالکمال ، فهو قابل للاندراج فی عدّة من أقسام البدیهیّات .

أمّا الجواب عنالوجه السابع : وهو أنّ الاحترام نوع إنشاء لأنّ وضع وحرکة البدن باعتبار العقلاء یدلّ علی الاحترام أو الإهانة ، فالتلازم بین حرکة البدن والاحترام نوع من الاعتبار ، ولکن هذا الإنشاء یسمّی صادقاً إذا کان داعی المدح

ص:198

هو الکمال التکوینی ، وإلّا یسمّی کذباً ودَجلاً ، حیث إنّ الاحترام منطوٍ ومتضمّن لنحوٍ من الإخبار ، فإذا لم یکن الطرف کاملاً لا یکون الاحترام توصیفاً حقیقیّاً صادقاً ، فالداعی الموجب له إن کان صادقاً حقیقیّاً یحکی عن الواقع فیکون صادقاً وإلّا کان کاذباً ، وغایة من یحترم الکبار داعیه تقدیس الکمال والحثّ علی الکمال ، لأنّ تقدیسه للصفات الحقیقیّة العلیا فی العالم ، لا لبدن العالم .

فی تلک الموارد لیس الحسن بلحاظ الإنشاء فی التعظیم ، بل بلحاظ الداعی فی التعظیم ، والفعل دلالة إنشائیّة علی ذلک بلحاظ الداعی ، فهو نوع کمال تکوینیّ . مثلاً إذا خشع قلب المصلّی فی صلاته خشعت جوارحه ، فخضوع القلب الذی هو لازم خضوع العقل وهو مستلزم لخضوع الجوارح ، فهذا تقدیس للکمال وحثّ نحو الکمال ؛ نعم القدسیّة للأباطیل سجن وأغلال یجب أن تکسر .

أمّا دعوی أن کلّ قدسیّ فیجب أن یصطدم معه لأنّ التقدیس والتعظیم تحجیر لمسیر التکامل ، فدعوی زائفة ، لأنّ القدسیّة أی الخضوع والإنقیاد صفة مهمّة کمالیّة وبرهنت کمالیّتها فی کلّ الفلسفات عدا السفسطة . نعم ، القدسیّة رهینة الحقیقة یعنی الإنقیاد ، والتسلیم إنّما هو للحقیقة لا لشیء آخر .

ثمّ إنّ الإنشاء وإن کان مجرّد اعتبار یوجده المنشئ ، إلّاأنّه لا یکون إلّاعن داعٍ تکوینیّ ، ولذا قسّموا الإنشاء بحسب الداعی والغرض إلی ثمانیة أقسام ، والداعی فی موارد إنشاء المدح أو الذمّ هو إظهار کمال الممدوح ونقص المذموم ، وأمّا إذا لم یکن لهذا الداعی ، کما إذا کان لأجل مجرّد التصوّر والتخیّل - کما یلاحظ فی الشعراء - فلا یصدق علیه عنوان المدح والذمّ ، فإذا کان بذلک الداعی وتطابق ما أنشأه مع الواقع أی الکمال والنقص الواقعی المتصف به ذلک الموصوف ، فإنّه یقال عن المادح أو الذامّ أنّه صادق ، وإلّا کان کاذباً ، ولذا کان الکثیر من المدح والهجاء معدوداً فی قسم الکذب والزور !

ص:199

نعم ، قد یبالغ المادح أو الذامّ فی مدحه أو هجائه ، وهذه المبالغة تکون علی قسمین :

1 - أن یرید من هذه التفاصیل التی یذکرها إنشاء إرادة جدّیة إنشائیّة بداعی إظهار الواقع ، فحینئذ تکون الزیادة التی قصدها من قسم الکذب .

2 - أن لا تکون الزیادة مرادة بالإرادة الجدّیّة ، بل بالإرادة الاستعمالیّة فقط ویرید بذلک الکنایة عن مراد جدّیّ إجمالیّ ، فهو بهذه التفاصیل التی یذکرها لا یرید إظهار الواقع بها بتفاصیلها ، وإنّما یرید أنّ هذه التفاصیل تحاکی فی درجتها درجة الواقع ، فالمعنی الجدّیّ المکنّی عنه هو الدرجة الإجمالیّة لا تفاصیل ما ذکره ، والمنشأ حقیقة هو هذا المعنی الکنائیّ المطابق للواقع ، فلا یکون کاذباً .

فتحصّل أنّ الإنشاء الذی یصدق علیه عنوان المدح أو الذمّ لا یکون إلّابالداعی المزبور ، بل أنّ الإنشاء مع کونه وجوداً فرضیّاً اعتباریّاً فإنّه نحو إخبار وحکایة عن الواقع .

وبعبارة اخری : إنّ وجود قسم المدح والذم فی الإنشائیّات هو حاجة إلی إفتراض اعتباریّ مع کون المفترض إعتباراً ذا وجود تکوینیّ خارجیّ لوجوده وذهنیّ لمعناه ، وإنّما دعت الحاجة إلی افتراضه اعتباراً کما فی الکثیر من الموجودات التکوینیّة التی تحتاج أحیاناً إلی وجود آخر اعتباریّ .

والجواب عن الدلیلالثامن : إنّ العدالة لیس أمراً اعتباریّاً بل هی أمر حقیقیّ لأنّ حدّها هو وصول کلّ موجود إلی کماله المنشود من دون إعاقة غیره له .

فالعدالة الاجتماعیّة - مثلاً - هی وصول جمیع أفراد المجتمع إلی کمالهم المطلوب من دون إعاقة شریحة لاُخری ، وحینئذ فإعاقة جماعة أو فرد لکمال الغیر ظلم .

ص:200

والعدالة الاقتصادیّة هی قدرة أفراد المجتمع علی الإنتفاع والوصول إلی المنابع الطبیعیّة علی نحو التساوی - والمراد به تکافؤ الفرص - .

والعدالة الفردیّة هی اتّزان قوی الفرد وأخذ کلّ قوّة موقعها المناسب لشأنها فی الفعل ، وکذا سائر أقسام العدالة ، فإنّها أجمع ترجع إلی التعریف الأوّل . والتشریع والتقنین وإن کان مبیّناً للعدالة ولکن لا بمعنی أنّه یوجدها بل هو کاشف عن الکمال والنقص التکوینیّین وعن الکمال المناسب لکلّ موجود وعن النقص کذلک ، فهو یکشف عن تکافؤ الفرص فی واقع التکوین وعن موارد ممانعة موجود لآخر عن إدراک کماله المنشود ، ومن ثمّ یعرّف الحقّ الاعتباریّ بأنّه :

ما یکون کاشفاً عن الکمال الطبیعیّ الممکن التحصیل للموجود ، وتبیّن بذلک أنّ أساس العدل والظلم هو الکمال والنقص ، وهما تکوینیّان لا اعتباریّان .

وأمّا الجواب عن الدلیلالتاسع : فقد أشیر إلیه من خلال الإجابات السابقة وللتفصیل راجع کتاب ( العقل العملیّ ) و ( نظریّة الاعتبار ) .

و آخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمین

ص:201

ص:202

القسم الثانی:الاصول القانونیّة فی التراث الدینی مصطفی الإسکندری

اشارة

ص:203

ص:204

الحمد للّه رب العالمین ،

والصلاة والسلام علی سیّد المرسلین ،

وخاتم النبیّین صلی الله علیه و آله و سلم وآله الطیّبین الطاهرین ،

ولعنة اللّه علی أعدائهم أجمعین .

ص:205

ص:206

نظام المعارف والأحکام وضابطة العرض علی الکتاب والسنّة

اشارة

إنّه قد تکاثرت الجهود والبحوث فی الآونة الأخیرة علی طرق الأحادیث وأسانیدها ، والبحث فی شرائط حجیّة الصدور صغرویّاً وکبرویّاً ، واُهمل البحث فی المضمون ودرایة فقه مضمون الحدیث ، مع أنّ درایة مضامین الحدیث بحسب محکمات الکتاب والسنّة وموافقته لهما ومخالفته ، أعظم خطورةً وأسبق رتبةً فی بحث الحجیّة عن البحث الصدوری ، وحجّیته وشرائطه .

وبعبارة اخری : أنّه کَثُر الترکیز علی الدلیل ، سواء فی جهة الدلالة التصوّریة کما فی مباحث الألفاظ ، أو التصدیقیّة کما فی مباحث الحجج ، واُهمل البحث عن ذات المدلول ومتن الحکم وواقع المضمون فی نفسه ، وهذه الظاهرة متفشّیة فی الآونة الأخیرة فی جملة من العلوم النقلیّة ، کالفقه والتفسیر والکلام ، مع أنّ اللازم وواقع الحال هو الترکیز الجهد أوّلاً علی المضمون ، ثمّ تصل النوبة إلی البحث عن الصدور وحجّیته وشرائطه .

وهذه الظاهرة السقیمة هی فی الأصل منبثقة من مسلک الحشویّة فی الحدیث ، حیث أنّه کان المهمّ لدیهم البحث فی طرق الحدیث واعتبار الکُتُب وضبط الرواة ، ولم یکونوا یُولُون أهمّیة للمضمون ، ومن ثمّ شدّد النکیر علیهم ذَوُو المنهج الفقهیّ والمنهج التحلیلیّ الکلامیّ ، وکان اسم الحشویّة رمزاً

ص:207

لهذا المنهج .

والغریب أنّ المنهج الصحیح من ترکیز الأهمّیة والعنایة بالمضمون ، ثمّ البحث عن الصدور ، یُرمی فی هذا العصر بالحشویّة ، واستُعیر له هذا الإسم ، وهذه الظاهرة والتسمیة المغلوطة هی فی الحقیقة إماتة للبصیرة العلمیّة ولمنهج الدراسة فی فقه الدین لا بمعنی تحکیم الآراء العقلیّة للعقول المحدودة البشریّة علی التراث المنقول وتحکیم الذوق السلیقی والقرائح النفسیّة علی المتون الدینیّة ، فإنّ دین اللّه لا یُصاب بالعقول ، بل المراد تحکیم المحکم من الکتاب والسنّة والعقل علی المتشابه بنحو منضبط فی اصول وقواعد .

کما أنّه لیس المراد من هذا المنهج إلغاء البحث فی الصدور وشرائطه بتاتاً ، بل المراد هو التنبیه علی أنّ رتبة البحث فی الصدور متأخّرة عن البحث فی درایة المضمون وحجّیته فی نفسه بالمعنی الأعمّ ، وکذا التنبیه علی أنّ حجّیة الصدور لیست هی تمام أجزاء الحجّیة ، بل هی جزء من مجموع أجزاء ، کالحال فی لزوم والافتقار إلی حجّیة الدلالة وحجّیة جهة الصدور لاستکمال الحجّیة .

والتنبیه علی أنّ حجّیة الصدور - کجزء من مجموع الحجّیة - لیس هو الرکن الرکین فی مجموع الحجّیة ، بل هو الأقلّ فی الأهمیّة وإن لم ینتفِ دوره ولم ینتفِ لزومه وضرورته ، حتّی أنّه قد عبّر البعض من المتقدِّمین فی بیان دور الصدور فی مجموع الحجّیة بأنّه بمثابة إحدی القرائن لترکیب الحجّیة أو واحدة من القرائن التی یتألّف منها الکاشف .

وممّا ینبّه علی أنّ الإقتصار فی الترکیز علی الصدور هو من مسلک الحشویّة المفتقد للموازین العلمیّة ، هو تشدّد المذهب السلفیّ والوهابیّ علی البحث السندیّ - فقط - ومتارکتهم للبحث المضمونیّ ؛ لکون منهجهم فی الأصل هو

ص:208

مسلک أهل الحدیث فی الاتّجاه الحشویّ ومن ثمّ لا یُقیمون لبحث المضمون وزناً ولا یتعمّقون فی دراسة متن الحدیث وعرضه التحلیلیّ علی الکتاب والسنّة بل هم یُشعلون نائرتهم علی السند والطریق کوسیلة لجحود المضمون الذی لا تستهویه نفوسهم ولا تنقاد له عقائدهم وآراؤهم ، ومن ثمّ یکیِّفون الجرح والتعدیل وتصحیح الحدیث حسب ما یتبنّوه من آراء .

ولرفع الغطاء عن وجه البحث لابدّ من التمعُّن والتدبُّر فی عدّة نقاط نقدّمها لکم بعونه تعالی .

ص:209

1

تقدّم البحث المضمونیّ علی البحث الصدوریّ

إنّ البحث عن ضوابط صحّة المضمون والمناهج المتّبعة فیه ، والقواعد والآلیّات للفحص عن صحّته وعدمه بتوسّط العرض علی محکمات الکتاب وسُنّة المعصومین القطعیّة ، لهی أهمّ من البحث فی حجّیة خبر الواحد ، أی حجّیة صدوره ؛ لأنّ غایة ما أثاره الاُصولیّون فی ذلک المبحث هو بحث الصدور وشرائطه ودلالة الأدلّة علیه ، وهو بحث إثباتیّ أکثر منه ثبوتیّاً ، أی من شؤون الإستنباط الذی هو استکشاف عالم الدلالة التصوّریة والتصدیقیة ، بینما البحث فی صحّة المضمون هو من البحث فی اصول واُسس القانون - إن کانت المسألة من الفروع - أو من البحث فی اسس واُصول المعرفة - إن کان البحث فی المسائل الاعتقادیّة - .

فالبحث فی صحّة المضمون یرجع إلی البحث فی متن الثبوت ومنظومة ذات القانون أو منظومة ذات المعارف .

ومن ثمّ کان البحث فی ضوابط صحّة المضمون من المسائل المرتبطة باُصول القانون .

ص:210

2

دور معرفة صحّة المضمون فی الاستنباط

إنّ البحث فی صحّة المضمون علی ضوء النقطة السابقة یتوقّف علی عارضة فقهیّة وإحاطة بالأبواب ، وإلمام بالمنظومة الفقهیّة وترابطها ، وتوالد الأبواب والأحکام بعضها من بعض .

هذا فی ما کان المتن فی الفروع وکذلک الحال فی ما کان المتن فی الاعتقادیّات ، فتتحقّق القدرة علی معرفة صحّة المضمون وضوابطه علی قوّة الملکة والدرایة بمسائل علم الفقه الأکبر والأصغر .

وهذا بخلاف البحث فی حجّیة الصدور ؛ فإنّه یتوقّف علی الإلمام بعلم الرجال ، ودرایة طرق الحدیث والطبقات ، فهو جانب تراجمیّ تاریخیّ ، ومن ثمّ لم یعدّه جملة من الأُصولیین من شرائط الفقاهة والاجتهاد وإن کان الصحیح اعتباره ، إلّاأنّه لم یعدّ الإلمام به رُکنیّ محوریّ فی ملکة الفقاهة والاجتهاد وهذا ممّا یعکس الفارق البنیوی بین البحث فی صحّة المضمون عن البحث فی صحّة الصدور .

ص:211

3

التحلیل المضمونیّ وجذوره

إنّ البرهان الصناعیّ علی رُکنیة صحّة المضمون فی الحجّیة وفرعیّة حجّیة الصدور فی منظومة الحجّیة یُمکن أن یقرّر بالنحو التالی :

إنّ البحث فی صحّة المضمون إذا قرّر فیه عدم الصحّة فی مورد معیّن ، فیلزم منه انعدام ثمرة الروایة من رأس ولَغویّة البحث فی الصدور تماماً وهذا بخلاف العکس ، فإنّه مع صحّة المضمون لوانتفت حجّیة الصدور فإنّه لا تنعدم ولا ترتفع الثمرة العلمیّة والشرعیّة فی الروایة .

وذلک لأنّه مع إنتفاء حجّیة الصدور لا ینتفی احتمال الصدور ، ویظلّ احتمال الصدور قائماً ؛ فإذا اعتضد بالدرجة الأقوی من صحّة المضمون والتی هی بمعنی الموافقة القریبة من المحکمات والعمومات ، فإنّ هذا یُقوّی درجة احتمال الصدور ویستلزم معالجة مضمونه بالإضافة إلی العمومات بأن یُبذل الجهد فی تحلیل مضمونه ومضمون العموم والفحص عن القدرة فی استخراج مضمونه من مضمون العموم .

وبالتالی یکون المعتمد علی العموم الفوقانیّ ویکون الخبرُ المحتملُ الصدور الصحیحُ المضمون ، بمثابة القرینة المنضمّة إلی دلالة العموم ، الکاشفة عن دلالة العموم علیه . وأین هذا من العکس ؟ فإنّه مع مخالفة المضمون للکتاب والسنّة لا یبقی مجال لاحتمال الصدور .

ص:212

4

تحلیل المضمون بحث فی المتشابه

إنّ البحث فی حجّیة الصدور - بعد احتماله - هو بحث فی المتشابه صدوراً فیرجع فی رفع متشابهه إلی ما هو محکم صدوراً ، فإنّ البحث الصدوریّ هو بحث فی درجات الإحتمال ، بینما البحث فی صحّة المضمون هو بحث فی المتشابه معنیً فیرجع إلی المحکم معنیً .

وعلی کلا التقدیرین وکلا القسمین فی المتشابه ، فاللازم فی المتشابه ، إرجاعه إلی المحکم لا معالجته بنحو مبتور عن المحکم ، فلا یعالج مستقلّاً عن المحکم ولا یُحکم به ولا علیه بعیداً عن المحکم . فطرح الروایة الضعیفة صدوراً من دون معالجة مضمونها بتوسّط دلالات المحکمات ، خروج عن القاعدة فی المتشابه .

ولک أن تُسمّی هذا ، أنّ المنهج المنطقیّ والفطریّ فی مسائل العلوم هو البحث عن المسألة فی ضمن مجموع نظام ذلک العلم ومسائله ومجموع قضایاه وأمّا المعالجة التجزیئیّة المنقطعة عن المجموعة ، فهی منهج أبتر لایعقّب الوصول إلی الحقیقة ، وهذا المیزان المنطقیّ من المنهج یُحتِّم معالجة الروایة فی صحّة مضمونها أوّلاً کی یکون تقییماً ووزناً لحجّیة الروایة فی ضمن مجموع نظام الدّین .

هذا فضلاً عن لزوم النظر المجموعیّ فی مجموع طرق الصدور وعدم معالجة السنّة وطریق الروایة بنحو منعزل عن بقیّة الطرق .

ص:213

5

قاعدة حرمة ردّ الأحادیث

إنّه قد ورد جملة من الأحادیث ، قد استفاد منها کلّ من الأُصولیین والأخباریّین حُرمة ردِّ الحدیث الذی لم تتوفّر فیه شرائط حجّیة الصدور ؛ والروایات الدالّة علی ذلک جملة متظافرة من الروایات وینبغی :

أوّلاً : تحلیل هذا الحکم الذی اتّفقوا علیه ، صناعیّاً .

ثمّ ذکر نُبذ من الروایات الدالّة علی ذلک .

وأمّا تحلیل قاعدة حرمة الردِّ للأحادیث المحتملة الصدور ، فهذا الحکم له قیود وموضوع ومحمول ومتعلّق .

فأمّاموضوعه ، فهو الحدیث والخبر الوارد المحتمل للصدور .

وأمّاقیوده ، فهو صحّة مضمون ذلک الحدیث ، أی عدم مخالفته للکتاب والسنّة القطعیّة أو موافقته القریبة للعمومات فیهما .

ومن ذلک یتبیّن أهمّیة صحّة المضمون ، وإنّه یترتّب علی صحّة المضمون بمفردها حکم شرعیّ إلزامیّ وهو حرمة الردِّ . وهذا الحکم درجة من الحجّیة ، إذ معنی المحمول فی هذه القاعدة - وهی حرمة الردِّ - هو عدم الحکم علی مضمونه بالبطلان ، بل التوقّف والتریُّث والتدبُّر والفحص لاستکشاف مطابقة مضمونه مع المحکمات والفحص فی الشُبهات الحکمیّة ؛ ملزم .

ومن ذلک یتجلّی أنّ احتمال الصدور المنضمّ إلی صحّة المضمون أو الذی

ص:214

هو وصف لصحّة المضمون یکون منجِّزاً ملزِماً للفحص وللمراعاة ، وهذا معنی أنّ لصحّة المضمون واحتمال الصدور درجة من الحجّیة وإن لم تکن بمقدار حجّیة الصدور عند توفّر شرائط صحّة الطریق والصدور .

