ص: 2

بقول کذبت غیره ، ثم قال: ما خلق الله عز وجل بقعة فی الأرض أحب إلیه منها، ثم أومأ بیده نحو الکعبة ، ولا أکرم علی الله عز وجل منها ، لها حرَّم الله الأشهر الحرم فی کتابه یوم خلق السماوات والأرض ، ثلاثة متوالیة للحج: شوال وذو العقدة وذو الحجة ، وشهر مفرد للعمرة وهو رجب » .

وعندما تتبعت مصدر أحادیث الغلو فی مدح الشام ، وجدت أن ناشرها کعب الأحبار وتلامیذه ، وحامل رایتها معاویة وأعوانه . لذا قررت التوقف فی کل حدیث یمدح بلاد الشام وأهلها ، وحتی بیت المقدس وأهله ، حتی یثبت من طریق لیس فیها رائحة الیهود وبنی أمیة .

وکان آخر ما صادفته فی الموضوع من أحادیث أهل البیت (علیه السّلام) حدیث صحیح لعلی (علیه السّلام) یفضل فیه مصر وأهلها علی الشام وأهلها ! فتعجبت منه وأهدیته الی صدیق عزیز من علماء مصر، هو السید محمد عامر حفظه الله ، فطلب منی بقیة أحادیث أهل البیت (علیه السّلام) فی الموضوع ، فأهدیت له ما تیسر منها .

فعاودنی قائلاً إن أصدقاءنا قالوا إن هذا الموضوع یحتاج الی کتابة بقلمک ، خاصة وأن مصر تنفست بثورتها عَبَق الحریة ، وهو عبق أهل البیت (علیه السّلام) .

فأجبت طلبه بکتابة هذا الموضوع ، آملاً أن یکون فیه خدمة للعلم ، ورضاً لله تعالی ، ورسوله وأهل بیته الطاهرین ، صلوات الله علیهم .

کتبه: علی الکَوْرانی العاملی

غرة رجب الأصب 1432ه- . 4/6/2011م.

ص: 4

وقال ابن حجر فی فتح الباری:3/55: « استثنی عیاض البقعة التی دفن فیها النبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، فحکی الإتفاق علی أنها أفضل البقاع ».

2. قال الإمام محمد الباقر (علیه السّلام) عن الکعبة إنها أحب بقعة الی الله: (ما خلق الله عز وجل بقعة فی الأرض أحب إلیه منها ). (الکافی:4/239).

وکونها أحب البقاع الی الله تعالی ، لایمنع أن یکون غیرها أفضل منها کالتربة التی دفن فیها النبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، ومنها التربة التی دفن فیها سبطه الحسین (علیه السّلام) ، لأن حسیناً منه وهو منه ، وتربته من تربته (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) .

3. أما تفضیل أهل بلد علی غیرهم ، فالمقصود بهم المعاصرون لصدور النص ، أو من رضی بفعلهم ، ولیس أبناءهم ولا کل کل من سکن ذلک البلد من الأجیال . فعندما یذم النبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) أهل مکة فمقصوده المعاصرون له منهم ، أو من فعل فعلهم ورضی به ، ولیس کل جیل منهم ، ولا کل من سکن مکة .

وعندما یذم علی (علیه السّلام) أهل الکوفة ، أو أهل العراق ، فمقصوده الجیل المعاصر له ، ولیس کل جیل منهم ، إلا من رضی بفعلهم .

4. وقد یکون تفضیل أهل بلد علی بلد فی المستقبل فی ظرف معین کالتفضیلات التی وردت لأهل بعض البلدان والأقوام الذین ینصرون الإمام المهدی (علیه السّلام) ، أو یعادونه ویقفون ضده ، فهو تفضیل خاص بذلک

ص: 6

الظرف ، ولا یشمل کل جیل ، أوکل قومیة .

وبکلمة: لا یوجد فی مفهوم الإسلام سمات ذمٍّ لجنس أو سکان بلد مطلقاً .

5. وهناک تفضیل لأهل البلد بمعنی أنَّ فیه ما یقتضی أفضلیة أهله بسبب تکوینه ومقوماته الإجتماعیة . وبهذا المعنی تفضیل النبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) لأهل الیمن علی أهل نجد ، کالذی رواه البخاری:4/98: «الإیمان یمانٍ . ألا إن القسوة وغلظ القلوب فی الفدادین ، عند أصول أذناب الإبل ، حیث یطلع قرنا الشیطان فی ربیعة ومضر » .

وفی صحیح مسلم:1/52:« الإیمان یمانٍ والکفر قبل المشرق. والسکینة فی أهل الغنم . والفخر والریاء فی الفدَّادین أهل الخیل والوبر» .

فالأفضلیة هنا اقتضائیة ، بمعنی أن بقعة نجد وطبیعة الحیاة فیها تقتضی أن یکون أهلها بهذه الصفات ، وبقعة الیمن والحیاة فیها تقتضی أن یکون أهلها أفضل . فالأفضلیة هنا للمجموع الکلی ، ولیس لکل فردٍ فرد بالعموم الإستغراقی .

وبهذا المعنی قول علی (علیه السّلام) : إن مصر أعظم من الشام خیراً ، وخیر أهلاً، فهو یعنی أن مصر خیر من بلاد الشام ، لأن فی تکوینها وطبیعة حیاتها ما یقتضی تفضیل أهلها علی أهل الشام .

والمفضل هو المجموع الکلی لأهلها ، لا أن کل فردٍ فردٍ فی مصر أفضل من

ص: 7

کل فرد فی الشام ، فقد یکون شامیٌّ ما أفضل من مصریٍّ ما .

6. ویوجد معنی آخر لتفضیل البلاد ، هو تفضیل شخصیة البلد الإجتماعیة وسلوکه الجمعی العام علی غیره ، فإن الأسر والعشائر والقری والمدن والبلدان والأقالیم ، لها شخصیات متفاوتة ، فمنها القوی والضعیف ، ومنها الحسن والسئ .

ولذلک تعرف الأسر بصفات لمجموع أفرادها ، فتقول إن أسرة حاتم الطائی أسرة کرم وجود ، تقصد مجموعها لا جمیعها فقد یکون فیهم بخیل.

وتقول: الیهود جبناء تقصد مجموعهم کشعب ، وقد یکون فیهم شجاع .

وعندما تقول: أهل مصر أهل فهم ورقة قلب ، تقصد مجموعهم کشعب ، وقد یکون فیهم غبی وقاسی القلب ، لکنه لایمنع تفضیل مجموعهم .

عمرو بن الحمق قال: قال رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) :تکون فتنة أسلم الناس فیها الجند الغربی . قال ابن الحمق: فلذلک قدمت علیکم مصر.

وأخرجه محمد بن الربیع الجیزی فی مسند الصحابة الذین دخلوا مصر ، وزاد فیه: وأنتم الجند الغربی ، فهذه منقبة لمصر فی صدر الملة ، واستمرت قلیلة الفتن معافاة طول الملة ، لم یعترها ما اعتری غیرها من الأقطار ، وما زالت معدن العلم والدین ، ثم صارت فی آخر الأمر دار الخلافة ومحط الرحال ، ولا بلد الآن فی سائر الأقطار بعد مکة والمدینة ، یظهر فیها من شعائر الدین ما هو ظاهر فی مصر». انتهی.

والجُند: بضم الجیم أصله للجیش، ویستعمل بمعنی المدینة والبلد .

قال ابن منظور فی لسان العرب:3/132: «والجُند: المدینة ، وجمعها أَجناد..یقال الشام خمسة أَجناد: دِمَشْق ، وحِمْص ، وقِنَّسْرِین ، والأُرْدُنُّ ، وفِلَسْطِین ، یقال لکل مدینة منها جُند ».

وتفسیر عمرو بن الحمق رضی الله عنه للجند الغربی بمصر بقوله:«ولذلک قدمت علیکم مصر» حجةٌ ، لأنه تفسیر صحابیٍّ معاصر لصدور النص . ومعنی الحمِق: خفیف اللحیة . وهو صحابی جلیل یشبه أویساً القرنی رضی الله عنهما ، فقد أخبر عنه النبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) المسلمین قبل أن یسلم ، وبعث الیه سلامه ودعاه الی الإسلام ، فأسلم وجاء الی النبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) .

ص: 9

وفی مصنف ابن أبی شیبة:7 /437: « أنه سقی النبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) لبناً فقال: اللهم أمتعه بشبابه . فلقد أتت علیه ثمانون سنة لایری شعرة بیضاء »!

وکان من خاصة شیعة علی (علیه السّلام) . وقد اتهمه معاویة بالتحریض علی قتل عثمان ، وطارده سنوات لیقتله فجاء الی مصر، ثم تخفی فی الموصل فقبض علیه والی معاویة وقتله ، وأرسل رأسه الی معاویة !

قال الشعبی: « أول رأس حمل فی الإسلام رأس عمرو بن الحمق». (الطبقات:6/25 ، وتاریخ خلیفة/146 ، وثقات ابن حبان:3/275 ، وتاریخ دمشق:45/496 و503 و: 69 / 40 ، والیعقوبی:2/231 ، وابن أبی شیبة: 8/357 ، وأوائل ابن أبی عاصم /71 ، وشرح النهج:2 /289 ) .

فکتب له الحسین (علیه السّلام) :«أوَلستَ قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) العبد الصالح الذی أبلته العبادة ، فنحل جسمه واصفر لونه. بعدما آمنته وأعطیته من عهود الله ومواثیقه ، ما لو أعطیته طائراً لنزل إلیک من رأس الجبل! ثم قتلته جرأة علی ربک ، واستخفافاً بذلک العهد» (الکشی:1/252).

أما حدیثه فی تفضیل مصر وجندها علی الشام فلا یعجبهم ، لأن أهل مصر اعترضوا علی عثمان وحاصروه !

وقد تبنی الأمویون قول کعب الأحبار فی تفضیل الشام علی العالمین !

ص: 10

بصیغة تبرر ظلم الولاة لأهل مصر ، وکأن النبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) قال لهم: ستملکون أهل مصر وتأکلونهم ، وعلیکم بالعافیة ، لکن کلوهم وأبقوا منهم ، ولا تأکلوهم کما تأکلون الخضار وتستوفونها کلها !

ولفظ مصادرنا أبلغ:عن أم سلمة أنه (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) قال: « الله فی القبط ، فإنکم ستظهرون علیهم ویکونون لکم عدة وأعواناً فی سبیل الله ». (وسائل الشیعة:11/101)

ومهما یکن ، ففی حدیث عمرو بن الحمق ، وما ثبت عن أهل البیت (علیه السّلام) ، غنی عن البقیة .

قال الأحمدی فی مکاتیب الرسول (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) :2/416: « کتابه (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) إلی المقوقس: بسم الله الرحمن الرحیم . من محمد بن عبد الله ، إلی المقوقس عظیم القبط: سلام علی من اتبع الهدی ، أما بعد ، فإنی أدعوک بدعایة الإسلام ، أسلم تسلم یؤتک الله أجرک مرتین ، فإن تولیت فإنما علیک إثم القبط و: یَا أَهْلَ الْکِتَابِ تَعَالَوْا إِلَی کَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَیْنَنَا وَبَیْنَکُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللهَ وَلا نُشْرِکَ بِهِ شَیْئًا وَلا یَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ .

قال المقوقس: إنی نظرت فی أمر هذا النبی فوجدته لا یأمر بمزهود فیه ولا ینهی عن مرغوب فیه. ولم أجده بالساحر الضال ، ولا الکاهن الکذاب . ووجدت معه آلة النبوة بإخراج الخبء والإخبار بالنجوی ، وسأنظر . ثم أخذ الکتاب وجعله فی حق من عاج وختم علیه ، ودفعه إلی جاریته .

وأرسل المقوقس یوماً إلی حاطب فقال: أسألک عن ثلاث . فقال: لا تسألنی عن شئ إلا صدقتک ، قال: إلی مَ یدعو محمد؟ قلت: إلی أن نعبد الله وحده ، ویأمر بالصلاة خمس صلوات فی الیوم واللیلة ، ویأمر بصیام رمضان ، وحج البیت ، والوفاء بالعهد ، وینهی عن أکل المیتة والدم.. إلی أن قال: فوصفته فأوجزت ، قال: قد بقیت أشیاء لم تذکرها: فی عینیه حمرة قلما تفارقه ، وبین کتفیه خاتم النبوة ، یرکب الحمار ، ویلبس الشملة ، ویجتزی بالتمرات والکسر ، ولا یبالی من لاقی من عم أو ابن عم .

ص: 13

ثم قال المقوقس: هذه صفته ، وکنت أعلم أن نبیاً قد بقی ، وکنت أظن أن مخرجه بالشام ، وهناک تخرج الأنبیاء من قبله ، فأراه قد خرج فی أرض العرب فی أرض جهد وبؤس، والقبط لا تطاوعنی فی اتِّباعه، وأنا أظِنُّ بملکی أن أفارقه ، وسیظهر علی البلاد وینزل أصحابه من بعد بساحتنا هذه حتی یظهروا علی ما هاهنا ! وأنا لا أذکر للقبط من هذا حرفاً واحداً ، ولا أحب أن تعلم بمحادثتی إیاک!

ثم دعا کاتبه الذی یکتب له بالعربیة ، فکتب إلی النبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) : بسم الله الرحمن الرحیم , لمحمد بن عبد الله ، من المقوقس عظیم القبط: سلام علیک ، أما بعد ، فقد قرأت کتابک وفهمت ما ذکرت فیه ، وما تدعو إلیه ، وقد علمت أن نبیاً قد بقی ، وقد کنت أظن أنه یخرج بالشام ، وقد أکرمت رسولک وبعثت إلیک بجاریتین لهما مکان فی القبط عظیم ، وبثیاب ، وأهدیت إلیک بغلة لترکبها ، والسلام علیک ».

ثم عدد الأحمدی هدیة المقوقس للنبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) : أربعة جوار، ماریة أم إبراهیم بن رسول الله ، وسیرین أخت ماریة ، وقیسر أخت ماریة أیضاً ، وجاریة أخری سوداء إسمها بریرة ، وغلاماً خصیاً أسود إسمه مابور. وبغلة شهباء وهی دَلْدَل ، وحماراً أشهب یقال له یَعْفور . وقیل وألف دینار وعشرین ثوباً ، وألف مثقال ذهباً ، وفرساً وهو اللَّزَّاز .

ص: 14

وأهدی إلیه عسلاً من عسل نبها من قری مصر، ومکحلة ومربعة توضع فیها ، وقارورة دهن ، ومقصاً ومسواکاً ومشطاً ومرآة . وقیل عمائم وقباطی وطیباً وعوداً ومسکاً ، مع ألف مثقال من ذهب مع قدح من قواریر ، وخفین ساذجین أسودین ، وطبیباً یداوی مرض المسلمین...

وقال حاطب: کان المقوقس لی مکرماً فی الضیافة وقلة اللبث ببابه ، وما أقمت عنده إلا خمسة أیام ، ودفع له مائة دینار وخمسة أثواب...

ذکر بعضهم أن هرقل لما علم میل المقوقس إلی الإسلام عزله... راجع المناقب: 1/139، و: 2/65 ، وابن هشام:1/3 ، و123 ، والشفا: 1 / 115 .

قال أبو داود فی سننه:2/328 ، والنسائی فی سننه:7/107: « کان عبد الله بن سعد ابن أبی سرح یکتب لرسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) فأزله الشیطان فلحق بالکفار ، فأمر به رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) أن یقتل یوم الفتح ».

وفی الکافی:8/201، عن الإمام الباقر (علیه السّلام) فی قوله تعالی: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَی عَلَی اللهِ کَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِیَ إِلَیَّ وَلَمْ یُوحَ إِلَیْهِ شَیئٌ: « نزلت فی ابن أبی سرح الذی کان عثمان استعمله علی مصر ، وکان رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) یوم فتح مکة هدر دمه ، وکان یکتب لرسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) فإذا أنزل الله عز وجل: إن الله عزیز حکیم . کتب: إن الله علیم حکیم » !

وقال ابن حبان فی لثقات(3/214): « وکان أبوه سعد بن أبی سرح من المنافقین الکبار ، وهو أخو عثمان من الرضاعة » .

وسنذکر وفود المصریین الی عثمان ، وطلبهم منه أن یولی علیهم محمد بن أبی بکر ، والحرکة التی قادها محمد بن أبی حذیفة فبایعه المصریون بالإمارة علیهم ، وطردوا والی عثمان ابن أبی سرح .

وعندما تولی أمیر المؤمنین علی (علیه السّلام) الخلافة ، أرسل محمد بن أبی بکر رضی الله عنه والیاً علی مصر ، وکتب له عهد الولایة ، وجاء فیه کما فی نهج البلاغة:3/27: « واعلم یا محمد بن أبی بکر أنی قد ولیتک أعظم أجنادی فی

ص: 16

نفسی أهل مصر ، فأنت محقوق أن تخالف علی نفسک ، وأن تنافح عن دینک ولو لم یکن لک إلا ساعة من الدهر .

ولا تسخط الله برضا أحد من خلقه ، فإن فی الله خلفاً من غیره ، ولیس من الله خلف فی غیره . صل الصلاة لوقتها الموقت لها ولا تعجل وقتها لفراغ ، ولا تؤخرها عن وقتها لاشتغال ، واعلم أن کل شئ من عملک تبعٌ لصلاتک » .

وتعبیره الإمام (علیه السّلام) :(أعظم أجنادی فی نفسی أهل مصر) یعنی أن مصر کانت یومها أهم بلد برأیه فی فتوح الإسلام وحمل رسالته . فهو یفضلها کبلد وشعب ، علی کافة بلاد الدولة الإسلامیة یومها ، ویشیر الی ترشیحها لهذا الدور فی المستقبل . وکفی بذلک فخراً .

فلا یکونن أهل الضلال إلی باطلهم والرکون إلی سبیل الطاغوت ، أشد اجتماعاً علی باطلهم وضلالتهم منکم علی حقکم ، فکأنکم بهم قد بدؤوکم وإخوانکم بالغزو ، فاعجلوا إلیهم بالمواساة والنصر .

عباد الله إن مصر أعظم من الشام خیراً ، وخیر أهلاً، فلا تُغلبوا علی مصر فإن بقاء مصر فی أیدیکم عزٌّ لکم، وکبت لعدوکم .

أخرجوا إلی الجرعة (مکان بین الکوفة والحیرة) لنتوافی هناک کلنا غداً إن شاء الله ».

أی أن مصر خیر للمسلمین بمواردها الإقتصادیة، وأهلها کشعب خیر من أهل الشام.

قال ابن الحکم المصری فی کتابه: فتوح مصر/131: «قال: یا أمیر المؤمنین إئذن لی أن أسیر إلی مصر ، وحرضه علیها وقال: إنک إن فتحتها کانت قوة للمسلمین وعوناً لهم ، وهی أکثر الأرض أموالاً ، وأعجزها عن القتال والحرب . فتخوف عمر بن الخطاب علی المسلمین وکره ذلک ، فلم یزل عمرو یعظم أمرها عند عمر بن الخطاب ویخبره بحالها ویهون علیه فتحها ، حتی رکن عمر لذلک ، فعقد له علی أربعة آلاف رجل کلهم من عکّ ، ویقال بل ثلاثة آلاف وخمس مائة ». ونحوه تاریخ الیعقوبی:2/147، وغیره .

وفی فتوح مصر وأخبارها/136: «وکان بالإسکندریة أسقف للقبط یقال له أبو میامین ، فلما بلغه قدوم عمرو بن العاص إلی مصر کتب إلی القبط ، یعلمهم أنه لاتکون للروم دولة وأن ملکهم قد انقطع ، ویأمرهم بتلقی عمرو ، فیقال أن القبط الذین کانوا بالفرما کانوا یومئذ لعمرو أعواناً.. ثم توجه عمرو لا یدافع إلا بالأمر الخفیف ، حتی نزل القواصر ..

سمع رجلاً من لخم یحدث..کنت أرعی غنماً لأهلی بالقواصر ، فنزل عمرو ومن معه ، فدنوت إلی أقرب منازلهم ، فإذا بنفر من القبط فکنت قریباً منهم فقال بعضهم لبعض: ألا تعجبون من هؤلاء القوم یُقْدِمون علی جموع الروم وإنما هم قلة من الناس! فأجابه رجل آخر منهم فقال: إن هؤلاء القوم لا یتوجهون إلی أحد إلا ظهروا علیه ».

ص: 20

وقد روی المؤرخون نص عقد الصلح بین المسلمین والأقباط ، وأن الروم غضبوا علی الأقباط بسببه ، فتحداهم المقوقس وأصرَّ علی الصلح .

قال المؤرخ المصری القرشی المتوفی 257ه-.فی کتابه فتوح مصر/152: «وشرط المقوقس للروم أن یخُیَّروا، فمن أحب منهم أن یقیم علی مثل هذا أقام علی ذلک ، لازماً له مفترضاً علیه ، ممن أقام بالإسکندریة وما حولها من أرض مصر کلها ، ومن أراد الخروج منها إلی أرض الروم خرج ، وعلی أن للمقوقس الخیار فی الروم خاصة ، حتی یکتب إلی ملک الروم یعلمه ما فعل ، فإن قبل ذلک ورضیه جاز علیهم وإلا کانوا جمیعاً علی ما کانوا علیه. وکتبوا به کتاباً .

وکتب المقوقس إلی ملک الروم کتاباً یعلمه علی وجه الأمر کله ، فکتب إلیه ملک الروم یُقَبِّحُ رأیه ویُعَجِّزُه ویَرُدُّ علیه ما فعل ، ویقول فی کتابه إنما أتاک من العرب اثنا عشر ألفاً وبمصر من بها من کثرة عدد القبط ما لا یحصی ، فإن کان القبط کرهوا القتال ، وأحبوا أداء الجزیة إلی العرب ، واختاروهم علینا ، فإن عندک من بمصر من الروم ، وبالإسکندریة ومن معک أکثر من مائة ألف ، معهم السلاح والعدة والقوة ، والعرب وحالهم وضعفهم علی ما قد رأیت ، فعجزت عن قتالهم ورضیت أن تکون أنت ومن معک من الروم فی حال القبط أذلاء، إلا تقاتلهم أنت ومن معک من الروم حتی تموت أو تظهر علیهم ، فإنهم فیکم علی قدر کثرتکم وقوتکم

ص: 21

وعلی قدر قلتهم وضعفهم ، کأکْلة ! فناهضهم القتال ولا یکون لک رأی غیر ذلک . وکتب ملک الروم بمثل ذلک کتاباً إلی جماعة الروم !

فقال المقوقس لما أتاه کتاب ملک الروم: والله إنهم علی قلتهم وضعفهم أقوی وأشد منا علی کثرتنا وقوتنا ، وإن الرجل الواحد منهم لیعدل مائة رجل منا ، وذلک أنهم قوم الموت أحب إلی أحدهم من الحیاة ، یقاتل الرجل منهم وهو مستقتل ، یتمنی أن لا یرجع إلی أهله ولا بلده ولا ولده ، ویرون أن لهم أجراً عظیماً فیمن قتلوه منا ، ویقولون إنهم إن قتلوا دخلوا الجنة ولیس لهم رغبة فی الدنیا ولا لذة إلا علی قدر بلغة العیش من الطعام واللباس ، ونحن قوم نکره الموت ونحب الحیاة ولذتها ، فکیف نستقیم نحن وهؤلاء وکیف صبرنا معهم ! واعلموا معشر الروم والله إنی لا أخرج مما دخلت فیه ولا مما صالحت العرب علیه ، وإنی لأعلم أنکم سترجعون غداً إلی رأیی وقولی ، وتتمنون أن لو کنتم أطعتمونی ! وذلک أنی قد عاینت ورأیت وعرفت ما لم یعاین الملک ولم یره ولم یعرفه !

ویْحکم! أما یرضی أحدکم أن یکون آمناً فی دهره علی نفسه وماله وولده بدینارین فی السنة !

ص: 22

ثم أقبل المقوقس إلی عمرو بن العاص فقال له: إن الملک قد کره ما فعلتُ وعجَّزنی ، وکتب إلیَّ وإلی جماعة الروم أن لا نرضی بمصالحتکم ، وأمرهم بقتالکم حتی یظفروا بک أو تظفر بهم !

ولم أکن لأخرج مما دخلت فیه وعاقدتک علیه، وإنما سلطانی علی نفسی ومن أطاعنی، وقد تم صلح القبط فیما بینک وبینهم ، ولم یأت من قبلهم نقض ، وأنا متم لک علی نفسی ، والقبط متمون لک علی الصلح الذی صالحتهم علیه وعاقدتهم .

وأما الروم فإنی منهم برئ ، وأنا أطلب إلیک أن تعطینی ثلاث خصال . فقال له عمرو: ما هن؟ قال: لا تنقض بالقبط ، وأدخلنی معهم وألزمنی ما ألزمتهم ، وقد اجتمعت کلمتی وکلمتهم علی ما عاهدتک علیه ، فهم متمون لک علی ما تحب .

وأما الثانیة ، فإن سألک الروم بعد الیوم أن تصالحهم فلاتصالحهم حتی تجعلهم فیئاً وعبیداً ، فإنهم أهل ذلک ، فإنی نصحتهم فاستغشونی ، ونظرت لهم فاتهمونی .

وأما الثالثة ، أطلب إلیک إن أنا متُّ ، أن تأمرهم أن یدفنونی فی کنیسة أبی یحنس بالإسکندریة .

ص: 23

فأنعم له عمرو بن العاص بذلک ، وأجابه إلی ما طلب ، علی أن یضمنوا له الجسرین جمیعاً ، ویقیموا له الأنزال والضیافة والأسواق والجسور ، ما بین الفسطاط إلی الإسکندریة ، ففعلوا ، وصارت القبط أعواناً للمسلمین علی الروم » . ونهایة الإرب:19/301.

إن أی عاقل یقرأ هذه الحقائق ، لایمکنه أن یقبل ما ادعاه عمرو العاص ورواة السلطة بعد ذلک ، من معارک مخترعة فی فتح مصر !

وإنی لأعجب لبعض الباحثین ،کیف یخالف عقله ، فیسرد المعارک والبطولات المزعومة ، مصدقاً بأنها وقعت فی فتح مصر مع القبط أو الروم ، مع أنه یروی ما یناقضها وینفیها !

ص: 24

وجعلوها تارة عشرة آلاف جندی مرافقین للملکة أرمانوسة بنت المقوقس ، یزفونها الی ابن هرقل ، مع أن هذا الزواج لا أصل له !

والیک هذه الروایة التی تتضمن معارک مزعومة وتکذیبها معاً !

قال الطبری (3/199): «لما نزل عمرو علی القوم بعین شمس ، وکان الملک بین القبط والنُّوب ، ونزل معه الزبیر علیها ، قال أهل مصر لملکهم: ما ترید إلی قوم فلُّوا کسری وقیصر وغلبوهم علی بلادهم . صالحِ القومَ واعتقد منهم (أبرم عقداً) ولا تَعْرُض لهم ولا تُعَرِّضْنَا لهم ،وذلک فی الیوم الرابع ، فأبی وناهدوهم فقاتلوهم ، وارتقی الزبیر سورها فلما أحسوه فتحوا الباب لعمرو وخرجوا إلیه مصالحین ، فقبل منهم ، ونزل الزبیر علیهم عنوة ، حتی خرج علی عمرو من الباب معهم ، فاعتقدوا ، بعد ما أشرفوا علی الهلکة ، فأجروا ما أخذوا عنوة مجری ما صالح علیه ، فصاروا ذمة ».

فالروایة تصرح بأن المصریین قرروا الصلح مع المسلمین ، لکنها ترید إثبات بطولة للزبیر ، فزعمت أن ملکهم أبی الصلح الی الیوم الرابع ، فتسلق الزبیر سور الإسکندریة أو غیرها فلم یمنعه أحد ، فخافوا وقبلوا بالصلح ، ونزل من السور الی المدینة فخافوا منه ولم یشهر أحد علیه سیفاً ولا ضربه بسهم ! فقبلوا بالصلح وخرجوا معه الی عمرو العاص فوقَّعوا

ص: 26

الصلح ، وکفی الله المؤمنین القتال بتسلق الزبیر ، فصارت مفتوحة عُنوةً ، لکن الفاتحین تفضلوا علیهم فجعلوها صلحاً ، فیجوز للوالی زیادة الجزیة !

ومن الواضح أن هذا تلاعب وادعاء ، لا یقبله العقل .

وقد أثبتنا فی کتابنا قراءة جدیدة فی الفتوحات أن الإسکندریة فتحت صلحاً بلا قتال، وأن عَمْرو العاص ادعی بعد خمس سنین أن أهلها نقضوا الصلح ، فغزاهم وسبی منهم ، فکذَّبه الخلیفة عثمان ، وأمره برد السبی والأموال التی أخذها ، فعمرو العاص هو الذی نقض عهد الصلح ، ولیس المصریین !

ص: 27

قال فجمعتهم له ، قال ابن عون أظنه قال فی نهر ، فأخذ أدناهم رجُلاً فقال: أنشدک بالله وبحق الإسلام علیک ، أقرأت القرآن کله؟ قال: نعم. قال: فهل أحصیته فی نفسک؟ قال:اللهم لا. قال ولو قال نعم لخصمه . قال: فهل أحصیته فی بصرک، هل أحصیته فی لفظک، هل أحصیته فی أثرک؟ قال: ثم تتبعهم حتی أتی علی آخرهم فقال:ثکلت عمر أمه أتکلفونه أن یقیم الناس علی کتاب الله ! قد علم ربنا أن ستکون لنا سیئات ، قال: إِنْ تَجْتَنِبُوا کَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُکَفِّرْ عَنْکُمْ سَیِّئَاتِکُمْ وَنُدْخِلْکُمْ مُدْخَلاً کَرِیمًا .

هل عَلِم أهل المدینة ، أو قال هل علم أحدٌ ، بما قدمتم ؟ قالوا: لا .

قال: لو علموا لوعظت بکم » !

ومعناه أن هؤلاء المصریین جاؤوا وفداً لیسألوا الخلیفة عن آیات من القرآن فیها أوامر إلهیة فی الأمور الإداریة والسیاسیة والمالیة والإجتماعیة ، ولا یرون تطبیقها فی دولته ! فلم یعطهم الخلیفة « العادل» فرصةً للکلام ، وهاجمهم بالجواب بأنهم مخطئون یطلبون منه تطبیق القرآن علی نفسه وولاته ، والقرآن عظیم لایمکن لأحد أن یطبقه!

واستدل عمر علی عدم إمکان تطبیق القرآن ، بأنه لایمکن لأحد أن یحصی کلماته وحروفه فیراها کلها دفعة واحدة ، أو یستحضرها فی ذهنه دفعة

ص: 29

واحدة . وکل دستور لایری الحاکم مواده وسطوره وکلماته وحروفه دفعة واحدة ، یسقط عنه تطبیقه !

ثم استدل بأن القرآن عظیم ، لایمکن لأحد أن یطبقه کله ، فیکفی أن یطبق منه جزءاً یسیراً ، والله یعفو عن الباقی .

وهذا الجزء موکول الی الخلیفة نفسه ، فقد یکون أخذ الزکوات وتأدیب الناس بالسوط ! واستدل علی ذلک بأن الله وعد من اجتنب کبائر المحرمات أن یغفر له ، فیکفی للخلیفة أن یطبق کبائر الواجبات !

ثم قال لهم إنکم مفسدون فی الأرض! فقد جئتم تحرکون المسلمین علیَّ للمطالبة بتطبیق القرآن ، لکنی أحضرتکم قبل أن یعرف أهل المدینة بکم ، ولو عرفوا لجعلتکم عبرة لمن اعتبر ، وأقمت علیکم الحد ! الذی قد یصل الی ضرب أعناقکم ، فاحمدوا الله واسلموا بجلدکم ، وارضوا بما ترونه یخالف القرآن منی ومن عمالی ، ولا تثیروا علینا المشاکل!

وأمام هذه الإستدلال العمری العجیب ، والتهدید الأعجب ! جمع الوفد المصری متاعهم ، وغادروا الی مصر ، لیستعیدوا هدوءهم من صدمتهم !

ص: 30

الجروح) ثم ترکه حتی برأ ، ثم عاد له ، ثم ترکه حتی برأ فدعا به لیعود له ، قال فقال صبیغ: إن کنت ترید قتلی فاقتلنی قتلاً جمیلاً ، وإن کنت ترید أن تداوینی فقد والله برئت!

فأذن له إلی أرضه ، وکتب إلی أبی موسی الأشعری: أن لا یجالسه أحد من المسلمین ، فاشتد ذلک علی الرجل ، فکتب أبو موسی إلی عمر أن قد حسنت توبته ، فکتب عمر أن یأذن للناس بمجالسته » !

ورواه السیوطی فی الدر المنثور:2/7، وتاریخ دمشق:23/411 ، وقد فصلنا قصة هذا المظلوم صبیغ فی کتاب تدوین القرآن/209.

ص: 32

فغضبوا ورجعوا الی عثمان فعاتبوه ، فأقر بأن الرسول موظف عنده وأن الختم ختمه ، لکنه نفی أن یکون کتب الرسالة ، وأبی أن یُحمل المسؤولیة لصهره مروان بن الحکم ، فازداد غضبهم وحاصروا دار الخلافة أربعین یوماً ، وساعدهم فی الحصار وفدان جاءا شاکیین مثلهم ، أحدهما من البصرة والثانی الکوفة ٍ، وعددهم خمس مئة ، وطالبوا عثمان بعزل ولاته ، أو الإستقالة وخلع نفسه من الخلافة ، فلم یفعل حتی قتل .

ص: 34

لأطرحنَّها فی عنقک أو لتترکنَّ بطانتک هذه ، أطعمت الحارث بن الحکم السوق وفعلت وفعلت. وکان عثمان ولَّی الحارث السوق فکان یشتری الجلب بحکمه ویبیعه بسومه ویجبی مقاعد المتسوّقین ویصنع صنیعاً منکراً فکُلَّم فی إخراج السوق من یده فلم یفعل. وقیل لجبلة فی أمر عثمان وسئل الکفّ عنه فقال: والله لا ألقی الله غداً فأقول إنا أطعنا سادتنا وکبراءنا فأضلَّونا السبیلا.. خطب عثمان فی بعض أیامه فقال له جهجاه بن سعید الغفاری: یا عثمان إنزل ندرِّعک عباءة ونحملک علی شارف من الإبل إلی جبل الدخان کما سیَّرت خیار الناس...وکان جهجاه ممن بایع تحت الشجرة..

عن صالح ابن کیسان عن عمر بن عبد العزیز، أن محمد بن أبی حذیفة ومحمد بن أبی بکر حین أکثر الناس فی أمر عثمان قدما مصر وعلیها عبد الله بن سعد بن أبی سرح ، ووافقا بمصر محمد بن طلحة بن عبید الله وهو مع عبد الله بن سعد..

وغزا ابن أبی سرح إفریقیة فأعدَّ لهما سفینة مفردة لئلَّا یفسدا علیه الناس ، فمرض ابن أبی بکر فتخلَّف وتخلَّف معه ابن أبی حذیفة ، ثم إنّهما خرجا فی جماعة الناس فما رجعا من غزاتهما إلَّا وقد أوغرا صدور الناس علی عثمان ، فلما وافی ابن أبی سرح مصر وافاه کتاب عثمان بالمصیر الیه ، فشخص إلی

ص: 36

المدینة وخلَّف علی مصر رجلاً کان هواه مع ابن أبی بکر وابن أبی حذیفة ، فکان ممن شایعهم وشجّعهم علی المسیر إلی عثمان .

وبعث عثمان إلی ابن أبی حذیفة بثلاثین ألف درهم ، وبجمل علیه کسوة فأمر به فوضع فی المسجد ، وقال: یا معشر المسلمین ألا ترون إلی عثمان یخادعنی عن دینی ویرشونی علیه! فازداد أهل مصر عیباً لعثمان وطعناً علیه واجتمعوا إلی ابن أبی حذیفة فرأَّسوه علیهم ، فلما بلغ عثمان ذلک دعا بعمار بن یاسر، فاعتذر الیه مما فعل به واستغفر الله منه(کان ضرب عثمان وداس علیه) وسأله أن لا یحقده علیه ، وقال: بحسبک من سلامتی لک ثقتی بک ، وسأله الشخوص إلی مصر لیأتیه بصحة خبر ابن أبی حذیفة ، وحق ما بلغه عنه من باطله . وأمره أن یقوم بعذره ویضمن عنه العتبی لمن قدم علیه ، فلما ورد عمار مصر حرَّض الناس علی عثمان ودعاهم إلی خلعه وأشعلها علیه ، وقوَّی رأی ابن أبی حذیفة وابن أبی بکر وشجَّعهما علی المسیر إلی المدینة ، فکتب ابن أبی سرح إلی عثمان یعلمه ما کان من عمار ویستأذنه فی عقوبته ، فکتب الیه بئس الرأی رأیت یا ابن أبی سرح ، فأحسن جهاز عمار واحمله إلیَّ ، فتحرَّک أهل مصر وقالوا: سیَّرَ عمار( نفاه ) ودبَّ فیهم ابن أبی حذیفة ، ودعاهم إلی المسیر ، فأجابوه ».

ص: 37

وفی تاریخ الطبری:3/548: « عن عباس بن سهل الساعدی أن محمد بن أبی حذیفة بن عتبة بن ربیعة بن عبد شمس بن عبد مناف هو الذی کان سرَّب المصریین إلی عثمان بن عفان ، وأنهم لما ساروا إلی عثمان فحصروه وثب هو بمصر علی عبد الله بن سعد بن أبی سرح أحد بنی عامر بن لؤی القرشی ، وهو عامل عثمان یومئذ علی مصر، فطرده منها وصلی بالناس ، فخرج عبد الله بن سعد من مصر ، فنزل علی تخوم أرض مصر مما یلی فلسطین ، فانتظر ما یکون من أمر عثمان ، فطلع راکب فقال: یاعبد الله ما وراءک خبرنا بخبر الناس خلفک . قال: أفعل ، قَتل المسلمون عثمان . فقال عبد الله بن سعد: إنا لله وإنا إلیه راجعون ، یا عبد الله ثم صنعوا ماذا؟ قال: ثم بایعوا ابن عم رسول الله علی بن أبی طالب.قال عبد الله بن سعد:إنا لله وإنا إلیه راجعون! قال له الرجل: کأن ولایة علی بن أبی طالب عدلت عندک قتل عثمان ! قال: أجل . قال فنظر إلیه الرجل فتأمله فعرفه وقال: کأنک عبد الله بن أبی سرح أمیر مصر ! قال: أجل. قال له الرجل: فإن کان لک فی نفسک حاجة فالنجاء النجاء ، فإن رأی أمیر المؤمنین فیک وفی أصحابک سیئ ، إن ظفر بکم قتلکم أو نفاکم عن بلاد المسلمین ، وهذا بعدی أمیر یقدم علیک . قال له عبد الله: ومن هذا الأمیر؟ قال: قیس بن سعد بن عبادة الأنصاری... فخرج عبد الله بن سعد هارباً حتی قدم علی معاویة بن أبی سفیان دمشق».

ص: 38

أقول: هذا النص الذی روته أو روت شبیهاً به عامة المصادر ، یدل علی حب أهل مصر للمحمدین وطاعتهم لهما ، بل تدل نصوص الفتوحات الأفریقیة التی قام بها المصریون ، ونصوص معرکة ذات الصواری التی رد المصریون فیها غزوة الروم البحریة ، علی أن المحمدین قادا المصریین فیها ، فقد کانوا یحبونهما أکثر من والیهم .

إذا لقیتم العرب! قالوا: فاخرُج علی أنا نموت ، فتابیعوا علی ذلک ، فخرج فی ألف مرکب یرید الإسکندریة ، فسار أیاماً غالبة من الریح ، فبعث الله علیهم ریحاً فغرقتهم ، إلا قسطنطین نجا بمرکبه فألقته الریح بسقلیة ، فسألوه عن أمره فأخبرهم ، فقالوا: أشمتْتَ بالنصرانیة أعداءها ، وأفنیت رجالها ، لو دخل العرب علینا لم نجد من یردهم !

فقال: خرجنا مقتدرین فأصابنا هذا ! فصنعوا له الحمام ودخلوا علیه فقال: ویلکم تذهب رجالکم ، وتقتلون ملککم ؟ قالوا: کأنه غرق معهم ، ثم قتلوه ، وخلوا من کان معه فی المرکب » !

