نافذه علی اهم الفرق و المذاهب الاسلامیه

اشارة

سرشناسه:بن بدیره، شکیب، 1960 - م.

عنوان و نام پدیدآور:نافذه علی اهم الفرق والمذاهب الاسلامیه/ شکیب بن بدیره الطبلبی.

مشخصات نشر:قم: مرکز بین المللی ترجمه و نشرالمصطفی(ص)، 1392.

مشخصات ظاهری:472ص.

فروست:مرکزالمصطفی(ص) العالمی للدراسات والتحقیق؛ 167

شابک:155000 ریال: 978-964-195-220-6

وضعیت فهرست نویسی:فاپا

یادداشت:عربی.

یادداشت:کتابنامه: ص.[465]- 472 ؛ همچنین به صورت زیرنویس.

موضوع:اسلام -- فرقه ها -- تاریخ

موضوع:شیعه -- فرقه ها

شناسه افزوده:جامعة المصطفی(ص) العالمیة. مرکز بین المللی ترجمه و نشر المصطفی(ص)

رده بندی کنگره:BP235/2/ب9ن2 1392

رده بندی دیویی:297/5

شماره کتابشناسی ملی:2111645

ص :1

اشارة

ص :2

نافذه علی اهم الفرق والمذاهب الاسلامیه

شکیب بن بدیره الطبلبی

ص :3

ص :4

کلمة الناشر

إن التطور العلمی الذی یشهده عالمنا الیوم،والوسائل التکنولوجیة الحدیثة قد دفعت بعجلة الفکر و الثقافة الی الأمام،بل وأصبح الانسان ینتظر فی کل یوم تطوّراً جدیداً،و هذا التطور قد کشف لنا القناع عن بعض المناهج الدراسیة فی معاهدنا ومؤسساتنا العلمیة،و إذا بها مناهج تقف فی زوایة ضیقة من هذا العالم العلمی الفسیح.

من هنا أخذت المؤسسات العلمیة فی الجمهوریة الاسلامیة فی إیران،وفی مقدّمتها جامعة المصطفی صلّی الله علیه و آله العالمیة؛أخذت علی عاتقها صیاغة بعض المناهج الدراسیة صیاغة تلائم الحرکة العلمیة المعاصرة،ومالها من متطلّبات بحیث تنسجم مع تطّلعات العالم الجدید.

لقد بادرت الاقسام العلمیة فی جامعة المصطفی صلّی الله علیه و آله،بمخاطبة الأساتذة وذوی الاختصاص؛لیساهموا فی وضع مناهج حدیثة فی جملة من العلوم،مثل:علوم القرآن،والفقه،والأصول،والتفسیر،والتاریخ...الخ کی تلبّی حاجات الدارسین فی مختلف المستویات وعلی کلّ صعید وفی کل الاختصاصات فی العلوم الإنسانیة و الدینیة.

کانت خطوة الجامعة هذه جریئة وموفقة حیث،بذرت بذوراً صالحة تفتّقت من خلالها براعم طیبة،وانتجت ثماراً ناضجة تؤتی اکُلها کلّ حین.

نعم،لمّا کانت بعض المواد الدراسیة لم تتوفر فیها الکتب المنهجیة اللازمة،التی تنسجم

ص:5

مع السطح العلمی لعموم المعاهد و المؤسسات العلمیة،فقد أناطت ادارة جامعة المصطفی صلّی الله علیه و آله-الحقل العلمی-مهمّة تدوین وتألیف هذه المناهج الجدیدة و البحوث العلمیة ذات الطابع العلمی و الأکادیمی،الی جملة من الاستاتذة المختصّین و العلماء الأفاضل،وأولتهم رعایة فائقة وتسهیلات غیر محدودة؛کی یتمّ إنجاز تلک البحوث علی وفق المناهج المقرّرة.وفعلاً تصدّی للعمل نخبة من العلماء،واُنجز الکثیر من تلک البحوث و المؤلّفات،حیث بذل أصحاب الفضیلة جهوداً مضنیة،ومساعی متواصلة،بغیة المساهمة الجادة فی خلق کادرٍ متخصّصٍ فی شتی العلوم و الفنون،ثم جاءت هذه المساهمة صادقة فی کل ابعادها،تجلّلها النظرة الشمولیة و العمق العلمی و البیان الواضح.

إن جامعة المصطفی صلّی الله علیه و آله العالمیة أصبحت الیوم محطّ انظار الدارسین فی الداخل و الخارج،وهی تعدّ بحقٍ من اکبر المؤسسات العلمیة فی عالمنا الاسلامی و العربی،و قد استقطبت العدید من أصحاب الاختصاص من الاساتذة و المؤلفین،کما أغنت المکتبة الاسلامیة بمجموعة بحوث ومؤلفات قد تمت طباعتها ونشرها خلال هذه السنین القلائل؛لتکون منهلاً عذباً للدارسین وطلاب الحقیقة و المعرفة.

ومن منطلق تقدیم الخدمات العلمیة،یتقدّم مرکز المصطفی صلّی الله علیه و آله العالمی للنشر و الترجمة،التابع لجامعة المصطفی صلّی الله علیه و آله العالمیة بالشکر و التقدیر لسماحة الاستاذ شکیب بن بدیره لما بذله من جهود تستحق الاحترام و التقدیر فی تألیفه لکتاب نافذة علی اهم الفرق و المذاهب الاسلامیة،کما نشکر أعضاء الکادر الفنی الذی ساهم بشکل حثیث فی انجاز وطبع هذا الکتاب الماثل بین یدی القاریءالکریم.

وکلّنا أمل ورجاء بأن نکون قد ساهمنا فی رفد الحقل العلمی و المکتبة الإسلامیة بالبحوث و المؤلفات،خدمة للعلم و العلماء ومشارکة منّا فی تفعیل الحرکة الثقافیة فی العالم الاسلامی،وما التوفیق إلا من عند الله.

مرکز المصطفی صلّی الله علیه و آله العالمی للترجمة و النشر

ص:6

کلمة مرکز المصطفی صلّی الله علیه و آله العالمی للدراسات و التحقیق

وضعت الحوزات العلمیة-عبر تاریخها المجید-مهمّة التربیة و التعلیم علی رأس مهامهّا و جزءاً من رسالاتها الأساسیة،الأمر الذی ضمن إیصال معارف الإسلام السامیة وعلوم أهل البیت علیهم السلام إلینا خلال الأجیال المتعاقبة بأمانة علمیة صارمة،وفی هذا الإطار جاء اهتمام تلک الحوزة العلمیة بالمناهج الدراسیة التعلیمیة.

وممّا لا شکّ فیه،أنّ التطوّر التکنولوجی الذی شهده عصرنا الحالی وثورة الاتصالات الکبری أفرزتا تحوّلاً هائلاً فی حقل العلم و المعرفة،حتی أصبح بمقدور البشریة فی عالم الیوم أن تحصل علی المعلومات و المعارف اللازمة فی جمیع الفروع بسرعة قیاسیة وبسهولة ویسر.فقد حلّت الأسالیب التعلیمیة الحدیثة و المتطورة محلّ الأسالیب القدیمة و الموروثة کمّا و نوعاً،وسارت هذه التطّورات بسرعة نحو تحقیق الأهداف التعلیمیة المنشودة.

وبرزت جامعة المصطفی صلّی الله علیه و آله العالمیة فی هذا الخضم کمؤسسة حوزویة وأکادیمیة تأخذ علی عاتقها مسؤولیة إعداد الکوادر العلمیة و التعلیمیة الأجنبیة فی مجال العلوم الإسلامیة،حیث تعکف أعداد غفیرة من الطلبة الأجانب الذین ینتمون إلی جنسیات مختلفة علی مواصلة الدراسة فی مختلف المستویات التعلیمیة وضمن العدید من فروع العلوم الإسلامیة و العلوم الإنسانیة التابعة لهذه الجامعة.

ص:7

وبطبیعة الحال،إنّ العلوم و المعارف الإسلامیة التی یتوافر علیها الطلبة الأجانب تتمایز بتمایز البلدان و الأصقاع التی ینتمون إلیها،مما یدفع جامعة المصطفی صلّی الله علیه و آله العالمیة إلی تدوین مناهج حدیثة تستجیب لطبیعة التمایز الذی یفرضه تنوّع البلدان وتنوع حاجات مواطینها.

لطالما أکّد أساتذة الحوزة ومفکّریها ولا سیما الإمام الخمینی رحمة الله،وسماحة قائد الثورة الإسلامیة(دام ظله)علی ضرورة أن یستند التعلیم الحوزوی للأسالیب الحدیثة المستلهمة من مناهج الاستنباط فی الفقه الجواهری،وأن یتمّ سوقه نحو مسارات التألّق والازدهار.وفی هذا السیاق،نشیر إلی مقطع من الکلمة المهمّة التی ألقاها سماحة قائد الثورة السید الخامنئی(دام ظله)فی عام 2007م،مخاطباً فیها رجال الدین الأفاضل:

بالطبع،إنّ حرکة العلم فی العقدین القادمین ستشهد تعجیلاً متسارعاً فی حقول العلم و التکنولوجیا مقارنة بما مرّ علینا فی العقدین المنصرمین...وفیما یتعلّق بالمناهج الدراسیة یجب علینا توضیح العبارات و الأفکار التی تتضمّنها تلک المناهج إلی الدرجة التی تنزاح معها کلّ العقبات التی تقف فی طریق من یرید فهم تلک الأفکار،طبعاً،دون أن نُهبط بمستوی الفکرة.

فی الحقیقة،لقد استطاعت الثورة الإسلامیة المبارکة فی إیران-ولله الحمد-أن تسند المحافل العلمیة و الجامعات بطاقات وإمکانات هائلة لتفعیلها و تطویرها.ومن هذا المنطلق،واستلهاماً من نمیر علوم أهل البیت علیهم السلام وبفضل الأجواء التی أتاحتها هذه الثورة العظیمة لإحداث طفرة فی النظام التعلیمی،أناطت جامعة المصطفی صلّی الله علیه و آله العالمیة مهمّة ترجمة وطباعة ونشر المناهج الدراسیة التی تنسجم مع النظام المذکور إلی مرکز المصطفی صلّی الله علیه و آله العالمی،وذلک بالاعتماد علی اللجان العلمیة و التربویة الکفؤة،وتنظیم هذه المناهج بالترکیز علی الأهمیة الإقلیمیة و الدولیة الخاصة بها.

وللحقیقة فإنّ جامعة المصطفی صلّی الله علیه و آله العالمیة تملک خبرة عالیة فی مجال تدوین المناهج الدراسیة و البحوث العلمیة،حیث حقّقت تحوّلاً جدیداً فی میدان انتاج المعرفة،

ص:8

وذلک من خلال تجربتها فی تدوین مجموعة المناهج الخاصّة بالمؤسّستین السابقتین التی انبثقت عنهما،وهما:«المرکز العالمی للدراسات الإسلامیة»و«مؤسسه الحوزات و المدارس العلمیة فی الخارج».

وکانت حصیلة الفعالیات العلمیة لهذه الجامعة فی مجال تدوین المناهج؛إصدار أکثر من مئتی منهجٍ دراسی لداخل البلاد وخارجها،وإعداد أکثر من مئتی منهجٍ وکرّاسةٍ علمیة،والتی نأمل بفضل العنایة الإلهیة وفی ظلّ رعایة الإمام المهدی المنتظر عجّل الله تعالی فرجه الشریف أن تکون قد ساهمت بقسط ولو غیر قلیل فی نشر الثقافة و المعارف الإسلامیة المحمدیة الأصیلة.

وبدوره یشدّ مرکز دراسات المصطفی صلّی الله علیه و آله الدولی علی أیدی الروّاد الأوائل ویثمّن جهودهم المخلصة،کما یعلن عن شکره للتعاون البنّاء للّجان العلمیة التابعة لجامعة المصطفی صلّی الله علیه و آله العالمیة علی مواصلة هذه الانطلاقة المبارکة فی تلبیة المتطلبات التربویة و التعلیمیة من خلال توفیر المناهج الدراسیة طبقاً للمعاییر الجدیدة.

والکتاب الذی بین یدی القارئ الکریم الذی یحمل عنوان نافذة علی اهم الفرق و المذاهب الاسلامیة هو ثمرة جهود الأستاذ الفاضل شکیب بن بدیرة الطبلبی،ویحرص مرکز المصطفی العالمی علی تسجیل تقدیره و شکره لمؤلفه الجلیل علی مابذله من جهد وعنایة،کما یشکر کلّ من ساهم بجهوده لإعداد هذا الکتاب.

کما لا یفوتنا أن نتوجّه بالرجاء إلی العلماء و الأساتذة و أصحاب الفضیلة أن یبعثوا إلینا بإرشاداتهم،و بما یستدرکونه علیه منه خطأ أو اشتباه؛لتلافیه فی الطبعات اللاحقة.

نسأله تعالی التوفیق و السداد،والله من وراء القصد.

مرکز المصطفی صلّی الله علیه و آله العالمی للدراسات و التحقیق

ص:9

ص:10

الفهرس

مقدمة 19

مادة الکتاب ومنهجه الوحدوی 20

الأسلوب الأکادیمی المختار 22

ملاحظات دراسیة 23

الباب الأوّل:تمهید حول نظام السقیفة وأدواته الثقافیة

أوّلاً:البوادر الانشقاقیة الأولی فی الإسلام؛من المروق إلی السقیفة 29

البحث الأوّل:مفهوم الفِرقة الناجیة،والفِرقة الهالکة،وأولی مصادیقها 29

1.مع حدیث الفرقة الناجیة 29

2.أحادیث الفِرق الهالکة 31

البحث الثانی:ظروف نشأة الفِرقة المارقة الأولی 36

1.من موانع الاجتثاث المبکّر للمرُوق 36

2.تشکّل أوّل فرقة مارقة 39

البحث الثالث:ملامح الانشقاق المناهجی الأوّل 42

1.الأصل الأوّل للانشقاق:المعارضة الصریحة للنصّ 43

2.ظاهرة الاجتهاد فی مقابل النصّ و التأویل 46

البحث الرابع:السقیفة وتأویل وصیة الغدیر 54

1.حدیث الغدیر 54

2.السقیفة بین الاجتهاد الاستقلالی و التأویل 57

ثانیاً:المصلحة السیاسیة و المنابر الدینیة 65

البحث الخامس:محوریة المنابر و الخطابة المسجدیة 65

ص:11

1.أدوات المعرفة المتاحة لدی الجیل الأوّل 67

2.المنابر الدینیة فی مواجهةٍ غیر متکافئة 70

البحث السادس:محدودیة الأدوات الدعائیة أمام حاجة السلطة 72

1.محدودیة الأدوات الدعائیة الرسمیة 72

2.بعض المناهج و الأدوات السلطویة 75

3.بدایة تعدّد المرجعیات 76

ثالثاً:تدوین العقائد الدینیة بین السلطة و المعارضة 79

البحث السابع:الأدوات الثقافیة فی ظلّ الاستقطاب السیاسی 79

1.ظاهرة الاستقطاب و التعدّد الثقافی 80

2.أهمّ مرجعیات الصدر الأوّل وأدواتها الثقافیة 82

البحث الثامن:إشارات ختامیة حول القیمة العلمیة لتراث الصدر الأوّل 88

1.تنبیهات حول التقاطع السیاسی الکلامی 88

2.هل توجد مصادر علمیة حقّاً؟95

الباب الثانی:الانقسامات الأولی وأثرها المباشر فی الفکر الإسلامی

الفصل الأوّل:موجّهات الفکر الإسلامی من نظام السقیفة إلی العهد الأموی

أوّلاً:السقیفة وجذور الانقسام الأوّل 105

البحث التاسع:مقدّمات السقیفة والاستخلاف 105

1.حول مقدّمات الاستخلاف 106

2.الرسول صلّی الله علیه و آله أمام رفض الوصی 110

البحث العاشر 112

حول نظریة البداء و التخفیف فی تفسیر السقیفة 112

1.أهمّ أدلّة التخفیف 113

2.مناقشة النظریة 116

3.من مفهوم الخلافة إلی مفهوم الإمارة 118

ثانیاً:الإطار الثقافی و السیاسی لأُولی انشعابات التشریع الإسلامی 121

البحث الحادی عشر 121

الإطار الفکری العام للانشعابات الفقهیة 121

1.الولایة الشرعیة و الحرّیة الفکریة 122

2.مرجعیة الفکر المتشرّع 125

البحث الثانی عشر:الاجتهاد فی ظلّ منع تدوین الحدیث النبوی 129

1.ملامح الاتّجاه الفقاهی الذرائعی 129

2.الخلافة الراشدة الرابعة فی مواجهة الذرائعیة 132

ص:12

البحث الثالث عشر:من الشوری النخبویة إلی الاستبداد العشائری 138

1.المشروع الرسالی فی مواجهة الاستبداد 139

2.الانقسام المرجعی الثقافی وعودة العشائریة والاستبداد 141

الفصل الثانی:التمایز العقائدی الفِرَقی بین التطرّف والاعتدال

أوّلاً:التطرّف العقائدی فی ظلّ الاستبداد الأموی 149

البحث الرابع عشر:الخوارج وظاهرة التکفیر 149

1.ظاهرة الخوارج وتکفیر المسلمین 150

2.الأزارقة فی فخّ المغالطة 154

3.بعض ملامح السفسطة عند الخوارج ونوعها 155

4.الأباضیة:الوجه الطائفی للخوارج 157

البحث الخامس عشر:ظاهرتا الإرجاء و الجبر:الوجه المقابل لتطرّف الخوارج 161

1.الثقافة العثمانیة وحواشیها المتطرفة 162

2.ملامح الخطورة فی ظاهرة المرجئة 164

البحث السادس عشر:المعتزلة وشعار التفویض 167

1.فکر المعتزلة فی ضوء التضاد بین الجبریة و القدریة 168

2.المدارس المعتزلیة الأولی وتورّطها السلطوی 173

البحث السابع عشر:الاعتزال بین النزعة العثمانیة و المراجعة التاریخیة 182

1.الجاحظیة وعودة العثمانیة 183

2.ابراهیم النظّام ومدرسة الاعتزال المعتدل 185

ثانیاً:تطوّر العقائد فی ظلّ المیراث النبوی 193

البحث الثامن عشر:الحدیث النبوی تحت رعایة محور السنّة و العترة 193

1.أهم دواعی تشکّل محور مرجعی جدید 194

2.الجبریة و الصفاتیة 198

3.مرجعیة السنّة ومحور أهل السنّة و العترة 201

البحث التاسع عشر:الکلام النصوصی بین أهل الحدیث و الأشاعرة 205

1.الکلام النصوصی وتدلیس مفهوم أهل السنّة 205

2.التشبیه بین انحراف الحشویة ومحاولات الاستدراک 209

3.الأشعری وأهم إنجازاته الفکریة 213

البحث العشرون:عقائد الشیعة الإثنی عشریة 218

1.من دیوان الکلام العلوی إلی تدوین العصر البویهی 218

2.من أدوات فکّ الحصار 222

3.المحور الولائی أمام انشقاقات الغلاة و الروافض 225

ص:13

البحث الواحد و العشرون:لمحة عن خصائص العقیدة الإمامیة 229

1.أهمّ معتقدات الشیعة الإمامیة 230

2.منهج الشیعة الإمامیة فی البحث العقائدی 235

الفصل الثالث:حول الانشقاقات والانحرافات عن المحور الولائی

أوّلاً:تمظهرات العقیدة الثوریة 243

البحث الثانی و العشرون:التشیع السیاسی و الظاهرة الزیدیة 243

1.تنوّع التشیع واستمراریة وسطیة الخطّ الولائی 244

2.الظاهرة الزیدیة فی سیاقها العقائدی و السیاسی 251

3.لمحة عن العقیدة الزیدیة وحرکاتها الأولی 253

البحث الثالث و العشرون:الظاهرة الإسماعیلیة والاقتباس الثقافی 256

1.السیاسویة والاقتباس الثقافی:من الکیسانیة إلی الإسماعیلیة 257

2.نظرة علی الترکیب العقائدی الإسماعیلی 260

البحث الرابع و العشرون:إشارات حول الغلوّ وعلاقتها بالصراع السیاسی 265

العمل السرّی و الغلوّ 265

تعریف الغلوّ ومظاهره الأولی 265

ظهور الغلوّ بین المسلمین 266

أولی الفرق الغالیة 267

الدعوات السریة وتطوّر الغلوّ فی القرن الثانی 268

المُغیریة 269

الخطّابیة 269

السرّیة و السیاسویة و الغلوّ الزیدی 270

أشهر غلاة الزیدیة 270

الجارودیة وتکفیر الشیخین 271

سبب القول بالتسویة فی العلم 272

البحث الخامس و العشرون:الاستفادة السلطویة من ظاهرة الغلوّ 273

1.الغلوّ و الباطنیة السلطویة 273

2.الاستبداد ومحاربة الغلوّ 277

الباب الثالث:المذاهب الفقهیة الکبری فی إطارها الکلامی

الفصل الأوّل:أُصول الفقاهة عند أهمّ المحاور المرجعیة

أوّلاً:التأسیس الکلامی لأُصول الاستنباط 283

البحث السادس و العشرون:حول حجیة الکتاب و السنّة 283

ص:14

1.الاختیار الصحابی العمومی وتعقیداته الأصولیة 284

2.حجیة الکتاب ودور المفسّرین الأوائل 287

3.حجیة السنّة بعد منع تدوین الحدیث 289

البحث السابع و العشرون:بین الاختیار العمومی و المحور الولائی 291

1.حجیة قول الصحابی وعمله ومشکلاتهما 291

2.حجیة قول المعصوم 293

ثانیاً:أهل الرأی وأهل الحدیث 297

البحث الثامن و العشرون:أبو حنیفة النعمان أمام شحّة المصادر الروائیة 297

1.ظروف تبلور الجهاز الأُصولی الحنفی 298

2.نظرة علی الجهاز الأُصولی الحنفی 299

البحث التاسع و العشرون:الإمام مالک وخصوصیة المدینة المنورة 305

1.الجهاز الأصولی المالکی فی سطور 305

2.موقع الکتاب و السنّة فی الجهاز الأُصولی المالکی 306

3.الإجماع 309

الفصل الثانی:تطوّر المدارس الفقهیة بین المذهبیة و الطائفیة

اوّلاً:الخلفیات السیاسیة لنشأة المذاهب الفقهیة الکبری 317

البحث الثلاثون:الظاهرة الزیدیة و المذهب الحنفی 317

1.بین التشیع المدرسی و الظاهرة الثوریة 318

2.حول انتساب أبی حنیفة إلی الجارودیة 322

البحث الواحد و الثلاثون:من مدرسیة مالک إلی مذهبیة سحنون 326

1.ملامح الواقعیة المدرسیة عند الإمام مالک 327

2.هل أسّس مالک مذهباً مستقلاً؟333

البحث الثانی و الثلاثون:الحفّاظ و المبلّغون أمام التحدیات 335

1.نماذج من الانزلاق السلطوی للطبقة الثالثة 336

2.خطورة موقع الحافظ 337

3.مجتهدو الجیل الثانی فی مواجهة النموذجیة المیتة 339

ثانیاً:الجیل الثانی من الفقاهة الجماهیریة فی مواجهة الغوغائیة 341

البحث الثالث و الثلاثون:التدوین الشافعی لأُصول الفقاهة 341

1.رایة الاجتهاد من جیل إلی جیل 342

2.فی مواجهة عموم الدسّ و التدلیس 345

3.الفقاهة الجماهیریة وابتکاراتها الأصولیة 347

4.ابتکار الإجماع ومحاولة محاصرة النموذجیة المیتة 349

ص:15

البحث الرابع و الثلاثون:الشافعی وابن حنبل فی مواجهة الثقافة الغوغائیة 353

1.فی مواجهة الغوغائیة الکلامیة 354

2.تقویم موجز للمواجهة مع الغوغائیة الحدیثیة 358

ثالثاً:تطوّر الفقاهة الإمامیة 361

البحث الخامس و الثلاثون:المحور الولائی وتأسیس علوم الفقاهة 361

1.تأسیس البنیة التحتیة للنصوصیة العقلیة 362

2.ملامح التأسیس الأُصولی عند الإمام الصادق علیه السلام 366

3.تکمیل قواعد الاستنباط:حلّ التعارضات الروائیة 369

البحث السادس و الثلاثون:تطوّر الفقاهة الإمامیة فی عصر الغیبة 371

1.الفقه الإمامی بین المعارضة و المداراة 372

2.إشارات حول تجربة المحقّق الکرکی 378

3.حول استمرار حرکة الاجتهاد عند الشیعة الإمامیة 379

الباب الرابع:المدارس الفکریة المتأخّرة بین الانکفاء الاجتماعی و المواجهة السیاسیة

الفصل الأوّل:التصوّف و العرفان النظری من البناء الأخلاقی إلی المُقاومة

أوّلاً:حول الخلفیات العلمیة للطرق الصوفیة 385

البحث السابع و الثلاثون:التصوّف و الهمّ التربوی أمام الفساد و الإحباط السیاسی 385

1.حول منشأ التصوّف و العرفان 385

2.التصوّف العرفانی و السلوک 387

3.التصوّف و المعرفة الشهودیة 392

البحث الثامن و الثلاثون:الاقتباس من التشیع:تعمیم مفهوم الإنسان الکامل 394

1.العلاقة بین العرفان و التشیع موازاة أم تکامل؟395

2.ابن خلدون أمام إشکالات المحدّثین 398

3.إشارات حول مفهوم الإنسان الکامل و النجاح التعبوی 400

ثانیاً:الاتجاه العرفانی بین البناء الأخلاقی و الدفاع عن الأمّة 403

البحث التاسع و الثلاثون:نظریة السیر و السلوک:منازل السائرین إلی الإنسان الکامل 403

1.الحکمة العملیة وحدودها 404

2.أهداف البناء الأخلاقی عند العرفاء 406

3.منازل السائرین إلی الإنسان الکامل 407

البحث الأربعون:المنهج التربوی و الطرق الصوفیة 412

1.الشیخ و المرید و الحاجة إلی الطریقة 412

2.مؤسّسو أشهرالطرق:القادریة, و التیجانیة, و الشاذلیة, و السنوسیة 414

ص:16

ثالثاً:الصوفیة و التحدّی الاستعماری 417

البحث الواحد و الأربعون:الاستعمار أمام المقاومة الصوفیة 417

1.المضمون الصوفی للمقاومة الشعبیة 418

2.ملامح المقاومة الثقافیة 420

البحث الثانی و الأربعون:الحرکات الصوفیة بین التهمیش والاختراق 421

1.تطبیع وضع التصوّف الانحرافی 421

2.إشارة حول محاولات الاختراق و الدسّ 424

الفصل الثانی:إشارات ختامیة الاستعمار و التّیارات العقائدیة المتأخرّة

أوّلاً:روّاد النهضة فی مواجهة الغزو الثقافی الاستعماری 427

البحث الثالث و الأربعون:علی مفترق طرق 427

1.میراث من الأزمات النائمة 428

2.المسألة السیاسیة و الفکر الإسلامی الحدیث 430

البحث الرابع و الأربعون:التجدید الوحدوی فی مواجهة المحافظة التفسیخیة 432

1.أهمّ اتّجاهات الفکر الإسلامی الحدیث 432

2.من مشکلات فحص المیراث الثقافی 434

3.المیراث الوحدوی و السلفیة المعاصرة 436

ثانیاً:فکر الخوارج فی ثوبه الجدید 439

البحث الخامس و الأربعون:السلفیة و التکفیر 439

1.ابن تیمیة من معاداة التصوّف إلی الناصبیة 440

2.مؤسّس السلفیة التکفیریة وفکره 441

3.ردّ فعل علماء الجمهور علی فکر ابن تیمیة 444

البحث السادس و الأربعون:أصول الانحراف الوهابی 447

1.ملامح السقوط العلمی عند مؤسّس السلفیة التکفیریة 448

2.المنهج المعرفی عند مؤسّس السلفیة التکفیریة 449

3.ابن عبد الوهّاب وإحیاء السلفیة التکفیریة 452

البحث السابع و الأربعون:الوهابیة و الجماعات المقاتلة و التکفیر 456

1.الوهابیة و الخوارج فی میزان المحقق الأمین 456

2.الوهابیة و الجماعات المحاربة 459

3.الاستعمار واختراق الجماعات التکفیریة 460

المصادر 465

ص:17

ص:18

مقدمة

اشارة

الحمد لله وکفی0،والصلاة و السلام علی خیر خلقه المصطفی وعلی جمیع أولیائه الذین اجتبی.وله الشکر و الثناء علی عظیم منّه وکبیر فضله وجزیل إنعامه،وما التوفیق إلّا به وما السداد إلّا بإذنه.

وبعد،فلقد کان من دلائل عنایته سبحانه بعبده الفقیر إلی رحمته،کاتب هذه السطور،أن وفّقه إلی هذا المیسور،مقراً لدی الکرام بالقصور.

فهذا الکتاب الذی بین یدی القارئ الفاضل،لا یطمح إلی أکثر من الوفاء بدور الطرح التجریبی الأکادیمی فی مجال بالغ الحساسیة،هو تحلیل الظاهرة المذهبیة فی الثقافة الإسلامیة.

فهذا الکتاب هو معین دراسی مخصص لمادتی«أهمّ الفرق الإسلامیة»و«أهمّ المذاهب الفقهیة الإسلامیة»،فی إطار البرنامج الجدید المجسَّد للتوجّهات الوحدویة لجامعة المصطفی العالمیة.

و هذا العمل،فی الحقیقة،لیس أکثر من نافذة تنفتح علی أفق دراسیة وثقافیة أرحب،موضوعه:الفرق و المذاهب الإسلامیة ومدارسها الفکریة.ولم ندّخر وسعاً فی جعل المسالک التی یمکن الشخوص إلیها،عبر هذه النافذة،مأمونة من المزالق.ونحن

ص:19

نقترح هذا العمل المتواضع علی الطلاب ذوی الآفاق الثقافیة الواسعة،لیلجوا،عبر تلک المسالک،الساحة الفسیحة للدراسات الکلامیة،دون الوقوع فی المزالق الخطیرة التی عادة ما تحف بأکثر البحوث العقائدیة و التاریخیة.

ومن الجدیر بالتنویه،هنا،أنّ هذا العمل هو مختصر دراسی مقتبس من عمل آخر،أوسع وأعمق،قد صدرت بعض أجزائه،فی طبعتین تجریبیتین، (1)تحت عنوان دراسات کلامیة.لذا،فقد ینظر إلی«النافذة»باعتبارها مرحلة أولی من مسیر دراسی یمکن اقتراحه علی نخبة القراء؛إذ أن مجموعة«دراسات کلامیة»تسعی لتکون تکملة طبیعیة،وتوسعة مناسبة لهذا العمل الدراسی المختصر،فتخاطب المتطلعین إلی تلک الأفق الرحبة.وهی بهذا الاعتبار،تشکل اختیاراً آخر أکثر شمولاً وأوسع أفقاً لمن یرغب فی الانتقال من مرحلة الاقتصار علیٍ الحد الأدنی المطلوب أکادیمیاً،إلی مرحلة الاطلاع علی الحدّ المتوسط المطلوب ثقافیاً.

مادة الکتاب ومنهجه الوحدوی

من المفترض فی البرنامج الدراسی الأکادیمی الذی یندرج تحته هذا الکتاب،أن یشتمل علی مادتین علمیتین متکاملتین:

الأولی:علم الکلام:و هو العلم الذی یدرس فیه فنّ الدفاع عن تعالیم الدین.

الثانیة:علم الفرق الإسلامیة ومدارس الفکر الإسلامی:ولیست هذه المادة مستحدثة بل تعتبر امتداداً لعلم الفرق الذی کُتبت فیه مدونات مشهورة منذ القدم،مثل:«الفَرق بین الفِرق»للبغدادی،و«الملل و النحل»للشهرستانی...و هذه المادة مکملة لعلم الکلام،من منطلق سیاسی تاریخی واجتماعی.

ص:20


1- (1) .الطبعة الأخیرة تمثلت فی المجلدات السبعة الأولی من هذه المجموعة الصادرة بمنشورات دار المتوسط الجدید،طبلبة-تونس/2010.

أما مادة هذا الکتاب فهی تتشکل من أهمّ موضوعات علم الفرق إضافة إلی عرض مختصر لظروف نشأة أهمّ المذاهب الفقهیة المعاصرة وخلفیتها الکلامیة،علاوة علی أهمّ التطورات الفکریة المعاصرة لبعض الفرق و الطرق و المذاهب الإسلامیة القدیمة،مثل:الوهابیة،والجماعات المنشعبة عنها،أو الملحقة بها کالجماعات السلفیة المقاتلة.إلا أن المواضیع الأخیرة لم تنل حظاً من البحث عدا بعض الإشارات،نظراً للاختصار الشدید الذی یقید هذا الکتاب.

أما الجدید فی هذا العمل،فلعلّه السعی إلی الانطباق و التوافق التام مع الضوابط الأکادیمیة المتعارفة فی العلوم الإنسانیة الأُخری.حیث أن دراسة تاریخ علم الکلام و الفرق و المذاهب الإسلامیة-کما نراها فی معظم المقرّرات الدراسیة-ظلت علی الدوام متأرجحة علی خط التماس بین البحث الأکادیمی الموضوعی الملتزم بالبرهان عادة،والبحث المذهبی الذی کثیراً ما یستعمل المنهج الجدلی،لإفحام الخصوم لا لإثبات الحقائق.

و قد سعینا-فی هذا الکتاب-إلی مواصلة السیر فی الطریق الذی رسمه النبی الخاتم صلّی الله علیه و آله مع الظواهر الاختلافیة فی عصره:فرغم کونه التجسید الکامل للمنهج الحق،فلم یکن یقصی الآراء المخالفة،ما لم تکن مستهدفةً ضرب دین الله تعالی.

ویتمثل تطبیق هذا المنهج فی عصرنا،فی البحث عن المشترکات المتّفق علیها بین المسلمین وإبرازها وتعریفها إلی عامة المسلمین،والتهوین من شأن موارد الاختلاف قدر الإمکان.

أما السبیل إلی هذا الهدف الوحدوی السامی فهو الالتزام بقواعد النقد الأکادیمی الموضوعی،لاعتقادنا أن البحث الأکادیمی وحده-بما هو خاضع لضوابط وقیود موضوعیة دقیقة ومتفق علیها-کفیل بإخراج البحوث الکلامیة،وتاریخ الفرق و المذاهب من الوضع الشاذ و الخطیر الذی تردت إلیه بالتدریج؛فبعد أن کان یفترض فی البحث الکلامی الدفاع عن الأقوال و الأفعال التی صرح بها الشارع،وأجمع علیها المسلمون،

ص:21

أصبح دفاعاً عن الأفعال و الأقوال التی تنسب إلی الشارع واختلف فیها المسلمون!

و إن اکتساب القدرة علی تحلیل التحولات العقائدیة والاجتماعیة التی شهدت تشتت الأمّة علی مرّ القرون،وتقدیم قراءة علمیة للأوضاع الثقافیة الموروثة علی نحو یستقیم معه تصور حال الأمّة،هو الغرض الأسمی الذی یدعو هذا العمل المختصر،إلی السعی لتحقیقه.

وبعبارة موجزة،هذا العمل یطمح أن یکون مدخلاً أکادیمیاً موضوعیاً إلی الفضاء الثقافی الإسلامی الوحدوی،الذی یتطلّع جمیع المخلصین إلی ترویجه؛لیحل محل فضاء الاحتقان الطائفی الذی یکاد ینجح أعداء الإسلام فی فرضه کأمر واقع فی شتی أرجاء الوطن الإسلامی الکبیر.

الأسلوب الأکادیمی المختار

أما الأسلوب الأکادیمی المتّبع فی بحوث هذا الکتاب،فهو أسلوب«مناقشة أمهات المصادر،أو المصادر الاتباعیة الجامعة».و هذا الأسلوب یجعل الطالب فی مواجهة مباشرة مع النصوص الأساسیة التی وَجَّهَت مجمل البحوث التی جاءت بعدها،وأثرت فیها أیما تأثیر.والمصداق الأبرز لهذه المتون الأساسیة التی أصبح معظم من جاء بعدها عالة علیها کتاب الملل و النحل للشهرستانی،ومقدمة ابن خلدون.

فأما الکتاب الأوّل:فهو یجسد مرحلة التأسیس و التدوین الموسوعی لتاریخ الفرق و المذاهب،و هو یغطی أهمّ التطورات التی شهدتها الأمّة الإسلامیة فی القرون الخمسة الأولی من تاریخها.ومعظم من أتی بعد الشهرستانی،من قدماء ومعاصرین،لم یستغن عن الاقتباس مما دوَّنه.بل إن کثیراً من الفرق و المذاهب المنقرضة،کما هو حال بعض تیارات المعتزلة،لم یکن وجودها لیحظی بالتسجیل بموضوعیة نسبیة لولا الشهرستانی.

و أما الکتاب الثانی:فهو یقرر مرحلة انتقال الأمّة الإسلامیة من عصر هیمنة المتکلمین

ص:22

المرتبطین بالسلطة أو بالمعارضة،إلی عصر هیمنة المتصوفة،النائین بأنفسهم عن المعترک السیاسی.فکان تقریر عبد الرحمن بن خلدون عن التصوف و العرفان،أقرب ما کتب فی بابه إلی الموضوعیة،و هو الأجدر بعرضه علی طلاب یراد لهم التمرس علی التعامل مباشرة مع النصوص الاتباعیة.وباستثناء ما جاء فی«مقدمة ابن خلدون»،فإن معظم ما کتب فی التصوف،هو إما بخلفیة معادیة لهذا المسلک،و إما بخلفیة متطرفة فی التفاؤل بشأنه.

ولیس من المطلوب فی هذا المستوی غیر التخصصی،الدخول فی معترک الجدل حول التصوف و العرفان الذی یعتبره أهله بدیلاً عن علم الکلام و الفلسفة معا.

علاوة علی هذین المصدرین الرئیسین،فقد رجعنا إلی عدد کبیر من المصادر الجزئیة و المتخصصة،وسعینا أن تکون إحالة الطالب إلی المصدر الأعتق و الأقدم فی بابه،ما لم یکن الأحدث منه أقرب إلی الموضوعیة،محافظة علی الغرض المشار إلیه أعلاه.

فمن الطبیعی إذاً،أن یقلّ فی هذا الکتاب ما نلاحظه فی کثیر من المقررات الدراسیة،من نزوع إلی تلخیص آراء الأقدمین،والاقتباس منها مع الاکتفاء بذکر المصدر.فهذا الأسلوب القدیم،مناسب لطلاب المرحلتین الإعدادیة و الثانویة،و هو یهضم حق الطالب الجامعی فی المحاکمة المباشرة للنص،ومقارنة ما یفهمه بنفسه مع ما قد فهمه المؤلف،وما یعلّق علیه الأستاذ فی قاعة الدرس.ولولا قید الاختصار الذی حکم هذا الکتاب،لما أدرجنا فیه تلخیصاً أو اقتباساً معنویاً واحداً من أحد تلک المصادر،ولعرضنا جمیع الشواهد بحذافیرها؛فلا یمکن أن یبلغ الطالب المقصد إلا بتلافی هذا الاختصار،والرجوع إلی المنابع الأصلیة لمحاکمة النص مباشرة.

ملاحظات دراسیة

هذا الکتاب-کما تقدم-معدّ لیکون مساعداً دراسیاً فی آخر مرحلة اللیسانس.والطابع الدراسی لهذا العمل قد فرض قیوداً کثیرة علی مستوی المضمون و الشکل.

ص:23

فأما علی مستوی المضمون:فقد اضطرنا وجوب الاختصار إلی الاکتفاء بالحدَّ الأدنی الضروری من الشواهد،وإلی بلورة الاستدلالات فی شکل إشارات أحیاناً،تارکین للأستاذ المدرس فرصة بسطها وتحلیلها عند الاقتضاء.

کذلک فإن المادتین الدراسیتین اللتین یسعی هذا الکتاب لتغطیتهما،هما معتمدتان علی افتراض إحراز الطالب لزاد دراسی کاف فی مواد دراسیة أخری أهمها:السیرة النبویة المطهرة،وتاریخ صدر الإسلام،ودورة تمهیدیة فی المنطق ودورة مختصرة فی علم مصطلح الحدیث،ودورة متوسطة فی العقیدة الإسلامیة بحسب مذهب الطالب المختار.لذا فإن فرضت بعض الظروف تدریس هذا الکتاب قبل تلک المواد،و هو أمر نرجو أن لا یحصل،فإن توضیح کثیر من الإشارات یصبح منوطاً بعهدة المدرس.

أما علی مستوی الشکل:فإن تقسیم مادة الدراسة،من قبل الجهة المختصّة فی جامعة المصطفی العالمیة،إلی ثلاث وحدات أکادیمیة بمجموع 16 حصة لکل وحدة منها،حملنا علی تقسیم موضوعات الکتاب ضمن عدد مناسب من البحوث(47 بحثاً + حصة لتقدیم المادة).

وعلی المستوی الشکلی أیضا:لعله من المناسب التنبیه إلی الاختیار العام الذی سلکناه فی التزام قواعد الأدب و الموضوعیة-معاً-تجاه أکابر الأمة:فلم نتعدّ الحدَّ الأدنی من حدود الأدب التی یقتضیها النص الشرعی الصریح.فعند ذکر أحد أفراد البیت النبوی الشریف،نلتزم بما یلتزم به کلّ مسلم فی الصلاة الإبراهیمیة و هو:«الصلاة و السلام علی محمد وعلی آل محمد»و أما عند ذکر أحد أکابر الأمة من غیرهم،فالقاعدة هی الترضی الجماعی علی کل من ترضی عنهم القرآن الکریم جماعة،وهم صحابة بیعة الرضوان،والترضی الفردی علی کل إمام متبوع استمرت مرجعیته إلی یومنا.واجتنبنا ما عدا ذلک من التکلفات المبتدعة التی کثرت حولها المزایدات.

ص:24

ونحن نعتقد أن هذا العمل لا یخلو من نواقص فنیة أو علمیة،وما شجعنا علی تقدیمه هو فراغ الساحة من مثل هذه الأدوات التی تراعی أسلوب مناقشة المتون الاتباعیة.وکلّ رجائنا أن تلقی نواقص هذا العمل رحابة الصدر من القراء الکرام،وخاصة الأخوة الزملاء الأفاضل المتصدّین لتدریس هذه المادة.وأملنا أن تکون هذه المحاولة حافزاً لأصحاب الهمم العالیة لملء الفراغ الکبیر الذی لن تکون هذه الأبحاث المختصرة قادرة لوحدها علی ملئه،دون شک.

وعسی أن یکون عملنا هذا خالصا لوجه الله تعالی،وأن یتقبّله منا ومن جمیع من دعمه وساهم فیه وشجّع علیه،وخاصة رئاسة جامعة المصطفی صلّی الله علیه و آله العالمیة،ومسؤولی إدارتی المتون الدراسیة و البحوث فیها،وإدارة مرکز المصطفی صلّی الله علیه و آله العالمیة للترجمة و النشر،التابع لجامعة المصطفی لعالمیة،ویتلقاه من الجمیع بأحسن القبول.

والله من وراء القصد و هو ولی التّوفیق

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمین...

شکیب بن بدیرة الطبلبی(التونسی)

قم المشرفة فی:13رجب1433

ص:25

ص:26

الباب الأوّل:تمهید حول نظام السقیفة وأدواته الثقافیة

اشارة

تمهید حول نظام السقیفة وأدواته الثقافیة

ص:27

ص:28

أوّلاً:البوادر الانشقاقیة الأولی فی الإسلام؛من المروق إلی السقیفة

البحث الأوّل:مفهوم الفِرقة الناجیة،والفِرقة الهالکة،وأولی مصادیقها

اشارة

الظاهر من کلام معظم الکُتاب من المتکلّمین،وجمیع من ألّفوا فی الفِرق و المذاهب الإسلامیة،أن المعنی الاصطلاحی السیاسی و العقائدی لکلمة:فرقة, (1)یعود إلی حدیث نبوی مشهور کثیراً ما یطلق علیه اسم:حدیث الفرقة الناجیة.

و هو قد یعتبر الأصل الأوّل لتشریع نشأة علم الفرق و المذاهب, ومن الضروری هنا أن نفحص أهمّ روایات هذا الحدیث الهامّ کما وجدناها فی کتب الجمهور المعتبرة،ثمّ ننقل البحث إلی أحادیث أُخری تبین أولی مصادیق الفرق الهالکة.

1-مع حدیث الفرقة الناجیة
اشارة

إن ما أصبح یعرف بحدیث الفرقة الناجیة،هو حدیث مستفیض, وکثیر ما یرسل إرسال المسلمات فی کُتب الفرق مثل:الملل و النحل،ونحن نکتفی هنا بأهمّ ما ورد من الروایات فی کُتب الجمهور المعتبرة.

ص:29


1- (1) .بحوث وحدویة فی أصول الطائفیة،الجزء الأوّل،الفصل الأوّل،المبحث الأوّل:المعنی اللغوی و القرآنی لکلمة فرقة.
أهمّ روایات الحدیث

روی أبو داوود:

حدّثنا وَهْبُ بن بقیة،عن خَالِدٍ عن مُحمَّدِ بنِ عَمْرٍو،عن أبی سَلَمَةَ عن أَبی هُرَیرَةَ،قالَ رَسُولُ الله صلّی الله علیه و آله«افْتَرَقَتِ الْیهُودُ عَلَی إحْدَی واِثنَتَینِ وَسَبْعِینَ فِرْقَةً،وَتَفَرَّقَتِ النَّصَارَی عَلَی إحْدَی واِثنَتَینِ وَسَبْعِینَ فِرْقَةً وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِی علَی ثَلاَثٍ وَسَبْعِینَ فِرْقَةً». (1)

ورواه الترمذی أیضاً عن الْحُسَینُ بنُ حُرَیثٍ أَبُو عَمَّارٍ،عن الفَضْلُ بنُ مُوسَی،عن مُحَمَّدِ بنِ عَمْرٍو،عن أَبِی سَلَمَةَ،عن أبی هُرَیرَةَ،أَنَّ رَسُولَ الله صلّی الله علیه و آله قالَ:

«تَفَرَّقَتِ الْیهُودُ عَلَی إِحْدَی وَسَبْعِینَ فِرْقَةً،أَوْ اثْنَتَینِ وَسَبْعِینَ فِرْقَةً،وَالنَّصَارَی مِثْلُ ذَلِکَ،وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِی عَلَی ثَلاَثٍ وَسَبْعِینَ فِرْقَةً». (2)

والحدیث واحد کما هو واضح،والاختلاف یسیر مابین المتنین.

وجاء فی مسند الإمام أحمد:

حدّثنا عبد الله،حدَّثنی أبی-أی:الإمام أحمد بن حنبل-حدّثنا وکیع،حدّثنا عبد العزیز-یعنی:الماجشون-عن صدقة بن یسار،عن العمیری،عن أنس بن مالک قال:قال رسول الله صلّی الله علیه و آله:

«إنّ بنی إسرائیل قد افترقت علی اثنتین وسبعین فرقة،وأنتم تفترقون علی مثلها،کلّها فی النار إلّا فرقة». (3)

هذا الحدیث هو مربط الفرس, وعلیه المعول و العمدة فی أخطر المسائل العقائدیة السیاسیة التی أوجبت نشأة البحث الجدّی عن أسباب الاختلاف،ومحاکمة مجمل المخاض العقائدی و السیاسی الذی شهدته الأمّة الإسلامیة منذ صدر الإسلام.

فهل هناک أوکد من معرفة سبیل النجاة من النّار؟

ص:30


1- (1) .سنن أبی داوود:340/12, ح4588.
2- (2) .سنن الترمذی:377/7, ح2710.
3- (3) .مسند الإمام أحمد:569/3, ح11953.

فإذا کان الناجون من النار ضمن فرقة واحدة من بین ذلک العدد الکبیر من فرق المسلمین, فإنّه من أولی الواجبات التعرّف علی هذه الفرقة الناجیة والاستظلال بظلّها.

و هذا ما سعی إلیه جمیع من ولج باب البحث فی الفرق و المذاهب الإسلامیة و إن اختلفت مناهجهم وتباینت نتائجهم.

سبب اختلاف متن الحدیث

من الجدیر بالملاحظة هنا،أنّ حدیث أبی هریرة بروایتیه خالٍ عن ذکر أهمّ مقطع فی المتن و هو الإشارة إلی اقتصار النجاة من النار علی فرقة واحدة.و إذا عرفنا الموقف السیاسی الخاصّ لأبی هریرة،وعادته فی التخلّص من بعض مقاطع الأحادیث التی صعب علیه الالتزام بلوازمها،نفهم إغفاله لجزء من الحدیث الذی نقله الإمام أحمد کاملاً بسنده إلی أنس بن مالک،مع اختلاف یسیر فی الصدر.

2-أحادیث الفِرق الهالکة
اشارة

هناک مجموعة من الأحادیث تناقلتها کُتب الجمهور المعتبرة،أنبأ فیها رسول الله صلّی الله علیه و آله بأخطر ما سوف تتعرّض له أمّته من الفتن بعده.ومن أهمّ هذه الأحادیث تلک التی تشیر إلی ظاهرةٍ،أصبحت تعرف فیما بعد باسم:«الخوارج»والاسم الأول لهذه الظاهرة هو:المارقة،باعتبار أن المنتسبین لهذا التیار کانوا أوّل من نعتهم رسول الله صلّی الله علیه و آله بأنّهم،مارقون عن الدین،مبیناً مفهوماً جدیداً غیر مألوف بین المسلمین, و هو التطرّف المؤدّی إلی الخروج من الدین.

روایتان للحدیث

من هذه الأحادیث ما رواه مسلم فی صحیحه،بروایتین عن أبی سعید،الأُولی أکمل من الثانیة،وهما:

وحدّثنی مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنّی.حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِی عَدِی،عَنْ سُلَیمَانَ،عَنْ أَبِی نَضْرَة عَنْ أَبِی سَعِیدٍ،أَنَّ النبی ذَکَرَ قَوْماً یکُونُونَ فِی أمّته.یخْرُجُونَ فِی

ص:31

فُرْقَةٍ مِنَ النَّاسِ.سِیمَاهُمُ التَّحَالُقُ.قَالَ:«هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ،أَوْ مِنْ أَشَرِّ الْخَلْقِ یقْتُلُهُمْ أَدْنَی الطَّائِفَتَینِ إِلَی الْحَقِّ». (1)

قَالَ:فَضَرَبَ النبی لَهُمْ مثلاً.أَوْ قَالَ قَوْلاً:«الرَّجُلُ یرْمِی الرَّمِیةَ», أَوْ قَالَ الغَرَضَ«فَینْظُرُ فِی النَّصْلِ فَلاَ یرَی بَصِیرَةً.وَینْظُرُ فِی النَّضِی فَلاَ یرَی بَصِیرَةً.وَینْظُرُ فِی الفُوقِ فَلاَ یرَی بَصِیرَةً».

قَالَ:قَالَ أَبُو سَعِیدٍ:«وَأَنْتُمْ قَتَلْتُمُوهُمْ, یا أَهْلَ الْعِرَاقِ». (2)

حدّثنی عُبَیدُ اللّهِ الْقَوَارِیرِی, حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الزُّبَیرِ, حَدَّثَنَا سُفْیانُ عَنْ حَبِیبِ بْنِ أَبِی ثَابِتٍ،عَنِ الضَّحَّاکِ الْمِشْرَقِی،عَنْ أَبِی سَعِیدٍ الخُدْرِی،عَن النبی فِی حَدِیثٍ ذَکَرَ فِیه:«قَوْما یخْرُجُونَ عَلَی فِرْقَةٍ مُخْتَلِفَةٍ.یقْتُلُهُمْ أَقْرَبُ الطَّائِفَتَینِ مِنَ الْحَقِّ». (3)

القدر المتیقّن من الروایتین هو تنبیه الرسول صلّی الله علیه و آله إلی أنّ الفرقة الأقرب إلی الحقّ, هی التی تتولّی تصفیة الفرقة المارقة.

وقوله صلّی الله علیه و آله«بأنّ الفرقة المتغلّبة هی الأقرب إلی الحقّ،تنبیه إلی نسبیة هذا القرب،أی:أنّهم أقرب من خصومهم إلی الحقّ, ولیسوا أهل الحقّ مطلقاً.»

وسوف تتّضح فی البحوث اللاحقة أهمیة إعمال الدّقة و التمییز بین القرب النسبی من الحقّ الذی یمکن أن یشترک فیه عدد کبیر من فرق المسلمین, فیجتمعون کلّهم علی مقاتلة الخوارج و التمسک بالحقّ مطلقاً, و هو ما قد لا یطیقه إلا القلیلون.

المصداق الأوّل للفرقة الهالکة

إنّ النتیجة التی تتبادر من مطالعة الحدیث الأخیر هی أنّ الفرقة المارقة،بجمیع الأوصاف التی تناقلتها الأحادیث المختلفة مع شیء یسیر من التفاوت،هی أولی مصادیق الفرق الهالکة التی نبّه إلیها حدیث أنس بن مالک المتقدّم.

ص:32


1- (1) .صحیح مسلم:311/5،ح 02422
2- (2) .المصدر:ح2410.
3- (3) .الجامع الصحیح:113/3, ح2414.

هکذا،لا یبدو من المیسور حسم قضیة الفرقة الناجیة بمجرّد الرجوع إلی مثل هذه الأحادیث،و هذا ما یجعل تعمیق البحث،إلی حدّ تأسیس علم خاصّ یهدف إلی التحقیق فی هذه المسألة،أمراً لا مفرّ منه.

و هذا ما انتبه إلیه علماء المسلمین بشکل متأخّر نسبیاً.

والحقیقة أنّ تأخر المسلمین عن الالتفات إلی ضرورة إعمال غایة الدّقة فی هذا الموضوع،قد شملت الأحادیث النبویة نفسها, فنراهم غافلین عن تحذیرات الرسول صلّی الله علیه و آله الدقیقة و المؤیدة بالتطبیق علی مصادیق واضحة،مثل غفلتهم عن علامات الخوارج وسماتهم،وانسیاق کثیر منهم وراء شعاراتهم،رغم وجود تحذیرات من النبی صلّی الله علیه و آله شدیدة الوضوح فی شأنهم،کما نجده فی الأحادیث التی تذکر(ذی الخویصرة)وجماعته المارقة،وأشهرها حدیث البخاری بسنده عن أبی سعید الخدری.

ولهذا الحدیث دلالة هامّة لا بدّ من الوقوف علیها لاستخلاص مشخّصات التطرّف و المروق عن الدین،الذی کان أوّل انشعاب فی جسم الأمّة الإسلامیة.

التحذیر النبوی من ظاهرة التطرّف

من أهمّ الأحادیث التی تداولتها کُتب الفرق و المذاهب و کتب التاریخ الإسلامی،ما رواه البخاری بسنده عن أبی سعید الخدری.ولهذا الحدیث دلالات کثیرة متنوعة،لا غنی لدارس هذه الظاهرة عن معاینتها والاستفادة منها.

حدیث أبی سعید الخدری

جاء فی صحیح البخاری:

حدّثنا أبو الیمان،أخبرنا شُعیبٌ عنِ الزُّهری, قال:أخبرنی أبو سلمةَ بنُ عبد الرحمنِ،أنّ أبا سعید الخُدری(رضی اللهُ عنه), قال:بینما نحن عند رسولِ الله صلّی الله علیه و آله-و هو یقسِمُ قسماً-إذ أتاهُ ذو الخُویصرة, و هو رجلٌ من بنی تمیمٍ, فقال:

ص:33

یا رسولَ اللهِ, أعدلْ.فقال:«ویلک!ومَن یعدِلُ إذا لم أعدل،قد خِبت وخِسرت إن لم أکنْ أعدِل»-فقال عمر:یا رسولَ الله،ائذنْ لی فیهِ فأضربَ عنقه؟فقال:«دَعهُ فإن لهُ أصحاباً یحقرُ أحدُکم صلاتَهُ مع صلاتهم،وصیامَهُ مع صیامهم،یقرَؤون القرآنَ لا یجاوزُ تَراقیهُم،یمرُقونَ منَ الدین کما یمرُقُ السهمُ منَ الرَّمیة, ینظرُ إلی نَصلهِ فلا یوجدُ فیه شیء،ثمّ ینظرُ إلی رصافه فما یوجدُ فیهِ شیء،ثمّ ینظرُ إلی نَضیهِ-و هو قِدْحهُ-فلا یوجَد فیه شیء،ثمّ ینظَرُ إلی قُذَذِهِ فلا یوجدَ فیهِ شیء،قد سبق الفرثَ و الدَّمَ،آیتُهم رجل أسودُ إحدی عَضُدیهِ مثلُ ثدی المرأة،أو مثلُ البَضْعةِ تدرْدرُ،ویخرجون علی حین فُرقةٍ منَ الناس.

قال أبو سعیدٍ:فأشهدُ أنّی سمعتُ هذا الحدیثَ من رسولِ الله صلّی الله علیه و آله،وأشهدَ أنَّ علی بن أبی طالبٍ قاتلهم, وأنا معَه،فأمَرَ بذلکَ الرَّجل فالتمسَ فأُتی به،حتّی نظرتُ إلیه علی نعت النبی صلّی الله علیه و آله الذی نَعَتَه. (1)

و هذا الحدیث مشهور, و قد ذکره الإمام أحمد فی مسنده،بإسناده عن معمّر إلی الزهری. (2)

وروی مقطعه الأوّل الطبری فی تاریخه،مسنداً إلی عبد الله بن عمرو بن العاص، (3)وفصّل الکلام فی الواقعة, وهی تقسیم غنائم حنین أو فتوح الیمن.

والمعنی ثابت ونسبة الکلام إلی(ذی الخویصرة)أشهر من أن تقبل التوهین.

المزایدة فی الدین أولی بوادر المروق

إن أوّل ما یعترضنا عند مطالعة هذا الحدیث هو لهجة خطاب التمیمی،وهی تنمّ عن استعلاء وعُجب،حملا صاحبهما علی أن یتوهّم فی نفسه أهلیة محاسبة الرسول صلّی الله علیه و آله وتقویم أفعاله ناسیاً أنّ الرسول الأکرم صلّی الله علیه و آله هو المرجع

ص:34


1- (1) .صحیح البخاری:324/7،ح3532.
2- (2) .مسند الإمام أحمد:56/3.
3- (3) .تاریخ الطبری:360/2.

الأوّل و الأخیر فی بیان ما یجوز وما لا یجوز.

علاوةً علی هذا فإنّ مضمون الخطّاب-الأمر بالعدل-یستبطن ادعاءین خطرین:

الأوّل:نسبة مخالفة العدل لمن بعثه الله لیتمّم مکارم الأخلاق, و هذه النسبة فی الحقیقة لا تکاد تخفی وراءها عقلیة إسرائیلیة طالما أدانها القرآن الکریم, هی تخطئة الرسل و الأنبیاء علیهم السلام ونفی العصمة عنهم.

الثانی:الغرور العلمی،الذی یؤدی بصاحبه إلی أن یتوهّم فی نفسه علماً یفوق علم النبی صلّی الله علیه و آله،و هذا الغرور یتأتی من التعمّق فی الدین بدون أستاذ معلّم،وفی حیاة الرسول صلّی الله علیه و آله کان شخصه المبارک المصداق الأبرز للأستاذ المعلم.و هذا المعنی شدید الوضوح فی روایة الطبری،عن عبد الله بن عمرو التی جاء فیها:

...أقبل رجل من بنی تمیم, یقال له:ذی الخویصرة, فوقف رسول الله صلّی الله علیه و آله و هو یعطی الناس،فقال:یا محمّد, قد رأیت ما صنعت فی هذا الیوم،فقال رسول الله صلّی الله علیه و آله:«أجل, فکیف رأیت؟».قال:لم أرک عدلت.فغضب رسول الله صلّی الله علیه و آله ثمّ قال:«ویحک إذ لم یکن العدل عندی فعند من یکون؟»فقال عمر:یا رسول الله, ألا نقتله؟فقال:«لا،دعوه, فإنه سیکون له شیعة یتعمّقون فی الدین حتّی یخرجوا منه, کما یخرج السهم من الرمیة،ینظر فی النصل, فلا یوجد شیء, ثمّ فی الفوق فلا یوجد شیء سبق الفرث و الدم...». (1)

یتحصّل ممّا تقدّم أن المزایدة علی المشرع فی أُمور الدین،هی أولی بوادر المروق من الدین والانفصال عن الملّة.

و قد تکرّر خطاب التمیمی کراراً بعد أن أصبح هذا الاتّجاه المارق أوّل فرقة منشعبة عن جسم الأمّة،ومنحرفة عن مرکز الشرعیة فی الإسلام.

ص:35


1- (1) .المصدر.

البحث الثانی:ظروف نشأة الفِرقة المارقة الأولی

اشارة

یتحصّل ممّا تقدّم أن افتراق الأمّة وانشعابها لم یکن متأخّراً عن زمن حیاة الرسول صلّی الله علیه و آله،کما هو شائع فی معظم کتب الفرق و المذاهب, بل بدأ فی حیاة الرسول صلّی الله علیه و آله وعلی مرأیً ومسمعٍ منه.

هنا من الضروری التوقّف عند مسألة هامّة:

معاصرة الرسول صلّی الله علیه و آله لنشأة هذه الظاهرة،وأمره الحازم بقتل أحد رموزها الأوائل فی مرحلة أولی،ثمّ اکتفائه بالتحذیر من ظاهرة المروق،بعد أن استفحل أمرها،فی مرحلة ثانیة.

هکذا،فرغم تحذیره الشدید من خطورة ظاهرة التطرّف التی ولّدت مروق أوّل فرقة عن الدین،فإنّ أوّل فرقة مارقة لم تلبث أن تشکّلت فی آخر عهد النبی صلّی الله علیه و آله،و هذا ما یحتاج إلی بعض التوضیح.

1-من موانع الاجتثاث المبکّر للمرُوق
اشارة

هنا لا بدّ من الإجابة عن سؤال ملحّ و هو:

لماذا لم یتدارک الرسول الأکرم صلّی الله علیه و آله وأصحابه الأوفیاء هذا الأمر؟

الإجابة تتطّلب بحثاً روائیاً مفصّلاً, و هو خارج عن مجالنا المحدود،ونکتفی هنا بإشارات إلی أُمّهات المطالب دون فروعها،وننطلق فی ذلک من بعض الأحادیث المعبّرة عن تلک الظاهرة تعبیراً دقیقاً قلّ نظیره فی الدّقة و البیان.

الأمر بقتل رأس الفتنة

إن أمر الرسول صلّی الله علیه و آله بإعدام شخص بالغ الخطورة لیس أمراً فریداً فی السیرة النبویة, و إن کان نادراً.فالقاعدة العامّة هی تحمّل الرسول صلّی الله علیه و آله للمنافقین و المخالفین،

ص:36

وعدم تجویز قتلهم ما لم یصل الخطر إلی حدّ یضرّ بکیان الأمّة.فهناک حالات یکون فیها خطر بعض الأعمال أو الأفراد أعظم من أن یسکت علیه خاتم الأنبیاء صلّی الله علیه و آله،ولم یتأخّر فیها الرسول صلّی الله علیه و آله عن الأمر بأشدّ القرارات حزماً, مثل:أمره بهدم مسجد(الضرار)، (1)أو اغتیال أشدّ أعداء الإسلام مکراً وأخطرهم(کعب بن الأشرف)،و(أبی رافع سلام بن أبی الحقیق). (2)

فمن الطبیعی إذاً،ألّا یسکت الرسول الأکرم صلّی الله علیه و آله عن ظهور خطر جدّی یهدد بالقضاء علی الأمّة الإسلامیة من بعده وتمزیقها،و هو خطر المارقین.

هکذا،فمن أشهر ما ورد عن النبی صلّی الله علیه و آله فی هذا الباب ما نقله أبو یعلی (3)فی مسنده،ورواه ابن حجر فی ترجمة(ذی الثدیة)فی الإصابة،وروی الدارقطنی قسماً منه فی سننه: (4)

عن أنس بن مالک قال:

کان فی عهد رسول الله صلّی الله علیه و آله رجل یعجبنا تعبده واجتهاده, و قد ذکرنا ذلک لرسول الله صلّی الله علیه و آله باسمه فلم یعرفه،فوصفناه بصفته فلم یعرفه،فبینما نحن نذکره إذ طلع الرجل, قلنا:هو هذا.قال:«إنکم لتخبرونی عن رجل إنّ فی وجهه لسفعة من الشیطان».

فأقبل حتّی وقف علیهم ولم یسلم،فقال له رسول الله صلّی الله علیه و آله:«أنشدک الله, هل قلت حین وقفت علی المجلس ما فی القوم أحد أفضل منّی أو خیر منی؟»قال:اللّهم, نعم.

ثمّ دخل یصلّی فقال رسول الله صلّی الله علیه و آله:«من یقتل الرجل؟»فقال أبو بکر:أنا.فدخل علیه فوجده یصلّی،فقال:سبحان الله!أقتل رجلاً یصلّی؟فخرج, فقال رسول الله صلّی الله علیه و آله:«ما فعلت؟»قال:کرهت أن أقتله, و هو یصلّی،وأنت قد نهیت عن قتل المصلّین. (5)قال

ص:37


1- (1) .أسباب نزول الآیات،107-109 من سورة التوبة،فیها تفصیل حادث هدم المسجد وتحریقه.
2- (2) .صحیح البخاری:26/5.
3- (3) .مسند أبی یعلی:90/1.
4- (4) .سنن الدارقطنی:40/2.
5- (5) .إلی هنا تقف روایة الدارقطنی.ویحتمل حذف بقیة الروایة لخروجها عن سیاق الباب.

«مَن یقتل الرجل؟»قال عمر:أنا.فدخل فوجده واضعاً جبهته, فقال عمر:أبو بکر أفضل منّی.فخرج فقال له النبی صلّی الله علیه و آله:«مهیم؟»قال:وجدته واضعاً جبهته لله،فکرهت أن أقتله.فقال:«من یقتل الرجل؟»فقال علی:«أنا».فقال صلّی الله علیه و آله:«أنت إن أدرکته».فدخل علیه فوجده قد خرج،فرجع إلی رسول صلّی الله علیه و آله فقال:«مهیم؟»قال:«وجدته قد خرج».قال:«لو قتل ما اختلف من أمتی رجلان», الحدیث. (1)

دلالات خطیرة

الحدیث المتقدّم له أکثر من دلالة هامّة فعلاوةً علی الإشارة إلی أحد رموز الفتنة الذی تجسد فیه کبر إبلیس وعجبه وجهله المرکب،فإنّ استنکاف صحابیین شهیرین مثل الخلیفتین الأوّل و الثانی عن تنفیذ أمر الرسول بقتله،یبین اتّساع هیمنة الاعتقاد بجواز الاجتهاد فی مقابل أوامر النبی صلّی الله علیه و آله،بتأویلها وفقا لمقتضی أوامر أخری،یظن باستمرار جریانها.

فتأویل أبی بکر کان مبنیا علی أمر سابق من النبی صلّی الله علیه و آله بمنع ضرب المصلین.فهو قد تأوّل جواز التفصی من الأمر الثانی(القتل)بناء علی الأمر الأول(ضرب المصلین).

و أما عمر فقد کان تأوله جواز التفصی من الأمر الثانی مبنیاً علی نفس استدلال أبی بکر،مضیفاً إلیه إقراره بأفضلیة أبی بکر علیه.

وفی کلا الاجتهادین مخالفة لأمر متأخر کان بالإمکان اعتباره ناسخاً للأمر السابق.ولکنّ حقیقة الأمر هی أن الخوف من تحمل المسؤلیة قد غلب علی هذین الصحابیین الکبیرین،فآثرا إرجاع الأمر إلی النبی صلّی الله علیه و آله.

هکذا،تبدو موانع الاجتثاث المبکّر للمروق،منذ عهد الرسول صلّی الله علیه و آله،قویة للغایة.لأن عقلیة الاحتیاط تجاه الظاهر الدینی کانت قویة التأثیر فی جیل الصحابة،بحیث منعتهم من اجتثاث الداء المهلک المتجسد فی المرُوق،من جذوره وقبل استفحاله.

ص:38


1- (1) .الفصول المهمّة فی تألیف الأمّة:122.

و قد اختار الرسول الأکرم صلّی الله علیه و آله معالجة هذه الظاهرة بالصبر و الحکمة.من أشهر الشواهد علی ذلک ما جاء فی حدیث البخاری بسنده إلی ابن مسعود:

...حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ،حَدَّثَنَا أَبِی،حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ, قَالَ:سَمِعْتُ شَقِیقاً, یقُولُ:قَالَ عَبْدُ اللَّه:قَسَمَ النبی صلّی الله علیه و آله قِسْمَةً کَبَعْضِ مَا کَانَ یقْسِمُ, فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ:وَاللَّهِ إِنَّهَا لَقِسْمَةٌ مَا أُرِیدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ.قُلْتُ:أمّا أَنَا لأَقُولَنَّ لِلنَّبِی صلّی الله علیه و آله فَأَتَیتُهُ, وَهُوَ فِی أَصْحَابِهِ فَسَارَرْتُهُ،فَشَقَّ ذَلِکَ عَلَی النبی صلّی الله علیه و آله،وَتَغَیرَ وَجْهُهُ،وَغَضِبَ حتّی وَدِدْتُ أَنِّی لَمْ أَکُنْ أَخْبَرْتُهُ, ثُمَّ قَالَ:«قَدْ أُوذِی مُوسَی بِأَکْثَرَ مِنْ ذَلِکَ فَصَبَر». (1)

هنا یطرح تساؤل هامّ:

لماذا لم یصرّ النبی صلّی الله علیه و آله علی سیاسته الحازمة التی ظهرت فی الحدیث الأوّل؟

الجواب:قد یکون کامناً فی استفحال الظاهرة, وتعقد المجتمع الإسلامی بعد الفتح الأکبر.

2-تشکّل أوّل فرقة مارقة
اشارة

إنّ استفحال ظاهرة المروق لم یتأخّر کثیراً عن بوادرها الأولی, فما لبث أن تحلّقت حول رؤوس المرُوق جماعات من الذین اختاروا أن یکونوا أساتذة لأنفسهم من دون الرسول،فوجدوا أنفسهم تلامذة لإبلیس اللعین. (2)

ففی أواخر حیاة الرسول صلّی الله علیه و آله وبعد فتح مکّة ودخول الناس فی دین الله أفواجاً،دخلت جماعات غفیرة من العرب و الیهود فی الإسلام بدوافع مختلفة, فتحوّل المجتمع الإسلامی إلی خلیط غیر متجانس،کان لشخصیة الرسول الأعظم صلّی الله علیه و آله الفضل الأکبر فی منعه من الانفجار.

ص:39


1- (1) .صحیح البخاری:96/7.
2- (2) .تصدیقا لما جاء فی الأثر:من لا شیخ له،فالشیطان شیخه.

فی هذا الإطار الثقافی الجدید،أصبح من الیسیر علی أی شخصیة تظهر خصالاً علمیة أو عبادیة جذّابة،أن تؤثّر فی ضعاف العقول وتستقطبهم حولها.

و قد کان للمارقین قصب السبق فی تأسیس مثل هذه المجموعات الهامشیة و الخطیرة.و قد کان الرسول صلّی الله علیه و آله ملتفتاً تماماً لهذه الظاهرة و الشاهد علی ذلک ما نجده فی السیرة المشهورة, مثل:حدیث أبی سعید الخدری الذی تقدّم عرضه, وفیه نکتة هامّة لا بدّ من الانتباه إلیها.

نظرة أخری علی حدیث أبی سعید الخدری

فی حدیث أبی سعید الخدری المذکور مقطع قوی الدلالة, و هو جواب الرسول الأکرم صلّی الله علیه و آله عن الذی اقترح قتل ذی الخویصرة،و هو قوله صلّی الله علیه و آله:

«دَعهُ فإن لهُ أصحاباً یحقرُ أحدُکم صلاتَهُ مع صلاتهم،وصیامهُ مع صیامَهم،یقرَؤون القرآنَ لا یجاوزُ تَراقیهُم...».

إنّ فی قوله صلّی الله علیه و آله«فإنّ له أصحاباً...»تعلیل لرفض الاقتراح بکون أمر المارقین قد استفحل ولم یبقوا مجرّد أفراد قلیلین،کما کان حال ذو الثدیة حینما أمر بقتله.

ولکنّ،لهذا التعلیل أیضاً عموم،هو ثقیل فی المیزان،و هو ما سوف یتّضح فی البحوث اللاحقة،ونکتفی هنا بالإشارة إلی أهمّ مضامینه.

ما یستفاد من التعلیل

إنّ تعلیل عدم تجویز قتل ذی الخویصرة (1)مرکّب من جزئی علّة:

الأوّل:کونه رأس جماعة کبیرة،تشاطره المعتقد،وهی أولی مصادیق الفرق الضّالة التی أرادة الحقّ فأصابت الباطل.

ص:40


1- (1) .سواء کان ذو الخویصرة التمیمی هو نفس ذو الثدیة،و هو فرض بعید،أم اختلف هذان الشخصان،فالتحلیل یبقی علی قوته.

الثانی:اتّصاف هذا الشخص وجماعته بالاجتهاد فی العبادة إلی حدّ یفوق ما عرف عن الکثیر من کبار ومشاهیر الصحابة.

أمّا جزء العلّة الأوّل, فالمحذور المستلزم له هو اندلاع الفتنة بقتالهم،نظراً لاستفحال حالة التّعصب القبلی و العشائری التی کان بإمکانها أن تُعبأ وتُجنّد الجماعات الکثیرة حول هذه الفرقة الصغیرة.

و أما جزء العلّة الثانی, فالمحذور المستلزم له،هو شیوع سوء الظنّ بالمتعبدین, وأهل الطاعات،وخطر نَفاق سوق التساهل والاستهتار بین العوام.

ما یستفاد من عموم التعلیل

علاوةً علی جمیع ما تقدّم،فإنّ القول بعموم التعلیل؛یلزم منه أنّه کلّما خیف من وقوع الفتنة،أو تفویت مصلحة کبری مثل حسن ظنّ العوام بالعُبادّ و المتدینین،فإنّ المبادرة الحازمة المستوجبة لسفک الدماء غیر جائزة شرعاً.

فإذا ثبتت القضیة الکلیة القائلة بعموم التعلیل،و هو مطلب یحقّق فی محلّه من علم الأُصول،فإنّ نهی الرسول صلّی الله علیه و آله عن سفک دم رأس فتنة وشیکة،یقطع الطریق أمام کلّ تصفیة وقائیة للخصوم من قبل السلاطین و الحکّام،و هو ما لم یلتزم به مطلقاً إلا خلیفة المسلمین الرابع الإمام علی علیه السلام فی مدة خلافته القصیرة،کما سیأتی فی البحوث اللاحقة.

حاصل القول فی هذا البحث:أنّ نشأة أولی ما یمکن أن یطلق علیه عنوان فرق ضالة،قد تزامنت مع توسّع المجتمع الإسلامی بشکل کبیر،ودخول أعداد غفیرة من عرب الجزیرة فی الإسلام،دون أن تتنور قلوبهم وأفئدتهم بقبول المعانی الحقیقیة للإیمان،و قد نزل فیهم قوله تعالی: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لکِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمّا یَدْخُلِ الْإِیمانُ فِی قُلُوبِکُمْ وَ إِنْ تُطِیعُوا اللّهَ وَ رَسُولَهُ لا یَلِتْکُمْ مِنْ أَعْمالِکُمْ شَیْئاً إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِیمٌ . (1)

ص:41


1- (1) .الحجرات:14.

لکنّ هؤلاء المسلمین الجدد مثل بنی تمیم،لم یکونوا وحدهم علی هذا الوضع الثقافی و الإیمانی الهشّ،بل إن البعض منهم لم یتخلص من الثقافة العربیة السابقة للإسلام،بل ظلّت تراود أذهان الکثیر من الصحابة من ذوی السابقة،دون أن تتمکّن من الهیمنة علیهم لوجود شخص الرسول صلّی الله علیه و آله الذی کان الأستاذ المرجع و المربی و الحامی لهم من الانزلاق إلی الهاویة الإبلیسیة.ولکن،ماذا بعد الرسول صلّی الله علیه و آله؟

ومن لهؤلاء،جمیعاً،بعده؟

فی المبحث الآتی سوف نستکمل عناصر مقدّمتنا،بلمحة عن أوّل امتحان تعرّض له الصحابة علی أعتاب وفاة النبی صلّی الله علیه و آله وهی أخطر مرحلة مرّت بها الأمّة الإسلامیة.ولکن لهذا الامتحان مقدّمات کثیرة لم تکن ظاهرة المروق إلّا واحدة من مظاهرها.

وفی البحث الآتی تقریر موجز،بقلم الشهرستانی،عن إحدی أهمّ هذه المقدّمات وهی شیوع ظاهرة الاجتهاد فی مقابل النصّ بین عدد من کبار الصحابة(رضی الله عنهم).

البحث الثالث:ملامح الانشقاق المناهجی الأوّل

اشارة

یمکن تعریف الانشاقاق المناهجی بأنّه:خروج صریح عن المنهج الرائج فی تحصیل القضایا.

وتطبیق هذا التعریف فی مجال استنباط الأحکام الشرعیة و القضایا العقائدیة هو:الخروج عن المنهج الرائج فی تحصیل هذه الأحکام.والمنهج الرائج،بل الأوحد الذی أقره رسول الله صلّی الله علیه و آله،فی المرحلة التاریخیة التی نحن بصدد تقریرها،کان الرجوع إلی نصوص القرآن الکریم و السنة الشریفة قبل أی إعمال نظر من أی نوع کان.

و قد حصل الانشقاق المناهجی الأول،بشکل صریح وواضح،منذ وفاة الرسول صلّی الله علیه و آله؛وکان ذلک أثناء انعقاد جلسة مصیریة لعدة من أکابر المهاجرین

ص:42

والأنصار فی سقیفة بنی ساعدة،من أجل تعیین النظام السیاسی بعد ارتحال الرسول القائد.ومن أهمّ ما کتبه القدماء فی تحلیل مقدّمات أوّل نزاع شبّ بین المسلمین فی اجتماع السقیفة وبعده،ما قرره الشهرستانی فی المقدّمة الرابعة من کتابه الملل و النحل.و قد قسّم فیها تلک المقدّمات إلی قسمین:

یمکن أن نطلق علی الأوّل منها:اتّجاه المعارضة الصریحة للنبی صلّی الله علیه و آله وللتشریع،و هو اتّجاه تحفل الآیات القرآنیة الکریمة بالردّود علیه.

ویمکن أن نطلق علی الثانی منها اسم:اتّجاه التأویل والاجتهاد فی مقابل النصّ.

و قد ساهم کلا الاتّجاهین فی بلورة الجوّ الثقافی العامّ عند ارتحال الرسول الأکرم صلّی الله علیه و آله إلی الرفیق الأعلی؛ممّا کان له الأثر الحاسم فی توجیه الأحداث الخطیرة التی صاحبت هذه المصیبة الکبری أو ملحقاتها.

1-الأصل الأوّل للانشقاق:المعارضة الصریحة للنصّ
اشارة

قال الشهرستانی (1)فی بیان أوّل شبهة وقعت فی الأمّة الإسلامیة،وکیفیة انشعابها،ومن مصدرها،ومن مظهرها:

...وکما قرّرنا أن الشبهات التی وقعت فی آخر الزمان هی بعینها تلک الشبهات التی وقعت فی أوّل الزمان،کذلک یمکن أن نقرّر فی زمان کلّ نبی ودور صاحب کلّ ملّة وشریعة،أن شبهات أمّته فی آخر زمانه ناشئة من شبهات خصماء أوّل زمانه من الکفار و الملحدین....

من شبهات المنافقین

...وأکثرها من المنافقین،و إن خفی علینا ذلک فی الأمم السالفة،لتمادی الزمان, فلم یخف فی هذه الأمّة أن شبهاتها نشأت کلّها من شبهات منافقی زمن

ص:43


1- (1) .الملل و النحل:21/1 و22.

النبی علیه الصلاة و السلام،إذ لم یرضوا بحکمه فیما کان یأمر وینهی،وشرّعوا فیما لا مسرح للفکر فیه ولا مسری،وسألوا عمّا منعوا من الخوض فیه و السؤال عنه،وجادلوا بالباطل فیما لا یجوز الجدال فیه...واعتبر حال طائفة أخری من المنافقین یوم احد؛إذ قالوا: هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَیْ ءٍ ،وقولهم: لَوْ کانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَیْ ءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا , وقولهم: لَوْ کانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَ ما قُتِلُوا... .

فهل ذلک إلا تصریح بالقدر...؟ (1)

والمقصود بالقدر هنا:القول بالتفویض المطلق من الله لعباده فی ما یعملون.و هو القول الذی تبنّته أهمّ فرق المعتزلة بدایة القرن الثانی،کما سیأتی بحثه مفصّلاً.

والقول بالتفویض یقع فی مقابل(الجبر المطلق)الذی یسلب المسؤولیة عن المخلوقین فی کلّ ما یعملون.وسوف یأتی فی محلّه من البحوث اللاحقة, أنّ القول بالتفویض قد اتّخذ أبعاداً فلسفیة فی إطار الفکر المعتزلی خاصّة.

وکلام الشهرستانی هنا،من حیث اشتهاره بعداوته للمعتزلة،لا یخلو من الحرب النفسیة ضد خصومه المعتزلة،حیث نسب أهمّ معتقداتهم إلی جیل المنافقین الأوّل.

من شبهات المشرکین

...وقول طائفة من المشرکین: وَ قالَ الَّذِینَ أَشْرَکُوا لَوْ شاءَ اللّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَیْ ءٍ... ، (2)وقول طائفة: ...أَ نُطْعِمُ مَنْ لَوْ یَشاءُ اللّهُ أَطْعَمَهُ ... . (3)

فهل هذا إلا تصریح بالجبر...؟

فهذا ما کان فی زمانه علیه الصلاة و السلام و هو علی شوکته وقوته وصحّة بدنه،والمنافقون یخادعون فیظهرون الإسلام ویبطنون الکفر،و إنّما یظهر نفاقهم

ص:44


1- (1) .المصدر.
2- (2) .یس:47
3- (3) .النحل:35

بالاعتراض فی کلّ وقت علی حرکاته وسکناته, فصارت الاعتراضات کالبذور وظهرت منها الشبهات کالزروع... (1)

والعبارة الأولی من هذا النصّ،یمکن أن تصنّف ضمن الحرب النفسیة علی المجبّرة،وهم أیضاً خصوم الشهرستانی.

والحقیقة-کما سوف یتوضّح لاحقاً-أنّ عقیدة الجبر کثیراً ما اقترنت بالتجسیم و التشبیه،و هو ما یقوی نسبة الشرک إلیهم رغم ادعائهم:بأنّ القول بالجبر هو غایة التوحید وقمّة التسلیم.

وأهمّ ما یستفاد من نصّ الشهرستانی هذا،إقراره بأنّ الجذور الأولی لانشقاق الأمّة تکمن فی کونها منذ البدایة ائتلافاً لعبت شخصیة الرسول صلّی الله علیه و آله الدور الأعظم فی التخفیف من حدة تناقضاته.وبمجرّد فقدان هذه الشخصیة العظیمة،کان من الطبیعی أن تتفجر جمیع التناقضات.

دور المعارضة فی حیاة النبی صلّی الله علیه و آله ومرجعیتها المتأخرة

لم تکن معارضة المشرکین و المنافقین فی عهد النبی صلّی الله علیه و آله خالیةً من الفائدة العلمیة،فها نحن نجد القرآن الکریم یزخر بالردود الاستدلالیة العمیقة علی جمیع شبهاتهم.وتمثّل هذه الردود المنبع الأساسی و الأوّل الذی استقت منه مختلف الفرق الإسلامیة أُصولها وشعاراتها.بل إنّه من الممکن الزعم-والدلیل موجود-بأنّ الکتاب العزیز قد احتوی أوّل بحوث علم الکلام بمعناه الاصطلاحی, کما عرّفه القدماء،وخاصّة أبو نصر الفارابی الذی قال:

صناعة الکلام یقتدر بها الإنسان علی نصرة الآراء و الأفعال المحدودة،التی صرّح بها واضع الملّة, وتزییف ما خالفها بالأقاویل. (2)

ص:45


1- (1) .المصدر.
2- (2) .إحصاء العلوم:131.ومن الأجدر أن تسبق دراسة هذا الکتاب،دراسة وحدتین فی علم الکلام،تتناول تعریف هذا العلم وتمایزه عن بقیة العلوم.وبالنسبة لتعریف الفارابی ومناقشته؛راجع:مدخل مناهجی إلی علم الکلام:59.

من هنا فإنّ نسبة الانشقاقات الأولی إلی هذا الجیل من المشرکین و المنافقین،لا تخلو من تکلّف.فما یفهم من التعریف اللغوی للفرقة أن معنی الانفصال مأخوذ فیها لغوّیاً، (1)وکذلک هو مأخوذ اصطلاحیاً.

فالمشرکون و المنافقون الأوائل،قد صاحبوا نشأة الأمّة وتبلور نظامها السیاسی والاجتماعی الأوّل،ولا یمکن اعتبارهم مظاهر لانشقاق عنها.فمراد الشهرستانی, إذاً هو مفهوم المرجعیة الفکریة،ولیس أکثر.

فالعقائد التی کان علیها المشرکون و المنافقون بمختلف مشاربهم لم تلبث أن شکّلت مرجعیة فکریة لبعض الفرق المتأخرة عن الصدمة الحضاریة الأولی،و هذا ما سوف یتّضح فی محلّه.

2-ظاهرة الاجتهاد فی مقابل النصّ و التأویل
اشارة

فی مقابل ظاهرة المعارضة المباشرة،الصریحة منها و المبطّنة،وهی الظاهرة التی تقدّم أن تأثیرها فی حرکة الانشعاب والانشقاق العقائدی،کان متأخّراً نسبیاً،هناک ظاهرة أُخری أقلّ حدّة وأخفی تحدّیا،ولکنّها أسرع تأثیراً فی حدوث أولی بوادر الانشقاق العقائدی و السیاسی الذی نتج عنه تعدّد الفِرق الإسلامیة:إنّها ظاهرة الاجتهاد الحرّ فی مقابل النصّ.

وکثیراً ما تعاضد هذه الظاهرة،ظاهرة أُخری أشدّ تأثیراً وأخفی معارضة،وهی تأویل النصّ طبقاً للاجتهاد الحرّ المستقلّ عن النصّ.و قد أورد الشهرستانی (2)شواهد من سیرة النبی صلّی الله علیه و آله وسلوک بعض أصحابه معه.

ص:46


1- (1) .بحوث وحدویة فی أصول الطائفیة:الجزء الأوّل،المبحث الأوّل.
2- (2) .یعتبر کتاب الملل و النحل سبقاً فی هذا المجال،وکلّ من کتب من المعاصرین فی مجال اجتهاد الصحابة زمن الرسول صلّی الله علیه و آله وبعده،قد استفاد من هذا العمل التاریخی،و إن غفلوا أحیاناً کثیرة عن کونه واسطتهم فی التقاط تلک الموارد،المبثوثة فی کتب التراث؛لهذا فقد رأینا من الإنصاف أن نعید الحقّ لأهله.

وفی هذا البحث نقدم أهمّ شواهد الشهرستانی ضمن استدلالاته،ونقسمها بحسب الضابطة المتقدّمة إلی قسمین:الاجتهاد فی مقابل النصّ(الاجتهاد الاستقلالی)،وتأویل النصّ.

نموذجان من الاجتهاد الاستقلالی
اشارة

مهدّ الشهرستانی لعرضه بمقدّمة حاول فیها التماس العذر للصحابة الذین وقعوا فی الاجتهاد الاستقلالی قائلاً:

...و أمّا الاختلافات الواقعة فی حال مرضه علیه الصلاة و السلام،وبعد وفاته بین الصحابة(رضی الله عنهم), فهی اختلافات اجتهادیة کما قیل،کان غرضهم منها إقامة مراسم الشرع وإدامة مناهج الدین... (1)

ثمّ شَرع فی سرد أخطر الوقائع وأشدها تأثیراً فی الحیاة السیاسیة و العقائدیة للأمّة،وتندرج اثنتان منها تحت عنوان الاجتهاد الاستقلالی،وهما:

أ)الرزیة الکبری

قال الشهرستانی:

...فأول تنازع وقع فی مرضه علیه الصلاة و السلام،فیما رواه الإمام أبو عبد الله محمّد بن إسماعیل البخاری،بإسناده عن عبد الله بن عبّاس(رضی الله عنه)قال:لما اشتدّ بالنبی صلّی الله علیه و آله مرضه الذی مات فیه.قال:ائتونی بدواة وقرطاس أکتب لکم کتاباً لا تضلوا بعدی، (2)فقال عمر(رضی الله عنه):إن رسول الله صلّی الله علیه و آله قد غلبه الوجع حسبنا کتاب الله،وکثر اللغط،فقال النبی صلّی الله علیه و آله:قوموا عنی لا ینبغی عندی التنازع،قال ابن عبّاس:الرزیة کلّ الرزیة ما حال بیننا وبین کتاب رسول الله صلّی الله علیه و آله... (3)

ص:47


1- (1) .الملل و النحل:22/1-24.
2- (2) .المصدر.
3- (3) .المصدر.

هذا الحدیث لا یحتاج إلی تعلیق،أکثر ممّا صرح به ابن عبّاس:إنّ موقف الصحابة الحاضرین فی هذا المجلس،مصداق واضح للاجتهاد الاستقلالی الذی یضع فیه صاحبه عقله فی عرض کلام النبی صلّی الله علیه و آله،فیجرؤ علی تخطئته واتّهامه بالهَذَیان تحت طائلة الوجع أو تحت أی توجیه آخر!

والحقیقة أنّه لم یأتِ ذکر عمر بالاسم فی حدیث البخاری الذی نقله الشهرستانی بالمعنی, بل إنّ البخاری قد کنّی عنه بقوله:بعضهم, إلا أنّه قد یقال أن نسبة الکلام إلی عمر صحیحة, ولیست مختلقة من قبل الشهرستانی.بل هو قد خلط بین هذا الحدیث،وحدیث مسلم الذی ذکر فیه عمر صراحة،دون نسبة الکلمة القبیحة إلیه.و هذا الحدیث هو:

...حدثنی محمّد بن رافع وعبد بن حمید, قال عبد:أخبرنا, وقال ابن رافع:حدّثنا عبد الرّزاق،أخبرنا معتمر, عن الزهری, عن عبید الله بن عبد الله بن عتبة, عن ابن عبّاس قال:لمّا حضر رسول الله صلّی الله علیه و آله،وفی البیت رجال فیهم عمر بن الخطّاب, فقال النبی صلّی الله علیه و آله:«هلمَّ, اکتب لکم کتابا لا تضلّون بعده»فقال عمر:إنّ رسول الله صلّی الله علیه و آله قد غلب علیه الوجع وعندکم القرآن, حسبنا کتاب الله.

فاختلف أهل البیت فاختصموا, فمنهم من یقول:قرّبوا یکتب لکم رسول الله صلّی الله علیه و آله کتابا لن تضلّوا بعده.ومنهم من یقول،ما قال عمر, فلمّا أکثروا اللّغو والاختلاف عند رسول الله صلّی الله علیه و آله،قال رسول الله صلّی الله علیه و آله:«قوموا».قال عبید الله:فکان ابن عبّاس یقول:إنّ الرزیة کلّ الرزیة،ما حال بین رسول الله صلّی الله علیه و آله وبین أن یکتب لهم ذلک الکتاب من اختلافهم ولغطهم.... (1)

والظاهر من روایة أخری،أنّ لهجة الخطّاب فی محضر أشرف الکائنات صلّی الله علیه و آله،کانت علی قدر من الفظاظة وسوء الأدب،و هذا ما یرویه حدیث آخر للبخاری عن نفس الحادثة-أی:الرزیة الکبری-و هذا الحدیث هو:

ص:48


1- (1) .الجامع الصحیح:76/5.

حدّثنا قتیبة،حدّثنا سفیان, عن سلیمان الأحول, عن سعید بن جبیر, قال:قال ابن عبّاس:یوم الخمیس وما یوم الخمیس؟اشتدّ برسول الله صلّی الله علیه و آله وجعه فقال:«ائتونی اکتب لکم کتاباً لن تضلّوا بعده أبداً؟».فتنازعوا،ولا ینبغی عند نبی تنازع.فقالوا:ما شأنه أهجر؟استفهموه،فذهبوا یردّون علیه.فقال:«دعونی فالذی أنا فیه خیر ممّا تدعونی إلیه...».الحدیث. (1)

ومهما کان هذا«البعض»الذی اتهم أشرف الکائنات بالهذیان،فإنّ جمیع ما کان یصدر عنه(علیه أشرف الصلاة و السلام)سوف یکون عرضة للتصنیف،ضمن ما یصدر عن المریض حال الهذیان.لهذا فقد أعرض صلّی الله علیه و آله عن إملاء وصیته.

ب)الاختلاف فی موضع دفن النبی صلّی الله علیه و آله.

ذکر الشهرستانی حادثة غیر مستفیضة فی کتب التاریخ, ولکنّها عظیمة الدلالة،لو صحت.وهی اختلاف الصحابة حول تحدید الموضع المناسب لدفن النبی صلّی الله علیه و آله،رغم وجود وصیة عامة منه بهذا الصدد.

قال الشهرستانی:

...أراد أهل مکّة من المهاجرین ردَّه إلی مکّة؛لأنّها مسقط رأسه ومأنس نفسه وموطئ قدمه وموطن أهله وموقع رحله.وأراد أهل المدینة من الأنصار دفنه بالمدینة؛لأنّها دار هجرته ومدار نصرته.وأرادت جماعة نقله إلی بیت المقدس؛لأنّه موضع دفن الأنبیاء, ومنه معراجه إلی السماء.

ثمّ اتّفقوا علی دفنه بالمدینة،لما روی عنه صلّی الله علیه و آله:«الأنبیاء یدفنون, حیث یموتون...». (2)

إنّ الاختلاف فی مثل هذا الموضوع الذی یحسمه العرف بلا إشکال،علاوةً علی ما ورد من الحدیث الذی ینصّ صراحة علی تعین اختیار المدینة موضعاً وحیداً یجوز

ص:49


1- (1) .صحیح البخاری:137/5.
2- (2) .المصدر.

فیه دفنه صلّی الله علیه و آله،لهو من المصادیق الواضحة لهیمنة النزعة الاستقلالیة فی الاجتهاد عند بعض الصحابة،تبعاً لما یشخّصونه من مصلحة،أو ما یستحسنونه من رأی.

و قد تکرّر مثل هذا الاجتهاد الاستقلالی فی حوادث کثیرة لا مجال هنا لسردها.

نموذجان مبکران من التأویل فی مقابل النصّ

ذکر الشهرستانی موردین هامین،تتجسد فیهما ذهنیة بعض الصحابة الذین کانوا یسمحون لأنفسهم بتأویل کلام النبی صلّی الله علیه و آله طبقاً لما یرونه من مصلحة.و إذا علمنا بأنّ التأویل هو حَملٌ للکلام علی خلاف ظاهره العرفی،فإنّه یعود إلی نسبة ما یظنّ به،إلی المشرّع،دون دلیل.و هذا اللازم قد یجعل التأویل أشدّ خطراً من الاجتهاد الاستقلالی؛لأن معارضة الشارع هی خفیة فی الأوّل وصریحة فی الثانی،کما أنّها لا تستلزم نفی العصمة عن المشرّع فی الأوّل،وتستلزم ذلک فی الثانی. (1)

وفی الفصل اللاحق سوف نستکشف بعض الأبعاد المعرفیة لهذه الذهنیة الظنّیة.

أمّا الموردان المنتخبان،من التأویل فی مقابل النصّ،فهما:

أ)التخلّف عن سَریة أسامة

من المتّفق علیه بین أهل السیر،أنّ الرسول صلّی الله علیه و آله،قبیل وفاته،قد جهز سریة بقیادة أسامة بن زید بن حارثة،لقتال الروم،وأمر معظم کبار الصحابة،بالخروج تحت إمرة أسامة،وحثّهم علی الإسراع فی ذلک, لکنّ بعض الصحابة لمّا رأوا علامات المرض علی النبی صلّی الله علیه و آله تخلّفوا عن الخروج إلی محل اجتماع الجیش،وبقوا فی المدینة.

قال الشهرستانی فی هذا الموضوع:

ص:50


1- (1) .لا ینبغی علی القارئ الکریم ترک الرجوع إلی التعریف الدقیق لهذه المصطلحات الکلامیة فی مظانّها،من مقرّرات علم الکلام،أو دروس العقائد.

...فی مرضه صلّی الله علیه و آله أنّه قال:«جهّزوا جیش أسامة،لعن الله من تخلّف عنه!»

فقال قوم:یجب علینا امتثال أمره،وأسامة قد برز من المدینة.

وقال قوم:قد اشتدّ مرض النبی(علیه الصلاة و السلام)فلا تسع قلوبنا مفارقته و الحالة هذه،فنصبر حتّی نبصر أی شیء یکون من أمره...؟ (1)

هکذا فإنّ مخالفة أمر النبی صلّی الله علیه و آله والامتناع عن الخروج فی جیش أسامة،قد عُلّل بضرورة انتظار ما سیؤول الأمر بعده.

و قد کان بإمکان هؤلاء الأکابر البناء علی أن الرسول صلّی الله علیه و آله أعلم منهم بذلک, وتنفیذ أمره فوراً.

وهناک عدة قراءات لهذا الموقف:

فالبعض قائل:إنّ النبی صلّی الله علیه و آله أراد إبعاد هؤلاء الأکابر عن المدینة حین وفاته؛لاجتناب الفتنة التی کان یتوقّعها.

وربطوا هذه النیة المفترضة برزیة یوم الخمیس.

واستنتجوا من الحادثتین أن هناک صراعاً خفیاً علی الخلافة کان یحتدم فی بعض النفوس،ویوشک أن ینفجر بمجرد وفاة الرسول صلّی الله علیه و آله.

ویردّ البعض الآخر علی هذه القراءة،بأنّها تتعّدی علی حرمة النبی صلّی الله علیه و آله،وتتهمه بإخفاء نیته الحقیقیة عن أکابر أصحابه.وأن مقتضی التمسک بظواهر الأقوال و الأفعال دون التأویل الباطنی،هو الحکم بحسن نیة الذین أجّلوا الخروج مع أسامة.

والحقیقة أنّ کلا القراءتین تعبّر عن منهجین متضادین فی تحلیل السیرة و التاریخ:الأول منهج نقدی جریء علی التشکیک فی النوایا؛والثانی منهج اعتذاری یتمسک بظواهر الأخبار فی اتجاه حمایة المقدسات و المحترمات من التشکیک.

ص:51


1- (1) .المصدر.

واللافت للنظر أن الذی یتقرر بکلا المنهجین هو،وجود تیار قوی بین الصحابة یسمح رواده لأنفسهم بمخالفة ظواهر النص الشرعی،من قرآن وحدیث نبوی،کلّما کانت تتعارض مع ما یظنونه حقاً.

ب)إنکار موت النبی صلّی الله علیه و آله

إن إنکار بعض الصحابة لموت النبی صلّی الله علیه و آله،ثمّ عودتهم عن ذلک سریعاً،مما اتفقت علیه المصادر التاریخیة.إلا أن الذی غاب عن معظم تلک المصادر هو،تقریر الأبعاد المناهجیة لهذا الإنکار.و هذا ما التفت إلیه الشهرستانی فی سیاق تقدیمه لمجمل اختلافات الصحابة،وسجلّ ذلک بقوله:

...و أما الاختلافات الواقعة فی حال مرضه(علیه الصلاة و السلام)وبعد وفاته بین الصحابة(رضی الله عنهم)فهی اختلافات اجتهادیة-کما قیل-کان غرضهم منها إقامة مراسم الشرع وإدامة مناهج الدین. (1)

ویقول الشهرستانی،مقرراً مواقف بعض الصحابة عند وفاته صلّی الله علیه و آله:

...فی موته(علیه الصلاة و السلام)،قال عمر بن الخطّاب:من قال:إنّ محمّداً قد مات-قتلته بسیفی هذا،و إنّما رُفع إلی السماء کما رفع عیسی علیه السلام.

وقال أبو بکر بن أبی قحافة(رضی الله عنه):مَن کان یعبد محمّداً فإنّ محمّداً قد مات،ومَن کان یعبد إله محمّد فإنّ إله محمّد حی لم یمت ولن یموت.وقرأ قول الله سبحانه وتعالی: وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلی أَعْقابِکُمْ وَ مَنْ یَنْقَلِبْ عَلی عَقِبَیْهِ فَلَنْ یَضُرَّ اللّهَ شَیْئاً وَ سَیَجْزِی اللّهُ الشّاکِرِینَ . (2)فرجع القوم إلی قوله.

وقال عمر(رضی الله عنه):کأنّی ما سمعت هذه الآیة،حتّی قرأها أبو بکر... (3)

ص:52


1- (1) -المصدر:22/1.
2- (2) .آل عمران:144.
3- (3) .المصدر:23/1.

الکلام هنا لیس فی موقف عمر الذی طبقت شهرته الآفاق؛إذ هو قد استدرک غفلته،کما هو معروف،إنّما الکلام فی استمرار هذا الوهم عند البعض وتحوله إلی عقیدة فیما بعد.و قد ارتکزت هذه العقیدة علی أصلٍ کان المنزلق لانحراف خطیر:تأویل نصوص القرآن علی خلاف ظاهرها.

القدر المتیقّن من التأویل الانحرافی

من أهمّ المظاهر الانحرافیة الخطیرة وأوّلها اختراقاً للثقافة الإسلامیة تأویل النصّ القرآنی علی خلاف مدلوله العرفی المباشر الذی یفهمه کلّ ذی لسان عربی قویم وفطرة سلیمة.

فمن إنکار وفاة الرسول صلّی الله علیه و آله نشأت فرقة من الغلاة،تدعی المحمّدیة،تَزعم:عدم وفاة النبی صلّی الله علیه و آله.و قد ذکرها الشهرستانی فی کتابه الملل و النحل، (1)دون تعریف عقائدهم.ولکن أشار إلیها الشریف المرتضی فی الفصول المختارة، (2)قائلاً:

...فمنه أنّ أوّل خلاف حدث بعد رسول الله صلّی الله علیه و آله خلاف عمر بن الخطاب،علی الجماعة ونفیه موت رسول الله صلّی الله علیه و آله وما ادّعاه من حیاته.ومنه أنّ هذا الخلاف هو مذهب المحمّدیة من الغلاة وبه یدینون, و هو ضلال باتّفاق....

وسیأتی أن هناک فرقة أُخری من الغلاة تسمی:الکیسانیة،وتدّعی عدم وفاة محمّد بن الحنفیة.

مثل هذه الادعاءات تعود إلی ذهنیة واحدة،وهی إنکار ظاهر النصّ القرآنی: إِنَّکَ مَیِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَیِّتُونَ ، (3)وحمله علی خلاف الظهور العرفی للألفاظ, و هو القدر المتیقّن من التأویل.

ص:53


1- (1) .المصدر:/131.
2- (2) .الفصول المختارة:240 و241.
3- (3) .الزمر:30.

البحث الرابع:السقیفة وتأویل وصیة الغدیر

اشارة

تعتبر أحداث السقیفة نقطة تحوّل مصیریة فی مسار الأمّة الإسلامیة, فهی قد جسّدت درجة الوعی السیاسی ومستوی تکامل البناء العقائدی لنخبة المهاجرین و الأنصار.وقبل أن ندخل فی دراسة الخلفیات الحضاریة و السیاسیة لهذه الأحداث ومضاعفاته الخطیرة و الکثیرة،نختتم هذا المبحث بقراءة سریعة ومختصرة لهذه المرحلة الانتقالیة علی ضوء المقدمات المناهجیة التی مرّ بیانها،وخاصّة هیمنة ظاهرتی الاجتهاد الاستقلالی و التأویل،علی ذهنیة کثیر من الصحابة.

ولا بدّ هنا من التذکیر بأهمّ حدث شهده المجتمع الإسلامی،قبل أشهر قلیلة من وفاة النبی صلّی الله علیه و آله،و هو حدیث(غدیر خم)الذی طبقت شهرته الآفاق.

1-حدیث الغدیر
اشارة

غدیر خم:هو ماء یقع علی بعد خمسة کم عن میقات الجُحفة،و بینه و بین المدینة حدود 200 کم،و بینه و بین مکّة 250 کم تقریباً.عند مفترق طرق من مکة إلی المدینة.وعقیب حجة الوداع خطب الرسول صلّی الله علیه و آله عدة خطب طیلة مسیره من مکّة إلی المدینة.وأشهر هذه الخطب اثنتان،عرفت الأولی باسم(خطبة الوداع)والظاهر أن جمیع من شهد الحجّ ذلک العالم قد حضرها،وکانوا أکثر من مائة ألف.

والثانیة(خطبة الغدیر)،وکانت قبل أن تتفرق أهم القبائل المسلمة عن النبی صلّی الله علیه و آله،و یفوق من حضرها المائة ألف.

ورغم التفاوت فی عدد شهود الخطبتین،لصالح خطبة الوداع،فقد کانت خطبة

ص:54

الغدیر هی الأشهر روایة بین المحدثین.فهناک عشرات من الروایات الموثقة لهذا الحدیث، (1)وفی ما یلی نختار راویتین.

الأولی:تعبر عن القدر المتیقّن المتواتر معنویاً فی عشرات الروایات،وهی روایة الحاکم النیسابوری.

والثانیة:تبین بعض المسائل الجانبیة ذات الدلالة الهامّة فی وصیة الغدیر،و قد أوردها البیهقی فی السنن الکبری. (2)ومضمون هذه الروایة الثانیة،رغم دلالاته السیاسیة التی قد تبدو متضادة مع معتقدات الجمهور،لا یخرج،بدوره،عن دائرة ما یقبل التأویل.

مع روایة الحاکم النیسابوری

جاء فی روایة الحاکم النیسابوری فی مستدرکه علی الصحیحین،مسنداً إلی زید بن أرقم قال:لما رجع رسول الله صلّی الله علیه و آله من حجّة الوداع ونزل غدیر خمّ،أمر بدوحات فقممن،فقال:

«کأنّی قد دعیت فأجبت،إنّی قد ترکت فیکم الثقلین أحدهما أکبر من الآخر:کتاب الله تعالی،وعترتی, فانظروا کیف تخلّفونی فیهما،فإنهما لن یتفرقا حتّی یردا علی الحوض».ثمّ قال:«إنّ الله عزّ وجلّ مولای وأنا مولی کلّ مؤمن».

ثمّ أخذ بید علی(رضی الله عنه)فقال:«مَن کنت مولاه فهذا ولیه, اللّهم والِ من والاه, وعاد من عاداه...».

هذا حدیث صحیح علی شرط الشیخین ولم یخرجاه بطوله. (3)

ص:55


1- (1) .مسند أحمد:118،88،84/1 و119؛السنن الکبری،للبیهقی:14/10؛السنن الکبری،للنسائی:45/5 و46؛مسند أبی یعلی:428/1 و429؛الاستیعاب:1099/3؛المعجم الکبیر:357/2 و358؛کنز العمال:104/13؛الدر المنثور:259/2؛والمستدرک علی الصحیحین:109/3.
2- (2) .اجتنبنا تقدیم الروایات الکثیرة و الأکثر تفصیلاً،وهی المرویة بطرق شیعة أهل بیت النبی صلّی الله علیه و آله واکتفینا بما یوجد فی کتب الجمهور،التزاماً بتعهدنا،بالاستناد إلی القدر المتیقّن المتّفق علی حجیته بین المسلمین.
3- (3) .المستدرک علی الصحیحین:109/3.
مع روایة البیهقی

جاء فی السنن الکبری للبیهقی:

...عن أبی بکر بن فورک(رحمه الله)أنبأ عبد الله بن جعفر, ثنا یونس بن حبیب, ثنا أبو داود, ثنا الأشعث بن سعید, ثنا عبد الله ابن بسر،عن أبی راشد الحبرانی عن علی(رضی الله عنه)قال:«عمّمنی رسول الله صلّی الله علیه و آله یوم غدیر خمّ بعمامة سدلها خلفی».

ثمّ قال:«إنّ الله أمدنی یوم بدر وحنین بملائکة یعتمون هذه العمّة».

وقال:«إنّ العمامة حاجزة بین الکفر و الإیمان...», الحدیث. (1)

هذا الحدیث یوضّح جانباً تشریفیاً من مراسم یوم الغدیر،الذی تضافرت روایات کثیرة بطرق أصحاب أئمة أهل بیت النبی علیهم السلام علی اعتباره عیداً للمؤمنین:إنّه التتویج الرسمی الذی لا یبقی مجالاً للشکّ فی دلالة الألفاظ.فالمسألة تتعدی وجوب الولایة القلبیة و المحبة لرئیس أهل بیت النبی صلّی الله علیه و آله،وهی الولایة التی یقر بها جمیع المسلمین،لتمسّ البعد الإجرائی الاجتماعی؛و إن بقی هذا البعد مبهماً فی هذه الروایة.فقد بقی مجال للتساؤل عن مغزی الإمامة،هل هو الرئاسة العلمیة التی تؤیدها أحادیث أخری کثیرة؟أم هو الخلافة السیاسیة التی بقیت محل جدل؟

وهناک روایات عدّة تؤید تسلیم من حضر یوم الغدیر بتنصیب الإمام علی بن أبی طالب علیه السلام یومئذ بعنوان أمیر المؤمنین،کخلیفة للنبی صلّی الله علیه و آله.دون أن تحدد مضمون المستخلف فیه:هل هو کل مختصات النبی صلّی الله علیه و آله أم هو قسم منها دون غیره؟وکان هذا التنصیب قبل أقل من ثلاثة أشهر من وفاة النبی صلّی الله علیه و آله.

فما الذی حصل خلال هذه الأشهر،حتّی یقع المسلمون فیما وقعوا فیه،ویرفضوا کتابة الوصیة فی یوم الرزیة؟

ص:56


1- (1) .السنن الکبری،للبیهقی:14/10.

إنّ تحلیل هذه المرحلة الخطیرة من حیاة المسلمین،یتطلّب اطلاعاً أعمق علی خلفیات المشهد السیاسی و الثقافی آنذاک،و هو ما یخرج عن هذا المجال المحدود.ویمکن مطالعته فی مظانه. (1)

أمّا هنا فسوف نلقی نظرة علی حادثة السقیفة بنفسها،وهی التی تجسّد إعراض أکثریة النخبة من المسلمین عن التفسیر السیاسی لحدیث غدیر خم،إمّا بالإغفال أو بالتجاهل تماماً،أو بالتأویل والاقتصار علی معانی غیر اجتماعیة،مثل:وجوب الولایة القلبیة.

2-السقیفة بین الاجتهاد الاستقلالی و التأویل
اشارة

هناک روایات عدیدة لما وقع فی اجتماع سقیفة بنی ساعدة،فور وفاة الرسول صلّی الله علیه و آله.و قد حاول عبد الکریم الشهرستانی جمع القدر المتیقّن من تلک الروایات فی عرض مختصر،لا نحتاج أوسع منه لفهم حقیقة ما جری.

فیما یلی نقدّم هذا العرض،مع بعض الملاحظات التی تفرض نفسها فی المقام؛أمّا خلفیات هذه التطوّر الخطیر وآثاره, فبحثها موکول إلی الباب الآتی.

السقیفة بروایة الشهرستانی

یقول الشهرستانی:

...وأعظم خلاف بین الأمّة خلاف الإمامة؛إذ ما سلّ سیف فی الإسلام علی قاعدة دینیة مثل ما سلّ علی الإمامة،فی کلّ زمان.و قد سهّل الله تعالی فی الصدر الأوّل،فاختلف المهاجرون و الأنصار فیها, فقالت الأنصار:منّا أمیر ومنکم أمیر،واتّفقوا علی رئیسهم سعد بن عبادة الأنصاری.فاستدرکه أبو بکر وعمر(رضی الله

ص:57


1- (1) .راجع:بحوث وحدویة فی أصول الطائفیة, عرض مختصر لأهمّ خصائص هذا الوضع فی الجزء الأوّل؛أو قراءة فی سفر التکوین الکلامی, دراسات کلامیة،الجزء الرابع،البحث المفصل لأهمّ الظواهر التی شکلت ذلک الفضاء الثقافی.

عنهما)فی الحال بأنّ حضرا سقیفة بنی ساعدة،وقال عمر:کنت أزوّر فی نفسی کلاماً فی الطریق،فلمّا وصلنا إلی السقیفة،أردت أنّ أتکلم, فقال أبو بکر:مَهْ یا عمر،فحمد الله وأثنی علیه, وذکر ما کنت أقدره فی نفسی،کأنّه یخبر عن غیب.

فقبل أن یشتغل الأنصار بالکلام،مددت یدی إلیه فبایعته وبایعه الناس وسکنت الفتنة.

إلّا أنّ بیعة أبی بکر کانت فلتة،وقی الله المسلمین شرّها،فمن عاد إلی مثلها فاقتلوه،فأیما رجل بایع رجلاً من غیر مشورة من المسلمین،فإنّهما تغّرة یجب أن یقتلا.

و إنّما سکتت الأنصار عن دعواهم لروایة أبی بکر عن النبی(علیه الصلاة و السلام):«الأئمّة من قریش».

و هذه البیعة هی التی جرت فی السقیفة.

ثمّ لمّا عاد إلی المسجد انثال الناس علیه وبایعوه عن رغبة،سوی جماعة من بنی هاشم،وأبی سفیان من بنی أمیة،وأمیر المؤمنین علی بن أبی طالب(رضی الله عنه)،کان مشغولاً بما أمره النبی صلّی الله علیه و آله من تجهیزه ودفنه،وملازمة قبره من غیر منازعة ولا مدافعة... (1)

ملاحظات مناهجیة

یستفاد من الروایة المتقدّمة مجموعة من النکات المناهجیة،أهمّها:

أوّلاً:المنهج الاعتذاری،و هو الملتزم بتوجیه اختیارات السلف المتبوعین،وأبرزهم جیل الصحابة،و هو الذی سلکه الشهرستانی فی موسوعته المختصرة،أجبره علی التهوین من شأن أخطر انزلاق عرفته الأمّة،مدعیاً بأنّ الأزمة قد انحلت نهائیاً بتولیة أبی بکر.

لکن الأحداث التاریخیة أثبتت أنّ ما حدث فی السقیفة لم یکن حلّاً نهائیاً،بل هو فی أفضل حالات حسن الظنّ بالمجتمعین فی السقیفة،تسکین مؤقت وتغییب لمشکلة عویصة

ص:58


1- (1) .الملل و النحل:24/1.

دون حلّها،وهی مسألة الجمع بین الإمامتین،السیاسیة و الدینیة،وشروط ذلک الجمع.

ثانیاً:فی قول بعض الأنصار للمهاجرین:منا أمیر ومنکم أمیر.وقوف صریح فی مقابل النص.فعلاوةً علی ما فیه من تجاهل تام للنصوص القرآنیة الداعیة إلی الوحدة،والأحادیث النبویة الکثیرة التی تؤکد علیها،ناهیک عن(حدیث الغدیر)الذی غاب تماما عن الأذهان،وبأی تأویل من تأویلاته،کأنّه لم یکن أبداً.

و هذا الموقف تعبیر صریح عن وصول حالة الاستعداد للانشقاق و التفسیخ إلی مرحلة التطبیع الکامل،وإلّا لما تجرّأ أحد علی النطق بمثل هذا القول.إذ کیف یقترح هؤلاء الذین بنوا دولة الإسلام الأولی بسواعدهم وسیوفهم أن تنقسم الرئاسة الأولی،والنبی صلّی الله علیه و آله لم یدفن بعدُ؟

ومن الواضح أن تطبیع الاستعداد للانشقاق،یعبّر عن مشکلة مناهجیة عمیقة،أحد أبعادها الهامّة هو الاجتهاد الاستقلالی فی مقابل النصوص الکثیرة التی تدعو إلی الوحدة،مثل قوله تعالی:

وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِیعاً وَ لا تَفَرَّقُوا وَ اذْکُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَیْکُمْ إِذْ کُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَیْنَ قُلُوبِکُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَ کُنْتُمْ عَلی شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ فَأَنْقَذَکُمْ مِنْها... . (1)

و قد یکون التأویل أیضاً عاملاً من عوامل مثل هذا التطبیع،والأقرب أن تکون کِلا المشکلتین المناهجیتین قوّیة الحضور فی أذهان الأنصار.

ثالثاً:فی تعلیل قبول الأنصار لبیعة أبی بکر بالحدیث:«الأئمّة من قریش». (2)تجسید آخر لنزعة التأویل طبقاً للمصلحة المشخّصة.

فمن الواضح أنّ هذا الحدیث عام،ویمکن ادّعاء تخصیصه بأحادیث أخری کثیرة

ص:59


1- (1) .آل عمران:103.
2- (2) .نسب ابن خلدون الإجماع علی قبول هذا الحدیث،الذی استدل به أبو بکر؛راجع:مقدمة کتاب العبر:149/1.

مثل:حدیث الغدیر, وعدد کبیر من الأحادیث التی خصت الإمام علی علیه السلام بالذکر کمرشح للإمامة.و قد اهتم بجمع هذه الأحادیث و التعلیق علیها،الذین رأوا فی هذا الاختیار المناهجی(تقدیم العام علی الخاص)خطأً فادحاً أثّر فی مصیر الأئمة أیماتأثیر. (1)

فإذا کان المراد العمل بوصیة النبی صلّی الله علیه و آله،فإنّ اعتماد الحدیث العام یستلزم تأویل جمیع الأحادیث الأُخری الخاصة،بحملها علی خلاف ظاهرها.

المحصّلة

یتحصّل ممّا تقدّم أنّ اجتماع السقیفة کان تجسیداً لأزمة کبری کان یعیشها المجتمع الإسلامی فی أواخر عهد الرسول صلّی الله علیه و آله.فالصدمة الحضاریة الأولی التی اتّخذت زخماً کبیراً؛بدخول أعراب الجزیرة أفواجاً فی الإسلام،وبظهور أوّل بوادر المروق،وتشکّل أوّل فرقة ضالة،ونزول الملأ من قریش،وهم الطلقاء من أمثال أبی سفیان،وابنه معاویة،إلی الساحة السیاسیة من بابها الواسع.

ثمّ ادّعاء مسیلمة الکذاب النبوّة بالیمامة،ومطالبته الرسول صلّی الله علیه و آله بالتّخلّی له عن نصف الأرض،اختلطت المفاهیم فی الأذهان, وکان من أصعب الأمور تطهیرها.

فلعل التزام الرسول صلّی الله علیه و آله المداراة واجتناب الاصطدام مع التیارات الانشقاقیة التی بدأت ملامحها تظهر متسلّحة تارةً بادّعاء الاجتهاد الاستقلالی،وتارةً أُخری باللجوء إلی التأویل و التشکیک فی إلزامیة بعض الأوامر،أو إمکانیة التنصّل من تنفیذها،أو إظهار التردّد بین الفوریة و التراخی إلی غیر ذلک من أسالیب المناقشة،قد أوحی للکثیر من کبار الصحابة بانفتاح باب المناقشة فی جمیع الأوامر التی یظن بمخالفتها للمصلحة.

من هنا یتطلّب تقویم ما حصل فی اجتماع السقیفة،وما تلاه من محاولات اعتذاریة أو انتقادیة،کانت سبباً فی انشقاق الفرق الواحدة تلو الأُخری،قراءة

ص:60


1- (1) .راجع:مثلا:الفصول المهمة فی معرفة الأئمة،لابن الصباغ المالکی:163/1-679.

موضوعیة لواقع المجتمع الإسلامی من جهتین:

الأولی:حقیقة المشروع الإسلامی،وأهدافه الحضاریة والاجتماعیة.

الثانیة:الموانع الحقیقیة الواقفة أمام تطبیق المشروع الإسلامی،سواءً منها خصوصیات المجتمع العربی الجاهلی ورواسبها الفکریة.

وفی الباب الآتی سوف یکون البحث متوازیاً فی کِلا هذین البُعدین.

ص:61

أسئلة للمراجعة و التعمّق

أسئلة البحث الأوّل:

1.ماذا تفهم من عطف تعدّد فرق المسلمین علی تعدّد فرق النصاری و الیهود،فی الأحادیث النبویة الشریفة؟وهل یشعِر هذا بتعرّض الإسلام إلی مثل ما تعرّضت إلیه الدیانات السماویة السابقة من التحریف؟

2.هل یعتبر مفهوم الفرقة الناجیة میزة للإسلام دون غیره من الدیانات السماویة؟

3.عند مقارنة الروایات التی تذکر تعدّد الفرق،هل یشعِر خُلوّ بعضها من ذکر الفرقة الناجیة بأنّ خطر التحریف قد طال الحدیث النبوی, کما طال الکتب المقدّسة فی الأمم السابقة؟

4.ماذا تفهم من نسبیة القرب من الحقّ فی روایات الفرقة الهالکة؟

5.هل المزایدة فی الدین من لوازم التطرّف وعدم تهذیب النفس؟

أسئلة البحث الثانی:

1.ما هی أهمّ ملامح الواقعیة فی مواقف النبی الأکرم صلّی الله علیه و آله مع أعداء الأمّة؟

2.أین یمکن تصنیف الاجتهاد فی مقابل النصّ من الناحیة الشرعیة؟

3.هل کان قتل ذی الثدیة(التهیمی)رمز الفتنة کافیاً لِوأدها فی المهد؟

4.هل یعتبر نهی النبی صلّی الله علیه و آله عن قتل التمیمی تسلیماً بالأمر الواقع،أم هو تأجیل وتفویض لهذا الأمر لخلیفته؟

5.هل فی نهی الرسول صلّی الله علیه و آله عن قتل رأس الفتنة تحصین ووقایةً للمجتمع الإسلامی من أخطار أکبر؟کیف ذلک؟

أسئلة البحث الثالث:

1.أورد الإمام مسلم فی صحیحه:حدّثنا إسحاق بن إبراهیم،أخبرنا وکیع عن مالک بن

ص:62

مغول،عن طلحة بن مصرف, عن سعید بن جبیر, عن ابن عبّاس،أنّه قال:یوم الخمیس وما یوم الخمیس؟

ثمّ جعل تسیل دموعه،حتّی رأیت علی خدیه کأنّها نظام اللؤلؤ،قال:قال رسول الله صلّی الله علیه و آله:«ائتونی بالکتف و الدواة[أو اللوح و الدواة]أکتب لکم کتاباً لن تضلّوا بعده أبداً».فقالوا:إنّ رسول الله صلّی الله علیه و آله یهجر.... (1)

وروی البخاری فی صحیحه:حدّثنا قتیبة،حدّثنا سفیان, عن سلیمان الأحول, عن سعید بن جبیر قال:قال ابن عبّاس:یوم الخمیس وما یوم الخمیس؟اشتدّ برسول الله صلّی الله علیه و آله وجعه فقال:«ائتونی اکتب لکم کتاباً لن تضلّوا بعده أبداً».فتنازعوا،ولا ینبغی عند نبی تنازع.فقالوا:ما شأنه أهجر!استفهموه.فذهبوا یردوّن علیه،فقال:«دعونی فالذی أنا فیه خیر ممّا تدعونی إلیه».وأوصاهم بثلاث،قال:«أخرجوا المشرکین من جزیرة العرب،وأجیزوا الوفد بنحو ما کنت أجیزهم».وسکت عن الثالثة, أو قال:فنسیتها. (2)

أقرأ الحدیثین وتأمل فی سندیهما،وأجب عن الأسئلة الآتیة:

1.هل أمامک حدیثان أم حدیث واحد؟علّل ذلک.

2.فی حدیث البخاری تلطیف وتهذیب للعبارات بالقیاس إلی حدیث مسلم،ما هو السبب؟

3.ماذا تفهم من جرأة الصحابة علی التنازع فی محضر النبی صلّی الله علیه و آله؟وما هو مغزی نهره إیاهم؟

4.هل کان یجدّی نفعاً لو أمر النبی صلّی الله علیه و آله أحد الأوفیاء بکتابة الوصیة رغم أنف الحاضرین من الصحابة؟

5.ماذا تخمّن أن تکون الثالثة التی ادعی الراوی نسیانها؟علّل ذلک بشواهد أخری من السیرة الصحیحة.

ص:63


1- (1) .الجامع الصحیح:75/5 و76.
2- (2) .صحیح البخاری:137/5.
أسئلة البحث الرابع:

1.ما هی الدلالة الظاهرة عرفّیاً من لقب أمیر المؤمنین؟ولماذا لم یلّقب الإمام علی علیه السلام بأمیر المسلمین؟

2.هل یمکن القول بأنّ تلقیب الإمام علی علیه السلام بأمیر المؤمنین فی حیاة النبی صلّی الله علیه و آله،هی ولایة عهد دینیة علمیة, لا سیاسیة؟

3.قرر جمیع مناهج التعامل مع النص التی کانت متعایشة عند وفاة الرسول الخاتم،هل تتوقع اندثار بعضها؟

4.فی مقول:منا أمیر ومنکم أمیر،مغالطات خمس.أوضحها فی مقال تحلیلی.

