ص :2

تداعیات الثورة لاسلامیه فی العالم الاسلامی

منوچهر محمدی

ص :3

ضروریة لمواجهة الشعارات الخوّاء فی عصر العولمة فی ضوء التدقیق والملاحظة والنقد البنّاء لاجتیاح أیّ فقرة یخشی أن تسبّب مشکلات فی مقتبل الأیام.

ومن هذا المنطلق یتطلّب الصعید الحوزوی النیّر لضرورة الوقوف علی آخر المستجدّات الفکریة فی حقولها المتعدّدة والاستعانة بضروب من التحقیق العلمی الرصین بمعاییر عالمیة حیّة لتوظَّف فی نطاق الدین والشریعة للإجابة علی المتطلّبات العصریة والمنطلق الداعی إلی التکامل و التعالی فی ظلّ الدین والتزام نظامه فی العلم والحیاة من جهة أخری حیث یتطلّب الأمر من الحوزة العلمیة مسؤولیة وضع حدّ لردع الجانب العولمی وتبعاته المنحطّة علی الإنسان بلحاظه العام.

وقد کانت رؤیة التصدّی لهذا الأمر فی عنایة من مؤسسی الحوزة العلمیة هذه الشجرة الطیبة الذی (أَصْلُها ثابِتٌ وَ فَرْعُها فِی السَّماءِ) ، سیّما الإمام الخمینی رحمة الله الراحل وقائده المبجّل الإمام السیّد علی الخامنئی دام ظله الوارف فی الوقت الراهن.

وقد سعت جامعة المصطفی صلی الله علیه و آله العالمیة فی ضوء ما تقدم لنیل النجاح فقامت بإرساء مرکز المصطفی صلی الله علیه و آله العالمی للترجمة والنشر حیث تکفّل بنشر نتاج هذا الجانب العلمی الهامّ.

وإنّ هذا تداعیات الثورة الإسلامیة فی العالم الإسلامی جاءت بجهود فضیلة الأستاذ منوجهر محمدی متوافقة مع نسق الرؤیة السائدة المتّبعة وهذه الأهداف السامیة.

کما ندعو أصحاب الفضیلة والاختصاص بما لدیهم من آراء بنّاءة وخبرات علمیة ومنهجیة عصریة بالمساهمة معنا والمشارکة فی نشر علوم أهل البیت علیهم السلام .

وختاما لیس لنا إلّا تقدیم الشکر الجزیل لکافّة المساهمین الکرام بجهودهم الخاصّة بإعداد الکتاب للطباعة والنشر.

مرکز المصطفی صلی الله علیه و آله العالمی للترجمة والنشر

ص:6

الحضارة والثقافة وعلاقة إحداهما بالأخری 110

التعارض بین أمریکا وأوربا 114

صراع الحضارات أم حوار الحضارات 115

صحوة ووعی الشعوب 117

أحداث الحادی من سبتمبر وتأثیرها علی النظام الدولی 124

مستقبل النظام الدولی 127

تداعیات الثورة الإسلامیة فی العالم الإسلامی 128

الفصل الثانی: منطقة الخلیج الفارسی 131

العراق 140

تعامل العراق مع الثورة الإسلامیة الإیرانیة 143

السعودیة 159

العلاقة بین الحکومتین قبل الثورة 160

الحجّ والثورة الإسلامیة 167

الشعب السعودی والثورة الإسلامیة 172

الکویت 184

النظام السیاسی 184

علاقات إیران والکویت قبل الثورة الإسلامیة الإیرانیة 185

البحرین 197

العلاقات الإیرانیة البحرینیة قبل انتصار الثورة 201

العلاقات الإیرانیة البحرینیة بعد انتصار الثورة 203

آثار الثورة الإسلامیة علی الشعب والحرکات الشعبیة 207

الفصل الثالث: بلاد الشام 215

سوریا 215

علاقات البلدین قبل الثورة الإسلامیة 216

علاقات البلدین بعد الثورة 217

الجماعات والحرکات 223

الأردن 229

ص:8

تاریخ العلاقات الإیرانیة الأردنیة 229

العلاقات السیاسیة مع إیران بعد الثورة الإسلامیة 231

العلاقات الثقافیة والاجتماعیة 234

أسباب تقارب الأردن مع البلدان الکبری فی المنطقة ومن بینها إیران 236

لبنان 237

تاریخ العلاقات الإیرانیة اللبنانیة قبل الثورة 239

دراسة تأثیر الثورة علی لبنان بعد انتصار الثورة الإسلامیة 243

دور الأحزاب والحرکات فی لبنان 246

حرکة أمل 247

حزب الله 249

ظهور حزب الله فی الساحة السیاسیة - العسکریة اللبنانیة 250

فلسطین 253

تاریخ وجغرافیا فلسطین 254

علاقات إیران ومنظّمة التحریر الفلسطینیة قبل الثورة 259

الثورة الإسلامیة وتداعیاتها فی فلسطین 260

الثورة الإسلامیة ونضال الشعب الفلسطینی 262

ممهّدات تبلور حرکة الجهاد الإسلامی 266

تبلور وتأسیس حرکة الجهاد الإسلامی 267

حرکة المقاومة الإسلامیة (حماس) 272

آراء ومواقف حرکة المقاومة الإسلامیة حماس حول الثورة الإیرانیة 275

الانتفاضة، ذروة تأثیر الثورة الإسلامیة علی فلسطین 276

الفرق بین الانتفاضة الثانیة والأولی 279

الفصل الرابع: شمال أفریقیا 283

مصر 283

علاقات إیران ومصر قبل الثورة 283

تداعیات الثورة الإسلامیة فی المجتمع المصری 286

تونس 293

ص:9

الصحوة وإحیاء الاتّجاه الإسلامی 296

النموذج العملی للحکومة الإسلامیة 303

علاقات إیران وتونس بعد انتصار الثورة 307

الجزائر 309

محاور عامّة حول الجزائر 309

الموقع الجغرافی - البشری 309

العلاقة مع إیران 311

نمو الحرکة الإسلامیة فی الجزائر 313

جبهة الإنقاذ الإسلامیة وتقویة الموجة الإسلامیة 318

المقال الثالث: الحصیلة والنتیجة 323

أ) الانعکاس العام للثورة الإسلامیة 324

1. الدول 324

2. الشعوب 327

ب) النظام الدولی 328

1. احیاء الإسلام کدین جامع وعالمی 329

2. زوال نظام القطبیة الثنائیة وظهور تحدیات للانظمة الحاکمة فی الغرب 329

3. تغییر خطاب الصراع الدولی 329

4. التحرک العالمی للمستضعفین ضد المستکبرین 330

5. طرح الإسلام السیاسی کخطاب جدید 330

6. نفی التبعیة للغرب 331

7. العالم الإسلامی هو القدرة الصاعدة فی النظام العالمی 332

8. تغییر معاییر القوة فی النظام الدولی 332

9. طرح ثلاثة عناصر هی المعنویة والاخلاق والعدالة فی النظام الدولی 333

10. بدایة الحملة علی العالم الإسلامی 333

11. عودة مجد وعظمة الحضارة الإسلامیة 334

12. تغییر خطاب الثورة 334

13. الجمهوریة الإسلامیة نموذج من النظام السیاسی الإسلامی والقدرة الاقلیمیة 335

14. زعماء الثورة الإسلامیة نماذج جدیدة للزعامة 335

ص:10

15. طرح اللاهوت التحرری 336

ج) تداعیات الثورة الإسلامیة علی العالم الإسلامی 336

الأول) انعکاس الثورة الإسلامیة علی الشیعة 339

الثانی) انعکاس الثورة الإسلامیة علی أهل السنة 342

1. تفسیر خصوصیات وصفات الحاکم (اولی الأمر) 343

2. فتح باب الاجتهاد 343

3. استقلال علماء الدین عن الدولة 344

1. الصحوة الإسلامیة 350

2. تعزیز روحیة مناهضة الاستکبار 351

3. إیجاد الشعور بالغرور 351

4. المساجد مراکز الانشطة السیاسیة 351

5. انتشار النهضات الإسلامیة التحرریة فی مجتمعات أهل السنة 352

6. السلوک الدینی 353

7. الحساسیة الإسلامیة 353

8. حمایة المقدسات الإسلامیة 353

9. المطالبات السیاسیة 353

10. المشارکة الدولیة 354

انفجار النور 354

المصادر والمراجع 357

المصادر الفارسیة 357

المصادر الاجنبیة 366

ص:11

ص:12

الشامل للشعب الفلسطینی المظلوم فی مواجهته للنظام الصهیونی المحتل، وبتنا نعیش حرکة تنامی الوعی الإسلامی فی إطار التجلّی السیاسی للإسلام علی مستوی أقطار العالم الإسلامی کافّة.

إنّ الکتاب الماثل بین یدیک عزیزی القارئ هو من تألیف الدکتور محمّدی الأستاذ المناوب فی کلیة القانون والعلوم السیاسیة فی جامعة طهران وعضو الهیئة العلمیة لقسم دراسات الثورة الإسلامیة فی معهد بحوث الثقافة والفکر الإسلامی. ویحاول هذا الأثر ما وسعته المحاولة تصویر تداعیات وآثار الثورة الإسلامیة العظیمة علی مستوی العالم الإسلامی، علی أمل أن یبادر الباحثون فی العلوم السیاسیة والجامعیون والباحثون فی مجال الثورة الإسلامیة علی وجه التحدید إلی مطالعة ودراسة هذا الأثر القیّم. نرجو أن ینال رضاهم ویمدّ فی دراساتهم.

قسم دراسات الثورة الإسلامیة معهد البحوث الثقافیة و الدراسات الاجتماعیة

ص:14

ص:16

داخل المجتمع الإیرانی فحسب، بل کان لتعرّض مصالحه السیاسیة والاقتصادیة الواسعة للخطر، قد زادت أیضا من أبعاد هذا القلق.

حیث إنّ عوامل أمثال کون إیران إحدی أکبر المصادر الغنیة بالنفط والغاز؛ حدودها المشترکة التی تمتدّ إلی 2500 کم مع أحد قطبی نظام القطبیة الثنائیة فی مرحلة الحرب الباردة؛ المکانة التی تتمتع بها علی المستوی الإسلامی باعتبارها أحد أقوی المراکز الفکریة والثقافیة الإسلامیة وکذلک موقعها الاستراتیجی الفرید فی أکثر مناطق العالم حساسیة والذی یسیطر علی ممرّ المصالح الحیویة والأمنیة للغرب وعلی الخصوص القوی الکبری منه، قد تسبّبت فی تعقید المواقف بین الغرب وایران، هذا إذا ما أشحینا النظر عن عنصر الزمان. فشدّة وضعف مواجهة وتعامل الغرب مع إیران - سواء قبل الثورة أو بعدها - یعتمد ویرتبط بهذا النوع من العوامل.

ولم تکن هذه المرّة الأولی فی تاریخ إیران الحدیث التی یحدث فیها مثل هذا التطوّر المفصلی بحیث یُصبح بؤرة للقلق الدولی.

حیث إنّ تاریخ التنافس بین روسیا القیصریة وبریطانیا وبین الاتّحاد السوفیتی وأمریکا أواخر القرن التاسع عشر المیلادی فی إیران یبیّن بوضوح مصالح وقلق الغرب فی خصوص هذا البلد. فلم تکن ثمّة حادثة نظیر قیام الثورة الإسلامیة أقلقت الغرب وبعبارة أدّق أرعبته وأقضّت مضاجعه إلی هذه الدرجة مع کلّ الأحداث التی رافقت تاریخ إیران المعاصر.

حیث إنّ دراسة ومطالعة التطوّرات السابقة لتاریخ إیران المعاصر تدعم حقیقة أنّ الغرب والقوی الکبری قد فقدت فعلیا میزة التواجد والتدّخل المباشر فی الأحداث السائدة فی المجتمع الإیرانی بعد الثورة الإسلامیة. ولم یقتصر تأثیر الثورة الإسلامیة علی القوی الکبری فحسب بل إنّها أثّرت وبشدّة علی اللاعبین الثانویین أیضا. فعلی سبیل المثال، فإن أکثر من 80% من واردات النفط الإسرائیلی

ص:18

یتمّ تأمینها من إیران، الأمر الذی یوجّه ضربة قاصمة لاقتصاد هذا النظام فی حال حدوث أیّ خلل فی هذا المجال، هذا إضافة إلی خسارته حلیفا عسکریا قویّا، هذا علاوة علی اضطراب برامجه وسیاساته بشکل ملموس جراء السیاسة الإیرانیة الجدیدة تّجاه فلسطین ودعمها إلی حدّ إزالة إسرائیل من الوجود. وتکتب صحیفة جروسالم بست حول ذلک:

إنّ سقوط الشاه لم یؤثّر علی الحالة الجغرافیة والسیاسیة للخلیج الفارسی فحسب، بل إنّه سیؤثّر علی توازن القوی بشکل أعم.

إنّ حدوث الثورة الإسلامیة فی مثل تلک الظروف لم تکن تخطر علی بال إلّا القلائل.

حیث لم تتجاوز أکبر التوقّعات لقدرة النظام الموجود فی ذلک الوقت عن استمرار ثباته ولو نسبیا. وبعبارة أخری، عدم توقّع وجود دواعی وأرضیة لهذه الثورة. إذ إنّ حکومة بهلوی الثانی کانت تمثّل جزیرة للأمن والاستقرار المطلق بالنسبة إلی نظام القطبیة الثنائیة الذی یتزعّمه کلّ من أمریکا والاتّحاد السوفیتی.

حیث لم تکن الدول الصناعیة الکبری وعلی رأسها أمریکا، بریطانیا وفرنسا تتوقّع انهیار حکومة بهلوی وذلک إلی ما قبل انعقاد مؤتمر غوادلوب. إلی الحدّ الذی یصف فیه جیمی کارتر - الرئیس الأمریکی ذلک الوقت - إیران الشاهنشاهیة بأنّها «جزیرة أمن» (1) وذلک قبل عدّة أشهر من ذلک. وقد أعلن دیفید أوین - وزیر الخارجیة البریطانی وقتها - فی بیان له عن وقوف بلاده إلی جانب محمّدرضا بهلوی فی مواجهتها للحرکة الثوریة للشعب الإیرانی واستمرار حکومة الأسرة البهلویة.

حیث کانوا یعتقدون بأنّ انتصار الثوار فی إیران سیؤدّی فی نهایة إلی إقامة نظام شیوعی. إذ إنّ المواجهة بین الغرب اللیبرالی والشرق الشیوعی کانت قد سیطرت علی کامل ذهنیة القوی المتنافسة، بالشکل الذی حشر تحلیلاتهم واستنتاجاتهم فی هذه

ص:19

الزاویة، وأدّی إلی اتّباعهم سیاسات وقرارات متناقضة فی الکثیر من المسائل السائدة فی نظام القطبین.

فقد کان من المستحیل لمثل هذه الدولة الطموحة والعصریة التی جارت کلا القطبین العالمیین وکسبت دعمهما، أن ترکع بسهولة وفی مدّة قصیرة لتیار الثورة فی مثل تلک الظروف التی کانت تحکم النظام العالمی. إنّ التواجد البریطانی والأمریکی الفعّال فی إیران بعد انقلاب 18 آب 1953 أبعد عن الأذهان تصوّر حدوث أیّ ثورة تأتی بنظام شیوعی یزید فی نفوذ الاتّحاد السوفیتی، أو أیّ نوع آخر من التیارات المعادیة للغرب.

إنّ تواجد وتأثیر الأیدیولوجیتین المارکسیة واللیبرالیة فی نظام القطبیة الثنائیة، والسیطرة والرسوخ المتزاید لهذا النظام اضطر أکثر البلدان - وعلی الخصوص الصغیرة والمتهاویة منها - للانضواء تحت نفوذ إحدی هاتین القوّتین. الأمر الذی جعل من الارتباط بأحد هذین القطبین أن یتّخذ صفة قانونیة.

وبتوضیح آخر، فلم تقف إحدی هاتین القوّتین العظیمتین خلف هذا التحوّل والتغییر بشکل أساسی وفعّال فحسب، بل إنّها قامت بالدفاع وتقدیم الدعم بشکل علنی لأحد الطرفین المتنازعین.

حیث یمکن الإشارة فی هذا السیاق إلی بعض تلک الموارد من قبیل حرب فیتنام، الأزمة الکوبیة، حرب الکوریتین وتطوّرات أوربا الشرقیة وکثیر من الموارد التی تنافستا فیها، وخاصّة فی منطقة الشرق الأوسط والخلیج الفارسی بسبب احتوائها علی مصادر غنیة بالطاقة، والأهمّ من ذلک الممیزات الجیوسیاسیة البارزة لهذه المنطقة. فوجود جارة قویة کالاتّحاد السوفیتی، والتمتّع بطاقات وکوامن قوّة إقلیمیة وکذلک اتّباع سیاسة واتّجاها غربیا جعل من إیران خیارا مناسبا لتنفیذ السیاسات الأمریکیة فی المنطقة. فأمریکا إضافة إلی تقصّیها أهدافا أمثال مواجهة النفوذ الشیوعی، ضمان

ص:20

استمرار ضخ النفط الرخیص وکذلک الدفاع عن الأنظمة المحافظة الموالیة للغرب فی المنطقة، کانت تحاول اختیار بعض دول المنطقة للاعتماد علیها باعتبارها نقطة الارتکاز الأساسیة لسیاساتها فی إیجاد توازن للقوی فی المنطقة وضمان مصالح الغرب وشرکائها الاستراتیجیین أمثال إسرائیل.

فبسبب انشغال أمریکا فی الأزمة الفیتنامیة وإمکانیة تقویة الأحاسیس الاشتراکیة فی المنطقة بسبب تواجدها المباشر، فقد تبلورت خطّة رجال الدولة الأمریکیین فی الوصول إلی أهدافهم فی المنطقة علی مدی عقد السبعینات من القرن العشرین، فی استراتیجیة «النیابة فی الحرب».

حیث تجلّی هذا الحلّ من خلال مبدأ نیکسون أو غوام المعروف، وانتُخبت کلّ من إیران والسعودیة ولأسباب خاصّة کمحورین أساسیین لتنفیذ هذه المهمّة. وقد أُنیطت المهمّة الأساسیة فی إطار المبدأ المذکور بإیران بسبب تفوّقها علی السعودیة من خلال ما تتمتّع به من قدرات ومزایا. واستمرّت هذه السیاسة فی عهد جیرالد فورد وکارتر أیضا. لکنّ انتصار الثورة قطع الطریق علی هذه الاستراتیجیة وقضی علیها.

ولا یخفی فی أنّ لاعبی السیاسة الدولیة (أعم من الدول، المنظمات الدولیة، الشرکات المتعددة الجنسیات ووسائل الإعلام) کانوا قد أذعنوا بعد فرار محمّدرضا بهلوی من إیران وعودة الإمام الخمینی رحمة الله إلی البلاد بأنّ هذه الحادثة الجلل تمثّل فی النظام الإستراتیجی والسیاسی حقیقة لا یمکن إنکارها. إنّ المواقف والخطوات المختلفة والمتناقضة أحیانا للقوی الکبری تحکی عن حیرتهم وارتباکهم وخطأ حساباتهم، ویشیر انفعالهم فی مواقفهم الابتدائیة إلی تأثیر الثورة فی مثل تلک الأبعاد. فقد کان الاتّجاه الأیدیولوجی للثورة الإسلامیة المعتمد علی الثقافة الدینیة والقیم التقلیدیة والمحلّیة بعیدا عن توقّعات العالم الغربی.

حیث جرّبت الدول الغربیة أیدیولوجیات کثیرة أمثال الإمبریالیة، النازیة، الواقعیة،

ص:21

اللیبرالیة، القومیة، الاشتراکیة، الشیوعیة... إلخ. فی مجال العلاقات الدولیة؛ لکنّها لم تٌدرک أبدا اتّجاها دینیا یعمل علی إحیاء التقالید السیاسیة للإسلام أو بحسب البعض الأصولیة الإسلامیة بمضامین أمثال الجهاد، الفتوی، الشهادة، الأمّة والإمام. فقد کان جلّ اهتمام الغرب منصبّا فی تلک البرهة علی الحرکات القومیة والتحرّکات التنویریة فی العالم الإسلامی.

فحاول النظام السیاسی والاقتصادی الأوربی فی هذا الوسط إقامة علاقة منطقیة ومعقولة مع الحکومة المؤقتة باعتبارها بدیلا للحکومة السابقة من دون أنْ یُبدی امتعاضا کبیرا من هذا التغییر، وذلک للحفاظ علی مصالحه الاقتصادیة، السیاسیة والجیوسیاسیة. هذا فی حال أنّ دولا کبریطانیا، فرنسا، ألمانیا وإیطالیا أبدت انزعاجها الشدید من الأوضاع السیاسیة الداخلیة لإیران. ومع کلّ التعارض النظری الذی یتّسم به نظام القطبیة الثنائیة فقد کان یسعی لاستمرار العلاقات التجاریة والسیاسیة مع إیران وذلک لتأمین مصالحه الطویلة الأمد، وإن کان ذلک بحدّ ذاته ناشئا من عدم الفهم الصحیح والتحلیل الموضوعی للظروف والأحداث الداخلیة فی إیران. فقد أدّت مجموعة من الأسباب أمثال الظروف الخاصّة والمزایا الاستثنائیة للمجتمع الإیرانی وحرکة الشعب فی أحداث الثورة وسرعة التطوّرات الداخلیة للمجتمع، الحدّة المتفاقمة للتنافس بین القوّتین العظمیین، طبیعیة وخصائص قیادة الثورة، إلی إرباک فهم المراقبین واللاعبین الدولیین المباشرین للثورة الإسلامیة. وقد وصلت بعض القوی المحافظة للسلطة فی البلدان الإسلامیة أبان انتصار الثورة الإسلامیة فی إیران. ومع وجود بعض الحرکات القومیة المتطرّفة والعلمانیة التی یمکن ملاحظتها فی العالم الإسلامی، إلّا أنّ إیران هی التی کانت قد أسّست أوّل جمهوریة إسلامیة فی العالم. وبعبارة أخری، فقد مثّلت هذه الثورة أوّل حرکة شعبیة علی مدی التاریخ تمکّنت من إقامت أوّل دولة دینیة إسلامیة، وأظهرت منذ انطلاقتها الأولی ومن خلال طرحها

ص:22

سیاسة وإستراتیجیة خاصّة بها مضادّتها ومواجهتها للنظام العالمی القائم سواء علی المستوی النظری أو الاعتقادی.

ومثّل احتلال السفارة الأمریکیة ومسألة الرهائن أوّل مواجهة للثورة مع النظام الدولی الذی بدأ نزاعا جادّا مع إیران الإسلامیة من خلال نقضه للقوانین والأعراف الدبلوماسیة. حتّی برز هذا التضادّ النظری والعملی للجمهوریة الإسلامیة فی مرحلة تکوینها وتکاملها مع النظام الدولی الذی تبلور علی أساس السیطرة الغربیة، مرات کثیرة وشمل طیفا واسعا من سیاسة الهجوم علی هیکلة النظام العالمی من خلال إستراتیجیة تصدیر الثورة وتقویة وإعداد الأمّة الإسلامیة والقوی المستضعفة فی العالم عن طریق ذلک التصدیر بغیة الاستفادة من أسالیب أظرف لإصلاح النظام العالمی وتغییره لصالحهم.

ولقد کان لانتصار الثورة الإسلامیة فیی إیران نتائج مباشرة وغیر مباشرة علی النظام العالمی وعناصره ومساراته الداخلیة. فقد أحدث خروج إیران من المعسکر الغربی وتضادّها الأساسی مع النظام العالمی، أثرا عمیقا علی المعادلات الإقلیمیة. وینبغی تلمّس سبب الکثیر من هذه التأثیرات فی المزایا التی تختصّ بها هذه الثورة، سواء فی بُعدها النظری أم التنفیذی. ومع أنّ القرن العشرین کان قد شهد تحوّلات وأحداث متنوّعة من هذا القبیل وعلی هذا المستوی، لکن لم تکن لأیّ من هذه الأحداث تداعیات بمثل هذه السعة أو بمثل هذه الدرجة من التأثیر.

السؤال الأوّل الذی یتبادر إلی الأذهان فی مقارنة هذه المجموعة من الظواهر، ما المزایا التی کانت تحملها هذه الظاهرة، وما هی اختلافاتها الأساسیة مع العیّنات المشابهة فی سیاق تأثیرها علی عناصر ومسارات النظام الدولی؟ وبعبارة أخری، ینبغی إجراء مقارنة بین نماذج تتماثل فیها الثورة الإسلامیة مع الأحداث المشابهة والموازیة، وما تفترق فیها عنها، للوصول إلی تلک المجموعة من المزایا التی أثّرت من خلالها

ص:23

الثورة الإسلامیة علی النظام الدولی. وسیساهم بیان الأهداف البارزة والعامّة للثورة فی هذا السیاق فی تیسیر إدراک أبعاد هذا التأثیر ونطاقه.

فبحسب وجهة نظر میشیل فوکو المنظّر الفرنسی، فإنّ ثورة عام 1978- 1979 تتضمّن:

رفض ثقافة وأمّة عن الانسیاق خلف نوع من التحدیث هو تقلیدی وقدیم بذاته. فمثل هذه الثورة هی بمثابة ثورة عاریة عن التنظیمات، غیر حزبیة وفریدة من نوعها. (1)

وإذا ما أردنا دراسة خصائص ومزایا الثورة الإسلامیة فإنّه یلزمنا التوجّه بشکل خاصّ إلی بعض العناصر نظیر مکانة إیران فی النظام الدولی، حالة ومستوی نمو المجتمعات، المفاهیم والأدبیات المرتبطة بذلک.

لقد جاءت الثورة الإسلامیة لإسقاط نظام فی برهة من القرن العشرین یلزم فیها وجود أسلحة، مقر قیادة عملیات و... قبل أن یلزم وجود انفعالات ومشاعر حادّة بحسب ما یعتقد فوکو ، فما یحدث فی إیران أدی إلی حیرة وارتباک مراقبی العالم المعاصر.

حیث لا یرون أثرا للصین، لا لکوبا ولا لفیتنام، وإنّما زلزالا لم یصدر عن جهاز ونظام، ولا ینضوی تحت زعامة زعیم أو حزب.

حیث لا ینتمی فیها الإنسان لأیّ طبقة أو فئة، بل إلی سلسلة بشریة اصطفّت فی صفّ واحد متسلّحة بتمام عدّتها وعددها (من دون اللجوء إلی العنف) فی مقابل نظام مدجّج بالسلاح. وبتعبیر آخر ل- فوکو ، «ثورة بأید خالیة» (2) تحمل فی باطنها خصائص متضادّة. التضادّ الأوّل، نزاع شعب محروم أعزل مع أحد أکثر أنظمة العالم تجهیزا. التضاد الثانی، عدم وجود أیّ تعارض وتضادّ فی النسیج الاجتماعی المتعدّد الاتّجاهات فی مجال الإعداد للحرکة الثوریة؛ إذ لم یظهر أیّ خلاف بین المنظّمات

ص:24

الرجعیة والتقدّمیة والعناصر الداخلیة للمجتمع أثناء اتّساع وانتشار النزاعات. وقام الإسلام باعتباره فعلا شعبیا فی ساحة الصراع بدور مهمّ فی بلورة الوعی الوطنی والجمعی وتحویله إلی مصدر للتحریک والإثارة والتغییر فی هذا الوسط.

ومن ضمن المزایا التأثیریة المدهشة للثورة الإسلامیة بالنسبة للغرب وحتّی العالم الاسلامی، هو إحیاؤها الأفکار والمفاهیم الإسلامیة فی کافّة أرجاء العالم. فقد کانت مساعی ومخطّطات الغرب منصبة حتّی ذلک الیوم علی تجفیف جذور الإسلام فی مختلف المجتمعات والتقلیل من تأثیر مفاهیمه وتعالیمه. فغالبا ما کان یتمّ التأکید علی أنّه ینبغی البحث عن الإسلام فی صفحات التاریخ، إذ لم یعد له أثر فی المجتمعات الحاضرة. وقد مثّلت مساعی أتاتورک بطبیعة الحال والتی عرضها فی سیاق إلغاء الإسلام غایة المأمول بالنسبة للغرب وقضت علی جمیع الآمال المعلّقة علی عودة الإسلام إلی مسرح الحیاة. وقد تمثّل أهمّ تأثیر للثورة الإسلامیة فی مجال إحیاء القیم والوعی الإسلامی، بطرح فکرة الإسلام السیاسی. الإسلام الذی زعم الکثیرون أنّه اندثر فی صفحات التاریخ القدیمة وغادر الأذهان؛ ها هو یعود بجذور قوّیة وأمواج تواصل تقدّمها متجاوزة الحدود الوطنیة. لقد بیّن انتصار الثورة الإسلامیة حقیقة أنّ الأدیان وعلی الخصوص الإسلام لم تصل إلی نهایة الطریق بمرور الزمان ومع کلّ هذا التوسّع الحداثویّ فحسب، بل نشط وعاد مجدّدا باعتباره أهمّ وسیلة لإنقاذ البشریة من الظلم والتجاوز لیوقف عجلة العالم المادّی المضادّة للمعنویة عن مواصلة طریقها، ویفتح نافذة للمعنویات والاعتقادات الدینیة فی إطار خلاص البشریة من قیود القوی الاستعماریة.

ولم یبقَ الإمام الخمینی رحمة الله باعتباره منظّرا ومجدّدا للفکر الدینی بعیدا عن المشهد فی هذا الوسط. فإنّه یمثّل وفق عقیدة وإقرار کثیر من المفکّرین والمستشرقین وعلماء الإسلام وعلماء الاجتماع الغربیین، أعظم مجدّد للفکر والقیم الإسلامیة، التی کانت

ص:25

تمثّل مجرّد هدف فی ما یروّج ویبلّغ له الإصلاحیون والمجدّدون والدعاة الإسلامیون منذ القرن التاسع عشر المیلادی وحتّی انطلاق النهضة فی إیران، حیث عمل الإمام الخمینی رحمة الله علی إنزالها إلی الشارع وبدأ عهدا «نهضویا» جدیدا. إذ إنّ الجهود التی بذلها المستعمرون علی مدی عشرات السنین فی مجال تعمیق ونشر برامجهم لإقصاء الدین، جعلت من الصعب علی الأذهان استیعاب ظهور وتواجد الإسلام فی الساحة الاجتماعیة. فقام ببث الروح فیه من جدید لیصل تلک الدرجة من الأبعاد المحکمة والواسعة سیاسیا، وتکون الثورة الإسلامیة فی عداد أعظم الثورات العالمیة التی تمتلک برنامجا سیاسیا خاصّا بها والتی تهدف إلی تأسیس منظومة ونظام نابع من الثورة، وتشکیل حکومة إسلامیة حقیقیة وفق الأصول الإسلامیة، وکذلک تغییر قواعد النظام الدولی من خلال تصدیر الثورة الإسلامیة التی أدهشت الجمیع وأثارت الکثیر من الحسّاسیات تّجاهها.

فإضافة إلی التغییرات البنیویة التی أحدثتها سلسلة التطوّرات التی حدثت فی إیران، فی النظام السیاسی والمجتمع الإیرانی، أخذت بالانتشار خارج نطاق حدودها أیضا، حیث إنّها رأت أنّ بقاءها مرهون فی انتشارها الأیدیولوجی علی المستوی العالمی. فباعتراف الأصدقاء الموافقین والأعداء المعارضین فقد کان الأثر الأکبر للثورة هو ذلک الذی ارتبط بالعالم الإسلامی والعربی. فکانت الثورة تمثّل مصدرا للإلهام والحرکة فی جزء من هذه المنطقة، ومصدرا للتهدید الجدّی للثبات والاستقرار بالنسبة للبعض الآخر. فکان الذعر الذی استولی علی بلدان الشرق الأوسط والعرب ناشئا من الإحساس بالجانب التهدیدی للثورة الإسلامیة.

إنّ جمیع الذین أظهروا امتعاضا واشمئزازا من الاتّجاه نحو المادّیة الغربیة المفرطة، عادوا مسرورین ومتلهفّین لانتصار الثورة الإسلامیة واکتسبوا من خلالها روحیة وهویة جدیدة.

ص:26

حیث مثّلت الثورة الإسلامیة إلهاما لهم أدّی إلی تحرّکات جدیدة وواضحة فی العالم الإسلامی تختلف شکلا ومضمونا عمّا حدث سابقا. فقد اتّخذت المجتمعات الإسلامیة وقادتها فی السابق مواقف انفعالیة تّجاه أمواج التحدیث والتغریب. فوضع انتصار الثورة الإسلامیة بین أیدیهم تعالیم جدیدة علی المستوی النظری والعملی غیّرت الحالة الانفعالیة التی یعیشونها إلی الحالة الهجومیة وأکسبتهم دورا فعّالا.

ولعلّ من أهمّ الأسئلة التی تتردّد فی أذهان مسلمی العالم، هو الکیفیة التی تمّ من خلالها انتصار الثورة الإسلامیة. فما هی العناصر التی تتمتّع بها الثورة والتکتیکات التی استخدمتها والتی استطاع من خلالها شعب أعزل التفوّق علی نظام مفترس. فعلی أساس هذه العناصر الخاصّة برزت الثورة الإسلامیة واستطاعت قضایا أمثال التأسّی بالثورة الحسینیة ومقارنة الشاه ب- یزید والإمام الخمینی رحمة الله بالإمام الحسین علیه السلام ؛ عنصر الشهادة؛ خصائص مشروعیة قادة الثورة باعتبارهم نوابا للإمام الغائب؛ موضوع الاجتهاد والتقلید؛ مذهب التشیّع وأصل ولایة الفقیه التی تعدّ من الممیّزات المختصّة بمذهب التشیّع وإیران، من استقطاب أفکار المسلمین وعلی الخصوص مفکّری العالم الإسلامی، هذا فی الوقت الذی مثّلت الثورة الإسلامیة مظهرا للإرهاب، الخطف، اقتحام السفارات، الخطر والتهدید وکذلک دعما للعمل والسلوک الثوری فی نظر الغرب. فقد کان الرئیس الأمریکی أبان ذلک العهد رونالد ریغان یستخدم علی سبیل المثال، لفظ الثورة الإسلامیة مرادفا للإرهاب. مع أنّ بلاغات الثورة وأغلب المبادئ التی طرحها الإمام، أمثال «التوجّهات المعادیة للإمبرالیة» و«المعادیة للرأسمالیة والطبقة الأرستقراطیة»؛ «المیول والاتّجاهات الشعبیة»؛ «الاعتماد علی المحرومین»؛ «الوعد بمجتمع خال من الأرستقراطیة»؛ «إحلال العمل محلّ رأس المال»؛ «ترجیح الملکیة العامّة علی الخاصّة»؛ «التأکید علی الحرّیة والاستقلال»؛ «التأکید علی تحریر جمیع الشعوب المستعمَرة»؛ «احترام حقوق الإنسان» و.... وکذا المصادیق الأکثر رقیا؛ الأکثر

ص:27

عملیة؛ والأکثر معنویة وبالطبع الأکثر محلّیة، قامت المجتمعات الإسلامیة بتلقّفها بعین الرضا والسرور، علی العکس من الغرب الذی أصابه الذعر والذهول واتّخذ موقفا انفعالیا تجاهها أدّی إلی تقنین جمیع استنتاجاته. إذ إنّ فهم وإدراک حقائق الثورة وظروف المجتمع الإیرانی وقع وبشدّة تحت تأثیر هذا النوع من ضیق الأفق وسوء الاستنتاج الذی توصّل إلیه الغرب وعلی الخصوص أمریکا.

لقد بیّن انتصار الثورة الإسلامیة أنّ الأدیان وعلی الخصوص الإسلام لم یصل إلی نهایة الطریق بتقادم الزمان وانتشار الحداثویة فحسب، بل طرح نفسه مجدّدا باعتباره أهمّ وسیلة لخلاص البشریة من الظلم والعدوان. فقد اکتسبت الآیات القرآنیة معنیً ومفهوما جدیدا فی عالم ما بعد الثورة الإسلامیة. وکانت الثورة الإسلامیة کالدواء الناجع فی إحیائها الأفکار الإسلامیة فی کافّة بقاع العالم وأدّت إلی تنامی الروح المعنویة وتقویة الأسس الفکریة بالنحو الذی أخرجها من حالتها الدفاعیة إلی حالتها الهجومیة.

أمّا کیف أعطت لحرکة عامّة الشعب نسقا وانسجاما من دون تدخّل المؤسّسات، المنظّمات والتنظیمات السیاسیة والحزبیة والصنفیة، وما هی الضوابط والمعاییر التی یتّبعها التنظیم الناشئ عنها. فهو سؤال محیّر حقّا.

حیث کان للمسجد، استقلالیة أئمّة الجماعات ورجال الدین عن الدولة ووجود نوع من الحاکمیة المزدوجة فی إیران، دورا تمهیدیا لازما لمثل هذه الثورة.

لقد جاشت بین أضلاع مسلمی العالم الذین جرّبوا الخیبة والهزیمة من خلال اتّجاههم نحو الغرب وقبل ذلک من خلال الحظر النفطی عام 1973، مشاعر القوّة والعزّة والنجاح من خلال انتصار الثورة الإسلامیة وإحیاء القیم الإسلامیة. ووهبت ثورة إیران العالم فی ذات الوقت أوّل ثورة سیاسیة - اجتماعیة إسلامیة ناجحة، ثورة حاربت وانتصرت باسم الإسلام وتحت شعار الله أکبر، وعلی أساس هذه الأیدیولوجیة والأصول الإسلامیة والشیعیة وبقیادة علماء الدین الذین ترعرعوا فی أحضان المفاهیم الإسلامیة.

ص:28

النتیجة، هی أنّ المسلمین استطاعوا وفی کافّة أرجاء العالم، العودة إلی الإحساس بالعزّة والقوّة والفخر بأنفسهم من خلال هویتهم الإسلامیة وإعادة الحیاة للإسلام من جدید فی منطقة ظلّت ولعقود طویلة تحت سیطرة القوی الأجنبیة الکبری.

ومن جهة أخری، فقد عرض الإمام الخمینی رحمة الله التجربة الإیرانیة باعتبارها طریقا وممرّا سیاسیا وأیدیولوجیا للمجتمع العالمی إلی الإسلام. وکانت مسألة اتّحاد جمیع المسلمین فی بذل الجهود الثقافیة والسیاسیة فی قبال الشرق والغرب فی صدارة أولویّاته. وقد أثبتت إیران بانتصارها فی هذه الجهود، نجاحها فی تنفیذ أصولها وأهدافها فی الداخل ونقلها إلی الخارح. واستطاع الناشطون الإسلامیون فی العالم أجمع کذلک أنْ یروا أنفسهم فی حالة من التناغم والتوافق مع الکثیر من الأصول القِیمیة للثورة الإسلامیة.

ویمکننا هنا الإشارة إلی البعض من هذه الأصول:

1. عرض الإسلام مجدّدا باعتباره نظاما شاملا وکاملا للحیاة.

2. الاعتقاد بحقیقة أنّ النموذج الغربی فی فصله الدین عن السیاسة یقود إلی مشاکل وفوضی اجتماعیة، إقتصادیة، عسکریة وسیاسیة فی أوساط المجتمعات الإسلامیة.

3. إنّ عقیدة قدرة ونجاح المسلمین فی العودة إلی الإسلام اعتمادا علی الوعد الإلهی المضمون، هو البدیل الوحید المناسب عن الرأسمالیة الغربیة والاشتراکیة والشیوعیة الشرقیة.

4. عرض الشریعة مجدّدا باعتبارها قوانین إلهیة تؤدّی إلی إنشاء مجتمع متین یقوم علی أساس العدالة الاجتماعیة والأخلاق الفاضلة.

5. طرح الجهاد المقدّس ضد الوثنیة بجمیع أشکالها مجدّدا، والاستعداد للشهادة فی سبیل الله باعتبارها الطریق الوحید للنضال والانتصار.

إنّ مبادرة النخب والمثقّفین فی المجتمعات الإسلامیة فی سائر أقطار العالم للترحیب

ص:29

بانتصار الثورة الإسلامیة، تسبّب فی قلق الدول الحاکمة فی البلدان الإسلامیة قاطبة.

حیث قدم إلی إیران قادة وممثّلی هؤلاء النخب والمثقفین من سائر أرجاء العالم بدءا من أمریکا الشمالیة وانتهاء بالشرق الأقصی لتهنئة الإمام بهذا الانتصار. وبادر شیعة دول الخلیج الفارسی الذین تحکمهم الأقلّیة السنّیة إلی استعادة هویتهم من خلال الإحساس بالقوّة والعزّة والمنعة، والمضی فی إحیاء المناسبات الدینیة وإظهار الرفض لحکامهم الرجعین. وألهمت الثورة الإسلامیة علی نحو واسع المجموعات الشیعیة والسنّیة فی مصر أمثال الإخوان المسلمون والجهاد الإسلامی إلی حرکة المجاهدین المسلمین وحزب سلمانه الإسلامی فی مالیزیا، وعجّل یأس یاسر عرفات من اتّجاه أنور السادات للمصالحة مع إسرائیل وبدء محادثات کامپ دیفید، به مسرعا إلی طهران علی رأس هیئة من منظمة التحریر الفلسطینیة لیفتتح السفارة الفلسطینیة فی محلّ المکتب التجاری الإسرائیلی فی طهران. وعمّ فی ذات الوقت اتّهام حکام البلدان الإسلامیة معارضیهم الإسلامیین بالعمالة للخارج أو باتّهام إیران بالتدخّل فی شؤون بلدانهم الداخلیة.

لقد خیّم علی أذهان المناصرین وحتّی المعارضین للثورة الإسلامیة فی الداخل والخارج تصوّر خاطئ فی بدء انتصارها، وهو أنّ انتصار الثورة الإسلامیة سیؤدّی إلی سقوط حکومات البلدان الإسلامیة الواحدة تلو الأخری علی أساس فکرة الدومینو، وذلک جرّاء اقتفاء تلک المجتمعات أثرها وثورة الشعب لإقامة أنظمة مشابهة فی سائر البلاد الإسلامیة. فی حال أنّ التأمّل الیسیر فی الظروف الاستثنائیة التاریخیة السیاسییة لإیران واختلافها عن سائر المجتمعات الإسلامیة الأخری فی ذلک، یبیّن خطأ هذه الفکرة، إذ إنّ ثورة حقیقیة کالثورة الإسلامیة فی إیران بحاجة إلی آلیات تتوافق معها لا تقتصر علی الناحیة النظریة فحسب بل تشمل العملیة أیضا.

إنّ بلدا کإیران یتمتّع بالقوّة، الثقافة والحضارة الضاربة فی التاریخ والسابقة

ص:30

النضالیة التی تتجاوز المئة عام ضدّ حکّامه وتجربته انتصارین علی حکام عصره علی أدنی تقدیر، وذلک فی الحرکة الدستوریة وتأمیم صناعة النفط، واکتسابه القوّة الاجتماعیة بموازاة القوّة السیاسیة من خلال القوّة المتنامیة لعلماء الشیعة منذ عهد الصفویین؛ والأفضل من ذلک تمتّعه بقیادة لا نظیر لها تمثّلت بالإمام الخمینی رحمة الله فی هذه المرحلة، اجتمعت کلّ تلک العوامل مع بعضها البعض لتساعد علی الوصول بالثورة إلی مرحلة الانتصار. فمجموع هذه العوامل غیر متوفّرة فی سائر البلدان والمجتمعات الإسلامیة فی الوقت الراهن علی الأقلّ، ولهذا فإنّ الاعتماد علی فکرة الدومینو لا ینبغی أنْ یُفهم منه عدم نجاح الثورة الإسلامیة فی تصدیر الثورة.

إنّ الأحداث التی وقعت مباشرة فی أغلب البلدان الإسلامیة کردّ فعل علی ذلک، أضافت إلی هذه الفکرة أملا وتصوّرا لم یکن فی محلّه. فحوادث کربلاء، النجف والکوفة عام 1980 وحادثة احتلال المسجد الحرام فی عام 1979 وما أعقبها من إحراق السفارة الأمریکیة فی إسلام آباد ومظاهرات واضطرابات منطقة الحصا الغنیة بالنفط فی السعودیة، الانقلاب الفاشل فی البحرین وما إلی ذلک، فکلّ ذلک کان من ضمن الحوادث التی زادت من احتمال تحقّق فکرة الدومینو.

أمّا الغرب ووسائل الإعلام الغربیة، فإنّها تری أنّ الثورة الإسلامیة وخطاباتها قد تبلورت من خلال اعتمادها الأسس الشیعیة. مع أنّ هذه المسألة تبدو أمرا طبیعیا من خلال الروحیة القوّیة لمعارضة الغرب وعلی الخصوص أمریکا، ومتابعة أصل؛ لا شرقیة، لا غربیة، إلّا أنّه فی ذات الوقت قد عرضت صورة عالمیة للثورة رُسمت فیها الآمال والطموحات العالمیة للشعوب وذلک فی الأیام الأولی لانتصارها. فمن وجهة نظر الإمام، أنّ للثورة الإسلامیة جذورا فی العقائد المشترکة للإسلام، الأمر الذی یرتبط بکافّة مستضعفی العالم ولا یختصّ بقسم منهم. وهذا ما صرّح به الأصل الحادی عشر لدستور الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة. ولقد ابتُلی الغرب فی تحلیله للثورة

ص:31

الإسلامیة بالنظرة المغرضة والضیقة ذات البعد الواحد. فلم یکن الاتّجاه التنظیری للغرب فی مجال بیان الأبعاد المعقّدة للثورة صحیحا، وینبغی الإشارة إلی أنّ الغرب قد نظر إلی الثورة الإسلامیة من زوایا خاصّة ومال إلی جانب واحد فیها، حیث نزل بها إلی مستوی حرکة دینیة متطرّفة وإرهابیة. وقد أکّدت الثورة الإسلامیة علی مدی ما یمکن لخطأ الاستنتاج أنْ یسبّبه من مشاکل غیر محمودة العواقب. وقد زادت قلّة المعلومات الموثوقة، الاعتماد علی سلوکیات جاهزة من قِبل إیران وأعدائها الأجانب، السیناریوهات التی طُرحت علی أساس أسوء الظروف، الاستناد إلی الدعاوی الجهویة للمبعدین، اللاجئین، السماسرة و...، من ارتفاع جدار عدم الثقة ومن هشاشة الظروف التی هی هشّة من الأساس. فلم تکن ثمّة نتیجة لکلّ هذا التهویل والتطبیل والإحساس بالخطر سوی ترسیخ الاتّجاه نحو استخدام القوّة ضدّ إیران والارتباک وعدم السعی نحو تحسین الظروف والعلاقات.

إنّ الثورة الإسلامیة ومن خلال اعتمادها علی قدرات ومزایا شخصیة الإمام رحمة الله والدعم والإسناد الشعبی، الاستفادة من الفکر الدینی والأیدیولوجی الإسلامی استطاعت أنْ تجرّ الأیدیولوجیات الغربیة والشرقیة علی السواء وکذلک استیلاء الثقافة الغربیة إلی الوقوع فی أزمة.

حیث لا یمکن للبحث فی الثورة الإسلامیة والإسلام السیاسی أنْ یکون مکتملا إذا ما فصلناه عن الإمام رحمة الله . واتّجه بعض الکتّاب نحو الإفراط فی هذه المسألة حیث استخدموا مصطلح الثورة الإسلامیة مرادفا للخمینیة. (1)

حیث یری آبراهامیان من أنّ:

إحدی المسائل الملفتة فی خصوص الثورة الإسلامیة فی إیران، القدرة العالیة لمبدء الإسلامیة فی تکوین ذهنیة جدیدة. أیْ تربیة المسلم باعتباره عنصرا

ص:32

سیاسیا یقف فی مواجهة الدیکتاتوریة والإمبریالیة. فمعنی المسلم فی حدّ ذاته هو مضادّة البهلویة، الأمریکیة، الصهیونیة وفی النتیجة الدفاع عن الإمام رحمة الله والجمهوریة الإسلامیة.

إنّ طبیعة الثورة الإیرانیة تکشف عن استقرار وترسیخ الذهنیة السیاسیة الإسلامیة، الأمر الذی دخل وبشکل فرید فی بنیة المهمّة السیاسیة للإسلام، وذلک من خلال قیام الجمهوریة الإسلامیة التی هی نتیجة للفکر السیاسی للإمام ودعم عامّة الشعب، والذی یستمده الفهم السیاسی من الإسلام. فنحن نشاهد ولأوّل مرّة علی مسرح الأحداث، حلول نظام سیاسی ذا نهج ثوری ینبع من الاتّجاه الإسلامی، محلّ نظام علمانی متغرّب ومرتبط فی اتّحاد إستراتیجی مع الغرب، والذی یراه الکثیر من المسلمین علی أنّه انتصار للإسلام علی تسلّط القوی الاستعماریة وعلی الخصوص القوّة العظمی أمریکا.

لقد فتح انتصار الثورة الإسلامیة وصحوة المسلمین (فی سائر العالم) فصلا جدیدا من مواجهة الإسلام مع الغرب. مع أنّه لم یکن بالأمر الجدید

حیث حدثت عدّة مواجهات بین العالم الإسلامی والغرب علی مرّ التاریخ. ویعتقد الکثیرون أنّ الهجوم الإرهابی فی الحادی عشر من سبتمبر فی أمریکا یمثّل ذروة المواجهة بین الإسلام والغرب؛ لکن ما لا یتطرّق إلیه الریب هو أنّ الثورة الإسلامیة فی إیران وما أعقبها من تبعات إلی نشر سلمان رشدی کتابه الکافر الآیات الشیطانیة یمثّل القمّة فی ما وصل إلیه النزاع بین الإسلام والغرب.

ولم یکن الفزع الغربی من الإسلام نابعا من الجذور الدینیة للإسلام، وإنّما الجذور السیاسیة له، هی التی ألقت الغرب فی وهدة الذعر. إنّ الدین کان قائما وموجودا علی الدوام، لکنّ ما سبب مشکلة للغرب هو استنتاجه السیاسی من الدین. فما یُطرح الیوم من أدبیات فی الإسلام، قد غدا مصدرا مهمّا لإرعاب من یرید مواجهة الإسلام.

حیث إنّ «الجهاد» الذی یمثّل إحدی العبارات الأساسیة التی تتردّد فی الأدبیات

ص:33

الإسلامیة، کان له دورا مهمّا فی إقامة الغرب سیاسته الخارجیة مع العالم الإسلامی علی أساس الذعر الذی یستشعره منه. فاستخدام هذه اللفظة الیوم فی الأزمة الأفغانیة، ومساعدة بعض الفئات السلفیة فی الباکستان لحرکة طالبان المتطرّفة وشبکة القاعدة تحت عنوان «الجهاد ضدّ الغرب ومظهره أمریکا» یؤیّد هذه القضیة. فقد انخرط طلبة الحوزات العلمیة فی باکستان بشکل فعلی فی حرکة طالبان لمجاهدة الغرب وأمریکا دفاعا عن الفکر السلفی لطالبان. فإن أغلب ما یسبب ذعر الغرب من الإسلام فی الحقیقة، هو فرض الأحکام والتوصیات السیاسیة للإسلام علی الآخرین. لکن ینبغی الإذعان بعدم وجود قراءة وفهم کامل للإسلام، ولیس ثمّة إسلام سیاسی موحّد کی یمکن تعمیم مثل هکذا حکم. إنّ إلقاء نظرة عابرة علی آثار المستشرقین یوضّح هذه المسألة بجلاء، وهی أنّهم کانوا یحاولون فی بحوثهم علی الدوام إلقاء فکرة وجوب محاربة الإسلام.

حیث یکتب ماکسیم رودینسون المستشرق الفرنسی المعروف فی هذا المجال، وذلک فی کتابه جذّابیة الإسلام وأثناء انتقاده اللاذع للاتّجاهات الفکریة الخاطئة للمستشرقین:

... وبالطبع فإنّ الهدف الدائم لبحوث المستشرقین حول الإسلام هو أنْ تتمّ محاربة الإسلام. (1)

لقد کانت نظرة الغرب إلی الإسلام والثورة الإسلامیة محدودة جدّا وضیّقة الأفق علی العموم. إلی درجة أنّ جهود وسائل الإعلام وممثّلی الغرب فی خصوص الحرکة الإسلامیة عامّة والثورة فی إیران تمرکزت فی الأساس علی مدی تأثیرها علی المصالح السیاسیة والتجاریة لبریطانیا وأمریکا. (2) وهذه النظرة الضیّقة ذات البعد الواحد ذاتها

ص:34

اعتقدت أنّ نظریة الإسلام السیاسی لإیران متطرّفة وصدامیة. لکنّ ما یستشفّ من خلال وجهة النظر هذه بخصوص الدولة الثوریة الجدیدة فی إیران لم یکن ناشئا من نزاعیة نظریة الإسلام السیاسی فحسب، بل من المیول الإیرانیة نحو توسیع نفوذها فی المنطقة، وأنّ الثورة الإسلامیة تری أنّ هویتها واستمرارها وهویتها مرهون بتصدیر الثورة. هذا مع أنّ ثمّة اختلافات فی الآراء فی الداخل الإیرانی فی خصوص الوسائل العملیة وآلیات تصدیر الثورة إلی حدّ مخالفة بعض الآراء لهذا التصدیر بشکل کامل، بید أنّ کلام الإمام رحمة الله باعتباره مرکز النظریة الحاکمة یصوّر هذه الاستراتیجیة بوضوح:

یجب علینا السعی لتصدیر ثورتنا. فجمیع القوی الکبری والقوی الأخری تعمل علی القضاء علینا، فإذا بقینا فی بیئة منغلقة فإنّ مصیرنا إلی الهزیمة. (1)

نحن نعتقد أنّ النهضة التی ابتدأها الإمام الخمینی رحمة الله ذات تأثیر عالمی، ووضعت کثیر من مسلمی العالم علی طریق استعادة هویتهم الإسلامیة.

إنّ نظرة الغرب إلی العالم الإسلامی هی نظرة سیاسیة بامتیاز. هذا إضافة إلی أنّ عدم وجود معرفة وعدم توفّر معلومات وافیة ومستدلّة لدیه عن الدول الثوریة، أو عدم إدراکه لظروفها وأوضاعها الداخلیة، وکذا عدم استیعاب قادة الدول الثوریة لمکانة الغرب وقدراته وظروف النظام العالمی، کل ذلک أدی إلی زیادة الخطأ فی الاستنتاج، واللجوء إلی التحرکات المتطرّفة والجنونیة وإلی الحرب.

وعلی هذا الأساس، فإن رعب الغرب من الإسلام السیاسی أدّی بقادة الغرب إلی ضیق الأفق والنظر من زاویة واحدة فی إدراکه وفهمه لما یجری، وهو ما قاد بدوره إلی الکثیر من التطوّرات والمواجهات.

لقد کانت ثمّة استنتاجات خاطئة ومحرّفة فی تحدید تداعیات الثورة الإسلامیة، سواء کان ذلک من المؤیّدیین لها أم من قِبل المعارضین.

ص:35

إنّ الإسلام السیاسی الذی تتحرک من خلاله الحرکات الإسلامیة یری وقوف هویته علی الضدّ من الثقافة المسیطرة فی الغرب. فلا وجود لاستنتاجات کاملة وموحَّدة عن الثورة الإسلامیة.

حیث إنّ فاتورة القوّة هی التی حدّدت طبیعة الاستنتاجات علی العموم. ولا تختلف استنتاجات العالم الإسلامی أیضا عن ذلک فی شیء.

وقد تطوّر مسار انعکاسات وتداعیات الثورة الإسلامیة تبعا للتطوّرات والاضطرابات الداخلیة وکذا تطوّرات النظام العالمی.

فإذا ما أخذنا الموارد الآنفة بنظر الاعتبار، فإنّ البحث الحاضر یقوم علی مقاییس تترابط مع بعضها البعض داخلیا:

1. علی الرغم من کافّة الاستنتاجات الخاطئة، التخمینات ومواجهات الغرب باعتباره مرکزا للنظام العالمی، فقد أثّرت الثورة الإسلامیة علی الکثیر من عناصر محوریة الغرب، وذلک من خلال إقحامها مبدأیّتها هذه. فقد وقع ممثّلی النظام العالمی (القوی الکبیرة والقوی العظمی)، دائرة التمثیل وقواعد النظام العالمی تحت تأثیر هذه الثورة، الأمر الذی أدّی إلی بروز ردود أفعال. إنّ النزاع مع الغرب وأطروحة الخصومة التی عرضها الإسلام السیاسی استهدفت مبادئ النظام التغریبی، ومن ثمّ معارضة النظام القدیم لإیجاد نظام جدید للإسلام قائم علی الأصول الإسلامیة.

2. لقد أبرزت الثورة الإسلامیة دور الإسلام والمسلمین فی مختلف المیادین الاجتماعیة من خلال إحیائها الفکر الإسلامی، ووضعت عنصر الهویة الإسلامیة باعتبارها حقیقة مقبولة فی مقابل الهویة الغربیة الشمولیة التی تمثّل فکر الغرب.

3. مع أنّ الثورة الإسلامیة الإیرانیة قد وضعت نفسها فی مواجهة الغرب والضغوط المتزایدة للنظام العالمی من خلال إحیائها الإسلام والفکر السیاسی الإسلامی، غیر أنّ هذه المسألة نفسها رغبّت الغرب فی معرفة الإسلام بشکل أفضل وأکمل، ودفعت

ص:36

سریعا باتّجاه حلول الدراسات الإسلامیة وعلم الإسلام محلّ الاستشراق.

4. إنّ الأطروحة التی جاءت بها الثورة الإسلامیة قادرة علی بیان نظریة سیاسیة عامّة.

فبعد مرور ربع قرن علی انتصار الثورة الإسلامیة وما أعقبها من تحوّلات وتغیّرات عظیمة فی النظام الدولی، حان الوقت لدراسة تداعیات وتأثیرات الثورة الإسلامیة بعیدا عن الإفراط والتفریط، وإعادة قراءة نقاط القوّة والضعف وأسالیب استمرار متغیّرات هذه القضیة. ولا شکّ فی أنّ النتائج المستحصلة، ستساعد المخطّطین والمسؤولین السیاسیین علی تقییم البرامج بشکل أدقّ واتّخاذ حلول أکثر ملائمة.

حیث إنّ فهم ومعرفة الأبعاد المختلفة والأسالیب الفعلیة فی هذا المجال، وحصول «الآخرین» علی فهم علمی ودقیق عن «أنفسنا» بنحو مقنع، سیخفّض من تکالیف اتّخاذ القرارات ویرفع من مستوی الحالة الأمنیة.

حیث إنّ إمکانیة الاستفادة من الفرص والتقلیل من التهدیدات تندرج ضمن هذا الإطار من المعرفة والفهم.

إنّ الأیدیولوجیة تتضمّن مفهوما وماهیة شمولیة بحدّ ذاتها. والثورات الأیدیولوجیة تسعی من خلال الاستفادة من هذه الخصوصیة إلی الانتشار والترویج لنفسها وتسقّط طموحاتها فی انتشار دائرة نفوذها وشمولها عالمیا، لتحاول کسب المشروعیة والتقدّم ببرامجها وأهدافها. إلّا أنّ ثمّة عوامل وظروف کثیرة تمنع من سیطرتها فی هذا السبیل. وتُعدّ مقاومة الأطروحة أو أغلب الأطروحات للعوامل البیئیة، الجیوسیاسیة و الجیو إستراتیجیة، القوّة المحرّکة للأیدیولوجیة، من ضمن العوامل المؤثّرة فی مسیرة الشمولیة العالمیة للأیدیولوجیة. وبعبارة أخری، لا یمکن للظواهر أنْ تکون مؤثّرة بمعزل عن ممیّزات الظاهرة نفسها والظروف المحیطة بها وکذلک بمعزل عن خصوصیات الموضوع القابل للتأثّر، حیث تتفاعل جمیع هذه العوامل بترابط داخلی مع بعضها البعض.

ص:37

ومن هنا، فإنّ إعادة قراءة تداعیات الثورة الإسلامیة علی النظام الدولی من دون أخذ ممیّزات الثورة، ظروف وتطوّرات النظام الدولی، مکانة ودور القوی الکبری ومعرفة المسار الحاکم فی النظام العالمی، سیکون بمثابة سعی فاشل.

فمن الطبیعی أنْ تتعرّض تداعیات الثورة الإسلامیة علی مدی الربع القرن الحالی للتطوّر والتغییر إثر التغیّرات والتطوّرات الداخلیة والنظمیة.

حیث یمکن الإشارة فی هذا السیاق إلی تعامل الغرب مع خطاب «تصدیر الثورة» فی العقد الأوّل للثورة والآثار والتطوّرات الناشئة عن التغیّرات الداخلیة والذاتیة التی طرأت علی استنتاجات الغرب علی سبیل المثال.

فقد تطوّر فهم واستنتاج مفکّری الغرب للإسلام تطوّرا عمیقا. حیث أدرکوا عدم وجود فهم واستیعاب واحد للمفاهیم الإسلامیة حتّی فی العالم الإسلامی نفسه. فهم یبذلون مساعیهم حاضرا للتفریق بین الإسلام باعتباره دینا ذا أبعاد سیاسیة اجتماعیة، والإسلام المنعکس فی الأصولیة الإسلامیة، الإسلام المشاکس، الإرهاب والإسلام السیاسی.

حیث یلفت النظر فی هذا المجال تزاید إنتاج الأدبیات التی تتحدّث عن الإسلام وأبعاده المتنوّعة (التی تُعدّ بلا ریب من ضمن التداعیات الأساسیة للثورة الإسلامیة).

لقد استقطبت الأبعاد الواسعة للثورة الإسلامیة فی إیران والأمواج التی أطلقتها الکثیر من المفکّرین، هذا مع أنّ البعض ینظر إلیها من زاویة القلق الحکومی، ممّا أدّی إلی محدودیة وضیق أفق التحالیل السیاسیة للقوی الکبیرة والصغیرة؛ غیر أنّ هناک الکثیر أیضا ممّن نظروا إلی جوانب المسألة من خلال نافذة النظرة التحلیلیة والعلمیة التشاوریة. ولم تقتصر هذه الدهشة والحیرة علی السیاسیین، بل شمل أیضا المجامع الجامعیة والبحثیة حیث شرع أکثر الباحثین فی تعقّب جذور هذا التطوّر الهائل وهذه الحرکة الثوریة.

ص:38

ولقد اختصّ القسم الأعظم من أدبیات دراسة الثورة الإسلامیة فی بحث الأبعاد النظریة وأسباب قیام الثورة.

حیث تندرج کتابات باحثین أمثال أولیفر روا، جیمس دو فرونزو، بری روزن (1)، اسکاج بول (2)، اسبوزیتو (3)، همایون کاتوزیان، فرهاد کاظمی، سعید أمیر أرجمند، حامد الغار (4)وغیرهم ضمن هذا السیاق. وتعرّض القسم الأعظم منها أیضا إلی سیاسات إیران وتطوّراتها الداخلیة بعد الثورة وتمت دراسة علاقة الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة مع القوی الکبری. وتطرّقت أغلب البحوث إلی السلوک الخارجی لإیران وفرض سیاستها الخارجیة. ولقد عرضت البحوث الآنفة الکثیر من النقود والآراء الضیقة النظر. فکتابات خلیل زاد و الفرد هالیدی علی سبیل المثال قدّمت حول الثورة تحالیل منحازة بشکل لا لبس فیه.

وإضافة إلی الکتب والمقالات کثیرة جدّا التی نشرت حول الثورة الإسلامیة، جذور التطوّرات، العلاقة مع القوی الأخری دور العوامل المختلفة فی انتصارها و... فقد عقدت مؤتمرات وطاولات مستدیرة کثیرة جدّا فی سائر أرجاء العالم حول هذه الظاهرة الفریدة. فقد أقیم أوّل ملتقیً دولی فی هذا الإطار فی الولایات المتحدّة الأمریکیة وذلک فی جامعة بروکلین (5) فی عام 1983 إثر انتهاء أزمة الرهائن الأمریکیین فی إیران، ونشرت مجموعة المقالات التی ألقیت فیه أیضا برعایة بری روزن (6)فی عام 1985. ولقد تمرکز القسم الأعظم من هذه المقالات حول الجوانب الملموسة

ص:39

والمحدّدة لهذه الظاهرة، الأبعاد الأیدیولوجیة ومستقبل علاقات إیران مع دول الجوار والقوی الکبری. وبالطبع فقد تمّ بحث استنتاجات القوی الکبری وبعض دول الجوار الإیرانی حول الثورة الإسلامیة. وقد شارک فی هذا الملتقی مفکّرین وباحثین مشهورین أمثال نیکی کری (1)، بری رابین، خلیل زاد و ریتشارد کاتام حیث قاموا بتحلیل التطوّرات الإیرانیة.

ولقد تمثّلت أهمّ المساعی الأخری فی خصوص دراسة تداعیات الثورة الإسلامیة علی العالم بما قام به جان اسبوزیتو، جیمس بیسکاتوری و کریستوفر ون هالن وذلک فی عام 1989.

حیث طبعت نتائج هذا المؤتمر إثر وصول مواجهة الإسلام والغرب ذروتها وذلک فی قضیة نشر کتاب الآیات الشیطانیة . فقد بذلت الجهود فی هذا الملتقی لعرض المقالات وفق أربع مناطق جغرافیة وخلاصة نهائیة علی أساس التداعیات العالمیة للثورة الإسلامیة. ومع أنّ اسبوزیتو حاول التطرّق إلی الأبعاد العالمیة لهذه التداعیات فی الفصلین الأخیرین من هذا الکتاب، لکنّه اکتفی ببیان الأمور العامّة فقط وأوکل مهمّة بحثها بشکل موسّع إلی المستقبل.

إنّ الدراسة العامّة لهذه النصوص تشیر إلی عدم احتوائها علی بحث ملفت فی الموضوع المشار إلیه (التداعیات العالمیة للثورة الإسلامیة) وکذا عدم التعرّض لهذا الموضوع بشکل منسجم. فی حال أنّ النصوص الفارسیة کانت قد اکتفت بالتعرّض أکثر إلی الأبعاد الداخلیة للثورة.

فأغلب النصوص غیر الفارسیة تعاملت مع هذا الموضوع بشکل مغرض وإفراطی. وعلی الرغم من کلّ ذلک، فإنّه لا ینبغی التقلیل من أهمّیة التغیّرات الأساسیة التی

ص:40

تمخّضت عن دراسة الإسلام ودراسة إیران فی السنوات الأخیرة.

ویتعرّض البحث الحاضر لهذا الموضوع من خلال أربع مقالات تتضمّن ثلاثة عشر فصلا.

حیث نتطرّق بعد هذه المقدّمة وذلک فی الفصل الثانی إلی محاور عامّة حول الثورة الإسلامیة ومزایاها النظریة والعینیة. ونبحث فی الفصل الذی یلیه مسألة تصدیر الثورة، الاستنتاجات والنظریات المختلفة المتعلّقة بها. وندرس فی الفصل الرابع والخامس تداعیات الثورة الإسلامیة فی منطقة الخلیج الفارسی وبلاد الشام. ونخصّص الفصل السادس لتداعیاتها فی منطقة شمال أفریقیا. ونعرض فی النهایة خلاصة ما تمّ بحثه فی هذا الکتاب، حیث نبیّن آثار الثورة الإسلامیة علی العالم الإسلامی بالتفصیل من خلال الاستفادة من مستویات تحلیلیة عالمیة وإسلامیة مختلفة.

ص:41

ص:42

أوضح، لقد تمّ لملمة نظام محمّدرضا بهلوی بواسطة ائتلاف ضمّ قوی مختلفة یقوده الأصولیون الشیعة. وکان آیة الله الخمینی رحمة الله القائد الأصلی لهذه الثورة... ومع أنّ هناک حوادث خاصّة أدّت إلی إخراج محمّدرضا بهلوی من إیران، کانت قد حدثت خلال العام الذی سبق خروجه فی 27 کانون الثانی 1978؛ فقد امتدّت الظروف الاجتماعیة والبنیویة للثورة إلی عدّة قرون خلت. (1)

إنّ ما یتبادر للوهلة الأولی من طرح الآراء والتحالیل حول الثورة الإسلامیة الإیرانیة هو أنّ المراقبین یرون أنّها سوف لا تبقی حبیسة حدودها الجغرافیة أبدا؛ وإنّما وعلی العکس من ذلک فإنّه سوف ترافقها آثار وتداعیات عالمیة.

ویقول دیلیب هیرو فی هذا النطاق:

بما أنّ الإمام الخمینی رحمة الله قائد هذه الحرکة، هو مرجع دینی وأنّها اتّخذت من المساجد کمقرّات أساسیة لها، فقد انتهی بها ذلک لأنْ تتحوّل إلی ثورة إسلامیة. ومع أنّ ثمّة تطوّرات عمیقة وقعت فی سائر بلدان الشرق الأوسط ترافق أغلبها مع سقوط الملکیة أیضا؛ إلّا أنّ هذه التغیّرات قد جرت علی الطریقة الانقلابیة حیث اضطلع العسکریون بالدور المحوری فیها. فهذه المرّة الأولی التی یشارک فیها الملایین من المواطنین العادیین المجرّدین من السلاح بشکل فعّال فی عملیة سیاسیة استمرّت لأشهر متتالیة حیث لم یقتصروا علی إسقاط الحاکم فحسب، بل أطاحوا بمؤسّسات کالجیش أیضا. (2)

إنّ ما أدّی إلی مضاعفة تداعیات الثورة الإسلامیة هو الحضور الواسع للشعب فیها. إذ یعبّر مدی حضور الشعب فی أیّ ثورة، عن مدی عمق محبوبیتها وأصالتها.

حیث یزید الحضور غیر المسبوق للشعب فی الثورة الإیرانیة مقارنة بثورات العالم الأخری، من عظمة هذه الثورة وانعکاساتها علی المستوی العالمی. وعلی الخصوص إذا ما نظرنا إلی مقابلة الشعب ل- «العنف» المتزاید لحکومة الشاه ب- «عدم العنف» و«التظاهرات الملیونیة السلمیة» بشکل لا سابقة لها ولا یمکن تصدیقه.

ص:44

یکتب کریستیان برومبرغر العالم الفرنسی المتخصّص بأوضاع إیران والذی حرّر آثارا قیمة فی خصوص الثورة الإسلامیة الإیرانیة، فی إحدی مقالاته قائلا:

إنّ الثورة الإسلامیة کانت مدمرّة ومؤلمة. حیث هدّت هذه الثورة توازن المعسکرات (القوی العالمیة) وکذلک علاقات السلطة الاقتصادیة والسیاسیة فی أکثر مناطق العالم إثارة للطمع. وقد عرّضت هذه الثورة «مشروعیة» العلاقات الدولیة للتساؤل. وخلطت هذه الثورة الثبات الذهنی لعدد لا یستهان به من المحلّلین أیضا بشکل أکثر جاذبیة وإضحاکا من الموارد السابقة، المحلّلین الذین ذُهلوا من أصالة هذه الحرکة حیث دعت هذه الثورة الأسالیب المألوفة لهؤلاء المحلّلین وکذا العادات الفکریة والمفاهیم المتداولة المتجذّرة لدیهم إلی المواجهة والبراز... . (1)

ویقیّم برنارد هورکاد العالم الفرنسی الشهیر والمتخصّص الآخر بالوضع الإیرانی فی إحدی مؤلّفاته، الآثار الخارجیة للثورة الإسلامیة بالشکل التالی:

لقد أثار سقوط شاه إیران فی عام 1979 ردود أفعال ترافقت مع الانبهار وعدم الفهم وحتّی الإعجاب فی مختلف أنحاء العالم. حیث رأی البعض فی الثورة الإیرانیة سیلا إسلامیا یهدّد السلام العالمی. فالثورة الإسلامیة بحسب تعبیر ماکسیم رودینسون أحیت «الساحریة الإسلامیة» وأمدّتها بحیاة جدیدة. (2)

وقد قام ثلاثة من المتخصّصین الفرنسیین بأوضاع إیران بتقییم الثورة الإسلامیة فی جزء من کتاب إیران فی القرن العشرین ، وذلک بالنحو التالی:

إنّ أقلّ ما یمکن قوله فی خصوص الثورة الإسلامیة الإیرانیة هو أنّ هذه الثورة قد اختصّت لنفسها مکانة عظیمة فی تاریخ نهایة هذا القرن (القرن القشرین). فقد غیّرت هذه الثورة بلدا نفطیا مجاورا للاتّحاد السوفیتی. وتبلورت هذه الثورة فی معارضتها العلنیة والمباشرة للولایات المتحدّة الأمریکیة وأوصلت المرجعیة

ص:45

الشیعیة إلی سدّة الحکم فی وقت لم یکونوا معروفین إلّا من قِبل القلیل؛ ووقع هذا فی بلد کان یبدو فیه أنّ الإسلام قد وضع فی هامش الحیاة. (1)

وهذا ما ینطبق کذلک علی بعض الأمریکیین المطّلعین علی الوضع الإیرانی والمعروفین بأنّهم من المتخصّصین بالثورة أیضا، حیث یصوّر جان فوران الذی له آثار متعدّدة فی مجال نظریات الثورة وإیران، الثورة الإسلامیة فی إحدی مقالاته بهذه الصورة:

لقد ضربت أمواج الأحداث الدراماتیکیة التی وقعت فی إیران أعوام 1978 - 1979 والطوفان الذی نتج عنها؛ باتّجاه الولایات المتجدة الأمریکیة، مخطّطی السیاسة الدولیة والمحافل الأکادیمیة والجامعیة أیضا، وهو ما استمرّ حتّی یومنا هذا؛ هذا إضافة إلی أنّها قد أثّرت علی حیاة الملایین من الناس فی سائر أرجاء العالم بشکل مباشر أو غیر مباشر. ولم تکن إیران قبل عام 1978 تحظی بمکانة ملفتة فی الرأی العام، وسائل الإعلام العالمیة أو مراکز البحوث الأکادیمیة. وبالطبع فإنّ هذا البلد کان مرکزا لمصالح مهمّة للشرکات النفطیة متعدّدة الجنسیات، مصانع الأسلحة والمحافل السیاسیة العلیا فی الولایات المتحدّة الأمریکیة، غیر أنّ العلاقات الاقتصادیة والإستراتیجیة الواسعة مع هذا البلد بقیت بعیدا عن الأنظار إلی حدّ کبیر. وإنّ ما کان یدعم هذه الرؤیة الاجتماعیة تقریبا هو أنّ إیران کانت حلیفا دائما وثابتا إلی الدرجة التی لم تلاحظ أیّ مسألة تحذیریة یمکن التکهّن بها فی المستقبل. (2)

ویکتب مارفین جونیس المختصّ الأمریکی الآخر بالشؤون الإیرانیة أیضا، وذلک فی کتابه هزیمة إمبراطوریة :

ینبغی عدّ سقوط الشاه من أهمّ الأحداث التاریخیة المعاصرة. إذ فقد أقوی ملوک العالم، الواجهة الأساسیة لمنظمّة الدول المصدرة للنفط المهمّة وأحد الحلفاء السیاسیین والعسکریین الدائمین للولایات المتحدّة الأمریکیة والغرب تاجه وعرشه وانقرضت سلالته، بعد أنْ ترک بلاده فی 1979. (3)

ص:46

ویقول جان ستمبل الملحق السیاسی للسفارة الأمریکیة فی طهران أثناء وقوع الثورة الإسلامیة:

تاریخیاً، ربّما یکون إثبات ظهور الدین باعتباره قوّة سیاسیة مهمّة من أهمّ نتائج الثورة. إذ إنّ امتزاج أیدیولوجیة الحکومة الإلهیة مع القدرة العظیمة للشعب وفق ضوابط صحیحة، قد عرض شقّا آخر من ثورة تکاملت من خلالها الحرکة المارکسیة وبعض النماذج المشابهة، فهذا الطریق یمثّل قوّة أخری تقوم علی مبرّرات تختلف عن وراثة قوّة ومشروعیة الشاه أو أیّ قائد غیر دینی آخر، وتقف علی الضدّ منه فی عدم لجوئها إلی العنف لتحقیق أهدافها. الأمر الذی أثبت الأصولیون من خلاله إمکانیة انهیار قوّة مسلحة ضاربة من داخلها. إنّ أهمّ عامل مهدّد فی خصوص حرکة (الإمام) الخمینی الإسلامیة، لیس هو النظریة التی تقوم علیها الحرکة، وإنّما تعبئتها المؤثّرة التی تشکّلها المجموعات الاجتماعیة المختلفة للدفاع عن حکومة إسلامیة فی تنظیم سیاسی. إنّ تفوّق العلمائیة بذلک الشکل الذی ادّعاه الإمام الخمینی رحمة الله هو إشارة ضمنیة للدعوة إلی مکافحة الدول غیر الدینیة أینما وجدت. وإذا ما استمرّت هذه الظاهرة فی وجودها وأهدافها فسیتغیّر النهج الغربی القدیم القائم علی فصل الحکومة عن الکنیسة. (1)

وتقول مارغریت تاتشر الرئیسة الأسبق للوزارة البریطانیة خلال تصریح لها فی أوائل عقد الثمانینات من القرن العشرین:

لم نکن نحن الغربیین نخشی الأنظمة العسکریة والوسائل الحربیة والأقمار الاصطناعیة للاتّحاد السوفیتی فی عقد الثمانینات. فإذا کان المعسکر الشرقی وأعضاء حلف وارشو مجهّزین بالأسلحة العسکریة ومسلّحین بالمعدّات الفتّاکة فنحن أیضا مجهّزین ومسلّحین بالأسلحة الحدیثة والمتطوّرة؛ غیر أنّنا قلقون من وجود الثقافة الإسلامیة للثورة الإیرانیة. (2)

ویحلّل هنری کیسنجر وزیر الخارجیة الأمریکیة الأسبق والإستراتیجی الشهیر تداعیات

ص:47

الثورة الإسلامیة فی العالم الإسلامی أکثر من غیره وعلی الخصوص فی بُعدها الانتشاری الذی یسمّیه بالرادیکالیة الإسلامیة:

إنّ انتصار إیران فی الحرب (حرب العراق وإیران) سینشر عقائد الرادیکالیة الإسلامیة من جنوب شرق آسیا وإلی سواحل المحیط الأطلسی. (1)

ویقیّم أحمد بن بلا أوّل رئیس لجمهوریة الجزائر بعد الاستقلال وأحد قادة الثورة الجزائریة، وکما ذهبت إلیه تاتشر من أنّ الثورة الإسلامیة هی ثورة تتمیّز بخصائص وقوّة ثقافیة:

إنّ ما هو مهمّ بالنسبة لی فی خصوص ثورة إیران، هو ولادة ثورة بمفهوم ثقافی ولأوّل مرة، فهی ثورة ثقافیة قبل کلّ شیء آخر، حیث ترکّزت أصداء هذه الثورة خارج إیران فی هذا المجال تحدیدا، وتکمن جّذابیتها وقابلیة دراستها من هذه الوجهة. فقد استولت الثورة الإسلامیة الإیرانیة علی القلوب، وعلی الخصوص قلوب شباب العالم العربی فی الجزائر، تونس، المغرب، سوریا و... . (2)

ولم تمض فترة طویلة حتّی اتّضحت صحّة کلام بن بلا بحدوث تحرّکات لشباب هذه البلدان استلهاما منها للثورة الإسلامیة الإیرانیة.

وغلب علی تقییم حافظ أسد الرئیس السوری الراحل، لتداعیات الثورة الإسلامیة الإیرانیة من جانبها الإقلیمی وعدّها مهمّة فی هذا الإطار، حیث یقول:

الثورة الإسلامیة الإیرانیة تمثّل انتصارا لجمیع شعوب المنطقة.

فبحسب وجهة نظره أنّ إیران حالیا:

یحکمها نظام ثوری - إسلامی یرفع شعار لا شرقیة لا غربیة استطاع أنْ یقلب الموازین السیاسیة، العسکریة والاستراتیجیة فی المنطقة رأسا علی عقب.

وذهب الأسد إلی أبعد من ذلک فی رؤیته لتداعیات الثورة الإسلامیة الإیرانیة فی المنطقة، حیث تکهّن بانتصار الفلسطینین:

ص:48

إنّ مدی الرعب الذی أصاب النظام الاحتلالی للقدس من الثورة الإسلامیة دعاه للشکوی من أسیاده الأمریکان لمرّات عدیدة لعدم استطاعتهم الحیلولة دون نفوذ الثورة الإسلامیة الإیرانیة وتأثیرها الذی سیؤدی إلی انتصار فلسطین. (1)

ویری حبیب الشطّی الأمین العام لمنظمّة المؤتمر الإسلامی أبان ذلک العهد، فی الثورة الإسلامیة الإیرانیة أنّها قضت علی الذلّة والحقارة التی لحقت بالإسلام علی مدی عهود طویلة، فیقول:

لقد أوضحت الثورة الإیرانیة للجمیع مدی القوّة التی یتمتّع بها الإسلام وأنّ بإمکان الإیمان أنْ یساعد المسلمین للوصول إلی الحکومة التی یبغونها.

فهو یری فی الثورة الإیرانیة استعادة لعظمة الإسلام وعزّته وشموخا للعالم الإسلامی.

وإضافة إلی ذلک، فإنّ الشطّی یقیّم الثورة الإسلامیة الإیرانیة علی أنّها نموذج یمکن أنْ یحتذی به المسلمون فی الثورة وفی إقامة حکومة إسلامیة:

نحن نرید صناعة مجتمع جدید یقوم علی الأصول الإسلامیة ونأمل أنْ تکون الثورة الإسلامیة الإیرانیة نموذجا وقدوة لنا فی ذلک. (2)

ویقیّم الأسقف کابوتجی العالِم المسیحی العربی، الثورة الإسلامیة علی أنّها ثورة فریدة ویعزو انتصار إیران علی أعظم قوی العالم إلی إیمان الشعب بالله وإلی قیادة الإمام الخمینی رحمة الله . وهو إضافة إلی اعتقاده بأنّها ثورة لا نظیر لها وعلی الخصوص فی اعتمادها علی الإیمان بالله، یری إمکانیة محاکات هذه الثورة وتقلیدها ویوحی للآخرین باتّخاذها قدوة لهم:

علینا نحن العرب أنْ نتعلم من الثورة الإسلامیة. (3)

ویؤکّد مولانا بشیر الرحمن أحد قادة المسلمین السنّة فی الباکستان علی أنّ مسلمی الباکستان یکنّون احتراما شدیدا للثورة الإسلامیة الإیرانیة، فیقول:

ص:49

کلّ یوم یمرّ علی الثورة الإسلامیة المهیبة، یزداد ارتباط الشعب بها ویزداد ولههم بهذه الثورة.

ویعزو أهمّیة هذه الثورة وسبب الحبّ لها إلی «إحیائها الإسلام وتطبیق أحکامه» فهو یری أنّ الثورة الإسلامیة الإیرانیة وقائدها الإمام الخمینی رحمة الله :

قد شقّت وشقّ طریقا لمسلمی العالم للمسیر فیه والوصول إلی هدفهم فی الخلاص من نیر القوی الکبری. (1)

ویفهم من خلال کلام هذا الزعیم السنّی أنّ وجه نموذجیة الثورة الإسلامیة الإیرانیة هو أهمّ أوجه تداعیات هذه الثورة.

