ایة الاظهار بین عالمیة الاسلام والعولمة المعاصرة

اشارة

آیة الإظهار بین عالمیّة الإسلام والعولمة المعاصرة

المؤلّف: ریاض عبد الرحیم الباهلی

الطبعة الاولی: 1432ق / 1390ش

النّاشر: مرکز المصطفی(صلی الله علیه و آله) العالمی للترجمة والنشر

المطبعة: توحید السّعر: 31000 ریال عدد النسخ: 2000

حقوق الطبع محفوظة للناشر

التوزیع:

قم، استدارة الشهداء، شارع الحجتیّة، معرض مرکز المصطفی(صلی الله علیه و آله) العالمی للترجمة والنشر. الهاتف - الفکس: 02517730517

قم، شارع محمّد الأمین، تقاطع سالاریة، معرض مرکز المصطفی(صلی الله علیه و آله) العالمی للترجمة والنشر. الهاتف: 02512133106 - الفکس: 02512133146

www.miup.ir www.eshop.miup.ir

E-mail: admin@miup.ir, root@miup.ir

ص :1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

ص :2

آیة الإظهار بین عالمیّة الإسلام والعولمة المعاصرة

ریاض عبد الرحیم الباهلی

ص :3

ص:4

کلمة الناشر

اَلْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِی أَنْزَلَ عَلی عَبْدِهِ الْکِتابَ وَ لَمْ یَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً والصلوة والسلام علی النبیّ الأمین محمّد(صلی الله علیه و آله) وآله الهداة المهدیین وعترته المنتجبین و اللعن الدائم علی أعدائهم أعداء الدین.

لقد شهدت علوم الدین وعلی مدی أربعة عشر قرناً وطیلة تاریخها العلمی المشرف مستویً من التغیّر المستمرّ فی الحرکة إلی الأمام علی صعید الثقافة والحضارة الإسلامیة فأوجد تطوّراً منهجیّاً فی العلوم الرئیسة المختصّة بالشریعة ک- : الفقه الاسلامی وعلم الکلام والفلسفة والأخلاق... وتبعاً لهذا الجانب ترک التطوّر انطباعا موازیاً بیّنا فی العلوم الأدواتیة ک- : المنطق وعلم الرجال والحقوق... .

وفی ضوء انتصار الثورة الإسلامیة الإیرانیة المعظمّة وحدثها الداعی إلی رؤیة دینیة حدیثة فی نطاق الحکم بغضون القرن الداعی إلی الإنفلات من ظلّ الدین والأیدیولوجیة الدینیة وما یعرض فی مسرح أحداثه من تطوّر فی مسار نظریّات العلاقات الدولیة أو تصاعد الأسلئة المعرفیّة المتعلّقة بمفهوم الوجود ومستلزماته الشاغلة لذهن الإنسان

ص:5

الحاضر وکذلک ما حصل من توسّع لدی علم الوجود الإنسانی فی ظلّ الأحداث والمتغیرات المعنیة بهذا الجانب؛ جعلت المفکّر الإسلامی فی أعلی مستوی من المسؤولیة أکثر ممّا سلف خاصّة فی الدول الإسلامیة التی باتت فی محاولة ضروریة لمواجهة الشعارات الخوّاء فی عصر العولمة فی ضوء التدقیق والملاحظة والنقد البنّاء لاجتیاح أیّ فقرة یخشی أن تسبّب مشکلات فی مقتبل الأیام.

ومن هذا المنطلق یتطلّب الصعید الحوزوی النیّر لضرورة الوقوف علی آخر المستجدّات الفکریة فی حقولها المتعدّدة والاستعانة بضروب من التحقیق العلمی الرصین بمعاییر عالمیة حیّة لتوظَّف فی نطاق الدین والشریعة للإجابة علی المتطلّبات العصریة والمنطلق الداعی إلی التکامل و التعالی فی ظلّ الدین والتزام نظامه فی العلم والحیاة من جهة أخری حیث یتطلّب الأمر من الحوزة العلمیة مسؤولیة وضع حدّ لردع الجانب العولمی وتبعاته المنحطّة علی الإنسان بلحاظه العام.

وقد کانت رؤیة التصدّی لهذا الأمر فی عنایة من مؤسسی الحوزة العلمیة هذه الشجرة الطیبة الذی أَصْلُها ثابِتٌ وَ فَرْعُها فِی السَّماءِ ، سیّما الإمام الخمینی(رحمه الله) الراحل وقائده المبجّل الإمام السیّد علی الخامنئی دام ظله الوارف فی الوقت الراهن.

وقد سعت جامعة المصطفی(صلی الله علیه و آله) العالمیة فی ضوء ما تقدم لنیل النجاح فقامت بإرساء مرکز المصطفی(صلی الله علیه و آله) العالمی للترجمه والنشر حیث تکفّل بنشر نتاج هذا الجانب العلمی الهامّ.

وإنّ هذا الدراسة آیة الإظهار بین عالمیّة الإسلام والعولمة المعاصرة جاءت بجهود فضیلة الأستاذ ریاض عبد الرحیم الباهلی متوافقة مع نسق الرؤیة السائدة المتّبعة وهذه الأهداف السامیة.

ص:6

کما ندعو أصحاب الفضیلة والاختصاص بما لدیهم من آراء بنّاءة وخبرات علمیة ومنهجیة حصریة بالمساهمة معنا والمشارکة فی نشر علوم أهل البیت(علیهم 7السلام).

وختاما لیس لنا إلّا تقدیم الشکر الجزیل لکافّة المساهمین الکرام بجهودهم الخاصّة بإعداد الکتاب للطباعة والنشر.

مرکز المصطفی(صلی الله علیه و آله) العالمی للترجمة والنشر

ص:7

ص:8

الفهرس

مقدمّة المؤلّف 16

هیکلیّة البحث 20

1. العولمة 22

تمهید: 22

اصطلاحات معاصرة: 24

1. الأستراتیجیّة Stratejy: 24

2. الإیدیولوجیا Ideolojy: 25

3. الاشتراکیّة Socialism: 25

4. الإمبریالیّة (الاستعمار الاقتصادی) Imper ialism: 25

5. الإنتر بیولوجیّة Anthr opology : 25

6. الأنطولوجیا (علم الوجود) OntoloJy: 25

7. البرجوازیّة (الطبقة المتوسطة) Bourj esheoi: 26

8. الألبرولیتاریا (طبقة العمّال الکادحین) Brole tariat: 26

9. البنک الدولی worId Bank: 26

10. التکنولوجیا Techn olojy: 27

11. الحتمیّة Deter minsm: 27

12. الحداثة Modnism: 27

13. الدکتاتوریّة (الاستبداد) Diea torship: 27

14. الدیمقراطیّة Democracy: 27

ص:9

أ). تعریف العولمة 28

العولمة لغةً: 28

العولمة اصطلاحاً: 30

1. العولمة فی المصطلح الاقتصادی: 30

2. العولمة فی المصطلح الثقافی: 33

3. العولمة فی المصطلح السیاسی: 35

4. التعریف الجامع للعولمة: 36

التعریف المختار: 39

العولمة والمفاهیم المقاربة: 41

أ). العالمیة: 42

ب). الکونیة: 45

ب). النشأة التاریخیّة للعولمة ومراحل تطوّرها 45

أوّلاً: النشأة التاریخیّة 45

ثانیاً: مراحل تطوّر العولمة 57

الآلیّات والاتّجاهات العولمیّة: 60

أوّلاً: الآلیّات العولمیّة: 61

ثانیاً: الاتّجاهات العولمیّة: 67

العولمة الثقافیّة 67

الثقافة لغةً واصطلاحاً: 68

1. الثقافة فی اللغة: 68

2. الثقافة اصطلاحاً: 69

3. الثقافة فی الاصطلاح العولمی المعاصر: 71

غزو العولمة الثقافی: 73

آلیّات العولمة الثقافیّة: 75

1. الإذاعة المرئیّة وغیر المرئیّة والأطباق اللاقطة (القنوات الفضائیة): 75

2. الصحف الیومیّة: 75

ثقافة العولمَة: 76

أثر العولمة علی الثقافة الإسلامیّة: 81

العولمة السیاسیّة 84

أوّلاً: عولمة حقوق الإنسان: 85

1. تعریف حقوق الإنسان: 85

ص:10

2. حقوق الإنسان فی الفکر الغربی: 85

ثانیاً: عولمة الدیمقراطیّة: 88

1. الدیمقراطیّة فی الفکر الغربی: 88

2. تعریف الدیمقراطیة فی الفکر الغربی 88

3. الدیمقراطیّة واللیبرالیّة: 89

4. الدیمقراطیّة فی العصر الحاضر 90

ثالثاً: تهمیش الدولة فی ظِلّ العولمة: 90

الدولة ظاهرة ثانویّة: 91

2. التفسیر المقارن لآیة الإظهار 94

تمهید: 94

بین یدی آیة الإظهار 94

أ). الآیات المشابهة لآیة الإظهار 96

أوّلاً: آیات العالمیّة: 97

ثانیاً: آیات الاستخلاف: 100

ب). تحلیل ألفاظ آیة الإظهار 108

ج). مُفاد آیة الإظهار 110

د). آیة الإظهار عند مفسری الشیعة: 116

ه). تفسیر آیة الإظهار عند مفسرّی أهل السنة 119

المقارنة بین التفاسیر 128

نقاط الاشتراک بین المفسرین: 129

نقطة الخلاف 134

عالمیّة النظریّة المهدویّة 145

مفهوم الانتظار: 148

و). معنی إظهار الإسلام علی الدَّین کله 151

نتیجة المقارنة وما نذهب إلیه 155

ز). البشری بإقامة الدولة العالمیّة الإسلامیّة 156

آیة الإظهار والعالمیة 157

خلاصة الفصل الثانی: 160

3. عالمیّة الإسلام 162

تمهید: 162

ص:11

عالمیّة الإسلام 163

الدلیل الأوّل: الدلیل العقلی: 164

الدلیل الثانی: الدلیل النقلی: 165

عالمیّة الإسلام فی النظرة الغربیّة: 170

عالمیّة الإسلام السیاسیّة 172

أوّلاً: المعنی اللغوی والاصطلاحی للسیاسة 173

ثانیاً: السیاسة فی النظریّة الغربیّة والإسلامیّة: 174

السیاسة عند غیر المسلمین: 175

تعریف السیاسة فی الإسلام 176

السیاسة فی القرآن الکریم: 178

السیاسة فی سنّة النبیّ وآله(علیهم السلام): 180

ثالثاً: السیاسة فی العولمة الغربیّة والعولمة الإسلامیّة: 183

رابعاًً: حقوق الإنسان فی الإسلام: 188

التعریف بحقوق الإنسان: 188

نظریّة الدولة، والدولة العالمیّة فی الإسلام 193

نظریّة الدولة فی الإسلام: 193

تعریف مصطلح الدولة: 194

النظریّة الإسلامیّة للدولة: 195

تعریف الدولة: 198

الدولة الإسلامیّة 199

تعریف الدولة الإسلامیّة: 199

عالمیّة الإسلام الثقافیّة 201

الملامح العامّة للثقافة الإسلامیّة: 203

أوّلاً: التوحید: 204

ثانیاً: الوحدة: 205

ثالثاً: تکریم الإنسان: 206

رابعاً: الأخلاقیّة: 207

خامساً: التعایش والتسامح: 208

سادساً: التعادل، التوازن، التکامل، الوسطیّة: 209

سابعاً: الواقعیّة: 210

ص:12

ثامناً: الشمولیّة: 211

تاسعاً: إلهیّة المصدر: 212

عاشراً: تأثیر الثقافة الإسلامیّة: 212

الحادی عشر: قبولها للحوار: 212

الثقافة بین العولمة الغربیّة والعولمة الإسلامیّة: 213

الفرق بین العولمة الغربیّة والعالمیّة الإسلامیّة: 215

المصادر 219

ص:13

ص:14

مقدمّة المؤلّف

الحمد لله ربّ العالمین وصلّی الله علی سیّدنا ونبیّنا، خاتم النبیّین وسیّد المرسلین أبی القاسم محمّد وعلی آله الطیّبین الطاهرین.

قال الله تعالی: هُوَ الَّذِی أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدی وَ دِینِ الْحَقِّ لِیُظْهِرَهُ عَلَی الدِّینِ کُلِّهِ وَ لَوْ کَرِهَ الْمُشْرِکُونَ 1.

إنّ الصراع بین الحقّ والباطل، وبین الاستقامة والانحراف، وبین العدالة والجور قائم ومستمرّ ما دامت هنالک عقیدتان ومنهجان یتحکّمان فی النفس والمجتمع والحیاة الإنسانیّة، ولا ینتهی الصراع إلاّ بذوبان أحدهما بالآخر. بحیث لا یبقی له وجود.

والإنسانیّة - بأجمعها- متوجّهة إلی مفاهیم وقیم الحقّ والاستقامة والعدالة، و ذلک بعد أن عانت کثیراً من الأزمات والمصاعب بسبب عدم قدرة التیّارات والمناهج الوضعیّة أو الدینیّة المحرّفة من تحقیق طموحاتها کما ینبغی.

وبما أنّ توجُّه الإنسانیّة ینطلق من فطرتها السلیمة التوّاقة إلی القیم الصالحة والعدالة المطلقة بعد أن لوّثتها الحضارة الزائفة، وسیأتی الیوم الذی

ص:15

تجد فیه المنهج الملائم لفطرتها، والذی یتّصف بالواقعیّة فی علاج أزماتها النفسیّة والروحیّة والاقتصادیّة والسیاسیّة والاجتماعیّة، بعد أن فشلت الأُطروحات القائمة عن تحقیق ما تصبو إلیه.

وبما أنّ المنهج الإسلامی منهج إلهیٌّ موضوع من قبل المطلق العلیم المهیمن علی حرکة الإنسان والمجتمع والحیاة، والعلیم بسکنات وخفایا النفس الإنسانیّة، فإنّه سیکون الأمل المنشود للإنسانیّة، ولکنّه بحاجة إلی دُعاة یعرضون مفاهیمه وقیمه وموازینه ومعاییره بأُسلوب شیّق وجذّاب ینسجم مع تطوّر العقل البشری وتعقّد الحیاة الإنسانیّة، اعتماداً علی الأسالیب والوسائل المتطوّرة التی تعتمد البرهان العلمی والدلیل القاطع لاقناع الإنسانیّة بأمثل نماذج المنهج الانقاذی الصحیح.

بل سیکون للرعایة الإلهیّة الدور الأساسی فی هذا التوجّه العالمی، وسیکون الإسلام هو المهیمن علی الفکر والعقیدة، وعلی العواطف والمشاعر، وعلی الإرادة والسلوک. وهذه الهیمنة هی عبارة عن: الظهور الذی أشارت إلیه آیة الإظهار، والذی سیتحقّق فی أوسع آفاقه فی عهد الإمام المهدی(عج).

والإسلام کمنهج عالمی منذ نشأته الأُولی، وسیکون کذلک فی عصر الظهور بعد عجز الأُطروحات الوضعیّة البشریّة عن تحقیق هذه العالمیّة أو العولمة باصطلاحها، لا علی المستوی الثقافی ولا العلمی ولا السیاسی فقط؛ لأنّها من وضع البشر المحدود علی جمیع المستویات فی فکره وعاطفته وإرادته، والتی لم نستطع تقدیم النموذج الأمثل لها فی واقع الإنسانیّة.

وفی کتابنا هذا قمنا بتعریف الرؤیة الإسلامیّة کرؤیّة عالمیّة، وعرض أُطروحة العولمة علی القرآن الکریم، والتعریف بعالمیة الإسلام المنسجمة مع ثوابته النظریّة والتطبیقیّة، ثمّ التعریف بالدولة العالمیّة التی یقودها الإمام المهدی(عج)، مقارنة بالدولة العولمیّة المراد لها أن تکون البدیل فی نوایا واضعیها.

ص:16

ولقد اعتمدنا فی هذه الدراسة الأسلوب الاستقرائی التحلیلی تارةً، والنقدی القائم علی أساس جمع الآراء والنظریات المطروحة حول الموضوع تارةً أخری، ثمّ المقارنة بینها وبین النظریّة الإسلامیّة، للخروج بالنتائج التی تتوافق والرؤیّة الدینیّة الصحیحة.

علماً إنّ هذا الکتاب هو عبارة عن رسالة قُدّمت لنیل درجة الماجستیر فی العلوم الإسلامیّة قسم علوم القرآن الکریم، وقد نُوقشت من قبل اللجنّة العلمیّة المشرفة علی رسائل الماجستیر والدکتوراهّ فی جامعة المصطفی(صلی الله علیه و آله) العالمیّة، وقد نالت درجة الامتیاز العالی، ممّا بعثّ بمؤلّفها للمشارکة بها فی المهرجان الدولی للقرآن الکریم الذی أقیم فی عاصمة الجمهوریّة الإسلامیّة الإیرانیة لعام 1429ه الموافق 2008م، فکانت من جملة الرسائل والدراسات الحائزة علی المرتبة الأولی للعامّ المذکور.

17 ربیع الأوّل 1430ه

ریاض عبد الرحیم الباهلی

ص:17

ص:18

هیکلیّة البحث

اشارة

لقد قمنا بتقسیم البحث إلی مقدّمة وثلاثة فصول وخاتمة، وهی کالتالی:

الفصل الأوّل: یحملُ عنوان: العولمة، مراحل تطورّها، بعدما بیّنا مفهوم العولمة فی اللغة والاصطلاح وبیان المفاهیم المقاربة لها.

أمّا الفصل الثانی: فکان عنوانه: التفسیر المقارن لآیة الإظهار، وقد اشتمل علی بیان آیة الإظهار والعالمیّة، ومن ثَمّ بیان الآیات المشابهة لأیة الإظهار، وتحلیل ألفاظ آیة الإظهار، وبیان مفاد آیة الإظهار، وبیان آیة الإظهار عند مفسّری الإسلام، وأخیراً تعرّضنا فیه إلی نقد بعض الآراء والخروج بنتیجة المقارنة بین هذه الآراء.

أمّا الفصل الثالث و هو یحمل عنوان عالمیة الإسلام، و قد تناولنا فیه عالمیّة الإسلام فی القرآن الکریم والروایات الشریفة، وبیان عالمیّة الإسلام الثقافیّة والسیاسیّة، وأخیراً بیان الثقافة بین العولمة وعالمیّة الإسلام.

ص:19

ص:20

1-العولمة

تمهید:

قد یکون من غیر الصحیح أن ننحاز إلی تعریف محدَّد للعولمة فی بدایة هذا البحث، مع کثرة التعریفات التی أطلقها الباحثون والدارسون لهذه الظاهرة التی أخذت تغزو العالم برمّته، والتی ذهبوا فی تفسیرها والحدیث عنها کلّ مذهب؛ وذلک لعدم اکتمال هذه الظاهرة الجدیدة القدیمة، مع عدم وضوح تأثیراتها، ولعلّ فی هذا شیئاً من الصواب، وإن کنت سوف أذکر تعریفاً أحاول فیه إعطاء مفهوم خاصّ لها، ولکن الحاکم هو القول: کیف نعرف شیئاً مازال فی طوّر التکوّن والتشکل)؟ ودلیل ذلک ما رأیناه، من أنّ الکثیر ممّن کتب حول ظاهرة العولمة وخاصّةً فی صورتیها الإنتاجیّة، والمالیّة، تنطوی علی تدویل متساوٍ للانتاج والمال بین دول العالم المختلفة، ودون أن ینتبهوا إلی أنَّ هذا النوع من التدویل بدأیصبُّ فی مصلحة دول المرکز - أمریکا وأوربا - من دون دول الهامش، کما سماها فانشاتین، فی نظرّیته الاجتماعیّة، المتعلّقة بالنسق العالمی منذُ ما یقارب العشرین عاماً، فلیس لها إلاّ دور ضئیل

ص:21

یتمثّل فی إیجاد القاعدة الأساسیّة لمؤسّسات التمویل الضخمة وللشرکات المتعدّدة الجنسیّات.

نعم، فقد أصبح أکثر المفاهیم شیوعاً فی التحلیل السیاسی والاقتصادی، والاجتماعی، خلال السنوات الأخیرة، وإن کان هذا لا یعنی أنّ له مفهوماً جدیداً أو یشیر إلی ظواهر جدیدة، إذ إنَّه امتداد لمفهوم النظام العالمی الجدید.

إضافة إلی ذلک کما عبرنا عنه بالنظام الجدید القدیم فهو لیس مفهوماً جدیداً کما یفهم البعض، فالعولمة لم تحدث فجأةً، بل لها جذورها التاریخیّة، ولها مقدّماتها الموضوعیّة، وخاصةً تلک الأخیرة، التی ظهرت مع بدایة القرن العشرین، وارتبطت بالثورة الصناعیّة، والتی أبرز مظاهرها تکنولوجیا الاتصالات والمعلومات، والتی حولت العالم إلی قریةٍ صغیرة کما یُشاع حالیاً.

وعلیه فقد رافقت النظام العالمی الجدید ظاهرة أخری، وهی العولمة مرافقةً لجمیع ما حصل من تغیرات علی الأصعدة السیاسیّة والاقتصادیّة والاجتماعیّة والأخلاقیّة.

إذاً: فالتغیر الحاصل فی النظام العالمی أطلق علیه اسم: العولمة.

والعولمة: حضارة عالمیّة والحضارة العالمیّة- بشکل عام - هی التقارب الثقافی الإنسانی، والقبول المتزاید بقیم وممارسات ومؤسّسات مشترکة من قبل شعوب العالم. فربّما تتمثَّل ظاهرة العولمة فی التوجّهات العلمیّة ذات البعد المستقبلی، ولاشکَّ فی أنّ العولمة- مع ما اتّفق علیه الکثیرون من الداعین إلیها والرافضون لها- تمثّل المحور الأهمّ فی تفاعلات الحاضر والمستقبل، حتی وإن لم یتمَّ الإشارة إلی المصطلح بصورة مباشرة، فالتغیرات الحاصلة فی هذا النظام العالمی، الذی بدأت إشراقاته تتوسَّع

ص:22

کأطروحة، یدور المستوی العامّ فیها فی فلک العولمة، فان لم یکن من وجهة نظرنا، فطبیعی من وجهة نظر الغرب، ونفس الشیء مع صراع الحضارات واللبرالیّة الجدیدة، ومفاهیم السوق ونظام الاتصالات والإعلام.

وبعد هذا التمهید سنتناول العولمة من خلال المحاور التالیة:

الأوّل: تعریف العولمة لغةً واصطلاحاً.

الثانی: العولمة والمفاهیم المقاربة.

الثالث: النشأة التاریخیّة للعولمة ومراحل تطورّها.

الرابع: أقسام العولمة، وآلیّاتها.

اصطلاحات معاصرة:

اشارة

إنّ لکلّ ظاهرة حادثة أو جدیدة اصطلاحات خاصّة بها، توصل جمیع ما تحمله من معانی تغیریّة إلی مخاطبیها، ومن الطبیعی أن تکون لظاهرة العولمة هذه، مجموعة من المصطلحات الخاصّة کذلک، و من هنا- وفی سبیل الإطلاع علی المبانی الأساسیّة لظاهرة العولمة إلی القارئ الکریم - لابدّ من التعریف بالمصطلحات المتداولة فی هذا الکتاب، والتی منها:

1. الأستراتیجیّة Stratejy:

فنّ القیادة فی الحرب الشاملة علی مستوی الدولة، حیث تنسق الخطط العسکریّة مع الخطط الإقتصادیّة والإعلامیّة والسیاسیّة، وتوصف بأنّها الخطّة العامّة لحملة عسکریّة کاملة.

ص:23

2. الإیدیولوجیا Ideolojy:

هی منظومة الأفکار التی تتجلّی فی کتاب مؤلّف ما، وتعکس نظرته الی نفسه والآخرین، بشکل مُدرِک أو بشکل غیر مدرک، ولکن الآیدیولوجیا بالمعنی العامّ، تعنی: مجموعة الأفکار العامّة السائدة فی المجتمع.

3. الاشتراکیّة Socialism:

مذهب اقتصادی یشدّد علی الملکیّة الجماعیّة لوسائل الانتاج، وینسب دوراً کبیراً للحکومة فی إدارة الاقتصاد عبر الملکیّة العامّة الواسعة للصناعات الرئیسة، رغم أنّه یُتیح مجالاً محدوداً لقوی السوق.

4. الإمبریالیّة (الاستعمار الاقتصادی) Imperia Lism:

وهی الرأسمالیّة الاحتکاریّة، وتمثّل المرحلة الأخیرة من تطورّ الرأسمالیّة، حیث تسیطر الاحتکارات - التجمّعات الرأسمالیّة الضخمة - علی الانتاج وتصریف أهمّ السلع.

5. الإنتر بیولوجیّة Anthr Opology :

کلمة الإنتر بولوجیّة جائت من الإ غریقیّة، وانتر بوس تعنی: الإنسان،ولوغوس تعنی الخطاب أو العلم، فهی: علم الإنسان. وهو العلم الذی یحاول أن یصل إلی معرفة القوانین التی تسودّ لحیاة البشریّة و المجتمعات الصناعیّة المعاصرة، کما فی المجتمعات القدیمة والبدائیّة والتقلیدیّة.

6. الأنطولوجیا (علم الوجود) OntoloJy:

دراسة طبیعة الأشیاء وجوهرها، وخواصّها الأساسیّة وعلاقة بعضها ببعض؛

ص:24

وذلک بصفة عامّة دون التعرّض لتفاصیلها الخاصّة، وتتضمّن کلمة الإنطلوجیا: فکرة الإنسان عن. الأرض والسماء، والکواکب والزمان،والمکان.

7. البرجوازیّة (الطبقة المتوسطة) Bourje Sheoi:

طبقة اجتماعیّة من أصحاب المهن الحرّة، نشأت فی القرون الوسطی الأوربیّة؛ سمّیت کذلک، لأنّهم کانوا یعیشون، أمّا فی المدن، وإمّا فی القری الصغیرة، فیتمتّعون فیها ببعض الامتیازات. وتتشکّل البرجوازیّة فی مجموع المالکین الفردین او الجماعیّین لوسائل الانتاج، ومدار المؤسّسات التجاریّة والصناعیّة والمالیّة، والمضاربین، وبشکل عامّ أولئک الذین یعیشون أساساً من العوئد الرأسمالیّة المرتفعة إلی حدّ ما.

8. الألبرولیتاریا (طبقة العمّال الکادحین) Brolet Ariat:

أطلق المفکّر الفرنسی سان سیمون هذا التعبیر علی الذین لایملکون نصیباً من الثروة، ولا یتمتّعون بأیّ ضمانات فی الحیاة.

تمّ استخدام کارل مارکس لهذه الکلمة قاصداً طبقة العمّال الأجراء الذین یشتغلون فی الانتاج الصناعی، ومصدر دخلهم هو بیع ما یملکون من قوّة العمل.

9. البنک الدولی WorIdBank:

أنشی سنة 1947 م علی إثر مؤتمر برتون وودز لتوفیر العون الأقتصادی إلی الدول الأعضاء، لاسیّما الدول النامیة لتقویة اقتصادها.

ص:25

10. التکنولوجیا Technolojy:

المعرفة النسبیّة بالوسائل المستخدمة لتحقیق أهداف مختلفة، یتوخاها النشاط الاقتصادی، إنّها معرفة التقنیّات المادیّة بمختلف أنواعها.

11. الحتمیّة Determinsm:

مفهوم فلسفی، یدور حول الأصل الشامل لجمیع الظواهر، والحتمیّة المتماسکة التی تسلم بوجود طبیعة موضوعیّة للسببیّة، وظهر هذا المصطلح فی البدایة مع الفلسفة الیونانیّة.

12. الحداثة Modnism:

هی ظاهرة انطلقت فی البدایة من أوربا مع الثورة الفرنسیة 1789 م، وعنت التغییر فی النظام السیاسی من النظام الملکی إلی الدیمقراطی الذی یقوم علی سلطة الشعب والمجالس الممثّلة بالشعب، واعتماد الیبرالیّة نظاماً اقتصادیاً، والمساواة بین الجنسین علی الصعد الإجتماعیّة، وإلزامیّة التعلیم للأطفال، وغیرها من الأهداف المراد تحقیقها علی هذا المنهج والمعبّر عنه بهذا التعریف المذکور.

13. الدکتاتوریّة (الاستبداد) Dieato Rship:

هی ترکیز السلطات بید شخص واحد، دون الاستناد إلی قوانین معیّنة. وهذا الفرد الدکتاتور یخضع له المحکومون بدافع الخوف، ویحکم عادة لصالح جماعة معیّنة.

14. الدیمقراطیّة Democracy:

نظام اجتماعی یقوم علی أساس مشارکة أعضاء الجماعة فی أدارة شؤنها،

ص:26

وربّما فهم منها التحلّل من مجموعة من القیود فی جمیع المستویات سواء الدینیّة أو الطائفیّة العرقیّة.

وقد تکون الدیمقراطیّة سیاسیّة، وهی: أن یحکم الناس أنفسهم علی أساس الحریّة والمساواة، لا تمیز بین الأفراد؛ بسبب الأصل والجنس، أو الدین أو اللغة، ویستعمل فی الإدارة للدلالة علی القیادة التی تتمّ بالمشورة بین الرؤساء والمرؤسین فی عملیّة اتّخاذ القرار.

أ). تعریف العولمة

العولمة لغةً:

یعتبر مصطلح: العولمة من المصطلحات الحدیثة التی لا وجود لها فی قوامیس اللغة العربیّة، نعم، قد یستفید البعض فی تعریفها کتعریف لغوی من بعض الاشتقاقات اللغویّة، کما هو علیه مجموعة من الباحثین المعاصرین، ومنهم: الباحث المعاصر عابد الجابری، حیث قاس لفظة العولمة فی اللغة العربیة علی وزن: فوعلة الذی یعنی: قولب، أی: تحویل الشیء من وضع إلی وضع آخر، وفق أنموذج أو قالب محدّد (1)، إلاّ أن صیغة فوعل الصرفیّة، صیغة خاصّة بالنسب، تُصاغ منها ألفاظ علی وفق توفّر ضوابط وشروط معیّنة. لا نجدها فی لفظة: العولمة؛ لذا فهی لفظة ذات صیغة خاصّة لیس لها وجود فی المعجم العربی، وأصلها الصحیح لفظة: العالمیّة، (2)المشتقّة من اسم. العالَم، الذی هو علی وزن: فاعل.

ص:27


1- (1) . محمّد عابد الجابری، ولد فی المغرب العربی دکتوراة فی الدولة والفلسفة، حاصل علیها من کلیّة الأدب فی الرباط؛ وله العدید من الکتب المنشورة انظر: قضایا فی الفکر المعاصر: 135، و کذلک ینظر: الدکتور علی الفقیه، العولمة وتنوع المفاهیم وتباین المفهوم، مجلة الدبلوماسی: 26، نقلاً عن الفکر الإسلامی المعاصر: 20.
2- (2) . سناء کاطع، الفکر الإسلامی المعاصر: 20.

وجمع العالم المراد به الخلق، والعوالم، وهو ما أصطلح علیه فی لسان العرب (1).

إذن فلفظة: العولمة لفظة مستحدَثَة مستعربة من المصطلح الإنجلیزی الخاصّ، مثلها مثل غیرها من الألفاظ المستحدثة والمستعربة الأخری. وتعود لفظة عولمة فی أصلها إلی الکلمة الإنجلیزیة: Global ، وإنَّ عبارة tazjcl obali ion) - بحسب ما جاء فی قاموس وبستر - تعنی: إکساب الشیء طابع العالَمیّة، وجعل نطاقه وتطبیقه عالمیّاً (2).

وفی اللغة الفارسیّة جاءت بلفظتین:

الأولی: جهانی شدن، أی: العالمیّة، وهی: صفة للعلاقات القائمة بین الدول، أو للعلاقات الخارجیة للدولة. وکان یُعرَّف مفهوم العولَمة فی ذاک الوقت بمفاهیم عدّة، مثلاً: نظام اجتماعی، أو نظام مالی، أو نظام عالمی (3)، وهو الأکثر رواجاً آنذاک. أو یعرَّف بمفهوم الحریّة فی جمیع الجوانب، سواء کانت جوانب تجاریّة أو اقتصادیّة، أو سیاسیّة أو ثقافیّة، أو إلغاء جمیع الموانع الخاصّة، بین الدول الخارجیّة (4).

والأخری: جهان سازی، أی: صناعة العالَم، وهذا المصطلح من الطبیعی أن یکون قد أخذ مفهوماً جدیداً؛ لأنَّ التطوّر الحاصل فی المیادین التجاریّة والثقافیّة والسیاسیّة، کان له المدخلیّة البالغة فی صیاغة

ص:28


1- (1) . لسان العرب: 15 / 415.
2- (2) . المسیری، عبد الوهّاب، مفکر إسلامی عضو مجلس الإمناء لجامعة العلوم الإسلامیّة الإجتماعیّة، بالمسبرج، بولایة فرجینیا بالولایات المتّحدة، وإنجلترا وفرنسا، ومستشار للکثیر من المجلّلات التی تصدر فی مالیزیا وإیران والولایات المتّحدة، من اشهر کتبة: موسوعة الیهود والیهودیة، انظر: موسوعة الیهود والیهودیّة: 1 / 27.
3- (3) . شولت، یان أرت، نگاهی موشکافانه بر پدیده جهانی شدن: ترجمه: مسعود کرباسیان.
4- (4) . المصدر: 6.

المفاهیم المعاصرة التی وردت ذهن الإنسان فی الوقت الحاضر.

وهناک فرق بین المفردتین؛ لأنّ الأولی هی: فعل لازم، تعنی. العالمیة من دون تمیز الماضی عن الحاضر والمستقبل. والمفردة الثانیة، هی: فعل متعدٍّ، وتعنی: صناعة العالم فی الوقت الحاضر.

إذاً: مفردة: العولَمة لا وجود لها فی القاموس اللغوی، وإنّما هی مفردة اشُتقَّت من العالَمیّة، والأخیرة اشتُقَّت من: العالَم.

العولمة اصطلاحاً:
اشارة

ینبغی لنا أوّلاّ وقبل کلَ ّ شیء أن نحدَّد ولو بصورة عامّة مفهوم العولمة، لکی تتبیّن حقیقتها وأبعادها، وخطورتها علی الفرد والمجتمع، والحضارة والثقافة الإسلامیّة، والإنسانیّة، إن کان فیها ذلک، ولکن ممّا ینبغی التنبیه إلیه هو أنَّ تعار یف العولَمة کثیرة جدّاً، ومتنوّعة بصورة تکاد لاتحصر؛ وذلک لأنَّ العولمة مصطلح ذو دلالات ومفاهیم متعدّدة الأبعاد،فهو لا یقتصر علی زاویة محدَّدة ممکن التوجه إلیها واکتشاف مکامنها، وإّنما یشتمل علی عوامل اقتصادیّة وسیاسیّة وتکنولوجیّة ثقافیّة، بحیث لا یمکن فصل أیً ّ منها عن لآخر، وفیما یأتی تلک المفاهیم مع تعاریفها:

1. العولمة فی المصطلح الاقتصادی:

إنّ أوّل مظهر من مظاهر العولمة کان فی المجال الاقتصادی؛ لأنّ العولمة عندما انطلقت کانت تتابع أهدافا اقتصادیّة، ونتیجة لزیادة التعامل التجاری بین البلدان وعلی مستویات متعدّدة، نشأت هناک شبکة من العلاقات العالمیّة، المتمثلة بصندوق النقد الدولی ومنظمة التجارة العالمیّة وغیرها، بالإضافة إلی التحالفات الاقتصادیّة، و الذی من خلاله دخلت العولمة إلی

ص:29

المجالات السیاسیّة والثقافیّة، وغیرها من المجالات الأخری.

لذلک سوف نقوم بعرض تعریفاتها فی مجالی السیاسة والثقافة بعد تعریفها اقتصادیّاً.

أ). تعریف عبد الجلیل کاظم:

العولَمة: عملیّة سیادة نظام اقتصادی واحد، تنضوی تحته مختلف بلدان العالَم فی منظومة متشابکة من العلاقات الاقتصادیّة تقوم علی أساس تبادل الخامات والسلع والأسواق ورؤوس الأموال (1).

أی: انتقال الأسواق والقوی العاملة والثقافة والتقانة، ضمن إطار حریّة رأس المال والأسواق، بحیث تصبح هذه الأسواق سوقاً واحداً فیتمّ خضوع العالم لقوی السوق العالمیة، ممّا یؤدی إلی اختراق الحدود القومیّة، وإلی الانحسار الکبیر فی سیادة الدولة، وأنّ العنصر الأساس فی هذه الظاهرة هی الشرکات المالیّة الضخمة المتخطیّة للقومیّات.

ب). تعریف صادق العظم:

العولمة: وصول نمط الإنتاج الرأسمالی عند منتصف هذا القَرن إلی نقطة انتقال من عالمیة دائرة التبادل والتوزیع والسوق والتجارة والتداول إلی دائرة الإنتاج ذاتها. (2)

أی: أنّ ظاهرة العولمة هی بدایة عولمة الانتاج وقوی الانتاج الرأسمالی، أی: أنّها رسملة العالم علی مستوی العمق بعد ما کانت رسملته علی مستوی السطح ومظاهره..

فینتهی بتعریف عام للعولمة و هی: حقیقة التحوّل الرأسمالی العمیق للإنسانیّة جمیعاً فی ظلّ هیمنة دول المرکز وبقیادتها وتحت سیطرتها، وفی ظلّ سیادة نظام عالمی للتبادل غیر المتکافئ. (3)

ص:30


1- (1) . مجلّة المستقبل، العدد: 275 / 69.
2- (2) . صادق العظم، فیلسوف سوری؛ أستاذ ورئیس قسم الفلسفة فی جامعة دمشق؛ بتوسیط: الفکر الإسلامی المعاصر: 20.
3- (3) . سیناریو ابستمولوجی، حول العولمة، أطروحات أساسیّات المستقبل العربی، العدد247، أیلول 1999م.

ج). سمیر أمین:

والعولمة عند سمیر أمین تظهر فی وجود انتاج عالمی یتمیّز بوجود سوق مندمجة للمنتجات ولرؤوس الأموال باستثناء سوق العمل غیر المندمجة. (1)

د). روجیه غارودی:

وممّن عرَّف العولمة کذلک، روجیه غارودی فهی تعریفه تعنی: نظام یُمّکن للأقویاء من فرض الدکتاتوریّات اللإنسانیّة التی تسمح لهم بافتراس المستضعفین بذریعة التبادل الحرّ وحریّة السوق. أی: أنّ تداخل کلً ّ من السیاسة الاقتصادیّة فی عملیّة العولمة حول النظام الدولی فی زمن العولمة إلی صیغة عالم بمقام النظام العالمی الجدید، بعد تداعی النظام الدولی القدیم، وربّما تمَّ إلغاء کلمة الدولی للوصول إلی مرحلة عدم القبول بوجود الدولة، وتخطَّی الحدود الدولیّة الجغرافیّة التقلیدیّة، وهو ما تدعو إلیه العولمة. (2)

إذاً: العولمة بحسب هذا التعریف، هی ذات مفاهیم تشتمل علی السیادة والتبعیّة، السیادة من جانب الطرف الأقوی، والتبعیّة من جانب الطرف الأضعف.

وجاء الترکیز علی العولمة الاقتصادیّة، علی أساس أنّها نظام اقتصادیّ دولی، أکثر انفتاحاً وتحرّراً من القیود فی مجال السلع والخدمات والرسائل، لاسیّما منذُ أوائل الثمانینات (3).

ه). الدکتور أحمد ثابت:

وعرَّفها الدکتور احمد ثابت، أستاذ العلوم السیاسیّة فی جامعة القاهرة، بأنّها:

نتاج من التوسیع والانطلاق لقوی الاحتکار الکبری المسیطرة علی السوق العالمیّة، وأبرز هذه القوی هی الشرکات

ص:31


1- (1) 3. مجموعة باحثین، العولمة والتحولات المجتمعیة فی الوطن العربی:313.
2- (2) . العولمة المزعومة الواقع، الجذر، البدائل: 17، تعریب الدکتور محمّد السبیطلی.
3- (3) . حول تحدیات الاتّجاه نحو العولمة الاقتصادیّة: 9 - 8 .

الاحتکاریّة الکوکبیّة، العملاقة المتعدّدة الجنسیّة التی تتحّکم فی تدفّقات وتحرکات کتل الأموال والأسهم، والسندات وأسواق الأوراق النقدیّة والمصرفیّة، بعیداً عن العملات الوطنیّة حتّی الدول الکبری. (1)

والحاصل ممّا تقدّم: أنّ هذه مجموعة من التعاریف التی لاحظت الجانب الاقتصادی فی تعریفها للعولمة، باعتبار أنَّ الاقتصاد هو أحد الجوانب المهمّة التی ساعدت علی انتشار العولمة.

وهناک جانب آخر من جوانب العولمة والتی أصبحت رکیزة من رکائزها الهامّة، وهو الجانب الثقافی، والذی نقوم فیما یأتی بنقل بعض التعاریف المهمّة فی هذا الجانب.

2. العولمة فی المصطلح الثقافی:

أمّا علی المستوی الثقافی فتحاول العولمة تعمیم نموذج حضاری معیَّن علی العالَم، وإظهار ثقافة عالمیّة تسود العالم کلّه، فهی تعتمد فی ذلک علی التطوّر الحاصل فی مجال الاتّصالات من فضائیّات وإنترنت ووسائل أخری، فَعُرَّفت العولمة الثقافیّة بتعاریف عدّة، منها:

أ). الأستاذ عبد الإله بلقزیز:

العولمة هی: فعل اغتصابی ثقافی عدوانی علی سائر الثقافات، إنّها ردیف الاختراق الذی یجری بالعنف المسلح بالتقانة فیهدّد سیادة الثقافة فی سائر المجتمعات التی تبلغها عملیّة العولمة. (2)

هذا بناءً علی النظرة المتشائمة من العولمة، کما سنبیّن.

ب). تعریف برهان غلیون:

العولمة دینامیکیّة جدیدة، تبرز داخل العلاقات الدولیّة من خلال

ص:32


1- (1) . العولمة تفاعلات وتناقضات التحوّلات الدولیّة، نقلاً من دائرة العولمة فی الثقافة العربیّة: 14.
2- (2) . العولمة والممانعة، دراسات فی المسألة الثقافیة: 42، سلسلة المعرفة لجمیع، منشورات الرباط.

تحقیق درجة عالیة من الکثافة والسرعة فی عملیة انتشار المعلومات التقنیّة والعملیّة للحضارة، یتزاید فیها دور العامل الخارجی فی تحدید مصیر الأطراف الوطنیّة المکونة لهذه الدائرة المندمجة، وبالتالی لهوامشها أیضاً. (1)

ج). تعریف أحمد الرضوان:

العولمة نظام عالمی جدید یقوم علی العقل الإلکترونی فی الثورة المعلوماتیّة القائمة علی المعلومات، والإبداع التقنی غیر المحدود، دون اعتبار للأنظمة والحضارات، والثقافات والقیم، والحدود الجغرافیة، والسیاسیة القائمة فی العالم. (2)

د). تعریف (ستروب نابلبورت):

العولمة هی الثورة التکنولوجیّة وثورة الاتّصالات، ونموّ التجارة الدولیّة ونهایة الحرب الباردة، فلقد أصبحت أجزاء مختلفة من العالم مرتبطة بعضها ببعض أکثر من أیّ وقت مضی، فالذی یحدث هنا له تأثیر هناک (3).

ه). الدکتور ذوقان عبیدات:

العولمة بأنّها ثقافة سیادة واحدة علی جمیع ثقافات الشعوب الأخری مما قد یؤدی إلی ذوبان هویة هذه الشعوب. (4)

و). تعریف جان ناملینوس:

العولمة مفهوم ربط الثقافة القدیمة بالحاضر ضمن شروط معینّة، فالعولمة من خصوصیّاتها الربط بین الماضی والحاضر فی جمیع الاتّجاهات. (5)

ص:33


1- (1) . برهان غلیون، أستاذ علم الاجتماع السیاسی. ومدیر دراسات الشرق الآوسط، فی جامعة السوربون الفرنسیّة، وضع العدید من المؤلّفات فی الغة العربیّة والفرنسیّة، منها: العرب وتحدّیّات العولمة الثقافیّة، انظر: مقدّمات فی عصر التشرید الروحی: 82.
2- (2) . العولمة والعالمیّة فی میزان واحد: 122.
3- (3) . حدیث النهایات وفتوحات العولمة ومأزق الهویّة: 99.
4- (4) . أین نحن والعولمة:13.
5- (5) . ناملیسون، جان، جهانی شدن فرهنگ، تعریب: محسن حکیمی، دفتر شوهان حکیمی.
3. العولمة فی المصطلح السیاسی:

یری الکثیر من الباحثین أنَّ العولمة فی هذا المجال، تهدف إلی إضعاف دور الدولة القومیّة وإلغاء الحدود الجغرافیّة، فالدولة فی مجال العولمة السیاسیّة لا تملک الکثیر من الخیارات أمام عوامل التأثر، لا من ناحیة سیاسیّة، ولا اقتصادیّة، ولا حتّی ثقافیّة، فأهُّم التعارف للعولمة السیاسیّة فی نظر من ینظر إلیها علی أنّها حالة سلبیة هی:

أ). عمر الشافعی:

نقلاً لسلطة الدولة واختصاصاتها إلی مؤسسات عالمیّة تتولّی تسییر العالم وتوجیهه، وهی بذلک تحلُّ محلَّ الدولة وتهیمن علیها. (1)

ب). الدکتور حسین علوان:

العولمة ظاهرة تنمُّ عن الهیمنة الأمریکیّة علی الأصعدة الاقتصادیّة، والسیاسیّة، والثقافیة؛ وذلک عن طریق تعمیم النموذج الأمریکی علی الأمم والشعوب الأخری وفرضه علیها؛ وذلک تحقیقاً للاستراتیجیة الکونیّة، الأمریکیّة بالسیطرة علی العالم. (2)

ج). تعریف محمد عابد الجابری:

ومن ضمن المفاهیم و التعاریف التی طرحت للعولمة هی نظام یقفز علی الدولة والأمّة والوطن، فی مقابل ذلک یعمل علی تفتیت وتثبیت، فی إضعاف السلطة فی الدولة. والتخفیف من حضورها یؤدّی حتماً إلی أطر الانتماء السابقة علی الدولة، أعنی: القبیلة، والطائفة، والجهة، والتعصب المذهبی، والنتیجة: تفتیت المجتمع وتشتیت شمله. (3)

العولمة الصهیوناریّة:

وکذلک نری البعض یعرفها بتعریف لکلمة الصهیونیّة، فیجعل نوعاً من

ص:34


1- (1) . إعلام العولمة وتأثیره فی المستهلک نقلاً عن مجلة المستقبل العربی، عدد: 27 / 69.
2- (2) . العولمة والثقافة العربیّة العولمة والهویّة: 137.
3- (3) . قضایا الفکر المعاصر: العولمة، صراع الحضارات: 149.

المقارنة بین العولمة اصطلاحاً والصهیونیّة، فیعبر عنها بکلمة الصهیوناریّة؛ إذ یدعوها ب- : العولمة الصهیوناریّة (1).

وکلّ ذلک بسبب أیدلوجیتها القدیمة والحدیثة، وفلسفتها التی تغلفها بمصطلحات جذابة بغیة الخداع السیاسی؛ لأجل کسب المؤّیدین لها من جمیع أنحاء العالم، ویرجع هذا الباحث المخطّط العولمی إلی الصهیونیّة حینما قام آدم وایزوهوت (2) بإعادة تنظیم البروتوکولات القدیمة علی أسّس حدیثة یهدف من ورائها السیطرة علی العالم وإنهاء مهمّته فی أیار 1976. ویسعی هذا المخطّط الذی رسمه وایزهاوت إلی تدمیر جمیع الحکومات والأدیان الموجودة، ویتمّ الوصول إلی ذلک عن طریق تقسیم الشعوب إلی معسکرات تتصارع إلی الأبد حول عدد من المشاکل دون توقّف (3).

4. التعریف الجامع للعولمة:

هناک خلاف بین العلماء حول العولمة، هل هی نظام عالمی جدید، أو هی مجرّد حرکة حضاریّة معیّنة؟ ومع عدم إمکان الإحاطة الکاملة بهذه الظاهرة وقع الاختلاف فی تعریفها، فعرّفها البعض بتعاریف سلبیّة نابعة عن النظرة

ص:35


1- (1) . العولمة النظریّة الاجتماعیّة والثقافیّة الکونیّة: 10، ترجمة أحمد محمود نور أمین، د. محمّد حافظ.
2- (2) . الفکر الإسلامی المعاصر: 47. هی الأمم الیهودیّة من أجناس مختلفة أهمّها الخزر. ویوضّح الکاتب الأمریکی، ولیم غابی مصطلح، الصهیوناریّه، بقوله بزعم الحاخامات الیهود أنّهم السلطة المطلقة فی تفسیر ما یسمّونه: المعانی السریّة للکتاب المقدّس بواسطة الهام خاصّ، ولم یکن هذا الإدعاء سلطة، إلاّ إذا کان فی جمعیّة سرّیة أو أیّ وسیلة، تمنع ما یتلقونه أن یکون فی موضع التنفیذ. وقد جمع عدد من کبار الحاخامات والمدّراء والحکماء منهم وقرّروا أن یؤسّسوا مجمعاً سرّیاً یعمل علی تحقیق أغراضهم، وأسموه: المجمع النورانی. وکلمة: النورانی مشتقّة من کلمة: الیوسفیلؤ الذی هو ابلیس، وحامل الضوء. و بهذا کانت هذه بدایة العولمة.
3- (3) . أستاذ یسوعی للقانون فی جامعة انفولدشتات: 39.

السلبیّة لهذه الظاهرة، وعرّفها آخرون بتعاریف إیجابیّة، وغیرهم بتعاریف جامعة وهی الصحیحة بنظرنا، و منها:

أ). تعریف توماس فریدمان:

العولمة هی نظام عالمی جدید یُعید تشکیل الدولة والمجتمعات والأفراد والقناعات علی جمیع المستویات، ویری أنّ أحد عناصر العولمة هو السرعة التی تقاس باللحظة بدلاً من الساعة. (1)

ب). العولمة تفاعل کوکبی:

تفاعل العولمة: تفاعل کوکبی ذو أبعاد تشمل جوانب حیاة الإنسان المعاصر وشؤونه، وإن کان الجانب الاقتصادی أکثر بروزاً من العوامل المتداخلة الأخری، وقد ساعد علی فرضها القوی الناشئة المتمثّلة فی رأس المال الغالب الذی یحرَّک الشرکات المتعدّدة الجنسیات التی تجاوزت بهیمنتها القومیّات، وصار لها أیدلوجیّة نابعة منها ومؤثّرة فیها فی الوقت نفسه. وعرفت کذلک، بأنّها الظاهرة التی تشعّ فی المحیط الکونی فارضة نفسها علی کلَ ّ مَنْ حولها مُحدِثةً تغیراً جوهریّاً فی جوانب الحیاة المختلفة للإنسان سیاسیّاً واقتصادیّاً وثقافیّاً... . (2)

ج). تعریف الأمم المتحدة:

وفی تعریف لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائی، للعولمة وردت العولمة: مصطلح یجمع بین وصف الظاهر وتحدید مبادئها؛ أمّا الوصف، فهو تعبیر عن اتّساع وعمق التدفّقات الدولیّة فی مجالات: التجارة والمال، والمعلومات، فی سوق عالمیّة واحدة متکاملة؛ أمّا المبادئ، فهی تحریر الأسواق الوطنیّة والعالمیّة، انطلاقاً من الاعتقاد القائل بأنَّ التدفّقات الحرّة فی مجال: التجارة والمال، والمعلومات، سیکون لها أفضل مردود علی النموّ ورفاه البشر. (3)

ص:36


1- (1) . محمّد الشوکی، أکادیمی وأستاذ حوزی فی إیران الإسلامیّة، نقلاً عن مقالة منشورة فی الإنترنت.
2- (2) . انظر: العولمة مالها وما علیها: 5.
3- (3) . نقلت من: العولمة والممانعة، دراسات فی المسألة الثقافیة، سلسلة المعرفة للجمیع: 42.

یبدو أنَّ الذین یرکزون علی الجانب الاقتصادی للعولمة؛ نظراً لما ینجلی نصب أعینهم من محدّدات أساسیّة فی العولمة.

د). تعریف لیلی شرف:

العولمة هی: التحوّلات التی نعیشها الیوم، وهی تحوّلات جذریّة فریدة لم یعرفها عالمنا من قبل تضافرت بها أحداث سیاسیّة وعسکریّة، وعلمیّة وتکنولوجیّة واقتصادیّة، وبرز تعریف العولمة لیصف هذه الظاهرة. (1)

ه). ترکی حمد:

العولمة تعنی: الوحدانیّة فی القرار سواءً علی المستوی الاقتصادی أو المستوی السیاسی، أو علی المستوی الثقافی. (2)

و). تعریف عبد الباری الدرة:

العولمة هی تطلّع وتوجه اقتصادی، وسیاسی وتکنولوجی، وثقافی وتربویّ، تذوب فیه الحدود والدول بین الشمال والجنوب، وبین الثقافات بعضها بعضاً، وتتواصل فیه الشعوب والأمّم، والدول والأفراد باستمرار وبسرعات هائلة، وینشأ اعتماد متبادل فی: رأس المال والاستثمار، والسلع والخدمات، والأفکار والمفاهیم والثقافات. (3)

ز). جیمس روزنا:

علاقة بین مستویات متعدّدة التحلیل: الاقتصاد والسیاسة، والثقافة والأیدلوجیّة. وتشمل: إعادة تنظیم النتاج وتداخل الصناعات عبّر الحدود، وانتشار أسواق التمویل، وتماثل السلع المستهلکة لمختلف الدول نتیجة صراع بین المجموعات المهاجرة والمجموعات المقیمة. (4)

ص:37


1- (1) . التغیّرات العالمیّة وانعکاسها علی الدول النامیّة؛ العولمة وأثرها علی الثقافة العربیّة: 15.
2- (2) . ترکی حمد، فرهنگ بومی وجالشهی جهانی، ماهرتور رکار، نشر مرکز، تهران.
3- (3) . العولمة وإدارة التحدی الحضاری فی العالم ودارة الهویّة الإسلامیّة: 1.
4- (4) . من تقریر لمحطة mbc : الفضائیّة، نقلاً عن فلاح کاظم المحنة؛ ملف العرب والعولمة، مجلة دراسات: 13.

إذاً یبقی مصطلح العولمة بحسب هذا التعریف، مصطلح عائم ومتعدَّد الأبعاد، یشمل کلّا من: الاقتصاد، والثقافة، والسیاسة وغیرها، فإذا ما نظرنا إلی مجموع هذه التعاریف الموضوعة للعولمة رأینا أنّها نظام جدید یتّجه نحو وجود مجموعة من الأنظمة المتکاملة علی جمیع الأصعدة: الاقتصادیّة، والسیاسیّة والاجتماعیّة، والثقافیّة. و هی محاولة أن تسود حیاة الناس علی اختلاف مستویاتهم، وأقالیمهم، وقیمهم.

التعریف المختار:

العولمة عبارة عن تطوّر فی سیاق التطوّرات الحضاریّة التی تمرُّ بها الحضارات الإنسانیّة، تحت نطاق التطوّر الحتمی، الذی یمارسه أو یتفاعل معه الفکر البشری، فی محاولة لتعمیم هذا التطوّر علی الجمیع، فهی نتاج فکری للإنسان من خلال الاستفادة من العلوم والتجارب المعاصرة فی جمیع المجالات.

والعولمة فی ذاتها إیجابیّة غیر سلبیة، لکنَّ سوء استخدام هذه الظاهرة من قبل الولایات المتّحدة الأمریکیّة والدول الغربیّة بصورة غیر صحیحة أدّی إلی نشوء نظرة سلبیّة محیطة بها.

والحاصل:

أنّ تعریف العولمة مشتقٌ من کلمة: العالَم، أو العالَمیّة، ومعنی العالمیة هو: أن تتّحد کلُّ شعوب العالم فی جمیع أمورها علی نحو واحد وهیئة واحدة.

وعلی هذا التعریف یبقی أیضاً مصطلح العولمة، مصطلح عائم ومتعدَّد الأبعاد، یشمل کلّا من: الاجتماع، والاقتصاد، والثقافة، والسیاسة.

فإذا ما نظرنا إلی مجموع هذه التعاریف الموضوعة للعولمة لرأینا أنّها نظام جدید یتّجه نحو وجود مجموعة من الأنظمة المتکاملة علی جمیع

ص:38

الأصعدة: الاقتصادیّة، والسیاسیّة والاجتماعیّة، والثقافیّة، و هی محاولة أن تسود حیاة الناس علی اختلاف مستویاتهم، وأقالیمهم، وقیمهم.

کذلک نراها عملیّة تعمیم لأنماط انتاج واستهلاک، وتوزیع وتبادل ثقافی واجتماعی وأخلاقی یشمل العالم کلّه، فتکون ذات هدف معیَّن هو تعمیم نمط حیاة واحدة محدّدة عن طریق استعمال الوسائل المساعدة فی نشره وبلورته کافةً، مثل: تکنولوجیا الاتّصالات، والإعلام، والمؤسّسات، والمنظمات الدولیّة، فضلاً عن الشرکات المتعدّدة الجنسیّة، التی أصبح لها أثر فاعل فی عملیة التعمیم لتلک النتاجات.

فالعولمة لیست نظاماً محدّداً، یحمل بعداً واحداً، وإنَّما هی نظام، أو نسق ذو أبعاد تتجاوز دائرة الاقتصاد.

والعولمة الآن نظام عالمی، أو یُراد لها أن تکون کذلک، فهی ذات أبعاد متعدّدة الجوانب، بعضها حتمی وبعضها الآخر جائز التغیر- غیر حتمی - فالجزء الحتمی للعولمة هی ثورة الاتّصالات والمعلومات، بینما الجوانب هی السیاسات المرافقة للعولمة، مثل: سیاسة الاقتصاد العابرة للحدود، وسیاسات التجارة المالیّة (1).

