قبسات من البحث العلمی: اسئلة و ردود فی مجال الدین والفکر والعقیدة

اشارة

عنوان قراردادی:پرتو پژوهش ( پاسخ به پرسش های دینی). عربی

عنوان و نام پدیدآور:قبسات من البحث العلمی: اسئلة و ردود فی مجال الدین والفکر والعقیدة/ معاونیةالبحوث والدراسات التابعة لمجمع التعلیم العالی للفقه؛ تعریب رعد الحجاج.

مشخصات نشر:قم: مرکزالمصطفی(ص) العالمی للترجمه والنشر، 1432 ق.-= 1390 -

مشخصات ظاهری:ج.

فروست:مرکزالمصطفی العالمی للترجمة والنشرالتابعة لجامعةالمصطفی العالمیة؛ 273

شابک:دوره:978-964-195-368-5 ؛ 43000 ریال: ج.1:978-964-195-369-2

وضعیت فهرست نویسی:فاپا

یادداشت:عربی.

یادداشت:کتابنامه.

موضوع:اسلام -- پرسش ها و پاسخ ها

شناسه افزوده:حجاج، رعد، مترجم

شناسه افزوده:مجتمع آموزش عالی فقه(قم). معاونت پژوهش

شناسه افزوده:جامعة المصطفی(ص) العالمیة. مرکز بین المللی ترجمه و نشر المصطفی(ص)

رده بندی کنگره:BP12/پ36043 1390

رده بندی دیویی:297/076

شماره کتابشناسی ملی: 2319331

ص :1

تقدیم

بدأ التساؤل یظهر لدی الإنسان منذ باکورة الخِلقة، فرفَع الملائکة إلی مقامٍ سامٍ، وأنزل الشیطان إلی وادٍ سحیق، وأوصَل الإنسان إلی مقامِ الإنسانیّة.

وفی هذا المجال، قال رسول الله صلی الله علیه و آله:

«حُسنُ السؤالِ نصفُ العلمِ».

کما قال أمیر المؤمنین علیه السلام:

«مَن أَحسَنَ السّؤالَ عَلِمَ» ، و

«مَن عَلِمَ أَحسَنَ السّؤالَ».

وعلی هذا الأساس، قام قِسمُ الردّ علی الشبُهات الدینیّة، فی معاونیّة البحوث والدراسات التابعة لمجمَع التعلیم العالی للفقه، بمساعدتنا علی إظهار هذا الکتاب فی حلّته الجدیدة، علی شکلِ أسئلةٍ و ردود.

ومن هنا، نری من اللازم علینا أن نُثنی علی جمیع الموظّفین الکرام، وخاصّةً أعضاء اللجنة العلمیّة للفلسفة والکلام، والرابطة العلمیّة للکلام الإسلامیّ، الذین بذلوا جهوداً حثیثةً فی هذا المضمار، سائلین المولی العلیّ القدیر أن یَهبَهم مزیداً من النجاح والتوفیق.

علی أنّنا عازمون، بمشیئة الله تعالی وعنایته وفی ظلّ ألطاف بقیّة الله الأعظم عجل الله تعالی فرجه الشریف - علی المضیّ قُدُماً فی إخراج باقی حلَقَات هذه السلسلة، وتقدیمها إلی الأحبّة، من عشّاق طریق العلم والمعرفة، راجین تزویدنا بمقترحاتکم وانتقاداتکم البنّاءة؛ فی سبیل الارتقاء بالکتاب إلی المستوی المنشود.

ومن الله التوفیق

معاونیّة البحوث والدراسات التابعة لمَجمَع التعلیم العالی للفقه

ص:2

ص:3

هویة الکتاب

عنوان و نام پدیدآور: قبسات من البحث العلمی: اسئله و ردود فی مجال الدین والفکر والعقیده/ معاونت پژوهش مجتمع آموزش عالی فقه؛ [مترجم] رعد الحجاج.

مشخصات نشر: قم: مرکز بین المللی ترجمه و نشر المصطفی صلی الله علیه و آله، 1390 -

شابک: (ج 1) 5-368-195-964-978 (دوره) 5-368-195-964-978

وضعیت فهرست نویسی: فیپا

یادداشت: عربی

یادداشت: کتاب حاضر ترجمه عربی از کتاب "پرتو پژوهش (پاسخ به پرسش های دینی)" است.

عنوان دیگر: پرتو پژوهش (پاسخ به پرسش های دینی)

موضوع: اسلام: - پرسش ها و پاسخ ها

شناسه افزوده: حجاج، رعد، مترجم

شناسه افزوده: مجتمع آموزش عالی فقه (قم). معاونت پژوهش

رده بندی کنگره: 1390 36041 پ/ 12 BP

رده بندی دیویی: 297/076

شماره کتابشناسی ملی: 2319331

قَبَسات من البحث العلمیّ

أسئلةٌ وردودٌ فی مجالِ الدینِ والفکرِ والعقیدة (1)

المؤلّف: معاونیّة البحوث والدراسات التابعة لمَجمَع التعلیم العالی للفقه

تعریب: رعد الحجاج

الطبعة الاولی: 1432 ق / 1390 ش

النّاشر: مرکز المصطفی صلی الله علیه و آله العالمی للترجمة والنشر

المطبعة: توحید السّعر: 43000 ریال عدد النسخ: 2000

حقوق الطبع محفوظة للناشر

التوزیع:

قم، استدارة الشهداء، شارع الحجتیّة، معرض مرکز المصطفی صلی الله علیه و آله العالمی للترجمة والنشر. الهاتف - الفکس: 02517730517

قم، شارع محمّد الأمین، تقاطع سالاریة، معرض مرکز المصطفی صلی الله علیه و آله العالمی للترجمة والنشر. الهاتف: 02512133106 - الفکس: 02512133146

www.miup.ir www.eshop.miup.ir

E-mail: admin@miup.ir

، root@miup.ir

ص:4

کلمة الناشر

(الحَمدُ لِلّهِ الَّذِی أَنزَلَ عَلی عَبدِهِ الکِتابَ وَ لَم یَجعَل لَهُ عِوَجاً) والصلوة والسلام علی النبیّ الأمین محمّد صلی الله علیه و آله وآله الهداة المهدیین وعترته المنتجبین واللعن الدائم علی أعدائهم أعداء الدین.

لقد شهدت علوم الدین مدی أربعة عشر قرناً علی طیلة تاریخها العلمی المشرف مستویً من التغیّر المستمرّ فی الحرکة إلی الأمام علی صعید الثقافة والحضارة الإسلامیة فأوجد تطوّراً منهجیّاً فی العلوم الرئیسة المختصّة بالشریعة ک -: الفقه الاسلامی وعلم الکلام والفلسفة والأخلاق... وتبعاً لهذا الجانب ترک التطوّر انطباعا موازیاً بیّنا فی العلوم الأدواتیة ک -: المنطق وعلم الرجال والحقوق....

وفی ضوء انتصار الثورة الإسلامیة الإیرانیة المعظمّة وحدثها الداعی إلی رؤیة دینیة حدیثة فی نطاق الحکم بغضون القرن الداعی إلی الإنفلات من ظلّ الدین والأیدیولوجیة الدینیة وما یعرض فی مسرح أحداثه من تطوّر فی مسار نظریّات العلاقات الدولیة أو تصاعد الأسلئة المعرفیّة المتعلّقة بمفهوم الوجود ومستلزماته الشاغلة لذهن الإنسان الحاضر وکذلک ما حصل من توسّع لدی علم

ص:5

الوجود الإنسانی فی ظلّ الأحداث والمتغیرات المعنیة بهذا الجانب؛ جعلت المفکّر الإسلامی فی أعلی مستوی من المسؤولیة أکثر ممّا سلف خاصّة فی الدول الإسلامیة التی باتت فی محاولة ضروریة لمواجهة الشعارات الخوّاء فی عصر العولمة فی ضوء التدقیق والملاحظة والنقد البنّاء لاجتیاح أیّ فقرة یخشی أن تسبّب مشکلات فی مقتبل الأیام.

ومن هذا المنطلق یتطلّب الصعید الحوزوی النیّر لضرورة الوقوف علی آخر المستجدّات الفکریة فی حقولها المتعدّدة والاستعانة بضروب من التحقیق العلمی الرصین بمعاییر عالمیة حیّة لتوظَّف فی نطاق الدین والشریعة للإجابة علی المتطلّبات العصریة والمنطلق الداعی إلی التکامل والتعالی فی ظلّ الدین والتزام نظامه فی العلم والحیاة من جهة أخری حیث یتطلّب الأمر من الحوزة العلمیة مسؤولیة وضع حدّ لردع الجانب العولمی وتبعاته المنحطّة علی الإنسان بلحاظه العام.

وقد کانت رؤیة التصدّی لهذا الأمر فی عنایة من مؤسسی الحوزة العلمیة هذه الشجرة الطیبة الذی (أَصلُها ثابِتٌ وَ فَرعُها فِی السَّماءِ) ، سیّما الإمام الخمینی رحمه الله الراحل وقائده المبجّل الإمام السیّد علی الخامنئی دام ظله الوارف فی الوقت الراهن.

وقد سعت جامعة المصطفی صلی الله علیه و آله العالمیة فی ضوء ما تقدم لنیل النجاح فقامت بإرساء مرکز المصطفی صلی الله علیه و آله العالمی للترجمه والنشر حیث تکفّل بنشر نتاج هذا الجانب العلمی الهامّ.

وإنّ هذا الدراسة قَبَسات من البحث العلمیّ جاءت بجهود فضیلة الأستاذ رعدالحجاج متوافقة مع نسق الرؤیة السائدة المتّبعة وهذه الأهداف السامیة.

کما ندعو أصحاب الفضیلة والاختصاص بما لدیهم من آراء بنّاءة

ص:6

وخبرات علمیة ومنهجیة حصریة بالمساهمة معنا والمشارکة فی نشر علوم أهل البیت علیهم السلام.

وختاما لیس لنا إلّا تقدیم الشکر الجزیل لکافّة المساهمین الکرام بجهودهم الخاصّة بإعداد الکتاب للطباعة والنشر.

مرکز المصطفی صلی الله علیه و آله العالمی للترجمة والنشر

ص:7

ص:8

الفهرس

حاجة الدین إلی مُفسّر ومُتوَلٍّ 17

مصادر للمطالعة 22

الحدیث الختامیّ 22

سُبُل التخلّص من الهواجِس الفِکریّة للیافعین والشباب 23

1. تحصیل العلم 26

2. التفکّر 26

3. الإیمان 27

4. العمل 27

مصادر للمطالعة 29

الحدیث الختامیّ 29

الحدّ الأقلّ والحدّ الأکثر من البصیرة فی الدین 31

أ) الردّ علی سؤال الحد الأقلّ والحدّ الأکثر من الدین من داخل الدین نفسه 31

ب) تفسیر الحدّ الأقلّ والحدّ الأکثر من خارج نطاق الدین 35

مناقشة رؤیة الحدّ الأکثر من الدین 37

مناقشة رؤیة الحدّ الأقلّ من الدین 38

مصادر للمطالعة 41

الحدیث الختامیّ 41

حریّة العقیدة فی الإسلام وحُکمُ الارتداد 43

صدق المرتد 47

مصادر للمطالعة 51

الحدیث الختامیّ 51

ص:9

علّة الاختلاف بین الناس 53

تمهید 53

الاختلافات من وجهة نظر القرآن 54

الأسباب الأُخری للاختلافات البشریّة 57

خلاصة واستنتاج 59

مصادر للمطالعة 60

الحدیث الختامیّ 61

علم الله بمستقبل الإنسان ومسألة الاختیار 63

النظریّات المختلفة فی قضیّة الجبر والاختیار 65

نظریة الشهید المطهری رحمه الله 67

مناقشة الاستدلال 68

مصادر للمطالعة 71

الحدیث الختامیّ 71

علاقة الإنسان بالقضاء والقدر 73

أهمیّة مسألة القضاء والقدر 74

خلفیّة بحث القضاء والقدر عند المسلمین 74

القضاء والقدر لغةً 77

القضاء والقدَر اصطلاحاً 77

السبب فی غموض المسألة 78

الجبر عند المادیّین 79

نتائج نظریّة الجبر 80

أسباب قول بعض الإلهیّین بالجبر 81

نظریّة التفویض 82

نتائج هذه النظریّة 83

النظریّة الثالثة: الأمرُ بین الأمرَین 84

شرح هذه النظریّة فی عدّة نقاط 84

مصادر للمطالعة 88

الحدیث الختامیّ: 88

اختیار الإنسان والتأثیر الوراثیّ 89

الخلفیّة التاریخیّة 90

مفهوم الجبر والاختیار 91

البیئة والوراثة 93

الحلّ 94

ص:10

1. جهود المصلحین 95

2. تأثیر البیئة والوراثة علی بعض الأفعال 96

3. البیئة والوراثة علّة ناقصة 97

النتیجة 98

مصادر للمطالعة 99

الحدیث الختامیّ 99

إشکالیّة لیلة القدر واختیار الإنسان 101

مقاربات مختلفة فی مسألة الجبر والاختیار 102

الردّ الأوّل: 103

مناقشة الرد الأوّل 103

الردّ الثانی 104

الرد الخاصّ 106

والنتیجة التی نخلص إلیها کالتالی: 108

مصادر للمطالعة 109

الحدیث الختامیّ 109

عصیان النبیّ آدم علیه السلام وخروج نسله من الجنّة 111

هل یعصی آدم علیه السلام أم لا؟ 112

مقدّمة 112

النتیجة 114

مصادر للمطالعة 115

الحدیث الختامیّ 115

انطباق الآیة 43 من سورة التوبة علی عصمة النبیّ صلی الله علیه و آله 117

النتیجة 120

مصادر للمطالعة 121

الحدیث الختامیّ 121

تناسق الآیة 110 من سورة الکهف مع عصمة النبیّ صلی الله علیه و آله المطلقة 123

تقدیم 123

الفرق بین العصمة والعدالة 125

عدَم التنافی بین العِصمة والبشریّة 125

أنواع العصمة 127

مراتب العصمة 128

1. العصمة من المعصیة 128

2. العصمة فی تلقّی الوحی وتبلیغ الرسالة 128

ص:11

3. العصمة من الخطأ فی تطبیق الشریعة وشؤون الحیاة 128

أدلّة عصمة الأنبیاء 130

أ) الدلیل العقلیّ 130

ب) الدلیل النقلیّ 131

مفاد آیة أَنَا بَشَرٌ مِثلُکُم 134

النتیجة 135

مصادر للمطالعة 136

الحدیث الختامیّ 136

الشفاعة فی القرآن الکریم 137

التنافی بین الشفاعة مع آیة 123 من البقرة 137

شرح الموضوع 138

1. معنی الشفاعة 138

2. أقسام الشفاعة 139

3. الشفاعة فی القرآن 139

أ) الآیات النافیة للشفاعة: 140

ب) الآیات المثبتة للشفاعة: 140

آراء بعض علماء الإسلام فی الشفاعة 142

مصادر للمطالعة 144

الحدیث الختامیّ 144

علاقة الشفاعة بالوحدانیّة 145

1. نفی مطلق الشفاعة 147

2. نفی الشفاعة التی قال بها الیهود 147

3. نفی الشفاعة للکافرین 148

4. انتقاد التشفّع بالأصنام 148

5. الشفاعة المختصّة بالله 148

6. الشفاعة بإذن الله 148

7. بیان مواصفات الشُفعاء 149

الشفاعة الواقعیّة وغیر الواقعیّة 151

طلَب الشفاعة وصِلته بالوحدانیّة 151

الشفاعة عین الوحدانیّة 153

أقسام التوحید 153

النتیجة 155

مصادر للمطالعة 156

ص:12

الحدیث الختامیّ 156

صِلة الشفاعة بالسُّنَن الإلهیّة الثابتة 157

مصادر للمطالعة 160

الحدیث الختامیّ 160

المعراج والعلوم الحدیثة 161

السؤال: کیف یتناسب معراج النبیّ المصطفی صلی الله علیه و آله مع العلوم الحدیثة؟ 161

مفهوم المعراج: 161

قصّة المعراج 162

المعراج بین الجسمانیّة والروحانیّة 166

أدلّة وقوع المعراج الجسمانیّ 170

الجواب عن شُبهة المعراج والعلوم الحدیثة 171

النتیجة 176

مصادر للمطالعة 177

تفسیر سماء المعراج 179

مفهوم السماء 180

السماوات السبع 183

النتیجة 187

مصادر للمطالعة 188

الحدیث الختامیّ 188

تفضیل الأئمّة علی الأنبیاء علیهم السلام 189

1. الأدلة القرآنیّة 190

أ) الآیة المبارکة فی إمامة إبراهیم علیه السلام: 190

ب) آیة المباهلة المبارکة: 192

وجه الاستدلال 192

2. الأدلّة الروائیّة 193

القسم الأوّل: الأدلّة علی أفضلیّة علیّ علیه السلام علی البشر 193

الثانی: حدیث المحبّة 194

القسم الثانی: الأدلّة علی أفضلیّة الأئمّة علیهم السلام علی البشَر 196

آراء العلماء فی تفضیل الأئمّة علی الأنبیاء 198

أ) رأی العلاّمة الحلیّ: 198

ب) رأی المحقّق النراقیّ: 198

ج) رأی الشیخ الطبرسیّ: 199

د) رأی العلاّمة المجلسیّ: 200

ص:13

ه) رأی الحاکم الحسکانیّ: 201

الخلاصة 201

مصادر للمطالعة 202

الحدیث الختامیّ 202

عصمة الإمام علیّ علیه السلام واعترافه بالخطأ 203

أ) أقسام الخطأ ومراتب المعصیة 204

ب) المعصیة فی مقام المحبّة 205

النتیجة 208

مصادر للمطالعة 209

الحدیث الختامیّ 209

تعیین النبیّ صلی الله علیه و آله للإمام علیّ علیه السلام خلیفةً له 211

أ) اعتبار الإمام علیه السلام شخصاً مؤهّلاً ولائقاً 212

1. علیّ علیه السلام خیر البشُر 213

2. علیّ علیه السلام أعلم النّاس وأقضاهم 213

3. ملازمة الحقّ لعلیّ علیه السلام 214

4. القرآن مع علیّ علیه السلام 214

5. حبّ علیّ علیه السلام معیار لمعرفة المؤمن من المنافق 214

6. علیّ علیه السلام باب العلم 215

7. علیّ علیه السلام عصارة الفضائل 215

8. فضائل علیّ علیه السلام لا تُحصی 216

ب) تعیین الإمام علیه السلام خلیفةً للمسلمین 216

1. علیّ علیه السلام وارث النبیّ صلی الله علیه و آله وخلیفته 216

2. علیّ علیه السلام خلیفة النبیّ صلی الله علیه و آله فی المدینة 217

3. علیّ علیه السلام وصیّ النبیّ صلی الله علیه و آله فی الغدیر 218

أحادیث أُخری 219

النتیجة 221

مصادر للمطالعة 222

الحدیث الختامیّ: 222

ردّ الشمس وفضیلة الإمام علیّ علیه السلام 223

جواب الشقّ الأوّل: 223

1. مقتضی قانون التکامل 227

2. مقتضی الحکمة 228

3. مقتضی الأولویّة 228

ص:14

4. مقتضی الآیات والروایات 229

جواب الشقّ الثانی 232

النتیجة 232

مصادر للمطالعة 234

الحدیث الختامیّ: 234

العدالة العالمیّة فی انتظار المهدیّ 235

مایستفاد من الروایات الاسلامیة 238

أ) التهیّؤ والاستعداد الاجتماعیّ 238

ب) الاستعداد الفکریّ والثقافیّ 240

ج) الاستعداد العلمیّ والصناعیّ 241

د) التقدّم العلمیّ الهائل 242

ه) تکامل العقول البشریّة 244

و) التکامل الأخلاقیّ والمعنویّ 244

النتیجة 246

مصادر للمطالعة 247

الحدیث الختامیّ 247

سیکولوجیا الانتظار ودوره فی الحیاة 249

أ) انتظار النصر 249

ب) کسر شوکة الاستکبار وهیبته 251

ج) مدح المنتظرین وذمّ المستکبرین 254

د) التصدّی للانحرافات الاجتماعیّة 256

ه) إیجاد حالة من التوازن بین الأمل والیأس 257

مصادر للمطالعة 258

الحدیث الختامیّ 258

متطلّبات الانتظار البنّاء 259

1. الانتظار عامل من عوامل التحرّک 259

2. الانتظار یؤدّی إلی الإصلاح ومقارعة الظلم 261

3. الانتظار یصون الإیمان 262

4. الانتظار عامل لبقاء التشیّع ومقاومته 263

5. الانتظار یفضی إلی التزیّن بالعدل 265

مصادر للمطالعة 266

الحدیث الختامیّ: 266

علامات الانتظار 267

ص:15

أ) تهذیب النفس 267

ب) إصلاح المجتمع 268

ج) الدعاء والابتهال 269

د) احترام الأماکن والبقاع المنسوبة إلی الإمام 271

مصادر للمطالعة 276

الحدیث الختامیّ 276

المصادر والمراجع 277

ص:16

حاجة الدین إلی مُفسّر ومُتوَلٍّ

اشارة

السؤال: لماذا یحتاج الدین إلی مُفسّر ومُتولٍّ؟(1)

شرح السؤال: أطلق بعض المنظّرین نظریّةً مفادها: أنّ الدّین والمعارف الدینیّة لیست بحاجة إلی مُفسّرٍ دینیّ خاصّ، بل الجمیع قادرون علی فَهم الدّین، وتفسیر التعالیم الدینیّة والأخذ منها؛ وبالتالی، القیام بواجباتهم وأداء تکالیفهم علی أساس فهمِهم وقراءتهم للدّین. ویبدو أنّ الهدف الرئیس لهذه الثلّة من المنظّرین، هو اعتبار تفسیر الدین والشؤون والقضایا الدینیّة المختلفة أمراً شخصیّاً؛ وذلک من أجل أن یَعمدوا إلی تفسیر الدین والأحکام الدینیّة بالشکل الذی یحلو لهم، وبالطریقة التی یشاؤون، وفی نهایة المطاف، تکون لهم مساحة من الحریّة فی مقام العمل، ویتمکّنوا من تبریر وتوجیه أعمالهم، وإسنادها إلی تفسیرٍ وقراءةٍ خاصّةٍ للدین.

الجواب: فی مقام الردّ علی النظریّة - القائلة بعدم حاجة الدین إلی مفسّر رسمیّ یجب القول:

ص:17


1- (1) محسن غرویان، پرسش های فکری ودینی جوانان (أسئلة فکریّة ودینیّة للشباب)، قم: انتشارات مؤسّسة یمین، ط 3، 1380 ه. ش؛ حمید رضا شاکرین بالتعاون مع عدد من الباحثین، پرسش ها وپاسخ های برگزیده دانشجوئی (مختارات من الأسئلة والردود للطلاب الجامعیّین)، ممثلیّة الولی الفقیه فی الجامعات (نشر معارف)، ط 2، 1384 ه. ش.

أوّلاً: الهدف الذی یتوخّاه هؤلاء من إطلاق هذه النظریّة - علی ما مرّ ذکره - لیس بالهدَف المقدّس، وإنّما یرمون من خلال ذلک إلی التحرّر من قیود الأحکام الدینیّة.

ثانیاً: هذه النظریّة، وهذا المدّعی، یواجه إشکالات عدیدة، نبحثها ضِمن النقاط التالیة:

1. زعم القائل بأنّ الدین والمعارف الدینیّة لا تستلزم وجود مفسّر وعالم متخصّص فی تفسیر التعالیم الدینیّة، مساوق للنسبیّة فی الأحکام والمعارف الدینیّة؛ لأنّه فی حالة تقدیم کلّ إنسان لتفسیر خاصّ عن الدین، واعتقاده بأنّ هذا التفسیر حجّة بالنسبة له، وطرح الآخر لتفسیر مُغایر، وذهابه إلی حُجّیّة تفسیره أیضاً، لا یبقی أمرٌ ثابت فی الدین، والأحکام الدینیّة، وفقاً لهذه النظریّة؛ حیث یُعدُّ فهمُ کلِّ شخصٍ للتعالیم الدینیّة تفسیراً للدین.

ولا شکّ فی أنّه لا مجال للنسبیّة بهذا المعنی، لا فی الدین ولا فی التعالیم الدینیّة؛ ذلک أنّ الأمر فیها یؤول إلی التناقض؛ لأنّه من المُمکن أن یَطرح شخصٌ ما تفسیراًً خاصّاً لمفردةٍ من مفردات التعالیم الدینیّة، بما یتلاءم والخلفیّات الذهنیّة التی یحملها، وفی الوقت عینه، یطرح غیره تفسیراً مخالفاً تماماً لهذا التفسیر فی المفردة ذاتها. وفی هذه الحالة، ومع توجیه کلَّ واحد من التفسیرین المذکورین، یلزم أن یکون لدینا تفسیران متضادّان ومتقابلان لمفردةٍ من مفردات التعالیم الدینیّة، وطِبقاً للفرض، یُعتبر کلا التفسیرین حُجّة علی صاحبَیهما، فی الوقت الذی ینفی أحدُهما الآخر.

2. إنّ عقلَ الإنسان یحکم، کما أنّ سائر العلوم والتخصّصات، من قبیل: الطبّ، الفیزیاء، التاریخ وآلاف الفروع العلمیّة التجریبیّة والإنسانیّة الأخری، تقتضی وجود مُفسّر ومُبیّن وشارح متخصّص فیها؛ فالدین -

ص:18

الذی هو عبارة عن مجموعة من القوانین والأحکام الإلهیّة، وسائر التعالیم الدینیّة - کذلک یحتاج إلی عالمٍ ومُفسّر متخصّص فی شؤون الدین، والتعالیم الدینیّة.

3. المعارف الدینیّة علی ثلاثة مستویات:

أ) المعارف الدینیّة البسیطة، ب - المعارف الدینیّة المتوسّطة، ج - المعارف الدینیّة المعقّدة.

فلو افترضنا أنّنا قلنا: إنّ عامّة الناس قادرون علی إدراک المعارف الدینیّة فی مستواها البسیط؛ بید أنّ المعارف الدینیّة لمّا تصل إلی المستویین المتوسّط والمعقّد، تخرج عن دائرة الفهم والإدراک العامّ، وهنا یتأکّد الاحتیاج إلی المختصّین وعلماء الدین، بل ویکون لازماً؛ من أجل بیان وتفسیر تلک المعارف العَصیّة علی فهم العامّة. والشاهد والدلیل علی هذا الأمر، هو صدور آلاف الروایات والأحادیث عن الأئمّة المعصومین علیهم السلام، فی باب تفسیر القرآن والمعارف الدینیّة.(1)

4. هناک آیات فی القرآن الکریم دالّة علی حاجة التعالیم الدینیّة إلی تفسیر وشرح، من قِبَل المُفسِّرین المختصّین فی هذا المجال، وهی کالتالی:

1) قوله تعالی:(وَ أَنزَلنا إِلَیکَ الذِّکرَ لِتُبَیِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَیهِم وَ لَعَلَّهُم یَتَفَکَّرُونَ) .(2) ففی هذه الآیة الشریفة، تمّت مخاطبة شخص النبیّ الکریم صلی الله علیه و آله، وأنیطت به مهمّة تبیین وشرح وتفسیر المعارف القرآنیّة؛ ما یدلّ علی انحصار التفسیر بجماعة من المتخصّصین، علی رأسهم النبیّ وأهل بیته الطیّبین الطاهرین علیهم السلام.

إن قلت: إنّ نبیّ الإسلام صلی الله علیه و آله إنّما اعتُبر مفسّراً ومبیّناً للقرآن انطلاقاً من

ص:19


1- (1) محسن غرویان، مصدر متقدّم.
2- (2) النحل، آیه 44.

کونه معصوماً؛ وعلیه، لیس بمقدور غیر النبیّ صلی الله علیه و آله والأئمّة المعصومین علیهم السلام، القیام بهذا العمل؛ لافتقاره إلی شرط العِصمة اللازمة فی التفسیر.

قلت: طِبقاً لهذه الآیة الشریفة، یثبُت أصلُ احتیاج المعارف الدینیّة إلی مفسّر ومبیّن خاصّ؛ وأمّا کون وظیفة التبیین والتفسیر ونشر المعارف الدینیّة، فی عصر الغیبة ملقاةً علی عاتق العلماء الربّانیّین والفقهاء، فیثبُت بدلیلٍ آخر؛ إذ أنّنا ندّعی أنّ وظیفة تبیین الأحکام وتفسیر التعالیم الدینیّة، بالإضافة إلی إجراء تلک الأحکام فی عصر الغیبة، قد وضِعَت وِفقاً لروایاتٍ عدیدة عن الأئمّة المعصومین علیهم السلام، علی کاهل علماء الدین والفقهاء العاملین، نحو قول الإمام علیه السلام:

«مَن کان منکم قد روی حدیثَنا، ونظرَ فی حلالنا وحرامنا، وعرَفَ أحکامَنا، فإنّی قد جعلتُهُ علیکُم حاکماً...».(1) ونَصب هکذا شخص حاکماً من قِبَل المعصوم، یستلزم أن یکون عارفاً وعالماً ومفسّراً لأحکام الدین.

2) قوله تعالی:(فَسئَلُوا أَهلَ الذِّکرِ إِن کُنتُم لا تَعلَمُونَ) .(2) هناک بحوثٌ عدیدة فی مصداق «أهل الذکر»، ومَن هُم؟ ویمکن أن نخلص من مجموع تلک البحوث، إلی أنّ المصداق البارز والکامل لأهل الذکر فی عصر الأئمّة المعصومین علیهم السلام، هم الأئمّة أنفسُهم، وفی عصر الغیبة، کُلّف الفقهاء وعلماء الدین بهذه المسؤولیّة العظیمة؛ کما ورد فی التوقیع الشریف عن الإمام الحجّة المنتظر عجل الله تعالی فرجه الشریف)، ردّاً علی سؤال إسحق بن یعقوب: إلامَ یرجع المؤمنون فی الأمور المستجدّة، والموضوعات المُستحدثة فی عصر الغیبة، لیأخذوا عنه أحکام دینِهم؟ فکتَب الإمام علیه السلام:

«وأمّا الحوادثُ الواقعةُ فارجِعُوا فیها إلی رُواةِ حَدیثِنا؛ فإنّهم حُجَّتی علیکُم، وأنا حُجّةُ الله عَلیهِم».(3)

ص:20


1- (1) الحرّ العاملی، وسائل الشیعة، ج 27، ص 136.
2- (2) النحل، آیه 43؛ الأنبیاء، آیه 7.
3- (3) الصدوق، کمال الدین وتمام النعمة، ج 2، ص 484.

ومن ناحیة أخری، لا ریبَ فی أنّ عامّة الناس الذین لا یُجیدون اللغة العربیّة، ویجهلون قواعد اللغة، وقواعد علم الأصول والتفسیر و... لیس بوِسعِهم أن یکونوا مصداقاً ل - «أهل الذکر»؛ فمِن البدیهیّ والجلیّ أنّ هذه الطائفة من الأفراد غیر قادرة علی تفسیر وشرح النصوص الدینیّة، وبیان المعارف الدینیّة.

إشکال: ربّما یُطرح هنا إشکالٌ وشُبهةٌ أُخری، وهی: من المحتمل أن یُخطیء العلماء المنصَّبون کمفسِّرین للدین فی عصر الغیبة، فیقلبون حقیقة المعارف الدینیّة، ویطرحونها إلی الناس بشکلٍ بعیدٍ عن الواقع، الأمر الذی یفضی إلی إیقاع الناس فی الخطأ، وسلوک طریق مغایر لسبیل الحقّ! وإن دلّ هذا علی شیء، فإنّما یدلّ علی عدم حاجة الدین إلی مفسّر وعالم دینیّ.

الجواب: أوّلاً: إنّ الأخطاء التی یرتکبها عامّة الناس، تجاه التعالیم الدینیّة - بلا شکّ - أکثر بکثیر من الأخطاء التی یقع فیها الأفراد المختصّون فی العلوم والمعارف الدینیّة؛ ولذا، فلیس من العقل فی شیء، أن یُوکل تفسیر الدین والتعالیم الدینیّة إلی عامّة الناس، تحت ذریعة احتمال وقوع المفسّرین والشارحین للدین فی بعضِ الأخطاء.

ثانیاً: احتمال الخطأ والاشتباه وارد فی جمیع المجالات التخصّصیّة، وکافّة العلوم والفنون المختلفة؛ وعلیه، أوَلا یُخطیء المختصّون فی الأمور الطبّیّة؟ وهل یُمکن التشبّث باحتمال خطأ الأطبّاء فی العلاج، أو فی إعطاء الدواء، أو فی تشخیص المرض؛ لیکون دلیلاً علی عدم الرجوع إلیهم فی مثل هذه الحالات؟ لا شکّ فی أنّ عُقلاء العالمَ لا یفعلون ذلک.

ثالثاً: أکّدَ عددٌ کبیر من علماء أهل السنّة والشیعة، علی أنّ الفقیه لو امتلک الأدوات العلمیّة الکافیة، واللازمة للقیام بعملیّة الاستنباط، وتفسیر الأحکام الدینیّة، وسعی جاهداً لاستخدامها بالطریقة الصحیحة، لکنّه فی

ص:21

الوقت ذاته، لم یُفلح فی الوصول إلی الحکم الصحیح، وارتکب خطأً فی استنباط الحکم وتفسیره کما ینبغی، یکون حینئذٍ معذوراً؛ کما نقل العلاّمة السیّد شرف الدین، علی لسانِ عدد من علماء الإسلام، فقال:

«وإنّ کلّ من اجتهد فی شیء من ذلک، فدان بما رأی أنّه الحقّ، فإنّه مأجور علی کلّ حال؛ إن أصاب فأجران، وإن أخطأ فأجرٌ واحد».(1)

مصادر للمطالعة

1. محسن غرویان، پرسش های فکری ودینی جوانان (أسئلة فکریّة ودینیّة للشباب) قم: انتشارات مؤسّسة یمین، ط 3، 1380 ه. ش.

2. حمید رضا شاکرین بالتعاون مع عدد من الباحثین، پرسش ها وپاسخ های برگزیده دانشجوئی (مختارات من الأسئلة والردود للطلاب الجامعیّین)، ممثلیّة الولیّ الفقیه فی الجامعات (نشر معارف)، ط 2، 1384 ه. ش.

الحدیث الختامیّ

قال أمیر المؤمنین الإمام علیّ علیه السلام:

«إذا حَضَرَت بَلیّةٌ فَاجعلُوا أَموالَکُم دُونَ أنفسِکُم، وإذا نَزَلَت نازلةٌ فَاجعَلوا أنفُسَکُم دُونَ دینِکُم، واعلَمُوا أنَّ الهالِکَ مَن هَلَکَ دِینُهُ، وَالحَریبَ(2) مَن حَرَبَ دِینَهُ».(3)

ص:22


1- (1) السیّد شرف الدین، الفصول المهمّة فی تألیف الأمّة، بیروت، ط 7، 1977 م، ص 155.
2- (2) الحریب: هو من سُلب جمیع ماله.
3- (3) محمّدی الری شهری، میزان الحکمة، قم: دار الحدیث، 1416 ه. ق، ج 2، ص 948.

سُبُل التخلّص من الهواجِس الفِکریّة للیافعین والشباب

اشارة

السؤال: لماذا تُساور الشکوک - أحیاناً - أذهان الأحداث والشباب بشأن أحادیث وکلمات أئمّة الدین؟

الجواب: قبل الردّ علی هذا السؤال، لا بدّ من الإحاطة بما یجری فی مرحلة الشباب؛ فإلی جانب النموّ الجسدیّ، تنمو لدی هذه الفئة من الناس الهواجس، والرغبة فی حبّ الاستطلاع، والتفکّر والتدبّر فی السلوکیّات والاعتقادات والتوجّهات إلی الحیاة الدنیا، وهذا یُمثّل جُزءاً من التغیّرات، التی تطرأ بصورة طبیعیّة علی فکر الأحداث والیافعین والشباب.

ولا شکّ فی أنّ مرحلة الشباب فی غایة الخطورة والإثارة، وهی تتزامن مع تغییرات بدنیّة، فکریّة، نفسیّة کبیرة، بالإضافة إلی اکتساب التجارب الجدیدة وزیادة المدّخرات والرصید الفکریّ؛ ذلک أنّ هذه المرحلة هی مرحلة الابتعاد عن الاعتماد علی الآخرین، والحصول علی الاستقلال والهویّة المستقلّة.

بناءً علی ذلک، فهجوم الشکّ والوَساوِس علی الشابّ، وتوجیه الانتقادات لشتّی القضایا الهامّة فی الحیاة، لمن یبحث عن هویّته، ویُرید العثور علی ذاته، ویرغب بترسیخ معتقداته، وتأصیلها، بدلاً من الوضع الشبیه بالتقلید للآخرین، لیس شیئاً غیر طبیعیّ وغیر مألوف.

ص:23

أمّا فیما یرتبط بالأمور التربویّة الخاصّة بمرحلة الشباب، فمن الحریّ الالتفات إلی النقاط التالیة؛ لیتسنّی للشابّ الوقوف علی هویّته الأصیلة:

1. یقول علماء النفس عن فترة ومرحلة الشباب والصبا: تقَع هذه المرحلة بین مرحلَتَی الکهولة والطفولة، بحیث لا یکون الشابّ والفتی طفل الأمس، الذی یتعلّم کلّ شیء من الکبار، ولا الکبیر ذا الخبرة والتجربة؛ فالشابّ والیافع یبحث معظم الظواهر والأمور بنفسه، وبمعونة مدّخراته الفکریّة وتحلیله العقلیّ.

2. یمکن للشابّ من الناحیة المعرفیّة - حسبما یذکر علماء النفس - أن یقوم بدراسة المسائل الانتزاعیّة، من قبیل المذهب والأخلاق، والأنماط المتفاوتة للحیاة، وتقییمها بشکل منطقیّ ونظامیّ، وتتبلور فی ذهنه استدلالات منظّمة، تُتیح له إمکان إجراء مقارنة بین الحلول المطروحة لمسألةٍ ما، واختیار الحلّ الأمثَل والأنسَب؛ وبهذا العمل، یأخذ المحتوی الفکریّ نطاقاً أوسع وغوراً أبعد.(1) لکن، برغم التطوّر والتقدّم الفکریّ، وتکوّن القدرة علی التحلیل والحکم علی الأشیاء، لا یزال الشابّ والفتی من حیث الاستقرار والتسلّط الفکریّ، فی طور العبور من مرحلة الصِّبا إلی مرحلة النضوج الفکری؛ ولا تکون قدرة الإدراک واتّخاذ القرارات لدیه من السِّعة والعُمق، بحیث تتّسم بالمرونة والشمولیّة والانسجام مع السُبُل الحدیثة.

وبعبارةٍ أُخری: لا یبلغ الشابّ الرشید مرحلة النُّضج والاستقرار، إلاّ بعد أن یکسو استدلالاته واستنتاجاته بطابعٍ شخصیّ واختصاصیّ، ویستعین علی حلّ القضایا المُبهمة والغامضة والشائکة بتجاربه الشخصیّة، ویستنفذ جمیع طاقاته وقُدراته النفسیّة، من منطق، ودوافع، وقِیَم، وأُصول، واستحقاقات اجتماعیّة، وثقافیّة، وتاریخیّة.

ص:24


1- (1) حسین لطف آبادی، روان شناسی رشد (2) نوجوانی، جوانی، بزرگسالی (دراسة نفسیّة للنموّ عند الیافعین والشباب والکبار)، ص 26.

وعلیه، فالشکّ فی بعض أصول الحیاة یُعدُّ مقدّمةً للتعرف علیه بشکلٍ أکبر وأعمَق، ولا داعی للقلَق والخوف.

3. فترة الصبا هی مرحلة تحدید الهویّة؛ ومن هنا، تکتسب أهمیّة فائقة؛ إذ فی هذه الفترة بالتحدید، یبدأ الإنسان بطرح السؤال الجوهریّ بشأن هویّته وشخصیّته، (مَن أنا، ومَن أکون؟)، ولا بدّ له من العثور الجواب الوافی والشافی لذلک. وفی هذه المرحلة، یجب علی الشخص تکوین صورة ذات معنی مکتمل عن نفسه، بحیث تکون متّصلة بالماضی من جِهة، ومشتملة علی توجّهاته المستقبلیّة من جهة ثانیة.

وفی هذا الصدد، قال إریکسون: «تشکیل هویّة الفرد والقبول بها عبارةٌ عن تکلیف شاقّ وعسیر؛ حیث یجب علی الشابّ فی هذه المرحلة اختبار أدوار وإیدیولوجیّات مختلفة؛ بغیة اختیار الأنسَب والأفضل منها؛ فمن یتمکّن من الخروج من هذه المرحلة بشعور قویّ بالهویّة، یستطیع التأهّب لمواجهة مرحلة الرجولة بإحساس أوسع من الثقة بالنفس والاطمئنان الکافی. وفی هذه الفترة الزمنیّة، تترک الطبقات الاجتماعیّة التی یُعاشرها الشابّ أو الیافع ویترعرع فیها أثراً کبیراً علی مسیرة حیاته؛ إذ بمقدروها التأثیر علی ازدهار هویةّ الفرد بشکلٍ ملحوظ».(1)

وعلی هذا الأساس، فإنّ اختیار الصدیق والأنموذج الدینیّ الذی یُحتذی به، أو انتخاب القُدوة غیر الدینیّة، له تأثیرات واسعة من حیث لا یشعر الإنسان، إلی درجة التأثیر علی السلوک والتصرّف.

4. إنّ الیافع والشابّ، کما تُتاح له مجالات التقدّم والتطوّر، ویسیر فی طریق اکتشاف هویّته ومعرفة خالقه وبارئه، یرتقی سُلّم الحیاة بسهولة

ص:25


1- (1) دوان شُلتز، نظریه های شخصیت (النظریّات حول شخصیّة الإنسان)، ترجمه إلی الفارسیّة: یوسف کریمی وزملائه، ص 332.

بمقتضی عنفوان الشباب والطاقة المتفجّرة فی داخله، وفی الوقت ذاته، یکون فی أشدّ الحاجة إلی الاستفادة من أفکار الأشخاص المطّلعین والأوفیاء، ورفده باستشاراتهم ونصائحهم؛ لئلاّ یکون عُرضةً للسقوط فی مسیرة العثور علی هویّته وذاته.

سُبُل الخروج من الأزَمات والتحدّیات الفِکریّة

من أجل أن یسلک الشابّ المسار الصحیح لاکتشاف الذات، وبلوغ کنه الحقیقة، وفی سبیل أن تتأصّل المقوّمات الأساسیّة فی وجود الفتی، ویعمل وفق القواعد والضوابط من الناحیة التربویّة، یجب علیه الالتزام بالنقاط التالیة:

1- تحصیل العلم

أنّ الوطیفة الرئیسیة للشباب والیافعین هی تحصیل العلم؛ ذلک أنّ الاستزادة من العلم واکتساب المعرفة یُعدّ من أثمن الجواهر التی یمکن الحصول علیها، واستخدامها فی تسییر الحیاة ومختلف مساراتها، بل إنّ العلم والمعرفة أداة هامّة للمقدرة والکفاءة فی الحیاة.

وبناءً علی ذلک، یُمکن القول: إنّ قراءة الکتب الدینیّة هو السبیل الأمثَل لزیادة العلم بالعقائد؛ فالإنسان غیر المتعلّم لن یکون قادراً علی تشخیص تکالیفه الإلهیّة، والعمل بها بصورة صحیحة؛ وفی المحصّلة، قد یعجز عن فهم معنی الحیاة.

2- التفکّر

لا ریب فی أنّ تحصیل العلم عبارة عن الاستفادة من أفکار الآخرین المدوّنة فی صفحات الکتب وغیرها، وأمّا التفکّر فی مسار الحیاة والظروف والمواقف المختلفة، فهو أمرٌ شخصیّ، وبوسعه تقدیم الحلول اللازمة.

وبعبارة أخری: إنّ تحصیل العلم یزید من قدرة التفکّر لدی الإنسان، ویجعله

ص:26

قادراً علی دراسة وتحلیل الحوادث والمشکلات، التی یواجهها بشکل أفضلٍ، وتجاوزها بالنحو المطلوب.

3- الإیمان

المقصود بالإیمان الاعتقاد القلبیّ بالخالق، والتسلیم أمام أحکامه بقسمیها: الأوامر والنواهی، وکلّما کان إیمان الإنسان أقوی تجلّی بصورة أوسع وأکبر، فی مختلف أبعاد وجود الإنسان.(1) بناءً علی ذلک، من یلحظ الله جلّ وعلا فی جمیع شؤون حیاته، یزداد إیمانه صلابةً، ویرتفع مؤشّر ثقته بنفسه، ویکتسب طاقةً عظیمةً ترفده وتعینه فی جمیع الموارد.

4- العمل

القیام بالأعمال الإیجابیّة یوجب السلاسة والسهولة فی الحیاة، ویدعَم موقف الإنسان، حتّی أنّ القرآن الکریم أکّدَ علی أنّ الأعمال الصالحة توجب زیادة التکامل والازدهار، وإبراز الطاقات الکامنة لدی المؤمنین، فقال تعالی:(وَ لَمّا رَأَ المُؤمِنُونَ الأَحزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ صَدَقَ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ ما زادَهُم إِلاّ إِیماناً وَ تَسلِیماً) .(2)

ولا یخفی أنّ التعالیم الإسلامیّة أکّدت علی التأثیر الکبیر للعمل فی العلم والإیمان، کما أنّ الإیمان یدفع الإنسان باتّجاه مزید من العمل والاختیار الصحیح، علی أنّ العمل الصالح یوجب زیادة العلم والإیمان لدی الإنسان، ویُسهم فی تلبیة الاحتیاجات المناسبة والمعقولة.

ص:27


1- (1) أنظر: کرباسی، منیژه، وکیان منوتشهر، مسائل نوجوانان وجوانان (قضایا الیافعین والشباب)، ص 176.
2- (2) الأحزاب، آیه 22.

ومن هنا، فخیر عمل یقوم به الإنسان أداء الأعمال والتکالیف الدینیّة، وحثّ الآخرین علی إنجاز الأعمال اللائقة والمناسبة، والامتناع عن الأعمال القبیحة؛ ذلک أنّ العمل بالتکالیف الإلهیّة یعزّز من دوافع التقدّم والتطوّر، ویجعل الإنسان یلمس وجود الله تعالی فی الحیاة، ویزید من الإیمان، ویضاعف الالتزام الدینیّ لدی الأفراد. کما أنّ البصیرة والإدراک الشخصیّ یطوّر الإنسان، وینمّی قدراته، ویساعده علی انتخاب الخیار الأفضل فی خِضمّ المتغیّرات فی الحیاة الدنیا، ویأخُذ بیده لبلوغ أهدافه وتطلّعاته.

وبکلمةٍ واحدة: یُمکن أن نخلص إلی أنّه برغم کون مرحلة الشباب الخطیرة، بمثابة مرحلة الغلیان الفکریّ والتوقّد الذهنیّ؛ لأنّ البُنیة الأساسیّة للفرد لم تستقرّ بعد؛ ولأنّه فی معرَض مواجهة إشکالات وتحدّیات جَمّة، إلاّ أنّ الشابّ والیافع لو اشتغل بالتعلّم، والتفکّر، والقیام بالأعمال الصالحة والأُمور الحسنَة، وذِکر الله عزّ وجلّ فی جمیع أفعاله. وعلی کلّ حال، یکون بوسعه حینئذٍ وضع خُطاه فی طریق التقدّم الدینیّ، والعقلانیّ والأخلاقیّن والإجتماعیّ و... ونَیل جمیع أهدافه وتطلّعاته.

ص:28

مصادر للمطالعة

1. روان شناسی نوجوانان (علم النفس لدی الیافعین)، الدکتور إسماعیل بیابان گرد.

2. روان شناسی رشد (2) نوجوانی، جوانی، بزرگسالی (دراسة نفسیّة للنموّ عند الیافعین، والشباب، والکبار)، الدکتور حسین لطف آبادی.

الحدیث الختامیّ

قال الإمام علیّ بن أبی طالب علیه السلام:

«مَن أَصلَحَ سَرِیرَتَهُ أَصلَحَ اللهُ عَلاَنِیَتَهُ، وَمَن عَمِلَ لِدِینِهِ کَفَاهُ اللهُ أَمرَ دُنیَاهُ، وَمَن أَحسَنَ فِیَما بَینَهُ وبَینَ اللهِ کَفَاهُ اللهُ مَا بَینَهُ وَبَینَ النَّاسِ».(1)

ص:29


1- (1) نهج البلاغة، قم: دار الذخائر، ط 1، 1412 ه. ق، ج 4، ص 99، الحکمة 423.

ص:30

الحدّ الأقلّ والحدّ الأکثر من البصیرة فی الدین

اشارة

السؤال: ما المراد من الحدّ الأقلّ والحدّ الأکثر من البصیرة فی الدین؟

وبعبارة أُخری: ما معنی ومفهوم الدین فی حدّهِ الأدنی، والدین فی حدّهِ الأقصی؟(1) الجواب: یُمکن الردّ علی هذا السؤال وتفسیر المطلوب بنحوَین: التفسیر من خارج نطاق الدین، والتفسیر من داخل الدین نفسه.

أ) الردّ علی سؤال الحد الأقلّ والحدّ الأکثر من الدین من داخل الدین نفسه

المقصود من النظر إلی الإشکال من داخل، الدین هو أنّه یجب البحث

ص:31


1- (1) . راجع المصادر التالیة: أ) محسن غرویان، پرسش های فکری ودینی جوانان (أسئلة فکریّة ودینیّة للشباب)، قم: انتشارات مؤسّسة یمین، ط 3، 1380 ه. ش.ب) محمّد امین أحمدی، انتظارات بشر از دین (توقّعات البشر من الدین)، قم: مرکز العلوم والثقافة الإسلامیّة التابع لمکتب الإعلام الإسلامی، ط 1، 1384 ه. ش.ج) محمّد تقی جعفری، فلسفه دین (فلسفة الدین)، قم: مرکز الثقافة والفکر الإسلامی، ط 3، 1386 ه. ش.د) محمّد تقی مصباح یزدی، مجموعه آثار (مشکات) پرسشها وپاسخ ها/ مجموعة آثار (المشکاة) أسئلة وردود، ج 1-5، قم: مؤسّسة الإمام الخمینی للدراسات والبحوث، ط 1، 1385 ه. ش.

والتدقیق فی التعالیم الدینیّة الواردة فی دینٍ ما، کالدین الإسلامیّ الحنیف مثلاً؛ من أجل معرفة التوصیات الموجودة فیه حول حیاة الإنسان، وهل أنّ هذه الأحکام والتعالیم تشمل جمیع مناحی الحیاة، وکافّة أبعاد الحیاة البشریّة، أم أنّها وردت فی بُعدٍ خاصّ فقط؟ أو فقل: هل أنّ التعالیم الدینیّة جاءت بأحکام وتوجیهات فی جمیع المجالات الفردیّة والاجتماعیّة؛ العقائدیّة والأخلاقیّة؛ وکذلک الأحکام العملیّة، أم أنّ الدین جاء بتلک الأحکام والتوجیهات فی بُعدٍ خاصّ فقط، نحو الأخلاق والسلوک، أو علی الصعید الشخصیّ والفردیّ فحسب؟

إلی ذلک، فإنّ القائلین بالحدّ الأقلّ من الدین، والمنظّرین فی هذا المجال، من وجهة النظر الداخلیّة للدین طبعاً، یطرحون إشکالاتهم ویلقون شُبُهاتهم حول الدین الإسلامیّ ببیانَین مختلفین، وضمن صیغتین متباینتین:

الصیغة الأولی للإشکال: ذهب القائلون بهذه النظریّة إلی أنّ الدین الإسلامیّ تدخّل فی القضایا والأمور السیاسیّة والحکومیّة بالحدّ الأقلّ من التدخّل، زاعمین أنّ الدین والتعالیم الدینیّة ذات طابع فردیّ وشخصیّ فی الغالب؛ فلا ینبغی إقحام الدین فی الشؤون الإجتماعیّة والسیاسیّة.

وبعبارة أخری: هؤلاء من القائلین بنظریّة لزوم الفصل بین الدین والسیاسة.

الجواب عن الصیغة الأولی من الإشکال:

أجمع معظم علماء الإسلام وأهل الرأی والنظر، علی أنّ النبیّ الکریم صلی الله علیه و آله من جملة الأنبیاء الإلهیّین، الذین نجحوا فی تأسیس وتثبیت حاکمیّة سیاسیّة ذات مشروعیّة إلهیّة فی المدینة المنوّرة؛ وعلی هذا، فهناک شُبه إجماع من علماء ومفکّری الدین الإسلامیّ، الشیعة والسنّة علی حدّ سَواء، علی أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله والدین الإسلامیّ المبین، کان یتمیّز بالشأن السیاسیّ والحکومیّ، فلم یُخالف فی ذلک سِوی بعضُ من أطلق هذا

ص:32

الإشکال، من المفکّرین والمتنوّرین الإسلامیّین، الذین شکّکوا فی الشأن السیاسیّ لنبیّ الرحمة صلی الله علیه و آله، وتأثّروا بفکرة فصل الدین عن السیاسة، والفکر العلمانیّ بصورة عامّة، ذاهبین علی أساس ذلک، إلی سلب الشأن السیاسیّ والحکومیّ عن النبیّ الکریم صلی الله علیه و آله، مشدّدین علی أنّه وإن فُرِض إقدامه علی تأسیس حکومة فی المدینة المنوّرة، إلاّ أنّ ذلک لم یکن إلاّ من باب الوظیفة الاجتماعیّة، لا من باب تکلیفه بوظیفة إلهیّة فی هذا المجال.(1)

ولکن یمکن الردّ علی هذا القول بما یلی:

أولاً: إنّ إمامة النبیّ الکریم صلی الله علیه و آله، وتصدّیه للشأن الحکومیّ، وتأسیسه حکومة سیاسیّة، أمرٌ مفروغ عنه، ومُسلّم من قِبَل أغلَب العلماء والفقهاء الإسلامیّین؛ بالإضافة إلی أنّ النصوص القرآنیّة تعضد هذه المسألة، وتؤکّد علیها بصراحة ووضوح، نحو قوله تعالی:(أَطِیعُوا اللّهَ وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ)2 الذی تکرّر فی أکثر من موضع فی القرآن الکریم، وقوله:(لَقَد أَرسَلنا رُسُلَنا بِالبَیِّناتِ وَ أَنزَلنا مَعَهُمُ الکِتابَ وَ المِیزانَ لِیَقُومَ النّاسُ بِالقِسطِ وَ أَنزَلنَا الحَدِیدَ فِیهِ بَأسٌ شَدِیدٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ وَ لِیَعلَمَ اللّهُ مَن یَنصُرُهُ وَ رُسُلَهُ بِالغَیبِ إِنَّ اللّهَ قَوِیٌّ عَزِیزٌ)3 .

ثانیاً: الشواهد التاریخیّة کذلک تؤیّد هذا الموضوع، وتؤکّد علی أنّ نبیّ الإسلام صلی الله علیه و آله أقام حکومة سیاسیّة فی المدینة، وعلی أساسها أصدر أوامر حکومیّة، من قبیل إرساله الولاة إلی المناطق المختلفة، ومُطالبته

ص:33


1- (1) . للإطلاع علی مزید من التفاصیل فی هذا البحث، أنظر: نظریه های دولت در فقه شیعه (النظریّات فی الحکومة فی الفقه الشیعی)، لمحسن کدیور؛ الإسلام وأصول الحکم، لعلی عبد الرزّاق.

إیّاهم بالدعوة إلی الدین، وأداء الشؤون الدینیّة والاجتماعیّة المناطة بهم.

وأما فیما یرتبط بإثبات کون هذه الحکومة السیاسیّة للنبیّ المصطفی صلی الله علیه و آله مستمدّة من الدین الإسلامیّ المقدّس، فیجب القول: إنّ شمولیّة الدین الإسلامیّ، جعلت هذا الدین یشتمل علی سلسلة من الأمور والتکالیف التی لا یمکن إجراؤها وتطبیقها من دون الحاکمیّة السیاسیّة، وبسط النفوذ السیاسیّ، وذلک من قبیل تنفیذ الأحکام، وإقامة الحدود، وسائر الأمور الدینیّة الأُخری، کأخذ أموال الزکاة والخُمس، وتقسیم الغنائم، التی یتعذّر القیام بها دون وجود حکومة دینیّة.

ثالثاً: بعض الآیات القرآنیّة - أیضاً - دلّت علی أنّ حاکمیّة النبیّ صلی الله علیه و آله علی الناس ذات منشأ إلهیّ، کقوله جلّ وعلا:(النَّبِیُّ أَولی بِالمُؤمِنِینَ مِن أَنفُسِهِم) .(1)

الصیغة الثانیة للإشکال: لمّا رأی بعض أتباع نظریّة الحد الأقلّ من الدین، المنطلقة من داخل الدین، أنّ شمولیّة الدین الإسلامیّ المُبین لا تقبل الإنکار، وأدرکوا أنّهم لا یستطیعون القَدح بالنطاق الواسع للأحکام الإسلامیّة، التی تشمل جمیع أبعاد حیاة الإنسان، عمدوا إلی طرح الشُّبهة، والإشکال بصیغة مغایرة، فقالوا: إنّ الأحکام والتعالیم الدینیّة وردَت لتلبیة متطلّبات واحتیاجات المجتمع الإسلامیّ فی عصرٍ خاصّ؛ حیث کانت تلک الأحکام مناسبة للمجتمع البدائیّ للمسلمین، الذی کان بعیداً عن الظروف والشرائط الزمانیّة والاجتماعیّة الشائکة والمعقّدة، وفی المحصّلة، معظم هذه الأحکام الدینیّة غیر قادرة علی توفیر مستلزمات الحیاة، وتلبیة المتطلّبات اللازمة فی المجتمع المتحضّر المعاصر، الذی شهِد - ویشهَد - ثورات وقفَزات علمیّة هائلة من التقدّم والتطوّر،

ص:34


1- (1) . الأحزاب، آیه 6.

ویعیش ظروفاً زمانیّة ومکانیّة واجتماعیّة و... متشابکة ومتداخلة.

الجواب: یمکن الردّ علی الشبهة والإشکال والجواب عنها بعدّة أجوبة:

1. إنّ خاتمیّة النبوّة والشریعة التی تُعدّ من ضروریّات الدین الإسلامیّ المُبین، والتی هی مورد اتّفاق جمیع الفِرَق والمذاهب الإسلامیّة، ومُلتقی عُلماء الإسلام کافّة، تتعارض مع هذا التفسیر، من کون الدین والتعالیم الدینیّة فی حدّها الأقلّ والأدنی.

وبعبارة أُخری: الأدلّة المتینة والبراهین الساطعة، المسوقة فی باب خاتمیّة نبوّة نبیّنا الکریم صلی الله علیه و آله، وأبَدیّة الدین الإسلامیّ المُبین، تدحض هذه الشبهة، وتبطل هذا الإشکال؛ ذلک أنّ الدین الإسلامیّ المُبین - وفقاً لأدلّة الخاتمیّة - دینٌ خالدٌ وأبَدیّ، بحیث یُمکن تطبیق أحکامه وقوانینه فی جمیع الظروف والمتغیّرات الزمکانیّة، ولا تختصّ بمنطقة معیّنة، أو قوم بعینهم، أو زمن خاصّ.

2. وردت روایات کثیرة عن الرسول الکریم صلی الله علیه و آله، تؤکّد علی أنّ أحکام الإسلام لا تُحَدّ بزمَن خاصّ، ولا تنفع فی زمنٍ دونَ زمن، بل هی أبَدیّة ومعتبَرة حتّی یوم القیامة، منها قوله صلی الله علیه و آله:

«حَلالُ مُحمّدٍ حَلالٌ أبداً إلی یومِ القِیامةِ، وَحَرامُ مُحمّدٍ حَرامٌ أبداً إلی یومِ القِیامةِ».(1) ولا شکّ فی أنّ الأحکام التی من شأنها البقاء والخلود والاعتبار إلی یوم القیامة، هی التی تمتلک الکفاءة والقابلیّة اللازمة، للتکیّف مع مختلف الظروف الزمانیّة والمکانیّة المختلفة.

ب) تفسیر الحدّ الأقلّ والحدّ الأکثر من خارج نطاق الدین

اشارة

إنّ موضوع الحدّ الأقلّ والحدّ الأکثر من الدین، من وجهة النظر الناظرة من خارج الدین، یعنی أنّه مع قطع النظر عن الأحکام والتوصیات التی یأتی بها

ص:35


1- (1) أصول الکافی، ج 1، ص 58؛ وانظر: وسائل الشیعة، ج 18، ص 124؛ بحار الأنوار، ج، ص 260.

الدین لتنظیم حیاة البشر، یُطرح السؤال التالی: فی أیّ المسائل والأمور ینبغی توقّع الإرشاد والتفسیر والتبیین من الدین؟ وبعبارة أخری: ما حدود انتظار البشر من الدین؟ وهل یجب علی الدین تلبیة متطلّبات الإنسان، وتوفیر احتیاجاته فی جمیع الأبعاد والمجالات، أم أنّ أجوبة الدین محدودة ومقیّدة بحاجات خاصّة، وأبعاد معیّنة من حیاة البشر؟

الجواب:

أُجیب عن هذا التساؤل بثلاثة أنواع من الأجوبة:

1) جوابٌ واقعٌ فی دائرة الإفراط (الحدّ الأکثر من الدین).

2) جوابٌ واقعٌ فی دائرة التفریط (الحدّ الأقلّ من الدین).

3) جوابٌ - یبدو لنا أنّه - واقعٌ فی حدّ الاعتدال والوسطیّة.(1)

1. الرؤیة المُفرِطة (الحدّ الأکثر): ذهب أصحابُ هذه الرؤیة إلی أنّ الدین یتدخّل فی جمیع شؤون وأبعاد الحیاة، الفردیّة والاجتماعیّة، نحو طریقة الأکل والشرب، ارتداء اللباس، تشیید البیوت والعمارات، المشی والنوم، معاشرة الآخرین و... بالإضافة إلی المسائل التی من قبیل الحکومة، تحدید الواجبات والمسؤولیّات المُلقاة علی عاتق الحکّام والقادة، وبیان المسائل والقضایا العلمیّة المختلفة.

وبکلمة واحدة: ثمّة حاجة إلی الأحکام والتعالیم الدینیّة فی کافّة أبعاد الحیاة.

وبعبارة أُخری: من حقّ البشَر أن یتوقّع من الدین والتعالیم الدینیّة، تقدیم أسرار وعوامل النجاح والموفقیّة إلی الإنسان، فی جمیع مجالات الحیاة وکافّة مستویاتها، من دون أن یتکلّف عَناء البحث والمطالعة والتحقیق. ویطلق علی

ص:36


1- (1) أنظر: محمّد تقی مصباح یزدی، مجموعه آثار (مشکات) پرسشها وپاسخ ها/ مجموعة آثار (المشکاة) أسئلة وردود، قم: مؤسّسة الإمام الخمینی للدراسات والبحوث، ط 1، 1385 ه. ش، ج 1-5.

هذه الرؤیة التی تکلّف الدین تلبیة جمیع متطلّبات الإنسان، وتوفیر جمیع احتیاجاته، رؤیة «الحدّ الأقصی» أو «الحدّ الأکثر» من الدین.

مناقشة رؤیة الحدّ الأکثر من الدین

النقد الأساسیّ الوارد علی هذ القول، هو أنّ الدین - وِفقاً لهذهِ الرؤیة - مُلَبٍّ لجمیع توقّعات وانتظارات البشَر، ویترتّب علی ذلک، أنّه لا حاجة عندئذٍ إلی استفادة الإنسان من قوّة العقل، والاعتماد علی الغرائز والطاقات الفطریّة المُودَعة فیه.

والحال أنّ هذا النمط من التفکیر، والنظرة إلی الدین المُفضیة إلی تعطیل قوّة العقل غیرُ صحیحةٍ، جملةً وتفصیلاً، وبعیدةٌ کلّ البعد عن الحقیقة، ومُجافیةٌ للواقع؛ ذلک أنّه لا یمکن تأکید وجودِ دینٍ مُحِقٍّ، یعمل علی تَنحیَة العقل وقابلیّات الإنسان وفطرته الطبیعیّة عن مشهد الحیاة، ویعتبر نفسه الوحید القادر علی توفیر جمیع احتیاجات البشر ومتطلّباته.

2. الرؤیة المُفَرِّطة (الحدّ الأقلّ): بعد رفض الرؤیة الداعیة إلی الحدّ الأکثر من الدین، وعقب سَنَوات من الصراع والتجاذب بین أرباب الکنائس والساسة فی العالم الغربیّ، حول حدود وأُطُر الدین، بَرَزت فی نهایة المطاف رؤیةٌ یُقال لها: «الرؤیة العلمانیّة»، ومن أبرز ما تمیّزت به هذه الرؤیة، الدعوة إلی فصل الدین عن السیاسة والأُمور الاجتماعیّة. وهی تؤکّد علی أنّ حیاة الإنسان مشتملة علی قسمین: الدنیا والآخرة، وهذان القسمان منفصلان عن بعضهما البعض انفصالاً تامّاً. کما یؤمن أصحاب هذا الرأی، بأنّ عمل الإنسان فی الأمور المتعلّقة بالدنیا لا یؤثّر قید أنملة علی مصیر الفرد فی الآخرة؛ ومن هنا، یمکن للإنسان أن یستمدّ الأوامر من الدین فی الأمور الأخرویّة، وفی موضوع علاقة الفرد بالله تعالی فقط، وأمّا

ص:37

فی الأُمور والشؤون الدنیویّة، والحیاة فی هذا العالم، فیُسمح للإنسان التصرّف کما یحلو له، وکما یشاء، ولیس من اللازم علیه فی هذه الأُمور اتّباع الأحکام الدینیّة، وتلقّی التعالیم من الله.

مناقشة رؤیة الحدّ الأقلّ من الدین

هذه الرؤیة أیضاً تواجه عدداً کبیراً من الإشکالات، لکنّ الإشکال الأهمّ فیها هو الفصل بین الحیاة الدنیویّة للإنسان، وبین عالم الآخرة؛ فصحیحٌ أنّ حیاة الإنسان تنقسم إلی قِسمَی الدنیا والآخرة - حیث یَشرع القسم الدنیویّ ابتداءً من الولادة، وینتهی بالموت، ویبدأ القسم الأخرویّ اعتباراً من موت الإنسان، ویستمر إلی ما لا نهایة، ولکلِّ واحدٍ من هذین القسمَین خصائصه ومواصفاته - وهذا التقسیم طِبقاً لهذه النظریّة، یعنی أنّ الحیاة الدنیویّة للإنسان، وسلوکه وأعماله فی الدنیا، تنقسم إلی قسمین أیضاً، هما الأعمال الدنیویّة والأعمال الأخرویّة، وأنّهما لا یرتبطان ببعضهما بأیّ أنواع الارتباط؛ وبالتالی، لا تأثیر لأعمال الإنسان الدنیویّة علی حیاته الأخرویّة.

وطِبقاً لهذه النظریّة ینحصر عمل الدین والتعالیم الدینیّة، بالأدعیة والطقوس الفردیّة والجماعیّة، التی تُؤدَّی فی الکنائس والمساجد. بالإضافة إلی أنّ التعالیم الدینیّة تختصّ ببیان علاقة الفرد بالله فقط، ولا صِلة لها بالحیاة الاجتماعیّة بتاتاً.

لکن، یرد علی ذلک

أوّلاً: إنّ هذه الرؤیة إلی الدین دعوی من غیر دلیل؛ إذ لا تستند إلی دلیل وبرهان مُعتبرٍ وصائب.

ثانیاً: إنّ هذا القول لا ینسجم مع محتوی ومضمون الأدیان الإلهیّة؛ فمِن البدیهیّ أنّ کلّ دین حقّ یدّعی بأنّ علی البشر مطابقة جمیع أعمالهم

ص:38

وتصرّفاتهم - الفردیّة والاجتماعیّة - مع التعالیم والأحکام الواردة فی هذا الدین، ولیس للإنسان الانطلاق من أهوائه ورغباته لیقوم بکلّ ما یشتهی فی الحیاة الدنیا، وأن لا تأثیر لهذه الأعمال علی عالم الآخرة. وهذا الأمر یتّضح ویقبل الفهم والإدراک، من خِلال الرجوع إلی محتوی الأدیان الإلهیّة، ولا سیّما الدین الإسلامیّ الحنیف.

الرؤیة المعتدلة والوسطیّة: لا مناصَ من الإذعان بتقسیم حیاة الإنسان إلی مرحلة دنیویّة وأخری أخرویّة؛ لکنّ هذه النظریّة تذهب مذهباً آخر، مغایراً لما تبنّته النظریّة الثانیة، حول المرحلة الدنیویّة والأخرویّة من حیاة الإنسان؛ لأنّ الحیاة الأخرویّة للإنسان - بناءً علی هذه النظریّة - ما هی إلاّ حصیلةً لسُلوک الإنسان فی هذه الدنیا، ونتیجةً حتمیّةً ودقیقةً لها.

وبعبارة أُخری: إنّ الأعمال الدنیویّة الصادرة من الإنسان تؤثّر، بشکلٍ مباشرٍ وکبیر، علی مصیر الإنسان الأُخرویّ؛ وعلی هذا الأساس، فإنّ بمقدور الإنسان القیام بأعماله وأداء تکالیفه فی هذه الدنیا، بشکلٍ ینفعه فی عالم الآخرة، کما أنّه بوِسعه التصرّف بشکلٍ یؤول إلی ضَرَرِه وسُوء مصیره الأُخرویّ.

إنّ الإنسانَ موجودٌ مختار، ولا بدّ من استئثاره برسمِ سُلوکه وتحدید نمَط حیاته الدنیا، وتقریر مصیره فی عالم الآخرة بنفسه، فلو رغِب بکَسب السعادة الأبدیّة، والحصول علی الخیر والراحة الدائمیّة؛ فعلیه توخّی الدقّة فی اختیار السلوک الرشید، وتنظیم حیاته علی أساس المنهج الدینیّ الشامل، وتطبیقه فی جمیع شؤون الحیاة، ورعایة الأحکام والتکالیف والتعالیم الدینیّة. ولا ریبَ فی أنّ هذه الرؤیةَ متوافقةٌ مع الفکر الإسلامیّ الأصیل؛ لأنّنا نری بأنّ الرؤیة المعتدلة والوسطیّة، هی الرؤیة المتفادیة لإشکالیّات النظریّة المُفرِطة (الحدّ الأکثر) من جهة، والبعیدة عن محاذیر النظریّة المُفَرِّطة (الحدّ الأقلّ) من جهة ثانیة.

ص:39

وانطلاقاً من هذه الرؤیة نری

أوّلاً: إنّ لدی الدین مشروعاً متکاملاً ومنهجاً شاملاً ومستوعباً لتأمین السعادة فی الدنیا والآخرة؛ إذ أنّه یطرح أصولاً وأُسُساً کلیّة، فی جمیع أبعاد الحیاة الفردیّة، والاجتماعیّة، والاقتصادیّة، والسیاسیّة، والثقافیّة.

ثانیاً: طِبقاً لهذه الرؤیة، لا نتوقّع من الدین مدَّ الإنسان بالأحکام والتعالیم اللازمة، فی جمیع تفاصیل الحیاة الإنسانیّة، بما فیها شؤون الحیاة الیومیّة، والأُمور المتعلّقة بکافّة جوانب الحیاة الفردیّة، وإن أمکن استنباط هذه الأمور الجزئیّة من تلک الأصول الکلیّة.

وطِبقاً لهذه الرؤیة أیضاً، لا ریبَ فی احتواء الدین والتعالیم الدینیّة للأصول الکلیّة، والأُسُس العامّة للسلوک والعمل، الذی له تأثیر مباشر علی سعادة الإنسان؛ ولا شکّ أیضاً فی أنّ هناک أموراً، لم یلزم الشارع صاحبَها بأدائها بکیفیّةٍ وطریقةٍ معیّنة، وإنّما أُسند اتّخاذ القرار المناسب بشأنها، إلی العقل والقوّة الفکریّة المودعة فی وجود الإنسان.

ومن هنا، یمکن القول: إنّ نظریّة الدین الإسلامیّ، والرؤیة المعتدلة المستفادة من هذا الدین المقدّس، المُستشفّة من تعالیمه القیّمة، من جهةٍ تنطوی علی برنامجٍ شاملٍ، وخطّةٍ مکتملةٍ؛ لتحدید سلوک الإنسان، بل وفکره أیضاً، ویمکن تقییم هذا السلوک فی إطار النظام الأخلاقیّ المنسجم فی الدین الإسلامیّ المبین.

ومن جهةٍ أُخری، لم یکن الدین یوماً بصدد إطفاء نور العقل، وإلغاء التفکیر لدی الإنسان، بل حثّت الشریعة الغرّاء - وبشتّی الطُّرُق والوسائل، وبمختلف أنواع الخطاب والبیان - الإنسانَ علی طلب العلم، وإنماء فکرهِ، وتطویر قدراته وقابلیّاته، والإستفادة من علوم الآخرین؛ فأوصی النبیّ

ص:40

الکریم صلی الله علیه و آله المسلمین بالتعلّم قائلاً:

«أُطلُبوا العِلمَ وَلو بالصّینِ».(1) وقال فی حدیث آخر:

«طَلبُ العِلمِ فَریضةٌ عَلی کُلِّ مُسلمٍ».(2)

مصادر للمطالعة

1. محمّد تقی مصباح یزدی، مجموعه آثار (مشکات) پرسشها وپاسخ ها/ مجموعة آثار (المشکاة) أسئلة وردود، ج 1-5، قم: مؤسّسة الإمام الخمینیّ للدراسات والبحوث، ط 1، 1385 ه. ش.

2. محسن غرویان، پرسش های فکری ودینی جوانان (أسئلة فکریّة ودینیّة للشباب)، قم: انتشارات مؤسّسة یمین، ط 3، 1380 ه. ش.

3. محمّد أمین أحمدی، انتظار بشَر از دین (توقّعات البشَر من الدین).

الحدیث الختامیّ

«إنّهُ مَن عَرَفَ دِینَهُ مِن کِتابِ اللهِ عَزَّ وَجلَّ، زَالَت الجِبالُ قَبلَ أن یَزولَ؛ ومَن دَخَلَ فی أمرٍ بِجَهلٍ، خَرجَ مِنهُ بِجَهلٍ».(3)

ص:41


1- (1) المجلسی، بحار الأنوار، ج 1، ص 180.
2- (2) الکلینی، الکافی، ج 1، ص 30.
3- (3) بحار الأنوار، ج 23، ص 103.

ص:42

حریّة العقیدة فی الإسلام وحُکمُ الارتداد

اشارة

السؤال: کیف یمکن الجمع بین حریّة العقیدة وحکم الإرتداد فی الإسلام؟

الجواب: بُغیة التوصّل إلی جوابٍ وافٍ فی هذا الصدد؛ یجب البحث بدقّة عن معنی حریّة العقیدة ومعنی الارتداد، وشروط کلّ واحد منهما.

حریّة العقیدة تعنی أن یتمکّن الإنسان - من دون أیّ ضغط خارجیّ، وبحسب رغبته ومیله - من اعتناق العقیدة والفکرة التی یؤمن بها، ویکون له الحقّ فی دراستها ومناقشتها، والدعوة لها من دون قیود.(1)

أمّا الارتداد: فهو بمعنی أن یتراجع الإنسان عن الدین - والمقصود به هنا الدین الإسلامیّ تحدیداً - بعد أن اعتنقه وآمَن به، وینکر صواب عقائده وتعالیمه.(2)

وعلی هذا، فالإسلام یوافق علی حریّة المعتقد ضمن شروط وحدود خاصّة، فلا شکّ ولا ریب فی رجحان أصل حریّة العقیدة؛ لأنّ دعوة الإنبیاء

ص:43


1- (1) أنظر: مصباح یزدی، محمّد تقی، نظریه حقوقی اسلام (النظریّة الحقوقیّة فی الإسلام)، ص 375.
2- (2) أنظر: جوادی آملی، عبد الله، ارتداد وآزادی (الردّة والحریّة)، مجلّة: پاسدار اسلام، عام 22، العدد 265، ص 7.