السیاسیة - الاجتماعیة الحاکمة فی إیران قبل الثورة فحسب؛ بل ثمّة ظروف تختلف بالکامل فی هذا البلد عنها فی البلدان المشار إلیها.

ففی وقت کانت کلّ من فرنسا وروسیا تعیشان أحلک الظروف إقتصادیا وتسیران إلی حافّة الإفلاس، کانت إیران تعیش أفضل الظروف الإقتصادیة وعلی الخصوص من ناحیة القدرات المالیة وأرصدة العملات الأجنبیة، وذلک من خلال الارتفاع المفاجئ وغیر المتوقّع لأسعار النفط.

وفی حین أنّ فرنسا وروسیا کانتا من الناحیة العسکریة تمرّان بأضعف حالة وأکثرها قلقا نظرا لهزائمها المتلاحقة فی الحروب التی خاضتاها. فلم یقتصر الجیش علی عدم تقدیم الدعم اللازم للنظام السیاسی الحاکم فحسب، بل أنّه أبدی میلا نحو الثورتین وانضمّ قسم منه إلیهما؛ أمّا جیش الشاه ففی ذات تمتّعه بالعدد والعدّة الکافیة، سوی بعض الموارد الاستثنائیة المتفرّقة، بقی وفیا للنظام السیاسی حتّی آخر لحظات عمر نظام الشاه. (1)

أضف إلی ذلک أنّ فرنسا وروسیا وعلی الرغم من أنّهما کانتا تمرّان فی ظروف سیئة من جهة الدعم الدولی، کانتا غالبا ما تواجهان إعراضا من قِبل الدول الأوربیة یصل إلی الخصومة من بعضها؛ بینما نلاحظ أنّ دولة إیران ونظام الشاه لم تکن تتمتّع بالدعم الکامل من قِبل القوّتین العظمیین وباقی القوی الکبری والأقلیمیة إلی آخر أیام حکومته فحسب، نظرا لانتهاء الحرب الباردة وبدایة مرحلة الهدوء والتعایش السلمی بین القوّتین، بل بادرت کثیر من القوی العالمیة لمواجهة الثورة الإسلامیة یدفعها إلی ذلک الحفاظ علی مصالحها التی یمرّ ضمانها عبر استمرار نظام الشاه ویقف الثوریون فی قبال ذلک من دون وجود أیّ دعم دولی لهم.

ص:51

وأخیرا، ففی حین لم تستطع الأنظمة السیاسیة فی کلّ من فرنسا وروسیا وعلی الرغم من الاستبداد المستولی علی الوضع، من تحدید مصالحها وإدارة أنظمتها بشکل مناسب مطلقا، وذلک للحفاظ علی ثباتها واستحکامها بسبب عدم کفاءة أمبراطوریهما ونفوذ أفراد سیئین فی البلاط؛ ولکنّ نظام الشاه کان قد وصل بالتدریج إلی الثقّة بالنفس والسیطرة المطلقة بعد عبوره مرحلة حرجة من تاریخ حکومة محمّدرضا بهلوی علی مدی 37 عاما، وکان یتمتّع بالقدرات اللازمة للحفاظ علی سلطته الاستبدادیة واستمرارها والقضاء علی معارضیه من خلال جیش من المستشارین المهرة من الداخل والخارج - وعلی الخصوص الشرطة السریة المهولة السافاک -.

ویستخلص ثیدا سکوجول الکاتب الأمریکی إثر دراسة مقارنة بین ثورات فرنسا، روسیا والصین ما یلی:

کانت کلّ فرنسا وروسیا والصین قد أسّست قبل الثورة إمبراطوریة تمتلک القابلیة اللازمة لحفظ تفوّقها فی مواجهة التمرّد الاحتمالی للشعب. فکان یلزم تجزئة وتشتیت قواها العسکریة والتنفیذیة إذا ما أُرید حدوث ثورة اجتماعیة. فحینما حدثت ثورة 1789 الفرنسیة، 1917 الروسیة، 1917 و1948 الصینیة لم یحدث ذلک بسبب خطوات حکیمة اتُّخذت فی هذا الإطار ومن خلال إرادة سعی من خلالها الثوار أو فئات سیاسیة قوّیة فی مرحلة النظام السابق، وإنّما بسبب الأزمات السیاسیة النابعة من الانهیار العسکری والإداری للنظام وفی وقت کانت هذه الإمبراطوریات واقعة تحت وطأة ضغوط متعدّدة نظیر التنافس العسکری الشدید، الاختراقات الخارجیة وعدم کفاءة المؤسّسة السیاسیة، الأمر الذی جعل من هذه الأنظمة فی معرض الانهیار أمام أمثال هذه الأزمات الثوریة، إذ إنّ أنظمتها الموجودة جعلت من إمکانیة الصمود أمام الضغوط العسکریة والدولیة التی ینبغی علیها مواجهتها أمرا غیر ممکن.

ویضیف:

إنّ طبیعة ونتیجة الثورات الاجتماعیة فی البلدان المرتبطة بالخارج تتبلور فی ظروف لا تقتصر علی أسباب الاستمداد والاستغاثة للدفاع فی قبال الهجمات

ص:52

الفعلیة والمستقبلیة فحسب، بل ستقع تحت تأثیر المساعدات العسکریة والاقتصادیة المباشرة من الخارج. فأغلب هذه المساعدات المقدّمة لأبطال الثورة الصاعدین تتمّ من قِبل القوی الخارجیة الرئیسة التی ترغب فی التنفّذ فی بلورة الأنظمة الجدیدة وسیاساتها. (1)

وبسبب هذا الضعف والخلل فی الثورة الفرنسیة، فإنّ النظام السیاسی الحاکم تهالک علی مجلس العموم ملتمسا ومستسلما لیس بسبب معارضة القوی الشعبیة، وإنّما بسبب العجز الکامل عن حلّ المعضلات الاقتصادیة، السیاسیة والاجتماعیة للبلاد. فتشکلت عندئذ الحرکات الشعبیة والتنظیمات الاجتماعیة ممّا أعطی زخما للثورة.

وینطبق هذا الأمر علی الثورة الروسیة أیضا، فمع أنّ قوی المعارضة کانت حاضرة علی شکل مجموعات وأحزاب سیاسیة مختلفة ذات أهداف خاصّة ومتنوّعة، لم یکن لها أیّ دور فی سقوط نظام القیاصرة، بل لم یکن یخطر علی بالهم سقوط الإمبراطوریة الروسیة بهذه السهولة.

وبالطبع فإنّ دولة روسیا القیصریة وعلی الرغم من العجز والضغط الشدید الذی تحمّلته، لم تبادر إلی الاستسلام مباشرة للشعب؛ ولکنّها فی المقابل استسلمت وذابت کجبل من الثلج فی أوّل تمرّد شعبی صغیر نبع من الأزمة الاقتصادیة وانفجارها، والذی تبلور علی شکل مظاهرات واعتصامات فی معامل ومصانع بتروغراد. فی حین أنّ الثورة الإیرانیة انتصرت فی ظروف کان النظام الشاهنشاهی یبدو فیها فی ذروة قوّته وروسخه باعتراف أکثر المحلّلین والمنظمّات الاستخباریة (2)، وکان یشعر بامتلاکه القوّة

ص:53

والقدرة علی الصمود فی قبال المعارضین إلی أقصی حدّ ممکن. وبالطبع فإنّ الفئات الاجتماعیة ولأجل ترکیع وإسقاط مثل هذا النظام المقتدر کان ینبغی علیها التخطیط وتعبئة کافّة القوی والتضحیة بالکثیر من التعبویین.

ولأجل هذا، فإنّه یصدق ما قاله سکوجول من أنّ الثورتین الفرنسیة والروسیة لم تُصنعا، بل حدثتا تلقائیا، ولکنّ الثورة الإسلامیة الإیرانیة لم تحدث تلقائیا وإنّما صُنعت علی ضوء الظروف الصعبة والمعقّدة التی کانت قائمة (1)؛ ولم یحدث ذلک بسهولة، وإنّما من خلال إعداد کافّة إمکانیات البلد وجمیع الفئات والطبقات الاجتماعیة وتحت قیادة قائد قوی ودفْع ثمن باهض، أیّ التضحیة بعدّة آلاف من المناصرین للثورة. الأمر الذی جعل الجمیع فی حیرة وذهول من قیامها وانتصارها.

إنّ الثورة الإسلامیة لم تأتِ لإجراء برامج مشابهة لثورة فرنسا الدیمقراطیة أو البرامج الاشتراکیة للثورة الروسیة؛ وإنّما جاءت لخلق بیئة تقوم علی أساس أطروحات ونظریات حدیثة تنسجم والربع الأخیر من القرن العشرین تهیّ ء أسباب خلاص المستضعفین من الاستبداد والاستعمار بکافّة أنواعه وإنشاء مجتمع قوی وحدیث یقوم علی دین متجدّد وبنّاء کالإسلام.

أمّا فی المجال النظری، فإنّ النظام السیاسی للدول الاستبدادیة یلزمه أنْ یکون ضعیفا کی یمکن نجاح أو حتّی ظهور حرکات ثوریة شعبیة. فالتمرّد الشعبی من

ص:54

الوجهة التاریخیة لم یکن قادرا بذاته فی الحقیقة علی إسقاط الحکومات المستبدّة. وعلی خلاف ذلک، فإنّه یلزم وجود ضغط عسکری من الخارج یترافق علی الأغلب مع تباینات وانشقاقات سیاسیة فی أوساط الطبقة الحاکمة والدولة کی یتمّ إضعاف الاستبداد لتهیئة الأجواء للتمرّدات والتحرّکات الثوریة.

ویعتقد سکوجول عدم وجود ثورات اجتماعیة تعقب حرکات ثوریة یقودها قائد مذهبی یحرّک الجماهیر ویکسب دعمهم لإسقاط النظام الحاکم. وبعبارة أوضح، إنّ قادة الثورة غالبا ما یکونوا غائبین قبل انطلاق الثورة حتّی سقوط النظام، أو أنّهم یتواجدون بشکل هامشی سیاسیا. فی حال أنّ الثورة الإیرانیة لم تأتِ من ذاتها، بل إنّ هذه الثورة صنعها عزم وإرادة شعب کامل یقوده قائد مقتدر یتحرّکان بشکل منسجم وعلی الخصوص فی مراحلها الابتدائیة التی شهدت سقوط الشاه. فهو یعتقد بأنّه:

لا مجال للشکّ والنقاش فی أنّ أسباب ظهور ثورة إیران مقارنة مع ما حدث من ثورات فی فرنسا، روسیا والصین کانت مختلفة ومختلفة جدّا. (1)

ما تقدّم من کلام یجعلنا نستنتج من الناحیة النظریة، أنّ ظروف وأوضاع إیران کانت وعلی خلاف ما هو علیه الحال فی فرنسا وروسیا فی أضعف حالاتها لتوجیه ضربة لنظام الشاه وإسقاطه. فقد سقط هذا النظام فی وقت لم یکن یخطر علی باله أبدا حدوث ذلک، ولأجل هذا فقد استولی الذهول والحیرة علی الجمیع وکأنّ معجزة قد وقعت. إنّ الأسباب الحقیقیة لهذا الحدث یمکن إیضاحها وتحلیلها من خلال دراسة القوّة الاجتماعیة المعارضة التی تتمثّل فی أرکانها الثلاثیة الشعب، القائد والمذهب.

ویلاحظ من خلال دراسة القوّة الاجتماعیة فی الثورات مورد البحث أنّه بالترافق مع ضعف السلطات السیاسیة الحاکمة فی فرنسا وروسیا، فإنّ القوّة الاجتماعیة

ص:55

المعارضة فی تلک البلدان کانت ضئیلة جدّا مقارنة مع إیران ومع مدی تأثیرها ومشارکتها فی سقوط الأنظمة السیاسیة الحاکمة.

ففی الوقت الذی کان معدّل مشارکة الشعب فی إسقاط الأنظمة المستبدّة قلیلا جدّا فی فرنسا وروسیا إلی درجة أنّ معارضی النظام فی فرنسا اقتصروا علی طبقة الأمراء والنجباء، وبعبارة أخری لم یکن ثمّة دور للشعب فی ذلک، فاستسلام النظام الفرنسی یعود إلی ضعفه الذی استلزم الاستسلام. وفی روسیا أیضا، حیث اقتصر التمرّد علی عدد محدود من عمّال مصانع بطرسبورغ وجنود المعسکرات فیها، ممّا أدّی إلی التمهید لسقوط أسرة رومانوف. أمّا فی الثورة الإسلامیة الإیرانیة فقد تکاتف جمیع طبقات الشعب والفئات الاجتماعیة باستثناء أقلّیة ضئیلة، حیث أوقف العمّال، المزارعون، المهنیون، فی کافّة أنحاء البلاد العجلة الاقتصادیة والإداریة للبلاد دفعة واحدة، ووقفوا بأید عزلاء فی مواجهة النظام ما وسعهم ذلک حتّی أسقطوه.

وقد أشارت الدراسات اللاحقة إلی أنّ مستوی مشارکة الشعب أخذ بالانخفاض تدریجیا بعد انتصار الثورة فی کلّ من فرنسا وروسیا اللتین اختلّت وضعفت فیهما حلقات الاستبداد والدیکاتوریة وتهیأت أجواء مناسبة للوعی السیاسی والمشارکة الشعبیة بسبب عدم رغبة سلطات ما بعد الثورة - أعمّ من الوسط والرادیکالیین -.

حیث یثبت هذه النظریة تاریخ وإخصاءات مشارکة الشعب فی انتخابات ما بعد الثورة. (1)

أمّا فی مجال البُعد القیادی للثورات، فإنّه یمکن القول بعدم وجود قائد بارز ترتضیه الفئات الاجتماعیة فی فرنسا وروسیا فی صفوف المعارضین وذلک إلی ما قبل سقوط نظامیهما الإمبراطوریین. وینطبق ذات الأمر علی مرحلة السنوات العشر ما بعد الثورة أیضا، فقد جاء قادة کثیرون تصارعت إرادتهم واختلفت اتّجاهاتهم فلم یتمکّنوا

ص:56

من إقرار الثبات والنظام اللازم فی المجتمع المتشتّت والمضطرب فی ذلک الوقت ممّا أدّی فی نهایة المطاف إلی إقامة دیکتاتوریات نابلیونیة وستالینیة قاسیة وعنیفة. لکنّ الثوریین فی إیران کانوا یتمتّعون فی ربع القرن الأخیر (أیْ منذ بدء الحرکة الإسلامیة عام 1963) بقائد کالإمام الخمینی رحمة الله لم یجرؤ أحد علی معارضة قیادته المقتدرة والحکیمة، حیث کان یتمتّع أیضا بمشروعیة دینیة وسیاسیة واجتماعیة فاستولی علی قلوب ملایین المسلمین الولهین. وتُعدّ هذه المسألة أحد العناصر الرئیسة فی استمرار وثبات الثورة، إذ إنّ هذا النوع من القیادة قد انعکس فی أصل ولایة الفقیه المستلهمة من مدرسة الإسلام التی هی مدرسة الثورة أیضا، الأمر الذی جعل استمرار حضور قیادة الثورة أطول باعا من إدارة النظام السیاسی الحاکم. واستمرت هذه القیادة بکل هدوء واطمئنان بعد رحیل الإمام وذلک من خلال خلیفته.

وبما أنّ المذاهب اللیبرالیة والشیوعیة فی کلّ من فرنسا وروسیا قامت بتضییق الأفق الحیاتی علی أتباعها باستنتاجاتها المادّیة، واقتصرت علی إلفات أنظارهم إلی زاویة واحدة ولم تضطلع بدور مهمّ فی خلق البواعث اللازمة لإسقاط الأنظمة الإمبراطوریة فی فرنسا وروسیا، فقد واجهت مشاکل فی تطبیق قیمهما ومعاییرها بعد سقوط الأنظمة البائدة، فاضطرّت إلی إجراء تعدیلات کثیرة علی نظریاتها. ومن جانب آخر، فإنّ المذهبین الآنفین کانا غریبین علی الفرنسیین والروس ویتعارضان مع الأسس العقائدیة لعامّة الشعب الذی کان دینیا فی أغلبیته ممّا أدّی إلی عدم تمکّنها من إیجاد اللبنة الأساسیة للتکاتف والانسجام والوحدة بین طبقات وعامّة شعبه وبقیا یمثّلان أیدیولوجیة طبقة خاصّة ومثقّفة وبعناوین متعدّدة.

ولکنّ الإسلام بما أنّه کان قد دخل إیران قبل 1400 عام فأصبح مألوفا ومعتقَدا لکافّة طبقات المجتمع فتعایشوا معه ونفذ إلی قلوبهم وسیطر علی عقولهم، لم یتعارض مع قیم المجتمع فحسب، بل فتح آفاقا واسعة لأتباعة نظرا إلی رؤیته الکونیة الإلهیة.

ص:57

وبالإضافة إلی أنّه کان یبثّ الأمل بالسعادة الأخرویة فی أتباعه، فأنّه جاء بقوانین وإرشادات لهذه المرحلة القصیرة من الحیاة الدنیویة، فإنّه فی هذه الخصیصة یتمتّع بمیزة عظیمة مقارنة مع المذهبین الآنفین.

إنّ الثورتین الفرنسیة والروسیة لم تقفا ضدّ الدولة فحسب، بل وقفتا ضدّ رجال الدین والکنیسة أیضا، فقد أصبحت الکنیسة فی فرنسا فرنسیة وخرجت عن سلطة البابا والفاتیکان، وقُمعت وزویت فی روسیا؛ إلّا أنّ علماء الشیعة قاموا وثاروا بأجمعهم علی الدولة واضطلعوا بقیادة الثورة الإسلامیة.

فقد کان نجاح الأیدیولوجیة الثوریة للإسلام یمثّل مسألة قیّمة وعلامة ممیّزة علی الرؤیة الکونیة للثورة الإسلامیة فی إیران. فأعطت هذه الأیدیولوجیة إجابة واضحة للمطالب السیاسیة المعاصرة، وکمّمت أیضا أفواه المذاهب المادّیة، واستثمرت فی ذات الوقت جمیع الإمکانات التقنیة وتجارب الحرکات الأیدیولوجیة والسیاسیة للغرب. وبعبارة أخری، فقد تفوّقت هذه الأیدیولوجیة تفوّقا بارزا علی الشیوعیة التی تتعارض والدین، والثورة الإسلامیة بدل أنْ تخلق بدیلا جدیدا للدین - کما فعل الشیوعیون - لجأت إلی دین جادّ وتقدّمی کان موجودا من قبل، وتجهّزت بالآلیة الأیدیولوجیة اللازمة للنضال فی الساحة السیاسیة.

والملاحظ أنّه یمکن تلمّس رمز انتصار الثورة الإسلامیة علی نظام الشاه فی عظمة ومستوی النشاطات الواسعة لأرکان الثورة الثلاثة أیْ الشعب، القیادة والدین والتی استطاعت وعلی خلاف تکهّنات وحسابات المحلّلین من ترکیع النظام الشاهنشاهی العریق والقوی وإسقاطه أمام دهشة وذهول العالم.

وکما اتّضح من الحوادث والوقائع التاریخیة للثورات الثلاث فإنّ انتصار ثورات فرنسا وروسیا وحتّی الصین وکوبا لم یأتِ من خلال انسجام وقوّة القوی الثوریة، وإنّما بسبب ضعف أسس الأنظمة الحاکمة، الذی أدّی إلی إنهاک النظام الحکومی،

ص:58

وساهمت الأزمات العسکریة، الاقتصادیة والضغوط الدولیة إلی تعزیز هذا الضعف. فمن الطبیعی عدم إمکان تفادی سقوط النظام السیاسی لهذه الأنظمة والحال هذه. وبتوضیح آخر، إنّ الفئات الاجتماعیة المعارضة إنّما سعت وتنافست واستلمت السلطة من خلال الفراغ السیاسی للسلطة، فنزلت إلی الشارع باعتبارها وریثة للثورة.

الرومانیة. فهذه الأحداث الثلاثة قد حدثت أثناء حیاة الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله ثمّ تابع الخلفاء والصحابة هاتین المعرکتین من بعده. وکما نعلم فإنّه تم القضاء علی الإمبراطوریة الإیرانیة فی عصر الخلیفة الثانی وانحسرت الإمبراطوریة الرومانیة عن منطقة الشام ومصر وجزء من شمال أفریقیا.

إنّ أیّ ثورة لا یمکن تحقّقها ولا یمکن تجسّدها فی الواقع من دون قیامها علی أیدیولوجیة. فإطلاق عنوان الثورة علی ظاهرة ما یکفی لمعرفة کون أنّها تتضمّن أیدیولوجیة. ولأجل تنوّع الأیدیولوجیات فی الثورات یمکن لنا تقسیمها من هذه الناحیة إلی مجموعتین؛ ثورات ذات أیدیولوجیة قومیة وثورات ذات أیدیولوجیة عالمیة (ما وراء القومیة).

والمقصود بالأیدیولوجیة القومیة هی أنّ نفوذها وقوّة إقناعها وتعبویتها تتحدّد ضمن إطار الأراضی القومیة للثورة من دون أنْ یکون لها خطابا موجّها للشعوب التی تقطن خلف حدودها القومیة. أمّا الأیدیولوجیة العالمیة فهی علی العکس من ذلک فهی إضافة إلی امتلاکها القدرة علی بیان ما هو موجود فی الحدود الجغرافیة للثورة، تمتلک القابلیة اللازمة أیضا لبیان الأوضاع الموجودة فی سائر الأراضی المشابهة، والأهمّ من ذلک، ترسم وتحدّد الحالة التی ینبغی أنْ تکون علیها الأوضاع بالشکل الذی یکون مقبولا علی النطاق العالمی؛ أیْ أنّها لا یمکنها أنْ تبقی حبیسة حدودها القومیة ومتوجّهة للشعب الذی یقطنها فحسب.

إنّ ماهیة «إسلامیة» الثورة الإیرانیة قد حوّلت «الأیدیولوجیة الإسلامیة» للثورة إلی أیدیولوجیة فوق القومیة منذ انطلاقتها. إذ إنّ أیدیولوجیة بمضمون وبلاغ عالمی کانت مسموعة ومتّبعة فی أوساط ملیارد مسلم أبان تلک الفترة علی الأقلّ.

حیث تتواجد وتتوفّر فی الثورة الإیرانیة الموادّ الأوّلیة للأیدیولوجیة القائمة علی الإسلام فی جمیع الأراضی الإسلامیة. إضافة إلی أنّ أکثر هذه الأراضی

ص:60

عاشت وتعیش ظروف مشابهة لظروف إیران فی زمن الشاه. وبهذا تکون الأیدیولوجیة الإسلامیة للثورة الإیرانیة فی طلیعة مَنْ یمتلک متلقّین ومخاطَبین کثر فی الأراضی الإسلامیة التی لا تقتصر علی فهم وإدراک لغة هذه الأیدیولوجیة فحسب بل تتمنّاها.

إنّ أوّل معلم مهمّ للثورة، هو ماهیّتها الدینیة والإسلامیة فی قبال الفکرین المادّیین الغربی والشرقی. فإذا ما نظرنا إلی جمیع الثورات التی قامت حتّی الیوم، فإنّنا سنلاحظ أنّ کلّ منها کانت مرتبطة أو مستلهمة لأحد هذین القطبین؛ فالثورة الإسلامیة الإیرانیة تختلف عنها فی هذا الجانب.

لقد بُنی الفکر المادّی علی محوریة الإنسان (الأومانیسیة) ولم یوفّر أبدا الحاجات الإنسانیة بکامل جوانبها. فقد اقتصر اهتمام هذا الفکر علی الحاجات الأوّلیة فحسب، ولم یلتفت إلی البُعد القِیمی، الأخلاقی والاقتصادی للحاجات الإنسانیة العلیا. فما فعلته الثورة الإسلامیة الإیرانیة، هو عرضها النظریة العقلانیة الدینیة فی مقابل العقلانیة المادّیة. فمن خلال طرحها هذا الفکر طرحت أیضا الوحدة بین العلم والدین، الحکومة والدین، التنمیة الاجتماعیة والدین و....، فمثّل قبل أیّ شیء آخر جوابا رصینا للداعین إلی فصل الدین عن السیاسة. إنّ الثورة الإسلامیة باعتبارها تمثّل تجدیدا للدین والفکر الدینی للإسلام الأصیل، کان لها حصّة الأسد فی إزالة غبار الخرافات والانحرافات عن وجه الإسلام.

إنّ الثورة الإسلامیة باعتبارها ثورة أیدیولوجیة وبرؤیتها الکونیة الخاصّة النابعة من مذهب الإسلام، لم تکتفِ أنْ تکون مجدّدة للبرامج والنظریات والأطروحات الخاصّة بالحکومة والدولة فی البُعد القومی فحسب، بل ونظرا لعالمیة مذهب الإسلام فقد کان لها أفکار ونظریات خاصّة علی المستوی العالمی أیضا وعرضت نظاما عالمیا وفق رؤیتها الخاصّة.

ص:61

مصر ارتدادات قومیة عربیة عمّت العالم العربی وبقیت آثاره فی ما یُعرف بالناصریة التی تشکّلت من خلالها الجمهوریة العربیة المتحدّة (مصر وسوریا).

إنّ أهمّ مسألة شغلت المراقبین لأحداث الثورة إسلامیة وإلی مدّة طویلة، هی مسألة تصدیر الثورة. فقد أدّی طرح هذا الموضوع من قِبل قادة الثورة فی أوائل أیامها بعد الانتصار، إلی أعظم مواجهة مع الغرب ومع الحکومات المرتبطة به فی المجتمعات الإسلامیة أیضا. هذا وإنْ لم یکن ثمّة فهم وتعامل موحّد فی تنفیذ هذا الهدف داخلیا.

من خلال توظیف الأیدیولوجیة الشیعیة الإسلامیة هو ذات ما کان یطرحه نظام الشاه - أیْ عظمة وأبّهة إیران القدیمة-. حیث یدعی مایکل فیشر فی مقالة له تحت عنوان «الوقائع المتکرّرة فی ثورة إیران»:

وهدف نظام الجمهوریة الإسلامیة هو أیضا کما کان فی النظام البهلوی الوصول إلی المستوی الأکبر من القوّة فی المنطقة. لکنّ الاختلاف ینعکس فی أنّ دولة بهلوی کانت تحاول الوصول إلی هذا الهدف من خلال طبقة الخبراء والنخب، بینما تسعی الجمهوریة الإسلامیة لذلک من خلال محاولتها استقطاب دعم شعوب المنطقة.

النطریة الثالثة تعتمد ما طرحه قادة الثورة فی هذا المجال، من أنّ الثورة الإسلامیة ومن خلال انتصارها علی أعنف وأقوی الدیکتاتوریات فی إیران، فتحت للشعوب المحرومة والمظلومة الطریق للتحرّر من قیود الاستبداد والإمبریالیة، وأثبتت لها إمکانیة التغلّب علی هذه القوی الشیطانیة. وأوصلت لها کذلک بلاغ الثورة الإسلامیة فی کیفیة طی طریق الحرّیة هذا. وقد جاء هذا الهدف فی دستور الجمهوریة الإسلامیة أیضا.

إنّ فکرة تصدیر الثورة نابعة من تعالیم الإسلام ورسالته العالمیة فی سیاق نشر الأفکار والمفاهیم الإسلامیة. فالثورات بطبیعتها إنّما تنتصر فی ظروف نزاعها مع النظام الحاکم الذی یرتبط ارتباطا وثیقا بسیاسة الحفاظ علی الوضع القائم فی المجتمع الدولی. ففی مثل هذه الظروف، تبرز موضوعیة مسألة تصدیر تجارب الثورة إلی البلدان المقصودة وجمیع المجتمعات العالمیة. والثورة الإسلامیة تابعت بدورها هذا القانون العام، فقامت بعد سقوط نظام بهلوی بطرح موضوع تصدیر الثورة بشکل جادّ بسبب المتبنیات العمیقة لأهدافها. ففی مثل هذه الظروف طرحت الأفکار التی تتجانس من قریب أو بعید مع أیدیولوجیة الثورة وفق تعابیر خاصّة بها.

ص:64

تعتبر الإیرانیة المحور الأصلی لهذه التنمیة. فکان هؤلاء یرون بأنّه یجب الترکیز. علی تحسین الأوضاع والظروف الوطنیة والارتقاء بالمستوی التقنی وتفادی إثارة الحساسیات العالمیة.

إنّ هذا الفکر یمثّل نظرة انفعالیة ومحبطة لتطوّرات المجتمع العالمی إذ اقتصرت ردّة فعلهم علی ذلک الجزء من التطوّرات العالمیة الذی یرتبط بالالتزامات الدولیة والحدیثة للبلاد. حیث یری هذا الرأی أنّ التعامل القِیمی مع النظام العالمی یُعدّ عملا مرفوضا وغیر مستحسن. فیکتفی بطرح شعارات تتعلّق بلزوم بناء إیران عامرة، حرّة ومستقلّة تقیم علاقات متوازنة ودائمة مع کافّة الدول والالتحاق بالرکب العالمی الفعلی.

فکانت تری هذه المجموعة أنّ قیم الثورة یمکن قبولها فی إطار الحدود الوطنیة فحسب، وینبغی عدم التعرّض إلی المحیط الإقلیمی. ومن هنا کانت تعارض تصدیر الثورة بشکل کامل وتعتبره عملا یتعارض والشؤون الدولیة.

وکان أعضاء الحکومة المؤقتة وأصحاب المهندس بزرکان فی حرکة الحرّیة من ضمن هذه المجموعة، حیث أعلنوا معارضتهم الجدّیة لموضوع تصدیر الثورة بکلّ الأسالیب الممکنة. فیصرّح الدکتور یزدی وزیر خارجیة الحکومة المؤقتة فی هذا الشأن:

نحن لا نسعی إلی تصدیر ثورتنا. (1)

الفئة الأخری، مثّلها بعض العناصر الثوریة حیث تعتقد أنّ الحدود الوطنیة ما هی إلّا صناعة استعماریة، وتری أنّ العالم الإسلامی کان موحّدا فی السابق وتمّت تجزئته من خلال الهجوم الثنائی للثقافة الغربیة، أی القومیة والاستعمار، وأنّ الحدود والأعلام نظّمت بالشکل الذی یتناسب ومصالح الدول القوّیة، وأنّ التباهی العنصری القومی قد ألقی بظلاله علی القیم والثقافة الإسلامیة. فأنصار هذه النظریة یعتقدون ب- «نظریة

ص:66

المؤامرة» ویرون أنّ کلّ اختلال، تخلّف، جمود ثقافی وحدود، نابع من مؤامرة خطّطت لها الدول الاستعماریة. ومثّل الاهتمام الاکید بمسألة «أن الإسلام لا یعرف حدودا» حربة مناسبة لهذه الفئة أعطوا لأنفسهم فی إطارها مشروعیة ملفتة للانتباه. وکانوا یعتقدون بأنّ البقاء ضمن الحدود الوطنیة وقصر التحرّک علی التنمیة الداخلیة نوع من المؤامرة وأسلوب اعتدالی، وهو مهدّد بالانهیار إثر غزو المجتمع الدولی للقیم الثوریة، حیث یتعرّض النموذج المتحقّق للثورة للهزیمة والانکسار. فیُعدّ الهجوم المستمرّ علی القیم الحاکمة والسعی للقضاء علی الأنظمة المرتبطة بها، الهدف الأساسی لهذه النظریة.

حیث ترکّز هذه الفئة علی الاستفاد من القدرات العسکریة، الفدائیة والمخابراتیة وتجهیز حرکات التحرّر بالأسلحة وتهدید أسس الحکومات الاستبدادیة. إنّ التنمیة الوطنیة لا یمکن تحقیقها إلّا من خلال إنشاء حلقات ثوریة لدی الشعوب المسلمة وتهدید المصالح العالمیة للاستعمار، ومن ثمّ إیجاد نطاق آمن لأمّ قری العالم الإسلامی. الأمر الذی یجعل هذه النظریة تختال وتتباهی أمام النظریة الأولی.

لقد ساوت هذه النظریة بین المصالح القومیة والمصالح الهدفیة، وأعطت الأولویة فی السیاسة الخارجة إلی المصالح الأیدیولوجیة وبموقف عنیف وإطاحی. ورفضت أیّ قبول للقوانین الدولیة وشمل ذلک جمیع المنظّمات، المؤسّسات والقواعد الدولیة عامّة، ورکّزت علی المواجهة الدائمة حتّی القضاء التامّ علی هذا النظام الظالم وتحقیق القیم الثوریة عن طریق ممارسة القوّة. وربّما یمکن القول بأنّ الشهید محمّد منتظری هو أحد قادة ورؤوس هذه الفئة. (1)

ویعتقد أنصار النظریة الثالثة، بلزوم السعی فی الداخل لصناعة أمّة نموذجیة

ص:67

وتوظیف جمیع الوسائل الثوریة، القانونیة وحتّی العسکریة العنیفة لتحقیق هذا الهدف. أمّا بالنسبة إلی العلاقة مع المجتمع الدولی فتتابع هذه النظریة السیاسة السلمیة المرافقة لاستثمار الفرص، وتری وجوب توجیه الضربات للأنظمة العملیة والمستبدّة حیثما اقتضت المصالح الوطنیة ذلک وکانت الظروف مهیئة لذلک، والاستمرار فی مماشاة الوضع القائم إذا لم تکن الظروف مناسبة.

إنّ هذه النظریة تمثل تلفیقا بین النظریتین الأولی والثانیة، ویعتقد أتباعها بلزوم الابتعاد عن اتّخاذ مواقف متشنّجة تّجاه المجتمع الدولی مع عدم النجاح فی تثبیت الأوضاع فی الداخل؛ بل ینبغی التدرج فی الدخول فی نزاع مع المجتمع الدولی والإقلیمی إلی حین تحسین الأوضاع فی الداخل والوصول إلی الأهداف المرسومة. فإذا ما تعرّضت مصالحنا فی نقطة ما إلی التهدید ولم تکن الخصومة والمواجهة مجدیة فعلینا الاستمرار فی مجاراة الوضع القائم.

إنّ هذه النظریة متأثّرة إلی حدّ بعید بالفکر الثوری داخلیا وتدافع عن التفاهم مع سیاسة الدول القویة فی المجتمع الدولی خارجیا. وتبیح هذه النظریة الاستفادة من جمیع الوسائل والأسالیب للوصول إلی الأهداف الثوریة المشروعة. وکانت نظریة المحافظة علی أم القری العالم الإسلامی التی طرحها الدکتور محمّدجواد لاریجانی تقوم علی هذه النظریة. (1)

فالنظریة القومیة وبسبب إقحامها أسسا غیر دینیة فی قیم الثورة الإسلامیة، کانت مرفوضة من الإمام بشکل صریح نوعا ما. هذا مع أنّ «محوریة إیران» لاتتکافئ و«محوریة الإسلام» لزوما، بل إنّها أضیق منها بکثیر. ومن جهة أخری، فإنّ النظریة القومیة انفعالیة بالکامل ولا تلائم الظروف الثوریة بأیّ وجه من الوجوه، وأنّ حصر أیّ تطوّر وتنمیة فی داخل الحدود الوطنیة والتحرّک لتحقیقها یُعدّ دلیلا علی عدم الاهتمام بالمجتمع الدولی. إنّ الإعلان الصریح للإمام رحمة الله بلزوم تصدیر الثورة، یمثّل رفضا صریحا لهذه النظریة، فهو یصرّح بشکل علنی:

سنصدّر ثورتنا إلی جمیع أنحاء العالم لأنّ ثورتنا إسلامیة، فإنْ لم یعمّ نداء لا إله إلّا الله ومحمّد رسول الله جمیع أرجاء العالم فالجهاد مستمرّ، وما دام الجهاد مستمرّا وما دام الجهاد قائما علی المستکبرین، فنحن موجودون فی أیّ نقطة من نقاط العالم کان. (1)

وبما أنّ الفئة الثانیة تبیح الاستفادة من أیّ وسیلة ممکنة لمواجهة النظام المسیطر علی المجتمع الدولی فقد رفضهم الإمام رحمة الله ، وإنْ کانت مثل هذه النظریة لا تعارض التقالید المتّبعة فی مرحلة الاستعمار، حیث تذکّر بالأسالیب الاستعماریة فی الغزو العسکری للدول المجاورة وإسقاط أنظمة البلدان الإسلامیة ودول العالم الثالث بالقوّة. فالاعتقاد بالثورة المتسلسلة من خلال تجهیز وتقویة المجامیع الفدائیة والثوریة واتّخاذ أسلوب التشجیع علی التفجیر والاغتیال والرفض المطلق للأنظمة الموجودة التی لا تهتم بتعمیق حرکة الشعب، تُعدّ فی رأی الإمام الخمینی رحمة الله أسلوبا غیر صحیح وغیر ممکن. إذ إنّ إزالة الحدود القومیة التی تمثّل فی الوقت الحاضر حقیقة ثابتة ارتضاها المجتمع الدولی ووافقت علیها الشعوب، تُعدّ حرکة خطیرة ومدمّرة، رفضها الإمام الخمینی رحمة الله من خلال تأکیده علی عدم الطمع بأراضی الآخرین:

ص:69

لا ینبغی أنْ یتبادر معنیً خاطئا من قولنا یجب تصدیر الثورة إلی کلّ المناطق، فنحن لا نبتغی فتح البلدان، لأنّنا نعتبر الدول الإسلامیة جزءا لا یتجزّء منّا، فیجب أنْ تبقی جمیع البلدان علی وضعها. نحن نرید لما وقع فی إیران ولهذه الصحوة التی حدثت فیها وما ابتعدت فیه عن القوی الکبری وقطعت أیدیها عن الوصول إلی ذخائرها، أنْ یتحقّق لجمیع الشعوب ومن جمیع البلدان. فهذا ما نأمله، فمعنی تصدیر ثورتنا هو أنْ تصحو جمیع الأمم وتنقذ نفسها من الاستبداد ومن هدر ثرواتها ومن الفقر. (1)

والنظریة الثالثة وبسبب تضمّنها نوعا من الذرائعیة وقبولها الاستفادة من المقدّمات القانونیة وغیر القانونیة فی الظروف الملائمة لتحقیق أهدافها فی هذا الإطار، فقد جوبهت أیضا برفض الإمام. وبما أنّها تعتمد فی الأساس محوریة إعادة البناء الوطنی وتؤمن بالمواجهة المحدودة مع المجتمع الدولی فإنّ ذلک یُعدّ موقفا انفعالیا نوعا ما.

إنّ الإمام رحمة الله ضمن رفضه وإعراضه عن هذه النظریات وإیضاحه نقائص کلّ منها، سعی جاهدا فی خطاباته ومدوناته بحسب الظروف فی بناء إستراتیجیة شاملة فی هذا السیاق تُعدّ فریدة من نوعها فی تاریخ ثورات القرن العشرین.

ومع أنّ ثورات القرن العشرین تخضع کلّ منها لأحد هذه النظریات الثلاث المتقدّمة فی أهدافها وقیمها، إلّا أنّ الثورة الإسلامیة تباین جمیع هذه الثورات فی هذا الإطار. هذا مع أنّ الإمام الراحل کان قد وضع نهجا وهدفا جدیدا یتجاوز جمیع ذلک من خلال رفضه تلک النظریات، فقد جعل الوفاء لقیم الإسلام العلیا وتطبیقها علی رأس أولویاته حیث إنّ الإسلام دین یشمل جمیع أبناء البشریة. إذاً فالاعتقاد بالقیم الإسلامیة یؤدّی إلی نوع من الإحساس بالمسؤولیة تّجاه المجتمع الدولی.

فرفض الثقافات والقیم المادّیة التی تمثل نموذجا للحکومات فی الشرق والغرب ومحاربة الانحرافات، المؤامرات وتوعیة الشعوب حول مضارّ أمثال هذه الثقافات یمثّل

ص:70

نوعا من الإحساس بالمسؤولیة الدائمة تّجاه المجتمع العالمی. لذا فإنّ هذه النظریة ترفض الانحباس فی قیود نظیر التنمیة والتطوّر الوطنی، من دون الاهتمام بمصیر سائر الشعوب، حیث إنّ أیّ تنمیة داخلیة مرتهنة بالسعی لتنمیة سائر الشعوب. فالماهیة الأساسیة لهذه الفکرة تقوم علی رفض الظلم والقبول به، رفض السلطة والتسلّط ورفض الاستکانة والمواجهة الانفعالیة. إذ إنّ النموذج المناسب للشعوب فی رأی الإمام رحمة الله هو إحساسها بالمسؤولیة الثوریة فی قبال المسائل والمعضلات الموجودة.

ولأجل هذا وکما لاحظنا، فإنّ المخاطب بالثورة الإسلامیة، هی الشعوب والهدف من ذلک هو توعیتها وإطلاعها علی الحقائق. حیث یمتزج مفهوم تصدیر الثورة بالکامل فی هذا الإطار باتّخاذ أسلوب توعوی تسعی من خلاله الشعوب لتغییر مصائرها ورفض التحرّکات العسکریة التی تستلزم اتّخاذ القرارات والتنفیذ بدل الشعوب رفضا مطلقا. ویتضمّن هذا المسار أیضا إقامة علاقة دبلوماسیة مع الحکومات؛ وإن کان یمکن للدعوة إلی الثقافة الثوریة التسرّی إلی ذلک من خلال إطلاق العلاقات السیاسیة، التجاریة و... .

من المسائل المهمّة التی حدثت فی مجال العلاقات الدولیة مع انتصار الثورة الإسلامیة، طرح المسائل المعنویة والإلهیة فی عالم بُنی علی أساس مادّی، وقد بُیّنت هذه المسألة فی الرسالة الشهیرة التی بعثها الإمام إلی غورباتشوف . حیث یصرّح الإمام مستصرخا:

إنّ مشکلة الشرق والغرب لا تکمن فی الاقتصاد، الملکیة أو الحرّیة، وإنّما فی عدم الاعتقاد بالله والحرب غیر المجدیة مع الله بهذا النحو الذی یسوق الغرب نحو الزوال والانهیار. (1)

فهو فی الحقیقة إنّما یمارس مسألة تصدیر الثورة مع الدول من خلال دعوته غورباتشوف إلی الإسلام وعبادة الله بأسلوب وسنّة النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله ، ویکشف له أنّ

ص:71

الطریق الوحید لخلاص البشریة من مستنقع الفساد والشقاء هو التحرّک نحو الإخلاص فی قبول الإسلام.

ومع أنّ تصدیر الثورة یُعدّ وظیفة لازمة وثوریة فی هذه النظریة، بید أنّ مثل هذا المسار لا یمکنه النجاح إلّا فی حالة تأسیسه نموذجا ناجحا فی الداخل، بحیث تکون الأمّة فیه بمثابة أمّة نموذجیة وشاهدة. فخلاصة ما یمثّله تصدیر الثورة فی رأی الإمام رحمة الله هو التأکید علی تحقّق القیم فی الداخل والاهتمام الجادّ فی عرض وترویج قیم وأهداف الثورة فی الخارج.

حیث ینظر الإمام إلی مسألة تصدیر الثورة فی الدرجة الأولی علی أنّها خصلة ذاتیة أو ما لابدّ للثورة الإسلامیة منها. إذ إنّه لا یری من خلال إسلامیة الثورة وتواجد ملایین المسلمین فی أقصی نقاط العالم التی تبحث عن عزّة وعظمة الإسلام کمعشوقها المفقود، لزوم أخذ موافقة المؤیّدین أو سماح المعارضین بالنشر لترویج خطاب التحرّر والعزّة التی تحقّقها الثورة الإسلامیة. هذا إضافة إلی أنّ الأصل العامّ لترابط الشؤون الإنسانیة والاجتماعیة لا یمکنه أنْ یحول دون تأثّر باقی الناس والمجتمعات بحدث عظیم کالثورة الإسلامیة فی عصر وصلت فیه وسائل الاتّصال إلی مستوی من التقدّم تنتشر فیه أخبار أحداث من هذا القبیل بسرعة البرق الخاطف. وعلی الخصوص إذا ما کانت هذه الثورة تستنفر الشعوب للقضاء علی الآلام وعذابات البشریة فحینئذ لابدّ وأنْ یحدث مثل هذا التأثّر والتأثیر.

ولم یکتفِ الإمام بهذا الحدّ فی مسألة تصدیر الثورة. فتصدیر الثورة بالنسبة إلیه یمثّل تکلیفا فی سیاق ذلک الإحساس بحاکمیة الإسلام وأحکامه المتعالیة داخل البلاد، فهو یری نفسه مکلّفا بذلک. ویری أتباع الإسلام الإصیل أیضا أنّ حاکمیة الإسلام فی سائر بلاد المسلمین تستدعی الاستجابة لنداء ومظلومیة سائر المسلمین

ص:72

ومستضعفی العالم، فیکون تصدیر الثورة بمثابة تکتیک هجومی علی أعداء الثورة لإبعاد خطرهم، ممّا یُعدّ أمرا ضروریا للحفاظ علی الثورة.

فالإمام یعتقد بأنّ الثورة الإسلامیة تمثّل نموذجا للقیم التی یسعی إلیها المظلومون، ویعتقد أنّ الثورة الإسلامیة من جهة کونها طرحت أهداف الشعوب المحرومة والمسلمة المظلومة کانت مقبولة لدیهم.

فهو ضمن ردّه الشبهات والشائعات التی یطرحها الأعداء، یصرّح بأنّ المقصود من تأثیر الثورة لیس هو الهجوم العسکری ضدّ بلدان المسلمین الأخری تحت أیّ ذریعة کانت:

نحن نقول إنّنا نرید تصدیر ثورتنا، لا نرید ذلک بالسیف بل بالدعوة والتبلیغ نحن نرید إحباط الإعلام الواسع الذی یشنّه الشیوعیون والآخرین ضدّ الإسلام من خلال إعلام صادق وسلیم، ونقول إنّ الإسلام لا ینقصه شیء، الإسلام لیس کالمسیحیة الحاضرة. (1)

إنّ الإمام کان یعتقد بأنّ ما یریده من تصدیر الثورة لا یمثّل هدفا وحلما لا یمکن الوصول إلیه، بل أمر عملی وممکن التحقّق، وعلی الرغم من إرادة وسعی الاستکبار العالمی الواسع وعناصره العمیلة فقد ظهرت علائم وشواهد تدلّ بشکل کبیر علی تصدیر الثورة وترحیب المسلمین ببلاغها ووسائلها وتقالیدها. (2)

لا شکّ فی أنّ أصل تصدیر الثورة کان ناشئا من أصول مدرسة الثورة نظرا لعالمیتها واعتمادا علی أصل الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر. فلو کانت الثورة الإیرانیة ثورة قومیة ذات أهداف قومیة، ولو لم تکن تهتمّ بمسألة الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، لما اتّخذت لنفسها رسالة إبلاغها المجتمعات والشعوب الأخری.

ص:73

ولم یقتصر موضوع تصدیر الثورة علی مجرّد طرح انتقال الأفکار الدینیة والقیم الثوریة، بل إنّ هذا الأمر یشمل السیاسة، الأهداف وإستراتیجیات الثورة، وحتّی أسالیبها التنفیذیة أیضا. وفی الوقت الذی یُنظر إلی موضوع تصدیر الثورة باعتباره أمرا خارجا عن النظام، فلم یقتصر قادة الثورة لوحدهم علی التقیّد بالاستفادة من الوسائل الدبلوماسیة والسیاسیة المعمول بها فی هذا الخصوص، بل إنّهم أعطوه فی الأساس زخما شعبیا وغیر رسمی. وحظی فی الوقت ذاته بالرعایة والاهتمام باعتباره یشکّل جزءا لا یتجزّء من سیاسة الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة.

إنّ تصدیر الثورة فی آلیته العملیة یهتمّ ویوجّه خطابه نحو الشعوب ولیس الحکومات بالضرورة. فالهدف الأساسی من طرح أصل تصدیر الثورة هو استفادة الشعوب المحرومة والمستضعفة من تعالیم الثورة الإسلامیة وإنهاء سلطة الدیکتاتوریة، الإمبریالیة والاستکبار. ومن جهة أخری، ینبغی الالتفات إلی مسألة أنّ آلیات تصدیر الثورة ترکّز أکثر علی تقویة التیارات الشعبیة وتنمیتها ولیس إطلاقها وهدایتها.

إنّ الثورة الإسلامیة والنظام النابع منها أخذت علی عاتقها منذ بدایة انتصارها علی أنْ یکون أساس تصدیر الثورة هو اللجوء إلی طرحها کنموذج، وإلی التعلیم والتبلیغ من دون التدخّل فی الشؤون الداخلیة لکافّة المجتمعات والبلدان، ممّا یساهم فی التفاعل والنهوض الذاتی للشعوب الإسلامیة، ولم تری نفسها ملزمة تبعا للآیة القرآنیة الکریمة بفرض الثورة الإسلامیة من خلال القوّة والنفوذ فی أنظمة المجتمعات الأخری. (1)

1. النموذجیة؛ 2. التبلیغ والتوعیة؛ 3. التعلیم؛ 4. دعم الحرکات التحرّریة.

والمقصود بالتصدیر النموذجی للثورة والذی یُطرح بأسلوبین؛ هو إثبات قدرة النظام الإسلامی فی العالم المعاصر من خلال أسلمة النظام وتحکیم القیم الإسلامیة من جهة وإعادة البناء الاقتصادی والاجتماعی من جهة أخری.

الإستراتیجیة الأخری لتصدیر الثورة ترتبط بدعم حرکات التحرّر من خلال تعزیز العلاقات مع هذه الحرکات بالنحو الذی نطق به دستور الجمهوریة الإسلامیة. فلا تبقی الثورة الإسلامیة علی أساس هذا الاتّجاه منحصرة ومحدودة داخل حدود إیران، بل ینبغی التحاق العالم الإسلامی وجمیع الشعوب المحرومة والمظلومة بهذه الحرکة.

فقد تمثّل أحد الآثار المهمّة للثورة الإسلامیة فی المجتمعات الأخری، فی ظهور وبدء نشاط حرکات إسلامیة جدیدة والانحسار الشدید للحرکات القومیة والاشتراکیة.

حیث یُعدّ تأسیس المجلس الأعلی للثورة الإسلامیة فی العراق، حرکة الثورة الإسلامیة فی جزیرة العرب والجبهة الإسلامیة لتحریر البحرین وعشرات المجامیع الجهادیة الأفغانیة التی اتّخذت من الإسلام حرکة ونشاطا لها، حرکة الجهاد الإسلامی وحماس فی فلسطین، حزب الله فی لبنان و... من ضمن هذه الحرکات التی تبلورت بعد الثورة الإسلامیة.

واتّخذ تصدیر الثورة من خلال وسائل الإعلام أسالیب مختلفة أیضا. فالإمام علی سبیل المثال یخاطب مجامیع الجامعیین والریاضیین الذین یسافرون إلی الدول الأخری باعتبارهم سفراء وموظّفین بتصدیر الثورة، فیقول:

إنّ تصرّفاتکم، سلوککم وأفعالکم تمثّل نمموذجا وأسوة للعالم، وستعرض الجمهوریة الإسلامیة منزلتها فی البلدان الأخری من خلالکم إنشاء الله.

وتقع مسؤولیة تصدیر الثورة إلی باقی البلدان من خلال الإعلام علی عاتق السیاسیین بشکل خاص. وهو ما حمّلهم إیاها ابتداء الإمام حیث یقول:

ص:75

حینما نستطیع تعریف الإسلام للدول الأخری نکون قد ساهمنا فی نمو التعالیم والسلوک الإسلامی فی تلک البلدان وهو من مسؤولیتکم. (1)

وقد جاء فی کلام للدکتور ولایتی وزیر الخارجیة فی تلک الفترة:

سنستمرّ فی تصدیر الثورة بأسلوب ثقافی، کما تفعل البلدان الغربیة. فهم یقومون بطرح أفکارهم، ثقافتهم وقیمهم من خلال الصحف وطلبة الجامعات. (2)

وتستثمر إیران طاقات العلماء فی تصدیر الثورة أیضا. حیث إنّ عرض الآراء الشخصیة وتبادل الأفکار فی الملتقیات والاجتماعات العلمائیة تتمّ فی هذا السیاق. فقد خاطب الإمام ملتقی ممثّلی الأحزاب التحرّریة الإسلامیة الذی انعقد فی طهران عام 1986 قائلا:

لن یتحقّق انتصار المسلمین إنْ لم یصلوا إلی سرّ انتصار الثورة الإسلامیة فی إیران، فقد طالب مسلمی إیران بالاسلام فی صوت واحد وأرادوا قیام الجمهوریة الإسلامیة، فحینما اتّحدوا أنزل الله النصر علیهم. (3)

وبالإضافة إلی ذلک، فإنّ للباحثین فی الداخل والخارج علی حدّ سواء دور فی تصدیر الثورة. فعلی سبیل المثال، اجتمع أکثر من ألف أدیب إسلامی من الباکستان، نیجیریا، الفلبین، مصر، ترکیا والسوید فی حوار للتباحث فی مجال ترویج الإسلام والأسالیب المختلفة لإقامة العلاقات، أسالیب مواجهة الإعلام الغربی ونشر رسالة الإسلام وذلک فی عام 1988.

ویأتی کتاب الآیات الشیطانیة لمؤلّفه سلمان رشدی (الذی کان یمثّل مؤامرة علی الإسلام) وما تبعه من فتوی الإمام بهدر دمه فی هذا السیاق:

إنّ هذا یمثّل مثالا لما أراده الله من فضح الوجه الحقیقی لعالم التفرعن والاستکبار والهمجیة فی عدائه القدیم للإسلام فی هذا الوقت بالذات بعد نشر

ص:76

کتاب الکفر الآیات الشیطانیة... فهو یمثّل التزاما من قِبل الاستکبار العالمی للقضاء علی الإسلام وإلّا فإنّ سلمان رشدی لیس بذلک الشخص المهمّ بالنسبة إلیهم لتقف خلفه الصهیونیة والاستکبار. (1)

إنّ فتوی هدر دم سلمان رشدی التی أعلنها الإمام لا تقتصر علی جانبها الجزائی، بل تمثّل دعما کبیرا لتصدیر الثورة. فقد انعکس تعریف سلمان رشدی کمرتد من قِبل منظّمة المؤتمر الإسلامی فی صدر صفحات الصحافة علی أنّه انتصار. فقد جاء فی افتتاحیة إحدی الصحف الطهرانیة:

علی خلاف ما کان یتوقّعه الغرب فقد قامت منظّمة المؤتمر الإسلامی بدعم قیادة ودولة الجمهوریة الإسلامیة فی خصوص فتوی الإمام بهدر دم سلمان رشدی .

إنّی ولأجل مراعاة الأجنحة السیاسیة للاعتدال أطلقت تنبیهات حلوة ومرّة تّجاهها، إذ إنّی اعتبر الجمیع أبناء أعزّة لی. (1)

وکان موقفه فی دعم الطلبة السائرین علی خطّ الإمام فی مسألة الرهائن الأمریکیین یمثّل نوعا من الوقوف بوجه حکومة بازرکان . الأمر الذی استتبعه اختبارا صعبا لإیران فی مجال السیاسة الخارجیة، أیْ تصدیر الثورة.

وبعد القبول بقرار مجلس الأمن المرقّم 598 فی عام 1988 بدأت الجمهوریة الإسلامیة بتوسیع علاقاتها الدبلوماسیة مع فرنسا، بریطانیا وکندا وتحسین علاقاتها مع ألمانیا الغربیة وذلک من خلال سیاسة التهدئة وإزالة التوتر. هذا فی الوقت الذی کانت عقیدة تصدیر الثورة مستمرّة من خلال طرح نموذج أعمّ من الاقتصاد الناجح والرقی السیاسی.

لقد أحدث إعلان فتوی قتل سلمان رشدی فی 14 شباط عام 1989 من جهة ورحیل الإمام فی الثالث من یونیو فی نفس العام من جهة أخری ظروفاً جدیدة. فالإمام لم یقتصر علی إحراج اللیبرالیین والمنافقین (مجاهدی خلق) فی الثانی والعشرین من شباط عام 1989 فحسب، بل إنّه قد أوصی بالاعتدال إلی حدّ ما. ففتوی الإمام فی قتل سلمان رشدی کانت قد مهّدت طریقا آخر لتصدیر الثورة، فقد قال الإمام فی خطاب انتقادی:

ینبغی علینا أنْ لا نلهث خلف توسیع العلاقات، لأنّ الأعداء سیتصوّرون أنّنا بحاجة إلیهم، فهذا التغاضی عن الإهانة للمقدّسات والمعتقدات یزید الطین بلّة. فهم یتصوّرون أنّه یجب علینا إعادة النظر فی سیاساتنا، أصولنا وعقائدنا ودبلوماسیتنا، لأنّنا ارتکبنا خطأ ولا ینبغی علینا تکرار أخطائنا السابقة. (2)

ینبغی علی الأصول الأساسیة لسیاسة إیران الخارجیة أنْ تتوخّی التوازن فی التعامل مع

ص:78

الشرق والغرب للحیلولة دون سیطرتهم والعمالة لهم. وهو المعنی الحقیقی لشعار «لا شرقیة لا غربیة» الذی کان أوضحه قادة الثورة فی العقد السابق. وقد أشار فی وصیته أیضا أنّ حاجة إیران للمساعدات الخارجیة من الأمور التی لا یمکن إنکارها، ومع ذلک فقد حذّر بشدّة وقوّة من الاستسلام بالارتباط الکامل بالغرب والشرق فی مقابل ذلک. (1)

ومع إقامة العلاقات الدبلوماسیة بین إیران والاتّحاد السوفیتی، تصوّر البعض أنّ إیران تخطو باتّجاه العودة إلی الإجماع الدولی وإقامة علاقات مع بعض الدول کأمریکا؛ وإنْ کان الإیمان بأصل تصدیر الثورة یستلزم استحداث علاقات مع الشعوب الأخری. وقد أدرکت أمریکا أنّ الاتّحاد السوفیتی یستثمر توتّر علاقة إیران بالدول الغربیة فی خصوص مسألة سلمان رشدی لصالحه.

وسبق وأنْ أقیمت علاقات جیدة بین إیران والاتّحاد السوفیتی أیضا وذلک أثناء حادثة الرهائن الأمریکیین فی لبنان. ففی حزیران 1989 وأثناء لقاء جمع بین الشیخ هاشمی رفسنجانی والسید غورباتشوف وافق الطرفان علی التعاون الاقتصادی والعسکری الطویل الأمد، ممّا أثار حفیظة الغرب وعلی الخصوص أمریکا جرّاء تطوّر العلاقات الحسنة بین البلدین.

وکانت بانوراما نجاح تصدیر الثورة مستقبلا من خلال توظیف النموذج الأخلاقی الإسلامی المقتبس من أحادیث الإمام الخمینی رحمة الله أکثر نجاحا.

ویمکن أنّ یکون اختیار آیة الله الخامنئی کخلیفة للإمام الخمینی رحمة الله والشیخ هاشمی رفسنجانی باعتباره أقوی رئیس للجمهوریة بعد تأسیس الجمهوریة الإسلامیة إشارة إلی مراعاة عدم الإخلال بأصل تصدیر الثورة. فکلّ من هذین القائدین یؤمنان بسیاسة التهدئة حیث وضعا الأسس الکفیلة لإقامة علاقات مع

ص:79

الشعوب الإخری. وبالطبع فإنّ العلاقة تتمثّل فی مفهوم الاستقرار والسلام لا الحرب والنزاع بین الحسن والقبیح.

ومن المسائل المهمّة التی کانت مطروحة وعلی الخصوص فی مجال العلاقات الدولیة والتی أدّت فی الغالب إلی حیرة المحلّلین والباحثین بعد الثورة، هو موضوع التفکیک أو عدم التفکیک بین الثورة الإسلامیة ودولة الجمهوریة الإسلامیة.

فتجارب الثورات الأخری تشیر إلی أنّ الثورات عموما تتحوّل إلی أنظمة بعد انتصارها، وتخلع عن جسدها لباس الثورة وتتوشّح بروحیة المحافظة السیاسیة؛ فی حال أنّ هذا لم یحدث فی الثورة الإسلامیة، فالثورة واصلت طریقها مع قیام ووجود نظام الجمهوریة الإسلامیة. فموضوع تصدیر الثورة مرتبط فی الحقیقة بالثورة الإسلامیة واستمرارها قبل أنْ یکون مرتبطا بنظام الجمهوریة الإسلامیة. هذا مع أنّ هذا الأصل قد نُظر إلیه باعتباره جزءا من أهداف النظام فی دستور الجمهوریة الإسلامیة. وهذا ما یوضّح سبب بروز بعض التعارض فی تنفیذ السیاسة الخارجیة للجمهوریة الإسلامیة، الأمر الذی یؤدّی إلی اضطراب تحالیل المراقبین للأحداث الإیرانیة.

إنّ مذهب الإسلام من الناحیة الأیدیولوجیة یدعو للعدالة الاجتماعیة فی کافّة أرجاء العالم ویرفض أیّ نوع من التسلّط، التمییز والاستغلال. فدور تصدیر الثورة فی الحقیقة یتمحور حول إشاعة العدالة الاجتماعیة فی سائر بقاع العالم. ومن جهة أخری، فإنّ الاقتداء بالنموذج الحسینی والعاشورائی قد حدّد أسلوب المواجهة بین الظالم والمظلوم.

ویمثّل موضوع الاستقرار والوصول إلی تفاهم مشترک وتقارب بین الدول أحد الأهداف المهمّة للسیاسة الخارجیة لنظام الجمهوریة الإسلامیة. وهذا ما لا ینسجم مع مسألة تصدیر الثورة، إذ إنّ الدولة الحاکمة غیر مهتمّة عموما بإجراء العدالة الاجتماعیة، فتری أنّ خطاب الثورة الإسلامیة علی الضدّ من حاکمیتها ومصالحها. لقد قام أغلب المستشرقین بعرض الدین الإسلامی علی أنّه دین السیف وأنّ الانتشار

ص:80

السریع للإسلام کان تحت وطأة القوّة والسلاح ولیس الجذّابیة التی یتمتّع بها. وهذا ما جرّهم إلی تصوّر أنّ الثورة الإسلامیة التی تری نفسها داعیة وخلیفة للحکومة الإسلامیة، فی صدد محاولة تصدیر ثورتها بأیّ طریق ممکن - وعلی الخصوص الخطوات العسکریة واستخدام القوّة -. فی حال أنّ استنتاج المستشرقین هذا غیر مطابق للحقائق التاریخیة من جهة، ولا یتّفق مع سیاسة قادة الثورة الإسلامیة کما صرّح الإمام الخمینی رحمة الله بذلک فی أنّهم لیسوا فی صدد استخدام القوّة لنشر الثورة وفرضها علی المجتمعات الأخری.

یقول الشیخ هاشمی رفسنجانی :

إنّ أولئک الذین یعتقدون بأنّنا سنصدر ثورتنا بواسطة الحرب والاعتداء مخطئین تماما، بل ما دمنا نستطیع فی الظروف الراهنة عرض نوع من التنمیة المناسبة سیاسیا واجتماعیا واقتصادیا، فإنّنا نکون قد عرضنا نموذجا من التنمیة، التطوّر، التکامل والمعنویات الإسلامیة علی العالم؛ فسننجح حینها فی ما یخشاه العالم من تصدیر الثورة الإسلامیة.

ویشیر فی محلّ آخر إلی أنّ البیت الأبیض اعتاد علی فکرة أنّ الثورة الإسلامیة تحاول تصدیر نفسها بواسطة الحرب. حیث أدّی هذا الفهم إلی خوف دول الجوار، ولکنّهم یعلمون أنّ ما نریده من تصدیر الثورة هو عرض فکر وطریق القرآن علی العالم.

فنحن وبعد ثمانی سنوات من حرب الصمود، نقف بعزم أکبر وتجربة أوسع فی خصوص هذه الأفکار والطموحات الثوریة. إنّ الثورة الإسلامیة وعلی الرغم من مخالفتها النظریة فی خصوص العلاقات بین الشعوب الإسلامیة ورفضها الحدود المصطنعة بحسب القانون الدولی ومعاهدة وستفالیا، توافق علی النظام الدولی الموجود باعتباره حقیقة لا یمکن إنکارها، حیث نظّمت برامجها الخارجیة فی إطار نظام الدولة - الشعب وإقامة علاقات مع سائر دول العالم.

فلم یکن خطاب تصدیر الثورة فی هذه الظروف موجّها للدول، وإنّما المخاطب

ص:81

الأساسی للثورة الإسلامیة هی الشعوب والمجتمعات. فالجمهوریة نظّمت علاقاتها مع جمیع الدول علی أساس فکرة التهدئة وإزالة التوتّر والتعایش السلمی وعدم التدخّل فی الشؤون الداخلیة لکافّة البلدان، ولاتری ذلک فی ذات الوقت منافیا لأصل بلاغ ثورتها فی إیصالها إلی أسماع المجتمعات الأخری بأیّ طریق ممکن، وإلقاء ماهیة طریق النصر، الحرّیة وإقامة العدالة الاجتماعیة فی أذهانها.

وقد اختار دستور الجمهوریة الإسلامیة بشکل واضح وعلی أساس نفس المنطق، سیاسة خارجیة فعّالة وهجومیة وجعل هدفه وحدة العالم الإسلامی وتحقیق حاکمیة الله فی العالم قاطبة.

وقد اختطّ الإمام الخمینی رحمة الله للثورة الإسلامیة خطّا یقوم علی أساس عالمیة الثورة ووحدة الشیعة والسنّة والحرّیة لیس علی مستوی المسلمین فحسب، بل علی مستوی جمیع مستضعفی العالم. هدف عرضه کذلک دستور الجمهوریة الإسلامیة لأجل تقویة الثورة فی الداخل والخارج. وقد أقلقت مسألة تصدیر الثورة الغربیین وحتّی بعض الدول الإسلامیة أکثر من أیّ شیء آخر، واستقطبت اهتمام وسائل الإعلام العالمیة.

وفی حین کان موضوع ونظریة إحیاء الأفکار والأطروحات الإسلامیة قد طرح فی سائر المجتمعات الإسلامیة قبل عدّة عقود، جاء انتصار الثورة الإسلامیة لیضخّ قوّة جدیدة فی التجربة والقیم المتعلّقة بتلک الأفکار. فقد استقطبت أیدیولوجیة الثورة، قیادتها الدینیة، أفکار الثوریین باعتبارها دروسا ورموزا یمکن الاقتداء بها اهتمام المجتمعات الإسلامیة. هذا فی وقت أدّی النموذج والمثال المعروض للحداثة الغربیة - وعلی الخصوص ما طرحه الشاه فی إیران - إلی نوع من السخط والیأس فی أوساط المجتمعات الإسلامیة. إذ إنّه قد ثبت عملیا أنّ التقلید واقتفاء أثر الغرب لیس له من نتیجة للمجتمعات والطبقات والفئات المحرومة سوی إیجاد طبقة ارستقراطیة وأقلّیة مرفّهه؛ ومن هنا، فقد حاز نجاح الثورة الإسلامیة والاقتداء بها فی هذا الإطار أهمّیة

ص:82

فائقة. إنّ هذا الاشمئزاز والتبرّم من الغرب والتغرّب الممزوج بالاعتزاز والافتخار بإنجازات الإسلام السالفة والعودة إلی الهویة یدلّل علی العودة إلی الماضی المجید المترافق مع الاعتماد علی القیم الإسلامیة. فهذه العودة إلی التراث والتاریخ الإسلامی الماضی تشترک فیه کافّة المجتمعات الإسلامیة علی الرغم من اختلافاتها الکثیرة.

تصدیر الثورة اهتماما وافیا فی الأصل 154 الذی یقول:

تعتبر الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة سعادة الإنسان فی المجتمع البشری عامّة أحد أهدافها، وتری أنّ الاستقلال والحرّیة وحکومة الحقّ والعدل حقّا طبیعیا لجمیع شعوب العالم. ولأجل هذا، فهی فی ذات احترازها التامّ من أیّ تدخّل فی الشؤون الداخلیة للشعوب الأخری، تدعم کفاح المستضعفین ضدّ المستکبرین لانتزاع حقوقهم فی جمیع أرجاء العالم.

وعلی هذا، فإنّ دعم المستضعفین، وحدة العالم الإسلامی وخلاص البشریة تُعدّ من الأهداف القطعیة فی السیاسة الخارجیة للجمهوریة الإسلامیة والثورة الإسلامیة، التی اعتبرت أنّ وحدة العالم الإسلامی یمثّل أوّل الخطوات فی طریق خلاص البشریة بنحو أعم.

وعلی الرغم من المناسیب المتعدّدة التی مرّ بها موضوع تصدیر الثورة فی مرحلة الربع قرن بعد انتصار الثورة الإسلامیة، وبرامجها التنفیدیة التی عرّضت سیاسات الدولة وقادة الثورة لأزمات ومدّ وجزر، فقد طوی تأثیر الثورة الإسلامیة علی سائر المجتمعات طریقة بالتدریج واستمرّ بالتقدّم وبشکل بنیوی.

ولا یهدف بحثنا هذا لعرض تقییم خاصّ لإنجازات الثورة الإسلامیة ونظام الجمهوریة الإسلامیة فی خصوص تصدیر الثورة، وإنّما هدفنا هو تقییم وتحلیل ودراسة مدی تأثیر وانعکاس هذه الثورة التی تعتبر بحقّ من أعظم الحوادث والوقائع علی المجتمعات المختلفة خارج إیران فی النصف قرن الأخیر، وذلک بعد مرور ربع قرن علی انتصارها.

ص:84

ص:86

الأبیض للشؤون الإیرانیة فی تلک الفترة فی کتابه حینما ینهار کلّ شیء :

لم تؤثّر أیّ حادثة علی أمریکا ومنذ سقوط مدینة سایغون کما أثّرت الثورة الإیرانیة. (1)

وبتوضیح آخر، لم یشمل هذا التغییر شعب واحد وتاریخ عریق واحد فحسب، بل وضع الکثیر من المسارات، النظریات والحقائق المرتکزة علی سیاسات ومخطّطات الشرق والغرب ونظام تقاسم السلطة فی النظام الدولی فی تلک البرهة وفی مستویاتها المختلفة فی أزمة وتجاذب. وبحسب قول أحد المحلّلین، إنّ الثورة الإسلامیة کانت حادثة مفاجئة وغیر متوقّعة لأمریکا والمجتمع الدولی وحوّلت دولة عمیلة لها فی المنطقة إلی عدو یقضّ مضاجعها. إنّ الثورة الإسلامیة لم تقتصر علی إصابة الکثیر من الثوریین والمفکّرین بالذهول فحسب، بل إنّها حیّرت وفاجأت العالم أجمع.

وبالطبع فإنّ الثورة الإسلامیة فی إیران لم تکن بدأت فی 11 شباط 1979 ولم تنتهِ الیوم. فهذا الانتصار یعود إلی کفاح وتضحیات مئات الآلاف وعلی مدی أکثر من قرن. ولا نکون قد بالغنا فی ما لو قلنا أنّ الثورة ما زالت حیویة وثابتة وتواصل طریقها حتّی الیوم. وأنّ إطلاق عنوان قائد الثورة علی سماحة آیة الله الخامنئی وإجراء الأحکام والأصول الإسلامیة تحت إشرافه، وکذا استعمال لفظة الثورة کمعادل للجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة فی کثیر من الموارد یمثّل شاهدا علی تجدّد وحیویة هذا المفهوم فی الداخل.

إنّ الثورة التی نجحت فی 11 شباط 1979 کانت أبعد من إخراج حاکم دیکتاتوری من البلاد. فلو کان هدف الثورة یتلخّص فی هذا الأمر، لاستبشر الغرب کثیرا بذلک ولَجاء مهرولا لعرض التعاون والمساندة للدولة والنظام الجدید. ولَیأس مسلمو العالم کافّة أیضا ولَفقدت الثورة بریقها بالنسبة إلیهم. إنّ أهداف الإمام التی

ص:88

کان الشعب الإیرانی یسعی لتنفیذها، کانت أبعد من ذلک بکثیر. حیث تضمّنت استبدال النظام الغربی بنظام اجتماعی وسیاسی إسلامی وتأسیس دولة إسلامیة فی عصر الحداثة.

ومن المؤکّد أنّه من غیر الممکن أنْ تجد بلدا آخر فی عالم الیوم مستعدّ لدفع ثمن باهض لتحقیق أهدافه وطموحاته الثورة والأیدیولوجیة نظیر الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة. ومع أنّ هذا السلوک قد یبدو غیر عقلانی، لکنّه أثبت عملیا وعلی المدی البعید بأنّه یمکن الاستفادة من الصمود والثبات باعتباره أداة قاهرة لاستسلام الآخرین لمطالبها وإرادتها. (1) المسألة اللافتة هی أنّ ثمّة عوامل کثیرة ساعدت الثورة وزادت من صمودها فی هذا الطریق وهی ممّا لا ینبغی نسبتها إلی الممیزات الخاصّة للثورة فحسب. فهناک المزایا والطاقات الدیمغرافیة والطبیعیة الإستراتیجیة لإیران إلی جانب قوی العالم الإسلامی والأیدیولوجیة الإسلامیة للثورة و... قد وضعت مثل هذه الإمکانیة فی خدمة الثورة الإسلامیة.

لقد وقع عالم الیوم بنحو مباشر أو غیر مباشر، إیجابی أو سلبی تحت تأثیر الثورة بحیث أوصلته حدّ الهیجان. ولقد عرّضت الثورة العالم للتغییر، وکانت العامل الأساسی فی بروز بعض التطوّرات الراهنة فیه. وأثّر انتصارها تأثیرا عمیقا علی علاقات القوی الکبری والدول الاخری (بضمنها دول البلاد الإسلامیة)، الأحزاب، الحرکات والشعوب، الأمّة الإسلامیة، المجتمعات الإسلامیة والمسلمین المغتربین وکذا الباحثین عن الحقیقة من غیر المسلمین.

ولقد تأثّرت الحرکات والقوی الإسلامیة فی مصر، الجزائر (فوز الإسلامیین فی الانتخابات)، السودان، تونس، المغرب، لبنان، انتفاضة فلسطین والبوسنة والهرسک فی

ص:89

قلب أوربا، بالثورة الإسلامیة الإیرانیة. إنّ مدی الرعب الذی بثّته هذه النشاطات فی قلوب القوی الکبری والدول لم یدع لها مجالا سوی المواجهة مع أساس هذه الثورة. فالثورة الإسلامیة ومنذ انطلاقتها ومن خلال دعوتها العالمیة لأیدیولوجیتها وفکرها قد وضعت قدمها علی خارطة العالم. فلا یمکن لأیّ عقیدة وفکرة تحمل رؤیة عالمیة وتتضمّن إمکانات وطاقات أوّلیة أنْ تبقی حبیسة ومحدودة فی فضاء جغرافی خاصّ. فبما أنّ الثورة الإسلامیة مستمدّة من القیم الإسلامیة فقد تجاوز بریقها وشعاعها الحدود الوطنیة. وعلی الرغم من عروض بعض التوقّفات أثناء هذه العملیة ووضع حواجز کثیرة فی طریقها، غیر أنّ ذلک لم یُقلل من شأن مسیرة الثورة الإسلامیة. (1)

حیث کانت بعض هذه الحواجز نابعة من الذعر من مدّ الثورة الإسلامیة والقسم الأساسی منها ناشئ من سوء الفهم

، المقارنة والتحلیلات الضیّقة الأفق للغرب، الدول والمعارضین للثورة الإسلامیة.

إنّ ما حدث خارج إیران، لم یکن مقتصرا علی محاولة الشعوب والرأی العامّ العالمی دراسة وتشریح الثورة الإسلامیة، بل إنّ البعض عمل علی سوق الإسلام إلی قاعات المحاکم ووضع کلّ شیء من الحجاب إلی القضاء الإسلامی والجهاد فی قفص الاتهام. وکان للجهاد فی الإسلام فی هذا السیاق القسط الأوفر ممّا داخلهم من الرعب.

إنّ مَنْ قامت الثورة الإسلامیة بتهدیده فی واقعها العملی هم مَنْ یرون مصالحهم تتنهنه وتنتعش فی غفلة وضعف المجتمع والعالم الإسلامی، وکذا فی سذاجة وسطحیة محرومی ومستضعفی العالم. فقد کان للثورة ماهیة صدامیة مع الغرب حیث طرحت نفسها منذ البدایة علی أنّها قوّة تقف فی مواجهة «الکفر» وکانت تمتلک

ص:90

الأسباب الکافیة لهذه المواجهة. ومن هنا، فقد کانت الکثیر من التصرّفات الخارجیة للثورة الإسلامیة معرضا لسوء فهم الغرب، ممّا أدّی إلی اتّخاذه إستراتیجیة مواجهتها. ومن ضمن سوء الفهم العامّ هو اعتبارها ثورة جافّة، متطرّفة وطائفیة؛ فی حال أنّها عرضت ومنذ أیامها الأولی صورة أوسع من مذهب التشیّع ورسمت آمال وطموحات عالمیة لها. فالإمام الخمینی رحمة الله علی سبیل المثال، کان یؤکّد علی مسألة أنّ للثورة جذور فی العقائد الإسلامیة المشترکة وأنّها تتعلّق بکافّة المستضعفین (1)فی العالم. الأمر الذی جعل الأصل الحادی عشر من الدستور یأتی فی هذا الإطار.

وینبغی الإشارة إلی الغموض والارتباک فی تعریف المزایا والأبعاد المختلفة للثورة فی إیران کسوء فهم آخر، فقد اعتبروها ثورة فوضویة، ویقف علی مقابل هؤلاء، من کان یری أنّ الثورة فی إیران کانت متوقّعة بالکمال والتمام. وغضّ الکثیر أیضا الطرف عن الارتباک السیاسی والموضوعیة التی لا یمکن تلافیها لأیّ ثورة، حیث تمظهر ذلک فی استمرار علاقات الثورة مع الاتّحاد السوفیتی علی الرغم من شعار «لا شرقیة لا غربیة».

وعلی الرغم من مساعی الغرب فی مواجهة تداعیات وانعکاسات الثورة الإسلامیة، فقد شهد العالم تعاملا واسعا للنظام الدولی معها. حیث عرّضت الثورة الإسلامیة فی إیران النظام الدولی لأزمات متعدّدة، وعلی الرغم من کلّ المعارضات، فقد حافظت علی حیویتها إلی الآن. مع أنّنا نعتقد بأنّ طبیعة هذه التعاملات والتداعیات للثورة ناشئة ومتأثّرة بالتطوّرات الداخلیة لنظام الجمهوریة الإسلامیة وکذلک تطوّرات النظام الدولی.

ولا شکّ فی أنّ أیّ بحث فی هذا المجال، یستلزم معرفة الثورة، عناصرها الداخلیة وطاقاتها الکامنة فی دائرة النظام الدولی من جهة، وکذلک تطوّرات ذلک النظام

ص:91

ومکانة إیران فیه من جهة أخری. فخطاب الثورة بطبیعته یشمل المجتمعات الحدیثة فی سائر أرجاء العالم وأنّه شعبی أیضا. ولهذا یمکن دراسة تداعیات الثورة فی قسمین عامین «المؤیّدین» و«المعارضین». فینبغی ابتداء التوقّف علی موقع ومکانة إیران قبل الثورة ودراسة الظروف الدولیة التی وصلت الثورة فی بحبوحتها إلی انتصارها الابتدائی؛ ومن ثمّ تحدید آمال وأهداف عملیات الثورة فی تعاملها مع النظام الدولی من خلال فهم الثورة وعناصرها الداخلیة، وإدراک الأزمات المستقبلیة للنظام الدولی وأقسامها فی هذا الوسط.

ص:92

الحرکات الاستقلالیة والانفصالیة لدول العالم الثالث التی تدور فی الفلک الغربی باعتبارها سیاسة للحیلولة دوره انتشار الشیوعیة، وتبذل جهودا جبّارة فی حال خرجت إحدی الدول عن ذلک المدار لإعادتها إلی فلکها الغربی الذی کانت تدور فیه. وبعد هزیمة أمریکا فی فیتنام، أسندت دور مواجهة خروج دول العالم الثالث عن الفلک الغربی إلی الدول التی تحت نفوذها بأنْ تکون شرطی المنطقة التی تقع فیها تلک الدول. حیث أوقعت مسؤولیة منطقة الخلیج الفارسی علی عاتق شاه إیران.

فتبلورت التطوّرات السیاسیة والعسکریة المهمّة أثناء الحرب الباردة، وسیطرة نظام القطبیة الثنائیة علی أساس هذه المنافسة والتعامل بین القوّتین العظمیین، ویمکن الادّعاء بجرأة، بأنّه لم یحدث أقلّ تغییر وتطوّر من دون أنْ یکون تحت تأثیر وتدخّل هاتین القوّتین. ویمکن الإشارة إلی بعض ذلک فی أزمة جدار برلین، الحرب الکوریة، حرب فیتنام، محاربة الاستعمار فی الشرق الأوسط، الأزمة المجریة وحتّی ثورات الصین وکوبا. فالحادثة والتطوّر الوحید الذی شذّ عن هذه القاعدة فی الحقیقة تمثّل بحرکة الإمام الخمینی رحمة الله وتبلور الثورة الإسلامیة منذ بدایتها فی الأعوام الأولی من العقد السادس للقرن العشرین. فالثورة الإسلامیة لم تنطلق فی إطار توازن القوی ونظام القطبیة فحسب، بل إنّها ابتدأت بهجوم شامل، علی النظام القومی (النظام الملکی فی إیران) وعلی النظام الحاکم علی العلاقات الدولیة، فاستمرّت علی ذلک وانتصرت.

حیث أعلن قائد الثورة فی عام 1963 براءته وبشکل صریح من القوی العالمیة الکبری:

إنّ أمریکا أسوء من بریطانیا، وبریطانیا أسوء من أمریکا، والاتّحاد السوفیتی أسوء من الاثنین، فکلّ منهم أخبث من الآخر، فمواجهتنا الیوم مع هؤلاء الخبثاء، مع أمریکا.

ویصرّح فی موطن آخر:

إنّ مواجهتنا للشیوعیة الدولیة هی علی نفس المستوی مع الاستکبار الغربی برئاسة أمریکا.

ص:94

فالإمام قد أعلن فی الحقیقة معارضة ومواجهة حرکته للنظام الحاکم علی العلاقات الدولیة. وقد طُرح هذا الموقف المتّخذ تدریجیا بصورة شعار لا شرقیة لاغربیة، جمهوریة إسلامیة، فی أوساط الشعب. ونُظّم أخیرا بصورة سیاسة معلنة فی السیاسة الخارجیة للجمهوریة الإسلامی.

فالجمهوریة الإسلامیة لم تقتصر فی إطار هذه السیاسة، علی البدء فی معارضة الغرب وعلی الخصوص أمریکا والأمبریالیة بشکل عام فحسب، بل رفضت أیضا النظام الاشتراکی للاتّحاد السوفیتی، وجرّته إلی حلبة النزاع أیضا. الأمر الذی أدّی إلی تناغم وتغامز هاتین القوّتین العظمیین لمواجهة الحرکة الإسلامیة فی إیران علی الرغم من اختلافهما وتنافسهما، ولم تقتصرا علی دعم نظام الشاه إلی اللحظة الأخیرة فحسب، بل استمرّتا فی هذه المواجهة والمعارضة حتّی ما بعد انتصار الثورة الإسلامیة وفی مرحلة الحرب المفروضة وحتّی انهیار النظام الشیوعی.