ویمکن ملاحظة أن مصطلح العولمة قد نسب إلی مصطلح: العالم، فی موسوعة المسیری الیهودیّة والصهیونیّة، التی تعنی: تزاید وتساقط الحدود والخصوصیّة، بحیث یصبح العالم کلّه مادّة استعمالیّه واحدة، ومجرّد سوق ضخمة، ویصبح البشر کائنات وظیفیّة أحادیّة البعد یمکن التنبؤ بسلوکها ووظیفتها (2). وعندما تتلاقی وتتبع نمطاً واحداً وقانوناً عامّاً- قانون التطوّر والتقدّم الحتمی- .

ص:39


1- (1) . نقلاً من الفکر الإسلامی المعاصر: 23.
2- (2) . المصدر: 43.

وحینما تهیمن الوحدانیّة المادیّة یصبح العالم مکوناً من وحدات قد تکون غیر مترابطة، ولکنها متشابهة، ما یحدث فی الواحدة یحدث فی الأخری، وهذا ما أسماه ماکس فیبر ب: القفص الحدیدی. (1)

نعم، إنّ جمیع دلالات المصطلح علی وفق هذه المفاهیم المذکورة تدّل علی الترکیز علی العالم، أی: العالمیّة التی اقترنت بها العولمة؛ وسبب هذا الاقتران والارتباط المخطّط له مسبقاّ، وهو محاولة نشر العولمة اصطلاحاً وفکراً، علی جمیع أرجاء العالم، بمعنی إکسابه طابع العالمیّة بالفرض.

أمّا أسباب عدم وجود تعریف واحد للعولمة، وترجع إلی ما یلی:

1. اختلاف التصوّرات الفکریّة والثقافیّة، لدی المعرَّفین.

2. تعدّد التطوّرات والتصوّرات لهذه الظاهرة والنظام، بین الدول المتقّدمة والدول النامیة، أو دول المرکز.

3. الخلط الحاصل بین مفهومی العولمة والعالمیّة لدی البعض.

4. عدم وجود تحدید دقیق لتاریخیّة هذه الظاهرة وبدایتها، فهل کانت مع بدایة الأدیان السماویّة؟ أو بعد انتهاء الحرب العالمیّة الثانیة؟ أو بعد سقوط الاتّحاد السوفیتی؟ أو بعد حرب الخلیج؟

العولمة والمفاهیم المقاربة:
اشارة

إذا ما دقّقنا النظر وأمعنا الفکر فی ظاهرة العولمة لرأیناها قد تداخلت مع عدد من المفاهیم الأخری، فیراودنا الشکُّ بأنّها نظیر تلک المفاهیم؛ لذا کان لابدّ من إبراز أوجه التوافق والتقاطع ما بین هذه المفاهیم والعولمة، بغیة أعطاء مفهوم واضح ودقیق للعولمة، والتی منها:

ص:40


1- (1) . العرب و العولمة ما العمل: 412.
أ). العالمیة:

إنَّ أوّل هذه المفاهیم المقاربة هو مصطلح العالمیّة، بوصفها فکرة تسابق البشر إلی الدعوة والوصول إلیها علی مدی التاریخ، لإدارة العالم ککیان واحد، یضمُّ جمیع البشر علی أساس عائلة واحدة، وذلک بالغاً جمیع الحدود.

لکن العالمیّة شیء والعولمة شی آخر من لحاظ، وهی عینها من لحاظ آخر، والفرق بینهما هو:

1. العالمیّة المشتقّة من لفظة: العالَم، تُطلق علی الکوکب، وهی فی ذلک: مثل: العولمة، لکن العالمیّة تشمل کلّ ما یُمتدُّ ویتّسع متخطّیة الحواجز، لتشمل العالم کلَّه دون تفرقة وتمیز (1)، وهذه نقطة الاختلاف.

أمّا نقطة الاشتراک، فهی أنَّ کلاًّ منهما یرید الوصول إلی أکبر بقعة ممکنة من هذا الکون الواسع، إضافة إلی نقاط اشتراک أخری.

2. العولمة تُفرَض، أو تتّم البرمجة لفرضها من خلال العلم والإبداع فی المجالات والتطبیقات التی یتحکمّ فی وشائجها رأس المال والقوی المهیمنة (2).

3. العولمة، هی مقولة من مقولات الحداثة، التی ارتبطت بتفوق الغرب وتوسّعه فی أرجاء المعمورة، وهی ثمرة الاکتشافات والثوّرات الحدیثة الجغرافیّة والاقتصادیّة، والسیاسیّة.

إذاً: العولمة مقولة راهنة لما بعد الحداثة، ارتبطت بانفجار تقنیّات الاتّصالات علی نحو ضاقت معه الأمکنة وتقلّصت المسافات إلی حدَّ جعل الأرض قریةً صغیرةً (3) والعالمیّة سابقة علی ذلک.

ص:41


1- (1) . المنظمات الدولیّة الحدیثة وفکرة الحکومة العالمیّة: 22.
2- (2) . العولمة والهویّة: 7.
3- (3) . حدیث النهایات وفتوحات العولمة: 89 .

4. إنَّ العولمة غیر العالمیّة من بعض الجوانب؛ إذ إنَّ العالمیّة هی: تلک التی تعترف بوجود ثقافات أخری یمکنها أن تتبادل فیما بینها أو تعترف بالتعدّد، أمّا العولمة، فتمَّثل الاختراق الثقافی، والاعتراف بشیوع ثقافة واحدة تعتمد علی طمس الثقافات والهویات الأخری (1).

5. العالمیّة طموح مشروع، ورغبة عارمة فی الأخذ والعطاء، والحوار والارتقاء بالخصوص إلی أیَ ّ مستوی عالمی، أمّا العولمة، فهی إرادة اختراق الآخر وسلبه خصوصیّته، لکننا نری الکثیر ممّن کتب حول العولمة یدمجون مفهوم العولمة بالعالمیّة، ولم یذکروا أیَّ نوع من الفوارق بینهما؛ بحیث یذهب رونالد روبرت سون إلی عدم الفرق بین: العولمة والعالمیّة؛ إذ یعنی بها: تحویل العالَم إلی مکان واحد یتسم بدرجات من الاعتماد الحضاری والمجتمعی المتبادل (2).

لکن الصورة الواقعیّة التی لا غبار علیها، هی تلک الصورة التی تمثَّل درجات متفاوتة من الاعتماد المتبادل، الذی یصل إلی أقصی مداه غیر المتکافئ؛ لأنّ العالمیّة هی عملیّة الانفتاح علی العالَم، والتی تتمثّل بمحاولة نشر فکرة أو عقیدة أو أیدلوجیّة علی مستوی عالمی، متقبّلة بذلک الاعتراف بالرأی الآخر، أی: أنّها تتّجه، نحو سیادة قیم ومبادئ عالمیّة بین الأمم، مثل: تلک التی تحملها الأدیان الإلهیّة الحقّة التی تکون ذاتاً دعوة عالمیّة.

وعلی هذا نستطیع القول، أنّ للعالمیّة تقسیمات متعدّدة، فقد تکون عالمیّة مفتوحة لا تخضع لأیّ قید، وقد تکون عالمیّة مقیّدة کعالمیّة الأدیان أو الأیدلوجیّة (3).

ص:42


1- (1) . تحدیات الوطن العربی فی القرن الجدید: 11.
2- (2) . العولمة النظریّة والاجتماعیّة والثقافة الکونیّة: 9.
3- (3) . المنظمات الدولیّة الحدیثة وفکرة الحکومة العالمیّة: 22.

فالعولمة تختلف عن العالمیّة التی تُشیَّد بالسیر علی طریق التعارف؛ تأکیداً لقولة سبحانه: یا أَیُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْناکُمْ مِنْ ذَکَرٍ وَ أُنْثی وَ جَعَلْناکُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا 1.

وهذا المعنی یناقض العولمة، التی تعنی: محاولة جعل العالم تحت هیمنة واحدة ونظام واحد.

وقد ذهب الدکتور القرضاوی إلی أنّ مصطلح العولمة مقارب إلی مصطلح العالمیّة الذی جاء به الإسلام، و فی هذا قال ربّما کان مصطلح العولمة مقارباً إلی مصطلح العالمیّة الذی جاء به الإسلام، وأکّد علیه القرآن فی سوره المکیّة. (1)، مثل قوله تعالی: وَ ما أَرْسَلْناکَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِینَ 3 ، تَبارَکَ الَّذِی نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلی عَبْدِهِ لِیَکُونَ لِلْعالَمِینَ نَذِیراً 4 ، إِنْ هُوَ إِلاّ ذِکْرٌ لِلْعالَمِینَ 5 و قال: ولکن هناک فرق کبیر بین مضمون العالمیّة فی الإسلام ومضمون العولمة الحالیة، فالعالمیّة فی الإسلام تقوم علی أساس تکریم بنی آدم جمیعاً: وَ لَقَدْ کَرَّمْنا بَنِی آدَمَ وَ حَمَلْناهُمْ فِی الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّیِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلی کَثِیرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِیلاً 6.

ومن أنَّ مصطلح العولمة أصبح أکثر شیوعاً من بین المصطلحات الأخری المقاربة لها، لکن الاختلاف وقع فی الفهم والمضمون.

ص:43


1- (2) . الدکتور یوسف القرضاوی، أحد علماء المذهب السنّی، وهو مصری الأصل یقیم فی دولة قطر.
ب). الکونیة:

من المفاهیم المقاربة لهذا المصطلح مفهوم الکونیّة؛ إذ فضّل الدکتور إسماعیل صبری عبد الله استعمال مصطلح الکونیّة بدلاً من العولمة، حیث إنّ الکونیّة من فعل الکواکب، أی: الأرض، وتعنی: التداخل الواضح للأمور الاقتصادیّة والإجتماعیّة، والسیاسیّة، والثقافیّة والسلوکیّة دون اعتداد بذکر الحدود السیاسیّة للدول ذات السیادة،أو الانتماء إلی وطن محدود، أو دولة معیّنة، ودون حاجة إلی إجراءات حکومیّة.

ویذهب إلی القول: بأنَّ الکونیّة لم یسبقها أیّ تصوّر، أو حرّیة فکرّیة عمیقة الأبعاد، تکون مثاراً للجدل بین أهل الفکر، بشکل یؤدّی إلی تأثیر أهل السیاسة بها، ویصل إلی أنَّ الکونیّة هی نتاج داخلی للرأسمالیة المعاصرة، وتتّجسد فی الشرکات المتعدّدة الجنسیّات (1).

ب). النشأة التاریخیّة للعولمة ومراحل تطوّرها

اشارة

إذا أردنا أن نفهم العولمة بصورة دقیقة، ینبغی استعراض النشأة التاریخیة لها، والمراحل التی مرّت بها هذه الظاهرة التی غزت العالم من أدناه إلی أقصاه؛ ولذلک سوف نتناول فی هذا المحور مبحثین هما:

أوّلاً: النشأة التاریخیّة

إنّ نشأة العولمة التاریخیّة، کانت وما تزال مثاراً للجدل عند الکثیر من الباحثین، فمنهم من یصفها بأنها ظاهرة جدیدة ظهرت فی عقد التسعینات، ومنهم من یرجعها إلی عقد السبعینات، ومنهم من یرجعها إلی القرون السابقة؛ وعلّة هذا الاختلاف هو التداخل الحاصل بین العولمة والعالمیّة.

ص:44


1- (1) . الکوکبة الرأسمالیة العالمیّة مابعد الإمبریالیّة، فی کتاب: تحدیات النظام العالمی: 44- 45.

فالذین أرجعوها إلی القرون السابقة تحدثوا فی حقیقة الأمر عن العالمیّة، وهذا واضح فی أطروحات الرواقییّن، فی أثینا - حوالی القرن الثالث قبل المیلاد - حیث کانوا ینظرون إلی العالم نظرة واحدة شاملة من دون وجود لأیّ عامل من عوامل التمییز والتفرقة، حیث یستند الرواقیّون إلی الفلسفة القائمة علی وحدة الکوکب، الذی یعیش علیه الجنس البشری الذی یرجع إلی أصل واحد.

وکذلک ما طرحه الرومان من نظریّة تستند إلی وجود قانون واحد یسری علی جمیع الناس بدون استثناء، وهو القانون الطبیعی الذی یُعَدُّ دستور العالم أجمع، حیث استطاعت روما أن تخضع العالم إلی فکرة الإمبراطوریّة العالمیّة (1).

إذاً: علی المستوی النظری نری أنّ الرواقیّین، والرومانیّین من بعدهم هم الذین أطلقوا عالمیة واحدة تضم البشر جمیعاً ویخضعون لقانون واحد، وهو: سیادة القانون الطبیعی. (2)

وأیضاً ما دعت إلیه الأدیان السماویّة الحقّة إلی الوحدة بین الخلق وعدم وجود التمایز الذاتی بین جمیع أبناء الجنس البشری، فهم متساوون فی أصل المنشأ والخلقة.

أما وجود نوع من الاختلاف بین هذه الأدیان من حیث نزعتها للعالمیّة فقد جاء متأخراً بعد أن حُرَّفت هذه الأدیان ووقفت علی مزالق الهاویة، وابتعدت عن المسار الصحیح الذی إراده الله تعالی لها أن تکون علیه، فالیهودیّة بالرغم من أنّها آمنت بالتوحید إلاّ أنّها حصرت ذلک فی نطاق

ص:45


1- (1) . الحریّات العامّة وحقوق الإنسان: 22.
2- (2) . الفکر الإسلامی المعاصر والعولمة: 138.

الیهود، الذین تعدهم شعب الله المختار (1)؛ لذلک انتفت نزعة الدیانة الیهودیّة، فی حین أنّ الدیانة المسیحیّة والإسلامیّة قد دعتا إلی النزعة العالمیّة؛ إذ استندت المسیحیّة إلی تعالیم السید المسیح علی وفق ما جاء فی العهد الجدید، و نادت بوحدة العالَم علی أساس أنّ فکرة الخلاص إنّما تشمل الجنس البشری جمیعه، فی الوقت الذی کانت وما تزال الدیانة الإسلامیّة عالمیّة النزعة والدعوة من أوّل ظهورها، استناداً إلی تعالیم القرآن الکریم وسنّة النبی الأکرم(صلی الله علیه و آله). فقد جاء الإسلام بمنهاج شامل لأوجه الحیاة کلّها، فإذا ما طالعنا القرآن الکریم وجدنا فیه الکثیر من الآیات الدالة علی عالمیّة الدیانة الإسلامیّة، مثال علی ذلک:

قُلْ یا أَیُّهَا النّاسُ إِنِّی رَسُولُ اللّهِ إِلَیْکُمْ جَمِیعاً 2 ، وَ ما أَرْسَلْناکَ إِلاّ کَافَّةً لِلنّاسِ بَشِیراً وَ نَذِیراً وَ لکِنَّ أَکْثَرَ النّاسِ لا یَعْلَمُونَ 3 ، وَ أَرْسَلْناکَ لِلنّاسِ رَسُولاً وَ کَفی بِاللّهِ شَهِیداً 4 ، تَبارَکَ الَّذِی نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلی عَبْدِهِ لِیَکُونَ لِلْعالَمِینَ نَذِیراً 5 ، هُوَ الَّذِی أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدی وَ دِینِ الْحَقِّ لِیُظْهِرَهُ عَلَی الدِّینِ کُلِّهِ وَ لَوْ کَرِهَ الْمُشْرِکُونَ 6.

فهذه الآیات ونظائرها، صریحة فی أنّ هتافات النبیّ(صلی الله علیه و آله) والخطابات القرآنیّة لم تختصّ بأمَّة دون أخری، کما أن نفس الأطروحة الإسلامیة حول الإمام المهدی(عج) أکبر دلیل علی ذلک کما سوف یتبین فی الفصول الآتیّة إن شاء الله تعالی.

ص:46


1- (1) . الأصول الیهودیّة فی الکتاب الإسرائیلی: 61.

أمّا محاولة رسملة العالم، فلیست بفکرة جدیدة، وإنما هی ذات جذور وأبعاد عمیقة فی التاریخ، صاغها عدد من الزعماء والساسة الغربیّون، بحیث أصبحت فی کلّ مرحلة تاریخیّة محددة، لابدَّ أن یکون هناک طرح جدید، لفکرة قدیمة، تؤطَّر بإطار جدید، مثل المرحلة التی نحن بصددها، من خلال طرح وتعمیم لفکرة العولمة التی أثارت جدلاً کبیراً.

فی سنة 1985 م عندما طرح الرئیس السوفیتی السابق غورباتشوف مشروعه الإصلاحی المسمی ب- : البروستریکا لإنقاذ الإتحاد السوفیاتی، من الانهیار بدأ النظام العالمی الجدید.

فقد اتجهت هذه الإصلاحات إلی مزید من التقارب بین المعسکر الشرقی والمعسکر الغربی.

وأعطت شیئاً من الحرارة للعلاقات الرأسمالیّة الاشتراکیّة التی جمَّدتها الحرب الباردة.

فالنظام المارکسی الذی کان یحکم الإتحاد السوفیاتی، وبقاعاً أخری من العالم، أدّی من خلال نقاط الضعف التی یحملها فی أنحائه، وهی نقاط جوهریّة إلی ظهور هذا النظام الجدید.

ویری المفکّرون والباحثون فی هذا المجال - سواء أ کان فی النظرة الکونیّة لهذا المذهب، أو النظام الاقتصادی، أو السیاسی - أدّی ذلک النظام إلی حالة لا تُطاق من الفقر والحرمان، بحیث عاشت المجتمعات الاشتراکیّة حالة مریرة من الاختناق؛ لینتهی بعد ذلک إلی الانفجار الذی بدّد أوصال الإتحاد السوفیاتی.

وفی هذه الفترة أعلن غورباتشوف خطّته الإصلاحیّة التی کانت بمثابة جرعة موت لهذا الجسم المریض، أو کانت آخر مسمار فی نعش الاتحاد السوفیاتی.

وفی هذه الأعوام ومن خلال التنسیق والتعاون الذی ظهر بین الاتّحاد

ص:47

السوفیاتی وبین أمریکا- قائدة المعسکر الغربی - تُجاه کثیر من القضایا العالمیة، والذی کان یعکس ضعف الاتّحاد السوفیاتی، ولیس إدراکه بضرورة التعاون والتنسیق، بدأت تظهر ملامح نظام عالمی جدید یوشک علی الولادة قریباً، ویحلّ محلّ النظام العالمی القدیم.

وفی هذه الإثناء وتزامناً مع ولادة النظام العالمی الجدید انطلقت فکرة العولمة، کمفردة من مفردات النظام الجدید وآلیة من آلیاته، وهی وإن لم تکن ولیدة العقد الأخیر من القرن العشرین؛ إذ إنّها نتیجة لصیرورة تاریخیّة طویلة، لکنّها انطلقت فی أواخر القرن المنصرم بقوة وحرارة فی الواقع العالمی.

إذاً: العولمة ما هی إلاّ لفظة جدیدة لعملیّة قدیمة مستمرّة، برزت أکثر وضوحاً فی عالم أصبح بحجم قریة کونیّة صغیرة متشابکة لأبعاد، ربطت بالأقمار الصناعیّة والاتّصالات الفضائیّة، وقنوات الشاشة المرئیة دولیاً.

ومن الواضح أن العولمة تحمل ملامح الظاهرة الرأسمالیّة، لذا کانت العولمة تدعو إلی زیادة علاقات التبادل بین الدول علی النطاق الاقتصادی واتّساع معدلات رؤوس الأموال مع انتشار المعلومات والأفکار، فکلّ هذه الظواهر القدیمة قد بلورت الرأسمالیّة أیضاً.

إنّ استمرار هذه الملامح فی ظاهرة العولمة دلیل علی العلاقة بین العولمة وما سبقها من الظواهر، کالرأسمالیّة .

ویحدَّد روجیه غارودی، هذه الظاهرة قائلاً. بأنّها ولدت منذُ خمسة قرون، مع ولادة التعطش، وسکرة التقنیّة، من أجل الهیمنة علی العالم والبشر (1).

وکذلک یشیر محمّد حسنین هیکل، إلی أنّ مقولة النظام العالمی الجدید

ص:48


1- (1) . العولمة المزعومة: 17، تعریب محمّد السبیطلی.

وفکرته لیست جدیدة، فقد استعملت مرّات عدیدة فی أعقاب الحرب العالمیة الأولی، استعملها ونستون تشرشل، وهو یطالب بفرض مشیئة المنتصرین علی باقی دول العالم، واستعملها روزفلت، وهو یمهد لدخول أمریکا إلی الحرب العالمیّة الثانیة (1).

ولعلَّ من الصحیح أیضاً أنَّ أول ظهور للعولمة الحدیثة یعود إلی فترة الحرب العالمیّة الأولی، من خلال لقاءات عقدها مجلس العلاقات الخارجیّة فی الولایات المتّحدة الأمریکیّة، نتج عنها النقاط الأربعة التی وضعها ولسون، وقُدَّمت إلی الکونغرس والتی تدعو إلی إزالة الحواجز الاقتصادیّة جمیعها بین الأمم.

وکذلک لو راجعنا الکثیر من المصادر لوجدنا الاختلاف الواضح فی ذلک، حیث یری البعض أنّ العولمة ظاهرة لم تستقرّ بعد، والبعض الأخر یُؤمن بأنَّ العولمة قد وصلت فعلاً إلی غرف نومنا فعلاً.

ویذهب الدکتور عبدالباری الدرّة إلی تسمیتها بالظاهرة، والحرکة،ویقول:

إنّ مثل هذا التوجه العالمی کان سائداً منذ العصور القدیمة والوسطی، فما سیطرة الحضارة المصریّة والیونانیّة والرومانیّة علی بعض أجزاء العالَم، إلاّ تجسیداً لظاهرة العولَمة کذلک فإن سیادة الحضارة البیزنطیة والإسلامیة علی أجزاء العالَم المعروف فی القرون الوسطی، یعنی سیادة مفاهیم وقیم واحدة. (2)

ویری الدکتور ذوقان عبیدات أنّ ظاهرة العولمة، ظهرت فی أشکال متعدّدة، منذ بدایات التاریخ الإنسانی والحضارة الإنسانیّة، فالیونانیّون حین نشروا أفکارهم الفلسفیّة، أفکار سقراط و أرسطو عُمَّمت لدی عدد من الشعوب،

ص:49


1- (1) . التخلّف وإدارة التنمیة فی الوطن العربی والنظام العالمی الجدید: 127، سلسلة ثقافة قومیّة.
2- (2) . العولمة والهویّة: 53.

فتأثر المسلمون بهذه الأفکار وترجموها إلی اللغة العربیة، واستخدموا مصطلحات فلسفیّة کما استخدمها الیونان. (1)

ویری بعض الباحثین ومن خلال مصطلح العولمة أنّ هذه الظاهرة ضاربة فی القِدَم.

ویری الدکتور برهان غلیون، أنّها تطوّر طبیعی للحضارة منذُ أقدم الحقب التاریخیة، وانتقال تقنیات العصر إلی أرجاء المعمورة، لکن الذی یمیزها الآن عن الماضی، هو کثافة المبادلات بین البلدان والمناطق وسرعة انتشارها، وقطاع التمویل والعملیات المالیّة والمعلومات الثقافیّة. (2)

وأکثر من ذلک ما ذهب إلیه الدکتور حسن عبد الله العاید حول وجود إجماع علی کون العولمة قدیمة منذ العصور السابقة، حیث یقول:

إنَّ هناک إجماعاً علی وجود عولمة قدیمة، قدم تاریخ الإنسانیة، وإن تعدّدت الآراء حول بدایتها، فنحن بصدد الأخذ بالمنظور التدریجی مع الترکیز علی حقبة العصر الحاضر، وهو القرن العشرین وبدایة القرن الحالی (3).

وخلاف ذلک ما ذکره عبد الحیّ زلّوم، من أنّ العولمة فکر مدروس تمَّ إیجاده بعد دراسات مستفیضة، ولکن المتتبع لتاریخ العولمة ونشأتها یجد بأنَّ حُقباً تاریخیة وحضارات فی أزمنة مختلفة تعدّ معولمة للقیم والمفاهیم وطرق الحیاة المصقولة ودیانات تلک الأمم.

هذه المواکبة للمفهوم الاصطلاحی للعولمة: من أنّها محاولة تعمیم، لکن ما نراه فی الواقع هو محاولة مواجهة التقدّم التکنولوجی، یستفید منها من یمتلک الوسائل جمیعاً.

ص:50


1- (1) . شبابنا شاباتنا أین نحن من العولمة: 13.
2- (2) . العرب وتحدیات العولمة الثقافیة، نقلاً عن: أثر العولمة فی الثقافة العربیّة: 33.
3- (3) . أثر العولمة فی الثقافة العربیّة: 34.

وربّما کان کلُّ ذلک نظراً لوحدة اللفظ بین العالمیّة والعولمیّة، أما لو دخلنا إلی واقع الأمر لوجدنا أنّ فترة نشوء العولمة وإیجادها فی الوقت الحاضر، هو بعد سقوط الاتّحاد السوفیاتی، حیث بدأت أمریکا، بالعمل علی القطب الواحد ومسألة الهرمیّة الأحادیّة. وهنا جاء دور المنظَّرین، وانبری صموئیل هنجتون یحدَّد من یکون المحفَّز للتنَّین الأمریکی فی تسییس العالم إّنه: الإسلام والحضارة الکمفوشیة، وافترض هنجتون أن یکون الصدام حتمیّاً معهما.

وبذلک یضمن، دوام الحرکة للعالَم حول محورها الأعظم المتمثلَ ّ فی الولایات المتّحدة الأمیرکیّة، وتظلُّ الولایات المتّحدة تقوم بدور المحرَّک الأساسی للعالَم ومرکزه، وهو ما یساوی فی الوقت نفسه العولمة.

وکان فرانسیس فوکایاما قد سبق هنجتون بثلاث سنوات، حیث مشروعة المعروف نهایة العالم. ورأی فیه أنَّ کلَّ الأفکار والنظم والسیاسات تجمَّدت وتوقَّفت قدرتها علی الحیاة وترکت الساحة وللقوة الأعظم: الرأسمالیة الأمریکیّة، وربّما کانت هذه النظرة هی نظرة قدیمة محفورة فی العقل الغربی، منذ أن جاء دارون ب- : بنظریّة النشوء والارتقاء، والبقاء للأصلح.

إذا :کانت العولمة المولود الجدید الذی مهّدت له أرحام الحضارات السابقة علی جمیع المستویات الغربیّة، والشرقیّة، وحتی الحضارات التی أخذت الطابع الدینی والتی عمَّت العالَم بنسق متکامل خاصً ّ بها، وهذا أیضاً ما أثبته بول کنیدی، قطب التنظیر الأمیرکی الآخر، فهو لم یشغل نفسه بأطروحة فوکایاما أو نهایة التاریخ أو صدام الحضارات، کما تصوَّر هنجتون، بل قصد ترسیخ دورها فی العقل الأمریکی، وکان علیه أن یأتی بدور مکمَّل، فطرح السؤال التالی:

ص:51

ماذا تصنع الولایات المتّحدة فی القرن الحادی والعشرین؟

وقدَّم کتاب: الإعداد للقرن الحادی والعشرین، وهو أطروحته لإیفاد العولَمة، ولکنّه ضمن نموذجها فقط - أی: اعتبارها نموذجاً أمریکیّاً- فحسب رأیه أنَّ العولمة خرجت من رحم الإنسانیّة، وإن کان مولدها ومسقط رأسها فی الولایات المتّحدة الأمریکیّة، حیث شارک فی خلق جنینها حضارات شتی وثقافات متعدّدة وأعراق متباینة. وقد کانت ثمرة حتمیّة لما وصلت إلیه ثقافة العالم (1).

إذاً: نستطیع القول أنَّ أحد الأسباب الرئیسیّة لنشوء العولمة هو الحضارات السابقة بجمیع مستویاتها، وأوّل هذه الحضارات هو الدین الإسلامی، لما یحمله من ثقافة تتعارض مع الثقافة العولمیة المعاصرة؛ لأنّ أمریکا لا قبل بإبقاء الشعوب علی تقالیدها الثقافیّة، إنَّ فوکایاما یحذّر الدیمقراطیات الغربیة من الإسلام لأسباب ثقافیة بالدرجة الأولی (2)، وهنجتون یری الشیء نفسه، ویری حتمیّة الصِدام مع الإسلام للأسباب نفسها.

أمّا بول کنیدی، فیری أن هناک تسعة مواقع إستراتیجیّة تتحکم فی حرکة العالَم منها سبعة إسلامیّة وعربیّة، ویحثُّ الولایات المتّحدة علی السیطرة علیها حتی تتمکَّن من السیطرة علی العالم. وفی هذه الفترة اشترک کلٌّ من بول کنیدی وفوکایاما فی نهایة التاریخ، حیث یری أن ثمّة اتّفاقاً بین کلَ ّ شعوب العالم علی قبول الدیمقراطیّة واللیبرالیّة علی أساس أنّها أکثر صور الحکم عقلائیّة، إلاّ فی العالم الإسلامی (3).

ص:52


1- (1) . العولمة والإسلام والعرب: 10.
2- (2) . فوکایاما، أستاذ العلوم السیاسیّة، جامعة جورج مازون، فی الولایات المتّحدة الأمریکیّة، نهایة التاریخ، ص189.
3- (3) . المصدر ، ص189.

فالإسلام بزعم فوکایاما، یُعدُّ أکبر عقبة أمام الدیمقراطیّة والتطوّر الحالی فی أن یعمّ العالم أو یحکمه؛ لأنّ فی المسلمین نزعة عرقیّة ووطنیّة مبالغاً فیها.

کما أنّ الدین الإسلامی - بزعمه - ضدَّ التسامح والمساواة، لهذا یری فوکایاما أن ترکیّا هی الدولة الوحیدة فی العالم الإسلامی المعاصر التی قبلت الدیمقراطیّة اللیبرالیّة، لأنّها طرحت التراث الإسلامی واختارت أن تقیم مجتمعاً علمانیّاً مع بدایة القرن العشرین. (1)

ولو راجعنا کتاب صدام الحضارات ل- : صاموئیل هنجتون، لرأیناه یقسَّم التاریخ الحضاری للشعوب إلی ثمانی حضارات رئیسیة، هی:

الصینیة (الکونفوشیّة)، والهندیّة (الهندوسیّة)، والیابانیّة (البوذیّة)، والإسلامیّة (الإسلام)، والأرثوذکسیّة (روسیا وشرق أوربا)، والغربیّة (الکاثولیکیّة البروتستانتیّة)، والإفریقیّة (إفریقیا السوداء)، واللاتینیّة (أمریکا الجنوبیّة) (2).

ویؤکَّد هنجتون علی أنَّ الدَّین قاعدة، أی: حضارة من هذه الحضارات، سواء کان دیناً سماویّاً (الإسلام - المسیحیّة)، أو وضعیّاً (الکونفوشیّة والبوذیّة)، بمعنی: أنَّ الاعتقاد الدینی مؤسَّس الحضارات وباعث الصدام فیما بینها.

ومن هذا المفهوم ینطلق لیبثَّ فکره بترسیخ مقولة فحواها:

إنَّه یقدَّر وعی أهل کلَ ّ حضارة من الحضارات، لمعتقدهم الدینی، وتعصبهم له یکون تهیئهم للصّدام.

ولهذا یقول للعالم بخطاب تحذیری:

إنَّ الإسلام وعی دون تماسک، وإنهَّ إذا تماسک المسلمون سیکون

ص:53


1- (1) . المصدر.
2- (2) . المصدر.

خطراً علی العالَم، فهم أوعی أصحاب الدیانات لدینهم، ولا یحول بینهم وبین الصدام إلاّ التفکک والضعف (1).

إنّ خطورة الإسلام حسب وعی هنجتون تکمن فی وعی المسلمین للإسلام، وحبّهم له، وفی فقر المسلمین وخصوبتهم، الانجذابیّة التی تدفعهم حتماً إلی الصدام مع جیرانهم فی خطوط التقسیم الحضاری، وتحدث فروقاً ثقافیة قویّة ذات تأثیر قوی فی رفض کلَ ّ أسالیب الغرب ونظمه السیاسیّة والثقافیّة والاقتصادیّة، وتهدیده الحضارة الغربیة التی قامت علی أساس الدیمقراطیّة (2) التی بنظره تستطیع استقطاب کلّ الحضارات إلاّ الإسلام: لأنّه بنظره یقسَّم العالَم إلی: دار السلام ودار الحرب، ولهذا ینصح الغرب فی سیاسته مع العالم الإسلامی أن یستخدم موارده الاقتصادیّة ببراعته بأسلوب الجزرة والعصا فی التعامل مع هذه المجتمعات .

وفی جمیع ذلک کان الإسلام من ضمن الأسباب التی عملت علی تعجیل ولادة العولمة الجدیدة، لما یحمله من مفاهیم ومبادئ تخالف ما جاءت به الأدیان الأخری والمذاهب والرأسمالیّة، بحسب نظره هو.

وما یحمله المسلمون من قیم ومبادئ وثقافة عالمیّة، ستکون مستقبلاً حاکمة علی کلَ ّ العالم.

إذا : بعد هذه النشأة والولادة القدیمة الحدیثة لمصطلح العولمة شاع صیته وصبت المصطلحات الأخری المقارنة له، مثل: الکوکبة والکونیّة و الشمولیّة، وهی المفردات الأکثر شیوعاً وانتشاراً فی السبعینات من القرن العشرین.

أمّا بدایة ظهور العولَمة، فقد تحدّد بأواسط السبعینات عندما صدر کتاب

ص:54


1- (1) . صدام الحضارات، ترجمة طلعة الشایب: 189.
2- (2) . المصدر: 189.

مارشال ماک (1)، وإنْ لم تصل إلینا إحداث هذه الظاهرة إلاّ فی السنوات الأخیرة من القرن الأخیر. وأصبح مصطلح العولمة أکثر شیوعاً فی مؤسّسات إدارة الأعمال من خلال انطلاق الدور الذی لعبته الشاشة المرئیّة أثناء حرب فیتنام، واستنتج الکاتب بأنَّ الشاشة الصغیرة التی حولت المشاهدین من مجرّد مشاهدین إلی مشارکین فی لعبة الحرب، الأمر الذی أدّی إلی اختفاء الحدود بین المدنیّین والعسکریّین، وأصبح للإعلام الألکترونی فی وقت السلّم محرکاً للتغیر الاجتماعی (2).

وقد أعطی التطوّر الهائل فی مجال وسائل الاتصال لهذا المصطلح وهذه الظاهرة مصداقیّة القضاء علی الحواجز والمسافات التی یصعب اجتیازها فی الماضی. وشاع فی نفس الوقت شعار ثورة الاتّصالات التی تغلَّف موت الأیدلوجیات وتتبع الفرص لنشوء المجتمعات الجدیدة التی تسود فیها العناصر الأساسیّة لفکرة العولمة، مثل: العلاقات المتبادلة بین الأمم سواء المتمثّلة فی تبادل السلع والخدمات فی تأثر أُمَّة بقیم وعادات غیرها من الأمم، وإن کانت کلُّ هذه العناصر یعرفها العالم منذ بدایة الکشوفات الجغرافیّة، فی بدایة القرن الخامس عشر المیلادی، أی: منذ خمسة قرون ونصف تقریباً، وإن کانت بطور تدریجی ولیست بذلک الحجم المعروف الیوم والکم الهائل فی الوقت الحالی.

إذاً: فالظاهرة موجودة منذ القدم، ولو کانت منذ خمسة قرون ونصف علی الأقل، وبدایتها ونمّوها مرتبطان ارتباطاً وثیقاً بتقدم تکنولوجیا الاتّصال والتّجارة، منذ اختراع البوصلة حتّی الأقمار الصناعیة، نعم، وإن کانت النشأة الواقعیّة للعولَمة بحسب التعاریف اللغویّة، ترجع أصول الظاهرة هذه إلی

ص:55


1- (1) . نقلاً عن کتاب: بدایات العولمة.
2- (2) . العرب والعولمة شجون الحاضر وغموض المستقبل: 20.

تواریخ وعصور الدیانات السماویّة، وأهمّها الإسلام الذی شکلَّ ظاهرة عالمیّة من خلال تأکیده علی إشاعة عالمیّة الدعوة التی لا تفرَّق بین جنس وآخر، ولا بین لون وآخر، نابذةً کلَّ عناصر الفرقة والتمییز بین البشر، إلاّ أنّه من المهمّ إدراک هذه الحقیقة والتأکید علیها.

لقد أخذت الأوضاع العالَمیّة منذ منتصف الثمانینات وبالتحدید منذ عام 1985م - عندما صعد میخائیل غورباتشوف إلی سدّة رئاسة دولة الحزب الشیوعی السوفیاتی - تتغیر بشکل متسارع بعد إملائه سیاسة إعادة البناء والمکاشفة، لیدخل علینا عقد التسعینات بحدیث جدید عن وضع عالمی جدید، یرتبط بما یحدث من تغیرات علی موازین القوی بین الدول الکبری، وعلی التکتلات الدولیّة وما یترتّب علی ذلک من بدایة لوجود خلل فی التوازنات بین القوتین العظمیین. وما أن بدأ الاتّحاد السوفیاتی یتخلّی عن حلفائه، ومرّر أکثر نفوذه الإستراتیجی فی آسیا، وإفریقیا، وأمریکا اللاتینیة، ثمّ ما حدث بعد ذلک عام 1989م من انتفاضات، ومن تفکیک الاتّحاد السوفیاتی، وخروجه من دائرة الدول العظمی والحداثة إلی دائرة التراث المفهوم الرئیسی فی الثقافة الکونیّة والقومیّة، والکونیّة للحداثة فقد بدأ رسم خّطاً بیانیّاً لمراحل تطوّر العولمة وامتدادها عبر القرون الماضیة.

ثانیاً: مراحل تطوّر العولمة

إنَّ نقطة الصفر - البدایة - لبدایات العولمة عند روبرتسون، هی ظهور الدولة القومیّة الموحَدَّة، ومن ثَمَّ قسَّم مراحل تطوّر العولمة إلی خمس مراحل:

المرحلة الأولی: المرحلة الجینیّة، وبدایتها منذ القرن الثانی عشر، حتّی منتصف القرن الخامس عشر، وهی التی شهدت نموّ المجتمعات القومیّة.

المرحلة الثانیة: وهی مرحلة النشوء، من منتصف القرن الثامن عشر حتّی

ص:56

عام 1870م، وما بعده وشهدت العلاقات بین الدولة والفرد والدستور والعلاقات الدولیة (المجتمع الدولی).

المرحلة الثالثة: مرحلة الانطلاق، بدأت من عام1870م حتّی العشرینات من القرن العشرین، واتسعت بظهور الأفکار الکونیّة فی السیاسة، والریاضة والاقتصاد.

المرحلة الرابعة: مرحلة الصراع من أجل الهیمنة، من العشرینات حتّی الستینات من القرن العشرین، وشهدت الحروب الکونیّة والصراعات، ثمّ ظهور الأمم المتحدة.

المرحلة الخامسة: مرحلة الظهور الکامل، وبدأت من الستینات حتّی أواخر القرن العشرین، وهی مرحلة التقدُّم العلمی والفنّی الهائل، والهبوط علی القمر، وعصر ثورة الاتّصالات، ..الخ (1).

وقد قسّم البعض مراحل تکون العولمة إلی ثلاث مراحل هی:

المرحلة المیرکتالیّة والرأسمالیّة التجاریّة 1500-1800، و المرحلة الصناعیّة 1800-1950، و المرحلة الرأسمالیّة المعاصرة 1950م إلی الوقت الحاضر (2).

وإذا ما مررنا بهذه المراحل وجدنا أنّ الرأسمالیّة، مازالت فی تطوّر مستمرّ لعملیّة الانتاج مع متطلّبات کلَ ّ مرحلة من المراحل التی مرّت بها، والدور الذی یتطلّب لوسائلها وأسالیبها. إذاً: یمکن اعتبار العولمة ثمرة من ثمار الرأسمالیّة (3).

إنّ عملیّة العولمة قد تباطأت وأعیقت نتیجة شهودها لحربین عالمیّتین - الأولی والثانیة- وقیام الثورة البلشفیة، التی أدَّت إلی ظهور السوفیّتیّة، کقوی عظمی وتنامیها، ونهایة مرحلة الکولونیالیّة ومحاولة عدد من المستعمرات المحافظة علی أسواقها ومصادر صناعاتها، الطبیعیة، ثمّ قیام الحرب الباردة

ص:57


1- (1) . العولمة مالها وما علیها: 4.
2- (2) . المصدر: 4.
3- (3) . الفکر الإسلامی المعاصر: 42.

بین المعسکرین، الرأسمالی والاشتراکی التی مرّت بها العولمة حتی أصبحت فی یومنا هذا عبارة عن المراحل التالیّة (1).

المرحلة الأولی: بدأت فی القرن الثالث عشر المیلادی، حیث نشأت العولمة نتیجة إفرازات لأفکارمن الدین المسیحی وزیادة سلطة الکنیسة، وبدایة الحدیث عن وحدة العالم ووحدة الإنسانیّة.

المرحلة الثانیة: بدأت فی منتصف القرن الخامس عشر حین بدأت الدولة تتحدَّث عن العلاقات الدولیّة والقانون الدولی، وبدایة الحدیث عن ضرورة احترام جمیع الدول لمبادئ القانون الدولی.

المرحلة الثالثة: بدأت فی القرن التاسع عشر وامتدَّت حتّی منتصف القرن العشرین، حیث شهدت الإنسانیّة اختراعاً وتقدّماً فی المواصلات والاتّصالات، کما شهدت حروباً کثیرةً شارکت فیها دول کثیرة.

المرحلة الرابعة: وقد امتدّت من منتصف القرن العشرین حتّی السبعینات من هذا القرن، وهی مرحلة ظهور عصبة الأمم المتّحدة، والتنافس بین دول العالم للوصول إلی القمر والتهدید بالحروب النوویّة.

المرحلة الخامسة: وهی المرحلة التی نشهدها حالیاً والتی تمثّلت بانتهاء الحرب الباردة، وولادة الشرکات عابرة القارّات والشرکات متعدّدة الجنسیّات وسیادة الأمم المتّحدة أو دولة واحدة فی هذا العالم، بعد سقوط الاتّحاد السوفیاتی.

نعم، ربّما تکون المراحل الآنفة الذکر قد شکّلت مراحل تطوّر العولمة علی الصعید السیاسی أکثر منه علی الصعید الاقتصادی والصناعی، والتی تمثَّل التطوّر الحقیقی لأدوات العولمة الحالیّة، ویعزَّز هذا القول، هوان التکنولوجیا بتوجهها العالمی وتجاهلها للحدود والفوارق والممیّزات

ص:58


1- (1) . العولمة والهویّة، جرید المستقبل العربی، العدد: 133/ 2.

والخصائص تجتاح الحواجز، وتفرض واقعاً أیدلوجیاً جدیداً، أقرب إلی القریة العالمیّة، أو ما یسمی ب- : القریة الکونیة، والکوکبة الواحدة، خاصّةً ما طرحته الثورة الصناعیّة فی میدان الاتّصالات والمواصلات. ومن القضاء علی سطوة الزمان والمکان، لکن هناک من یری أنّ العولمة، مرّت بمسارین عبر عملیات التدویل (1) خلال حقبتین اثنتین، الأولی: فی السنوات الأخیرة من القرن التاسع عشر وبدایة القرن العشرین مرحلة بزوغ الإمبریالیّة.

والثانیة: بعد الحرب العالمیّة الثانیة، حیث واکب ارتفاع توسع المبادلات التجاریّة والدولیّة، وانتقال رؤوس الأموال عبر الحدود الوطنیّة، فهذه مجموعة من المراحل التی مرّت بها العولمة حتّی وصلت إلی زماننا الحاضر.

الآلیّات والاتّجاهات العولمیّة:

اشارة

العولَمة کما أسلفنا، هی منظومة متکاملة یرتبط فیها الجانب السیاسی بالجانب الاقتصادی، والجانبان معاً یتکاملان مع الجانب الاجتماعی والثقافی، بحیث لا یکاد یستقلّ جانب منها بذاته، وعلی هذا الأساس، فإنّ العولمة الثقافیّة هی ظاهرة مدعومة دعماً کاملاً بالنفوذ السیاسی والاقتصادی الذی یمارسه الطرف الأقوی فی الساحة الدولیّة، والعولمة السیاسیّة دخلت أیضا بدوافع اقتصادیّة وسیاسیّة وثقافیّة کذلک.

إذاً: لهذه الظاهرة أقسام، منها: العولمة الاقتصادیّة، والعولمة السیاسیّة، والعولمة الثقافیّة.

وفیما یأتی نقوم بتوضیح کلّ قسم من هذه الأقسام، وبیان الآلیّات المعتمد علیها فی کلّ قسم منها، مع بیان النظریّات الخاصّة بها، ومن ثَمَّ عرضها علی القرآن الکریم مع عرض النظریّة القرآنیّة.

ص:59


1- (1) . تحدّیات عولمة الاقتصاد والتکنولوجیا فی الدول العربیّة: 9.
أوّلاً: الآلیّات العولمیّة:

لقد حاولت العولمة أن تتّخذ من تطور الفکر الإنسانی المعاصر- والذی ربّما کان نتیجة تکامل المجتمعات الإنسانیّة بصورة طبیعیّة- کمبدأ لعرضها وانتشارها، وهذا ممّا لم یعهد فی الحضارات السابقة، فدخلت القوی الرأسمالیّة الفاعلة فی النظام الدولی.

ومن خلال هذا الباب، أن تحقّق عولمة العالم، اقتصادیّاً، وسیاسیّاً، واجتماعیّاً، وفکریّاً، وثقافیّاً، بل حتّی عسکریّاً، وذلک عبر مجموعة الآلیّات والوسائل التی تتلخّص فی:

1. المؤسّسات النقدیّة والمالیّة الدولیّة.

2. منظمة التجارة العالمیّة.

3. الشرکات المتعدّدة الجنسیّات.

4. حلف شمال الأطلسی.

5. المنتدی الاقتصادی العالمی.

1. المؤسّسات النقدیّة والمالیّة الدولیّة:

إنّ مؤتمر بریتون وود الذی حضرته 44 دولة، تمّ فیه إنشاء صندوق النقد الدولی لتنظیم العلاقات الدولیّة، وکذلک البنک الدولی للإنشاء والتعمیر لتنظیم العلاقات الدولیّة المالیّة، وذلک فی 22تموز عام 1944 (1).

أمّا البنک الدولی، فتأسَّس لأعادّه أوربا الغربیّة، وبنائها بعد الدمار الذی حلَّ بها جرّاء الحرب العالمیّة الثانیّة.

فکلٌّ من المؤسَّستین کانت تسعی لتثبیت رکائز العولمة التی تحقّق معدلات نموّ مالیّة لدول الشمال تارکةً الجنوب یغرق فی الدیون التی أثقلت عاتقه.

ص:60


1- (1) . الفکر الإسلامی المعاصر والعولمة: 57.

ویصف صندوق النقد الدولی العولمة بأنها:

اعتماد اقتصادی متبادل ومتنامٍ لجمیع بلدان العالَم التی تبحث عن تنوع الثقافة، وتزاید الصفقات عابرة الحدود للموّاد والمنتجات والخدمات والتدفّقات الدولیّة لرؤوس الأموال فی الوقت الذی یتمّ فیه الانتشار المتزاید للتکنولوجیا (1).

وممّا یدلُّ علی تغییر سیاسات هذه المؤسّسات الدولیّة علی وفق ومضامین اللیبرالیّة المعاصرة هو ما جاء علی لسان أحد خبراء البنک الدولی، من أنّ الوضعیّة القدیمة للبنک مستمرّة بأسالیب جدیدة وبرؤیّة مغایرة، حیث کان البنک یؤکّد علی إقراض الدول، أمّا الآن، فیرکزّ علی إقراض القطاع الخاصّ (2).

وعلی هذا الأساس فإنَّ المؤسّسات الدولیّة أصبحت آلیّة لما تنطوی علیة العولمة من مفاهیم، وجعلها وقفاً مفروضاً علی جمیع دول العالم.

ونتیجة لذلک أصبح هذا التباین الحالی بین الدول النامیة المسیطرة من جهة والدول الفقیرة من جهة أُخری.

إذاً: فالصندوق والبنک الدولیّان، ما هما إلاّ أداتان رئیستان من أدوات الهیمنة والتبعیّة الاقتصادیّة للدول الصناعیّة، وهما آلیتان قدیمتان استعملتا سابقا للغرض نفسه، إلاّ أنّهما خلال العقد الأخیر من القرن العشرین جری استحداث وتجدید وسائلهما وأسالیبهما علی وفق التطوّرات العالمیّة، وبشکل ینطلق مع مسار انطلاق العولمة محاولةً ترسیخ مبادئها وتثبیتها بشکل قسری علی جمیع بلدان العالم.

2. منظمة التجارة العالمیّة:

إنّ النظام العالمی الجدید الذی أقیم بدعوة من جورج بوش فی آذار

ص:61


1- (1) . المصدر: 57.
2- (2) . الخیر الدولی، البنک الدولی یُعید هیکلیّة سیاسته: 43.

1991م کان یرتکز علی دعامتین، الصندوق والبنک، ولما کان بحاجة إلی دعامة ثالثة تمّ إنشاء منظمة التجارة العالمیّة، فی1995/1/1م.

وقد تمخضت عن المراحل النهائیّة لمفاوضات جولة ارغوای الثامنة فی إطار اتّفاقیّة اللغات فی المطلع الثالث لمؤسّسات بریتون وودز لیتمثل هدفها فی تمکین الدولة العضو فی الاتّفاق من النفاذ إلی بقیّة الأسواق للدول المتعاقدة، وبما یحقّق التوازن بین الحمایة للانتاج الوطنی واستقرار التجارة الدولیّة (1).

ومن هنا اتّضح أنّ هذه الاتّفاقیّة استهدفت مجال التجارة الدولیّة لمحاولة القیام بإزالة جمیع العوائق الجمرکیّة لتوسع حجم التبادل التجاری، ولمعاودة تحریک الاقتصاد بعد الحرب العالمیة الثانیة.

وبهذا قامت المنظمة التجاریّة کمکمَّل ثالث للبنک الدولی وصندوق القرض الدولی؛ لأنّها جعلت أسواق الدول النامیّة مفتوحة أمام السلع والخدمات الأجنبیّة، بشکل یؤثّر فی سیادتها وهو تعبیر عن غزو جدید متمثل بتنمیط أذواق شعوب البلدان النامیّة علی وفق نمط واحد (2).

3. الشرکات المتعدّدة الجنسیات:

إنّ الآلیّة الثالثة من آلیات انتشار العولمة هی الشرکات المتعدّدة الجنسیات، وسمّیت هذه الشرکات بهذا الاسم لکونها تتعدّی الحدود القومیّة للدول ذات السیادة (3). وهذا ممّا زاد نفوذ هذه الشرکات فی حقبة ما بعد الحرب الثانیة، إذ استطاعت أن تتحوّل إلی قوّة من القوی الحاکمة والمتحکَّمة والمتنفذة بمجری التطوّرات الاقتصادیّة والسیاسیّة فی العالم المعاصر، فهذه الشرکات لا تبقی فی البلد الأمَ ّ، وإنّما تنطلق لتحقیق

ص:62


1- (1) . الفکر الإسلامی المعاصر وعلاقتها بالعولمة: 57.
2- (2) . رؤیة مستقبلیّة فی الاقتصاد والسیاسة:1 /108.
3- (3) . سمیر أمین، بعض قضایا المستقبل.

استثماراتها فی خارج حدودها کونها قادرة علی تحقیق معدلات الربح فی الخارج أکثر من معدلات الربح فی داخل وطنها الأُمّ.

وقد شهدت هذه الشرکات توسعاً هائلاً خلال السنوات من 7000 شرکة فی عام 1955 إلی 37000 شرکة فی 1970 تعمل خلال 2000000 فرع - وتضاعفت مبیعاتها مابین 70 تریلیون دولار مابین عام 1980-1992- فزادت من4/2ترلیون دولار إلی5/5 تریلیون دولار.

وأغلب الشرکات العالمیة هی من الدول الصناعیّة المتقّدمة والرأسمالیّة التی تدعو إلی الانفتاح الاقتصادی، والأخذ باقتصاد السوق کآلیّة للعولمة الاقتصادیّة سعیاً إلی معدلات النمو والربح الفاحش، کما أصبحت القوّة الدافعة لمنظومة العولمة علی الدوام (1).

قال جوزیف کمبلی:

إنّ تزاید قوّة وهیمنة الشرکات المتعدّدة الجنسیّات دفع بمیزان القوّة فی العالم إلی أنّ یتحرّک علی نحوٍ ثابت لمصلحة هذه الشرکات فی الوقت الذی تتجرّد فیه الدولة من سلطتها، فی ممارسة الحکم (2).

وقال الفیلسوف الاقتصادی الألمانی وولف جانح ساجس:

إنَّ أسوأ ما یمکن تصوّره، وحصوله هو أن تنجح مساعی العولمة؛ لأنّ المستفید منها أقلیّة صغیرة، محاطة بمجموعة لها علاقات اقتصادیّة مع هذه الأقلیّة، أمّا بقیّة البشر فلیس لهم إلاّ أن یقاتلوا.

فلیست العولمة نادیاً للجمیع یمکن أن یدخله الغنّی للبحث عن فرص الاستقواء، ویدخله الفقیر للبحث عن فرصة غنّی، بل نادیاً یدخله الأغنیاء والأقویاء، ولا یدخله سواهم (3).

ص:63


1- (1) . العولمة رقاب کثیرة وسیف واحد.
2- (2) . الشرکات المتعدّیة الجنسیّات والعولمة: 124.
3- (3) . العولمة وتحدیات المواجهة: 13.

إنَّ المحرّکین للعبة العولمة یضعون جلَّ اهتماماتهم ومستقبل تحقیقها بأیدی هذه الشرکات لمالها من قدرة بعیدة المدی عمیقة الأهداف متخطیّة القریب والبعید، ساعیة إلی ترسیخ الرأسمالیّة المعاصرة فی جذور الکون وتثبیتها.

4. حلف شمال الأطلسی:

إنَّ المحرَّکین لعملیّة العولمة، أعادوا ترکیب أکبر وأضخم تحالف عسکری غربی کقوّة غیَّرت مسار اتّجاهاتها من الموقف الدفاعی فی حقبة الحرب الباردة، إلی الموقف الهجومی، کلُّ ذلک یخدمها کقوّة عسکریّة متنامیّة، لمصالح الدول الصناعیّة، لاسیّما لولایات المتّحدة الأمریکیّة، المستفید الأکبر من بقاء هذا الحلف (1).

لقد کان تأسیس حلف شمال الأطلسی سنة 1949 م حینما کانت الفوضی هی أبرز سمات النظام السیاسی بعد الحرب العالمیّة الثانیّة، بهدف الدفاع عن أوربا الغربیّة، وتشکَّل لیشمل عضویّة کلً ّ من: کندا وبلجیکا، والیونان والدانمارک، وأیسلندا وإیطالیا، ولوکسمبورج وهولندا، والبرتغال وبریطانیا، وألمانیا الغربیة وترکیا، وأسبانیا.

إنَّ ما حصل هو تعالی أصوات کلً ّ من الولایات المتّحدة الأمریکیّة ودول غرب أوربا، بضرورة بقاء الحلف وعدم حلَّه، وأکّدوا أنَّ الحلف من شأنه أن یؤدّی إلی استقرار أو منع قیام صراع بین دول أوربا الغربیة، وهذا یعنی استمرار الأثر القیادی الأمریکی.

فالناتو أصبح الأداة الرئیسیّة لضمان النفوذ الأمریکی فی الشؤون الأوربیّة، وتهدف الولایات المتّحدة الأمریکیّة من الاحتفاظ بالناتو فی سبیل استمرار قیادتها للعالم، إذ جاء علی لسان وزیر الدفاع الأمریکی ولیام کوهن، من ضرورة المحافظة علی قوّة الولایات المتّحدة الأمریکیّة

ص:64


1- (1) . العلم المعاصر والصراعات الدولیّة: 33.

فی جمیع المیادین بشکل لا یضاهی (1)، أی: أنّها تسعی إلی القیادة التی تکون فوق کلّ شیء.

إنّ َ معظم ما یحصل من تغیّرات وأحداث عالمیّة، وخطط هو لصالح أمریکا وحلفائها، وإلاّ علی ماذا تستند لاستمرار حلف الناتو، بعد سقوط منافسها الذی کان یقلقها، وهو الاتّحاد السوفیاتی؟

إنَّ استعمال الولایات المتّحدة للحلف - لاسیّما بعد توسّع حدوده الجغرافیّة لضمّ أوربا الشرقیّة - کأحد أبعاد العولمة.

ولعسکرة العولمة، أصبح الناتو الآلیة العسکریّة لنشر العولمة، عبر إضفاء طابع مؤسّس علی التحالف الغربی بقیادة الولایات المتّحدة الأمریکیّة، ولیس قیامه مجرّد حلف عسکری مثلما کان أثناء الحرب الباردة (2).

إذاً: عسکرة العولمة عن طریق حلف الناتو جعلت هذا الحلف فوق سلطة مجلس الأمن کقوّة عسکریّة بدیلة لحکم القانون.

5. المنتدی العالمی (دافوس):

وهؤلاء هم الفاعلون الجدد الذین یقومون بدعم العولمة والسیر بها قدماً، عن طریق القبض علی جمیع اللقاءات والاجتماعات الدولیّة، فمنتدی الاقتصاد العالمی فی دافوس، بسویسرا، هو الذی تکون فیه اللقاءات السنویّة للتفاوض ومناقشة جمیع القضایا التی تشهدها الساحة الدولیّة، وفی اجتماعهم الأخیر جعلوا العولمة أهمّ قضایاهم المطروحة، وفی کیفیّة توظیف الاقتصاد فی خدمة السیاسة، بحیث یحقّق هذه العملیّة بصورة أسرع، حاولوا جذب اهتمام الآخرین للعولمة عن طریق إبراز محاسنها بمالها من قدرة علی التحوّل إلی عنصر فاعل وضاغط.