وفی فتوح مصر/323: « فلقوهم فاقتتلوا بالنبل والنشاب ، وتأخر هرقل لئلا تصیبه الهزیمة ، وجعلت القوارب تختلف إلیه بالأخبار فقال: ما فعلوا؟ قالوا: قد اقتتلوا بالنبل والنشاب . فقال: غُلبت الروم . ثم أتوه فقال: ما فعلوا؟ قالوا: قد نفذ النبل والنشاب فهم یرتمون بالحجارة . قال: غُلبت الروم . ثم أتوه فقال: ما فعلوا ؟ قالوا: قد نفذت الحجارة وربطوا المراکب بعضها ببعض یقتتلون بالسیوف . قال: غُلبت الروم..

عن یزید بن أبی حبیب قال: وکانت السفن إذ ذاک تُقرن بالسلاسل عند القتال فقال: فقرن مرکب عبد الله یومئذ وهو الأمیر ، بمرکب من مراکب العدو ، فکاد مرکب العدو یجتر مرکب عبد الله إلیهم ، فقام علقمة بن یزید

ص: 41

الغطیفی ، وکان مع عبد الله بن سعد فی المرکب ، فضرب السلسلة بسیفه فقطعها ، فسأل عبد الله امرأته بعد ذلک بسیسة ابنة حمزة بن لیشرح وکانت مع عبد الله یومئذ ، وکان الناس یغزون بنسائهم فی المراکب: من رأیتِ أشدَّ قتالاً؟ قالت علقمة صاحب السلسلة ».

وفی فتوح مصر/449:« روی بعض الناس: سمعت عمار بن یاسر بذی الصواری » .

وقال المسعودی فی التنبیه والإشراف/135: « قسطنطین بن قسطنطین أخی هرقل، وقیل إنه ابن هرقل ن ملک تسع سنین وستة أشهر ، فی خلافة عثمان بن عفان ، وهو الذی غزا فی البحر فی نحو ألف مرکب حربیة وغیرها فیها الخیل والخزائن والعَدد ، یرید الإسکندریة من بلاد مصر، وکان عامل مصر والإسکندریة لعثمان عبد الله بن سعد بن أبی سرح ، فالتقوا فی البحر فکانت علی قسطنطین ، فعطبت مراکبه وهلک أکثر رجاله ، ونجا فی مرکب ، فوقع فی جزیرة سقلیة من بلاد إفریقیة ، فقتله جرجیق ملکها تشاؤما به لإهلاکه النصرانیة. وسمیت هذه الغزاة ذات الصواری لکثرة المراکب وصواریها وهی الأدقال ، وکان ذلک فی سنة34 للهجرة ».

وقال الطبری فی تاریخه:3/340: « عن مالک بن أوس بن الحدثان قال: کنت معهم فالتقینا فی البحر ، فنظرنا إلی مراکب ما رأینا مثلها قط ، وکانت

ص: 42

الریح علینا فأرسینا ساعة وأرسوا قریباً منا ، وسکنت الریح عنا ، فقلنا الأمن بیننا وبینکم . قالوا: ذلک لکم ولنا منکم . ثم قلنا: إن أحببتم فالساحل حتی یموت الأعجل منا ومنکم ، وإن شئتم فالبحر. قال: فنخروا نخرة واحدة وقالوا: الماء ! فدنونا منهم فربطنا السفن بعضها إلی بعض حتی کنا یضرب بعضنا بعضاً علی سفننا وسفنهم ، فقاتلنا أشد القتال ، ووثبت الرجال علی الرجال یضطربون بالسیوف علی السفن ، ویتواجؤون بالخناجر ، حتی رجعت الدماء إلی الساحل تضربها الأمواج ، وطرحت الأمواج جثث الرجال رکاماً...

عن حنش بن عبد الله الصنعانی قال: کان أول ما سُمع من محمد بن أبی حذیفة حین رکب الناس البحر سنة31 ، لما صلی عبد الله بن سعد بن أبی سرح بالناس العصر ، کبَّر محمد بن أبی حذیفة تکبیراً ورفع صوته حتی فرغ الإمام عبد الله بن سعد بن أبی سرح!

فلما انصرف سأل ما هذا ؟ فقیل له: هذا محمد بن أبی حذیفة یُکَبِّر، فدعاه عبد الله بن سعد فقال له: ما هذه البدعة والحدث ؟ فقال له: ما هذه بدعة ولا حدث ، وما بالتکبیر بأس! قال: لا تعودن .

قال: فسکت محمد بن أبی حذیفة ، فلما صلی المغرب عبد الله بن سعد کبر محمد بن أبی حذیفة تکبیراً أرفع من الأول ، فأرسل إلیه إنک غلام أحمق ،

ص: 43

أما والله لولا أنی لا أدری ما یوافق أمیر المؤمنین لقاربت بین خطوک ! فقال محمد بن أبی حذیفة: والله مالک إلی ذلک سبیل ، ولو هممت به ما قدرت علیه ! قال:فکُفَّ خیرٌ لک ، والله لا ترکب معنا. قال: فأرکب مع المسلمین. قال: إرکب حیث شئت . قال: فرکب فی مرکب وحده ما معه إلا القبط حتی بلغوا ذات الصواری ، فلقوا جموع الروم فی خمس مائة مرکب أو ست مائة ، فیها القسطنطین بن هرقل فقال: أشیروا علیَّ. قالوا: ننظر اللیلة ، فباتوا یضربون بالنواقیس ، وبات المسلمون یصلون ویدعون الله .

ثم أصبحوا وقد أجمع القسطنطین أن یقاتل فقربوا سفنهم وقرب المسلمون فربطوا بعضها إلی بعض، وصفَّ عبد الله بن سعد المسلمین علی نواحی السفن، وجعل یأمرهم بقراءة القرآن، ویأمرهم بالصبر . ووثبت الروم فی سفن المسلمین علی صفوفهم حتی نقضوها ، فکانوا یقاتلون علی غیر صفوف . قال: فاقتتلوا قتالاً شدیداً . ثم إن الله نصر المؤمنین فقتلوا منهم مقتلة عظیمة ، لم ینج من الروم إلا الشرید .

قال: وأقام عبد الله بذات الصواری أیاماً ، بعد هزیمة القوم ، ثم أقبل راجعاً ، وجعل محمد بن أبی حذیفة یقول للرجل: أما والله لقد ترکنا خلفنا الجهاد حقاً ، فیقول الرجل: وأی جهاد؟ فیقول: عثمان بن عفان فعل کذا

ص: 44

وکذا وفعل کذا وکذا ، حتی أفسد الناس فقدموا بلدهم وقد أفسدهم ، وأظهروا من القول ما لم یکونوا ینطقون به .

قال محمد بن عمر فحدثنی معمر بن راشد عن الزهری قال: خرج محمد بن أبی حذیفة ومحمد بن أبی بکر عامَ خرج عبد الله بن سعد ، فأظهرا عیب عثمان وما غیَّر ، وما خالف به أبا بکر وعمر ، وأن دم عثمان حلال . ویقولان: استعمل عبد الله بن سعد رجلاً کان رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) أباح دمه ونزل القرآن بکفره ! وأخرج رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) قوماً وأدخلهم (یقصدان الحکم وولده) ونزع أصحاب رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، واستعمل سعید بن العاص ، وعبد الله بن عامر » .

ص: 45

وقال ابن سالم الکلاعی فی الإکتفاء:2/367، عن حنش الصنعانی قال: « ثم أصبحوا وقد أجمع القسطنطین فقربوا سفنهم ، وقرب المسلمون ، فربطوا بعضها إلی بعض ، وصفَّ عبد الله المسلمین علی نواحی السفن وأمرهم بقراءة القرآن وبالصبر، ووثبت الروم فی سفن المسلمین علی صفوفهم حتی نقضوها ، واقتتلوا علی غیر صفوف قتالاً شدیداً ، ثم إن الله نصر المؤمنین ، فقتلوا منهم مقتلة عظیمة لم ینج من الروم إلا الشرید ، و أقام عبد الله بذات الصواری أیاماً بعد هزیمة القوم ، ثم أقبل راجعاً .

وذکر ابن عبد الحکم: أن عبد الله بن سعد لما نزل ذات الصواری.. قال: وإنما مراکب المسلمین مائتا مرکب ونیف ، فقام فقال: أشیروا علیَّ ، فما کلمه رجل من المسلمین ، فجلس قلیلاً لترجع إلیهم أفئدتهم ، ثم استشارهم فما کلمه أحد ، ثم قال الثالثة: إنه لم یبق شئ ، فأشیروا علیَّ فقال رجل من أهل المدینة کان متطوعاً: أیها الأمیر إن الله

تعالی یقول: کَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِیلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً کَثِیرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَ اللَّهُ مَعَ الصَّابِرِینَ . فقال عبدالله: إرکبوا باسم الله فرکبوا، وإنما فی کل مرکب نصف شحنته ، قد خرج النصف الآخر مع بسر فی البر ، فلقوهم فاقتتلوا بالنبل والنشاب ، وتأخر ابن هرقل لئلا تصیبه الهزیمة ، وجعل تختلف القوارب إلیه بالأخبار فقال: مافعلوا؟قالوا: اقتتلوا بالنبل والنشاب . قال: غُلبت الروم...

ص: 47

قال یزید بن أبی حبیب: وکانت السفن إذ ذاک تقرن بالسلاسل عند القتال... وفی بعض ما تقدم من الأخبار مایقتضی أن ذات الصواری موضع یسمی هکذا».

2. لو افترضنا أی اشتباک أو معرکة فی ذات الصواری ، فلا بد أن یکون المحمدان فی طلیعتها ، لأنهما مطاعان فی الجیش المصری أکثر من الوالی ، بدلیل أن المصریین بایعوا محمد بن أبی حذیفة بعد أیام ، ونفوا والیهم ابن أبی سرح

3. قال البلاذری فی أنساب الأشراف (5/539): (فکتب ابن أبی سرح إلی عثمان إن محمد بن أبی بکر ومحمد بن أبی حذیفة ، قد أنغلا علیَّ المغرب وأفسداه ، فکتب الیه عثمان: أما محمد بن أبی بکر فإنی أدعه لأبی بکر الصدیق وعائشة أم المؤمنین ، وأما محمد بن أبی حذیفة فإنه ابنی وابن أخی وأنا ربیته ، وهو فرخ قریش » .

وهذا یدل علی أن تأثیرهما ظهر فی المسلمین فی فتح أفریقیا ، ویرد ما قیل من أن تحریکهما للمصریین بدأ من غزوة ذات الصواری ، کما یدل علی دورهما المؤثر فی فتح إفریقیا والمغرب ..

ص: 48

سرح قراءته فسأل عنه فقیل رجل أبیض طوال وضئ الوجه ، فأمر إذا صلَّی أن یؤتی به ، فلما رآه قال: ما جاء بک إلی بلدی؟ قال: جئت غازیاً. قال: ومن معک؟ قال محمد بن أبی بکر ، فقال: والله ما جئتما إلَّا لتفسدا الناس وأمر بهما فسجنا ، فأرسلا إلی محمد بن طلحة یسألانه أن یکلَّمه فیهما لئلَّا یمنعهما من الغزو ، فأطلقهما ابن أبی سرح ، وغزا ابن أبی سرح إفریقیة فأعد لهما سفینة مفردة لئلَّا یفسدا علیه الناس ، فمرض ابن أبی بکر فتخلَّف وتخلَّف معه ابن أبی حذیفة ، ثم إنهما خرجا فی جماعة الناس ، فما رجعا من غزاتهما إلَّا وقد أوغرا صدور الناس علی عثمان ، فلما وافی ابن أبی سرح مصر وافاه کتاب عثمان بالمصیر الیه ، فشخص إلی المدینة ، وخلَّفَ علی مصر رجلاً کان هواه مع ابن أبی بکر وابن أبی حذیفة ، فکان ممن شایعهم وشجعهم علی المسیر إلی عثمان ».

ص: 50

ورجع عبد الله بن سعد من وفادته ، فمنعه ابن أبی حذیفة من دخول الفسطاط ، ومضی إلی عسقلان فأقام بها ».

وفی الغارات للثقفی:1 /205: « فطرده منها وصلی بالناس ، فخرج ابن أبی سرح من مصر ونزل علی تخوم أرض مصر مما یلی فلسطین ، وانتظر مایکون من أمر عثمان ، فطلع علیه راکب فقال: یا عبد الله ما وراءک ، خبرنا بخبر الناس، فقال: أقعد ، قتل المسلمون عثمان . فقال ابن أبی سرح: إنا لله وإنا إلیه راجعون. یا عبد الله ، ثم صنعوا ماذا ؟ قال: بایعوا ابن عم رسول الله علی بن أبی طالب (علیه السّلام)

.قال: إنا لله وإنا إلیه راجعون ! قال له الرجل: کأن ولایة علی عدلت عندک قتل عثمان ؟قال أجل... وخرج ابن أبی سرح حتی قدم علی معاویة بدمشق » .

وفی الإصابة (6/10):« بایع أهل مصر محمد بن أبی حذیفة بالإمارة إلا عصابة منهم معاویة بن حدیج وبسر بن أرطاة ، فقدم عبد الله بن سعد حتی إذا بلغ القلزم، وجد هناک خیلاً لابن أبی حذیفة ، فمنعوه أن یدخل ، فانصرف إلی عسقلان ، ثم جهز ابن أبی حذیفة الذین ثاروا علی عثمان وحاصروه ، إلی أن کان من قتله ما کان » .

ص: 52

أقول: یدافع ابن کثیر عن عثمان بتکذیب النصوص بدون دلیل ، فمن الواضح أن الصحابة کانوا بین معارض لعثمان ثائر علیه ، أو ناقم ساکت لم یحرک یده ولا لسانه للدفاع عنه مع أن محاصرته طالت أربعین یوماً وأکثر !

وقد روی المؤرخون کالبلاذری فی أنساب الأشراف:5/141، أن الصحابة تکاتبوا وتشاکوا أمر عثمان: « لما کانت سنة 34 کتب بعض أصحاب رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) إلی بعض یتشاکون سیرة عثمان وتغییره وتبدیله ، وما الناس فیه من عماله ، ویکثرون علیه ، ویسأل بعضهم بعضاً أن یقدموا المدینة إن کانوا یریدون الجهاد ، ولم یکن أحد من أصحاب رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) یدفع عن عثمان ولا ینکر ما یقال فیه ، إلا زید بن ثابت ، وأبو أسید الساعدی ، وکعب بن مالک بن أبی کعب من بنی سلمة من الأنصار ، وحسان بن ثابت ».

ویکفی أن الصحابة أفتوا بکفره وتحریم دفنه فی مقابر المسلمین ، فقد وثق الهیتمی ذلک فی مجمع الزائد:9/95، قال: «فحملوه علی باب وإن رأسه تقول علی الباب طَقْ طَقْ ، حتی أتوا البقیع.. ثم أرادوا دفنه فقام رجل من بنی مازن فقال: لئن دفنتموه مع المسلمین لأخبرن الناس غداً ! فحملوه حتی أتوا به حش کوکب » . وهو مقبرة الیهود .

ص: 56

عهده وولاه مصر، فخرج محمد بن أبی بکر والیاً علی مصر بعهده ومعه عدة من المهاجرین والأنصار، ینظرون فیما بین أهل مصر وبین بن أبی سرح ، فلما بلغوا مسیرة ثلاثة لیال من المدینة ، إذا هم بغلام أسود علی بعیر له یخبط البعیر خبطاً ، کأنه رجل یطلب أو یُطلب . فقالوا له: ما قصتک وما شأنک

کأنک هارب أو طالب؟ قال:أنا غلام أمیر المؤمنین وجهنی إلی عامل مصر. قالوا: هذا عامله معنا. قال: لیس هذا أرید ، ومضی فأخبر محمد بن أبی بکر بأمره ، فبعث فی طلبه أقواماً فردوه ، فلما جاؤوا به قال له محمد: غلام من أنت ؟ فأقبل مرة یقول أنا غلام أمیر المؤمنین ، ومرة یقول أنا غلام مروان ، فعرفه رجل منهم أنه لعثمان ، فقال له محمد بن أبی بکر: لمن أرسلت؟ قال: إلی عامل مصر . قال: بماذا ؟ قال برسالة . قال أمعک کتاب: قال:لا . ففتشوه فلم یجدوا معه کتاباً ، وکان معه إداوة قد یبست وفیها شئ یتقلقل، فحرکوه لیخرج فلم یخرج ، فشقوا الإداوة ، فإذا فیها کتاب من عثمان إلی بن أبی سرح ! فجمع محمد بن أبی بکر من کان معه من المهاجرین والأنصار وغیرهم ، ثم فک الکتاب بحضرتهم فإذا فیه: إذا أتاک محمد بن أبی بکر وفلان وفلان فاحتل لقتلهم ، وأبطل کتابه وقُرَّ علی عملک ، واحبس من یجئ إلیَّ یتظلم منک ، حتی یأتیک رأیی فی ذلک إن شاء الله . فلما قرؤوا الکتاب فزعوا وأزمعوا ورجعوا إلی المدینة ، وختم محمد بن أبی بکر الکتاب

ص: 58

بخواتم جماعة من المهاجرین معه ، ودفع الکتاب إلی رجل منهم ، وانصرفوا إلی المدینة فلما قدموها جمع محمد بن أبی بکر علیاً وطلحة والزبیر وسعداً ، وکان بها من أصحاب رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، ثم فک الکتاب بحضرتهم علیه خواتم من معه من المهاجرین ، وأخبرهم بقصة الغلام ، فلم یبق أحد من المدینة إلا حنق علی عثمان !

وقام أصحاب رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) فلحقوا بمنازلهم ما منهم أحد إلا هو مغتم ، وکانت هذیل وبنو زهرة فی قلوبها ما فیها علی عثمان ، لحال بن مسعود ، وکانت بنو مخزوم قد حنقت علی عثمان لحال عمار بن یاسر ، وکانت بنو غفار وأحلافها ومن غضب لأبی ذر فی قلوبهم ما فیها . وأجلب علیه محمد بن أبی بکر من بنی تیم ، وأعانه علی ذلک طلحة بن عبید الله وعائشة .

فلما رأی ذلک علیٌّ وصح عنده الکتاب ، بعث إلی طلحة والزبیر وسعد وعمار ونفر من أصحاب رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) کلهم بدریون ، ثم جاء معهم حتی دخل علی عثمان ومعه الکتاب والغلام والبعیر ، فقال له: هذا الغلام غلامک؟ قال: نعم . قال: والبعیر بعیرک؟ قال: نعم . قال: فأنت کتبت هذا الکتاب؟ قال: لا، وحلف بالله أنه ما کتب هذا الکتاب ، ولا أمر به . فقال له علیُّ: فالخاتم خاتمک ؟ قال: نعم . قال علیٌّ: فکیف یخرج غلامک علی بعیرک بکتاب علیه خاتمک لا تعلم به ؟ فحلف عثمان بالله ما کتبت هذا

ص: 59

الکتاب ، ولا أمرت به ، ولا وجهت هذا الغلام قط إلی مصر ، وأما الخط فعرفوا أنه خط مروان ، فلما شکوا فی أمر عثمان ، سألوه أن یدفع إلیهم مروان فأبی ، وکان مروان عنده فی الدار ، وکان خشی علیه القتل .

فخرج من عنده علیٌّ وأصحاب رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) وعلموا أن عثمان لا یحلف باطلاً ، ثم قالوا:لا نسکت إلا أن یدفع إلینا مروان حتی نبحث ونتعرف منه ذلک الکتاب ، وکیف یأمر بقتل رجل من أصحاب رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) بغیر حق؟ فإن یک عثمان کتب ذلک عزلناه ، وإن یک مروان کتبه علی لسان عثمان نظرنا ما یکون فی أمر مروان. ولزموا بیوتهم وفشا الخبر فی المسلمین من أمر الکتاب ، وقعد أصحاب رسول الله عن عثمان .

وخرج من الکوفة عدی بن حاتم الطائی ، والأشتر مالک بن الحارث النخعی ، فی مائتی رجل ، وخرج من البصرة حکیم بن جبلة العبدی فی مائة رجل، حتی قدموا المدینة یریدون خلع عثمان . وحوصر عثمان قبل هلال ذی القعدة بلیلة ، وضیق علیه المصریون والبصریون وأهل الکوفة ، بکل حیلة ، ولم یدعوه یخرج ولا یدخل إلیه أحد ، إلا أن یأتیه المؤذن فیقول الصلاة ، وقد منعوا المؤذن أن یقول یا أمیر المؤمنین ، فکان إذا جاء وقت الصلاة بعث أبا هریرة یصلی بالناس ، وربما أمر ابن عباس بذلک ، فصعد یوماً عثمان علی السطح ، فسمع بعض الناس یقول: إبتغوا إلی قتله سبیلاً.

ص: 60

فقال:والله ما أحل الله ولارسوله قتلی . ثم أشرف علیهم فقال: أفیکم علیٌّ؟ قالوا: لا. قال: أفیکم سعد ؟ قالوا: لا. فقال: أذکرکم بالله هل تعلمون أن رومة (بئر) لم یکن یشرب منها أحد إلا بشئ فابتعتها من مالی وجعلتها للغنی والفقیر وابن السبیل؟ فقالوا: نعم. قال فاسقونی منها . ثم قال: ألا أحد یبلغ علیاً فیسقینا ماء ، فبلغ ذلک علیاً فبعث إلیه بثلاث قرب مملوءة ، فما کادت تصل إلیه حتی جرح فی سببها عدة من بنی هاشم وبنی أمیة حتی وصل الماء إلیه ...».

وفی تاریخ المدینة:4/1152، عن ابن أبی لیلی قال: « قدم أهل مصر علی عثمان وقد نقموا علیه أشیاء ، فأعتبهم فرجعوا راضین ، فلحقهم غلام لعثمان فی الطریق معه کتاب إلی ابن أبی سرح یأمره فیه بقتلهم! فأخذوه ثم رجعوا إلی المدینة. وبلغ أهل مصر فأخرجوا ابن أبی سرح من مصر فألحقوه بفلسطین ، وبلغ أهل الکوفة رجوع أهل مصر الثانیة ، فخرج الأشتر فی مائتین من أهل الکوفة ، وبلغ أهل البصرة ، فخرج حکیم ابن جبلة فی مائة ، فتوافوا بالمدینة فحصروا عثمان ».

وفی تاریخ دمشق:39/423، عن أبی ثور الفهمی قال: « قدمت علی عثمان فبینا أنا عنده فخرجت ، فإذا بوفد أهل مصر قد رجعوا ، فدخلت علی عثمان فأخبرته فقال: کیف رأیتهم؟ قلت: رأیت فی وجوههم الشر ، علیهم ابن

ص: 61

عدیس البلوی ، فصعد ابن عدیس منبر رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) فصلی بهم الجمعة وتنقَّصَ عثمان فی خطبته ».

«وکان علیهم عبد الرحمن بن عدیس البلوی ، وکان ممن بایع رسول (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) تحت الشجرة » . (تاریخ المدینة:4/1155).

وروی المفید فی کتاب الجمل/68، عن محمد بن إسحاق ، عن الزهری ، قال: «لما قدم أهل مصر فی ست مائة راکب ، علیهم عبد الرحمن بن عدیس البکری ، فنزلوا ذا خشب ، وفیهم کنانة بن بشیر الکنانی ، وأبو عمر بن بدیل بن ورقاء الخزاعی ، وأبو عروة اللیثی ، واجتمع معهم حکیم بن جبلة العبدی ، فی طائفة من أهل البصرة ، وکمیل بن زیاد ومالک الأشتر وصعصعة بن صوحان ، وحجر بن عدی ، فی جماعة من قراء الکوفة ، الذین کانوا سیرهم عثمان منها إلی الشام ، حین شکوا أحداثه التی أنکرها علیه المهاجرون والأنصار ، فاجتمع القوم علی عیب عثمان ، وجهروا بذکر إحداثه ، فمر بهم عمر بن عبد الله الأصم وزیاد بن النظر ، فقالا: إن شئتم بلغنا عنکم أزواج النبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) فإن أمرنکم أن تقدموا فاقدموا فقالوا لهما: إفعلا ، واقصدوا علیاً آخر الناس ، فانطلق الرجلان فبدءا بعائشة وأزواج النبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) بعدها ، ثم أنبآ أصحابه (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) فأخبروهم الخبر ، فأمروهم أن یقدموا المدینة وصاروا إلی أمیر المؤمنین فأخبراه ، واستأذناه للقوم فی دخول

ص: 62

المدینة، فقال لهما: أتیتما أحداً قبلی؟قالا نعم أتینا عائشة وأزواج النبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) بعدها وأصحابه من المهاجرین والأنصار ، فأمروا أن یقدموا فقال علی لکنی لا آمرهم إلا أن یستغیثوا بمن قرب ، فإن أغاثهم فهو خیر لهم وإن أبی فهم أعلم ، فخرج الرجلان إلیهم جمیعاً ، وتسرع إلیهم جماعة من المدینة واجتمعوا مع أهل حسب وذو مروات ، فلما بلغ عثمان اجتماعهم أرسل إلی علی (علیه السّلام) وقال: أخرج یا أبا الحسن إلی هؤلاء القوم وردهم عما جاؤوا إلیه . فخرج إلیهم فلما رأوه رحبوا به وقالوا له: قد علمت یا أبا الحسن ما أحدثه هذا الرجل من الأعمال الخبیثة ، وما یلقاه المسلمون منه ومن عماله ، وکنا لقیناه واستعتبناه فلم یعتبنا ، وکلمناه فلم یصغ إلی کلامنا وأغراه ذلک بنا ، وقد جئنا نطالبه بالإعتزال عن إمرة المسلمین . واستأذنا فی ذلک الأنصار والمهاجرین وأزواج النبی أمهات المؤمنین ، فأذنوا لنا فی ورود المدینة ونحن علی ذلک . فقال لهم أمیر المؤمنین یا هؤلاء تریثوا لا تسرعوا إلی شئ لا تعرف عاقبته فإنا کنا قد عتبنا علی هذا فی شئ وإنه قد رجع عنه فارجعوا ، فقالوا هیهات یا أبا الحسن لا نقنع منه إلا بالإعتزال عن هذا الأمر لیقدم به من یوثق بإمامته . فرجع أمیر المؤمنین إلی عثمان وأخبره بمقالتهم ، فخرج عثمان حتی أتی المنبر فخطب الناس وجعل یتکلم ویدعو إلی نصرته ودفاع القوم عنه، فقام إلیه عمرو بن العاص فقال:

ص: 63

یا عثمان إنک قد رکبت بالتهمة وقد رکبوها منک فتب إلی الله . فقال له عثمان: وإنک لهاهنا یا ابن النابغة ! ثم رفع یده إلی السماء وقال: أتوب إلی الله اللهم إنی أتوب إلیک ; فأنفذ أمیر المؤمنین (علیه السّلام) إلی القوم بما جری من عثمان ، وما صار إلیه من التوبة والإقلاع .

فساروا إلی المدینة بأجمعهم ، وسار إلیهم عمرو بن معدی کرب فی ناس کثیرین ، فجعل یحرض علی عثمان ، ویذکر إثرته فقال:

أما هلکنا ولا یبکی لنا أحد

قالت قریش ألا تلک المقادیر

والحر فی الصیف قد تدمی جوارحه

نعطی السویة مما أخلص الکیر

نعطی السویة یوم الضرب قد علموا

ولا سویة إذ کانت دنانیر

وانضم إلیهم من المهاجرین طلحة والزبیر ، وجمهور الأنصار علی ذلک ، فخرج إلیهم أمیر المؤمنین (علیه السّلام) فقال لهم: یا هؤلاء إتقوا الله، ما لکم وللرجل أما رجع عما أنکرتموه ، أما تاب علی المنبر توبة جهر بها ! ولم یزل (علیه السّلام) یلطف بهم حتی سکنت فورتهم .

ثم سأله أهل مصر أن یلقاه فی عزل عبد الله بن سعید بن أبی سرح عنهم ، واقترح أهل الکوفة عزل سعید بن العاص عنهم ، وسأل أهل النهروان أن یصرف ابن کریز عنهم ، ویعدل عما کان علیه من منکر الأفعال .

فدخل علیه أمیر المؤمنین (علیه السّلام) ولم یزل ، حتی أعطاه ما أراد القوم من ذلک وبذل لهم العهود والأیمان .

ص: 64

فخرج أمیر المؤمنین إلی القوم بما ضمنه له عثمان ولم یزل بهم حتی تفرقوا . فلما سار أهل مصر ببعض الطریق نظروا ،وإذا براکب علی الطریق، مسرع ، فلما دنا تأملوه فإذا هو غلام عثمان علی ناقة من نوقه ، فاسترابوا به فقالوا له: أین تذهب؟ فقال: بعثنی عثمان فی حاجة له . قالوا: إلی أین بعثک؟فأُرْتِجَ علیه وتلعثم فی کلامه ، فنهروه وزبروه فقال: أنفذنی إلی مصر. فقالوا: فیمَ أنفذک ؟ قال: لا علم لی . فزاد استرابهم فیه ، ففتشوه فلم یجدوا معه شیئاً ، فأخذوا أدواته ففتشوها وإذا فیها کتاب من عثمان إلی عبد الله بن أبی سرح ، وهو: إذا أتاک کتابی هذا فاضرب عنق عمرو بن بدیل وعبد الرحمن البکری ، واقطع أیدی وأرجل علقمة وکنانة وعروة ، ثم دعهم یتشحطون فی دمائهم ، فإذا ماتوا فأوقفهم علی جذوع النخل !

فلما رأوا ذلک قبضوا علی الغلام وعادوا إلی المدینة ، فاستأذنوا علی علی بن أبی طالب ودفعوا إلیه الکتاب ففزع (علیه السّلام) لذلک ، فدخل علی عثمان فقال: إنک وسطتنی أمراً بذلت الجهد فیه لک وفی نصیحتک ، واستوهبت لک من القوم . فقال عثمان: فماذا ؟ فأخرج إلیه الکتاب ففضه وقرأه فأنکره ، فقال له علیٌّ: أتعرف الخط ؟ قال: الخط یتشابه . قال: أتعرف الختم؟ قال: الختم ینقش علیه . قال: فهذا البعیر الذی علی باب دارک تعرفه؟ قال: هو بعیری ولم آمر أحداً ولا یرکبونه . قال: فغلامک من أنفذه؟ قال: أنفذ بغیر أمری.

ص: 65

فقاله له أمیرالمؤمنین (علیه السّلام) : أما أنا فمعتزلک وشأنک وأصحابک ، وخرج من عنده ودخل داره وأغلق علیه بابه ، ولم یأذن لأحد من القوم فی الوصول إلیه . وخرج إلیهم طلحة والزبیر وقالا لهم: قد اعتزل علی بن أبی طالب وانتدبنا معکم علی هذا الرجل فاجتمع القوم علی حصره.فلما علم أن القوم قد حصروه وحقق العزیمة علی خلعه ،کتب إلی معاویة یستدعیه بجنود الشام ، وکتب إلی عبد الله بن عامر یستدعیه بجنود البصرة وفارس ، لینتصر بهم ویدفعهم عن نفسه .

وعرف أهل مصر وأهل العراق والحجاز إنه قد استفز علیهم أهل الشام ، وشیعته من أهل البصرة وفارس وخوزستان ، فجدوا فی حصاره ، وتولی ذلک منه طلحة والزبیر ومنعاه الماء وضیقا علیه ! وکان طلحة علی حرس الدار ، یمنع کل أحد یدخل إلیه شیئاً من الطعام والشراب ، ویمنع من فی الدار أن یخرج عنها إلی غیرها .

فصلٌ: فهل یخفی علی عاقل براءة أمیر المؤمنین (علیه السّلام) مما قرفوه به ناکثوا عهده من التألیب علی عثمان والسعی فی دمه ، مع ما رویناه من الحدیث عمن سمیناه ، أم هل یرتاب عاقل فیما فعله طلحة والزبیر ، فیما تولیاه من حصر عثمان ، حتی آل ذلک إلی قتله ، وهما من بعده یقرفان علیاً (علیه السّلام) بما تولیاه ،

ص: 66

ویدعیان لأنفسهما البراءة بما صنعاه ، ویجعلان شبهتهما فی استحلال قتاله دعوی الباطل المعروف بهتاناً ممن ادعاه .

وهذا یکشف أن الأمر فیما ادعیاه وأظهراه من الطلب بدم عثمان کان بخلافه علی ما بیناه مما جاءت به الأخبار فیما تولاه طلحة والزبیر فی عثمان ، ما رواه أبو إسحاق جبلة بن زفر قال: رأیت طلحة والزبیر یرفلان فی أدراعهما فی عثمان ، ثم جاءا من بعد إلی علی فبایعاه طایعین غیر مکرهین ، ثم صنعا ما صنعا .

وروی أبو حذیفة القرشی عن الحصین بن عبد الرحمان عن عمرو بن جاران عن الأحنف بن قیس قال: قدمت المدینة ، وساق حدیثاً طویلاً من أمر عثمان ، إلی أن قال: لما لقیت الفتنة والناس قد اجتمعوا علی حصر عثمان وهو علی خطر ، فأتیت طلحة والزبیر فقلت لهما: ما أری هذا الرجل إلا مقتولاً ، فمن تأمرانی أن أبایع وترضونه لی ؟

فقالا: علیاً . فخرجت حتی أتیت مکة وبها عائشة ، فدخلت علیها فقلت: إنی لأحسب هذا الرجل مقتولاً ، فمن تأمرینی أن أبایع؟ فقالت: بایع علیاً . فقضیت حجتی ثم مررت بالمدینة وقد قتل عثمان ، فبایعت علیاً ، ثم عدت إلی البصرة ، فإذا عائشة وطلحة والزبیر قد جاؤونا یطلبون بدم عثمان ویأمروننا بقتال علی بن أبی طالب ، فطال تعجبی من ذلک » !

ص: 67

وفی نهج البلاغة:2/233: « ومن کلام له (علیه السّلام) قاله لعبد الله بن عباس وقد جاءه برسالة من عثمان وهو محصور ، یسأله فیها الخروج إلی ماله بینبع ، لیقلَّ هتف الناس باسمه للخلافة:

یا ابن عباس ما یرید عثمان إلا أن یجعلنی جملاً ناضحاً بالغرب أقبل وأدبر! بعث إلیَّ أن أخرج ، ثم بعث إلیَّ أن أقدم ، ثم هو الآن یبعث إلیَّ أن أخرج . والله لقد دفعت عنه حتی خشیت أن أکون آثماً ».

وذهب علی (علیه السّلام) الی ینبع ، فاشتد الحصار علی عثمان فکتب الیه کما فی مجمع الأمثال للمیدانی (1/114): « أما بعد فإن السیل قد بلغ الزبی ، وجاوز الحزام الطبیین ، وتجاوز الأمر بی قدره ، وطمع فیَّ من لا یدفع عن نفسه ، ورأیت القوم لا یقصرون دون دمی:

فإن کنتُ مأکولاً فکن أنتَ آکلی

وإلا فأدرکنی ولمَّا أُمَزَّقِ».

بها منک ، مد یدک نبایعک فقال: أین طلحة والزبیر؟ فکان أول من بایعه طلحة بلسانه وسعد بیده ، فلما رأی ذلک علی خرج إلی المسجد فصعد المنبر فکان أول من صعد إلیه طلحة فبایعه بیده ، ثم بایعه الزبیر وسعد وأصحاب النبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، ثم نزل فدعا

الناس ، وطلب مروان فهرب منه وطلب نفراً من ولد مروان وبنی أبی معیط ، فهربوا منه .

وخرجت عائشة (فی مکة) باکیة تقول: قتل عثمان ، وجاء علی إلی امرأة عثمان فقال لها: من قتل عثمان ؟ قالت: لا أدری ، دخل علیه رجلان لا أعرفهما إلا أن أری وجوههما ، وکان معهما محمد بن أبی بکر . وأخبرت علیاً والناس ما صنع محمد ، فدعا علی محمداً فسأله عما ذکرت امرأة عثمان فقال: محمد لم تکذب ، قد والله دخلت علیه وأنا أرید قتله فذکر لی أبی فقمت عنه

وأنا تائب إلی الله تعالی ، والله ما قتلته ، ولا أمسکته . فقالت: امرأته صدق ، ولکنه أدخلهما ». (تاریخ دمشق:39/419، وأسد الغابة:4/32، وتاریخ الذهبی:3/460).

وقد وصف علی (علیه السّلام) بیعة الناس له ، کما فی نهج البلاغة:1/37، فقال: (فیا لله وللشوری ، متی اعترض الریب فی مع الأول منهم حتی صرت أقرن إلی هذه النظائر . لکنی أسففت إذ أسفوا وطرت إذ طاروا ! فصغی رجل منهم لضغنه ، ومال الآخر لصهره ، مع هنٍ وهن . إلی أن قام ثالث القوم ، نافجاً حضنیه بین

ص: 69

نثیله ومعتلفه ، وقام معه بنو أبیه یخضمون مال الله خضم الإبل نبتة الربیع ! إلی أن انتکث فتله ، وأجهز علیه عمله ، وکبت به بطنته !

فما راعنی إلا والناس کعرف الضبع إلیَّ ، ینثالون علی من کل جانب حتی لقد شُق عطفای ، مجتمعین حولی کربیضة الغنم .

فلما نهضت بالأمر نکثت طائفة ، ومرقت أخری وقسط آخرون .

کأنهم لم یسمعوا کلام الله حیث یقول: تِلْکَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِینَ لا یُرِیدُونَ عُلُوًّا فِی الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِینَ . بلی والله لقد سمعوها ووعوها ، ولکنهم حلیت الدنیا فی أعینهم ، وراقهم زبرجها. أما والذی فلق الحبة وبرأ النسمة ، لولا حضور الحاضر، وقیام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله علی العلماء أن لا یقاروا علی کظة ظالم ولا سغب مظلوم ، لألقیت حبلها علی غاربها ، ولسقیت آخرها بکأس أولها، ولألفیتم دنیاکم هذه أزهد عندی من عفطة عنز)!

ص: 70

وکتب لأهل مصر رسالة مع مالک الأشتر لما بعثه والیاً ، وکتب له عهداً مفصلاً، وهو برنامج عمل شامل لکل حاکم ، فی سلوکه الشخصی، وعمله السیاسی ، والإداری .

وذکر أبو أحمد الحاکم ، أن محمد بن أبی حذیفة لما ضبط مصر وأراد معاویة الخروج إلی صفین بدأ بمصر أولاً، فقاتله محمد بن أبی حذیفة بالعریش إلی أن تصالحا ، وطلب منه معاویة ناساً یکونون تحت یده رهناً لیأمن جانبهم إذا خرج إلی صفین ، فأخرج محمد رهناً عدتهم ثلاثون نفساً فأحیط بهم وهو فیهم فسجنوا ، وقال أبو أحمد الحاکم: خدع معاویة محمد بن أبی حذیفة حتی خرج إلی العریش فی ثلاثین نفساً ، فحاصره ونصب علیه المنجنیق حتی نزل علی صلح ، فحبس ثم قتل... فسجن ابن أبی حذیفة ومن معه فی سجن دمشق ، وسجن بن عدیس والباقین فی سجن بعلبک ».

أقول: حکم محمد بن أبی حذیفة مصر شهوراً قبل مقتل عثمان ، وفی أول خلافة علی (علیه السّلام) حتی جاء والی مصر قیس بن عبادة .

ثم انقطعت أخبار محمد ، فلم یرد له ذکر مع قیس ، والمرجح أنه خرج من مصر لیلتحق بعلی (علیه السّلام) فنصب له معاویة کمیناً وقبض علیه وحبسه فی الشام حتی لاینصر علیاً (علیه السّلام) ، وروی أن زوجة معاویة کانت ترسل له طعاماً الی السجن ، ثم تمکن من الفرار من السجن ، فأرسل معاویة من قبض علیه وقتله رضی الله عنه .

وقد وردت أخبار متضاربة فی شهادة محمد رضی الله عنه ، منها ما رأیت من أن معاویة غزا مصر بجیش مع عمرو العاص ، فخرج الیه محمد ومنعه

ص: 73

من دخولها ، فاتفق معه أن یخرج منها جماعة شارکوا فی قتل عثمان ، أو یخشی منهم معاویة علی الشام ، فقبل محمد بذلک ، وکان هو فی الرهن! فحبسه معاویة فی الشام وحبس الباقین فی بعلبک . لکن ابن أبی حذیفة لم یکن بهذه السذاجة وهذا الضعف الذی زعموه ، فالأرجح أنه کان مسافراً مع عدة من أصحابه لیلتحقوا بعلی (علیه السّلام) فکمن لهم معاویة وأسرهم .