ویتبیّن ذلک بوضوح بالإلتفات إلی ما مرّ من أنّ المضمون الصحیح المحتمل صدوره فی معرض تشکیل قرینة علی مفاد المستخلص من العمومات .

وأمّا متعلّق هذه القاعدة ، فهو الردّ ، والردُّ یقع علی معنیین وبنحوین :

أحدهما بمعنی الحکم ، من البطلان والإنکار لمضمون الروایة .

والثانی بمعنی الإعراض وعدم الاکتراث بالمضمون .

وعلی هذا المعنی الثانی فحرمة الردِّ تقتضی لزوم الإعتناء والإهتمام فی الفحص عن صحّة مضمون الروایة .

وعلی ضوء ذلک یکون للخبر المحتمل صدوره معنیً من الحجّیة یُغایر الحجّیة المصطلحة وینطبق علی معنی حرمة الردّ .

وأمّا الروایات الدالّة علی ذلک ، فنشیر إلی بعض منها :

1 - صحیحة أبی عبیدة الحذّاء ، قال : « سمعت أبا جعفر علیه السلام یقول :

والله إن أحب أصحابی إلی أورعهم و أفقههم و أکتمهم لحدیثنا، و إن أسوأ هم عندی حالا و أمقتهم للذی إذا سمع الحدیث ینسب إلینا و یروی عنا، فلم یقبله ، اشمأز منه و جحده و کفر من دان به و هو لا یدری لعل الحدیث من عندنا خرج و إلینا أسند، فیکون بذلک خارجا من و لا یتنا» (1) .

رواه الکلینی بطریق صحیح فی « الکافی » ، ورواه ابن إدریس فی

ص:215


1- (1) وسائل الشیعة : 27 : 87 ، الباب 8 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 39 .

« المستطرفات » عن کتاب مشیخة الحسن بن محبوب(1) .

ومن البیّن أنّ موردها فی الروایة التی لم تتوفّر علی شرائط حجّیة الصدور وإلّا لما کان الراوی لا یدری أنّها صدرت منهم .

2 - ما رواه الشیخ فی « العدّة » عن الصادق علیه السلام ، أنّه قال : «

إذا نزلت بکم حادثة لا تعلمون حکمها فی ما ورد عنا،فانظروا إلی ما رووه عن علی علیه السلام فاعملوا به » (2) .

3 - وفی روایة « تفسیر العیّاشی » عن سدیر ، قال : « قال أبو جعفر وأبو عبداللّه علیهما السلام :

لا تصدق علینا إلاما و افق کتاب الله و سنته » (3) .

4 - وفی عهد أمیر المؤمنین علیه السلام وکتابه إلی مالک الأشتر ، الذی رواه کلّ من الشیخ والنجاشیّ بطریق معتبر ، قال علیه السلام :

واردد إلی الله و رسوله ما یضلعک من الخطوب ، و یشتبه علیک من الأمور،فقد قال الله سبحانه لقوم أحب إرشادهم :

( یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا أَطِیعُوا اللّهَ وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِی الْأَمْرِ مِنْکُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِی شَیْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَی اللّهِ وَ الرَّسُولِ ) (4) ،

فالراد إلی الله الآخذ بمحکم کتابه ،و الراد إلی الرسول الآخذ بالسنة الجامعة غیر المتفرقة » (5) .

وقوله علیه السلام یُشیر إلی قاعدة علمیّة عامّة فی المعارف الاعتقادیّة وفی استنباط الحکم الشرعیّ من أنّ اللازم فیها تحکیم محکمات الکتاب والسنّة وإنّ أمره تعالی بالردِّ إلی اللّه والرسول هو إشارة إلی هذا المنهج المنطقیّ من أنّ کلّ شیء

ص:216


1- (1) الکافی : 2 : 223 ، الحدیث 7 . مستطرفات السرائر : 591 .
2- (2) وسائل الشیعة : 27 : 91 ، الباب 8 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 47 .
3- (3) وسائل الشیعة : 27 : 123 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 47 .
4- (4) النساء 4 : 59 .
5- (5) وسائل الشیعة : 27 : 121 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 38 .

یکون أقلّ إحکاماً فی الحجّیة والدلالة بالإضافة والقیاس إلی ما هو أشد إحکاماً وإتقاناً ، فاللازم إرجاع الأدنی إلی الأعلی ؛ کما أنّ اللازم تحکیم المحکم علی الأقلّ إحکاماً ، إذ الأقلّ إحکاماً یُعدّ مشتبهاً بالقیاس إلی ما هو أتقن منه .

فالشیء الذی هو حجّة فی نفسه وحجّیته ذات رتبة معیّنة لا یعنی ذلک إطلاق سعة حجّیته ، بل اللازم الأخذُ فی حجّیته شرطیّة موافقته ومطابقته لما هو أمتن حجّیةً منه ، فلا یقتضی اعتبار الحجّیة له إرسالُ حجّیته عن قیدیّة تحکیم الحجج العُلیا علیه ؛ فنظام تسلسل الحجج بذاته یقتضی تحکیم الأعلی علی الأدنی وما هو کالأصل علی ما هو کالفرع .

ومن ثمّ کثُر عند المتقدِّمین فی کتبهم الکلامیّة والفقهیّة کعبائر الشیخ الطوسی فی « الخلاف » و« المبسوط » والسیّد المرتضی فی « الانتصار » وبقیّة رسائله ، واُستاذهم الشیخ المفید وکذا الحلبیّین وابن حمزة وابن إدریس وغیرهم ، التعبیر بأنّ هذا الخبر أشبه بأُصول المذهب وقواعده ، أو أنّ ذاک الخبر مخالف لأُصول المذهب وقواعده أو لضروریّ المذهب أو لما تسالموا علیه أو نحو ذلک ، مع أنّ الموافقة والمخالفة نظریّة مستنبطة ولیست ضروریّة .

وقد کثر هذا التعبیر أیضاً فی کلمات المتأخِّرین فی کُتبهم الکلامیّة والفقهیّة أیضاً کالمحقّق الحلّی والعلّامة والشهیدین والکرکیّ والمقدّس الأردبیلیّ وصاحب المدارک ، والملحوظ فی جملة من الطبقتین أنّ جماعة منهم لا یعملون بالخبر إلّاإذ أولد علماً ، ومع ذلک اشترطوا فی الخبر أن یکون موافقاً لأُصول وقواعد المذهب ، أی موافقاً لمحکمات الکتاب والسنّة النبویّة القطعیّة ولمحکمات سنّة المعصومین علیهم السلام أیضاً .

5 - وفی صحیح جمیل بن درّاج ، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال :

« الوقوف عند

ص:217

الشبهة خیر من الاقتحام فی الهلکة . إن علی کل حق حقیقة ، و علی کل صواب نورا، فما و افق کتاب الله فخذوه ،و ما خالف کتاب الله فدعوه » (1).

6 - وفی روایة « السرائر » عن کتاب مسائل الرجال ، عن علیّ بن محمّد علیه السلام :

« ما علمتم أنه قولنا فالزموه ،و ما لم تعلموا فردوه إلینا» (2) .

7 - وفی روایة جابر عن أبی جعفر علیه السلام :

« انظروا أمرنا و ما جاءکم عنا، فإن وجدتموه من القرآن موافقا فخذوا به ، و إن لم تجدوه موافقا فردوه ،و إن اشتبه الأمر علیکم فقفوا عنده وردوه إلینا حتی نشرح لکم من ذلک ما شرح لنا» (3) .

ص:218


1- (1) وسائل الشیعة : 27 : 119 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 35 .
2- (2) مستطرفات السرائر : 585 . وسائل الشیعة : 27 : 120 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 36 .
3- (3) وسائل الشیعة : 27 : 120 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 37 .

6

مبنی الحجّیة فی خبر الواحد

إنّه قد اختلفت فی مبنی الحجّیة فی خبر الواحد وأبرزُ القولین فی المسألة هو :

1 - حجّیة خبر الموثوق بصدوره والمطمئنّ به .

2 - وحجّیة خبر الثقة .

والمشهور أو الأشهر عند الفقهاء والرجالیین والمتکلّمین هو القول الأوّل ، بل قد شدّد جملة من المتقدّمین کالمفید والمرتضی والطوسیّ النکیر علی حجّیة خبر الواحد لمجرّد کونه ثقة ، واشترطوا فی العمل بالخبر کونه مفیداً للعلم والإطمئنان ، وکذا ابن إدریس والحلبیّین وجملة المتقدّمین ، بل وجملة من المتأخِّرین .

ومرادهم - کما استظهر - لیس هو خصوص العلم بمعنی الیقین ، بل مرادهم هو الظنّ المتاخم للعلم الذی یورِّث الإطمئنان وإنّ کثیراً من الأدلّة التی اقیمت علی حجّیة الخبر هی بلحاظ الوثوق والإطمئنان بالصدور ، بل إنّ توصیف خبر الواحد بخبر الثقة یُراد من هذا الوصف ، الراوی الذی یحصل من کلامه الوثوق والإطمئنان .

ومن الواضح أنّ صرف عدالة الراوی وحُسن سلوکه وصدق لسانه لا یوجب الوثوق بالصدور ، إذ حیثیّة الإشتباه والضبط والقدرة العلمیّة فی التلقّی والاستیعاب وقوّة الحافظة وقوّة البیان ، کلّ هذه الأُمور هی عوامل مؤثّرة

ص:219

للوثوق بالصدور .

فمن ثمّ کان صفات الراوی هی أحد أسباب الوثوق لا تمامها ، وإنّ أسباب الوثوق قد تنتظم فی قوالب معیّنة فَتُضْبَط وتوصف بالحجّیة ، مع أنّ المراد لیس إنّها تمام موضوع الحجّیة ، بل جزؤه وبعض أسباب الوثوق .

وهذا بخلاف جملة من أسباب الوثوق الأُخری التی قد لا تَنضبط فی جامع معیّن لتوصف بالحجّیة لقالبها بالخصوص ، لکنّها تأتلف وتتراکم کیفاً وکمّاً بقانون حساب الإحتمالات فینتج ضریبها الوثوق والاطمئنان ، وقانون تراکم الإحتمالات قاعدة ریاضیّة مسلّمة وإن لم تنضبط مؤدّاها فی امور معیّنة مُقَوْلَبة مُؤطّرة .

وعلی ضوء ذلک یتّضح أنّ صفات الراوی هی أحد أسباب الوثوق ، وبعضها لا تمامها ، وإنّ صحّة المضمون فضلاً عن قوّته هو من الأسباب القویّة جدّاً لتکوّن الإطمئنان بالصدور ، کما أنّ ضعف المضمون ومنافاته لمحکمات الکتاب والسنّة هو من العوامل المهمّة لضعف الوثوق بالصدور .

وإذا اتّضح أنّ المنشأ الأصلیّ والبُنیة الأساسیّة لحجّیة الخبر هی فی الوثوق بالصدور یتبیّن أنّ الوثوق بالصدور فی الخبر فی جملة من المسائل والأبواب الخطیرة ، یتوقّف علی موجبات أقوی کمّاً وکیفاً فی تکوین الوثوق من مجرّد صفات الراوی ، وإنّ ما یُعرف من إطلاق حجّیة خبر الواحد إنّما یُعَوّل علیه فی دائرة محدودة من تفاصیل المسائل ، وأمّا إذا ازدادت المسألة المبحوثة وحکمها خطورةً ، فإنّ ذلک یستلزم موجبات وقرائن الوثوق أکثر متناسبةً من أهمّیة المسألة والحکم .

وتوضیح ذلک :

ص:220

إنّ الحجّیة لابدّ أن تتناسب طرداً مع أهمّیة المورد والمُدّعی ، المراد إثباته بتلک الحجّة ، وذلک لأنّ الحکمة قاضیة ، والبرهان قائم بأنّ إثبات کلّ شیء لابدّ أن یتناسب مع حجم ثبوته ودائرة أهمّیته ؛ إذ لو جُعل الأهمّ ثبوتاً أضعف إحرازاً وجُعل الأقلّ أهمّیة أقوی إحرازاً ، لکان ذلک خلاف الحکمة ، وضرورة الإحراز نابعة من درجة أهمّیة الشیء الذی یُراد إحرازه ، إذ الإحراز طریق للوصول والتحفّظ علی واقع الشیء ، فیشتدّ التحفّظ طرداً لشدّة أهمّیة مایُراد حفظه .

ومن ثمّ یُری أنّ أدلّة التوحید أکثر کمّاً وبیاناً وجلاءً من أدلّة النبوّة والإمامة والمعتنقین التوحید والمدرکین لأدلّته أکثر دائرة من المعتنقین للإیمان بالسفراء الإلهیّین ، أی أتباعهم فی الدائرة البشریّة .

وبمقتضی ذلک ، فإنّ حجّیة الصدور لخبر الواحد بلحاظ صفات الراوی لا تنهض بمجرّدها لإیجاد وتکوین الوثوق بالصدور والإطمئنان فی ما کان فی المسائل ذات الأهمّیة والخطورة الشدیدة أی فلا یُستغنی عن البحث فی صحّة وقوّة المضمون وارتباطه بالمحکمات من الکتاب والسنّة .

ص:221

7

الفرق بین حجّیة الصدور وحجّیة المضمون

إنّ الفرق بین حجّیة الصدور وحجّیة المضمون هو بعینه الفرق بین سنخیْ حیثیّتَیْ بابَیْ علم الاُصول ، أی باب الدلالة الأعمّ من التصوّر والتصدیق من مباحث الألفاظ والحجج ، وباب علم اصول القانون ، فإنّ صحّة المضمون لاسیّما بمعنی الموافقة - لا مجرّد عدم المخالفة - ولو بنحو الوفاق البعید مع اصول التشریع واُسس الأحکام مُؤشِّر علی انحدار المضمون من تلک الاُصول التقنینیّة وبیانٌ علی الارتباط العضویّ بین المضمون وتلک الاُصول ، فهو من البحث فی متن الأحکام الشرعیّة ومنظومتها وترابطها وکیفیّة تفرّعها ، فهو من الدرایة والتفقّه للأحکام بخلاف البحث فی الصدور وشرائط حجّیته ، فهو أقرب ببحث علم الرجال والحدیث ومن ثمّ عدُّوه من مقدّمات علم الفقه والإستنباط .

فالترکیز علی هذا الجانب الثانی ونُضُوب وتضاؤل البحث فی الجانب الأوّل ظاهرة خطیرة فی الفقه وعلوم المعارف الدینیّة ، لأنّه مؤشِّر یُؤذِن بسطحیّة البحث والإعتماد علی سطح الدلالة وهو من انقلاب علم الفقه وعلوم المعارف الدینیّة إلی علم الرجال والدرایة . فالترکیز علی الجانب الثانی وتقلیل الجهد فی الجانب الأوّل هو من التشاغل بالمقدّمات وإغفال ذی المقدّمة والغایة الأصلیّة .

ص:222

8

تفسیر « الحجّیة »

إنّ الحجّیة الشرعیّة التی تبحث فی علم الاُصول والکلام وبقیّة علوم المعارف الدینیّة تختلف عن الحجّیة فی نظام المعرفة البشریّة ، حیث إنّها فی المعرفة البشریّة تأخذ طابع معنی فعل العقل النظریّ أی دلیل الکاشف والإراءة العلمیّة المحضة .

بینما فی المعرفة الدینیّة الحجّة الشرعیّة معنی یندمج فیه کلّ من معنی الحجّیة فی العقل النظریّ والحجّیة فی العقل العملیّ ، وبالأحری المهمّ فیه هی الحجّیة فی العقل العملیّ وهی تبتنی وترتبط بالحجّیة فی العقل النظریّ .

وخاصیّة الحجّیة فی العقل العملیّ لیست فقط الکشف والاستنتاج ، بل التسلیم والإذعان والتصدیق والإنقیاد . فمن ثمّ الحجّیة فی المعرفة الدینیّة وهی الحجّیة الشرعیّة فیها جنبة الإلتزام والإنقیاد والتسلیم والطاعة ، وهذا الذی یخالف بینها وبین الحکمة النظریّة والبرهان الذی یعتمد علی العقل النظریّ ، بخلاف البرهان الذی فی الحکمة العملیّة ، فإنّه یطابق معنی الحجّیة الشرعیّة .

وهو الذی کان معتمداً عند الحکماء وقبل ابن سینا ، حیث خالفهم وسلک مسلک الأشعریّة فی التفرقة بین البابین وعدم الإعتماد علی البرهان الآتی من العقل العملیّ ، وإلی ذلک الإشارة فی قول الصادق علیه السلام فی حدیث :

قلت له : ما العقل ؟

ص:223

قال :

ما عبد به الرحمن و اکتسب به الجنان (1) .

وعلی ضوء ذلک لم یکن الإیمان بتوحید الذات والصفات والأفعال صِرف إدراک ، بل تسلیم وإذعان وتصدیق ، کما فی قول الصادق علیه السلام : «

الإیمان عمل کله » (2) .

حیث إنّ الإذعان والتصدیق من العقل العملیّ فعلٌ له ، وهی عبادة من العقل أیضاً ، فإنّ تفسیر العبادة بالمعرفة فی قوله تعالی : ( وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِیَعْبُدُونِ ) (3) کما جاء فی النصوص(4) واعتمده أکثر المفسِّرین ، یُشیر إلی ذلک من أنّ المعرفة من العقل والروح والقلب ، لیست مجرّد إدراک صرف ، فإنّ تلک لیست معرفة إیمانیّة ، بل فی ما تضمّنت تلک المعرفة والإدراک واستتبعها إیمان وتسلیم وانقیاد وهو مایُعبّر عنه فی المنطق بالحکم فی القضیّة ، واُسس

ص:224


1- (1) الکافی : 1 : 11 ، الحدیث 3 .
2- (2) الکافی : 1 : 35 ، الحدیث 1 .
3- (3) الذاریات 51 : 56 .
4- (4) ما جاء فی النصوص لیس فی ذیل هذه الآیة وکتفسیر لها ، بل الذی عثرنا علیه فی الأخبار هو عَدُّ المعرفة والعلم باللّه تعالی وأمره من أفضل العبادات ، کما روی عن الرضا علیه السلام : « لیس العبادة کثرة الصلاة والصوم، إنَّما العبادة التفکُّر فی أمر اللّه عزّ وجلّ » . الکافی : 2 : 55 . وسائل الشیعة : 15 : 196 . بحار الأنوار : 3 : 261 و : 68 : 322 و : 75 : 335 وما روی عن الصادق علیه السلام : « أفضل العبادة إدمان التفکّر فی اللّه وفی قدرته » . الکافی : 2 : 55 . وسائل الشیعة : 15 : 196 . وما روی عن الصادق علیه السلام : « أفضل العبادة العلم باللّه والتواضع له » . بحار الأنوار : 1 : 215 و : 75 : 247 . مستدرک الوسائل : 11 : 300 . وما روی عن موسی بن جعفر علیه السلام : « أفضل العبادة بعد المعرفة انتظار الفرج » . بحار الأنوار : 75 : 326 ، وهی کافیة فی المدّعی . ( المقرّر )

العبادة هی الطاعة والخضوع ، فإذا انقاد وسلّم العقل وصدّق فقد خضع وأطاع وعَبَد .

فإذا تبیّن ذلک یُعلم أنّ الإکتفاء فی تفسیر الحجّیة فی علم الاُصول والکلام بالکاشف ، تفسیر ناقص مبتور ، بل لابدّ أن یتضمّن معنی التسلیم والإنقیاد والطاعة . ولأجل ذلک لا تکون حجّیة الصدور هی تمام معنی الحجّیة ؛ لأنّ حجّیة الصدور هی تمام حقیقةِ حجّیة قول الراوی ، وهی متمحّضة فی جانب وجهة الکشف والإراءة المحضة .

ومن ثمّ فإنّ التنجیز والتعذیر - وهما استحقاق العقوبة والمثوبة - لا یترتّب علیها مباشرة ، لأنّه لا مولویّة حقیقةً لحجّیة قول الراوی ، وإنّما المولویّة هی لقول المعصوم وحجّیته لولایته - التی هی فی طول ولایة اللّه ورسوله - .

