الدین و عملیة العولمة

اشارة

سامانی، مهدی

الدین و عملیة العولمة / تألیف: مهدی سامانی؛ تعریب: عبدالکریم الجنابی؛ [ل] جامعة المصطفی صلی الله علیه و آله العالمیة، معاونیة تحقیق. -- قم: جامعة المصطفی صلی الله علیه و آله العالمیة، معاونیة تحقیق، 1388 ش.

296 ص. -- (جامعة المصطفی صلی الله علیه و آله العالمیة، معاونیة تحقیق؛ 178)

ISBN: 978-964-195-098-1 33500 ریال عربی.

فهرست نویسی بر اساس اطلاعات فیپا.

کتابنامه: ص. [291]-296 همچنین به صورت زیرنویس.

1. جهانی شدن -- جنبه های مذهبی. 2. دنیوی گرایی. 3. تجدد. الف. جامعة المصطفی صلی الله علیه و آله العالمیة. معاونت پژوهش. ج. عنوان.

9 د 9 ج / 1318 JZ 17/327

الدّین وعملیّة العولمة

تألیف: مسعود سامانی

تعریب: عبدالکریم الجنابی

الطّبعة اولی: 1430 ق / 1388 ش

النّاشر: دارالمصطفی صلی الله علیه و آله العالمیّه

الإخراج الفنی: السّید مهدی عمادی المجد

المطبعة: التّوحید السّعر: 33500 ریال عدد النسخ: 2000

حقوق الطّبع محفوظة للنّاشر.

التّوزیع:

قم، استدارة الشهداء، شارع الحجتیه، مقابل مدرسة الحجتیه، محل بیع دارالمصطفی صلی الله علیه و آله العالمیة. هاتف - فکس: 02517730517

قم، شارع محمد الامین، تقاطع سالاریة، قرب جامعة العلوم، محل بیع دارالمصطفی صلی الله علیه و آله العالمیة. هاتف - فکس: 02512133146-02512133106

www.miup.ir , www.eshop.miup.ir

E-mail: admin@miup.ir, Root@miup.ir

ص :1

الإهداء

إلی رَوح الجَنان إمام الإنس والجان

صائن الدّین والقرآن، الحقیقة العیان

الّذی ینتظر العالم فیض حضوره

ویترقّب نور ظهوره

أقدّم جهدی هذا...

هامت عیون الکون ترنو حنینا هاجت بنا الآمال تدعو: ولینا(1)

ص:2


1- (1) ترجمة للنسّ الفارسیّ:به تماشای طلوع تو جهان چشم به راهبه امید قدمت جان و جهان چشم به راه «المعرّب».

الدّین وعملیّة العولمة

مسعود سامانی

تعریب: عبدالکریم الجنابی

ص:3

ص:4

کلمة الناشر

إنّ عملیة الشروع بأیّ بحثٍ و إنجازه، تعنی طیّ مرحلةٍ من النمو تبتدئ بنثر بذور السؤال، فی حق الذهن الوقّاد للباحث و تنتهی بإیناعها و من ثمّ قطف ثمارها. و إنّ هذه النهایة بالطبع، تبشّر بفصلٍ جدیدٍ من النمو؛ لأنّ ثمار السعی إضافة إلی الاخضرار، النضارة و البرکة، تتمخّض عن عدّة أسئلةٍ جدیدةٍ و تکتنز بذوراً قابلة لنمو أوفر. فالأسئلة بذور تنمو متساوقة و حاجات العصر و قدرة الباحثین و تؤدّی إلی دوران عجلة الثقافة و الحضارة خلفها.

إنّ ازدیاد سرعة التنقل و تضایق الفواصل المکانیة، غدت کالریح تعصف ببذور السؤال فی ذهن الباحث من مسافاتها الأبعد و تتحفنا بتنوّع و تجدّد علی طریق حضارة أرقی. و من المؤکّد أنّ الوعی و حسن الإدارة سیکون لهما کما کان دور مرموق فی تسریع مثل هذه العملیة.

إنّ جامعة المصطفی صلی الله علیه و آله العالمیة تعتقد بأنّه من الواجب علیها القیام بدورٍ مؤثرٍ فی تهیئة الأجواء المناسبة للبحث و التحقیق نظراً إلی رسالتها العالمیة و مکانتها الممیّزة فی الحوزات العلمیة و کذا لتنوّع الطاقات الإنسانیة الّتی تزخربها. و یعدّ إعداد البنی التحتیة اللازمة، الإدارة الأمثل لما تمتّع به من

ص:5

القابلیات و الاهتمام بشؤون الباحثین فی المجال الدینی من أهمّ الوظائف الملقاة علی عاتق قسم البحوث فیها.

یحدونا الأملو من خلال تنظیم النشاطات العلمیة الذاتیة و تنمیة البواعث الحاضرة فی تفتّح أزهار الثقافة الدینیة أکثر فأکثر فی مختلف أصقاع العالم.

دارالمصطفی صلی الله علیه و آله العالمیة

قسم البحوث

صیف 2008

ص:6

الفهرس

دیباجة الناشر 5

أوّل المقال 13

توطئه 15

1. إیضاح المسألة 17

2. أهمیّة البحث وضرورته 20

3. مفاهیم أساسیّة 21

مفهوم العولمة 21

المقصود من (التّعولم) 23

4. أسئلة البحث 26

5. فرضیة التحقیق و البحث 27

6. أسلوب البحث 29

أسلوب المعرفة الدّینیّة (معرفة الدّین) 30

7. تاریخ العولمة 32

8. ممهّدات العولمة 34

أ) الممهّدات الفکریّة 34

ب) الممهّدات السیاسیّة والاجتماعیّة 37

ج) الممهّدات التاریخیّة للعولمة 38

9. سوابق البحث 40

عولمة العصرنة حسب رؤیة غینز 42

ص:7

عملیة العولمة من وجهة نظر الوین تافلر 43

أبعاد العولمة 45

1. البُعد الاقتصادیّ 45

2. البُعد السّیاسی 47

10. الخطّة العامة للبحث 49

القسم الاوّل: التّعرّف علی عملیّة العولمة

1. تعریف العولمة (مناقشة التّعاریف) 53

نقد ومناقشة التّعاریف 55

خلاصة الفصل الأوّل 58

2. مطالعة للآراء والاتّجاهات 59

نقد ومناقشة الآراء 62

مناقشة النّظریّة الأولی 62

مناقشة النّظریّة الثّانیة 62

مناقشة النّظریّة الثّالثة 63

معارضو العولمة 64

خلاصة الآراء 67

خلاصة الآراء والاتّجاهات 69

3. نظرّیة عولمة العصرنة 71

مناقشة النظریّة الأولی (عولمة العصرنة) 71

1. مفهوم العصرنة 71

2. أسس وجذور العصرنة 73

3. نقد العصرنة 76

أزمات العصرنة 76

1-3. نقد العقلانیّة الحدیثة 76

2-3. التّمرّد علی التّراث ومحو القداسة 77

3-3. الأزمة المعرفیّة للعصرنة 80

نقد وتحلیل 84

4-3. أزمة العدمیّة (النهلستیّة) 84

5-3. الأزمات الثّقافیّة والأخلاقیّة 87

6-3. الأزمات الاجتماعیّة للعالم المتقدّم (العصرنة) 89

ص:8

1-6-3. الأزمات الاجتماعیّة 89

2-6-3. فقدان الانسجام وتخلخل العلائق الاجتماعیة 89

7-3. أزمة الهویّة 90

8-3. نقد العصرنة حسب رؤیة ما بعد الحداثة 93

العصرنة مشروع غیر متکامل 94

4. تنقیح علاقة العالمیّة بماوراء الحداثة 97

مفهوم ما بعد الحداثة 98

نقد العصرنة حسب رؤیة ما بعد الحداثة 100

عولمة ما بعد العصرنة 105

ثقافة ما بعد العصرنة ومسارها العولمیّ 107

العلائم ما بعد الحداثویّة للعولمة 109

حصیلة الفصل الرّابع 112

5. علاقة العولمة والثّقافة 115

عولمة الثّقافة 115

تعارض الثّقافات 122

مناقشة نظریّة صراع الثّقافات والحضارات 124

نقد نظریّة صراع الحضارات 128

علاقة الشّرق والغرب 130

الحصیلة 132

القسم الثّانی: إفرازات العولمة

إفرازات العولمة 137

العولمة و التعولم 137

1. آثار العولمة علی الثّقافات 141

أثر المجتمع المعلوماتی علی حیاة الإنسان 141

تبلور قیم الثّقافة الجدیدة 142

1-1. استراتیجیّة الثّقافات فی مواجهة العولمة 144

2-1. العولمة وتعارض الثّقافات 146

3-1. مواجهة العولمة الغربیّة 150

4-1. آثار العولمة علی الدّین 151

ص:9

2. الإفرازات الاجتماعیّة للعولمة وعولمة العصرنة 155

أ) الإفرازات الاجتماعیّة للعولمة 155

ب) إفرازات عولمة العصرنة 164

الأزمات الاجتماعیّة 164

3. الإفرازات المعنویّة والدّینیّة للعولمة 171

1-3. أزمة المعنویّة 171

2-3. العدمیة 174

3-3. فقد المعنی والهدف 175

دور الدّین فی الحیاة 177

الدّین الدنیویّ أو إنکار الدّین 179

خلاصة القسم الثّانی 183

نظرة عابرة للإفرازات الاجتماعیّة للعولمة 184

القسم الثالث: علاقة الدّین والعولمة

1. تعریف الدّین 189

2. الدّین والعولمة 195

3. مکانة الدّین فی عالم الیوم 203

الحاجة إلی الدّین فی العصر الرّاهن 205

4. فلسفة وضرورة الدّین 207

5. إنجازات الدّین 211

أ) الإنجازات الاجتماعیّة للدّین 211

ب) الإنجازات المعنویّة للدّین 215

1. دور الدّین فی حلّ المشاکل الرّوحیّة للإنسان 215

2. دور الدّین فی إعطاء الحیاة بُعداً معنویّاً 216

3. دور الدّین فی الأمن النّفسیّ 217

4. الدّور النّفسیّ للدّین حسب وجهة نظر کارل غوستاف یونغ 217

ج) دور الدّین فی نموّ ورقیّ الفکر البشریّ 220

دور الدّین فی عملیّة العولمة 223

مسار تطوّر وتکامل الأدیان 224

مستقبل الدّین 225

الأدیان العالمیّة 226

ص:10

6. علاقة العلم والدّین 229

مکانة العلم فی المجتمعات الدّینیّة 233

مکانة الدّین فی عصر العلم 234

7. علاقة الدّین والعصرنة 235

نظریة إمکانیة الاستفادة من التّقنیة مع الحفاظ علی الهویّة الوطنیّة 237

إنجازات الدّین فی المجتمعات الحدیثة 239

علاقة العلم والدّین فی رأی بعض مفکّری العالم 240

العولمة والدّین 241

کیفیّة توافق الدّین مع الظّروف الجدیدة 245

العولمة والإسلام 249

الإسلام فی عالم الیوم 250

نتائج البحث 255

ما الخطاب الّذی یرید الإسلام أن یوصله إلی العالم؟ 262

هل باستطاعة الإسلام قیادة العالم فی العصر الرّاهن؟ 263

آراء بعض العلماء بالإسلام 265

عوامل استعادة الهویّة الإسلامیّة (عوامل التحضّر الإسلامیّ) 267

تحلیل نظریّة تعارض الإسلام مع العولمة 269

عولمة الإسلام 274

أدلّة شمولیّة وعالمیّة الإسلام 277

تمایز العولمة الفعلیّة وعالمیّة حکومة المهدیّ 286

ممیّزات عولمة الإمام المهدیّ عجل الله تعالی فرجه الشریف 287

المصادر 291

المجلّات 294

الآیات 295

ص:11

ص:12

أوّل المقال

«إنّ العالم فی حال توحّد وتصاغر. وإنّ القریة العالمیّة الّتی تکهّن بها ماک لوهان فی طریقها للتّحقّق».

ورنر شاب

«نحن نحیا فی صمیم ثورة عالمیّة (ثورة المعلومات) إنّ کوکبنا الأرضی یتعرّض لضغوط ثنائیّة متزایدة ومتضادّة: العولمة من جهة والتفتّت والتشتّت من جهة أخری».

الأمین العام السّابق للأمم المتّحدة بطرس غالی

«إنّ الوحدة العالمیّة هی آخر ما أمِلته وتلهّفت إلیه البشریة، فلطالما سعت لتأسیس حکومة عالمیّة».

دستویفسکی

ص:13

ص:14

توطئه

اشارة

العولمة: تیّار جارف یسوق البشریّة من عالم محدود، ثابت وشفّاف، نحو عالمٍ متجدّد، محیّر، متمرّد، مبهم ومجهول. عالم وسیع وبلا حدود، عالم المتضادّات والتعقیدات، عالم التشتّت الاندماجیّ والتکثّر الاتّحادیّ والتّصاغر الاتّساعیّ، هذا العالم ذو التّحوّلات السّریعة والمؤثّرة جعلت الإنسان - وهو یعیش فی خضمّ أزمات تحیط به فکریّاً و ثقافیّاً و اجتماعیّاً واقتصادیّاً وسیاسیاً - أن یقف وجهاً لوجه أمام مسائل مشترکة ومتعدّدة تُملی علیه التّخطیط لقضایاه المحلّیّة برؤیة عالمیّة شاملة.

و کما یری روبتسون: «إنّ التّبلور الشّامل للقیم والمعرفة العالمیّة یرتکز علی أساس القیم المعنویّة والازدیاد المضطرّد لحرکات و منظمات العالم الشّمولیّ، هذه الظروف، لعبت دوراً أساسیّاً فی تبلور المسألة العالمیّة. ومن ثمّ أقحمت الإنسان فی ظروف جدیدة، غطّت فیه علی هویّته وحاجاته وحیاته الاجتماعیّة والشّخصیة و لوّنتها بصبغة عالمیّة». إنّ هذه التّحّولات البنیویّة والشّاملة تدعنا نتساءل، إلی ما ستؤول إلیه مکانة الدّین ومستقبله فی هذا العصر، عصر العولمة؟

ص:15

عالم الیوم، عالم حدا بآل دوس هکسلی أن یصوّره بهذا التّصویر الیائس: «عالم وُضعت فیه الثّقافات والقیم الإنسانیّة فی درج النسیان، وفقد فیه الإنسان إرادته ومشاعره، وقصر همّته علی الرّخاء والتّطوّر واللّهو والتّسلّی بما أبدعه من صناعات وتقنیات».

فالعولمة بدل أن تقترح وتعرض بدیلاً لترکیبة البنی الاجتماعیّة والثّقافیّة، أوجدت تحوّلات و اختلالات فی عمق تلک البنی، تحوّلات فی قدرة الحکومات والدّول، فی ظرفیة وطبیعة الفکر البشریّ، وتمخضّت عن اضطراب فی الأسس الاجتماعیّة وفی التّوافق والتّضامن القومیّ، غزو الإعلام وتدفّق المعلومات، اختلال النّظام التّربویّ والتّعلیمیّ، تغیّر مفهوم الأمن الاجتماعیّ، انتقاض أسس العدالة الاجتماعیّة والدیمقراطیّة، إضعاف الذّات، تمزّق الثّقافات، تشتّت المؤسّسات الشّعبیّة و الحزبیّة، حرّیّة تبادل السّلع والخدمات علی النّطاق العالمیّ؛ کلّ ذلک یعدّ من الإفرازات الأساسیّة للعولمة.

ویمکن تلخیص أهمّ مسائل ومعطیات هذا البحث بما یلی:

فی مجال مستقبل الدّین فی عصر العولمة یمکن التّذکیر بما استدلّ به الفیلسوف الألمانیّ الشّهیر بول تیلیخ، فهو یذکّر بأنّه: «لایمکن علی الإطلاق إزاحة الدّین عن واقع الحیاة» ویستدل علی ذلک بقوله: «إنّ الأمر الدنیویّ لیس بإمکانه - لا ذاتاً وواقعاً - الاستمرار والدّوام بصورة مستقلّة وعلی انفراد، فالأمر الدّنیویّ لا یستطیع البقاء والاستمرار اعتماداً علی النّزعة الدّنیویّة فقط». وعلی هذا؛ فهو یتکهّن بانسیاق الإنسان نحو عمق الأصالة الدّینیّة فی نهایة المطاف. وها نحن مذهولون بهذا الانبعاث والتّجدّد الدّینیّ فی أتون هذا الرّقی الحضاری، هذه الصّحوة الدّینیّة تعکس فی الحقیقة نزوع النّوع الإنسانیّ نحو العدالة، التّمرّد علی معطیات العولمة، الانفلات من قیود المادّیّة، القلق من الأزمات الّتی تکتنف العالم... الخ، کلّ ذلک ساهم من الوجهة العقلیّة فی ردّ الاعتبار للدّین واکتسابه حیثیّة جدیدة.

ص:16

إنّ فکرة عولمة الحضارة الغربیّة تتضمّن تناقضاً ماهویّاً؛ ففیما لو أدّت عولمة الحضارة الغربیة إلی سحق واکتساح الثّقافات والعقائد الأخری، فإنّ ذلک سیؤدّی إلی سلب أیّ دور للبشریّة وثقافاتها المتنوّعة فی عالم المستقبل، فإذا کانت العصرنة ذات اتّجاه مستقبلی؛ وذلک بتسخیر المستقبل لتنفیذ أهدافها وغایاتها، فستقع عندئذ فی تناقض فاضح مع حقیقة العولمة الّتی هی بحسب الفرض عالمیّة وتستبطن التّبعیّة المتبادلة فیما بین الثّقافات، وفی تضادّ مع الهیمنة والتّسلّط.

إنّ تناقضات تیّار العولمة والتّعولم کثیرة جدّاً؛ فأزمة الحکم الوطنیّ، الحاکمیّة الوطنیّة والغرب، أزمة الأمن العالمیّ، الأزمات السّیاسیّة والاقتصادیّة و البیئویّة، أزمة الهویّة والمعنویّة، أزمة الأسرة والنظام التّعلیمیّ والثّقافیّ والاجتماعیّ تعدّ بعضاً من مظاهرها.

فالتّطوّر العلمیّ والتّقنیّ الیوم لا یقتصر علی الغرب وحده، فکلّ الثّقافات تتفاعل وتشترک فی التّأثیر لبلورة المستقبل العالمیّ، ولها دور مهمّ فی ذلک. فالعولمة ذاتها تدّعی بأنّ انتشار وسائل الاتّصال والإعلام سیؤدّی إلی وفاق ثقافیّ وتبلور (ثقافة عالمیّة) عبّر عنها مارشال ماک لوهان بعبارة (القریة العالمیّة - Global Village). إنّ فکرة الثّقافة العالمیّة لا یمکن تحقیقها إلّا من خلال صفة العالم التّقنّی؛ لکونها ولیدة للعلم والتّقنیة. ولکنّ هذا لا یعنی بأنّ هذه العملیّة تبتغی صهر وتذویب الفروقات الثّقافیّة، وخلق وإبداع ثقافة موحَّدة وشاملة.

1. إیضاح المسألة

إنّ موضوع هذا الکتاب (الدّین وعملیّة العولمة)، فالعولمة أضحت من المسائل المهمّة فکریّاً وثقافیاً لعالم الیوم، وتتضمّن أبعاداً متنوّعة ثقافیّة

ص:17

واقتصادیّة واجتماعیّة وسیاسیّة. هذه الظاهرة الجدیدة حدت بالکثیر من المفکّرین إلی التّأمّل والبحث فی جوانبها المتعدّدة؛ بحیث حاول کل منظّر منهم عرضها فی صیغة نظریّة علمیّة وذلک باستخدام کافّة الاستدلالات والأسالیب الممکنة.

فما هی العولمة؟ وکیف یمکن التّعرّف علی مفهومها، حقیقتها، ممیّزاتها ونتائجها بشکل صحیح باعتبارها ظاهرة معاصرة؟

فإلی الآن لم تتّضح أبعاد وحقیقة هذا التیّار الجارف، مع ما طُرح واتّخذ من أسالیب ومطالعات متعدّدة فی هذا المجال. فبعض الباحثین بحث المسألة من خلال بعدها الاجتماعیّ، وحاول دراسة تأثیرها علی الأسس والرّوابط الاجتماعیّة. والبعض الآخر طالعها من خلال الزّاویة السّیاسیّة، وحاول اکتشاف تأثیرها علی البنی السیاسیّة، شؤون السّلطة، علاقة الحکومة بالشّعب أو علاقات الدول ببعضها البعض وتأثیر ذلک علی الهویّة الوطنیّة والقومیّة. ونظر جمع آخر من المحقّقین إلیها من خلال علوم الاتّصال والتّقنیة المعلوماتیّة والتّأثیر الّذی أحدثته من خلال سرعة وسهولة تداول المعلومات علی الصّعید العالمیّ.

بعض المفکّرین الآخرین أمثال غینز وروبتسون؛ رکّز بحثه علی المظاهر الجدیدة والأبعاد الأکثر غموضاً للعولمة، وحلّلها بناءً علی مبدئی الثّقافة والمذهب.

إنّ أغلب المفکّرین الیوم یخوضون فی نطاق مفاهیم ثنائیّة الجانب، أمثال: (المحلّیّة والعالمیّة)، (الحداثة وما بعد الحداثة)، ویقترحون أحد جانبی هذه المعادلة حلاًّ لمشاکل العالم وقضایاه المادیّة؛ فبینما یری العولمیّون أنّ العولمة تعدّ الحلّ المناسب لمشاکل عدم التّنمیة، التّخلّف، الانزواء المحلّیّ. یقف المحلّیّون علی خلاف ذلک ویرون بأنّ المشکلة هی العولمة ذاتها وأنّ حلّها یکمن فی المحلّیّة.

ص:18

إنّ التجاذب الحاصل بین البقاء محلّیّاً والتّعولم، التّقلیدیّة والتّجدید، الحداثة وما بعد الحداثة؛ عملیّة معقّدة لها نتائج خاصّة، عملیّة تعدّ التجزئة وعدم التّشخّص وعدم الحتمِیّة والتّبدّل المستمر والفائق من مکوّناتها الأساسیّة. إنّ التّقدّم والتّجدّد المذهل والتّطوّر التّقنی تسبّب فی بروز ظواهر جدیدة ومفاهیم حدیثة؛ ثقافیّة واجتماعیّة وسیاسیّة واقتصادیّة. وقد تقارنت هذه الظّاهرة مع التّطوّر العلمیّ وثورة الاتّصالات وتقنیة المعلومات، ممّا أدّی إلی اتّساع نطاقها بسرعة فائقة.

وعلی رغم الجدل والبحث الوسیع الدائر فی مسألة العولمة، لم یحصل حتی الآن اتّفاق فی الآراء حول حقیقتها وأبعادها وآثارها. ولازال هناک طیف وسیع من المعترضین یسعون لإنکار وجودها الواقعیّ والموضوعیّ ممّا یرسّخ الخلاف فیما بینهم وبین أنصارها. فیا تری أین تکمن عقدة هذا الجدال والتّجاذب؟ فهل المسألة متعلّقة بعدم وجود عولمة أساساً، أم أنّها عملیّة من غیر الممکن بیانها وتحلیلها فی إطار المقولات والنّظم الفکریّة السّائدة. أم أنّها بسبب حقیقتها المتلوّنة وتأثیرها الجذریّ؛ تکتسب باستمرار أبعاداً جدیدة، ولذا لا یمکن وضع تعریف محدّد لها؟

ونظراً لتعدّد البحوث وعدم انسجام الأدلّة المطروحة فی هذا المجال، ینبغی ابتداءً توضیح النّقاط الأساسیّة والمختلَف حولها، کی نصل إلی النّتیجة المطلوبة ویتّضح مدی تطابق الاتّجاهات المطروحة حول العولمة مع نظریّة (هیمنة وانتشار الرأسمالیّة) أو (عولمة الرأسمالیّة) أو (عولمة العصرنة) أو (القریة العالمیّة) لماک لوهان، أو نظام (التبعیّة المتبادلة) لوالترشتاین؟

ویبرز هذا التّجاذب بشکل واضح فی المناظرات السّائدة فی أنّ العولمة، هل هی عملیة اقتصادیّة أم مشروع سیاسیّ؟ وهل هی أساساً تعدّ تطوّراً علمیّاً وتقنیّاً وبعبارة أخری؛ رؤیً جدیدة بوسائل جدیدة لإدارة العالم أم أنّها مجرّد عملیّة لیس إلّا؟

ص:19

وعلی أیّة حال، ینبغی النّظر فی مدی انسجام العولمة بمعناها الواقعیّ مع النّظریّات المطروحة والّتی یمکن إثباتها فی هذا المجال. فهل أنّ الرأسمالیّة اللیبرالیّة الغربیّة أو العصرنة الغربیّة تتناغم وتتّسق معها، أم أنّها تنسجم وتتوافق مع الأسس الفکریّة و الفلسفیّة للأدیان الإلهیّة؟ وأیّة رؤیة من هاتین الرؤیتین تستحق أن تکون باعثاً ومبرّراً للعولمة؟ إنّ هذا التّحدید یعدّ من المسائل المهمّة المتعلّقة بالعولمة.

2. أهمیّة البحث وضرورته

مع بدء الألفیّة الجدیدة، حقّقت البشریّة تطوّراً نوعیّاً سبّب تغیّراً ملحوظاً فی مظاهر العالم المعاصر والرّوابط والعلاقات الدّولیّة. حتی أصبح ذلک مدار حدیث السیّاسیّین، الاقتصادیّین، الفلاسفة وعلماء الاجتماع علی اختلاف اتّجاهاتهم ومشاربهم. ولا یتطرّق أدنی شکّ بأنّ البشریّة أخذت تتّجه وبسرعة فائقة نحو الاقتصاد والسّیاسة والثّقافة العالمیة الواحدة، ولکن مع ذلک کلّه لا توجد نظرة مشترکة فی مجال مفهوم (العولمة) وعلاقتها بأسبابها والنّتائج والآثار الّتی أفرزتها.

إنّ للعولمة کظاهرة مهمّة وحدیثة أبعاداً متنوّعة؛ ثقافیّة واجتماعیّة واقتصادیّة و سیاسیّة ألقت بظلالها علی جمیع البنی الثّقافیّة والاجتماعیّة، وأقحمت أدیان وثقافات جمیع الأمم والشّعوب فی أزمة حقیقیّة لا یمکن اجتنابها وتلافیها. وإذا ما أردنا مواجهة هذه الظّاهرة العالمیّة الشّاملة ینبغی أن تکون لدینا معرفة واقعیّة بحقیقتها وأسسها ومقتضیاتها. ونظراً لتأثیرها الّذی لایمکن إنکاره علی مکانة الثقافات والأدیان؛ غدت من أهمّ القضایا الدّینیّة والاجتماعیّة والثّقافیّة للعالم الإسلامی، وبناءً علی المعرفة والتّفسیر الّذی نمتلکه لهذه العملیة ستکون دراستنا وتحلیلنا لها مختلفاً إلی حدّ کبیر.

ص:20

3. مفاهیم أساسیّة

مفهوم العولمة

إنّ العولمة ( Globaliziation) تأتی بمعنی الصّیرورة العالمیّة، صنع العالمیّة، الاتّجاه العالمیّ والعالم الشّمولیّ؛ ویتعلّق جذرها - بشکل عامّ - بلفظة ( Global) الّتی تُستعمل فی المعانی التّالیة:

1. الشّیء المستدیر مثل الکرة والشکل الکرویّ.

2. کلّ شیء عامّ و کلّیّ وذو شمولیّة عالمیّة فتفید معنی ( Tatal).

3. جمیع المقولات العامّة الّتی تشمل الکرة الأرضیّة.

وفی هذا الخصوص یطرح السّؤال التّالی نفسه؛ وهو هل أنّ التّعولم والعولمة لهما نفس المعنی أم لا؟

إنّ أغلب المفکّرین الّذین قاموا باستقصاء البحث فی مجال العولمة والتّعولم یعتقدون بعدم الفارق فیما بین الاصطلاحین، ولا ینفرد أیّ منهما بمصداق أو مفهوم مستقلّ عن الآخر، بل إنّهما یتوافقان مفهوماً ومصداقاً ولا یوجد أیّ تمایز بینهما. ویبدو أنّ هناک خلطاً واشتباهً أساسیاً فی هذا الموضوع؛ وهو أنّ بعض التراجم لم تعرض بصورة صحیحة المعنی الدقیق لهذین المصطلحین، وعلی أساس ذلک لا یمکن أن یکونا ذا مفهوم واحد، کما أنّهما یتمایزان ویختلفان فی المصداق أیضاً.

وهنا لابدّ من القول، بأنّنا نلاحظ وجود ظاهرتین وعملیّتین مختلفتین تتضمّنان حقیقتین مختلفتین. فمن الناحیة المنطقیّة و المعرفیّة یمکن إطلاق مصطلح (التعولم) علی إحدی العملیّتین والّتی یمکن التعبیر عنها بالحالة الذّاتیة للتّحوّل العالمیّ، أمّا الظّاهرة الأخری وهی العولمة فینبغی اعتبارها مشروعاً مفروضاً من الخارج.(1)

ص:21


1- (1) إنّ التّعولم علی وزن تفوعل یفید التّغیّر والتحوّل الذّاتیّ دون إعمال إرادة خارجیّة أمّا العولمة فهی علی وزن فوعلة وتفید التّغیّر والتّبدّل من خلال إعمال إرادة خارجیّة. «المعرّب».

إنّ التّعولم بالمعنی الحالی دخل قاموس الأدب السّیاسیّ، الاقتصادیّ والثّقافیّ فی النصف الثّانی للقرن العشرین وذلک فی حدود عام 1980 فصاعداً. إنّ لفظة ( Globalizition) الّتی هی بالمعنی العامّ؛ الأمر ذو الاستیعاب والشّمول العالمیّ، وکذا بمعنی التکامل والاندماج الّذی یعتمد أحد النّماذج السّائدة عالمیّاً.

إنّ هذه التّعاریف علی رغم تفاوتها المفهومی والاستعمالیّ، لا یمکن أن تؤدّی المعنی الدّقیق للوضع الجدید والّذی عبّرنا عنه بالتّعولم. وکما تقدّمت الإشارة؛ ینبغی التّفریق من ناحیة المفهوم بین عملیة التّعولم وصیغة العولمة. عامّة المنظّرین یرون اتّحاد مفهومی التّعولم والعولمة، ولهذا فقد خلطوا بین ممیّزات ونتائج کلّ منهما. وینبغی الالتفات إلی هذه النّقطة؛ وهی أنّ التّعولم وکون العالم شمولیّاً أمر تعدّ العالمیّة من مقتضیاته الطّبیعیّة والذّاتیّة وهو یختلف عن الأمر الّذی لا یقتضی ذلک ذاتیّاً. وفی عقیدتنا أنّ (التعولم) هو المعنی اللازم للفظة ( Globalizition) ، أمّا العولمة الّتی هی بمعنی فرض العالمیّة وبسط نفوذ أنموذج معیّن علی جمیع المجتمعات هی المعنی المتعدّی لهذا المصدر.

ونظراً للاختلاف المفهومی بین هذین المصطلحین باللحاظ العملیّ والتّطبیقیّ یمکن القول؛ إنّ التّعولم هو الحالة الطّبیعیّة للنّمو والتّنمیة العلمیّة والتّقنیّة علی مستوی العالم. أمّا العولمة فهی بمعنی استیلاء وفرض أنموذج وطراز خاص یکون مدعوماً سیاسیّاً واقتصادیّاً وثقافیّاً للسیطرة علی غیره من الثّقافات والأمم وتذویبها فی بوتقته. وعلی هذا الأساس، فإنّ محاولة بعض المفکّرین تصویر المفردتین تصویراً واحداً مشترکاً یعدّ محاولة فاشلة وغیر موفّقة وناشئة من عدم التّمییز بین هذین الوجهین للتّحوّل إلی العالمیة.

ولتحلیل وبیان مسألة التّعولم یلزم الالتفات إلی عدّة قضایا أساسیّة:

ص:22

1. إنّ بعض الإبهامات والمغالطات الّتی ظهرت فی خصوص التّعولم کانت ناشئة من عدم الاطّلاع علی الجوانب والأبعاد المختلفة له.

2. إنّ بعض الباحثین یحاول تصویر التّعولم علی أنّه وسیلة لسیطرة النّظام الرأسمالیّ اللیبرالیّ أو أنّه غربنة للعالم، وینفون البُعد العلمیّ والمنطقیّ له، ویتناسون کلّ أسسه ومقتضیاته. فی حال أنّ العولمة هی المشروع الّذی یُراد منه بسط السّیطرة الغربیّة و تحقیق النّظام العالمیّ الجدید. فالتّعولم هو عملیّة تقوم علی أسس تاریخیّة وثقافیّة وفلسفیّة ولها مقتضیات مختلفة.

3. إنّ بعض الاشتباهات والتّحلیلات الخاطئة فی موضوع التّعولم نشأت من عسر وصعوبة التّفریق بین هاتین الظّاهرتین (التّعولم والعولمة)؛ لتقارنهما الزّمانی واشتراکهما فی بعض الوجوه، کالشّمولیّة، أو الاستفادة من أسباب التّطوّر العالمیّ، أو من خلال تعرّضها للإنکار أثناء البحث والنّقاش فیما بین المعارضین والمؤیّدین.

المقصود من (التّعولم)

(1)

بناءً علی الافتراضات والمقدّمات الآنفة وکما ذکرنا سابقاً ینبغی التّفریق فیما بین (التّعولم) و (العولمة) سواءً فی نطاق العلم المعرفیّ أو فی إطار التّطبیق والتّحقّق الخارجیّ: فمع أنّ کثیر من المفکّرین لم یکونوا بمنأی عن الوقوع فی مغالطات واشتباهات فی الخلط بین کلتا المقولتین، ولکنّ الموضوع یستدعی التّمییز بینهما، وقراءة وتحلیل مستلزمات کلّ منهما علی حدة. وعلی هذا فلابدّ من الالتفات إلی أنّ «التّعولم» هو موضوع علمیّ وفکریّ ویتضمّن تحوّلاً وتغیّراً بنیویّاً وأساسیّاً فی جمیع البنی الثّقافیّة والاجتماعیّة والاقتصادیّة

ص:23


1- (1) ونحن بدورنا سنستعمل مصطلح العولمة ویفهم المراد منه من خلال السّیاق إلّا فی المواضع الّتی یراد فیها التّمییز بین المصطلحین؛ وذلک لشیوع استعماله، کما أنّه لا تشاحّ فی الاصطلاح، (المعرّب).

الّتی تخصّ البشریة جمعاء، والّذی یعدّ عملیّة طبیعیّة للنّمو العلمیّ والتّقنیّ الحاصل. فی حال أنّ (العولمة) تعدّ منهجاً وموضوعاً خُطط له مسبقاً، ونموذجاً مفروضاً لأجل السّیطرة الاقتصادیّة والسّیاسیّة والثّقافیّة علی العالم، والّذی یرتکز فی الأساس علی مبادئ النّظام اللیبرالیّ والرأسمالیّ الغربیّ، بهدف استغلال المجتمعات الأخری وبأسلوب حدیث. إنّ هذا النّوع من العولمة أو بتعبیر أدق العولمة الغربیّة والّذی یصطلح علیه بغربنة العالم ( Westernize) لایمکن القبول به، فضلاً عن عدم إمکان تحقیقه. أمّا الصّورة الأولی للعولمة أو العولمة العلمیّة، فهی لیست عملیّة علمیّة مطلوبة فقط، وإنّما من الممکن تحقیقها، إضافةً إلی احتوائها علی فوائد إیجابیة وعالمیّة، وهی تماثل الثورة العلمیّة فی الغرب والّتی کان لها أثر کبیر فی العصرنة الغربیّة والإقرار بقیمة العلم ومکانة البحث والتّحقیق والاکتشافات العلمیّة والنّمو والتّحوّل العلمیّ.

و إذا أخذنا العولمة بمعنی کونها عملیّة وجدت جرّاء النمو العلمیّ والتّقنیّ، فهی فی ذلک تقوم علی الأسس العقلیّة والتّطوّرات العلمیّة والتّقنیّة، فلذا ینبغی عدم رفضها أو الفرار والانزواء تّجاه مقتضیاتها. إنّ التّعولم بهذا المعنی یعنی انکشاف الحدود الزّمانیّة والمکانیّة، وإمکانیّة التّداول السّریع للمعلومات الوفیرة والواسعة، واستعمال وسائل الإعلام العالمیّة، وکسب جموع کثیرة من المخاطَبین، وتیسیر الرّوابط والعلاقات فیما بین الثّقافات ومختلف أبناء البشریة بطرق مباشرة و غیر مباشرة، والتبادل السهل للسلع الثقافیّة والفنیّة والاقتصادیّة والعلمیّة والمعلوماتیّة علی المستویین الزمانیّ والمکانیّ. إنّ التّعولم یعنی فیما یعنی الوقوف وجهاً لوجه أمام تراکم المعلومات، الهمّ الإنسانیّ المشترک، الحاجات البشریّة المختلفة ومقتضیات الحیاة البشریّة الجدیدة.

ص:24

إنّ من الأهمّیّة بمکان أنّه من خلال (عملیّة العولمة) سیتّضح لنا جلیّاً المراد والمقصود من الدّین، فإنّ المقصود من الدّین فی هذا البحث لیس هو بمعنی عولمة الدّین أو صیرورة العولمة دیناً، أو خضوع العالم للدّین (دینونة العالم)، بل إنّ هناک تفاوتاً أساسیّاً وجدّیّاً بین أیٍّ من هذه العملیات، فإنّ حقیقة ونطاق کلٍّ منها یختلف تماماً عن الأخریات.

إنّ العولمة الّتی هی فی حال التبلور لا تقتصر علی عولمة الاقتصاد والسّیاسة والثّقافة، وإنّما هی عملیّة معقّدة لها أبعاد علمیّة وثقافیّة واقتصادیّة وسیاسیّة واجتماعیّة وتقنیّة متعدّدة. فلیس المقصود من عولمة الدّین هنا هو انتشار واستیلاء دین ما علی غیره من الأدیان والثّقافات، بحیث یکون ملهماً فی کافة مجالات الحیاة البشریّة، أو تغلغل الدّین فی الحیاة الفردیّة والاجتماعیّة علی النّطاق العالمیّ. مع کون هذه المسألة قد أکّدها الإسلام وتعلّق بها الوعد الإلهی الحتمیّ فی تحقّق العولمة للدّین الإسلامیّ، ومع أنّ هذا النوع من العولمة ینسجم وما تصبوا إلیه المجتمعات الدّینیّة وکثیر من المتألّهین، ولکنّها تختلف والعملیّة الفعلیّة للعولمة.

ونحن فی هذا البحث لسنا بصدد بیان هذا النوع من عولمة الدّین، ولکنّنا نخوض عملیّة تتبلور خارج نطاق الدّین ودون تدخّله وتؤدّی تبعاتها إلی توتّر وتأزّم الحیاة الدّینیّة وتضیّق الخناق علی بعض مجالاتها، وتمحو مظاهر الدّین عن سیماء المتدیّنین، أو أنّها ربما تهیّء فی بعض الموارد فرصاً لنمو الدّین وانتشاره. والسّؤال الأساسیّ الّذی یطرح نفسه هنا، هو المکانة الّتی سیؤول إلیها الدّین فی عصر العولمة. فهل یستطیع الدّین لعب دور أساسیّ ومؤثّر، أم أنّ العولمة عملیّة علمانیّة محضة لا تتّفق والدّین؟ أم أنّها بذاتها وطبیعتها لا تحمل أیّ بلاغ قیمیّ وأیدیولوجیّ، وما هی إلّا وعاءً بإمکانه استیعاب أیّة ثقافة کانت؟

ص:25

4. أسئلة البحث

إنّ هذا البحث وبناءً علی الموضوع الّذی یطرقه یتعهّد بالإجابة عن الأسئلة التّالیة:

1. ماهی العولمة؟

2. ماهی ممیّزاتها؟

3. ماهی أبعادها؟

4. ماهی أسسها الفکریّة والفلسفیّة؟

5. هل التّعولم عملیّة طبیعیّة وموضوعیّة أم إنّه مشروع وأطروحة؟ وبماذا یختلف عن العولمة؟

6. ماهی آثارها فی دائرة الثّقافة والدّین، وما هی التّغییرات الّتی ستُحدثها فی البیئة الدّینیّة؟

7. کیف ستکون مکانة الدّین وبخاصة الإسلام فی عصر العولمة؟

نظراً لحتمیة هذه العملیة وتأثیرها علی الدّین نظریّاً وعملیّاً، لذا ینبغی التّفکیر فی کیفیة تلافی آثارها السلبیّة ونتائجها الخطیرة والحؤول دون وقوعها؟

وللإجابة عن الأسئلة الآنفة وطرح أیّ حلول فی هذا المجال فنحن بحاجة إلی بیان واقعیّ وموضوعیّ للعولمة والالتفات إلی دورها فی تقریر مصیر الحیاة البشریّة، ومع وجود مفکّرین کثیرین حاولوا بآرائهم وتوجّهاتهم المختلفة؛ التنظیر لهذه الظاهرة بطریقة واضحة، ولکنّهم عجزوا عن التوصّل إلی تفسیر واقعیّ وعلمیّ لها. ونحن فی هذا البحث سنسعی وبأسلوب جدید ونقدی للافتراضات المطروحة أن لا نقتصر علی التّعامل مع العولمة بذاتها، وإنّما نحاول اکتشاف أسسها وجذورها العلمیّة والفلسفیّة ومراعاة مبادئها ومعطیاتها.

ویبدو أنّ معظم المفکّرین یعتبرون العولمة معلولاً وظاهرة جدیدة مفروضة ومشؤومة، وقد دعی ذلک المعارضون والمؤیّدون علی السواء،

ص:26

دعاهم إلی عدم إظهار کونها موضوعاً منطقیّاً ومعقولاً. ولأجل ذلک سیکون سؤالنا المحوری فی هذه الصفحات، هو کیفیة إدراک وفهم حقیقة العولمة، آخذین بنظر الاعتبار معطیاتها وأسسها الفکریّة والفلسفیّة والعلمیّة، والتّدلیل علی أنّ کلّ واحدة من الفرضیّات المطروحة قد نظرت إلی العولمة من زاویة خاصّة ولم تستطع أن ترسم نموذجاً حقیقیّاً ومستقلاًًّ لها. ومن هنا ینبغی النظر فی ما یمکن إثباته وتحقّقه من تلک الفرضیّات، لنعکف حینها علی بیان العلاقة بینها وبین الدّین وخصوصاً الإسلام.

إنّ هذا الأسلوب الجدید من الممکن أن یعطینا رؤیة جامعة ومعرفة أدقّ بهذا الموضوع الواسع والمتشعّب، نستطیع من خلالها وبتعامل معقول مع هذه الظّاهرة؛ اتّخاذ طریقة منطقیّة ومحدّدة والاستفادة من هذه الفرصة باعتبارها أرضیّة فکریّة لعرض الإسلام عالمیّاً.

5. فرضیة التحقیق و البحث

نظراً لکون العولمة عملیّة حتمیّة ولا یمکن تلافیها، فهل ینبغی أن نعتبرها عملیّة طبیعیّة لاستمرار العصرنة، أم أنّها مشروع سیاسیّ واقتصادیّ تصبّ فی اتّجاه غربنة العالم؟ وبناءً علی هذا الافتراض لابدّ من استکشاف مدی تأثیر مثل هذه العملیّة علی الثّقافات والأدیان فی البُعدین النّظریّ والعملیّ. فهل یمکن الوقوف بوجه إفرازاتها السلبیّة؟ وهل یمکن استخدامها کوسیلة لنشر الدّین ونفوذه علی مستوی العالم؟ و لأجل رکوب موجة مثل هکذا وسیلة، ماهی المقترحات والأفکار الّتی یمکن طرحها؟ ما هی افتراضات الخصوم فی هذا المجال، وأیٍّ منها یمکن تحقیقها وباستطاعتنا بیانه؟ وفی هذا السیاق یمکن ذکر النّظریّات المطروحة فی هذا المجال، کنظریّة (عولمة العصرنة)، (عولمة الرأسمالیة)، نظریّة العبور من العصرنة (تجاوز العصرنة) والّتی تُشبّه

ص:27

العولمة بمرحلة ما بعد الحداثة، نظریّة (الأنظمة العالمیّة) لوالرشتاین، العالِم الاجتماعیّ المعاصر، نظریّة (نهایة التّاریخ) لفوکویاما والّتی یبشّر فیها بتفوّق الحضارة الغربیّة، نظریّة (صراع الحضارات و الثّقافات) الّتی طرحها المنظّر الأمریکیّ هنتیغتون، ونظریّة (حوار الحضارات) الّتی جاءت کردّ فعل علی النّظریّة السّابقة، ونظریّة (عالمیّة العلم والتقنیة) الّتی تعدّ من أهم تلک النّظریّات، والّتی نحن بصدد إثباتها وترسیخها.

إنّ العولمة قبل أن تکون موضوعاً استعماریّاً أو عملیّة لنمو وانتشار الرأسمالیّة، أو عولمة للعصرنة، أو دخولاً فی مرحلة ما بعد الحداثة، أو أیدیولوجیّة لنهایة التّاریخ، فقبل أن تکون کذلک، کانت نتیجةً للتّطوّر المذهل للفکر البشریّ وسرعة تنامی الاتّصالات وتبادل المعلومات ورفع الحصار المالیّ والمادّیّ بواسطة مکاسب التقنیة البشریّة، والّتی یمکن لأیّ من الحضارات والثّقافات الاستفادة من آلیّاتها واستغلال الفرص المؤاتیة لإشاعة ثقافتها عالمیّاً.

وسنتوفّر فی هذا البحث علی دراسة کلّ من هذه النّظریّات لنختار فی آخر الأمر النّظریة السّادسة (عالمیّة العلم والتقنیة) الّتی تؤکّد علی أنّ أجواء الاکتشافات العلمیّة وبالخصوص تقنیة الاتّصالات (والّتی تعدّ من عناصرها الأساسیّة) ساهمت فی محو وإزالة الفواصل الزمانیّة والمکانیّة وزیادة المعرفة، وقد عرفنا بأنّ العولمة ما هی إلّا «ثورة معلوماتیّة» وتقدّماً علمیّاً للمجتمعات البشریّة ونموّاً للفنون الاتّصالیّة الحدیثة، وفی النّتیجة ازدیاد العلاقات فی الشؤون البشریّة بأبعادها المختلفة، ولیس ذلک إعمالاً لنفوذ حضارة وثقافة معیّنة علی العالم، وعلی خلاف کثیر من المنظّرین؛ نعتقد أنّ العولمة لیست استمراراً للعصرنة ولیست تجاوزاً لها ودخولاً فی عصر ما بعد الحداثة، ولیست استیلاءً للرأسمالیّة، ولیست بمعنی غربنة العالم أو عولمةً

ص:28

غربیّة، وإنّما هی عملیّة علمیة وطبیعیّة علی خلاف العولمة الغربیّة الّتی تعدّ مؤامرة إمبریالیّة غربیّة.

6. أسلوب البحث

اشارة

سنحاول فی هذا البحث الترکیز علی الجوانب الثّقافیّة والمعرفیّة للعولمة لنتوصّل من خلال التعاریف المتعدّدة والمبهمة المطروحة؛ إلی تعریف واضح ینسجم والوقائع السائدة، ویُزیل ویکشف النقاب عن الأسالیب العلمیّة والمقولات والرؤی الفکریّة للمفکّرین. ومن هنا فإنّ هذا البحث غالباً ما یتّخذ الطابع النّظریّ والعلمیّ، ویحاول اکتشاف حقیقة وماهیّة العولمة، وقراءة العلاقة والتأثیر الّذی تحدثه هذه العملیّة علی الثّقافة والدّین. ومن الطبیعی جدّاً أنّه لیس باستطاعته الکشف عن جمیع أبعاد و استلزامات هذه العملیة. ولهذا سنتلافی الخوض فی أبعادها السّیاسیّة والاقتصادیّة والعسکریّة، فهی خارج نطاق اختصاصنا.

ونظراً لدینامیّة هذه العملیّة ومقتضیاتها، لا نستطیع الحکم علیها بصفة قطعیّة، أو تصویر رؤی وتصوّرات عصر العولمة، ولکن من خلال الإحاطة بأسس هذا التیّار السیّال والمتحرّک یمکن الاطّلاع والتعرّف علی مظاهرها المجهولة ولوازمها وإفرازاتها، تلافیاً للحیرة والارتباک فی مواجهة مفاجآتها.

ومن ناحیة الأسلوب المعرفیّ وطریقة البحث؛ ینبغی القول أنّه یمکن الاستفادة من أسالیب متعدّدة لبیان ظاهرة العولمة:

1. من منطلق نظریّ صرف واتّجاه فلسفیّ وانتزاعیّ.

2. أسلوب الواقعیّة والمبدئیّة.

3. الطّریقة التّجریبیّة واستقصاء الوقائع والتّغییرات العالمیّة فی عالم السّیاسة والاقتصاد والاجتماع والثّقافة.

4. الأسلوب الانتقادی (کأسلوب ما بعد الحداثة).

ص:29

إنّ علماء الاجتماع الیوم وبناءً علی دراستهم للتّغیّرات الاجتماعیّة من خلال مطالعة العلوم الاجتماعیّة والتاریخیّة، أخذوا فی دراسة علاقات المعطیات والمتغیّرات الاجتماعیّة، وذلک لرسم الخطوط العامّة لظواهر المستقبل. فی حال شرع بعض المنظّرین وبأسالیب متنوّعة فی دراسة ظاهرة العولمة، وفی هذا المجال برزت نظریّات (السّلام الدیمقراطیّ)، (نهایة التّاریخ)، (صراع الحضارات والثّقافات)، (حوار الحضارات)، (التبعیّة المتبادلة) و (ترویج العصرنة)، وکلّها تصبّ فی بیان مستقبل العالم والتکهّن بنوع علائقه المجتمعیّة.

ونحن بدورنا سنخوض وبأسلوب علمیّ فی دراسة حقیقة وماهیّة العولمة، أصولها وأسسها وأسباب ظهورها، وکذا سندرس علاقتها بالدّین، ونعکف علی تبیینها وحلیلها کأمر واقعیّ وکظاهرة علمیّة ملموسة بطریقة فلسفیّة ومعرفیّة، ونحاول کذلک نقد ودراسة النّظریّات المطروحة حولها، ونبحث فی مجال علاقة وارتباط تلک النّظریّات بظاهرة العولمة، ومن خلال ذلک سیتّضح الاختلاف الفاحش فیما بین المفکّرین حول حقیقتها.

وعلی هذا فالمسألة المهمّة فی هذا البحث، هی أنّنا لا نستطیع التّحدّث عن علاقة العولمة بالدّین ما لم نمتلک إدراکاً صحیحاً وواقعیّاً ومعرفیّاً عنها، وقبل اکتشاف أبعادها ومقتضیاتها. ومن هذا المنطلق؛ فإنّ عرض أیّ أسلوب فی هذا المجال ینبغی أن یکون مبتنیاً علی نظریّة علمیّة ومنطقیّة محدّدة.

أسلوب المعرفة الدّینیّة (معرفة الدّین)

إنّ هناک معاییر خاصّة لأسالیب البحث العلمیّ فی موضوع الدّین، فینبغی أن تتطابق والمعاییر العلمیّة والعقلیّة من جهة، وأن تکتسب رضا

ص:30

وقبول المجتمع الدّینیّ من جهة أخری. إنّ المعرفة الدّینیّة بشکلها العلمیّ والقانونیّ، تعتمد علی تجزئة وتحلیل وتفسیر التّعالیم الدّینیّة والعقائد والمذاهب، ویمکن أن تحوی جنبة معرفیّة؛ تاریخیة واجتماعیّة ونفسیّة وکلامیّة وفلسفیّة. ولکنّ الأصل فی المعرفة الدّینیّة؛ أنّها علم وضعیّ، الهدف منه فهم حقیقة جمیع الأدیان وفلسفتها وضرورتها. ولأجل ذلک، نلاحظ تفاوتاً بین استنتاجات وأسالیب وأهداف البحث الدّینیّ عن غیره من العلوم.

ولهذا السّبب بالذّات، جاء اتّجاه البحث الحالیّ، فهو یحاول معرفة مکانة الدّین من خلال اعتماده علی التّغیّرات التاریخیّة والاجتماعیّة، وسیختصّ القسم الأعظم من البحث حول دور الدّین فی الحیاة البشریّة وعلاقته بالمؤسّسات والبنی الاجتماعیّة والتّحوّلات العلمیّة والثّقافیّة للمجتمع. ومن هذه الجهة ستکون لملاحظات علم الاجتماع الدینیّ والفلسفة الدّینیّة دور مهمّ فی هذا البحث.

إنّ إحدی مشاقّ هذا البحث، هو عرض تعریف وبیان کامل وجامع للعولمة یکون مقبولاً من قبل الجمیع. إنّ هذا المفهوم لحداثته وتعقیداته لم یتشخّص بشکل واضح حتی الآن، وکلّ من بحثه من المفکّرین نظر إلیه من زاویته الخاصّة، فجاءت التّعاریف متعدّدة ومتناقضة فی بعض الأحیان. ولهذا لا یمکن الرکون إلی المصادر المدوّنة فی هذا المجال لفقدانها التّجربة الکافیة والرّصید النّظری الّذی یعتمد علیه. ولذا سیکون الحکم عسیراً فی قبول أو ردّ أیٍ من النّظریّات المطروحة أو کونها ذات استدلال متقن ومطابق للواقع. فینبغی علی المفکّرین الّذین یمتلکون اطّلاعاً واسعاً فی موضوع الحداثة والعلوم الاجتماعیّة، العلاقات الدّولیّة؛ تقویم ونقد النّظریّات المطروحة فی أسباب ودواعی العولمة ونتائجها.

ص:31

7. تاریخ العولمة

یرتبط البحث فی تاریخ العولمة ارتباطاً وثیقاً بتعریفنا لها، فیُرجع البعض تاریخ العولمة إلی ظهور أوّل الحضارات، أی منذ حدود ثلاثة آلاف سنة مضت. ویری هؤلاء بأنّ الاتّجاه نحو العولمة وحلم العالمیّة والانفتاح العالمیّ ترعرع فی أکناف جمیع الامبراطوریّات والممالک الغابرة. والبعض یربط تاریخها بظهور الثّورة الفکریّة والعلمیّة فی الغرب وعصر التّنویر الفکریّ، ویعتقد بأنّ العولمة تزامنت مع توسّع وانتشار العصرنة. وبعض المنظّرین اصطلحوا علی العولمة اصطلاح الدّولیّة أو التدویل أو ما بعد الدولیّة، وربطوا ظهورها بالحرب العالمیّة الأولی ونشوء المجتمع الدّولیّ ومن ثمّ منظّمة الأمم المتّحدة عام 1945. أمّا رولاند روبتسون(1) فقد حلّل تاریخ العولمة علی ضوء التّحوّلات العالمیّة المهمّة، والّتی عبّر عنها بالمراحل الخمسة، وبحسب اعتقاده إنّ ظهورها کان تدریجیّاً وممتدّاً من القرن الخامس عشر وحتی القرن الواحد والعشرین. فهو یری بأنّ العولمة طوت المراحل التالیة:

1. مرحلتها الأولی ابتدأت مع تفکّک الکنیسة وظهور المجتمعات الحکومیّة وتأسیس الکنیسة الکاثولیکیّة وطرح فکرة محوریة الفرد أو أصالة الفرد وظهور النّهج الاستعماریّ.

2. المرحلة الثّانیة تزامنت مع الحوادث الّتی عصفت بأوربا خلال الفترة (1750-1875) ففی هذه المرحلة شاهدنا ظهور النّظام السّیاسیّ، الدّولة، الشّعب، حقوق المواطن، الاتّفاقات والمعاهدات الدّولیّة وطرح فکرة تأسیس الجمعیّات الدّولیّة.

3. المرحلة الثّالثة؛ مرحلة القفزات المشهودة لعملیّة العولمة والّتی وقعت خلال الفترة (1875-1925). فقد لعبت أربعة عوامل عالمیّة دوراً مؤثّراً فی

ص:32


1- (1) یان ارشولت، نظرة فاحصة لظاهرة العولمة، ص 73. «التّرجمة الفارسیّة لمسعود کرباسیان».

هذه المرحلة، وهی عبارة عن: الحکومات الّتی اعتمدت نظام الدّولة، الشّعب، نمو العلاقات الدّولیّة، طرح نظریة حقوق الإنسان ونشوب الحرب العالمیّة الأولی.

4. المرحلة الرّابعة؛ والّتی عاصرنا فیها تکوّن المجتمع الدّولیّ وتأسیس منظّمة الأمم المتحّدة، وقوع الحرب العالمیّة الثانیّة والمرحلة الطّویلة للحرب الباردة وظهور منظومة دول العالم الثّالث وظاهرة الاستعمار.

ویوافق بول سوئیزی هذا الرأی، حیث یعتقد: «بأنّ العولمة لیست وضعاً وظاهرة جدیدة، ولکنّها حالة کانت مستمرّة منذ مدّة طویلة.

وفی الواقع إنّ عملیة العولمة ابتدأت منذ اتّخاذ المجتمعات الغربیّة النّظام الرأسمالیّ أسلوباً لنمط حیاتها».(1)

وفی رأیه إنّ الرأسمالیة ذات توسّع وانتشار ذاتیّ، سواء فی جانبها الداخلیّ أم الخارجیّ، وقد حدّد بعض المفکّرین المراحل التّاریخیّة لنمو الرأسمالیّة وانتشارها: «إنّ إحدی هذه المراحل، هی السیطرة علی القارّة الأمریکیّة، والقضاء علی حضارة الهنود الحمر، وفرض الثّقافة الغربیّة علی مجتمعاتهم. المرحلة الثّانیّة؛ النّفوذ المدمّر للرأسمالیة أو النّظام الإمبریالیّ الغربیّ الّذی رافق الثّورة الصّناعیّة، والّتی تسبّبت فی صنعنة الاقتصاد مما أدّی إلی افتتاح أسواق جدیدة ومن ثمّ إلی استعمار قارتی آسیا وأفریقیا فی نهایة المطاف».(2) ومن المعلوم أنّ هذه المرحلة من الاختراق والسّیطرة الإمبریالیّة ترافقت مع إشاعة وسائل سیاسیّة کإشاعة الحریّة والدّیمقراطیّة، حقوق الإنسان، وکذا مع وسائل ثقافیّة واجتماعیّة کالتّجدید، النّمو الثّقافیّ وعصرنة الأمم الأخری، تیار التّنویر الفکریّ والمؤسّسات المدنیّة وغیرها. ونحن الیوم «نشهد بدایة الموجة الثّالثة من محاولة تدمیر المجتمعات لتعبید طرق

ص:33


1- (1) بول سوئزی، هدف العولمة، ص 7، «التّرجمة الفارسیّة»
2- (2) المصدر نفسه، ص 7.

الإمبریالیة جرّاء انهیار النّظام الاشتراکیّ السوفیتیّ، والّتی تهدف إلی نشر الرأسمالیّة، السّیطرة علی الأسواق، نهب الثّروات واستغلال القوی الفکریّة والعاملة فی کافّة أنحاء العالم».(1) وتُتابع هذه المقولة الأیدیولوجیّة من خلال التدخّل فی الشّؤون الداخلیّة و (الدّفاع عن الدّیمقراطیّة)، (حقوق الإنسان)، (بسط السّلام) و (إقرار الأمن).

وفی رأی بعض المفکّرین، أنّ هذه الظاهرة ابتدأت فی عهد الاستعمار وإنشاء المستعمرات وقد احتدّ تأثیرها فی عقد السّبعینات من القرن الماضی، وأکسبتها التّغیّرات العالمیّة إطاراً جدیداً إثر انحلال النّظام الشّیوعیّ، وأدخلت کافّة مناطق العالم فی بوتقة نظام واحد.