قال فی تاریخ دمشق:50/258: « قال فحدثنا الولید بن مسلم حدثنا عبد الله بن لهیعة الحضرمی عن یزید بن أبی حبیب قال ثم تواقع معاویة بن حدیج وجیش بعثهم إلیه محمد بن أبی حذیفة ، علیهم قیس بن حرمل اللخمی ، ویقول آخرون کان علیهم یومئذ رجل من بلی یقال له ابن الحثما ، فاقتتلوا بخربتا فی أول یوم من شهر رمضان سنة ست وثلاثین ، فقتل قیس بن الحرمل وابن الحثما وأصحابهما ، وخرج أصحاب ابن حدیج وابن حدیج حتی صرع فی القتلی ، فجنح علیه ابن أخیه عبید الله بن عبد الله بن حدیج ، فأکب علیه یقول لحمی یحمی لحمک ، وتناول الرایة قیس بن سفیان الأزدی فقال: أنا معاویة بن حدیج . وکان علی مجنبة معاویة یومئذ خیار بن مرثد الأبدوی ، ودرع بن الحارث الخولانی ، وکان عدة من مع معاویة بن حدیج یومئذ ممن تابعه فی...قیس بن حبشی ألف ومائة سوی أهل خربتا من بنی مدلج کانوا معه لما غشیهم معاویة بن حدیج حین خرج إلیهم من

ص: 74

ناحیة الصعید ، فقال: إن کنتم تریدون نصرة بنی مدلح فألصقوا برحالهم عند حلولکم بهم ففعلوا ذلک ، فقالت بنو مدلج: تزحزحوا عنا فإن أیدینا مع أیدیکم ، فأبوا علیهم ثم إنهم ساروا إلی أنطابلس . قال: وقدم معاویة بن أبی سفیان فی سنة ست وثلاثین ، فنزل عین شمس وکان علی مجنبة محمد بن أبی حذیفة أبوعریب البلوی ، وعلی الیسری عزیز بن فارع الأصبحی ، فمنعوا معاویة وأصحابه أن یدخلوا الفسطاط ، فلما رأی معاویة أنه لا یستطیع الدخول کتب إلی محمد بن أبی حذیفة إنا لا نرید قتال أحد من المسلمین ، إنما جئنا نسأل القود بعثمان ، إدفعوا إلینا قاتله ابن عدیس وکنانة بن بشر وهما رأس القوم ، وأمر معاویة عمراً أن یکتب إلی ابن أبی حذیفة بمثل ذلک فکتب عمرو . فکتب محمد بن أبی حذیفة: إنی لم أکن لأقید بعثمان جدیاً أرطب السرة ، وأمر بصحیفة أخری فطویت لیس فی جوفها شئ وکتب عنوانها: من محمد بن أبی حذیفة إلی عمرو بن العاص ، فلما فضها عمرو بن العاص لم یر فیها شیئاً ، فقال له معاویة: ما کتب إلیک ابن أبی حذیفة ؟ قال: زعم أنی لست شیئاً ، سیعلم أینا یدحض فی بول أمه ! فقال معاویة لابن أبی حذیفة: إجعلوا بیننا وبینکم رهناً منا ومنکم ، لا یکون بیننا وبینکم حرب حتی یستخلف الله ویجمع الأمة علی من یشاء ، فقال ابن أبی حذیفة: فإنی أرضی بذلک علی أنی أستخلف علی جدنی وانطلق

ص: 75

مع الرهن وکان ذلک منه جبناً. فقال معاویة عند ذلک واغتنم قول ابن أبی حذیفة فمن تستخلف؟ قال: أستخلف أمیة بن شییم . قال معاویة: کلا. قال: فإذ کرهت فإنی أستخلف الحکم بن الصلت. فقال معاویة: نعم ، فانطلق ابن أبی حذیفة مع معاویة حتی دخل بهم الشام ففرقهم نصفین ، فسجن ابن أبی حذیفة ومن معه فی سجن دمشق وسجن ابن عدیس والنصف الثانی فی سجن بعلبک .

قال: فبینا معاویة فی مسیره ذلک جاءه برید فأخبره أن قیس بن عدی اللخمی ثم الراشدی صاحب مصر ، قد أغار علی خیل حتی بلغ فلسطین، ثم جاءه آخر فأخبره أن محمد بن أبی حذیفة قد خرج من السجن ، ثم جاءه آخر فأخبره أن ابن عدیس وأصحابه قد خرجوا من السجن ، فکان رأس القوم بعد ابن أبی حذیفة عبد الرحمن بن عدیس وکنانة بن بشر.

ثم جاءه برید آخر فأخبره أن ابن هرقل قد نزل الدرب ، ثم جاءه برید آخر فأخبره أن علی بن أبی طالب قد شارق !

جاءته خمسة برد فی لیلة واحدة ، فأرسل معاویة إلی عمرو بن العاص ما تری فی خمسة أمور شتی فی لیلة واحدة ما منها أمر إلا یهدُّ المریَّ ذا القوی . فقال: وما هن فأخبره الخبر ، فقال: أما قیس بن عدی فإنما هو سارق ولن یضر أحداً ، وأما ابن عدیس وأصحابه فإنهم قد خرجوا من سجن الناس

ص: 76

إلی سجن الله ، فابعث إلی سفیان الأزدی صاحب بعلبک فیبعث لمن خرج منهم من سجن بعلبک الرصد ، فإنهم لن یعجزوا الله . وابعث إلی أبی راشد صاحب فلسطین یبعث بمن عرج منهم إلی أرضه ، فبعث أبو راشد عمرو بن عبد الله الخثعمی فی طلب الرهن .

قال: فخرجت نبطیة من أنباط فلسطین تطلب حماراً ، فاتبعت الحمار حتی وصل إلی غار فرأت محمد بن أبی حذیفة وأصحابه فی الغار ، وکانوا یسیرون اللیل ویکمنون النهار ، فدلت النبطیة علیهم عمرو بن العاص فزعم من زعم أن ابن أبی حذیفة وکنانة بن بشر، عرض علیهما أن یستبقیا فکرها ذلک ، فقتلوا » .

أقول: لایمکن قبول مثل هذه الروایة ، لتهافتها ، فهی تفرض أن محمد بن أبی حذیفة انتصر علی معاویة وابن العاص ، ومنعهما من دخول مصر ، ثم تقول إنه قبل أن یکون رهناً فی أیدیهما !

وتفرض أن غزو معاویة کان سنة ست وثلاثین قبل صفین ، وأن کنانة بن بشر کان مع الرهن ، مع أنه کان فی سنة 38 قائد جیش محمد بن أبی بکر ، الذی قاوم غزو معاویة لمصر .

ص: 77

فالمرجح أن محمد بن أبی حذیفة (رحمه الله) خرج من مصر لیلتحق بعلی (علیه السّلام) فنصب له معاویة کمیناً وقبض علیه وحبسه ، ثم تمکن من الفرار من السجن ، فأرسل معاویة من قتله .

والمؤکد فی هذه الفترة أن محمد بن أبی حذیفة رضی الله عنه ، حمی مصر من معاویة ، وخاض معرکة مع جماعته فی خربتا، ومنعه من دخول مصر ، لکن قیس بن سعد غفر الله له قبل منهم أن لایبایعوا علیاً (علیه السّلام) بل أعطاهم امتیازات فقووا ، وساعدهم معاویة فقادوا انقلاباً فی مصر بعد معرکة صفین وقتلوا والیها محمد بن أبی بکر رضی الله عنه ، قتلةً وحشیة ، وسیطروا علی مصر ! (راجع: الأنساب للسمعانی:1/396، والوافی للصفدی:2/244، وتاریخ دمشق: 21/358، و: 35/111، و:50/258).

لکن أن أمیر المؤمنین (علیه السّلام) لم یعین محمد بن أبی حذیفة والیاً ، وعیَّن قیس بن سعد بن عبادة ، فما هو السبب ؟

الذی أرجحه أن الأنصار ، الذین لاقوا إجحافاً فی زمن أبی بکر وعمر وعثمان ، طالبوا الإمام بحکم مصر فعیَّن رئیسهم والیاً علیها.

وقد یکون الإمام (علیه السّلام) استدعی ابن أبی حذیفة الی المدینة ، أو جاء هو من نفسه ، فوقع فی قبضة معاویة ، فکان أول خسارة لأمیر المؤمنین (علیه السّلام) ، لأنه مؤمن جریئ ، قوی العین علی ابن عمته معاویة ، یستصغره ولا یحترمه .

وذهب قیس الی مصر فبایعه أهلها ، ما عدا بقایا النظام الذین کانوا فی قریة « خربتا» فی الصعید ، وکان یرأسهم شخصان من أخبث الناس وأسفکهم للدماء: معاویة بن حدیج السکونی ، وبسر بن أبی أرطاة ، وکان محمد بن أبی حذیفة (رحمه الله) حبسهما فی بیتیهما ، ومنعهما من الخروج ، حتی لایفسدا مصر، (تاریخ دمشق:39/423) فأطلقهما قیس ، فاتخذا قریة خَرَبْتَا قاعدة لهما !

وقد اشترطا علی قیس للبیعة أن یعلن علی (علیه السّلام) الطلب بدم عثمان ، أی یقاتل الجیش الذی حاصر عثمان ، ومن ساعدهم من البصریین والکوفیین ، ومن حماهم من قبائل العرب وأهل الأمصار!

ومعناه أن یتصرف کأنه رئیس قبیلة بنی أمیة ، ویکون برنامج حکومته فتح الحرب علی العرب ثأراً لعثمان !

ص: 79

قال الطبری:3/462:«فافترق أهل مصر فرقاً: فرقة دخلت فی الجماعة وکانوا معه ، وفرقة وقفت واعتزلت إلی خربتا وقالوا إن قتل قتلة عثمان فنحن معکم ، وإلا فنحن علی جدیلتنا حتی نُحرک أو نُصیب حاجتنا. وفرقة قالوا نحن مع علی ما لم یُقِدْ إخواننا . وهم فی ذلک مع الجماعة ». انتهی.

أی ما لم یقتص من المشارکین فی محاصرة عثمان .

وعندما رفض قیس بن سعد شروط أهل خربتا ، طلبوا منه أن یعفیهم من البیعة ، فأجابهم ، وصالحهم علی ذلک .

وتصور قیس أنه حقق بذلک نصراً وکف عنه عدواً ، بینما کان عمله اعترافاً بوجود الخط الأموی فی مصر، فقواهم بذلک وحولوا القریة الی معسکر یجمعون فیه الجنود ، لینقضُّوا علی مصر فی أول فرصة ! ولهذا فرح معاویة ، واعتبر أنه حقق أکبر نصر علی قیس !

قال الطبری:3/553: « کان معاویة یحدث رجالاً من ذوی الرأی من قریش یقول: ما ابتدعت مکایدة قط کانت أعجب عندی من مکایدة کدت بها قیساً من قبل علی وهو بالعراق حین امتنع منی قیس . قلت لأهل الشام: لاتسبوا قیس بن سعد ، ولا تدعوا إلی غزوه ، فإنه لنا شیعة یأتینا کیس نصیحته سراً ، ألا ترون ما یفعل بإخوانکم الذین عنده من أهل خربتا ،

ص: 80

یُجری علیهم أعطیاتهم وأرزاقهم ، ویؤمِّن سِرْبهم ، ویحسن إلی کل راکب قدم علیه منکم ، لایستنکرونه فی شئ » !

وهکذا تبنی قیس بسذاجته الأنصاریة ، رعایة قاعدة عسکریة موالیة لمعاویة یتجمع فیها المعادون له ولعلی (علیه السّلام) فی مصر ، وقاعدة دعایة أمویة .

وقد حاول أمیر المؤمنین (علیه السّلام) أن یفهِّم قیساً خطورة ما أقدم علیه ، لکن بساطة قیس وعدم وعیه لعصمة الإمام (علیه السّلام) ، منعاه من فهم الأمر ، فأصرَّ علی موقفه ، بل خَطَّأ أمیر المؤمنین (علیه السّلام) .

واستغل معاویة الوضع وأخذ یرسل الی قاعدته أموالاً وقادة ومبلغین لیکسبوا له مؤیدین مصریین ، حتی صاروا مئاتٍ وآلافاً!

وکان أسوأ من أرسلهم معاویة: مسلمة بن مخلدة الأنصاری ، وهو ثانی اثنین من الأنصار کانا مع معاویة ، ولم یکن معه غیرهما .

ومسلمة هذا وزمیله النعمان بن بشیر ، من صبیان الأنصار من عوائل عادیة جداً ، وُلدا بعد هجرة النبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، وکانا من خدم عثمان ومروان ، وتربیا علی حب بنی أمیة وبغض علی (علیه السّلام) والعترة النبویة !

ولما وصل مسلمة الی مصر أعلن شعار الطلب بدم عثمان ، فغضب قیس ، فطمأنه مسلمة بأنک ما دمت أنت والیاً ، فلا أثور علیک !

ص: 81

ففرح قیس بحیلة مسلمة ، ورفض تطبیق أمر علی (علیه السّلام) أن یجتث بؤرة الفساد ، بل ذهب قیس بعیداً فقال: إن سلطاناً لایتم إلا بقتل مسلمة بن مخلد لسلطان سوء ، والله ما أحب أن لی سلطان الشام مع سلطان مصروإنی قتلت ابن مخلد ! کل ذلک لأن ابن مخلد أنصاری نسباً !

لکن دارت الأیام وأدرک قیس خطأه فی ترک ابن حدیج ومسلمة ، فقد کان قیس قائداً مع علی (علیه السّلام) فی صفین والتقی بین المعسکرین مع النعمان بن بشیر وکان قائداً مع معاویة ، فقال له قیس، کما فی فتوح ابن الأعثم(3/167): «ولکن انظر یا نعمان هل تری مع معاویة إلا طلیقاً وأحزابیاً ! وانظر أین المهاجرون والأنصار ، وأین التابعون بإحسان الذین رضی الله عنهم ورضوا عنه ، وانظر هل تری مع معاویة غیرک وغیر صویحبک مسلمة بن مخلد ، والله ما أنتما بدریین ولا عقبیین ولا لکما فی الإسلام سابقة ، ولئن شغبت علینا الیوم فقد شغب علینا أبوک من قبلک فی سقیفة بنی ساعدة ، فاعزب عنی قبحک الله من ابن عم ، وقبح ما جئت به !

قال: فانصرف النعمان بن بشیر إلی عسکره وهو یقول: لقد کنت غنیاً عن کلامک یا ابن سعد بن عبادة » !

ص: 82

لکن ندم قیس کان بعد فوات الأوان ، وبعد أن رعا تکوین سرطان الأمویین فی مصر، فثاروا علی خلفه محمد بن أبی بکر ، وقتلوا سلفه محمد بن أبی حذیفة ، ثم قتلوا مالک الأشتر ، الذی سارع لنجدة مصر قبل أن یذبحها الأمویون !

ثم تسلط عمرو العاص والأمویون مجدداً علی مصر ، وجعلوها مفتوحة عُنوة ، یحق لهم تملک أهلها وأرضها ، فکان شعار ولاتهم کما فی النجوم الزاهرة فی ملوک مصر والقاهرة :1/231: (إحلب الدرَّ حتی ینقطع، واحلب الدم حتی ینصرم ) !

بنفسی وأهل بیتی . وأما ما أوصیتنی به من الرفق والإحسان ، فإن الله تعالی هو المستعان علی ذلک .

قال: فخرج قیس بن سعد فی سبع نفر من أصحابه، حتی دخل مصر فصعد المنبر ، فأمر بکتاب معه فقرئ علی الناس ، فیه:

بسم الله الرحمن الرحیم . من عبد الله علی أمیر المؤمنین ، إلی من بلغه کتابی هذا من المسلمین ، سلام علیکم ، فإنی أحمد الله إلیکم الذی لا إله إلاهو . أما بعد ، فإن الله بحسن صنعه وتقدیره وتدبیره اختار الإسلام دیناً لنفسه وملائکته ورسله ، وبعث به الرسل إلی عباده ، وخص من انتجب من خلقه ، فکان مما أکرم الله عز وجل به هذه الأمة وخصهم من الفضیلة أن بعث محمداً (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) إلیهم ، فعلمهم الکتاب والحکمة والسنة والفرائض ، وأدَّبهم لکیما یهتدوا ، وجمعهم لکیما لایتفرقوا ، وزکاهم لکیما یتطهروا ، فلما قضی من ذلک ما علیه قبضه الله إلیه ، فعلیه صلوات الله وسلامه ورحمته ورضوانه إنه حمید مجید.. ألا وإن لکم علینا العمل بکتاب الله وسنة رسوله (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) والقیام بحقه والنصح لکم بالغیب ، والله المستعان وحسبنا الله ونعم الوکیل. وقد بعثت إلیکم قیس بن سعد أمیراً فوازروه وأعینوه علی الحق ، وقد أمرته بالإحسان إلی محسنکم ، والشدة علی مریبکم ، والرفق بعوامکم وخواصکم .

ص: 84

وهو ممن أرضی هدیه ، وأرجو صلاحه ونصیحته ، نسأل الله لنا ولکم عملاً زاکیاً ، وثواباً جزیلاً ، ورحمةً واسعة . والسلام علیکم ورحمة الله وبرکاته. وکتب عبید الله بن أبی رافع فی صفر سنة ست وثلاثین .

قال:لما فرغ من قراءة الکتاب قام قیس بن سعد خطیباً ، فحمد الله وأثنی علیه وقال: الحمد لله الذی أمات الباطل وأحیا الحق وکبت الظالمین ، أیها الناس: إنا بایعنا خیر من نعلم بعد نبینا (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) فقوموا فبایعوا علی کتاب الله وسنة نبیه ، فإن نحن لم نعمل فیکم بکتاب الله وسنة رسوله ، فلا بیعة لنا علیکم . فقام الناس فبایعوا

2. واستقامت له مصر وأعمالها فبعث علیها عماله إلا أن قریة منها قد أعظم أهلها قتل عثمان ، وبها رجل من بنی کنانة یقال له یزید بن الحارث ، فبعث إلی قیس بن سعد: ألا إنا لا نأتیک فابعث عمالک والأرض أرضک ، ولکن أقرنا علی حالنا حتی ننظر إلی ما یصیر أمر الناس .

قال: ووثب مسلمة بن مخلد بن صامت الأنصاری ، فنعی عثمان ودعا إلی الطلب بدمه ، فأرسل إلیه قیس: ویحک أعلیَّ تثب ! والله ما أحب أن لی ملک الشام إلی مصر وإنی قتلتک ، فاحقن دمک .

فأرسل إلیه مسلمة أنی کافٌّ عنک ، ما دمت أنت والی مصر .

ص: 85

قال: وکان قیس له حزم ورأی ، فبعث إلی الذین اعتزلوا أنی لا أکرهکم علی البیعة ، ولکنی أدعکم وأکف عنکم ، فهادنهم وهادن مسلمة بن مخلد ، وجبی الخراج ، ولیس أحدٌ ینازعه .

3.قال: وخرج أمیر المؤمنین علی (علیه السّلام) إلی الجمل وهو علی مصر ، ورجع إلی الکوفة من البصرة وهو بمکانه ، فکان أثقل خلق الله علی معاویة لقربه من الشام، مخافة أن یُقبل إلیه علی بأهل العراق ویُقبل إلیه قیس بأهل مصر فیقع بینهما . فکتب معاویة إلی قیس بن سعد، وعلی یومئذ بالکوفة قبل أن یسیر إلی صفین: بسم الله الرحمن الرحیم ، من معاویة بن أبی سفیان إلی قیس بن سعد، سلام علیک فإنی أحمد إلیک الله الذی لا إله إلا هو ، أما بعد فإنکم إن کنتم نقمتم علی عثمان فی أثرة رأیتموها، أو فی ضربة سوط رأیتموه ضربها ، أو فی شتمة رجل أو تعییره واحداً ، أو فی استعماله الفتیان من أهله

فإنکم قد علمتم إن کنتم تعلمون أن دمه لم یحل لکم بذلک ، فقد رکبتم عظیماً من الأمر وجئتم شیئاً إداً ، فتب إلی ربک یا قیس إن کنت من المجلبین علی عثمان ، إن کانت التوبة من قتل المؤمن تغنی شیئاً .

وأما صاحبک فإنا قد استیقنا أنه أغری الناس به ،وحملهم علی قتله حتی قتلوه ، وأنه لم یسلم من دمه عظم قومک ، فإن استطعت یا قیس أن تکون ممن یطلب بدم عثمان فافعل ، وبایعنا علی أمرنا هذا ولک سلطان العراقین

ص: 86

إن أنا ظفرت ما بقیت ، ولمن أحببت من أهل بیتک سلطان الحجاز ما دام لی سلطان ، وسلنی من غیر هذا ما تحب فإنک لا تسألنی من شئ إلا أوتیته ، واکتب إلی برأیک فیما کتبت به إلیک . والسلام .

فلما جاء قیساً کتاب معاویة ، أحب أن یدافعه ، ولا یبدی له أمره ، ولا یعجل له حربه . فکتب إلیه: أما بعد فقد وصل إلی کتابک ، وفهمت ما ذکرت من قتل عثمان ، وذلک أمر لم أقاربه ، وذکرت أن صاحبی هو الذی أغری الناس بعثمان ودسهم إلیه حتی قتلوه ، وهذا أمر لم أطلع علیه ، وذکرت أن عظم عشیرتی لم تسلم من دم عثمان ، فلعمری إن أولی الناس کان فی أمره عشیرتی .

وأما ما سألتنی من متابعتک علی الطلب بدمه وعرضت علیَّ ما عرضت فقد فهمته ، وهذا أمر لی فیه نظر وفکر ، ولیس هذا مما یعجل إلیه ، وأنا کافٌّ عنک ، ولیس یأتیک من قبلی شئ تکرهه حتی تری ونری ، والسلام علیک ورحمة الله وبرکاته .

قال: فلما قرأ معاویة کتابه لم یره إلا مقارباً مباعداً ، ولم یأمن أن یکون له فی ذلک مخادعاً مکایداً ، فکتب إلیه معاویة أیضاً:

بسم الله الرحمن الرحیم . أما بعد فقد قرأت کتابک ، فلم أرک تدنو فأعدک سلماً ، ولم أرک تتباعد فأعدک حرباً ، أنت هاهنا کجمل جرور ، ولیس مثلی

ص: 87

من یصانع بالخدائع ولایختدع بالمکاید ، ومعه عدد الرجال وأعنة الخیل ، فإن قبلت الذی عرضت علیک فلک ما أعطیتک ، وإن أنت لم تفعل ، ملأت علیک مصر خیلاً ورجلاً . والسلام .

قال: فلما قرأ قیس بن سعد کتاب معاویة ، وعلم أنه لا یقبل منه المدافعة والمطاولة ، أظهر له ما فی قلبه فکتب إلیه :

بسم الله الرحمن الرحیم. من قیس بن سعد إلی معاویة بن أبی سفیان: أما بعد فالعجب من استسقاطک رأیی، واغترارک بی ، وطمعک فی أن تسومنی

لا أباً لغیرک ، الخروج من طاعة أولی الناس بالأمر، وأقولهم بالحق ، وأهداهم سبیلاً ، وأقربهم من رسول الله وسیلة ، وتأمرنی بالدخول فی طاعتک طاعة أبعد الناس من هذا الأمر ، وأقولهم بالزور ، وأضلهم سبیلاً

وأبعدهم من رسول الله وسیلة ، ولدیک قوم ضالون مضلون ، طواغیت إبلیس !

وأما قولک: إنک تملأ علیَّ مصر خیلاً ورجلاً ، فلئن لم أشغلک عن ذلک حتی تکون نفسک أهمَّ الیک ، إنک لذو جَدّ ، والسلام .

فلما أتی معاویة کتاب قیس بن سعد أیس منه ، وثقل مکانه علیه وکان أن یکون بالمکان الذی هو به غیره أعجب إلیه ، واشتد علی معاویة لما یعرف من بأسه ونجدته ، فأظهر للناس قبله أن قیساً قد بایعکم فادعوا الله له ،

ص: 88

وقرأ علیهم کتابه الذی لان فیه وقاربه ، واختلق معاویة کتاباً نسبه إلی قیس فقرأه علی أهل الشام:

بسم الله الرحمن الرحیم . إلی الأمیر معاویة بن أبی سفیان من قیس بن سعد ، أما بعد فإن قتل عثمان کان حدثاً فی الإسلام عظیماً ، وقد نظرت لنفسی ودینی لم أر یسعنی مظاهرة قوم قتلوا إمامهم مسلماً محرماً براً تقیاً ، ونستغفر الله لذنوبنا ، ونسأله العصمة لدیننا .

ألا وإنی قد ألقیت إلیک بالسلم ، وأجبتک إلی قتال قتلة إمام الهدی المظلوم فعول علیَّ فیما أحببت من الأموال والرجال ، أعجله إلیک إن شاء الله تعالی، والسلام علیک .

3.قال: فشاع فی أهل الشام کلها أن قیساً صالح معاویة ، فسرحت عیون علیِّ بن أبی طالب (علیه السّلام) إلیه بذلک ، فلما أتاه ذلک أعظمه وأکبره وتعجب له ، ودعا ابنیه الحسن والحسین وابنه محمداً ، ودعا عبد الله بن جعفر ، فأعلمهم بذلک وقال:ما رأیکم؟فقال عبد الله بن جعفر: یا أمیر المؤمنین دع ما یریبک إلی ما لا یریبک إعزل قیس بن سعد عن مصر .فقال لهم: إنی والله ماأصدق بهذا علی قیس . فقال له عبد الله بن جعفر: إعزله یا أمیر المؤمنین ، فوالله إن کان ما قد قیل حقاً ، لا یعتزلک إن عزلته .

قال: وإنهم لکذلک ، إذ أتاهم کتاب من قیس بن سعد فیه:

ص: 89

بسم الله الرحمن الرحیم . أما بعد فإنی أخبر أمیر المؤمنین أکرمه الله أن قبلی رجالاً معتزلین سألونی أن أکف عنهم ، وأن أدعهم علی حالهم ، حتی یستقیم أمر الناس فنری ویرون ، وقد رأیت أن أکف عنهم وألا أعجل ، وأن أتألفهم فیما بین ذلک ، لعل الله أن یقبل بقلوبهم ویفرقهم عن ضلالتهم إن شاء الله ، والسلام .

فقال له عبد الله بن جعفر: ما أخوفنی یا أمیر المؤمنین أن یکون هذا مما اتهم علیه ، إنک إن أطعته فی ترکهم واعتزالهم استشری الأمر وتفاقمت الفتنة، وقعد عن بیعتک کثیر ممن تریده علی الدخول فیها ، ولکن مره بقتالهم .

فکتب إلیه علی (علیه السّلام) :بسم الله الرحمن الرحیم ، أما بعد فسر إلی القوم الذین ذکرت ، فإن دخلوا فیما دخل فیه المسلمون ، وإلا فناجزهم . والسلام .

فلما أتی قیس بن سعد الکتاب فقرأه ، لم یتمالک أن کتب إلی أمیر المؤمنین: أما بعد یا أمیر المؤمنین ، فالعجب لک تأمرنی بقتال قوم کافِّین عنک ، ولم یمدوا إلیک یداً للفتنة ، ولا أرصدوا لها. فأطعنی یا أمیر المؤمنین وکفَّ عنهم ، فإن الرأی ترکهم یا أمیر المؤمنین . والسلام .

فلما أتاه هذا الکتاب قال له عبد الله بن جعفر:یا أمیر المؤمنین إبعث محمد بن أبی بکر إلی مصر یکفک أمرها، واعزل قیساً فوالله لبلغنی أن قیساً یقول: إن سلطاناً لایتم إلا بقتل مسلمة بن مخلد لسلطان سوء ! والله ما أحب أن

ص: 90

لی سلطان الشام مع سلطان مصر وإنی قتلت ابن مخلد . وکان عبد الله بن جعفر أخاً لمحمد بن أبی بکر لأمه ، وکان یحب أن یکون له إمرة وسلطان .

4.قال: فبعث علی بن أبی طالب (علیه السّلام) محمد بن أبی بکر إلی مصر ، وعزل قیساً ، وکتب معه إلی أهل مصر کتاباً ، فلما قدم علی قیس قال له قیس: فما بال أمیر المؤمنین ، ما غیَّرَهُ ، أدخل أحد بینی وبینه؟قال: لاوهذا السلطان سلطانک. وکان بینهما نسب ،إذ کانت تحت قیس قریبة بنت أبی قحافة أخت أبی بکر ، فکان قیس زوج عمته ، فقال قیس: لا والله لا أقیم معک ساعة واحدة ، وغضب حین عزله علی عنها فخرج منها مقبلاً إلی المدینة ، ولم یمض إلی علی بالکوفة..

ثم أقبل قیس حتی دخل المدنیة ، فجاءه حسان بن ثابت شامتاً به وکان عثمانیاً فقال له: نزعک علی بن أبی طالب وقد قتلتَ عثمان فبقی علیک الإثم ولم یحسن لک الشکر !

فزجره قیس وقال له: یا أعمی القلب یا أعمی البصیرة، والله لولا أن ألقی بین رهطی ورهطک حرباً لضربت عنقک ، أخرج عنی !

ثم إن قیساً وسهل بن حنیف خرجا حتی قدما علی علی (علیه السّلام) الکوفة فخبره قیس الخبر وما کان بمصر ، فصدقه ، وشهد هو وسهل بن حنیف مع علی (علیه السّلام) صفین .

ص: 91

وکان قیس بن سعد طوالاً أطول الناس وأمدهم قامة ، وکان سناطاً ، أصلع ، شیخاً ، شجاعاً ، مجرباً ، مناصحاً لعلی وولده ، حتی توفی ». والسناط: الکوسج الذی لیس له شعر لحیة .

5. وفی الغارات:1/223: (وأتی المدینة فجعل الناس یغرُّونه (لیبعدوه عن علی (علیه السّلام) ) ویقولون له: نصحت فعزلک ، فلحق بعلی (علیه السّلام) وبایعه ومعه اثنا عشر ألفاً علی الموت.. عن هشام بن عروة عن أبیه قال: کان قیس بن سعد بن عبادة مع علی بن أبی طالب (علیه السّلام) علی مقدمته ، ومعه خمسة آلاف ، قد حلقوا رؤوسهم ».

والثانی: التشیع العام ، بالمعنی اللغوی ، وهو تأیید علی (علیه السّلام) لأنه أولی بالخلافة من غیره من الصحابة .

وبهذا المعنی کان تشیع قیس بن سعد بن عبادة وعدد الصحابة ، فهم لایرون فیه أنه معصوم ، ولذلک نری قیساً یخالفه فی التعامل مع العثمانیة فی مصر ، ویحاول إقناعه برأیه ! بینما لا یصدر ذلک من محمد بن أبی بکر أو الأشتر أو محمد بن أبی حذیفة ، لأنهم یعتقدون أن علیاً إمام ربانی مؤید من الله تعالی ، فرأیه لیس اجتهاداً قابلاً للخطأ کغیره ، بل تکلیف شرعی یجب تنفیذه .

2. یبدو بالنظرة الأولی أن موقف قیس باستعمال اللیونة مع الأمویة المخالفین فی مصر أصح من موقف أمیر المؤمنین (علیه السّلام) بتخییرهم بین أن یبایعوا ویدخلوا فیما دخل فیه المسلمون ، وإلا فهم خارجون علی الإمام الشرعی ، یجب قتالهم .

وقد ظهرت صحة رأی الإمام (علیه السّلام) ، وأنهم کانوا خطراً علی المصریین لأنهم یرفعون شعار الثأر لعثمان ویتهمون المصریین به ، ولأنهم بؤرة یضمون الیهم جنوداً من داخل مصر وخارجها ، ویمدهم معاویة .

ص: 93

ونلاحظ أنهم کانوا قریة صغیرة من بضع مئات ، فاستفادوا من لین قیس وإعطائهم کل مخصصات الجنود ، حتی کثروا أنفسهم ، وبلغوا عشرة آلاف مقاتل !

3.حکم رواة السلطة بصواب رأی قیس فی مهادنة جماعة معاویة ، وخطأ رأی علی (علیه السّلام) فی قتالهم ، واعتبروا أن قتل ابن أبی بکر وابن أبی حذیفة والأشتر ، کان بسبب إصرار علی (علیه السّلام) علی القتال !

قال الطبری:3/553: « فلما بلغ ذلک علیاً اتهم قیساً ، وکتب إلیه یأمره بقتال أهل خربتا ، وأهل خربتا یومئذ عشرة آلاف فأبی قیس بن سعد أن یقاتلهم وکتب إلی علی إنهم وجوه أهل مصر وأشرافهم وأهل الحفاظ منهم ، وقد رضوا منی أن أومن سربهم وأجری علیهم أعطیاتهم وأرزاقهم ، وقد علمت أن هواهم مع معاویة ، فلست مکایدهم بأمر أهون علی وعلیک من الذی أفعل بهم ، ولو أنی غزوتهم

کانوا لی قرناً وهم أسود العرب ، ومنهم بسر بی أرطاة ومسلمة بن مخلد ومعاویة بن خدیج ، فذرنی فأنا أعلم بما أداری منهم . فأبی علی إلا قتالهم وأبی قیس أن یقاتلهم ، فکتب قیس إلی علی إن کنت تتهمنی فاعزلنی عن عملک ، وابعث إلیه غیری .

فبعث علی الأشتر أمیراً إلی مصر ، حتی إذا صار بالقلزم شرب شربة عسل کان فیها حتفه ، فبلغ ذلک معاویة وعمرو بن العاص ، فقال عمرو بن

ص: 94

العاص: إن لله جنوداً من عسل ، فلما بلغت علیاً وفاة الأشتر ، بعث محمد بن أبی بکر أمیراً علی مصر ، فلما حدث به قیس بن سعد قادماً أمیراً علیه ، تلقاه فخلا به وناجاه وقال: إنک قد جئت من عند امرئ لا رأی له فی الحرب ، وإنه لیس عزلکم إیای بمانعی أن أنصح لکم ، وإنی من أمرکم علی بصیرة ، وإنی أدلک علی الذی کنت أکاید به معاویة وعمرو بن العاص وأهل خربتا فکایدهم به ، فإنک إن کایدتهم بغیره تهلک ، فوصف له قیس المکایدة التی کایدهم بها ، فاغتشه محمد بن أبی بکر ، وخالفه فی کل شئ أمره به ، فلما قدم محمد بن أبی بکر مصر خرج قیس قبل المدینة ، فأخافه مروان والأسود بن أبی البختری ، حتی إذا خاف أن یؤخذ ویقتل ، رکب راحلته فظهر إلی علی ، فکتب معاویة إلی مروان والأسود بن أبی البختری یتغیظ علیهما ، ویقول: أمددتما علیاً بقیس بن سعد ، وبرأیه ومکایدته ، فوالله لو أمددتماه بثمانیة آلاف مقاتل ما کان ذلک بأغیظ لی من إخراجکما قیس بن سعد إلی علی .

فقدم قیس بن سعد إلی علی وباثَّه الحدیث ، ثم جاءهم قتل محمد بن أبی بکر ، عرف علی أن قیس بن سعد کان یداری منهم أموراً عظاماً من المکایدة التی قصر عنها رأی علی ، ورأی من کان یؤازره علی عزل قیس ، فأطاع علی قیساً فی الأمر کله ، وجعله علی مقدمة أهل العراق » .

ص: 95

لکن الصحیح رأی علی (علیه السّلام) ، لأنه کان یجب تخلیص مصر من الوباء الأموی وإلزام جماعة معاویة ببیعته ، لکن قیساً أخطأ خطأً سبَّب تقویة الخوارج ، وما نتج عنه من قتل محمد بن أبی بکر وخسارة مصر .

کما أن الصحیح أن الحق مع علی (علیه السّلام) فی لومه محمد بن أبی بکر (رحمه الله) لفراره فی الحرب ، مع أنه مدحه من جهات أخری .

ففی الغارات:1/301: « عن مالک بن الجون الحضرمی أن علیاً (علیه السّلام) قال: رحم الله محمداً کان غلاماً حدثاً ، أما والله لقد کنت أردت أن أولی المرقال هاشم بن عتبة بن أبی وقاص مصر . والله لو أنه ولیها لما خلی لعمرو بن العاص وأعوانه العرصة ، ولما قُتل إلا وسیفه فی یده ، بلا ذم لمحمد بن أبی بکر ، فلقد أجهد نفسه وقضی ما علیه .

قال فقیل لعلی (علیه السّلام) : لقد جزعت علی محمد بن أبی بکر جزعاً شدیداً یا أمیر المؤمنین. قال: وما یمنعنی؟ إنه کان لی ربیباً ، وکان لبنیَّ أخاً ، وکنت له والداً ، أعده ولداً » .

فإن قلت: لماذا نصب محمد بن أبی بکر والیاً علی مصر ، ولم یولَّ هاشم المرقال أو الأشتر ، وهو یعلم خطورة جماعة معاویة ؟

وجوابه: أن أهل مصر طالبوا بتولیة محمد بن أبی بکر ، وأن أمیر المؤمنین (علیه السّلام) کان بحاجة الی الأشتر والمرقال فی حرب صفین .

ص: 96

لکن الجواب الذی أقتنع به: أن النبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) والأئمة المعصومین (علیه السّلام) مع علمهم بالأمور ، فلکل منهم برنامجه الخاص ، فهو یتعامل مع ظاهر الأمور ومعادلاتها العادیة ، ولا یتعامل بعلمه ، إلا أن یؤمر بذلک .

وقد روی الجمیع أن النبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) نص علی أن علیاً (علیه السّلام) لایفعل إلا ما یؤمر به ! قال بریدة: « فوقعت فی علی حتی فرغت ، ثم رفعت رأسی فرأیت رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) غضب غضباً لم أره غضب مثله إلا یوم قریظة والنضیر، فنظر إلی فقال:یا بریدة أحب علیاً فإنما یفعل ما یؤمر به »! (المعجم الأوسط:5/117ومسند أحمد ، وعدة مصادر أخری ).

4. ینبغی التنبیه الی أن المستوی الإیمانی العام للأنصار قد انخفض فی حنین یوم ابتلاهم الله تعالی فأمر نبیه (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) أن یعطی غنائم هوازن الکبیرة الی القرشیین لیتألفهم ، ویحرم منها الأنصار لیمتحنهم !

روی فی الکافی:2/411، بسند صحیح عن الإمام الباقر (علیه السّلام) : «إن رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) یوم حنین تألف رؤساء العرب من قریش وسائر مضر، منهم أبو سفیان بن حرب وعیینة بن حصن الفزاری ، وأشباههم من الناس ، فغضبت الأنصار واجتمعت إلی سعد بن عبادة ، فانطلق بهم إلی رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) بالجعرانة فقال: یا رسول الله أتأذن لی فی الکلام؟ فقال: نعم ، فقال: إن کان هذا الأمر من هذه الأموال التی قسمت بین قومک شیئاً أنزله الله رضینا، وإن

ص: 97

کان غیر ذلک لم نرض! قال زرارة: وسمعت أبا جعفر (علیه السّلام) یقول: فقال رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) : یا معشر الأنصار أکُلُّکُمْ علی قول سیدکم سعد؟ فقالوا: سیدنا الله ورسوله ، ثم قالوا فی الثالثة: نحن علی مثل قوله ورأیه ! قال: زرارة فسمعت أبا جعفر (علیه السّلام) یقول: فحط الله نورهم » !

وفی مجمع البیان:5/32: « فمشی سعد بن عبادة إلی رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) فقال: یا رسول الله إن هذا الحی من الأنصار قد وجدوا علیک فی قسمک هذه الغنائم فی قومک وفی سائر العرب ، ولم یکن فیهم من ذلک شئ ! فقال (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) : فأین أنت من ذلک یا سعد؟ فقال: ما أنا إلا امرؤ من قومی! فقال رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) : فاجمع لی قومک فی هذه الحظیرة...».

أقول: من عجائب التاریخ موقف الأنصار عند غنائم حنین ، ورئیسهم سعد بن عبادة ! فقد رأوا معجزات النبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) وآمنوا به ، وبذلوا فی سبیله أموالهم وأرواحهم ، ولما أعطی غیرهم ولم یعطهم اتهموه بأنه یمیل إلی قومه! فغلبهم هواهم عند الإمتحان ، وفقدوا توازن عقولهم ، فانخفض مستوی إیمانهم ، فحط الله نورهم !