فإغلاق مراکز التجسّس الأمریکیة وطرد المستشارین العسکریین والرأسمالیین الغربیین من البلاد یمکن أنْ یمثل نصرا للاتّحاد السوفیتی، ولکنّ هذا النصر کان باهتا بسبب قلق الروس من تأثیر الثورة الإسلامیة علی الجمهوریات الإسلامیة فی الاتّحاد السوفیتی. ومن هذا المنطلق المقلق اعتبر لیونید برجینیف الرئیس السوفیتی فی ذلک العهد إنّ عودة الإسلام مجدّدا أهمّ الأحداث السیاسیة المقلقة فی القرن العشرین، فیقول:

إنّ المناطق الإسلامیة للاتّحاد السوفیتی کانت هادئة حتّی الآن، وهی تشترک فی حدودها مع إیران وأفغانستان، وربّما سیجتاز الشغف واللهفة الدینیة للثورة الإیرانیة حدودها.

والثورة الإسلامیة قد عرّضت أیضا أحد أصول السیاسة الخارجیة للسوفیت المتمثّلة بالحیلولة دون استقواء الدول المجاورة لها للخطر، وهی فی الحقیقة أوقعت هیبة القوّة العظمی للاتّحاد السوفیتی فی ورطة. فمنذ ذلک الوقت انتبه کلّ من أمریکا والسوفیت

ص:95

باعتبارهما قادة النظام الدولی والمدافعین عنه بعد الحرب العالمیة الثانیة، إلی أنّ هذه الظاهرة الجدیدة (الثورة الإسلامیة) لا تسیر وفق إرادتهما ومیولهما فحسب، بل إنّها تمثّل أهمّ وأعظم خطر یهدّد سیطرتهما وقیادتهما معا. إذ إنّ تأثیر الثورة الإسلامیة لا ینحصر فی حدودها الجغرافیة فقط، فهی علی الأقلّ تتحرّک صوب جمیع العالم الإسلامی علی وجه التحدید والعالم الثالث بنحو أعمّ. وهذا ما یمکن أنْ یؤدّی إلی ظهور قطب جدید یُلقی بظلاله علی جمیع الأبعاد التفوّقیة للقوتین العظمیین أعمّ من العلاقات الاستراتیجیة والمسائل الأیدیولوجیة والتقالید، ومن ثمّ تدمیر النظام المتّفق علیه فی العلاقات الدولیة والمعسکرات والاصطفافات القائمة بعد الحرب العالمیة الثانیة. ومن هنا، فإنّ تصوّر کلّ من القوّتین العظمیین بأنّ لهما عدوّا غیر قابل للمساومة، أدّی إلی تقاربهما بل أقنعهما علی اتّخاذ موقف واحد تّجاه هذه الظاهرة الجدیدة (الثورة الإسلامیة). وقد برز هذا الموقف المشترک بشکل ملموس فی مرحلة الحرب العراقیة الإیرانیة علی وجه التحدید، وجاء علی لسان وزیر الخارجیة الأمریکی، فهو یقول:

إنّ الحرب العراقیة الإیرانیة لم تکن من المسائل التی تمثّل جزءا من التعارض والاختلاف فی ما بین الشرق والغرب، وأنّ لأمریکا وروسیا مصالح مشترکة فی هذا المجال. (1)

إنّ ماهیة العلاقات الدولیة التی هی نتیجة للأفعال وردود الأفعال لمجموع التقالید، الاعتقادات والعلاقات الدولیة الحاکمة، تحدّد فی داخلها مسؤولیات وضوابط لجمیع أجزاء النظام، وتعیّن أیضا حدودا لمعارضة اللاعبین الصغار للاعبین الکبار، ووضعت مؤسّسات ومنظّمات قانونیة لحلّ مشاکل ومعضلات هذا النظام. فحینما أُنشأت هذه المجموعة فی نظام العلاقات الدولیة أدّت إلی تغییر هذه العلاقات وعلی الخصوص

ص:96

ماهیتها، فتعرّضت جمیع التقالید، الاعتقادات والعلاقات الدولیة لتغییر أساس وبنیوی. ومن هنا، فإنّ إیّ عامل مؤثّر فی الساحة الدولیة یعرّض المعاییر الأساسیة للنظام لأزمة بأیّ درجة کان ویؤثّر علیها، وسیتسبّب بتغییر فی ماهیة العلاقات الدولیة أیضا. هذا فی الوقت الذی لم تقتصر الثورة الإسلامیة علی تغییر القیم والتقالید الحاکمة فی العلاقات الداخلیة لمجتمعها فحسب، بل وبسبب طرحها أصولا وقیما أیدیولوجیة جدیدة فقد فرضت تأثیرا عمیقا علی الأساس والنظام القِیمی الحاکم علی العلاقات الدولیة.

یقول میشال فوکو فی خصوص تأثیر الثورة الإسلامیة علی النظام العالمی:

[إنّ هذه الثورة] هی ثورة أناس بأیادی عزلاء یریدون أنْ یلقوا هذا العبء - عبء النظام العالمی - الذی نحمله جمیعا وعلی الخصوص الذی علی أکتافهم، وعلی أکتاف عمال النفط هؤلاء، وهؤلاء الفلاحین الذین یعطّلون الحدود بین الإمبراطوریات، جانباً. وربّما هذه المرّة الأولی التی تقع فیها ثورة کبری ضدّ الأنظمة العالمیة. أحدث وأجنّ صورة تمرّدیة. فأین یجب وضع مثل هذه الحرکة من الحسابات السیاسیة؟ حرکة لا تسمح بإقامة انتخابات سیاسیة مبعثرة. حرکة تسری فیها روح دینیة تفکّر فی تغییر العالم قبل الحدیث عن العالم الأعلی. (1)

لقد کان الوجه البارز لهذه الثورة وتأثیرها النوعی، هو إدخال عنصر الدین ومذهب الإسلام فی معادلات وأنظمة النظام الدولی. فالثورة الإسلامیة بمذهبها الحیوی والواسع، غیّرت النسیج السیاسی للعالم وطرحت التاریخ وقوّة الإسلام بنحو جدید علی مسرح العلاقات الدولیة وأحدثت ردود أفعال واصطفافات جدیدة فی العالم.

ویمکننا تحلیل ودراسة تأثیر هذه الثورة فی الإبعاد أدناه:

ألف: نظرا لإسلامیة هذه الثورة التی تمثّل أیدیولوجیة ذات شمولیة عالمیة تستولی وتتجذّر فی نفوس خُمس سکان العالم، فقد خلّفت آثارا هائلة واستثنائیة.

ص:97

وتمثّل الصحوة الإسلامیة وإحیاء الإسلام السیاسی فی أوساط المجتمعات الإسلامیة أحد تلک الآثار.

ففی ضوء تأثیر هذه الصحوة استعادت الحرکات والمنظّمات الإسلامیة فی سائر أرجاء العالم نشاطها وقد ازداد هذا النشاط قوّة وسعة إلی الدرجة التی ألقت بظلالها علی خطر الشیوعیة بالنسبة للغرب وأمریکا. وعلی هذا الأساس، فالاستراتیجیون الغربیون بطرحهم خطر الأصولیة الإسلامیة النابعة من الثورة، اعتبروا إیران أهمّ، بل التهدید الوحید الجادّ للثبات والتوازن الموجود الذی یصبّ فی مصلحة الغرب. ویؤکّد لس اسبین رئیس لجنة القوات المسلحة لمجلس النواب الأمریکی فی هذا المجال:

یجب أنْ یکون هدف الإستراتیجیة الأمریکیة إیقاف إیران عن نشر ثورتها الأصولیة الإسلامیة فی العالم العربی وعلی الخصوص الخلیج الفارسی وإنْ تطلّب الأمر اللجوء إلی الحلّ العسکری. (1)

فمن هذه الجهة، سرعان ما احتلّت النهضات والحرکات الإسلامیة فی البلدان الإسلامیة مواقع الحرکات المارکسیة، الاشتراکیة، القومیة واللیبرالیة، وحظیت بإقبال عام باعتبارها الوسیلة الوحیدة لإنقاذ الشعوب من السیطرة الإمبریالیة. إنّ الوحدة العربیة، الوحدة الترکیة والوحدة الإیرانیة التی اضطرد مدّها فی العالم الإسلامی، فقدت بریقها بانتصار الثورة الإسلامیة الإیرانیة بقیمها الإسلامیة، ووصلت إلی نهایة طریقها فی واقع الأمر.

ب: لقد عرضت الثورة الإسامیة إضافة إلی الصحوة الإسلامیة، علی العالم المادّی والمادّیة الغربیة قیما جدیدة أیضا تقوم علی الأخلاق والمعنویة. إنّ نظام القطبیة الثنائیة الذی تبلور بعد الحرب العالمیة الثانیة یتّفق فی مسألة واحدة وهی فصل الدین عن السیاسة وإقامة علاقاتهما وعلاقات النظام العالمی علی أساس المادّیة، الاختلاف

ص:98

الوحید الذی یفصل بینهما هو اعتماد أحدهما محوریة الفرد والآخر المجتمع.

وبحسب وجهة نظر الإسلام وقادة الثورة الإسلامیة، فإن کلّا من الاشتراکیة والرأسمالیة یمثّلان تقالید فلسفیة غربیة تقوم علی المادّیة ورفض محوریة الله. فبما أنّ هاتین المدرستین تقومان علی أساس مشترک وهو المادّیة الأوربیة فهما تختلفان من الأساس مع المبانی الإسلامیة. ومن هنا، فإنّ انهیار النظام الاشتراکی للاتّحاد السوفیتی لا یمثّل نصرا لجسوره الحیّة الممتدّة فی الغرب، بل علامة علی إضعاف تفوّق الفلسفة المادّیة للغرب.

إنّ الثورة الإسلامیة التی تبلورت وفق قیم المدرسة الإسلامیة ألقت المادّیة فی أزمة وعرضت مجدّدا القیم المعنویة والأخلاقیة علی العالم الذی غاص عمیقا فی المادّیات. فأدانت لذلک الاستکبار والتسلّط وأعلنت دعمها لمستضعفی العالم فی أقصی نقاط العالم. فقد تمّ طرح نظام جدید فی العالم من خلال معارضة الاستکبار العالمی، تجاوز الحدود الجغرافیة، العرقیة اللغویة وحتّی الدینیة، وأعلنت أنّ التعارض الحقیقی لیس بین الدول التی تشکّلت إثر معاهدة وستفالیا ولیس بین الاصطفافات التی بلورت نظام القطبیة الثنائیة ولیس بین الأیدیولوجیات المادّیة والمارکسیة والرأسمالیة، بل إنّ التعارض الحقیقی إنّما هو بین المستکبرین من جهة ومستضعفی العالم من جهة أخری. وفی ذات الوقت فإنّ المجتمع العالمی لن یرَ نور السلام والصلح إلّا إذا تمّ القضاء علی الاستکبار والمستکبرین وأُقیمت حکومة المستضعفین فی جمیع أنحاء العالم.

ج: کان المعیار السائد فی معرفة مدی قوّة الدول هو مقدار ما تملکه من الأسلحة الإستراتیجیة وعلی الخصوص الأسلحة الذریة، وذلک إلی ما قبل انتصار الثورة الإسلامیة. فأیّ بلد یمتلک مصانع أسلحة أکثر وأسلحة أقوی کمّیا ونوعیا یعتبر القوّة الأکبر. لکنّ الثورة الإسلامیة التی انتصرت من خلال الهبّة الشاملة للشعب بأیادیها

ص:99

العزلاء وعظّت بنواجذها علی نظام الشاه، تمکّنت من إخراج جیش الشاه من دائرة الصراع، وهی بهذا قد عرضت فی الحقیقة عاملین مهمّین للقوّة علی مسرح العلاقات الدولیة، وهما الإیمان والإیثار اللذین یمکن مشاهدتهما فی العملیات الاستشهادیة، وبهذا قد تسبّبت بأهمّ أزمة للنظام الاستکباری الغربی والشرقی علی السواء.

فعلی الرغم من الاستفادة من الاغتیال والتصفیة الجسدیة لتثبیت السلطة وإزالة موانع نموّها فی جمیع الأنظمة الحکومیة المادّیة فی التاریخ السیاسی للبشریة،، غیر أنّ ثمة ظاهرة جدیدة تبلورت فی عصر أفول النظریات وظهورها المفاجئ، أطلق علیها أکثر الغربیین الإرهاب. فما أُطلق علیه فی الأدبیات السیاسیة للغرب بالمفخّخین الانتحاریین، أثار حیرة کثیر من مفکّری الشرق والغرب. (1) فکیف استطاع هذا النموذج من الموت أنْ یُسقط أکثر الأسلحة التقنیة تطوّرا من دائرة الصراع؟ إنّ الأمریکیین والإسرائیلیین أدرکوا فی بحوثهم ودراساتهم المتنوّعة أنّ جذور ظهور الاغتیال تختلف کثیرا عن العملیات الاستشهادیة. فالعامل الأساسی لظهور الإرهاب هو الفقر والنظام الطبقی الذی یتحکّم بالمجتمعات البشریة وأنّ العلاقة بین الذین یقفون وراء الإرهاب وبین الإرهابیین هی علاقة عمالة، فی حال أنّ العملیات الاستشهادیة تمثّل نوعا من الدفاع الابتدائی فی مقابل الاستبداد الذی لا یمکن تحمّله والذی تقوم قواه العملیاتیة بالتضحیة وفق أفکارها وأهدافها فتکون العلاقة بین الاستشهادی والله علاقة هیام وغرام.

وتشیر الدراسات التی أجراها خبراء الإرهاب إلی أنّ الاغتیالات تصدر علی العموم من قِبل أناس یائسین وفقراء. فهؤلاء ومن خلال استئجارهم من قِبل الحکّام أو أصحاب المصالح فی المجالات المختلفة، یقومون بممارسة عملیات الاغتیال؛ فی

ص:100

حال أنّ ما یکون عاملا للحرکة الجهادیة فی العملیات الاستشهادیة هو الاعتقاد بهدف، والوصول إلی طموح وأنْ یقع علیهم الاختیار من قِبل الخالق الوهّاب. (1)

فبحسب قول تادا ستیوارت الجنرال المتقاعد للقوات الجوّیة ومدیر برنامج الأمن الداخلی والدولی لجامعة أوهایو الأمریکیة:

لو کانت المجامیع الجهادیة الإسلامیة تعتمد علی أفراد شاذّین، لَما تمکّنت أبدا من تنشئة جنود فعّالین وموثوقین وشجعان. (2)

لقد تسبّبت استطلاعات للرأی أُخذت من مئات المستعدّین للقیام بعملیات استشهادیة فی إثارة حیرة أکبر؛ فلم یکن أیّ من هؤلاء أمّیّا أو شدید الفقر أو ساذج أو لا حول له ولا قوّة، بل کانوا جمیعا من الأعضاء المتّزنین لأُسر مرفّهة.

توصّل مسؤولو منظّمة الاستخبارات فی الجیش الأمریکی من خلال تحقیق خاصّ أُجری علی سجناء غوانتنامو أنّ الأصولیین الإسلامیین وعلی الخصوص مَنْ ینتحلون صفة القیادة منهم، ذوو شهادات دراسیة لا بأس بها مهنیا، وثمّة عدد مثیر للدهشة منهم یحملون شهادات جامعیة وینحدرون من أُسر مرفّهة ومستویات اجتماعیة علیا. إنّ بواعثهم والتزامهم بأهدافهم یشیر إلی میلهم إلی التضحیة بالرخاء المادّی والعاطفی من قبیل العمل، العائلة والأمن الحیاتی، الأمر الذی قطعوا من أجله سفرا طویلا وذلک للکفاح فی سبیل تحقیق أهدافهم. (3)

ص:101

إنّ المطالعة الإجمالیة لهذه الدراسات تدلّ علی عدم صحّة خطابات جورج بوش ومَنْ یحاول إلصاق اسم الإرهاب بهذه القوی الاستشهادیة. حیث یعتقد هؤلاء أنّ الإنسان الفقیر أو غیر الواعی یُقدِم علی الموت بلا وعی أو علی القیام بعملیات انتحاریة، وهو خلاف ما تشیر إلیه تلک التحقیقات.

وینظر دونالد رامسفیلد وزیر الدفاع الأمریکی إلی هذا الموضوع من نافذة أکثر معقولیة فی هذا الوسط. فهو یحاول طرح فکرة أفضل من إطلاق اسم الإرهاب علی القوی الاستشهادیة، حیث یقول:

إنّ أمریکا ولأجل الحیلولة دون مجیء جیل لاحق من الإرهابیین ینبغی علیها التفکیر فی حیلة لذلک. فإذا أرادت أمریکا إیقاف الهجمات الإرهابیة فی المستقبل، یجب علیها أنْ تنتصر فی حرب الأفکار. إذ فی مقابل کلّ إرهابی تلقی القوات الأمریکیة ومتّحدیها القبض علیه أو تقتله، یتربی إرهابی آخر، الأمر الذی یتطلّب الاتّجاه نحو مواجهة الأفکار وإعلان الحرب علی مَنْ یدیر شبکات إرهابیة فی مختلف أرجاء العالم. (1)

فقد أدرک بشکل جیّد أنّ ظاهرة الإرهاب تختلف بصورة کاملة عن الاستشهاد. فإذا ما أطلق اسم واحد علی هذین العنوانین - وهو العنوان الأو ّل -، فلا هدف له فی ذلک سوی تلویث وتشویه وإظهار حقارة هدف القوی الاستشهادیة. فهو تماشا وتناغم جیّدا مع آراء نظیره الإسرائیلی شاؤول موفاز الذی أجری تحقیقات خاصّة فی خصوص الجذور الفکریة للاستشهاد. ففی رأی موفاز أنّ مساحة واسعة من فکر الاستشهادیین تتبلور من خارج حدود إسرائیل وفلسطین. فهو یعتقد أنّ إیران تمثّل البؤرة الرئیسة لنقل الفکر الاستشهادی فی أوساط المسلمین المقاومین، وأنّ مصدر تأمین هذا الفکر - الذی یمثّل أهمّ أزمة تواجه الغرب مستقبلا - لیس سوی مدرسة تحمل اسم

ص:102

«الخمینیة». فهذه المدرسة ستکون العائق والمانع الأکبر فی طریق حکومات العالم المستقبلیة، التی تقوم علی الحول والحیلة.

ف- شاؤول موفاز الصهیونی یتذکّر جیّدا کیف کان للتنظیم الفائق لخمسمائة شاب وفتیً لبنانی من دور فی إخراج القوات الإسرائیلیة المدجّجة بالسلاح من جنوب لبنان فی العقد الأخیر من القرن العشرین. فلم یکن انتصار هذه القوّة الخارقة للشباب اللبنانی علی الجیش الإسرائیلی الفائق العدد والعدّة، ممّا تمحوه ذاکرة الجنرالات الصهاینة. وأنّ فروع هذه القوّة الخارقة التی تتمتّع بجاذبیة فائقة لم تفتأ تنمو وتنتشر فی جمیع بلدان العالم. هذا مع أنّ الدراسات الأخیرة للموساد (وکالة الاستخبارات الإسرائیلیة) تشیر إلی أنّ الکثیر من الجامعیین المسلمین فی أوربا مستعدّون للتضحیة من أجل أهدافهم العقائدیة.

یعتقد الإسرائیلیون أنّ الإمام الخمینی رحمة الله والشهداء الإیرانیین فی حرب السنوات الثمانی، هم المصدّرون الأساسیون لهذا الفکر فی عالم الیوم. ومن هنا، فإنّ إیران تُطرح علی أنّها مصدر العداء للدیمقراطیة والسلام ذی الصبغة الإسرائیلیة والذی یقوم علی قوّة السلاح. إنّ ما تعجز الإمبریالیة عن فهمة وإدراکه الیوم هو طبیعة تبلور الفکر الاستشهادی.

فبحسب ما تقدّم، فقد اکتسب العالم الإسلامی تدریجیا معنیً ومفهوما له باعتباره قوّة جدیدة، سواء بلحاظه الجغرافی أو الفکری أو الأیدیولوجی، ووجد له مکانة خاصّة فی العلاقات الدولیة، وازدادت هذه المکانة بانهیار نظام القطبیة الثنائیة والاتّحاد السوفیتی. وبهذا فقد حظی تأثیر تواجد الثورة الإسلامیة فی البیئة غیر المتوازنة للعالم الإسلامی بأهمّیة خاصّة بالنسبة إلی العالم الغربی وحتّی العالم الشرقی الذی بقی من نظام القطبیة الثنائیة. من المسلّم أنّ الغرب لیس بإمکانه تجاهل تأثیر هذه الظاهرة الاجتماعیة والأیدیولوجیة علی النظام العالمی. وکما تمّ طرحه، فإنّ المحلّلین

ص:103

والإستراتیجیین الأوربیین والأمریکیین کانوا یرون أنّ الشیوعیة تمثّل الخطر الأساسی بالنسبة إلیهم، وذلک إلی ما قبل قیام الثورة الإسلامیة، فسلّطوا الأضواء علی جمیع النشاطات والحرکات الثوریة من خلال دائرة الشیوعیة. وأدّی ظهور الثورة الإسلامیة باعتبارها ظاهرة مبدئیة وتطوّریة فی الساحة السیاسیة العالمیة إلی تغییر وجهة هذه التحلیلات والإستراتیجیات. حیث کتبت صحیفة لاریبو بلیکا فی مقالة لها تحت عنوان الاتّحاد الکبیر علی النبیّ:

کانت واشنطن إلی ما قبل الآن تعتقد بأنّ تقویة الحرکة الإسلامیة أقلّ خطرا من توسّع الاتّحاد السوفیتی، ولکنّهما حالیا وبعد سنوات من المساعی للحیلولة دون نفوذ الثورة الإسلامیة التی اعتبراها تمثّل تهدیدا مشترکا لهما، اتّحدوا ضدّها. (1)

ویشیر نیکسون الرئیس الأسبق للولایات المتّحدة إلی هذا التطوّر فی رسمه الخطوط الإستراتیجیة العالمیة لأمریکا فی القرن المیلادی القادم:

لقد بدأ التغییر فی العالم الثالث، ووصلت ریاحه إلی مرحلة الطوفان، ونحن غیر قادرین علی إیقاف ذلک. فقد انتزعت الأصولیة الإسلامیة باعتبارها وسیلة أساسیة لتغیّرات سیاسیة قهریة مکان الشیوعیة فی العالم الإسلامی. (2)

ففی رأی الغرب، أنّ الثورة الإسلامیة ومن خلال انتشار نطاق الأیدیولوجیة الإسلامیة، أدّت إلی جعل الإسلام قوّة جیوسیاسیة متّحدة ومتعصّبة فی اعتقاداتها، ونظرا إلی عدد سکان العالم الإسلامی المتنامی وقدراته المادّیة التی یستبطنها، فهو یشکّل خطرا کبیرا لیس علی الغرب فحسب، بل علی الدول الشیوعیة. ولقد سقطت الإستراتیجیات التی دوّنت فی الماضی أمثال سیاسة إقامة السدود ومبدأ نیکسون القائم علی دعامتین عن الاعتبار، وأخذت أمریکا تفکّر فی تنظیم إستراتیجیات جدیدة لمواجهة هذه الظاهرة.

یقول ویلیام کوانت عضو مجلس الأمن القومی الأمریکی فی عهد کارتر :

ص:104

لقد ألقت الثورة الإسلامیة الرعب فی قلب واشنطن. فلأجل أنْ لا یطغی المدّ الثوری فی أرجاء الخلیج الفارسی قرّرنا إیجاد نظام أمنی فی داخل وفی أطراف شبه الجزیرة العربیة لنطمئنّ بأنّ الثورة الإسلامیة لا تتجاوز إلی الخارج. (1)

وبهذا، تمّ تغییر الإستراتیجیة الأمریکیة فی المنطقة مع انتصار الثورة الإسلامیة، وانفسخت معاهدة سنتو التی کانت تمثّل الحلقة المرکزیة للشریط الأمنی الغربی قبال الشیوعیة. فمبدأ نیکسون الذی کان یعتمد علی القوّة الأقلیمیة أمثال إیران للحفاظ علی المصالح العالمیة لأمریکا والذی جعل من نظام الشاه شرطی المنطقة لحفظ المصالح الأمریکیة، أعطی نتیجة عکسیة وصنع من صدیق دائم عدوّا لا یقبل التساوم.

إنّ انهیار الاتّحاد السوفیتی الذی أعقب طرح آراء غورباتشوف تحت عنوان البروستریکا عرّض النظام الدولی الذی أُقیم بعد الحرب العالمیة الثانیة إلی خطر جادّ، فإنّ هذا الانهیار قد رسم الخطّ النهائی لمرحلة الحرب الباردة ونظام القطبیة الثنائیة، أمّا ما هو العامل أو العوامل التی أدّت إلی انهیار الاتّحاد السوفیتی والمعسکر الشرقی ونظام القطبیة الثنائیة، فثمّة اختلاف کبیر فی الآراء بین المختصّین بالعلاقات الدولیة، ولکنّهم عموما یؤکّدون علی ضعف الترکیبة الداخلیة للنظام السوفیتی وعلی الخصوص الهیکلیة الاقتصادیة للدولة. ویعتقد الغربیین فی ذات الوقت - وعلی الخصوص الأمریکیین - بأنّ ذلک یُعدّ بمثابة دلالة علی أفضلیة النظام اللیبرالی الغربی، ممّا دعاهم إلی الاحتفال بانتصار الغرب علی هذا الصعید إلی الحدّ الذی ساق فرانسیس فوکویاما إلی إعلان نهایة التاریخ بالانتصار الحاسم والنهائی للدیمقراطیة الغربیة والمعاییر اللیبرالیة. (2)

إنّ الإمام الخمینی رحمة الله وفی رسالته التاریخیة إلی غورباتشوف ولأجل الحیلولة

ص:105

دون حصول استنتاجات خاطئة ومضلّلة لهذا الانهیار وعلی الخصوص اعتبار الغربیین أنّ ذلک یمثّل أفضلیة وقدرة معاییرهم القِیمیة، لم یقتصر علی إطلاق هذا التحذیر ل- غورباتشوف وأصحابه فی الاتّحاد السوفیتی فحسب، بل أطلقه لکافّة العالم أیضا من أنّ المشکلة الأساسیة للعالم الشیوعی لم تکن السیاسة والاقتصاد، وإنّما کانت الإعراض عن الله والقیم المعنویة فی العلاقات الدولیة.

فمحتوی رسالة الإمام الخمینی رحمة الله إلی غورباتشوف فی کانون الثانی 1989 تعکس بوضوح هذه الحقیقة:

وبالطبع فإنّه ربّما یُسر العالم الغربی من الأسالیب غیر الصحیحة والممارسات الخاطئة لرجال الدول الشیوعیین فی المجال الاقتصادی، لکنّ الحقیقة تکمن فی مجال آخر، فإذا کنتم تأملون فی وضعکم هذا أنّ السبیل الوحید لحلّ المشاکل المستعصیة للاقتصاد الاشتراکی والشیوعی هو اللجوء إلی أحضان الرأسمالیة الغربیة، فإنّ ذلک لن یُسعف مجتمعکم المریض فحسب، بل وعلی العکس، فکما أنّ المارکسیة وصلت الیوم إلی طریق مسدود فی المسائل الاقتصادیة والاجتماعیة، فإنّ العالم الغربی أیضا سیتعرّض بهذا النحو فی مسائل أخری، وبالطبع بشکل آخر. إنّ مشکلتکم الأساسیة لیست الملکیة، الاقتصاد أو الحرّیة؛ إنّ مشکلتکم هی افتقادکم الاعتقاد الحقیقی بالله. المشکلة التی جرّت الغرب أیضا إلی طریق مسدود أو أنّها ستجرّه إلی ذلک. (1)

ومع أنّ تحذیر الإمام للعالم فی رسالته إلی غورباتشوف لم یؤدِ إلی إفاقة العالم الشیوعی والعالم الغربی والتراجع عن مسارهم المنحرف، لکنّه وضعهم فی ذات الوقت فی صورة أنّ إیجاد أیّ نظام یتّبع الأسلوب السلطوی الغربی، فإنّ الثورة الإسلامیة والعالم الإسلامی سیستمرّان فی معارضته بشکل جدّی.

وقام رونالد ریغان بطرح النظام العالمی الجدید فی تلک المرحلة، والذی مثّلت فیه نهایة الحرب الباردة أرضیة لتأسیس نظام القطب الواحد بقیادة أمریکا وهو ما

ص:106

یسمی «النظام العالمی الجدید». وکان المبدأ المذکور یقوم علی أساس أنّ الولایات المتحدة الأمریکیة هی القوّة الکبری الوحیدة التی بقیت من مرحلة الحرب الباردة وهی وکما فی السابق بحاجة إلی الحفاظ علی مقدار مؤثّر من قوّاتها العسکریة إذا ما أرادت أنْ یکون لها نفوذ مؤثّر فی العالم. وبالطبع فإنّ إیجاد وتقویة نظام القطب الواحد بمحوریة القوّة الکبری الوحیدة الباقیة من مرحلة الحرب الباردة، بحاجة إلی توفّر شرطین أساسیین وهما عبارة عن، أوّلا: موافقة المجتمع الدولی وعلی الخصوص القوی المنافسة لإقرار النظام الجدید، وثانیا: کفاءة وقدرة أمریکا من الناحیة السیاسیة، الاقتصادیة والعسکریة لقیادة هذا النظام.

إنّ وجود وتفعیل الشرطین المتقدّمین اللذان یمثّلان أساس استمرار النظام العالمی الجدید یبدو غیر ممکنا، إذ لا المجتمع الأمریکی یمتلک القابلیة والحافز اللازم باللحاظ الاقتصادی، السیاسی والاجتماعی، وکذا الشروط اللازمة لإدارة العالم، ولا الدول الأخری لدیها الاستعداد اللازم للقبول بقیادة أمریکا، حیث لا تری أنّها تتمتّع بما یجعلهم یتّبعونها تبعیة مطلقة. النتیجة أنّ السنوات الأخیرة من عقد الثمانیات شهد سعیا أمریکیا لتثبیت هذا النظام واستعصاء سائر الدول وعلی رأسها الجمهوریة الإسلامیة بقیامها برفض هذا النظام والذی أدّی فی النهایة إلی فشل أمریکا فی إیجاد نظام القطب الواحد الجدید. الأمر الذی أدّی إلی طرح بعض الدول الأخری ومن بینها جمهوریة الصین الشعبیة وحتّی دول أوربا الغربیة نظریة نظام التعدّدیة القطبیة الذی لا یمثّل طموحات أمریکا التی لم تقرّ بهذه الحقیقة حتّی الیوم. (1)

وتمثّل العلاقات الاقتصادیة العامل الحاسم فی العلاقات الدولیة فی نظام التعدّدیة القطبیة وتحلّ محلّ القوّة العسکریة. فإذا لم یولِ النظام الدولی اهتماما بآسیا - وعلی الخصوص

ص:107

الیابان باعتبارها قطبا جدیدا للقوّة فی مثل هذه الحالة، فإنّه سیکون فاقدا لمفهومه. فالولایات المتّحدة وأوربا وبسبب الدور الحاسم للقوّة العسکریة فی الماضی کانوا یُعملون نفوذهم المسیطر علی آسیا وخصوصا الیابان. أمّا فی الظروف الجدیدة، فإنّ الیابان التی تهتمّ اهتماما فائقا بمناطق أمثال أفریقیا، الشرق الأوسط وجنوب شرق آسیا التی نمت نموّا إقتصادیا استثنائیا، أخذت تتضاعف قوّتها الاقتصادیة یوما بعد آخر وأعدّت اختیارا آخر لهذه المناطق. فی حین أنّ أمریکا وأوربا ما زالا غارقین فی أزمة الحیرة والارتباک.

هذا فی الوقت الذی یسعی فیه منظّروا ومخطّطوا السیاسة الأمریکیة لطرح نظریات جدیدة تکون بمثابة بوصلة للساسة الأمریکیین والغربیین فی ذات تأمینها استمرار السیطرة الأمریکیة. وتأتی فی هذا السیاق نظریة المنظّر الأمریکی الشهیر صاموئیل هنتینغتون المثیرة للجدل، والتی تحمل عنوان «صراع الحضارات».

- أنّ الاختلاف بین الحضارات أمر أساسی.

- أنّ وعی الحضارات فی حالة تزاید.

- أنّ إعادة الحیاة الدینیة التی تمثّل وسیلة لملء فراغ الهویة فی حالة اضطراد.

- أنّ السلوک المنافق للغرب سیؤدّی إلی وعی حضاری (للآخرین).

- أنّ المزایا والاختلافات الثقافیة ممّا لا یقبل التغییر.

- أنّ الإقلیمیة الاقتصادیة ودور المشترکات الثقافیة فی حالة تنامی.

- أنّ خطوط الافتراق الموجودة فی ما بین حضارات الیوم أصبحت بدیلا عن الحدود السیاسیة والأیدیولوجیة فی مرحلة الحرب الباردة، وأنّ هذه الخطوط تمثّل شرارة حدوث أزمة وإراقة دماء.

- أنّ النزاع الممتدّ إلی ألف وأربعمئة عام بین الإسلام والغرب فی حالة اتّساع، وأنّ العلاقات بین هاتین الحضارتین حبلی بالأحداث الدمویة.

وبهذا، فإنّ هذه النظریة «صیغة صراع الحضارات» ستُلقی بظلالها علی مسائل العالم الأخری، وستتبلور فی العصر الحدیث، اصطفافات جدیدة تتمحور حول الحضارات، وستقف الحضارة الإسلامیة والکنفوشیوسیة إلی جانب بعضها البعض أخیرا، لمواجهة الحضارة الغربیة. الخلاصة، أنّ المرکز الأصلی للمواجهات فی المستقبل، سیکون بین الحضارة الغربیة والاتّحاد الذی یضمّ المجتمعات الکنفوشیوسیة فی شرق آسیا والعالم الإسلامی. فالمواجهات الحضاریة فی الحقیقة تمثّل المرحلة الآخیرة لبلوغ الصراعات ذروتها فی العالم الجدید. (1)

وقد صدرت انتقادات واحتجاجات متعدّدة من قِبل بعض مفکری الغرب والعالم الثالث عقب نشر مقالة هنتینغتون وطرحه نظریة صراع الحضارات المثیرة للجدل. وتشدّد هذه الانتقادات بشکل أساسی علی الضعف التنظیری والعلمی لهذه النظریة، وتراه

ص:109

متضعضع الأسس، وارتکز البعض علی التنافضات الکثیرة التی تتضمنها الأدلّة والشواهد التی طرحها هنتینغتون . ورفض البعض النظریة بکلّیتها من خلال طرحه قضایا جدیدة. (1)

وما یبدو من منتقدی نظریة صراع الحضارات هو أنّهم أولوا اهتماما أقلّ بعدم کون الباعث أو النیة بعبارة أخری التی حدت ب- هنتینغتون لعرض نظریته هذه، هو طرح «صیغة» جدیدة، وإنّما معالجة أو بتعبیر آخر تبریر التعارضات التی کانت تمخّضت عن انهیار نظام القطبیة الثنائیة. التعارضات التی برزت فی داخل العالم الغربی والأمریکی وکذا بین العالم الغربی وسائر المجتمعات الحاضرة فی العالم، والتی ستزداد ربّما فی المستقبل أیضا. ونظرا لاستقطاب هذه النظریة الکثیر من الاهتمام مع ما تتضمّنه من حقائق النظام العالمی فی مستقبله، فسنحاول عرض أسباب طرح هذه النظریة ضمن عرض نقاط ضعفها الأساسیة.

الأوّل، هو أنّ الحضارة یطغی علیها الجانب العلمی والعینی، وأنّ الثقافة تنعکس أکثر فی الجانب الذهنی والمعنوی. فالفن، الفلسفة، الحکمة، الأدبیات والعقائد (مذهبیة أم غیر مذهبیة) ترتبط بدائرة الثقافة، بینما یغلب علی الحضارة ارتباطها بمستوی الحاجات المادّیة للإنسان فی المجتمع.

الثانی، أنّ الحضارة ترتبط علی الأغلب بالجانب الاجتماعی، بینما الثقافة بالجانب الفردی. فالحضارة تتضمّن تقدّم الإنسان فی الدائرة الاجتماعیة، والثقافة یمکن أنْ تکون ناظرة إلی التکامل الفردی فضلا عن ذلک. (1)

وعلی الرغم من الاختلاف الموجود بین هذین اللفظین فی اللغة، إلّا أنّهما استخدما بشکل مترادف علی العموم، حیث یُستعمل أحدهما بدل الآخر فی الغالب. فالحضارة هی بمعنی السکن فی الحضر وهو ما یماثل اصطلاح Civilization فی جذره اللغوی اللاتینی، بینما الثقافة أو Culture ترتبط بالأسالیب السلوکیة المختلفة للمجتمعات.

فالحضارة التی جاءت بمعنی السکن فی الحضر، هی بمعنی النمو، التنمیة، الوعی واستفادة الناس من التقدّم العلمی والتقنی وتکوین حیاة أکثر ملائمة لمجتمعاتهم. ومع أنّ بعض المجتمعات البشریة وفی کلّ مرحلة وعصر وعلی طول التاریخ ساهمت مساهمات قیمة فی هذا النمو والتنمیة، ولکنّ الاستفادة من ذلک لم تضلّ مقتصرة علی مجتمع خاصّ أبدا حیث شملت جمیع المجتمعات البشریة؛ ولو نظرنا فی المقابل إلی إلی الثقافة فهی تعنی مجموعة من الآداب والرسوم، التقالید، الأفکار، العقائد المذاهب والفلسفة، فهی تمثّل فی الحقیقة هویة قوم ومجتمع ما، ولیس بالضرورة أنْ تنتقل إلی قوم ومجتمع آخر، والثقافة تمثّل أیضا المائز الذی یمیّز مجتمع عن آخر، فالحضارة والثقافة مترابطتان، ولکن لا یعنی ذلک وجود ملازمة بینهما بالضرورة.

ص:111

لقد سعی المفکّرون الغربیون بصفة عامّة وتبعهم فی ذلک البعض فی استخدام هذین المفهومین بشکل مترادف وبمفهوم واحد علی الرغم من الاختلاف الصارخ والأساسی بین اللفظین. و هنتیغتون أیضا وعلی أساس هذه السابقة لم یرَ ثمّة اختلاف بین الحضارة والثقافة. وهو فی ذات الوقت یقرّ بنقطة مهمّة خلال طرحه لهذه النظریة، وهی ظهور قوّة جدیدة توازی قوّة الغرب تدّعی تمثیلها للحضارة الإسلامیة جاءت فی الحقیقة عقب انتصار الثورة الإسلامیة وتأثیرها علی العالم الإسلامی والتی ستلعب دورا هامّا فی مستقبل العالم باعتبارها قوّة ثقافیة، سیاسیة وحتّی عسکریة.

لکنّ هنتینغتون یتجاهل مثل هذا الموضوع المهمّ والمصیری بالنسبة للمجتمع الغربی وعلی الخصوص أمریکا، ولم یحمله علی محمل الجدّ، فکما أنّ الاتّحاد السوفیتی وبسبب اتّباعه معاییر وقیم خاطئة لا تنسجم والفطرة الإنسانیة فی إعماله المادّیة التاریخیة والمارکسیة - اللینینیة انهار فی نهایة المطاف من الداخل بعد سبعین عاما، وأثبت بطلان النظریة المذکورة عملیا، فإنّ الولایات المتّحدة الأمریکیة والعالم الغربی عموماً یهدّدهم خطر الانهیار من الداخل ولنفس الأسباب أیضا.

ویُعدّ برجینسکی من الأفراد القلائل الذین التفتوا إلی هذه المسألة المهمّة فی نقده لنظریة هنتینغتون. (1)فهو یبدأ بتشریح الثقافة الغربیة علی المستوی الفکری ویُحصی موارد الضعف التی لا یمکن تدارکها لهذه الثقافة ویعیب عدم اهتمام هنتینغتون بالتصدّع الداخلی للثقافة الغربیة. ففی عقیدته أنّ العلمانیة التی تقود زمام التصدّع المستولی علی النصف الغربی من الکرة الأرضیة تستحثّ فی داخلها الثقافة الغربیة علی الانهیار. فهو یری أنّ ما یعرّض القوّة العظمی أمریکا إلی الزوال لیس صراع الحضارات، بل الفساد الداخلی للنظام الغربی وابتعاده عن المعنویة والذی لن یقضی علی قیادة أمریکا فحسب، بل

ص:112

سیتجاوز ذلک فی النهایة إلی الثقافة الأمریکیة بما تمثّله من قدوة ومعیار للآخرین. (1) وهو نفس ما ذکّر الإمام الخمینی رحمة الله غورباتشوف به فی رسالته إلیه والمتمثّل بتجاهل الله.

ولو نظرنا إلی المسألة من جهة أخری، فإنّ الولایات المتّحدة تسیر نحو التنوّع القومی والعِرقی أکثر فأکثر یومیا بعد آخر. فهذه المسألة إ ضافة إلی تسبیبها فی الانحطاط الاجتماعی، ستؤدّی إلی تفکّک وتقاطع ثقافة هذا البلد أکثر فأکثر. (2)

ولکنّ هنتینغتون مع کلّ هذا لم یستطع أنْ یُخفی هذه المسألة، فیقوم بإفشاء ما سیؤدّی إلی ذلک الانهیار وهو ما ظهر أخیرا فی الغرب؛ ویتمثّل ذلک العجز بإدراک موضوع أنّ الغرب سیتعرّض ربّما إلی ضعف هیکلی فی داخل أنظمته ومؤسّساته القِیمیة. فهذا التیار یبرّر إلی حدّ ما الترحیب الحارّ الذی واجهه تصوّر نهایة التاریخ وانتصار الأهداف الغربیة بحسب نظریة فوکوباما ؛ بتصوّر أنّ الحرّیة الفردیة والدیمقراطیة ستؤمّن وإلی الأبد بقاء الحضارة الغربیة علی مسند القیادة. (3)

فی الوقت الذی تشکّل مسألة اضمحلال اللیبرالیة الغربیة بفقدها منافس أیدیولوجی منسجم نظیر الأیدیولوجیة المارکسیة - اللینینیة المنافسة، موضوعا جادّا،

ص:113

حیث إنّ تنوّع وتعدّد ثقافة الیوم تعمل علی أنفراط مجموعة المعتقدات والفلسفة الفکریة التی تشکّل عقد المجتمع الأمریکی.

إنّ الهویة السیاسیة للولایات المتّحدة الأمریکیة فی الأصول التی بُیّنت فی الوثائق الأوّلیة لها جذور متعدّدة. فمحو الصفة الغربیة عن الولایات المتّحدة هی بمثابة محو الصفة الأمریکیة وخواء هذا البلد من هویته الفعلیة فی حال تحقّقها. فإذا ما حدث ذلک ولم یضلّ الأمریکیون مؤمنون باللیبرالیة الدیمقراطیة والأیدیولوجیة السیاسیة لأوربا ولم یطبّقوها، لن تبقی الولایات المتحدة فی هذه الحال علی النحو الذی عرفناه، وستتّبع سائر القوی الکبری التی لم تتجسّد إلّا من خلال الأسلوب الأیدیولوجی فی مواراتها فی مقبرة التاریخ.

وأمریکا. ولاینبغی تناسی أنّ الحربین العالمیتین الأولی والثانیة اللتان ابتلعتا ملایین الناس، اضطرمتا فی بدایتهما بین الدول الغربیة ذات النظام الرأسمالی.

إنّ هنتیغتون وعلی الرغم من السابقة التاریخیة للحروب الداخلیة فی الغرب، یدّعی عدم إمکان تصوّر حدوث نزاعات جدّیة بین ألمانیا والولایات المتّحدة الأمریکیة وسائر البلدان الغربیة لانتمائها إلی أسرة الغرب الواحدة. هذا فی الوقت الذی یطفح فیه تاریخ الغرب فی القرون الثلاثة الأخیرة بحروب متعدّدة داخل تلک الأسرة الغربیة والتی لعبت فیها ألمانیا دورا محوریا بارزا.

لا شکّ فی أنّ الإمبریالیة البریطانیة والفرنسیة وکذا الألمانیة ستضطرّ إلی محاولة توفیر حاجات أقوی، یقول أرنست هاس فی کتابه:

إنّ الألمان وکسائر المجتمعات الکبیرة یعتقدون مضطرّین بأحقّیتهم فی التوسّع داخل أوربا فی ما لو لم یکن بالإمکان التوسّع ما وراء البحار. (1)

خصومة مع بعضها البعض، بل هذه الدول باعتبارها تمثّل أصحاب السطوة والقوّة ولأجل توسیع مناطق نفوذها وسلطتها، ومن خلال استغلال هذه الاختلافات وللوصول إلی أهدافها السلطویة، هی التی کانت تخوض الحروب مع سائر المجتمعات وتدمّرها وتجبر شعوبها أو تضلّلها للانسیاق خلفها أیضا. وبعبارة أخری، لقد کانت الثقافات بمثابة أدوات لخدمة الدول، لا أنّ الدول فی خدمة الثقافات والحضارات. فإنّ هنتیغتون ومن دون الاهتمام بالاختلافات الثقافیة العمیقة الموجودة بین الثقافة الإسلامیة والکونفوشیوسیة، یتحدّث عن الاتّحاد بینهما لمواجهة الحضارة الغربیة ولم یتطرّق إلی ماهیة أوجه الاشتراک بین هاتین الحضارتین؟

یبدو أنّ ما یقارب بین هذین المجتمعین لمواجهة الغرب، هو أنّهما معا کانا ضحایا للاستعمار والاستغلال وتعرضّا حتّی للإذلال من قبل الغرب فی القرون الأخیرة، وتحمل ذاکرتهما سوابق مرّة جدّا من الظلم والجور الذی مارسه الغرب حیالهما. فالیوم حیث انتبهت وصحت شعوب هذه المجتمعات، یُبدی هنتیغتون قلقه من المواجهة المشترکة لهاتین الحضارتین مع الغرب. فهو لا یرید الإقرار بهذه الحقیقة التی لا یمکن التغاضی عنها من أنّ المجتمعات الآسیویة والأفریقیة لم تنسَ العهود المرّة لاستغلالها من قِبل الغرب کما هو الحال فی حرب التریاق فی الصین، تجارة الرقیق فی أفریقا ونهب النعم الإلهیة العظیمة التی حبی بها العالم الإسلامی، وذلک فی صورة الاستعمار والاستعمار الحدیث.

ومن جهة أخری، فإنّ هنتیغتون الذی یقلق من تجدّد التعارض بین الدول الغربیة وعلی الخصوص أمریکا وأوربا حول تقاسم مصادر العالم الاقتصادیة، یخطو باتّجاه خلق عدوّ جدید ویوصی ضمنیا بنظریة کنت والتز :

إذا لم یکن ثمّة وجود خارجی لهمج ومتخلّفین فیجب العمل علی إیجادهم. (1)

ص:116

مکانتها الفعلیة ما لم تفکّر فی کیفیة مواجهة ومعالجة هذه الأزمات الجدیدة، وما لم تنظّم وتُعدّ إستراتیجیة ونظام جدید لعالم القرن الواحد والعشرین یهیّ ء الأرضیة لاستمرار هذا التفوّق. فبسبب هذه العقبات قام هنتیغتون بطرح نظریة صراع الحضارات لیغطّی من خلال ذلک علی الحقائق التی تعمّ العالم. وهو فی ذات الوقت یفترض بنحو ظریف عدم إمکانیة مصالحة العالم الإسلامی مع الغرب باعتباره من المسائل البدیهیة التی لا نقاش فیها، ویسعی لتبریر السیاسات التسلّطیة والاستکباریة للدول الغربیة ومواجهة العالم الإسلامی لهذه السیاسات علی شکل صراع هاتین الحضارتین.

ومع بلوع الثورة الإسلامیة أوج انطلاقتها فی أعوام 77- 78 وطرح شعار «لا شرقیة لا غربیة، جمهوریة إسلامیة» استمرّت هذه الحرکة بأسلوبها وإستراتیجیتها المستقلّة فی ذات معارضتها للنظام العالمی القائم علی القوّة، وحینما انتصرت الثورة لم تکن قد حظیت بدعم أیّ دولة أو مجموعة من الدول - وعلی الخصوص اللاعبین الأساسیین لنظام القطبیة الثنائیة - فحسب، بل کان النظام الاستبدادی الشاهنشاهی قد حظی بدعم القوی الکبری شرقیّها وغربیّها کالاتّحاد السوفیتی، جمهوریة الصین الشعبیة، الولایات المتّحدة الأمریکی وبریطانیا. وبحسب قول الإمام الخمینی رحمة الله :

إنّ الثورة الإسلامیة لم تکن ثورة عادیة ولم تکن معتمدة علی أیّ من القطبین الشرقی أو الغربی. فهی تتّسم بمزایاها الخاصّة من هذه الناحیة ووقفت بوجه کلّ من القطبین من خلال سیرها علی صراط لا شرقیة لا غربیة ولم ترتعد من أیّ من القوی الأسطوریة، وهو ما أدّی إلی انتصارها الإعجازی. (1)

وقد استمرّ هذا الموقف وهذه المواجهة بین الثورة الإسلامیة من جهة ونظام القطبین المستولی علی العالم من جهة أخری حتّی انهیار الاتّحاد السوفیتی وانتهاء الحرب الباردة وذلک النظام؛ وعلی الخصوص فی مرحلة الحرب واعتداء العراق علی إیران،

ص:118

ولازال اللاعبون الأساسیون للنظام المذکور مستمرّین فی مواجهة الثورة الإسلامیة الفتیة داعمین العراق بکافّة إمکاناتهم السیاسیة، العسکریة والاقتصادیة.

وبعد انهیار نظام القطبیة الثنائیة وطرح نظام الحلقة الباقیة منه، وبعبارة أخری نظام القطب الواحد ما فتأت الثورة الإسلامیة محافظة علی موقفها غیر التساومی مع الأنظمة الدیکتاتوریة صنیعة القوی الکبری، وعُرفت علی أنّها أوّل «متمرّد» یأبی الخضوع لنظام القطب الواحد. ولقد لجأت الولایات المتّحدة إلی وسائل متعدّدة وبذلت جهودا حثیثة لتأدیب هذا «المتمرّد» عسی أنْ تتمکّن من تحقیق بسط سیطرتها علی المجتمع العالمی من خلال تثبیت صیغة هذا النظام الجدید. فکانت مشاریع أمثال مشروع کین کریج أو داماتو ، إستراتیجیة الاحتواء المزدوج (1)من ضمن مساعی أمریکا فی هذا الإطار.

ویبدو أنّ نظریة صراع الحضارات التی تمّ طرحها فی السنوات الأخیرة لم تکن مجرّد إعلان للفشل المبکّر لنظام القطب الواحد فحسب، بل کانت تحاول وضع غطاء علی الحقائق المتضادّة من خلال تضلیل الرأی العام العالمی والتی فضحها الإمام الخمینی رحمة الله والثورة الإسلامیة.

إنّ التضادّ بین المستبدّین، المستغلّین والمستعمرین المتنفّذین من جهة والشعوب والمجتمعات الخاضعة للظلم، الحرمان والاستغلال من جهة أخری، وبکلام فصل، التضادّ بین المستکبرین والمستضعفین یشمل أرجاء العالم قاطبة، النظریة التی رفعت رایتها الثورة الإسلامیة والإمام الخمینی رحمة الله باعتباره المُعدّ الأصلی لهذه النظریة والمحامی عن المستضعفین لیواجهوا ویثوروا علی جمیع مستبدّی العالم.

لقد سیطر الاستعماریون علی الشعوب من خلال عملائهم السیاسیین وفرضوا علیها نظاما إقتصادیا ظالما تسبّب فی تقسیم الشعوب إلی قسمین: ظالم ومظلوم. (2)

ص:119

وبتعبیر آخر، فإنّ الثورة الإسلامیة لم تؤدّ إلی انتصار الشعب الإیرانی علی نظام الشاه الجائر فحسب، بل کانت منطلقا لحرکة عالمیة لهزیمة الأنظمة العالمیة القسریة بالاعتماد علی وعی وصحوة وثورة الشعوب المحرومة والمظلومة. ونتعرّض أدناه لتوضیح إطار هذا النظام الذی حدّده الإمام الخمینی رحمة الله والثورة الإسلامیة.

إنّ الثورة الإسلامیة باعتبارها ثورة أیدیولوجیة تحمل رؤیة کونیة خاصّة بها تستمدّ جذورها من الإسلام، لم تقتصر علی أنْ تکون مجدّدة للمشاریع، البرامج والنظریات الخاصّة بالحکومة ومحوریة الدولة الإسلامیة فی بُعدها القومی فحسب، بل جاءت بأفکار ونظریات خاصّة وعرضت نظاما عالمیا وفق تلک الرؤی نظرا للشمولیة العالمیة للإسلام علی المستوی العالمی أیضا.

فالثورة الإسلامیة وککلّ الثورات وبناء علی ماهیة برامجها وأهدافها تمخّضت عن مفاهیم، ألفاظ ومصطلحات خاصّة وممیّزة تتضمّن بعضها عالما خاصّا من الفکر الأصیل. ویمکن الإشارة إلی بعض العناوین أمثال المستضعفین، المستکبری، العالم الاستکباری أو حکومة المستضعفین من جملة هذه الألفاظ والاصطلاحات.

إنّ الثورة الإسلامیة وقیادتها لم تکتفِ برفض النظریات الحاکمة فی العلاقات الدولیة والأنظمة العالمیة الحاضرة التی استمدّت من أفکار ماکیاول ، هابس و هانس مورغنتا التی تمزج الحقّ بالباطل، بل إنّها تتحرّک وفق هذه النظریة وهذا المعتقد من أنّ:

السلام والأمن العالمی یتوقّف علی استئصال المستکبرین، فما دام طلّاب السلطة المتخلّفین موجودون علی هذه الأرض، فلن ینال المستضعفون إرثهم الذی وهبهم إیاه الله تعالی.

فحکومة المعدمین حقّ. (1)

فالمستضعف بحسب الرؤیة الإسلامیة والقرآنیة هو بمعنی الذی فُرض علیه الضعف

ص:120

فعُدّ ضعیفا، ویُقسم إلی قسمین: المستضعف العاجز وغیر العارف؛ والمستضعف العارف. فالاستضعاف له معنیً أوسع من الاستغلال فی القرآن، ولم یتقیّد أبدا بهذا المفهوم حیث إنّ أیّ نوع من الظلم والتسلّط وأیّ نحو لاستغلال فکر وعمل الآخرین یمثّل شکلا من أشکال الاستضعاف. وبعبارة أخری، إنّ أیّ استغلال ظالم وبغیر حقّ لفکر، وأیّ نوع من الظلم للشخصیة، الارتقاء المعنوی والثقافی یُعدّ نوعا من الاستضعاف، هذا إضافة إلی الاستغلال الاقتصادی.

وبهذا لا تمثّل لفظة الاستکبار التی تقف فی مقابل الاستضعاف، التسلّط الاقتصادی تحدیدا، بل إنّها تشمل أیّ تسلّط یرتکز علی العصیان والطغیان فی مقابل الله، والذی یتجلّی بأبعاده السیاسیة، الاقتصادیة والثقافیة أو ببعضها فی المجتمع.

ولطالما أشار الإمام الخمینی رحمة الله منذ بدء التحرّک الإسلامی وعلی الخصوص بعد انتصار الثورة الإسلامیة فی بیاناته وکتاباته إلی النظام العالمی الذی یأمله الإسلام والثورة الإسلامیة، ویمکن تکوین فکرة عن إطار هذا النظام من خلال ما أفاده فی هذا المجال:

1. یعتقد الإمام الخمینی رحمة الله وعلی عکس المارکسیین الذین یعتقدوون بالجبریة التاریخیة والحکومة المحتومة لطبقة العمال، بأنّ العامل الوحید الذی سیُمکّن الشعوب المستضعفة من الانتصار هو الصحوة والوعی لحقوقها الحقّة والثورة علی المستکبرین.

یجب علی المستضعفین أنْ یثوروا، یجب علی المستضعفین فی کلّ البلدان والممالک انتزاع حقوقهم بضرباتهم القوّیة، ولا ینتظروا أحدا کی یعطیهم حقوقهم، فلن یُعطی المستکبرون حقّ أحد. (1)

2. إنّ الإمام فی ذات اعتقاده بضرورة إحداث وعی وثورة حقیقیة للمستضعفین

ص:121

لتحقیق حکومتهم، یری أنّ انتصارهم من الأمور الحتمیة والقطعیة، وذلک بناء علی الآیة القرآنیة الکریمة:

إیهٍ أیّتها الشعوب المستضعفة انهضوا وانتزعوا حقوقکم ولا تخشوا ضجیج الغاشمین، إنّ الله معکم والأرض إرثکم الموعود ولا یمکن لله أنْ یخلف وعده. (1)

3. إنّ الحفاظ علی الأمن، واستمرار السلام العالمی لا یرتبط بتحقیق توازن القوی وسائر الأنظمة المطروحة من قِبل المفکرین والسیاسیین الغربیین، بل إنّه ممکن فقط من خلال تدمیر وهزیمة القوی الاستکباریة.

حیث یصرّح الإمام الخمینی رحمة الله فی هذا الإطار قائلا:

یجب أنْ تشمل هذه الحرکة حرکة المستضعفین فی مواجهة مستکبرین العالم، کلّ العالم. إنّ إیران هی المنطلق والبؤرة الأولی والنموذج لجمیع الشعوب المستضعفة. فعلی المسلمین فی جمیع أرجاء العالم أنْ ینهضوا، بل علی المستضعفین أنْ ینهضوا. فالوعد الإلهی یعمّ المستضعفین أیضا، حیث یقول: ونرید أنْ نمنّ علی الذین استُضعفوا فی الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثین. الإمامة هی حقّ للمستضعفین والوراثة للمستضعفین. المستکبرون غاصبون. ویجب علیهم أنْ یرحلوا. (2)

4. إنّ مصطلح المستضعفین لا یقتصر علی المسلمین وشعوب العالم الثالث، بل یشمل عامّة من یُمارس بحقّه الظلم ویتحکّم به الاستکبار فی أرجاء العالم، حتّی أوائک الذین یعیشون ضمن حدود حکومة الدول المستکبرة الشرقیة والغربیة. ومن هنا، فإنّ أیّ من العوامل الجغرافیة، الثقافیة وتصنیفات الدولة - الشعب لا یمکنها أنْ تکشف عن الحدّ المائز بین المستضعفین والمستکبرین. وعلی هذا فإنّ نظریة صراع الحضارات أو صراع الثقافات أو حتّی التصنیف القطبی العالمی لم تکن سوی استمرارا لسیطرة

ص:122

المستکبرین، أو المنافسة والاختلاف بین المستکبرین لتقاسم الغنائم، الاستغلال واستضعاف المجتمعات والشعوب المختلفة.

علیکم أنْ تعلموا أنّ الشعوب [العالم] حتّی تلک التی لیست إلهیة، کلّها تعتبر من ضمن مستضعفی العالم والتی کانت علی الدوام تحت سیطرة المستکبرین. (1) فکلّ من القوّتین العظمیین، رکّزت جهودها علی تدمیر الشعوب المستضعفة، فیجب علینا دعم مستضعفی العالم، والإسلام لا یفرّق بین البلدان المسلمة وغیر المسلمة وهو یدعم جمیع مستضعفی العالم. (2)

5. إنّ هذا النظام وعلی خلاف الأنظمة السابقة التی قامت علی النظریات العلمانیة ومادّیة الإنسان والتی کانت تروّج للتلذّذیة، الترف والاستهلاک باعتبارها حیاة سعیدة، قام علی أساس العودة إلی الدین وحاکمیة الله وربط الحیاة السعیدة فی زیادة الالتزام بالتقوی، النظام الأخلاقی والمعتقدات المعنویة والإلهیة، ورفض بقوّة الأهواء والنزوات وجمع الثروات التی تمثّل دیدن المستکبرین.

6. لقد استطاع المسلمون علی العموم والشعب الإیرانی المسلم علی الخصوص ولأوّل مرّة التغلّب علی الاستکبار، وذلک ببرکة الاعتماد علی مذهب یهب الحیاة ویصنع الإنسان، ألَا وهو الإسلام، ویتولّوا دور هدایة وقیادة هذه الانتفاضة العالمیة العارمة. وبعبارة أخری، إنّ انتشار وتصدیر الثورة الإسلامیة هو بمثابة سعی فی سیاق المواجهة العالمیة مع الاستکبار ودعم المستضعفین.

إنْ شاء الله ستضطرّ القوی الشیطانیة إلی الإنزواء مع انتشار الثورة الإسلامیة الإیرانیة، وتمهّد حکومة المستضعفین الأرضیة للحکومة العالمیة للمهدی الموعود عحل الله تعالی فرجه الشریف فی آخر الزمان. (3)

ص:123

إنّ ما نفهمه من مقالات ونظریات هنتیغتون ، برجنسکی أو الآخرین هو استمرار القوی الاستکباریة بعملیة التنظیر والتخطیط لتأمین استمرار سیطرتها علی العالم. وتُظهر نظریاتهم فی ذات الوقت عظم القلق من الصحوة المتنامیة لشعوب العالم المستضعفة، اتّحادها وتعاونها إلی أقصی حدّ بغضّ النظر عن أیّ اختلافات ثقافیة، عِرقیة ودینیة ومواجهتها للدول المتسلّطة والاستکباریة - بتأثیر من الثورة الإسلامیة بالطبع -.

علی الرغم من حقیقة أنّ أمریکا اللاتینیة تمثّل جزءا من منظومة الثقافة الغربیة. فبسبب اختلافها ومعارضتها للغرب من زاویة التسلّط والاستیلاء لم یضع هنتیغتون هذین المجتمعین فی مجموعة وجبهة واحدة. وهو فی ذات الوقت یضع الحضارتین الإسلامیة والکونفوشیوسیة اللتین تشترکان فی وجوه ثقافیة نادرة، فی جبهة وخندق واحد! مع أنّ وجه الاشتراک الوحید بین هذین المجتمعین الثقافیین المختلفین، هو الذکریات المریرة لعهود الاستعمار الغربی التی لا زالت تلاحظ آثار هذه الحالة من التسلّط.

فی مواجهة مباشرة مع العالم الإسلامی من خلال اتّباعها استراتیجیة عسکریة القصد منها تقویة وترسیخ سیطرتها العالمیة. وربّما لم یکن من الصدفة أنْ یعلن الرئیس الأمریکی جورج بوش بعد هذه الواقعة مباشرة بأنّنا دخلنا فی حرب صلیبیة أخری؛ أو أنْ تری السیدة کاندالیزا رایس من أنّ جوهر الإرهاب یتمثّل بالعملیات الانتحاریة. إنّ الولایات المتحدة ومن خلال اتّباعها سیاسة الحرب الاستباقیة تقرّ فی الحقیقة وتعترف بمسألة مهمّة من آثار وتداعیات الثورة الإسلامیة علی النظام الدولی، وهی أنّ ثمّة قوّة باسم العالم الإسلامی فی طور التبلور.

حیث تُشکّل هذه القوّة خطرا حقیقیا بالقوّة - وربّما یمکن القول بالفعل - علی التسلّط الغربی وعلی الخصوص الأمریکی علی النظام العالمی، وأنّ العالم الإسلامی بما یمثّله من قوّة، ذو حقیقة معقّدة تختلف عن التعریفات الشائعة فی العلاقات الدولیة والدراسات الإقلیمیة السابقة.

فإذا کانت القوّة الإقلیمیة قد تبلورت وعُرّفت فی السابق فی إطار الدولة - الشعب، الکانتونات والمعاهدات العسکریة، فإنّه لا یمکن تعریف العالم الإسلامیة فی هذا الشکل. بمعنی أنّ تبلور هذه القوّة لم یتمّ علی أساس الاتّحاد بین الدول الإسلامیة، ولم تنتظم عملیة توافق دول المنطقة علی أساس هذه القوّة، بل إنّ الانتفاضة والصحوة الشاملة والشعبیة وتکوّن الحرکات الإسلامیة ذاتیا، أظهر قوّة العالم الإسلامیة بأشکال أخری من القوّة، وواجهت دول العالم الإسلامیة اهتزازا لمرتکزاتها سواء الداخلیة منها أو الخارجیة.

فلم یؤدّ الاستنتاج الأمریکی الخاطئ بغزوه افغانستان والعراق الذی أدّی إلی إسقاط الأنظمة غیر الشعبیة لهذین البلدین إلی إضعاف الحرکات الإسلامیة والشعبیة، بل وعلی العکس من ذلک فقد عملت الولایات المتحدة علی إزالت

ص:125

موانع تنامی هذه الحرکات بیدیها، وأدّت إلی تقویة المجموعات الفکریة، السیاسیة والاجتماعیة الإسلامیة. وبتوضیح آخر، لقد هیّأت وسارعت أمریکا بنفسها أرضیة هزیمتها من خلال تنفیذها إستراتیجیتها فی مواجهة العالم الإسلامی، وها هی الآن عالقة فی المستنقعات التی أحدثتها.

ومن جهة أخری لم تستطع أمریکا کما تکهّن به کانت والتز أو هنتیغتون کسب وحدة وتوافق العالم الغربی لمواجهة هذا الخطر الجدید من خلال اختلاق عدوّ خارجی. وإنْ کان الأوربیون قد اقتفوا أثر أمریکا فی غزوها لأفغانستان فی بدایة هذه الأزمة، لکنّهم اتّبعوا سیاسة معارِضة بالکامل فی خصوص العراق، ممّا اضطرّ أمریکا إلی تحمّل العبء الأکبر لهذه الحرب واتّباعها سیاسة منفردة خارج نطاق الأمم المتّحدة ومجلس الأمن. وکانت أمریکا تعتقد بأنّ غزو أفغانستان والعراق یمثّل انطلاقة الدخول إلی العالم الإسلامی وتغییر جغرافیة المنطقة وإلحاق الهزیمة بهذه القوّة من خلال تنفیذها مشروع السیاسة الاستباقیة، ولکن نظرا لعلوقها بالوحل الأفغانی والعراقی والخیبة التی واجهتها، فقد واجهت مشاکل جسیمة فی متابعة سیاستها فی سائر البلدان الإسلامیة والاستمرار فیها. ومن جهة أخری، فإنّ الکراهة المتزایدة التی أظهرها المسلمون تّجاه أمریکا والدائرین فی فلکها من دول المنطقة یبیّن بوضوح وعورة طریق سیاستها تلک.

ومن خلال تقییم عامّ لمجموع السیاسات الأمریکیة والأزمات التی نشأت من استمرارها بهذه السیاسة، یمکن القول وبجرأة أنّ الولایات المتّحدة فشلت وواجهت مشاکل جسیمة فی جمیع المجالات.

فالسیاسة العسکریتاریة والقبضة الحدیدة فی مواجهة ما یسمّی بالإرهاب واجهت فشلا ذریعا، ولم تقتصر علی عدم تمکّنها من إعادة وحدة العالم الغربی فی هذا الإطار فحسب، بل أوجدت شرخا واسعا بین أوربا وأمریکا؛ إلی درجة أنّ

ص:126

مراجعة الاستطلاع الأخیر الذی أجری فی أوربا یشیر إلی أنّ أکثر الأوربیین لا یرون أنّها لیست صدیقا، وداعما لهم کما حدث فی الحرب العالمیة الأولی والثانیة فحسب، بل إنّهم یرونها تشکّل خطرا حقیقیا علی السلام والأمن العالمی. وتمثّل الزیارة الأخیرة للرئیس الأمریکی جورج بوش لبریطانیا والمظاهرات الضخمة التی خرجت ضدّه شاهدا علی ذلک.

ومن جهة أخری، فإنّ هذه السیاسة لم تستطع إیجاد علاج ناجع للمشاکل الاقتصادیة الکبیرة فی داخل الولایات المتّحدة الأمریکیة، الأمر الذی أدّی إلی ازدیاد السخط الشعبی أیضا بنحو انخفضت فیه نسبة المؤیّدین لغزو أمریکا للعراق من 80% إلی أقلّ من 50%.

المستضعفین باعتباره قوّة عظمی لتبدأ الحرب الأخیرة لمستضعفی العالم مع مستکبریه، ویتجسّد علی أرض الواقع الوعد الإلهی ألَا وهو حکومة المستضعفین، وتتحقّق نبوءة أرنولد توینبی .

لنعمّم فی نهایة المطاف النتائج المکتسبة من هذه الدراسات بنسبة مؤیّة قابلة للرکون إلیها تشمل العالم الإسلامی قاطبة. فسنتطرّق علی هذا الأساس إلی الآثار الخارجیة للثورة الإسلامیة علی العالم الإسلامی فی ثلاثة فصول وفی ثلاث مناطق جغرافیة متباینة لنقوم ببحثها ودراستها، والتی هی عبارة عن:

1. منطقة الخلیج الفارسی وبحر عُمان؛

2. منطقة بلاد الشام؛

3. منطقة شمال أفریقیا.

ص:129

ص:130

30,7 تریلیون متر مکعّب. (1) الأمر الذی جعل من نفط وغاز هذه المنطقة من العوامل الجیوسیاسیة المهمّة للمنطقة، هذا إذا ما علمنا عدم تمکّن أیّ طاقة أخری أنْ تکون بدیلا عن النفط والغاز الذی تستورده الدول الصناعیة أو الدول الأخری. وقد زادت هذه المسألة أیْ عدم وجود بدیل آخر للنفط أهمّیة لهذا المصدر من الطاقة، ممّا أدّی فی النتیجة إلی زیادة أهمّیة هذه المنطقة. فهذه المنطقة التی یقدّر عدد سکّانها بمئة ملیون نسمة وبثروتها الواسعة ولکن بصناعتها وزراعتها الضعیفة وتقنیتها الهزیلة، تمثّل سوقا مثالیا لاستهلاک سلع الدول الصناعیة، والذی أدّی ومنذ زمن بعید إلی تنافس القوی الاقتصادیة علی السیطرة علی هذا السوق أو استقطابها.

ولأجل کلّ هذا، فالخلیج الفارسی لا یلعب - بعنوانه الأوّلی - دور الطریق الرئیس بین الشرق والغرب وسوقا مثالیة لاستهلاک سلع العالم الصناعی فحسب، بل إنّ العامل الجیوسیاسی للنفط وموقعه الإستراتیجی عسکریا جعل له أهمّیة فی هذا المضمار، وهو ما جعل الدل الکبری تسعی علی الدوام للسیطرة وإیجاد موطئ قدم لها فی هذه المنطقة لضمان استمرار تدفّق النفط علیها.

وقد حدثت فی إیران التی تطلّ علی شمال الخلیج الفارسی الثورة الإسلامیة التی أدّت إلی استبدال النظام الملکی بالنظام الجمهوری الإسلامی، وإلی تغییر اتّجاه العلاقة مع أمریکا من حالة الصداقة إلی حالة العداء. وقد حدث هذا فی ظروف کانت فیه عامّة بلدان المنطقة عدا العراق تحکمها أنظمة ملکیة وتخضع للنفوذ الأمریکی والبریطانی ودعمهما. إنّ هذه الثورة وبمزایاها الفریدة نحو: النفور من کلتا القوّتین العظمیین المتعارضتین فی الظاهر، الحضور الکثیف غیر المسبوق للشعب فی المجالات المتعدّدة، الإلهام الدینی، تمتّعت بقدرة استقطاب أنصار کثر من بین شعوب بلدان المنطقة.

ص:132

إنّ هذه الظاهرة الجدیدة التی عُرفت بأسماء متعدّدة من قبیل: الأصولیة الإسلامیة، الصحوة الإسلامیة، النهضة الإسلامیة وأمثالها، تمثّل حرکة قائمة علی العودة إلی الذات وقیمها الدینیة والتشدید علی هویتها الإسلامیة المنسیة. فالظاهرة الإسلامیة تمثّل فی الحقیقة سعیا باتّجاه جعل جمیع جوانب الحیاة الیومیة نظیر السیاسة، الاقتصاد، القانون والآداب الاجتماعیة تدور حول محور التعالیم الإسلامیة. وترتکز هذه الظاهرة أیضا علی انفلات العالم الإسلامی من الجوانب التی تحاکی الأجنبی وتقلّده وعلی الخصوص الثقافة الغربیة. فهذه المواجهة تمثّل ظاهرة انتشرت وبأشکال مختلفة فی جمیع الأرجاء.

فمن مجموع 5،1 ملیار مسلم فی العالم، یبلغ عدد الشیعة 11% منه، حیث یعیش أغلبهم فی منطقة الخلیج الفارسی. فهم یشکّلون الأغلبیة فی البحرین بنسبة تبلغ 70% ، و60% فی العراق و90% فی إیران، ویمثّلون الأقلّیة فی الکویت بنسبة تبلغ 20%، و20% فی قطر، و15% فی الإمارات، وفی حدود 10% فی کلّ من عُمان والسعودیة، وقد تنامت نشاطات الشیعة فی بلدانهم إثر قیام الثورة فی إیران وبضمنها هذه البلدان.

حیث تزاید الإحساس بأجنبیة المجتمع الشیعی فی البحرین (بالنسبة إلی الحکومة) بسبب الأصل الإیرانی لبعض مکوّناته، وهذا ما جعل وجود نوع من الإحساس علی الدوام بوقوفهم إلی جانب إیران. فمن خلال هذه السابقة، ظهرت الأصولیة الشیعیة عقب الثورة الإیرانیة کحرکة مقتدرة. وکان التمرّد الشیعی فی السعودیة یستلهم أیضا وبشکل مباشر الثورة الإیرانیة. فنشاطات الشیعة بمجموعها فی جمیع دول المنطقة أمثال الکویت، لبنان، العراق و... وقعت تحت تأثیر انتصار الثورة فی إیران.

إذ ثمّة أسباب وعوامل مهمّة جدّا جعلت من الثورة الإیرانیة محطّا لآمالهم ولافتة لأسوتهم لیتعاطفوا مع إیران. إنّ الشیعة سواء کانوا فی البلدان التی یشکّلون فیها أغلبیة أم فی تلک التی یکوّنون فیها أقلّیة، فإنّهم یعیشون تحت سلطة أهل السنّة وبعض الحکومات اللادینیة. ومن جهة أخری، فإنّهم بنحو عام یُبدون تذمّرهم وسخطهم من

ص:133

الأوضاع الاقتصادیة، السیاسیة والتمییز الذی تمارسه الدول الحاکمة ضدّهم.

حیث إنّ شیعة السعودیة، لبنان والعراق یمثّلون نماذج بارزة للطبقات المحرومة والمنسیة للمجتمع. فمثل هذه المحرومیة وبالترافق مع العناصر الثوریة القوّیة التی تتضمّنها الأیدیولوجیة الشیعیة - التی ترعرعت فی أحضان الثورة وأثبتت قوّتها - تُعطی القابلیة للشیعة أکثر من السنّة علی التمرّد والثورة علی الواقع القائم.

فالشیعة فی الحقیقة هم أقوی عقیدة من السنّة فی اعتبار حکوماتهم غیر مشروعة. إذ إنّ الشیعة فی الأساس یمثّلون حرکة اعتراضیة؛ وهذا هو السبب الذی دعی علماء وقادة الشیعة علی عدم الخضوع للحکومات وممالأتها أبدا.

یصرّح البروفسور آروییلیو تاکر ، وهو أحد خبراء وزارة الخارجیة الأمریکیة، وذلک فی خصوص الأهمّیة الإستراتیجیة للخلیج الفارسی وتأثیر الثورة الإسلامیة علی هذه المنطقة:

لقد انتقلت الیوم ومن خلال قیام الثورة فی إیران بؤرة التهدید المحتمل للمصالح الأمنیة من أوربا إلی منطقة الخلیج الفارسی. فالمصالح الغربیة تتعرّض الیوم إلی هجوم ومواجهة من قِبل ثلاثة مصادر أساسیة:

1. دول المنطقة التی ترفض استنزاف الغرب لمواردها عن طریق اللجوء إلی قدراتها وتعمل علی إفشال أیْ مساع وضغوط لتحقیق هذه الاستنزاف.

2. الغزو من قِبل الاتّحاد السوفیتی.

3. الإعلان عن ولادة قوّة هاضمة تمثّل حرکة ثوریة فی النظام الدولی. (1)

الأمر الذی لا یمکن التکتّم علیه هو أنّ انتصار الثورة الإسلامیة فی العقد السابع من القرن العشرین وظهور الحرکات الإسلامیة قد ألقی الرعب فی قلوب حکّام الجزیرة العربیة حیث یخشون من ارتباط مصیرهم بمصیر الشاه المقبور نظرا للماهیة والطبیعة المشترکة بین أنظمتهم والنظام البهلوی.

ص:134

فلیس من کابوس أشأم للسعودیین من کابوس «الثورة الإسلامیة الإیرانیة» وهو ما جعلهم مستعدّین بأیّ طریقة کانت الحیلولة دون تحقّق هذا الکابوس وإنْ تطلّب الأمر تسدید أیّ تکالیف کانت. ففی عام 1979 وبانتصار الثورة الإسلامیة فی إیران تحوّل هذا الکابوس السعودی إلی حقیقة علی أرض الواقع. وکان العقد الثامن من القرن الماضی یمثّل ذروة الحرب الباردة بین السعودیة وإیران الذی شکّل الإسلام عاملها الأساسی. فالإیرانیون یسعون بجدّ لتصدیر الثورة إلی جمیع أنحاء العالم من خلال تعبئة جمیع طاقاتها. وحسر السعودیون عن سواعدهم لاحتواء تصدیر الثورة الإیرانیة فی المقابل. (1)

وعلی الرغم من أنّ أمریکا ولأجل تهدئة خواطرها والعبور من کابوس الرعب عملت علی طمأنتها من خلال استغلال أیّ فرصة فی هذا الإطار، وعلی الرغم من لجوئها إلی تخزین الأسلحة الحدیثة والمهولة، لکنّها لم تفرّط بالفرص السانحة فسعت للاستفادة من جمیع الحلول السیاسیة والسلمیة لمواجهة تصدیر الثورة الإسلامیة الإیرانیة والوصول إلی مبتغاها بالاسالیب الدبلوماسیة.

إنّ الثورة الإسلامیة وبخصائصها الممیّزة - إسلامیتها وشعبیتها تحدیدا - مثّلت نموذجا لشعوب البلدان الإسلامیة. فقد شغل الخوف والرعب من قیام ثورة مشابهة للثورة الإسلامیة الإیرانیة فی البلدان المجاورة وغیر المجاورة لإیران أذهان وأقلق بال القادة ومسؤولی هذه البلدان الذین لیس لدیهم اعتقاد والتزام جادّ وحقیقی بالإسلام، ولم یراعوا حقوق شعوبهم، والعدالة الاجتماعیة معها.

إنّ مسألة تصدیر الثورة الإسلامیة التی أطلقها قائد الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة زادت من خوف بلدان المنطقة ودعت قادة هذه البلدان إلی اتّخاذ موقف تّجاه

ص:135

الجمهوریة الإسلامیة بسبب قلقهم من فقد حکوماتهم للأمن والاستمرار، وبالإضافة إلی عثورهم علی عدوّ مشترک فقد ساهمت هذه المسألة فی المقاربة فی ما بینهم. (1)

ومع أنّ السیاسة الخارجیة للجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة کانت قائمة علی تصدیر الثورة وتبلیغ نوع من الثوریة الدولیة فی السنوات التی أعقبت الثورة، فإنّ الآلیة التی استُخدمت للانتشار والنفوذ کانت تتمثّل بالتبلیغ والدعم المالی والمعنوی. علی أیّ حال، فإنّ إیران باعتبارها رمزا للحکومة الإسلامیة کان لها جاذبیة کبیرة لدی النشطاء والمناضلین الإسلامیین. فإنّ رغبة وترحیب الحرکات والمجامیع المذهبیة (سنّیة وشیعیة) ونشاطاتها وتحرّکاتها الکثیفة کانت بمثابة سبب لردّة فعل الدول والأنظمة المحافظة واللادینیة فی المنطقة.

حیث إنّ تمرّد وثورة المجامیع الحرکیة الدینیة وعلی الخصوص فی الدول المجاورة لإیران یمثّل تهدیدا حقیقیا لثبات هذه البلدان، والذی انتهی إلی فعل صدامی لبلدان المنطقة وبضمنه الردّ الفجیع للعراق. (2)

فقد وضعت البلدان العربیة جنوب الخلیج الفارسی منذ بدایة اعتداء العراق وفی سیاق الإستراتیجیة الأمریکیة لمواجهة الثورة الإسلامیة الإیرانیة القائمة علی محاصرة الثورة الإسلامیة والحیلولة دون تنامیها فی المنطقة، وضعت مساعدات قیّمة جدّا تحت تصرّف العراق.ولم تعر هذه البلدان کذلک اهتماما للطلب الإیرانی القائم علی المحافظة علی العلاقات الحسنة مع الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة وفصلها عن مسألة الحرب، وجعلوا من أنفسهم عملیا طرفا فی النزاع. ویؤکّد آخر الکتب البحثیة الصادرة فی الغرب فی خصوص الحرب المفروضة علی أنّ أغلب دول مجلس التعاون الخلیجی کانت علی اطّلاع علی نیة صدام للابتداء بالحرب وقاموا بطمأنته فی

ص:136

خصوص تقدیمهم المساعدات المالیة والعسکریة والدعم السیاسی له. ویکتب أنتونی کردزمن مؤلّف کتاب دروس من الحروب الحدیثة فی هذا السیاق:

تدلّ الأخبار الموثّقة علی موافقة الکویت، البحرین، قطر والسعودیة وذلک قبل یومین من بدء الهجوم العراقی علی إیران علی مساعدة العراق مالیا. ولیس هناک أدنی شکّ فی أنّ صدام حسین کان قد أطلع جمع من قادة دول الخلیج الفارسی وذلک فی شهری تموز وآب علی مشروع الهجوم علی إیران، لکن ما لیس هو واضح، هو هل أنّ العراق قد أخذ منهم صکّا أبیض أم لا؟ لقد اعترف جمع من الضبّاط الکبار فی دول الخلیج الفارسی علی أنّ صدام کان قد شاور قادة هذه الدول فی أیار 1980 فی خصوص الهجوم علی إیران. وقد أیّدت المصادر السعودیة العلیا فی أوائل عام 1984 إخبار صدام حسین المسؤولین السعودیین فی زیارته للسعودیة فی بدایة آب من عام 1980 بمشروع الهجوم علی إیران. (1)

وقالت الصحیفة الکویتیة «عرب تایمز» فی افتتاحیة شدیدة اللهجة موجهة لإیران فی 22/ 9/ 1980:

یجب علی إیران أنْ تعرف جیّدا أنّ لا خیار لبلدان الخلیج الفارسی سوی الوقوف إلی جانب العراق، لأنّها ناقمة علی الفوضی التی جلبتها إیران إلی المنطقة. (2)

إنّ وقوع الحرب العراقیة الإیرانیة فی أیلول عام 1980 أعطی هذه الدول فرصة لدراسة اتّخاذ مواقف منسجمة. هذا بالإضافة إلی أنّ توحید جهود الدول الأصغر فی المنطقة قد أُولی مرّة أخری عنایة قائقة نظرا للسیاسة الأمریکیة الجدیدة فی المنطقة القائمة علی إیجاد (حزام أمنی). ففی هذا السیاق وبعد انعقاد المؤتمر الثالث لقادة الدول الإسلامیة فی الطائف فی شباط 1980، عقد قادة دول الخلیج الفارسی الست مؤتمرا غیر رسمی علی هامش المؤتمر، حیث تمثّل جدول أعماله بدراسة مسألة التعاون بین البلدان المنطقة.