ص:64

ثانیاً:المصلحة السیاسیة و المنابر الدینیة

البحث الخامس:محوریة المنابر و الخطابة المسجدیة

اشارة

بمجرّد الإطلاع علی محتوی وصیة الغدیر وموقف أکثریة الصحابة منها،تطرح مجموعة من الأسئلة فی اتّجاهات حلّ متباینة.وأهمّ هذه الأسئلة:

کان اجتماع الغدیر شعبیاً بامتیاز،و قد حضره الألوف،وکان الرسول الأکرم صلّی الله علیه و آله فی أوج اقتداره،وکان من المستبعد،حینئذ،أن یجرُء أحد علی الردّ علیه،فلماذا لم یستغلّ هذه الفرصة لتأمین إنجاز الوصیة, بإیکال مهمّة حفظها وضمان تطبیقها إلی أخلص المؤمنین, وهم لم یکونوا قلّة آنذاک،وترک الوصیة دون ضمانات إجرائیة؟

أمام هذا السؤال تعدّدت الإجابات:

فمن قائل:بأنّ الرسول صلّی الله علیه و آله کان یعلم بأنّ الأکثریة الساحقة من المسلمین،وفی طلیعتهم قریش و الأعراب الداخلین حدیثاً فی الإسلام،سوف یثورون علی کلّ نظام یفرضه بالقوّة.علاوةً علی هذا, فإنّه قد کان یعلم بوجود مدّعین للنبوّة،فی حیاته،مثل:مسیلمة الکذاب،أو بعده, مثل:طلیحة الأسدی،والأسود العنسی،ممّا یحکم علی الدولة الإسلامیة بالاضمحلال والانهیار.

وقائلٍ:إنّ هذه الوصیة کانت إرشادیة-من البدایة-ولا یفهم منها إلا الرجحان

ص:65

والاستحباب،وبالتالی فإنّ أمر تنفیذها أو عدمه موکول إلی تشخیص المسلمین لمصلحة الأمّة من بعده.

وقائلٍ:إنّ عدم اتّخاذ ضمانات إجرائیة کاشف عن أن مضمون الوصیة قابل للتأویل،وأنّه من الممکن حمل ألفاظ الولایة علی:المحبّة،فیکون قول الرسول صلّی الله علیه و آله:«من کنت مولاه فعلی مولاه»لا یعنی:أکثر من القول:من کان یحبنی فلیحب علیاً.

أمّا العبارات الأُخری المستعصیة علی التأویل مثل:

«انصر من نصره،واخذل من خذله،ووالی من والاه, وعادی من عاداه».

فإنّها إمّا أن تصنّف ضمن المُجمل،أو أن یشکّک فی وجودها أصلاً ضمن متن الحدیث, کما تدلّ علیه الأحادیث الکثیرة الخالیة من تلک الإشارات الصریحة.

ویلحق بهذا الاتّجاه،القول بانحصار مضمون الولایة التی نص علیها حدیث الغدیر فی الإمامة الدینیة و العلمیة،دون القیادة السیاسیة،و هو ما تحقق بحکم الأمر الواقع،کما سیأتی.

وهناک اتجاه رابع جدید (1)حاول تفسیر ما حصل فی السقیفة باللجوء إلی مفهوم البداء،وستأتی مناقشته فی الباب المقبل.

هذه الاتّجاهات الأربعة،وخاصّة الثلاثة الأولی منها،تطوّرت علی مرّ التاریخ ضمن مدارس فکریة وعقائدیة متباینة.

أمّا هذا التباین بین الإجابات،ینقدح تفسیر لا یخلو من قوّة:إنّه تباین مصادر المعرفة.فإلی أی حدّ یمکن اعتماد هذا التفسیر؟

وما هی مصادر المعرفة فی الثقافة الإسلامیة؟

ألیست منحصرة فی الکتاب و السنّة؟

أم أن المقصود هو مصادر المعرفة المتاحة،لعامّة المسلمین،حیث إنّ الحدیث

ص:66


1- (1) .برز هذا الاتّجاه فی ندوات منتدی تحریک السواکن, بالجامعة التونسیة ونشرت آراؤه فی بعض أعداد نشریة المجدد, وتضمّنت تقریره بعض أبحاث خماسیة عصر الختم.

النبوی, وتفسیر الآیات الکریمة لم تکن،بالضرورة،فی متناول کلّ مسلم.

هنا تطرح مسألة جدّیة وخطیرة:إنّها مسألة طبیعة أدوات المعرفة المتاحة.

1-أدوات المعرفة المتاحة لدی الجیل الأوّل
اشارة

إنّ طرح مسألة أدوات المعرفة فی ذلک العهد یثیر مجموعة من التساؤلات الفرعیة الهامّة, فمِنَ المعروف أنّه لم یکن بین یدی الجیل الأوّل کتب یتداولونها, بل بعض الجلود و العظام المتناثرة.وقصّة جمع القرآن الکریم بالتدریج فی عهد الخلیفة الثانی, ثمّ استنساخه فی عهد عثمان-أی:بعد حوالی عقدین من انقطاع الوحی فی شکله النهائی بناء علی نسخ نادرة-تدلّ علی ندرة هذه الأداة المعرفیة الهامّة فی زمن النبی صلّی الله علیه و آله.

ومن الواضح أنّ الثقافة الإسلامیة فی الجیل الأوّل کانت شفویة،لا کتابیة فکانت الخطابة هی الأداة المعرفیة الأولی و الأهمّ بلا منازع.

حول شفویة أدوات المعرفة

یتحصّل إذاً:إنّ الاختلاف الذی شقّ صفوف الجیل الأوّل یعود بدرجة أولی إلی تعدّد وتباین مصادر المعرفة الشفویة.یطرح السؤال نفسه بقوة:إلی أی حدّ نستطیع أن نجزم بأمانة هذه الأداة الشفویة و قدرتها علی الضبط و النقل الحرفی؟علی فرض خلو الناقل من الخلفیات التی یمکن أن تخدش فی وثاقته.

و إذا لاحظنا ما کان یتمیز به المجتمع الإسلامی عقیب وفاة الرسول صلّی الله علیه و آله من تنوع فی الرواسب الثقافیة،فلنا أن نتساءل:ألیست أدوات المعرفة الشفویة خاضعة بنسبة کبیرة لاختلاف المرجعیات الفکریة؟

هذه المسألة فی غایة الخطورة و الأهمیة،و هو أمر سیأتی بحثه فی الباب المُقبل.

قد یقال:إنّ الاختلاف فی تلقی المعرفة الشفویة إنّما یستفحل ویتعمّق مع تعدّد الوسائط.و إنّ النقل عن النبی بلا واسطة قد لا یکون سبباً فی اختلافات عمیقة.

ص:67

إلا أنّ الذی بإمکانه أن یبعث علی التّعجب حقاً،فهو تباین مواقف رجال الجیل الأوّل،الذین عاصروا الرسول صلّی الله علیه و آله و السقیفة.فالکثیر منهم قد أخذ منه مباشرة.

فهل کانت مصادر المعرفة عندهم أیضاً متباینة إلی هذا الحدّ؟

هنا یأتی البحث الإناسی(الإنثروبولوجی)الجامع لیتکفل بدراسة الظروف الموضوعیة لهذا التحول الخطیر،فیطرح السؤال الأوّل:

ما هو سهم تباین أدوات المعرفة فی هذا التحوّل الخطیر؟

عنصر الإجابة الأوّل الذی ینقدح بأدنی تأمّل وبمراجعة ما تقدّم فی الفصل السابق هو:إلی جانب مسألة أدوات المعرفة،هناک قطعاً موجهات أُخری لسلوک المسلمین, وهی تشکیلة من المؤثرات الثقافیة والاجتماعیة الموروثة من الجاهلیة،من ناحیة،وکمٌ لا بأس به من تراث الأدیان و الحضارات الأُخری المعاصرة،من ناحیة أخری.

فی هذه المقدّمات سوف نکتفی ببیان أهمیة الأدوات المعرفیة وموقعها فی التوجیه السیاسی و الثقافی،أمّا بقیة عناصر الإجابة, فتحتاج إلی تحلیل إناسی متکامل سیکون موضوع الباب المقبل.

إلا أنّ الترسبات الثقافة الجاهلیة،لها أدواتها الخاصّة.و هذه الأدوات قد استطاعت الاختلاط بأدوات المعرفة الإسلامیة.

من الموجهات الأخری للاختلاف:الشعر

إن أهمّ أدوات انتقال المعرفة فی العهد الجاهلی،بلا منازع،الشعر.

والشعر بما هو وسیلة انتقال للقیم الجاهلیة, قد أدانه القرآن الکریم إدانةً صریحة بقوله: وَ الشُّعَراءُ یَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ ، (1)کما أنّ الله سبحانه قد أکدّ علی تنزیه رسوله عن قول الشعر،بقوله:

ص:68


1- (1) .الشعراء:224.

وَ ما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَ ما یَنْبَغِی لَهُ إِنْ هُوَ إِلاّ ذِکْرٌ وَ قُرْآنٌ مُبِینٌ * لِیُنْذِرَ مَنْ کانَ حَیًّا وَ یَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَی الْکافِرِینَ . (1)و قد علّل تعالی هذا التنزیه،بأنّ الخطاب القرآنی إنّما هو موجّه للقلوب الحیة،ولیس للغاویین الذین یستهویهم الشعر.

ولکن حالة الدفاع فرضت علی المسلمین الاستفادة من هذه الأداة الفعالة،فأصبح حسّان بن ثابت،شاعر المدینة،شاعر الرسول صلّی الله علیه و آله،ونافح عنه وعن الإسلام بقوّة.کما أنّ هناک قسماً من الشعر قد وقع تخصیصه من الإدانة،و قد جاء فی الأثر.«إنّ من الشعر لحکمة»،وقصّة الرسول صلّی الله علیه و آله مع کعب بن زهیر الشاعر،معروفة، (2)وهی تدلّ بوضوح علی أهمیة الشعر وتأثیره إلی حدّ قد یستوجب إهدار دم الشاعر،عندما یتحوّل شعره إلی أداة تخریب وإفساد فی الأرض.

حاصل القول:إنّ الشعر قد فرض نفسه کأداة مؤثّرة وفعالة إلی جانب الخطابة.

فکان حفظ الشعر،وأیام العرب،وقصصهم،ینافس حفظ القرآن الکریم منافسة شدیدة إلی حدّ أنّ الوجاهة الاجتماعیة قد تتقوم بالأوّل أکثر من الثانی.

والجدیر بالإشارة هنا،أنّ أبا بکر الصدیق وابنته أم المؤمنین عائشة،کانا من المعروفین بحفظ أشعار العرب وأیامهم،و هذا ما یفسّر جانباً من الوجاهة الکبیرة التی کانا یتمتعان بها کما،بعد الرسول صلّی الله علیه و آله،حتی لدی حدیثی العهد بالإسلام،مثل الطلقاء.

والحقیقة أن المشکلة الأساسیة فی الشعر،تکمن فی مضمونه ولیس فی شکله،فهو الأداة التی تروّج للوهم.و قدیماً قیل أعذب الشعر أکذبه.ومن هنا کان بقاء هذه الأداة فی سدّة الهیمنة الثقافیة من أکبر المشکلات التی عانی منها مسلمو صدر الإسلام. (3)

ص:69


1- (1) .یس:69 و70.
2- (2) .المستدرک:579/3-584.
3- (3) .ظهرت خطورة الشعر بشکل خاصّ فی حرب الجمل:راجع:قراءة فی سفر التکوین الکلامی؛و بحوث وحدویة فی أصول الطائفیة:الجزء الأوّل.

فقد بقی الشعر علی شعبیته وجماهیریته،وحافظ علی سیولته وسهولة انسیابه بین الأذهان, ممّا جعله شدید التأثیر بین عامّة المسلمین.

2-المنابر الدینیة فی مواجهةٍ غیر متکافئة
اشارة

یتحصّل ممّا تقدّم أنّ الثقافة الشفویة فی أواخر عهد الرسول صلّی الله علیه و آله وبعده کانت محکومة غالباً بأداتین:

الأولی:جاهلیة،وهی الشعر.

والثانیة:إسلامیة،وهی الخطابة المنبریة،وحلقات الدرس.

أمّا حلقات الدرس, فقد کانت محدودة ومقتصرة علی النخبة عادةً،فی حین انحصرت الخطابة المنبریة فی المساجد،أو لدی من کان یبعثهم النبی صلّی الله علیه و آله بین القبائل لتعلیم الناس دینهم.فکانوا جیلاً جدیداً من الخطباء،غیر ما کان یعرفه العرب سابقاً.

أمّا الشعر, فقد حافظ علی سیولته الکاملة, ولم یفقد من رونقه شیئاً،وکلّ ما فی الأمر أن أسماء آلهة العرب قد غابت عن أبیاته،بینما بقیة المضامین علی ما هی علیه.

لهذا یمکن القول بأنّ المعرکة بین الخطابة المنبریة و الشعر لم تکن متکافئة.

أهمیة منبر الجمعة و الخطابة المسجدیة

کانت خطبة الجمعة،والمنبر الدینی عامة،ظاهرة جدیدة عند العرب،و إن لم تکن تخلو من وجوه شبه مع قداس یوم الأحد فی کنائس النصاری.فکانت تجتذب کلّ من حضر المدینة یوم الجمعة،و قد ورد عن النبی صلّی الله علیه و آله أحادیث کثیرة فی تعظیم شأنها وتحریم ترکها،حتّی عدّ من ترکها عامداً ودون عذر ثلاثاً،کافراً. (1)

هذا التأکید له مبرّراته الواضحة:منبر الجمعة،هو الأداة الثقافیة الجامعة الوحیدة التی یمکن أن تعبأ الجماهیر لحضورها.

ص:70


1- (1) .القدر المتیقّن من هذا التحریم هو ترکها مع حضوره صلّی الله علیه و آله.

ولکن،ماذا یمکن لهذه الأداة،علی عظمها،أن تفعله،مع محدودیتها الزمنیة؟

کان لا بدّ للمسجد أن یلعب دوراً تعبویاً دائماً،فکانت حلقة العلم مستمرّة فیه،وکان الآذان للصلوات فرصة متکرّرة لجمع الناس وتبلیغ کلمة الله إلیهم.

مع کلّ هذا،فإنّ منبر الجمعة،وکذلک المنابر المسجدیة الیومیة،تبقی محکومة بالمحدودیة المکانیة،فهو لا یتجاوز من حضر المدینة،وبعض مراکز الإشعاع القلیلة الأُخری فی جزیرة العرب.

مشکلة التلقّی الشفوی

کانت ثقافة العرب شفویة کما أسلفنا،ومن الطبیعی أن یکون الناس متفاوتین فی الحفظ و الضبط،وکان الصحابة متفاوتین فی قابلیاتهم للحفظ و الضبط تفاوتاً کبیراً تعکسه الروایات الکثیرة التی تنقل استفسار بعضهم من البعض الآخر عمّا فاتهم فی شرح هذه الآیة أو تلک.فاشتهر بین الصحابة عدد قلیل من الحفّاظ الذین یطمئن الجمیع لنقلهم ودقّة حفظهم،مثل:عبد الله بن عبّاس،وعبد الله بن مسعود،وأُبی بن کعب.وکان أشهرهم علی الإطلاق؛الإمام علی علیه السلام الذی لم یزَکِّ الرسول صلّی الله علیه و آله أحداً غیره بشکل مطلق،عندما قال:«أنا مدینة العلم وعلی بابها،فمن أراد المدینة فلیأتیها من بابها». (1)

و إن هو قد ذکر ابن عبّاس أیضاً وتنبّأ له بمستقبل علمی باهر ملقباً إیاه(بحبر الأمّة)،فإن ذلک یعود إلی تتلمذه علی ید أمیر المؤمنین علی علیه السلام،حیث توفی الرسول صلّی الله علیه و آله وابن عبّاس لم یبلغ الخامسة عشر بعدُ.

تلک إذاً:مشکلة الثقافة الشفویة:إنّها تحتاج إلی حفّاظ یصدق علیهم قوله تعالی: ...وَ تَعِیَها أُذُنٌ واعِیَةٌ . (2)

ص:71


1- (1) .مدخل مناهجی إلی علم الکلام:114،بحث مدینة العلم وبابها وتعدد المرجعیات.
2- (2) .الحاقّة:12.

أمّا بقیة الصحابة،فمهما علت منزلتهم فی الإسلام, ومهما عظمت سابقتهم فی نصرة الدین, فإن حفظهم لا یمکن أن یرقی إلی حفظ من شب علی الإسلام،فکانوا معرّضین للخطأ و النسیان والاشتباه بجمیع أشکالها.

البحث السادس:محدودیة الأدوات الدعائیة أمام حاجة السلطة

اشارة

بناءً علی ما تقدّم یظهر أنّ أی سلطة مرکزیة ترید بسط نفوذها علی بلاد الإسلام،بعد النبی صلّی الله علیه و آله،کان علیها أن تضع الید علی أهمّ الأدوات الدعائیة و التبلیغیة المهیمنة علی الناس،والموجهة لشعورهم وسلوکهم.

و قد مرّ أنّ الثقافة الشفویة الرائجة آنذاک،کانت محکومة بأداتین إعلامیتین مهیمنتین:الشعر و الخطابة المنبریة.

من هنا لم یکن من المتصوّر أن تتخلّی أی سلطة-باختیارها-عن هاتین الأداتین.وما أن استقر نظام السقیفة حتّی ظهرت الحاجة الماسة إلی الاقتباس من الحضارات المجاورة،باصطناع الأجهزة و الدواوین و إن کان ذلک فی شکل جنینی.

لکن لم یکن من الیسیر علی سلطة الخلافة توظیف أداتی الدعایة و التبلیغ الثقافی الأساسیتین،لأسباب لا بدّ من الوقوف علیها.

1-محدودیة الأدوات الدعائیة الرسمیة
اشارة

إذا نظرنا إلی الأداتین الثقافیتین الرئیسیتین-أی:الشعر و الخطابة-کلّ علی حدة،وقفنا علی شدّة التعقید الذی میز عملیة إخضاعهما وتوظیفهما،من قبل النظام الناشئ من السقیفة،و هو نظام الخلافة الإسلامیة الراشدة.ولکن هذا التعقید کان بعلل مختلفة بین الأداتین.

ص:72

ضعف قابلیة الشعر للهیمنة السلطویة

الشعر هو:تعبیر لفظی منظم عن شعور ینتاب الفرد.فهو إذاً:تدفّق إحساسی ذاتی بطبیعته،والأذن العربیة تلقف الشعر وتحفظه فوراً, ثمّ تتولّی الألسن تناقله و التغنّی به فتنتقل القصیدة الشعریة من أدنی الجزیرة إلی أقصاها،فی سرعة تقارب سرعة الصوت لا یکاد یوقفها شیء.

فسیولة الشعر إذا تعصمه من الوقوع تحت تأثیر أی سلطة مرکزیة.

فلم یکن أمام الحکام و الأمراء و المتنفذین،طوال التاریخ،من حلّ لمشکلة الطبیعة المتمردة للشعر،ودرء خطره واستجلاب نفعه سوی شراء ذمم الشعراء؛إمّا بإغداق العطایا و الهدایا مقابل المدیح و الثناء،و إما بشراء سکوت الشعراء أحیاناً.

هکذا لم تکن هیمنة نظام الخلافة علی الشعر و الشعراء إلا مقطعیة وخفیفة،ولا تتعدّی حفظ الخطوط الحمراء, کما نلاحظه فی قصّة:الشاعر الحطیئة مع الخلیفة الثانی عمر بن الخطّاب الذی حرّم علیه الهجاء وضیق علیه. (1)

إلا أنّ الفتنة الکبری التی بدأت فی عهد عثمان وانتهت باستیلاء معاویة بن أبی سفیان علی السلطة،واستبداله الملک العضوض بالخلافة الراشدة،قد أعادت الاعتبار بشکل کامل للشعر بأغراضه القدیمة, مثل:الفخر و الهجاء الجاهلیین.و قد تجلّی ذلک فی أجلی صوره فی حرب الجمل, حینما کانت أطراف الصراع تلهب حماسة أنصارها بأبیات من الشعر،عرف منشدوها کیف ینتقونها. (2)بذلک یتّضح أن موقع هذه الأداة الدعائیة المفضلّة عند العرب،لم یتزلزل أبداً فی صدر الإسلام, وظلّ الشعر الحصن الحصین الذی تحتمی به القیم الجاهلیة،فی مقابل الثقافة الإسلامیة الجدیدة.

ص:73


1- (1) .بحوث وحدویة فی أصول الطائفیة:الجزء الأوّل،روایة زید بن أسلم عن حال الحطیئة مع عمر وابنه.
2- (2) .تاریخ الأمم و الملوک:537،519/3.
ضعف تأثیر الخطابة المنبریة الرسمیة

أمّا الخطابة المنبریة, فکانت الأداة الأطوع و الأسرع إلی الدخول فی طاعة الحکّام مهما تبدلت مشاربهم.وتکرس هذا الدور السلطوی منذ إرساء نظام السقیفة واستقراره تحت حکم الخلفاء الراشدین واستمر بعدهم.

فأئمّة المساجد وخطباء المنابر جمیعاً کانوا ولاة للخلفاء،أو عمّالً یعلمون تحت نظر الولاة.وحتی فی الجیوش و العساکر کان أمیر الجند،غالباً،هو إمامهم فی الصلاة وخطیبهم أیام الجمعة،دون أن یکون أعلمهم وأورعهم وأقرأهم،بالضرورة.

فربّ والٍ أو عامل علی منطقة أو مدینة یفتضح فسقُهُ بعد فترة،فیکتشف الناس،فقط حینئذ،أنهم کانوا یصلّون وراء فاسق.

ولعل قصّة الولید بن عقبة،والی عثمان علی الکوفة،الذی أقیم علیه حدّ شرب الخمر بعد أن صلّی بالناس و هو سکران،أبرز ما یمکن أن یضرب مثلاً لهذه الظاهرة. (1)وقبل ذلک فإن قصة المغیرة بن شعبة،والی البصرة من قبل الخلیفة الثانی عمر،کانت،أبرز مثال علی هذه الظاهرة.فقد شهد علی المغیرة ثلاثة شهود عدول بالزنا, ولم ینقذه من حدّ الرجم إلّا تردّد الشاهد الرابع فی بعض جزئیات الوصف،بعد أن توسّل إلیه المغیرة. (2)

هذه النماذج وغیرها مما قد یکون أقوی دلالّة،کتلک التی حصلت خاصّة من بعض عمال وولاة الخلیفة الثالث عثمان،لم تکن لتحفظ للخطیب المنبری الرسمی أیة مرتبة من مراتب القدسیة لدی العوام...فکان تأثیر هذه المنابر ضعیفاً ومحدوداً ونشأت فی عرضها،وبالتدریج،منابر شعبیة وغیر رسمیة لم تکن تخضع لأی توجیه أو مراقبة.

وتبعاً لذلک،حدث خاصّة بعد عهد الخلفاء الراشدین،ما یمکن تسمیته بالانفصال

ص:74


1- (1) .تاریخ الأمم و الملوک:365،364/3.
2- (2) .وفیات الأعیان:364/6-368.

التدریجی بین الثقافة الإسلامیة الشعبیة،بأدواتها غیر الرسمیة،والثقافة الإسلامیة الرسمیة, وهی ثقافة الخطابة المنبریة،بشکل رئیسی.

2-بعض المناهج و الأدوات السلطویة

یمکن القول أنّ جهاز الخلافة فی نظام السقیفة،قد کرّس نوعاً من الاستقالة عن التوجیه الثقافی الدقیق الذی کان یحظی به المسلمون فی عهد الرسول صلّی الله علیه و آله.

لکن،لم تکن هذه الاستقالة عن التوجیه الفکری و العلمی أمراً مطّرداً؛خاصّة طیلة حکم الخلیفتین الأوّل و الثانی؛وإلّا کان یلزم من ذلک الفقدان التدریجی للمشروعیة الرمزیة أیضاً.

علی العکس من ذلک سجّل لنا التاریخ مقاطع حاسمة من تدخلات جهاز السلطة فی الشأن العلمی و التشریعی؛وخاصّة فی عهد عمر بن الخطّاب،الذی اشتهرت مساجلاته الکثیرة فی عدّة مسائل فقهیة مع بعض الصحابة،واستعماله العنف لفرض رأیه أحیاناً.

وحیث إنّ المراد هنا لیس تقویم سیرة الشیخین واجتهاداتهما الشهیرة،التی یصنفها منتقدوهما تحت عنوان:الاجتهاد فی مقابل النصّ، (1)فنکتفی بالإشارة إلی التدخلات الأداتیة التی کان لها التأثیر الحاسم فی توجیه حرکة الفکر الإسلامی،فی صدر الإسلام.و هذه التدخّلات علی نوعین:التقنین و التعیین.

أوّلاً:التقنین:

من أهمّ مظاهر التقنین الثقافی؛تحریم عمر تدوین الحدیث وکتابته؛محتجّاً بالخوف من اختلاطه بالقرآن.و قد کان لهذا التقنین أشدّ التأثیر فی تعمیق تأثیر الثقافة الشفویة. (2)

ثانیاً:التعیین:

من أمثلة التعیینات الثقافیة،تنصیب(تمیم الداری)کمحدّث وراوٍ وحید مرخّص

ص:75


1- (1) .النص والاجتهاد.
2- (2) .منع تدوین الحدیث.

له فی الکلام قبل خطبة الجمعة.ولتمیم الداری روایات عجیبة،وتنسب إلیه إسرائیلیات کثیرة, بل إنّ موقع تمیم الداری وروایاته فی أذهان العامّة-وحتّی بین أهل العلم-یشکّل تجسیداً لبوادر انشقاق مناهجی وعقائدی خطیر،ینطلق من القول بإمکان روایة النبی صلّی الله علیه و آله-فی أمر غیبی-عن غیره من الناس.

فقد نقل ابن عبد البرّ:

...روی الشعبی عن فاطمة بنت أحمد بن قیس،أنّها سمعت النبی صلّی الله علیه و آله یذکر الدّجال فی خطبته, وقال فیها:حدّثنی تمیم الداری وذکر خبر الجسّاسة،وقصّة الدّجال،و هذا أولی ممّا یخرجه المحدّثون فی روایة الکبار عن الصغار. (1)

ولا یخفی ما فی هذا النقل من خطر علی صحّة إسناد العقائد إلی المولی.

و قد اشتهر أیضاً من بین الرواة الذین حظوا بتشجیع الخلفاء:کعب الأحبار.و قد کان یهودیاً فأسلم بعد سجّلات کثیرة،والظاهر أنّه لم یتخلَّ عن کثیر من اعتقاداته السابقة.ورغم هذه التعیینات،فإنّ بعض هؤلاء الذین أرادهم الخلیفة أدوات ثقافیة مکملة لسلطة الخلافة،کانوا لا یتحرّجون من مخالفته ونقض أوامره کلّما اصطدمت مع معتقداتهم،و هو ما بدر من تمیم الداری نفسه،عندما رفض الانصیاع لأمر عمر بترک رکعتی ما بعد العصر. (2)

3-بدایة تعدّد المرجعیات

رغم استقرار المشروعیة السیاسیة فی أذهان عامّة المسلمین،لم یکن للنظام المنبثق عن السقیفة أیة مشروعیة ثقافیة ذاتیة،و إنّما کان یستمدّ مشروعیته من مشروعیة نخبة الصحابة من المهاجرین و الأنصار.

لهذا فإنّ حرکة الفکر،وتطوّر العلم فی صدر الإسلام-خاصّة فی العقود الثلاثة

ص:76


1- (1) .الاستیعاب:194/1.
2- (2) .وضوء النبی:273/1 و274.

التالیة لوفاة النبی صلّی الله علیه و آله-خاضعة لحالة من التعدّدیة الثقافیة التی قد تصل أحیاناً إلی ما یشبه الهرج و المرج الفکری.

و قد زاد هذا الطین بَلّةً منع الخلیفة الثانی عمر،المحدّثین و المتعلّمین و الرواة من تدوین الحدیث واشتداده فی ذلک, ممّا جعل الواسطات إلی النبی صلّی الله علیه و آله تتعدّد قبل أن ینقضی جیل الصحابة.

فی هذا الخضم برز رواة من ذوی السابقة فی الأدیان الأُخری،مثل:تمیم الداری النصرانی،وکعب الأحبار الیهودی.ففسح لهم جهاز الخلافة المجال لترویج معارفهم بعد أن اعتقدوا فیهم العلم و الفضل.فتعمقت بذلک حالة التعدّدیة فی المرجعیة الثقافیة،فکلّ کان یقول قال الرسول صلّی الله علیه و آله،ولکنّهم لا یتّفقون أحیانا فیما ینقلونه،حتّی بقیة بعض أولیات الشریعة, مثل:کیفیة الوضوء و الصلاة محلّ اختلاف،والحال أنّ شهود العیان کانوا ما یزالون یعدّون بالمئات.

إذاً:کان هذا حال بعض أهم مصادر العلم و الفکر زمن الخلافة الراشدة التی یوجد شبه تسالم بین الجمهور علی مشروعیتها السیاسیة.فلنا أن نتساءل عن الأوضاع التی یمکن أن تتردّی إلیها الساحة الثقافیة فی ظلّ نظام استبدادی فاقد للمشروعیة السیاسیة.مثل هذا النظام لم یتأخّر فی الظهور،فکان معاویة بن أبی سفیان،باستیلائه علی الخلافة سنة41 هجریة،أوّل ملوک الإسلام بلا منازع،کما لقبه ابن کثیر الدمشقی فی البدایة و النهایة. (1)

وفی عهده شهدت الساحة الثقافیة أوّل استقطاب واضح ورسمی،فتوزّعت بین ثقافة السلطة وثقافة المعارضة،وکان لکلّ منهما أدواته الثقافیة الخاصّة،و هو ما نستعرضه ضمن إشارات المبحث الآتی.

ص:77


1- (1) .البدایة و النهایة:21/8.

أسئلة للمراجعة و التعمق

أسئلة البحث الخامس:

1.ما هی أهمّ صفات الثقافة العربیة فی فجر الإسلام؟

2.ما هو تأثیر غیاب التدوین و الکتابة فی تطوّر العقائد؟

3.هل یمکن أن یکون الشعر من موجّهات الاختلاف؟

4.هل کان بإمکان الخطابة المنبریة فی صدر الإسلام أن توحّد العقائد؟

5.هل یمکن لنظام سیاسی فی صدر الإسلام الاستغناء عن منبر الجمعة؟لماذا؟

أسئلة البحث السادس:

1.هل یمکن أن یتحوّل الشعر أداة استبدادیة بید السلطة؟کیف؟

2.قارن بین تأثیر الشعر وتأثیر الخطابة المنبریة فی تطوّر العقائد.

3.هل کان بإمکان الخلفاء حقیقة إعلان استقالتهم العلمیة؟لماذا؟

4.قارن بین منع تدوین الحدیث،من جهة،والسماح للمسلمین الجدد بالعمل الثقافی،من جهة أخری.ماذا یمکن أن تکون الخلفیة الکامنة وراء هذین الإجراءین؟

5.حلّل هذا القول وناقشه:إنّ اختلاف الصحابة فی کیفیة وضوء النبی صلّی الله علیه و آله وصلاته یسقط حجیة النقل الشفوی للسنّة.

ص:78

ثالثاً:تدوین العقائد الدینیة بین السلطة و المعارضة

البحث السابع:الأدوات الثقافیة فی ظلّ الاستقطاب السیاسی

اشارة

کان عصر الخلافة الراشدة عهد هیمنة مرجعیة النخبة الصحابیة.و قد کان من الطبیعی أن تصبح تلک الاختلافات التی سبقت الإشارة إلیها،والتی لم تزد الأیام إلّا فی احتدامها،عاملاً قویا فی تنوع هذه المرجعیة وتشتت مراکز المشروعیة فیها.

ولم یکن بمقدور أی خلیفة أن یضع یده علی هذه المرجعیة المرکّبة ترکیباً غیر متجانس،فیوجهها أی وجهة أراد.

إلّا أن هذا الترکیب غیر المتجانس کان مآله التزلزل التدریجی؛فقد کان تباین المواقف من السقیفة و التطوّرات الاجتماعیة والاقتصادیة التی رافقت الموجة الأولی من الصدمات الحضاریة،قد أوجد-بالتدریج-اتجاهات فکریة ومرجعیات متعدّدة تزداد تباعداً علی مرّ الزمن.

فی الباب المقبل سوف نُلقی بعض الضوء علی مجمل هذه التطوّرات وآثارها،أمّا هنا فنرید فقط أن نشیر إلی نتائجها الأداتیة،لنستکمل صورة أجهزة الثقافة وأدوات تولید الفکر التی کانت متاحة فی صدر الإسلام،و هذا هو أحد أهمّ أغراض هذا التمهید.

ص:79

وبین یدی هذا البحث لا بدّ من توضیح معنی الاستقطاب السیاسی والاجتماعی،ومغزی تعدّد المرجعیات الفکریة.

1-ظاهرة الاستقطاب و التعدّد الثقافی
اشارة

یمکن تعریف الاستقطاب الثقافی:بأنّه تزاحم بین قوی مؤثّرة متعدّدة ومتواجدة فی فضاء ثقافی واحد.

وعادة ما ینصرف مفهوم الاستقطاب إلی تزاحم مؤثر یشکّل کلّ واحد منها قطباً،یحاول اجتذاب العناصر الفاعلة نحوه.

أمّا حالة تعدّد الأقطاب, فعادة ما یطلق علیها بالتعدّدیة الثقافیة أو تعدّد المرجعیات الثقافیة.

حول سلبیة الاستقطاب وإیجابیة التعدّد

کثیراً ما یعتبر استقطاب صفة سلبیة،بینما ینظر إلی التعدّد،عادة،من زاویة حسن الظنّ و التفاؤل.والسبب فی ذلک هو أنّ حالة الاستقطاب الثنائی قد تکون مدعاة إلی التطرّف؛لأنّ العناصر الفاعلة مدعوة إلی الانجذاب إلی أحد القطبین ومواجهة القطب الآخر.

و قد تتحوّل المواجهة إلی فتنة هوجاء تشل الطاقات الفاعلة فی المجتمع وتدمره،فی حین أنّ التعدّد فی المرجعیات الثقافیة،قد یضفی علی المجتمع مسحة من التسامح, فیتمکّن من تهمیش عوامل التطرّف و الدمار وتقلیص تأثیرها.

هذا کلّه من وجهة نظر إناسیة عرفیة،أی عندما تکون الثقافة عرفیة لا دینیة.

فماذا عن الاستقطاب و التعدّد المرجعی فی الفضاء الثقافی الدینی؟

الجواب یحتاج إلی بحث إناسی تطبیقی؛ولا یبدو أنّ هناک قاعدة تصلح لجمیع الفضاءات الدینیة مهما اختلف الزمان و المکان.وفی الباب القادم سوف تتّضح معالم الإجابة فی موضوعنا الخاصّ،و هو الفضاء الثقافی الإسلامی فی صدر الإسلام.

ص:80

ونکتفی هنا بالإشارة إلی أنّ الحالة العامة للفضاء الثقافی الإسلامی بعد السقیفة،کانت تعدّد المرجعیات ولیست استقطاباً ثنائیاً؛عدا استثناءات قصیرة زمنیاً،لا تشکّل خدشاً جدّیاً فی القاعدة الکلیة.

نظرة علی الأقطاب و المرجعیات فی القرن الأوّل

یشکل جهاز الخلافة بالتعریف المتقدّم فی المبحث السابق،قطباً ثقافیاً تتراوح قوّة تأثیره،شدّة وضعفاً،تبعاً لقوة شخصیة الخلیفة،ولقوّة الأطراف المناوئة.

فمثلاً:بلغت شدّة تأثیر هذا القطب فی عهد الخلیفة الثانی من القوّة, بحیث تمکّن من فرض تشریعات،یقول منتقدوه:إنها مخالفة لظواهر الکتاب العزیز،ولما کان یفهم من سنّة النبی صلّی الله علیه و آله،بعد أن رأی مصلحة قویة فی ذلک.ولعل أهم هذه التشریعات وأشدّها تأثیراً فی المجتمع الإسلامی،کیفیة توزیع العطاء بین المسلمین بحسب سوابقهم الجهادیة. (1)

فی مقابل ذلک نزلت قوّة تأثیر هذا القطب إلی حدّها الأدنی فی النصف الثانی من ولایة الخلیفة الثالث عثمان بن عفّان،بعد انکشاف ضعف الکثیر من ولاته،وافتضاح فسق بعضهم،علاوة علی إصراره علی الدفاع عنهم،أحیاناً،واشتداد قوّة معارضة کبار الصحابة(رضوان الله علیهم)فی المدینة له.

وزاد فی إضعافه،موقف أمّ المؤمنین عائشة منه،وهی التی ذهبت شوطاً بعیداً فی إسقاط الشرعیة عنه،حتّی بلغت حدّ إهدار دمه قائلةً:اقتلوا نعثلا فقط کفر. (2)

ولیس فوق هذا القول قول!

و أمام محور الخلافة وقفت محاور أربعة رئیسیة شکّلت مرجعیات ثقافیة ذات

ص:81


1- (1) .عبقریة الإسلام فی أصول الأحکام:275.
2- (2) .تاریخ الطبری:477/3؛و الکامل فی التاریخ:206/3.

مواقف متفاوتة من جهاز الخلافة ومرجعیته،وهی:

أ)مرجعیة أهل بیت النبی علیهم السلام.

ب)مرجعیة المهاجرین و الأنصار الأوائل.

ج)المرجعیة القبلیة القرشیة.

د)المرجعیة الثورویة التکفیریة، (1)التی جسدها الخوارج.

وإلی جانب هذه المرجعیات الأربع برزت مرجعیات صغیرة متشخّصة بأفراد متمیزین،مثل:کعب الأحبار وتمیم الداری...إلخ.

وکذلک مرجعیات منشقة عن تلک المحاور،أو تدّعی الانتساب إلیها زوراً وبهتاناً مثل:الغلاة،وأوّلهم السبئیة و الکیسانیة،کما سیأتی فی محلّه.

کلّ واحدة من هذه المرجعیات کانت لها أدواتها الخاصّة فی الفعل الثقافی.فتحوّلت الساحة الثقافیة و الفکریة إلی معترک فکری حقیقی.

2-أهمّ مرجعیات الصدر الأوّل وأدواتها الثقافیة
اشارة

مرّ أنّه إلی جانب مرجعیة جهاز الخلافة،کانت هناک مرجعیات أُخری،متفاوتة فی الشدّة و الضعف،بحسب موقعها الاجتماعی أو السیاسی.ویمکن حصر أهمّ الخطوط المرجعیة فی القرن الأوّل،کالآتی،مرتبة بتاریخ ظهورها:

أوّلاً:مرجعیة أهل البیت علیهم السلام:

یعتقد المتمسکون بها،أنها قد تأسّست بشکل رسمی یوم الغدیر؛و أنّ هذا هو التأسیس الرسمی الذی تشیر إلیه روایة البیهقی المتقدّمة.أمّا التأسیس الابتدائی, فقد حدث یوم الدار حینما استجاب الرسول الأکرم صلّی الله علیه و آله للأمر الألهی: وَ أَنْذِرْ عَشِیرَتَکَ

ص:82


1- (1) .الثورویة:هی نزعة ثوریة إفراطیة تنزلق بالثورة من دورها کوسیلة إلی وضع آخر یجعلها, کأنها غایة فی ذاتها،و قد کان شعارها الأول:لا حکم إلّا لله.

اَلْأَقْرَبِینَ 1 فجمع بنی هاشم وعرض علیهم رسالته مؤکداً أن خلافته ستکون لمن ینصره من بینهم،فلم یتطوّع لذلک غیر علی علیه السلام. (1)

وبعد السقیفة تکتّل حول أمیر المؤمنین علی علیه السلام مجموعة من أکابر الصحابة, أهمهم:عمار بن یاسر, وسلمان الفارسی, وأبو ذر الغفاری, و المقداد بن الأسود, وأبی بن کعب, وأبو أیوب الأنصاری, وعبد الله بن مسعود, وخزیمة بن ثابت...وغیرهم،دون أن یؤدی هذا التکتل إلی انشقاق أو تصدع فی جسم الأمة.

ثمّ لم یلبث أن التحق بهذا المحور جیل ثانٍ من الصحابة و التابعین, مثل:عبد الله بن عبّاس, وجابر بن عبد الله الأنصاری, ومالک الأشتر النخعی, وقیس بن سعد بن عبادة, ومحمّد بن أبی بکر...

و قد تعرض هذا الجیل الثانی من الموالین للمحور العلوی،لابتلاءات شدیدة بعد استیلاء الأمویین علی الحکم.فتحولت هذه الموالات إلی حرکة سیاسیة معارضة،انشعبت إلی عدة حرکات وفرق،کلٌّ منها یدّعی نصرة أهل بیت النبی علیهم السلام.

ثانیاً:مرجعیة المهاجرین و الأنصار الأوائل:

وتتشکّل من وجوه صحابیة بارزة لمع نجمها فی غزوتی بدر،وأُحد،مثل:الزبیر بن العوّام, وطلحة بن عبید الله, وسعد بن أبی وقّاص, وأبی عبیدة بن الجرّاح،و قد تکتّل حول هذا المحور کثیر ممّن التحق بصف المسلمین فی فترات متباعدة،واشتهروا بروایة الحدیث و الزهد و الفضل،وهؤلاء لم یظهروا معارضة تذکر للخلیفتین الأولین طیلة حکمهما.

بل کان معظم أقطاب هذا المحور قادة؛وولاة وخطباء منبریین رسمیین،ولم یحصل افتراق هذا المحور عن محور الخلافة إلّا فی عهد عثمان الذی عزلهم

ص:83


1- (2) .تاریخ الأمم و الملوک:63/2.

ودفعهم إلی صف المعارضة،بدایة من العقد الثالث للهجرة.

ثالثاً:المرجعیة القبلیة القرشیة:

ظهرت أولی الإشارات إلی هذه المرجعیة ذات الجذور الجاهلیة الواضحة،فی اجتماع السقیفة،و قد تقدّم فی روایة الشهرستانی:أنّ أبا بکر لم یتمکّن من إقناع الأنصار بالانصراف عن نیتهم فی تعیین خلیفة منهم،إلا بالاستدلال بحدیث النبی صلّی الله علیه و آله«الأئمّة من قریش».

بدایة من اجتماع السقیفة صارت للقرشیة-بما هی هی-شأنیة سیاسیة أعادت إلی الأذهان الامتیازات القبلیة و العشائریة،لعهد ما قبل الإسلام.وتعتبر سیرة أبی بکر فی تولیة رجال من قریش حدیثی عهد بالإسلام،علی الجیوش التی أرسلها لحرب المرتدین،وتغاضیه عن انحرافات بعضهم أحیاناً، (1)تزکیةً لوجوه بارزة أصبحت رموزاً لهذا المحور فیما بعد.

المهمّ فی هذا المحور أنّه فتح المجال لمحور عشائری أضیق منه وأخطر،لم یستطیع ادّعاء مرجعیة دینیة،فاضطر إلی تحویل الخلافة إلی ملک،و هو المحور الأموی الذی أسّسه مروان بن الحکم عندما کان وزیرا للخلیفة الثالث عثمان.

و قد طوّر معاویة بن أبی سفیان هذا المحور بعد مقتل الخلیفة عثمان،خلال تمرّده علی الخلیفة الراشدی الرابع،وأکد توجهه هذا إثر استیلائه الکامل علی السلطة بعد نقضه بنود الصلح مع خلیفة المسلمین الخامس الإمام الحسن بن علی سبط الرسول صلّی الله علیه و آله سنة41 للهجرة.

رابعاً:المرجعیة الثورویة التکفیریة:
اشارة

رغم أنّ جذور الفکر التکفیری تعود إلی ظاهرة المروق التی نشأت فی أواخر عهد النبی صلّی الله علیه و آله،فإنّ تبلورها بشکل عملی ضمن محور سیاسی وثقافی مؤثّر لم یظهر

ص:84


1- (1) .کما فعل مع خالد بن الولید،الذی قتل مالک بن نویرة وتزوج امرأته فی نفس اللیلة.ورفض إقامة الحدّ علیه،ملتمساً له العذر فی التأویل؛تاریخ الطبری:504/2.

إلا طیلة أحداث الفتنة الکبری تحت عنوان:الخوارج،الذین کفّروا جمیع من خالفهم من المسلمین واستحلوا دماءهم.

وبالقراءة السطحیة قد یصنّف الخوارج،کمحور منشق عن محور أهل البیت علیهم السلام،بدعوی أنّ هذه الجماعة تأسّست بانشقاق داخل معسکر الإمام علی علیه السلام فی حرب صفین التی واجه فیها المتمرّدین بقیادة معاویة بن أبی سفیان.

إلا أن هذا التحلیل بعید عن الدّقة و الواقعیة, کما سیتوضح فی أبحاث الباب المقبل.ونکتفی هنا بالإشارة إلی أن معسکر الشرعیة فی صفین،کان یضّم الکثیر من أتباع المحاور الأُخری،ولم یکن المحور الولائی داخله مهیمناً أبداً.

أدوات السلطة

کانت أدوات الفعل الثقافی المتاحة بأیدی السلطة الممثّلة فی جهاز الخلافة،تقتصر علی ما تقدّم من صلاحیات التقنین و التعیین،وجهاز الخطب المنبریة الذی تقدّم بیان محدودیة إشعاعه،بالقیاس إلی المنابر الشعبیة ذات السیولة الکبیرة،مثل:الشعر،ونظیره من النثر الروائی،الذی کان یروّجه أصحاب«السِیر و المغازی»الذین خلّفوا رواة«أیام العرب».

فی هذا الوضع لنا أنّ نتصوّر حساسیة موقف جهاز الخلافة وضعفه أمام المرجعیات الثقافیة الأُخری بمجرّد أن تفقد أدواته ما عندها من الإشعاع المحدود.

و هذا ما حصل بشکل واضح فی عهد الخلیفة عثمان،حیث تحوّل بعض هذه الأدوات بالذات إلی هدف للانتقادات.فکیف یمکن لجهاز الخلافة أن یحافظ علی أدنی تأثیر فی حین یکون و الی إحدی أهمّ المدن, وهی الکوفة سکّیراً؟

ووصل به الاستهتار إلی أن صلّی بالناس صلاة الصبح سکرانا! (1)

ص:85


1- (1) .هو:الولید بن عقبة بن أبی معیط،الذی صلّی بالناس أربع رکعات بدلاً عن رکعتین فی الصبح،تحت وطأة السکر.و قد مرت الإشارة إلیه.

وما أن وصلت السلطة إلی أیدی المحور الأموی،حتّی استقرّت عزلة الجهاز الثقافی الرسمی،فلم یعد عقلاء المسلمین یعبأون کثیراً بما یقال علی منابر المساجد.

أدوات المعارضة

لیس من السهل الحصول علی تطبیق لمفهوم المعارضة بمعناه المعاصر طیلة حکم الخلیفتین الأوّل و الثانی،فجمیع المحاور التی تقدّم ذکرها کانت مشترکة فی السلطة أو متعاونة معها،بشکل أو بآخر.ولهذا التوافق أسبابه التی سوف نوضّحها فی الباب المقبل.

إلا أنّ هذا الوضع الذی یتمیز بجزئیة الصراعات واقتصارها علی مناقشة هذه الفتوی أو تلک،علی النحو الذی تقدّمت الإشارة إلیه فی المبحث السابق،لم یعمر طویلاً.فقد دخلت الساحة الفکریة منذ عهد الخلیفة عثمان مرحلة جدیدة سادتها حالة صراعیة مفتوحة.فمنذ أن عزل الخلیفة عثمان کبار الصحابة،مثل:الزبیر, وسعد بن أبی وقّاص...عن أهمّ الولایات،حرم جهاز الخلافة من أفضل وسائل عمله الثقافی،فتحول هؤلاء الأقطاب-کما تقدّم-ضمن محور المهاجرین و الأنصار إلی صف المعارضة المفتوحة،وبعد استفحال أمر ظلم ولاة عثمان من بنی أمیة،واستبدادهم بأموال بیت المال،خرج بعض الروّاد فی محور أهل البیت النبوی علیهم السلام مثل:أبی ذر الغفاری, وعمّار بن یاسر عن صمتهم،ولعبوا أدوارا هامّة فی تنبیه المسلمین إلی حقوقهم السلیبة.

بالتزامن مع هذه الحرکة المعارضة،بدأ المحور الأموی یلعب دوراً شدید الخطورة, فمن جهة کان یورّط جهاز الخلافة فی شتی الأخطاء والانحرافات،ومن جهة أُخری کان یعمل علی زیادة تألیب الناس علی الخلیفة؛وذلک بنسبة أعمالهم وانحرافاتهم الشخصیة إلیه،کما کان یفعل معاویة بن أبی سفیان و الی الشام،ومروان بن الحکم وزیر الخلیفة.

فی هذا الوضع المتأزّم کان المحور الأموی ینشر نوعاً جدیداً من الفکر الإسلامی

ص:86

یقوم علی تأویل النصوص تأویلاً تعسفیاً لا سابقة له،مثل:تأویل کون المال لله،بالسماح لولاة الأمر الذین هم ظلّ الله فی الأرض،بالتصرّف فیه مطلقاً،ممّا حدا بأبی ذر الغفاری بأن یعارض هذه المقولة التی فقدت معناها بعد تأویلها،ویصرخ فی وجه معاویة قائلاً:بل المال مال المسلمین! (1)

ویمکن القول،أنّ أدوات المعارضة،منذ عهد الخلیفة عثمان تمثّلت أساساً فی الخطابة الحرّة،والدروس غیر المتقیدة بتعلیمات جهاز الخلافة.

ولکن تطوّرات الأحداث،و لم تلبث أن أعادت إلی الساحة أداة أُخری من الباب الواسع،وهی(الشعر)الذی تحوّل إلی وسیلة لتدوین الانتقادات ضدّ السلطة،فی مرحلة أولی،ثمّ إلی أداة تعبئة جماهیریة فعالة إبّان المعارک الحربیة،فی مرحلة ثانیة.

أمّا المحور الثوروی التکفیری،فمنذ الظهور العلنی لفرقة الخوارج،فقد تمیز أداؤه الثقافی بهیمنة:شعار التکفیر مطلقاً.فحکم هذا المحور علی نفسه بالهامشیة،فلم یکن له تأثیر مباشر فی الساحة الثقافیة؛إذ أن هامشیتة قد حدّت من قدرته علی الاستفادة من الأدوات المتعارفة مثل:الخطابة الحرة،فلم یبقَ لدیهم سوی(الشعر)لتمریر بعض عقائدهم.والحقیقة أنّ معظم الفرق المتطرّفة و السرّیة مثل الکیسانیة،قد وقعت هی الأُخری فی هذه المحدودیة،فلم یبقَ أثر من عقائدها إلا ضمن أبیات من الشعر هنا وهناک.

ومنذ ذلک العهد ظلّ الشعر الأداة الوحیدة المتاحة للفرق السرّیة و الهامشیة،قبل أن یبتکر إخوان الصفا أسلوب المناشیر(المنشورات)المسجدیة، (2)بعد قرنین.

ص:87


1- (1) .تاریخ الأمم و الملوک:335/3.
2- (2) .کانت هذه المناشیر توزع فی بعض المساجد سرّا،بإمضاء إخوان الصفاء وخلاّن الوفاء،وکانت تروج عقائد الإسماعیلیة،کما سیأتی فی محلّه.

البحث الثامن:إشارات ختامیة حول القیمة العلمیة لتراث الصدر الأوّل

اشارة

فی خاتمة هذا التمهید نرید أن نتعرّف علی الأدوات المعرفیة التی تشکّلت منها مادّة علم الفرق و المذاهب الإسلامیة.

فقد تحصّل ممّا مرّ أنّ نشأة الفرق والانشعابات الفکریة،کانت حاصل تقاطع الصیرورتین الثقافیة و السیاسیة،و أنّ الإطار المعرفی للعلم الذی یتولّی دراسة هذا الموضوع،و هو ما نحن بصدد تحقیقه،هو بدوره حاصل من تقاطع الفضاءین المعرفیین لعلم التاریخ السیاسی وعلم الکلام.

وخلال البحوث المتقدّمة تمکّنّا من الاطلاع المختصر علی تطبیقات هذه القاعدة،علی تطوّر الفکر و العقائد فی صدر الإسلام.

هکذا،فإنّ مجال البحث فی الأدوات المعرفیة یبدو محدّداً بحدود هذا التقاطع بین علم الکلام و التاریخ السیاسی.

وفی منطقة الاشتراک هذه،هناک مجموعة من التنبیهات تفرض نفسها قبل أن ندخل فی تقویم الأدوات المعرفیة لعلم الفرق و المذاهب الإسلامیة.

1-تنبیهات حول التقاطع السیاسی الکلامی
اشارة

أهمّ ما یجب التنبّه إلیه هو النتائج المنطقیة لأهم الأحداث التی وجّهت الفکر الإسلامی فی صدر الإسلام،ونفهرسها هنا حسب ترتیبها الزمنی.

من حدیث الغدیر إلی منع تدوین الحدیث

إنّ أهمّ النقاط المفصلیة التی یلاحظها کلّ متتبع للتاریخ السیاسی للجیل الأوّل،هی:حدیث الغدیر, ووفاة خاتم الأنبیاء, ومنع تدوین الحدیث.

ص:88

أمّا حدیث الغدیر،فقد مرّت الإشارة إلیه،و هو یجسد الالتقاء بین نقطتی انعطاف فی الصیرورتین العلمیة الفکریة و السیاسیة.

فمن ناحیة أولی،تنصیب علی بن أبی طالب أمیراً للمؤمنین علیه السلام بأمر من الله تعالی فی حیاة الرسول القائد صلّی الله علیه و آله،مهما کان الاختلاف فی تفسیر جهة هذا التنصیب،أهو مولوی أم إرشادی؟!أو هو وجوبی أم استحبابی؟!وفی تفسیر ماهیة الولایة المترتبة علیه،هل هی عاطفیة أم علمیة أم سیاسیة؟بل هو نصّ صریح علی أولویة مرجعیته العلمیة و السیاسیة معاًعلی سائر المرجعیات،بلا شک.

ومن ناحیة ثانیة،هذا التنصیب،علی فرض التسلیم بدلالته السیاسیة،دلیل علی انفراد الإمام علی علیه السلام بالإرث السیاسی للنبی صلّی الله علیه و آله دون سائر أکابر بنی هاشم،نظیر عمه العباس. (1)

و أما وفاة الرسول صلّی الله علیه و آله دون أن یتمکّن من إملاء وصیته،بحیث تنقطع أسباب التأویل؛فقد أحدثت فراغاً کبیراً وتساؤلات کثیرة فی أذهان جمیع من لم یعاصر هذا الحدث الجلل،من الأجیال اللاحقة خاصة.

ومن هذه التساؤلات الملحة:التساؤل حول ضرورة تدوین الحدیث الشریف،ومنه تلک الوصیة المفقودة،فی عصر تهیمن فیه الثقافة الشفویة.

ویقابل هذا التساؤل،تساؤل آخر حول دلالة قبول النبی صلّی الله علیه و آله بترک الوصیة دون تدوین:هل یجوز القول بأنّ هذا الترک هو نسخ لحدیث الغدیر؟

وتستتبع هذه التساؤلات تساؤلات أُخری عن دلالة فعل النبی وترکه.

وستأتی بعض التوضیحات عن هذه التساؤلات فی الأبواب المقبلة.

و أما منع تدوین الحدیث،فهو من أهمّ وأخطر ما صدر من نظام السقیفة فی عصرها الذهبی.فقد منع تدوین الحدیث النبوی،بدعوی الخوف من اختلاطه بالقرآن الکریم.

ص:89


1- (1) .هذا ممّا یسقط الشرعیة عن الخلافة العباسیة التی قامت سنة 132ه علی أساس الدعوة إلی الرضا من آل محمّد صلّی الله علیه و آله،وذلک مهما کانت تأویلات حدیث الغدیر.

وخطورة هذا المنع-کما مرّ-تکمن فی حرمان جیل الصحابة من فرصة تدوین ما أخذوه ودونوه عن النبی صلّی الله علیه و آله،قبل أن یذهب به النسیان،أو یذهب برواته الموت.

و قد کان من المفروض أن تشکّل کثرة القتلی فی صفوف الصحابة أیام حروب الردّة خاصّة (1)حافزاً للإسراع بعملیة التدوین, ولکن الظاهر أنّ الجهاز الثقافی لنظام السقیفة کان یعتقد بکفایة القرآن الکریم،والسنّة العملیة الثابتة بالإجماع،کمصدرین للتشریع.وفی هذا الموقف ما فیه،ممّا سوف نتناوله بالبحث فی محلّه...

استیلاء المحور الأموی علی السلطة فی عهد الخلیفة عثمان

کان هذا الاستیلاء تدریجیاً؛وبدأ-کما مرّ-بإقصاء رموز محور المهاجرین و الأنصار من جهاز الخلافة.

و قد کان من أهمّ آثار هذا الإقصاء:

أولاً:فتح المجال للتشکیک فی مشروعیة نظام السقیفة فی عهده الثانی(الأموی)،وطرح مسألة الإمامة من وجهة نظر عقائدیة مغایرة.

ثانیا:طرح مفهوم مرجعیة سیرة الشیخین:أبی بکر وعمر بشکل جماهیری فی مقابل مشروعیة الخلافة الضعیفة.

و قد شکّلت مشروعیة سیرة الشیخین بعد مقتل عثمان عقبَة کأْداء أمام البرنامج الإصلاحی الذی أراد الإمام علی علیه السلام الخلیفة الراشدی الرابع تطبیقه،کما سیأتی فی محلّه لاحقاً.

محور أهل البیت علیهم السلام:نجاح ثقافی وتعسّر سیاسی

إنّ أهمّ انجاز لمحور أهل البیت علیهم السلام فی هذه المرحلة کان تمکّنهم من المحافظة

ص:90


1- (1) .کان لشهداء المسلمین من القرّاء و الحفّاظ فی معرکة الحدیقة لوحدها،ضدّ مسیلمة الکذاب،قرابة الخمسمائة علی بعض الروایات،ولا شکّ فی کثرتهم علی أیة حال.

علی تراث النبی صلّی الله علیه و آله،بتحدّی قرارات منع التدوین.

إلا أنّ هذا النجاح رافقه فشل فی مقاومة الانقلاب الأموی.و قد تکرّس هذا الفشل بشکل خاصّ فی عدّة أحداث خطیرة،أهمها:

الأوّل:عدم القدرة علی منع حرب الجمل،حین عجز محمّد بن أبی بکر عن إقناع أخته أمّ المؤمنین عائشة بالتحرّر من سیطرة مروان بن الحکم الأموی وجماعته، (1)وکذلک انشقاق الزبیر بن العوام عن محور أهل البیت علیهم السلام تحت تأثیر ابنه عبد الله،فکان الإمام علی علیه السلام یقول:«مازال الزبیر منا حتّی نشأ بنوه،فصرفوه عنا»، (2)و قد کان للزبیر بن العوّام تأثیر کبیر فی إضفاء لون من الشرعیة علی معسکر الجمل،قبل أن ینتبه إلی المغالطة التی وقع فیها وإلی فداحة ما أقدم علیه،فیترک میدان المعرکة،وینسحب قافلاً إلی المدینة, فیقتله أحد الخوارج و هو فی الطریق إلیها.

الثانی:فی حرب صِفّین،حینما کاد جیش الإمام علی علیه السلام بقیادة مالک الأشتر،أن یقضی علی تمرّد أهل الشام بقیادة معاویة بن أبی سفیان،وعمرو بن العاص،فبادرا إلی رفع المصاحف و الدعوة إلی التحکیم،مستعینین بالخوارج الذین کانوا یشکّلون قسماً کبیراً من جیش الشرعیة.هنالک عجز مالک الأشتر وأصحابه عن إقناع الخوارج بالرجوع عن فتنتهم،وهم الذین حاصروا الخلیفة وهدّدوا بقتله إن هو لم یستجب لدعوة معاویة،وفشل مالک فی إیقاظهم من غفلتهم وإقناعهم بحقیقة خدعة معاویة ونیته فی ربح الوقت و النجاة من الهزیمة المحقّقة.

الثالث:وقوع بعض رموز هذا المحور فی فتنة المال،وترکهم صف الشرعیة،فی أحلک الظروف،من أجل مبالغ من المال.

الرابع:عجز أنصار الخلیفة الراشدی الخامس الإمام الحسن السبط علیه السلام عن تأمین الحدّ الأدنی من الحمایة لخلیفتهم،إلی أن أبقوه وحیداً فی مواجهة معاویة و الخوارج،ممّا جعل معاویة یجرؤ علی نقض جمیع بنود الصلح الذی عقده مع الإمام الحسن علیه السلام.

ص:91


1- (1) .هم الذین استطاعوا تعبئة جیش کبیر،بأموال بیت المال التی سرقها یعلی بن منبه بن أمیة من الیمن.
2- (2) .الإمامة و السیاسة:18/1.
ظهور الخوارج واستفحال ظاهرة التکفیر

أهمّ ما میز ظاهرة الخوارج،هو غلبة صفة التطرّف العقائدی وتوجیهها لسلوکهم السیاسی،بهذا الاعتبار کان ظهور محور الخوارج إفرازاً اجتماعیاً مضادّاً للمحور الأموی.

أمّا مواجهتهم لخلیفة المسلمین الرابع،ونجاح معاویة فی توظیفهم فی تمرّده علیه،فقد کانت مرحلة استثنائیة فی حیاتهم؛لهذا فقد أوصی رابع الخلفاء الراشدین بعدم محاربة الخوارج بعده.

و قد تقدّم أنّ هذه الوصیة من سنخ عدم تجویز الرسول صلّی الله علیه و آله لقتل ذی الخویصرة. (1)

لعلّ أهمّ أبعاد تطرّف عقیدة الخوارج،هی تعمیمهم التکفیر لکلّ مرتکب للکبیرة،و هذا المعتقد لم یلبث أن یولّد ردّ فعل،یماثله فی التطرف،صار یشکل دعامة حکم وسلطة کلّ فاسق،و هو القول بأنّه لا تضرّ مع الإیمان معصیة،الذی یسدّ الباب أمام تکفیر حکّام الجور،و هذا ما سوف نعود لبحثه ضمن عقائد فرقة المرجئة.

نجاح القیام الحسینی

لا شکّ فی نجاح حرکة عاشوراء بقیادة الإمام الحسین بن علی سبط رسول الله صلّی الله علیه و آله فی تعریة السلطة الأمویة من کل غطاء دینی شرعی،وفضحها کنظام ملکی استبدادی ودموی.فقبل موقعة کربلاء،یوم العاشر من محرّم سنة61ه،کان یسود التباس کبیر فی أذهان المسلمین،و هو توهّم شرعیة حکم معاویة.وبلغ أمر استکانتهم إلی هذه المشروعیة استعدادهم لتقبل انتقال الحکم لابنه یزید،ولو عن مضض،ومع امتعاض عامة نخبتهم واعتراض قلة قلیلة منها.وساعد علی ذلک القبول وجود سابقة تنصیب بالوصیة،فی نظام السقیفة, وهی تنصیب عمر من قبل أبی بکر.

ص:92


1- (1) .راجع العنوان:ظروف نشأة الفِرقة المارقة الأولی(فی الفصل الأوّل،من الباب الأوّل).

أما منشأ الشبهة الأولی،فهو عهد الصلح الذی عقده معاویة مع الإمام الحسن السبط علیه السلام،الخلیفة الشرعی الذی اختاره المسلمون بعد استشهاد خلیفتهم الرابع.فرغم نقض بنود هذا الصلح من قبل معاویة،وسقوط کلّ مشروعیة عن حکمه بسبب هذا النقض،فإنّ ضعف الوعی الحقوقی لمعظم المسلمین لم یکن یسمح لهم بالالتفات إلی هذه النکتة،وبقوا علی الوهم الشهیر القائل بأنّ مشروعیة حکم معاویة تأسّست عام الجماعة؛أی:عام الصلح؛وغاب عنهم أن تلک المشروعیة قد سقطت بمحض أن صرّح معاویة بوضعه بنود الصلح تحت قدمیه،وللإنصاف،لا بد أن نسجّل وجود بعض المواقف المستنکرة لهذا التسلیم العام،رغم بعد أصحابها عن الالتزام بالمرجعیة العلویة.ومثال هذه المواقف ما قرره عبد الحمید بن أبی الحدید عن أبی الفرج الأصفهانی:

قال أبو الفرج:وسار معاویة حتی نزل النُخَیلة،وجمع الناس بها،فخطبهم قبل أن یدخل الکوفة خطبة طویلة لم ینقلها أحد من الرواة تامة،وجاءت منقطعة فی الحدیث،وسنذکر ما انتهی إلینا منها.فأما الشعبی فإنه روی أنه قال فی الخطبة:ما اختلف أمر أمة بعد نبیها إلّا وظهر أهل باطلها علی أهل حقّها،ثم انتبه فندم فقال:إلا هذه الأمة فإنها وإنها...

و أما أبو إسحاق السبیعی فقال:إن معاویة قال فی خطبته بالنُخیلة:ألا إنّ کلَّ شیء أعطیته الحسن بن علی تحت قدمی هاتین،لا أفی به.قال أبو إسحاق:وکان و الله،غداراً.

وروی الأعمش،عن عمرو بن مرة،عن سعید بن سوید،قال:صلّی بنا معاویة بالنُخیلة الجمعة،ثم خطبنا فقال:والله إنی ما قاتلتکم لتصلّوا،ولا لتصوموا،ولا لتحجّوا،ولا لتزکّوا،إنکم لتفعلون ذلک،وإنما قاتلتکم لأتأمر علیکم،و قد أعطانی الله ذلک وأنتم کارهون.قال:وکان عبد الرحمن بن شریک إذا حدث بذلک،یقول:هذا و الله،هو التهتک. (1)

ص:93


1- (1) .شرح نهج البلاغة:46/16.

ولا بد من الإشارة،هنا،إلی حقیقة تاریخیة فی غایة الأهمیة:فقد قام معاویة فی حیاته،باغتیال أهمّ من کان یقول بسقوط مشروعیته،ولم یسلم من هذا المصیر حتی کبار الصحابة،وفی طلیعتهم سعد بن أبی وقاص.ولکنّ أخطر جرائمه کانت اغتیاله الإمام الحسن علیه السلام بالسمّ.

وکان استشهاد الإمام وتصفیة الکثیر من أنصاره،ضربة کبیرة للمحور الولائی،حتّمت علی الإمام الحسین علیه السلام تأجیل حرکته الفدائیة التاریخیة إلی الوقت المناسب،فکان تولّی یزید،الخلافة بعد أبیه،و هو الذی اشتهر فسقه بین الناس،فرصة لذلک القیام.فکانت ملحمة عاشوراء افتتاحاً لصفحة جدیدة فی التاریخ الإسلامی،أصبح فیها السلطان مجرّداً من سلاح الدین،وافتضحت أدواته الثقافیة؛فی حین توزّعت کلّ عناصر المشروعیة الدینیة علی المحاور الأُخری:محور أهل البیت علیهم السلام،ومحور عموم الصحابة،ومحور الخوارج.

أوّل مظاهر الطائفیة السرّیة

کان ظهور الکیسانیة، (1)مناسبة لنشأة أوّل مظهر من مظاهر الطائفیة السرّیة فی الإسلام.ففور وفاة محمّد بن الحنفیة،و هو فی طریقه من المدینة إلی الکوفة،ادّعی غلامه کیسان عدم وفاته واختفاؤه،ودعا أنصاره إلی انتظار خروجه لإقامة العدل،زاعماً أنّه هو مهدی الأمّة.

والذی حول هذه الدعوة الانحرافیة المغالیة إلی کیان طائفی،أنّها سرعان ما تحوّلت إلی کیان اجتماعی سرّی،یتوارث أعضاؤه عقائدهم طی الکتمان.وبذلک کان الجیل الثانی من هذه الحرکة أوّل تشکیل طائفی-بالمعنی الاصطلاحی الحدیث-فی تاریخ الإسلام.

ص:94


1- (1) .نسبة إلی کیسان،غلام محمد بن علی بن أبی طالب،المعروف بابن الحنفیة،لکون و الدته من بنی حنیفة.

وبقطع النظر عن عقائدهم التی تبرأت منها جمیع المحاور الأُخری وخاصّة محور أهل البیت علیهم السلام فإنّ إدخال العمل السرّی و الدعوة إلی طاعة قیادة مجهولة،شکّلت تحوّلاً خطیراً فی الأدوات الثقافیة المتاحة فی صدر الإسلام،إذ أنّه من الصعب تقویم عقیدة أو محاربتها عندما تتسلّح بسلاح السرّیة وتلتحف بالغموض.

2-هل توجد مصادر علمیة حقّاً؟
اشارة

بالتأمل فی المحاور المرجعیة الثقافیة التی تحکّمت فی الساحة الفکریة و العقائدیة فی الصدر الأوّل،وبملاحظة أهمّ ما میز مواقفها ومواضعها فی منطقة التقاطع بین التطوّر التاریخی السیاسی و التطوّر الکلامی،تعود مسألة الأدوات لتفرض نفسها بإلحاح،فنتساءل:

أوّلاً:ما هی مصادر المعرفة المتاحة لدی مختلف هذه المحاور؟وما هو مدی استقلالیة هذه المصادر عن المؤثرات الاجتماعیة و السیاسیة؟

ثانیاً:کیف وصلت عقائد وأفکار مختلف محاور الصدر الأوّل إلی عصر التدوین،وما هی ضمانات عدم تحریفها من قبل الخصوم،أو سوء تفسیرها وضعف انتقالها علی ید الأنصار أنفسهم؟

ثالثاً:ما هی الظروف التی دوّنت فیها عقائد المذاهب و الفرق،فی عصر التدوین الأوّل(القرنین:الثانی و الثالث)وهل کانت عملیة التدوین موضوعیة وحیادیة دائماً؟

حول انسداد الطریق العلمی

الإجابة عن التساؤلات الثلاث المتقدّمة من أعسر ما یتعرّض إلیه الباحث الأکادیمی المعاصر،و هو الذی تفصله القرون الطویلة عن عصر التدوین.بل إنّ هذا العسر قد أصاب أیضاً محقّقی عصر التدوین المتأخّر،أی:بدایة القرن الرابع إلی الحروب الصلیبیة،والغزو المغولی.

ص:95

فإذا نظرنا إلی وضع المدونات الحدیثیة و التاریخیة الأولی،وجدناها جمیعاً مستظلّة بظلّ أحد تلک المحاور أو مستمدة منه علی الأقل.

فطیلة القرنین الثانی و الثالث لم تُوجد أعمال موضوعیة بالتعریف المعاصر،ولکن هذا لا یخدش،بالضرورة،فی وثاقة أصحابها،بل یرجع إلی صعوبة الالتزام بالموضوعیة.

فمن المسلّم أن النقل بالتواتر هو الطریق الوحید الذی یؤمّن الاطمئنان مطلقاً،وأنّی لمحققی القرن الثالث بهذا الطریق؟

صحیح أنّ تسالم معظم أعلام الفقه علی حجیة نقل الثقة قد حل المشکلة عندهم،وسد الفراغ الرهیب الذی أحدثته.ولکن،هنا تطرح مشکلة أخری لا تقلّ تعقیداً و هی:ما هو تعریف الثقة؟

هنا تتدخل المحاور لتطرح مفاهیمها عن الثقة:

فبالنسبة للخوارج یصبح تحصیل وثاقة أی راوٍ وإحرازها أمراً صعباً مستصعباً،لتشدّدهم فی تعریف الإیمان.

وفی المقابل،یتسامح من یقول:بأنّه لا تضرّ مع الإیمان معصیة،إلی حدّ النقل عن کبار المجرمین و المتجاهرین بالفسق أحیاناً.

هکذا لا یبدو اعتماد خبر الثقة حلّاً موضوعیاً،بل هو أشبه ما یکون بتحصیل الحاصل:فکلّ حافظ محدّث لا یوثّق سوی من یروی عنه،إذ لو کان یثق بغیرهم لروی عنهم أیضاً.ویبقی ادّعاء انسداد باب المعرفة العلمیة وانحصار مصادر المعرفة فی الظنیات،لا یعدم أنصاراً یدافعون عنه.

محور أهل البیت علیهم السلام وإتمام الحجّة العلمیة

بعد الملاحظات المتقدّمة،تبرز أهمیة المحور الولائی دون بقیة المحاور:فهو

ص:96

الوحید الذی خالف منع تدوین الحدیث وحرص علی جمعه وتوثیقه بالکتابة سراً وعلانیة.فشکّلت مصادره الحدیثیة و التفسیریة المنبع الذی لم یستغنِ أحد عنه حتّی أولئک المنتسبون إلی المحاور الأُخری.

علاوة علی هذا،فإنّ ترأّس رواد هذا المحور من قبل إمام یعتقدون بعصمته،ویجمع سائر المسلمین علی وثاقته المطلقة علی الأقلّ،یجعل العلوم المنتقلة بهذه السلسلة الذهبیة مأمونة من الخطأ و التحریف مطلقاً.

لذا کان أئمّة أهل البیت علیهم السلام مؤسسین حقیقیین ومبکّرین لحرکة التدوین؛فشکلوا،فی باب تصحیح العلوم و المعارف،مرجعیة فریدة،ومعیاراً مأموناً لا یشکّ أحد فی صدقیته.

هکذا یکون المحور الولائی بزعامة أئمّة أهل البیت علیهم السلام قد عرف کیف یحفظ الرسالة ویتمّ الحجّة علی من طلب المعرفة العلمیة.و هذا-فی نفسه-مبرّر کافٍ لتنازل هؤلاء الأئمّة جمیعاً ابتداء بالإمام علی علیه السلام عن المطالبة بالسلطة السیاسیة،واکتفائهم بالإمامة الدینیة و العلمیة،لمن أراد ذلک،ممّن عرف حقهم وآمن بفضلهم.

ولهذا لقّب الإمام علی علیه السلام،فی زمن النبی صلّی الله علیه و آله ب:أمیر المؤمنین, ولم یلقّب ب:أمیرالمسلمین.

وسوف نری فی الأبحاث المقبلة،کیف أن المدارس الفقهیة و الفکریة التی کتب لها الرواج والانتشار, إنّما هی تلک التی عرفت کیف تستفید من محور أهل البیت علیهم السلام وعلوم أئمتهم.

ص:97

أسئلة للمراجعة و التعمّق

أسئلة البحث السابع

1.ما هو وجه الخطورة فی الاستقطاب الثنائی،أوضح هل هو مطّرد؟

2.هل التعدّد فی المرجعیة الثقافیة إیجابی باطّراد, أوضح وجه السلبیة إن وجد؟

3.قارن بین مرجعیة أهل البیت علیهم السلام ومرجعیة الصحابة الأوائل؟

4.لاحظ خصوصیات مرجعیة الخوارج.هل بإمکانها التحوّل إلی جهاز ثقافی سلطوی؟

5.هل کان انحصار المرجعیة القبلیة القرشیة بالتدریج فی المحور العشائری الأموی أمراً یمکن اجتنابه؟وما هو دور المحور الصحابی فی ذلک؟

أسئلة البحث الثامن

أقرأ النصّ الآتی لمحمّد بن جریر الطبری،وأجب عن الأسئلة الآتیة:

...وفی هذه السنّة أعنی سنة 30ه کان ما ذکر من أمر أبی ذر،ومعاویة،وإشخاص معاویة إیاه من الشام إلی المدینة.و قد ذکر فی سبب إشخاصه إیاه منها إلیها أمور کثیرة کرهت ذکر أکثرها.فأمّا العاذرون معاویة فی ذلک, فإنّهم ذکروا فی ذلک قصّة کتب إلی بها إلی السری،یذکر أنّ شعیباً حدثه عن سیف عن عطیة،عن یزید الفقعسی،قال:لما ورد ابن السوداء-یقصد عبدالله بن سبأ-الشام،لقی أبا ذر فقال:یا أباذر:ألا تعجب إلی معاویة, یقول:المال مال الله؟!ألا إنّ کان کلّ شیء لله, کأنّه یرید أن یحتجنه دون المسلمین, ویمحو اسم المسلمین.

فأتاه أبو ذر, فقال:ما یدعوک إلی أن تسمی مال المسلمین مال الله؟قال:یرحمک الله یا أباذر!ألسنا عباد الله؟!والمال ماله،والخلق خلقه،والأمر أمره.قال:فلا تقله.قال:فإنّی لا أقول إنّه لیس لله, ولکن سأقول:مال المسلمین،قال:وأتی ابن السوداء،أبا الدرداء فقال له:من أنت أظنّک-والله-یهودیاً.

فأتی عبادة بن الصامت فتعلّق به فأتی به معاویة, فقال:هذا-والله-الذی بعث علیک أبا ذر،وقام أبو ذر بالشام, وجعل یقول:یا معشر الأغنیاء،وأسوا الفقراء(بشّر الذین یکنزون الذهب و الفضة ولا ینفقونها فی سبیل الله بمکاوٍ من نار

ص:98

تکوی بها جباههم وجنوبهم وظهورهم...)فما زال حتّی ولع الفقراء بمثل ذلک،وأوجبوه علی الأغنیاء, وحتّی شکا الأغنیاء ما یلقون من الناس،فکتب معاویة إلی عثمان:أنّ أبا ذر قد أعضل بی, و قد کان من أمره کیت وکیت.... (1)

الأسئلة

1.لماذا لم یذکر الطبری إلا الروایة الاعتذاریة؟

2.هل یعقل أن یکون أبو ذر محتاجاً إلی عبد الله بن سبأ لیرشده؟

3.هذه الروایة مع إغراقها فی الاعتذاریة،هل تبرّئ ساحة معاویة حقاً؟

4.حلّل هذا القول وناقشه:کان أبو ذر الناطق باسم المحور الولائی،وکان وعیه یتجاوز ظاهر النصّ.

اختبار عامّ

1.النموذج الأوّل:

المطلوب دراسة النصّ الآتی للشهرستانی وتحلیله ومناقشته طبقاً لمخطط الدراسة:

...فافترقت المجوس علی سبعین فرقة،والیهود علی إحدی وسبعین فرقة،والنصاری علی اثنتین وسبعین فرقة،والمسلمون علی ثلاث وسبعین فرقة،والناجیة أبداً من الفرق واحدة؛إذ الحقّ من القضیتین المتقابلتین فی واحدة, ولا یجوز أن یکون قضیتان متناقضتان متقابلتان علی شرائع التقابل, إلا وأن تقتسماً الصدق و الکذب.فیکون الحقّ فی إحداهما دون الأُخری.

ومن المحال الحکم علی المتخاصمین المتضادّین فی أُصول المعقولات بأنّهما محقّان صادقان.

و إذا کان الحقّ فی کلّ مسألة عقلیة واحداً،فالحقّ فی جمیع المسائل یجب أن یکون مع فرقة واحدة.و إنّما عرفنا هذا بالسمع،وعنه أخبر التنزیل فی قوله عزّ

ص:99


1- (1) .تاریخ الطبری:335/3.

وجلّ: وَ مِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ یَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ یَعْدِلُونَ وأخبر النبی صلّی الله علیه و آله:«ستفترق أمتی علی ثلاث وسبعین فرقة،الناجیة منها واحدة و الباقون هلکی».قیل:ومن الناجیة؟قال:«أهل السنّة و الجماعة»قیل:وما السنّة و الجماعة, قال:«ما أنا علیه الیوم وأصحابی».

وقال صلّی الله علیه و آله:«لا تزال طائفة من أمّتی ظاهرین علی الحقّ إلی یوم القیامة».وقال صلّی الله علیه و آله:«لا تجتمع أمّتی علی ضلالة...». (1)

مخطط الدراسة:

1.المحور الأوّل:وضع النصّ فی إطاره التاریخی بالاستعانة بجوانب من شخصیة المؤلّف.

2.المحور الثانی:المناقشة الجدلیة:القبول بأن الفرقة الناجیة هی المتمسکة بالسنّة, و التی لا تشقّ صف الجماعة،وشرح هذا المفهوم بتعریف النبی صلّی الله علیه و آله.

3.المحور الثالث:المساواة بین مفهوم السنّة و الجماعة،وأهل الحقّ.

4.المحور الرابع:بقاء باب البحث عن الفرقة الناجیة مفتوحاً.

2.النموذج الثانی:

المطلوب دراسة النصّ الآتی للهروی،وتحلیله ومناقشته طبقاً لمخطّط الدراسة:

ویقول جمهرة من الحفّاظ منهم أبو عبید الهروی،فی تفسیره غریب القرآن عند آیة: سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ * لِلْکافِرینَ لَیْسَ لَهُ دافِعٌ 2 فقال:

لمّا بلغ غدیر خمّ ما بلغ وشاع ذلک فی البلاد،أتی جابر بن النضر بن الحارث بن کلدة العبدری, فقال:یا محمّد, أمرتنا من الله أن نشهد أن لا إله إلّا الله, وأنّک رسول الله،وبالصلاة و الصوم, و الحجّ و الزکاة،فقبلنا منک, ثمّ لم ترض بذلک حتّی رفعت بضبع ابن عمّک،ففضّلته علینا, وقلت«من کنت مولاه فعلی مولاه...»فهذا شیء منک أم من الله؟فقال رسول الله صلّی الله علیه و آله:«والذی لا إله إلّا هو إنّ هذا من أمر الله...»فولّی جابر یرید راحلته, و هو

ص:100


1- (1) .الملل و النحل:14/1.

یقول:اللّهم:إن کان ما یقوله محمّد حقّاً فأمطر علینا حجارة من السماء وأتنا بعذاب ألیم..., فما وصل إلیها حتّی رماه الله بحجر فسقط علی هامته،...وأنزل الله تعالی: سَأَلَ سائِلٌ ... .

مخطّط الدراسة:

1.المحور الأوّل:وضع الحدیث فی سیاقه التفسیری بلحاظ إدراجه أیضاً من قبل الثعلبی،وأبو بکر یحیی القرطبی فی تفسیره لسورة المعارج...وشمس الدین أبو المظفّر بن الجوزی الحنفی فی تذکرته:وابن الصبّاغ المالکی فی الفصول المهمّة, وأبو السعود العمادی فی تفسیره:وقال:أنّ السائل هو الحارث بن النعمان الفهری...

والشیخ برهان الدین الحلبی الشافعی فی السیرة الحلبیة...

2.المحور الثانی:حلّل طبیعة السؤال الواردة فی الحدیث:فهل کان السائل یجرؤ علی موقفه ذاک لو لم یکن یری أنّه یعبر عن رأی عدد کبیر من المسلمین؟

3.المحور الثالث:قَیم قوّة المعارضة لنص الغدیر،وحظوظ استجابة المسلمین،لو أصر النبی صلّی الله علیه و آله علی کتابة الوصیة.

4.المحور الرابع:أختم تحلیلک للحدیث ببیان حکمة سکوت کثیر من الصحابة عمّا جری فی السقیفة.

ص:101

ص:102

الباب الثانی:

اشارة

الانقسامات الأولی وأثرها المباشر

فی الفکر الإسلامی

الفصل الأوّل:

اشارة

موجّهات الفکر الإسلامی

من نظام السقیفة إلی العهد الأموی

ص:103

ص:104

أوّلاً:

اشارة

السقیفة وجذور الانقسام الأوّل

البحث التاسع
اشارة

مقدّمات السقیفة والاستخلاف

بعد ما تقدّم من البحوث التمهیدیة،تبرز أسئلة هامّة مترابطة،تتطلّب إجابات تحلیلیة:

أوّلها:إلی أی مرجعیة فکریة ینتسب نظام السقیفة الذی سبق التعبیر عنه بمحور عموم الصحابة؟

ثانیها:هل یمکن تبسیط الموضوع،بتنسیب هذه المرجعیة إلی محور المهاجرین و الأنصار،الذی تقدّم تعریفه؟

ثالثها:هل یعبّر نظام السقیفة عن اختزال للمشروع الإسلامی السیاسی الأصیل, أم هو مزیج من بعض عناصر هذا المشروع ومن بقایا الثقافة الجاهلیة؟

إنّ الحدیث عن إشکالیة خلافة الرسول صلّی الله علیه و آله یفرض علینا الرجوع إلی استقراء کامل لجمیع أحداث وتطوّرات الدعوة الإسلامیة منذ بدایتها الأولی.

فالذی یتحصّل من التحقیق و الدراسة المستفیضة للمصادر الموثوقة عند جمهور المسلمین علی اختلاف مذاهبهم ومحاور مرجعیاتهم،أنّ النبی صلّی الله علیه و آله لم یترک أمر

ص:105

خلافته غامضاً دون وصیة لا لُبس فیها, وکذلک مجموعة من الإرشادات لبعض أصحابه،توضّح لهم السبیل الأقوم الذی علیهم انتهاجه بعده.

1-حول مقدّمات الاستخلاف
اشارة

إنّ الذی یجب أن نتتبعه فی هذه المرحلة من البحث هو کثرة رواة الأحادیث التی تأسّست علیها مشروعیة المحور الولائی،وانتساب هؤلاء الرواة و الحفّاظ إلی محاور مرجعیات أُخری غیر المحور الولائی،أی:أنصار أهل البیت علیهم السلام؛و هذه الکثرة ذات دلالات هامّة،یجب أن نقف علیها بوضوح.

وفی ما یلی نتتبع أهمّ محطّات مسیرة مسألة الخلافة،من وجهة نظر الحفّاظ و المؤرّخین غیر المنتسبین لمحور أهل البیت علیهم السلام؛ومنها نستجمع عناصر مشروعیة المحور الولائی،الذی تبنّی مفهوم الولایة المطلقة،هذا النوع الجدید من الفکر،الذی تأباه الرواسب الثقافیة الجاهلیة القَبلیة و الثقافة الفردانیة. (1)

من حدیث الدار إلی حدیث الغدیر

تقدّمت الإشارة إلی حدیث الدار،و هو الذی تضمّن أوّل تصریح من الرسول صلّی الله علیه و آله باستخلاف علی،ابن عمه وتلمیذه الذی لم یکن یتجاوز الثانیة عشرة من عمره آنذاک،من بعده.و هذا الحدیث ذو دلالة واضحة رغم استهانة معظم الصحابة به،لطول العهد علیه وتأخر إسلامهم جمیعاً عن زمانه.فأوّل ما ینقدح من مطالعة هذا الحدیث هو أنّ مسألة الولایة و الخلافة الشرعیة طرحت بشکل متزامن مع الدعوة إلی الإسلام فی أضیق دائرة،وهی العشیرة.

ص:106


1- (1) .الفردانیة:مسلک فکری متمحور حول أصالة الفرد،واعتباریة المجتمع،وأولویة المصلحة الفردیة علی المصلحة الاجتماعیة،باعتبار الأخیرة وهمیة،إن هی تعارضت مع الأولی.

فلم یکن حدیث الغدیر إلا إعلاناً جماهیریاً ورسمیاً لعهد قدیم قدم الرسالة نفسها.و هو ما یثبت أصالة المحور الولائی،وتقدّمه الزمنی علی بقیة المحاور جمیعاً.

وفی حوزتنا أحادیث کثیرة من طرق شتی؛وهی متفرّقة علی مدی الدعوة الإسلامیة فی عهد الرسول صلّی الله علیه و آله،و قد تمیز ابن الصبّاغ المالکی المکّی بنظرته الموضوعیة إلی هذا التسلسل الزمنی الذی بدت علیه أمارات تهیئة الإمام علی علیه السلام،من قبل الرسول صلّی الله علیه و آله،لقیادة الأمّة من بعده،بقطع النظر عن جهة هذه القیادة:أهی جامعة ومطلقة؟أم مقتصرة علی بعض أبعاد الحیاة الإسلامیة؟

فضمن بیان مناقبه فی الفصل الذی عقده لذلک من کتابه الفصول المهمّة،وتحدیداً فی المنقبة الخامسة عشر،قال:

...فمن ذلک ما رواه البیهقی فی کتابه الذی صنفه فی فضائل الصحابة(رض)یرفعه بسنده إلی رسول الله صلّی الله علیه و آله أنّه قال:«من أراد أن ینظر إلی آدم فی علمه،وإلی نوح فی تقواه،وإلی إبراهیم فی حلمه،وإلی موسی فی هیبته،وإلی عیسی فی عبادته،فلینظر إلی علی بن أبی طالب علیه السلام.

وروی الإمام أبو القاسم سلیمان بن أحمد الطبرانی بسنده إلی عبد الله بن حکیم الجهنی, قال:قال رسول الله صلّی الله علیه و آله:

«إنّ الله تبارک وتعالی أوحی إلی فی علی،ثلاثة أشیاء لیلة أسری بی:بأنّه سید المؤمنین،و إمام المتّقین،وقائد الغرّ المحجلین».

وعن ابن عبّاس(رض)قال:لما نزل قوله تعالی: ...إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِکُلِّ قَوْمٍ هادٍ قال رسول الله صلّی الله علیه و آله:«أنا المنذر وعلی الهادی،وبک یا علی یهتدی المهتدون».

وعن مکحول عن علی بن أبی طالب علیه السلام فی قوله تعالی: ...وَ تَعِیَها أُذُنٌ واعِیَةٌ قال:قال لی رسول الله صلّی الله علیه و آله:«سألت الله أن یجعلها أذنک یا علی ففعل».

فکان علی علیه السلام یقول:«ما سمعت من رسول الله صلّی الله علیه و آله کلاماً إلّا وعیته وحفظته ولم أنسه». (1)

ص:107


1- (1) .الفصول المهمّة فی معرفة الأئمّة:571/1-576.

واللافت للنظر فی کل هذه الأحادیث،قابلیتها لأکثر من تأویل:

فمن زاویة نظر غیر محترزة،هی تحتمل الدلالة علی الإعداد للقیادة العامة و الولایة المطلقة.و هذا هو معتقد الولائیین المتمسکین بمرجعیة هذا المحور دون سواه،وهم الذین اصطلح علی تسمیتهم بالشیعة.

ومن زاویة نظر محترزة،هذه الأحادیث تحتمل دلالات أقل شمولا،مثل الإعداد للإمامة العلمیة و الأخلاقیة،دون القیادة السیاسیة،و هو ما ذهب إلیه جمهور المسلمین المتمسکین بمرجعیة عموم الصحابة،دون استبعاد لأهل البیت علیهم السلام منها.وأهم شواهد هذا الاحتراز،الدلیل الإناسی الذی یفید أنّ القیادة السیاسیة لا تستقر فی أی مجتمع بدون إحراز القبول الاجتماعی العام،حتی إن کان مفروضاً بحد السیف.

وتشکل وجهة النظر الأولی قطب الرحی فی الفکر السیاسی الولائی.لذا،فقد اعتنی علماء هذا الخط الفکری بجمع الشواهد علیه،من شتی الطرق.و قد جمع الإمام عبد الحسین شرف الدین العاملی،ما لا یقلّ عن أربعین حدیثاً بطرق الجمهور،وأربعین أخری بطرق الشیعة الموثوقة لدیهم, وکلّها تصبّ فی بوتقة تأکید وجود نیة قاطعة فی استخلاف الإمام علی علیه السلام بعد الرسول صلّی الله علیه و آله بأوسع معانی الاستخلاف. (1)

مع الغوغاء الظنیة

منذ اللحظة التی أعلن فیها تنصیب أمیر المؤمنین علی علیه السلام کوصی وخلیفة،تراوحت ردود الأفعال خارج المحور الولائی،بین رافض مجاهر بذلک،مثل ما ذکره الهروی فی تفسیر سورة المعارج، (2)وملتمس لتأویل یخرج الوصیة من حالة الإلزام و الإجبار إلی ما هو أخفّ منها،من الاستحباب و المرغوبیة،أو یستبعد الدلالات

ص:108


1- (1) .المراجعات:240 و282.
2- (2) .نص الحدیث فی ملحق التمهید،الاختبار العامّ.

السیاسیة التی بان علی کبراء قریش رفضها...

ومهما کانت التأویلات،فالقدر المتیقّن المترشح من کلّ ذلک هو أنّ خلافة الرسول صلّی الله علیه و آله لم تترک دون وصیة،ولکن المشکلة کانت فی تقبّل هذه الوصیة،کأمر قطعی إلزامی من قبل جماهیر ونخب لم تزل متأثرة بالغوغاء المنطقیة الظنّیة الموروثة عن العهد الجاهلی،ومعظمها کان حدیث عهد بالإسلام.

فکان هؤلاء المسلمون الجدد یحتکمون إلی مرجعیتهم القَبلیة و العشائریة فیرفضون تولیة علی علیه السلام،لما یرونه فی ذلک من المحاباة.و قد تساءلوا،کما فعل ذلک الرجل المذکور فی تفسیر سورة المعارج:هل هو أمر من الله أم اجتهاد دنیوی من محمّد صلّی الله علیه و آله؟

فکان ردّ الرسول صلّی الله علیه و آله قاطعاً وغیر قابل للتأویل:«أنّه أمر من الله...»فأضمر غالبیتهم رفضه, ولکنهم أجّلوا إعلان هذا الرفض إلی حین وفاة النبی صلّی الله علیه و آله.

ولا بد،هنا،من تذکیر بالمعطیات الجغرافیة البشریة الحاکمة آنذاک:

فعدد سکان المدینة الذین أسلموا قبل الفتح،لم یکن یتجاوز ثلاثة آلاف،بمن فیهم من مردوا علی النفاق،حسب صریح النص القرآنی.

أما مجموع من انضم إلی المدینة ومن جاورها من القبائل،ممن لم یسلموا إلا بعد الفتح،وفیهم عدة آلاف من طلقاء قریش،فقد بلغ عددهم أکثر من عشرة آلاف.و هذا العدد الکبیر من حدیثی العهد بالإسلام،کان یضم أعداداً من الزعامات القبلیة و العشائریة التقلیدیة،التی لم تکن تقبل بإعدام طموحاتها السیاسیة،بغلق ملف الرئاسة العظمی بجرة قلم واحدة،و إن کانت وحیاً إلهیا!

و قد کانت قریش تتزعّم هذا الرفض؛وهی التی کانت واعیة بثقلها الکبیر،وکان أکثرها من الطلقاء الذین أسلموا بعد الفتح،مغذین للمحور القبلی و العشائری،منعشین إیاه،بعد أن کان لا یکاد یجرؤ علی الظهور.

ص:109

ولعلّ تفسیر هذا الرفض یکمن فی کون کلّ بطون قریش کانت تطمع فی شیء من السلطة بعد وفاة الرسول صلّی الله علیه و آله لما یتوهّمونه من حقّهم العام فی وراثة سلطانه.

و قد فهم کبار الصحابة(رضی الله عنهم)واقع الرفض هذا،فظنّوا ظنّاً قویاً أنّها الفتنة،قادمة لا ریب فیها.

وربما خشی بعضهم حدوث ردّة جماعیة من قریش،تزیل المکاسب الکبیرة التی حقّقتها الدعوة الإسلامیة طیلة حیاة الرسول صلّی الله علیه و آله...

ولکن السقیفة وما جری فیها من توافق علی حساب المحور الولائی،لم یمنع ردة معظم قبائل العرب،أو ثورتهم،ولم یشکل أیة وقایة من الفتنة الکبری التی لم تلبث أن عصفت بالمجتمع الإسلامی،بعد عقدین من نظام السقیفة.

2-الرسول صلّی الله علیه و آله أمام رفض الوصی

إنّ الکثیر من الشواهد التاریخیة،تؤکّد أنّ الرسول صلّی الله علیه و آله کان یعلم جیداً ما یجول بأذهان أصحابه،و قد اتّضح أمرهم،فی ما بعد،یوم الرزیة.فوردت أحادیث کثیرة مفادها تحذیر الرسول صلّی الله علیه و آله لعلی علیه السلام من هذا الرفض.

فعن سعید بن جبیر،عن ابن عبّاس(رضی الله عنهما)قال:قال النبی صلّی الله علیه و آله لعلی-«أما إنّک ستلقی بعدی جهداً».قال:«فی سلامة من دینی»قال:«فی سلامة من دینک». (1)

وأوضح من هذا الحدیث،ما نقله أبو یعلی فی مسنده و المتّقی الهندی فی کنز العمال عن عدّة مصادر،و هو هذه الروایة،المسندة إلی الإمام علی علیه السلام:

بینا رسول الله صلّی الله علیه و آله أخذ بیدی ونحن نمشی فی بعض سکک المدینة،فمررنا بحدیقة فقلت:«یا رسول الله, ما أحسنها من حدیقة!قال:«لک فی الجنّة أحسن منها.

ص:110


1- (1) .المستدرک:140/3؛وکنز العمال:617/11.

ثمّ مررت بأخری فقلت:یا رسول الله, ما أحسنها من حدیقة!قال:لک فی الجنّة أحسن منها, حتّی مررنا بالسبع حدائق کلّ ذلک أقول:ما أحسنها!ویقول:«لک فی الجنّة أحسن منها،فلمّا خلی له الطریق اعتنقنی, ثمّ أجهش باکیاً, قلت:یا رسول الله, ما یبکیک؟قال:ضغائن فی صدور أقوام لا یبدونها لک إلّا من بعدی.

قلت:یا رسول الله, فی سلامة من دینی؟قال:فی سلامة من دینک». (1)

ونظیر هذا من الأحادیث کثیر،ونجدها خاصّة فی کتب علماء الجمهور غیر المبالین بالقیود السلطویة المانعة لکل ما من شأنه تقویة جانب الدعوات الشیعیة المعارضة.

ویمکن تفسیر الحرج الشدید الذی کان علیه الصحابة الکرام من أمر ولایة علی،بعدة أسباب،نجدها مذکورة متناثرة فی کثیر من الروایات،وأهمّها:

أولاً:کونه لم یتجاوز الثالثة و الثلاثین من عمره،فی حین أن بعضهم یعدون شیوخاً للمهاجرین،وأترابا للرسول صلّی الله علیه و آله؛علاوة علی کون العرب لا تدین بالطاعة لصغیر السن،عادة.

کذلک،فهو الذی قتل صنادید المشرکین من قریش, وحتی غیرها من القبائل؛فما من قبیلة إلّا و قد وترها فی أعزّ أبطالها؛وما من بطن من بطون قریش إلّا وله ثأر دفین یضمره لعلی.

فکیف ستدین العرب وشیوخها لفتی فی شرخ الشباب،وکیف ستقبل بطون قریش, وهی لم تکد تدخل الإسلام بعد،أن تنسی ثاراتها مع علی،وتدین له بالطاعة؟

لعلّ هذه الأسباب, وغیرها،هی التی جعلت بعض أکابر الصحابة رحمة الله یأملون فی تراجع الرسول صلّی الله علیه و آله عن قراره ویترقبون إذناً إلهیاً بذلک:بداءً،أو نسخاً،أو تخفیفاً من الله ینسخ به ما سلف یوم الغدیر.

ولهذا تراهم یدفعون بین الحین و الآخر بأحد الخاصّة المخلصین لعلی علیه السلام،

ص:111


1- (1) .کنز العمال:176/13؛و مسند أبو یعلی:426/1 و427.

فیسأل الرسول صلّی الله علیه و آله مرّة:تلو مرّة من وصیک؟ (1)

ویتحصّل من الروایات المتقدّمة،إطلاع النبی صلّی الله علیه و آله علی حقیقة ما یضمر أکثریة المسلمین،والأهمّ من هذا إطلاعه الإمام علی علیه السلام علی هذا الأمر،وإعداده لتحمل ذلک الموقف العصیب.

البحث العاشر
اشارة

حول نظریة البداء و التخفیف فی تفسیر السقیفة

بعد ما تقدّم من الأدلّة تبدو جمیع الاعتذارات القدیمة التی حاولت تبریر سلوک الصحابة أمام الاستخلاف،ضعیفة وواضحة التکلف.

و قد أشرنا فی التمهید (2)إلی أن هناک منهجاً رابعاً فی تفسیر السقیفة, و هو ثالث الاتّجاهات الاعتذاریة.و قد اعتمد أصحاب هذا المنهج (3)علی قبول جمیع هذه النصوص

ص:112


1- (1) .أورد ابن حجر فی فتح الباری مجموعة من الروایات تذکر الوصی،ولکنّه ضعفها جمیعاً فقال: ...قول الزهری أخبرنی سعید بن المسیب فی رجال من أهل العلم،قد تقدّم منهم عروة بن الزبیر, وکأن عائشة أشارت إلی ما أشاعته الرافضة،أن النبی صلّی الله علیه و آله أوصی إلی علی بالخلافة, وأن یوفی دیونه.و قد أخرج العقیلی وغیره فی الضعفاء فی ترجمة حکیم بن جبیر،من طریق عبد العزیز بن مروان،عن أبی هریرة عن سلمان،أنّه قال،قلت:یا رسول الله, إنّ الله لم یبعث نبیاً إلاّ بین له من یلی بعده, فهل بین لک؟قال:«نعم, علی بن أبی طالب». ومن طریق جریر بن عبد الحمید عن أشیاخ من قومه عن سلمان قلت:یا رسول الله, من وصیک؟قال:«وصی وموضع سری وخلیفتی علی أهلی, وخیر من أخلفه بعدی علی بن أبی طالب». ومن طریق أبی ربیعة الأیادی عن ابن بریدة عن أبیه رفعه:«لکلّ نبی وصی،و إنّ علیاً وصیی وولدی».ومن طریق عبد الله بن السائب عن أبی ذر رفعه:«أنا خاتم النبیین وعلی خاتم الأوصیاء»؛[فتح الباری:114/8]. ومهما قیل فی تضعیف هذه الروایات و الکثیر غیرها،فإنها جمیعاً تدلّ بالتواتر المعنوی علی المطلوب،والمحور الولائی لا یحتاج فی استدلاله إلی أکثر من هذا المقدار المتیقّن.
2- (2) .راجع العنوان:محوریة المنابر و الخطابة المسجدیة:الفصل الثانی،من الباب الأول.
3- (3) .دونت الخطوط العریضة لهذه الرؤیة فی خماسیة عصر الختم:119-184.

بدلاً عن الوقوع فی شناعة إنکارها،ولکنّهم یقدّمون تبریراً فریداً ومبتکراً لسلوک جمهور الصحابة.

ویتلخّص هذا التبریر فی التسلیم بما یعرف بالبداء:و هو تغییر الله لحکم من أحکامه قبل الدخول فی مرحلة الفعلیة، (1)وتطبیقه هنا:لمّا علم الرسول صلّی الله علیه و آله بقرب وفاته, ولم یکن شیء أصعب علی نفسه صلّی الله علیه و آله ممّا کان یخافه علی أمّته من التفرّق و التشتّت برفضها وصایة علی علیه السلام وتجاهل صحابته لهذا الأمر،کان یتمنی رفع هذا التکلیف عن أمته؛فنزل علیه الوحی بالتخفیف عن المسلمین:بأن جعل أمر الاستخلاف وتنفیذ الوصیة،مشروطاً بتحقق الأکثریة الناصرة.

ولهذا النظریة أدلّة روائیة،قابلة للمناقشة سنداً ومضموناً.

1-أهمّ أدلّة التخفیف

هناک روایات عدیدة یمکن أن تُفهم باعتبارها أدلّة تثبت نظریة التخفیف.فمثلاً قد یقال:إنّ الحادثة التالیة مؤیدة لهذا القول،وهی التی یؤکّد صحّتها أبو عبد الله الحاکم النیسابوری،ورواها مسندة إلی عبد الله بن مسعود،فقال:

کنّتُ مع النبی صلّی الله علیه و آله لیلة وفد الجنّ, قال:فتنفس!فقلت:ما شأنک یا رسول الله؟قال:«نُعیت إلی نفسی یا ابن مسعود».قلت:فاستخلف!قال:«من؟»قلت:أبا بکر.قال:فسکت, ثمّ مضی ساعة, ثمّ تنفس!فقلت:ما شأنک؟قال:«نعیت إلی نفسی یا ابن مسعود».قلت:استخلف.قال:«من؟»قلت:عمر قال:فسکت, ثمّ مضی ساعة, ثمّ تنفس.قال:قلتُ ما شأنک یا رسول الله؟قال:«نعیت إلی نفسی یا بن مسعود».قلت:استخلف.قال«من؟»قلت:علی بن أبی طالب.قال:«أمّا و الذی نفسی بیده،لئن أطاعوه لیدخلّن الجنّة أجمعین».

ص:113


1- (1) .البداء المقصود هنا نظیر للنسخ،والفرق بینهما أن النسخ یکون بعد دخول الحکم مرحلة الفعلیة.

وفی روایة أخری, قال:«ولا أراکم فاعلین،تجدوه هادیاً مهدیاً یحملکم علی المحجة البیضاء...». (1)

وجاء فیأ حاشیة شواهد التنزیل (2)أنّ مثل هذا الحدیث ذکره:...أبو نعیم فی ترجمة الإمام علی علیه السلام، (3)قال:

حدّثنا جعفر بن محمّد بن أبی عمرو،حدّثنا أبو حصین الوادعی،حدّثنا یحیی بن عبد الحمید،حدّثنا شریک،عن أبی الیقظان،عن أبی وائل:عن حذیفة بن الیمان قال, قالوا:یا رسول الله ألا تستخلف علیاً؟قال:«إنّ تولوا علیاً تجدوه هادیاً مهدیاً یسلک بکم الطریق المستقیم».

قال:ورواه النعمان بن أبی شیبة الجندی،عن الثوری،عن أبی إسحاق،عن زید بن یثیع،عن حذیفة نحوه.

حدّثنا سلیمان بن أحمد،حدّثنا عبد الله بن وهیب الغزی،حدّثنا ابن أبی السری،حدّثنا عبد الرّزاق،حدّثنا النعمان بن أبی شیبة الجندی،عن سفیان الثوری،عن أبی إسحاق،عن زید بن یثیع.عن حذیفة،قال:قال رسول الله صلّی الله علیه و آله:«إن تستخلفوا علیاً-وما أراکم فاعلین-تجدوه هادیاً مهدیاً یحملکم علی المحجة البیضاء».

[و]رواه إبراهیم بن هراسة،عن الثوری،عن أبی إسحاق،عن زید بن یثیع،عن علی.وحدّثنا نذیر بن جناح القاضی،حدّثنا إسحاق بن محمّد بن مروان،حدّثنا أبی،حدّثنا إبراهیم بن هراسة[عن الثوری،عن أبی إسحاق]عن زید بن یثیع،عن علی عن النبی صلّی الله علیه و آله.

والحدیث الأوّل رواه عنه الکنجی. (4)

و قد یفهم من هذه الروایات أنّ الأمر القطعی الذی بدا فی آخر حجّة الوداع, وعند یوم الغدیر کأنّه فرض علی المسلمین, بحیث یمکن افتراض شرطیة الامتثال إلیه

ص:114


1- (1) .البدایة و النهایة:397/7؛و تاریخ الیعقوبی:61/2.
2- (2) .شواهد التنزیل:83/1.
3- (3) .حلیة الأولیاء:64/1.
4- (4) .کفایة الطالب:162.

فی تمامیة الإیمان،قد خفف قبیل وفاة الرسول صلّی الله علیه و آله عن المسلمین وتحوّل إلی أمر استحبابی یثاب فاعله ثواباً کبیراً،ولا یأثم تارکه،إلا مع سوء النیة وخبث السریرة. (1)

و هذه المجموعة الأخیرة من الأحادیث،تعتبر الحلقة المفقودة،التی بإمکانها الربط بین مرحلة وصیة الغدیر،من جهة،ومرحلة السقیفة،من جهة أخری.فبهذه الأحادیث الأخیرة التی سبقت وفاة الرسول صلّی الله علیه و آله بلحظات-حسب هذه النظریة-یتّضح أنّ ولایة علی علیه السلام،بأی تعریف عرفناها،قد أصبحت من المندوبات و المستحبّات المؤکّدة برحمة من الله تعالی ورأفة منه برعیته.

فلو بقی أمر ولایة علی علیه السلام فرضاً علی المسلمین لا یتمّ الإیمان إلا بالامتثال له،کما توحی بذلک بعض روایات حدیث الغدیر،لشقّ ذلک علی أغلب المسلمین؛لما کانوا علیه من خضرمة منطقیة،تتداخل فیها المرتکزات المنطقیة الظنیة مع الأصول المنطقیة البرهانیة الجدیدة.فکان المحذور أن یقع المسلمون فی تمزّق نفسانی شدید بین النوازع الإیمانیة التسلیمیة و العوائق النفسیة الظنیة،فتکون الفتنة التی هی أشد من القتل.

والفتنة المقصودة فی هذا التحلیل،لیست تلک التی سبق لبعض المدافعین عن اختیار السقیفة،أن أشار إلیها،وهی التی لم تمنع السقیفة من اندلاعها،بل هی فتنة نفسانیة أعظم خطراً.فهی الفتنة العامّة و الشاملة للأکثریة العظمی من حدیثی العهد بالإسلام،من قریش خاصة،تنطلق من داخل الأفراد لتعمّ جمیع بطون قریش ولتهز أرجاء الجزیرة العربیة هزّاً عنیفاً.ویستدل أصحاب هذا التبریر بما جری فعلاً بعد السقیفة:فلو لم تکن قریش موحدة

ص:115


1- (1) .هذه الحالة هی التی أصبحت تُعرف باسم:النصب.وهی نصب العداء لأهل البیت،مع العلم بمنزلتهم.والنصب یکشف عن رفض دفین للإسلام،أو لشرائعه،مع عدم الجرأة علی المجاهرة بذلک.وأول النواصب هم الیهود الذین رکزوا عداءهم علی شخص الرسول صلّی الله علیه و آله،ثم علی أقرب أهل بیته إلیه من بعده.ومن بین الخلفاء الأمویین اشتهر معاویة بالنصب.ومن الخلفاء العباسیین اشتهر المتوکل بالنصب،وقتله ابنه لذلک.کما أن بعض الخوارج یعتبرون من النواصب،ولا یمکن تعمیم هذا الحکم علی جمیع فرقهم.

الکلمة خلف أبی بکر،من ذا الذی کان یتولی القضاء علی حرکات تمرد أدعیاء النبوة،من أمثال الأسود العنسی،وطلیحة الأسدی ومسیلمة الکذاب،وسجاح التمیمیة؟

وجریاً علی مقتضی حکمة الشارع الحکیم فی التخفیف فی جمیع الموارد التی تکون فیها المصلحة شدیدة و العمل شاقّاً، (1)فقد کان من المعقول-حسب هذه النظریة-أن تتدخل العنایة الإلهیة لتخفف ما شقّ علی المؤمنین قبیل وفاة الرسول صلّی الله علیه و آله فتمتنع بذلک الفتنة العظمی التی قد تخرج بعض الصحابة من دائرة الإیمان،وتعید أمر الإسلام إلی بدایته الأولی فی دار الأرقم بن أبی الأرقم بعد أن تمّ له الانتشار فی کامل أرجاء الجزیرة العربیة.

وهکذا،تقدم هذه النظریة جواباً رابعاً عن السؤال الأساسی المطروح فی التمهید:

لماذا لم یتّخذ الرسول صلّی الله علیه و آله ضمانات إجرائیة لتنفیذ وصیة الغدیر؟

والجواب،حسب هذا الرأی،هو:لأنه کان یعلم بحتمیة البداء فیه!

2-مناقشة النظریة

یمکن مناقشة نظریة التخفیف علی مستویین:سند الأدلّة ومضمونها.

أمّا علی مستوی السند،فالروایات المذکورة لا تصلح لإتمام الحجّة علی منکری الوصیة أصلاً،فلیست هذه الروایات ممّا یحتج به علی الجمهور؛لأنّ أبرز رواتها مثل ابن مسعود وحذیفة بن الیمان من رموز المحور الولائی.ومع تسلیم الجمهور بوثاقة هؤلاء الصحابة،فإن الطعن فی ما یروی عنهم ممکن،لکونه من الضعیف الذی لا یحتج به.

کما أنّ هذه الروایات لا تصلح أیضاً،للاحتجاج علی أنصار المحور الولائی القائلین

ص:116


1- (1) .هذه النظریة تستند إلی ظاهرة التخفیف فی التشریع،ومواردها کثیرة،مثل قوله صلّی الله علیه و آله:«لولا أن أشق علی أمّتی لأمرتهم بالسواک».وما روی من تخفیف عدد الصلوات الواجبة الیومیة من خمسین إلی خمس...إلخ.

بإلزامیة وصیة الغدیر،لکثرة الروایات عندهم،بطرقهم التی اجتهد علماؤهم فی إثبات وثاقتها الدالة علی أنّ ما حصل بعد وفاة الرسول،هو تنکّر عام لأمر إلهی صریح.

و أنّ هذا التنکّر یتراوح بین الردّة والانقلاب من جهة،وإیرادة اختزال الدین و الشریعة،اجتهاداً فی مقابل النصّ،من جهة ثانیة.

و أمّا علی مستوی المضمون،فمن عیوب هذه النظریة؛أنّ جمیع أدلتها قابلة لاستظهار آخر یؤید نظریة المحور الولائی.

علاوة علی هذا،فمن لوازم هذه النظریة أنّ النبی صلّی الله علیه و آله لم یعلم صحابته بهذا التخفیف،بل استمرّ فی تحریضه علی استخلاف علی علیه السلام و التأکید علی أنّه أضمن الطرق لنجاتهم بعده.

وبقی الجمیع علی هذه الحالة إلی حین وفاته صلّی الله علیه و آله؛و أنّ کبار الصحابة(رضی الله عنهم)ربّما قد ساورهم الشکّ فی إلزامیة ولایة علی علیه السلام فتمنّوا أن یبقی الأمر علی هذا الغموض،حتّی یمکنهم تأویله حسب ما یرونه من مصلحة ظاهریة.ومثل هذا الاعتقاد هو ما دفع عمر بن الخطّاب إلی موقفه یوم الرزیة؛فینبری لتلک المعارضة شدیدة اللهجة لإقناع الرسول صلّی الله علیه و آله بالإقلاع عن کتابة وصیته التی کان یخشی أن تتضمّن نصّاً صریحاً بولایة علی علیه السلام واستخلافه, فلا یمکن معها أی نوع من التأویل،فقول عمر:إنّ الرسول قد غلبه الوجع،و هو قول فی غایة الجرأة فی محضر أشرف الکائنات صلّی الله علیه و آله،کافٍ لإقناع الجمیع بعدم جدوی کتابة أی شیء؛لأنّه لن یکون له أی حجیة،بعد التسلیم بأن الموصی هو فی مرض الموت! (1)

ولذلک أقلع النبی صلّی الله علیه و آله عن إملاء وصیته؛لما علمه من إضمارهم ورفضهم لما لم یکونوا یرونه صالحاً.

ص:117


1- (1) .من المعلوم أن الوصایا التی تکون خلال مرض الوفاة،فاقدة للاعتبار.

وهکذا لم تکتب الوصیة وفتح مجال التأویل علی مصراعیه وخرج الصحابة من عنده.ولم تزدد إشکالیة الخلافة إلا تعقیداً فی أذهانهم.

هذا،کلّه،علی فرض عدم إطلاع الصحابة علی الأمر الإلهی بالتخفیف.ولکن فی هذا الاستدلال نقطة ضعف کبیرة؛لأنّه یستلزم اتهام النبی صلّی الله علیه و آله بإخفاء أمر إلهی جدید أوّلاً،وبإرادة کتابة خلاف ذلک الأمر ثانیاً.و هذا من أفظع ما یمکن أن یتّهم به نبی مرسل. (1)

3-من مفهوم الخلافة إلی مفهوم الإمارة

ممّا یمکن أن یفسّر الأحداث التی تلاحقت إثر السقیفة،الرجوع إلی تحلیل مفهوم الاستخلاف،وبیان الفرق بینه وبین مفهوم الإمارة.ومختصر القول فی هذا الموضوع هو أنّ الاستخلاف مفهوم تقریری،أی أنّ خلیفة أی شخص علیه أن یستمرّ فی عمل المستخلِف،فخلیفة النبی المرسل،لا بدّ أن یؤمن المحافظة علی الرسالة قبل کلّ شیء.

أمّا الإمارة, فهی مفهوم فضفاض قد یتساوی مع الإمامة فی بعض الاصطلاحات،و قد یکون إنشائیاً.فالأمیر هو الزعیم الآمر و القائد؛و هو لیس،بالضرورة،خلیفة أمیناً للأمیر السابق؛بل قد تکون مهمّته مخالفة ذلک الأمیر السابق إذا ما تطلبت ذلک قواعد حفظ الرئاسة.

فی ضوء هذا التعریف،یمکن أن نفهم بعض الأحادیث التی تذکر الإمارة أو الإمامة أحیاناً،والتی اعتمدها رواد محور المهاجرین و الأنصار،ومنها ما ذکره أبو بکر فی السقیفة:«الأئمّة من قریش»،وأوضح منه ما نقله أبو یعلی فی مسنده،و هو:

حدّثنا القواریری حدّثنا محمّد بن عبید الله العبدی, عن حفص بن خالد العبدی

ص:118


1- (1) .لا یقال:هنا إنّ ما أراد کتابته صلّی الله علیه و آله هو الأمر بالتخفیف المزعوم،فلیس فیه حسم للموقف بحیث یصدق أن یقول عنه:«لن تضلّوا بعدی أبداً».کما أن مثل هذا التوجیه یتعارض مع الأدلّة الأولی التی قامت علیها النظریة.

حدّثنی أبی, عن جدّی عن علی،أنّ رسول الله صلّی الله علیه و آله خطب الناس ذات یوم،فقال:«ألا إنّ الأمراء من قریش, ألا إنّ الأمراء من قریش, ألا إنّ الأمراء من قریش, ما أقاموا بثلاث:ما حکموا فعدلوا،وما عاهدوا فوفوا،وما استرحموا فرحموا؛فمن لم یفعل ذلک منهم, فعلیه لعنة الله و الملائکة و الناس أجمعین». (1)

هکذا یتّضح أنّ القول بأنّ ما حدث فی السقیفة کان اختزالاً للمشروع السیاسی الإسلامی،لا یخلو من مستند. (2)

وتوضیح الاختزال هو:أنّ وظائف الحاکم الشرعی،فی إطار نظام السقیفة،قد تقّلصت من خلافة الرسول صلّی الله علیه و آله بجمیع أبعادها،إلی الإمارة،وهی الإمامة العرفیة التی لا یشترط فیها أکثر من الحفاظ علی ظاهر الدین وسیاسة الناس بالعدل.

ص:119


1- (1) .مسند أبی یعلی:425/1 و426.
2- (2) .کلّ ما فی الأمر أنّ مثل هذه الروایات،لیست حجّة إلاّ علی بعض المبانی،و إنّما قد یقال-مع بعض التساهل-بأنّ هناک تواتراً معنویاً یثبت المطلوب.

ص:120

ثانیاً:

اشارة

الإطار الثقافی و السیاسی لأُولی انشعابات التشریع الإسلامی

البحث الحادی عشر
اشارة

الإطار الفکری العام للانشعابات الفقهیة

من المنطقی أن یرسی بحث الإمامة و الولایة علی شاطئ سؤال مهمّ،مازال یشغل بال النُّخب المثقفة فی العالم الإسلامی؛ویمکن صیاغته بعبارة جماهیریة تراهق الشعبویة،فنقول:

بأی حقّ تقید أی سلطة سیاسیة تفکیر الإنسان وتحرمه من الاستفادة الحرّة من نعمة العقل،بعد التسلیم بأنه هو الرسول الباطنی من الخالق إلی المخلوق؟

ویتفرع عن هذا السؤال تساؤل من جنسه:لماذا یدان من اجترأ علی التراث النبوی؟فأعمل عقله الحر فی تأویله.ومن باب أَولی:لماذا یدان من اجترأ علی معارضة من هم دونه؟

ومن هذا السؤال تتفرع أسئلة کثیرة،اعتقد البعضُ أنها قد أصبحت تشکّل عمدة محاور المباحث الکلامیة الجدیدة؛مع کونها قدیمة قدم الإنسان.

ومن أبرز نماذج هذه الأسئلة القدیمة الجدیدة،مسألة حریة اختیار النظام السیاسی:

هل أطلقها الشارع, أم قیدها بنظام الشوری, أم حدّدها،ضمن نظام الولایة،بالتعیین؟

ص:121

و هذا ما سنعود إلیه فی بحث المحصّلة.

أمّا الذی لا بدّ من وضعه فی إطاره الإناسی قبل کلّ شیء،فهو ما تقدّمت الإشارة إلیه من إجراءات تشریعیة،أو بالأصح فقاهیة تعبر عن اختیارات خاصّة واتّجاهات شکّلت سابقة اجتهادیة فی ما أصبح یعرف لاحقاً بأُصول الفقه:مثل کیفیة التعامل مع النصّ الشرعی،عامّة،وتجویز التشریع الاستقلالی فی بعض الحالات.والأهم من کلّ هذا:الجرأة علی منع تدوین حدیث النبی صلّی الله علیه و آله...

وتکمن أهمیة هذه الظواهر الاجتهادیة والاحتجاجات التی أثارتها،فی أنّها تعتبر المنشأ الأوّل لما یمکن أن یسمّی انشعابات فقهیة جنینیة،لم تلبث أن تطوّرت مع الزمن فأنتجت مختلف المدارس الفقهیة.

بین یدی هذا البحث من الضروری المرور بمسألة فکریة تقف فی منطقة التقاطع بین الفقه, و الفلسفة الإلهیة و السیاسیة.

و هذه المسألة هی حدود حریة المفکّر أو الفقیه،والإنسان عموماً،فی نظر الشارع و الحاکم الشرعی.فکان بحث الحرّیة الفکریة وحدودها مستلزماً حلّ حدّ أدنی من المسائل العقائدیة و السیاسیة،الدائرة جمیعاً حول محور نوع السلطة السیاسیة وصلاحیاتها.

1-الولایة الشرعیة و الحرّیة الفکریة
اشارة

لم تُطرح الإشکالیة الآنفة،أوّل الأمر وفی حیاة النبی الخاتم؛ولکنّها فرضت نفسها بقوّة،وبالتدریج مع السقیفة،وبالتحدید عند تقویم کیفیة حلّ أهمّ مسألة اعترضت المسلمین عند وفاة خاتم الأنبیاء صلّی الله علیه و آله،وهی إشکالیة الإمامة و الحکم فی المجتمع الإسلامی،فی غیاب قائد معصوم من الخطأ بالوحی الإلهی.

والحقیقة أنّ القرآن الکریم،وأحیاناً الرسول الأعظم صلّی الله علیه و آله،قد تولّیا مهمّة التوضیح.

ص:122

مع هذا فإنّ إجابات المسلمین عن هذه الإشکالیة،کانت محکومة بأحد التعَصُّبَین:

إمّا للرغبة فی تبریر ما وقع فی السقیفة.

و إما للبراءة منها ومما نتج عنها.

وبین هذین التعصبین،غاب الموقف الجریء الذی یضعهما ظهراً لظهر،لیبحث عن طریق ثالث ملتزم تماماً بقواعد الموضوعیة.

إجباریة التشرّع علی محکّ الإمامة

عند تقویم السقیفة انقسم المسلمون إلی اتّجاهین:

الأوّل:ولائی:یفتخر أصحابه بالتزامهم بالمحور العلوی؛و هو قائل بأنّ إمامة المسلمین أمر أهمّ وأخطر وأعظم من أن یهمله الإسلام،أو یفوّضه الله إلی أهواء المسلمین.

فیتساءلون:کیف یوکل إلی عموم الناس أخطر أمورهم, و هو الشأن السیاسی،الذی هو:إن فسد فسدوا،و إن صلح صلحوا؟

نعم!کیف یکون ذلک،والحال أنّه قد اعتنی بما هو أقلّ شأناً وأهون خطراً فی حیاتهم،متدخّلا حتّی فی أدقّ جزئیات علاقاتهم العائلیة؟بل هو لم یترک صغیرة ولا کبیرة من معاملاتهم المالیة إلا وبین لهم حکمه فیها،لإقرار نظم ووقایة المجتمع من الهرج و المرج وتضارب الأهواء،والعودة إلی تحکیم موازین القوی الاجتماعیة والاقتصادیة.

الثانی:تفویضی:لا یخفی تبریره المتنوّع شکلاً ومضموناً لما وقع فی السقیفة.و هو قائل بأنّ إمامة المسلمین أمر قد فوّضه الله لهم،فلهم أن یختاروا ما یرونه الأنسب أسلوباً للحکومة،ونظاماً اجتماعیاً وسیاسیاً.

ومن الطبیعی أن یکون تعدد التصورات للأنظمة التی یمکن أن تنسب لها المشروعیة،سید الموقف،فی مثل هذه الساحة المتنوعة بطبعها.

ص:123

ومن هذین القولین تشعّبت أقوال ونظریات،ظلّت المسألة الاجتماعیة بجمیع أبعادها مستبطنة فیها.

لکن،من اللافت للنظر أنه:فی حین یبقی السؤال الأساسی المطروح:هل التشرّع اختیاری؟دون إجابة صریحة،فی إطار النظریات القائلة بالتفویض،اضطرّ القائلون بالتعیین و النصّ-وهم أصحاب الرأی الأوّل-إلی التسلیم بأنّ أمر الإمام أو الحاکم الشرعی مقدّم علی إرادة الأفراد.وبالتالی فإنّ الناس غیر مخیرین فی أصل متشرّعیتهم علی المستوی الاجتماعی والاقتصادی،ولا،أیضاً،علی مستوی إنتاجهم الفکری،الذی یفترض أن یعبّر عن رؤاهم الاجتماعیة و السیاسیة؛حتّی إن کانوا،علی مستوی عباداتهم،یحظون بإمهال محدود بحیاتهم.