الرؤیة الأخری فی مجال تاریخ العولمة - والّتی تعدّ رؤیة جامعة ومقبولة إلی حدّ ما - النّظریّة الّتی تقول بتأثیر عوامل مختلفة فکریّة، ثقافیّة، سیاسیّة، اقتصادیّة، علمیّة وتقنیّة وبشکل عامّ جمیع الحضارات والجهود البشریّة، فی تبلور وإیجاد ظاهرة العولمة؛ ولکنّ الأسباب الثّقافیّة والعلمیّة، نمو تقنیة المعلومات و التّقدّم التّقنیّ فی مجال وسائل الاتّصال کان لها دور مؤثّر فی ظهورها. وعلی هذا فإنّ حدوث الثّورة الصّناعیّة فی الغرب کان من الممهّدات الرئیسیّة للعولمة.

8. ممهّدات العولمة

أ) الممهّدات الفکریّة

إنّ بعض الباحثین ومن خلال إیراد بعض الشّواهد، یعتقد بأنّ انطلاقة العولمة قد تزامنت مع التّجدید والعصرنة.(2) ویری بأنّ التّقدّم العلمیّ الّذی حدث إثر

ص:34


1- (1) الوین تافلر، الموجة الثّالثة، ص 57، «التّرجمة الفارسیّة».
2- (2) غینز، انتونی، إفرازات الحداثة، ص 51، «التّرجمة الفارسیّة».

النّهضة والثّورة الصّناعیّة والاختراعات واکتشاف وسائل الاتّصال، مثل: الهاتف، التّلغراف، الرّادیو، التّلفاز، الأقمار الاصطناعیّة و الأنترنیت، کان له أبعد الأثر فی نموّ وتغییر المجتمعات ورفع الحدود الزمانیّة والمکانیّة والفضائیّة. وبعبارة ماک لوهان الممیَّزة؛ صیرورة العالم (قریة عالمیّة) أو قریة صغیرة.

إنّ جمیع الممهّدات والأسباب الّتی أشرنا إلیها فی هذا القسم، ترتبط بعملیّة العولمة وتعدّ من علائم أو عوامل بروزها. ولکن یبدو أنّ أغلب المفکّرین لم یولوا الأسس الفکریّة والفلسفیّة للعولمة الدّقة والاهتمام الکافیین، فلو حاولنا معرفة الأسس الفکریّة لمرحلة العصرنة وقراءة مؤشّراتها ومحاورها بطریقة تحقیقیّة ومنطقیّة، لتوصّلنا إلی نتیجة قاطعة تبیّن بأنّ عملیّة العولمة ما هی إلّا مرحلة طبیعیّة لا یمکن اجتنابها ومرتبطة بالمرحلة السابقة علیها ألا وهی «العصرنة».

وبهذه الرؤیة یمکن حلّ کثیر من الغموض الّذی یکتنفها، ومع تحلیل مؤشّراتها وممیّزاتها فی إطار الأسس والقواعد الّتی ترتکز علیها یمکن استکشاف آفاقها المستقبلیّة ومدی تأثیرها علی المصیر الفکریّ والاجتماعیّ والثقافیّ للمجتمعات الأخری.

وبناءً علی المعیار العلمیّ والفلسفیّ المتقدّم، فسنقوم ابتداءً بالتّحقیق فی الافتراض الّذی یدّعی ارتباط العولمة بالعصرنة وکونها إحدی مراحلها المهمّة والمتکاملة. ومن خلال إعادة قراءة وتحلیل أسس وممیّزات مرحلة الحداثة، سندرس الأسس الفکریّة والفلسفیّة للعولمة. ویمکن الإشارة تاریخیاً إلی ممهّدات فکریّة ودینیّة وسیاسیّة کثیرة لفکرة العالمیّة والعولمة. وملاحظة انعکاس فکرة الحکومة العالمیة الواحدة فی آراء کثیرٍ من المفکّرین، أمثال: جون جان لاک، کانت، هیجل، ماک لوهان، الوین تافلر، تولستوی وغیرهم.

خلاصة الأمر، أنّ الاتّجاه نحو العالمیّة لم یتبلور فی الواقع الموضوعیّ

ص:35

قبل القرن التّاسع عشر، ولکن من النّاحیة الفکریّة والفلسفیّة والعقائدیّة کان لهذه الفکرة حضور ملموس فی أغلب الأدوار التّاریخیّة.

فمن النّاحیة الدّینیّة والعقائدیّة یمکن القول: إنّ الیهود بالتّحدید کانوا ومنذ قرون متمادیة تداعبهم أحلام تحقیق مجتمع عالمیّ والسّیطرة علی أرجاء العالم قاطبة.

وفی المسیحیّة کان حلم العالمیّة حاضراً أیضاً، وقد تجسّد ذلک بالاعتقاد بأنّ «المسیح» سیحکم کلّ ما أشرقت علیه الشّمس، ومن هنا نراهم یترقّبون الحکومة العالمیّة للمسیح.

أمّا المسلمون، فهم یعتقدون بأنّ الأسلام دین عالمیّ وذو رسالة عالمیّة ولابدّ أن یأتی ذلک الیوم الّذی تتحقّق فیه عالمیّته بظهوره علی غیره من الأدیان. إضافةً إلی أنّ حکومة الإمام المهدیّ عجل الله تعالی فرجه الشریف فی عصر ظهوره ستُحقّق العدالة الحقیقیّة والسّلام العالمیّ والدّین الواحد والحکومة العالمیّة الواحدة.

وأمّا من النّاحیة الفلسفیّة، فإنّ فکرة العولمة والعالمیّة یمکن تلمّسها فی آثار بعض الفلاسفة، ومن ضمنهم هیجل الّذی لمّح إلی عولمة الحضارة الغربیّة، ففی کتابه «فلسفة التاریخ» یشیر إلی مراحل نمو الحضارات العالمیّة، أمثال: حضارة إیران، الیونان والروم، ویبحث فی أسباب ظهورها واضمحلالها. فهو یعتقد بوجود ثلاث مراحل تکاملیّة لکلّ حضارة کبیرة، لا یمکن تخلّفها عنها، ویفصّل ذلک کالآتی:

المرحلة الأولی: مرحلة الولادة والظّهور.

المرحلة الثّانیة: مرحلة الرّسوخ والنّضوج.

المرحلة الثّالثة: مرحلة الانفتاح والخروج عن حدودها وانتشارها عالمیّاً.

وفی اعتقاد هیجل أنّ مرحلة الحداثة لکونها عقلیّة، ستکون هی المرحلة النّهائیّة والمتکاملة للحضارات. ففی رأیه أنّ الحضارة الغربیّة قد طوت المراحل الثلاث الآنفة، وها هی الآن قد وصلت إلی مرحلة العقلانیّة، وهی

ص:36

فی حال التّوسّع والشّمول. فهذه الحضارة وبارتکازها علی الحداثة سیستمرّ تجدّدها ونشاطها ودینامیّتها، ولکونها تتمیّز بالخصوصیات الثّلاث المهمّة الآتیة، فهی تعدّ غایة ومنتهی کلّ الحضارات البشریّة. فالممیّزات الثلاث للحضارة الغربیّة فی رأی هیجل هی کالتالی:

1. الخلاصیّة(1) والشّمولیّة العالمیّة.

2. عدم المحدودیّة حسب الرؤیة الفلسفیّة والرّیاضیّة.

3. تمایز الإنسان عن الطّبیعة والاعتقاد بهیمنته الواقعیّة علی العالم الّذی هو محصّلة تمایز الشیء عن موضوعه.

ب) الممهّدات السیاسیّة والاجتماعیّة

إنّ موضوع العالمیّة وتأسیس حکومة عالمیّة کان من المواضیع المهمّة فی الفلسفة السیّاسیّة المعاصرة، وقد عُرض من قبل المنظّرین والسّیاسین بأسالیب واتّجاهات متعدّدة ترتکز جمیعها علی مسألتین:

المسألة الأولی: تعدّد الحکومات، الثّقافات والقیم واستقلالها عن بعضها البعض فی السّابقة والمنشأ الحضاریّ والتاریخیّ.

المسألة الثّانیة: إنّ العقلانیّة تعدّ أسلوباً وتدبیراً لحلّ المشاکل العالمیّة المشترکة وتحول دون وقوع الفوضی فی العلاقات الدولیّة الّتی تنشأ عن تعدّد الحکومات والثّقافات، وأنّ فلسفة تأسیس الأنظمة والمبادئ الدولیّة والعالمیّة یصبّ فی هذا الاتّجاه أیضاً. وکما یقول عالم الاجتماع الشهیر سان سیمون (القرن الثّامن عشر): «إنّ تجارب جمیع القرون تثبت بأنّ الإنسان یسعی دائماً للحصول علی مستقبل أفضل والّذی یصبّ فی اتّجاه رفاهیة

ص:37


1- (1) فکرة بروتستانتیّة تقول بإنّ النّاس سینعمون جمیعاً بالخلاص آخر الزمان. «المعرّب عن المورد».

ورخاء مجتمعه. ولهذا نری الإنسان یمیل فطریّاً نحو إصلاح القوانین السّیاسیّة الحاکمة فی مجتمعه».(1) ویستنتج من ذلک بأنّ هذا الاتّجاه سینتهی إلی «تحقّق وتبلور عالم منظّم ومخطّط له».(2)

ج) الممهّدات التاریخیّة للعولمة

إنّ ممهّدات العولمة تجلّت واتّضحت منذ حصول الثّورة العلمیّة وتطوّر التّقنیة الغربیّة، فقد أعقب عولمة الصّناعات والشرکات العالمیّة ومتعدّدة الجنسیّات من خلال الاندماج فی البنک الدّولیّ وکذا عولمة الأنظمة المالیّة والتّجاریّة، أعقبها مقتضیات ومستلزمات متعدّدة استولت علی الجوانب الثّقافیّة والاجتماعیّة والسّیاسیّة لحیاة الإنسان، وأدّی تقدّم وسائل الاتّصال والشّبکات الألکترونیّة لإیصال المعلومات إلی التّبادل السّریع للآراء والفکر الإنسانیّ، ممّا دعی الوین تافلر إلی تسمیة ذلک العصر (عصر العلم) أو (المجتمع العلمی). أضف إلی ذلک وجود عناصر کثیرة أخری ساعدت علی وضع عملیّة العولمة علی جادّة الطّریق، ویمکن الإشارة باختصار إلی بعض مواردها:

1. انتشار المنظّمات الدّولیة، تداول رأس المال والمعلومات، التّقنیة والثّقافة.

2. المشاکل الدّولیّة والإقلیمیّة کمشکلة البیئة، السّلام والأمن العالمیّ والصّحة.

3. أسلحة الدّمار الشّامل والعلاقات الدّولیّة المتشابکة والأزمات الدّولیّة والإقلیمیّة.

إنّ هذه المسائل النوعیّة الّتی تؤدّی إلی التّقارب الثّقافیّ والسّیاسیّ والاجتماعیّ، تعدّ من مستلزمات العولمة، والّتی عبّر عنها البعض بالمحکّ

ص:38


1- (1) سیدنی بولارد، فکرة التّطوّر، ص 115، «التّرجمة الفارسیّة».
2- (2) المصدر نفسه، ص 116.

الثّقافیّ.(1) و یعبّر ماک لوهان عن ذلک بانهیار الحدود واختصار المسافات فی القریة العالمیّة. إنّ العولمة برزت ابتداءً فی حیطة الاقتصاد لأجل بیان إحدی الظواهر الّتی أخذت فی الانتشار، یعنی ظاهرة اتّساع دائرة الإنتاج والاستهلاک والتّجارة إلی حدّ شمل جمیع أسواق العالم.(2) وتعدّ العولمة من هذه الزّاویة إحدی مراحل التّطوّر الاقتصادیّ والنّظام الرأسمالیّ. وفی مجال السّیاسة والعلاقات الدّولیّة یمکن العثور أیضاً علی شواهد لسوابق وممهّدات العولمة، فتبلور الاتّفاقات الدّولیّة والاتّجاهات الإقلیمیّة والعالمیّة وتأسیس المنظّمات الدّولیّة، کلّ ذلک یعدّ من ممهّدات العالمیّة والعولمة.

أمّا الجانب العلمیّ والفلسفیّ، فإنّ هناک اتّجاهاً عقلیّاً وحلماً إنسانیّاً یقوم علی أساس مفاهیم قیمیّة وثقافیّة وإنسانیّة، أدّی إلی أن یکون النظر إلی الحاجات الإنسانیّة ذو بعد عالمیّ، فأغلب الفلاسفة الّذین اقترحوا نظاماً عقلیّاً وأخلاقیّاً کانوا ینظرون إلی الأمور برؤیة تتجاوز العِرق والقومیّة وتعتمد نوعاً ما علی العولمة والتّجانس العالمیّ.

وخلاصة القول: إنّ العولمة لیست ظاهرة جدیدة وحدیثة، فعلی امتداد تاریخ المدنیّة البشریّة کانت هناک صور مختلفة للعولمة والعالمیّة ولکن لم تکن الوسائل الّتی یمکن أن تحقّق هذا الهدف متوفّرة آنئذ.

إنّ نزعة تحقیق السّیطرة علی العالم وتأسیس الحکومة العالمیّة الواحدة وإیجاد نظام إداری مرکزی کانت علی الدّوام تداعب مخیّلة الإنسان؛ وهذا یختلف عن العولمة الفعلیّة حیث إنّها تعنی حریّة الأمم من أیّة قیود زمانیّة ومکانیّة، القدرات العالمیّة، العلم، التّقنیة، الصّحة، الأمن، العدالة، السّلام والتّداول الحرّ للمعلومات، الرّوابط الثّقافیّة، الحدّ من الفقر وعدم المساواة. إنّ

ص:39


1- (1) غینز، الحداثة، ص 1. «التّرجمة الفارسیّة لمحسن ثلاثی».
2- (2) محمّد عابد الجابریّ، قضایا الفکر المعاصر، ص 139. کتاب نقد، ص 362.

هذا النّموذج من العولمة لیس المقصود منه فرض قوّة وسلطة ثقافة وحضارة معیّنة دون غیرها وإنّما هو حاجة وضرورة وانطلاقة عالمیّة تتطلّب شراکة ووحدة جمیع الأمم والاستفادة من نتاجات وقابلیات کلّ إنسان لحلّ مشاکل العالم المعقّدة.

إنّ نمو المجتمعات البشریّة، انسجام القوانین الاجتماعیّة والعوامل الثّقافیّة والسّیاسیّة والاقتصادیّة المهمّة أوجبت تحوّلات جذریّة فی البنی الاجتماعیّة، أخرجت فیه المجتمعات من الطّور القبلی إلی الحالة القرویّة، ومع تأسیس المدن واستیطانها والتّغیّرات الواسعة فی علاقات المجتمعات مع بعضها البعض استمرّ تنامی وتوسّع هذه العملیّة فی کافّة أرجاء العالم إلی أن تسبّبت التّغیّرات والثّورات العلمیّة والصّناعیّة مرّة أخری فی حدوث تغییرات جذریّة فی البنی السّیاسیّة والاجتماعیّة. إنّ التّقدّم والتّطوّر العلمیّ والتّقنی أکسب العلاقات الإنسانیّة والمجتمعیّة تسارعاً مستمرّاً وتکاملاً وغدت أکثر اتّساعاً و سهولة، وأدّی إلی تحطیم الحدود الجغرافیّة بین المجتمعات. إنّ هذه التّطوّرات کانت علی درجة من السرعة والتأثیر غیّرت فیه جمیع قواعد وأسس الحیاة البشریّة، وأفضت علیها تماثلاً وتشابهاً لایمکن صرف النّظر عنه، وبالإضافة إلی الآثار الاقتصادیّة والسّیاسیّة والاجتماعیّة لهذه العملیّة، فإنّها ألقت بظلالها أیضاً علی العلاقات الثّقافیّة والأمور النّفسیّة والرّوابط الفکریّة والعلمیّة.

9. سوابق البحث

اشارة

لقد استحوذت ظاهرة العولمة علی أذهان کثیر من المفکّرین وقد قاموا بنشر بحوثهم واستنتاجاتهم حولها والّتی یمکن الإشارة إلیها بصورة إجمالیة: فعلی الرّغم من أنّ فکرة العولمة کانت قد طُرحت بین بعض الفلاسفة وعلماء

ص:40

الإجتماع منذ قرون خلت، وفضلاً عن الخطوات والإجراءات الّتی اتّخذها الزعماء والأباطرة باتّجاه العالمیّة وفتح العالم والسّیطرة علیه فی غابر الزّمان، ینبغی القول: إنّ مقدّمات مشروع وفکرة العولمة بشکله الحالی کانت قد طُرحت لأول مرّة فی المجامع العلمیّة والأکادیمیّة متزامنة مع التّغیّرات والإجراءات العالمیّة. ویعدّ غینز من أهمّ المنظّرین علی صعید العولمة، فقد اعتبرها بشکلها الظّاهریّ استمراراً للعصرنة وأطلق علیها (عولمة العصرنة)، فهو یعدّ من أشدّ أنصار العصرنة ومن المعارضین لما بعد العصرنة، ففی تحلیله لمقولته؛ یعتبر عولمة العصرنة مسألةً ذاتیّة، وهو علی خلاف غیره من المنظّرین لم یعتقد بأنّها «اضمحلال الحکومات الأممیّة وانخفاض قدراتها، ولکنّه یعتبرها تناغماً و توافقاً عالمیّاً فیما بین الدول.(1)

وهو یری: أنّ العولمة تعنی تعزیز العلاقات الاجتماعیّة علی مستوی العالم. العلاقات الّتی تربط بین المناطق المتباعدة إلی درجة أنّ أیّ حدث یقع فی أیّة منطقة من العالم مهما کانت نائیة یؤثّر تأثیراً سریعاً وعمیقاً فی تغییر العلاقات الاجتماعیّة والسّیاسیّة والاقتصادیّة والثّقافیّة.

ماک لوهان وبعض الکتّاب الآخرین الّذین نظّروا للعولمة رکّزوا علی أفقین:

عملیّة العولمة من خلال العلاقات الدّولیّة ووسائل الاتّصال المبتکرة.

العولمة من خلال نظریّة (النّظام العالمیّ الواحد).

والرّشتاین الّذی طرح نظریّة «النّظام العالمیّ»، یعتقد بأنّ الحکومات الأممیّة تخطوا نحو النّظام العالمیّ الواحد فی عملیّة العولمة. ویتکهّن بأنّ تشکّل الدّول العالمیّة سیکون من الآفاق الجدیدة والانطلاقة المستقبلیّة للحکومات.

إنّ هذه النّظریّة تختلف اختلافاً أساسیّاً مع نظریّة العلاقات الدّولیّة الّتی تصوغ العلاقات المستقبلیّة للأمم والحکومات، علی أساس قاعدة التّعامل

ص:41


1- (1) انتونی غینز، إفرازات العولمة، ص 83 و 80. «التّرجمة الفارسیّة لمحسن ثلاثی»

والتّفاهم المشترک. إنّ فرضیة الرّوابط المتبادلة، تفترض حکومات وثقافات مستقلّة ومتنوّعة، لها جذور متمایزة وخاصّة وذات انفعالات مختلفة وأسالیب محتاطة ومختارة؛ ولکن بناءً علی تحلیل والرّشتاین فإنّ وجود النّظام العالمیّ هو بمعنی قبول نظام مشترک ومتوافق علی جهة الإلزام والضّرورة ولیس علی جهة التّفاهم المشترک.

عولمة العصرنة حسب رؤیة غینز

«إنّ العولمة عملیّة تتضمّن مراتب أوسع وأکثر تعقیداً، وذات طبیعة أشمل من مجرد التّنمیة وإشاعة المؤسّسات الغربیّة فی السّاحة العالمیّة، عملیّة تذوب فی رحمها الثّقافات الأخری أو تکون فی حالة ذوبان».(1) وبتعبیر آخر «إنّ الانسجام والتوافق فی عملیّة العولمة ینعکس کعملیة متناقضة ظاهریّاً وهی بهذا القدر تُحدث توافقاً وتکاملاً، وهی أیضاً تُجزّء وتُفتّت الأسسس الموروثة وتبتدع أشکالاً حدیثة للتّبعیّة العالمیّة المتبادلة».

ویعدّ انتونی غینز من ضمن المعتقدین بمقولة:

إنّ العصرنة فی ذاتها هی ظاهرة فی طور العولمة والشمول وتتمیّز بدفع خارجیّ ونظرة مستقبلیّة. إنّ العولمة فی إطار فکر غینز تؤدّی إلی تکوین الذّات والتّشکیلات الاجتماعیّة الجدیدة والّتی تتمحور علی أساس المدنیّة الغربیّة، وبهذا البیان لم یتّضح المدار فی تفریقه وتفکیکه فیما بین العولمة والغربنة، فهو یقول: «إنّ العولمة أمر متفاوت عن نشر المؤسّسات الغربیّة فی العالم وتفتیت الثّقافات الأخری».(2)

ص:42


1- (1) انتونی غینز، هل العصرنة مشروع غربیّ متکامل؟ العصرنة والعصرانیّون، ص 29، «التّرجمة الفارسیّة لحسین علی نوذری».
2- (2) انتونی غینز، إفرازات العصرنة، ص 209، «التّرجمة الفارسیّة»

عملیة العولمة من وجهة نظر الوین تافلر

الوین تافلر(1) فی کتابه (الموجة الثّالثة)، یرسم عالماً یکون فیه الوفاق والوئام مع المعطیات النّاجمة عن صراع وتصادم الموجات التّاریخیّة ضروریّاً ولازماً. وسیکون من نتائج هذا التّطوّر والتّغیّر - نوعاً ما - السعی نحو التوحّد والتّبعیّة المتبادلة (من خلال زوال الحدود السّیاسیّة وشمولیّة القیم الجدیدة).

آل دوس هسلی أیضاً فی کتابه (عالم جدید مذهل) یتحدّث عن عملیّة العولمة ویقرّر بأنّ الثّقافة والقیم الإنسانیّة والتّاریخ البشریّ ستطوی فی عالم النّسیان، ویفقد الإنسان فیها إرادته وإحساسه، ویقتصر فیها علی تلبیة رغباته فی الرّخاء والتّقدّم والتّنوّع والتّسلّی بصناعاته وتقنیاته. وسیکون (الإنسان الآلیّ) حسب تعبیره مقیّداً فی حکومة عالمیّة واحدة تحصی وتراقب وتسیطر علی کلّ شیء بنظام حدیدیّ صارم، ولا یمکن تصوّر مقدار ما ستؤول إلیه معرفته بنفسه وبعالمه، العالم المندمج والمتشابک، العالم الّذی یستحیل فیه الإنسان والفکر والثّقافة.

أمّا کارل مارکس فهو بنظریته «نهایة الرأسمالیّة» یتکهّن بحکم الطّبقة العاملة وقیام الثّورة الشّیوعیّة العالمیّة. فهو وبناءً علی التّناقض الدّیالکتیکیّ المزعوم للمجتمع الطّبقیّ؛ یفسّر التّحوّلات والتّغیّرات الاجتماعیّة تفسیراً شیوعیّاً، یؤدّی فی نهایة المطاف إلی تحقیق حلم المدینة العالمیّة والمجتمع غیر الطّبقیّ الّذی تسوده المساواة. إنّ نظریّته هذه لم تکن سوی سراباً وقد لاقت تکهّناته فی التّطوّرات العالمیّة نهایة مأساویّة، ولکن والحق یقال، کان للنظام الشیوعیّ أثر مهمّ علی التحوّلات العالمیّة، وکان لسقوطه أیضاً أثر لا یُنکر فی تسارع عملیّة العولمة.

ص:43


1- (1) . Alvin Tofflers.

والرّشتاین، عالم الاجتماع الألمانیّ فی نظریّته (النّظام العالمیّ) یفسّر العلاقات الدّولیّة علی أساس التغییرات الّتی تؤدّی فی نتیجتها إلی العولمة وتوجِد نوعاً من الاندماج والتّوحّد. ویبرّر نظریّته اعتماداً علی نظام الرأسمالیّة التّاریخیّة، وقد تعرضّت نظریّته للنّقد اللّاذع لتأکیدها علی الجانب الاقتصادیّ دون غیره من الجوانب الأخری.(1)

ویری روبتسون أنّه: «لا یمکن أن تنشأ الوحدة العالمیّة من خلال عامل واحد کالمدنیّة الغربیّة أو الإمبریالیّة، وأنّ هذا التّجدّد والتّغیّر العالمیّ لایمکن النّظر إلیه علی أنّه مجموع واحد وعملیّة واحدة». وفی اعتقاده أنّه ینبغی «عدّ القاعدة الأساسیّة للتّطوّرات البنیویّة فی العالم المعاصر هی مجموعة عوامل ولیست مجرد عامل داخلیّ أو خارجیّ، صحیحٌ أنّنا نتعرّض لتداعیات وضغوط هذه الظّاهرة، ولکنّ هناک عناصراً أخری کالمجتمع العالمیّ، البشریّة، فکرة التّطوّر، العلم والتّقنیة کلّها تعدّ من عوامل العولمة».(2)

ایزابیل مونال المفکّرة الشّیوعیّة هکذا یحلو لها أن تتصوّر: «إنّ المجتمع الواحد فی المقاییس البشریّة یعنی دقّ رکائز عدم المساواة فی العالم وسیطرة حکومة واحدة علی جمیع العالم».(3) وبافتراضها أنّ العولمة تعنی عدم المساواة والمخاطرة بمستقبل البشریّة، تعتقد بأنّه ینبغی الشروع فی بسط المساواة فی کافّة أرجاء العالم أوّلاً ومن ثمّ قیام مثل هذا المجتمع الواحد، ومن البدیهیّ أنّ مثل هذا الحلم لا یمکن تحقّقه مطلقاً، فالدخول فی المجتمع العالمیّ بشکل متکافئ فکرة ساذجة وأُمنیة من المستبعد تحقّقها.

ص:44


1- (1) کیت نش، علم الاجتماع السّیاسیّ المعاصر، ص 82، «التّرجمة الفارسیّة لمحمّد تقی دلفروز».
2- (2) بهلوان جنکیز، علم الثّقافة، ص 423، «باللّغة الفارسیّة».
3- (3) المصدر نفسه، ص 479.

وهی تری بأنّ الثّقافات ما دامت غیر متکافئة وتتضمّن اختلافاً واسعاً فلا یمکن التّحدّث عن مثل هذه المساواة فیما بینها، ولأجل هذا فإنّ شمول المساواة والحرّیّة و إن کان اختیاریّاً وبلا ضغوط، فهو یعنی فی نهایة الأمر استسلام ثقافة لثقافة أخری أقوی منها.

إنّ المجتمع العالمیّ الواحد، دائرة من الأفعال والانفعالات المرتبطة مع بعضها البعض تمتزج فیها العوامل السّیاسیّة والاقتصادیّة، فلا یمکن علی هذا الأساس تحقّق ثقافة واحدة متجانسة. وبحسب تعبیر المحقّق الإیرانی جنکیز بهلوان «إنّ ندرة وجود ثقافة أصیلة کندرة وجود أمّة وعِرق أصیل».(1)

أبعاد العولمة

1. البُعد الاقتصادیّ

إنّ أغلب المنظّرین یعتقدون بأنّ (العولمة الاقتصادیّة) من أهمّ وأخطر أبعاد العولمة، فهی تؤثّر تأثیراً مباشراً علی غیرها من الأبعاد. فإنّ نموّ تجارة السّلع الصّناعیّة ببُعدیها النّوعیّ والکمّیّ، الازدیاد المذهل للشّرکات العالمیّة، الازدیاد المتنامی للاستثمارات الخارجیّة، توسّع القنوات الألکترونیّة للتّجارة العالمیّة، تطوّر المنافسات الدّولیّة فی المجال الاقتصادیّ، کلّ ذلک حطّم جمیع مراکز السّیطرة والرّقابة دفعة واحدة، وأدّی إلی اکتساب (حجم التّداول) معنی جدیداً حلّت فیه السیطرة الزمانیّة محلّ السیطرة المکانیّة.

إنّ العالم قد وصل حدّاً فی مجال الإبداع والتّقدّم التّقنی لم یترک المجال معه لأیّ نموّ للفعّالیّات الاقتصادیّة، حتی وصل الأمر إلی أن تکون مصادر المیاه والفضاء والأرض فی حالة تغیّر متسارع. إنّ (الطبیعة الثانیّة) أو ما خلّفه الإنسان من الطّاقة، الحمل والنّقل، الاتّصالات، بناء المساکن والفضلات قد

ص:45


1- (1) المصدر السّابق، ص 540.

غیّر وجه الأرض، ومن ناحیة أخری فإنّ تقسیم الأعمال قد نمی بشکل مضطّرد، فمع الاکتشافات الحدیثة تجاوزت الأعمال فی تنوّعها وعلاقاتها مع بعضها البعض الحدّ الطّبیعیّ، ولبست ثوباً عالمیّاً متغیّراً. وتزامناً مع هذا، فإنّ عملیّة عولمة الملکیّة حلّت محلّ مرکزیة الإنتاج المحلّیّ، وأخذت مراکز الانتاج الإقلیمی تتشکّل و تظهر تدریجیّاً. إنّ مثل هذه العملیّات لم تقتصر علی الاقتصاد، فهی تجری أیضاً فی السّاحة السّیاسیّة، إنّ الوحدة الاقتصادیّة توجب تعزیز العلاقات فیما بین البلدان وإزاحة جمیع العوائق عن طریق انتقال السّلع، رأس المال، الأیدی العاملة وأمثالها. إنّ ذلک یؤدّی إلی انتقال العالم من مرحلة تتمّ فیها العلاقات الدّولیّة علی أساس تنظیم المعاهدات الثّنائیّة أو الثّلاثیّة إلی مرحلة تتمّ فیها السّیطرة وتنظیم وتسییر الأمور، من خلال مؤسّسات سیاسیّة واقتصادیّة عالمیّة أکبر وأوسع.

ومن جهة أخری، فنحن نعایش تعاملاً واسعاً فیما بین الأمم والدّول فی مسائل عالمیّة معقدّة ومتعدّدة الجوانب، مسائل لا یمکن حلّها وفصلها بواسطة دولة أو عدّة دول، أو حتی عن طریق المنظّمات الإقلیمیّة، مسائل یتطلّب حلّها مشارکة البشریّة جمعاء بدولها وشعوبها، أمثال صیانة البیئة، الأمن الغذائیّ العالمیّ، اکتشاف مصادر جدیدة للطّاقة، المحافظة علی السّلم العالمیّ، وإنقاذ البشریّة من الکوارث النوویّة. فبواسطة (الثّورة المعلوماتیّة) خرج تأثیر الأحداث السّیاسیّة والاقتصادیّة والثّقافیّة عن حدوده الجغرافیّة وأخذ یؤثّر تأثیراً مباشراً وفوریّاً علی باقی بقاع العالم. إنّ الحاجة إلی السّرعة فی اتّخاذ القرارات الإداریّة قد ازدادت ازدیاداً خارقاً، فالتّأثیر الثّقافیّ للأقمار الاصطناعیّة، الأنترنیت (شبکة الاتّصال المعلوماتیّة)، دقّة العملیّات الکامبیوتریّة والتّبادل الحرّ للمعلومات لا یمکن تصوّره والسّیطرة علیه، وأدّی إلی ظهور أنظمة قیادیّة ثقافیّة جدیدة وقیم عالمیّة حدیثة.

ص:46

ویمکن تلخیص انعکاسات هذه التّحوّلات العالمیّة بما یلی:

أ) إنّ البشریة قد وصلت إلی مرحلة فاصلة فی مجال التّکامل الحضاریّ، یمکنها فیها تشکیل وحدة متکاملة تحلّ بها مشاکلها، من خلال التّفاهم المتبادل.

ب) إنّنا لا یمکننا تنظیم وإدارة المسائل التّنمویّة الملحّة إلّا باتّباع التّخطیط والأسالیب العلمیّة الحدیثة.

ج) إنّ الاکتشافات الحدیثة منحت البشریّة أملاً فی إمکان التّفوّق علی المشاکل الکثیرة الّتی تهدّدها.

2. البُعد السّیاسی

إنّ عجلة العولمة کما سبق وأن أشرنا إلیه لا تدور علی الاقتصاد فقط، بل إنّها مهّدت لنا آفاقاً جدیدة یمکن من خلالها مشاهدة التّقارب والتّوافق الحاصل فی السّاحة العالمیّة، وکذا المخاطر المشترکة وقنوات التّخطیط المشترک بشکل أوضح. فإنّ تسارع وتراکم السّلع التّجاریّة والمعلوماتیّة ساعد علی اختصار الفواصل الزّمانیّة والمکانیّة وقرّب أبعد البقاع للاستفادة من مصادرها الطّبیعیّة. إنّ هذا الوضع انتزع منّا إمکانیة تصدیر کثیر من نتائج مبادراتنا خارج الحدود.(1)

من جهة أخری ینبغی الالتفات إلی أنّ الاتّفاق حول إیجاد نظام عالمیّ واسع بإمکانه أن یوفّر مکاسب متکافئة بین جمیع الأطراف، لایمکن تحقیقه للأسباب التّالیة:

1. عدم وجود باعث ونموذج لطرح مثل هکذا خطّة.

2. عدم وجود مؤسّسة تمتلک الصّلاحیّة والقدرة اللّازمة للتّخطیط لمثل هکذا مشارکة، کی تتمکّن من إرغام اللاعبین الأساسییّن فی دائرة المصالح العالمیّة، علی وضع مصالحهم الفردیّة فی خدمة عملیّة البرمجة والتّنظیم العالمیّ.

ص:47


1- (1) یورغن هوبرماس، العولمة ومستقبل الدّیمقراطیّة، ص 87، «التّرجمة الفارسیّة».

إنّ المجتمع العالمیّ المعاصر ما زال یعانی من المشاکل المتضادّة للطّبقیّة، والّتی تحاول فی بعض الموارد توظیف المصالح الفردیّة والوطنیّة والإقلیمیّة لصالحها الخاص. وبعبارة أخری ما زال السّعی قائماً لتأمین المصالح الشّخصیّة والوطنیّة، مما یؤدّی إلی مخاطر تحیق بالعالم أجمع. وفی الواقع فأنّ عملیّة العولمة تعانی تناقضاً ظاهریّاً من جوانب مختلفة، فجمیع وجوهها وأبعادها تتعرّض بالقوة للإضعاف من قبل الفعّالین الدّیمقراطیّین فی المجتمعات القومیّة والوطنیّة.(1) أمّا کیف تؤثّر العولمة علی قدرة وحاکمیة الحکومات الوطنیّة وأراضیها؟ فهو سؤال هامّ یتعلّق بوجودها ویقرّر مصیرها، فالإجراءات الّتی تتّخذ لصنع الأسلحة الفتّاکة تتضمّن مخاطر عالمیّة وتعدّ تهدیداً للأمن العالمیّ.

وأنّ استنزاف البیئة وتلوّثها قد وصل حدّاً لا یمکن تدارکه، الاحتباس الحراریّ المتولّد عن الانبعاثات الغازیة، المطر الحمضی، اختلال طبقة الأوزون والتّغییرات البیئویّة؛ لها آثار وانعکاسات واسعة خرجت عن إطار قدرة وتخطیط الأنظمة المحلّیّة.(2) إنّ إبداع أسالیب للتّعاون العالمیّ وتعمیم المصالح باتّخاذ طرق عقلانیّة وإیجاد نظام ثابت ووطید باتّجاه الوحدة العالمیّة من المسائل الّتی لا یمکن اجتنابها.(3)

إنّ تعقیدات العولمة لا یمکن مواجهتها إلّا باتّخاذ أسالیب عقلانیّة تستطیع فیها منظومة الأصالة والقیم المحلّیّة إیجاد أطر جدیدة لنفسها تتمکّن من خلالها تحقیق التّکامل الدّیمقراطیّ والاستعداد للتّعامل العالمیّ المشترک.

ص:48


1- (1) المصدر نفسه، منظومة ما فوق الوطنیّة ومستقبل الدّیمقراطیّة، ص 105، «التّرجمة الفارسیّة».
2- (2) المصدر السّابق، ص 105.
3- (3) یورغن هوبرماس، العولمة و مستقبل الدّیمقراطیّة، ص 88، «التّرجمة الفارسیّة».

10. الخطّة العامة للبحث

الکتاب الّذی بین یدیک عزیزی القارئ یشتمل علی مقدّمة وثلاثة أقسام عامّة، وقد تعرّضنا فی المقدّمة إلی بیان مسألة البحث وضرورته والأسئلة والافتراضات الأساسیّة، ثم أشرنا إلی أسلوب التّحقیق وسابقة البحث والمطالعات الّتی أنجزت فی هذا المجال وأخیراً إلی الأسس العامّة للبحث. أمّا المواضیع الأساسیّة لهذا الکتاب، فهی تنتظم فی ثلاثة أقسام عامّة وحسب التّرتیب التّالی:

القسم الأوّل ویتضمّن خمسة فصول:

الفصل الأوّل: ویختصّ بدراسة مفهوم وحقیقة العولمة والتّعاریف المتعلّقة بها، وتتکوّن فی مجموعها من سبعة تعاریف، ثم نحاول الوصول إلی تعریف جامع وأکثر واقعیّة، من خلال نقد ودراسة التّعاریف الآنفة، ونعتمد هذا التّعریف کأساس وملاک لتحلیل المواضیع المتبقیّة.

الفصل الثّانی: نحاول فیه مطالعة سوابق العولمة من خلال نظرة عابرة إلی الأسس الفکریّة والتّاریخیّة لها.

الفصل الثّالث: ونبحث فیه حقیقة وإمکانیّة العولمة وأسسها الفلسفیّة والمعرفیّة، ونقد ودراسة النّظریّات المطروحة فی هذا المجال. ونقتصر علی النّظریّات الأساسیّة منها، وهی أربع:

النّظریّة الأولی: وتفسّر العولمة علی أساس الحداثة وامتدادها العولمیّ.

النّظریّة الثّانیة: نظریّة ما بعد الحداثة والّتی تطالع العولمة بنظرة تتجاوز الحداثة وتعتقد بأنّ هذه المرحلة هی مرحلة العبور من العصرنة ونهایة لها.

النّظریّة الثّالثة: والّتی تحصر العولمة فی البُعد الاقتصادیّ، وتعتبرها عولمة للرأسمالیة ونشراً لأنموذجها فی العالم.

النّظریة الرّابعة: وتُعتبر من أهم النّظریّات والّتی تعتقد بأنّ العولمة ما هی إلّا عملیّة طبیعیّة للنّمو والتّوسّع العلمیّ وتقنیات المعلومات الحدیثة.

ص:49

وفی الفصول المتبقیّة نشیر إلی بعض النّظریّات الأخری، مثل نظریة الأنظمة العالمیّة، نظریة التّبعیّة المتبادلة، نظریة صراع الحضارات لصاموئیل هنتغتون ونظریّة نهایة التّاریخ لفوکویاما، ونحلّلها فی إطار النّظریّات الأربع الآنفة.

القسم الثّانی: ویتطرّق إلی بحث مفصّل فی مجال عملیّة العولمة ومؤشّراتها وإفرازاتها الإیجابیّة والسّلبیّة، ویعقد فی عدّة فصول.

القسم الثّالث: وهو القسم الأساسیّ لهذا الکتاب، ویبحث فی مجال علاقة الدّین بالعولمة ویتطرّق بصورة تفصیلیة للبحوث الآتیة: علاقة الدّین والعولمة، مکانة الدّین فی عصر العولمة، ضرورة الدّین وآثار العولمة علی مصیره، وحدة الأدیان أو التّعددیّة الدّینیّة، المعنویّة، الحرکات الدّینیّة الجدیدة.

وأخیراً أری من واجبی تقدیم الشّکر والامتنان لمن ساهم وشارک فی إعداد هذا البحث، الدّکتور العلّامة السّید أمیر عباس زمانی الّذی أخذ علی عاتقه توجیهی وإرشادی، السّید الدّکتور محسن جوادی الّذی أعاننی کثیراً بإرشاداته ونصائحه الخالصة، أرجو لهم الموفقیّة فی خطاهم العلمیّة والثّقافیّة.

ص:50

القسم الاوّل: التّعرّف علی عملیّة العولمة

اشارة

ص:51

ص:52

1. تعریف العولمة (مناقشة التّعاریف)

اشارة

إنّ التّعریف قبل أن یکون موضوعاً نظریاً أو علما اصطلاحیّاً، هو فی الحقیقة ظاهرة لشیء ما، إنّ المفهوم الّذی نتصوّره لمصطلح (العولمة) من الممکن أن یکون مبهماً وتجریدیّاً وانتزاعیّاً، أو یکون واضحاً وحقیقیّاً وواقعیّاً. ولکن المهمّ فی الأمر هو أنّ التّعریف الواضح والشّائع الاستعمال یؤدّی إلی انسجام الأبحاث المرتبطة به وعدم خروجها عن دائرته.

ونحن فی هذا الفصل سنسعی للوصول إلی تعریف علمیّ وواقعیّ للعولمة، ینأی بنفسه عن الانتزاعیّة والمثالیّة ویحاول أن یکون منسجماً والوقائع الخارجیّة قدر المستطاع، ویبتعد عن إبراز أبعاد ومجالات معیّنة للعولمة علی حساب أبعاد ومجالات أخری، أو یکون تفاؤلیّاً وإفراطیّاً یغطّی علی آثارها السّلبیّة، وسنحاول أیضاً تلافی الخلط بین مفهوم التّعولم والعولمة.(1)

لقد عُرضت تعاریف متعدّدة (للتّعولم) ومن المحتمل أنّها لم توفّق فی طرح تعریف موحّد وجامع لها؛ وذلک لأبعادها المختلفة وماهیّتها المتجدّدة

ص:53


1- (1) سنقتصر علی استعمال مصطلح العولمة و إن أُرید به التّعولم، ویُفهم المراد منه من خلال السّیاق إلّا فی موارد إرادة التمییز فیما بین المصطلحین، جریاً علی شیوع استعماله فی معنی التّعولم کما أنّه لا تشاحّ فی الاصطلاح، «المعرّب».

والمتغیّرة. ومن هنا لم یحصل اتّفاق فیما بین المفکّرین فی هذا المجال؛ وذلک لأنّ هذه العملیّة لم تصل إلی محطّتها النّهائیّة من التّکامل، فهی علی الدّوام تفرز أبعاداً جدیدة(1) من جهة، ولتضمّنها أبعاداً متعدّدة وجوانب متنوّعة من جهة أخری، فلذا ینبغی الابتعاد عن النّظر إلیها بنّظرة ذات بُعد واحد.

إنّ بعض المنظّرین رکّز علی الوجه الاقتصادیّ وعرّف العولمة علی أنّها عولمة الاقتصاد، فمن خلال إدغام الأسواق العالمیّة علی الصّعید التّجاریّ، الاستثمار وقوانین إزالة العوائق التّجاریّة والاستثماریّة نصل إلی مرحلة عولمة النّظام الرأسمالیّ الغربیّ.

ماک غرو؛ أحد الباحثین فی موضوع العولمة، یفسّرها علی أنّها: «نموّ العلاقات المتبادلة والمتنوّعة بین الدّول والمجتمعات والّتی تؤدّی إلی تکوین نظام علمیّ، وأنّ أیّ حدث أو فعّالیّة أو قرار یتّخذ فی أیّة بقعة من العالم یؤدّی إلی إفرازات وآثار مهمّة علی باقی المجتمعات».(2)

ویفسّرها فی مکان آخر بأنّها: «ازدیاد عدد الرّوابط والاتّصالات المتبادلة الّتی تتشکّل خارج نطاق قدرة الدّول، فتؤدّی إلی انخفاض قدرتها وتغییر مفهوم الهویّة المستندة إلی الأرض والتاریخ والقومیّة».(3)

ماکوم ووترز، یعرّف العولمة بأنّها: «عملیّة تؤدّی إلی تغیّر وتداعی الحدود الجغرافیّة والنّظم الاجتماعیّة والثّقافیّة وإلی اتّساع المعرفة العامّة».(4)

مارتن آل بیرو، یری بأنّها: «مجموعة عملیّات تؤدّی إلی التّرابط بین جمیع سکان العالم فی مجتمع عالمیّ متّحد وواسع».(5)

ص:54


1- (1) بیتر هانس، فخّ العولمة، ص 14، «التّرجمة الفارسیّة».
2- (2) مالکوم ووترز، العولمة، «التّرجمة الفارسیّة لإسماعیل مردانی کیوی و سیاوش مریدی».
3- (3) المصدر نفسه.
4- (4) المصدر السّابق، ص 12.
5- (5) زهراء بیشکاهی فرد، ملاحظة دیموغرافیة حول العولمة، ص 27.

انتونی غینز، یعتقد فی استعراضه للعولمة بأنّها: تُماثل العصرنة وأنّها أحد مراحلها ویری بأنّ (العصرنة هی عالمیّة بذاتها).(1)

فوکویاما، المنظّر الأمریکیّ المعاصر، یدّعی بأنّ العولمة: «هی انتشار الثّقافة الغربیّة واستیلاء المدنیّة الأمریکیّة علی العالم، ویسمّی ذلک نهایة التّاریخ».(2)

روبتسون، المنظّر المعاصر الشّهیر، یری أیضاً: بأنّ العولمة عملیّة تؤدّی إلی تصاغر العالم وتراکم المعرفة البشریّة. ومن خلال تأکیده علی الجوانب الثّقافیّة للعولمة یعتقد بأنّها: ستؤدّی إلی تبلور ثقافة عالمیّة واحدة ولکنّها لیست کالّتی یدّعیها فوکایاما والآخرون، ولیست بمعنی محو الثّقافات المتعدّدة والقیم الدینیّة والأخلاقیّة، ولکنّها بدل من إضعافها للدّین وإبعاده عن واقع الحیاة، فهی توفّر ظروفاً مساعدة للحیاة المذهبیّة وانتشار تعالیمها.(3)

أمّا عمانوئیل والرّشتاین، فهو یصوّر قیام عالم متّحد بهذا التّصویر: «إنّ العولمة هی عملیّة تؤسّس قنوات لإدغام المجتمعات النّائیة والمنزویة فی تبعیّة متبادلة ووحدة عالمیّة».(4)

نقد ومناقشة التّعاریف

إنّ عرض أیّ تعریف جدید للعولمة ینبغی أن یسبقه تحلیل للتّعاریف المطروحة، وتشخیص نقاط ضعفها ومواضع عجزها، ومن خلال التأمّل فی ما طُرح من تعاریف یمکن استخلاص خمسة مفاهیم، هی کالتّالی:

الأوّل: (إطلاق حرّیّة التّجارة والاقتصاد).

ص:55


1- (1) غینز، انتونی: إفرازات العصرنة «التّرجمة الفارسیّة لمحسن ثلاثی».
2- (2) فوکویاما: نهایة التاریخ.
3- (3) روبتسون، روناله: العولمة «التّرجمة الفارسیّة لکمال بولادی».
4- (4) عمانوئیل والرّشتاین، السّیاسة والثّقافة فی النّظام العالمیّ المتطوّر «التّرجمة الفارسیّة لبیروز إیزدی» فصلیّة مطالعات استراتیجیّة.

الثّانی: (الحکومة العالمیّة الشّمولیّة) ونفوذ وسیطرة دولة واحدة.

الثالث: (غربنة أو أمرکة العالم).

الرابع: (حرّیّة تداول المعلومات) وتسارع العلاقات العالمیّة جرّاء التّطوّر العلمیّ والتّقنیّ.

الخامس: (التدویل) وتجاوز الحاکمیّة، أی النظام الدّولی الواحد والشّمولیّة العالمیّة، ویمکن الإشارة إلی النّقاط المشترکة فیما بین التّعاریف المتقدّمة:

1. الاختصار المتنامی للزّمان والمکان.

2. محو الحدود الجغرافیّة والضّوابط القومیّة والوطنیّة، وبعبارة أخری، محو الضّوابط الثّقافیّة والهویّة الدّینیّة والقومیّة وخفض قدرة الحکومات.

3. تنامی التّبعیّة المتبادلة بین أبناء البشریّة جمعاء.

وکما جاء فی تعریف العولمة، من أنّها مرحلة من النّظام الرأسمالیّ الغربیّ - حسب وصف البعض - وأنّها استمرار للعصرنة وانتشار لأنموذجها فی کلّ العالم - حسب تفسیر البعض الآخر - فقد أطلق علیها بول هارست وغراهام تومبسون عنوان (التّدویل) وعدّها البعض الآخر (تحریراً ورفعاً للموانع الطّبیعیّة) واختصاراً للفواصل الزّمانیّة والمکانیّة وحرّیّة تداول المعلومات وسهولة الاتّصالات العالمیّة. الطّائفة الرّابعة عنونتها بأنّها: «الامتداد العالّمی والسّیطرة علی الثّقافات والمجتمعات الأخری». الیور، رایزر، وب دیفیز، یرون بأنّها «اندماج للثقافات».

لقد وصف التّعریف الخامس - والّذی یعدّ أکثر شیوعاً من غیره - العولمة بأنّها «غربنة» أی: جعل العالم غربیّاً أو صنع العالمیّة، والّذی اعتبره البعض استعماراً جدیداً أو تسلّطاً للإمبریالیّة الغربیّة فی العصر الحدیث.

ربما تعدّ کلّاً من هذه الآراء توضیحاً وشرحاً لواقع العصر الحدیث، ولکن نظراً للاختلاف الفاحش فیما بینها لا یمکن جمعها فی تعریف مشترک وجامع، بل إنّ کلّ واحد منها قد نظر إلی العولمة من زاویة خاصّة، حتی انّ

ص:56

بعضها لیس له أیّ وجه اشتراک مع الأخریات، فالرأی الّذی یقول: بأنّها محو الحاکمیّة أو ما بعد الحاکمیّة یختلف ویتضادّ مع الرّأی الّذی ذهب إلی أنّها تدویل أو انتشار للرّأسمالیّة. والرّأی الّذی وصفها بأنّها تحریر یختلف اختلافاً فاحشاً عن الرّأی الّذی اعتبرها نهایة للتّاریخ وسیطرة الثّقافة الغربیّة. فبناءً علی التّمییز فیما بین مصطلح التّعولم ومصطلح العولمة فإنّ أفضل تعریف للتّعولم هو أنّه التّداول الحرّ للمعلومات وتعزیز وتنمیة العلاقات الثّقافیّة والاقتصادیّة نوعیّاً وکمّیا بین مختلف المجتمعات والتّطوّر فی التّعامل مع القراءات القومیّة، التّبعیّة المتبادلة، زوال الحدود، الثّقافة الجدیدة ومحو الهویّة.

فعلی سبیل المثال، ما یؤخذ علی التّعریف الأوّل هو أنّنا نلاحظ أنّ العولمة لها أبعاد واسعة وآثار مهمّة فی مختلف مجالات الحیاة البشریّة ولایمکن حصر تأثیرها فی المجال الاقتصادیّ. وفی نقد التّعریف الثّانی ینبغی التّذکیر بأنّ إحدی الآثار المهمّة للعولمة هو تأثیرها علی المبادئ الوطنیّة وحاکمیّة الدّول، بینما یأتی ماک غرو لیحصرها فی إطار منطقة نفوذ الدّولة الوطنیّة. أمّا ما یلاحظ علی تعریف آل برو، فإنّه لا یخلو من مناقشة؛ لعدم عرض أدلّة کافیة ومقنعة لتأسّی المجتمع العالمیّ المتّحد من قبل أیّ من المنظّرین فی مسألة العولمة، مع أنّ هکذا أمر یحتاج إلی عوامل وممهّدات لحصول الوحدة والانسجام بین الهویّات والثّقافات والمؤسّسات العالمیّة.

ومع أنّ تعریف غینز والّذی یفترض فیه بأنّها انتشار للعصرنة، فمع أنّه یبدو منطقیّاً ولکن ینبغی القول إنّ کثیراً من ممیّزات العولمة لا تتّفق وأسس العصرنة. ولا یعدو أن یکون التّعریف السّادس سوی دعوی إعلامیّة وسیاسیّة منه نظریّة علمیّة، فلیس له کثیر ارتباط بالعولمة.

ومن خلال ذلک یتّضح بأنّ التعریف الدّقیق للعولمة ینبغی أن یتضمّن ثلاثة مفاهیم ومیزات أساسیّة ومهمّة:

ص:57

اختصار الزّمان والمکان وازدیاد حجم وسرعة المعلومات.

التّداول الحرّ للمعلومات والّذی خرج عن نطاق السّیطرة، وتغیّر المبادئ الوطنیّة والمحلّیّة ثقافیّة کانت أو اقتصادیّة أو سیاسیّة.

تعزیز العلاقات والتّبعیّة المتبادلة وتفاعل المجتمعات، وتغیّر الهویة الثّقافیّة والمبادئ السّیاسیّة.

خلاصة الفصل الأوّل

أشرنا فی هذا الفصل إلی التّعاریف المتعدّدة وغیر المتقاربة للعولمة، واستطعنا من خلال استعراضها ومناقشتها الوصول إلی معرفة دقیقة وأکثر واقعیّة بها. واستنتجنا تعریفاً کاملاً یتطابق والوقائع الجاریة فی العالم، وسنعتمد هذا التّعریف کقاعدة ننطلق منها إلی البحوث القادمة. المسألة المهمّة فی هذا الفصل هی التّفریق فیما بین مفهوم التّعولم ومفهوم العولمة، والالتفات إلی الأبعاد المختلفة للتّعولم والابتعاد عن النّظرة ذات البُعد الواحد فی التّعریف.

وبصورة عامّة یمکن تنظیم التّعاریف المطروحة بالشکل التّالی:

العولمة بمعنی (عولمة الرأسمالیّة وقوانین التبادل التجاریّ الحر).

العولمة بمعنی التّبعیّة المتبادلة فیما بین الدّول والمنظّمات وتأسیس نظام عالمیّ واحد وتنمیة العلاقات وتقبّل التّأثیر العالمیّ (والرّشتاین وغینز).

العولمة بمعنی رفع الحدود الجغرافیّة أو عدم جدواها وتقلیل المسافات الزّمانیّة والمکانیّة وتعزیز المعرفة (روبتسون).

العولمة بمعنی (تبلور ثقافة عالمیّة واحدة مشترکة).

العولمة بمعنی غربنة العالم وفرض أنموذج المدنیّة الغربیّة (فوکویا).

العولمة بمعنی التغییر فی جمیع الأسس الثّقافیّة والسّیاسیّة والاجتماعیّة والصّیغ الموجودة فی العالم والتّحرّر من سیطرة الدّول والحکومات.

ص:58

2. مطالعة للآراء والاتّجاهات

اشارة

لقد أجریت دراسات متعدّدة فی قضیة العولمة، ولکنّها جمیعاً لم توفّق فی عرض نظریّة عامّة یمکن قبولها والرّکون إلیها. ونحن بدورنا سنمرّ مروراً عابراً علی بعض الآراء الّتی تتمحور فی ثلاث نظریّات أساسیّة لنقدها ومناقشتها.

یُعرّف أغلب منظّری علم الاجتماع العولمة، بأنّها عملیّة تنامی النّظام الفعلیّ الّذی غیّر البنی العالمیّة وأکسبها قالباً جدیداً. إنّ الشّیوعیین وأنصار نظریّة (النظام العالمیّ) یعدّون العولمة المسألة البارزة فی هذه المرحلة، فالعولمة فی عقیدتهم، ما هی إلّا انتشاراً للنّظام الرأسمالی، ولذا یرون بأنّ «منطق الرأسمالیّة هو منطق استعماریّ، وهی فی طریقها لأن تکون عالمیّة».(1)

ومع أنّ البعض یری، بأنّ العولمة ما هی إلّا غطاء لسیطرة الرأسمالیّة، فإنّ هناک من اعتبرها نوعاً من (التماثل المتنامی) الّذی یؤدّی إلی الوحدة الاقتصادیّة والثّقافیّة. وذهب إلی ذلک أیضاً مَن صوّر التّعولم علی أنّه عولمة -

ص:59


1- (1) دیفد هولد و انتونی ماک غرو، العولمة و معارضوها، ص 21، «التّرجمة الفارسیّة لعرفان ثابتی».

فرض العالمیّة - أو غربنة. إنّ هذا التفسیر ما هو إلّا اتّجاه (لیبرالیّ) للترویج لانتشار الرأسمالیّة الغربیّة.

إنّ کثیراً من المفکّرین یعتقدون بأنّ العولمة هی العصرنة بذاتها، ومن بین هؤلاء انتونی غینز،(1) ففی رأیه إنّ العولمة ما هی إلّا استمراراً للعصرنة وبعبارة أخری، هی (عولمة العصرنة) فهو یعتقد (بأنّنا ما زلنا فی عهد العصرنة) وأنّ العصرنة أعادت هیکلتها وهی فی حال التّوسّع والتّطوّر.

یدّعی بعض أصحاب الرّأی: أنّ (عصر العولمة) یأتی بعد عصر الحداثة وأنّه یختلف عنه، وأنّ العولمة هی الوجه البارز لعصرنا الحاضر، وهذا نفسه ما یذهب إلیه العصرانیون.(2) فسکوت لاش وجون یوری، یرون بأنّ «العصرانیّة هی بذاتها عالمیّة».(3)

البعض الآخر یعتقد بأنّ العولمة، ما هی إلّا سفینة نجاة للرأسمالیّة، ففی عقیدة الشّیوعیّین أنّ الرأسمالیّة وللتّخلّص والفرار من الانهیار قامت بتصدیر الأزمات النّاجمة عن تراکم رأس المال وأزمة الشّرعیّة للاستیلاء والسّیطرة علی العالم.(4) فلم تکن العولمة إلّا وجهاً للإمبریالیّة والّتی تحکی عن وصول النّظام الرأسمالیّ إلی طریق مسدود. وهذا ما یراه عمانوئیل والرّشتاین، اندریه غونر فرانک، سمیر أمیس، سو بول باران وآخرین یؤیّدون هذا الرّأی ویعتقدون بأنّها لم تکن سوی ولیداً للرأسمالیّة.

ویری آخرون بأنّ ظاهرة العولمة ما هی إلّا فخّاً أعدّته الدول الغربیّة المتقدّمة لاصطیاد الدول المتخلّفة للسّیطرة علی أسواقها الاستهلاکیّة من

ص:60


1- (1) و یمکن وضع اولریش باک وهوبرماس فی ردیف أنصار هذه النّظریّة.
2- (2) مارتن آل برو ( Martin Albrow).
3- (3) کیت نش، علم الاجتماع السّیاسیّ المعاصر، ص 7، «التّرجمة الفارسیّة لمحمّد تقی دلفروز».
4- (4) فصلیّة مطالعات استراتیجیّة، (فی ماهیّة العولمة)، ص 283.

خلال توحید الثّقافات وتهمیش ممیّزاتها. هذه المجموعة تعدّ العولمة مرادفاً للغربنة والأمرکة وصنع العالمیّة.

وفی مقابل ذلک یری البعض بأنّ العولمة هی عملیّة تحقّق تکثّراً للثّقافات وتنمیة شاملة للعلم والتّقنیة والخبرة وتبادل المعلومات فی القریة العالمیّة.

وهناک افتراضات أخری لخصوم آخرین علی صعید النّظام الّذی هو آخذٌ فی التّبلور، ومنها نظریّة نهایة التّاریخ لصاحبها فرانسیس فوکویاما والّتی تعنی نهایة التّکامل الأیدیولوجیّ للبشریّة وانتصار الرأسمالیّة الغربیّة.

وهناک نظریّة طُرحت فی العقد الأخیر للقرن العشرین ولاقت رواجاً أکبر بین المفکّرین والسّیاسیّین، وهی نظریّة صراع الحضارات لمبتکرها صاموئیل هنتیغتون. ففی رأیه أنّ الأزمة العالمیّة القادمة هی أزمة ثقافیّة ودینیة.(1)

ویذکّر الوین تافلر بعالم تؤدّی فیه ضرورة الوفاق ومجارات العملیّات النّاتجة عن صراع الموجات التّاریخیّة إلی نوع من التّبعیّة والتّرابط المتبادل وشمولیّة القیم الثّقافیّة.

فمن خلال ماتقدّم یبدو أنّ المؤشر الأساسیّ للعولمة هو بعدها الثّقافیّ وذلک للأسباب التّالیة:

أوّلاً: إنّ ماهیّتها الثّقافیّة والفکریّة تغطّی علی أبعادها الأخری.

ثانیاً: إنّ أبعادها السّیاسیّة والاقتصادیّة لها بؤر محدّدة ومتمرکزة مع أنّها عملیّة تتحرّک بما هو أبعد من الزّمان والمکان والقومیّة والحدود.

ثالثاً: إنّها تسیر وفق قاعدة معیّنة فی علاقتها بالإنسان، فهی لیست سلعة أو ما شابهها.