ص:137

وأدّت الخطوات والمباحثات إلی تأسیس مجلس باسم مجلس التعاون الخلیجی فی 22/ 3/ 1980. المسألة المهمة والملفتة هی زمن تأسیس هذا المجلس. فحینما أدرکت أمریکا عدم قدرتها علی شنّ هجوم عسکری مباشر وناجح علی إیران، وعندما لم یتمکّن الهجوم العسکری العراقی علی إیران من إسقاط النظام الإسلامی؛ فإنّ فشل کلّ من هذین المجهودین، یُنبئ عن القدرة العسکریة والأیدیولوجیة للجمهوریة الإسلامیة، وأنّ البلدان المطلّة علی جنوب الخلیج الفارسی کانت تبحث عن نقطة ارتکاز تحافظ علی حکوماتها من الثورات الداخلیة المحتملة. ونظرا لطلب أمریکا من أجل تفعیل سیاسة الحزام الأمنی، کان هذا البلد یمثّل الداعم الأکثر استعدادا والأکثر ملائمة، إلّا أنّ اللجوء العلنی والواسع إلی هذه القوّة یمکن أنْ یشکّل سببا وداعیا للتشجیع علی ثورات شعوب المنطقة وتسریعها. فکان بإمکان دول مجلس التعاون الخلیجی ومن خلال التنسیق فی السیاسة الخارجیة لأعضائها التقلیل من خطورة هذه المسألة وقمع الثورات الداخلیة بشکل أقوی. (1)

لقد اعتبر هذا المجلس ومنذ البدایة أنّ الجمهوریة الإسلامیة تشکّل تهدیدا أساسیا للوضع القائم فی المنطقة، وألقوا مسؤولیة الحرکات الإسلامیة الشیعیة فی بلدان الخلیج الفارسی علی عاتقها. (2) ففی 20 کانون الأوّل 1981 وقّعت کلّ من السعودیة والبحرین معاهدة أمنیة وتأسس عقب ذلک (درع الجزیرة) فی السعودیة والذی هو بمثابة الذراع العسکری لمجلس التعاون. (3) فکانت البلدان تتوجّس من إیران طوال عقد الثمانینات لأجل خطابها الأیدیولوجی بتصدیر الثورة. فقد مهّد هذا الأمر أسباب العداء والقلق فی عموم الدول العربیة وعلی الخصوص العراق، السعودیة، الکویت، مصر

ص:138

والأردن. وأدّت ردود أفعال هذه الدول إلی سوء علاقاتها السیاسیة مع إیران أو تجمیدها، وإقدامها علی بعض الخطوات الانتقامیة. فقد فرض العراق الحرب علی إیران. وقامت السعودیة مع الکویت وباقی بلدان الخلیج القارسی بمساعدة العراق بخمسین ملیار دولار. وعملت الدول العربیة المصدّرة للنفط فی الخلیج الفارسی علی إضعاف مکانة إیران فی الأوبک، وألحقت الضرر بالاقتصاد الإیرانی من خلال الاحتکار فی إنتاج نفط الأوبک وتحدید أسعار زهیدة له.

ومع کلّ هذا، وفی وقت کان أمراء الخلیج یعیشون الخوف من انتشار الثورة الإسلامیة ویقفون إلی جانب العراق ضدّ إیران طوال حرب الثمانی سنوات، لم یدرکوا التهدید الحقیقی والآنی الذی یمثّله النظام العراقی الذی کانوا دعموه وشجعوه للوقوف بوجه إیران بمساعداتهم، وذلک عقب هجوم العراق علی الکویت. فقاموا بتغییر اتّجاه بوصلتهم 180 درجة، ومدّوا ید الصداقة والتعاون باتّجاه طهران. (1) وعلی الرغم من شکوی إیران ممّا مضی، فقد سعت إلی ترمیم علاقاتها مع البحرین، الإمارات العربیة المتّحدة، قطر والسعودیة التی کانت قد تضعضعت إثر دعمهم العراق فی حرب السنوات الثمان.

یقول المحلّل السیاسی فی مرکز الدراسات الإستراتیجیة فی جنیف شهرام جوبین فی تأییده لهذه المسألة:

لقد مهّدت أزمة الخلیج الفارسی (هجوم العراق علی الکویت) الطریق لدول الخلیج الفارسی التی کانت تعتبر إیران خطرا یهدّدها إلی ما قبل الحرب العراقیة الإیرانیة، فاصطفّت مع العراق لمواجهة هذا الخطر، لاعتبار العراق هو الخطر الأساسی لهم حالیا وأنّ إیران تمثّل الکفة التی تقف فی مواجهة العراق. (2)

ص:139

لقد کان مدی تغییر الثورة الإسلامیة الإیرانیة للوجه العامّ للشرق الأوسط بدرجة دعت الولایات المتّحدة إلی استخدام کافّة الوسائل المتوفّرة لدیها - أعمّ من مناصریها الغربیین والإقلیمیین - لعزل إیران.

حیث یری الرئیس الأمریکی الأسبق نیکسون أنّ أکبر تهدید لمصالح الولایات المتّحدة الأمریکیة والغرب فی المنطقة یأتی من جهة إیران. ویضیف أنّ إیران تمتلک أکبر الإمکانات للسیطرة علی المنطقة. فهی بعدد سکّانها المقدّر بستین ملیون نسمة وباحتیاطاتها المقدّرة ب- 10% من نفط المنطقة، وبُناها التحتیة المتطوّرة، وقدرتها العسکریة والاقتصادیة تتفوّق قوّة علی باقی دول المنطقة. إنّ الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة هی البلد الوحید فی المنطقة والعالم الذی عارض ما یُصطلح علیه بسلام الشرق الأوسط بین العرب وإسرائیل. وقد مثّلت طهران مرکزا دولیا لمباحثات قادة المنطقة ودول العالم المختلفة عند هجوم العراق علی الکویت فی الثانی من آب 1991؛ الأمر الذی یشیر إلی الدور المهمّ الذی تلعبه الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة علی مستوی المنطقة والعالم. فما من یوم إلّا وکانت أخبار منطقة الشرق الأوسط الحسّاسة تتصدّر صفحات وکالات الأنباء العالمیة منذ انتصار الثورة الإسلامیة وحتّی الیوم.

وبعد هذا التحلیل العامّ لتداعیات الثورة الإسلامیة فی الدول العربییة المطلّة علی الخلیج الفارسی، سنحاول فیما یأتی التعرّض إجمالا وبشکل أخص لدراسة آثار الثورة علی کلّ من هذه البلدان.

دول الجوار، حیث یبلغ طولها 1180 کیلومترا. والعراق هو البلد العربی الوحید الذی لدیه حدود أرضیة مع إیران.

وتتألّف نفوس العراق قومیا بشکل رئیس من العرب، الأکراد، الإیرانیین، الآشوریین، الأرمن، الترکمان والترک. حیث یشکّل العرب الذین ینحدرون من العِرق السامی (کالیهود والآشوریین) 70% من عدد سکّانه، أغلبهم من الشیعة. ویسکن الأکراد الذین ینحدرون من العِرق الآری والذین حافظوا علی مدی التاریخ علی تقالیدهم، آدابهم، ثقافتهم ولغتهم فی المنطقة الجبلیة شمال العراق ویشکّلون ما یقارب 18% من نفوس العراق، حیث إنّ أکثرهم من السنّة الشافعیة مع وجود مجموعة من الشیعة. وغالبا ما یعیش الترکمان فی کرکوک والموصل. أمّا الآشوریین، الحکوانیون والأرمن الذین یشکّلون الأقلّیة المسیحیة لهذا البلد، فتبلغ نفوسهم 5% من سکّان العراق، وهم یترکّزون بشکل عامّ فی الشمال. ویسکن الیهود فی الغالب فی المدن وعلی الخصوص بغداد. وقد نزح الیهود بشکل جماعی إلی إسرائیل بعد حرب 1948 - 1949 بین العرب والیهود وبلغ عددهم فی إحصاء 1975 أقلّ من خمسة آلاف نسمة.

ویسکن الشیعة العرب والإیرانیون بشکل رئیس فی جنوب العراق. وأدّی وجود المدن الشیعیة المقدّسة أمثال کربلاء، النجف، سامراء والکاظمیة فی العراق إلی هجرة العدید من الإیرانیین إلی هذا البلد والاستیطان فی ضواحی المدن المقدّسة خلال عدّة قرون. ومع أنّ الإیرانیین یشکّلون أقلّیة صغیرة إلّا أنّهم کأکراد العراق حافظوا علی ثقافتهم وآدابهم وتقالیدهم. إنّ أرض العراق کان لها ومنذ ألفی عام تاریخ مشترک مع إیران قبل الإسلام وبعده، وأنّ أکثر نفوسه وکما الإیرانیین هم من الشیعة. هذا إضافة إلی أنّ وجود مراقد أئمّة الشیعة فی هذا البلد کان یمثّل قوّة استقطابیة للإیرانیین الشیعة.

وکانت تربط العراق بإیران علاقات صداقة أثناء الحکم الملکی فی العراق وذلک إلی ما قبل انقلاب عبد الکریم قاسم فی عام 1958، حیث کان الاثنان عضوین فی

ص:141

حلف بغداد. وتمیّزت علاقات البلدین بالتوتّر والصراع فی عهد الحکومة البعثیة حتّی عقد معاهدة عام 1975.

حیث تحسّنت علاقات الدولتین إلی حدّ ما بعد عام 1975 وحتّی انتصار الثورة. ولم یکن تحسّن العلاقات بین إیران والعراق فی تلک المرحلة بسبب الودّیة والتاریخ المشترک، بل کان بسبب المصالح المشترکة للطرفین. وکانت مسألة القرن الأفریقی ومنظّمة الأوبک من ضمن المسائل التی تشترک فیها آراء الدولتین.

لقد تذرّع حزب البعث ولأجل قمع الشیعة فی العراق قبل عقد معاهدة 1975 فی الجزائر بارتباطهم بدولة إیران. فکان یحاکم الشیعة المعارضین فی هذه المرحلة بشکل سرّی ویعدمهم بتهمة الارتباط بدولة إیران. وکان ینسب إلیهم أیضا بعض أعمال التخریب. فکان خلاف النظام الإیرانی والبعث العراقی بمثابة ذریعة لهذه الدولة لإدانة المعارضین تحت مسمّی التجسّس لمصلحة إیران.

وبعد توقیع معاهدة 1975 وعلی الرغم من تحسّن العلاقات بین الدولتین، إلّا إنّها لم تترک أیّ تأثیر علی وضع الشیعة أو علمائهم الذین کانوا علی الدوام یتعرّضون للضغوط، وبقیت مراقبتهم علی حالها؛ إلی الدرجة التی کان یقف فیها النظامین فی جبهة واحدة للتضییق علی العلماء فی بعض الحالات.

ویمکن الإشارة إلی أهمّ تلک الحالات، وذلک فی خصوص الإمام الخمینی رحمة الله بعد نفیه إلی العراق. فقد کان یخضع للمراقبة علی الدوام حیث کان وکلاء المخابرات العراقیة یراقبون تحرّکاته بدقّة متناهیة ویحولون دون إقامته علاقات عادیة ومباشرة مع شیعة العراق والعالم، وکانوا یضعون العراقیل فی وجهه ویضیّقون علیه.

وحینما اکتشفت الحکومة العراقیة عدم وجود أیّ طریق للوصول إلی تفاهم مع الإمام أو تقیید تحرّکاته بشکل کامل، قرّرت إخراج الإمام رحمة الله من العراق بتاریخ 2/ 10/ 1978 فتوجّه صوب الکویت، لکنّ الکویت منعت دخوله الأراضی

ص:142

الکویتیة. فرحل من العراق باتّجاه باریس وتولّی قیادة کفاح الشعب الإیرانی ضد نظام الشاه بجدّ وحزم لا یوصف. (1)

العراقیة الجدید. وردّا علی طلب الدکتور یزدی فی عودة العلاقات الطبیعیة، أجاب صدام بأنّهم یرغبون أیضا بوجود علاقات طبیعیة مباشرة، بشرط إعادة إیران الجزر الثلاث (طنب الکبری وطنب الصغری وأبوموسی) وإعادة الجزء الذی استولت علیه من شطّ العرب بموجب معاهدة 1975 إلی حالته الأولی وضمان الحقوق القومیة للشعب العربی فی السعودیة. (1)

وقال صدام حسین فی المؤتمر المذکور للدکتور یزدی ما یلی:

إنّی أتحدث معکم کأخ، وأرجو أنْ تقبلوا منّی ما یجب علیّ قوله لکم. لقد تصرّفتم وکأنّکم متفضّلین علی العالم وخصوصا العالم العربی والعراق. وهذا لیس منطقیا، فکان ینبغی أنْ تحدث ثورتکم قبل عشرین عاما من الآن، ومع ذلک فإنّکم متأخّرون ربع قرن عن مصر وعدّة سنوات عن سائر الدول العربیة. وکان من الضروری لکم أنْ تزوروا العراق وسائر الدول التی تمتلک تجربة ثوریة. لتبیّنوا أهداف ثورتکم بغیة التعرّف علی مواقفکم. (2)

إنّ سیاسة العراق بعد الثورة الإسلامیة الإیرانیة تستدعی التأمّل الشدید.

فهو من جهة یبدی سروره بانتصار الثورة ویقصف القری الحدودیة فی ذات الوقت، ومن جهة أخری یثیر مسألة الجزر الثلاث وأخیرا یستغل الفرص السانحة فی بدایة انتصار الثورة والناتجة عن الظروف المضطربة وأوضاع ما بعد الثورة وتشجیع ودعم القوی العالمیة والإقلیمیة وضعف القوات المسلحة الإیرانیة لخوض حرب مع إیران. (3)

وقال صدام کذلک خلال خطاب مفصّل فی المجلس الوطنی العراقی فی خصوص استرداد الأراضی المدعاة:

لقد تمّ تأجیل الإجراءات المتعلّقة بإعادة الأراضی المذکورة إلی العراق بسبب ظروف النظام الإیرانی السابق فی أعوام 1979 و1980. وقد وصل النظام الحالی

ص:144

إلی السلطة فی وقت لازالت أراضینا تحت سیطرة إیران. وقد تفهّمنا أنّ النظام الجدید بحاجة إلی وقت لتنفیذ التزاماته طبق الوثیقة المذکورة.

ویُضیف:

لقد أعطینا النظام الجدید الفرصة الکافیة لکی یُثبت اختلافه عن النظام السابق. ولکنّ النظام الجدید ومنذ وصوله السلطة برهن علی عدم اختلافه عن النظام السابق فی طموحاته ومشاریعه التوسّعیة. فالنظام الجدید وخلافا للعدل والإنصاف لازال یسیطر علی جمیع الأراضی التی کان قد غصبها الشاه من العراق. وهو یمتنع حتّی عن إعادة الأراضی التی کان الشاه قد وافق علی إعادتها إلی العراق طبق اتفاقیة 1975.

وقال صدام حسین کذلک فی خطابه فی مؤتمر قادة الدول الأعضاء فی منظّمة المؤتمر الإسلامی الذی انعقد فی الطائف بین 25 إلی 28 کانون الأوّل 1981:

إنّ إیران لم تُعِد الأراضی العراقیة التی کانت سیطرت علیها قبل سقوط نظام الشاه. إنّ إعادة الأراضی المذکورة کان فی طریقه للتنفیذ فحدثت ثورة إیران، فتأجّل تسلیمها، وحینما وصل المسؤولون الجدد إلی السلطة لم یکن قد تمّ إعادة هذه الأراضی إلینا. وعلی هذا فإنّ إیران ما زالت تحتلّ الأراضی العراقیة التی نعتزّ بها. (1)

وقد وصفت صحیفة «الدیلی تلکراف» فی 21/ 1980/6 السبب الرئیس فی اعتداء العراق علی إیران بنحو طریف جدّا:

إنّ سبب النزاع بین إیران والعراق، هو خوف صدام من الثورة الإسلامیة الإیرانیة ووصولها إلی الحدود العراقیة، وسعیه المستمرّ للوصول إلی أنْ یکون القوّة الأکبر فی منطقة الخلیج (الفارسی). (2)

ویعتقد کثیر من الخبراء، أنّ سبب هجوم العراق علی إیران لا یقتصر علی منع انتشار الثورة الإسلامیة الإیرانیة إلی حدود هذا البلد، وإنْ کانت الحکومة تخشی حدوث

ص:145

ثورة إسلامیة فی العراق بقیادة علماء الشیعة، لکنّ حبّ صدام حسین للقوّة والسلطة وکذلک الموقع الجغرافی لکلّ من العراق وإیران کان سببا أساسیاً لبدء الحرب بین البلدین. فنظرا للساحل القصیر الذی یطلّ من خلاله العراق علی المیاه الحرّة، وفی المقابل الحدود الواسعة لإیران مع الخلیج الفارسی وبحر عُمان، کانت علی الدوام تمثّل سببا لاعتداء هذا البلد علی إیران. وکانت الخلافات التاریخیة والعِرقیة بین البلدین تُعطی الإذن للعراق للسیطرة علی المیاه والأراضی الإیرانیة بظهور أقلّ علامة علی ضعف الحکومة المرکزیة فی إیران. ف- صدام حسین ونظرا لظروف الالتهاب الداخلی فی العراق وسخط الشعب علی الحکومة البعثیة، وصول حکومة إسلامیة شیعیة إلی السلطة فی إیران، ضعف الحکومة المرکزیة فی إیران (بسبب الثورة)، إضافة إلی الخوف من تصدیر الثورة الإیرانیة إلی العراق، فقد رأی الظروف مواتیة لاحتلال الأراضی الإیرانیة فبدأ بالهجوم علیها.

ووصفت صحیفة الأوبزرفر فی 1980/12/28 أهداف صدام حسین من الهجوم علی إیران بهذا الشکل:

ربّما یکون الهدف الأساسی ل- صدام حسین هو إضعاف إیران بشکل لا یتمکّن معه هذا البلد من توجیه الثورة (التمرّد) فی أوساط شیعیة جنوب العراق. وکذلک لما یری من أنّه مذنب فی إعطائه امتیازات مخجلة فی الأراضی العراقیة للشاه لإنهاء الحرب مع الأکراد. ولکن مَنْ یعرف صدام حسین یعتقد بأنّ له هدفا ثالثا... فحاکم العراق المفتون بالسلطة الذی حکم العراق بید من حدید، یرید فرض تفوّق بلده فی الخلیج (الفارسی) وقیادة العرب. (1)

وکما بیّنا فی ما سبق، لم یکن شیعة العراق یمتلکون السلطة السیاسیة، ولکنّهم

ص:146

من الناحیة الثقافیة کانوا مؤثّرین جدّا، وکان لشیعة البلدین إیران والعراق علاقات قوّیة أیضا (1)، ویُعدّ وجود الأماکن المقدّسة الشیعیة فی العراق من أهمّ أسباب هذه المسألة. فإنّ دفن أئمّة الشیعة فی أربع مدن مقدّسة النجف، کربلاء، الکاظمیة وسامراء أدّی إلی زیارة باقی الشیعة لهذه الأماکن المقدّسة فی هذا البلد، الأمر الذی أدّی إلی تقویة العلاقة بین الشیعة. (2)

وتتمیّز مدینة النجف الأشرف من بین المدن المقدسة بأنّها تُمثّل المرکز السیاسی الثقافی للشیعة فی العراق بضمّها ضریح الإمام علی ابن ابی طالب علیه السلام .

حیث بنیت هذه المدینة وسط قریً یستوطنها الشیعة. وکان هدف مؤسّسی هذه المدینة هو تحریک الغیرة العراقیة للدفاع عنها فی قبال هجمات الفِرق الأخری، ولتکون رمزا لمذهبهم. وکان علماء الشیعة علی مدی التاریخ یسعون للحفاظ علی استقلالهم المذهبی والسیاسی والامتناع عن الخضوع للحکومة المرکزیة فی بغداد. ومن هنا، فمع مرور الأیام أضحت هذه المدینة مرکزا سیاسیا مهمّا وفعّالا لشیعة العراق وحتّی باقی البلدان.

إنّ ما یزید فی الأهمّیة السیاسیة للنجف هو کونها موطنا لمراجع الشیعة العظام ونفوذ سلطتهم الروحیة منها علی الشیعة لیس فی العراق فحسب، بل فی مختلف أرجاء العالم التی یتواجد فیها الشیعة. إنّ ما أدّی إلی نشوء مثل هذه السلطة لهذه المدینة هو وجود الحوزة العلمیة الدینیة ونظامها الدراسی. فمن المزایا الخاصّة للنظام الدراسی للعلوم الدینیة فی النجف هو عدم خضوعه لسیطرة ودعم الحکومات. وهو ما یمثّل العامل الأساسی فی استقلال المؤسّسات الدینیة الشیعیة ومرجعیة النجف کما هو الحال فی الحوززة العلمیة بقم. (3)

ص:147

إنّ المکانة الممیّزة التی احتلّتها النجف الأشرف فی أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرین فی مجال أداء دورها الدینی - الثقافی، قد هیّأ فی الحقیقة الأرضیة للقیام بدورها الدینی - السیاسی. فقد کانت هذه المدینة مرکزا للعواصف السیاسیة وموطأ للحرکات المعارضة للعثمانیین والإیرانیین، وازدادت مرکزیتها عمّا کانت علیه فی اتّخاذ القرارات فی القضایا المهمّة التی کان یواجهها المسلمون الشیعة فی جمیع أقطار العالم الإسلامی. فحیثما واجه الشیعة معضلة کبیرة؛ اتّجهت الأنظار صوب النجف لیسمعوا ویطیعوا لما تصدره المرجعیة من أحکام وتتّخذه من القرارات. (1)

وتشیر الحقائق إلی أنّ إیران قد أثّرت تأثیرا عمیقا فی الحیاة الاجتماعیة فی العراق عقب قبولها مذهب الشیعة الاثنی عشری ودخولها فیه. فالعلاقات المستمرّة بین مراکز الفکر والعلم الشیعی فی کلّ من البلدین أدّی إلی ثبات وتعزیز التأثیر الإیرانی فی العراق. فهذا التعالق للأفکار الشیعیة بین العراق وإیران أدّی إلی ظهور ظاهرة جدیدة فی طبیعة الفکر الدینی للعراق ذی الأغلبیة الشیعیة، وانتقال الزعامة الدینیة إلی الإیرانیین أو مَنْ کان أصله إیرانیا. هذا فضلا عن القادة الدینیین والوعّاظ الذین کان لخطابهم نفوذا واسعا، وکان أکثر طلبة علوم المدارس الدینیة فی النجف الأشرف من الإیرانیین أیضا والذین یفضّلون الاستیطان فی کربلاء والنجف بعد انتهاء دراستهم. وقد مثّل استیطان هذه المجموعة فی هذه المدینة عاملا لتأثّر المجتمع العراقی بالعادات الإیرانیة.

ویمکن الإشارة إلی الموارد أدناه من بین النشاطات السیاسیة لعلماء شیعة العراق:

فی تشرین الثانی 1922؛ حرّم علماء الشیعة فی فتوی أصدروها مشارکة الشعب فی انتخابات المجلس الدستوری لإقرار العلاقة الانتدابیة بین العراق وبریطانیا. وقامت بریطانیا ردّا علی هذه الفتوی بنفی الشیخ مهدی الخالصی ونجله الشیخ محمّد

ص:148

الخالصی وکذلک السید محمّد الصدر الذین کانوا یقطنون الکاظمیة. وتطوّرت هذه القضیة إلی اتّخاذ بعض العلماء الآخرین وبضمنهم آیة الله محمّدحسین النائینی والسید أبوالحسن الأصفهانی قرارا بترک العراق أیضا والتوجّه إلی إیران. (1)

فقام بعض علماء العراق فی طهران بتأسیس «المنظّمة العلیا للنوّاب العراقیین» والتی عُرفت أیضا بجمعیة «ما بین النهرین» وذلک لتوحید الجهود علی طریق استقلال العراق. وکانت بریطانیا تسیطر سیطرة کاملة علی العراق فی تلک الحقبة، الأمر الذی اضطرّ معه العلماء للتأقلم مع هذه الحقیقة. وقد قام بعض المنفیّین بتوقیع وثیقة علی الابتعاد عن السیاسة فسمح لهم البریطانیون بالعودة إلی العراق وذلک فی عام 1924.

ومع استقرار الأسرة الهاشمیة فی العراق بشکل کامل، انخفضت شیئا فشیئا حدّة معارضة العلماء والشیعة للحکومة، وأخذ الشیعة بدخول المجلس الوطنی العراقی تدریجیا وتسنّم مسؤولیات حکومیة. وقد تعاقب ولأوّل مرة اثنین من الشیعة علی رئاسة الوزراء وتشکیل الحکومة وذلک فی عام 1948.

العامل الآخر الذی أدّی إلی حدوث التقارب بین علماء الشیعة والحکومة فی سنوات ما بعد الحرب العالمیة الثانیة، هو المدّ الشیوعی فی العراق، حیث أعلن الشیوعیون صراحة بکونهم لادینیین ومعارضتهم للدین. ومع وقوع انقلاب عبد الکریم قاسم وإعلان قیام الجمهوریة العراقیة، دخلت المواجهة بین الشیعة والحکومة مرحلة جدیدة استمرّت حتّی سقوط صدام حسین . إذ إنّ جمیع الحکومات التی تعاقبت علی حکم العراق بعد هذا الانقلاب کانت تعتقد بفصل الدین عن السیاسة، وتسعی لإضعاف سلطة علماء الدین الشیعة؛ الأمر الذی أدّی إلی نشاط منظّمات إسلامیة شیعیة مختلفة لإقامة حکومة إسلامیة.

ص:149

وکما سبق وأنْ ذکرنا، فمع أنّ الشیعة یشکّلون ما نسبته 60 إلی 65 فی المئة من نفوس العراق إلّا أنّ السلطة السیاسیة لم تکن فی أیدیهم، حیث کانوا یُحرمون بشکل منظّم من الوصول إلی مناصب ومراکز السلطة، ولم یصل منهم إلّا عدد ضئیل جدّا بعدد أصابع الید - ولمدّة قصیرة - إلی الوزارة أو رئاسة الوزراء. فشکّل هذا التمییز الواضح أرضیة مناسبة لسخط الشیعة. (1) وأدّت الحملات الدعائیة والضغوط الشدیدة التی مارستها الحکومة ضدّ الشیعة إلی اتّجاههم نحو التحرّک السیاسی لإحقاق حقوقهم.

ویرتبط التحرّک السیاسی الشیعی الحزبی فی العراق ببدایة استقلال هذا البلد. فقد تولّی الشیعة فی عام 1929 قیادة الحزبین القومی والوطنی برئاسة جعفر أبو التمن و«النهضة» بقیادة أمین البحر الجفیحی. (2)

وتأسّس فی أواخر عقد الخمسینات الحزب الدینی الشیعی الذی سُمّی ب- «حزب الدعوة الإسلامیة». ویقال أنّ الأعضاء الروّاد لهذا الحزب هم ممّن انفصلوا عن حزب التحریر الإسلامی العراقی (الفرع العراقی لحزب التحریر الذی تأسّس سنة 1952 علی ید الشیخ تقی الدین النبهانی ). (3)

وقام تأسیس حزب الدعوة الإسلامیة علی أساس قضیة رئیسة تتمثّل بتدهور المجتمعات الإسلامیة، وبعدها عن أحکام الإسلام. وهو ما دعی علماء الشیعة فی العراق ومنذ العقد الخامس من القرن الماضی إلی ترغیب وحثّ المسلمین علی العودة إلی تطبیق الأحکام الإسلامیة.

ص:150

حیث کان یری هؤلاء العلماء أنّ ممّا زاد فی تمیّع المجتمعات الإسلامیة هو نموّ المدّ القومی، العرفی والشیوعی. فالقومیة التی ترتکز علی الجغرافیة تتعارض والأیدیولوجیة الإسلامیة وتقف الشیوعیة ذاتیا ضدّ الدین. (1)

ولأجل مواجهة هذه الحالة المتنامیة، اجتمع مجموعة من العلماء فی أواخر عام 1957 فی بیت عالم شاب یقطن النجف یدعی محمّدباقر الصدر . حیث کان یری هؤلاء بلزوم ثبات الشباب علی هویتهم الفکریة - الدینیة ووعیهم لأخطار النفوذ الأجنبی. وکان الصدر یعتقد أنّ بإمکان الاجتهاد أنْ یقوم بدور فعّال فی مواجهة هذه الأخطار.

وحظی حزب الدعوة إثر انقلاب 14 تموز 1958 بدعم آیة الله محسن الحکیم ، المرجع الدینی الرئیس فی العراق.

وأخذ السید مرتضی العسکری علی عاتقه مسؤولیة تنظیم الشباب والمثقّفین ممّن یرغبون بدعوة أبناء جلدتهم إلی الإسلام، ودعا فی أوائل 1958 أولئک الشباب والمثقّفین الذین تحوّلوا إلی منظّمة تسمّی «الأیادی» للاجتماع مع العلماء.

ویوضّح السید محمّدباقر الصدر فی مقالة له کتبها ل- «صوت الدعوة» سبب اختیار هذا الاسم للحزب:

إنّ «الدعوة» تکشف بدقّة عن مسؤولیة هذه المجموعة فی دعوة الناس إلی الإسلام وهدایة أکبر عدد ممکن من المسلمین إلی الإسلام. ویصف الصدر الحلقات التنظیمیة بأنّها تمثّل جزءا من المرحلة الأولی للدعوة إلی الإسلام والتی یتمثّل هدفاها الأوّلَان ب- «إعداد المؤمنین وتعبئة العلماء روحیا وفکریا». (2)

وینحدر أغلب أعضاء حزب الدعوة من الطبقة المتوسّطة فما دونها والذین یترکّز أغلبهم فی بغداد والمدن المقدّسة وجنوب العراق. وکانت تبلیغات الحزب تتمّ عن

ص:151

طریق المساجد والمدارس الدینیة وبرعایة الحوزة العلمیة فی النجف. وکان تنظیم الأعضاء الناشطین علی درجة کبیرة من النظام والتنسیق.

فمنذ عام 1968 الذی استلم فیه حزب البعث السلطة، لجأ حزب الدعوة إلی استخدام العنف؛ إذ إنّه کان یعتقد بأنّ السیاسات اللادینیة للحکومة موجّهة ضدّ الإسلام. فأدّت سیاسات الحکومة المعارضة للإسلام إلی وقوف شیعة العراق خلف حزب الدعوة والمشارکة فی مجموعة مواجهات عنیفة ضدّ النظام. ففی مراسم عزاء الإمام الحسین عام 1974، ردّت الحکومة علی الاعتراضات السیاسیة بالعنف والاعتقال والقمع. وفی أوائل شهر محرّم عام 1977 حینما سعت القوات الأمنیة التدخّل فی مراسم العزاء الشیعیة فی منتصف الطریق بین النجف وکربلاء، وصلت تحرّکات حزب الدعوة ذروتها. فقد هاجم الشیعة الغاضبون مقرّا للشرطة وردّدوا شعارات ضدّ النظام. وعلی إثر هذه الأحداث قامت الحکومة باعتقالات واسعة فی صفوف الشباب وحتّی المسنّین الشیعة فأعدمت البعض وألقت البعض الآخر فی السجون. (1)

وبعد رحیل آیة الله الحکیم ، بدأت الحکومة العراقیة إجراءات قمعیة ضدّ جمیع الفئات وعلی الخصوص الشیعة، وفی أیلول عام 1978 أصدر حزب البعث قرارا بوضع الإمام الخمینی رحمة الله تحت الإقامة الجبریة فی داره (2)، وقام بإخراجه من العراق بعد مدّة من ذلک.

لقد ترکت الثورة الإسلامیة فی إیران تأثیرها علی جمیع مسلمی العالم، ولکنّ کان التأثیر المباشر والأبرز والأهمّ هو ما کان یرتبط بمسلمی العراق وعلی الخصوص الشیعة. فقد عمّت الشباب الملتزم والمؤمن موجة عظیمة من المشاعر الإسلامیة

ص:152

المناهضة للبعث. فأصبح الشعب العراقی المظلوم والمضطهد أکثر أملا بالخلاص من أُتون هذا الظلم والاضطهاد بعد عهود من التسلّط البعثی. فقد ساق حماس الشباب الذی أثّر فیه نضال الشعب الإیرانی والذی کان مستعدّا للتضحیة، باتّجاه الوفود علی قائد یوجّههم ویرشدهم نحو هدفهم فی تأسیس جمهوریة إسلامیة. فحشّدوا طاقاتهم واتّجهوا زرافات صوب النجف وأعلنوا لآیة الله السید محمّدباقر الصدر استعدادهم للإقدام علی أیّ عمل یکلّفون به. (1)

إنّ أهمّ ما کان یمیّز هذه المرحلة من التحرّک هو ابتداؤها فی العراق إثر انتصار الثورة الإسلامیة الإیرانیة واستمرارها حتّی ابتداء الحرب المفروضة. ویُعدّ سعی السید محمّدباقر الصدر وحزب الدعوة للإطاحة بالنظام وإقامة حکومة إسلامیة نظیر حکومة إیران إیْ جمهوریة إسلامیة فی العراق تقوم علی ولایة الفقیه التی کان یراها الصدر ، ذی أهمّیة فائقة. (2)

وفی حزیران 1979 وبعد عودة الإمام الخمینی رحمة الله إلی إیران وانتصار الثورة الإسلامیة، وُضع آیة الله السید محمّدباقر الصدر تحت الإقامة الجبریة فی منزله. فانتفض أنصاره ومؤیّدوه فی الثالث عشر من حزیران فی ما سُمّی بانتفاضة رجب.

حیث توجّهت أعداد غفیرة من مختلف مدن العراق إلی النجف لإعلان بیعتها لمرجعیته وقیادته. وقد شارک فی الانتفاضة الرجبیة جموع غفیرة من أساتذة الجامعات، الطلّاب، العمّال والمزارعین. وقد قامت تظاهرات فی مدن کربلاء والکوفة ومدینة الثورة ببغداد أیضا. فأصدر آیة الله السید الصدر من مقرّه فی النجف فتوی أوجب فیها محاربة حزب البعث. ومنذ ذلک التاریخ ظهر حزب

ص:153

الدعوة بصورة حزب سیاسی بکلّ ما للکلمة من معنی. (1)

وعقب هذه التظاهرات وما طالبت فیه من إجراء إصلاحات اجتماعیة وإقامة حکومة إسلامیة؛ قامت الحکومة العراقیة ونظرا للتحریض العلنی علی المواجهة من قِبل آیة الله السید الصدر بتقدم حزب الدعوة کطابور خامس یهدف إلی دمج العراق بإیران. (2)

وللردّ علی المواجهات والمظاهرات الشیعیة، قامت الحکومة العراقیة بإعدام أو طرد أعداد کبیرة من علماء الدین والمجاهدین الشیعة. فبعث آیة الله محمّدباقر الصدر ردّا علی ذلک، بیانا إلی صوت الدعوة جاء فیه:

إنّ الإسلام الیوم بحاجة إلی ثورة ولیس استفتاء... المعرکة الأساسیة المعلنة حالیا ترتبط بأعداء الإسلام... الطریق الوحید للخلاص یکمن فی تغییر الحکّام. فدعوتنا منذ اللحظة هی الثورة والنهوض لإنقاذ الأمّة من هذا الوضع المنحط. (3)

لقد تولّی آیة الله السید محمّدباقر الصدر فی العراق الدور الذی تولّاه الإمام الخمینی رحمة الله فی إیران. ومن هنا، فلم تکن ثمّة حاجة لاتّخاذ إیران والإمام الخمینی رحمة الله إجراءات لاستقطاب أو تحریک شیعة العراق. فقد کانت الزمالة والرفقة بین هذین العالمین الشیعیین المرموقین وآراؤهما المشترکة، تمثّل بذاتها الأرضیة المناسبة لتقبّل العراق هذا التأثیر. فقد أعلن الشهید الصدر دعمه الکامل للثورة الإسلامیة الإیرانیة واستحثّ الشیعة لإطاعة آیة الله الخمینی رحمة الله والوقوف خلفه. فهو یوصی أنصاره وأتباعه بقوله:

ذوبوا فی الإمام الخمینی رحمة الله کما ذاب هو فی الإسلام.

وقد کانت انتفاضة الشیعة فی العراق کما فی إیران تشدّد علی العناصر الأساسیة أمثال الشهادة. فقد دعی آیة الله محمّدباقر الصدر کلّ عراقی لبذل قصاری جهده وإنْ تطلّب

ص:154

الأمر التضحیة بنفسه للخلاص من شرّ صدام ، وقال:

لقد أعددت نفسی للشهادة، ولعلّ هذا آخر ما تسمعونه منّی. (1)

وفی العام ذاته أعلنت جماعة العلماء دعمها لاستخدام القوّة ضدّ الحکومة، وتأسّس فی أواخر هذا العام الجناح العسکری لحزب الدعوة. وفی یوم عاشوراء من هذه السنة أطلق طالب الأعوان فی کربلاء وابلا من الرصاص علی القوات الأمنیة ممّا أدّی إلی مقتل أربعة منهم، وإلقاء القبض علیه.

وقامت الحکومة فی آذار 1980 وکردّ علی هذه المواجهات باعتقال ستة وتسعین عضوا من أعضاء حزب الدعوة وإعدامهم، ومن ذلک الحین أصبح الانتماء إلی حزب الدعوة عملا «إجرامیا» یستحقّ صاحبه الإعدام. ونفّذ إثر ذلک أحد أعضاء منظّمة العمل الإسلامی عملیة اغتیال لمعاون رئیس الوزراء طارق عزیز والتی باءت بالفشل. الأمر الذی أدّی إلی إقدام الحکومة علی خطوات أکثر تشدّدا فتمّ هذه المرّة اعتقال آیة الله محمّدباقر الصدر وأخته العلویة بنت الهدی وذلک فی الثامن من نیسان ومن ثمّ إعدامهما. وهُجّر فی هذا الشهر أکثر من ثلاثین ألفا من شیعة العراق إلی إیران. (2) فمثّل الشهید الصدر رمزیا، أحد الذین أضیفوا إلی شهداء الشیعة الاثنی عشریة باعتباره أحد أبرز مراجعهم. (3)

ویمکن القول أنّ الشهید الصدر کان له دور بارز ومؤثّر وبشکل مباشر وعملی فی تبلور وتنظیم الثورة الإسلامیة الإیرانیة بالنحو الذی أُطلق فیه علیه رفیق الإمام الخمینی رحمة الله وعرّاب الثورة الإسلامیة الإیرانیة « خمینی رحمة الله العراق»... فالثورة الإسلامیة الإیرانیة مدینة للتعاون والتفاعل الفکری لهذین القائدین البلرزین. (4)

ص:155

یقول هرایر دکمجیان فی هذا الإطار: تدلّ الشواهد علی أنّ آیة الله العربی قدّم مساعدة أساسیة لإطار أیدیولوجیة النظام الإسلامی الإیرانی. فطبقا للتقاریر فإنّ باقر الصدر وآیة الله الخمینی کانا علی ارتباط دائم قبل الثورة وبعدها. فبعد برهة قصیرة من العودة المظفّرة لآیة الله الخمینی رحمة الله إلی طهران فی الأوّل من شباط 1979، بعث باقر الصدر بستّة بحوث تحت عنوان «الإسلام یقود الحیاة» لرفیقه تتضمّن النظریة الإسلامیة فی مجال الدور الریادی للزعماء الدینیین [المراجع] فی تقسیم المسؤولیات التنفیذیة والقضائیة وطرح نظریة الاقتصاد الإسلامی. (1)

ویعتقد دکمجیان کذلک أنّ الإمام الخمینی رحمة الله والشهید الصدر یصطفّان إلی جانب واحد فی اللحاظ الفکری تنظیریا وعملیا، ویری أنّ هذه النظریات تمثّل ذروة التکامل المهمّ للفکر والعمل السیاسی الشیعی. (2)

وتولی قیادة الحرکة بعد استشهاد آیة الله محمّدباقر الصدر آیة الله محمّدباقر الحکیم . فتشکّل إثرها المجلس الأعلی للثورة الإسلامیة فی العراق وذلک فی تشرین الثانی 1982. واتّخذ هذا المجلس إیران مقرّا له حتّی سقوط صدام حسین ، وکان یقوم بنشاطاته باعتباره الجهاز الأعلی لقیادة کفاح الشیعة فی العراق. (3)

وقد أبدت الحکومة العراقیة ردود فعل عنیفة تّجاه نشاط المجلس الأعلی، ففی آیار 1983 قامت بإعدام ستّة أشخاص من أسرة الحکیم الأب. ولجأ المجاهدون إلی القیام بعملیات فدائیة لتحقیق أهدافهم الدینیة فأصبح المجلس الأعلی من هذه الجهة رمزا للمعارضین الشیعة. (4)

وقد قام المجلس الأعلی فی عام 1983 بإنشاء قوّاته العسکریة التی وصلت إلی ما

ص:156

یقارب 200 متطوّعا فاتّخذت من حاج عمران فی منطقة کردستان العراقیة مقرّا لها واستحثّت المقاتلین العراقیین علی الانضمام إلیها.

وکان لائتلاف المجامیع العراقیة هذا ثلاثة وحدات عسکریة: القوات الخاصّة؛ القوات الاحتیاطیة وقوات التعبئة. حیث تتولّی القوات الخاصّة التی أُطلق علیها «فیلق بدر» العملیات الفدائیة داخل الأراضی العراقیة. لکنّها کانت تشارک أیضا فی العملیات العسکریة الإیرانیة. أمّا قوات التعبئة فقد تشکّلت من المتطوّعین الذین دخلوا دورات عسکریة تمهیدیة وجهّزوا بأسلحة خفیفة.

وعمل المجلس الأعلی أیضا علی تجهیز المجموعات الإسلامیة المستقلّة، وقد انضمّ إلی صفوفه فی هذا المجال مجموعتین من الأکراد، وهما «الحرکة الإسلامیة الکردستانیة» بقیادة الشیخ عبد الرحمن نورای و الملا عثمان عبد العزیز ، وحزب الله الکردستانی بقیادة محمد خالد البارزانی . وأُسّس فی هذا الإطار أیضا «اتّحاد المرأة المسلمة» من قِبل النساء ذات الاتّجاه الإسلامی.

وفی عام 1984 أعدمت الحکومة مجموعة من العلماء الأکراد الذین أُثیرت الشکوک حولهم فی قیادة «الحرکة الإسلامیة الکردستانیة». وأُعدم کذلک عشرة من أعضاء أسرة الحکیم من الذین کانوا یقبعون فی السجون العراقیة وذلک فی عام 1985. وفی حزیران من نفس العام تسرّبت تقاریر عن إعدام الحکومة 559 عراقیا یشکّل الإسلامیون النشطاء أعدادا غیر محدّدة منهم. وفی 9 نیسان 1987 قامت مجموعة من قوات الشهید الصدر التابعة لحزب الدعوة بالهجوم فی الموصل علی قافلة سائقی الدراجات الناریة المرافقة ل- صدام حسین ، غیر أنّ صدام خرج سالما من ذلک الهجوم. وأصدر حزب الدعوة تقریرا فی نفس العام حول الابتداء بتنظیم نواة لحزب الله فی داخل العراق، ففی کانون الأوّل 1987 أوضح أبو مجاهد أحد قادة حزب الدعوة وذلک فی مؤتمر دولی ضمّ قادة الحرکة الإسلامیة أنّ «حزب الله» لا یمثّل مجرّد

ص:157

حزب بل هو ذراع لتقویة الأحزاب الإسلامیة العاملة فی الساحة حیث یرتضی أعضاء هذا الحزب قیادة حزب الدعوة والعلماء الشیعة.

وقامت مجامیع المقاومة الإسلامیة والأکراد بتوسیع نطاق عملیاتها لتمتدّ إلی خارج المنطقة الحرّة التی تسیطر علیها فی شمال العراق وذلک فی عام 1988. وکانت القوات العسکریة للمجلس الأعلی تحت قیادة محمّدتقی المولی ؛ ویقال أنّ عدد هذه القوات یکاد یصل إلی أربعین ألف مقاتل حیث یتمرکز بعضهم فی الشمال والقسم الآخر فی أهوار جنوب العراق. وتمّ إعادة هیکلة «فیلق بدر» فقُسّم إلی فرقة مشاة، فرقة مدفعیة، فرقة مدرّعة ووحدة فدائیة. وتضمّ الحرکتین الإسلامیتین الکردیتین ما یقارب أربعة آلاف عنصر حیث یمثّلون قسما صغیرا نوعا ما من کلّ القوات المسلحة الکردیة، إلّا أنّ القوات الإسلامیة تتمتّع بدعم لا بأس به بین المواطنین الأکراد.

وبعد إعلان وقف إطلاق النار والمصالحة بین العراق وإیران، أصدر المجلس الأعلی بیانا فی حزیران 1990 أعلن فیه أنّه قام ببحث مسألة معارضة الحرکات الإسلامیة للحکومة البعثیة ودعا الشعب العراقی فیه إلی الاستمرار فی الکفاح حتّی «إسقاط صدام الظالم».

وبعد هزیمة العراق أمام قوات الائتلاف الدولیة (خلال أحداث احتلال الکویت) عمّت مرّة أخری الثورات الشعبیة الشمال الکردی والمدن الدینیة فی جنوب العراق وهی ما عُرف بالانتفاضة الأولی، إلّا أنّ الرعب الذی تملّک الأمریکیین من وصول الثوریین إلی السلطة بعد الحکومة البعثیة، جعلهم یفسحون المجال ل- صدام مرّة أخری، ممّا أدّی إلی قیام الحکومة العراقیة بقمع تلک الحرکة بقسوة، الأمر الذی أدّی إلی فرار مجموعة أخری من الشیعة إلی إیران.

واستمر الضغط علی الشیعة حتّی سقوط صدام حسین الذی أعقب حادثة الحادی عشر من سبتمبر. إنّ أحداث الحادی عشر من سبتمبر 2001 والتطوّرات التی أعقبتها -

ص:158

علی الرغم من أهداف المسؤولین الأمریکیین - دعمت أسباب انتشار نفوذ الثورة الإسلامیة والجمهوریة الإسلامیة، وقد ظهر هذا الأمر من خلال الهجوم العسکری الأمریکی علی أفغانستان والعراق وسقوط حکومة طالبان فی أفغانستان والبعث فی العراق. فقد أدّی ذلک إلی إسقاط عدوّین لدودین للجمهوریة الإسلامیة من جهة، وقلّل إلی درجة کبیرة من الضغط الاستثنائی علی الشیعة ومریدی الثورة الإسلامیة فی هذین البلدین من جهة أخری، ومهّد الأرضیة لوصولهم إلی السلطة، فالأمریکان وعلی الرغم من إزاحتهم صدام حسین من الساحة، إلّا أنّهم واجهوا خطرا جادّا تمثّل بازدیاد احتمال استلام الشیعة للسلطة ممّا یفسح المجال لتأسیس جمهوریة إسلامیة أخری.

700,000 شخصا حیث یقطن بعضهم المناطق الشرقیة والبعض الآخر المدینة المنورة.

وتُبدی الحکومة الوهابیة للسعودیة توجّها شدیدا تّجاه الشیعة، وازداد هذا التوجّه بعد الثورة الإسلامیة، وقد زادت مسألة المنطقة التی یسکنها الشیعة والعمل الذی تتولّاه هذه الأقلّیة فی الصناعة النفطیة للسعودیة من أهمّیة الدور الذی تحظی به.

الخصوص السعودیة. ولکنّها سرعان ما ترکته وألقته جانبا بسبب عدم کونه عملیا من الناحیة السیاسیة.

وکرّر شاه إیران مجدّدا اقتراحه بعقد معاهدة أمنیة بین جمیع دول الخلیج الفارسی عام 1975، لکنّ الأمیر فهد فی المقابل بذل أقصی جهوده للحیلولة دون تحقیق ذلک. وبعد ثلاث سنوات من ذلک وحینما کان الشاه علی وشک السقوط سعی مرّة أخری لعقد معاهدة مشترکة بین إیران والسعودیة والعراق، حیث جوبه برفض سعودی کذلک. الجدیر بالذکر أنّ البلدین الملکیین إیران والسعودیة یحکمهما التعاون والتنافس أیضا وذلک فی نطاق منظّمة الأوبک. فکلّما سارت السیاسات النفطیة فی مسار واحد فی ذلک العقد کلّما ارتفعت أسعار النفط. وکانت السعودیة تسعی ما سنحت لها الفرصة لخفض وعدم زیادة أسعاره. ولهذا فقد کان التنافس بین البلدین فی الأوبک یغلب علی تعاونهما فیها. (1)

لقد أدّی انتصار الدولة الإسلامیة فی إیران وانهیار أسس الظلم والاستبداد إلی سیطرة الرعب فی أوساط أمراء منطقة الخلیج الفارسی. حیث إنّ إیران وبما تمثّله من قوّة عسکریة کانت تؤمّن ثبات الخلیج الفارسی بعد الانسحاب العسکری البریطانی فی عام 1971 الذی تمّ وفق مبدأ نیکسون. فبعد سقوط الشاه أخذ هذا السؤال یتبادر إلی الأذهان، وهو من سیحلّ محلّ إیران؟ وهل ثمّة احتمال بسقوط الرؤساء الآخرین فی المنطقة بحسب نظریة الدومینو؟

وکان هذا السؤال یحظی بأهمّیة خاصّة لدی السعودیة التی تستحوذ علی ربع المصادر النفطیة المکتشفة فی العالم. فسقوط الملکیة فی إیران، جعل العروش والتیجان الأخری فی المنطقة وبضمنها المملکة السعودیة تواجه تهدیدا أکثر من السابق.

ص:161

حیث إنّ انهیار دعائم الاستبداد فی إیران بثّ الرعب فی بلدان المنطقة المحافظة والذی انعکس فی السعودیة باضطرابات المنطقة الشرقیة، الاحتلال الدموی للمسجد الحرام فی شهر محرّم الحرام عام 1400 هق، اکتشاف مؤامرة إسقاط طائرة فهد ولی العهد السعودی آنذاک وانفجار قنبلة فی الریاض وجدّة. (1) وکان التعامل الظاهری للسعودیة مع الجمهوریة الإسلامیة حمیمی جدّا فی تلک الظروف.

حیث أُرسلت بعثة علیا یترأسها الأمین العام ل- «رابطة العالم الإسلامی» إلی إیران للتهنئة بانتصار الثورة الإسلامیة وإقامة علاقات مع إیران، غیر أنّها لم تنجح فی لقاء المسؤولین الکبار فی الجمهوریة الإسلامیة علی الرغم من طول إقامتها فی إیران. (2)

ولأجل التقلیل من تأثیر الثورة الإسلامیة الإیرانیة علی المجتمع السعودی اتّخذت الحکومة السعودیة خطوات باهضة الکلفة. حیث مثّل تأسیس مؤسّسات إعلامیة لتشویه صورة الثورة، تأسیس مجلس التعاون الخلیجی، الدعم الشامل للنظام البعثی فی الحرب المفروضة، عقود الأسلحة و... جزءا من إجراءات هذه الحکومة. وکانت الإجراءات الأمنیة فی الداخل السعودی لوضع مؤیّدی الثورة الإسلامیة تحت الضغط من الإجراءات الأخری لهذا النظام.

وقامت الحکومة السعودیة ومباشرة بعد انتصار الثورة الإسلامیة بإخراج الضبّاط والمراتب الشیعة من الجیش السعودی. وخفّضت من تواجد العسکریین الباکستانیین فی الجیش السعودی بسبب تأثّر الکثیر منهم بالثورة وکیلهم المدیح لها، وحرصت علی استخدام القوات البنغالیة بدلهم. وطردت أو خفّضت رتبة الکثیر من العمال والمتخصّصین الشیعة الذین کانوا یعملون فی شرکة أرامکو النفطیة، ومنعت استخدام

ص:162

مکبّرات الصوت والمیکروفونات فی مساجد الشیعة. واتّخذت الشرطة السرّیة احترازات أمنیة مشدّدة للتعرّف علی قادة الشیعة وللکشف عن منظّماتهم. وتعرّضت الدور والأشخاص المشتبه فیهم إلی التفتیش بشکل مستمرّ ومفاجئ. و قامت الحکومة السعودیة بالتزامن مع هذه الإجراءات، بالتشویش علی برامج إذاعة وتلفزیون الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة. و سعت الحکومة السعودیة من جهة أخری، للتقلیل من جاذبیة الثورة الإسلامیة فی عین المجتمع السنّی لکسب الطبقات المسحوقة وذلک من خلال ضخّ قدرات مادّیة فیه.

وزاد الملک وولی العهد السعودی من عدد لقاءاته مع الناس، وتمّ زیادة عرض المشاریع العمرانیة. وفی إجراء آخر، مُنع السعودیین والشیعة علی الخصوص من السفر إلی إیران. (1)

ونظرا لاختلاف المواقف بین الریاض وطهران بعد الثورة الإسلامیة فی المسائل السیاسیة والاقتصادیة، والاختلافات الأساسیة فی الفهم والاستنتاج الدینی للنصوص الإسلامیة، فقد أدّی وصول اختلافات البلدین ذروتها فی المسائل السیاسیة وعلی الرغم من طرح الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة شعار الوحدة الإسلامیة، إلی قیام المسؤولین السعودیین ومن خلال الاستفادة من الوسائل الإعلامیة فی الداخل والخارج بالتحریض علی الخلافات المذهبیة والتعرّض للمقدّسات الإسلامیة ومعتقدات طیف واسع من الأمّة الإسلامیة یتّبع مذهب التشیّع.

وتقف الجمهوریة الإسلامیة فی الجهة المقابلة، حیث تقوم رسالتها الثوریة علی دعم حرکات التحرّر وتصدیر مفهوم الثورة الإسلامیة إلی البلدان المتواجدة فیها والعالم الإسلامی وضخ شعوب هذه البلدان بالوعی لتمکینهم من اختیار حکوماتهم

ص:163

وتقریر مصیرهم بأنفسهم. ولکنّ السعودیة التی طالما توجّست من ظهور ثورة فی البلدان المجاورة لها وإشاعة الأفکار الثوریة بین المسلمین، سعت ما أمکنها ذلک للحیلولة دون حدوث مثل ذلک، حیث تبادر وبشکل سریع لاستقطاب أو حرف مثل هذه التحرّکات الثوریة والطلائعیة عند حدوثها.

إنّ السعودیة ومن خلال التحریض علی الأحاسیس المذهبیة فی بلدان أمثال الباکستان وإشعال المواجهات فی الشوارع والتی غالبا ما ترافقها خسائر وأضرار جسیمة، وکذلک زیادتها من توظیف العلماء للسیطرة الدینیة علی الشعب، کانت تسعی لصدّ مدّ الثورة الإسلامیة الإیرانیة أو حبسها فی الداخل الإیرانی علی أدنی تقدیر. (1)

فقد سعت الحکومة السعودیة فی هذا الطریق وببرامج محسوبة لتحریک الأحاسیس الجیّاشة للشباب السلفی المتدیّن والمتطرّف ضدّ الشیعة. حیث یعود هذا المشروع بالفائدة علی حکومة آل السعود من جانب وعلماء الدین المرتبطین بالبلاط. إذ ستبقی حینها بمنأی عن ضغط الشباب السلفی ومطالیبهم الإصلاحیة والأصولیة المتشدّدة، وخروج العلماء التقلیدیون من عزلتهم ویتولّوا قیادة طبقة الشباب.

فوفقا لهذا البرنامج، سیتمّ التبلیغ علی أنّ مذهب التشیّع یتضمّن خرافات کثیرة، وأنّ أتباع هذا المذهب مشرکون ورافضیة، وقد تمّ فی هذا السیاق إصدار کتب وفتاوی کثیرة فی رفض التشیّع. وتقوم الرئاسة العامّة للفتوی والدعوة والإرشاد التی یتولّی رئاستها الشیخ عبد العزیز بن باز بتسدید الکلفة الباهضة لهذه النشریات. أضف إلی ذلک، أنّ منظّمة «رابطة العالم الإسلامی» التی تمثّل الذراع الإعلامی للوهابیة فی العالم الإسلامی، استحدثت دائرة خاصّة تحمل عنوان «دائرة مکافحة المدّ التبشیری» أیْ الدائرة الخاصّة لمواجهة انتشار الإعلام التشیعی، ووضعت لها میزانة خاصّة. (2)

ص:164

وفی الأعوام الأولی للثورة وفی الوقت الذی کانت القوی الثوریة الإیرانیة تعتبر تصدیر الثورة مسؤولیة تقع علی عاتقها؛ کانت الصحف والمجلات توجّه انتقادات وهجمات شدیدة اللهجة ضدّ الحکومات الرجعیة فی المنطقة وعلی الخصوص السعودیة؛ وقامت القوی الشعبیة فی بعض هذه البلدان ومن بینها السعودیة والبحرین من جهة أخری، ببعض التحرّکات التی بثّت الرعب فی أوساط هذه الحکومات والقائمین علیها. وفی مقابل ذلک، فإنّ السعودیة کانت تنتظر حدوث صراع علی السلطة بین الجناح اللیبرالی والمتطرّف داخل إیران، علاوة علی ما قامت به من دعم وتقویة واسعة لقوّاتها العسکریة.

ومع خروج القوی اللیبرالیة من السلطة، وتحقیق إیران بعض الانتصارات فی الحرب مع العراق وذلک فی أواسط عام 1981، وتنامی الإعلام الإیرانی فی مجال تصدیر الثورة، کانت السعودیة تتوقّع کسب قوّة أکبر باتّباعها أسلوبا مزدوجا فی سیاستها مع إیران؛ فهی تقدّم بعض الامتیازات بید، وتساعد العراق بالید الأخری. فنری الملک خالد علی سبیل المثال یبذل مساعیه للاقتراب من الثورة الإسلامیة والإمام علّه یتمکّن من الحیلولة دون تصدیر وتأثیر الثورة الإیرانیة. ففی مناسک حجّ عام 1980 أجلس ممثّلی الإمام رحمة الله وطبقا لتقالیدهم المتّبعة علی یمینه وأخذ بالتحدّث معهم بحرارة. ولکنّه فی ذات الوقت وبالتزامن مع ذلک قام ببعض المساعی ضدّ إیران من وراء الستار. ولکن وکما تمتّ الإشارة إلیه، فإنّ السعودیة کانت تأمل فی هذه المرحلة، باحتفاظ القوی المعتدلة أو ما یسمی باللیبرالیة بالسلطة فی إیران، الأمر الذی دفعها إلی إقامة علاقات دبلوماسیة مع الجمهوریة الإسلامیة وتوسیعها. غیر أنّ هذه المساعی قوبلت ببرود من قبل القوی الثوریة الإیرانیة. وبین أعوام 1982 إلی 1985 وبسبب انتقال السلطة فی إیران من القوی اللیبرالیة إلی القوی الثوریة، وکذا بسبب تغیّر مسار الحرب المفروضة لصالح إیران، فقد السعودیون أملهم فی تحجیم القوی الثوریة بواسطة القوی الداخلیة فی إیران. وبهذا لم یتبقَ طریق للسعودیة سوی تحرّک

ص:165

العراق من الخارج لمواجهة إیران وتحجیم الثورة. الأمر الذی أدّی إلی زیادة برودة العلاقات بین البلدین وترافق ذلک مع الحرب الإعلامیة بینهما. ومع طرد القائم بشؤون الحجّاج الإیرانیین السید موسوی خوئینیها من مکّة فی عام 1982، الاشتباکات بین الحجّاج الإیرانیین والشرطة السعودیة وإسقاط السعودیة طائرة حربیة إیرانیة، تفاقمت الأزمة بینهما. ومع أنّ المسؤولین الإیرانیین کانوا یحاولون تقلیل خوف الحکومات الخلیجیة من الثورة الإسلامیة الإیرانیة، لکنّ المواجهة الإعلامیة لإیران التی ازدادت حدّتها بسبب المساعدات السعودیة وبلدان منطقة الخلیج الفارسی الأخری إلی العراق کانت قد زادت من خوفهم هذا. وفی عام 1983 وصل سعود الفیصل وزیر الخارجیة السعودی إلی طهران بدعوة من وزیر الخارجیة الإیرانی، ممّا أدّی إلی ظهور بعض التحسّن فی علاقات البلدین حیث جاء فی تقریر وکالة الأنباء الألمانیة من جدّة، بأنّ وزیر الخارجیة السعودیة أعرب عن سروره بنتائج المباحثات التی استمرّت یومین مع قادة إیران وأعلن قیامه بدعوة نظیره الإیرانی لزیارة الریاض.

فحدث بعض الانفراج فی علاقة البلدین إثر هذه اللقاءات، ولکن قرّرت السعودیة فی أواخر عام 1985 حینما رأت زیادة قوّتها العسکریة، مواجهة الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة وأخذت بالتقدّم خطوة خطوة لإضعاف إیران فی الحرب وإجبارها علی القبول بالصلح والسیطرة علی الثورة الإسلامیة. وفی مطلع عام 1986 أخذت السعودیة زمام المبادرة وبالتعاون مع الغرب لخفض أسعار النفط. وشرعت فی المرحلة اللاحقة بقتل الحجّاج الإیرانیین فی مکّة المکرمة وإضعاف معنویات الشعب الإیرانی، وانخرطت ضدّ إیران فی الاشتراک فی حرب السفارات لفرض العزلة السیاسیة علی الجمهوریة الإسلامیة. (1)

ص:166

مثیرا للشغب. وقد قوبل هذا الإجراء باحتجاج شدید من قبل الحکومة الإیرانیة.

وتمّ الاتّفاق بین البلدین بوساطة من معمّر القذافی فی عام 1983 علی اعتبار أنّ هذه المشادّات مجرّد حدث صغیر. ولم تحدث أیّ مواجهة بین القوات الحکومة السعودیة والحجّاج الإیرانیین فی عام 1984 مع أنّ إیران أرسلت150,000 حاج إلی السعودیة، فأقیمت مظاهرات الإیرانیین بشکل مهیب فی کلّ من مکّة والمدینة. ومع أنّ السعودیة عارضت إرسال 150,000 حاجّ فی عام 1985 واقتصرت علی قبول عدد أقل، لکنّه لم تحدث أیضا اشتباکات بین حجّاج الجمهوریة الإسلامیة والشرطة السعودیة.

و توصّلت إیران والسعودیة فی أثناء مناسک حجّ عام 1986 إلی اتّفاق ضمنی یسمح لإیران بالقیام بنشاطات سیاسیة محدودة. وکان هذا الاتّفاق ینبع من محاولة إیران التخفیض من الدعم السعودی للعراق من خلال اتّباعها سیاسة معتدلة.

حیث نصّ هذا الاتّفاق غیر الرسمی علی السماح لممثّل الإمام والمشرف علی شؤون الحجّاج الإیرانیین بإقامة تظاهرتین إحداها فی مکّة والأخری فی المدینة، ولکن علی مسافة بعیدة من الحرمین الشریفین. (1)

لکنّ عمر هذا الاتّفاق کان قصیرا جدّا. فقد جلبت مجموعة من الحجّاج الإیرانیین کانت مرتبطة بعصابة مهدی الهاشمی بعض المتفجّرات معها، فتمّ کشفها من قِبل الشرطة السعودیة وأُلقی القبض علیهم بمجرّد دخولهم السعودیة. (2) غیر أنّ التعاطی الحکیم للمسؤولین الإیرانیین مع هذه المسألة أدّی إلی إنهاء الموضوع من دون حدوث مشکلة. إلّا أنّه وخلال تظاهرة للحجّاج الإیرانیین فی عام 1987حدثت

ص:168

اشتباکات عنیفة بین الشرطة السعودیة والحجّاج تحوّلت إلی فاجعة دمویة راح ضحیتها أکثر من أربعمئة حاجّ إیرانی. (1)

ومع حدوث مثل هذه الجریمة المروّعة والإبادة الجماعیة للحجّاج الإیرانیین فی مهبط الوحی وبیت الله الآمن - وفی شهر محرّم الحرام - تکون الحکومة السعودیة قد بلغت الذروة فی مواجهتها المباشرة لإیران الإسلامیة. فأقیم إثر ذلک فی طهران المؤتمر العالمی للحجّ والذی شارکت فیه بعض الشخصیات الإسلامیة المستقلّة من مختلف أصقاع العالم، حیث تمّ فیه التندید بجریمة آل سعود. وسمح الجانب الإیرانی کذلک لمنظّمة الثورة الإسلامیة فی جزیرة العرب الاحتفاء بذکری تمرّد أهالی المنطقة الشرقیة فی السعودیة الذی أعقب انتصار الثورة الإسلامیة فی عام 1979، وذلک فی قاعة الوحدة فی طهران، وسعی السعودیون فی المقابل ومن خلال اللجوء إلی وسائل الإعلام الغربیة للتقلیل من ضغط هذه الحادثة والجنایة المرعبة وردود أفعال العالم الإسلامی والرأی العام للمسلمین تّجاههم، واستطاعوا من خلال نفوذهم المادّی والثقافی الذی یتمتّعون به فی البلدان الإسلامیة - العربیة علی الخصوص - استمالة دعم الکثیر من الدول باستثناء لیبیا. (2)

لقد أدّت فاجعة مکة، إلی انخفاض مستوی العلاقات والتمثیل الدبلوماسی بین البلدین إلی أدنی مستوی له، وأغلقت السفارة السعودیة فی طهران فعلیا بهجوم المواطنین الإیرانیین علیها. فقرّرت السعودیة فی هذه الظروف قطع علاقاتها الدبلوماسیة مع إیران بشکل کامل. (3) واستمرّ هذا الوضع حتّی عام 1990.

ص:169

وکانت الحرب العراقیة الإیرانیة قد استحوذت علی القسم الأساسی من العلاقات الإیرانیة السعودیة، وهو ما نشیر إلیه أدناه.

لقد أدّت أحداث التمرّد والاحتجاجات التی شملت البلدان الإسلامیة من أقصاها إلی أقصاها وبضمنها السعودیة (من قبیل التمرّد فی مکّة المکرمة، الاحتجاجات فی المنطقة الشرقیة و...) وذلک تأثّرا بالثورة الإسلامیة، إلی أنْ تدخل السعودیة فی صفوف المحرّضین للعراق علی شنّ الحرب علی إیران وذلک للحیلولة دون تأثیر الثورة الإیرانیة وخفض قدرة هذا البلد علی تصدیر الثورة. (1)

فقد ازداد النشاط الدبلوماسی السعودی فی الحقیقة بشکل استثنائی لمصلحة العراق ببدء الحرب العراقیة الإیرانیة. ففی تشرین الثانی 1980 أیْ بعد شهرین من انطلاق الحرب المفروضة أعلنت السعودیة توقیع ست دول مطلّة علی الخلیج الفارسی معاهدة أمنیة مشترکة، وبعد برهة صغیرة من ذلک أیْ بضعة أشهر بعد الحرب عُقد مؤتمر القمّة العربی فی الطائف بدعوة من السعودیة وبمشارکة صدام حسین رئیس الجمهوریة العراقی لتنسیق مواقف العرب فی المنطقة تّجاه إیران. فکان التعامل مع الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة وعلی الخصوص بعد احتجاجات مکّة (2) من الأسباب التی دعت قادة السعودیة فی الحقیقة للقیام بنشاط واسع لتعبئة الجامعة العربیة والمؤتمر الإسلامی لصالح المواقف الجدیدة المتّخذة ضدّ إیران. وقام قادة الدول الست المذکورة بالاجتماع فی العاصمة الکویتیة إثر مؤتمر الطائف وأعلنوا عن تأسیس مجلس التعاون الخلیجی. وقام هذا المجلس الذی اتّخذ من الریاض مقرّا له بدور فعّال فی حرب العراق ضدّ إیران، وقد اعتبر بعض المحلّلین السیاسیین أنّ مجلس التعاون الخلیجی یمثّل نتیجة طبیعیة لمساعی البلدان العربیة الستّة فی عقد السبعینات

ص:170

للوصول إلی الوحدة فی المجالات السیاسیة، الاقتصادیة والثقافیة. (1)

إلّا أنّه من الأفضل القول أنّ هذا المجلس کان نتیجة وانعکاسا للثورة الإیرانیة ولأجل الحیلولة دون تأثیر وتصدیر الثورة. (2)

ولأجل التضییق علی إیران ودعم العراق، فقد بذلت السعودیة قصاری جهودها ومساعیها علی مستوی منظّمة المؤتمر الإسلامی أیضا، وکانت تسعی طیلة الحرب لتأمین دعم العراق. (3)

حیث تمثّلت أغلب جهودها بتأمین الدعم العسکری والمالی للعراق، والحیلولة دون الهزیمة المباشرة لهذا البلد من قِبل الجمهوریة الإسلامیة. وتکتب أسبوعیة «بزنس ویک)( Business week) فی هذا الصدد:

إنّ السعودیة والکویت وبتحمّلهما الأعباء الحربیة للعراق وتسدیدهما 6،45 ملیارد دولار کانتا تسعیان دون انتصار إیران. فمنذ أیلول 1980، بلغ مجموع ما قدّمته السعودیة إلی العراق 30 ملیارد دولارا والکویت 14 ملیارد دولارا. فقد کانت السعودیة قد تعهّدت ببیع 700 ألف برمیل من النفط لصالح العراق. ودفعت الکویت والسعودیة کذلک جمیع تکالیف نقل المعدّات إلی العراق وبضمنها المعدّات الحربیة التی کانت تُرسل بطریق البر عبر البحر الأحمر ومن الأردن أیضا إلی هذا البلد. (4)

یقول الأمیر بندر بن السلطان السفیر السعودی فی أمریکا ضمن لقاء صحفی فی 1990/8/5:

لعب النظام السعودی فی السنوات الأخیرة من الحرب العراقیة الإیرانیة دور

ص:171

الوسیط بین واشنطن وبغداد ونقل إلی النظام فی بغداد معلومات عسکریة قیّمة استقاها من المصادر المعلوماتیة الأمریکیة للتحرّکات الإیرانیة فی جبهات الحرب.... هذا فی الوقت [السنوات الأخیرة للحرب] الذی کان فیه العراقیون یطلبون أکثر من أیّ شیء آخر مساعدة الجیش الأمریکی فی مجال المعلومات والخطط والنصائح العسکریة لمواجهة إیران، وقد هیّأت السعودیة جمیع هذه الإمکانات وأکثر منها لهم. (1)

إنّ أحد الأسباب التی أدّت بشیعة السعودیة وکذا المجتمع البائس لهذا البلد وکما هو الحال فی سائر بلدان الخلیج الفارسی للتأثّر بالثورة الإسلامیة الإیرانیة هو تسویغ عدم مراعاة العدالة معهم. الأمر الآخر هو أنّ انتصار الثورة الإسلامیة باعتبارها ثورة شیعیة قد ساهم فی ضخّ الشیعة الذین یعانون الحرمان فی أرجاء الدنیا بالجرأة والقوّة، وهو ما أدّی إلی احتلال مجموعة من الناقمین للمسجد الحرام فی مکّة فی تشرین الثانی 1979 حیث دعمهم فی ذلک عدد کبیر من الشعب أیضا، وکانت هذه المجموعة تمثّل أفرادا من السنّة المتطرّفین. وأعقب ذلک موجة من الاضطرابات عمّت مختلف بلدان الخلیج الفارسی.

حیث قرّر شیعة الإحساء ولأوّل مرّة إقامة مراسم عاشوراء علنا، وذلک فی 28 تشرین الثانی ممّا أدی إلی تدخّل الحرس الوطنی السعودی وحدوث اشتباکات وأعمال شغب عنیفة. (1)

ویکتب أریک رولو محلّل صحیفة «لوموند» الفرنسیة:

لقد اکتسب المتمرّدون الشیعة جرأة وعزیمة إثر الثورة الإسلامیة الإیرانیة وعقب التمرّد المکّی فأحیوا فی 27 تشرین الثانی 1979 مراسم یوم عاشوراء التی تُعدّ ممنوعة فی السعودیة. حیث حمل المحتشدون صورا للإمام الخمینی رحمة الله وهم یتّجهون صوب القطیف، الإحساء وباقی مدن الولایة الشرقیة. فقتل إثر الاشتباکات التی حدثت مع الحرس الوطنی 36 شخصا منهم ممّا جعل المحتشدین فی حالة هیجان علی مدی ثلاثة أیام کاملة. حیث قاموا بإحراق المؤسّسات الأخری وتردید شعارات ضدّ النظام الملکی. ودعت البیانات الناس إلی العمل علی إسقاط النظام السعودی. وبعد إلقاء القبض علی المئات، عاد

الهدوء أخیرا إلی المنطقة. لکن لم یتمّ الاستجابة لمطالیب الشیعة ولم تقدّم الحکومة السعودیة سوی علی التظاهر ببعض الإجراءات بغیة إثبات إسلامیتها.

ص:173

حیث قامت بإغلاق دور حلاقة النساء وطرد المذیعات من التلفزیون الحکومی وعزل بعض المسؤولین الحکومیین فی المنطقة الشرقیة. (1)

فعقب الإثارة والهیجان والسرور الذی عمّ جمیع مسلمین العالم بعد انتصار الثورة، کان تأثیر هذه الموجة قوّیا جدّا فی منطقة الخلیج الفارسی وعلی الخصوص فی أوساط الشیعة إلی درجة أنّهم قاموا بتقویة تنظیماتهم وزادوا من نشاطاتهم یحدوهم أمل کبیر فی هذا الاتّجاه. لکن لم یقتصر التأثّر الشدید بالثورة الإسلامیة علی الشیعة وحدهم، بل ظهرت بین الشباب السنّی (السلفی وغیر السلفی) حرکات لتطبیق الشریعة الإسلامیة تقوم علی الجهاد الشعبی والمشارکة العامّة. فالثورة الإسلامیة وفق رؤیة الشباب المسلم، تمثّل رمزا للعزّة والکرامة الإسلامیة فی قبال الغرب والقوی الکبری وعلاجا ناجعا لمشاعرهم الجریحة. إنّ الخطوة الکبری التی خطتها المرجعیة الشیعیة طیلة الثورة والتی استطاعت التغلّب علی أعظم قوی المنطقة من خلال الاعتماد علی الدور المهم الذی تلعبه المساجد والصمود الثوری للمسلمین الإیرانیین الذی لا یعرف الکلل فی مواجهة الضغوط الأجنبیة وعلی الخصوص مواجهتهم التی تبعث علی الفخر فی مقابل أمریکا من دون الوقوع فی أحضان الاتّحاد السوفیتی، قد أوصل الشعب السعودی إلی حقیقة أنّ الإسلام الحقیقی هو ما تقوله إیران، ولیس ما یدعمه النظام المرتبط بآل سعود. (2)

تحظر السعودیة نشاط الأحزاب، الجماعات والکتل السیاسیة وتعتبر أیّ انتقاد یوجّه إلی المؤسّسات الحکومیة أو إلی سیاسة الحکومة أو إلی مسؤولی النظام عموما

جرما یستحقّ العقاب. فقد وضعت طبقا لقانون الأمن الوطنی الذی تمّ تشریعه فی العام 1965، عقوبات مشدّدة علی مَنْ یعارض السیاسات الرسمیة للحکومة. ووفقا لبعض

ص:174

موادّ هذا القانون، یُعدّ أیّ انتقاد یوجّه إلی الحکومة بشکل علنی فی الکتب أو الصحف أو فی أیّ صورة أخری جرما. وکذا یُعدّ التدخّل فی المسائل السیاسیة أو المیل نحو المنظّمات والجماعات السیاسیة أو ترغیب وتحریض الآخرین علی الاعتراض علی الحکومة جرما وإخلالا بالأمن الوطنی. وطبق موادّ هذا القانون فإنّ التحریض علی الاعتصام أو الاشتراک فیه یُعدّ جرما أیضا. (1) ومن هنا، فإنّ إیجاد تنظیمات ومجامیع سیاسیة یتمّ بشکل سرّی علی العموم.

ویمکن تقسیم هذه المنظّمات والحرکات التی تأسّست فی السعودیة حسب التوضیح التالی وذلک وفق معتقداتها الأیدیولوجیة:

- الجماعات والحرکات السلفیة (أمثال الإخوان والسلفیین الجدد)؛

- الجماعات والحرکات الشیعیة؛

- الجماعات والحرکات السیاسیة؛

- الجماعات والحرکات التنویریة والإصلاحیة (المستغربون)؛

- الجماعات والحرکات الإصلاحیة الدینیة (الجناح التنویری الدینی).

اتّحاد شعب جزیرة العرب: تشکّلت هذه المجموعة من العسکریین الذین نشطوا تحت اسم أحرار جزیرة العرب فی عام 1953، وباسم جمعیة «أبناء جزیرة العرب» عام 1962، وعُرفت بعد ذلک باسم اتّحاد «شعب جزیرة العرب» بعد أنْ انظمّت إلیها مجموعة أخری. وإثر هزیمة العرب فی عام 1973، قل نشاط هذا الحزب وتوقّف عقب خطف قائده ناصر السعید فی 1979/12/7 فی بیروت. (2)

حزب البعث القومی: وتأسّس هذا الحزب فی بدایة عقد الستینات، وأُلقی القبض علی عدد من أفراده بعد اکتشاف محاولته القیام بانقلاب فی عام 1969. توقّف نشاطه

ص:175

فعلیا بعد تحالف العراق والسعودیة فی أوائل الثمانینات وحرمانه من مساعدات قیادة الحزب فی العراق. (1)

حزب الشعب الدیمقراطی: وکان قد تأسّس فی عام 1969 واستمرّ نشاطه حتّی أواسط السبعینات قبل اغتیال الملک فیصل، إلّا أنّه لم یعد یدعو إلی المواجهة السیاسیة بعد ذلک وبعد صدور العفو عن المبعدین السیاسیین فی السعودیة. (2)

حزب العمل العربی القومی: أُنشأ فی عام 1972. وإثر تعزیز نشاطه فی بدایة الثمانینات واجه مواجهة عنیفة من قِبل الحکومة، حیث اعتُقل أغلب أعضائه ومناصریه (عام 1982)، وقد أُفرج عن المعتقلین فی نهایة تلک السنة ذاتها، ولکنّهم اختاروا ترک العمل السیاسی. وبذل قادة الحزب مساعٍ فی عام 1985 لإعادة تأهیله، لکنّهم لم ینجحوا فی ذلک، فأصدروا بیانا یعلنون فیه عن حلّه. (3)

جماعة الدعوة المحتسبة (الإخوان الجدد): یعود تاریخ تأسیس هذه الحرکة إلی أوائل القرن العشرین، وتولّی العتیبی قیادة الحرکة فی السنوات التی تلت انتصار الثورة الإسلامیة الإیرانیة. وقد کان عابدا ویتّبع منهجا ثوریا جدیدا. (4)

وبسبب أهمیة هذه الجماعة السنّیة ودورها فی ثورة عام 1400 هق، وتأثّرها فی ذلک بالثورة الإیرانیة، سنقوم بتحلیل أکثر فی خصوص هذه الجماعة.

وقادت هذه الجماعة ثورة عام 1400 هق، التی أدّت إلی احتلال المسجد الحرام.

وقد أُثیرت نقاشات کثیرة حول ثورة الجهیمان (قائد الجماعة). فقد نعته أنصار الحکومة بأنّه یسعی إلی الرئاسة، وکان فی صدد استغلال الأحاسیس الدینیة للشعب

ص:176

بغیة التمرّد علی الحکومة. فی حال أنّ حرکة جماعة الجهیمان کانت حرکة سیاسیة بالکامل. فهو کان قبل ذلک التمرّد أحد أعضاء الحرس الوطنی السعودی، وقام بتدوین أفکاره وعقائده فی کتاب حمل عنوان الإمارة، الإطاعة والبیعة . وقد طالب فی هذا الکتاب بإقامة حکومة إسلامیة تقوم بالکامل علی الشریعة. وتمثّلت أهمّ انتقادات العتیبی لآل سعود فی: التحالف مع الغرب، الإسراف والتبذیر ببیت المال، فسق وفجور العائلة الحاکمة وعدم اهتمامها بکثیر من أصول وقوانین الشریعة الإسلامیة. (1)

وینبغی البحث عن أسباب وممهّدات ثورة تشرین الثانی 1979 فی مکّة فی نظام العائلة الملکیة وقوّة المعارضین السیاسیین والدینین. وقد وقع ذلک فی مطلع القرن الخامس عشر الهجری حیث تجمّع مئات الشباب حول رجل فی الثلاثینیات من العمر فی المسجد الحرام، ولجأ آلاف الحجّاج إلی قبو المسجد الحرام استجابة لدعوتهم إلی الثورة. وکشف قائد المتمرّدین عن أنّه جهیمان بن محمد سیف العتیبی . وقام المتمرّدون بفضح فهد وأخیه فؤاد ودعوا الناس إلی الثورة. ففی الوقت الذی احتلّ فیه عدّة مئات من المسلمین المسجد الحرام فی العشرین من تشرین الثانی لم یستطیع الجیش والحرس الوطنی للنظام الذی یدّعی حمایته للمنطقة من القضاء علی هذه الثورة. فوجّه خالد طلبا إلی جیسکار دستان الرئیس الفرنسی حینئذ لإرسال قوّة علی وجه السرعة.

وقد بعثت هذه الحادثة مسؤولی البلدان العربیة علی الحیرة والقلق. واشترکت کلّ من أمریکا والأردن إضافة إلی فرنسا فی الهجوم علی المتحصّنین فی المسجد الحرام.

حیث وصل السعودیة فوج من الجندرمة الفرنسیة یقوده خمسة من المتخصّصین

فی مواجهة الاغتیالات، والذین کانوا دخلوا دورات خاصّة لمواجهة التمرّد، وذلک فی 23 تشرین الثانی. فقادت وشنّت هذه المجموعة هجومها الأخیر فی الثالث من کانون

ص:177

الأوّل علی مواضع المتمرّدین فقضت علیهم باستخدام غاز الأعصاب.

ومع وجود التعتیم الإعلامی الشدید علی الأخبار، فقد ظهر أخیرا أنّ هذا التمرّد کان واسعا جدّا وامتدّت مساحته إلی خارج مکّة. حیث تمّ الاتّفاق بین جماعة دینیة باسم «السلفیون» (التی تغلغلت فی أوساط الشباب والحرس الوطنی) والجیش وجزء من الحرس الوطنی وعدّة قبائل من بینها قبیلة «قحطان» و«العتیبی» التی مازالت ذکری «الإخوان» حیّة فی أذهانهم. فهوجمت المساجد فی الطائف وعدّة نقاط أخری بنحو متزامن. وحدثت تحرّکات فی کلّ من الریاض و«القطیف» ومدن وقری شاطئ الخلیج الفارسی.