فحجّیة قول الراوی الثقة بمثابة مقدّمات الاستدلال من الصغری والکبری ، أی الحجّیة النظریّة ، وأمّا حجّیة قول المعصوم فهی بمنزلة الحکم والتصدیق بالنتیجة ، أی الحجّیة فی العقل العملیّ .

فحجّیة قول الراوی منزّلة من باب العقل النظریّ والإراءة والکشف والإدراک وأمّا حجّیة قول المعصوم فهی من حجّیة قول اللّه ورسوله وهی حجّیة من باب العقل العملیّ ، أی التی فیها تصدیق وطاعة وإذعان وإنقیاد .

فمن ثمّ مَن یُشبِّه حجّیةَ قول المعصومین بحجّیة قول الرواة وبأنّهم رواة ، یتضمّن ذلک إنکار ولایتهم ومولویّتهم ، ومن الغریب تفسیر حدیث الثقلین ومرجعیّة الأئمّة فی مفاده بأنّهم مجرّد مبیِّنین للأحکام ، والحال أنّ مفاده فی صدد إمامتهم وولایتهم ، إذ التمسّک بهم لیس مجرّد استرشاد ، بل اتّباع وانقیاد أیضاً ومن باب الطاعة لهم واستحقاق العقوبة علی مخالفتهم لا مجرّد البیان والتبیین .

ص:225

فحجّیتهم من باب : (أَطِیعُوا اللّهَ وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِی الْأَمْرِ مِنْکُمْ ) (1) لا مجرّد من قبیل : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّکْرِ إِنْ کُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (2) .

وکذا یُشیر إلی ذلک قوله تعالی : (إِنَّما وَلِیُّکُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِینَ آمَنُوا الَّذِینَ یُقِیمُونَ الصَّلاةَ وَ یُؤْتُونَ الزَّکاةَ وَ هُمْ راکِعُونَ ) (3) ، وغیرها من آیات الولایة .

ومن ثمّ ورد التأکید فی الروایات المستفیضة علی لزوم التسلیم لروایاتهم ، کما رواه الصدوق فی « کمال الدین » ، عن علیّ بن الحسین علیه السلام : «

إن دین الله عز و جل لا یصاب بالعقول الناقصة ، و الآراء الباطلة ، و المقاییأس الفاسدة ،ولا یصاب إلا بالتسلیم . فمن سلم لنا سلم ، و من اقتدی بنا هدی، و من کان یعمل بالقیاس و الرأی هلک ، و من وجد فی نفسه شیئا مما نقوله أو نقضی به حرجا کفر بالذی أنزل السبع المثانی و القرآن العظیم و هو لا یعلم » (4) .

وورد فی معتبرة المیثمی عن الرضا علیه السلام ، وفیها :

« لأن رسول الله لم یکن لیحرم ما أحل الله ، و لا لیحلل ما حرم الله ، و لا لیغیر فرائض الله و أحکامه . کان فی ذلک کله متبعا مسلما مؤدیا عن الله و ذلک قول الله : ( إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّ ما یُوحی إِلَیَّ ) (5)

فکان علیه السلام متبعا لله ، مؤدیا عن الله ما أمره به من تبلیغ الرسالة . . کذلک قد نهی رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم عن أشیاء . . .

لأنا لا نرخص فی ما لم یرخص فیه رسول الله و لا نأمر بخلاف ما أمر به رسول الله إلا لعلة خوف ضرورة، فأما أن نستحل ما حرم رسول الله أو نحرم ما حلائل رسول الله

ص:226


1- (1) النساء 4 : 59 .
2- (2) النحل 16 : 43 . الأنبیاء 21 : 7 .
3- (3) المائدة 5 : 55 .
4- (4) کمال الدین : 324 ، الحدیث 9 .
5- (5) الأنعام 6 : 50 . یونس 10 : 15 . الأحقاف 46 : 9 .

فلا یکون ذلک أبدا، لأنا تابعون لرسول الله ،مسلمون له کما کان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم تابعا لأمر ربه مسلما له ، و قال الله عز و جل : ( وَ ما آتاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاکُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) (1) .

إذا ورد علیکم عنا الخبر . . و کان الخبران صحیحین . . یجب الأخذ بأحدهما أو بهما جمیعا أو بأیهما شئت و أحببت ، موسع ذلک لک من باب التسلیم لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و الرد إلیه و إلینا، و کان تارک ذلک من باب العناد و الإنکار و ترک التسلیم لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم مشرکا بالله العظیم (2) .

وفی معتبرة الحسین بن خالد عن الرضا علیه السلام ، قال :

« شیعتنا المسلمون لأمرنا، الآخذون بقولنا ، المخالفون لأعدا انا ، فمن لم یکن کذلک فلیس منا » (3) .

وفی موثقة الحسن بن الجهم ، قال : « قلت للعبد الصالح : هل یسعنا فی ما ورد علینا منکم إلّاالتسلیم لکم ؟

فقال :

لا و الله ، لا یسعکم إلاالتسلیم لنا» (4) .

وفی مکاتبة الحمیری إلی صاحب الزمان علیه السلام فی الخبرین المتعارضین :

« وبأیهما أخذت من باب التسلیم کان صوابا » (5) .

وقد رواها الشیخ بسند معتبر فی « الغیبة »(6) .

وفی روایة حجّاج بن الصباح ، قال : « قلت لأبی جعفر علیه السلام : إنّا نحدّث عنک

ص:227


1- (1) الحشر 59 : 7 .
2- (2) وسائل الشیعة : 27 : 113 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 21 .
3- (3) وسائل الشیعة : 27 : 117 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 25 .
4- (4) وسائل الشیعة : 27 : 118 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 31 .
5- (5) وسائل الشیعة : 27 : 121 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 39 .
6- (6) الغیبة : 232 .

بالحدیث ، فیقول بعضنا : قولنا قولهم .

قال :

فما ترید ؟ أترید أن تکون إماما یقتدی بک ؟ ! من رد القول إلینا فقد سلم » (1) .

وعن عمیرة عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال :

« أمر الناس بمعرفتنا و الرد إلینا و التسلیم لنا .

ثمّ قال :

وإن صاموا و صلوا و شهدوا أن لا إله إلا الله و جعلوا فی أنفسهم أن لا یردوا إلینا کانوا بذلک مشرکین » (2)

وفی موثق سدیر عن أبی جعفر علیه السلام قال فی حدیث :

« إنما کلف الناس ثلاثة :

معرفة الأئمة و التسلیم لهم فی ما ورد علیهم و الرد إلیهم فی ما اختلفوا فیه » (3) .

وفی صحیح ابن اذینة ، عن غیر واحد ، عن أحدهما علیهما السلام ، قال :

« لا یکون العبد مؤمنا حتی یعرف الله و رسوله و الأئمة علیهم السلام کلهم و إمام زمانه و یرد إلیه و یسلم له » (4) .

وغیرها من الروایات الکثیرة فی تلک الأبواب .

ص:228


1- (1) وسائل الشیعة : 27 : 130 ، الباب 10 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 19 .
2- (2) وسائل الشیعة : 27 : 68 ، الباب 7 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 19 .
3- (3) وسائل الشیعة : 27 : 67 ، الباب 7 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 14 .
4- (4) وسائل الشیعة : 27 : 64 ، الباب المتقدّم ، الحدیث 6 .

9

ثمرات التحلیل المضمونی

إنّ من ثمرات البحث فی المضمون وإثبات صحّته بغضّ النظر عن صحّة الصدور هو أنّ المضمون یُحدث تصوّراً واحتمالاً فی ذهن الباحث لم یکن لیتوصّل إلیه لولا ورود هذا المضمون . والتصوّر کما سیأتی له درجة من الحجّیة لا بمعنی الحجّیة التصدیقیّة المعهودة بل بمعنی أنّ اکتشاف الوسط البرهانیّ إنّما یَتمّ بتوسّط باب التعریفات والحدود .

والحدودُ والتعریفات وإن کانتا حقائق الأشیاء بعد أن تُقرّر أو یُبرهن علی وجودها ، ولکن تعریف الأشیاء ولو فی مرتبة شرح الإسم أو ما الشارحة تُزیل الجهل المرکّب وتوجد وتُحدِثُ أوّل درجة من العلم وهو التصوّر وتمهِّد الطریق إلی البرهان الاستدلالیّ بالإلفات إلی إدراک وتصوّر الوسط الذی یقوم علیه البرهان .

بل إنّ هناک ثمرة أکبر لصحّة المضمون وهو الإقتراب من الاستدلال بالعمومات واُصول التشریع واُصول الحکم الشرعی ؛ فإنّ عمومات محکمات الکتاب والسنّة القطعیّة هی من اصول التشریع العامّة وهو ما یُعبّر عنه بالأدلّة الإجمالیّة فی التشریع . واستفادةُ تفاصیل التشریع وتفریعاته لا یتمکّن منهما إلّا المعصوم حیث یرشد إلی کیفیّة تفرّع وتولّد تفاصیل الأحکام وتنزّلها من تلک الاُصول .

ص:229

فبعد وقوف الباحث المستنبط عن المعارف أو الأحکام الشرعیّة علی صحّة المضمون ، یتمکّن بعد التدبّر فی المضمون من استنباطه من الأصل التشریعیّ الفوقانیّ ، حیث أنّ فی کثیر من الموارد التی یقرّر فیها صحّة المضمون ، تتضمّن تلک المضامین فی الغالب الإشارة إلی الوجوه والشواهد الدالّة علی کیفیّة انتزاع التفصیل من أدلّة اصول التشریع والمعارف .

نعم ، غایة الأمر لا یتمّ ذلک إلّابالتدبّر الصناعیّ والعارضة الفقهیّة أو التضلُّع فی بحوث المعارف ، ومن ثمّ یتنبّه إلی أنّ البحث فی مضامین الروایات وصحّتها متضمّن لوجود علم إجمالیّ بوجود مقدّمات الاستدلال واستنباط المعارف والأحکام فیها ، وهذا العلم الإجمالیّ ملزم بالفحص والتمعّن والتدبّر فی مضامین الروایات وإن کانت من جهة الصدور ضعافاً لاسیّما بعد تقریر صحّة مضمونها .

والغریب - ولا ینتهی العَجَب - ممّن یُقیم الوزن ویکترث بأقوال الفقهاء أو بأقوال الحکماء فی المعارف بغیة الوقوف والوصول إلی مقدّمات الاستدلال وموادّه ومعطیاته فی خضمِّ أقوالهم ، فیری لنفسه الفحص فی تلک الأقوال ملزماً له لصواب الاستنتاج ، وهذا الأمر وإن کان صحیحاً منطقیّاً ، لأنّ أعقل الناس من جمع عقول الناس إلی عقله وأعلم الناس من جمع علوم الناس إلی علمه ، إلّاأنّ الکلام هو أنّه :

کیف یُسوّغ جماعة لأنفسهم الإقرار بهذا النهج صناعیّاً فی حین أنّهم ینادون - وبإصرار - علی عدم الإکتراث بالروایات الضعیفة والإعراض عنها وعدم الوقوف وإطالة المکث فی التدبّر فی مضامینها ، بل یزیدون فی الطنبور نغمة وفی الطّین بلّة بدعوة تصفیة کُتُب الحدیث عن الروایات الضعیفة ، وهذه الدعوة الأخیرة تنطوی علی محاذیر مَهُولة وتهریج صناعیّ کبیر ستأتی الإشارة إلیها فی المقام

ص:230

الثانی إلّاأنّ اللازم فی المقام الإشارة إلی هذه الغفلة أو التغافل العمدیّ من الجهة الصناعیّة .

حیث أنّ صحّة مضامین الروایات - کما مرّ - فیها من الشواهد علی استنباط التفاصیل من الاُصول التشریعیّة بنحو لا تصل إلیه العقول ولا أفهام ذوی الألباب ؛ إذ المضمون الذی یبیّنه ویبرزه المعصوم وإن لم یصل إلینا بطریق صحیح إلّاأنّه - بعد تَوَشُّحِهِ لموافقة الکتاب والسنّة القطعیّة ولَمْحِهِ بعلائم الحقیقة فی المضمون وأنوار الصواب فی المعنی لوجود أنحاء التناسب القواعدیّ فی المدلول والمعنیّ مع محکمات الکتاب والسنّة - لا یقاس بمحاولة الفقهاء أو الحکماء وجهودهم فی الوصول إلی الاستنتاج والنتیجة .

فالتدافع والعَجَب لا ینقضی بین هذین القولین من قائل واحدٍ ، وهذا بعد التسلیم بعصمة أئمّة أهل البیت علیهم السلام وإنّ علمهم لدُنّیّ إحاطیّ ولیس فی هذا المنهج - وهو البحث فی صحّة المضمون فی جملة الروایات والتمعّن والتدبّر فیه والعنایة بدراسة المضمون بنحو مُرَکّز وعدم الإقتصار علی شرائط الصدور - دعوة إلی السطحیّة فی الاستدلال أو إلی مسلک الحشویّة فی التمسّک بالحدیث ، بل هذا المنهج أقرب إلی العمق منه إلی السطحیّة وأقرب إلی الصناعة والبرهان منه إلی الحشویّة .

وذلک لأنّه یدعو إلی البحث فی القواعد والاُصول والتناسب الاستدلالیّ فی ما بینها وبین التفاصیل ، ممّا یتوقّف علی ملکة علمیة وتضلّع یستلزم الإحاطة بمنظومة ومجموعة القواعد واُصول التشریع واُسس العمومات الفوقانیّة وطبقاتها ودرجاتها مبتنیاً فی تقریر المناسبات علی دلالات برهانیّة لا ذوقیّة اقتراحیّة ممّا یتطلّب عارضة فقهیّة متینة ، وتضلّع ومهارة فی أبواب المعرفة ، وبصیرة

ص:231

بمرام الأدلّة .

ومن ثمّ کان هذا المنهج أکثر جُهداً فی إعمال الصناعة والاستدلال من المنهج الذی یجعل من بحث الصدور وشرائطه هو العمدة فی تقریر الحجّیة فی الاستدلال .

ص:232

10

طرق استعلام صحّة المضمون

إنّ استعلام صحّة المضمون تتوقّف علی ملکة علمیّة مُلِمّة بالفقه فی أحکام الفروع ومُلِمّة بالمعارف فی المسائل الاعتقادیّة ، وهذا بخلاف استعلام صحّة الصدور ، فإنّه یتوقّف علی الإلمام بعلم الرجال وکُتُب الحدیث والدرایة ، إلّاأنّ الفارق لا یقف عند هذا الحدّ فقط .

بل إنّ صحّة المضمون لیس یکفی فیها مجرّد الفقاهة والمهارة فی المعارف ، بل تتوقّف علی إحاطة بالأبواب والتفات إلی امّهات القواعد والاُصول المنحدرة عنها وکیفیّة تشعّبها والالتفات إلی المناسبات فی ما بینها القائمة علی روابط صناعیّة وضوابط قواعدیّة .

وهذا ما أشار إلیه جملة من الفقهاء من صعوبة تشخیص ما وافق کتاب اللّه والسنّة القطعیّة عمّا خالفهما ؛ وذلک لأنّ هذه الموافقة لیست علی نحو الإنطباق والتفصیل ، بل هو من التوافق الذی لا یستنبط إلّابالتحلیل والتبیین العمیق الدقیق لمؤدّی کلّ من الأصل التشریعیّ ومراتب الاُصول الأُخری النازلة ومفاد المضمون للخبر الخاصّ ، ونظیر هذه الصعوبة لاقاها الفقهاء فی معرفة الشرط فی العقود ، المخالف للکتاب والسنّة عمّا هو موافق لهما ، وکذا البحث فی النذر وأخویه والصلح الموافق لهما عمّا هو مخالف لهما .

وبعبارة اخری : إنّ تحکیم المحکمات من الکتاب والسنّة علی مجموع

ص:233

تفاصیل التشریع ، یعنی ویقتضی أنّ هناک مجموع نظام واحد یهیمن علیه مراتب اصول التشریع وهذه الهیمنة والتحکیم توجد رابطة مؤلِّفة لمجموع التشریعات والأحکام وهذا النظام المتّسق لیس خاصّاً بالأحکام فی الفروع ، بل وحدة النظام والترابط حاکمة فی باب المعارف أیضاً ؛ فإنّ لأُصول العقیدة والمعارف ارتباطاً مع تفصیل المسائل الاعتقادیّة .

ومن ثمّ کان الأمر بالعرض علی الکتاب والسنّة ( أی عرض الأخبار علی محکمات الکتاب والسنّة ) لیس خاصّاً بالروایات الواردة فی أحکام الفروع ، بل شامل للروایات الواردة فی المعارف أیضاً .

والإحاطة بضوابط هذه القواعد الحاکمة علی مراتب الأحکام ومدارجها المنحدرة والمنشعبة من اصول التشریع أو اصول المعارف لا یُحیط بها بنحو التمام إلّاالمعصوم ، إلّاأنّ غیره یتمکّن من استکشاف جملة منها ، وما لا یُدرک کلّه لا یُترک کلّه بعد أن کان المقدار المتوصّل إلیه منها هو علی طبق القواعد والموازین .

وبعد درایة هذه النقاط العشر نلقی الضوء علی زوایا اخری من تلک القاعدة فی ثلاثة مقامات :

المقام الأوّل : الوجوه الدالّة علی لزوم مراعاة حال المضمون مقدّماً علی الصدور .

المقام الثانی : فی بیان تأثیر رُکنیّة المضمون علی دائرة الحجّیة .

المقام الثالث : فی بیان ضوابط العرض علی الکتاب والسُّنّة .

ص:234

المقام الأوّل :تقدّم صحّة المضمون علی حجّیة الصدورورُکنیّة المضمون وفرعیّة حجّیة الصدور ،والوجوه الدالّة علی لزوم مراعاة حال المضمون مقدّماً علی الصدور

الوجه الأوّل إنّ البحث فی المضمون بمثابة البحث فی الثبوت ، والبحث عن الصدور بمثابة البحث عن الإثبات ، ولا ریب فی تقدُّم مرتبة الثبوت علی الإثبات .

ویُصاغ هذا الوجه ببیان آخر ، وهو :

إنّ البحث عن الإمکان مقدّم علی البحث عن الوقوع والفعلیّة ، إذ لوامتنع المضمون لأوجب محالیّة التصدیق بالصدور ، فإمکان المضمون بمنزلة الموضوع لحجّیة الصدور ، فکیف یبحث فی المحمول من دون إحراز الموضوع ؟

ویُصاغ ببیان ثالث أیضاً ، وهو :

إنّ التصوّر مقدّم علی التصدیق ، کما قُرّر فی المنطق أنّ مطلب «ما» مقدّم علی مطلب «هل» ، إذ تَعقُّل التصوّر وتقرّر ذات الشیء مقدّم علی الإذعان به کتقدُّم الموضوع علی المحمول وتقدُّم المعروض علی العرض وتقدُّم الأجزاء الذاتیّة علی المرکّب .

ص:235

الوجه الثانی

إنّ للتصوّر مرتبة من الحجّیة وهی مقدمّة علی حجّیة التصدیق ، حیث أنّ أجزاء الحدّ لتعریف الشیء وتصوّره هی التی تقع أوساطاً فی أقیسة البرهان ، فالبرهان متقوّم تماماً بالحدود ، کما قُرّر ذلک فی علم المنطق .

فتقرّر الحدّ والتعریف للشیء هو بنفسه نمط من الثبوت والتصدیق . فالتصوّر فی الحقیقة تصدیق مَطْویّ بنحو إجمالیّ إندماجیّ ، والتصدیق إذعان بنحو تفصیلیّ منبسط ، فتقرّر أجزاء الحدّ وثبوتهاللمحدود - وهو الشیء - أمر بالغ الأهمّیة ومقدّم رتبة علی البحث عن وجود الشیء ووقوعه .

وعلی ضوء ذلک فإنّ تصوّر المضمون له مرتبة من الحجّیة مقدّماً علی حجّیة الصدور ، وهذا البحث وإن لم یتوسّع فیه فی علم الاُصول بالمقدار اللازم إلّاأنّه من الضوابط الصناعیّة البالغة فی الأهمّیة .