ص:61


1- (1) السیّد علی أصغر الکاظمی، عولمة الثّقافة و السّیاسة، ص 16، «باللّغة الفارسیّة».

نقد ومناقشة الآراء

مناقشة النّظریّة الأولی

إنّ بعض المنظّرین اعتبروا العولمة بمثابة (التعصرن) وأنّها ثمرة الرأسمالیّة التّوسعیّة الّتی انعتقت من قیود الدّولة - الشّعب ولبست ثوباً استعماریّاً جدیداً وغطّت مختلف أصقاع الدّنیا. إنّ هذه النّظریّة تبیّن أنّ العالم المعاصر لم یکن استمراراً لعصر العصرنة.

مناقشة النّظریّة الثّانیة

إنّ الّذین ینفون علاقة العصرنة بالعولمة ویؤکّدون علی العلاقة الوثیقة فیما بین العولمة والرأسمالیّة یعتقدون بأنّ العولمة غالباً ما تکون ذات بُعد اقتصادیّ.

و للإجابة عن ذلک ینبغی القول: «بما أنّ الرأسمالیّة ذات عقلیّة تحرّریّة تعارض القیم الأخلاقیّة والمذهبیّة، فهی فی واقع الأمر تبتنی علی العصرنة».(1) وفی أنّ الّذین یؤکّدون علی علاقة العولمة بالعصرنة ویعتقدون أنّها أحد مراحلها التّکاملیة، یغفلون عن أنّها فی بعض وجوهها تکون فی تضادّ مع العصرنة.

فالعصرنة تعتمد المرکزیّة والعقلانیّة الحداثتیّة والشّمولیّة ونفی الآخر والنّزعة الإنسانیّة و العلمانیّة، فی حال أنّ العولمة تتهرّب من کافة تلک الوجوه، وهی نظریّاً وبنیویّاً وعملیّاً تختلف والعصرنة. من جهة أخری، فإنّ العصرنة تتعارض مع کثیر من المقولات والثّقافات، مع أنّ العولمة تستطیع مجاراة الثّقافات السّائدة، أو أنّها ولکونها عملیّة عامّة تُکسب المشترکات الحضاریّة والثّقافیّة شکلاً جدیداً من الثّقافة العالمیّة. إنّ التّعریف العلمیّ الّذی ارتئیناه للعولمة یصوّر الحالة الجدیدة من التّعامل وتبادل المعلومات وتواصل الثّقافات، فهی بهذا المعنی لا تحمل أیّة أیدیولوجیّة خاصّة، ولکن من

ص:62


1- (1) عماد افروغ، مجموعة مقالات: «الإسلام الشّمولیّ والعولمة»، ص 32.

الممکن أن تبرز ثقافة ما لأسباب خاصّة وتستولی علی غیرها من الثّقافات والحضارات بما تمتلکه من إمکانات فی الفضاءات العالمیّة الجدیدة. ولکنّ المقتضی الأوّلی للعولمة هو أنّها حالة و عملیّة وفرصة تستبطن إمکانات عالمیّة وحدیثة ولا تختصّ بکونها تحمل ثقافة خاصّة وأیدیولوجیّة ممیّزة، فلا ضرورة لحصرها فی البعد الاقتصادیّ و السّیاسیّ، أو أن تتطلّب وحدة ثقافیّة ونظام عالمیّ واحد. وفی عقیدتنا أنّ العولمة لا تحمل أیّة ثقافة غربیّة أو أنّها تخترع ثقافة عالمیّة شمولیّة، وإنّما یرتبط الأمر بالثّقافات ذاتها فی قدرتها علی التنافس لإبراز تفوقها اعتماداً علی معاییرها ومبادئها الخاصّة.

مناقشة النّظریّة الثّالثة

إنّ من أبرز المنظّرین فی مسألة العولمة هو دیفد هارفی، ففی کتابه (حالة العصرانیّة) یربط العولمة بالعصرانیة ویتکهّن باتّخاذ الرأسمالیة صفة جدیدة یسمّیها (العصرانیّة المرنة). ففی اعتقاده أنّ العولمة الرأسمالیّة ظاهرة مستحدثة، ولکنّ العصرانیّة المرنة أکثر بروزاً فی تضمّنها ازدیادا فی الاکتشافات وتراکماً للزّمان والمکان نتیجة تقنیة المعلومات ووسائل اتّصال فعّالیات النّظام الرأسمالیّ.

إنّ الرأسمالیّة الحداثویّة تعمل بصورة جادّة من أجل کسب أسواق جدیدة وتنمیة وتطویر منتجاتها وتغییر سلائق وأذواق النّاس لتصریفها عن طریق استغلال وسائل الإعلام والإعلانات التّجاریّة. فالمیزة الثّقافیّة لهذه العملیّة هی التّلوّن، عدم الثّبات، الضحالة الفکریّة، ترویج الأسالیب والموضات الحدیثة، عدم التّجانس، التّکثّر، عدم التّرابط، الفوضی والتّیه الثّقافیّ فی مقابل الأصالة والثّبات و العمق الفکریّ والرّویة العقلیّة. ومن هنا فالعصرانیّة لیست سوی «العبثیّة» و «الاضطراب».

ص:63

معارضو العولمة

وفی مقابل أنصار العولمة، تواجهنا طائفتان باتّجاهین مختلفین؛ الیساریّة الإفراطیّة ذات الاتّجاه الشّیوعیّ والهاجس السّلطویّ والسّیطرة الغربیّة. والأخری الیمینیّة اللیبرالیّة المتوجّسة من عودة الشّیوعیّة وسیطرتها علی العالم، وتعیش الطّائفتان حالة القلق من خطر التّوحّد العالمیّ، سواء کان بلونه الشیوعیّ أم بثوبه الإمبریالیّ. مع وجود أطراف أخری بأصولیّتها الذّاتیّة والثّقافیّة والتّاریخیّة والمذهبیّة تقف بمبرّراتها الأصولیّة والقومیّة فی مواجهة تیّار العولمة، لتنأی بنفسها عن نتائجها المهولة. وهنا ینبغی التّساؤل فیما إذا کان من الممکن السّباحة عکس تیّار العولمة؟ وهل یمکن السّیطرة وکبح مدّها العاصف والمدمّر؟ فما هو ردّ تلک الطّائفتان؟

إنّ الإجابة عن هذه الأسئلة یرتبط بالإدراک العمیق لعملیّة العولمة وفهم الآراء الّتی دارت حولها، فعلی سبیل المثال، إذا قلنا بأنّ العولمة هی استمرار للعصرنة، فسیکون من العسیر تلافیها والسیطرة علیها أو إمکان توجیهها؛ لأنّ العصرنة وفیّة لمبادئها الخاصّة، ومبتنیة علی العقلانیّة و التّطوّر و التّجدّد، وتتّصف بعدم المحدودیّة، وذات اتّجاه مادی، وعلمانیّ، فستکون للعولمة المبتنیة علی العصرنة نفس هذه المیزات أیضاً، إلّا فیما لو نظرنا إلیها علی أساس غیر أساس العصرنة، وفی هذه الحالة ینبغی النّظر إلی أنّ الآثار الّتی رافقت عولمة العصرنة، هل هی نفسها الّتی ستفرزها العولمة أم لا؟

بعض المفکّرین یعتقد بأنّ العولمة ذات اتّجاه علمانیّ ومادیّ، فسیکون «الدخول والالتحاق برکبها یعنی القبول بأصول التغریب وأسس الحضارة الغربیّة. وأنّ دخول العالم الإسلامی فی هذه اللعبة یستتبعه أخطار جسیمة».(1)

ص:64


1- (1) رامین خانکی، فصلیّة کتاب النقد، ص 29 (العدد 24-25). وعماد افروغ، مجموعة مقالات، ص 2، «باللّغة الفارسیّة».

ویعتقد هذا البعض بأنّ هذا یتنافی وأهداف ومبادئ وحقیقة الإسلام، ففی عقیدة هذه المجموعة إنّ هذه الشّعارات البرّاقة والخدّاعة من الدّیمقراطیّة، اللیبرالیّة، المجتمع المدنیّ العالمیّ، الأمن والنّظام العالمیّ الجدید، الإدارة العالمیّة، القریة العالمیّة، العولمة والتّعولم یکمن خلفها الاستعمار الغربیّ الإمبریالیّ الجدید.

أمّا المروّجین للعولمة فلم یکونوا موفّقین فی طرح أفکارهم الحالمة حول الحضارات والنظام العالمیّ الجدید وترویج الدّیمقراطیّة والثّقافة الغربیّة. فعادوا الیوم لاستخدام العولمة کوسیلة لتحطیم مقاومة الشعوب وصلابتها العقائدیّة والفکریّة. ولأجل تحقیق أهدافهم عرضوا شعاراتهم الجدیدة تلک، کالواقعیّة، مبدأ النسبیّة، مبدأ الشک والمجتمع ذو الثّقافات المتعدّدة، کی تُعرض الشعوب عن ثقافاتها وأدیانها وتقالیدها وتراثها أو تصاب بالتردّد والحیرة، ومن ثم یتمکّنون من الاستیلاء علیها، من خلال توحید النّظام العالمیّ ویحقّقوا أهدافهم الاستعماریّة. فهم یروّجون لقضیّة «أنّه لا یمکن الوقوف بوجه تلک القوّة العالمیّة الغامضة والعصیّة علی السّیطرة ولابدّ من الاستسلام لجبریّتها التّاریخیّة».(1)

فالعولمة فی رأی المعارضین، ما هی إلا بعبع ونمر من ورق، قبل أن تکون حقیقة خارجیّة. و یؤکّدون بأنّ عوامل تحقّق مثل هکذا مسألة والّتی یتداخل فیها البعد الثّقافیّ والاقتصادیّ والسّیاسیّ والعملیّ لتشکّل نظاماً واحداً ومتّحداً، غیر مهیّئة فعلاً.

الاعتراض الآخر لهذه الطّائفة، أنّ العولمة علی فرض تحقّقها سیکون لها آثار مبهمة غامضة، وتؤدّی إلی اتّساع نطاق انعدام العدالة، الفقر، فقدان الأمن، الأزمات الاجتماعیّة، البیئویّة والاقتصادیّة... الخ. ففی عقیدة هؤلاء أنّ

ص:65


1- (1) المصدر السّابق، ص 47.

العولمة لیست قضیّة طبیعیّة أو عقلائیّة، وإنّما - وکما أفصح عنه بعض المنظّرین - ما هی إلّا مصیدة ومشروعاً إمبریالیّاً جدیداً للسّیطرة الغربیّة وقهر المجتمعات والثّقافات الأخری.

المؤاخذة الأخری الّتی طرحها هؤلاء، هی أنّ العولمة تتضمّن تناقضاً ذاتیّاً علی المستوی النّظریّ؛ لأنّها تعکس انتصار القیم الثّقافیّة الغربیّة من جهة، ولکن هذه القیم ذاتها لم تستطع التّفوّق علی أنظمة ثقافیّة واقتصادیّة معاصرة کالصّین والیابان علی المستوی الاقتصادیّ، والإسلام علی المستوی الثّقافیّ.

ویؤکّد هؤلاء، أنّ العولمة إذا کانت مجرّد قناع وغطاء لقوی ومصالح خاصّة، لا یمکنها أن تکون نتاجاً للآراء المتوافقة والمتناغمة، ولکنّها مساومة علی الاستضعاف والانسحاق، وتؤدّی إلی الحرمان والکبت وقصر الألوان واستحالة الفرد والتعرّض لأقصی حالات الاستغلال.(1)

فرانسوا لیوتور، یعتبر أنّ احتمال حصول اتّفاق فی الآراء فی أیّ علم ذی قیمة إنسانیّة یعدّ فی الحقیقة انعکاساً لنوع من الوحشة والاختلال، فیقول: «بما أنّنا قد عشنا الرّعب والاضطراب خلال القرنین التّاسع عشر والعشرین وسدّدنا فاتورة الإحساس بالغربة الجماعیّة والفردیّة، والیوم ونحن نعیش الآمال العریضة فی الراحة والاطمئنان تتناهی إلینا أصداء عودة الرّعب لتنشب مخالبها فی النّفوس، فینبغی أن نهتف: أن تعالوا لنقف وقفة واحدة للثورة والمواجهة الشّاملة».(2)

عندما ننظر إلی الطّموحات الشّیوعیّة والاشتراکیّة الحالمة، نری بأنّ تحذیرات لیوتور مقبولة ومنطقیّة، وعندما نلاحظ الإبداعات الجنونیّة للقیادة الرأسمالیّة والّتی تدّعی المحوریّة العالمیّة والعولمة، ندرک المخاطر الّتی أطلقها لیوتور.

ص:66


1- (1) دوس، الثّقافة والمجتمع، سنة 1987، ص 299.
2- (2) لیوتور، 1984.

إنّ منتقدو العولمة یرون بأنّها بحدّ ذاتها تنطوی علی أضرار ومفاسد لایمکن الاستهانة بها، ولذا فهم یطالبون بإیقافها والإعراض عنها.

الطّائفة الأخری المعارضة للعولمة هم الأصولیّون الّذین یؤکّدون علی الحاکمیّة الوطنیّة، الوشائج التّاریخیّة، الاقتصاد الوطنیّ، الثّقافة المحلّیّة وإعادة الحیاة للتعالیم الدّینیّة ولأجل ذلک فقد شمّروا عن سواعدهم للإطاحة بهذه العملیّة. وفی هذا الوسط الّذی أشرنا إلیه یوجد بعض البوذیین، الیهود، الهندوس، المسلمین الّذین یرغبون بإعادة الحیاة للتّعالیم الدّینیّة ویحاولون نفض الغبار عن عقائدهم والمحافظة علی أصولهم سننهم. أبدوا موقفاً آخر تّجاه العولمة علی خلاف الأصولیّین، ففی نظرهم أنّ المطالبة بإیقاف أو معارضة العولمة لیست حلّاً منطقیّاً، و إنّما الحلّ هو فی استمرارها وتوجیهها باتّجاه أسس ومبادئ معقولة.

صنف آخر من المعارضین لمسیرة العولمة الفعلیّة هم الاشتراکیّون الّذین یروّجون لصبّ العولمة فی قوالب اشتراکیّة وینادون بعالم ما بعد الرأسمالیّة.(1)

خلاصة الآراء

لاحظنا حتّی الآن صورتین متضادّتین للعولمة:

ففی رأی البعض أنّ إقامة علاقات ثقافیّة عمیقة فیما بین الأمم والمجتمعات یؤدّی إلی إیجاد عقلیّة عالمیّة واحدة.

إنّ الثّقافة العالمیّة المعاصرة هی نتاج ثقافة خاصّة، وهی الثّقافة الغربیّة الّتی هی فی طور الاتّساع وهضم جمیع الثّقافات.

إنّ الدّراسات الّتی تجری الیوم علی صعید آثار العولمة وقیام المجتمع

ص:67


1- (1) ظاهرة العولمة، ص 39، «باللّغة الفارسیّة» هولد، دیفد وماک غرو وانتونی، العولمة ومعارضوها، «التّرجمة الفارسیّة لعرفان ثابتی» ص 22.

المعلوماتیّ المبتنی علی التّطوّر الثّقافیّ المعاصر، هی فی بدایة مشوارها وقد تمثّلت باتّجاهات مختلفة:

الاتّجاه الأوّل: ویرکّز علی العلاقة بین الثّقافة والاقتصاد. وهذا الاتّجاه یروّج للقیم الحدیثة الّتی هی نتاج لانتشار النّظام الرأسمالیّ والاستهلاکیّ والّتی هی فی طور التّبلور.

الاتّجاه الثّانی: وینظر إلی المسألة من خلال العلاقة الجدیدة النّاشئة من العلاقة بین الثّقافات أو صراعها، والّتی یُنظر إلیها بعنوان العامل الفارق والمصیری فی العصر الحاضر، کنظریة هنتیغتون.

الاتّجاه الثّالث: ویعتقد بأنّ المسألة ترتبط بالعلاقة فیما بین الثّقافة والسّیاسة. فقد أدّی ظهور الثّقافة العالمیّة لسحق التّعالیم التّقلیدیّة والمحلّیّة واتّخذت منحاً معارضاً کنظریة الحکومة - المواطن وتسبّبت فی إضعاف الحاکمیّة الوطنیّة، وهذا ما تبیّنه نظریة الأنظمة العالمیّة لوالرشتاین.

الاتّجاه الرّابع: وهو الّذی یتطرّق إلی المسألة من خلال العلاقة بین الثّقافات، فبناءً علی هذا الاتّجاه فإنّ انفصام وتدابر الثّقافات الغالبة، المنتجة، الثّابتة، الغازیة، المبدعة والمنفعلة مستمرّ وغیر منقطع. ولکنّ الظواهر الجدیدة غیر المتجانسة لکلّ تلک العلاقات تؤدّی إلی سحق الثّقافات الصغیرة والهامشیّة.

الاتّجاه الخامس: ویحلّل القضیّة من خلال الثّقافة والمجتمع، فإنّ مجاراة کثیر من النخب للثّقافة العالمیّة الّتی تحکمها مشاکل وقیم المجتمعات المتقدمة، یؤدّی إلی تلاشی واضمحلال الثّقافات القومیّة، ویُدخل المجتمعات الإنسانیّة فی فراغ معنویّ وذاتیّ، وما ذلک إلّا نتاجاً لتأسیس ثقافة قائمة علی البُعد الاقتصادیّ وقد وُضع ذلک فی أولی مهامّ منظمّة التّجارة العالمیّة.

إنّ هذه الثّقافة العالمیّة لم تُنتج ولم تُهدنا سوی: تحطیم الأواصر الاجتماعیّة، محو القیم الدّینیّة والأخلاقیّة، ترویج الأخلاق البرجوازیّة، أمّا

ص:68

القیم والأصول المذهبیّة فهی لیست غیر مقبولة فقط، وإنّما تعدّ سدّاً فی طریق العصرنة الغربیّة.

خلاصة الآراء والاتّجاهات

إنّ هناک خلافاً حادّا فی مسألة العولمة الّتی تحوّلت إلی کابوس یُؤرّق البشریّة فکریّاً واجتماعیّاً، ویبتدئ هذا الخلاف من تعریفها ویمرّ بتاریخها وأبعادها ویستمرّ إلی إفرازاتها ونتائجها، ففی وقت اعتبرها البعض من ممیّزات ومؤشّرات المرحلة المعاصرة وتحدّث عن تطوّراتها المذهلة، نظر إلیها بعض آخر بمنظار الریبة والحذر فأنکر واقعیّتها واعتبر الضجّة المثارة حولها مبالغ فیها. وفی مقابل هؤلاء هناک من یعتقد بأنّ العولمة ماهی إلّا مشروعاً استعماریّاً للنّظام الرأسمالیّ لنهب خیرات العالم. أمّا المؤیّدون لها فبعضهم اعتبرها عملیّة علمیّة تمخّضت عن التطوّر والتّقدّم التّقنیّ.

و قد اتّخذ المؤیّدون والمعارضون اتّجاهات متباینة تّجاهها، ویمکن إیجاز أقوال المؤیّدین فی أربعة آراء:

إنّها عملیّة (عولمة الرأسمالیّة).

إنّها بمنزلة (عولمة العصرنة).

إنّها (تجاوز للعصرنة) ودخول فی العصرنة الشّمولیّة (ما بعد العصرنة).

إنّها نتاج للتّقدّم العلمیّ والتّقنیّ الحدیث.

ویعتقد هؤلاء أنّ جمیع الممیّزات والعلائم الّتی ذکرتها التّعاریف الأخری هی من مستلزمات هذه العملیّة کزوال الحدود الجغرافیّة والمذهبیّة، النّمو المعرفیّ، السّرعة الفائقة، توثیق العلاقات والتّبعیّة المتبادلة فیما بین الأمم.

ص:69

ص:70

3. نظرّیة عولمة العصرنة

مناقشة النظریّة الأولی (عولمة العصرنة)

اشارة

یدّعی بعض المفکّرین: أنّ العولمة هی عملیّة تطویر للعصرنة وتمثّل إحدی مراحلها، ولأجل إثبات دعواهم هذه ینبغی علیهم أوّلاً بیان العلاقة البنیویّة والسّببیّة فیما بین العصرنة والعولمة بطریقة منطقیّة واستدلالیّة، ویکشفوا عن کیفیّة انتقال وتطوّر العصرنة ودخولها مرحلة الشّمولیّة. وینبغی ابتداءً دراسة وتحلیل کیفیة انحصار ارتکاز العولمة علی أسس العصرنة، ولهذا سوف نشیر إشارة مقتضبة إلی مفهوم العصرنة وأسسها قبل التطرّق إلی ممیّزاتها ومقتضیاتها ثم نتحدّث عن إمکانیّة تحوّل العصرنة إلی العولمة، وهل أنّ العولمة الحالیة تنسجم ومقوّمات العصرنة أم لا؟

1. مفهوم العصرنة

إنّ لفظة العصرنة أو الحداثة مشتقّة من لفظة العصری أو الحدیث وتأتی بمعنی المعرفة المتطوّرة بالعالم وبالنّفس الّتی تقوم علیها الحیاة حاضراً والإبداع والابتکار لأجل الأهداف القادمة.

ص:71

فالعصرنة: هی کلّ ما یحتاجه الإنسان علی طریق التّطوّر والإبداع والّتی یستطیع بواسطتها أن یمارس حیاته، دون أن یرتبط بأیّة ثقافة أو تقالید. وقد طُرحت للعصرنة معانٍ متعدّدة حسب المراحل الّتی مرّت بها، فتراوحت بین الهدفیّة فی مجال الفن والأدب إلی التّطوّر فی الفلسفة، العلم، الاقتصادف المؤسّسات الاجتماعیّة الدینیّة والسّیاسیّة، وسنرکّز علی بعض التّعاریف الجامعة نسبیّاً من بین التّعاریف المطروحة:

1-1. یقول مارشال برمان فی تعریفها: «هناک نوعاً من الوحدة التّناقضیّة فی العصرنة؛ فهی تدعونا إلی الحیاة والتّوالد المتجدّد، الطّراوة والتّحدیث والإبداع والانفصال عن الجمود والثّبات، وإلی الوحدة والشّمولیّة والحداثة؛ بمعنی الاتّجاه نحو التّقدّم والتّطوّر والتّکامل والتّغییر والسّعی الدّائب للنّمو وتوسیع الطّموحات الإنسانیّة خارج الحدود الجغرافیّة والمحلّیّة والعِرقیّة من جهةٍ، والدّعوة إلی الکفاح والمعارضة والتّغییر غیر المتناهی من جهة أخری».(1) إنّ هذا التّضاد والدّیالکتیک یستتر فی ذات العصرنة.

2-1. وجاء فی تعریف آخر لها:

«إنّ معنی الکون عصریّاً هو أن نجدّد أوضاعنا وأحوالنا لیکون محیطنا واعداً بالمغامرات المختلفة والقوّة والسّرور، إنّ العصرنة هی الّتی توحّد جمیع البشر وحدة تکون فی ذاتها أسیرة التّناقض، وحدة غیر متّحدة تؤدّی إلی التّمزّق والتّلوّن المستمرّ والنّضال ومضادّة الواقع المعاش والغموض والاضطراب والانفصال».(2)

3-1. الآن تورن یقول أیضاً: «إنّ العصرنة بمثابة الرّابط الدائم والممتدّ فیما

ص:72


1- (1) حسین علی نوذری، العصرنة والتّعصرن، ص 214، «باللّغة الفارسیّة».
2- (2) بابک أحمدی، العصرنة والفکر الانتقادیّ، ص 258، «باللّغة الفارسیّة».

بین العقل والعالِم العارف. وهی کذلک بمثابة اکتساب العقلانیّة والرّوح التّنویریّة، النّهضة، الإصلاحات، العلم والحرّیّة».(1)

2. أسس وجذور العصرنة

1-2. ذات إیمان راسخ بالإنسان علی صعید المعرفة والذّهنیّة.

2-2. الاعتقاد بالحرّیّة المطلقة للإنسان علی صعید الإرادة والعمل.

3-2. تحاول تطویر إدراک الإنسان للزّمان والمکان، وتفتح له آفاقاً فکریّة غیر محدودة.

4-2. ذات نظرة آلیّة للإنسان والعالم، وتنکر أصالة القیم المیتافیزیّة.

5-2. ذات اتّجاه شدید نحو العقلانیّة.

6-2. الحضارة المعاصرة تتّصف بالتّجدّد والفعّالیّة الذاتیّة وتمتلک القدرة علی الإبداع والتّوالد المستمرّ والدّائم.

ولذا «فالعصرنة ذاتاً تنحو نحو العالمیّة ولیس من خلال تأثیرها وانعکاسها العملیّ».(2) إنّ هذا الامتیاز فی عدم المحدودیّة والشّمولیّة أکسبها بُعداً وصفة عالمیّة. ولأجل هذا، فالعصرنة من حیث جذور وعلل تکوّنها، ظاهرة غربیّة، ولکن من حیث عملها وتأثیرها، فهی فی حالة شمولیّة وعولمة. وعلی هذا ینبغی النّظر فی الأدلّة المطروحة للعولمة العصرانیّة من خلال ممیّزات وأسس العصرنة.

1. یستدلّ هیجل وبعض فلاسفة الغرب بأنّ الحضارة المعاصرة تعدّ من أفضل الحضارات البشریّة؛ لاعتمادها العقلانیّة ومحوریّة العلم. ویؤیّد الکثیرون هیجل فی ذلک، ولکن تعرّضت فکرته هذه لنقد لاذع من عدّة لایستهان بها.

ص:73


1- (1) حسین علی نوذری، العصرنة والتّعصرن، ص 214.
2- (2) عطاهودشتیان، العصرنة والعولمة وإیران، ص 170، «باللغة الفارسیة».

2. إنّ جمیع الفلاسفة المعاصرین الّذین جاؤوا بعد دیکارت یعتقدون اعتقاداً راسخاً بالعقلنة والأسلوب العلمیّ والإنسانیّ، وإنّ إطلاق ید الإنسان فی السّیطرة علی الطّبیعة والعالم یعدّ أساسیّاً لانتشار العصرنة وتنامیها، فمنذ عصر التّنویر، غدا العلم أسلوباً مناسباً وعاملاً أساسیّاً للتّقدّم البشریّ فی کافّة المجالات. وأصبح الأنموذج التّنمویّ الأمثل لجمیع الأمم.

3. لقد صوّر بعض المفکّرین وعلماء الاجتماع(1) مراحل التّطوّر والعولمة العصرانیّة من خلال بعض الأمثلة والشّواهد الخارجیّة وحدّدواً مدی ترابط هذه التغیّرات العالمیّة بالعصرنة. فذکروا فی هذا المجال الثّورة الأولی أو النهضة العلمیّة فی أوربا، وهی الّتی فسحت المجال للوصول إلی تقنیة الاتّصالات والاکتشافات المتطوّرة، وإنشاء المؤسّسات الدّولیة والمنظّمات الإقلیمیّة والعالمیّة، الاتّجاه العالمیّ فی السّیاسة والاقتصاد... الخ، کلّ ذلک یعدّ من مکاسب الحضارة الغربیّة المعاصرة.

والآن وبعد أن اتّضح تعریف العصرنة ومؤشّراتها وأسسها لنری هل أنّها فعلاً ذات صفة عالمیّة أم لا؟ فی الجواب علی ذلک ینبغی القول: إنّ العصرنة ظاهرة غربیّة وبعبارة غینز فی کتابه (إفرازات العصرنة): إنّ العصرنة هی (مشروع غربیّ) ولیست ظاهرة غربیّة، ومن هنا ولکی نحدّد مکانة العصرنة، وهل أنّ منشأها غربیٌّ أم لا؟ وهل أنّ العولمة هی بمعنی انتشار وغلبة الثّقافة الغربیّة؛ لارتباطها وتبعیّتها لأسس العصرنة؟ وهل أنّ العصرنة وبسبب صفتها الشّمولیّة من العقلانیّة والعلمیّة لا تستطیع أن تبقی حبیسة فی نطاق عالمها الغربیّ؟ إنّ الّذی جذّر العالمیّة وعدم المحدودیّة فی العصرنة هو «نوع نظرة الإنسان المعاصر إلی العلم والإرادة والعمل البشری».(2)

ص:74


1- (1) . Robertson and Gidens.
2- (2) المصدر السّابق، ص 169.

وهل أنّ عدم محدودیّة الإرادة والرغبة والتّفکّر لدی الإنسان الغربیّ المعاصر قد أطلقت یده فی العالم، وألهمته إدراکاً فکریّاً وعلماً وعملاً وحرّیّة غیر محدودة؟ إنّ الجواب علی هذا السؤال الأساسیّ یتطلّب معرفة ممیّزات العصرنة ومؤشّراتها.

إنّ إحدی ممیّزات العصرنة هو «عالمیّتها وعدم محدودیّتها فی مجال الفکر والعمل». ویمکن القول عموماً: إنّ هناک عدّة مؤشّرات علی عدم محدودیّة العصرنة فانتونی غینز الّذی یعدّ من أنصارها العنیدین یؤکّد من خلال دراسة وتحلیل تأثیر مؤسّسات العصر الحدیث علی المجتمعات الأخری، أنّ العصرنة تمرّ فی حالة توسّع وعولمة. ویعتقد أنّ العولمة هی بمعنی ترویج المؤسّسات الغربیّة وأنّ العصرنة عالمیّة بطبیعتها. وفی کیفیة تأثیر العصرنة علی الثّقافة، الاجتماع، الاقتصاد والسّیاسة یذکر بأنّ لعملیّة عولمة العصرانیّة إفرازات وأخطار مع ما لها من مکاسب مذهلة، ویری بأنّ التّطوّرات الهائلة والمیول العولمیّة هی من أسباب المؤسّسات الحدیثة ومن مقتضیات العصرنة.

وکما أشرنا آنفاً فإنّ إحدی ممیّزات العصرنة ومقتضیاتها الطّبیعیّة هو شمولیّتها وأیضاً انتشارها عالمیّاً والّذی یعدّ من مستلزمات العلمیّة والمحوریّة العقلیّة للعصرنة. فالعصرنة إضافةً إلی مقتضاها العولمیّ، فهی تبتنی أیضاً علی أصالة الفرد والتحرّریّة ثقافیّاً واقتصادیّاً. وکذا علی الصّعید الاجتماعیّ والنظام الحکومیّ وقضایا الحقوق والملکیّة، فهی ترتکز علی التّقدّمیّة، وأصالة الحرّیّة المطلقة فی کافّة شؤون الحیاة. وعلی الصّعید الفلسفیّ والدّینیّ تقول بفصل العلم عن الدّین، و الدنیا عن الدین وبحسب التعبیر الشّائع فهی ذات اتّجاه علمانیّ. ونظراً للأسس النّظریّة للعصرنة وحقیقتها الخارجیّة والتّجربیّة فهی لا یمکنها المساومة والتّعاطی مع الثّقافات و التّقالید الفکریّة والمذهبیّة

ص:75

للمجتمعات الأخری، وعلی أساس مقتضاها الشّمولیّ وإبائها عن القبول بأیّ منع ومحدودیّة، فهی تتّجه صوب القضاء علی الثّقافات الأخری. ولأجل هذا فإنّ القبول بالعصرنة هو بمعنی القبول بأسسها وعناصرها الأوّلیّة، وکذا مستلزماتها وتبعاتها الثّقافیّة والاقتصادیّة والاجتماعیّة. ولذا فإنّ العولمة الّتی ترتکز علی أسس العصرنة أو العولمة العصرانیّة، لها مخاطر وتبعات العصرنة نفسها.

3. نقد العصرنة
اشارة

لقد تعرّضت العصرنة کنظام فکری وفلسفی لنقود وطعون متعدّدة، فضلاً عن ما أصاب أسسها النّظریّة والمعرفیّة من إشکالیّة وأزمة، فمع کلّ ذلک هل یمکن التّحدّث عن عولمة العصرانیّة وهل من الممکن تحقیق المثال والطّراز العولمیّ؟

قبل الإجابة عن هذا السّؤال سنتعرّض فی البدایة إلی الأزمات والإشکالیّات الّتی تواجهها العولمة، ثم نعرج علی تحلیل إمکانیّة تعولم العصرنة.

أزمات العصرنة
1-3. نقد العقلانیّة الحدیثة

تعدّ (العقلانیّة) من أهمّ مؤشّرات العصرنة، فلا یمکن نقد العصرنة دون التعرّض لنقد العقلانیّة. إنّ منتقدی العصرنة قد تعرّضوا لتقویم العقلانیّة الحدیثة ومکانتها وفائدتها من زوایا مختلفة ومتعدّدة. وقد اتّفق أغلبهم علی أهمّیّة العقل العلمیّ والّذی یعدّ من أهم ادّعاءات المثقّفین. ففی رأی منظّری العصرنة «أنّ نمو وتکامل العقل العلمیّ المکتسب یمکنه أن یفتح الطّریق نحو السّعادة البشریّة».(1)

ص:76


1- (1) بابک أحمدی، العصرنة و الفکر النقدیّ، ص 52، «باللّغة الفارسیّة».

إنّ العقل العملیّ الّذی کان معرضاً لانتقاد هوسرل وشموتز، ما هو إلّا نتیجة المقابلة فیما بین العقل الحدیث والطّبیعة، وبعبارة أخری فیما بین الموضوع وشیئه الّذی کان یشکّل المسألة الأساسیّة لدیکارت، کانت، هیجل، نیتشه وآخرین. إنّ هذه المقابلة قد برزت من خلال أنّ عالم العلم أو معرفتنا الدّنیویّة للطّبیعة ما هی إلّا صورة عن تصوّرات العالم والریاضیّ غالیلو. فتجاربنا الدّنیویّة المحدّدة عن عالم الحیاة والّتی ترتبط بالأفق الذّهنیّ للإنسان، تتعرّض للإنکار من خلال واقعیّة الأهداف، وأنّ الشّیء الّذی لا یمکن خضوعه للتجربة ذاتیّاً، یمکن فهمه من خلال قبوله التّجزئة، وأنّ العلم وعلی خلاف التّصوّرات الفلسفیّة الحدیثة الّتی تقوم علی أساس النّظریّات، یرتکز علی أساس (الفلسفة العملیّة). فالعمل هو الأساس والأصل قبل أن توجد رؤیة کونیّة أو عالم شمولیّ. إنّ هذه المسألة توضّح دون شکّ القاعدة الأساسیّة للعلم التجربیّ. ولکنّها فی الوقت ذاته تنکر ما یدّعیه العلم من إمکانیة جعل العلم أسلوباً عامّاً لجمیع المعارف البشریّة.

2-3. التّمرّد علی التّراث ومحو القداسة

إنّ إحدی نتائج عولمة العصرانیّة هو أنّ التّقالید والآداب والمؤسّسات الّتی علقت فی دوامة عقلنة العالم ستسیر باتّجاه التّمایز والتّضاد والنّزاع، ففی عملیّة عقلنة العالم بناءً علی نموذج العصرنة علی سبیل المثال یتوقّف تعریف وتحدید مکانة الإنسان وحرّیّته وفکره وعمله علی ما تراه العصرنة، وأنّ مستلزمات العصرنة تسلب بصورة ذاتیّة وآلیّة الصّفات الطّبیعیّة والتّحرّریّة من الإنسان. ففیما لو نزعت المجتمعات نحو الدّین وانتخبت الدّین بصورة اختیاریّة وبنت ثقافتها علی أساس الاتّجاه الدّینیّ، سیکون ذلک منافیاً لقواعد الحکومات العلمانیّة، وعلی هذا الأساس ستنفصم عری الارتباط فیما بین

ص:77

الحکومة والدّین. مع أنّ الأنظمة اللیبرالیة تدّعی الاعتراف بالحقوق والحرّیّات الاجتماعیّة والفکریّة، ولکنّها عملاً ترفض بعض الحرّیّات والاتّجاهات الدّینیّة. إذن فعملیّة العصرنة لیست هی بمعنی العلمانیّة علی وجه اللزوم.

فماکس ویبر یبیّن صراحة: «أنّ انهیار الرؤی الکونیّة الأصالتیّة والتّقلیدیّة وتعقلن الثّقافة النّاشئ عن ذلک الانهیار یؤدّی إلی الخصخصة الواسعة للإیمان وممارسة الإنسان الأخلاق، الّتی غدت باطنیّة، داخل وجدانه فقط، وفی المراحل التّالیة تؤدّی هذه العقلانیّة المؤسَّسة إلی توسیع اقتصادها اللیبرالیّ المنظّم بشکل متنامی. وشیئاً فشیئاً إلی تهمیش القیم الدّینیّة. وأنّ عقلنة الثّقافة الغربیّة فی أحضان العصرنة ینتهی إلی وقوع الانفصال والتّمایز بین المجالات القیمیّة والّذی لا یمکن إیجاد حلول له من خلال رؤیة عالمیّة دینیّة أرفع وأعلی».(1)

ففی رأیه أنّ الأشخاص سیتعرّضون فی عملیة العقلانیّة الحدیثة ونظامها التّقنیّ المعقّد لجدال وجودیّ وأزمات معنویّة، ویتحوّلون إلی مجرّد هویّات فردیّة والّذی یعرّض الإنسان بدوره إلی أزمة معنی وحرّیّة، وتتجاذب الفرد حینها أضداد اجتماعیّة لا یمکن حلّ التشابک فیما بینها، ویعیش فی مستنقع حصار الثّقافة الجدیدة الّتی یقودها زخم المعلومات والإعلام الحدیث.

ولأجل هذا یمکن القول إنّ إحدی نتائج (عولمة العصرانیّة) هو التّماثل والانسجام الّذی سبق وأن أکّد علیه غینز، ترویج المؤسّسات الغربیّة فی کافّة أرجاء العالم، وتقطیع أوصال الثّقافات الأخری. وتکون العولمة فی هذه العملیّة الشّاملة مرافقة للتّطوّر والتّغییر.

ومن ناحیة أخری أیضاً ستعیش العصرنة ذاتها فی دوامة النّزاع مع مسائل تنساق من الأفق الواسع للمکان والمستقبل باتّجاه حالة مضطربة» کلّ هذه

ص:78


1- (1) یورغن هوبرماس، العولمة ومستقبل الدیمقراطیّة، ص 115، «التّرجمة الفارسیّة».

النّزاعات والإشکالیّات ما هی إلّا نتیجة للتّفکیک والتّمایز فی عالم الحیاة المتزامن مع التّمرّد علی سننها. «فالعصرنة من خلال الرؤیة الدّفعیّة تؤدّی إلی المحو التّدریجیّ للأخلاق والحیاة الاجتماعیّة».(1) فقبل هذه المرحلة کان الدّین یؤدّی دوراً انسجامیّاً ووحدویّاً أخلاقیّاً فی الحیاة الاجتماعیّة؛ «ولکنّ التّنویر والانفتاح الفکری أدّی إلی تزلزل أسس الحیاة الدّینیة بکلّ ما تعنیه هذه الکلمة، إنّ هذا الواقع یدلّل علی أنّ أصالة الذّهنیّة لا تستطیع، ومن خلال الاستفادة من العقل أن تعید للدّین تلک القوّة الوحدویّة الّتی کان یتمتّع بها».(2) فعقلنة الثّقافة الغربیّة یؤدّی إلی التّفکیک والتّمایز علی صعید القیم.

ماکس وبر کهیجل یری أنّ تیار العصرنة یمکن اعتباره تحوّلاً فی الرؤی الکونیة للشّمولیّة الدّینیّة، ویری أنّ إنجازات الدّین لا تتعدّی حدود هذه المرحلة. فهو یعدّ عقلنة الثّقافة بمعنی الخصخصة الواسعة للإیمان وعدم تعدّی الأخلاق الباطن.

وبما أنّه یری عصرانیّته فی تضادّ مع التّقالید، فقد وجد ضالّته فی العقل لینشر علیه غسیله، ومن هنا فهو یختار العصرنة فی فضاء الانفتاح الفکریّ أنموذجاً له وفق معاییره الخاصّة. فیستخرج سلوکیّاته وتقالیده من وجداته ویقذف بها خارجاً لیبقی مقیّداً ومخلصاً لمرجعیّة العقل. إنّ التّنویر العصرانیّ یعتبر الآداب والأعراف والتّقالید لا قیمة لها، وعلی هذا الأساس توصّل هیجل إلی أنّ: «عقل العصرنة هو وحده الّذی یمکّن الإنسان من المعرفة بنفسه ویفکّه من أسر الطّبیعة والتّقالید. ومن هذه الجهة کان الفهم الذّاتیّ للعصرنة مرتبطاً بالمعرفة الذّاتیّة والاتّجاه الانتقادی لجمیع التّقالید والأسس الأخلاقیّة وکل ما یقیّد إرادة وحرّیّة الإنسان.

ص:79


1- (1) المصدر نفسه، ص 112.
2- (2) المصدر السّابق، ص 114.

ومن هنا أیضاً تعرّض الفلاسفة لدراسة وتحلیل العصرنة؛ وذلک من خلال أفق نقد العقل. إنّ هذا التّصدیق الذّاتیّ لأساسیّة العقل الحدیث والّذی ابتدأ منذ عهد کانت؛ یستطیع إبداع ظروف إنتاج علم طبیعیّ خالص وحقیقیّ، بإمکانه انتزاع العقائد من الأفق الذّهنیّ للإنسان وإلقائها جانباً، إنّ کانت، وبنقده ملکة التّمییز والعقل العملیّ وفصل نطاقها عن العقل النّظریّ، وکذا فصل الحقیقة عن العدالة، والذّوق السّلیم والوجدان الأخلاقیّ عن التّفکر العقلانیّ، بنی سدّاً عالیاً واحتفر خندقاً عمیقاً فیما بین العلم والدّین والأخلاق، کان من نتیجته هذا التّمایز المطروح والاعتقاد بالمحوریّة الذّاتیّة للعقل. وهذا هو الّذی تجسّد الیوم بشکل أزمة العلم والمعرفة فی أعمق المعارف البشریّة؛ معرفة الوجود، معرفة الإنسان، اللغة والتّفاهم، وکذا الأزمة فی مبدأ العلم. إنّ هذه الأزمات لم تکن إلّا نتیجة للمحو التّدریجیّ للحیاة الأخلاقیّة والإلهامات الدّینیّة من الحیاة الاجتماعیّة فی عصر العصرنة.

وبعبارة الفیلسوف وعالم الاجتماع المعاصر، هوبرماس «کان للدّین باعتباره القاعدة الأساسیّة للانسجام والوحدة الأخلاقیّة فی الحیاة الاجتماعیّة دور مؤثّر، ولکن جاء العقل الیوم لیمسک بزمام المبادرة ویلعب مثل هذا الدّور، ولکن من جهة أخری انکشفت للعیان محدودیّة هذا العقل الآلیّ، حیث لا یمکن بعد الآن الاعتماد علیه کمسند لمرحلة الاضطراب الفاحش والمعکوس باتّجاه مستقبل یکون فیه التّعطّش للإبداع لا حدّ له».(1)

3-3. الأزمة المعرفیّة للعصرنة
اشارة

إنّ إحدی الإشکالات الأخری الّتی تواجهها العصرنة، الأزمة المعرفیّة و

ص:80


1- (1) المصدر السّابق، ص 195.

التّضادّ الموجود فی أسس علمها المعرفیّ. إنّ العالم المعاصر قد تأثّر بعصر التّنویر و اتّخذ اتّجاهاً علمیّاً و تجربیّاً، و ابتدأ من خلال إدارة ظهره لعالم ما قبل الحداثة الّذی کان یعتمد الخرافة والأوهام الممزوجة بالسّحر والجهل. ووضعت المذهب والمیتافیزیا فی أزمة حقیقیّة من خلال اعتمادها محوریّة العقل والعلم، وخاضت جدالاً وحواراً فلسفیّاً ومعرفیّاً عسیراً حتی نالت استقلالها عن الدّین والفلسفة المیتافیزیّة، وأوجدت الأسس الفکریّة للعقلانیّة الحداثتیّة، وقد شهد العالم أجمع لموفّقیّة ذلک التفکّر العقلیّ، حیث غطّی جمیع العالم وأقبلت جمیع المجتمعات علی الرأسمالیّة الغربیّة باعتبارها مثالاً للتّفکّر العقلانیّ.

لقد نال العلم نجاحاً باهراً باعتباره معیاراً لتقویم الفکر البشریّ، وظهر بعنوان أیدیولوجیّة مقتدرة وغدا بمرور الزّمن إحدی القوی المعنویّة الحاکمة زمانیّاً. وقد اکتسب هذا العلم الجدید مرجعیّة من خلال الاستدلال التّجربیّ والعلمیّ الّذی لم یعد معه للأصول الأخلاقیّة والقیم الإنسانیّة مکان یُذکر.

لقد امتزج التّصدیق العقلیّ مع التأویل الدّینیّ للعالم والنّظام العالمیّ خلال القرون الوسطی، وکان إدراک الإنسان للعالم والإنسان یصطبغ وبکثافة باللون الدّینیّ، ثم انخفضت حدّة تلک النّظرة بعد النّهضة وفقدت نفوذها الغابر. وابتعد الفلاسفة فی بحوثهم عن معرفة العالم ومعرفة الإنسان عن النّظرة الدّینیّة وأوضحوا رؤیتهم الکونیّة وفسّروها من خلال المعاییر الفیزیاویّة والرّیاضیّة والعملیّة. وفسّروا العالم علی أساس المعاییر الإنسانیّة الّتی اخترعها البشر أنفسهم. وعمّموا فی نهایة الأمر هذا المثال العالمیّ لتجاربهم العلمیّة تلک علی العالم قاطبة. فمنذ ذلک الوقت صُوّر عالم الحیاة کعالم لا یمکن معرفته إلّا من خلال البیان العلمیّ والرّیاضیّ. إنّ أزمة العلم قد ابتدأت فی الغرب منذ أن عطفت المکاسب العلمیّة عین الإنسان إلی النّظر إلی القوانین

ص:81

الرّیاضیّة والفیزیاویّة للطّبیعة عن النّظر إلی عالم الحیاة الواقعیّة. إنّ هذه الأزمة فی الواقع هی أزمة معنویّة أُنکرت فیها الجوانب المعنویّة والإنسانیّة والذّهنیّة. وأنّ أیّ تعامل وعلاقة مع العالم لا یعدّ علماً ما لم تکن مبتنیة علی التّجربة. ففی رأی شوتز: «نحن نعیش فی عالم نلعب فیه أدواراً متعدّدة وإنّ عوالمنا الحیاتیّة کثیرة ومتعدّدة. فهناک عالم التّصوّرات والأحلام الشّخصیّة، عالم التّجارب الفنیّة، عالم النّظریّات... الخ ولقد اعتدنا ذلک کثیراً».(1)

إنّ روّاد ومنظّروا العصرنة یبحثون ویفتشون عن حتمیّات لتحلّ محلّ الیقینات الأزلیّة والسّنن المیتافیزیّة؛ ولکنّ هذا الغطاء یتنافی وأسس الشّک فی العصرنة، وعلی هذا الأساس تواجه العصرنة أزمة علی صعید المعرفة وکشف الواقعیّات؛ لأنّ کلّ ادعاء معرفی فی إطار العصرنة هو فی الحقیقة بُعد عن الواقع (جهل). مع أنّ هناک اختلافاً فی هذا البعد عن الواقع فیما بین العلوم الطّبیعیّة والعلوم الاجتماعیّة، ففی العلوم الطبیعیّة یکون البعد عن الواقع من جهة أنّ العلم هو أسلوب محض، وأنّ عامّة صور المعرفة قابلة للنّفی والإبطال أساساً.

إنّ هذه الأزمات العلمیّة والواقعیّة الشّاملة للعصرنة، دعت بعض المفکّرین الغربیّین إلی الإشارة إلی موت العصرنة، من خلال نقدهم لها، والإعلان عن عدم صلاحیّتها وانتاجیّتها.

إنّ إحدی جوانب (أزمة العلم) عدم انسجام التّنمیة التّقنیّة مع حاجات الحیاة العالمیّة. فهوسرل أشار فی کتابه (التجربة والحکم) إلی الجوانب المدمّرة لهدفیة العلم فی عالم التجربة والحیاة، فیقول: «إنّ العلم الحدیث ینطلق من العالم الّذی اصطنعه هو، ولیس من العالم الواقعیّ».(2)

ص:82


1- (1) بابک أحمدی: الحداثة والفکر الانتقادی.
2- (2) هوسرل؛ التجربة والحکم.

ومع تحویل الإنسان إلی موضوع ذهنیّ فی الفلسفة الحدیثة، اتّسعت الفاصلة فیما بین الموجود والوجود. فلم یعد الموضوع الذّهنیّ متأثّراً بتلک الدّرجة لیعکس الواقعیّات الخارجیّة وإنّما الإنسان هو الّذی أصبح المرکز والمحور الأساسیّ للوجود. ومن هنا فقد غیّر معاییر الواقعیّة والمعرفة. إنّ هناک أشیاءً فی عالم الطّبیعة والخارج لایمکن إدراکها إلّا بحلولها کمصادیق، فتتبلور من خلال ارتباطها بالموضوع. یعنی حدوث تقابل ثنائیّ فیما بین الموضوع والمصداق، ولا یکون للعالم معنی إلّا بمعرفة أو استخلاص موضوعه. ومن هنا احتلّ الإنسان موضع قلب العالم والمحور الأساسیّ له، وبهذا تثبت النّهضة الإنسانیّة فی هذه الفلسفة الحدیثة، وغدت الإنسانیّة أیدیولوجیّة وحقیقة للعصرنة طالما کانت ظاهرة وجودیّاً وزمانیّاًً والّتی انقلبت الآن إلی شیء خفیَ علی الإنسان اکتشافه. وبعبارة هایدغر إنّ الإنسان کان محوریّاً فی مرحلة الکمال المیتافیزیّ الحدیث، و قد اتّضح ذلک بشکل جیّد، إلی أن یقول: «إنّ غایة القدرة هو إمکانیّة إدراک الوجود، وإنّ النّفس الإنسانیّة هی الموضوع الأساسیّ لإدراک الوجود».(1)

لقد حوّل فلاسفة الحداثة الحقیّقة الواضحة إلی شیء مبهم وضائع، فیأتی الإنسان لیکتشفها، بل لیصنعها، وصار العالم صورة تنعکس فی عینیه. ففی المیتافیزیّة الحدیثة یحلّ الإنسان محلّ الحقیقة ویغدو الإنسان محوراً ومرکزاً للعالم وتوضع الحقیقة واللغة فی خدمة هذا الموضوع. ومن هنا ینبغی للحقیقة أن تتعالی؛ أی أن تُصبح إنسانیّة لیفهمها الإنسان، فلا تعبّر الفلسفة فی هذه المرحلة عن الحقیقة؛ وإنّما مجرّد خبر یُنزلها العقل الإنسانیّ منزلة الواقع، ومن هنا کانت المسألة الأساسیّة فی الفلسفة الانتقادیّة لکانت عبارةً عن؛ ما هو الإنسان؟

ص:83


1- (1) مارتین هایدغر، کسوف الله.
نقد وتحلیل

1. إنّ الاعتماد المفرط علی العلم والمعرفة التّجربیّة کأساس للحکم وإدارة الظّهر للقیم المیتافیزیّة والأخلاقیّة لم یمکّن الإنسان المعاصر من الوصول إلی ساحل النّجاة. وبحسب تعبیر بیتر سکوت: «إنّ النّظام الّذی صنع القنبلة الذّریّة، انهزم فی صنع المقولات الأخلاقیّة الّتی تستطیع جعل مثل هذا الفکر متحضّراً ویصبّ فی خدمة الإنسان».(1)

2. إنّ الأسالیب العلمیّة والتّجربیّة و الإثباتیّة الّتی تُستخدم للإجابة وبیان ومعرفة الظّواهر، والطّرق التّفسیریّة الحدیثة والمقولات العلمیّة والّتی تُستخدم کأدوات تکمیلیة للمساعدة فی البحوث النّظریّة والتّطبیقیّة، تتّبع وتتأثّر بالأزمة الموجودة فی علم معرفة العصرنة. إنّ القائلین بهذه النّظریّة یستدلّون بأنّ الأسالیب التّجربیّة والعقلیّة للمرحلة المعاصرة لم تستطع ولا تستطیع حلّ النزاعات الفکریّة للإنسانیّة. إنّ المقولات والنّماذج السّائدة عجزت عن الکشف عن العلاقة فیما بین الحقیقة والواقعیّة.(2)

4-3. أزمة العدمیّة (النهلستیّة)

إنّ (العدمیّة) هی بمعنی الإنکار المطلق لأیّة قیمة أخلاقیّة، فهی فی واقع الأمر نتیجة أزمةٍ معرفیّة وجودیّة (انثولوجیّة) وأخلاقیّة. فهی تضع العقل البشری تدریجیّاً موضع الوحی الإلهیّ وفی المراحل اللاحقة تستخدم هذا العقل النّفعیّ والأداتیّ فی خدمة المصالح والغرائز البشریّة. إنّ العدمیّة تعدّ أزمة عالمیّة تتزعزع من خلالها فلسفة الأخلاق ولا یُعترف فیها بأیّ اتّجاه أخلاقیّ

ص:84


1- (1) سکوت، بیتر: الثّقافة والمجتمع، 1983، ص 284، «التّرجمة الفارسیّة».
2- (2) الوضعیّة وتؤکّد علی التّفکیک فیما بین القیم والواقعیّة، ولکن ما بعد الحداثة تشکّک فی کلّ مشروع العلم وتنکر أیّة معرفة قطعیّة.

ینبع من غیر الإنسان. وبتعبیر دوستویفسکی «کلّ شیء یعدّ مباحاً للإنسان».(1) ویشیر نیتشه إلی الوجه الثقافیّ للعدمیّة ویحلّل مکانة الدّین والأخلاق فی الحضارة الغربیّة بأسلوب معرفیّ بیّن:

إنّ العدمیّة هی النّواة المقتدرة للتّاریخ المیتافیزیّ الغربیّ، وفی حقیقة الأمر (منطقه الدّاخلیّ)، لأنّها تعتبر الفکر منبع المعرفة والقیم، فالقیم العلیا هی من إبداع القدرة البشریّة، والمیتافیزیة تنجب القیم المتعالیة، ولکن العصرنة تتّجه صوب إبطال القیم العلیا والمیتافیزیّة(2) وعلی أیّة حال فالعالم الحدیث، عالم تعدّ العدمیّة الوجه الباطن له، حیث تدار الدّنیا فیه دون تدخّل أو حضور إلهیّ.

لقد تزامنت النّهضة العلمیّة الأوربیّة فی القرن السّابع عشر المیلادیّ مع وقوف العلم والفلسفة فی وجه الدّین، وکانت تعمل من أجل إنهاء السّیطرة الفکریّة والسّیاسیّة والمذهبیّة للکنیسة والدّیانة المسیحیّة. وقد أُرغم العلم الغربیّ علی اتّخاذ استراتیجیّة «أنّ الطّبیعة لها واقع بمعزل عن وجود الله. حیث یمکن دراسة وقراءة واقعیّاتها وبصورة حتمیّة ونهائیّة إلی أیّة مرتبة أعلی».(3)

إنّ العلم الحدیث ونتیجة للمکاسب الهائلة الّتی حصدها وضع الأسالیب المتّبعة لقراءة الفلسفة والدّین تحت شعاع تأثیره، وعمّم الجوانب النقدیّة والتّحلیلیّة العلمیّة علی نطاق الدّین، التّاریخ، الفلسفة، المجتمع، الحکومة وجمیع أسس الحیاة البشریّة؛ ولکنّ منهج أصالة العلم هذا لم یقترح أیّة معرفة جدیّة أخری تستطیع ملأ الفراغ الّذی یحدثه الدّین. «ومنذ ظهور الفکر الّذی یفصل بین العلم والدّین ومذهب أصالة الإنسان فی الغرب أصبحت محوریّة الإنسان معیاراً لکلّ شیء واستطاع الإنسان تسخیر القوّة العظیمة للعلم

ص:85


1- (1) مجلّة کیان، السنّة الثّالثة، العدد 11 ص 21.
2- (2) المصدر نفسه.
3- (3) ر. ک، فصلیّة قبسات، (العلم و الدّین حسب رؤیة الشهید مطهّری)، ص 41.

والتّقنیة وتحویل التّطوّر إلی مذهب حدیث یمکنه جلب السعادة لعامّة البشریّة».(1)

«إنّ الإنسان کان یطمح فی تسخیر العلم للطّبیعة وتحسین حیاته، وإنهاء آلامه وتوفیر احتیاجاته الأساسیّة».(2) و لکنّه ألقاه فی دوّامة الصّواریخ الذریّة، الأسلحة البایلوجیّة، مشاکل البیئة، الأزمات الاجتماعیّة الفکریّة والأخلاقیّة والشعور بالفراغ المعنویّ، فقدان الأمن، القلق، العبث والحیرة.(3) یدّعی هیدغر أنّ (العدمیة) هی النّتیجة المنطقیبة للتّقنیة الحدیثة، وأنّ الانعکاس العدمیّ للفکر التّقنی یؤدّی دون شکّ إلی الإبطال التّدریجیّ لکافّة العقائد الشرقیّة.

إنّ الفکر التّقنی الغربیّ یرتکز علی التشغیل الذاتیّ (الأتمتة) والتّکاثر الذّاتیّ، الجدارة العالمیّة، الاستقلالیّة والتّفرّد، والتّقدّم بحرکته التّنازلیّة. وإذا أردنا تعداد وممیّزات مسار الفکر الغربیّ ینبغی لنا ذکر ما وصفه به عالم الاجتماع الفرنسیّ جاک الوی، فهو یصفه بما یلی(4):

تقنیة الفکر: إنّ الانسلاخ عن البصیرة الشّهودیّة باتّجاه الفکر التّقنی هو عملیّة تحجیم الطّبیعة بشیئیّة الأشیاء.

المادّیّة: إنّ الانسلاخ عن الصور الجوهریّة باتّجاه المفهوم المیکانیکیّ یسبب انتزاع جمیع الکیفیّات الرّمزیّة والصّفات السّاحرة من الطّبیعة.

الغرائزیّة: إنّ الانسلاخ عن الجوهر الرّوحانیّ باتّجاه المسوغات النفسانیّة هو انتزاع لجمیع الصّفات الرَّبانیّة و الملکوتیّة من الإنسان.

محو الأسطورة: إنّ الانسلاخ عن الغایة الفکریّة، المعاد والعودة إلی تاریخ الوثنیّة والدّهریّة هو خلو من أیّ معنی عدائیّ.

ص:86


1- (1) المصدر نفسه، ص 44.
2- (2) اغناسورامونیه، هل یسیر العالم نحو الفوضی؟، ص 143، «التّرجمة الفارسیّة لبریجر شاه سوند».
3- (3) المصدر نفسه، ص 45.
4- (4) نقلاً عن: مهرزاد بروجردی: التنویریّون الإیرانیّون فی الغرب.
5-3. الأزمات الثّقافیّة والأخلاقیّة

إنّ الإفراز الآخر لعولمة العصرانیّة، هو ظهور الأزمة الثّقافیّة وفقدان التّوازن فی أسس النمو الثّقافیّ، الأخلاقیّ والإنسانیّ، موازاة مع النّمو الاقتصادیّ والمظاهر المادّیّة للحضارة الغربیّة، والّذی تسبّب فی رواج اللادینیّة، الفراغ المعنویّ وفقد القیم الإنسانیّة. إنّ انتشار المیل نحو التجدّد جرّ إلی تشویش نماذج الحیاة الاجتماعیّة وتقویض النّظام الأسریّ وفقدان الرّوابط العاطفیّة و الأخلاقیّة وابتعاد الفرد عن أصالته العِرقیّة. وبعبارة أخری انسلاخ إنسان المجتمع الغربیّ عن تقالیده المذهبیّة، الأسریّة والاجتماعیّة وإحساسه بالعجز والیأس.(1)

مع أنّه ینبغی عدم الغفلة عن أنّ القیم الدّینیّة ما زالت تنبض بالحیاة فی أشدّ المجتمعات الغربیّة حداثة، وعلی رغم وقوف الحکومات وبعض طوائف المجتمع بوجه الدّین، ولکنّهم لم یستطیعوا إلی الآن من إبعاده عن واقع الحیاة الاجتماعیّة. إنّ العقلنة الیوم سلبت من الإنسان القدرة علی مواجهة المبادئ والأفکار غیر الطّبیعیّة، ومع أنّه تحرّر من قیود الخرافات إلّا أنّه علقِ فی شبّاک السّقوط الأخلاقیّ، العبث، الحیرة وفقد القیم الدّینیّة والمعنویّة.