الإلهیّین متقوّمة بهذه الحریّة، ولو لم یکن الناس أحراراً فی اختیار الدین وانتخاب العقیدة المناسبة لهم؛ لما استطاع أحدٌ التخلّی عن عقیدته السابقة، والقبول بدعوة الأنبیاء والرسل؛ فلیس هناک توجیه منطقیّ لحجّیّة دعوة الأنبیاء وتصدیق المرسلین؛ إلاّ بقبول مبدأ حریّة العقیدة.(1)

أضف إلی ذلک، لو أمعنّا النظر قلیلاً لأدرکنا أنّ العقیدة أساساً - وهی من الأمور الباطنیّة والقلبیّة للإنسان - أمرٌ تکوینیّ، والأمر التکوینیّ لیس محلاّ للإجبار والإکراه، وقوله تعالی:(لا إِکراهَ فِی الدِّینِ)2 ناظرٌ إلی هذا البُعد التکوینیّ من حریّة المعتقد.(2)

وعلی هذا الأساس، لا یمکن فرض عقیدة أو فکرة ما علی أحدٍ قَسراً، ولا عن طریقِ الترغیبِ أو الترهیب. نعم، ربّما یضطرّ هکذا إنسان إلی الإقرار بما فُرِض علیه فی الظاهر، وعلی اللسان فقط؛ لکنّه حینما یعتقد بصواب تلک العقیدة، تدخل إلی أعماق قلبه، ویعتنقها طوعاً واختیاراً.

لکن، صحیح أنّ الحریّة فی الجملة - سَواء فی مجال العقیدة، أم فی المجالات الأُخری - أمرٌ مطلوب ومرغوبٌ فیه؛ إلاّ أنّ الحریّة المطلقة غیر ممکنة من جهة، ولا راجحة من جهةٍ أُخری؛ لأنّها تفضی إلی الضلال، والحیاد عن جادّة الصواب، وتؤدّی إلی نشر الفوضی والظلم والجور فی عموم أرجاء المجتمع؛ لذا، فلا أحدَ من العقلاء فی العالم یدافع عن الحریّة المطلقة، الفاقدة إلی القیود والشروط. ومن هنا، فالإسلام - أیضاً - رسم حدوداً ووضَع أُطُراً معیّنة للحریّة؛ لکی یُصان المجتمع الإسلامیّ من الفوضی فی العقیدة، ویأمَن مؤامرات ودسائس الأعداء المتربّصین بالدین الإسلامیّ.

ص:44


1- (1) أنظر: السبحانی، جعفر، آزادی ومردم سالاری (الحریّة والدیموقراطیّة)، ص 19.
2- (3) أنظر: مصباح یزدی، مصدر متقدّم، ص 381.

إنّ الفارق بین الحریّة فی الفکر الغربیّ، والحریّة فی الفکر الإسلامیّ، یمکن تلخصیه فی أنّ الحریّة الغربیّة(1) فی جمیع مجالاتها، مقیّدة بعدم إیجاد مزاحمة لحریّة باقی أفراد المجتمع، وعدم مخالفة سیاسات الحکومة واستراتیجیّات الدولة؛ فی حین أنّ الحریّة فی المفهوم الإسلامیّ مقیّدة برعایة القوانین والتعالیم الدینیّة.(2) وتمتدّ حریّة التعبیر عن العقیدة فی الإسلام إلی آفاقٍ محدودة، بحیث لا تؤدّی إلی رواج الضلال، وتهدید سعادة الأفراد فی المجتمع الإسلامیّ.

کما أنّ الإسلام لا یُجیز التفتیش عن عقائد الناس المکتومة، فیحقّ لأفراد المجتمع التمسّک بأیّ عقیدة ومذهب، وإن لم یکن صحیحاً، ولا حکمَ فی

ص:45


1- (1) لا یخفی أنّ ما یتمّ الترویج له فی وسائل الإعلام والدول الغربیّة نفسها تحت مسمّی الحریّة، والذی بات یمثّل سلاحاً یرفعه الغرب فی وجه الثقافة الإسلامیّة وکلّ من یختلف معهم فی وجهات النظر لا یعدو کونه شعاراً واهیاً؛ ولذا، فضلاً عن الإنتهاکات غیر المباشرة لهذه الحریّات، التی یجری التعتیم علیها، وصرف الأنظار عنها، بواسطة وسائل الخداع الإعلامیّة، یمکن مشاهدة أمثلة ونماذج صریحة وواضحة علی نقض تلک المزاعم فی مختلف أعمالهم وإجراءاتهم. ومن أبرز تلک الموارد، تعاطی الغرب المزدوج مع الطالبات الجامعیّات المسلمات والنساء المحجّبات، ما أدّی إلی حرمانهنّ من مواصلة الدراسة، ومنعهنّ من العمل فی بعض المؤسّسات. وهکذا، فإنّ روجیه غارودی، الفیلسوف والمفکّر والمؤرّخ الفرنسی الشهیر، لمّا أوصلته بحوثه وتحقیقاته إلی إنکار وتفنید مزاعم الیهود بقتل الملایین منهم فی الحرب العالمیّة الثانیة، جرت محاکمته، وحُکم علیه بدفع مبلغ نقدی ضخم، ومُنع من نشر کتابه، وأغلقت دار النشر التی طبعت الکتاب المذکور. هذا، فی الوقت الذی تُرجم کتاب «الآیات الشیطانیّة» للمرتدّ سلمان رشدی إلی عشرات اللغات، بدعم من الدول والأوساط الغربیّة المختلفة، کما تنفق الحکومة البریطانیّة مبالغ طائلة من أجل الحفاظ علی روح مؤلّف هذا الکتاب، واشترطت لتحسین علاقاتها مع البلدان الإسلامیّة إلغاء حکم الإعدام الصادر بحقّ سلمان رشدی. ومن هنا، فما یُطرح الیوم بصیغة الدفاع عن حریّة التعبیر وحریّة العقیدة وما شاکل، من قبل المجتمتعات الغربیّة، ویُروّج له فی المجتمعات والأوساط الإسلامیّة، بحث غیر علمی بجمیع المعاییر والموازین؛ غایة الأمر، هؤلاء یسعون - من خلال هذه الشعارات البرّاقة - إلی تحقیق مآربهم الخاصّة وبلوغ أهداف معیّنة.
2- (2) . أنظر: مصباح یزدی، مصدر متقدّم، ص 375؛ جعفر السبحانی، مصدر متقدّم، ص 89.

الفقه والحقوق لهذهِ العقیدة، ما لم یُجاهر بها، ویُظهرها إلی العلَن، وإن أوجبت هذه العقیدة الخاطئة منع المعتقد بها، من بلوغ الکمال الحقیقیّ، أو جعلته مستحقّاً للعذاب الأخرویّ.(1)

إنّ التساؤل عن العقائد الدینیّة، والتفحّص فیها، لیس أمراً خالیاً عن الإشکال فحسب، وإنّما هو أمرُ مطلوب وراجح فی الإسلام؛ فالدین الإسلامیّ المقدّس یرحّب کلّ الترحیب، بالبحث والنقاش العلمیّ، بل ویتبنّی الدعوة إلی هذا النهج التبلیغیّ:

(ادعُ إِلی سَبِیلِ رَبِّکَ بِالحِکمَةِ وَ المَوعِظَةِ الحَسَنَةِ وَ جادِلهُم بِالَّتِی هِیَ أَحسَنُ إِنَّ رَبَّکَ هُوَ أَعلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِیلِهِ وَ هُوَ أَعلَمُ بِالمُهتَدِینَ) .(2)

کما ذمّ القرآن الکریم - فی غیرِ واحدةٍ من آیاته - التقلید الأعمی واتّباع الآباء والأجداد مراراً وتکراراً، فقال تعالی:(وَ إِذا قِیلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنزَلَ اللّهُ قالُوا بَل نَتَّبِعُ ما أَلفَینا عَلَیهِ آباءَنا أَ وَ لَو کانَ آباؤُهُم لا یَعقِلُونَ شَیئاً وَ لا یَهتَدُونَ) .(3)

وشدّد الباری عزّ وجلّ علی نبیّه الکریم صلی الله علیه و آله أن یختار - هو وأتباعه - الدعوة عن بصیرةٍ ووعیٍ کافٍ، فقال علی لسانه:(هذِهِ سَبِیلِی أَدعُوا إِلَی اللّهِ عَلی بَصِیرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِی وَ سُبحانَ اللّهِ وَ ما أَنَا مِنَ المُشرِکِینَ) .(4)

کذلک، لا إشکال فی بحث ومناقشة الشُّبُهات، التی تهجم بین الفَینة والأُخری علی فِکر الإنسان، حتّی لو کانت علی خلاف معارف الدین

ص:46


1- (1) . أنظر: مصباح یزدی، مصدر متقدّم، ص 381.
2- (2) النحل، آیه 125.
3- (3) البقرة، آیه 170.
4- (4) . یوسف، آیه 108.

وضروریّاته، فذلک أمر طبیعیّ لا ضیرَ فیه، فمَن یبحث عن الحقیقة یجعل شُکوکه وتساؤلاته مقدّمةً للبحث والتحقیق، من أجل الوصول إلی الحقیقة؛ ومن هنا، فهکذا فردٌ لا یُعدّ مُرتدّاً.(1)

صدق المرتد

ولا یصدق عنوان المرتدّ علی الشخص إلاّ إذا توفّرت فیه شروط البلوغ والعقل والاختیار، بالإضافة الی الشروط التالیة:(2)

1. إنکار ضرورة من ضروریّات الدین عالماً عامِداً.

وضروریّات الدین: هی الثوابت الدینیّة، والأُمور التی لا یعتریها الشکّ والشبهة، من قبیل: وجوب الصلاة، والصوم، والحجّ، وکذلک الإیمان بالتوحید، والمعاد، والجنّة والنار، وأمثالها.(3)

2. العلم بأنّ لازم إنکار ذلک الحکم الضروریّ، إنکارُ صِدقِ نبوّة النبیّ الکریم صلی الله علیه و آله وأساس الدین.

فإذا أنکر أحدٌ ضروریّات الدین، بعد توفّر هذه الشروط، یُحکَم بخروجه عن رِبقة الإسلام، ویصدق علیه عنوان المرتدّ، سَواء توصّل إلی ذلک عن طریق البحث العلمیّ، أم أظهر ذلک من أجل بلوغ أهداف دنیویّة معیّنة.(4) ولکن، لو قام شخص بإنکار الدین من دون سوء نیّة، بل بسبب الشبهات العلمیّة فقط، فهو معذور أمام الباری عزّ وجلّ، ولن یُبتلی بالعذاب الأُخرویّ.

بناءً علی ذلک، إن لم یوافق شخص ما علی مسألة من مسائل الدین

ص:47


1- (1) أنظر: الأنصاری، محمّد علی، الموسوعة الفقهیّة المیسّرة، ج 2، ص 19.
2- (2) أنظر: صرامی، سیف الله، احکام مرتد از دیدگاه اسلام وحقوق بشر (أحکام المرتدّ بنظر الإسلام وحقوق الإنسان)، ص 334.
3- (3) . أنظر: الأنصاری، مصدر متقدّم، ح 2، ص 16.
4- (4) أنظر: المصدر السابق، ص 15.

جهلاً بها، أو أقدم علی إنکار أمر غیر ضروریّ، أو لم یکن ملتفتاً إلی لوازم کلامه، التی تجرّ إلی إنکار القرآن وکلام المعصومین علیهم السلام، لکنّه بعد العلم والالتفات، لم یقبل بهذه اللوازم، فهکذا شخص لا یُعدّ مُرتدّاً.(1)

ویتّضح من ذلک - وبالنظر إلی قَیدَی «العلم» و «الالتزام بلوازم الکلام -» أنّ هذا الحکم لا یشمل من ابتُلیَ بالشکّ والتردّد فی معتقداته الدینیّة؛ وعلی هذا الأساس، فالمرتدّ هو فقط من قصَد إنکارَ الدین أو إحدی ضروریّاته عامداً.

کما أنّ هناک تفاصیلَ کثیرةً ودقیقةً فی موضوع الارتداد، فلا بدّ من أخذها بالحُسبان، منها أنّه یجب العلم بأنّ هذا الحکم إجراءٌ رادعٌ، مقابل مؤامرات الأعداء الرامیة إلی قلب النظام الإسلامیّ، أو إضعاف الدین الإسلامیّ، لا أنّه حکمٌ یُراد منه منع دراسة ومناقشة العقائد الإسلامیّة.(2)

وفی هذا الإطار، نُشدّد علی أنّ الدین الإسلامیّ المقدّس أکثر الأدیان تأکیداً علی التعقّل والتفکّر، والإیمان المسند إلی العلم والبصیرة؛ فعارَض التقلید الأعمی، ونهی عنه، وحارب العقائد الخرافیّة والبِدَع.

بناءً علی ذلک، من له أدنی معرفة وإلمام بالمعارف الإسلامیّة الغنیّة، لا یتوهّم بأنّ الإسلام إنّما وضّع حکم الارتداد لمناهضة التقدّم العلمیّ والانفتاح الفکریّ؛ لأنّ إحدی مفاخر الدین الإسلامیّ دعوته إلی تحصیل العلم، والبحث عن الحقیقة.

القرآن الکریم، وفی سیاق إماطة اللثام عن المخاطر التی تهدّد الإسلام، فضح بعض الطوائف من أهل الکتاب، التی تضمر الشرّ للإسلام، مبیّناً الحکمة والفلسفة من حکم الإرتداد، قائلاً:(وَ قالَت طائِفَةٌ مِن أَهلِ الکِتابِ آمِنُوا بِالَّذِی أُنزِلَ عَلَی الَّذِینَ آمَنُوا وَجهَ النَّهارِ وَ اکفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُم یَرجِعُونَ) .(3)

ص:48


1- (1) . أنظر: جوادی آملی، مصدر متقدّم، العدد 265، ص 7.
2- (2) أنظر: السبحانی، جعفر، مصدر متقدّم، ص 109-117.
3- (3) . آل عمران، آیه 72.

فهؤلاء کانوا یرومون من الإیمان أوّل النهار والکفر آخره، زعزعة إیمان المؤمنین، والتشکیک بصواب الدین الإسلامیّ، وصحّة التعالیم الدینیّة.

قال العلاّمة الطباطبائیّ فی ذیل هذه الآیة: «والمراد بقولهم: آمِنُوا بِالَّذِی أُنزِلَ.. إلخ أن یُظهِر عدّة منهم الإیمان بالقرآن، ویلحقوا بجماعة المؤمنین، ثمّ یرتدّوا فی آخر النهار، بإظهار أنّهم إنّما آمنوا أوّل النهار لما کاد یلوح لهم من إمارات الصدق والحقّ، من ظاهر الدعوة الإسلامیة؛ وإنّما ارتدّوا آخر النهار لما تبیّن لهم من شواهد البطلان، وعدم انطباق ما عندهم من بشارات النبوّة، وعلائم الحقّانیّة علی النبیّ صلی الله علیه و آله؛ فیکون ذلک مکیدةٌ یُکاد بها المؤمنون، فیرتابون فی دینهم، ویهنون فی عزیمتهم؛ فینکسر بذلک سورهم، وتبطل أحدوثتّهم».(1)

ومن خلال التدبّر فی الشروط التی وضعها الإسلام لثبوت الارتداد، یتبیّن بکلّ وضوح - کما ذکرنا آنفاً - أنّ هدف الإسلام من وراء وضعِ هذه العقوبة الصارمة علی المرتدّ، هو منع إیجاد فتنة بین المسلمین، والاستهزاء بالإسلام والعقائد الدینیّة، بالإضافة إلی صیانة أهمّ القِیَم الإلهیّة والإنسانیّة، یعنی الإیمان والعقائد الإسلامیّة الصحیحة؛ لیتسنّی له بذلک، التأکید علی لزوم کون الإیمان ناشئاً عن وعیٍ وتدبّر، لا عن تقلیدِ الآباء، فضلاً عن قطع دابر الفتنة، وإغلاق الطریق بوجه مؤامرات الأعداء، الرامیة إلی إضعاف العقائد الإسلامیّة.

وکما أشرنا سابقاً، إن اقتصر ارتداد المسلم علی عقیدته الداخلیّة، لا تجری فی حقّه العقوبة وباقی الأحکام الفقهیّة، الواردة فی حقّ المرتدّ، وإن حرم نفسه من الکمال الأُخرویّ المناسب له، أمّا لو أفصح هذا الشخص عن عقیدته،

ص:49


1- (1) الطباطبائی، محمّد حسین، المیزان فی تفسیر القرآن، قم: منشورات جماعة المدرّسین فی الحوزة العلمیّة، ج 3، ص 257.

وسرَت أفکار الردّة التی یحملها فی المجتمع، فبما أنّه عملٌ خارجیٌّ، تترتّب علیه نتائج وتبِعات حقوقیّة وفقهیّة. ففی هذه الحالة، لو أدّی الإفصاح عن تلک العقیدة، إلی إشاعة الظنون والأوهام غیر الصحیحة فی المجتمع الإسلامیّ، تبادر الحکومة والمجتمع الإسلامیّ نفسه، إلی منع انتشار العقائد المضلّة، وتُقیّد هذا الضرب من الحریّة، وهذه القضیّة أمرٌ معقول ومنطقیّ تماماً.(1)

ومن هنا، کما أنّ الأفراد والمجتمعات والحکومات مکلّفة باتّخاذ التدابیر الکفیلة بمنع انتشار الأوبئة والأمراض، لا بدّ من اتّخاذ الإجراءات اللازمة بشأن الحدّ من شیوع الأمراض النفسیّة والمعنویّة؛ لأنّ سلامة الإنسان وسعادته الدنیویّة والأخرویّة، الموقوفة علی اعتناق العقائد الصحیحة، لیست بأقلّ أهمیّة من السلامة البدنیّة والمادیّة قطعاً.

فکما لا یخامرنا الشکّ فی معاقبة السارق، أو بائع المواد المخدّرة، أو الأدویة المضرّة، لا ینبغی التردّد أیضاً فی معاقبة سارق العقائد الحقّة، وناشر الأفکار المضلّة والفتّاکة. وهکذا، نجد أنّ الدین الإسلامیّ المقدّس، الذی یری العقیدة الصحیحة والإیمان الصحیح من أهمّ القِیَم العُلیا، أکثر حرصاً من غیره علی مراقبة سلامة العقائد الإلهیّة لدی الأفراد؛ ولهذا السبب، لا یُسمح بحریّة الإفصاح عن العقیدة، والدعوة والتبلیغ لها، إلاّ إذا کان ذلک ضامناً للسعادة - والسلامة الدنیویّة والأُخرویّة، المادیّة والمعنویّة - للناس، ولم یکن مثاراً لتهدید المجتمع.

مرّة أخری، نؤکّد علی نقطة هامّة، هی: وإن کنّا نعتقد بأنّ مبانی الإسلام وأُسُسه مطابقة لحقائق العالم، وکلّ مَن بحث عنها بالطریقة الصحیحة

ص:50


1- (1) لمزید من المعلومات حول القیود فی إظهار العقیدة فی الإسلام، والأدلّة المساقة فی هذا الصدد، راجع: حقیقت، سیّد صادق، ومیر موسوی، سیّد علی، مبانی حقوق بشر از دیدگاه اسلام ودیگر مکاتب (أسس حقوق الإنسان فی الإسلام وباقی الأدیان)، طهران، ص 261.

والمنطقیّة، یؤمن - لا محالة - بصوابها وإلهیّتها، لکن، لو عمَد شخصٌ إلی إنکار ضرورةٍ من ضروریّات الدین، وبالتالی إنکار أصلِ الدین، أو صحّته وصوابه، نتیجةً للشُبُهات العلمیّة، فإنّه یُعدّ مرتدّاً، وإن کان معذوراً أمام الله تعالی، ولا یَطاله العذاب الأُخرویّ.

بناءً علی ذلک، فمنظومة الفکر الإسلامیّ تُتیح للإنسان التحقیق والبحث والتساؤل، ولکن، إذا أقدَم إنسانٌ علی إشاعة الأفکار الهدّامة، المخالفة للمعارف الإسلامیّة القطعیّة، والمتسالم علیها، والتبلیغ لها فی الأوساط الإسلامیّة، فإنّه یُمنع من الدسّ والهدم فی المجتمع الإسلامیّ.

مصادر للمطالعة

1. جوادی آملی، عبد الله، ارتداد وآزادی (الردّة والحریّة)، مجلّة: پاسدار اسلام، العام 22، العدد 265.

2. صرامی، سیف الله، احکام مرتد از دیدگاه اسلام وحقوق بشر (أحکام المرتدّ بنظر الإسلام وحقوق الإنسان).

3. مصباح یزدی، محمّد تقی، نظریه حقوقی اسلام (النظریّة الحقوقیّة فی الإسلام).

الحدیث الختامیّ

قال أمیر المؤمنین علیّ علیه السلام:

«اللَّهُم إِنَّا نَعُوذُ بِکَ أَن نَذهَبَ عَن قَولِکَ، أَو نُفتَتَنَ عَن دِینِکَ، أَو تَتَابَعَ بِنَا أَهوَاؤُنَا دُونَ الهُدَی الَّذِی جَاءَ مِن عِندِکَ».(1)

ص:51


1- (1) نهج البلاغة، الخطبة 215.

ص:52

علّة الاختلاف بین الناس

اشارة

السؤال: ما السبب فی اختلاف الناس عن بعضهم البعض، وأیّ النظریّات هی المقبولة فی هذا المجال؟

تمهید

من جملة الحقائق الواضحة الموجودة بین أبناء البشر، وجودُ اختلافات طائفیّة، وطبَقیّة، وعِرقیّة، ولُغویّة، وجنسیّة، وعقیدیّة و... والسؤال هنا هو:

ما هو منشأ کلّ هذه الاختلافات؟ هل مردّها إلی أسباب مادیّة،(1) أم أنّها نابعة من نظام الخلقة؟ فإن کانت الأسباب ناشئة من عوامِل مادیّة، فلماذا لم یتمّ إلی الآن اتّخاذ إجراءات کفیلة بحلّ المشکلة؟ وإن کانت الاختلافات معلولة لنظام التکوین والخلقة، فما الحکمة التی جعلت

ص:53


1- (1) . نحو الإختلافات الجغرافیّة الناشئة من الحدود الإعتباریّة؛ فی حین أنّ الخالق لهذا العالم واحد، والعالم والإنسان من مخلوقاته، وهذه الذات الأحدیّة لم تقل فی القرآن أو فی کتاب آخر منسوب إلیها: الشعب الفلانی أو الأمّة الفلانیّة یحقّ لهم العیش فی المنطقة الجغرافیّة الفلانیّة، لا فی مکان آخر. فالقائل بهذه الحدود المصطنعة هو الإنسان؛ وانطلاقاً من ذلک، وضع الناس حقوقاً للسکّان الأصلیّین فی منطقة معیّنة دون غیرهم، کما لم یجرِ العمل - ولن یجری طبعاً - علی إلغاء تلک الحدود التی ما أنزل الله بها من سلطان.

البشَر یعجزون عن اکتشافها؟ وما ثمرة استمرار وجودها فی حیاتهم؟

وللردّ علی هذه التساؤلات وأمثالها، یجب القول: یُستفاد من ظاهر الأسئلة، أنّ مقصود السائل وجود اختلافات ظاهریّة، وهی تلک الاختلافات التی تبرز فی سیاق اختلافات طائفیّة، وعرقیّة، ولغویّة، وما شاکَل، وقد تؤدّی فی بعض الأحیان إلی استعلاء بعض الناس علی البعض الآخر. وعلی هذا الأساس، ما ینفعنا فی هذا المجال الرجوع إلی القرآن الکریم، واستبیان موقفه من خلال استنطاق آیاته الکریمة.

الاختلافات من وجهة نظر القرآن

إنّ أشهر الآیات القرآنیّة التی تبیّن علّة بروز الاختلافات بین الناس، والتی تَنسِب هذا العمل إلی الذات الإلهیّة المقدّسة، هی قوله تعالی:(یا أَیُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقناکُم مِن ذَکَرٍ وَ أُنثی وَ جَعَلناکُم شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَکرَمَکُم عِندَ اللّهِ أَتقاکُم إِنَّ اللّهَ عَلِیمٌ خَبِیرٌ) .(1)

وممّا ورد فی تفسیرها: «(شعوباً) جمع شَعب، أعمُّ من القبیلة، و (قبائل) جمع قبیلة؛ فلا النسب ولا الشعب والقبیلة موجبة لرفع الإنسان وکرامته».(2)

وقال الراغب الإصفهانیّ فی مفرداته: «شَعبٌ: الشَّعبُ القبیلة المتشعّبة من حیٍّ واحدٍ، وجمعه شُعوبٌ، قال: شُعُوباً وَقَبَائِلَ، والشِّعبُ من الوادی ما اجتمع منه طَرَفٌ وتفرّق طرف، فإذا نظرت إلیه من الجانب الذی تَفرّق، أخذت فی وهمک واحداً یَتفرّق، وإذا نظرت من جانب الاجتماع، أخذت فی

ص:54


1- (1) . الحجرات، آیه 13.
2- (2) السیّد محمّد الحسینی الشیرازی، تبیین القرآن، بیروت: دار العلوم، ط 2، 1423 ه، ص 530.

وهمک اثنین اجتمعا؛ فلذلک قیل: شَعَبتَ، إذا جَمعتَ، وشَعَبتَ، إذا فَرّقتَ».(1)

واستعمال الشُّعوب فی الآیة الشریفة، إنّما جاء لهدَفٍ خاصّ، بیّنه المفسّرون فی ذیل هذه الآیة. وکیفما کان، فقد کان العرب فی السابق یقسّمون المجتمعات السکّانیّة إلی أقسامٍ مختلفة، أشهر تلک التقسیمات هی: الشَّعب، والقبیلة، والعِمارة أو العَمارة، والبَطن، والفخذ، والفصیلة؛ وشعوب العرب عبارة عن رَبیعَة ومُضَر؛ ولهذا، کتب بعضُ المفسّرین: «الشَّعب ما انشعب إلی قبائل، مثل بکر من رَبیعَة، وتَمیم من مُضَر؛ والقبیلة تَنشَعب إلی عَمائر، والعِمارة إلی بُطُون، والبَطن إلی أفخاذ، والفخذ إلی فصائل».(2)

وأشهر دلالات هذه الآیة الشریفة بیان بدایة خلقة الإنسان؛ فهی فی الواقع ردٌّ علی نظریّة بعض المادّیّین، نحو داروین، الذی ذهَبَ إلی أنّ أساس الإنسان من القِرد، حیث مرّ بمراحل متعدّدة من التغیّر والتطوّر، حتّی وصل إلی شکله الفعلیّ؛ ولهذا، قال العلاّمة الطباطبائیّ: «ومحصّل ما تبیّنه تلک الآیات علی تفرّقها، أنّ النوع الإنسانیّ - ولا کلّ نوع إنسانیّ، بل هذا النسل الموجود من الإنسان - لیس نوعاً مشتقّاً من نوعٍ آخر، حیوانیّ أو غیره، حوّلته إلیه الطبیعة المتحوّلة المتکاملة، بل هو نوع أبدعه الله تعالی من الأرض... وأمّا ما افترضه علماء الطبیعة، من تحوّل الأنواع، وأنّ الإنسان مشتقّ من القرد، وعلیه مدار البحث الطبیعیّ الیوم، أو متحوّل من السمک، علی ما احتمله بعض، فإنّما هی فرضیّة، والفرضیّة غیر مستندة إلی العلم الیقینیّ، وإنّما توضع لتصحیح التعلیلات والبیانات العلمیّة».(3)

ص:55


1- (1) الحسین بن محمّد المعروف بالراغب الإصفهانی، المفردات فی غریب القرآن، دمشق وبیروت: دار العلم والدار الشامیّة، ط 1، 1412 ه، ص 455.
2- (2) السیّد أمیر أبو الفتوح الحسینی الجرجانی، آیات الأحکام، طهران: انتشارات نوید، ط 1، 1404 ه، ج 2، ص 372.
3- (3) السیّد محمّد حسین الطباطبائی، المیزان فی تفسیر القرآن، قم: جماعة المدرّسین فی الحوزة العلمیّة، ج 2، ص 112.

ولا ریب فی أنّ الاختلافات الملحوظة فی ذات الإنسان، أو فی ظاهر المجتمع ترمی إلی أهداف معیّنة؛ ومن هنا، قال العلاّمة الطباطبائیّ أیضاً: «اختلاف القرائح والاستعدادات فی اقتناء مزایا الحیاة فی أفراد الإنسان، ممّا ینتهی إلی ُأصول طبیعیّة تکوینیّة، لا مناص عن تأثیرها فی فعلیّة اختلاف درجات الحیاة، وعلی ذلک جری الحال فی المجتمعات الإنسانیّة، من أقدَم عُهودها إلی یومنا هذا فیما نعلم».(1)

وعلیه، فهذا النحو من الاختلاف والتفاوت لا یرفع من قیمة الإنسان، ولا یبعث علی الافتخار والاستعلاء، وفقاً لما ذکر العلاّمة: «ذکر المفسّرون أنّ الآیة مسوقة لنفی التفاخر بالأنساب؛ وعلیه، فالمراد بقوله:(مِن ذَکَرٍ وَ أُنثی) آدم وحوّاء، والمعنی: أنّا خلقناکم من أب وأمّ، تشترکون جمیعاً فیهما، من غیر فرق بین الأبیض والأسود، والعربیّ والأعجمیّ».(2)

وقال مُفسّرٌ آخر، فی ذیل هذه الآیة الشریفة: «إنّ الآیة محلّ البحث تخاطب جمیع الناس، وتُبیّن أهمّ أصل یضمن النَّظم والثبات، وتمیّز المیزان الواقعیّ للقِیَم الإنسانیة عن القِیَم الکاذبة، والمغریات الباطلة... والمراد ب - خَلَقناکُم مِن ذَکَرٍ وَ أُنثی هو أصل الخلقة، وعودة أنساب النّاس إلی آدم وحوّاء؛ فطالما کان الجمیع من أصل واحد، فلا ینبغی أن تفتخر قبیلة علی أخری من حیث النسَب، وإذا کان الله سبحانه قد خلَق کلّ قبیلةٍ، وأولاها خصائصَ ووظائفَ معیّنة، فإنّما ذلک لحفظ نَظم حیاة الناس الاجتماعیّة؛ لأنّ هذه الاختلافات مَدعاة لمعرفةِ الناس».(3)

والآن، نتساءل: ما السبب وراء لحاظ الاختلاف فی البشریّة؟ وفی الجواب، یجب القول: إنّ القرآن الکریم نفسه أجاب بشکلٍ واضح وشفّاف

ص:56


1- (1) المصدر السابق، ج 4، ص 339.
2- (2) المصدر السابق، ج 18، ص 326.
3- (3) الشیخ مکارم الشیرازی، الأمثل فی تفسیر کتاب الله المنزّل، ج 16، ص 560-561.

عن هذا السؤال، وبیّن السبب فی الاختلاف، فقال تعالی: لِتَعارَفُوا ، ولم یَقُل: لتفاخروا. وفی ذلک، قال المفسّر الکبیر الشیخ الطبرسیّ: «أی جعلناکم کذلک لتعارفوا، فیَعرِف بعضُکم بعضاً بنَسَبه وأبیه وقومه؛ ولولا ذلک لفسدت المعاملات، وخربت الدنیا، ولما أمکن نقل حدیث».(1)

وقال فی موضعٍ آخر: «روی عکرمة، عن ابن عبّاس، أنّ النبیّ صلی الله علیه و آله قال: إنّما أنتم من رجلٍ وامرأة، کجمام الصّاع، لیس لأحدٍ علی أحدٍ فضلٌ، إلاّ بالتقوی».(2)

وهذا هو عین ما فَهِمَه عالمٌ آخر من الآیة الکریمة، فقال بکلِّ صراحة: «فلو فُرض ارتفاع المعرفة من بین أفراد المجتمع، انفصم عقد الاجتماع، وبادت الإنسانیّة؛ فهذا هو الغرض من جعل الشعوب والقبائل، لا أن تتفاخروا بالأنساب، وتتباهوا بالآباء والأمّهات».(3)

وهکذا، قال فقیهٌ آخر فی هذا الصدد: «لا شکّ أنّ کلُّ إنسانٍ یرغب بفطرته أن یکون ذا قیمة وافتخار؛ ولذلک فهو یسعی بجمیع وجوده لکسب القِیَم، إلاّ أنّ معرفة مِعیار القِیَم یختلف باختلاف الثقافات تماماً، وربّما أخذت القیم الکاذبة مکاناً بارزاً، ولم تُبقِ للقِیَم الحقّة مکاناً فی قاموس الثقافة للفرد».(4)

الأسباب الأُخری للاختلافات البشریّة

یحاول البعض أن یعزو الأسباب الحقیقیّة للاختلافات بین البشَر إلی غیر ما ذُکِر، ویسعی لإثبات أنّها ناشئة من الجینات والهندَسة الوراثیّة والبیئة و... وکان أوّل من طرَح هذه النظریّة فی علم الإجرام سیزار لومبروزو، الطبیب الإیطالیّ المعروف؛ حیث قام بدراسات مستفیضة علی جماجم المجرمین، وأسّس لنظریّته علی ذلک

ص:57


1- (1) الشیخّ الطبرسی، تفسیر مجمع البیان، بیروت: مؤسّسة الأعلمی، ط 1، ج 9، ص 230.
2- (2) المصدر السابق، ص 229.
3- (3) العلاّمة الطباطبائی، تفسیر المیزان، ج 18، ص 326.
4- (4) الأمثل فی تفسیر کتاب الله المنزّل، ج 16، ص 562.

الأساس، کما فتح بحثاً حول الإنسان المجرم بالفطرة، والجنوح بالفطرة، وقال: «الإنسان یحصل علی جین الجریمة بالإرث؛ وعلیه فالمجرمون هم الأشخاص المصابون بالاختلال العقلیّ، ومن ثمّ یبدأون بالارتداد والتراجع علی إثر ذلک». وذهب هذا العالم إلی القول بانتقال هذا الجین من القرد إلی الإنسان.

لقد بدأ نظریّته بأقوال کلیّة، ثمّ دخل فی تفاصیل کثیرة، وطوّر هذه النظریّة مرّات عِدّة، مؤکّداً علی أنّ جمیع الصفات البدنیّة لدی الإنسان متأثّرة بهذه الجینات، نحو الطول، الشکل، الأنف، وما إلی ذلک، وقد تمّت الموافقة علی هذا القول آنذاک، ولکن، هل یمکن لصفاتنا الأخلاقیّة المکتسبة أن تکون ذات مَنشأ وراثیّ؟(1)

أمّا فی الوقت الراهن، فلا أحد یقبل بهذا القول، فبقی فی إطار النظریّة وفی حدّ السماع فقط؛ لأنّ لازم القبول بهذه الفرضیّات، التشکیک باختیار الإنسان؛ إذ لو کان العامل الوراثیّ والجینات هی الباعثة علی ارتکاب الجریمة، أو الموجِبَة لاختلاف الناس فی آرائهم، فأین یکون بحث اختیار الإنسان؟ فلو کان الباعث للإنسان علی الجریمة، أو الشذوذ الخلقیّ هو جینٌ خاصّ، لا یبقی وجهٌ منطقیّ لمحاکمته ومعاقبته؛ لأنّ الإنسان المجبور معذور، ومع ذلک، فما الفائدة من تشکیل کلّ هذه المحاکم والتنظیمات القضائیّة فی العالم؟

بناءً علی ذلک، فلا الجین ولا الوراثة هی السبب الرئیس فی الاختلافات البشریّة، والنظریّة التی طرحها لومبروزو باتت الیوم أحد الأقوال المهجورة فی هذا المجال.(2) نعم، البیئة والمناخ تؤثّر فی

ص:58


1- (1) جان بنائی، جرم شناسی (علم الإجرام)، ترجمة: رضا علومی.
2- (2) مهدی کی نیا، روان شناسی جنائی (علم النفس الجنائی)، طهران: انتشارات رشد، ط 5، 1384 ش، ج 1، ص 47.

سلوکیّات الإنسان، فمردّ شطر من جمال البشَر إلی السکن فی بیئة مناسبة، کما أنّ طبیعة التغذیة ومراعاة الأمور الصحیّة، دخیلةٌ فی هذا المورد أیضاً، حیث تبعث الطراوة والحیویّة والنشاط فی روح الإنسان، وکذلک الحال بالنسبة إلی التواصل مع الأرحام، وإقامة ارتباط روحیّ عمیق معهم، له دور هامّ فی الارتقاء بالسلوک الإنسانیّ، لکنّ هذه الأُمور لا توجب إحداث الاختلافات المذکورة فی السؤال، ولا یمکن القول: البیئة تتسبّب فی نشوب نزاع دائم بین الناس، وإیجاد اختلافات متجذّرة وعمیقة بینهم.

خلاصة واستنتاج

برغم أنّ الاختلافات الموجودة بین المجتمعات البشَریّة، أو بین أفراد الناس أمر طبیعیّ، إلاّ أنّها لیست ناشئة من عوامل طبیعیّة، بل عمدة أسباب اختلاف البشّریّة، ناشئة من عوامل عقائدیّة وعملیّة، بالإضافة تقاطع مصالحهم وأذواقهم المتنوّعة، ولکن، لیس لأیّ واحد من هذه الاختلافات أدلّة موجّهة؛ وعلیه، فلا یُمکن العثور علی قولٍ صائبٍ فی هذا المجال؛ بَیدَ أنّ ما ذکره الباری عزّ وجلّ فی القرآن الکریم فی غایة المنطقیّة والرصانة العلمیّة، ویمکن توجیهه لیتّسق مع الواقع.

إذاً، الله تعالی هو السبب الرئیس والعلّة الأساسیّة لوجود هذه الاختلافات الظاهریّة؛ حیث إنّ وجود هذه الاختلافات وفقاً لدواعٍ خاصّة أمر ضروریّ، أشار له القرآن الکریم بصورة جلیّة وبعیدة عن الغموض؛ بمعنی أنّ الهدف الحقیقیّ للاختلاف التعارف بین الناس؛ لتنتظم العلاقات الإنسانیّة، وتظهر فی صیغة هادفة، وللحدّ من وقوع مشاکل وأزَمَات فی الحیاة؛ لأنّ الإنسان خُلِقَ بطریقةٍ لا یمکنه معها الاستقلال، بل هو محتاج إلی غیره فی جمیع الأمور.

ص:59

ولو تصوّرنا حاجة الإنسان الشدیدة إلی بنی جنسه، إلی جانب افتراض تساوی أفراد البشر فی کلّ شیء، لأدرکنا الإشکالیّات الکبیرة والمُعضِلات العظیمة، التی ستنجم عن ذلک، التی قد تصل إلی حدّ اختلال نظام الحیاة الإنسانیّة. ولأجل تفادی الوقوع فی مثل هذه المشکلة، اتُّخذت تدابیر إلهیّة حکیمة لتقیَ المجتمعات البشریّة من المهالک، ولتسهّل علیهم إقامة العلاقات الإنسانیّة الضروریّة واللازمة.

مصادر للمطالعة

1. السیّد محمّد الحسینیّ الشیرازیّ، تبیین القرآن، بیروت: دار العلوم، ط 2، 1423 ه.

2. السیّد أمیر أبو الفتوح الحسینیّ الجرجانیّ، آیات الأحکام، طهران: انتشارات نوید، ط 1، 1404 ه، ج 2.

3. السیّد محمّد حسین الطباطبائیّ، المیزان فی تفسیر القرآن، قم: جماعة المدرّسین فی الحوزة العلمیّة، ج 2.

4. الشیخّ الطبرسیّ، تفسیر مجمع البیان، بیروت: مؤسّسة الأعلمیّ، ط 1، ج 9.

5. الشیخ مکارم الشیرازیّ، الأمثل فی تفسیر کتاب الله المنزّل، ج 16.

6. مهدی کی نیا، روان شناسی جنائی علم النفس الجنائیّ)، طهران: انتشارات رشد، ط 5، 1384 ه. ش، ج 1.

ص:60

الحدیث الختامیّ

عن أمیر المؤمنین علیه السلام، وقد ذُکِرَ عِندهُ اختلاف الناس، فقال:

«إِنَّمَا فَرَّقَ بَینَهُم مَبَادِیءُ طِینِهِم، وَذلِکَ أَنَّهُم کَانُوا فِلقَةً مِن سَبَخِ أَرضٍ وَعَذبِهَا، وَحَزنِ تُربَةٍ وَسَهلِهَا، فَهُم عَلَی حَسَبِ قُربِ أَرضِهِم یَتَقَارَبُونَ، وَعَلَی قَدرِ اختِلاَفِهَا یَتَفَاوَتُونَ، فَتَامُّ الرُّوَاءِ(1) نَاقِصُ العَقلِ، وَمَادُّ القَامَةِ قَصِیرُ الهِمَّةِ، وَزَاکِی العَمَلِ قَبِیحُ المَنظَرِ، وَقَرِیبُ القَعرِ(2) بَعِیدُ السَّبرِ، مَعرُوفُ الضَّرِیبَةِ(3) مُنکَرُ الجَلِیبَةِ،(4) وَتَائِهُ القَلبِ مُتَفَرِّقُ اللُّبِّ، وَطَلِیقُ اللِّسَانِ حدِیدُ الجَنَانِ».(5)

ص:61


1- (1) الرُّواء - بالضمّ والمدّ -: حسن المنظر.
2- (2) القعر: یرید به قعر البدن؛ أی أنّه قصیر الجسم، لکنّه داهی الفؤاد.
3- (3) الطبیعة.
4- (4) الجلیبة: ما یتصنّعه الإنسان علی خلاف طبعه.
5- (5) . نهج البلاغة: الخطبة 234.

ص:62

علم الله بمستقبل الإنسان ومسألة الاختیار

اشارة

السؤال: هل یعنی علم الله بالمستقبل، أنّنا نُعدم الاختیار، وأنّ مصیرنا خارج عن نطاق إرادتنا، وأنّه مکتوبٌ علینا منذ البدایة؟

شرح السؤال: یقع هذا السؤال تحت إطار موضوع الجبر والاختیار، وقد أجاب المتکلّمون المسلمون عن هذه الشُبهة، خلال ردّهم علی شُبهة الجبر. والذی دعا إلی طرح هذه الشبهة هنا، هو مضامین عدد من النصوص القرآنیّة والروائیّة، التی صوّرت الباری جلّ وعلا، بالموجود العالم بماضی الإنسان وحاضره ومستقبله، بل والمطّلع علی مختلف الحالات النفسیّة الخفیّة لأفراد البشر. وهذا الاطّلاع والمعرفة بأحوال الإنسان أمرٌ أزَلیّ؛ بمعنی أنّه موجود قبل أن یتحقّق مفهوم الزمان، ویکتسب هذا المعنی الموجود فعلاً، وقبل تَکوّن العالَم أساساً.

ومن جملة الآیات القرآنیّة الکثیرة جدّاً الدالّة علی هذا المعنی، یمکن الإشارة إلی الآیات التالیة:

1.(أَنَّ اللّهَ یَعلَمُ ما فِی السَّماواتِ وَ ما فِی الأَرضِ وَ أَنَّ اللّهَ بِکُلِّ شَیءٍ عَلِیمٌ) .(1)

ص:63


1- (1) المائدة، آیه 97.

2.(وَ هُوَ اللّهُ فِی السَّماواتِ وَ فِی الأَرضِ یَعلَمُ سِرَّکُم وَ جَهرَکُم وَ یَعلَمُ ما تَکسِبُونَ) .(1)

3.(أَ لا یَعلَمُ مَن خَلَقَ وَ هُوَ اللَّطِیفُ الخَبِیرُ) .(2)

ومن جهةٍ أُخری، یؤکّد الإسلام علی أنّ الإنسان موجودٌ مختارٌ، وذو إرادةٍ واختیار، وهو مَن یقرّر مصیره بنفسه. ومن الآیات القرآنیّة المبیّنة لاختیار الإنسان، یمکن أن نشیر إلی ما یلی:

1.(إِنّا هَدَیناهُ السَّبِیلَ إِمّا شاکِراً وَ إِمّا کَفُوراً) .(3)

2.(وَ هَدَیناهُ النَّجدَینِ) .(4)

ومن البدیهیّ أنّه لا معنی للتکلیف من دون اختیار؛ فقیام الدین الإسلامیّ بوضع تکالیف علی عاتق العباد، وجعلهم مسؤولین تجاه تلک التکالیف، یُشیر إلی أنّ الإسلام یعتبر الإنسان موجوداً ذا اختیار وإرادة؛ وإلاّ أصبَح العملُ المذکورُ لغواً وعدیم الفائدة، والله تعالی - الذی وصَف نفسه بالحکیم - مُنزّه عن الأفعال اللغویّة.

ومن هنا، فإنّ وضعَ هاتین القضیّتین جنباً إلی جنب یوحی بالتناقض بحسب الظاهر، ویمکن بیان ذلک علی شکل قضیّة ذات حدّین، أو قضیّتین مترابطتین: فلو افتُرض صواب القضیّة الأولی، (یعنی أنّ عِلمَ الله تعالی محیطٌ بکلّ شیء، حتّی المصیر النهائیّ للإنسان مُنذ الأزَل)، فلا بدّ من الحکم بعدم صحّة القضیّة الثانیة، (یعنی أنّ الإنسان هو مَن یُقرّر مصیره بیده). وأمّا إن صحّت القضیّة الثانیة؛ فالقضیّة الأولی باطلة بلا ریب؛ لأنّ الله تبارک وتعالی

ص:64


1- (1) الأنعام، آیه 3.
2- (2) الملک، آیه 14.
3- (3) الإنسان، آیه 3.
4- (4) البلد، آیه 10.

إن کان عالماً بکلّ شیء، فمن المقطوع به أنّه یعلم أیضاً بما یرتکبه الإنسان من أعمال فی المستقبل؛ وبالتالی، فهو علی درایة بکونه من أهل الجنّة أو النار. والشیء الآخر الذی یعنیه صحّة القضیّة الأولی عَبَثیّة سَعی الإنسان، وعدم فائدة عمله فی الحیاة الدنیا؛ إذ الأعمال التی سیرتکبها معلومة منذ البدایة، ولیست لدیه القدرة علی تغییر هذا المصیر المحتوم؛ وذلک لأنّه إن أمکن تغییر هذا المصیر، أخلّ هذا الأمر بعلم الله تعالی.

والنتیجة الطبیعیّة والمنطقیّة لهذا البیان هو الجَبر، مع العلم بأنّ مفهوم الجَبر وسَلب القُدرة مرفوضٌ فی الدین الإسلامیّ الحنیف.

الجواب

لأجل إدراک واستیعاب هذا السؤال الفلسفیّ العمیق،(1) یلزم تقدیم مقدّمة:

النظریّات المختلفة فی قضیّة الجبر والاختیار

هذا السؤال یُعتبر جزءاً من السؤال الشهیر فی الجبر والاختیار، أو القضاء والقدَر، الوارد فی التاریخ الإسلامیّ. وفی إطار الردّ علیه، انتهجت بعض الفِرَق الکلامیّة فی الإسلام، کالأشاعرة سبیل التفریط، فاستسلمت له، وأنکرت کون الإنسان مختاراً. وفی المقابل، سلَکَت بعضُ الفرَق الأُخری کالمعتزلة طریق الإفراط؛ ولأجل إثبات الاختیار للإنسان، أنکَرَت تأثیر الإرادة الإلهیّة، ومسألة القضاء والقدَر الإلهیّ فی أعمال الإنسان، لکنّ بعضاً مِن متکلّمی الأشاعرة طرحوا نظریّةً معتدلة فی هذا المجال، أُطلِق علیها نظریّة الکسب.

أمّا مدرسة أهل البیت علیهم السلام المتجلّیة فی المذهب الشیعیّ، الذی یستلهم تعالیمه من الأئمّة المعصومین علیهم السلام، فقد طرحت نظریّة «الأمر بین الأمرین»؛ بمعنی أنّه لا جبر تامّ ولا اختیار کامل لدی الإنسان، بل الطریق الوسَط هو الصحیح. وإذا ما

ص:65


1- (1) أنظر: مرتضی مطهری، مجموعة آثار، ج 1، ص 367.

تمکّن الإنسان من حلّ هذه الإشکالیّة القدیمة، یُجاب عن هذا السؤال بشکلٍ تلقائیّ، ومن دون الحاجة إلی إطالة الکلام فی هذا المضمار.(1)

وفی مقام الردّ علی هذا التساؤل، أُجیب بجوابین أساسیّین، نحاول فیما یلی تسلیط الضوء علیهما باختصار:

الجواب الأوّل: تعلُّق عِلم الله بالنظام العِلّیّ والمعلولیّ

هذا الجواب یُفهم من کلمات عدد من الفلاسفة، کالشهید مطهری وغیره من الفلاسفة السابقین له. وفی سبیل اتّضاح هذا الجواب بشکل وافٍ، لا بدّ من عرض مقدّمة فی بضعة نقاط:

أ) ذهب الفلاسفة إلی أنّ أصل العلیّة أصل لا یمکن الخروج عنه، مهما اختلفت العوالم (سَواء فی الدنیا أم الآخرة، وفی عالم المادّة أم عالم المجرّدات)، وتبدّلت الأوضاع؛ إذ لا بدّ أن یکون لکلّ ظاهرة سبب.

ب) أصل العِلیّة أصلٌ طُولیّ؛ بمعنی أنّ المعلول یقَع، بحسَب مرتبته الوجودیّة، بعد علّته.

ج) الله تعالی، أو واجب الوجود وفقاً لاصلاح الفلاسة، یقف علی رأس هذه السلسلة؛ فجمیع العلل مآلها فی نهایة المطاف إلی ذات الباری جلّ وعلا.

وقد کتب الله سبحانه علی الإنسان أن یکون موجوداً مختاراًَ، بخلاف الموجودات الأخری؛ ومعنی کونه مختاراً، أنّه یمتلک العلم والإرادة، ولمّا تواجهه خیارات مختلفة فی موضوع معیّن، یستفید من عقله وعلمه لتحلیل تلک الخیارات، ومن ثمّ اختیار ما یراه الأنسَب والأفضل، وتجنّب ما یحتمل فیه الضرر.

وفی ضوء هذه المقدّمة، یکون جواب الفلاسفة علی السؤال المذکور

ص:66


1- (1) أنظر فی هذا المجال: الشیخ الصدوق، التوحید، باب الجبر والتفویض؛ علی ربانی گلبایگانی، الکلام المقارن، الفصل الخامس؛ هری اوستریس ولفسین، فلسفة علم الکلام، ترجمه إلی الفارسیّة: أحمد آرام، بحث الجبر والإختیار.

فی بدایة البحث بالشکل التالی: إنّ علم الله تعالی یختصّ به وبفعله، وفعله عبارة عن نظام العلّة والمعلول، وهو النظام الذی یقتضی أن تتحقّق أفعال الإنسان طبقاً لاختیاره وإرادته.

بناءً علی ذلک، فالله تعالی لیس له علمٌ مُباشرٌ بأفعال الإنسان وخیاراته، بل هو عالم بالنظام الذی وضَعَه وخلَقه، الذی یُعتبر اختیار الإنسان أحدَ مکوّناته وأجزائه الأساسیّة. ومن هنا، فالإنسان هو مَن یُقرّر مصیره بنفسه، والباری عزّ وجلّ یعلم بمصیر الإنسان بهذا الشکل؛ أی یعلم بأنّ الإنسان یصنع مستقبله بنفسه. فلیس ثمّة مصیر قد تمّ تعیینه مُسبقاً فی علم الله تعالی؛ لأنّ علم الله لا یتعلّق بالمعدوم، والأفعال التی سیقوم بها الإنسان فی المستقبل معدومة فی الأزَل؛ ذلک أنّ الجزء الأخیر من العلّة، وهو اختیار الإنسان، معدوم.

نظریة الشهید المطهری رحمه الله

اشارة

«بعبارة أخری: العلم الإلهیّ الأزَلیّ علمٌ بالنظام؛ یعنی العلم بصدور معلولات مِن عِلَل خاصّة. والعِلل والفَواعِل فی النظام الحسّیّ الخارجیّ متفاوتة: فبعضها طبیعیّ والآخر شُعوریّ، وبعضها مختار والآخر مجبور. والأمر فی النظام العلمیّ أیضاً علی هذا المنوال؛ أی أنّ کلّ فاعلٍ موجود فی العالم الحسّیّ موجود فی العالم العلمیّ کذلک، بل یجب القول: کلُّ ما هو موجود فی العالم العلمیّ، موجودٌ - أیضاً - فی العالم الحسّیّ... وما یقتضیه العلم الإلهیّ، وما یستوجبه صدور فعلِ الفاعل المختار من الفاعل المختار، وفعل الفاعل المجبور من الفاعل المجبور، فلا یوجب العلم الإلهیّ أن یُجبر الفاعل المختار، أو یختار الفاعل المجبور... فالعلم الأزلیّ تعلّق بأفعال الإنسان وأعماله؛ بمعنی أنّه تعالی یعلم منذ الأزَل - بمقتضی الحریّة والاختیار الذی یملکه الإنسان - أیّ شخص یطیعه وأیّهم یعصیه... وهذا معنی قولهم: الإنسان مختار بالإجبار؛ وعلیه،

ص:67

فلا دخل للعلم الأزَلیّ فی سلب ما کُتِب فی النظام العلمیّ والحسّیّ من لزوم الاختیار والحریّة».(1)

مناقشة الاستدلال

لکنّ هذه الجواب غیر وافٍ برفع الإبهام المذکور فی السؤال بصورة تامّة؛ ذلک أنّ غایة ما أثبته، بأنّ علم الله لا یتعلّق بجزئیّات أفعال الإنسان، وإنّما تعلّق بالنظام فقط، وهذا النظام فی الإنسان، یقتضی بأنّ الإنسان هو مَن یُعیّن تفاصیل أفعاله بنفسه، لکنّ هذا البیان یستلزم محدودیّة العلم الإلهیّ؛ ولهذا، کان العلاّمة المجلسیّ علی علم بلازم قولِ الحکماء هذا، بل بصریح قولهم، فقال:

«اعلم أنّ من ضروریّات المذهب کونه تعالی عالماً أزلاً وأبداً بجمیع الأشیاء، کلیّاتها وجزئیّاتها، من غیر تغیّر فی علمه تعالی، وخالف فی ذلک جمهور الحکماء، فنفوا العلم بالجزئیّات عنه تعالی».(2)

وهذا الأمر یستدعی تقدیم جواب آخر.

الجواب الثانی: الفصل بین العلم فی مقام الذات والعلم فی مقام الفعل

قال بعض الفلاسفة والحکماء، بالإضافة إلی عدد من العرفاء: إنّ لله تعالی نوعین من العلم: العلم فی مقام الذات، والعلم فی مقام الفعل، فعلِم الله فی مقام الذات علم إیجابیّ، بینما علمه فی مقام الفعل تَبَعیّ. فالباری تعالی قبل أن یقوم بإیجاد عالَم الخلقة، وباعتباره المهندس المصمّم والمبدع للخلقة،

ص:68


1- (1) . الشهید مطهری، مجموعة آثار، ج 2، ص 435. وقد وافق آیة الله جعفر السبحانی علی هذه النظریّة، أنظر: جعفر السبحانی، فرهنگ عقاید ومذاهب اسلامی (معجم العقائد والمذاهب الإسلامیّة)، ج 1، ص 263؛ جعفر السبحانی، الإلهیّات علی هدی الکتاب والسنّة، ج 1، ض 113.
2- (2) العلاّمة محمّد باقر المجلسی، بحار الأنوار، ج 4، ص 87.

علی ما ورد فی بعض الروایات،(1) کان علی علمٍ بالخریطة الکلیّة للعالَم فی علمه الأزَلیّ والأبدیّ، وهذا العلم هو العلم بالنظام الأحسَن؛ یعنی أنّه یعلم مُنذ الأزَل بأنّ هذا النوع من الخلقة، أفضل الخیارات المتعدّدة المتاحة لإیجاد العالم، وأنّ الموجودات فیه ستبلغ أفضل مراتب الکمال. وهذا العلم من الباری جلّ وعلا إیجابیّ؛ أی بموجبه تمّ خلق العالم.

ومن جهة أُخری، جمیع خصوصیّات الأشیاء ومواصفات الموجودات مُتعیّنة فی عالَم عِلمِ الله؛ إذ أنّ هذهِ الخصوصیّات هی التی تُحدّد الغرَض والهدَف، الذی یخلق من أجله کلّ شیء من الأشیاء. وعلی هذا الأساس، فهذا العلم یفرض أن یکون الإنسان موجوداً مختاراً، فیرسِم مستقبلهِ بنفسهِ، بعقله وعلمه من جهةٍ، وإرادته واطّلاعه من جهة ثانیة.

ولمّا کان العلم بکلّ شیء علماً بلوازم ذلک الشیء، فالله تبارک وتعالی عالم فی الأزَل بجمیع لوازم وآثار مخلوقاته التی لم تُخلَق بعد؛ لکنّ هذا العلم فی مقام الفعل، لا فی مقام الذات؛ لأنّ فعل الله تعالی أزَلیّ أیضاً.

وعلی ذلک کلّه، فهو تعالی یَعلَم - فی مقام الفعل طبعاً - بأنّ فلاناً من الناس سیقوم بالعمل الفلانیّ، استناداً إلی الاختیار المُوکَل إلیه، وبمحض إرادته؛ وبالتالی، سیکون مصیره کذا وکذا. وبرغم أنّ هذا العلم تبَعیّ، ویقع فی المرتبة التی تلی النظر إلی الماهیّة، أو بحسَب تعبیر العارفین بعد العَین

ص:69


1- (1) فمثلاً، قال أمیر المؤمنین علیه السلام فی الخطبة 191 من کتاب نهج البلاغة: «مُبتَدِعِ الخَلاَئِقِ بِعِلمِهِ». وفی روایة أخری، قال الإمام الصادق علیه السلام: «لم یزل اللهُ عزَّ وَجلَّ رَبّنا والعلمُ ذاتُهُ ولا مَعلومَ، والسّمعُ ذاتُهُ وَلا مَسموعَ، وَالبصرُ ذاتُهُ وَلا مُبصَرَ، والقُدرةُ ذاتُهُ وَلا مَقدورَ، فَلمّا أحدَثَ الأشیاءَ، وَکانَ المعلومُ، وَقعَ العلمُ مِنهُ عَلی المعلومِ، وَالسّمعُ عَلی المسموعِ، وَالبَصرُ عَلی المُبصَرِ، وَالقُدرةُ عَلی المَقدورِ». (الکلینی، أصول الکافی، ج 1، ص 107).

الثابتة للأشیاء، إلاّ أنّه لیس انفعالیّاً بتاتاً؛ بحیث لا یُوجد ذلک العلم فی الذات الإلهیّة ما لَم یوجد المعلوم.(1)

بناءً علی ذلک، الله جلّ وعلا عالِم بکلِّ تفاصیل أفعالنا، وکافّةِ جزئیّات أعمالنا؛ ولذا، نجده یخبر عن عاقبة الإنسان، وعن کونه من أهل الجنّة أم النار؛ بَید أنّ هذ العلم لا یستلزم الجبر؛ لأنّه معلوم تبَعاً للنظر إلی الخصوصیّات.

وکمثال علی ذلک، تصوّروا امتلاک علماء الأحیاء الخریطة الوراثیّة الکاملة للإنسان، من دون أیّ نقص فی جانب من جوانبها، فلا شکّ فی أنّهم سوف یکونون قادرین علی تحدید خصوصیّات الطفل الذی یُعرض علیهم، ومعرفة جمیع خصائصه الجسدیّة والفکریّة والنفسیّة، اعتماداً علی جیناته الوراثیّة، فعلم العلماء بتلک الخصوصیّات لا دخل له فی إیجادها، فلو کانت إحدی تلک الخصوصیّات تبیّن أنّ هذا الشخص سیرتکب فی الساعة الفلانیّة العمل الفلانیّ بملء إرادته وبمحض اختیاره، فهذا العلم لا یتسبّب فی سلب الإختیار عن هذا الشخص.

هذه القضیّة تصدِق أیضاً، فی موردِ عِلم الله بجزئیّات أفعال الإنسان؛ فهو عالِمٌ بکلّ تفاصیل أفعالنا وجزئیّاتها، وفی الحقیقة، یصحّ أن یقال: إنّ مصیرنا معلومٌ بنحوٍ مِن الأنحاء لله تعالی مُنذ البدایة، وسوف یؤول إلی تلک النتیجة المحتومة؛ لکنّ المسار الذی نسلکه نختاره بإرادتنا. ومن ناحیةٍ أُخری، نحن لا نُقدم، حین السیر فی هذا المسار الذی اخترناه بأنفسنا، علی تغییر ذلک المصیر؛ حیث إنّنا لا نمتلک مقوّمات وإمکانات التغییر، وخیرُ دلیلٍ علی هذا الأمر، الرجوع إلی الوجدان؛ فحینما نقف علی مفترق طُرُق، أحدهما یؤدّی

ص:70


1- (1) . للوقوف علی الفرق بین العلم الذاتی والتبعی، والفعلی والإنفعالی، أنظر: السیّد کمال الحیدری، التوحید، ج 1، ص 214.

إلی ارتکاب المعصیة، والآخر إلی ترکها، وعدنا إلی وجداننا، نری أنّ لدینا قدرة علی ترک هذا الفعل؛ غیر أنّ الله تعالی یعلم منذ الأزل بأنّنا سنختار الفعل أو الترک. وعلیه، فالباری تبارک وتعالی عالم بمصیرنا منذ الأزل، من دون أن یؤثّر ذلک علی تضییق دائرة اختیارنا.

مصادر للمطالعة

1. مرتضی مطهری، مجموعه آثار (مجموعة الآثار)، ج 1.

2. جعفر السبحانی، فرهنگ عقاید ومذاهب اسلامی (معجم العقائد والمذاهب الإسلامیّة)، ج 1.

الحدیث الختامیّ

قال الإمام محمّد الباقر علیه السلام:

«لمّ یَزَل [اللهُ] عالِماً بِما یَکونُ، فَعلمُهُ بِهِ قَبلُ کَونِهِ کَعِلمِهِ بِهِ بَعدَ کَونِهِ».(1)

ص:71


1- (1) الکافی، ج 1، ص 107؛ محمّدی الری شهری، میزان الحکمة، ج 3، ص 1912.

ص:72

علاقة الإنسان بالقضاء والقدر

اشارة

السؤال: کیف یُمکن توجیه حریّة الإنسان وتقریر مصیره، فی ضَوء القضاءِ والقدر؟

الجواب: ِمن القضایا الهامّة التی شَغَلت بالَ البشر فی مجال الإلهیّات، والمطروحة بین الأدیان الإلهیّة المتعدّدة، لا سیّما الدین الإسلامیّ المبُین، والتی طالما تعرّض لها الفلاسفة والمتکلّمون فی مبحث الإلهیّات، هی: هل أنّ أمورَ العالمَ تحدث طِبقاً لبرنامجٍ وخطّةٍ مُعدَّة سَلَفاً، ولا مَحید عنها، وأنّ هناک قدرةً غیرَ مرئیّة، وفی الوقت نفسه غیر مُنتهیة، باسم القضاء والقدرَ، تفرض هیمنتها وتبسط نفوذها علی جمیع الأحداث العالمیّة؛ وأنّ ما یحدث فی الوقت الراهن وفی المستقبل أیضاً أمرٌ تمّ تحدیده وإبرامه سَلَفاً؛ فیکون الإنسان مجبوراً فی ولادته وعیشه ورحیله عن هذه الدنیا، بل وفی کلّ ما یقوم به فی حیاته؟

أم لا وجود لشیء من هذا القبیل؛ فلا تحدث جمیع الأفعال فی العالم، ومنها أفعال الإنسان وتصرّفاته، وفقاً لخطّةٍ مُسبقةٍ وبرنامجٍ حتمیّ لا مناصَ عنه، بل الإنسان والعالمَ ککلِّ لا یخضعان لحکومةِ الجَبر والقضاء والقدر، فیتمتّع الإنسانُ بکامل الحریّة والاختیار والتسلّط التامّ علی مقدّراته وشؤونه؟

وثمّة فرضٌ ثالث، هو أنّ القضاء والقدَر حاکمٌ ومسیطرٌ علی عُمومِ أرجاء

ص:73

العالمَ، ویتحکّم فی جمیع مُقدّراته، ویدیرُ حوادِثَه وأمُوره کافّة، ویَبسط نفوذَه علی المعمورة برمّتها؛ وفی الوقت ذاته، لا تؤثّر هذه القوّة الحتمیّة، وهذا النفوذ الذی لا یُردّ، أدنی تأثیر علی حُرّیّة الإنسان واختیاره؛ ومن هنا:

1. وافَق البعضُ علی عنصر القضاء والقدَر الإلهیّ، بالنسبة إلی أفعالِ الإنسان الاختیاریّة؛ لکنّه لم ینف الاختیار الحقیقیّ للإنسان.

2. قصَرَ البعضُ الآخر دائرةَ القضاء والقدَر علی الأمور والشؤون غیر الاختیاریّة، ذاهباً إلی خروج الأفعال الاختیاریّة للإنسان عن نطِاق القضاء والقدَر.

3. حاولَت طائفةٌ ثالثةٌ انتهاج حلٍّ وسَط، فکانت بصدَد الجمع بین شمول القضاء والقدر لأفعال الإنسان الاختیاریّة، وبین إثبات حُریّة الاختیار فی تقریر مصیره بنفسه.

أهمیّة مسألة القضاء والقدر

تُعتبر مسألةُ القضاء والقدَر، والجبر والاختیار، أیضاً مسألةً کلامیّةً وفلسفیّة من جهةِ، وقضیّةً علمیّةً واجتماعیّة من جهةٍ أخری، کما أنّها تَقِف فی عِداد المباحِث التی تعرّضَت للطعن والتشهیر والمناقشة، مِن قِبَل المناوئین للإسلام. ومن هذا المنطلق، تحظی دراسة هذا الموضوع بأهمیّةٍ فائقة، وتُعَدّ من المسائل الضروریّة التی ینبغی طرحها وتناولها بالبحث والتحلیل، کیما یتّضح الرأی الصحیح والنظریّة الصائبة فی هذا المجال، من خلال الآیات والروایات، بالإضافة إلی العقل والمنطق.

خلفیّة بحث القضاء والقدر عند المسلمین

حسَب النقل التاریخی، فإنّ البحوث التقلیدیة لهذا الموضوع بدأت فی النصف الأوّل من القرن الهجری الأوّل. ویبدو أنّ أقدَمَ مسألةٍ فی البحوث

ص:74

الکلامیّة هی بحثُ القضاء والقدر، والجبر والاختیار؛ ولذا، کان طرحُ هذه المسألة بین المسلمین، فی الصدر الأوّل للإسلام أمراً طبیعیّاً؛ ذلک أنّها تستهوی کلّ مَن یتعرّض لها؛ لارتباطها الوثیق بمصیر الإنسان.(1)

ربّما لیس هناک إنسان یمتلک مقداراً ضئیلاً من الفکر العلمیّ والفلسفیّ، ولا تنقدح هذه المسألة فی ذهنه، أو تختلج فی صدره، کما قد لا یوجد مجتمع من المجتمعات التی دخلت مرحلة من مراحل التفکّر فی القضایا العلمیّة، ولم تتبادر له هذه المسألة، والمجتمع الإسلامیّ لیس بِدعاً من المجتمعات، فلا یُستثنی من هذا القانون الکلیّ. أمّا فی القرآن الکریم والسنّة المأثورة عن النبیّ الأعظم صلی الله علیه و آله، فقد طُرحت مسألة القضاء والقدر بکثرة، وبصورة واضحة لا یعتریها الشکّ والریب، کما تَطرّق عددٌ کبیر من الآیات القرآنیّة والروایات، إلی مسألة الاختیار والحریّة لدی الإنسان.

ولا غروَّ أنّ الضربة القویّة التی وجّهتها بعض المذاهب الفلسفیّة، إلی مفهوم القضاء والقدر، ومصیر الإنسان حَریّة بقدرٍ عالٍ من الاهتمام. من هنا، تری الهجَمات تَتری علی الدین بتهمة تجمید العقل الإنسانیّ، فعلی سبیل المثال، قال أحد الکتّاب الغربیّین الذین لا یمتلکون اطّلاعاً کافیاً حول الأدیان، لا سیّما الدین الإسلامیّ الحنیف: إنّ الأدیان جعلت الاعتقاد بالقضاء والقدر من ضمن مشاریعها الأساسیّة؛ ولهذا، فهی تصدّ الإنسان عن البحث والعمل الدؤوب، وتُعلّق الحوادث الفردیّة والاجتماعیّة، حَسَنها وسیّئها، علی موضوع القضاء والقدر.

وعلیه، فبدلاً من أن تکون الأدیان عاملاً محرّکاً تجاه العمل والحرکة، أضحَت سبباً فی الرکود والجُمود والتحجّر. وفی هذا السیاق، لم یتخلّف

ص:75


1- (1) . أنظر: جعفر السبحانی، القضاء والقدر فی العلم والفلسفة الإسلامیّة، ترجمه إلی العربیّة: محمّد هادی الیوسفی، ص 36.

الشرقیّون عن إخوانهم الغربیّین، فسمَحوا لهذه التصوّرات الجوفاء والکلام الفارغ، الذی لا یُسمن ولا یُغنی من جوع إلی ولُوج أفکارهم، من أنّ الأدیان - بما فیها الدین الإسلامیّ الذی یُعدّ من الأدیان البشریّة المعاصرة - تؤمن بالقضاء والقدر، وتُعیق الإنسان عن ممارسة النشاط فی طریق إصلاح الفرد والمجتمع.

ولا یخفی أنّ سبب هذه الرؤیة یعود إلی جَهل الغربیّین، وعدَم اطّلاعهم علی الأدیان، وبخاصّة الدین الإسلامیّ المبین، فی حین أنّه یُمکن التماس ذلک فی المجتمعات الشرقیّة، فی الإقبال والإدبار الذی خیّم علیهم، فضلاً عن قِلّة المعلومات وعدم الاطّلاع. ومن المُسلّم به والثابت تأریخیّاً، أنّ کلَّ فردٍ أو مجتمع لم یتمکّن من بلوغ أهدافه وتطلّعاته المادیّة والمعنویةّ، أو لم یشأ ذلک، فإنّه یُعوّل علی تسلیة نفسِه بکلمات، من قبیل القضاء والقدر، المصیر، الحظّ والإقبال، الصُّدفة، وما شاکل. وبهذا المضمون ورد عن رسول الله صلی الله علیه و آله أنّه قال:

«سَیکونُ فی آخِرِ هذهِ الأُمّةِ قَومٌ یَعمَلونَ بِالمَعاصِی، ثُمَّ یَقولونَ: هَیَ مِن اللهِ قَضاءً وَقَدراً. فِإذا لَقیتُموهُم فَأعلِموهُم أَنّی بَریءٌ مِنهُم».(1)

وعلی هذا الأساس، فإنّ ما یُستفاد من التاریخ ومن الآیات والروایات، وجود بحثِ القضاء والقدر فی صدر الإسلام؛ وعلیه، لا داعی أن نبحث عن دلیلٍ ومنشأ آخر لهذه المسألة القدیمة، وإن بدا أنّ المستشرقین یُحاولون بشتّی السبُل والطرُق الممکنة، أن یجدوا لجمیع العلوم المنتشرة بین المسلمین منشأً من خارج العالم الإسلامیّ، وبالتحدید من داخل عالم المسیحیّة، کلّ ذلک من أجل إنکار ونفی أصالة المعارف والعلوم الإسلامیّة.

ص:76


1- (1) علی البیاضی، الصراط المستقیم، المکتبة الحیدریّة فی النجف، 1384 ه، ج 1، ص 32.

القضاء والقدر لغةً

1. قال الراغب فی مفرداته: «القضاء: فصلُ الأمر، قولاً کان ذلک أو فِعلاً، وکلّ واحد منهما علی وجهین: إلهیّ وبشریّ... القدر والتقدیر تبیین کمّیة الشیء... فتقدیر الله الأشیاء علی وجهین، أحدهما: بإعطاء القدرة، والثانی: بأن یجعلها علی مقدار مخصوص، ووجه مخصوص، حسبما اقتضت الحکمة».(1)

2. القضاءُ یعنی الحکم والقطع والفصل، والقاضی إنّما أُطلق علیه هذا الإسم لأنّه یحکم بین المتنازعین ویفصل بینهما. أمّا القدر فبمعنی القیاس والتقدیر والتعیین للأشیاء.(2)

القضاء والقدَر اصطلاحاً

القضاءُ عبارةٌ عن قَونَنَة العالَم المُنشأ بقدرة الله تعالی، وتنظیمه بالشکل المطلوب، ولا صلةَ لهذا القضاء بالأعمال الاختیاریّة التی یقوم بها الإنسان عادةً، وإن کانت نتائجهما تنعکس فی مجموعةٍ متناسقة ومنسجمة. والقدَر عبارة الجنبة التنظیمة لعالم الکون.(3)

وعلی هذا، فنسبة القضاء إلی القدر هی نسبة العمَل إلی النتیجة؛ بمعنی أنّ فِعل الباری عزّ وجلّ قضاءٌ، وشکلَ جریان منظومة الکون هی القدَر؛ لأنّ القضاء عبارة عن خالقیّة الله تعالی؛ بمعنی أنّ قضاء الله إشارةٌ إلی أنّه جلّ وعلا الخالقُ لمنظومةٍ منضبطة ومنظّمة، هی عالم الکون، والقدَر عبارة عن

ص:77


1- (1) الراغب الإصفهانی، المفردات فی غرب القرآن، مکتبة مرتضوی، 1362 ه. ش، ط 2، ص 406 مادة: قضی؛ ص 395 مادة: قدر.
2- (2) مرتضی مطهّری، مجموعة آثار، انتشارات صدرا، ط 13، 1385 ه. ش، ج 1، ص 381.
3- (3) أنظر: محمّد تقی جعفری، جبر واختیار (الجبر والاختیار)، مؤسّسة تدوین ونشر آثار العلاّمة جعفری، ط 3، 1385 ه. ش، ص 273.

نتیجة خالقیّته التی ترتسم علی الموجودات کافّة؛ وهذا هو معنی قوله تعالی:(وَ کُلُّ شَیءٍ عِندَهُ بِمِقدارٍ)1

السبب فی غموض المسألة

إنّ السبب الرئیس فی الغموض الذی یکتنف هذه المسألة، هو أنّ الإنسان من جهة یری فی نفسه علامات الجبر، ومن جهة أُخری، یلمس فیها الاختیار والحریّة؛ بحیث یری أنّه لم یکن مختاراً فی ولادته وولوجه إلی عالم الدنیا، وإنّما وردها قَسراً وعنوةً، بل ونما وترعرع فی نظامٍ خاصّ خارج عن إرادته ومشیئته، کما أنّ العوامل الوراثیّة والثقافة والبیئة ترکت بصماتها الخاصّة فی روحه ونفسه. وهکذا، وجد الإنسان نفسه - فی ضوء هذه العوامل اللا إرادیّة المؤثّرة فیه قبل الولادة أو بعدها - موجوداً مُقیّداً ومُکبّلاً، لا یلوی علی شیء، ویسیر فی طریق معیّن ومرسوم له سلَفاً، ولو کان مختاراً وحرّاً فی الحرکة لما کان خاضعاً لتلک العوامل القهریّة المؤثّرة فیه من الخارج، والتی تسوقه باتّجاهٍ معیّن. هذا من الجهة الأُولی.

ومن الجهة الثانیة، بعدما یصل هذا الإنسان مرحلة البلوغ وسنّ الرشد، یستشعر فی نفسه لوناً من الاختیار، ویجد نفسه غیر مُلزماً ولا مُجبراً علی القیام بفعلٍ ما، وإن کانت قدماه قد وطأت هذا العالم من دون اختیار، وتربّی ونشأ فی نظام خاصّ؛ بید أنّه بات الیوم مُمسکاً بزمام الأمور، وقادراً علی الوقوف بوجه المشاکل، ورفع المعوّقات التی تعترض سبیله، وفِعل ما یراهُ مناسباً فی حیاته، ولا أحد ولا شیء أیضاً بوسعه إجباره علی ما لا یرغب فیه.