الوجه الثالث

ما ورد فی جملة من الروایات المستفیضة من عرض الحدیث الوارد عنهم علی الکتاب والسنّة ، فما وافق منه الکتاب والسنّة الثابتة القطعیّة اخذ ، وما خالَفهما طُرح . وهذه الروایات لیست فی مقام تعارض الروایات وإنّما تشترط فی صحّة الحدیث ذلک ابتداء(1) .

کموثّقة السکونیّ عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال :

« قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم:إن علی کل حق حقیقة ، و علی کل صواب نورا ، فما و افق کتاب الله فخذوه ، و ما خالف کتاب

ص:236


1- (1) وإن وردت طائفة اخری بهذا اللسان فی مورد التعارض .

الله فدعوه » (1) .

وفی صحیح هشام بن الحکم ، عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال :

« خطب النبی صلی الله علیه و آله و سلم بمنی فقال : أیها الناس ، ما جاءکم عنی یوافق کتاب الله فأنا قلته ، و ما جاءکم یخالف کتاب الله فلم أقله » (2) .

وفی صحیح أیّوب بن الحُرّ ، قال : « سمعت أبا عبداللّه علیه السلام یقول :

کل شیء مردود إلی الکتاب و السنة ، و کل حدیث لا یوافق کتاب الله فهو زخرف» (3) .

ومثلها صحیح جمیل بن درّاج(4) وغیرها من الروایات .

بل إنّ الطائفة الأُخری من الروایات الواردة فی مورد التعارض ، جملة منها لیست فی صدد الترجیح ، بل فی صدد تمییز الحجّة عن اللاحجّة وإنّ الخبر الذی یُخالف الکتاب والسنّة لیس واجداً لشرائط الحجّیة وقد أحصی صاحب « الوسائل » فی ذلک الباب ما یقرب من خمسین حدیثاً .

ویتحصّل من هذه الروایات اشتراط صحّة المضمون فی حجّیة الخبر وإنّ من شرائط حجّیة الخبر صحّة المضمون ، ومن الواضح أنّ هذا الشرط فی الحجّیة بمثابة الموضوع لحجّیة الصدور والطریق ، وإنّ حجّیة الصدور لا ثمرة لها من دون صحّةِ المضمون ، وصحّةُ المضمون کما تقدّم إنّما تُحرز وتُقرّر بمحکمات الکتاب والسنّة لا بالرأی والأقیسة الظنّیة والظنون الأُخری والذوق .

ثمّ إنّ الصحّة لها مرتبتان : فمرتبة منها هی بمعنی عدم المخالفة مع الکتاب

ص:237


1- (1) وسائل الشیعة : 27 : 110 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 10 .
2- (2) وسائل الشیعة : 27 : 111 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 15 .
3- (3) المصدر المتقدّم : الحدیث 14 .
4- (4) وسائل الشیعة : 27 : 119 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 35 .

والسنّة ، سواء بنحو المباینة أم بنحو العموم والخصوص من وجه ، کما هو الحال فی بحث الشروط فی العقود وعقد الصلح والنذر ؛ وهذه المرتبة تُعرف بالموافقة بالمعنی الأعمّ ، حیث قد ورد فی لسان دلیل هذا الشرط کلٌّ من عنوان : « ما خالف الکتاب والسنّة فهو ردّ » وعنوان : « ما وافق الکتاب والسنّة فخذه » .

والمرتبة الثانیة هی الموافقة بالمعنی الأخصّ ، حیث یکون فی الکتاب والسنّة شاهد یوافق مضمون الخبر ولو من قبیل موافقة الأصل للفرع أو جنس الأجناس للنوع البعید .

ففی بعض الروایات الواردة علی هذا الشرط :

« ما جاءکم عنی یوافق کتاب الله فأنا قلته » (1) .

وفی بعضها :

« فما و افق کتاب الله فخذوه » (2) .

وفی بعضها :

« ما جاءک عنا فقس علی کتاب الله عز و جل و أحادیثنا،فإن کان یشبههما فهو منا» (3).أو :

« فهو حق » (4)

وفی بعضها :

« لا تصدق علینا إلافی ما و افق الکتاب و سنة نبیه » (5) .

وفی جملة من هذه الروایات الصحاح والمعتبرة .

والمراد بالأخذ فیها وإن لم یکن بمعنی إغفال بقیّة الشرائط ، بل الأخذ بها مع توفّر بقیة الشرائط إلّاأنّ مشابهة المضمون لمفاد الکتاب والسنّة ولو بنحو العموم

ص:238


1- (1) وسائل الشیعة : 27 : 111 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 15 .
2- (2) وسائل الشیعة : الباب 9 : 15 و : 10 ، 29 ، 35 ، 37 من أبواب صفات القاضی .
3- (3) وسائل الشیعة : 27 : 121 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 40 .
4- (4) وسائل الشیعة : 27 : 124 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 48 .
5- (5) وسائل الشیعة : 27 : 123 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 47 .

یکون بمثابة القرینة من قرائن الوثوق بالصدور .

الوجه الرابع

توقّف الجرح والتعدیل علی المضمون ، وبالتالی توقّف صغری شرائط حجّیة الصدور علی المضمون . وقد یبدو هذا التوقّف فی الوهلة الأُولی أنّه من الدور المحال .

ولکنّ الحقیقة أنّه لا دور فی البین ، فإنّ حجّیة الصدور وصغراه متوقّف علی ثبوت المضمون ولو بنحو الإحتمال وإن لم یکن بدرجة التصدیق والذی یتوقّف علی حجّیة الصدور هو ثبوت المضمون بدرجة الثبوت التصدیقیّ ومن ثمّ مرّ أنّ صحّة المضمون شرط فی موضوع حجّیة الصدور .

أمّا بیان کیفیّة توقّف شرائط حجّیة الصدور علی المضمون وصحّته فقد بنی عُلماء الرجال فی شرح أحوال الرواة علی معرفة الراوی بتوسّط مضامین الروایات التی یرویها ، فإنّها تکون بمنزلة العلامة والمؤشِّر علی اتّجاه الراوی فی العقیدة والمدرسة الکلامیّة التی ینتمی إلیها . وقد یکون هذا الاستعلام حتّی فی المضامین التی تتعرّض للفروع الفقهیّة ، فإنّ معالم الإنتماء تستظهر من کلّ من الفروع والمسائل الاعتقادیّة .

ومن ثمّ کان المضمون بمثابة صغری منطبعة عن شخصیّة الراوی ، فتراهم یعبِّرون فی ترجمة الراوی أنّه نقیّ الحدیث ، أو أنّ حدیثه یُعرَف ویُنکَر ، أو أنّه فیه تخلیط وغُلوّ ، أو أنّه یحتمل الحدیث الغریب ، أو أنّ حدیثه شاذّ ، أو أنّ حدیثه معروف أی أنّ مضامینه واردة فی طُرق اخری ، أو حدیثه مُنکَر ، وغیرها من أوصاف مضمون الأحادیث ؛ فیقرّروها أوصافاً للراوی نفسه للعلاقة الوثیقة بین المضمون وصفات الراوی ، بل إنّ أوصاف المضمون هی من عمدة القرائن

ص:239

وأمتنها فی تحدید اعتبار شخصیّة الراوی ، ومن ذلک یظهر أنّ صحّة المضمون مؤثِّرة ومتقدّمة علی الجرح والتعدیل فضلاً عن حجّیة الصدور .

ومن ذلک ینجلی أمر هامّ بالغ الأهمّیة وهو أنّ تحدید المبانی الکلامیّة بالغ التأثیر علی قول الرجالیّ وأرباب الجرح والتعدیل ، کما أنّ له تأثیراً فی فتح باب العلم والاجتهاد فی علم الرجال ، وسیأتی توضیحه فی المقام الثانی .

الوجه الخامس

ما ذکره غیر واحد من الأُصولیین من تقدیم المرجّح الدلالیّ والمضمونیّ عند التعارض علی المرجّح فی الصدور وجهة الصدور ، کما ذهب إلیه الشیخ الأنصاری فی « الرسائل » وإن خالفه المیرزا حبیب اللّه الرشتی ، فذهب إلی تقدیم الجهتیّ علی کلّ من المضمون وحجّیة الصدور ، وهو علی أیِّ تقدیر یصبُّ فی المضمون أیضاً .

فتقدیم المضمون هو الظاهر من المشهور ، کما هو ظاهر الأخبار العلاجیّة للترجیح ، بل وما ذکروه قاطبتهم من تقدیم الجمع العُرفیّ علی الترجیح بأقسامه .

وهذا الترتیب وإن ذکروه فی مقام التعارض والترجیح ، إلّاأنّ الترجیح فی الواقع یرجع إلی توفّر شرائط الحجّیة فی الخبر الراجح ولو بامتیازٍ اشتُرط فی حالة مُعیّنة وهی التعارض .

الوجه السادس

إنّ حجّیة الصدور لمّا کانت جزء من أجزاء مجموع حجّیة خبر الواحد ، وحجّیةُ خبر الواحد هی حجّیة الظنّ واعتباره ؛ فهی من جهة الرتبة متأخّرة عن الحجج القطعیّة ، وبالتالی فإنّ حجّیة الظنّ - ومنها خبر الواحد - متفرّعة علی

ص:240

الحجج القطعیّة ومأخوذ فیها لحاظ الحجج القطعیّة . فهی بمثابة موضوع الموضوع أو من قیوده .

وهذا ما قد یُعبّر عنه بأنّ الحجج الظنّیّة فی ظلّ الحجج القطعیّة وأنّ الحجج القطعیّة لها الإشراف علی الحجج الظنّیّة والهیمنة ؛ وهی بمثابة الأُسس والاُصول القانونیّة لها ، نظیر تفرُّع المسائل النظریّة علی القضایا البدیهیّة ، أی من عرض النظریّ علی البدیهیّ .

وهذا ما یُعبّر عنه من ردّ المتشابه للمحکم وهیمنة المحکم علی المتشابه ولیس المراد من المتشابه ما یکون متشابهاً فی نفسه ، بل المراد ما یکون متشابهاً بالقیاس إلی ما هو أمتن منه دلیلاً وأحکم منه استدلالاً ، لأنّ الذی یضبط النظریّ هو البدیهیّ ، والذی یزنُ المتشابه هو المحکم .

وهذه ضابطة وقاعدة منطقیّة تُراعی فی الاستنتاج فی کلِّ العلوم . وعلی ضوء ذلک فلا محالة توزن الحجّیة الظنّیّة من الحجج القطعیّة وإنّه من ردّ المتشابه إلی المحکم والبحث فی صحّة المضمون هو بحث فی مفاد مضمون الخبر بعرضه علی محکمات الکتاب والسنّة القطعیّة الثابتة ، ولا ریب فی لزوم ملاءمة مضمون الخبر الظنّیّ للمحکمات ولو بمعنی عدم مخالفته لها ؛ لأنّه مع فرض المخالفة یختلّ إمکان حجّیة الظنّ ، بخلاف ما إذا لم یخالف أو کانت هناک ملاءمة قریبة وتَناسبٌ فی المضمون .

وبذلک یتّضح أنّ حجّیة الصدور لیست هی تمام مدار الحجّیة ، بل ویظهر أنّ صحّة المضمون هو الرکن الرکین فی الحجّیة وإنّ البحث فی صحّة المضمون هو ردّ المتشابه إلی المحکم الذی هو قاعدة ضروریّة فی العمل بالأدلّة الشرعیّة .

فإغفالها وعدم مراعاة العمل بها علی الدوام یکون من التأکید علی الجهة الأضعف

ص:241

من الحجّیة وترک الجهة الأقوی ، کما یظهر من ذلک إمکان الإستعاضة عن حجّیة الصدور بقرائن فی المضمون وشواهد تورث الوثوق بالصدور .

الوجه السابع

إنّ حجّیة المضمون هی غایة حجّیة الصدور ، فمَع امتناع حجّیة المضمون لا إمکان لحجّیة الصدور ؛ لأنّه لا ثمرة لها . فحجّیة المضمون وإن کانت مؤخّرة إثباتاً إلّاأنّها مقدّمة ثبوتاً ، نظیر تأخُّر المدلول الجدّی إثباتاً ، وتقدّمه ثبوتاً .

ص:242

المقام الثانی :فی بیان تأثیر رُکنیّة المضمون علی دائرة الحجّیّة الثمرة الاُولی

اشارة

إنّ من الآثار المهمّة لدراسة المضمون ودرایته والبناء علی رُکنیّة صحّة المضمون فی حجّیة الخبر هو التأثیر علی الحکم باعتبار الأخبار وعدمها بنحو یکون السهم الأوفر للتأثیر ، فاعتبار الخبر أو إسقاطه عن الاعتبار هو للمضمون .

وذلک بعد أن اتّضح أنّ صحّة المضمون شرط فی موضوع حجّیة الصدور .

وعلی ضوء ذلک فتحدید المحکم والقواعد الدینیّة التی تُعدّ من المحکم سواء فی المسائل الاعتقادیّة أم فی المسائل الفرعیّة أمر بالغ التأثیر فی تحدید المیزان الذی یوزن به صحّة المدلول .

ومن ثمّ تختلف الأنظار فی صحّة المضمون وفساده وأنّه مستقیم أو منکر ، شاذّ أو مألوف ، غُلوّ أو تحقیق .

فمن الغریب ما یُشاهد فی الآونة الأخیرة من بعض المؤلّفات والکُتُب التی تجعل المدار فی اعتبار الروایات علی نوعیّة السند وصفته ، وتغفل جانب المضمون تماماً ، بل تنادی بإسقاط ما لا اعتبار بصدورهاعن کُتُب الحدیث والدعوة إلی إجراء تغییرات فی الکُتُب الحدیثیّة واستبدالها بمثل الصحیح من الکافی أو مشرعة بحار الأنوار ، وهذه الدعوة فیها جملة من الغَفَلات الخطیرة علی التراث بدرجة بالغة الحساسیّة ، ویُسجّل علیها جملة من النقاط :

ص:243

1 - وهی العمدة ، أنّه اعتمد علی محوریّة ورُکنیّة حجّیة الصدور وأغفل البحث فی صحّة المضمون ، مع أنّه ما هو رکن فی الحجّیة هو صحّة المضمون ، کما مرّ ، وحجّیة الصدور لیست إلّابمثابة أحد أجزاء الحجّیة الممکن الاستعاضة عنها بقرائن توثِّق الصدور .

2 - إنّ الجرح والتعدیل فی الرجال لا تقلید فیه عند المحقّقین ، بل اللازم فیه فتح باب الإجتهاد . وإعمالُ الإجتهاد لیس بالإضافة إلی متأخّری علم الرجال فقط ، بل یشمل قُدماءهم أیضاً کالکشیّ والشیخ والنجاشیّ والبرقیّ .

فإنّ نصوصهم فی الجرح والتعدیل بعد أن لم تکن مسندة فی غالبها - عدا الکشّی - فلیست حجّیتها إلّامن باب الرجوع إلی أهل الخبرة أو لحصول الإنسداد وکلا الأمرین لا یتحقّق موضوعه مع کون الفقیه أو الباحث فی المعارف هو بنفسه لدیه الملکة والخبرة فی علم الرجال وبعد کون مواد الفحص فی المفردات الرجالیة لا تنحصر فی کتاب الرجال للنجاشی والشیخ وفهرست الشیخ ورجال البرقی ، بل کُتُب الحدیث کلّها من الکُتُب الأربعة وغیرها مخزن ثَرّ لموادّ الجرح والتعدیل عَبْرَ علم الطبقات وتجرید الأسانید وتبویب مضامین الروایات التی یرویها الراوی وغیرها من المناهج الرجالیّة التی تعتمد علی الاستقراء المیدانیّ للقرائن وموادّ ترجمة المفرد الرجالیة .

لأنّ علم الرجال فی الحقیقة شُعبة من علم التاریخ ، وقد تجتمع لدی الباحث المتتبّع المستقصی المتأخِّر شواهد وقصاصات وقرائن وموادّ لم یَقِف علیها المتقدِّم ولم یظفر بها ولم تجتمع لدیه ، فکَم لم تُکْشَف حقائق تاریخیّة ثمّ کُشِفَت بعد ذلک بقرونٍ .

ونظیر ذلک فی أمثلة ونماذج فی المفردات الرجالیّة کثیرة ؛ کإبراهیم بن

ص:244

هاشم ، فإنّه مضت قرون علی الرّجالیین لم یتبنّوا توثیقه ، ثمّ وقف المتأخِّرون فی هذه الأعصار علی قرائن ودلالات دالة علی أنّه من أجلّاء الکبار .

وکذلک حصل لنا مع عمر بن حنظلة ، فإنّا قد وقفنا علی قرائن مُسندة متعدّدة فی کُتُب الحدیث دالّة علی أنّه من أتراب محمّد بن مسلم وزرارة وأنّه کان بمنزلة من الجلالة مقدّم لدی الشیعة فی الکوفة کمفزع یُلجأ إلیه فی المسائل الفقهیّة .

والحاصل أنّ الإجتهاد مقدّم علی التقلید فی علم الرجال مع القدرة حتّی بالإضافة إلی تقلید النجاشیّ والشیخ والبرقیّ والکشّیّ .

3 - إنّه کیف یُحتکم إلی رأی فی الجرح والتعدیل ویُفرض علی الطائفة والحال أنّ الآراء مختلفة فی الجرح والتعدیل ولیس من سُنن المذهب حصر المذاهب العلمیّة فی مذهب معیّن .

4 - إنّ من عمدة طرق الجرح والتعدیل هو حال المضامین التی یرویها الراوی . فمعرفة الراوی بأنّه غال أو فاسد المذهب أو مقصِّر أو ناصبیّ أو منتمی إلی أحد الفرق أو بقیّة صفاته وأحواله إنّما تستکشف فی الغالب بتوسّط مضامین الروایات التی یرویها الراوی .

والحکمُ علی حال تلک المضامین إنّما یتمّ بتوسّط دراسة المضمون ودراسةُ المضمون - کما تقدّم - تتوقّف علی الإحاطة بالمبانی العلمیّة فی الفقه الأکبر والأصغر .

ومنه یتبیّن أنّ هذه الدعوة لتصفیة الأحادیث بتوسّط الأسانید فقط دعوی ذات طابع حشویّة شدیدة .

ص:245

« قول الجارح من الرجالیین وطعنه العقائدیّ لا یُقبل إلّابعد معرفة مشربه فی المسائل الاعتقادیّة ».

ومن ذلک یتبیّن أنّ الجرح من قول الرجالیّ مهما کان مقدّماً فی علم الرجال ، کالنجاشیّ ، من دون معرفة مبانیه فی المعارف وفی جملة من الأبواب الفقهیّة لا یمکن الرکون إلی قوله ، لأنّ فی أغلب الموارد یکون حکم الرجالیّ علی وفق مبانیه وقناعاته وآرائه فی المعارف ، فیعبّر عن الراوی بأنّه فاسد المذهب أو ضعیف فی مذهبه ، أو أحادیثه منکرة ، أو أنّه من الغُلاة ، أو غیر ذلک من الطعون والأحکام التی یطلقها الرجالیّ ، فلا یمکن الإسترسال معهم فی أقوالهم ما لم یتبیّن البُنیة التحتانیّة فی دراسة المضمون ، التی علی ضوئها یحکمون علی المفرد الرجالیّ .

شواهد لاعتماد الرجالیّین فی الجرح والتعدیل علی المضمون وأنّه العمدة لدیهم فی ذلک

من لاحظ کُتُب الجرح والتعدیل ک « میزان الاعتدال » للذهبی ، و« الکامل فی الضعفاء » لابن عدی ، و« الضعفاء » للعقیلی ، و« لسان المیزان » لابن حجر ، و« تاریخ بغداد » للخطیب ، وغیرها من کُتُب أهل سُنّة الخلافة یظهر له بوضوح أنّ دیدَن الرجالیین وعادتهم فی الطعن والجرح والتوفیق یکون غالباً اعتماداً علی مضمون الروایات التی یرویها الراوی .