مفهوم عصمة الإمام فی إطار إجباریة التشرّع

کان الانشقاق الذی أحدثه اجتماع السقیفة،وما نتج عنه من انتصار جماهیری للخطّ التفویضی فی الفکر السیاسی الجنینی آنذاک،حاملاً فی طیاته بذور أولی الانشقاقات العقائدیة الکبری:فلم یکن أمام الأجیال اللاحقة من المسلمین إلا استثمار هذه البذور وتنمیتها فی الاتّجاه الذی یخدم انتماءاتها السیاسیة, ومیولها العقائدیة المتضادة التی تکفّلت الأحداث الجسام المتعاقبة علی الأمّة بعد السقیفة،لتفجیر تناقضاتها.

فقد کان القول بنصوصیة (1)تشریع الولایة وتثبیت عهد الغدیر،مستلزماً لاستمرار الجمع بین الإمامتین:الدینیة و السیاسیة،تحت رایة الولایة المطلقة.

فإذا کانت وظیفة الرسول صلّی الله علیه و آله-بما هو واسطة الوحی-قد فرضت علی المسلمین

ص:124


1- (1) .النصوصیة مفهوم مناهجی أصولی،یقع فی مقابل:العقلیة؛ویفید:کون الدلیل المعتمد هو نصّ شرعی لا یخالطه اجتهاد عقلی.

التسلیم بعصمته،فإنّ الجمع بین الولایتین فی شخص الإمام بعده،دون تقیید صلاحیاته بأی هیئة استشاریة ملزمة،کان یقتضی الإذعان-أیضاً-إلی دعوی تمامیة عصمته.

هکذا إذاً،کانت هناک ملازمة عقلیة-ولیس فقط عقلائیة-بین القول بنصوصیة الولایة ومشروعیتها الإلهیة وإطلاقها من جهة،والقول بضرورة عصمة ولی الأمر من جهة ثانیة.

فلم یکن من المقبول أن یزعم فرد عادی،أی:غیر معصوم،الولایة المطلقة،بمعناها الکامل،علی غیره.

أمّا القائلون بالتفویض،فمسألة عصمة الحاکم الشرعی لیست مطروحة عندهم؛لأنّ مشروعیة الولی الحاکم-فی نظرهم-مجعولة اعتباریاً،من قبل الشارع،بواسطة المحکومین أنفسهم،فلهم-تبعا لذلک-حقّ مراقبته و الردّ علیه،وحتی عزله،طبقاً لما یرونه من مصلحة.ولیس لهم فی کل ذلک،من دلیل أو مستند،سوی اجتهادهم العقلی و النصوصی فی تشخیص المصلحة العامة.

و هذا ما حصل فی أواخر عهد عثمان،حیث أجمع أکابر الصحابة(رضی الله عنهه)علی عزل خلیفتهم،بعد أن تبین لهم عجزه،وضعفه أمام قرابته،وخاصة وزیره وصهره مروان بن الحکم،الذی استبد بالأمر دونه.

ولعل أغرب ما فی تلک الأحداث الألیمة،احتجاج الخلیفة علی رفض الاعتزال،بأنّه لا یرید أن یخلع رداءً ألبسه الله إیاه.قاصداً الخلافة!

ففی هذا الاحتجاج رجوع ضمنی عن الاختیار العام الذی وصل بسببه إلی منصب الخلافة،ومیل واضح إلی نظریة الولائیین الذین قد یقبل منهم مثل هذا الزعم،بناء علی تصورهم الربانی للمنصب.

2-مرجعیة الفکر المتشرّع
اشارة

إنّ المجتمع الإسلامی الأوّل الذی بدأ تشکّله منذ الهجرة النبویة بتأسیس مجتمع

ص:125

المدینة،قد تشکّل نتیجة انقلاب مفاهیمی شامل أحدثه الإسلام فی أذهان معتنقیه.ویمکن تلخیص هذا الانقلاب فی مقولات مهیمنة تمثل محاور وجود المجتمع المتشرّعی الأوّل.

وعلی ضوء الدور الذی کان علی هذه المحاور أن تؤدیه،یمکننا الخروج برؤیة متکاملة عن حدود الحرّیة الفکریة المتشرعة،التی أمّنها المشروع الحضاری الرسالی (1)للأُمّة.

وبذلک یمکننا تقویم مختلف المواقف الفکریة المتفرعة عن موقع کلّ طرف من السقیفة.

الأُصول الخمسة للمرجعیة الحضاریة الرسالیة

إذا نظرنا إلی المشروع الحضاری الرسالی-من حیث هو مرجعیة فکریة-المفروض فیها أن تغطی الحاجات الفکریة للمجتمع الإسلامی فی حیاة الرسول صلّی الله علیه و آله وبعد وفاته،أمکننا أن نفکّک أبعاد فاعلیته إلی محاور خمسة،یشکّل کلّ منها أصلاً مرجعیاً.ویمکن أن نحصر أهمّ هذه المحاور فیما یلی:

الأول:إلغاء العرف الجاری الجاهلی،واستبداله بأحکام الشرع،التی لیست سوی إحیاءً لما اندثر وتهذیباً لما تشّوه, وتکمیلاً لما أنقصه الزمن من الشریعة الحنیفیة السمحاء،التی تخلّی عنها معظم العرب فی جاهلیتهم.

الثانی:تعبئة الطاقات الفردیة و العشائریة و القبلیة من أجل الصمود أمام المحیط المعادی دون الخوض فی صراعات داخلیة هامشیة،حتّی مع ظاهرة النفاق.

الثالث:تربیة الأفراد علی نُکران ذواتهم وتذویب شخصیتهم فی شخصیة القائد الرّبّانی بناءً علی التسلیم بعصمته وبقدرته علی استقصاء حظوظ تکاملهم الروحی و المادّی.

ص:126


1- (1) .الرسالی:المنتسب إلی الرسالة الإسلامیة بأکملها دون تبعیض وانتقاء،ومن الطبیعی أنّ المفهوم الرسالی أضیق دائرة من مفهوم المسلم.

الرابع:جعل التکامل و الترقّی بجمیع أبعاده هدفاً فردیاً وجماعیاً،وتغذیة الطموحات فی هذا الاتّجاه،فالإسلام لا یحارب الطموحات الفردیة،بل یهذبهاً ویطوّعها لخدمة الصالح العام. (1)

الخامس:حمل الهمّ الرسالی وتربیة الأفراد علی قبول مسؤولیة الشهادة علی العالم.و هذه المهمّة کانت تتطلّب نقلةً نوعیة علی المستوی الثقافی،فکانت أولی بوادر التغییر الثقافی فی مجتمع المدینة،هی تعمیم التعلیم و القطع مع العادة الجاهلیة العربیة التی کانت تستنکف من تعلّم القراءة و الکتابة.

هذه الأُصول الخمسة،باختصار شدید، (2)هی التی دعا إلیها القرآن الکریم لفظاً تارة بالنص الصریح،وتارة بالإشارة و التمثیل،وجسدها سلوک النبی صلّی الله علیه و آله وسیرته فی أصحابه وحتی مع أعدائه:إنّها الخطوط الحمراء التی یعتبر المسلمون أنفسهم حراساً وحماة لها،وکلّ من بقی ضمن هذه الخطوط الحمراء ولم یتعدّاها،یحقّ له أن یدّعی أنّه من الفرقة الناجیة،فهذه الأُصول هی مرجعیة الفرقة الناجیة.

ص:127


1- (1) .إنّ الطموحات الشخصیة فی هذه المدرسة الرسالیة الأولی لم تکن مذمومة بنفس الدرجة التی نجدها لاحقاً فی بعض المدارس الإسلامیة التربویة المنتسبة إلی التصوّف،فقد کان الرسول صلّی الله علیه و آله بحکمته واعیاً.بأنّ تجرید الکمالات البدنیة و الفکریة عن النوازع الغریزیة الأنانیة هو الجهاد الأکبر. ولو انتظر أن یصبح بعض العباقرة العسکریین من أمثال خالد بن الولید روّاداً فی الأخلاق ومجاهدة النفس،لما أمکنه الاستفادة من طاقاتهم لبناء الدولة الإسلامیة الأولی. و قد سار أبو بکر-إلی حدّ ما-علی هذا المسلک الواقعی،ولکنّه غلا شوطاً بعیداً فی الذرائعیة إلی حدّ اعتبره عمر بن الخطّاب نفسه متطرّفاً،فکان أوّل ما قام به الخلیفة الثانی عند تولّیه هو عزل خالد بن الولید عن قیادة جیوش الشام. راجع:جمیع الموسوعات التاریخیة المعروفة،مثل:تاریخ الطبری،وتاریخ ابن الأثیر.وفیها تفصیل رسالة عزل خالد بن الولید،وموقفه الذرائعی منها...
2- (2) .بحوث وحدویة فی أصول الطائفیة:الجزء الأوّل،راجع:التوضیحات.
مرجعیة الفرقة الناجیة و الفکر الإسلامی

بعد هذا التوضیح و هذا التعریف لمرجعیة الفرقة الناجیة،یتّضح أن الفکر الإسلامی الأصیل هو الفکر المتقید بهذه المرجعیة بأُصولها الخمسة.فإذا ظهر فکر خارج عن هذه الأُصول ومنکر لها, فإنّه لا یدخل فی تعریف الفکر الإسلامی؛وظهوره هذا،لا یعتبر تفریعاً فی الفکر الإسلامی،بل انشقاقاً عنه وخروجاً عن دائرة الفرقة الناجیة.

المحصّلة

حمل الإسلام مشروعاً حضاریاً متکاملاً،تُمثل نظریة الولایة الشرعیة فیه،صمام الأمان الذی یعصم المجتمع من التفسخ و التلاشی فی مهب ریاح الثقافات الوافدة من البلدان المفتوحة.وکان من المفروض فی الفکر الإسلامی بمرجعیته الخماسیة،أن یؤمّن لهذا المجتمع جمیع عوامل الاستقرار و التکامل مع حفظ نوع من الحرّیة الفکریة للمعارضة المتأرجحة بین مواجهة النصّ و التشکیک فی مرجعیته،والاجتهاد فی مقابل النصّ أو تأویله...

إلا أنّ التعرّف علی عمق التغییرات التی کان المشروع الإسلامی یسعی إلیها،یستوجب معرفة أبعاده الاقتصادیة خاصّة؛لأنّ المشروع الاقتصادی الإسلامی،هو أکثر أبعاد الطرح الحضاری الرسالی إثارة لحفیظة معارضیه،و هذا ما یخرج عن هذا المجال المحدود،ویمکن الرجوع إلیه فی مظانه. (1)

مع کلّ هذا،فإنّ السقیفة و النظام الذی خلفته،لم تلبث أن أوصلت المجتمع الإسلامی إلی فتنة هوجاء،اقتتل فیها کبار الصحابة،وأفرزت نظاماً استبدادیاً ملوکیاً مماثلاً للإمبراطوریات و الممالک المجاورة...

ص:128


1- (1) .المنطاد فی توضیح جبروت الاقتصاد:الباب الأوّل.

فهل کانت المرجعیة الفکریة ضعیفة إلی هذا الحدّ, أم أن وراء هذا السقوط المریع مرجعیة أُخری أشدّ قوّة وأکثر نفیراً؟

هذا ما سوف یتوضّح بالتدریج.

البحث الثانی عشر
اشارة

الاجتهاد فی ظلّ منع تدوین الحدیث النبوی

تحصّل ممّا تقدّم أنّه کان من الممکن تحسّس وجود تیار فکری ناشئ منذ عهد الرسول صلّی الله علیه و آله ینزع إلی الرأی المتحرّر؛وکان یتعاظم باطراد کلّما اتّسعت رقعة انتشار الإسلام.وأهمّ خاصّیة لهذا التیار هی،أنّ أقطابه کانوا یسمحون لأنفسهم بمناقشة الأوامر النبویة التی لا یعتبرونها إلهیة ومقدّسة بالضرورة.

هذا التیار هو الذی کان له الید الطولی فی التمهید لاجتماع السقیفة وما جری فیها وما أعقبها من أحداث جسام.

و هو المتجسّد فی المحور المرجعی الصحابی بقیادة بعض مشاهیر المهاجرین و الأنصار.

هذا المسلک الذی یطلق علیه فی أیامنا:الذرائعیة،و هو جدیر بالتحلیل الدقیق؛فهو أوّل تشکّل فکری فقاهی تجرأ علی الاجتهاد الاستقلالی.

1-ملامح الاتّجاه الفقاهی الذرائعی
اشارة

تتّخذ مناقشة النصوص الشرعیة وتأویلها،أشکالاً متفاوتة بتفاوت خلفیات أصحابها.وعلی العموم،فإنّ ذلک کان یقع حسب ما کان المجتهدون الاستقلالیون یرونه من مصلحة.

والخطّ العامّ لهذا الاتّجاه الاجتهادی هو ما یسمیالنزعة الذرائعیة Pragmatisme.

و هذا العنوان،هو من المفاهیم المشکّکة،ذات المراتب المتفاوتة فی الشدّة و الضعف.

ص:129

من مراتب الذرائعیة

تکون النزعة الذرائعیة متفاوتة فی الشدّة و الضعف, بحسب تفاوت درجات تمحّض المجتهد الاستقلالی فی المصلحیة،أی:فی درجة تبعیته لما تملیه علیه المصلحة التی یدافع عنها.

و قد تکون هذه المصلحة فردیة أو عائلیة أو عشائریة أو قبلیة وربّما یزعم أنّها مصلحة الأمّة،ولکن أوّل الکلام أن تکون مصلحة الأمّة متعارضة مع النصّ الشرعی.

فأعلی مراتب الذرائعیة وأشدّها تلک التی ترفض إسلام القِیاد،دون قید أو شرط،للنصوص الشرعیة و الأوامر و النواهی الإلهیة؛بل هی تحاول تأویلها والالتفاف علیها بحسب ما کانت قد شخّصته من مصلحة.

وبذلک تکون مفتقدة لأدنی درجات التشرّع،وموازیة لظاهرة النفاق موازاة قد تصل إلی حدّ التقاطع والالتقاء.فالدین وشرعه بالنسبة للذرائعی المحض جید ومرغوب مادام مطابقاً لهوی النفس،أو لما یحاول تصویره علی أنّه عین المصلحة.

أمّا إذا تبین أنّ بعض أحکام الدین مغایرة لهوی النفس أو لما یعتقد أنّه مصلحة،فإنّ هذا المصلحی الذرائعی یسارع إلی الالتفاف علیه و التنصّل من أحکامه إن لم یمکنه إبعاد الدین کلّیا عن ساحة التشریع.

و أمّا الدرجات الأدنی من الذرائعیة, فهی تتشکل طبق الحالات النفسیة والاجتماعیة،وتتعدّد أشکالها لتکوّن طیفا متّصلاً علی نحو الوجود المشکّک یزداد ضعفاً کلّما اشتدّ التدین و الإقبال علی العبادات.

والمهمّ هنا التنبه إلی ظاهرة حساسة:فحتّی بعض أشدّ أفراد المجتمع تدیناً قد لا یبتعدون عن الذرائعیة بالقدر المتوقّع من تشرّعهم.

فلربّما اعتقد المجتهد أنّ الحُکم الشرعی یدور مدار المصلحة و المفسدة ثمّ یبنی

ص:130

استنباطه الفقهی علی بعض الأدلّة الظنّیة،مثل القیاس التمثیلی،فینتج عن هذه المنهجیة فقه ذرائعی, و إن لم یقصد منه ذلک بالضرورة.

تطوّر التیار الذرائعی

بعد فتح مکّة،ودخول قریش ومعظم القبائل العربیة فی الإسلام،حدثت تطوّرات نوعیة فی التیار الذرائعی الذی کان قبل ذلک محدوداً فی عدد قلیل جدّاً من الصحابة ومحاصراً تماماً من قبل البقیة الذین ظلوا علی وفائهم للخط الرسالی،وتمسّکهم بالمشروع المنطقی البرهانی الذی جاء به القرآن الکریم.

فقد کان معظم الصحابة الأوائل ملتزمین بکلّ مقتضیات المتشرّعیة التی تقدّم بیانها،ولم یکونوا یرون فی وجودهم إلّا وسیلة لنشر الرسالة الإلهیة.وبعد دخول رؤوس العرب وخاصّة الملأ القُرَشِی بزعامة أبی سفیان وسائر أقطاب بنی أمیة وبنی مخزوم إلی الإسلام،تضخّم صفّ الذرائعیین بشکلّ فجیع،وتقلّص الدور الریادی لصفوة الرسالیین من الصحابة(رضی الله عنهه)،وتفاقم هذا الأمر بعد وفاة الرسول صلّی الله علیه و آله وخاصة بعد أن أکلت الغزوات وحروب الردّة معظم الرسالیین من قراء کتاب الله وحفّاظه.

فی هذه الظروف،کانت سیاسة النبی الأکرم صلّی الله علیه و آله ثابتة فی مداراة هذا التیار الذی تمیز بعض أفراده بالغلظة و الرعُونة.

ولعلّ قصّة ذلک التمیمی ووقاحته،أبرز مصداق علی الجسارة التی میزت بعض الذین کانوا یسمحون لأنفسهم بانتقاد من نزل الوحی بتنزیهه عن النطق عن الهوی،وبأنّه علی خلق عظیم،فیتجرّؤون علی اتّهامه بعدم الالتزام بما جاء به من مبادئ.

التیار الذرائعی و السلطة السیاسیة

إذا کان ذلک هو حال التیار الذرائعی فی حیاة الرسول صلّی الله علیه و آله،و قد کان حینئذ قادراً علی الردّ بنفسه علی کلّ الانحرافات،فلنا أن نتصوّر خطورة الموقف بعد وفاته.وکان

ص:131

أوّل ابتلاء للمسلمین بعد فقدانهم سید الخلق هو تعیین خلیفة له رغم الاعتقاد السائد بین معظمهم بوجود نصّ صریح بذلک فی غدیر خم.

أمام استحالة التشکیک فی أصل بیعة الغدیر،وهی التی لم یشهد العرب جماهیریة مثلها لا قبلها ولا بعدها،ومع ما مرّ من تعدد طرق الخدش فی دلالتها السیاسیة،لم یکن أسهل علی الطیف الذرائعی بمختلف تیاراته من الطعن فی دلالة هذا الحدیث علی تنصّیب خلیفة الرسول.ففتحوا کلّ باب للتأویل حول معانی لفظ الولایة و التولی،رغم أن الولائیین لم یظهروا أی إصرار علی منازعتهم سیاسیاً.

ولم تکن القلّة الولائیة الملتزمة بالظهور العرفی لنصَ ّ الغدیر،قادرة علی الوقوف فی وجه هذا التیار الجارف المتمسّک بتقدیم الأمر القرآنی الظاهری بالالتزام بالشوری:وأمرهم شوری بینهم،علی الظهور السیاسی لنصّ الغدیر:«من کنت مولاه فعلی مولاه».

و قد تبلّور موقف الجمهور بعد اجتماع سقیفة بنی ساعدة.ففسحت تلک الجلسة المصیریة المجال لربع قرن من الحکم الإسلامی الذرائعی الذی تعامل مع المحاور العامّة للمجتمع المتشرّعی تعاملاً متحرّراً،قد لا یحترز عن تعطیل بعض ما لا یری فیه مصلحة من الأحکام و المبادئ...

2-الخلافة الراشدة الرابعة فی مواجهة الذرائعیة
اشارة

قبل الکلام عن الخلافة الرابعة،لا بد من توضیح نکتة تاریخیة هامة:فنظام السقیفة قد انهار منذ منتصف عهد الخلیفة الثالث،واستمر هذا الانهیار بالتدریج إلی أن أکتمل بمقتله المأساوی الذی وضع المجتمع الإسلامی علی أخطر مفترق طرق بعد مفترق السقیفة.وکانت بیعة الإمام علی علیه السلام بالخلافة،غصباً عنه،عملیة إنقاذیة أراد منها أصحابها جبر بعض ما تحمله المجتمع الإسلامی من أضرار.

و قد کان علی الخلیفة الجدید أن یواجه معضلة ثقافیة فی غایة التعقید:فأمام

ص:132

استفحال المدّ الذرائعی طیلة عهد نظام السقیفة،کانت هناک شبهة قویة قد استقرّت فی کثیر من الأذهان.

فقد کان یقال:إنّه بدون تلک السیاسة لا یمکن لأی نظام أن یستقرّ ویثبت.

وحیث أنّ حفظ النظام من المطالب الأساسیة فی الشریعة فإن جمیع تلک الاجتهادات الذرائعیة تصبح مشروعة بالعنوان الثانوی.

و قد کان بالإمکان التسلیم بهذا المنطق الاعتذاری وقبول هذا الاستدلال لولا سلوک خلافة الإمام علی علیه السلام مسلک المقاومة وإتمامه الحجّة علی الأولین و الآخرین،فی هذا الباب وغیره.

ورغم أنّ تحلیل هذه المرحلة النورانیة من تاریخ الصدر الأوّل تضیق عنه المطولات،ناهیک عن المختصرات، (1)فلن نزعم،هنا،سوی الإشارة الخاطفة إلی البعض القلیل ممّا هو جدیر بأوسع البحوث وأعمقها.

ملامح حرکة التصحیح العلوی

لیس من الیسیر تلخیص القول فی أفضل فترة حکم عرفتها الإنسانیة فی تاریخها،بعد حکومة مدینة النبی صلّی الله علیه و آله،وسنکتفی هنا ببعض الومضات المشعّة التی أوحت إلی البعض من غیر المسلمین بکتابة الدواوین الشعریة فی حقّ رجل اعتبروا فکره تراثاً إنسانیاً لا یرقی إلیه نظیر. (2)

إنّ أوّل ما یلفت الانتباه فی حرکة التصحیح الاجتماعی والاقتصادی،هو إعادة الاعتبار لمبدأ تکافؤ الفرص،وذلک بالتسویة فی العطاء بین المسلمین،وهی السیاسة

ص:133


1- (1) .ممّا کتب فی شکل إشارات مختصرة،ما تضمنتها فصول مختلفة من الجزء الثالث من دراسات کلامیة:قراءة فی سفر التکوین الکلامی.
2- (2) .من دواوین الشعر التی کُتبت فی هذا التجسید الفرید للعدالة الإنسانیة هو الملحمة الکبری لبولس سلاّمة الشاعر اللبنانی المسیحی،وعنوانها:ملحمة عید الغدیر.

التی سلکها الإمام علی علیه السلام،قاطعاً بذلک العادة التی أسسها الخلیفة الثانی،بتفضیل السابق علی اللاحق من الصحابة فی العطاء.فکانت هذه السیاسة عبارة عن تحطیم أهمّ عامل من عوامل بروز الفوارق الطبقیة الفاحشة.

و قد عاضد هذا الإجراء الاقتصادی تعمیم التعلیم وفسح المجال لغیر العرب لطلب العلم.فاستفاد الأعاجم من ذلک استفادة عظیمة بعد أن حرمهم الأکاسرة من حقّ التعلیم طیلة قرون،وفرضوا علیهم الأمّیة بقوانین لا سابقة لها فی التاریخ. (1)

فکان الإسلام،بما حمله من تشریعات توجب طلب العلم وتجعله فریضة علی کلّ مؤمن ومؤمنة،محرراً للملایین من الرعایا الذین کانوا محرومین من هذه النعمة. (2)فتمکن عوام العجم لأول مرّة فی تاریخهم من الانعتاق من نیر الجهل و الأمّیة.

وفی کلّ فرصة کان الإمام علی علیه السلام یلقّن الإنسانیة درساً خالداً.وکانت هفوات أصحابه،وزلّات أقاربه،وانحرافات أعدائه،کلّها مناسبات لتسجیل هذه الدروس للتاریخ. (3)

و قد کان کل ذلک،مواقف مبدئیة تعبّر عن إرادة واضحة،لا فی حفظ الحکومة فی ظل نظام مماثل لنظام السقیفة،بل فی حفظ الإسلام من التحریف،ووقایة مضمونه الحضاری الرسالی المدنی من التلاشی والاضمحلال،تحت وطأة المصادرة السیاسیة للأکثریة؛وهی الواقعة دائماً،تحت تأثیر القوی الانحرافیة ذات المیول الاستبدادیة.

ومن ثمّ،کان الإمام الخلیفة یرید تدوین نسخة غیر مزوّرة من الإسلام،بعد ربع

ص:134


1- (1) .و قد استوحی منها استعماریو أمریکا قانوناً مماثلاً لحرمان الزنوج المستعبدین من التعلیم،ورغم التحریر الظاهری للعبید منذ سنة1864 إلّا أنّ هذا الحرمان قد استمر بأشکال مختلفة إلی ستینات القرن الماضی.
2- (2) .بعد ظهور موجة من الشعوبیة الجدیدة،تحاول إنکار فضل الإسلام ودعاته الفاتحین العرب علی شعوب إیران،بل واتّهام الفاتحین المسلمین بتخریب الحضارة الساسانیة الشامخة،تصدی العلامة الأستاذ الشیخ مرتضی مطهری للرّدّ علی هذه الموجة الجاحدة, وکتب فی ذلک مؤلّفاً جامعاً،إیران و الإسلام؛راجع:الترجمة العربیة.
3- (3) .بحوث وحدویة فی أصول الطائفیة:الجزء الأوّل،الإشارات لنماذج مختارة من هذه المواقف.

قرن من الاجتهادات الذرائعیة التی وصل بعضها إلی حدّ التلاعب بدلالات النصوص،والتدلیس المعنوی،أحیاناً. (1)

النموذجیة الحیة وربط الاجتهاد بالنصّ

لم تکن مواجهة الإمام علی علیه السلام لظاهرة الثراء الفاحش،بما هی المنزلق الاقتصادی الأوّل الذی زلت فوقه معظم الأقدام،مقتصرة علی اتّخاذ إجراءات تصحیحیة،مثل التسویة فی العطاء،بل ترکز اهتمامه علی تقدیم نموذج آخر للتعامل مع المال.

و قد کان هذا النموذج الجدید وثیق الارتباط بالقرآن و السنّة النبویة،فکان سلوک الإمام علی علیه السلام و المقربین منه تجسیداً للنموذجیة الحیة،ولسلوکها الاجتهادی المرتبط مباشرة بالقرآن و السنّة،فی مقابل نوع من النموذجیة المیتة التی بدأ أعداؤه یبنونها بالمبالغات ونسج الأساطیر،حول فضائل الخلیفة الثالث،الذی جعلوا من قمیصه شعاراً.و قد بلغ من انتهازیة أعدائه،أن اجتهادات رموز المحور الصحابی،المتشکّل من عموم المهاجرین و الأنصار،إلی قواعد تشریعیة لا یمکن المساس بها،رغم أن أصحابها،حال حیاتهم،لم یدّعوا لها أیة قدسیة.

هکذا،بدت حرکة الإصلاح التی قام بها الإمام علی علیه السلام،والمخلصون لنهجه من المنتسبین للمحور الولائی،حرکة نقد اجتماعی وثقافی بدرجة أولی.

فکان أوّل ما قام به،فضح ما وصلت إلیه حالة المسلمین بعد أکثر من عقدین من السیاسة و الفقاهة الذرائعیة.

فی هذا الاتّجاه قال أمیر المؤمنین الإمام علی علیه السلام،فی إحدی خطبه واعظا المسلمین: (2)

ص:135


1- (1) .مثال هذا التدلیس:تفسیر معاویة و الی الشام لملکیة المال لله،کما مرَّ.
2- (2) .نهج البلاغة:الخطبة 127.

«و قد أصبحتم فی زمن لا یزداد الخیر فیه إلا إدباراً ولا الشرَّ إلا إقبالاً،ولا الشیطان فی هلاک الناس إلّا طمعاً،فهذا أوان قویت عدته وعمّت مکیدته،وأمکنت فریسته،اضرب بطرفک حیث شئت من الناس،فهل تبصر إلا فقیراً یکابد فقراً،أو غنیاً بدل نعمة الله کفراً،أو بخیلاً اتّخذ البخل بحقّ الله وفراً،أو متمرّداً کأن بأذنه عن سمع المواعظ وقراً؟أین خیارکم وصلحاؤکم؟وأین أحرارکم وسمحاءکم؟

أین المتورعون فی مکاسبهم،والمتنزهون فی مذاهبهم؟».

إنّها صرخة من الأعماق تحاول جهدها أن توقظ ما قد یکون فی قلوب السامعین من الإیمان.وکانت کلمات الإمام کلّها صرخات فی وجه الکفر المستتر والانحرافات المفضوحة،وکانت سیرته نموذجاً حیاً للسلوک الرسالی الذی یتعانق فیه الزهد بالحکمة و الورع بالعلم و الجود بالخصاصة.

لقد مثلت المدرسة الرسالیة الولائیة الوجه الأصیل للوجود الإسلامی،بقیت خلاله صورة المؤمن النموذجی،الذی یضحّی بنفسه فی سبیل الله و الذی ینفق ما فی یده ولا یخشی الفقر.وبقیت تلوح من خلال سلوک أمیر المؤمنین علی علیه السلام وخاصّته فی المدرسة الرسالیة الولائیة بعض اللمحات القرآنیة الخاطفة،فتبهر الأنظار من حین إلی آخر.

النموذجیة الحیة فی مواجهة السفسطة

منذ أن دقّ ناقوس الثورة،وعزم الناس علی رفع مظالم بنی أمیة عن رقابهم،وهبّ المستضعفون من کلّ النواحی،وأمّوا المدینة قاصدین عزل الخلیفة عثمان الذی غلبه أهل بیته علی أمره،کانت الأنظار کلّها تتّجه نحو المدرسة الرسالیة ورموز المحور الولائی.

فترکزت مجهودات الثّوار علی نیل الشرعیة من رواد هذه المدرسة،وخاصّة إمامها علی علیه السلام.

وکانت نموذجیة هؤلاء الرسالیین تزید من زخم الثورة دون إرادة أصحابها،وذلک بمجرّد مقارنتهم بولاة عثمان وأهل الحظوة لدیه.

ص:136

والجدیر بالإشارة أن الإمام علیاً علیه السلام رفض الانسیاق وراء تیار الثورة الأعمی؛لعلمه بعدم کفاءة ذلک الجیل و قدرته علی حمل أعباء المسؤولیة الرسالیة بشکل لا ردّة بعده.

فکان الناصح الصادق لعثمان و الواعظ المهدئ للثّوار إلی آخر لحظات الانتفاضة،ولم یزد هذا السلوک الإمام علیاً علیه السلام إلا علوّاً فی أنظار الثّوار،ففرضوا علیه البیعة مع جمیع أهل المدینة بعد مقتل عثمان،فتحملها الإمام مرغماً و هو لا یری فائدة تذکر فی الإمساک بالسلطة مع جیل أفسدته ثلاث عقود من التکالب علی الدنیا.

هکذا دخلت النموذجیة الرسالیة مرحلة جدیدة:إنّها النموذجیة من موقع السلطة.

فهل کانت هذه النموذجیة کافیة لإیقاظ الضمائر النائمة؟

هل تترک وشأنها فی معالجة النفوس المریضة؟أم أنّ البنی المنطقیة الجاهلیة،التی حافظت علی مواقعها،ستقاوم هذه التجربة الإصلاحیة وتقضی علیها فی المهد؟

لا بدّ من فهم واقع الوعی المنطقی لهذا الجیل وتحلیله،لمعرفة نوع الاستدلال المهیمن علی خطابه،بعد تفجیر التشکیلة المنطقیة الظنیة المهیمنة،التی کانت متشکلة من الخطابة و الجدل و الشعر،وانتقال زمام المبادرة إلی المحور العشائری الأموی بقیادة معاویة بن أبی سفیان،ومروان بن الحکم،وارثی رایة الثقافة الجاهلیة،والمتبنین للکثیر من مقولات الغزو الثقافی الأجنبی،والخطاب السفسطائی.

فی هذا الضوء نستطیع فهم حقیقة الازدواجیة التی کان الخطاب الرسالی مطالباً بالحفاظ علیها فی تلک المرحلة العصیبة من تاریخ الأمّة.

فمن جهة،کان علی هذا الخطاب تکریس النموذجیة الرسالیة الحیة وفضح النموذجیات المزیفة المیتة،بالسلوک و الفعل المحسوس ودون شعارات،والهدف هنا إتمام الحجّة.

ومن جهة أخری،کان علی هذا الخطاب-أیضاً-توضیح الأبعاد الإصلاحیة فی کلّ تشریع أو إجراء یقوم به أمیر المؤمنین،تُجاه أی مسألة تعرّض علیه.فوجود

ص:137

الأعداء المتربصین بهذه الحرکة الإصلاحیة،وهم الذین لا یتورّعون عن أی من أسالیب الخداع و السفسطة،کان یتطلّب فضحاً متواصلاً للمغالطات التی کان رواد النفاق وأصحاب الخطاب السفسطائی،مثل مروان بن الحکم, ومعاویة بن أبی سفیان،یروّجونها بین المسلمین.

البحث الثالث عشر
اشارة

من الشوری النخبویة إلی الاستبداد العشائری

لقد اتّضحت أهمّ المحاور التی کانت تدور حولها المقولات الاجتماعیة و السیاسیة والاقتصادیة و الثقافیة الإسلامیة،وهی-کما مرّ-تشکّل بمجموعها عناصر الثورة التی أراد المشروع الرسالی إنجازها؛فکانت اجتماعیة واقتصادیة وثقافیة شاملة.

واتضح،کذلک،قصور عملیات الاختزال المتتالیة،التی تعرّض لها المشروع الرسالی،عن تعطیل جمیع أبعاد الثورة التی حاولت القضاء علی أسّس نَظم اجتماعی واقتصادی محلّی وعالمی،کان الناس قد تسالموا علی قبوله،طوعاً أو کرهاً.

ویتحصّل من ذلک أنّ هذه الثورة،رغم کلّ الموانع،قد أرست فی الأذهان مفاهیم جدیدة تغطی الأرضیة المادّیة و المعنویة لتکامل الفرد و المجتمع الإسلامی علی جمیع الأصعدة.

ومن أهمّ هذه المفاهیم:التحرّر؛والعزة؛ورفض الخنوع و الخضوع لجمیع أشکال الاستبداد،ونبذ العشائریة الجاهلیة.

وحیث إنّ نظام السقیفة لم یضرب هذه المفاهیم مباشرة،فقد استمرّت فی إضائتها لعقول مسلمی الصدر الأوّل،حتّی عصف بها الانقلاب الأموی الذی أحدث أوّل انقسام جذری فی الأمّة حول الموقف من الاستبداد.

ص:138

1-المشروع الرسالی فی مواجهة الاستبداد
اشارة

من أهمّ نجاحات المشروع التغییری الرسالی:الوعی الکونی الجدید الذی تفتّق فی أذهان الدعاة و القادة بمختلف مستویاتهم.

وأبرز معالم هذا الوعی الکونی هو الشعور بتفوّق المفاهیم الرسالیة علی المفاهیم السلطویة،والجرأة علی نقض الأساس الفکری للاستبداد الذی کان یمیز الأنظمة السیاسیة فی الحضارات المجاورة, إنه الوعی الرسالی التحرری،الذی یعتبر التوحید باباً للخلاص من الاستبداد ومن هیمنة الإنسان علی الإنسان.

نموذج من الوعی الرسالی التحرّری

فی مثل هذا الإطار النهضوی الشامل،کان بإمکان المجتمع الإسلامی الناشئ،تربیة دعاة إلی الإسلام،شکّلوا الجیل الأوّل من المثقفین الإسلامیین.فلو صرفنا النظر عن جیل کامل من کبار الصحابة(رضی الله عنهه)وحملة رایة العلم و الثقافة المتخرجین من مدرسة الرسول الأکرم صلّی الله علیه و آله،واکتفینا برجل من عامّة المسلمین حولته الثورة الثقافیة إلی داعیة استطاع أن یوجز المشروع الرسالی فی أبلغ کلمة قرعت أسماع جبابرة العصر،لأمکننا التعرّف علی عمق التغییر الثقافی الذی أحدثه الإسلام فی عرب الجزیرة.

فلو وقفنا لحظة عند خطاب ربعی بن عامر أمام قائد جیوش الفرس-قُبیل معرکة القادسیة-وتأمّلنا فی کلماته القلیلة لفهمنا عمق الثورة الثقافیة التی أمکن للمشروع الإسلامی إحداثها رغم جمیع ما حفّ به من ملابسات بعید وفاة الرسول صلّی الله علیه و آله.

فقد قال ربعی مخاطباً القائد الفارسی-عندما سأله عن سبب هجوم العرب المسلمین علی مملکته وتجرّؤهم علی مناوشته-بعد أن کانوا فی سابق عهدهم یکتفون باستجداء کرمه والاقتیات من الفتات الذی کان الأکاسرة یلقون به إلیهم:

ص:139

الله ابتعثنا!والله جاء بنا،لنخرج من شاء،من عبادة العِباد إلی عبادة الله, ومن ضیق الدنیا إلی سعتها, ومن جور الأدیان إلی عدل الإسلام.فأرسلنا بدینه،إلی خلقه لندعوهم إلیه. (1)

لقد کان من المفروض أن یتخرّج من هذه المدرسة المعطاء الآلاف المؤلّفة من حملة هذا الشعار.فلم یکن ربعی بن عامر شخصیة غیر عادیة،وأمثاله کانوا کثر. (2)

إلا أنّ الصدمة الکبری التی أحدثها غیاب الرسول صلّی الله علیه و آله وتغییب حامل علمه ووارث مشروعه الرسالی أمیر المؤمنین علی علیه السلام،عن الساحة،نتیجة لما حصل فی مؤتمر السقیفة،وما حصل إثر ذلک من الاختزالات المتتالیة،جعل الثورة الثقافیة تنکفئ علی نفسها بالتدریج.

بعض علل الانکفاء الدفاعی للثورة الثقافیة

علاوةً علی ما تقدّم من العوامل السیاسیة،فقد کانت هناک عوامل أشدّ تأثیراً وأقدم منها حضوراً،وهی العناصر الأولی للمقاومة الجاهلیة أمام المشروع الرسالی القرآنی ومنطقه البرهانی.

و قد کانت السقیفة وما تلاها من نظام توافقی،نقطة تحول فی موازین القوی،فبعد أن کانت عناصر الثورة فی مدینة الرسول صلّی الله علیه و آله أقوی أثراً من عناصر المقاومة الثقافیة الجاهلیة،کان للتغییر المفاجئ فی شکل الدولة الإسلامیة أثر سلبی فی المقتضی الثوری الثقافی نفسه.

فبعد أن کانت الثورة الثقافیة, وهی فی قمّة قوّة اقتضائها الرسالی،تشکو من قوّة المانع الثقافی الجاهلی،تعقدت مشکلة التغییر بطرو الضعف علی المقتضی نفسه.

ص:140


1- (1) .تاریخ الأمم و الملوک:34/3.
2- (2) .المصدر؛و ذکر الطبری عدداً منهم فی نفس الحادثة،وکلّهم کانوا کربعی فی الشموخ و العزة.
2-الانقسام المرجعی الثقافی وعودة العشائریة والاستبداد
اشارة

بعد تهمیش دور محور أهل البیت علیهم السلام فی الساحة السیاسیة،تفرغ الإمام علی علیه السلام لإنقاذ ما یمکن إنقاذه فی الساحة الثقافیة،جابراً ما کسرته السیاسة الرسمیة المحکومة بالذرائعیة وبضغوط الجماعات العشائریة المختلفة علی الخلفاء.

إلا أنّ اقتضاءات الذرائعیة السیاسیة التی کانت تمیز سیاسة الدولة الإسلامیة،آنذاک،کانت أقوی أثراً من حرکة الإنقاذ تلک،وأشدّ تأثیراً منها فی الساحة الجماهیریة الواسعة.

ومن أهمّ ما أثر سلباً علی فاعلیة محور أهل البیت علیهم السلام عموم الالتزام بمنع تدوین الحدیث.فکان الکثیر من أوفیاء المحور الولائی یکتفون بالنقل الشفوی تجنباً للصدام مع الخلیفة الثانی خاصّة.

فکان لهذا الوضع أثره البالغ فی الحدّ من تأثیر محور أهل البیت علیهم السلام.

الاقتباس الثقافی السلطوی ومقدّمات الاستبداد الأموی

کانت وفاة النبی صلّی الله علیه و آله وما تمّ فی السقیفة،بمثابة صدمة متعدّدة الأبعاد وهی أشبه ما تکون بقنبلة عنقودیة کلّ جزء منها قابل للانفجار إلی جزیئات متفجّرة بدورها:أولها کان نفس وفاة الرسول صلّی الله علیه و آله؛ثمّ کان اجتماع السقیفة وما تمخّض عنه،ثمّ،وفی مرتبة ثالثة،یأتی دور الطلقاء و المنافقین الذین لم یدخلوا أبداً فی بنیة الإسلام الثقافیة...

وبعد هذه المجموعة المتفجرة الأولی،تأتی أولی بوادر ورود الثقافات الأجنبیة مع دخول الشعوب المجاورة فی الإسلام...

ومن الواضح أن کلّ عنصّر من هذه العناصر کان قنبلة موقوتة ینتظر لحظة التفجیر.

فی هذا الفضاء السیاسی و الثقافی المشحون أمکن للمحور العشائری الأموی بزعامة مروان بن الحکم،ومعاویة بن أبی سفیان،أن یؤسّس ملکه.

ص:141

ولم تکن الفتنة الکبری وتمرد معاویة علی السلطة الشرعیة،بدایة لهذا التأسیس بل لعلّها تتویج له؛حیث إنّ سیاسة معاویة طیلة حکمه بلاد الشام،منذ عهد عمر،کانت تعتمد الاقتباس الثقافی السلطوی بالمعنی الأتمّ للکلمة.

فقد اشتهر عن معاویة أنه کان یقتبس من الروم ومن الفرس جمیع عناصر الأبهة السلطانیة التی تؤثّر فی نفوس العوام،وتحفظ هیبة الدولة لدیهم.فکان ینفق من بیت المال بسخاء لشراء الولاءات الشخصیة له.

ولتأمین نجاح هذا المسعی،کان لا یسمح لأحد من الصحابة بالحدیث فی المساجد ما لم یکن مضمون الولاء لبنی أمیة.

وقصّة نفیه لأبی ذر،نموذج من هذا السلوک الإقصائی السلطوی.

أوّل نموذج للتدلیس الأموی للحدیث النبوی

لم تقع المواجهة الحاسمة،بین الانقلابیین الأمویین وآخر الخلفاء الراشدین،إلا بعد أن استجمعوا کلّ عناصر القوة و السلطان،ولم یبقَ أمام معاویة إلا أدوات التعبئة العقائدیة؛فاجترأ علی تدلیسها بحدیثه المشهور الذی تناقلته کتب التاریخ.

فقد نقل ابن کثیر مثلاً:

عن حمید بن عبد الرحمن،عن معاویة.أنّه قال:سمعت رسول الله صلّی الله علیه و آله یقول:«من یرد الله به خیراً یفقهه فی الدین،و إنّما أنا قاسم،والله یعطی،ولا یزال طائفة من أمّتی ظاهرین علی الحقّ لا یضرّهم من خذلهم, ولا من خالفهم حتّی یأتی أمر الله وهم ظاهرون».

وفی روایة«وهم علی ذلک»و قد خطب معاویة بهذا الحدیث مرّة ثمّ قال:و هذا مالک بن یخامر،یخبر عن معاذ أن رسول الله صلّی الله علیه و آله قال وهم بالشام،یحث بهذا أهل الشام علی مناجزة أهل العراق:و إنّ أهل الشام هم الطائفة المنصورة علی من خالفها,

ص:142

و هذا ممّا کان یحتج به معاویة لأهل الشام فی قتالهم أهل العراق. (1)

إلی هذا الحدّ وصل التدلیس السلطوی لحدیث رسول الله صلّی الله علیه و آله.فهذا الحدیث الذی نقله معاویة مبتوراً إنّما هو عن آخر الزمان،و قد تناقلته کتب أحوال الظهور،و أنّ المهدی ینتصر علی أعدائه فی الشام.

أما النصّ الکامل للحدیث،حسب روایة العینی،فی عمدة القاری،عن أبی إمامة،هو:

«لا تزال طائفة من أمتی ظاهرین علی الحقّ لا یضرهم من خالفهم».

قیل:وأین هم یا رسول الله؟قال:«ببیت المقدس»،أو«أکناف بیت المقدس». (2)

المحصّلة

کانت ولایة معاویة بن أبی سفیان علی الشام وأسلوبه فی الحکم،الباب الواسع الذی دخلت منه المفاهیم السلطویة الاستبدادیة التی تجعل من الحاکم مالکاً لرعیته ومتصرّفاً فی أموالها بدلاً عن أن یکون خادماً لها،وأمینا علی أموالها.

هذا الغزو الثقافی شکّل تیار ردّة سیاسیة واجتماعیة لم یلبث أن عطّل ما کان صامداً من عناصر الثورة الثقافیة الرسالیة.

أمّا الإضافة التی کانت لبنی أمیة فی هذا الاقتباس السلطوی،فهی إدخال عنصر العشائریة فی المحاسبة السلطویة،وتحویل السلطة إلی نوع من التقاسم العشائری،یجمع بین رواسب الجاهلیة العربیة وعناصر الاقتباس السیاسی من الروم و الفرس.

فأصبح المحور العشائری الأموی بدیلاً عن الشوری النخبویة التی تأسس علیها نظام السقیفة.

وحیث إنّ هذه الشوری النخبویة قد لفها الإبهام،وتعدّدت مصادیقها دون أن

ص:143


1- (1) .البدایة و النهایة:135/8.
2- (2) .عمدة القاری:52/2.

تتشابه،فلم یکن من الصعب علی المحور الأموی طردها من أذهان الناس،بل إنّ أحداث الفتنة قد جعلت الکثیر من المسلمین یقبلون بتوریث معاویة بن أبی سفیان السلطة لابنه یزید خوفا منهم علی الأمّة من المجهول.

ولولا هذا التسالم علی أنّ عهد الشوری النخبویة ونظام الخلافة الراشدة قد ولی دون رجعة،وترسّخ عقیدة مشروعیة إمامة المتغلب بالسیف،بحجة کونها أفضل من الفتنة،لما أمکن لبنی أمیة أن یقرّ لهم قرار فی الحکم،مع وجود بقیة جیل الصحابة.

ص:144

أسئلة للمراجعة و التعمّق

1.ماذا تستنتج من التقییمات المختلفة للسقیفة؟هل کانت انقلاباً،أم حرکة إنقاذیة،أم توافقاً إیجابیاً،أم کل ذلک معا؟

2.لخّص بحث أدلّة التخفیف فی عشرة أسطر.

3.ما هی أهمّ نکتة فی إبطال نظریة التخفیف؟

4.حلّل هذا القول وناقشه:کان الرسول صلّی الله علیه و آله یعلم بذهنیة أصحابه،فلم یکتب الوصیة حتّی لا یخرج کثیر منهم من الدین جهاراً،إن تعذر علیهم تأویلها.

5.کیف تفسر إجباریة التشرّع فی إطار نظریة التفویض السیاسی؟

6.هل یمکن التغاضی عن إبطال العرف السابق للإسلام؟لماذا؟

7.هل تعنی الوحدة الإسلامیة،من منظور المشروع الرسالی،إلغاء الخصوصیات الفردیة و القبلیة؟

8.ما هی مقومات نظام السقیفة؟وهل له مصداق واحد ینسجم مع المشروع الرسالی الإسلامی؟

9.أوضح أهمّ الفروق بین محاور المشروع الرسالی و الخطوط العریضة للمجتمع الإسلامی فی ظلّ نظام السقیفة.

10.هل کان بإمکان نظام السقیفة أن یستمرّ بدون المنهج الفقاهی الذرائعی؟

11.ما هو دور تجربة الخلافة الراشدة الرابعة أمام المدّ الذرائعی؟

12.هل نجح الإمام علی علیه السلام فی تصحیح مسار الأمّة بقبوله الخلافة؟

13.ما هو الفرق بین الشوری النخبویة والاستبداد؟وما النسبة بینهما؟

14.بین،بالرجوع إلی المحاور الخمسة،کیف أن المشروع الرسالی یقی المجتمع من الاستبداد؟

ص:145

15.بین دور کلّ من:الرواسب الثقافیة الجاهلیة،والغزو الثقافی الأجنبی،فی بلورة الأُسس الفقاهیة الممهدة للاستبداد؟

16.حلّل القول الآتی وناقشه:کثیراً ما کان عمر یقول:(لولا علی لهلک عمر)ولکن معاویة لم یقل أبداً:(لولا عمر لهلک معاویة)،والحال أنّ المقولتین فی نفس الدرجة من الصحّة.

ص:146

الفصل الثانی:التمایز العقائدی الفِرَقی بین التطرّف والاعتدال

اشارة

ص:147

ص:148

أوّلاً:التطرّف العقائدی فی ظلّ الاستبداد الأموی

البحث الرابع عشر:الخوارج وظاهرة التکفیر
اشارة

تحصّل من بحوث التمهید ومن الفصل السابق،أنّ الحالة الثقافیة التی استقرّت بالتدریج فی ظلّ نظام السقیفة،هی أشبه ما تکون بالغوغاء الفکریة التی تعدّدت فیها المرجعیات وتفاوتت فی أُسسها المنطقیة أیما تفاوت.

و قد تقدّم أنّ من أهمّ الظواهر التی برزت بشکل خاصّ أیام الفتنة الکبری،ظاهرة الخوارج.و قد شکّلت هذه الظاهرة أحد أهمّ روافد الغوغائیة الثقافیة التی کانت حرکة التفسیخ الثقافی الأموی لا تألو جهداً فی رعایتها وتغذیتها.

و إذا أردنا تلخیص أهمّ خصوصیة مناهجیة فی الفکر الخارجی،فلیس هناک أحسن من المقارنة بینهم وبین أنصار معاویة علی لسان الإمام علی علیه السلام:«لیس من طلب الحقّ فأخطأه کمن طلب الباطل فأدرکه». (1)

والحقیقة أنّ ظاهرة الخوارج،باعتبارها حرکة ثوریة سیاسیة،جوبهت بالقمع الشدید

ص:149


1- (1) .نهج البلاغة:الخطبة 108،بشرح محمّد عبده.

من قبل السلطات الأمویة،بعد أن أوصی آخر الخلفاء الراشدین بعدم مقاتلتهم بعده. (1)

ونتیجة لذلک القمع الشدید،لم یکن لهذه الحرکات تأثیر ذی بال مباشر فی توجیه الفکر الإسلامی؛إلا أن یکون ذلک بشکل مقطعی قصیر،وفی محدودیات مکانیة خاصّة.

لکن تأثیرهم غیر المباشر کان الأشدّ خطراً،فقد استثارت عقیدتهم فی تکفیر مرتکب الکبیرة ردود فعل متطرّفة،هی الأُخری.فقد زعم بعض المنفعلین،سلباً،أمام تکفیر الخوارج،أنّه لا تضرّ مع الإیمان أی معصیة،مهما کبرت.

و قد اشتهرت فرقة المرجئة بهذا القول،وتطرفت فی لوازمه تطرفاً منکراً،جعل منها خطراً حقیقیاً علی الأخلاق العامة.

و أمام التشجیع المریب الذی لاقته هذه الدعوة الهدامة للأخلاق وللمجتمع،من قبل البلاط الأموی،وقف أئمة المحور العلوی لها بالمرصاد،فلم یجاملوها أبداً،بل قاوموها بشتی الطرق؛وأکّدوا لکلَ ّ المؤمنین الذین کانوا یعودون إلیهم أن هذه الفرقة هی أشدّ الفرق خطراً علی شباب المسلمین.

وسوف نشیر فی البحث اللاحق إلی أهمّ أوجه التقابل بین هذین التیارین المتطرّفین:الخوارج و المرجئة.

1-ظاهرة الخوارج وتکفیر المسلمین
اشارة

لقد کان تیار الخوارج متعدّداً فی الشکل ومتنوعاً ومتجدّداً فی المضمون علی الدوام،رغم محافظة أنصاره غالباً علی شعاراتهم السیاسیة الممیزة مثل:لا حکم إلا لله.فبعد القضاء علی القسم الأکبر منهم فی موقعة النهروان،ثمّ استتباب الأمر لمعاویة بن أبی سفیان،بعد نقضه لبنود الصلح مع الإمام الحسن علیه السلام،لم یعد عنوان الخوارج خاصاً بمجموعة محدّدة من الثوار،بل صار مطلق الخروج علی السلطة الأمویة و التمرّد

ص:150


1- (1) .المصدر.

المسلح علیها مندرجاً تحت هذه الظاهرة،و إن کانت المجموعات الثائرة تنسب عادة إلی زعمائها أو مؤسسیها الأوائل.

ومن بین جمیع فرق الخوارج،نخصّ بالذکر فی هذا البحث المختصر فرقتین متمیزتین تشکّل کلّ واحدة منهما تجسیداً فریداً ومتمیزاً لبعض ملامح النزعة الخارجیة،وهما الأزارقة و الأباضیة.و إن دراسة هاتین الفرقتین بإمکانها أن توفر أهمّ المعطیات الکافیة لفهم الخلفیة الکلامیة للنزعة الخارجیة بوجه عامّ.

السیاسویة التکفیریة عند الخوارج

إنّ أوّل ما میز الخوارج منذ تمردهم،لأوّل مرّة،فی معرکة صفین،هو نزوعهم إلی المزایدة فی الدین بادّعائهم الحرص علی حرمة کتاب الله،ورغبتهم فی حقن دماء المسلمین.فتحت هذا الشعار أجبروا الخلیفة الشرعی علی قبول التحکیم.

وتحت هذا الشعار،أیضاً،رفضوا أن یکون القائد العام لجیوش الشرعیة«مالک الأشتر النخعی»حکماً ممثلا للخلیفة،بدعوی أنّه کان من دعاة الحرب.

وتحت هذا الشعار،أیضاً،فرضوا أن یکون«أبو موسی الأشعری»أحد رموز المحور الصحابی العمومی،حکماً ینوب عن أصحاب الخلیفة الشرعی،رغم أنّه کان من المخذّلین عن القتال،وفاقداً،بذلک،لمشروعیة تمثیلهم.

إلا أنّ هؤلاء الخوارج،لم یظهروا-بعد أن تحولوا إلی حرکة تمرّد مسلح-أیة مبدئیة أو ثبات علی شعاراتهم التی برروا بها خروجهم کقولهم:لا حکم إلا لله.ولا بدّ من الاحتکام إلی کتاب الله.

فقد غاب عن سلوکهم الإقرار بحرمة کتاب الله أو دماء المسلمین أو أی أصل من الأُصول التی انطلقت حرکتهم من ادّعاء الالتزام بها.فاستباحوا دماء المسلمین الذین لم یوافقوهم فی الرأی،متجاوزین فی ذلک جمیع الحدود الشرعیة التی أجمع

ص:151

المسلمون علیها، (1)فتعاملوا مع تعالیم الإسلام بمنهج انتقائی غیر مسبوق:

ففی حین جعلتهم عباداتهم مصداقاً للحدیث الشریف:«رهبان فی اللیل فرسان فی النهار»فإنّهم لم یتورّعوا عن قطع الطریق أمام حجاج بیت الله الحرام،وسفک دمائهم.

من ملامح الغوغائیة الشعبویة عند الخوارج

إنّ الغوغائیة الشعبویة عند الخوارج واضحة فی استمرار دعوتهم إلی تطبیق أحکام کتاب الله عزّ وجلّ،والتأکید علی فضح مظاهر الظلم و الجور عند الحکام و التزامهم الدائم بإظهار الزهد و التنزه عن الدنیا،ممّا جلب لهم تعاطف بعض الأوساط الشعبیة المحرومة.

و قد استمرّ هذا البعد الغوغائی الشعبوی کصفة ممیزة لجمیع حرکات الخوارج فی التاریخ،ولعلّ من أشهرها ثورة أبی یزید صاحب الحمار فی إفریقیة. (2)و قد نقل ابن خلدون فی وصف حرکة أبی یزید هذا،ما فیه أقوی الأدلّة علی التمازج الشدید بین صفات الشعبویة و السیاسویة و التطرّف و الدمویة فی إطار الفکر الخارجی. (3)

ص:152


1- (1) .لعلّ أشهر جرائم الخوارج التی سبقت جریمتهم الکبری،اغتیال أمیر المؤمنین فی محرابه،هی قطعهم الطریق علی کلّ من خالفهم فی العقیدة،وقتلهم بعض الصالحین لمجرّد جهره بمخالفة انحرافهم،ومن هؤلاء الشهداء«عبد الله بن الخباب بن الأرت»وزوجته التی کانت حاملاً؛[الکامل فی التاریخ:341/3 و342]. وکان هذا التعدّی السافر هو السبب المباشر لحرب أمیر المؤمنین علیهم،بعد طول صبر ومناظرات عدیدة،أتمّ بها علیهم الحجّة.
2- (2) .هو أبو یزید مخلد ابن کیداد،کان زعیم ثورة الخوارج الأباضیة علی الدولة الفاطمیة فی إفریقیة.وهی الثورة التی کادت تقضی علی الخلافة الفاطمیة فی مهدها.و قد لقب بصاحب الحمار لإفراطه فی إظهار التواضع و الزهد،والتزامه رکوب الحمار دون الحصان إمعاناً فی ذلک![تاریخ أفریقیا و المغرب،ابن الرقیق].
3- (3) .تاریخ ابن خلدون:13/1،تفصیل قصّة صاحب الحمار.
الأساس الفکری لدمویة حرکات الخوارج

إنّ النزعة الدمویة لمعظم حرکات الخوارج،قد طبقت شهرتها الآفاق منذ تمظهراتها الأولی.و قد بلغت سمعتها الدمویة أوجَها مع دعوة الأزارقة،وهم فرقة من الخوارج تنسب إلی مؤسسها نافع بن الأزرق،الذی لم یکتفِ بقتل المخالفین من رجال ونساء،بل ذهب إلی استباحة دماء الأطفال و الرضع،بل حتّی الأجنة فی بطون أمّهاتها.

والحقیقة أنّ آراء الأزارقة مثل معظم الحرکات السریة و المقاتلة،لم تصل إلینا إلا عن طریق ما کتبه عنهم أعداؤهم وخصومهم،ولم نعثر علی من کان أکثر موضوعیة من عبد الکریم الشهرستانی.وجمیع من جاء بعده کان عالة علیه أو علی مصادره،إنّ ظفر بها.

یقول الشهرستانی عن الأزارقة:

...أصحاب أبی راشد نافع بن الأزرق الذین خرجوا مع نافع من البصرة إلی الأهواز،فغلبوا علیها وعلی کورها وما وراءها من بلدان فارس وکرمان فی أیام عبد الله بن الزبیر،وقتلوا عماله بهذه النواحی...

وخشی أهل البصرة علی أنفسهم وبلدهم من الخوارج،فأخرجوا إلیهم المهلّب بن أبی صفرة،فبقی فی حرب الأزارقة تسع عشرة سنة إلی أن فرغ من أمرهم فی أیام الحجاج, ومات نافع قبل وقائع المهلّب مع الأزارقة،وبایعوا بعده قطری بن الفجاءة المازنی،وسموه أمیر المؤمنین.

وبدع الأزارقة ثمانیة:

إحداها:أن کفّروا علیاً(رضی الله عنه), وقالوا:إنّ الله أنزل فی شأنه, وَ مِنَ النّاسِ مَنْ یُعْجِبُکَ قَوْلُهُ فِی الْحَیاةِ الدُّنْیا وَ یُشْهِدُ اللّهَ عَلی ما فِی قَلْبِهِ وَ هُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ 1 .وصوبوا عبد الرحمن بن ملجم(لعنه الله), وقالوا:إنّ الله تعالی أنزل فی شأنه وَ مِنَ النّاسِ مَنْ یَشْرِی نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّهِ ... 2 .وقال عمران بن حطان

ص:153

و هو مفتی الخوارج وزاهدها وشاعرها الأکبر فی ضربة ابن ملجم لعنه الله لعلی علیه السلام:یا ضربة من تقی...

وعلی هذه البدعة مضت الأزارقة وزادوا علیه تکفیر عثمان, وطلحة و الزبیر, وعائشة،وعبد الله بن عبّاس,(رضی الله عنهم)وسائر المسلمین معهم وتخلیدهم فی النار جمعاً.

والثانیة:أن کفروا القعدة،و هو أوّل من أظهر البراءة من القعدة عن القتال،و إن کان موافقاً له علی دینه،وأکفر من لم یهاجر إلیه.

والثالثة:إباحتهم قتل أطفال المخالفین و النسوان معهم.

والرابعة:إسقاط الرجم عن الزانی؛إذ لیس فی القرآن ذکره, وإسقاط حدّ القذف عمّن قذف المحصنین من الرجال مع وجوب الحدّ علی قاذف المحصنات من النساء.

والخامسة:حکمهم:بأنّ أطفال المشرکین فی النار مع آبائهم.

والسادسة:أن التقیة غیر جائزة فی قول ولا عمل.

والسابعة:تجویزهم أن یبعث الله تعالی نبیاً یعلم أنّه یکفر بعد نبوته،أو کان کافراً قبل البعثة.

والکبائر و الصغائر إذا کانت بمثابة عنده وهی کفر.وفی الأمّة من جوز الکبائر و الصغائر علی الأنبیاء علیهم السلام فهی کفر.

والثامنة:اجتمعت الأزارقة:علی أنّ من ارتکب کبیرة من الکبائر کفر کفرَ ملّة خرج به عن الإسلام جملة،ویکون مخلّداً فی النار مع سائر الکفار،واستدلوا بکفر إبلیس،وقالوا ما ارتکب إلا کبیرة حیث أمر بالسجود لآدم علیه السلام،فامتنع،وإلّا فهو عارف بوحدانیة الله تعالی.... (1)

2-الأزارقة فی فخّ المغالطة

لعلّ أخطر ما فی هذه الحرکة هو الاستدلال الذی ینسب إلیها فی إثبات جواز قتل

ص:154


1- (1) .الملل و النحل:118/1-122.

أطفال من یکفّرونهم،و هو الاستناد إلی قوله تعالی علی لسان نبیه نوح علیه السلام:

وَ قالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَی الْأَرْضِ مِنَ الْکافِرِینَ دَیّاراً* إِنَّکَ إِنْ تَذَرْهُمْ یُضِلُّوا عِبادَکَ وَ لا یَلِدُوا إِلاّ فاجِراً کَفّاراً . (1)

أمّا وجه الاستدلال فی هذه الآیات-حسب زعمهم-فهو الحکم بکفر من یتولّد من الکافر.وبَنوا علی ذلک جواز قتل الأولاد أیضاً بعد أن استقرّ فی وهمهم جواز قتل کلّ کافر مطلقاً.ومن الواضح أن فی هذا الاستدلال مجموعة من المغالطات فی مقولات التعمیم الفاسد و القیاس الباطل و الجزم باستحقاق الکافر إلی القتل،حتّی لو قبلنا-جدلاً-بما توهّموه من کفر مخالفیهم جمیعاً.

3-بعض ملامح السفسطة عند الخوارج ونوعها
اشارة

یمکن أن نستنتج ممّا مرّ من عقائد الخوارج،أنّ مشکلة هذا القسم من الفرق الإسلامیة،هو الوقوع فی الغلط, ولیس ارتکاب المغالطة.فالمشکلة العظمی عند الخوارج تکمن فی منطلقاتهم القیمیة-أی:مجموعة المرتکزات العقائدیة و الأخلاقیة النفسانیة التی توجّه سلوکهم وتفکیرهم-والتی تغلب علیها الوهمیات.فتکون المقدّمات التی یحتجون بها فی استدلالاتهم بعیدة عن الیقینیات،بل حتّی عن الظنیات.

علاوةً علی هذا،یبدو أنّ الخوارج الأوائل عموماً کانوا علی درجة کبیرة من ضعف القوّة العقلیة؛بحیث کانوا کثیراً ما یقعون ضحیة لخلل فی القیاس.

والحقیقة أنّ تحلیل البنیة المنطقیة للنزعة الخارجیة-بوجه عامّ-یحتاج إلی بحث نفسانی اجتماعی،خارج عن المجال المحدود لهذا المختصر،ونکتفی،أدناه،بمثال.

مقارنة بین مغالطة المتمردین وغلط الخوارج

ص:155


1- (1) .نوح:26 و27.

إذا رجعنا إلی استدلال الأزارقة المتقدّم،أمکننا اکتشاف أهم ملامح السفسطة،التی تمیز بُنیتهم المنطقیة،بوجه عامّ؛وتبین انتسابهم إلی الاختیار العام المنطقی الجاهلی،جنباً إلی جنب مع أنصار معاویة المتمرد علی الشرعیة،رغم التباین بین نوعی المرتکزات عند کلا الطرفین:

فمن جهة،غرض المغالط،کما هو حال المتمردین،هو إیقاع الخصم فی الوهم،فتکون المرتکزات الأخلاقیة النفسانیة مندرجة،بالضرورة،تحت عنوان الأنانیة.

ومن جهة مقابلة،لا یتصور أن یغالط الخارجی نفسه،فیخسر الدنیا و الآخرة،بل هو ضحیة للغلط؛بینما تکون مرتکزاته الأخلاقیة النفسانیة مندرجة تحت عنوان الغیریة،بلا شک.

نموذج من کشف الغلط الخارجی

یمکن القول أن أولی هذه الأغلاط التی وقع فیها الخوارج،کانت استعمالهم للتعمیم الفاسد، (1)حیث إنّ تأکید نوح علیه السلام لم یأتِ إلّا بعد إتمام الحجّة کما ورد فی صریح القرآن فی تلک الصورة نفسها:

قالَ رَبِّ إِنِّی دَعَوْتُ قَوْمِی لَیْلاً وَ نَهاراً* فَلَمْ یَزِدْهُمْ دُعائِی إِلاّ فِراراً* وَ إِنِّی کُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِی آذانِهِمْ وَ اسْتَغْشَوْا ثِیابَهُمْ وَ أَصَرُّوا وَ اسْتَکْبَرُوا اسْتِکْباراً* ثُمَّ إِنِّی دَعَوْتُهُمْ جِهاراً* ثُمَّ إِنِّی أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَ أَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً . (2)

فلیس بعد إتمام الحجّة هذا من مزید.

ومن العجیب أن یقیس الخوارج المسلمین علی قوم نوح وأن یقیسوا أنفسهم ودعاتهم علی نبی الله نوح علیه السلام،وبطلان القیاسین واضح فأین هم وجهلهم وتسرعهم من نوح وحکمته وأناته وصبره الذی أصبح مضرب الأمثال؟

ص:156


1- (1) .ضوابط المعرفة:الأصول الثمانیة للمغالطة.
2- (2) .نوح:5-9.

وأین جماعة المسلمین-مع کلّ عیوبهم التی منعت أکثرهم عن نصرة رایة الحقّ-من قوم نوح الذین کانوا یجاهرون بالشرک؟!

أمّا کبری الأغلاط التی أودت بالخوارج إلی هذه الهوة السحیقة من الهلکة فی دماء المسلمین،فلا شکّ أنّها تعود إلی توهمهم استحقاق کلّ کافر للقتل و هو خلاف ما أجمعت علیه الأمّة من اشتراط کون الکافر حربیاً أو داخلاً تحت عنوان المفسد فی الأرض،أو المرتد بعد استتبته.

4-الأباضیة:الوجه الطائفی للخوارج
اشارة

تحصّل ممّا تقدّم أن ضعف الفقاهة عند الخوارج کان من العیوب الممیزة لأهمّ رؤوسهم المفکرة،و قد استمرّ هذا الوضع الخطیر،حتّی بعد تمکّنهم من تأسیس بعض الدول،إذ هم قد حکموا علی أنفسهم بالانعزال الطائفی بمجرّد نجاحهم فی تکوین بعض الدول الخارجیة مثل الدولة الرستمیة (1)فی تخوم صحراء شمال إفریقیا.

و قد بقیت هذه الخصلة ثابتة فی ظاهرة الخوارج،علی مرّ التاریخ،سیما التمظهرات المعاصرة،مثل الجماعات التکفیریة المقاتلة.

أمّا تحوّل ظاهرة الخوارج إلی ظاهرة طائفیة،فقد کان مرتهناً بتأسیس الدول وتمکّنهم من الاستقرار فی مجتمعات مغلقة فی بعض أطراف البلاد العربیة،وخاصّة تلک التی قامّت علی اعتماد المذهب الأباضی.وهنا یتعین تغییر زاویة النظر إلی ظاهرة الخوارج،حتّی نکتشف وجهها الآخر،بعد استقرارها الطائفی.

هل الأباضیة من الخوارج

إن أهمّ ما قد یصدم الباحث فی تاریخ الخوارج هو ظاهرة الحرکة الأباضیة،فرغم

ص:157


1- (1) .راجع:ما کتبه ابن خلدون عن الدولة الرستمیة ومؤسسها عبد الرحمن بن رستم،الذی کان من نسل رستم قائد الفرس بالقادسیة،و قدم إلی إفریقیة مع طوالع الفتح....تاریخ ابن خلدون:121/6 و122.

کونها قد برزت فی التاریخ الإسلامی کأنجح حرکة خارجیة استطاعت أن تؤسس دولاً أو دویلات فی مقاطع مختلفة من تاریخ الإسلام وفی أمکنة متباعدة.فإنّ هناک تردّداً عند الکثیر من المعاصرین من الجمهور،فی تصنیف الأباضیة ضمن الخوارج،فاعتبر البعض مذهبهم الفقهی مذهباً خامساً من مذاهب الجمهور.ویبدو أنّ بعض المعاصرین من الشیعة قد تأثروا بهذا الرأی فها هو أحدهم لا یکاد یخفی تردّده فی الموضوع قبل أن یخلص إلی إثبات نسبتهم إلی الخوارج،فیقول:

...الشعبة الباقیة من الخوارج الآن هی الأباضیة التی تتبع عبد الله بن أباض المتوفّی عام 86 ه, وهم موجودون الآن فی عمان بجنوب الخلیج الفارسی،وشمال أفریقیا،مثل لیبیا.

و هذه الشعبة من الخوارج لا زالت تعتقد:بتخطئة التحکیم،ونفی لزوم القرشیة فی الإمام،وتختلف عن فرق الخوارج فی جمیع أفکارها وعقائدها،وبعبارة أخری, تتّفق مع المسلمین فی عقائدهم إلا فی هاتین المسألتین.ولهم کتب کلامیة،وفقهیة،و قد کانت لهم طوال التاریخ فی القرون الأولی-الأوّل و الثانی, و الثالث و الرابع-دول وحکومات،وهم و إن کانوا یتحرّجون-وخصوصاً فی العصر الحاضر-من أن ینسبوا إلی الخوارج, ولکن التاریخ و المواقف و العقائد تثبت أنّهم من الخوارج و إن اختلفوا معهم فی الکثیر من الأمور کما قلنا.... (1)

إنّ تردّد البعض فی أمر الأباضیة ناتج أساساً عن غیاب ملاک واضح فی نسبة أیة فرقة إلی الخوارج.

ولا یعنی عدم الوضوح غیاب هذا الملاک أبداً.ویمکننا القول بأنّ تکفیر المخالفین غیر المنکرین لضروریات الدین؛یمکن أنّ یشکل ضابطة مناسبة وکافیة لفصل النزاع.

فماذا لو عرضنا الأباضیة علی هذا المعیار؟

ص:158


1- (1) .محاضرات فی الفرق الإسلامیة:47.
الأباضیة أمام معیار التکفیر

من الثابت أنّ الأباضیة عند نشأتها کانت فرقة من الخوارج، (1)فهی تنسب إلی مؤسسها عبد الله بن أباض،و قد کانت من أولی المجموعات التی لم ترتض تعمیم التکفیر, ولهذا فقد سعی زعماء المذهب من المتأخّرین إلی تطبیع العلاقة مع مذاهب الجمهور،معتمدین أساساً علی قرب مدرستهم الفقهیة من مدارس الجمهور الأربعة.

ولکن هل یکفی هذا القرب الفقهی النسبی لردم الهوة العقائدیة؟

هنا لا بدّ من نظرة تحلیلیة-ولو مختصرة-إلی الظاهرة الطائفیة الأباضیة،لمعرفة موقع التکفیر فیها ماضیاً وحاضراً.فقد عرفت الأباضیة فی تاریخها تنوعاً،فانقسمت إلی عدة اتجاهات:کالأباضیة السیاسیة،والأباضیة المدرسیة،والأباضیة الطائفیة.

أمّا الأباضیة السیاسیة،فهی عنوان فضفاض تندرج تحته الکثیر من الحرکات الثوریة الخارجیة دون أن یلتزم جمیع أفرادها بالضرورة بالمذهب الأباضی الفقهی, إلا أنّ الدول التی تأسّست نتیجة هذه الحرکات کانت علی الدوام متعصّبة للمذهب الأباضی ومعادیة لأتباع غیره.

و قد مرّ ذکر الدولة الرستمیة فی صحراء شمال إفریقیا،کنموذج من هذه الظاهرة.

و أما الأباضیة المدرسیة،فهی التی تنتج من استقرار الحرکة الأباضیة ضمن دول أو دویلات تتمکن من افتتاح مدارس علمیة تقتصر علی ترویج المذهب.وتتمیز المدرسة الفکریة الأباضیة باقتصارها علی بعض الکتب الحدیثیة الخاصّة کمصدر للسنّة النبویة, بل إنّ بعضهم یتطرّف فیرفض کلّ المصادر الحدیثیة ما عدا مُسند الربیع, وفیه أحادیث جابر بن زید الأنصاری.

ص:159


1- (1) .کلّ ما نذکره هنا عن الاباضیة هو حصیلة بحثنا الخاصّ فی هذا الموضوع،ولم نعوّل فیه علی ما ورد فی کتب الفرق،ومرجعنا فیه ما توفّر من مخطوطاتهم فی مکتبة آل البارونی بحومة السوق،جربا, تونس.وما أخذناه شفاهاً و نقلاً عن بعض حفظة تراث هذه الطائفة.

ولعلّ هذا الموقف من السنّة هو الذی حرم هذا المذهب الفقهی الصغیر من التطوّر بما یکفی،لیزیل حالة الانغلاق التی میزت الأباضیة.

و أمّا الأباضیة الطائفیة،فهی حصیلة النوعین المتقدّمین مضافة إلی التراکمات التدریجیة التی خلّفتها حالة الانغلاق الثقافی النسبی.و قد تحوّلت هذه التراکمات إلی مخزون نفسی اجتماعی مؤثر فی سلوک أبناء هذه الطائفة،فی کلّ مرّة یجدون فیها أنفسهم فی موقع الأقلّیة.وهنا یخرج البحث عن الموضوع العقائدی الکلامی, وینتقل إلی الموضوع النفسانی الاجتماعی. (1)

ونکتفی بالإشارة إلی أنّ الانتساب الطائفی لدی الأباضیة کان دائماً أقوی حضوراً فی المجتمعات التی تعیش فیها هذه الطائفة کأقلّیة،بالقیاس إلی حضور مثل ذلک الانتساب لدی مثیلتها الشیعیة،مثلاً؛نظرا لغیاب مفهوم التقیة عند الأباضیة.

هکذا یمکننا أن نفهم سبب الغموض حول حضور عقیدة التکفیر عند الأباضیة:لم یکن بإمکان أفراد هذه الطائفة المجاهرة بتکفیر مخالفیها،وهم أقلّیة صغیرة, کما أنّه لم یکن بإمکانهم التکتّم علی مثل هذا المعتقد الخطیر،وهم الذین ینکرون علی الشیعة التقیة.

وهکذا غابت عقیدة التکفیر بالتدریج عن أذهان عامّة الأباضیة دون أن تغیب عن سلوکهم الاجتماعی،الذی نلمس فیه بوضوح الکثیر من المرتکزات التکفیریة،مثل منع الزواج بالمخالف المسلم. (2)

ص:160


1- (1) .هذا التقییم یشمل جمیع الأقلیات الطائفیة التی مرّة بظروف تاریخیة متشابهة.فملاک البحث فیها لیس الانتساب العقائدی, بل السلوک الاجتماعی والاقتصادی المتمیز للأقلیات المذهبیة أو الدینیة.
2- (2) .بحوث وحدویة فی أصول الطائفیة:الجزء الثانی،بحث المرتکزات التکفیریة فی السلوک الاجتماعی الاباضی.
البحث الخامس عشر:ظاهرتا الإرجاء و الجبر:الوجه المقابل لتطرّف الخوارج
اشارة

لقد کان من أهمّ ملامح الانقلاب الثقافی الأموی أن حاول بنو أمیة وأعوانهم استغلال المشروعیة الجماهیریة للمرجعیة الصحابیة العمومیة،التی کان الخلفاء الراشدون علی رأس هرمها, والاستفادة من کون الخلیفة الثالث،عثمان بن عفّان،أمویاً.فطرحت بعض الألسن المشبوهة مسائل غریبة عن الأخلاقیات الإسلامیة،نظیر:التفاضل بین الخلفاء.

ولم یکن المجتمع الإسلامی بحاجة إلی مثل هذه المباحث،أبداً؛و إنّما کانت تلک الألسن ترید من الانتصار لهذا أو ذاک،فتح باب مزایدات علی المحاور الأصلیة نفسها:فوجد علی هامش کلَ ّ محور مجموعة من الألسن المتطرفة فی المزایدة،تحترف وضع الفضائل و المناقب لمن تتعصب له؛ولا تتورع عن وضع الحدیث وتدلیسه،لبلوغ مرامها.

و قد کان العهد الأموی الأول،الممتد طیلة النصف الثانی من القرن الأول للهجرة،ظرفاً مناسباً لنشأة تلک الظاهرة الخطیرة وتفاقمها،نظراً لفراغ الساحة الثقافیة من حرکة تدوین للحدیث الشریف.

وکان کلّ همَ ّ الرواة و المحدثین الذین اصطنعهم بنو أمیة،مثل سیف بن عمر،تحسین صورة الحکم الأموی،من خلال ترویج بعض الفضائل المختلقة لبعض الشخصیات التی یدّعی المحور الأموی الولاء لها،وفی طلیعتهم الخلیفة الثالث عثمان،الذی جعلوا اسمه عنواناً لهم،فأصبحوا یسمون عثمانیین.

وفی المقابل سقط بعض الولائیین فی فخّ ردّ الفعل،وکأن نسبة فضیلة ما لعثمان،أمر یضر بسمعة علی!

وهکذا،لم یلبث أهل الجدل و المحدثون أن انقسموا إلی قسمین:

أکثریة تسمی:عثمانیة, تقول بأفضلیة عثمان علی علی علیه السلام.

ص:161

وأقلیة تسمی:علویة, قد تکتفی بمناقشة بعض المناقب الزائفة التی کان العثمانیون یلوحون بها،ولکنها لا تجرؤ عادة علی التصریح بولائها لعلی علیه السلام،رغم قولها بأفضلیته علی جمیع الصحابة.

1-الثقافة العثمانیة وحواشیها المتطرفة
اشارة

کان ذلک هو الظرف الثقافی و السیاسی الذی تشکّلت فیه ظاهرة الثقافة العثمانیة،التی أسّستها وروجتها أبواق الدعایة الأمویة أثناء الفتنة الکبری وبعدها.ولکن استفحال ثورات الخوارج وانتشار دعوتهم،بعد انکفاء المحور الولائی علی نفسه،فرض علی الثقافة العثمانیة مهمات جدیدة،أهمها مواجهة سلاح التکفیر الذی أشهرته حرکات الخوارج.فکان علی الغوغائیة الثقافیة العثمانیة،مواجهة غوغائیة ثقافیة مضادة،تنافسها فی شعبویتها،وتبزّها فی المشروعیة.

لکن اتّصاف الحرکة الخارجیة التکفیریة بالتطرّف الشدید،لم یکن یسمح للثقافة العثمانیة الرسمیة،التی کانت تبتغی تأمین موقع معتدل لها فی الساحة الثقافیة،بأن تلعب دور الخصم المناقض المباشر.

لذا،سمح البلاط الأموی بانتعاش ظواهر ثقافیة هامشیة متطرفة تفی بهذا الدور القذر،بالنیابة عنه.فقد ظهرت علی هامش الثقافة العثمانیة الرسمیة،دعوات اتّسمت بالتطرّف الشدید و التناقض مع فکر الخوارج،فی آن واحد.

ومن أهمّ هذه الدعوات وأعظمها أثراً فی تطوّر علم الکلام:المرجئة،والجبریة.

و قد مثلت هاتان الظاهرتان وجهین شعبویین لما یمکن أن یطلق علیه اسم:الثقافة السلطویة الأمویة.

الجبر و الإرجاء:وجهان متکاملان للثقافة السلطویة

لیس هناک من شکّ فی أنّ معاویة بن أبی سفیان کان من أوّل من بادر بترویج

ص:162

عقیدة الجبر علی نطاق واسع،منذ استیلائه علی السلطة،حتّی تحولت هذه العقیدة إلی رکیزة أساسیة فی استقرار ملکه،رغم جوره.

ویؤکّد جمهور الباحثین المعاصرین الارتباط بین السلطة الأمویة و العقیدة الجبریة. (1)و أنّ تیار القدریة قد کان ردّ فعل طبیعی علی جبریة معاویة ومن خلفه من بنی أمیة،وأنه لمّا کانت الدولة الأمویة دولة الحدید و النار،فقد کان من الطبیعی أن تسری روح الثورة فی النفوس, ولکن ما إن ینطلق لسان بالشکوی حتّی تحوّل الحکومة الأمر إلی التقدیر ویسکتوه بأن ما حدث مقدّر مرضی عنه من الله تعالی, ولا حقّ لأحد أن یعترض علی إرادة الله تعالی.ونقل شبلی نعمان: (2)أنّ معبداً الجهنی قد سأل أستاذه الحسن البصری عن خلفیة قول بنی أمیة بالقضاء و القدر فأجابه:هؤلاء أعداء الله یفترون.

وتتلخّص عقیدة الجبر فی القول:بأنّ الإنسان مجبور علی أفعاله, وأنّه مجرّد منفذ لمشیئة الله دون إرادة منه أو اختیار.

فقد کانت حجّة معاویة أمام خصومه دائماً،هی إسناد غلبته علیهم إلی مشیئة الله وإرادته.

و قد لقیت هذه الدعوی أذانا صاغیة بین رواد الثقافة الغوغائیة العثمانیة،ووجدت لها مدافعین کباراً بین المحدّثین الذین استلموا مهمّة روایة الحدیث بعد الصحابة،إلی أن أصبحت محوراً رئیسیاً فی البناء الکلامی،لما أصبح یعرف بعد عقود:بتیار أهل الحدیث،ثمّ بالحنابلة،کما سنوضحه فی محلّه.

الأهمیة السلطویة لدعوة الإرجاء

إنّ هذه الثقافة السلطویة لم یکن لها أن تنجح فی ردّ دعوة الخوارج وتأمین قاعدة ثقافیة مستقرة للحکم الأموی،لولا ظهور دعوة أُخری مکمّلة لدورها, وهی الإرجاء.

ص:163


1- (1) .تاریخ علم الکلام:14/1.
2- (2) .المصدر.

هذه الدعوة التی تنقذ أهل الخبائث و الکبائر من العصاة و الجبابرة العتات-وفی طلیعتهم بنو أمیة وجلاوزتهم-من التکفیر.

فقد قال المرجئة،علی النقیض من الخوارج:بأنّ مرتکب الکبیرة مؤمن, وأنّه لا تضرّ مع الإیمان معصیة.ولم یکن حکّام الجور یحلمون بأفضل من هذه المقولة لضمان الحدّ الأدنی من الاعتبار لهم بین المسلمین.

2-ملامح الخطورة فی ظاهرة المرجئة
اشارة

حیث إنّ هناک رأیاً سائداً ینسب بعض اتّجاهات هذه الفرقة إلی إحدی تطوّرات ظاهرة الخوارج أنفسهم، (1)فمن المناسب الحدیث عن أهمّ معتقدات هذه الفرقة الکلامیة فی هذا الموضع کنقیض مباشر لأهمّ معتقدات الخوارج, وللشیعة أیضاً کما سیأتی.

المرجئة وعقائدهم

سمیت هذه الفرقة بالمرجئة لاعتقادها بالإرجاء, و الإرجاء یعنی:التأخیر.کما فی قوله تعالی ...أَرْجِهْ وَ أَخاهُ ... أی:أخّر موسی وأخاه،ولا تبادر إلی قتلهما.والظاهر أنّ المقصود من الإرجاء الذی اعتقدت به هذه الفرقة هو أمران:

الأوّل:إرجاء البتِّ فی حکم مرتکب الکبیرة إلی یوم القیامة وعدم تکفیره،مع سلب عنوان الإسلام و الإیمان عنه بسبب المعصیة الکبیرة کما هو موقف الخوارج.

الثانی:إرجاء البتِّ فی قضیة الإمام علی علیه السلام وعثمان إلی الله؛لیری فیهما رأیه وعدم مودتهما أو بغضهما, بل الإکتفاء بمحبة الشیخین وأتباعهما خاصّة.

ص:164


1- (1) .هذا ما نجده بقلم جعفر هادی،والظاهر أنّه مقتبس عن الملل و النحل،وعن تقریر الأوّل اقتبسنا بعض هذه الخلاصة عن محاضرات:48 و49.

أمّا إطلاق اسم المرجئة علی الجماعة بالمعنی الأوّل فصحیح؛لأنّهم کانوا یؤخّرون العمل عن النیة و العقد, وکذلک هو بالمعنی الثانی.... (1)

وتنسب نشأة هذه الفرقة-خطأ-إلی الحسن بن محمّد بن الحنفیة،وقیل:إنّه أوّل من تکلم بالإرجاء.

ومن الغریب أن نجد باحثاً معاصراً یربط بین هذه النسبة المشکوکة وتأسیس مذهب أهل السنة و الجماعة،وکأنّ الإرجاء هو من سمات أهل السنة و الجماعة. (2)

والظاهر أنّ قول الحسن بن محمد بن الحنفیة ذلک-إذا ثبتت صحّته-کان علی وجه التقیة ومحاولة للابتعاد عن الخوض فی مسألة قد تعرّض الدعوة العلویة السرّیة إلی الخطر، (3)وعلی هذا قد لا یکون مبدأ نشوء هذه الفرقة فی أواخر القرن الأوّل الهجری, کما هو رائج بل قبل ذلک بکثیر.

أمّا وجه الخطورة فی معتقد المرجئة, فهو قولهم:إنّ الإیمان مجرّد الإقرار باللسان, و إن لم یکن مشفوعاً بالعمل.

ص:165


1- (1) .الملل و النحل:139/1.
2- (2) .کتب جلال محمد موسی:...و إذا کان أبو حنیفة هو أول ممثل حقیقی لمذهب أهل السنة و الجماعة،إلّا أنا نجد بذور هذا المذهب عند الحسن بن محمد بن الحنفیة101ه-،و هو عالم من علماء أهل البیت،قد تصدی للرد علی الخوارج حین نشروا مبدأهم الخطیر«لا عقد بدون عمل».والعمل عمل الخوارج و هو تکفیر مرتکب الکبیرة واستحلال قتله،فأعلن الحسن:أنه لا یضر مع الإیمان معصیة،وأن الطاعات وترک المعاصی لیست من أصل الإیمان حتی یزول الإیمان بزوالها.وما ذهب إلیه ابن الحنفیة من مناقضة الخوارج إذ لم یجعل العمل جزءاً من الإیمان،تابعه علیه أبو حنیفة،ولذلک قیل أن أبا حنیفة مرجئ،أمر مرتکب الکبیرة إلی ربه إن شاء عفا عنه.[نشأة الأشعریة وتطورها:20].
3- (3) .من الثابت أنّ أبا هاشم عبد الله بن محمّد بن الحنفیة کان مؤسّس التنظیم السرّی ذی الولاء العلوی،الذی تحول فیما بعد إلی أساس للدعوة العباسیة،بعد حادثة وفاته المفاجئة فی دار علی بن عبد الله بن العبّاس،واضطراره إلی تسلیمه وصیته التی تحتوی علی أسرار دعوته،وأسماء نقبائها فی شتی البلاد.[جهاد الشیعة فی العصر العبّاسی الأوّل،سمیرة مختار اللیثی].

وبذلک قدموا القول وأخروا العمل؛ولهذا اشتهرت عنهم المقولة:لا تضرّ مع الإیمان معصیة, کما لا تنفع مع الکفر طاعة.

فقد کانت هذه العقیدة بمثابة الضوء الأخضر لمن یرید الفسق و الفجور و المعصیة.

ولهذا اعتبرت المرجئة أخطر فرقة ظهرت فی التاریخ الإسلامی واستهدفت أخلاق الأمّة.

ومن هنا،قیل:إنّ الإرجاء هو من مبتدعات وإنشاءات الأمویین أنفسهم, و هو بمعنی:التوقّف عن التحدّث حول الصحابة بما یحرج رجال السلطة الأمویة.

وقوف أهل البیت علیهم السلام فی وجه الإرجاء

لم یکن جیل التابعین غافلاً عن خطورة المرجئة،فقد حاربهم جمیع أهل الفضل و العلم من المسلمین،وبخاصّة أئمة أهل البیت علیهم السلام وتلامیذتهم؛لأنّ عقیدتهم تخالف الکتاب و السنّة و العقل و الإجماع, وتبعث علی انتشار المعصیة و الفسق و الفجور.

و هذا یعنی ضعف درجة الإیمان, لا انتفاؤها بالمرة؛ولهذا أطلق عنوان الکافر علی تارک الصلاة, ولو کان محکوماً بجمیع أحکام الإسلام ومعدوداً فی عداد المسلمین.

و قد احتوت مصادر أحادیث الشیعة تقریراً لهذا الموقف الصریح فی مقابل هذه الظاهرة وجاء ذلک فی عدة روایات،منها:

أولا:عن الإمام الصادق علیه السلام:

«لعن الله القدریة!لعن الله الخوارج!لعن الله المرجئة!لعن الله المرجئة!».قال:قلت لعنت هؤلاء مرة مرة،ولعنت هؤلاء مرتین؟قال:«إنّ هؤلاء یقولون:إنّ قتلتنا مؤمنون،فدماؤنا متلطخة بثیابهم إلی یوم القیامة،إنّ الله حکی عن قوم فی کتابه: ...أَلاّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتّی یَأْتِیَنا بِقُرْبانٍ تَأْکُلُهُ النّارُ قُلْ قَدْ جاءَکُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِی

ص:166

بِالْبَیِّناتِ وَ بِالَّذِی قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ کُنْتُمْ صادِقِینَ , قال:کان بین القاتلین و القائلین خمسمائة عام فألزمهم الله القتل برضاهم ما فعلوا». (1)

ثانیا:عن الإمام الصادق علیه السلام:«بادروا أولادکم بالحدیث قبل أن یسبقکم إلیهم المرجئة». (2)

و هذا تصریح, لا لبس فیه بوجه الخطورة فی دعوة المرجئة, حیث هی تستهدف إبعاد الشباب خاصّة عن التدین.

البحث السادس عشر

المعتزلة وشعار التفویض

کان لظهور التکفیر الخوارجی واستباحة دماء المسلمین وأموالهم،فی مقابل الاستبداد الدموی الأموی،دور کبیر فی تغذیة الغوغائیة الثقافیة التی تأسّست علی هامش نظام السقیفة،وتطورت فی العهد الأموی،لتترسّخ فی المجتمع الإسلامی بالتدریج.

و قد مرّ فی البحث السابق،أنّ من أهمّ آثار هذه الحالة الثقافیة،بروز ردود أفعال متطرّفة،هی الأُخری،تقف فی مقابل ظاهرة التکفیر ولوازمها،وأهمّها القول بالجبر،بما هو سلب للإرادة عن الإنسان،والإرجاء بما فیه من إنکار للوعید الإلهی بمعاقبة العصاة،ومرتکبی الکبائر.

والحقیقة،أنّه لم یکن لهذه الدعوات المتطرّفة الخطیرة أن تروج ویستفحل تأثیرها لولا التلبیس علی العوام،بإسناد مقولاتها إلی المولی عزّ وجلّ،عبر استدلالات تعتمد منهجاً نصوصیا سطحیاً فی قراءة وتفسیر الکتاب العزیز،لعبت فیه المرتکزات المنطقیة السفسطائیة الدور الأکبر.

ص:167


1- (1) .شرح أصول الکافی:120/10.
2- (2) .الکافی:47/6.

و قد مرّ نقد نموذج من هذه الاستدلالات الضعیفة عند الخوارج،وبانت هشاشة مبانیها.فکان من الطبیعی أن ترفض الأذهان الحیة هذه الظواهر وما وراءها من استدلالات،وتسعی إلی تقدیم البدیل العقلانی عن هذه المقولات.

و قد أشرنا إلی مواجهة المحور الولائی لتلک الظاهرة،وسوف تتّضح معالم هذه المواجهة فی محلها لاحقاً.

لکن الاعتدال لم یکن،بالضرورة،مطلب کلّ أهل الجدل،بل لعل أکثرهم کان یمیل إلی التطرف،إن کثیراً أو قلیلاً:فها أن الساحة الثقافیة قد أفرزت وجوداً فکریاً آخر،لینضم إلی جانب ذلک المتصدّی المتوازن و المعتدل الذی سنری کیف أنّه جمع بین تقویة جانب النصّ الشرعی،من جهة،وترقیة الاستدلال العقلی بحصره فی البرهان،من جهة أُخری.

وکان هذا الموجود الفکری الجدید،الذی بدا شریکا للمحور الولائی فی البعض من المقولات؛وغدا متموقعاً فی نفس ساحته،محاولة مبتکرة،لا تخلو من التطرّف،لمواجهة تلک الغوغاء الفکریة التی عصفت بثقافة السلطة و المعارضة معاً؟

ورغم ادعاء المؤسسین الجدد أن ظاهرتهم نشأت علی هامش المحور المرجعی العلوی،إلا أنّها کانت تتموقع،أحیاناً،فی مقابله،مزهوة ببعدها العقلی البرهانی.فانزلقت بالتدریج مبتعدةً عنه وموغلة فی الإعراض عن بعدها النصوصی.

هذه الظاهرة التی یمکن أن توسم بالعقلانیة اللانصوصیة،قد شهدت تطوّرات عدیدة فی تاریخها الطویل،وعرفت فی أوائل أمرها بالقدریة إلی أن استقر علیها اسم المعتزلة.

1-فکر المعتزلة فی ضوء التضاد بین الجبریة و القدریة

یمکن القول أنّ رفض مقولة الجبر کانت الأساس الأوّل الذی انبنی علیه فکر من سمّوا بالقدریة،رغم ما یوحیه هذا الاسم من عکس هذا الاعتقاد.والحقیقة أنّ ظهور

ص:168

أحادیث نبویة تدین القدریة بالاسم،قد أدخل بعض البلبلة فی أذهان القائلین بالقدر،وبنفی الإرادة عن الإنسان.ولتوضیح هذه النکتة أفرد عبد الکریم الشهرستانی،و هو من الخصوم الألداء للمعتزلة،فی بدایة بحثه عن هذه الظاهرة،مقطعاً لتبریر تسمیتهم بالقدریة ابتداءً،قبل أن تستقرّ علیهم تسمیتهم المعروفة.

القدریة عند الشهرستانی

قال الشهرستانی:

المعتزلة:ویسمّون أصحاب العدل و التوحید،ویلّقبون بالقدریة و العدلیة.وهم قد جعلوا لفظ القدریة مشترکاً،وقالوا:لفظ القدریة یطلق علی من یقول بالقدر خیره وشره من الله تعالی،احترازاً من وصمة اللقب؛إذ کان الذمّ به متّفقاً علیه،لقول النبی صلّی الله علیه و آله:القدریة مجوس هذه الأمّة.... (1)

هکذا حسم الشهرستانی مسألة التسمیة،بإرجاعها إلی الاشتراک اللفظی الناشئ من إرادة القائلین بالجبر،للتخلّص من اسم قبّحه الحدیث النبوی المزعوم.

فمن الواضح أنّ الأجدر بأن یسمّی قدریاً هو ذلک الذی یسلب الإرادة عن الإنسان،وینسب جمیع الأعمال إلی قدر الله المحتوم،و هو الجبری دون شکّ.

أمّا التسمیة بالمعتزلة, ففیها أقوال عدیدة،أظهرُها أنّ أحد کبار منظّری هذا التیار،و هو واصل بن عطاء،کان تلمیذاً للحسن البصری فی بدایة القرن الثانی،فاختلف معه فی مسألة عقائدیة واعتزل درسه, وشکّل حلقة درس مستقلة لم تلبث أن سُمیت بالمعتزلة. (2)

من سمات التطرّف العقلانی فی التوحید

یمکن القول أنّ الفکر المعتزلی نشأ بفعل انزلاق مناهجی،أبعد أصحابه عن الجمع

ص:169


1- (1) .الملل و النحل:43.
2- (2) .لمراجعة مختصر أفکار المعتزلة وسبب تسمیتهم،راجع:مدخل مناهجی إلی علم الکلام،160 و161.

التوازنی بین مصدری الشریعة:العقل و النص.فتحت وطأة الغوغاء الثقافیة بوجهیها السلطوی الحکومی و المعارض،وبعد أن راجت القراءات السطحیة لنصوص القرآن الکریم،وازدهرت حرکة وضع الأحادیث وتدلیسها فی خدمة تلک القراءات،ظهر ردّ الفعل العقلانی الثوری الذی انطلق من رفض مقولة الجبر بوصفها تنفی العدل الإلهی،ثمّ أمعن فی الاستدلال العقلی بعیداً عن النصوص؛حتّی استقر بهم الفکر علی رؤیة للتفویض تنفی التدخل،بجمیع أنواعه،عن الله سبحانه تعالی.إلا أنّ رؤیة المعتزلة إلی التوحید ظلّت فی مجملها قریبة ممّا عرف عن مرجعیة أهل البیت علیهم السلام.

والحقیقة أنّه،تحت وطأة الاضطهاد الذی تعرّض له المعتزلة بدایة من القرن الثالث،اندثرت معظم تآلیفاتهم ولم تصل معظم آراؤهم إلی الأجیال اللاحقة،إلا بواسطة خصومهم.ولولا العثور،منذ عهد قریب،علی نسخ نادرة من شرح الأصول الخمسة للقاضی عبد الجبّار المعتزلی،لکان علینا الاکتفاء فی کثیر من المسائل بما نقله عنهم خصومهم وأعداؤهم.ومن خصومهم الذین لم یتطرّفوا فی العداوة لهم،فقرروا أهمّ عقائد فرقهم،عبد الکریم الشهرستانی فی کتابه الملل و النحل.

و قد حصر الشهرستانی أهمّ عقائدهم فی التوحید فی هذه العناصر:

أوّلاً:القول:بأنّ الله تعالی قدیم،والقدم أخصّ وصف ذاته, ونفوا الصفات القدیمة أصلاً.فقالوا:هو عالم بذاته،قادر بذاته،حی بذاته, لا بعلم و قدرة وحیاة،هی صفات قدیمة, ومعانٍ قائمة به؛لأنّه لو شارکته الصفات فی القدم الذی هو أخصّ الوصف لشارکته فی الإلهیة.

ثانیاً:القول:بأنّ کلامه محدث مخلوق فی محلّ و هو حرف وصوت کتب أمثاله فی المصاحف حکایات عنه.فإنّ ما وجد فی المحلّ عرض قد فُنی فی الحال.

ثالثاً:القول:بأنّ الإرادة و السمع و البصر لیست معانی قائمة بذاته،لکن اختلفوا فی وجوه وجودها ومعامل معانیها.

رابعاً:القول:بنفی رؤیة الله تعالی بالإبصار فی دار القرار،ونفی التشبیه عنه

ص:170

من کلّ وجه جهة ومکاناً وصورةً وجسماً وتحیزاً وانتقالاً وزوالاً وتغیراً وتأثراً.

خامساً:القول:بوجوب تأویل الآیات المتشابهة فیها.

هذه هی أهمّ محاور التوحید المعتزلی کما قررها الشهرستانی. (1)

أمّا نظرتهم عن العدل الإلهی،وهی التی استحقّوا بها تسمیة العدلیة،فهی مؤسّسة علی نظریة التفویض الإنسانی التی تقابل القول بنفی الاختیار عن الإنسان.

نظریة التفویض و العدل

تأسّست نظریة العدل عند المعتزلة علی مقولتهم الأساسیة،وهی تفویض الله سبحانه وتعالی للإنسان مطلق أعماله خیرها وشرّها.فهذا التفویض هو مقتضی العدل, ولا یمکن تصوّر العدل الإلهی-فی إطار تصوّرهم العقلانی المحض-بدون التفویض.

ویلخص الشهرستانی نظریة العدل المعتزلیة فی العناصر الآتیة:

أوّلاً:القول:بأنّ العبد قادر خالق لأفعاله خیرها وشرها،مستحقّ علی ما یفعله ثواباً وعقاباً فی الدار الآخرة.

ثانیاً:القول:بأنّ الربّ تعالی منزه.و أنّ یضاف إلیه شرّ وظلم وفعل،هو کفر ومعصیة؛لأنّه لو خلق الظلم کان ظالماً, کما لو خلق العدل کان عدلاً.

ثالثاً:القول:بأنّ الله تعالی لا یفعل إلّا الصلاح و الخیر،ویجب من حیث الحکمة رعایة مصالح العباد؛و أما الأصلح و اللطف, ففی وجوبه عندهم خلاف.

هذه هی المحاور الأساسیة لنظریة العدل المعتزلیة،وتضاف إلیها مقولات عقائدیة أُخری یمکن اعتبارها محاور تکمیلیة لنظریة العدل،وهی التی تندرج تحت مقولة:الوعد و الوعید. (2)

فاتّفقوا علی أنّ المؤمن؛إذا خرج من الدنیا علی طاعة وتوبة استحق الثواب, و العوض،والتفضّل معنی آخر وراء الثواب.

ص:171


1- (1) .الملل و النحل:44 و45.
2- (2) .المصدر:45.

و إذا خرج من غیر توبة عن کبیرة ارتکبها استحقّ الخلود فی النار, لکن یکون عقابه أخفّ من عقاب الکّفار.... (1)

هکذا،فبمقولة الوعد و الوعید یقترب المعتزلة من الخوارج لکنهم یبقون دون حدّ التکفیر،فی نفس الوقت الذی یتضادّون فیه مع المرجئة, وجمیع من قال:بأنّه لا تضرّ مع الإیمان معصیة،وبهذا تکتمل الخلفیة العقائدیة لمنهجهم السیاسی الثوری, الذی جعلهم أقرب الفرق إلی الزیدیة،وهم القسم الثوری الأکثر نشاطاً فی الشیعة،کما سیأتی.

منهج المعرفة عند المعتزلة

تقدّم أنّ المعتزلة تیار عقلانی یقول:بأولویة حکم العقل مطلقاً.و هذه هی أهمّ الفوارق المناهجیة التی یتمیزون بها عن جمهور المسلمین.

ویعود هذا الاختیار المناهجی إلی تطرّف فی فهم مقولة أساسیة لدی مرجعیة أهل البیت علیهم السلام،وهی:أنّ الحسن ما یحسنه العقل, و القبیح ما یقبحه العقل.و هذا معنی:القول بالحسن و القبح العقلیین،فی مقابل مقولة أتباع المنهج النصوصی المحض،الذی یعتبر النصّ الشرعی من القرآن و السنّة مصدراً وحیداً للمعاییر جمعاً.فیکون بهذا عندهم الحسن ما یحسّنه النصّ الشرعی،والقبیح ما یقبّحه النصّ الشرعی،و هو معنی المقولة الشائعة:الحسن و القبح الشرعیین.

فاتّفق المعتزلة علی أن أُصول المعرفة, وشکر المنعم واجبة قبل ورود السمع.والحسن و القبیح یجب معرفتهما بالعقل،واعتناق الحسن واجتناب القبیح واجب.

کذلک وورود التکالیف ألطاف للباری تعالی أرسلها إلی العباد بتوسط الأنبیاء علیهم السلام امتحاناً واختباراً ...لِیَهْلِکَ مَنْ هَلَکَ عَنْ بَیِّنَةٍ وَ یَحْیی مَنْ حَیَّ عَنْ بَیِّنَةٍ ... . (2)

ص:172


1- (1) .المصدر.
2- (2) .المصدر:46؛الأنفال:42.
2-المدارس المعتزلیة الأولی وتورّطها السلطوی

لا یمکن أن نفهم حقیقة أیة ظاهرة عقائدیة فی تاریخ الإسلام،خارج نطاق التحلیل الإناسی الثقافی.فالمعتقدات الجدیدة کانت دوماً معلولة لمقتضیات سیاسیة ظاهرة أو خفیة.

کذلک،من أجل فهم ظاهرة المعتزلة،لا بد من النظر فی أهم عناصر تمایز فکرهم السیاسی عن سائر الفرق التی سبقتهم للوجود و الحراک الاجتماعی.

ولا شک أن موافقتهم للخوارج فی نفی انحصار الإمامة السیاسیة فی قریش،له أعظم الدلالات فی هذا الموضوع.

أهمیة إخراج الإمامة من قریش

الظاهر أنّ أوّل من قال-بعد الخوارج-بجواز خروج الإمامة عن قریش،هو القدری غیلان الدمشقی (1), وعنه أخذ المعتزلة هذه الفکرة من بعد.و قد اختلف المعتزلة بعد ذلک فی هذه المسألة،وغیرها من مسائل الإمامة.

و هذه المسألة فی غایة الأهمیة:فأوّل انشعاب حقیقی فی الفکر السیاسی الإسلامی،بعد السقیفة،هو قبول إمامة غیر القرشی،التی لم یسبق المعتزلة إلیها إلّا الخوارج،وغیلان.ولیس من البعید أن تکون هذه النکتة سبباً فی کثرة انضمام غیر العرب إلی فرق الخوارج و المعتزلة.

ولا شک أن الانشعابات داخل القائلین بانحصار الإمامة فی قریش قد قوّت من المشروعیة العقلانیة لهذا الطرح؛حیث إنّ المشروعیات النصوصیة لنظریات الإمامة القرشیة،قد بدأت تفقد اعتبارها،شیئاً فشیئاً،بفعل التساقط.ولم یکن علی المعتزلة،وهم أهل الجدل و المناقشات العقلیة،إثبات هذا التساقط،ولو بالاعتماد علی قاعدة:إذا تعارض الخبران دون إمکان ترجیح أحدهما علی الآخر،حکم بتساقطهما معا.

ص:173


1- (1) .بحوث وحدویة فی أصول الطائفیة:الجزء الثانی،راجع:التحقیق المختصر فی هذه المسألة،وکذلک ترجمة غیلان الدمشقی وارث الدعوة القدریة من معبد الجهنی.

لکنّ صِرف نفی مقولة،و إن کانت بأهمیة الإمامة القرشیة،لا یکفی لتأسیس خط فکری سیاسی:فکانت ظاهرة المعتزلة ظاهرة تعددیة بامتیاز؛ولا یمکن النظر فی عقائدهم بالجملة،بل النظر التفصیلی متعین فیها.وفی ما یلی إشارات حول أهمّ انشعابات المعتزلة،وخطوطها الفکریة المتنوعة.

الواصلیة

یطلق اسم الواصلیة:علی أصحاب أبی حذیفة واصل بن عطاء الغزّال، (1)وأتباع مذهبه من بعده.و قد کان تلمیذاً للحسن البصری،وکانا فی أیام عبد الملک بن مروان،وهشام بن عبد الملک.و قد وجدت بالمغرب منهم مجموعات قلیلة،قد تکثر فی بعض الظروف،وخاصّة فی ظلّ حکم الأدارسة من أبناء إدریس بن عبد الله الحسنی،الذی خرج بالمغرب فی أیام أبی جعفر المنصور،وتمت لابنه الخلافة بها فی عهد الرشید.

و هذا الظرف الخاص یقوّی دعوی انتساب الواصلیة إلی المحور الولائی العلوی،بأعم معانیه؛لکن التأمل فی عقائدهم یحمل علی الجزم بأن هذه الظاهرة لیست أکثر من انشقاق عن ذلک المحور،ولا یمکن أن تحسب علیه.

و قد ذکر الشهرستانی: (2)أنّ اعتزالهم یدور علی أربع قواعد:

القاعدة الأولی:

القول بنفی صفات الباری(تعالی):من العلم و القدرة و الإرادة و الحیاة:وکانت هذه المقالة فی بدئها غیر نضیجة.وکان واصل بن عطاء یشرع فیها علی

ص:174


1- (1) .تزوج واصل أخت عمرو بن عبید،الذی کان هو الآخر متکلّماً یعتقد الکثیرون أنّه یتقاسم معه مسؤولیة إنضاج مذهب الاعتزال. و قد کان لواصل بن عطاء مؤلّفات وآراء وتلامذة ومناظرات شهیرة،استحقّ بها أن یسمّی صاحب مدرسة،ولد بالمدینة وتوفی فی البصرة،80-131ه.
2- (2) .الملل و النحل:46-49.

قول ظاهر و هو الاتّفاق علی استحالة وجود إلهین قدیمین أزلیین،قال:ومن أثبت معنی صفة قدیمة فقد أثبت إلهین. (1)

القاعدة الثانیة:

القول بالتفویض:و إنّما سلک المعتزلة فی ذلک مسلک معبد الجهنی،وغیلان الدمشقی, وقرّر واصل بن عطاء هذه القاعدة أکثر ممّا قرر قاعدة الصفات, فقال:إنّ الباری تعالی حکیم عادل لا یجوز أن یضاف إلیه شرّ, ولا ظلم, ولا یجوز أن یرید من العباد خلاف ما یأمر ویحتم علیهم شیئاً, ثمّ یجازیهم علیه،فالعبد هو الفاعل للخیر و الشرّ, و الإیمان و الکفر و الطاعة و المعصیة, و هو المجازی علی فعله و الربّ تعالی أقدر علی ذلک کلّه.

و هذا هو جوهر التفویض،و هو الشعار الأهمّ الذی میز دعوة المعتزلة فی مقابل الدعوة الجبریة التی تسلب المسؤولیة عن الإنسان. (2)

القاعدة الثالثة:

القول بالمنزلة بین المنزلتین:والسبب فیه،أنّه دخل واحد علی الحسن البصری, فقال:یا إمام الدین, لقد ظهرت فی زماننا جماعة یکفّرون أصحاب الکبائر،والکبیرة عندهم کفر یخرج به عن الملة.وهم:وعیدیة الخوارج.وجماعة یرجئون أصحاب الکبائر،والکبیرة عندهم لا تضر مع الإیمان؛بل العمل علی مذهبهم،لیس رکناً من الإیمان, ولا یضرّ مع الإیمان معصیة, کما لا ینفع مع الکفر طاعة, وهم مرجئة الأمّة.فکیف تحکم لنا فی ذلک،اعتقاداً؟

فتفکر الحسن فی ذلک, وقبل أن یجیب قال:واصل بن عطاء:أنا لا أقول أنّ صاحب الکبیرة مؤمن مطلقاً, ولا کافر مطلقاً, بل هو فی منزلة بین المنزلتین, لا مؤمن, ولا کافر, ثمّ قام واعتزل إلی أسطوانة من أسطوانات المسجد یقرّر ما أجاب،علی جماعة من أصحاب الحسن فقال الحسن:اعتزل عنا واصل.فسمّی هو وأصحابه:معتزلة. (3)

ص:175


1- (1) .المصدر.
2- (2) .المصدر.
3- (3) .المصدر.

القاعدة الرابعة:

قوله فی الفریقین من أصحاب الجمل وأصحاب صفین أنّ أحدهما مخطئ،لا بعینه:وکذلک قوله فی عثمان وقاتلیه وخاذلیه, قال:إنّ أحد الفریقین فاسق لا محالة؛کما أن أحد المتلاعنین فاسق لا محالة, لکن لا بعینه.

و قد عرفت قوله فی الفاسق, وأقلّ درجات الفریقین أنّه لا تقبل شهادتهما, کما لا تقبل شهادة المتلاعنین, فلا یجوز قبول شهادة علی،وطلحة،والزبیر،علی باقة بقل.وجوّز أن یکون عثمان وعلی علی الخطأ.هذا قوله،و هو رئیس المعتزلة،ومبدأ الطریقة فی أعلام الصحابة وأئمّة العترة.

ووافقه عمرو بن عبید علی مذهبه, وزاد علیه فی تفسیق أحد الفریقین لا بعینه بأنّ قال:لو شهد رجلان من أحد الفریقین مثل علی ورجل من عسکره،أو طلحة و الزبیر لم تقبل شهادتهما, وفیه تفسیق الفریقین وکونهما من أهل النار.

هکذا تتّضح شدّة قرب بعض معتقدات الواصلیة من معتقدات الخوارج،ولکنّهم استبدلوا التکفیر بالتفسیق فی شأن الفتنة, ومن شارک فیها.و هذا الذی سمح للواصلیة فی المغرب بمؤازرة الأباضیة،فی ثورة صاحب الحمار, کما ذکره ابن خلدون. (1)

الهُذیلیة وتبلور عقائد الاعتزال

یطلق اسم الهُذیلیة علی أصحاب أبی الهذیل حمدان بن الهذیل العلاف(135235ه(الذی اعتبره الشهرستانی شیخ المعتزلة, ومقدّم الطائفة ومقرّر الطریقة،أی:موضح مناهجها واستدلالاتها،والمناظر علیها.

فی عهده أصبح الاعتزال مذهباً رسمیاً للسلطة العباسیة،وتطرّفت السلطة فی نصرة المذهب إلی حدّ اضطهاد المخالفین وتعذیب بعضهم،مثل الإمام أحمد بن حنبل الشیبانی،صاحب المذهب الفقهی المعروف باسمه،و إمام المحدّثین فی زمانه.

ص:176


1- (1) .بحوث وحدویة فی أصول الطائفیة:الجزء الثانی،تقریر البحث.

أخذ أبو الهذیل مذهب الاعتزال, عن عثمان بن خالد الطویل, و عن واصل بن عطاء.

و قد قرّر الشهرستانی أنّ مدرسته الفکریة تمایزت عن الواصلیة بتنقیحها لعشر قواعد،هذا مختصرها:

الأولی:القول بأنّ الباری تعالی عالم بعلم،وعلمه ذاته قادر بقدرة, و قدرته ذاته حی بحیاة وحیاته ذاته.و قد اعتقد الشهرستانی أنّه اقتبس هذا الرأی من الفلاسفة الذین اعتقدوا:أنّ ذاته واحدة لا کثرة فیها بوجه, و إنّما الصفات لیست وراء الذات معانٍ قائمة بذاته،بل هی ذاته وترجع إلی السلوب أو اللوازم.

والفرق بین قول القائل:عالم بذاته لا بعلم،وبین قول القائل:عالم بعلم هو ذاته،أن الأوّل نفی الصفة،والثانی إثبات ذات هو بعینه صفة أو إثبات صفة هی بعینها ذات.

وعلّق الشهرستانی علی هذا بقوله:إذا أثبت أبو الهذیل هذه الصفات وجوها للذات،فهی بعینها أقانیم النصاری،أو أحوال أبی هاشم.

الثانیة:القول:بأنّ هناک إرادة لا محلّ لها،یکون الباری تعالی مریداً بها.و هو أوّل من أحدث هذه المقالة وتابعه علیها المتأخرون.

الثالثة:القول:بأنّ کلام الباری تعالی بعضه لا فی محلّ و هو قوله:کن،وبعضه فی محلّ،کالأمر و النهی و الخبر والاستخبار،وکان أمر التکوین عنده غیر أمر التکلیف.

الرابعة:القول:فی القدر مثل ما قاله القدریة الأوائل؛إلا أنّه یفصّل بین الدنیا و الآخرة،فهو قدری فی الأولی وجبری فی الآخرة،بتوضیح یمکن مراجعته فی مظانّه.

الخامسة:القول:بأنّ حرکات أهل الخلدین تنقطع،وأنّهم یصیرون إلی سکون دائم خموداً.وتجتمع اللذات فی ذلک السکون لأهل الجنّة،وتجتمع الآلام فی ذلک السکون لأهل النار.

السادسة:القول:فی الاستطاعة أنّها عَرضَ من الأَعراض غیر السلامة و الصحّة.وفرّق بین أفعال القلوب وأفعال الجوارح،علی نحو تجدر مطالعته فی مظانّه.

السابعة:القول:فی المکلّف قبل ورود السمع،أنّه یجب علیه أن یعرف الله تعالی بالدلیل من غیر خاطر.و إن قصّر فی المعرفة استوجب العقوبة أبداً.

ص:177

ویعلم أیضاً حسن الحسن وقبح القبیح, فیجب علیه الإقدام علی الحسن کالصدق و العدل،والإعراض عن القبیح کالکذب و الجور.

وقال أیضاً:بطاعات لا یراد بها الله تعالی ولا یقصد بها التقرب إلیه...

وقال فی المکره إذا لم یعرف التعریض و التوریة فیما أکره علیه:فله أن یکذّب ویکون وزره موضوعاً عنه.

الثامنة:القول فی الآجال و الأرزاق:أنّ الرجل إن لم یقتل مات فی ذلک الوقت،ولا یجوز أن یزاد فی العمر أو ینقص.والأرزاق علی وجهین:

أحدهما:ما خلق الله تعالی من الأمور المنتفع بها،یجوز أن یقال خلقها رزقاً للعباد.فعلی هذا من قال إن أحداً أکل أو انتفع بما لم یخلقه الله رزقاً فقد أخطأ لما فیه أنّ فی الأجسام ما لم یخلقه الله تعالی.

والثانی:ما حکم الله به من هذه الأرزاق للعباد،فما أحلّ منها فهو رزقه وما حرّم فلیس رزقاً-أی:لیس مأمورا بتناوله.

التاسعة:القول بأنّ إرادة الله غیر المراد،فإرادته لما خلق هی خلقه له, وخلقه للشیء عنده غیر الشیء،بل الخلق عنده قول لا فی محلّ.وقال:إنّه تعالی لم یزل سمیعاً بصیراً بمعنی سیسمع وسیبصر.

وکذلک لم یزل غفوراً رحیماً محسناً خالقاً رازقاً مثیباً معاقباً موالیاً معادیاً آمراً ناهیاً،بمعنی:أنّ ذلک سیکون منه.

العاشرة:القول بنفی حجیة التواتر.فعنده،لا تقوم الحجّة فیما غاب إلّا بخبر عشرین فیهم واحد من أهل الجنّة،أو أکثر.ولا تخلو الأرض عن جماعة هم أولیاء الله معصومون لا یکذبون ولا یرتکبون الکبائر, فهم الحجّة, لا التواتر.وعنده،یجوز أن یکذّب جماعة ممّن لا یحصون عدداً إذا لم یکونوا أولیاء الله،ولم یکن فیهم واحد معصوم. (1)

ومن أهمّ من صحب أبا الهذیل،أبو یعقوب الشحّام،والأدمی وهما علی مذهبه،وکان سنه(مائة سنة)لمّا توفی فی أوّل خلافة المتوکّل سنة خمس وثلاثین ومائتین،بعد

ص:178


1- (1) .المصدر:49-53.

أن تورّط المعتزلة مع السلطة العباسیة فی أوّل محکمة تفتیش عقائدی عرفها التاریخ الإسلامی،بعد أن کان مثل هذا التفتیش مقتصراً علی ما یعتقد بأنّه مضرّ مباشرة بالسلطة.

الهشامیة و اللانصوصیة المتطرّفة

إنّ القاعدة العاشرة لوحدها کافیة لتلخیص المشکلة المناهجیة لأهمّ فرق المعتزلة،وهی انعدام الثقة فی غیر المعصوم مطلقاً،وفقدان القدرة علی تشخیص المعصوم من بین المعاصرین.

فلو کانوا قادرین علی تشخیص المعصومین المعاصرین لهم،لما فقدوا ارتباطهم بالحدیث النبوی،بعد ذلک التشدّد فی إثبات صحّة الصدور،الذی وصل إلی حدّ إنکار حجیة الخبر المتواتر،وبالتالی الوقوع فی تبنی منهج عقلی یرفض النصوص،و هو اللانصوصیة.

وحیث إنّ الانزلاق من البرهان إلی السفسطة أمر یسیر،فقد کان من الطبیعی أن تکون العقلانیة المحضة التی وقع فیها المعتزلة بعیداً عن إرشادات نصوص الحدیث الشریف،قطعی الصدور،قابلة للانحراف إلی حالة من المعاداة المتطرّفة لظواهر النصوص التی تتعارض مع نتائج الاستدلالات العقلیة،و إن کانت ناتجة عن مغالطة محضةً أحیاناً.

وتعتبر الفرقة الهشامیة أفضل مصداق لهذا التیار،وهم أصحاب هشام بن عمرو الفوطی،و قد اشتهر بحدّة الذکاء وحضور البدیهة, ولعلّ هاتین الخصلتین،إضافة إلی خلو تکوینه العلمی من التهذیب الأخلاقی، (1)کانتا سبباً فی اعتداده المفرط بنفسه،وجرأته الشدیدة علی رفض ظواهر التنزیل،ناهیک عن ظواهر المرویات.و قد کان لهذا المنهج المتطرف لوازم من جنسه،لعل أهمها:

ص:179


1- (1) .سیر أعلام النبلاء:547/10.
أ)التطرف فی التفویض

لقد کانت مبالغته فی التفویض أشدّ من مبالغة بقیة المعتزلة:فحسب الشهرستانی، (1)أنهّ کان یمتنع من إطلاق إضافات أفعال إلی الباری تعالی،و إن ورد بها التنزیل.من ذلک قوله:إنّ الله لا یؤلّف بین قلوب المؤمنین, بل هم المؤتلفون باختیارهم،مع أنّه قد ورد فی التنزیل: ...ما أَلَّفْتَ بَیْنَ قُلُوبِهِمْ وَ لکِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَیْنَهُمْ ... 2 ...

ومبالغته فی نفی إضافات:الطبع،والختم،والسدّ،وأمثالها أشدّ وأصعب.و قد ورد بجمیعها التنزیل قال الله تعالی: خَتَمَ اللّهُ عَلی قُلُوبِهِمْ وَ عَلی سَمْعِهِمْ ... 3 وقال: ...بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَیْها بِکُفْرِهِمْ ... . (2)

ب)إنکار الإمامة حین اشتداد الحاجة إلیها

...وممّا أنکر علیه فی باب الإمامة قوله:إنّها لا تنعقد فی أیام الفتنة واختلاف الناس, و إنّما یجوز عقدها فی حال الاتفاق و السلامة.

وکذلک أبو بکر الأصم من أصحابه کان یقول:الإمامة لا تنعقد إلا بإجماع الأمّة عن بکرة أبیهم...

والعجیب فی هذا القول،هو أن أقوی الأدلة علی وجوب الإمامة،من طریق العقل،هو دلیل وجوب حفظ النظم.ولیس أشد من حاجة الناس للنظم حین الفتن!فهل یعنی هذا القول أن نفس هذا الدلیل باطل عنده؟

و قد التفت الشهرستانی إلی خلفیة هذه الأقوال،فقال:

ص:180


1- (1) .الملل و النحل:72-74.
2- (4) .النساء:155.

و إنّما أراد بذلک الطعن فی إمامة علی رضی الله عنه؛إذ کانت البیعة فی أیام الفتنة من غیر اتّفاق من جمیع الصحابة؛إذ بقی فی کلّ طرف طائفة علی خلافه. (1)

هکذا تظهر حقیقة الانتماء السیاسی لهذه الفرقة من المعتزلة،فهی و إن کانت لا تدین بالعثمانیة, فإنّها تجعل نفسها دعامة للسلطة العباسیة التی کانت منذ نشأتها الأولی تقارع العلویین من الزیدیة و الحسنیین دون هَوادة.وکان هذا الخروج عن الاختیار الولائی العلوی العام الذی طالما اتهم به المعتزلة،تجسیداً للانضمام إلی المحور السلطوی الجدید،وارث الثقافة العثمانیة،و هو المحور العباسی الذی حاول مصادرة بقایا محور المهاجرین و الأنصار،بعد أن امتنع رواد المحور الصحابی العمومی من الرکون إلی خدمته کما کان یرید. (2)

ج)الإحباط

لعلّ أشهر ما میز عقائد الهشامیة هو قولهم بالإحباط-أی:کون الإیمان هو الذی یوافی الموت-فقال:إنّ من أطاع الله جمیع عمره،و قد علم الله أنّه یأتی بما یحبط أعماله ولو بکبیرة،لم یکن مستحقّاً للوعد-أی:للثواب علی صالح الأعمال السابقة-وکذلک علی العکس. (3)

والقول بالإحباط الذی یشکّل استدراکاً علی مقولة الوعد و الوعید،کثیراً ما ینسب إلی جمیع المعتزلة،ولا دلیل علی ذلک.

د)عودة ظاهرة التکفیر

لا شکّ أنّ أخطر ما نتج عن جرأة هشام فهو:أنّه کان یجّوز القتل و الغیلة علی المخالفین لمذهبه،وأخذ أموالهم غصباً وسرقة،لاعتقاده کفرهم واستباحة دمائهم

ص:181


1- (1) .المصدر.
2- (2) .أبرز ملامح هذا الامتناع و الإباء،مواقف الإمامین:أبی حنیفة النعمان،ومالک بن أنس،کما سیأتی.
3- (3) .المصدر.

وأموالهم.فالتحق بذلک فی الخوارج من حیث لا یدری،أو لعلّه کان یدری!

لعلّ هذه الفتوی المتطرّفة وأمثالها هی التی جعلت من السهل علی السلطة العباسیة فی زمن المتوکّل الانقلاب علی المعتزلة،والتنکیل بهم،دون أن یبکی علیهم أحد من جمهور المسلمین،فقد أصبح بالإمکان اتّهام کلّ معتزلی بالقول بمقالة الهشامیة الذین تجاوزوا الخطوط الحمراء التی تسالم علیها الجمهور،وهی أن یأمن کلّ مسلم علی دمه وماله وعرضه مهما کان اعتقاده فی الفروع.