ومن الإجراءات المفجعة للحیاة البشریّة الیوم والّتی کان من نتیجتها الإعراض عن الدّین، التفکیک فیما بین الأرکان الثّلاثة المهمّة لمقوّمات الحیاة البشریّة، وهی فصل العلم عن الدّین والفنّ والّتی تعدّ المظاهر التّصاهریّة الثّلاثة للفطرة، ومن خصائص الوجود الإنسانیّ، هذه الفاجعة الّتی تسبّبت فی اتّخاذ کلّ من الأصهار الثّلاثة طریقاً منفصلاً عن الآخر، کان من نتیجته تقولب العلم فی قالب فرانسیس بیکون الجاف، والّذی یتقوقع داخل إطار الظّواهر والعلاقة القائمة فیما بینها، وأعرض فیه الإنسان عن السّعی لکشف الحقیقة من خلال دخوله

ص:87


1- (1) السیّد حسن نصر، الشّاب المسلم والعالم المتجدّد، ص 299.

تحت طائلة الرّوح الحاکمة للبرجوازیّة الغربیّة الجدیدة، وقیّد ذهنه فی مجال کسب القوّة ونیل السّلطة، والّذی أدّی إلی عدم التفکیر أو الاهتمام بمسؤولیاته المهمّة (کشف الحقیقة)، والوصول إلی (الإیمان)، وسخّر نفسه لخدمة برجوازیّة ما بعد المادیّة وغدا آلة فی ید (السّلطة) و (الثروة).

إنّ العلاقة بین العلم الحدیث والسّلطة أدّی إلی قلق بعض العلماء بخصوص المسؤولیّة الأخلاقیّة؛ لأنّ اختراعاتهم واکتشافاتهم أکسبت أصحاب السّلطة إمکانیّة الاستفادة من الأسلحة العسکریّة المختلفة (من القنابل الحارقة وحتی القنابل الهیدروجینیّة والمکروبیّة) لأجل الدّمار الشّامل.

أضف إلی ذلک، أنّ الأسالیب العلمیّة ذات البواعث السّیاسیّة والاقتصادیّة تؤدّی إلی القضاء علی المصادر الحیاتیّة واختلال التّوازن البیئویّ للطّبیعة والّذی یؤدّی بدوره إلی تعرّض الحیاة إلی الخطر والتّهدید. و هنا یُطرح السّؤال التّالی، وهو من المسؤول عن هذه الأوضاع المأساویّة الّتی یواجهها الإنسان فی عالمنا المتجدّد المعاصر هذا؟ إنّ العلماء وإلی وقت قریب کانوا یعتقدون بأنّهم یعملون من أجل البحث والکشف عن العلم وأنّهم غیر مسؤولین عن طبیعة الاستفادة من اختراعاتهم واکتشافاتهم. إنّ هذه الرّؤیة جاءت من خلال التّفریق فیما بین العلم والأخلاق، والّتی کانت المیزة الأساسیّة للعلم الحدیث منذ بدء تأسیسه؛ ولکنّ المسألة غدت الیوم من المسائل المهمّة وهاجساً یقضّ مضاجع المجتمع المعاصر. «إضافة إلی التّطوّرات الّتی طالت الفیزیاء الحدیثة ونظریّة الکمیّة المیکانیکیّة (الغوانتنومیّة) والنّظریّة النّسبیّة فی القرن العشرین، حدثت تحوّلات مهمّة فی أسس معرفة العالم والرّؤیة الکونیّة أدّت إلی أن یتابع مجموعة من العلماء مطالعة القضایا الفلسفیّة والتّعالیم الدّینیّة والعرفانیّة».(1)

ص:88


1- (1) السّید حسن نصر، الشّاب المسلم والعالم المتجدّد، ص 301.
6-3. الأزمات الاجتماعیّة للعالم المتقدّم (العصرنة)
1-6-3. الأزمات الاجتماعیّة

تعدّ أزمة العصرنة حالیّاً من أحدث المقولات المطروحة بین المنظّرین والسّیاسیّین، ففی هذه المرحلة الّتی نمرّ بها نواجه أزمة التّجدّد، المعنویّة، العلم والتّقنیة، أزمة البیئة، الأخلاق، الدّیمقراطیّة وکذلک أزمة الأمن العالمیّ «إلی وقت ما قبل القرن العشرین کان لفکرة الارتقاء والتّقدّم صدی واسع وإثارة جذّابة، وأنّ الّذین لمسوا المکاسب الأوّلیّة للحضارة الجدیدة تکهّنوا بمستقبل زاخر بالسّعادة والتّقدّم. ولکن مع دخولنا فی القرن العشرین وبروز بعض النّتائج وإفرازات الحضارة الحدیثة، ظهرت إلی العلن الأزمات الّتی تعانیها. رینیه غنون النّاقد الفرنسیّ الشّهیر، أشار إلی بعض إفرازات الحضارة الجدیدة وانسداداتها فی کتابه (أزمة العالم المتقدّم) فیکتب قائلاً: «هل الّذین جعلوا النّعمة والرفاه حلماً لهم وعاشوا فی بحبوحة الرّخاء، جرّاء التّقدّم والتّطوّر، هم أکثر سعادة من أبناء العهد البائد؟ فالیوم تتوفّر وسائل اتّصال أسرع وإمکانات أوسع، ولکنّ فقد التّوازن والنّظام وازدیاد الإحساس بالحاجة، جعلهم فی معرض فقدان ذلک، وزعزع أمنهم أکثر، فهدف الحضارة الجدیدة عبارة عن: ازدیاد الحاجات المصطنعة، فالحضارة الجدیدة قبل أن تتمکّن من إرضاء الآخرین بها، تسبّبت فی أن تجعلهم محتاجین».(1)

2-6-3. فقدان الانسجام وتخلخل العلائق الاجتماعیة

إنّ إحدی الأزمات الأخری الّتی جرّت العصرنة إلی تحدّ خطیر، هو

ص:89


1- (1) رینیه غنون، أزمة العالم المتقدّم، ص 144.

تعقّد العلاقات الاجتماعیة. إنّ هذه المسألة لم تکن إلّا نتیجةً طبیعیّة للتّفریق والتّمایز الّذی خلعته علی عالم الحیاة والمتزامن مع الإعراض عن سننه، حیث غدا ذلک معقّداً ومحیّراً جدّاً. إنّ العصرنة ومن خلال نظرتها الدّفعیّة تعدّ (محواً تدریجیّاً) للحیاة الأخلاقیّة وأنجبت وجهاً آخر للطّبیعة الاجتماعیّة المتماثلة والّتی أدّت إلی الانحلال والتّمزّق الأخلاقیّ والقیمیّ الدّینیّ. ولقد ابتدأت قمّة هذه الأزمة عندما شمّر کانت عن ساعدیه لنقد العقل، وتفریقه فیما بین الأطر العقلیّة للإنسان ورسم خریطة تلازم افتراق العقل الباطنیّ عن المجالات الثّقافیّة للعلم والأخلاق والفن. ثم جاء هیجل لیکمل هذا المشروع، فاعتبر ثقافة التّنویر ندّا للّدّین، وأنّ الدّین الّذی کان یمثّل قاعدة الانسجام والوحدة الأخلاقیّة للعلاقات الاجتماعیّة، اختلّ واضطرب فی مرحلة تنویر الحیاة الدینیّة. ولم یستطع العقل الحدیث أن یحلّ محلّ الدّین فی لعب دور القوّة الوحدویّة.(1)

7-3. أزمة الهویّة

والإفراز الآخر لعولمة العصرانیّة وعملیة التَّغییر فی الأسس الثقافیّة والاجتماعیّة للمجتمعات، هو مسألة (أزمة الهویّة). فالهویّة هی نوع من العلاقة والتعامل فیما بین الفرد والمجتمع، وتعدّ جسراً یصل فیما بین الواقعیّات الوجودیّة للأفراد والعالم الثّقافیّ الخارجیّ، وفیما بین العالم الشّخصیّ و العالم الاجتماعیّ، والّذی تتشخّص فیه هویّة الإنسان من خلال علاقته بالمجتمع. إنّ إدراک هذا الجانب من الهویّة الثّقافیّة وکیفیّة تطوّرها من خلال العولمة هو أحد صور أزمة المجتمعات والثّقافات. إنّ

ص:90


1- (1) هوبرماس، العولمة و مستقبل الدیمقراطیة، ص 193.

العولمة تؤثّر علی الهویّات وتنسحب علی شکل نزاع فی علاقة الفرد بمجتمعه والمجتمع بثقافته.

«إنّ أزمة الهویّة ما هی إلّا ثمرة ابتعاد أفراد المجتمع الأممیّ والدّینیّ عن ثقافاتهم وبالنتیجة فقدهم حدودهم ومکانتهم الواقعیّة».(1) إنّ الوظائف الأوّلیّة لأیّة ثقافة أو حضارة أو دین هو تعیین هویّة الفرد وتحدید علاقته مع أفراد مجتمعه، إنّ الإنسان یستطیع العیش بهویّته وأن تتفتّح من خلالها قابلیّاته وأخلاقیّاته وإبداعاته.

إنّ العصرنة ومن خلال نفوذها فی المجتمعات وتأثیرها علی الثّقافات عرّضتها لأزمة هویّة و «إنّ الشعور بالتّبعیّة والارتباط بهذه العملیّة بسبب العولمة العصرانیّة، علّامة علی هذه الأزمة. فنحن قد أصبحنا عالمیّون شئنا أم أبینا؛ لأنّا لسنا بمعزل عن تأثیرات العولمة وأنّ ارتباطنا التّدریجیّ بهذه العملیّة یقوم علی أساس ظهور حاجات جدیدة داخلیّة وخارجیّة».(2)

إنّ العولمة واقع لایمکن إنکاره أو کتمانه أو السّیطرة علیه، والقبول بها أمر لایمکن تلافیه. ومن جهة أخری إنّ أیّة عودة إلی التّقالید والآداب بشکل ثابت وبصورة حرکة مؤسّساتیة اجتماعیّة هو أمر غیر ممکن أیضاً، ولکن هذا لا یعنی أنّ العولمة تؤدّی إلی الإبطال المطلق للتّقالید والآداب، وإنّما إنجازاتها التّاریخیّة عرّضتها للاختلال والضّعف. ومن هنا تأتی أزمة الهویّة لتکون من المسائل المهمّة للمجتمعات البشریّة وثقافاتها فی عملیّة العولمة، والّتی ینبغی التّفکیر جدّیّاً فی إیجاد حلول جذریّة لهذه المعضلة المهمّة. إنّ توجیه الأفکار، الفعّالیات والأهداف الحیاتیّة داخل إحدی الثّقافات یرتبط بهویّة الإنسان فی

ص:91


1- (1) بول تیلیخ، مستقبل الأدیان، ص 1. «التّرجمة الفارسیّة».
2- (2) عطاهو دشتیان، العصرنة و العولمة وإیران، ص 179.

المجتمع وإنّ العناصر المهمّة، کالعلم، القانون، الوظائف، الأخلاق، العلاقات الاجتماعیّة، مبادئ المجتمع، الأهداف ومستقبل أیّ شعب یرتکز علی وجود هذه الهویّة. إنّ هویّة أیّة طائفة ومجتمع هی عبارة عن تجلٍّ لطبیعة الحیاة الإنسانیّة. إنّ تحطیم هویّة الفرد والأحاسیس المتعلّقة به یعنی عدم الاعتقاد بأیّ حدّ لوجوده، و إنّ عدم القبول بحدوده الإنسانیّة یعدّ بمثابة الارتقاء بذاته نحو رتبة الذّات المطلقة أی (الألوهیّة)، إنّ مثل هذا التّصوّر حول الإنسان یؤدّی به إلی العجب والکبر وتدمیر باقی أفراد البشر والحیاة الإنسانیّة. إنّ نظرة الإنسان الغربیّ هذه نحو هویّته والّتی تمثله کموجود إلهی غیر مقیّد والموجود الأفضل، تُلقی به فی أتون اللاهویّة والحیرة والدّهشة، هذا الاعتقاد بأصالة الإنسان ومحوریّته هو الّذی ارتکزت علیه مدارس عدّة کالإنسانیّة(1) والوجودیّة والذرائعیّة (البراغماتیّة)، إنّ هذه الأزمة الّتی عصفت بالإنسان الغربیّ وجعلته یتخبّط فیها تعود جذورها إلی الاتّجاه الفلسفیّ الإنسانیّ.

إنّ المسألة الّتی ینبغی الوقوف عندها فی هذا المجال، هی أنّ الوجود هل هو ذلک الّذی توصّل إلیه عقل سارتر العیش لأجل الذات و فیجب «علی الإنسان اجتناب البحث عن الله وأن ینظر إلی العالم دون تفکیر بالله. ویعتقد بأنّ العالم لیس أمراً مقدّراً وإنّما یتبلور حسب ما تجود به أیدینا»،(2) وإنّ موجودیّتنا هی الّتی تقدّر وجودنا وبعبارة أخری نحن غیر تبع للعالم وإنّما هو ذلک العالم تابع لنا.

ص:92


1- (1) فلسفة تؤکّد علی قیمة الإنسان وقدرته علی تحقیق الذات من طریق العقل «المعرّب عن قاموس المحیط».
2- (2) مارتن، کسوف الله، ص 86.

إنّ هذا الفکر جرّ الغرب إلی إنکار کثیر من الیقینیّات والاعتقادات المذهبیّة والأخلاقیّة إلی حدّ حدا بسارتر أن یصرّح: «لا یوجد أیّ رمز فی العالم ولا توجد أیّ أخلاق عامّة وقیم مطلقة ترتبط بوجود الله»(1) والإنسان هو الفعّال لما یشاء ومحور لجمیع الأشیاء، وأنّ المعیار الحقیقیّ للحسن والقبح والأخلاق هو ما یحدّده الإنسان نفسه. و «إنّ مثل هذا الإنسان الحدیث نافر من الإیمان وبطبیعة الحال من الأدیان کذلک والّتی هی منبع الإیمان».(2)

8-3. نقد العصرنة حسب رؤیة ما بعد الحداثة

فی حال أنّ أنصار العصرنة یعتبرون الحرکة التّدریجیّة والمستمرّة لاتّجاه التّشخّص العلمیّ، والاستفادة العقلانیّة من الطّبیعة من الممیّزات الأساسیّة للعصرنة، یعتقد أنصار ما بعد الحداثة وفی مقدّمتهم جان فرانسوا لیوتار «أنّ نموّ وتعالی المجتمعات بمساعدة الاختراعات الألکترونیّة المعقّدة والمتطوّرة والأنظمة الشّاملة للأقمار الاصطناعیّة هو تیار وهمیّ وخیالیّ»(3) ففی رأی أنصار ما بعد الحداثة أنّ اعتماد العصرنة علی الأسس العلمیّة لاکتشاف الحقیقة هو ادّعاء ساذج وفاشل. وأنّ إصرار العصرنة علی محوریّة الإنسان، الإنسانیّة، الحریّة، الدّیمقراطیّة وتعریف العالم و الطّبیعة تعریفاً عقلانیّاً وجمیع شؤون الحیاة البشریّة، تعدّ روایة غامضة وخیالیّة، ویرون أنّ العصرنة تواجه أزمات فی کلّ القضایا السّالفة، وأنّها مسخت هویّتها وفقدت أخلاقها ودمّرت القیم الإنسانیّة. إنّ أنصار ما بعد الحداثة

ص:93


1- (1) المصدر نفسه، ص 90.
2- (2) المصدر السّابق، ص 106.
3- (3) بابک أحمدی، العصرنة وما بعد العصرنة، ص 217.

اختاروا مفهوم العقل بحسب ما یراه هایدغر وویتغنشتین، وتعرّضوا لنقد العصرنة لأسباب متفاوتة، ولکنّ هذا الاتّجاه أضحی یواجه مشکلة خاصّة. فقد أنکروا أیّ معیار یمکن من خلاله التّمییز فیما بین المکاسب العّامة والشّمولیّة للعصرنة وبین الوجود المخصّص لها. فقد توفّر هوبرماس لعرض ونقد فکرة عقلنة الثّقافة الغربیّة الّتی تؤدّی إلی «التّفریق والتّمییز فیما بین المجالات القیمیّة».(1) أمّا ماکس ویبر فیری أنّ التّفریق والتّمییز فیما بین مجالات العلم، الأخلاق، الدّین والفن ما هو إلّا نتیجة من نتائج التّعصرن والاتّجاه العقلانیّ. والّذی یُنتج تعارضاً فیما بین العقلانیّة والرؤی الکونیّة الدّینیّة والتّقلیدیّة، وأنّ نهایة عقلنة الثّقافة تتمثّل بانزواء الدّین وخصخصة مجالات القیم الدّینیّة.(2)

العصرنة مشروع غیر متکامل

ویستمرّ هوبرماس فی إتمام سعی الجیل الأوّل من المنظّرین الانتقادیّین (هورک هایمر، بنیامین، ادورنو، مارکیزه) فی الدّفاع عن العصرنة ویعتبرها (مشروعاً غیر متکامل). فهو یعتقد بأنّ: فکرة ما بعد الحداثة ذات اتّجاه یتنازع والعقل وذو تضادّ مع التّنویر ویمکن ملاحظة جذور ذلک فی آراء نیتشه، هایدغر، هوسرل.

ففی رأی هوبرماس أنّ هدف العصرنة، هو السّعی لنشر وتکامل العلوم الملموسة، الأخلاق، قانون التّماثل والفن المستقلّ علی أساس المنطق الدّاخلیّ وإنشاء وصنع قوی حرّة مستعدّة فی جمیع المجالات والظّرفیّات المادّیّة البشریّة.

ص:94


1- (1) یورغن هوبرماس، العولمة و مستقبل الدیمقراطیة، ص 199.
2- (2) المصدر السابق، ص 199.

ثم یعقّب بالدّفاع عن المکاسب غیر المحدودة للعصرنة سیاسیّاً واقتصادیّاً واجتماعیّاً وعلمیّاً وثقافیّاً ویضع العقلانیّة الاجتماعیّة، الرخاء، حقوق الإنسان، الدّیمقراطیّة، التّقنیة الفنیّة والمعلوماتیّة... الخ فی ردیف ممیّزات العصرنة، ویصرّ علی أنّ العصرنة لم تصل بعد إلی نهایتها المرجوة، ویعتقد أنّ بإمکانها ومن خلال إعادة هیکلیّتها وعقلانیّة التّفاهم لعب دور أساسیّ فی المرحلة القادمة.

ص:95

ص:96

4. تنقیح علاقة العالمیّة بماوراء الحداثة

اشارة

یعتقد بعض المنظّرین أنّ العولمة قد ارتبطت ارتباطاً وثیقاً بما بعد الحداثة بصورة واضحة وجلیّة. ویری أصحاب هذا الرّأی أنّ الثّقافة العالمیّة هی فی الحقیقة ثقافة ما بعد الحداثة وأنّها تمرّ بمرحلة التّغییر والتجزّؤ والانفصام والتّعدّد وأنّ عدم التّماثل الثّقافیّ والتّعدّد، هذا یعتبر دلیلاً علی أنّ ثقافة الیوم هی ثقافة ما بعد الحداثة، وعدّوا ذلک من ممیّزات مرحلة ما بعد الحداثة. ویستدلّون علی ذلک بأنّ: «ثقافة الغرب لم تعد ثقافة متوحّدة ومتماثلة».(1) لقد تمیّزت ثقافة الغرب فی زمن العصرنة بالعمومیّة والشّمولیّة العالمیّة واتّصفت بالقیم اللیبرالیّة المحدّدة وعُرفت بأنّها ثقافة حدیثة، ثقافة تنویریّة، عقلانیّة وإنسانیّة، أمّا الآن ونحن نعیش عملیّة العولمة، فقد تحوّلت إلی ظاهرة ما بعد الحداثة، وبتعبیر لیوتار أنّ المجتمع فی عصر ما بعد الحداثة ذاب وتفسّخ فی (قراءات شمولیّة) متعدّدة ومتنوّعة.

و فی اعتقاد سکوت لاش و یوری: «أنّ ما بعد الحداثة عالمیّة بطبیعتها»، ولایمکن بعد الآن اعتبار الرأسمالیّة الجدیدة المشتّتة علی أنّها مجموعة من

ص:97


1- (1) کیت نش، علم الاجتماع السّیاسیّ المعاصر، ص 96، «التّرجمة الفارسیّة لمحمّد تقی دلفروز».

الأسس المقیّدة بحاکمیّة الدّولة - الشّعب. و یری لاش «بأنّ تیّار الرأسمالیّة و تقنیة المعلومات - باعتبارها عوامل عولمیّة مؤثّرة - لا تعترف بالأفکار والثّقافات والحدود الجغرافیّة، وفی خطوة أوسع، فهو یتلمّس تسارعاً مضاعفاً وصنع عالم أصغر وأصغر. إنّ هذا التیّار الشّامل والواسع والمؤثّر قد خرج من سیطرة الحکومات الوطنیّة والمنظّمات والمؤسّسات الدّولیّة».(1) وأنّ هذا التّنامی المستمرّ لتداول المعلومات والعلم سیؤدّی بشکل ما إلی انفتاح فکریّ محدّد وفرض ثقافة ما بعد الحداثة، وسوق الأفکار والاتّجاهات والسلائق باتّجاه معیّن.

ولأجل معرفة واستیعاب رأی أنصار ما بعد الحداثة بشکل أفضل، ینبغی أوّلاً الاطّلاع الدّقیق علی مفهوم (ما بعد الحداثة) وأهم نظریاته ثمّ العروج علی مناقشة ونقد نظریّة (عالمیّة ما بعد الحداثة) بناءً علی أسس وآراء أنصارها.

مفهوم ما بعد الحداثة

یعدّ توینبی عالم الاجتماع المعروف أوّل من استعمل اصطلاح ما بعد الحداثة وذلک فی موضوع نهایة الحضارة الغربیّة. وقد أورده بمعنی (عدم التّعقّل والنسبیّة) أمّا فی الجانب الفلسفیّ، فقد استخدمه جان فرانسوا لیوتار بعنوان (الشّرط) أو (ظرف ما بعد الحداثة)، ففی رأیه أنّ (الشّرط) یمثّل بیاناً للظرفیّة الّتی افتضح فیها عجز العصرنة بأزماتها الشّاملة. إنّ البادئة (ما بعد) تفید الصّفة الغامضة، وممّا لا یُعلم هو أنّ الانفصام عن الحداثة نفسها، هل هو حرکة حداثتیّة أم انفصالاً عنها وتجاوزاً لها؟ وبعبارة أخری أنّ العبور من العصرنة یعدّ تغییراً ونهایة لها. ففی العصرنة یعدّ التغییر، التّجدید، النّقد،

ص:98


1- (1) المصدر السّابق، ص 96.

العقلانیّة، الإبداع والعلم أمراً مقدّساً، ولکن مرحلة ما بعد العصرنة تتطلّب الابتعاد عن اللّغة، الفلسفة، العلم، الفن والتّعصرن الصّناعیّ. ومن هنا، فإنّ مفهوم (ما بعد الحداثة) فی العقود الأخیرة یمثّل أعقد وأکثر المفاهیم تضلیلاً فی قضایا شتّی کعلم الجمال، الأدب، الفن، علم الاجتماع والفلسفة وأنّ لفظة ما بعد الحداثة ترتبط بشبکة من مفاهیم وتأمّلات (الماورائیّة). وتطلق علی عملیّات مختلفة، أمثال مجتمع ما بعد التّصنیع، ما بعد التّجدّدیّة، ما بعد المبدئیّة، ما بعد التّجریبیّة وما بعد التّعقّلیّة (بمعنی تجریب موت العقل) والنّهایة التّاریخیّة للعصرنة.

لقد تعرّضت نظریّة ما بعد العصرنة للنّقد والتّحلیل من خلال النّظرة المبتنیة علی نظریّات ماوراء المبدئیّة لجان فرانسوا لیوتار، ریتشارد رورتی، جمسون دریدا، ادرنو مارکیزه، الدّایر ماک اینتایر وغیرهم والّذین یعدّون من منظّری ما بعد العصرنة، وعُرفوا بنظرتهم الانتقادیّة للعصرنة، فکرة العقل الشّمولیّ الدّیکارتیّ والعقل الّذی یعدّ من المکاسب المهمّة لعصر التّنویر: «لقد عُرفت نظریّة ما بعد الحداثة علی أنّها تستبطن عدم الاعتقاد بالنّظریّات الشّمولیّة وانتهاء الاعتقاد بالتّطوّر التّاریخیّ باعتباره من نتائج العقل والعلم الحدیث، والإصرار علی إلغاء السّعی لاکتشاف الأسس العقلانیّة الّتی یعتمد علیها العلم والأخلاق والواقعیّة».(1)

یدّعی (ولمر)(2) أنّ نقد ما بعد الحداثة للعقل، التّنویر، العالم الشّمولیّ وعمومیّة العلم قد طُرح بصورة جامعة وناضجة فی الآراء الفلسفیّة للیوتار. ففی رأیه أنّ لیوتار طالب بالإعراض عن جمیع النّظریّات الشّمولیّة والمقولات العصرانیّة.

ص:99


1- (1) منوجهر نوذری، العصرنة وما بعد العصرنة، ص 276.
2- (2) .Welmer. on the dialectic. P 337 .

إنّ من ممیّزات ما بعد العصرنة هو أنّها ذات اتّجاه تشتّتیّ، تجزّؤیّ، لامرکزیّ «إنّ هذه المسألة بشکل خاصّ تتناقض وعملیّة العولمة الّتی تعدّ نوعاً ما حرکة باتّجاه الوحدة والاندماج والدّخول فی القریة العالمیّة الواحدة».(1)

إنّ التّعدّدیة قد نجمت عن النّسبیّة وإنکار الحقائق الملموسة والمطلقة وبحسب تعبیر کارل مارکس «إذا تخلّیتم عن الله، فقد أنکرتم فی الحقیقة المذاهب والقیم المطلقة أیضاً».(2)

إنّ التّعدّدیّة ترتکز علی عدم وجود المطلقات «إنّ ما بعد الحداثة وفی سلوک متناقض تسعی لاکتشاف الحقیقة الغائیّة فی حال أنّها تهزج وتدبک لأجل موت الحقیقة و کلّ شمولیة موحِّدة».(3)

ویکتب جمسون فی کتابه (ماهیّة ما بعد العصرنة): «إنّ هدف ما بعد العصرنة هو تحقیق وعد التعدّدیّة الثّقافیّة والحرّیّات المختلفة والابتعاد عن الأنظمة ذات البعد الواحد، فالعصرنة تفرض علی الفرد والمجتمع نظاماً خاصّاً مبتنیاً علی الأسس الشّمولیّة والعقلنة».(4) فی حال أنّ ثقافة ما بعد الحداثة تدعو إلی التشتّت وعدم التّشخّص أو الانسجام وتجاوز المبادئ و الأصول والحدود الجغرافیّة.

نقد العصرنة حسب رؤیة ما بعد الحداثة

إنّ اتّجاه ما بعد الحداثة یری بأنّ أیّة دعوة ذات نزعة عامّة، تعدّ بنفسها سعیاً نحو التّسلّط الإمبریالیّ، فهی فی ظاهرها شمولیّة، ولکن فی حقیقتها ذات نزعة ذاتیّة ومصلحیّة. إنّ ما تسعی إلیه العصرنة یبتنی علی افتراضات

ص:100


1- (1) رامین جهانبکلو، الموجة الرّابعة، ص 68. «باللّغة الفارسیّة».
2- (2) المصدر نفسه، ص 57.
3- (3) المصدر السّابق، ص 46.
4- (4) رامین جهانبکلو، الموجة الرّابعة، ص 68. «باللّغة الفارسیّة».

علمیّة فی حال أنّ کثیراً من نظریّات ما بعد الحداثة لا تنسجم وبعض الوجوه الخاصّة لمقولات العصرنة، وعلی هذا الأساس فقد أبدت معارضتها لمقولة معیاریّة العقل، وتعرّضت لنقد دعوی الشّمولیّة العصرانیّة. وبنقضها معاییر وأسس هذه المقولة فقد أنکرت افتراضات شمولیّتها. وقد عارضت وناقشت الاتّجاه السّلطویّ والاستعماریّ للعصرنة الّذی تمخّض عن دعوی شمولیّتها.(1)

ویری هذا الاتّجاه أنّ العصرنة فقدت بریقها فی مجال التّرابط الاجتماعیّ. وقد أطلق علی المرحلة الرّاهنة مرحلة (أزمة العصرنة) أو العصرنة المتأزّمة.

ویوافق الآن تون أنصار ما بعد الحداثة ویخالف غینز، کانلی، بومن، هوبرماس فی أنّه یری أنّ النّزعة العقلیّة و (العقلانیّة الحدیثة) و (إرادة القوّة) النّیتشویّة تؤدّی إلی أن یکون الإنسان أحادیّ الجانب، وخلق المجتمع الاستهلاکیّ ووسائل الاتّصال المعقّدة والمتنامیة وضیاع وتشتّت المجتمعات، وأزمة المعنویّة والهویّة والشّعارات المضلِّلة والأفکار ذات النّزعة التّعدّدیّة.

إنّ ما بعد الحداثة قد تعرّضت دون شکّ لنقد نظریّات الفلسفات الشّمولیّة والنّزعة العقلیّة المطلقة والنّزعة العلمیّة المحضة بصورة جدّیّة. وأنکرت أیّ معیار یؤدّی إلی الحتمیّة والوحدویّة. وقد اتّبعت نوعاً ما أسلوب هیغر وویتغنشیون فی مفهوم نقد العقل، واندفعت إلی الأمام فی نقد العصرنة لأسباب متعدّدة وأنکرت مکاسبها العامّة والشّمولیّة.

و قد أشار البعض - أمثال لیوتر - إلی مخاطر الشّمولیّة العصرانیّة، ابتداءً من الأصعدة الثّقافیّة والقیّمیّة، وانتهاءً بأزمة الشّرعیّة وفقدان المعنویّة والهویّة والنّزعة العدمیّة، وبروا أقلامهم لنقدها ومعارضتها. ومن خلال إنکارهم للرؤی الدّینیّة الشّمولیّة، رأوا أنّ التّفریق والتّمییز

ص:101


1- (1) حسین علی نوذری، العصرنة وما بعد العصرنة، ص 56.

فیما بین مجالات القیم والأخلاق ومجال العلم ما هی إلّا نتیجة للعقلنة الثّقافیّة الغربیّة، وأشاروا فی هذا السّیاق إلی الکانتیّین الجدد فی تفریقهم بین مجالات العلم والفن والأخلاق والحقوق وقالوا بعدم إمکانیّة حلّ التّضادّ الموجود بین تلک المجالات، من خلال منهجیّة فلسفیّة أو رؤیة دینیّة أشمل. ومع أنّ هذا الاعتراض یعدّ واقعیّاً ومهّماً ویضرب أسس العصرنة فی الصمیم، ویُثبت أنّ الاتّجاه العصرانیّ (الممیِّز فیما بین مجالات العلم ومقولات القیم) لا ینسجم ودعوی العولمة واستبداد الحضارة الغربیّة. ولکنّه من جهة أخری یتوافق ونظریّات ما بعد الحداثة نفسها؛ لأنّ ما بعد الحداثة تنفی عموماً أیّة شمولیّة ووحدویّة وتعتقد بتنوّع وتشتّت ونسبیّة العلم والثّقافة، ومن هنا فعولمة الثّقافة لا تنسجم بأیّ من الأشکال وأسس ما بعد الحداثة، وهم یعترفون بعدم إمکانیّة وضع العالم فی إطار (نظام نظریّ) واحد ومتّحد، وأذعنوا أنّ الحیاة البشریّة بطبیعتها لها صور متعدّدة ومتضادّة.

إنّ أنصار ما بعد الحداثة یعلمون بأنّ دعوی العولمة لم تکن سوی غطاءً لبعض القوی ومجرّد أفکارٍ تسعی لمصالحها الخاصّة المضادّة للعدالة والعقلانیّة، من خلال دعوتها إلی الشّمولیّة والعقلنة والعدالة. ویرون أنّ أیّة دعوة إلی الوفاق والوحدة تعدّ عاملاً للتّنفّر والخداع. وینادون بشعارهم: «هبوا للنّضال ضدّ دعاة الشّمولیّة، فقد تجرّعنا علقم الرّهبة والخوف بما یکفی فی القرنین الماضیین».(1)

ففی رأی أنصار ما بعد الحداثة أنّ مرحلة الحداثة ومقتضیاتها قد عفا علیها الزّمن. ونحن نعیش الآن مرحلة الاستیقاظ، من کابوس العصرنة والعقل الخلّاق وإبداعاته وعبادته العمیاء. وأنّه قد آن الأوان للتّخلّص من زمن صنمیّة

ص:102


1- (1) لیوتر، الثّقافة و المجتمع، ص 300.

سلطة ووحدویّة العصرنة، وأنّا دخلنا عصر السّباق نحو تعدّدیة ما بعد الحداثة، وأنّ النّظرة الشّمولیّة قد أخلت السّاحة، لانتشار عدم التّماثل الثّقافیّ وأسالیب الحیاة المتنوّعة والتعابیر المختلفة. ویوضّح وولمر بأنّ مفهوم ما بعد الحداثة یعدّ من أکثر المفاهیم إبهاماً وإضلالاً فی البحوث الثّقافیّة، الاجتماعیّة، الفنیّة والأدبیّة فی العقود الأخیرة، فی حال أنّ غینز یعتقد أنّ أهمّ إفرازات العصرنة هو النزعة العقلیّة ونشوء حکومات ترتکز علی مقولة الدّولة - الشّعب، وتأسیس الشّبکات الواسعة والمنظّمة للتّصنیع، ویعزو ذلک إلی دخول العصرنة فی عملیّة العولمة.

إنّ بعض المفکّرین المعاصرین وبناءً علی التّغیّرات الإجتماعیّة والثّقافیّة فی المرحلة الحاضرة، یعتبرون أنّ هذه المرحلة - بلحاظ ممیّزاتها - هی فی الحقیقة مرحلة ما بعد الحداثة. ففی رأی جمسون وهاری أنّ ما بعد الحداثة تعدّ عبوراً من مرحلة الإنتاج الواسع والمتماثل إلی مرحلة الرأسمالیّة المرنة الّتی یتخلّی فیها إنتاج السّلع الواسع والمتماثل عن مکانته لیحلّ محلّه الإنتاج المتنوّع ذو القوالب الحدیثة. ففی مرحلة العصرنة کنّا نواجه النّزعة العقلیّة، محوریّة الإبداع، معیاریّة العلم والإنتاج والتّطوّر الإملائیّ والشّمولیّة، ولکنّنا فی مرحلة ما بعد الحداثة نواجه تنوّعاً ثقافیّاً، فکریّاً، نظمیّاً وتشتّتیّاً ونهایة المقولات ذات الرؤیة المطلقة، وبعبارة أخری (نهایة القراءات الشّمولیّة) وأیّة نظریّة جامعة ذات شمولیّة عالمیّة فی مجال العالم والتّاریخ.

فبینما نلاحظ انتونی غینز یعدّ العولمة من أهمّ إفرازات العصرنة، ولکنّها حضت بتأییده بوصفها سبباً لتطوّر وتغیّر جمیع مکاسب وآثار العصرنة بشکل عمیق؛ وأنّ النّزعات الوحدویّة والمرکزیّة الدّاخلیّة للعصرنة تؤدّی إلی النّزعة التّعدّدیّة الخارجیّة، علی أمل حلول التّعدّدیّة محلّ الوحدویّة فی هذا النّوع من العولمة. ولا بدّ من التّنبیه علی أنّ هناک

ص:103

ممیّزات للعولمة، لایمکن عدّها بأیّة حال من الأحوال نتاجاً لما بعد الحداثة؛ لأنّ الفعل الوحدویّ للعولمة علی المستوی الخارجیّ والإقلیمیّ هو فی تضادّ مع التّعدّدیّة الخاصّة لما بعد الحداثة. لأنّ للعولمة جانباً دیالکتیکیّاً (جدلیّا)،(1) و أنّها تدعو إلی التّوافق والوحدة والتّماثل من جهة أخری، وفی نفس الوقت تحاول أن تلعب دوراً تجزیئیّاً وتعمل علی مسخ الهویّات والأسس الثّقافیّة والإجتماعیّة.(2)

ویؤکّد ماکیزه بأنّ مسیرة العولمة هذه تؤدّی إلی ولادة الإنسان أحادیّ الجانب، وتجعل من العقلانیّة مجرّد أداةٍ وإلی سلب المعتقدات المذهبیّة والأخلاق الإنسانیّة، وأنّ هذه العقلانیّة الأداتیّة والعلم الفاقد للمعنویّة، أدّی إلی نشوء نظام یضمّ أخصائیّین فی المعنویّة.

ومن جانب آخر فقد أنتجت هذه النّظرة وهذا الاتّجاه النظام الرأسمالیّ، الّذی یهدف إلی بذل جهد أکبر للحصول علی إنتاج أکثر، وإنتاج أکثر للوصول إلی ربح أکبر، وذلک باکتشاف أسواق جدیدة، وعدم الاعتداد بأیّة قیم دینیّة، فیکون من «نتائجها التّنافس لأجل السّیطرة علی الطبیعة وموارد الثّروات العالمیّة وامتلاک ثروات المجتمعات الأخری، العنف غیر المقیّد والتّدمیر المنظّم والعلمیّ لأسس الحیاة البشریّة».(3)

ویری ماکس ویبر أیضاً بأنّ نتیجة هذا النّظام ستکون الصّراع بین بنی الإنسان. ویصف مکاسب هذا النّظام العلمیّ المرتکز علی الرأسمالیّة (بالقفص الحدیدیّ) ویعدّ الولایات المتّحدة الأمریکیّة الأنموذح البارز له والّذی یتکوّن من (الخبراء اللامعنویّین).

ص:104


1- (1) کیت نش، علم الاجتماع السّیاسیّ المعاصر، ص 55. «التّرجمة الفارسیّة لمحمّدتقی دلفروز».
2- (2) نفسه، ص 55.
3- (3) مارکیزه، الثّقافة والمجتمع، ص 207.

ویصف بیتر سکوت بدوره أیضاً نتائج هذا الاتّجاه فیقول: «إنّ النظام الذّکی الّذی أنتج القنبلة الذّریّة، انهزم فی مجال تأسیس مقولات أخلاقیّة، باستطاعتها الحیلولة دون مثل هذا العلم وتوجیهه توجیهاً حضاریّاً یصبّ فی خدمة الإنسان».(1)

وقد وجّه أنصار ما بعد الحداثة نقداً لاذعا لنظرة أصحاب النّزعة العلمیّة هذه (الّذین یعتقدون بأنّ العلم الطّبیعی هو إحدی القوی المعنویّة والمتحکّم فی الزّمان ومفتاحاً لحلّ جمیع مشاکل البشریّة) وشکّکوا فی قدرته تلک.(2) ففی اعتقاد أصحاب النّزعة العلمیّة أنّ العلم ما هو إلّا مقوّماً ومعیاراً للعقل الإنسانیّ، بحیث یحتل مکانة بارزة فی هذا المضمار، وأنّ (العلمیّة) تعمل باعتبارها الأیدیولوجیّة الأفضل والمقتدرة، ولأجل هذا رمت جانباً بالأسس الأخلاقیّة والقیم الثّقافیّة والدّینیّة والإنسانیّة لعدم إمکان تعریفها بواسطة الاستدلال العلمیّ، وأدّی هذا الاتّجاه لفقدان المعتقدات المذهبیّة حیویّتها وعزلة الدّین والقیم الأخلاقیّة فی المجتمع.

عولمة ما بعد العصرنة

«هناک بعض المنظّرین نزّلوا العولمة منزلة ما بعد الحداثة، ویرون أنّها مرحلة من الرأسمالیّة التّوسعیّة الّتی انفلتت وخرجت عن سیطرة نظام الدّولة - الشّعب، وانعکست بأنواع حدیثة من الاستثمار فی کافّة أرجاء العالم».(3)

إنّ هذه النّظرة، تطرح ما بعد الحداثة وکأنّها بنیة تحتیّة ثقافیّة واجتماعیّة.

وتعتبر العولمة بمثابة التّحدیث والتّجدید. ومن هنا تکون فی حالة تعارض مع

ص:105


1- (1) الثّقافة والمجتمع (1983)، ص 284.
2- (2) الثّقافة والمجتمع (1983)، ص 284.
3- (3) کیت نش، علم الاجتماع السّیاسیّ المعاصر، ص 80. «التّرجمة الفارسیّة لمحمّد تقی دلفروز».

المارکسیّة والمقولة الّتی تقول بأنّنا دخلنا فی نوع مختلف من المجتمعیّة الجدیدة. وتعتقد بوجود علل ودواعی کثیرة للعولمة وأنّ هذه الدّواعی فی الواقع ما هی إلّا علائم لاستمرار الممیّزات المتجدّدة لزمن العصرنة.

ولکنّ هذه النّظریّة تواجه إشکالاً جدّیّاً وهو أنّه إذا نظرنا إلی العولمة فی إطار ظروف الحداثة فقط، فستکون «معرفتنا محصورة فی إدراک إمکان بروز قوالب جدیدة تتّجه نحو توسیع عملیّات العولمة».(1)

دیفد هاری فی کتابه (مسار ما بعد الحداثة) یربط العولمة بما بعد الحداثة ویستدلّ علی ذلک بقوله: «یمکن إدراک الأسلوب الحدیث للرأسمالیّة فی صورة «ما بعد الحداثة المرنة».(2) ففی رأیه أنّ العولمة الرأسمالیّة لیست ظاهرة جدیدة، ولکن ما بعد الحداثة المرنة نجمت عن ازدیاد تراکم وانضغاط الزّمان والمکان، ویخصّ بالتّحلیل کیفیة الاستفادة من تقنیة المعلومات ووسائل الاتّصال الحدیثة لاستحداث أشکال مرنة وحدیثة للرأسمالیّة.

ویعدّ جمسون ممّن ساروا علی خطی هاری فی اعتقاده بارتکاز عولمة الرأسمالیّة علی ما بعد الحداثة. ففی رأیه أنّ ما بعد الحداثة هی (المنطق الثّقافیّ المتأخّر للرأسمالیّة). ویری أنّ نتاجات ثقافیّة معیّنة کعلم الجمال والإعلام النّفسیّ فی هذه العملیّة یصبّ فی خدمة الاستهلاک اللامتناهی للسلع والإنتاج، وأنّ أذواق وأفکار النّاس تُستفزّ وتعاد صیاغتها بواسطة الإعلام الفوضویّ، فتؤدّی هذه الحالة إلی إیجاد ثقافة ما بعد الحداثة والّتی تتمیّر بتبدّل الأفکار، النّظرة السّطحیّة، الفوضی الشاملة، التّعدّدیّة، عدم التّرابط، القلق وفقدان الثّقة وظهور القراءات الشّمولیّة.(3)

ص:106


1- (1) المصدر نفسه، ص 83.
2- (2) ر. ک: دیفد هاری، ص 81.
3- (3) المصدر السّابق، ص 85.

وفی مقابل النّظریّة القائلة باستیلاء الثّقافة الموحّدة الغربیّة، یمکن الاستدلال بشکل متین «بأنّه لم یوجد علی الإطلاق غرباً منسجماً ومتماثلاً، وأنّ هذه الفکرة لا یمکن تجسّدها إلّا من خلال المواجهة مع (الغیر) الّذی یُعرف بتمیّزه الأساسیّ عن الغرب. ولذا لا یمکن أن تکون العولمة بمعنی الثّقافة العالمیّة الواحدة أو عولمة ثقافة خاصّة. وإنّ تصوّر وجود ثقافة عالمیّة واحدة ومتّحدة ومهیمنة، استنتاج مبالغ فیه وغیر مقبول، وعلی هذا فلابدّ من الأخذ بنظر الاعتبار أنّ حالة الثّقافة العالمیّة بمعناها فوق الحداثوی هی أوسع من قبول التّماثل والتوحّد والتبعیّة والسّیاسة الواحدة.(1)

وفی مورد تسمیة الثّقافة العالمیّة بثقافة ما بعد الحداثة، فإنّ هذا لا یعنی (غربنة الثقافة العالمیّة). إنّ الّذین یصرّون علی تصدیر هذه الثّقافة إلی أنحاء العالم بواسطة وسائل الاتّصال الجمعی، یغفلون عن أنّ اصطلاح (ما بعد الحداثة) هو فی الواقع بمنزلة نفی آثار أیّ اتّجاه یجعل ثقافة ما متماثلة.

ومن جانب آخر، فإنّنا نلاحظ حضور حرکات دینیّة ولا دینیّة متعدّدة فی عصر العولمة، فعلی سبیل المثال (الأصولیّة الدینیّة) الّتی تعدّ بمثابة ردّ فعل ثقافیّ واجتماعیّ فی قبال (التغریب) أو (الغربنة). وکذلک حیال الاضطرابات، الخداع والأزمات الرّوحیّة والفکریّة الّتی انتجتها الحضارة العلمانیّة والانفصام الدّینیّ الغربیّ.

ثقافة ما بعد العصرنة ومسارها العولمیّ

لقد بحث ارغون ابدوری مسألة طبیعة عدم تماثل الثّقافة العالمیّة بشکل رائع فی مقالته الشّهیرة (الانفصام والتّمایز فی اقتصاد الثّقافة العالمیّة)، فقد وضعها

ص:107


1- (1) المصدر نفسه، ص 96.

وحلّلها فی قالب الإطار النّظری «عدم الثبات والنّزاع فی الثّقافة العالمیّة» فهو یشیر فی نظریّته إلی خمسة أبعاد لتیّار الثّقافة العالمیّة: «الآفاق القومیّة، التّقنیّة، المالیّة، الإعلامیّة والآفاق الأیدیولوجیّة».(1) وبعد بیانه لتلک الآفاق یکشف عن کیفیّة أداء کلّ واحد منها إلی النّزاع والانفصام الثّقافیّ فی العالم. إنّ فکرة آفاق ابدوری تشبه إلی حدٍ ما (نظریّة المقولات).

ومن ضمن المفکّرین الآخرین الّذین قاموا باستعراض إمکانیّة التّماثل الثّقافی وتبلور ثقافة عالمیّة واحدة فی عملیّة العولمة هو، هوبرماس، الفیلسوف وعالم الاجتماع المعاصر، فهو یعتقد: «أنّ التّعامل والتّعاون والحیاة المشترکة لا یمکن أن تکون مُقنعة فی مثل هذه الظروف، حیث إعلام السّوق العالمیّة، وسائل الاتّصال الجمعیّ، اضمحلال الحدود الجغرافیّة، التعدّدیّة والتّجزئة الثّقافیّة، تغیّر المُثل الحیاتیّة والتّحوّلات المتسارعة، دخول بعض المسائل الفاقدة للانسجام فی دائرة الإجبار وفرض آلاف السّلع الّتی أضحت ثقافیّة علی المجتمعات الأخری، وتأثّر أبرز الهویّات والتّقالید معنویّة وأصالة بها، کلّ ذلک کان من إفرازات ونتائج العولمة».(2) ویقول فی مکان آخر: «فی الجواب علی الضّغوط التّماثلیّة للثّقافات المادّیّة غالباً ما تبرز أنظمة جدیدة، تعمل علی تأسیس وجوه مختلفة، من الثّقافات التّرابطیّة والهجینة قبل أن تتطرّق إلی تقویم الاختلافات الثّقافیّة».(3)

ومن هنا فإنّنا سنشاهد انتشار عدم التّماثل والنّماذج الثّقافیّة المتعدّدة. إنّ وجود تیّارات أمثال القومیّة الجدیدة، الحرکات الإنسانیّة، الحرکات البیئویّة کحرکة الخضر، حرکة السّلام الآن، والحرکات ذات النزعات المذهبیّة، مثل الأصولیّة الدّینیّة والرّوحیّة، تعدّ من علامات التّعدّدیّة الثّقافیة فی عصر العولمة.

ص:108


1- (1) المصدر السّابق، ص 97.
2- (2) یورغن هوبرماس، العولمة ومستقبل الدیمقراطیّة، ص 73، «التّرجمة الفارسیّة».
3- (3) المصدر نفسه، ص 73.

ویُنزل مارتن لبرو عصر العولمة منزلة التّجدید ویری أنّ (العولمة والاتّجاه العالمیّ) تؤسّس لقواعد النّظام الاجتماعیّ الجدید. وتحلّ محلّ العقلنة الحداثویّة والدّول القومیّة والشّمولیّة الحداثویّة. وفی هذا السّیاق یطلّ علینا منظّرون یعتقدون بأنّ مرحلة (ما بعد الحداثة) تنطبق علی دنیا العولمة ویؤکّدون علی أنّ عالم الغد سیکون عالم المعلوماتیّة (الإعلامیّة) (فوق الحقیقة) (الافتراضیّة) و (التشابهیّة).(1) ویعدّ امتزاج الثّقافات، عدم التّماثل الثّقافیّ، نزعة النّسبیّة، التّشتّت الفکریّ، أزمة الهویّة واضمحلال الحاکمیّة الوطنیّة والاضطراب والفوضی من علائم هذه المرحلة.

العلائم ما بعد الحداثویّة للعولمة

1. إنّ أنصار ما بعد الحداثة ینفون المدّعیات العلمیّة کالواقعیّة والعقلانیّة و «ینکرون أیّ معیار عام وعقلانیّ للحقیقة المطلقة. ویؤمنون بأنّ العلم مقیّد وغیر ثابت».(2) إنّ هذا النّوع من المعرفیّة (ما بعد العصرانیّة) یری بأنّ العلم جمیعه یرتبط بالزّمان، المکان والمجالات الشّخصیّة، الثّقافیّة والتّاریخیّة. ومن هنا ففی رأی أنصار ما بعد الحداثة أنّ جمیع العلوم تتکافئ فی القیمة والمکانة ولا یعتقدون بأیّ أساس للتفاضل فیما بین القیم والثّقافات سوی المیل الشّخصیّ. ولهذا «لا یمکن ترجیح اللیبرالیّین والشّیوعیّین علی الفاشیّین وغیرهم. ولا یوجد أیّ معیار للتمییز فیما بین الفنّ الحسن والسیّء».(3)

«إنّ العلم المعرفیّ لما بعد الحداثة یمکن أن یکون مرتبطاً بالعولمة من جهات متعدّدة. فعلی سبیل المثال، إنّ زوال الحدود الجغرافیة یؤدّی إلی ازدیاد الاتّصال فیما بین الثّقافات وتعزیز الاطّلاع العام علی التّنوّع الثّقافیّ».(4)

ص:109


1- (1) المصدر السّابق، ص 131.
2- (2) شولت یان ارت، نظرة فاحصة لظاهرة العولمة، ص 238، «التّرجمة الفارسّة لمسعود کرباسیان».
3- (3) المصدر نفسه، ص 236.
4- (4) المصدر السّابق، ص 237.

إنّ ما بعد العصرنة ومن خلال نقدها للعقل الحدیث وإبراز تاریخیّته آمنت بأنّ کلّ شیء ومن ضمن ذلک العقل تابع للقوّة، الزّمان والمجتمع. وتعدّ النّسبیّة هی الحاکمة الحقیقیّة للمجتمع بکلّ ما یعنیه ذلک. وبحسب تعبیر ریتشارد رورتی: «إذا کان العقل هو إله العصرنة، ففی مرحلة ما بعد الحداثة لا وجود لأیّ إله».(1)

أمّا لیوتار ومن خلال استدلاله علی أنّنا فی حالة دخول إلی (المجتمع الصناعیّ) یصف المیزة المهمّة للعالم المستقبلیّ بهذا الشّکل: إنّ العلم فی عالم المستقبل سیکون هو القوّة الأساسیّة للإنتاج والتّوسّع التّقنیّ والمجتمع المعلوماتیّ. ویعارض دانیال بول وتوران(2) فی عدم اعتقاده بأنّ التّنمیة التّقنیّة دلیل علی التّطوّر والتّقدّم.

ففی عقیدة لیوتار «أنّ العلم فی عصر العصرنة قد تعهّد بنجاة البشریّة بواسطة العقل، ولکنّه لم یعدّ قادراً حتّی علی حلّ مشاکل الیوم. إنّ المجتمع فی عصر (ما بعد العصرنة) یذوب فی قراءات متعدّدة، والعلم کذلک باعتباره قراءة إلی جانب باقی القراءات. ولکنّه فقد قیمته، باعتباره مصدراً للحقیقة ومعیاراً لقیمة العقل البشریّ، وکونه أفضل من العوامل الأخری».(3) ویصف هذه الحالة بتمیّزها بالنّزعة التّعدّدیّة واللایقینیة وفقدان القرار وعدم الحتمیّة الهایزنبرغیّة، واضطراب البرامج والأنظمة الفکریة، وبروز بعض الثّقافات وتقطّع أوصال المجتمع وشیوع الشّعارات المضلّلة.

2. ویعدّ من ضمن الممیّزات الأخری لهذا العصر عدم وجود القیم الأخلاقیّة وإنکار القیم العامّة ذات الشّمولیّة العالمیّة وشیوع النزعة الاستهلاکیّة والتضلیل.

ص:110


1- (1) مجلّة کیان، العدد 30، عبد الکریم سروش.
2- (2) کیت نش، علم الاجتماع السّیاسیّ المعاصر، ص 97، «التّرجمة الفارسیّة لمحمّد تقی دلفروز».
3- (3) المصدر السّابق.

و لکنّ العصرانیین یرون بأنّ الحضارة الحدیثة تقترب من مرحلة العمومیّة والعالم الشّمولیّ الحقیقیّ والأصیل قبل أیّة حضارة أخری معروفة، وأنّ العصرنة أشرفت علی التّحوّل إلی حضارة عالمیّة شاملة. إنّ هذا الاستنتاج قد توصّل إلیه آخرون، أمثال بتراوس، غلینغ، هریس، هنتیغتون، فوکویاما. فالعولمة فی هذه الرّؤیة لا تعنی حضور ثقافات متعدّدة فی ساحة مشترکة للإبداع والإنتاج والتأثیر، ولکنّها ستکون ساحة للتّنافس وسیطرة الثّقافات المتسلّطة الّتی تمتلک القدرة المالیّة، الإبداعیّة، التّقنیة المعلوماتیّة وقنوات الاتّصال العالمیّة، فلا یمکن للثّقافات الأخری المقاومة والصمود فیُحکم علیها بالهزیمة والاندحار. إنّ هذه الطائفة تری أنّ العولمة ترافق الغربنة والعولمة الغربیّة. وینبغی البحث عن الأسس والبنی الفکریّة والعلمیّة لهذه النظریّة فی المدارس الفلسفیّة الغربیّة، وکما أشرنا فی الفصل السّابق، فإنّ بدایة هذه الفکرة یمکن ملاحظتها فی آراء هیجل، مارکس.

فإنّ مارکس کان یعتقد بأنّ الاختلاف الثّقافیّ، یعدّ سبباً للتّوتّر والخلاف، فالاختلاف الثّقافیّ یُوجد أزمات عالمیّة لا یمکن تذلیلها إلّا بإسقاط إحدی الثّقافتین وهذا ما یتسبّب فی نشوب الحرب والخصومة فیما بین الثّقافات.

ففی رأی کثیر من الفلاسفة والمفکّرین الغربیّین أنّه قد اتّضحت أفضلیّة الحضارة الغربیّة وأنّ العصرنة أفضل أنموذج ومثال فکریّ لجمیع الثّقافات والمجتمعات. وقد وصلت الحالة ببعضهم کهنتیغتون وفوکایاما(1) بختم هذه الأفضلیّة علی جبین البشریّة، وأنّ نهایة التّاریخ ستکون معادِلة للسّیطرة الغربیّة وعولمة الحضارة الغربیّة.

ص:111


1- (1) ینبغی التّذکیر بأن فوکویاما مع أنّه ذو اتّجاه یتساوق وما بعد الحداثة، ولکنه علی خلاف أنصارها الآخرین لا یعتقد بالتّعدّدیّة الثّقافیّة والتّعاطی بین الثّقافات، ویطرح فکرة سیطرة الثّقافة اللیبرالیّة الرأسمالیّة الغربیّة.

حصیلة الفصل الرّابع

کان بإمکان الأیدیولوجیّة فی عهد العصرنة إعادة الاطمئنان للفرد فی الظّروف الّتی یحیاها من الحیرة والشّعور بفقدان الأمن واستلاب الهویّة، ولکنّ الأیدیولوجیّة هذه فقدت قدرتها الموحِّدة الّتی کانت تتمتّع بها فی مرحلة الحداثة لتزعزع المقولات الثّلاث: الوحدة، المبدأ والغایة فی عصر العولمة. ومن خلال هذه النّقطة بالذّات علینا أن لا نتوقّع فی عصر العولمة وجود صیغة لإقرار الوحدة والنّظام بناءً علی معاییر ونماذج العصرنة، «فی رأی أنصار ما بعد الحداثة، أنّ اضمحلال عالم الدّول التّقلیدیّة، وبروز مجتمع عالمیّ فوضویّ نوعاً ما، قد ارتبطا معاً، ممّا أوجب أن تکون السّیاسة فی المقیاس العالمیّ أمراً غیر ممکن».(1)

إنّ اللیبرالیّین الجدد یرون السّیاسة العالمیّة لإزالة قوانین الاقتصاد العالمیّ، تسیر فی الاتّجاه غیر الصّحیح. ولهذا فإنّ ما بعد الحداثة واللیبرالیّة الجدیدة اتّفقت رؤیتهما فی مجال الحیاة العالمیّة کلّ بحسب أسبابه الخاصّة، ففی رأیهما أنّ تیّار العولمة سیحوّل المؤسّسات السّیاسیّة والاجتماعیّة إلی شبکات منفصلة ومتفرّقة تکون مجبرة علی التّنسیق فیما بینهما عملیّاً ویتشکّل بذلک نظام (ما فوق الوطنیّة).(2)

إنّ ثبات مسیرة العولمة بحسب رؤیة ما بعد العصرنة والّذی تحقّق فی ظل الوحدویّة، المرکزیّة وتحکّم المقولات العقلانیة الحدیثة، تعرّض للاضطراب وعدم الفعّالیّة والتأزّم. وغیّر مقولات نظیر الحاکمیّة الوطنیّة، العقود المؤقّتة، المعاهدات الدّولیّة فی مجال الحفاظ علی البیئة والصّحة، الاتّصالات، الأمن والسّلام، التّنمیة والقیم الثّقافیّة الأخری. إنّ أنصار ما بعد

ص:112


1- (1) یورغن هوبرماس، العولمة ومستقبل الدّیمقرطیّة، ص 132، «التّرجمة الفارسیّة لکمال فولادی».
2- (2) المصدر نفسه، ص 120.

الحداثة یسعون من خلال محو الأسس التّاریخیّة ومعرفة علم الأجناس والّذی یعبّر عنها میشال فوکو (بالأنظمة الحقیقیّة)؛ الأجابة عن هذا السّؤال، وهو أیّة دوائر شمولیّة تبعث علی تبلور أسس القوّة وتکسبها الشّرعیّة؟ وبعبارة موجزة إنّ أنصار ما بعد الحداثة ومن خلال تحلیلهم لعلاقة العلم والقوّة، یؤکّدون علی الدّور الأساسیّ لهما فی الحکم والأسس الحکومیّة والاجتماعیّة والثّقافیّة والاقتصادیّة.

إنّ أنصار ما بعد الحداثة لا یؤمنون بالنّظریّات الشّمولیّة وقد تعرّضوا لانتقاد نماذج هیجل العقلانیّة، نیتشه ومارکس، وأنکروا المشاریع والأفکار المقترحة للوصول إلی النّظام العقلانیّ للطّبیعة والمجتمع، ویرون أنّ الثّقافة العالمیّة فی عصر العولمة متنوّعة ومتعدّدة ومنفصلة عن بعضها.