فها هو الذهبی فی « میزان الاعتدال » یحکم فی حقّ « الحسن بن محمّد بن یحیی بن الحسن بن جعفر بن عبیداللّه بن الحسین بن زین العابدین علیّ بن الشهید الحسین العلویّ » أنّه کاذب رافضیّ لمجرّد روایته :

« علی خیر البشر ،

ص:246

فمن أبی فقد کفر » (1) .

وینقل عن الخطیب فی حقّ « الحسن بن محمّد بن أشناس » أنّه رافضیّ خبیث کان یقرأ علی الشیعة مثالب الصحابة(2) .

وینقل عن ابن النجّار فی حقّ « أحمد بن علیّ الغزنویّ » أنّه کان فاسد العقیدة ینالُ من الصحابة(3) .

وینقل عن أبی عمر بن حیویه فی حقّ « أحمد بن محمّد بن سعید بن عقدة » أنّه کان یملی مثالب الصحابة - أو قال - مثالب الشیخین فترکتُ حدیثه(4) .

وحکَم فی حقّ « أحمد بن محمّد بن السریّ بن یحیی » أنّه رافضیّ کذّاب ؛ لأنّه کان أکثر ما یقرأ علیه المثالب ویقرأ علیه أنّ عمر رفس فاطمة حتّی أسقطت بمحسن(5) .

وینقل ابن الجوزی فی « العلل المتناهیة » عن ابن حیّان فی حقّ « الأصبغ بن نباتة » أنّه فُتن بحبّ علیّ بن أبی طالب علیه السلام فأتی بالطامّات فی الروایات فاستحقّ من أجلها الترک(6) .

ویقول ابن عدی فی « الکامل فی الضعفاء » فی حقّ « بکر بن خنیس » أنّه یحدّث بأحادیث مناکیر عن قوم لا بأس بهم ، وهو فی نفسه رجل صالح إلّاأنّ

ص:247


1- (1) میزان الاعتدال : 1 : 521 ، الرقم 1943 .
2- (2) میزان الاعتدال : 1 : 521 : الرقم 1946 .
3- (3) میزان الاعتدال : 1 : 122 : الرقم 491 .
4- (4) میزان الاعتدال : 1 : 138 .
5- (5) میزان الاعتدال : 1 : 139 : الرقم 552 .
6- (6) العلل المتناهیة : 1 : 247 ، الرقم 395 .

الصالحین شبّه علیهم الحدیث . . ولیس هو ممّن یحتجّ بحدیثه(1) .

ویقول فی حقّ « بکر بن الأسود أبی عبیدة الناجی » أنّه ما أری فی حدیثه من المنکر ما یستحقّ به الکذب(2) .

وهکذا عند الرجالیین من الشیعة ، وننظر کأنموذج إلی ما ذکره النجاشیّ فی کتابه الرجالی :

1 -الحسن بن محمّد بن یحیی بن الحسن بن جعفر المعروف بابن أخی طاهر . . روی عن المجاهیل أحادیث منکرة رأیت أصحابنا یضعّفونه(3) .

2 -داود بن کثیر الرقّی ضعیف جدّاً ، والغلاة تروی عنه . قال أحمد بن عبد الواحد : قلّ ما رأیت له حدیثاً سدیداً(4) .

3 -ربیع بن زکریّا الورّاق طعن علیه بالغلوّ ، له کتاب ، فیه تخلیط (5) .

4 -سهیل بن زاذویه أبو محمّد القمّی ، ثقة ، جیّد الحدیث ، نقیّ الروایة ، معتمد علیه(6) .

5 -سالم بن أبی سلمة الکندیّ السجستانیّ ، حدیثه لیس بنقیّ وإن کنّا لا نعرف منه إلّاخیراً(7) .

6 -عبد الرحمن بن کثیر الهاشمی . . کان ضعیفاً ، غمز أصحابنا علیه . .

ص:248


1- (1) الکامل فی الضعفاء : 2 : 26 .
2- (2) الکامل فی الضعفاء : 2 : 28 .
3- (3) رجال النجاشی : 64 ، الرقم 149 .
4- (4) رجال النجاشی : 156 ، الرقم 410 .
5- (5) رجال النجاشی : 164 ، الرقم 434 .
6- (6) رجال النجاشی : 186 ، الرقم 492 .
7- (7) رجال النجاشی : 190 ، الرقم 509 .

له کتاب فدک ، وکتاب الأظلّة ، کتاب فاسد مختلط (1) .

7 -عبد السلام بن صالح أبو الصلت الهرویّ ، ثقة ، صحیح الحدیث(2) .

8 -علیّ بن حسّان بن کثیر الهاشمی . . ضعیف جدّاً ، ذکره بعض أصحابنا فی الغلاة ، فاسد الاعتقاد ، له کتاب تفسیر الباطن ، تخلیط کلّه(3) .

9 -علیّ بن محمّد بن شیرة القاسانیّ کان فقیهاً مکثراً من الحدیث . . غمز علیهأحمد بن محمّد بن عیسی وذکر أنّه سمع منه مذاهب منکرة ولیس فی کتبه ما یدلّ علی ذلک(4) .

10 -علیّ بن أبی سهل حاتم بن أبی حاتم القزوینیّ ثقة من أصحابنا فی نفسه ، یروی عن الضعفاء ، سمع فأکثر(5) .

الثمرة الثانیة

ومن الثمرات المهمّة الأُخری البالغة فی الأهمّیة أیضاً فی دراسة المضمون وتحلیله وموازنته بمحکمات الکتاب والسنّة ، هو اکتشاف أقسام التواتر الأُخری - أی التواتر غیر اللفظیّ ، وهی أقسام التواتر المعنویّ الذی قد یُسمّی بعضها بالتواتر الإجمالیّ -

لا سیّما وأنّ جملة من أقسام التواتر المعنویّ لا یستکشف فی الوهلة الأُولی

ص:249


1- (1) رجال النجاشی : 234 و 235 ، الرقم 621 .
2- (2) رجال النجاشی : 245 ، الرقم 643 .
3- (3) رجال النجاشی : 251 ، الرقم 660 .
4- (4) رجال النجاشی : 255 ، الرقم 669 .
5- (5) رجال النجاشی : 263 ، الرقم 688 .

من ظاهر اللفظ ، بل هی من قبیل المدالیل الإلتزامیّة بوسائط متعدّدة للمدلول المطابقیّ ، فاستکشافها یتوقّف علی ملکة علمیّة محیطة بالمعانی والقواعد والترابط فی ما بینها ، فإنّ بعض المعانی الإلتزامیّة إنّما تکتشف بالاستدلال النظریّ البرهانیّ وإن لم یکن الاستدلال متوغِّلاً فی النظریّة .

واکتشافُ ذلک والوقوف علیه ذو فائدة مدرکیّة جمّة ، کما أنّ ذلک مؤشِّر وشاهد علی تکوّن علم إجمالیّ بوجود طوائف من التواتر المعنویّ فی جملة من الروایات الضعیفة ، فضلاً عن الروایات الحسنة والموثّقة والصحیحة ، وهذا ممّا یُنجِّز عملیّة الفحص ویمنع من الطرح .

مثلاً ما روی عنهم علیهم السلام :

نزهونا عن الربوبیة ، و ارفعوا عنا حظوظ البشریة (1) .

و :

اجعلوا لنا ربا نؤب إلیه ، و قولوا فینا ما شئتم (2) .

فإنّ هذا المضمون بهذه الألفاظ وما یقرب منها قد روی بما یزید علی ثمانیة طرق بحسب التتبّع الناقص فی « بصائر الدرجات » للصّفّار و« مختصر البصائر » للحلّی وفی الکشّیّ وغیرها .

إلّاأنّ هناک طوائف اخری من الروایات لیست بهذه الألفاظ ، لکنّها تدلّ بالإلتزام علی نفس هذا المعنی ؛ نظیر روایات خلقة أنوارهم وإنّها أوّل ما خلَق اللّه ، مرویّة عند الفریقین .

فإنّ هذه الطائفة بمقتضی البراهین العقلیّة دالّة علی أنّ الصوادر الأُولی حیث تکون علل متوسّطة لما بعدها ، فإنّ ذلک یقتضی عدم إحاطة مابعدها - ممّا یصدر عنها - بها لمقتضی عدم إحاطة المعلول بالعلّة وإن کانت العلّة بمعنی ما به الوجود

ص:250


1- (1) مشارق أنوار الیقین : 101 .
2- (2) مختصر البصائر : 204 . بحار الأنوار : 25 : 283 ، الحدیث 30 .

لا ما منه الوجود وبمقتضی أنّ الصادر الأوّل متوفِّر علی کلّ ما أمکن أن یکون متوفِّراً من المخلوق الممکن ، فلا تحصی کمالاته لاسیّما بلحاظ أنّ خلقته فعل اللّه وفعلهُ تعالی تتجلّی فیه صفاته اللامتناهیة .

فمثل هذه المدالیل الإلتزامیّة التی تتظافر فی الأدلّة لا یکتشفها إلّاالحکیم الماهر فی بحوث المعارف أو صاحب الذوق القلبیّ المبرهن ، لا بمعنی تحمیل المدلول قرائح الذوق وآراء الفکر ، بل توظیف الملکة علی هذه المعانی فی استکشاف معانی النصّ المترامیة ترابطاً ، کما أنّ ذلک لا یعنی أنّ ما یتوصّل إلیه - علی فرض صحّته وتعزّزه بالبراهین - هو منتهی افق مدلول النصوص .

ومن ذلک یتّضح أنّ استکشاف التواتر الوارد فی أبواب المعارف - بل الوارد فی أبواب الفروع أیضاً - لا یمکن بعلم الحدیث والرجال والدرایة فقط ، فإنّ المستکشف بهذه العلوم الثلاثة هو التواتر اللفظیّ أو المعنویّ القریب من مدلول الظاهر ، وأمّا بقیّة أقسام التواتر المعنویّ ذات الشواهد النظریّة لا یستکشفها إلّا الحکیم أو المتکلِّم من أهل المعرفة أو الفقیه الملِمِّ بأبواب الفروع ، المتضلِّع فی العلوم الثلاثة .

وإلی ذلک یومی قولهم بوجود قسم من الضرورات والمتسالمات التی لا یتفطّن إلیها إلّاالعرف الخاصّ من الفقهاء والحکماء . فإنّ هذه الضرورات والتسالمات سواء فی أبواب المعارف أو أبواب فروع الفقه لیست ناشئة إلّامن استکشاف التواتر المعنویّ فی أقسامه النظریّة .

وهذا لیس خاصّاً بالتواتر فقط ، بل کذلک الحال فی المستفیض بعین ما تقدّم فی المتواتر .

بل وکذا الحال فی الوثوق بالصدور من غیر الثقة ، فإنّ قرائن الوثوق بالصدور

ص:251

فی جملة کثیرة من مواردها هی قرائن نظریّة لا یقف علیها ولا یستکشفها ولا یتفطّن إلیها إلّابصناعة الإجتهاد أو البحث الحِکَمی والکلامی .

فکیف یترک - بعد ذلک - مسیر تصحیح التراث وتقییم اعتباره إلی مجرّد البحث الرجالیّ والبحث الدرائیّ والحدیثیّ .

الثمرة الثالثة

ومن الثمار المهمّة لاعتماد دراسة المضمون فی تصحیح الحدیث أنّ الفقیه أو الباحث فی المعرفة یضطرّ إلی اعتماد منهج الوفاق بین تفاصیل الأحکام واُسس التشریع فی عمومات الکتاب والسنّة وممّا فیها من اصول الأحکام والتوفیق بین الأحکام فی الأبواب المختلفة ، والجمع بینها وبین اصول وقواعد المذهب .

فإنّ استکشاف جهة التوفیق بین الأحکام وتفرُّع بعضها عن البعض الآخر ورجوع بعضها إلی بعض ، یجعل من منظومة مجموع الأحکام کُتلة متّسقة ویکون من تحکیم المحکمات علی غیرها ویکون امتثالاً لأوامر العرض علی الکتاب والسنّة .

فإنّ هذا الأمر المتواتر(1) هو أمر بالتوفیق بین تفاصیل الأحکام واُصول التشریع ، بمعنی استکشاف التنسیق فیما بینها ، وظاهر هذا الأمر أنّه من الشرائط العامّة فی ماهیّة الأحکام التفصیلیّة فضلاً عن تنجیزها ؛ إذ هذا الشرط یرجع

ص:252


1- (1) راجع : وسائل الشیعة : 27 ، کتاب القضاء ، الباب 9 من أبواب صفات القاضی ، و : 22 ،کتاب الطلاق ، الباب 29 من أبواب مقدّماته وشرائطه . بحار الأنوار : 2 : 165 : الحدیث 25 و : 2 : 225 ، الحدیث 2 .

فی مآله إلی وجود وحدة انتظام فیما بین تفاصیل الأحکام واُصول التشریع وقواعده ؛ إذ لیست التفاصیل مبتورة ومقطوعة الصلة عن القواعد واُصول الأحکام .

وممّا یُعَزِّز هذه الحقیقة والضابطة فی شرائط الأحکام أنّ هذا الأمر بعینه قد ورد فی قاعدة الشروط :

« المؤمنون عند شروطهم » .

أو

« المسلمون عند شروطهم فی ما و افق کتاب الله عز و جل » (1) .

أو

« إلاکل شرط خالف کتاب الله عز و جل فلا یجوز » (2) .

أو

« إلاشرطا حرم حلالا أو أحل حراما » (3) ، وهو بمعنی المخالفة .

أو

« إلاشرطا فیه معصیة » (4) .

وهو حکم فقهیّ أخذ فی ماهیّته هذا الشرط ولیس هو من الطرق والأمارات الکاشفة ممّا یدلل ویشهد علی أنّ هذا الشرط والضابطة لا تقتصر شرطیّته علی التنجیز والتعذیر الذی هو حقیقة الحکم فی الطرق والإمارات ، بل یشمل ماهیّة الأحکام الواقعیّة ، إذ الشروط لا تقتصر علی أبواب المعاملات بالمعنی الأخصّ ، بل بالمعنی الأعمّ الشامل للمالیّة والسیاسیّة والایقاعات وغیرها .

هذا وقد ورد هذا الشرط والضابطة فی الصلح والنذر والیمین والعهد والطلاق أیضاً ممّا یدلّل علی أنّ المراد من الشروط هو مطلق الإلتزام والتعهّد ، سواء کان مع اللّه تعالی أم مع البشر ، وسواء کان إیقاعاً أم عقداً ، مالیّاً أم غیره .

ص:253


1- (1) الکافی : 5 : 169 .
2- (2) الفقیه : 3 : 128 .
3- (3) التهذیب : 7 : 467 .
4- (4) المستدرک : 13 : 300 ، الباب 5 من أبواب الخیار .

نعم ، الفارق بین ما ورد فی اعتبار هذا الشرط فی الأخبار والطرق عمّا ورد فی الشرط ونحوها ، أنّ مضمون الأخبار کما فی حدیث الرضا علیه السلام إنّ هذا الشرط یرجع إلی تقریر الدلالة وتنجیز الصدور ، لأنّ الحکم علی تقدیر صدوره عن المعصوم یمتنع أن یخالف محکمات الکتاب والسنّة ، إذ المعصوم فی تشریعاته تابع لَدُنّیّاً للاُصول التی شرّعها اللّه ورسوله صلی الله علیه و آله و سلم وتشریعات النبیّ صلی الله علیه و آله و سلم تابعة لَدُنّیّاً أیضاً لاُصول تشریعات اللّه تبارک وتعالی .

وهذا بخلاف الشروط فی العقود والإلتزامات فی المعاملات والإیقاعات ، فإنّها من إنشاء البشر ، فلابدّ أن تنضبط بهذه الضابطة لعدم العصمة فیهم .

وعلی أیّ تقدیر ، فإنّ هذه الضابطة وهذا المنهج فی اکتشاف التوفیق بین مضامین تفاصیل الأحکام واُصول التشریع لابدّ منها ، والذی یتکفّله هو دراسة المضمون وهو البحث الفقهیّ بالحمل الشائع أو الذی یصدق علیه بحث المعارف فی ما کانت فی المسائل الاعتقادیّة .

وأمّا البحث الرجالیّ فهو بحث مقدّمی إعدادیّ ، والبحث المقدّمی وإن کان لابدّ منه إلّاأنّه من غیر الصحیح الإکتفاء به عن البحث الأصلیّ ، بل من غیر الصحیح المساواة والمکافأة بین البحثین من حیث العمق وبذل الجهد .

ص:254

المقام الثالث :فی بیان ضوابط العرض علی الکتاب والسنّة ومیزان المخالفة والموافقة لهما

اشارة

ولأجل بیان الضابطة للعرض علی الکتاب والسنّة أو معرفة ضابطة المخالفة والموافقة لهما کی لا تکون الموازنة بین مضامین تفاصیل الأحکام والمعارف فی الروایات وبین محکمات الکتاب والسنّة بتوسّط السلیقة والذوق والقریحة ، بل منضبطة بقالب صناعیّ یُعوّل علیه ویضطرّ إلی إعماله بتدبّر وإمعان ، وکاُنموذج لتطبیق هذه الضابطة ، نشرع فی دراسة قاعدة مهمّة وهی قاعدة عدم نفوذ الشرط المخالف للکتاب والسُّنة .

عدم نفوذ الشرط المخالف للکتاب والسنّة

وهذه القاعدة وإن جری تداولها فی المعاملات کضابطة فی الشروط الضمنیّة المعاملیّة ، إلّاأنّ الصحیح عموم هذه القاعدة لأبواب الفقه السیاسیّ والحکم ، کما أنّها ذات أهمّیة کبیرة فی البحث المتداول فی هذا العصر ، وهو الثابت والمتغیّر فی الشریعة ، والذی یضفی بظلاله علی کیفیّة تغطیة الشریعة لکلّ الحوادث المستجدّة ولکلّ أصعدة الحیاة الحدیثة ، کما سیتبیّن فی ما یأتی .

ولا یخفی أنّ هذه القاعدة قد نبّه علیها کلّ مَن خاض فیها من الأساطین علی وَعُورة وصعوبة البحث فیها ، وأنّ ما یذکر من ضوابط فی تفسیرها غیر مطّرد

ص:255

ولا منعکس ، مضافاً إلی أنّها لا تنقّح الصغریات العدیدة التی وقع الخلاف فیها .

وهذا التحدید فی الشرط ورد أیضاً فی الصلح والنذر وأخویه ، وطاعة الوالدین وغیرها ، وسیتبیّن الجهة المشترکة بین هذه العناوین فی هذا التحدید .

ولأهمّیة هذه القاعدة خاض فیها المحقّق النراقیّ قدس سره فی کتابه « عوائد الأیّام » ، کما تعرّض لکلامه تلمیذه الشیخ المحقّق الأنصاریّ قدس سره فی « المکاسب » وکما تعرّض لکلامه کلّ من کتب فی هذه القاعدة ، ومن الموارد الفریدة التی یعبّر الشیخ الأنصاریّ قدس سره عن استاذه النراقیّ قدس سره بالمشیخة فقال : بعض مشایخنا المعاصرین .

ونقل کلامه فی موضعین ، وهو الوحید الذی نوّه باسمه من بین مَن نقل عنهم فی هذا المبحث ، ممّا یدل علی حداثة بلورة هذا البحث عند النراقیّ قدس سره ، وهذه الصفة مطّردة فی تحقیقات النراقیّ قدس سره .

وقد تابع الشیخ الأنصاریّ قدس سره استاذه المحقّق فی إثارتها فی مواطنها المختلفة ، ممّا یدلّ علی تأثّر الشیخ بالمحقّق النراقیّ قدس سره أکثر من بقیّة مشایخه الآخرین .

قال فی « العوائد »(1) فی العائدة 15 - التی عقدها لبیان حکم الشرط فی ضمن العقد ، بعد بیان معنی الشرط وجملة من ضوابط وشرائط صحّة الشرط الضمنیّ - :

« المبحث الثالث : فی بیان ما یجوز من الشرط وما لا یجوز ، وجملة ما ذکروا عدم جوازه ، ووقع التعبیر ب ( غیر الجائز ) فی عباراتهم أربعة :

الشرط المخالف للکتاب والسنّة .

والشرط الذی أحلّ حراماً أو حرّم حلالاً .

ص:256


1- (1) عوائد الأیّام : 143 .

والشرط المنافی لمقتضی العقد .