وهذا التعقید والتشابک فی هذه الأُمور، دفع بالبعض إلی تبنّی مسلَک الجبر، والذهاب إلی عدَم أهمیّة مظاهر الاختیار فی أعمال الإنسان. وفی

ص:78

المقابل، جرّ الإبهام الموجود فئة أُخری إلی القول بالاختیار الکامل، الذی مآله إلی تفویض أُمور الإنسان إلیه؛ وبالتالی، وُجد قُطبان متضادّان فی مجال الفلسفة والکلام. لکن، هناک طائفة أُخری سلَکت طریقاً ثالثاً، فضّت فیه النزاع الدائر بین الفریقین، وما هذا الطریق الثالث إلاّ الأمر بین الأمرین: الجبر والتفویض؛ حیث صرّح به کلّ من الکتاب والسنّة، وقام علیه الدلیل العقلیّ والفلسفیّ أیضاً.

وفیما یلی، نحاول بحث المشارب الثلاثة: الجبر، التفویض، الأمر بین الأمرین، والإشارة إلی بیان عواملها والنتائج المترتّبة علیها:

الجبر عند المادیّین

إنّ دوافع الإیمان بمسلک الجبر فی صفوف المادیّین، سواء علی مستوی العقیدة أم الأخلاق، لا تخرج عن شیئین:

1. دوافع فلسفیّة: وهی عبارة عن قانون العلّیّة والمعلولیّة، بمعنی أنّ لکلّ ظاهرة مادیّة علّةٌ ما، تنهل منها وجودها، وتنشأ بواسطتها، وعمل الإنسان عبارة عن ظاهرةٍ مادیّة تبرز فی دائرة حیاة الإنسان، وتحتاج فی وجودها إلی علّة أیضاً، وما العلّة النهائیّة لذلک إلاّ إرادة الإنسان نفسه. وهذه الإرادة معلولة لسلسلة من العوامل المرئیّة وغیر المرئیّة الأُخری، التی هی عبارة عن الغرائز، الأحاسیس، الوراثة، التربیة، المجتمع، البیئة، المناخ، بالإضافة إلی العناصر الداخلیّة والخارجیّة الأُخری، التی تُوجِد الإرادة والمشیئة فی طینة الإنسان وفطرته. وعلی هذا الأساس، ینحرف الإنسان - شاء أم أبی - باتّجاه العمل، حتّی یقوم بإنجازه بإرادته.(1)

2. الدافع الثانی: عبارة عن دافع نفسیّ، بمعنی أنّ الإیمان بالحریّة

ص:79


1- (1) أنظر: جعفر السبحانی، منشور جاوید (المیثاق الخالد)، ج 4، ص 344.

والاختیار یستلزم القول بالمسؤولیّة والعمل بالوظیفة؛ ومن هنا، یعمد ذوو التوجّه المادیّ فی الجانب الأخلاقیّ إلی القول بالجبر، ویقومون بجعل مسألة الجبر غطاء لانتهاکهم القوانین ومخالفاتهم؛ من أجل النأی بأنفسهم عن المسؤولیّة الفردیّة والاجتماعیّة، واکتساب مزید من الحریّة فی ممارسة غرائزهم وأهوائهم.

نتائج نظریّة الجبر

یترتّب علی هذه النظریّة نتائجٌ وانعکاسات وتداعیات عدیدة، منها:

1. سلب الإرادة عن الإنسان، ووضعه فی عِداد الحیوانات الأُخری، التی تفتقر إلی کلّ أنواع الإختیار، وتنجِز أعمالها بغرائزها وشهَواتها.

2. إذا ما أضحی الإنسان فی إرادته واختیاره تابعاً إلی جُملةٍ من العوامل المادیّة الخارجیّة، بحیث تکون تلک العوامل فی الحقیقة هی مَن یُقرّر مصیره ویرسم مستقبله، فلا جدوی حینئذ من محاولات إصلاح الفرد والمجتمع، ودعوته إلی القِیم والأصول الأخلاقیّة البنّاءة؛ ذلک أنّ التعویل علی التربیة، ومحاولة تغییر المسار، والتمسّک بالقیم الأخلاقیّة، إنّما یصدق من موجود ذی اختیار وإرادة، لا ممّن هو مجبور ومقهور، وفاقد للإرادة والاختیار.

ومن هنا، فنتیجة الاعتقاد بالجبر أمران:

الأوّل - تَنصّل الإنسان من کل أنواع المسؤولیّات والالتزامات المُلقاة علی عاتقه؛ لفقده لعنصر الاختیار.

الثانی - أنّ الجبر یوجّه ویُبرّر کلّ أنواع القُبح والظلم والمنکر؛ من حیث تقریره لمصیر الإنسان.

ص:80

أسباب قول بعض الإلهیّین بالجبر

لیس هناک أکثر من عامِلَین اثنین دَفعا بعضَ الموحّدین إلی التمسک بعقیدة الجبر، هُما:

أ) التوحید فی الخالقیّة، حیث إنّ هذا الأمر یستوجب أن لا نؤمن بأکثر من مؤثّرٍ واحدٍ فی الکون، فلَنا أن نقول: إنّ جمیع المؤثّرات والآثار مستندةٌ إلی الله تبارک وتعالی؛ أی أنّه خالقٌ لجمیعِ الأشیاء بلا استثناء.

ب) إنّ التقدیرَ ومصیرَ الإنسان، یعنی أنّ جمیعَ الشرائع السماویّة قد اتّفقت کلِمتها، علی أنّ مسار الحیاة لکلّ فردٍ تمّ تعیینُه مُسبقاً؛ حیث سعی بعضُ الشعراء الغاوین والمُنهزمین من مسرح الحیاة والمنهمکین فی الفساد إلی تبریرِ فسادهم، وتوجیه فشَلهم الاجتماعیّ، عن طریق التشبّث بهذا الرأی، وإظهار أنّه مُستفادٌ من قوله تعالی:(قُلِ اللّهُ خالِقُ کُلِّ شَیءٍ وَ هُوَ الواحِدُ القَهّارُ) .(1)

کما أنّ مضمون الآیات 101 و 102 من سورة الأنعام، و 62 من سورة الزمر، و 63 من سورة غافر، تصبّ فی هذا الإطار أیضاً؛ بمعنی أنّه لو کان أصل التوحید فی الخالقیّة ثابتاً، وأنّ الله تعالی خالقٌ لجمیع الأشیاء فی الکون، فأفعال الإنسان من جملة تلک الأشیاء، فیکون الخالق لها هو الله أیضاً، ویکون الإنسان مجبوراً فی أدائها.

دَحض هذه النظریّة:

علاوةً علی المفسدتَین السابقتین اللتین نتَجتا عن القول بهذه النظریّة، یوجب إنکار الاختیار لدی الإنسان سُقوط القِیَم والأُصول کافّة؛ وبالتالی، لا یکون ثمّة فرق بین الإنسان المُحسن والمُسیء، بل یتساوی الجمیع؛ إذ لا أحد منهم یقوم بعمله وهو مختار، وإنّما هو خاضعٌ لسلسلةٍ من العوامل الغامضة المرئیّة وغیر

ص:81


1- (1) الرعد، آیه 16.

المرئیّة، فهی التی تسوقه باتّجاه الأعمال الصالحة تارةً، والطالحة تارةً أُخری.

والإشکالُ الآخر علی هذه النظریّة، هو أنّ الإنسان العاصی یَندم علی عملِه بعد مدّةٍ من الزمَن، فلو لم یکن للاختیار والحریّة مجالٌ، لا معنی للندَم عندئذ.(1)

نظریّة التفویض

فی مقابل القائلین بالجبر، أمعنت طائفةٌ أُخری - من أجل الحفاظ علی العدل الإلهیّ فی مسألة اختیار الإنسان - فی نسبة الأفعال إلی الإنسان، حتّی أنکَرت تأثیر جمیع المؤثّرات الأخری، بما فیها الله تعالی، علی حریّة الإنسان فی التصرّف، فاعتبروا تلک المؤثّرات مستقلّةً فی الإیجاب والتأثیر علی الخلق.

ومن هنا، ذهب کلٌّ من ابن سینا والعلاّمة الحلیّ، إلی أنّ هذه الطائفة لا تأبه أن تقول: إنّ العالَم قادرٌ علی الاستمرار فی وجودهِ حتّی علی فرض عدم وجود الله؛ لأنّ العالَم إنّما یحتاج إلی الخالق فی أصل الحدوث والإیجاد، وقد زالت تلک الحاجة بأصل الإنشاء والإحداث، ولم تَعُد هناک حاجةٌ إلی الخالق فی البقاء والاستمرار. کما تری هذه الطائفة مقام الله بالنسبة إلی العالم کالبنّاء بالنسبة إلی البِناء، فقال العلاّمة الحلیّ فی ذلک: «ذهب قومٌ غیرُ محقّقین إلی أنّ احتیاج الأثر إلی المؤثّر، إنّما هو آنَ حدوثه، فإذا أوجد الفاعل الفعل استغنی الفعل عنه، فجاز بقاؤه بعده، وتمثّلوا فی ذلک بالبناء الباقی بعد البنّاء، وغیره من الآثار».(2)

ص:82


1- (1) جعفر السبحانی، منشور جاوید (المیثاق الخالد)، 1364 ه. ش، ج 4، ص 329.
2- (2) الحسن بن یوسف الحلی، کشف المراد فی شرح تجرید الإعتقاد (تحقیق الآملی)، المسألة الثالثة: فی أحکام العلة الفاعلیّة، ص 170. وانظر کذلک: ابن سینا، شرح الإشارات، دار نشر البلاغة، 1375 ه. ش، ج 3، ص 68.

نتائج هذه النظریّة

أ) الإشراک بالله تعالی؛ بمعنی أنّ الإنسان لو قال بأصالة العِلَل الطبیعیّة فی الکون، وذهَب إلی أنّ العالم لیس محتاجاً فی بقائه إلی الأسباب والعِلَل، وأنّ مظاهر الکون مستقلّةٌ وأصیلة بصورةٍ کاملة، وغنیّة عن غیرها تماماً؛ فهذا هو الشرک؛ لأنّ لازم هذا الکلام أنّ النظام بعد اکتسابه الوجود والحدوث یُصبح واجب الوجود، شأنُه فی ذلک شأن الله، فیدیر نفسه بنفسه، ویقوم بأعماله دون الاعتماد علی مبدءٍ سِواه.

ب) تحدید وجود الله وقدرته؛ بمعنی أنّه حینما تکون أفعالُ الإنسان مرتبطةً بالإنسان نفسه، ولا دورَ لقدرة الله وإرادته فی هذا الأمر، فلا بدّ من أن تکون خارجة عن مجالِ الإرادة والمشیّة الإلهیّة. وفی هذه الحالة، یتمّ إنکار عمومیّة القدرة الإلهیّة، بل أکثر من ذلک، یؤول الأمر إلی تحدید وتقیید الذات الإلهیّة أیضاً.

ج) استلزام الآثار التربویّة السیّئة؛ ذلک أنّ الإنسان حینما یری نفسه غنیّاً عن الله، یُعرِض عن القوانین، ویَنأی بجانبه عن الضوابط والالتزامات الأُخری، ولا یفکّر فی شیء حینئذ سوی بإشباع رغباته وأهوائه ومیوله الشخصیّة. قال تعالی:(کَلاّ إِنَّ الإِنسانَ لَیَطغی أَن رَآهُ استَغنی) .(1) وأمّا لو اعتبر الإنسان نفسَه مدیناً فی وجوده إلی الله، ومحتاجاً إلی المَعین الإلهیّ الذی لا ینضب، یری أنّ کلّ شیء من الله، ویسعی لإرضائه من خلال رعایة القوانین، وتطبیقها امتثالاً لأوامره:(یا أَیُّهَا النّاسُ أَنتُمُ الفُقَراءُ إِلَی اللّهِ وَ اللّهُ هُوَ الغَنِیُّ الحَمِیدُ) .(2)

ص:83


1- (1) العلق، آیات 6 و 7.
2- (2) فاطر، آیه 15.

النظریّة الثالثة: الأمرُ بین الأمرَین

هذه النظریّة من مبتکرات الأئمّة الهُداة علیهم السلام، وقد سعی الحُکَماء والمتکلّمون المنتمون إلی هذه الطائفة، إلی إنضاج وتعمیم هذا القول دائماً، ذاهبین إلی أنّه من أعظم ابتکارات الأئمّة الأطهار من أهل البیت علیهم السلام فی تاریخ علم الکلام.

هذه الرؤیة، تذهب إلی أنّ الإنسان - خلافاً للنباتات والحیوانات السجینة فی زنزانة القوی الحیوانیّة الطبیعیّة والغریزیّة، وعلی طرَفَی نقیضٍ، مع القول الذی یُفوّض أعمال الإنسان إلی الإنسان نفسه، الذی یُخرج الأفعال البشریّة عن دائرة العلم والمشیّة والقدرة الإلهیّة، وخلافاً للرؤیة المعطّلة للعقل البشریّ - قادر علی الإفادة من جمیع قواه الداخلیّة والخارجیّة، فضلاً عن الغرائز المودعة فیه، بصورة معقولة ومنطقیّة، واستخدامها فی مواصلة الحیاة والعمل الدؤوب؛ وفی الوقت ذاته، لا یَغفلُ ولا یُذهَل لحظةً واحدةًَ عن الخالق الباریء، الذی منح الوجود له وللعالَم بأسره، فبقیَت تربطه به صلةٌ وثیقة.

شرح هذه النظریّة فی عدّة نقاط

أوّلاً: إنّ حاجةَ المعلول إلی العلّة غیرُ مقصورةٍ علی حالةِ الحدوث والتحقّق والإیجاد فقط؛ ذلک أنّ نظام العالَم، ومنه الإنسان، نظامٌ إمکانیٌّ، والنظام الإمکانیّ - بالذات - فاقدٌ لکلّ شیء. وعلیه، فهو محتاجٌ إلی العِلّة فی جمیع مراحل عُمُره، لا فی أصل الوجود والحدوث؛ فعلی سبیل المثال، الغرفة المظلمة تُضاء بالضغط علی زرّ الکهرباء،، وإنارة المصباح الکهربائیّ إنّما هی لأجل التیّار الکهربائیّ الساری فی الأسلاک، والذی یستمدّ وجوده من جهاز المولّد الکهربائیّ. وهذه الحاجة لیست حاجةً آنیّةً ومحدودة، بل هی حاجةٌ مستمرّةٌ ومداومة؛ والدلیل علی ذلک أنّ الظلام سیعمّ الغُرفة ما إن ینقطع الارتباط بین المصباح وبین المولّد.

ص:84

وهکذا الحال بالنسبة إلی حاجة العالم والإنسان والموجودات الطبیعیّة کافّة إلی الله تبارک وتعالی.

ثانیاً: صحیح أنّ الکون - والإنسان تبعاً له طبعاً - عبارة عن نظام إمکانیّ محتاج من جمیع الجهات إلی المبدأ الأزَلیّ، وغیرُ مالکٍ لأدنی مقوّمات الاستقلال فی ذاته؛ غیر أنّه فی الوقت نفسه، یوجد فی صُلب هذا النظام مراتبٌ ودرجات مختلفة للکائنات، بحیث یکون بعضها علّةً للبعض الآخر، وبعضها معلولاً لغیره، ومجموع النظام مرتبط بعِلّة العِلَل ومُسبّب الأسباب؛ فلیس أثرُ کلّ موجودٍ من الموجودات أثراً مباشراً لفعلِ الله تعالی، بل هناک سلسلةٌ من العِلَل والأسباب.(1)

وعلی هذا الأساس، قال الإمام أبو عبد الله الصادق علیه السلام:

«أبی اللهُ أن یجریَ الأشیاءَ إلاّ بأسبابٍ؛ فجعلَ لکلِّ شیءٍ سبباً...».(2)

ثالثاً: خُلِقَ الإنسانُ کموجودٍ مختارٍ وقادرٍ علی اتّخاذ القرار الذی یَشاء، ومُنح لأجل تحقیق مطالبه وتلبیة احتیاجاته، قوّة للتشخیص والتمییز؛ فهو یمتلک تمام الاختیار والبصیرة والاطّلاع والحساب، کما أنّه حرّ فی ترجیح طرفٍ علی آخر، واختیار الأنسَب؛ بمعنی أنّ هذا الکائن مرتبطٌ بموجود أسمی وأرفع، وفی الوقت ذاته، هو عالم وقادر ومختار لما یرتأی ویرغب، من دون أن تؤثّر علیه قوّةٌ من الخارج أو الداخل، أو تضغط علیه وتجبره علی اختیارِ طرفٍ علی حساب طرفٍ آخر.

ومن خلال الالتفات إلی النقاط الآنفة، تتّضح حقیقة الأمر بین الأمرین؛ بحیث یکون الإنسان بحکم الأمر الأوّل محتاجاً إلی الله تعالی حاجةً متواصلة ومستمرّة، ویتحقّق فی هذه الحالة التوحید فی الخالقیّة؛

ص:85


1- (1) جعفر السبحانی، منشور جاوید (المیثاق الخالد)، ج 4، ص 73.
2- (2) أصول الکافی، طهران: دار الکتب الإسلامیّة، 1365 ه. ش، ج 1، ص 181.

لأنّ وجودَ کلِّ فاعلٍ مُمکن، وتأثیره فی عملٍ ما، بنفسه یمثّل جانباً من قُدرة الباری عزّ وجلّ، والموجود الممکن محتاج إلی مبدأ الوجود وقُدرته الواسِعة وجوداً وبقاءً.

أمّا الأمر الثانی فقد اعتُبِر النظام الإمکانیّ نظاماً عِلّیاً ومعلولیّاً؛ أی من غیر الصحیح أن نعزو جمیعَ الأعمال والأفعال والآثار إلی الله بصورةٍ مباشرة، بل الله جلّ وعلا هو العلّة الأصلیّة، وهو مبدأ جمیع العِلَل والقدرات، وتأثیر وإبداع العوامل والعِلَل الأُخری إنّما هو فی امتداد إبداعه تعالی؛ لکن، ممّا لا یتخلّله الشکّ والشبهة، هو التأثیر الخاصّ لکلّ علّةٍ وأثرٍ طبیعیّ؛ فمثلاً، لا ینبغی التردّد فی تأثیر النار.

والأمر الثالث فرَزَ بین الإنسان والفواعل الأُخری؛ إذ أنّ الموجود فی الفواعل الأخری لا یعدو الانتساب، کالإحراق فی النّار، ولا یمتلک الاختیار والحریّة، فلا یصحّ اعتباره مسؤولاً عن عمله. أمّا الإنسان، فلمّا کان مختاراً وحُرّاً وقادراً علی حساب الأُمور، یُعتبر - فضلاً عن انتساب الفعل إلیه - مسؤولاً عن أعماله، ویتحمّل المسؤولیّة ونتائج أفعاله فی مجالِ الأخلاق والاجتماع و... وعلی هذا الأساس، یتمّ الحفاظ علی «العدل الإلهیّ» من دون أیّ إشکال علیه.

أمّا من الناحیة الفلسفیّة فلهذا الفعل نسبتان: نسبة إلی الله تعالی؛ لأنّه خالق الکون والإنسان وکلّ ما فی الوجود، ونسبة إلی المخلوق؛ لأنّه هو من یقرّر، ویستخدم القوی الفطریّة المودعة فیه فی إنجاز أعماله، وتحقیق نوایاه، فی ضوء الاختیار الذی یتمتّع به. وبرغم أنّ الفعل منسوب إلی الطرفین، فإنّ للعمل علّةً تامّةً، یجب بها وجوده، وهی إرادة الإنسان، وسلامة أدوات العمل منه، ووجود مادّة قابلة للعمل، والزمان، والمکان، وعدم الموانع والعوائق، إلی غیر ذلک؛ فإذا اجتمعت وتمّت وکمُلَت، کان ثبوت العمل ضروریّاً؛ فللعمل إلیها نسبة هی نسبة الوجوب، وله إلی کلّ واحد من أجزاء علّته التامّة - ومن جملتها

ص:86

إرادة الإنسان - نسبة هی نسبة الإمکان؛ فإنّ العمل لا یجب وجوده بمجرّد تحقّق الإرادة فقط، بل یمکن، وإنّما یجب لو انضمّت إلیه بقیّة أجزاء العلّة.

فالعمل المتحقّق بضرورة العلّة التامّة، فی عین هذا الحال، له نسبة الوجوب إلی مجموع العلّة التامّة، ونسبة الإمکان إلی إرادة الانسان، ولا تُبطل نسبته الوجوبیّة إلی العلّة التامّة نسبته الإمکانیة إلی إراده الإنسان، ولا تقلبها عن الإمکان إلی الضرورة، بل نسبةُ العملِ إلی الإنسان بالإمکان دائماً، کما أنّ نسبتَه إلی المجموع الحاصل من الإنسان وبقیّة أجزاء العلّة التامّة بالوجوب دائماً، وطرفا الفعل والترک متساویان بالنّسبة إلی الإنسان أبداً، کما أنّ أحد الطرفین من الفعل والترک متعیّن بالنظر إلی العلّة التامّة أبداً.

وینتج، أنّ الفعلَ اختیاریٌّ للإنسان، فی عین أنّه لا یخلو فی وجوده عن علّة تامّة موجبة له، والقضاء الحتم من صفاته تعالی الفعلیّة، منتزع عن مقام الفعل، وهو سلسلة العلل المترتّبة بحسب نظام الوجود. فمثلاً، لو تعلّق عِلمُه تعالی بأنّ إنساناً ما سیشقی بکفره اختیاریّاً، فإنّ ذلک یستوجب تحقّق الشقوة التی عن الکفر، دون الشقوة المطلقة، سَواء کان هناک کفر أم لا. فاتّضح أنّ علمه تعالی بعمل الإنسان لا یستوجب بطلان الاختیار، وثبوت الإجبار، وإن کان معلومه تعالی لا یتخلّف عن عِلمه.(1)

وروی عن أبی الحسن الرّضا علیه السلام، وقد ذُکر عنده الجبر والتفویض، فقال: «ألا أُعطیکم فی هذا أصلاً لا تختلفون فیه، ولا تُخاصِمون علیه أحداً إلاّ کسرتموه؟». قلنا: إن رأیت ذلک، فقال: «إنّ الله عزَّ وجلّ لم یُطَع بإکراه، ولم یُعصَ بغلَبة، ولم یَهمل العِباد فی مُلکه، هو المالک لِما ملّکهم، والقادرُ علی ما أقدَرهم علیه؛ فإن ائتمر العبادُ بطاعته لم یکن الله عنها صادّاً، ولا منها مانعاً، وإن

ص:87


1- (1) أنظر: محمّد حسین الطباطبائی، تفسیر المیزان، منشورات جماعة المدرّسین فی الحوزة العلمیّة فی قم، ج 11، ص 20-22.

ائتمروا بمعصیته، فشاءَ أن یَحول بینهم وبین ذلک فعَلَ، وإن لم یحُل وفعَلوه، فلیس هو الذی أدخلَهم فیه»، ثمّ قال علیه السلام:

«مَن یضبط حدودَ هذا الکلام فقد خصَم مَن خالَفه».(1)

مصادر للمطالعة

1. مرتضی مطهری، مجموعه آثار (مجموعة الآثار)، قم، انتشارات صدرا، ط 13، 1385 ه. ش، ج 1.

2. محمّد مهدی گرجیان، قضاء وقدر، جبر واختیار (القضاء والقدر، الجبر والاختیار)، دار النشر التابعة لجامعة المدرّسین فی حوزة قم العلمیّة، 1374 ه. ش.

الحدیث الختامیّ:

قال رسول الله صلی الله علیه و آله:

«قال الله جلّ جلاله: مَن لَم یَرضَ بِقَضائی وَلَم یُؤمِن بِقَدَری فَلیَلتَمِس إلهاً غَیری».(2)

ص:88


1- (1) الصدوق، عیون أخبار الرضا، ج 1، ص 169؛ الصدوق، التوحید، ص 366، ح 7.
2- (2) الری شهری، منتخب میزان الحکمة، ص 468.

اختیار الإنسان والتأثیر الوراثیّ

اشارة

السؤال: إن کان الإنسانُ مختاراً فی أعماله بشکلٍ کامل، فأین هو مِن تأثیر العوامل الوراثیّة والبیئة؟

مقدّمة:

تعتبر مسألةُ الجبر والاختیار من المسائل العویصة التی أثارت جدَلاً واسعاً، وتمّ التعرّض لها بکثرة علی مرّ التاریخ؛ فلا شکّ فی أنّ من کان معتقداً بالاختیار یتصّرف بطریقةٍ مغایرةٍ لمن یؤمن بالجبر، ومع أنّ هذا الموضوع ذو طابع ومنحی فلسفیّ وکلامیّ، إلاّ أنّه الیوم یُنظَر إلیه من زاویةِ مبحث علم النفس والعلوم التربویّة، ویُبحث من منظار مدی تأثیر البیئة والوراثة فی هذا الموضوع.

وفی هذا الإطار، ذهب أصحاب بعض المذاهب النفسیّة؛ نحو السلوکیّین والروحیّین وغیرهم إلی تأثیر البیئة والوراثة فی الإنسان بشکل کامل، ویفترضون أنّه کالآلة التی لا تمتلک أیّ لون من الإرادة والاختیار، فیجب علیه أن یقول ما یُملیه علیه المُتربّع علی عرش الأزَل، فهم یرون أنّ الإنسان فاقد للإرادة مطلقاً، وتابع - بصورة محضة - إلی العوامل الفسلجیّة

ص:89

والبیئیّة، التی تتقاذفه کیفما وأینما شاءت. والسؤال المطروح هنا: ما هی حقیقة الأمر، وما مدی تأثیر العوامل البیئیّة والوارثیّة علی مصیر الإنسان، وإلی أیّ حدّ یمکن الموافقة علی ذلک؟

من المسلّم به، وکما اعترف به الکثیرون، أنّ للبیئة والوراثة تأثیراً عمیقاً علی الإنسان؛ لکنّ ذلک لا یبلغ مبلغ سلب الإرادة والاختیار عن الإنسان، کما علیه رأی الشیعة. قال آیة الله جعفر السبحانیّ فی هذا المجال:

«لا شکّ فی تأثیرِ هذه العوامل فی تکوینِ الشخصیّة؛ ولکن، لیس تأثیرهُا إلی درجةٍ یسلب الاختیار من الإنسان».(1)

الخلفیّة التاریخیّة

إنّ أساس هذا البحث ورَد من الفلسفة؛ لکنّ ازدهار العلوم التجریبیّة، أو انتشار مفهوم العلمویّة فی العالَم استوجب تصوّر الإنسان کالآلة الفاقدة للإرادة والاختیار، وأنّه محکومٌ للبیئة والوراثة والعوامل الأُخری التی تحدّد له مصیره.

بناءً علی ذلک، الجذور التاریخیّة للبحث موجودة فی الکلام والفلسفة من جِهة، وفی علم النفس من جهةٍ أُخری. ففی المجال الکلامیّ، قال الشهید مطهّریّ:

بدأت البحوث الکلامیّة بالظهور - کما هو مُستفادٌ من التواریخ - منذ النصف الثانی من القرن الهجریّ الأوّل، ومن بین البحوث الکلامیّة المختلفة، یبدو أنّ بحث الجبر والاختیار من أقدمها وجوداً. ولا غروَّ أنّ مسألةَ الجبر والاختیار بالدرجة الأُولی مسألةٌ إنسانیّة، وبالدرجة الثانیة مسألةٌ إلهیّةٌ أو طبیعیّة؛ ذلک أنّ موضوع البحث فیها علی، کلّ حال، هو الإنسان، هل هو مختارٌ أم مجبور؟ وهو موضوع إنسانیّ، هذا من جهة، ومن جهةٍ أُخری، فإنّ الطرَف الآخر فی المسألة هو الله أو الطبیعة، وهل أنّ الإرادة والمشیّة،

ص:90


1- (1) جعفر السبحانی، الإلهیّات علی هدی الکتاب والسنّة والعقل، ص 661-662.

والقضاء والقدَر الإلهیّ، هی التی جعَلَت الإنسانَ مختاراً أو مجبوراً، أو أنّ العوامِل الجبریة والنظام العِلّی والمعلولی هی التی جعلَته کذالک؟ فهی إمّا مسألة إلهیّة أو طبیعیّة.(1)

هذا البحث ممّا یتبادر إلی ذِهن کلّ إنسان، سَواء کان التفکیر الحاکم علیه مادیّاً أم إلهیّاً. ومَن لا یؤمن بوجود الله تعالی، یحاول نسبة هذا العمل إلی الطبیعة أو العوامل الأُخری، کالبیئة والمحیط والوراثة و... والاستعاضة بها عن الباری عزّ وجلّ، سَواء کانت هذه العوامل نابعة من داخل الإنسان، کالأفعال والانفعالات الکیمیاویّة للبدَن، أم مفروضة علیه من الخارج. ولمّا کان المدیر للکون، وصاحب القرار فی علم الکلام، هو الله جلّ وعلا، یُطرح البحث هنا حول علم الله ومدی تأثیره علی الإنسان؛ فی حین أنّ هذا البحث ینحو فی أوساط العلماء التجریبیّین وعلماء المادةّ والطبیعة منحی آخر، ویدور مدار البیئة والوراثة.

مفهوم الجبر والاختیار

الجَبر لغةً علی ما ذکر علماء اللغة: هو أن تَجبُر إنساناً علی ما لا یُرید، وتُکرِهَهُ جَبَریّة علی کذا.(2) والجَبرُ: تثبیت وقوع القضاء والقدر... والجَبرُ خلاف الکسر، جَبَرَ العظم.(3)

أمّا الاختیار لغةً فهو الاصطفاء، وکذلک التخیّر.(4) وقال الطریحیّ أیضاً: والاختیار الإصطفاء... ومنه «خیّرته بین الشیئین» أی فوّضت إلیه الخیار.(5)

ص:91


1- (1) مرتضی مطهری، مجموعة آثار، ج 1، ص 41 و 43.
2- (2) الخلیل بن أحمد الفراهیدی، کتاب العین، تحقیق: مهدی المخزومی وإبراهیم السامرّائی، مادّة: جبر.
3- (3) ابن منظور، لسان العرب، مادّة: جبر.
4- (4) المصدر السابق، مادّة: خیر.
5- (5) فخر الدین الطریحی، مجمع البحرین، تحقیق: السیّد أحمد الحسینی، مادّة: خیر.

وعلیه، فمن یملک القدرة علی الفعل والترک هو المختار؛ خلافاً للمجبور، حیث یُفرض علیه العمل من العالم العلویّ أو البیئة والعوامل الوراثیّة و...

الجبر والاختیار فی اصطلاح علم النفس: ما ذُکر إلی الآن بشأن الجبر والاختیار کان عبارة عن المعانی اللغویّة؛ أمّا فی اصطلاح علم النفس، نحو المباحث المطروحة فی العلوم الأخری، فالحدیث حول هل أنّ الإنسان قادر علی الإختیار واتّخاذ القرار المناسب له فی مجمل أعماله وأفعاله المختلفة، أم لا؟ وبعبارةٍ أُخری: «المراد من الاختیار هنا ضرب من القدرة النفسیّة الخاصّة بالإنسان، بحیث یستطیع الشخص بموجبها الأخذ بزمام التأثیرات البیئیّة والمناخیّة، وتطویعها لصالحه، ضمن نطاق خاصّ؛ وفی نهایة المطاف، التمکّن من تحدید سلوکه ورسم مسار التقدّم والتطوّر لدیه، عن علم ودرایة واطّلاع تامّ».(1) والجبر یقابل الإختیار من حیث المعنی.

وفی صیاغةٍ أُخری، یُمکن القول: کیف تکون ماهیّة الإنسان فی مسألةِ الجبر والاختیار؟ من بین الموضوعات الجوهریّة، التی توضّح التصوّر حول ماهیّة الإنسان الرجوع إلی الجدَل القدیم بین الإرادة المختارة والمجبورة. وقد طرح المنظّرون فی کِلا الجانبین الأسئلة التالیة:

هل نحن قادرون علی التحکّم بمنحی أعمالنا والقیام بها بذکاء ونباهة؟

وهل قادرون بشکلٍ تلقائیٍّ ومستقلٍّ، علی اختیار جهة أَفکارنا وسُلوکنا، والعمل علی انتقائها من بین الخیارات والحلول المتاحة بصورة منطقیّة؟

هل لدینا اطّلاعٌ تامّ ویَقظةٌ کافیة، ودرجة من الإرادة الذاتیّة؟

وهل نحن مسلّطون علی مستقبلنا، أم أنّنا ضحیّة التجارب التی الماضیة، والعوامل البیئیّة، والقوی المتّسمة بالجُمود، والمحرّکات

ص:92


1- (1) مجموعة مؤلّفین، روان شناسی رشد (1) با نگرش به منابع اسلامی (دراسة نفسیّة للنموّ (1) فی ضوء المصادر الإسلامیّة)، ص 245.

الخارجیّة المختلفة، وباقی العوامل التی نفتقر إلی السیطرة الفاعلة علیها؟

أَ إنّ الحوادث الخارجیّة أسهمت فی بَلوَرة وتکوین شخصیّتنا، إلی درجةٍ لم نَعُد، معها، قادرین علی تغییر سلوکنا؟(1)

هذه جملة من الأسئلة التی یتعذّر الردّ علیها، ما لم یحدّد الإنسان موقفه من الجبر والاختیار.

البیئة والوراثة

تعریف البیئة والمحیط: کلّ ما هو خارج عن الإنسان، ومحیطٌ به یُعدّ محیطاً وبیئةً له، وقیل فی تعریف المحیط: ما یشتمل علی جمیع المتغیّرات الخارجة عن وجود الفرد، ممّا یحیط به ویؤثّر فیه، أو ما یتأثّر به الإنسان، منذ نشوئه وانعقاد نطفته، حتّی وقت ولادته، ومن ثمّ وفاته ورحیله عن الحیاة الدنیا.(2)

تعریف الوراثة: وهی عبارة عن انتقال الصفات من الآباء إلی الأبناء، عن طریق الجینات الموجودة فی الکروموسومات، وفی النتیجة، صناعة شخصیّة الإنسان.(3)

ولا شکّ فی کون البیئة والوراثة من العوامل المؤثّرة بشکلٍ کبیر علی الإنسان، ولمّا یلقی الإنسان نظرة أوّلیّة وظاهریّة، یتصوّر أنّ کلّ ما لدیه مُکتسبٌ من البیئة والمحیط والوراثة؛ لأنّه قلّما یوجد شخص نما وترعرع خلافاً للبیئة المتواجد فیها، وفی بعض الأحیان لا مناصَ للإنسان، من تقبّل

ص:93


1- (1) أنظر: شولتز دوان وسیدنی آلن، نظریه های شخصیت (النظریّات حول الشخصیّة)، ترجمه إلی الفارسیّة: یحیی سیّد محمدی، ص 41.
2- (2) أنظر: ناصر بی ریا وآخرین، روان شناسی رشد (1) / دراسة نفسیّة للنموّ (1)، ص 219.
3- (3) أنظر: لورا إی بیرک، روان شناسی رشد (از لقاح تا کودکی) / دراسة نفسیّة للنموّ (من اللقاح حتّی الطفولة)، ترجمة: یحیی سیّد محمدی، ج 1، ص 73.

ما یفرضه علیه محیطه والانصیاع له، ولا یخفی أنّ المحیط یبدأ مع الفرد مُذ کان فی رحِمِ أُمّه، ویشمل المجتمع والمدرسة وکلّ مفردات الحیاة، حتّی المناخ والطقس.

الحلّ

اشارة

إنّ فکرة صناعة شخصیّة الإنسان علی ید البیئة، والثقافة السائدة والوارثة، من البحوث العریقة فی علم الکلام وعلم النفس، وله من السِّعة ما یُحیط بأطراف الکُرة الأرضیّة، فانتشر فی شرق الأرض وغربها؛ ولهذا، أذعَن الکثیرون بأنّ الإنسان حصیلةُ تنشئة البیئة والوارثة. وفی هذا الصدد، قال روسو:

«کلّ ما نفقده فی الصِّبا، وسوف نحتاج إلیه فی الکِبَر، نحصل علیه من خلال التربیة، وهذه التربیة تتأتّی، إمّا عن طریق التعلّم من الطبیعة أو بنی البشر، أو الأشیاء الأُخری؛ ومن هنا، فإنّ تطویر الطاقات الداخلیّة وأعضاء البدَن إنّما یتمّ بواسطة التربیة المُتستمدّة من الطبیعة.

أمّا تربیة الناس فتُعلّمنا کیف ینبغی أن نستفید من تطویر الطاقات والقوی. وأمّا ما نتعلّمه عبر اختبار الأشیاء المحیطة بنا والمؤثّرة علینا، فهو التربیة التی تُعلّمناها الأشیاء. وبناءً علی ذلک، فکلّ واحد منّا یتربّی بواسطة ثلاثة أساتذة: الطبیعة، البشَر، الأشیاء الأُخری».(1)

وانطلاقاً من ذلک، فکما أنّ المناخ السلیم والبیئة الملائمة تترک بصَمَاتها علی طعم الفواکه ولونِها وشکلِها بصورة عامّة، فإنّها کذلک، تؤثّر أثرها علی الأخلاق والآداب والتربیة لأبناء البشَر؛ حیث یُشاهَد بوضوح الأثر العمیق الذی تترکه الوراثة والمحیط الذی یعیش فیه الإنسان علی نفسه وروحه،

ص:94


1- (1) جان جاک روسو، امیل یا آموزش وپرورش (الفطرة أم التعلیم والتربیة)، ترجمه إلی الفارسیّة: غلام حسین زیرک زادة، ص 7-8.

واجتذابه باتّجاه العادات والتقالید والرسوم السائدة فی ذلک المجتمع.

ومن هنا، نجد أنّ الطفلَ مُذ یبلغ السنّ الثالثة من العمر، وحتّی تثبیت شخصیّته، یتأثّر بالبیئة والمحیط أکثر من أیّ شیءٍ آخر، کما یظهر ذلک فی الحوارات والأفعال والعادات والتقالید و... وعلیه، فالبیئة السلیمة تنتج إنساناً سلیماً، وقوله تعالی:(أَ لَم تَکُن أَرضُ اللّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِیها)1 یُشیر، بنحوٍ ما، إلی القبول بتأثیر البیئة علی الإنسان. ولکن، برغم کلّ ذلک، فالبیئة والوراثة لیست هی العامل الوحید المُسیّر للإنسان، بل إنّ الإنسانَ رهنٌ بعمله، وهو مَن یُقرّر مصیره بنفسه؛ ولإثبات هذا الأمر، نستعرض عدداً من الأدلّة علی ذلک:

1- جهود المصلحین

إنّ الله تعالی بعث الأنبیاء والمرسلین فی کلّ زمانٍ ومکان، من أجل هدایة البشَر وحثّهم علی السیر علی الصراط القویم، وفی ذلک قال عزّ من قائل:(وَ ما کُنّا مُعَذِّبِینَ حَتّی نَبعَثَ رَسُولاً) .(1)

فلو کان المحیط والبیئة والوراثة یؤثّر علی الإنسان إلی حدِّ الجبر، لما کان معنی لقوله تعالی:(أَ لَم تَکُن أَرضُ اللّهِ واسِعَةً...) ، ولا فائدة مُتوخّاة من بعث الرُّسُل والأنبیاء. وقد حازَ هذا الموضوع اهتماماً کبیراً فی علم الکلام الإسلامیّ کذلک، فتمّ التساؤل فیه:

إلی أیِّ حدٍّ تؤثِّر البیئةُ والوراثة علی الإنسان؟

وفی هذا الصدَد، قال آیة الله جعفرالسبحانیّ: «إنّه لا شکَّ فی تأثیر هذه

ص:95


1- (2) الإسراء، آیه 15.

العوامل فی تکوین الشخصیّة؛ ولکن، لیس تأثیرها إلی درجةٍ یَسلب الاختیار من الإنسان؛ إذ لو صحّ هذا، لِزم بُطلان جهود المُربّین، وصیرورة أعمال المصلحین هَواء فی شَبَک».(1)

وبهذا، یتبیّن أنّ اختیار الإنسان حاکمٌ علی التأثیر الوراثیّ والبیئیّ؛ فبرغم تأثّر الإنسان بهما إلاّ أنّه قادرٌ علی نَبذ کثیرٍ من الرذائل والمُوبِقات، وإن اقترن هذا العمل بمصاعب ومشاکل جمّة، وتطلّب جهوداً جبّارة.

2- تأثیر البیئة والوراثة علی بعض الأفعال

یقومُ الإنسان بأفعال متفاوتة ومتنوّعة؛ لکنّ إرادة الإنسان غیر دخیلة فی تکوین بعض الأفعال، بل هی، إمّا تابعة للوراثة، أو تابعة للبیئة التی یتواجد فیها؛ ومن هنا، عمد بعض الأفراد إلی تقسیم الصفات الجسدیّة والنفسیّة للإنسان إلی صنفین: صفات قابلة للتغییر، وأخری غیر قابلة للتغییر؛ فذهبوا إلی أنّ الصفات غیر القابلة للتغییر - کلون العینین والصفات النفسیّة، من قَبیل الحماقة والجنون و... - متأثّرة بالوراثة؛ ولهذا السبب، فهی لا تقبل التغییر. بینما یکون الإنسان مختاراً فی کثیر من الصفات الأُخری، نحو الشجاعة، والسَّخاء، البُخل، الجُبن، و... فجمیع هذه الصفات تخضع - إلی حدٍّ ما - إلی اختیار الإنسان، ولا یکون مجبوراً فی هذا القسم من الصفات.

وعلی هذا الأساس، فمبدأ الوراثة لا یتنافی مع اختیار الإنسان، فی تقریر مصیره بنفسه(2) بل إنّ ما هو خارج عن دائرة اختیار الإنسان لا یُسبّب التمایز والتفاضل، ولا یؤدّی إلی الحصول علی ثواب الله تعالی ولا یُسبّب عِقابه للإنسان، وإنّما ملاک التفاضل فی الإسلام وعند الباری جلّ وعلا هو التقوی،

ص:96


1- (1) الإلهیّات علی هدی الکتاب والسنّة والعقل، ص 661-662.
2- (2) أنظر: علی ربّانی گلبایگانی، جبر واختیار (الجبر والاختیار)، ص 228.

وهو أمر اختیاریٌّ بلا ریب.

قال تعالی فی هذا الشأن:(یا أَیُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقناکُم مِن ذَکَرٍ وَ أُنثی وَ جَعَلناکُم شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَکرَمَکُم عِندَ اللّهِ أَتقاکُم إِنَّ اللّهَ عَلِیمٌ خَبِیرٌ) .(1)

وهکذا، یتّضح أنّ أداء التکالیف المختلفة وامتلاک التقوی أو عدم امتلاکها، من الأُمور الواقعة تحت اختیار الإنسان؛ فصحیح أنّ البیئة والمحیط ذاتُ تأثیرٍ قویّ فی سهولة وصعوبة تعلّم التکالیف، أو إحراز التقوی، إلاّ أنّها فاقدة للتأثیر علی أصل الاختیار، فالفرد البشریّ هو مَن یُحدّد مساره طِبقاً لإرادته واختیاره، ولیس للبیئة والوراثة تأثیرٌ فی ذلک.

3- البیئة والوراثة علّة ناقصة

یُطرح موضوع تأثیر البیئة والوراثة علی الإنسان فی علم النفس الحدیث بشکل مُغایر لما سَبق، فیُقال: إنّ الخصائص الروحیّة، فی الحقیقة ما هی إلاّ حصیلةٌ للتفاعل المتبادَل بین الوراثة والبیئة؛ فلم یَعُد هناک مجالٌ للحدیث عن الصراع القدیم، والتقابل بین الوراثة والبیئة، بل یتساءل الباحثون، بدلاً عن ذلک، قائلین: ما هی آلیّة العامل الوراثیّ فی الحدّ من القدرات الفردیّة للإنسان؟ وإلی أیّ حدٍّ بوِسع الشرائط البیئیّة المناسبة، أو غیر المناسبة إحداث تغییر فی القابلیّات الإرثیّة؟(2)

وعلی هذا، فکما أنّ الظروف البیئیّة والإرثیّة المختلفة تتعامل وتتفاعل مع بعضها البعض، ویعتبر کلّ واحد منهما من العوامل المکمّلة للبعض الآخر، لا بعنوان العِلّة التامّة، فکذلک هو تأثیرُ العوامل البیئیّة والمحیطیّة والوراثیّة فی

ص:97


1- (1) الحجرات، آیه 13.
2- (2) أنظر: محمّد رضا سالاری، ومسعود أذربیجانی، روان شناسی عمومی (علم النفس العامّ)، ص 68.

بَلوَرة شخصیّة الإنسان، فتکون من قبیل العِلّة المُعِدّة(1) والمکمّلة، لا العلّة التامّة، بل العلّة التامّة عبارةٌ عن إرادة الإنسان.

بناءً علی ذلک، فتأثیر البیئة والوارثة لا یبلُغ حدّ العِلّة التامّة، وإنّما یُمکن القبول به فی حدّ العلّة الناقصة فقط؛(2) وفی هذه الحالة، لا یتمّ سلب الاختیار من الإنسان.

النتیجة

النتیجة هی: صحیح أنّ الإنسان یخضع إلی تأثیر البیئة والمحیط والوراثة؛ لکنّ غرفة السیطرة فیه تتمثّل بالإرادة، لا العوامل البیئیّة والوراثیّة، فغایةُ ما یُمکن أن یُقال عن البیئة والوراثة: إنّها عِلّةٌ مُعِدّة وناقصة، ولیست من قبیل العلّة التامّة. أضف إلی ذلک، إن کان الإنسانُ مجبوراً لتلک العوامل، فلا طائل حینئذ من الجهود والمساعی التی یبذلها المربّون والمصلحون والأنبیاء والمرسلون.

ص:98


1- (1) بمعنی علّة بالعرض لا بالذات، أو فقل: هی ممّا یجوز انعدامها وبقاء المعلول؛ لأنّها لیست بعلّة حقیقیّة، بل هی تقرّب الفاعل إلی التأثیر أو القابل إلی القبول.
2- (2) أنظر: علی ربّانی گلبایگانی، جبر واختیار (الجبر والاختیار)، ص 231.

مصادر للمطالعة

1. علی ربّانی گلبایگانی، جبر واختیار (الجبر والاختیار)، ص 228.

2. مرتضی مطهری، مجموعه آثار (مجموعة الآثار)، ج 1، ص 41-43.

3. محمّد رضا سالاری، ومسعود أذربیجانی، روان شناسی عمومی (علم النفس العامّ)، ص 68.

الحدیث الختامیّ

قال رسول الله صلی الله علیه و آله:

«مَثَلُ الجَلیسِ الصّالِحِ مَثَلُ العَطّارِ، إن لَم یُعطِکَ مِن عِطرِهِ أَصابَکَ مِن رِیحِهِ، وَمَثَلُ الجَلیسِ السُّوءِ مَثَلُ القَینِ،(1) إن لَم یُحرِق ثَوبَکَ أَصابَکَ مِن رِیحِهِ».(2)

ص:99


1- (1) أی الحدّاد.
2- (2) محمّد الری شهری، میزان الحکمة، ج 4، ص 2839؛ المتّقی الهندی، کنز العمّال، ج 9، ص 9، ح 24675.

ص:100

إشکالیّة لیلة القدر واختیار الإنسان

اشارة

السؤال: إن کان المقدّر علی الإنسان یتعیّن فی لیلة القدر، فما معنی عمل الإنسان، وما مدی صحّة کونه مختاراً؟

ولأجل أن یتّضِح هذا السؤال، لا بدّ من الالتفات إلی نُقطتین هامّتین:

1. ما هو المنشأ لشُبهة التنافی، بین کتابة الآجال وتقدیر ما سیکون علی الإنسان وبین اختیار الإنسان؟

2. ما معنی التقدیر وتعیین المقدّرات والمصائر من قبل الله تعالی فی لیلة القدر؟

شرح السؤال: إنّ توهّم المنافاة بین تقدیر أمور الإنسان وکتابة أجله فی لیلة القدر، وبین إرادة الإنسان واختیاره، إنّما نشأ من حیث إنّ کلّ ما یحدث علی الإنسان فی السنة إلی مثلها من العام القابل - بحسب ما ورد فی الروایات الشریفة - یقدّره الباری عزّ وجلّ فی لیلة القدر، ومن ثمّ یُسلّم إلی ولیّ الأمر عجل الله تعالی فرجه الشریف، هذا من جهة. ومن جهةٍ أُخری، صرّحت الآیات والروایات بأنّ الإنسان هو من یقرّر مصیره ویحدّد الوجهة التی یعتزم السیر تجاهها؛ وعلیه، لو کان الإنسان قادراً علی تغییر هذا التقدیر

ص:101

المکتوب علیه والمعلوم لله تعالی، للزم کون علم الله عزّ وجلّ جهلاً - والعیاذ بالله - بالإضافة إلی فقدان التقدیر لمعناه فی هذه الحالة.

ولکی نتخلّص من هذَین المحذورین، ینبغی إنکار قدرة الإنسان علی تغییر مصیره المقدّر علیه، وهو ما یتّسق مع معنی الجبر.

مقاربات مختلفة فی مسألة الجبر والاختیار

بُغیة التوصّل إلی جوابٍ واضحٍ وشفّاف للسؤال المطروح، لا بدّ من الالتفات إلی أنّ بحثَ الجبر والاختیار من المباحث القدیمة جدّاً فی علم الکلام، وقد تمّ التطرّق لها من قِبل جمیع الکُتّاب والمذاهب الفکریّة والدینیّة، وقد أخذت لها مجالاً واسعاً من إثارة الجدَل علی مختلف المستویات.

ومن المسلّم به، أنّ الدین الإسلامیّ الحنیف أفرَز ثلاث مُقاربات ونظریّات رئیسیّة فی هذا المجال، وهی عبارة عن: نظریّة الجبر المطلق، التی تبنّاها مذهب الأشاعرة؛ ونظریّة الاختیار المطلق (التفویض)، التی تبنّاها مذهب المعتزلة، ونظریّة «الأمر بین الأمرین»، التی التزم بها مذهب الإمامیّة، فقد استطاع أتباع مدرسة أهل البیت علیهم السلام، تبعاً للأئمّة الهُداة المعصومین من عترة النبیّ المصطفی صلی الله علیه و آله، من خلال الاستدلال العقلانیّ والمنطقیّ، إثبات صواب رؤیة الأمر بین الأمرین، التی نظَّر لها الأئمّة فی الأحادیث والروایات المأثورة عنهم؛ وذلک بمعنی أنّ أفعال الإنسان - من جهةٍ - غیرُ مخلوقة للإنسان نفسه، بصورةٍ مطلقة، بحیث تکون یدُ الباری تعالی مغلولة عن التصرّف فیها، ومن جهةٍ أُخری، لیست بمخلوقة لله جلّ وعلا، بحیث یلغو معنی الثواب والعِقاب.

وفی سیاق هذه المقاربة الثالثة، قدّم علماء المسلمین جوابین للردّ علی شبهة الجبر، بما یجعل شُبهة المنافاة بین تقدیر الأُمور والأحکام فی لیلة

ص:102

القدر، وبین اختیار الإنسان، تندرج فی هذا الإطار. علی أنّنا سنُقدّم ردّنا الخاصّ علی هذه الشبهة فی خاتمة البحث.

الردّ الأوّل

اشارة

إنّ الله تبارک وتعالی خلَق العالَم وأحدث الکون بصورة نظام یحکمه قانون العِلّیّة؛ فجمیع الناس - سوی أوّل مخلوق أوجده الباری تعالی وخلقه بشکل مباشر - صدروا عن عِلَل عیّنها الخالق لهم؛ فعلی سبیل المثال، اتّسق نظام الطبیعة علی نحو خاصّ وقانون ثابت، وبموجب هذا القانون، إذا ما وضعت بذرة فی جوف الأرض، وِفق ظروف وشروط معیّنة، فإنّها تتحوّل إلی نبات، وکذلک، ما لو استقرّت نطفة فی رحمٍ ما، أعمّ من الإنسان أو الحیوان، فإنّها سوف تؤول إلی جنین وکائن حیّ، شئنا أم أبینا.

بید أنّ العِلَل متفاوتة فی درجة تعقیدها، ولیست علی وتیرة واحدة من البساطة؛ فالعلل فی بعض الموجودات معقّدة وشائکة، حیث تدخل فیها عناصر مختلفة لا یمکن تشخیصها بسهولة، وأفعال الإنسان الاختیاریّة من هذا القبیل، فنظام العلّیّة فی الإنسان یعمل بطریقة یکون فیها لاختیار الإنسان وإرادته دخلٌ ودورٌ بارز. وعلی هذا الأساس، یعدّ اختیار الإنسان جزءاً من هذا النظام الذی وضعه الباری تعالی.

مناقشة الرد الأوّل

طِبقاً لهذا التحلیل، یکون معنی تقریر المصیر، أنّ الله تعالی أسنَد مصیر الإنسان إلیه، ولا معنی لهذا الکلام إلا أنّه تبارک وتعالی لا یتدخّل فی تحدید الإنسان لمصیره. ومع أنّ هذه الأطروحة صیغت بطریقةٍ یُراد منها جعلها جزءاً من النظریّة، أو المقاربة الثالثة؛ إلا أنّها من ناحیة عملیّة لا تعدو معنی التفویض الباطل، الذی جاءت به المعتزلة، وبنَت علیه صَرح عقائدها.

ص:103

علاوةً علی أنّه یجب - طبقاً لهذا التحلیل - الإذعان بأنّ عِلم الله تعالی بالأفعال الاختیاریّة للإنسان، لا یخرج عن دائرة علمه بهذا النظام فقط؛ وبالتالی، عدَم الاطّلاع علی جزئیّات أفعال الإنسان، وعدم الإحاطة بتفاصیل أعماله.(1) وهذا المعنی أیضاً مستفاد من کلام بعض الفلاسفة القُدَماء؛ غیر أنّ العلاّمة المجلسیّ، وعلی أساس فهمه الدقیق للقرآن والسنّة، رأی أنّ هذا المعنی مخالفٌ لضرورة الدین.(2)

الردّ الثانی

التحلیل الثانی لمعنی تعیین المصیر، مع صِحّة ما فیه، أنّ الله تعالی خلَق نظام الکون، وأقامه علی أساس قانون العِلیّة، فأجری جمیع المُسبّبات بأسبابها؛ بَیدَ أنّه لیس بالشکل الذی یُفقِده القُدرة علی التصرّف بهذا النظام والقانون؛ ولذا قالوا: کما أنّ الله عزّ وجلّ أوجد الأسباب، فإنّه قادر علی التصرّف بها کما یشاء. فعلی سبیل المثال، مثلما خلق الباری النار للإحراق، بوسعه تحویلها إلی مضادّ لها؛ أی جعلها حدیقة غنّاء.

وبعبارةٍ أدقّ: صحیح أنّ الله لم یضع قانون العلیّة، غیر أنّه وضع العِلَل الخاصّة؛ إذ أنّه هو من جعل النار عِلّة للإحراق. وبناءً علی ذلک، فهو قادر علی تعطیل العلّة عن العلیّة، أو جعلها عِلّةً لشیءٍ آخر.

ووفقاً لهذا التحلیل، فإنّ تعیین المصیر یعنی وضع العِلَل فی مسارِ جرَیان معلولاتٍ معیّنة. وبعبارة أُخری: إنّ الله تعالی یُعیّن مصیر الإنسان بشکلٍ دقیق، وهذا التعیین یحدث قبل لیلة القدر، وتحدیداً فی عالم تشکیل طینته، بل أکثر من ذلک، من المتعیّن فی العلم الإلهیّ الأزلیّ والأبدیّ من هم أهل السعادة ومن

ص:104


1- (1) أنظر: مرتضی مطهری، مجموعه آثار، ج 1، ص 453.
2- (2) أنظر: محمّد باقر المجلسی، بحار الأنوار، ج 4، ص 87.

هم أهل الشقاوة. وطبقاً لتعبیر العُرفاء: نسبة کلّ شخص إلی السعادة والشقاء معلومٌ وثابت؛ ولکن برغم ذلک، لا منافاةَ مع اختیار الإنسان؛ ذلک أنّ هذا التقدیر والتعیین نابع من العلم الإلهیّ الأزَلیّ، والعلم الإلهیّ الأزَلیّ تابع لاختیار الإنسان وإرادته.

وبعبارةٍ ثالثة: الله جلّ وعلا یعلم أنّ الشخص الفلانیّ بماذا سیَقوم وما هی إرادته فی الساعة الفلانیّة، وفی الوضع الفلانیّ؛ فیقدّر له ما یشاء علی أساس ذلک الاختیار الذی منَحَهُ إیّاه.

وبالرجوع إلی الروایات الشریفة، نجد قبولاً لهذا التحلیل، لمعنی وحقیقة التقدیر من قِبَل الله تعالی:

1. قال الإمام الصادق علیه السلام:

«إنّ الله عزّ وجلّ خلَق خلقاً فجعَل فیهم آلة الفِعل، ثمّ لَم یُفوّض إلیهم، فهم مُستطیعون للفعل، فی وقتِ الفِعل، مع الفعل».(1)

فنری أنّ الإمام علیه السلام فسّر التقدیر بإعطاء الله وسیلة الفعل وآلته إلی الإنسان، فهو یستفید من تلک الآلة للقیام بالفعل، وهذا الإعطاء یسبّب الفعل المعیّن، نحو المعصیة؛ ولهذا السبب، یعلم الله أنّ العبد سیختار الفعل الفلانیّ بملء إرادته واختیاره.

2. روی عن أبی بصیر، أنّه قال: کنت بین یدی أبی عبد الله الصادق علیه السلام جالساً، وقد سأله سائل، فقال: جُعلت فداک یا بن رسول الله، من أین لحق الشقاء أهل المعصیة، حتّی حکَم الله علیهم فی علمه بالعذاب علی عملهم؟ فقال: «أیّها السائل، حُکم الله عزّ وجلّ لا یقوم له أحد من خلقه بحقّه، فلمّا حَکَم بذلک، وهَب لأهل محبّته القوّة علی معرفته، ووضَع عنهم ثقل العمل بحقیقة ما هم أهله، ووهب لأهل المعصیة القوّة علی معصیتهم لسَبق عِلمه فیهم...». ثمّ عقّب الکاتب

ص:105


1- (1) المصدر السابق، ج 5، ص 42.

علی الروایة بالقول: فحکم الله علیهم نشأ من علمه باختیارهم طُرُق الشَّقاء.(1)

ونظراً إلی هاتین الروایتین، یُمکن القول بشکلٍ إجمالیّ: إنّ تقدیر الله تعالی لمُجریات الإنسان فی الأزَل، وفی علمه الأزَلیّ، إنّما یتمّ علی أساس أنّ الإنسان یختار عمله بإرادته؛ وهذا لا یستلزم أیّ ضرب من ضروب الجبر. هذا العمل یشبه تماماً ما لو أحاط شخص علماً بجمیع العوامل المؤثّرة علی الإنسان، فکان یعلم علی نحو الجزم والیقین، ومنذ بدایة الأمر، بما سیصدر عنه من عملٍ فی الساعة الفلانیّة؛ وعلیه، فهو قادر علی الإخبار عمّا سیجری علیه، وإصدار قائمة مفصّلة فی هذا الخصوص، وفی الوقت ذاته، إخباره غیر مساوق للجبر؛ لأنّه لم یفرض علیه شیئاً.

وفیما نحن فیه، بشأن الإشکال المتعلّق بلیلة القدر، یمکن القول: إنّ العلم الإلهیّ الأزَلیّ، أو قائمة أفعال الإنسان خلال عام من الزمن، التی لا تخرج عن دائرة هذا العلم، موجودة فی خزائن العلم الإلهیّ، وفی لیلة القدر یتمّ إنزالها وبیانها؛ فلا جبرَ فی البَین.

الرد الخاصّ

هذا الجواب یسعی إلی تجاوز الردود الطبیعیّة لمسألة الجبر والاختیار، والترکیز علی ردّ أبعد غوراً من ذلک؛ فنقرّ کأصل موضوعیّ فی المقام، بأنّ ما یحصل فی لیلة القدر أبعد من قضیّة تنزیل العِلم الإلهیّ الأزَلیّ، وإنّما الموضوع هنا نوعٌ من التقدیر وتعیین مصیر الإنسان، وذلک بأن یُقال: إنّ التقدیر الحاصل فی لیلة القدر لیس من قبیل التقدیر الحتمیّ والأمر المحتوم الذی لا بدّ منه؛ ولذا، ورد فی بعض الروایات، أنّ من لَم یُغفر له فی لیلة

ص:106


1- (1) هاشم معروف الحسنی، دراسات فی الحدیث والمحدّثین، 1398 ه، ص 229.

القدر، یُمکن أن یُغفر له إن شهِد عرَفة.(1) ومعنی هذا الکلام أنّ، التقدیر فی لیلة القدر، أو فی یوم عرَفة، أو باقی أیّام السنة، ممّا یقبل التغییر.

ومنه یُعلم بأنّ التقدیر فی لیلة القدر لیس تقدیراً حتمیّاً، وأنّ ما یَنزل علی القلب الطاهر للإنسان الکامل، ولیّ العصر والزمان عجل الله تعالی فرجه الشریف، لیس بالتقدیر التامّ والعمل المبرم. وبعبارة أوضح: العلم النازل فی لیلة القدر، هو العلم النازل من اللوح الخفیّ ولوح الإثبات، والقدَر المُتیقّن فی هذا التحلیل، أنّ ما یَنزل علی قلب الإمام لیس هو عِلم اللوح المحفوظ، الذی هو عبارة عن نسخة من العِلم الإلهیّ الأزَلیّ؛ لأنّه والحالة هذه، لا یَقبل النقض والتغییر. وعلی هذا الأساس، فإنّ تقدیر الأمور فی لیلة القدر مثله مثل مُسوَّدة القانون، بحیث یستطیع الإنسان ببذل مزیدٍ من الجهود، التأثیر علی الصیاغة النهائیّة للقانون، والعمل علی تغییر الفقَرات غیر المناسبة لما هو أصلَح وأنسَب له.

ویشهد لذلک، أنّ الرجوع إلی الروایات المأثورة عن أئمّة الهدی علیهم السلام یکشف عن أنّ الأُمور التی تنزل علی الأئمّة فی لیلة القدر غیر حتمیّة، بل ممّا یقبل التغییر؛ ومثال علی ذلک، رُوی فی تفسیر العیّاشیّ، عن محمّد بن مسلم، عن أبی جعفر علیه السلام، قال: سألته عن لیلة القدر، فقال: «یَنزل فیها الملائکة والکتَبَة إلی السماء الدنیا، فیکتبون ما یکون من أمر السنة، وما یصیب العِباد، وأمر عنده موقوف له فیه المشیّة، فیقدّم منه ما یشاء، ویؤخّر ما یشاء، ویَمحو ویُثبت وعنده أمّ الکتاب».(2)

کما یُستفاد من کلمات الأئمّة المیامین علیهم السلام، بأنّهم لا یمتلکون العلم

ص:107


1- (1) السیّد رضی الدین علی بن موسی بن جعفر بن طاووس، إقبال الأعمال، 1414 ه، ص 28؛ نقلاً عن: من لا یحضره الفقیه، ج 2، ص 99؛ الکافی، ج 4، ص 66.
2- (2) محمّد بن مسعود بن عیّاش السلمی السمرقندی، تفسیر العیّاشی، تحقیق: السیّد هاشم الرسولی المحلاّتی، ج 2، ص 215.

القطعیّ الذی لا یقبل التغییر، بل المشیئة الإلهیّة حاکمة علی ما عندهم من علم؛ فمثلاً، روی عن زرارة، عن أبی جعفر علیه السلام، قال: «کان علیّ بن الحسین علیه السلام یقول: لولا آیة فی کتاب الله لحدّثتکم بما یکون إلی یوم القیامة. فقلت له: أیّة آیة؟ قال: قول الله:(یَمحُوا اللّهُ ما یَشاءُ وَ یُثبِتُ وَ عِندَهُ أُمُّ الکِتابِ)1 .(1) وهناک عددٌ کبیرٌ من الروایات فی هذا المجال.

والنتیجة التی نخلص إلیها کالتالی:

أوّلاً: یمکن حلّ مشکلة الجبر ولیلة القدر عن طریق الأجوبة المتعارفة فی مجال الجبر والاختیار. وفی هذه الحالة، لا یخرج معنی التقدیر عن دائرة تنزیل العلم الإلهیّ الأزَلیّ، وهو تابع لاختیار الإنسان وإرادته.

ثانیاً: إذا ما وافقنا علی کون ما یحدث فی لیلة القدر من مقولة التعیّن، لا تَنزّل العلم؛ فما ذلک إلاّ لأنّه غیر حتمیّ، ولیس باب القضاء الذی لا یُردّ، بل للإنسان القدرة علی تغییره؛ فلا یکون مُستلزِماً للجبر.

وفی نهایة المطاف، لا یفوتنا التنویه بنقطة هامّة، هی أنّ مسوّدة التقدیر التی تُصاغ فی لیلة القدر لا تُوضع اعتباطاً ومن غیر دلیل، بل إنّما یصار إلیها فی ضوء الأعمال السابقة والوضع الفعلیّ للإنسان، فضلاً عن آلاف العوامل الأُخری غیر المنکشفة لنا، تلک العوامل التی قمنا بفعلها طیلة فترة حیاتنا، بملء إرادتنا واختیارنا، وربّما تکون قد غابت عن ذاکرتنا، لکنّها محفوظة فی العلم الإلهیّ المکنون، وفی کتاب الأعمال الذی لا یُغادر صغیرةً ولا کبیرة، إلاّ أحصاها.

ص:108


1- (2) تفسیر العیّاشی، ج 2، ص 215.

مصادر للمطالعة

1. مجموعة من المؤلّفین، پرسش ها وپاسخ های دانشجوئی (ویژه ماه مبارک رمضان) / أسئلةٌ وردود للطلاب الجامعیّین (خاصّة بشهر رمَضان الکریم)، ص 65.

2. آیة الله مکارم الشیرازیّ، الأمثل فی تفسیر کتاب الله المُنزَل، ج 20، ذیل سورة القدر.

الحدیث الختامیّ

عن أبی الحسن الرضا علیه السلام، قال:

«کانَ أَمیرُ المُؤمِنینَ لا یَنامُ ثَلاثَ لَیالٍ: لَیلةِ ثَلاثٍ وَعِشرینَ مِن شَهرِ رَمَضانَ، وَلیلةِ الفِطرِ، وَلَیلةِ النِّصفِ مِن شَعبانَ، وَفیها تُقَسّمُ الأرزاقُ، وَالآجالُ، وَما یَکونُ فِی السَّنةِ».(1)

ص:109


1- (1) المجلسی، بحار الأنوار، ج 97، ص 88.

ص:110

عصیان النبیّ آدم علیه السلام وخروج نسله من الجنّة

اشارة

السؤال: لمّا کان النبیّ آدم علیه السلام هو من عصی ربّه، ما السبب وراء إخراج نَسلِه أیضاً من الجنّة؟

شرح السؤال: قال الله تعالی: (وَ قُلنا یا آدَمُ اسکُن أَنتَ وَ زَوجُکَ الجَنَّةَ وَ کُلا مِنها رَغَداً حَیثُ شِئتُما وَ لا تَقرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَکُونا مِنَ الظّالِمِینَ)1 (فَوَسوَسَ إِلَیهِ الشَّیطانُ قالَ یا آدَمُ هَل أَدُلُّکَ عَلی شَجَرَةِ الخُلدِ وَ مُلکٍ لا یَبلی)2 (وَ قالَ ما نَهاکُما رَبُّکُما عَن هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاّ أَن تَکُونا مَلَکَینِ أَو تَکُونا مِنَ الخالِدِینَ)3 (وَ قاسَمَهُما إِنِّی لَکُما لَمِنَ النّاصِحِینَ)4 (فَأَکَلا مِنها فَبَدَت لَهُما سَوآتُهُما وَ طَفِقا یَخصِفانِ عَلَیهِما مِن وَرَقِ الجَنَّةِ وَ عَصی آدَمُ

ص:111

رَبَّهُ فَغَوی) .(1) والسبب فی هذا الأمر عدم امتلاک آدم التجربة اللازمة والمعرفة الکافیة بإبلیس.(2)

وعلی هذا الأساس، رُوی عن أبی عبد الله علیه السلام، قال:

«لمّا أخرج الله آدم من الجنّة، نزل علیه جبرئیل علیه السلام، فقال: یا آدم، ألیس الله خلقک بیده، ونفخ فیک من روحه، وأسجد لک ملائکته، وزوّجک أمته حوّاء، وأسکنک الجنّة، وأباحها لک، ونهاک مشافهةً، أن لا تأکل من هذه الشجرة، فأکلت منها وعصیت الله؟ فقال آدم علیه السلام: یا جبرئیل، إنّ إبلیس حلف لی بالله أنّه لی ناصح، فما ظننت أنّ أحداً من خلقِ الله یحلف بالله کاذباً».(3)

هل یعصی آدم علیه السلام أم لا؟

اشارة

وکیفما کان، هل أنّ هذا السلوک الصادر من النبیّ آدم علیه السلام یُعدّ معصیة ویُحتسَب ذنباً، أم لا؟ وقبل الجواب، لا بدّ من تقدیم مقدّمة فی هذا الخصوص.

مقدّمة

أ) الأحکام الإلهیّة، الأعمّ من الأوامر والنواهی، علی ضَربین: إمّا أحکام مولویّة أوإرشادیّة.

الأحکام المولویّة تتضمّن تکالیف إلزامیّة، وقد وضَع الله - جلّ وعلا - لتلک التکالیف ثواباً وعقاباً.

فی حین أنّ الأحکام الإرشادیّة لیسَ فیها تکلیف أو وجوب من الباری تعالی، وغایةُ ما فیها الإرشاد إلی العمَل، والغرَض من صدورها هو التوجیه

ص:112


1- (1) طه، آیه 121.
2- (2) أنظر: مکارم الشیرازی، الأمثل فی تفسیر کتاب الله المنزَل، ج 10، ص 92.
3- (3) الحویزی، تفسیر نور الثقلین، قم: نشر إسماعیلیان، 1412 ه، ج 2، ص 13-14.

والإرشاد من الله إلی العبد؛ لئلاّ یُبتلی بالضرَر، ویقَع فی المشقّة.

ب)

«العِصیان: خلاف الطاعة. عصی العبد ربّه إذا خالف أمره، وعصی فلان أمیره یعصیه عَصیاً وعِصیاناً ومَعصِیةً إذا لم یُطعهُ، فهو عاصٍ وعَصیٌّ... والعاصی: الفَصیل إذا لم یتبع أمّه؛ لأنّه کأنّه یعصیها، وقد عصی أُمّه».(1)

أمّا اصطلاحاً فلا یکون العصیان جُرماً ومعصیةً إلاّ إذا کان بمعنی المخالفة والتمرُّد علی الأحکام المولویّة؛ وعلیه، فمخالفة الأحکام الإرشادیّة لیس من باب المعصیة فی شیء.(2)

«والذَّنب فی الأصل الأخذ بذَنَب الشیء، یقال: ذَنَبتُهُ أصبتُ ذَنَبَهُ، ویستعمل فی کلّ فعل یُستوخَم عُقباه اعتباراً بذَنَب الشیء؛ ولهذا یُسمّی الذَّنب تَبِعةً، اعتباراً لما یحصل من عاقبته».(3) والقرآن الکریم أشار إلی هذا المعنی بقوله:(فَلا یُخرِجَنَّکُما مِنَ الجَنَّةِ فَتَشقی)4

الجواب: إنّ الجنّة التی أقام فیها نبیُّ الله آدم علیه السلام، کانت تمثّل مرحلة ما قبل التکلیف والتشریع؛ فلم تکن هناک شریعة نزلت لیُمنع المکلّف من تناول ما فی الشجرة، وإنّما وطأ الإنسان عالَم التکلیف بعدما خرج من الجنّة وهبَط إلی الأرض؛ ولهذا، لم یَرتکِب النبیّ آدم علیه السلام معصیةً تکلیفیّة، هذا من جهة.

ومن جهةٍ أُخری، اتّسم النهی المذکور بالطابع الإرشادیّ؛ لئلاّ یُعدُّ فعل آدم معصیةً وذنباً، والقرآن الکریم أشار إلی هذه النکتة من خلال نُصح آدم، بأنّ الأکل من هذه الشجرة یوجب الخروج من الجنّة، والهبوط إلی الحیاة الدنیا. والشاهد علی هذا المدّعی الآیات 117-119 من سورة طه، حیث

ص:113


1- (1) ابن منظور، لسان العرب، بیروت: دار إحیار التراث العربی، ج 9، ص 251، مادّة: عصا.
2- (2) أنظر: جعفر السبحانی، منشور جاوید (المیثاق الخالد)، ج 5، ص 82.
3- (3) الراغب الإصفهانی، مفردات غریب القرآن، بیروت: دار الشامیّة، ج 1، ص 331.

أشارت إلی عواقب الخروج من الجنّة، وأنّ هناک مصاعب ومشاقّ تترتّب علی هذا الأمر، وأنّ الخروج من الجنّة موجب للشقاء.

قال الإمام الرضا علیه السلام فی ردّه علی المامون لمّا سأله عن معنی عصیان آدم: «لم یکن آدم وحوّا شاهدا قبل ذلک من یحلف بالله کاذباً، فدلاّهما بغرور، فأکلا منها ثقةً بیمینه بالله. وکان ذلک من آدم قبل النبوّة، ولم یکن ذلک بذنبٍ کبیرٍ استحقّ به دخول النار؛ وإنّما کان من الصغایر الموهوبة التی تجوز علی الأنبیاء قبل نزول الوحی علیهم، فلمّا اجتباه الله تعالی، وجعله نبیّاً، کان معصوماً لا یُذنب صغیرةً ولا کبیرةً».(1)

والدلیل الآخر علی أنّ عصیانَ آدم لم یبلغ درجة المعصیة، هو أنّ الله تعالی لم یتوعّد هذا العمل بالعذاب والجزاء الشدید، بل غایة ما ذکر أنّه یستلزم المشقّة والعناء والشقاء الدنیویّ فقط.

النتیجة

بناءً علی ذلک، لم یقدم النبیّ آدم علی ارتکاب أیّ معصیة أو ذنب، والعصیان الوارد فی الآیة الشریفة لیس بمعنی ارتکاب المعصیة والإذناب، بل هو زلّة ومخالفة للنهی الإرشادیّ الصادر من المولی، ولا شکّ فی أنّ مخالفة الأمر الإرشادیّ لا یعدّ ذنباً أو معصیةً. ومن هنا، قال آیة الله جعفر السبحانیّ: «ما یصدق علی عدم إصغاء الإنسان إلی کلام الناصح المشفق، المؤدّی إلی الوقوع فی المشقّة والعناء فی الحیاة الدنیا، هو الزلل لا المعصیة».(2) لذا، واجه النبیّ آدم علیه السلام

ص:114


1- (1) الشیخ الحویزی، تفسیر نور الثقلین، تصحیح وتعلیق: السیّد هاشم الرسولی المحلاّتی، ج 2، ص 11؛ یوسف عزیزی، داستان پیامبران یا قصه های قرآن آز آدم تا خاتم (قصص الأنبیاء أو القصص القرآنی من آدم حتّی النبی الخاتم)، طهران: انتشارات هاد، ط 1، 1380 ه. ش، ص 38.
2- (2) جعفر السبحانی، منشور جاوید (المیثاق الخالد)، قم: انتشارات إسلامی، ج 5، ص 75.

مخالفة للحکم الإرشادیّ، الأمر الذی أسفر عن خروجه من الجنّة، ومن ثمّ کان علیه - هو ونسله من الأجیال اللاحقة له - تحمّل مشاقِّ الحیاة الدنیویّة.

مصادر للمطالعة

1. جعفر السبحانیّ، منشور جاوید (المیثاق الخالد)، ج 5، ص 75.

2. الشیخ الحویزیّ، تفسیر نور الثقلین، تصحیح وتعلیق: السیّد هاشم الرسولیّ المحلاّتی، ج 2، ص 11-14.

3. یوسف عزیزی، داستان پیامبران یا قصه های قرآن از آدم تا خاتم (قصص الأنبیاء أو القصص القرآنی من آدم حتّی النبیّ الخاتم)، طهران: انتشارات هاد، ط 1، 1380 ه. ش.