البحث السابع عشر:الاعتزال بین النزعة العثمانیة و المراجعة التاریخیة
اشارة

لیس المراد ضمن هذا المختصر تفصیل الکلام فی عقائد المعتزلة،فهی عدیدة وشدیدة التنوّع.وکلّ بحث إجمالی حولها لا تبلغ فائدته ما یبرر الجهد المبذول فیه.

و قد مرّ عرض أهم مقولات أولی الفرق المعتزلیة التی اشتهرت بعض مختصاتها العقائدیة،وجرت علی ألسن خصوم هذا التیار.

والذی یعقّد البحث الموضوعی حول مختلف اتجاهات المعتزلة،التی قد یصدق علی الکثیر منها أنها فرق مستقلة،انقراضها دون أن یستطیع آخر أتباعها الاحتفاظ بأدبیاتها.و قد ذکر الشهرستانی عدداً کبیراً من فرق المعتزلة التی انقرضت جمیعاً؛ولم تبقَ فائدة من إحیاء ذکرها،و إنّما اکتفینا بذکر ما کانت آراؤهم ذات امتدادات فکریة معاصرة،ضمن ما أصبح یسمّی،فی عصرنا،بالکلام الجدید.

وما یبدو جدیرا بالتنویه،هو أهمّ عامل من عوامل اندثار فکر المعتزلة عموماً, و هو أنّهم لم ینجحوا فی تأمین مقبولیة جماهیریة کافیة لهم،فی أول محنة اعترضت وجودهم.

فمع أواخر أیام أبی الهذیل العلاف،وصلوا إلی مفترق طرق:

فإمّا البقاء علی اللانصوصیة و الوقوع تحت طائلة اضطهاد المحدّثین،والسلطات التی أسرعت بتبنی مقولاتهم علی النحو الذی سنوضّحه فی المبحث الآتی.

ص:182

و إمّا تعدیل موقفهم من المیراث النبوی،بحیث لا یفقدون هویتهم کتیار عقلانی،فی نفس الوقت الذی یلتحقون فیه بمرجعیة حدیثیة مقبولة.

و هذا الاتّجاه الثانی،قد جسده اتّجاه المراجعة التاریخیة عند إبراهیم النظّام،الذی یعتبره الکثیرون،وخاصة المتعاطفون مع هذا التیار،أبرز منظری المعتزلة علی الإطلاق،وکان علی هذه المراجعة أن تتجاوز عقبة المیراث الغوغائی للثقافة العثمانیة،تلک العقبة التی کرّستها اللوثة العثمانیة التی عانی منها أبرز الوجوه العُلمائیة الموسوعیة المعتزلیة،علی الإطلاق،و هو أبو عثمان عمرو بن بحر الملقب بالجاحظ.(ت 255).

1-الجاحظیة وعودة العثمانیة

الجاحظیة،هم أصحاب عمرو بن بحر،أبی عثمان الجاحظ(ت255ه(کان من فضلاء المعتزلة, ومن کبار المصنّفین فی شتی فنون الأدب و العلم.

و قد طالع الکثیر من کتب الفلاسفة و العلماء،وکان واسع الاطلاع علی الأدب و الشعر،وجمع بین علم الکلام،والفصاحة،والعلم بالأخبار و الأشعار و الفقه.وله کتب فی التوحید وإثبات النبوّة, ونظم القرآن وحدوثه،وفضائل المعتزلة. (1)

وکان متلوّناً فی ولائه بین العثمانیة و العلویة الزیدیة،و قد عرفت عنه الرسالة العثمانیة التی فضّل فیها عثمان علی علی،رغم الجوّ العامّ العباسی الذی کان لا یؤید العثمانیة،باعتبارها مصدراً لشرعنة الخلافة الأمویة المنافسة لهم بالأندلس.

و قد عاصر الجاحظ:المعتصم, و المتوکّل،وشهد نکبة المعتزلة فی أیامه.

وانفرد عن أصحابه بمسائل منها:

أولا:أنّ المعارف کلّها ضروریة وطباع.ولیس شیء من ذلک من أفعال العباد. (2)

ص:183


1- (1) .من کتب فضائل المعتزلة،الذی ردّ علیه ابن الراوندی فی کتاب خاص اسمه فضیحة المعتزلة،ثمّ أنّ أبا الحسین المتوفی(311 ه-(ألّف کتاب الانتصار, وانتصر فیه للجاحظ.
2- (2) .الملل و النحل:75/1.

ثانیا:لیس للعبد کسب سوی الإرادة،وتحصل أفعاله منه طباعاً.

ونقل الشهرستانی عنه أیضاً:أنّه أنکر أصل الإرادة وکونها جنساً من الأعراض،فقال:إذا انتفی السهو عن الفاعل, وکان عالماً بما یفعله فهو المرید علی التحقیق.

و أما الإرادة المتعلّقة بفعل الغیر, فهو میل النفس إلیه. (1)

ثالثا:إثبات الطبائع للأجسام،کما قال الطبیعیون من الفلاسفة.وأثبت لها أفعالاً مخصوصة بها. (2)

رابعا:استحالة انعدام الجواهر؛فالأعراض تتبدل،والجواهر لا یجوز أن تفنی. (3)

خامسا:قوله فی أهل النار أنّهم لا یخلدون فیها عذاباً, بل یصیرون إلی طبیعة النار.وکان یقول:النار تجذب أهلها إلی نفسها من غیر أن یدخل أحداً فیها. (4)

سادسا:کان مذهبه مذهب الفلاسفة فی نفی الصفات،وفی إثبات القدر خیره وشرّه من العبد. (5)

أمّا الذی جعل للجاحظ مکانته المرموقة فی التراث الإسلامی،فلیست هذه العقائد التی لم تلبث أن اندثرت, کما اندثر غیرها من الاجتهادات العقلیة الظنیة،تحت وطأة ثلاثة تیارات أساسیة وجهت الفکر الإسلامی بدایة من القرن الرابع:العقائد النصوصیة التی ازدهرت خاصّة بعد تدوین المجامیع الحدیثیة الکبری, و العقائد الفلسفیة التی ازدهرت بالتدریج بعد ترجمة الفلسفة الأرسطیة خاصّة علی ید الفارابی،والعقائد النصوصیة العقلیة التی ازدهرت علی ید ورثة العلم النبوی من أهل بیت الرسول صلّی الله علیه و آله.

ص:184


1- (1) .المصدر.
2- (2) .المصدر.
3- (3) .المصدر.
4- (4) .المصدر.
5- (5) .المصدر.

ولکن الذی حفظ للجاحظ مکانة متمیزة بین بقیة المعتزلة, وأنقذ کتبه من الإتلاف و الإحراق الذی تعرّضت إلیه معظم مؤلّفات المعتزلة،فهو تصریحه بتبنی أهمّ شعارات الثقافة العثمانیة،التی جعل منها المتوکّل العباسی رایة حرب له ضد مخالفیه،والمتوکل هو أشدّ خلیفة عباسی حقداً علی بیت الرسول صلّی الله علیه و آله؛وربما یصح علیه نعت الناصبی بامتیاز،من بین خلفاء بنی العباس. (1)

وحیث إنّ الدعوة العثمانیة،فی ذاتها،یمکن أن تتلخّص فی القول بأفضلیة عثمان علی علی،فإنّ الرسالة العثمانیة التی کتبها الجاحظ فی إثبات هذه الأفضلیة المزعومة،کانت ممّا تحتاج إلیه سلطة المتوکل فی أواخر عمر الجاحظ؛وذلک لدی مواجهتها للحرکات السیاسیة الجدیدة السریة المنتسبة إلی التشیع،و إن تبرّأ منها أئمة المحور العلوی باستمرار.

وأشهر هذه الحرکات التی کانت وبالاً علی المحور العلوی،وشوهت سمعة کلَ ّ الشیعة لدی جماهیر المسلمین،بعد أن کانوا رمزاً للمعارضة الإیجابیة و السلبیة،حرکة القرامطة التی بدأ أمر دعوتها یتفاقم،وبدأت أخبار عقائدها الغریبة تطرق أسماع المسلمین طرقاً فی غایة الإزعاج.

2-ابراهیم النظّام ومدرسة الاعتزال المعتدل
اشارة

فی عرض المدارس المعتزلیة المتقدّمة،ظهر تیار معتزلی تمیز باستقلالیته الفکریة عن الاتّجاه السلطوی.و قد مکّنته هذه الاستقلالیة من الاستفادة الحرّة من مرجعیة أهل البیت علیهم السلام،وبهذا اتّخذ هذا الاتّجاه منهجاً معتدلاً یمیل إلی الفلسفة من جهة،ولکنّه بعید عن مداراة عقائد الجمهور فی مسائل الإمامة،من جهة أُخری.

ص:185


1- (1) .کان معظم الخلفاء حاقدین علی أهل البیت علیهم السلام ،تخوفاً منهم:وذلک اعتقاداً منهم،بأنهم غاصبون لحقهم؛فکانوا فی الحقیقة یتخوفون من ردّ فعلهم،ولا یکنّون لهم البغض بالضرورة؛فکما قال هارون الرشید لابنه:الملک عقیم،إن نازعتنی فیه أخذت الذی فیه عیناک!

هذا الاتّجاه یطلق علیه اسم:النظّامیة.

النظّامیة:هم أصحاب إبراهیم بن یسار بن هانئ النظّام(160-231 ه)،و هو من معتزلة البصرة،وکان معاصراً لأبی الهُذیل العلاف.والظاهر أنّه کان عصامیاً فی الفلسفة.وعوّل فی فهم مطالبها علی ذکائه الثاقب الذی لم یسعفه فی کثیر من الأحیان،فقال عنه الشهرستانی:

طالع کثیراً من کتب الفلاسفة،وخلط کلامهم بکلام المعتزلة.و قد انفرد النظّام عن أصحابه بمسائل فی الإلهیات ومسائل فی أُصول الاستنباط،وأُخری فی الإمامة و الخلافة. (1)

التمایز فی الإلهیات

أهمّ مسائل الإلهیات التی تمیز المدرسة النظّامیة،هی:

الأولی:المزایدة فی القول بالقدر،خیره وشرّه.منها قول النظّام:إنّ الله تعالی لا یوصف بالقدرة علی الشرور و المعاصی،ولیست هی مقدورة للباری تعالی.خلافاً لأصحابه فإنّهم قضوا:بأنّه قادر علیها, لکنّه لا یفعلها؛لأنّها قبیحة.

الثانیة:القول فی الإرادة،فعنده:أنّ الباری تعالی لیس موصوفاً بها علی الحقیقة،فإذا وصف فیها شرعاً فی أفعاله،فالمراد بذلک أنّه خالقها ومنشؤها علی حسب ما علم.

و إذا وصف بکونه مریداً لأفعال العباد, فالمعنی أنّه أمر بها أو نهی عنها.

الثالثة:القول:بأنّ أفعال العباد کلّها حرکات فحسب.والسکون حرکة اعتماد،والعلوم و الإرادات حرکات النفس.ولم یرد بهذه الحرکة حرکة النقلة.و إنّما الحرکة عنده مبدأ تغیر ما،کما قالت الفلاسفة من إثبات الحرکات فی الکیف و الکم و الوضع و الأین و المتی.

الرابعة:موافقة الفلاسفة فی القول:بأنّ حقیقة الإنسان هی النفس و الروح،أمّا

ص:186


1- (1) .المصدر:53-60.

البدن فآلتها وقالبها.غیر أنّه مال إلی قول الطبیعیین منهم:إنّ الروح جسم لطیف مشابک للبدن،مداخل للقلب بأجزائه،مداخلة المائیة فی الورد و الدهنیة فی السمسم،والسمنیة فی اللبن.

وقال:إنّ الروح هی التی لها قوّة واستطاعة وحیاة ومشیئة،وهی مستطیعة بنفسها والاستطاعة قبل الفعل.

الخامسة:القول بأنّ کلّ ما جاوز حدّ القدرة من الفعل, فهو من فعل الله تعالی بإیجاب الخلقة؛أی:أنّ الله تعالی طبع الحجر طبعا وخلقه خلقة،إذا دفعته اندفع, و إذا بلغت قوّة الدفع مبلغها عاد الحجر إلی مکانه طیعاً.

السادسة:موافقة بعض الفلاسفة فی نفی الجزء الذی لا یتجزّأ, وأحدث القول بالطفرة لحلّ الشبهة الیونانیة القدیمة،حول استحالة قطع المتناهی للامتناهی.

السابعة:القول-علی ما حکاه الشهرستانی:-بأنّ الجواهر مؤلّفة من أعراض اجتمعت.ووافق هشام بن الحکم فی قوله:إنّ الألوان و الطعوم, و الروائح أجسام،فتارة یقضی بکون الأجسام أعراضاً،وتارة یقضی بکون الأعراض أجساماً, لا غیر. (1)

أمّا ما نسب إلی ابن هشام،فلیس فی متابعته محذور علمی،حیث إنّ کثیراً ممّا کان یعتقد أنّه أعراض إنّما هی أجسام, أی:جواهر.

والألوان و الروائح بالتحدید هی کذلک حسب التحقیق العلمی المعاصر.فإذا ثبت ما نسب إلی النظّام هنا, فهو یحسب له لا علیه.

الثامنة:القول:بأنّ الله تعالی خلق الموجودات دفعةً واحدةً علی ما هی علیه الآن،معادن ونباتاً وحیواناً وإنساناً،ولم یتقدّم خلق آدم(علیه السلام)خلق أولاده،غیر أنّ الله تعالی أکمن بعضها فی بعض،فالتقدّم و التأخر إنّما یقع فی ظهورها من مکامنها دون حدوثها ووجودها.

التاسعة:القول فی إعجاز القرآن:أنّه من حیث الإخبار عن الأمور الماضیة و الآتیة, ومن جهة صرف الدواعی عن المعارضة،بالإعجاز البلاغی, وغیره من وجوه الإعجاز. (2)

ص:187


1- (1) .المصدر.
2- (2) .المصدر.
الاختلاف فی أُصول التشریع

اشتهر عن النظّامیة تمایزهم عن معظم فقهاء الجمهور فی أُصول الاستنباط الفقهی.من ذلک القول فی الإجماع،أنّه لیس بحجّة فی الشرع،وکذلک القیاس فی الأحکام الشرعیة, لا یجوز أن یکون حجّة،و إنّما الحجّة فی قول الإمام المعصوم.

و هذا القول لا یمکن له أنّ یستقرّ إذا ما فقدت الصغری فی الخارج أی:إذا لم یکن فی کلّ زمان إمام معصوم تتمّ به الحجّة علی الناس.

من هنا یظهر اقتراب الاعتزال النظّامی من مرجعیة أهل البیت علیهم السلام،و إن کان هذا من منظور أعمی قد لا یمیز بین الإمام الحقّ و الإمام المزعوم،کما سیظهر من تفصیل الکلام فی مذاهب الشیعة.

بعض الانشعابات الانحرافیة

شهدت المدرسة النظّامیة بعد النظّام بعض الانشعابات المتمیزة بالتطرّف والاقتباس من بعض العقائد المسیحیة و الهندوسیة.ومن هذه الانشعابات المتطرّفة نذکر الخابطیة أصحاب أحمد بن خابط.وکذلک الحدثیة أصحاب الفضل الحدثی, و قد کانا من أصحاب النظّام.

وقال عنهما الشهرستانی:إنّهما ضمّا إلی مذهب النظّام ثلاث بدع،أهمّها وأخطرها:

البدعة الأولی:إثبات حکم من الأحکام الإلهیة فی المسیح علیه السلام،موافقة للنصاری علی اعتقادهم،أن المسیح الذی یحاسب الخلق فی الآخرة و هو المراد بقوله تعالی: وَ جاءَ رَبُّکَ وَ الْمَلَکُ صَفًّا صَفًّا و هو الذی یأتی فی ظلل من الغمام و هو المعنی بقوله تعالی: ...أَوْ یَأْتِیَ رَبُّکَ ... و هو المراد بقول النبی علیه الصلاة و السلام:إن الله تعالی خلق آدم علی صورة الرحمن.وبقوله:یضع الجبار قدمه فی النار.

وزعم أحمد بن خابط:أن المسیح تدرّع بالجسد الجسمانی و هو الکلمة القدیمة المتجسّدة کما قالت النصاری.

ص:188

البدعة الثانیة:القول بالتناسخ:زعماً أن الله تعالی أبدع خلقه أصحاء سالمین عقلاء بالغین،فی دار سوی هذه الدار التی هم فیها الیوم.وخلق فیهم معرفته و العلم به وأسبغ علیهم نعمه؛ولا یجوز أن یکون أول ما یخلقه إلّا عاقلا ناظراً معتبراً.وابتدأهم بتکلیف شکره:فأطاعه بعضهم فی جمیع ما أمرهم به،وعصاه بعضهم فی جمیع ذلک؛وأطاعه بعضهم فی البعض دون البعض.

فمن أطاعه فی الکلّ أقرّه فی دار النعیم التی ابتدأهم فیها.

ومن عصاه فی الکلّ أخرجه من تلک الدار إلی دار العذاب وهی النار.

ومن أطاعه فی البعض وعصاه فی البعض أخرجه إلی دار الدنیا،فألبسه هذه الأجسام الکثیفة،وابتلاه بالبأساء و الضراء و الشدة و الرخاء و الآلام و اللذات،علی صور مختلفة من صور الناس وسائر الحیوانات علی قدر ذنوبهم.

فمن کانت معصیته أقل وطاعته أکثر،کانت صورته أحسن،وسائر الحیوانات و الأمة أقل.

ومن کانت ذنوبه أکثر کانت صورته أقبح،والأمة أکثر،ثمّ لا یزال یکون الحیوان فی الدنیا کرة بعد کرة وصورة بعد أخری ما دامت معه ذنوبه وطاعته و هذا عین القول بالتناسخ...

البدعة الثالثة:حملهما کلما ورد فی الخبر،من رؤیة الباری تعالی،مثل قوله علیه الصلاة و السلام:إنکم سترون ربکم یوم القیامة کما ترون القمر لیلة البدر.لا تضامون فی رؤیته،علی رؤیة العقل الأول،الذی هو أول مبدع،و هو العقل الفعال الذی منه تفیض الصور علی الموجودات،وإیاه عنی النبی علیه الصلاة و السلام بقوله:أول ما خلق الله تعالی العقل فقال له أقبل فأقبل،ثم قال له أدبر فأدبر فقال:وعزتی وجلالی ما خلقت خلقا أحسن منک،بک أعزّ،وبک أذل،وبک أعطی،وبک أمنع.فهو الذی یظهر یوم القیامة،وترفع الحجب بینه وبین الصور التی فاضت منه،فیرونه کمثل القمر لیلة البدر.

فأما واهب العقل،فلا یری البتة،ولا یشبه إلّا مبدع بمبدع. (1)

ص:189


1- (1) .المصدر:60-63.

وما أسماه الشهرستانی بالبدعة الثالثة،لیس سوی حلّاً ارتجله تلامذة النظّام لمشکلة عویصة أوقع فیها المحدثون مفکری الإسلام:رؤیة الباری تعالی.فالحدیث المزعوم،الذی صححه بعض المحدثین،وتورط فی نقله وترتیب الأثر العقائدی علیه جمهور المسلمین یناقض قوله تعالی: لا تُدْرِکُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ یُدْرِکُ الْأَبْصارَ وَ هُوَ اللَّطِیفُ الْخَبِیرُ . (1)ولولا رواج المبنی الأخباری بجواز ترتیب الآثار العقائدیة علی أخبار الآحاد،لما تورط الجمهور فی هذه الورطة،ولما وقع هؤلاء المعتزلة فی مثل هذا التکلّف.

النظّام و المراجعة التاریخیة

یظهر ممّا هو مقرّر عن النظّام الانتساب إلی المحور الولائی بالمعنی الأعمّ.وکانت جرأته علی نقد کبار الصحابة(رضی الله عنهم)،تحرمه من الاستظلال بالظل الوارف للمحور الصحابی العمومی.فحسب الشهرستانی قال:

إنّه لا إمامة إلا بالنص و التعیین،ظاهراً مکشوفاً.و قد نصّ النبی صلی الله علیه وسلم علی علی رضی الله عنه فی مواضع،وأظهر إظهاراً لم یشتبه علی الجماعة،إلّا أنّ عمر کتم ذلک،و هو الذی تولّی بیعة أبی بکر یوم السقیفة. (2)

والحقیقة أنّ إبراهیم النظّام لا یخفی طعنه فی الخلیفة الثانی،ففی محکی الشهرستانی أنّه کان یطعن فی إیمانه مشیراً إلی ما انتابه من الشکّ یوم الحدیبیة،

فی سؤاله الرسول علیه الصلاة و السلام حین قال:ألسنا علی حق،ألیسوا علی الباطل؟قال:نعم.قال عمر:فلمَ نعط الدنِیة فی دیننا،قال هذا شکّ وتردد فی الدین،ووجدان حرج فی النفس،ممّا قضی وحکم. (3)

بل إنّ النظّام کان یسلّم حتّی ببعض ما اختلفت فیه الشیعة مثل أخطر المطاعن علی

ص:190


1- (1) .الأنعام:103.
2- (2) .المصدر:57.
3- (3) .المصدر.

عمر وهی ضربه لفاطمة علیها السلام.فقال:

إنّ عمر ضرب بطن فاطمة یوم البیعة،حتّی ألقَتْ الجنینَ من بطنها.وکان-أی:عمر-یصیح أحرقوا دارها بمن فیها.وما کان فی الدار غیر علی وفاطمة و الحسن و الحسین.

وقال:تغریبه نصر بن الحجّاج من المدینة إلی البصرة, وإبداعه التراویح،ونهیه عن متعة الحجّ،ومصادرته العمال،کلّ ذلک إحداث. (1)

کذلک لم یتحفّظ النظّام فی شأن عثمان:وذکر إحداثه:من ردّه الحکم بن أبی العاص إلی المدینة،و هو طرید رسول الله صلّی الله علیه و آله ولعینه،ونفیه أبا ذر إلی الربذة و هو صدیق رسول الله،وتقلیده الولید بن عقبة الکوفة،و هو من أفسد الناس،ومعاویة الشام،وعبد الله بن عامر البصرة،وتزویجه مروان بن الحکم ابنته،وهم أفسدوا علیه أمره. (2)

إلی جانب هذا فإنّ النظّام لم یتوقّف, ولم یحترّز:ولم یتحفّظ فی شأن أی من کبار الصحابة(رضی الله عنهم)الذین رووا أحادیث،أعتقد بأنّ العقل یرفضها.

وفی محکی الشهرستانی (3)لم یتردّد حتّی فی تکذیب ابن مسعود.

و هذا ممّا یدلّ علی أن قبوله للمطاعن لم یکن عن نزعة إخباریة, بل عن تبنّ کامل لمنهج المراجعة التاریخیة الذی لم یسجّل التاریخ رائداً له قبله،عدا ما نقل عن أئمّة أهل البیت علیهم السلام من الروایات.

ابن أبی الحدید واستقرار المراجعة التاریخیة

لم تلبث الجاحظیة ومن نهج نهجهاً من المعتزلة العثمانیة أن انقرضت بعد أن غمرتها موجة عقلنة النصوصیة تحت رایة أهل السنّة و الجماعة.

ص:191


1- (1) .المصدر.
2- (2) .المصدر.
3- (3) .المصدر.

لکن الکثیر من آراء المعتزلة النظّامیة قد استمرّ فی حمل لواء الاعتزال المرتبط بالمحور الولائی.و قد کانت المراجعة التاریخیة المستمرّة الضمان لدیمومة هذا الخطّ الذی استقرّت رایته فی ید ابن أبی الحدید المعتزلی(586-656)ه الذی قدم أوضح نموذج من نماذج المراجعة التاریخیة الأخباریة،ضمن کتابه شرح نهج البلاغة. (1)

وما یمکن أن یعاب علی مراجعة ابن أبی الحدید،وعلی مراجعة النظّام من قبله،هو عدم ترک المجال منحصراً للعقل الناقد،والالتجاء إلی ترمیم مناطق الظل التی لا تتضح فیها الصورة التاریخیة،باعتماد أخبار آحاد لا تفید أکثر من الظن الذی لا یغنی عن الحق شیئاً.وفی هذا تراجع واضح عن المبدأ الأول الذی تأسست علیه جمیع تیارات الاعتزال،و هو:أولویة العقل علی النص.

ص:192


1- (1) .راجع:شرح نهج البلاغة،ابن أبی الحدید.

ثانیاً:تطوّر العقائد فی ظلّ المیراث النبوی

البحث الثامن عشر:الحدیث النبوی تحت رعایة محور السنّة و العترة
اشارة

تقدّم أنّ الغوغاء الثقافیة التی سادت المجتمع الإسلامی منذ أواخر نظام السقیفة،وخاصّة مع استقرار الاستبداد الأموی،کان لها عدّة روافد،شکّل تیار الخوارج،وردود الأفعال علیه،قسمین متطرفین منها.

ولکن الرافد الأصلی کان یتمثّل فی الامتدادات التی شهدتها الحافظة الشعبیة للسّنة النبویة،وهی المتوارثة من جیل إلی جیل.وهی التی حاولت رعایتها مرجعیتان:مرجعیة محور أهل البیت علیهم السلام،ومرجعیة المحور الصحابی العمومی،فی ظل تأثیر الاستبداد الأموی و المحور العشائری الأموی،وتحت وطأة الثقافة العثمانیة التی کان المحور السلطوی یختفی وراءها.

لکنّ أواخر القرن الأول للهجرة،ومع ارتخاء القبضة الحدیدیة السلطویة،شهدت استفاقة ثقافیة أظهرت الحاجة إلی ظهور محور جامع للفعالیات البنّاءة،ینقذ الأمة ممّا أحدق بها من أخطار الغزو الثقافی الأجنبی.

ص:193

1-أهم دواعی تشکّل محور مرجعی جدید
اشارة

لقد مرّت الإشارة إلی أن منع تدوین الحدیث،فی أوائل عهد نظام السقیفة،کان له الدور الأعظم فی تضخّم دور الثقافة الشفویة،وما أنجر عن ذلک من إطلاق أیادی الدسّ و التدلیس فی الأحادیث النبویة الشریفة؛فلم یسلم من تلک الظاهرة إلّا قدر یسیر حفظته النخبة،أو کتبته سریاً.

و قد استمر ذلک الوضع تسعة عقود کاملة؛حیث لم یبدأ تدوین الحدیث الشریف،بشکل جزئی،إلّا فی عهد عمر بن عبد العزیز(98-100 ه.).

فی هذا الظرف،تمکنت العقائد الوافدة من الحضارات المجاورة من استباق الأحادیث النبویة إلی الساحة الثقافیة الإسلامیة الواسعة،حیث لا یصل المبلّغون الحُفّاظ لترویج التراث النبوی شفویاً؛فی نفس الوقت الذی کان فیه المحور الولائی لأهل البیت یعیش حالة حصار مطبق،جعلت إشعاعه یقتصر علی النخبة من أوفیائه وخلصائه،الذین ساعدتهم ظروفهم الخاصة علی کسر الطوق المضروب حول أئمتهم؛وکان عمر بن عبد العزیز،نفسه،واحداً من هؤلاء المحظوظین،فکان تلمیذاً للإمام زین العابدین علیه السلام،قبل أن یرث منصب الخلافة الأمویة.ولعل هذه الحالة الفریدة،کانت من أبرز مصادیق العنایة الربانیة،لما کان لهذا الأموی الاستثنائی من مواقف جلیلة سمحت للمجتمع الإسلامی بالخروج من أزمة ثقافیة خانقة.

انفعالیة ردود الفعل أمام الغزو الثقافی الأجنبی

بعد سبعة عقود من الفتوحات الواسعة،اتسعت رقعة البلاد الإسلامیة إلی أوسع نطاق وصلت إلیه فی تاریخها:فبعد فتح بلاد السند وبلاد ما وراء النهر،شرقاً،وجنوب فرنسا غرباً،اشتملت الدولة الأمویة علی عدة شعوب ذات ثقافات متنوعة،لم تکن جمیعها،علی استعداد للذوبان فی الجسم الثقافی الإسلامی؛بل إن بعضها قد انتقل من حالة الدفاع الیائس إلی الهجوم الخفی،المعتمد أساسا علی الاختراق.

ص:194

والاختراق هو نفوذ مفاهیم ومقولات غریبة عن الثقافة الإسلامیة إلی المخزون الثقافی للأمة؛وکثیراً ما یکون ذلک عقب عملیة أسلمة ظاهریة لعقیدة غریبة عن الإسلام.

و قد کان المجتمع الإسلامی قد شهد محاولات اختراق من قبل الیهودیة و النصرانیة،حتی خلال حیاة الرسول الأکرم،(صلی الله علیه وآله)،باءت کلها بالفشل،أولّاً،ثمّ نجح بعضها فی التسلل بعد ارتحاله إلی الرفیق الأعلی.وتمثّل هذا التسرّب فی ظاهرة الإسرائیلیات،کما مر.

ثمّ جاء دور المجوسیة،والبوذیة،والهندوسیة،لتأسلم بعض مقولاتها؛وتزامن هذا التسرب الجدید مع القمع الدموی الذی لحق کل النخبة الواعیة من المسلمین.ولعل القمع الشدید الذی لحق ثورة القراء،التی کانت قد ذهبت بمعظم من کان من أهل العلم،أبرز نموذج علی عموم القمع لکل من کان یمکن أن یکون له دور إیجابی فی مقاومة الغزو الثقافی الخارجی. (1)فکانت الحصیلة لوثة فکریة عامة أصابت النخب و العوام علی حدٍّ سواء.

وکانت هذه الحالة الکارثیة،سبباً فی انکفاء أهل البیت علیهم السلام تماماً عن الفعل السیاسی،والتفرّغ بشکل کامل للتطهیر العقائدی.و قد کانت أدعیة الإمام زین العابدین علیه السلام،خاصة،أول شکل إبداعی،حمل المضمون العقائدی المقاوم (2)وحماه من التدلیس،وجعله بمأمن من المصادرة و الإتلاف؛فسلک بذلک مسلک أبیه وجدّه الذین ترکا تراثاً هاما من الأدعیة الحاویة لمضامین عقائدیة وأخلاقیة عالیة.

ص:195


1- (1) .بعد انتصار الحجاج بن یوسف الثقفی علی الثوار،فی موقعة(دیر الجماجم)،لم یأل جهداً فی ملاحقة من بقی حیاً منهم،فقبض علیهم وأعدمهم،غیر عابئ بالخسارة الکبری التی تلحق الأمة بفقدهم.ومن أبرز هذه الشخصیات:سعید بن جبیر،وکمیل بن زیاد النخعی.والأول من أکابر التابعین،والثانی هو من کبار حفاظ المحور الولائی،وإلیه ینسب دعاء الخضر علیه السلام عن الإمام علی علیه السلام.
2- (2) .فی دعاء الجوشن الکبیر الذی یرویه الإمام عن جده رسول الله صلّی الله علیه و آله،یحتوی علی ألف معنی من معانی التوحید.

ولکن الحصار الشدید الذی کان یعیش تحته کل من لا ترضی عنه الدولة الغاشمة،کان یحرم الأمة حتی من هذا المقدار من الإبداع؛فظل نخبویاً جداً.

وفی الأثناء،کان ردّ الفعل التلقائی للمجتمع الإسلامی،أمام شتی المقولات العقائدیة الغریبة والانحرافات الفکریة الواضحة،الوافدة علیه من الخارج الثقافی المجوسی،أو البوذی أو الهندوسی أو البیزنطی النصرانی،انفعالات متجسدة فی بعض الاقتباسات الشخصیة.

ثم سرعان ما أعقب تلک الانفعالات تفاعل المعتزلة معها،تفاعلاً تراوح بین الردّ والاقتباس،وکلاهما لم یکن خالیا من الانفعال،کما مرّ.

إلا أنّ أوائل المائة الثانیة،التی شهدت بدایة التدوین الجزئی للحدیث،بطلب من الخلیفة عمر بن عبد العزیز،کانت ظرفاً مناسباً لتشکّل تیار أراد أنّ یکون الاستمرار الطبیعی لمرجعیة المحور الصحابی العمومی،لکن ضمن السعی لتدارک أخطر نواقص الماضی،وذلک بتوثیق الروابط وإحکامها مع المحور الولائی الذی کان یعول علیه کمصدر أوّل للمعرفة:فرغم أن هذا المحور قد شهد انحساراً سیاسیاً،بعد مأساة کربلاء،اتخذ،بالتدریج،موقعاً علمیاً متمیزاً یتزعمه الإمام زین العابدین علی بن الحسین(ت96 ه)،ثمّ ابنه محمد من علی الباقر(ت110 ه)،ثمّ ابنه جعفربن محمد الصادق(148ه)علیهم السلام.

و هذا المحور التابعی الجدید،الذی کان یتشکل-أساسا-من تلامذة أئمة المحور الولائی،قد سعی للتخلّص من العقدة السیاسیة التی ورط فیها بنو أمیة جیلین سابقین من الصحابة و التابعین،فحاول التخلّص من لوثة التقابل المزعوم بین العلویة و العثمانیة،عملاً بقولة شهیرة للخلیفة الأموی عمر بن عبد العزیز:دماء قد برّأ الله منها أیدینا،فلنبرّء منها ألسنتنا!.

ونتیجة لهذا الاحتراز العام،سادت مقولة:ضرورة اجتناب الخوض فی حدیث الفتنة،وما یتفرع عنه من تخطئة وتصویب وتفسیق وتکفیر؛حتی اختلط

ص:196

الأمر علی بعض الکتّاب المعاصرین، (1)فتوهّموا أن وراء مثل هذا الإعراض،تبنّیا لمقولات المرجئة!

الدوافع الذاتیة و الموضوعیة لتشکّل المحور الجدید

علاوة علی تلک الدوافع الحمائیة البحتة،التی کانت تقف وراء ظهور هذا المحور المرجعی الجدید،فقد کانت هناک دوافع ذاتیة وموضوعیة جعلت منه مطلبا جماهیریاً:فقد کان الناس یجدون مشقة فی ربط الاتصال مع العلماء المحسوبین علی المحور الولائی،لأنّ قبضة الرقابة الأمنیة قد عادت بقوة أشد من سابقتها،بعد استفحال أمر الثورة العباسیة فی خراسان،وقیامها تحت شعار:البیعة للرضا من آل محمد؛مما کان یجعل أئمة أهل البیت علیهم السلام فی المدینة محل اتهام دائم،رغم استحالة إثبات أی تهمة ضدهم.

وکان ظهور مجموعات علمائیة علی درجة مقبولة من الکفاءة،تحمل أکبر قدر ممکن من میراث النبی وتنشره بین المتعلمین،بالنیابة عن المصدر الرئیسی،و هو المحور الولائی،ضرورة علمیة کان المجتمع الإسلامی فی أمس الحاجة لسدها.

لذا،یمکن القبول بنظریة تقاسم الأدوار،بین المحور الولائی القدیم،والمحور التابعی الجدید،الذی تشکّل،أساسا،من تلامذة المحور الأول.

والتدقیق فی صیغ التعامل بین أکابر المحور الجدید،من جهة،والأئمة الأخیار من أهل بیت النبی صلّی الله علیه و آله،من جهة أخری،یؤکد علی هذا المعنی، (2)دون شک.

کما أنّ هذا التدقیق کفیل بتفنید دعاوی بعض المقتاتین بنظریات التخوین

ص:197


1- (1) .نشأة الأشعریة وتطورها:24.
2- (2) .یظهر هذا المعنی من سیرة أهم شخصیات ذلک العصر.لاحظ،مثلا:سیرة محمد بن شهاب الزهری،وخاصة موقفه من الإمام زین العابدین علیه السلام بعد أن أنقذه من الاکتئاب الذی أصابه إثر إفاقته من غفلته،والتوبة عن خدمة بنی أمیة.

والإقصاء،القائلة بأن ما کان یوجد حقیقة،لیس تناغماً وتقاسماً للأدوار،بل هو تنافس،ومحاولة سلطویة لسحب البساط من تحت أقدام المعارضة العلویة.

و قد تشکّل المحور الجدید من مجموعة غیر متجانسة من المتکلمین و المحدّثین و الفقهاء.وقلّما اجتمعت الأوصاف الثلاثة:المتکلّم و المحدّث و الفقیه،بامتیاز فی رجل واحد؛حتی أن من اجتمعت له ثلاثتها صار یلقب بالإمام،بعد أن شاع الفصل بین الإمامتین العلمیة و السیاسیة.

ولکن،کان لکل واحد من هذه الفنون الشرعیة المستحدثة طریقه الخاصّ فی ادّعاء التواصل بالمحور الولائی،وتأمینه عملیاً.

وهنا سوف نفرد لأوسع هذه التیارات وأضعفها تجانساً،و هو تیار المحدّثین،أولاً،هذا البحث المختصر،لنتعرّف،من خلاله،علی أحد أهمّ موجهات الفکر الإسلامی فی القرنین الثانی و الثالث, و النصف الأوّل من الرابع؛بینما سیکون لتیار الفقهاء محلّ آخر للبحث فی الباب اللاحق.

2-الجبریة و الصفاتیة
اشارة

تقدّم أنّ الجبر:هو نفی الفعل حقیقة عن العبد،وإضافته إلی الربّ تعالی.ویمکّن القول أنّ الجبریة تنقسم إلی أصناف،بحسب تطرّفها فی نفی الفعل أو تسامحها فی بعض أفراده.فهی إمّا جبریة محضة أو معتدلة أو کسبیة.

وتتقاطع مع ما یطلق علیه اسم:الصفاتیة،فی مقابل المعطِّلة الذین ینکرون الصفات بتاتاً،فی الصنفین الأخیرین دون الأوّل:فیوجد جبریة معتدلة صفاتیة وجبریة کسبیة صفاتیة.

الجبریة المَحْضة

یمکن اعتبار العقیدة الجبریة،عموماً،أول ثمار التقاء المصالح بین السلطة الأمویة،وأطراف الغزو الثقافی الخارجی.

ص:198

ولکنّ التطرف بما یصدم عقیدة العوام،لا مکان له لدی أی سیاسی محنک.

والجبریة الخالصة،هی التی لا تُثبت للعبد فعلاً ولا قدرة علی الفعل مطلقاً،وتنسب إلی الجهمیة, وهم أصحاب جهم بن صفوان. (1)

وقال عنهم البغدادی:

قالت-أی الجهمیة-بالإجبار والاضطرار إلی الأعمال،وأنکروا الاستطاعات کلّها.وزعموا أنّ الجنّة و النّار تبیدان وتفنیان،وزعمت أنّ الإیمان هو المعرفة بالله فقط, و أنّ الکفر هو الجهل به فقط, وأن لا فعل, ولا قول, ولا عمل لأحد غیر الله تعالی, و إنّما تنسب الأعمال إلی المخلوقین علی المجاز. (2)

والحقیقة أنّ الجبریة المحضة،لم تکن إلّا تیاراً متطرّفاً،لم تقبل به حتّی السلطة الأمویة التی تأسّست مشروعیتها علی الجبر،کما مرّ.

وسوف یتوضّح أنّ الأعمّ الأغلب من الجبریة کانوا من الصفاتیة, ولم یتورّطوا فیما تورّطت فیه الجهمیة،و إن کانوا قد وقعوا فی التشبیه, کما سیأتی.

الجبریة الصفاتیة و الجبریة الکسبیة

إنّ الجبریة المعتدلة هی التی تثبت للعبد مرتبة ما من مراتب القدرة علی الفعل, ولکنّها غیر مؤثّرة،مطلقاً أو کلّیاً.وفی هذا الصنف مقالات عدیدة تتفاوت فی ما ینسب إلی العبد من المسؤولیة فی فعله.

و أما الجبریة الکسبیة, فهی قول من أثبت للقدرة الحادثة أثراً ما فی الفعل،وسمّی ذلک کسباً،وقال الشهرستانی:إنّ هذا لیس بجبر.وسیأتی أنه محق فی ذلک.

ص:199


1- (1) .الظاهر أنّه ترمذی،و قد ظهرت بدعته بترمذ،بعد أنّ التقی الجعد بن درهم, و هو أوّل من قال بخلق القرآن،وتطرّف فی ذلک.
2- (2) .الفَرق بین الفِرق:158؛والبدایة و النهایة:29/10.

أمّا المعتزلة،فهم یسموّن کلّ من لم یثبت للقدرة الحادثة أثراً فی الإبداع و الإحداث الاستقلالی جبریاً.

والمصنّفون وأصحاب المقالات عموماً،قد اختلفوا کثیراً فی نعت هذه الفرقة أو تلک بالجبریة،واشتهر أهل الحدیث عموماً باتّصافهم بالجبریة وأطلق هذا الاسم أیضاً علی الجیل المتأخّر من المتکلّمین،مثل أصحاب بن کلّاب،وأخیراً نال هذا اللقب أشهر متکلّمی الجمهور:أبو الحسن الأشعری،الذی یعتقد أنّه أوّل من قال بالکسب.و قد برّأهم الشهرستانی (1)من الجبریة مکتفیاً بتصنیفهم تحت عنوان الصفاتیة.

المشبّهة

التشبیه وما یلحق به من تجسیم،من أخطر الآفات العقائدیة الواردة علی ثقافة الأمة من عدة مصادر:الیهودیة،والمسیحیة،والبوذیة،والهندوسیة.و قد زاد دخول تراجم الفکر الیونانی إلی الساحة الثقافیة الإسلامیة،فی أواخر المائة الثانیة،الطین بلة.

والتشبیه هو:تطرّف فی الصفاتیة, ینزلق بصاحبه إلی تصوّر صفات جسمانیة لله تعالی علی غرار صفات المخلوقین.

ویفهم ممّا رواه الشهرستانی،أنّ رأی الجمهور کان علی تبرئة کبار أعلام الفقاهة من أصحاب المذاهب الکبری،مثل:الإمام مالک بن أنس, و الإمام أحمد بن حنبل من تهمة التشبیه.فصرّح أنّ جماعة من المتأخّرین زادوا علی ما قاله السلف،فقالوا لا بدّ من إجراء دوالّ الصفات علی ظاهرها،فوقعوا فی التشبیه الصرف؛وذلک علی خلاف ما اعتقده السلف. (2)

ص:200


1- (1) .المصدر.
2- (2) .حیث إنّ التشبیه صرفاً خالصاً فی بعض الیهود،کما اعترف بذلک الشهرستانی؛إذ وجدوا فی التوراة ألفاظاً کثیرة تدلّ بظاهرها علی ذلک،فإنّ دور الإسرائیلیات فی ترویج هذه العقائد لا یمکن إنکاره.

والتحقیق أنّ الوقوع فی التشبیه من لوازم ضعف درایة الحدیث،فالإسرائیلیات تعجّ بدوالّ التشبیه.

لهذا فلیس من السهل إعفاء الجیل الثانی من أتباع الإمام أحمد من هذه التبعة،لما عرف عنه من قبول الحدیث الضعیف.فمن السهل أن یقع هؤلاء الأتباع ضحیة ما یوجد من أحادیث ضعیفة،نقل عنه ابنه صالح،کاتب مسنده،أنه کان یقبل بها،کما سیأتی فی الباب اللاحق.

3-مرجعیة السنّة ومحور أهل السنّة و العترة
اشارة

بعد فتح باب تدوین الحدیث علی مصراعیه،أصبح المهتمون بالحدیث وبکتابته فی ساحة مفتوحة علی جمیع المؤثرات:الغزو الثقافی الأجنبی،واقتضاءات السلطة الحاکمة،ومتطلبات التکلیف الشرعی الذی ینص علی حفظ التراث النبوی من کل تدلیس أو ضیاع.و قد تفاعل المحدثون مع هذه المؤثرات،کل لما یسر له؛وکان کل إناء فیما فیه یرشح:فمن کان سلیم الطویة قبل التدین ظل کذلک؛ومن کان یتبع الهوی ویتصید الفرص قبل التدوین،استمر علی حاله...والخلاصة هی أن المحدثین منذ بدایة المائة الثانیة قد انقسموا إلی قسمین کبیرین:غوغائی یتبع الهوی و المصلحة الشخصیة.ورسالی لا بتغی إلّا وجه الله.

المحدثون الرسالیون و المحدثون الغوغائیون

تحصّل أن المحدثین،بعد فتح باب التدین،قد أصبحوا علی قسمین،و هذا توضیحهما:

القسم الأول:محدثون غوغائیون وشعبویون.

وبعضهم مستأکل بروایة الحدیث وجمعه وتدوینه،بعد أن أصبح مطلباً سلطویاً.وکان هؤلاء المستأکلون بالعلم النبوی،یتقلدون مناصب القضاء،لدی حکام الجور،

ص:201

دون أی حرج.فتراهم یقوون کل الروایات التی تبرر صنیعهم ذاک،وبصفة أعم،الروایات التی تُرضی الولاة عنهم.

ومن مآسی الأمة،أن هؤلاء کانوا هم جمهور المحدثین.وهم الذین أشاعوا الأحادیث الحاکیة عن الاقتباس الحضاری من عناصر التسرب الثقافی الأجنبی،خاصة أحادیث التشبیه و التجسیم.

کذلک،فهم الذین روجوا روایات غریبة عن روح الدین،مثل الأحادیث المزعومة عن فضائل قراءة بعض السور...الخ.

ولکن هذا القسم توزع بین جمیع المحاور،بنیات مختلفة:فی حین کان السلطویون یروون ما لا یغضب السلطان،کان أدعیاء المعارضة یروون ما یقوی مذاهبهم،وعادة ما کانت تقتات من الغلو فی شأن زعمائهم،کما سیأتی فی محله.

القسم الثانی:نخبة العلماء.

وهم الذین تنکبوا الصعاب،وضحوا بکل المغریات،فی سبیل حفظ العلم النبوی الصحیح من التحریف،وإنقاذ ما تمکنوا من تحصیله منه،من التلف و الضیاع.

و قد بدأ محمد بن شهاب الزهری هذه الحرکة،بأمر مباشر من الخلیفة عمر بن عبد العزیز،بعد أن مهد الأمر عدة فقهاء منهم محمد بن القاسم.وواصل علی نهجها الإمام مالک بن أنس،وتلمیذه الإمام الشافعی(رضی الله عنهما)،کما سیأتی فی محله،لاحقاً.

و قد کان هذا القسم من المحدثین تجسیداً للمحور الجدید الذی جمع بین نصرة السنة،والاستظلال بالظل الظلیل لأهل البیت النبوی علیهم السلام.و قد التحق الإمام أبو حنیفة،فی الوقت المناسب،بهذا المحور،بعد طول انتساب للجارودیة، (1)وجلس إلی الإمام الصادق علیه السلام لیأخذ عنه الحدیث النبوی الصحیح،بعد أن اضطرته الشکوک المشروعة

ص:202


1- (1) .نسبة إلی أبی الجارود،و هو منشق عن المحور الولائی،وکان یغالی فی الإمام الباقر علیه السلام،وسیأتی الکلام عن عقائده.

فی محدثی القسم الأول،وهم أکثر محدثی العراق،إلی مواقف متطرفة تجاه الحدیث عامة.و قد استبد به هذا الاحتراز المشروع،طیلة سنوات عدیدة من عمره؛حتی قال عنه ابن خلدون:أنه لم یصحّ عنده سوی سبعة عشر حدیثاً.

وحاصل القول،هنا:أن المحور الجدید کان جامعاً لمرجعیتین متحدتین مصداقاً،و إن اختلفتا مفهوماً:الالتزام بالسنة الشریفة،والولاء للعترة النبویة الطاهرة. (1)

ولکن هذا الجمع لم یکن لیحظی برضی المستأکلین بالفتن؛و قد کانوا کثیرین،وفی کلا جانبی التقابل السیاسی:معسکر السلطة،ومعسکرات المعارضة.

النخبة العلمائیة تحت ضغوط محدثی السلطة

کانت أواخر القرن الثانی حاملة لعدة نکبات متزامنة علی الأمة:

فمن جهة بدأ المستأکلون بالعلم فی شنّ حربٍ شعواء علی المجتهدین؛فکان الإمام الشافعی أبرز ضحایاها؛و هو الذی لا ذنب له سوی الاجتهاد فی قبالة المتمعشین من تقلید الإمام مالک،و هو الذی صرح بحرمة تقلید المیت فی حضور المجتهد الحی،کما سیأتی!

ومن جهة أخری،غلبت الثقافة الغوغائیة علی کلّ شیء.وساعد علی هذه الغلبة التحالف المشبوه بین المعتزلة و السلطة العباسیة.

و قد أوقع هذا التحالف عموم الناس فی وهم خطیر،مفاده أن التشبث بأهداب الحدیث،صحیحه وضعیفه،هو المنقذ من ضلال الاعتزال!

فکان ردّ الفعل الشعبوی المباشر،هو وضع کل من کان أصولیا فی خانة

ص:203


1- (1) .لا یخفی أن الأتحاد بین المصداقین حاصل بمحض کمال کلیهما.و هذا ما یجعل المساواة بین الروایتین المشهورتین للحدث النبوی:«ترکت فیکم ما إن تمسکتم به لن تضلوا أبدا:کتاب الله وعترتی أهل بیتی،وترکت فیکم ما إن تمسکتم به لن تضلوا أبدا:کتاب الله وعترتی»أمراً واضحاً.فیزول کل داع لتوهم التعارض بینهما.

العقلانیین،دون تمییز.فشاع تقسیم أهل العلم إلی محدثین وأصولیین،بالتدریج،مع سمعة غیر طیبة لهؤلاء.

المحدثون السلطویون علی هامش المحور التابعی الجدید

لم یکن المحور التابعی الجدید،بحکم اتجاهه الوحدوی العام واستقلالیته عن أجهزة السلطة،لینال رضا أیا من السلطات المتقاسمة للدولة الإسلامیة،آنذاک؛وهی العباسیة ببغداد،والإدریسیة بالمغرب, و الأمویة الثانیة بالأندلس.فقد استعصی أقطاب هذا المحور علی التوظیف،ودفعوا ثمن استقلالیتهم غالیاً،کما سیأتی بیانه لاحقاً.

وحیث إن کلّ سلطة خلافة تدّعی لنفسها مشروعیة دینیة،بالضرورة،فقد کان علی کل واحدة من هذه السلطات المتنازعة،أن تسعی لکی یحسب أحد أهم الأقطاب العلمیة من أنصارها،و إن لزم الأمر استعمال التدلیس وجعل الأقوال.فکانت نتیجة هذه المساعی تحقق أوسع عملیة تدلیس فی تاریخ الإسلام،کان ضحیتها الأعلام الکبار فی الحدیث و الفقه.

وهکذا،انتجت حرکة التدلیس،التی کان روادها محدثی السلطات،ورواة السیر و الأخبار الذین اشترت ذممهم،شخصیات وهمیة بأقوال وهمیة تسبغ المشروعیة علی أجهزة حکم لا مشروعیة لها:فتحول الإمام مالک الثائر مع محمد النفس الزکیة،إلی أموی،وهمی لا وجود له إلّا فی المخیلة المریضة للمدلسین،یشاطر نواصب بنی أمیة بعض مقولاتهم؛بینما تحوّل أبو حنیفة الثائر فی سجن العباسیین،فی المخیلة التدلیسیة،إلی مسبغ للشرعیة علی الحکم العباسی،بعد أن استأثر بعض تلامیذه بالمناصب القضائیة،فنسی الجمیع أن هذا العالم کان یلقب العباسیین بأبغض لقب لدیهم:اللصوص!

هکذا کان مصیر أقطاب هذا المحور:فقد غلبهم محدثو الحواشی بکثرة ما یروونه،وبکثرة من ینقل عنهم!

ص:204

فلا نستغرب بعد کل هذا،أن نجد قراءات متعددة لعقیدة الإمام مالک،وأکثر تعدداً منها لعقیدة أبی حنیفة،والشافعی وأحمد(رضی الله عنهم)!فمن أصعب الأمور استخلاص ما لا شک فی نسبته إلیهم مما نسجه المحدّثون المأجورون،من خیوط خیالهم،علی ألسنة هؤلاء الأکابر!

البحث التاسع عشر:الکلام النصوصی بین أهل الحدیث و الأشاعرة
اشارة

تقدم أن المائة الثانیة من حیاة الأمة متمیزة بصعود نجم المعتزلة.و قد ساعد علی هذا الصعود تحالفهم مع السلطة العباسیة.و قد مرّ أن أهم میزة مشترکة لمختلف فرق المعتزلة هی نزعتهم العقلانیة التی قد تصل فی بعض تطرّفاتها إلی حدّ إقصاء النص عن التأثیر.فکانت عقائدهم مزیجاً من عناصر فلسفیة ومقدّمات عقلیة مستمدة من بعض النصوص القطعیة.

لهذا فإن علم الکلام الذی ساد فی عهد المعتزلة،قد اصطبغ بالصبغة العقلیة.وکان من الطبیعی أن تکون نکبة المعتزلة التی حدثت فی عهد الجاحظ فرصة لخصوم هذا المنحی الکلامی،علی تنوعهم وتعددهم،للإمساک بالمبادرة،وتصحیح الأوضاع الفکریة بحسب ما کانوا یرتؤونه من رؤی.

1-الکلام النصوصی وتدلیس مفهوم أهل السنّة
اشارة

فی المائة الثانیة،کان هناک تقسیم رائج للمتکلمین؛جعلهم تیارات کبری ثلاثة،لا غیر.و هذا التقسیم فی غایة السطحیة،و هو من میراث اللوثة السیاسیة التی افتعلتها السلطات آنذاک.

فلا بد من توضیح المشهد الکلامی لتلک الفترة الحساسة من تاریخ الأمة.

ص:205

المشهد الکلامی فی نهایة القرن الثانی

خلاصة توضیح الموقف:إنّ الذی کان یقف فی مقابل الکلام اللّانصوصی المعتزلی،لیس الکلام النصوصی للمتمسکین بالسُّنة،والکلام الشیعی الذی اتخذ لنفسه منهجاً مختلفاً؛بل کان تشکیلة غیر متجانسة من التیارات الکلامیة التی یجمعها عنوان النصوصیة العقلیة،مع تفاوت بینها فی درجات النصوصیة و العقلیة.

و هذه التشکیلة کانت تتنازعها عوامل سیاسیة،جعلت بقاءها تحت عنوان واحد یعبّر عن ولاء أکثریتها،أمراً غیر ممکن.و هذا العنوان الواحد الطبیعی الذی خسرته هذه التشکیلة،هو:محور السنّة و العترة النبویتین.

فقد عمل محدّثو السلطات علی جعل شرخ وهمی بین التمسک بالسنة النبویة و الولاء للعترة النبویة؛و هو شرخ متعارض مع أوضح بدیهیات التحلیل المنطقی للمفهومین.

و قد کان المشهد الکلامی الحقیقی،خلافاً لما روّجه أولئک المحدثون،متمحوراً حول مرجعیة کلامیة واحدة لا یختلف حولها اثنان من کبار العلماء:القرآن و السنّة الصحیحة.ولم یکن أحد ممن یعتد بقولهم یشک فی أنّ أوّل مصدر للسنة الصحیحة کان أهل البیت علیهم السلام الذین حفظوا السنة،کتابة،حین مُنع التدوین.

وفی فلک هذا المحور کانت حرکة الحدیث تتفاعل مع مختلف المرویات الواردة بطرق مختلفة؛تارة بالنقد العلمی المتشدد کما کان دأب الفقهاء؛وتارة أخری بشیء من التسامح،کما کان دأب المتأثرین بعناصر الغزو الثقافی،من أهل الأهواء و البدع،أو المحدثین المأجورین.

فکان المشهد الکلامی متنوعاً،لکنه نصوصی فی معظمه.

وحیث إن المحدثین کانوا فی تلک الفترة علی هامش الثقافة السلطویة؛فلا یخدمون السلطة إلّا سلبیاً،ومن خلال مواقفهم العدائیة من أعدائها وخصومها،کان من الیسیر أن تتکوّن لهم سمعة عامة مفادها انتماؤهم للمعارضة.

ص:206

و قد قوّتْ محنة الإمام أحمد بن حنبل،فیما بعد،من هذه السمعة،کما سیأتی؛ولکنها سرعان ما انقشعت بمجرد ابتعاد السلطة العباسیة عن المعتزلة،وتنکیلها بهم.

حینئذ،أمکن للخلافة العباسیة أن تضع یدها علی قسم من المحدثین،وتغریهم بالتحول إلی عمود فقری لمذهب سلطوی جدید،یکون إعادة إنتاج لما عرفه المجتمع الإسلامی قبل عمر بن عبد العزیز.

مصادرة عنوان أهل السنّة

بمجرد تخلّی السلطة العباسیة عن المعتزلة،سعت لاجتذاب أکثر ما یمکن من الفعالیات الفکریة التی کانت تشتکی من اضطهاد المعتزلة.و قد کانت مجامیع صغار المحدثین من ذوی النزعة النصوصیة السطحیة أول من استجاب لنداء السلطة.وکان الإمام أحمد،أیضا،کان من الذین استفادوا من هذا التغییر،دون أن یورطه ذلک مع السلطة الجدیدة فی شیئ،لکن سکوته عن إجراءات السلطة العباسیة الجدیدة کافیاً لنجاح مشروعها؛لهذا سعت المجامیع الحدیثیة المتحلّقة حول السلطة إلی تأمین هذا السکوت.بالتحوّل إلی بطانة له،لیتمکّنوا من ممارسة الضغوط علیه عند الضرورة.والحقیقة أنه لیس هناک ما یثبت أنهم قد نجحوا فی مسعاهم هذا.ومع هذا،فقد تشکّلت،فی هذا الجو السیاسی،مدرسة کلامیة نصوصیة رمت بجذورها إلی أواخر المائة الأولی،زمن بدایة انتشار التشبیه و التجسیم.فاقترن الکلام النصوصی بالتشبیه و التجسیم،رغم کونه،کما مرَّ،یشتمل علی تیارات عدیدة یتبرأ البعض منها من أی نوع من أنواع التشبیه أو التجسیم.

ولقد استمرّ التعامل بین المحدّثین وظاهرة التشبیه،حتی وصلت ریادة الکلام النصوصی إلی عبد الله بن سعید الکلّابی, وأبی العبّاس القلانسی, و الحارث بن أسعد المحاسبی،وهؤلاء کانوا من جملة المتکلّمین النصوصیین المشهورین.و قد ورثوا

ص:207

مهمّة الدفاع عن العقائد غیر المتجانسة التی عبرت إلیهم بعد قرنین من الروایة و الحدیث و الصراع مع المعتزلة.

واستقرّت تسمیة کلّ ذلک التراث منذ عهد المتوکّل علی اسم مذهب أهل السنّة و الجماعة؛لیصبح هذا العنوان أداة لإقصاء المعارضین السیاسیین،أو حتی الخصوم التاریخیین الذین لم یشهروا ضده رایة المعارضة أبداً.وکان أئمة المحور الولائی هم الضحیة الأولی لهذا الإقصاء،بعد أن ألصقت بهم تهمة الرفض،رغم براءتهم منها.

وهکذا انکسر المحور التابعی الثانی الذی شکّل العمود الفقری للصمود الثقافی للأمة طیلة القرن الثانی.ووجد الناس أنفسهم مجبورین علی تقبل التقسیمات السیاسیة المصطنعة التی فرّقت أبناء المحور الثقافی الواحد.وکان القرن الثالث قرن تشتت طائفی بعد أن حکم العباسیون،منذ عهد المتوکل،علی أئمة أهل البیت علیهم السلام بالإقامة الجبریة بعیداً عن الناس.مما حرم الوحدویین من کلّ فرصة لإستعادة المشهد الثقافی للقرن الثانی.

خطأ الولائیین

کان رد فعل الولائیین علی هذه الإجراءات العباسیة،انفعالیاً إلی أبعد الحدود:فقد انضم معظمهم إلی الحرکات السریة المتطرّفة التی تمیزت بالغلو أحیانا.وبدلاً عن الدفاع عن صفتهم کعناصر أساسیة فی أهل السنة و الجماعة،اختاروا مواجهة هذا العنوان من الخارج.و قد کان خطؤهم هذا فادحاً؛وما زالت الأمة تعانی من آثاره إلی أیامنا.والبدیل عن هذا الاتجاه الانفعالی الذی یخالف اختیار أئمتهم،کان الالتحام بجماهیر المسلمین من أجل بث الحدیث الصحیح بینهم،ومنع أصحاب البدع و الأهواء ومأجوری السلاطین من الإستئثار بساحة الحدیث الشریف.

واستمرّ الوضع هکذا إلی بدایة القرن الرابع،وظهور أبی الحسن الأشعری, وخلافه مع أستاذه المعتزلی،بعد أربعین سنة من الاعتزال،وانحیازه الشهیر إلی هذه

ص:208

الجماعة فأید مقالتهم بمناهج استدلالیة کلامیة اقتبسها من المعتزلة،وصار ذلک عَلما لما قد أصبح یسمّی مذهب أهل السنّة و الجماعة،وانتقل عنوان الصفاتیة إلی الأشعریة.

2-التشبیه بین انحراف الحشویة ومحاولات الاستدراک
اشارة

هناک اعتقاد بین مؤرخی الکلام مفاده:أن الإمام أحمد بن حنبل،وداود بن علی الأصفهانی،الذی رجع عن مذهب الشافعی وأسس المذهب الظاهری،یمثلان حالة من التوازن بین المنهج النصوصی المحض لمتحدثی المتکلمین من جهة،والمنهج النصوصی العقلی الذی کان سائداً فی الساحة الفقهیة طیلة القرن الثانی،من جهة أخری.إلا أنّ هذا القول لیس فی غایة الدّقة،کما سیأتی فی الفصل المقبل،و قد یقال أنّهما وأمثالهما قد سارا علی خطّ مقاتل بن سلیمان وأمثاله...و هذا ما ینبغی النظر إلیه علی نحو التحقیق.

أهل الحدیث یعرفون أنفسهم

فی محاولة جامعة لاستدراک الموقف،قال أکابر أهل الحدیث:نؤمن بما ورد به الکتاب و السنّة،ولا نتعرّض للتأویل،بعد أن نعلم قطعاً أنّ الله عزّ وجلّ لا یشبه شیئاً من المخلوقات،وأن کلّ ما تمثل فی الوهم فإنّه خالقه ومقدره.

هکذا کانوا یحترزون عن التشبیه فی الظاهر،بل ویحتاطون فی ذلک بصراحة أحیاناً،إلی أن قال بعضهم:من حرّک یده عند قراءة قوله تعالی: خَلَقْتُ بِیَدَیَّ أو أشار بإصبعیه عند روایته:«قلب المؤمن بین إصبعین من أصابع الرحمن»،وجب قطع یده وقلع إصبعیه (1)!

من الدواعی المناهجیة للانحراف التشبیهی

أمام هذا التقریر الاعتذاری،قد یقول قائل:ما هی أسباب تورّط هؤلاء المحدّثین فی التشبیه و التجسیم وسائر الشناعات التی تذکر،کلّما ذکر الحنابلة خاصّة.

ص:209


1- (1) .کما رواه الشهرستانی فی باب الاعتذار عنهم.

الحقیقة أنّه،مع هذا الاحتیاط الظاهری،فإنّ هؤلاء المحدّثین لم یستطیعوا الصمود أمام الدواعی التشبیهیة القویة لمنهجهم النصوصی الحرفی،الذی یلغی العقل من ساحة فقه الحدیث.

فقالوا (1):إنّما توقفنا عن تفسیر الآیات وتأویلها لأمرین:

أحدهما:المنع الوارد فی التنزیل فی قوله تعالی: ...فَأَمَّا الَّذِینَ فِی قُلُوبِهِمْ زَیْغٌ فَیَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِیلِهِ وَ ما یَعْلَمُ تَأْوِیلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَ الرّاسِخُونَ فِی الْعِلْمِ یَقُولُونَ آمَنّا بِهِ کُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَ ما یَذَّکَّرُ إِلاّ أُولُوا الْأَلْبابِ 2 , فنحن نحترز عن الزیغ.

والثانی:إنّ التأویل أمر مظنون بالاتّفاق.والقول فی صفات الباری بالظنّ غیر جائز،فربّما أوّلنا الآیة علی غیر مراد الباری تعالی،فوقعنا فی الزیغ،بل نقول کما قال الراسخون فی العلم: ...کُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا... آمنّا بظاهره وصدقنا بباطنه, ووکلّنا علمه إلی الله تعالی،ولسنا مکلّفین بمعرفة ذلک؛إذ لیس ذلک من شرائط الإیمان وأرکانه.

غیر أنّ جماعة من الغلاة وجماعة من أصحاب الحدیث الحشویة،صرّحوا بالتشبیه, مثل:مضر, وکهمس, وأحمد الهجیمی.

من المفروض أنّ هذا الاحتیاط یقید أصحابه, ولکن هل التزموا به جمیعاً؟

هنا مسألة تاریخیة دقیقة طرحها الشهرستانی, وهی تمیز بعض أهل الحدیث, وهم الحشویة،بتجاوز حدّ الاحتیاط والالتصاق بحرفیة النصّ،والوقوع فی محظور التشبیه و التجسیم،وللإمعان فی تبرئة ساحة أهل الحدیث عن قول الحشویة جمع الشهرستانی بین هؤلاء وبعض الغلاة فی عرض نقدی واحد،فقال:...وغیرهم من الشیعة الغالیة و الحشویة.قالوا:معبودهم علی صورة ذات أعضاء وأبعاض؛إمّا روحانیة؛و إما جسمانیة.ویجوز علیه الانتقال و النزول, و الصعود والاستقرار, و التمکّن...

ص:210


1- (1) .الملل و النحل.
التشبیه الحشوی والاقتباس الهندوسی و البوذی

کان مشبهة الحشویة فی حالة من التیه المعرفی،بحیث تزاحمت فی أذهانهم المقولات من مختلف الأدیان الرائجة فی البلدان المشرقیة المفتوحة حدیثاً،وخاصّة منها الهندوسیة و البوذیة.

وفی ما یلی نستکشف من تقریر للشهرستانی بعض مظاهر الاقتباس من تلک الدیانات غیر السماویة،التی تؤله بعض البشر صراحة.

قال الشهرستانی:

حکی الأشعری عن محمّد بن عیسی،أنّه حکی عن مضر،وکهمس،وأحمد الهجیمی،أنّهم أجازوا علی ربهم الملامسة و المصافحة،وأن المسلمین المخلصین یعانقونه فی الدنیا و الآخرة،إذا بلغوا فی الریاضة والاجتهاد إلی حدّ الإخلاص والاتحاد المحض.وحکی الکعبی عن بعضهم:أنّه کان یجوز الرؤیة فی دار الدنیا،وأن یزوره ویزورهم.وحکی عن داود الجواربی أنّه قال:أعفونی عن الفرج و اللحیة واسألونی عمّا وراء ذلک.وقال:إن معبوده جسم ولحم ودم وله جوارح وأعضاء من ید ورجل ورأس ولسان وعینین وأذنین،ومع ذلک جسم،لا کالأجسام،ولحم لا کاللحوم ودم لا کالدماء.وکذلک سائر الصفات،و هو لا یشبه شیئاً من المخلوقات ولا یشبهه شیء.وحکی عنه أنّه قال:هو أجوف من أعلاه إلی صدره مصمت ما سوی ذلک و إن له وفرة سوداء وله شعر قطط.... (1)

تعالی الله وتنزه عن کلّ ذلک.

حقیقة الاقتباس من الیهودیة

علاوة علی ما تقدّم من الاقتباس الهندوسی و البوذی،فإن ما مرت الإشارة إلیه من حضور قوی للانحرافات التلمدیة فی کثیر من الأحادیث.کان له أعظم

ص:211


1- (1) .المصدر.

الأثر فی تعمیق الانحراف التشبیهی و التجسیمی.

فقد زاد بعض المحدّثین من الحشویة فی الأخبار وخلطوها بالأکاذیب،بل ووضعوا الأحادیث ونسبوها إلی النبی صلّی الله علیه و آله،وأکثرها مقتبسة من تدلیس الیهود للتوراة وللتلمود.

فإنّ التشبیه عند الیهود مغرق فی الشناعة...

حتّی:قالوا اشتکت عیناه-أی:معبودهم-فعادته الملائکة.

وبکی علی طوفان نوح حتّی رمدت عیناه, و إنّ العرش لتئط من تحته کأطیط الرحل الحدید, وإنّه لیفضل من کلّ جانب أربع أصابع!!.... (1)

هکذا،انغمس هؤلاء المحدّثون فی أمثال هذه الإسرائیلیات, وأفرطوا فی ذلک.

وزادوا علی التشبیه قولهم فی القرآن:إنّ الحروف و الأصوات و الرقوم المکتوبة قدیمة أزلیة،وقالوا:لا یعقل کلام لیس بحروف ولا کلم.

واستدلّوا بأخبار منها ما رووا عن النبی صلّی الله علیه و آله ینادی الله تعالی یوم القیامة بصوت یسمعه الأولون و الآخرون،ورووا أنّ موسی علیه السلام،کان یسمع کلام الله کجرّ السلاسل.

وفی مسألة خلق القرآن اشتدّ المشبهة فی القول وتعصّبوا ضدّ مخالفیهم إلی حدّ التکفیر،فأثرّ هذا القول فی مجمل أهل الحدیث،حتّی أصبحت هذه المقولة بالنسبة إلیهم ضابطة فی استحقاق الانتساب إلی ما أسموه:أهل السنّة و الجماعة. (2)

حدود الاستدراک الأشعری

أمام هذا الموقف الذی یصعب الدفاع عنه،حاول أبو الحسن الأشعری أن یستدرک،فطرح-فی المقام-حلاًّ توافقیاً شبیهاً بأکثر حلوله للمسائل الاعتقادیة الأُخری, لکن هذا الحلّ لا یبدو أنّه قد حاز رضا کلّ أهل الحدیث،فقالوا عنه فی محکی الملل و النحل:

ص:212


1- (1) .المصدر 106.
2- (2) .المصدر،تقریر الشهرستانی لهذا القول.

و أما الأشعریة،فوافقونا علی أن القرآن قدیم،وخالفونا فی أن الذی فی أیدینا کلام الله.وهم محجوجون أیضاً بإجماع الأمّة،أن المشار إلیه هو کلام الله،فأما إثبات کلام هو صفة قائمة بذات الباری تعالی, لا نبصرها, ولا نکتبها, ولا نقرؤها, ولا نسمعها, فهو مخالفة الإجماع من کلّ وجه.فنحن نعتقد أنّ ما بین الدفتین کلام الله،أنزله علی لسان جبریل علیه السلام فهو المکتوب فی المصاحف, و هو المکتوب فی اللوح المحفوظ،و هو الذی یسمعه المؤمنون فی الجنّة من الباری تعالی بغیر حجاب ولا واسطة.... (1)

هکذا إذا لم یتمکّن الأشاعرة من حسم الموقف مع المتعصبین النصوصیین من أهل الحدیث الذین استمروا فی استقلالیتهم العقائدیة فی عرض الأشعری وأتباعه،متجاسرین علی ادعاء إجماع الأمة فی أشد المسائل تعقیداً وحیث کان اختلاف العلماء هو السائد!فاستمر الخلاف داخل الائتلاف السیاسی الجدید المسمی«بأهل السنّة و الجماعة»فی أهمّ القضایا الاعتقادیة الخلافیة،التی خلّفها اضطراب المرجعیات الثقافیة.

فکان التدوین المتأخر للأحادیث النبویة فرصة لجمیع أنواع الدس و التدلیس و الوضع؛لنصرة هذا المعتقد أو ذاک.و هذا ما حتم علی ورثة أبی الحسن الأشعری بذل مجهودات عظیمة لتقریر الموروث المسمی بمذهب أهل السنّة و الجماعة،فی صورة مقبولة عقلیاً،أو علی الأقل عُقلائیاً.لکن ما هی حظوظ نجاحهم؟

3-الأشعری وأهم إنجازاته الفکریة
اشارة

الأشعریة هم أصحاب أبی الحسن بن إسماعیل الأشعری، (2)المنتسب إلی الصحابی الشهیر أبی موسی الأشعری.

ص:213


1- (1) .المصدر:106 و107.
2- (2) .ولد فی البصرة،وتوفّی فی بغداد(270-324ه(وقیل 330ه.

و قد حاول أبو الحسن الأشعری تقدیم أهمّ عقائد أهل الحدیث و المتکلمین المدافعین عن المیراث العقائدی للمحور الصحابی العمومی،وللمحور التابعی الثانی،مثل:الکلّابیة،فی صورة معقلّنة یمکنها أن تتمتّع بمقبولیة أکبر علی المستویین الشعبی و النخبوی.و قد کان منهجه فی ذلک توفیقیاً شکلیاً.ودون الخوض فی مناقشة هذه العقائد نکتفی هنا بإشارات مناهجیة, لأهم إنجازاته العلمیة،حتّی نستکشف أسباب دوام هذا المذهب واستقراره.

ولا شکّ فی انتساب أبی الحسن الأشعری إلی الصفاتیة،فهو لم یتحفظ فی الرد علی المعتزلة،وقال:الباری تعالی عالم بعلم،قادر بقدرة،حی بحیاة،مرید بإرادة،متکلّم بکلام،سمیع یسمع بصیر یبصر.

و قال:و هذه الصفات أزلیة قائمة بذاته تعالی،لا یقال:هی هو،ولا هی غیره.ولا لا هو ولا لا غیره،والدلیل علی أنّه متکلم بکلام قدیم ومرید بإرادة قدیمة،أنّه قد قام الدلیل علی أنّه تعالی ملک،والملک من له الأمر و النهی.فهو آمر ناهٍ،فلا یخلو أمّا أن یکون أمراً بأمر قدیم،أو بأمر محدث،و إن کان محدثاً فلا یخلو أمّا أن یحدثه فی ذاته أو فی محل،أو لا فی محل.ویستحیل أن یحدثه فی ذاته لأنّه یؤدی إلی أن یکون محلاً للحوادث،وذلک محال،ویستحیل أن یحدثه فی محل لأنّه یوجب أن یکون المحل به موصوفاً،ویستحیل أن یحدثه لا فی محل؛لأنّ ذلک غیر معقول.فتعین أنّه قدیم قائم به صفة له،وکذلک التقسیم فی الإرادة و السمع و البصر.... (1)

القول فی الوحی

تقدّم أنّ الأشعری حاول حلّ مشکلات میراث أهل الحدیث،وأهمّها مسألة خلق القرآن و قدمه.وتبعاً لمنهجه التوفیقی،فقد قدّم أیضاً محاولة للحلّ قد

ص:214


1- (1) .الملل و النحل:95/1.

تکون العبارة الآتیة مختصراً مناسباً له:

والعبارات و الألفاظ المنزّلة علی لسان الملائکة إلی الأنبیاء علیه السلام دلالات علی الکلام الأزلی،والدلالة مخلوقة محدثة،والمدلول قدیم أزلی, و الفرق بین القراءة و المقروء و التلاوة و المتلو, کالفرق بین الذکر و المذکور, فالذکر مُحدث و المذکور قدیم. (1)

هکذا فإنّ التفریق بین الدال و المدلول،قد یبدو حلاًّ لمشکلة قدم القرآن.

ولکن هل من الممکن التسلیم بفنیة هذا الحلّ وسلامته.بحث هذا الموضوع من جهة کلامیة علمیة خارج عن إطارنا الوصفی لا محالة. (2)

ولکن هناک ملاحظة تفرض نفسها, وهی:بقاء مشکلة تعدّد القدماء-أی:المحذور الأکبر من قدم الکلام الإلهی-دون حلّ, بحسب ظاهر ألفاظ الأشعری.ولکن التحقیق فی مجمل أقواله یعطی انطباعاً بأنه لم یکن-أبداً-یرید إثبات تعدد القدماء.

وعلی أیة حال،فأهمّ انجازات الأشعری هنا أنّه خالف بهذا التدقیق الحشویة الذین،قضوا بکون الحروف و الکلمات قدیمة.فالکلام عند الأشعری معنی قائم بالنفس سوی العبارة،والعبارة دلالة علیه من الإنسان.فالمتکلّم عنده،من قام به الکلام؛خلافاً للمعتزلة الذین یقولون بأنّه:من فَعَل الکلام, غیر أنّ العبارة تسمّی:کلاماً, إمّا بالمجاز, و إمّا باشتراک اللفظ. (3)

والإرادة و التفرقة راجعة إلی أنّ الحرکات الاختیاریة حاصلة تحت القدرة،متوقّفة علی اختیار القادر.فعن هذا قال:المکتسب هو المقدور بالقدرة الحاصلة و الحاصل تحت القدرة الحادثة.

ص:215


1- (1) .المصدر:96.
2- (2) .طبقاً لالتزامنا من اجتناب التداخل مع البحوث الکلامیة النقدیة،التی لها مجالها الخاصّ فی عرض هذا الکتاب.
3- (3) .الملل و النحل.
من الجبر إلی الکسب

دأب أبو الحسن الأشعری علی منهجه التوفیقی فی معظم القضایا العقائدیة،ونلمس ذلک خصوصاً فی محاولة تخلّصه من الجبر دون الوقوع فی التفویض.مثال ذلک ما عبّر عنه صاحب:الملل و النحل:

لا تأثیر للقدرة الحادثة فی الأحداث:لأنّ جهة الحدوث قضیة واحدة لا تختلف بالنسبة إلی الجوهر و العرض, فلو أثرت فی قضیة الحدوث؛لأثرت فی حدوث کلّ محدث حتّی تصلح لأحداث الألوان, و الطعوم و الروائح, وتصلح لأحداث الجواهر و الأجسام،فیؤدّی إلی تجویز وقوع السماء علی الأرض بالقدرة الحادثة.غیر أنّ الله تعالی أجری سنّته بأنّ یحقّق عقیب القدرة الحادثة, أو تحتها, أو معها،الفعل الحاصل إذا أراده العبد وتجرّد له.

ویسمی هذا الفعل:کسباً فیکون خلقاً من الله تعالی إبداعاً وأحداثاً،وکسباً من العبد حصولاً تحت قدرته. (1)

ولا یخفی ما فی هذه العبارة من شبه مناهجی مع ما تقدّم فی خلق القرآن.وتفرض نفس الملاحظة السابقة نفسها هنا أیضاً:ألیس هذا بقاء علی الجبر إذا کانت القدرة الحادثة فی طول القدرة القدیمة،أو أنّه وقوع فی التفویض إذا کانت القدرة الحادثة فی عرض الأولی؟!

إلّا أنّ التحقیق-هنا أیضا-هو أن قول الأشعری بالکسب ینتمی إلی مقولة:لا جبر ولا تفویض،التی تعتبر الشعار الجامع للمحور السنّی و العترة،الذی التف حوله علماء القرن الثانی؛و إن نسب إلی بعضهم،زرواً وبهتاناً غیر ذلک.

المحصّلة

لم یکن القصد هنا عرض کلّ عقائد الأشاعرة ولا مناقشتها،کما هو مقرّر باطّراد

ص:216


1- (1) .المصدر.

مع جمیع المباحث الکلامیة.و إنّما کان الغرض عرض الموجهات الکلیة للفکر الإسلامی التی تطوّرت فی منطقة التقاطع بین التاریخ السیاسی وتاریخ علم الکلام.

و قد مرّ کیف أن وقوع بعض متکلّمی الجمهور فی التطرّف و التکفیر،قد أبعدهم فی معظم الأحیان عن رضا السلطات؛وحوّل الأنصار الجدد للائتلاف السیاسی العباسی المدلّس تحت عنوان(أهل السنة و الجماعة)،من دعامة للاستقرار السیاسی للسلطة الحاکمة إلی حرکات ثقافیة متطرّفة لا تخلو من مشاغبة.

أمّا بعد أن استقرّت رایة الدفاع عن الموروث العقائدی للسنّة بید الأشاعرة،الذین اعتمدوا المنهج التوفیقی النصوصی العقلی،فإنّ حظوظهم فی العودة إلی السلطة من الباب الکبیر قد أصبحت وافرة.و هذا ما لم یتأخّر حدوثه؛حیث لم ینقض قرن علی تطوّر الأشعریة إلّا و قد تحوّلت إلی عقیدة رسمیة تدافع عنها السلطة السلجوقیة التی أقامت جزءً کبیراً من مشروعیتها علی محاربة جمیع أنواع التطرّف العقائدی من جهة،وعلی القمع الممنهج للشیعة،باعتبارهم عملاء محتملین للخلافة الفاطمیة،من جهة أُخری.

و قد ساعد السلجوقیین علی تعبئة جماهیر الناس حول شعار محاربة الشیعة،ظهور حرکات متطرّفة ودمویة وشدیدة الغلو،مثل:القرامطة،التی رفعت رایة التشیع رغم تبرّأ أقطاب المحور الولائی لأهل البیت علیهم السلام منهم.

هکذا أمکن خلط الحابل بالنابل, وجمع الکلّ تحت عنوان الرافضة.

حینئذ،قدمت الأشعریة،وبدرجة أقلّ الماتریدیة، (1)لجماهیر المسلمین،تحت عنوان الممثّل الوحید لمذهب أهل السنّة و الجماعة،بعد إقصاء أنصار المحور الولائی الذین لم یعرفوا کیف یحافظوا علی مکاسب القرن الثانی،حین شکّل أئمتهم العمود الفقری للمحور الجامع:السنة و العترة.

ص:217


1- (1) .هم أتباع أبو منصور الماتریدی(ت333ه(،وهم لا یختلفون عن الأشاعرة إلّا فی بضع مسائل.وبحث هذه الفرقة التی اقترنت بالمذهب الحنفی،خارج عن مجال هذا المختصر.
البحث العشرون:عقائد الشیعة الإثنی عشریة
1-من دیوان الکلام العلوی إلی تدوین العصر البویهی
اشارة

تقدّم فی ما مرّ من الأبحاث،أنّ عوامل الفعل و التأثیر فی الفکر الإسلامی،فی صدر الإسلام،کانت تعود إلی مجموعة من المحاور المرجعیة الرئیسیة التی مثّلت مصادر مُتعاضلة (1)للمشروعیة.و قد مرّ أنّ أقدم هذه المحاور هو المحور الولائی الرسالی،و هو محور الولاء لأهل بیت النبی صلّی الله علیه و آله،بما هم الحلقة الأضیق من ورثة علمه؛وأن هذا المحور قد تکوّن منذ حیاة الرسول صلّی الله علیه و آله، (2)ثمّ استمرّ فی تکامله من أجل الوفاء بدوره،حتی اتسعت دائرته تحت عنوان:محور السنة و العترة،فی القرن الثانی.

وبعد استعراض ملامح أهمّ الخطوط الفکریة المنتسبة للمرجعیات الأُخری،وما مرّ من اتضاح الآثار التخریبیة الخطیرة لابتعاد بعض هذه الخطوط عن المحور الولائی الرسالی،نختتم هذا الفصل بإشارات إلی أهمّ ممیزات الخطّ الفکری الذی یدعی تأمین استمراریة مرجعیة أهل البیت علیهم السلام وتجسیدها.

والحقیقة،أن ما یدعم هذا الادعاء ویقویه فی ساحة الجدال الکلامی،هو إصرار خصومهم،عن علم بحالهم أو عن جهل منهم به،علی إقصائهم عن دائرة الائتلاف العقائدی الواسع،المستحدث فی القرن الثالث،والذی أطلق علیه اسم أهل السنّة و الجماعة.

ص:218


1- (1) .التعاضل هو حالة من التقابل الحرکی،بین مؤثّرین أو أکثر،علی موضوع واحد.فتکون نتیجة التعاضل،إن لم یمکن تحقیق الانسجام بین المؤثرات المختلفة،تقاسم الموضوع من حیث أولویة التأثیر.والتعاضل هو السمة الغالبة علی المؤثرات الثقافیة فی المجتمعات التعددیة.بینما یکون الاستبداد الشمولی عاملاً مانعاً منه.
2- (2) .لیس فی هذا الجزم أی مبالغة؛فعنوان أهل البیت،قد أطلقه حتی علی من لم یکن ینتسب إلیه دمویاً،مثل سلمان الفارسی.ومفهوم أهل البیت متعدد المصادیق،وفی بعض الروایات ینحصر إلی خمسة أهل الکساء؛بینما فی غیرها یتسع لیشمل کل من کان له موقع خاص لدی النبی صلّی الله علیه و آله.

وبقطع النظر عن الخطأ الذی ارتکبه أنصار المحور الولائی،باستسلامهم أمام تدبیر أعداء الأمة،وانصیاعهم لهذا الإقصاء،فلقائل أن یقول:أن ما تشهده الساحة الإسلامیة من تصدع مفتعل،إنما تتحمل مسؤولیته الأطراف السلطویة التی دأبت علی إقصاء خصومها من دائرة أهل السنة و الجماعة؛حتی أن آخر أکبر محدثی القرن الثامن،تقی الدین بن تیمیة،بعد مجازفته بمخالفة بعض ما تسالم علیه علماء المسلمین،لم یسلم من هذا الإقصاء.أما ما تشهده الساحة الإسلامیة المعاصرة من انقلاب مفاهیمی،وما نتج عنه من تدلیس فی اتجاه معاکس لما وقع لابن تیمیة،قد جعل من فرقة متطرفة من أهل الحدیث،أی:الوهابیة،راعیة لعنوان أهل السنة و الجماعة،فهو تدلیس یکاد یضحک الثکلی،ولا تجد من یصدقه سوی من کانت الحجة الأقوی لدیه هی المغنم المادی أو المکسب السیاسی:فها أن الأشعریة،نفسها،فی نظر المدّلسین الجدد،قد غدت ضحیة لهذا الإقصاء!

وهنا،لا بد من تسجیل ملاحظة:صحیح أن السیاسیین کانوا دائماً وراء التصنیفات و الإقصاءات،و هذا أمر طبیعی بحکم الهویة السیاسیة لعلم الکلام؛ولکنّ مسؤولیة علماء کلّ مذهب أو اتجاه فکری،هی حمایة معتقدهم من التشویه و التصنیف الخاطئ.فالسؤال المطروح،الیوم،بعد المحاولة المعاصرة لإقصاء الأشاعرة،هل یجد هذا التیار الفکری العریق من یرفع رایته،ویستعید له مکانته التاریخیة،فی ساحة ثقافیة غمرتها أموال الحرکات السیاسیة الغوغائیة المعاصرة،التی تنتسب،حقاً أو زوراً،إلی الوهابیة!

و هذا السؤال،نفسه،یطرح علی کلّ من کان فی مرحلة من مراحل التاریخ،ضحیة لمثل هذا الإقصاء،والمثال الأبرز،هو الذی بین أیدینا:الشیعة الإمامیة!فقد یستغرب غیر الخبیر إذا قدّمنا هذا المذهب تحت مثل هذا العنوان؛ولکنّ حقائق التاریخ لا تجامل أحداً:فهل کان عنوان:الشیعة الإمامیة موجوداً زمن الأئمة؟أم أن مسلکهم کان دائماً حمل الرایة الوحدویة القادرة علی تأمین عزة الإسلام؟فإذا عرفنا هذا،لا بد

ص:219

أن نعی حقیقة ما جری فی بدایة العهد البویهی؛حیث کان تأسیس طائفة متمیزة عن بقیة المسلمین حاجة سیاسیة ملحة لدولتهم الناشئة؛ألم یکن هذا التأسیس الطائفی معینا للإقصائیین،فأبعدوا ورثة المحور الولائی من دائرة أهل السنة و الجماعة؟

هذه تساؤلات تحتاج إلی تحقیق إناسی عمیق،ولا مجال له هنا،وسنکتفی منه ببعض الإشارات.

المحور الولائی وأولویة حفظ الدین من التحریف

یتحصّل من التحقیق فی نشأة علم الکلام (1)أنّ هذا العلم قد شهد أوّل مراحل تکامل حقله ضمن ما اصطلحنا علی تسمیته بدیوان الکلام العلوی.فتقرّر فی محلّه أنّ حفظ أهمّ مصادر الکلام و التشریع بعد القرآن الکریم-أی:السنّة النبویة الشریفة-لم یکن ممکناً, لولا أنّ أهمّ مکاسب ذلک الدیوان کان حفظ الحدیث وتدوینه بشتی الأسالیب المتاحة.

وحیث أنّ حرکة الدسّ و التدلیس فی الحدیث ظلّت تعیث فساداً فی الساحة الثقافیة الغوغائیة،طیلة القرنین الأولین للهجرة, وقبل ظهور المدونات الحدیثیة الکبری،صار من البین أنّ الملاذ الأخیر المتبقی أمام الأمّة الإسلامیة،من أجل إنقاذ مصدرها التشریعی الثانی،کان دیوان الحدیث و الکلام العلوی،الذی استمرّ أئمّة المحور الولائی فی تغذیته وتکمیله حسب حاجات الأمّة المتجدّدة،ومتطلبات التحدّیات الثقافیة الحادثة.

و قد تقدم أنه،بعد الملحمة الکربلائیة التی حفظت أهمّ أرکان الدین من التحریف،تولّی الإمام زین العابدین علیه السلام،تدوین العقائد الإسلامیة الصحیحة،وتبیینها وتوضیح التعالیم الأخلاقیة التی تشکّل حصن الأمّة الحصین.ثمّ تولّی خلیفته،ابنه الإمام الباقر علیه السلام،مهمّة التأسیس الأکادیمی الذی کان یتطلّب بدء عملیة التفریع

ص:220


1- (1) .قراءة فی سفر التکوین الکلامی،فصل دیوان الکلام العلوی.

العلمی علی أسّس منطقیة وشرعیة،تحفظ الارتباط بین شتی العلوم الإسلامیة من جهة؛وتؤمن لکلّ فَرع من الفروع العلمیة الحدیثة حظوظ تکامله من جهة أُخری.

فتبلور علم الکلام،بالتدریج،مع الاتّجاه المتسارع نحو الانحصار فی الدفاع عن العقائد،نظراً لخطورة التحدّیات العقائدیة،وتکاثر التیارات الانحرافیة المتطرّفة و المتنافرة فی جمیع الاتّجاهات.

ومن أجل الإحاطة بأهمّ أبعاد هذه الحرکة الکلامیة الإنقاذیة المتجدّدة،ومکاسبها،الممتدّة منذ عهد الإمام زین العابدین علیه السلام إلی أواخر القرن الثالث،لا بدّ من أخذ فکرة, ولو مختصرة عن الأدوات المعرفیة التی اعتمدت علیها.وأهمّها التراث العلوی الذی یمکن تقسیمه إلی قسمین:أحادیث الإمام علی علیه السلام من جهة،وخطبه وأدعیته من جهة أخری.

الإنقاذ العلوی المزدوج

تقدم الکلام عن سبق المحور الولائی إلی تأسیس قواعد الفقاهة،بعیداً عن تأثیرات القانون الرسمی المانع لتدوین الحدیث.

والمهمّ هنا،الالتفات إلی أنّ هذا العمل الإنقاذی لم یکن-فقط-وسیلة لنجاة الفقاهة،بل کان،أیضاً،من أعظم الإنجازات علی مستوی حفظ العقائد؛و هو ما ظهر أثره فی تمکّن المحور الولائی من الاستئثار بمیزة الوسطیة والاعتدال.

مصداق الأمّة الوسط

کان اختصاص المحور الولائی بمعناه الأعم،الذی اتسع فی القرن الثانی کما عرفنا،بمیزة الوسطیة والاعتدال استناناً بسنّة خاتم الأنبیاء صلّی الله علیه و آله:فالأمّة الوسط لا یعقل أن تکون قدریة, ولا جبریة معطّلة, ولا حشویة مشبهة،ولا حتّی توفیقیة شکلیة،دون مضمون وسطی حقیقی.فکما کان نبی الله إبراهیم علیه السلام،و هو الرجل الفرد،أمة قائمة لله،کان أئمة المحور

ص:221

الولائی ومریدوهم،والدائرون فی فلکهم من الصحابة و التابعین،والتابعین إلیهم بإحسان إلی یوم الدین،أمّة وسطاً،بل کانوا خیر أمّة أخرجت للناس یأمرون بالمعروف وینهون عن المنکر ویؤمنون بالله.وهم المصداق الأبرز لأهل السنة و الجماعة،بلا شک.

2-من أدوات فکّ الحصار
اشارة

من المعلوم أنّ الحصار المضروب علی الإمام زین العابدین علیه السلام،بعد أن أنجاه الله من مذبحة کربلاء،کان ضیقا إلی حدّ إحصاء کلماته ونظراته.ووصل تضییق الخناق علیه،إلی حدّ تسلیط الجواسیس لاستراق السمع و الإنصات لما یقوله حتّی فی صلاته ودعائه،لعلّ السلطة تظفر بکلمة تکون ذریعة للتخلّص منه.

ولکنّ الإمام کان واعیاً بما یحاک حوله،فألزم نفسه بالحیطة فی جمیع ما یصدر عنه؛فلم یتعرّض للسلطة الاستبدادیة بسوء،لا سرّاً ولا جهرا؛وکان کل ذلک،دون أن یقصّر لحظة فی أداء المهمّة الثقافیة التی کانت مطروحة علیه بإلحاح, وهی إنقاذ العقائد الإسلامیة من التحریف،والقیم و الأخلاق من الانحطاط.

بعبارة مختصرة،کان علیه إیصال النسخة الرسالیة المجتمعیة من الإسلام،فی وقت أصبحت السلطة الأمویة راعیة لنسخة قارونیة منه،تشابه إلی حدّ بعید النسخة التلمودیة المحرّفة عن الیهودیة بأیدی أسلافهم قوارین بنی إسرائیل. (1)

أدوات جدیدة للتبلیغ

رغم ما تقدّم ذکره من ثراء المیراث العلوی فی الحدیث،فإنّ عصر الإمام زین

ص:222


1- (1) .یمکن تلخیص الفرق بین النسختین المجتمعیة و القارونیة من الإسلام،بأنّ الأولی تؤکّد هیمنة المقولات المجتمعیة علی المقولات السیاسیة والاقتصادیة،فی حین تکون الثانیة مبنیة علی هیمنة المقولات الاقتصادیة و السیاسیة علی المقولات المجتمعیة.وهیمنة المقولات المجتمعیة تعنی:تحول العدالة الإجتماعیة إلی أولویة،ومحاربة جمیع مظاهر الحاجة و الفقر فی المجتمع.

العابدین علیه السلام،لم یکن فضاءً مناسباً لتأمین سیولة هذا الکنز،ورواجه بین المسلمین.و قد کان تأمین الحد الأدنی من وصول هذه الأمانة إلی مستحقیها یتطلّب ابتکاراً جدیداً لفکّ الحصار الذی کان یمنع الإمام من الإشعاع علی المتحرّقین شوقاً لمعارفه؛أو حتی من إیصال معانی الأحادیث إلی من یستطیع الاستفادة منها.فمع بقاء حظر تدوین الحدیث،لم یکن ذلک العصر عصر حریة روایة موثّقة للحدیث؛فلو وجد من یتطوع لکتابته،فما أسرع أن تمتدّ إلیها أیادی الدسّ و التدلیس.

هکذا تعین البحث عن وسیلة تبلیغیة جدیدة:إنّها الدعاء.

ولیست هذه الوسیلة جدیدة فی وجودها،فدیوان الکلام العلوی کان یزخر بنماذج منها،بل فی وظیفتها،و هو ما یأتی بیانه.

لقد کان الدعاء،طبق المنهج العلوی الحسینی،وسیلة البعد الأوّل من التبلیغ،أی:حفظ العقائد.

إضافة إلی هذا،کان شراء العبید وتربیتهم ثمّ عتقهم؛لیکونوا دعاة ومربّین لغیرهم لاحقاً،وسیلة البعد الثانی منه،أی:الأخلاق و التربیة.

الدعاء:مخّ العبادة وسور العقیدة

الدعاء،بما هو ارتباط مباشر بین العبد وخالقه،هو جوهر العبادة أو, بتعبیر الحدیث المشهور,«مخّ العبادة؛ (1)إلا أنّ ظروف الإرهاب الفکری جعلت بعض کبار الصحابة و التابعین تبعاً لأئمّة أهل البیت علیهم السلام،منذ الإمام علی علیه السلام،یعطونه وظیفة جدیدة لا تزید دوره الأوّل إلا قوّة وأهمیة.

و هذه الوظیفة لیست سوی المحافظة علی المقولات العقائدیة،سالمة من التحریف وبعیدة عن أیادیه التی حاولت أن تعیث فی الحدیث فساداً.فمنذ أن زوّد

ص:223


1- (1) .سنن الترمذی:125/5.

الإمام علی علیه السلام تلمیذه الوفی کمیل بن زیاد النخعی بدعاء الخضر علیه السلام، (1)انتبه الرسالیون إلی أهمیة المضامین العقائدیة للدّعاء فعکفوا علی تدارسه وتدبّر عباراته الشارحة للکثیر من المفاهیم القرآنیة.

ثمّ جاء (2)دور أدعیة الإمام زین العابدین علیه السلام التی جمعت فی کتاب سمی الصحیفة السجّادیة،و هو أوّل کتاب جامع فی الدعاء.و قد شکّل منهلا لطلاّب الأدعیة و الأذکار من جهة،ومرجعاً للاستنارة فی أعوَص مشکلات العقیدة،من جهة أُخری.وهکذا بقی الدعاء فی ظلّ المدرسة الرسالیة«مخّ العبادة»فی نفس الوقت الذی شکّل فیه سوراً یحفظ العقائد من ید التحریف.

بهذا أمکن الالتفاف علی حرکة الدسّ و التدلیس فی الحدیث،من خلال تأکید العقائد الحقّة بتضمینها فی تلک الأدعیة؛ثمّ بتربیة أجیال من المبلّغین من الملتزمین بتلک الأدعیة ذات المضامین التربویة البناءة.بذلک أصبح بإمکان المدرسة الرسالیة أن تقوم بالإشعاع العقائدی المطلوب من خلال دعاة قد أحسنت تربیتهم،فأصبحوا رواتاً موثوقین قد استجمعوا کلّ شرائط الأهلیة لتمثیل الأئمّة بین أنصارهم،وبذلک بدأ تلافی النقص الکبیر فی الطبقة الدنیا من الهرم الأکادیمی الذی یأتی الکلام عنه فی الباب الآتی.

العُتقاءُ الروّادُ

ظلّ عمل الإمام زین العابدین علیه السلام فی شراء العبید وعتقهم بعد تربیتهم تربیة رسالیة متینة،بعیداً عن الشبهات و الشکوک،طیلة حیاته, ولم یعرف فضل هذا العمل التربوی العظیم وأثره،إلا مع الطفرة العددیة الفجئیة التی شهدها أنصار أهل البیت علیهم السلام،بمجرّد فکّ الحصار عن أئمّتهم بدایة من عهد عمر بن عبد العزیز, وخاصّة بعد دخول

ص:224


1- (1) .هو الدعاء المعروف بدعاء کمیل،وحرّث الأئمة أتباعهم علی قراءته کلّ لیلة جمعة.
2- (2) .ترک الإمام الحسین،أیضا،بعض الأدعیة ذات المضامین العقائدیة العالیة،أشهرها:دعاء یوم عرفة.

دولة بنی أمیة مرحلة الانهیار وتنامی خطر الدعوة العبّاسیة علیها.

وعندئذ برزت ثمرة جهود جنود الخفاء من أنصار الخطّ الرسالی فی کلّ مکان من الأرض الإسلامیة،بعد سنوات من تفرّقهم فیها.ولم یمرّ الربع الأوّل من القرن الثانی, إلا و قد انتشر الولاء للعترة الطاهرة،فی ثوبه العلوی الوحدوی, ودون أیة مسحة طائفیة،فی بلاد المغرب خاصة،ممّا حدا بالإمام جعفر الصادق علیه السلام أن یختار لوارث علمه و الدة من أهل تلک البلاد.ولم یکن مثل هذا الاختیار لیتمّ لولا أنّ هذه الفاضلة التقیة (1)قد أنبتها الله نباتاً حسناً, وتغذّت علی محبّة أهل البیت علیهم السلام منذ رأت النور.

و هذا یدلّ دلالةً واضحةً علی خلوّ مفهوم الولاء لأهل البیت علیهم السلام فی تلک المرحلة من أی طائفیة, فهو لا یعدو أن یکون موقفاً واختیاراً ثقافیاً وسیاسیاً یمکن التعبیر عنه بمصطلح الحدیث باختیار جبهة المقاومة الثقافیة فی مواجهة التوظیف القارونی للدین؛کما أنه تجسید للانتساب إلی الفرقة الناجیة المتمسکة بسنة النبی صلّی الله علیه و آله وبعترته الطاهرة علیهم السلام،أی:إلی أهل السنة و الجماعة،الحقیقیین.فلم یعرف فی تلک الفترة عن بلاد المغرب إلا تفتّحها الثقافی ومیلها إلی صفّ المقاومة الثقافیة فی مقابل حرکة التحریف و الدسّ الأموی.

3-المحور الولائی أمام انشقاقات الغلاة و الروافض
اشارة

لعل أخطر ظاهرتین أضرتا بسمعة محبی أهل البیت علیهم السلام وأنصارهم،الغلو و الرفض:

فأمّا الغلو،فقد مرت الإشارة إلی مصادیقه الأولی،منذ وفاة النبی الأکرم صلّی الله علیه و آله؛ولنضف،هنا،فقط أنه لم ینقطع کظاهرة فکریة؛بل استمر فی أشکال متعددة،وکان لکل زعیم کبیر أتباع یغالون فی تعظیم شأنه.فکان عظم قدر أئمة أهل البیت علیهم السلام سبباً لیکون سهمهم من هذه البلیة هو الأکبر،فکان الغلاة یقولون فی وصفهم مثلما یقول الهندوس و البوذیون فی وصف آلهتهم.ولم یؤثّر تبرُّء الأئمة من الغلاة کثیراً

ص:225


1- (1) .هی السیدة(حُمیدة المصفاة)والدة الإمام موسی بن جعفر الکاظم علیه السلام.

فی دفع الضرر عن مذهبهم؛لأن العوام کثیراً ما یقتصرون علی أخذ الروایة المغالیة ولا یبحثون جدیاً عن تکذیبها!

و أما الرفض،فقد کان فی بدایته ردّ فعل متشنج علی تطرفات الثقافة العثمانیة الأمویة،و قد وصل إلی حدّ هتک حرمة بعض کبار الصحابة.

أما اختیار الأئمة،فقد کان واضحا فی براءته من هاتین البلیتین:فقد کان الولاء لأهل البیت علیهم السلام،عندهم،مقترناً بالتمسک بالسنة الشریفة،واجتناب البدع و التطرفات،جمیعها،وبأولویة الوحدة الإسلامیة،وکذلک بالامتناع عن التحرک السیاسوی الهادف إلی الاستئثار بالسلطة.

و قد کان هذا المسلک المعتدل،علی الدوام،هو الوحید الذی ینال رضا أئمة أهل البیت علیهم السلام الذین فرضوا احترامهم حتی علی أعدائهم.

وکان هذا هو معنی الولاء لأهل البیت علیهم السلام بالنسبة للمغاربة عموماً؛ولکن الساحة لم تکن خالیة من قراصنة المذاهب،الذین یتصیدون الأتباع المخلصین،ویحرفونهم عن المسار الرسالی الصحیح،لیستعملوا طاقاتهم فی بناء أمجاد شخصیة،وتحقیق طموحات سیاسیة،بعیدة کل البعد عن أهداف الأئمة الذین یدعون اتباعهم.

و هذا ما حدث لولائیی المغرب،فاقتنصتهم الدعوة الإسماعیلیة المنشقة عن الخط الرسالی، (1)والرافضة لاتجاهه الوحدوی ضمن محور السنة و العترة.

دعوة الإسماعیلیة الرافضة

لقد استعملت الدعوة الإسماعیلیة أسلوب السریة المطلقة،حتی حول هویة الأئمة؛

ص:226


1- (1) .زعم میمون القداح،أحد أصحاب إسماعیل بن الإمام الصادق:أن الإمامة انتقلت إلی إسماعیل هذا،رغم وفاته قبل أبیه،ثم ساقها فی ولده،کما سیأتی.و قد لاقت دعوة الإسماعیلیة نجاحاً جماهیریاً فی بلاد المغرب،بعد أن تولّی أمرها أبو عبد الله الصنعانی،الذی کان مخدوعاً فی أئمته المزیفین إلی أن أعدمه عبید الله المهدی بعد استیلائه علی أفریقیة.

مما فسح المجال لعملیة تدجیل کبری،أعادت إلی الأذهان،خدعة العباسیین حین دعوا أهل خراسان إلی بیعة الرضا من آل محمد،فکسبوا بهذا التدلیس ولاء آلاف الأتباع من الموالین لأهل البیت علیهم السلام،ممن لا علم لهم بخلفیات تلک الدعوة السریة!

وأهم ما یمیز الانشقاق الإسماعیلی هو مزجه بین التفسیر الباطنی للنصوص،کما سیأتی لاحقا،والتطرف فی الرفض.فقد کان منهجهم شدید التطرف تجاه الشیخین؛ولیس من البعید أن تکون بعض الأحادیث المرویة بطرق الشیعة،والتی تطعن فی بعض الصحابة،مدسوسة بأیادی دعاة الإسماعیلیة.فقد کان هؤلاء الدعاة،عادة،من أهل العلم و الثقافة.

و إذا صدّقنا روایة مصطفی غالب لقصة القرامطة، (1)فإن الحسین بن سعید الأهوازی،کان أحد أهم دعاة تنظیمهم بالمشرق.ونحن نعلم أن للحسین الأهوازی هذا مقاما علمیاً متمیزاً من بین حفّاظ الحدیث الذین کتبوا الأصول الأربعمائة.فمّما نجده فی ترجمته،أنّ له ثلاثین کتابا!

فلنا أن نتصور،إذن،حجم ما یمکن أن یکون قد دسّ فی کتب الحدیث،لغایة دعم الحرکات السیاسیة السریة،مثل الإسماعیلیة.

ظاهرة المتشیعة

کان المحور الولائی یعانی من المتشدقین بالولاء لأئمتهم.وکان هؤلاء المتشدقین یزایدون حتی علی أئمتهم فی بعض المسائل.فکانوا یجاهرون بالرفض،وبالبراءة من أبی بکر.

و قد کان الإمام الصادق علیه السلام،عموماً،متشائماً جداً من الأخبار التی کانت تصله عن الذین یدّعون الولاء له ویزعمون التشیع؛فکان یسمیهم:المتشیعة،وکان یتوقع لهم

ص:227


1- (1) .القرامطة:122.

الفتن و البلاء.ومن الأحادیث المشهورة التی روتها کتب الحدیث الشیعیة،ما نقله الکلینی،فی أصول الکافی:

...عن مهزم الأسدی قال:قال أبو عبد الله(علیه السلام):یا مهزم،شیعتنا من لا یعدو صوته سمعه،ولا شحناؤه بدنه،ولا یمتدح بنا معلناً،ولا یجالس لنا عائباً،ولا یخاصم لنا قالیاً،إن لقی مؤمناً أکرمه،و إن لقی جاهلاً هجره.

قلت:جعلت فداک فکیف أصنع بهؤلاء المتشیعة.

قال:فیهم التمییز،وفیهم التبدیل،وفیهم التمحیص.تأتی علیهم سنون تفنیهم وطاعون یقتلهم واختلاف یبددهم.شیعتنا من لایهرّ هریر الکلب،ولا یطمع طمع الغراب،ولا یسأل عدوّنا و إن مات جوعاً.... (1)

کان ذاک هو الظرف الإنسانی العام الذی حف بالانشقاقات الکثیرة التی عرفها محور أهل البیت علیهم السلام بدایة من النصف الثانی من القرن الثانی،وسیأتی الکلام عن أهمها.

أما ما ینبغی أن نذکّر به فی خاتمة هذا العرض،فهو أن رفع رایة التشیع،والتبجح بها أمام عامة المسلمین،لم یکن أمراً مقبولاً من قبل الأئمة الأثنی عشر الذین یدین بالولاء لهم من تسموا فیما بعد بالشیعة الإمامیة الأثنی عشریة.لکن حرکة الإقصاء الممنهج التی سلکتها السلطات السیاسیة،وأتباعها الغوغائیون،طیلة القرن الثالث،وما تزامن معها من شناعات ارتکبها القرامطة،فحسبت،بتدلیس السلطة،علی الولائیین،فساعدت فی نجاح ذلک الإقصاء جماهیریاً،قد أدت،منذ بدایة القرن الرابع،بقلة من أهل القلم من الشیعة إلی الاستجابة إلی الدعوة البویهیة السخیة التی أرادت أن تجعل من شیعة الری وقم قاعدة جماهیریة لدولة بویهیة ناشئة.

و قد رأی أکابر علماء الشیعة فی القرن الرابع،أن فی هذه الدعوة انصافاً لهم مما کانوا یلقونه من اضطهاد عباسی،فاستجابوا،کل بحسب مقدرته،إلی الدعوة العامة للتدوین و التألیف.فکان القرن الرابع الظرف الزمنی الذی شهد تدوین أولی المراجع

ص:228


1- (1) .أصول الکافی:238/2-239.

الحدیثیة و الکلامیة الکبری،فی غیاب آخر أئمة المذهب.ومع ظهور تلک المدونات،وأهمها کتاب الکافی،للکلینی،ومن لا یحضره الفقیه،لابن بابویه القمی،فی عرض المدونات الحدیثیة الکبری للبخاری،ولمسلم وسائر صحاح الجمهور،تکریساً لقطیعة معارفیة لا سابقة لها فی تاریخ الإسلام:فبدلاً من أن تبقی السنّة النبویة المطهرة وسیلة لجمع شتات الأمة،استعمل السیاسیون تعدد مصادرها لتفریق شملها.

البحث الواحد و العشرون:لمحة عن خصائص العقیدة الإمامیة
اشارة

یعتقد الشیعة الإمامیة عموماً-عدا بعض من یعتبر شاذاً فی المذهب-بمجموعة من المقولات المنسجمة التی یصعب تفکیک بعضها عن البعض الآخر،والتی یفسّر بعضها البعض الآخر إلی حدّ کبیر،أو هو یکمله.

ومعتقدات الشیعة الإمامیة مرویة عن أئمّة أهل البیت علیهم السلام،أو مستنبطة بالدلیل العقلی البرهانی،ولم تدوّن بشکل منظم ومتکامل،إلا فی القرن الرابع،وخاصّةً مع غیبة الإمام الثانی عشر،فی بدایة القرن.

وکانت أوّل عملیة تدوینیة،سبقت ذلک التدوین الموسوعی،تجزیئیة فی مضمونها؛و قد اتّخذت شکل رسائل وکتب صغیرة،وأوّل من برز من المدونین الفضل بن شاذان، (1)وإسماعیل بن نوبخت. (2)ثمّ بدأ تدوین العقائد المنصوصة (3)فی

ص:229


1- (1) .ابن الخلیل أبو محمّد الأزدی النیسابوری(ت260ه(،له کتب عدیدة فی الکلام،مثل:کتاب:النقض علی الإسکافی،کتاب:الإمامة الکبیر،کتاب:الردّ علی أهل التعطیل،کتاب:الردّ علی محمّد بن کرّام السجستانی،وکتاب:فضل أمیر المؤمنین. وجاء فی رجال النجاشی،ورجال الشیخ الطوسی،و رجال الکشی:أنّ له ما یقرب من ثمانین کتاباً.
2- (2) .ابن علی إسحاق بن أبی سهل بن نوبخت،له کتب عدیدة ومهمة فی الکلام،مثل:کتاب:الاستیفاء فی الإمامة،وکتاب:الردّ علی المجبّرة فی المخلوق،وکتاب:الاحتجاج لنبوة النبی صلّی الله علیه و آله.
3- (3) .الفقه المنصوص و العقائد المنصوصة هی تبویب عقائدی للأحادیث الشریفة.و قد تضمن الجزءان الأولان من کتاب:الکافی هذا القسم من الحدیث،وکان موضوعا لشروح عدیدة(شر ح أصول الکافی).

القرن الرابع بظهور أوّل کتاب حدیثی موسوعی عند الشیعة،و هو(الکافی)لمحمّد بن یعقوب الکلینی(329ه).

وکتاب(الکافی)هو أوّل الکتب الأربعة التی تعتبر المصادر الحدیثیة المعتمدة بدرجة أولی عند الإمامیة.

وتابعه فی ذلک ابن بابویه القمی وابنه،وکلاهما یعرف بالصدوق(ت381 ه)؛ (1)ثمّ ابن المعلّم المعروف بالمفید(ت413 ه), ثمّ الشریف المرتضی(ت436 ه)،ثم محمّد بن الحسن الطوسی الملقّب بشیخ الطائفة(ت460 ه)...إلی أن ظهر کتاب تجرید الاعتقاد, لنصیر الدین الطوسی،و هو أبرز وجوه القرن السابع،وعلی یده خرجت هذه المعتقدات فی إطار فلسفی استأثر باهتمام المحشّین و الشّراح من مختلف المذاهب.

1-أهمّ معتقدات الشیعة الإمامیة
اشارة

یمکن حصر أهمّ معتقدات الشیعة الإمامیة (2)ضمن محاور أُصولیة عقائدیة رئیسیة.

محور التوحید

وفیه توحید الله فی الذات و الصفات،والخالقیة،والربوبیة،والعبادة،والتقنین و الحاکمیة،والطاعة له.

ولله صفات جمالیة:هی الحیاة و العلم, و القدرة و الإرادة, و الإدراک و السمع,

ص:230


1- (1) .هما الحسین بن علی بن الحسین بن موسی بن بابویه المعروف بالصدوق،وابنه،له کتاب:التوحید ونفی التشبیه.
2- (2) .لمزید من التفصیل،راجع:عقائد الإمامیة, للزنجانی؛و أصول العقائد،لمجتبی موسوی اللاری؛ودروس فی العقیدة الإسلامیة, لمحمّد تقی مصباح الیزدی.

والبصر.وأنّه منفی عنه الجسم و الترکیب, و الجهة و المحلّ و الرؤیة, و الجهل و العجز و الظلم،وخلف الوعد.

و أمّا الشرک بالله, فهو ذنب جسیم وظلم عظیم لا یغفر.ومن الشرک،إسباغ صفة الألوهیة أو الربوبیة أو المعبودیة علی غیر الله تعالی:الاعتقاد بأنّ المدّعو و المنادی و المطلوب و المستعان به یقوم بتلبیة النداء بالاستقلال أو الأصالة،من غیر استمداد ولا استئذان من الله سبحانه وتعالی.

ومن فروع التوحید:القول بالبداء, یعنی:تغییر الله لمصیر الإنسان ومسیره إذا هو غیر فی شرائط مسیره ووجهته فی اتجاهی الخیر أو الشر،مثل:أنّ یغیر الله فی مدّة عمر المرء بالزیادة فیه إذا وصل رحماً،أو بالتقصیر فیه إذا قطعه...و أنّ هذا لا یستلزم تجهیل الله وتبدل جهله إلی علم فیه،بل کان سبحانه یعلم بکلّ ذلک فی الأزل،و إنّما أبداه للعبد عند اجتماع الشروط.

محور العدل

الکلام فیه عن عدل الله تعالی وحکمته, فهو أعطی کلّ شیء خلقه ویعطی کلّ عامل أجره،و هو وضع کلّ شیء فی محلّه،وفعل کلّ شیء لغایة معقولة،وغرض صحیح؛و إن کان لا یعود إلی نفسه؛لأنّه حکیم, فلا یفعل لغواً،وعادل،فلا یرتکب جوراً, وغنی عالم،فلا یقترف ظلماً وحیفاً.

و أنّ الله لعدله وحکمته, ولطفه ورحمته, ولکونه جواداً فیاضّاً خلق الإنسان لیکون خلیفته فی الأرض،ولحکمة التربیة و التکامل أتی به إلی العالم الدنیوی وکلّفه اختیاراً،وهداه النجدین:نجد الخیر ونجد الشر.

وخیره فی السلوک-أی واحد منهما-و قد زوّده بنور العقل وهدی الرسالات،ونعمة الأنبیاء،وبالإنذارات و البشارات،والعبر و المواعظ،فمن أطاع أثابه،ومن عصی عاقبه أو عفی عنه.

ص:231

ویعتقد الشیعة فی باب القدر:بأنّه لا جبر ولا تفویض, بل أمر بین الأمرین،فالإنسان مخیر فی أفعاله و هو مسؤول عنها،و إن کان وجوده وإرادته کلّه من جانب الله تعالی،والله قادر علی إجباره،تکویناً،علی فعل أو منعه تکویناً عن فعل،ولکنّه لم یفعل ذلک, بل ترکه مختاراً یفعل ما یرید،ویترک ما یشاء. (1)

محور النبوّة و الرسالة

ینعقد الکلام فیه علی أنّ الله منّ علی العباد, فأرسل إلیهم رسلاً مطهرین معصومین أوحی إلیهم الرسالات؛فبلغوها بأمانه وصدق من دون سهو أو نسیان،أو معصیة أو کتمان.

أوّلهم آدم علیه السلام وآخرهم خاتم الأنبیاء محمّد بن عبد الله المصطفی المختار صلّی الله علیه و آله.

و أنّ جمیع ما جاء فی القرآن الکریم من نسبة العصیان،أو ما شابه إلیهم له تأویل یرشد إلیه العقل ویؤیده نفس الکتاب العزیز،و أنّ ما جاء فی أحادیث الإسرائیلیات من اتهام للأنبیاء بالمعاصی الکبائر،مردود مرفوض جملةً وتفصیلاً،لنزاهة الأنبیاء و الرسل الإلهیین عن کلّ ما ینقض غرض البعث و الإرسال،ویضعهم فی دائرة النقد و الإشکال.

ومن أُصول هذا المحور،أنّ رسول الله محمّد بن عبد الله صلّی الله علیه و آله الذی أنزل علیه القرآن الکریم خلال 23 سنة, بلّغ الرسالة کاملةً وبأمانة ومن دون زیادة أو نقصان،ومن دون خطأ واشتباه.وکان قدوة عملیة صالحة, وکان أسوة للمسلمین وللبشریة جمعاء.

وأن الإسلام دین کامل شامل،جاءت أصوله و الکثیر من أمّهات مسائله فی القرآن الکریم،وجاءت بقیتها فی السنّة النبویة المطهّرة الصحیحة التی بین الکثیر منها أئمّة أهل البیت علیهم السلام بالعلم الذی توارثوه من رسول الله صلّی الله علیه و آله.

ص:232


1- (1) .هذا هو القدر المتیقّن و المتسالم علیه بین أکثر الشیعة الإمامیة،فی بحث العدل الإلهی. وهناک قسم آخر من العدل الإلهی یقع تحت عنوان:العدل السببی،لیس محلّ إجماع بین العلماء،ویحسن مطالعة بحثه فی محلّه من دراسات کلامیة4،مبحث العدل السببی.

إنّ ما قاله رسول الله صلّی الله علیه و آله فی مجال الشریعة الإسلامیة, وما یتبعها من الأخلاق و الآداب وغیر ذلک, کان بوحی من الله تعالی, وأنّه لم ینطق عن الهوی قَطّ،و أنّ نصّه-إذا صحّ صدوره منه-هو المنبع الثانی من منابع الإسلام, ولا یجوز مخالفته،والإعراض عنه باجتهاد،أو استحسان،أو مشورة،أو لمصلحة الزمان و المکان،أو بأیة حجّة أُخری.

محور الإمامة

یعتقد الشیعة أنّ النبی صلّی الله علیه و آله نصّ قبل وفاته علی إمامة علی بن أبی طالب علیه السلام وخلافته،وأنّه کذلک نصّ فی أحادیث عدیدة علی إمامة ابنیه:الحسن, ثمّ الحسین صلّی الله علیه و آله ثمّ التسعة من نسل الحسین،و أنّ آخرهم هو مهدی الأمّة.

ویعتقدون أنّ جمهور الأمّة-بدوافع مختلفة وتحت ضغوط أو اقتضاءات متنوّعة-تجاهل هذه النصوص و التعیینات التی قام بها رسول الله صلّی الله علیه و آله بأمر الله تعالی،أو عمد إلی تأویلها.و قد قام الأئمّة ببیان ما احتاج إلیه الناس فی عصورهم من الأُصول و الفروع فی العقیدة و الشریعة من العلم الذی توارثوه عن جدّهم رسول الله صلّی الله علیه و آله واستودعه عند الإمام علی علیه السلام،والشیعة یتبعونهم فیها بلا غلو أو تطرّف.

ویعتقدون أنّ الإمام المهدی, و هو الإمام الثانی عشر هو ابن الإمام الحسن العسکری علیه السلام،وأنّه وُلد فعلاً, و هو حی إلی الآن ینتظر أمر الله تعالی لیخرج من غیبته ویملأ الأرض قسطاً وعدلاً کما مُلئت ظلماً وجوراً،شأنه فی ذلک شأن المسیح عیسی بن مریم علیه السلام.ویعللون ذلک بأنه لا مانع من طول العمر،واستمرار السلامة،إذا شاء الله ذلک.ولطول العمر نظائر فی القرآن و السنّة مثل:نوح و الخُضر علیه السلام.

محور المعاد و الحساب

ینعقد فیه الکلام عن کون المعاد حقّ،فالبعث و النشور بعد الحیاة البرزخیة حقّ.ولا یختلف الشیعة فی أصل المعاد الجسمانی،بل فی کیفیته،ولا اختلاف فی الحساب و الجنّة

ص:233

والنّار.و أنّ الله تعالی لعدله سیحشر الناس جمیعاً یوم القیامة ویحاسبهم حساباً دقیقاً یتناول کلّ صغیرة وکبیرة،ثمّ یجزیهم جزاءً عادلاً،وربّما عفی وغفر أو قبل شفاعة الشفعاء المأذون لهم تحت ضوابط خاصّة ذکرها الکتاب و السنّة, و الأحادیث الصحیحة المتواترة.

وبهذا تثبت مقولة الوعد دون الوعید.

وکلّ ما أخبر به القرآن الکریم علی الإجمال أو بالتفصیل،وأخبرت به الأحادیث الصحیحة التی وردت عن رسول الله صلّی الله علیه و آله وأهل بیته الطاهرین علیهم السلام،وثبتت صحّتها،وثبت صدورها عنهم حول:القیامة،والحساب،والمیزان،والصراط،والجنة،والنار،ولم یخالف العقل السلیم،والفطرة السلیمة.

محور الوحدة الإسلامیة

یعتقد أکثر الشیعة بأنّ حفظ وحدة المسلمین من أمّهات المقاصد الشرعیة.ویتجسّد هذا الأصل العقائدی فی رؤیتهم للتاریخ ونظریتهم للسلوک الاجتماعی.ومن مظاهر رؤیتهم الوحدویة للتاریخ الإسلامی أنّهم یجتنبون الأحکام العامّة حول الصحابة, فیفصّلون القول فیهم.فیقولون:إنّ صحابة رسول الله صلّی الله علیه و آله علی أصناف مختلفة،کما ورد فی القرآن الکریم،فمنهم الصالحون و الطیبون،ومنهم المنافقون و المنقلبون علی أعقابهم و المرتدّون عن الدین, کما فی القرآن وصحاح السنّة،ودونوا ذلک فی سننهم وأسانیدهم وتواریخهم وتراجمهم.

ومن المظاهر الوحدویة فی السلوک الاجتماعی الشیعی،تحریم الاصطدام مع العقائد المخالفة واستفزاز مشاعر جمهور المسلمین الواقعین تحت تأثیرها،و هو التحریم المعروف باسم التقیة.فللمسلم-بل من واجبه أحیاناً-أن یتّقی إذا لم یأمن علی نفسه من الهلاک،بأن یکتم عقیدته ویماشی الطرف الآخر فی معتقده ومقالته عملاً بکتاب الله وسنّة رسول الله صلّی الله علیه و آله وأحادیث عترته الطاهرة،إلا فی بعض الحالات

ص:234

المذکورة فی الفقه.و أنّ التقیة تباین النفاق،فالنفاق إبطان الکفر وإظهار الإسلام،بینما التقیة إظهار عقیدة الطرف الآخر،إبطان الإیمان وکتمه إمّا خوفاً علی النفس وحفاظاً علی الدم, أو حفاظاً علی بیضة الإسلام من التصدّع و الوهن فی مقابل أعدائه.

والحقیقة أن هذا المحور الأخیر قد شهد مستجدات خاضعة لتطور الأوضاع الاجتماعیة و السیاسیة.ففی عصر الاستبداد الکبیر:الأموی ثم العباسی،کان التصریح باعتقاد مخالف لاعتقاد السلطة مجلبة للفتنة و البلاء.والسبب فی ذلک سیاسی محض،لأن السلطات کانت تعتبر المخالفة فی العقیدة،موقفاً سیاسیاً معارضاً.ومن الطبیعی أن تزول الحاجة إلی هذا النوع من التقیة فی المجتمعات التی تخلّصت من کابوس الاستبداد الکبیر،حیث وقع التفکیک بین الاختلاف الثقافی و المعارضة السیاسیة.

لذا فإن أصل التقیة قد أصبح،فی بعض المجتمعات المعاصرة،مجلبة لاتهام الشیعة بشتی أنواع التطرفات التی لا یتبنونها بالضرورة،أو هم مختلفون فیها علی الأقل.

من هنا،یبدو تنقیح مناط التقیة،وتجدید النظر فی کیفیة العمل لحفظ الوحدة الإسلامیة أمراً ضروریاً.