ص:113

ص:114

5. علاقة العولمة والثّقافة

عولمة الثّقافة

لقد کان التّبادل الثّقافیّ منذ أقدم العصور وعلی مرّ التّاریخ عاملاً بنّاءً ومؤثّراً فی توطید الأواصر فیما بین المجتمعات. ویری المفکّرون فی مجال علم الثّقافة، أنّ الثّقافات مرتبطة بعضها مع البعض الآخر ومدینة کلّ منها للأخری ولا یمکنها التّجدّد والتفتّح إلّا من خلال تخطّیها الحدود الجغرافیّة وممارستها الأخذ والعطاء مع الخارج. إنّ التّبادل الثّقافیّ المعلوماتیّ والفکریّ الواسع، لا یمکن أن یؤدّی إلی تبلور ثقافة واحدة واندماج الثّقافات ببعضها ومحو الهویّة الثّقافیّة. ومع الأخذ بنظر الاعتبار الحاجة إلی التّبادل الثّقافیّ فیما بین المجتمعات وکذا نتائج وتبعات تأثّر بعض الثّقافات بالثّقافات السائدة، ینبغی النّظر فی أبعاد وحجم هذا التأثیر والتأثّر، وهل هو بمعنی اضمحلال وفقدان خصوصیّات ثقافات معیّنة وضعیفة؟ وهل أنّ الثّقافات التّسلّطیّة السّائدة تمتلک القابلیّة والتّمیّز والأفضلیّة نسبة إلی الثّقافات الأخری؟ ألیس من الممکن أن تفقد العوامل الفکریّة، المعنویّة، التّاریخیّة، اللُّغویّة والمذهبیّة الّتی لها دور فی تکوّن وتمیّز المجتمعات؛ هویّتها من خلال الغزو الثّقافیّ الأجنبیّ؟

ص:115

یعتقد البعض أنّ جمیع الثّقافات الوطنیّة والمذهبیّة تقع تحت شعاع تأثیر التّطوّرات العالمیّة والتّقنیّات المعلوماتیّة الّتی تتّصف بالشّمولیّة فی عملیّة العولمة، وتفقد هویّتها وقیمها وفعالیّتها وتتعرّض للتّحلّل والتّفسّخ. وحسب افتراض أنصار نظریة (الحضارة العالمیّة الواحدة) فإنّ تعزیز العلاقات الثّقافیّة والتّواصل فیما بین الثّقافات والمجتمعات یؤدّی إلی تبلور (ثقافة عالمیّة). وتکون: التّجارة العالمیّة و إزالة الحدود الاقتصادیّة، اتّساع العلاقات الإنسانیّة، الهجرة والسّفر، تبادل الأفکار، الثّقافات والأدیان، سهولة التّواصل فیما بین العلماء وتوسیع التّبادل العلمیّ والتّعلیمیّ، انتشار السّیاحة، وسائل الاتّصال الجمعیّ، توطید العلاقات النّاجمة عن التّقنیة المتقدّمة المعلوماتیّة والألکترونیّة الّتی تجعل من العالم (عالما متّحدا) و (عالما متحرّکاً)، من أسباب ولادة هذه الثّقافة العالمیّة.(1)

فهل أنّ مسیرة العولمة تؤدّی إلی التّوحّد الثّقافیّ وولادة الحضارة والثّقافة العالمیّة الواحدة؟ وبعبارة أخری، فی أیّ اتّجاه یسیر العالم فی مستقبله من خلال هذه العملیّة؟ توحّد الثّقافات أم تشتّتها وتجزّؤها وتعدّدها؟ ومع غضّ الطّرف عن الاتّجاهات المختلفة والمخاوف الموجودة، فقد اتّجهت بعض الدّول باتّجاه القبول بالعصرنة والثّقافة الغربیّة، وأصرّ البعض الآخر علی الحفاظ علی میزاته وإرثه الثّقافیّ والدّینیّ لإحساسه بخطر فقدان هویّته وقیمه وثقافته.

إنّ عملیّة العولمة سیکون لها تأثیر عمیق و واسع علی الأسس الثّقافیّة والاجتماعیّة والعلاقات الدّولیّة. وستعرّض المفاهیم التّقلیدیّة للحاکمیّة، الهویّات الدّینیّة والمذهبیّة، القیود الثّقافیّة والأیدیولوجیّة؛ للتغیّر و الانسلاخ.(2)

ص:116


1- (1) جاءت هذه العبارة علی لسان دغلاس میسی ( Douglaes massey).
2- (2) علی أصغر حاتمی، العولمة و أزمة النّظریّة السّیاسیّة، ص 83.

فعولمة الثّقافة هی إحدی مستلزمات وإفرازات العولمة. ولکنّها لا تعنی تنامی الاتّجاه نحو ثقافة عالمیّة واحدة ومتوحّدة. وفی الحقیقة لا یمکن تسمیة التّماثل الثّقافیّ واستنساخ الثّقافة الغربیّة عولمة؛ ولکنّ الاستدلال للعولمة الثّقافیّة یأتی بمعنی «تمخّض وسائل الاتّصال الجمعیّ، التّطوّر التّقنی، تیّار الهجرة البشریّة، انتشار السّیاحة وتشکیل المؤسّسات الاجتماعیّة و الثّقافیّة (الثّقافة الثّالثة)؛ عن نوع من التّرابط الثّقافیّ المتنامی فی مختلف أرجاء العالم».(1)

إنّ طبیعة العولمة الثّقافیّة غیّرت وطوّرت الأفکار، العقائد، السلوکیّات والأهداف لمختلف المجتمعات والثّقافات، و جرّت المفاهیم البنیویّة للثّقافات کالحاکمیّة الوطنیّة، الهویّة، النّظم القیمیّة والدّینیّة نحو مشاکل متعدّدة، وطلّت فی الأفق إرهاصات الاندماج ومسخ القداسة من خلال انهیار المقاومة علی مستوی العقائد والقیم.

إنّ العولمة وعلی خلاف آثارها السّلبیّة ونتائجها المؤلمة علی الثّقافات الأخری، یمکن أن یکون لها آثار إیجابیّة علی الثّقافات: «فبعض الآثار الإیجابیّة للعولمة علی الثّقافة عبارة عن: تسارع الحرکة الاجتماعیّة، تعزیز و نمو الفکر البشریّ، ازدیاد الاتّصالات، وإمکانیّة تنامی تبادل المعلومات والآراء، الفهم الأفضل للتّعامل المتبادل فیما بین الثّقافات، وتأسیس منظومة من النّظم القیمیّة المشترکة، واکتساب الهویّة العالمیّة الجدیدة.(2)

ص:117


1- (1) کیت نش، علم الاجتماع السّیاسیّ المعاصر، ص 76، «التّرجمة الفارسیّة لمحمّد تقی دلفروز».
2- (2) محمد رضا دهشیری، «العولمة و الهویّة الوطنیّة»، فصلیّة مطالعات وطنیّة، السّنة الثّانیة، العدد 5، ص 73.

و یعتقد الوین تافلر أنّ الاتّصالات تعدّ من أهمّ وسائل نمو المجتمعات البشریّة فی عالم المستقبل،(1) والّتی سیکون لها تأثیر باهر علی جمیع المستویات الثّقافیّة، الاقتصادیّة، الاجتماعیّة، الخدمیّة و غیرها.

إنّ العولمة تهیّء الأرضیّة لموجبات التّجانس الثّقافیّ والحضاریّ علی عکس رأی بعض المفکّرین الّذین وصفوا عملیّة استقرار ثقافة عالمیّة واحدة وحدوث التّجانس الثّقافیّ بأنّها نظریّة ساذجة، ویمکن ملاحظة شواهد ونماذج للنّزعة العالمیّة نحو الثّقافة العالمیّة المشترکة فی بعض المجالات.

و فی مقابل ذلک فإنّ منتقدوا هذه النّظریّة ومن خلال طرح بعض الشّواهد کالأصولیّة المذهبیّة، الحرکات المُحبّة للسلام، سلامة البیئة وغیرها عدّوا ذلک داعیاً إلی رفض هذا الاتّجاه ودعواه. ولکن لابدّ من الإذعان الیوم بوجود اتّجاه عالمیّ یتعلّق بمقولات العلم والتّقنیة، تقنیة المعلومات، التّبادل الثّقافیّ، السّلام والأمن العالمیّ، قضایا البیئة، الصّحة، حقوق الإنسان والدّین. وکمحصّلة عامّة للآراء المتعلّقة بمستقبل العالم ونهایة العولمة؛ یمکن الإشارة إلی ثلاثة أسالیب أساسیّة:

1. إدغام جمیع الثّقافات فی ثقافة عالمیّة واحدة سائدة وذوبان باقی الثّقافات فیها.

2. القبول بمنطق الحوار بین الثّقافات والحضارات والتّعامل العقلانیّ للثّقافات مع بعضها البعض.

3. اعتماد استراتیجیّة الصّراع والحرب فیما بین الثّقافات والحضارات.

ونظراً للافتراضات الفعلیّة؛ ینبغی القول: إنّ النّظریّة الثّانیة تعدّ أکثر النّظریّات منطقیّة وواقعیّة لمستقبل الحضارات والثّقافات. ونظراً لارتباط حدوث العولمة بشراکة کافّة الثّقافات والحضارات والمذاهب، ابتداءً من

ص:118


1- (1) الوین تافلر تغییرات القوی، ج 2 ص 176، «التّرجمة الفارسیّة لشهیندخت خوارزمی».

الفکر العالمیّ الدّینیّ وحتی الفکر الفلسفیّ ذوالنزعة العالمیّة، وإلی المکاسب العلمیّة والأحداث العالمیّة المهمّة، فجمیع ذلک یساهم فی عملیّة العولمة. ومن هنا؛ وعلی أساس هذه النّظریة طُرحت بعض القراءات بخصوص العالمیّة، ویمکن ذکرها فی أربعة محاور:

الأوّل: القراءة التّعلیمیّة.

الثّانی: القراءة الحضاریّة.

الثّالث: القراءة الأیدیولوجیّة (کقراءة محوریّة الدّین، القراءة الشّیوعیّة أو اللیبرالیّة أو الرأسمالیّة).

الرابع: القراءة المبتنیة علی النّزعة العِرقیّة والمحوریّة القومیّة والجنسیّة.

ففی القراءة الأولی ینبغی إقامة نظام تعاملیّ عالمیّ مشترک یشمل کافّة المجالات یتّخذ من العلم محوراً له ویعتمد علی التّطوّرات العلمیّة العالمیّة وعدم محدودیة العلم، و یکون منسجماً و مقتضیات الاتّجاه العلمی. و تمکین جمیع مواطنی العالم من المکاسب العلمیّة فی کافّة المجالات، واجتناب النّزعة الاحتکاریّة.

أمّا القراءة الثّانیة، فهی تؤکّد علی دور الحضارة والثّقافة والمذهب، فالعولمة فیها تعنی التّوازن والتوحّد علی الصعید الثّقافیّ والخصائص المشترکة للأدیان والتّعامل المشترک للمجتمعات بعضها مع البعض الآخر.

إنّ المقصود من الممیّزات المشترکة للأدیان فی هذا التّعریف؛ المفهوم العامّ لها والّذی هو عبارة عن: الاعتقاد بوجود الله والتّصدیق بماوراء الطّبیعة (الغیب) والإیمان بالأمور القدسیّة، والقبول بالدّور الإنقاذیّ والبنّاء للدّین.

فالعولمة فی هذه النظریّة، تعدّ فی الحقیقة نتیجة لتواصل الحضارات وتتمیّز بصفة الوصلة الحضاریّة، وأنّ الثّقافات والحضارات تستطیع الوصول إلی التّفاهم والتّعامل المشترک والعالمیّ من خلال هذا التّواصل والتّفاعل.

ص:119

وعلی هذا ینبغی النّظر فی أنّ العولمة - بناءً علی منطق العصرانیّین - هل تمتلک القابلیّة وأن تُوجد الأرضیة لأن یکون لباقی الثّقافات والحضارات دور تعاملیّ وبنّاء فی عملیّتها أم لا؟ وکما مرّ فی البحوث المتقدّمة، فقد أثبتنا أنّ العصرنة مع أنّها فی بعض صورها ذات اتّجاه عالمیّ وخصائص عالمیّة وشمولیّة، ولکنّ العولمة بمعناها الحقیقیّ والخارجیّ لا یمکن عدّها عولمة عصرانیّة، إلّا فی حال عدم وجود أیّة حضارة وثقافة منافسة للعصرنة، ففی ذلک الوقت یمکن الإذعان بوجود عولمة عصرانیّة علی أرض الواقع.

ومن جانب آخر، ستواجه العصرنة تعارضاً فی أغلب مبانیها، وأزمات ومشاکل متعدّدة معرفیّة؛ علمیّة واجتماعیّة. إضافة إلی تجاهلها دور الدّین وبعض القضایا المهمّة المؤثّرة فی الحیاة البشریّة. فالعولمة بهذا المعنی؛ ستؤدّی إلی ازدیاد الأزمات العالمیّة وتعمیق مشاکل العالم الفعلیّة، وهی وفقاً للقراءة العصرانیّة؛ تکون مفروضة ولیست اختیاراً وفرصة وانتخاباً. والّذی یعدّ فی الواقع قبولاً بأنموذج الحضارة الغربیّة وسیطرة ثقافتها علی العالم. ولذا فالعولمة بهذا المعنی لیست واقعیّة، وإنّما یمکن تسمیتها (غربنة) والّتی تؤدّی إلی رفض الحضارات الأخری وتهمیش الثّقافات وتتسبّب فی اختلافات ومشاکل کثیرة. وکما ینبّه هوبرماس علی ذلک: «و فی وسط هذه القراءات الثّقافیّة نواجه استدلالات لأصحاب سائر الثّقافات یُشکلون فیها علی الثّقافة الغربیّة بناءً علی قوالبهم وتقالیدهم الفکریّة. وأنّ السّبب فی ذلک یعود إلی أنّ جمیع الأدیان والثّقافات تتعرّض لإشکالیّات تجدّد العولمة الغربیّة وإلی ضغوط الثّقافة المادّیّة الّتی تسعی نحو التّماثل العالمیّ».(1) وستواجه عملیّة العولمة ردود أفعال اجتماعیّة وثقافیّة مختلفة، تنعکس علی شکل حرکات تحرّریّة تقف بوجه الاستعمار والعولمة، وذلک من خلال اضطراب الأنظمة الاجتماعیّة والأسس الثّقافیّة. إنّ

ص:120


1- (1) یورغن هوبرماس، العولمة ومستقبل الدّیمقراطیّة، ص 114، «التّرجمة الفارسیّة».

هذه الحرکات الّتی تتمتّع بالقیم العقلانیّة والدّینیّة تستبطن الرّدّ النّاجع الّذی یهدف إلی ترمیم العقلانیّة العالمیّة والخلاص من مغامراتها الباهضة الثّمن. ویحدّد هوبرماس فی هذا المجال ثلاث مهمّات ووظائف لعقلنة عالم الحیاة:

1. لزوم استمرار التّقالید الثّقافیّة والدّینیّة.

2. لزوم وضع السّلوکیّات والقیم فی خدمة الوحدة والتّکاتف الجماعیّ.

3. یجب علی الجیل المعاصر السّعی نحو التّواصل والتّلاحم الاجتماعیّ.

إنّ نظریة هوبرماس تؤکّد علی عقلنة عالم الحیاة، فی مقابل جعلها مستعمرة، وقد طرح هذه الصّیغة نظراً للحاجة الماسّة إلی دور الأفعال التّفاهمیّة أو العقلانیّة التّفاهمیّة.

ولتنقیح نظریّته هذه، ینبغی التّذکیر أوّلاً بأنّها مع کونها تبدو نظریّة استراتیجیّة ومنطقیّة، ولکن نظراً إلی أنّ هوبرماس یعدّ من الّذین یعتقدون بعدم وصول العصرنة إلی نهایتهاً حتی الآن، وأنّ بإمکانها الاستمرار فی إعادة البناء وفی شمولیّتها العالمیّة. وعلی هذا فهو یحلّل العولمة علی أساس المقولة العصرانیّة. ولکنّه یقول بالعقلانیة التفاهمیّة والاعتراف بسائر الهویّات الثّقافیّة والدینیّة. ومع کونه مطّلعاً وبصورة واسعة علی فعّالیات النّظام اللیبرالیّ الغربیّ وفعالیّات السّوق الرأسمالیّة فی النّظام الاقتصادیّ الغربیّ والاتّجاه العلمانیّ للعصرنة، ولکن لم یتّضح سبب إذعانه فی کتابه (العولمة ومستقبل الدّیمقراطیّة) بأنّ «العولمة تجبر الدّول والأمم علی فتح أبوابها بوجه النّماذج الأجنبیّة الجدیدة للحیاة الثّقافیّة» ویصرّح «بأنّ الدّول لا تتمکّن بعد الآن من المقاومة والوقوف بوجه عملیّة التّماثل والتّعصرن».(1) وعلی هذا لا یُعلم سبب قوله بإمکانیة الجمع فیما بین فرض النّماذج الثّقافیّة للغرب والعقلانیّة التّفاهمیّة.

ص:121


1- (1) هوبرماس، العولمة ومستقبل الدّیمقراطیّة، ص 114، «التّرجمة الفارسیّة».

تعارض الثّقافات

فی رأی هوبرماس أنّ هناک نزاعاً وجدالاً سیحدث فیما بین التّراث، الهویّة، القیم الوطنیّة ومافوق الوطنیّة فی عملیّة العولمة، وأنّ هذا الجدل یحکی عن التّوازن الحاصل فیما بین الثّقافات من جانب والتّحرّر الخلّاق لها من جانب آخر.

إنّ الثّقافة الأصیلة وردّا علی الضّغوط الثّماثلیّة للثّقافة المادّیّة غالباً ما تبرز علی شکل أنظمة جدیدة، تسعی لصنع أشکال حدیثة من الثّقافات التّرابطیّة والالتقاطیّة قبل أن تحاول المقارنة بین الاختلافات الثّقافیّة. إنّ التّواصل الثّقافیّ یؤدّی إلی نشوء ثقافات جزئیّة وقوالب حدیثة ومتعدّدة. فعلی سبیل المثال لو نظرنا إلی الهجرة غیر المقصودة والاتّصالات الواسعة لرأینا کیف تؤدّی إلی تغیّرات عمیقة فی التّرکیبة العِرقیّة، الدّینیّة، الثّقافیّة والوطنیّة.

إنّ العولمة تعدّ عملیّة تمایزیّة وتماثلیّة فی ذات الوقت، فهی من جانب تسوق العالم نحو التّعدّدیّة الثّقافیّة وتهیّء الأرضیة لعرض الهویّات الوطنیّة والقومیّة علی السّاحة العالمیّة؛ من خلال قبولها بقیمة الثّقافات الجزئیّة والقدرات المحلّیّة. ومن جانب آخر تتسبّب فی التّأثیر علی الثّقافات والهویّات المحلّیّة والوطنیّة من خلال إبراز ثقافة عالمیّة واحدة.

إنّ التغیّرات ذات الصّور المتناقضة والّتی تنجم عن هذا الوضع المتجدّد والمعقّد والمتعدّد الجوانب تؤدّی إلی تسهیل العلاقات الفردیّة فی مجالات متعدّدة، وترسیخ المواجهة فیما بین الثّقافات. وتُوجد نزاعات تضطرّ معها المجتمعات الدّینیّة والثّقافات الأصیلة إلی اتّخاذ اتّجاهات معقولة وبنّاءة فی هذا المجال. إنّ تعزیز العناصر الثّقافیّة المشترکة فیما بین مواطنی العالم والثّقافات المختلفة یمکن أن یعدّ اتّجاهاً إیجابیّاً وبنّاءً، ویبرز من خلال نموّه وتکامله علی شکل (ثقافة عالمیّة واحدة).(1)

ص:122


1- (1) جنکیز بهلوان، علم الثّقافة، ص 405، «باللّغة الفارسیّة».

إنّ النّزاع الثّقافیّ الیوم یتمّ فی إطار مجتمع عالمیّ واحد، والّذی ینبغی علی مجموع اللّاعبین فیه النّظر إلی السّنن الثّقافیّة المختلفة، لیتوصّل إلی اتّفاق حول السّلوکیّات المعاشة. ففی الوقت الرّاهن لا یمکن أن تکون العزلة والأنانیّة جدیرة بالانتخاب. فتاملسون یعتقد: «بأنّ الثّقافة المتعولمة الیوم هی ثقافة عالمیّة غیر مبتنیة علی الفوضی والاختلاف وفی الوقت ذاته لا تأتی الثّقافة من خلال الجمع بین التّجارب والحاجات البشریّة؛ ولکنّها تحکیم لنوع من أنواع الثّقافة تمتلک قدرة أکبر»(1) وإنّ هذه الثّقافة الغالبة هی نفسها الثّقافة الغربیّة والّتی بادر الغرب من خلالها لطرح فکرة ومشروع العولمة لتوحید الثّقافات وغربنة العالم. إنّ هذه الطائفة وبناءً علی نظریّات أمثال هنتیغتون وفوکویاما تعتقد بأنّ الثّقافة اللیبرالیّة الغربیّة تتّصف بقیم العالم الشّمولیّ ومن خلال الدّفاع عن نظریّة (نهایة التّاریخ) تعتقد بأنّ العولمة ما هی إلّا انتشار الثّقافة الغربیّة الّتی هی ثقافة الرأسمالیّة واللیبرالیّة والعلمانیّة الغربیّة. ویصرّح هنتیغتون بشکل سافر فی هذا المجال: «فی نهایة القرن العشرین، کان مفهوم الحضارة العالمیّة یصبّ فی خدمة تبریر التّسلّط الثّقافیّ الغربیّ علی باقی المجتمعات، أمّا الآن فقد أخذت المجتمعات الأخری فی تقلید ومحاکاة الأسالیب والمؤسّسات الغربیّة. إنّ النزعة العالمیّة والأیدیولوجیّة الغربیّة جاءت لمواجهة الثّقافات غیر الغربیّة. إنّ الغربییّن لا یعرفون عن العولمة سوی أنّها (تغریب) غیر الغربیّین. وإنّ ما یسمّیه الغربیّون بالتّماثل العالمیّ التّدریجیّ (کانتشار الإعلامیّات العالمیّة) یعتبره غیر الغربیّین إمبریالیّة شیطانیّة غربیّة.

ص:123


1- (1) صاموئیل هنتیغتون، صراع الحضارات وإعادة بناء النّظام العالمیّ، ص 103، «التّرجمة الفارسیّة لمحمّد علی رفیعی».

مناقشة نظریّة صراع الثّقافات والحضارات

إثر سقوط الشّیوعیّة وانتهاء الحرب الباردة، عُرضت نظریّات مختلفة فی مجال البحث عن منشأ القوّة والتخطیط لمستقبل الوضع العالمیّ. إنّ إحدی النّظریّات الّتی أحدثت ضجّة فی الأوساط العلمیّة والسّیاسیّة؛ نظریّة صراع الحضارات، لصاموئیل هنتیغتون. ففی اعتقاده أنّ مرحلة التّنافس الأیدیولوجیّ قد انتهی بانتهاء الحرب الباردة. إنّ هنتیغتون طرح هذه النّظریّة متأثّراً ببرنارد لویس المؤرّخ والمستشرق الأمریکیّ. فأسباب صراع الحضارات الإسلامیّة والمسیحیّة والکنفوشیوسیّة فی هذه النّظریّة لا ترتبط بالأبعاد السّیاسیة ولکنّها سترتکز علی الممیّزات الثّقافیّة والمذهبیّة لهذه الحضارات، ففی اعتقاده أنّ المواجهة الحضاریّة لابدّ منها، وأنّ المذهب یلعب دوراً أساسیّاً ومحوریّاً فی تبلور الحضارات ومسار اتّجاهها. وأنّ الاختلافات الثّقافیّة فیما بین الحضارات لها جذور عمیقة ولا نهایة لها: «إنّ الثّقافة والحضارة تتضمّن قیماً وسلوکیّات وأسالیب فکریّة وأفعالاً وأحکاماً ومؤسّسات تتمتّع فی کلّ مجتمع بأعلی درجات الاحترام من قبل أفراد ذلک المجتمع».(1)

ویوضّح هنتیغتون نظریّته بهذا الشّکل: «إنّ افتراضی مبتنی علی أنّ المصدر الأساسیّ للصّراع فی العالم المعاصر؛ لم یکن أیدیولوجیّاً أو اقتصادیّاً بالضّرورة، ولکنّه الهوّة السّحیقة بین أفراد البشریّة، و إنّ أهم مصدر للصّراع هو الطّبیعة الثّقافیة، ولا یبدو أنّها قد فقدت فاعلیّتها، کما أنّها تعارض وتخالف التّحکّم والسّیطرة. إنّ الحضارات تُعرّف من خلال عناصرها الواقعیّة المشترکة کاللّغة، التّاریخ، المذهب، التّراث والمؤسّسات، وأنّ الهویّة الحضاریّة سیکون لها أهمّیّة متزایدة فی المستقبل». ثمّ ومن خلال طرحه

ص:124


1- (1) . Samuel p. Huntington the clash of eivilization and the Remarleing of the world order tendon 1977 p.A.i

السّؤال التّالی، وهو لماذا ستتواجه الحضارات فیما بینها؟ یجیب قائلاً: «أوّلاً؛ إنّ وجوه الاختلاف فیما بین الحضارات لیست فقط واقعیّة، وإنّما ممّا لابدّ منها. ثانیاً؛ إنّ العالم فی حالة تصاغر وانضغاط. ثالثاً؛ إنّ مسیرة التّحدیث فی المجالات الاقتصادیّة والاجتماعیّة فی جمیع أنحاء العالم تؤدّی بالإنسان إلی الانفصال عن هویّته القدیمة والأصیلة. رابعاً؛ إنّ الدّور المزدوج للغرب یُنمّی ویعزّز الاطّلاع الحضاریّ. خامساً؛ لا یمکن إخفاء الممیّزات والاختلافات الثّقافیّة إلّا بشکل یسیر. سادساً؛ إنّ الإقلیمیّة الإقتصادیّة هی فی حالة نموّ وتوسّع وهذا ما یساعد علی تقویة الحضارات الأخری».(1)

ثم یستنتج بأنّه: «یمکن التکهّن بعدم بقاء أیّة حضارة ذات شمولیّة عالمیّة فی المستقبل، ولکن سیکون هناک عالماً متعدّد الحضارات تضطرّ کلّ حضارة فیه إلی تعلّم کیفیة التّعایش مع الأخریات».

وبعد سنوات من طرح هنتیغتون نظریّته هذه، ومن خلال ملاحظته قرائن وشواهد واقعیّة عن التّطوّرات الّتی نجمت عن الإسلام، أذعن بأنّ مقولته فی: «أنّ الحضارة الإسلامیّة فی طریقها إلی الزّوال» فی نظریّته تلک غیر صحیحة وصرّح معقباً: «اعتقد بأنّ الحضارة الإسلامیّة حضارة راسخة وخالدة».(2)

إنّ أغلب مفکّری العالم یذعنون بأنّ أکثر المواجهات والحروب الّتی حدثت مؤخّرا فی العالم ذات بُعد ثقافیّ، وقد سخِروا من نظریة (صراع الحضارات) و (نهایة التّاریخ) واعتبروها نوعاً من النّبوءة غیر العلمیّة. ویعتقد البعض الآخر ومن خلال مناصرتهم لنّظریّة هنتیغتون بتمخّض ثقافة وحیدة وهی الحضارة العالمیّة الواحدة (الرأسمالیّة). أمّا باقی الحضارات والثّقافات

ص:125


1- (1) صاموئیل هنتیغتون، صراع الحضارات، مجلّة معلومات سیاسیّة واقتصادیة، العدد 69-70 «التّرجمة الفارسیّة لمجتبی أمیری».
2- (2) محسن قانع بصیری، «هنتیغتون، غیّرت عقیدتی»، مجلّة الفکر الحدیث، العدد الأوّل، ص 7.

فستتعرّض للهزیمة والاندحار. ومن هنا، فإنّ أجواء الصّراع فیما بین الثّقافات والحضارات یعدّ منتفیاً من الأساس، ولکنّنا نشاهد ضمن هذه الحضارة العالمیّة الواحدة عدم المساواة والحروب العنیفة، فیما بین المنبوذین من جهة والمدعومین من جهة أخری، وبین السّادة الجدد والمواطنین الضّعفاء. ولذا سیتعرّض التّوحد الثّقافیّ والاجتماعیّ لهذه الحضارة العالمیّة الواحدة لمخاطر وصدمات.(1)

ویصف هنتیغتون العالم الجدید إثر انهیار النّظام الشّیوعیّ بما یتکهّن به، من «أنّ افتراضی هو أنّ السّبب الأساسیّ للمواجهات والحروب فی العالم الجدید لیس هو المسائل الأیدیولوجیّة أو الاقتصادیّة، و إنّما السّبب المهمّ للتّنافر والخلاف والمصدر الأساسیّ للصّراع هو المسائل الثّقافیّة». «فی صراعات العالم المستقبلیّة، ستقف الأمم والطوائف وجهاً لوجه، والّتی ترتبط کل واحدة منها بحضارة مختلفة. وإنّ هذا الصّراع والتّوتّر فیما بین الحضارات سیتحکّم بالسّیاسة العالمیّة، وأنّ الجبهات المستقبلیّة؛ ستکون ساحة التّنافس والصّراع الحضاریّ».(2)

ففی اعتقاده أنّ النّزاع العالمیّ فی المستقبل ذو طبیعة ثقافیّة وأنّ النتاج السّیاسیّ له هو الصّراع فی خطوط التّماس والتّقاطع فیما بین الحضارات الأساسیّة فی العالم. إنّ اعتقاد هنتیغتون بعدم إمکانیّة تبلور حضارة عالمیّة واحدة یقوم علی الأسباب التّالیّة: أوّلاً؛ اعتقاده بتکافؤ الحضارة مع الثّقافة، ثانیاً؛ وإنّ العناصر الأساسیّة الّتی تکوّن الحضارة هی اللّغة والدّین، ویؤکّد علی أنّ «عامل الدّین، هو من أکثر عناصر الثّقافة محوریّة».(3)

ص:126


1- (1) کاظم علم داری، نقد نظرّیة صراع الحضارات وحوار الحضارات، ص 53 و 117.
2- (2) ر. ک. اکناسیو رامونه، هل یسیر العالم نحو الفوضی، «الترجمة الفارسیة لبریجهر شاه سوند».
3- (3) کاظم علم داری، نقد نظریّّة صراع الحضارات وحوار الحضارات، ص 187، «باللّغة الفارسیّة».

وبناءً علی هذا المبنی یذکر بأنّه «إذا أرادت الحضارة العالمیّة الواحدة الظهور والبروز، فینبغی علیها السّعی نحو إیجاد لغة عالمیّة واحدة ودین عالمیّ».(1)

نقد ووجهة نظر

إنّ نظریّة هنتیغتون ترتکز علی محورین أساسیّین:

الأوّل: محوریّة الدّین فی الحضارات الکبیرة.

الثّانی: إنکار إمکانیة وجود حضارة عالمیّة واحدة أو اتّحاد حضارات. یعدّ هذان المحوران من المظاهر المهمّة و الأساسیة لنظریته، و لکنّ الدّین حسب رأیة یعدّ العنصر الأهمّ فی نشوء وانتشار الحضارات.

وهو یعتقد أیضاً ویؤکّد علی المواجهة الذّاتیّة والّتی لا یمکن فیها المساومة فیما بین الأدیان والثّقافات والّتی یتمحور من خلالها التّعارض الجوهریّ بین الحضارة الغربیّة والشّرق، وعلی الخصوص مواجهة الغرب مع العالم الإسلامیّ. ویستمرّ فی بیان نظریّته فیکتب «تتواجد فی عالم الیوم تسع حضارات کبیرة وهی عبارة عن: الحضارة الغربیّة، الأمریکیّة اللاتینیّة، الأفریقیّة، الإسلامیّة، الصّینیّة، الهندیّة، الأرثوذکسیّة، البوذیّة والیابانیّة، ویترکّز التّعارض الأساسیّ فیما بین الحضارة الإسلامیّة والغربیّة والصّینیّة من بین هذه الحضارات».(2) ویقول: إنّ استدلال مؤیّد و نظریّة الحضارة العالمیّة الواحدة یرتکز علی ثلاث فرضیّات:

1. انهیار الاتّحاد السّوفیتیّ السّابق والنّظام الشّیوعیّ.

2. انتهاء الحرب الباردة.

3. نظریّة نهایة التّاریخ وانتصار اللیبرالیّة الدّیمقراطیّة الغربیّة وانتشارها فی العالم.

ص:127


1- (1) المصدر نفسه، ص 188.
2- (2) کاظم علم داری، الأزمة العالمیّة ونقد نظریة صراع الحضارات، ص 78، «باللّغة الفارسیّة».

أمّا فی مجال نقد هذه النّظریّة فینبغی القول: إنّ افتراض الاستدلال الآنف غیر صحیح؛ وذلک لأنّ هنتیغتون یعتقد بأنّ المواجهة السّابقة فی مرحلة الحرب الباردة، قد حلّت محلّها المواجهة فیما بین الحضارة الإسلامیّة والمسیحیّة. وعلی هذا؛ أوّلاً: لا یمکن احتساب المواجهة فیما بین الغرب والشّیوعیّة مواجهة فیما بین حضارتین دینیّتین. ثانیاً: من الواضح أنّ أغلب النّزاعات والحروب الفعلیّة فی العالم لم تقم من خلال الدّین أو علی أساس محوریّته. ثالثاً: ینبغی أن لا نأمل خروج الحضارة الغربیّة منتصرة من هذه المواجهة وأن تعمّ العالم بعدها. و «أنّ المسلمین والحضارات الصّینیّة، الهندیّة، البوذیّة وغیرها ستسارع للالتحاق برکب اللیبرالیّة الغربیّة باعتبارها البدیل الأوحد عن هذه الحضارات».(1)

نقد نظریّة صراع الحضارات

1. إنّ الشّواهد والقرائن الّتی عُرضت لإثبات هذه النّظریّة لا تصل إلی درجة تستطیع معها إثبات کلّیاتها، وهی فی حدّ ذاتها أیضاً قابلة للمناقشة.(2)

2. إنّ هذه النّظریة تؤکّد علی المواجهة فیما بین الحضارات ولیس فیما بین الأمم والدّول، فی حال أنّ النّظریات المنافسة لها، تؤکّد علی العوامل السّیاسیّة، الاقتصادیّة والعسکریّة وعلی أنّ لها الدّور الأساسیّ والمحوریّ فی ذلک.

3. إنّ نظریّة هنتیغتون ترتکز علی تحلیل خاطئ وسطحیّ للإسلام، وبحسب تعبیر محمد علی إسلامی ندوش: «إنّ هنتیغتون لا یعرف الشّرق. فلایمکن النّظر إلی العالم الإسلامیّ بعین واحدة»، فالأمر الصّحیح هو عدم وجود آراء مشترکة حول الغرب فی العالم الإسلامیّ.

ص:128


1- (1) المصدر السّابق، ص 138.
2- (2) السّیّد صادق حقیقت، حوار الحضارات وصراع الحضارات، ص 35-40، «باللّغة الفارسیّة».

4. أوّلاً؛ إنّ هذه النّظریّة تفترض غرباً موحَّداً، ولکنّ القرائن تحکی عن خرق وصدع أصبح سافراً فی داخل الحضارة الغربیّة. ثانیاً؛ من غیر الواضح کیف یُلبس الحضارة الغربیّة لباساً مذهبیّاً ویبرّر الاتّجاه العلمانیّ لها فی حال أنّ أسسها الفکریّة والعلمیّة تؤکّد علی رفض المذهب.

5. النقطة الأخری فی هذه النّظریّة (صراع الحضارات) عدم الاعتداد بإمکانیّة التّعاون والتّعایش فیما بین الحضارات. فی حال إنّ التقارب فیما بینها والمیل نحو التّعامل والحوار هو أکثر قبولاً وذو قیمة استراتیجیّة. إنّ الإشکال الآخر الّذی یرد علیها تأکیدها علی محوریّة الدّین فی الحضارات العالمیّة المهمّة، ولکنّ هذه المسألة فی نظریّة هنتیغتون تتضمّن غموضاً کبیراً. و هو لم یُشر من جهة أخری إلی النّهایة غیرالعقلانیّة والخطیرة لصراع الحضارات. ثالثاً؛ إنّ هذه النّظریة تتضمّن تناقضاً داخلیّاً؛ لأنّه یؤکّد علی الدّور البارز للدّین فی عملیة صراع الحضارات، ولکنّه یحدّد العوامل المصیریّة للحضارة الغربیّة بالعامل الاقتصادیّ، العسکریّ، السّیاسیّ والتّقنیّ. ثمّ من غیر الواضح ما المراد من کون الحضارة الغربیّة دینیّة.

6. إنّ هذه النّظریة لا تأخذ بعین الاعتبار الضّعف والأزمات غیر القابلة للحلّ فی الحضارة الغربیّة والّتی برزت نتیجةً لإتّجاهها العلمانیّ واضمحلال القیم الإنسانیّة والأخلاقیّة فیها.

7. إنّ هنتیغتون فی نقده لنظریّة العالم الواحد، یعتقد بوجود تعارض فیما بین الأدیان والثّقافات، و أنّ الدّین یعدّ الهویّة الأساسیّة للمجتمعات والحضارات الفعلیّة. فهو یقول: «إنّ للدّین فی عالم الیوم مرکزیّة مشهودة، ومع وجود الهویّة الدّینیّة والتّعارض فیما بین الأدیان والثّقافات؛ لا یمکن تحقّق الحضارة العالمیّة الواحدة». وللإجابة علی ذلک ینبغی القول: إنّ الشّواهد الخارجیّة والتّاریخیّة تدلّل علی أنّ التّعارض الموجود هو قومیّ

ص:129

ووطنیّ ولیس دینیّاً وحضاریّاً، إنّ السّبب الأساسیّ للحروب التّاریخیّة، والتّمایز فیما بین المجتمعات کان یرتکز علی عامل القومیّة واللّغة أکثر منه علی الدّین والثّقافة. فعلی سبیل المثال، نحن نشاهد مجتمعات متعدّدة ذات لغات وقومیّات مختلفة غیر مجتمعة علی مذهب واحد، کالدول المسیحیّة والإسلامیة، ولکنّ هویّتها الوطنیّة، اللّغویّة والثّقافیّة تبلورت من خلال العِرق، اللّغة، الثّقافة وتاریخها الأصیل. فإذا کان الدّین هو المحور للحضارة والثّقافة فینبغی أن یکون للمجتمعات المسیحیّة أو الإسلامیّة ثقافة شاملة وواحدة، ومن جهة أخری، ومن خلال الشّواهد التّاریخیّة والدّراسات الّتی أجریت فی مجال الحضارات البشریّة، تؤکّد علی وجود عوامل متعدّدة لبروز ونموّ الحضارات وأفولها وانهیارها، والّتی غدت محطّاً لأنظار علماء الثّقافة والاجتماع. ومن هنا، ولأجل عوامل متعدّدة أخری لا یمکن أن یکون الدّین هو العامل الأساسیّ والبارز للحضارات الفعلیّة، وعلی هذا الأساس فسّرت هذه النّظریّة صراع الحضارات علی أنّه مواجهة فیما بین الأدیان والثّقافات.

علاقة الشّرق والغرب

النّظریّة الثّانیة: التّعامل المتبادل بین الشرق والغرب.

إنّ بعض الباحثین(1) والتّجدیدیّین قاموا ببیان علاقة الشّرق و الغرب مؤکّدین علی أهمیّة الاقتباس والاستفادة من التّقنیة الغربیّة، اعتقاداً منهم بأنّ الغرب یمکنه إهداء مکاسبه المهمّة العلمیّة والاقتصادیّة وغیرها للشّرق، وأنّ الشّرق یمکنه إعارة معنویّاته وقیمه الإنسانیّة الأصیلة وفنّه الباهر للغرب. ویستطیع الاثنان من خلال الحرکة والنّشاط الدّائب للمجتمع البشریّ

ص:130


1- (1) السید حسن نصر، و من ضمنهم المفکّر والعالم الإسلامیّ الإیرانیّ.

التّعاون من أجل تکمیل بعضهما البعض. «إنّ الّذین یعتقدون بالتّلفیق، ینقسمون إلی صنفین: فصنف یفرّق فیما بین مفاهیم الحضارة والثّقافة ویوافق علی الاستفادة من الحضارة الصّناعیّة مع الحفاظ علی ثقافته الوطنیّة». وصنف یفرّق فیما بین مادّیّة الحضارة الغربیّة ومعنویّة الحضارة الشّرقیّة، ولکنّه یعتقد بإمکانیّة التّلفیق فیما بین الاثنین، إنّ بیان وتحلیل کلٍّ من هذه النظریّات یرتبط بالإجابة علی المشاکل النّظریّة لهذه النّظریّات والّتی لا یسعها المجال الآن. ولکون القیام بهذه العملیّة یعدّ من الجوانب الأساسیّة لنظریّة (عولمة العصرانیّة) والّتی لم تغب عن بال الباحثین مطلقاً. و «إنّ هذه المعرفة والاتّجاه نحو تطبیق الحقائق الدّینیّة مع الفکر اللادینیّ والدّفاع، من خلال قراءة واحدة عن حقائق الأدیان الأخری فی مقابل المؤخذات والادّعاءات الّتی تدور حولها، یزداد أهمیةً علی غیره بین التّنویریّین والمفکّرین الدّینیّین».(1)

اموس وبودیار یشیر فی تحلیله النّقدی للعصرنة الغربیّة إلی هذه الحقیقة وهی أنّ الشّرق یعدّ مرآةً للغرب وبإمکان الشّرق إعطاء الغرب ما لا یمکنه الحصول علیه فی أقطاره. ومن المتیقّن أنّ الاختلاف الجوهریّ والأساسیّ فیما بین الشّرق والغرب هو فی هذه النّقطة بالذّات وأنّ الشّرق یعدّ متنفّساً للغرب للخروج من أزمته الفکریّة والثّقافیّة والمعنویّة، وساحة تتبلور فیها القیم الإنسانیّة، الّتی بإمکانها المساعدة فی إخراج الغرب من محنته ومعضلاته تلک.

إنّ الشّرق باعتباره مهد الحضارات والأدیان السّماویّة والعرفانیّة، یمتلک محفّزات واسعة لجذب انتباه الغرب واستطاع التّأثیر علیه من خلال نقد العصرنة وقراءة الغرب من جدید.

ص:131


1- (1) هوبرماس، العولمة ومستقبل الدّیمقراطیّة، ص 184، «التّرجمة الفارسیّة».

الحصیلة

تعرّضنا فی هذا الفصل لتحلیل علاقة العولمة بالثّقافة والآراء المطروحة فی هذا المجال، وأشرنا إلی أنّ أغلب المفکّرین مع أنّهم یذعنون بعدم إمکانیّة اجتناب التّبادل الثّقافیّ والارتباط فیما بین الحضارات، فقد اتّخذ کلّ منهم اتّجاهاً مختلفاً فی مجال وضع الثّقافات فی إطار عملیّة العولمة. وقد طُرحت عموماً ثلاثة اتّجاهات من الممکن أن تتعرّض للتّحلیل والدّراسة:

1. دراسة إمکانیّة العولمة الّتی هی بمعنی سیطرة ثقافة ما أو حاکمیّة ثقافة عالمیّة واحدة.

2. دراسة نظریّة صراع الحضارات والثّقافات ونظریّة نهایة التّاریخ.

3. إنّ السّاحة المستقبلیّة للثّقافات والأدیان من الممکن أن تکون ساحة للتّعامل والحوار فیما بین الثّقافات والحضارات.

و قد أثبتنا وبأدلة وافرة أنّ الصّورتین الاحتمالیّتین الأولی والثّانیة لایمکن تحقّقهما من النّاحیة الخارجیّة والواقعیّة، ولا تمتلکان أدلّة کافیة وأسساً منطقیّة من النّاحیة العقلیّة. إنّ عولمة الثّقافات بمعنی توحّدها یواجه موانع ومشاکل لا تحصی. وأنّ نظریة صراع الثّقافات بدورها لا تنطوی علی أسس علمیّة وأدلّة عقلیّة کافیة، ومن جانب آخر، فإنّ تفسیرها المنحاز والخطیر قد تمّ نقضه وإبطاله من خلال الشّواهد التّاریخیّة والخارجیّة. فلذا یمکن لمس النّتیجة وهی أنّه سیکون الوجه المعقول والمحتمل لقبول التّعددیّة الثّقافیّة والتّعایش والتّعامل فیما بین الثّقافات هو الاتّجاه العالمیّ.

إنّ التّبعیّة المتبادلة فیما بین الثّقافات والتّواصل الثّقافیّ الواسع أخلی مکانه للثّقافة العالمیّة الواحدة والمتّحدة والّتی ارتبطت والتّحمت نظراً للأهداف والمصالح والمخاطر المشترکة. إنّ العولمة الثّقافیّة أو الثّقافة العالمیّة والّتی تتمخّض من خلال اندماج الثّقافات، تؤدّی إلی زوال الثّقافات

ص:132

المتعدّدة. فهل تمتلک هذه النّظریّة أدلّة وشواهد کافیة فی هذا المجال؟ وما هی الأسباب والعلل الّتی تجعل الثّقافات الأخری تستسلم وبسهولة إلی مقتضیات العولمة؟ هل أنّ الثّقافات وبسبب عدم القابلیّة والتّناغم مع الظّروف الجدیدة، فقدت قدرتها علی المنافسة؟ أم أنّها بسبب عدم امتلاکها لأدوات العولمة وللتّطوّرات العالمیّة السّریعة تسیر نحو الاضمحلال؟

لقد تبیّن واتّضح أنّ المدافعین عن هذه النّظریّة لم یطرحوا أسباباً کافیة یمکن قبولها فی مجال (الثّقافة العالمیّة الواحدة). إنّ الثّقافات الأخری مع أنّها لا تمتلک القدرة علی مواجهة الضّغوط التّماثلیة للعولمة، ولکنّها ومع إعادة بناء نفسها والاستفادة من ظروف وفضاءات العولمة یمکنها الاستمرار فی المقاومة وضخّ أهدافها وقیمها، واستثمار أدوات وأسباب العولمة لنشر أهدافها وتوجّهاتها. وخصوصاً من خلال التّفسیر الّذی یفسّر العولمة علی أساس النّظریّات الّتی تعتبرها بمثابة عولمة العصرانیّة، الاتّجاه نحو الشّمولیّة، المرکزیّة والوحدة؛ ولکنّ العولمة وبناءً علی مکوّنات ما بعد العصرنة لا تقتضی ذلک، وإنّما تؤدّی هی أیضاً إلی تعزیز التّعدّدیّة الثّقافیّة، وتُوجد ثقافات متنوّعة ومتعدّدة وقنوات واسعة ومفتّتة.

وفی هذا الوسط سیکون الخاسر الوحید من بین الثّقافات الثّقافة الّتی تقف معارضة لعملیّة العولمة، أمّا بقیة الثّقافات فبإمکانها الاستفادة من فضاء العولمة بالشّکل المطلوب، وعرض متاعها علی أبناء البشریّة بکافّة مللهم.

ص:133

ص:134

القسم الثّانی: إفرازات العولمة

اشارة

ص:135

ص:136

إفرازات العولمة

اشارة

إنّ العولمة وکما مرّ فی الصّفحات المتقدّمة ذات أبعاد واسعة ومتنوّعة، فمن الطّبیعی أن تتمخّض عن آثار ونتائج تتمیز بالسّعة والتنوّع أیضاً، ویمکن إیجازها بالأبعاد الأساسیّة (الاقتصادیّة، السّیاسیّة، الاجتماعیّة والثّقافیّة)؛ وبما أنّ هذا البحث ذو اتّجاه نظریّ ومعرفتیّ؛ فسنقتصر علی الإشارة إلی أهمّ نتائجها الثّقافیّة والاجتماعیّة، ونوکل النّتائج الاقتصادیّة والسّیاسیّة إلی المختصّین فی هذین المجالین.

العولمة و التعولم

إنّ قضیة التّعولم تعدّ من أهمّ الهواجس الفکریّة فی العصر الحالی وعلی جمیع الأصعدة الّتی سبقت الإشارة إلیها، وقد برزت من خلال النّموّ العلمیّ والتّقنی وتسبّبت فی طیّ الحدود وانتشار تداول المعلومات والتبادل العلمیّ والثّقافیّ فیما بین دول العالم ومؤسّساته.

وفی مقابل التّعولم، تقف العولمة بمشروعها المضاد للعلم وبنظریّتها السّلطویّة والسّیاسیّة والّتی خُطط لها علی أسس سیاسیّة، والّتی تحاول

ص:137

جعل النّظام اللیبرالیّ الغربیّ نظاماً عالمیّاً محوریّاً وإعطائه بعداً فکریّاً. ومن هنا؛ فإنّ إجبار الأمم والثّقافات الأخری علی اتَّباع هذا النّظام یتسبّب فی نتائج خطیرة وأزمات عمیقة. وعلی خلاف (التّعولم) الّذی یعدّ عملیّة وصیغة وتحوّلا یشمل کافّة الجوانب التّاریخیّة والثّقافیّة والاجتماعیّة والتّقنیّة والّذی ینشأ من عوامله الطّبیعیّة الخاصّة به، أمّا العولمة فما هی إلّا مشروعاً مضادّاً للعلم وبرنامجاً سیاسیّاً واقتصادیّا غربیّاً یهدف إلی السّیطرة علی جمیع مصادر الثّروات فی العالم من خلال إزالة الحدود السّیاسیّة والثّقافیّة والاقتصادیّة. وبناءً علی هذه النّظرة فإنّ (التّعولم والعولمة) سواء کانت مشروعاً أم موضوعاً فهی قد ابتنیت علی أسس الحضارة الغربیّة. لذا؛ فإنّ هذه العملیّة سواء فُسرت حسب أسس العصرنة أو حسب نظریّات ما بعد العصرنة أو بعنوان نشر الرأسمالیّة؛ لا یوجد أدنی شکّ فی التّغییرات الأساسیّة الّتی أحدثتها علی مختلف الأصعدة وربّما کان بإمکانها المساعدة فی حلّ المعضلات والمشاکل الفکریّة والاجتماعیّة والاقتصادیّة وأزمة الهویّة الوطنیّة، ولکنّ جوانبها السّلبیّة غطّت علی جوانبها الإیجابیّة باعتراف أغلب المفکّرین والنّقاد.

فنحن لم نشاهد مطلقاً وعلی مرّ التّاریخ فرض نموذج ثقافیّ معیّن علی العالم وبهذه الدّرجة من السّرعة. نموذج ألقی بظلاله الکثیفة وبشکل واسع علی البنی السّیاسیّة والاقتصادیّة والثّقافیّة لباقی المجتمعات. فالثّقافة الغربیّة بفرض نفسها علی الثّقافات الأخری، من خلال الاستفادة من الموارد المالیّة والمعلوماتیّة والتّقنیّة الفنیّة المتقدّمة فی عملیة التّعولم؛ عملت علی إضعاف وتدمیر کافّة الثّقافات، وأدّت إلی تمییع التّقالید المحلّیّة والتّراث الأصیل والتّعالیم المذهبیّة باستخدامها وسائل الغزو الإعلامیّ من الأنترنیت، الأقمار الاصطناعیّة، التّلفاز والإذاعات العالمیّة، السّیاحة، تصدیر السّلع وفرض اللّغة

ص:138

الانجلیزیّة باعتبارها لغة العلم والمعلومات، وترویج النّزعة الاستهلاکیّة والتجدیدیّة، وإشاعة اللیبرالیّة فی کافّة مجالات الحیاة والدعوة إلی العلمانیّة، وتمکّنت بذلک من توسیع سیطرتها علی العالم.

وقد حملت عولمة الرأسمالیّة والأنظمة المرتبطة بها؛ بین طیّاتها نوعاً من النّزعة التّجدیدیّة ومعارضة التّقالید والآداب ممّا لا ینسجم والهویّات التّاریخیّة والمذهبیّة الأصیلة. وقد فرضت هذه الثّقافة مستلزماتها الخاصّة علی باقی المجتمعات، کالأخلاق المتعلّقة بالطّبیعة الّتی أتحفتنا بالمشاکل البیئویّة، والأخلاق المتعلّقة بالتّنمیة النّاجمة عن الشّرخ الواسع فیما بین الأثریاء والفقراء والّذی هو فی حال اتّساع متزاید تنوء البشریّة بعبئه الثّقیل، وأخلاق عبادة الثّروة والتّرف والتّرفیه والتّنعم والاستهلاک، والأخلاق العلمیّة الجافّة الّتی تُنکر وبشدّة الالتزام بالأخلاق والقیم الدّینیّة، والهندسة الجینیّة والّتی تخوّل لنفسها تغییر کلّ ما یتعلّق بأسس جمیع المظاهر الحیاتیّة.

ففی جمیع المجالات المتقدّمة لا یمکن التّحدّث عن القیم والضّوابط العالمیّة؛ کحقوق الإنسان، الحفاظ علی الطّبیعة، الأمن العالمیّ والعدالة العالمیّة دون اعتماد أسالیب جماعیّة وعقلانیّة وتفاهمیّة.

ونظراً لهیمنة الثّقافة الحدیثة علی عالم الیوم واتّساع الأزمة المعاصرة عالمیّاً فإنّ الظواهر الّتی تبرز هنا وهناک تعدّ خطیرة جدّاً مهما بدت تافهة وصغیرة حتّی لقد خیّم علی الإنسانیة نوع من الشّلل والعجز المهول إلی درجة وکأنّ العالم فی انتظار معجزة ما «إنّ التّجارب البشریّة المؤلمة، الثّورات السّاعیة نحو العدالة، الأحلام المدنیّة العصیّة علی التّحقّق، النّزعات الدّیالکتیکیّة، الفلسفات الاجتماعیّة المتعدّدة، کالمارکسیّة، اللیبرالیّة،

ص:139

الوجودیّة... الخ، کلّ ذلک ألقی بظلاله الکثیفة علی الفکر والنّفس الإنسانیّة، وأوجد ثقافة معقَّدة ومأساویّة ومضلّلة».(1)

إنّ هذا البعد المأساویّ للفکر الغربیّ، والعدمیّة اللاذعة والهدّامة؛ ینعکس من خلال بعض المظاهر الخدّاعة وجذّابیّة السّلع الکمالیّة الأنیقة والتّقنیة الغربیّة الّتی ربّما تکون خافیة علینا بعض الشیء ولکنّها تنمّ عن أزمة ثقافیّة عمیقة.

ص:140


1- (1) تحت سماوات العالم (حوار شایکان داریوش مع رامین جهانیلکو).

1. آثار العولمة علی الثّقافات

اشارة

یقول ورنر شاب: «إنّ العالم یمرّ فی حالة تغییرات تنشأ عنها تحوّلات أخری کان لها وجود سابق فی تاریخه المنصرم».

إنّ العالم فی حال توحّد وتصاغر وتحوّل إلی سوق مشترکة، وإنّ القریة العالمیّة الّتی تکهّن بها مارشال ماک لوهان فی طریقها للتّحقّق. وقد قال بطرس غالی الأمین العام السّابق للأمم المتّحدة یوماً: «نحن نحیا فی صمیم ثورة عالمیّة، فکوکبنا الأرضی هذا یتعرّض لضغوط متزایدة ومتضادّة من جهتین: موجة العولمة والنزعة نحو التفتّت والتشتّت».(1)

إنّ العالم القادم سیکون عالماً بلا حدود، عالماً واسعاً غیر قابل للسّیطرة، عالم الاتّصالات الّتی لا تحصی والتّطوّرات الخاطفة، عالم المتضادّات والغموض، عالم التّجدّد والاختراق، عالماً موحشاً ومجهولا.

أثر المجتمع المعلوماتی علی حیاة الإنسان

إنّ التّقدّم التّقنیّ من الممکن أن یعرّض المجتمع لمزید من الأضرار، و

ص:141


1- (1) هانس بیتر وهارولد شومان، فخّ العولمة، ص 101.

خصوصاً من خلال انتشار الوسائل والمنتجات الألکترونیّة. وسیتنامی ارتباط الأفراد والدّول مع بعضهم البعض بسبب زیادة إمکانیّة الحصول علی المعلومات الفوریّة. وهذا ما سیؤدّی إلی تشابک وتداخل وتعقید غالبیّة المؤسّسات والمجتمعات. إنّ مراکز الاتّصال ومصارف عرض المعلومات تُشبه إلی حدّ ما عمل جذور الأعصاب، ولکن تحدید ما هو الإفراز الاجتماعیّ الأعمق ومعرفة نفسیّة المجتمع المعلوماتیّ أکثر صعوبة من ذلک.

وحسب وجهة نظر بعض المفکّرین فإنّ: (تقنیة وسائل الاتّصال جعلت الثّقافات العالمیّة المتعدّدة فی حالة تواصل واحتکاک ومواجهة مستمرّة، ولکن ینبغی أن لا نتوقّع فی الظّرف العالمیّ الفعلیّ تکافؤ نصیب الأمم والثّقافات المتعدّدة فی الفرص والأخطار الّتی تواجهها. إنّ عصر المعلومات یتَّسع تأثیره شیئاً فشیئاً علی دائرة الدّین؛ حتی شمل أیضاً الأسالیب الّتی تتّبعها الأدیان والمذاهب فی تعلیم و نشر مفاهیمها و عقائدها، و أصبحت جمیع الأدیان و المذاهب فی معرض غزو تلک المعلومات القادمة من خارج حدوها الوطنیّة: «إنّ المعلومات الدّینیّة وأسالیبها الدّعوتیّة ستُعرَض بشکل یختلف وأسالیب المعرفة السّابقة».(1)

تبلور قیم الثّقافة الجدیدة
اشارة

الوین تافلر فی کتابه (الموجة الثّالثة) یرسم عالماً یکون فیه الوفاق والوئام مع المعطیات النّاجمة عن صراع وتصادم الموجات التّاریخیّة واضحاً وضروریّاً، والّذی سیؤدّی إلی زوال الحدود السّیاسیّة والسّعی نحو الوحدة والتّبعیّة المتبادلة وشمولیّة القیم الثّقافیّة الجدیدة.

أمّا آل دوس هکسلی فهو أیضاً یتحدّث فی کتابه (عالم جدید مذهل)

ص:142


1- (1) اینو باتاکا، الإعلام المذهبیّ فی عصر المعلومات «التّرجمة الفارسیّة لفیروزه درشتی».

عن عملیة العولمة ویقرّر بأنّ الثّقافة والقیم الإنسانیّة والتّاریخ البشریّ ستطوی فی درج النّسیان، ویفقد فیها الإنسان إرادته وإحساسه، ویقتصر علی تلبیة رغباته فی الرّخاء والتّقدّم والتّنوّع والتّسلّی بصناعاته وتقنیاته. فإنّ (الإنسان المصطنع) حسب تعبیره سیکون مقیّداً فی حکومة عالمیّة واحدة تحصی وتراقب وتسیطر علی کلّ شیء بنظام حدیدیّ صارم، عالم یستحیل فیه الإنسان والفکر والثّقافة.

هناک اعتقاد بأنّ العولمة تسیر نحو إیجاد صیغة ثقافیّة وسیاسیّة تماثلیة وتناغمیّة حیث تضمحل فیها الثّقافات المحلّیّة، ویری فوکویاما:

بأنّ عملیّة العولمة جلبت معها ثقافة استهلاکیّة غربیّة (الأقمار الاصطناعیّة، التّلفاز، هولیود... الخ) وتسبّبت کذلک فی إیجاد نوع من عدم المساواة وعدم تکافؤ الفرص، ولکنّی أعتقد بأنّ العولمة تؤدّی إلی التّرابط المالیّ والاقتصادیّ بین جمیع دول العالم.(1)

إنّ إحدی الآثار السّلبیّة للعولمة الثّقافیّة تتمثّل فی عملیّة (العلمنة)، فقد أوجب هذا الاتّجاه الثّقافیّ الغربیّ محو قداسة الشّؤون الثّقافیّة والاجتماعیّة والأخلاقیّة قاطبة. وتقوم العولمة حالیاً بترویج ثقافتها هذه عن طریق شبکات الاتّصال ووسائلها الأخری، ویعدّ الوضع التّضادیّ فیما بین العلم والدّین، العقل والدّین، عدم تلائم الدّین مع الحرّیّة، الدّین والدّنیا، الدّین والتّنمیة، الدّین والتّجدّد، أسطوریة الدّین، خصخصة الدّین والإیمان، یعدّ کلّ ذلک من علائم شیوع فکرة ثقافة الاتّجاه العلمانیّ (اللادینیّ) ونفوذ ثقافة الغرب فی المجتمعات الأخری. فراج من خلال ذلک الانفلات الأخلاقیّ والاجتماعیّ، عدم المبالاة، النّزعة الاستهلاکیّة، النّزعة النّفعیّة، عدم تحمّل المسؤولیّة وتهمیش القیم الدّینیّة والأخلاقیّة.