4. محمّد هادی معرفت، تنزیه الأنبیاء.

الحدیث الختامیّ

قال الإمام علیّ علیه السلام فی خطبة له، ذمّ فیها إبلیس علی استکباره وترکه السجود لآدم علیه السلام، وبیّن أنّه أوّل من أظهَر العصبیّة، وتَبِع الحمیّة، مُحذّراً النّاس من سلوک طریقته:

«فَاحذَرُوا عَدُوَّ اللهِ أَن یُعدِیَکُم بِدَائِهِ، وَأَن یَستَفِزَّکُم بِنِدَائِهِ، وَأَن یُجلِبَ عَلَیکُم بِخَیلِهِ وَرَجِلِهِ.(1) فَلَعَمرِی، لَقَد فَوَّقَ(2) لَکُم سَهمَ الوَعِیدِ، وَأَغرَقَ(3) لَکُم بِالنَّزعِ(4) الشَّدِیدِ، وَرَمَاکُم مِن مَکَان قَرِیب».(5)

ص:115


1- (1) أجلَبَ علیکم بخیله: أی رُکبَانه. ورَجِلِه: أی مُشاته، والمراد أعوان السوء.
2- (2) فَوّقَ السهمَ: جعل له فُوقاً، والفُوق موضع الوتر من السهم.
3- (3) أغرقَ النازعُ: إذا استوفی مدّ قوسه.
4- (4) النزع فی القوس: مدّها.
5- (5) نهج البلاغة، الخطبة 192.

ص:116

انطباق الآیة 43 من سورة التوبة علی عصمة النبیّ صلی الله علیه و آله

اشارة

السؤال: قال تعالی فی سورة التوبة:(عَفَا اللّهُ عَنکَ لِمَ أَذِنتَ لَهُم حَتّی یَتَبَیَّنَ لَکَ الَّذِینَ صَدَقُوا وَ تَعلَمَ الکاذِبِینَ) .(1) أی کان خیر لک لو صبرت، حتی یعلن کلّ من الصادقین والکاذبین عن أنفسهم؛ وعلیه، کیف یُمکن الجمع بین هذه الآیة وبین عصمة النبیّ صلی الله علیه و آله؟

شرح السؤال: نزلت هذه الآیة الشریفة فی المنافقین الذین أبوا المشارکة فی غزوة تَبوک؛ ولهذا، جاءوا إلی النبی الکریم صلی الله علیه و آله، والتمسوا منه العُذر عن عدَم الاشتراک فی الحرب، متذرّعین ببعض الأمور. ومع أنّ النبیّ صلی الله علیه و آله کان یعرفهم حقّ المعرفة، ویعلم بوهن عقیدتهم وضعف إیمانهم، أذِن لهم بالبقاء فی المدینة.

ولمّا نزلت هذه الآیة الشریفة، بیّنت أنّ الله جلّ وعلا عاتب نبیّه علی السماح لهم بالبقاء، قائلاً: عَفَا اللَّهُ عَنکَ لِمَ أَذِنتَ لَهُم [أی مالک أذنت لهم فی القعود عن الغزو حین استأذنوک، واعتلّوا لک بعِلَلِهم؟ وهلاّ استأنیت بالإذن] حَتَّی یَتَبَیَّنَ لَکَ الَّذِینَ صَدَقُوا وَتَعلَمَ الکَاذِبِینَ [ولتعلم من صدَق فی عُذره ممّن کذَب فیه، وتطّلع علی حقیقة أمرهم].

ص:117


1- (1) التوبة، آیه 43.

ذهب البعض إلی أنّ هذا العتاب المقرون بعفو الله تعالی بصریح الآیة الشریفة، دلیل علی أنّ إذن النبیّ صلی الله علیه و آله - والعیاذ بالله - عمل خاطیء، ومخالف لعصمة الرسول الکریم صلی الله علیه و آله! وعلی هذا الأساس، قال الزمخشریّ فی تفسیر الکشّاف: «عَفَا اللَّهُ عَنکَ کنایة عن الجنایة؛ لأنّ العفو رادف لها، ومعناه أخطأت وبئس ما فعلت، و لِمَ أَذِنتَ لَهُم بیان لما کنّی عنه بالعفو».(1)

الجواب: یمکن الإجابة عن هذه الشبهة المطروحة فی الآیة الشریفة من جهتین:

1. لا دلیلَ فی هذه الآیة الشریفة علی صدور الذنب والمعصیة والجنایة من رسول الله صلی الله علیه و آله، بل لیس فی ظاهر الآیة مفردة، أو لفظ، یُوحی بمعنی المعصیة والخطأ؛ لأنّ جمیع القرائن والشواهد تشیر إلی أنّ النبیّ صلی الله علیه و آله کان یعلم جیّداً بأنّه حتّی لو لم یأذن لهم، ولم یوافق علی طلبهم فی القعود والتخلّف عن الحرب، ماکان أولئک لیشترکوا فی الجهاد.

أضف إلی ذلک، أنّه بالنظر إلی الآیات اللاحقة لهذه الآیة، لم یکن الله تعالی أیضاً راغباً فی مشارکتهم فی میدان الجهاد؛ ذلک أنّ حضورهم وتواجدهم هناک من شأنه أن یسهم فی تثبیط عزیمة سائر المقاتلین والمحاربین؛ لذا، قال تعالی:(لَو خَرَجُوا فِیکُم ما زادُوکُم إِلاّ خَبالاً وَ لَأَوضَعُوا خِلالَکُم یَبغُونَکُمُ الفِتنَةَ وَ فِیکُم سَمّاعُونَ لَهُم وَ اللّهُ عَلِیمٌ بِالظّالِمِینَ) .(2)

قال العلاّمة الطباطبائیّ ذیل هذه الآیة: «من مناسبات هذا المقام إلقاء العتاب إلی المخاطب، وتوبیخه والإنکار علیه، کأنّه هو الذی ستر علیهم فضائح أعمالهم، وسوء سریرتهم، وهو نوع من العنایة الکلامیّة، یتبیّن به

ص:118


1- (1) الکشّاف عن حقائق التنزیل وعیون الأقاویل، ج 2، ص 247.
2- (2) التوبة، آیه 47.

ظهور الأمر ووضوحه، لا یُراد أزیَد من ذلک؛ فهو من أقسام البیان علی طریق: إیّاکَ أعنی واسمعی یا جارة».(1)

مع العلم بأنّ إذن النبیّ صلی الله علیه و آله لهم فی القعود لم یؤدِّ إلی تفویت أیّ مصلحة علی المسلمین، غایة الأمر، لو لم یکن النبیّ صلی الله علیه و آله قد أذن لهم، لکانت فضیحتهم وظهور حالهم فی النفاق أسرع، ولعرفهم الناس واکتشفوا فساد نیّتهم. ولکن فی المقابل، لو لم یُؤذَن لهم لأظهروا الخلاف، ولکانت الفتنة أشدّ، والتفرّق فی کلمة الجماعة أوضح وأبین؛ لذا، لا تدلّ الآیة علی معصیة النبیّ صلی الله علیه و آله - حاشاه عن ذلک - ولا تعارض بینها وبین العصمة.

2. إنّ الله تعالی وصف المنافقین فی هذه الآیة المبارکة ببیان لطیف وکنایة بلیغة؛ بمعنی أنّک - أیّها النبیّ - لو لم تأذن لهم لاکتُشف أمرهم، ولکانت معالم النفاق بادیة فی وجوههم، بصورة أسرع وأوضح. وعبارة «عفا الله عنک» فی الحقیقة کنایة عن لطف الله؛ کما هو الحال فی قول: «رحِمَک الله» و «ساعدّک الله» المتداولة علی ألسنتنا، والتی تُقال من باب الرحمة، والشفَقة، وإظهار المودّة.

ومن هنا، قال الفخر الرازیّ فی معنی الآیة: «إنّ ذلک یدلّ علی مبالغة الله فی تعظیمه وتوقیره، کما یقول الرجل لغیره إذا کان معظَّماً عنده: عفا الله عنک، ما صنعت فی أمری؟ ورضی الله عنک، ما جوابک عن کلامی؟ وعافاک الله، ما عرفت حقّی؛ فلا یکون غرضه من هذا الکلام، إلاّ مزید التبجیل والتعظیم. وقال [الشاعر] علیّ بن الجهم، فیما یخاطب به المتوکّل وقد أمر بنفیه: عفا الله عنک ألا حرمة * تعود بعفوک إن أبعدا».(2)

ص:119


1- (1) العلاّمة الطباطبائی، تفسیر المیزان، ج 9، ص 285.
2- (2) تفسیر الرازی، ج 16، ص 74.

ومن الجلیّ هنا أنّ هذا الشاعر لم یکن بصدد إثبات صدور الذنب عن المتوکّل بقوله: عفا الله عنک؛ لأنّ الشاعر یعلم بأنّه حینئذ سیزداد غضباً، ویفعل به أکثر من النفی.

وهکذا، لمّا سأل المأمون العبّاسیّ الإمام الرضا علیه السلام عن معنی هذه الآیة، أجابه: «هذا ممّا نزل بإیّاکَ أعنی واسمعی یا جارة، خاطب الله عزّ وجلّ بذلک نبیّه، وأراد به أمّته، وکذلک قوله تعالی:(لَئِن أَشرَکتَ لَیَحبَطَنَّ عَمَلُکَ وَ لَتَکُونَنَّ مِنَ الخاسِرِینَ)1 .(1)

ومجمل الکلام: إنّ جملة «عفا الله عنک» تمثّل منتهی اللطف والرحمة الإلهیّة بالنسبة إلی نبیّه الکریم، ولا دلالة فیها علی إثبات الذنب أو المعصیة.

النتیجة

إنّ هذه الآیة لا تدلّ علی تفویت النبیّ صلی الله علیه و آله لمصلحة من المصالح علی المسلمین، ولا تثبت أنّه قد أذنب وعصی؛ وإنّما أراد الباری عزّ وجلّ إظهار منتهی اللطف والرحمة والرأفة لشخص النبیّ الکریم صلی الله علیه و آله، فعبّر بقوله: «عفا الله عنک»؛ ولهذا، لا تضادّ بین الآیة وبین العصمة الثابتة للأنبیاء والمرسلین والأولیاء الصالحین.

ص:120


1- (2) الشیخ الصدوق، عیون أخبار الرضا، بیروت: مؤسّسة الأعلمی، 1404 ه، ج 2، ص 180؛ یوسف عزیزی، داستان پیامبران یا قصه های قرآن از آدم تا خاتم (قصص الأنبیاء أو القصص القرآنی من آدم حتّی النبی الخاتم)، طهران: انتشارات هاد، ط 1، 1380 ه. ش، ص 49.

مصادر للمطالعة

1. جعفر السبحانیّ، منشور جاوید (المیثاق الخالد)، ج 5، ص 83.

2. محمّد هادی معرفت، تنزیه الأنبیاء.

3. یوسف عزیزی، داستان پیامبران یا قصه های قرآن از آدم تا خاتم (قصص الأنبیاء أو القصص القرآنی من آدم حتّی النبیّ الخاتم)، طهران: انتشارات هاد، ط 1، 1380 ه. ش.

الحدیث الختامیّ

قال رسول الله صلی الله علیه و آله:

«إنّ أَتقاکُم وَأعلَمَکُم بِاللهِ أَنَا».(1)

ص:121


1- (1) محمّد تقی الهندی، کنز العمّال، ج 11، ص 425، ح 31991.

ص:122

تناسق الآیة 110 من سورة الکهف مع عصمة النبیّ صلی الله علیه و آله المطلقة

اشارة

السؤال: نحن نؤمن بالعِصمة المطلقة للنبیّ الکریم صلی الله علیه و آله (فی الأحکام وفی الموضوعات) طِبقاً لقوله تعالی:(وَ ما آتاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاکُم عَنهُ فَانتَهُوا)1 وقوله:(وَ ما یَنطِقُ عَنِ الهَوی إِن هُوَ إِلاّ وَحیٌ یُوحی) ؛(1) ولکن، هل أنّ قوله عزّ من قائل:(إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثلُکُم)3 مخصّص لتلک الآیات، أم لا؟ وإن کان مخصّصاً لها، فهل أنّ الآیات الآنفة دالّة علی العصمة فی الأحکام فقط؟

تقدیم

تعتبر مسألة عصمة الأنبیاء من الموضوعات الهامّة التی تطرّقت لها الکتب الکلامیّة فی المباحث المتعلّقة بموضوع النبوّة، کما جری بحث هذا

ص:123


1- (2) النجم، آیات 3 و 4.

الموضوع بمقدارٍ ما فی کتب التفاسیر. ویُعدّ موضوع العصمة من المواضیع التی اختلفت فیها آراء وأقاویل العلماء فی الفرق والطوائف المختلفة، وکان للفرقة الإمامیّة رأیٌ خاصّ ومتمیّزٌ بشأن العِصمة؛ فقال الشیخ المفید فی هذا الخصوص:

«ولیس فی الفِرَق الإسلامیّة من یوجب لهم العصمة مطلقاً... إلاّ الشیعة الإمامیة».(1)

ومن هنا، سنصبّ جهدنا من أجلِ تقدیم جواب وافٍ للسؤال، والترکیز بدایةً علی إثبات العصمة المطلقة، ثمّ نُبیّن مفادَ الآیة الشریفة:(قُل إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثلُکُم) .

الجواب: بُغیة إیضاح الموضوع وإنارة زوایاه المختلفة، لا بدّ من الإشارة - بصورة مجملة - إلی معنی ومفهوم العصمة.

العصمة لغةً: قال ابن فارس فی «معجم مقاییس اللغة» ذیل مادّة «عصم»: «أصل واحد صحیح یدلّ علی إمساکٍ ومنعٍ وملازمةٍ، والمعنی فی ذلک کلّه معنی واحد. من ذلک العصمة، أن یعصم الله تعالی عبدَه من سُوءٍ یقَع فیه».(2)

العصمة اصطلاحاً: ذهب البعض إلی تفسیر العصمة باللطف، إلاّ أنّ الشیخ المفید قال فیها: «العصمة فی موضوع اللغة هو المنع، وقد خُصّ فی اصطلاح المتکلّمین بمن یمتنع باختیاره عن فِعلِ الذنوب والقبائح، عند اللطف الذی یحصل من الله تعالی فی حقّه».(3)

وفسّر بعضُ العلماء العِصمةَ بالملَکَة النفسانیّة، فقال آیة الله جوادی آملی:

ص:124


1- (1) محمّد بن محمّد بن النعمان (الشیخ المفید)، أوائل المقالات، بیروت: دار المفید، ط 2، 1414 ه، ج 4، ص 165.
2- (2) أحمد بن فارس بن زکریّا، معجم مقاییس اللغة، قم: إسماعیلیان، ج 4، ص 133، مادّة «عصم».
3- (3) الشیخ المفید، أوائل المقالات، ج 4، ص 164.

«العصمة ملَکَة نفسانیّة عظیمة، تتجلّی فی وجود الإنسان المعصوم دائماً، ولا قدرة لأیّ قوّة أُخری؛ نحو الغضب والشهوة، علی إزالتها».(1)

الفرق بین العصمة والعدالة

لمّا جری التعبیر عن العصمة فی تعریفها بالملکة النفسانیّة، یتبادر السؤال التالی: ما الفرق إذن بین العصمة والعدالة؛ إذ استفید من التعبیر بالملَکَة النفسانیّة فی تعریف العدالة أیضاً؟

یُمکن التفریق بین هاتین المقولتین فی إشارة إجمالیّة بالقول: العدالة أضعف من العصمة فی المرتبة الوجودیّة، هذا من جهة. ومن جهة أخری، السهو والنسیان والغفلة لا تتزاحم مع العدالة؛ فی حین أنّها تزاحم العصمة وتتنافی معها، یُضاف إلی ذلک، أنّ العدالةَ نوعٌ من أنواع الملَکَة العمَلیّة، لا العِلمیّة.

عدَم التنافی بین العِصمة والبشریّة

إنّ خلق الإنسان یستأثر بحالةٍ خاصّة وفریدة من بین المخلوقات الأُخری؛ فالصانع الحکیم رکّب الوجود الإنسانیّ من قوی متضادّة ومختلفة مع بعضها البعض، ثمّ حبکها حبکاً وجعلها متداخلة ومتشابکة، حتّی صار هذا التداخل والتشابک رمزاً لتکامل البشَر.

وعلی هذا الأساس، بات بإمکان الإنسان - من خلال إیجاد حالة من التوازن بین القوی الداخلیّة المکوّنة له - بلوغ مرحلة الکمال، ونیل مقام العصمة، فی ظلّ العبودیّة والقرب الإلهیّ. ومع أنّ إدراک هذه الحقیقة صعبٌ علینا، حینما وضعنا أنفسنا فی دائرة الأهواء النفسانیّة، وعشنا خلف حُجُبها؛ بَیدَ

ص:125


1- (1) تفسیر موضوعی قرآن کریم، وحی ونبوت در قرآن (التفسیر الموضوعی للقرآن الکریم، الوحی والنبوّة فی القرآن)، قم: مرکز نشر إسراء، ط 1، 1381 ه. ش، ج 3, ص 197.

أنّ بُلوغ هذه القِلّة الرفیعة لیس بالأمر الممتنع، ولا تضادّ ولا تعارض بین مقام العصمة وبین کون المعصوم بشَراً؛ إذ أنّ کلّ إنسان یتمتّع بالعصمة النسبیّة، أی بما یتناسب مع ظرفیّته وقابلیّته الوجودیّة، أمّا العصمة المطلقة فمتعلّقة بالأنبیاء، کما تدلّ علی ذلک الأدلّة العقلیّة والنقلیّة.

وعلیه، لا منافاةَ بین بعضِ الأدلّة القرآنیّة التی تثبت العصمة العامّة لنبیّ الإسلام، وبین قوله تعالی:(قُل إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثلُکُم) ؛ إذ لا دلیل یمنع من عصمة البشر؛ ولذا لا یوجد بین الآیات القرآنیّة الدالّة علی العصمة وبین هذه الآیة الشریفة نسبة العموم والخصوص، لیُقال: یمکن الاعتقاد بتبعیض العِصمة، وتضییق دائرتها، من خلال التمسّک بهذه الآیة.

وفقاً للأدلّة العقلیّة والنقلیّة التی سنبیّنها لاحقاً، یجب أن یکون الأنبیاء معصومین، کما ینبغی أن یکون النبیّ والرسول بشراً؛ لأنّهم إنّما یُبعثون إلی المجتمعات البشریّة؛ ولهذا، انتقد القرآن الکریم منطق الکفّار والمشرکین حینما قالوا:(ما لِهذَا الرَّسُولِ یَأکُلُ الطَّعامَ وَ یَمشِی فِی الأَسواقِ لَو لا أُنزِلَ إِلَیهِ مَلَکٌ فَیَکُونَ مَعَهُ نَذِیراً) .(1)

وفی موضع آخر، حکی القرآن الکریم علی لسانهم القول:(لَو لا أُنزِلَ إِلَیهِ مَلَکٌ) .(2) قال العلاّمة الطباطبائیّ فی ذیل هذه الآیة: «فسؤالهم إنزال الملَک إنّما کان لأحدِ أمرَین، علی ما یحکیه الله عنهم فی کلامه: أحدهما: أن یأتیهم بما یعدهم النبیّ من العذاب... وثانیهما: أن یُنزِل علیهم الملَک؛ لیکون حاملاً لأعباء الرسالة، داعیاً إلی الله مکان النبیّ صلی الله علیه و آله، أو یکون معه رسولاً مثله، مصدّقاً لدعوته، شاهداً علی صِدقه».(3)

ص:126


1- (1) الفرقان، آیه 7.
2- (2) الأنعام، آیه 8.
3- (3) العلاّمة الطباطبائی، تفسیر المیزان، قم: مؤسّسة إسماعیلیان، ج 7، ص 20-22.

أمّا القرآن الکریم فقد ردّ علی المشرکین قائلاً:(وَ لَو جَعَلناهُ مَلَکاً لَجَعَلناهُ رَجُلاً) .(1) أی «لو شئنا أن یکون رسولنا ملَکاً - حسبما یریدون - لوجَب أن یتّصف هذا الملَک بصفات الإنسان، وأن یظهر فی هیئة إنسان».(2) ولذا، لا فرق بین الصورتین، فیجب أن یکون الرسول والنبیّ المبعوث إلی البشر من جنسِ البشَر، أو فی صورة وهیئة بشَر، علی أقلّ التقادیر، لا من جنسٍ مُباین له.

وخلص العلاّمة الطباطبائیّ إلی القول: «فإنزال الملَک رسولاً لا یترتّب علیه من النفع والأثر، أکثر ممّا یترتّب علی إرسال الرسول البشَریّ، ویکون حینئذٍ لغواً».(3)

وانطلاقاً من ذلک، لم یرَ القرآن الکریم بأساً فی موضوع إرسال البشَر رسولاً إلی الناس، طبعاً بعدما تتوفّر فیه الشروط اللازمة، ومنها العصمة، واعتبره أمراً عادیّاً. بناءً علی ذلک، یلزم أوّلاً شرح أنواع العِصمة، ومن ثمّ بحث ومناقشة أدلّتها.

أنواع العصمة

اشارة

قُسّمت العصمة إلی العصمة العلمیّة والعصمة العملیّة، ولهذَین النوعین من العصمة أن ینفصلا عن بعضهما البعض، وعصمة الأنبیاء شاملة لکلا القسمین؛ بمعنی أنّ المعصوم یتمتّع بالعِصمة فی مجال العلم، وفی مجال العمَل، علی حدٍّ سَواء.(4)

ص:127


1- (1) الأنعام، آیه 9.
2- (2) الأمثل فی تفسیر کتاب الله المنزّل، ج 4، ص 221.
3- (3) تفسیر المیزان، قم: مؤسّسة إسماعیلیان، ج 7، ص 23.
4- (4) التفسیر الموضوعی للقرآن الکریم، مصدر متقدّم، ص 197-199.

مراتب العصمة

1- العصمة من المعصیة

من جملة مراتب عصمة الأنبیاء، تنزیههم عن کلّ ألوان المعصیة والذنب؛ فمن یتکفّل بهدایة الآخرین، ویُعتبر أُسوة وأنموذجاً تربویّاً یَحتذون به، ویتحمّل عبء النهوض بإیصال رسالة الوحی الإلهیّ إلی الناس، لا بدّ أن یکون فی منتهی الطهارة والنزاهة والعِفّة. وما یُستفاد من الأدلّة العقلیّة والنقلیّة، أنّ الأنبیاء، وعلی رأسهم خاتم الأنبیاء والمرسلین صلی الله علیه و آله، یتمتّعون بالعصمة المطلقة؛ بمعنی أنّ تلک الذوات المقدّسة مصونة عن أیّ نوعٍ من أنواع المعصیة والقُبح.

2- العصمة فی تلقّی الوحی وتبلیغ الرسالة

المرتبة الثانیة من مراتب عصمة الأنبیاء عصمتهم فی تلقّی الوحی وتبلیغ الرسالة الإلهیّة الملقاة علی عاتقهم، من أجل أن یتحقّق الغرَض والهدَف من البعثة، ولا یتعرّض إلی التحریف أو التغییر؛ وإلاّ، فإن احتُمل الخطأ والزلَل سُلِبت منهم ثقةُ الناس بأقوالهم وأفعالهم، وانتقض الغرَض من البعثة.

3- العصمة من الخطأ فی تطبیق الشریعة وشؤون الحیاة

من الأُمور الأُخری التی یتحتّم توفّرها فی الأنبیاء، العصمة من الخطأ فی تطبیق الشریعة والأمور الیومیّة العادیّة؛ من قبیل السهو فی رکَعَات الصلاة، وإقامة الحدود، وتشخیص مصالح الأمور ومفاسدها.(1) وعلیه، فالأنبیاء فی هذه المرحلة - أیضاً - مصونین عن جمیع أنواع الخطأ والنسیان؛ لأنّ الملاک فی لزوم العصمة، فیما تقدّم من المراتب والموارد، موجودٌ هنا أیضاً.

وبالنظر إلی الأدلّة القطعیّة، العقلیّة والنقلیّة، التی سنُبیّنها، یکون الأنبیاء

ص:128


1- (1) أنظر: جعفر السبحانی، محاضرات فی الإلهیّات، قم: مؤسّسة الإمام الصادق (علیه السلام)، ص 290.

الإلهیّون، وعلی رأسهم نبیّ الإسلام محمّد المصطفی صلی الله علیه و آله، معصومین من الخطأ وارتکاب المعصیة، فی المراحل والمراتب الثلاث المتقدّمة. وفی هذا السیاق، استدلّ الشیخ المفید علی عصمة نبیّنا محمّد صلی الله علیه و آله بقوله تعالی:(وَ النَّجمِ إِذا هَوی ما ضَلَّ صاحِبُکُم وَ ما غَوی)1 فعقّب علی ذلک بالقول: «فنفی بذلک عنه کلّ معصیة ونسیان».(1)

وعلی الرغم من کثرة الکلام عن سهو النبیّ صلی الله علیه و آله، وذهاب بعض العلماء إلی إمکان إسهائه من قِبَل الله تعالی فی بعضِ الموارد، طبقاً لعدد من الروایات فی هذا المجال، إلاّ أنّ العلماء الأعلام وفطاحل فقهاء التشیّع رفضوا مبدأ السهو علی النبیّ صلی الله علیه و آله، مؤکّدین علی سقوط هذه الروایات، لقیام الدلیل العقلیّ القطعیّ علی عدَم جواز السهو أو النسیان علی المعصوم، وألّفوا فی إثبات ذلک رسائل وکتب عدیدة. ولذا، فإنّ الشیخ الطوسیّ - بعد أن نقَلَ روایات فی باب أحکام السهو فی الصلاة، وسهو النبیّ صلی الله علیه و آله فی صلاته - قال:

«وهذا ممّا تمنع العقول منه».(2)

وممّا لا شکّ فیه أنّ معرفة الله تعالی والأنبیاء، والالتفات إلی أهداف البعثة، یکشف النقاب عن زیفِ وعدَم واقعیّة هذه الأحادیث. وفی هذه المضمار أیضاً، قال الشیخ الصدوق: «اعتقادنا فی الأنبیاء والرسل والأئمّة والملائکة صلوات الله علیهم، أنّهم معصومون، مطهّرون من کلّ دنس، وأنّهم لا یذنبون ذنباً، لا صغیراً ولا کبیراً، ولا یعصون الله ما أمرهم، ویفعلون ما یُؤمرون. ومَن نفی عنهم العِصمة فی شیء من أحوالهم فقد جهلهم. واعتقادنا فیهم أنّهم موصوفون بالکمال والتمام».(3)

ص:129


1- (2) مصنّفات الشیخ المفید، المؤتمر العالمی لألفیّة الشیخ المفید، ط 1، 1413 ه، ج 4، ص 63.
2- (3) الشیخ الطوسی، تهذیب الأحکام، طهران: دار الکتب الإسلامیّة، ط 4، 1365 ه. ش، ج 2، ص 181.
3- (4) الشیخ الصدوق، الاعتقادات فی دین الإمامیّة، بیروت: دارا المفید، ط 2، 1414 ه، ص 96.

ویظهر من رؤیة العارفین أنّ النبوّة والإمامة مبتنیة علی مقام الخلافة الإلهیّة، وهو ما یعنی لزوم تبلور الصفات الإلهیّة فی وجود الإنسان الکامل؛ أی أنّه یکون مظهراً لصفات الجمال والجلال الإلهیّ، وکما قال آیة الله جوادی آملی: «خلیفة الله هو الشخص الوحید القادر علی إظهار العصمة المطلقة، وإیصالها إلی مرحلة التجلّی».(1)

أدلّة عصمة الأنبیاء

اشارة

هناک جملة من الأدلّة العقلیّة والنقلیّة علی عصمة الأنبیاء، نحاول فیما یلی تسلیط الضوء علیها بصورة مختصرة:

أ) الدلیل العقلیّ

ورد فی کتاب «تجرید الاعتقاد» بشأن الدلیل علی العصمة ما یلی: «ویجب فی النبیّ العصمة؛ لیحصل الوثوق، فیحصَل الغرَض».

ثمّ قال العلاّمة الحلّی، فی شرح عبارة المحقّق الطوسیّ: «وبیان ذلک: أنّ المبعوث إلیهم، لو جوّزوا الکذب علی الأنبیاء والمعصیة، جوّزوا فی أمرهم ونهیهم وأفعالهم التی أمروهم باتّباعهم فیها ذلک، وحینئذ لا ینقادون إلی امتثال أوامرهم، وذلک نقضٌ للغرَض من البعثة».(2)

وفی ضوء هذا الدلیل المختصر، والشامل فی الوقت نفسه، تتّضح أبعاد هذه المسألة، ویتبیّن أنّ موضوع عصمة الأنبیاء أمرٌ حتمیّ وضروریّ فی دائرة التحلیل العقلیّ؛ من أجل أن یطمئنّ الناس إلی صواب أقوالهم، ویأمنوا من الوقوع فی مهلَکة احتمال کذِبهم.

ص:130


1- (1) التفسیر الموضوعی للقرآن الکریم، مصدر متقدّم، ص 237.
2- (2) کشف المراد فی شرح تجرید الإعتقاد، قم: مؤسّسة الإمام الصادق علیه السلام، ط 1، 1375 ه. ش، ص 155-156.
ب) الدلیل النقلیّ

یُلاحَظ فی مواضع متعدّدة من القرآن الکریم - وبشکلٍ واضح ولا غِبارَ علیه - قضیّة عصمة الأنبیاء، ولزوم صیانتهم من المعصیة والخطأ. وسوف نُشیر إلی جملةٍ من هذه الآیات القرآنیّة، بما یسمح به البحث:

قال تعالی:(وَ ما یَنطِقُ عَنِ الهَوی إِن هُوَ إِلاّ وَحیٌ یُوحی) .(1) ووفقاً لهذه الآیة الشریفة، فإنّ شریعة النبیّ صلی الله علیه و آله قائمة علی أنّ ما تلقّاه من السماء من لدن الوحی، ومن ثمّ بلّغه إلی الناس، لیس إلّا ما أرسله إلیه الله تعالی؛ بمعنی أنّ النبی الکریم صلی الله علیه و آله معصوماً ومصوناً عن الخطأ والمعصیة تماماً فی هذا المقام.

وهناک آیات أخری تدلّل علی أنّ الأنبیاء معصومون من الخطأ فی إجراء الأوامر الوحیانیّة المکلّفین بها؛ أی أنّهم یتمتّعون بالعصمة فی تلقّی الوحی، وفی الحفاظ علی مضامینه وتنفیذها، منها:

(فَلا وَ رَبِّکَ لا یُؤمِنُونَ حَتّی یُحَکِّمُوکَ فِیما شَجَرَ بَینَهُم ثُمَّ لا یَجِدُوا فِی أَنفُسِهِم حَرَجاً مِمّا قَضَیتَ وَ یُسَلِّمُوا تَسلِیماً) .(2)

(وَ لَو لا فَضلُ اللّهِ عَلَیکَ وَ رَحمَتُهُ لَهَمَّت طائِفَةٌ مِنهُم أَن یُضِلُّوکَ وَ ما یُضِلُّونَ إِلاّ أَنفُسَهُم وَ ما یَضُرُّونَکَ مِن شَیءٍ وَ أَنزَلَ اللّهُ عَلَیکَ الکِتابَ وَ الحِکمَةَ وَ عَلَّمَکَ ما لَم تَکُن تَعلَمُ)3

قال آیة الله جوادی آملی فی ذیل هاتین الآیتین: «حاصل هاتین الآیتین هو أنّ الهدف من بعث الکتب السماویّة هو القضاء بین الناس، علی أساس ذلک العلم الذی علّمه الله للنبیّ صلی الله علیه و آله، هذا من جهة.

ص:131


1- (1) النجم، آیات 3 و 4.
2- (2) النساء، آیه 65.

ومن جهة أخری، فإنّ القضاء بالحقّ متوقّف علی معرفة الأحکام والموضوعات، مثلما دلّت علی ذلک الآیة 113 من سورة النساء».(1)

وقال العلاّمة الطباطبائیّ فی تفسیر الآیتین الآنفتین: «إنّ الأمر الذی تتحقّق به العصمة نوعٌ من العِلم، یمنع صاحبه عن التلبّس بالمعصیة والخطأ. وبعبارة أخری: علم مانع عن الضلال... ومن هنا، یظهر أنّ هذه القوّة المسمّاة بقوّة العصمة، سببٌ شعوریّ علمیّ غیر مغلوب ألبتّة... وقد أشار الله تعالی إلیه فی خطابه الذی خصّ به نبیّه صلی الله علیه و آله بقوله:(وَ أَنزَلَ اللّهُ عَلَیکَ الکِتابَ وَ الحِکمَةَ وَ عَلَّمَکَ ما لَم تَکُن تَعلَمُ) وهو خطابٌ خاصّ، لا نفقهه حقیقة الفقه.

ویُستفاد من الآیات علی اختلافها أنّ المراد بالإنزال هو الوحی، وحی الکتاب والحکمة، وهو نوعُ تعلیمٍ إلهیٍّ لنبیّه صلی الله علیه و آله؛ غیر أنّ الذی یُشیر إلیه بقوله:(وَ عَلَّمَکَ ما لَم تَکُن تَعلَمُ) لیس هو الذی علّمه بوحی الکتاب والحکمة فقط؛ فإنّ مورد الآیة قضاء النبیّ صلی الله علیه و آله فی الحوادث الواقعة، والدعاوی التی تُرفع إلیه، برأیه الخاصّ، ولیس ذلک من الکتاب والحکمة بشیء، وإن کان متوقّفاً علیهما، بل رأیه ونظره الخاصّ به.

ومن هنا، یظهر أنّ المراد بالإنزال والتعلیم فی قوله... نوعان اثنان من العلم: أحدهما التعلیم بالوحی، ونزول الروح الأمین علی النبیّ صلی الله علیه و آله؛ والآخر التعلیم بنوع من الإلقاء فی القلب، والإلهام الخفیّ الإلهی، من غیر إنزال الملک».(2)

بناءً علی ذلک، فالآیة الکریمة المشار إلیها تَعتبر النبیّ صلی الله علیه و آله مجهّزاً بنوعین من العلم: علم هو مصدر للحکم والقضاء، وعلم موجب لتشخیص الموضوعات؛ لذا فإنّ شأن نزول هذه الآیة الشریفة، علی ما ورد فی کُتُب

ص:132


1- (1) التفسیر الموضوعی للقرآن الکریم، مصدر متقدّم، ص 218-219.
2- (2) تفسیر المیزان، قم: مؤسّسة إسماعیلیان، ط 2، 1360 ه. ش، ج 5، ص 78-80.

التفسیر، هو رفع شکوی إلی النبیّ صلی الله علیه و آله من قِبَل شخصین متخاصمین، وقد کان کلّ منهما یسعی إلی تبرئة نفسه، وإلقاء التهمة علی خصمه؛ فنزلَت هذه الآیة، وبیّنت الحقّ من الباطل.

وعلی هذا الأساس، وطبقاً لهذه الآیة الکریمة، والآیات القرآنیّة الأخری التی لا یسع المجال لطرقها جمیعاً، یتنقّح الموضوع، وتتّضح أبعاده کافّة. فالأنبیاء الإلهیّون معصومون، وبخاصّة الأنبیاء من أولی العزم، وعلی رأسهم الرسول الخاتم صلی الله علیه و آله، حیث یتمتّع بأعلی درجات العصمة؛ ولهذا اعتبر القرآن الکریم إطاعة النبیّ صلی الله علیه و آله طاعةً لله جلّ وعلا، فقال:(مَن یُطِعِ الرَّسُولَ فَقَد أَطاعَ اللّهَ) .(1)

قال الفخر الرازی فی ذَیلِ هذه الآیة الشریفة: «من أقوی الدلائل علی أنّه معصوم فی جمیع الأوامر والنواهی، وفی کل ما یبلّغه عن الله... وأیضاً، وجَب أن یکون معصوماً فی جمیع أفعاله».(2)

ویمکن أن نخلص هنا، طِبقاً للدلیل العقلیّ والنقلیّ المذکور، إلی أنّ الأنبیاء، وخاصّة نبیّنا الکریم الذی یعتبر أفضل الأنبیاء والمرسلین، معصومون جمیعاً بالعصمة المطلقة؛ وهکذا، یدفعنا إطلاق الدلیل إلی الاعتقاد بشمول العصمة بنطاقها الواسع، إلی جمیع أبعاد وزوایا الأنبیاء. ولذا، کتَب محمّد جمیل حمود، ذَیل قوله تعالی:(وَ جَعَلَنِی نَبِیًّا وَ جَعَلَنِی مُبارَکاً...) ،(3) الحاکی لقول النبیّ عیسی علیه السلام ما یلی:

«فلو فرضنا أنّه غیر معصوم فی تشخیص الموضوعات... یستلزم هذا عدم کونه مبارکاً».(4)

ص:133


1- (1) النساء، آیه 80.
2- (2) الفخر الرازی، التفسیر الکبیر، بیروت: دار إحیاء التراث العربی، ج 9-10، ص 193.
3- (3) مریم، آیات 30 و 31.
4- (4) محمّد جمیل حمود، شبهة إلقاء المعصوم نفسه فی التهلکة، ج 1، ص 320.

مفاد آیة أَنَا بَشَرٌ مِثلُکُم

بعد أن بیّنّا العصمة المطلقة للأنبیاء، فی ضوء الأدلّة القطعیّة من العقل والنقل، نشرع الآن بتحلیل مفاد قوله تعالی:(أَنَا بَشَرٌ مِثلُکُم) ؛ ذلک أنّ السؤال المطروح فی هذا المجال هو: هل أنّ الآیة المشار إلیها مخصّصة لتلک الآیات المثبتة لعصمة الأنبیاء بصورةٍ مطلقة، وبخاصّة خاتم الأنبیاء محمّد صلی الله علیه و آله، بحیث - علی فرض صحّة التخصیص - یکون الأنبیاء معصومین فی مورد الأحکام فقط؟

وللردّ علی هذا التساؤل، یجب القول: إنّ المستفاد من أدلّة العصمة المطلقة، والآیات القرآنیّة، أنّ النبیّ الکریم صلی الله علیه و آله معصوم مطلقاً؛ بمعنی أنّه معصوم فی تلقّی الوحی، وفی الحفاظ علی ما تلقّی وتبلیغه، وفی تطبیق الأحکام الدینیّة، وإجراء شؤون الحیاة الیومیّة؛ فهو یتمتّع بالعصمة فی جمیع تلک المراحل. وعلیه، لیس ثمّة تخصیص وتعمیم بین الآیة الشریفة (الواردة فی سورتی الکهف وفصّلت)، والآیات الأخری المذکورة آنفاً، المثبتة لعصمة الأنبیاء؛ لیعتقد البعض بتبعیض العصمة من خلال التمسّک بها.

ومن هنا، أورَد العلاّمة الطباطبائی، فی ذیلِ سورةِ الکهف: بدأَت الآیة الکریمة بکلمة «إنّما» التی تُفید الحصر، أی «قصرهُ صلی الله علیه و آله فی البشریّة المُماثلة لبشریّة النّاس، لا یزید علیهم بشیء، ولا یدّعیه لنفسه، قبال ما کانوا یزعمون أنّه إذا ادّعی النبوّة فقد ادّعی کینونة إلهیّة، وقدرة غیبیّة؛ ولذا کانوا یقترحون علیه بما لا یعلمه إلاّ الله، ولا یقدر علیه إلاّ الله، لکنّه صلی الله علیه و آله نفی ذلک کلّه بأمر الله عن نفسه، ولم یثبت لنفسه إلاّ أنّه یُوحی إلیه».(1)

فی سورة فصّلت، کانت هذه الآیة الشریفة فی مقام الردّ علی المشرکین،

ص:134


1- (1) . تفسیر المیزان، ج 13، ص 405.

حیث قالوا فی الآیة السابقة:(وَ قالُوا قُلُوبُنا فِی أَکِنَّةٍ مِمّا تَدعُونا إِلَیهِ) ،(1) وذلک «کنایة عن کون قلوبهم بحیث لا تفقه ما یدعو صلی الله علیه و آله إلیه من التوحید، کأنّها مغطّاة بأغطیة لا یتطرّق إلیها شیء من خارج».

وفی مقام الجواب عن قولهم هذا، خاطبهم الرسول الکریم صلی الله علیه و آله بالآیة الآنفة؛ بمعنی «إنّما أنا بشر مثلکم، أعاشرکم کما یُعاشر بعضُکم بَعضاً، وأکلّمکم کما یکلّم أحدکم صاحبه، فلست من جنس یباینکم کالمَلَک، حتّی یکون بینی وبینکم حجابٌمضروب».(2)

وعلی هذا الأساس، لم تکن الآیة مورد البحث مخصّصة للآیات الأخری، بل إنّما جاءت لتدحض بعض المزاعم التی تَشدّق بها المشرکون، وتُبطِل أقاویلَهم وادّعاءاتهم الواهیة، التی لا تستند إلی أساسٍ من الصحّة؛ ولذلک أرادت الآیة الإشارة، إلی أنّ الرسول الأعظَم صلی الله علیه و آله بشَرٌ، حامل لرسالة النبوّة والوحی الإلهیّ.

النتیجة

إنّ الأنبیاء معصومون، والنبیّ الخاتم صلی الله علیه و آله الذی هو من أولی العزم ومن أشرف الأنبیاء والمرسلین، یمتلک العصمة المطلقة، وهو ما یستفاد من الأدلّة العقلیّة والنقلیّة، التی تثبت بإطلاقها العصمة فی إطارها الواسع. وعلیه، فالآیة القرآنیّة الشریفة الآنفة (أَنَا بَشَرٌ مِثلُکُم) لا تمتّ بصلة إلی التخصیص؛ ومن هنا، قال الشیخ الصدوق فی هذا الصدد: «واعتقادنا فیهم أنّهم موصوفون بالکمال والتمام... لا یوصفون فی شیء من أحوالهم بنقص ولا عصیان ولا جهل».(3)

ص:135


1- (1) فصّلت، آیه 5.
2- (2) تفسیر المیزان، ج 17، ص 360-361.
3- (3) الشیخ الصدوق، الاعتقادات فی دین الإمامیّة، بیروت: دار المفید، ط 2، 1414 ه، ص 96.

مصادر للمطالعة

1. جعفر السبحانیّ، منشور جاوید (المیثاق الخالد)، قم: دفتر انتشارات اسلامی، ج 5، ص 4-17.

2. محمّد تقی مصباح یزدی، راهنماشناسی (دلیل المعرفة)، طهران: انتشارات امیر کبیر، ط 1، 1375 ه. ش، ص 90-104.

3. علی شیروانی، معارف إسلامی در آثار شهید مطهری (المعارف الإسلامیّة فی آثار الشهید مطهّری)، قم: معاونیّة شؤون الأساتذة والمعارف الإسلامیّة، 1376 ه. ش، ص 276-278.

4. محمد أمین ارزگانی، پیامبر أعظم در نگاه عرفانی إمام خمینی (النبیّ الأعظم فی النظرة العرفانیّة للإمام الخمینیّ)، طهران: مؤسّسة تنظیم ونشر آثار الإمام الخمینیّ، ط 1، 1386 ه، ص 48-50.

5. محمد سعیدی مهر، آموزش کلام اسلامی (تعلیم الکلام الإسلامیّ)، قم: مؤسّسة طه الثقافیّة، ط 1، 1378 ه، ص 70-80.

الحدیث الختامیّ

قال رسول الله صلی الله علیه و آله:

«أَشدُّ النّاسِ بَلاءً الأنبِیاءُ، ثُمَّ الأمثَلُ فَالأمثَلُ، یُبتَلی الرَّجُلُ عَلی حَسَبِ دِینِهِ...».(1)

ص:136


1- (1) نهج الفصاحة، ترجمة: إبراهیم أحمدیان، ص 62؛ الشیخ الطوسی، الأمالی، ص 660.

الشفاعة فی القرآن الکریم

التنافی بین الشفاعة مع آیة 123 من البقرة

اشارة

السؤال: ألا یتنافی موضوع الشفاعة مع الآیة 123 من سورة البقرة؟

شرح السؤال: یمکن أن یُتَوهّم منافاة شفاعة النبیّ الکریم صلی الله علیه و آله، والأئمّة المعصومین، مع علیهم السلام الآیة 123 من سورة البقرة، حیث قال تعالی:(وَ اتَّقُوا یَوماً لا تَجزِی نَفسٌ عَن نَفسٍ شَیئاً وَ لا یُقبَلُ مِنها شَفاعَةٌ وَ لا یُؤخَذُ مِنها عَدلٌ وَ لا هُم یُنصَرُونَ) للسببین التالیین:

أوّلاً: عدَم الالتفات إلی ما قبل الآیة وما بعدها، وقصر النظر علی ظاهر الآیة فقط.

ثانیاً: الالتفات إلی الآیات القرآنیّة التی تحصر الشفاعة بالله تعالی فقط، وعدَم إیلاء اهتمام للآیات الکثیرة التی أجازت الشفاعة بالإذن الإلهیّ للنبیّ صلی الله علیه و آله، والأئمّة المعصومین علیهم السلام.

الجواب: إنّ مسألة الشفاعة یوم القیامة من الأمور القطعیّة والمسلّمة عند المسلمین، ولم ینکر أحد منهم هذا الموضوع قطّ. والآیة 123 من سورة البقرة لا تنفی الشفاعة أیضاً؛ لسبَبَین بسیطین، هما:

ص:137

1. أنّ الآیة - بدلیلِ ما قبلها وما بعدَها - ناظرة إلی الشفاعة التی کان الیهود وبنو إسرائیل یعتقدون بها لأنفسهم، ویتصوّرون أنّهم سینجون من العذاب الإلهیّ بفعل قربهم وعلوّ شأنهم، قیاساً لذلک علی الأمور الدنیویّة.(1) لذا، جاءت عبارة: «واتَّقوا»، فی هذه الآیة بمثابة الخطاب إلی بنی إسرائیل؛ بدلیل الآیة السابقة لها:(یا بَنِی إِسرائِیلَ اذکُرُوا نِعمَتِیَ الَّتِی أَنعَمتُ عَلَیکُم وَ أَنِّی فَضَّلتُکُم عَلَی العالَمِینَ) .(2)

2. إنّ هذه الآیة الشریفة تنفی الشفاعة عن غیر الله تعالی علی نحو الاستقلال، ومن دون الإذن الإلهیّ؛ ولذا فهی لیست فی صدد نفی الشفاعة المقبولة عن المُذنبین والعُصاة، ولا یُمکن أن تُعتَبر دلیلاً فی هذا السیاق.

شرح الموضوع

اشارة

من أجل إیضاح هذا البحث وتسلیط مزید من الأضواء علیه، لا بدّ من الالتفات إلی بضعة أُمور:

1- معنی الشفاعة

الشفاعة فی اللغة مأخوذة من مادّة «شَفَعَ»، واستعملت فی معانی مختلفة، من قبیل: الزوج مقابل الفرد (الشفع مقابل الوتر)، والزیادة، والالتماس، والتوسّط، والمساندة.(3)

قال العلاّمة الطباطبائیّ فی تفسیر معنی الشفاعة: «الشفاعة من الشّفع، مقابل الوتر، کأنّ الشفیع ینضمّ إلی الوسیلة النّاقصة التی مع المستشفع، فیصیر

ص:138


1- (1) أنظر: العلاّمة الطباطبائی، تفسیر المیزان، ج 1، ص 155.
2- (2) البقرة، آیه 122.
3- (3) أنظر: مجمع اللغات لعدد من الکتّاب، ص 543؛ الراغب الإصفهانی، مفردات غریب القرآن، ص 263، مادّة: شفع.

به زوجاً بعد ما کان فرداً؛ فیقوی علی نیل ما یریده، لو لم یکن یناله وحده، لنقص وسیلته وضعفها، وقصورها».(1)

وعلی هذا الأساس، فالشفاعة متمّمة ومکمّلة للسببیّة؛ إذ أنّ التدقیق فی معناها یکشف عن أنّ الشفاعة فی الواقع من مصادیق السببیّة، حیث تصبح واسطة بین السبب الأوّل والمسبّب.

2- أقسام الشفاعة

أ) الشفاعة التکوینیّة: هذا النوع من الشفاعة ذو معنی عامّ، شامل للموجودات کافّة، أی أنّ جمیع المخلوقات واسطة الرحمة الإلهیّة للإنسان، أو فقُل: إنّ المخلوقات، فی حقیقة الأمر، واسطةِ الفیض الإلهیّ، فتعمَل علی مُساعدة الإنسان لبُلوغ مقصده وهدفه.

ب) الشفاعة التشریعیّة: هذا النوع من الشفاعة یشتمل علی کلّ نوع من أنواع التوسّط الذی یقود الإنسان إلی الصراط المستقیم والشریعة الحقّة. وهذا النوع بدوره ینطوی علی أقسام؛ لکن، لیس من الضروری الإشارة إلیها جمیعاً فی هذا البحث المختصر، غایة الأمر، نشیر هنا إلی أنّ أحدَ أقسامه شفاعةُ المغفرة، حیث تنفع فی بحثنا. والمقصود بشفاعةِ المغفرة الوساطة فی الصفح عن الذنوب والموبقات والرذائل. ولمزید من الإیضاح فی هذا المضمار، من الضروریّ الإشارة إلی الآیات القرآنیّة الواردة فی الشفاعة، والبحث عنها، هل أنّها تُوافق علی مبدأ الشفاعة، أم لا؟

3- الشفاعة فی القرآن
اشارة

تنقسم الآیات المتعرّضة للشفاعة إلی قسمین: الآیات النافیة للشفاعة بشکل کلیّ، والآیات المثبتة للشفاعة بإذن الله تعالی.

ص:139


1- (1) العلاّمة الطباطبائی، تفسیر المیزان، ج 1، ص 157.
أ) الآیات النافیة للشفاعة:

- قوله تعالی:(أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللّهِ شُفَعاءَ قُل أَ وَ لَو کانُوا لا یَملِکُونَ شَیئاً وَ لا یَعقِلُونَ قُل لِلّهِ الشَّفاعَةُ جَمِیعاً...) .(1)

- قوله تعالی:(وَ اتَّقُوا یَوماً لا تَجزِی نَفسٌ عَن نَفسٍ شَیئاً وَ لا یُقبَلُ مِنها شَفاعَةٌ وَ لا یُؤخَذُ مِنها عَدلٌ وَ لا هُم یُنصَرُونَ) .(2)

- قوله تعالی:(وَ اتَّقُوا یَوماً لا تَجزِی نَفسٌ عَن نَفسٍ شَیئاً وَ لا یُقبَلُ مِنها عَدلٌ وَ لا تَنفَعُها شَفاعَةٌ وَ لا هُم یُنصَرُونَ) .(3)

- قوله تعالی:(یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمّا رَزَقناکُم مِن قَبلِ أَن یَأتِیَ یَومٌ لا بَیعٌ فِیهِ وَ لا خُلَّةٌ وَ لا شَفاعَةٌ) .(4)

وکما هو ملاحَظ، فإنّ الآیات المذکورة جمیعاً تنفی الشفاعة وتنکر حصولها، وخاصّة الآیات الثلاث الأخیرة، حیث نفت وقوع الشفاعة یوم القیامة، بشکل صریح وقطعیّ.

ب) الآیات المثبتة للشفاعة:

- قوله تعالی:(إِنَّ رَبَّکُمُ اللّهُ الَّذِی خَلَقَ السَّماواتِ وَ الأَرضَ فِی سِتَّةِ أَیّامٍ ثُمَّ استَوی عَلَی العَرشِ یُدَبِّرُ الأَمرَ ما مِن شَفِیعٍ إِلاّ مِن بَعدِ إِذنِهِ) .(5)

ص:140


1- (1) الزمر، آیات 43 و 44.
2- (2) البقرة، آیه 48.
3- (3) البقرة، آیه 123.
4- (4) . البقرة، آیه 254.
5- (5) یونس، آیه 3.

- قوله تعالی:(یَومَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاّ مَن أَذِنَ لَهُ الرَّحمنُ وَ رَضِیَ لَهُ قَولاً) .(1)

- قوله تعالی:(إِنَّ یَومَ الفَصلِ مِیقاتُهُم أَجمَعِینَ یَومَ لا یُغنِی مَولًی عَن مَولًی شَیئاً وَ لا هُم یُنصَرُونَ إِلاّ مَن رَحِمَ اللّهُ إِنَّهُ هُوَ العَزِیزُ الرَّحِیمُ) .(2)

- قوله تعالی:(وَ قالُوا اتَّخَذَ الرَّحمنُ وَلَداً سُبحانَهُ بَل عِبادٌ مُکرَمُونَ لا یَسبِقُونَهُ بِالقَولِ وَ هُم بِأَمرِهِ یَعمَلُونَ یَعلَمُ ما بَینَ أَیدِیهِم وَ ما خَلفَهُم وَ لا یَشفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارتَضی وَ هُم مِن خَشیَتِهِ مُشفِقُونَ) .(3)

وهکذا، نری أنّ الآیات القرآنیّة الواردة فی القسم الثانی - کما هو واضح من ظاهرها - تثبت الشفاعة فی یوم القیامة بإذن الله جلّ وعلا. وبضمّ هاتین الفئتین من الآیات إلی بعضهما البعض، یمکن الخلوص إلی النتیجة التالیة: إنّ الشفاعةَ یومَ الحشر تخضع لقانون کلیّ وضابطة عامّة؛ بمعنی عدَم حصول الشفاعة بصورة استقلالیّة، وإنّما تکون بإذن الربّ تبارک وتعالی.

وبعبارة أُخری: إنّ الشفاعة أصلاً لله وحده؛ غیر أنّه یأذن لغیره من الأنبیاء والأولیاء الإلهیّین بالشفاعة أیضاً، انطلاقاً من لطفه ومنّه جلّ وعلا.

بناءً علی ذلک، تعتبر مسألة جواز الشفاعة یوم القیامة من الأمور المُحرَزة والمسلّمة؛ ولذلک أجمع علماء المسلمین علی هذا الأمر، وإذا ما وجد بینهم خلاف فمردّه إلی مفاد الشفاعة وتفسیر معناها، لا إلی إنکار أصل موضوع الشفاعة. ومن بین الفرق والطوائف الإسلامیّة، ذهبت المعتزلة والخوارج فقط إلی الموافقة علی أصل قضیّة الشفاعة، لکنّها اختلفت مع باقی المسلمین فی

ص:141


1- (1) طه، آیه 109.
2- (2) . الدخان، آیات 40-42.
3- (3) . الأنبیاء، آیات 26-28.

تفسیرها لها؛ فقالت المعتزلة: إنّها للمطیعین والتائبین من المؤمنین، ولا تشمل الکافِر والفاسِق.(1) وبعبارةٍ أُخری: إنّ فائدة الشفاعة رفع مرتبةِ الشفیع، والدلالة علی منزلته من المشفوع، کما قالت المعتزلة، وإنّ موضوعها إنّما هو لدفع الضرَر عن المشفوع له لا غیر، کما قالت المرجّئة، إلی غیر ذلک من الآراء.(2)

آراء بعض علماء الإسلام فی الشفاعة

استعرض العلاّمة الطباطبائیّ، ذیل الآیة 48 من سورة البقرة المبارکة، الآیات النافیة للشفاعة، والآیات المثبتة لها، وبعد أن بحث الطائفتین من تلک الآیات، خلُص إلی ما یلی:

«من هنا، یظهر أنّ الآیات النافیة للشفاعة، إن کانت ناظرةً إلی یومِ القیامة، فإنّما تنفیها عن غیره تعالی بمعنی الإستقلال فی الملک، والآیات المثبتة تثبتها لله سُبحانه بنحو الأصالة، ولغیره تعالی بإذنه وتملیکه، فالشفاعة ثابتة لغیره تعالی بإذنه».(3)

وذهب الفخر الرازیّ، ذیل الآیة 48 من سورة البقرة أیضاً، إلی أنّ الشفاعة أمر مسلّم ومتّفق علیه بین المسلمین، وإن ذُکِر خلافُ المعتزلة مع غیرهم من الفِرَق الإسلامیةّ فی تفسیر معنی الشفاعة.(4)

وقال الشیخ الطوسیّ، ذیل الآیة المذکورة: «وقوله وَ لا یُقبَلُ مِنها شَفاعَةٌ مخصوص عندنا بالکفّار؛ لأنّ حقیقة الشفاعة عندنا أن یکون فی

ص:142


1- (1) . أنظر: د. سمیح دغیم، موسوعة مصطلحات علم الکلام الإسلامی، بیروت: مکتبة لبنان ناشرون، ط 1، 1998 م، ج 1، ص 667.
2- (2) أنظر: القاضی عبد الجبّار، شرح تالأصول الخمسة، بیروت: دار إحیار التراث العربی، 1422 ه، ص 463-467.
3- (3) العلاّمة الطباطبائی، تفسیر المیزان، ص 157.
4- (4) الإمام محمّد الرازی، التفسیر الکبیر، ج 3، ص 59.

إسقاط المضارّ، دون زیادة المنافع. والمؤمنون عندنا یشفع لهم النبیّ صلی الله علیه و آله، فیشفّعه الله تعالی، ویُسقِط بها العِقاب عن المستحقّین من أهل الصلاة».(1)

الفتّال النیسابوریّ لمّا ذکر قوله تعالی:(عَسی أَن یَبعَثَکَ رَبُّکَ مَقاماً مَحمُوداً)2 ، فسّر المقام المحمود بشفاعة النبیّ صلی الله علیه و آله، وأورد روایة عنه قائلاً:

«وقال رسول الله صلی الله علیه و آله: المقامُ الّذی أَشفعُ فیهِ لأُمَّتی».(2)

وقال المرحوم الطبرسیّ، ذیل هذه الآیة، کذلک: «إنّ الأمّة اجتمعت علی أنّ للنبیّ صلی الله علیه و آله شفاعةً مقبولةً، وإن اختلفوا فی کیفیّتها. فعندنا هی مختصة بدفع المضارّ، وإسقاط العقاب عن مستحقّیه من مذنبی المؤمنین. وقالت المعتزلة: هی فی زیادة المنافع للمطیعین والتائبین دون العاصین. وهی ثابتةٌ عندنا للنبی صلی الله علیه و آله، ولأصحابه المنتجبین، والأئمّة من أهل بیته الطّاهرین، ولصالحی المؤمنین، وینجّی الله تعالی بشفاعتهم کثیراً من الخاطئین».(3)

وقال أبو الفتوح الرازیّ فی ذیل تلک الآیة أیضاً: هذه الآیة ناظرة إلی الکافرین والیهود، فالمسلمون ما عدا المعتزلة یؤمنون بالشفاعة. ثمّ استعرض عدد من الآیات الدالّة علی الشفاعة یوم القیامة.(4)

کما أشار میمون بن محمّد النسفیّ إلی هذا المطلب أیضاً، ذاهباً إلی أنّ شفاعة النبیّ صلی الله علیه و آله لأمّته یوم القیامة أمر مسلّم ومفروغ منه عند المسلمین.(5)

بل حتّی الوهابیّین الذین أنکر أغلَب علمائهم الشفاعة، لم ینکروها بصورة

ص:143


1- (1) . الشیخ الطوسی، التبیان فی تفسیر القرآن، ج 1، ص 213، ذیل الآیة 48 من سورة البقرة.
2- (3) النیسابوری، محمّد بن الفتّال، روضة الواعظین، ص 549.
3- (4) الطبرسی، الفضل بن الحسن، تفسیر مجمع البیان، ج 1، ص 223.
4- (5) أنظر: أبو الفتوح الرازی، روح الجنان، ج 1، ص 164-175.
5- (6) أنظر: میمون بن محمّد النسفی، تبصرة الأدلّة فی أصول الدین، ج 2، ص 792.

کلیّة، بل وافقوا علی شفاعة النبیّ صلی الله علیه و آله یوم القیامة، بإذن من الله عزّ وجلّ.(1)

وعلی هذا الأساس، وفی ضوء ما تقدّم، یتّضح أنّ الآیات النافیة للشفاعة، نحو الآیة 123 من سورة البقرة، ناظرة إلی الشفاعة من دون إذن الباری عزّ وجلّ، وإنکار هذا النوع منها فقط. وعلیه، فالشفاعة أصلٌ مسلّم، والشکّ فیها شکّ فی عموم المسائل الإسلامیّة برمّتها.

مصادر للمطالعة

1. مرتضی مطهّریّ، مجموعة آثار، ج 1، ص 435.

2. جعفر السبحانیّ، آیین وهابیت (مذهب الوهابیّة)، ص 259 فصاعداً.

3. علی أصغر رضوانی، سلفی گری، وهابیت وپاسخ به شبهات (السلفیّة والوهابیّة والردّ علی الشبهات)، ص 192.

الحدیث الختامیّ

قال رسول الله صلی الله علیه و آله:

«مَن لَم یَقبَل العُذرَ مِن مُتَنَصِّلٍ، صادِقاً کانَ أو کاذِباً، لَم یَنَل شَفاعَتِی».(2)

ص:144


1- (1) أنظر: السیّد محسن الأمین، کشف الإرتیاب فی أتباع محمّد بن عبد الوهاب، ص 192.
2- (2) نهج الفصاحة، ترجمة: إبراهیم أحمدیان، ص 370؛ الشیخ الصدوق، من لا یحضره الفقیه، قم: منشورات جماعة المدرسین، ط 2، 1414 ه، ج 4، ص 353.

علاقة الشفاعة بالوحدانیّة

اشارة

السؤال: کیف تتواءم شفاعةُ النبیّ الکریم صلی الله علیه و آله، والأئمّة الأطهار علیهم السلام، مع وحدانیّة الله تبارک وتعالی؟

شرح السؤال: اتّضح أنّ الشفاعة أصل مسلّم لدی المسلمین، وتبیّن فی موضوع الشفاعة فی القرآن الکریم أنّ الشفاعة ثابتةٌ لرسولِ الله صلی الله علیه و آله، والأئمّة المیامین علیهم السلام و...؛ فیتسنّی للإنسان العاصی والمذنب طلَب الشفاعة منهم، والصفح عن ذنوبه بجاههم. لکنّ الأمر بالنسبة إلی الوهابیّة، وابن تیمیّة تحدیداً، علی العکس من ذلک، کما سیأتی فی الصفحات القادمة؛ فلو طلَب أحدٌ الشفاعة من النبیّ صلی الله علیه و آله، أو الأئّمّة المعصومین علیهم السلام، أو غیرِهم، یدخل بنظرهم فی زمرة المشرکین؛ لأنّه بذلک یکون قد وضع النبیّ صلی الله علیه و آله، والأئمّة علیهم السلام، والأولیاء الصالحین، إزاء الله تعالی، الأمر الذی یتنافی مع مسألة التوحید.

الجواب: الشفاعة لغةً مأخوذةٌ من الشَّفع، و «الشَّفع ضمّ الشیء إلی مثله... والشفاعة الانضمام إلی آخر، ناصراً له وسائلاً عنه، وأکثر ما یستعمل فی انضمام مَن هو أعلی حرمةً ومرتبةً إلی مَن هو أدنی. ومنه

ص:145

الشفاعة فی القیامة».(1) والشفاعة تعنی الانضمام إلی شیءٍ آخر للحصول علی النتیجة المطلوبة.(2)

أمّا الشفاعة فی اصطلاحِ عِلم الکلام، فهی عبارة عن الرحمة والغُفران الإلهیّ، التی ینالها بعض عباد الله، بواسطة الأنبیاء والأولیاء.(3)

لقد دأبَ المسلمون منذ عصر النبیّ الهادی صلی الله علیه و آله، وحتّی یومنا هذا، علی طلب الشفاعة من الشُفعاء الحقیقیّین فی عالم ما بعد الموت، ولم یرَ أیُّ أحدٍ من علماء المسلمین فی هذا الطلَب مخالفةً للأُصول والمبانی الإسلامیّة؛ غیر أنّ ابن تیمیّة انبری للوقوف بوجه هذه العقیدة، وغیرها من العقائد والسُّنَن الأُخری، فی القرن السابع الهجریّ. وبعد ثلاثة قرون من ذلک، ظهَر محمّد بن عبد الوهاب النجدیّ لیرفع رایةَ المناهضة لهذه العقیدة الإسلامیّة، ویُحیی مدرسة ابن تیمیّة مرّة أُخری.(4)

لا شکّ فی أنّ الفِرقة الوهابیّة وافقت علی أصلِ مبدأ الشفاعة، بید أنّها انفردت فی بعض الأحکام والخصوصیّات المتعلّقة بها؛ فذهبوا إلی أنّ الشفاعة غیر جائزة، إلاّ فی حالة أن یطلب الإنسان من الله تعالی بصورةٍ مباشرة، أن یشفّع فیه النبیّ صلی الله علیه و آله، أو من یحقّ له الشفاعة؛ ولهذا قال ابن تیمیّة: إذا طلَب أحدٌ من النبیّ صلی الله علیه و آله وأولیاء الله أن یشفعوا له فی هذه الأُمور، من حیث قربهم من الله، فهذا من عمل المشرکین. وقال محمّد بن عبد الوهاب: طلب الشفاعة یجب أن یکون من الله فقط، لا الشُفعاء؛ أی یجب القول: ربّنا، شفّع فینا محمّداً صلی الله علیه و آله یومَ القیامة.(5)

ص:146


1- (1) . الراغب الإصفهانی، مفردات غریب القرآن، ص 457-458، مادة: شفع.
2- (2) أنظر: حسن المصطفوی، التحقیق فی کلمات القرآن، ج 6، ص 92.
3- (3) علی رضا طاهری، فرهنگ اصطلاحات متقابل ومتشابه (معجم المصطلحات المتقابلة والمتشابهة)، ص 116-117.
4- (4) أنظر: جعفر السبحانی، آیین وهابیت (مذهب الوهابیّة)، ص 259-261.
5- (5) أنظر: علی أصغر رضوانی، سلفی گری، وهابیت وپاسخ به شبهات (السلفیّة والوهابیّة والردّ علی الشبهات)، ص 458-459.

إذا عرفت ذلک، یلزم الإشارة إلی الآیات الواردة فی الشفاعة، وتحدید الشفاعة الحقیقیّة عن غیر الحقیقیّة؛ لیتّضح مدی تواؤم وتناسب الشفاعة مع وحدانیّة الباری تعالی.

وفی هذا السیاق، یمکن تقسیم الآیات المتعلّقة بالشفاعة إلی سَبعة طوائف، بحسَب ما یُستفاد من ظاهرها، ومن ثمّ ذکر آیةٍ واحدةٍ من کلّ طائفة، کمثال علیها:

1- نفی مطلق الشفاعة

هناک مجموعة من الآیات التی تنکر مطلق الشفاعة، نحو قوله تعالی:(... أَن یَأتِیَ یَومٌ لا بَیعٌ فِیهِ وَ لا خُلَّةٌ وَ لا شَفاعَةٌ وَ الکافِرُونَ هُمُ الظّالِمُونَ) .(1)

لکنّ المتحصّل من القرائن والشواهد، الموجودة فی الآیات الأخری من هذه الطائفة، هو أنّ المقصود منها لیس نفی مطلق الشفاعة، بل هی تهدف إلی إنکار نوع خاصّ من الشفاعة، وهو الشفاعة الباطلة.

2- نفی الشفاعة التی قال بها الیهود

قال تعالی فی محکم کتابه الکریم:(وَ اتَّقُوا یَوماً لا تَجزِی نَفسٌ عَن نَفسٍ شَیئاً وَ لا یُقبَلُ مِنها شَفاعَةٌ وَ لا یُؤخَذُ مِنها عَدلٌ وَ لا هُم یُنصَرُونَ) .(2)

هذه الآیة ناظرة إلی الشفاعة التی قال بها بنو إسرائیل لأنفسهم؛ حیث کانوا یقولون: نحن أبناء الأنبیاء، فمهما ازدادت ذنوبنا، وثَقُلت کفّة معاصینا، فسیشفع لنا آباؤنا.

ص:147


1- (1) . البقرة، آیه 254.
2- (2) البقرة، آیه 48.

3- نفی الشفاعة للکافرین

لقد صرّح القرآن الکریم بأن لیس للکافرین شَفیع، ولا تنفعهم الشفاعة، یوم القیامة، فقال تعالی:(فَما تَنفَعُهُم شَفاعَةُ الشّافِعِینَ) .(1)

4- انتقاد التشفّع بالأصنام

ثمّة آیات فی کتاب الله المجید، توجّه سِهام النقد إلی الاستشفاع بالأصنام، کقوله عزّ من قائل:(وَ لَقَد جِئتُمُونا فُرادی کَما خَلَقناکُم أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ تَرَکتُم ما خَوَّلناکُم وَراءَ ظُهُورِکُم وَ ما نَری مَعَکُم شُفَعاءَکُمُ الَّذِینَ زَعَمتُم أَنَّهُم فِیکُم شُرَکاءُ لَقَد تَقَطَّعَ بَینَکُم وَ ضَلَّ عَنکُم ما کُنتُم تَزعُمُونَ.)2

فلقد کان المشرکون یظنّون بأنّهم قادرون - من خلال عبادة الأوثان التی صنعوها بأیدیهم، من الخشَب أو الحجَر أو المعدن - علی کسب رضا أُولئک؛ وبالتالی، الحصول علی شفاعتهم إلی الحضرة الإلهیّة.

5- الشفاعة المختصّة بالله

بعض الآیات القرآنیّة تؤکّد علی أنّ الشفاعة مختصّة بالذات الإلهیّة؛ کقوله تعالی:(قُل لِلّهِ الشَّفاعَةُ جَمِیعاً لَهُ مُلکُ السَّماواتِ وَ الأَرضِ ثُمَّ إِلَیهِ تُرجَعُونَ) .(2)

6- الشفاعة بإذن الله

ذهبَت بعضُ الآیات القرآنیّة الشریفة إلی اشتراط الشفاعة بإذنه جلّ وعلا؛

ص:148


1- (1) المدّثر، آیه 48؛ وانظر کذلک: الأعراف، آیه 53؛ الشعراء، آیات 100 و 101.
2- (3) الزمر، آیه 44؛ وانظر کذلک: الأنعام، آیه 51؛ الأنعام، آیه 70؛ السجدة، آیه 4.

نظیر قوله تعالی:(مَن ذَا الَّذِی یَشفَعُ عِندَهُ إِلاّ بِإِذنِهِ) .(1) بمعنی أنّه لا تُتاح الشفاعة إلاّ لمن إذن له الباری سُبحانه فی التشفّع لغیره، وفقاً لبعض المعاییر.

7- بیان مواصفات الشُفعاء

هناک آیات فی القرآن الکریم، لا تُنبِیء عن وجود شُفعاء فحسب، وإنّما تُحدّد مواصفاتهم ومزایاهم؛ مثل قوله تعالی:(لا یَسبِقُونَهُ بِالقَولِ وَ هُم بِأَمرِهِ یَعمَلُونَ یَعلَمُ ما بَینَ أَیدِیهِم وَ ما خَلفَهُم وَ لا یَشفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارتَضی وَ هُم مِن خَشیَتِهِ مُشفِقُونَ) .(2)

وبشکل إجمالیّ، یُمکن القول: الآیات المنکرة للشفاعة إنّما تنفی حصولها علی نحو استقلالیّ، والآیات المثبتة للشفاعة تنسبها بالدرجة الأولی إلی الله تعالی، بل تحصرها فیه، والآیات الأُخری تؤکّد علی أنّه جلّ وعلا، قد أحال هذا الحقّ الخاصّ به إلی عدد من عباده من الشفعاء الحقیقیّین؛ لیشفعوا بإذنه، ضِمن شروطٍ وظروفٍ معیّنة. وعلیه، لا تنافِ بین أنواع الشفاعة المختلفة، غایةُ الأمر، شفاعة غیر الله مشروطة بإذنه تعالی، کما صرّح بذلک القرآن الکریم.(3)

ومن الجدیر بالذکر أنّ طلب الشفاعة عبارة عن طلب الدعاء، والقرآن الکریم أوصی بالدعاء للناس، کما أنّ سیرة الصحابة کانت قائمة علی طلب التشفّع من النبیّ الکریم صلی الله علیه و آله. أمّا ابن تیمیّة فقد ذهب إلی صحّة طلب الدعاء من الشخص الحیّ. وهکذا، ذهب النظّام النیسابوریّ،

ص:149


1- (1) . البقرة، آیه 255؛ وانظر کذلک: یونس، آیه 3؛ مریم، آیه 87؛ طه، آیه 109؛ السبأ، آیه 23؛ الزخرف، آیه 86.
2- (2) الأنبیاء، آیات 27 و 28؛ وانظر کذلک: النجم، آیه 26؛ غافر، آیه 7.
3- (3) أنظر: جعفر السبحانی، الإلهیّات علی هدی الکتاب والسنّة والعقل، ص 338-340.

فی تفسیر قوله تعالی:(مَن یَشفَع شَفاعَةً حَسَنَةً یَکُن لَهُ نَصِیبٌ مِنها...)1 إلی أنّ حقیقة الشفاعة هی الدعاء للمسلمین.(1)

وفسّر الفخر الرازیّ - أیضاً - الشفاعة بالدعاء الی الباری عزّ وجلّ، حیث أکّد فی ذیل قوله تعالی:(الَّذِینَ یَحمِلُونَ العَرشَ وَ مَن حَولَهُ یُسَبِّحُونَ بِحَمدِ رَبِّهِم وَ یُؤمِنُونَ بِهِ وَ یَستَغفِرُونَ لِلَّذِینَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعتَ کُلَّ شَیءٍ رَحمَةً وَ عِلماً فَاغفِر لِلَّذِینَ تابُوا وَ اتَّبَعُوا سَبِیلَکَ وَ قِهِم عَذابَ الجَحِیمِ)3 علی أنّ هذه الآیة دالّة علی أنّ شفاعة حَمَلة العرش تختصُّ بأصحابِ الذنوب.(2) بناءً علی ذلک، فالشفاعةُ بنظَرِ الفخرِ الرازیّ عبارةٌ عن دعاء الشفیع بحقّ المذنب والعاصی.

کما ورد فی الأحادیث أنّ دعاء المسلم لأخیه المسلم شفاعة، فعن ابن عبّاس، قال: سمِعت رسول الله صلی الله علیه و آله یقول:

«ما مِن رجلٍ مسلم یموت، فیقومُ علی جنازته أربعون رجلاً، لا یشرکون بالله شیئاً، إلاّ شفّعهم الله فیه».(3) وکما هو ملاحَظ، فإنّ الحدیث اعتبَر مَن یدعو للمیّت شَفیعاً له.

وفی هذا السیاق، قال محمّد بن عبد الوهاب - أیضاً - بجواز طلَبِ الدعاء من الحیّ.(4)

ص:150


1- (2) أنظر: محسن الأمین، الترجمة الفارسیّة لکتاب «کشف الارتیاب عن أتباع محمّد بن عبد الوهاب»، ترجمة: السیّد إبراهیم علوی، ص 258.
2- (4) . أنظر: الفخر الرازی، التفسیر الکبیر، ذیل الآیة 7 من سورة غافر.
3- (5) . مسلم بن الحجّاج بن مسلم القشیری النیسابوری، صحیح مسلم، ج 2، ص 665.
4- (6) أنظر: نجم الدین الطبسی، رویکرد عقلانی بر باورهای وهابیت (رؤیة عقلانیّة إلی عقائد الوهابیّة)، ص 68-69.

الشفاعة الواقعیّة وغیر الواقعیّة

الفرق الجوهریّ بین الشفاعة الواقعیّة، والشفاعة الباطلة وغیر الواقعیّة یتلخّص فی أنّ الأُولی تبدأ من الله وتنتهی بالمذنب والعاصی، فی حین أنّ الثانیة علی العکس تماماً؛ ففی الشفاعة الواقعیّة، المشفوع عنده، وهو الله جلّ جلاله، هو الباعث والمحرّک للوسیلة، وهو الشفیع، وفی الشفاعة الباطلة، یکون المشفوع له، وهو الشخص العاصی، هو المحرّک والباعث. ثمّ إنّ الشفیع فی الشفاعة غیر الواقعیّة، التی تکثر فی عالم الدنیا، یکتسب صفةَ کونِه وسیلةً من الشخص المذنب؛ ذلک أنّ المُذنِب هو مَن بعَث الوسیلة وألجأها إلی الشفاعة، بینما الأمر علی خِلاف ذلک فی الشفاعة الواقعیّة، التی تکون مجریً للأنبیاء والأولیاء الإلهیّین، حیث یُستفاد کون الشفیعِ وسیلةً من الله تعالی؛ إذ هو الذی جعل الأنبیاء والأولیاء وسیلة إلیه.