2-منهج الشیعة الإمامیة فی البحث العقائدی
اشارة

استقرّ رأی علماء الإمامیة،علی مرّ القرون،علی التفصیل فی الاختیار المناهجی،ففکّکوا بین المنهج المعتمد فی العقائد،حیث حرّموا العمل بالظنّ مطلقاً،وحرّموا التقلید فی العقائد؛بینما أجازوا العمل ببعض أنواع الظن فی الفقه،وأجازوا التقلید لمن عجز عن الاجتهاد.

المنهج العقائدی الرائج

إذا صرفنا النظر عن المنهج الفلسفی الذی بدأ یهیمن منذ عهد نصیر الدین الطوسی،ومن أبرز ثماره الموسومة بالاعتدال،کتاب:سفینة النجاة،للتنکابونی؛فإن

ص:235

المدرسة العقائدیة المتعارفة فی الأوساط المدرسیة،هی مدرسة محمد بن الحسن الطوسی،وهی قریبة فی منهجها من الأشعریة،و إن اختلفت معها فی کثیر من النتائج.

ففی مقابل أهل الحدیث،وفی عرض محدّثی الشیعة القائلین بصحة جمیع ما حوته کتب الحدیث الشیعیة الأربعة المعروفة،وهم الذین یمکن أن نطلق علیهم عنوان:أنصار الأخباریة العقائدیة،طرحوا منهجاً ترکیبیاً یحاول البقاء وفیاً للإرث المناهجی الإمامی المتجسّد فی المنهج العقلی.ویمکن تسمّیة هذا المنهج التوافقی بالمنهج النصوصی العقلی.

و هو المنهج الموازی للمنهج المعتمد فی أُصول الفقه عند المدرسة الفقهیة الإمامیة،منذ تبلورها فی أواخر العهد البویهی, علی ید الشیخ الطوسی کما سیأتی.

تقسیم المسائل العقائدیة

یتمیز المنهج الرائج عند الشیعة الإمامیة لدی معالجته للمسائل الاعتقادیة فی تقسیم هذه المسائل إلی صنفین:

1.ما یدرک بالعقل ویثبت أو ینفی فی ضوء أحکامه المسلّمة, مثل:استحالة اجتماع النقیضین،واحتیاج المعلول إلی علّة،وبطلان الدور،والتسلسل...إلخ.

2.ما یعتقد أنّه لا یدرک إلا بالنقل،علی أن لا تخالف النتائج أحکام العقل القطعیة،و إن کان الزعم رائجاً بعدم إمکان وقوعها.

وفی المسائل من القسم الأوّل یستخدمون الدلیل العقلی فی الدرجة الأولی،ویستعینون بإرشادات الکتاب و السنّة الصحیحة, وأحادیث المعصومین الثابتة أو المقبولة،کشواهد ومؤیدات لا غیر.ولا یطلقون العنان للعقل فی کلّ مجال،بل یحدّدون مجاله فی أن یثبت ما یجوز وما لا یجوز, وما یلیق وما لا یلیق بالله،دون تناول الکنه و الحقیقة فی مجال الذات أو الصفات،فکما أنّه لا تعطیل للعقول،فإنّه لا إطلاق لعنانها دون قیود.

ص:236

أمّا فی القسم الثانی, فتراهم یذعنون للدلیل النقلی-أی:النصّ-بالشرط المذکور وشرط صحّته،وثبوت صدوره أو حجیته.

لهذا, فإنّهم لا یقفون عند الظاهر إذا عارضه دلیل قطعی عقلی،بل یعتقدون عدم انعقاد ظهور فی مثل هذه الموارد؛لأنّه یستحیل عندهم أن یخالف الکتاب أو السنّة الشریفة الصحیحة أحکام العقل.

إلّا أنّ هذا الادعاء لم یلبث أن صحّحه أصولیو المدرسة الفقهیة الإمامیة،عندما میزوا بین عدم انعقاد الظهور وانهدام الظهور بعد انعقاده, فأقروا بأنّ القرائن المتّصلة هی المتکفّلة بالأوّل،بینما تکفّلت القرائن المنفصلة بالثانی.ولا ریب أنّ الأقیسة البرهانیة من القرائن المنفصلة،إن لم یکن النصّ قیاسه معه.

مشروعیة المنهج النصوصی العقلی

لنذکر أولا:أن هذا المنهج هو الجامع المشترک بین کثیر من المدارس الکلامیة و الفقهیة و التی کان من الطبیعی أن تنضوی جمیعاً تحت شعار:أهل السنة و الجماعة.

ویعتقد أنصار هذا المنهج أنّه یستند إلی منهج القرآن الکریم نفسه ودعوته؛حیث کثیراً ما یطرح صفات الله وأسمائه،ثمّ یدعو الناس إلی التدبر فیها واستخدام العقول بقوله: أَ فَلا یَعْقِلُونَ ،ا فلا یتفکرون، لِأُولِی الْأَلْبابِ ، لِقَوْمٍ یَعْقِلُونَ .

وبذلک فارق الإمامیة منهجین فی مجال دراسة القضایا الاعتقادیة:

الأوّل:المنهج الذی یحظر البحث العقلی فی هذه القضایا ویکتفی بالظواهر،ویجریها علی الله سبحانه, و إن استلزمت ترکیباً وتجسیماً وتشبیهاً،کما علیه أهل الحدیث وبعض الحنابلة.

الثانی:المنهج الذی یتمسّک بالعقل وحده, و لا یلتفت إلی النقل الصحیح قَطّ،کما علیه الفلاسفة المشائیون،أو المعتزلة فی الجملة.

ص:237

و قد مرّ أنّه قد انتهی المطاف بالطائفتین إلی ادّعاء المحال علی الله سبحانه وتعالی،مثل سلب الاختیار عنه أو وصفه بالجسمانیة و الترکیب, و العجز و الظلم, ومخالفة العقل و الحکمة.

ملاحظات أولیة علی المنهج

قد یقال أن اعتبار المنهج النصوصی العقلی تطبیقاً للنهج القرآنی أمر مبالغ فیه،بل قد یقال:بأنّ القرآن الکریم قد دعا صراحة إلی خلاف ذلک فی أکثر من مورد،فدعا دعوة صریحة إلی التفکّر فی الخلق،وفی النفس،وفی النعم،وتأسیس لما یطلق علیه عادة:دلیل الشکر.

ومن الواضح أنّ دلیل الشکر،من المفترض فیه أن لا یستند إلی شیء من النصّ.

و قد یقال:إنّ الرجوع إلی النصوص متعین فی الموارد الغیبیة الصرفة التی لا یصل العقل إلیها بالاستدلال،و هذا صحیح لا ریب فیه،إلا أنّ المقدار المتیقّن من المعارف الضروریة،قد تکفّل به العقل, وما بقی من المعارف الفرعیة لا بدّ أن یکون فی طولها من حیث الأولویة.

أمّا الاکتفاء بعدم تعارض مفاد النصوص الغیبیة مع الأحکام العقلیة القطعیة دون إحراز طولیتها بالنسبة للضروریات المتقدّمة،فهو ممّا یؤدی إلی الانفکاک المقولی الذی یفقد النظام العقائدی ترابطه،و قد تشعر بتزلزل نسبته إلی واضع الملّة.

ص:238

أسئلة للمراجعة و التعمّق

1.حلّل وناقش:ظاهرة الخوارج حالة ثوریة اجتماعیة،ولیست ظاهرة ثقافیة.

2.حلّل وناقش:لولا منع تدوین الحدیث،لما ظهرت الخوارج،أو علی الأقلّ لما کان لهم أنصار یعتدّ بهم.

3.حلّل وناقش:ظاهرة الاعتزال،نموذج مبکّر للانفعال الثقافی أمام الغزو الفکری الأجنبی.

4.حلّل وناقش:لولا منع تدوین الحدیث،لما تورّط المعتزلة فی التطرّف العقلانی.

5.حلّل وناقش:فکر المعتزلة نموذج حی،للبون الشاسع بین العقلانیة و العقلائیة العرفیة.

6.حلّل وناقش:المشبّهة و المجسّمة من الإفرازات الطبیعیة للغوغائیة الثقافیة.

7.حلّل وناقش:لا یمکن للإمام أحمد بن حنبل الذی کتب کتاب فضائل علی علیه السلام أن یکون مشبّهاً ولا مجسماً, وما نسب إلیه من ذلک هو من وضع کاتب مسنده.

8.حلّل وناقش:حاول الأشعری بعقلیته الوقادة وتجربته العریقة فی الجدل المعتزلی،أن ینقذ عنوان أهل السنّة و الجماعة من شناعات الجبریة و الحشویة.فحقّق فی ذلک نجاحاً باهراً،دون أن یتقدّم فی البحث العلمی خطوة واحدة إلی الأمام.

9.حلّل وناقش:کان إعراض الإمام علی علیه السلام وأنصاره عن المطالبة بالخلافة إثر السقیفة من أجل التمکّن من حفظ الدین الحنیف وعقائده من التحریف.

10.اشرح القول المنسوب إلی الإمام الصادق علیه السلام:«التقیة دینی ودین أبائی،من لا تقیة له فلا دین له».

أسئلة نصف الفصل

1.حلّل وناقش هذا القول:

لولا منع تدوین الحدیث فی عهد الخلیفة عمر،لما تعدّدت الانشقاقات

ص:239

والانشعابات الفکریة و العقائدیة،منذ القرن الأوّل.

2.هل یمکن القول:إنّ محاولة الأشعری لعقلنة عقائد أهل الحدیث،سیر علی نهج الوسطیة والاعتدال،کیف؟

3.أوضح ملامح الوسطیة والاعتدال فی عقائد الشیعة الإمامیة،بالقیاس إلی عقائد المعتزلة،وأهل الحدیث؟

ص:240

الفصل الثالث:حول الانشقاقات والانحرافات عن المحور الولائی

اشارة

ص:241

ص:242

أوّلاً:تمظهرات العقیدة الثوریة

البحث الثانی و العشرون:التشیع السیاسی و الظاهرة الزیدیة
اشارة

مرّ الکلام فی الفصل السابق،عن أهمّ الروافد التی تشکّل منها الفکر الإسلامی بمفهومه الأعمّ.وهنالک تعرّفنا علی الأجیال الأولی التی أفرزتها المحاور المرجعیة التی هیمنت علی الساحة الثقافیة فی صدر الإسلام.

و قد کانت الصفة الممیزة للمرجعیات و المحاور الأشد تأثیراً فی العوام،هی سلطویتها؛أی:تموقعها داخل البنیة السیاسیة للمجتمع الإسلامی،سواءً کان ذلک تحت عنوان أجهزة السلطة أو تحت لواء المعارضة.

إلا أنّ محور الولاء لأهل البیت علیهم السلام،و هو المحور الولائی الرسالی الذی تأسّست مشروعیة علی مبدأ الالتزام الکامل بالثقلین-الکتاب وأهل البیت-قد تمیز بابتعاده الواضح عن الاصطدام بالبنیة السیاسیة،منذ صلح الإمام الحسن علیه السلام،ومعاویة بن أبی سفیان سنة41ه.فاتخذت مرجعیة أهل البیت،موقعاً ثقافیاً صرفاً،وتمرکز نشاطها فی البنیتین الثقافیتین للمجتمع الإسلامی, وهما:البنیة القیمیة الأخلاقیة, و البنیة الحقوقیة التشریعیة.

ص:243

ولم تکن ثورة الإمام الحسین علیه السلام سنة 61 للهجرة،خرقاً لهذه القاعدة؛بل کان القیام ضرورة لإنقاذ البنیتین الثقافیتین من التدمیر الکامل،بوصول مستهتر مثل یزید إلی سدّة الخلافة.

لکن هذا المسلک المعتدل لم یکن لیرضی کثیراً من المتحمّسین،وأصحاب المطامح و المطامع السیاسیة،فلم یصبر البعض علی هذا النهج الزاهد فی المناصب.

وهکذا،وجد الولائیون المخلصون أنفسهم أمام ظاهرة کثرة الانشقاقات عن المحور الولائی،ونزوع کثیر منها إلی التطرّف،بل إلی الغلوّ أحیاناً.

ومن أهمّ الحرکات التی بقیت مشروعیة ظهورها مثاراً للجدل،حرکة الإمام زید بن علی بن الحسین بن علی بن أبی طالب علیه السلام.أما الحرکة الإسماعیلیة التی نسبها أصحابها إلی إسماعیل بن الإمام الصادق علیه السلام،فهی النموذج الأوضح للانشقاق السلطوی الذی لا یمکن تبریره،من منظور المحور الولائی:وسیأتی أن إثبات مشروعیة هذا الاتجاه،ینسف مشروعیة کل المحاور الأخری.

وفی هذا البحث نُلقی بعض الضوء علی الحرکة الزیدیة؛لنجاحها فی تأسیس طوائف دینیة ودول مستقرّة،فی مراحل متعدّدة من التاریخ, وهی مازالت تفرض کلمتها فی بعض البلاد الإسلامیة،مثل الیمن.

1-تنوّع التشیع واستمراریة وسطیة الخطّ الولائی
اشارة

إنّ الانصراف عن ساحة الفعل والانفعال السلطویین لم یمنع المحور الولائی من أداء أخطر الأدوار السیاسیة وأصعبها،کلمّا تعلّق الأمر بحفظ بیضة الدین وحمایة الرسالة من التحریف أو السقوط فی ما سقطت فیه الأدیان السماویة السابقة.

فکانت ملحمة کربلاء،ومصرع الإمام الحسین بن علی بن أبی طالب علیه السلام فی العاشر من المحرم سنة 61ه،مع خیرة أصحابه وأهل بیته،علی ید جیش یزید بن

ص:244

معاویة،المصداق الأبرز لهذا الفعل السیاسی الخالی من أی شائبة سلطویة. (1)

هذا هو خطّ الوسطیة والاعتدال الذی سار علیه أئمّة أهل البیت علیهم السلام.

ولکن هل کان کلّ من ادعی التشیع لأهل البیت علیهم السلام،والولاء لنهجهم الرسالی قادراً علی نفس المستوی من کظم الغیظ و العفو عن الناس،وإیثار مصلحة الأمة علی النفس و النفیس؟

وهل کانوا کلهم فی مرتبة واحدة من بُعد النظر وصفاء البصیرة؟

بین الولاء الحقیقی و التشیع السیاسی

لقد أطنب القدماء ممّن أراد تقییم الفرق الإسلامیة،فی تکلّف البحث عن تفسیرات لنشأة واضحة للتشیع،تکون قابلة للتوظیف المذهبی.فتراوحت آراؤهم بین قطبین:

الأوّل:قائل:بأصالة التشیع لعلی علیه السلام فی الإسلام،وتقدّمه الزمنی علی سائر الولاءات العمریة أو العثمانیة, أو غیرها؛ومستنده فی ذلک الرجوع إلی تفسیر سیاسی لحدیث الغدیر،تنفیذاً لأمر الرسول الأکرم صلّی الله علیه و آله.ولا یخفی ما فی هذا القول من إدانة لجمهور الصحابة،بعد إتمام الحجة علیهم بذلک التفسیر السیاسی لحدیث الغدیر.

الثانی:قائل:بأنّ التشیع لعلی علیه السلام،ولید مؤامرة شریرة حاکها شخص شدید الغموض یسمّی عبد الله بن سبأ،ویأبی هذا التفسیر التآمری إلا تزویق أسطورته،بالتأکید علی النسب الیهودی لهذه الشخصیة الغامضة التی ذهب بعض المحققین المعاصرین حتی إلی إنکار وجودها أصلاً. (2)

ص:245


1- (1) .بحوث وحدویة فی أصول الطائفیة:الجزء الثانی.
2- (2) .للعلاّمة المعاصر المرحوم،السید مرتضی العسکری.رأی متمیز یؤکّد هذا المعنی فی کتابه:عبد الله بن سبأ؛و هو یعمّم هذه الظاهرة علی عدد کبیر من الصحابة،فی کتابه:خمسون ومائة صحابی مختلق.

وبین هذین القطبین تعدّدت الآراء واختلفت باختلاف انتماءات أصحابها،أو درجات موضوعیتهم.و قد مرّ أن أهم محورین حفظا الدین وحاربا النوازع التخریبیة التی حاولت تدمیر الأمة،وقفا علی مسافة وسطی بین هذین القطبین.

أمّا التحقیق،فمحصّله:أنّه من الضروری التمییز بین معانٍ مختلفة للتشیع:فإذا کان معناه الولایة, فلا شکّ أنّه قدیم قدم حدیث الغدیر علی الأقل.

أمّا إذا کان المقصود بالتشیع:هو الوقوف فی صف الإمام علی علیه السلام أیام الفتنة و الثبات علی ذلک الاختیار،حتّی بعد استتباب الأمر لمعاویة؛ثم مقاومة التّیار العثمانی الجارف الذی وقفت وراءه الحرکة التفسیخیة (1)الأمویة،فهذا موقف سیاسی یصبح معه التشیع نوعاً من التشکیلات الحزبیة المعارضة،إلا أنّ هذا الموقف السیاسی لا یستبعد انخراطاً فی التشیع بمعناه الأوّل الولائی.

فیمکن أن یقال:إنّ صف التشیع قد تضخم بعد الفتنة الکبری بانضمام أصحاب التشیع السیاسی.وفی دراستنا لمجمل تاریخ الحرکة الشیعیة،لا بدّ من التمییز بین هذین الرافدین الأساسیین:التشیع السیاسی،والتشیع الولائی.

نوعان آخران من التشیع

علاوةً علی النوعین المتقدّمین،فإنّ النصف الأوّل من القرن الثانی قد شهد ظهور رافد ثالث للتشیع هو التشیع المدرسی،وذلک حینما تمکّن الإمامان:الباقر،والصادق علیهم السلام من تأسیس فضاء أکادیمی فی مسجد المدینة،بعد رفع الحصار عنهما من قبل عمر بن عبد العزیز.وساعد علی استمرار ذلک،فی ما بعد،انشغال السلطة الأمویة بمواجهة الدعوة العباسیة الناشئة،ثمّ انشغال الدولة العباسیة الفتیة بالثورات

ص:246


1- (1) .التفسیخ:هو الاتجاه المعاکس للتکامل،فکلّ معارضة للاتجاه التکاملی تندرج تحت عنوان التفسیخ.

والانشقاقات الکبیرة التی کادت تعصف بها فی المهد.

إلا أنّ هناک نوعاً رابعاً من التشیع قد یجوز تعریفه:بأنّه محصّلة الأنواع الثلاثة الأولی،و هو التشیع الطائفی،الذی لم یظهر بشکله المتکامل،إلّا نتیجة لتراکمات تاریخیة تدریجیة؛وذلک بعدة أشکال:

الأوّل:أن تبدأ الظاهرة بتأسیس دول شیعیة تمکنت من فرض هذا المذهب بشتی الوسائل،کما هو حال الدولة الصفویة فی إیران.

الثانی:لجوء مجموعات من الشیعة إلی بعض الأماکن و العتبات المشرَّفة و التجمع حولها-کما حصل فی النجف الأشرف-حیث قبر الإمام علی علیه السلام،وفی کربلاء, حیث ضریح الإمام الحسین،وأخیه العبّاس علیهم السلام،وفی الکاظمیة فی بغداد, حیث ضریح الإمامین الکاظم و الجواد علیهم السلام،وفی قمّ حیث ضریح السیدة فاطمة المعصومة بنت الإمام الکاظم علیه السلام،و فی خراسان حیث ضریح الإمام الرضا علیه السلام.

الثالث:هو عنوان اعتباری جامع لحالات نادرة؛تکون فیها الطوائف الشیعیة ناتجة عن تلاحق الأجیال من الشیعة الولائیین،وتکاثر أفرادهم؛إما تحت ستار التقیة،أو بالاستفادة من أجواء متسامحة.فتمکّنت هذه الطوائف من الصمود أمام کلّ العواصف.

والمصداق الأبرز،فی المنطقة العربیة،لهذا النوع الثالث من التشیع الطائفی،هو الطائفة الشیعیة فی جبل عامل فی لبنان،حیث أنّ شیعة لبنان لم یتمتّعوا فی تاریخهم بأیة تغطیة سلطویة،خلافاً لشیعة إیران.

الفرق بین الطائفة و المذهب

کثیرا ما یعتقد أن المذهب هو عقیدة للطائفة،وبهذا التعریف المسامحی هناک مساواة بین المنتسبین للمذهب و المنتسبین للطائفة التی تعتنقه.

ص:247

لکن هذا التعریف لا یصمد أمام عدة نقوض:فمثلاً،المذاهب الأربعة لم تشکل طوائف خاصة بها.

و قد یقال أن الملاک الممیز بین الطائفة و المذهب هو وراثیة الانتماء،ففی حین لا یکون الانتماء إلی المذهب الشیعی وراثیاً حیث یحرّم التقلید فی العقائد عند الشیعة.فإنّ الانتماء إلی الطائفة لا یکون إلا بالوراثة.و قد لا یکون الانتماء الطائفی إلا اسمیاً فیحسب علی الشیعة أحیاناً من کان شیوعیاً أو لیبرالیاً...إلخ.

ولکن هذا الملاک غیر کامل،ولا بد من إضافة عنصر(حمائی)هام،لا یکتمل التشکل الطائفی ولا یستقر و لایستمر،إلّا به،و هو منع الزیجات المختلطة،ولو علی سبیل التنزه و الکراهة،لا الحرمة.فالذی منع من تحول المذاهب الأربعة إلی طوائف مغلقة،هو تسامحها فی هذا المجال،بینما قد عرفنا کیف استمر الکیان الطائفی الإباضی بسبب تمسّکه بهذا العنصر الحمائی.

أما الشیعة،فهم لا یحرمون الزیجات المختلطة،ولهذا کان الوضع الطائفی ضعیفاً فی العراق،قبل أن یتدخّل الاستعمار،لیحول طوائف البلاد إلی ما یشبه الکانتونات.

الکلام الشیعی وظرفه الاجتماعی

بعد أن عرفنا تعدد أشکال التشیع وتنوع اتجاهاته،کان لا بدّ من توضیح ماهیة التشیع الذی تبلورت المباحث الکلامیة فی ظلّه،بدایة من النصف الثانی من القرن الأوّل،فهو مزدوج فی ترکیبته:سیاسی عند البعض،وولائی عند البعض الآخر.

وعلی ضوء هذه الحقیقة التاریخیة یمکننا تقییم الانشقاقات والانشعابات التی شهدها التشیع منذ تلک الفترة, وما حمله معه کلّ انشقاق من مفاهیم وأطروحات عقائدیة جدیدة.

ص:248

التشیع ومحاولات الاختزال

بمجرّد طرح التشیع الطائفی جانباً،لما یحمله معه من تشویش قد یعوق المحلّل عن فهم الأبعاد العقائدیة للتشیع،فإنّ البحث ینحصر فی معنیین أساسیین للتشیع،هما:التشیع السیاسی،والتشیع الولائی.

فإذا نظرنا فی تاریخ التشیع وجدنا لحظات التقاء ولحظات افتراق بین الاتّجاهین،وفی تاریخنا القدیم تعتبر ملحمة کربلاء لحظة الالتقاء الأبرز, ولم تتکرّر إلّا فی مواقع نادرة وبدرجات متفاوتة.

أمّا فی تاریخنا المعاصر،فإنّ ملحمة المقاومة الإسلامیة ضدّ المستعمر الإسرائیلی الغاشم فی جنوب لبنان،تشکّل مصداقاً بارزاً آخر لذلک الالتقاء.

وإلی جانب القول الجامع بین الخطین هنالک آراء اختزالیة تتمسک بأحدهما دون الآخر.وکثیراً ما کانت هذه الاتّجاهات الاختزالیة مهیمنة علی ساحة الفکر الشیعی.

ویمکن الرمز إلی الاختزال السیاسی بأنّه خط الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر, و التقیة.فی حین یمکن عنونة الاتّجاه الآخر بکونه الخطّ الولائی التربوی المعتمد علی التقیة هو الآخر.

من هنا تبرز محوریة بحث التقیة فی معرفة الخلفیة الکلامیة للتشیع, وکذلک أهمیة أصل الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر،وموقعه من أصول الدین أو فروعها.

هل یجوز اختزال التشیع فی الثورة السیاسیة؟

إنّ الإقرار بأهمیة الارتباط بین التشیع لأهل البیت،والأمر بالمعروف و النهی عن المنکر کفریضة سادسة تمیز مذهبهم الفقهی عن سائر المدارس الفقهیة الإسلامیة،أمر لا یشکّک فیه أحد من علماء الشیعة.

فالسؤال المطروح،إذن،هو:کیف تعامل شیعة أهل البیت علیهم السلام مع هذه الفریضة

ص:249

طوال تاریخهم؛وخاصّة فی حضور أئمتهم علیهم السلام؟وکیف أمکن لهم تحقیق التوازن مع فرع عقائدی فقهی آخر اشتهرت به الشیعة, و هو التقیة؟

الإجابة عن هذا التساؤل الخطیر تحملنا إلی لب المعترک الکلامی وبالتحدید إلی توضیح القول فی التقیة بما هی أولی آثار انهیار نظام السقیفة, وما تبعه من الإرهاب السلطوی الأموی و العباسی.

هذا من جهة،أمّا من جهة أُخری،فإنّ استبعاد الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر من أن یکون أصلاً من أُصول الدین،ملازماً للإمامة،والاکتفاء باعتباره فرضاً کفائیاً،فهذا أیضاً یشکّل بدوره ساحة أُخری للمعترک الکلامی.وبفصل الکلام فیه حصلت أولی الانشعابات والانشقاقات عن الخطّ الولائی الرسالی،والتی برز منها بشکل خاصّ،الزیدیة.

التشیع الولائی ورصید الثقة

لقد کان رصید الثقة الذی تقوّی أکثر فأکثر بصمود أهل البیت علیهم السلام أمام حرکة عبد الله بن الزبیر، (1)الذی استغلّ نقمة المسلمین علی الأمویین بعد فاجعة کربلاء،لإعلان خلافته وبسط نفوذه علی الحجاز و العراق و التنکیل بجمیع معارضیه شرّ تنکیل، (2)أهمّ مکاسب المدرسة الرسالیة فی تلک المرحلة العصیبة.فسعی أقطابها وأنصارها إلی تنمیته و الحفاظ علیه للتمکن من القیام بالدور الرسالی للدعوة فی الإطار الولائی،علی أحسن وجه.

ص:250


1- (1) .بحوث وحدویة فی أصول الطائفیة،الجزء الثانی.
2- (2) .ذکر ابن الأثیر،أن مصعب بن الزبیر حین استولی علی الکوفة،أعدم أکثر من سبعة آلاف من أصحاب المختار بن أبی عبید الثقفی،بعد أن استسلموا معتقدین بأنه أمنهم!راجع:المصدر السابق.

و قد کانت هذه مهمّة الجیل الثانی للمدرسة الرسالیة،بقیادة الإمام زین العابدین علی بن الحسین علیه السلام،الناجی الوحید من مذبحة کربلاء،و هو الذی دشن عهده بمواقفه الجریئة الشهیرة أمام طغاة عصره:عبید الله بن زیاد و الی الکوفة, ثمّ یزید بن معاویة نفسه فی مسجد دمشق.فلم یکن عهد التقیة الذی بدأ مذّاک،إغفالاً للأمر بالمعروف و النهی عن المنکر،وإهمالاً للدّور الکلامی المصیری الذی کان علی وارث العلم النبوی أداءه،بل نوعاً ثانیاً من الفاعلیة الدعویة یتناسب تماماً مع الأوضاع السیاسیة الجدیدة.

2-الظاهرة الزیدیة فی سیاقها العقائدی و السیاسی
اشارة

الزیدیة،هم القائلون بإمامة زید بن علی بن الحسین الشهید علیه السلام و هو الذی ثار فی وجه الأمویین واستشهد عام 122ه-.

و قد سبقت هذه الثورة مرحلة طویلة من المخاض الکلامی،أفرزت خاصّة تیار القدریة الذی مرّ الکلام عنه.ولا بدّ أن نعود إلی هذه الأُصول،منضمة إلی ما تقدّم من مؤثرات أحدثتها النهضة الکربلائیة،لنعرف العمق العقائدی لهذه الثورة.

حول الارتباط بین المعتزلة و الزیدیة

إن أهمّ ما یمیز أی حرکة ثوریة هو قدرتها علی الاصطدام مع أیة نزعة جبریة فی المجتمع،و قد یؤدّی هذا الاصطدام إلی تطرّف دعاة الثورة, وسیرهم شوطاً بعیداً فی المقابلة العقائدیة مع دعاة الجبریة،بما هم أولی الموانع التی تعترض الثورة،وتمنع انخراط الجماهیر فیها وتعبئتهم تحت رایتها.

و قد مرّ أنّ أوّل من جاهر بالقول بالجبر هو معاویة بن أبی سفیان مهدّداً بتکفیر جمیع القائمین ضدّه؛بدعوی عدم قبولهم بمشیئة الله.ثمّ کانت حرکة الإرجاء

ص:251

فشکّلت رافداً إضافیاً وحیویاً لدعوة الجبریة التی بدأت رویداً رویداً تستقرّ کمحور أساسی موجِّه للثقافة الغوغائیة التی بدأت تکتسب بالتدریج طابعاً حدیثیاً أخباریاً منذ نهایة القرن الأوّل.

هکذا،کان الغطاء العقائدی الوحید الناجح لأیة ثورة علی الحکم الأموی،هو ذلک الذی یتأسّس علی نقض الجبر وتحریر الإنسان من قیوده الوهمیة،وتعبئة قدراته حتّی یخطّ قدره بیده.

فظهرت العقیدة القدریة مقترنة بالدعوة الثوریة،اقتراناً دعا السلطة إلی اضطهادها و التنکیل بدعاتها؛حتّی إن لم یجاهروا بالدعوة إلی الثورة.

ففی إطار التفویض،لیس أمام الإنسان لتحسین وضعه إلا الثورة علیه.فی هذا الاتّجاه سار معظم الموتورین من النظام الأموی،والراغبین فی إنهاء ظلمه،فی رکاب القدریة.فقد کان هؤلاء ثوّاراً بالقوّة،ینتظرون الفرصة لبلورة طموحاتهم ضمن أطروحة عقائدیة وسیاسیة, وتحت رایة تتوفّر علی مقّومات التوفیق وعوامل النجاح.

من هنا،شکل مذهب الاعتزال،منذ بدایة القرن الثانی،أوّل تمظهر متکامل لهذا الخطّ العقائدی.وبقیت ظاهرة المعتزلة منذ واصل بن عطاء،وعمرو بن عبید،إلی حین وصولهم إلی السلطة فی نهایة العصر العباسی الأوّل،خطّاً سیاسیاً عقائدیاً للاتّجاه القدری،فی حین کانت الحرکة الزیدیة بأجیالها المتلاحقة تشکّل خطّها العسکری السیاسی.

وهکذا نستطیع أن نفهم حقیقة الارتباط بین الزیدیة و المعتزلة.فهذا الارتباط أکبر من مجرّد الاشتراک فی القول بتقدیم المفضول علی الفاضل،کما هو مشهور؛بل هو اشتراک فی عمق عقائدی واحد،لا یمکن لأی حرکة ثوریة سیاسیة أن تنجح بدونه،و هو رفض الجبریة،والقول بالحدّ الأدنی من القدریة،الذی یکون کافیاً لتعبئة الجماهیر, ودفعها إلی التضحیة و الفداء.

ص:252

رفض البراءة من الشیخین والافتراق عن الروافض

لم یکن أمام دعاة الثورة إلا أحد اختیارین:

الأوّل:الاکتفاء بدعم النخبة الشیعیة الولائیة التی لا تنقصها،لا التعبئة ضدّ النظام الظالم،ولا التوق إلی التضحیة و الفداء علی درب الإمام الحسین علیه السلام.

الثانی:توسیع قاعدة التعبئة الجماهیریة إلی أوسع نطاق ممکن،لتشمل جمیع الموتورین من النظام الأموی و المتضررین منه.وهؤلاء قد تشبّعوا إلی حدّ کبیر بالثقافة الغوغائیة،رغم تخلّصهم من النزعة الجبریة.

و قد کان القدر المشترک الذی لا یختلف علیه اثنان ممّن تعاطف مع دعوة الثورة من غیر الشیعة الولائیة،هو تسلیمهم بعدالة الصحابة وبقدسیة مقام الخلافة الراشدة علی وجه الخصوص.

هکذا،ما إن طلب بعض المتشیعة،من الإمام زید البراءة من الشیخین کشرط للدخول تحت رایته،حتّی نهرهم فهوا:الرافضة، (1)

3-لمحة عن العقیدة الزیدیة وحرکاتها الأولی
اشارة

یمکن تلخیص أهمّ المعتقدات التی اختصّ بها الزیدیة فی محور الإمامة.

فالزیدیة لا یقولون بعصمة الأئمّة.

ویرون أنّ الإمام،هو من قام بالسیف،کما یجّوزون إمامة المفضول مع وجود الفاضل؛ولهذا یعتقدون بإمامة الخلفاء الثلاثة.

ص:253


1- (1) .راجع:السیرة الحلبیة:207/2.و قد ذکر السید الأمین،فی کتابه(أبوالحسین زیدالشهید):(ص42)ذکر کثیر ممّن تکلّم علی هذا اللقب من أخصام الشیعة،وتلقفه الآخر عن الأوّل،أنّ زیداً مسئل-لما کان یجارب جیش هشام-عن الشیخین،فقال:«هما صاحبا جدّی وضجیعاه فی قبره»فرفضه جماعة،فسمّوا الرافضة؛ویجوز أن یکون قال ذلک؛استصلاحاً لعسکو وأن المروی:أنّه لما أصابه السهم،طلب السائل،فأراه السهم،وقال:«هما أوقفانی هذا الموقف».

قال الشهرستانی:

...ساقوا الإمامة فی أولاد فاطمة(رضی الله عنها)ولم یجوّزوا ثبوت الإمامة فی غیرهم.إلا أنّهم جوزوا أن یکون کلّ فاطمی عالم شجاع سخی خرج بالإمامة،أن یکون إماماً واجب الطاعة،سواءً کان من أولاد الحسن أو من أولاد الحسین(رضی الله عنهما)،وعن هذا جوّز قوم منهم إمامة محمّد وإبراهیم الإمامین،ابنی عبد الله بن الحسن،بن الحسن الذین خرجا فی أیام المنصور وقتلا علی ذلک.وجوّزوا خروج إمامین فی قطرین یستجمعان هذه الخصال, ویکون کلّ واحد منهما واجب الطاعة...

وکان من مذهب-أی:الزیدیة-جواز إمامة المفضول مع قیام الأفضل.

فقال کان علی بن أبی طالب(رضی الله عنه)أفضل الصحابة،إلا أنّ الخلافة فوّضت إلی أبی بکر لمصلحة رأوها وقاعدة دینیة راعوها؛من تسکین نائرة الفتنة وتطییب قلوب العامة...وکذلک یجوز أن یکون المفضول إماماً و الأفضل قائم, فیرجع إلیه فی الأحکام ویحکم بحکمه فی القضایا. (1)

الخروج عن المحور الولائی

هناک نظریتان فی تفسیر علاقة زید الشهید بأئمّة أهل البیت علیهم السلام:

الأولی:تمیل إلی الاعتقاد ببقاء الإمام زید علی ولائه لأئمّة أهل البیت علیهم السلام وتفسّر حرکته الثوریة بأنّها نتیجة لتقاسم الأدوار معهم, ولیست انشقاقاً عن خطهم. (2)

الثانیة:تزعم بأنّ زید الشهید لم یقبل بإمامة أخیه الباقر علیه السلام وأنّه وقع تحت تأثیر أبرز وجوه المعتزلة فی عصره،و هو واصل بن عطاء.

و هذه النظریة هی التی تبناها الشهرستانی وجمهور المؤرّخین،قبله وبعده.

ص:254


1- (1) .الملل و النحل:155 و156.
2- (2) .من أبرز أنصار هذا الرأی من المعاصرین،المحقّق السید محمّد تقی المدرسی فی کتابه التاریخ الإسلامی،دروس وعبر.

وحیث إنّ الزیدیة علی مرّ التاریخ أیدوا هذه النظریة،فنحن نقدّم تقریراً مختصراً لها, کما أورده الشهرستانی:

...وجرت بینه وبین أخیه الباقر محمّد بن علی علیها السلام مناظرات لا من هذا الوجه, بل من حیث کان تلیمذاً لواصل بن عطاء،ویقتبس العلم ممّن یجوّز الخطأ علی جدّه فی قتال الناکثین و القاسطین و المارقین،ومن حیث یتکلّم فی القدر علی غیر ما ذهب إلیه أهل البیت،ومن حیث أنّه کان یشترط الخروج شرطاً فی کون الإمام قائماً حتّی قال له یوماً:علی مقتضی مذهبک:والدُک لیس بإمام, فإنّه لم یخرج قَطُّ, ولا تعرّض للخروج.... (1)

لکن الإنصاف یدعو إلی الانتصار للرأی الأول.ویکفی دلیلاً علی هذا،ربط هذا الرأی بما سبق أن أوضحناه من تشکل محور جامع جدید،قوامه التوأمة بین السنة و العترة،فی القرن الثانی.فتکون الزیدیة،بجمیع امتداداتها،تعبیراً جهادیاً عسکریاً عن فاعلیة هذا المحور الجدید.فکما کان أئمة الفقه ولائیین،کان أئمة الجهاد من الزیدیة،وفی طلیعتهم محمد ویحیی وإدریس أبناء عبد الله الحسنی،ولائیین أیضاً.

الأجیال الأولی من الزیدیة

لمّا قتل زید بن علی علیه السلام وصلب،قام بعده یحیی بن زید،ومضی إلی خراسان واجتمعت له جماعة کثیرة.و قد وصل إلیه الخبر من ابن عمّه الإمام الصادق جعفر بن محمّد علیه السلام بأنّه یقتل, کما قتل أبوه, ویصلب کما صلب أبوه،فجری علیه الأمر, کما أُخبر

و قد فوض الأمر بعده إلی محمّد وإبراهیم الإمامین،وخرجا بالمدینة, ومضی إبراهیم إلی البصرة واجتمع الناس علیهما, وقتلا أیضاً.وأخبرهما الإمام الصادق علیه السلام بجمیع ما تمّ علیهم وعرفهم أن آباءه علیهم السلام أخبروه بذلک کلّه.

ص:255


1- (1) .الملل و النحل:156.

فزید بن علی،قتل بکناسة الکوفة،قتله هشام بن عبد الملک.ویحیی بن زید،قتل بجوزجان خراسان،قتله أمیرها.ومحمّد النفس الزکیة،قُتل بالمدینة, قتله عیسی بن ماهان.وإبراهیم الإمام،قُتل بالبصرة أمر بقتله المنصور.

ولم ینتظم أمر الزیدیة بعد ذلک،حتّی ظهر بخراسان صاحبهم ناصر الأطروش فطلب مکانه لیقتل،فاختفی واعتزل الأمر وصار إلی بلاد الدیلم و الجبل, ولم یکونوا قد دخلوا فی الإسلام.

فدعا الناس دعوة إلی الإسلام علی مذهب زید بن علی فدانوا بذلک،ونشئوا علیه وبقیت الزیدیة فی تلک البلاد ظاهرین.وکان یخرج واحد بعد واحد من أئمّة الزیدیة.وخالفوا بنی أعمامهم من الموسویة فی مسائل الأُصول.

ومالت أکثر الزیدیة بعد ذلک عن القول بإمامة المفضول واتّخذت فی الصحابة مواقف قریبة من الإمامیة.وظهر من الزیدیة فرق ثلاث تفاوتت فی غلوّ عقائدها،وهی جارودیة،وسلیمانیة،وبتریة،والصالحیة منهم،والبتریة علی مذهب واحد. (1)

وسیأتی الکلام عن الجارودیة بما هی مظهر من مظاهر الغلوّ الزیدی.

البحث الثالث و العشرون:الظاهرة الإسماعیلیة والاقتباس الثقافی
اشارة

إذا صرفنا النظر عن الزیدیة وحرکاتها،تعتبر الحرکة الإسماعیلیة أبرز انشقاق عرفته الدعوة الشیعیة الإمامیة،فی تاریخها.فرغم أنّ عدد الحرکات المنشقّة عن الإمامیة لا یکاد یحصی،فلم تحظَ أی منها بأی نجاح،وسرعان ما اندثرت, ولم یبقَ لها ذکر إلا فی بعض الکتب الفقهیة أو الرجالیة؛فیقال:إنّ فلانا واقفی؛لأنّه توقّف عند الإمام الکاظم علیه السلام مثلاً،أو أن ذاک الآخر فطحی،لأنه من أتباع عبد الله الأفطح،الابن الأکبر للإمام الصادق علیه السلام...

ص:256


1- (1) .المصدر:156/2 و157.

أمّا الإسماعیلیة, فقد نجحت فی تأسیس دولة خلافة ملأت فراغاً کبیراً خلّفه ضعف الخلافة العباسیة وسقوطها تحت هیمنة قادة الجند من الأتراک...وحتّی بعد سقوط الدولة الفاطمیة بعد ثلاثة قرون،استمرّت الدعوة الإسماعیلیة بأشکال متنوعة واستمرّ حضورها الطائفی إلی أیامنا،حیث یتولّی أُمورها إمامها السابع و الأربعون.

هذه الاستمراریة رغم زوال الدولة وتعرّض الطائفة للمطاردة،تدلّ علی وجود حدّ أدنی من المرونة و القدرة علی التکیف،فی فکر هذه الطائفة وزعمائها.

و قد کانت هذه الخصال أهمّ الممیزات التی جعلتها تنجح فی تأسیس خلافة منذ بدایة القرن الرابع.ویمکن تلخیص هذه الخصال فی ما یطلق علیه بالدهاء السیاسی.و هو الذی یتمظهر فی ما أصبح یطلق علیه فی أیامنا:السلوک السیاسوی.

لکن،هذه الخاصیة لم تکن السبب الوحید فی قدرة هذه الحرکة علی تحقیق ما فشل فیه غیرها؛بل إن توظیف الاقتباس الثقافی کان هو الآخر خصلة معینة لتحقیق هذا الغرض.

1-السیاسویة والاقتباس الثقافی:من الکیسانیة إلی الإسماعیلیة
اشارة

السیاسویة،بما هی:سلوک سیاسی ذرائعی متطرّف فی اللامبدئیة،هی السمة الغالبة علی السیاسیین السلطویین سواءً کانوا فی الحکم أو المعارضة.فهی إذاً لیست من مختصات التشیع السیاسی،بل قد تکون صفة للسلوک السیاسی؛لأی فرقة منشعبة عن المحور الولائی الرسالی،أو منشقة عن بعض حواشیه.والذی یجعل من الظاهرة السیاسویة أمراً بالغ الخطورة،هو تداعیها السریع إلی الاقتباس الثقافی.فالسعی إلی کسب المعرکة السیاسیة و الوصول إلی السلطة بأی طریق کان،یغری کلّ حرکة سلطویة بأن تستنفذ کلّ الوسائل المتاحة،بما فیها الاقتباس من التراث الدینی للحضارات المجاورة،من أجل تکوین جهاز مفاهیمی عقائدی ذی جاذبیة جماهیریة

ص:257

وفاعلیة تعبویة تؤمّن استقصاء حظوظ النجاح السیاسی؛و هذا هو مغزی الاقتباس الثقافی:إنه استدعاء لنصرة ثقافیة خارجیة.

وتعتبر الحرکة الإسماعیلیة أنجح نموذج لهذا النوع من الاقتباس و التوظیف السیاسی.

الإسماعیلیة واحتواء التشیع السیاسی

تقدم أن الإسماعیلیة:هم المعتقدون بإمامة إسماعیل بن جعفر الصادق علیه السلام وبأولاده من بعد.ویقرر الشهرستانی:أنّهم اختلفوا فی موته فی حال حیاة أبیه, فمنهم من قال:لم یمت, إلّا أنّ الإمام الصادق علیه السلام أظهر موته تقیة من خلفاء بنی العبّاس, وأنّه عقد محضراً وأشهد علیه عامل المنصور بالمدینة.

ومنهم مَن قال:موته صحیح و النصّ لا یرجع القهقری, و الفائدة فی النصّ بقاء الإمامة فی أولاد المنصوص علیه دون غیرهم.

فالإمام بعد إسماعیل،عندهم،هو محمّد بن إسماعیل, وهؤلاء یقال لهم:«المبارکیة».

ثمّ منهم من وقف علی محمّد بن إسماعیل, وقال برجعته،ومنهم من ساق الإمامة فی المستورین منهم, ثمّ فی الظاهرین القائمین من بعدهم, وهم(الباطنیة). (1)

وبقطع النظر عن الحرکات الإسماعیلیة المذکورة أوّلاً،والتی لم یکتب لها الدوام،فإنّ الباطنیة الإسماعیلیة،التی أسسها میمون القداح،وکان رائدها عبد الله بن میمون ابنه،تعتبر من أهمّ روافد الفکر الإسلامی فی القرنین الرابع و الخامس.فقد کان أشهر مفکری وفلاسفة الإسلام, مثل:أبو ریحان البیرونی،و ابن سینا, وعمر الخیام،من أتباع هذا المذهب, کما أنّ الدولة الفاطمیة،کانت تجسیداً لأوّل کیان سیاسی شیعی اتّشح بالخلافة.

لکن المهمّ فی الظاهرة الإسماعیلیة هو انطلاقها من حرکة فکریة تعتبر ترکیباً من مجموعة من الاقتباسات الثقافیة.فقد امتزجت بعض معتقدات الهندوس فی تألیه

ص:258


1- (1) .المصدر:167 و168.

البشر مع بعض نظریات الفلاسفة الیونانیین, وتجارب الحرکات المزدکیة السرّیة لتولّد ترکیباً فکریاً حاول أصحابه تحسینه وجعله مقبولاً جماهیریاً،وبثّوه فی رسائل عرفت بإمضاء أصحابها:إخوان الصفا وخلّان الوفاء،وکانت توزع فی شکل مناشیر سریة فی المساجد فی القرن الثالث.

وهکذا کانت الحرکة الإسماعیلیة الباطنیة أخطر انشقاق عرفه المحور الولائی الذی کان أنصاره یترقبون قیام إمامهم الثانی عشر،فعاجلهم عبید الله،المتلقّب بالمهدی برفع رایة الثورة وإدعاء المهدویة فی إفریقیة فی بدایة القرن الرابع.والذی سمح لدعاة الإسماعیلیة المنبثین فی صفوف الشیعة بالتبلیغ لدعوتهم،وجلب جمیع الشیعة السیاسویین إلی صفوفهم،هو انحصار لقاء الشیعة بإمامهم فی نوابه الخواص.

وکان أبرز دعاة الإسماعیلیة أبو عبد الله الصنعانی،الذی أرسله عبید الله من مقره السری فی السلمیة،إلی المغرب لتجنید الشیعة وتعبئتهم وتهیئتهم؛لتأسیس أوّل خلافة شیعیة.

الخلافة الفاطمیة

بعد نجاح أبی عبد الله الصنعانی فی جلب ولاء قبیلتی:کتامة وصنهاجة،بالمغرب،استقدم عبید الله المتلقّب بالمهدی،إمام الإسماعیلیة المختفی فی(السلمیة) (1)فی الشام إلی إفریقیة.وهنالک تأسّست دولة الخلافة العبیدیة التی تسمّت بالفاطمیة نسبة إلی فاطمة الزهراء علیها السلام.وأسسوا مدینة المهدیة لتکون عاصمة الخلافة.لکن أهل البلاد لم یلبثوا أن اکتشفوا فقدان الارتباط بین هذه الدولة الحدیثة،والخط الولائی الشرعی.

وکان أوّل من اکتشف هذا الأمر أبو عبد الله الصنعانی نفسه،فأسرع عبید الله المهدی إلی إعدامه.ولم یکتب الاستقرار لهذه الدولة الناشئة،فاضطر أحد أحفاد

ص:259


1- (1) .هی الآن مدینة قریبة من حماة،وتتواجد فیها الطائفة الإسماعیلیة،فی تعایش کامل مع أهل السنة.

عبید الله،المعزّ لدین الله لنقل عاصمة خلافته إلی مصر؛فأسّس مدینة القاهرة،بعد سبعین سنة من تأسیس المهدیة سنة970 للمیلاد.

وهناک شهدت هذه الدولة عزّها ومجدها واستمرّت علی ذلک قرابة القرنین. (1)

2-نظرة علی الترکیب العقائدی الإسماعیلی
اشارة

تقدّم أن عقائد الإسماعیلیة،کانت ترکیباً بین مجموعة من الاقتباسات الحضاریة،وبعض العقائد الإسلامیة.و قد کانت الصیاغة الفلسفیة لهذا الترکیب هی الإطار المعرفی العام الذی یمیز هذه العقائد عن معتقدات الشیعة الإمامیة المعتمدة آنذاک علی النصوص العقائدیة المأخوذة من أئمّة أهل البیت علیهم السلام.أمّا الصیاغة الفلسفیة لعقائد الإمامیة, فقد أشرنا فی المبحث السابق إلی تأخرها الزمنی, فلا مجال إذاً للخلط بین البنائین الفلسفیین.فعقائد الإسماعیلیة تبلورت قبل نضج الفکر الفلسفی المشائی الإسلامی بأکثر من قرن،بینما تأخّرت الصیاغة الفلسفیة لعقائد الإمامیة أکثر من قرن عن هذا النضج.

وفی هذا البحث،نرید أن نتعرّف باختصار علی الترکیب العقائدی الإسماعیلی،کما قرره عبد الکریم الشهرستانی،و هو المعاصر للدور الثانی من الدولة الفاطمیة،دور انقسام الحرکة الإسماعیلیة،وانشقاق الحسن بن الصباح القمّی بعد تحوّله من التشیع الإمامی إلی الباطنیة الإسماعیلیة.

عقیدتهم فی الإمامة

...قد ذکرنا أن الإسماعیلیة امتازت عن الموسویة وعن الاثنی عشریة بإثبات الإمامة لإسماعیل بن جعفر, و هو ابنه الأکبر المنصوص علیه فی بدء الأمر.

قالوا:ولم یتزوّج الصادق(رضی الله عنه)علّی أمة(أم إسماعیل)بواحدة من النساء،ولا تسرّی بجاریة،کسنّة رسول الله صلّی الله علیه و آله فی حقّ خدیجة(رضی الله عنها)

ص:260


1- (1) .تاریخ ابن خلدون:31/4 وما بعدها.

وکسنّة علی(رضی الله عنه)فی حقّ فاطمة(رضی الله عنها)،و قد ذکرنا اختلافاتهم فی موته فی حال حیاة أبیه.

فمنهم من قال:إنّه مات...

و إنّما فائدة النصّ علیه انتقال الإمامة منه إلی أولاده خاصّة, کما نص موسی علی هارون صلّی الله علیه و آله،ثمّ مات هارون فی حال حیاة أخیه.

و إنّما فائدة النصّ انتقال الإمامة منه إلی أولاده, فإنّ النصّ لا یرجع القهقری و القول بالبداء (1)محال،ولا ینصّ الإمام علی واحد من أولاده إلا بعد السماع من أبائه و التعیین لا یجوز علی الإبهام و الجهالة.

ومنهم من قال:إنّه لم یمت...

قالوا:وبعد إسماعیل محمّد بن إسماعیل السابع التّام, و إنّما تمّ دور السبعة به, ثمّ ابتدئ منه بالأئمة المستورین الذین کانوا یسیرون فی البلاد سرًا ویظهرون الدعاة جهراً. (2)

قالوا:ولن تخلوَالأرض قطُّ من إمام حی قائم؛أمّا ظاهر مکشوف؛و إمّا باطن مستور.

فإذا کان الإمام ظاهراً جاز أن یکون حجّته مستوراً،و إذا کان الإمام مستوراً, فلا بدّ أن یکون حجّته ودعاته ظاهرین.... (3)

عقیدتهم فی باطن العدد

...وقالوا إنّ الأئمّة تدور أحکامهم علی سبعة, سبعة کأیام الأسبوع و السماوات السبع،والکواکب السبعة و النقباء تدور أحکامهم علی اثنی عشر.

قالوا:وعن هذا وقعت الشبهة للإمامیة القطعیة،حیث قررّوا عدد النقباء للأئمّة،ثمّ بعد الأئمّة المستورین کان ظهور المهدی بالله،والقائم بأمر الله،وأولادهم نصّاً بعد نصّ علی إمام بعد إمام.... (4)

ص:261


1- (1) .خلافاً لما یعتقده الإمامیة،ویروون فی ذلک عن الإمام الصادق علیه السلام عند وفاة إسماعیل ابنه:«ما بدا لله فی شیء ما بدا له فی إسماعیل.»المسائل العکبریة للمفید:99/6.
2- (2) .و قد امتدت هذه الفترة من منتصف القرن الثانی إلی بدایة القرن الرابع،حین تأسیس دولة العبیدیین.
3- (3) .الملل و النحل:191 و192.
4- (4) .المصدر:191 و192.
عقیدتهم فی الإلهیات

...ثمّ إنّ الباطنیة القدیمة (1)قد خلطوا کلامهم ببعض کلام الفلاسفة،وصنّفوا کتبهم علی هذا المنهاج, فقالوا فی الباری تعالی:إنّا لا نقول هو موجود, ولا لا موجود, ولا عالم, ولا جاهل, ولا قادر, ولا عاجز.

وکذلک فی جمیع الصفات, فإنّ الإثبات الحقیقی یقتضی شرکة بینه وبین سائر الموجودات فی الجهة التی أطلقنا علیه،وذلک تشبیه, فلم یکن الحکم بالإثبات المطلق, و النفی المطلق بل هو اله المتقابلین وخالق المتخاصمین و الحاکم بین المتضادین.

ونقلوا فی هذا نصّاً عن محمّد بن علی الباقر أنّه قال:«لما وهب العلم للعالمین, قیل:هو عالم.ولمّا وهب القدرة للقادرین, قیل:هو قادر،فهو عالم قادر بمعنی:أنّه وهب العلم و القدرة،لا بمعنی أنّه قام به العلم و القدرة،أو وصف بالعلم و القدرة،فقیل فیهم أنهم نفاة الصفات حقیقة معطلة الذات عن جمیع الصفات.»

قالوا, وکذلک نقول فی القدم:إنّه لیس بقدیم ولا محدث،بل القدیم أمره وکلمته و المحدث خلقه وفطرته،أبدع بالأمر العقل الأوّل الذی هو تامّ بالفعل ثمّ بتوسطه أبدع النفس التالی،الذی هو غیر تامّ.

ونسبة النفس إلی العقل:

إمّا نسبة النطفة إلی تمام الخلقة،والبیضَ إلی الطیر.

و إمّا نسبة الولد إلی الوالد،والنتیجة إلی المنتج.

و إما نسبة الأنثی إلی الذکر،والزوج إلی الزوج.

قالوا:ولما اشتاقت النفس إلی کمال العقل،احتاجت إلی حرکة من النقص إلی الکمال،واحتاجت الحرکة إلی آلة الحرکة،فحدثت الأفلاک السماویة وتحرّکت حرکة دوریة بتدبیر النفس وحدثت الطبائع البسیطة بعدها.وتحرّکت حرکة استقامة بتدبیر النفس أیضاً فترکبت المرکّبات من المعادن و النبات و الحیوان و الإنسان،واتّصلت النفوس الجزئیة بالأبدان.وکان نوع الإنسان متمیزاً عن سائر الموجودات بالاستعداد الخاصّ لفیض تلک الأنوار, وکان عالمه فی مقابلة العالم کلّه. (2)

ص:262


1- (1) .تمییزاً لهم عن جماعة الحسن بن الصباح،الذی أفردنا لعقائده موضعاً خاصّاً.
2- (2) .تمییزاً لهم عن جماعة الحسن بن الصباح،الذی أفردنا لعقائده موضعاً خاصّاً.
عقیدتهم فی النبوّة و الوصایة و القیامة

وفی العالم العلوی عقل ونفس کلّی, فوجب أن یکون فی هذا العالم عقل مشخّص هو کلّ وحکمة حکم الشخص الکامل البالغ, ویسمونه:الناطق, و هو النبی.

ونفس مشخّصة،و هو کلّ أیضاً،وحکمه حکم الطفل الناقص المتوجه إلی الکمال, أو حکم النطفة المتوجهة إلی التمام, أو حکم الأنثی المزدوجة بالذکر, ویسمونه:الأساس, و هو الوصی.

قالوا:وکما تحرّکت الأفلاک و الطبائع بتحریک النفس و العقل،کذلک تحرّکت النفوس و الأشخاص بالشرائع بتحریک النبی و الوصی فی کلّ زمان دائراً علی سبعة سبعة حتّی ینتهی إلی الدور الأخیر ویدخل زمان القیامة, وترتفع التکالیف, وتضمحل السنن و الشرائع.

إنّما هذه الحرکات الفلکیة و السنن الشرعیة لتبلغ النفس إلی حال کمالها،وکمالها بلوغها إلی درجة العقل،واتّحادها به ووصولها إلی مرتبته فعلاً.

وذلک هو القیامة الکبری فتنحل تراکیب الأفلاک و العناصر و المرکبات،وتنشق السماء وتتناثر الکواکب وتبدل الأرض غیر الأرض،وتطوی السماء کطی السجل للکتاب المرقوم.

وفیه یحاسب الخلق ویتمیز الخیر عن الشرّ و المطیع عن العاصی،وتتّصل جزئیات الحقّ بالنفس الکلّی وجزئیات الباطل بالشیطان المُضِل المُبطِل،فمن وقت الحرکة إلی وقت السکون هو المبدأ،ومن وقت السکون إلی ما لا نهایة له هو الکمال. (1)

عقیدتهم فی باطن الشرائع

ثمّ قالوا:ما من فریضة وسنّة،وحکم من الأحکام الشرعیة،من بیع وإجارة وهبة ونکاح وطلاق وجراح وقصاص ودیة،إلاّ, وله وزان من العالم عدداً فی مقابلة عدد وحکماً فی مطابقة حکم.فإنّ الشرائع عوالم روحانیة أمریة و العوالم

ص:263


1- (1) .المصدر:191 و192.

شرائع جسمانیة خلقیة،وکذلک الترکیبات فی الحروف و الکلمات علی وزان الترکیبات فی الصور و الأجسام و الحروف المفردة،نسبتها إلی المرکّبات من الکلمات کالبسائط المجردة إلی المرکبات من الأجسام.ولکلّ حرف وزان فی العالم وطبیعة یخصّها, وتأثیر من حیث تلک الخاصیة فی النفوس.

فعن هذا صارت العلوم المستفادة من الکلمات التعلیمیة غذاء للنفوس کما صارت الأغذیة المستفادة من الطبائع الخلقیة غذاء للأبدان،و قد قدّر الله تعالی أن یکون غذاء کلّ موجود ممّا خلق منه،فعلی هذا الوزان صاروا إلی ذکر أعداد الکلمات و الآیات.

و أنّ التسمیة مرکّبة من سبعة واثنی عشر وأن التهلیل مرکب من أربع کلمات فی إحدی الشهادتین وثلاث کلمات فی الشهادة الثانیة, وسبع قطع فی الأولی, وستّ فی الثانیة, واثنی عشر حرفاً فی الأولی, واثنی عشر حرفا فی الثانیة.

وکذلک فی کلّ آیة أمکنهم استخراج ذلک ممّا لا یعمل العاقل فکرته فیه إلا ویعجز عن ذلک خوفاً من مقابلته بضدّه, و هذه المقابلات کانت طریقة أسلافهم،قد صنّفوا فیها کتباً ودعوا الناس إلی إمام فی کلّ زمان یعرف موازنات هذه العلوم, ویهتدی إلی مدارج هذه الأوضاع و الرسوم. (1)

انشقاق الحشّاشین

بعد دخول الحسن بن الصباح القمّی،و قد کان إمامی المذهب،إلی التشیع الباطنی الإسماعیلی،سافر إلی مصر مرکز الدعوة الإسماعیلیة وعاصمة خلافتهم.ولم یلبث أن ظهر الشقاق و النزاع فی الأسرة الحاکمة،وانشق الحسن بن الصباح عن الدعوة بعد أن صاغ نظریة معدّلة عن عقائد الباطنیة،ولجأ إلی العمل السرّی لنشر دعوته،وإلی الاغتیال لتصفیة خصومه.و قد اشتهرت جماعته باسم الحشّاشین لتناولهم الخشخاش وغیره من المواد المخدرة.

ص:264


1- (1) .المصدر.

وقال عنهم الشهرستانی:

ثمّ إنّ أصحاب الدعوة الجدیدة تنکّبوا هذه الطریقة حین أظهر الحسن بن محمّد بن الصباح دعوته, وقصر علی الإلزامات کلمته واستظهر بالرجال وتحصن بالقلاع،وکان بدء صعوده علی قلعة الموت فی شهر شعبان سنة ثلاث وثمانین وأربعمائة.وذلک بعد أن هاجر إلی بلاد إمامه،وتلقّی منه کیفیة الدعوی لأبناء زمانه،فعاد ودعا الناس أوّل دعوة إلی تعیین إمام صادق قائم فی کلّ زمان.

وتمییز الفرقة الناجیة عن سائر الفرق بهذه النکتة, وهی:أنّ لهم إماماً ولیس لغیرهم إمام. (1)

البحث الرابع و العشرون:إشارات حول الغلوّ وعلاقتها بالصراع السیاسی
العمل السرّی و الغلوّ

لیس هناک ارتباط علّی بین سرّیة أی دعوة وسقوطها فی الغلوّ و التطرّف, إلا أنّ اقتضاء السریة للکثیر من دواعی الغلوّ و التطرّف أمر ثابت لا غبار علیه،ویبقی المدار علی وجود المانع وعدمه.

من هنا لا بدّ من الحذر من تعمیم السببیة بین السرّیة و الغلوّ،وفی هذا البحث سوف نری من خلال بعض الأمثلة التاریخیة الهامّة،أنّ عامل السیاسویة جزء علّة قوی التأثیر دائماً.

تعریف الغلوّ ومظاهره الأولی

یستعمل لفظ الغلوّ للدلالة علی:عدد کبیر من مصادیق التطرّف العقائدی التی تجتمع تحت عنوان المبالغة الشدیدة فی شأن رجل،فتتراوح أنواع الغلوّ من نسبة

ص:265


1- (1) .المصدر.

النبوّة إلی شخص عادی،وإلی نسبة الربوبیة لأحد الأئمّة،مروراً بنسبة بعض صفات الألوهیة کالخلود.

والحقیقة أنّ هذا النوع الأخیر من الغلوّ هو أوّل مصادیقه ظهوراً فی تاریخ الإسلام.لکنّ أخطر أنواع الغلوّ وأشدّه تأثیراً فی الثقافة الإسلامیة هو نسبة الألوهیة و الخالقیة إلی أئمّة أهل البیت علیهم السلام رغم تغلیظهم فی الزجر عن ذلک.

فقد ادّعی کثیر من الغلاة تألیه الأئمّة،أو حلول الروح الإلهیة فیهم،فکان من ردّهم علی هذه الدعوی قول الإمام الصادق علیه السلام:

«لعن الله!من أزالنا عن العبودیة لله الذی خلقنا, وإلیه مآبنا ومعادنا وبیده نواصینا». (1)

و قد قال الإمام الصادق علیه السلام ردّا علی أحد الغلاة الذین نسبوا إلیه الخالقیة:«کذب علی،علیه لعنة الله!واللهِ،ما من خالق إلّا الله وحده لا شریک له،حقّ علی الله أن یذیقنا الموت،والذی لا یهلک هو الله،خالق وبارئ البریة». (2)

ظهور الغلوّ بین المسلمین

تُجمع کتب التاریخ علی أنّ أوّل من غلا فی الإسلام کان الصحابی عمر بن الخطّاب،کما مرّ فی التمهید.فقد ظهر هذا النوع الأخیر من الغلوّ مبکّراً جدّا،منذ ساعة وفاة النبی صلّی الله علیه و آله.وفی نفس تلک الظروف ظهر تکذیب بموت النبی انتهی بأصحابه إلی الردّة.وهم بنو عبد القیس (3)-قوم من الیمن-لمّا بلغهم نبأ وفاة النبی صلّی الله علیه و آله.

و قد کانت خصال أمیر المؤمنین علی علیه السلام فتنة لبعض الذی عجزوا عن تعقل تنزّه الإمام عن الدنیا وإعراضه عن طلبها،مع قدرته علی ذلک.فزلّت أقدامهم إلی المهلکة

ص:266


1- (1) .رجال الکشی:489/2،ح400.
2- (2) .المصدر:488/2،ح398.
3- (3) .تاریخ الطبری:302/3،قصّتهم مع سیدهم الجارود.

العظمی واعتقدوا ما اعتقده بعض النصاری فی نبی الله عیسی بن مریم علیه السلام.

فوجه الشبه کان عظیماً،ونفوسهم کانت مأنوسة بالتمثیل،وعقولهم معطّلة عن البرهان ومکبّلة بالأهواء و الأوهام.و هذا ما وقع لطوائف کانوا من الشیعة.

ثمّ غلوا،فقال بعضهم بألوهیة:علی بن أبی طالب و الأئمة علیهم السلام من بعده.ومنهم مَن قال:بنبوّته،وتناسخ الأرواح.

وقال طائفة منهم بألوهیة:أبی الخطّاب, محمّد بن أبی زینب مولی بنی أسد.وقالت طائفة بنبوّة:المغیرة بن سعید مولی بنی بجیلة،وبنبوّة أبی منصور العجلی،وبزیغ الحائک،وبیان بن سمعان التمیمی وغیرهم. (1)

أولی الفرق الغالیة

لقد ظهرت بعض الحرکات الغالیة فی أثناء الفتنة الکبری وما بعدها،فکان النصف الثانی من القرن الأوّل مسرحاً لظهور شتی الدعوات التی یصدق علیها عنوان.الغلوّ بشکل أو بآخر وأشهرها:السبئیة و الکیسانیة.

ویبقی علینا توضیح القول فی الأولی،ونلخصه فی هذه الأسطر،اقتباساً عن التحقیق الفرید الذی ترکه لنا المرحوم العلاّمة مرتضی العسکری. (2)

من الراجح أنّ وجود رجل دعا بدعوة الغلوّ فی الإمام علی علیه السلام،یقال له:عبد الله بن سبأ.حقّ،ولیس بباطل،و إن کان نسب هذا الرجل الذی یدّعی المؤرّخون أنّه یهودی قد أوحی للکثیرین بأساطیر تنسجم مع ما اعتاد به المسلمون من مؤامرات تحاک علی أیدی من دخل فی الإسلام ظاهریاً, ودون إیمان من الیهود أو النصاری.

و قد أشار الطبری إلی ابن سبأ باسم ابن السوداء. (3)

ص:267


1- (1) .الفصل فی الملل و الأهواء و النحل:114/2؛و قد فصل الشهرستانی الکلام فی بعضهم،کالبیانیة وهم أتباع بیان بن سمعان؛راجع:الملل و النحل:152/1.
2- (2) .عبد الله بن سبأ:171/2 و172.
3- (3) .راجع النصّ الوارد فی أسئلة بحوث التمهید.

فیعتقد بعض المعاصرین أنّ وجود ابن سبأ, وبعض ما ینسب إلیه علی نحو الإجمال قد ثبت عن الأئمّة من أولاد علی علیهم السلام بأسانید معتبرة،منها ما ورد عن الإمام محمّد الباقر علیه السلام:

«إنّ عبد الله بن سبأ کان یدّعی النبوّة،ویزعم أنّ أمیر المؤمنین علیه السلام هو الله...تعالی الله عن ذلک علوّا کبیراً.

فبلغ ذلک أمیر المؤمنین علیه السلام،فدعاه وسأله فأقرّ بذلک،وقال:نعم،أنت هو،و قد کان ألقی فی روعی أنّک أنت الله،وأنّی نبی...فقال له أمیر المؤمنین علیه السلام:ویلک!قد سخر منک الشیطان،فارجع عن هذا, ثکلتک أمّک!وتب!فأبی؛فحبسه واستتابه ثلاثة أیام, فلم یتُب،فأحرقه بالنار». (1)

لکن هذه الروایة تقبل المناقشة،فالإحراق بالنار لیس حدّاً معروفاً للکافر،ومن غیر المعقول أن یتجاوز الإمام حدّا من حدود الله،دون أن یتحوّل ذلک إلی تشنیع.

و قد ذهب المحقّق العسکری إلی إنکار أصل وجود ابن سبأ،مشکّکاً فی جمیع المصادر التی تحدّثت عنه.

والحقیقة أنّ أصل وجود هذا الرجل راجح إلّا أنّ الدور الخطیر الذی نسبه إلیه أشهر المؤرّخین مثل الطبری الذی یکنی عنه بابن السوداء،فی أحداث الفتنة،هو الذی یستعصی علی العقل قبوله:فهل یعقل أن یکون کلّ الصحابة سذّجاً حتّی یوقع الفتنة بینهم ابن سبأ؟

ولکن هذا الموضوع خارج عن مجالنا هذا،ویبقی من الثابت أنّ الظاهرة السبئیة هی التی فتحت الباب أمام أخطر أنواع الغلوّ،و هو نسبة الربوبیة إلی الأئمّة علیهم السلام.

الدعوات السریة وتطوّر الغلوّ فی القرن الثانی

نظراً لخطورة بعض حالات الغلوّ،علی تراث أهل البیت علیهم السلام،لا یمکن أن نمرّ علی هذه الظاهرة دون الإشارة إلی بعض فرقها،رغم انقراض أکثرها بموت أصحابها.

ص:268


1- (1) .رجال الکشی:174،170/1 و323.

والحقیقة أنّ هذه الظواهر کانت تقض مضاجع أئمّة أهل البیت علیهم السلام اللذین اشتهروا بلعن أصحابها.

وکانت تنتعش فی ظروف السرّیة و التخفی فی معظم الأحیان.والحقیقة أنّه لولا الأخبار التی وردت عن أئمّة أهل البیت علیهم السلام فی لعن الغلاة و التحذیر من انحرافاتهم،لاندرست آثار معظمهم وبادت من ذاکرة التاریخ.

المُغیریة

المُغیریة هم أصحاب المُغیرة بن سعید العجلی،الذی صحب الإمام الباقر علیه السلام،ثمّ أبعده الإمام؛لکونه کذّاباً مبتدعاً.و قد قال فیه الإمام الصادق علیه السلام:

«کان المغیرة بن سعید یتعمّد الکذب علی أبی،ویأخذ کتب أصحابه،وکان أصحابه المتسترون بأصحاب أبی یأخذون الکتب من أصحاب أبی فیدفعوها إلی المغیرة،فکان یدسّ فیها الکفر و الزندقة, ویسندها إلی أبی ثمّ یدفعها إلی أصحابه ویأمرهم أن یبثّوها فی الشیعة،فکلّ ما کان فی کتب أصحاب أبی من الغلوّ, فذالک ما دسّه المغیرة بن سعید فی کتبهم». (1)

الخطّابیة

الخطّابیة هم أصحاب أبی الخطّاب،محمّد بن أبی زینب الأجدع الأسدی.

و قد زعم أبو الخطّاب أنّ الأئمّة أنبیاء, ثمّ آلهة.وقال بإلهیة:جعفر بن محمّد, وإلهیة آبائه(رضی الله عنهم)وهم أبناء الله وأحباؤه.والإلهیة نور فی النبوّة،والنبوّة نور فی الإمامة, ولا یخلو العالم من هذه الآثار و الأنوار.

وزعم أنّ جعفراً علیه السلام هو الإله فی زمانه, ولیس هو المحسوس الذی یرونه, ولکن لما نزل إلی هذا العالم لبس تلک الصورة, فرآه الناس فیها.ولمّا وقف عیسی بن موسی

ص:269


1- (1) .رجال الکشی:489/2،ح401.

صاحب المنصور علی خبث دعوته،قتله بسبخة الکوفة وافترقت الخطابیة بعده فرقاً.... (1)ویروی عنهم أنهم أباحوا شهادة الزور. (2)

نقل المحدث النوری بسنده عن عمران بن علی،قال:سمعت أبا عبد الله علیه السلام یقول:«لعن الله أبا الخطاب،[ولعن الله من قتل معه]ولعن الله من بقی منهم،ولعن الله من دخل قلبه رحمة لهم». (3)

وتکمن أهمیة الخطابیة فی کثرة ما دسوه من أحادیث مکذوبة علی الإمام الصادق علیه السلام،و قد أنکرها الإمام علی بن موسی الرضا علیه السلام فی روایة مشهورة عن یونس بن عبد الرحمن،کما سیأتی.

السرّیة و السیاسویة و الغلوّ الزیدی

لعلّه قد یبدو غریباً أن ینسب الغلوّ إلی الزیدیة،فقد مرّ أنّ منهجهم الثوری قد فرض علیهم منهجاً توفیقیاً فی العقائد.ومن ناحیة نظریة فإنّ التوفیقیة تکون واقیة من الوقوع فی الغلوّ.لکنّ سعة مفهوم الغلوّ خرقت هذه القاعدة العامّة،وکان الطابع السرّی للعمل الثوری مقتضیاً لنوع من الانحراف السیاسوّی،لا شکّ فی اندراجه تحت عنوان الغلوّ.

وفی الأسطر الآتیة شواهد علی ما نقول.

أشهر غلاة الزیدیة

هم الجارودیة أتباع أبی الجارود زیاد بن المنذر،ولقبه سرحوب, لقّبه به الإمام الباقر علیه السلام.وفسّر ذلک بأنّ سرحوباً شیطان أعمی یسکن البحر،وکان أبو الجارود أعمی.

ص:270


1- (1) .الملل و النحل:179/1 و180.
2- (2) .المبسوط:278/7.
3- (3) .مستدرک الوسائل:318/12 و319.

وله تفسیر قرآن زعم نسبته إلی الإمام الباقر علیه السلام. (1)

و قد توفّی أبو الجارود سنة 118ه،أی:قبل ثورة إمامه زید الشهید.ولا یبدو أنّه قد کان لإمامه علیه تأثیر فی توجیه عقیدته.وتعتقد الجارودیة:بأنّ الحلال و الحرام هو ما عند أهل البیت علیهم السلام صغیرهم وکبیرهم. (2)

وستأتی الإشارة إلی أهمیة خلفیة الاعتقاد بالتسویة فی العلم عندهم.

ووجه الأهمیة فی الدعوة الجارودیة:أنّها تشکّل البعد العقائدی الأکثر انتشاراً بین أتباع الشهید زید الذی قتل،تارکاً أتباع أبی الجارود یملؤن الفراغ من بعده فی عرض الإمام الصادق علیه السلام.فاجتذبت الجارودیة کلّ الشیعة الثوریین وانتشرت دعوتهم فی المناطق الجبلیة الوعرة،من بلاد الإسلام کطبرستان و الیمن،بل إنّ الشیخ المفید یحصر زیدیة الیمن فیهم قائلا:ولیس بالیمن من فرق الزیدیة غیر الجارودیة،وهم بصنعاء وصعدة وما یلیها. (3)

والأهمّ من ذلک هو انتشار أحادیث الجارودیة فی کتب الشیعة.و قد قال ابن الغضائری فی ذلک:حدیثه-أی:أبی الجارود-فی أصحابنا أکثر منه فی الزیدیة. (4)

الجارودیة وتکفیر الشیخین

تقدّم أنّ من أهمّ ما میز دعوة زید الشهید،رفضه البراءة من الشیخین؛لاستصلاح أصحابه،والبراءة أخف منّ التفکیر بلا إشکال, مع هذا فقد نسب إلی الجارودیة تکفیر الشیخین, ولیس فقط البراءة منهما،و هذا-إن صحّ نسبته إلی جمیعهم-یدلّ علی ذهابهم فی الغلوّ أشواطاً أبعدتهم عن مقاصد دعوة زید الشهید،وحکمت علیهم بالانزواء فی أطراف البلاد.

ص:271


1- (1) .المسائل الجارودیة:17.
2- (2) .قاموس الرجال:248/11.
3- (3) .المسائل الجارودیة:12.
4- (4) .قاموس الرجال:248/11.

و قد قرّر الشهرستانی نزعتهم التکفیریة قائلاً:

زعموا أنّ النبی صلّی الله علیه و آله نصّ علی علی علیه السلام بالوصف دون التسمیة, و هو الإمام بعده و الناس قصروا, حیث لم یتعرّفوا الوصف, ولم یطلبوا الموصوف, و إنّما نصّبوا أبا بکر باختیارهم؛فکفروا بذلک.

و قد خالف أبو الجارود فی هذه المقالة إمامه زید بن علی, فإنّه لم یعتقد هذا الاعتقاد.... (1)

سبب القول بالتسویة فی العلم

یمکن تفسیر قول الجارودیة بالتسویة فی العلم بین أهل البیت علیهم السلام،بالخوف من اللوازم السیاسیة للقول بالتفاوت و التفاضل بینهم،حیث إنّ ذلک یصطدم مع تسلیمهم بعدم تعین الإمامة،بل کونها للمتلبس بالقیام و الثورة دون غیره.

فإنّما قالوا بهذا؛لأنّهم قد سلموا بأنّ الإمامة صارت فی آل البیت علیهم السلام فهم فیها سواء،و إنّما تجب الطاعة لمن أظهر نفسه, وقام بالسیف،فإذا لم یقولوا بأنّهم فی العلم سواء فسوف یرفعون درجة بعض منهم علی البعض الآخر،فتکون الإمامة فی أعلاهم منزلة فینتقض قولهم الأوّل أنّ الإمامة فیهم جمعاً علی السواء.

قد یقال هنا أن التوجیه المذکور لسبب التسویة بین أهل البیت علیهم السلام فی العلم غیر تام،لأن اللازم المشار إلیه غیر لازم.فمقولة جواز تقدّیم المفضول علی الفاضل التی اقتبستها الزیدیة من أهل الاعتزال کفیلة برد الملازمة.والحقیقة أن هذه المسألة تحتاج إلی تحقیق تاریخی حول السبق الزمنی لأی من النظریتین التسویة أو تقدیم المفضول،والراجح عندنا من مطالعة ما توفر من المصادر هو سبق الدعوة الجارودیه،بأکثر من عقد من الزمن،علی تبلور مقولات أهل الاعتزال.ومن هنا جاز التوجیه المتقدّم.

ص:272


1- (1) .الملل و النحل:157/1 و158.
البحث الخامس و العشرون:الاستفادة السلطویة من ظاهرة الغلوّ
اشارة

تحصّل من جمیع ما تقدّم:أنّ وقوع حرکة الانشعاب والانشقاق العقائدی التی ولّدت الفرق الإسلامیة فی منطقة التقاطع بین حرکتی التاریخ السیاسی وتکامل البحث العقائدی،جعل کلّ عقیدة متطرّفة معرّضة للتحوّل إلی أداة سلطویة؛أمّا معارضة, أو حاکمة.

وما یصدق عن التطرّف-بوجه عامّ-صادق علی الغلوّ من باب أولی وأحری.

وفی خاتمة هذا الباب إشارات وشواهد علی هذه الحقیقة.

1-الغلوّ و الباطنیة السلطویة
اشارة

إنّ لقب الباطنیة،و إن اشتهرت به الإسماعیلیة أکثر من غیرها،لقب جامع لکلّ الفرق التی عمدت إلی مخالفة ظواهر الکتاب العزیز وابتداع معانی باطنیة تحت شعار التأویل.

والحقیقة أنّ هذا العنوان المشترک لا ینفکّ عن معظم أنواع الغلوّ؛لأن المغالی یلجأ إلی التأویل الباطنی،أو إلی التطبیق المنافی للعرف اللغوی العامّ.

أمّا الآراء التأویلیة؛فعمدتهم فیها أهواؤهم الفاسدة وأذواقهم المنحرفة،فکلّ طائفة تنتزع من الباطن ما یلائم معتقداتها وینصر مقولاتها.و قد یکون الاستظهار الشاذ أحد مصادیق التأویل الباطنی.

فهذا بیان بن سمعان مثلاً یکتشف اسمه فی قوله تعالی: هذا بَیانٌ لِلنّاسِ ... .

ولا شکّ أنّ مثل هذا التأویل للقرآن الکریم لا یمکن أن ینتج عن سذاجة صاحبه،بل هو ینمّ عن خبث طویة وعن طموح سیاسی تجاوز حدّ السیاسویة المتعارفة،لیصل إلی حدّ الانتهازیة السلطویة التی یعبّر عنها فی عصرنا بالماکیافیلیة.

هکذا نجد أنّ قسماً کبیراً من الغلوّ تحرّکه دوافع سلطویة،و قد أشرنا إلی ما وقعت فیه بعض الزیدیة،وهی لیست من الباطنیة المتعارفة،والأخطر من ذلک اقتران التأویل

ص:273

والغلوّ بسریة العقیدة وإدعاء حیازة الباطن و الحقیقة دون بقیة المسلمین.

فمثل هذا الادعاء یفتح المجال أمام شتی أنواع التوظیف السلطوی للغلوّ.

وأفضل نموذج لهذه الظاهرة الدعوة الإسماعیلیة وما انّشق عنها من الفرق الغالیة وأشهرها القرامطة.

الإسماعیلیة وتطوّر العقیدة الباطنیة

تقدّم أنّه من ناحیة تاریخیة،قد غلب لقب الباطنیة علی الإسماعیلیة الذین قالوا بإمامة إسماعیل بن جعفر الصادق علیه السلام؟لأنّهم اعتمدوا فی التعامل مع النصوص أصلاً عندهم, یقول:لکلّ ظاهر باطن،ولکلّ تنزیل تأویل فهم یتّبعون الباطن و التأویل،و هو عندهم السرّ الذی لا یدرکه إلّا الإمام و المرشد الکامل عندهم.

و قد اتّضحت أوجه الاستفادة السلطویة من هذا الغلوّ فی مرحلتی الدعوة السرّیة وبناء الدولة.

غلوّ القرامطة وملامح الانشقاق الدینی

تعتبر حرکة القرامطة من أخطر الانحرافات التی عرفتها الدعوات الباطنیة الغالیة فی التاریخ الإسلامی،لا فقط من حیث عقائدها،بل من حیث نجاحها فی تأسیس دولة استمرّت قرابة قرنین وترکت آثاراً لا تمحی فی ذاکرة المسلمین،ورغم اشتهار نسبة القرامطة إلی التشیع الباطنی،فإنّ التحقیق یثبت أنّهم أسّسوا دیناً جدیداً لیکون دیناً رسمیاً لدولتهم،ولیس من الإنصاف إلحاقهم بأی مذهب من المذاهب المعروفة.

و قد اخترنا للتعریف بهذه الظاهرة نصّاً مختصراً عن ابن خلدون المعروف بعدائه الصریح للباطنیة عموماً.

ونقدّم لهذا النصّ بالإشارة إلی أنّ القرامطة کانوا قد ظهروا فی بدایة عهدهم

ص:274

کحرکة منشقّة عن الإسماعیلیة،و هذا ما یؤکّده الکاتب الإسماعیلی المعاصر مصطفی غالب،الذی تنکّب أصعب الطرق حینما حاول الدفاع عنهم بدلاً عن البراءة منهم. (1)

یقول ابن خلدون:

کان ابتداء أمر القرامطة-فیما زعموا-أنّ رجلاً ظهر بسواد الکوفة سنة ثمان وسبعین ومائتین،یتّسم بالزهد،وکان یدعی قرمط،وزعم أنّه داعیة لأهل البیت علیهم السلام للمنتظر منهم, فقبض علیه الهیصم عامل الکوفة وحبسه،ففرّ من حبسه.وزعم أنّ الإغلاق لا یمنعه،ثمّ زعم أنّه الذی بشر به أحمد بن محمّد بن الحنفیة،وجاء بکتاب تناقله القرامطة فیه بعد-البسملة-یقول الفرح بن عثمان من قریة نصرانة:إنّه داعیة المسیح, و هو عیسی, و هو الکلمة, و هو المهدی, و هو أحمد بن محمّد بن الحنفیة, و هو جبریل...

وعرف أنّ الصلاة أربع رکعات قبل طلوع الشمس, ورکعتان قبل غروبها, و أنّ الأذان بالتکبیر فی افتتاحه, وشهادة التوحید مرتین, ثمّ شهادة بالرسالة لآدم, ثمّ نوح, ثمّ إبراهیم, ثمّ عیسی, ثمّ محمّد صلوات الله علیهم،ثمّ لأحمد بن محمّدبن الحنفیة.

والقبلة بیت المقدس،والجمعة یوم الاثنین،ولا یعمل فیه شیء...

والصوم مشروع یوم المهرجان و النیروز.والنبیذ حرام،والخمر حلال،والغسل من الجنابة کالوضوء،ولا یؤکل ذو ناب, ولا ذو مخالب.ومن خالفهم وحارب وجب قتله،و إن لم یحارب أخذت منه الجزیة, انتهی.

إلی غیر ذلک من دعاوی شنیعة متعارضة یهدم بعضها بعضاً،وتشهد علیهم بالکذب،و هذا الفرح بن یحیی الذی ذکّر هذا أوّل الکتاب إنّه داعیة القرامطة یلقّب عندهم, ب:ذکرویهِ بن مهرویه.

ویقال:إنّ ظهور هذا الرجل کان قبل مقتل صاحب الزنج،وإنّه سار إلیه علی الأمان, وقال له:إنّ ورائی مائة سیف،فتعال نتناظر فلعلنا نتّفق ونتعاون.

ص:275


1- (1) .القرامطة الذی حاول فیه تحسین صورتهم, ونفی الغلوّ عنهم.

ثمّ تناظرا فاختلفا وانصرف قرمط عنه, وکان یسّمی نفسه:القائم بالحقّ.

وزعم بعض الناس أنّه کان یری رأی الأزارقة من الخوارج. (1)

إذا صحّ ما نسبه ابن خلدون إلی القرامطة من عقائد وشرائع،فلا شکّ فی أننا أمام ظاهرة انشقاق دینی, لا انشعاب مذهبی.

ویؤید دعوی الانشقاق الدینی وخروج القرامطة من الإسلام،تجاوزهم لجمیع الخطوط الحمراء التی یتوقف أمامها الغلاة عادة،وهی المساس بما یجمع علیه المسلمون أنّه مقدّس:ففی إحدی حملاتهم علی مکّة المکرمة،أخذوا الحجر الأسود وحملوه معهم إلی عاصمتهم هجر، (2)ولم یعیدوه إلی مکّة إلا إثر إصرار الخلیفة الفاطمی،المعزّ لدین الله.

فلولا استهتارهم بالمقدّسات الإسلامیة،لما جرؤوا علی هذا الصنیع الذی تفوّق دلالته وکاشفیته دلالة تکفیر المسلمین وقتلهم.

هذه العقائد و الأفعال لیست مجرّد انحرافات فکریة عند بعض الأفراد.

فهی قد شکّلت مجموعة متماسکة من القیم الثقافیة والاجتماعیة،مکنت زعماء القرامطة من تأسیس دولة فی شرقی الجزیرة العربیة،استطاعت تهدید الخلافة العباسیة مدت أکثر من قرنین.

ورغم نقمة الفاطمیین علی القرامطة،فلم یتعرّضوا لدولتهم بشکل جدّی،ولعلّ ذلک؛لأنّهم کانوا ألدّ أعداء الدولة العباسیة،وبالتالی فهم حلفاء موضوعیون للفاطمیین.

وبهذا أمکن لخلافة القاهرة توظیفهم سیاسیاً واستراتیجیاً ضدّ خلافة بغداد مدة قرنین من الزمن.

ولیست ظاهرة القرامطة حالة فریدة من الانشقاق الدینی الکامل،فقد توالت فی التاریخ الإسلامی ظواهر الانشقاق عن الدین الإسلامی،وظهور الأدیان المرکبة

ص:276


1- (1) .العبر ودیوان المبتدأ و الخبر:235/3 و236.
2- (2) .یعترف بذلک حتّی المدافعون عنهم, مثل:مصطفی غالب.

الجدیدة فی شتّی أصقاع العالم،وامتد انتشار بعض هذه الأدیان کلّما وجدت جهة سیاسیة تستفید من هذا الانتشار،مثل:الدیانة السیخیة فی الهند،والبهائیة فی إیران.

وأکثر هؤلاء لا یدّعون الیوم أنّهم مسلمون،وهم خارجون عن محل کلامنا.

2-الاستبداد ومحاربة الغلوّ

قد تتحوّل جمیع مظاهر التطرّف،والغلوّ بشکل خاصّ،إلی سلاح سیاسی یدعم شرعیة أی سلطة استبدادیة فی المجتمع الإسلامی.وتزداد دوافع التوظیف السیاسی للغلوّ عندما یتّصف بکونه خطراً خارجیاً،أو خطراً علی المسلّمات العقائدیة للناس.

ففی مثل هذه الظروف الدعائیة التی تصل أحیاناً إلی درجة الحرب النفسیة،تتمّ تصفیة کلّ الدعوات المعارضة واجتثاث جذورها،و إن لم تعترف بالغلوّ...

وفی تاریخنا الإسلامی نماذج معبّرة من هذا التوظیف الاستبدادی السلطوی لظاهرة الغلوّ،وأشهرها وأقدمها اتّهام جمیع الشیعة بأنّهم یعتقدون ببعض ما یعتقد به الغلاة من شناعات.

والحقیقة أنّ مثل هذه الاتهامات لم یسلم منها حتّی مؤسّسو بعض المذاهب الفقهیة الکبری المعروفة،فقد تعرّضوا للتنکیل و التعذیب و القتل بسبب عدم استعدادهم لإضفاء الشرعیة علی الدولة العباسیة،فاتّهموا بشتی الاتهامات،وأخطرها اشتهار نسبتهم إلی مذاهب بعض الغلاة.

وأبرز نموذج من هذا التوظیف السلطوی الاستبدادی للغلوّ هو اتّهام أبی حنیفة النعمان بن ثابت مؤسّس المذهب الفقهی المعروف باسمه،بأنّه من الغلاة الجارودیة.و هو ما سوف یتوضّح فی الباب اللاحق.

ص:277

أسئلة للمراجعة و التعمّق

أسئلة المبحث الأوّل:

1.حسب رأیک لماذا أمکن القول بأنّ ثورة الإمام الحسین علیه السلام تنتسب إلی التشیع الولائی, مع کونها ضمّت زهیر بن القین الذی کان معروفاً بانتمائه العثمانی؟وضحت(وهب)النصرانی.

2.حلّل وناقش:کان للحرکات الزیدیة دور کبیر فی تمییز التشیع الولائی عن التشیع السیاسی،ومنع الالتباس بینهما.

3.هل یمکن أن تجتمع السیاسویة مع الرسالیة،والسلطویة،مع الرسالیة و السلطویة مع السیاسویة؟کیف ذلک؟

4.إلی أی حدّ نجحت الطائفیة فی احتواء التشیع السیاسی؟

5.ما هی ملامح الغلوّ فی عقائد الإسماعیلیة؟

6.حلّل وناقش:نجحت الحرکة الإسماعیلیة فی احتواء معظم الحائمین حول المحور الولائی الذین لم یسلّموا بالغیبة.

أسئلة المبحث الثانی:

1.بالرجوع إلی تعریف الغلوّ،عین نسبته إلی التطرّف،ونسبة فکر الخوارج إلی کلیهما.

2.بالرجوع إلی تعریف الغلوّ،أوضح مظاهر الغلوّ فی عقائد الفرق الآتیة:المغیریة،الخطّابیة،الإسماعیلیة،الباطنیة.

3.هل یمکن لأی دعوة سرّیة أن تعصم نفسها من الغلوّ؟کیف؟

4.ما هی خصوصیة الغلوّ المنسوب إلی الزیدیة،وهل من الإنصاف نسبة الغلوّ إلی کلّ الزیدیة؟

5.حلّل وناقش:الاستفادة من الغلوّ وتوظیفه سیاسیاً سلاح ذو حدّین کثیراً ما ینقلب علی صاحبه.

ص:278

6.حلّل وناقش:مذهب القرامطة نموذج من الترکیب العقائدی و التشریعی،أفرزه الفراغ الثقافی الذی أحدثته هیمنة أهل الحدیث علی الساحة الفکریة فی القرن الثالث.

7.حلّل وناقش:لا شکّ فی أنّ أبا حنیفة النعمان کان شیعی المذهب, لکن استقلاله بالاجتهاد وانتسابه القدیم إلی الجارودیة مکّن الاستبداد العبّاسی منه،فأمکن التنکیل به دون إثارة ردود أفعال أو قلاقل،تتناسب مع مکانته العلمیة.

ص:279

ص:280

الباب الثالث:المذاهب الفقهیة الکبری فی إطارها الکلامی

الفصل الأوّل:أُصول الفقاهة عند أهمّ المحاور المرجعیة

اشارة

ص:281

ص:282

أوّلاً:التأسیس الکلامی لأُصول الاستنباط

البحث السادس و العشرون:حول حجیة الکتاب و السنّة
اشارة

تقدّم فی التمهید،أنّ عصر الصحابة و التابعین قد شهد بروز عدّة محاور مرجعیة،شکّل افتراقها وتباعدها التدریجی غطاء ثقافیاً لمختلف الانشقاقات والانشعابات العقائدیة, لکن هذا التعدّد فی الأقطاب المرجعیة لم یحُل دون تحقق بعض العملیات التجمیعیة التی کانت تلقائیة فی معظمها.

هکذا،لم یتخطَّ المجتمع الإسلامی المائة سنّة الأولی،وبالتحدید زمن خلافة عمر بن عبد العزیز،قبل أن یتشکّل تکتّل مرجعی جمع بعض أفراد محور المهاجرین و الأنصار،وبعض أفراد المحور العشائری الأموی،وبعض المحاور الشخصیة قصیرة العمر،مثل:المحور الزبیری،و قد اشترک المجتمعون فی هذا التکتّل فی الاختیار المرجعی العامّ المسمی:الاختیار الصحابی العمومی.وبقید العمومی تخرج جمیع المرجعیات الصحابیة الخاصّة التی تولّدت معها بعض الفرق الصغیرة, وکذلک یخرج المحور الصحابی العلوی, و هو محور الولاء للأمام علی بن أبی طالب علیه السلام،ولورثة علمه من بعده.

ص:283

1-الاختیار الصحابی العمومی وتعقیداته الأصولیة
اشارة

منذ تشکّل المرجعیة الصحابیة العمومیة،أصبح عنوان الجمهور ملازماً للاختیار الصحابی العمومی،رغم غیاب أی إحصاء من شأنه أن یبرّر اختصاص أصحاب هذا الاختیار بعنوان الجمهور الذی یرادف الأکثریة فی اصطلاح القدماء.

وعلی أیة حال فلا شکّ فی أنّ المحور الصحابی العمومی کان أوسع المرجعیات انتشاراً،و إن منعته کثرة المحاور المنافسة من إحراز أکثریة مطلقة علی الأغلب.

و قد کان لمحاولات الاندساس من قبل المحور العشائری الأموی, ثمّ العبّاسی،فی هذا الاختیار الصحابی العمومی،دور تعیینی فی إضفاء صفة الشرعیة السلطویة علیه،رغم التناقض الصریح بین التوجهین.

ولکن دهاء السیاسیین السلطویین منعهم من تفجیر التناقض،فتکتموا علیه حتی لا تنکشف عورات النظام.وکان جزاء کلّ من سکت عن هذا التدلیس إدراجه تحت عناوین سیاسیة وفاقیة،مثل أهل الجماعة،فی العهد الأموی، (1)وأهل السنّة و الجماعة،بدایة من منتصف القرن الثالث،کما قد عرفنا.

أما جزاء من رفض السکوت عن هذا التدلیس الخطیر،فکان التشویه و الإقصاء،تحت عناوین متنوعة،ابتداء من الخوارج،وانتهاء بالغلو،والرفض،والباطنیة.

ورغم التجاذب بین أهل الحدیث و الأشاعرة حول تمثیل استمراریة الاختیار الصحابی العمومی،بعد اختفاء المحور الجامع للسنة و العترة،فإنّه قلما أمکن لأحد هذین التیارین الانفراد بتمثیل الائتلاف العقائدی و الفقهی المعروف باسم أهل السنّة و الجماعة.

فقد مرّت فترة هیمن فیها الأشاعرة لم تستمّر أکثر من قرنین،وانتهت مع الحروب الصلیبیة،والغزو المغولی.ثمّ تلتها فترة هیمن فیها أهل التصوّف علی الساحة الفکریة،

ص:284


1- (1) .بدأ استعمال هذه التسمیة منذعام الجماعة"،الذی شهد صلح الحسن علیه السلام(41ه).

ولم ینازعهم فیها إلّا التیار السلفی لأهل الحدیث بزعامة ابن تیمیة وتلامیذه وأتباعه،وأشهرهم ابن قیم الجوزیة.ثمّ دخل هذا الائتلاف مرحلة من الجمود انتهت بالأمّة إلی قرونها الوسطی التی استمرّت أربعة قرون،إلی أن ظهرت بوادر إحیاء سلفی،تمیز بالتطرّف و النزعة التکفیریة و الأسلوب الدموی فی فرض الدعوة،وعرف هذا التیار باسم الوهابیة،نسبة إلی مؤسسه الشیخ محمد بن عبد الوهاب.

واستهدفت الوهابیة،الصوفیة،والأشاعرة،وجمیع أهل العقائد المعتدلة،ولکنّها لم تفلح فی الاستئثار بزعامة ائتلاف أهل السنّة و الجماعة؛بل بقیت علی هامشه معظم الأوقات.

لکن السمة الدائمة التی لازمت جمیع الظواهر التی تداولت علی الاستئثار بعنوان أهل السنّة و الجماعة،هی التسلیم بالاختیار الصحابی العمومی الذی کان من الإنصاف أن تتلقب به حصراً؛إذ أنّه من الواضح أنّ هذه التیارات غیر قادرة لوحدها علی حفظ جماعة المسلمین, أو حفظ السنّة النبویة الشریفة،و قد عرفنا کیف أن اجتماع القوی الفاعلة فی بدایة القرن الثانی علی تشکیل محور جامع للسنة و العترة،استفاد من أجواء ضعف السلطة،قد حلّ هذه المشکلة مؤقتاً.

علاوةً علی هذا،فإنّ صدق انطباق عنوان أهل السنّة و الجماعة،بما هو العنوان الجامع للائتلاف العقائدی الفقهی الموالی لسلطة الخلافة العباسیة،فی مقابل الانشقاق الإسماعیلی و الخلافة الفاطمیة ودولة القرامطة،علی بعض المدارس الفکریة و الفقهیة الهامّة التی یزعم اندراجها تحت هذا العنوان،أمر مشکوک للغایة؛بل سوف نری أنّ التحقیق قد یؤدی إلی خلافه أحیاناً.ومن أشهر موارد هذا الانتقاض بطلان نسبة کلّ من أبی حنیفة, ومالک،والشافعی(رضی الله عنهم)إلی العنوان السیاسی المزیف المعروف بأهل السنّة و الجماعة،مع تأکّد انتسابهم إلی محور السنة و الجماعة الحقیقی،و هو المحور التابعی الثانی الذی مرّ الکلام عنه.

ص:285

من هنا تتعین التسمیة التی اخترناها لتمییز هذا الائتلاف غیر المتجانس عن المحاور المرجعیة الأُخری،وهی عنوان:الاختیار الصحابی العمومی.الذی لا یتناقض مع الانتساب إلی المحور الجامع للسنة و العترة.

أهمّ مشکلات الاختیار الصحابی العمومی

کان هذا الاختیار حاملاً لعدّة تعقیدات أصولیة:فمن الصعب توجیه الاختلافات الشدیدة بین الصحابة أنفسهم،وهی التی وصلت إلی حدّ النزاع الصریح حول دلالات بعض آیات القرآن الکریم.وممّا زاد فی تعقید الأمر،أنّ هذه الخلافات قد انتقلت من الآباء إلی الأبناء،ومن الصحابة إلی التابعین،ولم یسلم من هذه الطامّة العظمی إلّا القلیل. (1)

وفی النصف الثانی من القرن الأوّل،ظهر جیل من المحدّثین من أهل الحفظ و الدرایة؛ولکنّهم لم ینعموا بالحرّیة السیاسیة التی تخولهم أخذ العلم من أعداء السلطة الأمویة،أو ترویجه عنهم وباسمهم.

هکذا،برزت ظاهرة إرسال الحدیث من قبل کبار الحفّاظ،لا لنسیان فیهم, بل خوفاً من السلطات الأمویة التی کانت تنکّل بکلّ من لم یکن یلعن الإمام علیاً علیه السلام فکیف بمن یروی عنه أو یحی سنته؟

وحیث أنّ الإمام علی علیه السلام طیلة فترة الخلفاء السابقین له،کان أهمّ رواة الحدیث النبوی علی الإطلاق وأوسعهم تأثیراً فی الساحة الثقافیة عموماً،فلنا أن نتساءل عمّا بقی بأیدی التابعین من أحادیث،بإمکانهم أن یؤسّسوا علیها فقههم.

فکان أمامهم خیاران, لا ثالث لهما:إمّا إرسال الأحادیث،و إمّا تعویض الروایة الحرفیة بحکایة السنّة العملیة الشائعة.

ص:286


1- (1) .فی تفصیل جمیع ظروف تطوّر الفقاهة عند جیل الصحابة وجیل التابعین؛راجع:أطوار الاجتهاد ومناهجه،المجلّد الأوّل.

ومن هنا،برزت ظاهرة الاختلاف فی السنن العملیة،وسیر الجیلین الأوّل و الثانی علی ألسن التابعین؛ممّا ولّد مبانی فقهیة مختلفة بین أهمّ مراکز تواجد الفقهاء, وهی العراق،والمدینة, ثمّ مکّة.

المحصّلة

یتحصّل ممّا تقدّم:أنّ أولی التصدعات السیاسیة فی الأمّة الإسلامیة،قد کرّست قطیعة بین مختلف الفرق المنشعبة عنها حول مواضیع عقائدیة واختیارات أُصولیة أساسیة.و قد کان الموقف من الکتاب و السنّة:إثبات لحجیتهما معاً،أو إثبات حجیة أحدهما دون الآخر،أو فی رسم حدود هذه الحجیة،من أهمّ مواطن الاختلاف؛بل إنّ الموقف من هذه المسائل کثیراً ما کان یشکّل الغطاء النظری للاختیارات العقائدیة بشتّی أنواعها.

ورغم أنّ جمیع الفرق الإسلامیة تدّعی،ردّ جمیع أُصولها العقائدیة وفروعها الفقهیة إلی کتاب الله, فإنّ طریقة التعامل مع القرآن الکریم،کانت دائماً محلّ نزاع بین المرجعیات الثقافیة المختلفة.

وفی بحوث هذا الباب،نرید توضیح الأصل الأوّل لهذه الاختلافات،والخطوط التی تفرّعت عنه،کمقدّمة طبیعیة لوضع الاختلافات الفقاهیة فی إطارها الأصولی؛ومن ثمّ،تحدید ملامح إطارها الکلامی العامّ.

2-حجیة الکتاب ودور المفسّرین الأوائل
اشارة

لا یجاهر أحد،من الفقهاء المعروفین،برفض حجیة الکتاب بالجملة،و إنّما هناک کلام کثیر وجدل مستفیض فی مسائل جزئیة کحجیة الظاهر وصغریات حجیة النصّ.و قد ذهب بعض مؤرّخی الفکر الإسلامی إلی اعتبار جمیع الأُصول التی اعتمدها الجیل الأوّل من الفقهاء بعد الصحابة،عائدة إلی أصل واحد هو کتاب الله. (1)

ص:287


1- (1) .هو عبد الکریم الشهرستانی،الملل و النحل:198-199.
حول انفراد الکتاب بالحجیة

لا شکّ أنّ الکتاب کان-وما یزال-الأصل الأوّل فی التشریع،و قد تطرّف بعض الصحابة الأوائل،کما تقدّم فی التمهید،فی تخصیصه بالحجیة مطلقاً.والذی یفرض نفسه هنا هو:سؤال عن معنی محوریة أصل الکتاب،مع ما هو معروف عن الصحابة أنفسهم من اختلاف فی تفسیره،بل حتّی فی قراءاته.

من اختلاف القراءات إلی تعدّد التفاسیر

ذکرت بعض المصادر التاریخیة علی أنّ عملیة جمع القرآن وتدوینه وکتابة نسخه التی وصلت إلینا،لم تتمّ إلا فی عهد الخلیفة الثالث،و إن کانت قد بدأت بشکّل جدّی منذ عهد الخلیفة الثانی.

وخلال عملیة الجمع هذه اعترضت المسلمین مشکلة معقّدة،کادت تشقّ صفوفهم:إنّها تعدّد النسخ،مع بعض الاختلاف بینها.و قد کانت الاختلافات بین النسخ المدوّنة لبعض الآیات تتراوح من اختلافات یسیرة،قد یقال:إنّها ناتجة عن تصحیف إملائی، (1)کالاختلاف بین, مالِکِ یَوْمِ الدِّینِ و مَلِکِ یوْمِ الدِّینِ ،إلی اختلافات أکثر عمقاً تمسّ مبدأ سلامة القرآن الکریم من الزیادة و النقصان.

و قد بلغت الاختلافات فی عهد عثمان أوجهاً عندما أراد توحید المصاحف کلّها،ومنع تداول النسخ التی لا تطابق النسخة المتّفق علیها.فاتّفق أنّ عبد الله بن مسعود،و هو من أجلّة الصحابة،و قد کان من القرّاء المفضّلین عند رسول الله صلّی الله علیه و آله،کان عنده نسخة من القرآن الکریم تتضمّن زیادات صغیرة علی النسخة القیاسیة المعتمدة.ورغم صغر حجم هذه الزیادات،إلّا أنّ بعضها کان له دلالة

ص:288


1- (1) .یدرس فی محلّه من علم القراءات،أنّ هناک تفاسیر أُخری لهذه الاختلافات،ولیس هنا محلّ الکلام فیها.

خطیرة من حیث قدحها المباشر فی بعض اجتهادات الخلیفة الثانی. (1)

فکان إصرار عبد الله بن مسعود علی الاحتفاظ بمصحفه،وإصرار الخلیفة عثمان علی حرمانه منه،من أشهر الخلافات فی زمانه.

علاوةً علی هذا, فرغم ما تقدّمت الإشارة إلیه من منع تدوین الحدیث،فقد راج الاعتماد علی الأحادیث النبویة فی تفسیر آیات القرآن الکریم؛فکان تفاوت المحدّثین فی علمهم وضبطهم و أمانتهم،سبباً إضافیاً فی تفاوت التفاسیر الأولی لآیات الذکر الحکیم.

فوجدت الحواشی الأساطیریة المعروفة بالإسرائیلیات جنباً إلی جنب مع التفاسیر الأمینة التی کان ینقلها أتباع المحور الولائی عن أهمّ منبع تفسیری علی الإطلاق،و هو الإمام علی علیه السلام،وتلمیذه الأبرز ابن عباس(رضی الله عنه).

وبعد استشهاد الإمام علی علیه السلام ومحاصرة سبطی رسول الله الحسن و الحسین صلّی الله علیه و آله،انفرد عبد الله بن عبّاس حبر الأمّة،باعتلاء منصّة التفسیر دون منازع, فأصبح ما تناقله عنه تلامیذه،ثمّ دوّن لاحقاً تحت اسم تفسیر ابن عبّاس،أوّل تفسیر معروف للقرآن الکریم.

مع کلّ ما تقدّم،لم یکن تفسیر القرآن الکریم کافیاً لحل جمیع المشکلات المطروحة آنذاک.وبقی المتشبثون بالاختیار الصحابی العمومی محرومین من أهمّ مصدر تشریعی بعد القرآن الکریم, و هو:السنّة النبویة الصحیحة المکتوبة.

3-حجیة السنّة بعد منع تدوین الحدیث

أمام منع تدوین الحدیث،انقسم المسلمون إلی فریقین:

الأوّل:متعبّد بتحریم الخلیفتین الأوّل و الثانی،الذین قبلا أن یقتصر تداول الحدیث الشریف علی النقل الشفوی.

ص:289


1- (1) .جاء فی العدید من التفاسیر،وآخرها تفسیر مخلوف فی تفسیر سورة النساء،فی قوله تعالی: و ما استمتعتم به من النساء أنّها جاءت فی مصحف ابن مسعود و ما استمتعتم به من النساء إلی أجل مسمی .

الثانی:متجاهل لأمر الخلیفة, و قد انکبّ علی تدوین وکتابة جمیع ما تصل إلیه یده من الحدیث الشریف نقلاً عن أهمّ مصدر, و هو الإمام علی علیه السلام،کما سنوضّحه لاحقاً.

من الطبیعی أن یکون أتباع الاختیاری الصحابی العمومی،من القسم الأوّل, و إن لم یکن مستبعداً أن یحاول بعضهم الاستفادة من التراث النبوی المکتوب خِفیةً.

و هذا ما ظهر فیما بعد عندما انتقلت الروایة إلی جیل التابعین, فکان بعضهم مزوّداً بأحادیث طویلة،لا یمکن أن تکون عن حفظ ودون تدوین،تطابق ما تناقلته أیادی أنصار المحور الولائی.

ومهما یکن من أمر،فإنّ حرکة التدوین قد تأخّرت بما فیه الکفایة لیعمّ الاختلاف بین فقهاء المدینة،حتّی فیما کان من المفروض أن یتناقله آلاف الرواة عن المئات من شهود العیان،ونکتفی هنا بذکر مورد واحد من موارد الاختلاف فی الروایة عن النبی صلّی الله علیه و آله،فی موضوع عبادی من المفروض أن لا یختلف علیه اثنان, و هو الوضوء أو الصلاة.

فهل یعقل أن یکون هناک أشکال وصور مختلفة لوضوء النبی أو لصلاته؟

مع هذا فقد تناقلت أیادی التدوین المتأخّر للحدیث روایات متضاربة فی ذلک. (1)

کلّ هذا یبرهن علی أنّ المشکلة التی واجهت فقهاء الاختیار الصحابی العمومی لم تکن کبرویة،أی:التشکیک فی حجیة السنّة النبویة،بل صغرویة أی:فی إثبات صدور ما یزعم أنّه أحادیث نبویة عن الرسول صلّی الله علیه و آله.و قد لجأ أشهر فقهاء القرن الثانی إلی حلول فنیة مبتکرة لهذه المشکلة،وسوف نعود إلیها فی محلّها لاحقاً.

ص:290


1- (1) .راجع فی خصوص هذه المسألة المهمة:وضوء النبی.
البحث السابع و العشرون:بین الاختیار العمومی و المحور الولائی
اشارة

أمام الفراغ الذی ترکه منع تدوین الحدیث،لجأ فقهاء التابعین إلی ما اعتقدوا أنّه بإمکانه سدّ حاجتهم التشریعیة.فقد کان من الواضح أنّ آیات الأحکام،التی اختلف فی عددها ودلالتها،أیما اختلاف، (1)لم تکن کافیة لسدّ جمیع الحاجات التشریعیة.فالقرآن الکریم لم یبین تفاصیل الفروع،لا کیفیة الصلاة, ولا حتّی عددها مبین فی القرآن.

فکانت الحاجة ماسّة إلی معرفة التفاصیل التشریعیة من المصدر الثانی،و هو فعل النبی وقوله وتقریره علیه الصلاة و السلام, وهی التی تشکّل عناصر السنّة النبویة.

هنا ظهرت أهمیة المرجعیة التشریعیة, فهل یستوی من اعتقد بمرجعیة عموم الصحابة،دون تمییز،مع من قال باقتصار المرجعیة علی المعصوم الذی هو مخول دون غیره،فی حفظ الشریعة بعد النبی صلّی الله علیه و آله؟

من الطبیعی أن تکون المشکلة أشدّ تعقیداً عند أتباع الاختیار الصحابی العمومی،فهی عندهم کبرویة وصغرویة معاً،أمّا عند المحور الولائی, فهی صغرویة فقط.

1-حجیة قول الصحابی وعمله ومشکلاتهما
اشارة

إنّ تأسیس مبدأ حجیة قول الصحابی،من المسائل الکلامیة الأشدّ خطورة فی تاریخ الفکر الإسلامی،فهی قد ظهرت کردّ فعل علی من قال بالوصیة فی السقیفة.فحجیة قول وفعل جمیع الصحابة بما هی طرق إلی معرفة الحکم الشرعی،طرحت کبدیل عن القول،بأنّ الطریق إلی ذلک إنّما هو باب مدینة العلم ووصّی الرسول صلّی الله علیه و آله.

ص:291


1- (1) .تراوحت النظریات فی عدد آیات الأحکام من قائل:أنها لا تتجاوز الخمسین،إلی مؤکّد بأنها:لا تقل عن خمسائة،إلی زاعم بأنّ جمیع آیات القرآن الکریم یمکن أن تکون آیات أحکام.
باب مدینة العلم ونجوم الهدایة

من أشهر الأحادیث النبویة التی بلغت روایتها حدّ التواتر، (1)ما روی عن ابن عبّاس(رضی الله عنهما)قال, قال رسول الله صلّی الله علیه و آله:

أنا مدینة العلم وعلی بابها, فمن أراد المدینة فلیأت الباب».

قال عنه الحاکم النیسابوری:هذا حدیث صحیح الإسناد،ولم یخرجاه أی:مسلم و البخاری فی صحیحیهما. (2)

و هذا الحدیث واضح الدلالة فی تثبیت مشروعیة المحور الولائی ومرجعیته العلمیة المطلقة،دون بقیة المحاور.فالأمر بإتیان المدینة من بابها یستلزم الأولویة علی الأقل،کما هو واضح.فی مقابل هذا الحدیث الذی لا یخفی إحراجه الکبیر لبقیة المرجعیات الصحابیة،نشطت أیادی التدوین المتأخر فی تلمس آثار نبویة من الممکن أن تقلل من شأنه.فتراوحت هذه الآثار بین الموضوعات الصرفة و الأحادیث غیر واضحة الدلالة،ومشکوکة السند مثل«أصحابی کالنجوم بأیهم اقتدیتم اهتدیتم». (3)

هکذا یتّضح أن الاختیار الصحابی العمومی،کان رد فعل انفعالیا علی وضع حرج،وجد فیه أنصار الشیخین،خاصّة،أنفسهم.

و قد نشط المحور الزبیری أیام خلافة عبد الله بن الزبیر،فی ذلک نشاطا عظیماً،فاق فیه بنی أمیة.ولم یمرّ القرن الأوّل إلّا و قد استقر فی أذهان من بقی حیاً من علماء التابعین،بعد أن ذهبت ثورة القراء بأفضلهم،مجموعة من الأحادیث التی تحاول تأمین المشروعیة لحجیة أقوال وأفعال کل الصحابة.و هذه المشروعیة مخدوشة بل متهافتة کبرویاً وصغرویاً.

ص:292


1- (1) .راجع:مدخل مناهجی إلی علم الکلام:114.
2- (2) .المستدرک:126/3.
3- (3) .انظر مناقشة الإمام عبد الکریم الخطیب لمعنی هذا الحدیث فی کتابه علی بن أبی طالب بقیة النبوة".وکذلک مراجعة هذه المناقشة فی المجلد الرابع من مجموعة أطوار الاجتهاد ومناهجه"،منشورات إحیاء الاجتهاد،1429ه.
ملامح التهافت فی نظریة مرجعیة عموم الصحابة

إنّ القول بحجیة قول وفعل أی صحابی هو التزام بالمرجعیة المطلقة للصحابة دون تمییز.ومثل هذا القول متهافت علی مستویین:

الأوّل:کبروی،ویمکن تلخیص هذا الإشکال (1)فی کون هذه الکبری غیر ثابتة نقلاً،فالخدش فی أدّلتها-سنداً ودلالةً-واضح،کما أنّ من لوازمها القبول باجتماع المتناقضات و المتضادات،و هذا محال عقلاً.

الثانی:صغروی،فالملاک فی کون واحد من الناس صحابیاً،لا یمکن أن یکون مطلق مساکنة النبی صلّی الله علیه و آله فی المدینة،إذ أن المنافقین أیضاً کانوا کذلک مساکنین له،من غیر المعقول أن یقصدهم النبی صلّی الله علیه و آله بقوله:«ما أنا علیه وأصحابی»«فی بیان الفرقة الناجیة،أو:«أصحابی کالنجوم»»فی الحدیث المتقدم،إذا صحت نسبته إلیه.

من هنا تطرح المشکلة الصغرویة بشکل حادّ.

فهل یعقل أن یصنّف الطلقاء مثل معاویة بن أبی سفیان،من ضمن الصحابة؟

أو هل یمکن أن یندرج تحت هذا العنوان من لم یکن حظه من الصحبة إلا اللعن أو القدح من النبی صلّی الله علیه و آله؟

کما هو حال سمرة بن جندب (2)الذی قال عنه النبی صلّی الله علیه و آله:«إنک رجل مُضار...»

2-حجیة قول المعصوم
اشارة

فی مقابل المشکلات الکبری التی تواجه الاختیار الصحابی العمومی،تمیز موقف المحور الولائی،بمعناه الأخص الذی یسلم أصحابه بعصمة الإمام،بالتماسک الداخلی،

ص:293


1- (1) .راجع:الأصول العامة للفقه المقارن:137 و138.
2- (2) .فی حدیث قطع النخلة،و هو الذی قال فیه النبی صلّی الله علیه و آله:«لا ضرر ولا ضرار فی الإسلام».و قد فصل عبد الکریم الخطیب الکلام فی المناقشة الصغرویة،رغم میله الظاهری إلی القبول بالکبری؛راجع:الإمام علی بقیة النبوة.

وخلّوه من أهمّ المشکلات العلمیة،أی المشکلات الکبرویة.

فعلی المستوی الکبروی-أی حجیة قول المعصوم-لیس هناک أحادیث متضاربة،بل جمیع ما ورد عن أهل البیت علیهم السلام متماسک ومترابط یؤید بعضه بعضاً،و هو بمثابة شرح للآیات القرآنیة الکریمة الکثیرة التی تُشیر إلی ولایة الإمام علی علیه السلام.

و قد مرّ ما یکفی من الإشارات الروائیة إلی هذا الموضوع الذی یجدر مطالعته فی باب الإمامة من کتب الکلام الشیعیة،و قد رأینا أن المشکلة الحقیقیة التی یعانی منها هذا المحور،هی کثرة النزوع إلی الغلو فی بعض الروایات،و قد مر ذکر سبب وجودها.

أمّا علی المستوی الصغروی فیمکن أن تطرح المسألة من جهتین.

جهتان للمناقشة الصغرویة

قد یقال:إنّ المناقشة الصغرویة لمقولة حجیة قول وفعل المعصوم،قد اتّخذت علی مرّ التاریخ شکلین مهمین:

الأوّل:تطبیق مفهوم المعصوم علی مصداقه الواقعی بعد الإمام علی علیه السلام،و قد عرفنا کیف أن عملیة التطبیق هذه سببت انشقاقات مبکرة عن المحور الولائی،مثل ظهور الکیسانیة،منذ القرن الأوّل وسائر الحرکات الانشقاقیة فی القرن الثانی.

الثانی:تفسیر حدود ولوازم حجیة قول المعصوم:هل یجوز الاجتهاد فی عرضه أم لا؟فظهر هناک اتجاهان:

الأوّل:ولائی محض،یقول بحرمة الاجتهاد فی عرض المعصوم علیه السلام.

والثانی:مدرسی،یعتقد بأنّ الأخذ من المعصوم, لا یمنع الاجتهاد فی عرضه،ویحدّدون العصمة فی دائرة نقل الحدیث،ولیس أکثر.

فسعی هذا الاتّجاه إلی الاستفادة من أئمّة أهل البیت علیهم السلام بعنوان مصدر مأمون للسنّة, لا غیر.وسمح فقهاء هذا الخطّ لأنفسهم بالاجتهاد فی عرض آراء الأئمّة علیهم السلام،وأسّسوا مدارس فقهیة استطاع بعضها أن ینتشر انتشاراً عظیماً مثل الحنفیة, و المالکیة, و الشافعیة.

ص:294

ویعتبر أنصار هذه المرجعیات المستقلّة،سکوت أئمة المحور الولائی عن هذه الحرکة الاجتهادیة،نوعاً من إعلان الرضا عنها.

حجیة قول المعصوم و التشیع المدرسی

تقدّم فی الباب السابق أنّه من الضروری التمییز بین معانی مختلفة للتشیع:

فإذا کان معناه الولایة, فلا شکّ أنّه قدیم, قدم حدیث الغدیر علی الأقلّ.

أمّا إذا کان المقصود بالتشیع هو الوقوف فی صفّ الإمام علی علیه السلام أیام الفتنة،والثبات علی ذلک الاختیار حتّی بعد استتباب الأمر لمعاویة،فهذا موقف سیاسی یصبح معه التشیع نوعاً من التشکیلات الحزبیة المعارضة.

ولکن،مع تأسیس المحور الجامع للسنة و العترة فی النصف الأوّل من القرن الثانی،شهدت الساحة العلمیة ظهور نوع آخر من التشیع هو التشیع المدرسی،وذلک حینما تمکّن الإمامان الباقر و الصادق صلّی الله علیه و آله من تأسیس فضاء علمی فی مسجد المدینة.

فی هذه الظروف المناسبة أمکن لبعض التابعین وتلامذتهم الاستفادة من الفیض النبوی،بهذا الطریق المأمون البعید عن کذب الکاذّبین ونسیان الناسین.

وکان عمر بن عبد العزیز نفسه من أبرز من استفاد من برکات هذه المدرسة،ثمّ ظهر بعض النوابغ مثل:أبی حنیفة النعمان،ومالک بن أنس(رضی الله عنهما)،فاستفاد الأوّل من بعض الزیدیة أوّلاً, ثمّ من الإمام الصادق علیه السلام نفسه فی آخر حیاته.

بینما تمکّن الثانی بحکم وجوده فی المدینة،من الاستفادة من تلامیذ الإمام الباقر علیه السلام خاصّة،و إن حالة الظروف دون التصریح بهذه الاستفادة،کما سوف نوضّحه لاحقاً.

المهمّ هنا تحدید معنی هذه الاستفادة, فلا شکّ أنّ هؤلاء الأعلام کانوا یجوّزون لأنفسهم الاجتهاد فی عرض أئمّة أهل البیت علیهم السلام.

ص:295

فما معنی حجیة قول المعصوم عندهم؟

المقدار المتیقّن الذی یمکن نسبته إلیهم،أنّها لم تکن تتجاوز العصمة فی روایة الحدیث, و أنّ ما یصدر عن الأئمّة علیهم السلام من أقوال وأفعال غیر مسندة إلی النبی صلّی الله علیه و آله إنّما هی اجتهادات شخصیة یجوز مخالفتها،حسب نظرهم.

ولکن هناک تفسیراً آخر،هو الأقرب للتوافق،یقول:بأن هناک اتّفاقاً بین هؤلاء الأعلام و الأئمّة علیهم السلام حول اقتسام الأدوار.

و هذا ادّعاء قد یصعب إثباته، (1)ولیس تحته طائل علمی.

ص:296


1- (1) .هذا ما کان یتحصّل من تقریرنا ل-خماسیة عصر الختم.

ثانیاً:أهل الرأی وأهل الحدیث

البحث الثامن و العشرون:أبو حنیفة النعمان أمام شحّة المصادر الروائیة
اشارة

کانت الظروف الثقافیة التی تشکّلت فیها الشخصیة العلمیة لأبی حنیفة (1)متمیزة بالحریة النسبیة فی الاجتهاد و الرأی.

فقد کان العراق بمنأیً عن هیمنة جیل المحدّثین العشرة الذی اشتهرت بهم المدینة من جهة،ومرتعاً لجمیع المغرضین من الکذّابة و المدلّسة و الوضّاعة الذین شو هوا سمعة رواة الحدیث النبوی من جهة ثانیة.

علاوةً علی هذا،فإنّ العراق کان یفتقد شخصیة ذات وجاهة اجتماعیة تمکّنها من فرض هیبتها علی المجترئین علی الحدیث النبوی،فی حین إنّ المدینة قد أصبحت تنعم منذ عهد عمر بن عبد العزیز بظهور الشخصیة العلمیة لورثة خاتم الأنبیاء وذلک،أوّلاً:

ص:297


1- (1) .هو أبو حنیفة النعمان بن ثابت بن زوطی(80-150ه)،کان زیدی المذهب،وتلمیذاً لأبی الجارود فی فترة وجیزة من حیاته،وبدأ حیاته العلمیة متکلّماً إلی أن عرف أهمیة الفقاهة وأصبح من أشهر فقهاء العراق،إلی أن التقی الإمام الصادق علیه السلام ودارت بینهما محاورات شهیرة فتتلمذ علیه سنتین،کان یقول عنهما:لولا السنتان لهلک النعمان. إلی أن مات فی سجن المنصور،بسبب انتمائه العقائدی و السیاسی،ورفضه تولّی القضاء راجع:أطوار الاجتهاد ومناهجه:189/2-227.

علی ید الإمام محمّد بن علی الباقر علیه السلام الذی جدّد عهد أهل المدینة بالعلم المحمّدی العلوی،ثمّ:علی ید ابنه الإمام جعفر بن محمّد الصادق علیه السلام و هو الذی طبع الفقه الإسلامی بتکمیل الجهاز الأُصولی بالأصول العملیة،کما سیأتی فی محلّه.

1-ظروف تبلور الجهاز الأُصولی الحنفی

یتّضح إذاً:أنّ تبلور الجهاز العلمی المنتج الذی تشکّل علی أساسه فقه أبی حنیفة, کان متزامناً مع تقویة إشعاع المحور الجامع للسنة و العترة،بل إنّ بعض الشواهد تؤکّد أنّ أبا حنیفة قد غیر کثیراً من مبانیه إثر قضائه سنتین یتتلمذ علی ید الإمام الصادق علیه السلام بعد مناقشة مشهورة حول القیاس.وحسب هذه الروایات التی یکثر تداولها فی کتب الإمامیة،ظلّ أبو حنیفة النعمان یردّد إلی آخر حیاته:لولا السنتان لهلک النعمان.