ص:143


1- (1) فوکویاما: نهایة التاریخ.
1-1. استراتیجیّة الثّقافات فی مواجهة العولمة

یشیر نیل بوستمان(1) إلی عالم هکسلی:

حیث یعتقد بأنّ سعی صنّاع الثّقافة من أجل استسلام الإنسان؛ المطلق وغیر المشروط والمنفعل للموجات الشّمولیّة لثورة المعلومات ووسائل الإعلام، یعدّ عامل القلق الأساسیّ لعالم الیوم، ویحذّر البشریّة من الاغترار والولع بعالم هکسلی الخیالیّ والمشوّق، العالم الّذی تتحوّل فیه السّیاسة والثّقافة إلی وسیلة للإغراء والغربة النّفسیّة».(2)

وتتعرّض الثّقافات الأخری للتّدمیر من قبل ثقافة العولمة الغربیّة.

فما هی وسائل الثّقافات الأخری لمواجهة المدّ المروّع لعملیّة عولمة ثقافة الغرب؟ وتقوم المجتمعات فی هذا الاتّجاه وفی أغلب نقاط العالم باتّخاذ أسالیب متنوّعة لمقاومة الاستحالة الثّقافیّة واضمحلال الهویّة الثّقافیّة الأصیلة، ومنازلة ومنازعة الثّقافة الغربیة. وتسبّب ذلک فی بروز اتّجاهات مذهبیّة وحرکات اجتماعیّة ونقابیّة وبیئویّة متعدّدة.

وتزامن هذا الاندماج العالمیّ للثّقافات المتنوّعة مع مسار واتّجاه معارض ورافض أیقظ الأمم والشعوب وأثارها للسّعی لاستعادة تقالیدها و تاریخها وثقافتها الرّفیعة واکتساب هویّة جدیدة.

ولأجل هذا؛ ونظراً لمخاطر وإفرازات العولمة ینبغی التّوجّه إلی المسائل المعنویّة والشّعور بالقیمة العلیا للرّوح الإنسانیّة وللدّعوات الّتی طالما انطلقت فی أوساط جمیع المجتمعات لصیانة حرمة الأدیان والثّقافات. وبتعبیر سلاف هافل: «نحن نعیش مدنیّة عالمیّة واحدة... فقد استظلّت جمیع الثّقافات، الأمم والأدیان، السّنن التّاریخیّة والأفکار بسقف مدنیّة عالمیّة».(3)

ص:144


1- (1) . neil postman.
2- (2) علی أصغر کاظمی، عولمة الثّقافة والسّیاسة، ص 288، «باللّغة الفارسیّة».
3- (3) الثورة العالمیّة الأولی، ص 2، «باللّغة الفارسیّة».

«وللرّدّ علی الضّغوط التّماثلیّة للثّقافة المادّیّة؛ غالباً ما تظهر منظومات جدیدة تعمل علی بلورة ثقافات ارتباطیّة وهجینة متنوّعة بدل أن تحاول المقارنة بین الاختلافات الثّقافیّة».(1)

ومن خلال تشتّت الأنظمة التّقلیدیّة والأسس الثّقافیّة فی عملیّة العولمة؛ تبرز ردود الأفعال والانفعالات الاجتماعیّة علی شکل حرکات مقاومة للاستعمار تتمیّز وتتّسم بالقیم العقلانیّة وتمتلک القابلیّة علی أن تکون جواباً شافیاً وموفّقاً علی ذلک. ولإثبات هذه الدّعوی ینبغی إثبات کون هذه الحرکات لها القدرة والقابلیّة علی تحمّل عبء الوحدة المتناقضة للنّشوء والسّلوک.

ویحدّد هوبرماس بعض الوظائف الّتی تؤدّی إلی عقلنة عالم الحیاة:

1. ینبغی أن تتّسم السّنن الثّقافیّة بالانسجام والتّوافق.

2. ینبغی أن تکون العادات والقیم فی خدمة وحدة وتکاتف الطّوائف والمجموعات.

3. علی الجیل الجدید التّوصل إلی السّلوک الاجتماعیّ المقبول.

إنّ نظریة هوبرماس الّتی تقوم علی أساس عقلنة عالم الحیاة فی مقابل أن یکون مستعمرة؛ تعتقد بأنّه من الممکن استمرار السّنن الثّقافیّة والوظائف المتّحدة والمتناغمة للعادات والقیم والتزام الجیل الجدید، بأن یکون اجتماعیّا (بدل أن یکون فردیّاً)، وذلک من خلال عملیّة الإدراک والتّفاهم العلاقاتیّ.(2)

إنّ نظریّة الانفعال التّفاهمیّ لمفهوم عالم الحیاة فی نطاق نظریّة اکتساب العقلانیّة الاجتماعیّة؛ هی فی صدد بیان انفصال عملیات النّظام المفتوح للنشوء الاجتماعی.

ص:145


1- (1) هوبرماس، العولمة ومستقبل الدّیمقراطیّة، ص 114، «التّرجمة الفارسیّة».
2- (2) العصرنة والتّعصرن، ص 196، «باللّغة الفارسیّة».
2-1. العولمة وتعارض الثّقافات

یعتقد مارکس بأنّ الفارق الثّقافیّ یعدّ سبباً للتّوتّر والنّزاع والتّعارض، ویوجد أزمات عالمیّة لا یمکن حلّها إلّا من خلال حذف أحد الطّرفین، وأنّ الحرب فیما بین الثّقافات حرب لا نهایة لها.

إنّ العولمة الفعلیّة تعدّ اضمحلالاً حضاریّاً وفرصة لبروز ثقافة مرکّبة وجدیدة، أیّ؛ إیجاد فضاء مشترک للإبداع والإنتاج الثّقافیّ، والتّمهید لحصر التّأثیر بالقوی العظمی عن طریق امتلاکها التّقنیات الحدیثة والإمکانات المادّیّة والقدرة الأکبر فی الاستفادة من شبکات الاتّصال العالمیّة، وتعریض سائر الثّقافات الأخری الّتی لا تمتلک ذلک إلی الهزیمة والاندحار والوقوع تحت سیطرة الثّقافة العولمیّة الغربیّة.

من دون شکّ إنّ العولمة ترافقت مع ظاهرة أخری الا وهی (الغربنة) أو العولمة أحادیّة الجانب، والّتی «تهدّد فیها الدّول الغربیّة العصریّة الثّقافات الأخری، من خلال الاستفادة من التقنیة المتقدّمة والعلوم الاستراتیجیّة وصناعة النّماذج الثّقافیّة».(1)

إنّ هذا الاتّجاه برز فکریاً فی نظریات بعض المفکّرین الغربیّین، وخُطط له و أُقرّ عملیّاً من قبل صنّاع السّیاسة الغربیّین وقادتهم. فهنتیغتون الّذی یعدّ من المنظّرین والاستراتیجیّین الغربیّین، وفی نطاق نقده نظریّة (الحضارة العالمیّة الواحدة) واعتقاده بتعارض الأدیان والثّقافات؛ اعتبر الدّین هو الهویّة الأساسیّة للمجتمعات، فیقول: «یتمتّع الدّین فی عالمنا المعاصر بمرکزیّة ومحوریة، وأنّ الهویّة الدّینیّة للثّقافات السّائدة والتّعارض الموجود فیما بین الأدیان والثّقافات یقضی علی إمکانیة تحقّق الحضارة العالمیّة الواحدة».(2)

ص:146


1- (1) (مصدر العولمة، اضمحلال الثّقافة و أزمة الهویّة) صحیفة همشهری، 2003، «باللّغة الفارسیّة».
2- (2) کاظم علم داری، نقد نظریّة صراع الحضارات، «باللّغة الفارسیّة».

وفی الجواب علی ذلک ینبغی القول: إنّ الشّواهد الواقعیّة والتّاریخیّة تدلَّل علی أنّ أهمّ عوامل الصّراع الإجباری فیما مضی هی المسائل القومیّة ولیست الدّینیّة أو الحضاریّة، وأنّ انقسام المجتمعات کان یرتکز علی أساس القومیّة أکثر منه علی الدّین والثّقافة.

ایزابیل مونال ذات الاتّجاه الشّیوعیّ تقول فی روایتها للتّطوّرات العالمیّة: «إنّ المجتمع الواحد فی المقیاس البشریّ یعنی فی الواقع إیجاد ظروف، لعدم المواساة علی المستوی العالمیّ فی ظلّ حکومة واحدة».(1) ویأتی الحلّ فی نظرها من خلال العمل علی «بسط العدالة والمساواة عالمیّاً بادئ الأمر، ثمّ السّعی لتأسیس هذا المجتمع الواحد». ومن البدیهی أنّ مثل هذا الحلم لایمکن تحقّقه مطلقاً، وأنّ هذه الوحدة غیر مرغوب فیها وغیر ممکنة عملیّاً. إنّ الدّخول إلی المجتمع العالمیّ بشکل متکافئ تعدّ فکرة ساذجة ومجرّد حلم لا یمکن تطبیقه علی أرض الواقع لعدم تکافؤ الثّقافات أساساً. ومن هنا فإنّ بسط المساواة فی المجتمع العالمیّ یؤدّی إلی زوال ومحو التّنوّع الثّقافیّ. أضف إلی ذلک أنّ فکرة المساواة لیس لها معنی واحداً ومشابهاً علی مستوی کافّة الثّقافات. ولهذا فإنّ الدّخول المتکافئ والحرّ وإن حدث بلا ضغوط فستکون نتیجته الاستسلام الثّقافیّ لثقافة أقوی وأقدر، «إنّ المجتمع العالمیّ کمیدان للأفعال والانفعالات المترابطة والّتی تمتزج فیها العوامل السّیاسیّة لایمکن أن تتحقّق فیه ثقافة متماثلة وواحدة، بل إنّ ندرة الثّقافة الأصیلة کندرة الأمّة والعِرق الأصیل».(2)

ومن خلال محصّلة المسائل الّتی تعرّضنا لنقدها ومناقشتها نستنتج أنّه بسبب الضّغوط التّماثلیّة للعولمة سیبرز النّزاع فیما بین التّقالید والهویّة والقیم؛

ص:147


1- (1) جنکیز بهلوان، علم الثّقافة، ص 479، «باللّغة الفارسیّة».
2- (2) المصدر نفسه، ص 540.

الوطنیّة وما فوق الوطنیّة. إنّ التّحقیقات المتعلّقة بمعرفة الإنسان الجدید تشیر إلی أنّ الجدل یحکی عن أنّ توازن الثّقافات من جهة، والافتراق الخلّاق لها من جهة أخری یؤدّی إلی اتّساق الثّقافات الأصیلة فی منظومات جدیدة للرّدّ علی الضّغوط التّماثلیّة للثّقافة المادّیّة العالمیّة. وبدل أن تخوض فی تمییز الاختلافات الثّقافیّة، تسعی لتأسیس صیغ ثقافیّة جدیدة ومتعدّدة. فعلی سبیل المثال؛ الهجرة غیر المقصودة، وسائل الاتّصال الواسعة والترکیبات العِرقیّة عرّضت الاتّجاهات الدّینیّة والثّقافیّة والوطنیّة لتغییرات عمیقة. فهل نحن نعیش حالة تماثل وتجانس ثقافیّ فیما بین الأمم أم لا؟ وهل من الممکن تحقیق الثّقافة العالمیّة الواحدة؟ وهل من الممکن أن تتبلور ثقافة عالمیّة فی ظل حاکمیّة الدّولة - الشّعب أم لا؟.

ولو افترضنا إمکان ذلک، فما هو السّبیل لتبلور ثقافة عالمیّة؟ وللإجابة علی هذه الأسئلة یمکن عرض بعض الآراء فی هذا المجال:

1. نظریّة النّزعة التّکاملیّة؛ وتعتقد هذه النظریّة بأنّ مسار العولمة یحافظ علی نموّ الثّقافات الأصیلة، وتتعرّض الثّقافات الوطنیة للتّغییر فی عملیّة تبلور ثقافة عالمیّة، ولکن الثّقافة العالمیّة بذاتها لا یمکنها إضعاف الثّقافات الدّینیّة والوطنیّة والقضاء علیها؛ لأنّ الأنظمة القیمیّة وسلوکیّات وعادات الثّقافات الأصیلة هی علی درجة من القِدم والقدرة لا یمکن معها إجبارها علی الانسحاب وإخلاء مکانها للخصوم، وأنّ الثّقافات الوطنیّة تستطیع ضمن المقتضیات الجدیدة إدامة حیاتها وأن لا تتعرّض للاستحالة فیما لو کانت متجدّدة ومنتجة ومندمجة فی إطار أصولها الدّینیّة والأخلاقیّة.

2. نظریّة المؤامرة أو (نزعة الهیمنة)، وتری هذه النّظریّة أنّ ثقافة العالم المستقبلیة ستشهد ثقافة إمبریالیّة وغربنة وأمرکة الثّقافات فی العالم. وتعبّر هذه النّظریّة عن رأی أغلب المنظّرین والمفکّرین وعلی رأسهم فوکویاما.

ص:148

3. نظریة صراع وتضادّ الحضارات؛ وأوّل من طرح هذه النّظریّة برنارد لویس وتبعه فی ذلک هنتیغتون.

4. نظریة التّعدّدیّة الثّقافیّة؛ والّتی یعتقد بها الحداثویّون.

5. نظریة النّزعة الوحدویّة غیر التّسلّطیّة؛ إنّ أحد الذّین تعرّضوا لمبحث الثّقافة فی إطارها العالمیّ هو والرّشتاین. فبطرحه نظریّة الأنظمة العالمیّة یری أنّ نظریّته هذه ترتکز علی منطق خاص. ویحلَّل ذلک علی أساس أنّ الاقتصاد العالمیّ وبالتکدّس غیر المحدّد لرأس المال ومن خلال نهایة الرأسمالیّة؛ یؤدّی إلی إیجاد مشاکل للثّقافات، وفی الواقع أنّ عولمة الاقتصاد یؤدّی إلی عولمة نوع خاصّ من الثّقافة تنعکس مقتضیاتها علی شکل انفصام وانشراخ فی الأنظمة العالمیّة.

ونظراًَ لهذا الوضع من جهة وللتّنوّع الثّقافیّ من جهة أخری؛ فهل یمکن الیوم التّحدث عن ثقافة واحدة وقیم عامّة وعالمیّة تکمن خلف الثّقافات الخاصّة؟

من المؤکّد أنّ الجواب سیکون إیجابیّاً، وذلک لکون الإنسان وبغضّ النّظر عن الثّقافات والأدیان والفلسفات؛ متعطّش بطبعه للحرّیّة ویأمل فی إزاحة القیود والمشاکل والمعوّقات عن طریقه لیتمکّن من السّیطرة علی ظروف حیاته المحلّیّة، ففی عملیّة التّطوّرات العالمیّة والعالم المشحون بالتّعقیدات وعدم الیقین، لم یعد للمجتمعات البشریّة حیلة سوی استحداث ظروف تتطابق وتنسجم مع تلک التّطوّرات، لیتمّ التّغلب علی المشاکل العالمیّة من خلال المواجهة المعقولة مع الحاجات والفرص المتاحة والّتی تمرّ مرّ السّحاب.

وبهذا التّعریف الشّائع للعولمة، فهل یمکن اعتبارها مدینة فاضلة کالمدن الفاضلة الغابرة؟ إذا أخذنا التّقدّم الفکریّ والمعرفة البشریّة المتطوّرة وثورة

ص:149

المعلومات بنظر الاعتبار یمکن أن یکون الجواب کالآتی: إنّ البشریّة قد وصلت إلی طریق مسدود من خلال تجربتها کلّ الوسائل والطّرق، فلذا علیها أن تأخذ العبرة من ذلک وتقلع عن الاشتباهات الّتی ارتکبتها وتصوغ حیاتها علی أسس ومعاییر إنسانیّة أخری لتحسین حیاتها المستقبلیّة، فمسألة أن تفکر البشریّة بمستقبلها لتصنع حیاة أفضل یعدّ من أهم الهواجس الّتی راودت مخیّلتها طویلاً.

فإذا افترضنا أنّ حلّ وانفراج الأزمات العالمیّة بحاجة إلی أسالیب جماعیّة، فإنّ هذه الأسالیب لا یمکن تحقّقها إلّا باتّباع العقلانیّة الجماعیّة والعالمیّة الّتی تبتنی علی قواعد وأصول وقیم ثقافیّة مشترکة، وإلّا فإنَّه من المستبعد جدّاً تحقّق العولمة فی الواقع الملموس مع عدم وجود الباعث المشترک والمشارکة الجماعیّة لکافة الثّقافات والمجتمعات.

3-1. مواجهة العولمة الغربیّة

«یعدّ الکفاح دون السّیطرة الثّقافیّة، وإغناء الثّقافة العالمیّة من خلال الثّقافات الوطنیّة والدّینیّة؛ من البرامج الأساسیّة والأسالیب المؤثّرة فی هذا المجال».(1)

وینبغی طرح نموذج جدید للعولمة یستبدل فیه الاستغلال، الاحتکار، التّفوّق، عدم المساواة والفقر؛ بالتّضامن، الشراکة، المساواة، المعرفة وتمکین جمیع النّاس من الاستفادة من المعلومات والتّقنیات الحدیثة. فإنّ الظّرفیّة والاستعداد والقدرة متوفّرة لأجل صنع عالم متکامل ذی شعور بالمسؤولیّة وعلی الإرادة الإنسانیّة والعقلانیّة والتّفاهم

ص:150


1- (1) باروی ایزاک وآخرین، المسارات الأخیرة للعولمة، ص 113، «التّرجمة الفارسیّة لأحمد جواهریان وهما».

ویتبلور علی أساس النّماذج والحقوق الإنسانیّة، ویعترف فیه بحق التّنمیة لجمیع الثّقافات والحضارات.

إنّ السعی لإیجاد عالم یهدف إلی توفیر الرّخاء والنّفع العامّ والسّلام والعدل العالمیّ لیس ممکناً وعملیّاً فحسب، و إنّما ونظراً للمعضلات والأزمات العالمیّة الحالیّة وعجز المدارس اللیبرالیّة والاشتراکیّة؛ یعدّ الحلّ الوحید والأسلوب الأمثل والمعقول الّذی یوثق به. ومن هنا؛ ینبغی بلورة العولمة بالارتکاز علی التّضامن والشراکة واحترام حقوق کافّة أفراد البشریّة والثّقافات والعلم والقیم المعنویّة والإنسانیّة.

4-1. آثار العولمة علی الدّین

إنّ إحدی آثار العولمة الحالیّة؛ النّزاع المستعر فیما بین النّزعة الدّنیویّة والدّین، فتعدّ النّزعة الدّنیویّة من المواضیع المعقّدة الّتی لها نتائج أخلاقیّة، تربویّة، ثقافیّة ومذهبیّة. ومن الطّبیعیّ أنّ ذلک لا یؤدّی إلی المحو الکامل للفکر والفعّالیّات المذهبیّة؛ لأنّ الدّین ما زال بإمکانه الإجابة عن الأسئلة المعاصرة، کما کانت له القدرة علی الإجابة عن الأسئلة الماضیة. ومع کلّ ذلک فإنّ أغلب أوضاع الحیاة الاجتماعیّة الحدیثة لا تنسجم وتحکّم الدّین بجزئیّات الحیاة البشریّة.

«إنّ المعرفة المذهبیّة للعالم أخلَت مکانها للمعرفة التّنویریّة والتّجربیّة. المعرفة الّتی ترتکز علی التّقنیة المادّیّة والأصول الاجتماعیّة».(1)

فلطالما کان الدّین والتّقالید مترابطین، وإنّ الفکر الانفتاحیّ الّذی یختصّ بالحیاة الاجتماعیّة الحدیثة مغایر وبصورة مباشرة للتّقالید والآداب، وإنّ ما تعرّضت له التّقالید من الضّعف قد جاءها فی أغلب الأحیان من قبل الدّین.

ص:151


1- (1) انتونی غینز، إفرازات العصرنة، ص 130، «التّرجمة الفارسیّة لمحسن ثلاثی».

مع أنّ العولمة بذاتها تعدّ حلماً لجمیع الأمم والأدیان، ولکنّها فی الوقت الحاضر «تواجه معوّقات أساسیّة ومهمّة کاختلاف الثّقافات والأیدیولوجیّات وتعارض المصالح الوطنیّة الّتی ما زالت تعدّ الأساس فی العلاقات الدّولیّة».(1)

ومن ضمن نتائج العولمة؛ الضّغوط الّتی یتعرّض لها الدّین والعقائد المذهبیّة والثّقافات الأصیلة للمجتمعات الأخری. ففی عملیّة العولمة تمارس العلمانیّة والنّزعة النّسبیّة ضغوطاً علی الدّین والفکر الشّعبیّ، فالعلمانیّة تدّعی بأنّه من غیر المناسب أن یکون الدّین مؤثّراً من النّاحیة الاجتماعیّة. فهی لا تنسجم والالتزام بالقیم الأخلاقیّة والإنسانیّة.

فهل أنّ العولمة تؤدّی إلی القضاء علی الدّین والقیم المذهبیّة أم أنّ الدّین یستطیع کسب إمکانات وفرص ومخاطبین جدد، وتکون العولمة فضاءً مفتوحاً لإنجازات ثقافیّة وإعلامیّة للدّین؟ وتستطیع الأدیان من خلال تشذیب نفسها والتّأکید علی العقلانیّة والقیم الإنسانیّة أن تلعب دوراً مؤثّراً فی بلورة ثقافة جدیدة. إنّ الإسلام لا یتنافی والجوانب الإیجابیّة والعقلانیّة للثّقافات الأخری، ومن هنا لا یوجد أیّ سبب لإبعاد الدّین عن واقع الحیاة الاجتماعیّة مستقبلاً وفی عصر العولمة.

إنّ شرط استمرارالدّین فی عالم الیوم؛ هو التّجدّد والنّشاط والاتّجاه العقلانیّ لأتباعه. فالإسلام ومن خلال دعوته إلی العلم، الکرامة الإنسانیّة، حقوق الإنسان، العدالة الاجتماعیّة، حرّیّة الفکر والدعوة إلی السّلام ونبذ العنف وکثیر من التّعالیم الأخری؛ باستطاعته المساعدة فی عملیّة التّنمیة، التّقدّم العلمیّ ونموّ الدّیمقراطیّة. ومن النّواحی الأخری یستطیع الإسلام ومن

ص:152


1- (1) الجامعة الرضویّة للعلوم الإسلامیّة، فکر الحوزة، العدد السّادس، سنة 2003.

خلال ارتکازه علی الفلسفة الإسلامیّة الّتی تؤکّد علی أصالة الوجود والإلوهیّة والاعتقاد بهدفیّة عالم الوجود؛ تحقیق مکاسب جدیدة وتجسید آمال وطموحات المجتمع البشریّ فی معرفة الوجود والعلم المعرّفی، وبإمکان البلاغات الأخلاقیّة والعرفانیّة والمعنویّة للإسلام من إیجاد حلول مناسبة للأزمات المعنویّة فی عالم الیوم.(1)

ص:153


1- (1) (العولمة و أزمة الهویّة) فصلیّة مطالعات وطنیّة، العدد العاشر، سنة 2002، «باللّغة الفارسیّة».

ص:154

2. الإفرازات الاجتماعیّة للعولمة وعولمة العصرنة

أ) الإفرازات الاجتماعیّة للعولمة

فی حال أنّ أنصار العولمة یعتقدون بشمول إیجابیّتها جمیع أبناء البشریّة وأنّها صیغة لا یمکن تلافیها لدوام عملیّة التّنمیة، وأنّها نتیجة طبیعیّة للإبداع والتّقدّم العلمیّ والتّقنی. یری مخالفوها بأنّها لیست سوی مشروعاً سیاسیّاً واقتصادیّاً تصبّ فی صالح الدّول المتقدّمة واللیبرالیّة الجدیدة، ویحذّرون من أبعادها المتشعّبة السّیاسیّة والاقتصادیّة والثّقافیّة، وأنّها مجرّد شماعة للتّغطیّة علی أهدافهم الرأسمالیّة اللیبرالیّة.

فعولمة الفقر، زیادة البطالة واختلال توازن التّنمیّة الّتی تعدّ من ضمن إفرازاتها؛ استُخدمت فی المجال السّیاسیّ کحربة سیاسیّة ضدّ دول الجنوب ممّا أدّی إلی تنامی الحرکات ذات الاتّجاه القومیّ، العِرقیّ، الاقتصادیّ والمذهبیّ. وبینما یشیر أنصارها إلی النّمو الثّقافیّ وتنوّعه فی مجالها الثّقافیّ، یصف معارضوها ذلک بأنّه إمبریالیّة ثقافیّة وتسلّط ثقافة لادینیّة ولاأخلاقیّة تعرّض القیّم التّراثیّة للخطر.

إنّ البشریّة علی طول تاریخها لم تواجه یوماً مثل ما تواجه الیوم من تهدیدات ومخاطر عدیدة:

ص:155

1. تأزّم الترکیبة القدیمة للتّقالید وتعرّض الأنظمة القیمیّة لغزو الثّقافات اللاقیمیّة وفقد الأیدیولوجیّات قدرتها علی التّأثیر وعدم وجود رؤیة موحّدة للمعضلات العالمیّة. ووصول المواقع والمؤسّسات الدّولیّة الحاضرة إلی طریق مسدود.

2. ازدیاد تضامن المجتمعات الوطنیّة فی مجالات متعدّدة کانتقال العلم، الهجرة المؤقّتة والدائمة، غزو الثّقافات الأجنبیّة والتبادل الاقتصادیّ واتّجاه المجتمعات غیر المتجانسة الّتی تتفاوت مع بعضها ثقافة وآداباً وحاکمیّة تفاوتا أساسیّا؛ إلی الاتّصال ببعضها البعض.

وحسب قول السّید سوید یاتکومو عمید جامعة الأمم المتّحدة: «لقد تعرّض الجمیع للضّرر والأذی فی عملیّة الاتّحاد العالمیّ. وأنّ مجتمعاتنا أضحت تتلاعب بها قرارات تُتّخذ فی مکان آخر من العالم».(1)

3. وقد أثّرت تأثیراً جدّیّاً علی علم المعرفة ومعرفة الوجود فأدّی ذلک إلی اختلال تصوّراتنا حول المکان والزمان والعالم الواقعیّ، کما یشیر إلی ذلک روبتسون:

«إنّ العولمة وسّعت من نطاق وعمق معرفة الإنسان بالدّنیا بعنوانها مکاناً واحداً» فهی تسوقنا باتّجاه (عالم افتراضیّ) و (واقعیّة افتراضیّة) من جهة، وتبعدنا عن العالم الواقعیّ والطّبیعیّ من جهة أخری. وتعمل علی تغییر ماهیّة الحیاة، الهویّة الفردیّة والاجتماعیّة، الزمان، الفضاء، المکان، الحدود المادّیّة، الحاجات البشریّة وخلقت لنا مشاکل جدیدة. وأدّت إلی تطوّرات مهمّة علی مستوی العالم اجتماعیّاً واقتصادیّاً وثقافیّاً وتعلیمیّاً، وغیّرت المشهد فیما بین الواقعیّات والقیم.

ص:156


1- (1) کینغ، الکساندر وشنایدر، الثّورة العالمیّة الأولی، ص 218، «التّرجمة الفارسیّة لشهیندخت خوارزمی».

إنّ العولمة ذات اتّجاه تغییریّ للزّمان وارتباطه بالمسافة، ومن خلال تأکیدها علی السّرعة وتسریع عجلة الحیاة؛ ساهمت فی إیجاد حیاة تتّصف بمنافسة مشحونة امتزجت فیها سرعة الزّمان وتراکم وزحام المعلومات.

4. أمّا من الوجهة الثّقافیّة والعلمیّة فإنّ النّمو والتّقدّم التّقنیّ والمعلوماتیّ والتّبادل الثّقافیّ والعلمیّ هیّأ جوّاً من الحاجة إلی تعامل وانسجام المجتمعات المختلفة مع بعضها البعض علی مستوی العالم. ویعدّ هذا التّطوّر بذاته ممهّداً لعملیّة العولمة وتسارعها. إنّ هذه العملیّة المعقَدة عزّزت التّواصل فیما بین الدّول والشّعوب، وأوجدت تبعیّة متبادلة فیما بین المجتمعات، أدّت بها إلی النّزوع نزوعاً إقلیمیّاً وعالمیّاً.

5. إنّ سلسلة الإفرازات الاجتماعیّة والتّقدّم العلمیّ والتّقنی غیّر وبصورة واسعة أسالیب التّواصل والعلاقات الإنسانیّة، وإنّ التّطوّرات المرتکزة علی الفکر العلمی والتّقنی أمثال؛ زخم الطّاقة الذّریّة، السّفر الفضائیّ، الأقمار الاصطناعیّة، الأنترنیت، کشف الرموز الجینیّة وتقنیة النّانو... الخ؛ تُبدّل کلّ یوم نظرتنا إلی العالم. فقد توصّلت التّقنیة الحدیثة فی برمجة وخزن واستعادة المعلومات إلی نتائج مذهلة وحصدت مکاسب رائعة. وتقدّمت وسائل الاتّصال الدّیجیتالیّة بظرفیّتها ونطاقها علی جمیع الوسائل الأخری.

إنّ آثار شبکة الاتّصال المعلوماتیّ «الأنترنیت» باعتبارها أداة الکترونیّة جدیدة والّتی غیّرت أسالیب الاتّصال ساهمت فی تطویر المجالات الفکریّة والعلمیّة، ومازالت لها انعکاسات متعدّدة لا یمکن تحدیدها واکتشافها فی الوقت الحاضر.

6. وقد عزّزت عملیّة الاتّحاد بشکل بارز، حیث ساعدت الثّورة المعلوماتیّة والبرمجة الکومبیوتریّة علی توحید المجال الثّقافیّ واتّساع تبادل المعلومات والثّقافات. فالوضع فی المرحلة الرّاهنة یدلَّل علی أنّ (التّوسع) قد

ص:157

وصل إلی نهایته المنطقیّة أکثر من أیّ شیء آخر، وأنّنا نعایش الدّخول فی عمق مرحلة التّنمیة، وأنّ العولمة تسیر باتّجاه التّمرکز والتّعقید.

فعملیّة العولمة حوّلت العالم إلی عالم متوحّد، فینبغی علینا السّعی بتأنّ لإدراک علائم العصر الرّاهن والأزمات الّتی ستواجهنا، ومعرفة حقیقة التّعارض الاجتماعیّ والثقافیّ وأسبابه فی آفاق وأهداف المجتمعات البشریّة بشکل أفضل.

7. إنّ الإفراز آلآخر للعولمة؛ هو ظهور التعارض الاجتماعی العمیق الّذی یؤدّی إلی تهدید الأمن والتّوازن والثّبات الاجتماعیّ أکثر من أیّ وقت مضی، وإنّ سیطرة الثّقافة الرأسمالیّة «أدَّی إلی ازدیاد مجال المنافسة لکسب أرباح أکثر».(1)

8. «إنّ العولمة ومن خلال الاستفادة من المعلومات والوسائل المعلوماتیّة المتطوّرة والمجامیع الإعلامیّة أفرزت نتاجات ثقافیّة متنوّعة ممّا جعلت الإنسان یفقد قیمه وهویّته الثّقافیة علی إثر الغزو الثّقافیّ والمعلوماتیّ، وأن یتعرّض أسلوب حیاته واستنتاجاته وأحاسیسه إلی تغییر عمیق، ویواجه اضطراباً ثقافیّاً وحجماً واسعاً ومحیّراً من المعلومات».(2)

9. «وجعلت من القلق والاضطراب والحیرة میزات مهمّة تتحکّم فی حیاة الإنسان، أخلّت بالانسجام والتّوازن البیئویّ، وغیّرت العلاقات المعهودة للمجتمعات البشریّة، وسیطرت التّقنیة الحیویّة الخطیرة علی حیاته حتی نفذت إلی صمیم شخصیّته ومحیطه الاجتماعیّ».(3) وأدّت إلی انتزاع قدرته علی الاختیار والانتخاب إلی حدّ کبیر، ولقّنته ثقافة خاصّة وحاجات موجّهة

ص:158


1- (1) المصدر السابق، ص 203.
2- (2) باری ایزاک، الآثار الفلسفیّة والثّقافیّة للعولمة، نقلاً عن: المراحل الأخیرة للعولمة، ص 113.
3- (3) المصدر نفسه، ص 115.

نحو أهداف معیّنة. وکان من نتیجة ذلک أن سلبت منه القدرة علی التّفکیر الحرّ والعزم والمبادرة. وها هو یواجه عالماً یروّج لعدم المساواة ویشجّع علی الاستقطاب الواحد، وألقی الخوف والاضطراب والحیرة بکاهله علی حیاته. إنّ العولمة وعلی خلاف ظاهرها الغامض والجذّاب تحاول الوصول إلی أهدافها الخفیّة. ومن خلال تحریضها وتشجیعها لبقیّة المجتمعات علی القبول بها؛ فهی تدعوها إلی عدم المقاومة والاستسلام لقیادها.

10. إنّ العولمة لم تقتصر علی أنّها عجزت عن جلب الرّفاه العام، الأمن الاجتماعیّ، العمل النافع والتعلیم المفید والعدالة الاجتماعیّة؛ وإنّما أقحمت البشریّة فی أزمات قاتلة کالابتذال الثّقافیّ من خلال ترویج الثّقافة الغربیّة المبتذلة، اضطراد اللاأمن، اللاعدالة، شیوع الثّقافة الاستهلاکیّة، الفساد، تنامی الجریمة، الإرهاب، المخدّرات، التهریب، تهدید الصّحّة العالمیّة، التّلوّث البیئوی، الاحتباس الحراریّ، المخلّفات الذّریّة، تدمیر الغابات الّتی تعدّ بمثابة (رئة الأرض)، ثقب طبقة الأوزون وتهدیدات أخری فی مجالات الأمن والسّلامة والصّحّة النّفسیّة؛ ممّا أدّی إلی فقد الأمل فی مستقبل أفضل.

11. أمّا فی المجال الاقتصادیّ فقد ابتنیت العولمة علی الرأسمالیّة الّتی اتّخذت من المال والسّوق محوراً لها والّتی تحاول اکتشاف أسواق استهلاکیّة أکثر ومصادر جدیدة للنّهب والالتهام من خلال الاستفادة من القوّة السّیاسیّة والإعلام الخدّاع والمضلّل. وقد شاهدنا فی هذا السّیاق کیفیّة تمییع الممیّزات الإنسانیّة والقیم الفطریّة والدّینیّة والأخلاقیّة والتّراث الثّقافیّ.

12. وفد تعرّضت الدّیمقراطیّة فیها لتهدید جدّی وخطیر، فسُلبت فیها حقوق المواطن وقدرته علی الاختیار والحرّیّة فی الحکم والمنافسة السّوقیّة.

13. إنّ أیّ جهد یبذل وحلّ یطرح لإقرار الدّیمقراطیّة فی العالم من خلال تیار عولمة الأیدیولوجیّة الامبریالیّة الاقتصادیّة والسّیاسیّة؛

ص:159

سیحکم علیه بالفشل الذّریع، وأنّ أیّ انتقاد یوجّه سیحمل علی محمل السّذاجة والجهالة. ولأجل ذلک فإنّ العولمة لیست مصیراً حتمیّاً لا یمکن الخلاص منه، وکذا لیست صدفة تاریخیّة لزمت ووجبت، وإنّما هی بدایة الهزیمة للحضارة الغربیّة والعصرنة الجامحة الّتی ینبغی إصلاحها والسّیطرة علیها.

14. إنّ العولمة دخلت مرحلة حسّاسة جدّاً ألقت بسحب القهر والقیم اللاإنسانیّة والنفعیّة والإعلام المضلّل وقیمیّة المال والمادّیّة علی باقی القیم؛ حیث تتعرّض حقوق الإنسان فی هذه المنافسة للهدر والضیاع.

15. وأمّا دور الحکومات الشّعبیّة فی الاقتصاد العالمیّ فهو یتعرّض للإضعاف، ودخل التّحکّم بالمعاملات التّجاریّة وبتبادل ومسار المعلومات تحت نطاق تأثیر العولمة، وخرج التّعلیم والتّربیة الوطنیّة والثّقافة عن السّیطرة المحلّیّة وأفلتت الحکومات زمام القدرة علی السّیطرة والمقاومة حیال السّوق العالمیّة.

16. استمرار تنامی وتفشّی عدم المساواة وعدم التّکافؤ، حیث عمّقت الشّرخ الطّبقیّ، ومهّدت للأزمات الدّاخلیة کالبطالة، التّخلَف، العنف وأفرزت مشاکل أساسیّة أخری، وتعرّض التّضامن الاجتماعیّ والوحدة الوطنیّة للوهن الشّدید نتیجة ذلک.

17. إنّ میزة ظاهرة العولمة هو توحید وتعمیم صیغة تنمویّة ونموذج اقتصادیّ معیّن علی جمیع البنی العالمیّة، وطرح مثال اجتماعیّ وسیاسیّ واقتصادیّ وثقافیّ تحتذی به جمیع الدّول والمجتمعات. وبعبارة أخری؛ إنّ مفهوم العولمة یعدّ نوعاً من الوحدة العالمیّة لمصلحة اللیبرالیّة الغربیّة الّتی یعدّ استعمار واستثمار مصادر الثّروة العالمیّة الّذی یصبّ فی مصلحة النّظام الرأسمالیّ من إفرازاتها الأساسیّة.

ص:160

18. وتعمل کذلک علی تعمیق أسباب التّخلَف والتّهمیش، باعتبارها من مؤشّرات العلاقات الدّولیّة علی المستویین الاقتصادیّ والاجتماعیّ. وتوسیع الهوّة فیما بین الأمم، وتمهید الأرضیّة للسّیطرة علی المخاطبین بقدرة أکبر ومن مسافة شاسعة. وإعاقة أیّة أمّة من أن تقیم استراتیجیّة مؤثّرة لاستمرار بقائها واستحکام أمنها؛ إلّا من خلال التّمکّن من السّیطرة علی التّطوّرات الدّائمة فی نطاق وسائل الإعلام والاتّصال.(1)

إنّ الحضارة الغربیّة تؤمن وتدعو بشکل جازم للمساواة الإنسانیّة فی إعلاناتها الخاصّة بحقوق الإنسان، ولکنّها علی النّطاق العملیّ تطبّق أنواعاً من التّمییز واللاعدالة الأخلاقیّة والفکریّة والمذهبیّة والاقتصادیّة والسّیاسیّة والاجتماعیّة. ففی حال أنّها تدّعی الدّیمقراطیّة وحکم الشّعب للشّعب وتضعه فی أولویّة شعاراتها السّیاسیّة ولکنّها تمارس حکم الأقلّیّة وتُجیز تفضیل فئة معیّنة علی غیرها.

19. ومن ضمن الإفرازات الأخری للعولمة؛ التّعارض العملیّ والمنطقیّ فیما بین ترکیبتین: الترکیبة الغربیّة والترکیبة غیر الغربیّة، ففی المجال التّاریخیّ علی سبیل المثال؛ نلاحظ أنّه کلّما بدت بوادر ولادة مجتمع مثالیّ، عالمیّ ومتکامل؛ تبرز تیّارات علی خلاف ذلک ترتکز علی المذهب، اللّغة، التّراب والعِرق.... الخ لتقوم بزعزعة أسسه ومقوّماته.

إنّ بعض القوی السّیاسیّة سعت ومن خلال اتّجاه سیاسیّ واقتصادیّ وعلی مرّ التّاریخ لتوسیع وتعمیم حکمها وتسلّطها علی العالم، فبرزت ظواهر کالنّازیّة، الشّیوعیّة واللیبرالیّة فی هذا المجال. وقد وقفت هذه التّیارات فی مقابل المساعی والبواعث الإنسانیّة والمثالیّة والمذهبیّة الّتی تسعی لعولمة القیم الإنسانیّة والدّینیّة الأصیلة.

ص:161


1- (1) الثّورة العالمیّة الأولی، «باللّغة الفارسیّة».

وعلی العموم، فقد عمل النّظام اللیبرالی ومن خلال ارتکازه علی فلسفة أصالة الفرد والحقوق الفردیّة؛ علی إضعاف المقوّمات الأصیلة للحیاة الاجتماعیّة. ولذا فلیس بإمکانه ادّعاء کونه عولمیّاً، أو أنّه یسعی للوحدة وإقرار المشترکات الثّقافیّة والتعامل المجتمعیّ العالمیّ المشترک، أو لتحقیق العدالة والسّلام والنّظم العالمیّ والتّنمیة الشّاملة. أمّا العقلانیّة فلابتنائها علی أسس کالنّزعة الإنسانیّة وأصالة المنفعة، فهی غیر قادرة علی الاعتراف بالقیم الدّینیّة والثقافیّة للمجتمعات الأخری.

ویعتقد البروفسور هاری ارتونر أستاذ الحقوق الدّولیّة فی جامعة تورنتو: «أنّ العولمة ظاهرة معقَّدة وغامضة ومرموزة لا یمکن استنتاج قراءة واحدة منها، فصحیح أنّها أمر محتوم لا یمکن تلافیه فی عالم الیوم، ولکن هذه الظّاهرة بقسوتها المفرطة تسوق المجتمعات البشریّة نحو الضّلال والانحراف والدّمار».(1)

وهی تسعی للاستبداد واستغلال الأمم الأخری وتفضیل أصحاب التّقنیة والدّول الّتی تحتکر عاملیّ الثّروة والقدرة العلمیّة والتّقنیة. ولذا؛ فمثل هذه العملیّة وهذا النّموذج من العولمة سوف لا یتمخّض إلّا عن تزاید الفقر والإجحاف، والأزمات البیئیّة والاجتماعیّة والأمنیّة.

«وأخیراً فقد ودّع العالم القرن العشرین بأزمات بلغت من التّعقید والعصیان علی الحلّ إلی درجة أصبح التّصدیق بإیجاد حلول لها أشبه بالمستحیل، حتی أطبق ضباب الحیرة علی البشریّة جمعاء. وأنّ شعوب العالم الّتی تشابکت روابطها فی مجتمع عالمیّ تسیطر علیه المغامرات والمجازفات غیر المرغوب فیها؛ أُکرهت علی مواجهة ترابط السّاحة العالمیّة وشبکات التّخطیط المشترک وندرة الفرص ومحدودیّتها».(2)

ص:162


1- (1) زوغانوف غناری، المراحل الأخیرة للعولمة.
2- (2) یورغن هوبرماس، العولمة و مستقبل الدّیمقراطیّة، ص 79، «التّرجمة الفارسیّة لکمال بولادی».

«فالعولمة ما هی إلّا مجموعة تعارضات تزداد اتّساعاً وتراکماً فی کلّ اتّجاه، ومع أنّ البشریّة تزداد قدرة علمیّاً وتقنیّاً یوماً بعد یوم، ولکن اتّضح فی ذات الوقت أنّ تطوّر قوی الإنتاج لا یستطیع لوحده تذلیل المشاکل وحلّ تناقضات العالم الجدید».(1)

«إنّ الأوضاع العالمیّة تتسارع نحو اللا استقرار، اللا عدالة، عدم الثبات والفوضی السّلوکیّة. ففی الواقع أنّ عالم الیوم المتحضّر قد ابتلی بأزمات متعدّدة خیّمت علیه بجمیع أبعاده».(2)

ممّا دعی بعض قادة العالم المعاصرین إلی التّصریح بأنّنا: «إذا لم نستطع معالجة الصّعوبات والأزمات العالمیّة المعاصرة من قبیل الحرب، الانفجار السّکانی والنّظام البیئویّ؛ فسیبدأ العدّ العکسیّ لنهایة الأیام الأخیرة من الحیاة البشریّة علی سطح الأرض».(3)

نحن لسنا بصدد التکهّن بمحتملات المستقبل، ولکنّا فی صدد توضیح الإفرازات المستمرّة للتّطوّرات الحالیّة، ونتائج التّقنیة کهندسة الجینات وتغییر التّرکیبة البیولوجیّة الّذی یؤدّی إلی تغییر أساسیّ فی مفهوم الحیاة والمبادئ المرتبطة بها. فعلی سبیل المثال؛ أنّ استیلاد الشّبیه بواسطة حفظ الحُیی المنویّ للأب الّذی کان وافاه الأجل منذ سنین متمادیة والأسالیب التّربویّة والاجتماعیّة الواجب اتّباعها حیاله والمستلزمات الدّینیّة والأخلاقیّة والإنسانیّة لمثل هذا الکشف یبشّر بمستقبل مبهم وضبابیّ.

والحرکات النّسویّة الدّاعیة إلی استقلالیّة المرأة فی حیاتها الشّخصیّة والخلاص من الولادة، تربیة الأولاد، التّمتّع بحقوق متکافئة، الأمن والحرّیّة؛ تعدّ

ص:163


1- (1) غنادی زورکانوف، المراحل الأخیرة للعولمة، ص 202، «التّرجمة الفارسیّة».
2- (2) روجیه دوباسکیه، الإسلام وأزمة عصرنا، ص 17، «التّرجمة الفارسیّة».
3- (3) عالم الیوم والغد تحت ضغوط الحضارات الصّناعیّة، ص 44، «اللّغة الفارسیّة».

من الاتّجاهات العلمیّة والاجتماعیّة الحدیثة والمتنامیة والناجمة عن النّمو التّقنیّ والثّقافیّ، والّتی یبدو أنّها تسیر فی اتّجاه تدمیر الزّمان البیولوجیّ للإنسان.(1)

ویؤکّد کاستلز فی کتابه «المجتمع الشّبکیّ» علی أنّ إحدی ممیّزات عصر المعلومات والمجتمع الشبکیّ هو أنّ التّوقیتات الزمانیّة تکون غیر متمیّزة فیه، وبعبارة أخری؛ خلود وعدم ثبات الزمان، أو الزمان اللازمانی.

ب) إفرازات عولمة العصرنة
الأزمات الاجتماعیّة

1-1. إنّ إحدی إفرازات عولمة العصرنة؛ ظهور حرکات اجتماعیّة متنوّعة. فانتونی غینز، عالم الاجتماع المعاصر؛ یکشف ویعرض أربعة أنواع من الحرکات الاجتماعیّة الّتی تأتی ردّاً علی النسب المحوریّة ذات الوجوه الأربعة للعصرنة، فتکون الحرکة العمّالیّة جواباً انتقادیّاً أو ردّ فعل حادّ علی الرأسمالیّة، و حرکة حمایة البیئة تأتی کنتیجة لأفول حرکة علم التبیّؤ(2) و اعتراضاً علی التصنیع و التقنیّة الهدّامة و فی مقابل الاستبداد غیر المبرَّر و غیر المنطقیّ للأنظمة اللیبرالیّة تبرز حرکة الحقوق المدنیّة و حقوق الإنسان.(3)

2-1. و الإفراز الآخر للعصرانیّة عدم المساواة المتفشّیة فی المجتمع، العنف، زوال البواعث الأخلاقیّة والإنسانیّة و روحیّة المحبّة و خدمة النوع الإنسانیّ، انعدام الاحترام المتبادل و التضامن الاجتماعیّ، و ظهور اختلالات عرّضت شأن و مکانة الحیاة للخطر. و فی مقابل ذلک فإنّ الدین بإمکانه ملء هذا الفراغ الروحیّ و المعنویّ.

ص:164


1- (1) عصر المعلومات و ظهور المجتمع الشبکی، ص 821، «باللغة الفارسیّة».
2- (2) فرع من علم الأحیاء یدرس العلاقات بین الکائنات الحیّة وبیئتها، «المعرَّب عن قاموس المحیط».
3- (3) انتونی غینز، إفرازات العصرنة، «التّرجمة الفارسیّة لمحسن ثلاثی».

إنّ بعض التنویریّین المروّجین للعصرنة یرون بأنّ الحیاة الدّینیّة إذا ما أرادت الاستمرار فی إطار العصرنة فینبغی علیها أن تنسجم و تتوافق مع مقتضیات العصر الحدیث، و علی هذا الأساس فهم یعتقدون: بأنّ علی الدّین أن یصوغ کیانه بشکل؛ یتّصف بتعامل معقول تّجاه باقی الأدیان فکریّاً ومعرفیّاً أوّلاً، وأن ینسجم والعلوم الّتی لها مرجعیّة اجتماعیّة فی مجال العلم المادّیّ ثانیاً، وأن یرتبط برباط ینسجم وحاکمیة الشّعب والإرادة الشّعبیّة اجتماعیّاً ثالثاًً.

وبعبارة أوضح «ینبغی أن تنفصم السّیاسة عن الدّین لیکون متناغماً ومنسجماً مع الحکومة».(1) فلا یمکن القول بأنّ العلاقات الشّمولیّة لیس لها أیّ أثر علی نماذج التّضامن الاجتماعیّ، بل إنّ الأمر علی العکس من ذلک؛ فیمکن تشخیص أربعة تغییرات مهمّة فی هذا المجال(2): الأوّل؛ هو أنّ العولمة أدّت وإلی حدّ کبیر إلی تجدید توجیه الرأسمالیّة وفعّالیات الدّول، وکان من نتیجة ذلک تعزیز بعض التّغییرات الّتی طرأت علی الشعوب. وعلی الخصوص فی مجال نمو الحالة الشّمولیّة، الّذی یشیر إلی الاتّجاه نحو إضعاف الرّوابط التّقلیدیّة فیما بین الدّولة والشّعب. إذن فنتیجة هذه التّطوّرات والتّغیرات العالمیّة هو التّأثیر الشّدید الّذی أحدثته علی نوعیّة العلاقة فیما بین الدّول والشّعوب، وکذا علی؛ الحکم الذّاتیّ، قوّة الرّقابة، الرّقابة الإعلامیّة، نوعیّة الإنتاج، القدرة التّثقیفیّة والبرامج التّعلیمیّة والثّقافیّة، وأحدثت مفاهیم وحاجات ووظائف جدیدة للأمم والشّعوب.

ص:165


1- (1) صحیفة همشهری «ماهیّة العلمانیّة» محاضرة لیورغن هوبرماس ألقاها عام 2002 فی جامعة طهران.
2- (2) شولت یان ارت نظرة فاحصة لظاهرة العولمة، ص 200، «التّرجمة الفارسیّة لمسعود کرباسیان».

3-1. وأثّرت کذلک علی الهویّات الاجتماعیّة والوطنیّة والّتی سنفصّل الحدیث حولها فی قسم آخر من هذا الکتاب.

4-1. وقد أدّی انتشار النّزعة فوق الإقلیمیّة لازدیاد العلاقات العالمیّة الوطنیّة فی المجتمع الإنسانیّ وأوجدت ممهّدات وعلائم للتّضامن الاجتماعیّ.

5-1. وکان للعولمة دور فی نموّ الهویّات الهجینة والمجتمعات المتداخلة وتسبّبت فی إیجاد الاختلاط العِرقیّ والثّقافیّ، وقد أثّر هذا الأمر تأثیراً فائقاً علی الأسس الاجتماعیّة نظیر التّضامن الوطنیّ، المصالح الوطنیّة، الهویّة الوطنیّة، الثّقافة الوطنیّة، اللّغة الوطنیّة واختلال توازن الثّروة المکدّسة وانتقال التّقنیة والفن وعلائم وطنیّة أخری مختصّة بشعب ما.

6-1. ونواجه الیوم انعدام التّضامن الاجتماعیّ بسبب التّغییر والانفصام السّریع والمستمرّ للتّشکیلات الاجتماعیّة والثقافیّة للمجتمع المعاصر والّذی هو فی حالة تنامٍ وعلی الخصوص انهیار الأسس والهویّات والمنظّمات السّیاسیّة والاجتماعیّة وفیما أبعد من ذلک وهو إضعاف الحاکمیّة الوطنیّة. وکما یری کلاوس أو: «أنّ انعدام التّضامن الاجتماعیّ یؤدّی إلی إضعاف الدّول الوطنیّة، فإنّ إضعاف الدّولة بواسطة عملیّات العولمة یعدّ مخاطرة بالمصادر الوطنیّة. ویستدلّ علی ذلک بأنّ المجتمعات المعاصرة ینبغی تسمیتها (بالمعقّدة) لا (العصریّة) أو (الما بعد العصرانیّة) لأنّ المیزة الأساسیّة لها هی (المرونة). فإنّ هذه المیزة تتعارض وتوفّر الإمکانات الجدیدة من خلال العصرانیّة. ویوضّح ذلک بأنّ المجتمعات المعقَّدة أصبحت مرنة إلی درجة غدا أیّ جهد یبذل لتنظیمها وإحیائها والتوفیق فیما بین عملیّاتها الداخلیة غیر ممکن»(1) وبهذا الاعتبار فإنّ التّعقید و التّشتّت یقف حائلاً دون تحقّق الدّیمقراطیّة.

ص:166


1- (1) کیت نش، علم الاجتماع السّیاسیّ المعاصر (العولمة، سیاسة القوّة)، ص 262، «التّرجمة الفارسیّة لمحمّد تقی دلفروز».

فعلی الرّغم من أنّ الدّعوة إلی العولمة هی فی حالة اضطّراد وأعلی صوتاً من صوت الدّعوة لاحترام حقوق الإنسان والحاجة إلی السّلام والحرّیّة والحقوق الاجتماعیّة والتّغذیة السّلیمة والصّحّیّة وصیانة البیئة، ولکن ینبغی الالتفات إلی أنّ تحقَّق السّلام العالمیّ، الأمن العالمیّ الشّامل، احترام حقوق الإنسان وصیانة البیئة؛ یتوقَّف علی تحقَّق المقدّمات المتعلّقة بها. ولهذا فمن الواضح أنّ العولمة بحاجة إلی ممهّدات وأدوات خاصّة بها، ومع أنّ التّبادل الحرّ للمعلومات وانهیار الحدود الفکریّة والسّیاسیّة والاقتصادیّة والطّبیعیّة یوجد تطوّرات عمیقة فی النّظرة إلی السّلام والأمن وحقوق المواطن العالمیّ؛ ولکنّه بحدّ ذاته لا یعدّ ضماناً لتحقیق هذه المقولات العالمیّة.

فینبغی استبدال عولمة الاستغلال، الاحتکار، الأفضلیّة، التّمییز، الفقر، الأزمات البیئویّة الهدّامة، الأزمات الأخلاقیّة والاجتماعیّة؛ استبدالها بعولمة العدالة والمساواة والمعرفة والمعلومات والعلم والتّقنیة والسّلام والأمن العالمیّ.

وینبغی علی العولمة؛ توفیر الفرص والنمو السّیاسیّ والاجتماعیّ والثّقافیّ المتکافئ بین جمیع النّاس. إنّ هذا الهدف یرتکز علی تعریفنا للعولمة مع الأخذ بنظر الاعتبار عواملها وأسبابها وأسسها.

7-1. إنّ إفرازات العولمة أحدثت تغییرات جدّیّة وأساسیّة فی طبیعة الحاکمیّة الوطنیّة، من خلال عولمة حکوماتها. وکما یقول کوفی عنان، الأمین العام السّابق للأمم المتّحدة،: «نحن نعیش الیوم فی دنیا عالمیّة فینبغی أن یکون الردّ علی هذا التغییر من أهمّ وظائف قادة العالم».(1)

ص:167


1- (1) غنادی زرکانوف، العولمة بین العبور والانهیار، ص 209، «التّرجمة الفارسیّة لأحمد جواهریان و هما».

وفی الوقت الرّاهن «رکعت الدّول الوطنیّة إزاء الضّغوط الّتی تتعرّض لها لفتح أبوابها وحدودها بوجه الأسواق العالمیّة، وترکوا الشّعوب لحالها، لتباشر بنفسها التّعامل مع السّوق العالمیّة».(1)

لا یوجد أدنی شکّ فی أنّ العولمة تعمل علی إضعاف الحاکمیّة الوطنیّة علانیة، تسهیل لغو الحدود، تعزیز الثّورة المعلوماتیّة، اختراق الحدود الوطنیّة، والتأثیر علی الهویّات الوطنیّة والثّقافات والأفکار.

إنّ مسار العولمة مهما کان مبهماً ولکنّها واضحة جدّاً من جهة دعوتها إلی نهایة السّیطرة العالمیّة لنظام الدّولة - الشّعب فهی تعدّ بمثابة نموذج للنّظام السّیاسیّ، وإنّ لفظة (ما بعد الوطنیّة) تشیر إلی هذا التّغییر فی نموذج أسس القوّة والمؤسّسات الحکومیّة فی مرحلة العولمة.

ومن هنا أیضاً تنشأ إبهامات وإشکالات العولمة، فهی لا تضمن کیفیّة جعل أسس مشروعیّة القدرة الدّیمقراطیّة أوسع وأبعد نطاقاً ومدی عن مستوی النّزعة الخاصّة والمحدودة فی عالم (ما فوق الوطنّیة). ففی هذه الصّورة لیس بإمکان مبادئ الدّولة و لا فعّالیات السّوق أن تکون مبنیً للمشروعیّة، وإنّما فقط القرار الجمعیّ هو الّذی بإمکانه توفیر مثل هذه الظّروف.

ولا تبقی الوحدة والانسجام الاجتماعیّ للشّعوب حکراً علی الحاکمیّة الوطنیّة فی عملیّة العولمة؛ بل تتحقّق فیها المشارکة والإرادة الجماعیّة والمسؤولیّة المشترکة للمواطنین علی المستوی العالمیّ. ویتعرّض هوبرماس لتحلیل منظومة (ما فوق الوطنیّة) وطرق الوصول إلی (الوحدة الوطنیّة العالمیّة) و یؤکّد علی الحرّیّة المتکافئة والحقوق المشترکة لمواطنی العالم بناءً علی الأصول الأساسیّة والانتزاعیّة للیبرالیّة الغربیّة.(2)

ص:168


1- (1) ایزاک باروی، المراحل الأخیرة للعولمة، ص 112، «التّرجمة الفارسیّة».
2- (2) یورغن هوبرماس، العولمة ومستقبل الدّیمقراطیّة، ص 10-11، «التّرجمة الفارسیّة».

«إنّ مسار العولمة یختفی خلف العصرنة الظّاهرة والعالم فوق الصّناعیّ والکومبیوتریّ وجنون الأنترنیت»،(1) ویؤدّی إلی تحطیم أسس العصرنة ذاتها، ومن ضمنها أسس اللیبرالیّة والأصولیّة، أمّا الإفرازات الأخری للعولمة الّتی ابتلیت بها المجتمعات البشریّة فهی الإفرازات المعنویّة والدّینیّة والَّّتی سنشیر إلیها إجمالاً فی الفصل القادم.

ص:169


1- (1) اکناسیورامونه، هل یسیر العالم نحو الفوضی، ص 61، «التّرجمة الفارسیّة».

ص:170

3. الإفرازات المعنویّة والدّینیّة للعولمة

1-3. أزمة المعنویّة

إنَ إحدی نتائج وإفرازات العصرنة الغربیّة؛ بروز الأزمة الثّقافیّة وفقدان التّوازن والتّعادل فی المجالات الثّقافیّة والأخلاقیّة والقیّم الإنسانیّة والّتی تمخّضت عن النّمو والتّوسع الاقتصادیّ والمادّیّ للحضارة الغربیّة. فإنّ ابتعاد الإنسان الغربیّ عن المعنویّة والمذهب أدّی إلی تعرّضه لأنواع المخاطر وعدم الأمن والیأس والإحساس باللاهویّة والعزلة والفراغ المعنویّ والأخلاقیّ. وقد أدّی انتشار النزعة التّجدیدیّة ونقض الأسس الثّقافیّة ونماذج الحیاة الاجتماعیّة والبنی الأخلاقیّة إلی تفتّت الأسرة، وزوال العلاقات العاطفیّة والأخلاقیّة وأوجد مشاکل روحیّة ونفسیّة وساهم فی تفرّق وابتعاد الأفراد بعضهم عن البعض الآخر.