والشرط المؤدّی إلی جهالة أحد العوضین .

أمّا الأوّل : فعدم الإعتداد به مجمع علیه ، وفی المستفیضة تصریح به - ثمّ أشار إلی الأخبار الواردة فی المقام وقال : ثمّ المراد بشرطٍ خالف الکتاب أو السنّة : أن یشترط - أی یلتزم - أمراً مخالفاً لما ثبت من الکتاب والسنّة ، عموماً أو خصوصاً ، مناقضاً له .

والحاصل : أن یثبت حکم فی الکتاب أو السنّة ، وهو یشترط ضدّ ذلک الحکم خلافه ، أی یکون المشروط أمراً مخالفاً لما ثبت فی أحدهما ، سواء کان من الأحکام الطلبیّة أو الوضعیّة . . .

وأمّا اشتراط أن لا یتصرّف المشتری فی المبیع مدّة معلومة ، فهو لیس مخالفاً للکتاب أو السنّة ، إذ لم یثبت فیهما تصرّفه . . .

بل إنّما ثبت جواز تصرّفه ، والمخالف له عدم جواز تصرّفه . . .

نعم ، إیجاب الشارع للعمل بالشرط یستلزم عدم جواز التصرّف ، ولیس المستثنی فی الأخبار شرطاً خالف إیجابه أو وجوبه کتاب اللّه والسنّة ، بل شرط خالف الکتاب والسنّة ؛ والشرط هو عدم التصرّف . . لا نعلم أنّ التزام عدم التصرّف یخالف جواز التصرّف ما لم یثبت وجوب ما یلتزم به .

وأمّا شرط فعل شیء ثبتت حرمته من الکتاب والسنّة أو ترک شیء ثبت وجوبه أو جوازه منهما ، فهو لیس شرطاً مخالفاً للکتاب والسنّة ، إذ لم یثبت من الکتاب والسنّة فعله أو ترکه ، بل حرمة فعله أو ترکه ، ولکن یحصل التعارض حینئذ بین ما دلّ علی حرمة الفعل

ص:257

أو الترک ، وبین أدلّة وجوب الوفاء بالشرط ، فیجب العمل بمقتضی التعارض » ، انتهی .

وقبل التعرُّض إلی باقی کلمات الأصحاب فی هذه القاعدة ، نستعرض الروایات الواردة ثمّ نتبعه بتحریر حقیقة موضوع ومحمول القاعدة .

أمّا الروایات : فهی وإن کانت علی طوائف بحسب ألسنتها ، إلّاأنّه سنذکرها بحسب أبواب مواردها :

الاُولی : صحیح الحلبیّ عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : « سألته عن الشرط فی الإماء لا تباع ولا توارث ولا توهب ؟

فقال :

یجوز غیر المیراث،فإنها تورث،فکل شرط خالف کتاب الله فهورد» (1) .

ومثله صحیح ابن سنان(2) إلّاأنّ فی ذیلها فهو باطل .

الثانیة : صحیح عبداللّه بن سنان عن أبی عبداللّه علیه السلام ، قال : « سمعته یقول :

من اشترط شرطا مخالفا لکتاب الله فلا یجوز له ، و لا یجوز علی الذی اشترط علیه ، والمسلمون عند شروطهم مما و افق کتاب الله عز و جل » (3) .

وفی صحیحه الآخر عنه علیه السلام ، قال :

« المسلمون عند شروطهم إلاکل شرط خالف کتاب الله عز و جل فلا یجوز» (4) .

ومثل الثانی صحیح الحلبی(5) .

ص:258


1- (1) وسائل الشیعة : 18 : 267 ، الباب 15 من أبواب بیع الحیوان ، الحدیث 1 .
2- (2) المصدر المتقدّم : الحدیث 2 .
3- (3) وسائل الشیعة : 18 : 16 ، الباب 6 من أبواب الخیار ، الحدیث 1 .
4- (4) وسائل الشیعة : 18 : 16 ، الباب 6 من أبواب الخیار ، الحدیث 2 .
5- (5) وسائل الشیعة : 18 : 17 ، الباب 6 من أبواب الخیار ، الحدیث 4 .

الثالثة : موثّق إسحاق بن عمّار عن جعفر عن أبیه علیهما السلام :

« إن علی بن أبی طالب علیه السلام کان یقول : من شرط لامرأته شرطا فلیف لها به ، فإن المسلمین عند شروطهم إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراما» (1) .

الرابعة : معتبرة منصور بن بزرج ، عن عبد صالح علیه السلام ، قال : « قلت له : إنّ رجلاً من موالیک تزوّج امرأة ثمّ طلّقها فبانت منه فأراد أن یراجعها فأبت علیه إلّاأن یجعل للّه علیه أن لا یُطلّقها ولا یتزوّج علیها ، فأعطاها ذلک ثمّ بدا له فی التزویج بعد ذلک فکیف یصنع ؟

فقال :

بئس ما صنع ، و ما کان یدریه ما یقع فی قلبه باللیل و النهار،قل له : فلیف للمرأة بشرطها ، فإن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال : و المؤمنون عند شروطهم » (2) .

وفی روایة العیّاشیّ ، عن ابن مسلم ، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال :

« قضی أمیر المؤمنین علیه السلام فی امرأة تزوجها رجل و شرط علیها و علی أهلها إن تزوج علیها امرأة أو هجرها أو اتخذ علیها سریة فإنها طالق . فقال : شرط الله قبل شرطکم ، إن شاء و فی بشرطه و إن شاء أمسک امرأته و نکح علیها و تسری علیها و هجرها إن أتت بسبیل ذلک ، قال اللّه تعالی فی کتابه :( فَانْکِحُوا ما طابَ لَکُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنی وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ ) (3) .

وقال :(إِلاّ ما مَلَکَتْ أَیْمانُکُمْ ) (4) .

وقال :(وَ اللاّتِی تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ ) (5) »(6) .

ص:259


1- (1) وسائل الشیعة : الباب 6 من أبواب التجارة ، الحدیث 5 .
2- (2) وسائل الشیعة : الباب 20 من أبواب المهور ، الحدیث 4 .
3- (3) النساء 4 : 3 .
4- (4) النساء 4 : 24 .
5- (5) النساء 4 : 34 .
6- (6) وسائل الشیعة : الباب 20 من أبواب المهور ، الحدیث 6 .

الخامسة : صحیح محمّد بن قیس عن أبی جعفر علیه السلام : أنّه قضی فی رجل تزّوج امرأة وأصدقته هی واشترطت علیه أنّ بیدها الجماع والطلاق ، قال :

خالفت السنة و و لیت حقا لیست بأهله ، فقضی أن علیه الصداق و بیده الجماع و الطلاق ،ذلک السنة » (1) .

وصحیحه الآخر عن أبی جعفر علیه السلام : « فی رجل تزوّج امرأة وشرط لها إن تزوّج علیها امرأة أو هجرها أو اتّخذ علیها سریّة فهی طالق ، فقضی فی ذلک :

إن شرط الله قبل شرطکم فإن شاء و فی لها ( بما اشترط ) و إن شاء أمسکها و اتخذ علیها و نکح علیها» (2) .

ومثله صحیح عبداللّه بن سنان إلّاأنّ فیه : « أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم قال :

من اشترط شرطا سوی کتاب الله فلا یجوز ذلک له و لا علیه » (3) .

وفی روایة إبراهیم بن محرز ، قال : سأل رجل أبا عبداللّه علیه السلام وأنا عنده ، فقال :

رجل قال لامرأته : أمرک بیدک .

قال :

أنی یکون هذا، و الله یقول : ( الرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَی النِّساءِ ) (4)

لیس هذا بشیء » (5) .

السادسة : صحیح أبی العبّاس ، عن أبی عبداللّه علیه السلام : « فی الرجل یتزوّج المرأة

ص:260


1- (1) وسائل الشیعة : 21 : 289 ، الباب 29 من أبواب المهور ، الحدیث 1 .
2- (2) وسائل الشیعة : 21 : 297 ، الباب 38 من أبواب المهور ، الحدیث 1 .
3- (3) وسائل الشیعة : 21 : 297 ، الباب 38 من أبواب المهور ، الحدیث 2 .
4- (4) النساء 4 : 34 .
5- (5) وسائل الشیعة : 22 : 94 ، الباب 41 من أبواب مقدّمات الطلاق ، الحدیث 6 .

ویشترط أن لا یخرجها من بلدها .

قال :

یفی لها بذلک ، أو قال :

یلزمه ذلک »(1) .

السابعة : صحیح الحلبیّ عن أبی عبداللّه علیه السلام أنّه ذکر :

« أن بریرة کانت عند زوج لها و هی مملوکة ، فاشترتها عائشة فأعتقتها،فخیرها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم إن شاءت تقر عند زوجها، و إن شاءت فارقته و کان موالیها الذین باعوها اشترطوا و لا ءها علی عائشة . فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم : الو لا ء لمن أعتق » (2) .

الثامنة : والصحیح إلی ابن أبی عمیر عن عمرو صاحب الکرابیس ، عن أبی عبداللّه علیه السلام : « عن رجل کاتَب مملوکه ، واشترط علیه أنّ میراثه له فرفع ذلک إلی علیّ علیه السلام فأبطل شرطه وقال :

شرط الله قبل شرطک » (3) .

التاسعة : صحیح محمّد بن مسلم ، قال : « سألت أبا جعفر علیه السلام عن رجل کانت له ام مملوکة فلمّا حضرته الوفاة انطلق رجل من أصحابنا فاشتری امّه ، اشترط علیها أنّی أشتریک وأعتقکِ فإذا مات ابنک فلان ابن فلان فورثتیه أعطیتینی نصف ما ترثینه علی أن تعطینی بذلک عهد اللّه وعهد رسوله ، فرضیت بذلک ، أعطته عهد اللّه وعهد رسوله لتفینّ له بذلک ، فاشتراها الرجل وأعتقها علی ذلک الشرط ، ومات ابنها بعد ذلک فورثته ، ولم یکن له وارث غیرها .

قال : فقال أبو جعفر علیه السلام :

لقد أحسن إلیها،وأجر فیها،إن هذا لفقیه ،و المسلمون عند شروطهم،وعلیها أن تفی بما عاهدت الله و رسوله علیه » (4) .

العاشرة : روایة سلمة بن کهیل ، قال : « سمعت علیّاً علیه السلام یقول لشریح :

. . و اعلم

ص:261


1- (1) وسائل الشیعة : 21 : 299 ، الباب 40 من أبواب المهور ، الحدیث 1 .
2- (2) وسائل الشیعة : 23 : 65 ، کتاب العتق ، الباب 37 ، الحدیث 2 .
3- (3) وسائل الشیعة : 23 : 158 ، الباب 15 من أبواب المکاتبة ، الحدیث 1 .
4- (4) وسائل الشیعة : 26 : 55 ، الباب 21 من أبواب موانع الإرث ، الحدیث 1 .

أن الصلح جائز بین المسلمین إلاصلحا حرم حلالا،أو أحل حراما» (1) .

ونحو هذا الحدیث مرسل عند الصدوق رحمه الله(2) ومن هذا الباب ما ورد من أنّه

« لا نذر و لا یمین فی معصیة » ، وأنّه لا تجوز یمین فی تحلیل حرام ولا تحریم حلال(3) ومنه أیضاً ما ورد من أنّه

« لا طاعة لهما [ للوالدین] فی معصیة الخالق ولا لغیرهما، فإنه لا طاعة لمخلوق فی معصیة الخالق » (4) .

حقیقة البحث سواء فی طرف موضوع القاعدة أو محمولها أو متعلّقها

ولنذکر المحتملات تباعاً :

الأوّل : أن یکون فی کلّ من شرط الفعل والنتیجة ، وعلی کلا التقدیرین المخالفة تارة بلحاظ الشرط أی التعهّد والإلتزام ، أو بلحاظ المشروط وهو المتعلِّق أو المنشأ المتعهّد به ، وهو ملکیّة الفعل فی شرط الفعل ، أو وجود النتیجة کمعنی وضعیّ فی شرط النتیجة ، وسیأتی تعیین أحد هذه المحتملات .

الثانی : إنّ البحث فی حکم الشرط والمشروط ونسبته مع الأحکام الأولیّة باعتبار کونه عنواناً ثانویّاً ، وهکذا قد یُقال الحال فی الصلح والنذر وأخویه ، وطاعة الوالدین ، وطاعة کلّ ولیّ ووالی من غیر المعصومین علیهم السلام أنّها عناوین

ص:262


1- (1) وسائل الشیعة : الباب 1 من أبواب آداب القاضی ، الحدیث 1 .
2- (2) من لا یحضره الفقیه : 3 : 29 ، باب الصلح ، الحدیث 1 .
3- (3) وسائل الشیعة : 20 : 384 ، الحدیث 1 ، و : 23 : 217 ، الحدیث 2 ، و : 220 ، الحدیث9 ، و : 222 ، الحدیث 13 .
4- (4) وسائل الشیعة : 16 : 154 ، الحدیث 10 .

ثانویّة تلحظ نسبتها مع الأحکام الأولیّة .

الثالث : إنّ البحث فی معرفة الأحکام الطبعیّة الاقتضائیّة وافتراقها عن الأحکام الفعلیّة المطلقة الباتّة فی الأحکام الأولیّة ، وإنّ الثانیة تُعارض الأحکام الثانویّة بخلاف الأُولی .

الرابع : هو بحث عن علم وکیفیّة معرفة الاُصول القانونیّة فی الشریعة ، وهو حقیقة واقع البحث فی الثابت والمتغیّر الدینیّ ، حیث أنّ الأصل القانونیّ هو الموادّ الأُولی الفوقیّة للتقنین والأحکام ، ومنها تنشعب بقیّة القوانین والأحکام بنحو هرمیّ تنزّلیّ ، نظیر الموادّ الدستوریّة بالنسبة إلی المصوّبات القانونیّة للمجالس النیابیّة ، وهی بنوبتها بالنسبة إلی المقرّرات القانونیّة الوزاریة وإن کانت منظومة الأحکام والقوانین الأدیانیّة لا تنحصر فی الأحکام الاجتماعیة کالدساتیر بل ذلک باب من أبوابها .

الخامس : قیل أنّ هذا البحث هو فی ذکر الضابطة فی التزاحم الملاکیّ - لا الإمتثالیّ - بین الأحکام وقد صرّح الشیخ الأنصاریّ قدس سره بوحدة مناط البحث مع موارد صیرورة المحلّل مقدّمة بنحو العلّیّة للمحرّم ، ومن ثمّ الفرق بینه وبین موارد المصالح المرسلة وسدّ الذرائع ، والفرق بینهما وبین جملة من فتاوی الأعلام فی جواز التشریع مع توقّف الإنقاذ المستقبلیّ علیه لا الحالیّ ، وکذلک تجویز ارتکاب بعض المحظورات لأجل تجنّب الضرر المستقبلیّ البعید أو القریب لا الحالیّ الفعلیّ ، وکذلک الحال فی بعض موارد الحرج التقدیریّ المستقبلیّ .

السادس : إنّ الجهة المشترکة والسمة المتّحدة فی بحث الشروط والصلح والنذر وأخویه وطاعة الوالدین ممّا قد قُیِّد بأن

« لا یخالف الکتاب و السنة » ولأنّ

« شرط الله قبل شرطکم » هو فی تحدید ولایة الفرد وسلطنته ، فلا ثبوت لها مع

ص:263

مخالفتها لولایة اللّه تعالی وولایة رسوله التشریعیّة وغیرهما ، وبالتالی لا یمکن له أن یلتزم أو یتعهّد بما هو خارج عن ولایته وسلطنته .

فمورد قدرة الفرد وولایته هو فی التصرّف الذی لم یمنع شرعاً ، أی فی إرادة اللّه تعالی ورسوله ، وهذه الضابطة لا تختص بولایة الفرد وسلطنته وتحدید التزاماته ، سواء فی لون الشرط أو الصلح أو النذر وأخویه أو حقّ طاعته کوالد لا تختص هذه الضابطة بولایة الفرد ، بل تعم کلّ والی سواء فی الولایات العامّة ، کالنیابة العامّة عن المعصوم فی القضاء والحکم وبیان الأحکام ، أو الولایة والنیابة الخاصّة فی الأُمور الثلاثة ، أو فی الولایات المتوسّطة کالأوقاف والحسبیّات العامّة والوصایا ، فإنّ الوالی فی کلّ أقسام الولایات محدودة ولایته بعدم مخالفة التشریعات الإلهیّة من الکتاب والسنّة ، سواء سنّة النّبی صلی الله علیه و آله و سلم وسنّة أهل بیته علیهم السلام فإنّ الطاعة والولایة أوّلاً للّه تعالی ، ثمّ لرسوله ، ثمّ لأُولی الأمر من أهل بیته .

وبالتالی فهذه القاعدة لیست میزاناً للحکم فی باب الفتیا وفقه الفرد ، بل میزانٌ للحکم فی باب الحکومة السیاسیّة وفقه الدولة . ویعضد عموم القاعدة أنّ عموم

« المؤمنون عند شروطهم » لا یختصّ بالشروط علی النطاق الفردیّ فی المعاملات المادّیّة والإیقاعات فی الأحوال الشخصیّة ، بل یشمل الشروط فی باب العهود التی تجریها الحکومة الإسلامیّة ، الوالی مع الأطراف الأُخری الإسلامیّة أو غیرها فی المعاملات المالیّة أو السیاسیّة أو العسکریة والأمنیّة وغیرها ، فإنّ العموم شامل لذلک فی ما ثبتت ولایته للوالی ، وکذلک فی عقد الصلح ، فإنّه لیس خاصّاً بالنطاق الفردیّ بل شامل لعهود الدولة والحاکم .

ومن هنا تتبلور أهمّیة هذه القاعدة وعمومها للأبواب ولمختلف أقسام شرط الصلح فی مختلف ضروب الحکم وأنّ ولایة وسلطنة الفرد أو الولاة هی محدودة بولایة اللّه ورسوله والأئمّة من أهل بیته ، أی الحکم التشریعیّ والقضائیّ

ص:264

التنفیذیّ ، وسیترتّب من هذا التحریر لحقیقة البحث رفع الإبهام فی کثیر من جهات دلالة الروایات المتقدِّمة .

کما أنّ البحث فی القاعدة یظهر منطقة السعة للحاکم فی تخیّر الأوفق من السیاسات والتدبیرات للوصول إلی الأغراض الشرعیّة مادام ذلک فی حدود الموافق للاُصول الأوّلیّة ولم یخالفها .

السابع : قد ذکر بعض الأعلام أنّ مفاد البحث فی القاعدة هو للتنبیه علی أنّ الشرط وبقیّة العناوین المستثنی منها المخالفة ، لیست علی حذو العناوین الثانویّة الأُخری کالضرر والحرج ، وعناوین الرفع الأُخری ممّا یتقدّم علی الأحکام ( العناوین الأوّلیّة ) مطلقاً ، لجهة أهمّیتها فی التزاحم الملاکیّ ، کما هو الضابطة فی العناوین الثانویّة ولکون عناوین الرفع رافعة للتنجیز والعزیمة دون أصل الحکم ، بینما الشرط والصلح ونحوهما موجب لتبدّل الحکم ، کما أنّ عناوین الرفع ناشئة من مصلحة التسهیل الملزمة وترخیصها ، أمّا عناوین العهد والإلتزام فناشئة من مصلحة الوفاء بالعهد المقترح المبتدأ ، أو ولایة بعض الموالی ، وقد أشار إلی وجود الفرق إجمالاً الشیخ الأنصاری قدس سره فی المقام .

الثامن : قد أشار صاحب « الکفایة » فی موضع من مباحث الألفاظ إلی أنّ العناوین الثانویة حاکمة صورة ، أی بحسب عالم الدلالة ، ومزاحمة لبّاً ، وقد یظهر ذلک من الشیخ کما فی تنافی الضررین وغیرهما ، وهو ممشی مشهور الفقهاء .

نعم ، مشهور هذا العصر البناء علی أنّها حاکمة صورةً ومخصّصة لبّاً ، ولا یخفی خطورة وأهمّیة الفرق بین المسلکین فی موارد عدیدة ، والمسلک الأوّل هو المتعیّن کما حرّر فی محلّه .