وقد سأل النبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) سعداً عن موقفه فی اتهام الأنصار لنبیهم (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) بأنه مال لقومه فی تقسیم الغنائم ، فأجابه بأنه رجل من قومه !

ص: 98

لذلک ینبغی أن یقسم تاریخ الأنصار إلی: مرحلة ما قبل غنائم حنین ، ومرحلة ما بعدها !

وقد عالج النبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) هذا الهبوط فی إیمانهم ، بتطییب خاطرهم ، وهی معالجة تهدؤهم ، لکنها لا ترفع مستواهم ، فذلک بأیدیهم .

وهذا یفسر لنا نقضهم لبیعتهم للنبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) فی بیعة العقبة بأن یحموه ویحموا أهل بیته بعده مما یحمون منه أنفسهم وذراریهم ! فعندما رأی سعد أن قریشاً مجمعة علی إبعاد عترة النبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) عن خلافته ، لم ینصر أهل بیت نبیه ، بل أخذ یعمل لأن تکون الخلافة له لأنه أحق بالإسلام وخلافته من بطون قریش ! لذلک ورد فیه الذم من فاطمة الزهراء (علیه السّلام) وغیرها من أئمة العترة (علیه السّلام) . ثم لم یتهنأ سعد بموقفه المتخاذل عن أهل البیت (علیه السّلام) ، فقد نفاه عمر الی حوران ، ثم قتله وقیل قتلته الجن !

5.کان قیس بن سعد بن عبادة کأبیه زعیم الخزرج ، وعامة الأنصار ، ثابتاً علی موقفه ضد خلافة أبی بکر وعمر وعثمان ، وقد شارک مع علی (علیه السّلام) بفعالیة فی حروبه هو وکافة الأنصار ، ولم یشارک منهم مع معاویة إلا شخصان من صبیانهما العادیین هما النعمان بن بشیر ومسلمة بن مخلد !

ص: 99

ولکن موقف الأنصار الی جانب العترة النبویة کان بعد أن ذاقوا الأمرَّین من طلقاء قریش الذین یبغضونهم ، فکان موقفهم أشبه بالتکفیر عن الذنب بعد فوات الأوان .

لهذا یعتبر سعد وابنه قیس شیعة بالمعنی العام ، ولیسوا کعمار ، وسلمان ، والمقداد ، وأبی ذر ، وحذیفة ، والأشتر ، ومحمد بن أبی بکر ، وخالد بن سعید ، وعشرات المعتقدین بأن إمامة علی (علیه السّلام) والعترة فریضة ، بنص النبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) سواء أطاعت الأمة أم عصت .

وبهذا نفسر مخالفة قیس لأمیر المؤمنین (علیه السّلام) فی أهل خَرَبْتَا العثمانیین ، فهادنهم وأعطاهم امتیازات حتی تفاقم أمرهم وأمدهم معاویة فأخذوا مصر وقتلوا محمد بن أبی بکر بوحشیة !

وکأن قیساً أراد التکفیر عن ذلک ن فکان موقفه مع الإمام الحسن (علیه السّلام) مشرفاً ، فقد ثبت أمام إغراء معاویة إلی آخر مرحلة ، وجرت بینهم مراسلات وانتهت بلهجة شدیدة جداً ، ولم یقبل الصلح حتی أرسل له معاویة رقاً مختوماً لیشترط فیه ما شاء، کالذی أرسله إلی الإمام الحسن (علیه السّلام) .

قال الطبری فی تاریخه:4/125: « واشترط الحسن لنفسه ثم بایع معاویة وأمَّرت شرطة الخمیس قیس بن سعد علی أنفسهم ، وتعاهدوا هو وهم علی قتال معاویة حتی یشترط لشیعة علی ولمن کان اتبعه ، علی أموالهم

ص: 100

ودمائهم وما أصابوا فی الفتنة ، فخلص معاویة حین فرغ من عبد الله بن عباس والحسن إلی مکایدة رجل هو أهمُّ الناس عنده مکایدةً ومعه أربعون ألفاً ، وقد نزل معاویة بهم وعمرو وأهل الشام ، وأرسل معاویة إلی قیس بن سعد یذکره الله ویقول: علی طاعة من تقاتل وقد بایعنی الذی أعطیته طاعتک ؟! فأبی قیس أن یلین له حتی أرسل إلیه معاویة بسجلٍّ قد ختم علیه فی أسفله ، فقال: أکتب فی هذا السجل ما شئت فهو لک! قال عمرو لمعاویة: لا تعطه هذا وقاتله! فقال معاویة: علی رسلک ، فإنا لا نخلص إلی قتل هؤلاء حتی یقتلوا أعدادهم من أهل الشأم ، فما خیر العیش بعد ذلک! وإنی والله لا أقاتله أبداً حتی لا أجد من قتاله بداً . فلما بعث إلیه معاویة بذلک السجل اشترط قیس فیه له ولشیعة علیٍّ الأمان علی ما أصابوا من الدماء والأموال ، ولم یسأل معاویة فی سجله ذلک مالاً ، وأعطاه معاویة ما سأل ، فدخل قیس ومن معه فی طاعته ».

أقول: الصحیح أن جیش قیس کان اثنی عشر ألفاً لا أربعین ألفاً ، بل ورد أن الذین ثبتوا معه وجددوا له البیعة منهم أربعة آلاف ، ویظهر أنهم طلیعة الأربعین ألفاً الذین بایعوا أمیر المؤمنین (علیه السّلام) قبل شهادته علی حرب معاویة حتی الموت . وأخیراً بایع قیس فی الکوفة بأمر الإمام الحسن (علیه السّلام) !

ص: 101

قال الطبری:4/125: « کانوا یعدون دهاة الناس حین ثارت الفتنة خمسة رهط فقالوا: ذوو رأی العرب ومکیدتهم: معاویة بن أبی سفیان ، وعمرو بن العاص ، والمغیرة بن شعبة ، وقیس بن سعد .

ومن المهاجرین: عبد الله بن بدیل الخزاعی ، وکان قیس وابن بدیل مع علی وکان المغیرة بن شعبة وعمرو مع معاویة ، إلا أن المغیرة کان معتزلاً بالطائف حتی حکم الحکمان » .

وفی مقاتل الطالبیین/47:«ولما تم الصلح بین الحسن ومعاویة أرسل إلی قیس بن سعد بن عبادة یدعوه إلی البیعة ، فأتیَ به وکان رجلاً طویلاً یرکب الفرس المشرف ورجلاه تخطان فی الأرض، وما فی وجهه طاقة شعر ، وکان یسمی خِصْیَ الأنصار ، فلما أرادوا أن یدخلوه إلیه قال: إنی قد حلفت أن لا ألقاه إلا بینی وبینه الرمح أوالسیف! فأمر معاویة برمح أو سیف ، فوضع بینه وبینه ، لیبرَّ یمینه » !

ص: 102

ذرینی أصطبح یا بکر أنی

رأیت الموت نقَّبَ عن هشام

فودَّ بنو المغیرة أن فدوْهُ

بألف من رجال أو سوام

فکائن بالطویِّ طویِّ بدر

من القینات والخیل الکرام

فکائن بالطویِّ طویِّ بدر

من الشیزی تُکلل بالسنام

فبلغ ذلک النبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) فقام معه جریدة یجرُّ إزاره حتی دخل علیه ، فلما نظر إلیه قال: أعوذ من سخط الله ومن سخط رسوله والله لا یلج لی رأساً أبداً ! فذهب عن رسول الله ما کان فیه وخرج ونزل علیه: فَهَلْ أنتمْ مُنْتَهُون؟! فقال عمر: انتهینا والله » . (ابن هشام:2/549) .

ورواها ابن حجر فی الإصابة:7/39، عن الفاکهی فی کتاب مکة ، وفیها: «شرب أبو بکر الخمر فأنشأ یقول: فذکر الأبیات فبلغ ذلک رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) فقام یجر إزاره حتی دخل فتلقاه عمر وکان مع أبی بکر ، فلما نظر إلی وجهه محمراً قال: نعوذ بالله من غضب رسول الله! والله لا یلج لنا رأسا أبداً »!

وذکر فی فتح الباری:10/31، أن تلک الجلسة کانت حفلة خمر فی بیت أبی طلحة ، وکانوا عشرة صحابة أو أکثر وساقیهم أنس بن مالک!

ثم قال: « ولأحمد عن یحیی القطان عن حمید عن أنس: کنت أسقی أبا عبیدة وأبی بن کعب وسهیل بن بیضاء، ونفراً من الصحابة عند أبی طلحة . ووقع عند عبد الرزاق عن معمر بن ثابت وقتادة وغیرهما عن أنس ، أن القوم کانوا أحد عشر رجلاً، وقد حصل من الطرق التی أوردتها تسمیة

ص: 104

سبعة منهم ، وأبهمهم فی روایة سلیمان التیمی عن أنس...ومن المستغربات ما أورده ابن مردویه فی تفسیره من طریق عیسی بن طهمان عن أنس، أن أبا بکر وعمر کانا فیهم! وهو منکر مع نظافة سنده ، وما أظنه إلا غلطاً » !

یقصد ابن حجر أن حدیث شربهم الخمر صحیح السند ، لکن معناه مستنکر ! لکن إذا صح سند الحدیث ، فلا یردُّ باستغراب معناه !

وروی البخاری فی صحیحه:4/263، عن عائشة قالت:«أن أبا بکر تزوج امرأة من کلب یقال لها أم بکر ، فلما هاجر أبو بکر طلقها فتزوجها ابن عمها هذا الشاعر الذی قال هذه القصیدة ورثا کفار قریش ».

ووقت القصة عند نزول سورة المائدة أی قبل وفاة النبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) بشهر أو شهرین ! لأن آیة: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ، من سورة المائدة وهی آخر مانزل من القرآن قبیل وفاة النبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) . (راجع تفصیل القصة فی: ألف سؤال وجواب:3/113).

وقد ولد محمد بن أبی بکر (رحمه الله) فی حجة الوداع ، وعاش مع أبیه أبی بکر أقل من ثلاث سنوات ، ثم تزوج علی (علیه السّلام) أمه أسماء بنت عمیس ، فکان محمد ربیب الإمام (علیه السّلام) ، وکان یعده کأحد أولاده . وکان عمره عندما ولاه أمیر المؤمنین (علیه السّلام) مصر ، ستاً وعشرین سنة .

ص: 105

والسلام . وکتبه عبید الله بن أبی رافع مولی رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) لغرة شهر رمضان سنة ست وثلاثین .

قال: ثم إن محمد بن أبی بکر قام خطیباً فحمد الله وأثنی علیه وقال: أما بعد فالحمد لله الذی هدانا وإیاکم لما اختلف فیه من الحق ، وبصرنا وإیاکم کثیراً مما عمیَ عنه الجاهلون .

ألا إن أمیر المؤمنین ولانی أمورکم ، وعهد إلی بما سمعتم ، وأوصانی بکثیر منه مشافهة ، ولن آلوکم خیراً ما استطعت ، وماتوفیقی إلا بالله علیه توکلت وإلیه أنیب . فإن یکن ما ترون من آثاری و أعمالی لله طاعة وتقوی ، فاحمدوا الله علی ما کان من ذلک ، فإنه هو الهادی له ، وإن رأیتم من ذلک عملاً بغیر حق ، فادفعوه إلی وعاتبونی علیه ، فإنی بذلک أسعد ، وأنتم بذلک جدیرون . وفقنا الله وإیاکم لصالح العمل برحمته . ثم نزل ).

«لما ولَّی أمیر المؤمنین علیّ بن أبی طالب محمد بن أبی بکر مصر وأعمالها کتب له کتاباً ، وأمره أن یقرأه علی أهل مصر ویعمل بما وصاه به ، فکان الکتاب:

بسم الله الرّحمن الرّحیم. من عبد الله أمیر المؤمنین علیّ بن أبی طالب إلی أهل مصر ومحمد بن أبی بکر:

سلام علیکم، فإنی أحمد إلیکم الله الذی لا إله إلَّا هو ، أما بعد فإنی أوصیکم بتقوی الله فیما أنتم عنه مسؤولون وإلیه تصیرون ، فإنّ الله تعالی یقول: کُلُّ نَفْسٍ بِما کَسَبَتْ رَهِینَةٌ ، ویقول: ویُحَذِّرُکُمُ الله نَفْسَه وإِلَی الله الْمَصِیرُ . ویقول: فَوَ رَبِّکَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِینَ عَمَّا کانُوا یَعْمَلُونَ .

واعلموا عباد الله أن الله عزَّ وجلَّ سائلکم عن الصغیر من أعمالکم والکبیر فإن یعذِّب فنحن أظلم ، وإن یعفُ فهو أرحم الرّاحمین.

یا عباد الله إنّ أقرب ما یکون العبد إلی المغفرة والرحمة حین یعمل لله بطاعته وبنصحه فی التوبة . علیکم بتقوی الله ، فإنها تجمع الخیر ولا خیر غیرها ، ویدرک بها من الخیر ما لا یدرک بغیرها ، من خیر الدنیا والآخرة قال الله عزّ وجلّ: وقِیلَ لِلَّذِینَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّکُمْ قالُوا خَیْراً لِلَّذِینَ أَحْسَنُوا فِی هذِه الدُّنْیا حَسَنَةٌ ولَدارُ الآخِرَةِ خَیْرٌ ولَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِینَ .

إعلموا یا عباد الله أنّ المؤمن یعمل من الثواب لثلاث: أمّا الخیر فإنّ الله یثیبه بعمله فی دنیاه ، قال الله سبحانه لإبراهیم: وآتَیْناه أَجْرَه فِی الدُّنْیا وإِنَّه فِی

ص: 108

الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِینَ ، فمن عمل لله تعالی أعطاه أجره فی الدّنیا والآخرة وکفاه المهمّ فیهما ، وقد قال الله تعالی: یا عِبادِ الَّذِینَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّکُمْ لِلَّذِینَ أَحْسَنُوا فِی هذِه الدُّنْیا حَسَنَةٌ وأَرْضُ الله واسِعَةٌ إِنَّما یُوَفَّی الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَیْرِ حِسابٍ ، فما أعطاهم الله فی الدّنیا لم یحاسبهم به فی الآخرة ، قال الله تعالی: لِلَّذِینَ أَحْسَنُوا الْحُسْنی وزِیادَةٌ ، والحسنی هی الجنّة ، والزیادة هی الدّنیا ، وإنّ الله تعالی یکفِّر بکل حسنة سیئة ، قال الله عزَّ وجلَّ: إِنَّ الْحَسَناتِ یُذْهِبْنَ السَّیِّئاتِ ذلِکَ ذِکْری لِلذَّاکِرِینَ، حتی إذا کان یوم القیامة حسبت لهم حسناتهم ثمّ أعطاهم بکلّ واحدة عشرة أمثالها إلی سبعمائة ضعف ، قال الله عزّ وجلّ: جَزاءً مِنْ رَبِّکَ عَطاءً حِساباً ، وقال: إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِکَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِی الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ . فارغبوا فی هذا رحمکم الله واعملوا له وتحاضّوا علیه .

واعلموا یا عباد الله ، أن المتّقین حازوا عاجل الخیر وآجله ، شارکوا أهل الدنیا فی دنیاهم ولهم یشارکهم أهل الدنیا فی آخرتهم أباحهم فی الدنیا ما کفاهم به وأغناهم ، قال الله عزَّ اسمه:قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِینَةَ الله الَّتِی أَخْرَجَ لِعِبادِه والطَّیِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِیَ لِلَّذِینَ آمَنُوا فِی الْحَیاةِ

الدُّنْیا خالِصَةً یَوْمَ الْقِیامَةِ کَذلِکَ نُفَصِّلُ الآیاتِ لِقَوْمٍ یَعْلَمُونَ ، سکنوا الدنیا بأفضل ماسکنت ، وأکلوها بأفضل ما أکلت ، شارکوا أهل الدنیا فی دنیاهم ، فأکلوا معهم من طیبات ما یأکلون ، وشربوا من طیبات ما یشربون ، ولبسوا من أفضل ما یلبسون ،

ص: 109

وسکنوا من أفضل ما یسکنون ، وتزوجوا من أفضل ما یتزوجون ، ورکبوا من أفضل ما یرکبون . أصابوا لذة الدنیا مع أهل الدنیا ، وهم غداً جیران الله ، یتمنون علیه فیعطیهم ما یتمنون ، لا یردُّ لهم دعوة ، ولا ینقص لهم نصیباً من اللَّذة . فإلی هذا یا عباد الله یشتاق إلیه من کان له عقل ویعمل بتقوی الله ، ولا حول ولا قوّة إلَّا بالله .

یا عباد الله ، إن اتقیتم وحفظتم نبیکم فی أهل بیته ، فقد عبدتموه بأفضل ما عبد ، وذکرتموه بأفضل ما ذکر ، وشکرتموه بأفضل ما شکر ، وأخذتم بأفضل الصبر والشکر، واجتهدتم أفضل الإجتهاد ، وإن کان غیرکم أطول منکم صلاة وأکثر منکم صیاماً، فأنتم أتقی لله منه وأنصح لأولی الأمر .

إحذروا یا عباد الله الموت وسکرته ، فأعدُّوا له عُدَّته فإنه یفجؤکم بأمر عظیم: بخیر لا یکون معه شرٌّ أبداً ، أو بشرٍّ لا یکون معه خیرٌ أبداً ، فمن أقرب إلی الجنة من عاملها ، ومن أقرب إلی النار من عاملها . إنه لیس أحد من الناس تفارق روحه جسده حتی یعلم إلی أیَّ المنزلتین یصیر إلی الجنة أم النار، أعدوٌّ هو لله أو ولیٌّ ، فإن کان ولیّاً لله فُتحت له أبواب الجنة ، وشُرعت له طرقها ، ورأی ما أعدَّ الله له فیها ، ففرغ من کل شغل ، ووضع عنه کل ثقل .

ص: 110

وإن کان عدوَّاً لله فتحت له أبواب النار ، وشرع له طرقها ، ونظر إلی ما أعدّ الله له فیها فاستقبل کل مکروه ، وترک کل سرور .

کل هذا یکون عند الموت وعنده یکون بیقین ، قال الله تعالی: الَّذِینَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِکَةُ طَیِّبِینَ یَقُولُونَ سَلامٌ عَلَیْکُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما کُنْتُمْ تَعْمَلُونَ . ویقول: الَّذِینَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِکَةُ ظالِمِی أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما کُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلی إِنَّ الله عَلِیمٌ بِما کُنْتُمْ تَعْمَلُونَ . فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِینَ فِیها فَلَبِئْسَ مَثْوَی الْمُتَکَبِّرِینَ .

عباد الله إنّ الموت لیس منه فوت ، فاحذروا قبل وقوعه ، وأعدوا له عدته فإنکم طرداء الموت: إن أقمتم له أخذکم ، وإن فررتم منه أدرککم ، وهو ألزم لکم من ظلَّکم ، الموت معقود بنواصیکم ، والدنیا تُطوی خلفکم ، فأکثروا ذکر الموت عندما تنازعکم إلیه أنفسکم من الشهوات ، وکفی بالموت واعظاً .

وکان رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) کثیراً ما یوصی أصحابه بذکر الموت فیقول: أکثروا ذکر الموت ، فإنه هادم اللذّات ، حائل بینکم وبین الشهوات .

یا عباد الله ، ما بعد الموت لمن لایغفر له أشد من الموت: القبر. فاحذروا ضیقه وضنکه وظلمته وغربته ، إن القبر یقول کل یوم: أنا بیت الغربة ، أنا بیت التراب ، أنا بیت الوحشة ، أنا بیت الدُّود والهوام . والقبر روضة من ریاض الجنة ، أو حفرة من حفر النار ، إن العبد المؤمن إذا دفن قالت له

ص: 111

الأرض مرحباً وأهلاً ، قد کنت من أحبُّ أن تمشی علی ظهری ، فإذْ ولیتُک فستعلم کیف صنیعی بک ، فیتسع له مدَّ البصر .

وإن الکافر إذا دفن قالت له الأرض: لامرحباً بک ولا أهلاً ، لقد کنت من أبغض من یمشی علی ظهری ، فإذا ولیتُک فستعلم کیف صنیعی بک ، فتضمُّه حتی تلتقی أضلاعه !

وإن المعیشة الضنک الَّتی حذَّر الله منها عدوه عذاب القبر أنه یسلَّط علی الکافر فی قبره تسعةً وتسعین تنیناً فینهشن لحمه ویکسرن عظمه ، ویترددن علیه کذلک إلی یوم البعث ، لو أن تنیناً منها نفخ فی الأرض لم تنبت زرعاً !

یا عباد الله ، إنّ أنفسکم الضعیفة ، وأجسادکم الناعمة الرقیقة الَّتی یکفیها الیسیر ، تضعف عن هذا، فإن استطعتم أن تجزعوا لأجسادکم وأنفسکم ممّا لا طاقة لکم ولا صبر لکم علیه ، فاعملوا بما أحبَّ الله واترکوا ما کره الله .

یا عباد الله ، إن بعد البعث ما هو أشدُّ من القبر ، یومٌ یشیب فیه الصغیر ، ویسکر فیه الکبیر ، ویسقط فیه الجنین ، وتذهل کل مرضعة عما أرضعت ، یوم عبوس قمطریر، یوم کان شره مستطیراً.

إن فزع ذلک الیوم لیرهب الملائکة الذین لا ذنب لهم ، وترعد منه السبع الشداد ، والجبال الأوتاد ، والأرض المهاد ، وتنشق السماء فهی یومئذ واهیة

ص: 112

وتصیر وردة کالدهان ، وتکون الجبال کثیباً مهیلاً بعد ما کانت صُمّاً صِلاباً وینفخ فی الصور فیفزع من فی السماوات ومن فی الأرض إلا من شاء الله .

فکیف من عصی بالسمع والبصر واللسان والید والرجل والفرج والبطن إن لم یغفر الله له ویرحمه من ذلک الیوم ، لأنه یقضی ویصیر إلی غیره ، إلی نار قعرها بعید ، وحرها شدید ، وشرابها صدید ، وعذابها جدید ، ومقامعها حدید . لا یفتر عذابها ، ولا یموت سکانها . دار لیس فیها رحمة ، ولا یسمع لأهلها دعوة .

واعلموا یا عباد الله ، أن مع هذا رحمة الله التی لا تعجز عن العباد ، جنة عرضها کعرض السماء والأرض ، أعدت للمتقین ، خیرٌ لا یکون معها شرٌّ أبداً ، لذَّاتها لا تمل ، ومجتمعها لا یتفرق ، سکانها قد جاوروا الرحمن ، وقام بین أیدیهم الغلمان ، بصحاف من الذهب فیها الفاکهة والریحان .

ثم اعلم یا محمد بن أبی بکر ، أنی قد ولیتک أعظم أجنادی فی نفسی: أهل مصر ، فإذْ ولیتک ما ولیتک من أمر الناس ، فأنت حقیق أن تخاف منه علی نفسک ، وأن تحذر منه علی دینک ، فإن استطعت أن لا تسخط ربک عز وجل برضا أحد من خلقه فافعل ، فإن فی الله عز وجل خلفاً من غیره ، ولیس فی شئ سواه خلف منه .

ص: 113

إشتدَّ علی الظالم وخذ علیه ، ولن لأهل الخیر وقربهم ، واجعلهم بطانتک وإخوانک . وانظر إلی صلاتک کیف هی ، فإنک إمام القوم ینبغی لک أن تتمها ولاتخففها ، فلیس من إمام یصلی بقوم یکون فی صلاتهم نقصان إلا کان علیه . وتممها وتحفظ فیها یکن لک مثل أجورهم ، ولا ینقص ذلک من أجرهم شیئاً .

ثم انظر إلی الوضوء فإنه من تمام الصلاة ، وتمضمض ثلاث مرات ، واستنشق ثلاثاً ، واغسل وجهک ، ثم یدک الیمنی ، ثم یدک الیسری ، ثم امسح رأسک ورجلیک ، فإنی رأیت رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) یصنع ذلک . واعلم أن الوضوء نصف الإیمان .

ثم ارتقب وقت الصلاة فصلها لوقتها ، ولا تعجل بها قبله لفراغ ، ولا تؤخرها عنه لشغل ، فإن رجلاً سأل رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) عن أوقات الصلاة فقال رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) : أتانی جبرئیل (علیه السّلام) فأرانی وقت الصلاة فصلی الظهر حین زالت الشمس فکانت علی حاجبه الأیمن، ثم أرانی وقت العصر فکان ظل کل شئ مثله ، ثم صلی المغرب حین غربت الشمس ، ثم صلی العشاء الآخرة حین غاب الشفق ، ثم صلی الصبح فغلس بها والنجوم مشتبکة ، فصل لهذه الأوقات ، والزم السنة المعروفة ، والطریق الواضح .

ص: 114

ثم انظر رکوعک وسجودک ، فإن رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) کان أتم الناس صلاة ، وأخفهم عملاً فیها. واعلم أن کل شئ من عملک تبعٌ لصلاتک ، فمن ضیع الصلاة ، فإنه لغیرها أضیع.

أسأل الله الذی یری ولا یری وهو بالمنظر الأعلی، أن یجعلنا وإیاک ممن یحب ویرضی ، حتی یعیننا وإیاک علی شکره وذکره وحسن عبادته وأداء حقه ، وعلی کل شئ اختار لنا فی دنیانا وآخرتنا .

وأنتم یا أهل مصر فلیصدق قولکم فعلکم، وسرکم علانیتکم ، ولا تخالف ألسنتکم قلوبکم ، واعلموا أنه لا یستوی إمام الهدی وإمام الردی ، ووصی النبی وعدوه . وقد قال رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) : إنی لا أخاف علی أمتی مؤمناً ولا مشرکاً ، أما المؤمن فیمنعه الله بإیمانه وأما المشرک فیخزیه الله ویقمعه بشرکه ولکنی أخاف علیکم کل منافق حلو اللسان ، یقول ما تعرفون ویفعل ما تنکرون ، لیس به خفاء . وقد قال النبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) : من سرته حسناته وساءته سیئاته فذلک المؤمن حقاً. وکان یقول (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) : خصلتان لا یجتمعان فی منافق: حسن سمت ، وفقه فی سنة .

یا محمد بن أبی بکر ، إعلم أن أفضل الفقه الورع فی دین الله ، والعمل بطاعته ، وإنی أوصیک بتقوی الله فی سر أمرک وعلانیتک وعلی أی حال کنت علیه .

ص: 115

الدنیا دار بلاء ، والآخرة دار الجزاء ودار البقاء ، فاعمل لما یبقی ، واعدل عما یفنی ، ولا تنس نصیبک من الدنیا.

إنی أوصیک بسبع هن جوامع الإسلام: تخشی الله عز وجل ولا تخشی الناس فی الله ، وخیر القول ما صدقه العمل ، ولا تقض فی أمر واحد بقضاءین مختلفین فیختلف أمرک وتزیغ عن الحق ، وأحب لعامة رعیتک ما تحب لنفسک وأهل بیتک ، واکره لهم ما تکره لنفسک وأهل بیتک ، فإن ذلک أوجب للحجة وأصلح للرعیة ، وخض الغمرات إلی الحق ولا تخف فی الله لومة لائم ، وانصح المرء إذا استشارک ، واجعل نفسک أسوة لقریب المسلمین وبعیدهم ، واجعل نفسک أسوة لقریب المسلمین وبعیدهم . وأمر بالمعروف وَانْهَ عن المنکر واصبر علی ما أصابک ، إن ذلک من عزم الأمور.

جعل الله عز وجل مودتنا فی الدین ، وحلانا وإیاکم حلیة المتقین ، وأبقی لکم طاعتکم ، حتی یجعلنا وإیاکم بها إخواناً ، علی سرر متقابلین .

أحسنوا أهل مصر مؤازرة محمد أمیرکم ، واثبتوا علی طاعتکم تردوا حوض نبیکم (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) . أعاننا الله وإیاکم علی ما یرضیه . والسلام علیکم ورحمة الله وبرکاته ». (وراجع: تحف العقول لابن شعبة الحرانی/176).

ص: 116

لنا کتاباً فیه فرائض وأشیاء مما یبتلی به مثلی من القضاء بین الناس فعل ، فإن الله یعظم لأمیر المؤمنین الأجر ویحسن له الذخر .

فکتب إلیه علی (علیه السّلام) : بسم الله الرحمن الرحیم. من عبد الله أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب إلی محمد بن أبی بکر وأهل مصر.

سلام علیکم ، فإنی أحمد إلیکم الله الذی لا إله إلا هو ، أما بعد فقد وصل إلی کتابک فقرأته وفهمت ما سألتنی عنه ، وأعجبنی اهتمامک بما لا بد لک منه ، وما لایصلح المسلمین غیره ، وظننت أن الذی دلک علیه نیة صالحة ورأی غیر مدخول ولا خسیس . وقد بعثت إلیک أبواب الأقضیة جامعاً لک فیها ، ولا قوة إلا بالله ، وحسبنا الله ونعم الوکیل .

وکتب إلیه عما سأله من القضاء ، وذکر الموت ، والحساب ، وصفة الجنة والنار ، وکتب فی الإمامة ، وکتب فی الوضوء ، وکتب إلیه فی مواقیت الصلاة ، وکتب إلیه فی الرکوع والسجود ، وکتب إلیه فی الأدب ، وکتب إلیه فی الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، وکتب إلیه فی الصوم والإعتکاف وکتب إلیه فی الزنادقة ، وکتب إلیه فی نصرانی فجر بامرأة مسلمة ، وکتب إلیه فی أشیاء کثیرة لم یحفظ منها غیر هذه الخصال ، وحدثنا ببعض ما کتب إلیه .

ص: 118

قال إبراهیم: فحدثنا یحیی بن صالح... عن عبایة أن علیاً (علیه السّلام) کتب إلی محمد بن أبی بکر ، وأهل مصر:

أما بعد ، فإنی أوصیک بتقوی الله فی سر أمرک وعلانیته ، وعلی أی حال کنت علیها ، واعلم أن الدنیا دار بلاء وفناء ، والآخرة دار بقاء وجزاء ، فإن استطعت أن تؤثر ما یبقی علی ما یفنی فافعل ، فإن الآخرة تبقی وإن الدنیا تفنی ، رزقنا الله وإیاک بصراً لما بصرنا ، وفهماً لما فهمنا ، حتی لا نقصر عما أمرَنا به ، ولا نتعدی إلی ما نهانا عنه ، فإنه لا بد لک من نصیبک من الدنیا وأنت إلی نصیبک من الآخرة أحوج ، فإن عرض لک أمران أحدهما للآخرة والآخر للدنیا ، فابدأ بأمر الآخرة .

ولتعظم رغبتک فی الخیر ، ولتحسن فیه نیتک ، فإن الله عز وجل یعطی العبد علی قدر نیته ، وإذا أحب الخیر وأهله ولم یعمله کان إن شاء الله کمن عمله ، فإن رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) قال حین رجع من تبوک: لقد کان بالمدینة أقوام ما سرتم من مسیر ولا هبطتم من واد ، إلا کانوا معکم . ما حبسهم إلا المرض یقول: کانت لهم نیة .

ثم إعلم یا محمد أنی ولیتک أعظم أجنادی فی نفسی: أهل مصر، وإذ ولیتک ما ولیتک من أمر الناس ، فأنت محقوق أن تخاف فیه علی نفسک ، وتحذر فیه علی دینک ، ولو کان ساعة من نهار ، فإن استطعت أن لا تسخط فیها ربک

ص: 119

لرضی أحد من خلقه فافعل ، فإن فی الله خلفاً من غیره ، ولیس فی شئ غیره خلف منه ، فاشتد علی الظالم ، ولِنْ لأهل الخیر ، وقربهم إلیک ، واجعلهم بطانتک ، وإخوانک . والسلام .

« بعث علی (علیه السّلام) محمد بن أبی بکر أمیراً علی مصر فکتب إلی علی (علیه السّلام) یسأله عن رجل مسلم فجر بامرأة نصرانیة ، وعن زنادقة فیهم من یعبد الشمس والقمر ، وفیهم من یعبد غیر ذلک ، وفیهم مرتد عن الإسلام ، وکتب یسأله من مُکاتب مات وترک مالاً وولداً ؟

فکتب إلیه علی (علیه السّلام) : أن أقم الحد فیهم علی المسلم الذی فجر بالنصرانیة ، وادفع النصرانیة إلی النصاری یقضون فیها ما شاؤوا.

وأمره فی الزنادقة أن یقتل من کان یدعی الإسلام ، ویترک سائرهم یعبدون ما شاؤوا ، وأمره فی المکاتب إن کان ترک وفاء لمکاتبته فهو غریم بید موالیه یستوفون ما بقی من مکاتبته ، وما بقی فلولده ».

قال الثقفی فی الغارات:1/251: « فلما ظهر علیه وقتل أخذ عمرو بن العاص کتبه أجمع، فبعث بها إلی معاویة بن أبی سفیان ، وکان معاویة ینظر فی هذا الکتاب ویعجبه ، فقال الولید بن عقبة وهو عند معاویة لما رأی إعجاب معاویة به: مُرْ بهذه الأحادیث أن تحرق . فقال له معاویة: مه یا ابن أبی معیط إنه لا رأی لک ، فقال له الولید: إنه لا رأی لک ، أفمن الرأی أن یعلم الناس أن أحادیث أبی تراب عندک تتعلم منها وتقضی بقضائه ، فعلام تقاتله؟! فقال معاویة: ویحک أتأمرنی أن أحرق علماً مثل هذا ! والله ما سمعت بعلم أجمع منه ، ولا أحکم ، ولا أوضح !

فقال الولید: إن کنت تعجب من علمه وقضائه ، فعلامَ تقاتله ؟

فقال معاویة: لولا أن أبا تراب قتل عثمان ، ثم أفتانا لأخذنا عنه !

ثم سکت هنیئة ثم نظر إلی جلسائه فقال: إنا لا نقول: إن هذه من کتب علی بن أبی طالب ، ولکنا نقول: إن هذه من کتب أبی بکر الصدیق کانت عند ابنه محمد ، فنحن نقضی بها ونفتی .

فلم تزل تلک الکتب فی خزائن بنی أمیة حتی ولیَ عمر بن عبد العزیز ، فهو الذی أظهر أنها من أحادیث علی بن أبی طالب (علیه السّلام) ».

ص: 121

أقول: یظهر أن سیاسة النبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) والأئمة (علیه السّلام) أن یکون العلم فی الأمة حتی ظهور المهدی (علیه السّلام) ، محصوراً بالقرآن ، وما روته الأمة عن النبی والأئمة صلوات الله علیهم ، بطرقها العادیة .

لذلک أملی النبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) کتباً وقال لعلی (علیه السّلام) : أکتب لک ولشرکائک . وجعلها عند علی والأئمة (علیه السّلام) حتی یظهر المهدی (علیه السّلام) فیظهرها.

وکأن ذلک عملٌ بقوله تعالی: وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِی الأَرْضِ وَلَکِنْ یُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا یَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِیرٌ بَصِیرٌ .

ویبدو أن ماکتبه أمیر المؤمنین (علیه السّلام) لمحمد بن أبی بکر کان علماً خاصاً به ، لایرید أن یصل الی أعدائه .

وقد روی أن أمیر المؤمنین (علیه السّلام) تأسف علی وقوع تلک الکُتب فی ید معاویة ، ووصف عمله بأنه خطأ وعثرة ! ففی الغارات:1/252 ، عن عبد الله بن سلمة قال:صلی بنا علی (علیه السّلام) فلما انصرف قال:

لقد عثرتُ عثرةً لا أعتذرْ

سوف أکِیسُ بعدها وأستمرْ

وأجمع الأمر الشَّتیتَ المنتشر

قلنا: ما بالک یا أمیر المؤمنین ، سمعنا منک کذا ؟قال: إنی استعملت محمد بن أبی بکر علی مصر، فکتب إلی أنه لا علم لی بالسنة ، فکتبت إلیه کتاباً فیه السنة

فقتل وأخذ الکتاب). وإذا صح ذلک فهو خطأ بمعنی ترک الأولی، لابمعنی فعل الحرام. علی أنه (علیه السّلام) استهد ببیت الشعر ، ولیس فی ذلک تصریح بالخطأ .

ص: 122

علی ذلک مات أبوک ، وعلیه خلفته أنت ، فکیف لک الویل تعدل بعلی وهو وارث علم رسول الله ووصیه ، وأول الناس له اتباعاً ، وآخرهم به عهداً ، وأنت عدوه وابن عدوه !

فتمتع بباطلک ما استطعت ، ولیمددک ابن العاص فی غوایتک ، فکأن أجلک قد انقضی وکیدک قد وهی ، ثم تستبین لک لمن تکون العاقبة العلیا. والسلام علی من اتبع الهدی .

فأجابه معاویة: هذا إلی الزاری علی أبیه ، محمد بن أبی بکر ، سلام علی أهل طاعة الله ، أما بعد فقد أتانی کتابک تذکر فیه ما الله أهله فی قدرته وسلطانه ، مع کلام ألفته ورصفته لرأیک فیه ، وذکرت حق علی وقدیم سوابقه وقرابته من رسول الله ، ونصرته ومواساته إیاه فی کل خوف وهول وتفضیلک علیاً وعیبک لی بفضل غیرک لا بفضلک ، فالحمد لله الذی صرف ذلک عنک ، وجعله لغیرک .

وقد کنا وأبوک معنا فی زمن نبینا نری حق علیٍّ لازماً لنا ، وسبقه مبرزاً علینا ، فلما اختار الله لنبیه ما عنده ، وأتم له ما وعده ، وقبضه الله إلیه ، کان أبوک وفاروقه أول من ابتزه وخالفه علی ذلک واتفقا ، ثم دعواه الی أنفسهما فأبطأ علیهما ، فهمَّا به الهموم وأرادا به العظیم ، فبایع وسلم لأمرهما لا

ص: 124

یشرکانه فی أمرهما ، ولا یطلعانه علی سرهما ، حتی قضی الله من أمرهما ما قضی .

ثم قام بعدهما ثالثهما یهدی بهداهما ویسیر بسیرتهما ، فعبته أنت وأصحابک حتی طمع فیه الأقاصی من أهل المعاصی ، حتی بلغتما منه مناکما ، وکان أبوک مهد مهاده .

فإن یک ما نحن فیه صواباً فأبوک أوله ، وإن یک جوراً فأبوک سنه ، ونحن شرکاؤه وبهداه اقتدینا ، ولولا ماسبقنا إلیه أبوک ما خالفنا علیاً ولسلمنا له. ولکنا رأینا أباک فعل ذلک فأخذنا بمثاله ، فعب أباک أو دعه . والسلام علی من تاب وأناب ». (الإحتجاج: 1/269).

شدیداً ناقماً ، فرحمه الله فلقد استکمل أیامه ولاقی حمامه ، ونحن عنه راضون ، أولاه الله رضوانه ، وضاعف الثواب له . فأصحر لعدوک ، وامض علی بصیرتک ، وشمر لحرب من حاربک ، وادع إلی سبیل ربک ، وأکثر الإستعانة بالله یکفک ما أهمک ویُعِنْک علی ما نزل بک ، إن شاء الله ».

وفی الغارات:1/301: « عن مالک بن الجون الحضرمی أن علیاً (علیه السّلام) قال: رحم الله محمداً ، کان غلاماً حدثاً ، أما والله لقد کنت أردت أن أولِّی المرقال هاشم بن عتبة بن أبی وقاص مصر، والله لو أنه ولیها لما خلی لعمرو بن العاص وأعوانه العرصة ، ولما قتل إلا وسیفه فی یده ، بلا ذم لمحمد بن أبی بکر ، فلقد أجهد نفسه وقضی ما علیه ».

علم أن بها قوماً قد ساءهم قتل عثمان وخالفوا علیاً (علیه السّلام) مع أنه کان یرجو أن یکون له فیها معاونة إذا ظهر علیها علی حرب علی (علیه السّلام) ، لعِظم خراجها .