إلا أنّ مثل هذا التغییر المتأخّر لم یکن یجدی نفعاً بعد أن تخرّجت أفواج من التلامیذ علی یدی الشخصیة الفقهیة السابقة لأبی حنیفة.ولکن أخذ هذه المسألة التاریخیة بالاعتبار قد تعینناً علی فهم بعض الاضطراب فیما ینسب لأبی حنیفة. (1)

خلاصة القول:إنّ تشکّل الحقل الأُصولی لفقه أبی حنیفة کان عاکساً بدرجة أولی لفقر شدید فی الأحادیث الصحیحة التی یمکن لعقلیة نقدیة متوقّدة،مثل عقلیة أبی حنیفة،أن تتقبّلها وتسلّم بها وترتب علیها شتی الآثار الفقهیة.

ولو صحّ ما ذکره ابن خلدون فی مقدّمته،فإنّ جملة ما أقرّ أبو حنیفة بصحّته من الأحادیث لا یتجاوز سبعة عشر حدیثاً، (2)فإنّ لجوءه إلی الأدلّة الظنیة العقلیة یصبح أمراً لا مفرّ منه،بعد افتقاد الحقل الأُصولی للأُصول العملیة،خاصّة البراءة والاستصحاب فی عهده.

ص:298


1- (1) .المصدر.
2- (2) .من الأکید أنّ هذا الرقم،إن صحّت نسبته إلی أبی حنیفة،إنّما یعود إلی مرحلته العلمیة الأوّلی،قبل انضمامه إلی محور السنة و العترة.
2-نظرة علی الجهاز الأُصولی الحنفی
اشارة

یعتبر باب تعارض الأدلّة الشرعیة،أفضل مدخل لقراءة الجهاز الأُصولی لأی مدرسة فقهیة.فانطلاقاً من ترتیب مدارک الأحکام الشرعیة بحسب أولویتها فی عملیة الاستنباط،یمکن أن نصل مباشرة إلی الخلفیة الکلامیة و الفلسفیة للجهاز العلمی الأُصولی.

ولمعرفة أهمّ خصائص الجهاز الأُصولی الحنفی،انطلقنا من نظرة علی ترتیب المدارک عند أبی حنیفة ضمن ما أسمیناه بالحقل الأُصولی.

عناصر الحقل الأُصولی الحنفی

لقد استنبط الشیخ محمّد أبو زهرة من نصوص ثلاثة ذکرها (1)أنّ الأدلّة الفقهیة عند أبی حنیفة سبعة هی:

1-الکتاب:

بنسخته العثمانیة المعترف بها ودون الرجوع إلی التفاسیر الرائجة.

2-السنّة:

قد أوضحنا مشکلة أبی حنیفة،والظرف الخاص الذی ساعد علی تفقیر زاده منها.

3-أقوال الصحابة:

سوف نری أنّها فی نظر أبی حنیفة مأخوذة علی نحو الطریقیة.

4-الإجماع:

الظاهر أنّ أبا حنیفة لا یکتفی بطریقیته أی:بکونه مجرّد طریق لمعرفة الحکم الشرعی.

5-القیاس:

لیس المراد هنا بالطبع القیاس البرهانی،فهذا هو القدر المشترک بین جمیع مدارس الفکر الإسلامی, ولا أحد یناقش فی حجیته؛بل المراد هنا هو القیاس

ص:299


1- (1) .أبو حنیفة:235 و236.

التمثیلی الذی کان موضوع المناقشة المشهورة بین أبی حنفیة و الإمام الصادق علیه السلام. (1)

6-الاستحسان:

قد أوّل الحنفیة وکذلک المالکیة الاستحسان تأویلات عدیدة،والذی یتمیز به معظم الحنفیة هو طلب الأحسن بین الأدلّة طبقاً للذوق الفقهی.

7-العرف:

هناک تفسیرات عدیدة للعرف فمنها المقتصر علی الأعراف الخاصّة, ومنها الذی یشمل مجمل سیرة العقلاء. (2)

هذه العناصر یشکّل کلّ منها موضوعاً لإحدی إشکالیات الأمّ المتشکّلة من أداة الاستفهام(هل)والموضوع(الکتاب أو السنّة أو...إلخ)ثمّ المحمول الموحد الآتی:حجّة دائماً. (3)

نظرة علی أهمّ الأصول الحنفیة

أولا:الکتاب،بما هو مصدر المصادر،یأتی-عند أبی حنیفة-الأوّل فی الاعتبار.والکتاب بما هو محکم ومتشابه،ناسخ ومنسوخ،ومجمل وظاهر یتمّ بحثه بواسطة قضایا أصولیة تکون موضوعاتها المفردات المتقدّمة.

وینتجّ عن إعمال المنهجّ الاستنباطی فی هذه الإشکالیات الوسیطة،مجموعة من القضایا تجتمع کلّها تحت عنوان قضایا حجیة الکتاب.

ثانیا:السنّة النبویة،وهی تبین القرآن.وبیانها للقرآن،فی المذهب الحنفی،علی ثلاثة أنواع هی:

أ)بیان التقریر:

ص:300


1- (1) .الاحتجاج:114/2 و115.
2- (2) .لا یتّسع المقام لأکثر من هذه الإشارات،ویطلب التفصیل من مظانه الموسعة،وکذلک فی أطوار الاجتهاد ومناهجّه،الکتاب الثانی.
3- (3) .مثال ذلک هل الإجماع حجّة دائماً.

و هو أن یجئ البیان من السنّة مؤکّداً لمعنی الآیة مقرّراً له. (1)

کقوله صلّی الله علیه و آله:«صوموا لرؤیة الهلال وأفطروا لرؤیته» (2)الذی جاء مقرّراً لمعنی قوله تعالی: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِی أُنْزِلَ فِیهِ الْقُرْآنُ ... * ...فَمَنْ شَهِدَ مِنْکُمُ الشَّهْرَ فَلْیَصُمْهُ ... . (3)

ب)بیان التفسیر:

و هو بیان ما فیه خفاء المجمل فی القرآن،والمشترک فیه. (4)

ج)بیان التبدیل:

و هو النسخ.ونسخ القرآن بالقرآن مقبول عند الحنفیة،وکذلک نسخ القرآن بالسنّة القطعیة.إذا کانت ثابتة بالتواتر أو مشهورة مستفیضة. (5)

هذه الأقسام الثلاثة للکتاب تشکّل موضوعات ثلاث لقضایا أصولیة کلیة تتفرع عنها قضایا أُصولیة فرعیة.

وعلی العکس ممّا یعتقده خصوم المذهب الحنفی, فإنّ أبا حنیفة یقدّم سنّة رسول الله صلّی الله علیه و آله الثابتة عنده علی القیاس؛أما التّهمة الموجهة إلیه،ومفادها أنّه یقدّم القیاس علی السنة،فهی باطلة.و قد فنّد هذه التهمة بنفسه, قائلا:کذب و الله وافتری علینا من یقول:إنّنا نقدم القیاس علی النصّ،وهل یحتاج بعد النصّ إلی قیاس؟ (6)

ولکن،یمکن تخریج ادّعاء الخصوم بأنّه مبنی علی آراء قدیمة لأبی حنیفة،تراجع عنها بعد انضمامه إلی محور السنة و العترة. (7)

ص:301


1- (1) .أبو حنیفة:264.
2- (2) .المنتقی،ابن تیمیة:158/2 و159.
3- (3) .البقرة:185.
4- (4) .أبو حنیفة:265.
5- (5) .المصدر:266.
6- (6) .المصدر:269.
7- (7) .کثیرا ما یختزل هذا الانضمام فی السنتین اللتین درس فیهما عند الإمام الصادق علیه السلام،ولکن للقبول بالجلوس للدرس،بعد ضیاع الصیت و الشهرة التی طبّقت الآفاق،مقدمات قد تکون طویلة.

ثالثا:قول الصحابی،و هو حجّة شرعیة مقدّمة علی القیاس،و هو قول أئمّة الحنفیة،وبهذا الرأی أخذ جمهور العلماء من المذاهب الأربعة فیما بعد.

قال أبو حنیفة رحمة الله:

إنّی آخذ بکتاب الله إذا وجدته،فما لم أجده فیه أخذت بسنّة رسول الله صلّی الله علیه و آله و الآثار الصّحاح عنه التی فشت فی أیدی الثقات،فإذا لم أجد فی کتاب الله،ولا سنّة رسول الله صلّی الله علیه و آله أخذت بقول أصحابه من شئت،وأدعُ قول مَن شئت،ثمّ لا أخرج من قولهم إلی قول غیرهم،فإذا انتهی الأمر إلی إبراهیم،والشعبی،والحسن وابن سیرین،وسعید بن المسیب-وعدّ رجالاً قد اجتهدوا-فلی أن اجتهد کما اجتهدوا. (1)

هذا العنوان-أی:قول الصحابی-هو أیضاً قابل للتفکیک بلحاظ ما یقتضیه الاختیار الذی احتفظ به أبو حنیفة لنفسه عند تضارب أقوال الصحابة.

فکون هذا الاختیار مبنیاً علی اعتبارات موضوعیة قد لا تسمح الظروف السیاسیة أو الاجتماعیة لأبی حنیفة رحمة الله بالبوح بها،یجعل مجال تفریع قضایا أصولیة کلیة،ثمّ قضایا أصولیة فرعیة واسعة.

رابعا:الإجماع،إجماع الصحابة حجّة بلا خلاف عند الجمهور, وحتّی عند الإمامیة؛لإحراز دخول الإمام فیه،کما سیأتی فی محلّه.

قال أبو حنیفة:

إذا اجتمعت الصحابة علی شیء سلمنا،و إذا أجمع التابعون زاحمناهم. (2)

والحقیقة أنّ التسلیم بحجیة إجماع الصحابة عند أبی حنیفة رحمة الله،قد یکون کاشفاً عن قطعه باستحالة إجماعهم بدون مدرک من السنّة.وبالتالی فیمکن القول بأن الإجماع عنده مدرکی.ولولا ذلک لما أهمل إجماع التابعین الذی قد لا یکون مدرکیاً بالضرورة.

ومن أهمّ التفریعات التی أنتجّت کبریات الإشکالیات الوسیطة،مفهوم الإجماع

ص:302


1- (1) .تاریخ التشریع الإسلامی:237.
2- (2) .حصول المأمول من علم الأصول:64.

السکوتی و الإجماع السکوتی حجّة،کما یری أکثر الأُصولیین. (1)و إن کانوا مختلفین فی کونه حجّة قطعیة کالإجماع الصریح وبذلک قال أکثر الحنفیة. (2)

خامسا:القیاس،و هذا الأصل الذی أکثر منه أبو حنیفة رحمة الله،عرّفه العلماء من بعده بقولهم:بیان حکم أمر غیر منصوص علی حکمه بأمر معلوم،حکمه بالکتاب أو السنّة أو الإجماع،لاشتراکه معه فی علّة الحکم. (3)و إن الأحناف یتوسعون فی الأخذ به حتّی أنهم یقدّمونه علی خبر الآحاد إذا کان غیر مشهور.

من هنا کانت التفریعات الأساسیة عن حجیة القیاس مرتبطة بالتعادل و التراجیح.

سادسا:الاستحسان، (4)لعل أحسن تعریف للاستحسان،کما قال أبو زهرة،تعریف الکرخی،و هو:أن یعدل المجتهد عن أن یحکم فی المسألة بمثل ما حکم به فی نظائرها،لوجه أقوی یقتضی العدول عن الأوّل.

و قد جاء فی تاریخ التشریع الإسلامی،للسبّکی،ما یلی (5):و قد یترک القیاس لضرورة أو أثر،أو یقدّم علیه الأخذ بأصل عام أو قیاس أرجح منه،ویسمّی ذلک استحساناً،وما من إمام من الأئمّة الأربعة(رضی الله عنهم)إلّا و قد قاس،واستحسن بالمعنی المتقدّم،إلا أنّهم لا یسمّونه استحساناً،بل یدخلونه فی أبواب أُخری کالاستصلاح مثلاً،غایة الأمر أنّ الحنفیة توسّعوا فی الأخذ بمبدأ القیاس والاستحسان أکثر من غیرهم.

قال سهل بن مزاحم:

ص:303


1- (1) .أصول الفقه الإسلامی 49؛و هو:أن یبدی بعض المجتهدین رأیه فی مسألة من المسائل،ویعلم به باقی المجتهدین فی عصره،فیسکتون،ولا یکون منهم اعتراف ولا إنکار صراحة؛المصدر:45؛راجع هناک:الشروط التی یعتبر بتوفرها الإجماع السکوتی.
2- (2) .المصدر:49.راجع للتوسّع فی الآراء التی فی هذا النوع من الإجماع:إرشاد الفحول علی تحقیق الحق من علم الأصول:84 و85.
3- (3) .المصدر:324.
4- (4) .المصدر:98-100.
5- (5) .المصدر:238.

کلام أبی حنیفة أخذ بالثقة،وفرار من القبح،والنظر فی معاملات الناس،وما استقاموا علیه،وصلح علیه أمره،یمضی له،فإذا لم یمض له رجع إلی ما یتعامل المسلمون به.... (1)

وجاء عن محمّد بن الحسن:

کان أبو حنیفة یناظر أصحابه فی المقاییس،فینتصفون منه،ویعارضونه حتّی إذا قال:أستحسن لم،یلحقه أحد منهم لکثرة ما یورد فی الاستحسان من المسائل،فیذعنون جمیعاً،ویسلمون له. (2)

سابعا:العرف،ما قاله سهل بن مزاحم إشارة واضحة إلی العرف:

فقد جاء فیه:یمضی الأمر علی القیاس،فإذا قبح،یمضیه علی الاستحسان ما دام یمضی له،فإذا لم یمض له رجع إلی ما یتعامل به المسلمون.

والمراد بما یتعامل به المسلمون هو:العرف؛و هو معتبر عند الفقهاء علی اختلاف مذاهبهم. (3)

و قد تکفّل ابن نجیم بذکر أهم التفریعات, فقال (4):واعلم أن اعتبار العادة و العرف یرجع إلیه فی الفقه فی مسائل کثیرة حتّی جعلوا ذلک أصلاً،فقالوا فی الأُصول فی باب ما تترک به الحقیقة:تترک الحقیقة بدلالة الاستعمال و العادّة.

وذکر ابن نجیم أیضاً،أنّ العرف لا یعتبر إلّا إذا کان مطرّداً أو غالباً (5)ویشترک لاعتباره کذلک أن لا یخالف ما اشترکه أحد المتعاقدین عند العقد وإلا أخذ بالشرط دون العرف،کما یشترط لاعتباره أن لا یخالف نصّاً من کتابٍ أو سنةٍ،أو یخالف إجماعاً. (6)

ص:304


1- (1) .المصدر.
2- (2) .المصدر.
3- (3) .الوسیط فی أصول الفقه:522.
4- (4) .الأشباه و النظائر:92.
5- (5) .المصدر:92 و94.
6- (6) .المدخل للفقه الإسلامی:229 و230.
البحث التاسع و العشرون:الإمام مالک وخصوصیة المدینة المنورة
اشارة

ینسب المذهب المالکی إلی مالک بن أنس الأصبحی(رضی الله عنه). (1)ولیس هنا مجال التعریف بهذه الشخصیة الاستثنائیة فی عالم الفقاهة،ولا بالمذهب الفقهی المالکی الذی مازال یعتنقه خمس المسلمین علی الأقل؛و قد أفردنا لذلک قسماً خاصاً فی مجموعة أطوار الاجتهاد ومناهجه، (2)وفصلنا الکلام فی الجهاز الأصولی المالکی ضمن آخر کتبنا (3).والمراد هنا إلقاء نظرة تقییمیة سریعة علی أهم المکاسب العلمیة التی حققتها مدرسة الإمام مالک رحمة الله؛لوضعها فی إطارها المناهجی العام،الذی عرفنا أنه الانتماء إلی محور السنة و العترة.

1-الجهاز الأصولی المالکی فی سطور

من الشائع فی الأوساط الأکادیمیة أن أدقّ إحصاء لأُصول المذهب الفقهی المالکی هو ما ذکره القرافی فی التنقیح.

و هذه الأُصول هی:القرآن،والسنّة،والإجماع،وعمل أهل المدینة،والقیاس،وقول الصحابی،والمصلحة المرسلة،والعرف،وسدّ الذرائع،والاستصحاب،والاستحسان. (4)

هذه الأُصول التی یمکن التشکیک فی نسبة بعضها،مثل الاستصحاب،إلی الإمام مالک رحمة الله نفسه،تمثّل تشکیلة من القواعد الأصولیة ذات القدرة الواسعة علی تلبیة حاجیات الاستنباط المتجدّدة.وأهمّ ما تتمیز به هذه التشکیلة عن مثیلتها الحنفیة،هو دخول بعض

ص:305


1- (1) .هو مالک بن أنس بن أبی عامر الأصبحی،من قبیلة ذو أصبح الیمنیة،(93-179ه(حسب أشهر الأقوال)؛الإمام مالک:14.
2- (2) .أطوار الاجتهاد ومناهجه:233/2-262.
3- (3) .موجز لأصول الفقه المالکی:القسمان الثانی و الثالث.
4- (4) .الإمام مالک:258.

الأصول الجدیدة:کعمل أهل المدینة،وسد الذرائع.ضمن أُصول الاستنباط.

وبقطع النظر عن إثبات نسبة الاستصحاب إلی الجهاز الأصولی المالکی الأول،أو إلحاقه به فی مرحلة ثانیة،فإنّ ذلک یعتبر نقلة نوعیة فی الفقاهة،وتعبیراً واضحاً عن الالتحام بالاختیارات الأصولیة العامة لأهم أساتذة الإمام مالک رحمة الله،وهم أئمة المحور الولائی.فدخول أصل من أهم الأُصول العملیة إلی جهاز الاستنباط فی ظرف مثل ظرف مدینة الرسول صلّی الله علیه و آله،ذلک الظرف الذی لم یکن یشکو أبداً من نقص فی المصادر الموثوقة للأدلّة النقلیة،یکشف عن تمامیة أدلّة الاستصحاب عند المالکیة.

والحقیقة،أنّ الوقوف علی ما هو ثابت من الروایات عن الإمام الصادق علیه السلام فی حجیة الاستصحاب،منضمّاً إلی الانتباه إلی أنّ عطاء الإمام مالک رحمة الله الفقهی استمرّ ربع قرن بعد الإمام الصادق علیه السلام،یدعو إلی الاعتقاد بأن مفتی المدینة کان واضح التأثر بأستاذها الأکبر،بل ربّما, یقال:أنّه قد سبق حتّی فقهاء الإمامیة إلی العمل بإرشاد الإمام الصادق علیه السلام إلی حجیة الاستصحاب. (1)

أمّا ما قد یقال عن الأدلّة الظنیة التی شحن بها الإمام مالک رحمة الله جهازه الأُصولی،خلافاً للاختیارات العامة لمحور السنة و العترة،فلکلّ منها مبرراته الخاصّة, کما سیأتی.

ونوجز القول فی أهمّ هذه الأُصول کما یلی.

2-موقع الکتاب و السنّة فی الجهاز الأُصولی المالکی
اشارة

کثیراً ما یطلق علی مدرسة الفقاهة المالکیة اسم:مدرسة الحدیث،لمقابلتها بمدرسة الرأی،التی یکّنی بها عن المذهب الحنفی.لکن التحقیق الموضوعی لا یسعف هذه المسامحة،ودلیلنا ما یأتی أدناه.

ص:306


1- (1) .هذا الرأی تؤیده کثرة الروایات التی یفهم منها حجیة الاستصحاب،علی الأقلّ فی موضوع الطهارة،واستمرار عدم ترتیب الآثار الأصولیة و الفقهیة علیها إلی زمن الشیخ محمد بن حسن الطوسی،أی:ثلاثة قرون کاملة!

فرغم أنّ الإمام مالک رحمة الله قد بلور مبانیه الفقهیة فی المدینة المنورة،فلنا فی ما تقدّم حول مجموع الأُصول عنده خیر دلیل علی کون الحدیث لیس إلا واحداً من جملة عدّة أُصول فی الاستنباط.

ویبقی علینا توضیح موقعه من ظواهر الکتاب وشروط حجیته.

حول حجیة الکتاب

یجعل الإمام مالک رحمة الله القرآن فوق کلّ الأُصول الأُخری،فهو یأخذ بنصّه،وبظاهره،کما یأخذ بمفهوم الموافقة،وبمفهوم المخالفة.

قال القاضی عیاض:

تقدیم کتاب الله تعالی علی ترتیب وضوح أدلّته من نصوصه،ثمّ ظواهره،ثمّ مفهوماته. (1)

وقال محمّد أبو زهرة:

وهکذا یأخذ بکلّ ما یفهم من الکتاب نصّاً صریحاً،أو بإشارة،أو تنبیه،أو مفهوم،ویقدّم الکتاب علی ما عداه من السنّة.

وکان یروی الحدیث بسنده،ثمّ یردّه؛لأنّه یخالف کتاب الله تعالی. (2)

حجیة السنّة وأقسامها

السنّة هی الأصل الثانی فی الترتیب بالنسبة للقرآن،فمالک رحمة الله یأخذ منها بالمتواتر, کما یأخذ منها بالمشهور،کما یأخذ منها بخبر الآحاد أیضاً.

و قد شکّل موضوع حجیة خبر الآحاد عند الإمام مالک رحمة الله مشکلة یسیرة الحلّ لوجوده فی المدینة؛حیث کان بإمکانه أن ینهل من معینها الحدیثی الذی لا ینضب.ویلاحظ هنا أنّ مالکاً کان یقدّم علی هذا النوع الأخیر من الأحادیث-أی:أخبار

ص:307


1- (1) .ترتیب المدارک:87/1.
2- (2) .تاریخ المذاهب الإسلامیة:214/2.

الآحاد-عمل أهل المدینة،کما یقدّم علیه القیاس حسبما استنبطه بعض علماء المذهب المالکی؛ولکن أیضاً منهم من یری أنّه کان یقدّم خبر الآحاد علی القیاس.فقد اشترط الإمام مالک رحمة الله فی العمل بخبر الآحاد أن لا یکون مخالفاً لعمل أهل المدینة،بینما اشترط الحنفیة شروطاً تقدّم ذکرها فی محلّها،کما اشترطت الشافعیة فیه أربعة شروط تجدر مطالعتها فی کتب أُصول المذهب الشافعی.

أمّا أحمد بن حنبل رحمة الله فإنّه لم یشترط فیه إلّا صحّة السند. (1)

أمّا الحدیث المرسل, فکان مالک رحمة الله یقبله،بشروط،کما یأتی.

قال أبو زهرة:

ویظهر أنّه فی ذلک کان یسیر علی ما یسیر علیه أکثر فقهاء عصره،فالحسن البصری, وسفیان بن عیینة،وأبو حنیفة, کانوا یأخذون بالمرسل من الأحادیث،ولا یردّونه. (2)

و هو لا یجیز العمل بالمرسل مطلقاً؛بل یجیزه إن کان من مثل الأشخاص الذین قبل إرسالهم.فالعبرة حسب أبی زهرة«بشخص من أرسل،لا بالإرسال فی ذاته». (3)

هکذا یکون سند السنّة بالنسبة لمالک مأخوذاً علی نحو الطریقیة فملاک حجّیتها عنده هو صحّة صدورها عن صاحب الشریعة, فإن کان الحدیث مرسلاً،وأحرز مالک أن هناک سبباً موضوعیاً للإرسال،من نوع ما سیأتی ذکره فی الفصل الآتی،کان حجّة،تماماً مثل المسند الصحیح،و إن لم یکن فی قوّته ومرتبته, فلا تصل النوبة إلی المرسل مع وجود أحادیث مسندة صحیحة.

وسیأتی الکلام فی الفصل المقبل،عن دواعی الاعتناء بالمراسیل عند هذا الجیل من مراجع الفتوی،بصفة عامّة.

ص:308


1- (1) .الوسیط فی أصول الفقه:260-263؛السنّة،وغیرهما.
2- (2) .مالک:293-295.
3- (3) .المصدر.

والحقیقة أنّ مشکلة إحراز الوصول إلی مصدر الشریعة الأوّل و هو المعصوم،کانت تحتاج إلی حلول فنیة لم یکن قبول بعض المرسلات إلا واحداً منها.

وسوف نری فی الفصل الآتی أن أُصولاً مثل:الإجماع،وعمل أهل المدینة،قد شکّلت أدوات أساسیة أُخری لاستکمال الجهاز الفقهی المنتج،تحت تلک الظروف السیاسیة الحرجة،والضغوط الثقافیة الغوغائیة.

3-الإجماع
اشارة

یقع الإجماع عند الإمام مالک رحمة الله فی المرتبة الثالثة عند غیاب الکتاب،ومتواتر السنّة،حسبما جاء فی ترتیب المدارک.وهناک اعتقاد رائج بین جمهرة کبیرة من علماء المالکیة؛و هو أنّ هذا الدلیل موجب للحکم مطلقاً وقطعاً،کالکتاب و السنّة،ولکن الکثیر من علماء الأُصول من المالکیة وغیرهم،شکّکوا فی إطلاق حجیة الإجماع عند مالک رحمة الله.بل إنّ هناک رأیاً قویاً،ونعتقد أنّه الأرجح،یقول بأنّ الإجماع عند مالک رحمة الله لا یتعدّی إجماع أهل المدینة،وسیأتی تحقیق هذا القول فی هذا البحث.

والجدیر بالإشارة هو أنّ الإجماع،بمختلف تعریفاته،أصل مشترک فی مذاهب الجمهور وعامّة المسلمین؛أمّا الخوارج فیرون أنّه لیس بحجّة مطلقاً،بینما یختلف الشیعة فی الکثیر من أنواع الإجماع. (1)هنا لا بدّ من تحقیق القول فی اصطلاح الإجماع, وفی معنی القول بإطلاق حجیته وقطعیته.

أنواع الإجماع

الإجماع لغة هو:وحدة قول جماعة فی مسألة.

من هنا یتعین تحدید دائرة المجمعین, فیقال:إجماع الصحابة, أو إجماع التابعین,

ص:309


1- (1) .راجع:الوسیط:أدلّة المثبتین لحجیته الاستقلالیة و المنکرین لها؛مصادر التشریع الإسلامی،وغیرهما. أما تحقیق القول فی الإجماع عند الشیعة،فیمکن بمطالعة العدید من البحوث فیه من مظانها المعروفة لدی الطالب:أصول الفقه للمظفر،حلقات الصدر،رسائل الأنصاری،وشروحها العدیدة....

أو إجماع الأمّة فی کلّ عصر ومصر, أو إجماع أهل المدینة دون غیرهم،أو إجماع طائفة دون غیرها من المسلمین...

وکلّ اصطلاح من هذه الاصطلاحات عنوان لنوع من أنواع الإجماع،وبهذا التعریف لا یوجد مذهب فقهی لا یقول بأی واحد من هذه الإجماعات،فحتّی الخوارج یعتبرون إجماعهم حجّة, و إن کان من باب الطریقیة.

التحلیل الوظیفی للإجماع

یمکن تحلیل کلّ نوع من أنواع الإجماع المتقدّمة،وظیفیاً،بحسب موقعها فی الاستدلال الفقهی إلی إجماعات مأخوذة علی نحو الطریقیة،وإجماعات مأخوذة علی نحو الموضوعیة.

فأما القسم الأوّل:

فلیس الإجماع فیه إلا طریقاً کاشفاً عن الحکم الشرعی السندی الذی یجزم الفقیه بوجوده فی مرتبة متقدّمة.فإجماع الصحابة مثلاً؛کاشف عن علمهم بوجود حکم شرعی صدر عن الشارع نفسه،فیکون إجماعهم طریقاً نقلیاً حدسیاً لإثبات حکم شرعی.

أمّا القسم الثانی:

فالإجماع فیه حجّة علی نحو الاستقلال.

ویجتهد القائلون بمثل هذا الإجماع فی إثبات مشروعیته بالأدلّة النقلیة مثل قوله صلّی الله علیه و آله:

«لا تجتمع أمتی علی خطأ».

وعلی هذا القول یکون الإجماع فی عرض الکتاب و السنّة, ولیس فی طولهما.

وسوف یترکّز الکلام فی ما یأتی من هذا البحث حول إثبات کون الإجماع عند الإمام مالک رحمة الله لیس من هذا النوع الأخیر؛و إن شاع غیر ذلک بین کثیر من المحقّقین.

وممّا لا یجوز الغفلة عنه من وظائف الإجماع،منزلة مثبتاته ونتائجه:

ص:310

فهل هو مورث للقطع؟أو هو لا یتعدّی حدود الظنّ؟

و قد اختلف الذین یقولون بحجّیته.هل هو حجّة ظنیة؟

وبذلک اشتهر الرازی بالخصوص.أو حجّة قطعیة, وبذلک قال الأکثرون،و هو المشهور. (1)

ومن الجدیر بالتنویه،أنّ التحقیق فی قطعیة نتائج الإجماع لم یتیسّر إلا عند آخر مجدّدی المذهب الإمامی, و هو صاحب الحلقات،السید محمد باقر الصدر،علیه الرحمة،کما سیأتی فی محلّه.

أمّا القول بتأخّر الإجماع عن الکتاب و السنّة حتّی عند من یقول باستقلاله کحجیة, فهو أمر لا شکّ فیه.

فإنّما کان الإجماع فی المرتبة الثالثة بالنسبة لمصادر التشریع الأصلیة؛لأنّ حجیته،عندهم،ثبتت بالکتاب و السنّة.

فهو بهذا الاعتبار فرع لهما،متأخّر عنهما فی الرتبة. (2)

أی نوع من الإجماع یتبنّاه الإمام مالک؟

من المفروغ عنه أنّ الإجماع عند الإمام مالک رحمة الله حجّة قطعیة, یأتی فی المرتبة الثانیة بعد الأصلین النصین،ومبناه،حسب زعم بعض المالکیة،اعتقادهم بعصمة الأمّة.والمقرّر عند جمهور المالکیة:أنّ الإجماع لا یصدر إلّا عن دلیل من سمع من النبی أو قیاس؛وبین هذین المصدرین بون شاسع, کما هو واضح:

فإذا کان المدرک عند المجمعین سُماعیاً کان الإجماع مأخوذاً علی نحو الطریقیة.

أمّا إذا کان مدرکه قیاس المجمعین, فسوف یکون له تمام الموضوعیة،مع وجوب الانتباه إلی أنّ الفرض الثانی نظری, لا غیر؛لأنّ إجماع جیل کامل من أهل

ص:311


1- (1) .الوسیط 334.
2- (2) .مصادر التشریع الإسلامی و مناهج الاستنباط:160.

الفتوی علی مسألة لا یحصل إلا إذا کان مدرک جمیعهم برهانیاً،کما هو واضح.

قال أبو زهرة:«ولقد ذکر عن مالک(رضی الله عنه)أنّ الإجماع یصّح أن یکون سنده قیاسیاً،و هو کذلک». (1)

وأضاف أیضاً:أنّه لا یعتقد بمخالفة الواحد والاثنین،وأنّه لا مدخل للکافر فیه مهما بلغ علمه،وأنّه لیس قاصراً علی الصحابة،ولا یشترط انقراض العصر.

کما أنّ قول الصحابی إذا اشتهر ولم یعلم له مخالف فإنّه إجماع وحجّة،و أنّ الإجماع السکوتی معتبر،وأنّه لا یجوز إحداث قول ثالث علی قولین انقسمت الأمّة علیهما، (2)و هذا النوع الأخیر من الإجماع هو ما یسمّی بالإجماع المرکب عند الإمامیة.

هکذا،یتّضح أنّ الإجماع،عند الإمام مالک رحمة الله،قد اشترطت فیه جمیع شروط الطریقیة بمعناها الأوسع؛أی:کونه طریقاً إلی الحکم الشرعی علی نحو قطعی لا ظنی.

فحتی القیاس لا یمکن أن یکون محلّ إجماع إذا کان تمثیلیاً،فهو محض فرض یکاد یقتصر علی الدور التمویهی.ویزید هذا الاعتقاد قوّة،اشتراط الإمام مالک رحمة الله عدم المخالفة لأی علم من أعلام الدین.

فهل یمکن أن یوافق أئمة أهل البیت علیهم السلام،وهم أقطاب العلم فی المدینة،علی قیاس تمثیلی؟

إنّ أمر کثیر من الفتاوی التی یزعم حولها الإجماع بات واضحاً لدی الخاصّ و العامّ بعد مجاهرة أئمة أهل البیت علیه السلام بالبراءة منها،حتّی تتمّ الحجّة علی من یقول بالإجماع.

إجماع أم إجماع أهل المدینة؟

یبقی هناک مسألة جدیرة بالبحث و التحقیق،ولعلّها أهمّ ما یجب أن یحقّق فیه

ص:312


1- (1) .القرافی،147؛والباجی،432.
2- (2) .شرح تنقیح الفصول:140-150.

القول فی المقام،وهی:هل صحیح أنّ مالکاً یحصر الإجماع فی أهل المدینة،وأنّه لا عبرة بموافقة غیرهم أو مخالفته؟ (1)

فیجب أن نعرف إذاً:علی نحو الدّقة ماذا تعنی کلمة الإجماع المنقولة فی کلامه؟

فقد جاء فی الموطّأ فی مواضع کثیرة هذه العبارة:قال مالک رحمة الله:الأمر مجتمع علیه عندنا،والحال أنّه لیس کذلک عند غیره.

و هذا ممّا قد یحمل علی الاعتقاد،بأنّ الإجماع عنده إنّما هو إجماع أهل المدینة.

مع هذا،فإنّ مزیداً من الدّقة فی أقوال علماء ذلک العصر،یحملنا علی التشکیک فی تحصیل حتّی هذا المقدار من الإجماع.

فما المقصود بالإجماع عند مالک رحمة الله،إن لم یکن مجرّد الکنایة عن طریق ما،إلی الحکم الشرعی؟

و هذا نظیر إجماعات مدّعاة من قبل عدّة من الفقهاء فی شتّی المذاهب, کما هو محقّق فی محلّه من کتب الفقه. (2)

فالسؤال الذی یبقی مطروحاً،هو:ما هو المکّنی عنه بالإجماع؟

فلیس من المعقول أن یکون اتّفاق کلّ أهل المدینة،فهذا لم یحصل إلّا نادراً.و إنّما التعویل،علی الظاهر،هو علی مجموعة من الأکابر،لا بدّ أن یکون مالک رحمة الله قد وجد من بینهم من یقطع بطریقیته إلی الحکم الشرعی.و إذا علمنا أنّ معظم الموارد الفقهیة تتطابق فتوی مالک رحمة الله فیها مع الفقه المروی عن أهل البیت علیهم السلام بطرق الإمامیة،فإنّ ذلک کاشف عن حقیقة المکّنی عنه بالإجماع الذی هو لیس سوی أئمة أهل البیت علیهم السلام.

حاصل القول:هنا أنّ انتساب مالک رحمة الله إلی محور السنة و العترة،أمر محسوم فقهیاً.أمّا علی المستوی العقائدی, فالدلائل علی ذلک أعمق،کما سوف یتوضّح فی الفصل الآتی.

ص:313


1- (1) .من الذین بحثوا هذه المسألة, ولم یصلوا إلی النتیجة التی سنحقّقها،محمّد سکحال الجزائری فی بحثه لمذهب الإمام مالک ضمن کتاب المذاهب الإسلامیة الخمسة:398-402.
2- (2) .من أبرز الأمثلة علی هذا النوع من الإجماعات،ما یسمّی إجماعات الفرقة،أو إجماعات الطائفة.
أسئلة للمراجعة و التعمّق

المطلوب تحریر مقالة تحلیلیة فی أربع صفحات(1200کلمة)،حول کلّ واحد من الموضوعات الآتیة:

1.حلّل وناقش:لولا توحید المصاحف فی الصدر الأوّل لحصل للقرآن الکریم ما حصل للإنجیل.

2.هل تعدّد القراءة فی القرآن یتعارض مع قوله تعالی: إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّکْرَ وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ کیف؟

3.حلّل وناقش:لو قبلنا بمبدأ عدالة کلّ الصحابة؛لازداد الانشعاب داخل الأمّة أضعافاً مضاعفة.

4.إذا قارنّا موقع الکتاب و السنّة و الإجماع عند أبی حنیفة وعند مالک(رضی الله عنهم)لأمکننا القول بأنّ تمثیل أبی حنیفة لأهل الرأی،ومالکاً لأهل الحدیث،من المبالغات الشائعة فی تاریخ الفکر الإسلامی.حلّل وناقش.

ص:314

الفصل الثانی:تطوّر المدارس الفقهیة بین المذهبیة و الطائفیة

اشارة

ص:315

ص:316

اوّلاً:الخلفیات السیاسیة لنشأة المذاهب الفقهیة الکبری

اشارة
البحث الثلاثون:الظاهرة الزیدیة و المذهب الحنفی
اشارة

إنّ القراءة الترکیبیة للوقائع بغرض إعادة رسم الصورة التاریخیة،لا یجوز أن توقعنا فی وهم التفسیر التآمری للتاریخ.ومن مصادیق النزعة التآمریة أن نتصوّر وجود أیادٍ خفیةً تتلاعب بالأحداث کیفما تشاء, وتخطّط لسیرها ومآلها تخطیطاً کاملاً ومسبقاً.فعندما نتحدّث عن بروز النموذجیة المیتة،المتمثّلة فی تعظیم شأن بعض أکابر الصحابة،وکأنّها ولیدة إرادة سیاسیة خبیثة،لا یجوز أن یغیب عن أذهاننا سبق وجودها إلی أذهان العامّة.فالسیاسة قلّما تلجأ إلی صنع الأساطیر واختلاقها, ولکنّها کثیراً ما ترعاها وتروّجها وترسّخها فی الأذهان إن رأت إمکانیة استغلالها.

أمّا النشأة الأولی لهذه الأسطورة أو تلک،فهی رهینة عوامل اجتماعیة وثقافیة متشابکة.ولا تخلو العوامل الاقتصادیة والاجتماعیة من التأثیر فیها.

کذلک یکون شأن ردود الفعل علی مثل تلک الأساطیر،فهی لیست ولیدة تخطیط سابق أو توافق مدّبر ومدروس.و إنّما هی نتائج طبیعیة لتتابع التجارب فی الحرکة الرسالیة.و قد تتعدّد الآراء و المیولات،ولکّن البقاء و النجاح یکون دائماً للأصلح.

ص:317

هذا ما یجدر الالتفات إلیه عند قراءة بعض الکتابات التاریخیة،التی تحاول أن تصوّر ثورة زید بن علی الشهید علی أنّها من تخطیط أئمّة أهل البیت علیهم السلام،فی نفس الوقت التی تصرّ فیه هذه الکتابات علی البراءة من أبی حنیفة النعمان رحمة الله ونعته بالخصومة الشدیدة لأهل البیت علیهم السلام،تلک الخصومة التی تحکیها بعض الروایات فی شکل لجاجة کاریکاتوریة أحیاناً. (1)

فماذا یقول هؤلاء المؤرخون أمام الشواهد العدّة التی تنسف هذه التصوّرات المتناقضة؟

لتوضیح هذه المسألة ونظیراتها،نعود لهذا البحث فی الأسطر الآتیة.و قد کنّا عرضنا فی الباب السابق وجهة النظر الواقعیة عن ثورة زید الشهید،وبقی علینا بحث نسبة المذهب الحنفی إلی الزیدیة.و هذا یحتاج إلی مقدّمة حول الإطار الثقافی العامّ الذی نشأت فیه الظاهرتان الزیدیة و الحنفیة.

1-بین التشیع المدرسی و الظاهرة الثوریة
اشارة

کان لثورة الإمام زید بن علی بن الحسین علیه السلام من المواصفات الخاصّة التی تدعو إلی ما قدّمناه فی الباب السابق،من تصوّر موضوعی یضعها فی سیاقها التاریخی بعیداً عن المزایدات.فلیس من الموضوعیة فی شیء جعلها حلقة ضمن خطّة مدروسة،قسمت رواد المدرسة الرسالیة وأعلامها إلی قسمین:

ص:318


1- (1) .ممّا زُعم فی حقّ أبی حنیفة تطرّفه فی مخالفة الإمام الصادق علیه السلام،إلی حدّ أن نسب إلیه أنّه لم یسمع عنه شیئاً إلاّ خالفه،حتّی أنّه عندما لم یتمکّن من معرفة هل کان یغمض عینیه فی السجود أم یفتحهما؟ فإنه کان یفتح إحدی عینیه ویغمض الأُخری،حتّی یحرز المخالفة القطعیة،ولو صحّت نسبة هذا الکلام إلی أبی حنیفة،فلا بد من حملها علی أن ذلک السلوک کان منه قبل التقائه بالإمام الصادق علیه السلام و التعرّف علی منزلته،فمن الانصاف أن لا یروی ذلک عنه. و هو علی أیة حال لا ینسجم مع ادعاء رعایة الإمام الصادق علیه السلام للثورة الزیدیة.

الأول:قسم القوّاد الثوریون؛ومعظمهم من ذوی الجأش و الدرایة بالحرب و السیاسة.

الثانی:قسم المراجع و العلماء المهادنین.

وبعیداً عن هذا التقسیم الافتراضی،الذی لا دلیل علی تحققه،لم تکن هذه الثورة إلا تعبیراً واضحاً عن إمکانیة وقوع الخلاف داخل المدرسة الرسالیة.و هو اختلاف فی الأسالیب التی یجب اتّباعها،ولا یتعدّاها إلی الأهداف العامّة للدّعوة.

هکذا،فقد فشلت هذه الثورة وبقی الخطّ المدرسی صامداً بعد أن أثمر نهجه وثبت لکلّ ذی لبّ صلاحه.ولم یتمّ هذا النجاح إلّا بالهیکلة المدرسیة ودعم الحرکة العلمیة الاجتهادیة و الکلامیة،بإرادة إصلاحیة حیة اتّضح حسن نوایا أصحابها.

ملامح البناء المدرسی

تظهر الهیکلیة المدرسیة عبر بروز طبقات علمیة هرمیة التنظیم داخل أطر المدرسة الرسالیة.ویمکن تقدیم أهمّ طبقات الهرم الأکادیمی علی النحو الآتی: (1)

الأولی:فی المرتبة العُلیا،نجد أئمّة أهل البیت،وهم علی التوالی الإمام زین العابدین السجاد،ثمّ الإمام محمّد الباقر،ثمّ الإمام جعفر الصادق علیهم السلام،و قد امتدّت فترة إمامتهم من سنة 61 إلی 148ه،تاریخ استشهاد الإمام الصادق علیه السلام.

ولا أحد من الخصوم ولا من الموالین استطاع أن یشکّک فی منزلتهم العلمیة وعظم قدرهم،فهم،حتّی فی نظر من لم یکونوا أبداً محسوبین علیهم أو مشتهرین بالولاء لهم،مثل الحسن البصری،کانوا تجسیداً حیاً لمرتبة الرجل الربّانی،التی جعلها الله تعالی بعد مرتبة النبی صلّی الله علیه و آله،وذکرهم فی کتابه العزیز فی الآیات 44 و63 من سورة المائدة, و الآیة 76 من سورة آل عمران.

الثانیة:طبقة المراجع المجتهدین،وهم الذین عبّر الله تعالی عنهم بالأحبار,

ص:319


1- (1) .هذه الهرمیة مقتبسة مع التصرّف الکثیر،من بعض محاضرات المحقّق السید محمّدباقر الصدر.

وجعلهم فی مرتبة ثانیة بعد الربّانیین فی قوله تعالی:

إِنّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِیها هُدیً وَ نُورٌ یَحْکُمُ بِهَا النَّبِیُّونَ الَّذِینَ أَسْلَمُوا لِلَّذِینَ هادُوا وَ الرَّبّانِیُّونَ وَ الْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ کِتابِ اللّهِ وَ کانُوا عَلَیْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النّاسَ وَ اخْشَوْنِ وَ لا تَشْتَرُوا بِآیاتِی ثَمَناً قَلِیلاً... . (1)

فالأحبار مؤهّلون للإفتاء بین الناس بما استحفظوا من کتاب الله.

فهم علماء مجتهدون قادرون علی استنباط الأحکام الشرعیة من أُصول التشریع:النصّ القرآنی و السنّة الصحیحة،تلک النصوص التی کان الأئمّة حافظین لها ومجسّدین لاستمرارها.

فی هذه الطبقة نجد مجموعة کبیرة من العلماء،ربما تفاوتوا فی ولائهم وإخلاصهم لأهل البیت علیهم السلام ولکنّهم استفادوا منهم منتهی الاستفادة،ثم تصدّوا للفتوی وتفریع الأحکام حسب حاجتهم وحاجة من یرجع إلیهم.فقد أجمعت المصادر الحدیثیة علی أنّ الإمام الصادق علیه السلام قد أمر بالرجوع إلی بعض أصحابه فی مسائل فرعیة عند الحاجة،والقدر المتیقّن الذی لا نقاش فیه هو منصب القضاء الذی لا شکّ فی اشتراط الاجتهاد فی متَقلِده...وسیأتی الکلام حول اهتمام الأئمّة بإلقاء الأُصول،وتعلیمهم لتلامذتهم کیفیة استنباط الفروع.

فی عرض هؤلاء الفقهاء المنتسبین إلی المحور الولائی،من أمثال زرارة بن أعین ومحمّد بن مسلم الثقفی،وهی طبقة المکلّفین بالاجتهاد لأسباب مختلفة،ظهر عدد من المراجع بدا للبعض کأنّه فی عرض أئمّة أهل البیت علیهم السلام،ولکن القرائن التاریخیة الثابتة تُوحی بغیر ذلک فی کثیر من الحالات.

و قد سبق أن أشرنا إلی هذه الطبقة التی جمعت بین الاستقلال بالاجتهاد والانتماء

ص:320


1- (1) .المائدة:44.

الصریح لمحور السنة و العترة.و قد مرّت الإشارة إلی انتساب أبرز أقطابها, و هو أبو حنیفة النعمان بن ثابت رحمة الله،إلی الزیدیة الجارودیة.وکذلک الإمام مالک بن أنس الأصبحی رحمة الله فقد کان من أبرز الداعمین لثورة محمّد النفس الزکیة التی استقطبت عدداً کبیراً من الزیدیة ومن الشیعة بوجه عامّ. (1)

الثالثة:وفی المرتبة الثالثة نجد طبقة الحفّاظ, وهم من کانوا دون مرتبة الاجتهاد و المرجعیة و التزموا خطّ من اختاروهم من الأحبار فأصبحوا حفّاظ مذاهبهم وشّراح کتبهم و الناطقین باسمهم فی المحافل،والمنافحین عن مکانتهم فی المناظرات.

ومن الحفّاظ من لزم أئمّة أهل البیت علیهم السلام ولم یرضَ بمن دونهم رغم ما فی هذا الالتزام من مجازفة بالنفس ومخاطرة بالسمعة السیاسیة لدی السلطات.

ومنهم من لزم المراجع و المجتهدین الذین برزوا فی عرض أئمّة أهل البیت علیهم السلام،وتمکنوا من ملء الفراغ الذی فرضه الحصار المضروب علیهم.فکان بعض هؤلاء الحفاظ لا فقط مبتعدین عن التهم السیاسیة المحرجة،بل متقربین إلی السلطان أحیاناً،کما کان حال أبی یوسف،صاحب کتاب الخراج،الذی ینسب إلیه القسم الأعظم من الفقه الحنفی،وأسد بن الفرات،الذی سبق الإمام سحنون إلی ترویج مذهب الإمام مالک رحمة الله،حتی بعد وفاته،رغم إرادة مؤسّسه. (2)

الرابعة:فی المرتبة الرابعة حیث نجد المحدّثین وعامّة المتکلّمین الذین تعجّ بهم المساجد ومجالس أهل الریاسة من الدرجة الثانیة کالعمال و الولاة.یمکن أن نسمیهم:شیوخ الجماهیر, وهم یشکّلون الثقل الأکبر فی الرأی العامّ الشعبی.

ص:321


1- (1) .یمکن الرجوع إلی تفاصیل الثورة و المواقف المرویة عن الإمام مالک،خاصة فی:مقاتل الطالبین:230و383؛والإمامة و السیاسة:148/2.
2- (2) .من المعروف عن مالک أنّه کان یحرّم تقلید المیت،کما سیأتی.
موقع الزیدیة و الحنفیة من البناء المدرسی

تقدّم أن الزیدیة فرقة منشقة عن التشیع الولائی،و أنّ انشقاقها کان فی اتّجاه تقویة أدوات التبلیغ الوحدوی علی حساب بعض المسلّمات العقائدیة للتشیع الولائی.فمن الطبیعی إذاً،أن یکون لهذه الفرقة الثوریة موقع خاصّ علی هامش الهیکلیة المدرسیة التی أسّسها أئمّة أهل البیت علیهم السلام فی مسجد المدینة.

ولعلّ وجود الزیدیة علی الحاشیة،وابتعادهم عن مرکز الإشعاع العلمی بحکم تشتتهم فی الآفاق،هو الذی حرمهم من بلورة خط فقاهی متمیز فی ذلک الزمان،فکان ظهور أبی حنیفة فی العراق کفقیه ثوری منتسب إلی إحدی الحرکات الزیدیة،ملأً لفراغ کانت تعانی منه،فغض الجمیع الطرف عمّا ینسب إلیه من المیول الجارودیة الغالیة.

هکذا أصبح أبو حنیفة رحمة الله یلعب أهم الأدوار فی تأمین التغطیة التشریعیة لجمیع المتردّدین فی الانضمام إلی مختلف الثورات الزیدیة.وتورّط اسمه خاصّة فی ثورة محمّد النفس الزکیة الذی لم یکن زیدیاً, ولکن قیامه قد جذب إلیه الزیدیة الذین اعتقدوا بأنّه إمام،بحسب مبناهم.

یمکن القول, إذا أنّ الانتماء الزیدی لأبی حنیفة رحمة الله من جهة،ووجوده فی العراق من جهة أُخری،هو الذی جعل فقهه یتطوّر علی هامش التشیع المدرسی،ولیس داخله،کما یلاحظ من الابتعاد النسبی للکثیر من الفتاوی و الأحکام المنسوبة إلیه،عن فقه أهل البیت علیهم السلام،رغم إمکان الخدش فی صحّة نسبة مجموع الفقه الحنفی إلیه،بحکم تدوینه علی ید تلامیذه الحفّاظ الذین کان لهم شأن آخر مع السلطة, ومع التشیع المدرسی.

2-حول انتساب أبی حنیفة إلی الجارودیة
اشارة

یروّج صمت مطبق بین أتباع المذهب الحنفی خاصّة،وأکثر علماء الجمهور عامّة حول عقائد أبی حنیفة.وممّا ساعد علی هذا الإغفال ضیاع کل آثاره العقائدی،وحتی

ص:322

کتاب الفقه الأکبر،فنسبته إلیه مشکوکة.کما أنّ أهل الإنصاف منهم لا یتحرّجون من إخراج أبی حنیفة رحمة الله من دائرة القائلین بالقاسم المشترک بین المنتسبین لائتلاف أهل السنّة و الجماعة, و هو القول بشرعیة الإمام المتغلّب بالسیف،رغم اضطرارهم لإبقاء المذهب الحنفی ضمن هذا الائتلاف.

لکن عبد الکریم الشهرستانی،و هو الأشعری فی عقائده علی الظاهر، (1)قد أرسل نسبة أبی حنیفة رحمة الله إلی الزیدیة الجارودیة إرسال المسلّمات،وبعد استعراض مختصر عن تقریره،سوف نفتح ملف الاستبداد السیاسی الذی أدخل أبا حنیفة ومذهبه فی دوامة الإبهام؛وجعل تلامیذه یتصرّفون فی مذهبه،فینسب بعضهم إلیه ما یرونه صالحاً،ویغفلون ما لا یمکنهم الدفاع عنه.

أبو حنیفة و الجارودیة والاستبداد العبّاسی

قرر الشهرستانی الحالة الصدامیة التی میزت العلاقة بین الإمام أبی حنیفة وسلطة الخلافة العباسیة،فنقل الخلاف فی تفسیر سبب هذا الصدام،فقال:

...کان أبو حنیفة رحمه الله علی بیعته[أی لأبی الجارود]ومن جملة شیعته،حتّی رفع الأمر إلی المنصور،فحبسه حبس الأبد حتّی مات فی الحبس.وقیل:إنّه إنّما بایع محمّد بن عبد الله الإمام[أی النفس الذکیة]فی أیام المنصور،ولمّا قتل محمّد بالمدینة،بقی الإمام أبو حنیفة علی تلک البیعة یعتقد موالاة أهل البیت،فرفع حاله إلی المنصور, فتمّ علیه ما تمّ.... (2)

وأیا کان الصحیح من بین هذین القولین،فالمعنی المشترک بینهما هو أن صمود أبی حنیفة فی ولائه لأهل البیت،کان سبباً لجلب نقمة السلطة علیه.و إذا تأمّلنا فی

ص:323


1- (1) .هناک تحقیقات معاصرة تمیل إلی القول،بأنّه لیس علی مذهب الأشاعرة،و إن کان تعصّبه الشدید ضدّ المعتزلة و الفلاسفة قد أوهم القدماء بذلک.
2- (2) .الملل و النحل:159.

کلام الشهرستانی هذا،وقارنّاه مع ما تناقلته کتب التاریخ من عفو المنصور عن أبی حنیفة بعد قتل محمّد النفس الزکیة فی المدینة،فإنّه من الصعب الاعتقاد بأنّ مجرّد نسبة التشیع بمعناه الأعمّ لأبی حنیفة کان کافیاً لیجرأ المنصور علی حبسه وقتله بالسمّ علی ما هو شائع.و قد کان المنصور بإمکانه دسّ السمّ له فی بیته کما فعله مع الإمام الصادق علیه السلام نفسه.و إنّما یعود هذا السلوک المتغطرس إلی إحساس المنصور بأنّ یده طلیقة فی أبی حنیفة رحمة الله،بعد أن شاعت نسبته إلی الجارودیة التی تبّرأ منها ومن غلوّها جمهور المسلمین, وشیعة أهل البیت علیهم السلام علی حدّ سواء.

فهل تکون هذه القرینة کافیة لتأیید القول بأن الإمام أبا حنیفة رحمة الله ظل جارودیاً إلی آخر أیام حیاته؟

الجواب الأرجح هو النفی.أما تفسیر ما وقع من المنصور،فهو دهاؤه السیاسی الذی مکنه من الاستفادة من تهمة قدیمة،لم تساعد الأیام أبا حنیفة رحمة الله علی التخلص منها،حتی بعد انصرافه عن تلک العقائد الباطلة بعقود.فمن المعلوم أنّ أبا الجارود قد توفی قبل أبی حنیفة بأکثر من ثلاثة عقود،وقع فیها ما وقع من حوادث غیرت الاتجاه العقائدی لهذا الفقهیة الکبیر.

هل أبو حنیفة سنی؟

حین نقل محمّد أبو زُهرة کلمات بعض الأئمّة:فی وجوب إطاعة الخلیفة الفاسق و الجاهل،والجائر،قال:

هذا هو المنقول عن أئمّة أهل السنّة،مالک،والشافعی،وأحمد. (1)

فأسقط ذکر أبی حنیفة،وهکذا فعل سائر المتکلّمین فی هذه المسألة،وکأنّ أبا حنیفة رحمة الله لیس من أئمّة أهل السنّة؟!

ص:324


1- (1) .تاریخ المذاهب الإسلامیة:155.

وعلّة ذلک،کما توضّح من جمیع ما تقدّم،أنّ أبا حنیفة رحمة الله کان علی خلاف هذه العقیدة،فهو لا یری شرعیة للخلفاء المتغلّبین بقوّة السیف،وخاصّة بنی العبّاس الذین سرقوا الخلافة!ویقرّر صاحب الکشّاف هذه العقیدة،بقوله:

...الفاسق لا یصلح للإمامة،وکیف یصلح لها من لا یجوز حکمه وشهادته ولا تجب طاعته ولا یقبل خبره ولا یقدّم للصلاة؟

وکان أبو حنیفة رحمه الله یفتی سرّاً بوجوب نصرة زید بن علی(رضوان الله علیهما)،وحمل المال إلیه،والخروج معه علی اللصّ المتغلّب المتسمّی بالإمام و الخلیفة،کالدوانیقی وأشباهه. (1)

وقالت له امرأة:أشرت علی ابنی بالخروج مع إبراهیم ومحمّد،ابنی عبد الله بن الحسن حتّی قتل.فقال:لیتنی مکان ابنک!!

وکان یقول فی المنصور وأشیاعه:لو أرادوا بناء مسجد،وأرادونی علی عد آجره لما فعلت.... (2)

لأجل هذا أسقطت رؤیة أبی حنیفة بالکامل عن نظریة أهل السنّة فی الإمامة،وکأنّ هذه النظریة قد قامت علی أساس قبول إمامة الفاسق و الجائر و الجاهل،وکلّ قول لا ینسجم مع هذا فلا یحسب علی أهل السنّة،ولا یعدّ قائله فی أئمّة أهل السنّة الذین یرجع إلیهم فی مثل هذه المسائل؟!

ولو کان الأمر کذلک للزم إخراج مالک رحمة الله أیضاً من هذه الدائرة،و هو الذی لم یکن یقلّ ثوریة عن أبی حنیفة ردحاً من حیاته،ولا یمکن أن یکون اتّجاهه المدرسی اللاحق مانعاً من بقاء عقیدته الثوریة.

ص:325


1- (1) .هذه العبارة موهمة،بما هی علیه من شدة الاختصار،فلا بدّ من الانتباه إلی الجمع بین ثورتین الأولی لزید الشهید.وکانت علی الأمویین وقبل عشر سنوات من ظهور العبّاسیین،والثانیة لأبناء عبد الله بن الحسن،وکانت بدایتها مع ثورة النفس الزکیة بالمدینة.
2- (2) .الکشاف عن حقائق التنزیل وعیون الأقاویل:309/1.

من هنا وجب تنقیح القول فی مفهوم الانتساب إلی أهل السنّة و الجماعة.و قد عرفنا من البحوث السابقة،أنه غیر بعید عن المساواة مع مفهوم التشیع المدرسی؛والأدق القول بالمساواة بین أهل السنة و الجماعة و الولاء إلی السنة و العترة.

البحث الواحد و الثلاثون:من مدرسیة مالک إلی مذهبیة سحنون
اشارة

بعد استشهاد الإمام الصادق علیه السلام،واضطرار وارث علمه الإمام موسی بن جعفر علیه السلام،إمّا إلی لزوم التکتّم و التقیة أو قضاء العمر فی سجون العباسیین، (1)ابتلی المحور الولائی بکثرة الانشقاقات،و قد مرّ ذکر أهمّها فی الباب السابق.

و قد أشرنا هنالک،إلی أنّ هذه الانشقاقات قد اجتذبت الکثرة الکاثرة من الشیعة الذین لم یقدروا علی الصبر أمام الاضطهاد العبّاسی،وتسرّعوا فی الانضمام إلی دعاة الثورة مثل الحسنیین و الزیدیة،أو التنظیمات السرّیة مثل الإسماعیلیة.

أمّا الإمام الرضا علیه السلام،فقد زاد فی مظلومیته،تکاثر الواقفة، (2)وهم وکلاء أبیه الذین لم یرتضوا بتحویل الإمامة إلیه.

علاوة علی هذا،فإنّ دسائس الحاسدین لم تلبث أن أقنعت هارون الرّشید،بأنّ وجود الإمام الکاظم علیه السلام حرّاً طلیقاً هو أکبر خطر یتهدّد دولته،فأمر بسجنه و التضییق علیه،وبقی إمام أهل البیت علیهم السلام أربعة عشر سنة فی السجن إلی أن استشهد مسموماً سنة 183ه.

فی هذه الأجواء،کانت الساحة الثقافیة الإسلامیة فی أشد الحاجة إلی من یملأ الفراغ الرهیب الذی أحدثه الحصار المضروب علی أئمة محور السنة و العترة،فانتقلت الریادة إلی الطبقة الثانیة،التی کانت تضم کبار المراجع الذین

ص:326


1- (1) .قضی قرابة نصف مدّة إمامته فی سجن العبّاسیین.
2- (2) .أطوار الاجتهاد ومناهجه:350/2 البحث حول ظاهرة الوقف و الواقفة.

استقلوا بالفتوی،وتعودت جماهیر المسلمین الرجوع إلیهم.فلمع نجم الإمام مالک بن أنس رحمة الله،فی المدینة المنورة،وتحوّل من الثوریة التی سببت له الاضطهاد فی عهد المنصور إلی الواقعیة العلمائیة،التی تمکنه من القیام بدوره الاجتماعی الجدید.

1-ملامح الواقعیة المدرسیة عند الإمام مالک
اشارة

فی تلک الظروف الخاصّة لمع نجم الإمام مالک رحمة الله،حتّی لقب بعالم أهل المدینة بلا منازع،فقیل:لا یفتی ومالک فی المدینة.

ولیس هناک شاهد واحد لا یقبل الخدش سنداً أو دلالةً،یؤید ما ذهب إلیه بعض المؤرّخین من کون بروز مالک رحمة الله فی المدینة کان بتنسیق مع الدولة العباسیة،لإبعاد الناس عن أهل البیت علیهم السلام؛بل إنّ معظم القرائن التاریخیة تؤکّد أنّ مالکاً کان یواجه مهمّة خطیرة ومصیریة،تتمثّل فی حفظ ما یمکن حفظه من الحدیث النبوی من أیادی الدسّ و التدلیس،وإبعاد عامّة الناس عن أشباه الفقهاء الذین کانوا سیملؤن الساحة فی غیاب أئمّة أهل البیت علیهم السلام وتشتّت أنصارهم فی الآفاق.

فالإدعاء بأنّ الاستقلال بالفتوی من دون الرجوع إلی أئمة أهل البیت علیهم السلام،هو تنکرّ لهم،لا یقف أمام الدلیل،فقد کان بعض المعروفین بولائیتهم المطلقة من أمثال محمد بن سنان،ومحمد بن مسلم الثقفی،وزرارة بن أعین،یفتون الناس بعد أن سمح لهم أئمتهم بذلک مؤکدین:أنهم علیهم بإلقاء الأصول دون التفریع؛ولا یبعد أن یکون لأئمة مذاهب الجمهور الکبری مثل مالک و الشافعی(رضی الله عنهما)،مثل هذا الترخیص.وعلی أیة حال فإن الاجتهاد،فی تلک الظروف،کان متعیناً علی کل من له الملکة؛و قد حصل للشیعة الإمامیة،بعد غیبة الإمام الثانی عشر،وضع مماثل لذلک الوضع:فاختلف المجتهدون من الإمامیة فی بعض مسائل الفقه أکثر من اختلاف بعض

ص:327

أئمة الجمهور فیما بینهم.ویکفی،للتأکد من هذا،النظر إلی عمق الخلاف بین فتاوی الشریف المرتضی وتلمیذه الشیخ الطوسی،علیهما الرحمة.

لماذا أعرض مالک عن البحث العقائدی؟

لا شکّ فی أنّ مالکاً الفقیه،کان متحرّجاً شدید التحرّج من طرح عقائده،والشواهد علی ذلک کثیرة،أشهرها ما نجده فی ترجمته نقلاً عن طبقات الشعرانی و هو:

وسئل(رضی الله عنه)عن معنی قوله تعالی اَلرَّحْمنُ عَلَی الْعَرْشِ اسْتَوی , فعرق وأطرق وصار ینکت بعوده فی یده،ثمّ رفع رأسه, وقال:(الکیف)منه غیر معقول،و(الاستواء)منه غیر مجهول و الإیمان به واجب،والسؤال عنه بدعة.وأظنّک صاحب بدعة.وأمر بالسائل،فأخرج. (1)

أمام مثل هذا الموقف،لنا أن نتساءل هل یعقل أن مثل هذا الفقیه لا یقدر أن یجیب بأی إجابة من الإجابات المتعارفة آنذاک؟فلو کان علی مثل عقیدة جمهور المحدّثین لما تحرّج فی الإجابة.فهذا الإعراض عن الخوض فی مسائل العقائد،إنّما یکشف عن بقائه علی الانتساب إلی عقیدة أهل البیت علیهم السلام،تلک العقیدة التی انکشفت حین مشارکته الحاسمة فی ثورة محمّد النفس الزکیة،و هو الأمر الذی تطبق علیه کتب التاریخ قاطبة.

مع هذا،فهذه المسألة تحتاج إلی مزید من الفحص،فهل کان مالک رحمة الله یتسلّح بسلاح التقیة؟وکیف ذلک؟

حول غموض عقیدة مالک

إذا کان انتماء أبی حنیفة رحمة الله إلی المدرسة الرسالیة،عرضة للتشکیک لما ظهر من میوله الجارودیة, ولم یمکنّنا تأکید هذا الانتماء إلا باستقراء القرائن التاریخیة المتعدّدة؛فإنّ وضع الإمام مالک رحمة الله لیس علی مثل هذا التعقید.فیمکننا التأکید،دون کبیر مجازفة،أنّه

ص:328


1- (1) .المدونة الکبری:465/6؛و نشأة التفکیر الفلسفی فی الإسلام:237/1.

کان من أبرز خرّیجی هذه المدرسة المعطاء،و هذه حقیقة حاول مؤرخّو بنی العبّاس،المتزلفون إلی السلطات طمسها؛ولکنّ دون جدوی،فها نحن نستشفها من بین السطور.

فلقد ترعرع هذا المرجع الشعبی الکبیر ونشأ بالمدینة المنورة،فأمکنه الاستفادة من الأجواء العلمیة التی سادتها،فینتقل بین الإمام الباقر علیه السلام وتلامذة سعید بن المسیب آخذاً الحدیث عن حفّاظه،والعلم من أعلامه،ولا شکّ أن وجود ربیعة الرأی فی المدینة قد أفاده فی منهجة فقهه.

ولکّن الطابع الغالب علی فترة دراسته هو الالتزام بخطّ المدرسة الرسالیة.فبعد الإمام الباقر علیه السلام لازم الإمام جعفر الصادق علیه السلام واستفاد من موسوعیته الکبیرة،فتفتّق ذهنه عن عبقریة قلّ نظیرها.

وکان محور الدراسة حینئذ هو الحدیث النبوی الشریف و القرآن الکریم،ولقد أصبح المجتهد مالک رحمة الله فیما بعد قطب مدرسة الحدیث التی واجهت ما أنشأه إبراهیم النخعی, وبعض تلامیذ أبی حنیفة بعده فی العراق, وما اصطلح علی تسمیته بمدرسة الرأی.

ولما کان عصر الإمام مالک بدایة شیوع علم الکلام،والصراع المحتدم بین المعطّلة و المجسّمة،وتبلور الاعتزال فی مواجهة الجبریة؛فقد کان لزاماً علی المدرسة الرسالیة أن تطرح بدیلها الواضح،علناً و أمام الجماهیر.فلم یعد یجّدی نفعاً أن تحفظ العقائد فی طیات الکتب ویستأثر بها الخاصّة دون العامّة،وهی السنة التی سنّها أبو هاشم بن محمّد بن الحنفیة،وأصبح لزاماً علی الرسالیین أن یوضّحوا المفاهیم الأصلیة لمن هم بحاجة إلیها.

فبرز حفّاظ متکلّمون ومجادلون باسم المدرسة،یناظرون باسمها ویذودون عنها،و قد سمّی هؤلاء بالمتکلّمین الجعفریین،وأبرزهم هشام بن الحکم،بعد انتقاله من الحشویة إلی التشیع. (1)

ص:329


1- (1) .بقی هذا الانتقال غیر واضح لدی مؤرخی الکلام،فحسبوا کثیرا من مقولات عهده الأول من مقولات عهده الثانی.

وإلی جانب هؤلاء المدافعین عن عقائد أهل البیت علیهم السلام،کان لزاماً علی المدرسة أن تبعد عامّة المسلمین عن علم الکلام لما فیه من منزلقات خطیرة تؤدّی إلی انحرافات من السهل أن یقع فیها عدیم الخبرة وقلیل النباهة،و هو حال أغلب المسلمین،لما کانوا علیه من الأمیة و الجهالة الجهلاء،ولم یکن أخطر علی جمهور المسلمین من ذیوع الکلام بینهم وتطفّل قلیلی العلم علیه.

وهکذا اشتهر عن هذه المدرسة أیضاً أنها مدرسة الحدیث،واشتهر عن مجتهدیها ذم الکلام،والإعراض عنه وتجریح المتکلّمین.

و قد اشتهر الإمام مالک رحمة الله بالإعراض الکلّی عن علم الکلام بما هو جدل حول المتشابهات ومراء حول المحکمات،فاشتهر عنه قوله:إنّ الکلام بدعة،وکذا الردّ علیه.حتّی بقیت معتقداته مخفیة عن العامّة،غامضة لدی الخاصّة.و هذا،ولا شک،نجاح من وجهة النظر العملیة؛ولکنّه لم یکن خالیاً من الأخطار المستقبلیة،فقد سهل الرکوب علی اسمه من طرف المعتزلة مثلما ذکره ابن عساکر، (1)فقد أورد حواراً بین ابن أبی زید القیروانی،صاحب الرسالة الفقهیة المشهورة باسمه،و هو أحد أشهر مروّجی مذهب مالک وبین أحد المعتزلة البغدادیین،فنسب هذا الرجل مالکاً إلی المعتزلة مرغّباً لابن أبی زید فی مذهبه, ممّا یدل بوضوح علی أنّ المالکیة لم یکونوا أبداً یدینون بمذهب عقائدی متشخص کالأشعریة أو غیرها.و قد اتّضح هذا المعنی بالتدریج مع أبی الولید بن رشد الفقیه المالکی و الفیلسوف(ت/595ه(،ومع ابن الصبّاغ المالکی المکی صاحب کتاب الفصول المهمّة فی معرفة الأئمّة،بعد ذلک بقرنین ونصف.

ص:330


1- (1) .تبیین کذب المفتری فیما نسب إلی الإمام أبی الحسن الأشعری،122،نقلاً عن:خماسیة عصر الختم.
مسلک مالک بین الکتمان و الثوریة

لقد عرف الإمام مالک رحمة الله کیف یبقی خارج التیارات التهمیشیة التی شهدتها الساحة الفکریة علی عهده،فلم یصّح عنه أی موقف کلامی واضح.فحتّی فی المواقف المحرجة،کان یتخلّص بذکائه وفطنته من الإجابة،کما تقدّم.

وخلاصة القول:أنّ مالک بن أنس رحمة الله لم یخض قطُّ فی الکلام.

أمّا الرسالة التی نسبها إلیه القاضی عیاض-حسب علی سامی النشار (1)-فلیست حجّة ما لم نقف علی مضمونها وصحّة نسبتها وإسنادها.ولا یمکننا الاستناد علیها للتأکید بانبثاق مذهب کلامی عن الإمام مالک رحمة الله؛وما فعله سامی النّشار، (2)قد یفسّر بالحرص علی إدخال مالک فی المتکلّمین الأشاعرة،انتصاراً لمیوله الأشعریة.

ومهما یکن من أمر،فلا یمکن أن نتخیل أن مالکاً کان خالی الذهن من الإشکالیات الکلامیة التی فرضت نفسها فی عصره, فهو لم یکن مجرّد محدّث یجمع الأحادیث ویدونها بل کان فقیهاً مجتهداً مرجعاً لقسم کبیر من المسلمین فی عصره،ولم تکن لتتمّ له هذه المرجعیة بدون أسّس عقائدیة متینة وواضحة،فالاجتهاد فی الفقه لا یتوفّر دون الوضوح العقائدی التّام،ولکن هذا الوضوح قد احتفظ به صاحبه لنفسه فحفظه من أسماع المتطفلین و الوشاة،متسلّحاً فی إخفائه بسلاح اسمه:لا أعلم.

و قد أثر عن مالک رحمه الله قوله:لا أعلم نصف العلم.

و قد سُئِلَ مرّة فی جلسة واحدة ثمانیة وأربعین مسألة, فأجاب فی اثنتین وثلاثین منها:لا أعلم. (3)

ص:331


1- (1) .المصدر:237.
2- (2) .المصدر:251.
3- (3) .المدونة الکبری.

والغریب أنّ الباحثین یمرون علی هذه المقولة الذکیة مرور الکرام،فیعتبرونها من تواضعه وحسن خلقه، (1)فلو تأمّلنا هذه القولة الحکیمة،لعرفنا عظمة قائلها وإبداعه فی فن الکتمان العقائدی.فکلمة:لا أعلم نصف العلم, تظهر أنّ شعار لا أعلم الذی استعمله کثیراً فی الردّ علی الأسئلة الحرجة یخفی وراءه نصف العلم الذی اختار لنفسه کتمانه.فکلمة لا أعلم, هی:إحالة إلی من یعلم, ولا یقول أبداً, لا أعلم،وهم أئمة أهل البیت علیهم السلام،الذین حفظوا العلم النبوی.

ولکن هذا الکتمان لم یستمرّ دائماً،کما عرفناه من موقفه من ثورة محمّد النفس الزکیة.و قد کان خروج الإمام مالک رحمة الله معه أکبر مشجع لأهل المدینة علی القتال فی صفه،فقد روی الأصفهانی:أنّ الفتوی التی أصدرها مالک بن أنس رحمة الله،عندما جاء القوم یستفتونه فی القعود عن القتال مع محمّد بن عبد الله معتذرین ببیعتهم السابقة لأبی جعفر المنصور،فقد قال لهم:إنّما بایعتم مکرهین،ولیس علی مکره یمین, فدفعهم بذلک إلی الثورة،قاطعاً عنهم سبیل الاعتذار. (2)

وروی أیضاً: (3)أنّ الإمام مالک رحمة الله لما خرج فی جیش محمّد النفس الزکیة إلی ظاهر المدینة, قال له رجل مسنّ ضعیف لا یقدر علی القتال, فأجابه أنّه إنّما أراد أن یقتدی به الناس...

وحتّی بعد انتهاء الثورة وفشلها لم یقطع مالک بن أنس رحمة الله الأمل فی قیام دولة شرعیة بقیادة رسالیة.

فیروی بن قتیبة:أنّه کان یواسی أهل البیت علیهم السلام الذین اضطهدتهم السلطة،فکان یقول لأحدهم:أصبر حتّی یأتی تأویل هذه الآیة وَ نُرِیدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَی الَّذِینَ

ص:332


1- (1) .مثلما فعل طه جابر فیاض العلوانی فی:أدب الاختلاف فی الإسلام.
2- (2) .مقاتل الطّالبین:383.
3- (3) .المصدر:230.

اُسْتُضْعِفُوا فِی الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِینَ . 1

هکذا کان دأب المراجع الشعبیین.فهم لا یصرحون بعقائدهم إلی لضرورة،فیستعصمون بذلک من جهل العوام المتشبثین بکلّ ما یداعب المشاعر.وبهذا تتمّ لهؤلاء المراجع إمکانیة الإیفاء بدور النموذجیة الحیة فی مواجهة دعاة النموذجیة المیتة من مقلّدة أهل الحدیث،الذین أشربوا الجبریة و التجسیم فی عقائدهم.

2-هل أسّس مالک مذهباً مستقلاً؟
اشارة

بملاحظة ما تقدم،قد یقال أنّ مجرّد ملء الفراغ الفتوائی فی غیاب أئمّة أهل البیت علیهم السلام،لا یخوّل لصاحبه أن یتحوّل إلی تأسیس مذهب فقهی بدیل, بل کان علیه أن یقتصر علی أداء دوره حال حیاته.

و قد یجاب عن هذا بأن الإمام مالک رحمة الله لم یزکّ من بین تلامذته الکثر إلا القلیل ممّن اشتهر بحبّه وولائه لأهل البیت علیهم السلام؛بل إنه لم یثبت أنه قد أجاز،صراحة،لأحد بالاجتهاد،غیر محمّد بن إدریس الشافعی رحمة الله إمام المذهب المعروف باسمه.

وربّما کان یری فیه المجتهد الکفء الذی یمکنه تأمین فتح باب العلم فی الأقطار التی ثبت فیها الانسداد،بسبب الاضطهاد العبّاسی،مثل مصر.

أمّا تناقل تلامیذه أفکاره وآراءه من بعده،ونشرها کمذهب فقهی لا یقبل المنافسة حتّی من الشافعی نفسه، (1)فلیس مسؤولاً عنه, بل إنه قد أُثر عنه تحریمه لتقلید المیت أصلاً؛و هذا ممّا یغلق الباب أمام تقلیده بعد موته.

مغزی الإفتاء بحرمة تقلید المیت

رغم الحصار المضروب علی هذه الفتوی التی تحرج مروّجی مذهب مالک بعده

ص:333


1- (2) .من المعروف أنّ الشافعی قد قتله متعصبو المالکیة فی مصر.

علی نحو التقلید،فإنّنا نجدها منقولة بقلم أبرز ورثة التراث المالکی من بعده،الذین تصدّوا للتجدید.فقد نقل الحطّاب الرعینی فی:مواهب الجلیل شهادة القرافی, و هو من أبرز مجدّدی المالکیة المتأخّرین،ضمن إطار عامّ من التردّد بین جواز التقلید وعدمه:

یجوز تقلید المیت علی الصحیح, وعلیه عمل الناس, ولو وجد مجتهد حی.

ومنع الإمام الرازی تقلید المیت, قال:لأنّه لا بقاء لقول المیت،بدلیل انعقاد الإجماع بعد موت المخالف قال:وتصنیف الکتب فی المذاهب مع موت أربابها لاستفادة طریق الاجتهاد من تصرّفهم فی الحوادث وکیفیة بناء بعضها علی بعض،ولمعرفة المتّفق علیه من المختلف به،وعورض بحجة الإجماع بعد موت المجمعین.

وقیل:یجوز تقلید المیت إن لم یوجد مجتهد حی, هکذا ذکر الخلاف غیر واحد.وحمل بعضهم إطلاق المانعین علی أنّ المراد إذا فقد مجتهد مماثل للمیت أو أرجح،أمّا إذا فقد المجتهدون مطلقاً فلا یترک الناس هملاً.قلت:هذا الحمل متعین.

ونقل البرزلی فی أوّل کتابه عن الفهدی أنّه قال:المشهور،لا یجوز تقلید المیت،ولم یتعقبه بأنّه خلاف ما علیه العمل.

ونحوه ما ذکر ابن ناجی فی أوّل شرح الرسالة قال:أجمع أهل الأُصول علی منع تقلید المیت, کما حکاه القرافی فی شرح المحصول, لکنه قال بعده:نصّ ابن طلحة فی شرح الرسالة:علی أنّه یجوز تقلید العالم مع وجود الأعلم و إن کان میتاً؛لأنّ بموته أمن رجوعه عن قوله بخلاف الحی.قال التادلی:ونظار أهل الأعصار و الأمصار. (1)

هذه المناقشة الطویلة فی مسألة حرمة تقلید المیت تکشف النزاع الذی قسّم ورثة فقه مالک إلی اتّجاهین رئیسیین:

الأول:اتّجاه المشهور المحکی عن البرزلی وعن القرافی؛و هو یتمسّک بالحرمة.

الثانی:اتّجاه الفتاوی الرائجة عملیاً،وهی علی خلاف مشهور أهل العلم؛و هذا الاتجاه یجیز تقلید المیت،أو یشرط الحرمة بشروط صعبة التحقّق فی نظرهم.

ص:334


1- (1) .مواهب الجلیل:44/1.

وفی جمیع الحالات،لا أحد یجرؤ علی التشکیک فی أصل صدور الفتوی بتحریم التقلید،التی لها مغزی فی غایة الخطورة،و هو سقوط مشروعیة جمیع مراتب التّقلید لمالک،خاصّة مع استمرار حرکة الاجتهاد المطلق بعده،و قدرها المتیقّن محمّد بن إدریس الشافعی رحمة الله.

ومن هنا نستطیع أن نفهم حالة التشنج القصوی التی وقع فیها أبرز وجوه المالکیة فی مصر،و هو أشهب،الذی أمر بضرب الشافعی رحمة الله،فنزف من ذلک الضرب حتی توفی.

وهکذا یتحصل أن ترویج مذهب الإمام مالک،رغم استمرار حرکة الاجتهاد المطلق،کان تعبیراً عن أحد اختیارین:

الأول:التقلید و الوقوف ضد الاجتهاد؛و هذا اتجاه متطرّف قد اجتنبه جمهور العلماء.

الثانی:استمرار حرکة الاجتهاد ضمن الإطار العام الذی تشکله الاختیارات الأصولیة الکبری للإمام مالک رحمة الله.

وحیث إن هذه الاختیارات الأصولیة لم تدون إلّا فی مرحلة لاحقة من تطور هذا الاتجاه؛فالحقیقة هی أن حرکة الاجتهاد التی انخرط فیها الجیل الثانی،کانت من نوع الاجتهاد المطلق.ولهذا،فنحن نجد اختلافات شدیدة فی کثیر من المسائل الهامة بین أقطاب المالکیة من مختلف الأجیال. (1)ویبقی السؤال مطروحا:هل کان الإمام مالک رحمة الله هو مؤسس المذهب المالکی؟

البحث الثانی و الثلاثونالحفّاظ و المبلّغون أمام التحدیات
اشارة

إنّ التأمّل فی الطبقات الأربع للهرمیة العلمیة التی تشکّلت بصفة خاصّة بمسجد

ص:335


1- (1) .للاطلاع علی اتساع هوة الخلاف بین فقهاء المالکیة فی کثیر من المسائل،یجدر مطالعة:الثمر الدانی.

المدینة المنورة،ثمّ انتشرت فی العراق،خاصّة فی البصرة و الکوفة،وفی إفریقیة،و خاصّة فی القیروان،یکشف عن کون الطبقتین الثالثة و الرابعة تشکلان أهمّ نقاط الضعف التی کانت تهدّد بالتحوّل إلی مراکز ترویج للثقافة الغوغائیة التی لم تمّت أبداً.

هکذا،وجدت الدعوات الانحرافیة ذات المنشأ السلطوی،مروّجین کباراً لها من بین رجال هاتین الطبقتین،وخاصّة بین رجال الطبقة الرابعة،أی:مبلّغی المذاهب و القوالب العقائدیة الجاهزة.

ومن أهمّ التیارات الانحرافیة التی استطاعت اختراق الهرم الأکادیمی،العقیدة الجبریة التی مرّ الإلماع إلیها فی الباب السابق،بوصفها إحدی أهمّ أدوات التمکن السیاسی الأموی،وأهمّ مظاهر التفسیخ الثقافی الذی حملته الغوغائیة الثقافیة.

1-نماذج من الانزلاق السلطوی للطبقة الثالثة

إذا سلّمنا بأن الطبقة الثانیة من الهرم العلمی الرسالی لم تخرج عن القیود العامّة التی یتطلبها الانتساب للاتجاه العام الوحدوی المدرسی بمعناه الأوسع،فإنّ هذا الکلام لا یصحّ أبداً فی حقّ الکثیر من رموز الطبقة الثالثة.ولنأخذ بعض الرموز الکبری المشار إلیها سابقاً, کمثال.

أوّلها:أبو یوسف القاضی صاحب کتاب الخراج،کان تلمیذا لأبی حنیفة, ولکنّه لم یصمد أمام احتواء الخلیفة المنصور, فلم یکمل حیاته إلا فی خدمته, فتنکّر بذلک لنهج أستاذه.

ثانیها وثالثهما:أسد بن الفرات وسحنون المغربی، (1)ففی حین رفض أستاذهما

ص:336


1- (1) .هو أبو سعید عبد السلام بن سعید التنوخی الملقّب بسحنون الفقیه المالکی؛قرأ علی الإمام عبد الرحمن بن القاسم،وابن وهب،وأشهب, ثمّ انتهت إلیه الریاسة فی العلم بالمغرب.وکان رحمة الله یقول:قبّح الله الفقر!أدرکنا مالکاً،وقرأنا علی ابن القاسم, وولی القضاء بالقیروان من قبل الأغالبة،وعلی قوله المعول بالمغرب وکلّ إفریقیاً.وصنّف کتاب المدونة فی مذهب الإمام مالک،وأخذها عن ابن القاسم.وکان أوّل من شرّع فی تصنیف المدونة أسد بن الفرات الفقیه المالکی بعد رجوعه من العراق, وأصلها أسئلة سأل عنها ابن القاسم فأجابه عنها, وجاء بها أسد إلی القیروان, وکتبها عنه سحنون, وکانت تسمّی الأسدّیة.ثمّ رحل بها سحنون إلی ابن القاسم فی سنة ثمان وثمانین ومائة فعرضها علیه وأصلح فیها مسائل ورجع بها إلی القیروان فی سنة إحدی وتسعین ومائة...عن ترجمة الإمام سحنون،المدونة الکبری:472/6 و473.

الإمام مالک رحمة الله جمیع محاولات السلطة العباسیة لجعله فقیه السلطة من طرف الخلیفة المنصور ومن جاء بعده،فإنّ تلمیذیه هذین قد رأیا المصلحة فی الاستفادة من دعم أمراء بنی الأغلب بإفریقیة وأصبحا رمزین لفقهاء السلطة،لا عن ضعف وخوف،بل عن إرادة واعیة،وتشخیص لمصلحة.

فی الحقیقة قد أبرز التاریخ فی شأن القاضی سحنون مآثر یبرز فیها صلابة موقفه تجاه تجاوزات بعض الأمراء،ولکنّه مع ذلک تراه یستغلّ نفوذه لسنّ أوّل قانون رقابة فی تاریخ الإسلام:فمنع المحدّثین و الفقهاء من التدریس فی مساجد القیروان بدون إجازة منه،ولا شکّ أنّ هذا الموقف قابل للتوجیه فی زمانه،حیث شَحّة مصادر العلم الموثوق،وتکاثر أهل الأهواء والانحرافات, واستفحل أمر التکفیریین الخوارج خاصّة،بعد أن ابتلی علماء المحور الولائی بالمطاردة و التشرید فی الآفاق،فلم یظهر من العلویین رجل إلّا وقتل.

و قد تزامنت تلک الفترة مع اشتداد الاضطهاد الکبیر لأئمّة أهل البیت علیهم السلام،کما تقدّم.

2-خطورة موقع الحافظ

إنّ مثال الإمام سحنون المتقدّم لخیر ما یمکن أن یوضّح خطورة موقع هذه الطبقة الثالثة من الهرم الأکادیمی.و هذه حقیقة من السهل فهمها،فالحافّظ،من حیث هو مقتصر علی ترویج أفکار ومذهب مرجعه المجتهد،وتوضیحها وتقویتها بالاستدلالات،لا یمکن له أن یری الحقّ خارجه،فما أن یمسک بالسلطة حتّی

ص:337

یسعی إلی تضییق الخناق علی من خالف أفکار أستاذه.

هکذا فرض المذهب المالکی علی طریقة سحنون فی إرجاء الأمارة الأغلبیة،والطریف أنّ مالکیة المشرق قد احتفظوا ببعض الخصوصیات التی تمیزهم عن مذهب سحنون إلی یومنا هذا.

کذلک کان الأمر بالنسبة لأبی یوسف القاضی الذی روّج قراءته الخاصّة لمذهب أستاذه أبی حنیفة رحمة الله.وسنری أنّ ابن الإمام أحمد بن حنبل قد تطرّف أکثر من ذلک فجمع من تراث أبیه الإمام أحمد ما اعتقده مناسبا لظرفه السیاسی ولمنصبه فی کنف الدولة العباسیة،أی:القضاء،فأخرج ما أصبح یعرف بمسند أحمد, و هو الکتاب الذی یشکّ کثیراً فی صدق معبریته عن مجمل أفکار من ینسب إلیه.

وممّا زاد هذه الوضعیة تعقیداً هو اشتداد دواعی الانحراف فی طبقة أدنی من طبقة الحفّاظ کانت ألصق بالجماهیر الشعبیة،وهی الموسومة فی الترتیب الهرمی المتقدّم بالطبقة الرابعة.ومن الطبیعی أن یکون هؤلاء أقرب من غیرهم للاستجابة لمغریات السلطة،وأطوعهم لإرادتها،فکانوا یمثّلون سلاحاً ذا حدّین بین یدی المدرسة الرسالیة, فمن جهة أولی،یخشی المجتهدون من انتکاساتهم وارتدادهم السریع،فلا یبیحون لهم من المعارف إلّا ما یمکنهم تبریره عند الاقتضاء،ولعلّ فتوی الإمام مالک بجواز خلع الخلیفة المنصور من طریق ترویجه لحدیث:لیس علی مستکره طلاق, أبرز مثال یمکن سوقه فی هذا الباب رغم أنّ هذا المجتهد الشهیر لم یسلم من التنکیل والاضطهاد بعد أن أشاع شیوخ السوء المتزلّفون إلی السلطة العبّاسیة أن خلفیة هذه الفتوی لیست سوی التحریض علی خلع الخلیفة.

ومن جهة أُخری،تنظر إلیهم السلطات بمنظار الریبة و التشکّک،لالتصاقهم الظاهر بالأئمّة أو المجتهدین المراجع.

ص:338

فکان أصحاب النفوذ یمتحنون المحدّثین و المتکلّمین بحماسهم أو برودهم لحضور مجالسهم و المناظرة أمامهم.

و هذه الهیکلیة-کما یبدو-لا تخلو من نقاط ضعف, فزیادة علی وهن ارتباط أهل المرتبة الرابعة بالمهام الرسالیة الکبری لمدرستهم أحیاناً،فإنّ الخطر الأکبر إنّما هو کامن فی من هم أرفع مرتبة وأعلی مقاماً:الحفّاظ،فمنهم ومن طریقهم تسرّبت الأیادی العابثة داخل المدرسة الرسالیة،فعاثوا فساداً بعد خلوها من الأئمّة الذین مُلئت بهم وبأنصارهم وبأتباعهم سجون بنی العبّاس،وانقطاع حرکة الاجتهاد المطلق الناتج عن ذلک.

فبعد الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله نکبت المدرسة الرسالیة فی حفّاظها،الذین کثیراً ما باعوا ضمائرهم لأصحاب السلطان ومشوا فی رکابهم مؤتمرین بأوامرهم،منتهین عن نواهیهم،ولم یشذّ من هذه القاعدة إلا من رحم ربّک, وقلیل ما هم.

3-مجتهدو الجیل الثانی فی مواجهة النموذجیة المیتة

یتحصّل من جمیع ما تقدّم:أن حرکة الاجتهاد التی ظهرت منذ أواخر القرن الأوّل،تعتبر أکثر انجازات المدرسة الرسالیة تأثیراً فی الصیرورة الثقافیة الإسلامیة،وأعظمها استجابة للحاجات الشعبیة المتطورّة و المتعقدة باستمرار.کذلک فقد کانت أعمقها جرحاً وخدشاً لما تحکیه السلطات وتروّجه بین الناس من أوهام.

هکذا،فلیس أضمن للتطوّر العلمی و التقدّم الفکری من استمرار حرکة الاجتهاد, وتوسّع مجالها بعیداً عن الضغط السیاسی.

وفی المقابل لیس أحرج للسلطات من تعقّد الولاءات الشعبیة بتعدّد المجتهدین ومراجع الإفتاء وتجدّد الاقتضاءات المذهبیة،والتفاف العوام حول تلک النماذج الرسالیة الحیة التی تهدّد بتعویض ما ألفوه من نموذجیة میتة لطالما روّجت لها السلطات.

ص:339

هنا فقط،تتّضح الحکمة العظمی فی تبکیر أئمّة أهل البیت علیهم السلام بالدعوة إلی الاجتهاد و التأسیس لذلک؛بإلقاء الأُصول إلی أصحابهم المقرّبین،وتلامذتهم المردّدین علی حدّ سواء.فکان کلّ یأخذ من هذا المدد الربّانی بقدره،ویفیض منه علی أتباعه بحسب طاقته.فکان منهم المجتهد،ومنهم المقتصد،ومنهم المقتصر.

ص:340

ثانیاً: الجیل الثانی من الفقاهة الجماهیریة فی مواجهة الغوغائیة

البحث الثالث و الثلاثون:التدوین الشافعی لأُصول الفقاهة
اشارة

تحصّل من المبحث السابق أنّ الفضاء العلمی الذی تأسّس فی کنف مرجعیة السنة و العترة،أو:التشیع المدرسی،والذی استحقّ بذلک تسمیته بالمدرسة الرسالیة،قد بدأ منذ بدایة القرن الثانی یفرز مراجع تقلید قد استقلوا بالفتوی،لظروف مختلفة.فکانوا هم الفقهاء الجماهیریون الذین تمکّنوا من ملء الفراغات التی فرضها الاستبداد العبّاسی،بتنکیله بأبرز رموز المحور الولائی.

فی هذا المبحث نستکمل صورة المشهد العام للفقاهة فی نهایة القرن الثانی وبدایة القرن الثالث؛بإلقاء بعض الضوء علی أهمّ انجازات الجیل الثانی من الفقهاء الجماهیریون،وهم فی الحقیقة الجیل الثالث من أعلام المدرسة الرسالیة إذا ما احتسبنا الجیل الأوّل،جیل التابعین الذین تتلمذوا مباشرة علی أیدی الإمام علی علیه السلام،وعبد الله بن عبّاس،والإمام زین العابدین علیه السلام.

ص:341

1-رایة الاجتهاد من جیل إلی جیل
اشارة

لقد کان شعار المدرسة الرسالیة:إنّا وجدنا آبائنا علی أمّة, وإنّا معهم مجتهدون،خیر ردّ علی الشعار الذی کانت ترفعه النموذجیة المیتة:إنّا وجدنا آبائنا علی أمّة وإنّا علی آثارهم مقتدون.إنّه الردّ الرسالی الحاسم علی شعار جاهلی أدانه القرآن الکریم مراراً وتکراراً،وحذّر من ترویجه بین المسلمین ضارباً لهم الأمثال بمجتمعات الشرک و الوثنیة.وفی سورة الزخرف بیان لکلّ ذی لبّ.

من مظاهر الحرکة الغوغائیة

تقدّمت الإشارة فی الأبحاث السابقة،إلی کون الدعوة العثمانیة،بجمیع أبعادها،شکّلت أهمّ محاور الثقافة الغوغائیة التی بدأت تتسرب إلی المجتمع الإسلامی منذ عهد الخلفاء الراشدین؛ثمّ استقرّت وهیمنت فی ظلّ الاستبداد الأموی.ولعلّ أهمّ مظاهر هذه الحرکة وأخطرها ما یمکن تسمیته بحرکة الجعل و الإغفال فی المناقب:جعل لمناقب وهمیة لبعض مشاهیر الصحابة, وإغفال مناقب حقیقیة للإمام علی علیه السلام وأهل بیته وأصحابهم المقربین.

ونکتفی هنا بالإشارة إلی أحد أخطر الموارد التی تناقلتها الکتب الموثوقة،وهی التی تبرز فیها أسماء لا یجرؤ الجمهور علی التشکیک لحظة واحدة فی إخلاص نیتها،رغم أنّ ما یتناقله من روایات ینسف هذا الوهم.

فقد روی ابن أبی الحدید،رائد المراجعة التاریخیة المعتزلیة،فی شرح نهج البلاغة:

قال معمر:کان عند الزهری حدیثان, عن عروة (1), عن عائشة (2)فی علی علیه السلام،فسألته عنهما یوماً،فقال:ما تصنع بهما وبحدیثهما؟الله أعلم بهما!إنّی لأتّهمهما فی بنی هاشم. (3)

ص:342


1- (1) .یقصد عروة بن الزبیر.
2- (2) .یقصد أم المؤمنین.
3- (3) .شرح نهج البلاغة:64/4.

و هذا عکرمة البربری مولی عبد الله بن عبّاس یستغلّ علاقته هذه بحبر الأمّة فیتبوّأ مقعده من النار بروایة ما یحلو له من الأحادیث المکذوبة علی مولاه،حتّی اشتهر أمره وأصبح مضرب الأمثال فی الکذب.

فقد روی الذهبی فی میزان الاعتدال أنّ سعید بن المسیب کان یقول لغلام له اسمه بردّ:لا تکذب علی, کما کذب عکرمة علی ابن عبّاس.

و إنّ عبد الله بن عمر کان یقول لغلامه نافع نحواً من ذلک.وروی ابن خلّکان فی وفیات الأعیان أنّ علی بن عبد الله بن العبّاس وصل به الأمر إلی ربط عکرمة إلی باب کنیف؛لیردعه عن کذبه فی الحدیث.

و هذا مقاتل بن سلیمان یعدّه النسائی فی جملة الکذّابین المعروفین بوضع الحدیث.وقال الجوجزانی:

کان مقاتل کذّاباً جسوراً.کان یقول لأبی جعفر المنصور:أنظر ما تحبّ أن أحدّثه فیک حتّی أحدثه.وقال للمهدی العبّاسی:إن شئت وضعت لک أحادیث فی العبّاس،فقال:لا حاجة لی فیها. (1)

هکذا فإنّ حرکة وضع الحدیث التی غذّتها الصراعات السیاسیة،وکانت تهدّد بضیاع الجید وسط رکام الردیء وانشغال عامّة الناس عن التفقّه فی شؤون دینهم ومعرفة أحکامه بالتحلّق حول الوضّاعین و الکذّابین و القصّاصین المشبوهین مثل:تمیم الداری،وتناقل السیر المشبوهة و الأخبار المکذوبة, فلا غرابة إذا:أن تُروّج بین الناس بعض الخرافات و الأساطیر المسندة إلی بعض الصحابة و المحسوبة علی الدین.ولعلّ من أحسن الأمثلة علی ذلک،قصّة جراب أبی هریرة الذی لمسه الرسول صلّی الله علیه و آله ببرکته فجعل یقطر تمراً،فلا ینضب عطاؤه حتّی وفاة صاحبه الذی یکون بهذا قد أکل منه أطنان التمر حسب زعمه.

ص:343


1- (1) .الغدیر:266/5؛و میزان الاعتدال.

فأین کان هذا الجراب عام المجاعة و الناس لا یجدون ما یقتاتون به؟

فهل کان صاحبه حینئذ یأکل تمر جرابه خفیة, و الناس یتضوّرون جوعاً؟

الدور التحصینی للحرکة الاجتهادیة

الحقیقة أنّ العقل لا یستطیع أن یحیر حِراکاً أمام مثل هذه الأخبار.فهی لا تدلّ إلّا علی تمکّن البنیة المنطقیة السفسطائیة من جماهیر جیل التابعین،فکثر بینهم الغلط و المغالطة،فمن کلّ راوٍ أو محدّث حسبَ تیهه وضلاله, ولکلّ مستمع أو ناقل حسب سذاجته.

فالحرکة الاجتهادیة قد مثّلت المهرب و الخلاص لهذا الجیل.فلکی یتمّ سحب البساط من تحت أقدام المحدّثین الذین اختلط حابلهم بنابلهم،واغترف العامّة من کذب بعضهم وصدق البعض الآخر،وقع توجیه الأنظار إلی علم جدید لم ینضج وتتّضح ملامحه إلا فی القرن الثانی:إنّه تنظیم طرق الاستنباط وهیکلة أُصول الفقه.

إنّه الاجتهاد المطلق الذی کان غائباً حتّی ذلک الحین, ولم یتمکّن منه حتّی فقهاء المدینة المشهورون،الذین کانت اجتهاداتهم وفتاویهم منصوصة.فلمّا اتّضحت معالم الاجتهاد بفضل بیانات أئمّة المدرسة الرسالیة،وخاصّة الباقر و الصادق علیهم السلام،وتبعهم فی هذه الحرکة مجتهدون من أنصارهم أو من المستفیدین منهم،لم یبقَ للمحدّثین المحترفین المروّجین لخرافة معجزات السلف کبیر شأن لدی العامّة.فانکب الجمهور علی المراجع ینهل من فقهها.

الغوغائیة الثقافیة فی نفَسها الثانی

رغم جمیع ما تقدّم،کان هذا انتصاراً مؤقتاً للمدرسة الرسالیة.فالارتباط بین حرکة وضع الحدیث وتدلیس المؤلّفات،بحرکة النموذجیة المیتة،لا یخفی علی ذی لب.فهذا التیار،الذی کاد یعصف بالعلوم الإسلامیة،لم یکن فی حقیقة الأمر إلّا نتیجة لها،و هو من أخطر انعکاساتها علی الإطلاق.

ص:344

فلولا تقدیس السلف وعدم إعمال النظر فی ما یروی عنهم،والخشیة من وضعهم موضع النقد و التمحیص،لما سهل دسّ الأحادیث المکذوبة علی ألسنتهم.فبمجرّد حصول أحد الکذّابین علی ثقة الجمهور یصبح بوسعه أن یضع ما یشاء علی لسان أحد السلف.

فالنموذجیة المیتة،بما هی إذابة للحی فی صورة المیت،وتکریس لمقولة:«وضیع السلف خیر من رفیع الخلف»، (1)إنّما تقزّم دور الأحیاء وقیمة فهمهم لمقولات سلفهم،وتقلّل من أهمیة نقد مقولاتهم.

فالتلمیذ لا یحقّ له مراجعة الأستاذ, و إذا ما وجد خطأ فی کرّاسه, فإنّما هو تعبیر عن سوء فهمه لا عن قلّة علم أستاذه.

هکذا یروّج بین الناس تناقل الأخبار الغریبة دون أن یتساءلوا عن صدق مضمونها،وتعّم بینهم الروایات المتناقضة،ولا یجروء أحد علی ردّها،ما لم تکن لدیه بینة تُجّرح فی راویها.

2-فی مواجهة عموم الدسّ و التدلیس

من الواضح أنّ الحرکة الاجتهادیة فی القرن الثانی،لم تکن قادرة علی منع تواصل تیار الوضع و التدلیس،واشتداده.فحتّی بعد أن اشتهر أمر أئمّة المدرسة الرسالیة،وذاع صیت مراجعها الأعلام بین الناس،عمد أعداء الخطّ الرسالی من سلطویین وأهل أهواء ومبتدعة،إلی دسّ الأحادیث و الفتاوی المکذوبة علی الأئمّة علیهم السلام و المجتهدین.و قد کان نصیب أحادیث الأئمّة من هذا الدسّ عظیماً رغم حرصهم علی انتقاء رواة أحادیثهم من بین أوثق الناس وأصدقهم،وتزکیة البعض من تلامیذهم بما یدفع الناس إلی تقلیدهم دون غیرهم.فقد تلاقت علیهم

ص:345


1- (1) .لأنّ الوضیع المیت لا یخشی أکثر ممّا علم من شرّه, و الرفیع الحی لا یؤمن سقوطه.

مکائد السلطات،ودسائس أهل الأهواء و البدع و الغلاة.و قد مرّت الإشارة إلی استنکار الأئمّة أنفسهم للکثیر ممّا یروی عنهم.

ورغم عملیة التنبیه الأکیدة بإعلان الأئمّة عن وجود الدسّ و التدلیس فی أحادیثهم،فلم یکن بالإمکان أمام الأجیال اللاحقة الاستغناء عن تراثهم الروائی العظیم.فنشأت من ذلک حاجة شدیدة إلی تطویر مناهج علمیة تختصّ فی تمحیص الرجال وغربلة الأحادیث التی یروونها.و قد صاحب هذا التحصین المناهجی التحفّظ الشدید من قبل أصحاب الأئمّة و السلف المتقدّم،من علماء الشیعة خاصة،فی مقام نقل الحدیث وروایته وتطهیر الروایات عمّا دسّ فیها.

فکان لهذه الإجراءات التحصینیة الفضل الکبیر فی حفظ کتب الحدیث إجمالاً،وصیانتها من بعض ذلک الدسّ و التزویر،إلا أنّ هذا لا یعنی حصول الجزم و الیقین بعدم تواجد شیء ممّا زوّر عن الأئمّة و الفقهاء فی مجموع ما بأیدینا من أحادیثهم وفتاواهم, خاصّة إذا أخذنا بعین الاعتبار أنّ العملیة کانت تمارس غالباً عن طریق دسّ الحدیث الموضوع فی کتب الموثوقین من أصحاب الأئمّة, کما تقدم.

فربّما کان بعض ما نجده فی کتب الأحادیث الیوم من الروایات المتعارضة المختلفة هو من بقایا ذلک التشویه و الدسّ الذی وقع فیها فی تلک العصور.

وهکذا،یتّضح أنّه لیست صحاح السنّة مثل البخاری ومسلم وحدها هی التی تشتمل علی آثار الدسّ و التدلیس أو الوضع الرخیص عن طریق عکرمة،وعروة ومقاتل،وغیرهم من الوضّاعین الکذّابین،بل شملت هذه الرزیة بعض کتب الشیعة المعتبرة.

إنّ حرکة الدسّ هذه معقّدة وشرحها یخرج عن مجالنا.وإنّنا أردنا من تعرّضنا السریع هذا لها،الإشارة إلی ما تحمله النموذجیة المیتة بین طیاتها من سموم قاتلة

ص:346

لملکة النقد،ومهلکة للأذواق،ومعطّلة للرقابة الجماعیة التی کانت وحدها کفیلة بردع الوضّاعین وإسکات الکذّابین.

3-الفقاهة الجماهیریة وابتکاراتها الأصولیة
اشارة

یتحصّل ممّا تقدّم:أنّ کلّ الآثار المکتوبة التی خلفتها الحرکة العلمیة فی القرن الثانی کانت قابلة للدسّ و التدلیس.فمن الواضح أنّ فقه أبی حنیفة مثلاً قد ضاع ولم یبق سوی ما نقله تلامیذه ودونوه مع اختلافات بینهم.ومن ناحیة أُخری،لنا أن نتساءل عن سبب اختلاف المالکیة الشدید فیما بینهم...والحقیقة أنّ حرکة جدیة من البحث و النقد و الغربلة تفرض نفسها.

فهل هذا تعبیر عن نجاح النموذجیة المیتة, وعن فشل حرکة الاجتهاد فی مهامها؟

الإجابة لیست بهذه البساطة.

فللفشل عوامل متشعّبة ومتعدّدة.و هو لا ینفی نجاح حرکة الاجتهاد فی ما طرحته علی نفسها:القیام بدور الشهادة علی الناس ورسم الطریق أمام الأجیال القادمة،بعیداً عن الخطّین العقائدیین المتطرّفین:الجبریة و القدریة.

و إذا أردنا أن نفهم حقیقة معاناة المدرسة الرسالیة،بمعناها الأوسع،فلا بدّ لنا أن نفهم الإطار الاجتماعی و السیاسی و الثقافی الذی بقیت تعمل فیه حتّی بعد لمعان نجم الجیل الأوّل من المراجع الجماهیریین.

تحت ضغط الاستبداد الأموی و العبّاسی

إنّ أخطر الدعوات علی الإطلاق هی تلک التی یستحیل التصدّی لمضامینها وکشف بطلانها؛وذلک لما یفرضه هذا التصدّی من مواجهة متعدّدة المستویات،لا یقوی علیها دعاة الإصلاح.

ص:347

فمن جهة أولی،لا بد من مواجهة السلطات التی تدعم تلک الدعوة وتستثمر فیها.

ومن جهة ثانیة،لا بد من تجنب إثارة العامّة و الغوغاء الذین سبق إلی وهمهم صدقها وأمتلئ وجدانهم بحبّها،فامتنعت عقولهم عن مراجعتها.

فلهذه الدعوات مضامین مستعصمة من النقد،ومحتمیة بعصبیة الغوغاء و الدهماء وبسیف السلطان.

هکذا فإنّ فکرة نموذجیة أعم مفاهیم جیل الصحابة،و هو الذی لا یبقی خارجه أحداً من المنافقین و الطلقاء،قد عمّت الأذهان وذاعت بین الناس وجرت من معظمهم مجری الدم.وبلغ من استحکام هذه الفکرة الغریبة عن ظواهر القرآن الکریم فی أذهان العوام،أن أصبح العالم الفطن اللبیب لا یجروء علی إعمال فکره فی مسألة قبل أن یتأکّد من غیاب حلّ لها عند السابقین،و إن لم یکن هذا الحلّ مستقی من السنّة أو تأویل لآیة من الکتاب.

فقد استوی عند ضعاف الناس ما یؤثّر عن ابن عبّاس مع ما یتناقلونه عن معاویة،أو مروان:فالجمیع عندهم صحابة مجتهدون!ومن یجروء علی مخالفة هذا الزعم, فإنّ سیف الجلاّد الأموی أو العبّاسی،کفیل بردعه وإخماد صوت کلّ من تحدّثه نفسه بتجاوز هذا الخطّ الأحمر!

سعید بن المسیب وابتکار الإرسال

هکذا،تتّضح بعض أبعاد الحصار المفروض علی الرسالیین،بعد أن أصبح ذکر أهل بیت الرسول علیهم السلام تهمة تستوجب العقاب.فعمد الأذکیاء من بینهم إلی ابتکار أسالیب یحفظون بها علمهم وحیاتهم معاً.مثال هذا ما فعله سعید بن المسیب, و هو شیخ التابعین وفقیههم الذی ربّاه أمیر المؤمنین علی علیه السلام فأحسن تربیته،فشهد معه مشاهده کلّها.

ص:348

فقد ابتکر أسلوب إرسال الأحادیث معتمداً علی ثقة الناس فی شخصه،فکان أکثر حدیثه الذی أخذه عن الإمام علی علیه السلام یقوله دون إسناده فیکون مرسلاً, بل لم یکتفِ بالإرسال عامداً إلی بعض الأسانید المشبوهة عنده و المقبولة عند السلطة, فأخرج بها ما صحّ لدیه من الأحادیث مثل أن یکون الحدیث مرویاً عن علی علیه السلام،وأبی هریرة،وعمرو بن العاص،وعبد الله بن عمرو،فیختار عبد الله بن عمرو مثلاً.

هذا الابتکار،و إن کان لا یخلو من الذکاء و الفطنة،ویدلّ علی حرص صاحبه علی إیصال علمه إلی الناس،هو ذو حدّین:فبه یمکن أن یغیب ذکر أکابر الصالحین،وتطفو علی السطح أسماء من هم دونهم،فتغزو الأذهان وتغلب علی النخبة.

و هذا ممّا یفسر لنا قبول الإمام الشافعی رحمة الله مراسیل سعید بن المسیب دون غیرها من المراسیل.

4-ابتکار الإجماع ومحاولة محاصرة النموذجیة المیتة
اشارة

لم تکن مثل هذه الابتکارات کافیة لتجاوز الأبعاد المکبّلة للبحث و الموهنة لعزائم التحقیق فی النموذجیة المیتة.فقد أناخت بکلکلها علی صدور جمیع من طرح علی نفسه القیام بالواجب الشرعی المتمثل فی الاجتهاد.فکیف یستطیع الفقیه أن یفتح فمه عن اجتهاد قد یخالف رأی أحد السابقین،والحال أنّ هؤلاء کانوا یرقون إلی مرتبة القداسة فی أذهان الغوغاء؟

هنا تفتّقت العبقریة الاجتهادیة عن حلّ آخر،بدا لأوّل وهلة کأنّه نهائی:الإجماع.

فقد جعل بعض المجتهدین الإجماع أصلاً ثالثاً للتشریع بعد القرآن و السنّة.و قد أرید لهذا الأصل أن یکون واقیاً من شبح الاجتهادات الفردیة لکلّ السابقین.فمن خلال العمل بهذا الأصل،لا یصبح لأی اجتهاد خارج إطار الإجماع الذی تشکّل

ص:349

المدرسة الرسالیة عموده الفقری،أی معنی؛لکون الإجماع یجب أن یستغرق جمیع الأفراد بمن فیهم أئمّة هذه المدرسة.فلو اتّفق معظم الصحابة علی رأی،وخالفهم فیه الإمام علی علیه السلام وأبو ذر الغفاری, وعبد الله بن عبّاس،مثلاً،لما کان ذلک إجماعاً ولاستحال العمل به بناء علی هذه القاعدة.

وهکذا،تسقط اجتهادات أواخر خلافة عثمان کلّها،لما تضمّنته من مخالفة لبعض آراء رواد المدرسة الرسالیة،مثل عبد الله بن مسعود, وعمّار بن یاسر, وأبی ذر الغفاری, وعبد الله بن عبّاس.وتبعاً لذلک،تسقط أیضاً،اجتهادات جمیع من خرج وتمرّد علی علی علیه السلام،مثل،معاویة وأحلافه.

فالإجماع،هو بالضرورة کاشف عن رأی المدرسة الرسالیة،و إنّ رَفع شعار الإجماع فی وجه القائلین بنموذجیة عموم جیل الصحابة،لهو من أقوی الردود الجدلیة وأدعاها إلی الإعجاب.فهی حجّة الخصوم قد ردّت علیهم،فما استطاعوا لها دحضاً.

وهکذا،تقبّل الجمیع هذا الأصل بالرضا و الکثیر منهم للوازمه کاره،ولکنّه تحوّل شیئاً فشیئاً بمرور الزمن،وتعثّر حرکة الاجتهاد بدایة من أواسط القرن الثالث،إلی جزء لا یتجزّأ من النموذجیة المیتة.فلقد أفقده حفّاظ المذاهب مضمونه الحقیقی, و هو رفض وصایة الآباء و الأجداد علی عقول الأبناء و الأحفاد،وأحلوا محلّه فهماً مغایراً.فنسی الجمهور،بالتدریج،أنّ کلمة الإجماع لا تعنی الأکثریة, ولکنّها تتضمّن اتّفاق الجمیع.

ابتکار الشافعی فی تدوین الأُصول

تقدّم أنّ فقه الجیل الأوّل من المراجع الجماهیریین قد تعرّض للمصادرة أو التصرّف من قبل بعض حفّاظ المذاهب.ولنا أن نتصوّر أن مثل هذا التصرّف لم یکن لیحصل لولا الإهمال الکامل أو النسبی لتدوین المحصول الفقهی, وخاصّةً إغفال

ص:350

تدوین أُصول الاستنباط؛ممّا جعل الاختلاف فیها یستمرّ عبر التاریخ إلی حفّاظ المذاهب من المعاصرین.

و قد انتبه أبرز تلامیذ الإمام مالک إلی خطورة هذا الوضع،فقام بعمل علمی یعتبر نقلة نوعیة فی ساحة الفقاهة:تدوین أوّل رسالة أُصولیة،علاوةً علی إملائه لأوّل موسوعة فقهیة.

الإمام الشافعی فی رحاب أهل البیت علیهم السلام

الإمام الشافعی رحمة الله هو:محمّد،ویکّنی:أبو عبد الله. (1)و هو من أبرز أعلام الفقاهة فی النصف الثانی من القرن الثانی،الذین أکثروا من التطواف و الرحلات فی مختلف الأقطار.فقام برحلته العلمیة بادئ ذی بدء إلی الإمام مالک رحمة الله فی المدینة،فلمّا أترع عقله ولبّه من علومه،رحل إلی العراق،فطاف هناک فی المدن،ولقی الإمام محمّد بن الحسن, وأبا یوسف القاضی وغیرهما من تلامذة أبی حنیفة, ثمّ رحل إلی البلاد الفارسیة،فالتقی بعلمائها, ثمّ طاف شمال العراق،فاخترق ساحل الفرات وبعض مدن سوریة حتّی ألقی عصا التسیار بمدینة الرملة.

کلّ هذا ولم یجاوز العشرین سنة من عمره.فما فتئ بعد مدّة وجیزة من إقامته فی الرملة أن اعتزم الرحلة ثانیاً إلی الإمام مالک رحمة الله وبقی معه فی المدینة إلی أن مات, ثمّ توجه إلی الیمن،و قد کانت تزخر بالولائیین،فاکتسب هناک علم الفراسة وازداد تفقّها, ثمّ اعتقل بتهمة التشیع للعلویین ضدّ العباسیین.

فکانت نتیجة التحقیق أن ظهرت براءته،فأطلقه الخلیفة هارون الرشید،وأخذ بعد

ص:351


1- (1) .نسبه هو محمّد بن إدریس بن العبّاس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبید بن عبد یزید بن هاشم بن المطلّب بن عبد مناف(150-204ه(،توفّی فی مصر إثر نزف حصل له،علی الظاهر،من اعتداء بالضرب من بعض متعصّبی المالکیة،کما مرّ.وقیل:إنّما کان موته من مرض ألمّ به.

ذلک یؤلّف المؤلّفات ویودّع حصیلته العلمیة فی کتب خاصّة.ومن أجمع تلک المؤلّفات التی وصلت إلینا کتاب الأم.

وکان لا یخفی ولائه لأهل البیت علیهم السلام ویفتخر بذلک, لذلک لما رماه الحاسدون بالرفض أنشد, وقال:

إنْ کان رَفْضاً حبّ آل محمّد فلیشهَدْ الثَقَلان أنّی رافضی

و قد عاش الإمام الشافعی رحمة الله حیاته العلمیة فی زمن اشتدّ فیه الحصار علی أئمّة أهل البیت علیهم السلام،والاضطهاد و الملاحقة لأنصارهم،وکان علیه أن یحصّل علومهم بواسطات عدّة.ورغم ذلک فقد أخرج فقهاً هو أقرب إنتاج فقهی إلی فقه الشیعة الإمامیة, بل إنّ التحقیق یؤکّد بأنّ موارد الاختلاف مع جمیع کتب فقه الشیعة الإمامیة بالجملة لا یتجاوز بضع وعشرة موارد فقهیة،و هذا أقلّ بکثیر ممّا یوجد بین بعض فقهاء الإمامیة أنفسهم.

الابتکار فی تدوین الأُصول

علاوةً علی ما تقدّم،فإنّ أهمّ إنجازات الإمام الشافعی علی الإطلاق،هو تدوینه لأولّ رسالة أُصولیة معروفة،و قد سماها الرسالة.وتحتوی علی أهمّ قواعد الاستنباط المقرّرة لدیه, وهی التی ساهمت فی ضبط المذهب الفقهی الشافعی علی مرّ الأجیال.

بهذا الانجاز اتّخذت الفقاهة شکلها الأُصولی المتوازن الذی أبعدها عن تیارین متطرّفین:

الأوّل:التیار اللانصوصی الذی یدعی الانتساب إلی أبی حنیفة رحمة الله و الذی یحاول الاستغناء قدر الإمکان عن الأدلّة الشرعیة اللفظیة،والذی تظهر میوله الذوقیة الظنیة فی اعتماده الأدلة العقلیة الظنیة.

الثانی:التیار النصوصی الحدیثی الذی یدّعی الانتساب إلی الإمام مالک رحمة الله،أو

ص:352

إلی الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله من بعده،دون أن تصحّ هذه النسبة،و هو تیار لا یری الفتوی إلّا تطبیقاً مباشراً للنصّ الحدیثی.حتّی تورّط بعضهم فی العمل بالأحادیث الضعیفة فی مسائل فقهیة حساسة،فوقع فی مخالفة جمهور الفقهاء.

وبهذا یکون مسلک الشافعی،امتداداً،وتطویراً لمسلک مالک،الذی اقتبس من مدرسة أهل البیت علیهم السلام وطبع فقهه بها مبتعداً عن النصوصیة الحدیثیة المحضة.

البحث الرابع و الثلاثون:الثقافة الشافعی وابن حنبل فی مواجهة الغوغائیة
اشارة

إنّ البُنیة المنطقیة السفسطائیة لم تقتصر فی تأثیرها علی الحرکات السلطویة ودعاتها سواءً فی الحکم أو فی المعارضة،بل تعدّتها إلی الدعوات الغوغائیة التی نبعت من واقع هیمنة المرتکزات المنطقیة الظنیة فی أوّل أمرّها, ثمّ أصبحت حبیسة لمقدّماتها وشعاراتها.فعمد أدعیاؤها إلی التسلح بالسفسطة؛لتأمین الاستمراریة و المحافظة علی مجال تأثیرها.

ولعلّ حرکات الغلوّ التی أشرنا إلیها مثال حی علی الطبیعة السفسطائیة لتلک التطرّفات.ولکنّ الغلوّ لم یکن إلّا جزء من کلّ،أعمّ وأخطر:إنّه التیار الغوغائی الذی تمظهر فی دعوات وحرکات مختلفة شکلاً،ومتّحدة مضموناً حوّل التبنّی الضمنی أو الانفعالی للمرتکزات المنطقیة السفسطائیة؛مثل:المشبّهة و الحشویة, و المرجئة, و الجهمیة, وبقایا القدریة المتمرّدة علی الاحتواء المعتزلی.

والقاسم المشترک لهذه الحرکات،علاوةً علی الخضوع للأصول المنطقیة السفسطائیة،هو صبّ الماء فی طاحونة الدعوة للنموذجیة المیتة.

و إنّ ظهر من دعاة الغوغائیة من نجح فی خداع المعاصرین له وإیهامهم بالعلم و التقوی،مثل:مقاتل بن سلیمان, فإنّ أمره انکشف لدی أعلام المدرسة الرسالیة الذین

ص:353

لم یألوا جهداً فی فضح هؤلاء المنحرفین وتنبیه المسلمین إلی خطرهم.

فی هذه الأجواء،برز محمّد بن إدریس الشافعی،وأحمد بن محمّد بن حنبل الشیبانی(رضی الله عنهما)، (1)کلّاً بطریقته الخاصّة،وصبّا جهدهما فی محاربة الغوغاء الکلامیة التی خلفتها هیمنة البُنیة المنطقیة السفسطائیة.

1-فی مواجهة الغوغائیة الکلامیة
اشارة

إنّ تاریخ المسلمین حافل بالأمثلة التی توضح مقدار شعور أعلام محور السنّة و العترة،بجسامة المسؤولیة،مثلما اثر عن الإمام الشافعی رحمة الله الذی اشتدّ فی الهجوم علی أهل الکلام،ولازمُه الجدل من حیث هو المنفذ الرئیسی الذی تسرّبت الدعوات المنحرفة منه.

ثمّ برز الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله الذی فاقت شهرته, کمحدث متفحّص, وعالم بدرایة الحدیث،سمعته کفقیه ومجتهد ذی شأن عظیم.

الإمام أحمد و المدرسة الرسالیة

من الأخطاء الشائعة فی حقّ الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله اعتباره من الرواد المتعصّبین لما یطلق علیه مدرسة أهل الحدیث.

بل کثیراً ما ینسب إلیه الجهل بقدر أئمّة أهل البیت علیهم السلام و التنکر لهم.ولا یتسّع المجال هنا للتحقیق فی ظروف إلصاق هذه التّهم الشنیعة به،ونکتفی ببعض الإشارات إلی ما یؤید انتسابه إلی الخطّ العام للمدرسة الرسالیة.ومن الذین انتبهوا إلی الارتباط المدرسی بین

ص:354


1- (1) .أحمد بن محمّد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدریس بن عبد الله بن حیان بن عبد الله بن أنس بن عوف بن قاسط بن مازن بن شیبان بن ذهل بن ثعلبة بن عکابة بن صعب بن علی بن بکر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أقصی بن دعمی بن جدیلة بن أسد بن ربیعة بن نزار بن معد بن عدنان بن أد بن أدد بن الهمیسع بن حمل بن النبت بن قیذار بن إسماعیل بن الخلیل إبراهیم علیه السلام(164-241ه). و هذا نسبه المذکور فی ترجمته ضمن مقدّمة،العلل ومعرفة الرجال:45/1.

أحمد بن حنبل رحمة الله طالباً،والإمام علی بن موسی الرضا علیه السلام أستاذاً ومدرّساً فی مرو،المحقّق الکبیر المرجع السید الخوئی رحمة الله الذی قال عنه:إنّه من أصحاب الرضا علیه السلام. (1)

ومن أهمّ ما کتبه الإمام أحمد فضائل علی،وبه ألجم أفواه الغوغائیین العثمانیین و الخوارج الذین أوغلوا فی محاولة إخفاء فضائل الإمام علی علیه السلام أشواطاً بعیدةً.و هو مؤسّس المذهب الفقهی المعروف بالحنبلی, وإلیه یرجع مسند أحمد فی الحدیث, و هو الذی دوّنه ابنه؛ولهذا عرف عنه أنّه من أئمّة الحدیث،ویعتبر من أوّل مؤسّسی علم علل الحدیث بکتابه العلل.

و قد مرّ فی الباب السابق الکلام عن محنته مع المعتزلة.

وأهمّ انجاز قام به هذا العالم الجلیل هو حملة التطهیر الشاملة التی شنّها علی الکمّ الکبیر الهائل من الروایات المنسوبة إلی النبی صلّی الله علیه و آله،بعد أجیال من أعمال المحدّثین الغوغائیین.فمن بین سبعمائة وخمسین ألف حدیث تمکن من جمعها،انتقی ثلاثین ألفاً،رأی أنّها مستجمعة للحدّ الأدنی من شروط الصحّة أو المقبولیة. (2)

وواصل هذا المحدّث الألمعی السیر علی نهج أسلافه،والحمل علی الدعوات الغوغائیة التی غاصت فی المتشابهات, وأهملت المحکم؛فضلّت ضلالاً بعیداً.وکان للجهمیة النصیب الأوفر من هجومات ابن حنبل, فتحوّلت ردوده المتحمسة علیهم إلی مستمسک تشبث به خصومه لإلصاق تهمة التشبیه و التجسیم باسمه.

وهنا یفرض علینا الإنصاف وقفة تأمل.

منشأ شبهة التجسیم

الجهمیة،هم أتباع الجهم بن صفوان،الذی سار علی نهج الجعد بن درهم بعد

ص:355


1- (1) .معجم الرجال:48/3.
2- (2) .نیل الأوطار:11/1-12.