حیث تقطن الأغلبیة الشیعیة ومؤیّدو الثورة الإسلامیة هذه المناطق الغنیة بالنفط. وانطلقت تظاهرات فی المنطقة الشیعیة الغنیة بالنفط «القطیف» فی ذکری تاسوعاء وعاشوراء. وخلال هجوم رجال الشرطة والجیش السعودی تمّ إلقاء القبض علی 600 من المشارکین من بینهم بعض زعماء الشیعة المعروفین کحجّة الإسلام السید مرتضی القزوینی والشیخ حسن الصفار ، وقتل 36 وثلاثین آخرین. (1)

منظّمة الثورة الإسلامیة فی الجزیرة العربیة: لطالما کانت المنطقة الشرقیة من السعودیة مرکزا للأزمات. وتعود هذه المسألة إلی سیاسة التمییز الدینی المتّبعة منذ العام 1913 وحتّی الیوم، إضافة إلی وجود نوع من الدیکتاتوریة فی النظام الحاکم وحرمان الشعب من المشارکة فی الحکومة، فقد تسبّب هذا التمییز الدائر منذ ذلک الوقت وحتّی الیوم والذی طال جمیع أنحاء البلاد، فی إبعاد أهالی المنطقة الشرقیة عن

الساحة السیاسیة للبلاد، حیث یُعاملون کمواطنین من الدرجة الثالثة. وعلی الرغم من کلّ هذا لم یکن لشیعة المنطقة الشرقیة من السعودیة الذی یشکّلون الأغلبیة الساحقة

ص:178

لهذه المنطقة مجامیع وتنظیمات دینیة وذلک حتّی النصف الثانی من عقد السبعینات، حیث اقتصر النشاط الحرکی علی المجامیع والأحزاب التی تتبنّی عقائد مختلفة، وکان ینشط فیها القومیون، البعثیون والیساریون المتطرّفون. فبدا للشیعة فی هذه المنطقة لزوم إظهار معارضتهم من خلال إطار تنظیمی، لکنّ ذلک لم یحدث حتّی العقد الأخیر الذی ظهرت فیه الحرکة الإسلامیة. (1)

فقد قام آیة الله السید محمد الشیرازی بتأسیس تنظیم منظّمة الثورة الإسلامیة فی الجزیرة العربیة فی عام 1968، لکن لم یتمّ الإعلان عنها رسمیا إلّا فی عام 1975. ومع انتصار الثورة الإسلامیة فی إیران قرّر قادة منظّمة الثورة الإسلامیة إدخال عامّة المسلمین الساحة السیاسیة. وکان هذا القرار ینسجم مع هدف المنظّمة المتمثّل بإسقاط نظام آل سعود مع وجود حماس واندفاع للشعب السعودی فی تلک السنة. فکان یُکتب اسم المنظّمة علی جدران بیوت المنطقة الشرقیة وشوارعها. وکانت ثورة 1400 هق فی المنطقة الشرقیة من ضمن نشاطات هذه المنظّمة والتی لعبت دورا حاسما فی تغییر معادلات مواجهة آل سعود. واستمرّت المنظّمة فی نشاطاتها طیلة عقد الثمانینات علی الرغم من الاعتقالات الواسعة التی طالت أنصارها ومحبّیها. (2)

واستمرّت المنظّمة فی نشاطها السیاسی من خارج السعودیة من خلال إصدار مجلّة «الثورة الإسلامیة» فی لندن عام 1980 وحتّی کانون الثانی 1991، مجلّة «البقیع» منذ عام 1986 وحتّی ربیع عام 1993 فی إیران، ومجلّة باللغة الإنجلیزیة تحمل عنوان

«نداء مکة». (3) فکانت تعکس هذه المجلّات أهداف، أفکار ومواقف المنظّمة، وتمّ استبدال مجلّة «الثورة الإسلامیة» بمجلّة «الجزیرة العربیة» منذ عام 1993، بینما عطّلت

ص:179

المنظّمة مجلّاتها الأخری. ویُعدّ الشیخ الصفار الزعیم والمتحدّث الرسمی باسم منظّمة الثورة الإسلامیة فی الجزیرة العربیة حیث یعلن للصحف عن المواقف السیاسیة لهذه المنظّمة حول الأحداث المختلفة بشکل مستمرّ. ویبدو أنّه حینما أُوقف صدور مجلّة الثورة الإسلامیة وتولّی الجزیرة العربیة بدلها الإعلان عن مواقف وآراء المنظّمة، قد حدثت تغیّرات وتطوّرات فی آراء المنظّمة.

حیث إنّ تغییر الاسم فی أواخر عام 1990، یحکی عن نوع من التقارب والحوار والمفاوضات مع النظام السعودی، والابتعاد عن مواقفها السابقة، إلی أنْ أُعلن أخیرا وذلک فی عام 1992 عن تغییر اسم منظّمة الثورة الإسلامیة فی الجزیرة العربیة إلی «حرکة الإصلاحیین فی الجزیرة العربیة». (1)

ولخّص الشیخ الصفار فی الرسالة التی کتبها إلی علماء شیعة المنطقة الشرقیة من السعودیة ونشرتها صحیفة «السفیر» اللبنانیة، بواعث المنظّمة لخوض المباحثات مع النظام آل سعود فی الموارد الثلاثة أدناه:

1. یمکن للمحادثات مع النظام أنّ تکون وسیلة ضغط یضمن من خلالها آل سعود مطالیب المنظّمة علی أصعدة مختلفة.

2. إنّ جلوس الملک فهد علی طاولة المفاوضات مع المنظّمة، یمثّل نوعا من الاعتراف الرسمی من قِبل نظام آل سعود بمکانه ودور المنظّمة فی المعادلات السیاسیة للبلاد.

3. إنّ الحوار مع النظام السعودی یجعل المنظّمة وأعضائها بمنأیً عن القمع الذی

تمارسه الشرطة ومنظّمة المخابرات والأمن السعودی حیالها، وتمهّد الطریق لنشاط أکبر للمنظّمة فی داخل البلاد. (2)

ص:180

فقد طالبت حرکة الإصلاحیین فی مفاوضاتها مع فهد تنفیذ النظام السعودی بعض الشروط المذکورة أدناه فی مقابل إیقاف المنظّمة أنشطتها السیاسیة والإعلامیة:

1. احترام النظام لمذهب التشیّع باعتباره أحد المذاهب الرسمیة، والاعتراف بحقّ الشیعة فی ممارسة طقوسهم الدینیة.

2. السماح للشیعة ببناء المساجد والحسینیات وإعمار وإعادة تأهیل مراقد أئمّتهم فی البقیع.

3. أنْ تکون التعالیم الدینیة فی المناطق الشیعة وفق مذهب التشیّع.

4. السماح للشیعة بطبع الکتب واستیرادها من الخارج والسماح لهم کذلک بإصدار الصحف والمجلّات طبق القوانین المعمول بها فی البلاد.

5. یحقّ للشیعة تأسیس الحوزات العلمیة ومدارس العلوم الدینیة فی البلاد.

6. إیقاف الهجمات ضدّ التشیّع والشیعة والسماح لهم بالدفاع عن مذهبهم.

7. إعطاء الصلاحیة لمحاکم القضاء الشیعة کسائر المحاکم القضائیة فی البلاد.

8. حرّیة الشیعة فی إقامة شعائرهم ومراسمهم الدینیة.

9. القضاء علی التمییز المذهبی فی الجامعات والمؤسّسات التعلیمیة ودوائر الدولة أعمّ من أنْ تکون سیاسیة، عسکریة وأمنیة.

10. إیلاء الأهمّیة لإعمار المناطق الشیعیة والقضاء علی الحرمان الذی تعانیه هذه المناطق. (1)

وفی مقابل تجمید النشاطات الإعلامیة والسیاسیة لحرکة الإصلاحیین وسفر مجموعة کبیرة من قادة وأعضاء الحرکة إلی البلاد، لم یقم نظام آل سعود بإجراءات مهمّة وملفتة، فقد اقتصر علی إطلاق سراح أربعین سجینا وإعلان حرّیة سفر الشیعة من

ص:181

وإلی السعودیة. فیبدو أنّ حرکة الإصلاحیین فی الجزیرة العربیة لم تحصل علی مکاسب مهمّة فی مقابل ما قدّمته؛ إذ إنّ الإفراج عن السجناء السیاسیین ورفع الضغوط الأمنیة یمکن أنْ یمثّل نتیجة لضغوط المنظّمات الدولیة لحقوق الإنسان وکذلک للنفق السیاسی والاجتماعی الذی دخله النظام. فقد کان تغییر النظام السعودی مساره باتّجاه المعارضین مجرّد تکتیک لیس إلّا، حیث لم یستمرّ علیه مدّة طویلة. فبما أنّ النظام یعیش ضغوط الجیل الجدید من السلفیین للقیام بإصلاحات واهتمام بالأصول الدینیة، فقد انبری للمساومة مع المعارضین الشیعة علی أمل خفض الضغوط الشیعیة وإضعاف جبهة العلماء السلفیین من خلال ذلک. ومن جهة أخری، فإنّ النظام السعودی لم یفِ بالوعود التی أطلقها للشیعة، حیث تناساها بعد مدّة من ذلک. (1)

حزب الله الحجاز: أُسّس حزب الله الحجاز حسب المعایر الدینیة، ویعتقد أنّ السبیل الوحید لإسقاط النظام یمرّ عبر الکفاح المسلّح فحسب. حیث یری هذا الحزب أنّ نظام آل سعود یعارض الدین، وقد اعتلی السلطة بدعم من الإنجلیز، واستمرّ فی حکمه من خلال الدعم الأمریکی والأوروبی. وقد تشکّل هذا الحزب فی أوساط الطلبة السعودیین الدارسین بقم، وذلک فی عام 1987. وبحدوث فاجعة الحجّ فی مکّة عام 1987 وسّع نطاق مواجهاته مع النظام السعودی، وأصدر بیانات تحمل توقیع «حزب الله الحجاز». فقد هاجم فی بیاناته هذه إجراءات النظام السعودی، وأکّد علی اتّباعه نهج الإمام الخمینی رحمة الله والجمهوریة الإسلامیة فی إیران. وقد قام الحزب

بإصدار نشرة الفتح وذلک فی مدینة قم المقدسة. وقد شدّد فی هذه المجلّة علی أنّ النظام السعودی نظام دموی یدیره حفنة من «الکفّار» الذین یتمثّلون بالأسرة السعودیة، وأنْ لیس بإمکان أحد القضاء علی هذا النظام سوی أتباع حزب الله. وبعد إصدار عدّة

ص:182

أعداد من مجلّة الفتح، تمّ تغییر اسمها وطُبعت باسم مجلّة «رسالة الحرمین». (1)

وقد قام حزب الله الحجاز بخطوات ونشاطات متعدّدة فی طریق مواجهة النظام السعودی، حیث یمکن الإشارة إلی الحریق الواسع فی مصفی غاز میناء «الجعیمة» فی شرق السعودیة وذلک فی أواخر عام 1987، وتفجیر فی مصفی نفط «رأس تموره»، ومعمل بتروکیمیاویات «الجمیل»، واغتیال عدّة شخصیات دبلوماسیة سعودیة فی الباکستان وترکیا ولبنان، من بین ذلک. وبعد سنة من ذلک قام النظام بحملة اعتقالات واسعة لإلقاء القبض علی أعضاء وأنصار حزب الله فی المنطقة الشرقیة من السعودیة. ومنذ حدوث أزمة الخلیج الفارسی وهجوم العراق علی الکویت وحتّی الآن، لم یقم حزب الله بممارسات عنیفة ضدّ النظام واکتفی بالعمل السیاسی والإعلامی. وقد اعتبر الحزب منذ نشأته المفاوضات مع النظام السعودی أمرا مرفوضا وسعی للنأی بنفسه عن مجموع المفاوضین. (2)

تجمّع علماء الشیعة: أُسّس هذا التجمّع فی عقد الثمانینات بواسطة جمع وطلبة وعلماء شیعة السعودیة، وقد اتّخذ من لبنان وسوریا مقرّا رئیسا له. یغلب الطابع الثقافی والإعلامی علی أنشطة هذه الجماعة. (3)

لقد اتّبع النظام الملکی السعودی سیاسة إصلاحیة وتوافقیة بشکل متزاید فی السنوات الأخیرة وذلک فی مقابل معارضیه فی الداخل والخارج.

فقد کانت سیاسته الواسعة فی إعطاء منح مالیة إلی خصومه ومعارضیه المنفیین والمبعدین خارج الوطن ناجحة إلی حدّ بعید. ولکنّ الأعقد من ذلک هو التغلّب علی المعارضین الإسلامیین المتنامین. أمّا فی خصوص الشیعة، فإنّ سیاسة العزل السعودیة

ص:183

ترافقت فی ظاهرها مع التردّد وعدم الرغبة. ومع أنّ عظمة المعارضة الداخلیة والخارجیة للشیعة مع النظام ترتبط بوضع السیاسات الإصلاحیة، لکن لیس بإمکانها التقلیل من معارضة الشیعة، إذ إنّ التشیّع والوهابیة غیر متناغمین فی النهایة. (1)

وقد کتب الدستور الکویتی علی منوال دساتیر البلدان العربیة حیث أُقرّ من قِبل المجلس التأسیسی فی عام 1962. حیث تکون الکویت وفق هذا الدستور دولة عربیة یدیر حکومتها أسرة «الصباح» بنحو توارثی. وثمّة مجلس مشورتی یساعد ویتعاون مع أمیر الکویت فی إدارة شؤون الإمارة، وتخضع أنشطة الحکومة لرقابة المجلس الوطنی الکویتی. ویستطیع أمیر الکویت عند الضرورة حلّ البرلمان.

ویمکن القول أنّ الشعب الکویتی أکثر وعیا ونضجا سیاسیا من بین سائر شعوب بلدان الخلیج الفارسی العربیة الأخری، وکان للحرّیة النسبیة للصحف المختلفة ووجود المجلس دورا مؤثّرا فی نمو هذا الوعی. وإثر تحریر الکویت من الاحتلال العراقی فی عام 1991 استطاعت ست جماعات سیاسیة الاشتراک فی انتخابات الدورة السابقة للمجلس الوطنی وهی عبارة عن:

1. التجمّع الشعبی الإسلامی، 2. الحرکة الدستوریة الإسلامیة (إخوان المسلمین الذین یطالبون بتطبیق الشریعة)، 3. الائتلاف الإسلامی الوطنی، 4. التجمع الدستوری (مجموعة التجّار الأثریاء)، 5. المستقلّون وجناح النوّاب ذوی المیول الإسلامیة، السنّیة والشیعیة والقبلیة، 6. المنبر الدیمقراطی الکویتی، الذی یضمّ مزیجا من القوی القومیة، الیساریة والعلمانیة.

وقفت إیران إلی جانب بریطانیا لدعم انضمام الکویت إلی منظّمة الأمم المتّحدة. (1)

ومع إعلان بریطانیا عن استعدادها لسحب قواتها من شرق قناة السویس عام 1968، أکّد شاه إیران خلال إعلانه رسمیا استعداده لملء الفراغ العسکری فی منطقة الخلیج الفارسی، علی لزوم عدم تدخّل أیّ دولة أجنبیة فی شؤون المنطقة. ولأجل هذا قامت إیران بطمأنة أمیر الکویت فی خصوص أمن الخلیج الفارسی، وأنّ إیران ستدافع عن هذا البلد قبال أیّ اعتداء أجنبی یطاله.

حیث تری إیران أنّ حضورها الفاعل فی منطقة الخلیج الفارسی وبحر عُمان یندرج فی سیاق ضمان مصالحها القومیة. ومن هنا، ولأجل کسب دعم بلدان المنطقة لملء فراغ خروج القوات العسکریة البریطانیة والحفاظ علی أمن الخلیج الفارسی سعت إلی إقناع السعودیة والکویت للقبول بأفکارها حول هذا الموضوع. (2)

وکان لرأی الغرب فی تعزیز القدرات العسکریة الإیرانیة لضمان أمن المنطقة ومصالح البلدان الغربیة فی هذه المنطقة الغنیة بالنفط، توافق السیاسات الإیرانیة الکویتیة مع سیاسة بریطانیا وأمریکا وأخیرا المطالبات العراقیة بالأراضی الکویتیة

وحاجة هذا البلد إلی کسب دعم القوی الإقلیمیة أمثال إیران، تأثیرا ملفتا فی توافق رأی الکویت مع إیران. ومع کلّ ذلک، فبمجرّد استعادة إیران سیطرتها علی الجزر الثلاث طنب الصغری، طنب الکبری وأبوموسی، وقفت الکویت إلی جانب سائر البلدان العربیة ضدّ إیران وسحبت سفیرها من طهران. وأدّی تضامن البلدان العربیة مع بعضها البعض إلی بعث المسؤولین إلی جانب نظرائهم العرب شکوی إلی مجلس الأمن الدولی ضدّ إیران، وطالبوا إیران بسحب قوّاتها العسکریة من هذه الجزر. لکنّ کان استمرار هذا التنسیق بین الکویت وباقی البلدان العربیة مرتبطا بعدم وجود خطر أو

ص:186

تهدید للأمن الوطنی الکویتی من قِبل العراق. ومن جانب آخر، فقد تحوّل الخلاف بین إیران والعراق حول شطّ العرب فی الخامس من نیسان 1969 إلی أزمة حادّة بین الجانبین. فحزم وزیر الدفاع ورئیس الأرکان الکویتی حقائبه متوجّها صوب بغداد علی رأس هیئة للوساطة بین البلدین، غیر أنّ الحکومة العراقیة طلبت من هذه الهیئة السماح للقوات العراقیة الاستقرار فی المناطق الشمالیة للکویت بذریعة الهجوم المحتمل لإیران علی میناء أم قصر.

إنّ ما یبدو من سلوک المسؤولین الکویتیین، هو أنّ هذا البلد ینظر إلی علاقاته مع إیران بحسب ما تقتضیه مصالحه، فما لم یکن ثمّة تهدید علی الأمن الوطنی الکویتی - کقضیة الجزر الثلاث - تصطفّ مع باقی الدول العربیة التی لها خلاف مع إیران، ولکن بمجرّد إحساسها بالخطر - وعلی الخصوص من قِبل العراق - فإنّها تهرع لإقامة أفضل العلاقات مع إیران. فالحکومة الکویتیة وبعد انخفاض حدّة الأطماع العراقیة فی أراضیها، تسعی لاتّخاذ مواقف أکثر انسجاما وإستراتیجیة أکثر ملاءمة فی العلاقة مع إیران، وذلک من خلال تشخیصها أنّ الاعتماد علی قوّة إقلیمیة نظیر إیران سیضمن ثباتها وأمنها الداخلی.

فقد قامت الدول العربیة الغنیة بالنفط علی سبیل المثال بحظر تصدیر البترول إلی

أوربا وأمریکا أبان حرب أکتوبر بین العرب وإسرائیل عام 1973، إلّا أنّ إیران استمرّت فی صادراتها النفطیة إلی البلدان الأوربیة والولایات المتّحدة وحتّی إسرائیل بزیادتها فی سعر النفط. فالخطوة الإیرانیة هذه قد أثارت احتجاج البلدان العربیة الغنیة بالنفط وعلی رأسها السعودیة، ولکنّ الکویت وعلی خلاف الموارد السابقة اختارت هذه المرّة الصمت تّجاه هذه الخطوة. (1)

وتدعم الکویت أیضا القرارات والسیاسات الإیرانیة فی منظّمة الأوبک لأجل أنّها

ص:187

تتماشی ومصالح هذا البلد. وقد رحّبت الکویت بتوقیع معاهدة الجزائر عام 1975 بین إیران والعراق أکثر من أیّ بلد آخر إلی الحدّ الذی صرّح فیه وزیر الخارجیة الکویتی بأنّ هذه المعاهدة تمثّل بدایة جدیدة لثبات وأمن المنطقة. وکانت الکویت تأمل من خلال عقد هذه المعاهدة التقلیل من الخطر الذی یشکّله العراق، حیث لم یعد للحکومة العراقیة دعوی حدودیة مع الکویت بذریعة احتمال المواجهة مع إیران. بید أنّ الاعتماد الکویتی علی إیران ومماشاتها لحکومة الشاه تعرّض للاهتزاز عقب ثورة الشعب علی النظام الشاهنشاهی.

إذ إنّ الکویت التی تری فی الشاه علی أنّه شریک طبیعی، وأنّ النظام الحاکم فی طهران یمثّل قوّة إقلیمیة تحافظ علی الوضع الموجود فی المنطقة، لم تکن میّالة إلی حدوث تغییر فی الوضع السیاسی - الأمنی القائم بحیث یؤثّر سلبا علی الحکومة ووحدة الأراضی الکویتیة وأمنها الوطنی. ومن هنا، فإنّ المسؤولین الکویتیین بادروا إلی منع الإمام الخمینی رحمة الله من دخول الأراضی الکویتیة وذلک فی سیاق دعم الشاه والحیلولة دون بروز توتّر داخلی. (1)

إنّ استمرار النظام الشاهنشاهی فی الحکم فی إیران کان علی درجة من الأهمّیة بالنسبة للکویت دعت أمیرها إلی إرسال ممثّل عنه إلی البلاط الإیرانی قبل عدّة أشهر من انهیار نظام الشاه، حیث أبرز خلاله أمله فی انحسار الأزمة الحالیة فی الساحة الداخلیة الإیرانیة بأسرع وقت ممکن. ولکن لم تمض فترة طویلة علی ذلک حتّی انتصرت الثورة الإسلامیة فی إیران وأطاحت بالنظام الشاهنشاهی.

وکان لانتصار الثورة الإسلامیة فی إیران انعکاسات عالمیة واسعة، وکانت تداعیاتها ملموسة علی مستوی المنطقة أیضا بطبیعة الحال. وکانت الحکومة الکویتیة

ص:188

التی تمیل فی هذا الخضمّ إلی الحفاظ علی الوضع القائم فی منطقة الخلیج الفارسی، مجبرة علی تغییر سیاساتها وعلاقاتها المتبادلة مع إیران.

حیث کان المسؤولون الکویتیون یعتقدون بأنّه سیعایشون منذ الآن نظاما شیعیا ورادیکالیا إیرانیا فی مقابل نظامهم السنّی والمحافظ یختلف اختلافا فاحشا مع النظام الشاهنشاهی. (1) وقد تعاملت الکویت کسائر البلدان المطلّة علی الخلیج الفارسی باحتیاط وحذر شدیدین مع الثورة الإسلامیة الإیرانیة، ولم تتّخذ ابتداء موقفا صریحا ومعارضا للجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة. (2) وفی تموز 1979 وبعد عدّة أشهر من انتصار الثورة الإسلامیة لیس إلّا، قام صباح الأحمد الجابر الصباح مساعد رئیس الوزراء ووزیر الخارحیة الکویتی کأوّل مسؤول کبیر فی منطقة الخلیج الفارسی بزیارة إلی طهران التقی خلالها نظیره الإیرانی فی الحکومة المؤقّتة. وأکّد الطرفان فی بیان مشترک بعد انتهاء الزیارة علی الاحترام المتبادل بین البلدین لاستقلال ووحدة أراضی کلّ منهما، وتحقیق أمن الخلیج الفارسی من خلال بلدان المنطقة. إلّا أنّ التطوّرات

الداخلیة علی الساحة الإیرانیة کانت أوسع من أنْ یتمّ تأمین حالة الاستقرار والثبات فی العلاقات بین البلدین.

حیث إنّ احتلال سفارة الولایات المتحدة الأمریکیة فی طهران فی تشرین الثانی 1979 والذی أعقبه استقالة المهندس بازرکان رئیس الحکومة المؤقّتة، أدّی إلی تغییر الکویت سیاستها تّجاه الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة. (3)

ومع بدء الهجوم العراقی علی إیران فی 22 أیلول 1980 تحوّلت منطقة الخلیج الفارسی إلی بؤرة للأزمات.

ص:189

فقد أعلنت الکویت التی کانت أقرب البلدان إلی منطقة العملیات العسکریة للجیشین الإیرانی والعراقی ومنذ الأیام الأولی لبدء الحرب عن الحیاد تّجاهها. ومع أنّ الحکومة الکویتیة کان یبدو علیها أنّها کانت علی اطّلاع علی وقوع هذا الهجوم وذلک قبل مدّة من وقوعه، وکانت قد وافقت علی تسدید مبالغ طائلة لتکالیف الحرب إلی العراق فی مؤتمر جدّة؛ غیر أنّها دعت فی أوّل تصریح رسمی حول الحرب، دعت الطرفین إلی وقف عملیاتهما العسکریة. وقد بالغت خلال التطوّرات اللاحقة فی اتّخاذ مواقف عدائیة تّجاه إیران وعلی الخصوص فی المسائل المتعلّقة بالحرب العراقیة الإیرانیة عند بلوغها ذروتها التی أخذت تُنبأ عن تفوّق وانتصار الجمهوریة الإسلامیة علی النظام العراقی، والذعر الذی دبّ فی نفوسهم من الخطر الذی بات وشیکا، فدعمت النظام العراقی بشکل سافر وخفی، واتّخذت بعض الخطوات لإضعاف الجمهوریة الإسلامیة والقضاء علیها.

إن تأسیس مجلس التعاون الخلیجی فی عام 1981 والذی کانت الکویت أحد مبتکریه، یمثّل فی حقیقته مواجهة للثورة الإسلامیة فی إیران. ویعتقد المحلّلون والخبراء فی المسائل الدولیة وعلی أساس دعم الولایات المتّحدة لتأسیس هذا المجلس، أنّ وقوع الثورة الإسلامیة الإیرانیة لم یکن بعیدا عن المساعی الأمریکیة لإیجاد هذا المجلس ومطالب قادة بلدان المنطقة. وینبغی البحث عن أسباب العلاقات السیاسیة والعسکریة الحمیمة للکویت مع بلدان منطقة الخلیج الفارسی فی السنوات الأخیرة، فی إطار أنشطة مجلس التعاون الخلیجی. (1)

إنّ أوّل الموارد الذی حظی باتّفاق أعضاء مجلس التعاون الخلیجی هو تقدیم الدعم للعراق باعتباره دولة عربیة تمرّ فی حالة حرب. وکان لتحریر خرمشهر

ص:190

(المحمّرة) من قِبل قوات الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة، واضطرار العراق لاتّخاذ مواقف دفاعیة یمثّل نقطة حاسمة فی علاقات عضو مجلس التعاون الخلیجی مع الطرفین المتنازعین فی التطوّرات التی حدثت خلال الحرب العراقیة الإیرانیة.

إنّ الهزائم العسکریة للعراق فی جبهات القتال والخطابات الناریة للمسؤولین الإیرانیین والموجّهة إلی حکومة الکویت، وضع هذا البلد فی أتون رعب وذعر من وصول نظام شیعی للحکم فی العراق فی حال هزیمته. لتصل النوبة من بعده إلی سقوط النظام المحافظ والسنّی فی الکویت. وقد وصل هذا الطراز من التفکیر الکویتی ذروته حینما رفضت الحکومة الإیرانیة قرار مجلس الأمن الدولی. وکانت هذه ذریعة مناسبة للکویت وسائر البلدان الأعضاء فی مجلس التعاون الخلیجی لدعم العراق بشکل أکثر علنیة. (1)

إنّ إحدی أهمّ الخطوات التی قامت بها الکویت فی هذا المقطع الزمانی لدعم العراق، هی بیعها النفط لصالح هذا البلد. فالکویت والسعودیة ولأجل الضغط علی إیران إقتصادیا وإنهاء الحرب فی الأعوام 1985 و1986 قامت بزیادة إنتاج النفط بنحو غیر مسبوق من خلال التنسیق والتعاون مع باقی أعضاء مجلس التعاون الخلیجی. (2)

ومع سیطرة القوات العسکریة الإیرانیة علی شبه جزیرة الفاو والتی تُعدّ من أهمّ الأحداث طیلة حرب السنوات الثمانی بین العراق وإیران، توقّعت الحکومة الکویتیة أنْ یکون ذلک بدایة لهزیمة العراق لیعقبها سقوط النظام المحافظ فی هذا البلد. ولأجل ذلک خضعت أخیرا لوضع جزیرة بوبیان تحت تصرّف العراق، وذلک بعد سنوات من الممانعة، حیث إنّها رأت تجمّعات القطعات الإیرانیة علی بعد عدّة کیلومترات من أراضیها. وأعقب

ص:191

ذلک أیضا اتّخاذ الحکومة الکویتیة بعض الخطوات علی مستوی المنطقة والعالم بغیة التمکّن من الحیلولة دون دوام الحرب التی کانت اقتربت من أراضیها. (1)

ویمکن القول عموما أنّ الکویت باعتبارها بلدا صغیرا وللعثور علی مرتکز سیاسی موثوق وقوّة عسکریة داعمة تستطیع الاعتماد علیها فی حالات الخطر للحفاظ علی وجودها، ثباتها وأمنها، فقد أبدت میولا تّجاه أمریکا والمعسکر الغربی. ومع أنّ هذا البلد تربطه علاقات ومعاهدات مع الاتّحاد السوفیتی والمعسکر الشرقی لتحقیق توازن القوی والابتعاد عن الأزمات، لکن وبحسب قول أسد عبد الرحمن أستاذ العلوم السیاسیة فی جامعة الکویت؛ إذا اتّجهت أوضاع المنطقة نحو الخطورة فمن المؤکّد أنّ الکویت ستختار طریقا یُملی علیها من قِبل السعودیة. فاعتماد الکویت علی الدعم العسکری للولایات المتّحدة لحلّ الأزمات الإقلیمیة فی السنوات الأخیرة ینبغی أنْ یندرج فی سیاق الطلب الکویتی من الحکومة الأمریکیة القائم علی مرافقة وحمایة ناقلات البترول الکویتیة فی الخلیج الفارسی إثر اتّساع نطاق الحرب العراقیة وشمولها

هذه المنطقة. (2)

وبعد موافقة الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة علی القرار 598 الصادر من مجلس الأمن الدولی وانتهاء الحرب وهدوء الأزمة فی المنطقة، نشط البلدان فی توسیع العلاقات المتبادلة فی ما بینهما. وساهمت طبیعة تعامل إیران مع قضیة حرب النفط وإدانتها لهجوم العراق علی الکویت فی تقویة الدور الإیرانی وهیبته. إذ إنّ إیران ومن خلال حفاظها علی الحیاد فی هذه الأزمة، قامت بمساعدة الائتلاف الدولی وحظیت بامتیازات إیجابیة أیضا. هذا فی الوقت الذی کان یسعی فیه صدام إلی ترغیب إیران

ص:192

بالوقوف معه بإعلانه التنازل عن جمیع مطالبه الحدودیة. (1)

بما أنّ الثورة الإسلامیة ومنذ انطلاقتها الأولی اعتبرت أنّ أهدافها بمثابة مسؤولیة عالمیة لابد لها من أنْ تنهض بأعبائها، الأمر الذی بادرت شخصیات النظام إلی عکسه فی جمیع کلماتها، فقد تسبّب ذلک فی ذعر وارتباک حکام کلّ من قطر، البحرین، عمان، الکویت والإمارات العربیة المتّحدة.

حیث رحّبت الأقلّیة الشیعیة فی الکویت والجالیة الإیرانیة فی هذا البلد بالتغییرات التی حدثت فی إیران وقیام نظام دینی إثر انتصار الثورة الإسلامیة وسقوط الشاه. فکانت نشاطات الشیعة والجالیة الإیرانیة مقلقة بالنسبة للمسؤولین الکویتیین. (2) فالثورة الإسلامیة کانت قد استقطبت فی الحقیقة عامّة العرب.

فقد استلم حجّة الإسلام والمسلمین السید عباس المهری الذی تربطه علاقة مصاهرة مع الإمام الخمینی رحمة الله والذی یحمل الجنسیة الکویتیة، زمام المبادرة فی هذا البلد. ففی آب 1979 اتّضح أنّ الإمام الخمینی رحمة الله کان قد نصب المهری ممثّلا شخصیا له فی الکویت. وقد تمثّل نشاط هذا العالم الدینی بالخطابات السیاسیة العمیقة، وقد انعکس ذلک أیضا فی المساجد والحسینیات وذلک من خلال نشاط نجله الثانی وأقربائه والأساتذة. وقبل أنْ تترک هذه الخطابات أثرها علی القسم الأعظم من الأقلّیة الشیعیة أقدمت الحکومة الکویتیة علی اعتقال وطرد جمیع أعضاء أسرة المهری وذلک فی أیلول من ذلک العام، وتصوّرت أنّها قد انتهت من هذه المسألة. وقد أبدی قادة الثورة الإیرانیة احتجاجهم علی هذا الاعتقال وقدّموا الدعم المعنوی له. (3)

ص:193

وقد ازداد فی ذات الوقت تضامن وتوافق شیعة الخلیج الفارسی مع الثورة الإیرانیة، إلّا أنّه حینما وصلت هذه الاضطرابات ذروتها فی عام 1980، نجح المجتمع الشیعی بتنظیم حنقه هذا علی شکل حرکة سیاسیة. فالجماعات الشیعیة الرادیکالیة المعارضة التی کانت محرومة من الدعم الشعبی والقیادی المتجدّد والأصیل، ضلّت معتمدة تمام الاعتماد علی الدعم الخارجی من الذی تقدّمه إیران. (1) فشنّ أکثر من ألف من شیعة الکویت هجوما علی السفارة الأمریکیة خلال إحدی التظاهرات وذلک فی الثلاثین من تشرین الأوّل.

حیث قامت القوات الأمنیة بقمعهم وحکم علی 25 شخصا منهم ممّن له أصول إیرانیة بالسجن لمدد مختلفة. وفی الذکری الأولی لعودة الإمام الخمینی رحمة الله إلی إیران وذلک فی الأوّل من شباط عام 1980، قامت مجموعة بالتجمّع فی مسجد القطیف، فتحوّل هذا التجمّع إلی تمرّد. فقام المتظاهرون الشیعة الذین کانوا یحملون صور الإمام الراحل برمی اثنین من المصارف بالحجر وأحرقوا خمسین حافلة وسیارة وأضرموا النار فی مکاتب شرکة الکهرباء الکویتیة أیضا، حیث اضطرّ الحرس الوطنی للتدخّل مرّة أخری ممّا خلف أربعة قتلی. (2)

لقد أدّی العنف والمواجهة الغاضبة لشیعة الکویت ضدّ السیاسات التی یتّبعها الشیوخ حیال حرب الخلیج الأولی ومعارضتهم للدعم الواسع الذی یقدّمه المسؤولون الکویتیون للنظام العراقی ضد إیران (3)، إلی حدوث تفجیرات متوالیة هزّت الکویت یوم الثانی عشر من شهر کانون الأوّل عام 1983.

حیث استهدفت بالأساس سفارات أمریکا وفرنسا وبرج المراقبة فی مطار الکویت

ص:194

الدولی، إحدی المجمّعات الأمریکیة، وزارة الماء والکهرباء ومنطقة الشعیبیة الصناعیة. ففی الهجوم علی السفارة الأمریکیة، قام أحد السائقین الانتحاریین بتنفیذ عملیته بواسطة شاحنة ملیئة بعبوات الغاز تتّصل بصاعق متفجّر. (1) وأعلنت مجموعة سمّت نفسها «ألویة الثورة العربیة» مسؤولیتها عن تفجیر مقهیین بحریین فی الثانی عشر من شهر تموز عام 1985، حیث قتل 11 شخصا وأصیب 89 آخرین. وقد ادُّعی أنّ المهری یقف خلف قیادة هذه المجموعة. وقد خُطّطت هجمة تموز بحسب الظاهر لقتل أحد المسؤولین الأمنیین الکویتین الکبار والذی یتولّی عهدة تنفیذ سیاسة الحکومة فی قضایا الاعتقال والطرد. (2)

فحکومة الکویت ولأجل السیطرة علی الأقلّیة الشیعیة فی هذا البلد بادرت ابتداء إلی نزع الجنسیة الکویتیة والنفی؛ ومن ثمّ وبعد فترة من ذلک افتتاح المجلس الوطنی

مجدّدا وتوزیر بعض الشیعة فی وزاراتها.

وفی مجال التعامل مع الجالیة الإیرانیة فی الکویت، فسرعان ما بادر المسؤولون الکویتیون لإخراج من یتعاطف مع التیارات السیاسیة فی الداخل الإیرانی ممّن کانوا یطالبون بإحداث تغییرات فی الکویت.

ولم یکن ثمّة اتّحاد فی الرؤی وتعاون منسّق بین شیعة الکویت لمتابعة أهدافهم. ولأجل إلقاء الضوء حول هذا الموضوع یمکننا تقسیم شیعة الکویت إلی ثلاث مجموعات:

1. الشیعة الذین یطالبون بتغییر النظام السیاسی الکویتی، وقد لجأت الحکومة الکویتیة إلی نزع الجنسیة الکویتیة منهم، وإخراجهم من الکویت فی مواجهتها لهم.

ص:195

2 . الشیعة الذین یطالبون بحقوقهم ضمن إطار النظام السیاسی الکویتی، حیث یرون أنّ أفضل طریقة لانتزاع حقوقهم تتمثّل بالنشاط البرلمانی والحضور فی المجلس الوطنی.

3. الشیعة الذین یرغبون فی الحفاظ علی الوضع القائم والاقتراب من آل الصباح، وهم ممّن یعیشون وضعا مالیا ملائما.

فالأسرة الحاکمة فی الکویت تستغل هذه المجموعة لفرض سیطرتها علی شیعة الکویت. حیث أحسّ االمسؤولون الکویتیون بالخطر وأبدوا ردود أفعال شدیدة تّجاه نشاطات بعض أفراد الجالیة الإیرانیة التی تصبّ فی صالح الثورة الإسلامیة والترویج لأفکارها.

فالمسؤولون الکویتیون یعتقدون بأنّ الجالیة الإیرانیة تحاول تغییر النظام السیاسی الکویتی وتتمتّع بدعم من الحکومة الإیرانیة أیضا. فکلّما تسبّبت التظاهرات أو التجمّعات التی یقوم بها الإیرانیون فی تدخّل القوات العسکریة الکویتیة، تسارع

السفارة الإیرانیة إلی إجارة جالیتها وتحول دون اعتقالهم. ولأجل مواجهة هذه الحالة تقوم الحکومة الکویتیة بإخراج الجالیة الإیرانیة من البلاد.

وقُدّر عدد الجالیة الإیرانیة التی أُخرجت من الکویت فی النصف الأوّل من عقد الثمانینات بما یقارب الخمسة آلاف شخص. وقد أُخرج علی مدی ثمانیة عشر شهرا فقط ألفین ومئتین وعشرین إیرانی من الکویت، حیث عادوا أدراجهم إلی إیران. فصبّ اتّباع هذه السیاسة فی نهایة المطاف فی صالح الحکومة الکویتیة. إذ إنّ الإیرانیین الذین یتمتّعون بمستویً معاشی جیّد فی الکویت لم یکونوا یمیلون إلی ترک هذا البلد وتخلیف مدّخراتهم فیه، الأمر الذی أدّی إلی انخفاض النشاط السیاسی لشیعة الکویت تدریجیا. (1)

ص:196

وینتحل أهل السنّة فی هذه البلاد المذهب المالکی والبعض منهم الحنبلی، ویعیش أغلبهم فی المدن الکبیرة. ویشکّل العرب أو بالأحری العرب الذین کانوا یعیشون فی السواحل الجنوبیة لإیران القسم الأعظم من أهل السنّة. ولقد عُدّت البحرین فی الماضی وکما هو الحال فی الإحساء من المراکز التقلیدیة للشیعة، إلّا أنّ التغییرات التی طرأت لأسباب متعدّدة تاریخیة وجغرافیة جعلها تفقد هذه المرکزیة.

وعلی الرغم من الأغلبیة العددیة الساحقة للشیعة، غیر أنّ الحکومة وقعت فی قبضة أسرة آل خلیفة السنّیة، ولأجل الفقر الواسع نسبیا لم یحتلّ شیعة هذه الإمارة مکانتهم اللائقة بهم فی نظامها السیاسی، ومع انتصار الثورة الإسلامیة ووصول الهیجان والشعور الشیعی ذروته والذی أدّی إلی تجدّد ظهور الدعاوی القدیمة للأغلبیة الشیعیة فی خصوص التمتّع بحقوق متساویة فی الحکم وإثارة ذلک ثانیة فی الأعوام 1979 - 1980. وقد أدّت تصریحات بعض المسؤولین الإیرانیین غیر الرسمیین فی مجال إعادة طرح دعوی حاکمیة إیران علی البحرین وإلحاقها بها بدورها، إلی زیادة ضغط أسرة آل خلیفة علی شیعة البحرین. وکان الدعم العملی الذی قدّمته حکومة البحرین للنظام العراقی فی حربه مع إیران والتأیید التلمیحی لحکومة آل خلیفة لإعدام بعض أبرز قادة شیعة العراق، والذی أثار بطبیعة الحال معارضة أغلب شیعة هذه الإمارة لأسرة آل خلیفة، من بین الأسباب الأساسیة لتشدید النزاع فی البحرین. وقامت القوات الحکومیة لهذه الإمارة أیضا ولبواعث سیاسیة وعصبیة دینیة بقمع أیّ تظاهرات لشیعة البحرین. إنّ المواجهة العنیفة لقوات الحکومة البحرینیة مع الشیعة والذی یُعدّ نوعا ما من نتائج حکم الأقلّیة کان من ضمن أسباب قمع التظاهرات الشیعیة فی نیسان 1980، والتی انطلقت اعتراضا علی إعدام آیة الله السید محمّدباقر الصدر من قِبل النظام العراقی ووصلت ذروتها. (1)

ص:198

لقد أعلنت بریطانیا فی عام 1968 ولأسباب مختلفة تمّت الإشارة إلیها فی ما مضی، أنّها ستسحب قطعاتها من «شرق قناة السویس» وبضمنها الخلیج الفارسی. وقد نُفّذ هذا القرار فی موعده المعلن. وبدأت البحرین فی هذه الفترة بناء علی طلب بریطانی بمفاوضات لتشکیل «اتّحاد الإمارات العربیة» مع قطر والإمارات المحایدة «الإمارات العربیة الحالیة». والتحقت البحرین بحسب الظاهر إلی الاتّحاد المذکور وذلک بعد عام 1968، ولکن لأجل احتوائها علی ما یعادل نصف عدد نفوس الاتّحاد المذکور والمستوی المعاشی الاجتماعی والتعلیمی الراقی الذی وصل إلیه خلال أکثر من أربعین سنة، لم یتمّ الاتّفاق مع أمراء وشیوخ الإمارات الثریة لکن المتخلّفة المطلّة علی الخلیج الفارسی حول دستور الاتّحاد وکیفیة تخصیص الموارد المالیة المشترکة وأمثالها.

کان النظام الإداری ونوع الحکم فی البحرین استبدادیا وفردیا بشکل مطلق، وکانت الحکومة البحرینیة منذ القرن الثامن عشر وحتّی الآن فی قبضة أسرة آل خلیفة حیث حکمها منذ ذلک التاریخ وحتّی الیوم ذراری هذه الأسرة علی نحو توارثی. (1) وغیّر عنوان الإمارة أخیرا إلی مملکة، حیث یعتبر حاکم البحرین نفسه ملکا. ویختار نوّاب المجلس بشکل مباشر وعن طریق التصویت السرّی للشعب ولمدّة أربع سنوات (طبق الدستور). ووفق المادّة 65 من دستور البحرین، فإنّ بإمکان الملک حلّ المجلس النیابی. وفی هذه الحالة ینبغی أنْ تجری الانتخابات اللاحقة وتشکیل المجلس الجدید خلال شهر. وبإمکان المجلس السابق إعادة تشکیل نفسه مجدّدا وإکمال دورته حتّی النهایة. (2) وقد تمّ تعطیل المجلس الوطنی فی عام 1975 بذریعة إخلاله فی شؤون البلاد، وفی عام 1993 شُکّل مجلس الشوری بثلاثین عضوا.

ص:199

حیث تبحث هذه الشوری المشاریع واللوائح المختلفة لتقترح علی الدولة ما تراه مناسبا. ولا تتمتّع هذه الشوری بأیّ سلطة تشریعیة، حیث تتوقّف جمیع الأمور علی رأی شخص الأمیر ورئیس وزراء البحرین. (1)

وکان نشاط الأحزاب والجماعات السیاسیة محظورا فی البحرین إلی عدّة سنین سابقة، ولم یلاحَظ أیّ نشاط حزبی مستمرّ، ولکن کانت ثمّة أحزاب تعمل فی خارج البلاد أو بشکل سرّی فی البحرین.

ومع الحرّیة النسبیة التی سُمح بها أخیرا، تشکّلت أحزاب مختلفة فی هذه البلاد. ومن ضمن هذه الأحزاب، جبهة التحریر الإسلامی البحرینیة التی تعتنق التشیّع، حیث شُکّلت فی عام 1979 بزعامة الشیخ العصفور والشیخ العسکری . وتتمثّل الأهداف

الأساسیة لهذه الجبهة فی القضاء علی التدخّل الأجنبی، طرد جمیع العمّال والمستشارین الأجانب. وفی بیان أصدرته هذه الجبهة فی 15 کانون الثانی 1980؛ أعلنت فیه موافقتها علی استقلال البحرین باعتبارها إحدی البلدان الإسلامیة، ولکنّها هاجمت فیه حکومة آل خلیفة لعلاقتها المتقاربة مع النظام البهلوی، ومن ثمّ اتخاذها مواقف مضادّة للجمهوریة الإیرانیة وقادتها، وأشار هذا البیان إلی عدد من الإجراءات التی اتّخذها المسؤولون البحرینیون ضدّ الداعمین للثورة الإسلامیة. وهاجم هذا البیان إضافة إلی ذلک المسؤولین البحرینیین لسماحهم لأمریکا الاستفادة من إحدی المقرّات لممارسة أنشطتها العسکریة، ودعت جمیع المسلمین فی العالم إلی مؤازرة المسلمین البحرینیین فی نزاعهم ضدّ أمریکا والصهیونیة. وفی کانون الأوّل 1981 خطّطت الجبهة لتنفیذ انقلاب ضدّ النظام البحرینی ولکنّه فشل ممّا تسبّب فی إلقاء القبض علی بعض الأفراد وإبعاد آخرین.

ص:200

وفی الاضطرابات التی بدأت فی کانون الأوّل 1994 شدّدت هذه الجبهة علی المطالب السیاسیة والاجتماعیة والاقتصادیة للشعب من خلال إجراء لقاءات وإصدار بیانات. وأکّد الأمین العام لهذه الجبهة الشیخ حمد علی محفوظ علی استمرار ثورة الشعب حتّی إذعان الحکومة بإجراء الانتخابات النیابیة. وقال فی تصریح له، أنّ نشوء نظام نیابی فی البلاد وتحقیق الدیمقراطیة لیس هو بمعنی انتهاء حکومة آل خلیفة. (1)

جبهة التحریر الوطنی البحرینیة: لقد طرأت بعض التغییرات علی التوجّهات السیاسیة للشعب البحرینی فی أوائل العقد السادس المیلادی، وبدأت تظهر شیئا فشیئا الأفکار الناصریة والبعثیة علی الحرکات السیاسیة البحرینیة. وعلی هذا، فقد أثمرت مساعی أحد العناصر الشیوعیة فی تأسیس جبهة التحریر الوطنی البحرینیة، وقد اعترف الاتّحاد السوفیتی السابق بهذه الجبهة رسمیا. وتتّخذ الجبهة حالیا من دمشق مقرّا لها ولا تتمتّع بقوّة سیاسیة معتدّ بها. (2)

وشخص أمینها العام البتّ فی مسألة البحرین مقابل استعادة حکمها للجزر الإیرانیة الثلاث فی مضیق هرمز (أیْ طنب الصغری وطنب الکبری وأبوموسی) فتکون بهذا قد أذعنت عملیا باستقلال البحرین. (1)

وبعد قبول إیران باستقلال البحرین، افتُتح فصل جدید فی العلاقات فی ما بین البلدین. فتوجّهت فی ذلک الوقت (1970) لجنة حسن النوایا الإیرانیة إلی البحرین، وبعد عودة هذه اللجنة أخذت العلاقات الإیرانیة البحرینیة فی التوسّع بشکل سریع. وقام الشیخ ابن سلمان أخو أمیر البحرین ورئیس المجلس الحکومی (رئیس وزراء البحرین) بزیارة إلی طهران فی 1970/8/13 بناء علی دعوة من وزیر الخارجیة الإیرانی. وکان من أهداف هذه الزیارة إعداد مقدّمات زیارة أمیر البحرین إلی إیران.

حیث وصل عقب ذلک أمیر البحرین طهران بتاریخ 1970/9/18 فی زیارة رسمیة. وقد اتُّخذت خطوات مهمّة منذ زیارة لجنة حسن النوایا الإیرانیة البحرینیة (1970) لتطویر وتمتین العلاقات بین البلدین. ویمکن الإشارة إلی أهمّ هذه الخطوات فی ما یلی:

لقد أصبحت العلاقات بین البلدین متقاربة وودّیة جدّا خلال هذه الفترة. وقد ساهمت الظروف الجدیدة التی أعقبت اتّفاقیة الجزائر 1975 بین إیران والعراق، وکذلک ظهور التقارب بین طهران والریاض فی منطقة الخلیج الفارسی، ساهمت أکثر فی حصول التفاهم العامّ للحفاظ علی أمن واستقرار المنطقة بأسرها، وتزامن ذلک مع اندحار التمرّد فی ظفار، واقتراب المجامیع الیساریة والرادیکالیة من الاضمحلال، والتضییق بشدّة علی تحرّکات ومساعی العناصر الشیوعیة. ویُعدّ وقوع الثورة الإسلامیة فی عام 1979 وحرب العراق وإیران ومن ثمّ أزمة حرب العراق مع قوات الائتلاف حول قضیة احتلال الکویت من أهمّ الأحداث المصیریة

ص:202

الحاسمة فی المنطقة الجیو - سیاسیة للخلیج الفارسی التی غیّرت الخریطة الدیمغرافیة للبحرین وجعلتها فی مواجهة تطوّر جادّ. (1)

فی بیان لها إثر ذلک، أنّ المجموعة المعتقلة کانت قد تلقّت تدریبات فی إیران قبل إرسالها لتنفیذ عملیات تخریبیة فی البحرین.

ومع أنّ مسؤولی الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة قد نفوا هذا الاتّهام، إلّا أنّ حکومة البحرین طالبت بسحب القائم بالأعمال الإیرانی فی المنامة واتّجهت العلاقات بین البلدین إلی البرود.

حیث أغلقت البحرین سفارتها فی إیران وذلک فی تشرین الثانی 1983 وانخفض مستوی العلاقات الرسمیة والدبلوماسیة من الجانب الإیرانی إلی مستوی قائم بالأعمال، وذلک منذ آیار عام 1983.

ومع بدء الحرب المفروضة واعتداء العراق علی الأراضی الإیرانیة أعلنت البحرین حیادها رسمیا، غیر أنّ مواقفها الإیجابیة عملیا وسائر بلدان الخلیج الفارسی تّجاه العراق کانت من الوضوح بمکان، حیث تقوم وسائل إعلامها ووسائل إعلام سائر بلدان المنطقة بدعم العراق.

وبما أنّ العربیة السعودیة تمتدّ علی الحدود القریبة المحاذیة للبحرین وکانت قد قدّمت وتقدّم مساعدات مالیة ضخمة إلی البحرین، فقد کانت من هذه الجهة عاملا مؤثّرا فی تحدید المسار السیاسی لهذا البلد، ومن جهة أخری، فإنّ افتقاد البحرین لنظام دفاعی قوی وإحساسها بالضعف من هذا الجانب، دفعها إلی أنْ تمیل وتعتمد علی قوی أخری، ومن هنا، فبالإضافة إلی اعتمادها علی الغطاء الدفاعی للعربیة السعودیة وجیشها الصغیر، فقد مدّت أنظارها باتّجاه القوی الأجنبیة علی منطقة الخلیج الفارسی - أمریکا وبریطانیا علی الخصوص -. (1)

وبعد موافقة الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة علی القرار 598 ووقف إطلاق النار فی

ص:204

جبهات الحرب بین إیران والعراق، أخذت العلاقات بین البلدین إیران والبحرین بالتطوّر. فقد اتّجهت العلاقات السیاسیة بین إیران ودول مجلس التعاون الخلیجی وبضمنها البحرین إلی التحسّن، واتُّخذت خطوات إیجابیة لتوسیع العلاقات السیاسیة والاقتصادیة بینهما، ومع ذلک فقد ضلّ هذا التحسّن فی العلاقات ضعیفا وغیر ثابت علی الدوام. وبعد لقاءات متعدّدة بین مسؤولی البلدین ارتقت العلاقات بینهما إلی مستوی سفیر وذلک فی عام 1990، حیث سلّم أوّل سفیر للجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة أوراق اعتماده إلی ولی العهد ونائب أمیر البحرین. وعلی هذا، فقد أصبحت العلاقات فی ما بینهما أکثر جدّیة مترافقة مع خطوات عملیة خلال عام 1990. ویمکن الإشارة إلی زیارة وکیل وزارة الخارجیة لتسلیم رسالة رئیس الجمهوریة الإسلامیة إلی أمیر البحرین فی هذا العام. وکذا زیارة الدکتور ولایتی وزیر الخارجیة أبان تلک الفترة إلی البحرین وذلک بتاریخ 1990/4/28 و1990/12/16. (1)

واتّجهت العلاقات السیاسیة بین البلدین منذ الشهور الأخیرة من عام 1993 اتّجاها عکسیا نحو فقدان التفاهم المتبادل. فقد مهّد الامتناع عن إصدار تأشیرة دخول للشخص الثانی فی سفارة الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة فی البحرین فی کدورة العلاقات بینهما فی ذلک التاریخ. وظهرت هذه الکدورة والاختلال فی النصف الأوّل من عام 1994، واتّجهت العلاقات مجدّدا نحو التدهور بسبب انحیاز البحرین إلی الإمارات فی الخلاف الإیرانی الإماراتی حول الجزر الثلاث، وذلک من خلال خطاب وزیر خارجیة البحرین فی منظّمة الأمم المتّحدة (تشرین الأوّل 1994).

فهذه الکدورة فی العلاقات تمثّل فی الحقیقة بدء فصل جدید فی العلاقة بین البلدین. فقد اتّجهت مسیرة العلاقات منذ ذلک التاریخ نحو الإضرار بالعلاقات السلیمة

ص:205

والشاملة، فقامت حکومة البحرین فی ذلک العام بوضع سفارة الجمهوریة الإسلامیة تحت رقابة الشرطة حیث کانت تسیطر علی الدخول والخروج منها وإلیها. وینسب المسؤولون البحرینیون ظهور التحرّکات والاعتراضات الشعبیة فی الداخلیة فی هذا البلد إلی إیران. وقد بعثت وزارة الخارجیة البحرینیة مذکّرة اعتراض إلی إیران فی خصوص إذاعة أخبار تلک الاعتراضات من محطّة إذاعة وتلفزیون الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة. واستُدعی السفیر البحرینی عقب ذلک من طهران وذلک فی 1994/12/23، ولکن بعد مرور ما یقارب 85 یوما من استدعائه إلی بلاده عاد مجدّدا إلی طهران وذلک فی شباط 1995. (1)

وفی 1996 وإثر انقلاب حدث فی البحرین بتاریخ 1996/6/4، نسبت البحرین هذه المحاولة الانقلابیة التی استطاعت إحباطها وإلقاء القبض علی 44 شخصا من المعارضین البحرینیین، إلی إیران، وبدأت حملة إعلامیة قویة ضدّ الحکومة الإیرانیة. فازداد توتّر العلاقات بینهما، واستدعی الطرفان سفرائهما وقلّلا التمثیل الدبلوماسی بینهما إلی مستوی قائم بالأعمال.

وقد نفی الدکتور ولایتی تهمة نسبة هذا الانقلاب إلی إیران، وأعلن عن استعداد إیران للوساطة بین الحکومة البحرینیة ومعارضیها. وقام فاروق الشرع وزیر الخارجیة السوری بوساطة لتحسین العلاقات بین إیران والبحرین، وقد أثمرت مساعیه باتّفاق الطرفین الإیرانی والبحرینی عن وقف الحملات ضدّ أحدهما الآخر فی وسائل إعلامهما الرسمیة. (2)

کانت سیاسة الحکومة البحرینیة فی الماضی تقوم علی أساس الامتناع عن

ص:206

الدخول فی ما یمثّل خصومة لإیران فی الاجتماعات الدولیة. وقد تعاملت بشکل معتدل فی ما یخصّ المسائل الإیرانیة فی اجتماعات مجلس التعاون الخلیجی. ولکن فی 1995 کانت أحد المؤیّدین المصرّین فی هذا المجلس لإصدار قرار شدید ضدّ إیران. وفی عام 1996 وعقب نسبة الانقلاب إلی إیران، اتّخذت موقفا معارضا لإیران فی مؤتمر الجامعة العربیة فی القاهرة، علی نحو أدّت جهود البحرین إلی تحذیر هذا المؤتمر فی بیان له من التدخّل الإیرانی فی الشؤون البحرینیة. وقد أصبح موقف هذه الحکومة فی الأعوام الأخیرة وعلی الخصوص بعد استلام السلطة أمیر جدید والتطوّرات الداخلیة البحرینیة، أکثر لیونة مع إیران، نظیر امتناعها عن التصویت فی آخر بیان صدر عن الأمم المتّحدة فی 1996. (1)

وقد أکّدت الحکومة الإیرانیة فی ذات الوقت وذلک فی سیاق مواقفها العامّة، علی ضرورة وجود الثقة المتبادلة بین بلدان المنطقة وإقامة علاقات الصداقة والتعاون معها باعتبارها ضمانا للسلام وتثبیتا للأمن فی المنطقة، وأنّها ستسعی لدوام ذلک.

غربة المجتمع الشیعی (عن الحکومة)، إذ إنّ الشعور بالانحیاز إلی إیران کان حاضرا علی الدوام فی أوساط شیعة البحرین. أضف إلی ذلک، أنّ الدعاوی الإیرانیة المتمادیة فی القِدم فی خصوص هذه الجزیرة، قد زاد من الشرخ بین الشیعة والسنّة. فمن خلال هذه السابقة ظهرت الأصولیة الشیعیة إثر الثورة الإیرانیة کحرکة قویة فی الساحة. (1)

کان شیعة الخلیج الفارسی یفتقدون تاریخا من المقاومة العنیدة فی قبال الحکومات الظالمة وذلک إلی ما قبل ثورة الإمام الخمینی رحمة الله . وکانوا یشعرون فی کثیر من الحالات بأنّهم مهمّشین. غیر أنّهم لم یعبّروا عن شکواهم وسخطهم علی شکل ثورة وتمرّد أبدا، ولم یسعوا أیضا إسقاط الحکومة عن طریق الانقلاب. وکانت ردود أفعال بعض هؤلاء أکثر ما تبرز تّجاه المخترقین لمجتمعهم من الخارج، وذلک عن طریق التظاهرات والاضطرابات. إلی الحدّ الذی لم یعمل الشیعة لوحدهم فی ذلک الزمن فقط، بل أکثر ما کانوا ینخرطون ضمن ائتلاف واسع للمعارضة. وقد ازداد السخط الشعبی خلال عقد السبعینات، حیث کان لسرعة التحدیث والحداثة التی جرّبتها البلدان العربیة للخلیج الفارسی دورا فاعلا فی ظهور بعض المسائل الاجتماعیة التی کبّلت الشیعة أیضا. ویمکن الإشارة إلی دخول مئات الآلاف من العمالة الأجنبیة التی تنافس العمالة المحلّیة والتی غالبا ما تترک آثارا إفراطیة من جملة هذه المسائل. فکان الشرخ الاقتصادی، الاجتماعی بین أصحاب رؤوس الأموال الناجحین الجدد والعمّال، وأیضا الشرخ الثقافی المتّسع بین الأخصائیین الجدد والطبقة التقلیدیة، ظاهرة توسّع المدن، اضمحلال القیم الاجتماعیة التقلیدیة والفساد، ممّا رافق هذا المسار. فشعر الشیعة غیر المستطیعین وغیر الأخصائیین بنوع من الاختلال الاجتماعی فی هذه الظروف. وربما أثّر الاستهلاک المفرط لرجال الدولة والکثیر من الأسر الغنیة السنّیة،

ص:208

فی انزواء الشیعة أکثر. ومع هذا، فلم یکن هذا السخط الذی ظهر إثر الثورة النفطیة من الممکن أنْ یبرز بشکل سیاسی قبل الثورة الإیرانیة. (1)

حینما انتصرت الثورة الإسلامیة، رحّب بها المسؤولون البحرینیون وکالت الصحف المدیح لقائدها. وصرّح ممثّل منظّمة التحریر البحرینیة خلال لقاء صحفی حول الثورة الإسلامیة الإیرانیة بأنّ الشعب المسلم البحرینی کان یتابع العملیات والتظاهرات الکبیرة للشعب الإیرانی المسلم منذ أوائل حرکته ضدّ نظام الشاه المشؤوم، وکان ینتظر لحظة بلحظة للحصول علی أخبار جدیدة حول الأوضاع الداخلیة فی إیران. وخلال حدیثه عن العلاقات العمیقة التی تربط الشعبین المسلمین الإیرانی والبحرینی أضاف قائلا: الأمل الوحید للشعب البحرینی هو انتصار الثورة فی إیران، وکان لأخبار الثورة من الأهمّیة أنّ کلّ واحد من البحرینیین یعتقد بأنّ هذه الأحداث إنّما تجری فی البحرین وتتعلّق بالشعب البحرینی. (2)

لقد انطلق الشعب البحرینی فی تظاهرات حاشدة تحمل لافتات تدعم وتؤازر الثورة الإسلامیة الإیرانیة إثر انتصارها، وکان الارتباط والوحدة التی أبداها الشعب البحرینی مع الشعب الإیرانی المسلم والثوری إلی درجة من العمق بحیث أنّ منظّمة التحریر البحرینیة باعتبارها ممثّلا لهذا الشعب کانت تقیم علاقات تعاون مع قادة الثورة الإیرانیة قبل انتصارها.

وفی آب 1979 أعلنت وسائل الإعلام الإیرانیة أنّ هادی المدرسی قد عیُّن ممثّلا شخصیا للإمام الخمینی فی البحرین. وقد أدّت خطابات المدرسی إلی قیام تظاهرتین فی البحرین.

ص:209

حیث أقیمت إحداها بإذن من السلطات فی 17 آب الموافق فی الیوم الذی کان الإمام الخمینی رحمة الله قد أعلنه یوما عالمیا للقدس. وجاءت التظاهرة الثانیة فی 19 آب عقب اعتقاله، حیث طالب 500 من المتظاهرین بإطلاق سراحه ممّا أدّی إلی اعتقال 28 شخصا منهم. فقامت السلطات البحرینیة حینئذ بإخراج المدرسی فی 31 آب. ومع أنّ هذه الإجراءات أدّت إلی هدوء الأوضاع نسبیا، إلّا أنّ موجة التظاهرات والاضطرابات ارتهن شکلها ومضمونها بما تفکّر وتخطّط له إیران. وعلی هذا، فالبیانات أو الشخصیات التی کانت تُلهم هذه التظاهرات، لم تکن تتمرکز بالضرورة حول شکاوی وسخط الشیعة، وإنّما کانت فی الغالب انعکاسا للمطالب السیاسیة الإیرانیة. (1)

وقد أعلن آیة الله منتظری خلال إبدائه دعمه المعنوی للمدرسی عقب اعتقاله، بأنّ علی دول الخلیج الفارسی الاستجابة لدعوات ممثّلی الإسلام بدل اعتقالهم. وکان المدرسی قد تحدّث حول نیة إیران فی تصدیر الثورة، واعتبر نفسه من الدعاة لتحقیق ثورة إسلامیة وإشاعة الثقافة الثوریة. وأخیرا، فإنّ قادة المواجهة فی البحرین کانوا فی الحقیقة ممّن یمثّل علماء الدین الذین تربطهم زمالة دراسیة بالطبقة الحاکمة من رجال الدین فی إیران. (2)

ومع کلّ هذا فقد حظیت الثورة الإیرانیة باستجابة إیجابیة فی أوساط الشیعة الأصلیین لبلدان الخلیج الفارسی. فقد کانت تظاهرات 19 آب 1979 فی البحرین مظهرا لما هو أکبر من استجابة عادیة لإثارة خارجیة. (3)

وقد أعلن المسؤولون فی 31 کانون الأوّل 1981 أنّه تمّ إحباط مؤامرة خُطّطت ضدّ النظام الحاکم، وتمّ اعتقال العشرات ممّن اشترکوا فی هذه المؤامرة. واتّهموا

ص:210

جبهة التحریر الإسلامیة فی البحرین بزعامة المدرسی بهذه المؤامرة التی کان یدیرها فی حینها وبشکل رسمی القسم الإذاعی لشؤون الخلیج فی شبکة الإذاعة الإیرانیة.

وطبقا لادّعاءات الحکومة البحرینیة، فإنّ مجموعة من القاطنین السابقین فی بلدان الخلیج الفارسی تلقّوا تدریبات علی الموادّ المتفجّرة والتخریب، قد دخلوا البحرین بشکل سرّی بمساعدة احتمالیة من المسؤولین الإیرانیین. وکان مقرّرا لهم تخزین الأسلحة المستخدمة فی عدّة أماکن سرّیة قرب المنامة بواسطة مجموعة محلّیة تتّبع تعلیمات إیرانیة. وکان من المقرّر حینها ارتداءهم زیّ رجال الشرطة ودعوة الناس إلی ثورة عامّة. وکان الهدف النهائی لهذه المجموعة هو إقامة جمهوریة إسلامیة بقیادة المدرسی فی البحرین. واتّهمت السلطات الإیرانیة بالضلوع فی هذه المؤامرة، وکان من ضمن ادّعاءاتها استعداد خمس حوّامات ملیئة بالمسلّحین والمعدّات للانطلاق من بوشهر للمساعدة فی تنفیذ التمرّد المذکور. وقد نفت الحکومة الإیرانیة هذا الادّعاء. (1)

وقد قام المسلحون البحرینیون تأثّرا بالثورة الإسلامیة ودعما للثوار الإیرانیین، بعدّة تحرّکات ضدّ حکامهم. وقد أطلقت إیران مواجهة إعلامیة مرکّزة لتصدیر الثورة إلی منطقة الخلیج الفارسی، وکانت تحاول التأثیر علی عامّة المسلمین والشیعة علی وجه التحدید من خلال إصدار کتیّبات وبیانات إذاعیة «صوت الثورة الإسلامیة» باللغة العربیة وأشرطة وخطب. وفی 9 نیسان 1980 وعقب اعتقال وإعدام آیة الله السید محمّدباقر الصدر ، الزعیم الدینی لشیعة العراق، قام الشیعة بتظاهرة فی المنامة عاصمة البحرین، حیث قامت الشرطة بتفریق المتظاهرین وألقت القبض علی مجموعة منهم. وقد توفی أحد المعتقلین بعد عدّة أیام حیث قیل إنّه توفی جرّاء التعذیب الذی تعرّض له من قِبل رجال الشرطة. الأمر الذی أدّی إلی حدوث عدّة تظاهرات أخری وذلک فی شهر تموز. (2)

ص:211

وعلی خلاف التظاهرات الشعبیة فی الأعوام 1979 و1980 فإنّ الاعتراضات اللاحقة للشیعة کانت عنیفة بالکامل تقریبا. وکان ازدیاد العنف مرتبطا إلی حدّ کبیر باشتعال الحرب العراقیة الإیرانیة فی أیلول 1980، وبالتوجّهات اللاحقة لهذه البلدان. فقد قدمت دول الخلیج الفارسی مساعدات مالیة إلی العراق ووضعت تحت تصرّفه الأسلحة والمعدّات.

وخلال الأعوام 1979 و1980 أحذت الأنظمة التی کانت تواجه اعتراضات قویة تصل إلی العنف فی بعضها، بالاهتمام بشکل لا مثیل له فی إطلاق حلول سیاسیة مع الترکیبة الشیعیة. وکانت هذه الحلول تقوم علی الترغیب تارة والترهیب أخری. ففی السعودیة علی سبیل المثال، تمّ تخصیص میزانیة لإیصال الکهرباء إلی مستویً واسع، مشاریع تجفیف المستنقعات، إنشاء المدارس والمستشفیات فی القطیف وعامّة المدن الشیعیة. وأخذ الأعضاء البارزین فی الأسرة الملکیة بالتوافد علی هذه المنطقة للقاء وجهاء وزعماء الشیعة.

وتمّ تنفیذ برامج مشابهة فی سائر بلدان الخلیج الفارسی أیضا. ولم یستبعد المسؤولون فی ذات الوقت أسالیب اللجوء إلی القوّة لقمع التمرّدات الشیعیة. وأدّی إخراج بعض الأفراد أمثال المدرسی ، إلی حرمان الشیعة الثوریین من قادتهم، الأمر الذی قد یکون وجّه ضربة موجعة إلی التمرّد الشعبی، ولو تجاوزنا ذلک، فقد تمّ قمع التحرکات بقسوة وجرت بعض الاعتقالات التی غالبا ما یرافقها الخضوع إلی التعذیب.

فوصل قادة جبهة التحریر الإسلامیة فی البحرین إلی نتیجة أنّ التظاهرات الشعبیة لن تؤدّی إلی إسقاط النظام مطلقا. ومن هنا، فقد لجؤوا إلی أسالیب صدامیة. وبناء علی ما قاله زعیم الجبهة، فإنّ تظاهرات نیسان وتموز عام 1980 التی أدّت إلی «استشهاد» بعض المتظاهرین الشیعة، قد أقنعت الجبهة بأنّ تشکیل حرکة شعبیة غیر

ص:212

کافٍ، وأنّ الردّ الأفضل هو فی اللجوء إلی القیام بخطوات مباشرة ضدّ الحکومة. وقد أعطت المنظّمات الثوریة الشیعیة باعتمادها الخطوات العملیة العنیفة، الذریعة اللازمة إلی الحکومة لتعزیز إجراءاتها القمعیة.

ومع أنّ المساعدة التی قدّمها ممثّلو الإمام الخمینی رحمة الله قد أدّت إلی تنمیة التکاتف والتنسیق بین شیعة الخلیج الفارسی مع الثورة الإیرانیة، غیر أنّه حینما وصلت هذه الاضطرابات ذروتها فی عام 1980، لم ینجح المجتمع الشیعی فی بلورة حنقه فی حرکة سیاسیة منظمة. إنّ المجامیع الرادیکالیة للمعارضة الشیعیة فی الخلیج الفارسی والتی کانت محرومة من الدعم الشعبی وقیادة متجدّدة وأصیلة، بقیت معتمدة بالکامل علی الدعم الخارجی، فکانت إیران ووفقا لضروراتها الإستراتیجیة تؤمّن مثل هذا الدعم. (1)

وبما أنّ حکومات هذه الدول (بلدان الخلیج الفارسی) لم تکن قد طوت بعد مراحل أزمات الهویة، المشروعیة والمشارکة، وأنّها کانت متخلّفة جدّا بلحاظ النظام السیاسی، فهی تعیش الحالة الأسریة، القبلیة والتقلیدیة، فقد کان من الممکن أنْ تتعرّض فی أیّ وقت لتمرّد وأزمة عامّة، وعلی الخصوص فی الأعوام الأخیرة، حیث إنّ شعوب هذه الدول وبضمنها الجیل المتعلّم والمتخصّص أخذت تطالب بالمشارکة السیاسیة.

وعلی الرغم من قیام حکّام هذه الدول بتأخیر هذه الأزمة بطرق مختلفة من بینها استغلال العائدات النفطیة، فإنّ تواجد بعض العناصر المثیرة أمثال قوّات الدول الأجنبیة، قد أدّی إلی ظهور أزمات أخری إحداها أزمة المشروعیة التی أعقبتها أزمة المشارکة، وبهذا فقد أتحف ذلک دول المنطقة بأعمال شغب وفوضی واضطرابات. هذا مع أنّ مسألة المشروعیة والقوّة لدیهم کانت تقوم علی عائدات البترول فی العقدین الأخیرین. وقد هیّأ هؤلاء أسباب المشروعیة الاقتصادیة لحکوماتهم من خلال

ص:213

استثمار هذه العائدات، ومن خلال تأمین الحاجات الاقتصادیة للناس. غیر أنّ ثمّة عوامل أخری، أمثال عدم زیادة العائدات النفطیة، اختلال الأسعار والکمّیات المصدّرة من النفط، واختصاص قسم کبیر من تلک العائدات بالأسر الحاکمة سواء بطریق قانونی أم لا، أدّی إلی عدم إمکان زیادة الدخول النفطیة. وفضلا عن ذلک فإنّه قد لوحظ بأنّ الازدهار الاقتصادی، الاجتماعی والثقافی والرفاه النابع من زیادة العائدات النفطیة لم یعد ملبّیا لحاجات ومطالب الشعوب. وفی النتیجة فإنّ مصدر المشروعیة لحکومات المنطقة والذی یمکن دراسته تحت عنوان المشروعیة والتعهّد الاستمالی، قد سقط عن الاعتبار. وفی بُعد آخر، فإنّ تطوّرات المنطقة علی العموم والتطوّرات الدولیة فی بعض حالاتها، قد أضرّت بشدّة بمشروعیة الحکومات القائمة.وبسبب هذه العوامل فقد اتّخذ أمیر البحرین فی الأعوام القلیلة المنصرمة بعض الإجراءات الإصلاحیة، حیث سمح للشعب البحرینی بحرّیة أکبر؛ تمهید الطریق لإمکانیة اختیار ممثّلین للشیعة فی المجلس الوطنی لهذا البلد؛ إطلاق سراح عامّة السجناء السیاسیین وعودة المبعدین خارج البلاد. ویمکن ملاحظة تبلور هذه التطوّرات الدستوریة فی المظاهرات التی خرجت ضدّ أمریکا إثر حادثة 11 سبتمبر 2001 والهجوم الأمریکی علی أفغانستان والعراق. ومع هذا فثمّة بعض الشواهد التی تدلّ علی عدم وجود استقرار للأوضاع فی هذه الجزیرة مستقبلا، نظرا للشرخ الموجود بین الحکومة من جهة والشعب من جهة أخری، وأنّ هذه البلاد حبلی بأحداث قادمة.

ص:214

مواقفهم أمام بعض البلدان العربیة. ولقد فسحت سوریا المجال لعبور المتطوّعین الإیرانیین عن طریق أراضیها إلی لبنان، الأمر الذی یمکّنهم من مقاتلة إسرائیل. فأصبحت دمشق محطّة استراحة القوّات الشیعیة الناهضة فی لبنان. (1)

وقد دفعت العلاقات السوریة مع إیران، المشروعیة الدینیة لحکّام سوریا إلی درجات علیا. ولکنّهم استغلوا ذلک بأسلوب غیر مباشر وذکی جدّا. فحینما یزور علماء الدین الاثنا عشریة، أیْ الأنصار والتلامذة المقرّبین من [الإمام] الخمینی رحمة الله دمشق، کانت مباحثاتهم ترتبط بالجانب السیاسی فحسب. فمع وجود معلومات معتدّ بها حول العقائد والمبادئ أو المراسیم الدینیة العلویة لدی هؤلاء، إلّا أنّهم لم یبدوا أیّ تصریح فی هذا الخصوص، ویطلقون بدل ذلک الحدیث عن التضامن السیاسی ویطلبون من جمیع المسلمین الاتّحاد وإلقاء الخلافات الدینیة جانبا لمواجهة المؤامرات الإمبریالیة. فهم یعلنون أنّ السوریین قدّموا تضحیات کثیرة فی حربهم مع هذه الشرور. فبحسب رأی علماء الدین الرادیکالیین فی إیران، أنّ هذا الالتزام الخاصّ هو الذی یمثّل جوهر الإسلام. ومن هنا، فهم لم یکلّفوا أنفسهم عناء البحث والاستفسار فی هذا المجال. إذ إنّ مثل هذا العمل یؤدّی إلی إیجاد شرخ بینهم وبین من یدّعون شراکتهم فی ذلک. (2)

وقد أدرکت إیران أنّها لن تستطیع مواصلة دعم الشیعة الناهضین فی لبنان من دون التعاون السوری. وتدرک سوریا أیضا أنّها ومن دون التعاون الإیرانی لن تستطیع السیطرة علی تلک الجماعة من شیعة لبنان التی تعتقد أنّها تخوض حربا مقدّسة ضدّ الغرب. فالشعور بالمصیر المشترک ولیس الإیمان المشترک هو الذی ربط بین هذین النظامین السیاسیین. (3)

فقد تطوّرت العلاقات الإیرانیة السوریة بعد الثورة الإسلامیة فی إیران بشکل جید، حیث أظهر البلدان اهتماما خاصّا بتحسین العلاقات نظرا لمصالحهما المشترکة والموقع

ص:218

الذی یحتلّانه فی المنطقة والساحة الدولیة، فدعمت سوریا إیران فی المجتمع الدولی وبین بلدان المنطقة فی جمیع الأحداث التی توالت بعد الثورة. فنمت العلاقات الاقتصادیة أیضا بین البلدین بعد الثورة أکثر من السابق وتطوّرت علاقاتهما فی مجال التجارة والنقل. (1)

وقد دخلت العلاقات بین إیران وسوریا مرحلة جدیدة إثر بدء الحرب المرفوضة علی إیران من قِبل العراق، وتطوّرت تطوّرا عمیقا. ونظرا لمجاورة سوریا للعراق والمشاکل العالقة بینهما منذ الماضی، فقد أثّرت الحرب بین إیران والعراق تأثیرا مباشرا علی ذلک. فلم یکن لانتصار الثورة الإسلامیة ومن ثمّ قطع العلاقة مع النظام الصهیونی وانضمام إیران إلی صفوف المقاتلین لإسرائیل ودعمها اللامحدود لحقوق الشعب الفلسطینی، وبدء الحرب مع العدوّ القدیم لسوریا - أیْ العراق - من جهة أخری، أنْ یکون عدیم التأثیر علی علاقات الحکومة السوریة مع إیران.

فقد أصاب الحکومة السوریة الرعب فی بدء الحرب من الهجوم الواسع للعراق علی إیران والانتصارات التی أحرزها عدوّها القدیم فیها. ولهذا فقد امتنعت عن الإدانة العلنیة للحکومة العراقیة فی البدایة إذ إنّها کانت تتصوّر أنّ نوبة الهجوم ستصل إلی سوریا بعد الانتصار المقتدر للعراق علی إیران. فاکتفت فی البدایة بإرسال کمّیات من الأسلحة والمعدّات إلی إیران فحسب وبشکل حذر، ولکنّها فی ذات الوقت ابتدأت بمساعدة الجماعات المعارضة لصدّام کالأکراد، الشیوعیین، الاشتراکیین و...؛ غیر أنّها وبرؤیتها ازدیاد مقاومة القوات الإیرانیة فی مقابل المعتدین العراقیین، غیّرت من مواقفها باتّجاه دعم الجمهوریة الإسلامیة ودعمت إیران وأدانت الحکومة العراقیة علی بدئها الحرب والهجوم علی إیران بشکل

ص:219

صریح، واتّهمت العراق باعتباره عمیل للإمبریالیة ببدئه الحرب لتأمین المصالح الأمریکیة وحرف العرب عن مواجهة إسرائیل. (1)

ویتمثّل الاختلاف بین النظام البعثی العراقی والسوری فی أنّ النظام العراقی یعارض بشدّة الطائفة الشیعیة، غیر أنّ الشیعة فی سوریا یمثّلون أقلّیة صغیرة ولم یشکّلوا خطورة فی أیّ وقت علی الحکومة السوریة، بینما یمثّل شیعة العراق أغلبیة السکّان. وفی النتیجة فإنّ صحوة المجتمع الشیعی وتحرّکه لم یکن فی صالح العراق، حیث یٌعدّ خطرا علی الحکومة البعثیة فیه. ومن هنا، فإنّ الحکومة السوریة لم تشعر بالخطر من الجانب الإیرانی بهذا اللحاظ، بل إنّها کانت مسرورة جدّا لأجل الدعم الذی تقدّمه الثورة الإسلامیة للمقاتلین الفلسطینیین ومعارضتها ومعاداتها للاحتلال الإسرائیلی، فدعمت هذا التموضع الإیرانی تّجاه قضایا فلسطسن ولبنان فی مقابل البلدان العربیة الأخری. (2)

وقال حافظ أسد فی دعمه لإیران والتوجّهات السیاسیة للثورة الإسلامیة وإدانته ل- صدام حسین وذلک فی تشرین الثانی 1980:

إنّ أغلب البلدان العربیة تقیم علاقات جیّدة مع إیران التی تعهّدت بالوقوف إلی جانب العرب فی مواجهة العدو الصهیونی. فمن العجیب أنْ تتعرّض مثل هذه الثورة لمثل هذا الهجوم. (3)

فقد انحازت سوریا ومنذ البدایة إلی الجبهة المؤیّدة لإیران والمعارضة ل- صدام حسین بنحو حالت ومنذ بدء الحرب دون تشکیل جبهة عربیة متّحدة ضد إیران، وخالفت وجهة نظر بغداد فی مسألة حرب العرب والعجم وسخرت من قادسیة صدام . الأمر

ص:220

الذی عرّض عقائد صدام حسین ودواعیه کذلک للبدء بالحرب مع إیران للتساؤل. (1)

وکان الدعم السوری لإیران قیّما، إذ إنّ الکثیر کانوا یعتقدون بأنّ حرب العراق وإیران التی وقعت بین بلد عربی وبلد غیر عربی، تمثّل حربا بین قومیتین وشعبین، إلّا أنّ سوریا کانت تعطی لإیران فی هذا الوسط زخما وغطاء عربیا مهمّا وضروریا. وربّما یمکن القول فی سیاق هذا الدعم، إنّ سوریا قد حصلت علی النصیب الأوفی منه.

لقد أعقب الثورة الإسلامیة وبدء الحرب بین العراق وإیران، وقوف البلدان العربیة فی المنطقة قاطبة إلی جانب العراق، فقد کانت فی نیّة البلدان المحافظة والرجعیة فی المنطقة بقیادة العربیة السعودیة والأردن عقد مؤتمر عمّان لاستقطاب الدعم العربی للعراق فی حربه ضدّ إیران وتعبئة هذه البلدان فی هذا السیاق وذلک فی تشرین الثانی 1980.

وقد وُجِه هذا الأمر بمعارضة سوریا وسائر بلدان جبهة الصمود (الجزائر، الیمن الجنوبی، لیبیا ومنظّمة التحریر الفلسطینیة). إلّا أنّ سوریا لم تکن قویة بتلک الدرجة التی تحول دون عقد مثل هذا المؤتمر فی العاصمة الأردنیة. علی أیّ حال، فقد أدّت معارضة سوریا وسائر البلدان العربیة التقدمیة إلی أنْ یکون هذا المؤتمر حدثا غیر ذی بال وقلیل الأهمیة. (2)

وعلی هذا، فإنّ سوریا کانت داعمة للجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة منذ انطلاق الحرب، وأدانت العراق باعتباره بلدا معتدیا. ممّا أدّی إلی ازدیاد خلافات العراق مع سوریا. وزادت سوریا فی المقابل من مساعداتها لمعارضی الحکومة العراقیة. وفی عام 1982 ودعما لإیران وتنفیذا لطلبها، فقد قطعت إمدادات النفط العراقی من خلال أنبوب النفط الذی یمرّ عبر الأراضی السوریة إلی البحر الأبیض المتوسط. (3) فقد قدّم هذا

ص:221

الإجراء فائدة مباشرة لإیران ووجّه ضربة موجعة للاقتصاد العراقی الذی کان یعیش حالة حرب؛ وقامت إیران فی المقابل ولتعویض هذه المساعدة السوریة وجبران الضرر الاقتصادی الذی تعرّضت له سوریا من خلال ذلک، بتأمین ما یعادل مقدار النفط الخام العراقی المحوّل إلی مصافی التکریر السوریة ووضعه تحت تصرّفها بالمجّان. (1)

واستمرّ الدعم السوری لإیران طیلة الحرب حتّی کانون الثانی 1987 حین دخلت القوّات الإیرانیة خلال عملیات کربلاء الخامسة بضعة کیلومترات فی مدینة البصرة.