ص:65


1- (1) . الفکر الإسلامی المعاصر وعلاقته بالعولمة: 57.
2- (2) . المؤتمر القومی العربیک121، 255، أیار، 2000 م.
ثانیاً: الاتّجاهات العولمیّة:

أخذت العولمة المعاصرة اتّجاهات عدَّة وأشکالاً متنوعة، دخلت من خلالها إلی أکثر المجتمعات - إن لم تکن جمیعها - فبدأت هذه المجتمعات بالارتباط فیها والتغیر معها، إیجاباً أو سلباً.

ونحن وفی سبیل المقارنة بین العولمة، والعالمیّة فی الإسلام أو العولمة الإسلامیة، لابدّ لنا من معرفة الأبواب الرئیسیّة التی دخلت العولمة من خلالها إلی هذا العالم، ولمّا کانت أبواب العولمة کثیرة ومتعدّدة للغایة، وربّما لا نستطیع حصرها، وذلک للتطوّر المستمرّ فیها،ولذلک سوف نقوم بمناقشة بعض الأبواب المهمّة والرئیسیّة فیها، والتی هی بنظرنا العولمة الثقافیّة والعولمة السیاسیّة، وإلیک تفصیلها أو نبذةً عنهما.

العولمة الثقافیّة

اشارة

حَضیِت الثقافة فی العصور الحدیثة بتعریفات متعدّدة، بقدر المساحة التی تغطیها النشاطات الثقافیّة، وتتّسع کذلک لتشمل کلَّ نواحی الحیاة الاجتماعیّة وما تستبطنها أیضاً.

وبعد التأکید علی هذا الجانب. أو ذاک حصلت تعریفات متعدّدة مختلفة ومتمیزة بعضها عن البعض الآخر، وتتردَّد هذه التعریفات بین مفهوم ضیَّق للثقافة، بحیث یجعلها مقتصرة بالدرجة الأولی علی النشاطات العقلیّة العلیا، أو علی الانتاج الذهنی، سواء کانت علی المستوی الشعبی أو علی المستوی الرسمی، الحیّة أو الموروثة، وبین مفهوم ثالث أکثر شمولاً یحاول أن یربط الثقافة بکلّ النشاطات الذهنیّة، والجسدیّة التی تخلق لدی جماعة معیّنة بطریقة متمیّزة فی السلوک والحیاة.

ص:66

ولأجل إیضاح معنی الثقافة العالمیّة، التی أخذت المحاولات الغربیّة تشیعها فی أرجاء المعمورة جمیعها مع بدایة تداعیات وتجلیات الوضع الدولی الجدید، ولإبراز الموقف الإسلامی المعاصر الذی یؤکَّد دوماً علی خصوصیّة الثقافة الإسلامیّة، کان لزاماً علینا أن ندخل فی المعانی اللغویّة والاصطلاحیّة للفظة العولمة الثقافیّة، والبحث فی آلیاتها:

الثقافة لغةً واصطلاحاً:
اشارة

والآن نتناول تعریف الثقافة لغةً واصطلاحاً، ومن ثَمَّ نذکر الثقافة فی الإصلاح العولمی المعاصر.

1. الثقافة فی اللغة:

لقد تمَّ اشتقاق لفظة الثقافة من الفعل ثقف، الذی ورد فی معانی متعدّد، وأماکن متباینة فی القرآن الکریم فی الکثیر من آیاته المبارکة التی جاءت جمیعها تحمل معنی: وجد، مثل آیة: وَ اقْتُلُوهُمْ حَیْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَ أَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَیْثُ أَخْرَجُوکُمْ 1 ، فَخُذُوهُمْ وَ اقْتُلُوهُمْ حَیْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ 2 ، یَثْقَفُوکُمْ یَکُونُوا لَکُمْ أَعْداءً 3 ، فَإِمّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِی الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ یَذَّکَّرُونَ 4 ، ضُرِبَتْ عَلَیْهِمُ الذِّلَّةُ أَیْنَ ما ثُقِفُوا 5 ، مَلْعُونِینَ أَیْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَ قُتِّلُوا تَقْتِیلاً 6 .

ص:67

فی حین ورد أنَّ الثقافة من الفعل:

ثقف، ثقف الشیء ثقفاً، وثقوفة:حذقه.

ورجل ثقف: رجل حاذق الذهن.

کما یُقال: ثقف الشیء وهو سرعة التعلّم.

وثقف الرجل ثقافة: صار حاذقاً (1).

وقال الزمخشری:

الثقافة من الفعل ثقف.

وثقفت العلم أو الصناعة إذا أسرعت أخذه.

وفلان من أهل المثاقفة، وهو مثاقف، حسن الثقافة بالسیف.

ولقد تثاقفوا فکان الحقّ أثقفهم (2).

إذاً: تأتی لفظة العولمة بمعنی: وَجَدَ فی الکثیر من معانیها.

2. الثقافة اصطلاحاً:

عُرَّفت الثقافة بأنّها منظومة معرفیّة سلوکیّة منتقاة تشمل العقائد وکلَّ ما یصفه الإنسان بالحیاة بما یحقَّق به وجوده ورأُیه، والتعبیر عن ذلک بمختلف النشاط الإنسانی (3).

إنَّ الثقافة صورة حیّة لها حدود تحدَّد ملامح شخصیّتها وتصدر عن عقیدتها ومبادئها ونظمها وتاریخها وتراثها، وتتفاعل مع الثقافات والأمم والشعوب الأخری،

وتقبل الأفکار والعلوم والفنون المختلفة المنظورة، وتتفاعل مع ما یلائمها، وترفض ما عداه ممّا فی الخطة الشاملة للمنظومة العربیّة: إنَّ الثقافة بالمعنی العربی الأصلی للکلمة، تعنی: سرعة التعلم والحذق والفطنة، وثبات المعرفة بما یحتاج إلیه المرء.

ص:68


1- (1) . لسان العرب: 9 / 19.
2- (2) . أساس البلاغة: 95.
3- (3) . الخطّة الشاملة للثقافة العربیّة، المنظمة العربیّة لتربیّة والثقافة: 12.

وقد تعدّدت الکلمة وتنوعت بالمعنی الأنتربولوجی، فهی مفهوم یشمل کلّ الفعّالیّات لرفض التقبل السلبی للطبیعة وهو الثقافة, اعتباراً من أبسط السلوک الإنسان البدائی حتّی العصر الإلکترونی (1).

ویدخل ضمن هذا المفهوم الثقافة کلّ ما تنتج البشریّة من الحیاة من انتاج مادّی وغیر مادی - معنوی - سواء أکانت تراکم خبرات، أم ممارسات فکریّة، أم تصوریّة ناتجة من عقائد روحیّة، أم صنع أداة من الأدوات، أم من إضافات جدیدة (2).

وکذلک ما قالته الدکتورة سلوی العمد:

من أنّ مصطلحی: ثقافة ومثقّف فی الوجدان الإسلامی المعاصر، تشیران لمجمل النتائج الذهنیّة للمفکّرین والأدباء، وغیرهم من المبدعین فی میادین: الأدب والفکر والفن، و بالرغم من کثرة میادین الإبداع. وهذا الأقرب لمصطلحی ثقافة ومثقف، إلاّ أن أصول مصطلح الثقافة تقترح ما هو أوسع من نتائج النخب الإبداعیّة (3).

ویری الدکتور حسن حنفی:

أنّ لکلّ ثقافة مسارها الخاصّ بها، ولا یوجد مسار واحد لجمیع الثقافات، فالثقافة تعبّر عن مرحلة تاریخیّة بعینها، وتشکَّل أطار الوعی التاریخی للأمّة (4). و عرف بابلور الثقافة:

بالحضارة: هی مجمل الترکیبة التی تحتوی علی المعارف والعقائد، والفنّ والأخلاق، والقانون، والتقالید، وکلَ ّ القدرات التی یکتسبها الإنسان بصفته عضواً فی مجمتع ٍما (5).

ص:69


1- (1) . المصدر: 17.
2- (2) . مجلة أفکار، العدد: 142 / 6، أیار 2000 م؛ وزارة الثقافة: 17.
3- (3) . الخطّة الشاملة الثقافة العربیّة، المنظمة العربیّة لتربیّة والثقافة: 17.
4- (4) . العولمة والهویّة: 27.
5- (5) . مجلة أفکار: 7.

وتقول الدکتورة سلوی العمد:

بأنّه منذ وضع بابلور هذا التعریف عام 1871م، وعلماء الأنتربولوجیا یتداولون مصطلح الثقافة باستخدامات متعدّدة، ولم یکن هناک إجماع لتعریف واحد شامل للأبعاد التکاملیّة للثقافة.

وتضیف کذلک أنّ علماء الأنتربولوجی جمعوا قبل خمسة عقود ما یقارب ثلاثمائة تعریف، ثمّ جاء العالم الأنتر بولوجی، کابلان لیذکر بان علماء الأنتر بولوجی یجمعون علی أمر واحد علی الأقلّ، وهی: أنّ الثقافة تتألّف من نماذج من التعاریف المترابطة التی استمر تداولها عبر الزمان والمکان بوسائل غیر بیولوجیة، ومن خلال إعمال العقل والقدرات اللغویّة والترمیزیّة التی تمیز بها الإنسان عن سائر المخلوقات (1).

3. الثقافة فی الاصطلاح العولمی المعاصر:

وبعد نقل هذه التعاریف، لغةً واصطلاحاً، نودُّ الدخول إلی المراد من الثقافة فی الاصطلاح العولمی المعاصر، والنظر فی ما هو المراد من العولمة الثقافیّة.

إنَّ العولمة تعنی: محاولة فرض نمط من أنماط السلوک و التفکیر و الاستهلاک الغربی لتجعلها عالمیّة الطابع، أی: فرض نوعاً من القیم الخاصّة بأمَّة من الأمم، علی الشعوب الأخری، بتحویلها إلی قیم عالمیة (2)، أی: أنَّ هذه الثقافة تصبح مصدر القیم الإنسانیّة الأساس، ومنبعها ومرجع الأمم الأخری کافة؛ لتنهل من هذا المنبع ألقیمی، والقیم الأخلاقیّة، التی تقیم أساس المجتمع المنیع هذا (3) فضلاً عن أنّها صاحبة نظرة إنسانیّة شاملة ممیزة تتجاوز هویّة محدّدة، تحاول فرضها علی غیرها من الثقافات، کما

ص:70


1- (1) . الفکر الإسلامی المعاصر.
2- (2) . ثقافة المسلم بین الأصالة والتحدیّات، دراسات منهجیّة هادفة، العدد: 5 / 22.
3- (3) . اغتیال العقل: 2 / 116.

یرید الغرب الذی تهیأت له الفرصة المناسبة مع تداعیات العصر والوضع الدولی الجدید. وعلیه جاء اختلاف الأمم وشعوبها باختلاف ثقافاتها السائدة، فالأمّة الإسلامیّة علی سبیل المثال تختلف بثقافاتها عن الثقافات الغربیّة؛ لأنّ الواقع الثقافی لأیّة أمة ینتج عن تفاعل مشترک لعدّة عوامل مستبطنة من بیئة الأمم ذاتها بشکل یکوَّن شخصیّتها التی تمیّزها عن غیرها من الأمم؛ ولذا فالثقافة الإسلامیّة تتّصف بالشمول الناتج من شمول الإسلام المستمد من الحقیقة الإسلامیّة، التی تحدّد شخصیّة المجتمع وتضبط سلوکه وتصرفاته.

وبذلک فإنّ الثقافة الإسلامیّة والثقافة الغربیّة متوازیتان لا التقاء بینهما من حیث المنبع والمبدأ والمنطق.

ویری البعض وجود ثقافتین لا ثالث لهما، منهم: سیّد قطب الذی یعتقد بأنَّ الثقافة الإسلامیة قائمة علی وفق التصوّر الإسلامی، والثقافة الجاهلیّة مصدرها الفکر البشری (1).

لقد أدرک الفکر الإسلامی أنّ الغرب لا یفسح مجالاً لمنافسته لأیّ أنموذج قادر علی الانتشار العالمی وفیه قابلیّة الامتداد الحضاری، لاسیّما إذا کان یعرف القوّة والقدرة الحیویّة فی ذلک الأنموذج.إلاّ أنّ الترکیز علی الجانب الثقافی وتأثّره بالعولمة من عدَّة جوانب، ومن عدّة مداخل تربطها علاقة مباشرة الجوانب، مثل: صراع الحضارات وحوار الثقافات والثقافة الوطنیة والعولمة، والثقافة الشمولیة والتی تحدَّد أنماط العیش، وأسلوب الحیاة المعینة، بخلق عادات وتقالید جدیدة من خلال ضخَ ّ العولمة لها، لتشکَّل قیماًً جدیدة تفرض ثقافة مغتربة مؤمرکة لتسهیل تسویق الثقافة الاستهلاکیّة.

فالعولمة الغربیّة الثقافیّة لیست موجَّهة ضدَّ الحضارة الإسلامیّة فحسب،

ص:71


1- (1) . معالم الطریق: 3.

بل هی موجَّهة ضدَّ جمیع الحضارات والثقافات الحیّة، کالصینیة والهندیّة، والأفریقیّة والفرنسیّة.

وقد یسَّر هذه الأمور وجود التکنولوجیّاً الاتّصالیّة والمعلوماتیّة وتطوّرها، حیث أصبحت الثقافة محمولة عبرها، فإنَّ ما دخل إلینا من وسائل إعلامیّة ومعلوماتیّة جدیدة، وقبولها لنا بشکل مطلق ما هو إلاّ غزو ثقافی تغیّری جدید علی جمیع الثقافات، ومنها: الثقافة الإسلامیّة.

غزو العولمة الثقافی:

کان الغزو فی الماضی یتمّ بأدوات بدائیّة، بالسیف والرمح والفرس، ثُمَّ تطوّر إلی أدوات حداثة وتطوراً؛ حیث استعملت المنجنیقات وقاذفات اللهب المحرقة، ثُمَّ تطوّر بعد اختراع البارود، وأصبح من خلال البنادق والمدافع، ثمّ تقدَّمت وسائل وأسالیب الغزو، حیث أصبحت تتمّ عبر الطائرات والصواریخ الموجَّهة عبر الطائرات والسفن والغواصات، وإلی الأمس القریب تمّت عدّة حروب فی العراق وأفغانستان وغیرهما عبر الأقمار الاصطناعیّة والصواریخ الموجَّهة العابرة للقارات، حیث استعملت فیها جمیع الأدوات التکنولوجیا، واستغلت جمیع الوسائل الإعلامیّة للدلالة علی تأسیس النظام العالمی الجدید، الذی أعلن عنه الرئیس الأمریکی جورج بوش، حیث اعتبر الحرب إعلامیّة، لکن هناک قلیل ممّن اعتبروا ذلک تسویقاً لقوّة أمریکا، فی سبیل إخضاع العالَم أجمع لسلطانها، وقوّتها، فأصبحت القوة الوحیدة فی العالم بعد انهیار الاتّحاد السوفیاتی.

أمّا الیوم - ونحن فی بدایات القرن الجدید- فقد اختلفت أدوات الغزو، فمن قبل کانت أدواته مادیّة ملموسة تحتاج إلی دبابات وطائرات وسفن وغواصات وحتی أجهزة حاسوب، أما الیوم فتحوّلت إلی أدوات غیر ملموسة، إذ تحوَّل

ص:72

الغزو إلی غزو ثقافی، للقیم یحاول أن یزرع منظومة قیم خاصّة به، فلم تعد الثقفة کما کانت فی الماضی خاضعة لوسائل تقلیدیّة فی النشر، وإنما أصبحت الیوم متأثرة إلی حدًّ بعید بتکنولوجیا عامّة، والتکنولوجیا الاتّصالیّة خاصّة، هذه التکنولوجیّا التی استطاعت القیام بالاختراق الثقافی، أی: أنّ السیطرة للتکنولوجیّا ومن یسیطر علیها بإمکانه بث الثقافة التی یرید (1).

وعلی ما یبدو أنَّ الثقافات التی تمتلک الأدوات التکنولوجیّة هی التی تسیطر علی الثقافات الأضعف والتی لا تمتلک هذه التکنولوجیّا، وهی بذلک تلعب دوراً تأثیریّاً بارزاً، لیس علی نطاق محلی فحسب، بل علی نطاق عالمی، والعولمة الثقافیة بصورة أکثر دقّة ووضوحاً هی محاولة مجتمع تعمیم نموذجه الثقافی علی المجتمعات الأخری، من خلال التأثیر علی المفاهیم الحضاریّة، والقیم الثقافیّة، والأنماط السلوکیّة لأفراد هذه المجتمعات بوسائل سیاسیة واقتصادیّة، وثقافیّة وتقنیة متعدّدة (2).

ویستفاد من تقنیات الاتّصال هذه، ویتمّ تحویلها إلی صناعة ممنهجة لغسل الأدمغة التی ترافق ظهورها مع الانتقال اللامتکافئ من المکتوب إلی المرئی، لکی یتحوَّل العالم إلی مجرّد مشهد یحقّق له الظهور وفق رغبات القوی التی تتحکّم بالاتّصال، الأمر الذی حدا ببعض الباحثین إلی القول بأنَّ الإعلام هو العولمة أو الوجه الجدید للاقتصاد المعولم الهادف إلی تسویغ الأفکار والتمایز البایلوجی التی تحاول تأسیسه الثورة التکنولوجیّة الحالیّة، لاستکمال حلقات التحکم الاقتصادیّة للزمان والمکان فی آن واحد بکلَ ّ ما تشکَّله من ضغوط علی الشعوب وکلّ ما تخلقه من الاحساس بالحاجة والضعف فی مجالات التنمیة البشریّة.

ص:73


1- (1) . العولمة والهدایة: 119.
2- (2) . العولمة الثقافیة، المجلة الثقافیة: 49 / 25.
آلیّات العولمة الثقافیّة:
اشارة

بعد أنّ تعرّفنا علی الآلیات العامة التی اتّخذتها العولمة طریقاً للوصول إلی المساحة الواسعة التی تبتغیها، والتی ترید الوصول إلیها القوی المنشأة لهذه الظاهرة العولمة، فهناک أیضاً آلیّات أخری جزئیّة کانت طریقاً لنشر العولمة، وهی:

1. الإذاعة المرئیّة وغیر المرئیّة والأطباق اللاقطة (القنوات الفضائیة):

إنَّ ما حدث من إعلام تلفزیونی مباشر، وغیر مباشر ومع کثرة هذه القنوات الفضائیّة التی غزت العالم، ما هو إلاّ طریق واسع لنشر العولمة المعاصرة.

یقول هربرت اسیلر:

إنّ فهم آلیات الصناعة الأمریکیّة أصبح ضروریّاً بصورة ملحَّة فی منتجات ومبتدعات هذه الصناعة یتمُّ انجازها وفقاً لمواصفات محدَّدة، وبمقوَّمات تمَّ اختیارها عملیّاً، ویشار علی المشاهدین والمستمعین والقراء أن یعوَّدوا أنفسهم علی السمات المتمیزة. (1)

لهذه الآلیّات الحدیثة التی بدأت تأخذ مساحة أوسع فی الانتشار والتمرکز.

2. الصحف الیومیّة:

إنَّ الدور الذی تقوم به الصحف والمجلات التی تصدر بکثرة کان له الأثر الکبیر فی إعداد ونشر العولمة الثقافیّة، ومحاولة الإعداد لحضارة جدیدة، والسیطرة علی الثقافات القدیمة والمعاصرة للغیر وتغییرها بثقافات أخری.

تؤکّد الدراسات المتخصَّصة أنَّ ثلاثاً وعشرین شرکةً فقط تسیطر فی الولایات المتّحدة علی معظم أعمال الصحف الیومیّة والتلفزیون والکتب والرسوم المتحرّکة (2)، بینما هناک الکثیر من الشرکات التی کانت تمارس

ص:74


1- (1) . نقلاً عن: أثر العولمة فی الثقافة العربیّة: 96.
2- (2) . المصدر: 118.

عملها فی مجال السلع والبضائع الاستهلاکیّة، أخذت تنقل نشاطها إلی عالَم الکتاب والسینما والتلفزیون، وإنَّ سِتَّ شرکات تستولی علی نصف عائدات الکتب، کما کان الاحتکار منذ الثمانینات هو السمة الممیزة لعالم الإعلام والثقافة فی الولایات المتّحدة.

ولعلّ هذا ما یمیز ثقافة العولمة، التی تخضع للکم الهائل من المعلومات، والأفلام، والمسلسلات والإخبار، فهی فی النهایة تسیر إلی ما تصبو إلیه من خلال العمل علی صیاغة قیم تؤسَّس لثقافة وحضارة أخری لهذه المجتمعات، مهدّدة هویّتها الحضاریّة بشکل جدّی باتّجاه فرض نمط ثقافی وهیمنة ثقافیة معیّنة، تتبعها مصالح الأقویاء خلال صیاغة منظومة القیم والأخلاق والعادات فارضة نفسها علی الکون، وعرّفت کذلک بأنّها الظاهرة التی تشعُّ فی المحیط الکونی بلا قیود أو حدود.

ثقافة العولمَة:

إنّ المقصود من: ثقافة العولَمة هو القضایا والنماذج التی ترید العولمة تشییعها وتعمیمها علی جمیع البلدان الأخری، والأهداف التی تبتغیها هذه الظاهرة (1)؛ لأنّ الصراعات الفکریّة التی غطّت القرنین الماضیین، دارت بالدرجة الأولی حول القیم المرتبطة بالاشتراکیّة واللیبرالیّة والقومیّة، وکلُّها عقائد جدیدة نشأت وعمَّ أثرها نتیجة إدخال جمیع المجتمعات فی دور الرأسمالی الفکری والثقافی فی المعجم الرأسمالی العالمی، وحتّی هذه الثقافات التی تظهر فی الوقت المعاصر، وتحت مسمیّات متعدّدة، وأشکال مختلفة، فإنَّ أزمتها مرتبطة بأزمة مفهوم الحداثة، والتقدّم الدیمقراطی وحریّة الرأی، وما إلی ذلک من مفاهیم جدیدة أدخلتها العولمة الحضاریّة والثقافیّة المعاصرة.

ص:75


1- (1) . ثقافة العولمة وعولمة الثقافة: 58.

إن الهدفیة الأساسیة التی تسعی إلیها العولمة فی الوقت الحاضر هی محاولة توحید لجمیع ثقافات العالم والحضارات القائمة فیه، وجعلها تحت رایة تغییریّة واحدة، فتحرَّر وتحقّق انقلاباً حضاریّاً جدیداً، بحیث یکون أحد رکائزه هو الانقلاب الثقافی.

إنَّ ما یذکره (ایمانؤیل فالرشتین) الذی یتحدَّث عن النظام العالمی، لَیبیَّن الترابط العمیق والمستمر بین مختلف الحرکات والظواهر التاریخیّة والاجتماعیة، التی تجری فی مرحلة تاریخیة معینة، ولا یستطیع أن ینظر إلی الرأسمالیّة إلاّ بوصفها نظاماً عالمیّاً متکاملاً (1).

لکن ما نراه فی الوقت الحاضر أنّ العولمة شیء آخر یتجاوز هذه العلاقة بین المرکز والمحیط، وما تدفع إلیه من ترابط الأحداث التاریخیّة والتکونات الاقتصادیّة والاجتماعیّة، وآلیات تحقَّق هذا الترابط، إنها تتجدّد فی نشوء شبکات اتّصال عالمیّة فعلاً، بحیث تربط جمیع الوجوه الاقتصادیّة والبلدان والمجتمعات، وتخصَّصها لحرکة واحدة.

وربّما کان أوضح مثال علی هذا التعمیم الجدید الذی أرادت العولمة طرحه، هو الارتباط الحادث بین الأطراف العالمیّة المختلفة، وهو الاندماج الحاصل فی ثلاث منظومات رئیسیة فی حیاتنا الاجتماعیّة والدولیّة الراهنة:

المنظومة الأولی: هی المنظومة المالیّة لقد أصبحنا نعیش فی إطار سوق واحدة لرأس المال، وبورصة عالمیّة واحدة، علی الرغم من تعدّد مراکز نشاطها.

المنظومة الثانیّة: هی المنظومة الإعلامیّة الاتّصالیّة، إذ من الممکن الیوم لجمیع سکان الأرض القادرین علی دفع الثمن، الارتباط بالطبق اللاقط

ص:76


1- (1) . المصدر: 14.

بالقنوات التلفزیونیّة ذاتها الموجودة فی کلّ أنحاء العالم، والتی تتوجَّه فی بثَّها لجمهور عالمی أو معولم أکثر فأکثر لجمهور محلّی.

المنظومة الثالثة: هی المنظومة المعلوماتیّة التی تجَّسدها بشکل واضح شبکة معلومات الإنترنت، فهی شبکة واحدة یشارک فیها الأفراد وینظرون إلی ما تنطوی علیه من معلومات وعروض، بصرف النظر عن الحدود السیاسیّة، والخصوصیّات الثقافیّة (1).

نعم، إنَّ ما أرادته الثقافة العولمیّة هو الدخول والاندماج فی النظام العلمی الأعمق علی عدّة مستویات، فمن جهة هناک نوع توحید أکبر لمصادر المعلومات للعروض والطلبات، أی: النخب العارضة للجمهور، ومن جهة ثانیة هناک توحید أشمل لأشکال الاتّصال وأدواته، ومن جهة ثالثة، هناک دمج أقوی لوسائل الاتّصال.

إنَّ هناک فرقاً کبیراً بین أن ننتمی جمیعاً لدول متعدّدة تجمعها موارد اشتراک عدَّة، وموارد اختلاف عدة من قبیل: اللغة، والبقعة الجغرافیّة والموارد وما إلی ذلک، وبین أن ینتمی العالم إلی نظام السیطرة والقوّة ویتجاوز الدولة والبقعة الجغرافیّة والعادات الثقافیّة والحضاریّة.

وأیضا هناک فرق بین أن یکون لکلّ مجتمع قنواته الخاصة التی یستطیع من خلالها إیصال القضایا الهامّة المفیدة لأهل هذه البقعة الاجتماعیّة، وبین أن تشترک جمیع المجتمعات بشبکة واحدة متعدّدة الأطراف من البثَ ّ التلفزیونی العامّ للقارات التی لا یستطیع الإنسان من خلالها البقاء علی المجتمعات المحافظة، بل کلّ ما تدعو إلیه هو الکثیر من الإباحیّة وعدم التقید.

إنّی لا أقول إنَّ جمیع هذه الظاهرة الشمولیّة سلبیّة بالکامل، بل لابدَّ من مراعاة حقوق الاعتدال؛ لأنّ الإنسان لا یستطیع أن یتصدَّی بالکامل لجمیع

ص:77


1- (1) . المصدر: 16.

آلیات الغزو الثقافی التی باتت داخلة فی کلّ مجتمع وکلّ بیت، وفی کلّ جزئیّات الحیاة الإنسانیّة، وهناک فرق کبیر بین أن یکون لکلَ ّ دولة اقتصادها الرأسمالی وسوقها المستقلُّ نسبیّاً، بحیث یکون لدیها الاکتفاء الذاتی لأکثر الاحتیاجات الخاصّة بها، کذلک الاستقلال نسبیّاً فی نظام أجوره وأسعاره وتبادله، علی الرغم من ارتباطه بغیره من الأسواق، وبین أن تدخل فی سوق رأسمالیّة واحدة وتتّخذ منها بحسب إمکاناتها ودرجة التحکم التقنی والعلمی والصناعی، ومواقعها المختلفة، وما ینتج عن ذلک هو مخاطر عظیمة وآثار مختلفة تماماً.

فبقدر ما کانت الحقیقة الوطنیّة من التاریخ العالمی تقع نحو سیاسات تضامن اجتماعی ضروریة للمحوریّة الذاتیّة وبناء المرکزیّة الوطنیّة، بقدر ما تشجع حقیقة العولمة علی انحلال منطق الحسابات الوطنیّة، وعلی نزوغ النخب الاقتصادیّة وخاصّة النخب الوطنیّة الضعیفة المرادة، والإمکانیات إلی عدم التردّد فی اللجوء إلی سیاسات النهب والإثراء غیر المشروع والمضاربة التی تمکنها وحدها من انتزاع قسط من رأس المال الاقتصادی والثقافی والسیاسی الذی یسمح لها بالبقاء فی السوق العالمیّة والعمل علی مستواها.

إنَّ المضمون الرئیسی للعولمة هو أنّ المجتمعات البشریّة التی کانت تعیش کلَّ ُ واحدة فی تاریخها الخاص بها وحسب تراثها الخاصّ بها، ووتیرة تطوّرها ونموّها المستقل نسبیّاً علی الرغم من ارتباطها بالتاریخ العالمی أصبحت فی تاریخیّة واحدة، ولیس فی تاریخ واحد، وعلی هذا الأساس یمکن تلخیص العولمة فی کلمتین هما:

کثافة انتقال المعلومات وسرعتها (1) إلی درجة أصبحنا نعیش فی عالم واحد موحَّد، أو کما قال امکلوهان صاحب أوّل مهمّة عن العولمة هی قریة کونیة، بما تُوحی کلمة القریة من علاقات قرابة وجوار، فإذا ما وقع حدث فی

ص:78


1- (1) . المصدر: 321.

بقعة ما انتشر فی بقاع أخری من العالم، أی کلّما یحصل ویحدث فی جزء یظهر أثره فی الجزء الآخر.

نعم، لا تعنی العولمة أنّ جمیع الأفراد المقیمین علی وجه الأرض، سوف یندمجون فی الشبکات المالیّة والمعنویّة، وثقافة العولمة، فالأغلبیّة الساحقة من سکان المعمورة لا یزالون یعیشون وسیعیشون خارجها، ولکن هذا لا یعنی أنّهم لا یخضعون لقوانینها؛ وذلک لأنّ هذه القوانین أصبحت عامّة لکلّ مکان.

فمن الصحیح إذاً: أنّ هذه الأهداف العالمیّة- المرتبطة بالثورة الثقافیّة من معلومات الاتّصالات فی الوقت الذی یتیح التحرّر المتزاید لجزء من البشریّة- تعمل علی تعمیم سیطرة فئة من المجتمعات علی فئة أخری.

إنَّ مجموعة من النخب الخاصّة فی المجتمعات الکبری، تحمل من دون شکّ هیمنة الإرادة، ونظام الهیمنة أکثر شمولاً من کلّ ما شهدته الإنسانیّة فی السابق، ومع ذلک لا یلغی الخطر الذی تحمله هذه الظاهرة فائدة الانخراط فیها بالنسبة للمجتمعات والأفراد علی حدّ سواء، وهو لا یقلل کذلک من قیمة الإمکانات التی تفتحها والفرص التی تقدمها؛ لأنّه لیس من الممکن حرمان أیّ فرد یرید أن یستفید، وأیّ مجتمع من هذه الفرص.

علی أیَ ّ حال إنّ التحدَّی الذی تطرحه العولمة لیس جدیداً علینا لکن عندما نلحق الثقافة بالعولمة، یتبادر إلی الذهن کلمات جدیدة أصبحت تتردّد کثیراً فی المؤتمرات والندوات العلمیة. مثل الأمرکة، أی: تعمیم النموذج الأمریکی للحیاة والسلعنة، أی: تعمیم قیم السوق والفعالیّات الثقافیّة، وتحویل الثقافة إلی سلعة وتهدید الهویّة الثقافیّة، لکن السؤال الذی ینبغی طرحه هو: هل یؤدّی الانفتاح المتبادل للفضاءات الاقتصادیّة والثقافیّة، إلی الأمرکة والسیطرة الأحادیّة للولایات المتّحدة الأمریکیّة؟ أو بالعکس یؤدّی إلی تطویر وتعمیق التعددیّة الحضاریّة والثقافیّة والسیاسیّة؟

ص:79

وهذا ما أجاب علیه الدکتور، برهان غلیون، حیث قال:

العولمة تعنی: إذاً بالضرورة الأمرکة، إذا فهمنا الأمرکة علی أرجحیة المساهمة الأمریکیة فی الانتاج الثقافی والمادّی والمعنوی، الذی یملأ السوق ویملأ الفضاء العالمی الجدید، الذی أنشأته ثورة المعلومات، لکن إلاّ إذا فهمنا من الأمرکة تحویل ثقافات الشعوب جمیعاً إلی ثقافة أمریکیة أو تعمیم القیم الأمریکیّة علی شعوب العالم، نعم، لیست العولمة هی المنشأ لسیطرة ثقافة علی ثقافة أخری، لکنها منشأ لنمط جدید من السیطرة الثقافیّة.

ولیس لثقافات الأخری أیّ مستقبل بالفعل إلّا إذا أدرک أصحابها طبیعة هذا النمط الجدید من السیطرة الثقافیّة وآلیّاتها، وحقّقوا أبواب جدیدة تسمح لثقافاتهم بالمشارکة العالمیّة والإبداعیّة. (1)

وذلک لأنّ العولمة الثقافیّة تساهم کثیراً بمزید من الفاعلیّة فی التأثیر فی الثقافات الوطنیّة عبر أجهزة الإعلام.

فاتّجاه ثقافة البلاد المتقدّمة نتیجة لثورة الاتّصال التقنیة نحو تنمیطوتطبیع الثقافات الأخری وإدخالها فی إطارها الخاصّ وقیمهاالذاتیّة، فسهل لها ذلک الوسائل القویّة التی لم تتوفّر من قبل لأیّ حضارة أخری.

أثر العولمة علی الثقافة الإسلامیّة:

إنَّ الأمة الإسلامیّة المتمَّثلة بحضارتها، تقف أمام مفترق طرق، ونقطة تحَّول، فلقد انتهت قرون وبدأت قرون جدیدة، فلم یختلف علیها شیء، کما هو الحال فی القرون التی جاءت بعد الانتشار الإسلامی، وحضوره ودخوله فی الحضارات السابقة علیه واللاحقة کذلک.

ص:80


1- (1) . المصدر، ص46.

وتری الدکتورة سمر روحی الفیصل:

إن الإنسان هو هدف الثقافة، فمن الواضح أنَّ الإنسان المسلم فی أخریات الألفیّة الثانیة أصبح میّالاً إلی الاستهلاک، ملتزماً بقائمة المحرَّمات الطویلة سواء أکانت محرّمات دولیّة أم محرّمات قبلیّة، وحتی قومیّة، خاضعاً لأوامر دولته ونواهیها، وضعف الإحساس بالقیم الوطنیّة والقومیّة والاجتماعیّة، حریصاً علی تامین حاجاته دون نظر فی شرعیّة الأسلوب وأخلاقیّاته، رافضاً مجتمعه راغباً فی الهجرة منه (1).

ولاشکّ أنّ لهذه النظرة الأکثر تشاؤمیّة، نسبةً کبیرةً من الصحّة، إلاّ أنّها فی الواقع، طرحت عدّة نظریّات وآراء حول مستقبل الثقافة الإسلامیّة مع الموقف العولمی المعاصر، الذی یرغب فی الهیمنة علی الحضارات والثقافات العالمیّة؛

لأنّه فی الوقت الذی تتعرّض له الثقافة الإسلامیّة وغیرها من الثقافات لخطرٍ کبیر بفعل ظاهرة العولمة الغربیّة تمثّل فی الوقت الحاضر أخطر التحدیّات المعاصرة للثقافة الإسلامیّة، وهذه الخطورة لا تأتی من الهیمنة الثقافیّة التی تنطوی علیها العولمة فحسب، وإنّما من الآلیات والأدوات التی تستخدم لعرضها.

فالعولمة الغربیّة ظاهرة تقفز علی: الدولة، والوطن، والأمة، وتعمل علی إضعاف الدولة والتخفیف من حضورها ممّا یعود علی استنهاض الأطر التقلیدیّة السابقة علی الدولة، ک: الانتماء للقبلیّة، والطائفیّة، والتعصب المذهبی، بقصد تمزیق الحضارات الأمّ واستبدالها بحضارات جدیدة.

فالعالم الیوم یعاد تقسیمه، وفق مبدأ الأقوی اقتصادیّاً وتقنیّاً واتّصالیّاً، بحیث تستخدم فیه کل وسائل العلم الحدیث والتکنولوجیا المعاصرة بدلاً من الاحتلال العسکری المباشر.

ولعلَّ من أکثر المجالات حساسیّة فی عصر التغیرات السریعة والجذریّة ومضاعفاتها الاجتماعیّة والحضاریّة هو التغیر الثقافی،

ص:81


1- (1) . العلمانیّة والعولمة والأزهر: 93.

وآثار هذا التحول لیست کلّها خیراً ولا کلّها شرّاً، فیها من التقدّم نحو أدوات التطوّر العصری من جهة، وفیها ما یضعف خصائص إنسانیّة عظیمة فی الحضارات العریقة من جهة أخری (1).

وعلی هذا النمط یری حبیب الجنجانی:

أنّ التیار الفکری الجدید الذی شدَّ إلیه انتباه فئة من المثقّفین العرب هو تیار العولمة بشتّی أبعاده، وهو تیار یختلف فی نظرنا اختلافاً جذریاً عن جمیع التیارات السیاسیّة والفکریّة الغربیّة التی أثّرت فی الفکر الإسلامی الحدیث. فقد اکتسحت بسرعة فائقة الحواضر والبوادی، فعرض نفسه عبّر ثقافة الصورة علی جمیع الفئات مبشَّراً بذلک عصر ما بعد المکتوب (2).

وذلک عبر فرض النموذج الثقافی الکونی العولمی علی الأمم والقومیّات، ومنها الثقافة الإسلامیّة، أی: اجتثاث الثقافة الإسلامیّة وإحلال الثقافة العولمیّة محلَّها.

إنَّ ما نشهده بالأحری انبثاق حضارة جدیدة ذات غزارة معرفیّة شدیدة، تقسم النظام العالمی بأسره وتحولّه من حال إلی حال أخری.

فکلُّ شیء فی هذا النظام هو حالة تحول من مکوناته الأولیّة إلی العلاقات التی یقیمها دون نسیان سرعة التفاعلات الثقافیّة والحضاریّة.

إنّ هذا التغییر المفاجئ الذی لعبته العولمة، ما هو إلّا حالة من الغزو الحضاری لهذه الحضارات، والتی فی مقدَّمتها الحضارة الإسلامیّة، لکن ممّا یؤُسف له وجود بعض الاستعدادات الباطنیّة والظاهرة عندَ منْ یتعامل مع القواعد الثقافیّة الموجودة عند غیر العولمة، وان کنّا فی بعض الأحیان مجبرین علی هذا النوع من التغیّر ولو بقبول بعض أنواعه.

ص:82


1- (1) . العالم والثقافة العربیّة علی مشارف القرن الحادی والعشرین: 71.
2- (2) . التغیرات العالمیّة وانعکاساتها علی الدول النامیة: 88 .

یری صاحب کتاب صِدامُ الحضارات هنجتون 1996 م، والذی جاء بعد أن نشر مقالة بهذا العنوان فی مجلة فورین أیفرز الصادرة 1993 م (1) إنّ المسئول عن تخلّف بلدان الدول النامیة، وعدم نموّها الاقتصادی والاجتماعی لم یکن الاستعمار، وإنّما شخصیّتها القومیّة، وحضارة تلک الشعوب، فسمات هذه الشخصیّة القومیّة تحدَّد الاستعداد العقلی والعلمی والتکنولوجی لهذه الأم، وهذه نقطة ضعف کبیرة فی نسیج هذه المجتمعات.

العولمة السیاسیّة

اشارة

لا یمکن الفصل بین عولمة الثقافة التی کانت إحدی السمات الأساسیة للنظام العولمی منذ نشأته، والنظام العولمی الاقتصادی، والذی هو أساس بدایات العولمة والنظام العالمی الجدید، وبین البعد السیاسی لهذا النظام السائد.

لقد فشلت السیاسات العالمیّة الممارسة فی الوقت الحاضر استراتیجیّات رأس المال السائد، وتتمیّز هذه الأنظمة بقیام مشروع أمریکی للهیمنة العالمیّة، وهذا المشروع یحتلُّ المسرح العالمی بالکامل؛ إذ لا یوجد حالیاً مشروع مضادٌّ یعمل علی الحدَّ من مجال تحکّم الولایات المتّحدة، کما کان المجال فی مرحلة القطبیّة الثنائیّة.

لقد کان وجود قطبین عالمیین یتنازعان السیادة والقوّة العسکریّة الاقتصادیّة، یتیح للآخرین من القوی الصغیرة والضعیفة، أن تختار لنفسها أن تدور فی فلک هذا القطب أو ذاک، أو تختار نهجاً بین النهجین، کما حاولت دول کتلة الحیاد الإیجابی وعدم الانحیاز.

ص:83


1- (1) . العولمة ودورها فی تهمیش النظام الإقلیمی العربی، مجلة قضایا إستراتیجیّة، العدد:56:2.

إنَّ الأطروحات الغربیّة للعولمة السیاسیّة انحصرت فی ثلاثة محاور، و هی:

أ). عولمة حقوق الإنسان.

ب). عولمة الدیمقراطیّة.

ج). تهمیش الدولة فی ظلّ العولمة.

وفیما یأتی نقوم باستعراض هذه النقاط واحدة تلو الأخری:

أوّلاً: عولمة حقوق الإنسان:
اشارة

جاء فی لسان العرب:

إنَّ الحقَّ نقیض الباطل, قال تعالی: وَ لا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَ تَکْتُمُوا الْحَقَّ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ 1. وحَقَّ الأمر إذا: صار حقاً وثبت، وحَقَّ الأمر یحقهُّ حَقّاً، وأحقَّه: کان منه علی یقین.

والحقُّ من أسماء الله عزّ وجلّ: ثُمَّ رُدُّوا إِلَی اللّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ 2

3 .

1. تعریف حقوق الإنسان:

یعرَّف بعض الباحثین حقوق الإنسان أو مصطلح حقوق الإنسان, بأنّها:

الحقوق التی تهدف إلی ضمان وحمایة معنی الإنسانیّة فی مختلف المجالات السیاسیّة والاقتصادیّة والثقافیّة (1).

2. حقوق الإنسان فی الفکر الغربی:

إنّ فکرة حقوق الإنسان علی وفق المفهوم الغربی، تعود إلی فکرة القانون الطبیعی, التی کانت بدایاتها مرتبطة بوجود قوّة

ص:84


1- (4) . الإنسان وحریات السیاسة فی القانون الدولی والشریعة الإسلامیّة: 166.

إلهیّة عُلیا تضع هذا القانون. وأفضل مَنْ مثَّلها هو یشیرون (1) الذی عرف القانون الطبیعی, بأنّه: القانون النابع من العنایة الربّانیّة, التی تحکم هذا الکون, ومن الطبیعة السلمیّة للکائنات البشریّة، أی:قانون العقل الصحیح الذی یتوائم مع الطبیعة, وینطبق علی الناس کافة, کما أنّه أزلی وغیر قابل للتغیّر (2)، إلاّ أنّه فیما بعد تمَّ إبعاد أیّ فکرة تستند إلی وجود قوّهُ إلهیّة تعدُّ هذا القانون؛ وبالتالی تمَّ إحلال القانون الطبیعی المستند إلی العقل، محلّ القانون الإلهی (3).

لقد أدت فکرة القانون الطبیعی المستنبطة من الطبیعة، والتی تدرک عن طریق العقل (4) إلی بناء منطوق نظریّ، لتحدید أصول فطریة لبعض المراکز القانونیّة، مثل: نظریة العقد الاجتماعی، وغیرها من النظریّات التی اتجهت لتقریر حقوق أصلیة للأفراد، سابقة علی قیام السلطة الحاکمة، وهی نظریّات انتهت إلی فکرة حقوق الإنسان، وبقیت مبادئ القانون الطبیعی ذات صبغة فلسفیّة إلی حین قیام کلً ّ من الثورة الأمریکیّة والثورة الفرنسیّة التی أصبحت علی أثرهما مذهباً رسمیاً ذات صبغة قانونیة (5)، حیث تمّ تأطیر حقوق الإنسان بوثائق دستوریّة فی نهایة القرن الثالث عشر.

وکان أوّل عمل أسَّسته هذه المبادئ بصفة قانونیّة، وثیقة فرجینیا للحقوق عام 1776م حیث اندلعت الثورة ما بین المستعمرات البریطانیّة- الثلاث عشرة المنتشرة علی طول الشاطئ الشرقی لما یُعرف الیوم بالولایات المتّحدة الأمریکّیة- وبین بریطانیا العظمی التی تعدُّ ثورة للمطالبة بالسلطة

ص:85


1- (1) . النظریّة السیاسیّة الإسلامیّة فی حقوق الإنسان الشرعیّة: 24.
2- (2) . الحریات العامة وحقوق الإنسان:23.
3- (3) . النظریّة السیاسیّة الإسلامیّة فی حقوق الإنسان الشرعیّة: 250.
4- (4) . المصدر: 26.
5- (5) . من أصول الفکر السیاسی الإسلامی: 21.

والاستقلال، کما عدّت هذه الوثیقة أوّل دستور مکتوب یؤسّس الحقوق الإنسانیّة اللیبرالیّة (1).

وأصبحت هذه المبادئ قانوناً بعد قیام الثورة الفرنسیّة 1789م، والتی رفعت شعار الحریّة والمساواة، وإنَّ کلَّ حقً ّ مصدره الإنسان؛ لأنه وحده الذی یتمتّع بالحرّیة، أمّا السلطة، فهی نابعة من الشعب الذی یحافظ علی تلک الحرّیة والمساواة (2).

ولقد صیغت العدید من المواثیق الدولیّة التی حاولت صیاغة حقوق الإنسان فی العالم، کان أهمّها المیثاق العالمی لحقوق الإنسان فی کانون الأوّل 1948م، وهذا المیثاق بمواده الثلاثین قد نصَّ علی کرامة الإنسان، وحقوق الإفراد وضرورة التمتع بها، وهذا واضح فی مادَته الأولی والثانیة، إذ نصَّت: مادتّه الأولی:

ان یُولد جمیع الناس أحراراً متساوین فی الکرامة والحقوق.

والمادّة الثانیّة:

لکلّ إنسان حقُّ التمتع بکافة الحقوق والحریات.

ثمَّ یبدأ بالترکیز علی حقّ الحیاة والحریّات والمساواة أمام القانون، فضلاً عن حرّیته فی التنقل والإقامة (3).

إلاّ أنّ تلک المقرَّرات حوَّلت بعض المفاهیم العالمیّة، باتّجاه جدید کّلاً منها بإطار غربی أمریکی بما فیها مفهوم حقوق الإنسان، ومحاولة تعمیمه علی وفق الرؤیّة الأمریکیّة ومصالحها الکبری عبر العالم.

وبذلک أصبحت حقوق الإنسان تعبَّر عن إطار قومی لمصلحة الولایات المتّحدة الأمریکیّة، لنشر المفاهیم المرتبطة بالفکر الرأسمالی من خلال

ص:86


1- (1) . ریتشارد شرودر, موجز نظام الحکم الأمریکی:5.
2- (2) . النظم السیاسیة والحریات العامة: 96.
3- (3) . الفکر الإسلامی المعاصر: 94.

دعوتها إلی تلک الحقوق التی بدورها أضافت إلیها حقوقاً أخری إلی جانب الحقوق السیاسیّة والاقتصادیّة والاجتماعیّة.

ثانیاً: عولمة الدیمقراطیّة:
اشارة

تُعدُّ الدیمقراطیّة من المفاهیم السیاسیّة المهمّة فی الغرب، وهی رغم قدمها إلاّ أنّها لاقت رواجاً واهتماماً واسعاً فی حقبة ما بعد الحرب الباردة؛ لکونها أحد المفاهیم الواسعة التی ارتکز علیها النظام العالمی الجدید؛ ولذا حاول دعاته غزو العالَم من خلال تعمیمهم هذا المفهوم الغربی الجدید.

وإلیک تعریف وتوضیح مفهوم الدیمقراطیة لدی الفکر الغربی:

1. الدیمقراطیّة فی الفکر الغربی:

لقد أجمعت العدید من المؤلّفات التی تناولت مفهوم الدیمقراطیّة علی أنَّ معناها:

حکم الشعب بالشعب ومن أجل الشعب. و قد اشتّقت هذه الکلمة من اللغة الیونانیة، فکانت تعبر عن مقطعین هما: bemos ، أی: الشعب. و cretos ، أی: الحکم. وبإدماج المقطعّین یتکون معنی کلمة: حکم الشعب (1).

2. تعریف الدیمقراطیة فی الفکر الغربی

عُرَّفت الدیمقراطیة فی الفکر الغربی:

بأنّها عبارة عن ترتیبات سیاسیة للوصول إلی قرارات سیاسیة، حیث یتسنّی للأفراد الحصول علی السلطة اللازمة، لصنع تلک القرارات عن طریق التنافس علی أصوات الناخبین، علی أنّها تشکل الحکومة فی قرارات مسئولة، نحو نظام یؤکّد فیه احترام کلّ شخص لرأیه (2).

ص:87


1- (1) . رؤیة نقدیّة لإشکالیّة الشوری والدیمقراطیّة: 38.
2- (2) . نقلاً عن: الفکر الإسلامی المعاصر والعولمة: 112.

بدأ المفهوم فی المدن الیونانیّة القدیمة، عبارة عن فکرة لانتخاب ممثلین یتمُّ التصویت علیهم فی وسط عام، ثمّ شهد تطوّراً واسعاً علی مدی التاریخ الطویل (1).

وقد أثَّرت علیه ظروف وتجارب المجتمعات البشریّة التی حفَّت به؛ لذلک فمن الصعب وضع تعریف عام لمفهوم الدیمقراطیة بجمیع المراحل التی مر بها، ولکن سنقوم بنقل بعض التعاریف التی یمکن أن توصل المفهوم الدیمقراطی لمن یقرأ هذا البحث.

1. تعریف أرسطو طالیس

لقد حاول أرسطو طالیس أن یضع تعریفا للدیمقراطیّة، بوضع الصورة الأولی للدیمقراطیة التقلیدیّة، فکانت الدیمقراطیّة لدیه هی: «نظام سیاسی یمثل إرادة الشعب التی تُعَدُّ فوق کلّ شی حتّی القوانین (2)

2. تعریف عبد الغنی بسیونی:

وعرفها عبد الغنی بسیونی، بقوله:

الدیمقراطیة التقلیدیة، تجلّت فی أنّها مذهب سیاسی بعید عن أی طابع اقتصادی تضع الأفراد جمیعاً فی حالة من المساواة أمام القانون (3).

3. الدیمقراطیّة واللیبرالیّة:

لقد اقترن مفهوم الدیمقراطیّة فی العصر الحاضر بمفهوم: أللیبرالیّة علی الرغم من اختلاف کلً ّ منهما عن الآخر، فالدیمقراطیّة وضع السلطة بید الشعب کمفهوم سیاسی، فی حین أنّ اللیبرالیّة، هی إعطاء الحرّیة إلی الفرد مع وضع قیود علی السلطة والدولة کمفهوم اقتصادی (4).

ص:88


1- (1) . أرسطو طالیس. السیاسة: 194، ترجمة أحمد لطفی السیّد.
2- (2) . النظم السیاسیة والحرّیات العامّة: 33 - 34.
3- (3) . النظم السیاسیّة و أسّسّ ا التنظیم السیاسی: 199 - 200.
4- (4) . الدیمقراطیّة وحمایة حقوق الإنسان فی الوطن العربی: 172.

فأصبحت الدیمقراطیّة فی الغرب تعنی: الحرّیة السیاسیّة، بمعنی تمکین الإفراد من مشارکتهم السیاسیّة والتمتع بحقّهم الانتخابی.

4. الدیمقراطیّة فی العصر الحاضر

إنّ مسألة الدیمقراطیّة أخذت تطرح بروح جدیدة فی ظلَ ّ تداعیات الوضع الدولی المعاصر، بحیث أخذت الولایات المتّحدة، تطرح انتفاء أیّ مبرّر لوجود تعدّدیّة الدیمقراطیّة للأمم مع بقاء أنموذجها الدیمقراطی، أساساً لتقدّم الأمم.

وفی محاولة إضفاء صفة شرعیّة علی ما یجری من انتهاکات لحقوق الإنسان فی مواطن عدیدة من البقاع سواءً فی داخل أو خارج الولایات المتّحدة الأمریکیّة، أصبحت الدیمقراطیّة نوعاً من الانحلال الثقافی، والسیاسی، بل أصبحت فی مجالات حیاتیّة أخری وبالاً علی الکثیر من الشعوب والأمم.

ثالثاً: تهمیش الدولة فی ظِلّ العولمة:

لقد أدرک الغرب أنّه- لأجل تحقیق أطروحته الجدیدة، ووصولاً إلی عالم بلا حدود- لابدَّ من قیامه بعملیّة تذویبیّة للدولة، تعمل علی تهمیش دورها لاستخلاص النتیجة المطلوبة، وقد عبر أحد الباحثین عن ذلک بقوله:

إن عصر العولمة نهایة لمبدأ وسیاسة الدولة الأولی بالرعیّة، وبدایة لمبدأ وسیاسة الدولة الأولی بالتهمیش (1).

کما عبّر بول کنیدی عن دور الدولة، والوضع الراهن بقوله:

إنّ العامل المستقل الذی جسدته الدولة فی الشؤون السیاسیّة والدولیّة علی مدی العقود الماضیّة، یبدو الیوم أنّه لا یفقد سیطرته وتماسکه فقط، بل یبدو أنّه قد غدا نموذجاً مغلوطا للکیان القادر علی معالجة الظروف المستجّدة. (2)

ص:89


1- (1) . سیناریو ابستمولوجی حول العولمة وأطروحات سیاسیّة: 39.
2- (2) . الإستعداد للقرن الحادی والعشرین، ترجمة محمّد عبد القادر وغازی مسعود: 77.

وهکذا حدد الغرب نهایة الدولة، وبالتالی لابدَّ لها من التراجع إلی الوراء معتبراً إیّاها مجرد آلة، تستعمل فی الظروف القصوی، والواقع أنَّ الغرب لاسیّما أمریکا تستنکر تدخل الدول الأخری، کما عبّر فوکایاما (1) عن ذلک صراحة بقوله:

الأمریکیّین إجمالاً یقفون ضدّ تدخل الدولة، وهکذا هُمَّشت الدولة فی ظِلَ ّ النظام الدولی الحاضر.

الدولة ظاهرة ثانویّة:

یری قسم من المراقبین أنَّ العالم الیوم مؤلّف من قوی جدیدة، وأسواق مستقلّة، وکیانات عملاقة ممّا یجعل الدولة ظاهرة ثانویّة، وقسم آخر یری العکس من ذلک، حیث یعتبر الدولة وحدة مهمّة فی النظام العالمی.

وما یحدث الآن هو نتیجة ظاهرة العولمة، وهو إعادة صیاغة مفهوم الدولة وترتیب أمورها وآلیاتها فی وجه تطور التقنیات والحقائق الجدیدة لعالم الیوم.

ویبدو أنَّ العولمة بدأت تقوض أیّ اتّساع لحجم سلطة الدول والأفراد، بسبب زیادة مصالح وسیاسات سلطة الکیانات الجبّارة وحضورها الفاعل.

لکن هناک من یعتقد بعدم وجود ظاهرة العولمة، وتضائل دورها فی الدولة لوجود مؤسّسات الحکومة المستقرّة داخل الحدود الوطنیّة.

والحقیقة أنَّ وجود الدولة لا ینفی ظاهرة العولمة، وأنّها أی: -الدولة- جزء من الواقع العملی الذی نعیشه، وعملیة العولمة لیست أمراً یسهل قیاسه، وإنّما یمکن تحسُّسه علی عدّة مستویات، وهو تآکل الدولة (2).

ص:90


1- (1) . الثقة والفصائل الاجتماعیة ودورها فی خلق الرخاء الاقتصادیة: 27.
2- (2) . العرب وعصر العولمة: 146.

و بعد الانتهاء من هذا الفصل الذی حاولنا فیه توضیح معنی العولمة مع بیان المفاهیم المقاربة والنشأة ومراحل التطوّر، تبین أَنَّ العولمة هی مصطلح اشتُقَّ من العالَمیّة، لعدم وجوده فی القوامیس اللغویّة، وکذلک عرّفْنا بهذه الظاهرة التی أخذت تغزو العالَم فی جمیع مجالاتها، فکانت عبارة عن ظاهرة عالمیّة بدأت بتغییر الکثیر من جوانب الحیاة البشریّة.

وهذا ممّا دفع البعض - ممّن تعاطی مع هذه الظاهرة الحضارّیة بقوّة، عن طریق الجهل متناسیاً ما فی الإسلام من عظمة فی جمیع القضایا- إلی أنّ یعتبر العولمة الغربیّة هی صاحبة الامتیاز، والحاملة للحلول الناجعة لما تعانیه البشریّة من مشاکل فی العصر الحاضر، بحیث لم یتوانَ عن التفکیر ولو لمدّة قصیرة فی سلبیاتها، بل اعتبرها إیجاباً لاسلب معه، وخیراً لا شرَّ قباله، فأخذه الإنبهار بها متصوّراً أنها ستوصل الإنسان إلی التکامل المنشود، والذی خُلق من أجله.

فبدأ یدیر وجهه عن القضایا الفطریّة، والشریعة الإلهیّة المتمثلّة بالإسلام، وأخذ یتناسی ما فی هذا الدین الحنیف من کمال ورقی فی جمیع المجالات الحیاتیّة، والذی من خلاله یستطیع الإنسان الوصول إلی السعادة الأبدیّة فی الدنیا والآخرة.

فهل هناک عالمیّة إسلامیّة؟

وهل هناک نظریّة سیاسیّة أو ثقافیّة فی الإسلام؟

وما هو رأی الإسلام فی مجال الدولة؟

هذا ما سوف نحاول بحثه فی الفصل الثالث بنوع من المقارنة البسیطة بینها وبین العولمة الغربیّة المعاصرة.

ص:91

ص:92

2-التفسیر المقارن لآیة الإظهار

تمهید:

إنّ المراد فی هذا الفصل، هو القیام بنوع من المقارنة فی تفسیر هذه الآیة بین علماء الشیعة وأهل السنّة، ومحاولة الخروج بنتیجة واضحة وصحیحة، أو علی الأقلّ إعطاء مصداق واقعی لهذه الآیة المبارکة.

فیکون البحث فی الآیة فی موضوعات:

أ). الآیات المشابهة لآیة الإظهار.

ب). تحلیل ألفاظ آیة الإظهار.