طلَب الشفاعة وصِلته بالوحدانیّة

إن کان کلّ نوع من الطلب والإطاعة داخلاً فی دائرة الشرک، فلازم ذلک أن یکون جمیع الناس - منذ عصر النبیّ آدم علیه السلام وحتّی یومنا هذا - مشرکین وکافرین؛ لأنّ کلّ شخص مارس أثناء فترة حیاته الطلب ممّن هو أعلی منه رتبةً، أو طاعته، فطالما کانت للأولاد والعبید والعمّال والجنود مطالب عند آبائهم وسادتهم وأصحاب عملهم وقادتهم، وکثیراً ما أطاعوهم فی أوامرهم وتوجیهاتهم.

بناءً علی ذلک، فلیس کلّ طلب من الغیر والطاعة له عبادة، کما أنّه لیس کلّ طلب یعدّ شرکاً؛ ذلک أنّ العبادة ما هی إلاّ طلب الحاجة المقرون بمنتهی الذلّ والخضوع، من الفاعل علی الإطلاق، فی أمور

ص:151

الدنیا والآخرة. ولکن، متی ما طُلِب شیء علی هذه الشاکلة من غیر الله، فهذا هو الشرک.(1)

ومن هنا قال العلاّمة الطباطبائیّ: «... فالشفیع لا یطلب من المولی - مثلاً - أن یُبطِل مولویّة نفسه، وعبودیّة عبده، فلا یعاقبه، ولا یطلب منه أن یرفع الید عن حکمه، وتکلیفه المجعول، أو ینسخه عموماً، أو فی خصوص الواقعة، فلا یُعاقبه، ولا یطلب منه أن یُبطِل قانون المجازاة عموماً أو خصوصاً، فلا یُعاقب لذلک رأسا، أو فی خصوص الواقعة، فلا نفوذ ولا تأثیر، للشفیع فی مولویّةٍ وعبودیّة، ولا فی حکمٍ، ولا فی جزاء حکم. بل الشفیع - بعد ما یسلّم جمیع الجهات الثلاث المذکورة - إنّما یتمسّک: إمّا بصفات فی المولی الحاکم، توجب العفو والصفح، کسؤدَدِه، وکرَمه، وسخائه، وشرافة محتده؛ وإمّا بصفات فی العبد، تستدعی الرأفة والحنان، وتثیر عوامل المغفرة، کمذلّته، ومسکنته، وحقارته، وسُوء حاله؛ وإمّا بصفات فی نفسه - أعنی نفس الشفیع - من قربه إلی المولی، وکرامته، وعلوّ منزلته عنده، فیقول: ما أسألک إبطال مولویّتک وعبودیّته، ولا أن تُبطل حُکمک، ولا أن تُبطل الجزاء، بل أسألُک الصفح عنه، بأنّ لک سؤدَداً ورأفةً وکرَماً، لا تنتفع بعقابه، ولا یضرّک الصفح عن ذنبه، أو بأنّه جاهلٌ، حقیر، مسکین، لا یعتنی مثلک بشأنه، ولا یهتمّ بأمره، أو بأنّ لی عندک من المنزلة والکرامة، ما یُوجب إسعاف حاجتی، فی تخلیصه، والعفو عنه».(2)

وبعبارة أُخری: کما أنّ واجب الوجود لیس معلولاً للغیر فی ذاته، فمن غیر الممکن أن یقع تحت تأثیر علّةٍ ما، فی صفاته وأفعاله؛ فهو المؤثّر

ص:152


1- (1) . أنظر: جعفر السبحانی، شفاعت در قلمرو عقل، قرآن، وحدیث (الشفاعة فی إطار العقل والقرآن والحدیث)، ص 273-274.
2- (2) محمّد حسین الطباطبائی، تفسیر المیزان، ج 1، ص 159.

المحض الذی لا یقبل التأثّر من أیّ شیء آخر. علی أنّ الباری جلّ وعلا هو من أراد لنا الاستفادة من هذه الوسائل والأسباب، ولیس ذلک من الشرک فی شیء، بل هو عین التوحید.(1)

ولذلک، لو کان هذا الأمر داخلاً فی عداد الشرک، لما طلب الناس التشفّع بالنبی صلی الله علیه و آله فی حیاته وبعد مماته.(2)

الشفاعة عین الوحدانیّة

إنّ دراسة حقیقة التوحید دراسة دقیقة، وتطبیق الشفاعة علیها، لا یکشف عن مدی التوافق والانسجام بین الشفاعة والوحدانیّة فحسب، بل یتبیّن من خلال ذلک أنّ الشفاعة عین الوحدانیّة.

أقسام التوحید

التوحید الذاتیّ: لا شکّ فی أنّ الله تعالی ذاتٌ لا مثیل لها ولا شریک، وفی مُقابل ذلک، یُطرح الاعتقاد بوجود الشریک، وهذا هو الشرک فی الذات.

التوحید الأفعالیّ: المؤثّر الواقعیّ فی العالم واحد، وأثر کلّ موجود منه تعالی؛ فإحراق النار وقطع السیف و... جمیعها من الله جلّ جلاله، وتحدث بأمره.

التوحید العبادیّ: لا ذاتَ فی الوجود تستحقّ العبودیة مثلما یستحقّها الله، فلا موجود من الموجودات فی العالم - بما فیها الأوثان المصنوعة من الحجر وما شاکل، ولا غیرها، بل حتّی الأنبیاء والأولیاء الذین یمثّلون أعلی مظاهر الکمال فی عالم الکون - حریٌّ بالعبادة؛ إذ لا تلیق العبادة بغیر الله سبحانه وتعالی.

ص:153


1- (1) . أنظر: مرتضی مطهری، عدل الهی (العدل الإلهی)، ص 239.
2- (2) أنظر: جعفر السبحانی، الإلهیّات علی هدی الکتاب والسنّة والعقل، ص 357-358.

وفی ضوء أقسام التوحید هذه، لا یتسبّب طلب الشفاعة من الشفعاء الواقعیّین بأدنی منافاة للتوحید فی مراحله الثلاث الآنفة؛ ذلک أنّ الاستشفاع بالأولیاء لا یؤدّی إلی تعدّد الذات الإلهیّة (التوحید الذاتیّ)، ولا یفضی إلی الاعتقاد باستقلالیّة موجودٍ ما فی التأثیر وإیصال الفیض (التوحید الأفعالیّ)، ولا یسفر عن وضع طوق عبودیّة شخصٍ ما فی رقابنا، واعتباره معبوداً لنا (التوحید العبادیّ).(1)

ومن هنا، یمکن القول: إنّ الشفاعة لا تتنافی مع أیٍّ من أنواع التوحید؛ لأنّ رحمة الشفیع لا تعدو کونها نبراساً من رحمة الله تعالی؛ إذ أنّ دوافع الشفاعة والرحمة من الخالق المنعم.(2)

وعلی هذا الأساس، إذا ما اعتُبر الشفیع إلهاً وربّاً مصغّراً، بحیث یکون مالکاً لمقام الشفاعة، من دون إذن الباری عزّ وجلّ، فیشفع لمن یشاء وکیف یشاء، فالاستشفاع بمثل هذا الشخص یعدّ عبادة لغیر الله، ویکون المستشفع حینئذ مشرکاً.

أمّا لو عُدّ الشفیع مخلوقاً من المخلوقات الإلهیّة، وبإمکانه التشفّع لثلّة من الناس بإذن إلهیٍّ خاص، ثمّ تُطلب منه الشفاعة فی ضوء تلک القیود والشروط، فمن المسلّم به عندئذ أنّ هکذا طلب لا یختلف عن طلب أیّ عمل طبیعیّ آخر، ولا یخرج هذا العمل عن دائرة وحدود التوحید.

وبناءً علی ذلک، فتصوّر أنّ التشفّع بالأولیاء الإلهیّین شبیه - من حیث الظاهر - بعمل المشرکین، الذین یطلبون الشفاعة من الأصنام، أمرٌ عارٍ عن الصحّة، ولا أساس له؛ ذلک أنّ اعتقاد الموحّد حول أولیاء الله یتغایر تغایراً تامّاً مع اعتقاد المشرکین فی أصنامهم؛ إذ أنّ المشرکین یذهبون إلی کون

ص:154


1- (1) . أنظر: جعفر السبحانی، شفاعت در قلمرو عقل، قرآن، وحدیث (الشفاعة فی إطار العقل والقرآن والحدیث)، ص 280-282.
2- (2) . أنظر: مرتضی مطهری، عدل الهی (العدل الإلهی)، ص 240.

الأصنام یمتلکون مقام الشفاعة، بحیث یمکنها (الأصنام) الشفاعة لأیّ شخصٍ تشاء، وکیفما شاءت هی. ومِن المُسلّم به أنّ هذه القضیّة نوع من الاعتقاد بألوهیّة الأوثان، وتُعدّ مصداقاً بارزاً من مصادیق الشرک، والحال أنّ المسلمین لا یؤمنون بوجود هکذا مقام، وامتلاک هکذا صفة، لأولیائهم؛(1) والشاهد علی ذلک أنّهم یترنّمون علی مدار الیوم بقوله تعالی:(مَن ذَا الَّذِی یَشفَعُ عِندَهُ إِلاّ بِإِذنِهِ.)2

النتیجة

الشفاعة من الحقوق المختصّة بالباری عزّ وجلّ؛ لکنّه قد یمنح هذا الحقّ إلی بعض أولیائه وعباده الصالحین، ویأذن لهم بالاستفادة من الحقّ لسببین:

کما أنّ الرحمة الإلهیّة (الأعمّ من الرحمة المادیّة والمعنویّة) إنّما تبلغنا فی هذه الحیاة الدنیا عن طریق الأسباب؛ فعلی سبیل المثال، یبعث الله الرسل والأنبیاء لهدایة الإنسان إلی سبیل السعادة والهناء، وخلق الشمس لإنعاش الحیاة علی الکرة الأرضیّة؛ بإرسال أشعتّها الدافئة و... فکذلک، تصلنا المغفرة والرحمة الإلهیّة عن طریق بعض الأسباب، کالأولیاء الإلهیّین،، فی حین أنّ المؤثّر الأساسیّ هو الله جلّ جلاله.

هذا من جهة، ومن جهة أخری، إنّ الله تعالی یرمی من إعطاء مقام الشفاعة لأولیائه المنتجبین إلی تکریمهم وتبجیلهم بشکلٍ لائق بهم، وبیان قربهم منه، وتعریف الآخرین بقیمة وجودهم.(2)

ص:155


1- (1) أنظر: جعفر السبحانی، تفسیر موضوعی (التفسیرالموضوعی)، ج 2، صص 364 و 461 و 462.
2- (3) أنظر: جعفر السبحانی، شفاعت در قلمرو عقل، قرآن، وحدیث (الشفاعة فی إطار العقل والقرآن والحدیث)، ص 90-91.

مصادر للمطالعة

1. مرتضی مطهّریّ، عدل إلهی (العدل الإلهیّ)، ص 237.

2. نجم الدین الطبسیّ، رویکرد عقلانی بر باورهای وهابیت (رؤیة عقلانیّة إلی عقائد الوهابیّة)، ص 68.

3. محسن الأمین، الترجمة الفارسیّة لکتاب «کشف الارتیاب عن أتباع محمّد بن عبد الوهاب»، ترجمة: السیّد إبراهیم علوی، ص 285.

الحدیث الختامیّ

قال رسول الله صلی الله علیه و آله:

«إِذا اجتَمَعَ العالِمُ وَالعابِدُ عَلی الصِّراطِ، قِیلَ لِلعابِدِ: ادخُلِ الجَنَّةَ، تَنعَّم بِعِبادَتِکَ، وَقیلَ لِلعالِمِ: قِف هُنا، فَاشفَع لِمَن أَحبَبتَ، فَإنَّکَ لا تَشفَع لأَحَدٍ إلاّ شُفِّعتَ. فَقامَ مَقامَ الأنبِیاءِ».(1)

ص:156


1- (1) نهج الفصاحة، ترجمة: إبراهیم أحمدیان، ص 370.

صِلة الشفاعة بالسُّنَن الإلهیّة الثابتة

اشارة

السؤال: هل أنّ الشفاعة تتنافی مع السُّنن الإلهیّة الثابتة التی لا تقبل التغییر؟

شرح السؤال: ثمّة قوانین ثابتة ولا یطالها التغییر والتبدّل فی الکون، وفی عالم التشریع والتکوین، وهی - کما کانت حاکمة علی الأزمنة الغابرة - حاکمة علی عالم الیوم، وعلی المستقبل کذلک. وقد عبّر القرآن الکریم عن هذه القوانین بالسنن الإلهیّة، نحو قوله تعالی:(فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللّهِ تَبدِیلاً وَ لَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللّهِ تَحوِیلاً) .(1)

ومن جملة مصادیق السنن الإلهیّة الثابتة، معاقبة المجرمین وتعذیب العُصاة، ولا شکّ فی أنّ العدل الإلهیّ یفترض تحدید عقوبات متشابهة ومتساویة من جمیع الجهات، للمعاصی والجرائم المشابهة لبعضها البعض. وبالنظر إلی هذا الأمر، ألا تتنافی الشفاعة مع هذه السنن الإلهیّة الثابتة، القاضیة بالمساواة فی العقوبة؟ وألا یُعدّ عدم معاقبة المجرم نقضاً للغرض؟

الجواب: إنّ المغفرة والرحمة الإلهیّة الواسعة، والصفح عن المعاصی، فی ظلّ شفاعة الأنبیاء والأولیاء الإلهیّین، التی تشمل العصاة والمذنبین ضمن

ص:157


1- (1) فاطر، آیه 43.

شروط خاصّة، تعتبر فی حدّ ذاتها من السنن الإلهیّة للخالق المنّان، والتی لا تقبل التغییر والتبدّل؛ وعلیه، لمّا تکون الشفاعة نفسها من ضمن مصادیق السنن الإلهیّة الثابتة، کیف یمکن أن تکون متنافیة مع تلک السنن؟

توضیح ذلک: صحیح أنّ السنن الإلهیّة لا تقبل التغییر والتخلّف؛ ولکن، یجب الالتفات إلی أنّ سنّة الباری تعالی غیر قائمة علی صفةٍ واحدةٍ، من صفات الله عزّ وجلّ، وأنّ لله سنناً کثیرةً، کلّ واحدة منها سنّة تامّة ومکتملة وشاملة، وناشئة من الصفات الإلهیّة. وفی سبیل إیضاح أزید، نسلّط الضوء علی أقوال عددٍ من العلماء:

قال العلاّمة الطباطبائیّ: «إنّ سنّة الله تعالی جرت علی صون أفعاله من التخلّف والاختلاف، فما قضی وحکم به یُجریه علی وتیرةٍ واحدةٍ، من غیر استثناء، وعلی هذا جرت سنّة الأسباب... لا ریب فی أنّ صراطه تعالی مستقیم، وسنّته واحدة؛ لکنّ هذه السنّة الواحدة الغیر المختلفة، لیست قائمة علی أصل صفة واحدة من صفاته تعالی، کصفة التشریع والحکم مثلاً، حتّی لا یتخلّف حکم عن مورده، ولا جزاءُ حکمٍ عن محلّه قطّ، بل هی قائمةٌ علی ما یستوجبه جمیع صفاته المربوطة، عَلَت صفاته».(1)

وفی الحقیقة، یبدو أنّ المستشکل تصوّر أنّ العذاب والعقاب الإلهیّ من السُّنن الأصلیّة، أمّا العفو والمغفرة عن طریق الشفاعة فهو نوعٌ من الاستثناء من القانون، والحال أنّ لا واحدة من هذهِ السُّنن ذات طابع استثنائیّ بالنسبة إلی غیرها، بل کلّ واحد منها تمثّل سنّة من السُّنن القطعیّة، التی تُجری فی

ص:158


1- (1) محمّد حسین الطباطبائی، تفسیر المیزان، مؤسّسة النشر الإسلامی، ط 6، 1421 ه، ج 1، ص 163؛ وانظر کذلک: عبد الله جوادی آملی، تفسیر موضوعی قرآن کریم (التفسیر الموضوعی للقرآن الکریم)، المعاد فی القرآن، انتشارات إسراء، 1381 ه. ش، ج 5، ص 153-154.

موردها؛ ولذا لا ینبغی تفسیر بعضها بالسنّة الإلهیّة، واعتبار الأُخری خطوة علی خلاف السنن السائدة.

ثمّ إنّ عدَم تغیّر السُّنن الإلهیّة لا یعنی أنّ لیس له تعالی فی الکون سِوی سُنّةً واحدة، والحال أنّه بنفسه یقول:(کُلَّ یَومٍ هُوَ فِی شَأنٍ) .(1)

بناءً علی ذلک، فکلّ عمل من أعمال الله تعالی، وکلّ مظهر من مظاهره، وتجلٍّ من تجلّیاته، یرتبط بصفة من صفاته.(2)

والنتیجة أنّ وقوع الشفاعة ورفع العذاب الإلهیّ عن شخصٍ ما، لا یستلزم التنافی مع السنن الإلهیّة الثابتة التی لا تقبل التغییر، بل الشفاعة أثر لبعض العوامل، من قبیل: الرحمة، المغفرة، الحکم، القضاء، ورعایة حقّ ذی الحقّ. فإذا ما أوکل الباری تعالی هذا الحقّ إلی النبیّ صلی الله علیه و آله، أو الأئمّة الأطهار علیهم السلام، لا یکون هذا العمل منافیاً للسنّة الإلهیّة.

ص:159


1- (1) الرحمن، آیه 29.
2- (2) أنظر: جعفر السبحانی، منشور جاوید (المیثاق الخالد)، دار القرآن الکریم، 1410 ه، ج 8، ص 110.

مصادر للمطالعة

1. عبد الله جوادی آملی، تفسیر موضوعی قرآن کریم (التفسیر الموضوعیّ للقرآن الکریم)، المعاد فی القرآن، ج 5، ص 153.

2. جعفر السبحانیّ، شفاعت در قلمرو عقل، قرآن، وحدیث (الشفاعة فی إطار العقل والقرآن والحدیث)، ص 90-91.

3. جعفر السبحانیّ، منشور جاوید (المیثاق الخالد)، ج 8، ص 110.

الحدیث الختامیّ

قال رسول الله صلی الله علیه و آله:

«خُیّرتُ بَینَ الشَّفاعةِ وَبَینَ أن یَدخُلَ شَطرُ أُمَّتی الجَنّةَ، فَاختَرتُ الشَّفاعةَ؛ لأنَّها أَعَمُّ وَأکفی. أَتَرَونَها لِلمُؤمِنینَ المُتَّقینَ؟ لا، وَلکنَّها لَلمُذنِبینَ المُتَلوِّثینَ الخَطّائینَ».(1)

ص:160


1- (1) نهج الفصاحة، ترجمة: إبراهیم أحمدیان، ص 370.

المعراج والعلوم الحدیثة

السؤال: کیف یتناسب معراج النبیّ المصطفی صلی الله علیه و آله مع العلوم الحدیثة ؟

شرح السؤال: إنّ أساس معراج النبیّ صلی الله علیه و آله من الأمور الدینیّة المسلّمة لدی المسلمین، حیث ورد بصراحة فی القرآن الکریم. لکن، لمّا یُنظر إلی قضیّة المعراج من خارج دائرة المعجزة والأمور الخارقة للعادة، ینشأ نحوٌ من التنافی، وعدم التناسب والتوافق، بین المعراج، وبین العلوم الحدیثة والعقل البشریّ؛ لأنّ الأسفار الفضائیّة تواجه کمّاً غیرَ قلیلٍ من المعوّقات والمشکلات. ومع وجود هذه المشکلات والمعوّقات، وشحّة الإمکانات فی ذلک العصر، کیف تمکّن النبیّ صلی الله علیه و آله من الصعود إلی السماء؟

الجواب: لأجل إیضاح الجواب بشکلٍ شافٍ ووافٍ، بدایةً، لا بدّ من تعریف المعراج.

مفهوم المعراج:

1. فی اللغة: المعراج لغةً من مادّة «عرج»، أی صعد. قال الراغب: «العروج

ص:161

ذهابٌ فی صعود... والمعارِج المصاعد، قال: ذِی المَعَارِجِ، ولیلة المعراج سُمّیت لصعود الدعاء فیها».(1)

وعلی هذا الأساس، فحقیقة المعراج هی السیر فی الأرض والعوالم العلویّة.

2. فی الاصطلاح: المعراج اصطلاحاً عبارة عن إعجاز النبیّ صلی الله علیه و آله فی السفر إلی السماوات، ووفقاً للروایات الواردة فی هذا الخصوص، فقد تمّ معراج رسول الله صلی الله علیه و آله علی مرحلتین:

أ) مسیره من المسجد الحرام إلی المسجد الأقصی، وبالعکس، والذی أُشیر له فی قوله تعالی:(سُبحانَ الَّذِی أَسری بِعَبدِهِ لَیلاً مِنَ المَسجِدِ الحَرامِ إِلَی المَسجِدِ الأَقصَی) .(2) وقد أُطلق علی هذه الرحلة بحسب الاصطلاح التاریخیّ اسم «الإسراء».

ب) حرکته من المسجد الأقصی إلی السماوات، وقد أشارت الروایات المبارکة إلی أنّه صلی الله علیه و آله التقی فی هذا السفَر بالأنبیاء الإلهیّین والملائکة المقرّبین، وشاهد الجنّة وأهلها والنّار وأهلها، بل ورأی من آیات ربّه الکُبری ما حکاه لأمّته. ویُطلق علی هذا السفَر اصطلاحاً «المعراج».(3)

قصّة المعراج

ذُکر معراج رسول الله صلی الله علیه و آله

إلی السماوات بصورة إجمالیّة فی القرآن الکریم فی موضعین: أحدهما فی سورة الإسراء، والآخر فی سورة النجم، وخلاصة قصّة المعراج فی ضوء الآیات والروایات عبارة عمّا یلی: المشهور أنّ النبیّ الخاتم صلی الله علیه و آله

ص:162


1- (1) الراغب الإصفهانی، مفردات غریب القرآن، دفتر نشر الکتاب، 1404 ه، ص 329.
2- (2) الإسراء، آیه 1.
3- (3) أنظر: مکارم الشیرازی، الأمثل فی تفسیر کتاب الله المُنزَل، ج 17، صص 227-228.

عرج إلی السماء لیلاً، فی السنوات الأخیرة من تواجده فی مکّة المکرّمة.(1)

وأمّا بشأن تحدید اللیلة التی تمّ فیها العروج، فلیس لدینا نقل دقیق ومتواتر فی هذا الخصوص، لکنّ العلاّمة المجلسیّ ذکر فی البحار ثلاثة أقوال، قائلاً: «کان المسری فی لیلة السبت، لسبع عشرة لیلة خلت من شهر رمضان، فی السنة الثانیة عشرة من النبوّة، قبل الهجرة بثمانیة عشر شهراً. وقیل: لیلة سبع عشرة من ربیع الأوّل، قبل الهجرة بسنة، من شعب أبی طالب. وقیل: لیلة سبع وعشرین من رجَب. وقیل: کان الإسراء قبل الهجرة بسنة وشهرین، وذلک سنة ثلاث وخمسین من الفیل».(2) والمعروف أنّ النبیّ صلی الله علیه و آله کان فی تلک اللیلة فی بیت أمّ هانی، بنت أبی طالب، ومنه عرج إلی السماوات، وأنّ المدّة التی مکَثها أثناء ذهابه إلی المسجد الأقصی، ومنه إلی السماء، ثمّ رجوعه منها إلی المسجد الأقصی، وبعده إلی المسجد الحرام، لم تستغرق أکثر من لیلةٍ واحدةٍ.

وروی عن رسول الله صلی الله علیه و آله، أنّه کان فی بیت أُمّ هانی بین الیقظة والنوم، حیث جاءه جبرئیل، وقال له: انهض یا محمّد، فنهَض وأخذ جبرئیل بیده، وقاده إلی بئر زمزم، ثمّ قال لأحد الملائکة: أعطِ محمّداً ماءً لیتوضّأ به، فجاء به، وتوضّأ النبیّ صلی الله علیه و آله. ثمّ دخل المسجد الحرام بأمر من جبرئیل، ثمّ أخذ جبرئیل بیده وأخرجه منه، فشاهد براقاً واقفاً علی باب المسجد. فقال له جبرئیل: ارکب، فهذا هو المرکب الذی کان النبیّ إبراهیم علیه السلام یزور علیه الکعبة. فصعد النبیّ علی البراق، حتّی أوصله إلی مسجد بیت المقدس، ومنه عُرج به إلی السماء، فشاهد أموراً

ص:163


1- (1) أنظر: السیّد هاشم رسولی محلاّتی، زندگانی حضرت محمد (سیرة النبی محمّد)، طهران: دفتر نشر فرهنگ إسلامی، 1374 ه. ش، ص 196.
2- (2) . المجلسی، بحار الأنوار، بیروت: مؤسّسة الوفاء، 1403 ه، ج 18، ص 302.

عجیبة کثیرة، وعرف کثیراً من أسرار الخِلقة. وفی نهایة المطاف، أعادهُ البراق إلی مکّة المکرّمة.(1)

وجاء فی الروایات أنّ البراق توقّف به فی عدّة أماکن، صلّی فیها النبیّ صلی الله علیه و آله، أحدها فی المدینة، والأخری فی مسجد الکوفة، والثالثة فی طور سیناء، وبیت لحم، مسقط رأس النبیّ عیسی علیه السلام، ثمّ أوصله إلی المسجد الأقصی، فصلّی فیه النبیّ صلی الله علیه و آله، ومنه عرج إلی السماوات.(2)

وروی ابن هشام فی سیرته ما یلی: «عن أمّ هانیء، بنت أبی طالب (رضی الله عنها)، واسمها هند، فی مسری رسول الله صلی الله علیه و آله، أنّها کانت تقول: ما أُسری برسول الله صلی الله علیه و آله إلا وهو فی بیتی، نام عندی تلک اللیلة فی بیتی، فصلّی العشاء الآخرة، ثمّ نام ونمنا، فلمّا کان قُبیل الفجر أهبّنا رسول الله صلی الله علیه و آله، فلمّا صلّی الصبح وصلّینا معه، قال: یا أمّ هانیء! لقد صلّیت معکم العشاء الآخرة کما رأیت بهذا الوادی، ثمّ جئت بیت المقدس، فصلّیت فیه، ثمّ قد صلّیت صلاة الغداة معکم الآن کما ترین.

ثمّ قام لیخرج، فأخذتُ بطرف ردائه، فتکشّف عن بطنه، کأنّه قبطیّة مطویّة، فقلت له: یا نبیّ الله! لا تحدّث بهذا الناس، فیکذّبوک ویؤذوک. قال: والله لأحدّثنّهموه. قالت: فقلتُ لجاریةٍ لی حبَشیّة: ویحک! اتبعی رسول الله صلی الله علیه و آله، حتّی تسمعی ما یقول للناس، وما یقولون له.

فلمّا خرج رسول الله صلی الله علیه و آله إلی الناس، أخبرهم فعجبوا، وقالوا: ما آیة

ص:164


1- (1) . أنظر: السیّد محمّد حسین الطباطبائی، المیزان فی تفسیر القرآن، قم: دفتر انتشارات إسلامی، ط 5، 1417 ه، ج 13، ص 32؛ محمود بن محمّد حسنی أبو المکارم، دقائق التأویل وحقائق التنزیل، طهران: نشر میراث مکتوب، 1381 ه. ش، صص 379-393.
2- (2) . أنطر: المجلسی، بحار الأنوار، بیروت: مؤسّسة الوفاء، ج 18، باب إثبات المعراج؛ السیرة النبویّة لابن هشام، تحقیق: محمّد محیی الدین عبد الحمید، القاهرة: مطبعة المدنی، 1383 ه، ج 2، ص 373-377.

ذلک یا محمّد؟ فإنّا لم نسمع بمثل هذا قطّ! قال: آیة ذلک أنّی مررت ببعیر بنی فلان، بوادی کذا وکذا، فأنفرهم حسّ الدابّة، فندّ لهم بعیر، فدللتهم علیه، وأنا موجّه إلی الشام. ثمّ أقبلت حتّی إذا کنت بضجنان [25 میلاً عن مکّة] مررت بِعیر بنی فلان، فوجدت القوم نیاماً، ولهم إناء فیه ماء، قد غطّوا علیه بشیء، فکُشف غطاءه وشربت ما فیه، ثمّ غطّیت علیه کما کان، وآیة ذلک أنّ عیرهم الآن تصوب من البیضاء، ثنیّة التنعیم، یقدمها جمل أورق، علیه غرارتان: إحداهما سوداء، والأخری برقاء.

قالت: فابتدر القوم الثنیّة، فلم یلقهم أوّل من الجمل کما وصف لهم، وسألوهم عن الإناء، فأخبروهم أنّهم وضعوه مملوءاً ماءً، ثمّ غطّوه، وأنّهم هبّوا فوجدوه مغطّی کما غطّوه، ولم یجدوا فیه ماء. وسألوا الآخرین، وهم بمکّة، فقالوا: صدق والله، لقد أنفرنا فی الوادی الذی ذکر، وندّ لنا بعیر، فسمعنا صوت رجل یدعونا إلیه، حتّی أخذناه».(1)

إذاً، لا شکّ فی أصل موضوع المعراج؛ ولذا، ذهب العلاّمة الطباطبائیّ إلی أنّ أصل الإسراء والمعراج من الأمور التی لا یمکن إنکارها بحالٍ من الأحوال؛ حیث ورد الحدیث عنهما فی القرآن الکریم بالتفصیل، ووصلتنا فیها أخبار متواترة عن رسول الله صلی الله علیه و آله من الفریقین، فضلاً عن الأخبار الخاصّة المأثورة عن الأئمّة من أهل البیت علیهم السلام(2) ونحاول أدناه الاکتفاء بعددٍ قلیل من الأمثلة علی ذلک:

ص:165


1- (1) ابن هشام، السیرة النبویّة، تحقیق: محمّد محیی الدین عبد الحمید، ج 2، صص 272-273.
2- (2) أنظر: محمّد حسین الطباطبائی، المیزان فی تفسیر القرآن، قم: منشورات جماعة المدرّسین فی الحوزة العلمیّة، ج 13، ص 33-34؛ وراجع أیضاً: محمود الزمخشری، الکشّاف، بیروت: دار الکتاب العربی، ج 2، ص 647؛ الفضل بن الحسن الطبرسی، تفسیر مجمع البیان، طهران: انتشارات ناصر خسرو، ط 3، 1372 ه. ش، ج 6، ص 609؛ العلاّمة المجلسی، بحار الأنوار، ج 18، ص 289.

أ) قوله تعالی:(سُبحانَ الَّذِی أَسری بِعَبدِهِ لَیلاً مِنَ المَسجِدِ الحَرامِ إِلَی المَسجِدِ الأَقصَی الَّذِی بارَکنا حَولَهُ لِنُرِیَهُ مِن آیاتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِیعُ البَصِیرُ) .(1)

ب) قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق علیه السلام فی هذا الصدد: «لیس من شیعتنا من أنکر أربعة أشیاء: المعراج، والمساءلة فی القبر، وخلق الجنّة والنّار، والشفاعة».(2)

ج) قال الإمام علیّ بن موسی الرضا علیه السلام:

«من کذّب بالمعراج، فقد کذّب رسول الله صلی الله علیه و آله».(3)

المعراج بین الجسمانیّة والروحانیّة

اشارة

من الأسئلة التی تُطرح فی مسألة المعراج، هل أنّ المعراج روحانیّ أم جسمانیّ؟

انطلاقاً من أنّ هذا الموضوع قریب من الشبهة التی نحن بصدد الردّ علیها؛ ذلک أنّ شطراً واسعاً من الإشکال یعود إلی جسمانیّة المعراج، نستعرض فیما یلی أهمّ النظریّات والأقوال المطروحة فی هذا الخصوص:

القول الأوّل: حصل الإسراء والمعراج بروح النبیّ صلی الله علیه و آله دون جسمه. قال ابن شهر آشوب: «قالت الجهَمیّة: عُرج بروحِه دون جسمه علی طریق الرؤیا».(4) وقد استدلّ من التزم بهذه النظریّة لإثبات مدّعاه بدلیلین:

أ) إنّ المعراج الجسمانیّ لا یلتئم مع العقل البشریّ؛ لأنّ الحکماء والفلاسفة المسلمین قالوا: أوّلاً، إنّ الجسم کثیف، ولا یقدر علی الحرکة

ص:166


1- (1) الإسراء، آیه 1.
2- (2) المجلسی، بحار الأنوار، ج 18، ص 312.
3- (3) المصدر السابق، ح 23.
4- (4) . ابن شهر آشوب، مناقب آل أبی طالب، النجف الأشرف، المطبعة الحیدریّة، 1376 ه، ج 1، ص 153.

إلی الأعلی، بخلاف الروح، وما فوق الجسم یکون خفیفاً ولطیفاً عادةً، فعروج الجسم إلی السماء محال. ثانیاً، القبول بالمعراج الجسمانیّ ملازم للخرق والالتیام فی الفلک، والحال أنّ الخرق والالتیام فی الفلک والفلکیّات ممتنع؛ طِبقاً للبراهین والأدلّة الفلسفیّة. ثالثاً، إنّ عروج الجسم وسیره فی العوالم المختلفة یستلزم استغراق زمن طویل، فی حین أنّ المعراج لم یدُم إلاّ لیلةً أو جُزءَ لیلةٍ، بل قال البعض: إنّه لم یدُم أکثر من آنٍ واحد، الأمر الذی یدلّ علی کونه روحانیّاً بلا نقاش.(1)

لکنّ العلماء والمتکلّمین المسلمین ردّوا علی الحکماء بالقول: إنّ النبیّ الکریم صلی الله علیه و آله عرج إلی السماوات بجسمه، وسار ببدنه هذا فی جمیع العوالم، حتّی بلغ الکرسیّ والعرش، اللذین یطلقون علیهما اسم الفلک الثامن والتاسع، وشاهد الموجودات الفلکیّة کافّة. أمّا الإشکال الذی طرحه الحکماء بشأن استلزام المعراج الجسمانیّ للخرق والالتیام، فإنّما نشأ من تصوّرهم أنّ السماء جسماً، وبالتالی، فإنّ عروجه صلی الله علیه و آله إلی السماء یقتضی خرقها، ومن ثمّ التیامها، وهو ما یتناقض مع العقل.(2) والحال أنّه ثبت بطلان هذه النظریّة، (کون السماء جِسماً)، من وجهة نظر العلم الحدیث أیضاً.

ب) هناک روایات فی التراث الإسلامیّ ظاهرة فی کون معراج الرسول المصطفی صلی الله علیه و آله روحانیّاً، نحو ما رُوی عن یعقوب بن عتبة، قال: «کانت رؤیا من الله صادقة».(3) وکذلک ما روی عن عائشة أنّها کانت تقول: «والله ما فُقد

ص:167


1- (1) أنظر: ابن سینا، الشیخ الرئیس، معراج نامه (رسالة فی المعراج)، رشت: 1352 ه، ص 18.
2- (2) أنظر: مکارم الشیرازی، تفسیر نمونه (الأمثل فی تفسیر کتاب الله المُنزَل)، ج 12، ص 16؛ العلاّمة الطباطبائی، تفسیر المیزان، ج 8، ص 154-155.
3- (3) ابن کثیر، البدایة والنهایة، بیروت: دار إحیاء التراث العربی، 1408 ه، ج 3، ص 141.

جسد رسول الله صلی الله علیه و آله، ولکنّ الله أسری بروحه».(1)

ولکن، یرد علی هذه الروایات ما یلی:

أوّلاً: یبدو أنّ لذلک منظوراً سیاسیّاً، لإخماد الضجّة التی أُثیرت حول قضیّة المعراج.(2)

ثانیاً: إنّ هذا الأمر مخالفٌ لعددٍ کبیرٍ من الروایات المنقولة عن الفریقین.

ثالثاً: أثناء الإسراء برسول الله صلی الله علیه و آله، إمّا أنّ عائشة لم تکن قد ولدت بعد، وإمّا أنّها کانت طفلة صغیرة، ولم یتزوّجها النبیّ صلی الله علیه و آله إلاّ بعد عِدّة سنوات من معراجه. قال ابن حجر العسقلانیّ فی هذا الصدد: «ولدت [عائشة] بعد المبعث بأربعِ سنین أو خمس، فقد ثبت فی الصحیح أنّ النبی صلی الله علیه و آله تزوّجها وهی بنت ستّ، وقیل: سبع... ودخل بها وهی بنت تسع، وکان دخوله بها فی شوّال فی السنة الأولی... وقیل فی السنة الثانیة من الهجرة».(3)

ومن هنا، ولمّا وقع الإسراء والمعراج فی السنة الثانیة أو الثالثة من البعثة، فإنّ عائشة لم تکن قد ولدت فی ذلک الزمن، إلاّ أن یقال: إنّها اجتهدت فی هذا الخصوص.(4)

القول الثانی: إنّ الإسراء من مکّة إلی بیت المقدس کان جسمانیّاً، وعروج النبیّ صلی الله علیه و آله إلی السماوات والملکوت الأعلی کان روحانیّاً.(5)

وقد تبنّی أتباع الشیخ أحمد الأحسائیّ، المعروفین بالشیخیّة، هذه النظریّة. فبعد

ص:168


1- (1) المصدر السابق.
2- (2) مکارم الشیرازی، الأمثل فی تفسیر کتاب الله المنزَل، ج 8، ص 396.
3- (3) ابن حجر العسقلانی، الإصابة، بیروت: دار الکتب العلمیّة، ط 1، 1415 ه، ج 8، ص 231-232.
4- (4) أنظر: مهدی پیشوائی، تاریخ اسلام (التاریخ الإسلامی)، إیران: دفتر نشر معارف، ط 6، 1386 ه. ش، ص 133.
5- (5) أنظر: رضا خانی وحشمت الله ریاضی، ترجمة کتاب: بیان السعادة إلی مقامات العبادة، طهران: مرکز الطباعة والنشر فی جامعة پیام نور، 1372 ه. ش، ج 8، ص 223.

أن ذهب القُدماء إلی أنّ بدَن الإنسان یتکوّن من أربعة عناصر، هی: الماء والهواء والتراب والنار، جاء هؤلاء لیقولوا بأنّ النبیّ صلی الله علیه و آله وضع کلّ عنصر من عناصر البدن الأربعة فی الفلک الخاصّ به، ومن ثمّ سار فی السماوات ببدنه المثالیّ.

کما تبنّت فرقتا الزیدیّة والمعتزلة هذه النظریّة، وقالتا: عرج النبیّ الکریم صلی الله علیه و آله بجسمه وروحه إلی بیت المقدس، حیث قال تعالی: إِلَی المَسجِدِ الأَقصَی ، لکنّ عروجه إلی السماوات کان بروحه فقط.(1)

القول الثالث: إنّ الإسراء والمعراج حصلا فی الیقظة وبجسم النبیّ صلی الله علیه و آله.(2) فالمشهور بین العلماء والمتکلّمین والمفکّرین المسلمین، هو أنّ المعراج کان فی عالم الواقع، کما أنّه جسمانیّ لا روحانیّ، ویُعدّ ذلک من المسلّمات فی الدین الإسلامیّ الحنیف. فهذه هی الرؤیة الصحیحة فی هذا الإطار، وهی مدعومة بصریحِ الآیات والروایات المؤکّدة علی هذا الموضوع. وقد نقل الفقیه والمفسّر الشیعیّ الکبیر، المرحوم الطبرسیّ، فی تفسیر «مجمع البیان»، اتّفاق العلماء علی العروج الجسمانیّ.(3)

والتزم بهذه النظریّة أیضاً، کلّ من المحدّث الشیعیّ البارز، المرحوم العلاّمة المجلسیّ، والمفسّر السنیّ الشهیر، الفخر الرازیّ. فقال العلاّمة المجلسیّ: «إنّ عروجه صلی الله علیه و آله إلی بیتِ المقدِس، ثمّ إلی السماء، فی لیلةٍ واحدة، بجسده الشریف، ممّا دلّت علیه الآیات والأخبار المتواترة، من طُرُق الخاصّة والعامّة، وإنکار أمثال ذلک، أو تأویلها بالعروج الروحانیّ، أو بکونه فی المنام، ینشأ إمّا من قلّة التتبّع فی آثار الأئمّة الطاهرین، أو من قلّة التدیّن،

ص:169


1- (1) أنظر: ابن شهر آشوب، مناقب آل أبی طالب، ج 1، ص 177.
2- (2) أنظر: رضا خانی وحشمت الله ریاضی، ترجمة کتاب: بیان السعادة إلی مقامات العبادة، طهران: مرکز الطباعة والنشر فی جامعة پیام نور، 1372 ه. ش، ج 8، ص 223.
3- (3) مجمع البیان، ج، 7، ص 395.

وضعف الیقین، أو الانخداع بتسویلات المتفلسفین».(1)

أدلّة وقوع المعراج الجسمانیّ

هناک أدلّة کثیرة علی کون معراج الرسول صلی الله علیه و آله إلی السماوات کان جسمانیّاً، لکنّنا سنستعرض بعضها فقط؛ رعایةً للاختصار وعدَم التطویل:

1. حوت الآیة الشریفة المبیّنة للإسراء بالنبیّ صلی الله علیه و آله مفردة «عبد»، حیث جاء فیها:(سُبحانَ الَّذِی أَسری بِعَبدِهِ) ،(2) وهی صریحة فی الدلالة علی کون الإسراء بالجسم الطاهر للرسول الکریم صلی الله علیه و آله؛ ذلک أنّ «عبد» کلمة تطلق علی الإنسان المرکّب من جسم وروح.(3) وعلی هذا الأساس، یُستفاد من هذه الآیة أنّ سفَر النبیّ صلی الله علیه و آله قد حدث فی الیقظة وبجسمه المبارک،؛ إذ لمّا یُقال: حمَلتُ فلانَ إلی النقطة الفلانیّة، فهو یعنی حمله بجسمه المتضمّن لروحه، لا أنّه فی عالَم الرؤیا والخیال؛ إلاّ أن تدلّ قرینة علی الخلاف.

وفی هذا السیاق، قال سماحة الشیخ جعفر السبحانیّ، دعماً لهذا القول: استاءت قریش من خبر إسراء النبیّ الخاتم صلی الله علیه و آله إلی المسجد الأقصی، وعروجه إلی السماوات العلی، وبادرت إلی تکذیبه وتفنید قوله، وذلک بعد أن أصبَحت قضیّة المعراج حدیث الساعة فی أوساط قریش. وإذا کان الموضوع عبارة عن رؤیا فقط، فلا معنی لتصدّی قریش لتکذیب النبیّ صلی الله علیه و آله، وإثارة جدَل حول هذا الموضوع؛ لأنّ ادّعاء شخصٍ ما بأنّه رأی فی منامه کذا وکذا،

ص:170


1- (1) . بحار الأنوار، بیروت: مؤسّسة الوفاء، ج 18، ص 289. وانظر کذلک: الفخر الرازی، مفاتیح الغیب، ج 5، ص 540-546.
2- (2) . الإسراء، آیه 1.
3- (3) أنظر: مکارم الشیرازی، تفسیر نمونه (الأمثل فی تفسیر کتاب الله المنزَل)، ج 12، ص 9.

لا یوجب النزاع والاختلاف قطّ. وعلیه، فمن طبیعة ردّ فعل قریش علی هذه القضیّة، والضجّة التی أُثیرت حولها، یتّضح أنّ المعراج کان جسمانیّاً، وهو عین ما ادّعاه الرسول الکریم صلی الله علیه و آله.

2. إنّ لفظ «سُبحانَ الَّذِی» الوارد فی بدایة سورة الإسراء حاکٍ عن الإعجاز فی هذا الموضوع المهمّ؛ فلأجل أن یقوم تعالی برفع استبعاد الناس لهکذا قضیّة غیر طبیعیّة، نزّه ذاته المقدّسة عن کلّ عیبٍ أو نقص أو عجز؛ إذ أنّ الإسراء بالروح فقط، من دون جسد، وبعد انسلاخها وتحرّرها عن القیود المادیّة، لا تستلزم مثل هذا التعبیر.

3. استُعملت فی سورة النجم مادّة الرؤیة، حیث قال تعالی:(ما زاغَ البَصَرُ وَ ما طَغی لَقَد رَأی مِن آیاتِ رَبِّهِ الکُبری) .(1) وهاتان الآیتان الشریفتان تکشفان بوضوح عن أنّ هذه الرؤیة لم تکن فی عالم الرؤیا والمکاشفة، وإنّما حدثت فی حال الیقظة، وأُسری بجسم النبیّ صلی الله علیه و آله لا بروحه فقط.

4. أورد الزمخشریّ فی تفسیره حدیثاً حول المعراج، جاء فیه: «وقد عُرج به إلی السماء فی تلک اللیلة، وکان العروج به من بیت المقدس، وأخبر قریشاً... أنّه لقی الأنبیاء، وبلغ البیت المعمور وسِدرةَ المُنتهی».(2) والتعبیر ب - «عُرِجَ به» فی هذا الحدیث ظاهر فی المعراج الجسمانیّ؛ ومنه یتّضح أنّ الروایات الدالّة علی المعراج الروحانیّ فقط غیر قابلة للاعتماد والوثوق، بسبب مخالفتها لظاهر القرآن الکریم.

ص:171


1- (1) النجم، آیات 17 و 18.
2- (2) محمود الزمخشری، الکشّاف عن حقائق التنزیل وعیون الأقاویل، بیروت: دار الکتاب العربی، ط 3، 1407 ه، ج 2، ص 647.

الجواب عن شُبهة المعراج والعلوم الحدیثة

بعد بیان قصّة المعراج، وسرد أهمّ الأدلّة المسوقة علیها، نردّ علی أصل شبهة المعراج والعلوم الحدیثة، ویُمکن الردّ علیها بعدّة ردود:

1. لا شکّ فی أنّ المعراج لیس من الأمور الطبیعیّة، بل هو یمثّل أحد معاجز نبیّ الإسلام محمّد المصطفی صلی الله علیه و آله، وبما أنّ المعجزة لا تتعلّق بالمحال العقلیّ، فالمعراج ممکن عقلاً، ولیس محالاً، ولا یتنافی مع العلوم الحدیثة أیضاً.(1)

فلمّا ازدادت قدرات الإنسان بتطوّر العلوم وتقدّم التکنولوجیا التی ابتکرها، بعد قرون من البحثّ العلمیّ المضنیّ، حتّی بات بمقدوره صنع مرکبات ووسائل قادرة علی التنقّل به بمنتهی السرعة، وإخراجه عن دائرة الجاذبیّة الأرضیّة، ألیس بمقدور الباریّ جلّ وعلا، وهو الخالق لهذا الإنسان، أن یضَع تحت تصرّف نبیّه صلی الله علیه و آله مرکباً سریعاً، مناسباً لهذا السفر الفضائیّ، من أجل بلوغه المقصد المنشود، وصیانته من المخاطر المحتملة، وذلک قبل بضعة قرون علی ازدهار العلوم علی ید الإنسان؟

2. لم یکن معراج النبیّ الکریم صلی الله علیه و آله هو القضیّة الأولی الخارقة للقدرات البشریّة المعتادة، وإنّما سبَق وأن وقعَت نظائر لذلک بین الأنبیاء السابقین أیضاً، مثل تسخیر الریاح لسلیمان علیه السلام؛ لتنقله بسرعةٍ فائقة إلی المکان الذی یَشاء، وعُروج النبیّ عیسی المسیح علیه السلام إلی الله سبحانه وتعالی، فقال فی محکم کتابه الکریم:(... وَ ما قَتَلُوهُ وَ ما صَلَبُوهُ وَ لکِن شُبِّهَ لَهُم وَ إِنَّ الَّذِینَ اختَلَفُوا فِیهِ لَفِی شَکٍّ مِنهُ ما لَهُم بِهِ مِن عِلمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَ ما قَتَلُوهُ یَقِیناً بَل رَفَعَهُ اللّهُ إِلَیهِ...)2

ص:172


1- (1) . أنظر: السیّد هاشم رسولی محلاتی، زندگانی حضرت محمد (سیرة النبی محمّد)، طهران: دفتر نشر فرهنگ إسلامی، 1374 ه. ش، ص 196.

إذاً، لمّا دلّ القرآن علی أنّ الریاح کانت تسیر بسلیمان علیه السلام إلی المواضع البعیدة فی الأوقات القلیلة، فذلک یدلّ علی أنّ مثل هذه الحرکة السریعة فی نفسها ممکنة. أضف إلی ذلک، فإنّ ما دلّ علیه القرآن الکریم، من إحضار عرش بلقیس، من أقصی الیمن إلی أقصی الشام، فی مقدار لمح البصر، یدلّ علی جواز ذلک الأمر، وعدَم استحالته فی نفسه.(1)

3. یقرّ الإسلام بوجود أسرار وغرائب وعجائب کثیرة فی عالَم الکون، وقد توصّل الإنسان، بمقدار ما طوّر من العلوم الحدیثة، إلی اکتشاف بعض تلک الأسرار، ومنها وجود کائنات حیّة فی الکواکب الأخری، الأمر الذی أشارت إلیه الآیات القرآنیّة والروایات الشریفة، قبل أکثر من 1400 سنة، والحال أنّ العلم البشریّ لم یتمکّن من اکتشاف ذلک إلاّ بَعد عِدّة قرون، وما یُدریک أنّ العلم سیکتشف فی المستقبل سماوات وعوامل أُخری!

فعلی سبیل المثال جاء فی إحدی المجلات العلمیّة ما یلی:

«قبل نصب مرصد بالومر [أکبر مرصد فی العالم، ویقع فی الولایات المتّحدة الأمریکیّة]، کان العالم فی نظرنا لا یزید علی خمسمائة سنة ضوئیّة. لکنّ هذا الناظور وسّع عالمنا إلی ألف ملیون سنة ضوئیّة. واکتُشِف علی أثر ذلک ملایین المجرّات الجدیدة، التی یبعد بعضها عنّا ألف ملیون سنة ضوئیّة. أمّا بعد هذه المسافة فیتراءی لنا فضاء عظیم مهیب مظلم، لا نبصر فیه شیئاً؛ أی أنّ النور لا ینفذ إلیه، کی یؤثّر علی صفحة التصویر فی المرصد. ومن دون شکّ، أنّ هذا الفضاء المهیب المظلم یحتوی علی مئات الملایین من المجرّات، التی تحافظ بجاذبیّتها علی هذا العالم المرئیّ. کلّ هذا العالم العظیم المرئیّ، الحاوی علی مئات آلاف الملایین من المجرّات، لیس إلاّ جزءاً صغیراً جدّاً من

ص:173


1- (1) أنظر: العلاّمة المجلسی، بحار الأنوار، ج 18، ص 285.

عالم أعظم، ولسنا واثقین من عدَمِ وجودِ عالَمٍ آخر، غیر هذا العالم الأعظم».(1)

وهکذا، فإنّ هنالک مئات الملایین من الکواکب والنجوم المضیئة فی مجرّة المنظومة الشمسیّة لوحدها، التی تُمثّل واحدةً من آلاف المجرّات الأُخری فی العالم العِلویّ، وبحسب الحسابات الفلکیّة للعلماء، ثمّة ملیارات الکائنات الحیّة القاطنة فی تلک الکواکب السیّارة. فهذا مثال واحد من الاعترافات الکثیرة، فی علم الفضاء فی عصرنا الراهن، أهمّ ما فیه تصریحه بوجود کائنات حیّة فی الکواکب السیّارة الموجودة فی العالم العِلویّ.(2)

لکنّ هذه الحقیقة أوضحها القرآن الکریم، قبل أکثر من أربعة عشر قرن مضت، وقبل أن ینبیء علم الفلَک، وتتحدّث المراصد الکبری فی العالم، عن وجود کائنات حیّة فی بعض الکواکب السماویّة، فقال تعالی:(وَ لِلّهِ یَسجُدُ ما فِی السَّماواتِ وَ ما فِی الأَرضِ مِن دابَّةٍ وَ المَلائِکَةُ) .(3)

وقال أیضاً:(وَ مِن آیاتِهِ خَلقُ السَّماواتِ وَ الأَرضِ وَ ما بَثَّ فِیهِما مِن دابَّةٍ) .(4)

وقال أمیر المؤمنین الإمام علیّ علیه السلام:

«هذه النجوم التی فی السماء مدائن، مثل المدائن التی فی الأرض».(5)

4. وافق العلماء المختصّون، فی عصر التکنولوجیا الحدیثة، علی الفرضیّة العلمیّة القائلة: بأنّ أمواج الجاذبیّة الأرضیّة قادرة علی الانتقال من

ص:174


1- (1) مکارم الشیرازی، الأمثل فی تفسیر کتاب الله المنزَل، ج 1، ص 153. نقلاً عن مجلّة «فضاء»، العدد 56، فروردین 1351 ه. ش.
2- (2) علی دوانی، تاریخ اسلام از آغاز تا هجرت (التاریخ الإسلامی من بدء الدعوة إلی الهجرة)، قم: دفتر انتشارات إسلامی، 1373 ه. ش، ص 22.
3- (3) النحل، آیه 49.
4- (4) الشوری، آیه 29.
5- (5) الشیخ علی النمازی الشاهرودی، مستدرک سفینة البحار، قم: مؤسّسة النشر الإسلامی، ج 9، ص 200.

أقصی العالم إلی أقصاه، وإحداث تأثیرات عمیقة، خلال لحظَات قصیرة جدّاً. ولمّا یُحتمل، فی إطار الحرکة التکاملیّة للکون، وجود منظومات تتعامل بسرعة فائقة، تفوق سرعة النور، وتبتعد عن مرکز العالم، وقطب الأرض، بهکذا سرعة هائلة، وعندما یُمکن تصوّر مثل هذه الظواهر الخارقة التی تفوق التصوّر الإنسانیّ، وتخرج عن النطاق العقلیّ فی عالَم الکون، لا تُعدّ حینئذٍ قضیّةً، نظیرَ المعراج من المحال العقلیّ، بل یمکن مواءمتها مع الأسس العلمیّة للعصر الحدیث، وتوجیهها علی هذا الأساس.(1)

5. ثمّة معوّقات وعقَبات کثیرة فی الأسفار الفضائیّة، وهی عبارة عن:

أ) قوّة الجاذبیّة الأرضیّة، وهی من القوّة بمکان، بحیث یستلزم الفرار منها سرعة لا تقلّ عن أربعین ألف کیلو متر فی الساعة.

ب) فقدان الهواء فی الأجواء والفضاء الخارج عن سطح الکرة الأرضیّة، ومن دونه لا یستطیع الإنسان العیش ومواصلة الحیاة.

ج) الأشعّة الخطیرة المتواجدة فی الأغلفة المحیطة بالأرض، وفی الکواکب الأخری، نحو الأشعّة الکونیّة، والأشعّة ما وراء البنفسجیّة، وأشعّة أکس. ولا شکّ فی أنّها تلحق أضراراً بلیغةً ببدَن الإنسان، حتّی فی حال وصول جزء یسیر منها إلیه أیضاً.

وبرغم کلّ هذه المشکلات المتعدّدة، استطاع الإنسان - فی نهایة المطاف - التغلّب علیها بواسطة سلاح العلم، وتمکّن من السفر إلی الکواکب الأُخری. وهذه القضیّة تکشف عن إمکان وقوع المعراج، ولو بوسائل مغایرة لما هو متعارف.

6. مع أنّ مسألة المعراج کانت تبدو من الأمور المستبعدة فی العصور

ص:175


1- (1) أنظر: محمد رضا إیزدپور، معراج پیامبر صلی الله علیه و آله در دیدگاه عقل ووحی وآثار تربیتی آن (معراج النبی صلی الله علیه و آله بنظر العقل والوحی وآثاره التربویّة)، فصلیّة: الکوثر، العدد 68، شتاء 1385 ه. ش.

القدیمة، إلا أنّ التقدّم العلمیّ الهائل، والفکر البشریّ الوقّاد، أثبتا بما لا یدع مجالاً للشکّ أنّ المعراج لیس من المحال العقلیّ؛ ذلک أنّ الإنسان قد شقّ طریقه إلی الفضاء الخارجیّ، وخرج من أجواء الکرة الأرضیّة، عبر صناعة المرکبات الفضائیّة المناسبة، وذات السرعة العالیة، واتّقی أضرار الأشعاعات المختلفة، من خلال صناعة لباس خاصّ، یمنع نفوذها إلی بدنه.

نعم، لقد صنع بنو آدم مرکبة قادرة علی الدوران حول الأرض فی غضون ساعة وعشر دقائق فقط؛ والحال أنّه لو ادّعی أحدٌ قبل مائة عام مثل هذا العمل، لاتُّهم بالجنون أو التخبّط فی القول وزَعم المحال، أو لربّما أدّی به الأمر إلی الإلقاء فی السجن، أو لفّ حبل المشنقة علی رقبته، کما حصل ل - «غالیلو»، حینما اکتشف کرویّة الأرض.(1)

وعلی هذا الأساس، لمّا یتمکّن البشر بقدرتهم المحدودة من تبدیل المحال، بحسب الظاهر، إلی الممکن، ألا یکون بمقدور النبیّ الکریم صلی الله علیه و آله القیام بهذا الفعل، بإذن الله تبارک وتعالی؟

لا ریبَ فی أنّ القدرة الإلهیّة تفوق القدرة البشریّة بکثیر، فکما أنّه جلّ وعلا قد أبدل عصا موسی علیه السلام إلی حیّة تسعی، ولم یکن ذلک فی متناول أیدی الناس فی تلک الحقبة، فهو قادرٌ أیضاً علی تبدیل کلّ ما هو خارق للعادة برأینا إلی أمرٍ ممکن.

7. «إنّ أکثر أرباب الملل والنحل یسلّمون وجود إبلیس، ویسلّمون أنّه هو الذی یتولّی إلقاء الوسوسة فی قلوب بنی آدم، فلما سلّموا جواز مثل هذه الحرکة السریعة فی حقّ إبلیس؛ فلإن یسلّموا جوازها فی حقّ أکابر الأنبیاء، کان ذلک أولی».(2)

ص:176


1- (1) زندگانی حضرت محمد (سیرة النبی محمّد)، مصدر متقدّم، ص 196.
2- (2) بحار الأنوار، ج 18، ص 285.

النتیجة

إنّ العلم الحدیث یکشف عن إمکان وقوع المعراج، وینفی استبعاد هذا الأمر، وإن جری تصوّر بُعد ذلک فی الأزمنة القدیمة؛ وعلیه، فإنّ الجمیع یسلّم بوقوع المعراج، إذا ما ثبت بأدلّة قطعیّة. وقد ورد فی المصادر الإسلامیّة المعتمدة أدلّة قطعیّة - وعلی نحو التواتر - علی وقوع مسألة المعراج، وأنّ الله تعالی قد أخبر عن صعود نبیّه صلی الله علیه و آله علی دابّة سریعة إلی السماوات، وتعهّد سبحانه بحفظه من المخاطر، ومن ثمّ أعادهُ إلی مکانه فی الأرض.

مصادر للمطالعة

1. السیّد هاشم رسولی محلاّتی، زندگانی حضرت محمد (سیرة النبیّ محمّد)، طهران: دفتر نشر فرهنگ اسلامی، 1374 ه. ش.

2. ابن سینا، الشیخ الرئیس، معراج نامه (رسالة فی المعراج)، رشت: 1352 ه.

3. علی دوانی، تاریخ اسلام از آغاز تا هجرت (التاریخ الإسلامیّ من بدء الدعوة إلی الهجرة)، قم: دفتر انتشارات إسلامی، 1373 ه. ش.

الحدیث الختامیّ

قال رسول الله صلی الله علیه و آله:

«مَرَرتُ لَیلةَ أُسریَ بِیَ عَلی قَومٍ یَخمِشونَ وُجوهَهُم بأظافِیرِهِم، فَقُلتُ: یا جَبرائیلَ، مَن هؤلاءِ؟ قالَ: هؤلاءِ الّذِینَ یَغتابونَ النّاسَ، وَیَقَعونَ فِی أَعراضِهِم».(1)

ص:177


1- (1) الحدائق الناضرة، قم: مؤسّسة النشر الإسلامی التابعة لجماعة المدرّسین، ج 18، ص 147.

ص:178

تفسیر سماء المعراج

اشارة

السؤال: ما المراد بالسماء فی مسألة المعراج؟ فإن کان المراد من السماء الفضاء اللا محدود، الواقع بین الأرض والشمس، فمن الواضح، أنّ لا شیءَ باسمِ المعراج هنا. وإن کان المراد به ما فوق الشمس، وأنّ الباری عزّ وجلّ موجودٌ خلفَ السماء السابعة، فلا وجود لهکذا أسقف وطبَقات أیضاً.

تمهید: تعتبر الأرض والسماء من جملة الأسرار فی عالم الکون، بحیث إنّ الإنسان، وبرغم التطوّر العلمیّ الهائل الذی أحرزه فی مستویات عدیدة، لم یتمکّن من فکّ شفرة السماء والأرض، ولم یبلغ کنهها. لکنّ المفسّرین قدّموا، فی تفسیرهم لآیات السماوات، بحوثاً مفصّلة فی هذا الإطار، ونحن سوف نشیر إلی مقتطفات من کلماتهم؛ من أجل أن یتّضح المقصود بالسماء، التی عرج لها النبیّ الکریم صلی الله علیه و آله لیلة المعراج.

الجواب: یبدو أنّ هذا السؤال من الشبهات الحدیثة المطروحة حول موضوع المعراج. وفی سبیل الحصول علی الجواب الوافی فی هذا الخصوص، لا بدّ - بدایةً - من شرح معنی السماء، والسماوات السبع، والسماوات التی عرَج إلیها النبیّ صلی الله علیه و آله، فی ضوء الآیات والروایات.

ص:179

مفهوم السماء

اشارة

السماء لغةً من مادّة «سمو»، وهی أصل یدلّ علی العلوّ، وسماء کلّ شیء أعلاه.(1) وذهب بعض اللغویّین إلی أنّ «کلّ سماء بالإضافة إلی ما دونها فسماء، وبالإضافة إلی ما فوقها فأرض... وسُمّی المطر سماءً لخروجه منها».(2)

وفی «دائرة المعارف الإسلامیةّ»، قال المؤلّف فی بیان معنی السماء: «السماء هی القوس الظاهریّ الذی یُشاهده الناس فوق رؤوسهم، من جمیع النقاط، علی وجه الکرة الأرضیّة». ثمّ بیّن - نقلاً عن ابن منظور فی لسان العرب - أنّ «السماء فی اللغة، یقال لکلّ ما ارتفع وعلا، قد سما یسمو. وکلّ سقف فهو سماء؛ ومن هذا قیل للسحاب: السماء؛ لأنّها عالیة. والسماء: کلّ ما علاک فأظلّک، ومنه قیل لسقف البیت: سماء».(3)

وذهب العلاّمة الطبرسیّ فی «مجمع البیان» فی شرحه معنی السماء، إلی أنّ کلّ ما علا مطبقاً فهو سماء، وکذلک ما أظلّ کالسقف، والسحاب سماء أیضاً.(4)

والسماء فی الفیزیاء الحدیثة عبارة عن «ظاهرة معدومة، کالقبّة التی یشاهَد من خلالها النجوم والکواکب السیّارة».(5)

هذا، وقد وردت کلمة «السماء» بصیغة المفرد و «السماوات» بصیغة الجمع 310 مرّات فی القرآن الکریم؛ لکنّها لم تُستعمل فی جمیعها بمعنی

ص:180


1- (1) حسن المصطفوی، التحقیق فی کلمات القرآن الکریم، ج 5، ص 219.
2- (2) حسین الراغب الإصفهانی، مفردات غریب القرآن، مادّة «سما»، ص 427.
3- (3) ابن منظور، لسان العرب، ج 14، ص 398، مادّة «سما».
4- (4) أنظر: تفسیر مجمع البیان، بیروت: مؤسّسة الأعلمی، 1415 ه، ط 1، ج 7، ص 259-260.
5- (5) أنظر: مجلّة: بیّنات، العام الثانی، العدد 8، شتاء 1374 ه. ش، صص 86-87.

واحد، ولا فی مصداق واحد. وبصورة عامّة، استُخدمت مفردة «السماء» فی القرآن الکریم فی مفهومین: أحدهما مادیّ، والآخر معنویّ. ومن جملة تلک الموارد ما یلی:

1. بمعنی العلوّ والسموّ: وهذا المعنی موافق للمعنی اللغویّ للسماء، وهو مُستفاد من الآیة الشریفة:(کَلِمَةً طَیِّبَةً کَشَجَرَةٍ طَیِّبَةٍ أَصلُها ثابِتٌ وَ فَرعُها فِی السَّماءِ) .(1)

وهذا المعنی ممّا ذکره بعض الأعلام من المفسّرین المعاصرین؛(2) غیر أنّ البعض الآخر اتّخذ منحی مغایراً فی هذا المجال، وقال:

«لم تُستعمل السماء فی القرآن الکریم بمعنی الفوقیّة وجهة العلوّ، بل من الممکن أن تکون قد استُعملت بصورة مجازیّة فی ذلک، أو وردت فیه من باب المسامحة؛ ذلک أنّه لا ُیمکن جمعُ کلمةِ «فوق»، والجهة العلویّة غیر متعدّدة. والحال أنّ لفظة «سماء» وردت فی أغلب الموارد بصیغة الجمع؛ أی «السماوات».(3) وعلیه، فإنّ التعبیر ب - «السماوات السبع» لا یمکن أن یُراد منه الفوقیّة.

2. بمعنی الجوّ المحیط بالأرض: وذلک فی الموضع الذی توجد فیه السُّحُب وطبقات الهواء المحیطة بالکرة الأرضیّة. قال تعالی:(وَ نَزَّلنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَکاً) .(4)

3. بمعنی موضع الکواکب والنجوم: قال تعالی:(تَبارَکَ الَّذِی جَعَلَ فِی السَّماءِ بُرُوجاً وَ جَعَلَ فِیها سِراجاً وَ قَمَراً مُنِیراً) .(5)

ص:181


1- (1) . إبراهیم، آیه 24.
2- (2) أنظر: ناصر مکارم الشیرازی، الأمثل فی تفسیر کتاب الله المنزَل، ج 1، ص 151.
3- (3) . محمّد تقی مصباح یزدی، معارف قرآن (المعارف القرآنیّة) 1-3، ص 234.
4- (4) ق، آیه 9.
5- (5) الفرقان، آیه 61.

4. بمعنی مقام القرب والحضور: وهو الذی تنتهی إلیه أزمّة الأُمور، کما أنّه محلّ تدبیر أمور العالم. وهکذا، نجد بعض المفسّرین، کالعلاّمة الطباطبائیّ، فسّر السماء بهذا المعنی فی عدّة مواضع.(1) ومن جملة الآیات القرآنیّة الدالّة علی هذا المعنی، قوله تعالی:(یُدَبِّرُ الأَمرَ مِنَ السَّماءِ إِلَی الأَرضِ) .(2)

5. بمعنی الموجود العالی والحقیقیّ: یقول بعض المفسّرین: کما أنّ السماء وردت فی القرآن الکریم بمعنی السماء المادیّة؛ نظیر قوله تعالی: اَلسَّماواتُ السَّبعُ3 فکذلک استُعملت بمعنی العلوّ فی مرتبة الوجود والموجود العالی والسامی، وهی السماء المعنویّة، وعالم ما فوق المادّة. فالوجود بأجمعه ینزل من تلک المرتبة العلیا.

فی الآیة الشریفة:(وَ فِی السَّماءِ رِزقُکُم وَ ما تُوعَدُونَ)4 یُحتمل جدّاً أن تکون السماء بمعنی العالم المعنویّ، وعالم ما فوق المادّة، حیث یُستفاد من ظاهر الآیات أنّ کلّ ما هو موجود فی هذا العالم المادّیّ، إنّما ینزل من عالم ما فوق المادّة.(3) قال عزّ من قائل:(وَ إِن مِن شَیءٍ إِلاّ عِندَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلاّ بِقَدَرٍ مَعلُومٍ) .(4)

ص:182


1- (1) . أنظر: تفسیر المیزان، ج 16، ص 247؛ ج 19، ص 327.
2- (2) . السجدة، آیه 5.
3- (5) . أنظر: محمّد تقی مصباح یزدی، معارف قرآن (المعارف القرآنیّة)، صص 234-236.
4- (6) . الحجر، آیه 21.

بناءً علی ذلک، لم تُستعمل مفردة «السماء» بمعنی واحد فی اللغة والعلم الحدیث والقرآن الکریم، بل وردت لها استعمالات فی معانٍ مختلفة.

السماوات السبع

ورد لفظ «السماوات السبع» أو «سبع سماوات» ثمانی مرّات فی القرآن الکریم.(1) والتدقیق فی تلک الآیات الشریفة، یُشیر إلی أنّ السماوات السبع عبارة عن أجرامٍ متداخلة، تشبه قشور البصل؛(2) إذ أنّ معظم المفسّرین فسّروا «طِباقاً» بمطابقة بعضها بعضاً.(3)

ووفقاً للآیات القرآنیّة الکریمة، فإنّ جمیع الطبقات المذکورة خُلِقت من طبقةٍ واحدة، وهی بدورها خُلقت من دخان. قال تعالی:(ثُمَّ استَوی إِلَی السَّماءِ وَ هِیَ دُخانٌ) .(4) أی «ثمّ قصد إلی خلق السماء، وکانت السماء دُخاناً. وقال ابن

ص:183


1- (1) . وهی کما یلی:-(الَّذِی خَلَقَ سَبعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَری فِی خَلقِ الرَّحمنِ مِن تَفاوُتٍ فَارجِعِ البَصَرَ هَل تَری مِن فُطُورٍ)(الملک، آیه 3). -(أَ لَم تَرَوا کَیفَ خَلَقَ اللّهُ سَبعَ سَماواتٍ طِباقاً) (نوح، آیه 15).(هُوَ الَّذِی خَلَقَ لَکُم ما فِی الأَرضِ جَمِیعاً ثُمَّ استَوی إِلَی السَّماءِ فَسَوّاهُنَّ سَبعَ سَماواتٍ وَ هُوَ بِکُلِّ شَیءٍ عَلِیمٌ) (البقرة، آیه 29). -(تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبعُ وَ الأَرضُ) (الإسراء، آیه 44).-(قُل مَن رَبُّ السَّماواتِ السَّبعِ وَ رَبُّ العَرشِ العَظِیمِ) (المؤمنون، آیه 86). -(فَقَضاهُنَّ سَبعَ سَماواتٍ فِی یَومَینِ) (فصلت، آیه 12).-(اللّهُ الَّذِی خَلَقَ سَبعَ سَماواتٍ وَ مِنَ الأَرضِ مِثلَهُنَّ) (الطلاق، آیه 12).-(وَ لَقَد خَلَقنا فَوقَکُم سَبعَ طَرائِقَ وَ ما کُنّا عَنِ الخَلقِ غافِلِینَ) (المؤمنون، آیه 17).
2- (2) أنظر: مکارم الشیرازی، الأمثل فی تفسیر کتاب الله المنزَل، ج 7، ص 330.
3- (3) أنظر: العلاّمة الطباطبائی، تفسیر المیزان، ج 10، ص 150.
4- (4) فصّلت، آیه 11.

عبّاس: کانت بخار الأرض»؛(1) لأنّ السماء فی تلک الحال (قبل خلق الأرض) کانت عبارة عن دُخان وبُخار، ومن ثمّ تحوّلت بالتدریج إلی سماوات سبع.(2)

وکیفما کان، هناک احتمالان فی المقصود بالسماوات السبع:

أ) من المحتمل أن یکون المراد منها طبَقات الغلاف الجویّ فی الکرة الأرضیّة، وهو ما یُستفاد من بعض الآیات القرآنیّة؛ إذ أنّ قوله تعالی:(اللّهُ الَّذِی خَلَقَ سَبعَ سَماواتٍ وَ مِنَ الأَرضِ مِثلَهُنَّ...) ،(3) وقوله:(الَّذِی خَلَقَ سَبعَ سَماواتٍ طِباقاً) ،(4) یدلّ علی أنّ السماوات سبع طبقات، مرتّبة فوق بعضها البعض.

مع العلم أنّ علماء الجیولوجیا قسّموا الطبقات الجویّة، أو الغلاف الجویّ المحیط بالکرة الأرضیّة، إلی سبعة أقسام، تبعاً لوظائفها وموقعها، وهی کالتالی:

1. طبقة التروبوسفیر: وهی طبقة الغلاف الجویّ الملاصقة لسطح الأرض، وهی الطبقة التی نعیش فیها. وتتمّ معظم التغییرات الجویّة والأمطار والثلوج فی هذه الطبقة تقریبًا. ویقع حدّ التروبوبوز (الفاصل السفلیّ) علی ارتفاع 10 کم تقریباً فوق القطبین الشمالیّ والجنوبیّ، وعلی ارتفاع 15 کم فوق خط الاستواء تقریباً.

2. طبقة الاستراتوسفیر: وتمتد من التروبوبوز (الفاصل السفلیّ) إلی 50 کم فوق سطح الأرض تقریبًا. وکمیّة الرطوبة التی تصل هذه الطبقة من الغلاف الجویّ قلیلة جدّاً؛ لذلک فإنّ السحب نادرة أیضاً. وتتمیّز بثبات درجة الحرارة تقریباً.

ص:184


1- (1) . الطبرسی، تفسیر مجمع البیان، ج 9، ص 8.
2- (2) . أنظر: ابو الفضل داور پناه، أنوار العرفان (تفسیر باللغة الفارسیّة)، ج 5، ص 83.
3- (3) الطلاق، آیه 12.
4- (4) . الملک، آیه 3.

3. طبقة الأوزونسفیر: وتحوی هذه الطبقة جزءاً من الطبقة الثانیة أیضاً، وتسجّل ارتفاعاً یتراواح بین 20-50 کیلو متر. ویحتوی هذا الجزء علی معظم غاز الأوزون الموجود فی الغلاف الجویّ؛ إذ یعمل الأوزون علی تسخین الهواء هناک، بسبب امتصاصه الأشعّة فوق البنفسجیّة.

4. طبقة المیزوسفیر أو الغلاف الأوسط: تمتدّ من حدّ الإستراتوبوز (الفاصل الطبقیّ القریب من طبقة الاستراتوسفیر) إلی 80 کم فوق سطح الأرض. ویمکن مشاهدة ذیل من الغازات الحارّة تنساب فی هذه الطبقة بفعل الشهُب. کما یُمکن ملاحظة هبوب ریاح فی غایة العنف ضِمنَ طبقة المیزوسفیر.

5. طبقة الأیونوسفیر أو الغلاف الأیونیّ: تؤدّی هذه الطبقة دورًا کبیرًا فی الاتصالات الرادیویّة بعیدة المدی. وتقوم هذه الطبقة أیضاً بعکس الموجات الکهرومغنطیسیّة إلی الأرض عوضاً عن انتشارها فی الفضاء. وهی تبدأ من ارتفاع 50 کیلو متر، وتمتّد إلی 300 أو 800 کیلو متر، ولا یستطیع أیّ کائن حیّ العیش فیها بسبب الأشعّة ما وراء البنفسجیّة، وتساقط الشهُب.(1)

6. طبقة الثیرموسفیر أو الغلاف الحراریّ: وهی أعلی طبقة فی الغلاف الجویّ. تواجه طبقة الثیرموسفیر أشعّة الشمس بصورة مباشرة، فتعمل علی تسخین الهواء الخفیف إلی درجة عالیة جدّاً. وعندما ترتطم أشعّة الشمس وغیرها من الإشعاعات القادمة من مصادر کونیّة أخری بطبقة الثیرموسفیر، فإنّ بعض الجزیئات والذرّات تُشحن بالکهرباء؛ أی تتأیّن، وتُسمّی هذه الذرّات المشحونة بالکهرباء «آیونات».