وعلی ذلک فیکون تقدّم العنوان الثانویّ علی الأوّلیّ هو لأهمّیّته ملاکاً ،

ص:265

کما تقدّمت الإشارة إلی ذلک ، وعلیه فیکون محصّل الاستثناء فی المقام هو أنّ الشرط والصلح ونحوهما من العهود والإلتزامات ( أی الولایات الفردیّة وغیرها ) لا تزاحم الأحکام الأوّلیّة الإقتضائیّة ملاکاً ، بخلاف عناوین الرفع الستّة ونحوها ، لاسیّما وإنّ عناوین الرفع کما تقدّم لا تغیِّر الأحکام الأوّلیّة عمّا هی علیه ، کما هو مسلک مشهور طبقات الفقهاء عدا هذه الأعصار ، بل غایة الأمر ، هی ترفع تنجیزها کما هو شأن المتزاحمین بخلاف المخصّص أو الوارد ، کما هو الحال فی عنوان الشرط والصلح ، والنذر وأخویه ، وطاعة الوالدین والموالی .

وعلی ضوء ذلک فلابدّ فی الإلتزامات والعهود الداخلة تحت ولایة الفرد والأفراد أن تکون غیر منافیة للأحکام الأوّلیّة والتی هی من ولایة اللّه تعالی ورسوله ، بل ملائمة معها من باب جمع الملاکین ، فیعود هذا النمط من العناوین الثانویّة ، کنمط عناوین الرفع ، غیر مخصّص ولا وارد علی الأحکام الأوّلیّة ، بل مجتمع معها من دون تنافی لا فی الملاک فضلاً عن الجعل والإنشاء ، بل ولا فی الأثر وهو التحریک والبعث والتنجیز والترخیص .

ومن ثمّ ارتکز فی کلماتهم حول القاعدة ، أنّ مورد الشروط والصلح ونحوهما هو فی تمییز الأحکام الطبعیّة الاقتضائیّة عن الفعلیّة الباتّة وغیر ذلک ممّا قیل فی ضابطة کیفیّة التعرُّف علی عدم منافاة الأحکام الأوّلیّة مع ولایة الفرد والأفراد والتزاماتهم وعهودهم الداخلة تحت سلطنتهم کما سیأتی البحث فی ذلک .

التاسع : قد ذکر المحقّق النراقی وجماعة أنّ المخالفة فی المقام تختلف عن المخالفة فی باب التعارض ؛ فإنّ العموم والخصوص المطلق یعدّ مخالفة فی المقام بخلاف باب التعارض ؛ وکذا الحال فی الإطلاق والتقیید ، وکذلک حمل العامّ والمطلق علی الخاصّ والمقیّد ، بل وکذلک کلّ وجوه الجمع العرفیّ الاُخری

ص:266

من حمل الظهور الأضعف علی الأقوی علی اختلاف أنواع وضروب القرینیّة .

بعبارة جامعة لا یرفع التنافی فی المقام بما یرفع فی باب التعارض بالتصرّف فی دلالة أحد الطرفین ، ففی المقام لا تغیّر دلالة أدلّة الأحکام عمّا هی علیه ، ولا یلاحظ التوفیق بین دلالتها ودلالة نفوذ الشروط والصلح والنذر ونحوها من الإلتزامات ، وفی الحقیقة أنّ أدلّة الأحکام الثانویّة مطلقاً سواء کانت رافعة مثبتة من النمطین - اللذین تقدّمت الإشارة إلیهما - لا یتصرّف بها فی دلالة الأحکام الأوّلیّة ، بخلاف أدلّة الأحکام الأوّلیّة فیما بین بعضها مع البعض .

وعلی ذلک ، فالعناوین الثانویّة بکلا النمطین حالات وأطوار للحکم الأوّلیّ من دون أن تتصرّف فی جعله . فمن ثمّ یظهر تفسیر آخر للموافقة للکتاب والسنّة المأخوذة فی ألسنة بعض روایات القاعدة ، المقابل لأخذ عدم المخالفة لها ؛ أنّه نفی لمطلق المخالفة ، وبالتالی تکون موافقة مع طبیعة الحکم الأوّلی ولا تنافی شؤونه .

العاشر : إنّ بطلان الإلتزام المخالف للکتاب والسنّة سواء بنحو الشرط أو الصلح ، والنذر وأخویه ، وغیرها ، مطرّد حتّی للإلتزام والعهد للّه تعالی ، فلا یصحّ النذر وأخویه مع کونه عهداً والتزاماً له تعالی ، فالإتّباع والطاعة لأحکامه تعالی مقیّدة لسلطان عبیده فی ما یلتزمونه ویتعهّدونه علی أنفسهم له تعالی . فالشروط مبتدأة منه تعالی علیهم لا منهم له علی أنفسهم .

الحادی عشر : إنّ شأن الحکم الثانویّ کالعناوین العذریّة الستّة ، فضلاً عن المثبتة من الشرط وبقیّة الإلتزامات ، لیس هو الدوام والثبات ، بل ذلک شأن الأحکام الأوّلیّة ، بل شأنها هو الطروّ الإتّفاقی المؤقّت ، والزوال من دون استمرار .

وبعبارة اخری : حیث قد عرفنا أنّ العناوین الثانویّة العذریّة مزاحمة لبّاً للأوّلیّة

ص:267

والتزاحم لا یکون حالة دائمیّة بین الأحکام بل الحالة الطبیعیّة هی الوفاق بینها فی التدبیر الفردیّ أو الاجتماعیّ ، ومن ذلک یکون الحال أجلی فی الثانویّة المثبتة . نعم ، لمّا کان مورد المثبتة هو - کما مرّ - الأحکام اللااقتضائیّة کما فی أکثر المباحات کان فیها البقاء الحیثیّ أطول مدّة .

فقه الروایات

اشارة

وأمّا تقریب دلالة الروایات والتی مواردها بمثابة تطبیقات لهذه القاعدة ویظهر من خلالها فوائد :

فالاُولی : وهی صحیح الحلبیّ المتقدّم ، وهی مطابقة فی المورد مع صحیحه الآخر وهی الروایة السابعة المتقدّمة ، وکذا مع الروایة الثامنة .

الفائدة الاُولی : الفرق بین الحقّ والحکم

وقد فرّق فی الروایة بین اشتراط عدم البیع وعدم الهبة من جانب وبین عدم الإرث - والذی عبّر عنه بالروایتین الاُخریین بعدم ولاء العتق - من جانب آخر ، والفرق بحسب الظاهر أنّ البیع والهبة تصرّف موکول فی الشرع إلی سلطنة المالک فله أن لا یقدم علیه ، ومن ثمّ له أن لا یلتزم علی نفسه بعدم الإقدام علیه ، لیس مودّی الشرط - أی ذات ما وقع اشتراطه - هو تحریم التصرّف علی نفسه ، وهذا بخلاف الإرث ، فإنّه حکم شرعیّ لا ینطوی تحت تصرّف المکلّف کی یتشارط علی عدمه ، ومثله جعل الولاء لغیر مَن اعتق .

وأمّا الثانیة : فقد جمع صحیح عبداللّه بن سنان بین التقیید بعدم المخالفة وبلزوم الموافقة ، بخلاف صحیحه الآخر وصحیح الحلبیّ ثمّة ، فإنّهما اقتصرا

ص:268

علی نفوذ وإمضاء کلّ شرط إلّاالمخالف .

الفائدة الثانیة : فی معنی الموافقة

وقد تقدّم أنّ الأقرب فی معنی الموافقة هو الملاءمة مع الأحکام الأوّلیّة ، وهو یتطابق مع نفی مطلق المخالفة من رأس ، فمثلاً اشتراط عدم البیع وعدم الهبة یتوافق مع تشریع البیع والهبة وإیکالهما إلی سلطنة المالک ، فإنّ الإشتراط المزبور یتماشی مع طبیعة الجعل الشرعیّ الأوّلی فی باب البیع والهبة ، فیکون وفقاً وموافقاً له ولا یتنافی معه کی یکون مخالفاً له ولو بنحو العموم والخصوص المطلق وغیرهما من أنحاء التنافی ولو غیر المستقرّ فی الأدلّة المتعارضة .

ولک أن تقول : إنّ التصرّف المأذون فیه ، سواء کان بنحو الفعل أو النتیجة الوضعیة بالإذن التکلیفیّ الوضعیّ ؛ هو موافق للکتاب والسنّة ، فالترخیص فی التصرّف من الکتاب والسنّة یوجب کون الاشتراط لذلک التصرّف عملاً بالجعل الأوّلیّ فی الکتاب والسنّة .

وأمّا الثالثة : وهی موثّقة إسحاق ، فموردها یتطابق مع الرابعة وما یتلوها ، إلّا أنّ اللفظ فیها عامّ ؛ لأنّ وجه التعرّض لما یشترط الزوج علی نفسه لزوجته هو دفع توهّم منافاة ذلک لقوّامیّة الرجال علی النساء ، وقد تمیّزت هذه الموثّقة بتقیید الشرط بعدم تحریم الحلال أو تحلیل الحرام . وقد ورد هذا التعبیر فی العاشرة کروایة سلمة فی الصلح :

« إلا صلحا حرم حلالا ، أو أحل حراما » (1) .

وکذا ما ورد فی الیمین من أنّها :

«لا تجوز فی تحلیل حرام ، و لا تحریم حلال » (2).

ص:269


1- (1) وسائل الشیعة : 27 : 212 ، الحدیث 1 .
2- (2) وسائل الشیعة : 22 : 44 ، الحدیث 2 .

وقد وقع الکلام فی مفاد هذا اللسان من دلیل القاعدة هل أنّه مغایر لعنوان المخالفة والموافقة وفی تفسیر التحلیل والتحریم .

وقال المحقّق النراقی :

« وأمّا الثانی - أی الشرط الذی أحلّ حراماً - فعدم الإعتداد به أیضاً منصوص علیه . . ، إنّما الإشکال فی فهم المراد منه ، حیث أنّ کلّ شرط یوجب تحریم حلال أو تحلیل حرام فإنّ اشتراط عدم الفسخ یوجب تحریم الفسخ الحلال ، وکذا اشتراط عدم إخراج الزوجة من بلدها ، واشتراط خیار الفسخ یوجب تحلیل الحرام ، فإنّ الفسخ لولا الشرط کان حراماً وهکذا .

ولذا تری أنّه قد وقع کثیر من الأصحاب فی حیص وبیص من تفسیره . فمنهم مَن حکم بإجماله ، ومنهم من فسّر تحریم الحلال وتحلیل الحرام بالتحریم الظاهریّ للحلال الواقعی والتحلیل الظاهری للحرام الواقعیّ . وقیل : المراد بالحلال والحرام فی المستثنی ما هو کذلک بأصل الشرع من دون توسّط العقد . . .

قیل : هو تعلُّق الحکم بالحلّ أو الحرمة مثلاً بفعل من الأفعال علی سبیل العموم من دون النظر إلی خصوصیّة فرد ، فتحریم الخمر معناه منع المکلّف عن شرب جمیع ما یصدق علیه هذا الکلّی وهکذا حلّیّة البیع ، فالتزوّج والتسرّی مثلاً أمر کلّی حلال والتزام ترکه مستلزم لتصریحه ، بل وکذلک جمیع أحکام الشرع من الطلبیّة والوضعیّة وغیرها ، وإنّما یتعلّق الحکم بالجزئیّات باعتبار تحقق الکلّی فیها .

ص:270

فالمراد من تحلیل الحرام وتحریم الحلال المنهیّ عنه : هو أن تحدث قاعدة کلّیة ، ویبدع حکماً جدیداً - إلی أن قال - وکلّ هؤلاء أخطأوا الطریق فی فهم الحدیث مع أنّه ظاهر - علی فهمی القاصر - غایة الظهور کما یظهر ممّا ذکرنا فی بیان مخالف الکتاب والسنّة .

والحاصل أنّ عبارة الإمام علیه السلام هکذا :

إن المسلمین عند شروطهم إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراما.وفاعل ( حرّم ) و ( أحلّ ) هو ( الشرط ) ، فالمستثنی شرطٌ حرّم ذلک الشرط الحلال أو أحلّ الحرام ، وهذا إنّما یتحقّق مع اشتراط حرمة حلال أو حلّیّة حرام ، لا مع اشتراط عدم فعل حلال . . ولم یقل « إلّاشرطاً حرّم إیجابه حلالاً . . . » .

ویکون الشرط فی ذلک کالنذر والعهد والیمین ، فإنّه إذا نذر أحد أو عاهد أو حلف أن یکون المال المشتبه علیه حراماً شرعاً أو یحرّم ذلک علی نفسه شرعاً ، لم ینعقد . . نعم ، لو شرط فعل ما ثبتت مرجوحّیّته بالکتاب أو السنّة تحریماً کراهةً ، أو ترک ما ثبت رجحانه بهما وجوباً أو استحباباً ، یحصل التعارض بین ما دلّ علی ذلک من الکتاب والسنّة ، وبین دلیل وجوب الوفاء بالشرط ، واللازم فیه الرجوع إلی مقتضی التعارض والترجیح . . . ، ثمّ لو جعل هذا الشرط أیضاً من أقسام المخالف للکتاب والسنّة کما یطلق علیه عرفاً أیضاً ؛ لم یکن بعیداً »(1) .

ص:271


1- (1) عوائد الأیّام - العائدة 15 : 146 - 151 .
الفائدة الثالثة : معانی التحلیل والتحریم

المحصّل من الأقوال التی ذکرها فی تفسیره :

الأوّل : الشروط المبنیّة علی اجتهاد أو تقلید سابق ، ثمّ تبدّل إلی خلافه ؛ وهو أقرب الوجوه للتحلیل والتحریم الظاهری .

الثانی : اشتراط ما یخالف الحرام أو الحلال بحسب التشریع الأوّلی للأشیاء ، أی ما لم یجعل تحت ولایة وسلطة الفرد والأفراد کما هو الحال فی المعاملات والإیقاعات التی هی تصرّفات وأفعال اعتباریّة ؛ وهو یطابق أحد التفاسیر المتقدّمة لشرط المخالف للکتاب والسنّة ، وقد تقدّم قوله .

الفائدة الرابعة : الجزئیّة طابع الحکم الثانویّ

الثالث : وهو الذی ذهب إلیه المحقّق القمّی قدس سره من أنّه المنع عن المحلل علی نحو الکلّیة أو فعل المحرّم کذلک ؛ ولا یخفی شدّة ظهور المخالفة من الشرط علی هذا التقدیر لانحصار مورد المخالفة بذلک ، لأنّ کلّیة التصرّف تصّاعد به إلی التقنین العامّ الذی هو مرتبة الجعل الشرعیّ ، بخلاف المنافاة مع موارد التطبیق والمصادیق ، ولک أن تقول : إنّ المنافاة حینئذ بنحو البینونة ، بخلاف موارد التطبیق فإنّ المنافاة بنحو التخصیص .

وبعبارة ثالثة : إنّ المخالفة فی الاشتراط الکلّیّ والإلتزام العامّ والصلح بذلک تکون علی درجة التشریع العامّ ، ومن ثمّ عبّر عنها بإبداع القاعدة الکلّیة ، وقد ورد فی باب الیمین والنذر والعهد إبطال هذا النحو من الإلتزام ، نظیر ما ورد(1)

ص:272


1- (1) وسائل الشیعة : 23 : 243 ، الباب 19 من أبواب الأیمان .

فی سبب نزول الآیة : ( لا تُحَرِّمُوا طَیِّباتِ ما أَحَلَّ اللّهُ لَکُمْ ) (1) فی مَن حلف أن لا ینام أبداً والآخر حلف أن لا یفطر النهار أبداً والثالث حلف أن لا ینکح أبداً وإنّ ذلک من تحریم الطیّبات ولا عبرة به .

هذا مضافاً إلی أنّ شأن العنوان الثانویّ سواء کان رافعاً کالعناوین العذریّة - فضلاً عن المثبت کالشروط والإلتزامات الأُخری - لیس هو الدوام والثبات والذی هو شأن الحکم الأوّلیّ بل الطروّ الاتّفاقی أو الحیثیّ کما مرّ بیانه .

الرابع : وهو مختاره من کون المراد من الشرط فی القاعدة هو نفس الإلتزام لا الفعل المشروط .

الفائدة الخامسة : حقیقة الشرط والاشتراط

لکنّ الأظهر إرادة المحقّق النراقیّ قدس سره ما استظهرناه فی ما سبق من إرادة المنشأ بالشرط والإلتزام ، وهو المعنی الوضعیّ ، سواء فی شرط النتیجة أو فی شرط الفعل . فإنّ المنشأ - کما هو التحقیق - فی شروط الفعل لیس الإلتزام بالفعل ، بل الإلتزام بتملیک واستحقاق الفعل ، فالمشروط فی الحقیقة ذلک المعنی الوضعیّ ، غایة الأمر الإلتزام یتمّ به کما فی العقود ، والفعل متعلّق له ، لا أنّ ذات الفعل یتعلّق بها الإلتزام مباشرة کما هو فی التزام الفعل فی الإجارة ، فإنّ الملتزم به بالذات تملیک الفعل ، والفعل متعلّق متعلّق الإلتزام .

وعلی أیّ تقدیر فقد جعل النراقیّ قدس سره أنّ مورد المخالفة هو مالو کان المنشأ عنوان الحرمة للحلال الشرعیّ أو عنوان الحلّیّة للحرام الشرعیّ لا ما إذا جعل

ص:273


1- (1) المائدة 5 : 87 .

متعلّق الإلتزام والشرط عدم فعل الحلال أو فعل الحرام .

الفائدة السادسة : المختار فی معنی التحلیل والتحریم

وما ذکره وإن کان من موارد المخالفة الجلیّة جدّاً ، کما هو الحال فی مختار المحقّق القمّی قدس سره إلّاأنّه لا تنحصر موارد التحلیل والتحریم والمخالفة بذلک ، قد استعمل التحریم للحلال أو التحلیل للحرام فی المنع عن فعل الحلال أو التزام فعل الحرام ، کما فی قوله تعالی : ( یا أَیُّهَا النَّبِیُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللّهُ لَکَ ) (1)وکان صلی الله علیه و آله و سلم قد حلف أن لا یقرب ماریة .

وبعبارة اخری : إنّ التحریم لیس إلّاالمنع ، والتحلیل لیس إلّاالإطلاق والإرسال کما فی قوله تعالی : لا تُحَرِّمُوا طَیِّباتِ ما أَحَلَّ اللّهُ لَکُمْ (2) وکان أمیر المؤمنین علیه السلام حلف أن لا ینام باللّیل أبداً إلّاما شاء اللّه ، وبلال حلف أن لا یفطر بالنهار أبداً ، وعثمان بن مظعون حلف أن لا ینکح أبداً . نعم ، ما یشکل علیه من أنّ التحریم للحلال الشرعیّ لیس بید الشارط کی یحرّم أو یحلّل ، فهو من اشتراط غیر المقدور الممتنع ، مخدوش بأنّ المراد اعتبار الشارط والمشروط علیه ذلک فی اعتبارهما البنائیّ لا فی اعتبار الشارع .

الفائدة السابعة : العلاقة بین التقنین الشرعیّ والعقلائیّ

ومن هنا یجدر التنبیه والإلفات إلی ما راج أخیراً فی عدّة من الکلمات من أنّ التقیید والعمل بالقوانین الوضعیّة البشریّة العصریّة فی المجالات العدیدة - کأنظمة للتدبیر فی النظام الاجتماعیّ والسیاسیّ والمالیّ والأُسریّ والفردیّ والأحوال الشخصیّة - حیث أنّه لیس تشریعاً فی الدین وإبداعاً للأحکام الشرعیّة

ص:274


1- (1) التحریم 66 : 2 .
2- (2) المائدة 5 : 87 .

فلا ضیر فی التقیّد والإلتزام بها وإن لم تدلّ علیها التشریعات الإلهیّة ، مادام أنّ هذا التقنین لیس بعنوان وإسم ونسبة فیه إلی الشرع الحنیف .

وألحق البعض الإلزام والإلتزام العرفیّ الدارج فی بعض المعاملات غیر المصحّحة من الشرع ، ألحق ذلک بالدعوی المزبورة فی الجواز بعد تبانی المتعاملین علی کون ذلک فی اعتبارهما الثنائیّ لا فی الاعتبار الشرعیّ .