مقتله.و قد جمعت الجهمیة بین:الجبریة المطلقة و الإنکار الکامل لصفات الله تعالی.ویسّمون بالمعطِّلة لتعطیلهم الصفات.و قد لقی الجهم بن صفوان رواجاً کبیراً.وکان خطر دعوته عظیماً خاصّة لمنهجها التأویلی الذی یجعل العقل البشری المقیاس الأوحد و المعیار الأوثق فی فهم متشابه الوحی.ولم تلبث هذه الدعوة أن ذابت فی بعض خطوط الاعتزال فزادت من ابتعادها عن المنهج الرسالی.فکان ردّ أحمد بن حنبل رحمة الله علی هذه الدعوة التی تطرّفت فی معارضة التجسیم حتّی سقطت فی التعطیل،فی حقیقته انتفاضة رصینة علی السهولة و الخفة التی میزت تعاطی الدعوات الغوغائیة العقلانیة الظنیة للتأویل.

من هنا وجب توخّی الدّقة فی فهم عبارات الإمام أحمد فی هذا الشأن؛وقبل کلّ شیء،التدقیق فی صحّة نسبتها إلیه.

وعلی أیة حال،فلم یتعدّ الإمام أحمد فی حملته هذه الحدود التی وضعها لنفسه حول الامتناع عن الکلام التی تنازع طرفیه المعتزلة و الحشویة, بل کان شدید الکره للمتکلّمین, ولو کانت أهدافهم المعلنة تتمثّل فی الدفاع عن السنّة،وتقویض دعائم التأویل المتحرّر.

الإمام أحمد و الکلّابیة

الکلّابیة:هم الذین اتبعوا عبد الله بن سعید التمیمی, الملقب بابن کلّاب فی الانطلاق من الحدیث النبوی للردّ علی أهل التأویل من المعتزلة و الجهمیة،و قد کانت محاولة ابن کلّاب هذه مشبوهة فی أهدافها ومضامینها.و قد أشار ابن تیمیة الحرَّانی، (1)إلی تلک الشبهات وعزاها إلی افتراءات الجهمیة،الذین ادّعوا عن ابن کلاّب قوله لأخته النصرانیة:إنّی أرید أن أفسد دین المسلمین.

ص:356


1- (1) .منهاج السنة:237/1.

و إن جاز القطع بکذب نسبة هذا القول إلی هذا المتکلّم الذی نصَّب نفسه ناطقاً باسم أهل الحدیث،فإنّ الشبه بین قول النصاری بالأقانیم الثلاثة, وقول ابن کلاّب بإثبات المعانی فی ذات الله تعالی, و هو قول أراد به ردّ قول الجهمیة فی نفی الصفات،واضح لا غبار علیه.و قد تفطَّن الإمام أحمد إلی الخطر الکامن فی دعوة ابن کلاّب التی بدأت تستقطب العامة و الغوغاء فکان یظهر النفور منه, ومن کلّ من یجاریه فی بعض أقواله حتّی أنّه هجر الحارث المحاسبی؛لانضمامه إلی ابن کلّاب فی بعض مقولاته،حسب روایة ابن تیمیة الحرانی.

محنة خلق القرآن

لقد کان تصدّی الإمام أحمد للدعوات الکلّابیة و الجهمیة علی حدّ سواء واضحاً،وأثره محسوساً.وهکذا وجد هذا المحدّث الکبیر نفسه مضطرّاً إلی بعض المواقف الکلامیة التی استغلها سلطویو المعتزلة لإنزال شدید التعذیب علیه.فکانت محنته الشهیرة التی قوَّله فیها المعتزلة الکثیر ممّا لم یکن یدور بخلده مثل اتّهامه بالقول:بأنّ القرآن قدیم وغیر مخلوق؛والحال أنّه لم یقل أکثر من أنّ القرآن کلام الله ولیس کسائر المخلوقات.

والفرق بین المقولتین کبیر وواضح،فالأولی یمکن تشبیهها بمقولة الأقانیم عند النصاری،فی حین أنّ الثانیة لیست سوی تعبیر عن حرص الإمام أحمد،علی إیجاد نوع من التوازن بین التقدیس الوثنی الحشوی لکتاب الله تعالی،والابتذال المعتزلی الجهمی لآیاته الکریمة.

ولعلّ أحسن تلخیص للموقف،ما نجده عند الإمام محمّد عبده،الذی نقل عنه الشیخ محمّد أبو زهرة قوله:

أمّا ما نقل إلینا من ذلک الخلاف الذی فرّق الأمّة وأحدث فیها الأحداث خصوصاً فی أوائل القرن الثالث للهجرة،وأبا بعض الأئمّة أن ینطق أنّ:القرآن

ص:357

مخلوق.کان منشؤه التحرّج و المبالغة فی التأدب, وإلا فأنّه یجلّ مثل مقام أحمد بن حنبل عن أن یعتقد أنّ القرآن المقروء قدیم, و هو یتلوه کلّ لیلة بلسانه ویکیفه بصوته. (1)

فقضیة خلق القرآن فی نهایة المطاف شکلیة ولا أهمیة لها،إنّما تکمن الخطورة فی قول الکلّابیة وغیرهم بقدمه،و هذا ما تبرّأ منه الإمام أحمد،مثل أسلافه من أعلام المدرسة الرسالیة.

2-تقویم موجز للمواجهة مع الغوغائیة الحدیثیة

مرّت الإشارة إلی أنّ الدعوات الغوغائیة لم تقتصر فقط علی المتکلّمین،فقد شملت أیضاً المحدّثین من ضعاف العقول أو ممّن باعوا ضمائرهم إلی الشیطان.و قد مرّ کیف ازدهرت صناعة الحدیث وکثر الدسّ و التدلیس علی ألسنّة الأئمّة و المراجع؛ونفقت سوق الأساطیر و الخرافات التی تروق للدهماء،ووجدت الإسرائیلیات منافذ عدیدة تتسرّب منها لتطبع أذهان الدهماء بطابع البلادة و البلاهة.

ولعلّه من المجازفة أن نتکلّم عن تقویم لحصیلة مجهودات الجیل الثالث وحده.فالحقیقة أن هذا الجیل الذی امتد نشاطه من أواخر القرن الثانی إلی أواسط القرن الثالث،قد وجد نفسه أمام إشکالیات قائمة وأخطار جاثمة قد سبقته فی الوجود وبدأت تغزو مواقع هامّة علی الساحة الإسلامیة.فهو قد ورث بعض مشاکل الجیل الثانی الذی منعته الظروف السیاسیة من حلها،فمسار استحکام النموذجیة المیتة المتوسعة من مجرد افتراض قداسة الشیخین إلی تعمیم هذه القداسة إلی عامّة الصحابة،بأوسع المفاهیم الممکنة للصحابی. (2)قد خطا خطوات فی تکییف الأذهان

ص:358


1- (1) .أحمد بن حنبل:139.
2- (2) .لا یخفی أن بیت القصید فی هذه التوسعة هم الذین مثلوا عقدة التاریخ الإسلامی،أی الطلقاء.فقد کان الهمّ السیاسی الکامن وراء هذه التوسعة،هو أن یصبح هؤلاء الطلقاء،من أمثال معاویة بن أبی سفیان،منافسین للمهاجرین و الأنصار فی العنوان الشرفی الذی ورد ذکره فی القرآن الکریم.

وترویض العقول،والمرتکزات المنطقیة السفسطائیة امتدّت فی تأثیرها من المجال السیاسی إلی المجال العقائدی بظهور دعوات التشبیه و الحلول،والتناسخ و الغلوّ بأصنافه،والمانویة وسائر ضروب الزندقة.

فکان التفرّغ لمواجهة الأخطار فرصة سانحة للأعداء السلطویین ومؤامراتهم من جهة،وصرفاً للطاقات فی معرکة مفروضة وغیر مرغوبة،من جهة ثانیة.

فی هذا الإطار من التعقید لا بدّ أن نفهم صعوبة مهمّة الإمام أحمد خاصّة.ولاشکّ أنّه کان مُدرکاً لخطورة الموقف،و هذا ما دعاه إلی صرف اهتمامه بشکل خاصّ إلی تطهیر الحدیث.

والحاصل:أنّه لم یسطع نجم الإمام الشافعی, ثمّ بعده الإمام أحمد إلّا و قد أخذ الانشطار بین أئمّة المدرسة الرسالیة ومراجعها وحفّاظها،موقعه المؤثّر فی ذهنیات الجمهور.ولم یکن زمن الجیل الثالث زمن التوضیح لمثل هذه المسائل التی تختلط فیها السیاسة بالعلم اختلاطاً شدیداً.فعمل أولئک الأعلام-کلّ حسب طریقته التی ارتآها-علی إنقاذ ما یمکن إنقاذه.فماذا کانت الحصیلة؟

من الواضح أنّ الإجابة تحتاج إلی توضیحات أدقّ لبعض أبعاد المؤامرة،و هو ما یخرج عن مجالنا.

ص:359

ص:360

ثالثاً:تطوّر الفقاهة الإمامیة

البحث الخامس و الثلاثون:المحور الولائی وتأسیس علوم الفقاهة
اشارة

مرَّ فی الأبحاث السابقة،أنّ محور السنة و العترة کان المرجعیة الثقافیة الجامعة التی تمکّن ورثة المحور الصحابی العمومی فی ظلها،من تأسیس المحور التابعی الثانی،بالتنسیق و التعاون مع المحور الولائی؛الذی تمکّن لأول مرّة من التعاطی الجماهیری المباشر فی مسجد المدینة المنورة.

ویمکن القول:إنّ تطوّر الفقاهة تحت إشراف المحور الولائی،مرّ بعدة مراحل تختلف فی اقتضاءاتها وما ترتّب علیها من نتائج،وهی:

المرحلة الأولی:کانت المهمّة الرئیسیة؛الحدّ من الآثار السلبیة لحرکة منع تدوین الحدیث.

المرحلة الثانیة:مواجهة حرکة التدوین العشوائی المتأخّر للحدیث،وضبط القواعد الأساسیة للفقاهة.

المرحلة الثالثة:محاربة حرکة الدس و التدلیس فی أحادیث أهل البیت علیهم السلام وتبیین کیفیة حلّ التعارضات بینها.

ص:361

و قد استمرت المرحلة الأولی إلی نهایة القرن الأول،واستمرت الثانیة إلی منتصف القرن الثانی،بینما امتدت الثالثة إلی نهایة القرن الثالث.

1-تأسیس البنیة التحتیة للنصوصیة العقلیة
اشارة

کان إقصاء أهل بیت النبی علیهم السلام عن جمیع المسؤولیات السیاسیة،فرصة لهم للتفرغ الکامل للبناء الثقافی.فتمکّنوا من وضع أسّس متینة للتشریع الإسلامی،تجعل مهمّة الاجتهاد خاضعة لمقاییس وضوابط تکون معیاراً للمحاسبة و التدقیق و التقویم.

والحقیقة أنّ الکلام عن خاصیات هذه الأسس التی تنبنی علیها القواعد الأصولیة و الحدیثیة الکلیة،یحتاج إلی مجال أوسع من هذه الإشارات. (1)ونکتفی هاهنا بتقدیم بعض عناصرها الأکثر اشتهاراًً بین مؤرّخی التشریع الإسلامی, وأهمّها التدوین المبکّر للسنّة النبویة،وضبط أولیات قواعد التعامل مع المرویات.

التدوین المبکّر وکتاب الإمام علی علیه السلام

إنّما ینسب إلی أهل البیت علیهم السلام من اختصاصهم بحیازة تراث نبوی مدون،لا یتطرّق إلیه الشکّ بعد تضافر الأدلّة النقلیة علیه؛ومن أهمّها ما روته أم سلمة(رضی الله عنه).قالت:

أقعد رسول الله صلّی الله علیه و آله علیاً علیه السلام فی بیته،ثمّ دعا بجلد شاة،فکتب فیه،حتّی أکارعه... (2)

ولا بد من الانتباه،هنا،إلی ما یعنیه ملء جلد شاة کامل:فهو مساحة کافیة لتسجیل مئات الأحادیث القصیرة.والأهم من هذا،أنه یمکّن من تسجیل إملاءات طویلة،تفتقدها المجامیع الحدیثیة التی دونت بعد أکثر من قرنین.

ومن الروایات المعروفة فی هذا الباب،تلک التی تتحدّث عن الصحیفة:وهی مشهورة جدّاً،ولا یکاد یخلو منها واحد من کتب الحدیث،والسنن

ص:362


1- (1) .أطوار الاجتهاد ومناهجه:الأجزاء1-2-3.
2- (2) .الإمامة و التبصرة:45 و46.

کالبخاری. (1)وأشار ابن حجر العسقلانی إلی بعض ما نقل عن تلک الصحیفة،فقال:

...ووقع للمصنّف ومسلم من طریق یزید التیمی عن علی, قال:«ما عندنا شیء نقرؤه إلّا کتاب الله و هذه الصحیفة».فإذا:«فیها المدینة حرم».الحدیث.ولمسلم عن أبی الطفیل عن علی:«ما خصّنا رسول الله صلّی الله علیه و آله بشیء لم یعمّ به الناس کافة إلّا ما فی قراب سیفی هذا».وأخرج صحیفة مکتوبة فیها:«لعن الله!من ذبح لغیر الله».الحدیث.وللنسائی من طریق الأشتر(رضی الله عنه)،وغیره عن علی،فإذا فیها:«المؤمنون تتکافأ دماؤهم یسعی بذمتهم أدناهم»الحدیث.

ولأحمد من طریق،طارق بن شهاب،فیها فرائض الصدقة.والجمع بین هذه الأحادیث أنّ الصحیفة کانت واحدة, وکان جمیع ذلک مکتوباً فیها،فنقل کلّ واحد من الرواة عنه ما حفظه.... (2)

وعن النّجاشی:أخرج الإمام محمّد الباقر علیه السلام هذا الکتاب أمام طائفة من أهل العلم منهم:الحکم بن عتیبة،وسلمة،وأبی مقدام،فرأوه کتاباً مدرجاً عظیماً،فجعل ینظر فیه حتّی أخرج لهم المسألة التی اختلفوا فیها،فقال لهم:«هذا خطّ علی, وإملاء رسول الله صلّی الله علیه و آله».ثمّ توجّه إلی الحکم بن عتیبة فقال له:«یا أبا محمّد, اذهب أنت،وسلمة, وأبو المقدام, حیث شئتم یمیناً وشمالاً،فوالله لا تجدون العلم أوثق منه عند قومٍ کان ینزل علیهم جبریل علیه السلام». (3)

هکذا یتّضح أنّ امتیاز أهل البیت علیهم السلام لم یکن فقط من حیث موقعهم الخاصّ الذی لم یکن یعرفه غیر خاصّة شیعتهم،بل کان من الحجیة فی أوسع شمولها،فلیس أدعی إلی الاقتداء بهم و العمل بهدیهم من اختصاصهم بهذا التراث النبوی المکتوب،الذی نجا من عصر منع التدوین وجائحته التی ترکت المجال لهیمنة الغوغائیة.

ص:363


1- (1) .صحیح البخاری:کتاب العلم،وکتاب الدیات؛سنن ابن ماجه:2, ح2658؛سنن أبی داود:ح2035.
2- (2) .فتح الباری فی شرح صحیح البخاری:183/1.
3- (3) .رجال النجاشی:360 و966.

و قد استمرّ تدوین الحدیث علی ید تلامذة الإمام علی علیه السلام،مثل مولاه أبی رافع،وسلیم بن قیس الهلالی،الذی ظلّ بقیة حیاته مطارداً یطلبه سیف الحجّاج.إلا أنّ أئمّة العترة النبویة کانوا العمدة فی حفظ التراث النبوی بطرقهم الخاصّة،حتّی وصل العلم إلی سادسهم،فکان بإمکانه أن یقول:عن أبینا, عن جدنا, عن أبیه, عن جده, عن رسول الله صلّی الله علیه و آله عن جبریل علیه السلام،عن ربّ العزة(جلّ وعلا).ولیس أوثق من هذه السلسلة الذهبیة.

التأسیس العلوی لعلم الدرایة

یعرّف علم الدرایة عادة بأنّه:

علم یبحث فیه عن متن الحدیث،وطرقه من صحیحها،وسقیمها،علیلها،وما یحتاج إلیه من شرائط القبول و الردّ،لیعرف المقبول منه و المردود.

وموضوعه:الراوی،والمروی-أی:السند و المتن-من حیث تلک الشرائط.

وغایته:معرفة ما یقبل من الحدیث لیعمل به،وما یردّ منه لیجتنب عنه. (1)

ومن الرائج أنّ هذا العلم لم یتبلور إلّا بدایة من القرن الرابع،مع علم مصطلح الحدیث.إلا أنّ هناک شواهد تدلّ علی سبق الإمام علی علیه السلام لبیان بعض أهمّ قواعد الدرایة التی لا یستغنی عنها طالب العلم النبوی.

والحقیقة أنّ جسامة الخطر المحدق بالحدیث،من جرّاء غلبة الغوغاء الثقافیة فی ذلک العهد،قد وصلت إلی حدّ أنّه صار من الصعب تصوّر إمکان انبثاق مقاییس علمیة تضبط الغثّ من السمین،ضمن ما کان یروی عن رسول الله صلّی الله علیه و آله،لولا تلک العنایة الخاصّة التی أولاها أهل البیت علیهم السلام،بدایة من الإمام علی علیه السلام.وفی ما یأتی شواهد توضح هذه الحقیقة وتکشف عن قدم هذا العلم التحصینی فی المدرسة الرسالیة،وتزامنه مع تلک الغوغاء الثقافیة الطاغیة.

ص:364


1- (1) .الرعایة فی علم الدرایة.

هذه الحقیقة هی التی تحملنا علی الجزم،بأنّ الالتزام بهذه القواعد کان أمراً نخبویاً ومقتصراً علی الولائیین.ممّا یکشف عن تعدّد الوسائط بین الرواة و المصدر الأوّل, و هو الأمر الذی یستوجب العمل بهذه القواعد حتّی علی هؤلاء.

وممّا خلّده لنا أصحاب الآثار من هذه القواعد،ثلاثة نماذج،هی:

الأول:حول وجوب الإسناد:

قال الإمام علی علیه السلام:«إذا کتبتم الحدیث،فاکتبوه بإسناده،فإن یکُ حقّا کنتم شرکاء فی الأجر،و إن کان باطلاً کان وزره علیه». (1)

قال علیه السلام:«إذا قرأت العلم علی العالم, فلا بأس أن ترویه عنه». (2)

الثانی:حول وجوب تعقل الحدیث عن مصدره:

قال علیه السلام:«قراءتُک علی العالم وقراءتُه علیک سواء». (3)

قال علیه السلام:«أعقلوا الخبر إذا سمعتموه عقل رعایة،لا عقل روایة،فإنّ رواة العلم کثیر ورعاته قلیل». (4)

الثالث:حول تصنیف رواة الحدیث:

قال علیه السلام:إنّما أتاک بالحدیث أربعة رجال،لیس لهم خامس:

رجل منافق:مُظهِر للإیمان،متصنّع بالإسلام،لا یتأثّم ولا یتحرّج،یکذب علی رسول الله صلّی الله علیه و آله متعمداً،فلو علم الناس أنّه منافق کاذب لم یقبلوا منه ولم یصدّقوا قوله،ولکنّهم قالوا:صاحب رسول الله صلّی الله علیه و آله رآهُ وسمع منه،ولقف عنه،فیأخذون بقوله!...

ورجل،سمع من رسول الله شیئاً لم یحفظه علی وجهه،فوهِم فیه،ولم یتعمّد کذبا...یقول:أنا سمعته من رسول الله صلّی الله علیه و آله،فلو علم المسلمون أنّه وَهِمَ فیه لم یقبلوه منه،ولو علم هو أنّه کذلک لرفضه.

ص:365


1- (1) .کنز العمال:223/10،ح29174؛الجامع الصغیر:129/1.
2- (2) .المصدر:294،ح29487.
3- (3) .المصدر:304،ح29524.
4- (4) .نهج البلاغة:الحکمة 98.

ورجل ثالث،سمع من رسول الله صلّی الله علیه و آله شیئاً یأمر به،ثمّ نهی عنه و هو لا یعلم...أو سمعه ینهی عن شیء،ثمّ أمر به و هو لا یعلم...فحفظ المنسوخ،ولم یحفظ الناسخ،فلو علم أنّه منسوخ لرفضه،ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنّه منسوخ لرفضوه.

وآخر رابع،لم یکذب علی الله ولا علی رسوله،مبغض للکذب خوفاً من الله وتعظیماً لرسوله صلّی الله علیه و آله...ولم یهِم،بل حفظ ما سمع علی وجهه،فجاء به علی ما سمعه،لم یزد فیه ولم ینقص منه،فحفظ الناسخ فعمل به،وحفظ المنسوخ فجنَّب عنه،وعرف الخاصّ و العامّ،والمحکم و المتشابه،فوضع کلّ شیء موضعه. (1)

2-ملامح التأسیس الأُصولی عند الإمام الصادق علیه السلام
اشارة

إنّ ما تقدّم من الإشارات حول المرحلة الأولی من تأسیس قواعد الفقاهة،مختصّ بما أصبح یسمّی فی عرف الأُصولیین بالأدلّة الشرعیة،وهی أوّل ما ینظر إلیه عند استنباط الحکم الشرعی.

وبعد استکمال الضمانات العلمیة لحجیة الکتاب و السنّة،بقیت کثیر من المسائل لا تجد لها جواباً مباشراً فیهما.و قد ظهر فی أواخر القرن الأوّل وبدایة القرن الثانی تیار استنباطی لقب:بأهل الرأی،وذاع صیته فی العراق خاصّة،واعتمد القیاس والاستحسان الظنیین فأسرع أئمّة أهل البیت علیهم السلام إلی تدارک الموقف بتعلیم أصحابهم قسماً آخر من الأدلّة مکمل للأدلّة الشرعیة،و هو الأُصول العملیة،أی:ما تعرف به الوظیفة العملیة عند الشکّ فی الحکم الشرعی.

فالأصل العملی لا یقودنا إلی حکم شرعی،بل یقودنا إلی وظیفة عملیة نخرج بفضلها بموقف عملی یزیل آثار حالة الشکّ.

وأهمّ الأُصول العملیة التی نقحها الإمام الصادق علیه السلام بما لا یدع مجالاً للتأویل:

ص:366


1- (1) .نهج البلاغة:الخطبة210.

أصل البراءة،وأصل الاستصحاب.و إن غاب هذا الأصل مدّة من الزمن عن المدرسة الفقهیة الإمامیة،رغم سرعة اقتباسه من قبل غیرهم،وخاصّة مالک بن أنس،کما تقدّم.

علاوة علی هذا،فإنّ ما تقدّمت الإشارة إلیه من کثرة الدس و التدلیس فی أحادیث أهل البیت علیهم السلام،قد أحدثت حالة من التضارب فی الروایات المحکیة عنهم, فلم یترکها الإمام الصادق علیه السلام دون حلّ وأوضح مجموعة من القواعد لحلّ تلک التعارضات.وبذلک یکون قد أسّس قسماً آخر من القواعد الأصولیة و هو قواعد باب التعادل و التراجیح.

وفی ما یلی شواهد مقتضبة من هذه الانجازات الکبری الثلاث.

البراءة

عندما یقف المکلّف أمام احتمال التکلیف،فیشکّ هل ذمّته مشغولة بحکم شرعی أم لا؟فهو أمام اختیارین:

إمّا أن یحتاط ویرتّب الآثار علی انشغال الذمّة،کما لو شکّ فی صلاته هل أدّاها أم لا؟فیصلّیها.و إذا شکّ هل بلغ الاستطاعة المطلوبة فی وجوب الحجّ علیه؟سافر إلی الحجّ،و إذا شکّ فی نجاسة لباس وتردّد هل یصلّی فیه أم لا؟ترکه و التمس غیره...إلخ.

و إمّا أن یرتّب الأثر علی براءة ذمّته من التکلیف،وکذلک علی طهارة ما شکّ فی نجاسته.

هنا وقف الإمام الصادق علیه السلام لیوضح الموقف الشرعی المتعین:فالأصل براءة الذمّة من التکلیف،والأصل عند الشکّ بالطهارة و النجاسة هو الطهارة،والأصل عند الشک فی حلیة أو حرمة أکل شیء من غیر الذبائح (1)فهو الحلّ, ولیس الحرمة.

ص:367


1- (1) .أما فی الذبائج فالأصل هو عدم التذکیة؛إلا إذا کانت الذبیحة تباع فی سوق المسلمین،وقام الدلیل علی أماریة سوق المسلمین.

هکذا نجد کتب الحدیث الشیعیة تزخر بالروایات عن الإمام الصادق علیه السلام؛لتوضّح هذه المعانی التی تندرج تحت عناوین ثلاثة:أصالة البراءة،وأصالة الطهارة،وأصالة الحلّ.

والقاعدة الأولی أُصولیة بینما تصنف القاعدتان الأخریان تحت عنوان:القواعد الفقهیة.والعنوان الجامع لکلیهما هو:قواعد الفقاهة.

ومن أمثلة هده الروایات:

1.عن أبی عبد الله علیه السلام قال:«قال رسول الله صلّی الله علیه و آله:

«وضع عن أمّتی تسع خصال:الخطأ و النسیان, وما لا یعلمون, وما لا یطیقون, وما اضطروا إلیه, وما استکرهوا علیه, و الطیرة،والوسوسة فی التفکر الخلق, و الحسد ما لم یظهر بلسان أو ید». (1)

2.عن مسعدة بن صدقة عن أبی عبد الله علیه السلام قال:سمعته یقول:«کلّ شیء هو لک حلال حتّی تعلم أنّه حرام بعینه, فتدعه من قبل نفسک». (2)

3.عن أبی عبد الله علیه السلام-فی حدیث-قال:«کلّ شیء نظیف حتّی تعلم أنّه قذر،فإذا علمت فقد قذر،وما لم تعلم فلیس علیک». (3)

وأمثال هذه الروایات عدید ومتنوع فی الألفاظ و العبارات،وکلّها تصب فی إثبات القاعدة الأصولیة وبیان حدودها و القواعد الفقهیة وبیان تطبیقاتها.و قد أهتم الأصولیون و الفقهاء من الإمامیة بتدوین هذه القواعد بأوضح الأسالیب فلتطلب من مظانّها. (4)

الاستصحاب

الاستصحاب:هو الحکم ببقاء ما کان علی ما کان عند الشکّ فی بقائه بعد العلم

ص:368


1- (1) .شرح أصول الکافی:224/10.
2- (2) .وسائل الشیعة:12،ب 4 ما یکتبسب به،ح 4.
3- (3) .المصدر:2،ب 37 من أبواب النجاسات،ح 4 و 5.
4- (4) .من الکتب المعاصرة التی یمکن الرجوع إلیها:أُصول الفقه فی ثوبه الجدید, الشیخ محمّد جواد مغنیة؛أُصول الفقه, الشیخ المظفر؛القواعد الفقهیة, البجنوردی.

بوجوده.فإذا کنا نعلم بوجود عین ماء فی الطریق،ثمّ شککنا فی نضوبها،فإمّا أن نستصحب وجودها ونسیر إلیها،أو أن نحکم بعدمه،فنرجع عنها.هکذا الأمر فی الأحکام الشرعیة،فقد نعلم بوجود حکم فی السابق, ثمّ نشکّ فی بقائه أو قد نعلم بوجود موضوع ما فی السابق, ثمّ نشک فی استمرار وجوده،فیأتی أصل الاستصحاب هنا لیقول:إن کنت علی یقین من وجود شیء فابق علی یقینک ولا تنقضه بمجرّد الشکّ،بل بیقین آخر.

هنا أوضح الإمام الصادق علیه السلام هذه القاعدة, کما ورد فی مجموعة من الروایات،منها:

عن زرارة،قال قلت له:الرجل ینام و هو علی وضوء،أتوجب الخفقة و الخفقتان علیه الوضوء؟!فقال:«یا زرارة, قد تنام العین ولا ینام القلب و الأذن،فإذا نامت العین،والأذن،والقلب،وجب الوضوء»قلت:فإن حرّک علی جنبه شیء ولم یعلم به؟قال:«لا،حتّی یستیقن أنّه قد نام،حتّی یجئ من ذلک أمر بین،وإلا فإنّه علی یقین من وضوئه،ولا تنقض الیقین أبداً بالشکّ،و إنّما تنقضه بیقین آخر». (1)

والجدیر بالملاحظة هنا أنّ فقهاء الشیعة لم یلتفتوا إلی دلالة هذا الحدیث وأمثاله علی حجیة الاستصحاب،إلا بدایة من القرن العاشر.و إنّما بقوا إلی ذلک التاریخ ینظرون إلی الاستصحاب کأصل عقلی لا یحتاج إلی دلیل لفظی،فانقسموا بین رافض لحجیته،وقابل لها.

3-تکمیل قواعد الاستنباط:حلّ التعارضات الروائیة

لم تکن حالة الغوغاء الثقافیة السائدة فی عصر التأسیس الأُصولی و التدوین المتأخّر للحدیث،لتسمح بالاطمئنان إلی ما یتناقله أصدق وأوثق الرواة عن أئمة المحور الولائی،و قد أشرنا إلی ظاهرة الدس و التدلیس فی کتب الأئمّة علیهم السلام وتنبیههم أصحابهم منها.

ص:369


1- (1) .وسائل الشیعة:245/1.

وعلاوةً علی ما تقدّم من الروایات التی یأمرون فیها أصحابهم بعرض جمیع ما یجدونه غریباً فی الأحادیث علی القرآن الکریم،فإنّ هناک قواعد أوسع وأشمل فی ترجیح بعض الروایات علی البعض الآخر؛وهی مبثوثة فی بعض الأحادیث عن الإمام الصادق علیه السلام خاصّة.

فهناک روایة جامعة تعتبر من أهمّ الروایات التی یدرسها الأُصولیون فی باب تعادل الأدلّة الشرعیة وتراجیحها, وهی المسمّاة بمقبولة عمر بن حنظلة، (1)و هذا نصها:

عن محمّد بن یحیی،عن محمّد بن الحسین،عن محمّد بن عیسی،عن صفوان بن یحیی،عن داود بن الحصین،عن عمر بن حنظلة،قال:سألت أبا عبد الله علیه السلام عن رجلین من أصحابنا بینهما منازعة فی دین أو میراث،فتحاکما إلی السلطان وإلی القضاة أیحلّ ذلک؟قال:«من تحاکم إلیهم فی حقّ أو باطل, فإنّما تحاکم إلی الطاغوت،وما یحکم له فإنّما یأخذ سحّتاً, و إن کان حقّاً ثابتاً له; لأنّه أخذه بحکم الطاغوت, و قد أمر الله أن یکفر به،قال الله تعالی: ...یُرِیدُونَ أَنْ یَتَحاکَمُوا إِلَی الطّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ یَکْفُرُوا بِهِ ... .

قلت:فکیف یصنعان؟قال:«ینظران[إلی]من کان منکم ممّن قد روی حدیثنا, ونظر فی حلالنا وحرامنا وعرف أحکامنا فلیرضوا به حکماً،فإنّی قد جعلته علیکم حاکماً, فإذا حکم بحکمنا فلم یقبله منه, فإنّما استخفّ بحکم الله وعلینا ردّ،والراد علینا کالراد علی الله،و هو علی حدّ الشرک بالله».

قلت:فإنّ کان کلّ رجل اختار رجلاً من أصحابنا،فرضیا أن یکونا الناظرین فی حقّهما واختلفا فیما حکما وکلاهما اختلفا فی حدیثکم؟

قال:«الحکم ما حکم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما فی الحدیث وأورعهما, ولا یلتفت إلی ما یحکم به الآخر».

قال:قلت:فإنّهما عدلان مرضیان عند أصحابنا لا یفضل واحد منهما علی[الآخر]؟قال:فقال:«ینظر إلی ما کان من روایتهم عنّا فی ذلک الذی حکماً به المجمع علیه من أصحابک, فیؤخذ به من حکمنا،ویترک الشاذّ الذی لیس بمشهور

ص:370


1- (1) .تسمیة هذه الروایة بالمقبولة ترجع إلی خصوصیة فی الراوی, و هو عمر بن حنظلة،الذی یوجد کلام فی وثاقته،ولکن هذه الروایة بالذات مقبولة منه عند معظم أهل العلم.

عند أصحابک, فإنّ المجمع علیه لا ریب فیه،و إنّما الأمور ثلاثة:أمر بین رشده فیتّبع،وأمر بین غیه فیجتنب،وأمر مشکل،یردّ علمه إلی الله وإلی رسوله.قال رسول الله صلّی الله علیه و آله:«حلال بین وحرام بین وشبهات بین ذلک،فمن ترک الشبهات نجا من المحرمات،ومن أخذ بالشبهات،ارتکب المحرمات وهلک من حیث لا یعلم».

قلت:فإن کان الخبران عنکما مشهورین قد رواهما الثقات عنکم؟قال:ینظر فما وافق حکمه حکم الکتاب و السنّة وخالف العامة،فیؤخذ به ویترک ما خالف حکمه حکم الکتاب و السنّة ووافق العامة.»

قلت:جعلت فداک!أرأیت إن کان الفقیهان عرفا حکمه من الکتاب و السنّة ووجدنا أحد الخبرین موافقاً للعامّة و الآخر مخالفاً لهم بأی الخبرین یؤخذ؟قال:«ما خالف العامّة ففیه الرشاد».فقلت:جعلت فداک!فإن وافقهما الخبران جمعاً؟قال:«ینظر إلی ما هم إلیه أمیل حکامهم وقضاتهم،فیترک ویؤخذ بالآخر».

قلت:فإن وافق حکامهم الخبرین جمعاً؟قال:«إذا کان ذلک فأرجه حتّی تلقی إمامک, فإنّ الوقوف عند الشبهات خیر من الاقتحام فی الهلکات». (1)

البحث السادس و الثلاثون:تطوّر الفقاهة الإمامیة فی عصر الغیبة
اشارة

تقدّم أنّ أهمّ مشکلةُ منعت اتّساع دائرة إشعاع فقه أئمّة أهل البیت علیهم السلام زمن حضورهم،هی حالة الحصار التی عاشوها تحت وطأة الاستبداد الأموی, ثمّ العبّاسی.فکان القلیل من أتباعهم یتّصلون بهم سرّاً ولا یجرؤن علی إظهار عقائدهم؛ممّا حکم علی بقاء المدرسة الفقهیة الإمامیة فی حالة من الانحصار فی دائرة ضیقة جداً من الأتباع،بینما انتشرت مذاهب المراجع الجماهیریین بین الناس لعدم وجود المانع من ذلک أوّلاً،ثمّ لانضمام الکثیر من حفّاظ مذاهبهم بعد وفاة مؤسّسیها إلی الدوائر السلطویة وتحملهم مسؤولیة القضاء،فتمکّنوا بذلک من ترویج تلک المذاهب فی مناطق نفوذهم.

ص:371


1- (1) .شرح أصول الکافی:334/2.

و قد بقیت هذه الوضعیة طیلة القرن الرابع الذی لم یشهد اتّساع رقعة أی مذهب أو مدرسة فقهیة إلا بمساعدة السلطة.وزاد فی تضییق الخناق علی مدرسة أهل البیت علیهم السلام الفقهیة،نجاح الإسماعیلیة فی تأسیس دولتهم بإفریقیة, ثمّ تأسیسهم للقاهرة،وتمکّنهم من الإشعاع من خلالها علی مجمل الشرق الإسلامی.

فی تلک الأثناء برز بنو بویه،وهم من شیعة بلاد الدیلم-شمال إیران-حیث کان المذهب الزیدی منتشراً،کوزراء للخلافة العباسیة من جهة،وبنو حمدان کأمراء علی الموصل وحلب وحمص من جهة أُخری.واعتنق أمراء بنی حمدان المذهب الشیعی الإمامی فأصبح للمدرسة الفقهیة الإمامیة-ولأول مرّة فی تاریخها-مجال للانتشار دون تقیة أو تکتّم.

1-الفقه الإمامی بین المعارضة و المداراة
اشارة

فی هذه الظروف التی امتدّت قرابة القرن،وانتهت بنکبة بنی بویه علی ید السلاجقة،تأسّست أوّل المدارس العلمیة التی جاهرت بانتسابها للتشیع الولائی،ومنذ ذلک التاریخ لم تنقطع هذه المدرسة عن التواجد فی أماکن مختلفة کلّما سمحت الظروف بذلک.

الجیل الأوّل من الفقاهة الإمامیة

بدأت المدرسة الإمامیة الفقهیة بالتبلور منذ عهد الغیبة الصغری الذی انتهی متزامناً مع ظهور کتاب الکافی لمحمّد بن یعقوب الکلینی.ومنذ ذلک التاریخ دخل علماء الشیعة فی مدینتی قمّ و الری،وفی مقدّمتهم ابن بابویه الصدوق وابنه 381ه،مرحلة التدوین الفقهی الکبیر.

ثمّ مع استتباب الأمر لبنی بویه فی بغداد،لمع نجم ابن المعلم المعروف بالشیخ المفید(ت413ه(،واستطاع الخروج منتصراً من جمیع المناظرات التی حضرها،فکان أوّل مبلّغ مناظر استطاع إدخال الناس أفواجاً إلی التشیع الإمامی،بعد أن کانت

ص:372

الجماهیریة و الشعبیة منحصرتان فی التشیع الزیدی أو الإسماعیلی،ممّا أورث فی نفوس خصومه بغضاً له لا یعادله بغض.

وکان من أبرز تلامیذ الشیخ المفید الأخوان الشریفان:الرضی و المرتضی.

فأمّا الشریف الرضی(ت/405 ه)،فمن مآثره جمع نهج البلاغة.

و أما السید المرتضی،و هو علی بن الحسین الملقّب بعلم الهدی(ت436ه(،فقد استقامت له الرئاسة العلمیة بلا منازع،وعلی یده دوّنت أوّل کتب الأُصول المعروفة علی مذهب الشیعة الإمامیة،و هو الذریعة.وکان من مآثره العلمیة الکبری نفی حجّیة خبر الواحد،واستطاعته فرض هذا النفی کأمر واقع لم یستطع أن یردّه علیه أحد،حتّی قال بضرس قاطع:إنّ إجماع الطائفة هو علی نفی حجیة أخبار الآحاد.

وفی هذا القطع دلیل علی سعیه لوقایة المدرسة الفقهیة الإمامیة من حالة الأخباریة التی سرعان ما وقعت فیها المذاهب الأُخری.

ومن أبرز تلامیذ السید المرتضی،أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسی،الملقب بشیخ الطائفة(ت460 ه)،الذی تصدّی للرئاسة العلمیة بعد أستاذه،وزود المکتبة الإمامیة بأهمّ مصادرها الحدیثیة و الفقهیة و الرجالیة.وفی أیامه نکب بنو بویه،وساد الاضطراب مدن العراق،وبعده دخلت المدرسة الفقهیة الإمامیة مرحلة شبیهة بالتقلید استمرّت أکثر من قرن.حتّی ظهر ابن إدریس الحلی(ت598 ه)،بعد أن انتقل الثقل العلمی إلی مدینة الحلّة.

فکان ابن إدریس من الثائرین علی عصر التقلید،ومن المجاهرین بمخالفة الشیخ الطوسی الذی اتّهمه بالتراجع عن مکاسب أُستاذه السید المرتضی فی نفی حجیة أخبار الآحاد خاصّة،ورفض حجیة الاستصحاب.

وبذلک یمکن اعتباره خاتمة للجیل الأوّل من فقهاء الإمامیة.

ص:373

مدرسة الحلّة و الجیل الثانی

لم یکتب لثورة ابن إدریس أن تستمرّ بعده،فسرعان ما اکتسح المغول کلّ المنطقة وسقطت الخلافة العباسیة،وألقی بمعظم کتب التراث الإسلامی فی نهر دجلة،حتّی قیل إنّ میاهه أسودّت من الحبر.

فأصبح الشغل الشاغل لعلماء الشیعة حفظ التراث عامّة و الحدیث خاصّة.وظهر فی الحلّة جیل آخر من الفقهاء المتکلّمین،فی طلیعتهم المحقّق الحلّی صاحب التألیفات العدیدة التی اشتهر منها خاصّة کتاب شرائع الإسلام الذی أصبح کاتبه یسمّی باسمه فیقال صاحب الشرائع. (1)وبرز کذلک العلاّمة الحلّی صاحب التألیفات العدیدة التی اشتهر منها:المختصر النافع،والقواعد،وتذکرة الفقهاء.

فکان هذا الجیل أفضل لسان دفاع عن المتقدّمین،فی نفس الوقت الذی کان له الدور الأکبر فی نشر المدرسة الفقهیة الإمامیة فی بعض نواحی إیران بعد،دخول أحد أمراء المغول فی المذهب الإمامی.

مدرسة جبل عامل

امتدّ عطاء مدرسة الحلّة إلی القرن التاسع مع ابن فهد الحلّی،صاحب المهذب البارع فی شرح المختصر النافع،و هو من أهم الکتب الاستدلالیة فی فقه الإمامیة, إلّا أنّه،فی الأثناء،قد بدأ جبل عامل یظهر شخصیات علمیة متمیزة طبعت الفقه الإمامی بطابعها الذی لم تمحه السنون.فمن أبرز أعلام القرن الثامن محمّد بن مکّی العاملی, الملقّب بالشهید الأوّل 786 ه،وله کتب عدیدة إلّا أنّ الذی اشتهر منها هو اللمعة الدمشقیة فی فقه الإمامیة (2)

ص:374


1- (1) .هذا الکتاب ما زال إلی الآن یدرّس أو یعتمد فی الحوزات العلمیة کمتن أساسی فی الفقه،فی مرحلتی المقدّمات و الخارج.
2- (2) .متن شدید الاختصار فی مائة ورقة،لکنّه مجموعة من البرقیات التی یتوقّف عندها الدارسون واحدة واحدة،و هو إلی الآن یدرس فی الحوزات مع شرحه:الروضة البهیة،للشهید الثانی.

الذی کتبه فی سجنه فی دمشق،بعد دسیسة دسّها أعداؤه،وقتل علی إثرها.

ومن أبرز أعلام القرن العاشر المحقّق علی بن عبد العال الکرکی(ت940 ه), وزین الدین علی العاملی, المعروف بالشهید الثانی(ت965 ه)،و قد عاصر بدایة الدولتین العثمانیة و الصفویة معاً،وآثر البقاء فی ظلّ الدولة العثمانیة بعد التجربة المریرة للمحقّق الکرکی،کما سیأتی.لکن الدسائس لم تلبث أن أودت به هو الآخر،فقتل, و هو فی الطریق إلی اسطنبول،و هو فی عزّ العطاء العلمی.

ترک مجموعة کبیرة من المؤلّفات أشهرها شرحه علی اللّمعة الدّمشقیة المسمی بالروضة البهیة،ولکنّ الأهمّ منه من الناحیة العلمیة هو کتابه فی الفقه الاستدلالی مسالک الأفهام, و هو حاشیة استدلالیة علی شرائع الإسلام.

ومن أعلام جبل عامل أیضاً جمال الدین الحسن ابن الشهید الثانی(ت1011ه)،الذی ترک کتاب معالم الدین وملاذ المجتهدین،فأصبح کاتبه یسمّی باسمه فیقال صاحب المعالم،و هو من أهمّ الکتب الأصولیة, و قد ظلّ إلی أیامنا یدرّس کمتن أساسی فی المراحل الأولی من دراسة أُصول الفقه.

العهد الأخباری

فی بدایة القرن العاشر تأسّست الدولة الصفویة،بعد نجاح ثورة قادتها حرکة صوفیة بزعامّة الشیخ صفی الدین الأردبیلی.وبعد إعلان الصفویین انتمائهم إلی الشیعة الإمامیة،بنوا مشروعیتهم علی حمایة المذهب الإمامی وعملوا علی جذب أبرز علماء جبل عامل فی زمانهم, و هو المحقّق الکرکی،الذی تحمل مسؤولیة عظیمة فی بناء أجهزة القضاء و الحسبة فی الدولة الصفویة مدّة عقدین،کما سیأتی.

لکنّ الدولة الصفویة لم تلبث أن تحوّلت إلی دولة عرقیة استبدادیة،فتهرّب من خدمتها البعض وبقی خارج سلطانها, مثل الشهید الثانی،بینما رأی البعض الآخر التزام

ص:375

جانب المداراة معها،مثل بهاء الدین العاملی المعروف بالشیخ البهائی،فی حین استفاد البعض الآخر من دعم الدولة فی تأسیس مشروع ثقافی کبیر هو جمع التراث الشیعی فی موسوعة کبری.

و قد تصدّی الشیخ المحدّث المجلسی(ت1111 ه(لهذا العمل وأخرج مجموعته الحدیثیة التاریخیة الکبری بحار الأنوار, التی کثر الجدل حولها, فمن قائل:بأنّها قد حفظت التراث الشیعی من التلف،وکفاها ذلک فخراً.إلی قائل:بأنّها قد جنت علی الشیعة, حیث جمعت إلی جانب أحادیثهم الصحیحة کلّ ما هبّ ودبّ من الروایات الضعیفة و الموضوعة،وأخطرها روایات المطاعن التی تروی عن مشاهیر الصحابة کلّ ما یقبح ذکره،وبذلک أعطت لأعداء الشیعة فرصة للتشهیر بهم ومبرّراً لاضطهادهم, حیثما وجدوا...

إلا أنّ أخطر ما حصل فی العهد الصفوی هو هیمنة الحرکة الأخباریة منذ أوائل القرن الحادی عشر،مع لمعان نجم المحدث الأمین الأسترابادی وکتابه الشهیر الفوائد المدنیة.ومنذ ذلک التاریخ دخل الفقه الشیعی تحت الهیمنة الأخباریة المطلقة،عدا بعض الاستثناءات المحدودة.وکان آخر کبار الأخباریین،بل هو أعظمهم شأناً علی الإطلاق،الشیخ یوسف البحرانی(ت1186ه), الذی برز بموسوعته الفقهیة الکبری الحدائق الناضرة فی 23 مجلداً،التی تعتبر أوّل موسوعة فقهیة استدلالیة بهذا الحجم.

المرحلة الأصولیة الثانیة

تبتدئ هذه المرحلة بالمواجهة العلمیة الکبری التی شهدها صحن مقام الإمام الحسین علیه السلام بکربلاء بین الشیخ یوسف البحرانی الذی کانت رئاسته العلمیة مطلقة آنذاک, ومحمّد باقر البهبهانی المعروف بالوحید البهبهانی(ت1205ه)الأُصولی

ص:376

المتخرج من مدرسة فلسفیة مغمورة،هی مدرسة الحکمة المتعالیة، (1)علی ید شیخه إسماعیل خاجوئی بأصفهان. (2)

ویعتبر الوحید البهبهانی مجدّد الفقاهة الأصولیة بعد طول هیمنة أخباریة،و قد احتاج فی ذلک إلی ربط الجسور الطویلة مع العصر الأُصولی الذهبی الأوّل وشعاراته الثوریة التی محورها نفی حجیة أخبار الآحاد.فکان الصراع بینه وبین الشیخ البحرانی صراع بین قطبین لا یلتقیان:

الأول یقول بحجیة جمیع الأخبار،وینفی الحجیة عن ظواهر القرآن الکریم.

والثانی ینفی حجیة أخبار الآحاد ما لم تکن محفوفة بقرائن تدلّ علی قطعیة صدورها...

وبعد وفاة الوحید البهبهانی1205ه،استمرّت المدرسة الفقهیة الأصولیة بشکل إتباعی علی ید تلمیذه المیرزا أبو القاسم القمّی،صاحب کتاب قوانین الأُصول. (3)ثمّ تعدّدت الوجوه العلمیة البارزة إلی أن أفرزت أکبر موسوعة فقهیة, وهی جواهر الکلام،43 مجلداً،للشیخ محمد حسن النجفی الذی أصبح معروفاً بصاحب الجواهر.

و هذه المجموعة هی شرح استدلالی موسّع علی کتاب:شرائع الإسلام.

إلا أنّ أبرز الشخصیات العلمیة التی طبعت القرن الثالث عشر هی شخصیة الشیخ مرتضی الأنصاری1281ه،فهو الأُصولی الذی حسم الموقف نهائیاً مع الأخباریین،

ص:377


1- (1) .أسس هذه المدرسة محمد بن إبراهیم القوامی،المعروف بصدر المتألهین،أو الملا صدرا،أو صدر الدین الشیرازی1050ه-،و قد حاول من خلال کتابه الأسفار الأربعة فی الحکمة المتعالیة،حل المشاکل الفلسفیة المعلقة ومنهجة المسائل العرفانیة،بأسالیب مبتکرة جمع فیها بین الاستدلال المشائی،والشهود العرفانی،والدلیل القرآنی.
2- (2) .ترجمته فی أعیان الشیعة.
3- (3) .هذا الکتاب أیضاً ظلّ إلی وقت قریب یدرس فی الحوزات العلمیة،کمتن دراسی أساسی فی الأُصول لمرحلة اللمعة, وما بعدها.

دون أن یتخلّی عن حجیة أخبار الآحاد،فی کتابه فرائد الأُصول, المعروف بالرسائل، (1)کما أنّ کتابه الاستدلالی الفقهی المکاسب, یعتبر بحقّ مأثرة علمیة فریدة بما یحتویه من ثراء علمی ما زالت الدراسات العلیا الفقهیة غیر قادرة علی الاستغناء عنه إلی أیامنا.

ومن أبرز تلامیذ الشیخ الأنصاری محمّد کاظم الخراسانی الملقّب بالآخوند صاحب کتاب کفایة الأُصول الذی أصبح کاتبه یعرف باسمه،و هو أدقّ وأشمل متن دراسی کتب فی الأُصول إلی یومنا؛و هو مغلق فی وجه غیر المتخصّص،فلا یدرس إلا فی أعلی المراحل العلمیة.

وتعتبر کتب الشیخ الأنصاری و الآخوند إلی یومنا مرجعیة علمیة للمدرسة الأصولیة.

2-إشارات حول تجربة المحقّق الکرکی

تقدّمت الإشارة إلی أن المحقّق الکرکی،کان أبرز الوجوه التی أفرزتها المدرسة العاملیة،فی بدایة القرن العاشر.و قد تزامن عطاؤه العلمی الکبیر مع تحوّلات کبیرة شهدها العالم الإسلامی.تتلخّص فی النشأة المتزامنة لإمبراطوریتین عظیمتین ومتنافستین إلی حدّ الاقتتال الدموی،وهی:الخلافة العثمانیة فی معظم البلاد العربیة وبلاد الأناضول و البلقان،والمملکة الصفویة التی امتدت فی حدودها الغربیة إلی البحر الأسود و الشرقیة إلی بلاد الهند.

والمهمّ هنا أنّ الدولة الصفویة الناشئة سارعت إلی طلب النصرة المعنویة من علماء الشیعة فی جبل عامل؛فاستجاب المحقّق الکرکی،وحصل علی تفویض مطلق من السلطان الصفوی طهماسب،لیکون الحلّ و العقد بیده دون غیره.فتمکن المحقّق الکرکی من بناء أجهزة الدولة طبقاً لرؤیته المستمدّة من فقه أهل البیت علیهم السلام،وأنشأ الدواوین ونظم القضاء طبقاً لذلک.

ص:378


1- (1) .مایزال کتاب الرسائل هذا وشروحه عمدة دراسة الأُصول فی السطوح العلیا و البحث الخارج.

ومن أهمّ انجازاته بسط ید الفقیه ونوابه القضاة علی جمیع أجهزة الدولة،بحیث منع الأمراء وقادة الجند من التصرّف فی أموال الدولة إلا بإذنٍ منه, وبحسب ما یقتضیه الشرع.

لهذا تعتبر فترة تعاون المحقّق الکرکی مع الدولة الصفویة،التی استمرّت عقدین من الزمن،أوّل تجربة لما أصبح یعرف الیوم باسم نظام ولایة الفقیه؛إلا أنّ هذه التجربة وما حملته معها من تقیید لأیادی الجور و الفساد،قد أثارت حفیظة کبار القادة و الأمراء, فکادوا له عند السلطان الصفوی الذی لم یستجب لهم أبداً،فحاولوا اغتیال المحقّق الکرکی ثلاث مرّات،اضطر إثرها إلی الفرار إلی النجف الأشرف،حیث مات مسموماً،علی الظاهر سنة940 ه.. (1)

و قد ترک المحقّق الکرکی أثراً علمیاً یعتقد الکثیر من المحقّقین أنّه لا نظیر له فی فقه الشیعة الإمامیة و هو کتاب جامع المقاصد،الذی شرح فیه کتاب القواعد للعلاّمة الحلّی شرحا استدلالیاً فیه الکثیر من الابتکار العلمی.

3-حول استمرار حرکة الاجتهاد عند الشیعة الإمامیة

من المسلّمات عند الشیعة الإمامیة،عدا الإخباریین منهم و القلیل ممّن جاراهم فی ذلک،عدم جواز تقلید المیت مع وجود المجتهد الحی؛إضافة إلی کون الاجتهاد واجباً کفائیاً فی کلّ مجموعة بشریة.

هذه المسلّمات التی اشترک فیها الإمامیة و المالکیة خاصة،من المفروض أن تمنع هاتین المدرستین من الوقوع فیما وقعت فیه المدارس الأُخری التی تساهلت فی وجوب الاجتهاد, وتشدّدت مع کلّ من أراد إحیاء الاجتهاد المطلق فی تاریخها.

وبقطع النظر عن الظروف السیاسیة التی انتشرت فیها المدرسة المالکیة،فقوت من

ص:379


1- (1) .لاحظ ترجمته فی أعیان الشیعة؛وفی مقدّمة کتاب جامع المقاصد, التی حرّرها السید جواد الشهرستانی،وفیها فوائد جمّة غفل عنها الکثیرون.

جانب دعاة التقلید؛حتی کان المجتهدون عرضة لابتلاءات شدیدة،کما حصل لأبی الولید بن رشد فقیه وفیلسوف الأندلس،الذی أراد إحیاء الاجتهاد خارج الأطر المتوارثة عن شرّاح مالک،فإن حرکة الاجتهاد لم تتوقف بفضل تنوع الظروف الحاضنة للمدرسة الإمامیة.

فقصّة الاجتهاد فی مذاهب الجمهور کانت قصیرة العمر نسبیاً.لأنّ الحفّاظ منذ تولّوا تدوین أُصول أساتذتهم وفروعهم،قد رسموا القوالب الجاهزة الأصولیة و الفقهیة لمن جاء بعدهم،فحکم علی مجتهدی کلّ مذهب أن یکونوا مجتهدین فی النوازل فقط،وأن لا یکون ذلک خارج الأُطر الفقهیة المرسومة سلفاً.

فعندهم انقطع الاجتهاد المطلق مع موت مؤسّس المذهب،ثمّ انقطع الاجتهاد فی المذهب مع موت الحفّاظ الأوائل الذین دونّوا فقه المذهب وأُصوله.ولم یبقَ أمام الأجیال اللاحقة إلا الاجتهاد فی الفتوی.

أمّا فی المدرسة الإمامیة فرغم وجود تیار محافظ یمنع الاجتهاد المطلق خارج الأُطر التی رسمها الشیخ الطوسی مثلاً،إلا أنّ ما تقدّمت الإشارة إلیه من تعدّد أجیال الاجتهاد تبین أنّ هناک علی الأقلّ ثمانیة حرکات تجدیدیة فی المذهب الفقهی یمکن أن نطلق علیها اسم:الاجتهاد المطلق،أو بعبارة أکادیمیة:التأسیس المدرسی.

وهی:مدرسة الشریف المرتضی،ثمّ الشیخ الطوسی وشرّاحه،ثمّ ابن إدریس،ثمّ مدرسة الحلّة،ثمّ مدرسة الکرکی،وفی عرضها مدرسة الشهیدین العاملیین.

ثمّ المدرسة الأصولیة الثانیة:نشأت علی أنقاض الحرکة الأخباریة،ثمّ المدرسة الإتباعیة الأصولیة وامتداداتها المعاصرة،وأخیراً بعض المحاولات التجدیدیة التی لم یفصح عنها أصحابها بالکامل لحدّ الآن،وبمجرّد أن تنضج ثمارها سوف تکون التأسیس المدرسی التاسع الذی عرفته المدرسة الإمامیة الفقهیة،هذا عدا ما یمکن

ص:380

أن یدافع عنه البعض من مدارس أُخری لم یکتب لها الاشتهار. (1)

هکذا،فإنّ الاجتهاد المطلق أمر واقع لم یستطع أی تیار محافظ أن یمنعه فی تاریخ الفقه الإمامی.

أمّا الاجتهاد المدرسی أی داخل القوالب المدرسیة الجاهزة،فهو أمر یومی لا یکاد یخلو منه جیل من الأجیال،فضلاً عن المجتهدین فی الفتوی الذی ما انفکت تتخرّج أفواجهم من مختلف المدارس.وهاتان المرتبتان من الاجتهاد تتواجدان،بدرجات متفاوتة فی جمیع مدارس الجمهور الفقهیة.

أمّا عن عوامل هذا الازدهار فی الحرکة الاجتهادیة،فعلاوةً علی ما تقدّم أوّلاً،لا بدّ من الإشارة إلی علّة أُخری مساعدة, وهی تحرّر الحوزات و المدارس العلمیة من الهیمنة السلطویة واستقلالها المالی التامّ عن جمیع الدول التی عاشت فی کنفها،ممّا یمکن حرکة الدرس و التحصیل من الاستمرار فی جمیع الظروف،و إن کانت هذه الظروف المادیة کثیراً ما تشتدّ،فلا یصبر علی الدرس إلا أصحاب الهمم العالیة.

ص:381


1- (1) .انظر تفصیل الکلام فی هذه المدارس فی الأجزاء:5،4،3 و6 من أطوار الاجتهاد ومناهجه،والمطبوع منها إلی حدّ هذا التاریخ الجزأین الثالث و السادس،المجلدان الثالث و الرابع.

أسئلة للمراجعة و التعمّق

المطلوب تحریر مقالة تحلیلیة فی أربع صفحات 1200 کلمة،حول کلّ واحد من الموضوعات الآتیة:

1.حلّل وناقش:لم ینصف الإمام أبو حنیفة نفسه مرتین:الأولی حین أخفی عقائده فنسبه البعض إلی الجارودیة و البعض إلی الإرجاء فلم ینصفه أحد،والثانیة إذ لم یتبرأ قبل وفاته ممّا یتناقله تلامیذه من فقه،قبل رجوعه عنه.

2.ماذا تفهم من تقریر مترجم سحنون عن خلافه مع أسد بن الفرات؟قیم الوضع الأخلاقی لحفّاظ المذاهب،وأوضح آثاره علی البناء العلمی.

3.کان الإمام الشافعی لا یری حجیة الحدیث المرسل:ولکنّه یقبل مراسیل سعید بن المسیب،أوضح دواعی الإرسال عند الثانی وخلفیات القبول عند الأوّل.

4.حلّل وناقش:لو طال عمر الشافعی, لما کان للمذهب الحنبلی, ولا المالکی وجود یذکر.

5.حلّل وناقش:لقد صرف الإمام أحمد بن حنبل کلّ طاقته فی محاربة متطرّفی المعتزلة و الکلّابیة, ولم یهتمّ بتوضیح عقائده،فلم ینصف بذلک نفسه ولا أتباعه.

6.ماذا تفهم من التأسیس المبکّر لعلم الدرایة؟هل هو من تأسیس الإمام علی علیه السلام المبکّر لعلم الدرایة؟هل هو لشیعته أم لجمهور المسلمین؟لماذا؟

7.بملاحظة تأسیس الأُصول علی ید الإمام الصادق علیه السلام،هل یمکن القول أن فتح باب الاجتهاد المطلق فی عرض الإمام کان بإذن منه؟

8.ماذا تفهم من التزامن بین العهد الأخباری من جهة،ودور انحطاط الدولة الصفویة من جهة ثانیة؟

ص:382

الباب الرابع:المدارس الفکریة المتأخّرة بین الانکفاء الاجتماعی والمواجهة السیاسیة

الفصل الأول:التصوّف و العرفان النظری من البناء الأخلاقی إلی المُقاومة

اشارة

ص:383

ص:384

أوّلاً:حول الخلفیات العلمیة للطرق الصوفیة

البحث السابع و الثلاثون:التصوّف و الهمّ التربوی أمام الفساد و الإحباط السیاسی
اشارة

یمکن تقدیم التصوف الإسلامی بأنّه سلوک یسعی للجمع بین الزهد فی الدنیا،وطلب المعرفة،وإلی التقرب من الخالق تعالی؛وذلک بتزکیة النفس لإعدادها لتقبّل المعرفة الحقّة.

وفی هذا الفصل لا ندّعی بحث حقیقة هذا الفن وإفرازاته الحرکیة و العلمیة؛فهذا بحث ماهوی یخرج عن الإطار العام لبحوث هذا الکتاب،و هو الاقتصار علی المسائل الارتباطیة و الشکلیة.و إنّما نرید إلقاء بعض الضوء علی الظاهرة الصوفیة(العرفانیة)من حیث ارتباطاتها بالتطوّر العامّ لأهمّ الفرق و المذاهب الإسلامیة،وبعض الأدوار الهامّة التی لعبها عدد من الحرکات المنتسبة لهذا الاتّجاه الفلسفی.

لکن،مع هذا،فإنّ قدراً یسیراً من البحث الماهوی یفرض نفسه فی المقام،و هو مدخلنا إلی هذا العرض.

1-حول منشأ التصوّف و العرفان

لقد اختلف المحقّقون فی منشأ التصوّفی،واعتبره کثیر منهم غریباً عن الثقافة الإسلامیة

ص:385

فی صدر الإسلام؛إلا أنّ التحقیق علی خلاف ذلک.من هنا،وجبت هذه الإشارات.

وهناک رأی رائج و قدیم مفاده:أنّ التصوّف لم یکن علماً, بل هو فنّ (1)وسلوک منشأه الأوّل الحضارات الهندیة.

لکن التحقیقات الأکثر موضوعیة تربط هذا المسلک أیضاً بمنشأ سماوی؛وتستدّل علی ذلک بأنّ بعض أشکال الرهبانیة المسیحیة هی من سنخ المسلک الصوفی؛و هو ما ذهب إلیه بعض المستشرقین.فقال:إنّ الرهبانیة المسیحیة أحد منابع التصوّف الإسلامی. (2)وسار علی هذا القول الکثیر ممّن تخرج من مدارس الاستشراق أو تأثر بأعمالهم, ومنهم زکی مبارک،الذی, قال:

إن المسلمین کانوا یرون المسیح قدوة فی الشؤون الروحیة،فإنهم عرفوا الإنجیل منذ زمن بعید،و قد ترجموه ترجمة فصیحة جداً،ومن تلک الترجمة الفصیحة شواهد کثیرة فی کتب الأدب و التصوف،کالذی نراه فی کتاب عیون الأخبار لابن قتیبة،وکتاب الإحیاء للغزالی،والتشابه کبیر جداً بین مذاهب النصاری ومذاهب الصوفیة فی التعبد.فالنصرانی المتبتّل یدخل الکنیسة وفی جیبه کتاب یشتمل علی طوائف من الأدعیة و الصلوات،والصوفی المخلص یدخل المسجد،وفی یده کتاب یشتمل علی طوائف الاستغاثات و الأحزاب و الأوراد«. (3)

وعلاوة علی ما فی التمثیل المذکور من مغالطة تعود إلی تجاهل المنشأ المشترک لجمیع الدیانات السماویة،وکونها تدعو جمیعاً إلی تهذیب النفس و التقرب إلی الخالق بالطاعات،فإنّ عکس ما ذکره أیضاً ملحوظ،فلم تخلُ الکنیسة من المتأثّرین بالعرفان الإسلامی،بعد الحروب الصلیبیة واشتداد حرکة ترجمة المعارف الإسلامیة. (4)

ص:386


1- (1) .مدخل مناهجی إلی علم الکلام:50.
2- (2) .نظرات فی التصوف و الکرامات:13.
3- (3) .التصوّف الإسلامی:13/2.
4- (4) .لا تخلو الکنیسة الکاثولیکیة من منظرین للعرفان المسیحی،وأشهر أعلامهم کامپانیلاّ الإیطالی؛المنطاد فی توضیح جبروت الاقتصاد:224 و225.

ومهما یکن من أمر،فلا شکّ أنّ القاسم المشترک للتصوف فی جمیع الأدیان و الفلسفات،هو السعی إلی الخروج عن سیطرة المادّة و التوسل إلی ذلک بشتی أنواع الریاضات؛ومنها إماتة الشهوات فی جمیع مظاهرها.فمثلا،حتّی لباس المرتاض من المناسب أن یکون خشناً من الصوف, ولیس من القطن أو الکتان.

و هذه إحدی وجوه تسمیة هذا النوع من المرتاضین بالمتصوّفة.

و قد بدأ التصوّف-أو العرفان-یکتسح الساحة الإسلامیة،بعد أن کان فی القرنین الأولین مقتصراً علی ظاهرة الزهد،والدعوة إلی جهاد النفس،بعد أن تمّ استیراد مبانیه النظریة من عدّة مصادر،منها الأفلاطونیة الیونانیة.واتّخذ الحضور العرفانی شکلاً شعبّیاً منذ بدأ الناس یفقدون الثقة فی حفّاظ المذاهب،أو علی الأقل فی المبلّغین من الطبقة الرابعة الذین صاروا متّهمین بطلب الدنیا.

والحقیقة أنّ مصطلح العرفان لا یمکن أن یشمل جمیع المنتسبین إلی التصوّف؛بل هو عنوان للتصوّف الفلسفی،الذی ارتبط فی مرحلة تکامله بالفلسفة الإشراقیة.وأبرز من روج الفلسفة الإشراقیة بین المسلمین شهاب الدین السهروردی(ت587ه)،بینما کان الظهور الأول للعرفان بقسمیه العملی و النظری فی نهایة القرن الخامس:فکان کتاب منازل السائرین للخواجه عبد الله الأنصاری الهروی(ت481ه)،أول أهم ما صدر فی العرفان العملی،بینما کان الإنسان الکامل لعبد الکریم الجیلی(ت474ه)،أول أهم ما دون فی العرفان النظری.وإجمالا یمکن القول بأنّ العرفان الفلسفی مختصّ بمرحلة ثالثة من تطوّر التصوّف،کما سیأتی.

2-التصوّف العرفانی و السلوک
اشارة

لقد کان التصوّف فی بدایته یبدو انکفاء علی النفس وانزواء عن المجتمع فی نزعة فردانیة،قد تتّسم بالتطرّف أحیاناً.إلا أنّ التحدّیات الخارجیة المتمثلة أساساً فی الغزو

ص:387

الصلیبی والاجتیاح المغولی،أخرجت الکثیر من المتصوّفة من عزلتهم وحولتهم إلی دعاة للجهاد،فسجّل التاریخ لهم أهمّ الأدوار فی طرد الغزاة عن شرق بلاد الإسلام.أمام مثل هذه القابلیة فی التحوّل من الفردانیة إلی المجتمعیة الحرکیة،من الضروری إلقاء بعض الضوء علی طبیعة هذا الفکر الذی ما زال یوجه قسماً کبیراً من الأمّة الإسلامیة.

وهنا نجد أنفسنا أمام مشکلة شحة المصادر الموضوعیة التی یمکن الاعتماد علیها فی التقویم.

مشکلة المصادر وخصوصیة ابن خلدون

لسنا أمام فقر فی المصادر التی بحثت الظاهرة الصوفیة،فهی کثیرة ومتعدّدة الاتّجاهات. (1)لکنّنا أمام فقر حقیقی فی المصادر الموضوعیة التی تناول أصحابها ظاهرة التصوّف دون خلفیة وأفکار مسبقة،إیجابیة کانت أم سلبیة.

ومن النصوص النادرة التی تتمیز بالاختصار المطلوب،وبدرجة مقبولة من الموضوعیة و الحیاد،البحث الذی ضمنه ابن خلدون مقدّمته الشهیرة.والکاتب نفسه له من الخصوصیة ما یجعله أقدر من غیره علی تقویم ظاهرة التصوّف دون إفراط أو تفریط أو انحیاز.فقد کان عبد الرحمن بن خلدون شاهداً علی أهمّ تحوّل عرفه الفکر الإسلامی بعد الغزوات الصلیبیة و المغولیة،و هو الانخراط الجماعی لنخبة أهل الفکر من فقهاء ومتکلّمین وفلاسفة فی سلک التصوّف و العرفان.و قد بدأ هذا الانخراط بالتحول المشهود الذی حصل لأبی حامد الغزالی, ثمّ استمرّ دون انقطاع.وابن خلدون بنفسه نموذج حی من تفاعل أهل الفکر مع الفلسفة العرفانیة بعد أن یئس من الواقع السیاسی والاجتماعی المنحط.فبعد حیاة سیاسیة وفکریة نشیطة متنقلاً بین بلاطات

ص:388


1- (1) .من الطبیعی أن یکون البحث التخصّصی لهذا الموضوع متطلّباً لمرور متعمّق بجمیع هذه المصادر،ولیس هذا مستوی من البحث التخصّصی مطلوباً فی هذا المختصر الدراسی الأوّلی.

المغرب،اختار عبد الرحمن بن خلدون نهج المتصوّفة و العرفاء واعتزل الناس بالقاهرة.

ولهذه الخصوصیة اخترنا للتعریف بعلم التصوّف الاقتباس من فصل له فی مقدّمته.

تعریف التصوّف عند ابن خلدون

یقول ابن خلدون فی تقدیم التصوّف:

هذا العلم من العلوم الشرعیة الحادثة فی الملّة.وأصله أن طریقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمّة وکبارها من الصحابة و التابعین ومن بعدهم،طریقة الحقّ و الهدایة.وأصلها العکوف علی العبادة والانقطاع إلی الله تعالی و الإعراض عن زخرف الدنیا وزینتها و الزهد فیما یقبل علیه الجمهور من لذّة ومال وجاه،والانفراد عن الخلق فی الخلوة للعبادة.

وکان ذلک عامّاً فی الصحابة و السلف, فلمّا فشا الإقبال علی الدنیا فی القرن الثانی وما بعده،وجنح الناس إلی مخالطة الدنیا اختصّ المقبلون علی العبادة باسم الصوفیة و المتصوّفة. (1)

وبعد أن نقل تفسیر التسمیة عن القشیری،و هو صاحب الرسالة المشهورة فی اصطلاحات الصوفیة،وعزاها إلی لباس السالکین،یدخل مباشرة فی الغرض العامّ من السلوک،فیقول:

...المرید،فی مجاهدته وعبادته،لا بدّ وأن ینشأ له عن کلّ مجاهدة حال نتیجة تلک المجاهدة.

وتلک الحال:إمّا أن تکون نوع عبادة،فترسخ وتصیر مقاماً للمرید،و إمّا أن لا تکون عبادة و إنّما تکون صفة حاصلة للنفس من حزن, أو سرور, أو نشاط, أو کسل, أو غیر ذلک من المقامات.

ولا یزال المرید یترقّی من مقام إلی مقام إلی أن ینتهی إلی التوحید و المعرفة التی هی الغایة المطلوبة للسعادة.قال صلّی الله علیه و آله:«من مات یشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنّة».

ص:389


1- (1) .مقتبس بتصرف عن مقدمة ابن مخلدون:467.

فالمرید لا بدّ له من الترقّی فی هذه الأطوار،وأصلها کلّها الطاعة و الإخلاص, ویتقدّمها الإیمان ویصاحبها.وتنشأ عنها الأحوال و الصفات،نتائج وثمرات, ثمّ تنشأ عنها أُخری وأُخری إلی مقام التوحید و العرفان.

و إذا وقع تقصیر فی النتیجة أو خلل،فنعلم أنّه إنّما أتی من قبل التقصیر فی الذی قبله, وکذلک فی الخواطر النفسانیة و الواردات القلبیة. (1)

رفع الشبهة عن متشرعیة السلوک

یعتبر عهد ابن خلدون عهد النضج والاستقرار المتشرعی للسلوک العرفانی؛و قد تحقّق هذا الاستقرار بعد أن مرّ التصوّف بثلاث مراحل:

المرحلة الأولی:

مرحلة ما قبل التدوین،و قد استمرّت إلی القرن الخامس،و قد شکّل فیها التصوّف حالة فردانیة انزوائیة فی الغالب, واتّخذ شکل تحوّلات فردیة تحصّل لبعض الأفراد.

وشهدت هذه المرحلة نوعاً من الفوضی الفکریة،لغیاب موجه نظری یرجع إلیه السالکون.

المرحلة الثانیة:

مرحلة التدوین الأوّل،وتنقسم إلی نوعین:تدوین العرفان النظری،أو علم التوحید العرفانی،ونموذجه البارز کتاب عبد الکریم الجیلی الإنسان الکامل, و العرفان العملی،أو السلوک و الترقی الأخلاقی.

و هذا الفنّ مؤسّس علی نظریة ربط السلوک بالشریعة ضمن مقولة:إنّ لقاء الله لا یتمّ إلا بتحقیق أعلی مراتب التشرع.و هذا مسلک أصحاب المنازل وأهمّهم الخواجة عبد الله الأنصاری الهروی،صاحب کتاب:منازل السائرین،الذی بین منازل السیر العرفانی فی مائة منزل،تبتدئ من الخروج من الغفلة, و هو:مقام

ص:390


1- (1) .المصدر:468.

الیقظة, ثمّ تتدرّج مرتبة مرتبة مروراً بالتوبة و التفکّر و الإنابة...إلخ. (1)

وهناک نوع آخر من التدوین فی هذه المرحلة،هو تبیین الاصطلاحات الصوفیة،وأشهر ما کتب فیه الرسالة القشیریة للقشیری،وطبقات الصوفیة للأنصاری الهروی.و قد شهدت هذه المرحلة تحوّلاً مشهوداً فی مسلک أبرز الشخصیات العلمائیة فی أواخر القرن الخامس, و هو الإمام أبو حامد الغزالی(505 ه)،الذی انتقل من الکلام الأشعری إلی عقائد الصوفیة ودوّن کتاباً جامعاً فی الشرائع و الأخلاق هو إحیاء علوم الدین،الذی ما زال یعتبر مرجعاً فریداً فی بابه.وکتب علیه الملّا محسن الفیض الکاشانی(ت1091ه), حاشیة مشهورة سمّاها المحجة البیضاء فی تهذیب الإحیاء.

المرحلة الثالثة:

مرحلة الطفرة النظریة،و قد تمّت علی ید شیخ الصوفیة الأکبر محی الدین بن العربی(ت638ه)، (2)و إن کان قد بدأها فعلاً السهروردی(ت587 ه)الذی دافع عن المدرسة الإشراقیة فی الفلسفة وأدخلها فی الأدبیات الصوفیة.

واشتهر من کتب ابن العربی الفتوحات المکیة،وفصوص الحکم،والتفسیر المسمّی باسمه.و قد تحوّل کتاب الفصوص إلی أهمّ متن تولّی شرحه وتطویره و التعلیق علیه معظم من جاء بعده،إلی أیامنا.و قد شهدت هذه المرحلة تطوّر الحواشی علی المتون الشهیرة،وأشهرها ما کتبه عبد الرّزاق الکاشانی،أو القاسانی(ت732 ه)،و هو متصوّف شهیر له شرح علی فصوص الحکم،وشرح منازل السائرین،واصطلاحات الصوفیة.

وهکذا ورث ابن خلدون تراثاً عرفانیاً ناضجاً،ارتبطت فیه الحکمة الإلهیة الإشراقیة بالتشریع الإسلامی.

ص:391


1- (1) .منازل السائرین،بشرح القاسانی.
2- (2) .ولد فی مرسیه بالأندلس وتوفّی بسفح قاسیون فی دمشق،له أربعمائة مصنف،منها علاوة علی ما ذکر:ترجمان الأشواق،محاضرة الأبرار،و مسامرة الأخیار،وجامع الأحکام.

فعبّر عن هذا الارتباط بهذه العبارة الوجیزة:

لهذا یحتاج المرید إلی محاسبة نفسه فی سائر أعماله وینظر فی حقائقها؛لأنّ حصول النتائج عن الأعمال ضروری وقصورها من الخلل فیها کذلک.والمرید یجد ذلک بذوقه ویحاسب نفسه علی أسبابه،ولا یشارکهم فی ذلک إلا القلیل من الناس؛لأنّ الغفلة عن هذا کأنّها شاملة.

وغایة أهل العبادات إذا لم ینتهوا إلی هذا النوع أنّهم یأتون بالطاعات مخلصة من نظر الفقه فی الأجزاء والامتثال.وهؤلاء یبحثون عن نتائجها بالأذواق و المواجد لیطّلعوا علی أنّها خالصة من التقصیر أو لا, فظهر أنّ أصل طریقتهم کلّها محاسبة النفس علی الأفعال و التروک و الکلام فی هذه الأذواق و المواجد التی تحصّل عن المجاهدات, ثمّ تستقرّ للمرید مقاماً یترقّی منها إلی غیرها. (1)

تقسیم العلم الشرعی

صار علم الشریعة-عند المتصوّفة-علی صنفین:

صنف مخصوص بالفقهاء وأهل الفتیا:و هو الأحکام العامّة فی العبادات و العادات و المعاملات.

وصنف مخصوص بأهل التصوّف:و هو المتعلق بهذه المجاهدة ومحاسبة النفس علیها و الکلام فی الأذواق و المواجد العارضة فی طریقها وکیفیة الترقی منها من ذوق إلی ذوق.وشرح الاصطلاحات التی تدور بینهم فی ذلک.

3-التصوّف و المعرفة الشهودیة
اشارة

من أهمّ ما یعترض طالب التعرف علی الفلسفة العرفانیة, وفن السیر و السلوک،اختصاص أهل هذه المعارف بمجموعة من المصطلحات،ابتکروها واجتهدوا فی حفظ مضامینها الحقیقیة عن أسماع المتطفّلین.فنتّج عن ذلک جهل

ص:392


1- (1) .مقدّمة ابن خلدون:468 و469.

عمیق عند عامّة المسلمین بما عند أهل التصوّف من عقائد.

و قد حاول ابن خلدون تقدیم فکرة مختصرة وواضحة عن أهمّ معتقدات الصوفیة،متجاوزا عقبة الاصطلاحات.و هذا بعض ما ذکره.

فی اصطلاحات المعرفة الشهودیة

یقول ابن خلدون ما مفاده:هذه المجاهدة و الخلوة و الذکر یتبعها غالباً کشف حجاب الحسّ،والاطلاع علی عوالم من أمر الله،لیس لصاحب الحسّ إدراک شیء منها.

والروح من تلک العوالم.وسبب هذا الکشف،أنّ الروح إذا رجعت عن الحسّ الظاهر إلی الباطن ضعفت أحوال الحسّ،وقویت أحوال الروح،وغلب سلطانه،وتجدّد نشؤه وأعان علی ذلک الذکر؛فإنّه کالغذاء لتنمیة الروح.ولا یزال فی نموّ وتزاید إلی أن یصیر شهوداً بعد أن کان علماً.ویکشف حجاب الحسّ ویتمّ وجود النفس الذی لها من ذاتها, و هو عین الإدراک.

فیتعرّض حینئذ للمواهب الربانیة و العلوم اللدنیة و الفتح الإلهی وتقرب ذاته فی تحقیق حقیقتها من الأفق الأعلی،أفق الملائکة.

و هذا الکشف کثیراً ما یعرض لأهل المجاهدة،فیدرکون من حقائق الوجود ما لا یدرکه سواهم.

وکذلک یدرکون کثیراً من الواقعات قبل وقوعها ویتصرّفون بهممهم وقوی نفوسهم فی الموجودات السفلیة؛وتصیر طوع إرادتهم.

فالعظماء منهم لا یعتبرون هذا الکشف, ولا یتصرفون, ولا یخبرون عن حقیقة شیء لم یؤمّروا بالتکلّم فیه؛بل یعدون ما یقع لهم من ذلک محنة ویتعوّذون منه إذا هاجمهم. (1)

ص:393


1- (1) .المصدر:469 و470.
فی تثمین المعرفة الشهودیة

إنّ هذا الکشف لا یکون صحیحاً کاملاً عند العرفاء إلا إذا کان ناشئاً عن الاستقامة؛لأنّ الکشف قد یحصل لصاحب الجوع و الخلوة, و إن لم یکن هناک استقامة،کالسحرة وغیرهم من المرتاضین.

ولیس مرادنا إلا الکشف الناشئ عن الاستقامة.ومثاله أنّ المرآة الصقیلة إذا کانت محدّبة أو مقعّرة وحوذی بها جهة المرئی, فإنّه یشکّل فیه معوجاً علی غیر صورته.و إن کانت مسطحة تشکّل فیها المرئی صحیحاً.فالاستقامة للنفس کالانبساط للمرآة فیما ینطبع فیها من الأحوال, ولما عُنی المتأخرون بهذا النوع من الکشف تکلّموا فی حقائق الموجودات العلویة و السفلیة وحقائق الملک و الروح و العرش و الکرسی وأمثال ذلک.وقصرت مدارک من لم یشارکهم فی طریقهم عن فهم أذواقهم ومواجدهم فی ذلک.

إنّ أهل الفتیا قد انقسموا بین منکر علیهم ومسلّم لهم, ولیس البرهان و الدلیل بنافع فی هذا الطریق ردّاً وقبولاً؛إذ هی من قبیل الوجدانیات. (1)

البحث الثامن و الثلاثون:الاقتباس من التشیع:تعمیم مفهوم الإنسان الکامل
اشارة

هناک اعتقاد سائد بین القدماء،وزادت فی تثبیته بحوث بعض المعاصرین، (2)مفاده أنّ العرفان ولید للتشیع الولائی.ونجد هذا الارتباط وثیقاً فی کتب بعض العرفاء،بما قد یدعو للاعتقاد بأنّ التشیع الولائی و العرفان النظری یخرجان من مشکاة واحدة؛وإنهما وجهان لحقیقة واحدة.

ص:394


1- (1) .المصدر:470.
2- (2) .قال زکی مبارک فی المجلد الثانی من کتاب التصوف الإسلامی:کانت أدعیة زین العابدین ممّا اهتمّ به الشیعة اهتماماً شدیداً،فصحّحواً روایاتها ونقدوها،وکتبوها بالذهب فی کثیر من البلدان. والصوفیة یعتقدون أنّ زین العابدین کان من أهل الأسرار؛نظرات فی التصوف و الکرامات:60.

علی أنه هناک من المؤرّخین-مثل ابن خلدون-من یعتقد أنّ هذه العلاقة, و هذا الارتباط إنّما هما بین التصوّف و العرفان النظری من جهة،وعقائد الباطنیة الإسماعیلیة من جهة أُخری.

و قد سری هذا الاعتقاد إلی الکثیر من أصحاب المعاجم المعاصرین،فیعرّفون محی الدین بن العربی بأنّه باطنی فی العقائد،وظاهری فی الفروع. (1)

ولابن خلدون کلام فی المقایسة و الموازاة بین عقائد الباطنیة و العرفان یأتی مختصره.

1-العلاقة بین العرفان و التشیع موازاة أم تکامل؟
اشارة

یمکن إیجاز الأقوال فی العلاقة بین التشیع و التصوّف،فی ثلاثة:

أوّلاً:القول بالتباین،ومصداقه بعض الطرق الصوفیة المتأخّرة التی تعتقد بقطبیة بعض الصحابة غیر الإمام علی علیه السلام کبعض خطوط النقشبندیة.

ثانیاً:التفریع-أی اعتبار التصوّف و العرفان امتداداً للتشیع فی ظرف التقیة-و هو مسلک أصحاب معظم الطرق الصوفیة،الذین یعتبرون أنّ الإمام علی علیه السلام و الأئمّة علیهم السلام من بعده هم الأقطاب دون غیرهم.

ثالثاً:الموازاة؛و هو القول الذی مال إلیه ابن خلدون.

مقایسة ابن خلدون بین التصوّف و التشیع الباطنی

یقول ابن خلدون:

...کان سلفهم مخالطین للإسماعیلیة المتأخّرین من الرافضة،الدائنین أیضاً بالحلول وإلهیة الأئمّة مذهباً, لم یعرف أوّلهم،فأشرب کلّ واحد من الفریقین مذهب الآخر.واختلط کلامهم وتشابهت عقائدهم.

ص:395


1- (1) .هذا ما ذکره صاحب المنجد فی الأعلام.راجع:مادة:محی الدین بن العربی.

وظهر فی کلام المتصوّفة القول بالقطب, ومعناه:رأس العارفین.یزعمون أنّه لا یمکن أن یساویه أحد فی مقامه فی المعرفة حتّی یقبضه الله؛ثمّ یورث مقامه لآخر من أهل العرفان.

و قد أشار إلی ذلک ابن سینا فی کتاب الإشارات فی فصول التصوّف منها،فقال:

جلّ جناب الحقّ أن یکون شرعة لکلّ وارد أو یطلع علیه إلا الواحد بعد الواحد.

و هذا کلام لا تقوم علیه حجّة عقلیة ولا دلیل شرعی, و إنّما هو من أنواع الخطابة, و هو بعینه ما تقوله الرافضة ودانوا به.

ثمّ قالوا بترتیب وجود الأبدال بعد هذا القطب،کما قاله الشیعة فی النقباء حتّی إنهم،لما أسندوا لباس خرقة التصوّف لیجعلوه أصلاً لطریقتهم وتخلیهم،رفعوه إلی علی.... (1)

إلی هذا الحدّ یمکن القول بأنّ المسألة لیست مجرّد شبه أو موازاة،بل الأرجح أنّ یکون مسلک التصوّف وعقیدة العرفاء بُعداً من أبعاد التشیع, بل یمکن القول دون مجازفة أن التصوّف و العرفان شکّل العنوان العامّ البدیل للتشیع المدرسی.

تطوّر العرفان بعد الانحسار المدرسی للتشیع

یتحصّل من قراءة لتاریخ العصر الإسلامی الوسیط،الممتد من الحروب الصلیبیة إلی الحملات الاستعماریة الأوروبیة علی العالم الإسلامی،أنّ الساحة الثقافیة الإسلامیة،بعد أن فقدت العنوان الجامع الوحدوی الذی کان یمثّله محور السنة و العترة خاصة،فی القرون الثلاثة الأولی،وتحوّل الظواهر المذهبیة المختلفة إلی حالات طائفیة-بدایة من القرن الرابع-تستظلّ بظلّ الحکام و السلاطین،أصبحت بحاجة إلی ظاهرة وحدویة جدیدة تستوعب جمیع تناقضات الأمّة وتنجح فی تعبئة طاقاتها لمواجهة موجات الغزو الصلیبی و المغولی.

ص:396


1- (1) .مقدّمة ابن خلدون:473.

فی هذه الظروف انتقل التصوّف من الانکفاء علی النفس و النزعة الفردانیة إلی مرحلة التدوین و التعبئة الجماهیریة.فلیس من الصدفة أن یکون انتقال أبی حامد الغزالی من حالة المتکلّم الأشعری إلی حالة المتصوّف العرفانی،بعد عزلة بإحدی تکایا دمشق،متزامنا مع أولی الحروب الصلیبیة وسقوط بیت المقدّس بید الغزاة.

ثمّ تتابعت حرکة التدوین العرفانی وتحوّلت الظاهرة الصوفیة إلی ظاهرة تعبویة جهادیة علی ید مشاهیر المتصوّفة من أمثال العزّ بن عبد السلام،والسید أحمد البدوی, ثمّ کان لأتباع أبی الحسن الشاذلی-و هو مؤسّس الطریقة الشاذلیة المعروفة إلی أیامنا-دور مصیری فی تعبئة جماهیر المسلمین ضدّ المغول،وتأمین الانتصار علیهم فی عین جالوت...

منذ ذلک التاریخ أصبح التصوّف العرفانی هو العنوان الوحدوی الجامع الذی یرفع لواء الجهاد کلّما تعین.

و قد مرّ کیف أنّ تأسیس الدولة الصفویة یعود إلی فرقة صوفیة لم تظهر إتباعها للمذهب الإمامی إلا بعد أن استقرّت أوضاعها نسبیاً.

أمّا العنوان الوحدوی الجامع الذی أمکنه أن یحقّق هذه النجاحات،فهو یفترض خصلتین کان التشیع المدرسی یحوزهما:

الأولی:سریة العقیدة،و هذا ممّا تحافظ علیه معظم الطرق الصوفیة.

الثانیة:عدم الاصطدام مع العوام فی مسائل الفروع.وإظهار تقلید ما یقلّده الناس فی کلّ بلد یتواجدون فیه.

لهذا فلیس هناک مذهب فقهی محدّد للصوفیة،فشیخ الطریقة مجتهد وله فتواه الخاصّة التی لا یعرفها غیر مریدیه؛و أمّا بقیة الأنصار و الأتباع فهم یقلّدون الفقه الرائج فی منطقتهم.

ولعل انتشار الصوفیة،ومسلکهم الخاص فی إخفاء اجتهادات شیوخهم،هو الذی

ص:397

سهل ترویج تقلید المیت،حتی فی الأوساط المذهبیة التی یحرم أقطابها ذلک،مثل الإمامیة و المالکیة. (1)

2-ابن خلدون أمام إشکالات المحدّثین

إنّ الذی یزید الاعتقاد بوثاقة الارتباط بین التشیع و التصوّف،أمران:

الأوّل:وضوح التضادّ بین الکثیر من آراء أهل التصوّف من جهة،وآراء أهل الحدیث،من جهة أُخری.

الثانی:استلزام تحول الکثیر من المفکرین إلی التصوّف،لإجراء مراجعة تاریخیة دقیقة تنقض الغوغائیة العثمانیة من أساسها.

وفی الأسطر الآتیة سنلقی بعض الضوء علی الأمر الأوّل.

وحیث أنّ التصوّف قد بدأ یطرح نفسه منذ القرن السادس کعنوان وحدوی جامع،یرید سحب البساط من تحت أقدام الانتماءات المذهبیة جمیعاً،فقد اشتدّ عداء السلفیة (2)من أهل الحدیث علی أهل التصوّف و العرفان،وغلا فی ذلک تقی الدین بن تیمیة شوطاً بعیداً.

ویعتبر ابن خلدون مرجعاً مناسباً لتقویم هذا النزاع تقویماً موضوعیاً،و هو الذی کتب مقدّمته, قبل التحوّل من الأشعریة إلی التصوّف.

وضمن ردّه علی إشکالات أعداء التصوّف،فهرس المآخذ فی أربعة محاور:

أحدها:الکلام علی المجاهدات, وما یحصل من الأذواق و المواجد ومحاسبة النفس علی الأعمال لتحصل تلک الأذواق.

ص:398


1- (1) .مر الکلام عن المالکیة وانحدار الأجیال المتأخرة منهم إلی التقلید.ویبقی علینا أن نشیر إلی شیوع هذه الظاهرة أیضا فی العصر الصفوی المتأخر:فلعل رواج التصوف،بأشکاله القلندریة المنحرفة،هو الذی سهل علی الأخباریین ترویج مذهبهم الذی یجیز تقلید المیت.
2- (2) .حسب تحقیق الشیخ محمد بن صالح العثیمین،فإن أول من استعمل مصطلح السلفیة هو الشیخ محمد بن عبد الوهاب(من محاضرته فی مؤتمر حول السلفیة و الإرهاب،مرکز علوم الإنسان،باریس2003م).وبناء علی هذا فإن الوصف متأخر عن الموصوف.

ثانیها:الکشف و الحقیقة المدرکة من عالم الغیب مثل الصفات الربّانیة, و العرش و الکرسی, و الملائکة, و الوحی, و النبوءة, و الروح وحقائق کلّ موجود غائب أو شاهد, وترکیب الأکوان فی صدورها عن موجودها وتکونها.

ثالثها:التصرّفات فی العوالم و الأکوان بأنواع الکرامات.

رابعها:ألفاظ موهمة الظاهر صدرت من الکثیر من أئمّة القوم یعبّرون عنها فی اصطلاحهم بالشطحات تستشکل ظواهرها.

ورد علیها باختصار بلیغ:

أ)فأمّا الکلام فی المجاهدات و المقامات وما یحصل من الأذواق و المواجد فی نتائجها ومحاسبة النفس علی التقصیر فی أسبابها, فأمر لا مدفع فیه لأحد وأذواقهم فیه صحیحة و التحقق بها هو عین السعادة.

ب)و أمّا الکلام فی کرامات القوم وأخبارهم بالمغیبات وتصرفهم فی الکائنات, فأمر صحیح غیر منکر.و إن مال بعض العلماء إلی إنکارها فلیس ذلک من الحقّ.وما احتجّ به الأستاذ أبو إسحاق الأسفرائنی من أئمّة الأشعریة علی إنکارها للتباسها بالمعجزة؛فقد فرق المحقّقون من أهل السنّة بینهما بالتحدی،و هو دعوی وقوع المعجزة علی وفق ما جاء به.قالوا:ثمّ إنّ وقوعها علی وفق دعوی الکاذب غیر مقدور؛لأنّ دلالة المعجزة علی الصدق عقلیة؛فإنّ صفة نفسها التصدیق.فلو وقعت مع الکاذب،لتبدلت صفة نفسها, و هو محال.

هذا،مع أنّ الوجود شاهد بوقوع الکثیر من هذه الکرامات؛وإنکارها نوع مکابرة.و قد وقع للصحابة وأکابر السلف کثیر من ذلک و هو معلوم مشهور.

ج)و أمّا الکلام فی الکشف،وإعطاء حقائق العلویات وترتیب صدور الکائنات؛فأکثر کلامهم فیه نوع من المتشابه لما أنّه وجدانی عندهم.وفاقد الوجدان،عندهم،بمعزل عن أذواقهم فیه؛واللغات لا تُعطی له دلالة علی مرادهم منه؛لأنّها لم توضع للمتعارف،وأکثره من المحسوسات.فینبغی أن لا نتعرّض لکلامهم فی ذلک ونترکه فیما ترکناه من المتشابه.ومن رزقه الله فهم

ص:399

شیء من هذه الکلمات علی الوجه الموافق لظاهر الشریعة،فأکرم بها سعادة.

و أمّا الألفاظ الموهمة التی یعبرون عنها بالشطحات ویؤاخذهم بها أهل الشرع،فاعلم أن الإنصاف فی شأن القوم أنّهم أهل غیبة عن الحسّ،والواردات تملکهم حتّی ینطقوا عنها بما لا یقصدونه.وصاحب الغیبة غیر مخاطب،والمجبور معذور فمن علم منهم فضله واقتداؤه حمل علی القصد الجمیل.من هذا و أنّ العبارة عن المواجد صعبة لفقدان الوضع لهان کما وقع لأبی یزید البسطامی وأمثاله.ومن لم یعلم فضله ولا اشتهر, فمؤاخذ بما صدر عنه من ذلک إذا لم یتبین لنا ما یحملنا علی تأویل کلامه.

د)و أمّا من تکلّم بمثلها و هو حاضر فی حسه ولم یملکه الحال فمؤاخذ أیضاً.ولهذا أفتی الفقهاء وأکابر المتصوّفة بقتل الحلاّج؛لأنّه تکلّم فی حضور و هو مالک لحاله و الله أعلم.... (1)

و هذا الکلام الأخیر یؤید صراحة حتّی بعض أکبر أعلام المتصوّفة, و هو الملا عبد الله الأنصاری،حینما ذکر الحلاّج, فقال عنه:أنّه استحق القتل:لأنّه نطق بالربوبیة.

3-إشارات حول مفهوم الإنسان الکامل و النجاح التعبوی
اشارة

إنّ مفهوم الولایة وعصمة الولی من المفاهیم المحوریة فی فکر الطرق الصوفیة.وتعود هذه النظریة إلی نظریة التجلّی،وإلی کون الأولیاء-عندهم-وسائط فی الفیض.

الذی نرید أن نُشیر إلیه هنا هو مفهوم الإنسان الکامل عند العرفاء،إنّه الخلیفة الحقّ الذی تکون له الولایة التکوینیة،و هو مظهر الجمال و الکمال،کما یعبر عن ذلک عبد الکریم الجیلی فی کتاب:الإنسان الکامل.

وکما سعی أهل السیر و السلوک إلی تحقیقه عملیاً،بطریق تهذیب النفس،کما هو مبین فی کتب المنازل.

ص:400


1- (1) .مقدّمة ابن خلدون:474 و475.
دور التوجّه التربوی فی النجاح التعبوی

هذا التوجه إلی البناء الأخلاقی هو الذی مکّن الحرکات الصوفیة من النجاح فی عملها التعبوی بدایة من القرن السادس،حیث برز الدور التعبوی المصیری للصوفیة فی مواجهة الصلیبیین, ثمّ المغول فی القرن السابع،انتهاء بالقرن الثالث عشر،حین رفعت هذه الحرکات رایة التصدّی للاستعمار الأوربی فی إفریقیا.

ومن أقدم الأمثلة المعروفة لنجاح المتصوّفة فی العمل السیاسی؛تمکّنهم من تأسیس دولة المشنوقین-أی:سربداران-فی مازندران, شمال إیران،وهی أوّل الدول الصوفیة التی أرادت اتّخاذ المذهب الفقهی الإمامی مذهباً رسمیاً، (1)ثمّ أعادت الحرکة الصوفیة الصفویة التجربة بنجاح أکبر بعد قرنین،کما تقدّم.

أمّا أشهر التجارب المتأخّرة فأبرزها تجارب مقاومة الاستعمار الفرنسی و البریطانی و الإیطالی،کما سیأتی.

هذه النجاحات فی تعبئة جماهیر المسلمین فی أحلک مراحل تاریخها،تکشف عن نجاح تربوی کبیر من جهة،وعن مرونة سیاسیة عند بعض قادة هذه الحرکات من جهة أُخری.فقد استطاعوا الجمع بین فوائد البناء الفردی من جهة،والفاعلیة الاجتماعیة, من جهة أخری؛ممّا یذکّر بالقیام الحسینی.

الصوفیة فی مقاومة الاستعمار

لقد کان الأمیر عبد القادر الجزائری (2)ومواجهته للاستعمار الفرنسی من سنة1831 إلی1847م،ثمّ الشیخ عمر المختار ومواجهته للاستعمار الإیطالی من سنة1911 إلی1931م

ص:401


1- (1) .قام الشهید الأوّل بکتابة اللمعة الدمشقیة،و هو فی سجنه،بطلب من أمراء سربداران،حتّی یکون متناً دراسیاً یعمّم فی مدارسها.
2- (2) .کان عبد القادر الجزائری فی مرتبة الأبدال:بالمصطلح الصوفی،وله حاشیة علی فصوص الحکم،لمحی الدین بن العربی،وهی مخطوطة.

وکلاهما من الطریقة السنوسیة،من أبرز الأمثلة علی ذلک النجاح التربوی و التعبوی.

فقد تمیزت حرکتاهما بعموم روح الفداء بین المقاومین،وبالحضور القوی للتربیة القرآنیة.

أمّا الحرکة المهدیة فی السودان،وهی التی أسّسها أحد زعماء الصوفیة معبّئاً المقاومین تحت شعار نهضة المهدی،فقد کانت نموذجا آخر للارتباط بین التصوّف وعقائد الشیعة بمعناها الأعمّ.

فادعاء المهدویة،و إن کان مخالفاً لتعالیم الشیعة الإمامیة،یندرج تحت الاقتباس من التشیع ولا شکّ.و قد نجح محمّد أحمد المهدی فی السودان فی الانتصار علی جیش المحتلّ البریطانی وتأسیس دولة لم یکتب لها الاستمرار بعد تألّب حکّام مصر علیه.

هذه الوقفات،هی التی لفتت أنظار المستعمر إلی خطورة الحرکات الصوفیة علی مصالحها.ومن هنا،بدأت الدسائس و المؤامرات التی تستهدف الطرق الصوفیة:إمّا لاخترقها أو لتهمیش دورها فی المجتمع.

ص:402

ثانیاً:الاتجاه العرفانی بین البناء الأخلاقی و الدفاع عن الأمّة

البحث التاسع و الثلاثون:نظریة السیر و السلوک:منازل السائرین إلی الإنسان الکامل
اشارة

لقد کان ظهور أهمّ کتب التصوّف و السیر و السلوک،فی الربع الأخیر من القرن الخامس متزامناً مع اشتداد النکیر علی الفلسفة المشائیة وأهلها،خاصّة بعد انتشار کتاب تهافت الفلاسفة لأبی حامد الغزالی؛الذی کفّر الفلاسفة فی ثلاث مسائل واعتبرهم مبتدعة فی سبعة عشر مسألة. (1)و قد ظهر أوّل أهمّ کتب العرفان النظری(و هو الإنسان الکامل لعبد الکریم الجیلی)متزامنا مع أولی أهمّ کتب العرفان العملی(و هو منازل السائرین للخواجة عبد الله الأنصاری الهروی).ثمّ تلتها کتابات شهاب الدین السهروردی فی النصف الثانی من القرن السادس،وخاصّة حکمة الإشراق وهیاکل النور،وهی التی تناولت الفلسفة الإشراقیة وأهمّ جوانب العرفان النظری،فبدت الظاهرة العرفانیة بمثابة البدیل عن الفلسفة المشائیة بقسمیها:الإلهیات و الأخلاق.فکما کان العرفان النظری بمنهجه الإشراقی الشهودی فی المعرفة بدیلا عن»الإلهیات بالمعنی

ص:403


1- (1) .یجدر الرجوع إلی إشکالات الغزالی وردود أبی الولید بن رشد علیها فی کتابه:تهافت التهافت.

الأخص«ومنهجها الاستدلالی القیاسی،فإن نظریات السیر و السلوک و العرفان العملی هی الأُخری بمثابة البدیل عن»علم الأخلاق الفلسفی«المعروف باسم الحکمة العملیة. (1)

فی هذا المبحث نلقی بعض الضوء علی هذه العرضیة،وأهمّ لوازمها العلمیة و العملیة وهی التحول من مفهوم التعلیم إلی مفهوم التربیة فی نقل المعرفة.وبعبارة أخری التحول من العقل إلی القلب،کما یلاحظ خاصّة فی تحول أبی حامد الغزالی.

1-الحکمة العملیة وحدودها
اشارة

من أفضل المداخل للتعرف علی الحکمة العملیة وهدفها،ما قرره المحقق محمّد مهدی النراقی.وفی ما یأتی نقتبس،بشیء قلیل من التصرف،من أهم کتبه الأخلاقیة،جامع السعادات،تعریفا بالحکمة العملیة وأغراضها.

هدف الحکمة العملیة

یقول المحقق النراقی:

«اعلم أن الإنسان منقسم إلی سرّ وعلن،وروح وبدن،ولکلّ منهما منافیات وملائمات،وآلام ولذات،ومهلکات ومنجیات».

ومنافیات البدن وآلامه هی الأمراض الجسمانیة،وملائماته فی الصحّة و اللذات الجسمانیة.والمتکفّل لبیان تفاصیل هذه الأمراض ومعالجاتها هو علم الطب،ومنافیات الروح وآلامه هی رذائل الأخلاق التی تهلکه وتشقیه،وصحته رجوعه إلی فضائلها التی تسعده وتنجیه وتوصله إلی مجاورة أهل الله ومقربیه.والمتکفّل لبیان هذه الرذائل ومعالجاتها هو(علم الأخلاق). (2)

ص:404


1- (1) .هی بمثابة البدیل ولیست کذلک حقا،لإمکان الجمع بینهما و هو ما قامت به مدرسة الحکمة المتعالیة،بعد خمسة قرون.
2- (2) .جامع السعادات:13/1.

والذی یعطی لهذا العلم أهمیة قصوی هو خلود آثاره،فی حین لا یمکن لبقیة العلوم العملیة ادّعاء مثل هذه المیزة.ولا نحتاج من أجل إثبات هذا الخلود إلی أکثر من الإشارة إلی ما تتکفل کتب الحکمة النظریة من البرهنة علیه:بقاء النفس وخلودها بعد فناء البدن.

طلب الکمال فی الحکمتین النظریة و العملیة

إذا سلمنا-بناء علی ما هو محقق فی کتب الحکمة-بتجرد النفس وبقائها أبداً،علمنا أنها علی إحد حالین:

إمّا أنها ملتذة متنعمة دائماً.

و إما أنها معذبة متألمة فی خلودها.

فأمّا التذاذها،فهو یتوقف علی سبق تحصیلها لکمالها،قبل انتقالها من عالم الفناء إلی عالم البقاء.ولما کانت للنفس قوتان:النظریة و العملیة،فإن کمال القوّة النظریة؛هو الإحاطة بحقائق الموجودات بمراتبها والاطلاع علی الجزئیات غیر المتناهیة بإدراک کلیاتها،والترقّی منه إلی معرفة المطلوب الحقیقی،وغایة الکلّ حتّی یصل إلی مقام التوحید ویخلص من وساوس الشیطان ویطمئن قلبه بنور العرفان.و هذا الکمال هو تمام الحکمة النظریة.

و أمّا کمال القوّة العملیة،فهو فی التخلّی عن الصفات المُردیة و التحلّی بالأخلاق المرضیة،ثمّ الترقّی منه إلی تطهیر السرّ وتخلیه عمّا سواه سبحانه.و هذه هی الحکمة العملیة. (1)

نحو تحقیق الإنسان الکامل

هکذا یتّضح أن کمال القوّة النظریة،هو بمنزلة الصورة،وکمال القوّة العملیة هو

ص:405


1- (1) .المصدر:15/1 و16.

بمنزلة المادة،فلا یتم أحدُهما بدون الآخر،وبهذا الاعتبار یکون البناء الأخلاقی زوجاً ترکیبیاً،ومن حصل له الکمالان صار عالَماً صغیراً مشابهاً للعالم الکبیر.وفی هذه الحالة فقط یمکننا الحدیث عن الإنسان التام الکامل الذی یتحدّث عنه العرفاء»والذی یتلألأ قلبه بأنوار الشهود وبه تتم دائرة الوجود. (1)

2-أهداف البناء الأخلاقی عند العرفاء
اشارة

منذ کتاب إحیاء علوم الدین للغزالی استقرّت بعض المصطلحات الأخلاقیة فی القاموس العلمی بحیث أصبحت کثیرة التردّد فی کتب الفلسفة و الأخلاق و العرفان.ومن أهمها العنوانان المتقابلان:المنجیات و المهلکات وما تطلبه الأولی من التحلّی و الثانیة من التخلّی.

فبینما تُعرّف فضائل الأخلاق بکونها من المنجیات الموصلة إلی السعادة الأبدیة؛فإن رذائلها،من المهلکات الموجبة للشقاوة السرمدیة،فالتخلی عن الثانیة و التحلّی بالأولی هو من أهمّ ممیزات البناء الأخلاقی،والوصول إلی الحیاة الحقیقة بدونهما من المحالات.

منهج البناء الأخلاقی

هکذا أجمع علماء الأخلاق أنّه یجب علی کلّ عاقل أن یجتهد فی اکتساب فضائل الأخلاق التی هی الوسطیات المُثبتة من الشارع،والاجتناب عن رذائلها التی هی المتطرّفات،ولو قصّر فی هذا ومال نحو إحدی المتطرّفات،هلک إلی الأبد...والتخلیة و التحلیة،عملان متکاملان لا یتصور تمام أحدهما بدون الآخر:فما لم تحصّل التخلیة لم تحصّل التحلیة،ولم تستعد النفس للفیوضات القدسیة،کما أن المرآة ما لم تذهب الکدورات عنها لم تستعد لارتسام الصور فیها...فالمواظبة علی الطاعات الظاهرة لا تنفع

ص:406


1- (1) .المصدر:16/1.

ما لم تتطهر النفس من الصفات المذمومة کالکبر و الحسد و الریاء،وطلب الریاسة و العلی،وإرادة السوء للأقران و الشرکاء،وطلب الشهرة فی البلاد وبین العباد.

وما قیل فی أهمیة التخلیة یصدق نظیره بالنسبة إلی التحلیة،فلا یثبت ترک بدون فعل.هنا تبرز أهمیة البناء المتواصل و الدؤوب الذی یکون الاشتغال بالطاعات،وأولها العبادات أبرز مصادیقه...إن علی علم الأخلاق أن یحدد للمتعبد ما علیه أن یفعل حتی لا یحرم من برکات عبادته.

توضح المقصد العرفانی

إن المقصد العرفانی،و هو الکمال،هو ذروة البناء الأخلاقی.وتوضیح ذلک هو أنّه إذا تخلت النفس عن مساوئ الأخلاق وتحلت بمعالیها علی الترتیب العلمی استعدت لقبول الفیض من ربّ الأرباب،ولم یبق لشدّة القرب بینهما حجاب،فترتسم فیها صور الموجودات علی ما هی علیها،علی سبیل الکلیة،أی بحدودها ولوازمها الذاتیة،لامتناع إحاطتها بالجزئیات من حیث الجزئیة،لعدم تناهیها.و إن عُلمت فی ضمن الکلیات لعدم خروجها عنها.وحینئذ یصیر موجودا تاما أبدی الوجود سرمدی البقاء،فائزا بالرتبة العلیا،والسعادة القصوی،قابلا للخلافة الإلهیة،والرئاسة المعنویة،فیصل إلی اللذات الحقیقیة،والإبتهاجات العقلیة التی ما رأتها عیون الأعیان،ولم تتصورها عوالی الأذهان. (1)

3-منازل السائرین إلی الإنسان الکامل
اشارة

من العسیر أن نتقبل فکرة انفراد الخواجة عبد الله الأنصاری الهروی،بتصور متکامل وواضح للمنازل التی علی السالک إلی الکمال أن یطویها؛و إن کان هو أوّل من دون هذه المنازل بأسلوب مختصر ودراسی.فمن المؤکد أن تجارب أهل السلوک ظلت تنتقل

ص:407


1- (1) .مقتبس عن المصدر السابق:17/1.

شفویاً بین صدور الأجیال المتلاحقة،فکان للخواجة الهروی الفضل فی السبق إلی تدوینها الدراسی قبیل أن یدخل الغزالی مرحلة التحول الکبیر الذی خرج منه بکتابه الشهیر إحیاء علوم الدین،بعد أن نجح فی التخلّص من رواسب الثقافة العثمانیة وإجراء مراجعة تاریخیة حقیقیة.ثمّ استمرّت التجارب العملیة و الإنتاجات النظریة دون توقف؛حتی استقرّت حالة من الاقتران (1)بین ظاهرة الانخراط فی التصوّف،والدخول فی نوع من التشیع یندرج تحت عنوان التشیع الوحدوی،ویقترب کثیراً من التشیع المدرسی تحت عنوان السنة و العترة،الذی سبق الکلام عنه فی الأبواب السابقة.

وحتی نفهم ظاهرة التحول فی سیاقها،أی السیر التکاملی،من المناسب أن نقدّم هذا الاستطراد الماهوی.

الخطوط العریضة للسیر التکاملی عند الأنصاری الهروی

لقد نجح الملا عبد الله الأنصاری فی ضبط المنازل،التی تطویها مسیرة التکامل،ضمن مئة باب،قسمها إلی عشرة أقسام:

1.فی قسم البدایات:الرجوع عن المعاصی بترکها و الإعراض عنها.

2.فی قسم الأبواب:ترک الفضول القولیة و الفعلیة المباحة،وتجرید النفس عن هیئات المیل إلیها وبقایا النزوع إلی الشهوات الشاغلة عن التوجّه إلی الحقّ.

3.فی قسم المعاملات:الإعراض عن رؤیة فعل الغیر،والاجتناب عن الدواعی وأفعال النفس برؤیة أفعال الحقّ.

4.فی قسم الأخلاق:التوبة عن إرادته وحوله وقوّته.

5.فی قسم الأصول:الرجوع عن الالتفات إلی الغیر و الفتور فی العزم.

ص:408


1- (1) .لا شکّ فی عدم اطّراد هذا الاقتران،و قد تقدّمت الإشارة إلی أحد الموارد المعروفة التی تخرج عن هذه القاعدة.

6.فی قسم الأودیة:الانخلاع عن علمه بمحو علمه فی علم الحقّ،والتوبة عن الذهول عن الحقّ فی حضوره،ولو طرفة عین.

7.فی قسم الأحوال:عن السلوّ عن المحبوب و الفراغ إلی ما سواه،ولو إلی نفسه.

8.فی قسم الولایات:عن الهدوّ بدون الوجد،وعن التکدّر بالتلوین،والحرمان عن نور الکشف.

9.فی قسم الحقائق:عن مشاهدة الغیر وبقاء الإنیة.

10.فی قسم النهایات:عن ظهور البقیة.

ویمکن اعتبار الأقسام الأربعة الأولی برنامج الحدّ الأدنی الأخلاقی،الذی لا یجوز لمن هو دونه تقلد أیة درجة من الریادة و الرئاسة الاستقلالیة،وإلّا فإن الإنسان قد یتورّط فی مهلکة الرئاسة الباطلة،فیتردی عن المنزلة التی قد بلغها،ولن یکون لسقوطه حدّ إلا الهلاک. (1)

السیر من العقل إلی القلب عند الغزالی وابن الصباغ

لیس الانتقال من الحقل العقائدی الکلامی عامّة،والأشعری خاصّة،أمراً میسوراً لکلّ ذی فکر.فهذه العقائد-کما تقدّم-قد تضافرت عوامل عدّة علی تشکیلها،ویمکن تلخیصها فی محورین:

أولهما ما سمّیناه بالثقافة العثمانیة،التی تحولت إلی میراث ثقیل،قَوْلَب الأذهان بمرتکزاته المنطقیة الخطابیة و الجدلیة،بل و السفسطائیة.

وثانیهما المنهج الکلامی المتراوح بین الأقیسة الظنیة, وبعض أشکال المغالطة،والذی قلّما یرتقی إلی مرتبة البرهان.

فلا یمکن لأی مفکر،فقیهاً کان أم متکلّماً،أن یتحوّل عن هذا المیراث إلّا بعد مراجعة تاریخیة عمیقة ودقیقة،تحرّره من أهمّ عوائق التحوّل؛وتساعده علی ربط

ص:409


1- (1) .مقدمة منازل السائرین.

الجسور و القنوات المتینة و الصحیحة مع مدینة العلم وبابها.

لم یشذّ أحد من المتحوّلین إلی التصوّف العرفانی عن هذه القاعدة،والذین استمرّوا فی تحمل تبعات المیراث الکلامی.و إن هم صاروا من اللاعنین للکلام وأهله،فإنّهم ضلّوا الطریق،والبعض منهم وقع فی الهلکة،کما سیأتی ذکرهم.

ویعتبر تحوّل الغزالی إلی التصوّف العرفانی نموذجیاً من هذه الناحیة.فقد دخل إلی المسلک الجدید بعد أن تخلّص من عقدة تقدیس عموم الصحابة،وهی أهمّ عقد المیراث الثقافی العثمانی.وعبّر عن ذلک بصراحة قل نظیرها فی کتابه سرّ العالمَینِ الذی اجترأ فیه حتی علی مقام الشیخین،متجاوزاً جمیع الخطوط الحمراء ومتّهماً إیاهما،وجمیع من سار علی نهجهما،بحبّ الرئاسة. (1)

وبعد تجاوز هذه العقدة بدأ السیر التکاملی.

و إذا طبقنا سیره علی منازل الهروی, فالراجح أن یکون قد دخل خلوته من زاویة دمشق لاستکمال بعض المنازل العشر من قسم البدایات،والدخول فی المنازل العشر الثانیة(قسم الأبواب).

و قد لخّص المحقق محمّد جواد مغنیة تحول الغزالی من التعامل العقلی مع العقیدة إلی الانخراط القلبی فی الإیمان بهذه العبارات الرائعة:

إن للوحی واقعاً فی ذاته.ولکن ما هو الطریق لمعرفة هذا الواقع؟هل نعرفه بالوحی،وکلنا یعلم أن الشیء لا یثبت نفسه،أو نثبته بالعقل،و هو عاجز عن حل المعضلات الإلهیة؟و قد رأینا آراء أرباب العقول متضاربة متباینة فی هذا المیدان،فلم یبق إلا القلب،فهو المصدر الوحید للإیمان بالله وکتبه ورسله. (2)

ص:410


1- (1) .سرّ العالمَینِ.
2- (2) .نظرات فی التصوف و الکرامات:ص104.

ولهذا أثر عن الغزالی بقوله:آمنت بنور قذفه الله فی قلبی. (1)

و هذا النور هو المنة الإلهیة التی یتوق إلی نیلها کلّ سالک.

والحقیقة أن تحول الإمام الغزالی قد أصبح ظاهرة شائعة بین علماء المالکیة و الشافعیة خاصّة،فالکثیر من المشاهیر المنتسبین إلی هاتین المدرستین الفقهیتین کانوا من کبار مشایخ الصوفیة.ومن أبرزهم عمر بن محمّد السهروردی(ت632ه(الذی کان فقیها شافعیاً وشیخ الصوفیة فی بغداد،واشتهر من کتبه:عوارف المعارف ونخبة،البیان فی تفسیر القرآن.

لکن أشهر من أوغل فی المراجعة التاریخیة إلی حدّ التبنّی الکامل لرأی الإمامیة الإثنی عشریة فی تطبیق مصادیق الإمامة، (2)هو ابن الصباغ المالکی المکّی،الذی تقدّم ذکره فی الباب الثانی،وأصله من صفاقس،و قد أقام بمکّة فی عصر زالت فیه الکثیر من دواعی اضطهاد الشیعة،و هو القرن التاسع،الذی سبق ظهور الدولتین العثمانیة و الصفویة, وعودة توظیف الطائفیة فی کلا الدولتین.

ولم یمنع التزام ابن الصبّاغ الظاهری بالمذهب الفقهی المالکی؛إذ اشتهر من کونه من حفّاظ رسالة ابن أبی زید،من اعتناقه التصوّف (3)فی ظلّ مراجعته التاریخیة الکاملة التی ضمنها کتابه الفرید الفصول المهمّة فی معرفة الأئمّة.

ص:411


1- (1) .وقال الغزالی فی کتابه المنقذ من الضلال:ثمّ إنّنی لما فرغت من العلوم أقبلت بهمّتی علی طریق الصوفیة.والقدر الذی أذکره لینتفع به:أنی علمت یقیناً أن الصوفیة هم السالکون لطریق الله تعالی خاصّة،وأن سیرهم وسیرتهم أحسن السیر وطریقتهم أحسن الطرق،وأخلاقهم أذکی الأخلاق،بل لو جمع عقل العقلاء وحکمة الحکماء ویعلم الواقفین علی أسرار الشرع من العلماء،لیغیروا من سیرهم وأخلاقهم ویبدلوه بما هو خیر منه لم یجدوا إلیه سبیلا.سبل الهدی و الرشاد:465/10 و466.
2- (2) .الفصول المهمة:1095/2.خاصة ذکر الإمام المهدی.
3- (3) .راجع:ترجمته فی مقدّمة الجزء الأوّل من الفصول المهمّة،ولاحظ خاصّة وصفه للیافعی:بأنّه علی مذهب أهل الحقّ.
البحث الأربعون:المنهج التربوی و الطرق الصوفیة
اشارة

یمکن القول إنّه من أهمّ لوازم الانتقال من منهج الحکمة العملیة إلی منهج العرفان العملی،الانتقال من مفهوم التتلمذ وثنائیة الأستاذ و التلمیذ إلی مفهوم الإرادة, وثنائیة الشیخ و المرید.ومن هنالک،التحوّل من صورة التلمیذ الذی قد یکون مشاکساً ومجادلاً،ولا یری مجالاً لإبراز نبوغه إلّا علی حساب منزلة استاذه،إلی صورة المرید المخلص الذی یتعبّد بأفعال وأقوال شیخه, ولا یری کماله إلا فی إفناء شخصیته وغروره فی شخصیة شیخه.هذا الانتقال کان مصاحباً لتغیر الفضاء العلمی, وتحوّله من إطار المدرسة العلمیة إلی إطار الطریقة الصوفیة.

1-الشیخ و المرید و الحاجة إلی الطریقة

یمکن التساؤل،ابتداء:هل أنّ الانتقال من وضع المدرسة العلمیة, وثنائیة الأستاذ و التلمیذ إلی وضع الطخریقة الصوفیة وثنائیة الشیخ و المرید،کان بمقتضی تحوّل تدریجی طبیعی،أم هو من اقتضاءات التحوّلات الاجتماعیة و السیاسیة الکُبری التی شهدها القرن الخامس؟

مع أنّ الجواب الأوّل صادق جزئیاً،فإنّ الجواب الثانی متعین ولا شکّ.

فبعد هیمنة السلاجقة علی الشرق الأوسط تحت رایة خلافة عباسیة ضعیفة،واستقرار منع الاجتهاد خارج أطر المذاهب الفقهیة الأربعة المشهورة (1), وبعد سقوط بقیة ممالک المسلمین تحت أنظمة حکم عسکریة مماثلة (2)تدهورت أحوال المدارس بالتدریج،وفقدت منها الطاقات الإبداعیة،التی وجدت فی الطرق الصوفیة مجالاً أفضل للتکامل.

ص:412


1- (1) .أطوار الاجتهاد ومناهجه:105/3-222،بحث حصر المذاهب وتقنین التقلید.
2- (2) .هناک استثناء لم یدم طویلاً،و هو دولة الموحّدین بالمغرب و الأندلس،التی استمرّت فترة ازدهارها أقلّ من قرن،وکان أبو الولید بن رشد(ت595ه), آخر مظاهر رفعتها.

فما الذی یعنیه تزعزع الوضع السیاسی بالنسبة للمدارس العلمیة؟

إنّه لیس أقلّ من تدهور الأوضاع المادیة للمدارس التابعة للسلطة،وتفرّق طلاب المدارس المستقلّة وتشتتهم فی الآفاق بعد انعدام أُفق الاشتغال لدیهم؛حیث أنّ طلبة العلم فی هذه المدارس کثیراً ما یکون هدفهم الحصول علی وظائف ومناصب فی الدواوین و القضاء.

فی هذه الظروف ازدهرت حلقات الذکر التی ینظمها دعاة التصوّف،وبدأت هذه الحلقات تتّسع لتعوض المدارس العلمیة التی أفل نجمها واعتزل أساتذتها،وتشتّت طلابها فی الآفاق بحثاً عن مورد بدیل للمعاش.

ویمکن القول أنّ تحوّل أبی حامد الغزالی من وضع الأستاذ المبرّز فی أشهر المدارس الرسمیة-المدرسة النظامیة-إلی وضع الصوفی المنعزل و المنقطع عن الدنیا،فی بعض زوایا دمشق،نموذج معبّر عن التحوّل الکبیر الذی کانت تشهده المجتمعات الإسلامیة آنذاک،و إن لم یسمح قصر عمر الغزالی له بتأسیس بدیل تحت عنوان طریقة أو جماعة صوفیة.

خلاصة القول،هی:أنّ علاقة المنتسبین إلی حلقات الذکر و الدرس الخاصّة بشیوخهم الجدد،لم تلبث أن تطوّرت وترسّخت وتحوّلت إلی ارتباط عاطفی ومادی متین،جعل من أبرز هؤلاء المنتسبین مریدین لشیخهم رافضین لکلّ مرجعیة سواه.

فتکفّل المشایخ الجدد بمهمّة تربیة مریدیهم وتکوینهم بما یکفی لتحویلهم إلی دعاة ومبلّغین،بغرض إرسالهم إلی الآفاق وتوسیع دائرة إشعاعهم.فتحوّلت هذه المرجعیات إلی جماعات منظمة ذات هیکلیة دقیقة ومنتشرة فی مساحات واسعة وبین شعوب مختلفة.وشاع تسمیتها بالطرق الصوفیة.

وبعد نجاح الکثیر من هذه الجماعات فی تعبئة مریدیها وأنصارها للجهاد ضدّ الغزاة،اکتسبت شعبیة وشرعیة لا مثیل لها،بعد أن کانت ینظر إلیها شزراً وینعت

ص:413

أصحابها بشتّی نعوت الاستنقاص،أو یتّهمون بشتّی التهم بسبب انعزالهم عن الناس.

هکذا انتشرت طرق المتصوّفة فی بلاد الإسلام بعد أن نجحوا فی طرد الغزاة الصلیبیین،والحدّ من الآثار المدمّرة للاجتیاح المغولی.

2-مؤسّسو أشهرالطرق:القادریة, و التیجانیة, و الشاذلیة, و السنوسیة
اشارة

تقدّم أنّ الطرق الصوفیة الکبری قد بدأت فی الانتشار بالتدریج منذ القرن السادس،بعد دخول علم التصوّف مرحلة التدوین العلمی.وأشهر أصحاب الطرق التی ما زالت منتشرة وفعالة إلی یومنا.

مؤسس القادریة

مؤسس الطریقة القادریة أو الجیلانیة،هو الشیخ عبد القادر بن أبی صالح الجیلانی أو الکیلانی الحنبلی.ولد بجیلان من بلاد طبرستان شمال إیران, فی سنة إحدی وسبعین وأربعمائة هجریة, وتفّقه علی أبی سعد المخرمی.کان إماماً للحنابلة فی عصره, وشیخاً کبیراً من شیوخهم،وتسمّی طریقته:القادریة،نسبة إلیه.ویعدّ من کبار المتصوّفین وأصحاب الطرق؛ینسب إلیه أصحابه فی کتبهم الکثیر من الکرامات.ویقول الذهبی عنها:بأنّها حافلة بأشیاء مستحیلة وغیر صحیحة.

و قد أفرد الشیخ الأمینی جملة صفحات فی موسوعته الشهیرة الغدیر (1)لمناقشة هذه الروایات الموضوعة له أقول وأفعال،یردّها بقوّة وحزم کثیر من العلماء و الباحثین ویعتقدون أنّها تُؤخذ علیه.إلا أنّ أنصاره وأتباعه یدافعون عن جمیع ذلک بقوّة،ویعتقدون أنّ جمیع الکرامات من شأنه, ولیست کبیرة فی حقّه.