ج). مُفاد آیة الإظهار.

د). آیة الإظهار عند مفسرّی الشیعة.

ه). آیة الإظهار عند مفسرّی أهل السنّة.

و). معنی إظهار الإسلام علی الدین کلّه.

ز). البُشری بإقامة الدولة العالمیّة الإسلامیّة.

بین یدی آیة الإظهار

اشارة

قال تعالی: هُوَ الَّذِی أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدی وَ دِینِ الْحَقِّ لِیُظْهِرَهُ عَلَی

ص:93

اَلدِّینِ کُلِّهِ وَ لَوْ کَرِهَ الْمُشْرِکُونَ 1.

تعتبر هذه الآیة المبارکة والتی أطلقنا علیها اسم آیة: الإظهار من الآیات الواضحة الدلالة منطوقاً ومفهوماً علی عالمیّة الإسلام، وانتشار الدین الإسلامی علی جمیع أرجاء المعمورة بالکامل مستعلیاً علی جمیع الأدیان والمذاهب، بجمیع أنحاء الاستعلاء والظهور.ومتقدماً علی جمیع النظریّات العلمیّة والعملیّة، غیر الإسلامیّة، والتی منها النظریّات العولمیة المعاصرة التی نحن بصدد البحث فیها، بنوع من المقارنة بین النظریّات التی طرحتها هذه الظاهرة المعاصرة التی یُراد لها أن تحکم العالم بصورة جدیدة. وبین ما یهدف الیه الدین الإسلامی من انتشار، وعالمیة إلهیة مبارکة، یُراد لها أن تملأ العالم بأسره، تحت رایة الحق والعدل الإلهی، وعلی ید الإمام المهدی(عج) مستفیدین فی ذلک من مضمون هذه الآیة الشریفة، مع نوع من المقارنة بین مجموعة من الآراء التفسیریّة لهذه الآیة بین علماء الفریقین.

ولکن السؤال الذی ربّما یتبادر للقارئ الکریم هو: لماذا أطلقنا هذا الاسم بالذّات علی هذه الآیة الکریمة؟

وبدورنا وفی مقام الجواب عن هذا التسائل، نقول:

إنّ کلمة الإظهار لغة، تعنی: الغلبة والاستعلاء.

والآیة المبارکة صریحة فی إثبات تعلق الإرادة الإلهیّة بإظهار الإسلام علی جمیع الأدیان الأخری. وکلمة: الإظهار هنا أخذت الدور البارز فی التعبیر عن مراد الآیة، وهو: الغلبة واستعلاءه علی جمیع هذه لأدیان.

کذلک تحمل وعداً إلهیّاً جمیلاً بأنّ یُتمّ الله تعالی نوره الذی ذکر فی الآیات السابقة علی هذه الآیة، فیظهر نور الإسلام علی جمیع الأدیان السماویّة والأرضیّة المادیّة وغیر المادیّة، والذی یستفاد من قوله تعالی:

ص:94

لِیُظْهِرَهُ عَلَی الدِّینِ کُلِّهِ. وأیضاً کان لکلمة: لِیُظْهِرَهُ، والتی تعطی معنی: الإظهار الواضح فی إیصال المعنی المراد.

وکذلک من خلال الإطلاق الوارد فی کلمة: لِیُظْهِرَهُ وعدم وجود أیّ نوع من المقیّدات بنمط معین من الإظهار، ک: ظهور الأفضلیة، أوالقوّة، أوالغلبة بالحجّة علی المستوی العقلی أوالإستلالی أوالبیانی، وأیّ نوع من أنواع الغلبة والاستعلاء الأخری. وهذا أیضاً مستفاداً من کلمة: لِیُظْهِرَهُ، والتی تعطی معنی: الإظهار.

إن هذه المفردة اللغوّیة، تُعطی البُشری التی تحملها الآیة الکریمة، والتی تتظمّن أقامة دولة إسلامیة عالمیّة تکون فیها الحاکمیّة المطلقة للشریعة الإسلامیّة، لا غیر.

کما تُعطی المعنی التامّ لتطهیر الأرض من جمیع أشکال الظلم والاظطهاد الناتج عن الأدیان المنحرفة والنظریّات الزائفة التی تتشبث بها عقول الکثیرین ممّن یکون فی غایة البعد عن المبادئ الإلهیّة الحقّة.

إذاً: کان المحور الهام فی مفادهذه الآیة هو الإظهار علی جمیع الأدیان والنظریّات غیر الحقّة، وبجمیع أنواع الإظهار وأشکاله.

من هنا ارتأینا أن نُطلق هذا الاسم - المستوحی من الآیة الکریمة نفسها- علیها بغیة تعیینها والتعریف بها، والغور فیها من خلال هذا البحث، سائلین المولی تعالی أن نکون موّفقین فی إیصال المراد منها إلی القارئ الکریم.

أ). الآیات المشابهة لآیة الإظهار
اشارة

وردت آیة الإظهار فی القرآن الکریم مرّتین بنفس اللفظ، مرةً فی سورة التوبة، وأخری فی سورة الصف، وهی قوله تعالی: هُوَ الَّذِی أَرْسَلَ رَسُولَهُ... 1.

ص:95

ووردت مرّةً ثالثةً مع اختلاف یسیر فی سورة الفتح (1)إضافة إلی آیات کثیرة تشابه آیة الإظهار، فقد تشابهها باللفظ والمعنی، وقد تشابهها بالمعنی فقط، وتفید ما أفادته آیة الإظهار إفادة تامّة أو قریبة منها.

وإلیک مجموعة من تلک الآیات علی سبیل الإجمال مع تقسیمها إلی ما یدلُّ منها علی عالمیة الإسلام، وما یدلُّ منها علی الاستخلاف:

أوّلاً: آیات العالمیّة:

الآیة الأولی:

وَ أَرْسَلْناکَ لِلنّاسِ رَسُولاً 2.

قال الطبری فی تفسیر هذه الآیة المبارکة:

أی إنّا جعلناک یا محمّد، رسولاً بیننا وبین الخلق تبلغهم ما أرسلناک به من رسالة، ولیس علیک غیر البلاغ وأداء الرسالة إلی من أرسلت (2).

ومن خلال النظر إلی کلمة: الخلق علی إطلاقها ومن غیر أیّ قید، نعرف أنّ النبیّ الکریم(صلی الله علیه و آله) قد بُعث للأنس والجن، فضلاً عن الأنس فقط.

وهذا أیضاً ما أکّده العلّامة الطباطبائی(قدس سره) من خلال تفسیر للآیة الأولی من سورة الفرقان، بقوله:

والعالمون جمع: عالم ومعناه. الخلق: واللفظة و إن کانت شاملة لجمیع من الجماد والنبات والحیوان والإنسان والجّن والملک لکن سیاق الآیة- وقد جعل فیها الإنذار غایة لتنزیل القرآن، یدلّ علی کون المراد بها المکّلفین من الخلق، وهم الثقلان: الإنس والجن (3).

ص:96


1- (1) . الفتح: 8 .
2- (3) . تفسیر جامع البیان: 5 /210.
3- (4) . تفسیر المیزان: 247/15.

وجاء فی تفسیر البحر المحیط أنّه(صلی الله علیه و آله) بعث للناس عامهم وخاصتهم (1).

الآیة ثانیة:

وَ ما أَرْسَلْناکَ إِلاّ کَافَّةً لِلنّاسِ بَشِیراً وَ نَذِیراً وَ لکِنَّ أَکْثَرَ النّاسِ لا یَعْلَمُونَ 2،

یعنی: أحمرهم وأسودهم (2).

الآیة الثالثة:

قوله تعالی: تَبارَکَ الَّذِی نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلی عَبْدِهِ لِیَکُونَ لِلْعالَمِینَ نَذِیراً 4.

قال العلّامة الطباطبائی فی ذیل هذه الآیة لِیَکُونَ لِلْعالَمِینَ نَذِیراً.

اللّام للتعلیل، وتدلّ علی أنّ غایة تنزیل الفرقان علی عبده أن یکون منذراً لجمیع العالمین من الإنس والجنّ؛ والجمع المحلّلا باللّام یُفید الاستغراق، ولا یخلوا الإتیان بصیغة الجمع المحلّی باللّام من إشارة إلی أنّ الجمع إلهاً واحداً، لاکما یذهب إلیه الوثنیّون، حیث یتّخذ کلّ قوم إلهاً غیر ما یتّخذه الآخرون (3).

الآیة الرابعة:

قوله تعالی: قُلْ یا أَیُّهَا النّاسُ إِنِّی رَسُولُ اللّهِ إِلَیْکُمْ جَمِیعاً 6.

جاء فی تفسیر هذه الآیة:

قال: فمن بلغه هذا القرآن من عرب وعجم وأسود وأحمر، وإنس وجان، فهو له نذیر.

ونقل عن مجاهد قوله فی تفسیر هذه الآیة، یعنی: الأنس والجّن، فهو صلوات الله علیه، رسول الله إلی الناس أجمع، الثقلین الأنس والجّن (4).

ص:97


1- (1) . تفسیر البحر المحیط.
2- (3) . تفسیر البغوی: 3/ 555.
3- (5) . تفسیر المیزان: 15/ 247.
4- (7) . تفسیر القرآن العظیم: 3/1.

إن هذه الآیات قد استخدمت لفظتی الناس والعالمین وما فیهما من الدلالة علی الإطلاق هو دلیل علی أنّ الرسالة الإسلامیّة رسالة عالمیّة، وکذلک الرسول الأکرم(صلی الله علیه و آله) إنّما هو لجمیع الناس، لا لفئة دون أخری.

الآیة الخامسة:

قوله تعالی: وَ ما أَرْسَلْناکَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِینَ 1 ، کلّنا یعرف أنَّ من الأدلة علی عالمیّة الدین الإسلامی هو عدم اختصاص من أرسل به، بأمّة دون أمّة، أو تحدیده بقوم أو منطقة معیّنة، فهو رحمة حتّی لغیر المسلمین، و غیر معتنقی الإسلام یعلمون أنّ هذه الدعوة شاملة، وغیر محدَّدة بمنطقة جغرافیّة معیّنة، فإنَّ هذه الآیة أشارت إلی رحمة وجود النبیّ(صلی الله علیه و آله) العامّة، فإنّه لعامَّة البشر فی الدنیا، سواء الکافر منهم أو المؤمن؛ لأنّه تکّفل بنشر الدین الذی ینقذ الجمیع، دون تمییز منه؛ لأنّ التعبیر بالعالمین له إطار واسع یشمل کلَّ البشر وعلی امتداد الأعصار والقرون، لهذا یعتبر الإسلام هو خاتم الدیانات وأعمّها.

الآیة السادسة:

قوله تعالی: هُوَ الَّذِی أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدی وَ دِینِ الْحَقِّ لقد ذکرت هذه الآیة ثلاث مرّات فی القرآن الکریم وذلک بالإضافة إلی سورة التوبة، فقد ذکرت أیضاً فی سورة الصف الآیة:9 .

وسورة الفتح الآیة: 28، وما ذلک إلّا تأکیداً منه تعالی بأنّه سوف یظهر هذا الدین علی جمیع المعمورة.

فان بِالْهُدی هی الهدایة الإلهیة التی قرنها برسوله لیهدی بأمره، و دِینِ الْحَقِّ هو الإسلام بما یشتمل علیه من الأحکام والعقائد المنطبقة علی الواقع الحّق، ومعناه: أنَّ الله تعالی الذی أرسل رسوله محمّداً(صلی الله علیه و آله) مع الهدایة والآیات والبینات، والدین الفطری لیظهره وینصره علی جمیع الأدیان الأخری.

ص:98

ثانیاً: آیات الاستخلاف:

الآیة الأولی:

قال تعالی فی سورة النور: وَعَدَ اللّهُ الَّذِینَ آمَنُوا مِنْکُمْ وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ لَیَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِی الْأَرْضِ کَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِینَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَیُمَکِّنَنَّ لَهُمْ دِینَهُمُ الَّذِی ارْتَضی لَهُمْ وَ لَیُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً یَعْبُدُونَنِی لا یُشْرِکُونَ بِی شَیْئاً وَ مَنْ کَفَرَ بَعْدَ ذلِکَ فَأُولئِکَ هُمُ الْفاسِقُونَ 1.

تبیّن مجموعة من الآیات الکریمة، ومنها هذه الآیة أن الدولة العالمیّة الإسلامیّة التی سیظهر فیها اسم الله، والتی ستنبثق من إظهار الإسلام علی جمیع الأدیان الموجودة فی الأرض وسوف یظهرها الله تعالی علی أیدی صالحی المؤمنین، فهی تصرح فی صفات وهُویّة الذی یحقّق الله تعالی به وعده الجمیل بإتمام نوره وإشراق کلّ الأرض به.

فی هذه الآیة خطاب للأمة الإسلامیّة بأنّه سوف یستخلف الله منهم قوماً مؤمنین به تعالی، وبما جاء به الرسول الکریم(صلی الله علیه و آله) مع العمل الصالح؛ لأنّ الأیمان یحثّ علی تجسیده بالعمل الصالح، وفی العمل الصالح ینال الإنسان مرتبة الخلافة الإلهیّة: لَیَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِی الْأَرْضِ کَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِینَ مِنْ قَبْلِهِمْ، والاستخلاف هذا یکون بالتمکین من الله تعالی، وَ لَیُمَکِّنَنَّ لَهُمْ دِینَهُمُ الَّذِی ارْتَضی لَهُمْ، توطید حکم الله تثبیت أرکانه فی الأرض بعد أن کان متزعزعا؛ لأنّ التمکین عکس التزلزل والاضطراب، فیکون الله تعالی قد بدّل الخوف والاضطراب، بالأمن والثبات: لا یُشْرِکُونَ بِی شَیْئاً. و الآیة بحسب القرائن الحیثیّة واردة بشأن الحجّة بن الحسن(علیه السلام).

قال ابن کثیر فی تفسیره لهذه الآیة: إنّ هذا عهد من الله لرسوله(صلی الله علیه و آله) بأنّه سیجعل أمّته خلفاء الأرض، أئمّة للناس والولاة

ص:99

علیهم، وبهم تصلح البلاد وتخضع لهم العباد، ولیبدّلَنَّهم بعد خوفهم من الناس أمناً؛ وذلک قوله: وَ لَیُمَکِّنَنَّ لَهُمْ دِینَهُمُ الَّذِی ارْتَضی لَهُمْ وَ لَیُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً، کما قال رسول الله(صلی الله علیه و آله) لعّدی بن حاتِم، حین وفد علیه المدینة:

«أتعرف الحیرة»؟. قلت: لم أرها. وقد سمعت بها.قال صلی و آله:

ص:100

عن الصادق(علیه السلام)إنّ ذلک یکون عند خروج المهدی(عج) من آل محمّد(صلی الله علیه و آله) فلا یبقی أحد إلاّ أقرَّ بمحمّد(صلی الله علیه و آله).

وقال الکلبی:

لا یبقی دین إلّا ظهر علیه الإسلام، وسیکون ذلک ولم یکن بعد، ولا تقوم الساعة حتّی یکون ذلک. وقال المقداد بن الأسود: سمعت رسول الله(صلی الله علیه و آله) یقول:

«لا یبقی علی ظهر الأرض بیت مدر، ولا وبر، إلا أدخله الله کلمة الإسلام» (1).

وجاء فی تفسیر المیزان:

إنّ تمکین الشیء إقراره، وهو کنایة عن: ثبات الشیء من غیر زوال واضطراب وتزلزل، بحیث یؤثَّر أثره، من غیر مانع ولا حاجز، فتمکّن الدین هو کونه معمولاً به، فی مجتمع کفر أو استهانة بأمره، ومأخوذ بمعارفه من غیر اختلاف وتخاصم (2). والمتحصّل من ذلک کلّه:

أنّ الله سبحانه، یعد الذین آمنوا وعملوا الصالحات أنّه سیجعل لهم مجتمعاً صالحاً خالصاً من وصمة الکفر والنفاق والفسق وهو الذی سیرث الأرض، وهذا المجتمع الطیب الطاهر، علی ماله من الصفات والفضیلة، لم یتحقّق منذ زمان النبی(صلی الله علیه و آله) إلی یومنا هذا، وإن انطبق، فسینطبق علی زمن ظهور المهدی(عج) علی ما ورد من صفته فی الأخبار المتواترة، عن النبیّ(صلی الله علیه و آله) وأهل البیت(علیهم السلام).

قال العلامة الطباطبائی(قدس سره):

المراد من استخلافهم فی الأرض، عقد مجتمع مؤمن صالح، فهم یرثون الأرض.

فالحقّ أنّ الآیة، إن أُعطیت حقَّ معناها لم تنطبق إلاّ علی المجتمع الموعود الذی سینعقد بظهور المهدی(عج) وإن سومح فی

ص:101


1- (1) . مجمع البیان: 5/ 45.
2- (2) . تفسیر المیزان: 5 / 153.

تفسیر مفرداتها وجملها، وکان المراد باستخلاف الذین آمنوا وعملوا الصالحات استخلاف الأمّة بنوع من التغلیب ونحوه (1).

وفی تفسیر الأمثل:

إنّ نتیجة جهود جمیع الأنبیاء والمرسلین حصول حکم بسورة التوحید، بحیث یتحقّق الأمن الکامل والعبادة الخالیة من الشرک، و لا یکون ذلک إلاّ حین ظهور المهدی(عج)، وهو من سلالة الأنبیاء(علیهم السلام)، وحفید النبیّ الأکرم(صلی الله علیه و آله).

الآیة الثانیة:

قال تعالی: وَ نُرِیدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَی الَّذِینَ اسْتُضْعِفُوا فِی الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِینَ. 2 اتفّقت کلمة الکثیر من المفسرّین علی أنّ هذه الآیة نزلت فی محمّد(صلی الله علیه و آله) وأهل بیته(علیهم السلام)، فهی خاصَّة بقائمهم. فعن الشیخ الطوسی(رحمه الله) فی کتاب الغَیبة بإسناده إلی محمّد بن الحسین، عن أبیه، عن جدّه، عن الأمام علیّ(علیه السلام) مفسَّراً الآیة قال:

هم آل محمّد یبعث الله مهدیَّهم بعد جدَّهم فیعزهم ویذلّ عدوهم (2)

(3).

فهذه الآیة تحدَّثت عن زمان یکون الإسلام فیه قد عَّم البسیطة، ولم یبقَ بیت إلاّ دخله الإسلام، فهی أحد الدلائل علی عالمیّة الإسلام وکونه رسالة عالمیّة.

الآیة الثالثة:

قال تعالی: وَ لَقَدْ کَتَبْنا فِی الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّکْرِ أَنَّ الْأَرْضَ یَرِثُها عِبادِیَ الصّالِحُونَ 5.

ص:102


1- (1) . المصدر: 156.
2- (3) . تفسیر الصافی: 4/ 113.
3- (4) . المصدر: 4/ 113.

إنَّ هذه الآیة تفصح عن سُنَّة إلهیّة فی خلقه تعالی یختصُّ الله تعالی بها طائفة خاصَّة من المؤمنین - الذین هم من عباده الصالحین - بوراثة الأرض.

أیضاً هذه الآیة لها دلالة هامّة حول عالمیّة الإسلام؛ وذلک بملاحظة الحالة الانتاجیّة للإنسان الصالح، هو أن یکون وریثاً للأرض، وکلمة الأرض جاءت بصورة الإطلاق .

فعن الأمام الصادق(علیه السلام) عندما سئل عن الزبور والذکر؟

قال(علیه السلام):

الذکر عند الله، والزبور الذی نزل علی داود وکلّ کتاب نزل، فهو عند أهل العلم ونحن هم (1) والمراد بالعباد الصالحین الذین یرثون الأرض: أصحاب الأمام المهدی فی آخر الزمان (2).

قیل:

ولکن یبدو علی الأغلب، أنَّ الزبور هو کتاب مزامیر داود، خاصَّة وأنَّ المزامیر الموجودة تطابق هذه الآیة تماماً (3).

وقد قیل:

إنَّ الأرض هی المعروفة ترثها أمَّة محمّد(صلی الله علیه و آله) بالفتوح بعد إجلاء الکفار، کما قال: ؛ لأنَّ لفظ الإرث، یعنی: الانتقال انتقال شخص الشیء من دون معاملة وأخذ وعطاء. وقد استعملت هذه الکلمة فی القرآن أحیاناً بمعنی: التسلّط وانتصار قوم صالحین علی قوم طالحین، والسیطرة علی مواهبهم وإمکانیاتهم، کما نقرأ فی الآیة: وَ أَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِینَ کانُوا یُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَ مَغارِبَهَا 4.

ص:103


1- (1) . تفسیر الصافی: 4/ 331.
2- (2) . المصدر: 4 / 33.
3- (3) . تفسیر الأمثل:10/ 228.

وقال العلاّمة الطباطبائی:

الظاهر أنَّ المراد بالزبور کتاب: داود(علیه السلام)، وقد سمی بهذا الاسم فی قوله تعالی: وَ آتَیْنا داوُدَ زَبُوراً 1.

وقیل: المراد به القرآن، وقیل: المراد به مطلق الکتب المنزلة علی الأنبیاء أو علی الأنبیاء بعد موسی، ولا دلیل علی شیء من ذلک.

والمراد بالذکر، قیل: هو التوراة، وقد سمهاها الله فی موضعین، وهما قوله تعالی: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّکْرِ إِنْ کُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ 2، وقوله تعالی: وَ ذِکْراً لِلْمُتَّقِینَ 3.

وقیل: المراد هو القرآن، وقد سمّاه الله ذکراً فی مواضع من کلامه.

وکون الزبور بعد الذکر علی هذا القول بعدیة رتبیه لا زمانیة. وقیل: هو اللوح المحفوظ (1).

وکلمة الأرض تطلق علی جمیع الکرة الأرضیّة، وتشمل جمیع أنحاء العالم، إلاّ أنّ تکون هناک قرینة خاصّة، وأمّا المراد من وراثة الأرض؛ إمّا وراثة دنیویّة، وهو التسلّط علی منافعها واستقرار برکات الحیاة بها، وهذه البرکات؛ وإمّا دنیوّیة، راجعة إلی الحیاة الدنیا کالتمتع الصالح بأمتعتها وزینتها، فیکون مؤدَّی الآیة: أنَّ الأرض ستتطهَّر من کلَ ّ رِجس وشرک ومعصیة، ویحلُّ محلَّها مجتمع صالح لا یعصون الله طرفة عین أبداً ولا یشرکون بعبادته أحداً. فتکون مختصّة بالوراثة الدنیوّیة وتحمل علی زمان ظهور الأمام المهدی(عج)، عندما یملأ الأرض قسطاً وعدلاً.

وإمّا برکات أخرویّة، وهی تعبَّر عن مقامات القرب التی اکتسبوها فی حیاتهم الدنیا، فإنّها من برکات الحیاة الأرضیّة، کما

ص:104


1- (4) . تفسیر المیزان: 14/ 331.

یشیر إلیه قوله تعالی حکایة عن أهل الجنّة: وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِی صَدَقَنا وَعْدَهُ وَ أَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَیْثُ نَشاءُ 1.

وبالجملة: فإنَّ الآیة مطلقة تعمّ الوراثتین جمیعاً (1).

وعن ابن عباس فی روایة أخری، قال أبو جعفر(علیه السلام):

.

ویدلُّ علی ذلک ما رواه الخاصُّ والعام عن الإمام علی(علیه السلام) عن الرسول الأکرم(صلی الله علیه و آله) أنه قال:

لو لم یبقَ من الدهر إلاّ یوم لبعث الله رجلاً من أهل بیتی، یملأها عدلاً کما ملئت جورا> (2). ثم ذکر جملة من الروایات، وقال: والأحادیث فی التنصیص علی خروج المهدی(علیه السلام) اصح إسنادا (3).

وإضافة إلی ذلک، فقد وردت روایات کثیرة عن الرسول الأکرم(صلی الله علیه و آله) وأئمّة أهل البیت(علیهم السلام)، فی شأن المهدی(عج)، وکلّها تدلّ علی أنّ حکم الأرض سیقع فی أیدی الصالحین، وأنَّ رجلاً من أهل بیت النبی(صلی الله علیه و آله)یقوم فیملأ الأرض قسطاً وعدلاً کما مُلئت ظلماً وجوراً.

وعلیه نحصل من التدبر فی الآیة المبارکة .علی الدلالات التالیة:

أوّلاً: إنّها تشتمل علی قضاء إلهی حتمی بتکریم خطّ الأیمان والصلاح بجزاء دنیوی فضلاً عن الجزاء الأخروی، یتمثّل فی وراثة الأرض وحکمها.

ثانیاً: مقتضی وراثتهم للأرض وحکمهم لها، بأن یقیموا بمقتضی صلاحهم بتطهیرها من الشرک والمعصیة وتحقیق آمال وأهداف جمیع العباد الصالحین علی مدی التاریخ (4).

ص:105


1- (2) . تفسیر المیزان: 17/ 330.
2- (3) . ینابیع المودة: 3/ 271 . رواه أبو داود وأحمد والترمذی وابن ماجة.
3- (4) . مجمع البیان: 71/ 119- 120.
4- (5) . الرؤیة القرآنیّة للقضیّة المهدویّة: 58.

الآیة الرابعة:

قال تعالی: اَلَّذِینَ إِنْ مَکَّنّاهُمْ فِی الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّکاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْکَرِ وَ لِلّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ 1، إنَّ کلمة: مکان عند أهل اللغة، تغنی: الموضع الحاوی لشیء. وعند بعض المتکلّمین أنّه عرض، وهو اجتماع جسمین حاوٍٍٍٍٍِِ ومحویٍ، وذلک إنّ یکون سطح الجسم الحاوی محیطاً بالمحوی، فالمکان عندهم هو المناسبة بین هذین الجسمین. قال: مَکاناً سُویً 2. ویقال: مکّنته، ومکَّنت له فتمکَّن. قال: وَ لَقَدْ مَکَّنّاکُمْ فِی الْأَرْضِ 3 ، وَ لَیُمَکِّنَنَّ لَهُمْ دِینَهُمُ الَّذِی ارْتَضی لَهُمْ 4.

وربما تأتی کلمة التمکین بمعنی: الغلبة، والسیطرة والانتصار، کقولک: مکّنت فلاناً من فلان. فالمتمکن: ذو قدرة ومنزلة. (1)

وقوله: أَنَّ الْأَرْضَ یَرِثُها عِبادِیَ الصّالِحُونَ ، قال الراغب: إن الوراثة والإرث هو انتقال قنیة إلیک من غیر عقد (2).

فالمراد أنّ الذین آتیناهم القدرة فی الأرض، یقیمون الصلاة ویؤتون الزکاة، ویأمرون بالمعروف وینهون عن المنکر .

إذاً: هناک فئة فی الأرض سوف یمکّنهم الله فی الأرض، ویکون حکمهم حکماً عالمیّاً غیر محدود، بحیث تنتشر رسالتهم وینتشر دینهم، وهذه آیة من الآیات التی تثبت عالمیّة الإسلام، وتمکّنه فی جمیع المعمورة.

ص:106


1- (5) . مفردات القرآن: 722.
2- (6) . المصدر: 863.
ب). تحلیل ألفاظ آیة الإظهار

إنَّ کلمة: الرسل فی اللغة العربیة، تعنی:

الانبعاث علی التُّؤدَة. ویقال: ناقة رسله أی: سهلة السیر. وابِل مراسیل: منبعثة انبعاثاً سهلاً، ومنه الرسول المنبعث. ویصوَّر تارةً الرفق فیُقال: علی رسلک، إذا أمرته بالرفق. ویقال تارةً: الانبعاث، فاشتق منه الرسول. والرسول یُقال تارةً للقول المتحمل، وتارة لمتحمل القول والرسالة والرسول و یُقال للواحد والجمع. قال تعالی: لَقَدْ جاءَکُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِکُمْ 1، وللجمع: فَقُولا إِنّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِینَ 2.

وجمع الرسول: رسل. ورسل الله تارة یراد بهم الملائکة، وتارةً أخری الأنبیاء.

والأوّل: قوله تعالی: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ کَرِیمٍ 3، وقوله: بَلی وَ رُسُلُنا لَدَیْهِمْ یَکْتُبُونَ 4.

والثانی: قوله تعالی: هُوَ الَّذِی بَعَثَ فِی الْأُمِّیِّینَ رَسُولاً مِنْهُمْ.

أما قوله تعالی: بِالْهُدی وَ دِینِ الْحَقِّ الهدی بمعنی: هدی، یهدی، هدیاً، وهدیّةً وهدایة، أرشده وهو ضدّ أضلَّه.

ویقال: هداه الطریق، وهداه إلی الطریق، وللطریق: بینه له وعرّفه به، وهداه الله إلی الإیمان وللإیمان (1).

وقال الراغب الأصفهانی: الهدایة دلالة بلطف، ومنه: الهدیةُ، وهوادی الوحش، أی: متقدّماتها الهادیة لغیرها.

وقال أیضاً: وهدایة الله للإنسان علی أربعة أوجه:

الأوّل: الهدایة التی عمَّ بجنسها کلَّ مکلَّف من العقل، والفطنة،

ص:107


1- (5) . مفردات ألفاظ القرآن: 353، 835.

والمعارف الضروریّة أعمَّ منها کلَّ شیء بقدر فیه حَسْبَ احتماله، کما قال تعالی: قالَ رَبُّنَا الَّذِی أَعْطی کُلَّ شَیْ ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدی 1.

الثانی: الهدایة التی جعل للناس بدعائه إیّاهم علی ألسنّة الأنبیاء، وإنزال القرآن، ونحو ذلک، وهو المقصود بقوله تعالی: وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً یَهْدُونَ بِأَمْرِنا 2.

الثالث: التوفیق الذی یختصُّ به مَن اهتدی، وهو المعنیُّ بقوله تعالی: وَ الَّذِینَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدیً 3 وقوله تعالی: وَ مَنْ یُؤْمِنْ بِاللّهِ یَهْدِ قَلْبَهُ وَ اللّهُ بِکُلِّ شَیْ ءٍ عَلِیمٌ 4.

الرابع: الهدایة فی الآخرة إلی الجنة المعنیُّ بقوله تعالی: وَ نَزَعْنا ما فِی صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ 5، وقوله تعالی: سَیَهْدِیهِمْ وَ یُصْلِحُ بالَهُمْ 6.

إذاً: المراد بالآیة: أنّ الله أرسل رسوله بلطف ورشد، لیهدی ویرشد الناس جمیعاً، ولم یرشده بالضلال، والتیه، قال بِالْهُدی وَ دِینِ الْحَقِّ و دِینِ الْحَقِّ هو الدین الصحیح الذی یجب أن یتبع، أَ فَمَنْ یَهْدِی إِلَی الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ یُتَّبَعَ 7؛ لأنَّ الحقَّ هو الذی یجب أن یُتَّبع، ویجب أن یُؤخذ کطریق للوصول إلی مرضاة الله والتکامل البُشری، وقال الله تعالی: أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدی وَ دِینِ الْحَقِّ هو الهادی إلی دِینِ الْحَقِّ، فهو المرسل وهو الهادی؛ لأنه لا هادی غیره قُلْ هَلْ مِنْ شُرَکائِکُمْ مَنْ یَهْدِی إِلَی الْحَقِّ قُلِ اللّهُ یَهْدِی لِلْحَقِّ 8.

ص:108

وقوله تعالی: لِیُظْهِرَهُ عَلَی الدِّینِ کُلِّهِ الإظهار الإیضاح، یُقال: أظهر الشیء أوضحه وأبانه فجعله ظاهراً لإخفاء فیه، وأظهر فلاناً علی الخبر: أطلعه علیه وأخبره به، عالِمُ الْغَیْبِ فَلا یُظْهِرُ عَلی غَیْبِهِ أَحَداً إِلاّ مَنِ ارْتَضی مِنْ رَسُولٍ 1.

وأظهره علی الشخص جعله مستعلیاً علیه، والاستعلاء بالعلم، أو السیادة والغلبة، أو الشرف والمنزلة، أو بها کلّها. وهذا هو المراد بهذه الآیة.

وقوله تعالی: عَلَی الدِّینِ کُلِّهِ أی: علی جمیع الأدیان السماویّة والأرضیّة، وقوله تعالی: وَ لَوْ کَرِهَ الْمُشْرِکُونَ إنَّ معنی: الکره فی اللغة هو: ما أکرهت نفسکَ علیه، وبالفتح ما أکرَهکَ غیرک علیه، کَرهِة کَسَمعَة، کرهاً یضمُ، کراهة وکراهیة بالتخفیف. ومکرهة وما نفهمه مکرهةً (1) الشیء ضدّاً أحبّه، فهو کاره والشیء مکروه ومن کره الشیء أن لم یعبه، وکره وقوعه، کذلک فی المقام تری أن المشرکین عندهم حقّ أو کرهاً علی الإسلام.

ولما ظهر الإسلام، فهم أوّل من کره ظهوره فی بدایة البعثة، وتبقی هذه الکراهیّة حتّی فی ظهوره التامَ ّ علی جمیع الأدیان، ومن هنا یجرنا البحث إلی بحث الإرادة الإلهیّة والإرادة عند الإنسان فی مضمون هذه الآیة المبارکة.

لذا یلزم أن نبحث فی الإرادة بعض الشیء مع نوع من التفصیل، ونفرق بین الإرادة الإلهیّة والإرادة الإنسانیّة وعند المشرکین بصورة خاصّة فی الأبحاث الآتیّة.

ج). مُفاد آیة الإظهار

قال تعالی: هُوَ الَّذِی أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدی وَ دِینِ الْحَقِّ لِیُظْهِرَهُ عَلَی الدِّینِ کُلِّهِ وَ لَوْ کَرِهَ الْمُشْرِکُونَ 3.

ص:109


1- (2) . القاموس المحیط: 3 / 386.

إذا ما طالعنا الآیة القرآنیّة المبارکة لرأینا أنَّ الله تعالی: یرید إتمام نوره ودینه: هُوَ الَّذِی أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدی وَ دِینِ الْحَقِّ.

وهذه بشارة من الله تعالی إلی المسلمین الذین جاهدوا فی سبیل إعلاء کلمته، وإعلاء رایة الإسلام فوق ربوع المعمورة، بأنَّ الإسلام سوف یظهر علی جمیع الأدیان الإلهیّة وغیر الإلهیّة، فیکون الدین العالمی، الذی تقبله البشریة کافة، کما قال تعالی: إِنَّ الدِّینَ عِنْدَ اللّهِ الْإِسْلامُ وَ مَا اخْتَلَفَ الَّذِینَ أُوتُوا الْکِتابَ إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْیاً بَیْنَهُمْ 1.

فهو رسالة ربانیّة تغییریّة شاملة، تهدف إلی تغییر الإنسان بشکل کامل وأساسی، وهو ثورة ضدّ الظلم والاضطهاد، والتفرقة بجمیع أنواعها، کما هو ثورة ضدّ الجاهلیّة بکلّ مفاهیمها وقیمها ومظاهرها وأشکالها، وکلّ الأبعاد التی ترتبط بحیاة هذا الإنسان؛ وذلک لأنّ الإسلام فی حقیقته ومحتواه، هو التسلیم المطلق لله وحده والتسلیم التامّ فی جمیع مراحل الحیاة. وأیضاً؛ لأنّ الشریعة الإسلامیة تقدّم الضمان وتحقیق حاجة البشر الطبیعیّة والفطریّة، وکذلک فی مجال الأحکام، فقد بین الإسلام سلسلة من الأصول، والکلیات الجامعة، الثابتة التی یمکنها أن تلّبی الحاجات البشریّة المستجدّة والمتنوعة، أوّلاً بأوّل، کما أنّ الآیات القرآنیّة تثبت عمومیّة الدین الإسلامی وعالمیتّه، من خلال استعمال الألفاظ العامّة، أمثال: بنی آدم، أیها الناس، العالمین، وتوجیه الخطاب للأمم الأخری من غیر العرب، وأتباع الأدیان الأخری، أمثال یا أهل الکتاب، فأراد الله تعالی أن یُظهر هذا الدَّین الحقّ علی سائر الأدیان وذلک بنسخه إیّاها- حسبما تقتضیه الحکمة- فإمّا أن یجعله مستعلیاً علیها، والاستعلاء بالعلم أو السیادة والغلبة، أو الشرف والمنزلة أو بها کلّها.

ص:110

وهذا المعنی مأخوذ من اللام فی قوله تعالی: لِیُظْهِرَهُ، فهذه لام الحکمة، لأنّ الله تعالی الحکیم هو الذی یرید أن یظهر دینه علی سائر الأدیان، فیکون هو الدین المعمول فیه وفی شریعته المقدَّسة، فقال: هُوَ الَّذِی أَرْسَلَ رَسُولَهُ محمداً(صلی الله علیه و آله)، بِالْهُدی وَ دِینِ الْحَقِّ، وهو إمّا القرآن، وهو الدستور الإلهی والناموس الربّانی الذی، یتمّ حفظه من قبل الله ؛ وذلک من خلال قوله تعالی: إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّکْرَ وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ 1 خلافاً للکتب السماویّة الأخری التی تعرَّضت للتحریف من قبل أتباع تلک الدیانات.

وإمّا الإسلام، فیکون الله الذی أرسل رسوله بالهدایة للإسلام الذی هو الدین الحقّ: إِنّا أَرْسَلْناکَ بِالْحَقِّ بَشِیراً وَ نَذِیراً 2، وقوله تعالی: یا أَیُّهَا النّاسُ قَدْ جاءَکُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ 3 ، وقوله تعالی: وَ لا یَدِینُونَ دِینَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِینَ أُوتُوا الْکِتابَ 4، أی: دین الإسلام.

فیکون هو الذی أرسل رسوله بالإسلام أو هو الدین الحقّ، الدین الذی سوف یظهر علی جمیع الأدیان، بحیث یصبح هو الدین الذی یدان به، فی جمیع أرجاء الأرض؛ لأنّه هو الدین الغالب.

إشکال وجواب:

هناک نوع من التساؤل أثاره الفخر الرازی فی تفسیره حول هذه الآیة الکریمة، قمنا بصیاغته کإشکال، ومن ثَمّ نقوم بالجواب علیه، تحت هذا العنوان بغیة الإطلاع أکثر فی تفسیر هذه الآیة، وحیث قال: إنَّ ظاهر قوله تعالی: لِیُظْهِرَهُ عَلَی الدِّینِ کُلِّهِ یقتضی کونه غالباً لجمیع الأدیان، ولیس

ص:111

الأمر کذلک؛ لأنَّ الإسلام لم یَصِرْ غالباً لجمیع الأدیان فی الأرض، ونحن نری الکثیر من الأدیان سواء أکانت إلهیّة أم غیر إلهیّة موجودة لحدّ الآن، ولم یظهر علیها الدین الإسلامی.

وفی مقام الجواب علی هذا الإشکال وما یشابهه من الإشکالات الأخری، یوجد الکثیر من الوجوه التی أجیب من خلالها علی ذلک، نذکر خمسةً منها.

الوجه الأوّل: إنّه لا دین بخلاف الإسلام، إلاّ وقد قهره المسلمون، وظهروا علیه فی بعض المواضع، وإن لم یکن کذلک فی مواضعهم، فقهروا الیهود وأخرجوهم من بلاد العرب وغلبوا النصاری علی بلاد الشام، وما والاها من ناحیة الروم والغرب، وغلبوا المجوس علی ملکهم، وغلبوا عبادة الأصنام علی الکثیر من بلادهم ممّا یلی الترک والهند وسائر الأدیان، فثبت أن الذی أُخبر عنه، فی هذه الآیة قد وقع وحصل، وکان ذلک إخباراً عن الغیب، فکان معجزاً.

الوجه الثانی: إنَّ المراد من قوله تعالی: لِیُظْهِرَهُ عَلَی الدِّینِ کُلِّهِ، أی: یُوقِف الرسول الأکرم(صلی الله علیه و آله) علی جمیع الشرائع، ویطلعه علیها، بالکلّیة حتّی لا یخفی علیه شیء منها.

الوجه الثالث: إنَّ المراد لیظهر الإسلام کلَّه علی جزیرة العرب، وقد حصل ذلک، فإنَّه تعالی ما أبقی أحداً فیها من الکفار.

الوجه الرابع: إنّه تعالی أراد الإظهار بالحجة والبیان، وهذا ضعیف؛ لأنّ الله تعالی وعد عباده بأنه سیفعله والغلبة بالحجّة والبیان کانت حاصلة من أوّل الأمر.

الوجه الخامس: إنّ المستفاد من الکثیر من الآیات القرآنیّة والروایات الشریفة الدالة علی عالمیة الإسلام، هو أنَّ جمیع هذه الأقسام وقعت فی الزمن الماضی، إمّا فی زمن البعثة أو بعدها؛ لأنّ علم الرسول الأکرم(صلی الله علیه و آله) بالدیانات السابقة وشرائعها السابقة علی الإسلام متحقق فعلاً.

ص:112

لقد ذکرت الکثیر من الروایات أنه کان یجیب أهل التوراة بما فی توراتهم، وأهل الإنجیل بما فی إنجیلهم، وعنده علم بما فی الکتب السماویّة جمیعاً، ولیس هو فقط، بل هو وأهل بیته أیضاً، إذ کانت لهم إخبارات عدیدة عمّا کان، وعمّا سیکون:

فقد ورد عن علی بن محمّد، عن عبد الله بن علی، عن إبراهیم بن إسحاق، عن عبدا لله بن حمّاد، عن برید بن معاویة، عن أحدهما فی قول الله عزّ وجلّ: وَ ما یَعْلَمُ تَأْوِیلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَ الرّاسِخُونَ فِی الْعِلْمِ

«فرسول الله(صلی الله علیه و آله) أفضل الراسخین فی العلم، قد علَّمه الله عزّ وجلّ جمیع ما أنزل علیه من التنزیل والتأویل، وما کان الله لینزل علیه شیئاً لم یعلَّمه تأویله، وأوصیاؤه من بعده یعلمونه کلّه» (1).

لکن لو طالعنا الآیة بضمیمة بعض الآیات القرآنیة الأخری، والأحادیث الشریفة لعرفنا أن الغلبة التامة علی الأدیان لم تتحقّق بعد، علی الکثیر من المستویات، وهذا ما تحدَّثت عنه بعض الروایات الشریفة من أنّ تأویل هذه الآیة لم یحن بعد.

فعن القمّی: نزلت فی القائم من آل محمّد(صلی الله علیه و آله)، قال: وهو الذی ذکرناه ممّا تأویله بعد تنزیله.

وفی تفسیر الصافی عن، إکمال الدین، عن الصادق(علیه السلام) فی هذه الآیة. قال:

والله ما نزل تأویلها بعد ولا ینزل تأویلها حتی یخرج القائم، فإذا خرج القائم(عج) لم یبقَ کافر بالله العظیم إلا کره خروجه حتی لو کان الکافر أو المشرک بالأمام إلا کره خروجه حتی لو کان کافر أو مشرک فی بطن صخرة لقالت: یا مؤمن فی بطنی کافر فاکسرنی واقتله.

وخلاصة هذا القول هو: أنّ التأویل الصحیح لهذه الآیة لم یتحقّق بعد (2).

ص:113


1- (1) . أصول الکافی، باب: أنّ الأئمّة(علیهم السلام) أوتوا العلم وثبت فی صدورهم: 239، ح: 551.
2- (2) . تفسیر الصافی: 2 / 383.

الوجه الصحیح:

وبناءً علی ما تقدَّم یتّضح أنَّ من غیر الصحیح القول بتحقق هذه البشری فی عهد الرسول الأکرم(صلی الله علیه و آله) ؛ لأنّ الإسلام لم یسیطر علی جمیع أرجاء الأرض سیطرة تامّة کاملة، ولم یتحقّق ذلک فی عهد الخلفاء بعده أیضاً. والمستفاد من السور القرآنیّة والروایات الشریفة، هو عدم تحقّق هذا الوعد الجمیل إلی الآن، والآیة الکریمة من آیات الملاحم التی تتحدّث عمّا سیقع فی المستقبل.

إضافة إلی الاعتقاد بحتمیة وقوع هذا الوعد الإلهی؛ لأنّ الله تعالی وهو الصادق تعلّقت إرادته بإظهار هذا الدین علی جمیع الأدیان، کما تعلّقت أرادته تعالی أیضاً بذلک فی قوله تعالی: وَ نُرِیدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَی الَّذِینَ اسْتُضْعِفُوا فِی الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِینَ 1.

قال الفخر الرازی فی تفسیره:

واعلم أنّ ظهور الشیء علی غیره قد یکون بالحجّة، وقد یکون بالکثرة والوفور، وقد یکون بالغلبة والاستیلاء، ومعلوم أنّه سبحانه بشَّر بذلک، ولا یجوز أنّ یبشر إلاّ بأمر مستقبل غیر حاصل، وظهور هذا الدین بالحجّة مقرّر معلوم، فالواجب حمله علی الظهور بالغلبة (1).

وبعد الإجابة عن هذا الأشکال، وبعد إثبات أن الظهور الذی وعدت به الآیة المبارکة إنّما یکون بالغلبة دون غیرها من الوجوه، وقع ا لخلاف فی زمان تحقق هذه البشری التی لابدَّ من وقوعها، وتحقیق الوعد الإلهی، بإظهار الإسلام علی جمیع الأدیان الأخری، بحیث یحکم الدستور الإسلامی جمیع مَن علی الأرض وهل هذه الغلبة الموعودة تکون مع وجود الأدیان الأخری، أم تنتفی بانتفاء شرائعها التی تعمل بها آنذاک؟

ص:114


1- (2) . التفسیر الکبیر: 16/ 40.

جمیع هذه الأسئلة سوف یُجاب علیها من خلال المقارنة فی آیة الإظهار، بین المفسرّین من علماء الفریقین.

د). آیة الإظهار عند مفسری الشیعة:

إذا ما أردنا الاطلاع علی آراء المفسرّین من الشیعة، وجدنا هناک نوعاً من الإجماع علی قضایا عدّة، والتی منها عالمیّة الإسلام علی جمیع بقاع الأرض، وأنّه سوف یکون هناک یوم یعمُّ فیه الإسلام، فیکون المسیطر علی جمیع الأدیان؛ وذلک عند ظهور الأمام المهدی(عج) الذی یملأها قسطاً وعدلاً، ولا یتمّ تفسیر هذه الآیة بالکامل إلاّ عند خروج القائم من آل محمّد(عج). ومن هذه التفاسیر:

1. تفسیر التبیان للطوسی (460 ه):

یعتبر تفسیر التبیان، لشیخ الطائفة الطوسی(رحمه الله)، من التفاسیر المهمّة عند المسلمین عموماً والمذهب الشیعی علی وجه الخصوص، فکان من الضروری أن نتطرّق الی ما جاء فیه حول تفسیر هذه الآیة المبارکة.

قال:

هُوَ الَّذِی أَرْسَلَ رَسُولَهُ محمّد(صلی الله علیه و آله) وحمله الرسالة التی یؤدّیها إلی الأمّة بِالْهُدی، یعنی: بالحجج والبینات والبیان، وَ دِینِ الْحَقِّ هو: الإسلام وما تضّمنه من الشرائح؛ لأنّه یستحقّ علیه الجزاء بالثواب، وکلّ دین سواه باطل؛ لأنّه یستحقّ به العقاب، وقوله: لِیُظْهِرَهُ عَلَی الدِّینِ کُلِّهِ معناه: لیُعلی دین الإسلام علی جمیع الأدیان بالحکم والغلبة والقهر له، وفی الآیة دلالة علی صدق نبوته؛ لأنّها ضمّنت الوعد بإظهار الإسلام علی جمیع الأدیان (1).

ص:115


1- (1) . تفسیر التبیان: 5/ 209.

2. تفسیر مجمع البیان للطبرسی (548 ه):

نقل العلامة الطّبرسی(رحمه الله) فی تفسیره، هذه الروایة عن المقداد ابن الأسود:

قال سمعت رسُول الله(صلی الله علیه و آله) یقول: لایبقی علی ظهر الأرض، بیت مدر، ولا وبر إلاّ أدخله الله الإسلام، إمّا بعزّ عزیز، أو بذلّ ذلیل، إمّا یجعلهم الله من أهله فیعزوا به، وما یذلهم فیدنوا له.

والهاء فی: لِیُظْهِرَهُ عَلَی الدِّینِ کُلِّهِ عائدة إلی الرسول أی: لیعلمه الله الأدیان کلّها حتّی لایخفی علیه شی منها.

وعن ابن عبّاس: وَ لَوْ کَرِهَ الْمُشْرِکُونَ، وان کرهوا هذا الدین، فأنّه یظهره رغماً عنهم (1).

3. تفسیر زبده التفاسیر للکاشانی (988 ه)

قال:

هو الذی أرسل رسوله بالحجج والدلائل المبیَّنة: وَ دِینِ الْحَقِّ هو الإسلام، وما تضّمنه من أحکام، وَ لَوْ کَرِهَ الْمُشْرِکُونَ فهو وضع المشرکین موضع الکافرین، للدلالة علی أنّهم ضمّوا الکفر بالرسول إلی الشرک بالله تعالی: لِیُظْهِرَهُ عَلَی الدِّینِ کُلِّهِ علی سائر الأدیان بالحجّة والغلبة.

وقیل: أراد عند نزول عیسی، لا یبقی أهل دین إلاّ اسلموا أو أدَّوا الجزیّة، وقال أبو جعفر(علیه السلام):

إنَّ ذلک یکون عند خروج القائم المهدی(عج) من آل محمد، فلا یبقی أحد إلاّ أقرَّ بمحمد(صلی الله علیه و آله) (2).

4. تفسیر البرهان للبحرانی(1107 ه):

قال حدّثنا محمد بن موسی ابن المتوکّل، حدثنا الحسین السعد آبادی، عن أحمد بن عبد الله البرقی، عن أبیه عن ابن أبی عمیر، عن أبی حمزة، عن أبی بصیر قال أبو عبد الله(علیه السلام) فی قوله تعالی:

ص:116


1- (1) . مجمع البیان: 5 / 44.
2- (2) . زبدة التفاسیر: 3 / 14.

هُوَ الَّذِی أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدی وَ دِینِ الْحَقِّ، قال:

«والله ما نزل تأویلها حتی یخرج القائم، فإذا خرج القائم لم یبقَ کافر بالله العظیم، ولا مشرک بالإمام إلاّ کره خروجه، حتّی لو کان الکافر فی بطن صخرة: قالت یا مؤمن فی بطنی کافر فاکسرنی واقتله (1).» وعن سماعة عن أبی عبد الله، قال:

«إذا خرج القائم(عج) لم یبقَ مشرک بالله العظیم ولا کافر کره خروجه» (2).

5. تفسیر المیزان للطباطبائی(1402ه):

من ضمن الآراء التفسیرّیة التی قد تعرضت لتفسیر هذه الآیة المبارکة، رأی صاحب تفسیر المیزان، قال:

الهدایة هی الهدایة الإلهیة التی قارنها برسوله لیهدی بأمره، ودین الحقّ هو الإسلام، بما یشتمل علیه من العقائد والأحکام المنطبقة علی الواقع الحق.

والمعنی: إنّ الله هو الذی أرسل رسوله محمّد(صلی الله علیه و آله) مع الهدایة والآیات البینات، ودین فطری لیظهر وینصر دینه الذی هو دین الحقّ علی کلّ الأدیان، ولوکره المشرکون ذلک.

وبذلک ظهر أنّ الضمیر فی لِیُظْهِرَهُ راجع إلی دین الحقّ، کما هو المتبادر من السیاق. وربّما قیل: إنّ الضمیر راجع إلی الرسول، والمعنی: لیظهر رسوله ویعلمه معالم الدین کلّها، وهو بعید (3).

6. تقریب القرآن إلی الأذهان للشیرازی(1422ه):

قال:

هُوَ الَّذِی أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدی وَ دِینِ الْحَقِّ لِیُظْهِرَهُ عَلَی الدِّینِ کُلِّهِ فیکون هو الدین الوحید الذی له الغلبة والحجّة علی سائر الأدیان (4).

ص:117


1- (1) . تفسیر البرهان:3 / 407.
2- (2) . تفسیر العیاشی: 3 / 93، ح :52.
3- (3) . تفسیر المیزان: 9/ 247 .
4- (4) . تقریب القرآن إلی الأذهان: 3/ 392.

وفی تأویل ذلک عند خروج المهدی(عج)، الذی یملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما مُلئت ظلماً وجوراً.

7. تفسیر الأمثل: للمکارم الشیرازی:

قال: المقصود من: بِالْهُدی هو الدلائل الواضحة، والبراهین اللائحة الجلیّة التی وجدت فی الدین الإسلامی، و وَ دِینِ الْحَقِّ فهو الدین الذی أصوله حقّه وفروعه حقّه أیضاً، وکلُّ ما به من تاریخ وإسناد ونتاج حقّ. ولاشکَّ أنَّ الدَّین الذی محتواه حقّ، وماهیتّه حقّ، وتأریخه حقّ جلیّ، لابد أنّ یظهر علی جمیع الأدیان.

وهذا التعبیر الوارد فی الآیة محلُّ بحث: هُوَ الَّذِی أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدی وَ دِینِ الْحَقِّ، کأنّه دلیل إشارة إلی انتصار الإسلام وظهوره علی جمیع الأدیان، لأنّه لمّا کان محتوی دعوة النبی هو الهدایة، والعقل یدلُّ علی ذلک فی کلّ المواطن، ولمّا کانت أصوله وفروعه موافقة للحقَ ّ، ومع الحقَ ّ، وتسیر فی مسیر الحقَ ّ ؛ لأجل الحقَ ّ فهذا الدین سینتصر علی جمیع الأدیان.

وبعد أن تطرّق صاحب هذا التفسیر إلی أنّ الإسلام لابدَّ أن یحکم العالم یوماً ما، قال: ولاشکَّ أنَّ هذا الأمر لم یتحقّق فی الوقت الحاضر، لکننّا نعلم أنَّ هذا الأمر من قبل الله حتمی، وأنَّه سیتحقق تدریجاً، إلاّ أنّه وفقاً للروایات المختلفة الواردة فی المصادر الإسلامیّة، فأنّ هذا الموضوع أنمّا یتحقّق عند ظهور المهدی(علیه السلام) فیجعل الإسلام عالمیّاً (1).

ه). تفسیر آیة الإظهار عند مفسرّی أهل السنة
اشارة

اختلف فی تفسیر هذه الآیة بین علماء الفریقین من السنَّة والشیعة، وفی زمان تطبیقها بالخصوص، بینما لا نجد اختلافاً بین علماء الشیعة فی زمان تطبیق هذه الآیة المبارکة، أی: زمان ظهور الإسلام علی جمیع الأدیان الأخری، وفی قبال ذلک نجد اختلافاً کبیراً بین علماء المذاهب الأخری من غیر المذهب الحق.

ص:118


1- (1) . تفسیر الأمثل: 6 / 312.

1. أحکام القرآن للشافعی(204 ه):

یعتبر تفسیر أحکام القرآن لأبی بکر أحمد ابن الحسین النیسابوری الشافعی، من التفاسیر القدیمة عند المذهب السنّی، حیث یرجع تاریخه إلی سنة 204ه ، لقد جاء فیه تفسیر قال لهذه الآیة بما یلی:

لقد أظهر الله تعالی رسوله(صلی الله علیه و آله) علی الأدیان کلّها بأنّ أبان لکلّ من سمعه أنّه الحقُّ، وما خالفه من الأدیان باطل. وقال: وأظهره بأنَّ أجمع الشرک دینان دین أهل الکتاب، ودین أمیّین، فقهر رسول الله الأمیّین حتّی دانوا بالإسلام طوعاً وکرهاً، وقتل من أهل الکتاب وسبی حتّی دان بعضهم بالإسلام، وأعطی بعضهم الجزّیة، صاغرین، وجری علیهم حکمه، فهذا ظهوره علی الدین، والله اعلم (1).

2. تفسیر جامع البیان للطبری(310 ه):

قال:

هُوَ الَّذِی أَرْسَلَ رَسُولَهُ محمّداً(صلی الله علیه و آله) وحمله بالرسالات التی یؤدّیها إلی أمّته: بِالْهُدی وجه الأرض، التی یستحّق علیها الجزاء بالثواب، وکلّ دین سواه باطل یستحّق به العقاب لِیُظْهِرَهُ عَلَی الدِّینِ کُلِّهِ، معناه: لیعلی دین الإسلام علی جمیع الأدیان بالحجّة، والغلبة، والقهر لها، حتّی لا یبقی علی وجه الأرض دین إلاَّ مغلوباً، ولا یغلب أحد أهل الإسلام، وهم یغلبون أهل سائر الأدیان.

و قال: أمّا الظهور بالغلبة، فهو أَّن کلَّ طائفة من المسلمین قد غلبوا علی ناحیة من نواحی أهل الشرک، ولحقهم القهر من جهتهم.

وقیل: أراد عند نزول عیسی ابن مریم، لا یبقی أهل دین إلاّ أسلموا، أو أدّوا الجزیة.

وعن الضحاک قال أبو جعفر(علیه السلام):

إنَّ ذلک یکون عند خروج المهدی من آل محمّد، فلا یبقی أحد إلاّ أقرَّ بمحمد(صلی الله علیه و آله) (2).

ص:119


1- (1) . أحکام القرآن: 2 / 49 -50.
2- (2) . تفسیر جامع البیان: 3 / 453.

وقال إنّ الله زوی لی الأرض مشارقها ومغاربها وسیبلغ ملک أمتی ما زوی لی منها (1).

3. تفسیر معالم التنزیل للبغوی(506 ه):

قال تعالی: اَلَّذِی أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدی یعنی: الذی یأبی إلاّ إتمام دینه هو الذی أرسل رسوله محمّداً(صلی الله علیه و آله) بِالْهُدی، قیل: بالقرآن. وقیل: ببیان الفرائض. وَ دِینِ الْحَقِّ هو الإسلام لِیُظْهِرَهُ لیعلیه وینصر عَلَی الدِّینِ کُلِّهِ علی سائر الأدیان وَ لَوْ کَرِهَ الْمُشْرِکُونَ. قال: اختلفوا فی معنی هذه الآیة، فقال ابن عبّاس: إنّها عائدة إلی الرسول(صلی الله علیه و آله)، أی: لیعلمه شرائع الدین کلّها، فیظهره علیها حتّی لا یخفی علیه شیء منها.