7. طبقة الإکسوسفیر أوالغلاف الخارجیّ: وهی عبارة عن الجزء العلویّ من

ص:185


1- (1) أنظر: السیّد علی أکبر قرشی، قاموس قرآن (قاموس القرآن)، ج 3، ص 334؛ الموسوعة العربیّة العالمیّة، النسخة الإلکترونیة الصادرة عام 1425 ه.

طبقة الثیرموسفیر، وترتفع إلی حوالی 480 کم عن سطح الأرض، إلی أن تنتهی فی الریاح الشمسیّة، ولا یوجد فی الأکسوسفیر إلاَّ القلیل من الهواء، ولا تجد السفن الفضائیّة والأقمار الصناعیّة التی تدور حول الأرض فی هذه المنطقة مقاومة تُذکر. وتتحرّک بعض الذرّات والجزیئات فی الأکسوسفیر بسرعة هائلة جدّاً، حیث تتغلّب علی قوّة جاذبیّة الأرض، وتنطلق إلی الفضاء الخارجیّ.(1)

ب) قال بعض العلماء: «إنّ العدد سبع ربّما جاء هنا للکثرة؛ بمعنی أنّ هناک سماوات کثیرة وأجرام کثیرة. ومن المحتمل أن یکون الرقم للعدد؛ أی أنّ عدد السماوات هی سبع بالتحدید. ومع هذا التقیید، فإنّ جمیع ما نری من کواکب ونجوم ثابتة وسیّارة هی من السماء الأولی، وبذلک یکون عالم الخلقة متشکّلاً من سبع مجموعات کبری، واحدة منها فقط أمام أنظار البشریّة، وأنّ الأجهزة العلمیّة الفلکیّة الدقیقة، وبحوث الإنسان، لم تتوصّل إلی ما هو أبعد من السماء الأولی. ولکن، کیف تکون العوالم الستّة الأخری؟ وممّ تتشکّل؟ فهو أمر لا یعلمه إلا الله تعالی».(2)

وقال کذلک: «یقول تعالی:(وَ زَیَّنَّا السَّماءَ الدُّنیا بِمَصابِیحَ)3 ویقول أیضاً:(إِنّا زَیَّنَّا السَّماءَ الدُّنیا بِزِینَةٍ الکَواکِبِ) .(3) ویتّضح من هاتین الآیتین أنّ ما نراه وما یتکوّن منه عالم الأفلاک، هو جزء من السماء الأولی، وما وراء هذه السماء ستّ سماوات أخری، لیس لدینا الیوم معلومات عن تفاصیلها».(4)

وفی ضوء ما تقدّم، یمکن الردّ علی السؤال المذکور بما یلی:

ص:186


1- (1) . أنظر: المصدر السابق؛ السیّد علی أکبر القرشی، تفسیر أحسن الحدیث، ج 1، ص 83؛ یعقوب الجعفری، کوثر، ج 1, ص 116؛ الموسوعة العربیّة العالمیّة.
2- (2) . مکارم الشیرازی، الأمثل فی تفسیر کتاب الله المنزَل، ج 15، ص 366-367.
3- (4) الصافّات، آیه 6.
4- (5) مکارم الشیرازی، الأمثل فی تفسیر کتاب الله المنزّل، ج 1، ص 152.

1. إنّ المراد من السماء التی عرج إلیها النبیّ صلی الله علیه و آله، لیلة المعراج - قطعاً - لیس طبقات الغلاف الجویّ المحیط بالکرة الأرضیّة. والإشکال إنّما یتأتّی فی حالة اعتبار المعراج سیراً فی تلک الطبقات؛ ذلک أنّه جری الحدیث فی معراج النبیّ صلی الله علیه و آله عن وجود سماوات سبع، والظاهر من ذلک وجود سماوات وراء الغلاف الجویّ للأرض. کما ذهب إلیه بعض المفسّرین، من أنّ هذه السماوات السبع جمیعاً من الخلق الجسمانیّ، فکأنّها طبقات سبع متطابقة من عالم الأجسام، أقربها منّا عالم النجوم والکواکب، ولم یصف القرآن شیئاً من السماوات الستّ الباقیة، أکثر من کونه ذکَر أنّها أطَباق.(1)

2. عروج النبیّ صلی الله علیه و آله إلی السماء السابعة من جملة أسرار عالم الکون، ومن ضمن المعجزات الإلهیّة. ونحن لا نری سوی السماء الدنیا، ولا نعلم، هل أنّ وراءها ووراء المجرّات الأُخری کرات وموجودات أُخری، أم لا؟ فالمحدودیّة فی العلم البشریّ لا تعدّ دلیلاً علی انعدام الکواکب والسماوات الأُخری.

3. إنّ البشر الیوم، وبکلّ التقدّم العلمیّ الذی أحرزه علی مختلف المستویات، لیس بوسعهم ادّعاء أنّ الکواکب الموجودة فی المنظومة الشمسیّة، ما هی إلا ما اکتشفه الإنسان الی الآن. وعلیه، کیف یسوغ إنکار وجود سماوات أخری، سوی السماء الدنیا؟

النتیجة

یمکن أن نخلص ممّا تقدّم إلی أنّ المراد من السماوات فی قضیّة المعراج، لیست هی طبقات الغلاف الجویّ، والفضاء اللا محدود الفاصل بین الکرة الأرضیّة والشمس، بل المقصود بها طبقات السماوات المختلفة، التی لا نری منها إلا

ص:187


1- (1) . أنظر: محمّد حسین الطباطبائی، تفسیر المیزان، ج 17، ص 369-370.

السماء الدنیا. وبرغم التقدّم العلمیّ الهائل للبشر، إلاّ أنّ الإنسان، لعجزه ومحدودیّة قدرته، لم یتمکّن إلی الآن من اکتشاف السماوات الستّ الأُخری. وعمدة الأدلّة فی هذا الإطار یتمثّل بالکشوف العلمیّة الحدیثة فی مجال الرصد الفلکیّ.

ومن هنا، لا یحقّ للإنسان إنکار وجود ما یعجز عن استکشافه بأدواته المادیّة المحدودة؛ لأنّ العلم البشریّ علی اتّساعه محدود، ولا یُمکن إنکار اللا محدود بهذا العلم الناقص والمحدود.

مصادر للمطالعة

1. السیّد علی أکبر قرشی، قاموس قرآن (قاموس القرآن)، طهران: دار الکتب الإسلامیةّ، 1371 ه. ش.

2. محمّد تقی مصباح یزدی، معارف قرآن (المعارف القرآنیّة) (1-3)، قم: مؤسّسة الإمام الخمینیّ للدراسات والبحوث، 1384 ه. ش.

3. السیّد محمّد حسین الطباطبائیّ، المیزان فی تفسیر القرآن، ج 16 و 17 و 19، قم: دفتر انتشارات إسلامی، 1417 ه.

الحدیث الختامیّ

عن أبی بصیر، عن أبی عبد الله علیه السلام، فی قوله تعالی: وَ السَّماءِ وَ الطّارِقِ ، قال:

«السَّماءُ فی هَذا المَوضِعِ أَمیرُ المُؤمِنینَ، وَالطّارُِق الّذی یَطرِقُ الأَئِمَّةَ مِن عِندِ اللهِ، مِمّا یَحدُثُ بِالّلیلِ وَالنَّهارِ، وَهوَ الرُّوحُ الَّذی مَعَ الأَئِمَّةِ، یُسَدِّدُهُم...».(1)

ص:188


1- (1) . علی بن إبراهیم القمی، تفسیر القمی، قم: مؤسّسة دار الکتاب، 1404 ه، ج 2، ص 415؛ الشیخ الحویزی، تفسیر نور الثقلین، قم: مؤسّسة إسماعیلیان، ط 4، 1412 ه، ج 5، ص 549.

تفضیل الأئمّة علی الأنبیاء علیهم السلام

اشارة

السؤال: لماذا یصرّ الشیعة علی أنّ الأئمّة المعصومین علیهم السلام أفضل من الأنبیاء علیهم السلام، ومقدّمون علیهم؟

شرح السؤال: یُعتبر هذا السؤال من جملة الأسئلة الدینیّة الهامّة التی کانت مطروحة منذ القدم، ولا زالت تَطرَح نفسها بقوّة. وقبل نشوِء هذه الشبهة، یُمکن العثور علی بعض القرائن فی کلام رسول الله صلی الله علیه و آله، من شأنها أن تُثبت أصل هذا المدّعی. وفی هذا الصدد، قال ابن أبی الحدید:

«والقول بالتفضیل قول قدیم، قد قال به کثیر من الصّحابة والتّابعین».(1)

وبهذا، یتّضح أنّ هذا الأمر لیس أمراً مستحدثاً، وإنّما کان موجوداً منذ صدر الإسلام إلی الآن. ومن هنا، لم یتوانَ کبار علماء التشیّع فی تبیین فضائل الأئمّة الأطهار علیهم السلام، فسردت شخصیّات، کالشیخ المفید، والشیخ الطوسیّ، والعلاّمة الحلیّ، والعلاّمة المجلسیّ، وأمثالهم من الفقهاء المعاصرین، فی کتبهم ومؤلّفاتهم، الأدلّة علی هذه العقیدة. ونحن هنا نحاول بیان بعض استدلالاتهم بصورة مختصرة وموجزة.

ص:189


1- (1) . ابن أبی الحدید المعتزلی، شرح نهج البلاغة، منشورات مکتبة آیة الله المرعشی فی قم، 1404 ه، ج 20، ص 221.

الجواب:

1- الأدلة القرآنیّة

اشارة

ذهب علماء التشیّع، وبعض فرق أهل السنّة، إلی تفضیل الأئمّة الکرام علیهم السلام، وخاصّة أمیر المؤمنین علیّ بن أبی طالب علیه السلام، علی البشر کافّة، حتّی الأنبیاء، ما عدا نبیّ الإسلام محمّد بن عبد الله صلی الله علیه و آله، مستدلّین علی ذلک بجملة من الآیات القرآنیّة. وفیما یلی نشیر إلی بعضها:

أ) الآیة المبارکة فی إمامة إبراهیم علیه السلام:

قال تعالی فی محکم کتابه الکریم:(وَ إِذِ ابتَلی إِبراهِیمَ رَبُّهُ بِکَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّی جاعِلُکَ لِلنّاسِ إِماماً قالَ وَ مِن ذُرِّیَّتِی قالَ لا یَنالُ عَهدِی الظّالِمِینَ) .(1)

وقالوا فی وجه دلالة الآیة علی المدّعی: إنّ هذه الآیة الشریفة تنقل لنا أهمّ مفصل من مفاصل سیرة حیاة بطل التوحید النبیّ إبراهیم علیه السلام؛ أی الابتلاء الکبیر الذی تعرّض له هذا النبیّ، واجتیازه له مکلّلاً بالنجاح. وهو عبارة عن تِلک الاختبارات الشاقّة، التی أظهرت عظمة مقام النبیّ إبراهیم علیه السلام، وأبرزت جلالة شخصیّته الرشیدة. وبعد أن اجتاز هذه الاختبارات العسیرة بنجاح، استحقّ أن یَمنحه الله الوسام الکبیر، قال: إِنِّی جاعِلُکَ لِلنّاسِ إِماماً .

أمّا أهمّ الاختبارات المتتالیة، التی مرّ بها النبیّ إبراهیم علیه السلام، فکالتالی:

1. أخذ ولده إلی المذبَح، والاستعداد التامّ لذبحه؛ إطاعةً لأمر الله سُبحانه، وعدَم تأثّره بالوساوس الشیطانیّة.

2. إسکان الزوج والولَد فی وادٍ غیرِ ذی زرعٍ بمکّةَ، حیث لم یسکُن فیه إنسان. وکان هدَفه من ذلک إطاعةَ أوامرِ الحقّ جلّ شأنه.

ص:190


1- (1) البقرة، آیه 124.

3. النهوض بوجهِ عبَدَة الأصنام وتحطیم أصنامهم، والوقوف ببطولة فی تلک المحاکمة التاریخیّة.

4. ومن ثمّ إلقاؤه فی وسط النیران، وثباته ورباطة جأشه، فی کلّ هذه المراحل.

5. الهجرة من أرض عبدة الأصنام، والابتعاد عن الوطن، والاتّجاه نحو أصقاعٍ نائیة لأداء رسالته.

حقّاً، کان کلُّ واحدٍ من هذه الاختبارات والمسؤولیّات الجسیمة، التی وضِعت علی عاتق هذا النبیّ الإلهیّ، یمثّل عِبئاً ثقیلاً، قد ینوء غیرهُ عن حمله؛ لکنّه بإیمانه الصلب، وإرادته القویّة، تمکّن من عُبورها بنجاحٍ وثبات، حتی بلَغ مقامَ الإمامةِ بکلّ جدارة.

ومن الآیة الکریمة التی نحن بصددها، یتبیّن أنّ منزلة الإمامة الممنوحة لإبراهیم علیه السلام، بعد کلِّ هذه الاختبارات العسیرة، تفوق منزلة النبوّة والرسالة، کما یُستفاد من الآیة المبارکة، أنّ الإمام (القائد المعصوم لکلِّ جوانب المجتمع)، یجب أن یتمّ تعیینه من قِبَل الله تعالی؛ وذلک للسببین التالیین:

أوّلاً: الإمامة میثاقٌ إلهیّ، وطبیعیّ أن یکون التعیین من قِبَل الله؛ لأنّه طرفُ هذا المیثاق.

ثانیاً: الأفراد الذین تلبّسوا بعنوان الظلم، ومارسوا فی حیاتهم لحظةَ ظلمٍ بحقّ أنفسهم، أو بحقّ الآخرین، کأن تکون لحظةَ شِرکٍ مثلاً، لا یلیقون للإمامة؛ فالإمام یجب أن یکون طیلةَ عُمره معصوماً.

وهل یعلم ذلک فی نفوس الأفراد إلاّ الله؟! ولو أردنا بهذا المعیار أن نعیّن خلیفةً لرسول الله صلی الله علیه و آله، فلا یمکن أن یکون غیرَ علیّ علیه السلام، ولن یعدو هذا الرجل العظیم.(1)

ص:191


1- (1) . أنظر: مکارم الشیرازی، الأمثل فی تفسیر کتاب الله المنزَل، ج 1، ص 373.

وعلی هذا الأساس، لمّا کان الإمام علیّ علیه السلام إماماً منصوصاً علیه، ومنصوباً من قبل الله تبارک وتعالی، فإنّه سیکون أفضل الخلائق طُرّاً، ومنهم الأنبیاء سِوی رسول الله صلی الله علیه و آله.

ب) آیة المباهلة المبارکة:

قال عزّ من قائل:(فَمَن حَاجَّکَ فِیهِ مِن بَعدِ ما جاءَکَ مِنَ العِلمِ فَقُل تَعالَوا نَدعُ أَبناءَنا وَ أَبناءَکُم وَ نِساءَنا وَ نِساءَکُم وَ أَنفُسَنا وَ أَنفُسَکُم ثُمَّ نَبتَهِل فَنَجعَل لَعنَتَ اللّهِ عَلَی الکاذِبِینَ) .(1)

وجه الاستدلال

المراد من کلمة (أنفسنا) الواردة فی الآیة الشریفة هو علیّ بن أبی طالب علیه السلام فقط؛ إذ لا یجوز أن یکون المراد بها نفس النبیّ الکریم صلی الله علیه و آله؛ لأنّه هو مَن دعا إلی موضوع تلک المباهلة، وعندئذ، لا یجوز للإنسان أن یدعو نفسه، بل لاستقامةِ العبارة، لا بدّ من دعوةِ شخصٍ آخر.(2)

ومن هنا، یمکن الخلوص إلی ما یلی:

أوّلاً: الإمامُ علیّ علیه السلام هو نفس النبیّ صلی الله علیه و آله.

ثانیاً: النبیّ الکریم صلی الله علیه و آله هو أفضل الأنبیاء والمرسلین.

ثالثاً: إذن، الإمام علیّ علیه السلام، أفضل الأنبیاء والمرسلین کذلک.

رابعاً: وعلیه، فالأئمّة علیهم السلام أیضاً أفضل الأنبیاء، عدا محمّد بن عبد الله صلی الله علیه و آله.

وسیتبیّن خلالَ نقلِ الأقوال، کیف تدلّ هذه الآیة علی أنّ الإمام

ص:192


1- (1) آل عمران، آیه 61.
2- (2) أنظر: محمّد جواد نجفی خمینی، تفسیر آسان (التفسیر السهل)، ط 1، 1398 ه، طهران، الانتشارات الإسلامیّة، ج 2، ص 309.

علیّ علیه السلام أفضل من جمیع الأنبیاء الآخرین، غیر نبیّ الإسلام صلی الله علیه و آله.

وبعدما تثبت أفضلیّة أمیر المؤمنین علیه السلام، تثبت أفضلیّة باقی الأئمّة المعصومین علیهم السلام بشکل تلقائیّ. هذا، وقد فسّر معظم المتکلّمین الشیعة هذه الآیة بالصورة المذکورة.

2- الأدلّة الروائیّة

اشارة

إنّ بعض الروایات التی تختصّ بإثبات تفضیل أمیر المؤمنین علیه السلام علی الخلفاء، بل وجمیع الأنبیاء، وسائر الناس أیضاً، تشتمل علی کلام واضح وموثوق جدّاً؛ ولذا فقد استدلّ به العلماء لإثبات هذا المدّعی. وأهمّ هذه الروایات حدیث المنزِلة، حدیث الولایة، حدیث الأخوّة، حدیث المحبّة، حدیث الوصیّة، حدیث الطیر المشویّ و... ونحن سنکتفی هنا بذکر مثالین فقط فی القسم الأوّل، وبضعة أمثلة فی القسم الثانی:

القسم الأوّل: الأدلّة علی أفضلیّة علیّ علیه السلام علی البشر

اشارة

الأوّل: حدیث الطائر

من الأحادیث المنقولة بالتواتر عند الخاصّة والعامّة، خبَر الطائر. فروی أنَس بن مالک، قال: أُهدِیَ لرسولِ الله صلی الله علیه و آله طیرٌ، فقال:

«اللهمّ آتنی بأحبّ خلقک إلیک، یأکل معی من هذا الطیر».

فقلت: اللهمّ اجعله رجُلاً من الأنصار. فجاءَ علیّ، فقلت: إنّ رسول الله صلی الله علیه و آله علی حاجة، فذهب. ثمّ جاء فقلت له مثل ذلک، فذهب. ثمّ جاء، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله: افتح، ففتحت. ثمّ دخل، فقال: ما أخّرک یا علیّ؟ قال: هذه آخر ثلاث کرّات یردّنی أنَس، یزعم أنّک علی حاجة. قال: ما حملک علی ما صنعت یا أنَس؟ قال: سمعت دعاءک، فأحبَبتُ أن

ص:193

یکونَ فی رجلٍ من قومی. فقال النبیّ صلی الله علیه و آله:

«إنّ الرجل قد یُحبُّ قومه، إنّ الرجل یُحبُّ قومه».(1)

ویُستفاد من هذه الروایة أنّ أمیر المؤمنین علیّ علیه السلام أحبُّ الخلقِ إلی الله تعالی، وذیلها یدلّ علی أنّ النبیّ أیضاً - شأنه فی ذلک شأن غیره من الناس - یحبّ أرحامه. وعندئذ، حینما یکون الشخص محبوباً لله ورسوله صلی الله علیه و آله، فهو حتماً أفضل من البشر أجمعین، بما فیهم الأنبیاء.

وقد رُوی متواتراً عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه احتجّ بهذا الخبَر، کواحدة من مناقبه، یوم الدار، لمّا اجتمع القوم لاختیار خلیفة بعد مقتل عُمر، فقال:

«أنشدکم بالله، هل فیکم أحدٌ قال له رسول الله صلی الله علیه و آله: اللهمّ ائتنی بأحبّ خلقک إلیک، یأکل معی من هذا الطائر. فجاء أحدٌ غیری؟» فقالوا: اللهمّ لا. فقال: اللهمّ اشهد.

واستشهد بذلک الشیخ المفید، معقِّباً علی الخبر بالقول:

«فاعترف القوم بصحّته، ولم یکُ أمیر المؤمنین علیه السلام بالذی یحتجّ بباطل».(2)

ویمکن أن نفهم من استدلال الإمام أنّه احتجّ علی أفضلیّته علی القوم بکلامِ رسول الله صلی الله علیه و آله.

الثانی: حدیث المحبّة

قال أمیرُ المؤمنین الإمام علیّ علیه السلام: قال رسول الله صلی الله علیه و آله:

«والذی نفسی بیده لأعطینّ الرایة غداً رجُلاً، یُحبُّ الله ورسولَهُ، ویحبُّه اللهُ ورسولُهُ، لیس بفرّار، یفتح الله علی یدِه. فأرسل إلیّ وأنا أرمد، فتَفَلَ فی عینی،

ص:194


1- (1) العلاّمة الحلی، کشف الیقین فی فضائل أمبر المؤمنین علیه السلام, ط 1، 1411 ه، طهران: انتشارات وزارة الإرشاد, ص 288-289.
2- (2) الشیخ المفید, الفصول المختارة، ط 1,1413 ه، قم: منشورات المؤتمر العالمی لألفیّة الشیخ المفید، ص 97.

وقال: اللهمّ اکفهِ أذی الحرّ والبرد. فما وجدت حرّاً بعد، ولا برداً».(1)

فذُکرت فی بعض الروایات کلمة «غداً»، ولم ترد فی البعض الآخر؛ وذلک أنّ النبیّ الکریم صلی الله علیه و آله کلّف بدایةً أبا بکر بهذه المهمّة، فحمل رایة المهاجرین، فقاتل بها، ثمّ رجع منهزماً. ثمّ أخذها عمر بن الخطّاب من الغد، فرجع منهزماً، یجبّن الناس ویجبّنونه، حتّی ساء رسول الله صلی الله علیه و آله ذلک، فأناط هذا العمل بعلیّ علیه السلام.

وأخرج ابن هشام أیضاً هذا الحدیث فی فضیلة علیّ علیه السلام، عن سلمة بن عمرو بن الأکوع، قال: بعث رسول الله صلی الله علیه و آله أبا بکر الصدّیق برایته، وکانت بیضاء، إلی بعض حصون خیبر، فقاتل، فرجع ولم یکُ فتح، وقد جهد. ثمّ بعث الغد عمر بن الخطّاب، فقاتل، ثمّ رجع ولم یکُ فتح، وقد جهد. فقال رسول الله صلی الله علیه و آله:

«لأعطینّ الرایة غداً رجلاً، یحبّ اللهَ ورسولَهُ، یفتح الله علی یدیه، لیس بفرّار». قال: فدعا رسول الله صلی الله علیه و آله علیّاً رضوان الله علیه، وهو أرمد، فتفل فی عینه، ثمّ قال:

«خُذ هذه الرایة، فامضِ بها حتّی یفتحَ اللهُ علیک».(2)

وعلی هذا الأساس، یمکن لإثبات المدّعی الاستدلال بالطریقة التالیة: إنّ الإمام علیّ بن أبی طالب علیه السلام أحبّ الخلق إلی الله تعالی، وأحبُّ الخلق إلی الله أفضلُهم عنده؛ وعلیه، فهو أفضل الناس طُرّاً، خَلا نبیّ الإسلام صلی الله علیه و آله. وبما أنّ الأئمّة الأطهار علیهم السلام جمیعهم من نورٍ واحد، فالأئمّة کذلک خیرُ البریّة، وأفضل الناس علی الکرة الأرضیّة.

ص:195


1- (1) الشیخ الطبرسی، إعلام الوری بأعلام الهدی، ط 3، 1390 ه، طهران: الانتشارات الاسلامیة، ص 185.
2- (2) عبد الملک بن هشام الحمیری المعافری، السیرة النبویّة, تحقیق: مصطفی السقّا وإبراهیم الأبیاری وعبد الحفیظ شلبی، بیروت: دار المعرفة، من دون تاریخ، ج 2، ص 334.

القسم الثانی: الأدلّة علی أفضلیّة الأئمّة علیهم السلام علی البشَر

هذا القسم یرتبط بإثبات کون الأئمّة الأطهار علیهم السلام أفضل من باقی الناس، عدا رسول الله صلی الله علیه و آله. وفی هذا الإطار، أفرَد العلاّمة المجلسیّ باباً فی «بحار الأنوار»(1) تحت عنوان: «تفضیلهم علیهم السلام علی الأنبیاء، وعلی جمیع الخلق، وأخذ میثاقهم عنهم، وعن الملائکة، وعن سائر الخلق، وأنّ أولی العزم إنّما صاروا أولی العزم بحبّهم صلوات الله علیهم»، أورد فیه ثمانیة وثمانین روایة فی مناقبهم وأفضلیّتهم علی الخلق. سنکتفی بذکر بعض الأمثلة منها، ممّا ورد عن الرسول الهادی صلی الله علیه و آله:

1. جاء فی کتاب «عیون أخبار الرّضا»: بإسناد التمیمیّ، عن الرّضا علیه السلام، عن آبائه علیهم السلام، قال:

«قال رسول الله صلی الله علیه و آله: أنت یا علیّ وولدک خیرة الله من خلقه».(2)

2. ورد فی کتاب «الخصال»: عن جعفر بن محمّد، عن أبیه، عن جدّه، عن علیّ بن أبی طالب علیهم السلام، عن النبیّ صلی الله علیه و آله، أنّه قال فی وصیّته له: «یا علیّ، إنّ الله عزّ وجلّ أشرف علی الدنیا، فاختارنی منها علی رجال العالمین، ثمّ اطّلع الثانیة، فاختارک علی رجال العالمین بعدی، ثمّ اطّلع الثالثة، فاختار الأئمّة من ولدک علی رجال العالمین بعدک، ثمّ اطّلع الرابعة، فاختار فاطمة علی نساء العالمین».(3)

3. أخرج فی کتاب «عیون أخبار الرضا»، بإسناد الإمام الرضا علیه السلام، قال النبیّ صلی الله علیه و آله:

«الحسن والحسین خیرُ أهل الأرض بعدی وبعد أبیهما، وأمّهما أفضل

نساء أهل الأرض».(4)

ص:196


1- (1) ج 26، ص 267، الباب 6.
2- (2) الشیخ الصدوق، عیون أخبار الرضا، انتشارات جهان, 1378 ه، ج 2، ص 58، ح 218.
3- (3) الشیخ الصدوق، الخصال، قم: انتشارات جماعة المدرّسین، 1403 ه، ج 1، ص 96.
4- (4) . عیون أخبار الرضا، مصدر متقدّم, ص 222.

4. ورد فی التفسیر المنسوب إلی الإمام العسکریّ علیه السلام: أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله قال: لمّا بعَث الله عزّ وجلّ موسی بن عمران، واصطفاه نجیّاً، وفلق له البحر، فنجّی بنی إسرائیل، وأعطاه التوراة والألواح، رأی مکانه من ربّه عزّ وجلّ، فقال: یا ربِّ! لقد أکرمتنی بکرامة لم تکرم بها أحداً قبلی.

فقال الله عزّ وجلّ: یا موسی، أما علِمت أنّ محمّداً أفضل عندی من جمیع ملائکتی، وجمیع خلقی؟

قال موسی: یا ربِّ، فإن کان محمّد أکرَمَ عندک من جمیع خلقِک، فهل فی آل الأنبیاء أکرَم من آلی؟

قال الله عزّ وجلّ: یا موسی، أما علِمت أنّ فضل آل محمّد علی جمیع آل النبیّین، کفضل محمّد علی جمیع المرسلین؟(1)

5. رُوی عن حُذیفة بن أسیَد الغفّار، قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله:

«ما تکاملت النبوّة لنبیٍّ فی الأَظِلَّةِ حتّی عُرِضَت علیه ولایتی، وولایة أهل بیتی، ومَثُلُوا له، فأقرّوا بطاعتهم وولایتهم».(2)

6. وعن عبد الأعلی، قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام یقول:

«ما نُبّیء نبیٌّ قطّ إلاّ بمعرفة حقّنا، وبفضلنا علی من سِوانا».(3)

لم یکن هذا إلاّ غیضٌ من فیض، فلا یمثّل إلاّ النزر الیسیر ممّا ورَد فی المصادر الروائیة الشیعیّة، الحافلة بمزیدٍ من الأخبار فی هذا الخصوص، ومَن أراد الاستزادة منها، فعلیه الرجوع إلی المصادر الأساسیّة المختصّة فی هذا

ص:197


1- (1) الإمام الحسن العسکری علیه السلام، التفسیر المنسوب إلی الإمام العسکری، قم: انتشارات مدرسة الإمام المهدی عجل الله تعالی فرجه الشریف، 1409 ه، ص 11.
2- (2) محمّد بن الحسن الصفّار، بصائر الدرجات, قم: منشورات مکتبة آیة الله المرعشی، 1404 ه, ص 50.
3- (3) المصدر السابق، ص 51.

المجال. ومن هنا، ولأجل هذه الأدلّة المستفیضة، ذهب الشیعة إلی تفضیل الأئمّة علیهم السلام علی الأنبیاء.

آراء العلماء فی تفضیل الأئمّة علی الأنبیاء

اشارة

لم یقتصر الأمر علی مجرّد الروایات المنقولة فی التراث الشیعیّ، بل ذهب کبار علماء التشیّع إلی القول بهذه العقیدة.

أ) رأی العلاّمة الحلیّ:

قال العلاّمة الحلیّ فی کتاب «کشف المراد»:

«إنّ الکمالات النفسانیّة والبدنیّة بأجمعها موجودةٌ فی کلِّ واحدٍ منهم، وکلُّ واحدٍ منهم کما هو کاملٌ فی نفسه، کذا هو مکمّل لغیره، وذلک یدلُّ علی استحقاقه الریاسة العامّة؛ لأنّه أفضل من کلِّ أحدٍ فی زمانه، ویقبح عقلاً تقدیم المفضول علی الفاضل».(1)

إذاً، الدلیل علی لزوم تقدیم الأئمّة علیهم السلام علی مَن سِواهم من الناس، فی أمر الحکومة والریاسة العامّة، هو تفضیلهم علی سائر الناس فی عصرهم، وعدَم وجودِ کُفءٍ لهم.

ب) رأی المحقّق النراقیّ:

ادّعی المحقّق النراقیّ، مؤلّف کتاب «أنیس الموحّدین»، فی فصل الإمامة، تفضیل الأئمّة الأطهار علیهم السلام، مؤکّداً علی أنّ إثبات إمامتهم أوضح من أن یُستدلّ علیه، سَواء عن طریق النصوص الواردة عن الفریقین، أم عن طریق

ص:198


1- (1) العلاّمة الحلی، کشف المراد فی شرح تجرید الاعتقاد، قم: جماعة مدرّسی الحوزة العلمیّة، ط 11، 1427 ه، ص 540.

عصمتهم وأفضلیّتهم علی من سِواهم، أم بواسطة ظهور الکرامات والمناقب لهم. وبعد أن أثبت إمامتهم عن طریق کونهم الأفضل من غیرهم، قال: وأمّا طریق الأفضلیّة فمعلوم؛ حیث کان کلّ واحد منهم فی عصره أفضل من جمیع الناس فی ذلک العصر. وهذا المعنی متّفق علیه بین جمیع فِرَق المسلمین، ولم ینکره أحدٌ منهم لیحتاج إلی دلیلٍ مُثبِت.(1)

ج) رأی الشیخ الطبرسیّ:

قال العلاّمة الطبرسیّ فی هذا الصدد:(2) «وممّا یدلّ أیضاً علی تقدیمهم وتعظیمهم علی البشَر: أنّ الله تعالی دلّنا علی أنّ المعرفة بهم کالمعرفة به تعالی، فی أنّها إیمانٌ وإسلام، وأنّ الجهلَ بهم والشکَّ فیهم کالجهلِ به والشکّ فیه، فی أنّه کفر وخروج من الإیمان. وهذه منزلةٌ لیس لأحدٍ من البشَر، إلاّ لنبیّنا صلی الله علیه و آله، وبعده لأمیر المؤمنین، والأئمّة من ولده علیهم السلام».(3)

ثمّ استدلّ علی ذلک بإجماع الشیعة الإمامیّة، مذکّراً بأنّ إجماعهم حجّة، بل بإجماع الأمّة علی هذا الأمر؛ وذلک أنّ جمیع أصحاب الشافعیّ یذهبون إلی أنّ الصلاة علی نبیّنا فی التشهّد الأخیر فرضٌ واجبٌ، ورُکنٌ من أرکان الصلاة، متی أخلّ بها الإنسان فلا صلاةَ له، والباقون منهم یذهبون إلی أنّ الصلاة علی الآل مستحبّة ولیست بواجبة.

ص:199


1- (1) أنظر: محمّد مهدی النراقی, أنیس الموحّدین، انتشارات الزاء، بدون تاریخ، ط 1، 1363 ه. ش, ص 215 و 220.
2- (2) اعتمد الشیخ الطبرسی فی الاحتجاج علی تفضیل الأئمّة الأطهار علی رسالة «الرسالة الباهرة فی العترة الطاهرة» للسیّد الشریف المرتضی، وهی الرسالة 23 من رسائل المرتضی، وقد استعمل فیها المؤلّف أسلوباً مبتکراً فی تقدیم الأئمّة المیامین علی من سواهم، عدا جدّهم محمّد المصطفی صلی الله علیه و آله.
3- (3) أحمد بن علی الطبرسی، الاحتجاج علی أهل اللجاج، تعلیق: السیّد محمّد باقر الخرسان، النجف الأشرف: دار النعمان للطباعة والنشر، 1386 ه، ج 2، ص 336-337.

وأردَف قائلاً: «ومن عدا أصحاب الشافعیّ لا ینکرون أنّ الصلاة علی النبیّ وآله علیهم السلام فی التشهّد مستحبّة، وأیّ شُبهة تبقی مع هذا، فی أنّهم علیهم السلام أفضل الناس وأجلّهم؟».

ثمّ استدلّ علی المطلوب بطریقة مغایرة، وقال: «وممّا یمکن الاستدلال به علی ذلک: أنّ الله تعالی قد ألهم جمیع القلوب، وغرس فی کلّ النفوس، تعظیم شأنهم، وإجلال قدرهم، علی تباین مذاهبهم، واختلاف دیانتهم ونِحَلهم».(1)

والمتحصّل من کلامه: أنّ المعرفة بالأئمّة علیهم السلام کالمعرفة بالله تعالی، فی حین أنّ معرفة الأنبیاء لیست من هذا القبیل، الأمر الذی یفید علوّ مرتبتهم، وتفضیلهم علیهم.

د) رأی العلاّمة المجلسیّ:

سبَق وأن أشرنا إلی أنّ العلاّمة المجلسی عقَد باباً فی البحار بعنوان: «تفضیلهم علیهم السلام علی الأنبیاء، وعلی جمیع الخلق، وأخذ میثاقهم عنهم، وعن الملائکة، وعن سائر الخلق، وأنّ أُولی العزم إنّما صاروا أُولی العزم بحبّهم صلوات الله علیهم».

وذکر هناک حدیثاً عن حفص، عن أبی عبد الله الصادق علیه السلام، حکایةً عن النبیّ موسی علیه السلام، جاء فیه:

«فقال موسی: یا ربِّ، اجعلنی مِن أمّته. فقال له: یا موسی، أنت مِن أمّته، إذا عرفت منزلته ومنزلة أهلِ بیته. إنّ مَثَله ومَثَل أهل بیته فیمَن خلقتُ، کمثلِ الفردوس فی الجنان، لا ینتشر ورقها، ولا یتغیّر طعمها. فمَن عرفهم وعرَف حقّهم، جعلتُ له عند الجهل عِلماً، وعند الظلمة نوراً. أجیبه قبل أن یدعونی، وأعطیه قَبل أن یسألنی».(2)

ص:200


1- (1) المصدر السابق، صص 337-338.
2- (2) بحار الأنوار، بیروت: مؤسّسة الوفاء، 1404 ه، ج 26، ص 267.

ه) رأی الحاکم الحسکانیّ:

قال الحافظ الکبیر الحاکم الحسکانیّ، فی کتاب «شواهد التنزیل»، فی فضیلة الأئمّة المیامین علیهم السلام: عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله:

«إنّ الله جعل علیّاً وزوجته وأبناءه حُجَجَ اللهِ علی خلقهِ، وهُم أبواب العِلم فی أُمّتی، مَن اهتدی بهم هُدی إلی صراطٍ مُستقیم».(1)

إنّ هذه الروایة الواردة فی أحدِ أهمّ المصادر لدی أهل السنّة، تدلّ بوضوح علی مرادنا؛ أی تفضیل أئمّة الهُدی والرشاد علیهم السلام علی الناس کافّة، عدا الرسول الکریم صلی الله علیه و آله؛ باعتبار أنّهم حُجج الله علی العِباد.

الخلاصة

احتجّ العلماء الأعلام لتفضیل الأئمّة الکرام علی الأنبیاء العظام، بعددٍ کبیرٍ من الآیات القرآنیّة، غیر أنّ أهمّها وأدلّها علی المطلوب آیتا إمامة النبیّ إبراهیم علیه السلام، وآیة المباهلة.

کما أنّ نبیّ الإسلام صلی الله علیه و آله امتدح شخصیّة أمیرِ المؤمنین علیه السلام، وأشاد بها، فی موارد مختلفة، وعدّه فی روایات کثیرة من التراث الإسلامیّ الحافل: ملاک الحقّ، ومیزان الأعمال، ومحبوب الله تعالی، وأفضل أصحابه. علی أنّ هناک روایات أُخری فی مصادرنا الروائیّة، مرویّة عن النبی الخاتم صلی الله علیه و آله، حوَت تعبیرات تدلّ بوضوح وشفافیّة علی تقدیم الأئمّة المعصومین علیه السلام علی غیرهم من الناس.

وفی ضوء هذه الآیات والروایات التی ورد بعضها فی مصادر أهل السنّة، أخذ علماء الإمامیّة علی عاتقهم بیان أفضلیّة الأئمّة، وتعریفهم إلی الأجیال

ص:201


1- (1) عبید الله بن أحمد الحسکانی، شواهد التنزیل لقواعد التفضیل، طهران: مؤسّسة النشر والطبع التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامی، ط 1، 1411 ه, ج 1، ص 76، ح 89.

المستقبلیّة، وکشف حقیقتهم للناس، وأنّهم کالشمس فی رابعة النهار. وفی هذا السیاق، لا شکّ فی أنّهم قد أبلوا بلاءً حسناً فی مباحث الإمامة، وفی مجال الکلام، وتمکّنوا من إماطة اللثام عن حقیقة الموضوع، وتسلیط الضوء علی جمیع أبعاده وزوایاه، وأرواء غلیل طلاب الحقّ، والباحثین عن الحقیقة.

مصادر للمطالعة

1. محمّد جواد نجفی خمینی، تفسیر آسان (التفسیر السهل)، ط 1، 1398 ه، طهران، الانتشارات الإسلامیّة، ج 2.

2. الشیخ الطبرسیّ، إعلام الوری بأعلام الهدی، ط 3، 1390 ه، طهران: الانتشارات الاسلامیة.

3. الشیخ المفید، تفضیل أمیر المؤمنین علیه السلام، قم: اللجنة المشرفة علی المؤتمر العالمیّ لألفیّة الشیخ المفید، 1413 ه.

4. موسی خسروی، باب الإمامة (الترجمة الفارسیّة للمجلّد السابع من بحار الأنوار)، طهران: الانتشارات الإسلامیّة، ط 2، 1363 ه. ش.

5. محمّد مهدی النراقیّ، الشهاب الثاقب فی الإمامة، مؤتمر تخلید ذکری النراقیّین، 1380 ه. ش.

الحدیث الختامیّ

روی عن أبی عبد الله علیه السلام، قال: کان فیما أوصی به رسول الله صلی الله علیه و آله علیّاً علیه السلام:

«یا علیّ، ثَلاثُ خِصالٍ مِن حَقایقِ الإیمانِ: الإنفاقُ فی الإقتارِ، وَإنصافُ النّاسِ مِن نَفسِکَ، وَبَذلُ العِلمِ لِلمُتَعَلّمِ».(1)

ص:202


1- (1) الشیخ الصدوق، الخصال، تصحیح وتعلیق: علی أکبر غفّاری، ص 125؛ المجلسی، بحار الأنوار، ج 74، ص 45.

عصمة الإمام علیّ علیه السلام واعترافه بالخطأ

اشارة

السؤال: قال الإمام علیّ علیه السلام:

«فَإِنِّی لَستُ فِی نَفسِی بِفَوقِ أَن أُخطِیءَ، وَلاَ آمَنُ ذلِکَ مِن فِعلِی، إِلاَّ أَن یَکفِیَ اللهُ مِن نَفسِی مَا هُوَ أَملَکُ بِهِ مِنِّی».(1)

فهل أنّ هذا الکلام یتَّسق مع القول بعِصمَتِه، أم أنّه مُنافٍ لها؟

الجواب: إنّ عِصمة الأئمّة المعصومین علیهم السلام، لا سیّما الإمام أمیر المؤمنین علیّ بن أبی طالب علیه السلام، من الأُمور المسلّمة والقطعیّة عند علماء الشیعة. وفی هذا الخصوص، أورَد العلاّمة الحلیّ، فی کتاب «الألفَین فی إمامة أمیرِ المؤمنین علیه السلام»، ألفاً وثمانیة وثلاثین دلیلاً علی وجوبِ عصمة الإمام أمیر المؤمنین علیه السلام، فهناک کمٌّ کبیرٌ من الآیات القرآنیّة، نحو آیة التطهیر،(2) وغیرها من الآیات الأخری، تدلّ علی عصمة الأئمّة الأطهار علیهم السلام. هذا، فضلاً عن الروایات المأثورة عن الأئمّة من أهل بیت النبیّ الکریم صلی الله علیه و آله، والأدلّة العقلیّة الکثیرة فی هذا الباب.

أمّا اعتراف الإمام علیّ علیه السلام بالخطأ، لا یعنی ارتکاب المحرّمات

ص:203


1- (1) نهج البلاغة، شرح: محمّد عبدة، قم: دار الذخائر، ط 1، 1412 ه، ج 2، ص 201.
2- (2) وهی قوله عزّ من قائل:(إِنَّما یُرِیدُ اللّهُ لِیُذهِبَ عَنکُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَیتِ وَ یُطَهِّرَکُم تَطهِیراً) الأحزاب، آیه 33.

والمعاصی المنافیة لمقام العصمة؛ ذلک أنّه من حیث التقرّب والمعرفة بالله تعالی یمتلک مقاماً سامیاً، لکنّه یری أنّ عبودیّته غیر جدیرة بمقام الباری عزّ وجلّ؛ ومن هنا، یَعتبِر الإمام المعصوم علیه السلام - أحیاناً - نفسه مقصّراً لمجرّد ترک الأَولی، فیلتمِس العفوَ والمغفرة من الخالق تعالی. وهو ما لا یتنافی مع العصمة ألبتّة.

وممّا یُشار إلیه أنّ هذا السؤال لیس مِن الأسئلة الحدیثة، أو الخاصّة بعصرنا فقط، وأنّما طُرِح هذا البحث سابقاً، فی عددٍ من الکُتُب والمؤلّفات القدیمة، مثل کتاب «کشف الغُمّة»(1) للمرحوم الأربَلیّ، وشروح نهج البلاغة، کشرح ابن أبی الحدید،(2) بالإضافة إلی الترجمة الفارسیّة لنهج البلاغة للمرحوم الدشتیّ،(3) وأُجیب عنه بشکلٍ وافٍ جدّاً.

وبناءً علی ذلک، فإنّ شرح معنی الخطأ والزلَل بالنسبة إلی الأئمّة المعصومین علیهم السلام، سیکشف عن أنّ اعتراف الأئمّة الأطهار علیهم السلام بالخطأ یختلف عن اعترافنا به، وأنّ ذلک لا ینافی عصمتهم.

أ) أقسام الخطأ ومراتب المعصیة

لیس کلّ خطأ یعدّ معصیة؛ ولذلک عبّروا عن الخطأ فی اللغة الفارسیّة ب - «الاشتباه»، بل قسمٌ من الأخطاء فقط تدخل فی دائرة المعصیة والذنب. ومن هنا، فالقول: إنّ الخطأ عبارة عن ذنب غیر متعمّد؛ بمعنی أنّه صدَر عن سهو ومن غیر التفات،(4) لیس بالکلام الصائب؛ لأنّ التکلیف متفرّع علی الالتفات

ص:204


1- (1) علی بن عیسی الأربَلی، کشف الغمّة، إیران: دار الکتب الإسلامیة، 1410 ه، ج 3، ص 43.
2- (2) ابن أبی الحدید، شرح نهج البلاغة، قم، تحقیق: محمّد أبو الفضل إبراهیم، ج 11، ص 102.
3- (3) نهج البلاغة، ترجمة: المرحوم محمّد الدشتی، ص 444، الخطبة 216.
4- (4) حسن عمید، معجم «عمید» باللغة الفارسیّة، ذیل مادّة «خطأ».

والعلم؛ ولذا فالسهو والنسیان فی الأعمال لیس مشمولاً بالحکم التکلیفیّ، فلو شرِب الإنسان المؤمن الخمر بدَلاً من الماء سهواً، لا یُعدّ هذا العمَل منه ارتکاباً للمعصیة والذنب. وفی هذا السیاق، نفت بعض الروایات أیّ لون من ألوان الخطأ والذنب والسهو والنسیان عن الأنبیاء الإلهیّین والأئمّة المعصومین علیهم السلام.(1)

ومن هنا، فللخطأ والمعصیة أنواعٌ وأقسامٌ مختلفة:

منها: المعصیة القانونیّة أو الشرعیّة، وهو المعنی المشهور للمعصیة. ونحن نری أنّ جمیع المعصومین علیهم السلام مصونون عن ارتکاب ذنب من هذا القبیل.

ومنها: المعصیة الأخلاقیّة، وهی الخطأ المخالف لمکارم الأخلاق، وإن لم یکُن من المحرّمات الشرعیّة. ویتفاوت الذنب الأخلاقیّ بین الأفراد، بحسب مکانتهم ومرکزهم الاجتماعیّ؛ فعلی سبیل المثال، تناول المشروبات فی الأماکن العامّة أمر مقبول بنظر البعض، ولا إشکال فیه. بینما یمکن أن یَعدّ البعضُ هکذا عمل أمراً مخالفاً للأخلاق، بل ویلومون مرتکبه. وبما أنّ الأئمّة المعصومین علیهم السلام أسوة للآخرین، لا بدّ لهم من الابتعاد عن کلّ ما یدخل فی دائرة ترک الأَولی.

ب) المعصیة فی مقام المحبّة

إنّ مقام المحبّة ذو لوازم متعدّدة، بحیث لو غفل المحبّ عن العمل بأحدها لعُدّ ذلک من أعظم الذنوب التی ارتکبها، ولبَقیَ أمداً طویلاً، فی حال الاستغفار والتوبة عمّا اقترفه.(2) وهو ما دعا الأنبیاء والأئمّة إلی ملازمة البکاء والاستغفار والتوبة إلی الله جلّ وعلا.

ص:205


1- (1) أنظر: بحار الأنوار، ج 17، ص 108-109.
2- (2) أنظر: العلاّمة الطباطبائی، تفسیر المیزان، ج 6، ص 373.

ومن جملة من أکّد علی هذه الحقیقة الناصعة، التی لا یهتدی إلیها إلاّ من أتی الله بقلب سلیم، العالم الکبیر المرحوم الأربَلیّ، فذهب إلی أنّ التأمّل فی هذا الموضوع أوصله إلی حلّ متین لهذه الشبهة، وذلک من کرامات ومعجزات الإمام موسی بن جعفر علیه السلام.

وبهذا، یتبیّن أنّ المعاصی التی لا مناصَ للمعصوم من ارتکابها، ولطالما تأوّه واستغفر ربّه منها، لیس هی المحرّمات الإلهیّة، وإنّما معیار فی غایة الدقّة لمعرفة الخطأ وتقییم العمل؛ ولذا، فهم یرون ما یراه غیرهم مباحاً علی أنّه معصیة لا بدّ من اجتنابها، ولا یمرّون علیه مرور الکرام کسائر الناس. فمثلاً، کثیرٌ هم الذین لا یداخلهم الحزن، ولا یأبهون من فوت وقت الصلاة الواجبة، ولا یبالون إن تحوّلت من الأداء إلی القضاء، وغیر قلیل هم المتّقون الذین یألمون علی عدم الإتیان بالصلاة النافلة، وهذه السلسلة متواصلة، ولا نهایة لها؛ فکلّما ازدادت المعرفة والمحبّة فی قلوب السائرین فی الطریق الإلهیّ، شعروا بزیادة الأعباء علی عواتقهم، وأدرکوا أنّهم مقصّرون فی أداء الواجب الملقی علی کواهلهم کما ینبغی، وکما هو أهل للباری تعالی.

وهکذا، نظر المرحوم الأربَلیّ إلی إحساس المعصومین علیه السلام بالذنب، من زاویة أُخری، فقال: «إنّ الأنبیاء والأئمّة علیهم السلام تکون أوقاتهم مشغولة بالله تعالی، وقلوبهم مملوءة به، وخواطرهم متعلّقه بالملأ الأعلی، وهُم أبداً فی المراقبة... فهم أبداً متوجّهون إلیه، ومقبلون بکلّهم علیه؛ فمتی انحطّوا عن تلک الرتبة العالیة، والمنزلة الرفیعة، إلی الاشتغال بالمأکل، والمشرَب، والتفرّغ إلی النکاح، وغیره من المباحات، عدّوه ذنباً، واعتقدوه خطیئةً، واستغفروا منه... وإلی هذا أشار علیه السلام أنّه

«حَسَناتُ الأبرارِ سَیّئاتُ المُقرَّبینَ».(1)

ص:206


1- (1) الأربَلی، کشف الغمّة، ج 3، ص 43.

بناءً علی ذلک، فالمراد من الذنب الذی یُصان المعصوم علیه السلام من ارتکابه، هو العمل المسمّی فی لسان الفقه ب - «الحرام». مع العلم أنّ ترک ما یُعدّ فی لسان الفقه واجباً یدخل فی دائرة المعصیة والذنب کذلک، لکنّ مفردة «ذنب» و «معصیة» وما شاکَل، لها استخدامٌ واسع، حتّی أنّها لتشمل «ترک الأَولی» أیضاً، وارتکاب الأخطاء والذنوب التی من هذا القبیل لا تتنافی مع العصمة مطلقاً.

وأمّا قول الإمام علیه السلام:

«فَإنِّی لَستُ فِی نَفسِی بِفَوقِ أَن أُخطِیءَ، وَلاَ آمَنُ ذلِکَ مِن فِعلِی، إِلاَّ أَن یَکفِیَ اللهُ مِن نَفسِی مَا هُوَ أَملَکُ بِهِ مِنِّی، فَإنَّمَا أَنَا وَأَنتُم عَبِیدٌ مَملُوکُونَ لِرَبٍّ لاَ رَبَّ غَیرُهُ، یَملِکُ مِنَّا مَا لاَ نَملِکُ مِن أَنفُسِنَا»،(1) فلا یتنافی مع العصمة أیضاً؛ لأنّ فی العبارة نفسها من القیود ما یجعلها کذلک، حیث یُستفاد من قَید «فی نفسی»، أنّه من دون معونة الله تبارک وتعالی لا مفرّ من الذنب والمعصیة.

یضاف إلی ذلک، أنّ جملة «إلاّ أن یَکفیَ اللهُ مِن نَفسی» تدلّ بصراحة علی أنّ العِصمة مُستمدّة من التوفیق الإلهیّ، ولیست قائمة بذاتها، أو یکون قد قال: «لَستُ فِی نَفسِی بِفَوقِ...» علی سبیل هضم النفس.(2) بمعنی أنّ الإمام علیه السلام یرید القول: لو کنت أنا ونفسی، لما کنت بعیداً عن الوقوع فی الخطأ والزلَل، لکنّ الله تعالی کان دائماً هو المُمِدّ والمعین لی؛ ولذا، فلن أزِلّ وارتکب الخطأ.

ومن هنا، ذهب المرحوم الدشتی فی شرحه لنهج البلاغة إلی أنّ قول الإمام علیه السلام:

«إلاّ أن یَکفیَ اللهُ مِن نَفسی» فی حدّ ذاته إثبات للعصمة.(3)

ص:207


1- (1) نهج البلاغة، شرح: محمّد عبدة، قم: دار الذخائر، ط 1، 1412 ه، ج 2، ص 201.
2- (2) . ابن أبی الحدید، شرح نهج البلاغة، ج 11، ص 107.
3- (3) شرح نهج البلاغة، ص 448.

والعصمة لا تعنی عدم الحاجة إلی التأیید الإلهیّ؛ إذ أنّ الله عزّ وجلّ قال فی محکم کتابه الکریم:(وَ لَو لا أَن ثَبَّتناکَ لَقَد کِدتَ تَرکَنُ إِلَیهِم شَیئاً قَلِیلاً) .(1) فالنبیّ صلی الله علیه و آله بمقتضی الطبع البشریّ والإنسانیّ له، کادَ أن یقبل وساوِس المشرکین، إلاّ أنّ التأیید الإلهیّ صانَه من الوقوع فی الهاویة، وأنقذَه من الرکون إلی الکافرین. کذلک، کان النبیّ یوسف علیه السلام یعتقد أنّه لم یتخلّص من بطش النفس الأمّارة بالسوء إلاّ برحمة ربّه تبارک وتعالی، فقال:(وَ ما أُبَرِّئُ نَفسِی إِنَّ النَّفسَ لَأَمّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاّ ما رَحِمَ رَبِّی) .(2)

النتیجة

إنّ العصمة من مسلّمات وثوابت المذهب الشیعیّ، ولا یُمکن القَدح فیها، واعتراف الإمام علیّ علیه السلام بالخطأ، لا یعنی ارتکابه للمعصیة، والعیاذُ بالله؛ ذلک أنّ مقام العِصمة لا یتنافی مع کلّ ألوان الخطأ، بل بعض أقسام الخطأ فقط تُعَدُّ من المعاصی والذنوب، وهی ممّا لا بُدّ للمعصوم من تجنّبها وعدَم اقترافها.

ثمّ إنّ العِصمة من التوفیقات الإلهیّة، التی یمنُّ بها علی خواصّ عباده. والإمام علیّ علیه السلام، وبفعل قُربِه من الباری تعالی، ومعرفته التامّة به، یری أنّ عبودیّته لا تلیق بمقام الربّ عزّ وجلّ؛ ولهذا، فهو یستغفر الباری تعالی عن ذلک، وعن ترک الأَولی.

ص:208


1- (1) الإسراء، آیه 74.
2- (2) یوسف، آیه 53.

مصادر للمطالعة

1. العلاّمة جمال الدین الحلیّ، الألفَین فی إمامة مولانا أمیر المؤمنین علیه السلام.

2. علی أکبر ناصری، امامت وشفاعت (الإمامة والشفاعة).

3. رضا کاردان، إمامت وعصمت إمامان در قرآن (الإمامة وعصمة الأئمّة فی القرآن).

الحدیث الختامیّ

عن ابن عبّاس «رضیَ الله عنهما»، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلی الله علیه و آله یَقولُ:

«أَنا وَعَلیٌّ وَالحَسنُ وَالحُسینُ وَتِسعةٌ مِن وُلدِ الحُسینِ مُطَهّرونَ مَعصومونَ».(1)

ص:209


1- (1) سلیمان القندوزی، ینابیع المودّة لذوی القربی، تحقیق: سیّد علی جمال أشرف الحسینی، دار الأسوة، ط 1، 1416 ه، ج 3، ص 291.

ص:210

تعیین النبیّ صلی الله علیه و آله للإمام علیّ علیه السلام خلیفةً له

اشارة

السؤال: هل أنّ النبیّ صلی الله علیه و آله نصّ علی تعیین الإمام علیّ علیه السلام خلیفةً ووصیّاً له، أم أنّه ذکره کشخصٍ لائقٍ ومؤهّل للمسؤولیّة؟

مدخل: إنّ بحث خلافة أمیر المؤمنین علیه السلام کان قد طُرِح مُنذ عصر النبیّ الکریم صلی الله علیه و آله، فرسول الله صلی الله علیه و آله ما کان لیدع موضوعاً بهذا القدر من الأهمیّة مبهماً، ومن دون إیضاح. فبعد رحیل خاتم الرسل صلی الله علیه و آله، ولمّا بلغ موضوع الخلافة إلی المرحلة العملیّة، تدخّلت جملة من العوامل لتؤدّی إلی إنکار قضیّة بهذا المستوی من الوضوح والشهرة، وآل الأمر إلی خلافٍ عمیق، ونِزاعٍ فی العقائد الإسلامیة بین فریقین عظیمین من المسلمین، وأُثیرت فی هذا المجال أسئلةٌ کثیرة حول موضوع الخلافة والنصّ علیها، بل وکُتِبت فی ذلک کُتُبٌ ومؤلّفاتٌ واسعة.

ومن هنا، عمَد الأئمّة المعصومون علیهم السلام وعلماء الدین، إلی الاستشهاد بالآیات القرآنیّة، والسنّة النبویّة الشریفة، والشواهد التاریخیّة الموثوقة؛ للردّ علی الشُّبهات والأسئلة المطروحة من قِبَل المخالفین والمعارضین لموضوع النصّ علی خلافة الإمام أمیر المؤمنینّ علیه السلام. ونعم ما فعلوا، حیث استطاعوا تسلیط الأضواء علی مختلف أبعاد هذه القضیّة، وجمیع زوایاها.

ص:211

وعلی هذا الأساس، ارتأینا طَرح هذا السؤال؛ من أجل إیضاح هذا الموضوع، بعد أن حامت حوله الشُّبهات، وإثبات الحقّ فی الموضوع، ثمّ سنطرح فی الصفحات القادمة عدداً آخر من الأسئلة فی هذا المضمار.

الجواب: السؤال المطروح ینقسم فی حقیقة الأمر إلی شِقّین: أحدُهما، تعیین الإمام علیّ علیه السلام خلیفةً للمسلمین من قِبَل نبیّ الإسلام صلی الله علیه و آله، والآخر، اعتباره فرداً مؤهّلاً ولائقاً بهذا المنصب. وفی مقام الجواب، هنالک احتمالات ثلاثة:

1. لم یتمّ سؤال النبیّ صلی الله علیه و آله عن کلا شقّی السؤال المذکور.

2. سُئل عن أحد الشِّقّین دون الآخر.

3. سُئل النبیّ صلی الله علیه و آله عن الشقّین معاً.

والحقیقة أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله أجاب عن کلا السؤالین، فعیّن الإمام علیّ علیه السلام خلیفة لمن بعده، وعدّه شخصاً مؤهّلاً ومستحقّاً لهذا المنصب الإلهیّ الرفیع. وعلی هذا الأساس، سوف نستعرض بإیجاز موارد تصریح النبیّ الکریم صلی الله علیه و آله، بکون الإمام علیه السلام فرداً لائقاً ومؤهّلاً لمسؤولیّة الخلافة، وتصریحه بکونه خلیفة المسلمین من بعده:

أ) اعتبار الإمام علیه السلام شخصاً مؤهّلاً ولائقاً

اشارة

یتمیّز الإمام أمیر المؤمنین علیّ علیه السلام بمیزات نادرة، یفتقر إلیها غیره، ویتمتّع بشخصیّة فریدة من نوعها، لا یدانیها فیها غیرُه؛ ولذا، لا تتوفّر بعض مناقبه وفضائله إلا فی نبیّ الإسلام صلی الله علیه و آله، ولا یتمکّن من إدراکها ومعرفتها سوی الله جلّ جلاله ونبیّه الکریم. ومن هنا، قال النبیّ صلی الله علیه و آله:

«یا علیُّ، ما عرفَ اللهَ حقَّ معرفتهِ غَیری وغیرُکَ، وَما عَرفکَ حقَّ معرفتِکَ غیرُ اللهِ وَغیری».(1)

وفیما یلی، نذکر للقاریء الکریم بعض مزایا الإمام علیه السلام ومناقبه:

ص:212


1- (1) محمّد باقر المجلسی، بحار الأنوار، ج 39، ص 84.

1- علیّ علیه السلام خیر البشُر

اعتبر الإمام علیّ علیه السلام فی کلام رسول الله صلی الله علیه و آله خیرَ البشَر، بلا منازع یُنازعه فی ذلک، حیث قال:

«علیٌّ خیرُ البشَرِ، فَمن أَبی فَقد کَفرَ».(1)

2- علیّ علیه السلام أعلم النّاس وأقضاهم

إنّ علیّ بن أبی طالب علیه السلام کان أعلم الناس وأقضاهم بعد رسول الله صلی الله علیه و آله، حیث قال عنه النبیّ صلی الله علیه و آله:

«أعلمُ أمّتی من بعدی علیُّ بن أبی طالب».(2)

وقال کذلک:

«علیُّ بن أبی طالب أعلمُ النّاس بالله والنّاس، حبّاً وتعظیماً لأهل لا إله إلا الله».(3)

وبشأن قضاء الإمام علیّ علیه السلام، ورَد عن أبی سعید الخدریّ، أنّه قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله:

«إنّ أقضی أمّتی علیُّ بن أبی طالب».(4)

ص:213


1- (1) علاء الدین علی المتقی بن حسام الدین الهندی، کنز العمّال، تحقیق: الشیخ بکری حیانی، ج 11، ص 625، ح 33045؛ علی بن عیسی الأربَلی، کشف الغمّة فی معرفة الأئمّة، ج 1، ص 155.
2- (2) علاء الدین علی المتقی بن حسام الدین الهندی، المصدر السابق، ص 614، ح 32977؛ الموفّق بن أحمد الخوارزمی، المناقب، تحقیق: الشیخ مالک المحمودی، ص 82؛ إبراهیم بن محمّد الجوینی الحموینی، فرائد السمطین فی فضائل المرتضی والبتول والسبطین والأئمّة من ذریّتهم، تحقیق: محمّد باقر المحمودی، ج 1، ص 97؛ علی بن عیسی الأربلی، مصدر متقدّم، ج 1، ص 111.
3- (3) علاء الدین علی المتقی بن حسام الدین الهندی، المصدر السابق، ج 11، ص 614، 32980.
4- (4) محمّد بن علی الصدوق، الأمالی، ص 440، ح 20؛ الموفّق بن أحمد الخوارزمی، مصدر متقدّم، ص 81، ح 66؛ الحافظ محمّد بن محمّد الحاکم النیسابوری، المستدرک علی الصحیحین، تحقیق: الدکتور یوسف مرعشلی، بیروت: دار المعرفة، 1406 ه، ج 3، ص 135؛ أحمد بن عبد الله الطبری، ذخائر العقبی فی مناقب ذوی القربی، ص 83؛ ابن سعد، الطبقات الکبری، ج 2، ص 338؛ علی بن موسی الأربَلی، مصدر متقدّم، ج 1، ص 111.

3- ملازمة الحقّ لعلیّ علیه السلام

إنّ الحقّ لا یفارق أمیر المؤمنین علیه السلام، ولا الحقّ یفارق علیاً علیه السلام؛ إذ قال رسول الله صلی الله علیه و آله:

«علیٌّ مع الحقِّ، والحقُّ مع علیٍّ، ولن یتفرقا حتّی یردا علیَّ الحوضَ یومَ القیامة».(1)

4- القرآن مع علیّ علیه السلام

لا یفترق القرآن عن علیّ بن أبی طالب علیه السلام؛ لأنّ رسول الله صلی الله علیه و آله قال:

«علیٌّ مع القرآن، والقرآنُ مع علیٍّ، لا یفترقان حتّی یردا علیَّ الحوضَ».(2)

5- حبّ علیّ علیه السلام معیار لمعرفة المؤمن من المنافق

إنّ رسول الله صلی الله علیه و آله اعتبر حبّ أمیر المؤمنین علیّ بن أبی طالب علیه السلام مِعیاراً لتشخیص المؤمن من المنافق، حیث قال:

«یا علیُّ، لا یبغضک مؤمن، ولا یحبّک منافق».(3)

ص:214


1- (1) أبو القاسم علی بن الحسن بن عساکر، تاریخ مدینة دمشق، تحقیق: محمّد باقر المحمودی، ج 3، ص 117، ترجمة الإمام علی بن أبی طالب علیه السلام؛ القاضی نور الله التستری، الصوارم المهرقة فی نقد الصواعق المحرقة، تحقیق: السیّد جلال الدین المحدّث، ص 148؛ الشیخ سلیمان بن الشیخ إبراهیم القندوزی الحنفی، ینابیع المودّة لذوی القربی، تصحیح وتعلیق: علاء الدین الأعلمی، ج 1، ص 104.
2- (2) ینابیع المودّة، مصدر متقدّم، ج 1، ص 104؛ جلال الدین عبد الرحمن بن أبی بکر السیوطی، الجامع الصغیر، ج 2، ص 177.
3- (3) . ابن أبی الحدید، شرح نهج البلاغة، تحقیق: محمّد أبو الفضل إبراهیم، ج 18، ص 173؛ الشیخ سلیمان بن الشیخ إبراهیم القندوزی الحنفی، مصدر متقدّم، ج 1، ص 56؛ أحمد بن حنیل، مسند أحمد، ج 1، ص 84؛ أحمد بن شعیب النسائی، سنن النسائی، ج 2، ص 116؛ سلیمان بن أحمد الطبرانی، المعجم الکبیر، تحقیق: حمدی عبد المجید السلفی، ج 2، ص 321؛ محمّد بن عیسی الترمذی، سنن الترمذی، تحقیق: عبد الوهاب عبد اللطیف، ج 5، ص 306؛ شهاب الدین أبو الفضل أحمد بن علی بن حجر العسقلانی، لسان المیزان، ج 2، ص 446.

6- علیّ علیه السلام باب العلم

کلّ من رامَ دخول مدینة العِلم والحکمة الخاصّة برسول الله صلی الله علیه و آله، وجَب علیه الدخول من بوّابتها الرسمیّة؛ یعنی أمیر المؤمنین علیّ علیه السلام؛ ذلک أنّ نبیّ الإسلام صلی الله علیه و آله قال:

«أنا مدنیة العلم، وعلیٌّ بابها، فمن أراد العلم فلیأتِهِ من بابه».(1) وقال أیضاً:

«أنا دارُ الحکمةِ وعلیٌّ بابُها».(2)

7- علیّ علیه السلام عصارة الفضائل

یُعدّ أمیر المؤمنین علیّ بن أبی طالب علیه السلام عصارة فضائل الأوّلین والآخرین، من أنبیاء منتجبین، وأوصیاء مقرّبین، ابتداءً بالنبیّ آدم علیه السلام إلی خاتم الأنبیاء والرسل صلی الله علیه و آله، فهو مخلوقٌ لا نظیرَ له ولا شبیه؛ ولذا، قال فیه رسول الله صلی الله علیه و آله:

«مَن أراد أن ینظرَ إلی آدمَ فی عِلمه، وإلی نوحٍ فی تقواه، وإلی إبراهیم فی حِلمه، وإلی موسی فی هیبته، وإلی عیسی فی عبادته، فلینظُر إلی علیّ بن أبی طالب».(3)

ص:215


1- (1) علاء الدین علی المتّقی بن حسام الدین الهندی، مصدر متقدّم، ج 11، ص 614، ح 32979؛ الشیخ سلیمان بن الشیخ إبراهیم القندوزی الحنفی، مصدر متقدّم، ج 1، ص 84؛ الموفّق بن أحمد الخوارزمی، مصدر متقدّم، ص 200؛ الشیخ جعفر کاشف الغطاء، کشف الغطاء، ج 1، ص 11؛ محمّد بن علی الشیخ الصدوق، مصدر متقدّم، ص 561، أمین الإسلام الفضل بن الحسن الطبرسی، إعلام الوری بأعلام الهدی، ص 159؛ سلیمان بن أحمد الطبرانی، مصدر متقدّم، ج 11، ص 55؛ شهاب الدین أبو الفضل أحمد بن علی بن حجر العسقلانی، مصدر متقدّم، ج 1، ص 197؛ القاضی نور الله التستری، مصدر متقدّم، ص 132؛ جلال الدین عبد الرحمن بن أبی بکر السیوطی، مصدر متقدّم، ج 1، ص 415؛ علی بن عیسی الأربلی، مصدر متقدّم، ص 111.
2- (2) المتّقی الهندی، مصدر متقدّم، ج 11، ص 600، ح 32889؛ القندوزی الحنفی، مصدر متقدّم، ج 1، ص 84؛ ابن حجَر العسقلانی، مصدر متقدّم، ج 4، ص 144؛ الخوارزمی، مصدر متقدّم، ص 83؛ الحاکم النیسابوری، مصدر متقدّم، ج 3، ص 126؛ التستری مصدر متقدّم، ص 133؛ السیوطی، مصدر متقدّم، ج 1، ص 415، ح 2705؛ الترمذی، مصدر متقدّم، ج 5، ص 301؛ الأربلی، مصدر متقدّم، ج 1، ص 111.
3- (3) الأربلی، مصدر متقدّم، ج 1، ص 111.

8- فضائل علیّ علیه السلام لا تُحصی

فضائل أمیر المؤمنین علیه السلام أکثر من أن تُعدّ، وفی ذلک قال الرسول الکریم صلی الله علیه و آله:

«لو أنّ الغیاض أقلام، والبحر مِداد، والجنّ حساب، والإنس کتاب، ما أحصَوا فضائلَ علیّ».(1)

ب) تعیین الإمام علیه السلام خلیفةً للمسلمین

اشارة

لقد ذکر النبیّ الکریم صلی الله علیه و آله، فی مواطن مختلفة، أنّ خلیفته من بعده هو الإمام أمیرُ المؤمنین علیّ بن أبی طالب علیه السلام، ونحاول فیما یلی، أن نستعرض علی سبیل الاختصار بعض الأحادیث الواردة فی هذا المجال:

1- علیّ علیه السلام وارث النبیّ صلی الله علیه و آله وخلیفته

لمّا نزَل قوله تعالی:(وَ أَنذِر عَشِیرَتَکَ الأَقرَبِینَ) ،(2) فی السنة الثالثة للهجرة النبویّة الشریفة، جمَع رسولُ الله صلی الله علیه و آله عشیرتَه وأقاربه، وقد بلغوا أربعین رجُلاً، فأعدّ لهم الطعام والشراب، وفعل مثل ذلک ثلاث مرّات. وفی المرّة الثالثة، وبعد أن شبعوا من الطعام، ورووا من الشراب، قال لهم رسول الله صلی الله علیه و آله: یا بنی عبد المطلب، إنّی والله ما أعلم شابّاً فی العرب، جاء قومه بأفضل ممّا قد جئتکم به، إنّی قد جئتکم بخیر الدنیا والآخرة، وقد أمرَنی الله تعالی أن أدعوکم إلیه، فأیّکم یؤازرنی علی هذا الأمر، علی أن یکون أخی ووصیّی وخلیفتی فیکم؟

فأحجَم القوم عنها جمیعاً. قال علیّ علیه السلام: وقلت وإنّی لأحدثهم سنّاً، وأرمصهم عیناً، وأعظمهم بطناً، وأحمشهم ساقاً: أنا یا نبیّ الله، أکون وزیرک علیه. فقال له

ص:216


1- (1) القندوزی الحنفی، مصدر متقدّم، ج 1، ص 144؛ ابن حجَر العسقلانی، مصدر متقدّم، ج 5، ص 62.
2- (2) الشعراء، آیه 214.

النبیّ صلی الله علیه و آله: إجلس یاعلیّ. وفعل ذلک ثلاثاً، وفی کلّ مرّة یقوم علیّ علیه السلام فقط. وفی الثالثة، قال الإمام: فأخذ برقبتی، ثمّ قال:

«إنّ هذا أخی ووصیّی وخلیفتی فیکم، فاسمعوا له وأطیعوا».(1) وهو ما بات یُعرف بحدیث الدار.

2- علیّ علیه السلام خلیفة النبیّ صلی الله علیه و آله فی المدینة

فی غزوة تبوک، خلّفَ رسولُ الله صلی الله علیه و آله أمیرَ المؤمنین علیّاً علیه السلام فی المدینة المنوّرة، لإدارة شؤونِها فی غیابه، فقال الإمام علیه السلام: خلّفتنی مع الصبیان والنساء؟ فأجابه النبیّ صلی الله علیه و آله:

«ألا ترضی أن تکون منّی بمنزلة هارونَ من موسی، إلاّ أنّه لا نبوّةَ بعدی؟».(2)

ص:217


1- (1) لمزید من الاطّلاع فی هذا الصدد، أنظر: العلاّمة الأمینی، الغدیر، ج 2، صص 278-287؛ محمّد بن جریر الطبری، تاریخ الطبری، ج 2، صص 62-63؛ علی بن أبی الکرم محمّد بن الأثیر، الکامل فی التاریخ، ج 2، ص 41-42؛ أحمد بن حنبل، مصدر متقدّم، ج 1، ص 111؛ شهاب الدین بن حجر العسقلانی، مقدّمة فتح الباری شرح صحیح البخاری، ج 8، ص 114؛ جار الله محمود بن عمر الزمخشری الخوارزمی، الکشّاف عن حقائق التنزیل وعیون الأقاویل فی وجوه التأویل، ج 1، ص 347؛ المتّقی الهندی، مصدر متقدّم، ج 13، ص 131، ح 36419؛ نور الدین علی بن بن أبی بکر الهیثمی، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد،، ج 8، ص 302؛ أحمد بن عبد الله الطبری، مصدر متقدّم، ص 71؛ القندوزی الحنفی، مصدر متقدّم، ج 1، ص 312؛ ابن أبی الحدید، مصدر متقدّم، ج 13، ص 210.والتحقیق أنّ حدیث الدار ثابت بالتواتر المعنوی؛ لأنّ ألفاظه مختلفة فی المصادر الروائیّة.
2- (2) . أحمد بن حنبل، مصدر متقدّم، ج 1، ص 177؛ محمّد بن إسماعیل البخاری، صحیح البخاری، ج 3، ص 58؛ القندوزی الحنفی، مصدر متقدّم، ج 1، ص 59؛ مسلم بن الحجّاج النیسابوری، صحیح مسلم، ج 7، ص 120؛ محمّد بن إسحق بن هشام، السیرة النبویّة، تحقیق: محمّد محیی الدین عبد الحمید، ج 4، ص 947؛ نور الدین علی بن أبی بکر الهیثمی، مصدر متقدّم، ج 9، ص 109؛ المتّقی الهندی، مصدر متقدّم، ج 13، ص 106، ح 36345؛ الحاکم النیسابوری، مصدر متقدّم، ج 3، ص 109؛ شمس الدین محمّد بن أحمد الذهبی، سیر أعلام النبلاء، تحقیق: شعیب الأرنؤوط وحسین الأسد، ج 1، ص 142؛ السیوطی، مصدر متقدّم، ج 2، ص 177؛ الخوارزمی، مصدر متقدّم، ص 199؛ أحمد بن عبد الله الطبری، مصدر متقدّم، ص 87؛ الترمذی، مصدر متقدّم، ج 5، ص 302؛ أحمد بن یحیی البلاذری، أنساب الأشراف، ج 1، ص 217.

3- علیّ علیه السلام وصیّ النبیّ صلی الله علیه و آله فی الغدیر

اتّفق المفسّرون والمؤرّخون علی أنّ الآیة الشریفة:(الیَومَ أَکمَلتُ لَکُم دِینَکُم وَ أَتمَمتُ عَلَیکُم نِعمَتِی وَ رَضِیتُ لَکُمُ الإِسلامَ دِیناً)1 نزلَت علی القلب الطاهر لرسولِ الله صلی الله علیه و آله فی حجّة الوداع، وقَبل بِضعة أشهر من وفاته. وقد وردَت هذه الآیة الکریمة، المؤکّدة علی إکمال الدین وإتمام النعمة، بعد الإشارة إلی یأس الکفّار من النیل من الدین الإسلامیّ الحنیف:(الیَومَ یَئِسَ الَّذِینَ کَفَرُوا مِن دِینِکُم فَلا تَخشَوهُم وَ اخشَونِ) .