قال: فدعا معاویة من کان معه من قریش: عمرو بن العاص السهمی، وحبیب بن مسلمة الفهری ، وبسر بن أرطاة العامری ، والضحاک بن قیس الفهری ، وعبد الرحمن بن خالد بن الولید . ودعا من غیر قریش نحو شرحبیل بن السمط ، وأبی الأعور السلمی ، وحمزة بن مالک الهمدانی ، فقال: أتدرون لماذا دعوتکم ؟

قالوا: لا ، قال: فإنی دعوتکم لأمر هو لی مهم ، وأرجو أن یکون الله قد أعان علیه ، فقال له القوم کلهم: أو من قال له منهم: إن الله لم یطلع علی غیبه أحداً وما ندری ما ترید ؟

فقال له عمرو بن العاص: أری والله إن أمر هذه البلاد لکثرة خراجها وعدد أهلها قد أهمک، فدعوتنا لتسألنا عن رأینا فی ذلک ، فإن کنت لذلک دعوتنا وله جمعتنا ، فاعزم واصرم ، ونعم الرأی ما رأیت ، إن فی افتتاحها عزک وعز أصحابک وکبت عدوک وذل أهل الخلاف علیک . فقال له معاویة مجیباً: أهمک یا ابن العاص ما أهمک ؟ وذلک أن عمرو بن العاص کان بایع معاویة علی قتال علی بن أبی طالب (علیه السّلام) وأن له مصر طُعْمَةً ما بقی!

ص: 127

فأقبل معاویة علی أصحابه وقال: إن هذا یعنی ابن العاص قد ظن وقد حقق ظنه ، قالوا له: لکنا لا ندری ولعل أبا عبد الله قد أصاب . فقال عمرو: وأنا أبو عبد الله إن أشبه الظنون ما شابه الیقین .

ثم إن معاویة حمد الله وأثنی علیه وقال: أما بعد فقد رأیتم کیف صنع الله لکم فی حربکم هذه علی عدوکم ، ولقد جاؤوکم وهم لا یشکون أنهم یستأصلون بیضتکم ویحوزون بلادکم . ما کانوا یرون إلا أنکم فی أیدیهم ، فردهم الله بغیظهم لم ینالوا خیراً وکفی الله المؤمنین القتال وکفاکم مؤونتهم وحاکمتموهم إلی الله فحکم لکم علیهم ، ثم جمع لنا کلمتنا ، وأصلح ذات بیننا ، وجعلهم أعداء متفرقین ، یشهد بعضهم علی بعض بالکفر ، ویسفک بعضم دم بعض، والله إنی لأرجو أن یتم الله لنا هذا الأمر .

وقد رأیت أن أحاول حرب مصر ، فماذا ترون ؟

فقال له عمرو: قد أخبرتک عما سألت ، وأشرت علیک بما سمعت. فقال معاویة للقوم: ما ترون؟ فقالوا: نری مارأی عمرو. فقال معاویة:إن عمراً قد عزم وصرم بما قال ، ولم یفسر کیف ینبغی أن نصنع . قال عمرو:فإنی أشیر علیک کیف تصنع، أری أن تبعث جیشاً کثیفاً ، علیهم رجل صارم تأمنه وتثق به ، فیأتی مصر فیدخلها فإنه سیأتیه من کان من أهلها علی مثل رأینا فیظاهره علی من کان بها من عدونا، فإن اجتمع بها جندک ومن کان بها

ص: 128

من شیعتک علی من بها من أهل حربک ، رجوت أن یعز الله نصرک ویظهر فَلَجک .

قال له معاویة: هل عندک شئ غیر هذا نعمله فیما بیننا وبینهم قبل هذا؟ قال: ما أعلمه .قال معاویة: فإن رأیی غیر هذا ، أری أن نکاتب من کان بها من شیعتنا ومن کان بها من عدونا، فأما شیعتنا فنأمرهم بالثبات علی أمرهم ونمنیهم قدومنا علیهم ، وأما من کان بها من عدونا فندعوهم إلی صلحنا ونمنیهم شکرنا ونخوفهم حربنا فإن صلح لنا ما قبلهم بغیر حرب ولا قتال فذلک ما أحببنا ، وإلا فحربهم بین أیدینا ، إنک یا ابن العاص لامرؤ بورک لک فی العجلة ، وأنا أمرؤ بورک لی فی التؤدة .

قال له عمرو:فاعمل بما أراک الله ، فوالله ما أری أمرک وأمرهم یصیر إلا إلی الحرب العوان .

قال: فکتب معاویة عند ذلک إلی مسلمة بن مخلد الأنصاری ، وإلی معاویة بن حدیج الکندی ، وکانا قد خالفا علیاً (علیه السّلام) :

بسم الله الرحمن الرحیم ، أما بعد فإن الله عز وجل قد ابتعثکما لأمر عظیم أعظم به أجرکما ورفع به ذکرکما وزینکما به فی المسلمین ، طلبتما بدم الخلیفة المظلوم ، وغضبتما لله إذ ترک حکم الکتاب ، وجاهدتما أهل الظلم والعدوان ، فأبشرا برضوان الله ، وعاجل نصرة أولیاء الله ، والمواساة لکما

ص: 129

فی دار الدنیا وسلطاننا ، حتی ینتهی ذلک إلی ما یرضیکما ویؤدی به حقکما ، فالزما أمرکما ، وجاهدا عدوکما ، وادعوا المدبرین عنکما إلی هداکما ، فکأن الجیش قد أظل علیکما فانقشع کل ما تکرهان، ودام کل ما تهویان، والسلام علیکما . وبعث بالکتاب مع مولی له یقال له: سبیع فخرج الرسول بکتابه حتی قدم به علیهما بمصر ، ومحمد بن أبی بکر یومئذ أمیرها قد ناصبه هؤلاء النفر الحرب بها ، وهم عنه متنحون یهابون الإقدام علیه ، فدفع

الکتاب إلی مسلمة بن مخلد ، فلما قرأه قال له: إلق به معاویة بن حدیج ، ثم إلقنی به حتی أجیب عنی وعنه .

فانطلق الرسول بکتاب معاویة فأقرأه إیاه ، ثم قال له: إن مسلمة قد أمرنی أن أرد الکتاب إلیه لکی یجیب معاویة عنک وعنه .

قال: قل له فلیفعل ، فأتی مسلمة بالکتاب فکتب مسلمة الجواب عنه وعن معاویة بن حدیج:

إلی معاویة بن أبی سفیان: أما بعد فإن هذا الأمر الذی قد ندبنا له أنفسنا وابتعثنا الله به علی عدونا ، أمر نرجو به ثواب ربنا والنصر علی من خالفنا ، وتعجیل النقمة علی من سعی علی إمامنا ، وطأطأ الرکض فی جهادنا . ونحن بهذه الأرض قد نفینا من کان بها من أهل البغی، وأنهضنا من کان بها من أهل القسط والعدل، وقد ذکرت مؤازرتک فی سلطانک وذات یدک

ص: 130

وبالله إنه لا من أجل مال غضبنا ولا إیاه أردنا ، فإن یجمع الله لنا ما نرید ونطلب ، ویؤتنا ما نتمنی فإن الدنیا والآخرة لله رب العالمین ، وقد یؤتیهما الله معاً عالماً من خلقه ، کما قال فی کتابه: فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْیَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللهُ یُحِبُّ الْمُحْسِنِینَ . عجل علینا بخیلک ورجلک ، فإن عدونا قد کان علینا حرباً، وکنا فیهم قلیلاً، وقد أصبحوا لنا هائبین وأصبحنا لهم منابذین فإن یأتنا مدد من قبلک یفتح الله علیک. ولا قوة إلا به وهو حسبنا ونعم الوکیل .

قال: فجاء هذا الکتاب معاویة وهو یومئذ بفلسطین ، فدعا النفر الذین سمیناهم من قریش وغیرهم وأقرأهم الکتاب وقال لهم: ماذا ترون؟ قالوا: نری أن تبعث إلیهم جنداً من قبلک ، فإنک مفتتحها إن شاء الله .

قال معاویة: فتجهز إلیها یا أبا عبد الله یعنی عمرو بن العاص فبعثه فی ستة آلاف رجل ، فخرج یسیر وخرج معه معاویة یودعه فقال له معاویة عند وداعه إیاه: أوصیک بتقوی الله یا عمرو ، وبالرفق فإنه یمن ، وبالتؤدة فإن العجلة من الشیطان ، وبأن تقبل من أقبل ، وأن تعفو عمن أدبر ، أنظره فإن تاب وأناب قبلت منه ، وإن أبی فإن السطوة بعد المعرفة أبلغ فی الحجة وأحسن فی العاقبة ، وادع الناس إلی الصلح والجماعة ، فإن أنت ظفرت ، فلیکن أنصارک آثر الناس عندک ، وکل الناس فأول حسناً .

ص: 131

قال: فسار عمرو فی الجیش حتی دنا من مصرفاجتمعت إلیه العثمانیة فأقام وکتب إلی محمد بن أبی بکر: أما بعد فتنحَّ عنی بدمک یا ابن أبی بکر ، فإنی لا أحب أن یصیبک منی ظفر ، وإن الناس بهذه البلاد قد أجتمعوا علی خلافک ، ورفض أمرک ، وندموا علی اتباعک ، وهم مُسْلِمُوکَ لو قد التقت حلقتا البطان ، فاخرج منها إنی لک من الناصحین . والسلام .

قال:وبعث عمرو أیضاً مع هذا الکتاب بکتاب معاویة إلیه وفیه: أما بعد فإن غب البغی والظلم عظیم الوبال ، وإن سفک الدم الحرام لا یسلم صاحبه من النقمة فی الدنیا ، والتبعة الموبقة فی الآخرة ، وما نعلم أحداً کان أعظم علی عثمان بغیاً ، ولا أسوأ له عیباً ، ولا أشد علیه خلافاً منک. سعیت علیه فی الساعین ، وساعدت علیه مع المساعدین ، وسفکت دمه مع السافکین ، ثم أنت تظن أنی عنک نائم ، ثم تأتی بلدة فتأمن فیها وجل أهلها أنصاری ، یرون رأیی ویرقبون قولی ویستصرخوننی علیک .

وقد بعثت إلیک قوماً حناقاً علیک ، یستسفکون دمک ، ویتقربون إلی الله بجهادک ، قد أعطوا الله عهداً لیقتلنک ، ولو لم یکن منهم إلیک ما قالوا لقتلک الله بأیدیهم أو بأیدی غیرهم من أولیائه ، فأحذرک وأنذرک ، وأحب أن یقتلوک بظلمک ووقیعتک وعدوانک علی عثمان یوم الدار ، تطعن بمشاقصک فیما بین أحشائه وأوداجه ، ولکنی أکره أن تقتل ولن یسلمک

ص: 132

الله من القصاص أین کنت. والسلام . قال: فطوی محمد بن أبی بکر کتابیهما وبعث بهما إلی علی (علیه السّلام) وکتب إلیه: أما بعد فإن العاصی ابن العاص قد نزل أدانی مصر ، واجتمع إلیه من أهل البلد کل من کان یری رأیهم ، وقد جاء فی جیش جرار ، وقد رأیت ممن قبلی بعض الفشل ، فإن کان لک فی أرض مصر حاجة فامددنی بالأموال والرجال . والسلام .

فکتب إلیه علی (علیه السّلام) : أما بعد فقد جاءنی رسولک بکتابک تذکر أن ابن العاص قد نزل أدانی مصر فی جیش جرار ، وأن من کان علی مثل رأیه قد خرج إلیه ، وخروج من کان یری رأیه خیر لک من إقامته عندک ، وذکرت أنک قد رأیت ممن قبلک فشلاً ، فلا تفشل وإن فشلوا ،

حصن قریتک ، واضمم إلیک شیعتک ، وأذک الحرس فی عسکرک ، واندب إلی القوم کنانة بن بشرالمعروف بالنصیحة والتجربة والبأس ، وأنا نادب إلیک الناس علی الصعب والذلول ، فاصبر لعدوک وامض علی بصیرتک ، وقاتلهم علی نیتک ، وجاهدهم محتسباً لله ، وإن کانت فئتک أقل الفئتین ، فإن الله یعز القلیل ویخذل الکثیر .

وقد قرأت کتابی الفاجرین المتحابین علی المعصیة ، والمتلائمین علی الضلالة والمرتشیین الذین استمتعا بخلاقهما ، فلا یهدنک ارعادهما وإبراقهما ، وأجبهما إن کنت لم تجبهما بما هما أهله ، فإنک تجد مقالاً ما شئت . والسلام .

ص: 133

قال: فکتب محمد بن أبی بکر إلی معاویة جواب کتابه: أما بعد فقد أتانی کتابک تذکر من أمر عثمان أمراً لا أعتذر إلیک منه ، وتأمرنی بالتنحی عنک کأنک لی ناصح ، وتخوفنی بالمثلة کأنک علی شفیق ، وأنا أرجو أن تکون الدائرة علیکم وأن یهلککم الله فی الواقعة ، وأن ینزل بکم الذل وأن تولوا الدبر ، فإن یکن لکم الأمر فی الدنیا فکم وکم لعمری من ظالم قد نصرتم ، وکم من مؤمن قد قتلتم ومثلتم به ، وإلی الله المصیر ، وإلیه ترد الأمور ، وهو أرحم الراحمین ، والله المستعان علی ما تصفون .

قال:وکتب محمد بن أبی بکر إلی عمرو بن العاص جواب کتابه: أما بعد فقد فهمت کتابک وعلمت ما ذکرت ، وزعمت أنک لا تحب أن یصیبنی منک ظفر ، فأشهد بالله إنک لمن المبطلین ، وزعمت أنک لی ناصح ، وأقسم أنک عندی ظنین ، وزعمت أن أهل البلد قد رفضونی وندموا علی أتباعی ، فأولئک حزبک وحزب الشیطان الرجیم ، حسبنا الله رب العالمین ونعم الوکیل ، وتوکلت علی الله العزیز الرحیم ، رب العرش العظیم .

قال: وأقبل عمرو بن العاص فقصد مصر فقام محمد بن أبی بکر فی الناس ، فحمد الله وأثنی علیه وصلی علی محمد (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ثم قال: أما بعد یا معشر المؤمنین فإن القوم الذین کانوا ینتهکون الحرمة ، وینعشون الضلالة ، ویشبون نار الفتنة ، ویستطیلون بالجبریة ، قد نصبوا لکم العداوة وساروا إلیکم بالجنود

ص: 134

فمن أراد الجنة والمغفرة فلیخرج إلی هؤلاء القوم فلیجالدهم فی الله . إنتدبوا إلی هؤلاء رحمکم الله ، مع کنانة بن بشر ، ومن یجیب معه من کندة .

فانتدب معه ألفا رجل ، وخرج محمد فی نحو ألفین ، واستقبل عمرو کنانة وهو علی مقدمة محمد ، فأقبل عمرو نحو کنانة ، فلما دنا منه سرح نحوه الکتائب کتیبة بعد کتیبة ، فجعل کنانة لا یأتیه کتیبة من کتائب أهل الشام ، إلا شد علیها بمن معه فیضربها حتی یلحقها بعمرو ، ففعل ذلک مراراً ، فلما رأی عمرو ذلک بعث إلی معاویة بن حدیج الکندی ، فأتاه فی مثل الدهم فلما رأی کنانة ذلک الجیش ، نزل عن فرسه ونزل معه أصحابه ، فضاربهم بسیفه وهو یقول: وَمَا کَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللهِ کِتَابًا مُؤَجَّلاً وَمَنْ یُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْیَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ یُرِدْ ثَوَابَ الأَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِی الشَّاکِرِینَ . ثم ضاربهم بسیفه حتی استشهد (رحمه الله) .

وإن عمرو بن العاص لما قتل کنانة أقبل نحو محمد بن أبی بکر ، وقد تفرق عنه أصحابه ، فلما رأی ذلک محمد خرج یمضی فی الطریق حتی انتهی إلی خربة فی ناحیة الطریق فآوی إلیها ، وجاء عمرو بن العاص حتی دخل الفسطاط ، وخرج معاویة بن حدیج فی طلب محمد بن أبی بکر ، حتی انتهی إلی علوج علی قارعة الطریق فسألهم: هل مر بکم أحد تنکرونه؟ قالوا: لا ، فقال أحدهم: إنی دخلت تلک الخربة فإذا أنا فیها برجل جالس .

ص: 135

فقال ابن حدیج: هو هو ورب الکعبة ، فانطلقوا یرکضون حتی دخلوا علیه واستخرجوه وقد کاد یموت عطشاً ، فأقبلوا به نحو الفسطاط . قال: ووثب أخوه عبد الرحمن بن أبی بکر إلی عمرو بن العاص ، وکان فی جنده فقال: والله لا یقتل أخی صبراً، إبعث إلی معاویة بن حدیج فانهه عن قتله! فأرسل عمرو إلی معاویة أن إئتنی بمحمد ، فقال معاویة: أقتلتم کنانة بن بشر ابن عمی وأخلی عن محمد ! هیهات ، أکفارکم خیر من أولئکم أم لکم براءة فی الزبر ! فقال محمد: إسقونی قطرة من الماء . فقال معاویة: لاسقانی الله إن سقیتک قطرة أبداً ، إنکم منعتم عثمان أن یشرب الماء حتی قتلتموه ظامیاً محرماً فسقاه الله من الرحیق المختوم ، والله لأقتلنک یا ابن أبی بکر وأنت ظمآن ، فیسقیک الله من الحمیم والغسلین !

فقال له محمد بن أبی بکر: یا ابن الیهودیة النساجة: لیس ذلک إلیک ولا إلی من ذکرت ، إنما ذلک إلی الله یسقی أولیاءه ویظمئ أعداءه ، وهم أنت وقرناؤک ، ومن تولاک وتولیته . والله لو کان سیفی فی یدی ما بلغتم منی ما بلغتم !

فقال له معاویة بن حدیج: أتدری ما أصنع بک ! أدخلک جوف هذا الحمار المیت ثم أحرقه علیک بالنار ! فقال محمد: لئن فعلتم ذلک بی فطالما فعلتم ذلک بأولیاء الله ، وأیم الله إنی لأرجو أن یجعل الله هذه النار التی

ص: 136

تخوفنی بها علیَّ برداً وسلاماً ، کما جعلها علی إبراهیم خلیله ، وأن یجعلها علیک وعلی أولیائک کما جعلها علی نمرود وأولیائه ، وإنی لأرجو أن یحرقک الله وإمامک ، یعنی معاویة بن أبی سفیان ، وهذا وأشار إلی عمرو بن العاص بنار تلظی علیکم ، کلما خبت زادها الله سعیراً.

فقال له معاویة: إنی لا أقتلک ظلماً إنما أقتلک بعثمان . فقال له محمد: وما أنت وعثمان ؟ إن عثمان عمل بغیر الحق وبدل حکم القرآن وقد قال الله عز وجل: وَمَنْ لَمْ یَحْکُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِکَ هُمُ الْکَافِرُونَ . وأولئک هم الظالمون ، وأولئک هم الفاسقون ، فنقمنا علیه أشیاء عملها، فأردنا أن یختلع من عملنا فلم یفعل ، فقتله من قتله من الناس.

فغضب معاویة بن حدیج فقدمه فضرب عنقه ، ثم ألقاه فی جوف حمار وأحرقه بالنار..! وکان معاویة بن حدیج ملعوناً خبیثاً ، وکان یسب علی بن أبی طالب (علیه السّلام) ...

قال: وکتب عمرو بن العاص إلی معاویة بن أبی سفیان عند قتل محمد بن أبی بکر وکنایة بن بشر: أما بعد فإنا لقینا محمد بن أبی بکر وکنایة بن بشر فی جموع من أهل مصر،فدعوناهم إلی الکتاب والسنة فعصوا الحق وتهوکوا فی الضلال، فجاهدناهم فاستنصرنا الله علیهم فضرب الله وجوههم وأدبارهم

ص: 137

ومنحنا أکتافهم ، فقتل محمد بن أبی بکر ، وکنانة بن بشر ، والحمد لله رب العالمین . والسلام ».

وفی نهایة الإرب:1/110: « فلما رأی کنانة ذلک ترجل عن فرسه وترجل أصحابه وقرأ: وَمَا کَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللهِ... فقاتل حتی قتل ، بعد أن قتل من أهل الشام مقتلة عظیمة ، فلما رأی أصحاب محمد ذلک تفرقوا عنه فنزل محمد عن فرسه ، ومشی حتی انتهی إلی خربة فأوی إلیها.. واستخرجوه وقد کاد یموت عطشاً ، فأقبلوا به علی الفسطاط ، ووثب أخوه عبد الرحمن بن أبی بکر الصدیق إلی عمرو بن العاص وکان فی جنده فقال: أیقتل أخی صبراً ! فأرسل عمرو إلی معاویة بن حدیج یأمره أن یأتیه بمحمد بن أبی بکر کرامة لأخیه عبد الرحمن بن أبی بکر ، فقال معاویة: أیقتل کنانة بن بشر وأخلی أنا محمداً ، هیهات هیهات..!

فقال له معاویة: أتدری ما أصنع بک ، أدخلک فی جوف حمار ثم أحرقه علیک بالنار! قال محمد: إن فعلتم ذلک لطالما فعلتموه بأولیاء الله تعالی! ثم طال الکلام بینهما حتی أخذ معاویة محمداً ثم ألقاه فی جیفة حمار میت ، ثم حرقه بالنار . وقیل إنه قطع رأسه وأرسله إلی معاویة بن أبی سفیان بدمشق وطیف به ، وهو أول رأس طیف به »!

ص: 138

وقال الدکتور إبراهیم حسن فی: تاریخ عمرو بن العاص/268:« قال المقریزی إن الموقعة المذکورة کانت فی مدینة یقال لها المنشأة. وقد ذکرها الیعقوبی المسناة أما المنشأة فقد ذکرها المرحوم علی مبارک باشا فی خططه فقال: یوجد من هذا الإسم عدة قری أکبرها وأشهرها منشأة أخمیم ، ثم منشأة بکار ، من مدیریة الجیزة ، ومنشأة سدود من مدیریة المنوفیة ، ومنشأة سیوط ، ومنشأة عاصم، وهی قریة من مدیریة الدقهلیة بمرکز دکرنس علی الشاطئ الشرقی للبحر الصغیر . والظاهر أن الواقعة کانت فی هذه القریة وباسمها سمیت».

وقال الأستاذ صالح الوردانی فی کتاب الشیعة فی مصر/109:«ویقع مرقده فی بلدة میت دمسیس التابعة للمنصورة ، وهناک قبر ناحیة الفسطاط یقال له محمد الصغیر ، والعامة یعتقدون أنه محمد بن أبی بکر ، إلا أن الراجح أن مرقده ناحیة المنصورة » .

وأرسل الإمام (علیه السّلام) قائداً قویاً فی الإدارة والحرب ، هو مالک الأشتر رضی الله عنه ، لکن معاویة وأنصاره فی خربتا تعاونوا ودبَّروا له السم عند مشارف القاهرة ، فاستشهد قبل أن یتسلم عمله من محمد بن أبی بکر ، رضی الله عنهما .

ونشطت المجموعة العثمانیة فی خَرَبْتَا ، بقیادة مسلمة بن مخلد ومعاویة بن حدیج ، وبسر بن أرطاة ، وکانوا بموجب اتفاقهم مع قیس بن سعد دولة داخل الدولة ، وأعلنوا الحرب علی محمد بن أبی بکر ، ووعدهم معاویة أن یرسل لهم جیشاً .

روی الثقفی فی الغارات:1/288، عن جندب بن عبد الله قال: « والله إنی لعند علیٍّ (علیه السّلام) جالس، إذْ جاءه عبد الله بن قعین جد کعب یستصرخ من قبل محمد بن أبی بکر وهو یومئذ أمیرٌ علی مصرفقام علی (علیه السّلام) فنادی فی الناس:الصلاة جامعة ، فاجتمع الناس ، فصعد المنبر فحمد الله وأثنی علیه ، وصلی علی النبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ثم قال:

أما بعد، فهذا صریخ محمد بن أبی بکر وإخوانکم من أهل مصر ، وقد سار إلیهم ابن النابغة عدو الله وعدوکم ، فلا یکونن أهل الضلال إلی باطلهم والرکون إلی سبیل الطاغوت ، أشد اجتماعاً علی باطلهم وضلالتهم منکم

ص: 140

علی حقکم ، فکأنکم بهم قد بدؤوکم وإخوانکم بالغزو ، فاعجلوا إلیهم بالمواساة والنصر .

عباد الله إن مصر أعظم من الشام خیراً وخیر أهلاً فلا تُغلبوا علی مصر فإن بقاء مصر فی أیدیکم عزٌّ لکم ، وکبت لعدوکم . أخرجوا إلی الجرعة (بین الکوفة والحیرة) لنتوافی هناک کلنا غداً ، إن شاء الله .

فلما کان الغد خرج یمشی فنزلها بکرةً فأقام بها حتی انتصف النهار یومه ذلک فلم یوافه منهم مائة رجل فرجع ، فلما کان العشی بعث إلی الأشراف فجمعهم فدخلوا علیه القصر وهو کئیب حزین فقال:

الحمد لله علی ما قضی من أمر ، وقدر من فعل ، وابتلانی بکم أیتها الفرقة التی لاتطیع إذا أمرتُ ولا تجیب إذا دعوتُ ! لا أباً لغیرکم ما تنتظرون بنصرکم ربکم والجهاد علی حقکم: الموتَ ، أو الذلَّ لکم فی هذه الدنیا فی غیر الحق! والله لئن جاءنی الموت ، ولیأتینی فلیفرقن بینی وبینکم وإنی لصحبتکم لقال .

ألا دینٌ یجمعکم ، ألا حمیةٌ تغضبکم إذْ أنتم سمعتم بعدوکم ینتقص بلادکم ، ویشن الغارة علیکم ! أولیس عجباً أن معاویة یدعو الجفاة الظلمة الطغام فیتبعونه علی غیر عطاء ولا معونة ، فیجیبونه فی السنة المرة والمرتین والثلاث ، إلی أی وجه شاء . ثم إنی أدعوکم وأنتم أولوا النهی

ص: 141

وبقیة الناس ، علی المعونة وطائفة منکم علی العطاء ، فتختلفون وتتفرقون عنی ، وتعصوننی وتخالفون علیَّ .

فقام إلیه مالک بن کعب الأرحبی فقال: یا أمیر المؤمنین أندُب الناس معی فإنه لاعطر بعد عروس ، لمثل هذا الیوم کنت أدخر نفسی ، وإن الأجر لا یأتی إلا بالکره .

ثم التفت إلی الناس وقال: إتقوا الله وأجیبوا إمامکم وانصروا دعوته وقاتلوا عدوکم ، وأنا أسیر إلیهم یا أمیر المؤمنین .

قال: فأمر علیٌّ منادیه سعداً مولاه فنادی: ألا سیروا مع مالک بن کعب إلی مصر ، وکان وجهاً مکروهاً ، فلم یجتمعوا إلیه شهراً ، فلما اجتمع له منهم ما اجتمع ، خرج بهم مالک بن کعب فعسکر بظاهر الکوفة، ثم إنه خرج وخرج معه أمیر المؤمنین علی (علیه السّلام) فنظروا فإذا جمیع من خرج معه نحو من ألفی رجل، فقال علی (علیه السّلام) : سیروا علی اسم الله ، فوالله ما إخالکم تدرکون القوم حتی ینقضی أمرهم !

قال: فخرج مالک بهم، وسار بهم خمس لیال . ثم إن الحجاج بن غزیة الأنصاری قدم علی علی (علیه السّلام) من مصر ، وقدم علیه عبد الرحمن بن المسیب الفزاری من الشام، فأما الفزاری فکان عینه (علیه السّلام) بالشام ، وأما الأنصاری فکان مع محمد بن أبی بکر بمصرفحدثه الأنصاری بما عاین وشهد بهلاک محمد ، وحدثه الفزاری أنه لم یخرج من الشام حتی قدمت البشری من قبل عمرو بن العاص تتری یتبع بعضها علی أثر بعض

ص: 142

بفتح مصر وقتل محمد بن أبی بکر ، وحتی أذَّن معاویة بقتله علی المنبر، فقال له: یا أمیر المؤمنین ما رأیت یوماً قط سروراً مثل سرور رأیته بالشام حین أتاهم هلاک ابن أبی بکر!

فقال علی (علیه السّلام) : أما إن حزننا علی قتله علی قدر سرورهم به ، لا بل یزید أضعافاً . قال: فسرح علی (علیه السّلام) عبد الرحمن بن شریح الشامی إلی مالک بن کعب ، فرده من الطریق » .

وفی نهایة الإرب للنویری(1/112): « فبعث إلی مالک بن کعب فرده من الطریق ، وذلک لأنه خشی علیهم من أهل الشام قبل وصولهم إلی مصر .

واستقر أمر العراقین علی خلاف علی (علیه السّلام) فیما یأمرهم به وینهاهم عنه ، والخروج علیه والتنقد علی أحکامه وأقواله وأفعاله ، لجهلهم وقلة عقلهم وجفائهم وغلظتهم ، وفجور کثیر منهم .

فکتب علی عند ذلک إلی ابن عباس وهو نائبه علی البصرة ، یشکو إلیه ما یلقاه من الناس من المخالفة والمعاندة...».

وقال الیعقوبی فی تاریخه:2/193: « وجه معاویة بن أبی سفیان عمرو بن العاص علی مصر علی شرطٍ له ، فقدِمها سنة 38 ومعه جیش عظیم من أهل الشام ، فکان علی أهل دمشق یزید بن أسد البجلی ، وعلی أهل فلسطین شمیر الخثعمی، وعلی أهل الأردن أبو الأعور السلمی ومعاویة بن حدیج الکندی علی الخارجة .

ص: 143

فلقیهم محمد بن أبی بکر بموضع یقال له المسنَّاة ، فحاربهم محاربة شدیدة ، وکان عمرو یقول: ما رأیت مثل یوم المسناة ، وقد کان محمد استذمَّ إلی الیمانیة فمایل عمرو بن العاص الیمانیة، فخلَّفوا محمد بن أبی بکر وحده! فجالد ساعة ثم مضی فدخل منزل قوم خرابة ، واتبعه ابن حدیج الکندی فأخذه وقتله ، وأدخله جیفة حمار وحرقه بالنار ، فی زقاق یعرف بزقاق الحوف! وبلغ علیاً ضعف محمد بن أبی بکر ، وممالأة الیمانیة معاویة وعمرو بن العاص ، فقال: ما أُتیَ محمد من حَرَض »!

معناه: ما غلبه أعداؤه لضعف دینه أو عقله ، ولکنها المقادیر .

وفی الغارات:2/756: ( فدخلوا إلیه وربطوه بالحبال وجروه علی الأرض وأمر به أن یحرق بالنار فی جیفة حمار ! ودفن فی الموضع الذی قتل فیه . فلما کان بعد سنة من دفنه أتی غلامه وحفر قبره ، فلم یجد فیه سوی الرأس ، فأخرجه ودفنه فی المسجد تحت المنارة ».

وفی المواعظ للمقریزی:3/75: ( فکانت ولایة محمد بن أبی بکر خمسة أشهر ، ومقتله لأربع عشرة خلت من صفر ، سنة ثمان وثلاثین » .

أقول: تدل روایات غزو معاویة لمصر علی أن قوات المسلمین فیها لم تکن کبیرة ، فقد کان مع محمد بن أبی بکر أربعة آلاف ، ألفان مع قائد جیشه کنانة بن بشر ، وألفان معه . ولم یثبتوا فی المعرکة مع قادتهم . وکان مع

ص: 144

عمرو العاص ستة آلاف ، جاء بهم من الشام ، ولعل أهل خَرَبْتا مع معاویة بن حدیج وزملائه کانوا ألفین .

وهذا یدل علی أن روایة الطبری (3/353) بأن عددهم عشرة آلاف مبالغة. ویبدو أنه لم یکن فی الطرفین مقاتلون أولی بأس ، فأقوی جیش محمد کنانة بن بشر المتهم بقتل عثمان فقد قاتل قتالاً شدیداً . ومحمد مقاتل متوسط .

أما جیش معاویة فلم یکن فیهم مقاتل ممیز ، لکن الموجة السیاسیة کانت لهم ، وکانوا أکثر ، فهزموا جیش محمد وکنانة ، وقتلوهما رضی الله عنهما .

کما یدل علی أن الأقباط لم یدخلوا طرفاً فی صراع الحکم فی مصر حتی بعد مضی ربع قرن علی الحکم الإسلامی فیها، ودخول کثیر منهم فی الإسلام .

أما والله لقد کان ما علمت لممن ینتظر القضاء ویعمل للجزاء ، ویبغض شکل الفاجر ، ویحب هَیْن المؤمن .

وإنی والله ما ألوم نفسی علی تقصیر ولا عجز ، وإنی بمقاساة الحرب لجد بصیر ، وإنی لأقدم علی الأمر وأعرف وجه الحزم ، وأقوم بالرأی المصیب فأستصرخکم معلناً ، وأنادیکم نداء المستغیث معرباً، فلاتسمعون لی قولاً ولا تطیعون لی أمراً ، تُصَیِّرُون الأمور إلی عواقب المساءة ! فأنتم القوم لایدرک بکم الثار ، ولا تنقض بکم الأوتار !

دعوتکم إلی غیاث إخوانکم منذ بضع وخمسین یوماً ، فجرجرتم علیَّ جرجرة الجمل الأشدق ، وتثاقلتم إلی الأرض تثاقل من لیس له نیة فی جهاد العدو ، ولا رأی له فی اکتساب الأجر .

ثم خرج إلی منکم جُنید متذائب ضعیف ، کأنما یساقون إلی الموت وهم ینظرون ، فأفٍّ لکم ! ثم نزل ، فدخل رحله .

قال: کتب علی (علیه السّلام) إلی عبد الله بن العباس وهو علی البصرة:

بسم الله الرحمن الرحیم ، من عبد الله علی أمیر المؤمنین إلی عبد الله بن العباس: سلام علیک ورحمة الله وبرکاته ، أما بعد فإن مصر قد افتتحت ، وقد استشهد محمد بن أبی بکر فعند الله عز وجل نحتسبه. وقد کنت کتبت إلی الناس وتقدمت إلیهم فی بدء الأمر ، وأمرتهم بإغاثته قبل الوقعة ،

ص: 146

ودعوتهم سراً وجهراً ، وعوداً وبدءاً ، فمنهم الآتی کارهاً ، ومنهم المعتل کاذباً ، ومنهم القاعد خاذلاً !

أسأل الله تعالی أن یجعل لی منهم فرجاً ومخرجاً ، وأن یریحنی منهم عاجلاً . فوالله لولا طمعی عند لقاء عدوی فی الشهادة ، وتوطینی نفسی علی المنیة ، لأحببت أن لا أبقی مع هؤلاء یوماً واحداً .

عزم الله لنا ولک علی الرشد ، وعلی تقواه وهداه ، إنه علی کل شئ قدیر . والسلام .

قال ابن أبی الحدید فی شرحه(16/146): « أنظر إلی الفصاحة کیف تعطی هذا الرجل قیادها وتملکه زمامها . واعجب لهذه الألفاظ المنصوبة ، یتلو بعضها بعضاً کیف تواتیه وتطاوعه ، سلسةً سهلةً ،تتدفق من غیر تعسف ولا تکلف ، حتی انتهی إلی آخر الفصل فقال: یوماً واحداً ، ولا ألتقی بهم أبداً.

وأنت وغیرک من الفصحاء إذا شرعوا فی کتاب أو خطبة ، جاءت القرائن والفواصل تارة مرفوعة ، وتارة مجرورة ، وتارة منصوبة ، فإن أرادوا قسرها بإعراب واحد ظهر منها فی التکلف أثرٌ بین ، وعلامةٌ واضحة .

وهذا الصنف من البیان أحد أنواع الاعجاز فی القرآن ، ذکره عبد القاهر ، قال: أنظر إلی سورة النساء وبعدها سورة المائدة: الأولی منصوبة الفواصل ، والثانیة لیس فیها منصوب أصلاً ، ولو مزجت إحدی السورتین بالأخری

ص: 147

لم تمتزجا ، وظهر أثر الترکیب والتألیف بینهما . ثم إن فواصل کل واحد منهما تنساق سیاقةً بمقتضی البیان الطبیعی ، لا الصناعة التکلفیة .

ثم انظر إلی الصفات والموصوفات فی هذا الفصل ، کیف قال: ولداً ناصحا ، وعاملاً کادحا ، وسیفاً قاطعا ، ورکناً دافعا . ولو قال ولداً کادحاً وعاملاً ناصحاً ، وکذلک ما بعده لما کان صواباً ، ولا فی الموقع واقعاً .

فسبحان من منح هذا الرجل هذه المزایا النفیسة والخصائص الشریفة ! أن یکون غلام من أبناء عرب مکة ، ینشأ بین أهله ، لم یخالط الحکماء ، وخرج أعرف بالحکمة ودقائق العلوم الإلهیة من أفلاطون وأرسطو ! ولم یعاشر أرباب الحکم الخلقیة والآداب النفسانیة ، لأن قریشاً لم یکن أحد منهم مشهوراً بمثل ذلک ، وخرج أعرف بهذا الباب من سقراط !

ولم یرب بین الشجعان ، لأن أهل مکة کانوا ذوی تجاره ، ولم یکونوا ذوی حرب ، وخرج أشجع من کل بشر مشی علی الأرض!

قیل لخلف الأحمر: أیما أشجع عنبسة وبسطام أم علی بن أبی طالب؟ فقال: إنما یذکر عنبسة وبسطام مع البشر والناس ، لا مع من یرتفع عن هذه الطبقة ! فقیل له: فعلی کل حال . قال: والله لو صاح فی وجوههما لماتا قبل أن یحمل علیهما .

ص: 148

وخرج أفصح من سحبان وقس، ولم تکن قریش بأفصح العرب ، کان غیرها أفصح منها . قالوا: أفصح العرب جرهم ، وإن لم تکن لهم نباهة .

وخرج أزهد الناس فی الدنیا ، وأعفهم ، مع أن قریشاً ذووا حرص ومحبة للدنیا . ولا غرو فیمن کان محمد (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) مربیه ومخرجه ، والعنایة الإلهیة تمده وترفده ، أن یکون منه ما کان » !

وفی الغارات للثقفی:1/300: « فکتب إلیه عبد الله بن عباس: بسم الله الرحمن الرحیم . لعبد الله علی أمیر المؤمنین من عبد الله بن عباس: سلام علیک یا أمیر المؤمنین ورحمة الله وبرکاته ، أما بعد فقد بلغنی کتابک تذکر فیه افتتاح مصر وهلاک محمد بن أبی بکر، وأنک سألت الله ربک أن یجعل لک من رعیتک التی ابتلیت بها ، فرجاً ومخرجاً . وأنا أسأل الله أن یُعلی کلمتک ، وأن یُعینک بالملائکة عاجلاً ، وأعلم أن الله صانع لک ذلک ، ومعزک ومجیب دعوتک وکابتُ عدوک ، وأخبرک یا أمیر المؤمنین أن الناس ربما تباطؤوا ثم نشطوا ، فارفق بهم یا أمیر المؤمنین ودارهم ومَنِّهم ، واستعن بالله علیهم کفاک الله المهم . والسلام .

قال: وأخبرنی ابن أبی سیف أن عبد الله بن عباس قدم علی علی (علیه السّلام) من البصرة فعزاه بمحمد بن أبی بکر (رحمه الله) ».

ص: 149

بسم الله الرحمن الرحیم . من عبد الله علی أمیر المؤمنین ، إلی شیعته من المؤمنین والمسلمین ، أما بعد فإن الله یقول:وَإِنَّ مِنْ شِیعَتِهِ لإِبْرَاهِیمَ، وهو إسمٌ شرفه الله تعالی فی الکتاب ، وأنتم شیعة النبی محمد (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) کما أنه من شیعة إبراهیم ، إسمٌ غیر مختص وأمر غیر مبتدع ، وسلام الله علیکم ، والله هو السلام ، المؤمِّن أولیاءه من العذاب المهین ، الحاکم علیکم بعدله..» .

الی آخر المنشور وهو طویل ، وفیه موقفه (علیه السّلام) من الخلافة وما حدث بعد النبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) . ورواه الثقفی فی الغارات:1/302، وابن طاووس فی کشف المحجة/173، وآخرون.

وفی مقابل حزن أسماء بنت عمیس علی ابنها ، وحزن عائشة علی أخیها ، کانت فرحة ضرتها أم حبیبة «أم المؤمنین» بنت أبی سفیان أخت معاویة ، فقد ابتکرت بکیدها أسلوباً للشماتة بمقتل محمد !