وهذا واضح البطلان کما تطرّقنا بالنظر إلی وقت نزول السورة، ومعرفة النبیّ(صلی الله علیه و آله) بما فی هذه الأدیان من جزئیات الشرائع.

وقال آخرون: إنّها راجعة إلی دین الحّق وظهوره علی الأدیان.

وقال أبو هریرة عن النبی فی نزول عیسی(علیه السلام)، ویهلک فی زمانه الملل کلّها إلاّ الإسلام.

أقول وهذا لا یتنافی مع ما نذهب إلیه بعد قلیل (2).

4. تفسیر مفاتیح الغیب للفخر الرازی (606 ه):

قال فی قوله تعالی: هُوَ الَّذِی أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدی : اعلم أنّه تعالی لمّا حکی عن الأعداء أنّهم یحاولون إبطال أمر محمّد(صلی الله علیه و آله)، وبیّن تعالی أنّه یأبی إلاّ أن یتمَّ أمره، بیّن کیفیّة ذلک الإتمام، فقال: هُوَ الَّذِی أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدی.

وهذا إنّما یتم لوجود مجموعة من الأسباب التی تستدعی ذلک، والتی منها:

1. إنَّ کمال حال الأنبیاء(علیهم السلام) لا تحصل إلاّ بمجموعة أمور أوّلها کثرة الدلائل والمعجزات، وهو المراد من قوله تعالی: اَلَّذِی أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدی وَ دِینِ الْحَقِّ.

ص:120


1- (1) . تفسیر ابن کثیر:2 / 432.
2- (2) . تفسیرمعالم التنزیل، المعروف بتفسیر البغوی: 2 / 274.

2. کون دینه مشتملاً علی أمور یظهر لکلّ واحد أنّها موصوفة بالصواب والصلاح، ومطابقة الحکمة وموافقة المنفعة فی الدنیا والآخرة، وهو المراد من قوله ودین الحّق.

3. صیرورة دینه مشتملاً علی سائر الأدیان، غالباً لأضدادها قاهراً لمنکریها، وهو المراد من قوله: لِیُظْهِرَهُ عَلَی الدِّینِ کُلِّهِ.

ثمّ قال، واعلم: أنّ ظهور الشیء علی غیره قد یکون بالحجّة، وقد یکون بالکثرة والوفور، وقد یکون بالغلبة والاستیلاء. ومعلوم أنّه تعالی بشَّر بذلک ولا یجوز أنّ یبشّر إلاّ بأمر مستقبل غیر حاصل.

وظهور هذا الدین بالحجّة مقرَّر معلوم، فالواجب حمله علی الظهور بالغلبة.

فإن قیل: إنَّ ظاهر قوله تعالی: لِیُظْهِرَهُ عَلَی الدِّینِ کُلِّهِ یقضی کونه غالباً لکلّ الأدیان، ولیس الأمر کذلک؟

فإنّ الإسلام لم یصرّ غالباً لکلّ الأدیان فی الهند والصین والروم، وسائر أراضی الکفرة.

وقد أجابوا عن ذلک بوجوه منها ما روی عن أبی هریرة، أنّه قال: هذا یحصل عند خروج عیسی(علیه السلام).

وقال السدی: ذلک عند خروج المهدی لا یبقی أحد إلاّ دخل فی الإسلام، أو أدّی الخراج (1).

5. تفسیر الجامع لأحکام القرآن للقرطبی (671ه):

قوله تعالی: اَلَّذِی أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدی، یرید محمّداً(صلی الله علیه و آله)، بِالْهُدی، أی: بالفرقان. وَ دِینِ الْحَقِّ لِیُظْهِرَهُ عَلَی الدِّینِ کُلِّهِ وَ لَوْ کَرِهَ الْمُشْرِکُونَ، أی: لیظهر الدین دین الإسلام علی کلّ دین.

قال أبو هریرة والضحاک: ذلک عند نزول عیسی.

وقال ألسدی: ذاک عند خروج المهدی، لا یبقی أحد إلاّ دخل فی الإسلام، أو أدّی الجزیة.

وقیل: المهدی هو عیسی، وهو غیر صحیح؛ لأنّ الأخبار والصحاح قد تواترت علی أنّ المهدی من عترة الرسول(صلی الله علیه و آله)، فلا یجوز حمله علی عیسی بن مریم(علیه السلام).

ص:121


1- (1) . التفسیر الکبیر: 16 / 40.

والحدیث الذی ورد: «لا مهدی إلاّ عیسی» غیر صحیح.

فقد قال أبان بن أبی عیاش- هو منقول عن النبی(صلی الله علیه و آله) وهو منقطع، والأحادیث التی قبله فی التنصیص علی خروج المهدی، وفیها بیان کون المهدی من عترة الرسول(صلی الله علیه و آله) أصحّ إسنادا (1).

وفی تفسیر نفس الآیة من سورة الصف، قال: هُوَ الَّذِی أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدی، أی: محمّداً بالحق والرشاد، اَلْحَقِّ لِیُظْهِرَهُ عَلَی الدِّینِ کُلِّهِ، أی: بالحجج.

ومن الظهور الغلبة بالید فی القتال.

ولیس المراد من الظهور أن لا یبقی دین آخر من الأدیان، بل المراد أن یکون أهل الإسلام غالبین، ومن الإظهار أن لا یبقی دین سوی الإسلام فی آخر الزمان؛ وذلک إذا نزل عیسی لم یبقَ دین فی الأرض سوی الإسلام (2).

6. تفسیر أنوار التنزیل للبیضاوی(685 ه):

قال:

لِیُظْهِرَهُ الدین الحق أو الرسول(صلی الله علیه و آله) واللام للجنس، أی: علی سائر الأدیان فینسخها أو علی أهلها فیخذلهم (3).

وهذا ما ذهب إلیه ناصر الدین البیضاوی 685 ه فی تفسیره: تفسیر البیضاوی.

قال:

لِیُظْهِرَهُ الدین الحق أو الرسول(صلی الله علیه و آله) واللام للجنس، أی: علی سائر الأدیان فینسخها أو علی أهلها فیخذلهم (4).

وفی تفسیر الآیة نفسها من سورة الصف، قال: هُوَ الَّذِی أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدی، أی: محمّداً بالحق والرشاد، اَلْحَقِّ لِیُظْهِرَهُ عَلَی الدِّینِ کُلِّهِ، أی: بالحجج.

ص:122


1- (1) . الجامع لأحکام القرآن: 8 / 8؛ 18 / 56.
2- (2) . الجامع لأحکام القرآن: 8 / 8 ؛ 18 / 56.
3- (3) . تفسیر البیضاوی : 3 / 142.
4- (4) . المصدر: 3 / 142.

ومن الظهور الغلبة بالید فی القتال، ولیس المراد من الظهور أن لا یبقی دین آخر من الأدیان، بل المراد أن یکون أهل الإسلام غالبین، ومن الإظهار أن لا یبقی دین سوی الإسلام فی آخر الزمان؛ وذلک إذا نزل عیسی لم یبقَ دین فی الأرض سوی الإسلام.

7. تفسیر القرآن العظیم لابن کثیر(774 ه):

هُوَ الَّذِی أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدی فالهدی ما جاء به من الأخبار الصادقة، والأیمان الصحیح، والعلم النافع، ودین الحقّ هو الأعمال الصحیحة، النافعة فی الدنیا والآخرة: لِیُظْهِرَهُ عَلَی الدِّینِ کُلِّهِ أی: علی سائر الأدیان، کما ثبت فی الصحیح عن رسول الله(صلی الله علیه و آله) (1).

8. تفسیر الجواهر الحسان للثعالبی(875 ه):

قال:

لِیُظْهِرَهُ لیعلیه وینصره ویظفره، لِیُظْهِرَهُ عَلَی الدِّینِ کُلِّهِ علی سائر الملل کلَّها وَ لَوْ کَرِهَ الْمُشْرِکُونَ اختلف العلماء بمعنی هذه الآیة، فقال ابن عباس: إنها عائدة علی الرسول(صلی الله علیه و آله)یعنی: لیعلمه شرائع الدین کلّها، فیظهره علیها حتّی لا یخفی علیه شیء منها. وقال الآخرون: إنّها راجعة إلی الدین الحقّ.

وقال أبو هریرة: ذلک عند خروج عیسی بن مریم، إذا خرج اتّبعه کلّ دین وتکون الملل واحدة، فلا یبقی أهل دین إلاّ دخل فی الإسلام، أو أدّی الجزیة للمسلمین.

وقال السدی: وذلک عند خروج المهدی لا یبقی أحد إلا دخل فی الإسلام، أو أدّی الخراج (2).

9. تفسیر روح البیان للبروسی(1127 ه):

قال:

هُوَ الَّذِی یرید الذی یشاء إتمام نوره ودینه هو الذی أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدی متلبساً بِالْهُدی القرآن الذی هو هدی للمتّقین:

ص:123


1- (1) . تفسیر ابن کثیر: 2 / 432.
2- (2) . تفسیر الجواهر الحسان: 5 / 35.

وَ دِینِ الْحَقِّ أی: الدین الحقّ هو الإسلام لِیُظْهِرَهُ، أی: لیغلب الرسول عَلَی الدِّینِ کُلِّهِ، أی: علی أهل الأدیان کلّهم وَ لَوْ کَرِهَ الْمُشْرِکُونَ، ذلک الإظهار.

وغلبته علی سائر الأدیان تکون علی تزاید أبداً، وتتمّ عند نزول عیسی(علیه السلام) لِمَا روی أنَّ رسول الله(صلی الله علیه و آله)، قال فی نزول عیسی

یهلک فی زمانه الملل کلّها إلاّ الإسلام.

وقیل: عند خروج المهدی، فإنّه حینئذٍ لا یبقی أحد إلاّ دخل الإسلام، والتزم أو أدّی الخراج (1).

قال: بِالْهُدی، أی: کونه متلبساً بالتوحید وهو: شهادة أن لا إله إلا الله فیکون الجار متعلقاً بمحذوف أو بسببه ولأجله، فیکون متعلقاً بإرساله وَ دِینِ الْحَقِّ، أی: بدین الإسلام، وهو من قبیل إضافة الموصوف إلی الصفة.

ومعنی الحقّ الثابت الذی هو ناسخ للأدیان کلّها لِیُظْهِرَهُ عَلَی الدِّینِ کُلِّهِ.

اللاّم فی الدین للجنس، أی: لیعلی الدین الحقّ ویغلبه علی جنس جمیع الأدیان المختلفة بنسخ ما کان حقّاً من بعض الأحکام المتبدلة، بتبدل الأعصار، وإظهار بطلان ما کان باطلاً، أو بتسلیط المسلمین علی سائر الأدیان (2).

ثمّ یقول: ولقد أنجز الله وعده، حیث جعله بحیث لم یبقَ دین من الأدیان إلاّ وهو مغلوب مقهور بدین الإسلام ولا یبقی إلاّ مسلم أو ذمة للمسلمین: لِیُظْهِرَهُ عَلَی الدِّینِ کُلِّهِ، أی: یجعله ظاهراً غالباً علی جمیع الأدیان المخالفة له.

قال: هُوَ الَّذِی یرید الذی یشاء إتمام نوره ودینه هو الذی: أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدی، متلبساً: بِالْهُدی.

هذه مجموعة من آراء المفسرّین من علماء السنّة، حول تفسیر أیة الإظهار، ونستطیع القول بکلّ بساطة أن هناک نوعاً من الاتّفاق، حول قضیّة عالمیّة

ص:124


1- (1) . تفسیر روح البیان : 5 / 32.
2- (2) . المصدر : 14 /390.

الإسلام فی آخر الزمان، أو لنعّبر عنه بغلبة الإسلام علی الأدیان الأخری، لکنَّ الخلاف وقع فی کیفیة هذه الغلبة، وبأیَ ّ واسطة یکون ذلک؟

وقد ذهب بعض إلی القول بأنّ تفسیر هذه الآیة لم یتمّ بعد، وأتی بعض بذکر واسع عن قضیّة الأمام المهدی(عج).

لکن ممّا یُؤسف له هو وجود بعض التفاسیر التی أنکرت وجود قضیّة الإمام المهدی(عج)، والذی بواسطته یکون الفتح الکبیر للإسلام، بحیث یعمّ جمیع المعمورة، فیملأها قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراًً، ومن أولئک صاحب تفسیر المنار، حیث حاول إنکار قضیّة الإمام المهدی(عج) متجاوزاً جمیع الأدلة العقلیّة والنقلیّة علی وجود المصلح العالمی الذی بواسطته یعمّ الخیر فی جمیع أقطار الأرض.

10. تفسیر روح المعانی للآلوسی(1270ه):

قال:

هو الذی أرسل رسوله محمّداً متلبساً بِالْهُدی، أی: القرآن الذی هو الهدی للمتّقین وَ دِینِ الْحَقِّ الثابت.

وقیل: دینه هو الإسلام لِیُظْهِرَهُ، أی: الرسول، عَلَی الدِّینِ کُلِّهِ، أی: علی أهل الأدیان کلَّها، فیخذلهم أو لیظهر دین الحق علی سائر الأدیان بنسخه إیّاها حینما تقتضیه الحکمة (1).

11. تفسیر القرآن العظیم لرشید رضا (1354 ه):

قال:

هُوَ الَّذِی أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدی، هذا بیان مستأنف للمراد من إتمام نور الله عزّ و جلّ. وهو أنّ الله الذی تکفَّل إتمام هذا النور هو الذی أرسل رسوله الأکمل الذی أخذ العهد من النبیّین من قبل لیؤمنوا به ولینصروه، و دِینَ الْحَقِّ، أی: الثابت التحقّق الذی لا ینسخه دین آخر ولا یبطله شیء آخر.

ص:125


1- (1) . تفسیرروح المعانی: 2 / 149.

ثمّ بیّن غایة إرسال خاتم النبیّین والمرسلین بین یدی الحقَ ّ، أو علّته بقوله: لِیُظْهِرَهُ عَلَی الدِّینِ کُلِّهِ، یقال أظهر الشیء أوضحه وأبانه فجعله ظاهراً لا خفاء فیه.

قال:

وأظهره علی الشیء علی الشخص جعله فوقه مستعلیاً علیه، والاستعلاء هنا بالعلم والحجّة، أو السیادة والغلبة، أو الشرف والمنزلة، أو بها کلّها، وهو المختار.

وإن کان الوعد یصدَّق بعضها، والدین جنس یشمل کل دین (1).

قال وفی الضمیر المنصوب هنا قولان:

الأوّل: إنّه الرسول، وهو المروی عن ابن عبّاس، والمعنی: حینئذ أنّه تعالی یظهر هذا الرسول علی کلّ ما یحتاج إلیه المرسل إلیهم من أمور الدین من: عقائده وآدابه، وسیاسته وأحکامه؛ لأنّ ما أرسل به هو الدین الأخیر الذی لا یحتاج البشر فیه إلی زیادة فی الهدایة الدینیة.

الثانی: إنّ الضمیر للدین الحقّ الذی أرسل به (صلی الله علیه و آله)، ومعناه: أنه تعالی یعلی هذا الدین ویرفع شأنه علی جمیع الأدیان بالحجّة والبرهان، والهدایة والعرفان، والعلم والعمران، وکذا السیادة والسلطان، ولم یکن لدین من الأدیان مثل هذا التأثیر الروحی والعقلی والمادی والاجتماعی والسیاسی إلاّ الإسلام نفسه.

إلی أن یقول:

وقد قصَّر جمع من المفسرّین الذین اطلعنا علی کتبهم فی تفسیر هذه الآیات؛ لأنهَّم إنّما أخذوا تفاسیرهم من معانی الألفاظ دون تحقیق لمدلولاتها فی الخارج، ومن الروایات المأثورة علی قلَّتها وقلُّة ما یصحّ منها.

فذکر منها ما ذکر إلی أن وصل فی حدیثه إلی هذه الکلمات، حیث قال:

ومن العلماء من یقول: إنَّ بعض هذه البشارات لا یتُّم إلاّ فی آخر الزمان عند ظهور المهدی، وما یتلوه من ظهور عیسی ابن مریم من

ص:126


1- (1) . تفسیر القرآن الحکیم، المعروف بتفسیر المنار: 10/ 35.

السماء وإقامته لدین الإسلام الذی جاء به محمد(صلی الله علیه و آله) وإظهاره بالحکم والعمل به، خلافاً لما یتوّقعه الیهود والنصاری علی اختلافهما فی صفته.

وقد کان شیوع هذا بین المسلمین من أسباب تقاعدهم عما أوجبه الله تعالی فی کلّ وقت من إعلاء دینه وإقامة حجتّه، وتعزیز سلطته، اتکالاً علی أمور غیبیة مستقبلة، لا تسقط عنهم فریضة حاضرة.

وهنا یکمن موطن الخطر من هذا المفسرّ الذی یُعَدُّ من المفسرّین الذین یتبعهم الکثیر من أتباع المذاهب الإسلامیة:

قال وتقدَّم الکلام علی أشراط الساعة من أنّ أحادیث المهدی لا یصحُّ منها شیء یُحتَجُّ به، وأنّها مع ذلک متعارضة متدافعة، وأنَّ مصدرها نزعة سیاسیّة شیعیّة معروفة، وللشیعة فیها خرافات مخالفة لأصول الدین، لا نستحسن نشرها فی هذا التفسیر (1).

هذه مجموعة من آراء المفسرّین من کلا الفریقین حول تفسیر آیة الإظهار.

المقارنة بین التفاسیر
اشارة

اتّفقت آراء المفسرین علی أنَّ الآیة المبارکة هی إحدی الآیات الدالّة علی عالمیّة الإسلام، فالذی جاء به النبی الأکرم(صلی الله علیه و آله)، فبعد أنّ تمَّ نقل آراء کلً ّ من الفریقین حول تفسیر آیة الإظهار کان علینا أن نقارن بین مجموع هذه التفاسیر فی سبیل الوصول إلی النتائج التی تقربنا من المراد فی آیة الإظهار، المدعومة بالأدلة سواء الروائیة أو العقلیّة، حول صحة هذه النتائج.

فإذا مال أردنا ذلک کان لا بدّ أن نقوم بعدة نقاط، منها:

أوّلاً: بیان نقاط الاشتراک بین آراء هؤلاء المفسرّین.

ثانیاً: بیان نقاط الاختلاف بین آراء هؤلاء المفسرّین.

ثالثاً: بیان النتیجة النهائیة لهذه المقارنة.

ص:127


1- (1) . المصدر:10/ 350.
نقاط الاشتراک بین المفسرین:

قال تعالی: هُوَ الَّذِی أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدی وَ دِینِ الْحَقِّ.

ربّما نستطیع القول أنّ هناک نوعاً من الاتّفاق علی أنَّ الله: هُوَ الَّذِی أَرْسَلَ رَسُولَهُ، محمداً(صلی الله علیه و آله) بدین الإسلام باعتباره الطریق الوحید الذی یوصل الإنسان إلی مرضاة الله تعالی؛ لأنَّ أیَّ عمل إن لم یکن داخل نطاق الدَّین الحنیف الذی أراده الله تعالی، فانه لا یقبل. والدین الواقعی هو الإسلام: وَ مَنْ یَبْتَغِ غَیْرَ الْإِسْلامِ دِیناً فَلَنْ یُقْبَلَ مِنْهُ، 1 فهو الدین الحقّ.

وأیضاً ممّا اشترک فیه هؤلاء المفسرون هو أن الغایة من إرسال الرسل هی الهدایة، فما أرسل الرسول الأکرم(صلی الله علیه و آله)إلاّ لأجل الهدایة وما أنزل القرآن إلاّ لذلک أیضاً. فالهدایة هی الغایة فی ذلک.

أمّا الاختلاف، فقد وقع فی تحدید هذه الهدایة.

قال البغوی فی تفسیره: بِالْهُدی، القرآن، وقیل: بیان الفرائض. (1)

وقال القرطبی: بِالْهُدی ، أی: بالفرقان، و هُوَ الَّذِی أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدی، أی: بالحق والرشاد (2).

وهذا ما ذهب إلیه الفخر الرازی فی تفسیره، فقال: هُوَ الَّذِی أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدی، اعلم: أنّه تعالی لما حکی عن الأعداء أنّهم یحاولون إبطال أمر محمّد(صلی الله علیه و آله)بیّن کیفیّة ذلک الإتمام، فقال هُوَ الَّذِی أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدی.

واعلم: أنَّ کمال حال الأنبیاء لا تحصل إلاّ بمجموعة أمور أوّلها کثرة الدلائل والمعجزات، وهو المراد من قوله تعالی: هُوَ الَّذِی أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدی وَ دِینِ الْحَقِّ 4.

ص:128


1- (2) . تفسیر معالم التنزیل: 4/ 58.
2- (3) . الجامع لأحکام القرآن: 7 / 78.

وقیل: بِالْهُدی أی: کونه متلبساً بالتوحید وهو شهادة أن لا إله إلا الله. (1)

وذکر الآلوسی فی تفسیره أنَّ المراد: بِالْهُدی، هو القرآن الذی هو هدی للمتّقین. (2) وکذلک هناک مجموعة من الأقوال التی ذهبت إلی أنّ المراد من المراد: بِالْهُدی فی الآیة هو الدین الإسلامی بصورة عامّة.

لکن هذا الرأی لانستطیع الاعتماد علیة لبیان المراد من هذه الآیة بصورة کاملة مع النظر لما تطرّقت الیه الرویات الشریفة، والناظرة إلی زمان تحقیق الهدف من هذه الآیة المبارکة. أی أنّ زمان تطبیق هذه الآیة هو عصر ظهور الأمام المهدی(عج) ومن أنّه لم یأتِ زمان تطبیق هذه الآیة بعد بل سیکون ذلک فی زمان ظهور الإمام الثانی عشر(عج).

فمن الدلیل علی ذلک ما رواه سعید بن منصور وبن المنذر البیهقی فی سننه عن جابر فی قوله: لِیُظْهِرَهُ عَلَی الدِّینِ کُلِّهِ : قال:

لایکون ذلک حتّی لایبقی یهودی ولانصرانی صاحب ملة إلا الإسلام حتی تأمن الشاة الذئب، والبقرة الأسد، والإنسان الحیة،... (3).

ونحن نعلم أنّ جمیع ذلک لم یقع الی زماننا هذا علی الأقل، مع انتشار الدین الإسلامی إلی مساحات واسعة من المعمورة.

إذاً: ربّما یکون المراد من: بِالْهُدی وَ دِینِ الْحَقِّ هو الفهم الخاصّ والجدید للإسلام، والذی یأتی به الإمام (علیه السلام) والهدایة بعد الظلال التی تمنی به الأمّة من جور وانحراف عن الدین الحقّ، وبعد انتشار الأفکار الضالة، ورواج الشبهات المنحرفة، والمشوهة للتعالیم الإسلامیّة الحقّة، والعقائد الصحیحة التی ابتعد عنها الناس إثر ذلک.

ص:129


1- (1) . تفسیر روح البیان، ذیل الآیة (28) من سورة الفتح.
2- (2) . روح المعانی: 3 / 62.
3- (3) . الدر المنثور : 3 / 57.

فیکون الدین الجدید هو الدین الحق من بین ما تدین به الأمم غیر الإسلامیّة، وما تعتقده المذاهب المنحرفة عن جادة الصواب. وهو المنیر للبشریة طرق السعادة والکمال، ولمخرجها من ظلمات التیه والظلال.

من هنا وتباعاً لما قاله أهل البیت. العصمة والطهارة(علیهم السلام)، لم یختلف المفسرّون من المذهب الشیعی فی ذلک حول تفسیر هذا المقدار من الآیة بهذه المعانی أیضاً، قال المولی الکاشانی فی تفسیره: هُوَ الَّذِی أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدی بالحجج والدلائل المبینة (1).

وأیضاً جاء فی تفسیر الأمثل ما یقارب هذه المعانی. فقال: بِالْهُدی هو الدلائل الواضحة، والبراهین اللائحة الجلیّة، التی وجدت فی الدین الإسلامی، فیکون: هُوَ الَّذِی أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدی هو القرآن؛ وذلک لأنَّ القرآن کتاب هدایة فهو واسطة من الوسائط التی توصل الإنسان إلی الإسلام، لأنَّ الهدایة القرآنیّة توصل إلی الهدایة الإسلامیّة، فلیس من الصحیح القول أنا أهتدی بالقرآن، ولا أهتدی إلی الإسلام، ولا أرید الإسلام فیکون بِالْهُدی هو القرآن وهو الهادی إلی الإسلام، فیکون هُوَ الَّذِی أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدی وَ دِینِ الْحَقِّ، أی: هو الذی أرسل رسوله (محمّداً)(صلی الله علیه و آله) بالقرآن. وَ دِینِ الْحَقِّ، هو الإسلام. (2)

وما ذکره العلامة الطباطبائی(قدس سره)، حیث قال بِالْهُدی الهدایة الإلهیّة التی قارنها برسوله لیهدی بأمره (3).

وأیضاً اتفّق جمعٌ من مفسرّی الشیعة والسنّة، علی أنَّ الإظهار المراد من قوله تعالی: لِیُظْهِرَهُ عَلَی الدِّینِ کُلِّهِ هو إظهار الإسلام علی جمیع الأدیان، سواء أکانت الأدیان إلهیّة أو أرضیّة.

ص:130


1- (1) . زبده التفاسیر: 3 /41.
2- (2) . تفسیر الأمثل،الآیة: 28 من سورة: الفتح.
3- (3) . المصدر، الآیة: 28.

وإن کان هناک نوع من الاختلاف فی عود الضمیر فی: لِیُظْهِرَهُ علی الرسول أو علی الدین، لکن المتّفق علیه هو أن الضمیر یعود علی الدین لا غیر، وهذا ما بینه العلامة الطباطبائی فی تفسیره حین قال: هُوَ الَّذِی أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدی وَ دِینِ الْحَقِّ تعطینا هذه الآیة بوضوح الغایة والغرض الرئیس من إرسال رسول الإسلام، ودین الحقّ، یدلنا علی ذلک قوله تعالی: لِیُظْهِرَهُ، حیث دلَّت لام التعلیل علی الغایة والسبب فی إنزال شریعة الإسلام وهو أن یظهره، أی یجعله منتصراً ومسیطراً علی غیره من الأدیان والعقائد کلّها، وذلک لا یکون إلاّ بسیطرة دین الحقّ علی العالم کلّه. وإذا کانت هذه الغایة من إرسال الإسلام، إذاً: فهو یقینی الحدوث فی مستقبل الدهر؛ لأنّ الغایات الإلهیّة غیر قابلة للتخلّف.

وقد أجاب ابن کثیر عن السؤال الأوّل بقوله: لِیُظْهِرَهُ عَلَی الدِّینِ کُلِّهِ، أی: علی سائر الأدیان، کما ثبت فی الصحیح عن رسول الله أنّه قال:

زوی لی الأرض مشارقها ومغاربها وسیبلغ ملک أمتی ما زوی لی منها (1).

وقال الثعالبی فی تفسیره:

لِیُظْهِرَهُ لیعلیه وینصره ویظفره، عَلَی الدِّینِ کُلِّهِ، أی: علی سائر الملل کلَّها.

وقال:

اختلف العلماء فی معنی هذه الآیة، فقال ابن عبّاس: إنّها عائدة علی الرسول(صلی الله علیه و آله)، أی: لیعلمه شرائع الدین کلها فیظهره علیها حتّی لا یخفی علیه شیئاً منها. وقال آخرون: إنّها راجعة إلی الدین الحقّ. (2)

وهذا ما ذکره البغوی فی تفسیره أیضاً (3)، وهذا متفّق علیه کما قلنا.

ص:131


1- (1) . تفسیر ابن کثیر: 2 / 432.
2- (2) . المصدر: 2/ 432.
3- (3) . بتفسیر البغوی، الآیة: 28 من سورة: الفتح.

وأیضاً من النقاط التی اتفّق علیها هو أنَّ هذا الظهور یکون فی عدّة معانی کما صرّح الفخر الرازی بذلک، حیث قال:

إنَّ صیرورة دینه مشتمل علی سائر الأدیان غالباً لأضدادها قاهراً لمنکریها، هوا لمراد من قوله تعالی: عَلَی الدِّینِ کُلِّهِ.

قال:

وعلم: أنّ ظهور الشیء علی غیره قد یکون بالحجة وقد یکون بالکثرة والو فور، وقد یکون بالغلبة والاستیلاء، ومعلوم أنه تعالی بشَّر بذلک ولا یجوز أن یبشر إلاّ بأمر مستقبل غیر حاصل، وظهور هذا الدین بالحجة مقرّر معلوم، فالواجب لِیُظْهِرَهُ عَلَی الدِّینِ کُلِّهِ ، حمله علی الظهور بالغلبة (1). وأیضاً هَذا ما ذهب إلیه صاحب تفسیر المنار فی قوله: لِیُظْهِرَهُ عَلَی الدِّینِ کُلِّهِ :

یُقال: أظهر الشیء أوضحه وأبانه فجعله ظاهراً لا خفاء فیه، قال: وأظهره علی الشیء، أی: علی الشخص جعله فوقه مستعلیاً علیه، والاستعلاء هنا بالعلم والحجّة، أو السیادة والغلبة، أو الشرف والمنزلة، أو بها کلّها وهو المختار، وإن کان الوعد یصدق ببعضها، والدین جنس یشمل کلَّ دین (2).

وهذا ما ذکره مفسّر والشیعة أیضاً.

قال صاحب تفسیر جامع البیان:

لِیُظْهِرَهُ عَلَی الدِّینِ کُلِّهِ معناه: لیعلی دین الإسلام علی جمیع الأدیان بالحجة والغلبة، والقهر لها، حتی لا یبقی علی وجه الأرض دین إلا مغلوباً (3).

وهذا ما ذکر فی تفسیر زبدة التفاسیر، قال:

لِیُظْهِرَهُ عَلَی الدِّینِ کُلِّهِ ، علی سائر الأدیان بالحجة والغلبة (4) وقال

ص:132


1- (1) . التفسیر الکبیر مفاتیح الغیب،الآیة: 28 من سورة: الفتح.
2- (2) . تفسیر المنار:350/10.
3- (3) . تفسیر جامع البیان: 3/ 453.
4- (4) . زبدة التفاسیر: 3 / 41.

السیّد العلامة الطباطبائی: ودین الحق الإسلام بما یشتمل علیه من العقائد والأحکام المنطبقة مع الواقع الحق، ومعنی الآیة أنَّ الله هو الذی أرسل رسوله محمداً(صلی الله علیه و آله) مع الهدایة والآیات البینات (1).

إذاً: لا یوجد اختلاف مهمّ فی تفسیر هذا الجزء من الآیة المبارکة.

نقطة الخلاف

ذکرنا فی البحث السابق مجموعة من المشترکات بین مفسرّی کلّ من الفریقین السنّی والشیعی فی تفسیر هذه الآیة.

لکن لا یعنی ذلک أنّه لا یوجد نقاط اختلاف فی تفسیر هذه الآیة التی نحن بصددها، فقد اختلف المفسرّون فیما بینهم حول الشیء الرئیس فی تفسیر هذه الآیة، وهو زمان تطبیق هذه الآیة، لِیُظْهِرَهُ عَلَی الدِّینِ کُلِّهِ وَ لَوْ کَرِهَ الْمُشْرِکُونَ، هل تمَّ تطبیقها بالکامل أو سوف یکون فی الزمان المستقبل؟

فاتفّق بعض المفسرّین ومن کلا الفریقین علی أنّ زمان ظهور الإسلام علی جمیع الأدیان ظهوراً کاملاً لم یتمّ، بل هو أمرٌٍ مستقبلی، وهذا ما ذهب إلیه من السنَّة الفخر الرازی فی تفسیره بقوله:

واعلم: أنّه تعالی بشَّر بذلک ولا یجوز أن یبشَّر إلاّ بأمر مستقبل غیر حاصل وظهور هذا الدین بالحجّة مقرّر معلوم، فالواجب حمله علی الظهور بالغلبة، فإنْ قیل إنَّ ظاهر قوله تعالی: لِیُظْهِرَهُ عَلَی الدِّینِ کُلِّهِ هو أن یکون غالباً لکلّ الأدیان ولیس کذلک، فإنَّ الإسلام لم یصر غالباً لکلَ ّ الأدیان فی الهند والصین والروم، وسائر أراضی الکفرة.

وأجابوا عن ذلک بوجوه منها ما روی عن أبی هریرة، أنّه قال: هذا یحصل عند خروج عیسی.

وقال السدی: ذلک عند خروج المهدی لا یبقی أحد إلاّ دخل فی الإسلام أو أدّی الخراج (2).

ص:133


1- (1) . تفسیر المیزان: 10 / 247.
2- (2) . ابن کثیر: 16/ 40.

وقال الثعالبی فی تفسیره:

وقال أبو هریرة: یکون ذلک عند خروج عیسی بن مریم، فإذا خرج اتبعه کلُّ دِین وتکون الملل واحدة، فلا یبقی أهل دین إلاّ دخل فی الإسلام أو أدّی الجزیة للمسلمین.وقال السدی: ذلک عند خروج المهدی، لا یبقی أحد إلاّ دخل فی الإسلام أو أدّی الجزیة (1).

وأیضاً ذهب إلی ذلک صاحب تفسیر حقّی، بقوله:

لِیُظْهِرَهُ عَلَی الدِّینِ کُلِّهِ اللاّم فی الدین لجنس. أی: لیعلی الدَّین الحقّ ویغلبه علی جنس جمیع الأدیان المختلفة بنسخ ما کان حقّاً من بعض الأحکام المتبدلة، بتبدل الأعصار، وبطلان ما کان باطلاً، أو بتسلیط المسلمین علی سائر الأدیان (2).

وما ذهب إلیه القرطبی فی تفسیر یکاد أن یکون مقاربا لهذه آراء، قال:

لِیُظْهِرَهُ عَلَی الدِّینِ کُلِّهِ، أی: بالحجج ومن الظهور الغلبة بالید فی القتال، من الإظهار أن لا یبقی دین سوی الإسلام (3).

کذلک لم یذهب أیُّ مفسَّر من مفسری المذهب الشیعی إلی أنَّ زمان تطبیق الآیة قد تحقق بالکامل، نعم، ذهبوا إلی أنّ الغلبة بالعلم والحجّة والبیان قد تحققت فعلاً، أمّا أنَّ الغلبة والظهور علی جمیع الأدیان لم یتحقق فعلاً.

وقال الشیخ مکارم الشیرازی فی تفسیره للآیة: لِیُظْهِرَهُ عَلَی الدِّینِ کُلِّهِ ، کأنّه دلیل أو إشارة إلی انتصار الإسلام علی جمیع الأدیان؛ لأنّه لمّا کان محتوی دعوة النبیّ(صلی الله علیه و آله) هو الهدایة، والعقل یدلّ علی ذلک فی کلَ ّ المواطن، ولمّا کانت أصوله وفروعه موافقة للحقّ، ومع الحقّ، وتسیر فی مسیر الحقّ ولأجل الحقّ فهذا الدین سینتصر علی جمیع الأدیان، وبعد أن تطرَّق إلی الإسلام لابدَّ أن یحکم العالم یوماً ما، قال: ولا شکَّ أنَّ هذا الأمر لم یتحقّق فی الوقت الحاضر، لکننا نعلم أنَّ هذا الأمر من قبل الله حتمی، وأنّه سیتحقق تدریجا.

ص:134


1- (1) . تفسیر الثعالبی: 3/ 22.
2- (2) . روح البیان،الآیة: 28 من سورة: الفتح؛ تفسیر الآیة 28 من سورة: الفتح.
3- (3) . الجامع لأحکام القرآن: 7/ 78.

ومن ثَمَّ یقول: إلاّ أنّه طبقاً للروایات المختلفة الواردة فی المصادر الإسلامیة، فإنَّ هذا الموضوع إنّما یتحقّق عند ظهور المهدی(عج) فیجعل الإسلام عالمیاً (1).

فتبیّن لنا أنَّ المهدی(عج) الذی جاءت به الروایات الشریفة والتی ربما وصلت إلی حدَّ التواتر، عن طریق النبی وأهل بیته هو سبب رئیسی من أسباب تطبیق العالمیّة التی جاءت بها هذه الآیة المبارکة وباتّفاق مجموعة من مفسری الفریقین. فقد عبروا عنه مرّة بخروج عیسی، ومرّة بخروج المهدی(عج).

أمّا ما کان فی التفاسیر الشیعیة حول زمان تطبیق هذه الآیة، فقد اجمع المفسرّون علی أنَّ زمان تفسیر هذه الآیة لم یتحقّق بعد، بل یکون ذلک من خلال الدولة العالمیّة التی یقیمها الأمام المهدی(عج)؛ وذلک لتواتر الروایات فی هذه القضیّة بالذات.

وما أورده العلامة البحرانی فی تفسیره هو أحد الأدلَة علی ذلک قال:

حدّثنا محمّد بن موسی بن المتوکّل، حدّثنا الحسین السعد آبادی عن أحمد بن عبد الله البرقی، عن أبیه، عن ابن أبی عمیر، عن أبی حمزة عن أبی بصیر قال أبو عبد الله(علیه السلام) فی قوله تعالی: هُوَ الَّذِی أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدی وَ دِینِ الْحَقِّ.

قال:

والله، ما نزل تأویلها حتّی یخرج القائم، فإذا خرج القائم لم یبقَ کافر بالله العظیم، ولا مشرک بالأمام إلاّ إکراه خروجه، حتّی لو کان الکافر فی بطن صخرة: قالت یا مؤمن، فی بطنی کافر فاکسرنی واقتله> (2).

وعن سماعة، عن أبی عبد الله، قال:

إذا خرج القائم(عج) لم یبقَ مشرک بالله العظیم، ولا کافر کره خروجه (3).

ص:135


1- (1) . الأمثل، الآیة 28 من سورة: الفتح.
2- (2) . تفسیر البرهان: 3/ 407.
3- (3) . العیاشی: 3/ 93 / ح52.

لکن ممّا یؤسف له هو وجود بعض المفسرّین ممن أنکر هذه القضیّة بالکامل، ونسبها إلی مذهب أهل البیت(علیهم السلام). ومن المفسرّین الذین أنکروا العالمیّة الإسلامیّة التی ترتکز علی قیام الدولة المهدویة هو: محمّد رشید رضا صاحب تفسیر المنار (1).

حیث قال:

وقد قصّر جمع من المفسرّین الذین اطلعنا علی کتبهم فی تفسیر هذه الآیات لأنّهم إنّما أخذوا تفاسیرهم من معانی الألفاظ دون تحقیق لمدلولاتها فی الخارج، ومن الروایات المأثورة علی قلّتها وقلّة ما یصحّ منها.

ثمّ قال:

ومن العلماء من یقول إنَّ بعض هذه البشارات لا یتمُّ إلاّ فی آخر الزمان عند ظهور المهدی، وما یتلوه من ظهور عیسی من السماء وإقامته للدین الإسلامی الذی جاء به النبیّ محمّد(صلی الله علیه و آله) وإظهاره بالحکم والعمل به خلافاً لما یتوقعه الیهود والنصاری علی اختلافهما فی صفته.

وقد کان شیوع هذا بین المسلمین من أسباب تقاعدهم عمّا أوجبه الله تعالی فی کلَ ّ وقت من إعلاء دینه وإقامة حجته، وتعزیز سلطته، اتّکالاً علی أمور غیبیه مستقبلیّة، لا تسقط عنهم فریضة حاضرة (2).

وهنا یکمن موقع الخطر من هذا المفسرّ الذی أنکر قضیّة فی غایة من الأهمیّة فی عالمیّة الإسلام، وکذب اعتقاد جمیع المسلمین، ومکذباً فی ذلک النبیّ الأکرم(صلی الله علیه و آله)، لاستلزام ذلک الإنکار إنکارا لقول الرسول الأکرم(صلی الله علیه و آله):

إنّی تارک فیکم الثقلین کتاب الله وعترتی من أهل بیتی فإنّهما لن یفترقا حتّی یردا علیّ الحوض

ص:136


1- (1) . وقد أشرنا إلی ذلک فی الصفحة: 33، وما بعدها.
2- (2) . تفسیر المنار:10 / 350.

و هو الذی أجمع علیه المسلمون قاطبةً.

معبّراً عن هذا الاعتقاد بنزعة سیاسیُة منسوبة إلی المذهب الشیعیّة.

قال:

وتقدّم الکلام علی أشراط الساعة من أحادیث المهدی لا یصحُّ منها شیء یحتج به، وإنّها مع ذلک متعارضة و متدافعة، وإنَّ مصدرها نزعة سیاسیة شیعیة معروفة وللشیعة فیها خرافات مخالفة لأصول الدین، لا نستحسن نشرها فی هذا التفسیر (1).

لکن العجب کلّ العجب أن یصدر هذا کلام من إنسان یعدّ من العلماءفی بعض المذاهب الإسلامیّة ویعتبر من المفسرّین للقرآن الکریم.

لذلک رأینا من المناسب فی هذا المقام ان نقوم برد مختصر علی ماذکره صاحب تفسیر المنار، من التنکر لقضیّة مسلّم بها، وتعتبر من البدیهیّات فی الدین الإسلامی الحنیف.

فالقضیّة المهدویّة من الأمور المسلمة بین المذاهب الإسلامیّة جمیعاً.

وهذا ما رأینا عند الإطلاع علی آراء مجموعة من المفسرّین الذین مر ذکرهم فی بدایات هذا الفصل.

لقد اعتبر صاحب تفسیر المنار، جمیع الروایات المتعرّضة لذکر الإمام المهدی(عج)، روایات غیر قابلة للاحتجاج بها، قال:

وتقدم الکلام علی أشراط الساعة من أحادیث المهدی لا یصحُّ منها شیء یحتجّ به، وإنّها مع ذلک متعارضة و متدافعة.

لکن ما نلمسه من کلام هذا المفسر مع جلالة قدره، انه لم یکن مطلعاً علی آراء الکثیر من علماء المذاهب الإسلامیّة من غیر المذهب الحقّ، أیّ المذهب الشیعی، حیث أقرّ الکثیر منهم بتواتر حادیث المهدی المنتظر(عج) وکیفیة تواترها بین الفریقین، وإن کان غیر مطلعٍ علی کتب المذاهب

ص:137


1- (1) . المصدر: 10 / 351.

السنیّة. فلیس من المعقول أن یکون غیر مطلع علی آیات الکتاب الکریم، مع وجود الکثیر من الآیات الدالة علی القضیّة المهدویّة بصورة واضحة وجلیّة، والتی ذکرناها فی الصفحات السابقة، مع مجموعة من الروایات المتواترة عند جمیع المذاهب الإسلامیة، والتی نقلها الکثیر من العلماء والحفاظ من هذه المذاهب؛ لأن قضیة الإمام المهدی(عج) کقائد ربانی یحقّق الله تبارک وتعالی علی یدیه أهداف الأنبیاء فی إقامة القسط والعدل الإلهی وإنهاء الظلم والجور فی جمیع أرجاء المعمورة. وقد کشفت عنها الکثیر من النصوص الشرعیة علی المستوی القرآنی والروائی، کما کشفت عنها الکثیر من الکتب والبحوث والرسائل التی صنفها علماء الإسلام بمختلف الملل والنحل (1).

فقد جاء عن النبی(صلی الله علیه و آله) أنّه قال:

لا تنقضی اللیالی والأیّام حتّی یبعث الله رجلاً من أهل بیتی، یواطی اسمه اسمی، یملأ الأرض قسطاً وعدلاً کما ملئت ظلماً وجوراً، ویصلی عیسی خلفه ویساعده علی قتل الدجال بأرض (الدّ) من فلسطین.

وأخرجه الحفاظ من أهل السنّة عن رسول الله(صلی الله علیه و آله).

و منهم ابن الصباغ المکی المالکی فی کتابه (2) وابن حجر الهیثمی (3) فی الأحادیث الواردة فی فضل أهل البیت(علیهم السلام)، ومنهم زینی الدین دحلان (4) ، ومنهم الحافظ الترمذی فی: باب ماجاء فی الخلافة من أبواب الفتن (5).

ص:138


1- (1) . دراسة تاریخ ومناهج التألیف عن القضیّة المهدویّة، العدد السادس عشر من: مجلة الفکر الإسلامی.
2- (2) . الفصول المهمّة: 310، 319.
3- (3) . الصواعق المحرقة، الآیة الثانیة عشر، الباب الحادی عشر، الفصل الثالث: 161، 206.
4- (4) . الفتوحات الإسلامیة: 2 / 223.
5- (5) . صحیح الترمذی: 2 / 86.

ومنهم الإمام احمد بن حنبل (1)، ومنهم أیضا الحاکم وصحّحه علی شرط البخاری ومسلم (2)، ویقول ابن حجر الهیثمی:

تواترت الأخبار بکثرة رواتها عن المصطفی(صلی الله علیه و آله) بخروجه، وأنّه من أهل بیته، وأنّه یملک سبع سنین، وأنّه یملأ الأرض قسطاً وعدلاً، وأنّه یخرج معه عیسی علی نبینا وآله وعلیه أفضل الصلاة والسلام، فیساعده علی قتل الدجال بباب (اللد) بأرض فلسطین، وأنّه یؤم هذه الأمّة وأنّه یصلّی عیسی خلفه (3).

ویقول نور الدین علی ابن محمد المکی المالکی الشهیر بابن الصباغ:

إن الروایات عن الأئمّة الثقات، والنصوص الدالة علی إمامته کثیرة بالغة حدّ التواتر، حتّی أضربنا عن ذکرها اعتماداً علی اشتهارها، وقد دونها أصحاب الحدیث فی کتبهم، واعتنوا بجمعها، ولم یترکوا شیئاً منها.

وممّن اعتنی بذلک وجمعه علی الشرح والتفصیل الإمام جمال الدین أبو عبد الله محمّد ابن إبراهیم الشهیر بالنعمان فی کتابه الذی صنفّه: ملء العیبة فی طول الغیبة.

وجمع الحافظ أبو نعیم أربعون حدیثاً فی أمر المهدی(عج)، وصنّف الشیخ أبو عبد الله محمّد ابن یوسف ابن محمّد الکنجی الشافعی کتاب فی ذلک سماه: البیان فی أخبار صاحب الزمان (4).

ویقول صاحب القوت المقتدی:

قد تظافرت الأخبار البالغة حدّ التواتر عن النبیّ(صلی الله علیه و آله) فی کون المهدی من أهل البیت من ولد فاطمة(علیهاالسلام) (5).

وقال زین الدین دحلان:

أحادیث المهدی کثیرة متواترة، والضعیف منها وان کان أکثر

ص:139


1- (1) . صحیح أبی داود: 4 / 87.
2- (2) . مسند أحمد: 3 / 52،37،39،28،27،17.
3- (3) . الصواعق المحرقة، الفصل الأوّل، الباب الحادی عشر، آخر آیة: 12.
4- (4) . الفصول المهمّة: 310 .
5- (5) . القوت المقتدی علی جامع الترمذی: 217.

لکنها لکثرة رواتها ومخرجیها یقوی بعضها بعضاً حتی صارت تفید القطع.

وأنّ العلاّمة السیّد محمّد رسول البر زنجی نبّه آخر کتاب: الإشاعة علی تواترا لأخبار التی جاء فیها ذکر المهدی: وأنّه من المقطوع فیه وانه من ولد فاطمة، وانه یملأ الأرض قسطاً وعدلاً (1).

وقال العارف محمّدین عبد الوهاب الشعرانی:

إنّ المهدی حیّ موجود قد اجتمع به غیر واحد من علماء أهل السنّة وحفاظها- إلی إن قال - فهناک من یترّقب خروج المهدی من أولاد الحسن العسکری(علیه السلام)، ومولده لیلة النصف من شعبان، سنة خمس وخمسین ومئتین، وهو باقٍ إلی أن یجتمع بعیسی بن مریم(علیهم السلام) (2)

وقال الشوکانی فی رسالته بعد سرد مجموعة من أحادیث المهدی(عج): وجمیع ما سقناه بالغ حد التواتر، کما لایخفی علی من له فضل اطلاع (3).

وقال الشیخ عبد الحقّ فی اللمعات:

قد تضافرت الأحادیث البالغة حدّ التواتر فی کون المهدی من أهل البیت من أولاد فاطمة(علیهاالسلام) (4).

وهناک مجموعة کبیرة ممّن قال بتواتر احادیث المهدی المنتظر(عج) والداعی لنقلها جمیعاً.

وهناک من أهل السنّة ممّن اکتفی بنقل مجموعة من الروایات الخاصّة فی هذا المجال لعدم إمکان غضّ النظر عنها.

ص:140


1- (1) . الفتوحات الإسلامیة: 2 / 322.
2- (2) . الیواقیت والجواهر فی بیان عقائد الأکابر: 2 / 127.
3- (3) . نقل عن النواب صدیق حسن خان القنونجی، فی کتابه: لإذاعة لما کان یکون بین یدی الساعة: 160،114؛ الکتانی فی نظم المتناثة فی الحدیث المتواتر: 146، نقلاً عن: لأکون مع الصادقین: 421.
4- (4) . أشعّة اللّمعات: 4 / 321.

و ممّن نقل احادیث المهدی المنتظر(عج) من أهل السنّة ایضاً أبی داود، (1) قال رسول الله(صلی الله علیه و آله):

لو لم یبقی من الدنیا إلاّ یوم واحد لطول الله ذلک الیوم حتّی یبعث رجلاً من أهل بیتی یواطی اسمه اسمی واسم أبیه اسم أبی، یملأ الأرض قسطاً وعدلاً کما مُلئت ظلماً وجوراً.

ومنهم ابن ماجة فی سننه أیضاً:

عن ابی أمامه الباهلی، قال: خطبنا رسول الله(صلی الله علیه و آله) فکان أکثر خطبته حدیثاً حدثناه عن الدجال، وحذرناه، فکان من قوله أنّه:

«... لم تکن فتنة فی الأرض منذ ذرأ الله ذریة آدم، أعظم من فتنة الدجال...».

إلی أن قال:

وإمامهم رجل صالح، فبینما إمامهم قد تقدّم لیصلّی بهم الصبح، إذ نزل علیهم عیسی ابن مریم، فرجع ذلک الإمام ینکص یمشی القهقری، لیقدم عیسی یصلی بالناس، فیضع عیسی یده بین کتفیه ثم یقول له:تقدم فصلی، فأنها لک أقیمت، فیصلی بهم إمامهم (2).

وقال(صلی الله علیه و آله):

یکون فی أمّتی المهدی، أن قصر فسبع، وألا فتسّع، تنعم فیها أمتی نعمة لن تنعم مثلها قط، تأتی أکلها ولا تدخر منه شیئاً، والمال یومئذ کدوس، فیقوم الرجل فیقول: یامهدی أعطنی، فیقول خذ (3).

وأخرج البخاری (4): حدّثنا ابن بکیر، حدثنا اللیث، عن یونس، عن ابن شهاب، عن نافع مولی ابی قتادة الأنصاری، أنّ اباهریرة، قال:

قال رسول الله(صلی الله علیه و آله)

«کیف انتم إذا نزل ابن مریم فیکم وإمامکم منکم.»

ص:141


1- (1) . سنن أبی داود: 4 / 87، ح: 4282؛ کتاب المهدی(عج)؛ المعجم الأوسط: 2/ 55؛ الدرالمنثور: 6 / 58.
2- (2) . سنن ابن ماجه: 2 / 512 - 515 ، باب: فتنة الدّجال وخروج عیسی.
3- (3) . المصدر: 2 /530 ، ح: 4083؛ المستدرک للحاکم : 4 / 558؛ مجمع الزوائد: 7 / 317. وقال: رجاله ثقات.
4- (4) . صحیح البخاری: 4 / 143، کتاب أحادیث الأنبیاء، باب نزول عیس بن مریم.

وقال صاحب غایة المأمول: اشتهر بین العلماء سلفاً وخلفاً أنه لابد من ظهور رجل من أهل البیت فی آخر الزمان یسمی المهدی.

وقد روی أحادیث المهدی جماعة من خیار ألصحابه، وخرجها أکابر المحدّثین: کأبی داود، والترمذی، وابن ماجة، والطبرانی، وأبی یعلی، والبزاز، والإمام أحمد ابن حنبل، والحاکم رضی الله عنهم أجمعین، ولقد اخطأ من ضعف أحادیث المهدی.

قال الحافظ: تواترت الأخبار بأنّ المهدی من هذه الأمّة، وأنّ عیسی بن مریم(علیهاالسلام) سینزل ویصلّی خلفه (1).

کان ذلک مورد اتفاق بین الشیعة والسنة علی أصل قضیة المهدی(عج)وأنّه هو الذی یملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما مُلئت ظلماً وجوراً.

وقد وردت فی شأنه(علیه السلام) مئات الروایات بل ناهزت الستة آلاف روایة وحدیث، عن النبیّ والعترة الطاهرة(علیهم السلام) بطرق متعدّدة من الفریقین، وهذا عدد هائل یتجاوز حدّ التواتر عشرات المرّات، حیث وردت فیها مئات الأحادیث الصحیحة والعالیة السند، وغیر ذلک (2).

قال القاضی الشوکانی:

إنّ أحادیث المهدی متواترة بلاشکّ ولا شبهة، بل یصدق وصف التواتر علی مادونها علی جمیع الاصطلاحات المحررة فی الإصول (3).

بل الأکثر من ذلک ذهب البعض الی وجوب الإعتقاد بالمهدی(عج) وحرمة نکرانه، وذلک؛ لأنّ الإعتقاد بخروجه من الأمر العقائدیة التی اخبر بها الوحی والنصوص الشریفة بجمیع أنواعها ومراتبها، فهی من النصوص الدینیة الدالة علی الإیمام بالغیب، الذی أنکره هذا المفسر الجلیل، قال تعالی: الم* ذلِکَ الْکِتابُ لا رَیْبَ فِیهِ هُدیً لِلْمُتَّقِینَ. 4

ص:142


1- (1) . فتح الباری فی شرح صحیح البخاری: 6 / 358 .
2- (2) . شرح عقائد الإمامیّة: 2 / 228 .
3- (3) . إبراز الوهم المکنون: 4.

وقضیتّه(علیه السلام) من الأمور الغیبة التی یحرم نکرانها، ولیس معنی ذلک أنّه محتجب عن کلّ الناس غائب لایراه کلّ الناس، بل یراه بعض الخواص، وقد راءه فی حیاة أبیه العسکری(علیه السلام) فالمقصود من الغیب فی قضیته هو وقت ظهوره (1).

إذاً: علی هذا الأساس فأنّ عقیدة المهدی المنتظر(عج) عقیدة ثابتة یجب الأیمان بها، وأنّ کانت من الأمور الغیبیّة، والتی لم یعتقد بها صاحب تفسیر المنار، ولا أعرف هل عرف مفسرّنا العزیز أنّ الأیمان بالغیب من صفات المتّقین الذین عنتهم الآیات الأوائل من سورة البقرة، أولاً؟

وما یؤّید ذلک هو ما جاء به الألبانی عن النبیّ(صلی الله علیه و آله) أنّه قال:

من أنکر خروج المهدی، فقد کفر بما أنزل علی محمّد، ومن أنکر خروج عیسی فقد کفر... (2).

ویؤّکد ذلک أیضاً ما ورد عن الأمام الصادق(علیه السلام) فی قوله تعالی: الم* ذلِکَ الْکِتابُ لا رَیْبَ فِیهِ هُدیً لِلْمُتَّقِینَ قال:

«المتقون شیعة علی(علیه السلام) والغیب هو الحجّة الغائب». یعنی: المهدی(عج) (3).

فهل یا تری هل طالع مفسرّنا الجلیل هذه الروایات الشریفة والتی نقلتها مجموعة من کتب أعاظم أهل السنّة؟

فإن لم یطالعها فهذه مصیبة! أو طالعها وانکرها فالمصیبة أعظم! هذا مضافاً إلی الآیات القرآنیّة، الدالة علی وجود المهدی المنتظر(عج). مع ما ورد فی التوراة والإنجیل، من شواهد عدة علی ذلک المخلص المنتظر(عج).

فهل مثل هذه الأحادیث الصحیحة السند، والتی وصلت الی حد التواتر عند غیر من یدّعی صاحب تفسیر المنار، أنّ العقیدة المهدویّة هی عقیدة خاصّة بهم، وهم الشیعة؟

ص:143


1- (1) . شرح عقائد الإمامیّة: 2 / 229 .
2- (2) . فرائد السمطین: 2 / 234.
3- (3) . إکمال الدین : 2 / 34.

بقوله: لا تصلح للأحتجاج بها! أم هو تنکر لحقیقة الساطعة کسطوع ضوء الشمس فی رابعة النهار؟

عالمیّة النظریّة المهدویّة

یعتبر الاعتقاد بحتمیة ظهور المصلح العالمی أو المنقذ المهدی الذی بشرّت به الدیانات السابقة علی الإسلام، من الأمور الواجب الاعتقاد بها، کما ذکرنا فی الصفحات السابقة من هذا الفصل.

لقد أخذ الاعتقاد ب- : المهدی المنتظر(عج)، بالانتشار فی کافة بقاع المعمورة، مع الأخذ بأشکال مختلفة، وأن کان هذا الإعتقاد یتعلّق بذات الفکرة بنحو الإجمال، مع نوع من الاختلاف فی المجال التفصیلی لها.

لقد سلمت بظهوره(عج) کافة التیارات الکبری فی کافة المجتمعات القدیمة والمعاصرة.

فأجمعت علی هذا الظهور المبارک الدیانات السماویّة الثلاث، الیهودیّة، والمسیحیّة، والدیانة الإسلامیّة علی وجه الخصوص، فإنّهم جمیعاً اتفّقوا علی حتمیة ظهور المنقذ.

فکانت تلک هی الفکرة الرئیسیّة التی لاخلاف علیها، والتی شاعت علی مستوی العالم، وطول التاریخ البشری، وتوارثتها الأجیال جیلاً بعد جیل (1).