ونظراً إلی الروایات الواردة فی شأن نزول هذه الآیة، یتّضح أنّ الإکمال والإتمام المشار له فیها، المقترن بیأس الکفّار من إلحاق الضرر بالإسلام، إنّما حصَل بتعیین وصیّ للنبیّ الکریم صلی الله علیه و آله من قبل الباری عزّ وجلّ؛ ذلک أنّ الأعداء کانوا یأملون فی ضعف الإسلام وتلاشیه بعد رحلة رسول الله صلی الله علیه و آله، لا سیّما وأنّه لا یمتلک ذریّة من الذکور، لتولّی منصب الخلافة، ومواصلة طریق أبیهم. لکنّ الدین الإسلامیّ بدأ یشتدّ ویقوی عضده، ویبلغ مرحلة الکمال والتمام، عند تنصیب وصیّ وخلیفة لرسول الله صلی الله علیه و آله.(1)

وهکذا، جمع النبیّ صلی الله علیه و آله الحجیج عند عودته من حجّة الوداع فی موضع یُقال له: غدیر خُم، وقال مخاطباً الألوف من المشارکین فی حجّة الوداع:

«معاشر المسلمین، ألَستُ أَولی بکُم من أنفسِکم؟ قالوا: اللهمّ بلی. قال: مَن کُنت مَولاه فعلیّ مَولاه، اللهمّ والِ مَن والاه، وعادِ مَن عاداه، وانصُر من نصَره، واخذُل من خذَله».(2)

ص:218


1- (2) أنظر: محمّد تقی مصباح یزدی، آموزش عقاید (دراسة العقائد)، ص 312.
2- (3) . العلاّمة الأمینی، الغدیر، ج 1، ص 8.

کما أنّ العلاّمة الأمینی فی کتاب «الغدیر» ذکر 110 صحابیّ، و 84 تابعیّ، و 360 عالِم معروف، نقلوا واقعة الغدیر الشهیرة، وعدّها من الأُمور التاریخیّة المتواترة، التی لا یُمکن الخدشة فی سنَدها وأصل وقوعها.

أحادیث أُخری

1. ورَد فی بعض الروایات المنقولة عن أکابر علماء أهل السنّة، کالحموینیّ، أنّه بعدما نُصِّب علیّ علیه السلام إماماً وولیّاً للمسلمین فی واقعة الغدیر، قام أبو بکر وعُمر فقالا: یا رسول الله، هؤلاء الآیات خاصّة فی علیّ؟ قال: بلی، فیه وفی أوصیائی إلی یومِ القیامة. قالا: یا رسول الله، بیّنهم لنا. قال:

«علیّ أخی، ووزیری، ووارثی، ووصیّی، وخلیفتی فی أمّتی، وولیّ کلّ مؤمن بعدی، ثمّ ابنی الحسن، ثمّ الحسین، ثمّ تسعة من ولد ابنی الحسین، واحد بعد واحد، القرآن معهم، وهم مع القرآن، لا یُفارقونه، ولا یُفارقَهم، حتّی یَرِدوا علیّ الحوض».(1)

وطِبقاً لهذا الحدیث، فإنّ النبیّ الکریم صلی الله علیه و آله أجاب الخلیفتین الأوّل والثانی، بکلّ صراحة، بخلافة الإمام علیّ بن أبی طالب علیه السلام، والأئمّة من وِلده علیهم السلام بعد الرسول.

2. ورد عن جابر بن یزید الجعفیّ، قال: سمعت جابر بن عبد الله الأنصاریّ یقول: لمّا أنزل الله عزّ وجلّ علی نبیّه محمّد صلی الله علیه و آله:(أَطِیعُوا اللّهَ وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِی الأَمرِ مِنکُم) ،(2) قلت: یا رسول الله، عرفنا الله ورسوله، فمن أُولوا الأمر، الذین قرَن الله طاعتهم بطاعتک؟

ص:219


1- (1) . الجوینی الحموینی، فرائد السمطین، ج 2، ص 66؛ أبو المکارم السیّد هاشم بن السیّد سلیمان البحرانی، غایة المرام وحجّة الخصام فی تبیین الإمام من طریق الخاصّ والعامّ، ج 1، ص 139-140.
2- (2) النساء، آیه 59.

فقال صلی الله علیه و آله: «هم خلفائی یا جابر، وأئمّة المسلمین من بعدی، أوّلهم علیّ بن أبی طالب، ثمّ الحسن، ثمّ الحسین، ثمّ علیّ بن الحسین، ثمّ محمّد بن علیّ - المعروف فی التوراة ب - «الباقر»، ستدرکه یا جابر، فإذا لقیته فاقرأه منّی السلام - ثمّ الصادق جعفر بن محمّد، ثمّ موسی بن جعفر، ثمّ علیّ بن موسی، ثمّ محمّد بن علیّ، ثمّ علیّ بن محمّد، ثمّ الحسن بن علیّ، ثمّ سمیّی وکنیّی، حجّة الله فی أرضه، وبقیته فی عباده، ابن الحسن بن علیّ...».(1)

فی هذا الحدیث کذلک، جری التصریح بخلافة وإمامة أمیر المؤمنین علیه السلام، ومن بعده الأئمّة المنتجبین مِن وِلده المعصومین علیهم السلام، من خلال ذکرهم بأسمائهم الصریحة.

3. صرّح النبیّ صلی الله علیه و آله فی خطبته الشعبانیّة، المعروفة بالوصیّة لأمیر المؤمنین علیه السلام فی خلافته من بعده، وقال:

«إنّ الله تبارک وتعالی خلَقنی وخلَقک من نورِه، واصطفانی واصطفاک، فاختارنی للنبوّة، واختارک للإمامة، فمَن أنکَر إمامتک فقد أنکر نبوّتی. یا علیّ، أنت وصیّی، ووارثی، وأبو ولدی، وزوج ابنتی، أمرُک أمری، ونهیُک نهیی. أُقسم بالله الذی بعثنی بالنبوّة، وجعلنی خیر البریّة إنّک لحجّة الله علی خلقه، وأَمینه علی سرّه، وخلیفة الله علی عباده».(2)

نلاحظ فی هذه الروایة ربط إنکار إمامة وولایة أمیر المؤمنین علیه السلام، بعد الرسول الکریم صلی الله علیه و آله، بإنکار نبوّة النبیّ الخاتم صلی الله علیه و آله، کما أکّدت علی أنّ أمر ونهی الإمام کأمر ونهی النبیّ تماماً، ولا یخفی أنّها صرّحت بخلافة وولایة الإمام علیّ علیه السلام من قِبَل الله تعالی.

ص:220


1- (1) السیّد هاشم بن السیّد سلیمان البحرانی، مصدر متقدّم، ج 3، ص 113؛ القندوزی الحنفی، مصدر متقدّم، ج 3، ص 399؛ الأربَلی، مصدر متقدّم، ج 3، ص 316؛ محمّد بن الحسن الحرّ العاملی، إثباة الهداة بالنصوص والمعجزات، ج 3، ص 123.
2- (2) . القندوزی الحنفی، ینابیع المودّة لذوی القربی، ج 1، صی 63.

النتیجة

إنّ البحث والتقصّی فی المصادر الحدیثیّة المعتمدة لدی الفریقین یثبت - بما لا یَدع مجالاً للشکّ - أنّ خاتم الأنبیاء والرسل، محمّد المصطفی صلی الله علیه و آله، عقَد لواء الولایة والخلافة من بعده، لابن عمّه وصهره ورفیقِ دربه، الإمام أمیر المؤمنین علیّ بن أبی طالب علیه السلام، لقیادة الأُمّة الإسلامیّة وإدارة شؤونها فی شتّی المجالات، بعد أن اعتبره شخصاً لائقاً ومستحقّاً لهذا المنصب الإلهیّ الرفیع.

ویُعدّ الإعلان عن نصب هذا الإمام الهُمام خلیفة للمسلمین بعد النبیّ صلی الله علیه و آله أمراً منطقیّاً، ومتماشیاًَ مع الحقائق الموجودة علی أرض الواقع؛ ذلک أنّه لا أحدَ من المسلمین، کالإمام علیّ علیه السلام وأبنائه البررة، یتمتّع بمواصفات قیادة الأمّة الإسلامیّة. وهو ما حمل النبیّ المصطفی صلی الله علیه و آله إلی الإعلان عن ذلک فی مناسبات عدّة.

لکنّ إفصاح رسول الله صلی الله علیه و آله عن الفضائل والمناقب الفریدة للإمام علیّ بن أبی طالب علیه السلام، وعن أنّه الشخص الأکفأ والأجدر بحمل الوصیّة والخلافة، عقب ارتحال نبیّ الرحمة صلی الله علیه و آله، لا یعنی أنّ الناس یجهلون جمیع قابلیّات وفضائل هذا الإمام، التی لا یُدانیه فیها بشَرٌ قطّ. نعم، الشخصیّة الحقیقیّة للإمام علیّ علیه السلام لا یعرفها إلاّ الله ورسوله.

إلاّ أنّ الإمام والخلیفة الواقعیّ لرسول الله صلی الله علیه و آله أثبت - عملیّاً - کفاءته وقدرته العالیة فی مختلف الجبهات والمیادین. ولأجل سلب الحجّة من الخصوم، وإقفال باب اعتراضاتهم علی تولّی الإمام مقالید الأمور بعد الرسول صلی الله علیه و آله، أشار النبیّ صلی الله علیه و آله غیر مرّة إلی تعیین الإمام خلیفة له، والتأکید علی کونه الأجدر والأصلح لزعامة المسلمین فی مواطن متعدّدة.

ص:221

مصادر للمطالعة

1. عبد الصالح انتصاری، غدیر خم وپاسخ به شبهات از کتب اهل سنّت (غدیر خم والردّ علی الشُّبُهات من کُتب أهل السنّة)، قم: انتشارات داوری، 1381 ه. ش، ج 1 و 2.

2. العلاّمة الأمینیّ، الغدیر، لبنان: دار الکتاب العربیّ، 1397 ه، ج 1.

3. محمّد باقر انصاری اسرار غدیر (أسرار الغدیر) قم: انتشارات تک، 1427 ه.

الحدیث الختامیّ:

قال الإمام علیّ علیه السلام:

«الإِمَامَةُ نِظامُ الأُمَّةِ».(1)

ص:222


1- (1) غرر الحکم ودرر الکلِم، 1095.

ردّ الشمس وفضیلة الإمام علیّ علیه السلام

اشارة

السؤال: إنّ الزمان متصرّم الوجود؛ بمعنی أنّه لا عودةَ له بعد انقضائه، هذا من جهة. ومن جهة أخری، لدینا روایاتٌ کثیرة دالّة علی أنّ النبیّ والإمام المعصوم مکلّف بالإتیان بالصلاة فی أوّل الوقت. بناءً علی ذلک:

أوّلاً: کیف یُمکن ردّ الشمس بعد غیابها؟

ثانیاً: لمّا فات وقت الصلاة علی الإمام علیّ علیه السلام حتّی صارت قضاءً، کیف یدلّ ردّ الشمس له علی فضیلته؟

الجواب: السؤال المذکور ینطوی علی شقّین:

1. التشکیک فی إمکان وقوع قضیّة ردّ الشمس.

2. کیفیّة دلالة هذه القضیّة علی فضیلة الإمام علیّ علیه السلام.

جواب الشقّ الأوّل:

اشارة

إنّ هذا الشقّ من السؤال یرتبط بالإعجاز الإلهیّ والولایة التکوینیّة، وقبل الخوض فی أصل البحث، یحسن بنا تقدیم تعریف بالمفردات الأساسیّة فی هذا المجال، وذلک ضمن النقاط التالیة:

أ) المعجزة: أصلها من مادّة «عجَز»، وقال عنها الراغب الاصفهانیّ: «عجز

ص:223

الإنسان مؤخّره... والعجز أصلُه التأخّر عن الشیء... وصار فی التعارف اسماً للقصور عن فعل الشیء، وهو ضدّ القدرة».(1) أمّا معجزات الأنبیاء والأوصیاء فهی من القوّة بحیث یعجز الآخرون عن مواجهتها؛ ولهذا السبب، أُطلق اسم الإعجاز علی الأفعال الخارقة للعادة التی تصدر عنهم.

قال العلاّمة الطباطبائیّ تحت عنوان «القرآن یثبت تأثیراً فی نفوس الأنبیاء فی الخوارق»: إنّ الله تعالی أفادَ إناطة إتیان أیّةٍ آیة من أیی رسول بإذن الله سُبحانه، فبیّن أنّ إتیان الآیات المعجزة من الأنبیاء، وصدورها عنهم، إنّما هو لمبدأ مؤثّر موجود فی نفوسهم الشریفة، متوقّف فی تأثیره علی الإذن. وبالجملة، جمیع الأُمور الخارقة للعادة، سَواء سُمّیت معجزة أم سحراً أم غیر ذلک، ککرامات الأولیاء وسائر الخصال المکتسبة بالارتیاضات والمجاهدات، جمیعها مستندة إلی مبادٍ نفسانیّة، ومقتضیات إرادیّة. وهذا المبدأ النفسانیّ المجرّد المنصور بإرادة الله سبحانه، إذا قابل مانعاً مادیّاً، أفاض إمداداً علی السبب، بما لا یُقاومه سببٌ مادیّ یمنعه.(2)

وفی موضعٍ آخر، طرح عنوان «القرآن یسند المعجزة إلی سبب غیر مغلوب»، وقال فیه: إنّ المعجزة، کسائر الأُمور الخارقة للعادة، لا تفارق الأسباب العادیّة، فی الاحتیاج إلی سببٍ طبیعیّ، وإنّ مع الجمیع أسباباً باطنیّة، وإنّ الفرق بینها أنّ الأُمور العادیّة ملازمة لأسباب ظاهریّة، تصاحبها الأسباب الحقیقیّة الطبیعیّة غالباً، ومع تلک الأسباب الحقیقیّة إرادة الله وأمره. والأُمور الخارقة للعادة من الشرور، کالسحر والکهانة، مستندة إلی أسباب طبیعیّة، مفارقة للعادة، مقارنة للسبب الحقیقیّ بالإذن والإرادة، کاستجابة الدعاء ونحو ذلک، من غیر تحدٍّ یبتنی علیه ظهور حقّ الدعوة. وأنّ المعجزة مستندةٌ إلی

ص:224


1- (1) . الراغب الإصفهانی، مفردات غریب القرآن، طلیعة النور، ط 2، 1427 ه، ص 547.
2- (2) أنظر: العلاّمة الطباطبائی، تفسیر المیزان، ج 1، ص 79-80.

سبب طبیعی حقیقیّ بإذن الله وأمره، إذا کان هناک تحدٍّ یبتنی علیه صحّة النبوّة والرسالة والدعوة إلی الله تعالی. وأنّ القسمین الآخرین یفارقان سائر الأقسام فی أنّ سببهما لا یصیر مغلوباً مقهوراً قطّ، بخلاف سائر المسبّبات.(1)

کما ینبغی أن یُعلم أنّ هذه الأُمور والحوادث، وإن أنکرتها العادة، واستبعدتها، إلا أنّها لیست أموراً مستحیلة بالذات، بحیث یبطلها العقل الضروریّ، کیف وعقول جمٍّ غفیر من الملایین، منذ أعصار قدیمة، تقبل ذلک وترتضیه، من غیر إنکارٍ وردّ. ولو کانت المعجزات ممتنعة بالذات لم یقبلها عقل عاقل، ولم یستدلّ بها علی شیء، ولم ینسبها أحدٌ إلی أحد.

إنّ الفرق بین صنع العادة وبین المعجزة الخارقة، هو أنّ الأسباب المادیّة المشهودة، التی بین أیدینا، إنّما تؤثر أثرها مع روابط مخصوصة، وشرائط زمانیّة ومکانیّة خاصّة، تقضی بالتدریج فی التأثیر؛ مثلاً، العصا وإن أمکن أن تصیر حیّة تسعی، والجسَد البالی وإن أمکن أن یصیر إنساناً حیّاً، لکنّ ذلک إنّما یتحقّق فی العادة بعِلَل خاصّة، وشرائط زمانیّة ومکانیّة مخصوصة، تنتقل بها المادّة من حال إلی حال، وتکتسی صورة بعد صورة، حتّی تستقرّ وتحلّ بها الصورة الأخیرة المفروضة، علی ما تصدّقه المشاهدة والتجربة، لا مع أیّ شرط اتّفق، أو من غیر علّة، أو بإرادة مرید، کما هو الظاهر من حال المعجزات والخوارق التی یقصّها القرآن الکریم.(2)

یضاف إلی ذلک، إنّ کون المعجزات التی تظهر علی أیدی الأنبیاء والأولیاء حاصلةً بأمر الله تعالی، لا یتنافی مع التوحید.(3)

ص:225


1- (1) . أنظر: المصدر السابق، ص 82؛ الشیخ ناصر مکارم الشیرازی وعدد من الباحثین، پیام قرآن (رسالة القرآن)، طهران: دار الکتب الإسلامیّة، ط 5، 1381 ه. ش، ج 7، ص 276.
2- (2) أنظر: المصدر السابق، ص 75.
3- (3) أنظر: الشیخ ناصر مکارم الشیرازی وعدد من الباحثین، پیام قرآن (رسالة القرآن)، ج 7، ص 276-281.

ب) الولایة التکوینیّة: إنّ مفردة «الوَِلایة»، إن کانت بفتح الواو فهی تعنی المحبّة والمودّة، وإن کانت بکسر الواو فهی بمعنی القُرب والسلطة والتصرّف والتدبیر.(1)

إنّ السلطنة والتصرّف حصیلةُ القُرب من الله جلّ وعلا، فکلّ من کان أقرب إلی الباری عزّ وجلّ، أعطاه الله قدرة أکبر فی التسلّط والتصرّف فی شؤون العالم؛ ومن هذا المنطلق، کان للأنبیاء والأولیاء قدرة کبیرة من التسلّط والتصرّف فی الأُمور.

أمّا کلمة «تکوین» ففی اللغة تعنی إیجاد شیء جدید،(2) وفی اصطلاح المتکلّمین المراد منها إیجاد شیء مسبوق بالمادّة، خلافاً للإبداع الذی یعنی إیجاد الشیء المعدوم، وغیر المسبوق بالمادّة.

الولایة التکوینیّة تُعادل وتساوق المعجزة، ففی اصطلاح القُدماء کانت کلمة المعجزة هی المتداولة، ثمّ حلّ محلّها مصطلح «الولایة التکوینیّة» فی اصطلاح المحدثین.(3)

والولایة بصورة عامّة تنقسم إلی قسمین: الولایة التکوینیّة التی أُشیر لها قبل قلیل، والولایة التشریعیّة، وهی عبارة عن الحاکمیّة، والولایة القانونیّة والإلهیّة. الولایة التشریعیّة قد تقتصر علی مقیاس محدود، کولایة الأب والجدّ علی الطفل، وقد تتعدّاه إلی مقیاس أوسَع، نحو ولایة الحاکم الإسلامیّ علی جمیع الشؤون المتعلّقة بالحکومة وإدارة البلاد الإسلامیّة. ثمّ إنّ الولایة التشریعیّة بإطارها الواسع من شأن الأنبیاء والأوصیاء الإلهیّین، وهی علی قسمین: الزعامة السیاسیّة، والمرجعیّة الدینیّة.

ص:226


1- (1) أنظر: الطریحی، مجمع البحرین، ج 4، ص 553؛ ابن منظور, لسان العرب، ج 1، ص 401.
2- (2) . أنظر: ابن منظور، لسان العرب, ج 12، ص 192.
3- (3) أنظر: کاظم الحائری، الإمامة وقیادة المجتمع، قم: 1416 ه، ص 119.

من أبرَز مصادیق الولایة التکوینیّة، التصرّف فی أمور الخلقة؛ کأن یمنح الله تعالی عبداً من عباده، أو ملکاً من ملائکته، القدرة علی إیجاد العوالم، أو محوها من صفحة الوجود. فهذ الأمر لیس بالمحال العقلیّ؛ لأنّ الله تبارک وتعالی قادرٌ علی إعطاء أیّ لون من ألوان القدرة إلی من یشاء، فکما أنّه جلّ وعلا وهب الملائکة القدرة علی التصرّف فی بعض أمور العالم، أعطی الإنسان کذلک هذا القبیل من القدرة.(1)

قضیّة ردّ الشمس تندرج فی هذا الإطار، فحصلت بمقتضی الولایة التکوینیّة. فالجمیع یعلم بأنّ طلوع الشمس وغروبها یحدث علی إثر الحرکة الوضعیّة للکرة الأرضیّة، ومن بیدیه مفاتیح الولایة التکوینیّة یستطیع تحریک الکرة الأرضیّة بالاتّجاه المعاکس، والرجوع بها إلی الخلف، لتطابق وقت صلاة العصر.

وهناک مجموعة من الأدلّة التی تثبت بموجبها الولایة التکوینیّة، نُشیر إلیها ها هناباختصار:

1- مقتضی قانون التکامل

إنّ جمیع أُمور العالَم تتحرّک فی المسیرة التکاملیّة طبقاً لشأنها وقابلیّتها، والإنسان أحد تلک الأُمور والموجودات، بل هو أشرف تلک الموجودات، ویتمتّع بأرقی درجات الکمال، بل لم تُخلق جمیع الکائنات فی العالم إلاّ من أجل کمال الإنسان؛ وذلک طِبقاً لما أفاد القرآن الکریم:(هُوَ الَّذِی خَلَقَ لَکُم ما فِی الأَرضِ جَمِیعاً) .(2) ووفقاً لما ورد فی الحدیث الشریف:

«خلقتُ الأشیاء لأجلک، وخلقتُکَ لأجلی».

ص:227


1- (1) . ناصر مکارم الشیرازی وعدد من الباحثین، پیام قرآن (رسالة القرآن)، ج 9، ص 161-163. الولایة أیضاً تعنی الواسطة فی الفیض، ومن مصادیقها کذلک استجابة الدعاء فی الأمور المطلوبة. لمزید من المعلومات فی هذا الخصوص، أنظر: المصدر السابق، ج 9، ص 161.
2- (2) . البقرة، آیه 29.

وکما أنّ الإنسان یبلغ مراقی الکمال بالتدریج - حیث یتجسّد المصداق الأتمّ للبشر فی خاتم الأنبیاء والأوصیاء، ومن ثمّ خلفائه المعصومین - کذلک یحصل کمال الشرائع والنبوّة والإمامة رویداً رویداً، والمصداق الأکمل لتمام الشرائع والأدیان هو الدین الإسلامیّ الحنیف، ونبوّة نبیّ الإسلام صلی الله علیه و آله.(1) علی أنّ مقتضی کمال النبوّة والإمامة تطبیق الولایة التکوینیّة؛ لأنّ إظهار المعجزة وإعمال الولایة التکوینیّة یمثّل أحد سبل إثبات الولایة والإمامة. ولا شکّ فی أنّ الإنسان الکامل هو خلیفة الله فی الأرض، ومظهر الصفات الأفعالیّة الإلهیّة. والأعمال الخارقة للعادة یقوم بها النبیّ أو الوصیّ أو الولیّ بإذن من الله تعالی، وبمقتضی القوّة التی اکتسبها منه جلّ وعلا. وفی هذا الإطار، حدثت واقعة ردّ الشمس؛ لتکون أُنموذجاً من نماذج تطبیق الولایة التکوینیّة؛ وعلیه فقضیّة ردّ الشمس أمر ممکن، ومن الخطأ وضعها فی دائرة المحالات.

2- مقتضی الحکمة

الحکمة الإلهیّة أیضاً تقتضی أن یکون للذوات المقدّسة ولایة تکوینیّة؛ لأنّهم أئمّة الدین، وقادته ورعاته، ولا بدّ أن یکون لهم هکذا مقام؛ من أجل إزالة الشکّ عن دین الله، وطمأنة قلوب المؤمنین.

3- مقتضی الأولویّة

لمّا کان لآصف بن برخیا ولایة تکوینیّة، حیث جاء بعرش بلقیس بأقلّ من لَمح البصر، برغم تأکید القرآن الکریم علی أنّه یمتلک عِلماً قلیلاً من الکتاب، فبمقتضی مفهوم الأولویّة، یجب أن یکون للنبیّ الکریم صلی الله علیه و آله، وآله الکرام البررة علیهم السلام، ولایة تکوینیّة کذلک؛ لأنّهم أکمل علماً، وأرفع شأناً، وأعرف بکتاب الله من سواهم. وعلی هذا الأساس، فإنّ قضیّة ردّ الشمس عن طریق الولایة التکوینیّة أمر ممکن.

ص:228


1- (1) أنظر: غلام رضا باقری نجفی، أنوار الهدایة فی مباحث الإمامة والولایة، صص 421-422.

4- مقتضی الآیات والروایات

من أبرز الأدلّة علی وقوع حادثة ردّ الشمس، هو وقوع الولایة التکوینیّة علی أرض الواقع، حسبما أفادت الآیات القرآنیّة الشریفة والروایات الدینیّة. فمن الأمثلة علی الآیات القرآنیّة، یمکن الإشارة إلی الموارد أدناه:

أ) تصرّف النبیّ یوسف علیه السلام: لإرجاع البصر إلی أبیه، فقال تعالی فی هذا المجال:(اذهَبُوا بِقَمِیصِی هذا فَأَلقُوهُ عَلی وَجهِ أَبِی یَأتِ بَصِیراً) .(1)

الولایة التکوینیّة فی هذه القصّة تعنی التصرّف فی أُمور العالم، حیث کانت قدرة النبیّ یوسف علیه السلام مؤثّرة فی إعادة البصر إلی أبیه، فارتدّ بصیراً. فلو کان هذا الأمر معلولاً لإرادة الباری عزّ وجلّ، لا وجهَ حینئذٍ لإرسال القمیص من مصر إلی الشام لإلقائه علی وجه أبیه لکی یرتدّ بصیراً، بل کان له أن یدعو له بردّ البصر. إذاً، العلّة الحقیقیّة إرادة النبیّ یوسف علیه السلام، ولم یکن القمیص سوی وسیلة أظهر النبیّ من خلالها أبعاد الولایة التکوینیّة.

ب) تصرّف المسیح عیسی علیه السلام: قال النبیّ عیسی بن مریم علیه السلام، بنصّ القرآن الکریم:(أَنِّی أَخلُقُ لَکُم مِنَ الطِّینِ کَهَیئَةِ الطَّیرِ فَأَنفُخُ فِیهِ فَیَکُونُ طَیراً بِإِذنِ اللّهِ) .(2)

ففی هذه الآیة القرآنیّة، اعتبر النبیّ نفسه فاعلاً، ولیس المقصود من الإذن التصریح اللفظیّ، وإنّما الإذن الباطنیّ؛ أی أعطانی الله تعالی مراتب قصوی من الکمال والقدرة، حتّی بتّ قادراً علی القیام بهکذا أفعال.

ص:229


1- (1) یوسف، آیه 96.
2- (2) آل عمران، آیه 49.

ج) معجزة شقّ القمر: قال تعالی فی محکم کتابه العزیز:(اقتَرَبَتِ السّاعَةُ وَ انشَقَّ القَمَرُ وَ إِن یَرَوا آیَةً یُعرِضُوا وَ یَقُولُوا سِحرٌ مُستَمِرٌّ) .(1)

شقّ القمر المذکور فی هذه الآیة لیس المراد به ما یحدث فی یوم القیامة؛ ذلک أنّ الآیة الثانیة التی تلتها قد أوضحت اعتراض المشرکین فی هذا الصدد، وهذا ما أکّدت علیه الروایات الشریفة أیضاً، فذهب المفسّرون إلی أنّ هذه الآیة مرتبطة بشقّ القمر فی هذه الدنیا.(2) وقضیّة ردّ الشمس من جملة هذه المصادیق.

ووفقاً للروایات الواردة عن الفریقین، القدر المتیقّن حصول قضیّة ردّ الشمس مرّتین:

المرّة الأُولی علی عهد النبیّ الکریم صلی الله علیه و آله، حیث کان یوحی إلیه ورأسه المبارک فی حِجر علیّ علیه السلام، یتوسّد فخذه لما یصیبه من ثقل الوحی، وبقی علی هذه الحالة حتّی غربت الشمس، فلمّا کره علیه السلام أن ینهض لأدائها، فیزعج النبیّ صلی الله علیه و آله من نومه، اضطرّ الإمام علیه السلام إلی الصلاة جالساً، یومیء إلی الرکوع والسجود إیماءً. فلمّا أفاق من غشیته، قال لأمیر المؤمنین علیه السلام: أفاتتک صلاة العصر؟ قال له: لم أستطع أن أصلّیها قائماً؛ لمکانک یا رسول الله، والحال التی کنت علیها فی استماع الوحی. وحینئذٍ، دعا الله فردّها إلیه، وصلّی صلاته ثانیةً وهو قائم.

وفی روایةٍ أُخری، کما ذهَب إلیه الشیخ المفید فی «الإرشاد»، قال النبیّ صلی الله علیه و آله للإمام أمیر المؤمنین علیه السلام: ادعُ الله لیردّ علیک الشمس، (فی إشارة إلی حرکة وضعیّة معکوسة للکرة الأرضیّة)، حتّی تصلیها قائماً فی وقتها کما

ص:230


1- (1) القمر، آیه 1 و 2.
2- (2) أنظر: الشیخ الطبرسی، تفسیر مجمع البیان، ج 5، ص 186؛ الفخر الرازی، مفاتیح الغیب، ج 8، ص 748، ذیل سورة القمر، الطبعة الأُولی فی مصر.

فاتتک، فإنّ الله یجیبک لطاعتک لله ورسوله. فسأل أمیر المؤمنین الله عزّ اسمه فی ردّ الشمس، فرُدّت علیه حتّی صارت فی موضعها من السماء وقت العصر، فصلی أمیر المؤمنین علیه السلام صلاة العصر فی وقتها، ثمّ غربت.(1)

وفی روایةٍ أُخری، قال النبی صلی الله علیه و آله: اللهمّ إنّ عبدک علیّاً احتسب بنفسه علی نبیّک، فردّ علیه شرقها. قالت أسماء (الراویة للخبر): فطلعت الشمس حتّی وقفت علی الجبال وعلی الأرض، ثمّ قام علیّ علیه السلام، فتوضّأ وصلّی العصر، ثمّ غابت الشمس.(2)

المرّة الثانیة لردّ الشمس علی أمیر المؤمنین صلی الله علیه و آله حصلت بعد وفاة النبیّ صلی الله علیه و آله، فی مدینة بابل فی العراق. وهی أنّه لمّا أراد أن یعبر الفرات ببابل، اشتغل کثیر من أصحابه بتعبیر دوابهم ورحالهم، وصلّی علیه السلام بنفسه فی طائفة معه العصر، فلم یفرغ الناس من عبورهم حتّی غربت الشمس، ففاتت الصلاة کثیراً منهم، وفات الجمهور فضل الاجتماع معه، فتکلّموا فی ذلک. فلمّا سمع کلامهم فیه، سأل الله تعالی ردّ الشمس علیه؛ لیجتمع کافّة أصحابه علی صلاة العصر فی وقتها، فأجابه الله تعالی إلی ردّها علیه، فکانت فی الأفق علی الحال التی تکون علیها وقت العصر، فلمّا سلّم بالقوم غابت.(3)

بناءً علی ذلک، فوقوع مصادیق الولایة التکوینیّة، ممّا وردت الإشارة إلیه فی القرآن والحدیث، یُعدّ من أبرَز الأدلّة علی إمکان ووقوع قضیّة ردّ

ص:231


1- (1) . الشیخ المفید، الإرشاد، بیروت: دار المفید، 1414 ه، ج 1، ص 345.
2- (2) المناقب للخوارزمی، قم: مؤسّسة النشر الإسلامی التابعة لجماعة المدرّسین، ط 2، 1414 ه، ص 306؛ وانظر کذلک: تذکرة الخواص، ص 55؛ تاریخ دمشق، ج 2، صص 286-305؛ کفایة الطالب، ص 380.
3- (3) محمّد بن النعمان, الشیخ المفید, الإرشاد، بیروت: دار المفید، ط 2، 1414 ه، ج 1، ص 346.

الشمس لأمیر المؤمنین علیه السلام.

جواب الشقّ الثانی

الشقّ الثانی من السؤال کان عبارة عن أنّ النبیّ والإمام المعصوم مکلّف بأداء الصلاة فی أوّل وقتها، ولمّا تفوت الصلاة الإمام علیّ علیه السلام، حتّی یصلّیها خارج وقتها، کیف تعتبر قضیّة ردّ الشمس منقبة له، وتدلّ علی فضیلته؟

والجواب أوّلاً: طبقاً لما رواه الشیخ المفید، جاء الإمام علیه السلام بصلاته فی وقتها من جلوس، ولم تفته أو تصبح قضاءً، غیر أنّه أعادها ثانیةً - بعد ردّ الشمس - قائماً وفی وقتها الأصلیّ.

ثانیاً: النبوّة أصل والصلاة فرع، فاحترام مقام النبوّة أولی من احترام وقت الصلاة فی حالة التزاحم والتعارض.

ومن هنا، کان الإمام علیه السلام یری أنّ فی سحب فخذه الذی توسّده النبیّ صلی الله علیه و آله، حین نزول الوحی علیه، ووضعه علی الأرض، إزعاجاً لشخصِ النبیّ الکریم صلی الله علیه و آله، فلم یتمکّن من الصلاة قائماً؛ لذا فقد جاء بالصلاة من قعود؛ لکی یحافظ علی مقام النبوّة العظیم من جهة، ولا یفوّت صلاته من جهة أُخری.

ثالثاً: إنّ وقوع قضیّة ردّ الشمس تتضمّن دلالةّ علی تفضیل الإمام علیّ علیه السلام، سَواء کان الردّ بدعاء رسول الله صلی الله علیه و آله، أم بدعائه هو؛ لأنّها إن کانت ناتجة عن دعاء الإمام علیه السلام، تُعتبَر إحدی مصادیق الولایة التکوینیّة، التی تنتج عن کمال النفس، کما بینّا آنفاً. وإن کانت حصیلة دعوة النبیّ الکریم صلی الله علیه و آله، فهی کذلک تدلّ علی فضیلة الإمام علیه السلام؛ ذلک أنّ النبیّ صلی الله علیه و آله دعا للإمام، والله تعالی استجاب دعوته فیه، ما یدلّ علی محبوبیّة الإمام علیّ علیه السلام عند الباری سبحانه وتعالی والنبیّ الکریم صلی الله علیه و آله.

ص:232

النتیجة

إنّ قضیّة ردّ الشمس أمرٌ ممکن فی ضوء الآیات والروایات، وواقع أیضاً، وهو من آثار الولایة التکوینیّة، وقد أوضح القرآن الکریم أمثلة عدیدة علی الولایة التکوینیّة، التی تندرج فیها مسألة ردّ الشمس، وتعتبر من مصادیقها، ولا شکّ فی أنّها تدلّ علی فضیلة الإمام أمیر المؤمنین علیّ علیه السلام؛ لأنّها نتیجة لتکامل النفس؛ إذ أنّ النفس التی تحظی بالقرب الإلهیّ، وتتقرّب زلفی من الباری تبارک وتعالی، تکون محطّ العنایة الإلهیّة، حتّی تکتسب القدرة علی التأثیر فی الأُمور الکونیّة فی العالم. ولم تنشأ المعجزات والکرامات إلاّ عن علوّ الهمّة وارتفاع درجة النفس، فجمیع مراحل الولایة ناتجة عن القرب إلی مدبّر العالم. وهذا الحدیث القدسیّ یبیّن هذا المعنی، حیث قال تعالی:

«ما تقرّب إلیّ عبد بشیء أحبّ إلیّ ممّا افترضت علیه، وإنّه لیتقرّب إلیّ بالنافلة حتّی أحبّه. فإذا أحببته، کنت سمعه الذی یسمع به، وبصره الذی یُبصر به، ولسانه الذی ینطق به، ویده التی یبطش بها. إن دعانی أجبته، وإن سألنی أعطیته».(1)

ومن هذا المنطلق، حتّی لو کانت قضیّة ردّ الشمس قد حصلت بفعل دعاء النبیّ الکریم صلی الله علیه و آله، فهی دالّة علی فضیلة الإمام علیّ علیه السلام؛ لأنّ الدعاء الذی استجابه الله من نبیّه الخاتم صلی الله علیه و آله، کان بحقّ علیّ بن أبی طالب علیه السلام.

ثمّ إنّ الإمام علیّ علیه السلام لم یترک صلاته من الأساس، وإنّما اضطرّ، فی البدایة، لأدائها من جلوس، احتراماً لمقام النبوّة، الذی ُیعدّ من الأُصول فی مقابل الصلاة التی تعتبر من الفروع، ثمّ جاء بها بعد الدعاء من قیام.

ص:233


1- (1) المولی محمّد صالح المازندرانی, شرح أُصول الکافی, بیروت: دار إحیاء التراث العربی, 1421 ه, ج 9, ص 424.

مصادر للمطالعة

1. محمّد حسین الطباطبائیّ، تفسیر المیزان، ج 1، ص 100

2. ناصر مکارم الشیرازیّ وعدد من الباحثین، پیام قرآن (رسالة القرآن)، ج 8، ص 276؛ ج 9، ص 161.

3. مرتضی مطهّری، ولاءها وولایتها (الولاءات والولایات)، ص 72.

الحدیث الختامیّ:

قال علیّ علیه السلام:

«إنَّما مَثَلی بَینَکُم کَمَثَلِ السِّراجِ فی الظُّلمَةِ، یَستَضیءُ بِهِ مَنوَلِجَها».(1)

ص:234


1- (1) غرر الحکم للآمدی, 3883.

العدالة العالمیّة فی انتظار المهدیّ

اشارة

السؤال: لماذا لم یُعهد بنشر العدل وبسط القسط فی ربوع الأرض إلی النبیّ الکریم صلی الله علیه و آله، أو الإمام علیّ علیه السلام، ووُضع ذلک علی عاتق الإمام المهدیّ المنتظر عجل الله تعالی فرجه الشریف؟

الجواب: إنّ الله جلّ وعلا بعث منذ باکورة الخلقة الأنبیاء والرسل إلی البشریّة؛ لإبلاغ الأحکام الدینیّة وهدایة الإنسان إلی الصراط القویم، وهو بذلک أشبع لدیهم غریزة الحاجة إلی القائد والمرشد التی أودعها فی فطرتهم. إنّ علی الله تعالی إعانة الإنسان فی کلّ عصر ومصر إلی آخر الزمان؛ وعلیه، فالهدف من وراء بعث الرسل واصطفاء الأئمّة المعصومین، بعد خاتم الأنبیاء والرسل صلی الله علیه و آله، هو مواصلة طریق التکامل.(1)

ولا یخفی أنّ الله عزّ وجلّ أرسل لکلّ أمّة نبیّاً من الأنبیاء، بحسب ما یتطلّبه عصرهم؛ لکن، لا أحد من الأنبیاء تمکّن من تحقیق أهدافه بصورة

ص:235


1- (1) أنظر: آیة الله العظمی مکارم الشیرازی, پنجاه درس أصول عقائد (خمسون درساً فی أصول العقائد), مدرسة الإمام أمیر المؤمنین علیه السلام, 1376 ه. ش، صص 154-166؛ محمّد تقی مصباح یزدی, آموزش عقائد (تدریس العقائد)، منظمّة الإعلام الإسلامی, ج 1-2، ص 226-227.

تامّة، واستطاع تشکیل حکومة شاملة وعادلة؛ لأنّ الناس لم یکونوا بالمستوی المطلوب الذی یؤهّلهم إلی القبول بالحکومة العادلة، فما أن کان الأنبیاء والمرسلون یدعون الناس إلی عبادة الله الواحد القهّار، حتّی یجابهوهم بالرفض والمخالفة والاعتراض؛ خاصّة من قبل أولئک الحکّام والمترفین والمنعّمین المنهمکین بالملذّات والعیش الرغید،(1) ومن أوتی العلم والمال وغرّه بالله الغرور،(2) فوقفوا بوجه دعوة النبیّین، واستهووا کثیراً من الناس، وصدّوهم عن سبیل الحقّ والرشاد.(3) ولهذا، لم یؤمن من المجتمعات البشریّة بالدعوة الإلهیّة إلاّ نفرٌ قلیل، وهم المستضعفون والفقراء فی الغالب.(4)

ومن هنا، لم نشهد فی التاریخ مجتمعاً قائماً علی أُسُس العدل وموازین القِسط، ومعتنقاً للعقائد الصحیحة، ومطیعاً لأوامر الربّ والأنبیاء والمرسلین، مثل المجتمع الذی شکّله النبیّ سلیمان علیه السلام، وإن کانت التعالیم الدینیّة الغرّاء أخذت تتغلغل إلی ثقافة المجتمعات، ویجری اقتباسها رویداً رویداً.

بناءً علی ذلک، فأوّل أهداف الأنبیاء عبارة عن تهیئة الأرضیّة اللازمة للنموّ والتکامل، عن طریق الوحی الإلهیّ. ومن جملة الأهداف الأخری للأنبیاء، المساعدة علی النموّ العقلانیّ والتربیة الروحیّة والمعنویّة، لمن یمتلک مقوّمات التقدّم والازدهار؛ ولیس ثمّة شکّ فی أنّ جمیع الأنبیاء الإلهیّین کانوا بصدد تشکیل مجتمع مثالیّ فی التوحید، وبسط العدل فی

ص:236


1- (1) . أنظر: إبراهیم، آیه 9؛ المؤمنون، آیه 44.
2- (2) أنظر: غافر، آیه 83؛ القصص، آیه 78؛ الزمر، آیه 49.
3- (3) أنظر: الأحزاب، آیه 67؛ سبأ، آیات 31-33.
4- (4) . أنظر: هود، آیات 27-36.

أرجاء المعمورة، فخطا کلّ واحد منهم خطوات بمقدار ما سنحت له الفرصة فی ضوء الظروف السائدة فی عصره، حتّی تمکّن بعضهم من تأسیس حکومة إلهیّة فی بقعة جغرافیّة خاصّة وفی زمن معیّن؛ بینما لم تتوافر - قطّ - جمیع الظروف المواتیة لتشکیل حکومة العدل الإلهیّ العالمیّة، لأیّ نبیّ من الأنبیاء. لکنّ عدم تهیّؤ الظروف لا یعنی نقصان أو قصور التعالیم الإلهیّة عن الوفاء بالحاجة؛ ذلک أنّ الهدف الإلهیّ یتجسّد بتوفّر الظروف الملائمة للمسیرة الاختیاریّة للانسان:(لِئَلاّ یَکُونَ لِلنّاسِ عَلَی اللّهِ حُجَّةٌ بَعدَ الرُّسُلِ) .(1) فلا إکراه ولا إلزام بقبول دین الحقّ، والسیر علی خطی القادة الإلهیّین.

وعلی هذا الأساس، فلمّا کان النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله آخر الأنبیاء والرسل الإلهیّین، ومن ثمّ الأئمّة المعصومین علیهم السلام، وعلی رأسهم أمیر المؤمنین علیّ علیه السلام، الذین بُعثوا لنشر شعاع العدل الإلهیّ إلی أرجاء العالم، ودعوة الناس إلی الإسلام الحنیف، کان علیهم تأسیس الحکومة الإلهیّة العادلة؛ ولکنّهم لم یستطیعوا تطبیق هذه الحکومة المنشودة بسبب الظروف النفسیّة والفکریّة المنحطّة للناس؛ إذ أنّ الناس لم یبلغوا مرحلة النضوج الفکریّ والعقلیّ، التی تمکّنهم من قبول حکومة العدل الموعودة.

إنّ الإنسان، فی الحقیقة کالطفل الذی یحتاج إلی التعلّم لیبلغ مرحلة الرشد والنضوج، ومن الواضح أن علیه اجتیاز تلک المراحل عبر السیر الوئید والحرکة التدریجیّة. ولذلک، لم یکن بوسع القادة الإلهیّین والأنبیاء المرسلین إقامة حکومة العدل الإلهیّ المنتظر، من دون توفیر الظروف المناسبة لهذا الهدف السامی، والسبب - کما هو واضح - لا یعود إلیهم، ولا

ص:237


1- (1) النساء، آیه 165.

لنقص فی قدراتهم، أو عدم کفاءتهم والعیاذ بالله، وإنّما المشکلة تتمثّل بانعدام الظروف الملائمة والأرضیّة المناسبة، وعدم استعداد الناس لتحمّل المسؤولیّة فی هذا الاتّجاه.

مایستفاد من الروایات الاسلامیة

اشارة

ویُستفاد من الروایات الإسلامیّة، أنّ تقبّل حکومة العدل الإلهیّ، والنهوض بالمستوی الفکری للناس، یعتمد علی التهیّؤ والاستعداد الاجتماعیّ، والاستعداد الفکریّ، والاستعداد الثقافیّ، وتکامل العقول و... وهو ما یحصل فی عصر ظهور الإمام الحجّة المنتظر عجل الله تعالی فرجه الشریف. ونحاول فیما یلی إلقاء الأضواء علی عدد من هذه الموارد:

أ) التهیّؤ والاستعداد الاجتماعیّ

یعتبر التهیّؤ والاستعداد الاجتماعیّ والعالمیّ من جملة شروط ظهور صاحب الأمر والزمان عجل الله تعالی فرجه الشریف.(1) فقبل ظهوره تُملأ الأرض بشتّی ضروب الظلم والجور، وتنشب حروب طاحنة بین الشعوب والدول المختلفة، وتضجّ الأرض من القتلی. قال الإمام الصادق علیه السلام:

«لا یکون هذا الأمر حتّی یذهب ثلثا الناس. فقیل له: فإذا ذهب ثلثا الناس، فما یبقی؟ فقال علیه السلام: أما ترضون أن تکونوا الثلث الباقی؟».(2)

ولقد أکّدت الروایات المأثورة عن الأئمّة من أهل البیت الطاهرین علیهم السلام، علی أنّ الأمن ینعدم قبیل عصر الظهور، ویعمّ الفساد

ص:238


1- (1) آیة الله مکارم الشیرازی, مهدی انقلاب بزرگ (المهدی ثورة عظیمة), قم: هدف للطباعة والنشر, ص 83.
2- (2) محمّد باقر المجلسی، بحار الأنوار, بیروت: مؤسّسة الوفاء، ج 52، ص 207، ح 44.

والفوضی، ویقتل الناس بعضهم بعضاً.(1) وفی ذلک، قال أبو عبد الله الإمام الصادق علیه السلام:

«لابد أن یکون قدّام ذلک الطاعونان: الطاعون الأبیض والطاعون الأحمر. قلت: جُعلت فداک، أیّ شیء الطاعون الأبیض؟ وأیّ شیء الطاعون الأحمر؟ قال: الطاعون الأبیض الموت الجاذف [السریع]، والطاعون الأحمر السیف».(2)

وطبقاً لما ذکرته الروایات الإسلامیّة، یُعذّب الأطفال فی ذلک العصر علی أیدی الحکّام الظلمة، ویُقتلون من دون ذنب.(3) وتتفشّی الأمراض والأوبئة بین الناس،(4) (ربّما بسبب تفسّخ جثث القتلی المتراکمة، أو بفعل استخدام الأسلحة الکیمیاویّة والجرثومیّة). وعندئذ، وفی مثل تلک الظروف العصیبة، یدبّ القنوط والیأس فی جمیع مفاصل الحیاة البشریّة، وفی کافّة المجتمعات، حتّی یغدو الموت خیر هدیّة إلهیّة للإنسان، حیث یتمنّی الشخص الموت فی أسرع ما یمکن؛ لینهی حیاته الألیمة.

ورد عن الإمام الباقر علیه السلام فی هذا الخصوص قوله:

«لا یقوم القائم علیه السلام إلاّ علی خوف شدید، وزلازِل وفتنة وبلاء یصیب الناس، وطاعون قبل ذلک، وسیف قاطع بین العرب، واختلاف شدید بین الناس، وتشتّت فی دینهم، وتغیّر من حالهم، حتّی یتمنّی المتمنّی الموت صباحاً ومساءً؛ من عظم ما یری من کلَب الناس، وأکل بعضهم بعضاً، وخروجه إذا خرج عند الإیاس والقنوط».(5)

ص:239


1- (1) أنظر: المصدر السابق، ص 145.
2- (2) المصدر السابق, ص 119.
3- (3) أنظر: الشیخ محمّد رضا الطبسی النجفی, الشیعة والرجعة, النجف, 1385 ه, ج 1، ص 155.
4- (4) المصدر السابق.
5- (5) العلاّمة المجلسی, بحار الأنوار, ج 52, ص 348.

وعندما تسود هذه الظروف القاهرة فی العالم، تلتفت قلوب الناس إلی الله جلّ جلاله، وتستعدّ لتقبّل الثورة العالمیّة، وتتهیّأ لاستقبالها؛ فینادی منادٍ من السماء: یا أهل العالم، انقضی عهد الظلم والجور، وظهر المهدیّ المنتظر. فیؤدّی هذا النداء السماویّ إلی بعث الأمل ثانیة فی روح الإنسان، وملء حیاته بالعشق والإیمان، وجعلها مفعمة بالنشاط والحیویّة.

بناءً علی ذلک، أحد شروط ظهور الإمام المهدیّ عجل الله تعالی فرجه الشریف التهیّؤ الاجتماعیّ، وهو ما یتمّ بعد ملل الناس من تفشّی الظلم والجور فی العالم، وتذوّق مرارة الحیاة المادیّة، حتّی یدبّ الیأس والقنوط فی جمیع القلوب، ویتجهّز الناس للثورة العالمیّة.

ب) الاستعداد الفکریّ والثقافیّ

من شروط ظهور الإمام الحجّة المنتظر عجل الله تعالی فرجه الشریف، الاستعداد الفکریّ والثقافیّ للمجتمع البشریّ.(1) ولا شکّ فی أنّ بلوغ هذه المرحلة إنّما یتحقّق عندما یتخلّی الناس من الناحیة الفکریّة، عن جعل العِرق واللون واللغة والمنطقة الجغرافیّة والحدود المصطنعة و... هی المعیار فی التقییم، ویخرجون عن هذا الإطار الضیّق من التفکیر، ولا یلتفتون إلی الحدود الجغرافیّة، ویعدّون الدنیا دولة واحدة.(2) فلا التعصّب العرقی ولا العصبیّة القبلیّة ولا الحمیّة الجاهلیّة ولا الولاءات القومیّة و... قادرة علی حلّ وتسویة المشاکل التی یعانی منها البشر. وإنّما یتوجّب علی المجتمعات البشریّة السیر علی وفق المبانی المعنویّة والأسس الفکریّة والثقافیّة التوحیدیّة؛ لکی تسهم فی الإسراع فی ظهور الإمام المهدیّ المنتظر عجل الله تعالی فرجه الشریف.

ص:240


1- (1) أنظر: آیة الله مکارم الشیرازی, مهدی انقلاب بزرگ (المهدی ثورة عظیمة)، ص 82.
2- (2) أنظر: المصدر السابق.

ج) الاستعداد العلمیّ والصناعیّ

من الشروط الأُخری لظهور الإمام الحجّة، التهیّؤ العلمیّ والصناعیّ. وفی هذا الصدد، قال آیة الله مکارم الشیرازیّ: لإیجاد نظام عالمیّ، ومن ثمّ إدارته بالشکل الصحیح، یلزم وجود سلسلة من الوسائل والأدوات ما فوق العصریّة، یتسنّی من خلالها سبر أغوار العالم فی وقت قصیر قیاسیّاً، والإحاطة بکلّ جزئیّاته وتفصیلاته، والاطّلاع علی مجمل مکوّناته، ویمکن - عند الحاجة - نقل الإمکانات المتاحة من جهة إلی جهة أُخری، ومن مکان إلی مکانٍ آخر، وإیصال المعلومات والمعطیات إلی أقصی بقاع العالَم، فی أقصر وقت ممکن... فلو کان إرسال رسالةٍ ما، من نقطة فی العالم إلی نقطة أخری، یستغرق مدّة طویلة، کالعام مثلاً، أنّی یمکن حکومة العالم، وبسط العدل فی جمیع ربوعه وزوایاه؟(1)

وقد ورد فی هذا المجال جملة من الأحادیث، التی نظرت إلی الموضوع من زوایا متفاوتة، ولا شکّ فی أنّ التکنولوجیا التی ستوفّر فی عصر الظهور تختلف تماماً عن التکنولوجیا السائدة الیوم، أو التی کانت موجودة قبل قرن من الزمن، والتی نشأت وتبلورت فی ضوء مناهضة الدین. فالتقنیة التی ستحکم المجتمع العالمیّ إبان ظهور إمام العصر والزمان عجل الله تعالی فرجه الشریف، سوف تتحرّر من کثیر من القیود المفروضة علیها الآن، بل ستشغل مساحات أوسع ممّا یتصوّره ویستوعبه الإنسان المعاصر.

وطبقاً للأحادیث المتواترة، ستکتمل التکنولوجیا، وتزدهر الثورة الصناعیّة فی عصر ظهور الإمام، حتّی لیصبح العالم بحکم المدینة الواحدة، ویتمکّن الشخص الذی هو فی المشرق من التحدّث إلی من هو فی المغرب

ص:241


1- (1) أنظر: المصدر السابق، ص 84.

مباشرةً؛ ومن هنا، قال أبو عبد الله الإمام جعفر الصادق علیه السلام:

«إنّ المؤمن فی زمان القائم، وهو بالمشرق، لیری أخاه الذی فی المغرب، وکذا الذی فی المغرب، یری أخاه الذی فی المشرق».(1)

قال آیة الله مکارم الشیرازیّ: إنّ التقدّم التکنولوجیّ والصناعیّ، خاصّة مسألة الاتّصالات والسفر والتنقّل، سیشهد فی عصر الظهور تطوّراً هائلاً، إلی درجةِ أنّ القارّات المختلفة فی العالّم ستصبح من ناحیة عملیّة کبضعة مدن قریبة من بعضها البعض، بل سیکون الشرق والغرب بحکم البیت الواحد، وبکلمة واحدة: سوف تُحلّ مشکلة الزمان والمکان بصورة تامّة... نعم، من الممکن أن یحصل جزءٌ من هذه الأُمور فی ضوء قفزات عملاقة فی الثورة الصناعیّة الجبّارة فی ذلک العصر، لکنّها کیفما کانت تعبّر عن نوع من الاستعداد والتأهّب العلمیّ، الذی یفتح آفاقاً واسعة فی ذلک العصر.(2)

إنّ وجود صناعة متطوّرة إلی أبعد المدیات، وتقدّم علمیّ بعید الشأن، لا یشکّل عائقاً أمام الحکومة العالمیّة العادلة، بل یستحیل من دونه بلوغ مثل ذلکم الهدف الرفیع.(3)

د) التقدّم العلمیّ الهائل

إنّ العلم ینبثق فی أحضان الدین، والدین ینتشر فی ظلّ التقدّم العلمیّ، وفی عصر الإمام الحجّة، لا یُری هنالک تناقض وتنافٍ، بین الدین الإلهیّ والعلم فی أجلی صوره وأوسع أبوابه. وعلی هذا الأساس، أکّدت

ص:242


1- (1) العلاّمة المجلسی، بحار الأنوار, ج 52, ص 391.
2- (2) أنظر: مهدی انقلاب بزرگ (المهدی ثورة عظیمة)، ص 245.
3- (3) أنظر: المصدر السابق، ص 84-85.

الروایات علی أنّ

«قائمنا إذا قام، أشرقت الأرض بنور ربّها، واستغنی العباد عن ضوء الشمس»،(1) وأنّه سیرکب السحاب والرعد والصاعقة،(2) فی إشارة إلی استخدام الوسائل السریعة فی عصر الظهور. وشدّدت علی أنّ المؤمن فی المشرق یری أخاه الذی فی المغرب،(3) کما أشارت إلی أنّ الله تبارک وتعالی رفع له کلّ منخفض من الأرض، وخفض له کلّ مرتفع، حتّی تکون الدنیا عنده بمنزلة راحته،(4) وبیّنت أنّ المؤمنین فی سعة والکافرین فی ضیق وعسر.(5) کلّ ذلک یتحقّق فی ظلّ حکومة الإمام القائم عجل الله تعالی فرجه الشریف، وهو ما لم یحصل ولم جربه البشر قطّ.

ولا ریب فی أنّ هذا التقدّم العلمیّ الهائل لا یحدث عن طریق الإعجاز، وإنّما هو ولید التکامل العلمیّ فی عصر ما بعد الظهور؛ ذلک أنّ الحیاة البشریّة فی هذا العالم یجب أن تتطابق مع السُّنن السائدة فی الطبیعة، لا بواسطة الإعجاز الذی یحدث فی الموارد الاستثنائیّة والضروریّة. وعلیه، فالعلم والتکنولوجیا تتکامل أیّما تکامل فی عصر الظهور.

وفی هذا السیاق، قال الإمام أبو عبد الله الصادق علیه السلام:

«العلم سبعة وعشرون حرفاً، فجمیع ما جاءت به الرُّسل حرفان، فلم یعرف النّاس حتّی الیوم غیر الحرفین، فإذا قام قائمنا أخرَج الخمسة والعشرین حرفاً، فبثّها فی الناس، وضمّ إلیها الحرفین، حتّی یبثّها سبعةً وعشرین حرفاً».(6)

ص:243


1- (1) العلاّمة المجلسی، بحار الأنوار، ج 52, ص 337.
2- (2) المصدر السابق، ص 321.
3- (3) المصدر السابق، ص 391.
4- (4) المصدر السابق، ص 328.
5- (5) المصدر السابق، ص 390.
6- (6) المصدر السابق, ص 336, باب 27، ح 73.

ه) تکامل العقول البشریّة

یجب أن یصل الناس إلی درجةٍ عالیة من النضوج العقلیّ؛ لیمهّدوا بذلک لظهور الإمام المهدیّ عجل الله تعالی فرجه الشریف. ومن هنا، قال الإمام أبو جعفر الباقر علیه السلام:

«إذا قام قائمنا، وضع الله یده علی رؤس العباد، فجمع بها عقولهم، وکمُلت بها أحلامهم».(1)

فانطلاقاً من أنّ الإمام علیه السلام یطبّق جمیع الأحکام الإسلامیّة بحذافیرها، سیؤدّی ذلک إلی النضوج الفکریّ للناس، وبمقتضاه یتحقّق هدف النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله، حیث قال:

«إنّما بُعثت لأُتمّم مکام الأخلاق».(2)

إنّ عقول البشَر ستصل إلی حدّ الکمال والنضوج فی حکومة الإمام المنتظر، کما ستبعث علی توظیف واستغلال جمیع الطاقات البشریّة الکامنة؛ فالبشریّة فی ضوء الألطاف الإلهیّة والفیوضات الربّانیّة، وبعد اختبارها واجتیازها لکافّة المسالک والتجارب المتعدّدة والطویلة، تدرک جیّداً بأنّ التدابیر الإنسانیّة لم تعد قادرة علی حلّ مشاکل المجتمع الإنسانیّ؛ ولذا، سیذعن الجمیع لثورة الإمام الحجّة عجل الله تعالی فرجه الشریف، بل ویرحّبون بها ویتلهّفون إلیها.

و) التکامل الأخلاقیّ والمعنویّ

سیتحقّق فی عصر الظهور، وفقاً للأحادیث الکثیرة، التکامل الأخلاقیّ والمعنویّ المنشود، وقد استفاض عن رسول الله صلی الله علیه و آله قوله فی وصف الإمام:

«یملأ الأرضَ قِسطاً وعدلاً» ، وهی خیرُ شاهدٍ علی هذا التکامل، إبّان ظهور الإمام.

ص:244


1- (1) المصدر السابق، ج 52, ص 328.
2- (2) المیرزا حسین النوری الطبرسی, مستدرک الوسائل, قم: مؤسّسة آل البیت لإحیاء التراث, ج 2، ص 282.

وفیه هذا الإطار، قال أبو عبد الله علیه السلام:

«إنّ قائمنا إذا قام، أشرقت الأرضُ بنور ربّها، واستغنی العِباد عن ضوءِ الشمس، وذهبت الظلمة... وتُظهر الأرضُ کنوزَها حتّی تراها الناس علی وجهها، ویطلب الرجل منکم من یصله بماله، ویأخذ من زکاته، لا یوجد أحد یقبل منه ذلک؛ استغنی الناس بما رزقهم الله من فضله».(1)

والملاحَظ أنّ الحدیث استفاد هنا من کلمة «العباد»، ما یظهر حصول تغیّر کبیر فی نفوس البشر فی عصر الظهور، بما لم یکن موجوداً قبل هذا العصر.

وأکّدت الروایات المتظافرة فی التراث الإسلامیّ علی أنّ العالم، فی عصر حضور الإمام محمّد بن الحسن المهدیّ عجل الله تعالی فرجه الشریف، سیکون عالماً متحضّراً، بل وفی قمّة التقدّم العلمیّ والصناعیّ والأخلاقیّ والمعنویّ، ویتصرّف بمنتهی العقل والحکمة، ما یعنی حصول بَونٍ شاسعٍ بین ذلک التقدّم والتطوّر، وما علیه العالم الیوم من ازدهار فی التقنیّات المختلفة.

علی أنّ الفارق الجوهریّ بین عصر الظهور وعالمنا المعاصر، یکمن فی أنّ التقدّم العلمیّ الملموس فی هذا العصر، قد تمّ تکریسه للانحدار بالثقافة والأخلاق فی المجتمع البشریّ الراهن، فبقدر ما یزداد العلم تقدّماً وتطوّراً یبتعد بنفس المقدار عن الإنسانیّة، ویرکن إلی الفساد والانهیار والسقوط والقتل. أمّا فی عصر الظهور، فالأمر علی العکس من ذلک تماماً؛ بمعنی أنّه بمقدار ما ینهض البشر، ویفتح آفاقاً جدیدة فی المجالات العلمیّة والصناعیّة، یدنو فی الوقت ذاته، وبالقدر نفسه، من السموّ الأخلاقیّ والکمال الإنسانیّ المرجوّ.

ص:245


1- (1) العلاّمة المجلسی، بحار الأنوار, ج 52, ص 337, باب 27, ح 77.

النتیجة

لم تتوفّر الظروف الملائمة لإقامة الحکومة العالمیّة العادلة والشاملة، التی توجب تکامل العلم والعقل والمعنویّات والأخلاق، وتفضی إلی الازدهار فی القطّاع الصناعیّ و... فی عصر الأنبیاء وسائر الأئمّة المعصومین علیهم السلام، بل ستتوافر تلک الشروط فی عصر الإمام صاحب الزمان، الحجّة المنتظر، محمّد بن الحسن المهدیّ عجل الله تعالی فرجه الشریف فقط.

ومن هذا المنطلق، من أهمّ عوامل الموافقة علی حکومة الإمام المهدیّ، الإرباک الذی یهیمن علی الوضع العالمیّ والمجتمع الإنسانیّ، الذی هو ولید الحروب الفتّاکة والمدمّرة التی ستعصف بالبشریّة ما قبل الظهور. فلا بدّ للناس أن یسأموا من الظلم والجور والأنظمة الموجودة، حتّی أنّ الضجر والملل یختلج فی قلوب الناس جمیعاً، وبذلک یتهیّؤون للثورة الإیمانیّة العظیمة، ففی مثل هذه الظروف، وفی ضوء الإرهاصات الموجودة، یطلّ الإمام بطلعته البهیّة إلی القلوب التوّاقة إلی لقائه والاستظلال بفیئه.

إنّ البشریّة ستُعانی من الأنظمة الجائرة العاجزة عن تلبیة متطلّباتها، فالتعصّب العرقیّ والقومیّ والمذهبیّ و... غیر قادرة علی إیصال المجتمع الإنسانیّ إلی برّ الأمان. وبالإضافة إلی ذلک، لا بدّ لتلک المجتمعات من النهوض بواقعها الفعلیّ، وبلوغ مرحلة النضوج علی الصعید الفکریّ والثقافیّ، بما یتلاءم والأخلاق التوحیدیّة، فضلاً عن التقدّم التکنولوجیّ والصناعیّ، الذی یمهّد الأرضیّة اللازمة لظهور الإمام، وتحقّق العدل الإلهیّ، والتکامل الأخلاقیّ فی المجتمع البشریّ، ویفضی إلی الازدهار العلمیّ فی ربوع العالم.

ص:246

مصادر للمطالعة

1. آیة الله مکارم الشیرازیّ، مهدی انقلاب بزرگ (المهدیّ ثورة عظیمة)، ص 83.

2. سیّد أسد الله هاشمی شهیدی، ظهور حضرت مهدی از دیدگاه إسلام ومذاهب جهانیان (ظهور الإمام المهدیّ من وجهة نظر الإسلام والأدیان العالمیّة)، ص 99.

الحدیث الختامیّ

قال الإمام الصادق علیه السلام:

«إنّ قائمَنا إذا قامَ... تُظهِرُ الأرضُ کُنوزَها حَتّی تَراها النّاسُ علی وَجهِها، ویَطلبُ الرَّجلُ مِنکُم مَن یَصِلُهُ بمالهِ، وَیأخذُ مِن زَکاتِهِ، لا یوجَدُ أحدٌ یَقبلُ منهُ ذلکَ؛ استَغنی النّاسُ بِما رَزَقَهُم اللهُ مِن فَضلِهِ».(1)

ص:247


1- (1) العلاّمة المجلسی، بحار الأنوار, ج 52, ص 337, باب 27, ح 77.

ص:248

سیکولوجیا الانتظار ودوره فی الحیاة

اشارة

السؤال: ما الدور الذی یلعبه الانتظار فی الحیاة من الناحیة النفسیّة؟

الجواب: إنّ للانتظار دوراً هامّاً فی البُعد النفسیّ بالنسبة إلی المنتظرین. وفیما یلی إشارة إلی بعضِ أبعادِ هذا الأمر:

أ) انتظار النصر

الانتظار یعنی - فیما یعنیه - الأمَل والرجاء.(1) فقد ورد فی لسان الروایات التعبیر عن الأمَل فی مستقبلٍ واعد، والتفاؤل بالمسیرة العامّة لنظام الطبیعة، ومسیرة التکامل التاریخیّ، والوثوق بمستقبلٍ أفضل، ب - «انتظار الفرَج». وانتظار الفرج مستمدّ من الأُصول الأساسیّة للإسلام؛ أی اللطف والرحمة الإلهیّة وحرمة الیأس والقنوط؛ إذ قال تعالی فی هذا المجال:(وَ لا تَیأَسُوا مِن رَوحِ اللّهِ إِنَّهُ لا یَیأَسُ مِن رَوحِ اللّهِ إِلاَّ القَومُ الکافِرُونَ) .(2)

کما تجلّت الرحمة واللطف الإلهیّ فی کلام أمیر المؤمنین علیه السلام، فقال:

ص:249


1- (1) السیّد أسد الله هاشمی شهیدی, ظهور حضرت مهدی از دیدگاه اسلام ومذاهب جهانیان (ظهور الإمام المهدی من وجهة نظر الإسلام والأدیان العالمیّة), ص 24.
2- (2) یوسف، آیه 87.

«انتظروا الفرَج، ولا تیأسوا من رَوح الله؛ فإنّ أحبَّ الأعمال إلی الله عزّ وجلّ انتظار الفرَج».(1)

علی أنّ الله سبحانه وتعالی وعد المسلمین، وخاصّة المستضعفین منهم، بالنصر والغلبة، وفقاً للآیات والروایات، ولهذا الوعد دورٌ جوهریّ فی الحیاة الفردیّة والاجتماعیّة للمنتظرین؛ لأنّ هؤلاء المنتظرین یتّخذون هذا الوعد الإلهیّ بانتصار الحقّ علی الباطل سبباً لبناء أنفسهم خصوصاً والمجتمع عموماً، ویدفعهم إلی الوقوف بوجه المشکلات والظلم والطغیان، بعد أن یَشحذ هِمَمَهُم، ویحضّهم علی التقدّم إلی الأمام. بالإضافة إلی أنّ الوعد بالنصر المؤزّر یوجِد عند الشخص المُنتظِر الثبات الروحیّ والنفسیّ.(2) وعلی هذا الأساس، استطاع المنتظرون - بما لدیهم من أرواح رفیعة، وهِمَم عالیة، برغم قلّة العُدّة والعدد - تسطیر أروَع الملاحم، ودحض أعتی القوی المدجّجة بأحدث الأسلحة، علی مرّ التاریخ.

وخیرُ شاهدٍ علی التسلّح بعقیدة انتظار الإمام المهدیّ الموعود عجل الله تعالی فرجه الشریف لقضّ مضاجع القوی المستکبرة، انتصار الثورة الإسلامیّة فی إیران، بقیادة الإمام الخمینیّ الراحل، علی النظام الملکیّ العمیل؛ وانتصار الجمهوریّة الإسلامیّة فی إیران فی الحرب المفروضة، التی شنّها علیها صدّام، علی مدی ثمانیة أعوام؛ والنجاح الباهر الذی حقّقته إیران فی مسألة الطاقة النوویّة للأغراض السلمیّة؛ وانتصار المقاومة الإسلامیّة لحزب الله فی لبنان علی الجیش الإسرائیلیّ.

وبرغم أنّ الاستکبار العالمیّ یری نفسه أکثر تفوّقاً من المسلمین، فی

ص:250


1- (1) العلاّمة المجلسی, بحار الأنوار, ج 52, ص 122.
2- (2) أنظر: یوسف مدن، سیکولوجیّة الانتظار، ص 122.

العلم والصناعة والتکنولوجیا والتسلّح العسکریّ، إلاّ أنّهم انهزموا نفسیّاً حیال المسلمین، ولم یتمکّنوا من خوض مواجهة متکافئة. ومن هنا، عَدّ (ولیام هنوی) الانتظار عاملاً من عوامل الحیاة، وقال:

«مع ذلک، لولا هذا الانتظار، لبدأ الإنسان بالموت شیئاً فشیئاً، کما یذوب الشمع بالاحتراق، أو لدبّ فیه الیأس والحیرة».(1)

ب) کسر شوکة الاستکبار وهیبته

تؤکّد التعالیم الدینیّة علی أنّ الاستکبار عبارة عن حقیقة تاریخیّة ثابتة، وجِدَت مذ خُلق الإنسان، ووطأت أقدامه الکرة الأرضیّة؛ وقد تجسّد ذلک علی سبیل المثال فی فرعون ونمرود وأبی لهب وأبی جهل، الذین کانوا أعداءً للمستضعفین والمحرومین.

والیوم، وقد أوجد التفوّق العسکریّ والتکنولوجیّ للمستکبرین تحدّیات کبیرة للمستضعفین، وزرع فی قلوبهم الشعور بالضعف والوهن، أدارت کثیر من الدول الإسلامیّة ظهرها إلی الوعد الإلهیّ المحتوم، وارتعدت فرائصها من الإمکانات الهائلة للمستکبرین فی مجال التسلّح، وبدأوا یتساءلون: کیف یمکن للإمام المهدیّ أن ینتصر بالسیف علی الترسانة العسکریّة العظمی للاستکبار؟

لکنّ الجواب یظهر من خلال التسلسل فی النقاط التالیة:

1. إنّ الوعد بالنصر والبشارة بالفرج، فی الآیات والروایات، یبعث علی زیادة القدرة النفسیّة والمعنویّة لدی المسلمین، فییبثَّ، فی أتباع الدین الإسلامیّ، مزیداً من القوّة والاقتدار، ویحطّم هیبة المستکبرین، ویکسر

ص:251


1- (1) جلال ستّاری, اسطوره در جهان (الأسطورة فی العالم)، ص 228، نقلاً عن: هویت ایرانی از سامانیان تا قاجاریه (الهویّة الإیرانیّة من الدولة السامانیّة إلی القاجاریّة).

غرورهم؛ فمثلاً، کسَر الله عزّ وجلّ هیبة المستکبرین وسطوتهم فی عیون أصحاب الکهف، وصوّرهم بمنتهی الحقارة والضعة.(1)

قال آیة الله صافی کلبایکانی فی هذا الصدد: هذه الوعود هی التی ثبّتت المسلمین إزاء کثیر من الحوادث، کتسلّط بنی أُمیّة، والحروب الصلیبیّة و... وفی نهایة المطاف، شجّعتهم علی الجهاد والقتال. هذه الوعود التی أثبتتها الحقائق الدینیّة والتاریخیّة المسلّمة حملت فی طیّاتها أنّ الإسلام دائم ولا نهایة له، وأنّ حکومات، کحکومة بنی أمیّة وبنی العبّاس، لا تمثّل مظهراً للکمال والتقدّم، ولا تعبّر عن النظام السیاسیّ المرتجی، بل هی بعیدة کلّ البُعد عن الحقّ والعدل الإسلامیّ. لا بد من انتظار المستقبل، وعدم التراجع عن الأهداف، والصمود فی حمایة الثغور والخنادق، إلی أن یصل العصر الذهبیّ المتمثّل بالحکومة المطلقة للحقّ والعدل.(2)

2. إنّ عصر الظهور سیشهد انهیار معنویّات المستکبرین، وإلقاء الرُّعب فی قلوبهم، برغم ما أحرزوه من التقدّم التکنولوجیّ والصناعیّ الکبیر، وحیازتهم للأسلحة المتطوّرة والفتّاکة، کما ستُسلب منهم القدرة علی القتال والمقاومة. قال الإمام أبو عبد الله الصادق علیه السلام فی وصف عصر الظهور:

«إنّ الله نزع الخوف من قلوب شیعتنا، وأسکنه قلوب أعدائنا، فواحدهم أمضی من سنان، وأجری من لیث، یطعن عدوّه برمحه، ویضربه بسیفه، ویدوسه بقدمه».(3)

فهذه الروایات المأثورة عن أئمّة الهدی علیهم السلام، تؤکّد علی أنّ الخوف

ص:252


1- (1) أنظر: یوسف مدن، سیکولوجیّة الانتظار، ص 195.
2- (2) لطف الله صافی کلبایکانی، امامت ومهدویت (الإمامة والمهدویّة)، ج 2، ص 371.
3- (3) العلاّمة المجلسی، بحار الأنوار، ج 52، ص 336.

والضعف لن یکون له مجالٌ فی قلوب الشیعة، والفکر الشیعیّ عامّة، فی زمن الظهور، فعن علیّ بن الحسین زین العابدین علیه السلام، قال:

«إذا قام قائمُنا أذهَب الله عزّ وجلّ عن شیعتنا العاهة، وجعَل قلوبهم کزُبُرِ الحدید».(1) وعن أبی جعفر الباقر علیه السلام، قال:

«فإذا وقع أمرنا، وجاء مهدیّنا، کان الرجل من شیعتنا أجری من لیث، وأمضی من سنان، یطأ عدوّنا برجلیه، ویضربه بکفّیه».(2)

وبالنظر إلی هذه الروایات وأمثالها، یُعرف أنّ الإمام المهدیّ المنتظر (عجّل الله تعالی فرجه الشریف) وأنصاره، سیمتلکون أحدث الأسلحة والمعدّات الحربیّة المتطوّرة، لکنّها ستکون غیر ظاهرة إلی الأعداء، ولن یکون بمقدور الأسلحة التی بید الأعداء علی مواجهة أسلحة المؤمنین من جیش الإمام، کما استفاضت الروایات بذلک، فورد عن الإمام جعفر الصادق علیه السلام قوله فی وصف أصحاب الحجّة:

«لو أنّهم وردوا علی ما بین المشرق والمغرب من الخلق لأفنوهم فی ساعة واحدة، لا یختلّ الحدید فیهم».(3)

ولا شکّ فی أنّ السلاح الذی سیستخدمه الإمام فی الذبّ عن حما الدین یختلف عن باقی الأسلحة المتعارفة، وکلمة «سیف» الواردة فی الروایات ما هی إلا کنایة عن الأسلحة المتطوّرة، فطبقاً لما أفادته الأخبار، سیکون سلاح الإمام من الحدید، لکن لیس من جنس هذا الحدید المتعارف:

«ولهم سیوف من حدید، غیر هذا الحدید، لو ضرب أحدهم بسیفه جبلاً لقدّه حتّی یفصله».(4)

ص:253


1- (1) المصدر السابق، ص 317.
2- (2) المصدر السابق، ص 318.
3- (3) محمّد بن الحسن بن فروخ الصفّار القمّی، بصائر الدرجات، تصحیح وتقدیم وتعلیق: الحاج میرزا حسن کوچه باغی، طهران: منشورات الأعلمی، 1404 ه, ص 511.
4- (4) المصدر السابق، ص 512.