وهذا کلّه مخدوش بأنّ الفساد والمنع والبطلان فی اعتبار الشرع لأُمور وأشیاء أو لمعاملات لیس بمعنی أن یظلّ ذلک بنحو الوجود النظریّ الذی لا یجد له طریقاً فی عمل المکلّفین ، بل هو لغایة تقیّدهم باعتبارات ومقرّرات الشارع الإلهیّ ، وترکهم لاعتبارات ومقرّرات أنفسهم ؛ وهو معنی ما مرّ من أنّ المراد فی هذه القاعدة هو تقدّم طاعة اللّه وولایته وطاعة رسوله واُولی الأمر وولایتهم علی ولایة الفرد علی نفسه ، والأفراد علی أنفسهم ، سواء ولایته تعالی فی صورة التشریع أو القضاء أو الحکم التدبیریّ الجزئیّ .

فنهی الشارع ناظر إلی المنع عن بناء المکلّف والمکلّفین علی فعل معیّن فی اعتبار أنفسهم ، لا الردع عن البناء علیه بعنوان أنّه من اعتبار الشارع ، وإلّا لآل الحال فی جمیع النواهی الشرعیّة إلی النهی فی خصوص التشریع فی الدین ، وهو کما تری .

هذا ، فالصحیح أنّ المنع عن الفعل والإرسال له تحریم وتحلیل ، وإن لم یکن بلفظ التحریم والتحلیل ، نعم الظاهر عدم صدقه بمجرّد اشتراط ترک فرد من الفعل المحلّل أو فعل فرد من المحرّم وإن صدقت المخالفة علی شرط فعل فرد من المحرّم ، لکنّه لیس من تحریم الحلال أو تحلیل الحرام ، بل من شرط الحرام ، بل لابدّ من کلّیة الترک أو الفعل ولو النسبیّة بنحو یکون کالمقرّر والقانون الکلّیّ .

ص:275

ومن ذلک وغیره یتّضح أنّ عنوان المخالفة أعمّ من عنوان التحریم أو التحلیل ، إن کان العنوانان لا یختصّان بالتکلیف ، بل یعمّان الحرمة والحلّ الوضعیّین لعموم مادّة الحرمة والحلّ لکلّ من المنع التکلیفیّ والوضعیّ ، سواء بلحاظ ما یضاف إلیه من فعل تکوینیّ ، أو اعتباریّ معاملیّ ونحوه .

وأمّا ما أفاده المحقّق النراقی قدس سره من عدم إسناد التحریم والتحلیل إلی حکم الشرط وهو الإیجاب ، فهو متین ، لکنّه عند اشتراط ترک الفعل المحلّل بنحو کلّیّ أو فعل المحرم بنحو کلّیّ ولو إضافیّ ، یأخذ عنوان استحقاق ذلک ، والذی هو المنشأ وضعاً ، وهو معنی متوسّط بین الإلتزام الشرطیّ والفعل المشروط ، طابع المنع والإرسال وهو التحریم والتحلیل .

وأمّا ما ذکره قدس سره من وقوع التعارض وإعمال الترجیح ، فضعیف غایته ، بعد ما عرفت من تقیید نفوذ الشرط ونحوه من الإلتزامات بعدم المخالفة وصدقها علی ذلک للتعارض .

الفائدة الثامنة : توقّف معرفة المخالفة والموافقة فی القاعدة علی الصناعة التحلیلیّة لحقیقة الأحکام والمباحث القانونیّة البحتة

ثمّ إنّ فی روایة العیّاشی تعلیل بطلان شرط الزوج للزوجة عدم التزوّج علیها أو عدم هجرها أو عدم التسرّی علیها ، بینما فی معتبرة منصور بن بزرج صحّة شرط عدم التزویج علیها ، ولا یخفی أنّ ظاهر روایة العیّاشی بدواً ولفظها وإن کان هو شرط الطلاق المعلّق علی فعل التزویج والهجر والتسرّی ؛ إلّاأنّ المتعارف والمتبادر من مثل هذه الشروط هو التزامان :

الأوّل : هو ترک المعلّق علیه .

ص:276

والثانی : هو المعلّق فی صورة عدم الوفاء بالأوّل وأنّ الثانی هو للردع عن عدم الوفاء بالأوّل لا مجرّد الردع عنه من دون التزام بترکه ، نظیر من یتعاقد ویشترط علی الآخر أن یغرم مقداراً من المال إن لم یخط الثوب .

ویوضّح ذلک موثّق زرارة فی الباب المزبور(1) ومفادها مطابق الروایة الخامسة - الصحیح الآخر لمحمّد بن قیس ، وصحیح عبداللّه بن سنان - ولروایات اخری فی الباب المزبور(2) ومن ثمّ حمل الشیخ معتبرة ابن برزج علی الاستحباب أو التقیّة ، ورجّح جمع من الأعلام مفاد المعتبرة علی بقیّة الروایات .

ذلک لأنّ مفاد الشرط الإلتزام بالفعل أو الترک المجرّد ، ولیس هو مفاداً وضعیّاً لیتنافی مع الجعل الوضعیّ الأوّلیّ ، کما أنّ المشروط لیس المنع بعنوان التحریم کی یتنافی مع الجعل التکلیفیّ الأوّلیّ ، ومن ثمّ حملوا بقیّة الروایات علی ما لو کان الشرط متعلقاً بمفاد وضعیّ أو بعنوان المنع التحریمیّ .

ویرد علی الحمل المزبور أنّ مقتضی الاشتراط کما عرفت هو ثبوت استحقاق وضعیّ للمشروط له علی المشروط علیه ، مضافاً إلی اللزوم التکلیفیّ ، وبالتالی تستحقّ علیه عدم الطلاق وعدم التزویج وعدم التسرّی علیها وعدم هجرها .

وهذا المفاد الوضعیّ ینافی الأحکام الأوّلیّة فی باب الزوج ، لأنّها لیست تکلیفیّة محضة ؛ بل مفادها حقّ الزوج فی ولایة الطلاق والهجر فی المضاجع إن أتت المرأة بسبیل ذلک ، وفی التزویج والتسرّی ولو بلحاظ التأبید فی المنع المشروط فی الأخیرین وإن کان هذا الحقّ غیر قابل للإسقاط .

ص:277


1- (1) وسائل الشیعة : 21 : 275 ، الباب 20 من أبواب المهور ، الحدیث 2 .
2- (2) وسائل الشیعة : الباب 20 من أبواب المهور .

وبعبارة اخری : إنّ الحکم التکلیفیّ النفعیّ لطرف ، ینتزع منه ثبوت حقّ له ، وعلی هذا ففی مثل هذه الموارد التی لا یکون الحقّ قابلاً للإسقاط ولا للانتقال لا یشرع جعل الاستحقاق للغیر بتوسّط الشرط .

الفائدة التاسعة : عموم القاعدة لکلّ إنشاء من عقد أو إیقاع

أو لکلّ التزام

بل لا یختص ذلک بالشرط ، بل یعمّ کلّ إیقاع أو عقد أو التزام واعتبار یخالف حکم الکتاب والسنّة واعتبارهما .

ففی موثّق سماعة بن مهران ، قال : « سألته : عن رجل طلّق امرأته ثلاثاً فی مجلس واحد . فقال :

إن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم رد علی عبد الله بن عمر امرأته ، طلقها ثلاثا و هی حائض فأبطل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ذلک الطلاق ،وقال : کل شیء خالف کتاب الله و السنة رد إلی کتاب الله و السنة » (1) .

وفی صحیح الحلبیّ مثله :

« کل شیء خالف کتاب الله و السنة رد إلی کتاب الله » (2) .

وفی روایة اخری :

« ما خالف کتاب الله رد إلی کتاب الله » (3) .

وغیرها فی ذلک الباب .

الفائدة العاشرة : الاُصول القانونیّة معیار المخالفة والموافقة

وعلی أیّ تقدیر ، فالجدیر بالإنتباه أنّ فی روایة العیّاشی وغیرها تعلیل فساد

ص:278


1- (1) وسائل الشیعة : 22 : 64 ، الباب 29 من أبواب مقدّمات الطلاق ، الحدیث 10 .
2- (2) وسائل الشیعة : 22 : 64 ، الباب 29 من أبواب مقدّمات الطلاق ، ذیل الحدیث 9 .
3- (3) وسائل الشیعة : 22 : 69 ، الباب 29 من أبواب مقدّمات الطلاق ، الحدیث 22 .

الشرط

« بأن شرط الله قبل شرطکم ».

فأطلق علی حکم اللّه بالشرط وهو کما ذکر السیّد الیزدی قدس سره فی أوّل مبحث الشروط فی تفسیر معنی الشرط لغة واستعمالاً وبالنظر إلی عدّة من الروایات الواردة فی تفسیر الشرط کروایات اخری واردة فی تفسیر الآیة : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (1) بأنّها العهود التی للّه تعالی علی خلقه وأنّ العقد لیس إلّاربط الإلتزام من الطرفین ، فهو تشارط متقابل ، وإنّ :

« المؤمنون عند شروطهم » شامل لمثل النذر أو العهد والیمین ، کما هو شامل للإلتزام بین الخلق والمکلّفین بعضهم لبعض .

فالإقرار بالشهادتین ، والإلتزام بالدین ، التزام وتعهّد بمجمل الأحکام والأوامر الشرعیّة ، وحقّ اللّه تعالی وولایته مقدّمة علی کلّ حقّ وولایة لغیره بعد تأخّر تلک العهود والولایات من کلّ وجه عن عهد اللّه تعالی وولایته .

فهذا المعنی أصل مفاد القاعدة کما مرّ وعلی ذلک فذکر تعلیل بطلان تلک الشروط فی روایة العیّاشی بمخالفتها لمفاد الأحکام الثلاثة فی الآیات بعدما مرّ بیانه أنّ مفادها لیس الإباحة الصرفة کما مرّ أو دیمومة المنع فی التزویج والتسرّی .

بل الأکثر وضوحاً فی الدلالة علی التعلیل روایة إبراهیم بن محرز ، حیث علّل فساد شرط کون الطلاق بیدها ، بأنّه مخالف بجعل قوّامیّة الرجال علی النساء ، فلم یعلّل علیه السلام بمخالفة الشرط لجعل الطلاق بید الرجل ، بل علّل بمخالفة عموم فوقانیّ کأصل قانونیّ فوقیّ قد شرع منه الکثیر من التشریعات المتنزّلة ، وهو لیس من العمومات المتعارفة التی تتنزّل بطبعها علی المصادیق ، بل تنزّلها وتطبیقها یحتاج إلی جعل وتشریع تنزّلی ، نظیر الاُصول القانونیّة فی الدساتیر ، فإنّها تتنزّل بتوسّط التشریعات للمجالس النیابیّة ، ولا یصحّ التمسّک بها مباشرة ، بل الحال

ص:279


1- (1) المائدة 5 : 1 .

فی التشریعات العامّة للمجالس النیابیّة ، فإنّه لا تنفّذ ولا تمضی ولا یعمل بها من دون التشریعات الوزاریّة التی هی تنزل للتشریعات النیابیّة .

فالعمومات الفوقانیّة التی هی بمثابة اصول قانونیّة لا تتنزّل ولا تنطبق علی المصادیق إلّابتشریعات اخری متنزّلة ، وهذا یرسم لنا أنّ معیار المخالفة والموافقة هو ما لا یقتصر علی التشریعات التفصیلیّة للأحکام المتنزّلة بل التشریعات الإجمالیّة الاُصولیّة الفوقیّة هی روح ولبّ المخالفة والموافقة .

الفائدة الحادیة عشر : السلطنة علی الشیء لا یسوّغ نفیها عن

موضوعها

وأمّا الروایة السابعة : فهی دالّة علی أنّ السلطنة والملک والحقّ ونحوها وإن کان مقتضاها اختیار صاحبها فی التصرّف ، إلّاأنّه لیس مقتضاها تسلّطه علی سلطنة ملکه فی نفیه وإزالته مع وجود موضوعه . نعم ، تمکن الإزالة بإزالته للموضوع وللسبب ، وهذا نظیر ما أفاده المحقّق الشیخ الأنصاریّ قدس سره فی مفاد :

« الناس مسلطون علی أموالهم » .

إنّ السلطنة مجعولة علی التصرّف فی الأموال لا علی نفس السلطنة ولا علی أحکام الأموال .

أمّا الروایة الثامنة والتاسعة : فالتقابل بین المشروط لیس فی کون مورد الثامنة هو شرط النتیجة ومورد التاسعة هو شرط الفعل ، بل الأهم هو کون مورد الأُولی مضادّ للحکم الشرعیّ من إرث ذوی الأرحام ، بخلاف مورد الثانیة ، فإنّه عمل بمقتضی الحکم الشرعیّ ومترتّب علیه کما لا یخفی .

ص:280

ضوابط المخالفة فی الکلمات

ثمّ أنّه ینبغی التعرّض لکلمات الأعلام فی المقام .

الأوّل

ما ذهب إلیه الشیخ الأنصاریّ قدس سره من أنّ ضابطة المخالفة هو مخالفة الحکم المطلق والفعلیّ ، بخلاف مخالفة الحکم الطبعیّ الاقتضائیّ ، ثمّ خاض قدس سره فی ضابطة الحکم المطلق والحکم الطبعیّ .

فالوضعیّ فی الغالب مطلق فعلیّ ، بخلاف التکلیفیّ لا سیّما غیر الإلزامی ، ثمّ ألحق بالتکلیفیّات الأحکام الوضعیّة التی بعنوان الملک والحقّ .

وقد یخدش فی هذه الضابطة أنّ مخالفة الوضعیّات فی الملتزم به وذات المشروط ماهیّة ، ومخالفة التکلیفیّات فی الإلتزام والتعهّد ، یرجع ویؤول إلی طبیعة وسنخ الحکم الوضعیّ والتکلیفیّ ، ففی ماهیّة المشروط بما هی هی کما فی الأحکام الوضعیّة بما أنّها ماهیّة مقرّرة بغضّ النظر عن فعل المکلّف والذی انیط الحکم التکلیفیّ به کما هو الحال فی الإلتزام والتعهّد .

ثمّ إنّ الشیخ قدس سره نبّه علی أنّ بعض الرخص والمباحات اقتضائیة لا تتغیّر ، وقد ذکر بعض المحقّقین أنّ ضابطة الحلّ والرخصة الاقتضائیّة هو الجواز والحلّ المترتّبة علی الحکم الوضعیّ ، دون الحلّ والإباحة المجرّدة .

ص:281

هذا ، وقد نبّه الشیخ قدس سره أنّ عنوان الضرر والحرج یختلف عن بقیّة العناوین الثانویّة فیقدّمان مطلقاً بخلافها ، وقد ذکرنا وجه التفرقة فی الأُمور التی ذکرنا فی حقیقة موضوع البحث ، فلاحظ .

الثانی

ما ذهب إلیه جملة من الأعلام من أنّ الإطلاق اللفظیّ للحکم الشرعیّ هو ضابطة مخالفة الشرط ، وعدمه یزیل عنوان المخالفة ، وبعبارة اخری الإطلاق أو العموم اللفظیّ لحکم الشیء ولو بلحاظ الحالات الطارئة المختلفة وتارة لحکم الشیء من حیث هو ، إمّا لأنّه لا إطلاق له ، أو لدلالة الدلیل علی أنّ الحکم للشیء من حیث هو وفی حدّ نفسه أو مقیّد بعدم الطوارئ .

فعند الشکّ فی عنوان المخالفة لا یصحّح الشرط عند فرض تعارضه مع عموم الوفاء بالشرط ومع عموم الحکم الأوّلی بل یکون عموم الوفاء موروداً .

الثالث

ما مال إلیه المحقّق النراقیّ قدس سره لکنّه لم یستقرّ علیه ، وهو إجراء مرجّحات التعارض بین إطلاق وعموم الحکم الأوّلیّ وعموم الشروط فالراجح یقدّم ، بخلاف ما إذا کان تنافی الشرط بما هو مع الکتاب فإنّ المخالفة صادقة مطلقاً حینئذ دون مخالفة الإلتزام للإلزامیّات .

الرابع

ما ذکره بعض من أنّ الضابطة ورود الحکم فی الکتاب وعدمه .

ص:282

الخامس

ما ذهب إلیه السیّد الیزدیّ قدس سره أنّ ضابطة التحریم والتحلیل المفسدة للشرط هو مخالفة الکتاب ، لکن لا مطلق المخالفة . نعم ، المنافی الدائم فی غیر الإلزامیّات مخالف ، وکذلک المنع عن المباح بلفظ النفی ، أو المنع والتحریم عنواناً .

وأمّا فی الأحکام الإلزامیّة فالمنافاة لها ولو فی الحکم الجزئیّ مخالفة فضلاً عن الحکم الکلّی فیها ، کذلک الواجب أو فعل الحرام ، وکذلک تصدق المخالفة فی الحکم الوضعیّ إذا جعل فی الشرط لغیر من جعله اللّه تعالی له ، دون ما لو کان بنحو شرط الفعل المتعلّق بالحکم الوضعیّ .

والوجه الذی یذکر فی هذا التفصیل هو أنّ الفارق بین الحکم الإطلاقیّ والطبعیّ هو فی نکتة التزاحم ، حیث لا یزاحم المباح اللزوم الطارئ بخلاف اللزوم الأوّلی ، فإنّه لا یدفع باللزوم الطارئ إلّاإذا کان فی غایة القوّة کالضرر والحرج فلیس الطارئ والثانویّ علی وتیرة واحدة فی التکلیفیّات .

السادس

نبّه بعض الأعلام علی أنّ المخالفة کما قد تکون بالإضافة إلی العمومات الأوّلیّة کذلک قد تکون بالإضافة إلی العمومات الثانویّة ولو الظاهریّة کالاُصول العملیّة الظاهریّة .

السابع

قد تبیّن ممّا مرّ من المختار أنّ ضابطة الحکم المطلق الفعلیّ هو الحکم المتنزّل من أصل قانونیّ فوقیّ ، وأنّ العبرة بذلک فی المخالفة دون سائر الأحکام التی

ص:283

لا تعتضد بذلک کما هو الحال فی غیر الإلزامیّات من المباحات غالباً .

وبعبارة اخری أنّ ما ذکر فی کلمات الأعلام من التفاصیل کاللوازم والعلامات الإنّیة ومنشؤها هو وجود الاُصول القانونیّة الفوقیّة وهی تأبی التخصیص بطبعها کما ذکرنا لاختلافه عن العموم المتعارف فإنّ المخصّص لابدّ أن یکون من رتبة العامّ کی یقوی علی التصرّف فیه دون ما إذا اختلفت الرتبة .

الثامن

فی تحریر الأصل العملیّ بتقریر أصالة العدم فی عنوان المخالفة ولو بنحو العدم الأزلیّ . أمّا بلحاظ وجود الشرط حیث لم یکن ، فلم تکن صفة المخالفة أو بلحاظ ما قبل الشرع بلحاظ تقرّر ماهیّة نفس المشروط .

نعم ، علی تقدیر عدم تمامیّة الأصل الموضوعیّ تصل النوبة إلی الأصل الحکمیّ ، وهی أصالة عدم نفوذ الشرط وعدم وجوب الوفاء به ، کما ذهب إلی ذلک المحقّق النائینیّ قدس سره حیث بنی علی أنّ الأصل العدم الأزلیّ لا یجری فی موارد الشکّ فی انطباق عنوان المخصّص لکون العدم المأخوذ فی العموم بسببه هو العدم النعتیّ ، وإن کان الصحیح هو جریان الأصل فی العدم الأزلیّ .

هذا ، ولکنّ جریان الأصل لا یخلو من إشکال مع إطلاق دلیل الحکم الأوّلی وإن شکّ فی کونه طبعیّاً أو فعلیّاً وحصول التعارض کاف فی إسقاط عموم الوفاء بالشرط ونحوه من عمومات الإلتزام الأُخری ، نعم مع عدم الإطلاق یتمّ جریانه وإمّا مع مجرّد الشکّ فی طبعیّته نحوها ، فلا .

ص:284

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.