ففی الغارات للثقفی:2/757: «لما قتل ووصل خبره إلی المدینة مع مولاه سالم ومعه قمیصه ، ودخل به داره اجتمع رجال ونساء ! فأمرت أم حبیبة بنت أبی سفیان زوج النبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) بکبش فشُوِیَ،وبعثت به إلی عائشة وقالت: هکذا قد شُوِیَ أخوک ! فلم تأکل عائشة بعد ذلک شواء حتی ماتت»! (وروی نحوه البلاذری فی أنساب الأشراف/4، ورواه الدمیری فی الحیوان:1/404.

وفی الغارات:1/287: «حلفت عائشة لا تأکل شواءً أبداً ، فما أکلت شواءً بعد مقتل محمد حتی لحقت بالله ! وماعثرت قط إلا قالت:تعس معاویة بن أبی سفیان وعمرو بن العاص ومعاویة بن حدیج ».

لکن عائشة مع ذلک لم تُحرض علی معاویة ، کما فعلت مع عثمان !

ففی سیر الذهبی:2/186: « إن معاویة لما حج قدم فدخل علی عائشة ، فلم یشهد کلامها إلا ذکوان مولی عائشة فقالت لمعاویة: أأمنتَ أن أخبئ لک رجلاً یقتلک بأخی محمد ؟ قال: صدقت »! والطبری: 4/205.

ص: 152

وفی شرح الأخبار:2/171، قال معاویة: « لا أخاف ذلک لأنی فی دار أمان ، لکن کیف أنا فی حوائجک ؟! قالت: صالح . قال: فدعینی وإیاهم حتی نلتقی عند الله ». ومعناه: أنه أرضاها بالمال فسکتت !

وکذلک سکت عبد الرحمن بن أبی بکر عن أخذ ثأر أخیه سکوتاً ذلیلاً ، فقد کان فی جیش عمرو العاص ، واعترض علی قتل أخیه محمد ، لکن ابن حدیج أصر علیه لأنهم قتلوا کنانة بن بشر ، وهو کندی من قبیلته ! فسکت عبد الرحمن ولم یقل شیئاً !

وکذلک سکت بنو تَیْم عن الأخذ بثأر محمد بن أبی بکر من بنی أمیة . مع أن القبائل لا تسکت عادة عن ثأر ابنها ، وحتی عن ثأر حلیفها وغلامها !

وقد نفرت قلوبهم من علی بن أبی طالب ، لأنه حارب معاویة وقاتله وسکنت قلوبهم عند قتل معاویة عماراً ومحمد بن أبی بکر ، وله حرمة الخؤولة ، وهو أفضل من معاویة ، وأبوه خیر من أبی معاویة .

فتدبروا فیما ذکرناه ، لتعلموا أن علة القوم الخدیعة والجهالة ، وإلا فما بالهم لایستنکرون قتل محمد بن أبی بکر، ولایذکرون خؤولته للمؤمنین ؟ قاتلهم الله أنی یؤفکون .

وقد مالوا عن إمامة علی بن أبی طالب وضعفوها، وبعضهم نفاها بما کان من خلاف عائشة وطلحة والزبیر ، وقعود ابن عمر ومحمد بن مسلمة وأسامة بن زید ، وهؤلاء النفر الذین أوجبوا الشک فی علی عندهم وضعفوا إمامته بقولهم ، هم الذین طعنوا علی عثمان وألبوا علیه وذکروه بالتبدیل والإستیثار ، وأولهم بادرةً علیه عائشة ، کانت تخرج إلیه قمیص رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) وهو علی المنبر وتقول: یا عثمان هذا قمیص رسول الله لم یَبْلَ وقد أبلیت سنته !

فوالله ما قدح الشک فی قلوبهم فی عثمان بقولهم ، ولا قصروا عن تفصیله وتقدیمه بطعنهم ، ولا أثر ذلک فی صدورهم...!

وکیف تمت بیعة أبی بکر عندکم بأبی عبیدة بن الجراح وعمر بن الخطاب ، مع خلاف سعد وامتناعه من البیعة ، وخلاف الأنصار ، وأبو بکر الساعی

ص: 154

إلیها والداعی لها ؟! ولم تتم بیعة علی بن أبی طالب بالمهاجرین والأنصار والسابقین إلی الإیمان ، وهم الطالبون له والمجتمعون علیه ، ولیس له نظیر فی زمانه یشاکله ویعادله .

أفٍّ لهذا من مقال ، ما أبین تناقضه وأقل حیاء الدائن به »!

وقال الکراجکی فی کتابه: التعجب من أغلاط العامة /104: (ومن عجیب أمر الحشویة ووقاحتهم فی العناد والعصبیة ، أنهم یقولون: إن معاویة بن أبی سفیان خال المؤمنین...فلم لایسمون محمد بن أبی بکر خال المؤمنین ، ویکون أحق بذلک من معاویة بن أبی سفیان...وکیف یجب أن تحفظ أم حبیبة فی أخیها معاویة ، ولم یجب أن تحفظ عائشة فی أخیها محمد » !؟

وقال ابن کثیر فی تفسیره:3/477: (وهل یقال لمعاویة وأمثاله: خال المؤمنین؟ فیه قولان للعلماء ، ونص الشافعی علی أنه لا یقال ذلک .

وهل یقال لهن أمهات المؤمنات فیدخل النساء فی جمع المذکر السالم تغلیباً؟ فیه قولان ، صح عن عائشة أنها قالت لا یقال ذلک ، وهذا أصح الوجهین فی مذهب الشافعی ».

ص: 155

روی الحاکم:3 /452:«لما حضرت عمرو بن العاص الوفاة قال: کِیلوا مالی، فکالوه فوجدوه اثنین وخمسین مُداً ، فقال: من یأخذه بما فیه ، یا لیته کان بعراً! قال:وکان المد ستة عشر أوقیة والأوقیة منه مکوکان. ومات عمرو بن العاص یوم الفطر وقد بلغ أربعاً وتسعین سنة » .

ونقل الرواة عن عمرو حالة صحو وجرأة اعترف فیها بالحق علی نفسه ! ففی تاریخ عمرو بن العاص للدکتور حسن إبراهیم /270: «قال عمرو بن العاص: أعجب الأشیاء أن المبطل یغلب المحق! یُعَرِّض بعلی ومعاویة ! فقال معاویة: بل أعجب الأشیاء أن یعطی الإنسان ما لا یستحق . یعرض بعمرو ومصر التی أخذها له طُعمة » !

وفی الإستیعاب لابن عبد البر:3 /1190، عن الشافعی قال: « دخل ابن عباس علی عمرو بن العاص فی مرضه فسلَّم علیه وقال: کیف أصبحت یا أبا عبد الله؟ قال:أصلحت من دنیای قلیلاً وأفسدت من دینی کثیراً! فلو کان الَّذی أصلحت هوالَّذی أفسدت والَّذی أفسدت هو الَّذی أصلحت لفُزت. ولو کان ینفعنی أن أطلب طلبت ولو کان ینجینی أن أهرب هربت ، فصرت کالمنجنیق بین السماء والأرض ، لا أرقی بیدین ولا أهبط برجلین » !

وهکذا اعترف بأنه أفسد دینه بالظلم والقتل والمعاصی ، لکنه اعتراف بعد فوات الأوان ! فمعاصیه ترکت بصماتها علی تاریخ المسلمین وعقائدهم !

ص: 157

وروی أحمد فی مسنده:4/200 ، وصححه الهیتمی فی الزوائد: 9/353: «جزع عمرو بن العاص عند الموت جزعاً شدیداً ، فلما رأی ذلک ابنه عبد الله بن عمرو قال: یا أبا عبد الله ما هذا الجزع وقد کان رسول الله یدنیک ویستعملک ؟ قال: أی بنیَّ قد کان ذلک وسأخبرک عن ذلک: إنی والله ما أدری أحباً ذلک کان أم تألفاً یتألفنی! ولکن أشهد علی رجلین أنه قد فارق الدنیا وهو یحبهما: ابن سمیة وابن أم عبد ».

ومعناه أنه أحس أن النبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) کان یَعُدُّه من المؤلفة قلوبهم ، لا من المؤمنین !

ص: 158

وکان عتبة أبرز قادة المشرکین فی بدر ، فقال النبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) عنه (ابن هشام:2/453): «إن یکن فی أحد من القوم خیر ، فعند صاحب الجمل الأحمر ، فإن یطیعوه یرشدوا » !

ولما رأوا عزم النبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) علی القتال قال له حکیم بن حزام: « یا أبا الولید إنک کبیر قریش وسیدها والمطاع فیها ، هل لک إلی أن لا تزال تذکر فیها بخیر إلی آخر الدهر؟ فقال: وما ذاک یاحکیم؟ قال: تُرجع الناس ، وتحمل أمر حلیفک عمرو بن الحضرمی (الذی کان قتله جیش النبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ) قال: قد فعلت ، أنت علیَّ بذلک ، إنما هو حلیفی فعلیَّ عقله وما أصیب من ماله ، فأت ابن الحنظلیة ، قال ابن هشام: والحنظلیة أم أبی جهل..فإنی لا أخشی أن یشجر أمر الناس غیره.. ثم قام عتبة خطیباً ، فقال: یا معشر قریش إنکم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمداً وأصحابه شیئاً، والله لئن أصبتموه لا یزال الرجل ینظر فی وجه رجل یکره النظر إلیه ، قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلاً من عشیرته ، فارجعوا وخلوا بین محمد وبین سائر العرب ، فإن أصابوه فذاک الذی أردتم ، وإن کان غیر ذلک ألفاکم ولم تعرضوا منه ما تریدون...فقال: انتفخ والله سحره حین رأی محمداً وأصحابه ، کلا والله لا نرجع حتی یحکم الله بیننا وبین محمد ! وما بعتبة ما قال ، ولکنه قد رأی أن محمداً وأصحابه أکلة جزور ، وفیهم ابنه قد تخوفکم علیه». (ابن هشام:2/454).

ص: 160

یقصد أبو جهل أن عتبة انتفخت أوداجه وجَبُنَ، وخاف أن یقتلوا ابنه أبا حذیفة وکان مع المسلمین ! فأثاره أبو جهل بذلک فکان أول المبارزین هو وأخوه شیبة وابنه الولید، فقتلهم الله بید علی وحمزة وعبیدة بن عبد المطلب.

«ولما أمر رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) بهم أن یلقوا فی القلیب ، أخذ عتبة بن ربیعة فسحب إلی القلیب ، فنظر رسول الله فیما بلغنی فی وجه أبی حذیفة بن عتبة فإذا هو کئیب قد تغیر لونه ، فقال: یا أبا حذیفة لعلک قد دخلک من شأن أبیک شئ ؟ أو کما قال (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) . فقال: لا والله یا رسول الله ، ما شککت فی أبی ولا فی مصرعه ، ولکننی کنت أعرف من أبی رأیاً وحلماً وفضلاً ، فکنت أرجو أن یهدیه ذلک إلی الإسلام ، فلما رأیت ما أصابه ، وذکرت ما مات علیه من الکفر بعد الذی کنت أرجو له ، أحزننی ذلک . فدعا له رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) بخیر ، وقال له خیراً » . ( ابن هشام:2/468).

2. أسلم أبو حذیفة بن عتبة ، وهاجر الی الحبشة مع زوجته سهلة بنت سهیل بن عمرو رئیس بنی سهم ، وولد ابنه محمد فی الحبشة .

وتزوج أبو حذیفة امرأة أنصاریة تسمی ثبیتة بنت یعار ، ثم طلقها وکان لها غلام فارسی هو سالم مولی أبی حذیفة ، فأعتقته ، فتبناه أبو حذیفة وزوجه بنت أخیه الولید بن عتبة

ص: 161

واشتهر سالم من صغره بذکائه ودهائه ، فأعجب به عمر وأبو بکر وکان یصلی بهم علی صغر سنه لأنه یحفظ القرآن: « وروی البخاری من حدیث ابن عمر: کان سالم مولی أبی حذیفة یؤم المهاجرین الأولین فی مسجد قباء ، فیهم أبو بکر وعمر». (الإصابة:3/12).

ثم کان سالم وأبو عبیدة شریکی الشیخین فی عملهم لأخذ الخلافة وکأنهم اتفقوا علی التناوب علیها ! قال فی تاریخ المدینة:3/140: « لما طعن عمر قیل له: لو استخلفت؟ قال: لو شهدنی أحد رجلین استخلفته أنی قد اجتهدت ولم آثم أو وضعتها موضعها: أبو عبیدة بن الجراح، وسالم مولی أبی حذیفة». وسالم فارسی ، لا عربی ولا قرشی.

وقد اشترک أبو حذیفة وسالم مولاه فی حرب مسیلمة الکذاب ، التی عرفت بحرب الیمامة ، واستشهدا معاً فیها .

وقد اشتهر سالم بأنه رضع وهو کبیر من سهلة زوجة أبی حذیفة لیحرم علیها،ولم یُروَ ذلک عن سالم ولا عن سهلة مباشرةً ، بل زعمت عائشة أن النبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) أجاز لسهلة ذلک ، وتحججت به عائشة فأرضعت بضعة رجال من أختها وزوجة أخیها لیحرموا علیها ، واستنکر ذلک نساء النبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ! وقد روی عبد الرزاق فی مصنفه:7/458 نحو خمسین روایة فی باب رضاع الکبیر ، وفیها استنکار المسلمین لعمل عائشة ، وأسماء بعض من أرضعتهم لیحرموا علیها ویدخلوا علیها !

ص: 162

3. عندما استشهد أبوه ، کان محمد بن أبی حذیفة شاباً دون العشرین، ویظهر أنه عاش بعیداً عن أمه سهلة ، ففی الإصابة:8/193: « ثم تزوجت شماخ بن سعید بن قائف بن الأوقص السلمی ، فولدت له عامراً ، ثم تزوجت عبد الله بن الأسود بن عمرو من بنی مالک بن حسل فولدت له سلیطاً ، ثم تزوجت عبد الرحمن بن عوف فولدت له سالماً ، فهم إخوة محمد بن أبی حذیفة لأمه » .

وقد شارک محمد فی فتوح الشام ، وذات یوم رکب سفینة مع کعب الأحبار الذی کان المفتی لعمر وعثمان ، وکان یرافق جیش الفتح أحیاناً إلی المناطق الآمنة ویزعم أنه یعرف المغیبات ویحدثهم بها ! فکان محمد بن أبی حذیفة (رحمه الله) یسخر منه ومن علمه المزعوم ! قال عمر ابن شبة فی تاریخ المدینة:3 /1117: « عن محمد بن سیرین قال: رکب کعب الأحبار ومحمد بن أبی حذیفة فی سفینة قِبَلَ الشام ، زمن عثمان فی غزوة غزاها المسلمون ، فقال محمد لکعب: کیف تجد نعت سفینتنا هذه فی التوراة تجری غداً فی البحر! فقال کعب: یا محمد لاتسخر بالتوراة فإن التوراة کتاب الله . قال: ثم قال له (محمد) ذاک ثلاث مرات » !

وهذا یشیر الی أن محمداً کان شیعیاً ، لا یقبل علم کعب ، حاخام الحکومة .

وکان محمد (رحمه الله) یجید القرآن ، فقد وصفت روایة البیهقی (3/225) خطبته یوم الجمعة فی مصر، فقالت: « خرج محمد بن أبی حذیفة فاستوی علی المنبر فخطب وقرأ سورة ، وکان من أقرأ الناس » .

ص: 163

4. تمکن معاویة من القبض علی ابن خاله محمد بن أبی حذیفة ، وقتله . وأشاع روایات متضاربة فی قتله ، لیبعد التهمة عن نفسه ، فلا ننسَ أن آل عتبة بن ربیعة الذین منهم محمد ، أشرف فی الحساب القبلی من آل حرب الذین منهم معاویة . وأن آل حرب الذین منهم معاویة أشرف من آل العاص الذین منهم عثمان !

لذا اهتم معاویة أن یبعد عن نفسه قتل ابن خاله لئلایکون لآل عتبة ثأر عنده ، فصرت تجد روایات متضاربة فی مقتل محمد رضی الله عنه ، کروایة أنه هرب من السجن فلحقه غلام لمعاویة بحوارین قرب حمص وقتله دون علم معاویة ! مع أن الغلام والجندی لایجرأ علی قتل شخص من الأسرة الحاکمة بدون أمر الحاکم .

وتجد روایة أخری أن مالک بن هبیرة الکندی ، الذی توسط عند معاویة لحجر بن عدی الکندی فلم یقبل وساطته وقتل حِجراً ،ف غضب وقتل محمد بن أبی حذیفة ثأراً بحجر .. وتجد روایة ثالثة ، ورابعة !

قال الطبری:3/548: «وفی هذه السنة أعنی سنة36 قتل محمد بن أبی حذیفة، وکان سبب قتله أنه لما خرج المصریون إلی عثمان مع محمد بن أبی بکر ، أقام بمصر ، وأخرج عنها عبد الله بن سعد بن أبی سرح وضبطها ، فلم یزل بها مقیماً حتی قتل عثمان وبویع لعلی .

ص: 164

وأظهر معاویة الخلاف وبایعه علی ذلک عمرو بن العاص ، فسار معاویة وعمرو إلی محمد بن أبی حذیفة قبل قدوم قیس بن سعد مصر فعالجا دخول مصر فلم یقدرا علی ذلک ، فلم یزالا یخدعان محمد بن أبی حذیفة حتی خرج إلی عریش مصر فی ألف رجل فتحصن بها ، وجاءه عمرو فنصب المنجنیق علیه حتی نزل فی ثلاثین من أصحابه وأخذوا وقتلوا رحمهم الله »!

وفی الإصابة:6/11: « ذکر خلیفة بن خیاط فی تاریخه أن علیاً لما ولی الخلافة أقرَّ محمد بن أبی حذیفة علی إمرة مصر ، ثم ولاها محمد بن أبی بکر .

واختُلف فی وفاته ، فقال ابن قتیبة: قتله رُشدین مولی معاویة . وقال ابن الکلبی: قتله مالک بن هبیرة السکونی ».

وقال الطبری فی:4/80: « اختلف أهل السیر فی وقت مقتله ، فقال الواقدی: قتل فی سنة 36، وذکر خبر تحصنه فی العریش ثم قال: وأما هشام بن محمد الکلبی فإنه ذکر أن محمد بن أبی حذیفة إنما أخذ بعد أن قتل محمد بن أبی بکر ، ودخل عمرو بن العاص مصر وغلب علیها ، وزعم أن عمراً لما دخل هو وأصحابه مصر أصابوا محمد بن أبی حذیفة ، فبعثوا به إلی معاویة وهو بفلسطین فحبسه فی سجن له ، فمکث فیه غیر کثیر ، ثم إنه هرب من السجن ، وکان ابن خال معاویة فأری معاویة الناس أنه قد کره انفلاته فقال لأهل الشام: من یطلبه ؟ قال: وقد کان معاویة یحب فیما یرون أن

ص: 165

ینجو. فقال رجل من خثعم یقال له عبد الله بن عمرو بن ظلام وکان رجلاً شجاعاً وکان عثمانیاً: أنا أطلبه ، فخرج فی حاله حتی لحقه بأرض البلقاء بحوران ، وقد دخل فی غار هناک ، فجاءت حمر تدخله وقد أصابها المطر، فلما رأت الحمر الرجل فی الغار فزعت فنفرت ، فقال حصادون کانوا قریباً من الغار: والله إن لنفر هذه الحمر من الغار لشأناً ، فذهبوا لینظروا فإذا هم به ، فخرجوا ویوافقهم عبد الله بن عمرو بن ظلام الخثعمی فسألهم عنه ووصفه لهم، فقالوا له: ها هوذا فی الغار ، فجاء حتی استخرجه ، وکره أن یرجعه إلی معاویة فیخلی سبیله ، فضرب عنقه » .

ورووا أنه فرَّ مع أصحابه من السجن فلحقه جند معاویة وقتلوه فی فلسطین ! ففی تاریخ دمشق:52/272: « کان رجال من أصحاب النبی یحدثون أن رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) قال: یقتل فی جبل الجلیل والقطران من أصحابی أو من أمتی ناس ، فکان أولئک النفر الذین قتلوا مع محمد بن أبی حذیفة وأصحابه ، بجبل الجلیل والقطران هناک » .

وروی البلاذری فی أنساب الأشراف:2/407، عدة أقوال فی شهادته (رحمه الله) قال:

«ویقال أیضاً: إن ابن أبی حذیفة تواری فطلبه عمرو بن العاص حتی قدر علیه وحمله إلی معاویة فحبسه ، ثم هرب من حبسه فلُحق فقتل...عن اللیث بن سعد قال: بلغنا أن محمد بن أبی حذیفة لما ولِیَ قیس بن سعد ،

ص: 166

شَخَصَ عن مصر یرید المدینة أو یرید علیاً ، وبلغ معاویة خبر شخوصه فوضع علیه الأرصاد حتی أخذ وحمل إلیه فحبسه ، فتخلص من الحبس ، واتبعه رجل من الیمانیة فقتله...

عن صالح بن کیسان قال: لما اجتمع أمر معاویة وعمرو بن العاص بعد الجمل وقبل صفین ، سار عمرو فی جیش إلی مصر ، فلما قرب منها لقیه محمد بن أبی حذیفة فی الناس ، فلما رأی عمرو کثرة من معه أرسل إلیه فالتقیا واجتمعا فقال له عمرو: إنه قد کان ما تری وقد بایعت هذا الرجل وتابعته ، وما أنا راض بکثیر من أمره ولکن له سناً ، وإنی لأعلم أن صاحبک علیاً أفضل من معاویة نفساً وقدماً وأولی بهذا الأمر ، ولکن واعدنی موعداً ألتقی أنا وأنت فیه علی مهل فی غیر جیش ، تأتی فی مائة راکب لیس معهم إلا السیوف فی القرب وآتی فی مثلهم . فتعاقدا وتعاهدا علی ذلک ، واتعدا العریش لوقت جعلاه بینهما ، ثم تفرقا ورجع عمرو إلی معاویة فأخبره الخبر ، فلما حل الأجل ، سار کل واحد منهما إلی صاحبه فی مائة راکب ، وجعل عمرو له جیشاً خلفه ، وکان ابن أبی حذیفة یتقدمه فینطوی خبره . فلما التقیا بالعریش قدم جیش عمرو علی أثره ، فعلم محمد أنه قد غدر به، فانحاز إلی قصر بالعریش فتحصّن فیه فرماه عمرو بالمنجنیق حتی أخذه أخذاً ، فبعث به عمرو إلی معاویة فسجنه عنده ، وکانت ابنة

ص: 167

قرظة امرأة معاویة ابنة عمة محمد بن أبی حذیفة ، أمها فاطمة بنت عتبة بن ربیعة، تصنع له طعاماً وترسل به إلیه وهو فی السجن ، فلما سار معاویة إلی صفین أرسلت ابنة قرظة بشئ فیه مساحل من حدید إلی ابن أبی حذیفة فقطع بها الحدید عنه ، ثم جاء فاختبأ فی مغارة بجبل الذیب بفلسطین ، فدُلَّ علیه رشدین مولی أبی حذیفة أبیه ، وکان معاویة خلَّفه علی فلسطین فأخذه فقال له محمد: أنشدک الله لما خلَّیت سبیلی ، فقال له: أخلی سبیلک فتذهب إلی ابن أبی طالب وتقاتل معه ابن عمتک وابن عمک معاویة ، وقد کنت فیمن شایع علیاً علی قتل عثمان ، فقدمه فضرب عنقه .

وقال المدائنی: وقد قیل إن محمد بن أبی حذیفة کان فی جیش محمد بن أبی بکر ، فأخذ وبعث به إلی معاویة . والله أعلم .

وقوم یقولون: أن ابن أبی حذیفة حین أخذ لم یزل فی حبس معاویة إلی بعد مقتل حجر بن عدی ، ثم إنه هرب فطلبه مالک بن هبیرة بن خالد الکندی ثم السکونی ، ووضع الأرصاد علیه فلما ظفر به قتله غضباً لحجر » .

أقول: هکذا أبعد معاویة دم ابن خاله عن نفسه ، بروایات متناقضة!

وتقدم أنا نرجح أنه توجه الی المدینة قبل صفین لیلتحق بأمیر المؤمنین (علیه السّلام) مع عدد قلیل من أصحابه ، قبل صفین وقبل وصول قیس بعد سعد بن عبادة والیاً علیها لأن قیساً کان وقت حرب الجمل فی مصر، فتمکن معاویة

ص: 168

من القبض علی محمد وأصحابه فی الطریق ، وحبسهم فی دمشق ، حتی احتال علیهم وقتلهم !

وتقدم فی روایة البلاذری: « فلما ولِیَ قیس بن سعد ، شَخَصَ عن مصر یرید المدینة أو یرید علیاً ، وبلغ معاویة خبر شخوصه فوضع علیه الأرصاد حتی أخذ وحمل إلیه فحبسه ».

ویؤیده ما رواه الکشی:1/286:« عن أبی الحسن الرضا (علیه السّلام) قال:کان أمیر المؤمنین (علیه السّلام) یقول: إن المحامدة تأبی أن یعصی الله عز وجل. قلت: ومن المحامدة ؟ قال محمد بن جعفر ، ومحمد بن أبی بکر ، ومحمد بن أبی حذیفة ، ومحمد بن أمیر المؤمنین .

أما محمد بن أبی حذیفة هو ابن عتبة بن ربیعة وهو ابن خال معاویة أخبرنی بعض رواة العامة عن محمد بن إسحاق قال: حدثنی رجل من أهل الشام قال: کان محمد بن أبی حذیفة بن عتبة بن ربیعة مع علی بن أبی طالب ومن أنصاره وأشیاعه ، وکان ابن خال معاویة ، وکان رجلاً من خیار المسلمین ، فما توفی علیٌّ (علیه السّلام) أخذه معاویة وأراد قتله فحبسه فی السجن دهراً، ثم قال معاویة ذات یوم: ألا نرسل إلی هذا السفیه محمد بن أبی حذیفة فنُبَکِّتَهُ ونخبره بضلاله ، ونأمره أن یقوم فیسب علیاً ؟ قالوا: نعم .

ص: 169

فبعث إلیه معاویة فأخرجه من السجن ، فقاله له معاویة:یا محمد بن أبی حذیفة ألم یَأْنَ لک أن تبصر ما کنت علیه من الضلالة بنصرتک علی بن أبی طالب الکذاب . ألم تعلم أن عثمان قتل مظلوماً ، وأن عائشة وطلحة والزبیر خرجوا یطلبون بدمه ، وأن علیاً هو الذی دس فی قتله ، ونحن الیوم نطلب بدمه ؟

قال محمد بن أبی حذیفة: إنک لتعلم أنی أمسُّ القوم بک رحماً ، وأعرفهم بک ؟ قال: أجل. قال فوالله الذی لا إله غیره ، ما أعلم أحداً شرک فی دم عثمان ، وألَّب الناس علیه غیرک ، لما استعملک ومن کان مثلک ، فسأله المهاجرون والأنصار أن یعز لک فأبی ، ففعلوا به ما بلغک !

ووالله ما أحد اشترک فی قتله بدءً وأخیراً إلا طلحة والزبیر وعائشة ، فهم الذین شهدوا علیه بالعظیمة وألبوا علیه الناس ، وشرکهم فی ذلک عبد الرحمن بن عوف ، وابن مسعود ، وعمار ، والأنصار جمیعاً .

قال: قد کان ذلک . قال: فوالله إنی لأشهد أنک مذ عرفتک فی الجاهلیة والإسلام لعلی خلق واحد ، ما زاد فیک الإسلام قلیلاً ولا کثیراً ، وإن علامة ذاک فیک لبینة !

تلومنی علی حب علی! خرج مع علی کل صوام قوام مهاجری وأنصاری ، وخرج معک أبناء المنافقین والطلقاء والعتقاء ، خدعتهم عن دینهم

ص: 170

وخدعوک عن دنیاک ، والله ما خفی علیک ما صنعت ، وما خفی علیهم ما صنعوا إذ أحلوا أنفسهم لسخط الله فی طاعتک !

والله لا أزال أحب علیاً لله ولرسوله (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) وأبغضک فی الله ورسوله ، أبداً ما بقیت! قال معاویة: وإنی أراک علی ضلالک بعد . ردوه ، فردوه وهو یقرأ: قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَیَّ مِمَّا یَدْعُونَنِی إِلَیْهِ ».

وقد انفردت هذه الروایة بأن محمداً رضی الله عنه ، بقی فی سجن معاویة الی ما بعد شهادة أمیر المؤمنین علی (علیه السّلام) .

ص: 171

وکان علی (علیه السّلام) حین رجع عن صفین قد رد الأشتر إلی عمله بالجزیرة، وقال لقیس بن سعد: أقم أنت معی علی شرطتی حتی نفرغ من أمر هذه الحکومة ، ثم اخرج إلی آذربیجان ، فکان قیس مقیماً علی شرطته . فلما انقضی أمر الحکومة کتب علی إلی مالک الأشتر وهو یومئذ بنصیبین:

أما بعد

فإنک ممن أستظهر به علی إقامة الدین ، وأقمع به نخوة الأثیم ، وأسدُّ به الثغر المخوف ، وقد کنت ولیت محمد بن أبی بکر مصر، فخرجت علیه خوارج وهو غلام حدث السن، لیس بذی تجربة للحروب ولا مجرباً للأشیاء ، فأقدم علیَّ لننظر فیما ینبغی ، واستخلف علی عملک أهل الثقة والنصیحة من أصحابک . والسلام .

فأقبل مالک إلی علی (علیه السّلام) واستخلف علی عمله شبیب بن عامر الأزدی ، وهو جد الکرمانی الذی کان بخراسان صاحب نصر بن سیار ، فلما دخل مالک علی علی (علیه السّلام) حدثه حدیث مصر ، وخبره خبر أهلها وقال: لیس لها غیرک فاخرج إلیها رحمک الله ، فإنی إن لم أوصک اکتفیت برأیک ، واستعن بالله علی ما أهمک . أخلط الشدة باللین ، وارفق ما کان الرفق أبلغ ، واعتزم علی الشدة حین لا یغنی عنک إلا الشدة ».

أقول: لا یصح عندنا أن الإمام (علیه السّلام) ندم علی عزله قیساً ، وأنه کان یفکر بتولیته مصر مرة ثانیة .

ص: 173

هذا ، وقد کتب الإمام (علیه السّلام) عهداً لمالک الأشتر ، یعتبر برنامج عمل للحاکم ، وکتب معه رسالة الی أهل مصر:

وقد آثرتکم به علی نفسینصیحة لکم وشدة شکیمة علی عدوکم، عصمکم الله بالهدی ، وثبتکم بالتقوی ، ووفقنا وإیاکم لما یحب ویرضی . والسلام علیکم ورحمة الله ». (نهج البلاغة:3/63، والإختصاص/80).

وقال ابن أبی الحدید فی شرحه:16/156: « هذا الفصل یُشکل علیَّ تأویله لأن أهل مصر هم الذین قتلوا عثمان ، وإذا شهد أمیر المؤمنین (علیه السّلام) أنهم غضبوا لله حین عصیَ فی الأرض ، فهذه شهادة قاطعة علی عثمان بالعصیان وإتیان المنکر !

ویمکن أن یقال وإن کان متعسفاً:إن الله تعالی عُصیَ فی الأرض لامن عثمان بل من ولاته وأمرائه وأهله ، وذهب بینهم بحق الله وضرب الجور سرادقه بولایتهم ، وأمرهم علی البر والفاجر ، والمقیم والظاعن ، فشاع المنکر ، وفقد المعروف .

یبقی أن یقال: هب أن الأمر کما تأولت ، فهؤلاء الذین غضبوا لله إلی ماذا آل أمرهم ، ألیس الأمر آل إلی أنهم قطعوا المسافة من مصر إلی المدینة فقتلوا عثمان ! فلا تعدو حالهم أمرین ، إما أن یکونوا أطاعوا الله بقتله فیکون عثمان عاصیاً مستحقاً للقتل ، أو یکونوا أسخطوا الله تعالی بقتله ، فعثمان إذا علی حق وهم الفساق العصاة .

فکیف یجوز أن یبجلهم أو یخاطبهم خطاب الصالحین !

ص: 175

یمکن أن یجاب عن ذلک بأنهم غضبوا لله وجاءوا من مصر وأنکروا علی عثمان تأمیره الأمراء الفساق ، وحصروه فی داره طلباً أن یدفع إلیهم مروان لیحبسوه ، أو یؤدبوه علی ما کتبه فی أمرهم ، فلما حُصر طمع فیه مبغضوه وأعداؤه من أهل المدینة وغیرها ، وصار معظم الناس إلباً علیه ، وقلَّ عدد المصریین بالنسبة إلی ما اجتمع من الناس علی حصره ومطالبته بخلع نفسه ، وتسلیم مروان وغیره من بنی أمیة إلیهم ، وعزل عماله والإستبدال بهم ، ولم یکونوا حینئذ یطلبون نفسه ، ولکن قوماً منهم ومن غیرهم تسوروا داره ، فرماهم بعض عبیده بالسهام فجرح بعضهم ، فقادت الضرورة إلی النزول والإحاطة به ، وتسرع إلیه واحد منهم فقتله ، ثم إن ذلک القاتل قتل

فی الوقت ، وقد ذکرنا ذلک فیما تقدم ، وشرحناه ، فلا یلزم من فسق ذلک القاتل وعصیانه أن یفسق الباقون ، لأنهم ما أنکروا إلا المنکر ، وأما القتل فلم یقع منهم ، لا راموه ولا أرادوه ، فجاز أن یقال: إنهم غضبوا لله ، وأن یثنی علیهم ویمدحهم ». هذا ، وسنذکر شهادة الأشتر (رحمه الله) .

ص: 176

دِولاً، وعباده خَوَلاً ، والصالحین حرباً ، والفاسقین حزباً ، فإن منهم الذی قد شرب فیکم الحرام ، وجلد حداً فی الإسلام ، وإن منهم من لم یسلم حتی رضخت له علی الإسلام الرضائخ..!

إنفروا رحمکم الله إلی قتال عدوکم ، ولا تثاقلوا إلی الأرض فتقروا بالخسف وتبوؤوا بالذل ، ویکون نصیبکم الأخس. وإن أخا الحرب الأرق ومن نام لم ینم عنه . والسلام ». (نهج البلاغة:3/118).

من أهل الخراج وقد أحضرت ما عندی ، فنزل الأشتر

فأتاه بطعام وعلف ، وسقاه شربة من عسل جعل فیها سُمّاً فلما شربه مات . وبعث الخانسیار من أخبر بموته معاویة ، فلما بلغ معاویة وعمرو بن العاص موت الأشتر ، قال عمرو بن العاص إن لله جنوداً من عسل .

وقال ابن الکلبی عن أبیه: لما سار الأشتر إلی مصر أخذ فی طریق الحجاز فقدم المدینة فجاءه مولی لعثمان بن عفان یقال له نافع ، وأظهر له الود وقال له: أنا مولی عمر بن الخطاب ، فأدناه الأشتر وقربه ووثق به وولاه أمره ، فلم یزل معه إلی عین شمس ، أعنی المدینة الخراب خارج مصر بالقرب من المطریة، وفیها ذلک العمود المذکور فی أول أحوال مصر من هذا الکتاب ، فلما وصل إلی عین شمس تلقاه أهل مصر بالهدایا ، وسقاه نافع المذکور العسل فمات منه ».

قال الطبری:2/72: « وأقبل معاویة یقول لأهل الشأم: إن علیاً وجَّهَ الأشتر إلی مصرفادعوا الله أن یکفیکموه، فکانوا کل یوم یدعون الله علی الأشتر. وأقبل الذی سقاه إلی معاویة فأخبره بمهلک الأشتر، فقام معاویة فی الناس خطیباً فحمد الله وأثنی علیه وقال: أما بعد فإنه کانت لعلی بن أبی طالب یدان یمینان ، قَطعتُ إحداهما یوم صفین یعنی عمار بن یاسر ، وقَطعت الأخری الیوم یعنی الأشتر».

ص: 179

وفی تاریخ دمشق:56/376 ، أن معاویة قال لأهل الشام: « یا أهل الشام إنکم منصورون ومستجاب لکم الدعاء فادعوا الله علی عدوکم ! فرفع أهل الشام أیدیهم یدعون علیه ، فلما کانت الجمعة الأخری خطب فقال: یا أهل الشام إن الله قد استجاب لکم وقتل عدوکم! وإن لله جنوداً فی العسل، فرفع أهل الشام أیدیهم حامدین الله علی کفایتهم إیاه». (ونحوه تاریخ الیعقوبی:2/179، وشرح النهج:6/76 ).

وفی مجمع الأمثال:2/215: « لاجِدَّ إلا ما أقْعَصَ عنک . یقال ضربه فأقعصه أی قتله مکانه . یقول: جدک الحقیقی ما دفع عنک المکروه ، وهو أن تقتل عدوک دونک . قاله معاویة حین خاف أن یمیل الناس إلی عبد الرحمن بن خالد بن الولید ، فاشتکی عبد الرحمن فسقاه الطبیب شربة عسل فیها سُمٌّ فأخرقته ، فعند ذلک قال معاویة هذا القول».

وفی محاضرات الأدباء للراغب:1/531: « قال معاویة لما أتاه خبر موت أمیر المؤمنین علی: لا جدَّ إلا ما أقعص عنک » .

موته من مصائب الدهر ، فرحم الله مالکاً فقد وفی بعهده ، قضی نحبه ولقی ربه، مع أنا قد وطنا أنفسنا علی أن نصبر علی کل مصیبة بعد مصابنا برسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، فإنها أعظم المصائب..

عن فضیل بن خدیج ، عن أشیاخ النخع قالوا: دخلنا علی علی (علیه السّلام) حین بلغه موت الأشتر ، فجعل یتلهف ویتأسف علیه ویقول: لله در مالک ، وما مالک ! لو کان جبلاً لکان فِنداً ، ولو کان حجراً لکان صَلْداً ، أما والله لیهدن موتک عالماً ولیفرحن عالماً ، علی مثل مالک فلتبک البواکی ، وهل موجود کمالک؟! فقال علقمة بن قیس النخعی: فما زال علیٌّ (علیه السّلام) یتلهف ویتأسف حتی ظننا أنه المصاب به دوننا ، وقد عُرف ذلک فی وجهه أیاماً ».

وفی الإختصاص/81: « وبکی علیه أیاماً ، وحزن علیه حزناً شدیداً ، وقال: لا أری مثله بعده أبداً ».

وفی أمالی المفید/81: « ولما بلغ أمیر المؤمنین (علیه السّلام) وفاة الأشتر جعل یتلهف ویتأسف علیه ویقول: لله در مالک ، لو کان من جبل لکان أعظم أرکانه ، ولو کان من حجر لکان صلداً . أما والله لیهدن موتک عالماً ، فعلی مثلک فلتبک البواکی. ثم قال: إنا لله وإنا إلیه راجعون ، والحمد لله رب العالمین ، إنی أحتسبه عندک ، فإن موته من مصائب الدهر ، فرحم الله مالکاً فقد وفی بعهده وقضی نحبه ولقی ربه » .

ص: 181

وشهد أمیر المؤمنین (علیه السّلام) فی الأشتر شهادة عظیمة فقال: «رحم الله مالکاً وما مالک ! عزَّ علیَّ به هالکاً . لو کان صخراً لکان صَلداً (لصلابته ویقینه)ولو کان جبلاً لکان فِنداً ( ممیزاً عن الجبال ) وکأنه قُدَّ منی قداً »(رجال الکشی:1/283).

وأعظم منها شهادة النبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) بحق المقداد رضی الله عنه!«کان عظیم الشأن کبیر المنزلة حسن الرأی، قال رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) :قُدَّ منِّی قَدّاً ».( نهج الحق /304).

وتدنی من العزة .

لحسن أفعالهم تهز الشجاع ، وتحرض الناکل إن شاء الله . ثم اعرف لکل امرئ منهم ما أبلی ، ولا تضیفن بلاء امرئ إلی غیره ، ولا تقصرن به دون غایة بلائه ، ولا یدعونک شرف امرئ إلی أن تعظم من بلائه ما کان صغیراً ، ولا ضعة امرئ إلی أن تستصغر من بلائه ما کان عظیماً .

واردد إلی الله ورسوله ما یضلعک من الخطوب ، ویشتبه علیک من الأمور فقد قال الله تعالی لقوم أحب إرشادهم: یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا أَطِیعُوا اللهَ وَأَطِیعُوا الرَّسُولَ وَأُولِی الأَمْرِ مِنْکُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِی شَئٍْ فَرُدُّوهُ إِلَی اللهِ وَالرَّسُولِ. فالرد إلی الله الأخذ بمحکم کتابه ، والرد إلی الرسول الأخذ بسنته الجامعة غیر المفرقة .