ومن هنا، یمکن أن نخلص إلی أنّ الإمام وأتباعه سیتّبعون أحدث الأسالیب الحربیّة فی مقارعة قِوی الجَور والظلام؛ وفی هذا السیاق، أشار رسول الله صلی الله علیه و آله إلی مجیء أقوام من بعده تُطوی لهم الأرض، وتَفتح لهم الدنیا أبوابها.(1) کما یَنصر الله الإمامَ بالملائکة والمؤمنین، وبإلقاء الرُّعب فی قلوبِ الأعداء.(2)

ومن کلّ ذلک، نستنتج ما یلی:

1. إنّ المخاوف التی تُلقی بظلالها علی قلوب المنتظرین قبل الظهور، تزول من أذهان وأفکار المسلمین، عقب ظهور الإمام صاحب العصر والزمان عجل الله تعالی فرجه الشریف.

2. سیلقی الله تعالی الرعب والخوف فی قلوب المستکبرین عند ظهور الإمام، وسوف تُسلب منهم القدرة علی الردّ والمقاومة.

3. البشائر القطعیّة التی ساقها الله إلی عباده المؤمنین ستبعث فیهم روح العزّة والغلبة علی الأعداء، حیث سیعتقدون بأنّهم ذوو قوّة لا تُدانی وجیش لا یُظاهی. وهذه المعنویّات المرتفعة ستجعلهم لن یکلّوا عن قتال المستکبرین، ومقارعة المستبدّین؛ لأنّهم علی یقین بأنّ ما حصل لأصحاب الکهف سیتحقّق بالنسبة لهم أیضاً.

ج) مدح المنتظرین وذمّ المستکبرین

أشادت بعض الروایات الإسلامیّة بشخصیّة المنتظرین للإمام فی عصر الغیبة؛ فمثلاً، قال الإمام علیّ بن الحسین السجّاد علیه السلام:

«إنّ أهل زمان

ص:254


1- (1) أنظر: أبو شجاع شیروی بن شهردار بن شیرویه الدیلمی, الفردوس بمأثور الخطاب، ج 2، ص 449.
2- (2) أنظر: بحار الأنوار, ج 52، ص 336.

غیبته، القائلون بإمامته، المنتظرون لظهوره، أفضل أهل کلّ زمان؛ لأنّ الله تعالی ذکره أعطاهم من العقول والأفهام والمعرفة، ما صارت به الغیبة عندهم بمنزلة المشاهدة، وجعلهم فی ذلک الزمان بمنزلة المجاهدین بین یدی رسول الله صلی الله علیه و آله بالسیف. أُولئک المخلصون حقّاً، وشیعتنا صِدقاً، والدعاة إلی دین الله سرّاً وجهراً».(1)

کما اعتُبر انتظار الفرَج أفضل الأعمال لأمّة النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله، فقال صلوات الله علیه:

«أفضل أعمال أُمّتی انتظار فرّج الله عزّ وجلّ».(2)

وورَد عددٌ کبیرٌ من الروایات التی تذمّ المستکبرین والمنحرفین، وتکشف للناس عیوبهم، فروی عن أبی عبد الله الصادق علیه السلام، قال:

«إنّ المتکبّرین یُجعَلون فی صور الذرّ، یتوطّأهم الناس حتّی یفرغ الله من الحساب».(3)

وقال أمیر المؤمنین علیه السلام:

«بأبی ابن خیر الإماء - یعنی القائم من ولده علیه السلام - یسومهم خسفاً، ویسقیهم بکأسٍ مُصبَّرة، ولا یعطیهم إلاّ السیف هرجاً».(4)

ویمکن القول: إنّ الآثار الإیجابیّة لهاتین الطائفتین من الروایات فی قلوب وأرواح المنتظرین عبارة عمّا یلی:

1. زیادة القوّة والقدرة المعنویّة للمنتظرین فی مقابل المستکبرین.

2. تعزیز ورَفع المعنویّات للمنتظرین.

3. محافظة المنتظرین علی تفوّقهم فی التعاطی مع المستکبرین.

ص:255


1- (1) بحار الأنوار، ج 52, ص 122.
2- (2) المصدر السابق.
3- (3) الشیخ الکلینی, أصول الکافی، ج 2، باب الکبر, ص 311، ح 11.
4- (4) محمّد بن إبراهیم بن جعفر الکاتب النعمانی, غیبة النعمانی, تحقیق: فارس حسّون، قم: أنوار الهدی، ط 1، 1422 ه, ص 234.

أمّا المقصود بذمّ المستکبرین فهو تذکیرهم بالذلّ والهوان، برغم امتلاکهم لأحدَث الإمکانات والتقنیّات المتطوّرة، وبالتالی، فإنّ امتداح المنتظرین وذمّ المستکبرین - من جهة - یقوّی روح النصر لدی المنتظرین، ویُخرجَهم من حالة الخمول والخنوع، ویعزّز لدیهم إلأمل فی مختلف میادین الحیاة، ومن جهة أُخری، یثبّط المستکبرین، ویُعزّز لدیهم روح الهزیمة والخذلان.

د) التصدّی للانحرافات الاجتماعیّة

من جملة ثمرات الانتظار، مقاومة المنتظرین لکلّ أشکال وأنماط الانحراف الاجتماعیّ، حیث یترتّب علی الإیمان بالنصر، والاعتقاد بتحرّر العالم من الجور آثار تربویّة وعقائدیّة هائلة. ومن هنا، جاء فی بعض الروایات عن الإمام زین العابدین علیّ بن الحسین علیه السلام:

«مَن ثبت علی ولایتنا فی غیبة قائمِنا، أعطاهُ اللهُ أجرَ ألفَ شهید، مثل شهداء بدر وأُحد».(1)

وجاء عن رسول الله صلی الله علیه و آله، أنّه قال:

«سیأتی قوم من بعدکم، الرجل الواحد منهم له أجر خمسین منکم. قالوا: یا رسول الله، نحن کنّا معک ببدرٍ وأُحد وحُنَین، ونزل فینا القرآن. فقال: إنّکم لو تحملون لمِا حملوا لم تصبروا صبرهم».(2)

ویری آیة الله صافی کلبایکانی أنّ الانتظار لا یعنی الضعف أو التهاون فی أداء التکالیف، والإتیان بالواجبات، ولا یصحّ أن یکون عذراً لأحد فی التنصّل عن المسؤولیّات، ولا فی ترک الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، بل لا یسوغ توجیه السکون والتسلیم إلی الوضع القائم، والیأس والقنوط، بالانتظار مطلقاً؛ إنّما هو عبارة عن الحرکة والنهضة والتضحیة، ومحاربة

ص:256


1- (1) الری شهری، میزان الحکمة، ج 1، ص 282.
2- (2) المصدر السابق، ص 281.

الانحراف ومقارعة الرجعیّة والارتداد؛ ذلک أنّ الحرکة والانتظار متلازمان، ولا یفترقان عن بعضهما البعض، کما أنّ الانتظار عِلّةً للحرکة وباعث علی التحرّک، وعلی هذا الأساس، وفی ضوء الإیمان بالانتظار الصحیح، یقاوم المجاهدون فی العالم الإسلامیّ الضغوط الکبیرة من الاستکبار، ولا یتراجعون عن أهدافهم قیدَ أنمُلة، ولا یصیبهم الوهن والإحباط، ویتهافتون فی سبیل التمهید لدولة الحقّ الموعودة.(1)

ه) إیجاد حالة من التوازن بین الأمل والیأس

هناک عددٌ کبیر من الروایات التی تبشّر المؤمنین بالفرَج، وتَعِدُ المسلمین بالنصر علی الکفر. فمن ذلک، قول النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله:

«معاشر الناس، أبشروا بالفرَج، فإنّ وعدَ الله حقّ لا یُخلَف، وقضاءه لا یُرَدّ، وهو الحکیم الخبیر، وإنّ فتحَ الله قریب».(2)

کما تؤکّد الروایات علی شیوع الانحرافات والظلم فی آخر الزمان، وأثناء الغیبة الکُبری، فورد عن أمیر المؤمنین علیّ علیه السلام أنّه قال:

«لتُملأنّ الأرض ظُلماً وجوراً، حتّی لا یقول أحد الله إلا مستخفیاً، ثم یأتی الله بقوم صالحین، یملؤونها قسطاً وعدلاً، کما مُلئت ظلماً وجوراً».(3)

وبسبب اتّساع دائرة الفتنة بعد رحلة رسول الله صلی الله علیه و آله، ومعاناة الإنسان من المشاکل المتعدّدة، روی عن النبیّ صلی الله علیه و آله روایات تؤکّد علی أنّه یأتی علی الإنسان زمن یتمنّی فیه الموت.(4)

ص:257


1- (1) لطف الله صافی کلبایکانی، مصدر متقدّم، ص 385-387.
2- (2) القندوزی، ینابیع المودّة لذوی القربی، ج 1، ص 406.
3- (3) الطوسی، الأمالی، قم: دار الثقافة للطباعة والنشر والتوزیع، ط 1، 1414 ه، ص 382.
4- (4) أنظر: أحمد بن حنبل، مسند أحمد، ج 2، ص 232.

الیوم، یلاحَظ أنّ المسلمین برغم قدرة الإسلام وسطوته، والانسجام المشهود بینهم، إلا أنّهم یعانون من الانحرافات والابتلاءات العظیمة؛ غیر أنّ ذلک لا یمنع مِن أن یحدوهم الأمل لمستقبلٍ واعد، ملؤه المحبّة والوئام والعدل. فالروایات التی تطلق بشائر انتصار المسلمین والمنتظرین علی أعدائهم فی آخر الزمان، وتبیّن فضیلة الانتظار، وجزاء المنتظرین، تُوجد لدی الشخص المنتظر حالة من التوازن بین الأمل والیأس؛ وذلک لأجل أن یتمکّن الإنسان فی عصر الغیبة الکبری من القضاء علی الضعف النفسیّ، الذی ظلّ إلی الیوم یُشکّل عاملاً لصدّهم عن القیام بالمسؤولیّات الملقاة علی عاتقهم، ویلقی الرعب والخوف فی قلوب المستکبرین.

مصادر للمطالعة

1. لطف الله صافی کلبایکانی، امامت ومهدویت (الإمامة والمهدویّة)، ج 2.

2. سیّد أسد الله هاشمی شهیدی، ظهور حضرت مهدی از دیدگاه اسلام ومذاهب جهانیان (ظهور الإمام المهدیّ من وجهة نظر الإسلام والأدیان العالمیّة).

3. محمّد تقی جعفری، امید وانتظار (الأمل والانتظار)، طهران، الجامعة الصناعیّة، آریا مهر.

الحدیث الختامیّ

قال أبو جعفر الباقر علیه السلام:

«إذا قَامَ قائِمَنا وَضَعَ اللهُ یَدَهُ عَلی رُؤوسِ العِبادِ، فَجَمَعَ بِها عُقُولَهُم وَکَمُلَت بِها أَحلامُهُم»(1)

ص:258


1- (1) العلاّمة المجلسی، بحار الأنوار، ج 52، ص 328.

متطلّبات الانتظار البنّاء

اشارة

السؤال: ما هو الانتظار الصحیح والبنّاء، وکیف یکون؟

الجواب: الانتظار الصحیح والبنّاء هو خیرُ الأعمال عند الله(1) وأفضل العبادات(2) والإنسان المنتظر أفضل من جمیع أهل زمانه(3) ثمّ إنّ للانتظار الصحیح والبنّاء صوراً وأنواعاً مختلفة وعدیدة، وأبعاداً متنوّعة، نحاول تسلیط الضوء علی عدد منها:

1- الانتظار عامل من عوامل التحرّک

إنّ الانتظار یعنی الأمل والرجاء.(4) ولا شکّ فی أنّ وجود الأمل والرجاء فی حیاة الإنسان یُعدّ من أهمّ عوامل الحرکة لدیه، وأکثرها تأثیراً علیه. ومن

ص:259


1- (1) أنظر: العلاّمة المجلسی، بحار الأنوار، ج 52، ص 162.
2- (2) أنظر: معجم أحادیث الإمام المهدی عجل الله تعالی فرجه الشریف، تألیف ونشر مؤسّسة المعارف الإسلامیّة، ج 1، ص 268.
3- (3) أنظر: لطف الله صافی کلبایکانی، منتخب الأثر فی الإمام الثانی عشر، ج 2، ص 24، ح 1.
4- (4) أنظر: السیّد أسد الله هاشمی شهیدی، ظهور حضرت مهدی از دیدگاه اسلام ومذاهب جهانیان (ظهور الإمام المهدی من وجهة نظر الإسلام والأدیان العالمیّة), ص 204.

المسلّم به أنّ مرکز وبؤرة هذا الأمل عبارة عن التفاؤل بالمستقبل البشریّ، من خلال البشارة الحتمیّة من الله جلّ وعلا بنصر المستضعفین والصالحین، وتوریثهم الأرض فی نهایة المطاف؛ ومن هنا، قال عزّ من قائل فی محکم کتابه الکریم:(وَ نُرِیدُ أَن نَمُنَّ عَلَی الَّذِینَ استُضعِفُوا فِی الأَرضِ وَ نَجعَلَهُم أَئِمَّةً وَ نَجعَلَهُمُ الوارِثِینَ) ،(1) وقال أیضاً:(وَ لَقَد کَتَبنا فِی الزَّبُورِ مِن بَعدِ الذِّکرِ أَنَّ الأَرضَ یَرِثُها عِبادِیَ الصّالِحُونَ) .(2)

وقد حثّ الأئمّة من أهل البیت علیهم السلام الناس علی انتظار الفرج بفارغ الصبر، وحذّروهم من مَغبّة الیأس من رحمة الله تعالی، وفی ذلک قال أمیر المؤمنین علیه السلام:

«انتظروا الفرج ولا تیأسوا من رَوح الله، فإنّ أحبّ الأعمال إلی الله عزّ وجلّ انتظار الفرج».(3)

وعلی هذا الأساس، لو حُذِف عنصرُ الأمَل والانتظار من حیاة المجاهدین الموحّدین، والمقارعین للظلم والجور، وهو العنصر الذی یبعث فیهم روح المقاومة والقتال فی سبیل الله، لزالت بذلک دوافعهم فی مواصلة هذا الجهاد المقدّس؛ ذلک أنّهم یرون أنّ الإصرار علی مواصلة السیر فی طریق موصل إلی الشکّ أمر غیرُ عقلانیّ.(4)

وانطلاقاً من تلک الرؤیة، قال سبحانه وتعالی:(وَ لا تَیأَسُوا مِن رَوحِ اللّهِ إِنَّهُ لا یَیأَسُ مِن رَوحِ اللّهِ إِلاَّ القَومُ الکافِرُونَ) .(5)

ص:260


1- (1) القصص، آیه 5.
2- (2) الأنبیاء، آیه 105.
3- (3) العلاّمة المجلسی، بحار الأنوار، ج 52، ص 123.
4- (4) أنظر: الدکتور محمّد جواد باهنر، فرهنگ انقلاب اسلامی (ثقافة الثورة الإسلامیّة)، ص 346-349.
5- (5) یوسف، آیه 87.

وعلیه، یُعتبر الیأس أعظم فخّ یضعه إبلیس فی طریق الإنسان؛ لیتمکّن من خلاله من القضاء علی جمیع الفضائل والمناقب لدی البشَر، کما أنّ الیأس والقنوط یعنی تودیع سرّ الأسرار فی خلق الإنسان، ألا وهو قطع مسیرة التکامل.

إنّ الانتظار البنّاء عبارة عن مصابیح الأمل، التی تُضیء دهالیز قلب الإنسان المنتظِر، وتُزیّن جمیع زوایاه وثنایاه، حتّی تجعله موطناً للشعور بالجهاد والحرکة والمقاومة والإیثار والتضحیة والشهادة. وبناءً علی ذلک، یکون للجهاد علاقةٌ وطیدة وقرابةٌ أکیدة بالحرکة؛ لأنّ الحرکة من نتائج الانتظار، والانتظار موجِّه للحرکة.(1)

2- الانتظار یؤدّی إلی الإصلاح ومقارعة الظلم

یجب علی الإنسان المنُتظِر أن یسیر فی طریقِ إصلاح نفسه ومجتمعه، ویسعی لإقرار العدل ورفع الظلم والجَور؛ إذ لا بُدّ فی منتظر المصلح العالمیّ أن یکون صالحاً ومُصلِحاً فی الوقت ذاته.

وممّا لا یخفی أنّ التعالیم الدینیّة فی الإسلام الحنیف أکّدت کثیراً علی لزوم مقارعة کلّ ألوان الفساد الأخلاقیّ، والسیاسیّ، والاجتماعیّ و... فی سیاق الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر. فالأمر بالمعروف والنهی عن المنکر من وجهة نظر الفقه الإسلامیّ وظیفة شرعیّة ومسؤولیّة جماعیّة، والنتیجة المباشرة لأداء تلک الفریضة الإلهیّة هی «الإصلاح»، والمنفّذ لها یطلق علیه اسم «المصلح».

وفی هذا الإطار، قال تعالی:(کُنتُم خَیرَ أُمَّةٍ أُخرِجَت لِلنّاسِ تَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَ تَنهَونَ عَنِ المُنکَرِ وَ تُؤمِنُونَ بِاللّهِ.)2

ص:261


1- (1) أنظر: دوریّة: الانتظار، الصادرة عن مرکز المهدویّة التخصّصی، العام الثانی، العدد 6، شتاء 1381 ه. ش، ص 69.

وروی عن النبی صلی الله علیه و آله أنّه قال:

«لَتأمرُنَّ بالمعروف، ولَتنهُنَّ عن المنکر، أو لَیسلطَنَّ الله شرارکم علی خیارِکم، فیدعو خیارُکم فلا یُستجاب لهم».(1)

إذا اتّضح ذلک، یُعلم بأنّ رضا الإمام المهدیّ المنتظر عجل الله تعالی فرجه الشریف موقوفٌ علی العمل بالمعروف وترک المنکر؛ ولذا، لا ینبغی للفرد المسلم، وبخاصّة الشباب منهم، عدم الاکتراث بهذا الموضوع، والمرور علیه مرور الکرام، فالإمام نفسه یُطبّق، عند الظهور، فریضة الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، بکلّ ما للکلمة من معنی؛ أی أنّه أکبر آمر بالمعروف وناهٍ عن المنکر. وبما أنّ المجتمع المؤمن بالانتظار یسعی جاهداً إلی کسب رضا إمامه ومقتداه، أرواحنا له الفداء، فلا بدّ له من إقامة أحکام الله تعالی، ونبذ الخمول وعدم المبالاة بالأُمور الشرعیّة.

3- الانتظار یصون الإیمان

من أبرز أبعاد التکلیف فی عصر الانتظار، الحفاظ علی الدین، وصیانة العقائد، وترسیم حدودها الواضحة؛ فیجب الحفاظ علی نور الإیمان فی قلوب الناس وأرواحهم، ولا بدّ من تعریض أفئدة الشباب والیافعین، علی وجه الخصوص، إلی إسقاطات أشعّة العقائد الحقّة، حتّی یصبح الإیمان جزءاً لا یتجزّأ من وجودهم وکیانهم، بل ویغدو کالدم الذی یجری فی العروق، ویمنح الحیاة والوجود إلی الإنسان.

کما ینبغی فی عصر الظهور الوقوف بوجه الشُّبُهات التی یلقیها الشیاطین فی السرّ والعلَن، ومحوِها من الأذهان التی علِقت بها؛ ذلک أنّ الحفاظ علی

ص:262


1- (1) العلاّمة المجلسی، بحار الأنوار، ج 90، ص 378؛ صادق إحسان بخش، آثار الصادقین، ج 1، ص 125، ح 22.

المعتقدات الدینیّة، ونشرها فی أصقاع العالم فی عصر الظهور، ذو فائدةٍ عظیمة، بل من اللازم القیام بصیانة تلک العقائد الإلهیّة؛ لأنّ الحوادث والفتن التی ستقع ما قبل عصر الظهور ستحرق الأخضر والیابس، وتجرف کثیراً من الناس، ولا یسلم منها إلاّ من اعتنق العقائد الرصینة، وعمل بمضمون التعالیم الدینیّة. ومن هنا، یجب المحافظة علی العقائد الصحیحة والصائبة، وتأصیل العمل الصالح فی صفوف المنتظرین، حتّی ظهور الإمام المهدیّ عجل الله تعالی فرجه الشریف، وهو ما ورد التأکید علیه فی الأحادیث الشریفة عن خاتم الأنبیاء والمرسلین صلی الله علیه و آله، والأئمّة المعصومین علیهم السلام:

قال رسول الله صلی الله علیه و آله ذات یوم، وعنده جماعة من أصحابه:

«إنّکم أصحابی، وإخوانی قومٌ فی آخرِ الزمان، آمنوا ولم یرونی، لقد عرّفنیهم الله بأسمائهم وأسماء آبائهم، من قبل أن یُخرجَهم من أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم، لأحدُهم أشدّ بقیّة علی دینه من خرط القتاد فی اللیلة الظلماء، أو کالقابض علی جمر الغضا. أُولئک مصابیح الدُّجی، ینجّیهم الله من کل فتنة غبراء مظلمة».(1)

وقال الإمام علیّ بن الحسین زین العابدین علیه السلام لأبی خالد الکابلیّ:

«یا أبا خالد، إنّ أهل زمان غیبته، القائلون بإمامته، المنتظرون لظهوره، أفضل أهل کلّ زمان؛ لأنّ الله تعالی ذِکره أعطاهم من العقول والأفهام والمعرفة ما صارت به الغیبة عندهم بمنزلة المشاهدة، وجعلهم فی ذلک الزمان بمنزلة المجاهدین بین یدَی رسول الله صلی الله علیه و آله بالسیف. أُولئک المخلصون حقّاً، وشیعتنا صِدقاً، والدعاة إلی دین الله سِرّاً وجهراً».(2)

وانطلاقاً من هذه الرؤیة المتمیّزة، یجب إبقاء هذا الإیمان وهذه الصلابة فی العقیدة إلی آخر الزمان، حیث ینیر الإمام الحجّة عجل الله تعالی فرجه الشریف العالم أجمع بطلعته البهّیة.

ص:263


1- (1) العلاّمة المجلسی، بحار الأنوار، ج 52، ص 124.
2- (2) المصدر السابق، ص 122.

4- الانتظار عامل لبقاء التشیّع ومقاومته

إنّ الانتظار من أهمّ عوامل المقاومة والصمود والثبات علی العقیدة، حیث یثبّت أقدام المسلمین، وخاصّة الشیعة منهم، ویمکّنهم من مقارعة الظلم والفساد والانحراف، والتصدّی لأعداء الإسلام، ویُرسّخ عقیدتهم، ویعزّز إیمانهم. وهو ما یُعدّ ثروةً روحیّة کبیرة للمنتظرین للظهور.(1)

وفی هذا السیاق، ذهب (جیمز دارمستر) 0، المستشرق واللغویّ الفرنسیّ الشهیر، إلی أنّ الانتظار عاملٌ قویّ من عوامل المقاومة وبقاء التشیّع، فقال: شاهدت فی مدینة الحلّة، القریبة من بغداد، مائة رجل یخرجون یومیّاً بعد صلاة العصر، وقد شهروا سیوفهم... لقد کانوا یهتفون: یاصاحب الزمان، عجّل علی ظهورک.

إنّ بالإمکان قتل من تربّی ونشأ علی هکذا أحاسیس، ولکن لیس بالإمکان تغییر ولاءاته، وتطویعه لتوجّه خاصّ.(2)

لقد کان الانتظار وعقیدة ظهور الإمام المهدیّ المنتظر عجل الله تعالی فرجه الشریف، تمثّل أهمّ عوامل صمود التشیّع بوجه حکومات الجور والاستبداد، طیلة التاریخ الشیعیّ الحافل. وفی هذا الصدد، قال آیة الله صافی کلبایکانی: بعد رحلة النبیّ الکریم صلی الله علیه و آله، واستشهاد أمیر المؤمنین علیه السلام، وسیّد الشهداء، إلی یومنا هذا، کان مردّ جمیع الحرکات والنهضات الإسلامیّة عموماً والشیعیّة خصوصاً، ضدّ الباطل والمستعمرین بوجهٍ عامّ، إلی الفلسفة الاجتماعیّة للانتظار، وستظلّ کذلک ما بقی الصراع بین الحقّ والباطل،

ص:264


1- (1) أنظر: السیّد أسد الله هاشمی شهیدی, ظهور حضرت مهدی از دیدگاه اسلام ومذاهب جهانیان (ظهور الإمام المهدی من وجهة نظر الإسلام والأدیان العالمیّة), ص 224.
2- (2) دارمستر، مهدی، از صدر اسلام تا قرن 13 هجری (المهدی من صدر الإسلام حتّی القرن الثالث عشر الهجری)، ترجمة: محسن جهان سوز، ص 39 و 79.

حتّی النصر المطلق.(1)

5- الانتظار یفضی إلی التزیّن بالعدل

علی المنتظرین التزیّن بحلیة العدل والتقوی. وفی هذا المجال، قال الباحث الإیرانیّ حکیمی: یجب علی المنتظرین لظهور المهدیّ، الذین یترقّبون حکومة العدل الإلهیّ، أن یکونوا أسوةً فی العدل والقسط.(2)

قال الله فی محکم کتابه الکریم:(یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ) .(3)

فإذا ما استطاع الإنسان، من خلال الابتعاد عن المعصیة، ورعایة التقوی، إیجاد ملَکَة العدل فی نفسه، وإرساء دعائم الحیاة الأخلاقیّة الکریمة فی وجوده، بإیجاد حالة من التوازن بین القوی النفسیّة المختلفة لدیه، فإنّه یتمکّن، حینئذ، من مواءمة نفسه، فی عصر الظهور واستقرار العدل المطلق، مع شروط وخصائص الحضارة التوحیدیّة والمهدویّة.

ص:265


1- (1) امامت ومهدویت (الإمامة والمهدویّة)، ج 1، ص 353.
2- (2) حکیمی، خورشید مغرب (شمس الغروب)، ص 272.
3- (3) آل عمران، آیه 102.

مصادر للمطالعة

1. الدکتور علی قائمی، انتظار عامل مقاومت وحرکت (الانتظار عامل للمقاومة والحرکة)، قم: مؤسّسة شفق.

2. عدد من الباحثین، انتظار در اندیشه ها (الانتظار فی الأفکار)، قم: مؤسّسة الإمام المهدی الثقافیّة.

3. مهدویت وانتظار فرج (المهدویّة وانتظار الفرَج)، منظّمة الإعلام الإسلامیّ، منتصف شعبان 1416 ه.

الحدیث الختامیّ:

قال رسول الله صلی الله علیه و آله:

«إنَّ الأرضَ لا تخلو مِن حُجّةٍ للهِ عَلی خَلقهِ إلی یومِ القیامةِ، وإنّ مَن ماتَ وَلم یعَرف إمامَ زَمانهِ ماتَ مِیتةً جاهلیّةً».(1)

ص:266


1- (1) الشیخ الصدوق، کمال الدین وتمام النعمة، تصحیح وتعلیق: علی أکبر الغفّاری، ج 2، ص 409، باب 38، ح 9.

علامات الانتظار

اشارة

السؤال: ما هی علامات الانتظار لدی الشیعة؟

الجواب: إنّ جمیع المفاهیم، بما فیها المفاهیم السیاسیّة والاجتماعیّة والأخلاقیّة والعقائدیّة، تتبلور فی إطار علاماتٍ معیّنة وسِمات خاصّة. وأمّا الانتظار، فباعتبار أنّه مفهومٌ أخلاقیّ وعقائدیّ فی مدرسة أهل البیت علیهم السلام، یتجلّی فی مواضیع متعدّدة، نحو: تهذیب النفس، إصلاح المجتمع، الدعاء والابتهال إلی الباری جلّ وعلا، واحترام الأماکن المنسوبة إلی الإمام المهدیّ المنتظر، صاحب العصر والزمان عجل الله تعالی فرجه الشریف، وما إلی ذلک. وفیما یلی نقدّم شرحاً مختصراً لتلک الأُمور:

أ) تهذیب النفس

لا یَکاد یخفی علی الإنسان المؤمن أنّ التقوی والتحلّی بالأخلاق الحسَنة والصفات الحمیدة تُعتبر مِن أهمّ علامات الانتظار ومقوّماته؛ ولذا، قال الإمام أبو جعفر محمّد الباقر علیه السلام:

«اتّقوا الله، واستعینوا علی ما أنتم علیه بالورَع، والاجتهاد فی طاعة الله».(1)

ص:267


1- (1) العلاّمة المجلسی، بحار الأنوار، ج 52، ص 140، ح 51.

وعلیه، نجد أنّ إمام العصر والزمان عجل الله تعالی فرجه الشریف والأئمّة الأطهار علیهم السلام، یحثّون المنتظرین لظهور الحجّة فی أحادیث کثیرة علی أداء الأعمال الصالحة والأفعال المقبولة عند الله تعالی، وعدَم الانحراف عن جادّة الصواب.

وفی الوقت الذی تعتبر الأخلاق الحسنة من الواجبات الملقاة علی عاتق المنتظرین، تعدّ أیضاً من أبرز معالم الانتظار. قال أبو عبد الله الصادق علیه السلام:

«مَن سُرّ أن یکون من أصحاب القائم، فلینتظر، ولیعمَل بالورَع ومحاسن الأخلاق، وهو منتظر، فإن مات وقام القائم بعدَه، کان له من الأجر مثل أجر مَن أدرکه».(1)

ب) إصلاح المجتمع

إصلاح المجتمع کذلک من المعالِم الهامّة للانتظار، فیجب علی الفرد المنتظر - فضلاً عن إصلاح نفسه وتهذیب ذاته - العمل علی إصلاح المجتمع، وإقرار العدل، ورفع الظلم والحیف. وبعبارةٍ أُخری: یجب علی المنتظِر للمصلح العالمیّ أن یکون صالحاً ومُصلحاً أیضاً.

ولهذا السبب، بیّن الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله أهمیّة الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر بقوله:

«لَتأمرُنَّ بالمعروف، ولَتنهُنَّ عن المنکر، أو لَیسلطَنَّ الله شرارَکم علی خیارِکم، فیدعو خیارُکم فلا یُستجاب لهُم».(2)

إنّ رضا الإمام المهدیّ عجل الله تعالی فرجه الشریف أیضاً، یحصل بالأمر بالمعروف والنهی عن المنکر؛ بناءً علی ذلک، یجب علی الإنسان المنتظر أن یبذل ما فی وِسعه لإصلاح المجتمع الذی یعیش فیه، والتأسّی فی هذا المجال بإمامه؛

ص:268


1- (1) المصدر السابق، ح 50.
2- (2) العلاّمة المجلسی، بحار الأنوار، ج 90، ص 378؛ صادق إحسان بخش، آثار الصادقین، ج 1، ص 125، ح 22.

لأنّ إمام العصر والزمان سیکون فی عصر الظهور، أکبر المنادین بفریضة الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، والداعین لتحقیقها علی أکمل وجه مُمکن. ولا شکّ فی أنّ المجتمع المنتظر هو المجتمع الذی یعمل علی إرضاء الإمام المهدیّ عجل الله تعالی فرجه الشریف، ویقتدی به فی جمیع أعماله، ویبذل کلّ طاقاته وقدراته لإقامة الأحکام الإلهیّة علی الأرض.

ج) الدعاء والابتهال

1. دعاء الندبة: یُعدّ هذا الدعاء من أبرَز مظاهر الانتظار لدی الشیعة، وقد کان محطّ اهتمامهم منذ سالِف الدهر إلی یومنا هذا. فالمنتظرون لقیام الإمام المهدیّ الموعود عجل الله تعالی فرجه الشریف کانوا طیلة التاریخ یطفئون لوعةَ الانتظار ببرودة دعاء الندبة، ویهدِّئون روعهم بقراءته؛ إذ أنّه فی حقیقة الأمر یعکس تاریخاً مختصراً لحضور الحُجج والأولیاء الإلهیّین علی وجه الأرض، وهی السلسلة التی تبتدأ من النبیّ آدم علیه السلام، وتمتدّ إلی آخر الحُجج، الإمام المهدیّ المنتظر عجل الله تعالی فرجه الشریف.

إنّ من یأنَس بهذا الدعاء، ویَستشعِر من الأعماق مظلومیّة خلیفة النبیّ المصطفی صلی الله علیه و آله، یزداد عِشقاً وتلهّفاً للولایة، ویُضاعِف من ارتباطه بالولیّ، کما یتملّکه الإحساس بکلّ وجوده بالحاجة إلی حجّة الله علی الأرض. ولا شکّ فی أنّ مَن یقرأ دعاء الندبة، یُدرک عمق الکارثة التی حلّت بالمجتمعات البشریّة، إثر غیاب آخر الحُجج الإلهیّة، ویعی حجم المصیبة الناشئة عن حرمان البشریّة، من وجود الإمام المعصوم بین ظهرانیها؛ ولذا، لا یجد بُدّاً من إطلاق صرخات الاستغاثة والندبة، والبکاء والانتحاب علی المصائب والویلات التی حلّت به، وبأمثاله من الناس المؤمنین.

ص:269

لکنّ هذا البکاء والعویل بمثابة صرخة اعتراض بوجه جمیع الظالمین، الذین مهّدوا لغیبة آخر الأئمّة المعصومین، وإعلان الاستعداد والجاهزیّة لتوفیر الأرضیّة الملائمة؛ لظهور هذا الإمام الغائب عن الأنظار مرّة أُخری.

إنّ دعاء الندبة ورد عن الإمام الصادق علیه السلام، حیث علّمه لبعض أصحابه وشیعته،(1) وأکّد علیهم قراءته فی الأعیاد الأربعة: الفطر والأضحی والغدیر والجمعة. کما أنّنا مکلّفون فی عصر الغیبة، بأمر من الإمام أبی عبد الله الصادق علیه السلام، بمناجاة إمام العصر والزمان عجل الله تعالی فرجه الشریف بهذا الدعاء،(2) والطلب من الله تعالی بتعجیل ظهوره.

2. دعاء السلامة والتعجیل فی الظهور: من جملة مظاهر وعلامات الانتظار، الدعاء لسلامة الإمام الحجّة المنتظر عجل الله تعالی فرجه الشریف، والتعجیل فی فرجه الشریف. وفی هذا الصدد، قال الإمام جعفر الصادق علیه السلام:

«من قال بعد صلاة الفجر وصلاة الظهر: «اللهمّ صلِّ علی محمّد وآل محمّد وعجّل فرجهم "لم یمت حتّی یدرک القائم من آل محمّد صلی الله علیه و آله».(3)

إنّ الدعاء لفرَج الإمام علیه السلام عاملٌ هامّ للتخلّص من الفِتَن فی عصر الغیبة، فورَد فی ذلک عن الإمام الحسن العسکریّ علیه السلام، أنّه قال:

«والله لیغیبنّ غیبة، لا ینجو فیها من الهلَکة إلاّ من ثبّته الله عزّ وجلّ علی القول بإمامته، ووفّقه للدعاء بتعجیل فرجه».(4) وفی التوقیع الذی خرج لإسحق بن یعقوب، حثّ الإمام

ص:270


1- (1) أنظر: السیّد ابن طاووس، مصباح الزائر، ص 453.
2- (2) أنظر: الشیخ عبّاس القمّی مفاتیح الجنان، دعاء الندبة.
3- (3) العلاّمة المجلسی، بحار الأنوار، ج 83، ص 77، ح 11.
4- (4) الشیخ الصدوق، کمال الدین وتمام النعمة، تصحیح وتعلیق: علی أکبر الغفّاری، قم: مؤسّسة النشر الإسلامی التابعة لجماعة المدرّسین، ص 384؛ لطف الله صافی کلبایکانی، منتخب الأثر فی الإمام الثانی عشر، ص 288، ح 5.

المنتظر عجل الله تعالی فرجه الشریف الشیعة علی الدعاء له بالفرَج، فقال:

«وأکثروا الدعاء بتعجیل الفرج، فإنّ ذلک فرجکم».(1)

وبناءً علی ذلک، فإنّ الدعاء بالفرج، مضافاً إلی کونه إطاعة لأمر الإمام نفسه، فیه فرج للناس أیضاً. وفضلاً عن دعاء الفرج للإمام، یجب علی المؤمنین المنتظرین الدعاء لسلامة الإمام؛ ذلک أنّ دعاءنا له یبرز المحبّة والعشق الذی نکنّه له، ویکشف عن حرصنا علی أداء حقوقه علینا.(2) وبالإضافة إلی ذلک، فهناک نیفاً وثمانین فائدة من الفوائد الدنیویّة والأخرویّة، المترتّبة علی الدعاء لفرجِه صلوات الله علیه.(3)

د) احترام الأماکن والبقاع المنسوبة إلی الإمام

هناک أماکن کثیرة منسوبة إلی إمام العصر والزمان عجل الله تعالی فرجه الشریف، أضحی کلَّ واحد منها مظهراً من مظاهر الانتظار، ومَعلماً من معالمه. وقد تمّ التأکید علی الشیعة لحضور تلک الأماکن والبقاع المبارکة، ومناجاة الإمام فیها، وبثّه الشکوی من الغیبة الطویلة، والوضع المضطرب السائد فی العالم، والدعاء لتعجیل فرجه الشریف. وفیما یلی نستعرض بإیجاز بعض البقاع التی تُنسب إلی هذا الإمام الهمام:

1. مسجد الکوفة: یُعتبر مسجد الکوفة من جُملة الأماکن والبِقاع المقدّسة، ومن أبرَز مظاهر الانتظار، وسوف یکون فی عصر الظهور المرکز الإعلامیّ للإمام علیه السلام. فکما کان محبّوا أهل البیت والعترة الطاهرة علیهم السلام

ص:271


1- (1) الشیخ الطوسی، الغیبة، ص 292-293؛ أبو منصور الطبرسی، الاحتجاج، تعلیق وملاحظات: محمّد باقر الخرسان، النجف: دار النعمان للطباعة والنشر، 1996 م، ج 2، ص 284.
2- (2) أنظر: السیّد محمّد تقی الإصفهانی، وظیفة الأنام فی غیبة الإمام، ص 55.
3- (3) أنظر: السیّد محمّد تقی الإصفهانی، مکیال المکارم، تحقیق: السیّد علی عاشور، بیروت: مؤسّسة الأعلمی، ط 1، 1421 ه، ج 1، ص 14.

یجتمعون فی مسجد الکوفة الأعظم، عند منبر مولی المتّقین وإمام الموحّدین علیّ بن أبی طالب علیه السلام، ویستمعون إلی کلماته وتوصیاته وتوجیهاته القیّمة، سیجتمعون فی عصر الظهور تحت منبر آخرِ الأئمّة المعصومین علیهم السلام، ویستفیدون من الفیوضات الإلهیّة علی لسان الإمام الحجّة.

ولقد تبلوَرت هذه الحقیقة فی کلام الإمام الصادق علیه السلام، حیث قال:

«کأنّی أَنظر إلی القائم علی منبرِ الکوفة، وحوله أصحابه، ثلاثُ مائة وثلاثة عشر رجلاً، عِدّة أهل بدر، وهُم أصحابُ الألویة، وهُم حکّام الله فی أرضه علی خلقه».(1)

وقد صوّر الإمام أبو جعفر الباقر علیه السلام هذا الحدث التاریخیّ الهامّ بصیغة أُخری، فلمّا ذُکر عنده المهدیّ، قال:

«یدخل الکوفة، وبها ثلاث رایات قد اضطربت، فتصفوا له، ویدخل حتّی یأتی المنبر، فیخطب، فلا یدری الناس ما یقول من البکاء».(2)

أمّا فضیلة العبادة فی مسجد الکوفة، فقد بیّنها الإمام الباقر علیه السلام أیضاً، فقال:

«لو یعلم الناس ما فی مسجد الکوفة، لأعّدوا له الزاد والراحلة، من مکان بعید، وقال: صلاة فریضة فیه تعدل حجّة، وصلاة نافلة فیه تعدل عمرة».(3)

وقال أیضاً:

«صلاة فی مسجد الکوفة، الفریضة تعدل حجّة مقبولة، والتطوّع فیه تعدل عمرة مقبولة».(4)

2. مسجد السهلة: هذا المسجد من أهمّ المساجد بعد مسجد الکوفة، ویُعدّ من معالم ومظاهر الانتظار کذلک، وهو یقع علی بُعد ثلاثة

ص:272


1- (1) العلاّمة المجلسی، بحار الأنوار، ج 52، ص 326.
2- (2) أبو الحسن، علی بن عیسی بن أبی الفتح الأربَلی، کشف الغمّة، ج 2، ص 463.
3- (3) جعفر بن محمّد بن قولویه، کامل الزیارات، تحقیق: الشیخ جواد القیومی، قم: مؤسّسة النشر الإسلامی، ط 1، 1417 ه، ص 71، ح 3.
4- (4) المصدر السابق، ح 4.

کیلومترات إلی الشمال الغربیّ من مسجد الکوفة فی جنوب العراق. هذا، ویقوم المنتظرون لظهور الإمام فی عصر الغیبة بزیارة مسجد السهلة، الذی هو بیت الإمام القائم عجل الله تعالی فرجه الشریف، ویبتهلون فیه إلی الباری عزّ وجلّ فی التعجیل بظهوره المبارک. ویضمّ هذا المسجد بقعة تُعرف باسم «مقام المهدیّ»، حیث یقصدها المحبّون للإمام، تعبیراً عن وفائهم له واشتیاقهم للقائه. وقد ورد فی بعض کتب الزیارات أنّه یستحب الوقوف فیه وقراءة زیارة إمام العصر والزمان عجل الله تعالی فرجه الشریف، التی مطلعها:

«سلام الله الکامل التامّ الشامل العامّ...».(1)

وروی عن أبی بصیر، عن أبی عبد الله صلوات الله علیه، أنّه قال:

«یا أبا محمّد، کأنّی أری نزول القائم فی مسجد السهلة بأهله وعیاله. قلت: یکون منزله؟ قال: نعم، هو منزل إدریس علیه السلام، وما بعَث الله نبیّاً إلا ّوقد صلّی فیه».(2)

لقد دأب الصالحون والمؤمنون، مضافاً إلی العلماء، علی التشرّف بزیارة هذا المسجد، والطلب من الله لقضاء حوائجهم من خلال التوسّل بجاه صاحبه، حتّی أنّ بعضهم واظب علی زیارة مسجد الکوفة ومسجد السهلة أربعین مرّة فی لیالی الجمعة، أو باتوا أربعین لیلة من لیالی الأربعاء فی مسجد السهلة، وقضوها بالتضرّع والعبادة والابتهال إلی الله تعالی، من أجل التشرّف بلقاء الإمام الغائب،(3) ومناجاته والتحدّث إلیه.

3. مسجد جمکران المقدّس: یقع مسجد جمکران علی مسافة ستّة کیلومترات من مدینة قم المقدّسة، وعلی طریق مدینة کاشان، وهو عبارة

ص:273


1- (1) الشیخ عبّاس القمّی، مفاتیح الجنان، أعمال مسجد السهلة.
2- (2) العلاّمة المجلسی، بحار الأنوار، ج 52، ص 317.
3- (3) أنظر: الشیخ عبّاس القمّی، مفاتیح الجنان.

عن تلک البقعة التی أُنشأت بتوجیه من الإمام الحجّة المنتظر عجل الله تعالی فرجه الشریف، کما طالب الشیعة بالتوجّه إلی هذا المکان، وقصد زیارته، وإضفاء القدسیّة علیه. فقد أمر الإمام حسن بن مثلة، بأن یقول للناس باحترام هذه البقعة لشرفها وعلوّ شأنها، ثمّ علّمه ضربین من الصلاة: صلاة تحیّة المسجد، وصلاة إمام العصر والزمان عجل الله تعالی فرجه الشریف، مؤکّداً له علی أنّ من صلّی هاتین الصلاتین، فهو کمن صلّی فی الکعبة.(1)

ولقد مضی زمن طویل وحشود المؤمنین المنتظرین والعشّاق للإمام الغائب تتوافد، من الجمهوریّة الإسلامیّة فی إیران وسائر أقطار العالم الإسلامیّ، علی هذا المکان المقدّس فی لیالی الأربعاء، بعیون باکیة وقلوب دامیة، ملؤها المحبّة لأهل البیت الطاهرین المعصومین المظلومین علیهم السلام، فیؤدّون الأعمال المسنونة فی المسجد، وعلی رأسها الصلوات المذکورة، ویرفعون أیدیهم بالدعاء إلی الباری تعالی، ویلتمسون قضاء حوائجهم بالجاه الذی عند الله لهذا الإمام الهمام، ویبثّون شکواهم ونجواهم لطول غیبة إمامهم المنتظر، والظلم الذی حلّ بالشیعة فی أقصی بقاع العالم، والکوارث التی ألمّت بالعالم فی عصر الغیبة، کما یبتهلون إلی بارئهم فی حلّ مشاکل المجتمعات الإسلامیّة، وشفاء المرضی، وقضاء حوائج المحتاجین، وخاصّة تعجیل فرج الإمام الحجّة بن الحسن عجل الله تعالی فرجه الشریف.

4. مسجد صعصعة: هذا المسجد من المساجد المشرّفة فی مدینة الکوفة. فقد ورَد أنّ بعض المنتظرین للقائم عجل الله تعالی فرجه الشریف، صلّوا فی شهر رجب فی بعض المواضع المشرّفة، ومنها مسجد صعصعة بن صوحان، وإذا بهم یشاهدون رجلاً یصلّی ویدعو بهذا الدعاء: «یا ذا المنن السابغة، والآلاء

ص:274


1- (1) أنظر: المیرزا حسین النوری الطبرسی، النجم الثاقب، ص 212.

الوازعة...». والظاهر من هذا العمل أنّ هذا الدعاء خاصّ بهذا المسجد الشریف، ومن جملة أعماله، کما هو الحال فی أدعیة وأعمال مسجد السهلة وغیره. لکن، بما أنّ الإمام علیه السلام قرأ هذا الدعاء فی شهر رجب، یُحتمل فیه أن یکون من الأدعیة الخاصّة بهذا الشهر؛ ولذا ذُکر فی کتب الأدعیة ضمن أعمال شهر رجب.(1)

وعلی هذا الأساس، یحضر المنتظرون إلی مسجد صعصعة، ویرفعون أیدیهم بالدعاء والتوسّل، ویذرفون الدموع علی فراق الإمام الغائب، محمّد بن الحسن المهدیّ عجل الله تعالی فرجه الشریف، ویبتلهون إلی الله عزّ وجلّ فی التعجیل بظهوره المبارک.

ص:275


1- (1) مفاتیح الجنان، نهایة الفصل 6؛ حسین کریمی بیدگلی، فرهنگ موعود (ثقافة الموعود)، ص 222-223.

مصادر للمطالعة

1. علی أکبر مهدی بور، با دعای ندبه در پگاه جمعة (مع دعاء الندبة فی صباح الجمعة).

2. حسین کریمی بیدگلی، فرهنگ موعود (ثقافة الموعود).

الحدیث الختامیّ

قال الإمام محمّد بن الحسن، الحجّة، القائم، المنتظر، المهدیّ عجل الله تعالی فرجه الشریف:

«وأکثروا الدعاء بتعجیل الفرَج، فإنّ ذلک فرجکم»(1)

ص:276


1- (1) الشیخ الطوسی، الغیبة، ص 292-293؛ أبو منصور الطبرسی، الاحتجاج، تعلیق وملاحظات: محمّد باقر الخرسان، النجف: دار النعمان للطباعة والنشر، 1996 م، ج 2، ص 284.

المصادر والمراجع

1. نهج البلاغة.

2. نهج الفصاحة.

3. غرر الحکم.

4. أذربیجانی، مسعود، وسالاری فر، محمد رضا، روانشناسی عمومی (علم النفس العام)، ط 2، انتشارات زمزم هدایت، قم، 1383 ه. ش.

5. الآمدی التمیمی، عبد الواحد، غرر الحِکَم ودرر الکلم، تحقیق: محمد علی أنصاری قمی، طهران، 1337 ه. ش.

6. ابن أبی الحدید المعتزلی، شرح نهج البلاغة، انتشارات مکتبة آیة الله المرعشی، قم، 1404 ه. ق.

7. ابن الأثیر، علی بن أبی الکرم محمد، الکامل فی التاریخ، دار الفکر، بیروت، 1397 ه. ق.

8. ابن حجر العسقلانی، شهاب الدین بن حجر، مقدمة فتح الباری شرح صحیح البخاری، دار المعرفة للطباعة والنشر، بیروت.

9. -، لسان المیزان، ط 2، مؤسسة الأعلمی للمطبوعات، بیروت، 1390 ه. ق.

10. ابن حنبل، أحمد بن حنبل، المسند، دار صادر، بیروت.

11. ابن سعد، الطبقات الکبری، دار صادر، بیروت.

12. ابن شهر آشوب، المناقب، المطبعة الحیدریة، النجف الأشرف، 1376 ه. ق.

13. ابن عساکر، أبو القاسم علی بن الحسن، تاریخ دمشق (ترجمة الإمام علی بن أبی طالب علیه السلام)، تحقیق: محمد باقر المحمودی، ط 2، دار التعارف، بیروت، 1395 ه. ق.

ص:277

14. ابن فارس، أحمد، معجم مقائیس اللغة، تحقیق: عبد السلام محمد هارون، مکتب الإعلام الإسلامی، قم، 1404 ه. ق.

15. ابن قولویه، جعفر بن محمد، کامل الزیارات، ترجمة: جواد ذهنی طهرانی، ط 1، دار گنجینه ذهن، 1381 ه. ش.

16. ابن کثیر، الحافظ أبو الفداء، البدایة والنهایة، دار إحیاء التراث العربی، بیروت، 1408 ه. ق.

17. ابن المغازلی، المناقب، تحقیق وتعلیق: محمد باقر البهبودی، ط 2، المکتبة الإسلامیة، طهران، 1403 ه. ق.

18. ابن منظور، محمد بن مکرم، لسان العرب، دار إحیاء التراث، بیروت، 1405 ه. ق.

19. ابن هشام الحمیری المعافری، عبد الملک، السیرة النبویة، تحقیق: مصطفی السقّا وإبراهیم الأبیاری وعبد الحفیظ شلبی، دار المعرفة، بیروت.

20. -، السیرة النبویة، ترجمة: السیّد هاشم رسولی، ط 5، انتشارات کتابچی، طهران، 1375 ه. ش.

21. ابن هشام، محمد بن إسحق، سیرة ابن هشام، تحقیق: محمد محیی الدین عبد الحمید، مکتبة محمد علی صبیح وأولاده، مصر، 1383 ه. ق.

22. ابن سینا، شرح الإشارات، نشر البلاغة، 1375 ه. ق.

23. -، معراج نامه (رسالة فی المعراج)، رشت، 1352 ه. ق.

24. أبو شجاع شیروی بن شهردار بن شیرویه الدیلمیّ، الفردوس بمأثور الخطاب، دار الکتب العلمیة، بیروت.

25. احسان بخش، صادق، آثار الصادقین، انتشارات دار القلم، قم، 1366 ه. ش.

26. أحمدی، محمد أمین، انتظارات بشر از دین (توقّعات البشر من الدین)، مرکز العلوم والثقافة الإسلامیة التابع لمکتب الإعلام الإسلامی، ط 1، قم، 1384 ه. ش.

27. الأربلی، علی بن عیسی، کشف الغمّة، دار الکتب الإسلامیة، 1410 ه. ق.

28. الاصفهانی، السیّد محمد تقی، مکیال المکارم، ترجمة: السیّد مهدی حائری، انتشارات ایران نگین، 1381 ه. ش.

29. الإمام الحسن العسکری علیه السلام، تفسیر الإمام العسکری علیه السلام، انتشارات مدرسة الإمام المهدی عجل الله تعالی فرجه الشریف، قم، 1409 ه. ق.

30. الأمین، السیّد محسن، کشف الارتیاب فی أتباع محمد بن عبد الوهاب، مؤسسة أنصاریان، قم.

31. -، الترجمة الفارسیة لکتاب کشف الارتیاب، ترجمة: السیّد إبراهیم السیّد علوی، دار سپهر، طهران، 1367 ه. ش.

ص:278

32. الأمینی، عبد الحسین، الغدیر، دار الکتاب العربی، بیروت، 1397 ه. ق.

33. إی بیرک، لورا، روان شناسی رشد (از لقاح تا کودکی) / دراسة نفسیّة للنموّ (من اللقاح حتّی الطفولة)، ترجمة: یحیی سیّد محمدی، نشر ارسباران، طهران، 1386 ه. ش.

34. إیزدپور، محمد رضا، معراج پیامبر صلی الله علیه و آله در دیدگاه عقل ووحی وآثار تربیتی آن (معراج النبیّ صلی الله علیه و آله بنظر العقل والوحی وآثاره التربویّة)، فصلیّة: الکوثر، العدد 68، شتاء 1385 ه. ش.

35. باقری نجفی، غلام رضا، أنوار الهدایة فی مباحث الإمامة والولایة.

36. باهنر، محمد جواد، فرهنگ انقلاب اسلامی (ثقافة الثورة الإسلامیّة)، ط 10، دفتر نشر فرهنگ اسلامی، 1372 ه. ش.

37. البحرانی، أبو المکارم السیّد هاشم بن السیّد سلیمان، غایة المرام وحجّة الخصام فی تبیین الإمام عن طریق الخاص والعام، تحقیق: السیّد علی عاشور.

38. البخاری، محمد بن إسماعیل، صحیح البخاری، دار الفکر، بیروت، 1401 ه. ق.

39. البلاذری، أحمد بن یحیی، أنساب الأشراف، دار النشر، بیروت، 1400 ه. ق.

40. البیاضی النباطی، علی بن یونس، الصراط المستقیم، المکتبة الحیدریة، النجف، 1384 ه. ق.

41. البیّنات، السنة الثانیة، العدد 8، شتاء 1374 ه. ش.

42. پیشوائی، مهدی، تاریخ اسلام (تاریخ الاسلام)، ط 6، دفتر نشر معارف، 1386 ه. ش.

43. التبریزی، محمد حسین بن خلف، البرهان القاطع، مؤسسة انتشارات أمیر کبیر، 1362 ه. ش.

44. الترمذی، محمد بن عیسی، سنن الترمذی، تحقیق: عبد الوهاب عبد اللطیف، دار الفکر، بیروت، 1403 ه. ق.

45. التستری، القاضی نور الله، الصوارم المهرقة فی نقد الصواعق المحرقة، تحقیق: السیّد جلال الدین المحدّث، مطبعة النهضة.

46. الجعفری، محمد تقی، جبر واختیار (الجبر والاختیار)، ط 3، مؤسسة تدوین ونشر آثار العلاّمة الجعفری، 1385 ه. ش.

47. -، فلسفه دین (فلسفة الدین)، ط 3، مرکز الثقافة والفکر الإسلامی للبحوث، قم، 1386 ه. ش.

48. الجعفری، یعقوب، الکوثر، انتشارات هجرت، قم، 1376 ه. ش.

49. جوادی آملی، عبد الله، ارتداد وآزادی (الردّة والحریّة)، مجلّة: پاسدار اسلام، العام 22، العدد 265.

ص:279

50. -، تفسیر موضوعی قرآن کریم، وحی ونبوت در قرآن (التفسیر الموضوعی للقرآن الکریم، الوحی والنبوة فی القرآن)، ط 1، مرکز نشر إسراء، قم، 1381 ه. ش.

51. -، تفسیر موضوعی قرآن کریم، معاد در قرآن (التفسیر الموضوعی للقرآن الکریم، المعاد فی القرآن)، انتشارات إسراء، 1381 ه. ش.

52. الجوینی الحموی، إبراهیم بن محمد، فرائد السمطین فی فضائل المرتضی والبتول والسبطین والأئمة من ذریتهم، تحقیق: محمد باقر المحمودی، مؤسسة المحمودی، بیروت، 1398 ه. ق.

53. الحاکم النیسابوری، محمد بن محمد، المستدرک علی الصحیحین، تحقیق: الدکتور یوسف مرعشلی، دار المعرفة، بیروت، 1406 ه. ق.

54. الحاکم الحسکانی، عبید الله بن أحمد، شواهد التنزیل لقواعد التفضیل، ط 1، مؤسسة الطباعة والنشر فی وزراة الإرشاد الإسلامی، طهران، 1411 ه. ق.

55. الحرّ العاملی، محمد بن الحسن، وسائل الشیعة، ط 2، مؤسسة آل البیت لإحیاء التراث، قم، 1414 ه. ق.

56. -، إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات، دار الکتب الإسلامیة، طهران، 1364 ه. ق.

57. الحسنی أبو المکارم، محمود بن محمد، دقائق التأویل وحقائق التنزیل، نشر میراث مکتوب، طهران، 1381 ه. ش.

58. الحسینی الحصینی، حسین بن حمدان، الهدایة الکبری، مؤسسة البلاغ.

59. الحسینی الجرجانی، السیّد أمیر أبو الفتوح، آیات الأحکام (الجرجانی)، ط 1، انتشارات نوید، طهران، 1404 ه. ق.

60. الحسینی الشیرازی، السیّد محمد، تبیین القرآن، ط 2، دار العلوم، بیروت، 1423 ه. ق.

61. حقیقت، السیّد صادق، ومیر موسوی، السیّد علی، مبانی حقوق بشر از دیدگاه اسلام ودیگر مکاتب (أسس حقوق الإنسان فی الإسلام وباقی الأدیان)، طهران.

62. حکیمی، محمد رضا، خورشید مغرب (شمس الغروب)، دفتر نشر فرهنگ اسلامی، 1381 ه. ش.

63. الحلی، الحسن بن یوسف، کشف المراد، ط 1، مؤسسة الإمام الصادق علیه السلام، قم، 1382 ه. ش.

64. -، کشف المراد فی شرح تجرید الاعتقاد، ط 11، جماعة المدرسین فی حوزة قم العلمیة، قم، 1427 ه. ق.

65. -، کشف الیقین فی فضائل أمیر المؤمنین علیه السلام، ط 1، انتشارات وزارة الإرشاد، طهران، 1411 ه. ق.

ص:280

66. حمید رضا شاکرین بالتعاون مع عدد من الباحثین، پرسش ها وپاسخ های برگزیده دانشجوئی (مختارات من الأسئلة والردود للطلاب الجامعیّین)، ممثلیّة الولیّ الفقیه فی الجامعات (نشر معارف)، ط 2، 1384 ه. ش.

67. الحیدری، السیّد کمال، التوحید، دار الفراقد، قم، 1428 ه. ق.

68. خانی رضا، حشمت الله ریاضی، ترجمة بیان السعادة فی مقامات العبادة، مرکز الطباعة والنشر فی جامعة پیام نور، طهران، 1372 ه. ش.

69. الخوارزمی، الموفق بن أحمد، المناقب، تحقیق: الشیخ مالک المحمودی، ط 2، مؤسسة النشر الإسلامی التابعة لجماعة المدرسین، قم، 1411 ه. ق.

70. دارمستر، مهدی از صدر اسلام تا قرن 13 هجری (المهدیّ من صدر الإسلام حتّی القرن الثالث عشر الهجریّ)، ترجمة: محسن جهان سوز.

71. داور پناه، أبو الفضل، أنوار العرفان، انتشارات صدر، طهران، 1375 ه. ش.

72. دوانی، علی، تاریخ اسلام از آغاز تا هجرت (التاریخ الإسلامیّ من بدء الدعوة إلی الهجرة)، دفتر انتشارات إسلامی، قم، 1373 ه. ش.

73. دهخدا، علی أکبر، فرهنگ دهخدا، طباعة ونشر جامعة طهران، 1373 ه. ش.

74. الذهبی، شمس الدین محمد بن أحمد، سیر أعلام النبلاء، تحقیق: شعیب الأرنؤوط وحسین الأسد، ط 9، مؤسسة الرسالة، بیروت، 1413 ه. ق.

75. الرازی، أبو الفتح، روض الجنان وروح الجنان فی تفسیر القرآن، مؤسسة البحوث الإسلامیة فی الروضة الرضویة المقدسة، مشهد، 1408 ه. ق.

76. الراغب الاصفهانی، الحسین بن محمد، المفردات فی غریب القرآن، ط 1، دار العلم والدار الشامیة، دمشق - بیروت، 1412 ه. ق.

77. الربانی الگلبایگانی، علی، الجبر والاختیار، مؤسسة سیّد الشهداء للتحقیق، قم، 1368 ه. ش.

78. رسولی محلاتی، السیّد هاشم، زندگانی حضرت محمد (سیرة النبیّ محمّد صلی الله علیه و آله)، طهران: دفتر نشر فرهنگ اسلامی، طهران، 1374 ه. ش.

79. رضی الدین علی بن موسی، السیّد جعفر بن طاووس، إقبال الأعمال، مکتبة الإعلام الإسلامی، 1414 ه. ق.

80. روسو، جان جاک، امیل یا آموزش وپرورش (الفطرة أم التعلیم والتربیة)، ترجمه إلی الفارسیّة: غلام حسین زیرک زادة، طباعة رشیدیة.

81. الری شهری، محمد، میزان الحکمة، منشورات الدار الإسلامیة، بیروت، 1989 م.

82. الری شهری، محمد، منتخب میزان الحکمة، ترجمة: حمید رضا شیخی، دار الحدیث، قم، 1325 ه. ق.

ص:281

83. الزمخشری الخوارزمی، جار الله محمود بن عمر، الکشّاف عن حقائق التنزیل وعیون الأقاویل فی وجوه التأویل، دار المعرفة، بیروت.

84. السبحانی، جعفر، شفاعت در قلمرو عقل، قرآن، وحدیث (الشفاعة فی إطار العقل والقرآن والحدیث)، انتشارات در الکتب الإسلامیة، 1353 ه. ش.

85. -، آیین وهابیت (مذهب الوهابیّة)، دفتر انتشارات اسلامی، 1364 ه. ش.

86. -، الإلهیات علی هدی الکتاب والسنّة، المرکز العالمی للدراسات الإسلامیة، قم، 1411 ه. ق.

87. -، القضاء والقدر فی العلم والفلسفة الإسلامیة، ترجمة: محمد هادی الیوسفی.

88. -، تفسیر موضوعی، منشور جاوید (التفسیر الموضوعی، المیثاق الخالد)، انتشارات توحید، 1373 ه. ش.

89. -، فروغ ابدیت (شعاع الخلود)، ط 9، مرکز النشر فی مکتب الإعلام الإسلامی، قم، 1373 ه. ش.

90. -، فرهنگ عقاید ومذاهب اسلامی (معجم العقائد والمذاهب الإسلامیّة)، مؤسسة الإمام الصادق علیه السلام، قم، 1378 ه. ش.

91. -، منشور جاوید (المیثاق الخالد)، دار القرآن الکریم، 1410 ه. ق.

92. ستاری، جلال، اسطوره در جهان (الأسطورة فی العالم)، الطباعة والنشر فی وزارة الأمور الخارجیة، 1376 ه. ش.

93. السمرقندی، النضر بن مسعود بن عیّاش، تفسیر العیّاشی، تحقیق: السیّد هاشم رسولی محلاتی، المکتبة العلمیة الإسلامیة، طهران.

94. السیوطی، جلال الدین عبد الرحمن بن أبی بکر، الجامع الصغیر، ط 1، دار الفکر، بیروت، 1401 ه. ق.

95. شرف الدین الموسوی، السیّد عبد الحسین، الفصول المهمة فی تألیف الأمة، ط 7، بیروت، 1977 م.

96. الشریف اللاهیجی، محمد بن علی، تفسیر الشریف اللاهیجی، دفتر نشر داد، طهران، 1373 ه. ش.

97. شولتز دوان وسیدنی آلن، نظریه های شخصیت (النظریّات حول الشخصیّة)، ترجمه إلی الفارسیّة: یوسف کریمی وآخرون، ط 5، نشر ارسباران، 1384 ه. ش.

98. الشیخ الصدوق، أبو جعفر، محمد بن علی بن الحسین بن بابویه القمی، التوحید، جماعة المدرسین فی حوزة قم العلمیة، قم، 1387 ه. ق.

ص:282

99. -، الخصال، انتشارات جماعة المدرسین، قم، 1403 ه. ق.

100. -، عیون أخبار الرضا، مؤسسة الأعلمی، بیروت، 1404 ه. ق.

101. -، کمال الدین وتمام النعمة، تصحیح وتعلیق: علی أکبر غفاری، مؤسسة النشر الإسلامی التابعة لجماعة المدرسین، قم، 1405 ه. ق.

102. -، من لا یحضره الفقیه، جماعة المدرسین فی حوزة قم العلمیة، قم، 1404 ه. ق.

103. -، الأمالی، انتشارات المکتبة الإسلامیة، 1362 ه. ش.

104. الشیخ الطوسی، محمد بن الحسن، التبیان فی تفسیر القرآن، دار إحیاء التراث العربی، بیروت.

105. الشیخ عباس القمی، مفاتیح الجنان.

106. الشیخ المفید، محمد بن النعمان، الإرشاد، ترجمة وشرح: هاشم رسولی محلاتی، نشر فرهنگ اسلامی، طهران، 1378 ه. ش.

107. -، الفصول المختارة، ط 1، نشر مؤتمر الشیخ المفید فی قم، 1413 ه. ق.

108. -، أوائل المقالات، ط 2، دار المفید، بیروت، 1414 ه. ق.

109. -، مصنفات المؤتمر العالمی لألفیة الشیخ المفید، ط 1، 1413 ه. ق.

110. صافی گلبایگانی، لطف الله، امامت ومهدویت (الإمامة والمهدویة)، دفتر انتشارات اسلامی، 1365 ه. ش.

111. -، منتخب الأثر فی الإمام الثانی عشر، مؤسسة السیّدة المعصومة، قم، 1419 ه. ق.

112. صدر المتألهین، سه رساله فلسفی (ثلاث رسائل فلسفیة)، ط 3، مکتب الإعلام الإسلامی، قم، 1387 ه. ش.

113. الصفار القمی، محمد بن الحسن بن فروخ، بصائر الدرجات، مکتبة آیة الله المرعشی، قم.

114. طاهری، علی رضا، فرهنگ اصطلاحات متقابل ومتشابه (معجم المصطلحات المتقابلة والمتشابهة)، انتشارات بخشایش، 1385 ه. ش.

115. الطباطبائی، السیّد محمد حسین، المیزان فی تفسیر القرآن، ترجمة: السیّد محمد باقر الموسوی الهمدانی، ط 5، دفتر انتشارات اسلامی، قم، 1374 ه. ش.

116. الطباطبائی، السیّد محمد حسین، المیزان فی تفسیر القرآن، دفتر انتشارات اسلامی، قم، 1417 ه. ق.

117. الطبرانی، سلیمان بن أحمد، المعجم الکبیر، تحقیق: حمدی عبد المجید السلفی، القاهرة، مکتبة ابن تیمیة.

118. الطبرسی، الفضل بن الحسن، مجمع البیان، انتشارات ناصر خسرو، طهران، 1372 ه. ش.

ص:283

119. الطبرسی النوری، المیرزا حسین، النجم الثاقب، المکتبة الإسلامیة، من دون تاریخ.

120. الطبرسی، أبو منصور أحمد بن علی بن أبی طالب، الاحتجاج، دار النعمان، النجف، 1386 ه. ق.

121. -، الاحتجاج علی أهل اللجاج، ط 1، انتشارات المرتضی، مشهد، 1403 ه. ق.

122. الطبرسی، أمین الإسلام الفضل بن الحسن، إعلام الوری بأعلام الهدی، ط 3، انتشارات الإسلامیة، طهران، 1390 ه. ق.

123. الطبری، أحمد بن عبد الله، ذخائر العقبی فی مناقب ذوی القربی، مکتبة القدسی لحسام الدین القدسی، 1356 ه. ق.

124. الطبری، محمد بن جریر، تاریخ الطبری، مؤسسة الأعلمی للمطبوعات، بیروت، 1987 م.

125. الطبسی النجفی، الشیخ محمد رضا، الشیعة والرجعة، النجف، 1385 ه. ق.

126. الطبسی، نجم الدین، رویکرد عقلانی بر باورهای وهابیت (رؤیة عقلانیّة إلی عقائد الوهابیّة)، أمیر العلم، قم، 1384 ه. ش.

127. الطریحی، فخر الدین، مجمع البحرین، تحقیق: السیّد أحمد الحسینی، ط 2، مرکز نشر الثقافة، 1408 ه. ق.

128. الطوسی، أبو جعفر محمد بن الحسن، الاستبصار، دار التعارف، بیروت، 1412 ه. ق.

129. -، تهذیب الأحکام، ط 4، دار الکتب الأمیة، طهران، 1365 ه. ق.

130. الطیب، عبد الحسین، تفسیر أطیب البیان، ط 2، انتشارات الإسلام، طهران، 1378 ه. ش.

131. العروسی الحوزیری، عبد علی بن جمعة، تفسیر نور الثقلین، انتشارات إسماعیلیان، قم، 1415 ه. ق.

132. عزیزی، یوسف، داستان پیامبران یا قصههای قرآن از آدم تا خاتم (قصص الأنبیاء أو القصص القرآنی من آدم حتّی النبیّ الخاتم)، ط 1، انتشارات هاد، طهران، 1380 ه. ش.

133. عمید، حسن، فرهنگ فارسی عمید (معجم عمید الفارسی)، ط 19، انتشارات أمیر کبیر، طهران، 1379 ه. ش.

134. غرویان، محسن، پرسش های فکری ودینی جوانان (أسئلة فکریّة ودینیّة للشباب)، ط 3، انتشارات مؤسّسة یمین الثقافیة، قم، 1380 ه. ش.

135. فخر الدین الرازی، أبو عبد الله محمد بن عمر، مفاتیح الغیب، ط 3، دار إحیاء التراث العربی، بیروت، 1420 ه. ق.

136. الفخر الرازی، التفسیر الکبیر، دار إحیاء التراث العربی، بیروت.

137. الفراهیدی، الخلیل بن أحمد، کتاب العین، تحقیق: مهدی المخزومی وإبراهیم السامرائی، مؤسسة دار الهجرة، 1408 ه. ق.

ص:284

138. فصلیة الانتظار، مرکز المهدویة التخصصی، العام الثانی، العدد 6، شتاء 1381 ه. ش.

139. القاضی، عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، دار إحیاء التراث العربی، بیروت، 1422 ه. ق.

140. القرشی، السیّد علی أکبر، تفسیر أحسن الحدیث، مؤسسة بعثت، طهران، 1377 ه. ش.

141. -، قاموس القرآن، دار الکتب الإسلامیة، طهران، 1371 ه. ش.

142. القشیری النیسابوری، مسلم بن الحجاج بن مسلم، صحیح مسلم، دار الفکر، بیروت.

143. القندوزی الحنفی، الشیخ سلیمان بن الشیخ إبراهیم، ینابیع المودّة لذوی القربی، تصحیح وتعلیق: علاء الدین الأعلمی، ط 1، مؤسسة الأعلمی للمطبوعات، بیروت، 1418 ه. ق.

144. الکاتب النعمانی، محمد بن إبراهیم بن جعفر، غیبة النعمانی، ط 1، منشورات مؤسسة الأعلمی للمطبوعات، بیروت، 1983 م.

145. کریمی بیدگلی، حسین، فرهنگ موعود (ثقافة الموعود)، انتشارات حرّ، قم.

146. الکلینی، محمد بن یعقوب، أصول الکافی، دار الکتب الإسلامیة، طهران، 1365 ه. ش.

147. لطف آبادی، حسین، روان شناسی رشد (2) نوجوانی، جوانی، بزرگسالی (دراسة نفسیّة للنموّ عند الیافعین، والشباب، والکبار)، نشر سمت، طهران، 1384 ه. ش.

148. المجلسی، محمد باقر، بحار الأنوار، ط 4، مؤسسة الوفاء، بیروت، 1404 ه. ق.

149. مجموعة مترجمین، ترجمة مجمع البیان فی تفسیر القرآن، ط 1، انتشارات فراهانی، طهران، 1360 ه. ش.

150. مجموعة مؤلفین، روان شناسی رشد (1) با نگرش به منابع اسلامی (دراسة نفسیّة للنموّ (1) فی ضوء المصادر الإسلامیّة)، نشر سمت، ط 1، 1374 ه. ش.

151. مجموعة مؤلفین، مجمع اللغات، المعجم الجامع الحدیث، أحمد سیاح.

152. مصباح یزدی، محمد تقی، آموزش عقاید (دراسة العقائد)، ط 15، منظمة الإعلام الإسلامی، 1376 ه. ش.

153. -، مجموعه آثار (مشکات)، پرسشها وپاسخ ها (مجموعة آثار (المشکاة) أسئلة وردود)، مؤسّسة الإمام الخمینیّ للدراسات والبحوث، ط 1، قم، 1385 ه. ش.

154. -، معارف قرآن (المعارف القرآنیّة)، ط 5، مؤسّسة الإمام الخمینیّ للدراسات والبحوث، قم، 1384 ه. ش.

155. -، نظریه حقوقی اسلام (النظریّة الحقوقیّة فی الإسلام)، ط 1، مؤسّسة الإمام الخمینیّ للدراسات والبحوث، قم، 1380 ه. ش.

ص:285

156. مصطفوی، حسن، التحقیق فی کلمات القرآن الکریم، مؤسسة ترجمة ونشر الکتاب، طهران، 1360 ه. ش.

157. مطهری، مرتضی، عدل الهی (العدل الإلهی)، صدرا، 1371 ه. ش.

158. -، مجموعة آثار (1)، انتشارات صدرا، طهران، 1373 ه. ش.

159. -، مجموعة آثار، ط 13، انتشارات صدرا، طهران، 1385 ه. ش.

160. معجم أحادیث الإمام المهدی عجل الله تعالی فرجه الشریف، تألیف ونشر مؤسسة المعارف الإسلامیة، ط 1، مطبعة بهمن، قم، 1411 ه. ق.

161. معروف الحسنی، هاشم، دراسات فی الحدیث والمحدّثین، دار التعارف للمطبوعات، بیروت، 1398 ه. ق.

162. مکارم الشیرازی، ناصر، الأمثل فی تفسیر کتاب الله المنزّل، مکتبة أهل البیت علیهم السلام الإلکترونیة.

163. -، تفسیر نمونه، ط 1، دار الکتب الإسلامیة، طهران، 1374 ه. ش.

164. -، پیام قرآن (رسالة القرآن)، ط 5، دار الکتب الإسلامیة، طهران، 1381 ه. ش.

165. -، پنجاه درس أصول عقائد (خمسون درساً فی أصول العقائد)، مدرسة الإمام أمیر المؤمنین علیه السلام، قم، 1376 ه. ش.

166. -، مهدی انقلاب بزرگ (المهدیّ ثورة عظیمة)، انتشارات مطبوعاتی هدف، قم.

167. مهدی کی نیا، روان شناسی جنائی (علم النفس الجنائیّ)، ط 5، انتشارات رشد، طهران، 1384 ه. ش.

168. نجفی خمینی، محمد جواد، تفسیر آسان (التفسیر السهل)، ط 1، انتشارات اسلامیة، طهران، 1398 ه. ق.

169. النراقی، محمد مهدی، أنیس الموحدین،، ط 1، انتشارات الزاء، 1363 ه. ش.

170. النسائی، أحمد بن شعیب، سنن النسائی، ط 1، دار الفکر، بیروت، 1348 ه. ق.

171. النمازی الشاهرودی، علی، مستدرک سفینة البحار، مؤسسة النشر الإسلامی، قم، 1419 ه. ق.

172. النوری الطبرسی، المیرزا حسین، مستدرک الوسائل، ط 1، مؤسسة آل البیت لإحیاء التراث، قم، 1408 ه. ق.

173. النیسابوری، محمد بن فتّال، روضة الواعظین، منشورات الرضی، قم.

174. هاشمی شهیدی، سید أسد الله، ظهور حضرت مهدی از دیدگاه إسلام ومذاهب جهانیان (ظهور الإمام المهدیّ من وجهة نظر الإسلام والأدیان العالمیّة)، مسجد

ص:286

جمکران المقدس، قم، 1380 ه. ش.

175. الهندی، علاء الدین علی المتقی بن حسام الدین، کنز العمال فی سنن الأقوال والأفعال، تحقیق: مطحمود عمر الدمیاطی، ط 1، دار الکتب العلمیة، بیروت، 1419 ه. ق.

176. الهیثمی، نور الدین علی بن أبی بکر، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، دار الکتب العلمیة، بیروت، 1408 ه. ق.

177. یوسف مدن، سیکولوجیة الانتظار، دار الهادی للطباعة والنشر، بیروت، 1422 ه. ق.

ص:287

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.