فهاهم النصاری قد مُلئت کتبهم بذکر خروج عیسی(علیه السلام) فی آخر الزمان لینقذ البشریة من آلامها وشقائها، لقد جاء فی کتاب المسیح الدجال ما نصّه:

وأشهد أنّی وجدت فی کتب أهل الکتاب، لقد تتبع أهل الکتاب أخبار المهدی کما تتبعوا أخبار جده محمّد(صلی الله علیه و آله).

ص:144


1- (1) . حقیقة الاعتقاد بالإمام المهدی المنتظر(عج):70.

فأشارت أخبار سفر الرؤیا إلی امرأة یخرج منها إثنا عشر رجلاً، وأشارة إلی امرأة أخری، وهی تلد الأخیر.

وجاء: والتنین وقف أمام المرأة الأخیرة حتی تلد لیبتلع ولدها متی ولدت. (1)

وجاء أیضاً: «اختطف الله ولدها».

ویقول بارکلی فی تفسیره: وعندما هجمت علیها - أی المراءة- المخاطر اختطف الله ولدها وحفظه أی ان الله قد غیب هذا الطفل. (2)

وجاء: إنّ غیبة هذا الغلام ستکون ألفاً ومائتی سنة، وهی مدة لها رموزها عند أهل الکتاب.

وقال بارکلی عن نسل المرأة عموماً: إنّ التنین سیعمل حرباً شرسة مع نسل المرأة.

وجاء: فغضب التنین علی المرأة وذهب لیصنع حرباً مع باقی نسلها الذین یحفظون وصایا الله.

ثمّ قال ولاتنطبق هذه أوصاف المرأة الأولی ونسلها الا علی السیّد الزهراء(علیهاالسلام) ونسلها عمداء أهل بیت النبوة الأعلام(علیهم السلام)، فقد طاردتهم سلطة التنین طوال التاریخ.

أمّا المرأة الثانیة وطفلها لاتنطبق أوصافها إلاّ علی المهدی وأمه فالمهدی هو حفید الزهراء ولقد ترقب العباسیون ولادته یوماً بیوم حتی یقتلوه (3).

ولکن الله نجاه مما یکیدون وغیبه بالفعل کما غیب نبیّه إسماعیل(علیه السلام) من قبله حین من الزمن، وحفظ الله هذا لطفل لیقود الدولة العالمیة التی وعد الله تعالی عباده المتّقین بوراثة الأرض بقوله تعالی: وَ نُرِیدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَی الَّذِینَ اسْتُضْعِفُوا فِی الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِینَ. 4

ص:145


1- (1) . سفرالرؤیا: 12 / 3.
2- (2) . المصدر: 12 / 5.
3- (3) . نقل هذا النصّ من کتاب: حقیقة الأعتقاد بالمهدی المنتظر(عج): 72.

والذین یشهدون بصدق ما وعدهم ربهم به فقالوا: وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِی صَدَقَنا وَعْدَهُ وَ أَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَیْثُ نَشاءُ 1.

ثمّ قال: ویوئید ما ذهبنا الیه ما جاء بسفر التکوین.

وأما إسماعیل فقد سمعت قولک فیه، وها أنا أبارکه وأنمیه، وأکثره جداً جداً، ویلد اثنی عشر رأیساً، واجعله امة عظیمة (1) ومن المسلم به أنّ رسول الله(صلی الله علیه و آله) من نسل إسماعیل(علیه السلام) وأن عمداً أهل البیت لأثنی عشر هم ذریّة النبیّ وعصبته (2).

وکذا الیهود. یقولون: بأنّه فنخاس ابن عازار، حیث یعتقدون بأنّه مازال حیّاً وسیعود لإنقاذ بنی إسرائیل (3).

والزرداشتیون یعتقدون بخرج شوسیانی، منقذ العالم بعد أن یتصارع یزدان اله الخیر وأهریمان إله الشر، وینعزل ویفوض الأمور کلّها إلی یزدان الذی یضبط أمور العالم وتستقر الأمور (4).

أمّا الدیانة الإسلامیّة، فقد غطت ظهور المهدی(عج) تغطیة کاملة، فعلی الرغم ممّا تعرّض له الحدیث النبویّ الشریف، من منع لکتابته وروایته مدة طویلة من الزمن، إلاّ أنّ ما وصلنا من الأحادیث النبویّة قد وصف المهدی وصفاً دقیقاً، وحدد علامات ظهوره تحدیداً واضحاً، ووصف مهمّته وصفاً موضوعیّاً (5).

فهی من الأمور المسلّمة عند جمیع الأدیان والمذاهب.

لکن وبکل أسف نلاحظ صاحب تفسیر المنار والذی لایعتبر مسلماً جاهلاً بمبادئ الإسلام، أوغیر مطلع علی المصادر الإسلامیّة الأصلیّة الشیعیّة منها و السنیّة، بل إنّه مسلم یحمل لقب المفسرّ للقرآن الکریم! نجده یصرح

ص:146


1- (2) . سفر الرؤیا: 12 / 13.
2- (3) . المسیح الدجال:370 -380.
3- (4) . الفوائد البهیة فی شرح عقائد الإمامیّة: 2 / 226.
4- (5) . المصدر: 2 / 226.
5- (6) . حقیقة الاعتقاد بالمهدی المنتظر(عج): 71 .

بأنّ أحادیث المهدی المنتظر، بقوله أحادیث المهدی لا یصحُّ منها شیء یحتجّ به، مع مالها من العمق وما تمتاز به أعلی درجات الإعتباروالصحّة.

وکذلک عدم صحّة ما ذهب الیه بقوله:

وإنَّ مصدرها- الأحادیث - نزعة سیاسیّة شیعیّة معروفة وللشیعة فیها خرافات مخالفة لأصول الدین (1).

نعم، هناک الکثیر من القضایا العقائدیّة صبغت بطابع مذهبی؛ بسب مجموعة من العوامل التی طرأت علیها فجعلتها فی إطار مذهب معین، أو طائفة خاصّة، ممّا فقدها طابعها العام بصفتها عقیدة إلهیة عالمیّة، أو إسلامیّة عامّة. فکانت قضیّة المهدی المنتظر أحدی هذه القضایا التی حوّلتها مجموعة من العقائد الطارئة، إلی قضیّة خاصّة، فصیرتها عقیدة شیعیّة لاغیر.

لکن کما رأینا ومن خلال مانقلنا من نصوص کیف أنّ القضیّة المهدویّة هی من العقائد الإسلامیّة قبل ان تکون عقیدة شیعیّة خاصّة.

ولقد رأیت کیف اتفّق المسلمون علی خروج مخلص ینقذ البشریّة جمعاً من براثن الظلم والجور، والأخذ بیدها إلی برّ الأمان، وکیف اجمع أصحاب المذاهب الإسلامیّة علی ذلک.

ووافقهم علی ذلک بقیة الملل والأدیان بمختلف مشاربها، وما ذلک إلاّ دلیل علی الإحساس الفطری والذی تُدرک الناس من خلاله أنّ للإنسانیّة یوماً موعوداً یتحقّق فیه العدل الکامل فی الأرض بعد أن تملأ ظلماً وجوراً.

مفهوم الانتظار:

لقد أثار المستشرقون إشکالات عدّة، حول الإیمان بالمهدی المنتظر(عج)، مثل: استحالة أن یعیش الإنسان هذا العمر الطویل، کالذی یذکر للأمام صاحب العصر والزمان(عج)، روحی وأرواح العالمین له الفدی.

ص:147


1- (1) . المصدر: 10 / 351.

أو ما هی فائدة أن یکون الإمام غائباً غیر حاضر؟

حتّی أخذت البعض منها بالانتشار فی أوساط غیر المتعلّمین من الناس، و ربّما انطلقت هذه الإشکالات علی بعظهم، وهذا لیس بالشی الغریب من قبل أعداء الإسلام، والذین لطالما أرادوا الکید بهذا الدین الخاتم.

لکن الغریب هو ان تنطلی هذه الإشکالات التی لاواقع لها علی شخص یفسرّ القرآن الکریم، ویعتبر من العلماء الذین لهم المنزلة الرفیعة فی بعض المذاهب الإسلامیّة، فقال:

وقد کان شیوع هذا بین المسلمین من أسباب تقاعدهم عما أوجبه الله تعالی فی کلَ ّ وقت من إعلاء دینه وإقامة حجته، وتعزیز سلطته، اتّکالاً علی أمور غیبیه مستقبلیّة، لا تسقط عنهم فریضة حاضرة (1).

لکن مالم یعرفه هذا المفسرّ العزیز هو أنّه الإنتظار معنیین أحدهما سلبی وآخر إیجابی، والمراد من الإنتظار فی المفهوم الإسلامی هو المفهوم الإیجابی، کما سیتّضح، إن شاء الله؛ لأنّ معنی الانتظار لغةً هو: توقّع مجی شخصٍ او أمرٍ ما للمنتظر، وهذا المعنی هو المعنی الشامل للمعنی، السلبی والمعنی الإیجابی لمفهوم الإنتظار.

لکن الانتظار المراد فی القضیّة المهدویّة هو الانتظار الإیجابی منه.

فالتفکیر فی اللقاء بالإمام المهدی(عج) یُولد إشراقة وبریق أمل فی القلوب ویحرض الأفراد علی التزکیّة والإصلاح والاستعداد لذلک التغییر الذی یراد له أن یعمّ المعمورة بالکامل. والثورة التی سیخوضها المهدی المنتظر(عج) وهذا بدوره یعدّ عملاً عبادّیاً یُؤجر الفرد علیه؛ لذا کان انتظار الفرج من العبادات المهمّة فی حیاة الشعوب والأمم، إذا کان بمفهومه الإیجابی طبعاً.

ص:148


1- (1) . تفسیر القرآن الحکیم، المعروف ب- : تفسیر المنار: 10 / 350.

لذا ورد فی الکثیر من الروایات، أنّ:

«من مات ولم یعرف إمام زمانه مات میتة جاهلیّة»؛ لأنّ هذا الانتظار مرتبط بمسألة الغیب المطلق، والعمل الصالح بأجمل مایحمل من مفهوم.

قال الإمام الصادق(علیه السلام):

من سره أن یکون من أصحاب القائم، فلینتظر والیعمل بالورع ومحاسن الأخلاق وهو منتظر فأن مات وقام القائم بعده کان له من الأجر مثل أجر من أدرکه، فجدوا وانتظروا، هنیئاً لکم أیّتها العصابة المرحومة (1).

فالانتظار بمفهومه الصحیح هو نتیجة نهائیة لعدّة مقدّمات: والتی منها:

1. یجب علی الفرد أنّ یعتقد بأنّ المهدی المنتظر(عج) هو الفرد الذی ادّخره سبحانه لتنفیذ غرضه الإلهی من بسط العدل وإماتة الجور، وأنّه ابن العسکری(علیه السلام)، وحفید الأئمّة المعصومین(علیهم السلام).

2. یجب علی الشخص المنتظِر أن یتحلّی باستعداد دائم وکامل لتطبیق أحکام الشریعة وأن یکون کواحد من الدعاة إلیها والمضحین فی سبیلها، والمدفعین عن حرم الدین الإسلامی الحنیف.

3. ویراد من الالتزام بتطبیق أحکام الشریعة التی لا تنحصر بفترة زمنیة معیّنة، بل تکون ساریة فی کلّ عصر وحاکمة علی جمیع تصرفات الفرد وأفعاله، لیکتسب الإرادة القویّة وعمق الإخلاص فی الفعل والقول.

4. أن لایکون الإنسان المنتظر راضیاً بالظلم ولاضطهاد، معتمداً فی التغییر علی الیوم الموعود، فهذا من الانتظار السلبی الناتج عن التصور الخاطئ لمفهوم الانتظار؛ لأنّ الانتظار الصحیح لایکون إلاّ بالعمل الجاد المنتج لرفع درجة الإخلاص والشعور بالمسئولیّة.

ص:149


1- (1) . البحارالأنوار: 52 /140 .

وبناءً علی ذلک فإنّ مسألة انتصار حکومة الحقّ والعدل - أی: حکومة المهدی المنتظر- وظهور المصلح العالمی مرکب فی الواقع من عنصرین .

نفی وإثبات، فعنصر النفی هو الإحساس بغرابة الوضع الذی یعانیه المنتظر، وعنصر الإثبات هو طلب الحال الأحسن.

وذا قدر لهذین العنصرین ان یحلا فی روح الإنسان فانهما یکونا لنوعین من الأعمال وهذان النوعان هما:

1. ترک کلّ سبب من أسباب التعاون مع الظلم والفساد، وعلیه أن یقاومها هذا من جهة.

2. وبناء الشخصیة الذاتی وتهیئّة الاستعدادات الجسمیّة والروحیّة والمادیّة والمعنویّة لظهور تلک الحکومة العالمیّة الإنسانیّة، من جهة أخری، ولو أمعنا النظر لوجدنا أنّ هذین النوعین من الأعمال هما السبب فی الیقظة والوعی والبناء الذاتی (1).

وهذا مالم یتنبه له صاحب تفسیر المنار، عند ما قال:

وقد کان شیوع هذا بین المسلمین من أسباب تقاعدهم عما أوجبه الله تعالی فی کلَ ّ وقت من إعلاء دینه وإقامة حجته، وتعزیز سلطته، اتکالاً علی أمور غیبیه مستقبلیّة، لا تسقط عنهم فریضة حاضرة. (2)

وما هذا القول إلاَّ دلیل علی عدم الاهتمام بالأمور الدینیّة والحقائق الإسلامیّة، او هومن نتائج التأثر بسیرة المستشرقین الیهود والمسیحیّین المعادین للإسلام أشدّ العداء.

و). معنی إظهار الإسلام علی الدَّین کله
اشارة

استطیع القول: إنَّ الإظهار المراد فی الآیة المبارکة واضح، إنّه یشمل مختلف أشکال الغلبة والسیطرة والحاکمیة بکلَ ّ ما تحمله الآیات من سورة التوبة،

ص:150


1- (1) . التفسیر الأمثل: 9 / 25.
2- (2) . تفسیر القرآن الحکیم، المعروف ب- : تفسیر المنار: 10 /350.

والصف، والفتح. وهذا مستفاد من الإطلاق الوارد فی عبارات الآیات الکریمة، وعدم وجود أی مقیدات بنمط معین من الإظهار کظهور الأفضلیّة أو قوة الحجّة، وأمثال ذلک.

بل إنّ سیاقها دال علی أنَّ عدم تحقق هذا الوعد الإلهی الصادق إلاّ بکامل غلبة الإسلام علی الأدیان کلّها وإظهاره علیها عملیاً (1).

وهذا ما فهمه معظم المفسرّین من الآیة، ما نقلناه من قول للفخر الرازی هو أحد الأدلة علی ذلک، قال فی تفسیره:

واعلم: أنَّ ظهور الشیء علی غیره قد یکون بالحجّة، وقد یکون بالکثرة والوفور، وقد یکون بالغلبة والاستیلاء ومعلومٌ أنّه تعالی بشَّر بذلک، ولا یجوز أن یبشَّر إلاّ بأمر مستقبل حاصل، وظهور هذا الأمر بالحجة مقرّر معلوم، فالواجب حمله علی الظهور بالغلبة (2).

إنّ زمان تطبیق هذه الآیة المبارکة لم یتمَّ فی السابق، بل هو فی المستقبل إن شاء الله تعالی.

إنّ ما نذهب إلیه من هذه الآراء هو أنَّ تفسیر هذه الآیة أو المرحلة التطبیقیّة لهذه الآیة لم تتمَّ بالکامل، وهذا لا یکون إلاّ عند قیام القائم من آل محمد(عج).

وهذا ما أشارت إلیه الآیة الکریمة، وأفادته الکثیر من الروایات الشریفة، التی سننقل بعضاً منها، وبناءً علی ما تقدم یتّضح:

1. أنَّ من غیر الصحیح القول بتحقّق هذه البشری فی عهد الرسول الأکرم(صلی الله علیه و آله) بسیطرة الإسلام علی الجزیرة العربیّة، ولا فی عهد الخلفاء اللاحقین بفتح المسلمین لبعض أقطار المعمورة مع بقاء القسم الأکبر منها تحت سیطرة الکافرین، فمثل هذا القول لاینسجم مع إطلاق الآیات الکریمة.

ص:151


1- (1) . الرؤیة القرآنیة للقضیّة المهدویّة: 95.
2- (2) . أبو الفداء إسماعیل ابن کثیر القرشی الدمشقی: 16 /40.

2. أنَّ المستفاد مما تقدم عدم تحقُّق هذا الوعد الإلهی إلی الآن، والآیات الکریمة إذا :هی من آیات الملاحم التی تتحدّث عما سیقع فی المستقبل.

3. أنَّ تحقّق هذا الوعد حتمی، لأنّ الله تعالی صادق الوعد ولتعلق إرادته به.

فإذا ما قلنا إنَّه تعالی مرید- أی مرید لأفعاله - تصدر منه أفعاله بالإرادة والاختیار، أو مرید لطاعات عباده لا علی سبیل الحتم، بل باختیارهم، وإرادته لأفعال ذاته عبارة عن علمه تعالی الموجب لوجود الفعل، فی وقت دون آخر بسبب اشتماله علی مصلحة داعیة إلی إیجاده فی هذا الوقت دون غیره.

ومعنی إرادته لأفعال عبیده أنّه یرید إیقاع الطاعات منهم علی وجه الاختیار.

ومعنی کراهته تعالی: علمه الموجب لانتفاء الفعل فی وقت دون وقت، بسبب اشتماله علی مفسدة، فی الإیجاد قبل وقته (1).

إنّ الآیة القرآنیّة المبارکة:

یُرِیدُونَ أَنْ یُطْفِؤُا نُورَ اللّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ یَأْبَی اللّهُ إِلاّ أَنْ یُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ کَرِهَ الْکافِرُونَ تبیّن أنّ هناک إرادة عند الکفار وأتباعهم من المشرکین والمنافقین، وهی إطفاء نور الله تعالی بأفواههم (2).

ومن هنا سوف نعمل علی الدخول فی بحث الإرادة، بصورة عامة، والفرق فی الإرادة بین الله تعالی والإرادة عند الإنسان، تحت نطاق هذه الآیة المبارکة.

هُوَ الَّذِی أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدی وَ دِینِ الْحَقِّ لِیُظْهِرَهُ عَلَی الدِّینِ کُلِّهِ وَ لَوْ کَرِهَ الْمُشْرِکُونَ.

إنّ لفظة الإرادة فی الاستعمالات العرفیّة تستعمل فی معنیین علی الأقلَ ّ:

أحدهما: المحبّة.

الثانی: التصمیم علی القیام بعمل.

والإرادة بالمعنی الأوّل، تعطی معنی واسعاً جّداً من حیث

ص:152


1- (1) . حقّ الیقین فی معرفة أصول الدین: 1 / 55.
2- (2) . دروس فی العقیدة الإسلامیّة: 106.

مجالاته؛ إذ یشمل محبَّة الأشیاء الخارجیّة، کما فی الآیة من سورة الأنفال تُرِیدُونَ عَرَضَ الدُّنْیا وَ اللّهُ یُرِیدُ الْآخِرَةَ وَ اللّهُ عَزِیزٌ حَکِیمٌ 1.

والإرادة التی بمعنی: المحبّة، وإن کانت فی الإنسان من قبیل الأعراض النفسانیّة التی یمکن أن تختلف وتتخلَّف - ولکن یمکن أن نتصوّر لها مفهوماً آخر خالیاً من النقائص، بحیث نستطیع إطلاقه علی الله تعالی، فتعد الإرادة التی بمعنی الحّب من الصفات الذاتیّة لله تعالی.

فإذا کان المراد من الإرادة الإلهیّة، حبَّ الکمال، الذی یتعلَّق أوّلاً بالکمال الإلهی اللامتناهی، ویتعلَّق فی مراتب لاحقة بکمالات سائر الموجودات من حیث هی آثار لکماله تعالی، أمکن لنا أن نعدَّها من الکمالات الذاتیّة.

وکذلک الإرادة بمعنی التصمیم علی القیام بعمل، فهی بلا شکَّ من الصفات الفعلیّة، حیث تتحدد وتتقید بقیود، وذلک بلحاظ تعلقها بالأمور الحادثة، والشواهد القرآنیّة علی ذلک کثیرة جدّاً، منها: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَیْئاً أَنْ یَقُولَ لَهُ کُنْ فَیَکُونُ 2.

و إرادة المشرکین: وإذا ما لاحظنا الإرادة من طرف الإنسان لوجدناها إرادة عرضیة لا استقلالیّة فیها، فهی إرادة محدَّدة ومقیَّدة بحدود وقیود تعلقاتها، فتتّصف هذه الإرادة بالکثرة والحدوث؛ لأن هناک إرادة للإنسان وهی إرادة أضافیة، أمّا الإرادة المستقلّة والحقیقیّة، فهی لله تعالی، لا غیر.

ومن هنا کانت هناک إرادة عند الکفار لکنها مقیّدة بإرادة الله تعالی، فإذا ما راجعنا الآیة السابقة لهذه الآیة (1)، لوجدنا أنّ هناک إرادة عند هؤلاء، وهذه الإرادة إرادة ضعیفة أمام أرادة الله تعالی.

ص:153


1- (3) . التوبة: 32.

لقد جاء: إنّه تعالی أخبر عن هؤلاء الکفار من الیهود والنصاری أنهم یُرِیدُونَ أَنْ یُطْفِؤُا نُورَ اللّهِ 1، وهو: القرآن والإسلام عند أکثر المفسرّین.

وهناک إرادة إلهیّة ظاهرة فی قوله تعالی:

وَ یَأْبَی اللّهُ إِلاّ أَنْ یُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ کَرِهَ الْکافِرُونَ معناه: ویمنع الله إلاّ أن یظهر أمر القرآن والإسلام، فهو الذی یرید إظهار وَ دِینِ الْحَقِّ الذی هو الإسلام وما تضمنه من الشرائع (1).

فان الله هو الذی یرید إظهار الإسلام، علی جمیع الأدیان کلها وَ لَوْ کَرِهَ الْمُشْرِکُونَ ظهور الإسلام.

إن زمان تطبیق هذه الآیة هو حین قیام دولة الحقّ بقیادة الإمام المهدی(عج)، والذی سیملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً.

یظهر من الروایات أنّ فهم دلاّلة هذه الآیات الکریمة علی دولة المهدی العالمیّة کان شائعاً فی صدر الإسلام، وهو مروی فی کتب أهل السنّة من طرقهم، فقد نقله القرطبی فی تفسیره، والفخر الرازی فی تفسیره کذلک، وغیرهما ممّن نقلنا آراءهم فی الآیة المبارکة. وإنَّ السدی سئل عن تفسیر الآیات من سورة التوبة: فقال: ذلک عند خروج المهدی (2).

هناک بشری تحملها الآیات المبارکة وهی إقامة الدولة الإسلامیّة العالمیّة.

نتیجة المقارنة وما نذهب إلیه

بعد أن انتهینا من المقارنة بین مجموعة من المفسرّین من الشیعة والسنّة، نأتی إلی بیان النتائج التی تمّ التوصل إلیها من هذه المقارنة، وهی کالتالی.

1. إنّ الآیة القرآنیّة التی جاءت فی سورة التوبة وسورة الصف، وسورة الفتح، ولو مع الاختلاف الیسیر فی ذیل الآیة ذکرت أحد أسباب إرسال

ص:154


1- (2) . مجمع البیان: 5 / 45.
2- (3) . تفسیر القرطبی: 8؛ التفسیر الکبیر: 40 / 16.

الرسول الأکرم(صلی الله علیه و آله) وهو إظهار هذا الدین علی جمیع الأدیان الأخری.

2. إنَّ النبی الأکرم أرسل بِالْهُدی الذی هو القرآن، أو ما بلحاظه من الحجّة والبیان.

3. إنَّ الدَّین الذی عبرت عنه الآیة: وَ دِینِ الْحَقِّ هو: الإسلام.

4. إنَّ المراد من: لِیُظْهِرَهُ فی الآیة الکریمة هو عالمیّة الدین الإسلامی وغلبته لجمیع الأدیان السماویّة والأرضیّة. وإظهار الشیء علی غیره نصرته وتغلیبه علیه، والمراد بالدین کلّه کلّ سبیل مسلوک غیر سبیل الإسلام (1).

سواء أکان من الأدیان السماویّة أو من الأدیان الأرضیّة، أی المذاهب والنظریّات التی یتبناها الإنسان فی مسیرته الحیاتیّة، کالنظریّة المارکسیّة، والعلمانیّة، والعولمیّة الغربیّة.

والآیة فی مقام تعلیل قوله فی الآیة السابقة: وَ اللّهُ مُتِمُّ نُورِهِ، 2 والمعنی: والله متمّ نوره؛ لأنّه هُوَ الَّذِی أَرْسَلَ رَسُولَهُ بنوره الذی هو بِالْهُدی وَ دِینِ الْحَقِّ لیجعله غالباً علی جمیع الأدیان ولو کره المشرکون من أهل الأوثان.

ویستفاد من الآیتین أن دین الحقّ نور الله فی الأرض، کما یستفاد ذلک من قوله تعالی: اَللّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ کَمِشْکاةٍ فِیها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِی زُجاجَةٍ. 3

وهذا المضمون نفسه تقّدمه الآیة من سورة: الفتح.

ز). البشری بإقامة الدولة العالمیّة الإسلامیّة
اشارة

نستطیع القول أنَّ البشری التی تحملها الآیات القرآنیّة من سورة التوبة، والصف، والفتح، تتضمَّن البشری بإقامة دولة الحقّ، الدولة الإسلامیّة العالمیّة

ص:155


1- (1) . الرؤیة القرآنیّة للقضیّة المهدویّة: 94.

التی تظهر علی جمیع الأدیان الأخری، السماویّة المنسوخة والأرضیّة المادیّة، وتکون الحاکمیّة المطلقة للشریعة الإسلامیّة.

فإذا کان الحکم للشریعة الإسلامیّة، فهذا یعنی تطهیر الأرض من جمیع أشکال الظلم والجور والشرک والکفر والإلحاد، ونشر القسط والعدل فیها، ویکون قد تمَّ تطبیق الآیات الآنفة الذکر.

وتمّت أیضاً وراثة الأرض من قبل عباد الله الصالحین التی وعد الله عباده فی الآیات من سورة الأنبیاء و النور والحج، والتی تُبیَّن أنّ الدولة العالمیّة التی یظهر فیها الله تعالی الإسلام علی الدَّین کلَّه إنَّما یقیمها الله علی أیدی الصالحین المؤمنین به.

وقال ابن جزی فی تفسیره للآیة:

وإظهاره: جعله أعلی الأدیان وأقواها حتّی یعمّ المشارق والمغارب (1).

وروی عن أبی هریرة فی تفسیر الآیة المتقدمة أنّه قال:

هذا وعد من الله بأنّه تعالی یجعل الإسلام عالیاً علی جمیع الأدیان (2).

أماما روی عن الرسول الأکرم والأئمّة من أهل بیته(علیهم السلام) فی التصریح بأنّ المقصود فی الآیة هی دولة الأمام المهدی المنتظر(عج) أحادیث کثیرة، لا أرید الدخول فیها؛ لأنَّ البحث هنا بحث قرآنی بحت، وما نقلناه من أقوال المفسرّین هو للاستشهاد علی وضوح دلالة الآیات الکریمة علی المقصود دونما تأویل أو تطبیق.

آیة الإظهار والعالمیة

قال تعالی: هُوَ الَّذِی أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدی وَ دِینِ الْحَقِّ لِیُظْهِرَهُ عَلَی الدِّینِ کُلِّهِ وَ لَوْ کَرِهَ الْمُشْرِکُونَ 3.

ص:156


1- (1) . التسهیل لعلوم التنزیل: 1 /460.
2- (2) . تفسیر الطبری: 14؛ التفسیر الکبیر: 40 / 16؛ تفسیر القرطبی: 8 / 121؛ تفسیر الدر المنثور للسیوطی: 4 / 176.

لقد أکّدت الأدلّة القرآنیّة الأدلّة النقلیّة، إضافة إلی أخذ تلک الأدّلة القرآنیّة الطابع العقلی، حول قضیّة العالمیّة الإسلامیّة، والتی تحدث القرآن الکریم فیها بمواطن عدّة. ولاشَکَّ أنَّ أدلّة القرآن الکریم أفضل الأدّلة، وهو أکثر المصادر اعتباراً علی عالمیّة الإسلام، وأنّه للناس کافة، ولم یختصَّ بأمّة دون أمّة، وبقوم دون قوم، کما توهم جماعة من المعادین للإسلام.

فهناک من یعتقد أنّ عالمیّة الرسالة الإسلامیّة ظهرت فیما بعد، وأنَّ النبیّ محمّداً(صلی الله علیه و آله) اقتصر فی رسالته منذ بدء الرسالة إلی لحظة وفاته (صلی الله علیه و آله) علی العرب فقط؛ وذلک لأنّ محمّداً(صلی الله علیه و آله) لم یعرف مکاناً غیر الجزیرة العربیّة (1).

ولوا ألقی المرء نظرة علی هذا الکتاب الإلهی یدرک وبکلّ وضوح عموم دعوته، وعدم اختصاصها بقوم أو عنصر أو لسان: وَ ما أَرْسَلْناکَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِینَ، 2 فهو لم یُرسل إلاّ رحمة للعالمین جمیعاً، ویستفاد ذلک من إطلاق کلمة: لِلْعالَمِینَ وحیث لم یرد مخصَّص لهذا الإطلاق من الروایات الشریفة، أو غیرها من الأدلّة المعتبرة شرعاً، فیبقی الإطلاق علی حاله.

وهذا ما دلَّت علیه بعض الآیات المبارکة التی تکلَّمت حول عالمیّة الإسلام، والتی سوف نتطرّق إلیها فی البحوث الآتیة إن شاء الله.

ذلک بالإضافة إلی الآیات التی تخاطب أهل الکتاب وأصحاب الدیانات الأخری، علی لزوم ترک الطریق الباطل واتّخاذ الطریق الحقّ، وترک عبادة الأشخاص، کما هو الملاحظ من قوله تعالی: یا أَهْلَ الْکِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَ تَکْتُمُونَ الْحَقَّ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ 3.

ص:157


1- (1) . سیّد المرسلین: 2 /35.

وقوله تعالی: قُلْ یا أَهْلَ الْکِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِیلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَ أَنْتُمْ شُهَداءُ وَ مَا اللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ 1.

وقوله تعالی: یَهْدِی بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَ یُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَی النُّورِ بِإِذْنِهِ وَ یَهْدِیهِمْ إِلی صِراطٍ مُسْتَقِیمٍ 2. وبالتأمّل فی هذه الآیات المبارکة ونظائرها لا یبقی أیّ مجال للشَّکَ ّ فی عالمیّة الإسلام.

إشکال: لکن هناک أشکال أثاره البعض حول الاستدلال بهذه الآیات المبارکة، وتصوّر وجود تعارض بینها وبین الآیات الدالة علی أنّ النبیَّ(صلی الله علیه و آله) مأمورٌ بهدایة عشیرته وأقربائه وأهل مکة، وما یقاربها من الآیات القرآنیّة الأخری، مثل قوله تعالی:

1. وَ أَنْذِرْ عَشِیرَتَکَ الْأَقْرَبِینَ 3.

2. وَ هذا کِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَکٌ مُصَدِّقُ الَّذِی بَیْنَ یَدَیْهِ وَ لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُری وَ مَنْ حَوْلَها وَ الَّذِینَ یُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ یُؤْمِنُونَ بِهِ وَ هُمْ عَلی صَلاتِهِمْ یُحافِظُونَ 4.

3.وَ کَذلِکَ أَوْحَیْنا إِلَیْکَ قُرْآناً عَرَبِیًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُری وَ مَنْ حَوْلَها وَ تُنْذِرَ یَوْمَ الْجَمْعِ لا رَیْبَ فِیهِ فَرِیقٌ فِی الْجَنَّةِ وَ فَرِیقٌ فِی السَّعِیرِ 5.

4. أَمْ یَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّکَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِیرٍ مِنْ قَبْلِکَ لَعَلَّهُمْ یَهْتَدُونَ 6.

5. وَ ما کُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَیْنا وَ لکِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّکَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِیرٍ مِنْ قَبْلِکَ لَعَلَّهُمْ یَتَذَکَّرُونَ 7.

ص:158

إنّ جمیع هذه الآیات الکریمة، تدلُّ علی أنَّ النبیَّ ألأکرم(صلی الله علیه و آله) إنّما بعث لقومه وعشیرته الأقربین، والآیات الأخر دلَّت علی أنَّ البعثة کانت لأجل أن یهدی النبیّ(صلی الله علیه و آله) - إضافة إلی قومه - أمَّ القری ومَن حولها من القری الأخری.

وفی مقام الجواب علی هذا الأشکال الذی أثاره بعض المستشرقین الغیر عارفین بمسیرة الدعوة الإسلامیة، فإنَّ جمیع هذه الآیات القرآنیّة کانت قد تحدّثت عن مراحل الدعوة إلی الإسلام، حیث تبدأ من عشیرته والأقربین، ومن ثم إلی أهل مکّة وما یحاذیها، وبعد ذلک تمتد إلی سائر البلدان غیر مکّة، فلیست هذه الآیات مخصّصة للإطلاق الدال علیة فی منطوق الآیات الدالة علی عالمیّة الإسلام.

وأیضاً من ضمن الآیات الدالة علی عالمیّة الإسلام آیة الإظهار: هُوَ الَّذِی أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدی وَ دِینِ الْحَقِّ لِیُظْهِرَهُ عَلَی الدِّینِ کُلِّهِ وَ لَوْ کَرِهَ الْمُشْرِکُونَ 1، والتی لا یشک فیها من له أدنی مستوی من التدبر والملاحظة، لأنها تدلّ علی عالمیّة الإسلام بظاهرها ومنطوقها لا بالمفهوم فقط، مع ما یساندها من الآیات القرآنیّة، والأحادیث الشریفة.

خلاصة الفصل الثانی:

لقد عرفنا فی هذا الفصل مجموعة من النقاط:

1. هناک توافق بین المفسرّین من کِلا الفریقین علی عالمیّة الإسلام، وإَّنه سوف یأتی یوم یعمّ فیه الإسلام جمیع أرجاء المعمورة.

2. هناک نوع من الاختلاف فی زمان تطبیق آیة الإظهار، بین وقوعه فی بدایة الدعوة إلی الإسلام وبین أنَّه سیقع فی زمان الإمام المهدی(عج).

ص:159

3. هناک من أنکر وجود الإمام المهدی(عج) وجعلها فکرة شیعیّة لاواقع لها، إلاّ أنَّ الآیات القرآنیّة والروایات الشریفة تدلُّ علی خلاف ذلک، و أنّ ذلک سوف یتحقّق فی زمان الدولة العالمیّة للأمام المهدی(عج).

4. إنَّ فی آیة الإظهار بشارة بتحقّق الدولة العالمیّة للإسلام، والتی تملأ الأرض فیها قسطاً وعدلاً.

ص:160

3- عالمیّة الإسلام

تمهید:

بعد أن تطّرقنا فی الفصل الأوّل لظاهرة العولمة بقسمیها، العولمة الحقیقیّة والعولمة الغربیّة، کان ممّا لابدَّ منه ولو بشیء من الأجمال عرض العالمیّة الإسلامیّة، وما هو المراد من العالمیّة فی الإسلام؟

هل هو ما أرادته العولمة الغربیّة؟ أو غیر ذلک؟

وما هی الدلائل علی العالمیّة الإسلامیّة؟

وکذلک عرض النظریّات الإسلامیّة فی نفس المجالات التی دخلت منها العولمة نطاق العالمیة، وهما الاتّجاه السیاسی والاتّجاه الثقافی علی وجه الخصوص.

إذاً: سوف نتناول فیه:

عالمیّة الإسلام مع الاستدلال علیها بالقرآن والسنّة، وکذلک عالمیّة الإسلام فی مجالی السیاسة والثقافة مع التطرف لنظریّة الدولة، مع التطرق لأقسام الدولة، والدولة العالمیّة فی الإسلام.

ونتناول ذلک بغیة المعرفة والاطلاع علی النظریّات الإسلامیّة فی هذه المجالات بعد اطلاعنا علی النظریّات العولمیّة.

ص:161

عالمیّة الإسلام

اشارة

نعتقد أنّ الدین عند الله الإسلام، وهو الشریعة الإلهیّة الحقّة، وهی خاتمة الشرائع وأکملها، وأوفقها فی سعادة البشر وأجمعها لمصالحهم فی دنیاهم وآخرتهم، وصالحة للبقاء مدی الدهور، والعصور، لا تتبدل ولا تتغّیر، جامعة لجمیع ما یحتاجه البشر من النظم الفردّیة والاجتماعیّة، والسیاسیّة.

ولمّا کانت خاتمة الشرائع، لا نترّقب شریعة أخری تصلح هؤلاء البشر المنغمسین فی مظالم الفساد، فلا بدَّ أن یأتی یوم یقوی فیه الدین الإسلامی فیشمل المعمور عدله وقوانینه ولو طبقت الشریعة الاسلامیة بقوانینها فی الأرض تطبیقاً کاملاً وصحیحاً لعمَّ السلام بین البشر وتمّت السعادة لهم، وبلغوا أقصی ما ینعم به الإنسان من الرفاه والعزَّة والسعة، والدّعَة والخلق الفاضل، و لانقشع الظلم من الدنیا وسادت المحبّة والإخاء بین الناس أجمعین، ولانمحی الفقر والفاقة من صفحة الوجود (1).

إذاً: لا بدّ للإسلام أن یسود العالم یوماً ما، وهذا ما تشهد له الآیات القرآنیّة، وأوّل هذه الآیات هی آیة الإظهار التی سوف نتناولها فی الفصل الثالث، إن شاءالله.

وما یذهب إلیه العقل البشری الفطری، و أقوال الکثیر من المؤرخین والکتاب الغربیین.

ونظراً لوجود علاقة وثیقة بین التفسیر الواقعی لآیة الإظهار والعالمیّة الإسلامیّة أردنا التطرق للعالمیّة الإسلامیّة فی قبال العولمة الغربیّة.

ونحن فی بحثنا هذا حول عالمیّة الإسلام، سنتطرّق إلی بعض الأدلّة التی نثبت من خلالها عالمیّة الإسلام، وإنَّه لم یکن رسالة لأُمَّة دون أمّة، أو لبقعة جغرافیّة محدّدة دون أخری، بل هو دین عالمی یشمل جمیع المعمورة، من ناحیة الأحکام والقوانین.

ص:162


1- (1) . الفوائد البهیة فی شرح عقائد الأمامیّة: 1 / 493.

ومن هنا سوف نستدّل علی عالمیّة الإسلام بالدلیل العقلی والدلیل النقلی، وبنقل آراء غیر المسلمین أیضاً، و إلیکَ أهمَّ تلک الأدّلة:

الدلیل الأوّل: الدلیل العقلی:

إنّ العقل یحکم بأنَّ الحکیم لا یکون فعله عبثیاً، فهو یضع الشیء فی محلَّه وفی موقعه المناسب له، وإنَّ الله تعالی أحکم الحکماء، فهو لم یخلق الإنسان عبثاً، وإنما خلقه لغایة هی أسمی وأرفع، وهی عبادة الله الواحد الأحد: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِیَعْبُدُونِ 1.

إنَّ الطریق إلی الله بالعبودیّة لا یعرف إلاّ بالأنبیاء والرسل، الذین جاؤوا بأحکام ودساتیر توصل الفرد والمجتمعات إلی السعادة فی الدارین، وکلَّما کانت الشرائع أشمل وأکمل کلّما کان الوصول إلی الهدف أسهل وأسرع لذا لم نرَ دیناً أو رسالة هی أتمُّ وأکمل من رسالة الإسلام، الحاویة لکلّ ما یحتاجه المرء علی کلَ ّ الأصعدة والنواحی؛ ویشهد بذلک قوانینه الحقّة التی تمیزت عن بقیة الأدیان بدّقة أحکامها وشمولیتها، بل لا یمکن قیاسها علی بقیّة الأدیان لعدم توفر أحکام وتشریعات فی الدیانتین الیهودیّة والمسیحیّة، واقتصارهما علی مجرّد النصائح والإرشادات.

فکانت الشریعتان الیهودیّة والمسیحیّة، لمرحلتین زمانیتین محدودتین، بعکس الإسلام الذی لا یحدّه زمان أو مکان، بل هو لکل الأجیال، ففیه الکثیر من الکلّیات المستنبطة من الکتاب والسنّة، وما یقدر بواسطته علی بیان حاجات الناس فی جمیع أمورهم من الاعتقادات والآداب والسنن والتشریع والأنظمة والقوانین، وکلّ ما یتطلّبه الفرد أو الجماعات لتنظیم شؤونهم وأحوالهم.

ص:163

الدلیل الثانی: الدلیل النقلی:

ومن الأدّلة الأخری علی عالمیة القرآن بالإضافة إلی الدلیل العقلی الدلیل النقلی، من خلال الکتاب والسنّة الشریفة:

أوّلاً: القرآن الکریم

القرآن هو الکتاب الإلهی والناموس الربانی الذی أنزله الله تعالی علی صدر النبیّ الأکرم(صلی الله علیه و آله) یضمّ بین دفتیه القوانین الإلهیّة التی یجب أن تحکم العالم بأسره.

ولّما کان القرآن أحد الأدلة التی بینت عالمیة الإسلام بأوضح فکرة وانصع صورة، إذاً: فسوف نتناول العالمیّة فی القرآن الکریم من خلال النصوص، وبعض الظواهر القرآنیّة، وذلک من خلال عرض وجوه عدة لذلک:

الوجه الأوّل: النصوص القرآنیّة الدالة علی عالمیّة الإسلام

النص الأوّل: قال تعالی: تَبارَکَ الَّذِی نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلی عَبْدِهِ لِیَکُونَ لِلْعالَمِینَ نَذِیراً 1.

النصّ الثانی: قال تعالی: وَ ما أَرْسَلْناکَ إِلاّ کَافَّةً لِلنّاسِ بَشِیراً وَ نَذِیراً وَ لکِنَّ أَکْثَرَ النّاسِ لا یَعْلَمُونَ 2.

النصّ الثالث: قال سبحانه: قُلْ یا أَیُّهَا النّاسُ إِنِّی رَسُولُ اللّهِ إِلَیْکُمْ جَمِیعاً 3.

النصّ الرابع: قال سبحانه: وَ مَنْ یَبْتَغِ غَیْرَ الْإِسْلامِ دِیناً فَلَنْ یُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِی الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِینَ 4.

النصّ الخامس: قال تعالی عن القرآن الکریم الذی أوحاه إلی نبیّه الکریم: إِنْ هُوَ إِلاّ ذِکْرٌ لِلْعالَمِینَ 5.

ص:164

النصّ السادس: قال تعالی: وَ أُوحِیَ إِلَیَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَکُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ 1.

أی: کلّ من یصل إلیه البلاغ وکلّ من سمعه فی جمیع أقطار الأرض, فی أیّ زمن من الأزمان وصل إلیه البلاغ.

النصّ السابع: قال تعالی: هُوَ الَّذِی أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدی وَ دِینِ الْحَقِّ لِیُظْهِرَهُ عَلَی الدِّینِ کُلِّهِ وَ لَوْ کَرِهَ الْمُشْرِکُونَ 2، وقال تعالی: وَ ما أَرْسَلْناکَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِینَ 3، وقال تبارک وتعالی: یُرِیدُونَ أَنْ یُطْفِؤُا نُورَ اللّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ یَأْبَی اللّهُ إِلاّ أَنْ یُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ کَرِهَ الْکافِرُونَ هُوَ الَّذِی أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدی وَ دِینِ الْحَقِّ لِیُظْهِرَهُ عَلَی الدِّینِ کُلِّهِ وَ لَوْ کَرِهَ الْمُشْرِکُونَ 4.

إن فی هذه الآیات من الوضوح والدلالة ما یغنی عن شرحها والتعلیق علیها.

فهی صریحة لا تقبل التأویل أبداً، بل تدل علی عالمیّة الرسالة المحمدیّة، دلالة واضحة.

الوجه الثانی: دعوة العالمیّة:

ومن الأدّلة القرآنیّة أیضاً علی عالمیّة الإسلام، ما جاء فی القرآن الکریم من دعوة لأهل الکتاب من الیهود والنصاری والمشرکین إلی الإسلام الذی جاء به محمد(صلی الله علیه و آله) سواء أکانوا من العرب أم من غیر العرب، و بیّن لهم بأنّ الإسلام هو الدین الحقّ الذی لا یقبل الله سواه.

قال تعالی: وَ مَنْ یَبْتَغِ غَیْرَ الْإِسْلامِ دِیناً فَلَنْ یُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِی الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِینَ 5.

وقد تجاوزت رسالة نبیّنا محمّد(صلی الله علیه و آله) الیهود والنصاری والبشرّیة بأکملها، فلم

ص:165

تقتصر علی عالم الإنس فقط، بل تعدّت إلی عالم الجن أیضا, قال تعالی: قُلْ أُوحِیَ إِلَیَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً یَهْدِی إِلَی الرُّشْدِ فَآمَنّا بِهِ وَ لَنْ نُشْرِکَ بِرَبِّنا أَحَداً، 1 وقال تعالی: وَ إِذْ صَرَفْنا إِلَیْکَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ یَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمّا قُضِیَ وَلَّوْا إِلی قَوْمِهِمْ مُنْذِرِینَ 2.

الوجه الثالث: خطابات القرآن ونداءاته العامّة

إنَّ القرآن الکریم کثیراً ما یوجه خطاباته إلی الناس غیر مقیّدة بقید, وهذا دلیل واضح علی أنَّ خطاباته وتوجیهاته تعمُّ الناس کافة, وهذا دلیل واضح علی أنَّ الإسلام لجمیع البشر، بل للأنس والجنّ، وأمثلة ذلک کثیرة فی القرآن الکریم منها:

أوّلاً: قوله تعالی: یا أَیُّهَا النّاسُ کُلُوا مِمّا فِی الْأَرْضِ حَلالاً طَیِّباً وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّیْطانِ إِنَّهُ لَکُمْ عَدُوٌّ مُبِینٌ 3.

ثانیاً: قوله تعالی: یا أَیُّهَا النّاسُ اعْبُدُوا رَبَّکُمُ الَّذِی خَلَقَکُمْ وَ الَّذِینَ مِنْ قَبْلِکُمْ لَعَلَّکُمْ تَتَّقُونَ 4 وآیات کثیرة أمثال ذلک، فهو یخاطب الناس جمیعاً بقوله أیها الناس، ولم یقل یا أیها العرب.

الوجه الرابع: عالمیّة القوانین والتشریعات القرآنیة

إنَّ التشریعات القرآنیّة هی من محتویات الإسلام، والإسلام رسالة عالمیّة - کما قلنا- ویعتمد فی جمیع أحکامه وتشریعاته، وما یخصُّ الإنسان فی معاشه ومعاده علی طبیعة الإنسان التی یتساوی فیها جمیع البشر.

ولا یجد الباحث مهما أوتی من مقدرة علمیة کبیرة فیما جاء به نبیّ الإسلام(صلی الله علیه و آله)أیّ طابع إقلیمی، أو صبغة طائفیة، وتلک آیة واضحة

ص:166

علی أن دعوته دعوة عالمیّة لا تتحیّز إلی فئة معیّنة، ولا تنجرف إلی طائفة خاصّة (1).

فالعبادات والمعاملات والأخلاق... کلّها لیست فیها صبغة طائفیّة ولا إقلیمیّة، بل تکتسی الصبغة العالمیّة، لأنّها تناسب الإنسان وطبیعته، فهی صالحة له دون سواه.

وکذلک النظام الاجتماعی والسیاسی والاقتصادی والقضائی ... لا تجد فی ثنایا أیً ّ منها أیّ تفکیر طائفی أو نزعة إقلیمیّة. فمثلاً فی المعاملات وما یترتب علیها من مقاضاة بین الناس یأمر الله سبحانه المسلم أینما وجد زماناً ومکاناً، قائلاً: إِنَّ اللّهَ یَأْمُرُکُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلی أَهْلِها وَ إِذا حَکَمْتُمْ بَیْنَ النّاسِ أَنْ تَحْکُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمّا یَعِظُکُمْ بِهِ إِنَّ اللّهَ کانَ سَمِیعاً بَصِیراً 2.

بینما تتجسد الطائفیّة والنزاعات العرقیّة بوضوح عند غیر المسلمین، مثل: الیهود حین یتعاملون مع غیر من ینتمی إلی دینهم کما یخبر الله تعالی بقوله: وَ مِنْ أَهْلِ الْکِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ یُؤَدِّهِ إِلَیْکَ وَ مِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِینارٍ لا یُؤَدِّهِ إِلَیْکَ إِلاّ ما دُمْتَ عَلَیْهِ قائِماً ذلِکَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَیْسَ عَلَیْنا فِی الْأُمِّیِّینَ سَبِیلٌ وَ یَقُولُونَ عَلَی اللّهِ الْکَذِبَ وَ هُمْ یَعْلَمُونَ 3.

الوجه الخامس: الإسلام ینبذ أی مقومات التفرقة بین الناس:

إنَّ أقوی دلیل علی أنّ الإسلام رسالة عالمیّة، مکافحته للنزاعات الإقلیمیّة والطائفیّة، فالإسلام لا یفرق بین أبیض وأسود ولا بین جنس و آخر، بل یرفض العنصریّة والطائفیّة، ویرفض جعلها مقیاساً للتفاضل فی میزان السلام، والمقیاس الوحید للتفاضل هو التقوی، قال تعالی: یا أَیُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْناکُمْ مِنْ ذَکَرٍ وَ أُنْثی وَ جَعَلْناکُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَکْرَمَکُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاکُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِیمٌ خَبِیرٌ 4

ص:167


1- (1) . معالم النبوّة فی القرآن الکریم: 52.

فالإسلام هو أوّل من حارب العصبیّة، ودعا إلی الأخوة تحت لواء التوحید الخالص ومقتضاه الإسلام.

ثانیاً: أدلّة عالمیة الإسلام من سنّ َة النبیّ(صلی الله علیه و آله) وآل بیته(علیهم السلام)

أمر الله سبحانه وتعالی نبیّه الکریم(صلی الله علیه و آله) أول ما بعثه أن یصدع بالحقَ ّ بین عشیرته أوّلاً، ثمّ تتسّع دائرة التبلیغ والإنذار إلی أن تصل إلی أسماع کلَ ّ من یستطیع أن یُسمعه رسول الله(صلی الله علیه و آله) سواء مباشرة، أو أنْ یرسل مَن ینوب عنه فی تبلیغ ما جاءه(صلی الله علیه و آله) من ربّه سبحانه وتعالی، وسوف نُورد بعض هذه الأحادیث:

الحدیث الأول:

إخباره(صلی الله علیه و آله) قومه قائلاً:

والله الذی لاإله إلاّهو إنّی رسول الله إلیکم خاصّة، والی الناس عامّة (1).

الحدیث الثانی:

ولتحقیق ما کُلَّف به من تبلیغ رسالته إلی جمیع الناس أرسل السفراء إلی جمیع الأقطار، فبعث سفراءه وفی أیدی کلَ ّ واحدٍ منهم کتاب خاصّ إلی قیصر والروم، وکسری وفارس، وعظیم القبط، وملک الحبشة، والحارث بن أبی شمر الغسّانی ملک تخوم. (2) وما کتاباته هذه إلی ملوک العالم فی عهده إلاّ دلیلاً قاطعاً علی عالمیّة رسالته(صلی الله علیه و آله).

الحدیث الثالث:

ما روی عن جابر (رضی الله عنه) عن رسول الله(صلی الله علیه و آله) أنه قال:

أعطیت خمساً لم یعطهن أحد من قبلی، کان کلّ نبیّ یبعث إلی قومه خاصّة، وبعثت إلی کلّ أبیض وأسود، وأُحلَّت لی الغنائم ولم تحلَّ لأحد قبلی، وجعلت لی الأرض طیبةً وطهوراً ومسجدا، فأیّما رجل أدرکته الصلاة صلّی حیث کان ونُصرت بالرعب مسیرة شهر، وأعطیت الشفاعة (3).

ص:168


1- (1) . مجمع الزوائد: 8 /484.
2- (2) . معالم النبوّة: 44.
3- (3) . صحیح مسلم، کتاب المساجد، رقم: 3.

عالمیّة الإسلام فی النظرة الغربیّة:

بعد أن أثبتنا عالمیّة الإسلام من المنظار العقلی والنقلی، نتعرّض الآن إلی النظرة الغربیّة للعالمیّة الإسلامیّة، والتی أخذ التخوّف من العالمیّة المترقبة ینمو عند الکثیر من أتباع الدیانات الأخری، وفی الفکر الغربی علی وجه الخصوص.

وما أودُّ التعرض إلیه الآن هو نقل أقوال جملة من المؤلّفین، والشخصیات الغربیّة، التی تطرّقت إلی عالمیّة الإسلام، وکیف أن الإسلام یصحُّ أن یکون دیناً عالمیاً یعمُّ جمیع الکرة الأرضیّة، ومن ذلک:

قال الکاتب، دری ترسی الألمانی، فی کتابه:

إنَّ العلوم الطبیعیّة والفلک والفلسفة والریاضیّات، التی أنعشت أوربا فی القرن العاشر للمیلاد مقتبسة من قرآن محمد، بل إنَّ أوربا مدینة للإسلام الذی جاء به محمّد. (1)

وهذا دلیل واضح ومن اعترافات الغرب الذین لم یکونوا یوماً من الجزیرة العربیّة أو المناطق المجاورة لها.

وقال الکاتب کوستالوبون:

إنّ القرآن الکریم لم یُنشر إلاّ بالإقناع لا بالقوّة، فاستطاع، بذلک أن یجذب إلیه الشعوب، وتدین به تلک الشعوب (2).

إذاً: الإسلام لم یرغم أحداً علی الدخول فیه وقبوله بالقوّة، وهذا ما أشارت إلیه الآیة المبارکة من سورة البقرة: لا إِکْراهَ فِی الدِّینِ 3.

وهذا خلاف ما تمارسه العولمة الغربیّة فی الوقت الحاضر من الممارسات والضغوط علی الدول الضعیفة بغیة قبول ما یریده أتباع هذه النظریّات.

یقول الکاتب الفرنسی موریس بوکای:

إنَّ النظریّة القائلة أنّ محمّداً کاتب القرآن نظریّة مرفوضة؛ إذ

ص:169


1- (1) . مقولات أرسطاطالیس، نقلاً عن: القرآن یتجلّی فی عصر العولمة: 395.
2- (2) . المصدر: 398.

کیف یتیسر لرجل حُرم العلم فی نشأته، أن یصبح - علی الأقلّ من وجهة نظر القیمة الأدبیّة- الکاتب الأوّل فی الأدب العربی؟ و أن یخبر عن حقائق فی النظام العالمی تتجاوز وسع أیّ کاتب إنسانی فی هذا الزمن، ودون أن یکون منه أیُّ خطا؟

مع ذلک، أنّ الاعتبارات التی سنتوسّع فیها فی هذه الدراسة بقصد مقارنة الإسلام مع الیهودیّة والمسیحیّة ستوصلنا من وجهة النظر العلمیّة فقط إلی الحکم بأنَّ من المستحیل تصوّر رجل عاش فی القرن السابع عشر المیلادی، واستطاع أن یُورد فی القرآن أفکاراً وموضوعات متنوعة جدّاً، لیست أفکار عصره تلتقی مع ما سیکشفه الناس منها بعد قرون متأخرة عنه، أمّا بالنسبة لی، فلیس للقرآن أیّ تفسیر بشری (1).

المستر بیکتول:

القرآن هو الذی دفع العرب إلی فتح العالم، وإلی تأسیس إمبراطوریّة فاقت إمبراطوریّة إسکندر الکبیر. والإمبراطوریّة الرومانیّة، سعة وقوّة وعمراناً وحضارةً ودواماً (2).

وهذا دلیل واضح علی أنّ القرآن کان یحمل مجموعة من النظریات التی تفید الإنسان علة وجه العموم غیر متعلّقة بالبقعة الجغرافیّة التی نزل فیها.

برنارد شو:

لقد رفض الکاتب الإنکلیزی الساخر أن یکتب حیاة محمّد(صلی الله علیه و آله) فی مسرحیة هزیلة، وفی هذا الجانب یقول:

ولو أن محمّداً وجد فی هذا العالم الیوم لأستطاع بقوة إقناعه أن یحلَّ کل مشکلات العالم، وأن یجعل الحبّ والسلام همّا الحیاة، ولاشکَّ أنّ الإسلام ونبیّ السلام، استطاعا أن یجعلانی أقف باحترام شدید للرسالة، ورسولها، وتمنیت دائماً أن یکون الإسلام هو سبیل العالم، فلا منقذ له سوی رسالة محمّد، ولو وضعت دائماً دین محمّد موضع الاعتبار السامی، حیث یستطیع أن یکون جذاباً لکلّ جیل (3).

ص:170


1- (1) . التوراة والإنجیل والقرآن والعلم: 118 .
2- (2) . القرآن یتجلّی فی عصر العلم: 34.
3- (3) . الإسلام ورسوله فی فکر هؤلاء الکتاب: 143.

انطونی کونی

أحسست أنَّ الإسلام قوة غیر عادیة بعد أن درستُ حیاة الزعیم عمر المختار، فقد کانت قر ائتی عن الإسلام من خلال هذه الشخصیة الخالدة، تأکد لی أن الإسلام هذه القوة الخفیة التی یحملها لیس المختار فقط، بل کلّ المخلوقات البشرّیة فی هذا العالم، وإنّما ینقصهم أن یتعرّفوا علیه وعلی قیمه ومبادئه وتعالیمه التی درستها، وأنا أعدّ نفسی لأداء دور عمر المختار، وأنا نادم لأنّ عمری فات ولم أکن مسلماً (1).

هذه نبذة من کلمات المفکّرین الغربیین الذین انحنوا أمام عظمة الإسلام، وعظمة الرسول الأکرم(صلی الله علیه و آله) فیجب علی جمیع البشرّیة أن تلتزم الإسلام عقیدةً ومنهج حیاةٍ، ولزوم عمل الناس جمیعاً بالشریعة الإسلامیّة الحقّة.