حیث وافق حافظ أسد جرّاء الضغوط السیاسیة والمساعدات الضخمة لعرب الخلیج الفارسی الأثریاء علی قرار مؤتمر عمّان الذی أدان إیران بنحو معتدل.

فکانت هذه المرّة الأولی منذ بدء الحرب بین العراق وإیران التی شارکت فیها سوریا فی إصدار قرار یدین إیران لاحتلالها أرضا عراقیة. إنّ سوریا التی خضعت لقرارات مؤتمر عمّان بسبب ارتباطها بالمساعدات التی تقدّمها لها البلدان العربیة الغنیة وهرعت لمواساة إیران إثر انقضاء المؤتمر المذکور، بعثت مرّة أخری وزیر خارجیتها لتوضیح الأمور. وعلی الرغم من الدعم الذی قدّمته سوریا لإیران طوال الحرب المفروضة، یمکننا ومن خلال مطالعة التقاریر والصحف الدولیة فی تلک المرحلة، استشفاف أنّ حافظ أسد کان قلقا أتمّ القلق من سقوط نظام البعث فی العراق، وذلک بلحاظ التوازن السیاسی. إذ إنّ هذه المسألة ستؤدّی إلی وجود عراق قوی بمحاذاة الحدود السوریة واقع تحت السیطرة الإیرانیة. وتمثّل هذه المسألة کذلک ضربة لعزّة العرب ومن بینهم سوریا. ویأتی فی هذا الوسط المحلّلون الغربیون والعرب الذین لا یودّون استمرار العلاقات الدافئة بین سوریا وإیران، للبدء بإعداد جدول للخلافات بین البلدین.

ص:222

ویُعدّ الاحتکاک بین دمشق وطهران فی مجال عرض النفط، السیاسة المتّبعة تّجاه الجماعات الدینیة، الدیون السوریة لإیران، مسألة سلوک الإیرانیین الذین یصلون سوریا للزیارة ویحاولون تصدیر الثورة الإسلامیة و... من بین نقاط هذا الجدول. وطالبت البلدان العربیة فی هذا المجال بقطع المساعدات والدعم السوری لإیران. (1)

إثر انتهاء الحرب ولأجل خشیة سوریا من الهجوم العراقی، وکذا لأجل المصالح والآراء المشترکة نسبیا بین البلدین والمتعلّقة بقضیة لبنان وفلسطین، فقد حافظت سوریا علی علاقاتها الحسنة مع الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة. (2) وبالطبع فإنّ الحضور السوری فی مؤتمر سلام الشرق الأوسط لم یکن مرضیا لإیران، وقد قامت ببعث وفد إلی سوریا لاستیضاح هذه المسألة، ومع هذا، فإنّ العلاقات بین البلدین قد طوت مسیرتها الطبیعیة فی سیاق المصالح الإستراتیجیة للطرفین. (3)

السلطة، إلّا أنّ هذه المواجهات والخلافات دخلت مرحلة أکثر حداثة وجدّیة بسبب الثورة الإسلامیة الإیرانیة، واتّجهت صوب المواجهة العسکریة ضدّ الحکومة السوریة والتی تهدف إلی إسقاطها وتأسیس حکومة إسلامیة فی هذا البلد. وأبدت الحکومة السوریة فی المقابل ردّ فعل قوی ضدّ المعارضین وأقدمت علی مواجهة وقمع المعارضین وحرکة الإخوان المسلمین بشدّة.

فالمناضلون السوریون الذین یعتقدون بأنّهم محقّین فی نضالهم وأنّه یصبّ فی سیاق تحقیق ثورة إسلامیة فی سوریا، کانوا یأملون من جهة، المساعدة والتعاون والتعاطف من قِبل قادة الثورة الإسلامیة الإیرانیة، وکانوا یتوقّعون أنّ الثورة الإسلامیة ستدین الحکومة السوریة جرّاء قمعها المناضلین، ودعم وحمایة الحرکات الإسلامیة السوریة، وکان زعماء وأعضاء حرکة الإخوان المسلمین یستفسرون دوما خلال اللقاءات التی أجروها مع المسؤولین الإیرانیین وقادة الثورة عن موقف إیران من النظام السوری. (1)

وإثر الإبادة المرعبة التی حدثت عقب التمرّد الشعبی والطلّابی الواسع فی مدینتی حماه وحلب فی شباط عام 1982، والذی استمرّت الاشتباکات فیه علی مدی ثلاثة أسابیع، قام الجیش بقمع قوّات الإخوان المسلمین بشدّة، ووفق مصادر غیر رسمیة فإنّه قد قتل زهاء 25000 مدنی فی هذه المواجهات التی تضمّنت قصفا جویا لمدینة حماه. (2)

وکانت القوی الإخوانیة تأمل تعاطف الثورة الإسلامیة معها وقطع الحکومة الإیرانیة علاقاتها مع الحکومة البعثیة السوریة إثر تصرّف الحکومة السوریة هذا، وقد بذلت مساعٍ محمومة فی هذا السیاق. فقامت منذ البدایة بنشر وإفشاء بعض المطالب تحت عنوان تحذلیلات داخلیة لحزب البعث حول الأهداف السوریة من علاقتها

ص:224

بإیران، وتطوّر الأمر إلی سفر بعض شخصیات الإخوان المسلمین إلی إیران لإقامة علاقة وکسب دعم الثورة الإسلامیة. (1)

وقد استلهم الشعب والحرکات السوریة أکبر البواعث من ثورة إیران من بین سائر البلدان العربیة والإسلامیة فی المنطقة من بعد الحرکات الإسلامیة فی لبنان والعراق لإقامة حکومة إسلامیة فی سوریا. وقد تمّ تأکید قادة وأعضاء الإخوان المسلمین السوریین علی هذه المسألة عدّة مرّات أیْ تأثّر الحرکات الإسلامیة السوریة بالثورة الإسلامیة الإیرانیة، وقد أعلنوا مرارا متعدّدة فی السنوات الأولی للثورة الإسلامیة دعمهم لها. ولقد قام الأستاذ عصام العطّار أحد القادة البارزین والتاریخیین لحرکة الإخوان المسلمین السوریة والذی اشتهر بإخلاصه وتفانیه الثوری وسابقته الجهادیة، حیث لم یساوم أیّ حاکم ولم یقترب من بلاط أیّ أمیر طیلة حیاته، بتألیف کتاب جامع تطرّق فیه إلی تاریخ، أبعاد وجذور الثورة الإسلامیة بالاستدلال والتحلیل. وهو الذی طالما وقف إلی جانب الثورة الإسلامیة الإیرانیة وبارک وهنّأ بانتصارها بإرساله برقیات متعدّدة للإمام الخمینی رحمة الله وأعلن فی ذلک دعمه لها. (2)

وقد تمّ توزیع خطابات الأستاذ عصام العطّار فی خصوص دعم وتأیید الثورة الإسلامیة الإیرانیة من خلال الأشرطة الصوتیة وعلی مستوی واسع بین الشباب المسلم کذلک. وکان لمجلّة «الرائد» التی یصدرها من ألمانیا دورا حیویا فی بیان آراء ومواقف الثورة الإسلامیة وتوضیح أهدافها. (3)

وقد طبعت نشرة «النذیر» الناطقة باسم الجبهة الإسلامیة السوریة بیانا فی تموز 1980 جاء فی مادّته الأولی:

ص:225

الثورة الإسلامیة الإیرانیة هی ثورة جمیع الحرکات الإسلامیة فی العالم الإسلامی، وإنْ توزّعت هذه الحرکات علی مذاهب فکریة مختلفة.

وجاء فی مادّته الثانیة:

إنّ أیّ لجوء إلی القوّة ضدّ الثورة الإسلامیة الإیرانیة وأیّ خیانة لها من جهة أخری، سیوجّه ضربة لجمیع الحرکات الإسلامیة فی کافّة أرجاء العالم فی المستقبل. وقد دعم هذا البیان مطالب الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة فی مقابل أمریکا والغرب خلال حادثة رهائن السفارة الأمریکیة فی طهران، وطالب أمریکا بإیقاف حملاتها ضدّ الجمهوریة الإسلامیة. (1)

وقد أکّدت الجبهة الإسلامیة السوریة أیضا، أنّه لم تحدث طیلة ألف عام من تاریخ الإسلام الماضی حادثة نظیر الثورة الإسلامیة الإیرانیة بقیادة الإمام الخمینی رحمة الله أوجدت مثل هذه الوحدة بین المسلمین. وکانت هذه الجبهة أوّل حرکة إسلامیة تستعمل مصطلح «الثورة الإسلامیة» وأشارت فی نشراتها إلی الثورة الإسلامیة السوریة. واعتبر بیان الثورة الإسلامیة فی سوریا کذلک، أنّ الجمهوریة الإسلامیة فی إیران هی الحکومة الإسلامیة الوحیدة الموجودة فی العالم. (2)

ویقول الأستاذ عصام العطّار فی إطار تأییده للثورة الإسلامیة:

فلو کان هذا الأمر یختصّ بإیران فإنّه یتوقّع قبولها بحلّ وسط، غیر أنّه یرتبط بالإسلام وجمیع المسلمین فی العالم. فالإسلام الیوم أمانة فی أعناق الحکومة الإسلامیة الوحیدة فی العالم والتی اختارت حکومة الله علی حکومة الطواغیت والاستعمار والصهیونیة العالمیة من خلال تضحیتها بدماء أبنائها. وقد أشار هذا البیان

ص:226

إلی آراء الثورة الإسلامیة فی خصوص مَنْ یسعی لإضعاف الثورة وهم ممّن لا یتجاوزون عن أربعة أطیاف:

أوّلا؛ المسلمین الذین لم یستطیعوا إدراک عصر الإسلام والنهضة الإسلامیة الماحقة، ولازالوا إلی الیوم یعیشون مرحلة الاستسلام والذهنیة المستسلمة. ثانیا؛ الخونة الذین یتوسّطون لصالح أعداء الإسلام وفی ما یضرّ المسلمین ویتابعون هدافهم من خلال اللجوء إلی أسالیب مختلفة. ثالثا؛ فاقدو البصیرة من المسلمین الذین لا یمتلکون أیّ إرادة وعقیدة والذین یقوم الآخرون بتحریکهم. رابعا؛ مَنْ له مصالح ربّما، فیقوم بالمزایدة بین هذا وذاک. (1)

وفی مقابل کلّ هذا الهیجان والشعور، لم یقدّم زعماء الثورة الإسلامیة الإیرانیة ما یکفی من الدعم للمتمرّدین السوریین وحرکة الإخوان المسلمین السوریة، وفضّلوا الاستمرار فی علاقاتهم مع الحکومة السوریة. ویمکن دراسة عدم الدعم هذا من عدّة زوایا وآراء:

إنّ المسألة المهمّة هی أنّ السلامة الفکریة لحرکة الإخوان المسلمین السوریة تحوم حولها الشکوک من قِبل قادة الثورة الإسلامیة، إذ إنّ قادة الإخوان المسلمین کانوا یؤیّدون فی البدایة نوعا من الرادیکالیة الإسلامیة، وکانوا یعتقدون بالاشتراکیة الإسلامیة فی مواقفهم الاقتصادیة. وقد طُرِحت هذه الآراء الاشتراکیة - الإسلامیة فی الکتاب الشهیر للسباعی أوّل زعیم للإخوان المسلمین فی سوریا، تحت عنوان الاشتراکیة الإسلامیة، حیث قام بتحلیلها ودراستها. (2)

وقد نظر جماعة إلی مسألة عدم اهتمام قادة الثورة الإسلامیة بحرکة الإخوان المسلمین

ص:227

فی سوریا من زاویة المسألة المذهبیة والاختلافات المذهبیة بین المسلمین، ویعود سبب هذا الاعتقاد إلی أنّ الثورة الإیرانیة هی ثورة شیعیة، فی حال أنّ حرکة الإخوان المسلمین هی حرکة سنّیة المذهب. وتتصوّر هذه المجموعة من المنظّرین أنّ أساس ذلک یعود إلی الاختلاف بین الشیعة والسنّة. (1) فبحسب رأی عمانوئیل سیوان أنّ الشیعة قد حدّدوا بشکل أکبر میادینهم التی تختلف مع السنّة. مع أنّ تشدید إیران علی ولایة الفقیه قد أثار حفیظة السنّة. ویری أحد قادة الحرکة الإسلامیة السوریة ما یأتی فی خصوص ولایة الفقیه:

مع أنّنا نقرّ رسمیا بنشاط (الإمام) الخمینی رحمة الله باعتباره نائبا للإمام والذی کان سببا لنجاحات الثورة الإیرانیة، لکنّنا نأسف کثیرا علی أنّنا لا یمکننا القبول مطلقا بأصل الإمامة الذی کان نتیجة لحوادث تاریخیة. نحن نؤکّد أنّ انتخاب القائد هو من حقّ الناس، وأنّ القائد لا یستمدّ مشروعیته من مصدر أعلی وخارجی.

ویصرّح سیوان فی مجال تأثیر الثورة الإیرانیة علی المتطرّفین السنّة، بأنّ ثورة إیران لم تُثر أیّ تعاطف لدی الرادیکالیین السنّة. ولکنّها علی المدی القصیر کانت نموذجا ومصدرا للإلهام. فکثیر من المتطرّفین المصریین قد أعلنوا تعلّمهم من الثورة الإیرانیة؛ أنّ الشرطة والجیش لیس بإمکانهما القضاء علی ثورة الشعب. ولکن کانت قد أُثیرت الأسئلة حول الهیبة الدینیة - الثوریة لإیران إثر إقامة العلاقات بین إیران وسوریا مباشرة. فهذه المسألة وبغضّ النظر عن أنْ تکون تحت تأثیر السلوک السیاسی الإیرانی، فإنّها بحسب قول الدکتور عنایت :

تنبع من الاختلافات الجوهریة بین الشیعة والسنّة، وامتزاج الأیدیولوجیات بالقومیة الأصیلة. (2)

وحلّل آخرون هذه القضیة من زاویة حاجة الثورة الإسلامیة إلی دعم الدولة السوریة لإیران

ص:228

باعتبارها بلد عربی من بین سائر البلدان العربیة الأخری، وأناطوا سبب ذلک بالحاجة المتبادلة بین الدولتین نظرا للظروف الزمنیة الخاصّة. إذ إنّ مسألة الحرب العراقیة الإیرانیة والخلاف السوری العراقی قد قرّب بحدّ ذاته بین البلدین إیران وسوریا. فحینما یتکلّم بعض قادة الحرکات الإسلامیة السوریة حول هذه المسألة، فإنّ عصام العطّار علی سبیل المثال یعتبر أنّه بالإمکان إدراک السیاسة الخارجیة الإیرانیة فی قبال سوریا من خلال مشاکل إیران فی الحرب؛ وانتقد القادة الآخرون الذین هبّوا لدعم العراق وإدانة إیران. (1)

واستمرّت سوریا کذلک فی الحفاظ علی علاقاتها المتقاربة مع الجمهوریة الإسلامیة إثر وفاة حافظ أسد وتولّی نجله بشار السلطة. فهذا البلد فی الحقیقة مازال یلعب دورا مهمّا باعتباره الجسر الارتباطی لإیران فی تلک المنطقة وعلی الخصوص لبنان، وبقی البلد العربی والإسلامی الوحید الذی حافظ علی علاقات حسنة مع إیران طیلة مرحلة الخمس والعشرین سنة بعد انتصار الثورة الإسلامیة.

الأردن وفلسطین فقد استحدثت إیران قنصلیة لها فی القدس، حیث تحوّلت فی ما بعد إلی سفارة. وبعد استقلال شرق الأردن قامت الحکومة الإیرانیة بالاعتراف بهذا البلد رسمیا. وقام الملک عبدالله الملک الأردنی فی ذلک العهد بزیارة إلی إیران عام 1939 حیث عقد میثاق الصداقة بین الطرفین. وفی أواخر عام 1939 افتُتحت السفارة الإیرانیة فی العاصمة الأردنیة عمّان علی مستوی وزیر مفوّض، وإثر زیارة الشاه المخلوع إلی الأردن عام 1949 وقّع اتّفاق ثقافیا بین البلدین. وارتقی مستوی العلاقات الدبلوماسیة بینهما إلی مستوی سفارة کبری. (1)

وقد استمرّت العلاقات المتقاربة والحمیمة جدّا بین بلاطی الدولتین حتّی انتصار الثورة الإسلامیة فی إیران. وقد تبلورت العلاقات السیاسیة فی هذه الفترة فی الأساس فی العلاقات بین البلاطین الملکیین حیث یحدّدها رئیسی النظامین خلال اللقاءات الخاصّة بینهما.

وکانت هذه العلاقات الحسنة بین البلدین تصبّ فی صالح الغرب، فبما أنّ علاقات زعیمی البلدین کانت قریبة جدّا من الغرب وعلی الخصوص أمریکا وبریطانیا فقد کانت العلاقات بین البلدین حمیمة جدّا تبعا لذلک. وتنفیذا لهذه السیاسة الحمیمة، فقد قام الهلال الأحمر الإیرانی إثر حرب العرب وإسرائیل عام 1967 بإنشاء مخیّم باسم الطالبیة یتکّون من 200 وحدة سکنیة، حمّام، مدرسة، ومستشفی فی ناحیة زیزیا لإسکان النازحین الفلسطینیین، وتولّت هیئة إیرانیة إدارة المستشفی فی ذلک المخیّم حتّی عام 1971. ویمکن الإشارة أیضا إلی الاتّفاقات الاقتصادیة والثقافیة والمعاهدات الخاصّة بالتعاون الجوی التی تمّ الاتّفاق علیها فی عام 1977 - 1978 بین البلدین. فقد کانت العلاقات الاقتصادیة والثقافیة والاجتماعیة متنامیة جدّا بین البلدین فی موازاة العلاقات السیاسیة.

ص:230

إلی مستوی المواجهة المسلحة. وکان للعلاقات الحسنة للجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة مع سوریا، توتّر العلاقات بین الأردن وسوریا واتّجاه الأردن صوب العراق، من العوامل التی أدّت إلی قطع العلاقات بین البلدین عقب بدء الحرب المفروضة.

إنّ العوامل التی حدت بالأردن إلی دعم العراق فی عقد الثمانینات وطیلة الحرب التی فرضها العراق علی إیران، الدعم الذی کان مشهودا واستمرّ حتّی فی أزمة الکویت، یمکن عرضها بالشکل التالی (1):

1. المساعدات المالیة العراقیة إلی الأردن، وکانت أغلب هذه المساعدات تأتی من الداعمین للعراق أمثال السعودیة والکویت والتی تُسدّد إلیه عن طریق الأردن.

2. التهدیدات السوریة للأردن ودعم الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة لسوریا.

3. حاجة العراق الشدیدة إلی میناء العقبة التی من الممکن أنْ تعود بعائدات أساسیة علی الأردن.

4. کان الملک حسین ینوی أنْ یظهر بمثابة عربی فی أحداث حرب العراق وإیران. ولا ینبغی نسیان أنّ العامل الحاسم للسیاسة الخارجیة الأردنیة بحسب الظاهر هو القومیة والوحدة العربیة ویأتی الإسلام فی الدرجة الثانیة فی الأهمّیة. فالملک حسین قد أعلن دعمه للعراق بإطلاقه شعار «نقف إلی جانب إخوتنا».

5. کان الأردن یحاول استثمار العوائد المادّیة والمعنویة لهذه الحرب لصالحه. فی حین أنّه لم تُثمر سیاسة الملک حسین أیّ ثمرة سوی الخسارة والأزمات الاقتصادیة والاجتماعیة لبلاده بانتهاء الحرب المفروضة وأزمة الخلیج الفارسی.

وبعد مدّة وبسبب الدعم العلنی والکرم الذی قدّمه الأردن للعراق فی حربه ضدّ إیران ومعارضته العلنیة لإیران، قامت حکومة الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة بقطع

ص:232

علاقاتها مع هذا البلد بصورة تامّة خلال مذکّرة رفعتها فی 1980/2/1.

لقد کان ردّ الحکومة الأردنیة علی انتصار الثورة الإسلامیة فی إیران غیر مسرّ فی الحقیقة نظرا إلی العلاقات الحسنة التی تربطه بشاه إیران، وللخوف من احتمال تأثیر الثورة الإسلامیة فی الأحداث السیاسیة والدینیة فی الأردن، وأنْ یکون مصیرها کمصیر نظام الشاه. فمع أنّ الملک الأردنی کان قد هنّأ مؤسّس الجمهوریة الإسلامیة بانتصار الثورة، ولکنّه لم یکن یبدُ مسرورا فی الخفاء بهذا التطوّر الکبیر فی المنطقة، وقد أظهر عدم رضاه فی مقابلاته وخطبه بین حین وآخر. فقد بیّن الملک حسین فی تاریخ 1980/4/10 وخلال جلسة مجلس الوزراء موقف بلاده من أزمة العلاقات بین إیران والعراق کالتالی:

علی العرب التعاون للاتّحاد فی ما بینهم، والحیلولة دون وصول الأخطار من أیّ مصدر کانت، فمسؤولیتنا هو أنْ یکون العالم الإسلامی مستقرّا ومتکاتفا، نحن نرید لإیران أنْ تکون ظهیرا لنا وأنْ تکون مستقرّة وتتّبع نهجا صحیحا. فالعراق بلد عربی وشقیق فلا ینبغی أنْ یکون معرضا لأیّ تهدید خارجی أو أنْ یتعرّض لضرر من أیّ مصدر کان. فنحن باعتبارنا عرب لا ینبغی لنا السماح بأیّ اعتداء من أیّ مصدر کان علی أیّ جزء من الأراضی العربیة. (1)

وعقب مؤتمر الزعماء العرب فی بغداد وتونس أخذت العلاقات بین العراق والأردن بالتقارب والتعمّق یوما بعد آخر، وأعلن الملک حسین موقفه الصریح من دعم العراق ضدّ إیران، واستمرّ فی دعمه هذا من خلال المساعدات السیاسیة، الاقتصادیة والعسکریة الضخمة.

کانت منظومة النقل الوحیدة للعراق طیلة حرب الثمان سنوات بین العراق وإیران تمرّ عبر الأردن. فتمّ فی هذا الإطار إنشاء شبکة واسعة من الطرق بین البلدین لیقوم میناء العقبة بنقل السلاح والمعدّات العسکریة الخفیفة والثقیلة ووضعها تحت تصرّف

ص:233

العراق. هذا إضافة إلی قیام الحکومة الأردنیة بإرسال قوّاتها العسکریة إلی العراق حیث صرّح الملک حسین قائلا:

إذا لزم الأمر فسنقوم بإرسال قوّات أکبر إلی العراق. (1)

وبعد انقطاع فی العلاقات دام عشرة أعوام قرّرت الحکومة الأردنیة فی اجتماع المجلس الوزراء فی تاریخ 1990/1/12 استئناف علاقتها مع الجمهوریة الإسلامیة. فالحکومة الأردنیة التی کانت قد دعمت بغداد بقوّة فی أحداث الحرب المفروضة من قِبل العراق علی إیران، سعت فی آب عقب انتهاء هذه الحرب وإثر وساطة الأمم المتّحدة لتحسین علاقتها مع إیران. واستمرارا للعلاقات السابقة وإبراز رغبة المسؤولین فی الحکومة الأردنیة والجماعات الإسلامیة والشعبیة فی هذا البلد فی إعادة العلاقات الدبلوماسیة بین البلدین، اتّفق الطرفان علی إعادة العلاقات بینهما بتوقیع سفیرهما فی نیویورک وثیقة لإقامة العلاقات السیاسیة وافتتاح سفارتی البلدین فی 1990/1/16. فقامت لجان من البلدین بتبادل الزیارات فی ما بینهما بعد إعادة هذه العلاقات. وکان من ضمنها زیارة قائد الإخوان المسلین فی الأردن إلی طهران وسفر نوّاب مجلس الشوری الإسلامی إلی الأردن ولقائهما المسؤولین السیاسیین.

وتمّ الاتّفاق بین البلدین أیضا علی دراسة إمکانیة افتتاح المکاتب الإعلامیة فی کلّ من البلدین والتمهید لبحث إمکانات البلدین فی مجال الإنتاج التلفزیونی المشترک.

الجدیر بالذکر أنّ أغلب الاتّفاقات قد تمّت فی النصف الثانی من عام 1991، وما زال الکثیر منها لم یصل مرحلة التنفیذ، حیث یعمل الطرفان علی تحضیر الآلیات اللازمة لذلک. ولم یتمّ حتّی الآن تبادل السفراء إثر إعادة العلاقات مجدّدا بین البلدین، حیث تعمل سفارتی البلدین علی مستوی قائم بالأعمال فقط. (1)

ونظرا للموقع الجغرافی للأردن الذی تحدّه بعض البلدان العربیة الإسلامیة وإسرائیل کذلک، ومع الوضع القائم فی الداخل الأردنی الذی ینشط فیه الإخوان المسلمین، وتنامی الوعی الیومی لدی مسلمی هذا البلد والنازحین الفلسطینیین القاطنین فیه، والذی یمکن أنْ یکون مهیّئا بشکل واسع لتصدیر الثورة واتّساع ثقافتها حیث یمکن إقامة علاقة جیدة مع الأمّة الإسلامیة فی الأردن، فإنّ الحکومة الإیرانیة سعت للحفاظ علی علاقتها الدبلوماسیة مع هذا البلد.

ویُعدّ الإخوان المسلمین أهمّ الحرکات الإسلامیة العاملة فی الأردن والذین تتطابق مواقفهم مع مواقف الثورة الإسلامیة فی المسائل السیاسیة المختلفة، وهم یشغلون فی الوقت الحاضر 31 کرسیا من أصل 80 کرسی فی مجلس النوّاب الأردنی. وقد أثنی البرلمان الأردنی علی مواقف إیران من حرب الخلیج الفارسی، ودعا جمیع العرب والمسلمین إلی مواجهة هذا الهجوم الوحشی وتوجیه الضربات إلی القوّات المهاجمة ومصادرها فی أمریکا والبلدان المهاجمة الأخری. (2)

ویشغل الإخوان المسلمین 6 وزارات فی الوزارة الأردنیة، حیث أُقیل أو استقال 4

ص:235

وزراء منهم بضمنهم وزیر الخارجیة عن مناصبهم اعتراضا علی مؤتمر ما یسمّی بالسلام العربی الإسرائیلی.

وقد قال الملک حسین خلال هجوم عنیف شنّه علی المسلمین الأصولیین:

إنّما قاطع الإخوان المسلمین الحکومة الأردنیة الجدیدة بزعامة المصری خوفا من التورّط فی مباحثات السلام مع إسرائیل.

وعلی الرغم من الطبیعة العملائیة للملک حسین وخلیفة الملک عبد الله ، فإنّ الوضع الداخلی للمسلمین، البرلمان والإخوان المسلمین یتطلّب إلی حدّ بعید توسیع العلاقات بین البلدین. ثمّة إمکانیة لمساعدة النازحین الفلسطینیین المقیمین فی الأردن فی الدرجة الأولی، ومساعدة القوی الجماعات السیاسیة الفلسطینیة الفعّالة فیه، والمجامیع الإسلامیة الأردنیة المناصرة للثورة الإسلامیة - الإخوان المسلمین خصوصا - بواسطة ذلک. وبطبیعة الحال فإنّ العربیة السعودیة تقدّم فی الوقت الراهن مساعدات مالیة إلی حرکة الإخوان المسلمین فی البلدان المختلفة ویضمنها الأردن، وذلک لمواجهة نفوذ الثورة الإسلامیة والأصولیة. (1)

فی العالم العربی لأجل دعمه النسبی لهجوم العراق علی الکویت، حیث تعرّض لضغوط کبیرة إقتصادیة، سیاسیة وغیرها، وأدّی اعتداء العراق إلی تعرّض الأردن للتهدید من قِبل النظام الإسرائیلی. ومن هنا، فقد قرّر النظام الأردنی ملء فراغ دعم دول المنطقة له من خلال تحسین العلاقات مع إیران التی هی من البلدان غیر المعنیة بالأزمة وتملک نفوذا سیاسیا وعسکریا فی المنطقة. أضف إلی ذلک أنّ إیران تری إسرائیل عدوّا للمسلمین. الموضوع المفلت هو أنّه بمجرّد مواجهة العالم العربی للعراق وانهیار جیش هذا البلد وظهور الضعف علی النظام العراقی وعودة أمیر الکویت إلی بلده، بدأت الحکومة الأردنیة نشاطها لتحسین العلاقات مع الکویت، السعودیة وغیرها، وأبقت لأجل ذلک العلاقات مع إیران علی المستوی الذی وصلت إلیه خلال أزمة الخلیج الفارسی، حیث کانت مسألة إبقاء العلاقات علی مستوی قائم بالأعمال أمرا ملموسا جدا. (1)

فی هذا الإحصاء. ویشکّل الشیعة 20% من عدد المسلمین فیه.

وبحسب إحصاء عام 1975، فإنّ الترکیبة السکّانیة تضمّ 40% مسیحیین و60% مسلمین. حیث شکّل الشیعة 27% من المسلمین والسنّة 26% منهم والدروز 7%. (1) ومع أنّه لیس هناک إحصاءات دقیقة عن نفوس لبنان فی الوقت الحاضر، غیر أنّه طبق الإحصاءات غیر الرسمیة فإنّه یبلغ عدد الشیعة أکثر من ملیون شخص من عدد سکّانه البالغ أکثر من ثلاثة ملایین، فهم یتمتّعون بالأغلبیة النسبیة فیه.

إنّ هذا البلد بترکیبته السکّانیة الخاصّة وموقعه الجغرافی، کان من أکثر الدول إثارة للأزمات فی العالم طیلة العقدین الماضیین.

ونظرا للدور الأساسی والمکانة الممیّزة التی یحتلّها هذا البلد فی التطوّرات السیاسیة والعسکریة لمنطقة الشرق الأوسط، فهو یتمتّع بأهمّیة فائقة الخطورة فی عملیة التحرّکات والأحداث السیاسیة لهذه المنطقة، وعلی الخصوص المسألة الفلسطینیة، إلی الحدّ الذی لا یمکن معه الوصول إلی حلّ کامل فی المنطقة من دون أخذه بنظر الاعتبار.

ونظرا لعدم ثبات الحکومة وجمیع المؤسّسات السیاسیة، الاقتصادیة، العسکریة والأمنیة طوال المرحلة السابقة وعلی الخصوص فی العقدین السابع والثامن، فقد کان للأحزاب والجماعات فی لبنان دورا بارزا وحاسما، إذ إنّها تؤثّر حتّی علی مصالح الدول والقوی الإقلیمیة والدولیة.

أمّا فی المرحلة الجدیدة وبعد عقد اتّفاق الطائف (2)، أیْ منذ عام 1989 وما بعده،

ص:238

فإنّه یمکن ملاحظة الانخفاض التدریجی والمستمرّ فی دور الأحزاب، مع التزاید النسبی لقدرة سوریا فی الساحة الداخلیة اللبنانیة، وبالطبع مع وجود استثناء مهمّ وحاسم. وما یعرض من الطروحات السیاسیة فی الساحة السیاسیة اللبنانیة فی الوقت الراهن یمثّل إقرارا لمشروع التنظیم الجدید للأحزاب اللبنانیة.

حیث یُطرح فی هذا المشروع الذی یقوم علی أساس ممیّزات المرحلة الجدیدة للبنان؛ لبنان غیر الطائفی، لبنان غیر الدینی، لبنان المتّحد الذی یتمتّع بتکاتف وطنی. فثمّة فکرة تشکیل أحزاب غیر دینیة وغیر مذهبیة؛ أحزاب تضمّ کافّة الطوائف والمذاهب. (1)

الصفویین إلی السلطة فی إیران تغیّرت فیه أوضاع الشیعة بشکل کامل. ومن جهة أخری، فإنّ شیعة منطقة جبل عامل فی لبنان وبسبب سیطرة حکومة سنّیة متشدّدة (عثمانیة) فقد کانوا یعیشون تحت ضغط شدید. ولأجل ذلک فقد هاجر مجموعة من علماء جبل عامل إلی إیران لدراسة أوضاعها وظروفها، وبعد الاتّفاق مع الدولة الصفویة، نحت هذه الهجرة منحا أوسع. وقامت الدولة الصفویة أیضا بالترحیب بعلماء جبل عامل وذلک بسبب خلافها مع الدولة العثمانیة وکذلک لحاجتها إلی الاستحکام والانسجام الفکری العام فی المجتمع الإیرانی، حیث أدّت الحاجة المتبادلة لدی الطرفین للتعاون فی ما بینهما. فسمحت الدولة الصفویة لعلماء جبل عامل بممارسة التبلیغ وترویج مذهب التشیّع.

لقد لعب تبلیغ العلماء الشیعة المهاجرین من جبل عامل إلی جانب حدّ السیف الذی شحذه ملوک الصفویة، دورا بالغا فی ازدیاد قوّة المجتمع الإیرانی. فقد أضحی شیعة إیران مدینین لعلماء شیعة جبل عامل، وبقیت هذه العلاقة والارتباط العمیق بین إیران وجبل عامل قائمة علی مدار التاریخ. (1)

لقد تعرض شیعة لبنان لضغوط کبیرة فی العقود الماضیة حیث تحوّلوا إلی أضعف طبقات المجتمع اللبنانی، وقد تمّ إرسال الإمام موسی الصدر الذی ولد فی مدینة قم بإیران، من قِبل الحوزة العلمیة إلی لبنان لأجل الاهتمام بشؤون الشیعة وأخذ بممارسة نشاطاته هناک. (2)

ویمکن ملاحظة العلاقة الشدیدة بین المجتمع الشیعی فی کلّ من إیران ولبنان

ص:240

والتعاون والتضامن فی ما بینهما فی المرحلة المعاصرة وبوجود الإمام موسی الصدر وباقی الإیرانیین المناضلین فی صفوف شیعة لبنان. أیْ أنّ حاجة شیعة لبنان إلی تواجد عالم شیعی لمساعدتهم وإیجاد التلاحم والوحدة بینهم؛ أیْ عکس المعادلة التی کانت سائدة فی مرحلة الصفویین.

إنّ لبنان لم یظهر حتّی الآن بصورة دولة وشعب، وعلی العکس من المجتمعات الأخری التی یشکّل «الفرد» أصغر وحدة اجتماعیة، فإنّ الطائفة هی التی تشکّل أصغر عنصر فی لبنان. فإذا ما سُئل أیّ فرد فی هذا البلد من أنت؟ فسیعطیک عنوان طائفته. فکلّ طائفة تعیش فی منطقتها ولها أسلحتها للدفاع عن طائفتها وفی النهایة عن دینها الذی تدین به.

إذاً، ففی مثل هذا المجتمع المتفکّک الذی دائما ما تدور فیه رحی حرب بین طوائفه المتعدّدة، فإنّ المجموعة الضعیفة ستُسحق لا محال. ففی الوقت الذی تولّی الإمام موسی الصدر مهمّته الحسّاسة والمصیریة فی لبنان من خلال حیطة المجتمع العلمائی فی قم، کان شیعة لبنان یعیشون مثل هذه الحالة. (1) أیْ أنّهم کانوا أضعف طبقة فی المجتمع إلی الدرجة التی ارتبط فیها شبابهم بالأحزاب الیساریة والشیوعیة للخلاص من هذا الوضع المأساوی، حیث یمثّل الشباب الشیعة أکثر أعضاء الأحزاب الیساریة. (2) إذ إنّ الشیعة لا یمتلکون أیّ عامل من العوامل التی تحتاجها السلطة فی المجتمع اللبنانی. فالعامل الأوّل للسلطة فی لبنان یتمثّل فی القدرات الذاتیة للطائفة، والثانی بالدعم الخارجی، وأنّ جمیع الطوائف والقبائل فی لبنان ترتبط ببلد خارجی بحسب نوع مذهبها.

وبتواجد الإمام موسی الصدر وجهوده فی توحید الشیعة علی مرّ الأیام وتقویة

ص:241

حرکة استعادة الشیعة المحرومین لحقوقهم فی هذا البلد، یکون قد حقّق العامل الأوّل. فهو بتأسیسه المجلس الشیعی الأعلی الذی کان منفصلا عن المجلس الإسلامی لأهل السنّة، قد خطا الخطوة الأولی فی قیادة وتوحید الشیعة فی لبنان. فقد بذل مساعیه لسنوات طویلة لتوحید الشیعة واعتراف البرلمان اللبنانی بالمجلس الشیعی الأعلی. وقد انتُخب رئیسا له وطُرح علی أنّه زعیم الطائفة الشیعیة فی لبنان.

وقد اتّبع الإمام موسی الصدر أسلوب جدید فی قیادة واستقطاب المجامیع الشیعیة المختلفة، وکان علی تماس قریب علی مدی هذه السنوات مع الحوزة العلمیة والمجتمع الشیعی فی إیران. وتولّدت خلال هذه السنوات الحاجة إلی تنظیم سیاسی للدفاع عن الشیعة المحرومین فی جنوب لبنان بسبب المسألة الفلسطینیة وتواجد اللاجئین الفلسطینیین فی تلک المناطق وما یعانوه من ألم وعذاب، فأسّس فی عام 1972 تنظیما سیاسیا تحت اسم حرکة «المحرومین» وأطلق ذراعها العسکری تحت عنوان أفواج المقاومة اللبنانیة (أمل). وهی المرّة الأولی فی تاریخ لبنان تُثبت فیه الطائفة الشیعیة وجودها فی إطار تنظیم سیاسی مستقلّ غیر مرتبط بالآخرین. ویمکن ملاحظة تواجد ودور علماء الدین الإیرانیین طیلة هذه المراحل وتأثیرهم فی ذلک، وملاحظة أنّ الفرد الإیرانی قد تحوّل إلی أحبّ الأشخاص فی أوساط شیعة لبنان. (1)

ولأجل هذا فإنّ أیّ شیعی فی لبنان یعتبر نفسه أنّه جزء لا یتجزّء من إیران. وعلی أساس هذا الارتباط العقائدی التاریخی والثقافی القدیم بین شیعة لبنان وإیران، فقد استلهم شیعة لبنان توجّهات عمیقة من إیران بعد انتصار الثورة الإسلامیة، وأوجد ذلک میدانا رحبا لإیران للعمل فی أوساط شیعة لبنان. فشیعة لبنان وإثر عودتهم مجدّدا إلی مرحلة الحیرة عقب حرکتهم الاتّحادیة، ومن ثمّ فقدهم زعیمهم، ها هم قد وجدوا فی

ص:242

الثورة الإسلامیة ضالتهم الجدیدة، وقد کان مدی تأثّرهم الإیجابی بها إلی درجة أصبح فیها لبنان من أخصب الأراضی لتنامی واتّساع الحرکة الإسلامیة فی المنطقة. (1)

الجدیر بالذکر أنّ العامل الثانی للسلطة أیْ الدعم الخارجی قد تمهد لشعة لبنان إثر انتصار الثورة الإسلامیة الإیرانیة، إذ إنّ جمیع الطوائف کانت مدعومة من قِبل إحدی البلدان الأجنبیة ولم یُستثن من ذلک سوی الشیعة فقط، ومع أنّهم کانوا یتلقّون الدعم من جانب العلماء والشعب الإیرانی، ولکنْ بما أنّ حکومة الشاه کانت منفصلة عن الشعب، فلم یکن شیعة لبنان یتمتّعون بدعم حکومی، الأمر الذی حصلوا علیه بعد انتصار الثورة. (2)

أمثال الشهید جمران ، الشهید محمّد منتظری ، المرحوم الحاج أحمد الخمینی و... کانوا قد تلقّوا تدریبات فی لبنان؛ فإنّ قادة الحرکات الشیعیة کانوا تلامذة للإمام موسی الصدر وتربطهم علاقة عاطفیة مع إیران.

ونظرا لما بیّناه آنفا، فلا شکّ فی أنّ الثورة الإیرانیة بزعامة الإمام الخمینی رحمة الله قد ترکت أثرا عظیما علی شیعة لبنان وبعثت فیهم الأمل بالمستقبل.

لقد استُخدم سقوط النظام البهلوی فی إیران فی شباط 1979 بمثابة نموذج مهمّ وبیّن علی أنّ بإمکان حرکة إسلامیة ناجحة ومنظّمة بشکل جید ولدیها بواعث محفّزة، إنجاز الکثیر فی مواجهتها للظلم واللاعدالة. وعلی هذا الأساس لم تکن علاقات إیران ولبنان تقوم علی دفاع إیران عن کامل التراب اللبنانی فی مقابل إسرائیل وإدانة احتلاله لجنوب لبنان فحسب، بل إنّ الجمهوریة الإسلامیة تری نفسها ملزمة بالدفاع عن مسلمی هذا البلد، وعلی الخصوص الشیعة منهم الذین یُعدّون من أکثر الطبقات الاجتماعیة حرمانا، مع أنّهم یشکّلون الأغلبیة فیه.

فلطالما أدانت الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة الاعتداءات الصهیونیة وتواجد القوی الغربیة فیه خلال عقد الثمانینات الذی کان لبنان فیه ما زال غرضا للحروب الداخلیة واعتداءات النظام الصهیونی، ولم تکن الحکومات الممسکة بزمام السلطة فیه مکتسبة للمشروعیة المطلوبة، وطالبت بإنشاء نظام فی لبنان یضمن حقوق الأغلبیة الشعبیة فی هذا البلد - المسلمین وعلی الخصوص الشیعة -. وعرضت الجمهوریة الإسلامیة فی هذا السیاق مساعدات واسعة للشعب اللبنانی کان من ضمنها: إنشاء مستشفی، مستوصف، صیدلیة، مرکز صحّی، مراکز ثقافیة وتعلیمیة، أسواق تعاونیة، شبکات الماء وتغطیة حاجات أُسر الشهداء والمستضعفین. إنّ هذه المواساة والمساعدات والدعم الذی قدّمته الجمهوریة الإسلامیة قد ترک أثرا عمیقا فی أوساط المسلمین اللبنانیین والشیعة علی وجه التحدید. (1)

ص:244

إنّ الجمهوریة الإسلامیة إلی جانب دعمها للمقاومة الإسلامیة فی الجنوب اللبنانی، سعت فی إطار تعزیز علاقاتها مع الحکومة اللبنانیة. ویمکن الإشارة فی هذا السیاق إلی زیارة المسؤولین السیاسیین اللبنانیین إلی إیران وزیارة وزیر الخارجیة الإیرانی إلی لبنان الذی استُقبل من قِبل الشعب والفعّالیات الدینیة أیضا، وتأسیس لجنة مشترکة للتعاون الاقتصادی وافتتاح طریق جوّی مباشر بین طهران وبیروت.

وممّا لا شکّ فیه أنّ الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة باعتبارها أحد أقوی بلدان الشرق الأوسط، ومصدر إلهام للمسلمین اللبنانیین، تتولّی دورا مهمّا جدّا فی إقرار الهدوء والثبات السیاسی فی لبنان. (1)

لقد ابتدأ تواجد الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة فی لبنان من خلال النشاطات العسکریة، السیاسیة، الثقافیة وتأمین الإمکانات والحاجات الأوّلیة لمسلمی لبنان، ومن ذلک الحین وحتّی الیوم طُرحت علی الدوام علی أنّها أحد العوامل المؤثّرة فی المسائل السیاسیة والعسکریة والاجتماعیة فی لبنان. وبما أنّ الجمهوریة الإسلامیة تری أنّ تصدیر قیم الثورة الإسلامیة إلی البلدان الإسلامیة یمثّل مسؤولیتها الأساسیة، فکان هذا أحد الأهداف الأساسیة وطویلة الأمد لسیاستها الخارجیة فی لبنان.

حیث إنّ إنشاء حزب الله لبنان الذی هو فی الحقیقة ولید الثورة الإسلامیة الإیرانیة، یُعدّ أحد آثار التواجد المعنوی للجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة فی هذا البلد. ویشیر أحد أعضاء حزب الله لبنان إلی:

أنّنا مظهر الثورة الإسلامیة فی لبنان، إنّ الثورة الإسلامیة فی إیران ملهمتنا. والإمام الخمینی رحمة الله قائدنا الأکبر، فهو الملهم لزعمائنا. (2)

ص:245

ویقول السید حسن نصر الله الأمین العام لحزب الله لبنان فی هذا الإطار کذلک:

نحن جزء من الثورة الإسلامیة، وهذا ما أعلناه بوضوح منذ عشرة أعوام خلت. ومن هنا فللثورة الإسلامیة الحقّ فی مساعدتنا: إذ إنّ الإمام الخمینی رحمة الله کان قد أعلن حیثما کانت مواجهة للظلم، فنحن موجودون. (1)

إنّ القرب والاتّجاه الشدید لشیعة لبنان من الثورة الإسلامیة یمثّل أحد العوامل المهمّة فی قرب لبنان من الثورة الإیرانیة، وهو ما أثّر بشکل غریب علی المجتمع الشیعی اللبنانی إلی الدرجة التی لم یساهم فی إزالة الضعف فی الحرکة الشیعیة والناشئ من فقد الإمام القائد موسی الصدر فحسب، بل فإنّه من الناحیة الکمّیة أدّی إلی انسجام المجتمع الشیعی اللبنانی وعامّة المستضعفین فی هذا البلد أیّما انسجام والتحاقهم بحرکات التحرّر ومضادّة صهینة لبنان، وساهم من الناحیة الکیفیة فی الکشف عن النوایا السیئة والأفکار الانحرافیة التی تخلّلت الصفّ الشیعی وعزلها وأوجدت تیارا فکریا إسلامیا خالصا. (2)

فوقوع هذه الحوادث الثلاث أدّت إلی استعادة أمل دورها من جدید ومکّنتها من القیام بدور مهمّ فی السیاسة اللبنانیة. (1)

إنّ الجمهوریة الإسلامیة وعلی الرغم من الجهود الکبیرة التی بذلتها فی المنطقة لأجل توحید هذه القوی وتثبیت موقعها داخل حرکة أمل، لم تستطع نیل النجاح اللازم فی مواجهتها لبعض مشاکل قیادة أمل والمواجهة مع إسرائیل. فإنّ عدم الرضا الإیرانی من الاعتدال النسبی لحرکة أمل من جهة، والدعم الأکبر الذی تقدّمه للتیارات الشیعیة المنافسة التی تأسّست بتأثیر مباشر من الثورة الإسلامیة الإیرانیة، قد أوجدت بعض الحسّاسیات بین إیران وحرکة أمل.

فثمّة من قَبِل من شیعة لبنان السیر خلف الجمهوریة الإسلامیة؛ ومنهم من فضّل العمل کمستقلّ؛ وثمّة من یعمل بشکل منحرف فی حرکة أمل. وأخیرا فقد تمّ إخراج بعض القوی من حرکة أمل بتهمة الازدواجیة بین اتّباع القیادة والولایة التی تقصدها إیران؛ والبعض باعتباره جاسوسا لإیران وحزب الله؛ وعدّة أخری باعتبارهم معارضین لقیادة أمل؛ ومجموعة أیضا بتهمة الارتباط بالمجامیع الفلسطینیة.

حتّی أنّ الشیخ محمد مهدی شمس الدین نائب المجلس الشیعی الأعلی الذی کان علی خلاف مع نبیه برّی قبل عام 1982، قد دعا الکثیر من أعضاء حرکة أمل إلی الخروج منها. ووصل الأمر إلی معارضة واعتراض جمع من الطلبة اللبنانیین والأجانب عملیا لسیاسة نبیه برّی ، واعتبروا حرکة أمل غیر إسلامیة، وأعلنوا أنّ حرکة أمل لم تکن حرکة إسلامیة فی أیّ یوم من الأیام.

وقد واجه الشیخ إهمالا إیرانیا بعد أنْ أصبحت الکثیر من مواقفه مخالفة لخطّ الإمام وسیاسة الجمهوریة الإسلامیة. فأحسّ بالحاجة إلی الاتّحاد مع حرکة أمل للدفاع عن

ص:248

مواقفه فی مواجهة المواقف الثوریة للجمهوریة الإسلامیة وولیدها فی المنطقة أیْ حزب الله. فألقی جانبا جمیع خلافاته مع نبیه بری فتمّت المصالحة بینهما. (1)

وکان الشرخ الذی حدث بین حرکة أمل والثورة الإسلامیة قد مثّل فرصة لمجموعة من أنصار حرکة أمل بزعامة السید حسین الموسوی والذین کانوا قد طُردوا منها قبل مدّة لتشکیل مجموعة تحمل عنوان الأمل الإسلامی. فالأمل الإسلامی تتکّون من الشیعة الذین یتّبعون بقوّة توجّهات الثورة الإسلامیة وسیاسة الجمهوریة الإسلامیة، وهم یرون أنفسهم أنّهم سائرون علی خطّ الإمام الخمینی رحمة الله سیاسیا ودینیا. وبهذا بقیت أمل الإسلامیة بصورة تنظیم سیاسی فی مقابل حرکة (أمل) فحسب، ثمّ التحقت بعد مدّة من ذلک بمجموعة حزب الله التی تعتبر أهمّ جماعة شیعیة تناصر الثورة الإسلامیة. (2)

منزلة أفضل للشیعة، وآخر یتّبع الفکر الأصولی للإسلام والثورة الإسلامیة ویواجه الاستکبار العالمی فی جمیع المجالات والأبعاد. (1)

وقامت بتنفیذ عدّة عملیات ضدّ إسرائیل فی جنوب لبنان، حیث طغی علی أغلها الجانب الاستشهادی والفدائی. واستطاعت بالاعتماد علی هذا النجاح استقطاب قسم أساسی من شیعة لبنان الذین یأسوا من سیاسات قیادة (أمل) وتناقضاتها العملیة مع میثاق الحرکة الذی حدّده الإمام موسی الصدر ، والتمتّع بدعم باقی مسلمی لبنان باعتبارها تمثّل التیار الوحید الذی یؤمّن الأهداف الإسلامیة فی لبنان.

المرحلة الثانیة من تطوّر حزب الله والتی استمرّت من عام 1990 وحتّی عام 1996، کانت عبارة عن مرحلة لبننة المجتمع باعتبارها أداة لتوحید وانسجام الواقع السیاسی الاجتماعی للبلد.

وقد انتهت الحرب الداخلیة فی ظروف إقلیمیة جدیدة وذلک بالتزامن مع اتّفاق الطائف فی عام 1990،. فقد کان هذا التاریخ یمثّل نهایة إستراتیجیة تصدیر الثورة الإیرانیة ونهایة الحرب العراقیة الإیرانیة. وسهّلت حرب الخلیج الفارسی عام 1991 وبدء محادثات السلام فی مدرید التی شارکت فیها سوریا، الظروف لإیجاد فضاء سیاسی مفتوح وإمکانیة انطلاق نشاط جماعات سیاسیة جدیدة فی لبنان. فسمح هذا الظرف لحزب الله من خلال ممارسة عملیة المقاومة والقیام بعملیات عسکریة ناجحة، للبروز فی الساحة واضطراد محبوبیته الشعبیة بمرور الأیام. (1)

وکما سبق وأنْ أشرنا، فإنّ حزب الله والحرکة الشیعیة عامّة لعبت دورا فعّالا فی توحید المجموعات الشیعیة. فقد قاتلت القوات المناضلة لحزب الله بأرواحها وقلوبها لتحریر أراضیها من الاحتلال الصهیونی، وقد مثّلت مواجهات ومعارک قوّات حزب الله مع القوی الاحتلالیة وعلی الخصوص أمریکا وإسرائیل صفحة جدیدة فی تاریخ المجتمع القومی - القبلی اللبنانی ونضالاته. إذ کانت کلّ طائفة تدافع عن نفسها وأبناء

ص:251

عقیدتها حتّی ذلک التاریخ، ولم یکن ثمّة مفهوم یحمل اسم النضال لأجل الوطن والبلاد فی قاموسها. فلم یشهد لبنان طائفة ضحّت بنفسها للدفاع عن الطوائف الأخری حتّی ذلک الوقت.

ومع أنّ الشیعة یشکّلون الأغلبیة فی جنوب لبنان، غیر أنّ هناک مناطق وقری أیضا تختصّ بطوائف ومذاهب وأدیان أخری؛ بید أنّ قوات حزب الله دافعت عن جمیع الطوائف من دون الالتفات إلی التقالید الطائفیة الغابرة، وناضلت لتحریر وإنقاذ الأرض اللبنانیة قاطبة. فساهمت هذه المسألة فی اقتراب المجتمع الطائفی اللبنانی من الوحدة خطوة أخری. ومن جهة ثانیة، فإنّ اکتساب المجتمع اللبنانی دورا وهیبة فی أوساط المجتمع الدولی یُعدّ من أهمّ آثار ذلک. الأمر الذی استطاع الشیعة وحزب الله علی وجه التحدید من تحقیقه. وهو ما أدّی إلی أنْ یُنظر إلیهم بمثابة منقذین للبنان.

حیث استطاعوا فی نهایة المطاف من ضمان فرار القوّات المحتلّة من دون تقدیم أیّ تنازلات، وذلک من خلال التضحیة بأرواحهم واستغلال جمیع طاقاتهم وقواهم ضدّ الاحتلال الإسرائیلی. (1)

ولا ینبغی لنا فی هذا الإطار إغفال تأثیر ودور إسرائیل فی تنظیم العلاقة بین إیران ولبنان. فحینما غزت إسرائیل لبنان قامت إیران بإرسال قوّة إلی لبنان علی الرغم من أنّها کانت تخوض غمار الحرب مع العراق.

وبعد الخطاب التاریخی للإمام رحمة الله استمرّ تدفق المساعدات الفکریة، المعنویة والمادّیة وکذا تنظیم القوی المناضلة اللبنانیة، وکانت حاجة القوی اللبنانیة إلی إیران، والدعم الذی قدّمته إیران فی أوانه، ودور الشیعة الذین تدعمهم إیران والذین تمتدّ

ص:252

علاقتهم وتقاربهم مع شیعة إیران إلی زمن بعید، علی مستوی کبیر من الأهمّیة فی مواجهة المحتلّین الإسرائیلیین وقدرتهم علی تحریر الأراضی المحتلّة. (1)

وکان الدعم الذی قدّمته الثورة الإسلامیة الإیرانیة قد تجاوز بکثیر الحرکات الإسلامیة الشیعیة فی لبنان. حیث قامت بدور واسع فی تأسیس حرکة التوحید الإسلامی بزعامة الشیخ سعید شعبان وحتّی المنظّمات الثوریة الفلسطینیة.

وباختصار، فإذا لزم ذکر عیّنة بارزة لبلد وشعب وقع تحت تأثیر وتداعیات الثورة الإسلامیة، فلیس ثمّة شکّ فی أنّه لبنان، وعلی الخصوص الشیعة فیه. فعلی الرغم من البعد الجغرافی فقد ترکت الثورة الإسلامیة أکبر الأثر علی المجتمع اللبنانی. فالذین عرفوا علی أنّهم أضعف الطبقات الاجتماعیة وأکثرها حرمانا قبل انتصار الثورة الإسلامیة، قد أوجدوا ترکیبة قویة أثّر صداها لیس علی لبنان وحتّی فلسطین فحسب، بل طُرحوا فی ساحة العلاقات الدولیة أیضا علی أنّهم لاعبین إقلیمین أقویاء.

فقد استطاع حزب الله ومن دون أنْ یجلس علی طاولة المفاوضات، من تحریر البلد من سیطرة القوّات المتعدّدة الجنسیات نظیر أمریکا، فرنسا، بریطانیا، إیطالیا وعلی الخصوص إسرائیل. فهذا الحزب یؤدّی دوره الیوم باعتباره تنظیما عسکریا - سیاسیا قویا فی ساحة التطوّرات الوطنیة، الإقلیمیة وحتّی الدولیة. وحزب الله الذی هو فی الحقیقة ولید الثورة الإسلامیة قد حمّل إسرائیل هزیمة نکراء لوحظت آثارها وتداعیاتها فی الأراضی المحتلّة مباشرة وذلک بواسطة القوی الجهادیة الفلسطینیة.

السیاسیة، العسکریة، الاقتصادیة، الاجتماعیة والثقافیة المؤسفة طیلة العهود الماضیة وعلی الخصوص فی النصف الثانی من القرن الأخیر. فقد وصلت إلی السلطة خلال هذه القرون المتمادیة حکومات ونُظم سیاسیة وفکریة من خلال استغلالها لاسم الأرض الفلسطینیة، وکم من الأنظمة قد أُسقطت ووضعت ملفّاتها فی أرشیف التاریخ تحت هذا الاسم. وقد أُریقت باسم فلسطین دماء مئات الآلاف من أبناء الأمّة الإسلامیة فی المنطقة، وسجن أو قتل بأبشع أنواع التعذیب خیرة أبناء هذه الأرض فی أقسی سجون ومطامیر الاحتلال الإسرائیلی. ومع کل هذا، فقد النظام الصهیونی قام مرّة أخری باحتلال أجزاء من هذه الأرض ووسّع من الکیان غیر الشرعی ل- «إسرائیل» بسبب عجز الحکّام العرب.

حیث یقع قبر إبراهیم علیه السلام فی مدینة الخلیل، وتُعدّ مدینة بیت لحم مسقط رأس عیسی المسیح علیه السلام . وقد ولد إسحاق و یعقوب فی هذه الأرض أیضا. وقد حمل یوسف حفید یعقوب من هذه الأرض إلی مصر، ووصل إلی الحکم فیها. وبعد أنْ عبر موسی علیه السلام نهر النیل بعث مجموعة من قومه مع یوشع إلی فلسطین. وحکم فی هذه الأرض داود علیه السلام علی مدی أربعین عاما، وبنا ابنه سلیمان علیه السلام الهیکل فی مدینة أورشلیم ودُفن بعد موته فی جبل صهیون. وکان سلیمان علیه السلام ملکا للعبرانیین أیضا وذلک طیلة 25 عاما، حیث کان مقرّه فی فلسطین. وکانت مدینة القدس أوّل قبلة للمسلمین حیث عرج منها رسول الله صلّی الله علیه وآله إلی السماء. ویقع قبر هاشم بن عبد مناف جدّ النبیّ الأکرم صلّی الله علیه وآله فی غزّة. وکانت تمثّل إحدی أهمّ الحوافز بالنسبة للصلیبیین الذین حاربوا قرنین للسیطرة علیها، فیمثّل کلّ هذا، الأهمّیة التی تحظی بها هذه الأرض من الناحیة الدینیة. وکان عدد سکّان فلسطین فی عام 1917، 700 ألف نسمة لا یتجاوز عدد الیهود منهم 50 ألف شخص. وفی عام 1947 وعقب تنفیذ السیاسة الإمبریالیة لبریطانیا والصهیونیة شکّل الیهود 560 ألف شخص من عدد سکّانها البالغ 1,800,000 نسمة أیْ أقلّ من الثلث. (1)

وکانت فلسطین جزءا من الإمبراطوریة العثمانیة قبل الحرب العالمیة الأولی وهزیمة وانهیار الدولة العثمانیة، وخضعت منذ عام 1919 للانتداب البریطانی. ففی تلک المرحلة قامت بریطانیا بالتمهید لهجرة الیهود إلی هذه الأرض وتسبّبت فی التشرّد والتطهیر العِرقی للعرب المسلمین. الأمر الذی أحدث أزمة فی هذه الأرض ما زالت مستمرّة حتّی الیوم.

حیث وعد اللورد بلفور وزیر الخارجیة البریطانی فی ذلک العهد فی مذکّرة

ص:255

وجّهها لروتشیلد أحد الصهاینة الأثریاء، وذلک فی عام 1917 بإنشاء وطن للیهود فی أرض فلسطین. وکانت هذه المذکّرة أساس قیام النظام الصهیونی الإسرائیلی، فبدأ منذ ذلک الحین تاریخ تدفّق المهاجرین الیهود واغتصاب أراضی المسلمین وتشریدهم. فتهیّأت فی تلک المرحلة الأرضیة لتمرّد وثورة الشعب الفلسطینی عامّة من خلال إیجاد ظروف الاغتیال والرعب من قِبل الحکومة البریطانیة والصهاینة، والتی کان من أهمّها ثورة الشیخ عزّ الدین القسّام فی عام 1936. وفی عام 1949 سیطرت بریطانیا علی القسم الأعظم من هذه الأرض، وتمّ تأسیس دولة إسرائیل وإعلان قیامها علی الرغم من أنّ الیهود لم یشکّلوا سوی ثلث سکّان فلسطین فی تلک الحقبة، وتمت مصادقة منظّمة الأمم المتّحدة علی قرار تقسیم فلسطین وتأسیس هذه الدولة التی أقامها الاستعمار. واعترف نظام الشاه فی إیران بها أیضا فی لائحتین أصدرهما.

فمنذ ذلک التاریخ دخلت الأزمة الفلسطینیة مرحلة جدیدة وأصبحت مسألة لا تخصّ العالم العربی فحسب بل الإسلامی أیضا، ولم تظلّ مسألة فلسطینیة فحسب، بل خرجت من حالتها الوطنیة والإقلیمیة لتصبح أحد المعضلات الدولیة. فقد مرّت هذه الأرض بأربعة حروب إقلیمیة ودولیة فی هذه المرحلة وکان للدول الأخری دور فی هذه الحروب أیضا. ویمکن الإشارة إلی حرب الدول العربیة ضدّ إسرائیل عام 1948، حرب فرنسا، بریطانیا، إسرائیل ضدّ مصر عام 1956، حرب 1967 المعروفة بحرب الأیام الستّة التی شنّتها إسرائیل علی مصر، الأردن وسوریا، وحرب 1973 التی شنّتها مصر علی إسرائیل وعُرفت بحرب رمضان. وقد شکّلت الأراضی الفلسطینیة والاختلاف حول هذه الأراضی محورا لجمیع هذه الحروب.

وإلی جانب هذه الحروب الدولیة، تبلورت حرکات التحرّر، الأیدیولوجیات المختلفة والمتّفقة فی ذات الوقت علی هدف تحریر الأرض الفلسطینیة من براثن

ص:256

الصهیونیة، علی شکل عملیات فدائیة وحرب عصابات. وإذا ما أغفلنا حرکة الشیخ عزّ الدین القسّام التی کان لها صفة إسلامیة، فإنّ جمیع الحرکات اتّسمت بالصفة العلمانیة والقومیة عموما، ولم یتمّ استثمار المعتقدات الدینیة للناس بشکل مفید، فواجهت غالبیتها الهزیمة والانکسار. وقد أوکل العرب هذه المشکلة فی إحدی المراحل إلی الدول العربیة التی کانت ضعیفة ومرتبطة بالغرب عموما، ونظر العرب إلی مسألة فلسطین فی مرحلة القومیة العربیة التی وصلت ذروتها بقیادة جمال عبد الناصر علی أنّها جزء من مشاکل العالم العربی، ورأوا أنّ حلّها یرتبط بحلّ مسألة وحدة العالم العربی، ونُظر إلیها فی أحد الأوقات فی إطار القومیة الفلسطینیة واستعادة الأراضی الفلسطینیة.

یقول توفیق الطیّب فی کتابه ما بعد النکبتین:

إنّ هزیمة عام 1948 تُعدّ فی الحقیقة هزیمة للأفکار اللیبرالیة العربیة، فی حال أنّ هزیمة عام 1967 تسمّی هزیمة الفکر الاشتراکی والثوری العربی. وکانت الهزیمة العسکریة والهزیمة الفکریة یتّأم ویلازم أحدهما الآخر، لذا فالتحلیل النهائی هو أنّ أصل هزیمة العرب فی الحروب الماضیة کانت هزیمة الأفکار اللیبرالیة والاشتراکیة التی یحملونها. وبعبارة أدقّ هزیمة الأفکار والاتّجاهات الفکریة العربیة الحدیثة، فنحن قبل أنْ نفقد أراضینا ونقیم المأتم علی ترابنا، جلسنا نبکی علی أفکارنا وتوجّهاتنا، وربّما کانت مصیبة فکرنا مقدّمة لمصیبة ترابنا. (1)

لقد أدّی انتصار الثورة الإسلامیة عام 1979، إلی أنْ یکون للدین دور مهمّ وبارز فی تحقیق الأهداف وتأصیل البنی التحتیة للأنظمة السیاسیة ومشروعیتها فی أوساط المجتمعات التی تسعی للخلاص من شرّ الأنظمة المهزومة وغیر الکفوءة واستبدالها فی ذات الوقت بنظام کفوء ومستقر.

ص:257

إنّ الجماعات، الشخصیات وعلماء الدین وکثیر من زعماء المسلمین فی العصر الراهن ممّن لدیهم توجّهات تقلیدیة، یرون أنّ إسرائیل باعتبارها «مشکلة ثانویة» قد زُرعت فی قلب العالم الإسلامی إثر انهیار الخلافة العثمانیة. وتقوم فکرة هذه المجموعة علی أنّ المشکلة الأساسیة للمجتمعات الإسلامیة تتمثّل فی افتقادها دولة دینیة مقتدرة ترفع رایة الجهاد عالیا وتقاتل لطرد الغاصبین من الأراضی المحتلّة.

ویصرّح مؤیّدو هذا النوع من الفکر لتبریر مواقفهم بأنّهم إنّما یتّبعون أسلوب النبیّ صلّی الله علیه وآله؛ إذ إنّه وبعد إتمام مرحلة الإعداد والتربیة التی بلغت ثلاثة عشر عاما هاجر من مکّة إلی المدینة وأسس فیها دولة إسلامیة؛ فأصدر للمسلمین حینذاک أمر القتال والجهاد، فأیّ سعی لتحریر هذه الأرض یرتبط بظهور دولة إسلامیة قویة فی المنطقة.

لقد عرض انتصار الثورة الإسلامیة فی إیران بوضوح مرحلة جدیدة من ترکیبة الدین والسیاسة واعتمادهما معا وعدم الفصل بینهما، وطرحت مرة أخری «الإسلام السیاسی» فی میدان النظریات المتعلّقة بالسیاسة والحکومة. فقد استطاعت الثورة الإسلامیة من تصویر أنموذج سلس ومناسب للأنظمة السیاسیة التی أصابها الیأس والإحباط النابع من فقد الهویة الدینیة.

فالثورة الإسلامیة إضافة إلی أنّها تمکّنت من عرض عیّنة مناسبة للحکومة الإسلامیة، فقد أدّت إلی إحداث تغییر وتطوّر فی أیدیولوجیة الحرکات النضالیة - علی الخصوص فی الأراضی الفلسطینیة - بنحو أذعن خلاله قادة هذه الحرکات لمسألة أنّ الثورة الإسلامیة فی إیران استطاعت إیجاد تطوّر کبیر فی أسالیبهم النضالیة وبلورة حرکات جدیدة یمهّد لإقامة نظام حکومی یعتمد البنی الإسلامیة.

ص:258

ویستمرّ الکلام حول علاقة ونفوذ المنظّمات الفلسطینیة فی إیران ودعم الإمام رحمة الله وجمیع الطبقات لها:

النجاح الأساسی لفتح فی إیران یتمثّل فی استثمار التطرّف الدینی لطلبة الجامعات وطلبة العلوم الدینیة فی قم ومشهد الذین لازالوا متأثّرین بآیة الله الخمینی. حیث یُطلق هؤلاء الطلبة أحیانا مظاهرات صاخبة للجهاد أیْ الحرب المقدّسة ضدّ الیهود. ولن تستطیع الشرطة الإیرانیة التدخّل ما دامت هذه التظاهرات تُقام فی داخل المساجد، غیر أنّ أعضاء السافاک واثقون من أنّ هذه المظاهرات التی تظهر علی أنّها ضدّ الصهیونیة، هی بحقیقتها الفعلیة ضدّ الشاه. (1)

اختارت طریق مواجهة النظام، استهدفت بهجماتها مکاتب الممثّلیات الإسرائیلیة وسائر المصادر التی تموّلها إیران. (1) إذ مّثلت مسألة محاربة الصهیونیة وإسرائیل العنصر المشترک لجمیع المناضلین.

ومع أنّ النظام کان یوجّه خطابه إلی الشعوب المسلمة فی خطاباته المتعلّقة بالقضیة الفلسطینیة ویدعوها لدعم ومساندة الشعب الفلسطینی فی إحقاق حقوقه؛ غیر أنّه کان یدعم منظّمة التحریر الفلسطینیة أیضا ما دامت ثابتة فی طریق مواجهة إسرائیل. وسعی یاسر عرفات أیضا لتعمیق علاقته بالثوریین، فقد بعث یاسر عرفات رئیس منظّمة التحریر رسالة تسلیة إلی الإمام إثر شهادة الحاج مصطفی الخمینی رحمة الله . وقد وقد أجاب الإمام بدوره علی ذلک فی برقیة بعثها إلیه. ومع العودة المظفّرة للإمام رحمة الله فی 2 شباط 1979 خرجت تقاریر وکالات الأنباء لتکشف عن القلق الشدید للحکومة الإسرائیلیة من عودته التی من الممکن أنْ تهدّد مفاوضات السلام فی کامب دیفید.

وقام النظام الثوری فی إیران بقطع العلاقات مع إسرائیل بعد انتصار الثورة، وحوّل سفارة إسرائیل إلی سفارة لفلسطین. وأعلن المتحدّث الرسمی باسم النظام الصهیونی أیضا أنّ قطع العلاقات السیاسیة والاقتصادیة بین إیران وإسرائیل تسبّب فی أضرار جسیمة للاقتصاد الإسرائیلی. (2)

وطالبت الحکومة الإیرانیة الجدیدة جمیع الإسرائیلیین بمغادرة إیران فورا. وشمل هذا القرار الأعضاء والهیئات التی تمثّل إسرائیل، الوکالة الیهودیة وأعضاء شرکة الخطوط الجوّیة الإسرائیلیة (العال) وممثّلی شرکات المقاولات الإسرائیلیة. (3)

ص:261

وتمّ افتتاح سفارة فلسطین فی محلّ السفارة الإسرائیلیة وذلک فی آذار 1979. حیث حضر مراسم الافتتاح زعیم منظّمة التحریر ونجل الإمام. (1)

لقد احتلّت أخطر قضایا القرن (المسألة الفلسطینیة) صدارة اهتمامات رجل القرن الخارق الإمام الخمینی رحمة الله . (1)

ویبیّن الإمام الخمینی رحمة الله خصیصة مناهضة الحرکة الشعبیة فی الثورة الإسلامیة لإسرائیل قائلا:

إنّ أحد الأسباب التی أدّت بالشعب الإیرانی المسلم للثورة علی الشاه هو دعمه المتواصل لإسرائیل الغاصبة. (2)

ومع انتصار الثورة الإسلامیة أصبح شعار «الیوم إیران، غدا فلسطین» ولزوم مواجهة إسرائیل حتّی محوها من الوجود من أکثر سیاسات قادة الشعب الإیرانی محوریة. وکانت العلاقة مع الجماعات والحرکات الشعبیة الفلسطینیة، السعی لتوحید جهود المسلمین فی العالم للدفاع عن الشعب الفلسطینی، تحوّل المسألة من اتّجاهها القومی إلی مسألة إسلامیة بامتیاز وفتح طریق الإنقاذ الإسلامی للشعب الفلسطینی المظلوم، من المواضیع المحوریة للشعب الإیرانی المسلم منذ بدء انتصار الثورة الإسلامیة.

وتمثّل مسائل أمثال قطع العلاقة مع إسرائل، مواجهة السیاسات التوسّعیة لذلک النظام، السعی لإحلال ممثّلی الشعب الفلسطینی محلّ إسرائیل فی النظام الدولی، السعی لتضامن البلدان والشعوب الإسلامیة لدعم الشعب الفلسطینی من خلال جعل آخر جمعة من شهر رمضان فی کلّ عام یوما عالمیا للقدس، إقامة الملتقیات الإقلیمیة وتأسیس جمعیات الدفاع عن الشعب الفلسطینی، نماذج من إجراءات قادة الثورة الإسلامیة للدفاع عن الأرض الفلسطینیة وشعبها.

وقد ترکت الثورة الإسلامیة أثرا عمیقا علی الشعب الفلسطینی المسلم فی مجال العودة إلی التعالیم الدینیة، الأمل بقدراته الذاتیة، اتّخاذ المناضلین الفلسطینیین النظام

ص:263

الإسلامی قدوة لهم، جعل المسجد مرکزا أساسیا لمواجهة العدو، تنظیم وحدتهم حول محوریة الإسلام وتشکیل المجامیع الجهادیة أمثال (حماس والجهاد الإسلامی)، حیث کانت الانتفاضة نتاجا أساسیا لتأثّر مناضلی الشعب الفلسطینی بالثورة الإسلامیة.

ولأجل خروج الانتفاضة الفلسطینیة من الطریق المسدود الذی وصل إلیها نضال الفلسطینین، فإنّها باتّخاذها الثورة الإسلامیة أسوة لها، وجدت أنّ الإسلام هو الأداة الوحیدة الکفوءة فی هذا المضمار، وکما أعلن وصرّح قادة الانتفاضة مرارا وتکرارا من أنّ:

الإسلام فقط هو طریق الخلاص لتحریر فلسطین. وأنّ حرکة الجهاد الإسلامی تعتقد أیضا أنّ المسألة الفلسطینیة هی مسألة إسلامیة ولیست قومیة ترتبط بالفلسطینیین وحدهم أو مسألة عربیة تتعلّق بالعرب وحدهم، بل إنّها تخصّ جمیع المسلمین. (1)

لقد مثّلت مناهضة الاستعمار وکسر هیبة القوی السلطویة وإحداث موجة من الصحوة بین الشعوب وعلی الخصوص المسلمین من أکثر مکاسب الثورة الإسلامیة الإیرانیة أهمّیة. والشعب الفلسطینی المسلم بابتعاده وإلقائه الفکر القومی والعلمانی الذی أثبت عجزه خلال عدّة عقود جانبا، وبتوجّهه صوب الصحوة الإسلامیة تأثّرا بالثورة الإسلامیة عاد مرّة أخری إلی هویته الإسلامیة والقیم المشترکة بین الأمّة الإسلامیة، وجعل من فکرة الاعتماد علی الإسلام والتحرّک الذاتی مناطا له. (2)

ومن جهة أخری، فإنّ سقوط الشاه باعتباره أهمّ داعم لإسرائیل فی المنطقة وتأسیس الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة قد غیّر بنحو ملموس توازن القوی فی المنطقة فی ضرر إسرائیل. (3)

فقد استطاعت هذه الثورة من عرض نموذج إسلامی مناسب حیث یمکن اتّباعه،

ص:264

وکسب القوّة من خلاله بسهولة. (1) وعلی الخصوص بعد الانتصار الباهر الذی حقّقه حزب الله علی القوی الاحتلالیة بضمنها إسرائیل فی جنوب لبنان، ممّا ساهم فی إقدام الفلسطینیین وجرأتهم أکثر وأنْ یکون نهج الثورة الإسلامیة طریقا وحیدا لإنقاذ أراضیهم.

وبحسب ما کتبه أبو عمرو فقد:

کان للثورة الإسلامیة الإیرانیة أثر مهمّ علی الحرکات الإسلامیة فی کلّ مکان ومن بینها الحرکات الإسلامیة فی الأراضی المحتلّة، فقد جاءت هذه الثورة لتقدّم دلیلا علی إمکانیة انتصار الإسلام فی العصر الراهن علی الظلم والجور، والأهمّ من ذلک إمکانیة إقامة دولة إسلامیة تمثّل أنموذجا لجمیع الحرکات الإسلامیة. (2)

لقد تبلور فی عقد الثمانینات اتّجاهان أساسیان یحملان معاییر إسلامیة قاما بدور مهمّ فی التطوّرات اللاحقة فی الأراضی المحتلّة. وقد تمثّل هذان الاتّجاهان بحرکة الجهاد الإسلامی الفلسطینی وحرکة حماس التی تمثّل استمرارا لحرکة الإخوان المسلمین - وبالطبع بأهداف وإستراتیجیات جدیدة - وبدأت نضالها ضدّ إسرائیل بلا هوادة.

وبدا تأثیر حرکة الصحوة الإسلامیة فی الشرق الأوسط واضحا وجلیا بین أوساط الطلبة الفلسطینیین فی الضفة الغربیة وقطاع غزّة فی الأعوام الأولی من عقد الثمانینات.

حیث حصل طلبة الجامعات المؤیّدون ل- «المعسکر الإسلامی» علی المرتبة الثانیة وأحیانا الأولی فی الانتخابات الطلابیة فی أکثر الجامعات الفلسطینیة. وقد تحوّل المعسکر الإسلامی إلی منافس عنید لحرکة فتح، الجماعة البارزة للمقاومة الفلسطینیة. إذ جاء الطلبة الإسلامیون فی المرتبة الثانیة بعد حرکة فتح خلال المعارک الانتخابیة لشغل مقاعد مجلس الطلبة وألحقوا الهزیمة بالقوی الیساریة وحلفائها. وکانت قوّة

ص:265

الجناح الإسلامی فی بعض الجامعات یوازی أو حتّی یتفوّق علی أنصار فتح. وکانت قوّة الجماعات الإسلامیة فی جامعة هبرون (الخلیل) الإسلامیة والجامعة الإسلامیة فی غزّة مشهودا أکثر من سائر الجامعات، فقد استحوذ الجامعیون المؤیّدون للاتّجاه الإسلامی علی 75% من مقاعد المجلس الطلابی لجامعة غزّة. (1)

وکان قد ذکر أحد قادة الجماعات الطلابیة فی أحداث تلک الانتخابات قائلا:

لقد جرّبنا القومیة والشیوعیة، ونحن نعتقد الآن بأنّ الطریق الوحیدة التی تمکّننا من الانتصار علی إسرائیل هی طریق الإسلام. (2)

وبالإضافة إلی الحرکة الطلابیة، فثمّة مجامیع إسلامیة متعدّدة بدأت نشاطها فی الأراضی المحتلّة بعد انتصار الثورة الإسلامیة، ویمکن الإشارة من بینها إلی (أسرة الجهاد فی الخلیل)، (أسرة الجهاد فی الخلیل والقدس) وکذلک (شباب النضال الإسلامی)، والتی تمّ کشفها فی الأعوام 1980 و1983 من قِبل المنظومة الأمنیة الإسرائیلیة. إلّا أنّ ثمّة مجموعتین أساسیتین (الجهاد الإسلامی الفلسطینی) و(حماس) تقومان الیوم بدور محوری من بین جمیع الحرکات الإسلامیة العاملة فی فلسطین واللتان أعلنتا عن وجودهما فی عقد الثمانینات إثر انتصار الثورة الإسلامیة الإیرانیة. (3)

فی أنْ یکون لهم دور مؤثّر فی تبلور الأفکار الإسلامیة الحدیثة. وکان أحد الأسباب الذی تسبّبت فی خروج هؤلاء من حرکة الإخوان المسلمین الأمّ، عدم حصولهم علی إجابات کافیة ومقنعة عن مطالبهم وأهدافهم فی خصوص الکثیر من القضایا المعاصرة أمثال المسألة الفلسطینیة.

وکان قد أُثیر خلال الفترة من عام 1967 ولغایة 1970 هذا التساؤل فی أذهان الأعضاء الشباب للإخوان المسلمین، وهو؛ ما هو موقف الحرکة تّجاه الحرب المسلّحة مع النظام الصهیونی؟ وکان قادة الإخوان المسلمین یصرّحون فی الإجابة عن هذا التساؤل بأنّهم فی الوقت الحاضر منهمکون فی التربیة والتعلیم والإعداد، وبسبب أنّ قیادة المواجهة لیست فی ید القوی الإسلامیة، فلیس بمقدورهم دخول ساحة الکفاح المسلّح. وإضافة إلی هذا التبریر غیر السلیم؛ فثمّة بواعث وعوامل أخری دعت مناصری الاتّجاهات الإسلامیة الحدیثة لقطع علاقاتهم مع حرکة الإخوان المسلمین. ففی اعتقاد الشباب المنفصلین أنّ أحد أسباب خروجهم یتمثّل بالانهیار الأخلاقی الذی طوّق رقبة الإخوان المسلمین ولم یسمح بطرح انتقادات بنّاءة وإشاعة أجواء الفکر والتأمّل.

فالمیول الإسلامیة الحدیثة کانت قد بدأت علی العموم فی منتصف السبعینات، وهی بحسب وجهة نظر حرکة الجهاد الإسلامی، کانت تمثّل ردّ فعل طبیعی وأصولی تّجاه مراحل عدم الاستقرار السابقة التی أدّت فی أقلّ من عقدین إلی إمساک فاجعتین مهولتین وهزیمتین مرعبتین بخناق الأمّة الإسلامیة. (1)

الإسلامیة الأصولیة فی قطاع غزّة والضفة الغربیة لم یستند إلی انتصار الثورة الإسلامیة فی إیران فحسب. فقبل أنْ یتمّ تأسیس حرکة الجهاد الإسلامی رسمیا، کانت بعض التیارات الفکریة تظهر داخل حرکة الإخوان المسلمین نوعا ما، وتجسّد عملیا حالة الحیرة والاضطراب والخلافات الفکریة الداخلیة لهذه الحرکة. ولم یکن ظهور هذه الاتّجاهات الفکریة الحدیثة بخافٍ علی أذهان مؤسّسی حرکة الجهاد الإسلامی. ففی بلد مثل مصر علی سبیل المثال، والتی تلقّی فیها مؤسّسی الجاد الإسلامی تعلیمهم الجامعی، قد انفصلت مجامیع أخری أیضا من التنظیم الداخلی للإخوان المسلمین وأنشأوا تنظیما مستقلّا لهم فی عقد السبعینات. وهذه التنظیمات هی عبارة عن جماعة التکفیر والهجرة، جماعة الجهاد، خلیة صالح سریة الذی کان عضوا فی حزب التحریر الإسلامی فی السابق وقاد هجوما علی الأکادیمیة العسکریة الفنیة فی القاهرة عام 1974. (1)

وقد مارست حرکة الجهاد الإسلامی الفلسطینیة التی کانت فرعا من حرکة الإخوان المسلمین المصریة فی بدایتها وقبل تبلورها کحرکة نشاطات ثقافیة واجتماعیة فی قطاع غزّة. وبما أنّ مواجهة الصهاینة لم یکن ضمن برنامج وجدول أعمال الإخوان بنحو جادّ، فقد انخرط الشباب الثوری الذین کانوا یطالبون بالمواجهة الفعلیة والمسلّحة مع النظام الصهیونی فی الجماعات العسکریة الفلسطینیة المختلفة بضمنها حرکة فتح. غیر أنّ هذه المجامیع التی تتّسم بالفکر والاتّجاه الاشتراکی أو القومی، وقلیلا ما تلاحَظ فیها میول إسلامیة أصابت الشباب الثوری المسلم الذی کان یمارس نشاطه فی صفوف الإخوان المسلمین بالیأس والحیرة والإحباط. وکان للهزیمة العسکریة للاتّجاهات والأسالیب الاشتراکیة

ص:268

والقومیة مع إسرائیل إثر مهمّ فی ازدیاد الحیرة لهذه المجموعة من الشباب. فکانوا بانتظار فرصة وطریقا للخلاص من هذه الحالة والارتباک. فجاءت الثورة الإسلامیة فی إیران لتحیی هذا الأمل فی قلوبهم من أنّه بالإمکان الاستفادة من الإسلام وتعالیمه، والابتداء بفصل جدید فی مواجهة النظام الصهیونی من خلال الاعتماد علی البواعث والإیمان الإسلامی الراسخ.