بمعنی أنّ الفرد فی المجتمع الغربیّ قد انفصم وانفصل عن تقالیده المذهبیّة، وعن تقالیده العائلیّة والاجتماعیّة کذلک، وابتلی بالفقر المعنویّ والإحساس بالعجز والیأس. فالأزمة الرّاهنة لیست أزمة علم وفلسفة فحسب، وإنّما هی أزمة عالمیّة ومعنویّة وأزمة قیم کذلک. ویمکن القول بناءً علی

ص:171

تفاسیر علم الاجتماع: إنّ الزّمن الجدید هو زمن الأزمات، البطالة، التضخّم، الحروب العالمیّة والإقلیمیّة، الجفاف، التوزیع غیر العادل للثّروة، إنتاج الأسلحة المیکروبیّة والکیمیاویّة والذّریّة واختلال التّوازن البیئویّ وأزمة الهویّة والفراغ المعنویّ، کلّ ذلک یعدّ من علائم الأزمة فی العلم الحدیث وطریقة نظرة البشریّة إلی عالم الوجود وعالمهم الذّاتیّ. إنّ جذور هذه الأزمة المعنویّة یمکن لمسها أیضاً فی ابتعاد الإنسان عن الله والغفلة عن نفسه، وسیطر هذا النّسیان للنّفس علیه من خلال تعاطیه وأنسه بالأشیاء المادّیّة والفنیّة؛ ممّا أدّی إلی فقده مکانته وأهدافه.

إنّ الحیاة البشریّة تتعرّص للخطر والمخاطرة لارتباطها بالأمن الوجودیّ الّذی یتعرّض بدوره للاهتزاز وذلک لتمیّز أغلب جوانب الحیاة الاجتماعیّة فی الوقت الرّاهن بسمات دنیویّة علی حساب السّمات الأخری. إنّ الأمن یعتمد علی الشّعور بدوام الأشیاء والظّواهر والحاجة إلی الاعتماد علی الآخرین. وعلی هذا فکیف یمکن للإنسان أن یجد البدیل عن الدّین فی تأمین فلسفته الوجودیّة وأمنه وهویّته فی خضمّ هذه الأنظمة الانتزاعیّة والمصطنعة الحدیثة الّتی هُمّش فیها الدّین؟ وکیف یمکن توجیه أنّ استعادة أمنه المفقود یعتمد علی نوعیّة علاقته بالأفراد الآخرین والأنظمة الحاکمة؟

إنّ الوسط الثّقافیّ والمعلوماتیّ العولمیّ الّذی یعیشه الإنسان والّذی تغیّرت حدوده الخفیّة والظّاهرة؛ انتزع منه ارتباطه المکانیّ والاجتماعیّ والتّاریخیّ والثّقافیّ، وأثمر عن شعوره بالغربة والوحدة. وکلّما ازداد تعرّضه لغزو المعلومات المتنوّعة فإنّ حیرة واضطراب عالمه الافتراضیّ یؤدّی إلی ابتعاده أکثر وأکثر عن الحقائق والواقعیّات.

إنّ ابتکار وسائل الاتّصال الألکترونیّة جعلتنا نواجه الأحداث و الأفعال والهیئات والعلاقات المصطنعة، فلا یمکن لهذه الأنواع من

ص:172

الارتباط و الاتّصال أن تهب لنا الإخلاص والصّدق والهدوء النّفسیّ والرّوحیّ علی الإطلاق. والسّبب الآخر لهذا الشعور بالیأس واللا أمن للإنسان الحدیث یستتر خلف التّغییرات المتسارعة فی ماهیّة الحیاة الحدیثة، الّتی ترکته مشوّش الذّهن وفاقداً للإرادة من خلال العملیّة المتبادلة فیما بین الدّیالکتیک والتطوّر.

إنّ حقیقة العصرنة فی ذاتها لا تعیر أهمّیّة للأحاسیس والعلاقات العاطفیّة، بل إنّ انعکاساتها القاسیة والعنیفة تعرّض تلک الأحاسیس والعلاقات للتّغیر والتبدّل. فکثیر من علماء الحضارة یؤکّدون علی هذه النقطة وهی أنّ عزل الطّبیعة عن الجوهر الإلهیّ وترجیح الجسم والذهن علی الرّوح والمعنویّة والانحیاز إلی العلم والفکر اللادینیّ باعتباره الطّریق الصّحیح؛ أخلّ بالانسجام العملیّ والمعنویّ للإنسان مع نظام الوجود؛ ممّا جعله یواجه أزمات غیر معهودة دکّ رکائزها وألهب نیرانها بنفسه، ولکنّه یأبی ویرفض إلی الیوم التّعرّف علی الأسباب الحقیقیّة لهذه المسألة.

فی حال أنّه «ینبغی البحث عن مرثیّة هذه الأزمة فی تقدیس العقلنة والنّهضة الإنسانیّة المادّیّة الغربیّة؛ فالإنسان الغربیّ یعتبر نفسه موجوداً مطلقاً تفوق خیاراته وتصرّفاته خیارات الله وتصرّفاته، وأنّ هذه النّزعة الإنسانیّة الإفراطیّة نفسها أبعدته عن مصادر القداسة والمعنویّة. ومن هنا؛ فالمعوّل علی هذا الإنسان ذاته للخلاص من هذه الأزمة. أمّا النزعة العلمیّة تّجاه الإنسان والطبیعة؛ فقد جففّت بدورها الجذور المعنویّة للحیاة البشریّة، فأنکر الإنسان المتجدّد والمتطوّر التّقالید الدّینیّة جمیعها من خلال تدمیره للطّبیعة، والنّظرة العلمیّة الجافّة والمادّیّة البحتة الممزوجة بالحرص النّاجم عنها».(1)

ص:173


1- (1) للاطّلاع أکثر؛ راجع ر. ک. حسین نصر (أزمة المعنویّة) مجلّة نقد، العدد 3-4، سنة 1998.
2-3. العدمیة

مع غزو التّجدّد للحیاة والنّزوع نحو فصل العقل عن نور الوحی؛ ابتلی الإنسان الحدیث بالابتعاد عن الفضیلة والدّخول فی دوّامة الانحطاط الأخلاقیّ. وغدت العصرنة فی نظره مظهراً للخیانة تجاه الإلهام والمکاشفة وانسداداً تاریخیّاً وفلسفیّاً، فهذه الأزمة فی الحقیقة قد اختلقها هو لنفسه؛ بإعراضه عن أصالة محوریّة الله.

واعتقاده بأنّ الطّریق الصّحیح یمرّ عبر متاهات العدمیّة النّیتشیّة والرکائز الواهیة للاستدلالیّین أو العلمیّة المادّیّة.

یدّعی هیدغر أنّ (العدمیّة) هی النّتیجة المنطقیّة للتّقنیة الحدیثة. وأنّ الانعکاس العدمیّ للفکر التّقنیّ یؤدّی دون شکّ إلی الإنکار التّدریجیّ لجمیع العقائد الشّرقیّة، هذا الانعکاس الّذی یتنفّس من خلال عملیّة التّشغیل الذّاتیّ (الأتمتة) والنّمو الذّاتیّ، الاستقلالیّة والتفرّد، ویتقدّم بحرکته التّنازلیّة هذه لیهوی فی هوّته السّحیقة.

وإذا ما أردنا إحصاء ممیّزات مسار الفکر الغربیّ ینبغی ذکر ما وصفه به عالم الاجتماع الفرنسیّ جاک لوی، فیمیّزه فیما یلی:

تقنیة الفکر: إنّ الانسلاخ عن البصیرة الشّهودیّة باتّجاه الفکر التّقنیّ هو عملیّة تحجیم الطّبیعة بشیئیّة الأشیاء.

المادّیّة: إنّ الانسلاخ عن الصّور الجوهریّة باتّجاه المفهوم المیکانیکیّ یسبّب انتزاع جمیع الکیفیّات الرمزیّة والصّفات السّاحرة من الطّبیعة.

الغرائزیّة: إنّ الانسلاخ عن الجوهر الرّوحانیّ باتّجاه المسّوغات النّفسانیّة هو انتزاع لجمیع الصّفات الرّبانیّة والملکوتیّة من الإنسان.

محو الأسطورةَ: إنّ الانسلاخ عن الغایة الفکریّة والمعاد والعودة إلی تاریخ الوثنیّة والدّهریّة هو خلو عن أیّ معنیً عدائیّ وغائیّ.

ص:174

3-3. فقد المعنی والهدف
اشارة

إنّ إحدی ممیّزات الحیاة الحدیثة هو ولع الإنسان فی البحث لاکتشاف قیمة الحیاة ومعناها. فإنّ فقد المعنی تسبّب فی انجرار کثیر من الأفراد وخصوصاً الشّباب نحو طرق معوجّة للتّمتّع بالملذّات المادّیّة الآنیة، وحتی الوقوع فی فخّ الفلسفات والثّقافات والأدیان المبتدعة. فظاهرة البحث عن المعنی بإمکانها تعریفهم بالبلاغات المعنویّة والأدیان الحیویّة التّوحیدیّة کالإسلام بشکل خاص.

وفیما إذا وفّقوا فی طیّ هذا البحث عن المعنویّة وعدم الوقوع فی کمین الأدیان الحدیثة والمصطنعة والبدیل والشّبیه الّذی لا أساس ولا اعتبار له؛ فإنّهم سیعثرون علی ضالّتهم المنشودة فی الأدیان المعنویّة والإلهیّة الّتی تؤمّن الجوانب الفردیّة والاجتماعیّة والمعنویّة للحیاة بنحو معقول، والّتی بإمکانها التّأثیر فی صنع فکر وعلم وثقافة المجتمع الجدید وإنقاذ البشریّة من خطر العدمیّة والنزعة النّسبیّة وأزمة المعنویّة.

إنّ الإنسان لدیه احتیاجات مختلفة ومتنوّعة فإحدی هذه الاحتیاجات ذات جانب مادّیّ ویتعلّق بمسائل مادّیّة کالتّغذیة، الصّحّة، السّلامة ومختلف المتع المادّیّة والرّفاهیة. وقد نال وتوصّل إلی القسم الأعظم من هذه الاحتیاجات المادّیّة الّتی تریحه من المشاکل المادّیّة وتؤمّن له حیاة أفضل. أمّا القسم الآخر من احتیاجاته، فهی الحاجات المعنویّة الّتی ترتبط بالروح، الفکر، راحة البال والنّفس، ومن ضمن هذه الحاجات المعنویّة هی روحیّة معرفة الله والشّعور بالارتباط والاعتماد علی قدرة أکبر تستحق التّقدیس والإطراء والخلود، والاعتماد والتّوکّل علیها، وتمتلک الإحساس والعلم. ومازال التّاریخ یشهد علی أنّ الإنسان بذل جهوداً جبّارة ومتواصلة من أجل الحصول والوصول إلی هذه الحاجة وهذا المراد، وقد واجه فی هذا المجال

ص:175

مشاکل وصعوبات جمّة. فلطالما کان السّعی نحو المعبود والإحساس بالحاجة إلی مبدأ یمکن الاعتماد علیه؛ مرافقاً لتاریخ الحیاة البشریّة.

إنّ الإنسان وبحسب مقتضیات الفطرة الإلهیّة المودعة فی روحه سعی علی طول حیاته للارتباط بالمبدأ الواقعیّ والحقیقیّ للخلق والإلوهیّة، ولکنّ هذا الشّعور بالحاجة تمثّل الیوم بشکل أوسع وأکثر جدّیّة، وعلی هذا الأساس والمقتضی قامت المدارس العرفانیّة المتعدّدة الّتی تبغی تنمیة الرّوح وتعزیز الإرادة، وکذا المدارس النّفسیّة الّتی تدعو إلی بعث الاطمئنان والهدوء الرّوحیّ؛ قامت بکسب المزید من الأفراد فی هذا الاتّجاه.

میلتن ینغر فی مقالة له بعنوان (الدّین و الحاجات الفردیّة) تحدّث عن الحاجات الّتی دعت الإنسان المعاصر أن یتوجّه صوب الدّین فیقول: «إنّ التّشرّد الرّوحیّ، الحیرة، الشّعور باللا ملجأ، الإحساس بالعبث والاکتئاب والوحدة؛ ما هی إلّا نتیجة للضّغوط النّاجمة عن التّقدّم الصّناعیّ والتّغیّر والتّحوّل العمیق الّذی تبعه فی الأسس الاجتماعیّة والثّقافیّة».(1)

لقد جرّبت البشریّة الیوم مظاهر مختلفة من اللّذة واللهو والتّسلیة المادّیّة فی ظلّ المکاسب التّقنیّة، ولکنّها لم تتخلّص من مجموعة المشاکل الرّوحیّة والشّعور باللا أمن والعبث. بل إنّها ازدادت اضطراباً وإحساساً بالعبث واللا معنی الّذی یعصف بحیاتها.

ولأجل حلّ هذه المشاکل وتوفیر احتیاجات الإنسان المعاصر، فقد تشکّلت حرکات متعدّدة وبُذلت جهوداً حثیثة علی هذا الصّعید؛ المدارس العرفانیّة، التّحلیل النّفسیّ، تناول المخدّرات والمواد المنعشة؛ ممّا یحکی عن عدم الاطمئنان الرّوحیّ والحاجة إلی الهدوء والاستقرار الرّوحیّ الّذی أصبح من هواجس علماء الدّین الّذین ینبغی أن یمثّلوا الدّواء والعلاج لآلام البشریّة هذه.

ص:176


1- (1) ملتون ینغر، والستون و...، (الدّین والآفاق الجدیدة)، ص 15، «التّرجمة الفارسیّة لغلام حسین توکّلی».
دور الدّین فی الحیاة

هل من الممکن أن نأمل من الفلسفة والعقل والعلم أن تقوم بدور علم النّفس فی جلب النفع وعلاج المشاکل الرّوحیّة والنّفسیّة، بینما ننحّی الدّین عن ذلک؟ یجیب یونغ عن ذلک بالسّلب: «فی مقابل الأمراض الروحیّة والأزمات الهدّامة النّاشئة عنها، لا یمکن أن ننتظر من العلم والفلسفة تقدیم أیّة مساعدة فی هذا المجال، إنّ العقل البشریّ لا یستطیع لوحده حیال هذا البرکان الهائل، من الغرائز والاستبداد البشریّ؛ أن یقف بوجهه أو یحول دونه، فمهما کانت النّظریّة العلمیّة دقیقة فإنّها علی صعید علم النّفس أقلّ قیمة من العقائد المذهبیّة. إنّ النّظریّة العلمیّة لا تحوی تجارب فی المجالات العاطفیّة، وسرعان ما تُخلی مکانها لنظریّة علمیّة أخری، أمّا العقیدة الدّینیّة فهی تستمرّ وتبقی علی مدی قرون متطاولة».(1) ثمّ یبیّن یونغ السّبب الأساسیّ (لأزمة الحضارة الغربیّة) فیقول:

«إنّ قیمة ما وراء الإیمان والعقائد والآداب والتّقالید الدّینیّة وروحیّتها قد فقدت رونقها وضعفت إلی حدّ کبیر، واستولت موجة التّشکیک والأسالیب العلمیّة والانتقادیّة تّجاه العقائد الدّینیّة. فالغرائز الفضولیّة والبواعث التّوسعیّة صنعت من الغرب تنّیناً ابتلع القسم الأعظم من العالم. ومنذ ذلک الوقت ألهب المذهب البروتستانتیّ الحماس فی الطوائف والأحزاب والمدارس الفکریّة علی السّواء لتوسیع وتنمیة العلوم والفنون. وکان من نتیجة ذلک أنّ غدا الإنسان المعاصر عرضة لعدم التّوازن والطغیان الروحیّ وما ذلک إلّا لإقصاء دور الله من حیاته».(2)

ص:177


1- (1) یونغ، علم النّفس والدّین، ص 53، «التّرجمة الفارسیّة».
2- (2) نفسه، ص 86.

ویشیر یونغ فی موضع آخر إلی (أزمة الحضارة الغربیّة) ویقول: «إنّ الإنسان الیوم لا یفهم أنّ العقلنة قد أطاحت باستعداده للانفعال تّجاه جذور وأفکار ما فوق الطّبیعة والمیتافیزیّة فجعلته عاجزاً إلی أبعد الحدود أمام عالم النّفس الخفیّ».(1) فمع أنّ الإنسان قد حرّر نفسه من ربق الخرافات إلی حدٍّ ما ولکنّه أوقع نفسه فی فخّ خطیر ألا وهو فقد القیم الأخلاقیّة والمعنویّة الأصیلة، وانفصل عن تقالیدها وعرّضها للاضمحلال وعلُق فی شباک الحیرة والتردّد. وعلی خلاف یونغ الّذی لاحظ الدّور الإیجابیّ للدّین وأرجع کثیر من أسباب المشاکل الفکریّة والرّوحیّة والمعنویّة لعالم الیوم إلی الإعراض عنه؛ یقف فروید و بإصرار شدید لیتّخذ موقفا انتقادیّاً حیال الدّین، ولکنّه مع ذلک یذعن بحقیقة أنّ الدّین کان حاضراً علی الدّوام ومرافقاً للحضارة البشریّة منذ فجر التّاریخ.

ففی اعتقاده: «لم تخل أیّة مرحلة فی أیّة حضارة من المعتقدات الدینیّة».(2) وفی رأیه أنّ العقائد والممارسات المذهبیّة علی العموم غالباً ما تکون ملجأً للإنسان فی مقابل مشاکل الحیاة الیومیّة، ولکنّها من جهة أخری یمکن أن تکون منبعا ذاتیّاً للاضطراب والقلق الذّهنیّ. إنّ الدّین متغلغل فی کثیر من مجالات الفعّالیّات الاجتماعیّة.(3)

فبإمکان الدّین ومن خلال نموّ المؤسّسات الاجتماعیّة الحدیثة إحلال نوع من التّوازن فیما بین العقیدة والمغامرة، الأمن والخطورة.

ص:178


1- (1) یونغ، الإنسان وجذوره، ص 141، «لتّرجمة الفارسیّة».
2- (2) فروید، مستقبل خیال، ص 186، «التّرجمة الفارسیّة».
3- (3) إفرازات العصرنة، ص 128، «الترجمة الفارسیة».
الدّین الدنیویّ أو إنکار الدّین

4-3. إنّ إحدی إفرازات العولمة؛ النّزاع الجدّی فیما بین النّزعة الدّنیویّة والدّین، فالدنیویّة تعدّ موضوعاً معقّداً یتضمّن أبعاداً أخلاقیّة وتربویّة وثقافیّة ومذهبیّة، و لکن لا یبدو أنّها تؤدّی إلی الإنکار الکامل للفکر والفعّالیات المذهبیّة، لکون الدّین مازال بإمکانه الإجابة عن الأسئلة الوجودیّة، کما عُهد ذلک منه سابقاً. فمع أنّ أسلوب أصالة التّجربة قد استولی علی أغلب مراکز الحیاة الاجتماعیّة الحدیثة، ولکن مع ذلک لم یستطع الفکر المنفتح والمتجدّد الحدیث الحلول محلّ المعرفة المذهبیّة للعالم.

وکذا ینبغی الإغماض عن هذه الحقیقة وهی أنّ الدّین والقیم الدّینیّة مازالت حاضرة فی أکثر المجتمعات الغربیّة تحضّراً، ولم یفقد الدّین فیها سطوته، بل إنّ الاتّجاه نحو المذهب والمعنویّة یزداد اضطّراداً یوماً بعد آخر.

الإمام الخمینیّ رحمه الله فی رسالته إلی غورباتشوف، الرّئیس الأسبق للإتّحاد السّوفیتیّ السّابق، یذکّر: «بأنّ البشریّة لیس بإمکانها النّجاة من خلال المادّیّات. وإنَ عدم الاعتقاد بالمعنویّة یعدّ من أهمِّ الآلام والمشاکل الّتی یعانیها المجتمع البشریّ شرقاً وغربا».(1)

إنّ الإنسان کلّما ازداد حصوله علی اللّذة المطلقة والقوّة والرّخاء، قاده ظمأه الّذی لا یُروی إلی التّوتّر والنّزاع واستغلال الإنسان الآخر وأبناء جنسه. فالعولمة فی رؤیة الغرب؛ تعنی النّزعة الإنسانیّة، اللیبرالیّة، العلمانیّة والفردانیّة الّتی لا تستطیع تکفّل وتحمّل مسؤولیّة عمل الدّین. فی حال أنّ البشریّة بحاجة إلی عالم حرّ وعارٍ من الظّلم والاستغلال واللا عدالة، ممتلئ سلاماً وأمناً وعدلاً، وإنّ هذا ممّا لا یمکن للحضارة الغربیّة مطلقاً القیام به وتأمینه.

ص:179


1- (1) صوت التّوحید، رسالة الإمام الخمینیّ رحمه الله إلی غورباتشوف.

فالنّظرة النّاقصة والأرضیّة للحضارة الغربیّة إلی الإنسان جعلته یبتعد عن مکانته الإنسانیّة.

فمثل هذه الرؤیة لا یمکنها علی الإطلاق أن تؤمّن السّلامة والسّعادة لمستقبل المجتمعات الإنسانیّة وأن تجلب لها الأمن والسّلام والعدالة.

ومن هنا؛ ففی رأینا، أنّ العصرنة ذاتها تواجه أزمات مهمّة وبنیویّة، والمدرسة الوحیدة القادرة علی أن تکون عالمیّة، هی تلک الّتی تمتلک عمقاً علمیّاً وفکریّاً وأسساً عقلانیّة أصیلة، وتستطیع أیضاً الإجابة عن الحاجات الأساسیّة والتّاریخیّة للبشریّة، ولیست هذه المدرسة سوی الإسلام وحده، الّذی یمتلک رؤیة شاملة وکاملة إلی العالم والإنسان تتطابق وتنسجم فی ذات الوقت مع العلم والعقلانیّة وتستطیع توفیر جمیع احتیاجات الإنسان الیوم وغداً علی السّواء.

و فی مقابل تأکید البعض علی أنّ الحضارة الغربیّة والعصرنة وصلت إلی طریق مسدود وتواجه فعلیّاً أزمات لا تحصی؛ فلسفیّة ومعرفیّة ووجودیّة وعلمیّة، تقف فئة أخری یمثّلها غینز وهوبرماس تؤکّد علی إعادة بنائها وعولمتها. إنّ نظرة العصرنة إلی الإنسان نظرة مادّیّة وذات نزعة إنسانیّة وعلمانیّة بحتة تنازع وتعارض المعنویّة. فالإنسان حسب رؤیة العصرنة الغربیّة موجود لیس له غایة ولا ارتباط بمبدأ وجودیّ ویمتلک حرّیّة مطلقة تجعله یسرح ویمرح فی هذا العالم کما یحلو له، وتنعدم البواعث الأخلاقیّة والدّینیّة من حیاته الفردیّة والاجتماعیّة. فهل من الممکن أن تکون مثل هذه النّظرة، عالمیّة؟ وهل بإمکان العالم الإنسانیّ أن یکون خالیاً من المعنویّة والقیم الإنسانیّة؟ وفی مثل هذا العالم المفترض، کیف یمکن التّحدّث عن السّلام والاطمئنان؟ إنّ النّظرة العالمیّة للعالم والإنسان ینبغی لزوما أن تکون رؤیة معقولة وکاملة وتأخذ فی نظر الاعتبار کافّة الحاجات والجوانب الواقعیّة

ص:180

للعالم والإنسان. وهذا عکس ما نلاحظه فی الرؤیة المادّیّة والأداتیّة للإنسان الغربیّ للعالم والإنسان، فلذا نحن نشاهد الأزمات المتعدّدة الّتی لم تقتصر علی حیاة الإنسان الغربیّ بل عصفت أیضاً بجمیع العالم. فالرؤیة الإلهیّة الحکیمة هی وحدها الکفیلة بمعرفة أسرار الوجود والتّوصّل إلی حیاة إنسانیّة معقولة، أمّا المدارس الغربیّة فتری الإنسان عاریاً من الله والمعنویّة ولیس له أیّة فلسفة وغایة.

وعلی هذا الأساس؛ فالارتباط بعملیّة العولمة الغربیّة هو فی الواقع القبول بقیم وإفرازات ومقتضیات عالمها الشّمولیّ أمثال؛ إزالة القیود والحدود الوطنیّة والفکریّة والدّینیّة والرضوخ للمعاییر العلمانیّة والتّعددیّة الثّقافیّة وزعزعة البنی الاجتماعیّة والتأثّر بالتّطوّرات السّیاسیّة والاقتصادیّة والثّقافیّة الغربیّة والقبول بکافّة المستلزمات الّتی لا یمکن تلافیها للعولمة.

الرؤیة الأخری المطروحة فی هذا المجال هی الرؤیة التّجزیئیّة الّتی تعتقد بأنّ عملیّة العولمة ولما تحمله من الجذّابیّة والإفرازات الإیجابیّة، توجب اتّخاذ موقف تّجاهها هو ذاته الموقف الّذی اتّخذته المجتمعات المتنوّعة تّجاه العصرنة لتتکرّر قضیّتها.

یطالب بعض النخب والتّنویریّین الالتحاق بمسار العولمة ونشر القیم العالمیّة والأسلوب الوحدویّ فی الثّقافة والقیم العالمیّة، ویصرّون علی نقض القیود المذهبیّة والعرقیّة والوطنیّة. وتقف طائفة من الجماعات التّقلیدیّة والمذهبیّة فی مختلف المجتمعات بوجههم للآثار والإفرازات السّلبیة للعولمة وخصوصاً علی الدّین والأخلاق والقیم الإنسانیّة، فهم یخالفون التحاق المجتمعات برکبها دون قید أو شرط. فهذان اتّجاهان وحرکتان تقفان مبدئیّاً فی تضادّ مع بعضهما البعض، ویطرح کلّ منهما أفکاراً وأسالیب حسب هویّته الّتی تمیّزه عن غیره.

ص:181

فما الحلّ؟ من المؤکّد أنّ طریقة حلّ مثل هذه المعضلة لا تتمثّل فی إنکار واقعیّة العولمة والاعتقاد بکونها مؤامرة وأسلوباً استعماریّاً، ولیست کذلک فی اعتمادها المطلق وغیر المشروط؛ وإنّما ینبغی التعرّف جیّداً علی ممهّداتها وأسبابها وأسسها الفکریّة والفلسفیّة والاجتماعیّة ووعی مستلزماتها ومقتضیاتها وإفرازاتها، کی یمکن بعنوانها میزة وفرصة؛ استثمارها والاستفادة منها ومن أدواتها وإمکاناتها، والمبادرة إلی عرض الثّقافة الدّینیّة لمنافسة الثّقافات الأخری فی عرصتها، لکون العولمة تمثّل فرصة وساحة للتّنافس الکبیر بین کافّة الثّقافات والأدیان والحضارات قبل أن تکون فکرة وبلاغاً ثقافیّاً خاصّاً.

ص:182

خلاصة القسم الثّانی

اشارة

لقد رُمی وقُذف إنسان الیوم فی خضمّ هذا العالم المعقّد دون عدّة ومکنة، وواجه فضاءً انعدم فیه تأثیر الزّمان والمکان، و عرّضت عوامل ظاهرة وخفیّة أمنه العالمیّ للخطر وعلی مستویً شامل، وأحاطت به الأزمات البیئویّة، الاجتماعیّة، الاقتصادیّة، الثّقافیّة والفلسفیّة، واحتضنه اضطراب المجتمع العالمیّ.

«یبدو التّعارض فیما بین الهویّات الثّقافیّة والمذهبیّة والمُثل الاجتماعیّة فی بواکیره، وتتعرّض جمیع الأشیاء للتغیّر والانقلاب، ولکنّ ذلک لا یسیر باتّجاه التّضامن والوحدة والاندماج، وإنّما باتّجاه مجتمع تسوقنا فیه قوی متناقضة بقوّتها وسطوتها».(1)

ویعتقد بعض أصحاب الرّأی أنّنا نعیش عصر العولمة وفی مرحلة یبدو أنّ کلّ شیء فیها أصبح عولمیّاً، ففی نظر هذه الفئة أنّ ذلک تمّ من خلال انتشار تقنیة المعلومات، الثّقافات والحضارات والأدیان والعلاقات السّیاسیّة، الاقتصادیّة والتجاریّة؛ أیّ أنّنا نتعرّض للتغیّر ونطبّق التّبعیّة المتبادلة علی جمیع المستویات وفی کافّة المجالات. ولهذا فنحن لابدّ و أن نتأثّر وننفعل بالآثار

ص:183


1- (1) الثّورة العالمیّة الأولی «التّرجمة الفارسیّة».

السلبیّة والإیجابیّة لتلک العملیّة، ونظراً لکون العولمیّة هی مرحلة متحقّقة أو فی طور التّحقَّق والانتشار فستکون إفرازاتها وآثارها کالآتی:

نظرة عابرة للإفرازات الاجتماعیّة للعولمة

1. إنّ العولمة تدعونا إلی المشارکة من جهة وتعمل علی تهیئة أجواء الاستبداد من جهة أخری، وها نحن نعایش هذین المسارین المتناقضین.

2. إنّ العولمة تؤدّی إلی انتشار الفقر وتعیق النّاس عن التّمتّع بالصّحّة، التّعلیم، السّکن والحاجات الاجتماعیّة الأوّلیة الأخری.

3. إنّها تتسبّب فی تقیید حاکمیّة الدّول الوطنیّة وإضعاف قدرة الحکومات والدّول.

4. وتمحو وتنتزع الهویّات والثّقافات المحلّیّة والأصیلة.

5. وتتسبّب فی ازدیاد الهجرة والبطالة، فالدول الصّناعیّة تستفید من القوی العاملة الرّخیصة وانخفاض الحاجة إلی فکر وإدارة وعمل الإنسان مباشرة نتیجة للتّقدم التّقنیّ واستخدام تقنیة الأتمتة والکومبیوتر.

6. وتؤدّی إلی تدمیر البیئة وتتسبّب فی إیجاد الأزمات البیئویّة العالمیّة.

7. وسرایة الأزمات الاقتصادیّة المحلّیّة والإقلیمیّة إلی کافّة مناطق العالم.

8. وتفرض علینا اتّجاهاتها الفکریّة والثقافیّة والسّیاسیّة والدّینیّة، وتضع أدیان وقیم الثّقافات الأخری تحت تأثیرها، وتغیّر من ذهنیّتنا وفکرنا وأسلوب حیاتنا.

9. وتؤثّر علی ماهیّة الزّمان، الفضاء، المکان، وسرعة المواصلات والتغییرات الاجتماعیّة.

10. و تُبدع تقنیات جدیدة وعلماً حدیثاً.

11. وتوجب ارتباط العالم بعضه ببعض، وظهور التّعارض الاجتماعیّ واختلال التّوازن والثبات والتبعیّة والاضطراب الثّقافیّ.

ص:184

12. وتتمخّض عن سلب الحرّیّة وقدرة الإنسان والدول علی التخطیط، وتُوجد فضاءً للتّنافس فی جمیع المجالات.

13. وتستلزم ترویج الثّقافات المتنوّعة، والثبقافة الغربیّة المبتذلة وعلی الخصوص الثّقافة الاستهلاکیّة، والّذی یؤدّی إلی أزمات أخلاقیّة واجتماعیّة و الجنوح نحو الجریمة.

14. وتُبلور الحرکات الاجتماعیّة والدّینیّة.

15. وتستوجب زعزعة العلاقات الدّولیّة والأممیّة.

16. و تؤثّر علی التّضانُ والترابط الاجتماعیّ.

17. وتتسبّب فی تعریض الأمن العالمیّ للخطر.

ص:185

ص:186

القسم الثالث: علاقة الدّین والعولمة

اشارة

ص:187

ص:188

1: تعریف الدّین

قبل الخوض فی بحث علاقة الدّین والعولمة نری من الضّروریّ عرض تعریف شامل وکامل عن الدّین وذلک من خلال التّعاریف المتعدّدة المطروحة والّتی نشیر إلی أهمّها فیما یلی:

1-1. یعتقد تیلت(1): «أنّ الدّین فی حقیقته هو حالة روحیّة أو خالصة ممزوجة بالاحترام تتمثّل بالخشیة».

2-1. ویقول برادلی(2): «الدّین هو سعی لاستکشاف الحقیقة الکاملة للخیر فی جمیع أنحاء الوجود قبل أن یکون أیّ شیء آخر».

3-1. ویعرّفه جیمس مارتینو(3): «بأنّه الاعتقاد بإله ذو حیاة خالدة، أیّ الاعتقاد بالإرادة والعلم الإلهیّ المهیمنان علی العالم والمرتبطان بعلاقات أخلاقیّة مع النّوع الإنسانیّ».

4-1. أمّا روی کین فیکتب فی بیان وتعریف الدّین: «إنّ الاعتقاد بقوی ماوراء الطّبیعة هو الّذی أوجب نشوء الدّین تاریخیّاً، وهو باعتباره

ص:189


1- (1) . c. p.Tielte
2- (2) . F.H.Bradley
3- (3) . Jamaes Martinean

أساساً لا یتغیّر فهو یضطرّ لتبریر وتفسیر الحوادث ومعرفة العلل الطّبیعیّة للوقائع».(1)

ففی رأیه أنّ العالم یولد من رحم الدّین لیتکفّل بالتّفسیر العلمیّ للحوادث. ومن المهمّ التّنبیه علی هذه النقطة؛ وهی أنّ المؤسّسة الدّینیّة إذا کانت تعتمد أصولاً منطقیّة وعقلیّة سلیمة فستسیر متناسقة مع التّقدّم العلمیّ والتّقنیّ، ومع تکامل النّظام الاجتماعیّ والثّقافیّ... الخ للمجتمع.

أمّا إذا تقمّصت دور مؤسّسات إنسانیّة وعملت علی خدمة الأنظمة الطّبقیّة أو المؤسّسات السّیاسیّة والاجتماعیّة الأخری، وتحوّلت إلی کهف للأصول غیر الواقعیّة والتفاسیر المطلقة المضادّة للعلمیّة وغیر القابلة للنّقاش؛ فستقف بوجه السّیر التّکاملیّ للعلم والتّقنیة.

5-1. ویکتب کیرک باتریک(2) عالم الاجتماع والنّفس: «إنّ القاسم المشترک لجمیع الأدیان؛ هو أنّها جمیعاً تعتقد بأنّ الإنسان ینفعل ویتأثّر بالأشیاء الّتی لا یمکن إدراکها بصورة مباشرة ولا یمکن معرفتها وتشخیصها عن طریق الحواس. وتعتقد جمیعها أیضاً بأنّ الإنسان لیس مجرّد جسم وقالب مرئیّ، وإنّما ذو روح أو نفس ترشد الأعمال الإنسانیّة علی أساس هدف معیّن».

6-1. ویعرّف أمیل دورکهایم الدّین باعتباره ظاهر ة مقدّسة بما یلی: «إنّ الدّین عقیدة وعمل یستهدف أموراً مقدّسة. فعدم الإحاطة بعلل الحوادث والظّواهر الطّبیعیّة تدفع الإنسان للتأمّل والخوف والحیرة فی مقابل قوی مقتدرة تتحکّم بالعالم ممّا تجعله متوجّساً ومعتقداً بأمر مقدّس».(3)

ص:190


1- (1) حمید حمید، علم تطوّرات المجتمع، ص 269، «باللّغة الفارسیّة».
2- (2) . Kirkpatric.
3- (3) امیل دورکهایم: الصّور الابتدائیّة للحیاة الدّینیّة.

7-1. أمّا فی المفهوم الفلسفیّ فقد عرّف الدّین: بأنّه میثاق الحقیقة المطلقة مع الحقیقة الوجودیّة والوجود البشری المستقلّ، فمع أنّ الفلسفة تسعی لتجربة حقائق الواقع، ولکنّ أثمن مکسب ومکافأة لهذا التّجرید الضّروریّ؛ هو أنّ النّظر نحو عالم أعلی معناه النّظر نحو الأعیان الشهودیّة المثالیّة و «المُثل»، والنّظر نحو حیاة هذا العالم.

وعرّفته بعض الرؤی الفلسفیّة الأخری بما مضمونه «أنّ عالم الوجود من صنع الله، وأنّ الله هو المدبّر لأمور العالم والإنسان» أو کما یقول مالبرانش: «نحن کائنات نری فی الله» ویدخل هذا القول فی نطاق الرؤیة الفلسفیّة الدّینیّة.

8-1. ویعرّف الشّهید مطهری الدّین بنظرة أشمل وأکثر عقلانیّة فیقول: «إنّ الدّین عبارة عن اعتقاد وتعلّق الإنسان بحقائق ما وراء الفرد وما وراء المادّة، وتشکّل هذه الاعتقادات بنی تحتیّة فکریّة وعقائدیّة فی حیاته الدّنیویّة، وتحدّد له جهاتها الأساسیّة». ویؤکّد کذلک علی فطریّة الدّین ویقول: «إنّ الجنس البشریّ بحاجة إلی الدّین، فالدّین جزء من المؤسّسة البشریّة ویدخل فی ضمن الحاجات الفطریّة والعاطفیّة والعقلانیّة للإنسان». وفی مجال دور الدّین یبیّن بأنّ «الدّین ضرورة فردیّة واجتماعیّة، فهو یبنی الإنسان من الدّاخل ویغرس فی نفسه الأمل فی جانبه الفردیّ، ویسهّل الحیاة الاجتماعیّة للآخرین فی جانبه الاجتماعیّ». ویعتقد أنّ الدّین مهمّ للغایة اجتماعیاً وعلی الخصوص فی الموارد التّالیة:

1. فهو یقوم بدور أساسیّ فی التّعلیم والتربیة والتّثقیف والتّکامل الشّعوریّ والإدراک الاجتماعیّ للأفراد.

2. وله دور فی استحکام العهود والمواثیق؛ لکون الدّین والمذهب الدّعامة الأساسیّة للقیم الأخلاقیّة والإنسانیّة.

ص:191

3. إنّ للدّین دوراً مهمّاً فی نجاة الإنسان من أسر العوامل الّتی تحول دون رقیّه الاجتماعیّ، فهو ومن خلال إزالة عوامل الظّلم والاستضعاف والطّغیان والاستغلال والاستعباد، وإصلاح العقائد والآداب والتّقالید الشّعبیّة؛ یهیّئ الأرضیة للسّلامة الرّوحیّة والصّحّة النّفسیّة والفکریّة والتّربویّة للمجتمع والفرد، ولذا فله دور أساسیّ فی التّحوّلات الفکریّة، والنّموّ الفکریّ والأخلاقیّ الّذی یحدث فی المجتمع.

9-1. ویعتقد الإمام الخمینیّ رحمه الله بأنّ الدّین یمثّل الاعتقاد الحقیقیّ بالله، بمعنی أنّ الفرد یستحضر رقابة الله علی کلّ أعماله وأفعاله. ففی رأیه أنّ الدّین برنامج حیاتیّ یضمن للإنسان السّعادة الخالدة والرقیّ المعنویّ.

10-1. ویصف العلّامة الطّباطبائیّ رحمه الله الدّین بما یلی: «ینبغی علی الإنسان أن یتّخذ أسلوباً حیاتیّاً یتلائم وهذه الدّار العابرة وکذا مع تلک الدّار الخالدة، وأنّ الطّریق الّذی یوصله إلی هدفه المنشود وینال به سعادة الدّنیا والآخرة هوالدّین. وأنّه لابدّ لهذه المؤسّسة الدّینیّة من رسول یبعثه الله کی تکون متکاملة».

11-1. ویری ماکس ویبر، عالم الاجتماع الألمانیّ (1864-1920) بأنّ الدّین بعنوانه ظاهرة اجتماعیّة یؤدّی دوراً أساسیّاً فی الأحداث والتّطوّرات الاجتماعیّة.

ویعرّف امیل دورکهایم الدّین تعریفاً آخر ویحلَّله من خلال إنجازاته الاجتماعیّة فیقول: «إنّ الدّین نظام فکریّ یتقمّص أفراد المجتمع هویّاتهم من خلاله»(1) فهو یعتقد بأنّ للدّین دور فی رسم الهویّة، الانسجام، الحیویّة، المعنویّة والاطمئنان الاجتماعیّ.

12-1. ونظراً للاختلافات الفاحشة فیما بین الأدیان فإنّ التّوصّل إلی تعریف جامع ومقبول للدّین یعدّ أمراً عسیراً، ففی عرض أیّ تعریف عامّ للدّین من خلال ممیّزات دین خاصّ یؤدّی فی کلّ الأحوال إلی إمکانیّة

ص:192


1- (1) أمیل دورکهایم: الصّور الابتدائیّة للحیاة الدّینیّة.

الغفلة عن ممیّزات مهمّة لبعض الأدیان. علی أیّة حال فبعض الباحثین الدّینیّین سعوا إلی إراءة تعریف مثمر للدّین، واتّخذ نینیان سمارت مثل هذا الاتّجاه؛ فهو یحدّد ست میزات عامّة یعتقد باشتراک جمیع الأدیان فیها، فعنون ذلک حسب هذا الترتیب: (الشّعائر، الأساطیر، العقائد، الأخلاق، التّعالیم الاجتماعیّة، التّجارب)، فبإمکان الباحث الدّینیّ الاقتصار علی أحد هذه الأبعاد أو التّطرّق إلی جمیع الأبعاد والخصائص الأخری. وبإمکان البحوث العلمیّة أن تتطرَق إلی جوانب متعدّدة من الدّین، فتبحث فی علم النّفس الدّینیّ مثلاً، أو علم الاجتماع الدّینیّ، أو تاریخ الدّین، أو فلسفة الدّین أو البحوث التّطبیقیّة للدّبن.

أمّا أسلوبنا فی هذا البحث فهو یرتکز أساساً علی التّحلیل، بمعنی أنّنا نحاول بذل قصاری جهدنا لاتّخاذ أصحّ وأکثر النّظرات عقلانیّة فی مجال علاقة الدّین والعولمة ونقوم بنقدها وتقویمها.

ص:193

ص:194

2: الدّین والعولمة

لا یوجد أدنی شکّ فی أنّ بیان علاقة الدّین وعملیّة العولمة مهمّ وضروریّ من جهات متعدّدة.

ونظراً للافتراض الأوّلی من أنّ کلا العملیّتین لهما تماس وارتباط مباشر بشؤون الإنسان وحیاته الاجتماعیّة والفردیّة، وکذا لدعوتهما معاً للعالم الشّمولیّ الّذی یتجاوز الحدود؛ فنظراً لذلک یمکن القول بأنّ النزاع واقع لا محالة فیما بینهما فی بعض المجالات. إلّا أنّه یمکن افتراض أسالیب معتبرة لعدم وقوع أیّ نزاع بین الطّرفین، ولکنّ مواجهة وتضادّ العولمة مع التّعالیم الأخلاقیّة والدّینیّة ممّا لا شکّ فی ثبوته فی عالم الواقع. ولکنّ هذا التّقابل لیس هو علی شاکلة تقابل العلم والدّین الّذی یمکن ملاحظته فی مجالات متعدّدة ونقاط متمایزة حسب تمایز موضوع وأسلوب وهدف ومجال کلّ منهما.

وتُطرح نظریّة أخری فی هذا المجال تفترض أنّ التّقابل فیما بین العولمة والأدیان والثّقافات الدّینیّة هو تقابل فوقیّ. وتعتقد بأنّ العولمة ترتکز علی نفس الأساس الّذی ترتکز علیه العصرنة الغربیّة، لذا فالعولمة غربیّة من حیث المنشأ والجوهر والماهیّة وأنّ تضادّها مع باقی الثّقافات هو تضادّ سطحیّ و

ص:195

قابل للسّیطرة، وأنّ ما یؤخذ علی أنّه عملیّة عولمة ماهو إلّا موجة یمکن استیعابها بسهولة، فهی لیست دائمة الاستقرار والثّبات.

ولکن ینبغی هنا، طرح هذا السؤال؛ وهو هل أنّ العولمة تقصی الدّین وتطیح به حقیقة؟

یعتقد العلمانیون بأنّ العولمة أهدت العالم الثّالث فرصاً وامتیازات للقضاء علی جمیع عوامل تخلّف المجتمعات الدّینیّة دفعة واحدة. فهذه الفئة من أنصار العولمة الّتی تمثّل النّظرة المریبة تجاه الدّین والتّقالید حسب تفکیرها وتنظیرها لم ترضخ حتّی الآن للواقع العلمیّ الّذی یفصح عن أنّ الأزمات والمصائب الّتی ابتلیت بها البشریّة نتیجة للمروق من الدّین ومحاربته؛ تتفوّق علی الآثار السلبیّة المدّعاة للدّین.

ففی واقع الأمر أنّ أغلب المشاکل البشریّة کانت قد نجمت عن الإعراض عن الدّین ومخالفته عن أن تکون ناشئة من اتّخاذ الدّین محوراً ومداراً. وحتی أنّ هؤلاء لم یذعنوا بالحقیقة العلمیّة الّتی تتمثّل بالتّقدّم العلمیّ. مجالات الفلسفة الدّینیّة، علم الاجتماع، علم الإنسان والتّاریخ؛ الّتی أثبتت بطلان الفرضیّات الّتی تفترض (کون الدّین أسطورة وخرافة ووهم ولیس له من نفع ولا فائدة وأنّه عائق دون الرّقیّ والتّطوّر).

فإنّ ادّعاء العلمانیّین المبتنی علی تلازم التّقدّم مع إنکار الدّین؛ ما هو إلّا ادّعاء نفسیّ وشخصیّ ولا یرقی أن یکون علمیّاً أو حتّی فرضیّة قد تمّ إثباتها.

ولکنّنا علی أیّة حال لا یهمّنا هذا الادّعاء غیر المستدل، وإنّما الّذی یهمّنا هو ذلک الّذی یعدّ محوراً للنّزاع والخلاف؛ وهو هل أنّ بغیتهم وطموحهم من العولمة یمکن تحقَّقه وأنّها تؤدّی إلی الإطاحة بالدّین، کما یزعمون؟ أم أنّ ما بشّروا به منه لیس سوی سراباً بقیعة، وأنّه علی فرض تحقَّقه فإنّه سیوجب تعزیز أسباب انتشار الدّین لا اندثاره کما یدّعون.

ص:196

إنّ أکثر الدّراسات الّتی أجریت حول العولمة أغفلت مکانة الدّین وأسقطته من الحساب، مع أنّ بإمکان الأدیان أن تلعب دوراً خلّاقاً ومؤثّراً فی بلورة عملیّات العصرانیّة والعولمة. فهذا ماک لوهان یشدَد علی أنّ القیم الدّینیّة فی القریة العالمیّة تشیر إلی فقدان القدر المشترک فیما بین الأنظمة الثّقافیّة.

أمّا برایان ترنر فیکتب فی مجال مکانة الدّین فی عصر العولمة: «إنّ العولمة تتناقض والدّین تناقضا ظاهریّاً فی أربعة محاور:

1. التّناقض فیما بین الأسس الفکریّة والفلسفیّة للعصرنة والأسس الدّینیّة (تضادّ مبنائیّ وفکریّ).

2. التّناقض القائم علی أساس التّضادّ فیما بین الأصولیّة والتّجدیدیّة (تضادّ مبدئیّ).

3. التّناقض فیما بین التّرابط العولمیّ والهویّة الدّینیّة (تضادّ عملیّ).

4. تناقض الثّقافة الدّینیّة مع الثّقافة الغربیّة، تقابل الشّرق والغرب (تضادّ فوقیّ وظاهریّ).

التّناقض الأوّل: إذا تبلورت العولمة باتّجاه علمانیّ وعلی أساس المبانی الفکریّة للیبرالیّة، فینبغی القول: بأنّها تعدّ ردّاً مضادّاً للمدّعیات الدّینیّة.

التّناقض الثّانی: فإذا کانت العصرانیّة الوجه الغالب للعولمة، فلا یکون الدّین - باعتباره القسم المعزول والمنفصل عنها - من المطالبین بالالتحاق بعملیة العصرانیّة، وأنّ فعالیات وقیم العالم الجدید لا تنسجم والدّین، فمن هذه الجهة سیکون للدّین انفعالا مضادّاً للعولمة.

ولکن مع هذا، فإنّ هذه القضیّة لا یمکن تحلیلها بهذه السّذاجة، وإنّما علی جمیع التّقادیر؛ سیکون السّعی لحفظ الدّین فی المجتمع له أهمّیّة من جانبین:

1. أنّ الحیاة الدّینیّة تتطلّب علی الدّوام الصّراع والتّلائم مع عملیّات العصرانیّة والتّطوّرات الاجتماعیّة والعلمیّة.

ص:197

2. أنّ المجتمعات الحدیثة ولأجل الحفاظ علی انسجامها الاجتماعیّ وهویّتها وبقاء قیمها الإنسانیّة والأخلاقیّة فهی بحاجة ماسّة إلی الدّین.

التّناقض الثّالث: ویرتبط بطبیعة العولمة والدّین، فهما فی ذاتهما وماهیّتهما وجوانبهما یستطیعان التّعامل والتّفاهم مع بعضهما البعض سواءً تمّ ذلک علی أساس التّفسیر القداسیّ للدّین أو النّظرة الاستصغاریّة له، أم علی أساس التّفسیر الشّمولیّ له، مع الأخذ بنظر الاعتبار المدّعیات العالمیّة للأدیان الکبیرة، فیمکن علی کلا الوجهین تلفیق وتنسیق العولمة مع الأهداف والغایات العالمیّة للأدیان.

فهل بالإمکان توجیه وبیان هذه المقولة والنّظریّة مع وجود النّظریّتین المهمّتین فی مسألة العولمة؛ وهما عدم قابلیة العصرنة وما بعد الحداثة التّحوّل إلی العولمة، بتوضیح أنّ الصیغة الغالبة فی عصر العولمة لم تقم علی مقولة العصرنة ولا علی مقتضیات ما بعد الحداثة، فما هو البدیل الّذی یمکن أن یؤخذ للثّقافة العالمیّة ویُجعل أساساً للعولمة.

التّناقض الرّابع: إنّ التّناقض الآخر للعولمة الغربیّة باعتبارها الثّقافة الغالبة؛ هو تناقضها مع الکیانات الشّرقیّة، فهذا التّعارض والاختلاف فیما بین الغرب والشّرق کان مطروحاً باعتباره صراعاً بینهما منذ زمن بعید. والّذی سعی کثیر من المستشرقین الغربیّین والمستغربین الشّرقیّین والمجتمعات الدّینیّة لإیجاد حلّ له. إنّ هذه المعضلة یمکن ملاحظتها بشکل أوسع فی عملیّة العولمة. وینبغی التّنبیه علی أنّ فرضیّة التّناقض فیما بین الشّرق والغرب؛ جدّیّة وذاتیّة علی جمیع الأحوال، أی، هذه الغیریّة للمیزات الذّاتیّة والمبانی والغایات لکلا النّظامین الفکریّین. ومن هنا؛ فعملیة العولمة سواء فسّرت علی أساس مقولة العصرنة وانتشارها أم علی أساس مقولة ما بعد الحداثة، فهی فی کلتا الحالتین أمر لا یمکن اجتنابه وتلافیه. لأنّ مقولة الشّرق ستقف فی مواجهة العصرنة

ص:198

الغربیّة إذا قلنا بأنّ العصرنة فی حالة تحوّل إلی العولمة. وکذا حسب الفرض الثّانی الّذی یفسّر العولمة علی أساس مقولة ما بعد الحداثة، فسیختلف ویتمایز الشّرق والغرب الحدیث عن بعضهما بعنوانهما ثقافتین مختلفتین؛ لأنّ فضاء ما بعد الحداثة هو فضاء التّنوّع والتّعدّد الثّقافیّ. و «فی حالة عولمة ما بعد الحداثة فسنواجه تنوّعاً وتعدّداً ثقافیّاً، و بإمکان العولمة إیجاد الارتباط مع الثّقافات الوطنیّة والمحلّیّة بعنوانها هویّات مستقلّة وثقافات أخری، وستقع عملیّة عولمة ما بعد العصرنة فی مواجهة الثّقافات المتعدّدة لاعتمادها النّزعة النّسبیّة والشّک نسبة إلی القراءات الشّمولیّة، والأیدیولوجیّات الحدیثة وعودة شیوع الفکر الذّرائعیّ (البراغماتیّ). وسنلاحظ عند ذاک ترابط الثّقافات، التّعامل والحوار بینها، وتهیّؤ أجواء البحث وفعّالیّة الثّقافات الدّینیّة».(1)

و فی اعتقاد بعض أصحاب الرّأی أنّ إحدی مقدّمات فرضیّة العولمة هی الوحدة الثّقافیّة والاجتماعیّة والاقتصادیّة. فإذا کان ذلک یعدّ من مقتضیات ومستلزمات العولمة، فهل سیکون للدّین تلک الوحدة والانسجام الثّقافیّ المتقارب علی افتراض أنّه یمتلک قابلیّة الاستمرار والدّوام؟ وهل یمکن رسم الآفاق المستقبلیّة للدّین بحیث یزول فیها الاختلاف فیما بین الأدیان ویتبلور دین واحد؟

وهل أنّ الدّین الواحد سیتجلّی علی أساس المشترکات والأصول العامّة للأدیان؟ إنّ تأثیر العولمة علی الأدیان تمخّض عن أسئلة وجدال واسع بخصوصها، وأنّ هذا الجدال له جانب نظریّ ومعرفیّ، وله آثار جدلیّة ثقافیّة واجتماعیّة کذلک. وإنّ هذا التأثیر الخطیر یرتبط بقدرة الأدیان والتّطور المستقبلیّ للعالم إلی حدّ کبیر، فیتطلّب أن یتّخذ المتدیّنیین أسالیب معقولة

ص:199


1- (1) برایان ترنر، (فضل العولمة علی الدّین فی عصر العالمیّة)، ارغنون، العدد 24، «ترجمة هاله لاجوردی».

ومتدبّرة لمواجهة هذه العملیّة. فالعولمة أثّرت بقوّة علی المخاطبین بالبلاغات الدّینیّة من خلال استفادتها من الوسائل التّقنیّة المتقدّمة ووسائل الإعلام. واختراقها الحدود الفکریّة والعقائدیّة وإضعافها قدرة التّقالید فی المؤسّسات المذهبیّة عن طریق إیجادها ساحات وأرضیّات جدیدة، إلّا فیما إذا استطاع أهل الدّین الاستفادة بشکل صحیح وواسع من هذه الوسائل لبثّ تعالیم الدّین وخطاباته وعملوا علی توطید وترسیخ الثّقافة الدّینیّة. ولا یخفی أنّ کلّ دین ومذهب له القدرة علی ترویجه خارج نطاق حدوده الوطنیّة فی فضاء العولمة، وعرض المعلومات الدّینیّة بشکل معقول ومکثّف ومخطّط له للباحثین عن الحقیقة والّذین ینشدون الانضواء تحت لوائه والّذین یحاولون الحصول علی تفاسیر معقولة لشؤون حیاتهم من خلاله. فلهذا الظّرف أهمّیّة خاصّة نظراً للاتّجاه العالمیّ للأدیان الکبیرة علی مستوی العالم.

فإنّ کثیراً من منظّری الواقعیّة الغربیّة نفوا سیطرة ثقافة معیّنة فی عصر العولمة، فقد ردّ فوکویاما القول بالتّماثل الثّقافیّ وأیّد الاختلاف فیما بین الثّقافات فی عصر العولمة، وقال بالتّنوّع وعدم التّوحّد الثّقافیّ.(1)

إنّ بعض أصحاب الرّأی یعتقدون بعدم فقد الثّقافات والأدیان مکانتها ویذهبون إلی أکثر من ذلک وهو عدم حدوث التّماثل فیما بین الثّقافات والأدیان أو الوحدة بین الأدیان فی عصر العولمة. ولکن یذهب مالکوم ووترز إلی «أنّ الأنظمة المذهبیّة ستضطر إلی مجاراة وموافقة المسیرة العالمیّة».(2)

وفی مقابل ذلک تأتی نظریّة أخری تعتقد «بأنّ الدّین سینهار تحت وطأة ضربات العولمة فی صراعها معه ویهمّش ویفقد رونقه ومکانته». وهناک

ص:200


1- (1) محمود جواد شجاعی، (العولمة و الدّین)، ص 261 (مجموعة مقالات وبحوث دینیّة باللّغة الفارسیّة).
2- (2) ووترز، مالکوم: العولمة «التّرجمة الفارسیّة لإسماعیل هرانی کیوی».

بعض من علماء الدّین والفلاسفة یرون عدم زوال الدّین عن مسرح الحیاة، ویستدلّون علی رأیهم هذا: «بأنّ الأمر الدّنیویّ لیس بإمکانه لا ذاتاً ولا واقعاً الاستمرار والدّوام بصورة مستقلّة وعلی انفراد، فالأمر الدّنیویّ لا یستطیع البقاء والاستمرار اعتماداً علی النّزعة الدّنیویّة فقط، وسینساق الإنسان إلی عمق الأصالة الدّینیّة فی نهایة المطاف».(1)

ففی عالم الیوم الّذی یواجه فیه الإنسان أزمات متعدّدة، أزمة المعرفة، أزمة المعنویّة، أزمة الأمن النّفسیّ، أزمة الهویّة، الأزمة البیئویّة... الخ؛ لا تستطیع النّزعة العلمیّة ولا العقلانیّة الحدیثة إنقاذه من هذه الأزمات. ویوضّح ذلک میلتون ینغر، عالم الاجتماع الدّینیّ فی جامعة برلین، فی مقالة له؛ حاجة الإنسان المعاصر إلی الدّین فیقول: «إنّ التّشرّد الرّوحیّ، الحیرة، الشّعور باللا أمن، الشّعور بالعبث والکآبة، الإحساس بالغربة والوحدة هی مسبَّبات لضغوط المجتمعات الصّناعیّة والتغییر فی الأسس الاجتماعیّة والثّقافیّة والّتی أدّت إلی ازدیاد حاجة الإنسان إلی المعنویّة والدّین، وها نحن نواجه موجة معنویّة وإقبالاً علی الدّین فی کافّة أرجاء العالم».(2)

ص:201


1- (1) بول تیلیخ، مستقبل الأیان، ص 23، «التّرجمة الفارسیّة لأحمد رضا جلیلی».
2- (2) آلستون بیتر وغیره... الدّین والآفاق الجدیدة، ص 15، «التّرجمة الفارسیّة لغلام حسین توکّلی».

ص:202

3: مکانة الدّین فی عالم الیوم

اشارة

إنّ حاجة الإنسان المعاصر إلی الدّین هی کما فی السّابق دائمة وحاضرة ومستمرّة، لإمکانه ملء الفراغ الرّوحیّ والفکریّ له.

فإنّ مسألة البحث عن الله من المسائل الأساسیّة الّتی طالما شغلت فکر الإنسان ولصقت بفطرته، وکلّما أعرض وانحرف عنها ابتلی بأزمة عقیدیّة ومعرفتیّة وأخلاقیّة. وإذا صدّق الإنسان بعدم إمکانیّة إدراک الله وأنّ علاقته قد انقطعت بالبشر فسیکون معتقداً بقول نیتشه: (إنّ الله میّت).

ویسمّی سارتر ذلک بأفول الله، أمّا هایدغر فمع أنّه لا یعتقد بأنّ نتیجة هذا الفکر هو الإلحاد والعبثیة، ولکنّه یری أنّ هذا الکلام یستلزم عدم إمکان التّحدّث فی مجال احتمال وجود الله لا نفیاً و لا إثباتاً؛ لأنّ هذه المسألة ترتبط بظهور الله واستعادة انکشاف حقیقته، لذا فهو یعتقد بأنّ هذا العصر هو (عصر غیاب الله)».(1)

ویوصی بأنّ: «علی إنسان هذا المرحلة أن لا یسعی لصنع إله له؛ إله لیس سوی محصّلة لفکرنا».(2) وهذه هی ذاتها الأزمة الفکریّة لإنسان الیوم الّذی أضاع هدفه وغفل عن ارتباطه بالله.

ص:203


1- (1) مارتین هایدغر، کسوف الله، ص 86، «التّرجمة الفارسیّة».
2- (2) المصدر نفسه، ص 87.

فهل التّعصرن یستلزم زوال الدّین؟ إنّ مفکری عصر التّنویر وتابعیهم یعتقدون بأنّ العصرنة تستلزم العلمانیّة؛ ولکنّهم یختلفون فی حدّها وحدودها ومقدارها. فبعضهم یعتقد أنّ الحداثة تتعارض ولا تتلائم مع مجموعة من الظّواهر الدّینیّة الرّجعیّة والخرافیّة وأنّها تنحّیها عن الطّریق.