وبعد أن أثبتنا عالمیّة الإسلام عن طریق العقل والنقل، نرید أن نعرف عالمیّة الإسلام علی المستوی السیاسی والمستوی الثقافی فی سبیل أن نعرف العلاقة بین عالمیّة الإسلام والعالمیّة العولمیّة.

وهل العالمیّة الإسلامیّة عالمیّة دینیّة، فقط أو هی عالمیّة سیاسیّة وثقافیّة کذلک؟

وحتّی یکون هناک نوع من التمییز بین العالمیّة العولمیّة المعاصرة والعالمیّة الإسلامیّة ومن هو الذی یصلح أن یکون حاکماً لهذا الکون بجمیع أنحائه؛ وذلک لأننّا بحثنا العولمة من الاتّجاه السیاسی والثقافی أیضاً.

عالمیّة الإسلام السیاسیّة

اشارة

یعتبر المبحث السیاسی من المباحث المهمّة والأساسیّة فی الشریعة الإسلامیّة والإسلام عموماً.

ص:171


1- (1) . المصدر: 144.

ونحن نرید الدخول فی البحث السیاسی الإسلامی، لابدَّ لنا من أن نعرف أنَّ السیاسة الإسلامیّة جزء من کلَ ّ (1)، وهذه العبارة حقیقة عامّة لا تختصُّ فی المجال السیاسی الإسلامی. وإنَّما جمیع المجالات الحیاتیّة، فهی عبارة عن جزء من کلّ؛ لأنَّ الإسلام لم یکن دیناً للرهبنة والتصوّف، بل هو دین یعالج جمیع المجالات الحیاتیّة التی یعیشها الإنسان فالإسلام کلّه وحدة مترابطة، وفصل أیّ جزء من أجزاءه عن سائر الأجزاء الأخری یمنع من رؤیة ذلک الجزء رؤیة حقیقیّة صحیحة (2).

فهو عبارة عن سلسلة حلقات مترابطة تشکل بمجموعها منهجاً ثابتاً للحیاة البشریّة بالکامل.

من هنا سوف یکون الکلام فی هذا المبحث ضمن اتّجاهات عدّة فی المجال السیاسی. والتی منها:

أوّلاً: المعنی اللّغوی والاصطلاحی للسیاسة.

ثانیاً: تعریف السیاسة عند المسلمین وغیرهم.

ثالثاً: السیاسة فی العولمة الغربیّة والعولمة الإسلامیّة.

رابعاً: حقوق الإنسان فی الإسلام.

خامساً: نظریّة الدولة فی الإسلام.

أوّلاً: المعنی اللغوی والاصطلاحی للسیاسة

إنَّ کلمة سیاسة کغیرها من الکلمات ذات الدلالة العلمیّة والفنیّة المستعملة عند العلماء والکتاب والمفکّرین وغیرهم، فهی تحمل معنیین اثنین: معنیً لغویّاً، ومعنیً اصطلاحیّاً.

ص:172


1- (1) . المذهب السیاسی فی الإسلام: 171.
2- (2) . المصدر: 171 .

المعنی اللغوی:

إنَّ کلمة سیاسة تعنی فی المدلول اللغوی، ما یأتی: السیاسة: القیام علی الشیء بما یصلحه (1).

وتعنی أیضاً: الترویض والتدریب علی وضع معین، والتربیّة والتوجیه،وإصدار الأمر والعنایة والرعایة، والإشراف علی شیء، والاهتمام به والقیام علیه.

المعنی الاصطلاحی:

إنَّ مفهوم السیاسة کغیره من المفاهیم الفکریّة یختلف حسب العقیدة والمبدأ والنظریّة التی یستفاد منها، أو یعتمد علیها؛ لذا فقد عُرّفت السیاسة بتعاریف عدیدة، وفهمت بصور وأشکال مختلفة.

ویهمنا فی هذا البحث أن نعرَّف السیاسة تعریفاً إسلامیّاً مستفاداً من النظریّة الإسلامیّة وفهمها للسیاسة إلاّ أنّه من المفید أن نتناول بعض التعاریف, وصور الفهم غیر الإسلامیّة للسیاسة.

فقد عُرّفت بتعاریف عدیدة من قبل بعض الکتّاب السیاسیّین، المختلفین فی مذاهبهم ونظریّاتهم السیاسیة، لنعرف الفارق بین مفهوم السیاسة فی الإسلام، ومفهومها فی المذاهب غیر الإسلامیّة.

ثانیاً: السیاسة فی النظریّة الغربیّة والإسلامیّة:
اشارة

إنّ هناک اختلافاً واضحاً فی التعریف السیاسی علی المستوی التعریفی للنظریّة السیاسیّة الغربیّة والنظریّة الإسلامیّة، ونحن بدورنا نقوم بنقل مجموعة من التعاریف غیر الإسلامیّة، ومن ثمّ التطرّق للتعاریف الإسلامیّة.

ص:173


1- (1) . لسان العرب: 9 / 138.
السیاسة عند غیر المسلمین:

لقد عُرَّفت السیاسة عند العلماء غیر المسلمین بتعاریف عدة، واضحة الاختلاف.

الأوّل: تعریف سقراط:

لقد عرّف الفیلسوف الیونانی سقراط السیاسة بأنّها: فنُّ الحکم، والسیاسی هو الذی یصل إلی فنَ ّ الحکم (1).

الثانی: تعریف أفلاطون:

إنَّها، فَنُّ تربیة الأفراد فی حیاة جماعیّة مشترکة، وهی عنایة بشؤون الجماعة، أو فنُّ حکم الأفراد برضاهم، والسیاسی هو الذی یعرف هذا الفنَّ (2).

الثالث: تعریف میکیافلی:

فنُّ الإبقاء علی السلطة، وتوحیدها فی قبضة الحکام، بصرف النظر عن الوسیلة التی تحقق ذلک (3).

الرابع: تعریف دزرائیلی:

«السیاسة هی فَنُّ حکم البشر عن طریق خداعهم.» (4) وهکذا نلاحظ الفوارق فی الفهم والتعریف، وتحدید مفهوم السیاسة وهویتّها بین الکتّاب والمفکّرین والفلاسفة غیر الإسلامیین متأثرین فی فلسفتهم العامّة، وفهمهم للحیاة والمجتمع والأخلاق، وحرکة التاریخ باستقرائهم مجالات النشاط السیاسی، وتحدیدهم لها فی ظروف الممارسات المنحرفة والقاصرة للسیاسة فانتزعوا من هذین المصدرین فهمهم للسیاسة.

فقد رأینا أنّ بعض الکتاب السیاسیین یری أنّ السیاسة هی: فنّ الحکم، بینما یری فریق آخر: أنّها فنّ الصراع من أجل السلطة والإبقاء علیها. وینظر

ص:174


1- (1) . النظُمُ السیاسیّة: 45.
2- (2) . المصدر: 69.
3- (3) . الثورة والحیاة الیومیّة: 13.
4- (4) . الحرکة الإسلامیّة: 6.

إلیها آخرون نظرة أعمّ: تتعلق بالنشاط السیاسی الحاکم والمحکوم، وکلُّ ما ینطلق من فلسفته العامّة لحرکة التاریخ والمجتمع وفهمه لفلسفة الحیاة، والنوازع النفسیّة والمادیّة والأخلاقیّة للإنسان.

تعریف السیاسة فی الإسلام

وإذا تخطّینا تلک المدارس الفکریّة، وفهمها للسیاسة، أنّها فنّ الحکم، وأنّها الکفاح من أجل السلطة، وأنّها أداة للتسلط، والسیطرة والتحکم، وأنّها فنّ الوصولیّة وعدنا إلی الإسلام، لنعرف رأیه فی السیاسة وتحدیده لمفهومها من خلال الممارسة التی تمت علی ید الرسول الکریم(صلی الله علیه و آله) والمقتدین بنهجه، ومن خلال النصوص والمفاهیم الواردة فی القرآن الکریم والسنّة الشریفة ... ومن خلال الدراسات السیاسیّة والعقائدیّة، خصوصاً بحث الإمامة لدی العلماء والمفکّرین الإسلامییّن، نستطیع أن نحدَّد هذا المفهوم بشکل واضح بعیداً عن الاضطراب والضبابیّة، التی اکتنفت المدارس الفکریّة المختلفة خارج الإطار الإسلامی.

فباستقراء ومتابعة کلمة السیاسة، والراعی والرعیة، والأمام، والسلطان وولی الأمر، والبیعة، والأمر بالمعروف، والنهی عن المنکر، والشوری فی الدراسات الإسلامیّة ... وفی النصوص والمجالات ذات العلاقة، سنعرف أنَّ مفهوم السیاسة فی المدرسة الإسلامیّة، قریب من معناه اللغوی.

فکلمة السیاسة:

تطلق علی کلّ عمل یتعلّق برعایة الأمّة، وتدبیر شؤونها سواء الاقتصادیّة أو الاجتماعیّة والتعلیمیّة، أو إدارة الدولة، أو نشاط الأفراد والأحزاب الإسلامیّة، وإدارة العلاقات الخارجیّة، والدفاع عن الأمّة والعقیدة والأوطان (1).

ص:175


1- (1) . الثقافة السیاسیّة الإسلامیّة: 11.

إذاً: فالحکومة - بحسب هذا التعریف - مسئولة عن رعایة شؤون الأمّة، والأمّة مسؤولة عن رعایة شؤونها، ومن رعایة شؤونها مراقبتها للسلطة، ومحاسبتها، وإسداء النصح إلیها والمشورة، وتحدید الموقف منها عند الانحراف، والخروج من الخطّ الإسلامی.

وهکذا نفهم أنَّ معنی السیاسة لیس هو الکفاح من أجل السلطة، والصراع علیها ولیس هو محصوراً فی فن الحکم المجرّد ولیس هی أداة تسلط طبقی، ولا هی فنّ الوصولیّة بل هی رعایّة شؤون الأمّة، وتُسأل عن هذا الواجب الأمة الإسلامیة بأجمعها، ثمّ تترکّز المهمّة، بالسلطة الإسلامیّة مع بقاء المسؤولیّة السیاسیّة قائمة من خلال الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، علی نحو الکفایة.

ومن الواضح أنَّ الرعایة والاهتمام بشؤون الأُمَّة ومصالحها یدخل فیها فنُّ الحکم، ونشاطات السلطة السیاسیة، ونشاطات الأمة السیاسیة، بما فیها الکفاح والثورة ضدَّ الحاکم الظالم.

وهکذا یتسّع مفهوم السیاسة فی الإسلام، لیشمل کلَّ ما هو رعایة لشؤون الأمّة، ومصلحتها.

وبعبارة أخری أنَّ السیاسة:

عمل تقوم به، الأمّة، وجهاز السلطة من أجل تحقیق الأهداف الأساسیّة للرسالة الإسلامیّة التی لخصها الفقهاء بجلب المصالح ودرء المفاسد (1).

وهکذا یتسع المفهوم لیشمل کلّ عمل تقوم به الحکومة والأفراد والجماعة والمنظمات والأحزاب القائمة علی أساس الإسلام من أجل: جلب المصالح، ودرء المفاسد، لتحقیق الأمن والدفاع الخارجی والقضاء، وتقدیم الخدمات التعلیمیّة، والطبیة، وتقدیم السلطة، وتحقیق العدل، وإزاحة الظلم، وحمایة الأخلاق، وتوجیه الاقتصاد، وفنّ إدارة الأمّة والدولة، وأمثال ذلک، ممّا یدور فی

ص:176


1- (1) . المصدر: 23.

دائرة الرعایة والعنایة بشؤون الأمّة، والحفاظ علی مصالحها ودرء المفاسد عنها.

وقد اتّسع أخیرا مفهوم السیاسة، بعد التطوّر الذی حصل فی الدساتیر وموضوعاتها التی تعتنی بعلاجاتها، بحیث أصبح الدستور وثیقة تحوی الأسس العامّة لتنظیم الحیاة وتوجیهها، وتطویرها بشتی مجالاتها.

ویتّضح لنا ذلک من خلال دراسة النصوص الواردة فی القران الکریم و سنَّة النبیّ(صلی الله علیه و آله) وآله.

السیاسة فی القرآن الکریم:

لقد تحدّث القران عن السیاسة والحکومة فی موارد کثیرة من آیاته، تحت عنوان الإمامة والخلافة والولایة والحکم فجعلها أمانة بید الحاکم، وضرورة عقائدیّة لهدایة الإنسان، وإصلاح الحیاة البشریّة لتحقیق العدل، وتطبیق القانون والنظام الذین یحفظان أرادة الحقّ والعدل والخیر فی هذا الوجود، إرادة الله سبحانه... .

وفیما یلی نقرأ من الآیات الکریمة التی تعطینا صورة واضحة لمفهوم السیاسة فی الإسلام.

قال تعالی مخاطباً داود(علیه السلام): یا داوُدُ إِنّا جَعَلْناکَ خَلِیفَةً فِی الْأَرْضِ فَاحْکُمْ بَیْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوی فَیُضِلَّکَ عَنْ سَبِیلِ اللّهِ إِنَّ الَّذِینَ یَضِلُّونَ عَنْ سَبِیلِ اللّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِیدٌ بِما نَسُوا یَوْمَ الْحِسابِ* وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَیْنَهُما باطِلاً ذلِکَ ظَنُّ الَّذِینَ کَفَرُوا فَوَیْلٌ لِلَّذِینَ کَفَرُوا مِنَ النّارِ 1، وقال تعالی: ثُمَّ جَعَلْناکُمْ خَلائِفَ فِی الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ کَیْفَ تَعْمَلُونَ 2، وقال تعالی: وَ إِذْ قالَ رَبُّکَ لِلْمَلائِکَةِ إِنِّی جاعِلٌ فِی الْأَرْضِ خَلِیفَةً قالُوا أَ تَجْعَلُ فِیها مَنْ یُفْسِدُ فِیها وَ یَسْفِکُ الدِّماءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ

ص:177

بِحَمْدِکَ وَ نُقَدِّسُ لَکَ قالَ إِنِّی أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ 1، وقال تعالی: إِنَّ اللّهَ یَأْمُرُکُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلی أَهْلِها وَ إِذا حَکَمْتُمْ بَیْنَ النّاسِ أَنْ تَحْکُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمّا یَعِظُکُمْ بِهِ إِنَّ اللّهَ کانَ سَمِیعاً بَصِیراً* یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا أَطِیعُوا اللّهَ وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِی الْأَمْرِ مِنْکُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِی شَیْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَی اللّهِ وَ الرَّسُولِ إِنْ کُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ الْیَوْمِ الْآخِرِ ذلِکَ خَیْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِیلاً 2، قال تبارک وتعالی: تِلْکَ الدّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِینَ لا یُرِیدُونَ عُلُوًّا فِی الْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِینَ 3، وقال سبحانه وتعالی: اَلَّذِینَ إِنْ مَکَّنّاهُمْ فِی الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّکاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْکَرِ وَ لِلّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ 4، وقال تعالی: وَ قالَ الَّذِی آمَنَ یا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِکُمْ سَبِیلَ الرَّشادِ 5، وقال عزّ وجلّ: وَ إِنْ نَکَثُوا أَیْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَ طَعَنُوا فِی دِینِکُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْکُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَیْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ یَنْتَهُونَ 6، وقال تعالی: وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَ تَوَکَّلْ عَلَی اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِیعُ الْعَلِیمُ 7.

وکما أثبت القرآن تلک الأسس الفکرّیة للحکم والسیاسة، أثبت کذلک مبدأ الشوری والتشاور کأساس من أسس النظام السیاسی فی الإسلام، فقال تعالی: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شاوِرْهُمْ فِی الْأَمْرِ 8

ص:178

وقال تعالی واصفاً المؤمنین فی حیاتهم السیاسیة والاجتماعیة: وَ أَمْرُهُمْ شُوری بَیْنَهُمْ وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ یُنْفِقُونَ 1.

وفی موضع آخر تحدَّث عن البیعة والطاعة لولاة الأمور الذین یقیمون الإسلام وینفذَّون سیاسة الحقّ والعدل، واعتبرها واجبة علی الأمّة فقال تعالی: لَقَدْ رَضِیَ اللّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِینَ إِذْ یُبایِعُونَکَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ 2.

وقال تعالی: أَطِیعُوا اللّهَ وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِی الْأَمْرِ مِنْکُمْ 3.

وهکذا یثبَّت القرآن المبادئ الأساسیّة للسیاسة، ویوضَّح مرتکزاتها فی العدید من آیاته.

السیاسة فی سنّة النبیّ وآله(علیهم السلام):

وتتحدّث النصوص الواردة عن الرسول(صلی الله علیه و آله) والأئمّة الهداة(علیهم السلام) والصحابة عن مفهوم السیاسة والحکم والمسئولیّة السیاسیّة والعمل السیاسی فی الإسلام.

کما توضَّح السیرة العملیّة للرسول الکریم(صلی الله علیه و آله) مفهوم السیاسة والحکم أفضل إیضاح، فقد قام الرسول(صلی الله علیه و آله)فی المدینة المنوّرة، وطبق المفاهیم الإسلامیّة؛ لتکون نهجاً ودستوراً للحیاة. وهنا نختار بعض الأحادیث الشریفة الصادرة عن الرسول(صلی الله علیه و آله) وأهل بیته(علیهم السلام) لنعرف المراد من السیاسة فی الإسلام.

أوّلاً: روی عن رسول الله(صلی الله علیه و آله) قوله:

«فالأمیر الذی هو علی الناس راع ومسؤول عن رعیته» (1).

ثانیاً:

«من لم یهتمّ بأمور المسلمین، فلیس منهم> (2).

ص:179


1- (4) . احقاق الحقّ :310 .
2- (5) . بحار الأنوار: 71 / 338 .

ثالثاً:

(1).

رابعاً:

(2).

خامساً:

(3).

سادساً: روی عن الأمام علی(علیه السلام) قوله:

من رأی سلطاناً جائراًً مستحلّا لحرم الله، ناکثاً عهده، مخالفاً لسنّة رسول الله(صلی الله علیه و آله)یعمل فی عباد الله بالإثم والعدوان، فلم یغیّر علیه بفعلٍ ولا قولٍ، کان حقّاً علی الله أن یدخله مدخله (4).

سابعاً: روی عن الأمام الحسین(علیه السلام) عندما أعلن الثورة علی حکومة یزید قوله:

إنّی لم أخرج أشراً، ولا بطراً، ولا مفسداً، ولا ظالماً، وإنّما خرجتُ لطلب الإصلاح فی أمّة جدّی رسول الله، أرید أن آمر بالمعروف وأنهی عن المنکر (5).

ثامنا: وکتب الإمام علی(علیه السلام)، إلی مالک الأشتر، والیه علی مصر کتابا بین فیه منهج العمل السیاسی، وإدارة شؤون الدولة، وأثبت أسس الحقوق، وسلوک الحاکم، وعلاقته بالأمة، ومسؤولیاته، نقتطف منه:

وأشعر قلبک الرحمة للرعیة، والمحبّة لهم، واللّطف بهم، ولا تکونن علیهم سبعاً ضاریاً، فإنهم صنفان: إما أخ لک فی الدین، أو نظیر لک فی الخلق (6).

ص:180


1- (1) . رواه الحاکم فی صحیحة.
2- (2) . الثقافّة السیاسیّة الإسلامیّة: 16.
3- (3) . المصدر: 16.
4- (4) . مقتل الحسین(علیه السلام): 1 / 88.
5- (5) . الکامل فی التاریخ: 4 / 48.
6- (6) . نهج البلاغة، عهد الأمام علی إلی مالک الأشتر.

ثمّ قال:

فانک فوقهم، ووالی لأمر علیک، فوقک، والله من فوق من ولاک وقد استکفاک أمرهم، ابتلاک بهم (1).

تاسعاً:

ثمّ الله، الله، فی الطبقة السفلی من الذین لا حیلة لهم، من المساکین والمحتاجین، وأهل البؤس والزمانة، فإنَّ فی هذه الطبقة قانعاً ومعتراً، وأحفظ الله ما استحفظک فیهم، واجعل لهم قسماً من بیت مالک، وقسماً من غلاّة صوافی الإسلام فی کلّ بلد، فإن للأقصی منهم، مثل الذی للأدنی ..فإن هؤلاء بین الرعیة أحوج إلی الإنصاف من غیرهم (2).

إنَّ استقراء النصوص الإسلامیة التی أوردناها آنفا تبیّن لنا معنی السیاسة فی الإسلام؛ ذلک لأنّها تشمل إدارة جهاز الدولة، وقیام الحاکم بواجبه المحدد له اتّجاه المحکوم، وفسح المجال أمام المحکوم؛ لأنّ یمارس حقه، وموقف المحکوم من الحاکم الملتزم والمتجاوز، وعلاقة الدولة بغیرها من الدول.

فالسیاسة فی الإسلام تعنی:

إدارة شؤون الحکم، وتربیة الإنسان علی القیم والمبادئ الإسلامیّة، وتعنی المعارضة ومقاومة الحاکم الظالم، وتقدیم الخدمات، وإعمار البلاد وتطویرها. کما تعنی: توجیه شؤون الاقتصاد وترشیده، وحفظ أموال الأمّة وإنمائها.

کما تعنی: الانتصار للمظلوم، والوقوف بوجه الظالم وکلّ علاقة یدخل فیها الحاکم والمحکوم مما یرتبط برعایة شؤون الأمة وتدبیرها.

وتعنی: القیام بمهمّة القضاء، والدفاع، وتمثیل الحاکم للأمّة، والنیابة عنها، وحفظ حقوقها الأدبیّة والإنسانیّة ... . الخ.

ص:181


1- (1) . المصدر.
2- (2) . المصدر.

وهکذا نعلم: أنَّ کلمة السیاسة فی الفهم الإسلامی تشکل وعاء لقضایا، یحوی کلّ هذه المعانی، وأمثالها ... .

وبهذا یتّضح أنّ الفهم الإسلامی للسیاسة یختلف عن الفهم المیکافیلی والمارکسی، والرأسمالی وعن الفهم العولمی المعاصر، الذی أصبحت السیاسة فیه نوعاً من سیطرة البلدان القویّة والغنیّة علی مقدرات وخیرات البلدان الضعیفة؛ لأنّ السیاسة فی الفکر الإسلامی عبارة عن: رعایة شؤون الأمّة؛ ولذلک یمکننا أن نعرَّف السیاسة من وجهة نظر الإسلام أیضاً بأنّها: کلّ عمل اجتماعی یستهدف توجیه الحیاة الإنسانیّة، توجیهاً تکاملیاً، ضمن علاقات الحاکم والمحکوم التی حدَّدها المنهج الإسلامی لذلک نستعمل مصطلحات: السیاسة المالیّة، السیاسة الخارجیّة، السیاسة التربویّة، السیاسة الإعلامیة... .

ثالثاً: السیاسة فی العولمة الغربیّة والعولمة الإسلامیّة:

توجد نقاط اشتراک بین السیاسة فی النظام العولمی، والسیاسة فی العالمیّة الإسلامیّة أو العولمة الإسلامیّة لکن نقاط الافتراق کانت أکثر؛ وذلک بسبب ضیق الأهداف العولمیّة وسعة الأهداف العالمیّة أو العولمیّة فی الإسلام، وسوف نتطرّق فی هذا البحث إلی بعض الفوارق والتی منها:

1. سعة الأهداف السیاسیّة فی الإسلام، بحیث شملت الأهداف السیاسیّة الإسلامیّة جمیع مصالح الفرد والمجتمع الإنسانی بالکامل، کما دخلت فی جمیع نواحی الحیاة؛ وذلک لصالح الفرد والمجتمع، فهی لم تعمل علی هیمنة دولة علی دولة أخری، أو أمّة من الأمم علی أمّة أخری، أو إتباع دین ما علی دین آخر.

وهذا لم یکن موجوداً فی العولمة الغربیّة المعاصرة، بل ما کان هو العکس من ذلک، حیث نری الضیق الکبیر فی الأهداف العولمیّة، لأنّها تصبُّ فی مصلحة أمة واحدة لا غیر، أو أشخاص معینین فقط، بحیث دخلت الفائدة

ص:182

العامّة فی بعض النواحی العامّة والبقیّة کانت فی اتّجاهات ونواحی خاصّة.

2. إقرار الإسلام لمبدأ الشوری، لکی لا یکون هناک نوع من الاستبداد فی الحکم، ولا البقاء فیه طویلاً من دون إرادة الشعب، ولا توارث الحکم خلفاً عن سلف، نعم، أقرَّ الغرب الیوم نظام الانتخابات، لکن الآلیّة التی یجری اختیار المرشحین من خلالها للانتخابات آلیّة غیر صحیحة؛ وذلک أنَّ من یدخل الانتخابات لابدَّ أنْ یکون من الطبقة البرجوازیّة أو من الطبقات الأولی فی المجتمع، فهی لا یرعی فیها الأشخاص الأکفاء لهکذا منصب قیادی، أمّا الحکم فی الإسلام بالنسبة لغیر المعصومین(علیهم السلام) ، فهو التناوب بالکفاءات، وبالتصویت الحرَّ الذی تتنافس فیه الأحزاب الحرّة، وبالتعددیّة الحقیقیّة لا الحزب الواحد، وبأکثریّة الآراء وبالشوری.

وهذا ما نصَّ علیه القرآن الکریم بقوله تعالی: وَ أَمْرُهُمْ شُوری بَیْنَهُمْ، کما یجب توفیر بقیّة الشروط الشرعیّة أیضاً.

عن الأمام الصادق قال:

«لایطمعن القلیل التجربة المعجب برأیه فی رئاسة> (1).

وعنه(علیه السلام) قال:

ثلاث هن قاصمات الظهر، رجل استکثر عمله، ونسی ذنوبه، وعمل برأیه. (2)

وکذلک ورد فیما أوصی به الأمام الصادق(علیه السلام) سفیان الثوری:

«وشاور فی أمرک الذین یخشون الله عزّ و جلّ> (3).

3. إنَّ العولمة الإسلامیّة تؤمن بالتعدّدیّة السیاسیّة، حیث ینبغی للمسلمین وربما وجب علیهم فی حیاتهم وخاصة السیاسیة اتّخاذ أسلوب التعدّدیّة والحزبیّة المتنافسة علی البناء والتقدّم.

ص:183


1- (1) . بحار الأنوار: 72 / 98، ب 48، ح 2.
2- (2) . معانی الأخبار: 343، باب معنی قاصمات الظهر، ح: 1.
3- (3) . الخصال: 1 / 169، باب الثلاثة ح: 222.

نعم، یجب ألاّ تخرج جمیع هذه الأحزاب أو الاتّجاهات السیاسیّة علی الرغم من تعدّدها عن الإطار الإسلامی العامّ، والانتماء إلی حزب واحد وهو ما یطلق علیه القرآن ب- (حزب الله) ففی الواقع هو حزب واحد والتعدّد فی النظرات المتزاحمة فی سبیل تقدیم الأفضل للمجتمع والأمّة، لا فی الاتّجاهات. وهذا علی العکس ممّا نجده فی العولمة الحالیّة؛ لأنَّ الثقافة الحزبیّة فی الوقت الحاضر هو التنافس علی المصالح الحزبیّة خاصّة فی الدرجة الأولی. وفی الحدیث:

رسول الله(صلی الله علیه و آله) مرَّ بقوم من الأنصار یترامون، فقال رسول الله(صلی الله علیه و آله): «أنا فی الحزب الذی فیه ابن الأدرع»، فامسک الحزب الآخر، وقالوا: لن یغلب حزب فیه رسول الله(صلی الله علیه و آله). وقال: «ارموا فإنَّی أرمی معکم». فرمی مع کلَ ّ واحد رشقاً، فلم یسبق بعضهم بعضاً. (1)

وهذا خلاف ما جاء فی العولمة الغربیّة التی تؤمن بالتعدّدیة الغربیّة، لکن مع التنافس علی المراکز السلطویة والمصالح الحزبیّة مع الغیاب الکامل لمصالح المجتمع والفرد.

4. حریّة الرأی، فإن لکلّ إنسان الحریّة فی طرح ما یریده من أفکار، إن لم یکن مخالفاً للتعالیم الإلهیّة، أو یکون فیه نوع من الأضرار بالمجتمع، فإنّ کان مخالفاً فلا یکبح بالعنف والإرهاب، وکلّ ما تحویه هذه الکلمة من معنی؛ لأنّ الإسلام یحرَّم الغدر والاغتیال، وسواء أکان ذلک بالتصفیّة الجسدیّة أو باغتیال العقول عن طریق أفکار تؤدّی إلی الدمار بجمیع أنواعه المادیّة والمعنویّة.

وهذا مما لا نراه بالنظریّة العولمیّة المعاصرة، فإنَّ اللغة الطاغیّة علی جمیع اللغات الیوم هی لغة السلاح، فلم یترک للحوار الیوم أیّ موقع.

فقد ورد عن أبی عبد الله(علیه السلام) أنّه قال:

ینبغی للمؤمن أن یکون فیه ثمان خصال، وقوراً عند الهزاهز، صبوراً عند البلاء، شکوراً عند الرخاء، قانعاً بما رزقه الله، لا یظلم

ص:184


1- (1) . غوالی الآلی: 3/ 266، ق2، باب السبق والرمایة، ح: 5 ؛ نقلاً عن: فقه العولمة.

الأعداء، ولا یتحامل للأصدقاء، بدنه منه فی تعب والناس منه فی راحة، إنَّ العلم خلیل المؤمن، والحلم وزیره، والعقل أمیر لجنوده، والرفق أخوه، والبر والده. (1)

وقال أمیر المؤمنین(علیه السلام):

والله، ما معاویة بأدهی منّی، ولکنّه یغدر ویفجر، ولولا کراهیّة الغدر، لکنت من أدهی الناس، ولکن کلّ غدرة فجرةً، وکلّ فجرة کفرةً، ولکل غادر لواء یعرف به یوم القیامة (2).

5. إن أهمَّ هذه الخصوصیّات، هو أنَّ العولمة الإسلامیّة جاءت نتاجاً لرسالة سماویّة، وبأوامر إلهیّة مطابقة للفطرة الإنسانیّة، وغیر مخالفة لها. فکانت مطابقة لما یأمره العقل البشری؛ لذلک کان الخطاب القرآنی عاماً غیر مقیّد بفئة من المسلمین أو المؤمنین به فقط؛ أما العولمة المعاصرة، فهی نتاج لأفکار بشرّیة قابلة للخطأ.

کما أنّها لا مکانة لها فی الفطرة الإنسانیّة.

وهناک الکثیر من الفوارق والممیّزات، لا داعی للتفصیل فیها، بل سنذکرها إجمالاً للفائدة، وهی:

1. حرمة الأشخاص والأموال: حرّم الإسلام قتل الأشخاص، وظلمهم وسلب أموالهم، إلاّ بموازین شرعیّة.

عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال:

إنّ الله عزّوجلّ أوحی إلی نبیّ من أنبیائه فی مملکة جبّار من الجبارین، أن أتِ هذا الجبّار فقل له: إنَّنی لم استعملک علی سفک الدماء واتّخاذ الأموال، وإنّما استعملتک لتکفَّ عنی صوت المظلومین، فإنّی لم ادع ظِلامتهم وإن کانوا کفّاراً (3).

ص:185


1- (1) . أصول الکافی: 2 / 47، باب خصال المؤمن، ح: 1.
2- (2) . نهج البلاغة، الخطبة200: من کلام له فی معاویة.
3- (3) . أصول الکافی: 2، باب الملظوم: 333، ح: 14.

2. یحرَّم القانون الإسلامی السیاسی التجسّس؛ لأنَّ التجسس خلاف حریّة الإنسان التی أقرَّها الإسلام، قال أمیر المؤمنین(علیه السلام):

ولیکن أبعد رعیتک منک واشنأهم عندک أطلبهم لمعایب الناس، فان فی الناس عیوباً الوالی أحق بسترها، فلا تکشفنَّ عما غاب عنک منها، فإنما علیک تطهیر ما ظهر لک، والله یحکم علی ما غاب عنک، فاستره ما استطعت یستر الله منک ما تحب من رعیتک (1).

وهذا ما لا یوجد فی العولمة المعاصرة.

3. رعایة حقوق الإنسان السیاسیّة، فإنَّ الإسلام احترم حقوق الإنسان فی جمیع المجالات، وضمن له الحریّة السیاسیّة للأفراد والأحزاب.

قال الصادق(علیه السلام):

السرور فی ثلاث خلال؛ فی الوفاء، ورعایة الحقوق، والنهوض فی النوائب (2).

وهذا فیض من غیض من الحقوق السیاسیّة التی أقرَّها الإسلام، والتی افترق فیها مع النظام العولمی المعاصر.

لقد اختلفت السیاسة العولمیّة فی الإسلام عن السیاسة العولمیّة المعاصرة فی جمیع المجالات، وکذلک عن الاتّجاهات السیاسیّة التی عملت العولمة الغربیّة علی الدخول من خلالها علی الدول الأخری بصورة تعسفیة، وغیر مرضیة للجمیع، وهی: مسألة حقوق الإنسان؛ لأنَّ اتباع العولمة الغربیّة یعتقدون بأنَّ النظام الغربی القائم علی مسألة حقوق الإنسان هو النظام الأمثل والنظام المتکامل الذی یوصل البشرّیة إلی بَرَّ الأمان.

وبما أنّنا تعرّضنا إلی مسألة حقوق الإنسان فی العولمة الغربیّة فی الفصل السابق، کان لابدَّ لنا من المرور - ولو بشکل إجمالی - علی هذا الموضوع وبیانه فی النظریّة الإسلامیّة.

ص:186


1- (1) . نهج البلاغة الرسائل: 53 من کتاب له لمالک الأشتر.
2- (2) . تُحَفُ العقول: 323.
رابعاً : حقوق الإنسان فی الإسلام:
اشارة

خلق الله تعالی الإنسان وجعله من أکرم المخلوقات علیه، وخلق کلَّ شیء فی سبیله، وجعله الخلیفة عن الله عزّوجلّ، فی عمارتها. وهو أجلُّ المخلوقات وأعظمها خطراً، وأبعدها أثراً، قال تعالی: وَ إِذْ قالَ رَبُّکَ لِلْمَلائِکَةِ إِنِّی جاعِلٌ فِی الْأَرْضِ خَلِیفَةً 1.

ولا یتمّ الاستخلاف عن الله إلا إذا کان هذا الإنسان یتمتّع بحقوقه الإنسانیّة الکاملة التی تجعل منه إنساناً ذا کرامة کما أراد الله تعالی له، فله حقوق تتسم بها إنسانیتّه، وتتکامل بها بشریّته أیضاً.

لقد تحدَّث القرآن الکریم عن هذه الحقوق الأساسیّة للإنسان، وکذلک السنّة المطهرة، والنصوص الدینیّة والاجتهادات الفقهیّة، وذلک منذ ولادة الدین الإسلامی الحنیف، إضافة إلی الأدیان الحقّة التی سبقت الإسلام، وذلک عبر تاریخ الأدیان علی الأرض.

التعریف بحقوق الإنسان:

عرّف بعض علماء السیاسة، حقوق الإنسان بأنّها:

جملة الضمانات التی یُعترف بها کحدًّ أدنی للکائن الإنسانی فی جمیع الظروف (1).

وربّما نستطیع القول أن حقوق الإنسان هی: مجموعة الامتیازات التی یجب أن یتمتّع بها الإنسان علی مستوی الفرد والجماعة، وبمقتضی خصائصه الإنسانیّة ألبحته فقط. (2)

وإنّا نری هذا التعریف هو الأفضل تعبیراً عن حقوق الإنسان التی نادت بها الأدیان السماویّة جمیعاً، والتی کرمه الله تعالی بموجبها دون سواه.

ص:187


1- (2) . الإسلام والقانون الدولی: 167.
2- (3) . حقوق الإنسان والعلم المعاصر: 215.

ومن هنا نستطیع أن نقسَّم حقوق الإنسان فی الإسلام إلی قسمین: الحقوق الأساسیّة والحقوق المدنیّة.

1. الحقوق الأساسیّة:

وهی الحقوق التی تکون عامة لجمیع الناس، وینظر فیها إلی شخصیّة الإنسان دون أیّ اعتبار آخر، بحیث لا یستمتع بالحیاة إنسان إلاّ أن تکون متوفرة معه أو عنده، فهی من متمَّمات منحه الحیاة التی وهبها الله للإنسان علی الأرض، وهی تشتمل علی حقوق الإنسان التی أقرَّها بیان حقوق الإنسان، والتی أهمّها:

أ). حقّ الحیاة والکرامة.

ب). حقّ الحرّیة

ج). حقّ العدل

د). حقّ حریّة التدین

2. الحقوق السیاسیة والمدنیة:

وهی التی یتمتع بها جمیع المسلمین ضمن شروط خاصّة، وهی التی تقوم علی رابطة الولاء للعقیدة الإسلامیّة. (1)

وتنقسم هذه الحقوق إلی قسمین، هی:

القسم الأوّل: الحقوق السیاسیّة:

أ). حریة الرأی والتعبیر عنه بالوسائل المشروعة، وحقّ الإنسان بالدعوة بالحکمة إلی الخیر والأمر بالمعروف والنهی عن النکر.

ب). حقّ المشارکة فی اختیار الحکام وإدارة الشؤون العامّة للإنسان فی بلاده، وتقلّد الوظائف العامّة وفق الضوابط المشروعة (2).

ص:188


1- (1) . حقوق الإنسان فی الشریعة الإسلامیّة: 51.
2- (2) . المصدر: 22.

القسم الثانی: الحقوق المدنیّة:

وتتعلَّق الحقوق المدنیة بکلَ ّ إنسان یعیش علی وجه البسیطة بعدة أمور، منها:

1. حقوق الأسرة.

2. حقوق التعلیم والتربیّة.

3. حقوق الانتماء والجنسیّة.

4. حقوق العمل والضمان الاجتماعی.

5. حقوق الکسب والانتفاع والملکیّة.

6. حقوق التقاضی.

7. حقوق التنقل واللجوء.

8. حقوق وواجبات أثناء الحروب.

9. حقوق المیت.

ولو راجعنا المصادر الأساسیّة للإسلام، لوجدناها قد ذکرت هذه الحقوق، ومن أبرزها: الآیات القرآنیّة والسنّة المطهرّة.

لقد شرَّع الإسلام حقوق الإنسان قبل أربعة عشر قرناً، ووضع لهامعیاراً یختلف عن تلک المعاییر التی وضعتها المذاهب و الدساتیر البشریّة.

وها نحن نتحدّث عن حقوق الإنسان فی بعض المصادر الإسلامیّة، وأوّل هذه: المصادر القرآن الکریم، والسنّة الشریفة.

أ). المصادر القرآنیّة:

1. فی الحیاة:

قال تعالی: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا کُتِبَ عَلَیْکُمُ الْقِصاصُ فِی الْقَتْلی 1.

قال تعالی: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا اسْتَجِیبُوا لِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاکُمْ لِما یُحْیِیکُمْ 2.

ص:189

2. فی الحرّیة:

قال تعالی: اَلَّذِینَ یَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِیَّ الْأُمِّیَّ الَّذِی یَجِدُونَهُ مَکْتُوباً عِنْدَهُمْ فِی التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِیلِ یَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ یَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْکَرِ وَ یُحِلُّ لَهُمُ الطَّیِّباتِ وَ یُحَرِّمُ عَلَیْهِمُ الْخَبائِثَ وَ یَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِی کانَتْ عَلَیْهِمْ فَالَّذِینَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِی أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِکَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ 1.

وربّما نستطیع أن نقول: إنَّ الحرّیة تعنی: القدرة علی الاختیار، وتحدید الموقف (1).

فقد جاء الإسلام لینقذ البشرّیة من براثن العبودیّة، ولیحرَّر الإنسان من سیطرة المستبدین ویحقق الحریّة للإنسان، ویحفظ له کرامته وحقّه فی الحیاة دون تمییز بین الرجل والمرأة، ولا بین الأسود والأبیض، ولا علی أساس القومیّة والجنس.

فان الآیة من سورة الأعراف، تبین لنا أنَّ من الأهداف الأساسیّة لبعثة النبیّ محمّد(صلی الله علیه و آله) هو رفع الأغلال والقیود عن البشریّة وإطلاق الحریّات، وذلک واضح فی قوله تعالی: وَ یَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِی کانَتْ عَلَیْهِمْ 3. فإنَّ معنی: وَ یَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ هو: یرفع عنهم القیود والموانع التی تقیدّهم، وتشلُّ إرادتهم وحریتهم، التی یستطیعوا من خلالها الوصول إلی سعادتهم الدنیویّة والأخروّیة؛ لأنَّ الأغلال هی القید التی تشلّ حرکة الإنسان.

قال تعالی: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِیَعْبُدُونِ 4، وقال تعالی وَ ما أَدْراکَ مَا الْعَقَبَةُ* فَکُّ رَقَبَةٍ 5.

ص:190


1- (2) . الثقافة السیاسیّة الإسلامیّة: 104.

3. فی المساواة بین البشر والعدل:

فی تکریم الله تعالی للإنسان قال تعالی: وَ هُوَ الَّذِی أَنْشَأَکُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ 1 ، یا أَیُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْناکُمْ مِنْ ذَکَرٍ وَ أُنْثی وَ جَعَلْناکُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَکْرَمَکُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاکُمْ 2 ، وَ لَقَدْ کَرَّمْنا بَنِی آدَمَ وَ حَمَلْناهُمْ فِی الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ 3، وکذلک فی بعثة النبی الأکرم(صلی الله علیه و آله) للبشریة. قال تعالی: وَ ما أَرْسَلْناکَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِینَ 4، وأیضا کانت نظرة العدل والمساواة للإسلام نظرة عادلة لجمیع أبناء الجنس البشری فی الأرض والدین قال تعالی: إِنَّ الْأَرْضَ لِلّهِ یُورِثُها مَنْ یَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِینَ 5 وقال تعالی: لا إِکْراهَ فِی الدِّینِ 6.

ب). المصادر النبویّة:

لو راجعنا مسألة حقوق الإنسان فی السنّة الشریف بحثاً عن ما قیل حول حقوق الإنسان، لوجدنا الکثیر من الأحادیث الصادرة عن النبیّ(صلی الله علیه و آله) وأهل بیته(علیهم السلام)، إضافة إلی الکتب الکثیرة التی تطرّقت إلی حقوق الإنسان من قِبَل العلماء والمحققین التابعین إلی مذهبهم(علیهم السلام).

ویکفی ما کتبه الأمام زین العابدین(علیه السلام) فی رسالته، التی سمیّت ب- : رسالة الحقوق.

ونذکر شاهداً واحداً من تلک النصوص الحدیثیّة، وهو ما جاء فی سیرة ابن هشام أنّ رسول الله(صلی الله علیه و آله) خطب فی حجّة الوداع فقال:

أیّها الناس إنَّ ربکم واحد، وأنّ أباکم واحد، کلکم لآدم وآدم من تراب، إنّ أکرمکم عند الله اتقاکم. (1)

ص:191


1- (7) . السیرة النبویة: 2.

نظریّة الدولة، والدولة العالمیّة فی الإسلام

نظریّة الدولة فی الإسلام:

بعد أن تحدّثنا عن مفهوم السیاسة فی الإسلام، وعرفنا أنّها قضیّة حیویّة فی حیاة الإنسان وضرورة حضاریّة ومدنیّة فی المجتمع الإنسانی لازمت حیاته منذ فجر التاریخ، فمن الضروری أن نعرف:

کیف نشأ المجتمع السیاسی؟

وکیف وُجد؟

لأنّ الدولة تمثل ظاهرة تاریخیّة، وفی ذات الوقت تمثل ظاهرة سیاسیّة، فهی من ناحیة تمتدّ فی عمرها الزمنی إلی أعماق التاریخ والی عهود قدیمة جدّاً من عمر الأمم الإنسانیّة، وهی لذلک تعبر عن ظاهرة تاریخیّة، ومن حیث أنّها ظاهرة فی المجتمع السیاسی، بل هی خاصّته الممیزة له عن المجتمعات البدائیّة البسیطة، تعتبر من هذه الناحیة ظاهرة سیاسیّة.

ولکی یکون ذلک واضحاً لدینا لابدَّ أن نبدأ بتعریف الدولة، وننظر إلی کیفیّة نشوء المجتمعات الإنسانیّة؟ وذلک لأنّ الساسة والمفکّرین وعلماء التاریخ، والاجتماع، وعلم النفس الاجتماعی من الإسلامییّن وغیر الإسلامیین، لهم نظرات متعدّدة فی فهم وتحلیل المجتمع البشری وکیفیة نشوء الدولة.

وقد بحث المفکّرون الإسلامیّون، وعلماء الإسلام ذلک مفصلاً، فبلوروا النظریّات الإسلامیّة المفسرّة للطبیعة البشریّة، ونشأة المجتمع السیاسی والدولة.

وما یهمّنا فی هذا البحث هو التطرّق إلی بحث الدولة فی النظریّة الإسلامیّة، وعرض النظریّة الإسلامیّة للدولة، مع المرور السریع علی بعض الآراء والنظریّات غیر الإسلامیّة. لکن قبل ذلک لابد لنا أوّلاً أن نعرَّف مصطلح الدولة.

تعریف مصطلح الدولة:

قبل أن نبدأ بمصطلح الدولة یجب القول بأنَّ کلمة الدولة جاءت فی

ص:192

المصطلح السیاسی بأکثر من معنی:

1. فهی تأتی بمعنی الحکومة، ویراد بها: الجهاز السیاسی الحاکم، فیُقال مثلاً: صلاحیات الدولة ومسؤولیاتها، وطریقة اختیارها، ومشروعیتّها، ونوعها، وفی کلّ هذه الاستعمالات یکون المقصود بالدولة نفس الجهاز الحاکم.

2. وأیضاً تأتی الدولة بمعنی: الأمة ذات الکیان السیاسی، فیقال مثلاُ الدولة الإسلامیّة، والدولة الأوربیة، ویقصد بها هنا: مجموع الکیان السیاسی الذی تکونه الأمّة، وجهاز الحکم.

ونحن فی هذا البحث ربّما نتطرّق لکلا المعنیین - أی: ربّما یکون الکلام حول الحکومة التی تتولّی السلطة فی بقعة ما- أو یکون الکلام حول الدولة ککیان قائم بمجموعة من الناس، وأمّة من الأمم.

فنحن فی ظاهرة الدولة أمام بحثین:

الأوّل: یتعلّق بظاهرة نشوء الدولة.

والثانی: البحث حول الحکومة الحاکمة لهذه الأمة، علی مستوی النظام الحاکم.

فعن البحث الأوّل: نظریّة نشوء الدولة، وجدت عدّة نظریّات نحاول المرور بها، ولو بنحو من الاختصار المفید.

النظریّة الإسلامیّة للدولة:

إنَّ الدستور الإسلامی والنصوص الروائیة الشریفة، کأنّ الکلام فیها یأخذ طابعاً إنسانیا بحتاً، ینبع من صمیم الإنسانیّة، والفطرة البشریّة، لأنَّ الدولة ظاهرة رئیسیّة فی حیاة الإنسان. وقد نشأت هذه الظاهرة علی ید الأنبیاء والرسالات السماویّة، واتخّذت صیغتها السوّیة ومارست دورها السلیم فی قیادة المجتمع الإنسانی، وتوجیهه من خلال ما حقّقه الأنبیاء فی هذا المجال من تنظیم اجتماعی قائم علی أساس الحقّ والعدل، یستهدف الحفاظ علی وحدة

ص:193

البشریّة وتطویر نموّها فی مسارها الصحیح (1).

لقد تحدَّث القرآن المجید فی الفطرة البشریّة، والمجتمع الفطری وعن کیفیّة نشأة المجتمع الإنسانی المدنی أو السیاسی، وسبب نشوء هذا المجتمع المنظم بالشریعة والقانون الإلهی، فوضع الأسس البیانیة لذلک، کما فی قوله تعالی:

أوّلاً: کانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِیِّینَ مُبَشِّرِینَ وَ مُنْذِرِینَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْکِتابَ بِالْحَقِّ لِیَحْکُمَ بَیْنَ النّاسِ فِیمَا اخْتَلَفُوا فِیهِ وَ مَا اخْتَلَفَ فِیهِ إِلاَّ الَّذِینَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَیِّناتُ بَغْیاً بَیْنَهُمْ فَهَدَی اللّهُ الَّذِینَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِیهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَ اللّهُ یَهْدِی مَنْ یَشاءُ إِلی صِراطٍ مُسْتَقِیمٍ 2.

إنّ من الظاهر فی هذا النص أنّ الناس کانوا أمّة واحدة، یسودهم الحبّ والوئام من خلال الفطرة الإنسانیّة، بحیث کان العامل المشترک فیما بینهم فی هذه الحیاة البدائیة هی الفطرة، فکانت هناک تصوّرات بسیطة غیر معقدة للحیاة.

وفی هذه المرحلة ظهرت فکرة الدولة علی ید الأنبیاء، وقام الأنبیاء بدورهم فی بناء الدولة السلیمة، ووضع الله تعالی أسسها وقواعدها، کما لاحظنا فی الآیة الکریمة، لکن فی مرحلة من الزمن دبَّ الاختلاف بین الناس، ولم یکن هذا الاختلاف اختلافاً فطریّاً، بل کان نتیجة للعوامل المصلحیّة التی نتجت عن التطوّر الحاصل فی جمیع مجالات الحیاة.

ثانیاً: وَ ما کانَ النّاسُ إِلاّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَ لَوْ لا کَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّکَ لَقُضِیَ بَیْنَهُمْ فِیما فِیهِ یَخْتَلِفُونَ. 3

ففی هذه الآیة أیضاً یبین الله تعالی کیفیّة نشوء المجتمعات الإنسانیّة الفطریّة، البدائیة فی المراحل الأولی من نشوئها، فقد مرّ علینا أن الفلاسفة غیر

ص:194


1- (1) . الإسلام یقود الحیاة: 13.

الإسلامییّن، والکتاب منهم بمختلف مدارسهم، یرون أنّ الإنسان قد مر بمرحلتین فی حیاته علی هذه الأرض، هما:

أ). مرحلة الحیاة الطبیعیة، أی: الفطریّة.

ومرحلة الجماعة السیاسیّة: وهی المرحلة التی انتقل إلیها الإنسان فیما بعد.

وهنا یختلف الرأی الإسلامی فی بعض جوانبه عن هذا التحلیل للمجتمع الإنسانی، والحیاة الفطریّة، فإنّ الدراسات الإسلامیّة - کما سوف یتّضح لنا - تری أنّ المجتمع لبشری واعتماداً علی دلالة الآیة (1) قد مر بثلاث مراحل، وهی:

1. مرحلة الوحدة والوئام: فقد کانت حیاة الإنسان فی تلک المرحلة حیاة بدائیّة یسودها الحبّ، والسلام، حیاة حرّیة ووئام، وذلک لأنّ الفطرة هی الحاکمة فی ذاک الوقت. وهذا ما یفهم من منطوق من الآیة المبارکة: کانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً.

2. مرحلة الاختلاف والصراع: وهی المرحلة الثانیة التی عاشتها البشریّة بعد المرحلة الأولی، وقد وضّح القرآن الکریم ذلک فی الآیة: لِیَحْکُمَ بَیْنَ النّاسِ فِیمَا اخْتَلَفُوا فِیهِ، أی: أنَّ فی هذه المرحلة ساد الناس الصراع، والنزاع، والعدوان والاختلاف فیما بینهم، نتیجة التطوّرات الحیاتیّة، فدبَّ النزاع نتیجة ذلک، فیتغلب فیها القوی علی الضعیف، ویتسلّط علیه، کحیاة الغاب والوحوش؛ وذلک لأنَّ الطبیعة البشرّیة تحمل الاستعداد لفعل الخیر والشر. وقال تعالی: وَ نَفْسٍ وَ ما سَوّاها* فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها 2.

3. مرحلة وجود القانون والنظام الإلهی (مرحلة بعث الأنبیاء) قال تعالی: کانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِیِّینَ مُبَشِّرِینَ وَ مُنْذِرِینَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْکِتابَ بِالْحَقِّ لِیَحْکُمَ بَیْنَ النّاسِ فِیمَا اخْتَلَفُوا فِیهِ، وهی مرحلة القانون الإلهی ومرحلة

ص:195


1- (1) . البقرة: 139.

إیجاد العدل الاجتماعی، فبعث الله الأنبیاء لرفع الخلاف فیما بین الناس.

یتّضح لنا الفارق بین تحلیل ودراسات الفریقین من الکتاب والمفکّرین غیر الإسلامییّن، أمثال: روسو، ولوک، هوبز، وبوسیه، ورأیهم فی الحیاة البدائیّة للإنسان القائل: بأنّها حیاة خیرة أو شریرة؛ ثمّ الانتقال إلی المرحلة السیاسیّة المدنیّة. ویتّضح الفارق فی ذلک بین الرأی الإسلامی الذی یری أنَّ المرحلة الأولی مرحلة خیر وفطرة، بینما کانت المرحلة الثانیة مرحلة المصالح والمطامع، المرحلة الشریرة. ولم یتحدّث أیٌّ من الفریقین عن هذه المرحلة، وقد أوضح العلاّمة الطباطبائی الرأی الإسلامی بقوله:

والآیة تبین السبب فی تشریع أصل الدین وتکلیف النوع الإنسانی به، وسبب وقوع الاختلاف فیه ببیان أَنَّ الإنسان - وهو نوع مفطور علی الاجتماع والتعاون - کان فی أوّل اجتماعه أمّة واحدة، ثمّ ظهر فیه بأصل الفطرة الاختلاف فی اقتناء المزایا الحیویّة، فاستدعی ذلک وضع قوانین ترفع الاختلافات الطارئة، والمشاجرات فی لوازم الحیاة فلبست القوانین الموضوعة لباس الدین، وشفعت بالتبشیر والإنذار بالثواب والعقاب، وأصلحت بالعبادات المندوبة ببعث النبیین وإرسال الرسل، بالتبشیر والإنذار بالثواب والعقاب، ثمّ اختلَّ بذلک أمر الوحدة الدینیّة، وظهرت الشعوب والأحزاب، وتبع ذلک الاختلاف فی غیره.

ولم یکن هذا الاختلاف الثانی إلاّ بغیاً من الذین أوتوا الکتاب وظلماً وعتوّاً منهم، بعد ما تبین أصوله ومعارفه، وتمت علیهم الحجّة.

فالاختلاف اختلافان: اختلاف فی أمر الدین، مستند إلی بغی الباغین دون فطرتهم وغریزتهم.

والثانی اختلاف فی أمر الدنیا وهو فطری، وسبب لتشریع الدین ثمّ هدی الله سبحانه المؤمنین إلی الحقّ (1).

إذاً: کانت الدولة هی واحدة من القضایا الضروریّة والأساسیّة والحتمیّة لتکون المجتمعات البشریّة، والتی تجعل المجتمع آمناً ومتماسکاً؛ لوجود

ص:196


1- (1) . المیزان: 2 / 111.

روابط ومشترکات عدیدة، ومنها اللغة والموارد الاقتصادیّة، وکذلک العادات والتقالید التی تربط المجتمعات فیما بینها.

لکن مع ظهور المستجدّات التی رافقت العولمة السیاسیّة من الفکر الإسلامی المعاصر، علی أن العولمة سوف تؤدّی إلی تفکیک الدولة والتفریق بین المجتمعات البشریّة، والی هشاشة الدولة، فلم تعد متماسکة أمام القوی العظمی التی تسیطر علی مصادر الطاقة الرئیسیّة فی العالم، والتی تسیطر علی التیارات العالمیّة فی الاقتصاد والثقافة والسیاسة.

تعریف الدولة:

إنّ تعاریف الدولة کثیرة، ومتعدّدة، نُورد قسماً منها:

تعنی کلمة الدولة فی اللغة: الاستیلاء والغلبة، الشیء المتداول.

وإذا کان هذا هو تعریف الدولة اللغوی، فإنَّ کُتّاب الفکر السیاسی ورجال القانون الوضعی قد عرّفوا الدولة بتعاریف عدیدة، عدّها بعضهم بمائة وخمسة وأربعین تعریفاً، منها:

1. جمع کبیر من الأفراد یقطن بصورة دائمة إقلیماً معیّناً، ویتمتّع بالشخصیّة المعنویّة، وبنظام حکومی وبالاستقلال السیاسی (1).

2. بعض رجال الفقه: الدولة، تشخیص قانونی للأمة (2).

3. وعرّفها الدکتور محمّد حلمی بقوله: فالدولة، کما رأینا، مجموعة من أفراد مستقرّة علی إقلیم معیّن، وتسیطر علیهم هیئة حاکمة تتولی شؤونهم فی الداخل والخارج (3).

وبذلک نستطیع القول تارةً بأنَّ الدولة، هی تشخیص قانونی للأمّة، وتارةً بأنّها

ص:197


1- (1) . الثقافة السیاسیّة فی الإسلام: 50.
2- (2) . النظُمُ السیاسیة: 85.
3- (3) . الثقافة السیاسیّة الإسلامیّة: 50.

عبارة عن الأمّة المستقرّة، فی إقلیم معیّن والخاضعة لهیئة حاکمة.

ومن خلال النصوص القرآنیّة التی تطرّقت إلی، الإمامة والسلطة والشریعة، والعهود والمواثیق، وولایة الأمر، والملکیة، وصلاحیات الحاکم، نستطیع أن نثبت للدولة شخصیّة اعتباریّة؛ وذلک من خلال تعریفنا لها بأنّها:

کیان سیاسی، ذات شخصیة اعتباریة، یتعامل معها القانون، کجهة صالحة، لتحمل الواجبات، واکتساب الحقوق. (1)

الدولة الإسلامیّة

تعریف الدولة الإسلامیّة:

عُرَّفت الدولة الإسلامیّة بأنّها: الدولة التی تقوم علی أساس القانون الإسلامی، وتستمدّ تشریعاتها منه، وبهذا التعریف نستطیع أن نمیزّ بین الدولة الإسلامیّة وغیرها من الدول، سواء القائم منها فی البلدان الإسلامیّة، أم الأخری القائمة فی البلدان غیر الإسلامیّة.