وکان انتصار الثورة الإسلامیة بدایة لإقامة علاقة معنویة ونفسیة بین هذه المجموعة والجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة ومن ثمّ توسیع هذه العلاقة، إلی المستوی الذی یخلق ارتباطا عمیقا جدّا وإستراتیجیا فی ما بینهما من خلال النفوذ الاستثنائی لإیران علیها، هذا إضافة إلی الأثر العمیق الذی ترکته الثورة الإسلامیة منذ البدایة علی هذه الحرکة.

وبعبارة أخری، فإنّه وبمجرّد انتصار الثورة الإسلامیة فی إیران فقد سعی مؤسّسی الحرکة لاستلهام دروسها وعبرها بغیة تطبیق ذلک فی الساحة الفلسطینیة. وبحسب قول قادة الجهاد الإسلامی فإنّ ما فتح لنا عصرا جدیدا وأدّی إلی أنْ نرکّز نظرنا علی المسألة الفلسطینیة من الزاویة الإسلامیة خاصّة إنّما هی الثورة الإیرانیة. وطُرحت منذ ذلک الحین أُسس الجهاد، الشهادة، التضحیة فی طریق الأهداف التی کانت تمثّل رمزا للشیعة وشعارات الثورة الإسلامیة الإیرانیة باعتبارها الأعمدة الأساسیة لحرکة الجهاد الفلسطینیة.

ومع تأسیس حرکة الجهاد الإسلامی فی فلسطین، فقد بدت تظهر صورة جدیدة للإسلام السیاسی فی تلک الأرض. فقد بدأ زعماء الجهاد المواجهة المسلّحة ضدّ المحتلّین من خلال ربطهم الدین بالسیاسة.

حیث یُنظر إلی أیدیولوجیة الجهاد ضدّ الصهاینة، القضاء علی إسرائیل وإقامة دولة إسلامیة فی فلسطین باعتبارها جزءا من الجهاد المقدّس. فالمسألة الفلسطینیة فی رأی

ص:269

زعماء الجهاد الإسلامی هی مسألة إسلامیة ولیست مجرّد مشکلة عربیة أو قومیة. (1)

وقد أسّست حرکة الجهاد الإسلامی الفلسطینیة بشکل رسمی عام 1980، وذلک من قِبل شابّین فلسطینیین فی غزّة باسم فتحی الشقاقی و عبدالعزیز عودة . ولم تکن التنظیمات والأجنحة المختلفة لحرکة الجهاد الإسلامی فی سائر أرجاء العالم الإسلامی تتمتّع بتنظیم مرکزی ومنظّم علی الرغم من وجود نوع من التنسیق والتعاون والأیدیولوجیة المشترکة بینها؛ فحرکة الجهاد الإسلامی لم تکن منظّمة إقلیمیة فی الأساس، حیث إنّ کلّ جناح منها یقتصر علی العمل فی حدود منطقته.

وکان الدکتور فتحی الشقاقی یحمل میولا ناصریة (القومیة العربیة) فی عام 1967. وقد أدّت الهزیمة النکراء التی لاقاها العرب فی حرب حزیران من نفس العام إلی إیجاد تغییر عمیق فی نفسیته وفکره. فحینما بدأت حرکة الإخوان المسلمین إعادة هیکلة تنظیمها إثر هزیمة العرب من قِبل إسرائیل انخرط الدکتور فتحی الشقاقی فی صفوفها. إلّا أنّه لم تمض فترة طویلة حتّی اختلف معها فانفصل عنها ما بین عام 1974 - 1975.

وکان قطاع غزّة یمثّل المرکز الرئیس لتواجد حرکة الجهاد الإسلامی، لکنّ هذا لم یمنع من تنامی تواجدها فی الضفة الغربیة لنهر الأردن. (2) وقامت حرکة الجهاد الإسلامی فی عام 1984و1987 بعّدة عملیات عسکریة ضدّ القوّات الإسرائیلیة حیث تُعدّ عملیات أکتوبر عام 1987 فی منطقة الشجاعیة من مدینة غزّة أهمّ تلک العملیات، فهی التی مهّدت لانتفاضة کانون الأوّل عام 1987. (3) وکذلک العملیات المسلّحة التی اشتهرت باسم «باب المغاربة» فی عام 1986 والتی نفّذتها أحد خلایا حرکة الجهاد

ص:270

فی الضفة الغربیة لنهر الأردن. فکان ذلک علامة أخری علی التواجد الواسع لحرکة الجهاد الإسلامی فی الضفة الغربیة. ویمکن عدّ المظاهرات الاحتجاجیة بمناسبة مقتل الحجّاج الإیرانیین فی مکّة عام 1987، والتی أقیمت فی المسجد الأقصی بمثابة تضامن من قِبل حرکة الجهاد الإسلامی مع إیران.

وکانت الثورة الإسلامیة قد ترکت أثرا استثنائیا علی أهداف ونفسیات قادة الجهاد الإسلامی. فقد ألّف الدکتور فتحی الشقاقی کتابا حمل عنوان الخمینی رحمة الله الحلّ والبدیل (1)وذلک فی أوائل عقد الثمانینات، أثنی فیه علی الثورة الإسلامیة. وقد لخّص فی هذا الکتاب أفکاره السیاسیة وأیدیولوجیته علی أساس آراء سماحة الإمام.

وإضافة إلی الدکتور فتحی الشقاقی ، فإن الشیخ عبدالعزیز عودة الزعیم الآخر لحرکة الجهاد الإسلامی قد أعلن مرارا تأثّره بالثورة الإسلامیة. فقد أکّد فی عدّة مقابلات علی أنّه ینبغی الاقتداء بالثورة الإیرانیة. وهو یعتقد بأنّ الأنظمة العربیة والمنظّمات المرتبطة بها هم أعداء الشعب الفلسطینی، ویری أنّ الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة تهتمّ أکثر من غیرها من دول الشرق الأوسط بحرکات التحریر ونشاطاتها. (2) ومن جهة أخری، فإنّ الدکتزر الشقاقی قد حثّ فی کتاباته وخطاباته الشباب والشعب الفلسطینی علی الاقتداء بالشعب الإیرانی فی مواجهة إسرائیل وتحریر فلسطین. (3)

وبما أنّ هذه الحرکة تولّت دورا مهمّا فی التعبئة الإسلامیة فی قطاع غزّة، فقد قامت الحکومة الإسرائیلیة بنفی قادتها ومن ضمنهم عبدالعزیز عودة و فتحی الشقاقی إلی لبنان. وإثر إقامة قادة حرکة الجهاد الإسلامی فی لبنان أخذوا بالاقتراب أکثر فأکثر من الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة والجماعات المؤیّدة للثورة الإسلامیة فی

ص:271

لبنان، حیث قاربوا بین مواقفهم ومواقف إیران فی خصوص فلسطین. وقد قام عبدالعزیز عودة بزیارة لإیران عام 1989 وأجری مفاوضات مع قادة الجمهوریة الإسلامیة، وزار الدکتور فتحی الشقاقی طهران أیضا عدّة مرات، حیث بیّن مواقف حرکة الجهاد حول القضیة الفلسطینیة. (1)

الإسلامیة حماس بقیادة الشیخ أحمد یاسین فی مجال مواجهة المحتلّین الصهاینة. (1)

وفی مجال آثار وانعکاسات الثورة الإسلامیة الإیرانیة علی فکر وأیدیولوجیة حرکة المقاومة الإسلانیة حماس، فإنّه ینبغی القول بأنّ الثورة الإسلامیة کانت مصدر إلهام ومادّة فکر فی المجالات النظریة والعملیة لحرکة حماس. بالنحو الذی سعی فیه مؤسّسها الشیخ أحمد یاسین ومنذ البدایة القبول بأفکار وتوجیهات الإمام الخمینی رحمة الله . فالإمام الخمینی رحمة الله بحسب رأیه لا یمثّل رمزا ومصدرا للإلهام وقائدا للثورة الإسلامیة الإیرانیة فقط، بل إنّه یحمل هذه الخصائص علی کافّة المستویات. وبهذا الشکل حاول قادة المقاومة أخذ العبرة من تجارب الثورة الإسلامیة الإیرانیة وتطبیق هذه التجارب فی الساحة الفلسطینیة. فوفق رأی حرکة المقاومة الإسلامیة فإنّ الإسلام کان بعیدا عن ساحة الصراع والمواجهة إلی ما قبل انتصار الثورة فی إیران، ومن هنا، فقد اتّضحت قضیة أنّ الإسلام هو طریق الحلّ الوحیدة وأنّ الجهاد أفضل وسیلة مناسبة وذلک من خلال انتصار الثورة الإسلامیة.

فحرکة المقاومة الإسلامیة حماس تستلهم مواقفها الأساسیة فی خصوص الجهاد فی فلسطین من ثلاثة محاور أساسیة فی الحقیقة. وهذه المحاور عبارة عن:

1. الثورة الإسلامیة الإیرانیة؛

2. إرث الإخوان المسلمین (وعلی الخصوص أدبیات سید قطب )؛

3. تجارب حرکة الجهاد الإسلامی فی مصر.

فقد استطاعت الثورة الإسلامیة أنْ تجعل من النظر إلی القضیة الفلسطینیة برؤیة إسلامیة أمرا ممکنا. وهی الرؤیة التی عدّتها حرکة المقاومة الإسلامیة حماس أفضل طریق للحلّ. فالدین الإسلامی بحسب رأی الإمام الخمینی رحمة الله هو ذلک الدین الذی

ص:273

یبغیه المجاهدون فی طریق الحقّ وطالبوا العدالة. (1)

وفی عقیدة منظّری المقاومة الإسلامیة؛ فإنّ الخطر الإسرائیلی لا یقتصر علی علی احتلال فلسطین وإذلال شعبها ونشر الثقافة الصهیونیة، بل إنّ هذا المشروع هو جزء من مخطّط کامل لتمزیق الأمّة الإسلامیة وسوق المسلمین نحو الغربنة، الاستعمار، الاستغلال والعبودیة وشلّ إرادتهم. (2)

فمن وجهة نظر أتباع حرکة المقاومة الإسلامیة حماس، فإنّ أولئک الذین أخرجوا القوات الإسرائیلیة من جنوب لبنان قد اعتمدوا المعتقدات الإسلامیة فی ذلک؛ ویرون أیضا أنّ المواجهة مع النظام الصهیونی الذی یحمل التوراة شعارا له، لا یمکن تعمیقه من دون الرجوع إلی الإسلام واتّباع المعتقدات الإسلامیة الأصیلة واللجوء إلی حرب التحریر الشعبیة. إنّ المنهج العالمی الشامل للإسلام باعتباره دینا کاملا وصانعا للتاریخ، والذی یتضمّن ثقافة، حضارة ونظاما سیاسیا هو الوحید القادر علی إدراک أبعاد هذه الأزمة؛ وأنْ یواجهها ویتعامل معها بشکل أصولی؛ ویتولّی قیادة الحرکة التحرّریة ویحلّ فی النهایة هذه المساجلة والجدلیة.

فجماعة الإخوان المسلمین فی رأی حرکة المقاومة الإسلامیة تترکّز جهودها حول إعداد وتربیة الکوادر لمواجهة الاتّجاهات القومیة التی تعتمد المواجهة المسلّحة. فالإخوان المسلمین اختاروا طریق الهدایة (الإیمان والعقیدة) وترکو طریق الجهاد جانبا، فی حال أنّ الاتّجاهات القومیة قد اختارت طریق النضال وابتعدت عن طریق الهدایة، ومن هنا فإنّ میزة حرکة المقاومة الإسلامیة تتلخّص فی تأکیدها علی الارتباط الشدید وعدم إمکانیة الفصل بین هذین الطریقین (طرق الجهاد وطرق الهدایة) والعمل وفقهما.

ص:274

فمن وجهة نظر حرکة المقاومة، أنّ مشکلة فلسطین هی مشکلة الأمّة الإسلامیة، وأنّ أفضل طریق لتحریر هذه الأرض، هی تعبئة جمیع الطاقات والقوی الإسلامیة فی حرب تحریر إسلامیة وشعبیة تنتهی بالقضاء علی إسرائیل وتأسیس دولة إسلامیة. (1) وإضافة إلی ذلک، فإنّ مواقف وآراء حرکة المقاومة الإسلامیة تتطابق إلی حدّ کبیر مع مواقف وآراء بعض الاتّجاهات الوطنیة الفلسطینیة والقومیة العربیة التی تعتبر قضیة فلسطین قضیتها الأساسیة، بید أنّ حرکة المقاومة تصرّح بأنّ الظروف المؤلمة التی ألمّت بالقضیة الفلسطینیة فی واقعها الحاضر، کان بسبب سلوک القادة غیر الإسلامیین الذین یقودون تحرّکات العوام بشکل انتهازی، وکذلک بسبب مجیء أنظمة مسکت بزمام شؤون البلاد الإسلامیة فی بدایة القرن الفعلی (2) إثر سقوط الدولة الإسلامیة، فصُبّ هذا البلاء علی فلسطین من خلال ممارساتها الخاطئة. (3)

فحرکة الجهاد تری أنّ هزیمة القادة والمسؤولین غیر الإسلامیین فی أحداث عام 1948، کان بسبب عجزهم عن إدراک ماهیّة المواجهة وکیفیة استمراها بنحو صحیح. وقد اتّضحت هذه الهزائم وهذا الفشل فی ممارسات وادّعاءات بعض القادة الفلسطینیین بجمیع اتّجاهاتهم. فالمشاریع والاقتراحات التی یطرحونها لحلّ القضیة الفلسطینیة تبیّن بوضوح طریقهم المسدود الذی وصلوا إلیه. (4)

المسلمین فی الثورة الإسلامیة تختلف وآراء حرکة المقاومة الإسلامیة. ومع أنّ موقف الإخوان المسلمین کان إیجابیا فی بدایة انتصار الثورة، غیر أنّ هذا الموقف تغیّر بعد بدء الحرب العراقیة الإیرانیة.

ویعتقد أنصار حرکة المقاومة الإسلامیة أنّ بعض الأنظمة المعارضة للثورة الإیرانیة لم تکن قادرة فی البدایة علی القیام بمواجهة الثورة بشکل علنی ولأجل ذلک اختارت الصمت حیالها، أو أنها قامت بتأییدها فی الظاهر، إلی أنْ وقعت الحرب بین إیران والعراق، فبدأت هجومها الإعلامی والتحریضی ضدّها. ویشیر أنصار المقاومة إلی مسألة أنّ النظام الأردنی قد وجّه ضغوطات کبیرة علی الإخوان المسلمین فی هذا البلد کی یطلبوا من الإخوان المسلمین فی الأراضی الفلسطینیة المحتلّة تغییر مواقفهم تّجاه ثورة إیران. ویُضیف هؤلاء بأنّ الإخوان المسلمین أخذوا بشحذ الخلافات الشیعیة السنّیة لتکون هذه المسألة وسیلة لاتّخاذ مواقف مناهضة للثورة الإسلامیة الإیرانیة. (1)

إنّ بدء الانتفاضة الکبری جاء لعدّة عوامل نظیر یأس الفلسطینیین من القادة العرب والبلدان العربیة؛ ویأسهم من المنظّمات السیاسیة الفلسطینیة أمثال منظّمة التحریر والسیاسات القمعیة واستمرار الإبادة الجماعیة وقتل الشعب الفلسطینی البریء وکذلک انتصار الثورة الإسلامیة فی إیران. وقد اتّخذ نضال الشعب الفلسطینی ضدّ النظام الإسرائیلی شکلا جدیدا مع انتصار الثورة الإسلامیة عام 1979. یقول زعیم حرکة الجهاد الإسلامی فی خصوص دور الثورة الإیرانیة وتأثیرها علی نضال الشعب الفلسطینی:

لیس ثمّة شیء یمکنه إثارة الشعب الفلسطینی وتحریک أحاسیسه وإحیاء الأمل فی نفسه بقدر ثورة الإمام الخمینی رحمة الله . فقد وجدنا أنفسنا بانتصار الثورة الإسلامیة وأدرکنا أنّ بالإمکان هزیمة أمریکا وإسرائیل، وفهمنا أنّه بإمکاننا خلق المعاجز باستلهامنا الدین الإسلامی، ولأجل ذلک فإنّ الشعب المجاهد فی فلسطین ینظر إلی الثورة الإسلامیة والجمهوریة الإسلامیة بعین التقدیر، ویعتقد بأنّ الإمام الخمینی رحمة الله هو من القادة الخالدین فی التاریخ الإسلامی. (1)

إنّ وقوع الانتفاضة، دعا الحکومة الأمریکیة إلی إقامة مؤتمر مدرید عام 1991 بهدف فرض السلام فی المنطقة. وکان من نتیجة هذا المؤتمر اتّفاق منظّمة التحریر الفلسطینیة مع الصهاینة وتوقیع اتّفاق أوسلو فی عام 1993. (2)

فقد توصّل الطرفان عقب مفاوضات المبعوث الخاصّ لمنظّمة التحریر الفلسطینیة أبوالعلاء مع الحومة الإسرائیلیة فی الأیام من 20 إلی 22 کانون الثانی عام 1993 فی أوسلو عاصمة النرویج، إلی اتّفاقیة بین منظّمة التحریر وتل أبیب لإنهاء المواجهات فی الأراضی الفلسطینیة المحتلّة وتشکیل دولة مستقلّة فیها.

إنّ مفاوضات أوسلو التی استؤنفت فی لقاء بین ممثّل منظّمة التحریر والنظام الصهیونی فی لندن، تُمثّل الحجر الأوّل للبناء الفعلی لما یُسمّی بعملیة السلام بین أکبر

ص:277

التنظیمات الفلسطینیة والنظام الصهیونی، والتی أکّدت علی حقّ إقامة دولة فلسطینیة مستقلّة فی قطاع غزّة ومنطقة أریحا من الأراضی المحتلّة، وکذلک ضمان أمن الکیان الصهیونی من قِبل الفلسطینیین.

حیث تعترف منظّمة التحریر فی هذه الاتّفاقیة بدولة إسرائیل لیقوم الصهاینة بالاعتراف بهذه المنظّمة مقابل ذلک. وانتهت هذه الاتّفاقیة إلی إقامة دولة فلسطینیة مستقلّة وانسحاب إسرائیل من المدن المهمّة فی قطاع غزّة والضفة الغربیة، وأخیرا قیام حکومة مستقلّة فی حدود تعیین رئیس للشرطة ورئس بلدیة فی بعض المناطق؛ من دون أنْ یتطلّب ذلک خروج القوات المحتلّة من تلک المناطق.

ومع بدء مفاوضات السلام الإسرائیلیة الفلسطینیة اتّجهت شرارة الانتفاضة نحو الانطفاء، غیر أنّه وبسبب أنّ الفلسطینیین لم یتمکّنوا من نیل حقوقهم عن طریق المفاوضات، تبلورت بعد مضی سبع سنوات علی ذلک، الانتفاضة الثانیة التی تُسمّی بانتفاضة القدس وذلک عقب زیارة شارون للمسجد الأقصی. ومع وصول أزمة المسجد الأقصی ذروتها وردود الأفعال الاحتجاجیة للشعب الفلسطینی الغاضب، توسّعت دائرة الأزمة لتتعدّی حدود النظام الصهیونی ممّا دعت أکثر بلدان المنطقة والعالم إبداء ردود أفعالها باعتبارها مشکلة دولیة. وبسبب وجود ارتباطات دینیة وعِرقیة فقد تسبّبت فی إثارة مشاعر العالم الإسلامی والعربی أکثر من باقی القضایا.

ففی مثل هذه الظروف، تحوّل السعی لإنهاء النزاع والتمهید لظروف المفاوضات من أجل تحقیق السلام، إلی هدف عالمی مشترک، ووضِع اللجوء إلی إستراتیجیات إقلیمیة ودولیة علی لائحة نشاط المنظّمات والمجامع الدولیة، ومن بینها منظّمة الأمم المتّحدة باعتبارها أکبر المؤسّسات السیاسیة والدولیة، فاتّخذت مواقف مختلفة علی مستوی مجلس الأمن، الجمعیة العمومیة ولجنة حقوق الإنسان.

ص:278

6. لقد شهدنا فی الانتفاضة الأولی تسییس وسائل الإعلام، غیر أنّ أعلمة السیاسة إنْ صحّ التعبیر کان ملموسا بالکامل فی الانتفاضة الثانیة. وبعبارة أخری، فإنّ وسائل الإعلام والأقمار المخابراتیة والاتّصالیة قد أدّت إلی أنْ یتمّ تقریر السیاسة من خلال الصورة المنقولة. فقد تسبّب عرض المشاهد المأساویة لمقتل الفلسطینیین عن طریق وسائل الإعلام العالمیة فی إدانة النظام الصهیونی علی المستوی العالمی.

7. کان الإدراک الإسرائیلی للخطر خارجیا فی الغالب فی الانتفاضة الأولی، فهی تری أنّ الجمهوریة الإسلامیة تشکّل مصدر تهدید لها من خلال ذلک باعتبارها تدعم الانتفاضة؛ بید أنّ الإسرائیلیین فی الانتفاضة الثانیة کان ذعرهم من الخطر الداخلی أکبر، هذا إضافة إلی خشیتهم من الخطر الخارجی. (1)

إنّ موضوع الانتفاضة والثورة الشاملة للشعب الفلسطینی المسلم ضدّ المحتلّین کان بلا شکّ متأثّرا بثورة الشعب الإیرانی المسلم. الثورة التی قام بها الشعب الإیرانی ضدّ دیکتاتوریة الشاه وسیطرة الاستعمار الأمریکی. وبتعبیر المحلّلین الغربیین، کانت الثورة الإسلامیة زلزالا هزّ منطقة الشرق الأوسط بعنف. إنّ انتصار الدم علی السیف وإسقاط النظام المدجّج بالسلاح من قِبل الشعب الغیرانی الأعزل ومن دون أی دعم خارجی، قد غدا قدوة لمسلمی المنطقة وعلی الخصوص فی لبنان وفلسطین باعتباره أنموذجا ناجحا. لقد تسبّب انتصار الثورة الإسلامیة الإیرانیة فی ثقة الإسلامیین بأنفسهم وتقویة روحیاتهم وضخّ دماء جدیدة فی عروقهم.

لقد شهد رواد الحرکة الثوریة المسلمین فی کلّ من لبنان وفلسطین خیبة وفشل الحرکات والتیارات الاشتراکیة والقومیة فی مواجهتها للصهیونیة. ممّا دعاهم إلی تأسیس منظّمات ذات اتّجاه إسلامی لمواجهة النظام الاحتلالی والاحتلال، حیث بدأوا

ص:280

ذلک بتأسیس «حرکة الجهاد الإسلامی» فی فلسطین و«حزب الله» فی لبنان ومن ثمّ «حماس» فی فلسطین أیضا. فهذه المجموعات الإسلامیة بدأت تحرّکات ناجحة ضدّ إسرائیل، حیث تُعدّ الهجمات المسلّحة وتنفیذ العملیات الاستشهادیة ضدّ هذا النظام من أهمّ تلک التحرّکات. وتأتی بموازاة ذلک النشاطات الثقافیة، استقطاب وتنظیم الشباب المتلهّف المسلم. وقد أدّت مجموع هذه الخطوات فی النهایة إلی تحرّک وثورة الشعب الفلسطینی المسلم عامّة فی ما یُعرف ب- «الانتفاضة» فی عام 1987. إنّ دراسة هذه الانتفاضة التی أثّرت بقوّة علی مسیرة التسویة، یبیّن عمق وقوّة تأثیر الثورة الإسلامیة علی مسار هذه الانتفاضة وعلی مسیرة عملیة السلام فی النتیجة. (1)

ص:281

ص:282

نشوء ارتباط أُسری بین الأُسرتین الملکیتین اللتین تحکمان البلدین. فقد تزوجّت فوزیة أخت فاروق ملک مصر زواجا سیاسیا من محمّدرضا بهلوی ولی العهد الإیرانی، والذی لم یُقدّر له الاستمرار طویلا وانتهی بالانفصال. وقد أدّی انقلاب 1952 الذی قام به الضبّاط الأحرار فی مصر بقیادة جمال عبدالناصر وانقلاب 1953 فی إیران اللذان تسبّبا فی سقوط النظام الملکی فی مصر وتثبیت النظام البهلوی فی إیران، إلی توتّر العلاقات بین الدولتین بشدّة إلی درجة أدّت إلی قطع العلاقات بینهما.

حیث اتّهمت إیران حکومة عبدالناصر بعلاقتها فی أحداث 5 حزیران 1963 فی إیران، وتعرّض النظام البهلوی بدوره إلی هجوم وسائل الإعلام المصریة بسبب علاقاته الوطیدة مع إسرائیل. واستمرّت هذه الحالة حتّی وفاة عبدالناصر فی عام 1969؛ ولکن مع مجیء أنور السادات واتّجاهه الشدید نحو أمریکا، أخذت العلاقات بالتحسّن مجدّدا بین الدولتین ووصلت مستوی بحیث أنّ مصر کانت أوّل محطة لشاه إیران إثر فراره من بلده، ودفنه فی نهایة المطاف فیها بعد موته فی إحدی مستشفیات القاهرة.

وقد جاء انتصار الثورة الإسلامیة فی عام 1979 التی تزامنت مع مفاوضات کامب دیفید، وعلی الخصوص توقیع المعاهدة الذائعة الصیت بین مصر وإسرائیل وخروج مصر علی إثرها من منظومة دول المواجهة مع النظام الغاصب، لتغیّر الظروف إلی الدرجة التی تمّ فیها قطع العلاقات بین البلدین والذی ما زال ساری المفعول حتّی الیوم.

حیث إنّ توقیع معاهدة کامب دیفید، الاعتراف بإسرائیل، السماح ل- محمّدرضا بهلوی باللجوء إلی مصر واستقباله فی القاهرة قد أجّج النزاع بین طهران والقاهرة. واستخدمت مصر منذ ذلک الحین کافّة إمکانیاتها لاحتواء الثورة الإسلامیة الإیرانیة. وتمثّلت إحدی هذه الخطوات بقمع المجامیع الإسلامیة المتّهمة بتلقّی الدعم من الجمهوریة الإسلامیة.

وقد اتّهمت الحکومة المصریة إیران بتصدیر ثورتها إلی العالم العربی فقامت

ص:284

بدعم معارضی إیران من العرب. ومع أنّ مصر کانت تعیش العزلة فی العالم العربی بسبب عقد معاهدة کامب دیفید والاعتراف بإسرائیل، إلّا أنّ إحساس العرب بالخطر من جانب الثورة الإسلامیة الإیرانیة والمواقف المصریة تّجاه سیاسات الجمهوریة الإسلامیة قد هیّأ أفضل وسیلة لخروج مصر من عزلتها العربیة. وقد ساعد علی هذا الأمر کثیرا أیضا، دعم مصر للعراق فی حربه مع إیران. (1)

وإثر الثورة الإسلامیة الإیرانیة وبسبب عودة الجماعات الإسلامیة المعارضة للحکومة المصریة إلی تحرّکاتها، اتّهمت حکومة هذا البلد إیران بالضلوع فی دعم هذه الجماعات واعتبرتها عمیلة لإیران، الأمر الذی زاد من الخلافات بین البلدین. (2)

وبما أنّ الوجه الأهمّ للثورة الإسلامیة کان فی تشدیدها علی دور الإسلام فی إنشاء حکومة، فإنّ هذه المسألة قد بعثت الحرکات الإسلامیة علی النشاط الدائب لإقامة حکومات إسلامیة فی بلدانها. فقد بدأت الحرکات الإسلامیة التی کانت فعّالة فی مصر منذ أمد بعید، نشاطا واسعا بتأثیر من الثورة الإسلامیة الإیرانیة ووضعت ثورة إیران نصب عینیها لتأسیس حکومة إسلامیة.

ومع بدء عقد الثمانینات واجهت الحکومة المصریة معارضة جادّة من الجماعات الإسلامیة. ولأجل الدعم الذی تقدّمه إیران لهذه الحرکات، فقد اتّهمت الحکومة المصریة الجمهوریة الإسلامیة بدعم هذه المجامیع وکذلک التدخّل فی الشؤون الداخلیة المصریة. (3)

ص:285

وجود المراقبة الشدیدة لرجال الدولة، فإنّه تقع کلّ یوم حادثة جدیدة فی هذا البلد، ویتنامی تحرّک الطبقات الشعبیة المختلفة ضدّ الحکومة، بنحو أنّه کان کثیرا ما یُطرح سؤال فی بدایات انتصار الثورة؛ حول إمکانیة حدوث ما وقع فی إیران بقیادة علماء الإسلام فی مصر؟

فکان تعامل الشعب والمجتمع المصری مع الثورة الإسلامیة الإیرانیة تعاملا إیجابیا علی العموم. وعلی الرغم من إطلاق عبارة إحیاء الشعوبیة من قِبل بلد أعجمی، من هنا وهناک وذلک للسخریة من الثورة الإیرانیة، غیر أنّ الشواهد تشیر إلی أنّ الأغلبیة تری فی الثورة الإیرانیة علی أنّها ثورة إسلامیة ولیست ظاهرة شیعیة. وما کانت تلک التعاملات إلّا لأجل إحباط تأثیر الثورة الإسلامیة الإیرانیة من قِبل المعارضین لها. (1)

یقول هیکل الصحفی المصری الشهیر:

فی عام 1978، وحینما کانت الثورة الإسلامیة الإیرانیة تعیش ذروتها، قامت الحکومة المصریة بدعم نظام الشاه حتّی أنّه قد أصدر بعض علماء مصر فتوی دینیة تتحدّث عن لزوم إطاعت ولی الأمر بحیث أنّ الإمام الخمینی رحمة الله سألنی بمرارة أثناء المقابلة التی أجریتها معه فی باریس [قبل انتصار الثورة] والمقابلة اللاحقة معه فی قم [بعد انتصار الثورة] لماذا یصدر بعض علماء الدین فی مصر فتاوی ضدّ الثورة الإسلامیة. فی حال أنّ العرب کانوا یشکون من مشارکة الشاه فی المشاریع الغربیة فی المنطقة، والثورة الإسلامیة الآن لم تخرج من هذه المشاریع فحسب، بل إنّها برزت لمواجهتها. أضف إلی ذلک أنّ العرب کانوا یشکون من علاقات إیران مع إسرائیل وقد قطعت هذه العلاقات الآن وسُلّم مقرّ ممثّل إسرائیل إلی منظّمة التحریر الفلسطینیة. ومع کلّ هذا فإنّ تأثیر الثورة الإسلامیة علی عامّة الناس والحرکات الإسلامیة ممّا لا یمکن إنکاره. (2)

ص:287

إنّ أوّل ردود الأفعال تّجاه الثورة الإسلامیة الإیرانیة کانت قد صدرت عن جماعة الإخوان المسلمین. فقد أثنت هذه الجماعة فی بیان لها فی عام 1979 علی الثورة الإسلامیة الإیرانیة ورحّبت بها بقولها؛ إنّ الروح التی کانت تتحرّک خلف الثورة الإسلامیة تشبه تلک الروح التی هدت المسلمین الأوائل إلی الإسلام. وأعلنت کذلک أنْ لا وجود للفصل بین الدین والسیاسة فی الإسلام، وأنّ الإسلام دین کامل یتضمّن قوانین لهذا العالم والعالم الآخر وینظّم جمیع شؤون الحیاة. (1)

وقد أدّت الضغوط التی مارستها الحکومة المصریة علی جماعة الإخوان المسلمین بعد الثورة الإسلامیة الإیرانیة إلی انتقالهم إلی النشاط السرّی. فضمن اتّخاذ هذه الجماعة الثورة الإسلامیة الإیرانیة قدوة لها، قامت بأحداث بعض التغییرات فی إستراتیجیتها، ودعت إلی انتفاضة شعبیة فی الجامعات والشوارع، غیر أنّ نقطة ضعف هذه الجماعة تمثّلت فی عدم استطاعتها تحریک الجماهیر معها ففشلت فی ذلک. (2)

وکانت الجهاد إحدی الحرکات الرادیکالیة التی تحظی بشعبیة واسعة أیضا فی مصر، حیث أُغتیل أنور السادات الرئیس المصری فی اکتوبر 1981 بواسطة أحد أعضاء هذه الجماعة الذی یدعی خالد الإسلامبولی . ویعتقد البعض أنّ التأثیر الأکبر للثورة الإسلامیة کان علی حرکة الجهاد من بین الجماعات المصریة، إذ إنّ هذه الجماعة تسعی للسیر علی خطوات ثورة إیران. حیث اعتمدت اللجوء إلی العملیات المسلّحة للوصول إلی أهدافها، وقام قادتها بالتخطیط للانتصار فی مصر من خلال تحلیل الثورة الإسلامیة وکیفیة انتصارها.

ویعتقد عبود الزمر ، أحد قادة هذه الحرکة بأنّه ینبغی أنْ تکون هناک مواجهة مسلّحة، حیث لن تتمکّن الحکومة المقاومة فی مقابل المواجهة المسلّحة والتحرّک

ص:288

الشعبی الواسع باعتمادها علی القوات المسلّحة. وهو یستند فی ذلک إلی الثورة الإیرانیة، ویعتقد بأنّ القوات الحکومیة المسلّحة ستنضمّ إلی جموع الشعب بالتدریج وستتعرض صفوفهم للانهیار. وقد قامت حرکة الجهاد بدراسة کیفیة انتصار ثورة إیران بشکل جید من خلال مطالعتها کتابات الثوریین الإیرانیین، بحیث إنّ القوات الحکومیة قد عثرت علی خلاصة مدوّنة لکتاب الحکومة الإسلامیة للإمام الخمینی رحمة الله أثناء إلقائهم القبض علی بعض أعضائها، ومسودّة ملخّصة حول ثورة إیران وکتب الدکتور شریعتی. (1)واتّخذت الحکومة المصریة من ذلک ذریعة لاتّهام الحکومة الإیرانیة بالتدخّل فی الشؤون الداخلیة فی مصر وإحداث توتّر فی هذا البلد.

وکانت النشرات والمطبوعات الإیرانیة تقوم بنشر أخبار عملیات الجماعات المصریة کلّ یوم وتثنی علیها وترحّب بها إلی الحدّ الذی أطلقت حکومة الجمهوریة الإسلامیة أسماء شهدائهم علی أسماء الشوارع الإیرانیة، وقام القادة والمسؤولیین فی الثورة الإسلامیة أیضا بالترحیب بعملیاتهم وإجراءاتهم تلک.

فالإمام الخمینی رحمة الله علی سبیل المثال، دعا فی خطاب له فی آذار 1979 الشعب المصری إلی الثورة علی حکومة السادات . حیث ناشد فی هذا الخطاب الشعب المصری بأنّه یجب علیه النهوض لإقامة حکومة إسلامیة وطرد السادات من البلاد. وکان هذا أوّل موقف رسمی للحکومة الثوریة الإیرانیة یتحدّث بصراحة عن المطالبة بإسقاط حکومة السادات .

ومن الحرکات والجماعات المصریة الأخری التی تأثّرت بالثورة الإسلامیة الإیرانیة، حرکة الیسار الإسلامی. فهذه الجماعة وکما الجهاد تُعدّ من ضمن الجماعات النضالیة الرادیکالیة. وهی بالإضافة إلی ثنائها علی الثورة الإسلامیة الإیرانیة، أطرت

ص:289

کذلک علی روحیة المواجهة التی یتّسم بها المذهب الشیعی أیضا، ورأت أنّ أحد أسباب الثورة الإیرانیة هو اتّسام مذهب التشیّع بالفکر، العقل والاجتهاد، ممّا جعله مذهبا متجدّدا فی المجتمع. وأکثر ما طغی علی هذه المجموعة ولعها بدور الفکر الشیعی فی الثورة الإسلامیة الإیرانیة، فترجمت فی هذا السیاق عددا من کتب الإمام الخمینی رحمة الله والدکتور شریعتی إلی العربیة، وقامت بنشرها وألّفت کتبا حول الثورة الإسلامیة أیضا. (1)

إنّ جماعة الإخوان المسلمین تمثّل أکبر جماعة دینیة مناضلة فی مصر، ویمکن القول إنّها تعتبر ممثّلة للحرکات السنّیة فی هذا البلد. ولهذه الجماعة أقسام فی البلدان العربیة - الإسلامیة المختلفة؛ کما هو الحال فی الثورة الإسلامیة الإیرانیة التی تمثّل أکبر حرکة شیعیة، فکلا الحرکتان تُعدّان مجدّدتان للحرکات الإسلامیة.

ولزعماء هذه الحرکة فی مصر نفوذا واسعا علی باقی أقسام الجماعة فی البلدان المختلفة. ولم یکن انتصار الثورة الإسلامیة الإیرانیة من دون تأثیر علی هذه الحرکة کما الحرکات الأخری، فأدّت إلی إحداث بعض التحرّکات فی هذه الحرکة التی واجهت رکودا علی مدی عقد من الزمان تقریبا، وکانت قد تحوّلت إلی حزب برلمانی وحکومی. (2)

لقد استطاعت الثورة الثورة الإسلامیة الإیرانیة أنْ تترک تأثیرها علی حرکة الإخوان المسلمین بدرجة ما، بحیث إنّ الأمانة العامّة للتنظیم الدولی للإخوان المسلمین فی مصر بادرت إلی الاتّصال بمسؤولی الثورة الإسلامیة الإیرانیة بمجرّد

ص:290

انتصارها، فزارت هیئة من الأجنحة المختلفة للإخوان المسلمین إیران، وهنّأت المسؤولین الإیرانیین بانتصار الثورة، وأجرت مباحثات وحوارات فی خصوص طرق التعاون بینهما. فی نفس تلک السنة 1979، قامت ایران باختیار رابط اتّصال فقام بدوره بالاتّصال بممثّل التنظیم الدولی للإخوان المسلمین فی لوکانو فی سویسرا، وخلال التخطیط للقیام بهذه الزیارة والبحث حول العلاقات مع إیران، اتّخذت علی وجه السرعة بعض القرارات واتّفق الطرفان حول المسائل أدناه:

ألف: تشکیل لجنة مشترکة من ممثّلی الإخوان المسلمین لزیارة إیران وتقدیم التهنئة بمناسبة انتصار الثورة الإسلامیة وسقوط نظام الشاه. (زارت هذه اللجنة إیران فی حزیران 1979).

ب: إصدار الإخوان المسلمین کتیّبا للتعریف بالثورة وبیان مکاسبها وإنجازاتها ونشر تصریحات ومواقف قیادة الثورة.

ج: إیجاد علاقة منظّمة مع حرکة الطلبة الإیرانیین من خلال الاتّحاد العالمی للطلبة المسلمین والقیام بترجمة آثار مؤلّفی الطرفین وعلی الخصوص آثار الإخوان المسلمین من العربی إلی الفارسی وبالعکس.

د: وضع الإمکانات والنشاطات الثقافیة والصحفیة للإخوان المسلمین فی خدمة إیران للاستفادة منها فی المراکز الصحفیة ومؤسّسات الثورة فی البلد. (1)

ومن جهة أخری، فقد قام الإخوان المسلمین بإصدار بیانات متعدّدة حول دعم وتأیید الثورة الإسلامیة الإیرانیة. فقد أحیت الثورة الإیرانیة الإحساس فی قلوب أعضاء حرکة الإخوان المسلمین بأنّ الانتصار قریب جدّا، وأنّه لن تستطیع أیّ قوّة قمعیة المقاومة والصمود فی وجه الإسلام والمعتقدات الإسلامیة.

ص:291

وقد قام الإخوان المسلمین أیضا باتّخاذ موقف تّجاه استقبال الحکومة المصریة لشاه ایران وأسرته، وأقامت مأتما لشهداء ثورة إیران وثمّنت تضحیاتهم. (1)

ویمکن القول بصفة عامّة؛ أنّ حرکة الإخوان المسلمین اعتبرت الثورة الإسلامیة حرکة فی إطار المواجهة العالمیة بین الإسلام والکفر، وذلک فی السنوات الأولی بعد انتصار الثورة الإسلامیة. وقامت فی عام 1979 کذلک بنشر کتاب یحمل عنوان البدیل الإسلامی واعتبرت فیه أنّ أسلوب الإمام الخمینی رحمة الله والجمهوریة الإسلامیة یمثّل طریق الحلّ الإسلامی للخلاص من الأنظمة العمیلة. (2)

ومع مرور عامین علی انتصار الثورة الإسلامیة الإیرانیة، فإنّ الدعم الابتدائی الذی قدّمه قادة الإخوان المسلمین لها أخذ بالانخفاض. ویمکن إرجاع أحد أسباب البرودة فی العلاقات إلی بدء الحرب العراقیة الإیرانیة التی أدّت إلی ترک القضایا المذهبیة أثرها علی آرائهم.

حیث یعتقد البعض داخل حرکة الإخوان المسلمین بأنّ الثورة الإیرانیة هی ثورة شیعیة أعجمیة ترید السیطرة علی جمیع العالم الإسلامی، فبدأوا بنشر الکتب المضادّة للشیعة والهجوم علی ثورة إیران. وشکّکت النشرات المرتبطة بهم أیضا بالثورة الإیرانیة کثورة إسلامیة وتعرّضوا لها بالنقد. (3) وکان أحد الأسباب الأخری لتغییر الإخوان نهجهم هو الضغوط التی تمارسها البلدان العربیة علی هذه الحرکة. (4)

هذا ومع مرور أکثر من ربع قرن علی انتصار الثورة الإسلامیة، فإنّ تأثیر الثورة قد

ص:292

غدا أعمق وأوسع علی عامّة الشعب وحتّی الطبقات الجامعیة، العلماء والمثقّفین. ویمکن ملاحظة ذلک فی المظاهرات العامّة للطلبة والناس العادیین فی المناسبات المختلفة. ومع کلّ هذا فإنّ الحکومة المصریة استطاعت حتّی الآن من التغلّب علی هذه الحرکات وقمعها.

وعلی الخصوص فی العالم العربی الذی کان واقعا تحت السیطرة الاستعماریة آنذاک؛ بنحو أدّی إلی ابتکار فکر تحت یافطة القومیة العربیة. وبالتزامن مع ذلک فقد انتشر الفکر القومی فی إیران کذلک، وذلک فی ظلّ السیاسات المضادّة للإسلام التی انتهجها النظام السابق وعلی الخصوص فی مشروع القومیة الإیرانیة الإیجابیة.

وفی عام 1957، أقیمت العلاقات بین إیران وتونس ووصلت إلی مستوی مناسب بحیث زار بورقیبة ایران، وشاه إیران تونس، وکانت إیران من أوائل الدول التی اعترفت باستقلال تونس. (1)

واستمرّت مسیرة تمتین العلاقات بین البلدین فی الحدود الممکنة، أیْ ارتباط ایران بالقطب الأمریکی وارتباط تونس بالقطب الفرنسی من العالم الغربی حتّی انتصار الثورة الإسلامیة الإیرانیة.

لقد کانت الثورة الإسلامیة الإیرانیة ظاهرة جدیدة فی العالم المعاصر، ثورة غائیه، هدفیة، إسلامیة وذات شمولیة عالمیة استرشدت ونجحت من خلال اعتمادها علی قائد عالم وعارف، فیلسوف وفقیه جامع للشرائط ومدرک لظروف الزمان والمکان ومقتضیاتهما. فقد هبّت هذه الثورة باعتمادها القیم الدینیة لمواجهة المذاهب الإلحادیة المسیطرة علی العالم وتحوّلت باعتمادها علی الرؤیة والأیدیولوجیة الإسلامیة إلی وسیلة لتحقیق الأهداف الإسلامیة.

وقد رحّبت شعوب بلدان الشمال الأفریقی وعلی الخصوص تونس بانتصار الشعب الإیرانی المسلم؛ إذ إنّ هذا الشعب کان قد ناضل ضدّ الإستعمار علی مدی أعوام طویلة، وکان من أهمّ الأسس والأهداف التی تبنّتها حرکة الاستقلال التونسیة فی سنوات النضال السیاسی، هو الحفاظ علی الهویة العربیة والإسلامیة وإقامة نظام

ص:294

دیمقراطی یترافق مع توفیر الحرّیات المشروعة لعامّة الشعب ومشارکته فی تقریر مصیر البلاد وتحقیق التنمیة الاقتصادیة والاجتماعیة فی ظلّ العدالة الإجتماعیة، ولطالما شدّدت النخب السیاسیة لحرکة الاستقلال التونسیة ومن بینها زعیم الحرکة علی هذه الأهداف للحصول علی الاستقلال. ولهذا فقد أولی المسلمون التونسیون اهتمامهم بخطاب الثورة الذی مثّل الحرّیة، الاستقلال، الدفاع عن حقوق الإنسان ووحدة وتکاتف العالم الإسلامی. (1)

غیر أنّه ینبغی أخذ هذه المسألة بنظر الإعتبار وهی أنّ تعامل دول الشمال الأفریقی کما هو الحال فی تونس یختلف بشکل کامل واتّجاه الشعب. (2) ففی الوقت الذی أبدت شعوب المنطقة علاقة عمیقة ومتنامیة تّجاه الثورة الإسلامیة الإیرانیة، اعتبرت الحکومة التونسیة خطاب الثورة تهدیدا لها، بحیث أنّها أغلقت سفارتها فی طهران فی عام 1982 بذریعة الاقتصاد فی النفقات ومعارضتها للحرب المفروضة، وسمحت لسفارة الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة بالاستمرار فی نشاطها فی تونس. وقد رافق هذا التواجد من جانب واحد ضغوطا ومضایقات متعدّدة فخفّضت الجمهوریة الإسلامیة بنحو عملی تمثیلها الدبلوماسی إلی مستوی قائم بالأعمال. وبمحاذاة هذه الأحداث، أخذت النشریات والصحف الصهیونیة والدولیة والقوی التی تعرّضت مصالحها للخطر بتسمیم العلاقة مع الجمهوریة الإسلامیة فی البدایة بنشرها أکاذیب ملفّقة أمثال البیانات العسکریة للنظام البعثی فی العراق التی تشیر إلی شراء الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة أسلحة من النظام الاحتلالی للقدس. واستمرّت هذه العملیة بالتزاید إلی أنْ اتّخذ المسؤولون الکبار فی تونس فی النهایة مواقف صریحة فی مجال العلاقة مع

ص:295

الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة وعی الخصوص فی إطار الحرب المفروضة ودعموا بشکل علنی موقف العراق، وأخذوا بالتصویت ضدّ إیران فی أروقة المؤتمرات الدولیة خاصّة فی ما یتعلّق بقضایا حقوق الإنسان.

الإسلام المتجدّد والفعّال. وتأتی دراسة الحرکات الإسلامیة فی تونس فی هذا السیاق لتمثّل علاقة بارزة علی تجدید الفکر والوعی الإسلامی فی هذا البلد.

لقد تبلورت الحرکة الإسلامیة التونسیة بعد مرور 15 عاما علی استقلال البلاد. وقد قام مناصرو الغرب بإضعاف المؤسّسات الإسلامیة للمجتمع خلال هذه الأعوام وقضوا علی بعضها الآخر. فقد قاموا بإغلاق المحاکم الشرعیة والأوقاف علی سبیل المثال، وحالوا دون دراسة الشباب التونسی فی جامعة «الزیتونة» - کانت من المراکز العلمیة المهمّة جدّا - التی خرّجت الکثیر من المفکّرین الإسلامیین فی الشمال الأفریقی وعلی الخصوص الجزائر، المغرب وتونس وأثاروا النعرات القبلیة والعائلیة. (1)

فهذا النموذج قام بتنفیذه الحبیب بورقیبة منذ استقلال البلاد فی عام 1956، وعلی الرغم من المساعی التی بُذلت لإلقاء المشروعیة علی سیاساته باعتبارها تمثّل الإسلام، فقد أدّت إلی حدوث أکبر موجة علمانیة فی تونس نسبة إلی أیّ بلد عربی آخر. فقد أُقرّ فی قانون الأحوال الشخصیة علی سبیل المثال المساواة بین المرأة والرجل فی مسألة الطلاق، ونُفّذ کذلک منع تعدّد الزوجات. (2)

ففی هذا الفضاء السیاسی - الاجتماعی ولدت الحرکة الإسلامیة التونسیة. فقد کان الیساریون والقومیون - التیاران المتعارضان - قد سیطرا علی ساحة السیاسة التونسیة فی عقد الستینات. ووصلت بهما الأمور إلی حدّ الاتّحاد فی بدایة عقد السبعینات، وأسّسوا فی عام 1978 اتّحاد الشغل. (3) غیر أنّ مسیرة معارضة الحکومة اتّجهت فی بدایة عقد الثمانینات بشدّة نحو الأسلمة، وتسبّبت النشاطات الإسلامیة فی تونس إلی حدوث أزمة. وبدأت الأزمة فی المدینة الجنوبیة غفا، وأدّت فی عام 1987 إلی إقالة الحبیب

ص:297

بورقیبة الذی کان قد أراد إعدام زعیم «الحرکة الإسلامیة». (1) وعلی هذا الأساس فقد أعلن زین العابدین بن علی رئیس الوزراء فی بیان له، نفسه رئیسا للجمهوریة وقائدا عامّا للقوّات المسلحة، ونحّی بورقیبة عن السلطة. وتفاءل الشعب التونسی والجماعات الداخلیة المعارضة بهذا التغییر والتطوّر وأعربوا عن فرحهم وسرورهم بذلک؛ وشمل ذلک حتّی الجماعات الإسلامیة حیث أیّدت مجیء بن علی للسلطة وأعلنت تعاونها مع النظام الحاکم. وقد وعد بن علی بإلغاء نظام الحکم الفردی وإجراء إصلاحات إقتصادیة واجتماعیة. وطرح مسألة تعدّد الأحزاب ونشاط المجامیع السیاسیة وأعلن التزامه بالأسس الدیمقراطیة. ولقد کانت هذه الوعود جذّابة جدّا بالنسبة للشعب التونسی الذی قضی سنوات عدیدة وهو یعانی الشدّة والقسوة. بید أنّ هذا الوضع لم یستمرّ إلّا لفترة قصیرة حیث لم یتعدّ ربّما من 7 تشرین الثانی 1987 وحتّی إجراء الانتخابات النیابیة ورئاسة الجمهوریة فی نیسان 1979.

فقد سمح النظام للإسلامیین بالمشارکة فی هذه الانتخابات بشکل مستقلّ. وبصفة عامّة فثمّة حکومات کثیرة فی العالم الإسلامی کانت تعتقد أبان عقد الثمانینات بأنّ الفعّالیات الإسلامیة تفتقد دعم الشعب، وتدّعی أنّه فی ما إذا أُجریت انتخابات فإنّها لن تحصل علی شیء معتدّ به. وأبدت عدّة دول تصمیمها لاختبار هذه الدعوی التی أذهلت نتیجتها العالم الإسلامی والغربی. (2) وکانت تونس من بین تلک الدول؛ حیث إنّ الانتخابات النیابیة التی أُجریت فی 1989 وشارک أعضاء الحرکة الإسلامیة بقائمة مستقلّة؛ نجحوا من خلال تواجدهم السیاسی بتعبئة الکثیر من الناس ونالوا أغلبیة الآراء فی أکثر مناطق البلاد وعلی الخصوص المدن الکبری. الأمر الذی جعل النظام یلجأ إلی التزویر لحسم المسألة.

ص:298

حیث احتسب لنفسه جمیع مقاعد مجلس النوّاب البالغة 141 مقعدا، وأعلن رسمیا بأنّ القائمة المستقلّة التی تدعمها الحرکة الإسلامیة لم تحصل سوی علی 17% من الآراء.

وکانت هذه نهایة المرحلة الأولی من الهدوء الظاهری بین الطرفین وبدایة مرحلة المواجهة العلنیة من قِبل الحکومة التونسیة ضدّ الحرکة الإسلامیة التی سمّت نفسها «نهدا» أو حرکة النهضة الإسلامیة، حیث بان لها ما کانت تتمتّع به من مقدرة وقوّة ومحبوبیة بین الجماهیر. ولأجل ذلک فقد قامت الحکومة بإیصال بعض العناصر من الشیوعیین والقوی الیساریة والعلمانیة التی اشتهرت بعدائها للإسلام إلی مقاعد الوزارات والوزارات الخطیرة نظیر وزارة التربیة والتعلیم وزارة الثقافة والإعلام والصحف الحکومیة والإذاعة والتلفزیون بغیة إعداد برامج تلفزیونیة فی سیاق البرامج الواسعة المضادّة للدین وإلغاء المفاهیم الإسلامیة کالجهاد، الوحدة الإسلامیة والأمر بالمعروف والنهی عن المنکر وغیرها من البرامج التعلیمیة واستبدالها بمفاهیم صاخبة أمثال حقوق الإنسان، الدیمقراطیة الغربیة و... ولأجل استقطاب الشباب نحو الثقافة الغربیة المبتذلة، قامت فی هذا السیاق بنشر الفساد والتحلّل بینهم ووضعت هذه السیاسة فی طور التنفیذ من خلال طبع الکتب، النشریات وبثّ الأفلام المستهجنة.

وبعد مضی عامّ علی هذا المشروع، دخل النظام بدعم من الغرب وموافقة والقوی العلمانیة والانتهازیین من الیساریین فی مواجهته الحرکة الإسلامیة فی مرحلة قمعیة شدیدة، وأبدی الإسلامیون سخطهم علی الاغتیالات السیاسیة فی الشوارع وإقامة تظاهرات للاعتراض علی تواجد القوات الأمریکیة ضدّ الأمّة الإسلامیة وتدنیس الأرض المقدّسة للحرمین الشریفین خلال أزمة الخلیج الفارسی. فبادر النظام التونسی إثر ذلک لإلقاء القبض علی الشباب وجمیع مؤیّدی وأنصار الحرکة الإسلامیة ومن له ارتباط بها، وعرّضهم لأقسی أنواع التعذیب؛ واستمرّت هذه الهجمة من الاعتقالات،

ص:299

المراقبة وتطهیر المناطق والقری من العناصر الدینیة حتّی الیوم. (1)

وتری الحکومة التونسیة أنّ ظهور الحرکات الإسلامیة فی شمال أفریقیا یمثّل جزءا من مؤامرات الإسلامیین فی کلّ من إیران والسودان، لذا فقد انطلقت لمواجهة هذه الحرکات بعنف، واتّخذت مواقف عدائیة تّجاه الإسلامیین. ففی هذا المجال، وعلی الرغم من أنّ الحکومة التونسیة تواجه سخطا متزایدا فی خصوص حالة حقوق الإنسان، فإنّها تتمتّع بدعم کامل من قِبل الأوربیین، إذ إنّه وبسبب السابقة الاستعماریة للأوربیین، فقد کان لدول المنطقة ارتباط تقلیدی خاصّ بأوربا، وعلی الخصوص البلدان الواقعة فی جنوب هذه القارّة، فما زالت أنظمتها متأثّرة سیاسیا، اجتماعیا واقتصادیا کما فی السابق بهذا الارتباط. إذ لا یمکن دحض التأثیر المتبادل بین الدول المطلّة علی جهتی البحر الأبیض المتوسّط، حیث تعتبر بلدان المنطقة من وجهة نظر الأوربیین العمق الاستراتیجی والحدیقة الخلفیة لهم، وأنّها تفی بحصّة أساسیة من ازدهار واستمرار حیویة إقتصاد جنوب أوربا.

ومن جهة أخری، فإنّ التطوّرات فی بلدان هذه المنطقة ومن بینها مصر، تونس والجزائر وتأثیر هذه التطوّرات بالنظر للزیارات المتبادلة بین شعوب ضفتی البحر المتوسّط وتواجد أکثر من ثلاثة ملایین من مواطنی شمال أفریقیا وأوربا فی البلدان الجنوبیة لها علی وجه التحدید، أدّت إلی بذل أوربا مساعیها لإقامة تعاون إقتصادی، سیاسی وأمنی مع المنطقة. فخوف أوربا من تأثیر مسار المطالبة بالإسلام والنهوض الإسلامی الذی یُعدّ بحسب نظرهم أمر لا یمکن تلافیه، یعرّض مصالح الغرب للخطر.

حیث إنّ الفکر والأصولیة الإسلامیة القائمة علی ضرورة منع سیطرة الأجانب علی السوق، الموارد والثروات الإلهیة للمسلمین یقف علی نقیض الأطماع

ص:300

الاقتصادیة والسیاسیة الطویلة الأمد للغرب فی الشمال الأفریقی. فتصریحات الأمین العامّ لحلف الناتو فی مجال لزوم تعاون بعض بلدان المنطقة لمواجهة إجراءات الأصولیة الإسلامیة خیر دلیل علی هذه المسألة التی ابتعد الناتو من خلالها عن أصل إنشائه والمتمثّل بمواجهة الشیوعیة، لیتّخذ من مواجهة الاتّجاه الإسلامی هدفا أساسیا له. فهذا السعی یوضّح ذروة القلق الذی تعیشه أوربا والغرب من الخطوات المتنامیة للصحوة الإسلامیة فی المنطقة. (1)

فقد جعلت حرکة الصحوة الإسلامیة هذه والتی أعقبت الثورة الإسلامیة الإیرانیة الغرب یواجه ظاهرة دینیة وإنْ لم تکن جدیدة فی حدّ ذاتها حیث تمتدّ إلی 1400 عاما فی التاریخ، إلاّ أنّه ومن خلال إدراک الغرب للمسائل الدولیة واستنتاجاته الخاطئة للحرکات الدینیة وعلی الخصوص الإسلامیة، لم تکن مبرّرة لدیهم علی الإطلاق، إذ فوجئ القادة والمحلّلین الغربین بها.

فهذه الظاهرة تُعدّ لغزا محیّرا للغرب، وینظر إلیها علی أنّها حادثة تتجاوز إدراکه واستیعابه ومهدّدة لمصالحه، ومن هنا، فقد أطلقوا علیها «الأصولیة الإسلامیة». ویقول الدکتور دکمجیان أحد المحلّلین الغربیین المعروفین فی کتابه الإسلام فی طور الثورة فی هذا المجال:

لقد غدت الأصولیة الإسلامیة جزءا من المصطلحات السیاسیة، الإعلامیة والجامعیة فی الغرب لعدّة سنوات بعد سقوط الأسرة البهلویة فی إیران. فهناک فی الحقیقة سلسلة من الأحداث المحزنة أدّت إلی التفات العالم إلی استعادة الإسلام حیاته من جدید، وأخذ إلی جانب ذلک یعیش القلق من نتائجها السیاسیة والاقتصادیة، ومن الطبیعی أنّ المسؤولین، الجامعیین والإعلام الغربی

ص:301

لم یکونوا ملتفتین أبدا لها إلی ما قبل دخولها مرحلتها الهجومیة مع بدء الثورة الإسلامیة الإیرانیة. (1)

إنّ هذه الاعترافات الصریحة حول النهوض الإسلامی فی منطقة الشرق الأوسط تبیّن فی الواقع حقیقة أنّ الغرب کان قلقا جدّا ومذعورا من المسار المتنامی للصحوة الإسلامیة فی المنطقة فی أوّل مواجهة له مع هذه الحرکة، فلا عجب أنْ یضع الناتو مخطّطات خاصّة للحیلولة دون المسیرة المتنامیة للإسلام فی شمال أفریقیا؛ بحیث تمّ لقاء بین الأمین العامّ للناتو مع سفراء تونس، مصر، المغرب، موریتانیا والکیان الصهیونی فی بروکسل أواخر عام 1994 وذلک للإعداد لمواجهة التوجّه الإسلامی. (2)

النقطة الأخری التی یمکن الإشارة إلیها هی أنّ نمو الحرکات الإسلامیة الشعبیة فی المغرب الکبیر (المغرب، تونس، لیبیا، الجزائر وموریتانیا) یستوجب إیجاد توافق بین الأنظمة الموجودة وذلک لأجل تعرّض وجود جمیع أنظمة المنطقة للخطر. الأمر الذی أنجب مجلس المغرب العربی من خلال اجتماع قادة الدول الخمس الأعضاء فی شباط 1989 فی مدینة مراکش وتوقیع معاهدة تضمّنت مقدّمة و19 مادّة وبیان مشترک. وکان أحد محاور التعاون بین هذه الدول هو التنسیق والتعاون بین الأجهزة الأمنیة لمواجهة التوجّهات الإسلامیة. ووفق اتّفاق لم یُعلن عنه، تعهّدت دول المنطقة بعدم السماح لأیّ تیار إسلامی بممارسة نشاط رسمی. ومع أنّ التعاون الأمنی قد وقع فی بعضه تحت تأثیر مسائل أخری، إلّا أنّه عملیا لم تسمح أیّ من هذه البلدان بنشاط للإسلامیین. (3) وعلی الخصوص بعد فوز جبهة الإنقاذ الإسلامی فی الجزائر وذلک إثر

ص:302

المؤتمر الرابع لهذا المجلس، حیث واجهت الدول الأعضاء توجّهات إسلامیة مشابهة فی داخل بلدانها ممّا أقلقها کثیرا وأدّی إلی تقویة مواقفها العدائیة ضدّ الإسلامیین.

إنّ الموجة الإسلامیة النابعة من الثورة الإسلامیة الإیرانیة قد شملت العالم الإسلامی وبضمنه تونس، واستهوت أفئدة مواطنی هذا البلد وأدّت إلی تجدید نشاط الحرکات الإسلامیة فیه. والحکومة التونسیة ولأجل مواجهة حظر الأصولیة الإسلامیة قامت بزیادة قدراتها والتجاوز علی حقوق الناس وقمعهم والذی ترافق مع دعم مراکز القرار الغربی والدولی أیضا.

إنّ دور الإمام الخمینی رحمة الله فی تأسیس الحکومة الإسلامیة الإیرانیة کان فی الحقیقة عظیما بشکل استثنائی. فقد استطاع مخاطبة الإیرانیین بلغة العامّة وکان من نتیجة ذلک تمکّنه من تعبئتهم ضدّ أعداء الداخل والخارج علی مدی التاریخ، وقد استطاع الإمام الخمینی رحمة الله ونهجه إعادة الشیعة إلی مکانتهم الحقیقیة فی تاریخ الإسلام بعد عدّة قرون. فقد تمکّن من القیام بهذا العمل من خلال إحیائه فلسفة غیبة الإمام فی قالب «ولایة الفقیه»... لقد کانت ظاهرة الإمام الخمینی رحمة الله مرآة لتطوّر مهمّ علی المستوی الدولی والإقلیمی. فلا یمکن حقیقة بیان ظاهرة بهذه السعة ببعض کلمات. (1)

ویقول أیضا فی إجابة عن سؤال یتحدّث عمّا أضافته الثورة الإسلامیة إلی تجارب الحرکة الإسلامیة التونسیة:

إنّها المرّة الأولی فی التاریخ الإسلامی المعاصر التی تکسب فیه الحرکة الإسلامیة مثل هذه القوّة التی بلورت ثورة وفعلتها علی أرض الواقع بأسلوب شعبی؛ الخلاصة أنّه یمکن القول بأن الإسلام استطاع أنْ یجد له مصداقا من الناحیتین النظریة والعملیة، وذلک من خلال الحرکة الإسلامیة للشعب الإیرانی.

حیث تتجلّی الأبعاد الاجتماعیة للإسلام فی جمیع مراحل الثورة الإسلامیة الإیرانیة وقاوم الإیرانیون بقوّة فی ذات الوقت فی قبال المعتدین والاستکبار العالمی الذی استخدم الحصار الاقتصادی کأداة لإضعاف الثورة فنشروا بأنفسهم ألم الفاقة والعوز.ویمکن القول فی النهایة أنّ الثورة السیاسیة والاجتماعیة الإیرانیة بلحاظ مقاومتها للاعتداء الخارجی وکذلک فی بعض أبعادها الاجتماعیة نظیر المذهب، تتمتّع بمکانه بارزه ومتألّقة بین سائر الحرکات الإسلامیة. إنّ التأکید الشدید علی مسألة الإیمان یؤدّی فی الحقیقة إلی تربیة مسلمین یتألّمون لآلام البشریة عامّة، وربّما لا تثیر مسألة رواج عقیدة فی أوساط المتدینین البارزین مفادها أنّه من الأفضل اختیار الجانب الأمریکی فی المقارنة بین أمریکا والاتّحاد السوفیتی، العجب؛ إذ أنّ الأمریکیین لدیهم کتاب سماوی علی أضعف التقادیر، فی حین أنّ الروس لا یعتقدون بأیّ شیء.

ص:304

فلا یوجد فی الثورة الإسلامیة الإیرانیة مَنْ یعطی أهمّیة للعلاقات الاجتماعیة الآنفة مع الکنیسة أو غیرها، فهم یعتقدون بأنّ أمریکا وروسیا (سواء کانا مع الله أم من دون الله) قامتا بتقسیم العالم فی ما بینهما فی الاعتداء والظلم. فلیس ثمّة فرق بینهما ماهیة. إنّ الشعار القرآنی الذی یطالعنا فی أوّل النصوص «السلفیة» لمحمّد بن عبد الوهاب «واعتصموا بحبل الله جمیعا ولا تفرقوا».

وکان الإخوان المسلمین یقولون فی أثناء حیاة سید قطب: (إنّ الذین لا یؤمنون بالله ضالّون).

غیر أنّ أهمّ شعار للإیرانیین فی الثورة الإسلامیة هو: «ونرید أنّ نمنّ علی الذین استضعفوا فی الأرض ونجعلهم أئمّة ونجعلهم الوارثین». إنّ هذا الشعار القرآنی أضاء للنضال الإسلامی آفاقا جدیدة. (1)

یمکننا اکتشاف خطوط ظریفة لأسلوب رؤیة النخب الأفریقیة للثورة الإسلامیة الإیرانیة فی هذا الحدیث، والتی ربّما لا یمکن الوصول إلی مثلها من خلال النظر إلی الثورة من الداخل بواسطة الإیرانیین. وعلی هذا الأساس فإنّ تنتصار الثورة وتبلور سلطة سیاسیة دینیة فی إیران ووجود شخصیة علمائیة علی رأسها، یمکن أنْ یکون عاملا مؤثّرا علی الحرکة الإسلامیة فی تونس.

وتتجلّی أهمّ آثار الثورة الإسلامیة فی اهتمام الناس أکثر بدور الوحدة والهویة الإسلامیة. فقد تسبّبت الثورة الإسلامیة فی عرض الإسلام باعتباره دینا، الشعور بالقرابة والتضامن والقراءات المتعدّدة عن الإسلام، حیث إنّ المشترکات الإسلامیة العامّة یمکنها إیصال المسلمین إلی الوحدة فی ذات تکثّرهم والإحساس بالمسؤولیة فی خصوص المسائل المتعلّقة بالعالم الإسلامی.

حیث شاهدنا فی هذا الإطار التظاهرات التی قام بها الشعب التونسی کاعتراض علی تواجد القوات الأمریکییة ضدّ الأمّة الإسلامیة، وتدنیس أرض الحرمین المقدّسة أثناء أزمة الخلیج الفارسی والتی أدّت إلی اعتقال

الکثیرین من قِبل رجال الدولة.

ص:305

وتأتی المسألة الفلسطینیة والنظام الصهیونی لتکون إحدی الموارد المهمّة فی هذا السیاق، حیث لعبت الثورة الإسلامیة دورا مهمّا فی توعیة شعوب العالم فی مقابل المؤامرات الصهیونیة وحماتها الرئیسیین فی أفریقا ومواجهتها؛ استعادة المسلمین الاعتماد علی دینهم وتعرّف بعضهم علی البعض الآخر، استعادة الهویة الإسلامیة. فالحرکة الإسلامیة التونسیة قد أعلنت باستمرار إثر ذلک، بأنّ الأرض الفلسطینیة هی من الحقوق المؤکّدة للأمّة الإسلامیة، وإنّ غضّ النظر عنها من الأمور المستحیلة، وطالبت بتحریر هذه الأرض من نیر المحتلّین الصهاینة. وبأدانة هذه الحرکة صلح العرب وإسرائیل، تکون قد أعلنت معارضتها لأیّ معاهدة جائرة مع النظام الاحتلالی للقدس. (1)

وأدانت الحرکة الإسلامیة بشدّة فی هذا السیاق النشاطات الصهیونیة، بحیث أکّد راشد الغنوشی مرارا بأنّ عداء الغرب للإسلام إنّما هو بسبب النشاطات الصهیونیة، فلأجل المحافظة علی مساعدة ودعم الغرب فهی تسعی لإقناع الغرب بأنّ الإسلام هو الذی ظهر علی شکل قوّة خبیثة جدیدة عقب انهیار الشیوعیة وضعف القومیة العربیة. (2)

فهو یصرّح بحدّة فی المؤتمر الإسلامی قائلا:

لیس العرب والمسلمین هم وحدهم مرمی للصهیونیة، بل جمیع القیم التی بلورتها الإنسانیة، حیث تقبع الصهیونیة خلف کلّ خبیث فی العالم، ولا نغالی إذا قلنا بإنّ کلّ خبیث موجود فی العلم یختفی خلفه إسرائیلی. (3)

هذا فی حین أنّ الإعلام الصهیونی العالمی یُظهر أنّ الخوف من الأصولیة هو شبیه الخوف من الشیوعیة، وقد ضمّت دول تونس، الجزائر ومصر صوتها إلی صوت

ص:306

إسرائیل فی إعلانهم عن الخطر الذی یشکّله الإسلامیون وجعلوا من ذلک سببا لاستدرار العطف والمساعدة والاهتمام بقمع الإسلامیین. (1)

بالأعمال الإیرانیة إلی وزارة الخارجیة فی تاریخ 1987/3/26 وإبلاغه بلزوم مغادرة الأراضی التونسیة مع جمیع أعضاء البعثة الإیرانیة. وبهذا تکون العلاقات بین الجانبین قد قطعت بالکامل. وبعد ثلاث سنوات من قطع العلاقات بین الطرفین تمّ إعادتها مجدّدا بإصدار بیان مشترک فی تاریخ1990/9/22.

ینبغی الالتفات إلی أنّ نوع العلاقات التی أقامتها البلدان الأفریقیة مع الحکومة الإسرائیلیة کانت مؤثّرة مئة بالمئة فی طبیعة علاقة الجمهوریة الإسلامیة مع هذه البلدان. فالجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة إلی جانب اهتمامها بالمسائل الأفریقیة المختلفة، نبّهت شعوب هذه القارّة إلی مخاطر اتّساع النفوذ الإسرائیلی فی أفریقیا. وهذا ما جری فی السنوات الأخیرة أیضا، فعلی الرغم من بدء مفاوضات ما یسمّی بالسلام بین العرب وإسرائیل وخروج الحکومة الصهیونیة من عزلتها، لازالت الجمهوریة الإسلامیة تعتقد بإنّ أحد محاور توسیع العلاقات مع البلدان الأفریقیة یتمثّل فی نوع علاقة هذه البلدان مع إسرائیل. وعلی هذا الأساس، فلم تنطلق حتّی الآن العلاقات السیاسیة بین إیران ومصر، وثمّة شیء من البرود یخیّم علی علاقات إیران مع کلّ من تونس والمغرب أیضا.

وأعلنت الحکومة التونسیة أیضا فی المؤتمر الخامس لهیئة رئاسة مجلس المغرب العربی الذی عُقد فی تشرین الثانی 1992 فی موریتانیا، دعمها لوحدة الأراضی العراقیة والکویتیة وأعربت عن قلقها من المصاعب التی یعیشها الشعب العراقی جرّاء الحصار، ودعمت دعاوی الإمارات العربیة المتّحدة حول الجزر الثلاث المتعلّقة بالجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة؛ فکانت جمیع هذه الموارد مؤثّرة فی برود العلاقات بین البلدین. (1)

ص:308

عقب إقدام نابلیون بونابرت علی احتلال جزیرة مالطا، وبدأت المؤسّسات الفرنسیة ذات العلاقة منذ عام 1808 بتنفیذ أوامر نابلیون الأوّل لإعداد خطّة ومشروعا کاملا لاحتلال الجزائر.

وفی تموز 1830 احتلّت القوات الفرنسیة الجزائر، وأُخرج إثرها المسؤولین العثمانیین الذین کانوا یحکمونها منها. وشهد الربع القرن اللاحق من تاریح الجزائر إحکام سیطرة فرنسا علیها وضمّها بصورة کاملة إلی فرنسا، والذی تمّ إجراؤه علی الرغم من المعارضة الشدیدة للشعب المقهور.

وتعتبر فرنسا الأرض الجزائریة وبسبب کونها فتُحت بعملیات عسکریة فی حکم أرضها الحقیقیة تقریبا. وبحسب قول فرانتس فانون فی خصوص الجزائر، فقد وجدت علاقات منذ البدایة علی أساس التشابه والتماثل. واستمرّت حرب المجاهدین ضدّ الفرنسیین حتّی القرن العشرین، واشتدّت قوّتها بعد الحرب العالمیة الأولی بقیادة العلماء المسلمین، الطلبة ومن ثمّ بمشارکة الشعب. وکان دور العلماء أمثال الشیخ الإبراهیمی و ابن بادیس حاسما فی المواجهة والجهاد. (1)

ورسّخ العلماء بهذا نفوذهم فی ساحة المعارضة المتزایدة خلال الأعوام من 1933 وحتّی حزیران 1936؛ غیر أنّ الحرب العالمیة الثانیة ترکت أثرا سلبیا علی الشعب الجزائری بحیث اعترضت موجة توجّه الشعب نحو الإسلام موانع متعدّدة. وقام الفرنسیون بالتعاون مع العناصر المحافظة التی أکملت دراساتها فی فرنسا بتهمیش دور العلماء فی الساحة. وکان من أشهر هذه العناصر فرحت عباس الذی ضمّ جمهوریة الجزائر إلی دول الاتّحاد الفرنسی من خلال تأسیس حزب «الاتّحاد الدیمقراطی الجزائری». وبالطبع فإنّ هذا الاتّحاد خرج عن المجلس الفرنسی فی أیلول 1946.

ص:310

لقد فتح استقلال الجزائر فصلا جدیدا فی الحیاة السیاسیة لهذا البلد. وکان هذا الاستقلال ثمرة نضال المجامیع والطبقات المختلفة للمجتمع الجزائری، حیث کان لأطیاف واسعة من الأفکار أعمّ من المارکسیة، القومیة، الإسلامیة و... دورا فی قطف الثورة ثمارها. غیر أنّه کان للجناح الیساری والمفکّرین الاشتراکیین التأثیر الأکبر فی کتابة الدستور، وفشلت جهود الأحزاب والمجامیع السیاسیة الأخری نظیر الاتّحاد الدیمقراطی الجزائری وجماعة العلماء اللذان یمثّلان أهمّ المجموعات السیاسیة فی ذلک الوقت، فی تضمینه الأصول والقواعد الإسلامیة - علی الخصوص فی الشؤون الخارجیة -.

وقد جعلت الجزائر من دعم الحرکات المناهضة للإمبریالیة والتحرّریة العالمیة أهمّ أسس سیاستها الخارجیة، ومن هنا، فقد أصبح هذا البلد بعد استقلاله مرکزا لنشاط المجموعات المناضلة المختلفة، من الحرکات المناهضة للعنصریة وحرکات التحرّر العالمیة. (1) إلی الدرجة التی تواجد ممثّلو حدود 21 منظّمة تحرّریة فی الجزائر کحدّ أدنی وذلک فی أواخر عام 1964.

والتی أدّت إلی توقیع معاهدة مشترکة، منعطفا حاسما فی العلاقات بین البلدین. بید أنّه علی الرغم من وجود العلاقات الرسمیة بین البلدین، لم تکن ثمّة حرارة وحرکة بارزة فی علاقات البلدین، فإضافة إلی الآراء المختلفة بشکل تامّ بین الطرفین حول المسائل الدولیة، فإنّ إقامة مجموعة من معارضی نظام الشاه فی الجزائر ودعم هذا البلد لحرکات التحرّر کان له أهمّیة خاصّة فی جمود العلاقات بینهما. (1)

وإثر انتصار الثورة الإسلامیة، والتحاق إیران برکب الدول المناهضة للإمبریالیة والرائدة فی العالم، تهیّأت إمکانات واسعة لتوسیع العلاقات بین البلدین فی المجالات المختلفة. فالحکومة الحزائریة کانت من بین أوائل البلدان الإسلامیة التی أسّست لعلاقات صداقة مع الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة. ویقول الشاذلی بن جدید الرئیس جزائری خلال مقابلة فی شباط 1979:

إنّ سبب مخالفة الجزائر لمواقف شاه إیران هو نظامه الدیکتاتوری ومواقفه ضدّ البلدن العربیة والمصالح الفلسطینیة ودعمه لإسرائیل. ولأجل ذلک فإنّ موقفنا تّجاه الثورة الإیرانیة هو موقف الدعم والتأیید. إذ إنّنا نعتقد بأنّ موقف الثورة الإیرانیة یصبّ فی صالح الثورة الفلسطینیة ومعارضة المعاهدات التی لا تلبی المصالح الفلسطینیة.

فأخذت العلاقات بعد الثورة الإسلامیة فی الاتّساع والتعاون القائم علی أسس الصداقة بین البلدین. وقامت الجزائر باتّخاذ مواقف داعمة للجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة نظیر حادثة طبس، الحصار الاقتصادی وغیرها، ولعبت دور الوساطة فی النزاع بین الجمهوریة الإسلامیة وأمریکا وحادثة الرهائن، وتولّت رعایة مصالح الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة فی أمریکا بعد قطع العلاقات معها. غیر أنّ موقفها حیال الحرب المفروضة کان مختلفا إلی حدّ ما. وعلی الرغم من التصریحات المختلفة وأحیانا

ص:312

المهمّة للمسؤولین الجزائریین، یمکن القول باختصار أنّ مواقفهم حول حرب العراق ضدّ إیران کانت تتّخذ طابعا حیادیا مترافقا مع الاحتیاط علی الدوام، بغیة عدم إثارة أیّ من الطرفین، کی یمکنهم القیام بدور الوساطة.

واستمرّت العلاقات بین البلدین علی حالتها حتّی عام 1993، إذ عرّضها نموّ التوجّه الإسلامی فی الجزائر إلی أزمة. ففی نیسان 1993 أعلنت اللجنة الحکومیة الجزائریة العلیا قطع العلاقات الدبلوماسیة مع إیران ضمن بیان علنی. وأرجعت الأسباب إلی نسبة تزاید التوجّهات الإسلامیة إلی إیران ودعمها للمجامیع الإسلامیة.

وفی حزیران 1999 شارک مسؤول الشؤون الأفریقیة فی وزارة الخارجیة الإیرانیة ولأوّل مرّة فی مؤتمر القمّة الأفریقی فی الجزائر، وفی تموز 1999 أثنی الرئیس الإیرانی علی الجو السیاسی الذی شهدته الجزائر بعد انتخاب عبد العزیز بوتفلیقة ووصفه بجو التفاهم، الإصلاح والصداقة. وفی آب 1999 صرّح الرئیس الحزائری فی أبو ظبی:

إنّ الخلاف مع إیران لا یستمرّ إلی الأبد وأنّ الجزائر لا تتآمر علی أحد ولا تقبل التدخّل فی شؤون الآخرین و... .

فهو یصرّح بأنّ هذا الموضوع لا یتنافی مع تعاطف الجزائر مع الثورة الإیرانیة و... حیث قام بإعادة العلاقات مجدّدا بین البلدین. (1)

نتیجة اتّساع نطاق تحرّکات الجماعت الإسلامیة فی هذا البلد أبعاد داخلیة ودولیة. وتلاحَظ نقاط متشابهة فی کثیر من الموارد بین الحرکة الإسلامیة الجزائریة والحرکات فی باقی البلدان العربیة عند دراسة هذه الأبعاد. فلا ریب فی أنّ النهضة الإسلامیة فی هذه البلدان وفی منطقة الشرق الأوسط عموما، کانت من أکثر ظواهر الساحة السیاسیة العالمیة أهمّیة طیلة عقد الثمانینات والنصف الأوّل من التسعینات. فقد ظهرت واتّضحت بشکل جید الأبعاد الواسعة للتأثیر الناشئ من ظهور الإسلام السیاسی، وعلی الخصوص فی الشرق الأوسط وفی القرارات الداخلیة والخارجیة لحکومات المنطقة والسیاسة الخارجیة للقوی العظمی. فالحرکات والجماعات الإسلامیة التی تجسّد نهضة الإسلام السیاسی، لم تدخل ساحة المواجهة مع حکومات المنطقة لأجل الخلاف الشدید فی المجالات الأیدیولوجیة، أسلوب إدارة الحکومة وتنفیذ السیاسة الداخلیة والخارجیة فحسب، بل انبرت لمواجهة المموّلین الأجانب لهذه الحکومات، أیْ أمریکا وشرکائها الغربیین أیضا.

تشیر الدراسة العمیقة للمحیط العربی - الإسلامی للمجتمع الجزائری إلی وجود أزمة ذات أبعاد متعدّدة. الأزمة الأولی، أزمة الهویة التی حدثت فی العالم العربی بشکل عام والجزائر بشکل خاصّ نتیجة لوصول الجهود القومیة لتحقیق أهدافها إلی طریق مسدود.

إنّ الإحباط الذی واجهته القومیة الذی کان نتیجة لبعض العوامل نظیر هزیمة العرب فی حرب 1967 وموت عبدالناصر فی 1970، سرعان ما مهّد الطریق لانتهاء فکر القومیة العربیة، وأدّی فی المقابل إلی بذل مساعٍ جدیدة لأیدیولوجیة بدیلة. فظهر طیلة العقد الأخیر وعقب انتصار الثورة الإسلامیة فی إیران، النهج الإسلامی باعتباره الخلیفة المهمّ ذات القدرة الفائقة.

وأدّت أزمة الهویة فی الجزائر إلی أزمة المشروعیة وزوال مشروعیة النخب

ص:314

والمؤسّسات الحاکمة فی عین الشعب. حیث کان التفاوت الطبقی والتوزیع غیر العادل للثروات من باکورة نتائج عدم کفاءة النخب الحاکمة. وأجّجت أزمة الثقافة بسبب الاستیلاء العمیق للثقافة الفرنسیة وأسلوب الحیاة الغربیة التی تسوّق من قِبل بعض المجدّدین هذه الأزمة. إنّ المجتمع الجزائری ولکونه مسلما لم یستطع التعایش مع النهج الاشتراکی واللیبرالی، ومن هنا فلم یکن زعماء جبهة الإنقاذ الإسلامیة - باعتبارها أهمّ حزب معارض للحکومة - مؤیّدین للأسلوب الاشتراکی المفروض من قِبل النظام الحاکم بعد الاستقلال، ولم یتعاونوا معه فی هذا النطاق. فلطالما أبدوا اعتراضهم علی تنفیذ السیاسات المناهضة للإسلام.

وبالطبع فإنّ قادة هذه الدولة سعوا دائما لتهدئة الجماعات الإسلامیة من خلال الحوافز الاقتصادیة، السیاسیة والرمزیة، وهم فی ذات الوقت یقصدون الفصل بین الدین والسیاسة بدرجات متفاوتة.