اغتمرها غرق ، أو أجحف بها عطش ، خففت عنهم بما ترجو أن یصلح به أمرهم . ولا یثقلن علیک شئ خففت به المؤونة عنهم ، فإنه ذخر یعودون به علیک فی عمارة بلادک وتزیین ولایتک ، مع استجلابک حسن ثنائهم وتبجحک ، باستفاضة العدل فیهم ، معتمداً فضل قوتهم بما ذخرت عندهم من إجمامک لهم ، والثقة منهم بما عودتهم من عدلک علیهم فی رفقک بهم . فربما حدث من الأمور ما إذا عولت فیه علیهم من بعد احتملوه طیبة أنفسهم به ، فإن العمران محتمل ما حملته ، وإنما یؤتی خراب الأرض من إعواز أهلها ، وإنما یعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة علی الجمع ، وسوء ظنهم بالبقاء ، وقلة انتفاعهم بالعبر.

واجعل لرأس کل أمر من أمورک رأساً منهم ، لا یقهره کبیرها ، ولا یتشتت علیه کثیرها ، ومهما کان فی کتابک من عیب فتغابیت عنه ألزمته.

فإنک لا تعذر بتضییعک التافه لإحکامک الکثیر المهم ، فلا تشخص همک عنهم ، ولا تصعر خدک لهم ،

وتفقد أمور من لا یصل إلیک منهم ، ممن تقتحمه العیون ، وتحقره الرجال ، ففرغ لأولئک ثقتک من أهل الخشیة والتواضع ، فلیرفع إلیک أمورهم ، ثم اعمل فیهم بالإعذار إلی الله یوم تلقاه ، فإن هؤلاء من بین الرعیة أحوج إلی الإنصاف من غیرهم ، وکل فأعذر إلی الله فی تأدیة حقه إلیه .

وتعهد أهل الیتم ، وذوی الرقة فی السن ، ممن لا حیلة له ، ولا ینصب للمسألة نفسه ، وذلک علی الولاة ثقیل ، والحق کله ثقیل ، وقد یخففه الله علی أقوام طلبوا العاقبة فصبروا أنفسهم ، ووثقوا بصدق موعود الله لهم .

تلک المواقیت ، وأجزل تلک الأقسام ، وإن کانت کلها لله ، إذا صلحت فیها النیة وسلمت منها الرعیة . ولیکن فی خاصة ما تخلص به لله دینک ، إقامة فرائضه التی هی له خاصة ، فأعط الله من بدنک فی لیلک ونهارک ، ووف ما تقربت به إلی الله من ذلک کاملاً غیر مثلوم ولا منقوص ، بالغاً من بدنک ما بلغ .

وإذا أقمت فی صلاتک للناس فلا تکونن منفراً ولا مضیعاً ، فإن فی الناس من به العلة وله الحاجة . وقد سألت رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) حین وجهنی إلی الیمن کیف أصلی بهم فقال: صل بهم کصلاة أضعفهم ، وکن بالمؤمنین رحیما .

إلی منعته ، ویستفیضون إلی جواره . فلا إدغال ولا مدالسة ولا خداع فیه .

ولا تعقد عقداً تجوز فیه العلل ، ولا تعولن علی لحن قول بعد التأکید والتوثقة ، ولا یدعونک ضیق أمر لزمک فیه عهد الله إلی طلب انفساخه بغیر الحق ، فإن صبرک علی ضیق أمر ترجو انفراجه وفضل عاقبته ، خیر من غدر تخاف تبعته ، وأن تحیط بک من الله فیه طلبة ، فلا تستقیل فیها دنیاک ولا آخرتک .

فجمع طلائع عندما وردت علیه الکتب ، الناس ، وسار یرید القاهرة لمحاربة الوزیر عباس ، فعندما قرب من البلد فرَّ عباس ودخل طلائع إلی القاهرة ، فخُلع علیه خِلَع الوزارة ، ونُعت بالملک الصالح ، فارس المسلمین ، نصیر الدین . فباشر البلاد أحسن مباشرة ، واستبد بالأمر لصغر سن الخلیفة الفائز بنصر الله إلی أن مات ، فأقام من بعده عبد الله بن محمد ، ولقَّبه بالعاضد لدین الله وبایع له ، وکان صغیراً لم یبلغ الحلم ، فقویت حرمة طلائع وازداد تمکنه من الدولة .

فثقل علی أهل القصر لکثرة تضییقه علیهم واستبداده بالأمر دونهم ، فوقف له رجال بدهالیز القصر وضربوه حتی سقط علی الأرض علی وجهه وحُمل جریحاً لایعی إلی داره، فمات یوم الإثنین تاسع عشر شهر رمضان سنة ست وخمسین وخمس مائة ، وکان شجاعاً کریماً، جواداً فاضلاً ، محباً لأهل الأدب ، جید الشعر ، رجل وقته ، فضلاً وعقلاً ، وسیاسة وتدبیراً .

وکان مهاباً فی شکله ، عظیماً فی سطوته، وجمع أموالاً عظیمة ، وکان محافظاً علی الصلوات فرائضها ونوافلها ، شدید المغالات فی التشیع ، صنف کتاباً سماه: الإعتماد فی الرد علی أهل العناد ، جمع له الفقهاء وناظرهم علیه، وهو یتضمن إمامة علی بن أبی طالب رضی الله عنه والکلام علی الأحادیث

ص: 200

الواردة فی ذلک. وله شعر کثیر یشتمل علی مجلدین فی کل فن ، فمنه فی اعتقاده:

یا أمةً سلکَتْ ضلالاً بیناً

حتی استوی إقرارها وجحودها

ملتم إلی أن المعاصی لم یکن

إلا بتقدیر الإله وُجودها

لو صح ذا کان الإلهُ بزعمکُم

مَنَعَ الشریعَة أنْ تُقامَ حدودها

حاشا وکلاّ أن یکونَ إلهنا

ینهی عن الفحشاء ثم یریدها

وله قصیدة سماها: الجوهریة فی الرد علی القدریة .

وجدد الجامع الذی بالقرافة الکبری ، ووقف ناحیة بلقس علی أن یکون ثلثاها علی الأشراف من بنی حسن وبنی حسین ابنی علی بن أبی طالب رضی الله عنهم ، وسبع قراریط منها علی أشراف المدینة النبویة ، وجعل فیها قیراطاً علی بنی معصوم إمام مشهد علیّ رضی الله عنه .

ولما ولیَ الوزارة مال علی المستخدمین بالدولة وعلی الأمراء ، وأظهر مذهب الإمامیة وهو مخالف لمذهب القوم ، وباع ولایات الأعمال للأمراء بأسعار مقررة ، وجعل مدة کل متولٍّ ستة أشهر ، فتضرر الناس من کثرة تردد الولاة علی البلاد، وتعبوا من ذلک .

وکان له مجلس فی اللیل یحضره أهل العلم ویدوِّنون شعره ، ولم یترک مدة أیامه غزو الفرنج وتسییر الجیوش لقتالهم فی البرّ والبحر ، وکان یُخرج البعوث فی کل سنة مراراً .

ص: 201

وکان یحمل فی کلّ عام إلی أهل الحرمین مکة والمدینة من الأشراف سائر ما یحتاجون إلیه من الکسوة وغیرها، حتی یحمل إلیهم ألواح الصبیان التی یکتب فیها ، والأقلام والمداد ، وآلات النساء ، ویَحمل کل سنة إلی العلویین الذین بالمشاهد جملاً کبیرة ، وکان أهل العلم یغدون إلیه من سائر البلاد ، فلا یخیب أمل قاصد منهم .

ولما کان فی اللیلة التی قُتِل صبیحتها قال: هذه اللیلة ضُرِبَ فی مثلها أمیر المؤمنین علیّ بن أبی طالب رضی الله عنه ، وأمر بقربة ممتلئة فاغتسل ، وصلی علی رأی الإمامیة مائة وعشرین رکعة ، أحیا بها لیله ، وخرج لیرکب فعثر وسقطت عمامته عن رأسه وتشوشت ، فقعد فی دهلیز دار الوزارة وأمر بإحضار ابن الضیف ، وکان یتعمم للخلفاء والوزراء ، وله علی ذلک الجاری الثقیل، فلما أخذ فی إصلاح العمامة قال رجل للصالح: نعیذ بالله مولانا ، ویکفیه هذا الذی جری أمراً یتطیر منه ، فإن رأی مولانا أن یؤخر الرکوب فعل ، فقال: الطیرة من الشیطان ، لیس إلی تأخیر الرکوب سبیل ، ورکب فکان من ضَرْبِهِ ما کان ، وعاد محمولاً فمات منها کما تقدم » .

أقول: کان إرسال طلائع بن رزیک کرامة لأمیر المؤمنین (علیه السّلام) فی ظرف حساس علی مصر، حیث ضعفت الدولة الفاطمیة ، بسبب مؤامرات خصومها ، وترف خلفائها وبَذْخهم ، فطمع فیها الصلیبیون .

ص: 202

وحکم طلائع سبع سنین ، وتقدم قول المقریزی « لم یترک مدة أیامه غزو الفرنج وتسییر الجیوش لقتالهم فی البرِّ والبحر ، وکان یُخرج البعوث فی کل سنة مراراً . وقد یکون الصلیبیون أو عملاء الدولة العباسیة وراء اغتیاله ، وقد حکم بعده ابنه رُزیک سنتین، فثار علیه والی الصعید شاوُر عندما عزله فاستعان علیه بالفرنج وقتله ، وأدخل الفرنج مصر وأجبر الخلیفة الفاطمی العاضد عی توزیره ، فاستعان العاضد بنور الدین محمود زنکی حاکم سوریا من قبل العباسیین، والمتصدی لدفع الفرنج ، فأرسل له جیشاً صغیراً بقیادة شیرکوه أی أسد الجبل ، وهو کردی معروف بالشجاعة ، فحارب الصلیبیین فی القاهرة فانهزموا منها الی الإسکندریة ، ثم حاربهم فی الإسکندریة ومعهم شاور ، لکن شیرکوه صالح شاور والفرنج علی أموال، وترک مصر وعاد الی الشام ، فسیطر الفرنج علی القاهرة ثانیةً ، وعاثوا فساداً فی مصر!

ثم طلب العاضد من نور الدین إرسال قوات ، فأرسل شیرکوه ، فکرر ما عمله سابقاً ! ثم عاد الفرنج فاستنجد العاضد بجند الشام وجاء بشیرکوه ثالثةً واستوزره ، فغدر به !

قال ابن تغری فی النجوم الزاهرة فی ملوک مصر والقاهرة:5/343: « فتحرک شاور بن مجیر السعدی من بلاد الصعید ، وجمع أوباش الصعید من العبید

ص: 203

والأوغاد ، وقدم إلی القاهرة تحراباً لرزیک ، فخرج إلیه رزیک بن طلائع وقاتله ، والعاضد فی الباطن مع شاور فانهزم رزیک ، ودخل شاور إلی القاهرة وملکها ، وأخرب دور الوزارة ودور بنی رزیک ، واختفی الوزیر رزیک المذکور إلی أن ظفر به شاور وقتله ».

وقال فی النجوم الزاهرة:5/348: « وأقام شاوُر بالقاهرة علی عادته یظلم ویقتل ویصادر الناس ، ولم یبق للعاضد معه أمر ولا نهی... وسار أسد الدین (شیرکوه) ومعه ابن أخیه صلاح الدین یوسف بن أیوب ، حتی نزل بر الجیزة غربی مصر علی بحر النیل ، وکان شاور قد أعطی الفرنج الأموال وأقطعهم الإقطاعات ، وأنزلهم دور القاهرة وبنی لهم أسواقاً تخصهم ، وکان مقدم الفرنج الملک مری وابن

نیرزان ، فأقام أسد الدین علی الجیزة شهرین ، وعدا إلی بر مصر والقاهرة ، فی خامس عشرین جمادی الآخرة ، وخرج إلیه شاور والفرنج ، ورتب شاور عساکره فجعل الفرنج علی المیمنة مع ابن نیرزان ، وعسکر مصر فی المیسرة ، وأقام الملک مری الفرنجی فی القلب فی عسکره من الفرنج ، ورتب أسد الدین عساکره ، فجعل صلاح الدین فی المیمنة وفی المیسرة الأکراد ، وأسد الدین فی القلب ، فحمل الملک مری علی القلب فتعتعه ، وکانت أثقال المسلمین خلفه فاشتغل الفرنج بالنهب ، وحمل صلاح الدین علی شاور فکسره وفرق جمعه ، وعاد أسد

ص: 204

الدین إلی ابن أخیه صلاح الدین وحملا علی الفرنج فانهزموا ، فقتلا منهم ألوفاً ، وأسرا مائة وسبعین فارساً ، وطلبوا القاهرة ، فلو ساق أسد الدین خلفهم فی الحال ملَکَ القاهرة ، وإنما عدل إلی الإسکندریة ، فتلقاه أهلها طائعین فدخلها وولَّی علیها صلاح الدین ، فأقام صلاح الدین بها ، وسار أسد الدین إلی الصعید فاستولی علیه ، وأقام یجمع أمواله .

وخرج شاور والفرنج من القاهرة ، فحصروا الإسکندریة أربعة أشهر ، وأهلها یقاتلون مع صلاح الدین ویقوونه بالمال ، وبلغ أسد الدین فجمع عرب البلاد وسار إلی الإسکندریة ، فعاد شاور إلی القاهرة ، وراسل أسد الدین حتی تم الصلح بینهم ، وأعطی شاور أسد الدین إقطاعاً بمصر، وعجل له مالاً ، فعاد أسد الدین إلی الشام ومعه صلاح الدین ، واعتذر أسد الدین إلی الملک العادل نور الدین محمود بکثرة الفرنج...

ثم إن الفرنج طلبوا من شاور أن یکون لهم شحنة بالقاهرة، وتکون أبوابها بأیدی فرسانهم ، وتحمل إلیهم فی کل سنة مائة ألف دینار، ومن سکن منهم بالقاهرة یبقی علی حاله ، ویعود بعض ملوکهم إلی الساحل، فأجابهم شاور إلی ما طلبوا منه . کل ذلک تقرر بین شاور والفرنج ، والعاضد لا یعلم بشئ منه... هذا وقد تلاشی أمر الدیار المصریة من الظلم ، ولم یبق للعاضد من الخلافة سوی الإسم والخطبة لا غیر!

ص: 205

فلما بلغ شاور فعل الفرنج بالأریاف، أخرج من کان بمصر من الفرنج بعد أن أساء فی حقهم قبل ذلک ، وقتل منهم جماعة کبیرة وهرب الباقون ، ثم أمر شاور أهل مصر بأن ینتقلوا إلی القاهرة ، ففعلوا ، وأحرق شاور مصر، وسار الفرنج من بلبیس حتی نزلوا علی القاهرة فی سابع صفر وضایقوها وضربوها بالمجانیق ، فلم یجد شاور بداً أن کاتب الملک العادل نور الدین محموداً بأمر العاضد ».

وفی طبقات الشافعیة للسبکی(7/19): « فاعترضه صلاح الدین یوسف بن أیوب وجماعة من الأمراء النوریة فقبضوا علیه ، فجاءهم رسول العاضد یطلب رأس شاور ، فذبح وحمل رأسه إلیه ، واستقل أسد الدین (صار الوزیر الأول) ولم یلبث أن حضرته المنیة بعد خمسة وستین یوماً من ولایته ، فقلد العاضد صلاح الدین یوسف ، ولقبه الملک الناصر ، وکتب تقلیده القاضی الفاضل ، وبدت سعادة صلاح الدین ، وضعف أمر العاضد ».

وفی طبقات الشافعیة(7/14) أن صلاح الدین خاف من الخطبة لبنی العباس حذراً من الشیعة ، فوقف الخبوشانی أمام المنبر بعصاه ، وأمر الخطیب أن یذکر بنی العباس ففعل ولم یکن إلا الخیر ، ووصل إلی بغداد الخبر فزینوها، وأظهروا من الفرح فوق الوصف...

ص: 206

ثم قال السبکی:« وتوفی العاضد بعد ذلک فی یوم عاشوراء بالقصر ، وجلس السلطان صلاح الدین بعد ذلک للعزاء وأغرب فی الحزن والبکاء ، وتسلم القصر بما فیه من خزائن ودفائن وأموال لا تعد ولا تحصی وأمتعة ، استمر البیع فیها بعدما أهدی ووهب وأطلق وادخر ، عشر سنین .

ویحکی أن صلاح الدین قال: لو علمت أن العاضد یموت بعد عشرة أیام ما قطعت خطبته ، وأنه قال: ما رأیت أکرم من العاضد ، أرسلت إلیه مدة مقام الإفرنج علی دمیاط ، أطلب منه نفقة ، فأرسل إلی ألف ألف دینار مصریة ، نصفها خمس مائة ألف دینار ، غیر الثیاب والأمتعة .

ثم أودع صلاح الدین أقارب العاضد السجن وقرر لهم النفقات ...

حکی أن العاضد رأی فی منامه أن حیة خرجت من مسجد معروف بمصر، ولسعته ، فأرسل جماعة فی صبیحة لیلته إلی ذلک المسجد فما رأوا فیه إلا شخصاً أعجمیاً فقیراً ، فردوا إلیه وقالوا: لم نرَ إلا فقیراً أعجمیاً. وتکررت الرؤیا وهو یرسل فلا یرون إلا ذلک الأعجمی ، فقیل له: هذه أضغاث أحلام ، وکان الأعجمی هو الخبوشانی ».

وفی تاریخ أبی الفدا:3/48: « لما فوض الأمر إلی صلاح الدین ، تاب عن شرب الخمر ، وأعرض عن أسباب اللهو». ونحوه سیر الذهبی:21/282.

ص: 207

وقال الذهبی فی سیرأعلام النبلاء:15/207: « ثم سیَّر العاضد یستنجد بشیرکوه علی الفرنج ، فسار وهزم الفرنج بعد أن کادوا یأخذون البلاد ، وهمَّ شاور باغتیال شیرکوه وکبار عسکره ، فناجزوه وقتلوه فی ربیع الآخر سنة أربع وستین ، قتله جرد یک النوری وصلاح الدین...فاستوزر العاضد شیرکوه فلم یطول ومات بالخانوق بعد شهرین وأیام ، وقام بعده ابن أخیه صلاح الدین... شرع صلاح الدین یطلب من العاضد أشیاء ، من الخیل والرقیق والمال ، لیقوی بذلک ضعفه، فسیرنی إلی العاضد أطلب منه فرساً ، فأتیته وهو راکب فی بستانه الکافوری فقلت له ، فقال: مالی إلا هذا الفرس ونزل عنه ، وشق خفیه ورمی بهما ، فأتیت صلاح الدین بالفرس.

قلت (الذهبی): تلاشی أمر العاضد مع صلاح الدین ، إلی أن خلعه وخطب لبنی العباس ، واستأصل شأفة بنی عبید ، ومحق دولة الرفض... وکانت دولتهم مئتی سنة وثمانیاً وستین سنة ، وقد صنف القاضی أبو بکر بن الباقلانی کتاب کشف أسرار الباطنیة ، فافتتحه ببطلان انتسابهم إلی الإمام علی ، وکذلک القاضی عبد الجبار المعتزلی .

هلک العاضد یوم عاشوراء سنة سبع وستین وخمس مئة بذرب مفرط... وقیل سقیَ ، وقیل مص خاتما له مسموماً .

ص: 208

وتسلم صلاح الدین القصر بما حوی من النفائس والأموال ، وقبض أیضاً علی أولاد العاضد وآله ، فسجنهم فی بیت من القصر ، وقمع غلمانهم وأنصارهم ، وعفی آثارهم .

قال العماد الکاتب:وهم الآن محصورون محسورون لم یظهروا ، وقد نقصوا وتقلصوا ، وانتقی صلاح الدین ما أحب من الذخائر ، وأطلق البیع بعد فی ما بقی ، فاستمر البیع فیها مدة عشر سنین » .

أقول: لا یترک الذهبی تعصبه ، ولا یأخذ فی الإعتبار أن الخلیفة العاضد هو الذی استدعی القوة الکردیة من الشام للدفاع عن مصر، وأمدهم بالمقاتلین والمال حتی انتصروا علی الفرنج وحلیفهم شاوُر، ثم غدروا به وأجبروه علی استیزار شیرکوه ، ثم صلاح الدین ، ثم غدروا به فخلعوه ، وأعلنوا مصر تابعة للخلافة العباسیة .

ومن تعصب الذهبی أنه یغطی علی خیانة شیرکوه ، وقبضه مبلغاً من شاوُر والفرنج وانسحابه من مصر مرتین ، وأنه عندما رجع فی المرة الثالثة أبرم معهم اتفاقاً أیضاً أعطاهم بموجبه امتیازات فی مصر! وکان کل ذلک بدون علم العاضد ، کما صرح المؤرخون .

ومن تعصبه أیضاً نفیه نسب الفاطمیین الی علی (علیه السّلام) تعصباً لبنی أمیة وبنی العباس، واستشهادة بالباقلانی الذی ألف کتابه تقرباً للعباسیین فی بغداد .

ص: 209

بینما نجد المؤرخین والنسابین أثبتوا نسبهم ، ویکفینا شهادة الشریف الرضی فی أبیاته ، کما فی شرح النهج:1/38:

(ما مُقامی علی الهَوَانِ وعندی

مِقْوَلٌ صارمٌ وأنفٌ حَمِیُّ

وإباءٌ محلقٌ بی عن الضیم

کما زاغ طائرٌ وحشُّی

أی عذر له إلی المجد إن

ذلَّ غلاماً فی غمده المشرفی

أحمل الضیم فی بلاد الأعادی

وبمصرَ الخلیفة العلوی

من أبوه أبی ومولاه مولای

إذا ضامنی البعید القصی

لف عرقی بعرفة سیدا الناس

جمیعاً محمدٌ وعلی».

ص: 210

اللیلة فی المسجد قریباً من السدة ، وخرج علی بن أبی طالب (علیه السّلام) لصلاة الفجر ، فأقبل ینادی: الصلاة الصلاة ، فما أدری أنادی ، أم رأیت بریق السیف..»!

تعالی ، ثم صنف بعد ذلک فضائل الصحابة فقیل له: ألا تخرج فضائل معاویة؟ فقال: أی شئ أخرج: اللهم لا تشبع بطنه ! فسکت السائل» !

وفی تاریخ أبی أبی الفداء:2/68: « ثم عاد إلی دمشق فامتحن فی معاویة ، وطُلب منه أن یروی شیئاً من فضائله فامتنع ، وقال: ما یرضی معاویة أن یکون رأساً برأس حتی یفضل » .

وفی فیض القدیر للمناوی:1/33: « دخل دمشق فذکر فضائل علی رضی الله عنه فقیل له:فمعاویة؟ فقال: ماکفاه أن یذهب رأساً برأس حتی نذکر له فضائل! فدفع فی خصیتیه حتی أشرف علی الموت ، فأخرج فمات بالرملة أو فلسطین » . وتهذیب الکمال:1/339، وسیر أعلام النبلاء:14/132 ، والمنتظم:13/156، ووفیات الأعیان:1/77.

وفی تذکرة الحفاظ للذهبی:2/700 ، وغیرها: « قال الدارقطنی: خرج حاجاً فامتحن بدمشق ، وأدرک الشهادة فقال: إحملونی إلی مکة ».

« سئل عن مولده فقال: أشبه أن یکون سنة215»(معجم البلدان:5/282)

یعرف بالمسکین ، وکان واضح یتشیع ، فحمله علی البرید إلی المغرب فوقع إلی أرض طنجة وأتی بعض مدنها ، فاستجاب له من بها من البربر، فلما استخلف الرشید بعد موسی الهادی أُعلم ذلک، فضرب عنق واضح ودس الشماخ مولی المهدی ، وکتب له إلی إبراهیم بن الأغلب وهو عامله علی إفریقیة ، فأنفذه إلی بلاد طنجة ، فادعی الشماخ الطب ، فدعاه إدریس لیسأله عن وجع عرض له فی أسنانه فأعطاه سنوناً فیه سُمٌّ کان معه ، ثم هرب فطلب فلم یُقدر علیه ، ومات إدریس وصار مکانه ابن له یقال له إدریس ».

وقال القاضی النعمان فی شرح الأخبار:3/331: « أخرجه مولی له یقال له راشد، مختفیاً حتی سار به إلی مصر... وخلف إدریس حملاً بأم ولد ، فولدت ولداً سمی إدریس ، وبلغ وضبط الأمر ، وولد له فسماه محمد فتناسلوا وکثروا ، وهم فی المغرب ».

وفی مقاتل الطالبیین/325:«فخرج به فی جملة حاج مصر وإفریقیةوکان إدریس یخدمه ویأتمر له ، حتی أقدمه مصر فنزلها لیلاً فجلس علی باب رجل من موالی بنی العباس فسمع کلامهما وعرف الحجازیة فیهما فقال: أظنکما غریبین. قالا: نعم. قال: وحجازیین. قالا: نعم . فقال له راشد: أرید أن ألقی إلیک أمرنا علی أن تعاهد الله أنک تعطینا خلة من خلتین: إما أن تؤوینا

ص: 214

وتؤمننا ، وإما سترت علینا أمرنا حتی نخرج من هذا البلد . قال: أفعل . فعرفه نفسه وإدریس بن عبد الله ، فآواهما وسترهما.

وتهیأت قافلة إلی إفریقیة ، فأخرج معها راشداً إلی الطریق وقال له: إن علی الطریق مسالح ومعهم أصحاب أخبار تفتش کل من یجوز الطریق ، وأخشی أن تعُرف ، فأنا أمضی به معی علی غیر الطریق، حتی أخرجه علیک بعد مسیرة أیام وهناک تنقطع المسالح ، ففعل ذلک وخرج به علیه».

وأعطهم واقسم فیهم ثمنها. قال فقلت له: إن بعض من سألته أمرنی بدفعها إلی بنی شیبة ؟

فقال: أما إن قائمنا لو قد قام لقد أخذهم وقطع أیدیهم ، وطاف بهم وقال: هؤلاء سراق الله فاعرفوهم ».

أقول: یقصد (علیه السّلام) ببنی شیبة المستأکلین باسم الکعبة ، سواء کانوا من بنی شیبة نسباً ، أو مثلهم عملاً وحسباً .

قال هشام بن الحکم: قلت للزندیق: أما ترد علیه ؟! فقبح قولی . فقال له أبو عبد الله (علیه السّلام) : إذا فرغت من الطواف فأتنا .

فلما فرغ أبو عبد الله (علیه السّلام) أتاه الزندیق فقعد بین یدیه ونحن مجتمعون عنده ، فقال للزندیق: أتعلم أن للأرض تحتاً وفوقاً ؟ قال: نعم ، قال: فدخلت تحتها ؟ قال: لا ، قال: فما یدریک بما تحتها ؟ قال: لا أدری إلا أنی أظن أن لیس تحتها شئ .

قال أبو عبد الله (علیه السّلام) : فالظن عجز ما لم تستیقن . قال أبو عبد الله (علیه السّلام) : فصعدت السماء ؟ قال: لا ، قال: فتدری ما فیها ؟ قال: لا ، قال: فأتیت المشرق والمغرب فنظرت ما خلفهما ؟ قال: لا .

قال: فعجباً لک ، لم تبلغ المشرق ولم تبلغ المغرب ، ولم تنزل تحت الأرض ولم تصعد السماء ، ولم تخبر هنالک فتعرف ما خلفهن وأنت جاحد ما فیهن ، وهل یجحد العاقل ما لا یعرف ؟ فقال الزندیق: ما کلمنی بهذا أحد غیرک !

قال أبو عبد الله (علیه السّلام) : فأنت فی شک من ذلک ، فلعل هو أو لعل لیس هو. قال الزندیق: ولعل ذاک .

فقال أبو عبد الله (علیه السّلام) : أیها الرجل لیس لمن لا یعلم حجة علی من یعلم ، فلا حجة للجاهل علی العالم .

ص: 217

یا أخا أهل مصر تَفَهَّمْ عنی ، فإنا لا نشک فی الله أبداً ، أما تری الشمس والقمر واللیل والنهار یلجان ولا یشتبهان ، یذهبان ویرجعان قد اضطرا ، لیس لهما مکان إلا مکانها ، فإن کانا یقدران علی أن یذهبا فلا یرجعان فلمَ یرجعان ؟ وإن لم یکونا مضطرین فلمَ لا یصیر اللیل نهاراً والنهار لیلاً ؟

اضطُرَّا والله یا أخا أهل مصر إلی دوامهما ، والذی اضطرهما أحکم منهما وأکبر منهما . قال الزندیق: صدقت .

ثم قال أبوعبد الله (علیه السّلام) :یا أخا أهل مصر، الذی تذهبون إلیه وتظنونه بالوهم، فإن کان الدهر یذهب بهم لم لایردهم ، وإن کان یردهم لم لایذهب بهم . القوم مضطرون یا أخا أهل مصر، السماء مرفوعة والأرض موضوعة لمَ لا تسقط السماء علی الأرض ، ولمَ لا تنحدر الأرض فوق طاقتها؟ فلایتماسکان ، ولایتماسک من علیهما ؟

فقال الزندیق: أمسکهما والله ربهما وسیدهما. فآمن الزندیق علی یدی أبی عبد الله (علیه السّلام) . فقال له حمران بن أعین: جعلت فداک إن آمنت الزنادقة علی یدیک ، فقد آمنت الکفار علی یدی أبیک .

فقال المؤمن الذی آمن علی یدی أبی عبد الله (علیه السّلام) : إجعلنی من تلامذتک. فقال أبو عبد الله (علیه السّلام) لهشام بن الحکم: خذه إلیک فعلمه ، فعلمه هشام ،

ص: 218

فکان معلم أهل مصر وأهل الشام ، وحسنت طهارته ، حتی رضی بها أبو عبد الله (علیه السّلام) ».

أقول: نبَّهه الإمام (علیه السّلام) الی خطأ الملحدین بنفی وجود الله تعالی ، بدون علم ولا إحاطة بهذا الکون المادی ، فضلاً عما وراءه .

ثم نبهه الی دلیل النظم فی الکون الذی یدل علی القصد والحکمة والهدف ، وأن القاصد الهادف عز وجل لا بد أن یکون أقوی من الطبیعة المادیة حتی یجبرها ویضطرها للخضوع لقوانینه وأنظمته .

قال فقلت: فلم کره الصیام فی أیام التشریق؟ فقال لأن القوم زوار الله وهم أضیافه ، ولا ینبغی للضیف أن یصوم عند من زاره وأضافه .

قلت: فالرجل یتعلق بأستار الکعبة ما یعنی بذلک؟ قال: مثل ذلک مثل الرجل یکون بینه وبین الرجل جنایة ، فیتعلق بثوبه یستخذی له ، رجاء أن یهب له جرمه ».

فذکر أنه خرج من مصر زائراً الی مشهد الرضا (علیه السّلام) بطوس ، وأنه لما دخل المشهد کان قرب غروب الشمس فزار وصلی ، ولم یکن ذلک الیوم زائرٌ غیره ، فلما صلی العتمة أراد خادم القبر أن یخرجه ویغلق الباب ، فسأله أن یغلق علیه الباب ویدعه فی المشهد لیصلی فیه ، فإنه جاء من بلد شاسع ولا یخرجه وأنه لا حاجة له فی الخروج ، فترکه وغلق علیه الباب وأنه کان یصلی وحده إلی أن أعیا ، فجلس ووضع رأسه علی رکبتیه لیستریح ساعة ، فلما رفع رأسه رأی فی الجدار مواجهة وجهه رقعة علیها هذان البیتان:

من سره أن یری قبراً برؤیته

یفرج الله عمن زاره کُرَبَهْ

فلیأت ذا القبر إن الله أسکنه

سلالةٌ من نبی الله مُنتجبهْ

قال فقمت وأخذت فی الصلاة إلی وقت السحر، ثم جلست کجلستی الأولی ووضعت رأسی علی رکبتی ، فلما رفعت رأسی لم أرَ علی الجدار شیئاً وکان الذی أراه مکتوباً رطباً ، کأنه کتب فی تلک الساعة . قال: فانفلق الصبح وفتح الباب وخرجت من هناک ».

خلف ، والخلف جعفر ، وقال بعضهم: مضی أبو محمد عن خلف ، فبعث رجل یکنی بأبی طالب، فورد العسکر (سامراء) ومعه کتاب ، فصار إلی جعفر وسأله عن برهان فقال: لا یتهیأ فی هذا الوقت. فصار إلی الباب وأنفذ الکتاب إلی أصحابنا فخرج إلیه: آجرک الله فی صاحبک ، فقد مات وأوصی بالمال الذی کان معه إلی ثقة لیعمل فیه بما یحب ، وأجیب عن کتابه ».

وفی کمال الدین/491، والهدایة/369: « عن الأعلم المصری ، عن أبی رجاء المصری قال: خرجت فی الطلب ، بعد مضی أبی محمد (علیه السّلام) بسنتین ، لم أقف فیهما علی شئ ، فلما کان فی الثالثة کنت بالمدینة فی طلب ولد لأبی محمد (علیه السّلام) بصریاء(قرب المدینة) وقد سألنی أبو غانم أن أتعشی عنده ، وأنا قاعد مفکر فی نفسی وأقول: لو کان شئ لظهر بعد ثلاث سنین ، فإذا هاتف أسمع صوته ولا أری شخصه ، وهو یقول: یا نصر بن عبد ربه ، قل لأهل مصر: آمنتم برسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) حیث رأیتموه ؟ قال نصر: ولم أکن أعرف إسم أبی ، وذلک أنی ولدت بالمدائن فحملنی النوفلی وقد مات أبی ، فنشأت بها . فلما سمعت الصوت قمت مبادراً ولم أنصرف إلی أبی غانم ، وأخذت طریق مصر فقلت إن صاحب الزمان بعد أبیه حق ، وإن غیبته حق ، وإنه الهاتف بی . فزال عنی الشک وثبت الیقین ».

ص: 222

وفی دلائل الإمامة للطبری الشیعی/248، بسنده عن أمیر المؤمنین (علیه السّلام) قال:« قال رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) :یا علی، عشر خصال قبل یوم القیامة ، ألا تسألنی عنها؟ قلت: بلی یا رسول الله، قال: اختلافٌ وقتل أهل الحرمین ، والرایات السود وخروج السفیانی ، وافتتاح الکوفة ، وخسف بالبیداء ، ورجل منا أهل البیت یبایع له بین زمزم والمقام ، یرکب إلیه عصائب أهل العراق ، وأبدال الشام ، ونجباء أهل مصر، ونصیر أهل الیمن ، عدتهم عدة أهل بدر ».

وفی الإختصاص للمفید/208: «عن حذیفة قال:سمعت رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) یقول: إذا کان عند خروج القائم ، ینادی مناد من السماء: أیها الناس قُطع عنکم مدة الجبارین ، وولی الأمر خیر أمة محمد فالحقوا بمکة . فیخرج النجباء من مصر والأبدال من الشام وعصائب العراق ، رهبانٌ باللیل لیوثٌ بالنهار ، کأن قلوبهم زبر الحدید ، فیبایعونه بین الرکن والمقام .

قال عمران بن الحصین: یا رسول الله صف لنا هذا الرجل ، قال: هو رجل من ولد الحسین کأنه من رجال شنوءة ، علیه عباءتان قطوانیتان ، إسمه إسمی ، فعند ذلک تفرح الطیور فی أوکارها ، والحیتان فی بحارها، وتمُد الأنهار ، وتفیض العیون ، وتُنبت الأرض ضعف أکلها ، ثم یسیر ، مقدمتُه جبرئیل ، وساقته إسرافیل ، فیملأ الأرض عدلاً وقسطاً کما ملئت جوراً وظلماً ». ومجمع البیان:4/398 ،وإثبات الهداة:3/621، ونحوه عقد الدرر للسلمی/83 .

ص: 224

ورواه ابن حماد فی الفتن:1/356:«قادة المهدی خیر الناس ، أهل نصرته وبیعته ، من أهل کوفان ، والیمن ، وأبدال الشام . مقدمته جبریل وساقته میکائیل ، محبوب فی الخلائق ، یطفئ الله تعالی به الفتنة العمیاء ، وتأمن الأرض ، حتی إن المرأة لتحج فی خمس نسوة ما معهن رجل. لایتقی شیئاً إلا الله تعطی الأرض زکاتها والسماء برکتها ».

وفی سنن الدانی/104 ، بسنده عن حذیفة قال: «قال رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) .. بنحو حدیث الإختصاص ، وفیه: « فقام عمران بن الحصین الخزاعی فقال: یا رسول الله کیف لنا بهذا حتی نعرفه ؟ فقال: هو رجل من ولدی کأنه من رجال بنی إسرائیل ، علیه عباءتان قطوانیتان ، کأن وجهه الکوکب الدری فی اللون ، فی خده الأیمن خال أسود ، ابن أربعین سنة ، فیخرج الأبدال من الشام وأشباههم، ویخرج إلیه النجباء من مصر ، وعصائب أهل المشرق وأشباههم ، حتی یأتوا مکة فیبایع

له بین زمزم والمقام...الخ.». وفردوس الأخبار للدیلمی:5/523 ح8963 ، بعضه ، کما فی الدانی . وتفسیر الطبری:15/17 ، بعضه ، عن حذیفة ، کما فی الدانی . والفائق للزمخشری:1/87 ، وتهذیب ابن عساکر:1/62، و63، و96، وفیه: « عن علی (علیه السّلام) : الأبدال من الشام ، والنجباء من أهل مصر ، والأخیار من أهل العراق». « قبة الإسلام بالکوفة ، والهجرة بالمدینة ، والنجباء بمصر ، والأبدال بالشام، وهم قلیل».

أقول: هذه فضیلة کبیرة لمصر وأهلها، لأن أصحاب المهدی (علیه السّلام) الخاصین لهم مقام عظیم ، فهم ممدوحون علی لسان النبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) وأهل بیته (علیهم السّلام) . وهم فی

ص: 225

دولة العدل الإلهی حکام فی العالم .

وفی تاریخ بغداد:3/289: « عبید الله بن محمد العیشی قال: سمعت الکتانی یقول: النقباء ثلاث مائة ، والنجباء سبعون ، والبدلاء أربعون ، والأخیار سبعة ، والعُمَد أربعة ، والغوث واحد . فمسکن النقباء المغرب ، ومسکن النجباء مصر ، ومسکن الأبدال الشام ، والأخیار سیاحون فی الأرض ، والعمد فی زوایا الأرض ، ومسکن الغوث مکة ، فإذا عرضت الحاجة من أمر العامة ابتهل فیها النقباء ، ثم النجباء ، ثم الأبدال ، ثم الأخیار ، ثم العمد ، ثم أجیبوا وإلا ابتهل الغوث، فلایتم مسألته حتی تجاب دعوته»وتاریخ دمشق:1/300، والشعرانی/178، والعجلونی:1/25، والدانی5/1092 .

وفی الفائق:1/87 ، وتهذیب ابن عساکر:1/62، عن علی (علیه السّلام) :« قبة الإسلام بالکوفة ، والهجرة بالمدینة ، والنجباء بمصر ، والأبدال بالشام وهم قلیل» .

أقول: هذا فضیلة کبیرة لمصر وأهلها ، لأن أصحاب المهدی (علیه السّلام) الثلاث مئة وثلاثة عشر لهم مقام عظیم ، فهم ممدوحون علی لسان النبی وأهل بیته (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) . وهم وزراء المهدی (علیه السّلام) وحکام العالم فی دولة العدل الإلهی.

ص: 226

خربت البصرة وقام أمیر الإمرة بمصر».

وتدل الفقرة الأخیرة علی أن حرکة أمیر الإمرة مؤیدة للإمام (علیه السّلام) ، وأمیر الأمرة أی الأمیر المطاع من الجمیع ، فهو قائدٌ لقادة ، وقد یکون صاحب رتبة فی الجیش أو أنه بعد نجاحه یکون حاکم مصر .

وقد جعل قیامه علامة لظهور الإمام (علیه السّلام) ، فیکون قبله من مقدماته والتمهید له ، أو مرافقاً لظهوره (علیه السّلام) .

ویؤید ذلک ذکر القائم بخراسان وجیلان ورایات الترک بآذربیجان ، وقد ورد أنها فی سنة ظهور الإمام (علیه السّلام) .