قال القاعدة الفکریّة التی تقوم علیها الدولة، هی التی تحدَّد هویتها واتّجاهها فی الحیاة، وتمنحها التسمیة والنوعیّة السیاسیّة.

فالدولة التی تقوم علی أساس النظام الإسلامی وتتخذه قاعدة فکریّة ومصدر التشریع والتقنین ومنهجاً للحکم، هی الدولة الإسلامیّة. أمّا الدولة التی تتخذ النظام الاشتراکی قاعدة فکریة ودستوراً للحکم، فهی دولة اشتراکیّة وکذلک الرأسمالیّة، فالذی یحدَّد هُویّة الدولة هو النظام الذی تسیر وفقه، لا المکان، أو أیّ شیء آخر، فمثلاً: نجد الکثیر من دول العالم الإسلامی تحکمها الیوم أنظمة اشتراکیّة، ومارکسیّة، تحت شعارات عدّة، منها: الدیمقراطیّة والحرّیة، وما شابه ذلک، وتنصّ دساتیر تلک الدول علی هُویتّها السیاسیّة.

وبذلک فهی لیست دول إسلامیّة، إنّما الدول الإسلامیّة هی الدول التی

ص:198


1- (1) . المصدر: 50.

تتّخذ الإسلام قاعدةً فکّریة و نظاماً اجتماعیاً لها، وتستمد من التشریع الإسلامی قوانینها، وتحمل روح الإسلام وأهدافه.

وقال تعالی: وَ مَنْ لَمْ یَحْکُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِکَ هُمُ الْکافِرُونَ 1.

وقال تعالی: وَ أَنَّ هذا صِراطِی مُسْتَقِیماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِکُمْ عَنْ سَبِیلِهِ 2.

وقال تعالی: أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْکِتابِ وَ تَکْفُرُونَ بِبَعْضٍ 3.

لکن ما یریده الغرب هو تجرّد المسلمین من أیّ قوّة یمکن الاستناد إلیها حتّی وان کانت هذه القوّة هی الدستور الذی تسیر علیه هذه الدولة، حیث یعدُّ الفکر الإسلامی الدولة القوّیة ألأرکان والسلیمة القیم، هی الدولة التی تستطیع الوقوف بوجه التحدّیات الخطیرة التی تواجه العالم الإسلامی فی عقیدته وشریعته، وثورته وسیاسته، واقتصاد، وثقافته، وأمنه (1).

وبعد هذا الطرح للعولمة نقول: إنَّ مکانة الدولة فی العالم الإسلامی هی مکانة عالیة لأنّها تمثّل الکیان الجامع للأمم، والمحافظ علی النسق الطبیعی للحضارات؛ ولأنّ تکامل الحیاة متوقف علی قیامها وهی ضرورة عملیة وشرط أساس لبلورة الحقیقة الإیمانیّة، وتجسید القیم والمبادئ الإسلامیة وانعکاس مباشر للنموّ الوجدانی والتنظیمی للأمّة (2).

ولأجل ذلک أبعد النظام الإسلامی أیّ فکرة من الممکن أن تفرض علیه الحدَّ من دور الدولة، علی وفق ما یریده الغرب تحت نطاق التطوّر الفکری فی جمیع المجالات.

وعلی أساس ذلک عدَّ الإسلام الدولة ودورها - المراد تهمیشه - ضرورة

ص:199


1- (4) . الحرکة الإسلامیة هموم وقضایا: 351.
2- (5) . الدولة الإسلامیة بین الإطلاق المبدئی والتقید النموذجی: 138.

حتمیّة وشرعیّة، وقضیّة الأمّة التی أرادت أن تطبق الشریعة الإلهیّة الحقّة؛ لأنّها فی مفهومها الشامل تشرف علی قضایا فی جمیع المجالات الحیاتیّة، وبناءً علی ذلک یتضح مدی أهمیّة الدولة فی المنطق والأساس الفکری الإسلامی، إلی حدًّ عدَّها من ضرورّیات تقویم المجتمع واستقراره، ودعوی تهمیش الدولة و دورها ما هو إلاّ سوی دعوة صادرة من أساسیّات الفکر الغربی الذی یعدُّها شّراً لابدَّ منه؛ لأنه عد الدولة عائقاً کبیراً أمامه لتحقیق أهدافه التوسعیة غیر الشرعیّة وتحت إطار العولمة (1).

عالمیّة الإسلام الثقافیّة

تمثَّل الثقافة التراث الفکری الذی تتمیّز به الأمم عن بعضها، وتختلف طبیعة هذه الثقافة وخصائصها بین مجتمع وآخر، نظراً للارتباط الوثیق الذی یربط بین واقع الأمّة وتراثها الفکری والحضاری الذی تتمتّع به. وهذه الثقافة تنمو مع النموّ الحضاری للأمّة وتتراجع مع التخلّف الذی تُصاب به تلک الأمّة؛ ولذا فإنَّ ثقافة الأمّة تعبَّر عن مکانتها الحضاریّة التی وصلت إلیها.

وإذا کانت تعبّر عن الخصائص الحضاریّة والفکرّیة التی تمتاز بها أمّة ما، فإننّا نلاحظ أنّ الثقافات المختلف تلتقی مع بعضها فی کثیر من الوجوه، کما أنَّ هذه الثقافات المختلفة تتلاقح فیما بینها عن طریق الامتزاج واللقاء بین الشعوب فتتفاعل مع بعضها فیؤدّی هذا التفاعل إلی تأثیرات جزئیّة أو کلّیّة فی طبیعة هذه الثقافات وفی خصائصها.

فالثقافة علی اختلاف الحقب التاریخیّة، تمثَّل شخصیة الأمّة وملامحها الفکّریة ضمن الدائرة الفکّریة والعقائدیّة التی تنطلق منها ممثلة خصائصها. (2)

ص:200


1- (1) . الفکر الإسلامی المعاصر والعولمة: 141.
2- (2) . مشکلات فی طریق الحیاة الإسلامیّة، کتاب الأمة، ع: 1/ 46.

بلغتها وأدبها وفنونها التی طبعت بها، کما أنّها أسلوب حیاة الأمّة، الذی یحدّد تراثها الفکری والحضاری (1).

فالثقافة إذاً: مثَّلت الأمّة وحدّدت شخصیاتها وجعلتها تسیر علی وفق اتّجاهات مرسومة الأهداف: طبقاً لما یسود مجتمع تلک الأمّة من العقائد والمبادئ والقیم، الأخلاقیّة التی تظلّ مسایرة للأمّة طوال سیر حرکتها الدائبة (2).

ولکن السؤال هو: هل یمکن أن تشترک الأمم البشرّیة جمیعاً، بثقافة واحدة غریبة البیئة، مختلفة المبدأ والمنطق الحیاتی لها؟

بالطبع أن الجواب قاطع بالرفض...

لأنَّ الله سبحانه وتعالی خلق جمیع الأمم مختلفة علی وفق الطبیعة البشریّة: وَ جَعَلْناکُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا 3، فإنَّ الله تعالی قد أقرَّ هذا الاختلاف من دون إلغاء کلّ منهم للآخر.

الملامح العامّة للثقافة الإسلامیّة:

اشارة

تُطلق الثقافة الإسلامیّة علی التراث الفکری الذی خلَّفته الحضارة الإسلامیّة من جمیع جوانبه: الدینی والفلسفی، والتشریعی واللغوی، والأدبی والفنی، وهذا التراث انبثق من التصوّر الشامل الذی کوّنه الإسلام فی المجتمع الإسلامی، والذی یستمدّ حقیقته من القرآن الکریم الذی یمثَّل المصدر الأساسی والرئیسی لجمیع أوجه التراث الحضاری للأمّة الإسلامیّة.

وعندما جاء الإسلام أراد أن یعطی للمسلم تصوّراً شاملاً عن الحیاة وطبیعتها، والوجود ومکانة الإنسان فیه، ونوعیّة النظام الذی یجب أن یحکم المجتمع البشری. وکانت غایة الإسلام من إعطاء هذا التصور

ص:201


1- (1) . نحو ثقافة إسلامیّة أصیلة: 27.
2- (2) . المصدر: 26.

الشامل هی إیجاد أمّة ذات طابع خاصّ تتمیّز به عن سائر الأمم، بحیث تحقق المنهاج الإلهی الذی أراده الله للإنسان لینقذ المجتمع البشری من حافة التیه والضیاع ولهذا شعرنا أنّ الجماعة الإسلامیّة الأولی قد تکّیفت تکیفاً صحیحاً وکاملاً مع التصوّر الشامل الذی قاده إلیه الإسلام، وأصبحت تتحرّک فی حیاتها طبقاً لذلک الهدف الواضح والشامل، فقدمت بذلک للمجتمعات البشریّة الأخری نموذجاً فریداً، لم یعهده التاریخ الإنسانی، وکلّ ذلک لامتیاز الثقافة الإسلامیّة بشخصیّة متمیّزة من حیث مصادرها ومقوّماتها وخصائصها وأهدافها.

فالثقافة الإسلامیّة لها أسس ترتکز علیها، ومنطلقات تنطلق منها، وخطوط عریضة تتحرّک علی هداها، وهذه الأسس والمنطلقات تتمیّز عن غیرها من الثقافات التی عرفتها البشریّة فی تاریخها الطویل.

ونحن هنا فی هذا الموجز لا نستطیع تفصیل القول لهذه الأسس والمنطلقات، بل یکفینا منها ما یساعدنا علی تصور الطابع العام لهذه الثقافة، واستشراف ثمارها فی التطبیق فی زمن برزت فیه الکثیر من الثقافات لتکون متقدّمة علی الثقافات الأخری، قبل أن تکون نهباً لثقافات شتی ترید أن تکون الموجَّه لمسیرة الإنسانیّة لذلک.

ویُدرک کلُّ متتبع لجوانب هذه الثقافة هذا التمیز الذی أعطی لثقافتنا عمقا حضاریّاً أصیلاً، وطابعاً إنسانیّاً معتدلاً، ونظرةً للوجود شاملةً وکاملةً، ومن هذه الأسّس والمنطلقات:

أوّلاً: التوحید:

هذا هو الأساس الأوّل لکلّ نظرة فی الإسلام، وکلّ علم فیه، فالعودة إلی الأصل وإلی الخالق البارئ المصوَّر فی کلَ ّ حرکة من حرکات الإنسان

ص:202

المسلم، تُعدُّ العلاقة الممیّزة لمن ینتمی إلی هذا الدین، دین التوحید الصافی، والعبودیّة الحقّة.

فالله سبحانه هو القادر علی کلّ شیء، لا إله إلاّ هو، له الملک یُحی ویُمیت، وهو مصدر کلّ حقّ وخیر وجمال، وإرادته هی التی تحدَّد غایة وجود الکائنات، وهی القانون الذی یحکم الکون والمخلوقات، ویقنَّن السلوک والأخلاق: یُسَبِّحُ لِلّهِ ما فِی السَّماواتِ وَ ما فِی الْأَرْضِ 1، لَهُ مَقالِیدُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ 2، له صفات الجمال والکمال کلّها: وَ لِلّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنی فَادْعُوهُ بِها 3 ، منزَّه عن کلَ ّ نقص وسلب یدبرَّ الکّون أرضه وسماءه وخلقه.

إذاً: التوحید هو الأساس الأول الذی یبتنی علیه التصور الإسلامی والثقافة الإسلامیّة؛ لأن ما بعده معتمد علیه ومستمدّ منه کلّ درجات البناء فی طریق التکامل والعطاء والتفاعل.

ثانیاً: الوحدة:

إنَّ الأساس التوحیدی السابق تنبعث منه وحدة فی النظر إلی النظام الکونی علی أنّه یتکوّن من قوانین تسری فی مجال الطبیعة، وفی مجال النفوس والاجتماع، فی مجال کذلک کلّ کائن یوجد، وکلّ حدث یقع فی الکون إنّما یتمُّ علی ما أراده الله وقدرته وحکمته، وبما أودع فی کلّ کائن من طبع وقوع، وما خصّ به کلّ نفس إنسانیّة من إرادة وطبع وقوّة، تمکنّها من الأداء والسعی والعطاء والتغیر وفق ما اقتضت کلّیات حکمة الله تعالی وإرادته (1).

ص:203


1- (4) . قضایا إسلامیّة معاصرة: 173.

کما تنبعث منه وحدة فی النظر إلی الخلیقة علی أنَّ مصدرها واحد، وهو خالقها الذی جعل لها غایة من خلقها وقدّر لها الأسباب، ودعاها للعمل وفق هذه الأسباب، فلیس هناک عبث، ولیس هناک صدفة عمیاء، کما نلاحظ فی الأطروحات المادیّة.

کما ینعکس هذا الأساس علی النظر إلی وحدة الحیاة، ووحدة المعرفة، ووحدة الإنسانیة، حیث یکون المصدر الواحد: وَ هُوَ الَّذِی أَنْشَأَکُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ 1.

ویکون هذا الائتلاف الذی انطبعت به المعرفة بین الوحی والعقل، وتکون العلاقة الإلهیّة بکل خلقه باعتبارهم خلقه، ولابدَّ أن یرتبطوا به جمیعاً، ولا فرق بینهم إلاّ بالتقوی والعمل الصالح: یا أَیُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْناکُمْ مِنْ ذَکَرٍ وَ أُنْثی وَ جَعَلْناکُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَکْرَمَکُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاکُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِیمٌ خَبِیرٌ 2.

وینتقل هذا النظر من العلاقة بین الله وعباده إلی العباد أنفسهم فی أنظمتهم الاجتماعیّة والسیاسیّة والاقتصادیّة علی أنّهم سواء فی الحقوق والواجبات إلاّ ما تقتضیه العناوین الجانبیّة من خصوصیّات فی الوظائف، علی نحو لم یوجد له مثیل فی جمیع الأنظمة البشریّة، کما نلاحظ روح العنصریّة والاعتداد بالجنس واللون والدم، وروح الغرور والاستکبار الذی یطغی علی حیاة الأغنیاء الیوم.

وهذه الوحدة تذوب معها القیم القومیّة واللونیّة، والمراتب الاجتماعیّة والاقتصادیّة إلاّ فی حدودها الشرعیّة والإنسانیّة، وبهذا یکون التوحید ثقافة توحیدیّة تتمثلّ فی الرؤیة للخالق والکون والعلاقات بین الناس فی تجانس رائع بین الخالق وخلقه، وبین الخلق أنفسهم.

ص:204

ثالثاً: تکریم الإنسان:

تُعدُّ قضیة تکریم الإنسان قضیّة مرکزیّة فی الثقافة الإسلامیّة، وهذا مستند إلی ما أعطاه الله للإنسان من مواهب وقدرات ومسؤولیّات، جعلته مکرَّماً عنده، بحیث فاقت منزلته منازل کلَ ّ ما خلق من کائنات حتی ملائکته المقرّبین، فقد کرّمه بهذه الکرامة التی لم یمنحها لمخلوقٍ قبله: إِنّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَی السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ فَأَبَیْنَ أَنْ یَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ کانَ ظَلُوماً جَهُولاً، 1 فأصبح بهذا المبدأ خلیفة الله تعالی فی هذا العالم الفسیح: إِنِّی جاعِلٌ فِی الْأَرْضِ خَلِیفَةً 2.

ویترتّب علی مبدأ الخلافة هذا مفاهیم أساسیّة من الأمانة والاستقامة والعدل فی المعاملات، وإقامة النظم الاجتماعیّة والاقتصادیّة وشؤون الحیاة کافة.

وبهذه النتیجة تمَّ تحمُّل المسؤولیّة والاستخلاف، فلیس بعد هذا التکریم تکریماً: وَ لَقَدْ کَرَّمْنا بَنِی آدَمَ وَ حَمَلْناهُمْ فِی الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّیِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلی کَثِیرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِیلاً 3.

فکیف لمن أُعِطی هذه السیادة ولم یکن سیداً للکون؟

کما تلحد به هذه النظریّات العولمیّة المعاصرة التی ألّهت هذا الإنسان، وألغت مبدأ الربّانیّة والتوحید والسیادة الإلهیّة، فجعلت الإنسان یعانی من الوحدة والانشطار والضعف فی جمیع مبادئه التی تربطه بالله تعالی.

رابعاً: الأخلاقیّة:

وهذا مبدأ من المبادئ الهامّة فی الثقافة الإسلامیّة، والذی ینبثق من مبدأ التکریم الإلهی للإنسان وجعله محور هذا الکون ومرکزه، فهو خاضع للتوجیه

ص:205

الإلهی وما الرسالات التی بعث الله بها أنبیاءه ورسله، إلاّ دساتیر أخلاق ونظم فی الاجتماع للأفراد والأمم.

فحین قال تعالی: کُنْتُمْ خَیْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْکَرِ 1.

لم یفهم الناس من هذا التوجیه أنّه حدیث عن أمّة من الأمم باعتبار جنسها أو لونها، بل باعتبار أنّ أصحابها خیر أصحاب دین وأخلاق، وأصحاب مشروع یقود الإنسانیّة إلی السموّ الأخلاقی، ولا یهبط بها نحو مدارج الحیوانیّة وشهواتها، کما تفعله العولمة المعاصرة، من إیصال العالم إلی الإباحیّة فی أعلی مستویاتها، وبجمیع أنواع الخلاعة والمجون.

خامساً: التعایش والتسامح:

إنَّ ملامح الثقافة الإسلامیّة هی حلقة تفضی إلی حلقة أخلاقیّة یترشح منها انجازات البشریّة علی مدی الزمان والمکان؛ وذلک یعنی النضوج والأخلاقیّة التی تفضی إلی التسامح وروح التفاعل مع الثقافات الأخری للأمم والشعوب، إنَّ الثقافة الإسلامیّة تنظر إلی التنوع علی أنّه سُنَّة إلهیّة فی الخلق، وأنّه لا یمکن للإنسانیّة مع تنوّع مراحلها وبیئتها ومصادر ثقافتها أن تفکّر بطریقة واحدة فی جمیع أمورها الحیاتیّة والأخرویّة.

وهذا واقع البشریّة .. أدیان... مذاهب.... ثقافات... فلسفات شتی... وهذا لا یلغی المبادئ التی أشرنا إلیها فی التوحید ولا یتضادّ مع الوحدة، وهذا التلون والتنوع لا یتنافی مع النظرة إلی التوحید الخالص، فاختلاف الألوان والألسنة والأجناس والثقافات لا یمنع البشریّة من أن تتعایش وأن تتحابب وتتعارف، فلیس التنوع من أجل الحروب والاقتتال، بل من أجل التعارف:

ص:206

یا أَیُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْناکُمْ مِنْ ذَکَرٍ وَ أُنْثی وَ جَعَلْناکُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَکْرَمَکُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاکُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِیمٌ خَبِیرٌ 1.

وهذا تاریخ الإسلام، یقبل غیر المسلمین کأعضاء فی المجتمع الإسلامی، ولم یضع أیّة قیود علی العقائد ما دامت نابعة من الأدیان السماویة التی یعتزُّ بها والتی جاء لیکملها (1).

ومن المعلوم أنَّ الإسلام بعد أنّ التقی بمبادئه فی جمیع القارات وتفاعل مع الثقافات الأخری للشعوب القدیمة والحدیثة، وعدّل فیها وطوّرها، کما أنّه أخذ منها فی مجالات شتی، ما عدا ما یمسُّ العقیدة والرؤی التوحیدیّة والثوابت الأساسیّة فی منهجه.

هکذا تفاعل المسلمون مع: الثقافة الهندیّة والفارسیّة، والیونانیّة فی مراحل التفاعل، وکان المشترک الإنسانی قاسماً بین الثقافة الإسلامیّة وتلک الثقافات (2).

سادساً: التعادل، التوازن، التکامل، الوسطیّة:

جمیع هذه المفردات لها معانی متقاربة فی اللغة العربیّة، وللثقافة الإسلامیّة الحظُّ الأوفر منها والنصیب فیما نحن بصدده.

فالثنائیة المعروفة فی کلّ من: العقل والوجدان، العقل والنقل، العقل والوحی، الشهادة والغیب، الروح والمادّة، الفردیّة والجماعیّة، الدنیا والآخرة، قد ینظر إلیها فی بعض الاتّجاهات الفکّریة علی أنّها أمور متضادّة لا تجتمع، وإنَّ لکلّ منها نهجه ومساره، وإنّها لا یمکن أن تلتقی علی فهم نظری واحد، أو منهج واحد لعلاج الواقع. (3)

ص:207


1- (2) . مجلة عالم الفکر: 10، ع:10 / 2.
2- (3) . الغزو الفکری وهم أم حقیقة: 19.
3- (4) . قضایا إسلامیّة معاصرة: 180.

وللإسلام فی هذه الثنائیة خصوصیّته وتفرده، فهو لا ینظر إلیها علی نحو التضاد، بل یراها بعین التعادل والتوازن، والتکامل، بمعنی أنَّ طرفی المعادلة لا یلغی الآخر أو ینحیه، بل لا یقوم إلاّ به، فالعقل لا یلغی الوجدان ولا النقل ولا الوحی... کما أنّ الغیب له وجوده وعالمه وهو یفیض علی الشهادة ویتجلّی فی آفاقها، والروح والمادة یتبادلان التعایش والتأثیر ... والفردیّة والجماعیّة یوجهان حرکة الحیاة نحو الأفضل، والدنیا والآخرة حلقتا وصل متکاملتان تقضی إحداهما علی الأخری، وتکمل أحداهما الأخری (1).

کما أنَّ الإسلام استطاع أن یأخذ موقع الحیادیّة فی هذا المجال استطاع کذلک أن یأخذ موقع الحیادیّة والوسطیّة فی مواقع وجوانب عدیدة لا حصر لها، فلو قارنا بین الإسلام والأدیان الأخری لوجدناه کذلک أیضاً. فعندما أخذت الدیانة المسیحیّة المعاصرة منحی الانشراح والانفتاح الکامل والذی لاتحده حدود، لا شرعیّة ولا إنسانیّة ولا حتّی أخلاقیّة، بحیث أباحت أغلب المحرمات إن لم تکن کلّها، وکذلک الدیانة الیهودیّة التی جعلت من نفسها الدیّانة الوحیدة ومن أتباعها شعب الله المختار، نجد الإسلام فی قبال ذلک اتّخذ جانب الوسطیّة والحیادیّة، بحیث أقرَّ جمیع هذه الأدیان، واعترف بها وبأنبیائها.

وفی الوقت الذی نجد فیه الثقافة الإسلامیة تقوم علی أساس وحدة الکون وانسجام قوی الطبیعة من خلال الکثیر من ثنائیاتها وقوانینها، نجد أنَّ العولمة المعاصرة تعمل علی تجزئة الکون والطبیعة، والفصل بین العلم والدین، ومعلوم ما لهذا من آثار علی الثقافة وانفصام العری بین الإنسان وحقائق الکون الکبری.

سابعاً: الواقعیّة:

لقد وجَّهت تعالیم الإسلام أنظار البشر إلی الواقع من مظاهر الکون وأحداث الحیاة، وجعلت ذلک الواقع هو المنطق الأساس للوصول إلی الحقائق؛ وذلک

ص:208


1- (1) . المصدر: 180.

من خلال المنهج العلمی الذی سبق فیه علماء الإسلام مناهج العلم والمعرفة لدی شعوب العالم.

وبناءً علی هذا تمیزت الثقافة الإسلامیّة عن تلک التی تعتمد علی التصوّر المجرّد المنعزل عن الواقع... ولکن واقعیّة الثقافة الإسلامیّة لا تقف عند الواقع المادی فقط، بل تتعداه إلی الواقع لیشمل: الغیب والشهادة، العقل والوجدان، الروح والمادة، واقع الأرض والسماء... کلّ هذا یتعاضد فی مفهوم الواقعیّة الإسلامیّة، وهذا ما یمیّز الثقافة الإسلامیّة عن الثقافة العولمیّة التی لا تتجاوز الواقع المادی إلی ما سواه.

فهی واقعاً واقعیّة طینیّة لا تری أبعد ممّا تری أو تحسّ، ولا تنظر إلی الإنسان إلاّ فی حدود حیوانیّته، وغرائزه، وبهذا یکون أفق الثقافة الإسلامیّة أوسع بکثیر من الأفق الذی تعیشه الثقافة العولمیّة، وغیرها من الثقافات الأخری وإن تزیّنت کلُّ واحدة منها بدعاوی الواقعیّة، ونفت عن غیرها النفاد إلی أعماق الواقع.

ثامناً: الشمولیّة:

إنّ الثقافة الإسلامیّة، وانطلاقاً من رؤیتها الربانیّة والتشریع السماوی الذی تنطلق منه رؤاها ومنهجها وحرکتها فی الواقع، إنّها حرکة شمولیّة متکاملة بمعنی: أنّها تنظر إلی جوانب الحیاة جمیعها، فلا تغلَّب جانباً علی جانب، فهی تعالج قضایا الروح مثلما تعالج قضایا الجسد علی السواء، وتعالج قضایا الدنیا کما تعالج قضایا الآخرة، ثمّ إنَّ التشریع الذی تستمدُّ منه الثقافة الإسلامیّة شمولیّتها تشریع ذو سعة، بحیث یشمل قضایا الإنسان جمیعاً فی کلّ مکان وزمان، ویسایر حوادث الحیاة الماضیّة والحاضرة والمستقبلیّة، فعلی هذا لا تقف عند حدًّ، بل هی مظهر ثابت من الحیاة، وإنّما تتحرَّک وفق مقاصد الشریعة ومصالح الناس.

ص:209

وهذه السمة تفضی إلی السَّمة العالمیّة التی اتّسمت بها الثقافة الإسلامیّة، حیث إنّها تنظر إلی الناس جمیعاً بمنظار واحد، ولا یتمیز أحدٌ عن الآخر فی أصل المنشأ والخلقة، بل المیزان الواقعی هو التقوی لا غیر، فهی لا تفرق بین قوم وقوم، ولا بین أمّة وأمّة، ولهذا اتّسعت رقعتها وشملت شعوباً وأمماً، وهضمت حضارات، واستظلَّ بظلّها شعوب جمیع أرجاء العالم.

ثم إنَّ هذه الثقافة فیها من السهولة والیسر ما لم تعشه ثقافة من الثقافات الأخری، فإنّها لم تجبر أیّ أمّة من الأمم علی التخلی عن بعض طوابعها الثقافیة، والإنسانیّة، بل لم تجبر أتباع الأدیان السماویّة کذلک علی التخلّی عن أدیانها، بل تفاعلت مع جمیع الأدیان السماویّة، السابقة علیها؛ فهذا کلّه لم نجده فی الثقافة المعاصرة التی تحاول أن تلغی الثقافات الأخری لتحلَّ هی محلها، وهذه میزة رئیسة وجدت فی الثقافة الإسلامیّة دون غیرها من الثقافات.

تاسعاً: إلهیّة المصدر:

إنّ الثقافة الإسلامیّة الإلهیّة المصدر، تستمدُّ قوانینها من القران الکریم؛ ذلک الکتاب الإلهی والناموس الربانی الذی یعتبر دستوراً کاملاً وشاملاً لجمیع القضایا الإنسانیّة، والتی طالب الله تعالی عباده بالسیر علی وفقه.

فهو الهادی إلی طریق الحقَ ّ، وهو الفارق بین الحقّ والباطل کما عبر الله تعالی عنه بقوله تعالی: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِی أُنْزِلَ فِیهِ الْقُرْآنُ هُدیً لِلنّاسِ وَ بَیِّناتٍ مِنَ الْهُدی وَ الْفُرْقانِ. 1 ، (1)

وکذلک تستمدُّ قوانینها من السنَّة الشریفة، والتی هی عبارة عن قول وفعل وتقریر المعصوم، وهم الرسول الأکرم(صلی الله علیه و آله) الذی وَ ما یَنْطِقُ عَنِ الْهَوی* إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْیٌ یُوحی وأهل بیته المعصومین(علیهم السلام).

ص:210


1- (2) . للغات، دراسات فی الثقافة الإسلامیّة: 41.
عاشراً: تأثیر الثقافة الإسلامیّة:

إنَّ الثقافة الإسلامیّة استطاعت أن تؤثرَّ تأثیراً کبیراً فی جمیع الشعوب التی خضعت للدولة الإسلامیة، بل أکثر من ذلک نجد الثقافة الإسلامیّة قد طغت علی الثقافات الأصلیّة لجمیع الشعوب التی انتشرت فوق ربوعها رایة الإسلام.

وکان العمل بها متواصلاً إلی یومنا الحاضر وعلی وفق أحکامها من قبل جمیع أکثر المناطق التی دخلها الإسلام.

الحادی عشر: قبولها للحوار:

إنّ من خصوصیّات الثقافة الإسلامیّة أیضاً، قبولها للحوار مع الآخرین, کما أشار إلی ذلک القرآن الکریم: اَلَّذِینَ یَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَیَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِکَ الَّذِینَ هَداهُمُ اللّهُ وَ أُولئِکَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ، فإذا کانت الثقافة الإسلامیّة قد قبلت الحوار واعتبرته من العوامل المساعدة علی إنّمائها وانتشارها، فإن الثقافة الأوربیّة (العولمیّة) قد تنکّرت لهذا الحوار والمعاملة بالمثل، بل سعت إلی اعتبار الثقافة الإسلامیة ثقافة منغلقة علی نفسها ترفض الحوار والتعامل مع أیّ ثقافة أخری؛ ولذلک تری تصریح رئیس الوزراء الإیطالی برلس کونی بقوله: إنّ الثقافة الغربیّة أفضل ومتقدّمة علی الثقافة الإسلامیّة. وإنّ الثقافة الإسلامیّة منغلقة علی نفسها.

وما قوله هذا إلاّ لأنَّ الغربییّن توصلوا إلی نتیجة حتمیّة، وهی: أنّ قیمهم وثقافتهم هی مادیّة تغیرّها المصلحة وینالها التبریر, ولذا نری صراعهم مع الحضارات والثقافات الأخری.

الثقافة بین العولمة الغربیّة والعولمة الإسلامیّة:

یُدرک المسلمون أنَّ الغرب لا یقبل المنافسة مع أیَ ّ نموذج قادر علی الانتشار العالمی والامتداد الحضاری، لاسیّما إذا کان یعرف مواطَنَ القوّة والقدرة والحیویّة فی الأنموذج؛

ص:211

لذلک وضع الغرب الإسلام دائماً علی أساس أنّه العقبة الکؤد التی تقف أمام تحدیث أنموذجها العالمی للثقافة، الأمر الذی جعله یستعمل أسالیبه کافة وقواته؛ لإزاحة الإسلام. فلذلک نراه مرّة یغزو الإسلام من خلال القنوات الاقتصادیّة، وأخری من خلال القنوات السیاسیّة، وأخری من خلال القنوات العلمیّة، والقنوات الثقافیّة وهی أشدَّها علی الإسلام والمسلمین، إلا أنَّه لم یستطع هدم الهُویّة الإسلامیّة، وما أصابها من ضعف فی بعض الأوقات لأسباب تخرج عن أن تکون راجعة للإسلام ذاته، فالدین هو الذی أعطی للأمة شخصیتها ووحدتها، ووضع لها حضارتها، ودفع بها نحو الانفتاح والتواصل علی العالم، وشجعها علی العلم وطلبه، فالآیات القرآنیة والأحادیث النبوّیة کثیراً ما حثَّت علی طلب العلم.

فقد أکّد الإسلام علی طلب العلم، ولو کان فی أقصی الأرض، بحیث جعله من الواجبات علی الجمیع، فقد قال رسول الله(صلی الله علیه و آله):

«اطلبوا العلم ولو بالصین، فإنّ طلبه فریضة علی کلّ مسلم> (1).

وقال (صلی الله علیه و آله):

طلب العلم فریضة علی کلّ مسلم ألا إنَّ الله یحبُّ بغاة العلم>. (2)

وکذلک مسألة حرّیة الثقافة فی الإسلام، بحیث نری الإسلام یؤمن بحریّة الثقافة المشروعة، فلکلّ شخص الحقُّ فی أن یتّخذ الاتجاه الثقافی الذی یرغب فیه فیصدر صحیفة ویؤسّس قناة فضائیّة أو ما إلی ذلک من الأعمال الثقافیّة الأخری، بشرط أن لا یخالف الشرع أو یکون وبالاً علی الآخرین، لذلک کان الإمام الصادق(علیه السلام) یقول:

.

لذلک یفهم الغرب الخطر الوارد علیه وعلی وجود مشروعه الحضاری؛ لأن

ص:212


1- (1) . بحار الأنوار:1 / 180، ب1، ح: 65.
2- (2) . مستدرک الوسائل: 17 / 249، ب 4، ح: 21250.

الإسلام دین زاحف وصل بنفسه إلی أبعد نقطة وبلا أیّة مساعدة من أیّة قوّة استکباریّة جبّارة، ویعدّ الغرب ذلک هو وجه الخطر فیه، فبنی علی أساس ذلک إستراتیجیّة للاحتراس منه، بل لمقاومته والقضاء علیه (1).

فکانت أوّل انطلاقة لتحقیق ذلک بالنسبة إلیهم هو التوجه نحو العقلیّة الإسلامیّة وتحویلها عن خطّ مسیرتها علی وفق المفاهیم الأساسیّة المؤمنة بها، وإثارة وخلق الشبهات حول عقیدتها لإذابتها فی إطار مفاهیم جدیدة للفکر الغربی، الذی غدا مسیطراً عالمیّاً. (2) ففی عام 1991، أکدّت رئیسة الوزراء البریطانیة مارغریت تاتشر:

إنّ الإسلام أصبح العدو الجدید بعد الاتّحاد السوفیاتی بقولها لقد قضینا علی الشیوعیّة، وبقی علینا أن نقضی علی الإسلام (3).

الفرق بین العولمة الغربیّة والعالمیّة الإسلامیّة:

نستطیع القول: إنّ معنی العولمة یقترب کثیراً من معنی العالمیّة لأنّ العولمة بحسب رأینا هو معنی من معنی العالمیّة، الموجود فی القاموس العربی، إلا أنّه لیس کلُّ ما لا یوجد فی قوامیس اللغة هو غیر صحیح؛ لأنّ للمفردات اللغوّیة تطوّر، مع تطوّر المعانی التی تحتاج إلی إیضاح، فکلّما اخترع الإنسان شیئاً جدیداً، احتاج إلی أن یوجد له مفردة لغوّیة یعبَّر من خلالها عن هذا الشیء الجدید، فالمفردات اللغوّیة لا تقف عند حد ٍما.

ونتیجة هذا: احتجنا إلی مفردة لغوّیة کی نعبّر من خلالها عن هذه الظاهرة الجدیدة.

ص:213


1- (1) . معرکة الإسلام والرأسمالیّة: 95.
2- (2) . أنور الجندی، عالمیّة الإسلام: 131.
3- (3) . الصدوق، من لا یحضره الفقیه: 3 / 141، باب الحریة، ح: 3515.

وبما أنّ أبرز نظرة لهذه الظاهرة هی تعمیم نتاج هذا التطوّر علی جمیع هذا الکوکب، أو علی هذا العالم سمیّت: العولمة قیاساً ب- : العالمیّة، إلاّ أنّه مع جمیع هذا التقارب اللغوی، والفعلی فی الکثیر من الأحیان، تُوجد فوارق عدة من ناحیة الأهداف والآلیات، فالعالمیّة التی جاء بها الإسلام، وأکدّها القران الکریم فی الکثیر من آیاته المبارکة، مثل قوله تعالی: وَ ما أَرْسَلْناکَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِینَ 1، وقوله تعالی: تَبارَکَ الَّذِی نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلی عَبْدِهِ لِیَکُونَ لِلْعالَمِینَ نَذِیراً 2 إِنْ هُوَ إِلاّ ذِکْرٌ لِلْعالَمِینَ .

وسوف نوضح هذه الفوارق بعدة نقاط منها.

1. إنّ العالمیّة فی الإسلام تقوم علی أساس تکریم بنی آدم جمیعاً: وَ لَقَدْ کَرَّمْنا بَنِی آدَمَ وَ حَمَلْناهُمْ فِی الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ 3، واستخلفهم الله فی الأرض، وسخّر للإنسان ما فی السماوات والأرض جمیعاً منه تعالی.

2. العالمیّة الإسلامیّة قائمة علی أساس المساواة بین الناس فی أصل الکرامة الإنسانیّة وفی أصل التکلیف والمسؤولیّة، وإنّهم جمیعاً شرکاء فی العبودیّة لله تعالی، وفی البنوّة لآدم(علیه السلام)، کما قال الرسول الکریم(صلی الله علیه و آله):

یا أیّها الناس، ألاّ إنّ ربکم واحد، وإنّ أباکم واجد، لا فضل لعربی علی أعجمی، ولا لأعجمی علی عربی، ولا لأحمر علی أسود، ولا لأسود علی أحمر، إلاّ بالتقوی (1).

وهو بهذا یؤکّد ما أقره القرآن فی خطابه للناس کلّ الناس :یا أَیُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْناکُمْ مِنْ ذَکَرٍ وَ أُنْثی وَ جَعَلْناکُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَکْرَمَکُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاکُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِیمٌ خَبِیرٌ 5، ولکن القرآن فی هذه الآیة، مع إقراره بالمساواة

ص:214


1- (4) . مسندأحمد: 5 / 411.

العامّة بین البشر فهو یعترف ولا یلغی خصوصیّات الشعوب فیقر بأنَّ الله تعالی جعلهم شعوباً وقبائل لیتعارفوا .

3. العالمیّة الإسلامیّة ما هی إلاّ نشر رسالة إلهیّة تعمّ الخیر علی جمیع من ینتمی إلیها ویعتقد بها علی جمیع الأصعدة الأخلاقیّة والدینیّة والسیاسیّة والاقتصادیّة والثقافیّة... ولم تکن عبارة عن نشر أفکار ونتاجات إنسانیّة ترقی إلی جمیع المستویات الدقیقة.

4. إنَّ العولمة مع أنّها نتاج فکری، عقلی تکاملی، إلاّ أنّها أصبحت آلیّة من الآلیّات الخبیثة لفرض الهیمنة الأمریکیّة، سواءً علی المستوی السیاسی أو الثقافی أو الاقتصادی...

فهی لا ترید معاملة الأخ لأخیه، ولا معاملة الندّ للندَّ، بل معاملة السادة للعبید، والعمالقة للأقزام، والمستکبرین للمستضعفین (1) فالعولمة بالمصطلح الأمریکی تعنی: أمرکة العالم.

5. إنَّ العالمیّة الإسلامیّة لم تکن مخالفة للدلیل المنطقی والقانون العقلی والفطری؛ لأنّها عبارة عن نزعة إنسانیّة، وطریقة فطریّة بشریّة قد أسّس أساسها الرسول الأعظم(صلی الله علیه و آله) بأمر من الله تعالی مع تقویم منه للمنحدرات والأعوجاجات.

وقد صرّح الحکیم بذلک للرسول الکریم(صلی الله علیه و آله) ودعا إلیه فی آیات متعدّد، کقوله تعالی: یا أَیُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْناکُمْ مِنْ ذَکَرٍ وَ أُنْثی وَ جَعَلْناکُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَکْرَمَکُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاکُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِیمٌ خَبِیرٌ 2 وقوله تعالی: وَ تَعاوَنُوا عَلَی الْبِرِّ وَ التَّقْوی وَ لا تَعاوَنُوا عَلَی الْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ، 3 وقوله تعالی: بَشِیراً وَ نَذِیراً 4 ،

ص:215


1- (1) . العولمة والمسلمون: 12.

حیث أطلق التبشیر والإنذار؛ لأنّ کلّ تبشیر وراءه إنذار، وکلّ انحراف وراءه إنذار، وکلّ استقامة وراءها بشارة (1).

ومن المعلوم أنّ کلّ ذلک تفقده العولمة المعاصرة، والتی أرادتها الولایات المتّحدة الأمریکیّة.

6. لقد اعتنت العولمة المعاصرة بالجانب البدنی والقالبی للإنسان، وترکت الجانب المهمّ، وهو الجانب الروحی مع أنّه هو الجانب الأهمّ بالنسبة له فهی مخالفة له، وللفطرة الإنسانیّة، حیث تجعل الآثار للشهوات المنحطة، وتترک التکامل الروحی الذی هو علّة من العلل، أمّا الإسلام، فقد اهتمَّ بالجانب المادّی کما اهتمّ بالجانب الروحی منه، واعتنت بهما معاً، مع ترجیح للجانب الروحی أکثر.

ص:216


1- (1) . فقه العولمة دراسة إسلامیة معاصرة: 95.

المصادر

1. القرآن الکریم.

2. نهج البلاغة.

3. آل نجف، عبد الکریم، الدولة الإسلامیّة دولة عالمیّة، نشر مکتبة مجلس الخبراء.

4. إبراهیم، موسی، ثقافة المسلم بین الأصالة والتحدیّات، مکتبة المدبولی، مصر.

5. ابن الأثیر، علی بن محمّد، الکامل فی التاریخ، بیروت.

6. ابن القیم الجوّیة، السیاسة والرعیة، الریاض، السعودیّة.

7. ابن بابویه، معانی الأخبار، تهران قم، مؤسسة دار العلوم، جامعة المدرّسین.

8. ابن جزی الغرناطی، محمد بن أحمد، التسهیل لعلوم التنزیل، دار النشر العربی.

9. ابن شعبه، حسن، تحف العقول، المصحّح: غفاری، جامعة المدرّسین، قم.

10. ابن کثیر، الحافظ عمادا لدین أبی الفداء إسماعیل بن کثیر القرشی الدمشقی، تاریخ ابن کثیر، دار ابن کثیر لطباعة والنشر، حلبونی، دمشق.

11. ابن منظور، لسان العرب، الدار المصرّیة لتألیف والترجمة.

12. أبو بکر أحمد بن الحسین بن علی البیهقی النیسابوری الشافعی، أحکام القرآن.

13. إدریس، عبد الرحیم عبد العزیز، العولمة مالها وما علیها، المکتبة الوطنیّة، السعودیّة.

14. أسامة عبد الرحمن، التخلّف وأدواره فی الوطن العربی، والنظام العالمی الجدید، مرکز الوحدة، بیروت 1997م.

15. الأشقر، عمر سلیمان، نحو ثقافة إسلامیّة أصیلّة، دار النفائس لنشر، بیروت.

ص:217

16. الأصفهانی، الراغب، مفردات القرآن، تحقیق عدنان داوودی، ناشر، طلیعة نور، قم .

17. الأطرش، محمّد، العرب والعولمة مالعمل، مرکز دراسات الوحدة.

18. - ، نحو تحدیات العولمة الاقتصادیّة، دار البیضاوی لنشر والتوزیع، بیروت.

19. أمین، سمیر، بعض قضایا المستقبل، مرکز البحوث العربیّة، مکتبة المدبولی.

20. - ، ثقافة العولمة وعولمة الثقافة، دار الفکر المعاصر- دمشق 1999م.

21. أمین، محمّد، العلم والثقافة علی مشارف القرن الحادی والعشرین، المطبعة العربیّة لطباعة والنشر.

22. البحرانی، السید هاشم، البرهان فی تفسیر القرآن، مؤسسة دار المجتبی، لبنان.

23. بدوی، ثروت بدوی النظم السیاسیّة، دمشق، سوریا.

24. بسیونی، عبد الغنی، النظم السیاسیّة، دار المنهل اللبنانی.

25. البعاج، هشام، سیناریو ابستمولوجی حول العولمة، أطروحات أساسیة، المستقبل العربی، ع742، أیلول، 1999م.

26. البغوی، الحسین ابن مسعود الفراء البغوی، تفسیرمعالم التنزیل، تفسیر البغوی، دار الفکر، بیروت.

27. بلقیز، عبد الإله، العولمة والممانعة، دراسات فی المسألة الثقافیّة، سلسلة المعرفة لجمیع، منشورات الرباط.

28. بوکای، موریس، التوراة والإنجیل والقرآن والعلم، الأعلمی للمطبوعات، بیروت.

29. تحدیات الوطن العربی فی القرن الجدید، جامعة بغداد.

30. ثابت أحمد، التغیرات العولمیّة وانعکاسها علی الدول النامیة، القاهرة، مصر.

31. - ، العولمة تفاعلات وتحولات الدولیّة، القاهرة، مصر.

32. الجابری، محمّد عابد، قضایا الفکر المعاصر والعولمة، صراع الحضارات، بیروت 1998م.

33. - ، قضایا الفکر المعاصر، مرکز الدراسات للوحدة العربیّة، بیروت.

34. جلال أحمد، الخیر الدولی، البنک الدولی یُعید سیاسته، القاهرة، مصر.

35. الجمیلی، أحمد، رؤیة مستقبلیّة فی الاقتصاد والسیاسة، دار النهضة العربیّة.

36. الجندی، أنور، عالمیّة الإسلام، من الإنترنیت.

37. حامد، أحمد، الإسلام ورسوله فی فکر هؤلاء الکتاب، المرکز العربی للأبحاث.

ص:218

38. حرب، علی، حدیث نهایات وفتوحات العولمة، المرکز الثقافی العربی، الدار البیضاء.

39. الحلو، فتح الله، تحدیّات عولمة الاقتصاد والتکنولوجیا، منتدی الفکر العربی، عمان.

40. حمود، حواس، العولمة الثقافیة، مجلة ثقافیة تصدر عن الجامعة الأردنیّة، العدد، 49 سنة2000م.

41. حمود، الشیخ محمد جمیل، الفوائد البهیّة فی شرح عقائد الأمامیّة، الأعلمی للمطبوعات، بیروت.

42. حنفی، حسن، العولمة والهویة، دار الکتاب الإسلامی، مصر.

43. الخطة الشاملة لثقافة المنظمة العربیة لتربیة والثقافة.

44. خلف، ندیم عیسی، الأصول الیهودیّة فی الکتاب الإسرائیلی، کلّیة علوم وسیاسة، جامعة بغداد، أطروحة دکتورا، غیر مطبوعة.

45. الخوارزمی، مقتل الأمام الحسین(علیه السلام).

46. الدرة، عبد الباری، العولمة وإدارة التحدّی الحضاری، جامعة فیلاد لیفیا، مرکز الدراسات والأبحاث، لندن.

47. الدرمائینی، عبد السلام، حقوق الإنسان فی الشریعة الإسلامیّة.

48. الذریعة علی من کذب بالمهدی.

49. الراوی، حقوق الإنسان وحریات السیاسة فی القانون الدولی والشریعة الإسلامیّة، دار وائل لطباعة والنشر.

50. رضا، محمد رشید، تفسیر القرآن الحکیم، تفسیر المنار، منشورات محمّد علی بیضون، دار الأعلمی للکتاب.

51. الرضوان، أحمد، العولمة والعالمیّة فی میزان واحد، مطبعة بیروت.

52. روبرتسون، رونالد، العولمة النظریّة والاجتماعیة والثقافة الکونیّة، ترجمة، أحمد محمود، نور أمین و حافظ ذیاب، المجلس الأعلی لثقافة، 1998م.

53. - ، العولمة النظریّة، الاجتماعیّة، والثقافة الکونیّة، بیروت.

54. روتسکی، لیون، الثروة والحیاة الیومیة، القاهرة، مطبعة الأزهر.

55. الزمخشری، جار الله أبو القاسم، أساس البلاغة، الهیئة المصریّة العامة للکتاب، ط 3، 1985م

ص:219

56. زیدانی، سعید، الدیمقراطیة وحمایة حقوق الإنسان، مکتبة، العبکلّیة.

57. السبحانی، الشیخ جعفر السبحانی، الإلهیات، المرکز العالمی لدراسات.

58. - ، معالم النبوّة فی القرآن الکریم.

59. - ، سید المرسلین، جامعة المدرّسین، قم.

60. السماوی، احمد، الشرکات متعدّدة الجنسیّات والعولمة، دار المحجّة البیضاء.

61. شبر، عبد الله، حق الیقین فی معرفة أصول الدین، انتشارات، نورالهدی، إیران، قم.

62. شرف، لیلی، التغیرات الثقافیّة وانعکاسها علی الدول النامیّة، مؤسّسة عبدالحمید شوهان.

63. شرودر، ریتشارد، موجز نظام الحکم الأمریکی، وزارة الخارجیّة الأمریکّیة.

64. الشریدة، خالد ابن عبد العزیز، رؤیة نقدیة لإشکالیّة الشوری والدیمقراطیّة، بیروت/2000م.

65. الشیرازی، السید محمّد الشیرازی، تقریب القرآن إلی الأذهان، دار العلوم لطباعة، والنشر، لبنان.

66. الشیرازی، السید محمّد حسین، فقه العولمة، دراسة إسلامیّة معاصره، مؤسسة الفکر الإسلامی، لطباعة والنشر والتوزیع، بیروت.

67. الشیرازی، ناصر مکارم الشیرازی، تفسیر الأمثل فی تفسیر کتاب الله المنزل.

68. الصافی، لوئی، الحرکة الإسلامیة بین الأطباق المبدئی، والتقلید النموذجی، إیران، قم.

69. صبری، إسماعیل، الکوکبة الرأسمالیة العالمیّة ما بعد الامبریالیّة، مرکز دراسات الوحدة العربیّة، بیروت.

70. الصدر، محمّد باقر، الإسلام یقود الحیاة، المؤتمر العالمی للأمام الشهید الصدر، مطبعة ظهور قم.

71. صدقی، کلیم، الحرکة الإسلامیّة، دار الأندلس الخضراء.

72. الصدوق، الخصال، مشهد، أستانة رضویّة مقدّسة.

73. طالیس، أرسطو، السیاسة، ترجمة أحمد لطفی السیدّ، منشورات اللجنة الدولیّة لروائع الإنسانیّة، بیروت 1957م.

ص:220

74. الطباطبائی، محمد حسین، المیزان، منشورات جماعة المدرّسین فی الحوزة العلمیّة، فی قم المقدّسة.

75. الطبرسی، أبی منصور أحمد ابن علی بن أبی طالب، دار الأسرة لطباعة والنشر.

76. العابد، عبد الله حسن، أثر العولمة فی الثقافة العربیّة، دار النهضة، العربیّة.

77. عبد الرحمن ابن محمّد ابن مخلوف الثعالبی، تفسیر الجواهر الحسان، تفسیر الثعالبی، بیروت.

78. عبد الغنی، کمال، العلمانیّة والعولمة والأزهر، مصر، دار الحرفة الجامعیّة.

79. عبد الله، عبد الخالق عبد الله، العلم المعاصر والصراعات الدولیّة.

80. عبد المعطی، عبد الباسط، العولمة والتحوّلات فی الوطن العربی، مرکز البحوث العربیّة، مکتبة مدبولی.

81. عبود، شلتاغ، قضایا إسلامیّة معاصرة، المرکز الثقافی العربی،

82. عبیدات، ذوقان، أین نحن والعولمة، دار الفکر، لبنان.

83. عثمان، محمد فتحی، من أصول الفکر السیاسی الإسلامی، مؤسسة الرسالة.

84. العرسان، علی عقله، العولمة والهویّة، رابطة الکتاب الأردنیین، عمّان 2000م.

85. العلوان، حسین، العولمة والثقافة العربیّة، المرکز الثقافی العربی ، القاهرة.

86. - ، العولمة والهدایة، دار النهضة العربیّة.

87. العمار، أحمد، العولمة ودورها فی نظام تهمیش النظام الإقلیمی، مکتبة الدار العربیّة للکتاب.

88. عماره، محمّد، الغزو الفکری وهم أم حقیقة، منشورات جمعیّة الدعوة الأسلامیّة.

89. العولمة والهوّیة، جریدة المستقبل العربی، العدد: السابع والعشرون، لسنة1989م.

90. العولمة وتباین المفهوم، مجلة دبلوماسیة، تصدر عن دار جامعة، بغداد 1989 م.

91. العیاشی، محمد ابن مسعود، تفسیر العیاشی، تهران.

92. غارودی، روجیه، العولمة المزعومة، الواقع الجذر، تعریب: محمّد السبیطلی، دار الشوکانی للنشر والتوزیع.

93. الغزالی، محمّد، مشکلات فی طریق الحیاة الإسلامیّة، دار شؤون الأوقاف الدینیّة.

94. غلیون، برهان، اغتیال العقل، حتمیة الثقافة العربیّة بین السلفیّة والتبعیّة، بیروت، ط 2.

ص:221

95. - ، العرب وتحدّیات العولمة الثقافیّة، دار الفکر دمشق، سوریا.

96. غیبة، مصطفی، دراسات فی الثقافة الإسلامیّة، المعهد العالمی لثقافات.

97. الفخر الرازی، التفسیر الکبیر، دار الفکر لطباعة والنشر، بیروت.

98. فرج، أحمد، العولمة والإسلام والعرب، کلیّة التربیّة، جامعة المنصورة، مصر.

99. الفرفور، عبد اللطیف، حقوق الإنسان والعلم المعاصر، سوریّة، دمشق، حلبونی.

100. فضل الله، محمّد حسین، الحرکة الإسلامیّة، دار الملاک بیروت.

101. فوکویاما، فرانسیس، الثقة والفصائل الاجتماعیة ودورها فی خلق الرخاء الاقتصادی، ترجمة: مدحت الشعلان، دمشق.

102. فوکویاما، فرانسیس، العولمة الاقتصادیّة والثقافة، نهایة التاریخ، الرافد وزارة الثقافة والأعلام الشارقة.

103. الفیض الکاشانی، المولا محسن، تفسیر الصافی، مؤسسة الأ علمی للمطبوعات، بیروت.

104. القرضاوی، العولمة والمسلمون، دار التوزیع والنشر، بور سعید، مصر.

105. القرطبی، محمّد بن احمد الأنصاری، الجامع لأحکام القرآن، دار الحدیث، القاهرة.

106. قطب، سیّد، معالم الطریق، دار دمشق لطباعة والنشر والتوزیع.

107. - ، معرکة الإسلام والرأسمالیّة، دمشق، ط 3، 1966م.

108. قمیحا، نزیه، القرآن یتجلّی فی عصر العلم، دار العلم للملایین، بیروت .

109. القندوزی سلیمان بن ابراهیم، ینابیع المودة لذوی القربی، دار الأسوة لطباعة والنشر.

110. الکاشانی، فتح الله بن شکر الله، زبدة التفاسیر، تحقیق مؤسسة المعارف.

111. کاطع، سناء کاظم، الفکر الإسلامی المعاصر والعولمة، دار الغدیر، لبنان المؤسسة العالمیّة لأحیاء التراث.

112. کاظم، نجاح، العرب وعصر العولمة، المرکز الثقافی، بیروت.

113. الکلینی، محمد بن یعقوب، الکافی، دار الأسرة لطباعة والنشر.

114. کنیدی، بول، الاستعداد للقرن الحادی والعشرین، ترجمة: محمّد عبد القادر فرغانی، دار الشروق عمان 1992م.

ص:222

115. اللایباری، محمّد حسین، المنظمات الدولیّة الحدیثة، وفکرة الحکومة العالمیة، الهیئة المصریّة للکتاب.

116. لحیالی، رعد کامل، العولمة وتحدیّات المواجهة، القاهرة، مصر.

117. لطف الله، منتخب الأثر فی الأمام الثانی عشر، مؤسسة معصومة، قم.

118. المؤتمر القومی العربی، آیار2000م.

119. المتیت، أبو زید علی، النظم السیاسیّة والحرّیات العامّة، مؤسسة شباب الجامعة.

120. مجذوب، محمد سعید، الحرّیات العامّة لحقوق الإنسان، جروس، بیروت.

121. مجذوب، محمد سعید، الحرّیات العامّة لحقوق الإنسان، دار الکتاب العربی.

122. مجلة أفکار العدد124 وزارة الثقافة الأردنیّة، 1996م.

123. مجلة عالم الفکر، الکویت، العدد:10، 1997م.

124. المجلسی، محمّد باقر، بحار الأنوار، دار المحجّة البیضاء.

125. - ، من لا یحضره الفقیه، طهران، دار الکتاب الإسلامی.

126. المزنی، إسماعیل ابن یحیی، الحاوی الکبیر للمذهب الشافعی، دار الکتب العلمیّة، بیروت.

127. حسین ابن محمّد تقی الحرّ ألعاملی، مستدرک النوری، مؤسسة آل البیت(علیهم السلام) لأحیاء التراث.

128. المسعود، مفتن، العولمة وأثرها علی الثقافة العربیّة، الأعلمی للمطبوعات،

129. مسلم، صحیح مسلم، الأعلمی للمطبوعات، بیروت.

130. مسند أحمد بن حنبل، دار الفکر بیروت .

131. مسند أحمد، طبعة الأعلمی، بیروت.

132. المسیری، عبد الوهاب، موسوعة الیهود والیهودیّة، دار الشروق القاهرة.

133. معلوف، الوئیس، المنجد فی اللغة، انتشارات ذوی القربی، إیران، قم.

134. ملف العرب والعولمة، مجلة دراسات، دار الجماهیر لنشر.

135. موسوی، هاشم موسوی، إسلام وسیاست، تهران، کتاب خانه ملی إیران.

136. نور الدین ابن علی انب ابی بکر الهیثمی، مجمع الزوائد، بیروت.

137. الوکیل، صالح، واحمد مفتی، النظریّة السیاسیة الإسلامیة فی حقوق الإنسان الشرعیّة، دمشق.

ص:223

138. هرات، محمدعلی، العرب والعولمة شجون الحاضر وغموض المستقبل، دارالفکر، بیروت.

139. هنجتون، صومائیل، صدام الحضارات، ترجمة: طلعة الشایب، تقدیم: صلاح قنصوه، القاهرة1998م، مرکز الدراسات الاستراتیجیّة والبحوث والتوثیق، بیروت.

140. هندی، حسان، الإسلام والقانون الدولی، مؤسسة أصول الدین لطباعة والنشر،

141. یان آرت شولت، نگاهی موشکافانه بر پدیده جهانی شدن، ترجمهْ مسعود کرباسیان، شرکت انتشارات علمی وفرهنکی.

142. الیزدی، محمدتقی، دروس فی العقیدة، الإسلامیة، المترجم: السید هاشم محمد، انتشارات رابطة الثقافة والعلاقات الإسلامیّة.

143. یسوعی أستاذ، القانون فی جامعة انفولد أشتات، مرکز الأبحاث المصری.

ص:224

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.