توفّی عام 561 ه ودفن فی بغداد،وقبره مشهور ومعروف بالأعظمیة.

ص:414


1- (1) .الغدیر:170/11.
مؤسس الشاذلیة

مؤسس الطریقة الشاذلیة هو أبو الحسن الشاذلی591-656ه.هو علی بن عبد الله بن عبد الجبّار بن یوسف بن هرمز الشاذلی المغربی،أبو الحسن.رأس الطریقة الشاذلیة،و هو صاحب الأوراد المسمّاة حزب الشاذلی.

ولد فی بلاد غمارة بمنطقة الریف فی المغرب،ونشأ فی بنی زرویل-قرب شفشاون-وتفّقه وتصوّف بتونس،وسکن شاذلة قرب تونس،فنسب إلیها.قیل:أنّه طلب الکیمیاء فی ابتداء أمره،ثمّ ترکها ورحل إلی بلاد المشرق فحجّ ودخل بالعرق, ثمّ سکن الإسکندریة.

وتوفی بصحراء عیذاب فی طریقه إلی الحجّ،بعد أن لعب دوراً کبیراً فی تعبئة المسلمین ضدّ المغول, وکان ضریراً.ینتسب إلی الأدارسة وهم ملوک المغرب من سلالة إدریس بن عبد الله الحسنی،و قد أخبره بذلک أحد شیوخه عن طریق المکاشفة،وعلّق علی ذلک الذهبی:بأنّه نسب مجهول لا یصحّ ولا یثبت،کان أولی به ترکه.

وله غیر الحزب رسالة الأمین مخطوطة فی آداب التصوّف رتّبها علی أبواب،علی بن عبد الله الوهرانی عن مخطوطة, وشرح المعلقات, و نزهة القلوب وبغیة المطلوب(مخطوط), و السر الجلیل فی خواص حسبنا الله ونعم الوکیل.

و قد کان لتقی الدین بن تیمیة ردّ علی حزبه،و هو بدایة الصراع المفتوح بین السلفیة و الصوفیة المستمرّ إلی یومنا.

ولأحمد بن محمّد بن عیاد کتاب المفاخر العلیة فی المآثر الشاذلیة فی سیرته وطریقته. (1)

مؤسس التیجانیة

مؤسس الطریقة التیجانیة هو أحمد التیجانی11501230ه،أحمد بن محمّد فتحا بن المختار التیجانی،المغربی أبو العبّاس, مؤسّس الطریقة التیجانیة بالمغرب, ولد بعین

ص:415


1- (1) .الأعلام:305/4.

ماضی ونشأ بها،وتوفّی بحضرة فاس.من آثاره:السر الأبهر فی أوراد القطب الأکبر،وجوهرة الحقائق فی الصلاة علی خیر الخلائق،وجوهرة الکمال فی الصلاة علی سید الإرسال وفی الأدعیة:حزب التضرع والابتهال،وحزب المغنی،وتعریف الخلف. (1)

مؤسس السنوسیة

مؤسس الطریقة السنوسیة هو أبو عبد الله السنوسی1202-1276ه،محمّد بن علی بن السنوس،أبو عبد الله،السنوسی الخطّابی الحسنی الإدریسی, زعیم الطریقة السنوسیة الأوّل ومؤسّسها.

ولد فی مستغانم من أعمال الجزائر, وتعلّم بفاس وتصوّف علی ید الشیخ عبد الوهاب التازی.وجال فی الصحراء إلی الجنوب من الجزائر یعظ الناس،ثمّ زار تونس وطرابلس, وبرقة ومصر, ومکّة،وفیها اعتنق التصوّف.

وبنی زاویة فی جبل أبی قبیس, ثمّ رحل إلی برقة سنة1255ه وأقام فی الجبل الأخضر فبنی الزاویة البیضاء, وکثر تلامیذه وانتشرت طریقته،فارتابت الحکومة العثمانیة فی أمره،فانتقل إلی واحة جغبوب, فأقام إلی أن توفّی فیها.

له نحو40 کتاباً ورسالة،منها:الدرر السنیة فی أخبار السلالة الإدریسیة،وإیقاظ الوسنان فی العمل بالحدیث و القرآن،وبغیة القاصد, وشفاء الصدر, و الکواکب الدریة فی أوائل الکتب الأثریة(مخطوط), و الشموس الشارقة فیما لنا من أسانید المغاربة و المشارقة, و التحفة فی أوائل الکتب الشریفة. (2)

ص:416


1- (1) .معجم المؤلفین:143/2.
2- (2) .المصدر:299.

ثالثاً:الصوفیة و التحدّی الاستعماری

البحث الواحد و الأربعون:الاستعمار أمام المقاومة الصوفیة
اشارة

تقدّم التمییز بین عدّة اتّجاهات فی التصوّف،واتّضح أنّ أهمّها اثنان:التصوّف العرفانی الذی نحن بصدده،واتّجاه آخر،هو خلیط من الشعوذة و الضلالات و الخرافة.وکان دائماً محلّ تشنیع من قبل عقلاء المسلمین وعلمائهم.

و قد عرف الغرب عن طریق المستشرقین خطورة الاتّجاه الأوّل علی مصالحه،فعمل علی ضربه بشتی الأشکال،بینما اکتشف فی الاتّجاه الثانی أخطر نقطة ضعف فی جسم الأمّة الإسلامیة،تمهّد له السبیل لبسط الهیمنة علی بلاد الإسلام.فأحاط المستعمر هذا الاتّجاه بهالة من الإکبار و التجلیل, وکتب المستشرقون فیه المجلّدات, ووجهوا إلیه البحوث الجامعیة و الدراسات.

وفی هذه الإشارات الختامیة لهذه البحوث المختصرة فی التصوّف،نلقی بعض الضوء علی کلا التوجهین.

ص:417

1-المضمون الصوفی للمقاومة الشعبیة
اشارة

کانت الحرکات الصوفیة طیلة القرون الوسطی الإسلامیة، (1)هی التی حملت رایة الدفاع عن الأمّة.و قد استمرّ هذا الدور بعد الموجة الأخیرة من الحملات الاستعماریة،تلک الموجة المتجسّدة فی تکالب القوی الغربیة علی بلاد الإسلام واستعمارها وابتزاز مقدّرات شعوبها.و قد شکّلت قوی الاستعمار البرتغالی و الإسبانی و الهولندی الموجة الأولی من الحملات العسکریة.

و قد استمرّت هذه الموجة طیلة القرون الوسطی الإسلامیة-التاسع و العاشر و الحادی عشر و الثانی عشر-فلم تجد هذه الحملات إلا نوعین من المقاومة:رسمیة وشعبیة.

من دواعی غلبة الخطّ الانحرافی فی التصوّف

نظّمت المقاومة الرسمیة،من قبل القوی الإسلامیة الکبری الجدیدة وخاصّة الدولة الصفویة،ثمّ الزندیة فی إیران،والدولة العثمانیة فی البلقان و المنطقة العربیة،ومملکة المغرب فی غرب الشمال الإفریقی.

و قد کان هذا الردّ من أهمّ أسباب تأخّر وعی المسلمین بحقیقة تخلفهم عن رکب التقدّم العلمی المادی الذی شهدته أوروبة منذ بدایة نهضتها فی القرن الرابع عشر.

و قد زاد وهم القوّة الذی کرسه فتح القسطنطینیة الذی غطت أخباره مأساة سقوط الأندلس،تغییب حالة التعبئة التی سببتها غزوات الصلیبیین و المغول،فتحوّلت الکثیر من الحرکات الصوفیة الجهادیة إلی أشکال فردانیة من التصوّف سرعان ما ابتلعتها الخطوط الانحرافیة التی کانت تجتذب العوام بقدرتها الاستعراضیة،کما ستأتی الإشارة إلیه.

ص:418


1- (1) .القرون الوسطی الإسلامیة هی الفترة الممتدة من بدایة القرن السادس إلی القرن التاسع عشر،وهی فترة قد خلت من الإبداعات الثقافیة.و هذه الفترة أخص من العصر الإسلامی الوسیط الذی یبدأ من الحروب الصلیبیة.

من هنا فإن الدور الجهادی للصوفیة فی هذه المرحلة قد أفل أفولاً شدیداً،واقترن اسم التصوّف بالدروشة والانعزالیة الفردانیة.

فکانت الکلمة العلیا فی مقاومة الموجات الاستعماریة الأولی للردّ الرسمی الذی بقی مستأثراً بولاء طبقة العلماء الرسمیین من أهل الفتوی و القضاء.

التحدّی الثانی و المقاومة الصوفیة

بعد النجاح النسبی للأمّة الإسلامیة فی احتواء الموجات العدوانیة الأولی،باستثناء الأندلس التی لم یکن للتصوّف العرفانی فیها حضور یذکر،انتظرت القوی الاستعماریة الأوروبیة انهیار المقاومة الرسمیة الإسلامیة،وخاصّة تزعزع أرکان الدولة العثمانیة, وضعف السلطنة القاجاریة التی آل إلیها الحکم فی إیران منذ بدایة القرن الثالث عشر هجری،لتبدأ الموجة الثانیة من العدوان.

فطیلة القرن التاسع عشر تعرّضت البلاد الإسلامیة إلی حملات عسکریة عدّة،کان أوّل ضحایاها بلدان القفقاز الإیرانیة التی احتلتها روسیا،والجزائر التی احتلتها فرنسة.

ولم تحن أواخر القرن إلا و قد اقتسمت فرنسا وبریطانیة معظم البلاد الإفریقیة الإسلامیة،وفی بدایة القرن العشرین انضمت إیطالیا إلی الرکب الاستعماری واحتلت لیبیا وجزءاً من القرن الإفریقی.و قد مرّت الإشارة فی المبحث الأوّل إلی المقاومة الشدیدة للحرکات الصوفیة السنوسیة التی واجهت الاستعمار،فی شمال إفریقیا.ونذکّر هنا بالدور الهامّ الذی لعبته الطرق الصوفیة الأُخری،وخاصّة منها التیجانیة،فی غرب إفریقیا.

فقد استطاع الصوفیة تعبئة المسلمین هنالک وإنشاء ممالک کبری استطاعت أن تطیل عمر المقاومة, لکن حرکة الاستعمار الأوروبی کانت من الشمولیة وقوة التجهیز, بحیث لم تجد أمامها تلک المقاومة الباسلة نفعاً.

ص:419

مع هذا،فقد کانت هذه الحملات فرصة للفت أنظار جماهیر المسلمین إلی قدرة رجال الصوفیة علی تنظیم المقاومة الثقافیة،والمحافظة علی الکیان الاجتماعی و الثقافی للأمّة.

2-ملامح المقاومة الثقافیة

بعد اتّضاح أهداف الحملات الاستعماریة الثانیة،اکتسب المضمون الصوفی العرفانی من جدید موقعاً ثقافیاً توجیهیاً استطاع أن یحلّ محلّ أجهزة الحکم الرسمی التی تنازلت عن الکثیر من سیادتها للمستعمر فی ظلّ معاهدات ما یسمّی بالحمایة،کما حصل فی مصر وتونس مثلاً،أو انهارت تماماً وتلاشت لتترک کلّ السیادة لسلطة الاستعمار المباشر،کما حصل فی إفریقیا جنوب الصحراء و الجزائر.

فی هذه الظروف العصیبة،کانت الزوایا و التکایا التابعة للطرق الشاذلیة و التیجانیة و السنوسیة وغیرها،هی المدارس الأولی التی کان یتعلّم فیها المسلمون دینهم ولغتهم؛بینما استطاع کبار ما تبقی من طبقة العلماء،المحافظة علی بعض الکیانات المدرسیة العلیا التی بقیت تحت تأثیر مزدوج من التصوّف العرفانی وفقهاء السلطات الرسمیة،وأهمّ هذه المراکز:جامع القرویین بفاس من المغرب،وجامع الزیتونة بتونس،وجامع الأزهر بمصر.

والحقیقة التاریخیة التی یصعب التشکیک فیها،هی أن هذه الکیانات الرسمیة لم تکن قادرة علی اجتذاب شیء من القوی الفاعلة فی المجتمع؛لولا الدور الإعدادی و التمهیدی الذی کانت تقوم به مدارس الطرق الصوفیة،فی کلّ أرجاء البلاد الإسلامیة.

خلاصة القول:أنّ هذه المقاومة رغم فشلها فی ردّ العدوان،قد کشفت للمستعمر القدرات التعبویة و التنظیمیة الهائلة التی تتمیز بها بعض الطرق الصوفیة.فنظّمت مراکز البحوث فی باریس ولندن, ولیدن وغیرها من عواصم الاستشراق الأوروبی بعثات استشراقیة رکزت الاهتمام الأکبر علی دراسة ظاهرة التصوّف وتحلیلها،بهدف معرفة أفضل السبل لتحییدها فی الصراع.

فدارت الحلول بین محاولات التهمیش من جهة،والاخترقات العمیقة من جهة ثانیة.

ص:420

البحث الثانی و الأربعون:الحرکات الصوفیة بین التهمیش والاختراق
اشارة

بعد البیان المتقدّم،من الطبیعی أن یترکّز اهتمام المستشرقین الغربیین فی القرنین التاسع عشر و العشرین،علی الظاهرة الصوفیة بشقیها:الانحرافی و الشرعی العرفانی.

و قد سار المستشرقون فی اتّجاه البحث عمّا بإمکانه أن یدّق إسفین الفرقة بین عامّة المسلمین و الحرکات الصوفیة العرفانیة بشکل خاصّ،وکلّ التیارات التی أبرزت قدرة علی المقاومة بشکل عامّ.

فی نفس الوقت،اشتغلت الأیادی التحقیقیة المغرضة فی تلمیع صورة الخطّ الصوفی الانحرافی،ومحاولة تطبیع علاقة المسلمین به.

وفی ما یلی نموذج من هذا العمل العلمی الاستعماری.

1-تطبیع وضع التصوّف الانحرافی
اشارة

لا یزعم أحد أن للقوی الأجنبیة دخلاً ما فی تأسیس الحرکات الصوفیة الانحرافیة.فهی ظواهر اجتماعیة أفرزتها الموجة الأولی من تلاقح الثقافات الواردة من الهند مع الثقافة الشعبیة الغوغائیة التی ظهرت فی القرن الأوّل الهجری کما تقدّم.

فکان التصوّف المقترن بالسعی لکسب قدرات استعراضیة خوارقیة،استنساخاً لبعض الریاضات الهندوسیة و البوذیة التی بدأت تتسرب إلی بلاد الإسلام،منذ فتح بلاد السند وما وراء النهر, لکن التوجّه الانعزالی الفردانی لهذا النوع من التصوّف جعله محطّ أنظار المستشرقین،منذ أکثر من قرنین.

التصوّف بعین رضا الاستشراق

لا نرید فی هذا المختصر إلقاء أحکام عاطفیة،أو حتّی نتائج أبحاث علمیة

ص:421

موضوعیة لا یتّسع المجال لعرض شیء من أدّلتها, بل نکتفی بعرض نموذج ممّا شهد به المستشرقون علی أنفسهم.

فهذا واحد من أشهرهم و هو نیکلسون یقول:

المتصوفون قد أدّوا-دون ریب-عملاً جلیلاً للإسلام،فهم بنبذهم قشور الدین وإصرارهم علی تحصیل لبابه،بتنمیة المشاعر الروحیة وتطهیر البواطن،لا بالعمل الظاهری, قد مکّنوا ملایین الناس من حیاة غنیة عمیقة. (1)

السؤال المطروح هنا هو:ما المقصود بالقُشر و اللباب؟

لنذکر،أوّلاً،بأنّ العادة جرت علی الاحتفاظ باللباب و الرمی بالقشور بعیداً.لهذا فإنّ غرض هذا التصنیف واضح.

أمّا اللباب المزعوم فلنترک نیکلسون یعرّفه بنفسه:

والصوفی الکبیر أبو سعید بن أبی الخیر،حین یتحدّث بلسان القلندریة،یعبّر عن قواعدهم فی تحطیم هذه الأوثان فی شجاعة تأخذ بالألباب, حین یقول:لن نؤدّی ما فرض علینا من واجب مقدّس ما لم نذر کلّ مسجد تشرق علیه الشمس حطاماً،ولن یظهر المسلم حقّ المسلم ما لم یصر عنده الإیمان و الکفر واحداً (2).

هذا اللباب المزعوم خالٍ من العقیدة الإیمانیة التوحیدیة ومن الشریعة معاً, ولا یحتاج هذا الکلام إلی مزید من التعلیق.

أمّا تیار القلندریة (3)المشار إلیه, فهم أصدق تعبیر عن هذا الخلوّ من کلّ معانی المتشرعیة.و هذا التیار الذی شهد موجات متعدّدة کانت إحداها من أهمّ أسباب ضعف الدولة الصفویة فی القرن الحادی عشر،یجسّد التصوّف الانحرافی بأخطر معانیه.

ص:422


1- (1) .الصوفیة فی الإسلام:90.
2- (2) .المصدر:88.
3- (3) .جاء فی القاموس الفارسی فرهنک نفیسی،فی شرح کلمة قلندر:شخص مجرّد بی قید،در پوشاک وخوراک وطاعات وعبادات که انزوا اختیار کند.وتعریبه:شخص أعزب،غیر مقید بأی ضوابط فی الملبس،أو الطعامٍ أو العبادات،ویختار العزلة.

ونترک تقویم بعض ملامحه لتقریر مختصر عن آراء بعض العلماء فیه:

القلندریة،وشیخها جمال الدین محمّد الساوجی (1), فقد ذکر ترهاته وانغشاش الناس به وبحاله الشیطانی،ووصف بعض أحوالهم فی ترجمة یوسف القمینی 657 ه فقال:وکان یأوی إلی قمین حمّام نور الدین،ولما توفّی شیعه خلق لا یحصون من العامّة،و قد بصرنا الله تعالی،وله الحمد وعرفنا هذا النموذج.

فقد عمّ البلاء فی الخلق بهذا الضرب, ومن هذه الأحوال الشیطانیة التی تضلّ العامّة:أکْل الحیات،ودخول النار،والمشی فی الهواء،ممّن یتعاطی المعاصی،ویخلّ بالواجبات.و قد یجئ الجاهل،فیقول:اسکت،لا تتکلّم فی أولیاءالله،ولم یشعر أنّه هو الذی تکلّم فی أولیآء الله وأهانهم؛إذ أدخل فیهم هؤلاء الأوباش المجانین أولیاء الشیطان. (2)

ماسینیون وتضخیم التصوّف المشوّه

لقد تمیز من بین المستشرقین،الفرنسی ماسینیون بدراسته الکبیرة حول أبی منصور الحلاّج.ذلک الصوّفی الذی لم یکن له شأن کبیر فی علم التصوّف ولا فی الطرق الصوفیة،والذی تبرأ منه الصوفیة أنفسهم،کما صرّح بذلک الخواجة عبد الله الأنصاری. (3)

ومن الواضح أنّ تضخیم شخصیة مثل الحلاّج لا یکون له من أثر سوی إثارة العوامّ الذین لا یفرّقون بین العرفان الحقیقی و النماذج المشوهة من التصوّف.و قد سار المستشرقون علی نهج ماسینیون حتّی عندما یحلّلون أعمالاً علمیة.فتراهم یضخمون جمیع الموارد المشابهة لانحراف الحلاّج.

و قد کانت الحصیلة شیوع صورة مغلوطة عن التصوّف فی أوساط المثقّفین المسلمین؛بحیث یتشنج بعضهم ویعمم معاداته لکلّ الظاهرة الصوفیة،ویغترّ البعض

ص:423


1- (1) .من مدینة ساوه،القریبة من مدینة قمّ،فی إیران.
2- (2) .مقدّمة سیر أعلام النبلاء:133/1.
3- (3) .مقدمة منازل السائرین, حیث صرّح الخواجة باستحقاق الحلاّج للقتل؛لأنّه توهّم فی نفسه الربوبیة.

الآخر فتجتذبه هذه الشخصیات الانحرافیة.وفی کلا الحالتین یتحقّق المطلوب استشراقیاً:إبعاد نخبة المسلمین عن أخطر ما یهدّد النفوذ الاستعماری ألا و هو التوجّه العرفانی الواعی بضرورة إحیاء منابع القدرة و القوّة فی الأمّة الإسلامیة.

2-إشارة حول محاولات الاختراق و الدسّ

علاوةً علی ما تقدّم من أعمال المستشرقین،فإنّ محاربة الاستعمار للطرق الصوفیة العرفانیة اتّخذت أشکالا أُخری سیاسیة واستخبارتیة أحیاناً.

أمّا المحاربة السیاسیة, فمصداقها الأبرز دعم الحرکات الإسلامیة الأکثر تطرّفاً فی معاداة الصوفیة وشحنها عقائدیاً ضد بعض السلوکیات الصوفیة, مثل:التبرک بالأولیاء, وزیارة القبور.

فی الفصل الآتی سوف نتعرّف علی أبرز نماذج هذا التدخل السیاسی متمثّلاً فی دعم السلفیة الوهابیة وإطلاق یدها فی دماء المسلمین من الصوفیة و الشیعة علی حدّ سواء.

و أمّا علی المستوی الأمنی،فقد راجت شواهد عدیدة تدلّ علی نجاح بعض الأجهزة الأمنیة السرّیة التابعة لبعض القوی الاستعماریة،فی التغلل و النفوذ داخل بعض التشکیلات الصوفیة،مستغلّة بذلک حالات ضعف مرّت بها مشیختها فی مراحل معینة من التاریخ.

و قد ظهرت آثار هذا التغلغل فی إقبال بعض الطرق الصوفیة الصغیرة علی التعاون مع الاستعمار،وتخذیل الفعالیات الإسلامیة عن المقاومة،کما حصل فی بعض المراحل الحسّاسة من تاریخ إفریقیا و الشرق الأوسط.

ص:424

الفصل الثانی:إشارات ختامیة الاستعمار و التّیارات العقائدیة المتأخرّة

اشارة

ص:425

ص:426

أوّلاً:روّاد النهضة فی مواجهة الغزو الثقافی الاستعماری

البحث الثالث و الأربعون:علی مفترق طرق
اشارة

تقدّم أنّ أحد أهمّ مقاصد بحوث هذا الکتاب هو دراسة الملابسات التی رافقت عملیة الإنتاج الفکری الإسلامی عموماً،وحرکة تطوّر البحث الکلامی خصوصاً،منذ عصر التنزیل إلی بدایة القرن الواحد و العشرین،وما حفّ بهذه الحرکة طوال تاریخها من تحدّیات وصراعات محلیة وعالمیة.

وفی هذا الفصل نقدّم إشارات ختامیة حول أهمّ المشکلات الموروثة من تطوّرات الفکر الإسلامی فی المراحل السابقة،والتعقیدات الجدیدة التی حملتها معها موجات الغزو الأجنبی،بمختلف أشکالها الاقتصادی و السیاسی و الثقافی،وهی التی تلاحقت بدون انقطاع منذ قرنین.وسیکون انطلاق بحثنا من صورة خاطفة عن المشهد الثقافی حین بلوغ أولی هذه الحملات أوجها-أی فی النصف الثانی من القرن التاسع عشر-وبیان الموقف الذی وقفته منها النخبة المسلمة آنذاک.

ص:427

1-میراث من الأزمات النائمة
اشارة

تحصّل من البحوث السابقة أن الفکر الإسلامی قد مرّ بمرحلتین متمیزتین،تفصل بینهما حقبة عصیبة من الغزو الأجنبی،تمثّلت فی غزوات المغول و الصلیبیین خاصّة.

و قد کانت المرحلة الأولی تتمیز بهیمنة علمی الفقه و الکلام علی الساحة الثقافیة،بینما ازدهر التصوّف بأنواعه فی المرحلة الثانیة.

و قد استمرّت هیمنة بعض أشکال التصوّف علی الفکر الإسلامی إلی زمان الموجة الکبری من الحملات الاستعماریة الغربیة-أی:حملات القرن التاسع عشر للمیلاد-تلک الحملات التی حاولت أن تکتسب المشروعیة الحضاریة من خلال رفعها لشعارات اجتذبت بعض أفراد النخبة المسلمة،مثل:ترویج قیم الحضارة الأوروبیة و التمدّن و الحداثة...الخ.

فعاشت الأمّة منذ قرنین فی حالة من ردّ الفعل الثقافی استقرّت فی العقود الأخیرة فی شکل مواجهة تیار العولمة الثقافیة الجارف, هذا التّیار الذی أصبحت بعض الأطراف الرأسمالیة العالمیة المهیمنة تحاول أن تکسبه صبغة التبشیر الحضاری.وفی الأثناء ظلّت الدوائر السیاسیة الاستعماریة تسعی بکلّ ما أوتیت من إمکانات إلی تفتیت الأمّة الإسلامیة وشرذمة قواها الفاعلة،بتغذیة جمیع أشکال الخلاف و الصراع وخاصّة بإذکاء نیران الفتن الطائفیة و المذهبیة،وحتّی الصراعات الحزبیة و العشائریة و القومیة داخل المذهب الواحد.وفی أکثر الأحیان لم تکن تحتاج فی ذلک إلی أکثر من تفجیر قنابل محلیة الصنع،موروثة منذ المرحلة الکلامیة.

میراث من المتفجّرات الثقافیة

فی ظلّ المواجهة الجدیدة،التی اشتدت مع انهیار المعسکر الشیوعی،وانتهاء الحرب الباردة،وزوال احتیاج الغرب الرأسمالی لتعبئة المسلمین ضدّ الشیوعیة،أصبحت

ص:428

الأمّة تعیش حالة من التفسیخ المبرمج و الممنهج،من الداخل ومن الخارج معاً.

فأمّا التفسیخ من الخارج،فهو مسألة سیاسیة یخرج تحلیلها عن مجال بحثنا.

و أمّا التفسیخ من الداخل،فقد عرفنا أنّه قدیم الجذور،و أنّ تراث الأمّة-وخاصّة منه علم الکلام ومباحثه-زاخر بعوامله التی یمکن أن نصوّرها کقنابل ساکنة تنتظر من یفجّرها.وحیث إن دراسة هذه القنابل،أو-بتعبیر أصحّ-الأزمات النائمة،وکذلک عوامل نشأتها وموجهات تطوّرها تتجاوز هذا المجال الدراسی المحّدود.فقد أوکلت إلی دراسات مستقلّة. (1)

وسنکتفی هنا بمقدّمات تمهیدیة (2)للإجابة عن مجموعة من الأسئلة تتمحور حول الحظوظ الحقیقیة لتحویل البحث الکلامی،والفکر الإسلامی المعاصر عموماً،إلی عامل توحید بدلاً عن دوره السابق, کمظهر من مظاهر التفسیخ الثقافی فی الأمّة الإسلامیة.

أسئلة محوریة

انطلاقاً ممّا أوضحناه حول الهویة السیاسیة لعلم الکلام،وغایته الدفاعیة التی قد تتّخذ شکل الدفاع عن کلّیات الإسلام ومکاسبه فی صورة هیمنة الاتّجاه الوحدوی،و قد تتّخذ شکل الدفاع عن خصوصیات مذهبیة وحتّی طائفیة فی صورة هیمنة حرکة التفسیخ الاجتماعی و السیاسی،یمکننا أمام التحدّیات المعاصرة،أن نطرح مجموعة من الأسئلة علی التراث الکلامی الذی خلفته مختلف الفرق الإسلامیة:

فهل بإمکان حرکة واعیة،بمجرّد قراءة وحدویة لعلم الکلام وتاریخ الفرق الإسلامیة،أن تنزع فتیل الاشتعال عن تلک الأزمات النائمة؟

ص:429


1- (1) .بحوث وحدویة فی أصول الطائفیة،الجزء الثالث؛وکذلک حاشیة علی سفر التکامل الکلامی.
2- (2) .لا یتّسع المجال هنا إلی أکثر من إشارات تمهیدیة،و قد أفردنا لبعض عناصر الإجابات المطلوبة کتابی:مقدّمات فی علم الکلام الوحدوی, و الأسس النظریة للتجدید الکلامی.

هذا السؤال یتطلّب منّا الإجابة عن سؤال آخر أعمّ منه:

ما هی الحظوظ الحقیقیة لأیة رؤیة تجدیدیة لعلم الکلام فی مقابل المدّ الاتّباعی؟

ثمّ نأتی إلی سؤال ثالث لا یقلّ عنهما أهمیة:

هل هناک ملازمة حقیقیة بین النزعة الوحدویة و التجدید فی علم الکلام؟

إنّ الإجابة عن هذه الأسئلة تفرض علینا سیراً تاریخیاً یربط الماضی بالحاضر،بشکل واقعی.

ومن الطبیعی أن یتطلّب هذا السیر من الجذور البعیدة إلی المواجهة المعاصرة مروراً وتوقفاً أمام ما اصطُلح علی تسمیته بعصر النهضة الإسلامیة،آخر القرن التاسع عشر.

هکذا،لا بدّ أن یترکّز البحث،أوّلاً،علی تحلیل عوامل الانتاج فی الفکر السیاسی؛وذلک باعتباره أوّل الأطروحات الفکریة تبلوراً ونضجاً فی تاریخ الثقافة الإسلامیة علی المستویین النظری و العملی. (1)وحیث إنّ الغرض النهائی لهذه البحوث هو فهم الآلیات التی تنتجّ الفکر الإسلامی الحدیث بجمیع أقسامه،ووضعها فی میزان الکلام الوحدوی،فإنّ المسألة المناهجیة تطرح نفسها کقضیة ذات أولویة قصوی.

لهذا سوف تکون هذه الإشارات مناهجیة بدرجة أولی.

2-المسألة السیاسیة و الفکر الإسلامی الحدیث
اشارة

تقدّمت الإشارة مراراً،إلی الهویة السیاسیة لعلم الکلام.وهنا مناسبة فریدة لإثبات اطّراد هذه الخاصّیة عل مرّ التاریخ،بحیث لا نجد لها تخلّفاً،لا فی ما هو حدیث من الفکر الإسلامی, ولا فی ما هو أعتق منه, إلّا أنّ هناک استطراداً یفرض نفسه،و هو تحدید معنی مصطلح:الحداثة،وما هو حدیث.

ص:430


1- (1) .تحصل أنّ هذه الأوّلویة قد أملتها طبیعة التطوّرات التاریخیة،ولا علاقة لها بالمضمون النظری للأطروحات الإسلامیة الأوّلی التی شکّل القرن الأوّل ظرفها الزمانی.

لا بدّ هنا أن تُؤخذ صفة الحداثة هذه،بمعناها النسبی, لا المطلق،أی:الحداثة بالقیاس إلی ما هو أعتق.

والحقیقة أن مصطلح الفکر الإسلامی الحدیث،إنّما وضع لتمییز نتاجین فکریین لمرحلتین متباینتین من التاریخ الإسلامی:

المرحلة الأولی:

تمتدّ،فی وتیرة تطوریة من فجر الإسلام إلی الحملات الصلیبیة المتزامنة مع الغزو المغولی،أی:إلی القرن الثالث عشر المیلادی(السابع هجری).

ثمّ تتواصل هذه المرحلة فی وتیرة سکونیة وتکراریة،تشوبها نزعة تفاسخیة عامّة،یعتبر سقوط الأندلس من أجلی مظاهرها،وتستمرّ إلی بدایة الحملات الاستعماریة الأوربیة علی العالم الإسلامی فی النصف الأوّل من القرن التاسع عشر.

المرحلة الثانیة:

تمتدّ من یوم اکتشاف المسلمین لتأخّرهم التکنولوجی و العلمی الخطیر،بعد هزائمهم العسکریة المتکرّرة فی النصف الأوّل من القرن التاسع عشر.

والأهمّ من بین آثار هذه الأحداث الخطیرة،هو ما صاحب هذه الهزائم وأعقبها،من بدایة تساؤل علماء المسلمین عن أسباب هذا التخلّف الکبیر مع أنّ الإسلام-کما هو مفترض عند جمیع أهل العلم من المسلمین-یعلو, ولا یعلا علیه. (1)

ص:431


1- (1) .لقد شهد هذا القول المأثور الذی یعتبره الکثیرون حدیثاً صحیحاً،تأویلات کثیرة أشدّها غرابة بعض الاستفادات الفقهیة التی تجعل للمسلم امتیازات کبیرة فی مقابل غیره دونما أی استحقاق.ومن الواضح أنّ هذا الحدیث لا یدلّ إلاّ علی ضرورة المحافظة علی رفعة الإسلام فی مقابل بقیة الأطروحات العقائدیة و المذهبیة،ولا تتحقّق هذه الرفعة إلاّ بأن یکون المسلم هو رافع رایة العدالة و التقدّم. فلیس من الممکن ولا من المشروع أن یکون النظام السیاسی أو الاقتصادی أو الاجتماعی المنتسب إلی النظریة الإسلامیة،أقلّ احتراماً لحقوق الإنسان وللحرّیات العامّة و العدالة الاجتماعیة من الأنظمة الأُخری المنتسبة إلی العلمانیة.أما الاستدلال الأصولی حول الدلالات الفقهیة لهذا الحدیث،فقد اشتملت علیه بعض ملحقات الورقة المقدّمة فی مؤتمر جامعة الشیخ المفید حول الضرائب الإسلامیة،فی 2008/7/2م،و قد نشرت بذیل کتاب:مراجعات فی فقه الخمس.

هنا لا بدّ من التوقف،مرّة أُخری،عند التعریف الوظیفی لعلم الکلام،فنجد أنّ هذه الصدمة الحضاریة الأخیرة أصبحت تشکّل منشأً لعدد کبیر من الاستفسارات و الشبهات و الإشکالات التی علی علم الکلام أن یجیب عنها ویرفعها،ویبقی هذا دائماً منسجماً مع هویته السیاسیة.

وهنا یتّضح معنی الحداثة؛کصفة تطلق علی بعض أقسام الفکر الإسلامی المتبلورة بعد الصدمة الحضاریة التی جسّدها إحساس المسلمین بالهزیمة, لکن هذه الصفة قد تنازعتها عدّة اتّجاهات،نشأ کلّ واحد منها من تقییم خاصّ لأسباب نکبة المسلمین.

البحث الرابع و الأربعون:التجدید الوحدوی فی مواجهة المحافظة التفسیخیة
اشارة

إذا أردنا التبسیط والاکتفاء بالخطوط العریضة للنقد الثقافی التاریخی،فیمکن تسمیة فکر المرحلة الأولی:الفکر الإتباعی(الکلاسیکی)؛نظراً لطابعه المدرسی التقلیدی الذی حافظت علیه المدارس الدینیة باستمراریة وثبات.کما أنّ امتدادات هذا الفکر-حتّی بعد دخول المرحلة الثانیة-تستحقّ أیضاً التسمیة نفسها.

کما یمکننا فی المقابل تسمیة الإنتاج الفکری الناشئ فی المرحلة الثانیة, إمّا بالفکر التجدیدی, أو النهضوی, أو الإحیائی السلفی،تبعاً للاختیارات الکُبری التی یتوخّاها.

1-أهمّ اتّجاهات الفکر الإسلامی الحدیث

فی حین طرح بعض المثقّفین مسألة التجدید انطلاقاً من برنامج مزدوج متشکّل

ص:432

من محورین:التخلّی عن الموروث من جهة،واستیراد البدیل من الحضارة الأوروبیة الصاعدة، (1)من جهة أخری؛رأی البعض الآخر:أنّ سبب تدهور وضع المسلمین لا یکمن فی التزامهم بالإتّباعیة, بل فی عدمه،أو فی ضعف ارتباطهم بتراث السلف.فنادوا بالإحیاء الدینی السلفی.

وتعتبر الحرکة الوهابیة التی تأسّست منذ القرن الثامن عشر علی ید الشیخ محمّد بن عبد الوهاب:والدة, أو حاضنة, أو راعیة للأعمّ الأغلب من الحرکات السلفیة فی العالم الإسلامی.

و قد شکّلت عقدة الإصلاح السلفی علی الطریقة الوهابیة هذه عائقاً معارفیاً حقیقیاً أمام نضج البدائل النهضویة وتبلورها،ضمن الإطار العام لمذاهب الجمهور.

أمّا علی مستوی الشیعة الإمامیة, فبعد اشتداد فرزهم الطائفی عن سائر مذاهب الجمهور،تحت وطأة الصراع بین الدولة الصفویة و الدولة العثمانی،فقد ظهر نوع مماثل من السلفیة ظلّ لفترة طویلة ممسّکاً بزمام الأمور العقائدیة فی معظم المدارس الدینیة.و هذا الاتّجاه العامّ متأثر إلی حدّ کبیر بالموجة الأخباریة التی غمرت الفضاء الثقافی الشیعی طیلة قرنین, الحادی عشر و الثانی عشر الهجری،ولم تنجح حرکة التجدید التی أسّست للطور الفقهی الخامس، (2)والتی قادها الوحید البهبهانی فی القضاء

ص:433


1- (1) .کان التونسیون روّادا فی هذا الباب،فقد شهدت الإیالة التونسیة إنشاء أوّل دستور مکتوب عصری فی العالم الإسلامی،عهد الأمان،فی منتصف القرن التاسع عشر. و قد کان هذا الدستور أوّل مشروع سیاسی توفّیقی حاول الجمع بین تحقیق بعض مقاصد الشریعة الإسلامیة،وتلبیة الطلبات الملحة لبعض الجالیات المسیحیة و الیهودیة. و قد تمّ هذا الإنجاز،الذی لم یکن یعکس تطوّراً واقعیاً فی الثقافة المحلّیة،تحت ضغط مباشر من قناصل بعض الدول الأجنبیة الراعیة لتلک الأقلّیات.
2- (2) .أما الخامسة فهی مرحلة السعی لاستکناه مقاصد الشریعة و التخلّص من میکانیکیة الأدلّة.و قد فصلنا الکلام فی هذه المراحل فی مجموعة أطوار الاجتهاد ومناهجه.

کلیاً علی المرتکزات التی خلفتها خاصّة علی مستوی العقائد.

أمّا التیار الفکری النهضوی،فقد نشأ من معاینة شاملة غیر إقصائیة للماضی وللحاضر معاً.

فحاول طرح مشروع إحیائی تجدیدی یتلافی سلبیات کلا الاتّجاهین السابقین،فلم یکن مشروع النهضة الإسلامیة محاولة لاستنساخ حرکة النهضة الأوروبیة, بل کان اقتباساً أُصولیاً مناهجیاً لا یکتفی باعتبار نتائجها, بل یؤکّد علی الاستفادة من مناهجها،خاصّة عندما یتعلّق الأمر بإعادة انتاج الأُصول الحضاریة الموروثة فی إطار مشروع حضاری حدیث.

و قد نشأت هذه الخطوط الفکریة الثلاثة وتبلورت بالتدریج علی امتداد القرن التاسع عشر،واستمرّت فی أجیال متعاقبة طیلة القرن العشرین.ولم تُحدث تطوّرات هذین القرنین فیها تغییرات جذریة وجوهریة تذکر.فالشعارات المحوریة ثابتة تقریباً, و إنّما البرامج و المشاریع المقطعیة هی التی تتغیر شکلاً ومضموناً من جیل إلی آخر.

و قد أنتجّ کلّ خطّ من هذه الخطوط الفکریة طیلة مسیرته اصطلاحات خاصّة به،وصاغ مقولات ممیزة له،جعلت التباین بینها یتعمّق بالتدریج،وسمحت بظهور تفریعات ثانویة فی کثیر من الأحیان.

2-من مشکلات فحص المیراث الثقافی
اشارة

بناء علی ما تقدّم،لن یکون من الیسیر الإحاطة بجمیع تلک التطوّرات الفکریة تحت عنوان جامع مثل الفکر الإسلامی الحدیث،فإنّ الاتّجاهات الثلاثة التی سار علیها الکُتّاب و المفکّرون منذ قرنین،لم تزل متباعدة ومتنافرة،إلی حدّ وصل ببعض أفرادها إلی إقصاء البعض الآخر وعدم التردّد فی إخراجه من دائرة الشرعیة.

وفی المقابل لا تتردّد أطراف أخری فی نعت البعض الآخر بالرجعیة و الجمود و التحجر.

فهل هذه التهم المتبادلة تعکس دائماً تناقضات واقعیة،لا تقبل الحلّ؟

ص:434

سوء تفاهم مزمن

قد یقال:إنّه من أسهل التّهم وأکثرها رواجاً فی الفضاء الثقافی الإسلامی عموماً،التفسیق و التکفیر.وهی تُهم قدیمة،وبعضها موروث ضمن تلک القنابل الساکنة التی تقدّمت الإشارة إلیها.

ولکنّ هذه التّهم فی عصرنا،کثیراً ما تنتجّ عن عدم اطّلاع البعض علی الخلفیة العلمیة للمصطلحات التی یستعملها البعض الآخر؛و هذا ما یعانی منه-مثلاً-بعض المفکّرین الأکادیمیین ذوی التألیفات العلمیة الدقیقة والاصطلاحات الخاصّة التی یستعصی فهمها علی غیر المتخصّص.

وفی المقابل تعانی بعض الکتابات التجدیدیة المدوّنة باصطلاحات العلوم الشرعیة،التی نحتها علماء الأجیال السابقة،من عدم الفهم من قبل المفکّرین الأکادیمیین.فظلّ المجدّدون فی المدارس الدینیة مجهولی القدر؛وکثیراً ما یصنَّفون خطأً ضمن دائرة الاتّباعیین أو المحافظین.من هنا یتّضح أن هناک حالة من سوء التفاهم العمیق،قد انضمت إلی ما یختزنه التراث من أزمات نائمة،لتزید من تعقید مشکلة الفحص الوحدوی للتراث.

ضرورة تقویم آلیات إنتاج التراث

حتّی لو اقتصرنا علی الجانب السیاسی من هذا الفکر،لا بدّ من الإذعان إلی کون استعمال الفکر الإسلامی الحدیث کعنوان جامع یبقی بعید المنال.نحن مضطرّون إذاً:أن نتعامل مع موضوعنا بطریقة تجزیئیة تحلیلیة تتناول مختلف جوانب هذا التراث واحداً واحداً مبتدئین بالأهمّ و الأشد تأثیراً فی الواقع.

والحقیقة أنّ تقویم هذا التراث یتطلّب فحصاً لآلیات إنتاج المیراث الکلامی خاصّة،والفکری عامّة،علی ضوء التقابل بین ثنائیتین:

ص:435

الأولی:التقابل بین الطرح الإسلامی الوحدوی،الذی تجسد فی حرکة الإصلاح و النهضة الإسلامیة التی قادها السید جمال الدین الأفغانی, و الشیخ محمّد عبده مفتی الدیار المصریة،والدعوات الطائفیة بمختلف أنواعها.

الثانیة:التقابل بین أُطروحة المجتمع الإسلامی المتوازن،والنظام السیاسی الاستبدادی الذی نتج عن فشل نظام السقیفة،کما تقدّم.

3-المیراث الوحدوی و السلفیة المعاصرة

من أخطر ما ابتلی به الفکر الإسلامی الحدیث،الانقطاع المفاجئ فی جیل المؤسّسین الأوائل لحرکة الإصلاح و النهضة.فبعد وفاة السید جمال الدین الأفغانی سنة 1896م،ثمّ وفاة رفیق دربه الشیخ محمّد عبده سنة1905م،بعد أن عزم علی تجدید المناهج التعلیمیة فی الأزهر،عاشت الأمّة الإسلامیة مرحلة من الضیاع تجسّدت فی الإقبال علی بعض الشعارات المستوردة دون قدرة علی تمحیصها.

و قد تجسّد هذا التذبذب فی أحداث الثورة الدستوریة فی إیران،واضطرار الشیخ النائینی إلی سحب کتابه الداعم لها:تنبیه الأمّة،من الأسواق...

وقبل ذلک بقرن ونصف،کانت الحرکة السلفیة الجدیدة المتجسّدة فی شخص الشیخ محمّد بن عبد الوهاب،ودعوته التکفیریة،قد اتّخذت شکلاً بالغ الجدّیة أوصلها فی بدایة القرن العشرین إلی الهیمنة المطلقة علی معظم أرجاء الجزیرة العربیة.فقد وجدت هذه الدعوة نصیراً سیاسیاً قویاً متمثلا فی إمارة آل سعود بالدرعیة.

و قد أثمر هذا التحالف امتداد سلطان آل سعود إلی معظم مناطق الجزیرة العربیة،وتفویضهم أمور الدین إلی ورثة الشیخ محمد بن عبد الوهاب،الملقبین بآل الشیخ.و قد اشتبکت المصالح بین العائلة المالکة السعودیة ودعاة الوهابیة ومشایخها, بحیث أصبح من الصعب علی الدولة السعودیة التخلّص من هذا الحلف الثقیل الذی ورّطها

ص:436

فی الکثیر من المواقف المتطرّفة،وخاصّة فی مواجهة أهمّ تیارین فکریین کانا یتقاسمان الهیمنة الثقافیة علی الجزیرة العربیة:مذهب الشیعة الإمامیة فی شرق الجزیرة،والطرق الصوفیة فی الحجاز.

هکذا،بالاستفادة من بعض أجهزة الدولة السعودیة وسفاراتها ذات النفوذ الکبیر فی معظم بلاد العرب و المسلمین،أصبحت للدعوة الوهابیة مناطق نفوذ فکریة فی کل بلدان العالم الإسلامی.

و قد تمیز النصف الأوّل من القرن العشرین بغلبة حُسن الظنّ تجاه السلفیة الوهابیة لدی کثیر من الفعالیات العلمیة و الإصلاحیة مثل:محمّد رشید رضا،فی مصر،مقرّر أعمال شیخه وأستاذه محمّد عبده،وکلّاً من عبد الحمید بن بادیس رئیس حرکة العلماء فی الجزائر،ومالک بن نبی،أبرز وجوه الإصلاح و التحرّر الوطنی فیها.

فی ظلّ هذه الهیمنة الوهابیة،أصبح صوت دعاة الوحدة الإسلامیة من أمثال:السید عبد الحسین شرف الدین, و الشیخ سلیم البشری, و الإمام محمود شلتوت،خافتاً لا یکاد یسمع.وانتهی الأمر إلی الانکفاء الطائفی بعد وفاة هذا الجیل وتحت وطأة اقتضاءات الحرب الباردة التی کانت تفرض مقاومة المدّ الإلحادی الشیوعی وتغییب سائر المسائل الفکریة الأُخری؛إلی أن انتهت المواجهة بانهیار المعسکر الشیوعی،وتحوّل الإسلام برمته وبجمیع طوائفه إلی هدف جدید للحملات الدعائیة التشویهیة من قبل الغرب الرأسمالی المهیمن،وحرکة العولمة الثقافیة الجدیدة.

فما الذی خلّفته الدعوة السلفیة الجدیدة،علی مستوی التحدّیات المعاصرة؟

ص:437

ص:438

ثانیاً:فکر الخوارج فی ثوبه الجدید

البحث الخامس و الأربعون:السلفیة و التکفیر
اشارة

تقدّمت الإشارة إلی أنّ حملات المغول و الصلیبیین وما تلاها من تطوّرات سیاسیة،قد کرّست هیمنة التصوّف و العرفان علی الفکر الإسلامی،جنباً إلی جنب مع العقیدة الأشعریة وعقائد المذاهب الشیعیة الکبری،بل کثیراً ما کانت تتجاوزهما فی الحضور الشعبی.

ومن أهمّ السلوکیات الاجتماعیة ذات البعد العقائدی التی کرّستها بعض طرق الصوفیة،مجموع المراسم التوسّلیة التی یندرج الکثیر منها تحت عنوان:تعظیم شعائر الله،و هو عنوان أجمعت المذاهب الکبری علی کونه من المستحبّات.

إلا أنّ البعض الآخر من هذه السلوکیات،قد یندرج تحت عنوان البدع غیر المحرّمة،وهی التی وقع الخلاف فیها بین علماء شتی المذاهب.فمنهم من تشدّد فی شأنها واعتبرها محرّمة،وصنّف مرتکبها ضمن المبتدعة.وتطرّف البعض أکثر فی ذلک فکفّر کلّ المبتدعة.

و إذا ما استثنیا هذه الأقلیة التی تحرّم کلّ بدعة وتکفّر مبتدعها،فلا بدّ من الالتفات إلی أنّه،رغم ذلک الخلاف،فقد کان یسودّ نوع من الإجماع المرکب حول نفی الحرمة عن هذه السلوکیات التوسلیة.فإلی حدّ القرن السابع،لم یشتهر عن أحد ممّن

ص:439

یعتدّ بقولهم من کبار الفقهاء تحریم زیارة القبور, أو الصدقة علی أرواح الموتی, أو زیارة أضرحة الأولیاء و الصالحین و التوسل بهم إلی الله تعالی.

لکن تطرّف بعض الصوفیة المنحرفة فی بعض المسلکیات،أوجد لوثاً خطیراً فی أذهان العوام،ما لبث أن أدّی ببعض المحدّثین إلی الوقوع فی الهلکة.

1-ابن تیمیة من معاداة التصوّف إلی الناصبیة

سرعان ما انتقل اللوث المشار إلیه،من العوام إلی السطحیین من أصحاب القلم،وهم بعض المحدّثین الذین زعموا وراثة علم السلف.ومفاد هذا اللوث،التلازم بین جمیع تلک المظاهر الانحرافیة،والمسلکیات التوسلیة العادیة.وبعبارة مختصرة ساد جوّ من الاستقطاب فی المجتمعات الإسلامیة:فإمّا أن تکون مع التصوّف جملةً وبلا تفصیل،أو أن تکون ضدّه،لا تفرق بین متشرع عرفانی،وقائل بالتناسخ،أو مدّعٍ للربوبیة.

وزاد فی الطین بَلّة،أن ساد الاعتقاد بقرب المتصوّفة عموماً من التشیع, فألهب هذا التصوّر حماسة المتعصّبین للمیراث العثمانی،ودفعهم إلی تطرّف فی الاحتراز من أهل البیت علیهم السلام،ومجانبة الإنصاف تجاههم،بل وصل البعض إلی حدّ نصب العداء لهم،ممّا ألحقهم بفکر الخوارج الأوائل.

و قد استمرّ هذا الوضع الردیء حتّی القرن السابع الذی شهد ظهور شخصیة علمیة ذات أطوار ومواقف حملت صاحبها إلی الشهرة السلبیة بأتمّ معانیها،و هو تقی الدین بن تیمیة الحرّانی.

فقد اشتهرت شخصیته بالتطرّف فی معاداة تلک السلوکیات،والتشنیع علی أهلها وتکفیرهم.ووصل به الأمر إلی تحریم جمیع أنواع التوسّل وزیارة القبور حتّی قبر الرسول الأکرم صلّی الله علیه و آله.

وممّا زاد فی قوّة تأثیر هذه الشخصیة سلاسة القلم و الطابع الشعبی الجماهیری لما

ص:440

یخطه.ثمّ جاء من بعده أبرز تلامیذه و هو ابن قیم الجوزیة،فهذّب مبانیه وأسبغ علیها مسحة استدلالیة جعلها تأخذ طابعاً دراسیاً مقبولاً عند الحنابلة بشکل خاصّ.

وکان هذا العمل کلّه یقع تحت عناوین متشابکة،مثل:أهل الحدیث،والحنابلة.

وبعد قرون أطلق علیه أبرز ورثة هذا الفکر،و هو محمّد بن عبد الوهاب،اسم:السلفیة.

والحقیقة أنّه من الإنصاف تبرأت ساحة الأجیال الأولی من أهل الحدیث و الحنابلة من فکر ابن تیمیة وتلمیذه ابن قیم الجوزیة،ولا بدّ من الإفصاح عن هذا الاحتراز بإضافة قید التکفیریة إلی السلفیة؛إذ أنّ أهمّ ما یمیز هذه الموجة السلفیة الثانیة هو طابعها التکفیری المتطرّف الذی یجعلها أقرب إلی الخوارج منها إلی أهل الحدیث.

فی هذا المبحث سوف نتعرّف علی مؤسّس السلفیة التکفیریة الأوّل،وعلی محیی دعوته ومبلّغ مبانیه فی القرن الثامن عشر المیلادی:الشیخ محمّد بن عبد الوهاب الذی تنسب إلیه الوهابیة.

2-مؤسّس السلفیة التکفیریة وفکره
اشارة

یعتبر ابن تیمیة الحرّانی الدمشقی،الواضع الأوّل لأُسس السلفیة التکفیریة المعاصرة،و إن کان محمّد بن عبد الوهّاب هو مؤسّسها الفعلی, کما سیأتی.

ویعتبر أحمد ابن تیمیة الحرّانی وتلمیذه ابن قیم الجوزیة،رمزان لموجة ثانیة من تیار أهل الحدیث بینما قد یعتبر عبد السلام ابن تیمیة جدّه،آخر أعلام الموجة الأولی.

والذی یدعونا لتخصیص الموجة الثانیة بالذات من أهل الحدیث بالبحث هو امتداداتها المعاصرة التی تقدّم الکلام عن خطورتها.ودون الخوض فی تفاصیل تخرج عن هذا المجال المحدود،نکتفی ببیان تلک الجوانب من فکر ابن تیمیة،التی تعتبر أصلاً لمعظم انحرافات السلفیة التکفیریة المعاصرة.

ص:441

نشأة ابن تیمیة وخصوصیات فکره

یتحصّل ممّا کتبه أصحاب التراجم (1)أنّ ابن تیمیة هو أحمد بن عبد الحلیم الحرّانی الدمشقی661-728 ه،وُلد فی مدینة حرّان، (2)وکانت مدینة حرّان،قبل ذلک مهد الصابئة.

و قد عرف أهلها بانتمائهم العثمانی المتعصّب،فکانوا من الذین رفضوا الإقلاع عن سب الإمام علی علیه السلام بعد الصلاة،رغم أوامر عمر بن عبد العزیز.وعندما هاجم التتار حرّان،فرّ سکانها فهاجرها ابن تیمیة مع عائلته إلی دمشق, وکان یوم ذاک فی السابعة عشرة من عمره.

اتّجه إلی تحصیل العلم منذ صغره ودرس الفقه الحنبلی،وکان أبوه من شیوخ ذلک المذهب.

بعد اشتهاره بالقول بالتجسیم،ناظره علماء دمشق فی عقائده حول الله سبحانه, وأُفحم وحُکم علیه بالسجن بسبب عقائده المنحرفة وتجسیمه سنة 705 ه وأُطلق سراحه 706 ه،ثمّ بقی طیلة حیاته یعیش حالة من الکرّ و الفرّ مع علماء عصره،خاصّة بعد فتواه الشهیرة بتحریم زیارة القبور،ولم یستثنِ من ذلک زیارة قبر النبی صلّی الله علیه و آله.

فتارةً یسمح له بالتدریس و القضاء،وتارةً یمنع من ذلک ویدخل السجن إلی أن مات سجیناً بقلعة دمشق. (3)

ومن الواضح أن النکبات الکبری التی کانت تعانی منها الأمّة،لم تکن کافیة لحمل ابن تیمیة علی أی نوع من التوجّه الوحدوی،ولو کان من باب تعبئة طاقات الأمّة ضدّ أعدائها المشترکین،فکان هو أوّل أهل القلم فی تاریخ الإسلام ممّن ساعدوا بکتابتهم التفسیخیة فی تفتیت الأمّة وإضعافها أمام أعدائها فی أحلک ظروف المواجهة.

ص:442


1- (1) .لا نتوقّع من أی من أصحاب التراجم موقفاً محایداً من ابن تیمیة؛لذا فقد تضاربت الآراء حوله بین معتذر عنه ومهاجم لا یتردّد فی تکفیره.وما نسوقه فی الأسطر الآتیة هو المقدار المتّفق علیه بین الخصوم و المؤیدین علی حدّ سواء.
2- (2) .فی جنوب شرق ترکیا حالیا.
3- (3) .محاضرات فی الفرق الإسلامیة:101-127.
تهمیش الصراع الفکری عند ابن تیمیة

بدلاً من توجیه الاهتمام نحو عوامل الوحدة فی الأمّة الإسلامیة،رکّز ابن تیمیة عمله الفکری علی تضخیم موارد الاختلاف التی تحوّلت منذ ذلک التاریخ إلی عوامل تفسیخ دائمة التأثیر؛فرقت بین الروافد الأربعة الأهمّ للفکر الإسلامی:أهل الحدیث،والشیعة بمختلف مذاهبها،وأهل القیاس من الأشاعرة،وأتباع المذاهب الفقهیة الأربعة الکبری،والصوفیة العرفانیة بشتی طرقها.

والمتأمّل فی قائمة مؤلّفاته یمکنه أن یدرک حالة الهامشیة وتجاهل متطلّبات مواجهة الأمّة لأعدائها الذی میز کتاباته.فکتب الزرکلی عن تصانیفه:

فی الدرر أنّها ربّما تزید علی أربعة آلاف کرّاسة.وفی فوات الوفیات أنّها تبلغ ثلاث مائة مجلد،منها فی السیاسة الإلهیة و الآیات النبویة،ویسمّی السیاسة الشرعیة و الفتاوی خمس مجلدات،والإیمان, و الجمع بین النقل و العقل...ومنهاج السنّة, و الفرقان بین أولیاء الله وأولیاء الشیطان, و الواسطة بین الحقّ و الخلق, و الصارم المسلول علی شاتم الرسول, ومجموع رسائل, فیه 29 رسالة،ونظریة العقد, کما سمّاه ناشره،واسمه فی الأصل قاعدة فی العقود, وتلخیص کتاب الاستغاثة یعرف بالردّ علی البکری،وکتاب الرد علی الأخنائی ورفع الملام عن الأئمّة الأعلام رسالة،وشرح العقیدة الأصفهانیة...والقواعد النورانیة الفقهیة ومجموعة الرسائل و المسائل خمسة أجزاء.والتوسل و الوسیلة, ونقض المنطق, و الفتاوی, و السیاسة الشرعیة فی إصلاح الراعی و الرعیة, ومجموعة أخری اشتملت علی أربع رسائل:الأولی:رأس الحسین حقّق فیها أنّ رأس الحسین حمل إلی المدینة ودفن فی البقیع, و الثانیة:الردّ علی ابن عربی و الصوفیة،والثالثة:العقود المحرمة،والرابعة:قتال الکفّار. (1)

و قد کان من أبرز المسائل التی طرحها ابن تیمیة فی تلک الظروف الحرجة،وشدّدت

ص:443


1- (1) .الأعلام:144/1.

الخلاف بین المسلمین،وکما یظهر من رسائله، (1)هجومه الحادّ علی التصوّف العرفانی،وتفریقه بین کفّار الممالیک وکفّار المغول،فأوجب مقاتلة المغول بدعوی أنّهم یوالون التشیع،ولم یوجب ذلک مع الممالیک،رغم تکفیره لهم بدعوی أنّهم یوالون التسنّن!

ولقد لخص المحقّق المعاصر جعفر الهادی أهمّ ما شنع به ابن تیمیة،فی هذه الموارد:

1.وصف الله سبحانه بصفات المخلوقین.

2.تحریم شدّ الرحال إلی زیارة النبی صلّی الله علیه و آله.

3.تحریم التوسّل بالأولیاء و الصالحین.

4.تحریم بناء القبور وتعمیرها.

5.التشکیک فی فضائل الإمام علی علیه السلام وآله المطهّرین.

6.تحریم الاستغاثة بالأولیاء ودعوتهم. (2)

و قد خالف ابن تیمیة بهذه العقائد ما أجمع علیه المسلمون من المذاهب المختلفة،وعارض بذلک،بصفة خاصّة،مؤسّس المذهب الحنبلی الذی یدّعی الانتساب إلیه.فقد مرّ أن الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله کان أوّل من صنف فی فضائل الإمام علی علیه السلام.

لهذه الأسباب،وغیرها ممّا لا یتّسع المجال لذکره،ثار علی ابن تیمیة علماء من جمیع المذاهب،وفسقوه وکفروه وحکموا بحبسه ونفیه،أو رضوا بذلک علی الأقلّ.

3-ردّ فعل علماء الجمهور علی فکر ابن تیمیة

عرض الأمینی فی کتاب الغدیر تقریراً عن موقف أهمّ العلماء المعاصرین لابن تیمیة جاء فیه:

و قد أصدر الشامیون فتیا, وکتب علیها البرهان ابن الفرکاخ الفزاری نحو

ص:444


1- (1) .راجع نقد محمّد عمارة لما جاء فی قتال الکفّار ضمن کتابه:الجهاد.
2- (2) .محاضرات فی الفرق الإسلامیة:103.

أربعین سطراً بأشیاء،إلی أن قال بتکفیره[أی:ابن تیمیة]،ووافقه علی ذلک الشهاب بن جهبل،وکتب تحت خطّه کذلک المالکی.

ثمّ عرضت الفتیا لقاضی القضاة الشافعیة بمصر البدر بن جماعة،فکتب علی ظاهر الفتوی:الحمد لله،هذا المنقول باطنها جواب عن السؤال, عن قوله:إن زیارة الأنبیاء و الصالحین بدعة.

وما ذکره من نحو ذلک ومن أنّه لا یرخص بالسفر لزیارة الأنبیاء باطل مردود علیه،و قد نقل جماعة من العلماء:أنّ زیارة النبی صلّی الله علیه و آله فضیلة وسنّة مجمع علیها،و هذا المفتی المذکور-یعنی:ابن تیمیة-ینبغی أن یزجر عن مثل هذه الفتاوی الباطلة عند الأئمّة و العلماء،ویمنع من الفتاوی الغریبة،ویحبس إذا لم یمتنع من ذلک،ویشهر أمره لیحتفظ الناس من الاقتداء به.

وکتبه محمّد بن إبراهیم بن سعد الله بن جماعة الشافعی.وکذلک یقول محمّد بن الجریری الأنصاری الحنفی:لکن یحبس الآن جزماً مطلقاً.

وکذلک یقول محمّد بن أبی بکر المالکی:ویبالغ فی زجره حسبما تندفع تلک المفسدة وغیرها من المفاسد.

وکذلک یقول أحمد بن عمر المقدّسی الحنبلی. (1)وهؤلاء الأربعة هم قضاة المذاهب الأربعة بمصر أیام تلک الفتنة فی سنة 726.

وکان من معاصریه من ینهاه عن غیه،کالذهبی فإنّه کتب إلیه ینصحه،وإلیک نصّ خطابه إیاه:

الحمد لله علی ذلتی،یا ربِّ, ارحمنی وأقلنی عثرتی...وواأسفاه!علی السنّة وأهلها،واشوقاه إلی إخوان مؤمنین یعاونوننی علی البکاء!واحزناه علی فقد أناس کانوا مصابیح العلم وأهل التقوی وکنوز الخیرات...!

طوبی لمن شغله عیبه عن عیوب الناس،وتبّاً لمن شغله عیوب الناس عن عیبه،إلی کم تری القذاة فی عین أخیک وتنسی الجذع فی عینیک؟

إلی کم تمدح نفسک وشقاشقک وعباراتک وتذم العلماء وتتبع عورات الناس؟

ص:445


1- (1) .دفع الشبه:45-47.

مع علمک بنهی الرسول صلّی الله علیه و آله یا رجل!بالله علیک کف عنّا،فإنّک محجاج علیم اللسان لا تقرّ ولا تنام،إیاکم و الغلوّطات فی الدین،کره نبیک صلّی الله علیه و آله المسائل وعابها...وکثرة الکلام بغیر زلل تقسی القلب إذا کان فی الحلال و الحرام،فکیف إذا کان فی عبارات الیونسیة و الفلاسفة وتلک الکفریات التی تُعمی القلوب،والله،قد صرنا ضحکة فی الوجود،فإلی کم تنبش دقائق الکفریات الفلسفیة؟لنردّ علیها بعقولنا،یا رجل!قد بلعت سموم الفلاسفة وتصنیفاتهم مرّات،وکثرة استعمال السموم یدمن علیه الجسم،وتکمن و الله فی البدن...

کان سیف الحجّاج ولسان ابن حزم شقیقین فآخیتهما،بالله،خلونا من ذکر بدعة الخمیس،وأکل الحبوب،وجدّوا فی ذکر بدع کنّا نعدّها من أساس الضلال،قد صارت هی محض السنّة وأساس التوحید،ومن لم یعرفها فهو کافر أو حمار،ومن لم یکفر،فهو أکفر من فرعون وتعدّ النصاری مثلنا...

یا خیبة من اتّبعک!فإنّه معرض للزندقة والانحلال،لا سیما إذا کان قلیل العلم و الدین باطولیاً شهوانیاً؛لکنّه ینفعک ویجاهد عندک بیده ولسانه،وفی الباطن عدو لک بحاله وقلبه،فهل معظم أتباعک إلا قعید مربوط خفیف العقل؟

أو عامی کذاب بلید الذهن؟

أو غریب واجم قوی المکر؟

أو ناشف صالح عدیم الفهم؟

فإن لم تصدقنی ففتشهم وزنهم بالعدل...إلی متی تمدح کلامک بکیفیة لا تمدح و الله،بها أحادیث الصحیحین،یا لیت أحادیث الصحیحین تسلم منک, بل فی کلّ وقت تغیر علیها بالتضعیف و الإهدار،أو بالتأویل و الإنکار،أمّا آن لک أن ترعوی؟!أمّا حان لک أن تتوب وتنیب؟!...

فما أظنّک تقبل علی قولی ولا تصغی إلی وعظی،بل لک همة کبیرة فی نقض هذه الورقة بمجلّدات،وتقطع لی أذناب الکلام،ولا تزال تنتصر حتّی أقول:البتّة سکت.

فإذا کان هذا حالک عندی, وأنا الشفوق المحبّ الواد،فکیف حالک عند أعدائک؟!وأعداؤک،والله،فیهم صلحاء وعقلاء وفضلاء،کما أنّ

ص:446

أولیاءک فیهم فجرة وکذبة, وجهلة وبطلة وعور وبقر،قد رضیت منک بأن تسبنی علانیة وتنتفع بمقالتی سرّاً.... (1)

هذا إذن رأی الحافظ الذهبی فی ابن تیمیة وأتباعه،ویتلّخص فی کلمتین،إنّه ضالّ مضّل وأتباعه مثله.

ولا یهمّنا إن کان الذهبی قد غیر لهجته مع ابن تیمیة بعد وفاته،فلعلّه کان یأمل ارتفاع غائلة فکره بمرور الزمن،لما کان یراه من میل المسلمین عنه.

والحقیقة أن هذا المذهب قد اندرس بعد وفاة وارثه ابن قیم،لولا أن ظهر جیل ثالث من السلفیة تأسّس علی أعمدة التطرّف و الشذوذ فی فکر ابن تیمیة:معاداة أولیاء الله وتکفیر المسلمین وهدر دمائهم.

البحث السادس و الأربعون:أصول الانحراف الوهابی
اشارة

من الملفت للنظر أنّ أکابر علماء الجمهور الغیورین علی السنّة النبویة،کانوا فی أشدّ الحرج من فکر ابن تیمیة وجرأته علی مثل تلک الفتاوی،فالوزن الثقیل لکتاباته کان یجعلهم متردّدین فی إقصاء فکره بعد موته.

ولکن قیض الله للمسلمین من یکشف الحقیقة الرهیبة لابن تیمیة،وهی سقوطه العلمی المتجسّد فی هبوطه إلی مستوی التدلیس و الکذب علی العلماء السابقین لدعم فتاویه الشاذة،هذا کلّه مضافاً إلی السقوط الأخلاقی الذی کشفته رسالة الحافظ الذهبی.

من الطبیعی إذاً،أن یکون مثل هذا العالم الضال مضّلاً لجمیع من یتورّط فی مسلکه.و قد التفت بعض الأکابر قبل قرنین من ظهور دعوة محمّد بن عبد الوهّاب إلی خطورة فکر ابن تیمیة وإمکانیة تحوله إلی مهلکة لقسم من الأمّة.

ص:447


1- (1) .الغدیر:87/5-91.

وللأسف لم تلبث هذه التخوّفات أن وجدت مطابقة مأساویة مع واقع الأمّة منذ أکثر من قرنین ونصف.

1-ملامح السقوط العلمی عند مؤسّس السلفیة التکفیریة

لم تفلح کثرة مؤلّفات ابن تیمیة فی تغطیة سقوطه العلمی عن أعین المتتبّعین من العلماء،فها هو ابن حجر الهیثمی المکّی الشافعی 974ه، (1)کما یقرّره الشیخ یوسف بن إسماعیل النبهانی،ینبری لدفع غائلة هذا المدلّس.

یقول الشیخ النبهانی:

ومنهم الإمام شهاب الدین أحمد بن حجر الهیثمی المکّی الشافعی:و هو أشدّهم ردّاً علی ابن تیمیة؛محاماة عن الدین وشفقة علی المسلمین من أن یسری إلیهم شیء من غلطاته الفاحشة،ولا سیما فیما یتعلّق بسید المرسلین صلّی الله علیه و آله.

ومن نظر بعین الإنصاف شهد لهذا الإمام ابن حجر بالولایة،وأنّه ربّما یکون قد أطلعه الله علی ما سیحصل فی المستقبل من الأضرار العظیمة التی ترتبت علی أقوال ابن تیمیة من فرقته الوهابیة التی هو أصل اعتقادها وأساس فسادها،ولا یخفی ما حصل منها من الأضرار العظیمة فی حقّ المسلمین و الإسلام, ولا سیما فی الحرمین الشریفین وجزیرة العرب،فمن المحتمل احتمالاً قریباً أن یکون الحقّ سبحانه وتعالی قد أطلع الإمام ابن حجر علی ذلک علی سبیل الکرامة و هو أهل لذلک؛فإنّه(رضی الله عنه)کان من أکابر العلماء العاملین و الأئمّة الهادین المهدیین...

ولذلک کان(رضی الله عنه)أشدّ أئمّة المسلمین إنکاراً لبدع ابن تیمیة وردّاً علیه،بأشدّ العبارات شفقة علی المسلمین ومحاماة عن هذا الدین المبین.وله فی ذلک عبارات کثیرة فی کتبه،ولا سیما فی الفتاوی الحیثیة ولم أرَ حاجة إلی نقلها هنا فمن شاءها فلیراجعها.

ص:448


1- (1) .ولد فی محلّة ابن الهیثم بمصر،فقیه شافعی درس فی الأزهر،من مؤلّفاته:الفتاوی الکبری الفقهیة،والزواجر عن اقتراف الکبائر.

فقد ثبت وتحقق وظهر ظهور الشمس فی رابعة النهار،أنّ علماء المذاهب الأربعة قد اتّفقوا علی ردّ بدعة ابن تیمیة،ومنهم من طعنوا بصحّة نقله کما طعنوا بکمال عقله فضلاً عن شدّة تشنیعهم علیه فی خطئه الفاحش فی تلک المسائل التی شذّ بها فی الدین وخالف بها إجماع المسلمین،ولا سیما فیما یتعلّق بسید المرسلین صلّی الله علیه و آله وممّن طعن بصحّة نقله من الحنفیة الشهاب الخفاجی فی شرح الشفاء, کما تقدّم.ومن المالکیة الإمام الزرقانی فی شرح المواهب, کما تقدّم أیضاً.ومن الشافعیة الإمام السبکی, کما هو مذکور فی کتابه شفاء السقام فقد أوضح فیه مع توضیح خطأ ابن تیمیة فی رأیه عدم صحّة نقله أحکاماً شرعیة استدلّ بها علی تقویة بدعته ونسبها إلی علماء من أئمّة المذاهب الأربعة لم یقولوا بها.

وذکر مثل ذلک من عدم صحّة نقله الإمام ابن حجر الهیثمی فی ردوده علیه،ولا یخفی أن ذلک من أقوی العیوب فی العالم،وأشنع الأخلاق التی تضعف الثقة به وتسقط اعتبار نقله عن غیره, و إن کان من أحفظ الحفاظ وأعلم العلماء, ویقوی عدم اعتبار نقل ابن تیمیة فی بضع ما ینقله ما قاله فی حقه الحافظ العراقی الکبیر. (1)

ومن أهمّ ملامح الضعف العلمی عند ابن تیمیة نفیه وجود المتشابه فی القرآن الکریم رغم تصریح القرآن نفسه به.وادّعاء أنّ کلّ القرآن محکم،والتشابه نسبی. (2)

2-المنهج المعرفی عند مؤسّس السلفیة التکفیریة
اشارة

من الممکن القول أنّ إضفاء هالة من الإکبار و الإجلال علی ابن تیمیة من قبل مؤیدیه و المعتذرین عنه،یأتی فی إطار محاولة إخراج الأمّة من تحت تأثیر حالة التحوّل الوحدوی العامّ التی تبلورت ملامحها منذ تحول حجّة الإسلام الغزالی إلی التصوّف العرفانی.

وذهب بعض المحقّقین المعاصرین إلی قریب من هذا عندما أجری مقارنة بین لقبی حجّة الإسلام الذی اتّفقت الأمّة علی إسناده للغزالی وشیخ الإسلام الذی منحه

ص:449


1- (1) .شواهد الحق فی الاستغاثة بسید الخلق صلّی الله علیه و آله:190 و191.
2- (2) .التفسیر الکبیر:252/1؛و هذه العبارة مقتبسة من:محاضرات فی الفرق الإسلامیة:122.

مؤیدو ابن تیمیة لشیخهم.فکان تلقیبه بشیخ الإسلام فی مقابل اللقب الذی استحقّه أبو حامد الغزالی.وهکذا أراد السلفیون التکفیریون جعل ابن تیمیة ناسخاً لعظمة من قبله ومبتدأً عصراً جدیداً فی المعرفة الإسلامیة الشاملة, ولکن دراسة ما کتبه فی کتبه فی مجال الحدیث و التفسیر وأقوال المتکلّمین تکشف عن أنّه لم یکن إلا مدّعیاً للعلم و المعرفة،و إن أحسن إخراج ادعائه فی زمن شَحّ فیه العلماء المجتهدون.

بل قیل فیه أنّه کان إمّا جاهلاً بالکثیر من الحقائق المسلّمة،و إمّا مکابراً معانداً غیر موضوعی کما لم یکن مصلحاً ولا محسناً. (1)

الارتباک المناهجی فی علم الحدیث عند ابن تیمیة

من أخطر ما یمکن أن یوصف به محدّث،الاضطراب المناهجی،أی:عدم الوفاء لضوابط قارة ثابتة سواء فی الدرایة أو فی الرجال.

و قد ذکر العلماء المتتبعون،مثل ابن حجر الهیثمی کثیراً من الشناعات التی لا یسعنا حتّی إدراجها ضمن الاضطراب المناهجی،بل هی التدلیس بعینه،و قد مرّ تقریر النبهانی بذلک.

و قد جمع بعض المعاصرین عدّة موارد تبرز وقوع الخلط فی کثیر ممّا نقله ابن تیمیة من الأحادیث،سواء فی سندها أو فی نوعها قدسیة أو نبویة مثلاً. (2)

وفی الحقیقة لا یمکن الالتزام،بأنّ کلّ هذه الموارد ناتجة عن ضعف فی الضبط ووهن فی الدرایة،فابن تیمیة کان علی الأقلّ بمستوی طالب علم عادی لا یجوز فی حقّه اجتماع کلّ هذه السقطات, بل الراجح أنّ هذه الموارد تکشف عن مشکلة مناهجیة عمیقة کثیراً ما تنعت بالالتقاطیة،وهی تعبیر مهذّب عن خیانة الأمانة العلمیة و التوظیف السیاسوی للبحث العلمی.

ص:450


1- (1) .محاضرات فی الفرق الإسلامیة:118 و119.
2- (2) .المصدر:119-121.

ویؤید هذا الاستنتاج تکاثر الموارد التی جمعها المتتبعون لفکر ابن تیمیة, و التی تکشف جمیعها عن سقوطه العلمی وسلوکه المنحاز عن الحقیقة وأهلها.فلأجل إضفاء المشروعیة علی معتقداته المعادیة للتوسّل و الداعیة إلی التشبیه و التجسیم الوثنی،ربّما نفی ورود حدیث فی مصادر معروفة.

وربما ضعّف حدیثاً،صحّحه وقوّاه کبار نقاد الحدیث،کالحاکم،والذهبی.

وربّما نفی نقل أهل العلم لحدیث معین.

تکریس الغوغائیة الکلامیة

إنّ جمیع ما تقدّم من العیوب المناهجیة،قد لا یکونوا فی درجة خطورة ما ابتلی به ابن تیمیة المتکلّم.فقد جمع هذا الرجل جمیع خصال الغوغاء،مثل المیل إلی السُباب وغیاب الإنصاف مع جمیع عیوب الکلام الإخباری الذی تقدّم الحدیث عنه.

فهو کثیراً ما ینهجّ نهج التهویل و التهجم ویسلک سبیل الخلط و المغالطة بدلاً من مقارعة الحجّة بالحجّة،ورد البرهان بالبرهان شأن المتکلّم المنصف،والعالم الموضوعی, بل یذهب أحیاناً إلی أبعد من ذلک فیسبّ ویشتم علی عادة الغوغاء وعلی طریقة السوقة.

ونری ذلک جلیاً فی کتابه منهاج السنّة فی الردّ علی کتاب منهاج الکرامة فی إثبات الإمامة للعلاّمة الحلّی, حیث یدفعه التعصب و الحقد إلی ردّ الأحادیث حتّی الجید منها،بل تدفعه المبالغة فی توهین ما کتبه العلاّمة الحلّی إلی درجة التنقیص من شأن الإمام علی بن أبی طالب علیه السلام.

هذا عدا تسمیته العلاّمة الحلّی, المعروف بابن المطهر بابن المنجّس.و هو الذی مدحه حتّی کبار علماء السنّة مثل معاصره:الصفدی فی الوافی بالوفیات, و الذهبی فی ذیول العبر،وابن حجر فی لسان المیزان, و القاضی البیضاوی،صاحب التفسیر-کما فی أعیان الشیعة-. (1)

ص:451


1- (1) .أعیان الشیعة،ترجمة العلّامة الحلّی رحمة الله.

فقد وصفه هؤلاء الأعلام من أهل السنّة بالإمامة و العلم والاشتهار وحسن الخلق.

و قد أدّی أسلوب ابن تیمیة الغوغائی فی کتابه منهاج السنّة إلی نقد رجال معروفین من علماء الجمهور،لذلک الأسلوب وتقبیحه.نظماً ونثراً. (1)

و قد مرّ التشنیع علی ابن تیمیة فی مسلکه الغوغائی هذا،علی لسان الحافظ الذهبی.

3-ابن عبد الوهّاب وإحیاء السلفیة التکفیریة
اشارة

ولد محمّد بن عبد الوهاب النجدی التمیمی1111ه وتوفّی فی 1207ه.ونشأ وترعرع فی بلده العیینة،درس المذهب الحنبلی علی ید علمائه.

وجاء فی خلاصة الکلام فی أمراء البلد الحرام للشیخ أحمد بن زینی دحلان:

...أخذ فی أوّل أمره عن کثیر من علماء مکّة و المدینة, وکانوا یتفرّسون فیه الضلال و الإضلال, وکان و الده عبد الوهّاب من العلماء الصالحین،وکان یتفرّس فیه ذلک ویذّمه کثیراً ویحذر الناس منه،وکذا أخوه سلیمان بن عبد الوهّاب أنکر علیه ما أحدثه،وألّف کتاباً فی الردّ علیه.

وکان فی أوّل أمره مولعاً بمطالعة أخبار مدّعی النبوّة کمسیلمة،وسجاح, و الأسود العنسی،وطلیحة الأسدی, وأمثالهم.

وخلف محمّد بن عبد الوهّاب بعده أربعة أولاد وهم, عبد الله،وحسن, وحسین،وعلی،فقام بالدعوة عبد الله أکبرهم, ولمّا مات خلف سلیمان،وعبد الرحمن, وکان سلیمان متعصباً تعصباً شدیداً فی أمرهم فقتله إبراهیم باشا (2)سنة 1233ه وقبض علی عبد الرحمن وأرسله إلی مصر فمات بها, وخلّف حسن عبد الرحمن وولی قضاء مکّة أیام استیلاء الوهابیین علیها, وعمّر عبد الرحمن حتّی قارب المائة, وخلّف عبد اللطیف, وخلّف کلّ من حسین وعلی أولاداً کثیرة, ولم یزل نسلهم باقیاً بالدرعیة إلی الآن یسمونهم أولاد الشیخ. (3)

ص:452


1- (1) .الوافی بالوفیات،طبقات الشافعیة الکبری،ولسان المیزان.
2- (2) .هو ابن محمد علی باشا،الذی قضی علی الموجة الأوّلی من اتّساع الدولة السعودیة و الدعوة الوهابیة.
3- (3) .خلاصة الکلام:12؛عن:کشف الارتیاب فی أتباع محمد بن عبد الوهّاب.
تحصیل ابن عبد الوهّاب وبدایة دعوته

یتحصّل ممّا کتب فی سیرة ابن عبد الوهّاب أن إنکار و الده وأخیه علیه تطرّفه قد ضیق علیه الخناق،فخرج یطوف البلاد ویتعرّف علی المذاهب و الطوائف وجال فی العراق وإیران, وقیل:أفغانستان.

وخلال ذلک تعرّف علی الفلسفة و التصوّف دون أن یقدر علی دراستهما کما ینبغی،والأثر یدلّ علی المؤثر, فازدادت شخصیته العلمیة اهتزازاً،لکنّها بقیة خالصة الولاء لابن تیمیة.

ثمّ عاد إلی بلده وبعد اعتزال واعتکاف فی بیته،خرج وأعلن عن دعوته السلفیة،وانتسابه الفکری إلی ابن تیمیة وادعائه تجدید الدین وإحیاء السنّة،ومحاربة البدعة.

ولمّا مات و الده تجرأ علیه أهل حریملة التی کان یقیم فیها،وقصدوا قتله بسبب عقائده فهرب إلی العیینة مسقط رأسه،وتحالف مع أمیرها حیناً من الدهر،وتمکّن بذلک من فرض دعوته هنالک.

وکانت ثمرة هذا التحالف هدم ضریح زید بن الخطّاب، (1)ممّا أثار علیه الکثیر من المسلمین.

ثمّ ما لبث أن تعاهد مع محمّد بن سعود أمیر الدرعیة،علی التناصر لنشر دعوته فی مقابل مساعدة الأمیر علی بسط نفوذه علی الجزیرة العربیة.ومنذ ذلک التاریخ تورطّت العائلة السعودیة فی تحمل تبعات تطرّف الدعوة الوهابیة.

ص:453


1- (1) .زید بن الخطّاب بن نفیل بن عبد العزّی القرشی العدوی،أبو عبد الرحمن،صحابی من شجعان العرب فی الجاهلیة و الإسلام.و هو أخو عمر بن الخطّاب،وکان أسن من عمر،وأسلم قبله.شهد المشاهد،ثمّ کانت رایة المسلمین فی یده،یوم الیمامة،فثبت إلی أن قتل.وحزن علیه عمر حزناً شدیداً.قال الزرکلی،و هو وهابی المیول:کان الجهلة فی نجد،قبیل قیام محمّد بن عبد الوهاب یغالون فی تعظیم قبره بالیمامة،ویزعمون أنّه یقضی لهم حاجاتهم؛الأعلام:58/3.
الدعوة الوهابیة فی طورها الدموی

لقد حثّ الشیخ ابن عبد الوهّاب أتباعه ومعتنقی أفکاره علی نصرة وتأیید الأمیر السعودی،بعد أن أغراه بتوسیع نفوذه،وکان أوّل عمل فی هذا السبیل اغتیال أمیر العیینة بتحریک من الشیخ محمّد بن عبد الوهّاب،بعد أن أفتی بکفره وشرکه،ثمّ قام الوهابیون بهجوم قوی علی العیینة-لما انتفض أهلها-وقتلوا المسلمین وأحرقوا ونهبوا وهدموا الدیار،وانتهکوا الحرمات،کلّ ذلک بفتوی ابن عبد الوهّاب. (1)

وکان هذا أوّل ظهور دموی للوهابیین الذین أعلنوا حرکتهم تحت شعار التوحید ومحاربة الشرک و البدعة،فاستحلّوا دماء المسلمین من الصوفیة و الشیعة دون تمییز بین طوائفهم واتّجاهاتهم،بل عمّموا التکفیر علی جمیع من خالفهم من المسلمین.فتحقّقت صورة جدیدة لأشدّ فرق الخوارج دمویة کالأزارقة.

وبعد فترة من الاضطراب فی شرقی الجزیرة،هاجم الوهابیون مدینة کربلاء،حیث ضریح الإمام الحسین علیه السلام،سنة 1216ه،فقتلوا ودمّروا ونهبوا, وسلبوا وتجاسروا علی مرقد الإمام الحسین علیه السلام یوم الغدیر, وکان عدد الضحایا أکثر من ثلاثة آلاف.

ثمّ احتلوا الطائف،واستولوا علی مکّة المکرّمة،وکان الأوّل فی عام 1217ه و الثانی فی عام 1218ه،وقتلوا فی طریقهم جمیع من خالفهم ودمّروا،ونهبوا،وسلبوا.

ثمّ هاجم الوهابیون کربلاء مرّة ثانیة وغزوا الشام, لکن إبراهیم باشا بن محمّد علی باشا و الی مصر من قبل العثمانیین تدارک الموقف ووجّه إلیهم حملة قضت علیهم فلم یظهر لهم شأن إلی زمن الحرب الکبری الأوٌلی،وعقد التحالفات الدولیة الجدیدة التی مکّنت الوهابیین من بسط نفوذهم علی کلّ الجزیرة العربیة.

وأخیراً استولی الوهابیون علی مکّة و المدینة عام 1343ه.

ص:454


1- (1) .کشف الارتیاب.

وبعد السیطرة علی المدینة المنوّرة،قام الوهابیون بهدم قبور الأئمّة-أئمّة أهل البیت علیهم السلام الأربعة:الحسن السبط،وعلی بن الحسین زین العابدین،ومحمّد بن علی الباقر،وجعفر بن محمّد الصادق علیهم السلام-وجمیع قبور وأضرحة البقیع.

ولقد کانت الوهابیة تعادی المذاهب الإسلامیة جمیعاً؛ولکنّها رکزت فی عدائها خاصة علی الشیعة و الصوفیة،حتی الآونة الأخیرة،حیث بدأوا بالهجوم علی الأشاعرة.

وبعد الغزو الأمریکی للعراق 2003م اتّخدت الدعوة الوهابیة شکلاً بالغ التطرّف و الدمویة،وفی إطار فتنة طائفیة مفتعلة.فأودا الإرهابیون الوهابیون بآلاف الضحایا من عامّة المسلمین...

و قد صدرت ردود کثیرة علی أفکار محمّد بن عبد الوهّاب قدیماً وحدیثاً ومن الشیعة وأهمّها:کشف الارتیاب،للعلاّمة المحقّق السید محسن الأمین العاملی. (1)

میراث التطرّف

لقد ورثت الوهابیة إرثاً ثقیلاً من الفتوی المتطرّفة, فلم یکتفِ ابن تیمیة بتکفیر زوّار القبور و المتوسّلین بالأولیاء،بل اعتبر من یشدّ الرحال إلی مسجد النبی صلّی الله علیه و آله مشرکاً؛بل ذهب أبعد من ذلک،فکفّر من یصلّی فی بیته ولا یشارک فی الجماعة لشغل أو عذر, و هو جار المسجد،بل وذهب إلی وجوب قتله.

ولهذا اضطرّ ملکان من ملوک آل سعود وهما:محمّد بن سعود،وترکی إلی تعیین إمامی جماعة لکلّ مسجد،حتّی یصلّی أحدهما بالناس فی أوّل الوقت،والثانی بالذین تأخّروا عن أوّل الوقت لشغل حتّی یصلّی الجمیع مع الجماعة حتماً.

کما حکم ابن تیمیة بکفر من أخّر صلاة الظهر إلی المغرب،والمغرب إلی منتصف اللیل،وحکم بکفر من لم یقل بکفر هذین!!

ص:455


1- (1) .المصدر؛و راجع:محاضرات فی الفرق الإسلامیة.

ومن المعلوم أنّ أحداً من الفقهاء لم یذهب إلی هذه الأحکام،ولم یکفّر أحداً لهذه الأمور.ویعرب هذا الموقف من ابن تیمیة عن تساهله فی تکفیر المسلم الممنوع شرعاً. (1)

البحث السابع و الأربعون:الوهابیة و الجماعات المقاتلة و التکفیر
اشارة

تقدّمت الإشارة فی البحث السابق،إلی أنّه من الجدیر نسبة السلفیة التکفیریة،قدیمها وحدیثها إلی الخوارج, ولیس إلی أهل الحدیث.

والتحقیق فی وجه الشبه بین ظاهرة الخوارج و الوهابیة مهم للغایة فی أیامنا،بعد استفحال أمر الجماعات المحاربة المنتسبة إلی الوهابیة أو المحسوبة علیها.

ولعلّ أفضل مقارنة بین ظاهرتی الخوارج و الوهابیة هی تلک التی حرّرها المحقق المرحوم السید محسن الأمین فی کتابه الفرید:کشف الإرتیاب.

1-الوهابیة و الخوارج فی میزان المحقق الأمین

یقول المحقّق السید محسن الأمین:

أوّلاً:کما أن الخوارج شعارهم لا حکم إلا لله..., کذلک الوهابیون شعارهم:لا دعاء إلا لله،لا شفاعة إلا لله،لا توسّل إلا بالله،لا استغاثة إلا بالله،ونحو ذلک.

کلمات حقّ یراد بها باطل:کلمات حقّ؛لأن المدعو و المتوسّل به حقیقة لدفع الضرّ وجلب النفع و المغیث الحقیقی ومالک أمر الشفاعة هو الله.

یراد بها باطل و هو منع تعظیم من عظّمه الله بدعائه و التوسّل به لیشفع عند الله تعالی ویدعوه لنا, وعدم جواز التشفع والاستغاثة و التوسّل بمن جعله الله شافعاً مغیثاً وجعل له الوسیلة کما یبین فی محلّه...

ص:456


1- (1) .محاضرات فی الفرق الإسلامیة:127؛أمّا التفاصیل فیمکن مراجعتها فی:کشف الإرتیاب.

ثانیاً:کما أنّ الخوارج متصلّبون فی الدین مواظبون علی الصلوات وتلاوة القرآن و العبادة حتّی أسودت جباههم من طول السجود...کذلک الوهابیون متصلّبون فی الدین یؤدّون الصلاة لأوقاتها ویواظبون علی العبادة ویطلبون الحقّ و إن أخطأوه،ویتورّعون عن المحرّمات حتّی بلغ من تورعهم أنّهم توقّفوا فی استعمال(التلغراف...)!

ثالثا:کما أنّ الخوارج کفّروا مَن عداهم من المسلمین, وقالوا:إنّ مرتکب الکبیرة کافر مخلّد فی النار واستحلّوا دماءهم وأموالهم وسبی ذراریهم, وقالوا:إنّ دار الإسلام تصیر بظهور الکبائر فیها دار کفر...کذلک الوهابیون حکموا بشرک من خالف معتقدهم من المسلمین واستحلّوا ماله ودمه وبعضهم استحلّ سبی الذریة...

ولم یخاطبوه إلّا بقولهم:یا مشرک،وجعلوا دار الإسلام دار حرب ودارهم دار إیمان تجب الهجرة إلیها،وحکموا بقتال تارک الفرض و إن لم یکن مستحلاًّ کما فی الرسالة الثانیة من رسائل الهدیة السنیة, ونقلوه فیها أیضاً عن ابن تیمیة.

قال سلیمان بن عبد الوهّاب علی ما حکی عنه فی رسالته فی الردّ علی أخیه محمّد بن عبد الوهّاب صاحب الدعوة الوهابیة, قال ابن القیم:الخوارج لهم خصلتان مشهورتان فارقوا بهما جماعة المسلمین وأئمّتهم, إحداهما:خروجهم عن السنّة وجعلهم ما لیس بسنّة سنّة.والثانیة:أنّهم یکفّرون بالذنوب و السیئات ویترتّب علی ذلک استحلال دماء المسلمین وأموالهم و أنّ دار الإسلام دار حرب ودارهم هی دار الإیمان, فینبغی للمسلم أن یحذر من هذین الأصلین الخبیثین, وما یتولّد عنهما من بغض المسلمین, وذمهم ولعنهم واستحلال دمائهم وأموالهم, وعامة البدع إنّما تنشأ من هذین الأصلین...

و هذا الذی ذکره بعینه موجود فی الوهابیة.

رابعاً:کما أنّ الخوارج استندوا فی شبهتهم هذه إلی ظواهر بعض الآیات و الأدلّة التی زعموها دالة علی أنّ کلّ کبیرة کفر, کذلک الوهابیون استندوا فی هذه الشبهة إلی ظواهر بعض الآیات و الأدلّة التی توهّموها دالة علی أنّ الاستغاثة والاستعانة بغیر الله شرک, وعلی غیر ذلک من معتقداتهم, کما یظهر من استشهاداتهم بالآیات التی لا دلالة فیها علی معتقداتهم عند نقلنا لها...

ص:457

خامساً:کما أنّ الخوارج استحلّوا قتال ملوک الإسلام و الخروج علیهم؛لأنّهم باعتقادهم أئمّة ضلال کذلک الوهابیون استحلّوا قتال ملوک الإسلام وأمرائه؛لأنّهم باعتقادهم أئمّة ضلال ناصرون للشرک و البدع.

سادساً:کما أنّ الخوارج لا یبالون بالموت ویقدّمون علی الحرب؛لأنّهم رائحون بزعمهم إلی الجنّة...کذلک الوهابیون یظهرون بسالة وإقداماً ولا یبالون بالموت...

سابعاً:کما أنّ الخوارج علی جانب من الجمود و الغباوة،فبینما هم یتورّعون عن أکل تمرة ملقاة فی الطریق،ویرون قتل الخنزیر الشارد فی البرّ فساداً فی الأرض،تراهم یرون قتل الصحابی الصائم وفی عنقه القرآن طاعة لله تعالی...کذلک الوهابیون علی جانب من الجمود.فبینا هم یحرّمون الترحیم و التذکیر؛لأنّه بزعمهم بدعة وأمثال ذلک،ویتوقفون فی(التلغراف)لعدم وقوفهم علی نصّ فیه،ویحرّمون التدخین ویعاقبون علیه،تراهم یکفّرون المسلمین ویشرکونهم ویستحلّون أموالهم ودماءهم, ویقاتلونهم بالبنادق و المدافع لطلبهم الشفاعة...

ثامناً:کما أنّ الخوارج قال بمقالتهم جماعة ممّن ینسب إلی العلم لظهورهم بمظهر مقاومة أئمّة الضلال ورفع الظلم الذی لا شکّ أنّه کان موجوداً فی الجملة،وأنّه لا حکم إلا لله...کذلک الوهابیون قال بمقالتهم جماعة ممّن ینسب إلی العلم لظهورهم بمظهر رفع البدع التی لا شکّ فی وجودها فی الجملة, وأنّه لا عبادة ولا شفاعة إلا لله...

تاسعاً:کما أنّ الخوارج عمدوا إلی الآیات الواردة فی المشرکین فجعلوها فی المسلمین و المؤمنین, کذلک الوهابیون جعلوا الآیات النازلة فی المشرکین منطبقة علی المسلمین...

عاشراً:کما أنّ الخوارج سیماهم التحلیق أو التسبید, کذلک الوهابیون سیماهم التحلیق،وعن النهایة فی حدیث الخوارج:التسبید فیهم فاش:هو الحلق واستئصال الشعر.

حادی عشر:کما أنّ الخوارج یقتلون أهل الإسلام ویدعون أهل الأوثان...کذلک الوهابیون یقتلون أهل الإسلام وحدهم, ولم ینقل عنهم أنّهم حاربوا أحداً سوی المسلمین.

ص:458

ثانی عشر:کما أنّ الخوارج کلّما قطع منهم قرن, ظهر قرن آخر،کذلک الوهابیون کلّما قطع منهم قرن نجم قرن, فقد حاربهم محمّد علی باشا واستأصل شأفتهم،ووصل ولده إبراهیم باشا إلی قاعدة بلادهم الدرعیة وأخربها, ثمّ نجم قرنهم بعد ذلک وقطع... (1)

2-الوهابیة و الجماعات المحاربة
اشارة

لعلّه من أکثر المقولات التبسیطیة شیوعیاً فی أیامنا،الاعتقاد بأنّ الجماعات الإسلامیة المقاتلة تعود إلی الوهابیة،أو أنّها فروع محاربة منها.فالحقیقة أشدّ تعقیداً من ذلک،فبعض هذه الجماعات لا تمّت إلی السلفیة بصلة،والبعض الآخر لا یأخذ من السلفیة إلی بعدها التکفیری.

من هنا وجب التمییز بین هذه المسمیات.

وفی هذه الإشارات نکتفی بالخطوط العریضة لما به التمایز بین مختلف الجماعات المحاربة،مبتدئین بنقطة انطلاق هذه الجماعات و هو الفکر القطبی المتأخر.

من اعتذاریة حسن البنّا إلی التکفیریة القطبیة

من أهمّ الجماعات الإسلامیة التی برزت فی القرن العشرین،جماعة الإخوان المسلمین الذی أسّسها الشیخ حسن البنّا،باستیحاء واضح من الصوفیة،وبنظرة إصلاحیة غیر بعیدة عن فکر روّاد النهضة الإسلامیة.و قد کان منهجه الاعتدال واجتناب التکفیر،وسار علی ذلک معظم من جاء بعده فی قیادة هذه الجماعة.إلا أنّ الاضطهاد الذی تعرّضت إلیه هذه الجماعة،خاصة فی ستینات القرن الماضی،قد دفع بها إلی أحضان السلفیة الوهابیة بالتدریج.فاعتنق بعض قادتها العقیدة الوهابیة،وهم فی غیاهب السجون أو فی المنفی.

ص:459


1- (1) .کشف الارتیاب:112-117.

فنشأ من ذلک تیار تکفیری جمع بین نظریة التنظیم الإخوانی و السلفیة التکفیریة.

وبعد إعدام سید قطب 1966م،قام بعض أنصاره بتأویل وتفسیر آخر کتبه وخاصّة معالم فی الطریق،بشکل جعلوا منه مرجعاً تکفیریاً من الدرجة الأولی.

و قد سمّی هذا التیار بادئ الأمر بالقطبیین،تمییزاً لهم عن بقیة الإخوان المسلمین.

من القطبیین إلی الجماعات المحاربة

من هذا التیار نشأت حرکة تکفیریة تتبنی مفهوم الهجرة المعنویة،و قد سمّت نفسها حرکة التفکیر فی الهجرة. (1)وبعد تفکیک هذه الجماعة،تکاثرت التنظیمات المشابهة التی اعتنقت مبدأ تکفیر المجتمع،والدعوة إلی محاربة رموز الفساد فیه،بالاغتیال ونحوه.

و هذه الجماعات هی التی ظهرت فی أفغانستان فی ظلّ التعبئة و الجهاد ضدّ الغزو السوفیتی،ثمّ فی الجزائر،وأخیراً فی العراق و الشرق عموماً تحت عناوین ورایات سیاسیة متنوعة.

وتتلقّی هذه الجماعات الدعم المباشر من الوهابیة رغم ما تسببه من إحراج کبیر للدولة الحامیة لها.

وسبب هذا الدعم هو حرص الوهابیة علی توظیف هذه الجماعات فی الصراع ضدّ أعدائها العقائدیین للوهابیة،مثل الشیعة و الصوفیة.

3-الاستعمار واختراق الجماعات التکفیریة

تحصّل ممّا تقدّم،أنّ ظاهرة المقاومة الصوفیة للغزو الأجنبی،قد أقضّت مضاجع المستعمر بعد أن ظنّ أنّه من السهل بسط نفوذه علی العالم الإسلامی برمّته, لذا فقد کان من الطبیعی أن یفکّر منظرو الاستعمار فی الاستفادة من کلّ ظاهرة ثقافیة معادیة

ص:460


1- (1) .أطلق علیها رجال الأمن المصریین اسم حرکة التکفیر و الهجرة،بعد قیامها باغتیال الشیخ الذهبی،وزیر الأوقاف المصری.

للتصوّف ولأهله،علاوة علی المحاربة المباشرة للطرق الصوفیة بالأسالیب التی مرّ ذکرها فی الفصل السابق.

علاوةً علی هذا،فقد کان نجاح الثورة الإسلامیة فی إیران،ودخول الشیعة الإمامیة إلی معترک الصراع الدولی،وتزعمهم حرکة المقاومة الشاملة ضدّ الاستعمار الجدید بجمیع أشکاله الاقتصادی و السیاسی و الثقافی،حافزاً إضافیاً لمنظری حرکة العولمة الجدیدة لتوجیه کلّ الطاقات نحو دعم خصوم الشیعة التاریخیین،أی السلفیة التکفیریة،وتحویلهم إلی أعداء تکفیریین محاربین.

من هنا کان استخدام ظاهرة الخوارج الجدد بأشمل معانیها،التی تضمّ الوهابیة و الجماعات التکفیریة الأُخری،من أهمّ الأسالیب التی نجحت أیادی الاستعمار فی توظیفها دون أیة مجازفة سیاسیة ولا مخاطرة استثماریة مالیة.

أمّا عن غیاب المجازفة السیاسیة فی هذا التوظیف،فمردّه بُعد هذه الجماعات عن کلّ شبهة،وسلامة أعضائها وقادتها عموماً من السوابق السیاسیة السیئة. (1)

و أمّا غیاب المخاطرة المالیة،فسببه تأسیس دول قویة وثریة تکفّلت بحمایة الدعوة الوهابیة وتمویل أجهزة دعایتها ومدارسها وبعض المؤسّسات الخیریة التی تدعم نشاطها.

وکثیراً ما کانت هذه الأجهزة و المؤسّسات تتجاوز الحدود الطبیعیة لعملها،وتنفق بسخاء علی بعض الجماعات التکفیریة الأُخری حتّی و إن لم یکن ذلک برضا الدولة الحامیة بالضرورة.

ص:461


1- (1) .عدا ما ینسبه إلیه أعداؤهم من علاقات مشبوهة مع بعض عملاء الاستخبارات البریطانیة.و هذا أمر یصعب إثباته علمیاً،حتّی ولو ادّعی وجوده ضمن مذکّرات بعض العملاء.مثل مذکرات مستر همفر،وغیرها ممّا لا یمکن اعتباره سنداً علمیاً.و قد یکون تسریب مثل هذه(الاعترافات)أو(المذکرات)،من باب الدسّ و الوقیعة التی تدخل ضمن الشحن الطائفی،فلهذه المذکرات وأمثالها،نظائرها لدی الطرف المقابل, وهی تمسّ شخصیات مرموقة جداً لدی شتی الطوائف الإسلامیة.

وهکذا تشکّلت مختلف الجماعات دون الحاجة إلی تمویل استخباراتی أجنبی قد یعتبر مجازفة غیر محسوبة.

والحقیقة أنّ هذا البعد قد أمّن الاستقلالیة النسبیة لمعظم هذه الجماعات،ممّا جعل تحرّکاتها غیر قابلة للضبط أحیاناً.و هذا ما حدا بمعظم الأجهزة الاستخباراتیة الغربیة إلی التدخل المباشر لتوجیه عمل أهمّ هذه الجماعات عن طریق الاختراق الأمنی (1)بجمیع أشکاله.و قد شکّلت الساحة الأفغانیة فی ثمانینات القرن الماضی،ثمّ الساحة الجزائریة فی تسعیناته،وأخیراً الساحة العراقیة فی السنوات الأخیرة،أهمّ مظاهر نجاح هذه الاختراقات.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمین

تمّت مراجعته الأخیرة بحمد الله فی22ربیع الثانی1430ه

شکیب بن بدیرة الطبلبی

ص:462


1- (1) .اتّخذ الاختراق شکلین رئیسیین: أولهما:کسب بعض الزعامات وتجنیدها بعد تضخیم حجمها المالی،بحیث تستطیع السیطرة علی الجماعة وتوجیهها. ثانیهما:تسریب بعض أهل الخبرة المیدانیة من العملاء المتمرسین بالعمل العسکری و الأمنی وتهیئتهم التغلغل فی تنظیمات تلک الجماعات،وتحمل أدقّ المسؤولیات فیها وأخطرها.

أسئلة عامّة للمراجعة

1.ما هو الفرق بین التصوّف الشعبی و العرفان النظری؟

2.حلّل ظروف انتقال التصوّف من الفردانیة التربویة إلی الحالة الجهادیة.

3.حلّل الفوارق بین علاقة الأستاذ بتلمیذه و علاقة الشیخ بمریده.و بین اللوازم التعبویة لهذه الفوارق.

4.هل کان ابن تیمیة سلفیاً حقّاً؟لماذا؟

5.ما هی أسباب ضعف السلفیة طیلة القرون الوسطی الإسلامیة؟

6.هل یمکن اعتبار الحرکة الوهابیة حرکة إصلاح دینی؟لماذا؟

7.کتب أحمد أمین عن الوهابیة ومؤسّسها،ضمن کتابه زعماء الإصلاح فی العصر الحدیث،ما هی خلفیة هذا العمل؟

8.هل کان بإمکان حرکة الإخوان المسلمین أن تنجوا من أحابیل السلفیة التکفیریة؟لماذا؟

9.قارن بین ظاهرتی الاختراق الاستعماری للظاهرتین الصوفیة و السلفیة.

10.حلّل وناقش:إنّ النجاح فی مقاومة حرکة العولمة الاستعماریة المعاصرة،مرتهن بتحقق عدّة شروط أوّلها:إسکات أبواق التفسیخ وإحیاء الدعوة الوحدویة الإسلامی.

ص:463

ص:464

المصادر

القرآن الکریم.

1.الآبی الأزهری،صالح عبد السمیع:الثمر الدانی،نشر المنار،تونس.

2.آل کاشف الغطاء،محمّد حسین:أصل الشیعة وأصولها،مؤسسة الإمام علی علیه السلام،ط 1415،2ه.

3.الأصفهانی،علی الفانی:آراء حول القرآن،المطبعة العلمیة-قم،بدون تاریخ.

4.الأصفهانی،الحسین بن محمّد بن المفضل:مفردات القرآن الکریم،دار الفکر،بیروت،2006م.

5.الأمین،محسن:أعیان الشیعة،دار التعارف للمطبوعات،بیروت.

6.الأمین،محسن:کشف الارتیاب فی أتباع محمّد بن عبد الوهّاب،الطبعة الثانیة 1952م،مکتبة الحرمین-قم،1382ه..

7.الأمینی،عبد الحسین:الغدیر،11 ج،الطبعة الثانیة،دارالکتاب العربی،بیروت،1387ه..

8.الأنصاری الهروی،عبد الله:منازل السائرین،نشر بیدار،قم 1414ه..

9.الأنصاری،مرتضی:رسائل فقهیة،نشر المؤتمر العالمی بمناسبة الذکری المئویة الثانیة لمیلاد الشیخ الأنصاری-قم 1414ه..

10.ابن أبی الحدید،عبد الحمید بن هبة الله:شرح نهج البلاغة،بتحقیق محمد أبو الفضل إبراهیم،دار إحیاء الکتب العربیة-عیسی البابی الحلبی وشرکاه،ط 1967،2م.

11.ابن الأثیر،محمّد بن محمّد بن عبد الکریم الشیبانی:الکامل فی التاریخ،دار صادر،بیروت 1965م.

12.ابن إدریس الشافعی،الإمام محمّد:الأم،دارالفکر،بیروت 1403ه..

ص:465

13.ابن أنس الأصبحی،الإمام مالک:المدونة الکبری،دار إحیاء التراث العربی،بیروت 1323ه..

14.ابن بابویه،محمّد بن علی بن الحسین(الصدوق):أمالی الصدوق،مؤسسة الأعلمی المطبوعات،بیروت 1400.

15.ابن بابویه،محمّد بن علی بن الحسین(الصدوق):التوحید،تحقیق السید هاشم الحسینی الطهرانی،دار المعرفة،بیروت.

16.ابن بابویه،محمّد بن علی بن الحسین(الصدوق):الخصال،الطبعة الخامسة،المکتبة الإسلامیة،طهران 1351ه..

17.ابن بابویه:أبو الحسن علی بن الحسین:الإمامة و التبصرة،نشرمدرسة الإمام المهدی،قم 1404ه..

18.ابن بدیرة الطبلبی،شکیب:الأسس النظریة للتجدید الکلامی،منشورات إحیاء الاجتهاد،بیروت 1430ه..

19.ابن بدیرة الطبلبی،شکیب:أطوار الاجتهاد ومناهجه،(ج 6،3،2،1)،منشورات إحیاء الاجتهاد،بیروت 1429ه..

20.ابن بدیرة الطبلبی،شکیب:بحوث وحدویة فی أصول الطائفیة،(ج 3،2،1)منشورات إحیاء الاجتهاد بیروت1430ه..

21.ابن بدیرة الطبلبی،شکیب:تحیین موجز لأصول الفقه المالکی،منشورات دار المتوسط الجدید(قید الطبع).

22.ابن بدیرة الطبلبی،شکیب:حاشیة علی سفر التکامل الکلامی،منشورات إحیاء الاجتهاد،بیروت 1430ه..

23.ابن بدیرة الطبلبی،شکیب:قراءة فی سفر التکوین الکلامی،منشورات إحیاء الاجتهاد،بیروت 1430ه..

24.ابن بدیرة الطبلبی،شکیب:مدخل مناهجی إلی علم الکلام،منشورات إحیاء الاجتهاد،بیروت 1430ه..

25.ابن بدیرة الطبلبی،شکیب:مراجعات فی فقه الخمس،نشر دار المتوسط الجدید،طبلبة،تونس2010.

26.ابن بدیرة الطبلبی،شکیب:مقدّمات فی علم الکلام الوحدوی،منشورات إحیاء الاجتهاد،بیروت 1430ه..

ص:466

27.ابن بدیرة الطبلبی،شکیب:المنطاد فی توضیح جبروت الاقتصاد،قم 1998م.

28.ابن تیمیة الحرانی،أحمد:منهاج السنّة،مؤسسة قرطبة 1406ه..

29.ابن الحجاج النیسابوری،الإمام مسلم:الجامع الصحیح،دار الفکر،بیروت, لبنان.

30.ابن حجر العسقلانی،شهاب الدین:فتح الباری شرح صحیح البخاری،الطبعة الثانیة،دارالمعرفة،بیروت.

31.ابن حجر العسقلانی،شهاب الدین:لسان المیزان،مؤسسة الأعلمی،بیروت 1406ه..

32.ابن حنبل الشیبانی،الإمام أحمد:مسند الإمام أحمد،دارإحیاء التراث العربی،7 مجلدات.

33.ابن حنبل الشیبانی،الإمام أحمد:العلل ومعرفة الرجال،3 أجزاء،المکتبة الإسلامیة،بیروت،دارالخانی،الریاض.

34.ابن خلکان،القاضی:وفیات الأعیان،دارالثقافة،بیروت.

35.ابن رشد،أبو الولید:تهافت التهافت،دارالفکر،بیروت.

36.ابن رشد،أبو الولید:فصل المقال فی ما بین الشریعة و الحکمة من اتصال،دار الفکر،بیروت.

37.ابن رشد،أبو الولید:بدایة المجتهد ونهایة المقتصد،دارالفکر،بیروت 1415ه..

38.ابن الصباغ المالکی المکی،محمّد بن أحمد:الفصول المهمّة فی معرفة الأئمّة،دار الحدیث للطباعة و النشر،قم 1422.

39.ابن العربی،الشیخ محی الدین محمّد بن علی:الفتوحات المکیة،دار صادر،بیروت.

40.ابن کثیر،إسماعیل بن کثیر:البدایة و النهایة،دار إحیاء التراث العربی،بیروت،الطبعة الأولی 1988م.

41.ابن ماجه،محمّد بن یزید:السنن،تحقیق محمّد فؤاد عبد الباقی،2ج،دارإحیاء التراث العربی،بیروت.

42.ابن منظور،جمال الدین محمّد بن مکرم،لسان العرب،دارإحیاء التراث العربی،ط 1،بیروت 1988م.

43.ابن خلدون،عبد الرحمن:المقدّمة،مؤسسة الأعلمی،بیروت 1971م.

44.ابن عبد البر،أحمد بن محمّد:الاستیعاب فی معرفة الأصحاب،دار الجیل،بیروت،الطبعة الأولی 1412ه..

45.ابن قتیبة الدینوری،أبو محمّد عبد الله:الإمامة و السیاسة،طبعة مؤسسة الحلبی.

46.أبو ریة،محمود:شیخ المضیرة أبو هریرة،دار المعارف-مصر.

ص:467

47.أبو زهرة،محمّد:الإمام مالک.

48.أبو یعلی،أحمد بن علی بن المثنی التمیمی:مسند أبی یعلی بتحقیق حسین سلیم أسد،دارالمأمون للتراث،دمشق.

49.البجنوردی،محمّد حسن:القواعد الفقهیة،نشر الهادی-قم 1419 ه..

50.البخاری،الإمام أبی عبد الله محمّد بن إسماعیل:الجامع الصحیح،دار إحیاء التراث العربی،9ج.

51.البغدادی،عبد القاهر:الفَرق بین الفِرق،المکتبة العصریة-بیروت 1416ه..

52.البیهقی،بکر أحمد بن الحسین بن علی:السنن الکبری،دار الفکر.

53.الترمذی،أبی عیسی محمّد بن عیسی بن سورة:سنن الترمذی،دار الفکر،بیروت،لبنان 1403ه..

54.التستری،محمّد تقی:قاموس الرجال،مؤسسة النشر الإسلامی التابعة لجماعة المدرسین بقم،1422ه..

55.الجاحظ،أبو عثمان عمرو بن بحر:العثمانیة،نشر مکتبة الجاحظ-مصر،1374ه..

56.الحاکم النیسابوری،الإمام أبو عبد الله:المستدرک علی الصحیحین،دار المعرفة،بیروت.

57.الحسکانی،عبید الله بن أحمد:شواهد التنزیل لقواعد التفضیل،الطبعة الأولی،مجمع إحیاء الثقافة الإسلامیة،طهران.

58.حسن خان،صدیق:حصول المأمول من علم الأصول،دار الصحوة للنشر،القاهرة،1985م.

59.الحکیم،محمّد تقی:الأصول العامّة للفقه المقارن،ط 2،مؤسسة آل البیت علیهم السلام،1979م.

60.الحلبی:السیرة الحلبیة،دار المعرفة،بیروت 1400ه..

61.الخمینی،الإمام روح الله الموسوی:الجهاد الأکبر،مستنسخات شامخ،تونس،1989م.

62.الخطیب،عبد الکریم:علی بن أبی طالب بقیة النبوّة وخاتم الخلافة،بیروت،1395ه..

63.الخوئی،أبو القاسم:معجم رجال الحدیث،ط 1413،5ه..

64.الدارقطنی،علی بن عمر:سنن الدارقطنی،دار الکتب العلمیة،بیروت،لبنان1996م.

65.الذهبی،الحافظ محمّد بن أحمد بن عثمان:سیر أعلام النبلاء،نشر مؤسسة الرسالة،بیروت،1993م.

66.الرازی،الإمام الفخر:التفسیر الکبیر،ط 3،إصدار مکتبة أهل البیت علیهم السلام.

67.الرعینی،الحطاب:مواهب الجلیل،ط 1،دار الکتب العلمیة،بیروت،1416ه..

ص:468

68.الزحیلی،وهبة:الوسیط فی أصول الفقه،دار الکتاب،دمشق.

69.الزرکلی،خیر الدین:الأعلام،دار العلم للملایین،بیروت،1980م.

70.الزمخشری:الکشاف عن حقائق التنزیل وعیون الأقاویل،البابی الحلبی،مصر،1385ه..

71.السبکی،تاج الدین عبد الوهّاب:طبقات الشافعیة الکبری،هجر للطباعة و النشر و التوزیع،1413ه..

72.السجستانی،أبو داوود:سنن أبی داوود،دار إحیاء التراث العربی،4 ج.

73.السیوطی،جلال الدین عبد الرحمن:الأشباه و النظائر،إصدار المکتبة الإسلامیة الشاملة،1959م.

74.شرف الدین،الإمام عبد الحسین:النصّ والاجتهاد،مؤسسة الأعلمی،بیروت،1979م.

75.شرف الدین،الإمام عبد الحسین:المراجعات،طبع الجمعیة الإسلامیة،بیروت1982م.

76.شرف الدین،الإمام عبد الحسین:أجوبة مسائل موسی جار الله،مؤسسة الأعلمی،بیروت،1979م.

77.شرف الدین،الإمام عبد الحسین:الفصول المهمّة فی تألیف الأمّة،طبعة دار البعثة،ط 1.

78.شرف الدین،الإمام عبد الحسین:أبو هریرة،مؤسسة الأعلمی،بیروت.

79.شعبان،زکی الدین:أصول الفقه الإسلامی،دار الکتاب الجامعی-القاهرة،1983م.

80.الشهرستانی،عبد الکریم:الملل و النحل،تحقیق:سید محمّد گیلانی،2ج،دار المعرفة،بیروت،1961م.

81.الشهرستانی،علی:منع تدوین الحدیث،ط 1،دار الغدیر،قم،1425ه..

82.الشهرستانی،علی:وضوء النبی،ط 1،مطبعة ستاره،قم،1415ه..

83.الشوکانی،محمّد بن علی:إرشاد الفحول علی تحقیق الحقّ من علم الأصول،ط 1937،1م.

84.الشوکانی،محمد بن علی:نیل الأوطار،دار الجیل،بیروت1973م.

85.صالح،محمّد أدیب:مصادر التشریع الإسلامی،المطبعة التعاونیة،دمشق 1968م.

86.الصالحی الشامی،محمّد بن یوسف:سبیل الهدی و الرشاد،دارالکتب العلمیة،بیروت،1414ه..

87.الصدر،محمّد باقر:دروس فی علم الأُصول،الطبعة الثانیة،دار الکتاب اللبنانی،بیروت.

88.الصدر،محمّد باقر:بحوث فی علم الأصول،ج 7(تعارض الأدلّة الشرعیة)بتقریر السید الهاشمی،نشر المجمع العالمی للصدر،1405ه..

ص:469

89.الصفدی،خلیل بن أیبک بن عبد الله:الوافی بالوفیات،دار إحیاء التراث العربی،بیروت،1420ه..

90.الطباطبائی،محمدحسین:المیزان فی تفسیرالقرآن،مؤسسة الأعلمی للمطبوعات،بیروت،1393ه..

91.الطبرانی،سلیمان بن أحمد:المعجم الکبیر،الطبعة الثانیة،دار إحیاء التراث العربی.

92.الطبرسی،أحمد بن علی بن أبی طالب:الاحتجاج علی أهل اللجاج دار النعمان للطباعة و النشر،النجف الأشرف،1386ه..

93.الطبرسی،الفضل بن الحسن:مجمع البیان،تحقیق السید هاشم الرسولی،دار إحیاء التراث العربی،بیروت،1379ه..

94.الطبری،جعفر محمّد بن جریر:تاریخ الأمم و الملوک،دار الأعلمی،بیروت.

95.عبده،الإمام محمّد:نهج البلاغة،دار الذخائر،قم،1412.

96.العجلانی،منیر:عبقریة الإسلام فی أصول الأحکام،دار النفائس،بیروت1985م.

97.العسقلانی،شهاب الدین ابن حجر،فتح الباری شرح صحیح البخاری،الطبعة الثانیة،دارالمعرفة،بیروت.

98.العسکری،مرتضی،عبد الله بن سبأ،نشر توحید،1413ه..

99.العلوانی،طه جابر فیاض،أدب الاختلاف فی الإسلام،سلسلة کتاب الأمة1981م.

100.عمارة،محمّد:الجهاد،طبع دار الجدید،تونس،1983م.

101.العیینی:عمدة القاری،دار إحیاء التراث العربی،بیروت.

102.الغزالی،الإمام أبو حامد:إحیاء علوم الدین،بیروت،دار المعرفة،ج1.

103.الغزالی،الإمام أبو حامد:سر العالمین،طبعة دار الحکمة،دمشق.

104.الفارابی،أبو النصر محمّد بن طرخان:إحصاء العلوم،تحقیق:عثمان أمین،الطبعة الثانیة،مکتبة الأنجلو المصریة،القاهرة،1966م.

105.فیروز آبادی،مرتضی الحسینی الیزدی:عنایة الأصول فی شرح کفایة الأصول،منشورات الفیروز آبادی،ط 7،قم،1385-1386ه..

106.الکلینی،محمّد بن یعقوب:الکافی،تحقیق وتعریب نجم الدین الآملی،دار الکتب الإسلامیة،طهران،1388ه..

107.کوربن،هانری:تاریخ الفلسفة الإسلامیة،ترجمة دکتور أسد الله مبشری،الطبعة الثالثة،أمیرکبیر،طهران،1361ه..

ص:470

108.کوربن،هانری:فی الإسلام الإیرانی(بالفرنسیة)،ترجمة دکتور أسد الله مبشری،الطبعة الثالثة،أمیرکبیر،طهران،1361ه..

109.المازندرانی،محمّد صالح:شرح أصول الکافی،دار إحیاء التراث العربی،بیروت.

110.مبارک،زکی:التصوّف الإسلامی،مطبعة الرسالة،1357ه..

111.المجلسی،محمّد باقر:بحار الأنوار،دار الکتب الإسلامیة،طهران 1363 ه.ش.

112.المرتضی،علی بن الحسین:أمالی السید المرتضی،تحقیق السید محمّد بدر الدین النعسانی الحلبی،2ج،مکتبة آیة الله المرعشی،قم،1403ه..

113.المرتضی،الشریف علی بن الحسین:الذریعة إلی أصول الشریعة،تحقیق أبو القاسم الگرجی،2ج،الطبعة الثانیة-جامعة طهران،1363ه..

114.مصباح یزدی،محمّد تقی:دروس فی العقیدة الإسلامیة،ط 1،دارالحق،بیروت،لبنان،1994م،1415ه..

115.المطهری،مرتضی:فی رحاب نهج البلاغة،دار التبلیغ،قم.

116.المطهری،مرتضی:إیران و الإسلام،طبعة منظمة الإعلام الإسلامی.

117.المظفر،محمّد رضا:أصول الفقه،مؤسسة النشر الإسلامی التابعة لجماعة المدرسین بقم.

118.مشترک(1):تاریخ التشریع الإسلامی،عبد اللطیف محمّد السبکی،محمّد علی السایس،محمّد یوسف البربری،مطبعة الاستقامة-القاهرة،1946م.

119.مشترک(2):الفلسفة العربیة تألیف جماعی(منیة المحروس،إسماعیل الصالح،محمّدمصباح الطّواشی).نشر المؤسسة العامّة للمطبوعات و الکتب المدرسیة،دمشق،2004م.

120.مشترک(3):الفلسفة فی إیران مجموعة مقالات فلسفیة،حکمت،طهران.

121.مشترک(4):المذاهب الإسلامیة الخمسة،ط 1،مرکز الغدیر،1419.

122.مشترک(5):مقدّمات للتفسیر التکاملی للترقی والانحطاط،تقریر شکیب بن بدیرة تصویر منشورات شامخ طبلبة،تونس،1991م.

123.مشترک(6):المنجد فی الأعلام،المطبعة الکاثولیکیة،بیروت.

124.مغنیة،محمّد جواد:الشیعة و الحاکمون،دارالجواد،بیروت،1979م.

125.مغنیة،محمّد جواد:الشیعة فی المیزان،دار الجواد،بیروت.

126.مغنیة،محمّد جواد:نظرات فی التصوّف و الکرامات،منشورات المکتبة الأهلیة،بیروت.

127.المفید،الشیخ محمّد بن النعمان:المسائل العکبریة،دار المفید للطباعة و النشر،بیروت،1414ه..

ص:471

128.المفید،الشیخ محمّد بن النعمان:المسائل الجارودیة،دار المفید للطباعة و النشر،بیروت،1414ه..

129.المیدانی،عبد الرحمن حبنکة:ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال و المناظرة،دار القلم،دمشق،1414ه..

130.المیلانی،علی الحسینی:حدیث الدار،مرکز الأبحاث العقائدیة،قم،1421ه..

131.النبهانی،یوسف بن إسماعیل:شواهد الحقّ فی الاستغاثة بسید الخلق صلّی الله علیه و آله،دار الکتب العلمیة للنشر،بیروت،2003م.

132.النراقی،محمّد مهدی:جامع السعادات،ط 2،دارالتفسیر،قم،1423ه..

133.النشار،علی سامی:نشأة التفکیر الفلسفی فی الإسلام،نقلا عن مشترک(5).

134.النسائی،عبد الرحمن أحمد بن شعیب:السنن الکبری،ط 1،دارالکتب العلمیة،بیروت،لبنان،1991م.

135.النوری،میرزا حسین:مستدرک الوسائل،مؤسسة أهل البیت لإحیاء التراث-بیروت،1408ه.

136.النیسابوری،أبی الحسن علی بن أحمد:أسباب نزول الآیات،الحلبی للنشر و التوزیع،1388ه..

137.نیکلسون:الصوفیة فی الإسلام،تعریب نور الدین شریبة،بیروت،1951م.

138.هادی،جعفر:محاضرات فی الفرق الإسلامیة،کراسات الحوزة العلمیة فی قم،1414ه..

139.الهندی،علاء الدین علی المتقی:کنز العمال،مؤسسة الرسالة،بیروت،1989م.

140.الواحدی،علی بن أحمد:أسباب نزول الآیات،الحلبی للنشر و التوزیع،1388ه،1968م.

141.الیعقوبی،أحمد بن أبی یعقوب بن جعفر بن وهب:تاریخ الیعقوبی،دار صادر،بیروت.

ص:472

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.