وقد وصفت خطبة رویت عن أمیر المؤمنین (علیه السّلام) تسمی خطبة المخزون ، حرکة المهدی (علیه السّلام) وحروبه ، وذکرت دخوله الی مصر ، وهی خطبة طویلة رواها الحسن بن سلیمان فی مختصر بصائر الدرجات/195، وفی طبعة/210، وطبعة/519 ، عن السید بن طاووس بسنده عن الإمام الصادق (علیه السّلام) ، جاء فیها:

«وإن لکل شئ إنّاً یبلغه ، لا یعجل الله بشئ ، حتی یبلغ أناه ومنتهاه ، فاستبشروا ببشری ما بشرتم به ، واعترفوا بقربان ما قرب لکم ، وتنجزوا من الله ما وعدکم .

إن منا دعوة خالصةً ، یظهر الله بها حجته البالغة، ویتم بها النعمة السابغة، ویعطی بها الکرامة الفاضلة، من استمسک بها أخذ بحکمة منها ، آتاکم الله رحمته ومن رحمته نور القلوب ، ووضع عنکم أوزار الذنوب ، وعجل شفاء صدورکم وصلاح أمورکم ، وسلام منا لکم دائماً علیکم تسلمون به فی دول الأیام ، وقرار الأرحام أین کنتم ، وسلامه لسلامه علیکم فی ظاهره وباطنه ...فإن الله عز وجل اختار لدینه أقواماً انتجبهم للقیام علیه ، والنصرة له ، بهم ظهرت کلمة الإسلام ، وأرجاء مفترض القرآن ، والعمل بالطاعة فی مشارق الأرض ومغاربها...

إن أمرنا صعب مستصعب ن لا یحتمله ملک مقرب أو نبی مرسل أو عبد امتحن الله قلبه للإیمان. لایعی حدیثنا إلا حصون حصینة ، أو صدور أمینة أو أحلام رزینة . یاعجباً کل العجب بین جمادی ورجب...

ص: 229

ألا أیها الناس سلونی قبل أن تشرع برجلها فتنة شرقیة ، وتطأ فی خطانها بعد موت وحیاة أو تشب نار بالحطب الجزل غربی الأرض، ورافعة ذیلها تدعو یا ویلها ، بذحلة أو مثلها ، فإذا استدار الفلک قلتم مات أو هلک ، بأی واد سلک ، فیومئذ تأویل هذه الآیة: ثُمَّ رَدَدْنَا لَکُمُ الْکَرَّةَ عَلَیْهِمْ وَأَمْدَدْنَاکُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِینَ...

ولذلک آیات وعلامات ، أولهن إحصار الکوفة بالرصد والخندق ، وتحریق الزوایا فی سکک الکوفة ، وتعطیل المساجد أربعین لیلة ، وتخفق رایات ثلاث حول المسجد الأکبر یشبهن بالهدی ، القاتل والمقتول فی النار ، وقتل کثیر وموت ذریع ، وقتل النفس الزکیة بظهر الکوفة فی سبعین ، والمذبوح بین الرکن والمقام...

ثم یسیر إلی مصر فیعلو منبره ، ویخطب الناس ، فتستبشر الأرض بالعدل ، وتعطی السماء قطرها ، والشجر ثمرها ، والأرض نباتها ، وتتزین لأهلها ، وتأمن الوحوش حتی ترتعی فی طرف الأرض کأنعامهم ، ویقذف فی قلوب المؤمنین العلم ، فلا یحتاج مؤمن إلی ما عند أخیه من العلم...فیومئذ تأویل هذه الآیة: أَوَلَمْ یَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَی الأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْکُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا یُبْصِرُونَ . وَیَقُولُونَ مَتَی هَذَا الْفَتْحُ إِنْ کُنْتُمْ صَادِقِینَ . قُلْ یَوْمَ الْفَتْحِ لا یَنْفَعُ الَّذِینَ کَفَرُوا إِیمَانُهُمْ وَلا هُمْ یُنْظَرُونَ . فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ .

ص: 230

فیمکث فیما بین خروجه إلی یوم موته ثلاث مائة سنة ونیفاً ، وعدة أصحابه ثلاث مائة وثلاثة عشر ».

وهذا یدل علی أن المهدی (علیه السّلام) یحتل دمشق بعد معرکة کبری مع السفیانی، ویکون الیهود متواجدین فی عصره فی بلاد العرب ، فیخرجهم منها ، وأنه یجعل مصر مرکز إعلامیاً للعالم .

وروی فی مختصر البصائر/210، وصف علی (علیه السّلام) دخول الإمام المهدی (علیه السّلام) الی مصر واستقبال أهلها له ، قال: «ویسیر الصدیق الأکبر برایة الهدی...ثم یسیر إلی مصر فیعلو منبره ویخطب الناس فتستبشر الأرض بالعدل..».

کما تذکر روایة أن للإمام المهدی (علیه السّلام) فی هرمی مصر ، کنوزاً وذخائر من العلوم ، رواها الصدوق فی کتابه کمال الدین/564 ، عن أحمد بن محمد الشعرانی ، الذی هو من ولد عمار بن یاسر رضی الله عنه ، عن محمد بن القاسم المصری، قال: «إن ابن أحمد بن طولون شغَّل ألف عامل فی البحث عن باب الهرم سنة ، فوجدوا صخرة مرمر وخلفها بناء لم یقدروا علی نقضه ، وأن أُسْقُفاً من الحبشة قرأها، وکان فیها عن لسان أحد الفراعنة قوله: «وبنیت الأهرام والبرانی، وبنیت الهرمین وأودعتهما کنوزی وذخائری. فقال ابن طولون: هذا شئ لیس لأحد فیه حیلة إلا القائم من آل محمد (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) . ورُدَّت البلاطة کما کانت مکانها». وفی الروایة نقاط ضعف ، لکنها تصلح مؤیداً .

ص: 231

قال ابن حماد:1/222: «عن عمار بن یاسر قال: وخروج ثلاثة نفر بالشام ، وخروج أهل المغرب إلی مصر، وتلک أمارة السفیانی». والدانی/78 .

وقال ابن حماد:1/285: « عن أرطاة قال: إذا اجتمع الترک والروم ، وخسف بقریة بدمشق وسقط طایفة من غربی مسجدها، رُفع بالشام ثلاث رایات: الأبقع والأصهب والسفیانی ، ویحصر بدمشق رجل فیقتل ومن معه ویخرج رجلان من بنی أبی سفیان فیکون الظفر للثانی ، فإذا أقبلت مادة الأبقع من مصر ، ظهر السفیانی بجیشه علیهم فیُقتل الترک والروم بقرقیسیا، حتی تشبع سباع الأرض من لحومهم ». والأبقع: فی وجهه بقع. والأصهب: إسم للأسد ، وصفة للأصفر الوجه . ومادة الأبقع: أنصاره .

والصحیح أن حرکة الأبقع تکون فی الشام ، وهو مؤید من مصر، أو أصله من مصر . أما دخول جیش المغرب الی مصر ، فینطبق علی حرکة الفاطمیین ولا علاقة لها بظهور المهدی (علیه السّلام) . وأحادیث السفیانی قبیل ظهور المهدی (علیه السّلام) متواترة ، لکن لم یثبت علاقتها بدخول المغربیین الی مصر .

وکذلک الروایات التی تتحدث عن أزمة اقتصادیة فی الحجاز بسبب منع المواد التموینیة عنها من مصر، فهی تخص القرون الأولی ، حیث کانت مصر مصدر تموین الحجاز ، لکن الرواة خلطوها بأحادیث المهدی (علیه السّلام) ، کما فی مسند أحمد:2/262، عن أبی هریرة: قال رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) :« مَنَعت العراق

ص: 233

قفیزها ودرهمها ، ومَنَعت الشام مدها ودینارها ، ومَنَعت مصر إرْدَبَّها ودینارها ، وعدتم من حیث بدأتم «ثلاثاً» وقال: یشهد علی ذلک لحم أبی هریرة ودمه » ! والقفیز والمد والإردب: مکاییل للغلات . ونحوه مسلم:4/2220 ، وأبو داود:3/166، والبیهقی:9/137، ودلائل النبوة:6/329، کلها عن أبی هریرة .

وهی ترتبط بقطع التموین عن الجزیرة یومذاک من العراق والشام ومصر .

ولعل من نوعها الروایة عن حاکم مصر الذی یأتی بالروم ویبسط یدهم فی حکمها ، رواها ابن المنادی/33: « عن أبی ذر (رحمه الله) قال عن النبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) : سیکون رجل من بنی أمیة بمصر یلی سلطاناً ثم یغلب علی سلطانه أو ینزع منه ، ثم یفر إلی الروم فیأتی بالروم إلی أهل الإسلام ، فذلک أول الملاحم».وتهذیب ابن عساکر:4/147، والجامع الصغیر:2/63.

ومضافاً الی الإشکال فی سندها، فقد یکون حدثها وقع وانتهی ، ولا ینافی ذلک قوله: فذلک أول الملاحم ، فهو یستعمل بمعنی أحداث ظهور المهدی (علیه السّلام) ، وقد یقصد به ملاحم فی ذلک العصر.

والنتیجة: أنه لا یصح عد هذه الروایات من علامات ظهور المهدی (علیه السّلام) ، مضافاً الی ضعفها وإرسالها .

ص: 234

روایة عامر الشعبی عن المحرز بن أبی هریرة عن أبیه بطوله ، وأخرجه أبو داود مختصراً وابن ماجة عقب روایة الشعبی عن فاطمة ».

أقول: یقصد کعب أن الدجال الذی هو ملک الیهود سیولد فی مصر کموسی (علیه السّلام) ، ویقود بنی إسرائیل !

وقد روی المسلمون قبل کعب أن الدجال یهودی ، ففی مسند أحمد:3/224 ، قال أنس: «قال رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) : یخرج الدجال من یهودیة أصبهان(محلة فی أصفهان) معه سبعون ألفاً من الیهود ، علیهم التیجان ». ونحوه مسلم:8/207.

لکن کعباً جعل الدجال عربیاً ، وجعل أنصاره عرباً ! ففی مصنف ابن أبی شیبة:8/671، و:15/182: «کأنی بمقدمة الأعور الدجال ست مائة ألف من العرب یلبسون السیجان».(والدر المنثور:5/354». وفی کنی البخاری/65، وغیره ، عن ابن عمر: «یتبع الدجال أربعون ألفاً من صلب العرب ».

ثم جعل کعب الدجال عراقیاً ، لأن أهل العراق وخاصة القبائل الیمانیة کانوا یعرفون زیف کعب ویکذبونه ! فقال کعب کما فی عبد الرزاق:11/396: «یخرج الدجال من العراق» !

وقال کعب لعمر لما أراد أن یسکن العراق: «لا تفعل فإن فیها الدجال ، وبها مردة الجن ، وبها تسعة أعشار السحر، وبها کل داء عضال یعنی الأهواء». عبد الرزاق:11/251، والدر المنثور:5/354 .

ص: 236

وقد فصلنا حدیث الدجال فی معجم أحادیث الإمام المهدی (علیه السّلام) . وبینا أن حرکته بعد ظهور الإمام المهدی ونزول عیسی(علیهماالسّلام)، وبینا اضطراب روایات أتباع السلطة فیه وتناقضها .

والمشکلة عندهم أنها کلها صحیحة ! فقد قال عمر إن الدجال هو ابن صیاد المعاصر له ، وقال تمیم الداری إنه رآه موثقاً فی جزیرة فی البحر ، وقال کعب إنه فی جزیرة بالیمن موثق من زمن سلیمان (علیه السّلام) !

وقال: جبل الشام جبل الأنبیاء ».

کما روی الحاکم:4/462 ، نبوءة کعب وأحلامه بخراب مصر ، قال: «الجزیرة آمنة من الخراب حتی تخرب أرمینیة ، ومصر آمنة من الخراب حتی تخرب الجزیرة، والکوفة آمنة من الخراب حتی تخرب مصر، ولا تکون الملحمة حتی تخرب الکوفة ، ولا تفتح مدینة الکفر حتی تکون الملحمة ، ولا یخرج الدجال حتی تفتح مدینة الکفر» .

وکل هذا من مکذوباته ، ولعله اتفق مع الروم فأشاع فی المسلمین أنهم إذا فتحوا القسطنطینیة فسیخرج الدجال ، وتخرب مکة والمدینة ، وتخرب مصر وبلاد المسلمین !

وروی ابن حماد:1/236: «عن کعب قال: رأس الأرض الشام وجناحاها. ولا مصر والعراق والذنباء أی الحجاز! وعلی الذنباء یسلح الباز » !

وهذا ذم یهودی خبیث لمصر والعراق والحجاز مرکو النبوة ! والعجیب أن رواة الخلافة وعلماء المذاهب ، قبلوه ورووه ، ولم یردوا علیه !

ص: 238

وقد شاء لی حظی أن أقیم سنوات علی مقربة من مسجده ، الذی یحوی ضریحاً یضم رأسه الشریف ، فارتبطت حواسی کلها به ، بمعالمه ونقوشه ومعماره ، وما ینبعث من أرجائه.. ذلک العطر الخفی ، والظلال الهادئة ، وطوابیر الساعین إلی الصلاة فی رحابه وزیارة

مرقد الرأس الشریف ، لا ینقطعون لیلاً أو نهاراً ، یسعون إلیه من القری النائیة ، والواحات المعزولة فی الصحراء ، والمدن القریبة والبعیدة ، تنتظم حوله الحیاة فی أجمل مشاهدها ، یفیض المکان بالطمأنینة ، بالسکینة ، بالرضا .

منذ صدر شبابی کنت أتطلع إلی الآیة الکریمة: قُلْ لا أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبَی، مکتوبة بخط جمیل ، حروف خضراء علی خلفیة من اللون البنی، ومحفورة فی الجدران ، أقرأها فأرق ، وأرددها فأستکین، وقد صاحبتنی طوال مراحل عمری ، ومع بلوغ العمر نقطة متقدمة أستعیدها.. فأحن وأفهم ، وأسترجع مغزی ودلالات استشهاد:سیدنا.. و.. مولانا .

إذا ما قیل: الحسین.. فهذا یعنی مکاناً أیضاً..تُعرف مناطق القاهرة القدیمة بمراقد آل البیت.. السیدة زینب ، السیدة نفیسة ، السید عائشة ، سیدی زین العابدین . المرکز هو: الحسین . إنه المرکز الروحی لمصر کلها ولیس القاهرة فقط بل فی العالم الإسلامی کله . وانظر لما یقوله المقریزی فی موسوعة المواعظ والإعتبار بذکر الخطط والآثار ، ما نصه: « قال الفاضل

ص: 240

محمد بن علی بن یوسف بن میسر: وفی شعبان سنة إحدی وتسعین وأربع مائة خرج الأفضل ابن أمیر الجیوش بعساکر جمة إلی بیت المقدس وبه « سکان» والغازی « أرفق» فی جماعة من أقاربهما ورجالهما وعساکر کثیرة من الأتراک ، فراسلهما الأفضل یلتمس منهما تسلیم القدس إلیه بغیر حرب فلم یجیباه لذلک ، فقاتل البلد ونصب علیها المنجنیق ، وهدم منها جانباً ، فلم یجدا بداً من الإذعان له وسلماها إلیه ، فخلع علیهما وأطلقهما ، وعاد فی عساکره ، وقد ملک القدس .

فدخل عسقلان وکان بها مکان دارس فیه رأس الحسین بن علی بن أبی طالب رضی الله عنهما فأخرجه..وعطره وحمله فی سفط إلی أجلِّ دارٍ بها، وعمر المشهد ، فلما تکامل حمل الأفضل الرأس الشریف علی صدره وسعی به ماشیاً إلی أن أحله فی مقره.

وقیل إن المشهد بعسقلان بناه أمیر الجیوش بدر الجمالی ، وکمله ابنه الأفضل.. وکان حمل الرأس إلی القاهرة من عسقلان ووصوله إلیها فی یوم الأحد ثامن جمادی الآخرة سنة ثمان وأربعین وخمس مائة ، وکان الذی وصل بالرأس من عسقلان الأمیر سیف المملکة تمیم والیها ، والقاضی المؤتمن..ویذکر أن هذا الرأس الشریف لما أخرج من المشهد بعسقلان ، وجد دمه لم یجف ، وله کریح المسک ، فقدم به الأستاذ مکنون فی عشاری

ص: 241

من عشاریات الخدمة ، وأنزل به إلی الکافوری ، ثم حمل فی السرداب إلی قصر الزمرد ، ثم دفنه عند قبة باب الدیلم بباب دهلیز الخدمة ، فکان کل من یدخل الخدمة یقبل الأرض أمام القبر ، وکانوا ینحرون فی یوم عاشوراء عند القبر الإبل والبقر والغنم . هذا ما ذکره المقریزی فی خططه الشهیرة .

وکتب الدکتور شرف الدین بتاریخ(19/12/ 1999) بعنوان: مسجد الحسین ومنزلته فی نفوس المصریین:

یُعَدُّ جامع سیدنا الحسین بن علی بن أبی طالب من أهم معالم القاهرة الذی یحرص أی مسلم زائر لمصر علی زیارته وبلغ تقدیس المصریین له أقصی المدی مما دفع الکثیر من المؤرخین إلی إطلاق اسم مسجد الحرم المصری علیه ، نظراً لإیمان المصریین المطلق بأن رأس الحسین مدفون فی هذا المسجد الذی یقع فی قلب القاهرة ، رغم اختلاف الروایات حول هذه الحقیقة.. ففی مظفر التذکرة للشعرانی: أنه قد ثبت أن الصالح طلائع ، الذی بنی المشهد الحسینی بالقاهرة ، نقل الرأس إلی هذا المشهد ودفع فی ذلک نحو أربعین ألف دینار، وخرج هو وعسکره فنقلوه من خارج مصر .

ص: 242

کما یذکر الرحالة العربی ابن جبیر أن من مشاهد القاهرة المشهد العظیم الشأن ، حیث رأس الحسین بن علی بن أبی طالب رضی الله عنهما ، وهو فی تابوت فضة مدفون تحت الأرض، وقد بنی علیه بنیان مجلل بأنواع الدیباج، فیه من أنواع الرخام المجزع غریب الصنع ، بدیع الترصیع مالا یتخیله المتخیلون .

ویقع جامع الحسین قرب الجامع الأزهر الشریف ، وسوق خان الخلیلی الشهیر ، وأنشأه الفاطمیون سنة549 هجریة، تحت إشراف الوزیر الصالح طلائع.. بنی الجامع بالحجر المنحوت ، ویضم ثلاثة أبواب مبنیة بالرخام الأبیض ، تطل علی خان الخلیلی ، وباباً آخر بجوار القبة ، ویعرف بالباب الأخضر .

ویضم الجامع منبراً خشبیاً دقیق الصنع مطلیاً بالذهب ، نقل إلیه من جامع أزبک بک بالعتبة الخضراء أربعة وأربعون عموداً ، علیها بوائک تحمل السقف المصنوع من الخشب ، متقن الصنع والمنقوش باللازورد ، والمطعَّم بالذهب . وفی السقف ثلاث مناور مرتفعة مسقوفة ، بها ثلاثون شباکاً من النحاس المطلی بالذهب ، یعلوها فی الجهة البحریة شبابیک صغیرة ، دوائرها من الرخام .

وعلی المشهد الشریف نقش من الأبنوس المکسو بالإستبرق الأحمر

ص: 243

المزرکش ، فی أعلاه کمامة من الحریر الأخضر ، وبجوانبه أربعة عساکر من الفضة ، وبدائرة مقصورة الجامع ، وقبته ألواح مزخرفة بخطوط مذهبة ، مکتوبة بالخط الثلث والکوفی . وبأعلی الباب الذی یلی المنبر نقشت العبارات البلیغة: الشفاء فی تربته ، والإجابة تحت قبته ، والأئمة فی ذریته .

وقد اهتم أمراء وأکابر مصر فی کل عصر بهذا الجامع الکبیرفنمَت عمارته وزخرفته، وأُضیئت قاعاته وطرقاته وممراته ، وفرشت أرضیاته بالسجاجید النفیسة . وقد عمره الأمیر عبد الرحمن کتخدا فی سنة 1175میلادیة .

کما عزم والی مصر عباس باشا علی توسعته وزیادة مساحته ، فقام بشراء الأملاک المجاورة له وهدمها، وشرع فی بناء الأساس ثم توقفت الإنشاءات بعد أن وافته المنیة ، وبقی الحال علی ما هو علیه حتی تقدم مصطفی بک العنانی لشراء الأرض التی کان اشتراها عباس باشا ، وعمرها لنفسه وأقام علیها فنادق وخانات وبنایات لحسابه . ویقال أنه اکتشف کنزاً خلف قبة المشهد الحسینی .

وفی سنة 1199میلادیة أمر الخدیوی إسماعیل باشا بتجدید الجامع وتوسعته ، وکلف علی مبارک باشا برسم التصور المعماری لتجدید الجامع ، بحیث یتسع لاستقبال أحباء ومریدی الإمام الحسین رضی الله عنه ، وکلف الأمیر راتب باشا ناظر دیوان الأوقاف المصریة أن یشرف بنفسه علی تنفیذ

ص: 244

إنشاءات الجامع الجدیدة ، التی صممها علی

باشا مبارک . وفی إطار هذا التجدید هدم کل الجامع ، ما عدا القبة والضریح الشریف .

وبدأت الإنشاءات فی سنة1282هجریة وانتهت فی1290هجریة بالشکل الذی سبق وصفه، ومن العناصر التی تخلفت من المشهد القدیم حتی الآن:

الباب المعروف باسم الباب الأخضر ، ومبنی من الحجر وعلی یساره دائرة مفرغة بزخارف ، وتعلوه بقایا شرفة جمیلة . کما تخلف من المنارة الأیوبیة التی أنشأها فوق هذا الباب أبو القاسم السکری القسم الأسفل منها وهو المربع الذی یحتوی علی زخارف جصیة نادرة وعلی تاریخ الإنشاء .

أما التابوت الخشبی ، فهو أیوبی الطراز ویعتبر تحفة نادرة تمثل طراز الحفر علی الخشب فی عصر الأیوبیین فی مصر ، وهو محفوظ حالیاً بمتحف الفن الإسلامی بالقاهرة .

وهناک الحجرة التی شیدت عام1893میلادیة لتحتوی علی الآثار النبویة ، وهی مجاورة للقبة من الجهة القبلیة وتشمل من الآثار النبویة الشریفة علی قطعة من قمیصه الشریف ، ومکحلة ، وقطعة من العصا الشریفة وشعرتین من اللحیة الشریفة ، وبها أیضاً مصحفان بالخط الکوفی .

وإلی الآن یعتبر مسجد سیدنا الحسین من أهم المزارات الدینیة التی یحرص المصریون والمسلمون عموماً علی زیارتها والتبرک بها ، فکثیراً ما نری داخل

ص: 245

المسجد أو المشهد أشخاصاً یقومون بإیقاد الشموع لسیدنا الحسین بعد شفاء مریض لهم ، أو خروجه من أزمة ما ، کما یلجأ العامة للدعاء بداخله .

أما مولد سیدنا الحسین ، فیعد من المناسبات التی ینتظرها الکثیرون ، حیث تتحول ساحة المسجد والمیدان الذی یطل علیه إلی مهرجان عظیم ، یکتظ بحلقات الذکر والإنشاد الدینی وقراءة القرآن.. وهو یجتذب الزائرین والمریدین ، من جمیع أنحاء مصر والعالم العربی .

فاتنی أن أذکر اللوحة الرخامیة الکبیرة المعلقة علی باب المسجد المؤدی للمشهد الحسینی ، وقد کتب علیها بالذهب حدیث رسول الله صلی الله علیه وسلم: الحسن والحسین منی ، من أحبهما أحببته ، ومن أبغضهما أبغضته .

وللعلم هناک أضرحة لاحصر لها لآل البیت فی القاهرة ، ومنهم: السیدة زینب ، والسیدة نفیسة ، والسید أحمد البدوی فی طنطا ، ولهذه الأضرحة منزلة عالیة فی نفوس المصریین . وقد حاول بعض المتطرفین من عینة «السلفجیة» فلم تفعل الحکومة شیئاً ، بل تصدی لهم الناس ، ولما کادت تحدث فوضی ، تدخلت الشرطة لوقف هذه المشاکل ، حدث ذلک فی السبعینات إبان ظهور هؤلاء الهمج .

والمصریون البسطاء یذهبون لأضرحة الحسین والسیدة نفیسة ، وغیرهما

ص: 246

للتبرک بهما ، ولم نسمع أن ذلک شرکٌ وحرامٌ ، إلا مع ظهور هؤلاء الهمج !

هناک قدر هائل من العادات الشیعیة فی مصر ، کالإحتفال بیوم عاشوراء والأذکار ، والتبرک بآل البیت ، وغیر ذلک مما یتطلب جهداً بحثیاً کبیراً لرصده وتحلیله ودراسة ما إذا کانت تلک من بقایا تراث العصر الفاطمی ، أول دولة شیعیة فی التاریخ.. ولذلک تجد المصریین السنة ، بما فیهم علماء الأزهر لایکفرون الشیعة ، ولا یحملون کل هذا العداء الذی صدمت حینما رأیته فی مواقع الحوار عبر الشبکة ! فإذا سألت مصریاً عن الشیعة فسیرد علیک ببساطة ، هذا مذهب الذین تشیعوا لعلی وآل البیت .

کل ما أرید أن أقوله إن هناک بالفعل تجارب عملیة وإنسانیة علی التقارب بین السنیین والشیعة ، وتعالوا مصر لتروها ، ولعل البعض لایعرف أن الأزهر الشریف نفسه کان أول جامعة شیعیة فی العالم ، قبل مدینة قم وغیرها ، وأدعو المهتمین بدراسة التاریخ أو علم الاجتماع ، أو التأصیل أن یولوا هذه الفکرة اهتمامهم باعتبارها تجربة هامة ، ربما لا یلتفت إلیها الکثیرون .

وکتب بتاریخ (4/5/2000) بعنوان: المشهد الحسینی فی القاهرة:

علی باب ضریح الإمام الحسین فی القاهرة لوحة رخامیة کبیرة کتب علیها بالذهب الحدیث النبوی الشریف: الحسن والحسین منی.. من أحبهما

ص: 247

أحببته ، ومن أبغضهما أبغضته..

وداخل المسجد أکبر ثریا « نجفة » فی العالم العربی ، کما یؤکد إمام المسجد ، وهی للحق آیة فی الجمال والبهاء ، ووزنها کما هو مثبت فی دلیل تاریخ الضریح وصاحبه یصل إلی خمسة أطنان ، من الکریستال المحلی بالذهب الخالص ، وقوائمه من الفضة الخالصة..

أما السجاد فحدث ولاحرج ، فقد تبرع العام الماضی أحد کبار التجار من طائفة البهرة « یقیمون حول الضریح» بسجادة فارسیة تعود إلی القرن العاشر المیلادی ، وحجمها یبلغ16متراً مربعاً، وهی من الحریر الخالص ، وقد فرشت فی المقام « الضریح» الذی یقع فی الجانب الشرقی داخل المسجد..

ویعقد داخل المسجد یومیاً أکثر من خمس مائة عقد قران ، تصل أیام الخمیس والجمعة إلی الألف ، حیث یحرص آلاف المصریین علی عقد قرانهم داخل المسجد الحسینی ، وبعضهم یأتی من مدن مصریة بعیدة ، قد تبتعد عن القاهرة أکثر من سبع مائة کیلو متراً .

للحسین ، ومسجده ، وضریحه ، ومشهده ، منزلة خاصة فی نفوس المصریین . وفی شهر رمضان یستحیل علی المرء أن یجد موضعاً لقدم فی هذا المیدان المعروف بالمشهد الحسینی .

ص: 248

باعة المصوغات الذهبیة للتحف والفنون الیدویة.. مکتبات ضخمة.. مقاهی شدیدة الجمال.. مطاعم شهیرة.. حلقات ذکر.. ندوات دینیة وأخری ثقافیة.. مواکب زواج.. سیاح أجانب یقفون مذهولین لروعة المکان وتلک الأعداد الغفیرة من الزوار..

کل هذا فی کفة.. و..مجاذیب الحسین.. فی کفة أخری ، فهناک حول الضریح تجد عشرات ممن ارتدوا الخرقة الصوفیة.. وترکوا بیوتهم وأعمالهم واستأنسوا بالحسین..أقاموا حول الضریح یلتحفون السماء ویفترشون الأرض.. یأکلون ما یجود علیهم به أهل الخیر.. وما أکثرهم هناک.. ویصلون الصلوات الخمس فی المسجد..

فی رمضان لست مضطراً لأن تدفع نقوداً لکی تفطر ، إذا ما کنت فی میدان الحسین ، فأهل الخیر یحملون آلاف الوجبات ، ویقدمونها مجاناً للصائمین وعابری السبیل.. وفی کل شهور السنة یحرص الکثیر من الأغنیاء علی توزیع زکواتهم وصدقاتهم علی الناس حول الضریح..

أما فی صلاة العیدین فحدث ولاحرج.. تغسل الأرض والله العظیم غسلاً.. لا تکاد تمیز بین عامل النظافة الموظف رسمیاً لهذا الغرض ، وبین مئات الشباب والشیب ، الذین یشمرون عن سواعدهم ویحملون المقشات لیکنسوا المیدان.. بعضهم أطباء ومهندسون وضباط وأساتذة جامعات

ص: 249

وتجار أثریاء..

وکلهم یعتقدون أن الله تعالی سیبارک لهم ، عندما یتواضعون ویکنسون المیدان ، ویرشون الماء..

فی الفجر یحضر الرکب الرسمی لرئیس الجمهوریة ، ومعه کل الوزراء وشیخ الأزهر.. ویحظر سیر السیارات فی هذا المیدان ، وکافة الشوارع المؤدیة إلیه.. لکن یتجاوز عدد المصلین الملیون شخص کل عید... طیلة الوقت تستمع لابتهالات الشیخ سید النقشبندی.. وإنشاد الشیخ یاسین التهامی.. حتی یرفع المؤذن الآذان.. الله أکبر الله أکبر..فیتحول الکون کله لمستمعین لهذا النداء السماوی الجلیل..

عجائز أتین من أقصی الصعید ، حملن بضع قروش یوزعنها وفاء لنذر تحقق.. سیدات یتعلقن بأستار الضریح راجیات تحقیق أملهن فی إنجاب طفل حرمن منه ، أو عودة ابن غریب اضطرته الحیاة الصعبة للرحیل فی بلاد الله..وثمة رجل طاعن فی السن یذرف دمعة حری وهو یناجی صاحب الضریح قضاء حاجة یعلمها الله وحده..

یتعامل الناس هنا فی مصر مع الحسین ، کأنه ما زال حیاً داخل الضریح.. یتحاکمون إلیه فی منازعاتهم.. یتحدثون إلیه فی کروبهم.. بعضهم یرسل إلیه خطابات عبر البرید..

ص: 250

وصلت خلال العام الماضی إلی أکثر من ملیون رسالة کما أکدت هیئة البرید المصریة ، التی تسلمها لخادم الضریح..

المرسل:... المرسل إلیه: حضرة الإمام سید شهداء الجنة الحسین بن علی رضوان الله علیهما.. العنوان: القاهرة... مسجد الإمام الحسین .

رائحة العطور تغمر أنوف زوار الضریح.. وأنوار لا تنطفئ.. ولم تنطفئ منذ قرون.. وجلال لایضاهیه حتی ضریح السیدة زینب التی یحلو للمصریین إطلاق عدة ألقاب علیها.. منها أم العواجز.. ورئیسة الدیوان..و.. الطاهرة .

فی المسافة الممتدة بین الضریحین تقع أجمل وأبهی أحیاء القاهرة.. الدرب الأحمر.. القلعة.. الحسینیة.. باب الخلق.. باب النصر.. باب الفتوح.. الباطنیة.. الجمالیة.. الکحکیین.. المغربلین.. الخ .

لأهل البیت فی مصر منزلة ، لایشعر بها إلا من یعرف المصریین جیداً.... فحینما حاول بعض المتطرفین ذات یوم تفجیر قنبلة فی منطقة الحسین.. خان الخلیلی.. لم یسلمهم الناس للشرطة ، بل فتکوا بهم.. فحینما وصلت قوات الأمن لم تجد سوی جثث هامدة.. ولم یزل الفاعل مجهولاً حتی الیوم ، فقد تفرقت دماؤهم بین القبائل..

ص: 251

إن مشهد الإمام الحسین (علیه السّلام) ، من البیوت التی أذن الله أن ترفع ویذکر فیها اسمه ، بل هو من أفاضلها کما رواه السیوطی ، ولو لم یکن بیت علی وفاطمة الزهراء وسیدی شباب أهل الجنة ، بعد بیت النبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) أفضل تلک البیوت ، فبیت من یکون ؟

وجدت نفسی بعد قراءة هذا المقال ، مفعمةً شوقاً وحضوراً وأنساً بالله تعالی ، ورغبةً فی زیارة هذا الضریح الشریف ، والمشهد الجلیل ، الذی تسطع منه أنوار الجمال المحمدی ، والجلال العلوی ، المشعة من جلال الله تعالی وجماله الأزلی السرمدی.. وهی معان یدرکها ویشعر بها من یدرک بحقیقة إیمانه بالله ورسوله ما لهذه المشاهد

المرفوعة التی تخدمها ملائکة الله تعالی ، من قدر عند الله تعالی ورسوله (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) .

وجدت نفسی کأنی فی مصر، فی جوار الضریح الشریف والحضرة الحسینیة ، بین إخوانی الزائرین المصریین الوالهین ، الموالین لأهل البیت (علیه السّلام) ، وهم یتبرکون بالمقام ویغتنمون الفوز فیه بالصلاة والإبتهال ومناجاة الله تعالی ، یطلبون حاجاتهم من ربهم عنده ، ویصلون علی النبی وعلی شهید الإخلاص والإباء ، شهید معالم الإنسانیة الکبری ، شهید کل المکارم ، أبی عبد الله الحسین.. حسین التضحیة والجهاد والإیثار ، حسین الصبر والشجاعة ، حسین الإسلام والإنسانیة .

ص: 253

اللهم کحِّل بصری بمشاهدة تراب ضریحه فی مصر وکربلاء .

نعم ، وجدت نفسی فی هذه البقعة المبارکة التی شرفها الله تعالی بکرامة الإنتساب إلی سبط النبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ، فرأیت بعین قلبی ملائکة الله تعالی محدقین بها.. فهنیئاً لزوار تلک البقعة المبارکة ، مرکز تقرب أولیاء الله ، ومهبط ملائکة الله.. وهنیئاً لإخواننا أهل مصر ما هم فیه من جوار ضریح سید شباب أهل الجنة. هنیئاً لهم هذا الفوز العظیم ، ثم هنیئاً لهم ما هم فیه من ولاء أهل البیت (علیه السّلام) . هنیئاً لشیوخهم وشبانهم ، رجالهم ونسائهم ، علمائهم وتلامیذهم ، أساتیذهم وطلاب جامعاتهم . فیالیتنا معهم فنفوز بما یفوزون به عند هذا الضریح المبارک .

ویا مولای یا حسین ، یا أبا عبد الله ، یا ابن رسول الله ، یا من استنقذت عباد الله بتضحیتک الکبری من جهالة الضلالة.

أشهد أنک رفعت أعلام الدین، وکسرت صولة المستکبرین والمستعبدین ، ونصرت الله ورسوله ، مجاهداً صابراً .

وأشهد أن الله یحب من أحبک ، ویبغض من أبغضک ، وأن الله طهرکم یا أهل البیت من الرجس تطهیراً . والسلام علیک ورحمة الله وبرکاته .

12صفر المظفر- 1421ه- . لطف الله الصافی

ص: 254

زاد نشاط المحمدیْن فی جیش ذات الصواری 49

طرد أهل مصر والیهم وبایعوا محمد بن أبی حذیفة ! 51

وأرسل أهل مصر رسالة نصیحة الی الخلیفة عثمان 53

وذهب المصریون فی جیش صغیر الی عثمان 54

الحرکة ضد عثمان من غیر المصریین................... 55

محاصرة الجیش المصری لعثمان التی انجرت الی قتله 57

تظاهرة المهاجرین والأنصار یهتفون باسم علی (علیه السّلام) 68

الفصل الثالث: مصر فی عهد أمیرالمؤمنین علی (علیه السّلام) - 71

اهتمام علی (علیه السّلام) بمصر........................71

مصر عند مقتل عثمان وخلافة علی (علیه السّلام) ......72

الخطأ الذریع الذی وقع فیه قیس بن سعد !............. 78

نقاط عن شخصیة قیس بن سعد بن عبادة رضی الله عنه 83

ولایة محمد بن أبی بکر علی مصر.....................103

أسرة محمد بن أبی بکر رضی الله عنه .............. 103

ولایة محمد بن أبی بکر لمصر............................. 106

رسالة أمیر المؤمنین (علیه السّلام) الی أهل مصر ووالیهم 107

ملاحظة علی هذه الرسالة.................................. 117

أجوبة أمیر المؤمنین (علیه السّلام) علی مسائل محمد بن أبی بکر 117

کُتُب علی (علیه السّلام) لمحمد بن أبی بکر تقع فی ید معاویة 120

رسالة محمد بن أبی بکر الی معاویة وجوابه 123

رسالة الإمام (علیه السّلام) الی محمد عندما عین الأشتر مکانه 125

غزو معاویة لمصر بعد معرکة صفین................. 126

ص: 256

محاولة علی (علیه السّلام) نصرة محمد بن أبی بکر رضی الله عنه 139

حزن أمیر المؤمنین (علیه السّلام) علی محمد بن أبی بکر 145

منشور أمیر المؤمنین (علیه السّلام) فی أبی بکر وعمر 150

حزن أسماء علی ابنها وعائشة علی أخیها محمد 151

معاویة خال المؤمنین ومحمد بن أبی بکر لیس خالهم ! 153

لم یتهنأ ابن العاص بملک مصر !.......................... 156

شخصیة محمد بن أبی حذیفة رضی الله عنه 159

ولایة مالک الأشتر علی مصر .............................. 172

رسالة الإمام (علیه السّلام) الی أهل مصر لما أراد معاویة غزوها 174

رسالة أخری بعثها الإمام (علیه السّلام) الی أهل مصر 177

شهادة مالک الأشتر رضی الله عنه......................... 178

حزن الإمام (علیه السّلام) علی مالک الأشتر......... 180

قبر مالک الأشتر رضی الله عنه فی مصر............. 182

عهد الإمام (علیه السّلام) الی مالک الأشتر........... 183

الفصل الرابع: علاقة المصریین بأئمة العترة (علیه السّلام)

الإمام یرسل الملک الصالح والیاً علی مصر ! 199

علاقة المصریین بأئمة العترة (علیه السّلام) ......... 211

فی عهد أمیر المؤمنین (علیه السّلام) ............ 211

سکن النسائی فی مصر وقتله أهل الشام !............ 212

مصر ملجأ العلویین المضطهدین....................... 213

الکعبة لا تأکل ولا تشرب .............................. 215

زندیق یؤمن علی ید الإمام الصادق (علیه السّلام) ... 216

ص: 257

ذو النون المصری یروی عن الإمام الصادق (علیه السّلام) فلسفة الحج 219

مصریون مع الإمام الرضا والجواد(علیهماالسّلام)........................ 220

مصریون یزورون قبر الإمام الرضا (علیه السّلام) ......... 220

الفصل الخامس:المصریون ینصرون الإمام المهدی (علیه السّلام)

مصریون یبحثون عن ولادة الإمام المهدی(علیه السّلام) 221

مصر فی عصر ظهور الإمام المهدی (علیه السّلام) .... 223

نجباء مصر وزراء الإمام المهدی (علیه السّلام) .......... 223

وفد مصر الذی یحمل البیعة للإمام المهدی (علیه السّلام) 226

أمیر الأمرة فی مصر سنة ظهور المهدی (علیه السّلام) 227

الإمام المهدی (علیه السّلام) یدخل مصر ویجعلها مرکزه الإعلامی 228

الأبقع الذی تسانده مصر............................ 231

دخول جیش المغرب الی مصر............................ 232

کذبة کعب فی أن الدجال من مصر....................... 234

بغض کعب الأحبار لمصر وکذبه عنها....................... 237

مشاهد أهل البیت وذریاتهم فی مصر .................. 239

تعقیب المرجع الشیخ الصافی علی الموضوع 252

ص: 258