لقد اتّبعت الأنظمة الحاکمة فی هذا البلد نهجا لادینیا بشکل مطلق، مع أنّها تؤکّد علی وفائها للإسلام. فالجزائر باعتبارها ولیدة حرب تحریر طویلة، جعلت شعارها مزیجا من الأیدیولوجیة الإسلامیة الإصلاحیة والاشتراکیة، غیر أنّها لم تکن موفّقة فی تطبیق ذلک. فالرئیس أحمد بن بلا الذی أُودع السجن فی عام 1965 إثر انقلاب نفذه بومدین ، وبعد إطلاق سراحه عام (1) 1980 انتقل إلی الخارج وبعد مدّة من إعادة النظر فی آرائه السیاسیة، وصف النظام الحاکم فی الجزائر بأنّه نظام غیر إسلامی - غیر محلّی ومرتبط بالغرب. وتولّی قیادة مجموعة المحرّکة من أجل الدیمقراطیة فی الجزائر أو الحرکة من أجل الدیمقراطیة.

ومع أنّ بومدین کان متدینا ولم یکن یمیل إلی النهج الاشتراکی، غیر أنّ

ص:315

مخالفته الأکبر ترکّزت حول الأیدیولوجیة المارکسیة. وقد تمّ تقویة النظام الاشتراکی فی مرحلة الذروة الإسلامیة فی ذات الوقت الذی کانت تسعی فیه الحکومة لمحاصرة الإسلام، وتمّ فی ذلک الحین منع نشاط الجماعات الإسلامیة نظیر «القیام» وأهل الدعوة.

إنّ الجذور الثوریة للحکومة الجزائریة، وکذلک انسجامها النسبی مع الإسلام. وضعت تحت تصرّف أداة تعمل لإحباط الدعایة الإسلامیة. وجاء القادة اللاحقین للجزائر لیزیدوا من النزاع الفکری فی أوساط الشعب باتّخاذهم وارتضائهم النظام الاشتراکی.

إنّ الإسلام فی الحقیقة، کان من الشعارات التی ضحّی من أجلها الآلاف من شهداء حروب التحریر الجزائریة التی خاضوها ضدّ الکتائب الفرنسیة، غیر أنّه یبدو أنّ الاستعمار قد عاد من النافذة کما یقول فانون . فمن خلال المفهوم أخذ قادة الجزائر بقمع هذه الحرکات الإسلامیة الأصلیة بدل إدراک الواقع الموضوعی.

إنّ ظهور الحرکات المطالبة بالإسلام باعتبارها قوی اجتماعیة - سیاسیة مهمّة، جعل الحکومة الجزائریة تواجه نزاعا لا سابقة له کان من نتائجه النهائیة، ذوبان الأسس الأخلاقیة لسلطة ومشروعیة النخب الحاکمة فی هذا البلد.

وکانت الثورة الإسلامیة فی إیران العامل الأهمّ فی إلهام الحرکة الإسلامیة الشعبیة فی الجزائر، حیث إنّ انتصار الثورة الإسلامیة فی إیران وتأسیس الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة بخطابها وبلاغها ورسالتها الممیّزة أحیا الأمل فی قلوب المحرومین والمستضعفین لسائر البلدان للقضاء علی التفاوت الطبقی وإنشاء مجتمع تسوده العدالة. فالشباب المناصر للاتّجاه الإسلامی اتّبع نهجا هجومیا فی مقابل الأنظمة الحاکمة وذلک من خلال تأثّره بنموذج الثورة الإیرانیة، والذی یمکن عدّ المواجهات التی قامت بها المجامیع الطلابیة المسلمة وحرکة العلماء والمثقّفین الدینیین فی الجزائر من أهمّ مواردها.

ص:316

ویلاحَظ التأثیر المباشر للثورة الإسلامیة الإیرانیة علی الحرکة الإسلامیة الجزائریة بنحو واضح فی مواقف جبهة الإنقاذ الإسلامیة فی هذا البلد. فقد أعلنت هذه الحرکة فی النهایة أنّ هدفها یتمثّل فی إقامة «حکومة إسلامیة». وبهذا لم یکن یقتنع المناضلین الإسلامیین بأقلّ من إقامة جمهوریة إسلامیة فی الجزائر، وهذا یبیّن أنّ التجربة الثوریة للجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة کانت نموذجا ناجحا فی ذلک.

وکانت المواقف المعادیة للصهیونیة من مؤشّرات السیاسیة الخارجیة الجزائریة أیضا فی عهد بن بلا وما بعده. وتقوم فکرة معارضة إسرائیل باعتبارها دولة یهودیة فی المنطقة علی أنّ وجود إسرائیل یعد حائلا دون تحقیق الوحدة العربیة.

فکانت مخالفة إسرائیل من ضمن الأفکار القومیة، لکنّها لم تستطع إنهاء أزمة فلسطین والمجتمعات العربیة. ومن هنا فقد اتّخذت الحرکات الإسلامیة من ضعف النظام العربی فی مقابل إسرائیل سلاحا قویا للهجوم علی جمیع القادة العرب. وأدّت العلاقة الأمریکیة الإسرائیلیة وعلاقة أمریکا بالدول العربیة المهمّة إلی إضعاف مشروعیة القادة السیاسیین فی الجزائر أیضا. فقد کانت العلاقات العسکریة للجزائر مع فرنسا وأمریکا تتمّ فی ظلّ المهانة العسکریة الدائمة للعرب فی مقابل إسرائیل والنفوذ الاقتصادی والثقافی الغربی. وممّا زاد فی ذلک الاتّفاقات السرّیة والعلنیة بین القادة العرب وإسرائیل والغرب. فقد کانت التراجیدیا العربیة تقوم فی الحقیقة علی عدم وجود أیدیولوجیة دائمة منذ عهد زوال القومیة. وهذه المرّة لم یکن ثمّة إطار مطروح سوی الإسلام بمفهومه الحقیقی. ومن هنا فإنّ تأثیر الثورة الإسلامیة وبقاء المسألة الفلسطینیة عصیة علی الحلّ من جملة عناصر حرکة المطالبة بالإسلام فی الجزائر. وقامت الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة نظرا لأسس سیاستها الخارجیة - دعم حرکات التحرّر الوطنیة والحرکات الإسلامیة خصوصا - بتأیید الحرکة الإسلامیة للشعب الجزائری، الأمر الذی أدّی إلی مواجهته من قِبل قادة تلک الدول وقطعهم العلاقات معها.

ص:317

وفتح حلّ الجبهة فی 1992 الطریق إلی ظهور مجامیع إسلامیة مسلّحة. حیث خلّفت المواجهات المتعدّدة بین هذه المجامیع والقوات المسلّحة الجزائریة آلاف القتلی خلال عامین ونصف. (1)

ویمثّل جیش الإنقاذ الإسلامی الجناح العسکری لجبهة الإنقاذ الذی أعلن رسمیا وفاءه للقادة الإسلامیین بضمنهم عباس مدنی و علی بلحاج . وترافقت هذه العملیة مع إطلاق سراح اثنین آخرین من الإسلامیین، حیث استتبع ذلک وعد قادة الجبهة باجتناب الحلّ «العسکری». (2)

وقد حدثت خلافات بمرور الأیام بین الجیش والجبهة فی مجال کیفیة مواجهة الحکومة، وأدّت إلی ظهور انقسامات فی داخل الجیش وجبهة التحریر الجزائریة. فأقدمت المجموعة المنفصلة لاعتراضها علی قادة الجبهة فی تسامحهم مع الحکومة الجزائریة علی إیقاع مجازر عمیاء، وهاجمت خلال ذلک المدنیین والأجانب. وقد رفضت الجماعة الإسلامیة المسلّحة أیّ مفاوضات أو سلام مع الحکومة. ویشکّل الأشخاص الذین کانوا قد شارکوا فی الحرب الأفغانیة ضدّ الاتّحاد السوفیتی الأعضاء الأساسیین فی هذه الجماعة ویُعرفون بالأفاغنة العرب.

وفی عام 1995 اجتمعت فی روما ثمانیة أحزاب رئیسة معارضة للحکومة الحزائریة. وقد أُقیم هذا المؤتمر لأجل التوصّل إلی حلّ سلمی لتحقیق السلام بین الحکومة وأحزاب المعارضة. وقد مهّد مقدّماته مؤسّسة من الفاتیکان باسم «ایجیدیو». وطالبت هذه الأحزاب الثمانیة فی بیان لها الحکومة إضافة إلی الاعتراف بجبهة الإنقاذ الإسلامیة باتّباع الطرق السلمیة لإنهاء هذه الأزمة. وقد استمرّ هذا الاتّفاق حتّی وقت إقامة انتخابات رئاسة الجمهوریة تقریبا. ولکن فی هذا الوقت

ص:319

وبسبب قبول بعض أحزاب المعارضة دعوة الحکومة للمشارکة فی الانتخابات، فقد إنهار هذا الإجماع التوافقی آلیا.

ومع عدم اهتمام النظام الجزائری بمطالب الجماعات المعارضة، امتنع عن القبول بأیّ من مقترحاتهم واعتبر هذا المؤتمر تدخّلا خارجیا فی الشؤون الداخلیة للجزائر. (1)

واستطاعت الحکومة الجزائریة من خلال استغلال المشروعیة الحاصلة من إجراء الانتخابات وضع جبهة الإنقاذ الإسلامیة فی حالة عزلة أکثر من السابق. ومن جهة أخری، فقد أدّی اتّساع الخلاف داخل جیش الإنقاذ الإسلامی وضعف مکانة جبهة الإنقاذ نسبة إلی السابق وکذلک إرهاق الشعب من الأوضاع المتوتّرة وإراقة الدماء، والذی عادة ما یحدث یومیا فی الجزائر إلی تآکل مکانة الجبهة.

علی أیّ حال، فإنّ جبهة الإنقاذ الجزائریة ضمن رفضها الانتخابات امتنعت عن المشارکة فیها. وإثر حدوث الانقلاب علی الشاذلی فقد سیطر علی السلطة مجلس أعلی للدولة یتکّون من خمسة أعضاء. وقد عاد إلی الجزائر محمّد بوضیاف - من قادة الاستقلال وجبهة التحریر الوطنیة الذی أدیر له الظهر فی الحکومات السابقة وکان لاجئا فی المغرب - وانتخب رئیسا للمجلس الأعلی للدولة. وقد وعد بإقامة حکومة نابعة من الشعب، غیر أنّه اغتیل بشکل مریب وعیّن المجلس المذکور العقید علی کافی عضو المجلس والأمین العامّ لمنظّمة مجاهدی الثورة الجزائریة خلیفة له. وکان الجیش یسیطر علی الأوضاع من خلف الستار، واستمرّت المواجهات بین الإسلامیین والقوات الأمنیة فی عهده وحتّی انتهاء دورة رئاسة بن جدید فأوکل المجلس الأعلی للدولة السلطة إلی الجنرال المتقاعد أمین زروال . وبعد زروال وصل بوتفلیقة المرشّح الانتخابی لقوی الأمن الحزائریة إلی سدّة الحکم. وقد کان وعد إثر انتخابات نیسان

ص:320

1999 بإجراء تغییرات أساسیة فی البلاد، غیر أنّ أغلب الجزائریین غیر مقتنعین بأنّ رئیس الجمهوریة سیفی بوعوده بإجراء إصلاحات.

وینبغی کذلک بذل جهود جادّة للتحقیق فی ملفّ أکثر من ثلاثة آلاف جزائری مفقود. (1) ویذهب ضحیة العنف الذی تسبّب به الانقلاب من 200 إلی 300 شخص کلّ شهر. ولم یستسلم سوی جیش الإنقاذ الإسلامی المرتبط ب- مرزوق ولا زالت مجموعة الذوابری وکذلک السلفیین المدافعین عن الوعظ والحرب.

ولم تنجح محاولة إعادة الحبثیة عن طریق بوتفلیقة لجبهة الإنقاذ الإسلامیة التی حُظرت فی عام 1992. (2) ویتطرّق الإعلام الفرنسی إلی الحرب الداخلیة أو الاغتیالات فی الجزائر بعنوان «الحرب القذرة». حیث تکتب صحیفة کوریره انترنشنال بتاریخ 13 کانون الثانی 2002 فی هذا الإطار:

لم تتخلّص الجزائر حتّی الآن من «الحرب القذرة» التی راح ضحیتها أکثر من 1500 قتیل. وبالطبع فإنّه قد انخفضت شدّة العنف نسبة إلی أعوام 1995 و1996. لکن وفقا لتقاریر الصحف الجزائریة فی عام 2001 فإنّ الإبادات الجماعیة قد خلّفت 1900 ضحیة علی الأقلّ.... ومع هذا فقد شهدت الجزائر بعض التغییرات والتطوّرات. فعلی الرغم من حوادث الإرهاب فی شهر آب فإنّ الجزائر تحوّلت إلی مدینة لا وجود للقلق الأمنی فیها. وإضافة إلی ذلک فإنّه منذ زمن وقوع حوادث 11سبتمبر فأنّ أمریکا والغرب یبدون ماضین بکلّ قواهم لمواجهة الحرکات الإسلامیة.

فهذا البلد المهمّ فی منطقة «المغرب العربی» من الشمال الأفریقی بسابقته النضالیة الطویلة ضدّ الاستعمار یتمتّع بتجارب غنیة فی المجالات السیاسیة. فشعبه المسلم الذی سعی عدّة مرات للدفاع عن حقوقه فی مقابل الأجانب، فُتحت أمام عینیه نافذة أخری بعد انتصار

ص:321

الثورة الإسلامیة الإیرانیة وقرّر إقامة حکومة إسلامیة تأسیا بالثورة الإسلامیة. فقد غلب الجوّ الثوری علی المجتمع الجزائری منذ بدایة التمرّد الشعبی فی نهایة عقد الثمانینات، وبدا واضحا للعیان التوجّه الإسلامی للشعب أکثر فإکثر، غیر أنّ التحرّک الغربی المنسّق المذعور من انتشار الثورة الإسلامیة فی مواجهة الثوریین الجزائریین وضیق الأیدیولوجیة لدی أهل السنّة من جهة أخری، أدّی إلی نجاح الأعداء فی قمع التحرّک الثوری للشعب الجزائری، وبحسب الأسلوب المتّبع للسیاسات الجاریة فی العقود الماضیة فی البلدان النامیة، فإنّ الجیش هو الذی یکون متسلّطا علی مقدّرات الشعب.

فقد کان الجیش یدیر البلاد علنا، والآن من خلف الستار. هذا إضافة إلی أنّ أیّ تغییر فی میزان القوی السیاسیة فی الجزائر وفی شمال أفریقیا بالکامل یمکن أنْ یعرّض فی الأساس أوربا عموما وفرنسا علی وجه التحدید لموجة واسعة من الهجرة.

وها هو النحو الذی تم حرف الحرکة الثوریة للشعب من خلاله:

إنّ الأجنحة التی تتّسم بالعقائد المتشدّدة مهّدت الأرضیة لتزاید القتل من خلال تشکیلها کتائب الرعب (کتیبة الأهوال). فالتحرّکات العسکریة التی قاموا بها أعطی مجالا مناسبا لعناصر المخابرات والعسکر فی الحکومة الجزائریة للعمل فی ظلّ اسم هذه المجموعات وتوسیع رقعة القتل الذی یؤدّی إلی زیادة عدم ثقة المجتمع الإسلامی بهذه المجامیع الإسلامیة. (1)

إنّ الغرب وضمن نسبة الحرکة الثوریة للشعب الجزائری إلی الثورة الإیرانیة، أعلن بصوت واحد أنّ «الأصولیة الإسلامیة» هی منشأ القلق، ولم یمتنعوا عن أیّ أسلوب من التبلیغ لإظهارهم بصورة سیئة. (2) وبالطبع فإنّ قلقهم لم یکن عبثا. إذ کان بإمکان

ص:322

التجربة الجزائریة أنْ تنتقل إلی المغرب العربی، تونس والمغرب أیضا.

إنّ الشبه الأساسی بین هذا التحرّک الثوری والحرکة الثوریة للشعب الإیرانی، هو التوجّه نحو المساجد باعتبارها بؤرة الحرکة، وجرأة الشعب علی اتّباع قادته الدینیین، إقامة صلوات الجمعة والجماعة فی المساجد والشوارع المحاذیة ونداءات «الله أکبر» التی تنطلق تأییدا لکلام «إمام الجماعة». (1)

لکن کیف اتّجهت هذه الحرکة (الجبهة الأساسیة للنضال) المشابهة جدّا لحرکة الثوریین الإیرانیین نحو المساومة والخمود؟ هذا ما سنتطرّق إلیه فی القسم الأخیر من هذا الکتاب.

وفی المقال الثانی والثالث قام بالبحث عن الآثار التی ترکتها الثورة الإسلامیة علی المجتمع الدولی والعالم الإسلامی بمنهج استقرائی من خلال الالتزام بمستویات تحلیلیة مختلفة، وقد بذل الدقة اللازمة بهدف معرفة تلک الآثار و شمولیتها اعتماداً علی الفصل بین الدول والشعوب وبیان الفروق الاساسیة التی حصلت علیها المجتمعات المختلفة اثر انتصار الثورة الإسلامیة فی إیران، لنصل الی حصیلة عامة وهی ان هذه النتائج یمکن تقسیمها الی ثلاثة أقسام: عامة والنظام الدولی والعالم الإسلامی.

ولایخفی ان ما تحقق فی هذا البحث لیس کافیاً ولا وافیاً بالمقصود وخارج عن عهدة مؤلف واحد نظراً لعظمة الثورة الإسلامیة وخصوصیاتها الفریدة و نطاق تأثیرها الواسع، بل من الضروری إجراء مطالعات علی نطاق واسع - وحتی الامکان- میدانیة من قبل جمهرة من المحققین والباحثین، و وضع ابحاثهم تحت متناول ید المعنیین والراغبین، وهذه الحرکة هی بدایة لتحقیق طرح جامع کهذا.

خاصة تلک الدول التی اتخذت من فصل الدین عن السیاسة دعامة لها. فکان من الطبیعی ان تکون هذه الثورة مصدر قلق لها لانها اربکت الوضع القائم وطرحت نظاماً وقیماً جدیدة. فلم تظهر رغبة لاستقبال تلک الظاهرة.واذا أظهرت رغبة فی بعض الموارد کاعترافها رسمیاً بالثورة والنظام المنبثق منها فمبعث ذلک خشیتها من العواقب الوخیمة أو ضغط الرأی العام.

وقد أبدت الدول الغربیة عموماً والولایات المتحدة علی وجه الخصوص أبدت حقداً وخصومة تجاه الثورة الإسلامیة وبذلت جهودا کبیرة لاجهاضها والاطاحة بها ، هذا الامر ناشئ عن سببین: الاول: التبعیة المطلقة للنظام الشاهنشاهی للغرب لاسیما أمریکا وفی الواقع فقد تعرضت مصالح الغرب فی إیران الی الخطر، والثانی: التحدی السافر الذی أبدته الثورات التی انطلقت من أسس دینیة وإسلامیة للانظمة الفکریة العلمانیة الرائجة فی الغرب ولنظریاتها وتوقعاتها.

وکانت أمریکا والغرب قد أعلنت صراحة دعمها المطلق لنظام الشاه قبل انتصار الثورة الإسلامیة وفی ظل هذا الدعم بذلت جهوداً جبارة للحیلولة دون وقوع الثورة بل ذهبت الی أبعد من ذلک وأعطت الضوء الاخضر لسقوط النظام الشاهنشاهی عن کره واجبار أملاً فی الحد من انتصار الثورة الإسلامیة ألا انه لمن یکن لها بد سوی الرضوخ للامر الواقع وهو سقوط نظام الشاه وانتصار الثورة الإسلامیة المبارکة لذا حاولت الالتفاف علی الثورة،وبذلت جهوداً علی هذا الصعید، هذه الجهود مازالت متواصلة رغم مرور ربع قرن علی انتصار الثورة واستحکام دعائمها .

وبعد اضمحلال النظام الدولی ثنائی القطبیة اصیبت السیاسة الغربیة بانتکاسة. فاروبا المتحدة فی کثیر من المواقف ومنها الاذعان بواقع الثورةَ الإسلامیة قد نأت بنفسها عن أمریکا واتخذت سیاسة التواصل والحوار النقدی بالتزامن مع التعاون التجاری، ولکن لابد ان لاننسی ان أمریکا والدول الغربیة تتفق فیما بینها فکریاً وثقافیاً

ص:325

وعقائدیاً إزاء معاداة الثورة الإسلامیة وسیادة القیم والاصول الإسلامیة،هذه النکتة هی التی دعت صموئیل هانتنغتون الی طرح نظریة صدام الحضارات ومواجهة الحضارة الغربیة للحضارة الإسلامیة وبهذا اضفی المزید من الدعم لوجهات النظر المشترکة بین اوروبا وامریکا إزاء مواجهة الثورة الإسلامیة.

ان انتصار الثورة الإسلامیة ومااعقب ذلک من حیرة أغلب الدول قد أثارت اشکالین أساسیین للدول الشرقیة: الاول کیف یمکن تفسیر هذه الثورة علی ضوء التحلیل الشیوعی وکیف یمکن تبریر وقوعها؟ ثورة لایمکن تفسیرهاعلی ضوء الموازین الاقتصادیة، کما ان الدوافع والقیم الدینیة التی دعت الیها لایمکن تحلیلها فی هذا الاطار، من جهة اخری کیف یمکن إقامة علاقات مع نظام الثورة وتنظیمها مع الأخذ بنظر الاعتبار العلاقات الحسنة التی کانت تربطها بنظام الشاه؟

کما أثار الاتحاد السوفییتی آنذاک قضیة اخری وهی قلقه حیال انعکاس الثورة الإسلامیة علی الجمهوریات الإسلامیة فی آسیا الوسطی والقوقاز.

واما الدول الإسلامیة فیمکن القول بان انعکاس الثورة الإسلامیة علی تلک الدول خاصة تلک التی تفتقد الی قاعدة شعبیة وتدور فی الفلک الامریکی کان سلبیاً، لانها کانت تحس بخطر یداهمها اثر تلک التحولات والتطورات فأبرزت ردود فعل سریعة ومتشددة تجاه إیران، وهذا الموقف نفسه اتخذتها الدول التی تمتلک غالبیة شیعیة خشیة من عصیان شعبی بنحو ان النظام البعثی العفلقی فی العراق الذی کان یجثم علی صدر شعب غالبیته شیعة لم یوارب فی عدائه للثورة الإسلامیة، الامر الذی دعاه الی اعلان حرب ظالمة وطاحنة لاترحم علی النظام الجدید، تعتبر أطول الحروب التی نشبت فی القرن العشرین وأسفرت عن خسائر مادیة وبشریة باهظة لکلا الشعبین.

وهذا الوضع یصدق بدرجة أقل فی لبنان والبحرین، وبالطبع حتی الدول الإسلامیة

ص:326

التی فیها أقلیة شیعیة أو ان الشیعة فیها لایحظون بمکانة متمیزة کانت تخشی تداعیات هذه الثورة علی المسلمین فیها،فاتخذت مواقف سلبیة تجاهها.

ونستخلص من کل ذلک انه کلما کانت للدول سیاسات مستقلة عن الغرب مثل لیبیا والجزائر والیمن کانت علاقتها بایران ودیة منذ انتصار ثورتها، ألا ان هذا لایعنی استمرار تلک العلاقات علی نفس الوتیرة بل بمرور الزمان ومع تزاید المد الإسلامی فی مجتمعاتها لم تکتف بالحد من علاقاتها بایران الثورة بل اتجهت الی اتخاذ سیاسات عدائیة ازائها.

من جهة اخری ینبغی ان نأخذ الوضع الجغرافی لتلک الدول وقربها وبعدها عن إیران بنظر الاعتبار، ای کلما اقتربت تلک الدول من إیران کلما زاد خطر صدور الثورة ونفوذها الی أوساط شعوبها فأخذت تتحرک فی مواقف مناوئة لایران.

وعلی ای حال یمکن الادعاء بجرأة ان الدول الإسلامیة لم تستقبل الثورة الإسلامیة فحسب بل واجهتها بمواقف مناوئة.

اخری و مع الأخذ بنظر الاعتبار ان الطابع السائد علی الثورة الإسلامیة هو الطابع الثقافی فان الشعوب التی تربطها بالشعب الایرانی آواصر ثقافیة وطیدة قد تأثرت بها الی حد بعید. لذا فان الشعوب المسلمة لاسیما الشیعة قد ساد فی صفوفها البهجة والفرح بمناسبة انتصار الثورة الإسلامیة، کما وان هذا التأثر قلما نلمسه فی المجتمعات التی لا تربطها بایران وثورتهاای رابط. وفی الواقع فان تلک المجتمعات لیس لها وعی بمجریات الأحداث فی إیران أو ان وسائل الاعلام فی الغرب والدول التی تدور فی فلکها لاتتیح نقل وقائع الثورة بأمانة بل تقوم بتحریفها.

وقد تجلی انعکاس الثورة الإسلامیة علی الشعوب فی النزوع نحو قیم الثورة واهدافها واتخاذ أسالیبها ومناهجها کالقیام بتظاهرات عامة ضد الأنظمة الحاکمة الجائرة.

العشرین، وکانت مردها تقسیم المصالح الاقتصادیة.

ولما ظهرت الثورة الإسلامیة قامت بتغییر خطاب تلک المخاصمات بل أخرجت اللاعبین الرئیسیین من مسرح الصراع الدولی، وبناء علی الخطاب الجدید فان واقع المنازعات لاتقع بین الدول لتضارب مصالحها واهدافها بل بین اصحاب النفوذ والقدرة و بین الجماهیر، فالمعرکة فی الواقع بین معسکر المستکبرین من جهة ومعسکر المستضعفین من جهة اخری، وتراجع علی ضوء هذا الخطاب دورالتکتلات الجغرافیة والعرقیة والقومیة وحتی الدینیة فی الخصومات الدولیة وأخذ صراع الدول والشعوب یأخذ منحی صراع المستکبرین والمستضعفین کجدال واقعی ونهائی. وانصبت جهود الغرب علی التنظیر لهذا النوع من المخاصمات فی اطار محاربة الارهاب خاصة بعد حادثة 11 سبتمبر عام 2001 أو صدام الحضارات.

تبلور فی دنیا الالحاد والعلمانیة عبر فصل الدین عن السیاسة واعتباره افیون الشعوب حسب تعبیر مارکس ولم یکتف بذلک بل اعتبر الدین تابعا لحقبة الماضی والتاریخ ای اصبح منهجاً متحفیاً لم یعد له مکانة تذکر ولیس لدیه ما یطرحه فی العصر الراهن.

وقد فتح خطاب الإسلام السیاسی نافذة جدیدة علی المفکرین والمنظرین فی عالم السیاسة،مفاده ان الدین الإسلامی لیس سیاسیاً فقط بل ان له أفکار جدیدة تضاد الخطاب السائد علی العالم المتحضر ویمکن اعتباره الخطاب الامثل فی عصر مابعد الحداثة.

العالم الإسلامی ألا انه یری بان الغرب یتأرجح علی حافة الهاویة نظراً لانحطاطه الاخلاقی، وهذا الصراع لایعنی أبداً نفی التقنیة والتطور المادی بل الغاء الانحطاط والتسلط الغربی وغرس الاعتماد علی الذات فی أذهان البشر، وفی العالم الإسلامی فان الإسلامیین سخروا الامکانیات الحکومیة والتسهیلات التقنیة والاعلامیة لمواجهة التیارات الفکریة التی ابدعت تلک الامکانیات والتسهیلات وأبرز مثال علی استخدام الوسائل الحضاریة للغرب ضد الغرب،هو نشاط القنوات الفضائیة المحلیة إبان حملات أمریکا وبریطانیا علی طالبان بعد حادثة 11 سبتمبر وحملة أمریکا علی العراق.

ودول صغری. و تمکنت الثورة الإسلامیة التی هی حرکة شعبیة قام بها الشعب بأید خالیة من التغلب علی قوة مسلحة حظیت بدعم وحمایة القوی العالمیة الکبری.

ان الفشل الذی الحقه حزب الله بالقوی العالمیة الکبری فی لبنان قد طرح معیارا جدیدا للقوة تمثل فی الایمان والجهاد والشهادة، هذه المعاییر لم تتغلب علی القوی المادیة فحسب بل اصبح من المتعذر علی الغرب احتوائها ومواجهتها. حتی ان الازمة التی تعیشها إسرائیل فی الوقت الحاضر هی من دلائل اخفاق الغرب فی مواجهة هذه الظاهرة الجدیدة.

مختلف الصعد العسکریة والاقتصادیة والسیاسیة والثقافیة ودفع بسائر المجتمعات الانسانیة لاسیما العالم الإسلامی الذی کان یتمتع بحضارة عظیمة ومزدهرة قبل عصر النهضة الی الانتقال الی موقف دفاعی وانفعالی وتبعی ولم یکن هناک ای أمل فی تغییر المعادلة ألا بعد انبثاق الثورة الإسلامیة.

فقد انهت الثورة الموقف الدفاعی الذی تبناه العالم الإسلامی، ونقلته الی موقف هجومی إزاء الغرب الذی اصبح بصدد الدفاع عن نفسه وثقافته وحضارته ومستقبله، ویمکن لمس الموقف الهجومی للعالم الإسلامی فی قضیة حجاب الفتیات فی فرنسا وسائر الدول الاوروبیة والموقف الانفعالی للنظام اللیبرالی فی الغرب.

یکونوا علی اعتقاد بامکان الاطاحة بنظام مقتدر ومستحکم، وحسب قول اسکاجوبول: (الثورات تأتی ولا تخلق )، وقد أثار انتصار الثورة الإسلامیة علی النظام المقتدر للشاه - الذی کان یمتلک وسائل الاقتدار کافة بما فیها دعم القوی العالمیة الکبری - حیرة وتعجب منظری الثورات و ادی الی تغییر خطاب الثورة، واهتمام المنظرین بعامل تعبئة القوی الشعبیة وتنظیم الثورة وایدیولوجیتها وقیادتها، مما دفعهم الی دراسة واقع الثورة الإسلامیة باعتبارها ظاهرة جدیدة،والاعتراف بوجود بعض الثورات تخلق ولا تأتی.

حساب للاصول والمعاییر الاخلاقیة والانصاف والصدق.

وکان ظهور قادة الثورة الإسلامیة لاسیما الإمام الخمینی رحمة الله بأخلاقه الإسلامیة - الذی کان یهتم باداء التکلیف الالهی قبل ان یهتم بالنصر علی الساحة السیاسیة - أمر لامثیل له خاصة وان هذا النوع من القادة قد تکللت جهودهم بالنجاح فی اداء المهام السیاسیة الملقاة علی عاتقهم، وقد حظیت مطالعة سیرة وحیاة هؤلاء القادة بمساحة واسعة من الاهتمام ودحضت نظریات الغرب حول خصوصیات القادة السیاسیین، ولهذا السبب فان الغرب قد اخطأ فی توقعاته بشأن مواقف الزعماء السیاسیین للثورة وسلوکیاتهم.

وعناصر التأثیر تلک کانت لها تداعیات علی البلدان الإسلامیة بصورة طبیعیة أو ارادیة مدروسة، من خلال قنوات المنظمات الثوریة أو المؤسسات الرسمیة الحکومیة والاداریة، والتواصل العلمی والثقافی والتبادل التجاری والاقتصادی، وقد تأثرت بها الحکومات والحرکات والمؤسسات الدینیة فی المجتمعات بنسب مختلفة.

و لایتردد انصار الثورة الإسلامیة فی العصر الراهن بل حتی اعدائها ومناوئیها فی الاعتراف بأن انتصار الثورة الإسلامیة فی إیران وسقوط النظام الشاهنشاهی شکلت نقطة عطف مهمة لافی تاریخ التحولات السیاسیة والاجتماعیة لایران فقط بل وحتی العالم الإسلامی والعالم بأسره.

وقد انهت هذه الثورة نظاماً شاهنشاهیاً مستبداً وعمیلاً فی إیران من جهة، رغم ان احتمال تبدیل هذا النظام الی نظام لیبرالی دیمقراطی علی غرار الانظمة الغربیة أو انظمة العالم الثالث کالهند أو تبدیله الی دکتاتوریة شیوعیة مستبدة کان قائماً، ألا ان ما أثار تعجب الناظرین والمفکرین فی العالم هو تبدیله الی نظام یستلهم قوانینه من الإسلام بعد مضی أکثر من 1400 عام علی ظهوره،وعدم وجود نسخة لهذا النوع من الانظمة فی العصور الماضیة البعیدة أو القریبة، وتمکن من الصمود والثبات أکثر من ربع قرن رغم کل التحدیات والمؤامرات والضغوط الخارجیة والداخلیة وأثبت فاعلیته فی دنیا الحداثة التی عمادها العلمانیة والالحاد.

من جهة اخری فان الثورة قد انهت ایضا الخمول والانحطاط الذی أصاب الحضارة الإسلامیة وأدی الی ظهور نوع من الیقظة واحیاء الإسلام علی أساس العودة الی العقیدة الإسلامیة، وبذلک تراجعت معظم الاسماء الواردة کالقومیة واللیبرالیة والاشتراکیة، واوجدت فی صفوف الجیل الصاعد نوعاً من الشوق والحنین للعودة الی الافکار الإسلامیة، وبعد الثورة الإسلامیة احست الدول الإسلامیة وبدرجات مختلفة ان بقائها واستمرارها بحاجة الی نوع من المصداقیة

ص:337

الدینیة والشعبیة، واتخذت کل دولة تدابیر لها من أجل تلبیة تلک الحاجة. (1)

و وصلت الشعوب المسلمة الی هذه القناعة وهی ضرورة استلام دورها فی القدرة والمصداقیة، لذا فکل من الدولة والشعب بذلا الجهود لاستغلال حقوق ومزایا هذا الاقتدار وطرحا مطالبات کثیرة. وفی الوقت الحاضر فقدت نهضات التحرر غیر الإسلامیة فی العالم الإسلامی بریقها وبدلا عنها راجت نهضات إسلامیة اصولیة واکتسبت قدرة ونفوذا مما أتاح لها تبوء مکانة فی التحولات السیاسیة والاجتماعیة.

واکتسب احیاء الإسلام والصحوة الإسلامیة بانتصار الثورة الإسلامیة زخماًً جدیداً، وانتقل من مرحلة النظریة الی مرحلة التطبیق، رغم ظهور مفکرین فی العالم الإسلامی أمثال السید جمال الدین الاسدآبادی ومحمد عبده اطلقا قبل قرن من الزمن نداء العودة الی الإسلام ومواجهة الثقافة الغربیة، وتأسست علی ضوئه نهضات ومجموعات ولکن انتصار الثورة الإسلامیة اثبت للمسلمین ان قضیة العودة الی الإسلام لیس مجرد وهم وخیال محض بل أمراً واقعاً.

ویمکن الادعاء بان أول انعکاس للثورة الإسلامیة تجلی فی تشکیل نظام الجمهوریة الإسلامیة ومواصلة اقتدارها فی مواجهة الازمات والمؤامرات المختلفة مما عزز ثقة المسلمین بالعودة الی العصر الذهبی للإسلام.

وفی الواقع ان ما تنبأ به ارنولد توینبی فی کتابه ( الحضارة فی بوتقة الاختبار) الذی نشر عام 1949م تحقق عقب انتصار الثورة الإسلامیة:

(کان الإسلام راقداً، وربما یوقظ هذا الراقد من سباته إذا نهضت الطبقة الکادحة فی العالم ( المستضعفون) ضد الغرب بزعامة قائد غیر غربی، وربما یثیر هذا النداء الروح العسکریة للإسلام وحتی إذا کانت تلک الروح تغط فی نوم عمیق، فان اثرها

ص:338

الروحی لایمکن التنبؤ به ذلک لانه من الممکن قیاس اصداء عصر طموح، واذا انتهی الوضع الحالی للبشر الی حرب عرقیة طاحنة فربما یقوم الإسلام مرة اخری لایفاء دوره التاریخی). (1)

وبالطبع فان میزان تأثیر وانعکاس الثورة الإسلامیة علی کل المجتمعات الإسلامیة لم یکن علی حد سواء، بل یختلف بحسب القرابة الفکریة والثقافیة والجغرافیة، ولما کان انتصار هذه الثورة بفضل الشریعة الإسلامیة ومذهب أهل البیت علیهم السلام فخلفیات تأثیرها مع أخذ تلک الامور بنظر الاعتبار متفاوتة.

حتی ان معرفة الإسلام من زاویة غیر المسلمین التی کانت تبتنی علی معرفة التعالیم الإسلامیة من منظار أهل السنة والجماعة قد طرأ علیها تحول کبیر، واستقطبت معرفة الإسلام من بوابة المذهب الشیعی علی حیز واسع من الاهتمام علی الرغم من عدم توفر احصاءات دقیقة فی هذا الشأن، ولکن المعلومات المتوفرة تشیر الی هذه الحقیقة وهی انه بعد انتصار الثورة الإسلامیة أخذ عدد الذین یعتنقون مذهب أهل البیت علیهم السلام یتصاعد باستمرار، بینما کان الحال قبل الثورة هو اعتناق من یتعاطی مع الایرانیین أو الشیعة هذا المذهب لاغیر.

هذا الامر یصدق ایضا علی من عدل عن أحد المذاهب الاربعة واعتنق المذهب الشیعی، بمعنی ان الکثیر من أهل السنة اثر هذا الانتصار الرائع للثورة ابدوا رغبة عارمة لمعرفة حقیقة مذهب أهل البیت علیهم السلام الذی ببرکته انتصرت الثورة الإسلامیة فی آواخر القرن العشرین واطاحت بقدرة الشاه المستبدة الذی کان یحظی بدعم القوی الکبری اسفرت عن تأسیس نظام یستمد من التعالیم الإسلامیة شرعیته، وطبقا للمعلومات ففی نیجریا وحدها تجاوز عدد من اعتنق مذهب أهل البیت علیهم السلام العشرة ملایین نسمة، ولم یکن هناک اثر للشیعة قبل انتصار الثورة الإسلامیة فی الکثیر من المجتمعات الإسلامیة کمالیزیا واندونیسیا فی الشرق الاقصی، وبالتدریج تشکلت اقلیة شیعیة فیها وأخذت مکانتها وسط سائر المذاهب الإسلامیة.

وأهم من کل ذلک کان تأثیر وانعکاس الثورة الإسلامیة علی شیعة لبنان - الذین کانوا فی وضع سیاسی واجتماعی مزری رغم انهم کانوا یشکلون الاکثریة فی ذلک البلد الصغیر - بارزاً، حیث أیقظت الثورة فیهم روح الحماس (1)، واصبح کل منهم قنبلة

ص:340

موقوتة تمکنوا خلال فترة وجیزة من إخراج الاحتلال الغربی (1) من وطنهم دون ان یدفعوا ای امتیاز له، یتقدمهم حزب الله لبنان الذی یعتبر معلماً من معالم الثورة الإسلامیة، یتلألأ کنجم ساطع علی صدر هذه الثورة.

ولبنان لیست قنطرة حضور الثورة الإسلامیة الی العالم العربی فحسب، بل هی أهم قنطرة مؤثرة علی قضیة القدس وفلسطین والصراع العربی الصهیونی، هذه القنطرة مازالت فعالة وما خروج إسرائیل من جنوب لبنان بعد 22 عاما من الاحتلال ألا دلیل علی الدور المحوری الذی لعبه حزب الله والمقاومة الإسلامیة التی هی ساعد الثورة الإسلامیة. (2)

اما العراق ذلک البلد العربی بغالبیة شیعیة وثروة نفطیة فقد کان قنطرة مناسبة لحضور الثورة الإسلامیة الی العالم العربی وقد تأثر هو الاخر بتحولات الثورة الإسلامیة، وعن طریقه اکتسحت الثورة البلدان العربیة کافة، هذه القابلیة من جملة الادلة التی أدت الی دفع صدام حسین الی الحملة علی إیران.

وفی الواقع فان شیعة العراق قد واجهت حکومة البعث منذ ظهورها ألا ان انتصار الثورة الإسلامیة ادی بالنظام العفلقی الی تشدید الخناق علیهم، وقد وصل صدام الی هذه القناعة وهی ان الثورة تشکل أکبر فرصة وأکبر تهدید لنظامه مما دعاه الی الحملة علی إیران بکامل قواه وبهذا النحو قام بتبریر هذا التعدی الصارخ غیر القانونی، ویبدو انه بسقوط حکومة البعث الفاشیة الجائرة والمستبدة اثر احتلال العراق من قبل

ص:341

القوات الامریکیة توفرت حریة نسبیة للشیعة مهدت بذلک أرضیة مناسبة لانعکاس الثورة، وهذه اشکالیة کبری واجهت الاحتلال الامریکی حین استخلاف حکومة البعث العفلقی بحکومة اخری.

اما البحرین ذو الغالبیة الشیعیة فقد ترکت الثورة الإسلامیة تأثیراً عمیقاً علی شعبها، ووجد أمیر البحرین نفسه فی وضع حرج مما زاد الضغوط علی الشیعة من خلال نشر اجواء الرعب والکبت، وقد ادرک ملک البحرین الجدید ان هذه الظروف لایمکن ان تدوم فتبنی سیاسة الانفراج واتاح لهم لعب دور أکبر فی إدارة البلد.

وفی افغانستان وباکستان والسعودیة ورغم قلة الشیعة فیها، ألا انها حصلت علی سهم أکبر فی عملیة البناء وفی التحولات السیاسیة والاجتماعیة لمجتمعاتهم بعد الثورة الإسلامیة.

ونستخلص من کل ذلک ان انعکاس الثورة الإسلامیة علی الشیعة تجلی فی الابعاد التالیة:

- الانتقال من الهامش الی مرکز ثقل العالم الإسلامی.

- اقبال أغلب المحققین والباحثین علی دراسة الشیعة والتشیع.

- اقبال غیر المسلمین بل حتی مسلمی أهل السنة علی اعتناق مذهب أهل البیت علیهم السلام .

- تکریس الروح الثوریة وفی الواقع مواجهة الاستکبار العالمی عبر التأسی بالثورة الإسلامیة.

- اتساع امواج الإسلام السیاسی فی اوساط الشیعة بهدف نیل حقوقهم.

کان لها خلفیات نضالیة وتجارب الخلافة الإسلامیة، ألا ان امراً کهذا لم یحدث قط، بل نهضت الشیعة فی بلد ذی طوائف متعددة کلبنان وکان للثورة فیها اصداء واسعة.

اما لماذا وکیف ان الثورة الإسلامیة ترکت کل هذا التأثیر علی شیعة لبنان دون أهل السنة من سائر البلدان فهذه مسألة لاتعود بالضرورة الی الافکار والتوجهات الإسلامیة الاصولیة، بل یتعلق بالآلیات والوسائل التی استغلتها الشیعة طول التاریخ وتمکنت من خلالها انشاء نظام مستقل عن الهیکلیة السیاسیة للحکومة، وتمکن هذا النظام المستقل من الوقوف بوجه الاستعمار واذنابهم وبوجه حکام الجور طیلة قرن من الزمن، وهنا سوف نستعرض بنحو موجز تلک الآلیات الرائجة فی مذهب أهل البیت علیهم السلام والتی تفتقدها مجتمعات أهل السنة.

الاجتهاد فی مذهب أهل السنة والجماعة بعد ائمة المذاهب الاربعة وترک اتباع أهل السنة علی حالهم.

ان الاجتهاد لدی مذهب أهل البیت علیهم السلام یمد ید العون لاتباعه من خلال الکشف عن أجوبة المسائل المستحدثة التی تصادفهم فی حیاتهم العملیة عبر الرجوع الی فتاوی مراجع التقلید، کما ان الاجتهاد یقوم بتوطید العلاقة بین زعماء الدین الذین یحظون بالمشروعیة اللازمة وبین اتباعهم، وهذا یتیح لهم بطبیعة الحال الحضور فی الانشطة السیاسیة والاجتماعیة والوقوف بوجه حکام الجور.

الإسلامیة والامساک بزمام الحکم مع الحفاظ علی النظام السیاسی وهو الاسلوب الذی اتخذه الإسلامیون فی ترکیة والجزائر.

وقد مهدت الحرکات الاصلاحیة السبیل لتسلم الحکم خطوة خطوة من خلال الحضور الفعال فی انتخابات البلدیات ومن ثم انتخابات المجلس، رغم ان هذا المنحی قد قمعه الجیش فی الجزائر بقسوة وعنف، وفی ترکیة ومن خلال الالتزام بالقوانین تم الحیلولة دون وصول الإسلامیین الی الحکم ثلاث مرات، ومستقبل الدولة الحالیة التی ترید الحفاظ علی مکانتها عبر إجراء تسویات مع النظام و مع الجیش العلمانی، غیر معلوم، ومع ذلک لاشک ان الاتجاهات الإسلامیة تدین بالفضل الی الثورة الإسلامیة فی إیران، و یمکن القول بان ترکیة، التی هی وریثة الخلافة العثمانیة، قنطرة لنفوذ الإسلام السیاسی الی البلقان والقوقاز، ولم یکن یتیسر ذلک ألا بسبب الجوار الجغرافی والمشترکات القومیة واللسانیة والمذهبیة.

وقد تزامن حملة صدام علی إیران بقیام الجیش الترکی بانقلاب عسکری، هذا التزامن یعزز هذه الفرضیة وهی أن استلام العسکر مقالید الحکم فی ترکیة هو جزء من استراتیجیة احتواء الثورة الإسلامیة، ومن هذا المنظار یمکن لحاظ القضایا السیاسیة فی ترکیة فی السنوات القادمة کخروج حزب الرفاه الإسلامی وحزب الفضیلة ثم حزب العدالة والتنمیة الذی یعتبر بدخوله المعترک السیاسی نوعا من التحدی للنظام العلمانی فی ترکیة،وهذا ناشئ بطبیعة الحال من الثورة الإسلامیة.

کما وصلت اصداء الثورة الإسلامیة الی شبه القارة الهندیة، وکانت افغانستان قنطرة مهمة لانعکاس الثورة الی اسیا الوسطی، وفی العقد الاول للثورة تعرض هذا البلد للاحتلال السوفییتی (1)، وفی العقد الثانی شهد اضمحلال الاتحاد السوفییتی وظهور

ص:345

بلدان إسلامیة مستقلة ترکت التحولات الافغانیة واتجاهات الاحزاب والمجاهدین تاثیرا بالغا علیها، انتهی أمده بعد ظهور طالبان علی المسرح السیاسی، وعقب تسعة اشهر علی وقوع الانقلاب الشیوعی فی کابول انتصرت الثورة الإسلامیة فی إیران وخلفت تاثیرا بالغا علی مجریات الاحداث فی افغانستان علی الصعید الجهادی والسیاسی، والی جانب التاثیر المعنوی العمیق کان لها تاثیر کبیر علی المسیرة الجهادیة للشعب الافغانی عبر اتخاذ أسالیب الجهاد التی اعتمدها الشعب الایرانی فی الاطاحة بنظام الشاه.

وما الثورات الشعبیة فی مدن هرات ( 17 مارس 1979م ) وکابول (1979) ألا نماذج اولیة ومهمة من الاسالیب الجهادیة التی کانت للشعب المسلم فی إیران اسفرت عن تحول أساسی فی جهاد الشعب الافغانی، وکان شوسیا سفیر المانیا الشرقیة آنذاک یعتقد بأن نفوذ إیران فی افغانستان لایجاریه نفوذ باکستان علی حکومة کابول نظراً للنفوذ المذهبی الواسع الذی تتمتع به إیران علی شیعة افغانستان وعلی المحافظات المتاخمة للحدود الایرانیة وعلی المحافظات المرکزیة.

وابان الثورة الإسلامیة، تحرک الشعب الباکستانی تأسیا بالثورة وقام العسکر بانقلاب عسکری بقیادة الجنرال ضیاء الحق، ونادی بضرورة احیاء الإسلام ودفعه الی ذلک الموقف التحولات الاقلیمیة و احتواء الإسلامیین، ان القلق من النفوذ والتأثیر الواسع والعمیق للثورة الإسلامیة اسفر عن ردود فعل منها تأسیس سباه الصحابة واغتیال المسؤولین الایرانیین.

لقد کانت الثورة الإسلامیة فی إیران مصدر الهام لمسلمی جنوب شرق آسیا - بعد مضی سنوات طویلة - قبل أن تکون نموذجاً اجتماعیاً قابلاً للتکرار، و أدی ذلک الی فاعلیة حرکة الثورة الإسلامیة فی تلک المجتمعات.

ص:346

ان انتصار الثورة الإسلامیة وانعکاسها فی وسائل الاعلام فی جنوب شرق اسیا اسفر عن تعزیز الشعور بالهویة الدینیة فی اوساط المسلمین ودفع عجلة تجدید حیاة الإسلام فی تلک المجتمعات نحو الإمام، ومن أبرز معالم ذلک تزایدالطلب علی المشارکة فی المسائل العالمیة للامة الإسلامیة فی مختلف شؤون المجتمع، ولکن سعت دول تلک البلدان الی نهج سیاسة محافظة إزاء الثورة الإسلامیة.

(وفی هذا السیاق بذل زعماء تلک الدول الوسع وطبقا لبعض الملاحظات الداخلیة والخارجیة الی الحیلولة دون نشر وتعمیق مفاهیم الثورة الإسلامیة فی مجتمعاتها مع الحفاظ علی العلاقات الرسمیة والسیاسیة من قنوات مختلفة، مع انهم اضطروا فی مقاطع مختلفة الی إجراء إصلاحات وتعدیلات علی تلک السیاسات والتی جرِت النفع للمسلمین). (1)

ان مالیزیا بالرغم من اعارتها الاهتمام بالإسلام فی الحیاة السیاسیة الی جانب القومیة، لکنها لم تخف قلقها بشأن حرکات إسلامیة، وعادة ما تتابع سفر زعماء الدین الی إیران بمزید من الحیطة والحذر، هذه الدولة کانت قد اتهمت فرقة إسلامیة تدعی الارقم بانحرافها عن الإسلام وحظرت أنشطتها رغم ان ماهاتیر محمد رئیس الوزراء السابق کانت له مواقف عدائیة من الغرب مستلهما ذلک من الثورة الإسلامیة.

اما اندونیسیا فانها علمانیة رغم ان غالبیة سکانها من المسلمین، وقد راج فی أوساط المسؤولین الحکومیین نوعاً من سوء الظن إزاء المسلمین، من هنا انتهجت الدولة سیاسة فصل الدین عن الدولة ونوهت بتهدیدات الاتجاهات الإسلامیة أو ما بات یعرف بالخشیة من الإسلام، ومع ذلک فقد شهدت سقوط دولة سوهارتو ومجئ الإسلامیین الی جانب العلمانیین فی العقدین الاخیرین.

ص:347

کما ان الثورة الإسلامیة ترکت بصماتها علی تایلندا، وما التظاهرات الحاشدة التی اقیمت عام 1990م بهدف انشاء مسجد کروزه التاریخی ألا نموذج علی مدی التزام المسلمین بالهویة الإسلامیة، وقد نهجت تایلندا سیاسة معتدلة حیال إیران الثورة بالنظر الی سیاساتها الداخلیة.

وکانت للثورة الإسلامیة انعکاس علی مسلمی افریقیا تمثل فی ظهور جبهة الانقاذ فی الجزائر مع ما لها من وجوه مشترکة تجمعها بالثورة الإسلامیة شکلا ومحتوی، مما زاد من ثقة المحققین والباحثین بطرح هذه الفرضیة وهی ان آثار الثورة الإسلامیة فی بعض البلدان کالعراق ولبنان مشهودة وفی بعض اخر لیست کذلک بل تم غرس بذور الثورة فی العقد الاول ثم أتت اکلها وترسخت فی العقد الثانی والثالث.

وفی مصر فقد أخذت مکانة الاخوان المسلمین تتزعزع ابان انتصار الثورة الإسلامیة وانفصلت عنها بعض الفئات وانضوت تحت لواء فئات جهادیة مسلحة، مما اسفر عن تقرب الاخوان من الحکومة المصریة، ومع اتساع الجهاد الثوری تحت لواء الإسلام کهدف ووسیلة للنضال راحت بعض الحرکات والمنظمات السیاسیة والجهادیة السائرة علی خطی الشیوعیة أو القومیة أو اللیبرالیة تفقد جذابیتها وتأثیرها فاصابها التصدع والاضمحلال، کما ان بعض الحرکات وبدوافع مختلفة نأت بنفسها عن الثورة الإسلامیة بل سلکت سبیل التنافر والانفصال عنها مثلما فعلت جماعة طالبان.

وفی العقد الثانی للثورة استلم عمر البشیر زمام الحکم فی السودان واتخذ مواقف إسلامیة مشابهة لایران، والاخبار والمعلومات الواصلة تؤکد علی القبول العام للمجتمع السودانی للثورة الإسلامیة، وهذا الامر اصبح ذریعة لبلدان کمصر وامریکا للحدیث عن مواصلة تهدید صدور الثورة وتعرض مصالحهم للخطر، وتبریر الضغوط التی یمارسوها، وفی الوقت الحاضر فان الحزب الإسلامی فی السودان عانی انشقاقاً وتعرض الدکتور حسن الترابی الذی کان یرأس المجلس الی الانزواء، هذا البلد مازال

ص:348

تحت الضغط الداخلی وساحة صراع لتحقیق الاهداف الإسلامیة والثوریة.

وهنا من الضروری الاشارة الی هذه النکتة وهی ان هناک حالات استثناء فی مجتمعات أهل السنة، وهی مسلمو فلسطین المحتلة، ولما لم یکن حکام بنی صهیون من المسلمین فعنوان اولی الامر - حتی فی تعبیر أهل السنة - لایطلق علیهم، لذلک فانعکاس الثورة الإسلامیة علی مسلمی فلسطین کان متمایزاً، ذلک انهم لم یسلکوا المناهج الاصلاحیة فحسب بل علی العکس قد ابتعدوا عن التسویات وساروا فی طریق الجهاد المسلح.

وکانت إیران قبل الثورة الإسلامیة من الدول التی اعترفت رسمیا بالنظام الصهیونی، وبعد انتصار الثورة اصبحت مرکزا للجهاد ضد إسرائیل والقلب النابض للمقاومة الإسلامیة، ورفع الإمام الخمینی رحمة الله بشجاعة وعزیمة راسخة لواء الجهاد الذی نکسه قادة البلدان العربیة بعد امضاء اتفاقیة کمب دیفید وبذلک حال دون طمس الهویة الإسلامیة لنضال الشعب الفلسطینی.

وبهذا النحو تم اغلاق سفارة إسرائیل وافتتاح سفارة فلسطین، واطلق الإمام الخمینی رحمة الله علی اخر جمعة من شهر رمضان المبارک بیوم القدس من أجل تعزیز انسجام الحرکات الإسلامیة المدافعة عن الثورة الفلسطینیة، ورغم ان حماسة الشعب الفلسطینی الذی ناضل منذ سنوات طویلة بأید خالیة ضد الحملات الوحشیة للصهاینة لم تخمد، ألا ان الواقع هو دخول حرکات جدیدة علی مسرح جهاد الشعب الفلسطینی بعد الثورة الإسلامیة.

واقبل حشد هائل من الشباب علی الإسلام وتزاید عدیدهم فی مساجد الضفة الغربیة وقطاع غزة.

وحزب الله فلسطین من أبناء الثورة الإسلامیة اعلن عن وجوده رسمیا وهو فی معتقلات غزة ولم یدم طویلا حتی اندلعت الانتفاضة الإسلامیة والتی استلهمت

ص:349

دروسها التاریخیة من الثورة الإسلامیة ووجدت فی الاهداف الإسلامیة أفضل سبیل لانقاذ الشعب الفلسطینی.

والجهاد الإسلامی هو ابن الثورة الإسلامیة فی إیران بزعامة الشیخ عبد الکریم عودة وبالتعاون مع الشهید الدکتور فتحی الشقاقی الذی کان معتقلا فی زنزانات إسرائیل حتی عام 1988م، مسؤول الجناح العسکری للجهاد الإسلامی، حیث استعرض الدکتور الشقاقی فی کتابه الخمینی البدیل الإسلامی الذی نشره عام 1989 آراءه السیاسیة قائلا: فی زمن انتصار الثورة الإسلامیة عانت صاف (منظمة التحریر الفلسطینیة) الی انشقاقات کثیرة حتی اصبحت الماکینة المحرکة للجهاد ضد إسرائیل معطوبة، وطرأ علی المقاومة تصدع وضعف، ودام هذا الوضع حتی انتصار الثورة الإسلامیة فی إیران فتغیرت موازین القوی لصالح القوی الإسلامیة، کما ان العالم العربی لم یکن بأحسن حالا فقد استولی علیه یأس مفرط، تحول فیما بعد الی أمل ثابت بالنصر بعد الثورة.

ومن الفئات الاخری التی أعلنت عن وجودها رسمیاً وتمکنت من استقطاب الجماهیر حولها هی حرکة المقاومة الإسلامیة فی فلسطین (حماس)، ومما یجدر ذکره انها اتخذت منهج شیعة جنوب لبنان من خلال الالتزام بالعملیات الاستشهادیة التی ضیقت الخناق علی المحتل الصهیونی وتمکنت من إخراجه من غزة.

ویمکن استخلاص أصداء الثورة الإسلامیة فی اوساط مجتمعات أهل السنة فی النقاط التالیة:

واصبح موضوع فصل الدین عن السیاسة أمر مرفوض عند جمیع المسلمین والعودة الی الإسلام أصل مقبول لا فی الحیاة الفردیة والإجتماعیة فقط بل فی الحیاة السیاسیة ایضا.

واجهت الثورة ازمة سیاسیة تقبل علی المساجد وتخطط لنشاطها فی هذا المکان المقدس، ولهذا السبب نالت المساجد فی العالم الإسلامی بعد انتصار الثورة الإسلامیة رواجا منقطع النظیر وراح عددها یزداد یوما بعد یوم، ولم تعد المساجد محل اداء الفرائض الدینیة فقط بل اصبحت مرکزاللنشاطات السیاسیة والاجتماعیة.

الأمل فی قلوب المستضعفین والطبقات المحرومة.

یتیسر علی ضوء تبدیل الظلمات والجهل الی النور، تمییز الحق من الباطل.

یجلب القدرة والبرکة للمستضعفین والمحرومین کذلک یدخل الرعب والخوف فی قلوب المستکبرین.

یوقظ الراقدین بعد طول نوم ویدعوهم الی القیام والحرکة.

کلما اقتربنا من مرکز النور کلما کان اثره وحرارته أشد.

یذوب من کان فی بؤرة ذلک النور حتی یتبدل الی نور ویصبح جزءا منه.

یصل الجدال بین النور والظلمات، والوعی والجهل، والحق والباطل، یصل مرحلة جدیدة یکون فیها النور رمزاً للحق والحقیقة ویخرج منتصراً علی الظلمات مما یقرب مرحلة الانتصار النهائی والقطعی.

ما دام هذا المرکز فعالاً فسوف یواصل اشعاعه ویشتد أثره وسرعته.

لاشک إن الثورة الإسلامیة فی مطلع القرن الحادی والعشرین والالفیة المیلادیة الثالثة ترکت آثاراً عمیقة علی العالم فی مختلف الجوانب کالجانب الثقافی والاجتماعی والسیاسی والعسکری، بنحو إن القرن الحاضر وباعتراف أغلب المفکرین - شهد اضمحلالاً لسلطة الغرب فی الابعاد کافة، وطلوع فجر جدید یلعب فیه الإسلام والمسلمون دوراً بارزاً.

ص:355

ص:356

12. اسلامی ندوشن، محمد: فرهنگ و شبه فرهنگ، تهران، انتشارات یزدان، 1371.

13. اسلامی، مسعود: ریشه یابی مواضع و عملکرد کویت در جنگ تحمیلی عراق علیه ایران، نشرهمراه، پائیز 1369.

14. اسلامی، مسعود: ریشه یابی مواضع و عملکرد کویت در جنگ تحمیلی عراق علیه ایران، نشرهمراه، چاپ اول، 1342.

15. اسلامی، هادی: پاکستان در جستجوی هویت مفقود شده، انتشارات نور، بی تا.

16. اسماعیل نیا، محمود: «مسلمانان جنوب شرقی آسیا و انقلاب اسلامی»، اطلاعات، 1377/4/14.

17. اصغری، محمد: دو برگ سبز، سفر به کانادا و آمریکا، تهران، کیهان، 1369.

18. اطاعت، جواد: «جاذبه ژئوپلتیک ایران و رفتارایالات متحده آمریکا»، فصلنامه 15خرداد.

19. اطلاعات سیاسی و اقتصادی، سال نهم، شماره سوم و چهارم، آذر و دی 1373.

20. آقائی، سید داوود: سیاست و حکومت در عربستان سعودی، نشر کتاب سیاسی، تهران، 1369.

21. امام خمینی، ولایت فقیه، انتشارات کاوه، تهران، بی تا.

22. امامی، محمد علی: بررسی تاریخی اختلافات مرزی ایران و عراق، بررسی روابط سیاسی سوریه و عراق در دهه 1980، دفتر مطالعات وزارت خارجه، تهران، 1374.

23. امامی، محمد علی: بررسی روابط سیاسی سوریه و عراق، وزارت امور خارجه، تهران، 1374.

24. امیدوار، احمد: حضرت امام خمینی رحمة الله و انقلاب اسلامی، روایتی جهانی، بی تا.

25. امیر احمدی، بهرام: چشم انداز ژئوپلتیک شمال آفریقا، مطالعات آفریقا، تابستان74، شماره3.

26. امیری،مجتبی:نظریه برخورد تمدن ها، هانتینگتون و منتقدانش، ترجمه و ویرایش مجتبی امیری، انتشارات دفتر مطالعات سیاسی و بین المللی، تهران، 1375.

27. انصاری لاری، محمد ابراهیم: پیشینه سیاسی و فکری وهابیت، قم، بنیاد معارف اسلامی، 1369، ص60.

28. انصاری، محمد جواد: ترکیه در جستجوی نقشی تازه در منطقه، بی تا.

29. ایرانلو، علی: از جنگ جهانی دوم تا جنگ ایران و عراق، انتشارات بقیه الله، 1359.

ص:358

30. بابائی، علی اصغر: دولت و مذهب در عربستان سعودی، دانشکده روابط بین الملل، بی جا، 1373.

31. بحران الجزایر، دیدگاه ها، بولتن ماهانه دفتر مطالعات سیاسی و بین المللی، شماره 116، اسفند1376.

32. بخشایشی اردستانی، احمد: اصول سیاست خارجی، بی جا، بی تا.

33. برونو، دوکریه: سازمان همکاری اقتصادی، ظهور جاده ابریشم بر روی ویرانه های جنگ سرد، مطالعات آسیای میانه و قفقاز، تابستان77.

34. بشیریه،حسین: انقلاب و بسیج سیاسی؛ تهران، بی تا.

35. بفیع: رژیم تونس رویارویی با فعالان اسلامی، بی جا، مرداد1371.

36. پاک آئین، محسن: سیاست و حکومت در آفریقا، تهران نقطه، 1377.

37. پاکدامن، رضا: سازمان همکاری اقتصادی اکو، بی جا، بی تا.

38. پوربناب، قهرمان: «تأثیر انقلاب اسلامی بر ترکیه»، مطالعات خاورمیانه، بی جا، بی تا.

39. تشیع، مقاومت و انقلاب، مجموعه مقالات کنفرانس بین المللی تل آویو، مؤسسه پیشگام، بی جا، 1368.

40. توین بی، آرنولد: تمدن در بوته آزمایش، ترجمه یعقوب آژند، تهران، مولی، 1362.

41. جافی،جرج: «عوامل بالقوه همکاری بین ایران و مغرب»، ترجمه هوشنگ راسخی، مطالعات آفریقا، شماره1374،3.

42. جغرافیای کشورهای مسلمان، وزارت آموزش و پرورش.

43. چالمرز، جانسون: تحول انقلابی، ترجمه حمید الیاسی،تهران، امیرکبیر، 1363.

44. حجتی، علی: نگاهی به تاریخ جنگ های داخلی لبنان، تهران، انتشارات قم، 1364.

45. حیدرزاده نائینی، محمدرضا: تعامل دین و دولت در ترکیه، بی جا، بی تا.

46. حیدری، حسین: سیاست خارجی عربستان سعودی در جزیره العرب از جنگ جهانی اول تا تشکیل شورای همکاری خلیج فارس، 1369، دانشکده روابط بین الملل.

47. خاجی، علی اصغر: اتحادیه مغرب عربی، مطالعات آفریقا، سال اول، شماره 2، زمستان 73.

48. خمینی، امام روح الله: صحیفه نور.

ص:359

49. دانشیار، امیر اعتماد: جنگ افغانستان و شوروی عامل فروپاشی جهانی کمونیسم، انتشارات بهینه، بهار 1371.

50. دفتر تنظیم و نشر آثار امام خمینی+، صدور انقلاب از منظر امام خمینی، تهران، 1374.

51. دکمجیان، هرایر: جنبش های اسلامی معاصر در جهان عرب، ترجمه دکتر حمید احمدی، چاپ سوم، تهران.

52. دم فوبالفل،گالجن اوف: امپراتوری طالبان از رؤیا تا واقعیت، ترجمان سیاسی، شماره 22.

53. دهشیری، محمدرضا: «انتفاضه دوم فلسطین، بازخوانی سناریوها»، فصلنامه مطالعات فلسطین، سال دوم، شماره1.

54. دهقانی فیروز آبادی، سید جلال و سید محمد حسین هاشمی: اهمیت روابط فرهنگی ایران و مصر در عصر گفت وگوی تمدن ها.

55. دووار، مانیرو: حزب الله مستقر می شود، ترجمه ک. فخرطاولی، ترجمان سیاسی، سال ششم، شماره 15.

56. ذوعلم، علی: جرعه جاری، سی مقاله پژوهشی پیرامون انقلاب اسلامی ایران، تهران، پژوهشکده فرهنگ و اندیشه اسلامی، 1377.

57. رایت، رابین: شیعیان مبارزان راه خدا، ترجمه علی اندیشه، تهران، قومس، 1372.

58. الرهیمی، عبد الحلیم: تاریخ حرکت اسلامی در عراق، ترجمه محمد نبی ابراهیمی، تهران، حوزه هنری سازمان تبلیغات اسلامی، چاپ اول، 1375.

59. الزاکزاکی، یعقوب: جامعه و فرهنگ آفریقا، شماره 34، پاییز 1379.

60. زرنگار ابرقوئی، حسن: بررسی سیر تحولات سازمان اکو و ابعاد جدید همکاری ها در آینده، دانشکده روابط بین الملل.

61. زعفری، ابولفضل: اثرات انقلاب اسلامی ایران در تحول سیاست های داخلی و خارجی عربستان سعودی، تهران، دفتر مطالعات سیاسی و بین الملل 1376.

62. زعیتر، اکرم: سرگذشت فلسطین، ترجمه هاشمی رفسنجانی، قم، بوستان کتاب، 1382.

63. سایکون، روبرت: «الاسلام و الانتفاضها لفسطینیة»، مجله الفتح، شماره 6و7 دسامبر 1988.

64. سلیمانی، محمد باقر: بازیگران روند صلح خاورمیانه، انتشارات وزارت امور خارجه، 1379.

65. سهلانی، محمدجواد: «بیداری اسلامی در ترکیه»، کیهان، 1369/1/2.

ص:360

66. سویزی، محسن: اهمیت ژئوپولتیک عربستان سعودی در سیاست خاورمیانه ای آمریکا (پس از پیروزی انقلاب اسلامی)، دانشکده روابط بین الملل وزارت امور خارجه، 1374.

67. سی گر، جان: افغانستان کلید قاره.

68. سید قندیل، عباس: عوامل و موانع همکاری و روابط میان ایران و پاکستان، شهریور 1375.

69. سیف زاده، حسین: عراق ساختارها و فرآیند گرایش های سیاسی، تهران، مرکز اسناد انقلاب اسلامی، چاپ اول، 1379.

70. شعردوست، علی اصغر: مسلمانان شوروی، نامه فرهنگ، سال اول، شماره2.

71. الشقاقی، فتحی: انتفاضه و طرح اسلامی، بی تا.

72. شهامتدار، علی اصغر: سیاست خارجی الجزایر (78-1962)، دانشکده روابط بین الملل وزارت امور خارجه.

73. شورای نویسندگان نهاد رهبری در دانشگاه ها، تاریخ سیاسی عراق، مؤسسه انتشاراتی نهضت جهانی اسلام، بی تا.

74. شوکراس، ویلیام: آخرین سفر شاه، ترجمه عبدالرضا هوشنگ مهدوی، نشر البرز، 1369.

75. شولاتور، پتر: ایران کانون زمین لرزه، ترجمه ضیاءالدین ضیائی، شرکت تعاونی ترجمه و نشر بین الملل، چاپ اول، 1363.

76. شیخ الاسلام، حسن: بررسی تحولات شمال و شاخ آفریقا و جایگاه این منطقه در سیاست ما، مطالعات آفریقا، سال اول شماره3، تابستان74.

77. شیرازی، ابوالحسن: ملیت های آسیای میانه، تهران، دفتر مطالعات سیاسی و بین المللی،1370.

78. صافی، قاسم: سفرنامه پاکستان، چاپ فرهنگ، تهران، 1366.

79. صفری، محسن: ما اعتراف می کنیم، سازمان تبلیغات اسلامی حوزه هنری، تهران،1370.

80. طرزمی، زکریا: سنتهای دینی و اجتماعی مشترک، آشنا.

81. طلوعی، محمود: از لنین تا گورباچف، انتشارات پاییز، 70.

82. الطیب، توفیق: الحل الاسلامی ما بعد النکبتین، قاهره، المختار الاسلامی، 1979.

ص:361

83. عاصف، حسین: تحریم ایران شکست یک سیاست، ترجمه محمد متقی نژاد، تهران، دفتر مطالعات سیاسی و بین المللی،1380.

84. علیزاده، ه-: فرهنگ سیاسی لبنان، نشر سفیر وکتاب سبز دفتر مطالعات وزارت خارجه،1370.

85. عمید زنجانی، عباسعلی: فقه سیاسی: نظام سیاسی رهبری در اسلام، تهران، سپهر، 1367.

86. عنایت، حمید: اسلام و سوسیالیسم در مصر، انتشارات موج،تهران، 1350.

87. غائبی، محمد رضا: علل اسلام گرایی در الجزایر.

88. الغنوشی، راشد: حرکت اسلامی تونس، بولتن سیاسی وزارت امور خارجه، 69/9/15.

89. فراتی، عبدالوهاب: انقلاب اسلامی وبازتاب آن، تهران، زلال کوثر، چاپ اول، 1381.

90. فراهانی منفرد، مهدی: مهاجرت علمای شیعه از جبل عامل به ایران در عصر صفوی، انتشارات امیر کبیر،چاپ اول، 1377.

91. فرجی، عبدالرضا: کتاب سبز سوریه، وزارت امور خارجه.

92. فوکو، میشل: ایران، روح یک جهان بی روح،ترجمه نیکو سرخوش و افشین جهاندیده، نشر نی،1379.

93. فوکو، میشل: ایرانی ها چه رؤیایی در سر دارند، ترجمه حسین معصومی همارانی، انتشارات هرس، 1377.

94. قربان زاده آهنگری، محمد: نقش عربستان سعودی در منطقه خاورمیانه، دانشگاه امام صادق، 1369.

95. قربانزاده آهنگری، محمد: نقش عربستان سعودی در منطقه خاورمیانه (پس از پیروزی انقلاب اسلامی)، دانشگاه امام صادق، 1369.

96. قزلسلفی، محمدرضا: «توسعه فرهنگی و گسترش روابط با آفریقا»، جامعه و فرهنگ آفریقا، سال پنجم، شماره42، بهار 1381.

97. کاپرت: «میراث پر ابهام آتاتورک»، صفحه اول، شماره43.

98. کاراته آهنگری، نصرت الله: سیاست خارجی پادشاهی عربستان سعودی در قبال جمهوری اسلامی ایران در دهه 80، دانشکده روابط بین الملل وزارت امور خارجه، 1372.

ص:362

99. کاکاتی، سیامک: «نقش ترکیه در منطقه خاورمیانه پس از جنگ سرد»، مطالعات خاورمیانه، سال 76، دوره4، شماره4.

100. کدی، نیکی: ریشه های انقلاب ایران، ترجمه دکتر عبدالرحیم گواهی، دفتر نشر فرهنگ اسلامی، 1375.

101. کدیور جمیله: پشت پرده صلح.

102. کدیور، جمیله: انتفاضه، حماسه مقاومت فلسطین.

103. کدیور، جمیله: مصر از زاویه ای دیگر، انتشارات اطلاعات، تهران، 1373.

104. کرباسچیان، غلامعباس: تقویم تاریخ انقلاب اسلامی ایران، نشر سروش.

105. کریمر، مارتین: فاجعه مکه یک فاجعه دیگر از تاریخ طولانی تنفر،بولتن دفتر مطالعات سیاسی وبین المللی، 1367.

106. کوانت، ویلیام: روابط پنهانی ایالات متحده و عربستان سعودی، ترجمه همایون بهمن،اطلاعات سیاسی، اقتصادی، مرداد وشهریور 1376.

107. کولایی،الهه: اتحاد جماهیر شوروی وانقلاب اسلامی ایران،تهران، مرکز اسناد انقلاب اسلامی، 1379.

108. کوهن آلوین،استانفورد:تئوری های انقلاب، ترجمه علی رضا طیب، جلد 1،تهران، توسن، 1369.

109. الگار، حامد: انقلاب اسلامی در ایران، ترجمه مرتضی اسعدی.

110. گازیوروسکی،مارک. ج: سیاست خارجی آمریکا وشاه، ترجمه فریدون کاظمی، تهران، مرکز، 1371.

111. گلی زواره، غلامرضا: سرزمین اسلام؛ شناخت کشورها ونواحی مسلمان،تهران، دفتر تبلیغات اسلامی، 1359.

112. گلیونر درویشوند،حسن: پایان نامه ساختار حکومت و بحران مشروعیت در عربستان سعودی، دانشکده روابط بین الملل وزارت امور خارجه، 1376.

113. لطیفی باکده، لطفعلی: بررسی علل ساختاری تعارضات منطقه ای در خلیج فارس، دانشگاه تهران، 1371.

114. متقی، ابراهیم: «تاثیر انقلاب اسلامی»، مجله انقلاب اسلامی،ش 1، سال اول،زمستان 1377.

ص:363

115. متقی، ابراهیم: تحولات سیاست خارجی آمریکا (1997 - 1945 )، تهران، مرکز اسناد انقلاب اسلامی،1376.

116. متی الدین،کمال: «روابط پاکستان وایران»، ماهنامه دیدگاهها وتحلیلها،شماره 156.

117. مجتهد زاده، پیروز: کشورها ومرزها در منطقه ژئوپلتیک خلیج فارس، ترجمه حمید رضا ملک محمدی نوری، تهران، انتشارات وزارت امور خارجه، 1372.

118. مجیدی، علی: کتاب سبز الجزایر، تهران، دفتر مطالعات سیاسی و بین المللی وزارت امور خارجه، 1375.

119. محمدی، منوچهر: انقلاب اسلامی درمقایسه با انقلاب های فرانسه و روسیه، تهران،مولف، 1370.

120. محمدی، منوچهر: تحلیلی بر انقلاب اسلامی، تهران، امیرکبیر،1377.

121. محمدی، منوچهر: سیاست خارجی ایران در جمهوری اسلامی ایران، اصول و مسائل، تهران، نشر دادگستر، 1377.

122. محمدی، منوچهر:«نظم نوین جهانی»، فصل نامه دانشکده حقوق وعلوم سیاسی، شماره28، آذر ماه 1371.

123. مدیر شانه چی، محسن: انقلاب اسلامی ایران در دایره المعارف های جهان، تهران، انتشارات بین المللی الهدی، مرکز مطالعات فرهنگی_ بین المللی سازمان فرهنگ و ارتباطات اسلامی، 1379.

124. مزروعی، علی: ارتباط آفریقا با جهان اسلام، سخنرانی در دفتر مطالعات سیاسی و بین الملل، 2تیر1372.

125. مستوری کاشانی، ناصر: افغانستان دیپلماسی دو چهره، انتشارات تابش، 1371.

126. مسعود، اسدالهی: از مقاومت تا پیروزی تاریخچه حزب الله لبنان، مؤسسه مطالعات و تحقیقات اندیشه سازان نور، 1379.

127. مشکور، محمدجواد: فرهنگ فرق اسلامی، مشهد، آستان قدس رضوی، بنیاد پژوهش های اسلامی،1368.

128. مشیرزاده، حمیرا: انقلاب اسلامی از چشم انداز نظری، تهران.

129. مطهری، مرتضی: پیرامون انقلاب اسلامی؛ تهران، صدرا.

ص:364

130. مقالات سمینار انقلاب اسلامی و ریشه های آن؛ قم، واحد تبلیغات و انتشارات، معاونت امور اساتید و دروس معارف اسلامی نهاد نمایندگی مقام معظم رهبری در دانشگاه ها، 1374.

131. ملکوتیان، مصطفی: نظریه های انقلاب، فصلنامه دانشکده حقوق و علوم سیاسی، شماره33، بهمن 1373.

132. ملکی، عباس: «اسلام در آسیای میانه و قفقاز، بررسی نقش ایران»، مطالعات آسیای میانه و قفقاز، بهار 1376، شماره 17.

133. منتظر لطف، مینا: «آشنایی با حرکت اسلامی شمال نینجریه و رهبری آن»، جامعه و فرهنگ آفریقا، شماره 18، تیر ماه 1378.

134. منتظمی، علی: پی آوردهای انقلاب اسلامی ایران در مصر، دفتر نشر سراحاز، 1359.

135. منوچهری، عباس: نظریه های انقلاب، تهران، سمت، 1380.

136. مهرنیا، سیدکاظم، «تبلیغات مسیحیت در آفریقا»، جامعه و فرهنگ آفریقا، ترجمه نادر آزاد، سال پنجم، شماره 26، اردیبهشت 1378.

137. مواضع نهضت آزادی در برابر انقلاب اسلامی.

138. مور، برینگتون: ریشه های اجتماعی دموکراسی و دیکتاتوری؛ نقش ارباب و رعیت در پیدایش جهان نو، ترجمه حسین بشیریه، تهران، نشر دانشگاهی، 1369.

139. موسوی، سیدجواد: علل تیرگی روابط ایران و مصر بعد از انقلاب اسلامی ایران، دانشگاه تهران، 1378.

140. میرمحمد، حسین: «نسخ شناسی آرای خاورمیانه شناسان درباره انقلاب اسلامی»، ماهنامه اسلام و غرب، شماره 30، اردیبهشت، 1378.

141. نادمی، رضا: روابط سیاسی ایران و سوریه از پیروزی انقلاب اسلامی تا امروز، دانشکده روابط بین الملل، 1373.

142. نجاتی، غلامرضا: تاریخ سیاسی بیست و پنج ساله ایران.

143. نعیمی ارفع، بهمن: مبانی رفتار شورای همکاری خلیج فارس در قبال جمهوری اسلامی ایران، دفتر مطالعات سیاسی و بین المللی، 1370.

144. نقیب زاده، احمد: تحولات بین الملل.

ص:365

145. نقیب زاده، احمد: نظریه های روابط بین الملل.

146. نیکسون، ریچارد: فرصت را دریابیم، ترجمه حسین رضی نژاد، تهران، طرح نو، 1371.

147. هانتر، شیرین: ایران، روسیه و جمهوری های جنوبی شوروی سابق، گفتگو سال75، شماره 12.

148. هانتینگتون، ساموئل: سامان سیاسی در جوامع دستخوش دگرگونی، ترجمه محسن ثلاثی، تهران، نشر علم، 1370.

149. الهی، همایون: خلیج فارس و مسائل آن، شرکت آموزش فرهنگی و انتشاراتی اندیشه با همکاری نشر قوس، 1368، چاپ اول.

150. الهی، همایون: ضرورت تداوم دفاع مقدس، تهران، وزارت ارشاد اسلامی، 1365.

151. ورجاوند، پرویز: «بحران دیپلماسی ایران و پیامدهای آن»، اطلاعات سیاسی اقتصادی، شماره های 123 و 124.

152. ولایتی، علی اکبر: «آمریکا طرحی نو»، مطالعات آفریقا، سال اول، شماره یک، تابستان 1373.

153. ولایتی، علی اکبر: ایران و تحولات فلسطین.

154. ویلی - جویس، ان: نهضت اسلامی شیعیان عراق، ترجمه مهوش غلامی، تهران، اطلاعات، چاپ اول، 1373.

8. Ehteshami Anushiravan:

" Iran and International Community " , London and New York.

9. Esposito, Johan: The Iranian Revolution: Ten- Year Perspective.

10. Esposito, John: Political Islam: Beyond the Green Menace, www.Mynet/msanew/.

11. Esposito, John: The Iranian Revolution: Its Global Impact, Florida International University Press 1990.

12. Fisher Michael: Iran From Religious Dispute to Revolution, Harvard University Press, USA, 1980.

13. Foran John (Ed.):

" A Century of Revolution: Social Movement in Iran " , London, VCL press, Introduction.

14. Fukuyama Francis:

" The End of History and The Last Man " , New York, The Free Press. 1992. 15. Hibard .S.W. : Islamic Activism and US, Foreign Policy, (United Stats Institution of People Press), 1997.

16. Hourcade Bernard:

" Iran: revolution islamique ou tiers- mondiste " , Herodote. 36 . Janvier - Mars 1985. 17. Huntington Samuel P:

" The Clash of Civilizations " , Foreign Affairs, (Summer 1993). 18. Huntington Samuel P: American Changing Strategic Interests Survival 33 (Jan-Fed 1991).

19. Huntington Samuel P.: Political Order In Changing Society, Yale University Press, 1969.

20. Indikt Adam and Aeischer Tzvi: Wolf Among Asia,s Tigers / 1 March 21 - March 1997, P . 11m 12

21. Kamrava Mehran: Revolution in Iran : the Roots of Turmoil.

22. Kazemi Farhad: Poverty and Revolution in Iran: the Migrant Poor, Urban Marginality, and Politics (New York: New York University Press, 1980.

23. Q- Majul-c:

" The Iranian Revolution and the Muslims in The Philippines " , 259. 24. Rallyin Support of Imam Khomein,s Fatwa held in the Philippine,s

" Mahjubab Magazine March 1989. 25. Rosen Barry (ed) 1988: Iran, Since the Revolution: Internal Dynamics, Regional Conflicts and the Super powers,New York, Brooklyn College.

26. Rubenstein E.Richard and Jarl Crocker: Foreign Policy No. 79, (Fall 265-6-1994).

27. Skocopol, Theda:

" Rentier State and Shia Islam in the Iranian Revolution , Theory رحمة الله Society , USA 1982, Vol II , No.3.

ص:367

28. Skocpol Theda: States and Social Revolution, Cambridge University Press, 1980.

29. Tilly Charles:

" From Mobilization to Revolution " (Addison-Wesley Publishing Company Inc . 1978). 30. Vanes Martin: Creating an Islamic State: Khomeini and The Making New Iran, New York 2000.

31. Zonis Marvin: Majestic Failure, the Fall of the Shah, Chicago, The University of Chicago Press, 1991.

ص:368