والبعض الآخر یؤکّد علی هذه النّقطة وهی أنّ الحداثة رؤیة عالمیّة جدیدة غیر قابلة للانهزام، وتستلزم حرکة تکاملیّة دون توقّف وقائمة علی العلم، وینبغی علی العقائد والمناسک الدّینیّة التّلاؤم والانسجام معها. وإلّا فإنّها ستنهزم أمام معارضیها. فالثّورة الدّینیّة تدعو إلی الصیاغة المذهبیّة وتجدید الفکر الدّینیّ لأجل إدامة الحیاة الدّینیّة والحفاظ علیها.

وقد طُرحت نماذج وصیغ أخری کذلک لمواجهة الدّین للعولمة، فأحد أسالیب مواجهة التّحدیث یتمّ عن طریق تفعیل الأیدیولوجیّة، فللحیلولة دون غزو الثّقافات الأجنبیّة یمکن لطائفة من العقائد المذهبیّة أن تکون أسلوبا آخر لمواجهتها ومواجهة مقتضیاتها.

علی أیّة حال؛ فإنّ حاجة الإنسان للدّین حتی فی عصر العولمة مسألة أقضّت مضاجع أعلام أمثال؛ نیتشه، هایدغر ویاسبرز، ومن هنا فقد حثّوا بکل حمیّة علی التّمسّک بالوجودیّة ونسیان الله وترک البحث عنه إلی الأبد، وبعد قرن طویل من الأزمة العقیدیّة والمعرفیّة ینبغی علی الإنسان فی نهایة الأمر استعادة حرّیّته الخلّاقة الّتی کان یعتقد بأنّها لله، ویدرک أنّه بمنزلة موجود یرتبط وجود العالم بحضوره فیه.

یقول سارتر: «لا یوجد عالم سوی عالم الإنسان، أی لا یوجد هناک عالم الذّهنیّة والتّجربة الإنسانیّة». وأخیراً یضلّ هذا السؤال حاضراً؛ وهو هل أنّ (استمرار ضرورة الدّین) لا یشعر بالوجود الذّاتیّ للإنسان؟

فهل أنّ الوجود هو کما یعتقد سارتر فی أنّه؛ الحیاة (لأجل الذات)،

ص:204

أم أنّه فی الأساس بمعنی القرار مقابل مجهول " x" لا یمکن تعریفه ووصفه واستکشافه؟

إنّ الجواب علی هذا السؤال یتّضح من خلال اتّجاه الإنسان إلی إنکار المقاییس الدّینیّة والمیتافیزیّة منذ العصر التّنویری وحتی العصر الحاضر، والأزمات الّتی نجمت علی أثر هذا الاتّجاه.

الحاجة إلی الدّین فی العصر الرّاهن

اعتقد شبنغر بأنّ کلّ ثقافة لها صفة ورؤیة کونیّة خاصّة بها وفلسفة أساسیّة معیّنة تّجاه الحیاة، الفن، العلم، والمذهب. وتکون بصورة لا یمکن معها حصول التّفاهم المتعاکس بین ثقافتین مختلفتین، والحضارات کذلک بتمیّزها عن بعضها یمکن أن تتشابه فی بعض مسائلها، ولکن من الصّعب الوصول إلی المعنی الباطنیّ لهذه المظاهر.

ویعتقد توینبی بأنّ تاریخ المذهب له حرکة واحدة وراقیة، ولکن تاریخ الحضارة فی اعتقاده علی خلاف ذلک فله أفول وانقطاع وحوادث متکرّرة.

ویتکهّن بأن: «سیکون هناک مذهب عالمیّ أعلی یرقی علی المذاهب الموجودة بإمکانه الإجابة علی الحاجات والمشاکل البشریّة ویکون أساساً للحضارة القادمة»(1) وتتشکّل فی العصر الرّاهن اتّجاهات واسعة لإحیاء الدّین فی العالم وتتّجه لملء الفراغ المعنویّ وإنقاذ الإنسان من الأزمات الفکریّة لعصر العصرنة و «أنّ هذا الإحساس هو حاجة عمیقة إلی الدّین فعّلته الحرکات الدّینیّة علی مستوی العالم».(2)

ویقول بوزف کوسل: «إنّ للدّین مسؤولیّة خاصّة فی عصر العولمة،

ص:205


1- (1) آلستون بیتر وغیره... الدّین والآفاق الجدیدة، ص 119 «التّرجمة الفارسیّة لغلام حسین توکّلی»
2- (2) المصدر السّابق، ص 119.

فالثّقافات والأدیان لا یمکن أن تفقد مواقعها حتّی فی عصر العولمة، وأنّ العولمة تختلف وتتفاوت عن التّماثل أو اندثار الثّقافات».(1)

و لازال الإنسان إلی الیوم یبحث عن قیمٍ أوسع وأعلی من المعاییر العلمیّة بإمکانها أن توفّر إجابات شافیة لحاجاته العاطفیّة وانفعالاته المعنویّة. فهو یعیش قلقاً حقیقیّاً جرّاء فقدانه هویّته وتحوّله إلی آلة إنتاجیة فی هذا العالم المضطرب والهائم الّذی یواجه فیه کذلک صعوبات کبیرة سیاسیّة واقتصادیّة؛ قیمٍ تُضیء له بصیص أمل لإبعاده عن یأس القیم المادّیّة و تقرّبه من الأدیان الإلهیّة.

إنّ الاتّجاه نحو معرفة المضمون الأیدیولوجیّ للأدیان یعدّ أمراً جدیداً للغایة لم تکن له مثل هذه الأهمّیّة فی بحوث المعرفة القیمیّة فی ما مضی، ولکنّ الیوم ولأجل تحدید موقع الإنسان المعاصر وحرمته الّتی تعتقد بها الحضارة الحدیثة؛ یمکن للدّین أن یعید إلیه حقّه الطّبیعیّ والإنسانیّ الّذی سُلب منه و استحوذ علیه.

ص:206


1- (1) بوزف کوسل کارل، فصلیّة مطالعات استراتیجیّة، العدد 13-2001، «باللّغة الفارسیّة».

4: فلسفة وضرورة الدّین

إذا أردنا الحکم علی الدّین بصورة واقعیّة وعلمیّة، فینبغی الإذعان بأنّ الدّین یعدّ ضرورة عقلانیّة وحیاتیّة للإنسان فی هذا العالم، وأنّ جمیع النّاس لهم نوع من الارتباط الفطریّ والرّوحیّ بخالقهم، وإن اقتصر هذا الأمر علی المجال الاعتقادیّ للإنسان، وکان له نظرة إلحادیّة ومادّیّة تّجاه أصل الخلق فی المجال العملیّ. إنّ هذه الحاجة للارتباط والاعتماد علی قوّة أبعد من جمیع العلل والأسباب کانت ولا زالت تخالط جمیع المجتمعات وفی کافّة مراحل التّاریخ.

وبحسب تعبیر الشّهید مطهّری: «تصوّر البعض أنّ الدّین سیفقد موقعه ومکانته فیما لو حدث تقدّم حضاریّ، ولکن أصبح من المعلوم أنّ هذا التصوّر لم یکن سوی سراباً، فحاجة الإنسان إلی الدّین لأجل أن یحیا حیاة مطمئنة وجیّدة، لم ترتفع مطلقاً، فهو بحاجة إلیه فی حیاته الشّخصیّة والاجتماعیّة علی السّواء».(1)

وفی رأیه أنّ العلم والدّین کلاهما یتعاضدان من أجل ازدیاد ونمو معرفة

ص:207


1- (1) مرتضی مطهّری، الإمداد الغیبیّ، ص 98.

الإنسان؛ فالعلم یهبه نمّواً أفقیّاً رفاهیّاً والدّین یهبه نمواً عمودیّاً،(1) فیفتح عینه علی جمیع الحقائق الملکوتیّة للعالم، والعلم یکشف له غوامض أسرار عالم الطّبیعة.

فهل أنّ حاجة الإنسان إلی الدّین ستستمرّ فی عصر تقنیة الاتّصالات والعولمة؟ وهل یمکن تجسید مفاهیم العدالة العالمیّة، السّلام العالمیّ، المسؤولیّة الأخلاقیّة، حقوق الإنسان والقیم المعنویّة دون الاعتماد علی الدّین؟

ألا یوجد أیّ بدیل آخر بإمکانه لعب دور الدّین؟ إنّ أغلب المفکّرین یجیبون بالنفی علی الأسئلة الآنفة. ومن ضمنهم هیغنز، ففی جوابه عن تلک المعضلة یقول: «إنّ المجتمع العالمیّ الحدیث، قد انفلت من قیود وتبعیّة التّقالید ولیس الدّین؛ لأنّ بعض المسائل والأسئلة الأخلاقیّة والوجودیّة لازالت باقیة، مسائل ترتبط بالحیاة الاجتماعیّة والأمور الرّوحانیّة والمعنویّة والدّینیّة والأخلاقیّة، ومسائل سُعی إلی الإطاحة بها فی ظل التجدّد».(2)

أمّا بول تیلیخ ومن خلال طرحه هذا السّؤال المصیریّ «لماذا وجدت الأدیان أساساً»؟ یجیب بما یلی: «إنّ الدّین ولاعتباره هیکلیة للرموز الشّهودیّة والعملیّة (الأساطیر والمذاهب) - فی نطاق مجموعة اجتماعیّة - یعدّ ضرورة دائمة لأیّة ثقافة حتی أشدّها دنیویّة ومادّیّة، ولأیّ اتّجاه إلهیّ حتی أشدّه محاربة للأسطورة. وأنّ هذه الضّرورة استنتجها من هذه الواقعیّة وهی أنّ الرّوح و لکی تظهر علی شکل أمر واقعیّ و مؤثّر فهی بحاجة إلی أن تتجسّم».(3)

إنّ العالم الیوم ولأسباب متعدّدة ولأجل ملء الفراغ المعنویّ والأخلاقیّ طرق باب الدّین، فقد أخذه الشّوق للتّفتیش عن نموذج کامل شامل یمتلک أسساً معرفیّة، ثقافیّة، أخلاقیّة، معنویّة وإنسانیّة مبتنیة علی حقوق الإنسان

ص:208


1- (1) المصدر نفسه، مسألة المعرفة، ص 28 و 31.
2- (2) بیتر مارتین، هانس شومان وهارولد، فخّ العولمة، «التّرجمة الفارسیّة».
3- (3) بول تیلیخ، مستقبل الأدیان، ص 52.

وتضمن العدالة الاجتماعیّة والأمن للبشریّة جمعاء؛ لتنجو من هذه الأزمات الفکریّة والمعنویّة الّتی تحیط به، وهذا یعدّ فی حدّ ذاته فرصة سانحةً لحملة التّعالیم الدّینیّة.

ومن جهة أخری، ومن خلال اتّضاح آثار العولمة؛ فقد تعرّضت هویّة الإنسان المعاصر لتهدید جدّی وخطیر. وتتساقط الهویّات القومیّة والمحلّیّة الأصیلة. ومن هنا؛ فباستطاعة الدّین أیضاً القیام بدور مؤثّر فی تکوین هویّات جدیدة إقلیمیّة ووطنیّة لُغویّة وعِرقیّة، وهنا یُطرح السّؤال التّالی وهو هل أنّ الهویّات الدّینیّة تستطیع صیانة نفسها من آثار العولمة؟ إنّ الإجابة علی هذا السّؤال ستکون بالإیجاب لکون الدّین یتعامل مع الفطرة والعقل والرّوح، أمّا المکان، المنطقة الأرض، العرق، القوم، القبیلة، اللّغة والزّمان فلیس لها دخل فی بقاء وقبول وحیاة الدّین من الأساس، حیث بإمکان أیّ قوم وقبیلة وفی کلّ زمان ومکان العیش وأن یکون لهم دین فی ذات الوقت. فإذا استطاعت العولمة تحطیم الحدود الجغرافیّة والهویّات القومیّة والمحلّیّة واللّغویّة والزّمانیّة، فلیس بإمکانها تحطیم الحدود الدّینیّة. فللدّین قدرة داخلیّة یضخّ من خلالها التّصدیق والإیمان والإثارة والباعث والهدفیّة والأیدیولوجیّة فی أتباعه، ولا یمکن أن یُذبح فی مسلخ العولمة مهما تمخّضت عن أبعاد أوسع وأوسع، بل إنّ حسب رؤیة الأدیان الإلهیّة وخصوصاً الإسلام؛ أنّ انهیار الهویّات القومیّة والعِرقیّة والوطنیّة یهیّئ أرضیّة وظروفاً أفضل لنمو وتوسّع الدّین. وکما جاء فی الآیة الکریمة: (وَ جَعَلْناکُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ... لِتَعارَفُوا إِنَّ أَکْرَمَکُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاکُمْ)1 فهذه العوالم لا علاقة لها بالإیمان أو الالتزام به، بل إنّ أساس الدّین یرتبط بعقل وقلب الإنسان «إنّ الله لا ینظر إلی صورکم بل ینظر إلی قلوبکم».

ص:209

ولذا فبإمکان الدّین أن یعرض نفسه بعنوانه عاملاً لتأسیس نظام اجتماعیّ وإیجاد انسجام فکریّ وأن یکون باعثاً وهدفاً وتکوین قیماً اجتماعیّة جدیدة وهویّة دینیّة واحدة، وذلک من خلال انهیار الهویّات الوطنیّة والمحلّیّة.

إنّ مطالعة تاریخ الحیاة البشریّة تشیر إلی أنّ الالتزام بالدّین کان حاضراً فی کافّة المجتمعات التّقلیدیّة والقدیمة جدّاً ولم یؤدّی إلی تخلّی الإنسان عن الأسالیب العلمیّة والحسابات الدّقیقة فی حیاته. وعلی هذا الأساس فجمیع المجتمعات الدّینیّة علی اختلاف تفاوتاتها تتّبع أنواع الأسالیب العلمیّة ولا تبخل بأیّ جهد لاکتشاف القوانین الطّبیعیّة. إذن فالإنسان سعی علی الدّوام للاستفادة من العلم لأجل حلّ مشاکله المادّیّة والاجتماعیّة. ولم تزُل مع ذلک حاجته إلی الدّین والاعتقادات المذهبیّة.

إنّ الفلسفة والعلم والدّین ثلاثة جوانب مختلفة لثقافة المجتمع؛ فوجود العلم یعدّ من ضروریّات رخاء ورفاه من یعیش فی مجتمع حضاریّ، فتقدّم الحیاة المادّیّة یعتمد علی مقدار المعرفة العلمیّة والعلاقة المتبادلة فیما بین المجتمع والمکاسب العلمیّة.

أمّا الدّین فإنّ وجوده فی المجتمعات الإنسانیّة أکثر ضرورة من ذلک. وکما یقول برغسون: «نحن لم نشاهد لا فی السّابق ولا الیوم مجتمعات تعیش دون علم وفن وفلسفة، وکذا لم یعش أیّ مجتمع دون دین».(1)

ص:210


1- (1) تاریخ الفلسفة فی الإسلام، ص 790، «باللّغة الفارسیّة».

5: إنجازات الدّین

اشارة

إنّ توضیح الماهیّة الحقیقیّة لتأثیر الدّین علی النّظریات الاجتماعیّة وکذا معرفة الجذور الاجتماعیّة وإدراک الرّوحیّة المذهبیة للطوائف والطّبقات الاجتماعیّة، وتشخیص المحتوی الجدید الّذی یتغلغل تدریجیّاً فی القوالب الدّینیّة التّقلیدیّة؛ یکتسب أهمّیّة فائقة، حیث کان الوفاء للإیمان والعقائد الدّینیّة من العوامل الّتی تحول دون اختراق وتسلّط الاستعمار علی الأمم الشّرقیّة. فالدّین یهب أتباعه الباعث والهدف المشترک، ویضخّ فیهم الوحدة والتّضامن. ونظراً لارتباط الدّین بالثّقافة والأسس الاجتماعیّة، فسنتطرّق فی هذا الفصل للإنجازات الاجتماعیّة للدّین:

أ) الإنجازات الاجتماعیّة للدّین

1. إضافةً إلی أنّ الدّین یعدّ ظاهرة اجتماعیّة، ولکن یمکن أن یکون سیاسیةً وأیدیولوجیةً ونستطیع کذلک استشفاف البعد السّلمیّ والخیریّ منه، واستثماره فی مجال الاتّحاد والانسجام فیما بین أبناء البشریّة.

«لقد عاد الدّین فی المجتمعات الحدیثة وعلی خلاف المجتعمات التّقلیدیّة، لیمارس دوره الواقعیّ کمنظمة للمجتمع المدنیّ. أمّا فی

ص:211

المجتمعات التّقلیدیّة فالمؤسّسات الدّینیّة بإمکانها وبسهولة استغلال العواطف والعقائد الدّینیّة فی تقدّم أهدافها السّیاسیّة والاجتماعیّة».(1) ولکنّ الاتّجاهات الدّینیّة أخذت تتّجه صوب العقلانیّة والتجدید فی الآونة الأخیرة.

فمع أنّ الدّین یمثّل القسم الأعظم من هویّة المجتمع، ولکن «فی مرحلة الحداثة وعلی خلاف مرحلة ما قبل الحداثة اتّصفت المجتمعات بهویّات ثقافیّة متعدّدة. ولم یعد هناک مجتمعاً یحمل هویّة دینیّة خالصة».(2) فالدّین الّذی یلعب دوراً أساسیّاً فی توحید الهویّة الفکریّة والاجتماعیّة وإیجاد الارتباط الوثیق فیما بین الطّوائف المتعدّدة فی المجتمع؛ یقوم من جانب آخر بدور مهمّ فی توفیر الانسجام والوحدة والتآلف والتّضامن العمیق فیما بین أتباعه. ولذا فإنّ دوره فی التّطوّرات الاجتماعیّة والسّیاسیّة یعدّ من أهمّ إنجازاته.

فللأدیان من الوجهة الاجتماعیّة؛ إنجازات إیجابیّة فی مجال بلورة الانضباط وتسهیل التّعایش الاجتماعیّ وإیجاد الانسجام والنّظم وتوارث التّقالید والتّراث الثّقافیّ والرّغبة والشّوق الوجودیّ.(3)

فیعتقد دورکهایم: «بوجود شیءٍ سرمدیٍّ فی الدّین یکسب الصور والظّواهر الّتی امتزج فیها الفکر الدّینیّ بُعدا خالداً». والآن وبعد أن اطّلعنا علی ما یقوم به الدّین من إیجاد التّرابط والنّظم الاجتماعیّ فینبغی النّظر فی کیفیّة توالده وتأقلمه مع الظّروف الجدیدة للتّغییر والتّطوّر الاجتماعیّ.(4)

2. لا یمکن الإغماض والتّردّد فی دور الدّین باعتباره الحلّ الوحید للمعضلة الاجتماعیّة (عدم التّوافق فیما بین المصالح الاجتماعیّة والفردیّة) لأنّه

ص:212


1- (1) نقد نظریّة صراع الحضارات، ص 97، «باللّغة الفارسیّة».
2- (2) المصدر نفسه، ص 106.
3- (3) امیل دورکهایم، الصور الأوّلیّة للحیاة الدّینیّة، «التّرجمة الفارسیّة».
4- (4) ر. ک. سعید حجّاریان، من الشّاهد القدسیّ إلی الشّاهد السّوقیّ، ص 73-74، «باللّغة الفارسیّة».

یعدّ الإطار الوحید الّذی بإمکانه حلّ المشاکل والتناقضات الفکریّة والاجتماعیّة، فهو فی حصیلته الفردیّة والاجتماعیّة والمعنویّة یمکنه استبدال النّعیم الزّائل والعابر بنعیم خالد وأبدیّ، واجتثاث جذور الأنانیّة وعدم المساواة والظّلم، والارتقاء ببواعث التّعاون والتّرفّع والإیثار والمحبّة. فالدّین قادر علی استبدال المصالح الفردیّة والنفعیّة الضّیقّة والّتی لا ترتقی عن المستوی المادّیّ والدنیویّ بمصالح أعلی ومقاصد أسمی.

والقیام بدور أساسیّ فی حلّ المعضلات الاجتماعیّة والاقتصادیّة والثقافیّة والفکریّة للمجتمعات البشریّة؛ لکونه یمثّل الحاجات الذّاتیّة والفطریّة لعامّة النّاس، فهو یستطیع إیجاد آلیّة عادلة فیما بین المصالح الفردیّة والاجتماعیّة والتّوفیق فیما بینهما. وهذا هو ما بیّنه الإسلام بشکل واضح: (فأقم وجهک للدّین حنیفاً فطرة الله الّتی فطر النّاس علیها لا تبدیل لخَلق الله ذلک الدّین القیم ولکنّ أکثر النّاس لا یعلمون).(1)

3. إنّ الّذین یؤکّدون علی أهمّیّة دور الدّین فی حیاة الإنسان لا یعارضون المکاسب العلمیّة وغیر الدّینیّة، ویعتقدون بأنّ هذه المکاسب مفیدة وضروریّة وعقلانیّة ما دامت منسجمة مع المفاهیم الدّینیّة. فالدّین یسلّح الإنسان بفلسفة حیاتیّة متینة، ویقوده إلی التّعقّل والتّنوّر الفکریّ. وهو یلعب علی النّطاق الفردیّ الدّور الّذی تلعبه البوصلة لهدایة وتوجیه السّفن نحو طریقها الصّحیح.

4. ویولی الدّین الإرادة الإنسانیّة أهمّیّة خاصّة ویعمل علی تعزیزها وجعلها خاضعة وتابعة للعقل وأوامره. ویبعث فی الإنسان الأمل للوصول إلی الکمال والتّطوّر والازدهار.

ص:213


1- (1) الرّوم، 30.

5. ولطالما کانت الأدیان الإلهیّة داعیة إلی السّلام واحترام حقوق الآخرین. ویطلّ علینا أمثال هنتیغتون وأقرانه لیسموه بکونه ساحة للصّراع والتّنافس والحرب فیما بین الحضارات، ویستدلّون علی أنّ وجود معاییر مزدوجة یؤدّی إلی ارتباط النّاس بثقافتهم وعقائدهم المذهبیّة الّتی یرونها تتعارض والمعاییر الموجودة الأخری، ممّا یؤدّی إلی احتمال بروز الصّراع فیما بین الاعتقادات الدّینیّة والمعاییر البشریّة. مع أنّه ینبغی القول: إنّه من الممکن استغلال الجوانب المشترکة للاعتقادات الفطریّة والأخلاقیّة لأن تکون أرضیّة مناسبة للتّعامل والتّعایش والسّلام فی مثل هذه الظروف.

وإذا ما أردنا الثّبات والبقاء علی هویّتنا الأصیلة فی هذه المرحلة من عولمة عملیّات العلم والاقتصاد والتّجارة والعلاقات الدّولیّة والمواصلات علی صعید الدّین والثّقافات المتنوّعة؛ فسنقع فی نوع من التّناقض، فإذن نحن بحاجة إلی عوامل وأسس لتهیئة أجواء السّلام والعدالة والأمن وتحقیقها، و إنّ أقوی وأقدر عوامل السّلام والأمن هو الاهتمام والاعتماد علی دور الدّین وما یمکن أن یقوم به فی هذا المجال.

إنّ الفردیّة والأخلاق المادّیّة تسوقنا نحو التّحلّل من المعاییر والقیم الأخلاقیّة وفقدان الباعث علی العفو والإیثار ورعایة حقوق الآخرین. وإنّ عدم وجود النّماذج السّلوکیّة والأخلاقیّة والدینیّة؛ یمهّد للا عدالة والعنف والظّلم وإساءة استخدام السّلطة والانتهازیّة.

وإذا ما تمّت عملیّة العولمة من جانب واحد فإنّها ستؤدّی إلی التّباعد فیما بین المجتمعات المتقدّمة والمجتمعات المتخلّفة فی أبعاد متعدّدة. وکلّ هذه الأزمات جاءت فی ظروف أراد الإنسان فیها صنع العالم بمعزل عن وجود الله والتّعالیم الدّینیّة، مع أنّه باستطاعتنا ملاحظة ما وفّرته الأدیان من الحرّیّة المتساویة والمتکافئة والحیاة العادلة علی مرّ التّاریخ وفی مختلف الظّروف.

ص:214

ب) الإنجازات المعنویّة للدّین

1. دور الدّین فی حلّ المشاکل الرّوحیّة للإنسان

إنّ الدّین یوفّر الحاجات الأساسیّة للرّوح و الحبّ والخلود علی وجه خاص. ویعتقد بعض الباحثین الدّینیّین أنّ للدّین دور نفسیّ مؤثّر فی مدّ الإنسان بالقوّة المعنویّة والمقاومة مقابل الأخطار الأخلاقیّة والاجتماعیّة.

ونظراً لهذا الدّور المؤثّر للدّین علی الرّوح والبعد النّفسیّ للإنسان فقد تسبّب فی انسیاق المعارف النّفسیّة نحو الدّین بشکل واسع وعمیق، فإنّ إحدی الحاجات الجدیدة للإنسان الحدیث هی البحث التّوّاق للحصول علی معنی للحیاة، وإنّ هذه الظّاهرة فی البحث للوصول إلی معنی من الممکن أن تقود کثیراً من الشّباب والأشخاص الّذین انحرفوا صوب طلب الملذّات الجسدیّة الزّائلة أو وقعوا فی فخّ الفلسفات والمذاهب العرفانیّة والأدیان الجدیدة؛ تقودهم إلی الاطّلاع علی التّعالیم المعنویّة والحیویّة للأدیان التّوحیدیّة وعلی الخصوص الإسلام، ولا ینجرّوا للوقوع فی فخّ المذاهب المبتدعة والمصطنعة والّتی لا تقوم علی أساس یرکن إلیه فی ظلّ بحثهم عن هذه المعنویّة. إنّ الأدیان المعنویّة والإلهیّة الّتی أخذت بعین الاعتبار الجوانب الفردیّة والاجتماعیّة والمادّیّة بشکل منطقیّ ومعقول یمکن أن تلعب دوراً مؤثّراً فی بلورة فکر وثقافة وأخلاق المجتمع.

ویعدّ معالجة الاضطرابات الرّوحیّة للإنسان من الهواجس الأساسیّة لعلماء الدّین، فهم یعتقدون بأنّ للدّین ید طولی فی حلّ مثل هذه المشاکل الّتی تعصف بالبشریّة.

یقول میلتون ینغر فی مقالته «الدّین والحاجات الفردیّة»: «إنّ الإنسان المعاصر یتّجه نحو الدّین لما یعایشه من ضغوط الغربة الرّوحیّة، الحیرة

ص:215

الإحساس باللا أمن، الإحساس بالعبث، الکآبة والوحدة، والّتی أفرزها التّقدّم الصّناعیّ والتّغییر والتّحوّلات العمیقة وما استتبعها من تغییرات فی البنی الاجتماعیّة والثّقافیّة، فأفراد المجتمعات الصّناعیّة الّذین یئسوا من الحضارة الحدیثة فی حلّ مشاکلهم الرّوحیّة وللفرار والخلاص من العبث والکآبة اتّجهوا للبحث عن الدّین، وغدت الحرکات الدّینیّة الّتی تدّعی قدرتها علی الإجابة علی حاجات الإنسان تواجه إقبالاً عامّاً منقطع النّظیر».(1)

2. دور الدّین فی إعطاء الحیاة بُعداً معنویّاً

یصف یونغ الدّین بأنّه إحساس الإنسان بوجود معنی أوسع فی الحیاة. وفی رأیه أنّ التّجربة الدّینیّة جوهرة ثمینة أکسبت الحیاة معنی وفتحت نافذة للأمل والجمال، والّتی تستطیع أن تهب البشریّة عظمة جدیدة وتعطی الإنسان الإیمان والهدوء والاطمئنان. وبعد جرده منافع الدّین یقول: «فقط أولئک البُله والجهلة هم الّذین یحاولون القضاء علی الرّموز الدّینیّة».(2)

فهل أنّ الدّور النفسی للدّین و فوائده یمکن الحصول علیها فقط من الفلسفة والعقل والعلم مع الإغماض عن الدّین فی هذا المجال؟ فی عقیدة یونغ «لا یمکن توقّع أیّة مساعدة من الفلسفة والعلم لعلاج الأمراض الرّوحیّة والآثار المخرّبة النّاجمة عنها. إنّ العقل البشریّ لا یمتلک لوحده القدرة الّتی یستطیع من خلالها الوقوف بوجه هذا الخطر الفادح من حمم الغرائز والأنانیّة والاستبداد، أمّا النّظریّات العلمیّة فهی تفتقد القیم والعقائد المذهبیّة الّتی تستطیع من خلالها القیام بهذا الدّور».(3)

ص:216


1- (1) آلستون، بیتر وغیره...، الدّین و الآفاق الجدیدة، ص 15، «التّرجمة الفارسیّة لغلام حسین توکّلی».
2- (2) یونغ، علم النّفس والدّین، ص 210، «التّرجمة الفارسیّة».
3- (3) المصدر نفسه، ص 53، 96.
3. دور الدّین فی الأمن النّفسیّ

إنّ المناسبات والفعّالیّات المذهبیّة علی العموم تهیّء ملجأً حیال متاعب الحیاة الیومیّة، ولکنّها من جانب آخر یمکن أن تکون منبعاً ذاتیّاً للاضطراب والقلق المذهبیّ أیضاً. إنّ الدّین یهیمن علی کثیر من الفعّالیّات الاجتماعیّة، فعلی سبیل المثال؛ أنّ التّهدیدات والمخاطر الطّبیعیّة یمکن تحمّلها وتعویضها عن طریق العقائد الدّینیّة.(1)

فالدّین بإمکانه إیجاد التّوازن فیما بین الثّقة والمجازفة، الأمن والخطر وذلک من خلال نمو المؤسّسات الاجتماعیّة الحدیثة.

فمع أنّ اتّخاذ الدّین منحاً دنیویّاً؛ یعدّ موضوعاً معقّداً، ویبدو أنّه یؤدّی إلی فقد المذهب رونقه وحرمته، ولکن مع ذلک فإنّ الدّین سبق وأن أجاب عن الأسئلة الوجودیّة فیما مضی، وبإمکانه الإجابة الآن أیضاً. فمع کلّ هذا فإنّ أغلب نواحی الحیاة الاجتماعیّة الحدیثة لا تنسجم والدّین باعتباره مهیمناً وحاکماً علی الحیاة الیومیّة.

4. الدّور النّفسیّ للدّین حسب وجهة نظر کارل غوستاف یونغ

یعدّد یونغ (2) فوائد الدّین بهذا الشّکل:

1. إنّ للعقائد والمناسک الدّینیّة دور مؤثّر فی الصّحّة النّفسیّة والاطمئنان الرّوحیّ وإیجاد النّشاط وغرس الأمل لدی الإنسان.

2. وعلی خلاف ما یعتقده البعض حول التّجربة الدّینیّة، فالّذی یخوض هذه التّجربة تجعله یشعر بأنّه ظفر بجوهرة ثمینة ألا وهی اکتساب حیاته بُعداً معنویّاً حقیقیّاً. بل إنّ الدّین ذاته یعدّ منبعاً للجمال والحیاة ویکسی العالم والبشریّة عظمة ومهابة جدیدة.

ص:217


1- (1) یونغ، علم النّفس والدّین، ص 210، «التّرجمة الفارسیّة».

3. إنّ الإنسان بحاجة ماسّة إلی أفکار وعقائد ثابتة ودائمة تجعل من حیاته ذات معنی ومغزی وتهبه القدرة علی الوقوف بوجه أشقّ المتاعب.

4. إنّ الشّعور بمعنی أوسع فی الحیاة یمکّن الإنسان من تجاوز قصر ذهنه علی الکسب والاستهلاک، والحصول علی بواعث أکثر أهمّیّة فی حیاته، فالإنسان الّذی یفتقد هذا الشعور یعدّ فی الحقیقة إنساناً ضالّاً وخائباً.

5. إنّ الرّموز الثّقافیّة للأدیان والّتی مازالت تتّخذ صوراً طائفیّة وتُقابل برضا وقبول المجتمعات الحضاریّة؛ بإمکانها إثارة الانفعالات الحادّة والعمیقة لدی الأفراد.

6. إنّ العوامل الدّینیّة تعدّ من الأجزاء المهمّة للقاعدة الذّهنیّة والقوّة الحیاتیّة اللازمة لصنع المجتمع الإنسانیّ، وأنّ عدم الاعتناء بها یؤدّی إلی خسائر لا یمکن تعویضها.

ویستنتج یونغ من ذلک: «فقط أولئک البُله والجهلة هم الّذین یحاولون القضاء علی الرّموز الدّینیّة» (1). إنّ نمو المعنویّة فی العالم والاتّجاه نحو المذهب یتعارض والنزعة المادّیّة. فمشکلة العولمة والوحدة العالمیّة ووحدة الهویّة وأزمتها ونمو وتعزیز مکانة الدّین فی المجتمعات یدلّ علی انهیار الرؤیة المادّیّة والعلمانیّة الغربیّة، ویمکن الإشارة إلی نماذج فی هذا السّیاق:

1. یقول مادیان ویلیامسون أحد الکتّاب الأمریکیّین المشهورین:

«نحن نعایش سلوکیّات اجتماعیّة مرعبة نشأت من استبدال المحبّة بالمال. فجمیع الوسائل والآلات الّتی اخترعوها سعوا من خلالها إلی تسلیتنا وتخدیرنا عمّا یجری ویحیط بنا، وها نحن علی حافّة الانهیار ونتّجه صوب الاستهلاکیّة والغفلة عن السّیاسة».

ویستمرّ فی مقالته: «ودخلنا فی سبات تامّ بتناولنا أقراص الکآبة، فنحن لا نرید الالتفات إلی أنّ مشاکلنا لا یمکن حلّها دون القیام بفعّالیّات روحیّة

ص:218

ومعنویّة، فإذا لم نتّجه نحو المسائل الرّوحیّة والاعتقادیّة فإنّ التّجربة الأمریکیّة ستصل إلی نهایة الخط وستنهار أمریکا».(1)

2. ویقول ویلیام سیمون أیضاً: «نحن بحاجة إلی المثّلث الأبدیّ للأصول الأوّلیّة لحل مشاکلنا الفعلیّة»(2) الّتی تتمثّل: بالحرّیّة، التّقوی، المذهب وکلّ منها بحاجة إلی الأخری، فالحرّیّة بحاجة إلی التّقوی والفضیلة والمذهب بحاجة إلی الحرّیّة.

3. أمّا کلینتون، الرئیس الأمریکیّ السّابق، فهو فی رسالته المنشورة عام 1995 یؤکّد علی: «أنّ المذهب یکسب الإنسان شخصیّة لا یمکن للدّیمقراطیّة الاستمرار دونها».

4. وتؤکّد مؤسّسة هویتیج(3) فی تقریرها علی: «تأثیر الفّعالیّات المذهبیّة علی الاستقرار الاجتماعیّ وتعزیز المسائل الأخلاقیّة والتزام الأفراد بوظائفهم وانخفاض مستوی الجریمة». ج) نشوء الحرکات الدّینیّة:

لقد تشکّلت فی العقود الأخیرة حرکات دینیّة جدیدة ومتعدّدة، ویمکن عدّها جواباً علی تهمیش الدّین فی المجتمع وجعله عرفاً من الأعراف. وقد أسبغت هذه الحرکات معنی وهدفاً واتّحاداً ودعماً علی طوائف خاصّة من المجتمع، فیعدّ تشکّلها وحضورها اختباراً لعدم جدارة وانسجام الأدیان أو فعّالیتها فی الإجابة عن المعضلات المعاصرة.(4) فعلی سبیل المثال؛ برزت مدرسة التعدّدیّة ردّا علی احتکار واستبداد بعض الأدیان، وجاءت موجة

ص:219


1- (1) بیتر الستون وغیره...، الدّین والآفاق الجدیدة «التّرجمة الفارسیّة لغلام حسین توکّلی».
2- (2) المصدر نفسه.
3- (3) مؤسّسة هویتیج من المؤسسات الأمریکیّة المهمّة جدّاً والّتی تختصّ بالمطالعات الاستراتیجیّة والتّخصّصیّة.
4- (4) بایکین مارتیشارد، الدّین، هنا، حالیاً، ص 33، «التّرجمة الفارسیّة لمجید محمّدی».

النّزعة المعنویّة والأصولیّة المذهبیّة فی مقابل النّزعات اللادینیّة وعملیّة جعل الدّین مسألة عرفیّة.

فالحرکات الّتی ترتکز علی تعزیز (عالم الروح)، (المعنویّة)، الاتّجاهات العرفانیّة والفطریّة وتدعو لها؛ تمتلک القابلیّة الکبیرة علی الانتشار والتّعولم وبإمکانها الانسجام مع التّعالیم المذهبیّة، ویمکن التّکهّن بأنّ الفعّالیّات الإعلامیّة للأدیان فی عملیّة العولمة ستتمّ من خلال الاستفادة من وسائل الاتّصال الالکترونیّة المتقدّمة، ویتکهّن البعض أیضاً بأنّ الأدیان فی عملیّة العولمة ستکون (أدیاناً دون هویّة وطنیّة).

ویکتب انتونی ماک غرو فی مقالة یتطرَق فیها لتحلیل مستقبل الأدیان فی عصر العولمة قائلاً: «هناک احتمال بترافق تغییر التّعالیم والشّعائر والرّسوم المذهبیّة مع حدوث تغییرات فی الأدیان».(1) ویسمّی هذه الظّاهرة (التطابق الحدیث).

ج) دور الدّین فی نموّ ورقیّ الفکر البشریّ

اشارة

1. إنّ الإیمان الدّینیّ هو أحد الأسرار المغلقة والمرافقة لرفعة الإنسان، ویدلّ علی الاتّجاهات الرّوحیّة والمعنویّة للإنسان. ولأجل بیان الشّوق النّهائیّ للإنسان لا یمکن العثور علی أفضل من حدیث کلان اغوستین الّذی یقول فیه: «ما دام قلبنا لم یستقرّ فیک فلیس له قرار».(2)

مع أنّ موضوعنا الأساسیّ لیس هو تحلیل عملیّة النّموّ الدّینیّ، ولکنّ تحلیل هذه المسألة له أهمّیّة قصوی فی مختلف المجتمعات. فکلّما دخلت المنظّمات الدّینیّة فی نزاع مع المؤسّسات التّقلیدیّة والحدیثة، سواء تمّ ذلک

ص:220


1- (1) محسن الویری: الدّین والعولمة، الفرحی والإشکالیّات (مجموعة مقالات المؤتمر 16 للوحدة الإسلامیّة).
2- (2) المصدر نفسه.

بصورة خفیّة أم علنیّة؛ فسیکون لذلک دور فی الحیاة الدّینیّة. فإنّ إحدی أسباب رمزیّة النُظم الدّینیّة وظهورها بأشکال مختلفة وکون التّنظیمات والرسوم المذهبیّة أکثر تعقیداً أو حتی ظهورها بشکل متجدّد وتحدیث الفکر الدّینیّ؛ هو للحفاظ علی وجود الدّین واستمرار حیاته فی المجتمع.

ومن جهة أخری فإنّ بعض الشّعائر الدّینیّة والشّعارات الّتی تمثّل نوعاً من الرّدّ والآمانی والخلاص من الظّلم والوعد بالنّجاة والتّبشیر بالسّلام والعدالة والحرّیّة؛ تبین أنّ الدّین فی مواجهته للمعوّقات والموانع الّتی تعترضه یلتجأ إلی ملاجئ صوریّة کالمعابد والأمکنة الخاصّة، وکلّما وُجد طریقاً للنّموّ والدّعوة قفز إلی الواجهة وتوسّع وکان أکثر رونقاً فی المجتمع.

إنّ مطالعة تاریخ الدّین بمجموعه العامّ، یشیر إلی الأبعاد الواسعة والمذهلة للاتّجاهات الدّینیّة والعرفانیّة للإنسان الّتی تتمثّل فی قالب الأدیان والمناهج المذهبیّة.(1) فمع أنّ أتباع أیّ دین یتفاوتون فی مقدار ونوعیّة تجاربهم الدّینیّة وکذلک فی بیانها ولکن أصل هذا الاتّجاه یعدّ أصیلاً و خالداً.

2. أنّه کان عاملاً مقتدراً فی تشکیل المؤسّسات والمنظّمات الإنسانیّة وکذا عاملاً مؤثّراً فی هدم وإزالة بعض التّقالید والتّنظیمات غیر العقلانیّة وغیر الإنسانیّة.

3. إنّ أرفع وأکمل المفاهیم الاجتماعیّة والّتی تتمیّز بصفة عالمیّة عامّة لا یمکنها الانتشار إلّا عن طریق تعمیم وتعمیق التّجارب الدّینیّة، فی حال أنّ الدّنیویّة أحیطت بغموض وإبهام کبیر بالنسبة للإنسان المعاصر منذ تاریخ ظهور وتکامل هذه المفاهیم والعقائد.

4. إنّ الدّین دون ذلک المستوی الّذی یحاول إثباته منتقدوه من أنّه ظاهرة إشراقیّة وفردیّة. فمن خلال مطالعة التّاریخ غالباً ما نصطدم باتّجاهات

ص:221


1- (1) یواخیم واخ، علم الاجتماع الدّینیّ، ص 380 «التّرجمة الفارسیّة لجمشید آزادکان».

وحرکات بعنوانها انعکاسات ومظاهر اجتماعیّة ودینیّة واسعة تظهر فی الأفکار والعواطف الدّینیّة للنّاس بشکل جماعیّ ومنظّم.

ومن هنا؛ فإذا حاولنا تصویر الغایة من الدّین بأنّها مجرّد إقامة الشّعائر والحفاظ علی المظاهر الدّینیّة والتّفسیر المیتافیزیّ للظّواهر الخارجیّة والعلمیّة، فإنّ الإنسان التّجربیّ والعلمیّ لهذا الیوم سوف لا یعیر لهذه العقائد الصّوریّة الّتی تسلب منه الفکر الحرّ واتّباع الأسالیب العلمیّة؛ أیّة أهمّیّة وسیستمرّ فی طریقه المعهود.

أمّا إذا صوّرنا تلک الغایة بأنّها الإیمان بخالق عظیم للوجود والوظائف الإنسانیّة العلیا والإیثار فی طریق ارتقاء الحیاة الاجتماعیّة والمعرفة الحقیقیّة لعالم الوجود، فیمکننا عندها أن نقول بجرأة: بأنّ الدّین له مستقبل زاهر ومشرق. فالدّین من خلال هذه النّظرة المؤسّساتیّة القوّیّة والمتقدّمة بشکل مؤثّر ومنسجم مع المظاهر الجدیدة للعلم والتّقنیة؛ یمکنه أن یکون عاملاً تربویّاً وتعلیمیّاً مهمّاً فی مجالات العلم، الفن، التّاریخ، السّیاسة والاقتصاد.

5. فی عقیدة المفکّرین الدّینیّین أنّ قدرة الدّین فی مجال توفیر الحاجات الإنسانیّة وإنقاذ البشریّة من العدمیّة والثّقافات المضادّة للدّین؛ بعثت بعض المنظّرین أمثال جان هاک، حسین نصر وآخرین علی محاولة عرض قراءة جدیدة للدّین یفسّرون فیها التّعالیم المعنویّة والقدسیّة للدّین والإلهیّات تفسیراً عالمیّاً مع إقرارهم التّقدّم العقلانیّ والعلمیّ. فهذه الطّائفة مع إیمانها بالتأثیر المتبادل فیما بین هاتین العملیّتین وکذا مصیر المجتمع البشریّ؛ تؤکّد أنّ العولمة بإمکانها أن تکون ذات تأثیر إیجابیّ فی إحیاء الهویّة الدّینیّة وبقاء وانتشار الدّین.

6. ینبغی علی الدّین أن یُحدث نزاعاً فیما بین الأولویّات الحیاتیّة لعالم الیوم وبین القیم الفعلیّة الحاکمة فیه کالنّزعة الاستهلاکیّة والمادّیّة الّتی تعدّ قیماً علمانیّة تتعارض والدّین.

ص:222

7. إنّ الدّین مسؤول عن تغییر الوضع غیر المناسب للمجتمعات البشریّة وتخلیصها من الانحرافات ودعوة الإنسان إلی النّموّ العقلانیّ والمعنوی والّذی یستلزم إعراضه عن الثّقافة العلمانیّة والنّزعة الإنسانیّة المحرّفة والاستهلاکیّة غیر العقلانیّة وأداتیّة العقل.

إنّ وظیفة الدّین هی محاربة الشّعور بعدم الحاجة إلی الله والحسّ الفرعونیّ والشّعور بالاستغناء والغفلة عن مبدأ الوجود.

وبعد أن بیّنا المسائل المتعلّقة بضرورة الدّین ومکانته فی عصر الحداثة والعولمة نطالع التأثیر المتبادل فیما بین الدّین والعولمة:

دور الدّین فی عملیّة العولمة

یمکن ملاحظة تأثیر العولمة علی الدّین فی ثلاثة اتّجاهات:

1. بإمکان العولمة أن تتسبّب فی إحداث تغییرات داخلیّة فی الدّین، ویبیّن جان هاک ذلک: بأنّ التّقدّم التّاریخیّ والعولمة بإمکانهما إحداث تغییرات فی المبادئ الکلامیّة للدّین.

2. وعلی خلاف القول المتقدّم یری السّید حسین نصر، بأنّ العولمة والتّقدّم التّاریخیّ لیس باستطاعتهما إحداث تغییر فی مجموعة القوانین الکلامیّة والإلهیّة للدّین.

3. باستطاعة العولمة تعزیز التّعامل والعلاقات الثّقافیّة فیما بین الأدیان.

4. بإمکان العولمة أن تؤدّی إلی تبلور إلهیّات عالمیّة وتعدیل ادّعاء الشّمولیّة والاستبدادیّة الّتی تنسب إلی الدّین. وقد طُرحت فی هذا المجال نظریّة (الإلهیّات العالمیّة) لجان هاک الّتی یمکن تلمّس جذورها فی التّقدّم التّاریخیّ للأدیان.

ففی عالم الیوم لا یمکن الاقتصار علی تصدیق دین ما والإغماض المطلق عن باقی الأدیان. فالمواصلات الحدیثة، السّیاحة، التّبادل الجامعیّ،

ص:223

الهجرة، المعاملات الدّولیّة؛ دعت أتباع الأدیان المختلفة إلی التفات أحدهم للآخر وأخذه فی الحسبان، فالعوامل الآنفة تعدّ أکثر تأثیراً من الإعلام المذهبیّ فی هذا المجال، مع ما للاختلاط الثّقافیّ الحدیث الّذی هو الوجه الممیّز للقرون الأخیرة من تأثیر مباشر فیما بین الأدیان والّذی یمکن تتبّعه علی مرّ التّاریخ، وقد اتّخذت هذه التّأثیرات والعلاقات الدّینیّة شکلاً حدیثاً فی عالم الیوم.

ومع غضّ النّظر عن أدلّة حقانیّة أیٍّ من الأدیان وصدق ادّعاءاته فإنّ العلائم والجوانب المختلفة لدین ما أو للأدیان المختلفة فی المجتمعات التّقلیدیّة والحدیثة والمجتمعات اللادینیّة والعلمانیّة أو المتدیّنة؛ کانت موجودة ولازالت.

«وقد تبلورت الأدیان تاریخیاً علی شکل ثقافات فلذا کان فصل العقائد الدّینیّة عن الأعراف الثّقافیّة أمراً عسیراً جدّاً، فالأنظمة الدّینیّة هی مجموعات معقّدة نمت وتکاملت ضمن مراحل تاریخیّة طویلة».(1) والتّاریخ الدّینیّ للعالم یعدّ بمثابة تاریخ واحد لا یتجزّء، فالأدیان المتعدّدة تمثّل مجموعة ذات أجزاء متجاورة؛ ولکن هذا لا یعنی أنّ المفاهیم العامّة الموجودة تتعلّق بجمیع الأدیان، وأن نتّخذ اتّجاه النّسبیّة التّصوریّة؛ وإنّما اتّجاهاً علمیّاً واضحاً. ونظراً للتّشابه الموجود فیما بین الأدیان یمکن القول بوجود دین عالمیّ یشترک فیه جمیع النّاس علی طول التّاریخ، کما أنّه یمکن الادّعاء بوجود علم عالمیّ ساهم فیه جمیع النّاس.(2)

مسار تطوّر وتکامل الأدیان

لقد اقتربت أغلب الأدیان فی العقود الأخیرة من الوصول إلی العبودیّة التّوحیدیّة والاتّجاه نحو فکرة الإله الواحد (الله الأفضل). حیث اعتبرت فیه

ص:224


1- (1) مایکل بترون، العقل والاعتقاد الدینیّ، ص 422، «التّرجمة الفارسیّة لأحمد نراقی».
2- (2) المصدر نفسه، ص 424.

الآلهة الآخرین مجرّد مظاهر لذلک الإله الواحد. فالمسیحیّون والبوذیّون علی السّواء یعتقدون بإمکانیّة تصوّر وجوده المطلق. فهم فی الواقع یعتقدون بالله الأحد الحقیقیّ. ویتّفقون جمیعاً علی أنّ (الله واحد) ولکن عُبّر عنه بأسماء متعدّدة فی اللّغات والثّقافات والأدیان:

عباراتنا شتّی وحسنک واحد والکلّ إلی جمالک یشیر

ولو نظرنا إلی التّطّورات الدّینیّة فسنواجه ما ینمّ عن تأثیر التّطوّرات العلمیّة والتّقدّم البشریّ علی القضایا الأخری، وهذا ما یصدق علی الدّین. فنمو العقلانیّة البشریّة واکتشافاتها الهائلة علی صعید العلم المعرفیّ، معرفة الإنسان، علم النّفس والمجتمع والتّاریخ؛ عزّزت من تأثیرها علی الدّین، ولکن من جهة أخری؛ یمکن ملاحظة التّأثیر العمیق للنّزعة العلمیّة والحداثویّة فی المجتمعات المختلفة علی الهویّات الدّینیّة. فقد تسبّبت الثّورة والنّهضة العلمیّة فی بلاد الغرب فی عزلة الدّین وإنزوائه عن التّدخّل فی کثیر من الأمور السّیاسیّة والاقتصادیّة والاجتماعیّة والفردیّة... الخ.

مستقبل الدّین

لو تتبّعنا مکانة الدّین فی الحضارات والثّقافات والدّور الّذی کان یمارسه فی التّاریخ لأمکننا رسم هذه الصّورة لمستقبل الأدیان:

1. إنّ الّذین یتخیّلون الأدیان بأنّها مجرّد طقوس خرافیّة یتکهّنون بزواله تدریجیّاً من واقع الحیاة. ولکنّ الّذی یضمحل علی المدی البعید هو هذه الاتّجاهات الخرافیّة؛ أمّا الدّین ذاته فإنّه یتبلور ویتجسّد علی مستوی أرفع من هذه الاتّجاهات.

2. البعض الآخر ومن خلال ملاحظتهم خیبة المادّیّة یعتقدون بأنّ المستقبل سیکون مترافقاً مع عودة الرّوحانیّة (المعنویّة). ویستدلّ هذا البعض

ص:225

علی واقعیّة هذه المسألة بانتشار الصّحوة الإسلامیّة والحرکات الأصولیّة والمعنویّة الجدیدة.

3. النّظریّة الأخری تقول بأنّ تمخّض ثقافة دولیّة سیهیّء الأرضیّة لتوافق الأصول الدّاخلیّة للأدیان شئنا أم أبینا. فبدل أن ترتبط أیّة ثقافة کانت بدین ما علی وجه التحدید، فسیختار کل فردٍ وبشکل حرّ الدّین الّذی یناسبه. إنّ هذه النّظریّة فیما لو تحقّقت فستمهّد الطّریق وإلی حدّ کبیر إلی تنوّع الاتّجاهات الدّینیّة فی مجتمع ما.

فالدّین ولأجل بقائه واستمراره بحاجة إلی نوع من التّحدیث والتّعامل مع عالم الیوم، العالم الّذی یعتقد فیه الإنسان بأصالة العلم. ومن الطّبیعیّ أن یتّخذ هذا التّحدیث أسالیب متنوّعة ویبلور ظرفیّته للانسجام مع العصر الحدیث. ویعقد الصّلة فیما بین الحفاظ علی الأصالة والعودة إلی المنابع الأصیلة له وبین احترام العلم والحرّیّة الفکریّة للإنسان، وفیما بین الحقیقة وواقعیّة العالم الجدید، وفیما بین الثّبات والتّغیر، فإنّ الفلسفة والعلم والمکاسب العلمیّة من الشّؤون الفکریّة والشّعوریّة الضّروریّة للإنسان ولا یمکن له العیش دون علمٍ وفلسفة أو دون شعور وتجربة وعقل. وکذا لا یمکنه الغفلة عن مکانته الأزلیّة والأبدیّة، المبدئیّة والغائیّة وتجاهلها. فعلی البشریّة إذن أن تسیر فی اتّجاهین فی حیاتها ووجودها؛ اتّجاه معرفة الوجود ومعرفة العالم واتّجاه معرفة الغایة أو معرفة المبدء.

الأدیان العالمیّة

ماهی المعاییر الّتی یمکن من خلالها اعتبار الدّین عالمیّاً؟ فلأجل أن یکون الدّین عالمیّاً ینبغی توفّر معاییر معیّنة فی هذا السبیل:

1. ممیّزات أصول وتعالیم ذلک الدّین.

ص:226

2. حجم أتباع ذلک الدّین یعدّ من المؤشّرات المهمّة علی ذلک، ولکن لیس مؤشّراً فاصلا.(1)

ولکن بما أنّ النّظرة الحالیة إلی الفرد تولیه مکانة خاصّة فی البناء الدّینیّ والثّقافیّ والاجتماعیّ، وکذلک بسبب تفرّق أتباع دین ما فی طوائف ومجتمعات مختلفة، فلذا لا یمکن الإغماض عن دور الفرد فی عملیّة نموّ وانتشار ذلک الدّین.

3. علاقة الدّین بمؤسّسات السّلطة (المؤسّسات الاجتماعیّة، الثقافیّة، السّیاسیّة والحکومیّة) یمکن أن تؤثّر علی عملیّة عولمة ذلک الدّین.

ویمکن تصوّر عدّة صور لعلاقة الدّول بالدّین فیما لو لم تکن ولیدة المؤسّسة الدّینیّة:

1-3. من الممکن أن لا تعیر أهمّیّة للدّین.

2-3. من الممکن قبولها الدّین الجدید لبواعث وأسباب خاصّة وتسعی لنشره وترویجه.

3-3. من الممکن أن تعرّف وتحدّد الدّین علی نطاق ضیّق.

4-3. من الممکن أن تعتبره مرفوضاً وتضع المعوّقات والعراقیل لانتزاع حرّیّته فی العمل وتقف فی طریق فعالیّته ونموّه، وقد یختصّ ذلک بأحد الأدیان أو یشمل جمیعها.

4. المعیار الآخر لتحدید الدّین العالمیّ هو النظر إلی دوره فی تکامل السلوک الإنسانیّ، وأثر ذلک فی ثقافة وسیاسة وأخلاق المجتمع.

5. الاحترام الّذی یکنّه أتباع باقی الأدیان لذلک الدّین، فهل ینظرون إلیه باعتباره مقدّساً ویستحقّ الاحترام أم لا؟

ص:227


1- (1) یواخیم واخ، علم الاجتماع الدّینیّ، ص 297، «التّرجمة الفارسیّة لجمشید آزادکان».

6. تقویم قابلیّته العالمیّة؛ نظرته إلی العقل البشریّ والمکاسب العلمیّة والقیمیّة الّتی یعطیها للعقل وحرّیّة الإنسان. فإذا أردنا تقویم الأدیان الفعلیّة الّتی تدعو إلی العالم الشّمولیّ حسب معاییر العقلنة، فینبغی وبعیداً عن الانحیاز، الاقتصار علی مطالعة النّصوص الأساسیّة للأدیان الکبیرة، والتأمّل التاریخیّ فی اتّجاهات کلّ منها؛ لیکون تقویمنا والحکم علیها موضوعیّاً.

7. نظرة الأدیان للإنسان؛ إنّ تعالیم الأدیان المختلفة تقسّم وظائف الإنسان إلی مجموعتین رئیسیّتین: وظائفه تّجاه الله ووظائفه تّجاه أبناء جنسه، ویحوز هذا الأمر أهمّیّة قصوی فی تقدّم عمل الأدیان الکبیرة،(1) فمن المهمّ معرفة کیفیة اعتراف الدّین بحقوق الإنسان الآخر، وما هو حجم الکرامة الّتی یولیها للإنسان.

ص:228


1- (1) المصدر السّابق، ص 382.

6: علاقة العلم والدّین

اشارة

واجهت مسألة قدرة العلم علی عرض صیغة واقعیّة عن العالم تشکیکاً فی الآونة الأخیرة. فقد أصبحت فکرة أنّ العلوم الطّبیعیّة تستطیع نوعاً ما الحلول محلّ الله فی حاجة الإنسان إلیه، رماداً تذروه الرّیاح. فالتقدّم العلمیّ فی القرن العشرین أوجد أجواءً أکثر مناسبة للارتباط بالتّقالید الدینیّة.(1)

وعاد الدّین فی المجتمعات الحدیثة وعلی خلاف المجتمعات التّقلیدیّة لیلعب دوره الواقعیّ بعنوانه منظّمة للمجتمع المدنیّ، ولم یعد لادّعاء العصرنة بأفول دور الدّین ذلک البریق السّابق، بل إنّ النّزعة الدّینیّة توطّدت وتعزّزت.(2)

وقد تسبّب التّنافس الدّینیّ النّاجم عن النّموّ العالمیّ العصرانیّ والعولمیّ؛ فی ازدیاد التّرابط الزّمانیّ والمکانیّ بین أتباع المذاهب المتعدّدة علی المستوی العالمیّ. وتهیّأت الأرضیّة المناسبة والإیجابیّة للحصول علی معلومات أکثر حول مفاهیم وتعالیم وممارسات کلّ دین من الأدیان «إنّ تجلّی وتجسّد التّعارضات الثّقافیّة الّتی تختصّ کلّ واحدة منها بمطالبها وأرضیّتها الخاصّة بها هو فی الحقیقة

ص:229


1- (1) . Religion and science ed. mark Rickard and Wesley j.Wildman p 6.
2- (2) نقد حول نظریّة صراع الحضارات، ص 97، «باللّغة الفارسیّة».

تضادّ فیما بین الثّقافة الغربیّة والشّرقیّة فی مفهومه العامّ؛ فإنّ اطّلاع الإنسان المعاصر أعدّ الأرضیّة للقبول بالثّقافات القویّة بشکل معقول، ولکن هل أنّ الانتخاب المتدبّر یشمل جمیع الوجوه الثّقافیّة».(1)

یری هنتیغتون أنّ مقیاس نموّ المسیحیّة والإسلام علی أساس المعاییر الإحصائیّة یؤشّر علی النّموّ والانتشار، ویستنتج بأنّ هذه المنافسة والصّراع جدّیّ، وستؤول هذه المنافسة إلی صالح أتباع الإسلام. ویُرجع تفوّق الإسلام علی غیره من الأدیان إلی سببین:

1. العقائدیّة، 2. التّناسل.(2)

فمع أنّ نظریّته تلک لم تحظ بالقبول فی أسسها العلمیّة، ولکن أساس هذا التّضاد فعلیّ وجدّیّ، لأنّ: «سبب الافتراق والتّمایز الثّقافی فی العالم الحدیث لا یقتصر علی الدّین، وإنّما هناک عوامل أخری کاللّغة، النّسیج الاجتماعیّ، الثّقافة، التّاریخ، القومیّة والبنی السّیاسیّة... الخ؛ تتدخّل فی ذلک».(3)

إنّ الأدیان السّماویّة وعلی الخصوص الإسلام تبحث عن حیاة خالدة وسرمدیّة للإنسان وعن علاقته بما وراء الطّبیعة، وهذه المسألة لیس لها علاقة بالعلم والصّناعة والتّقدّم والتّنمیة؛ أی أنّ ساحة وموضوع العلم هو الافتراضات والقوانین العلمیّة والأسالیب التّجربیّة والأمور المتعلّقة بالحیاة المادّیّة للإنسان وأسرار عالم الطّبیعة. فالعلم بأسلوبه الخاصّ فی التّحقیق لیس له حقّ فی إبداء وجهة نظره فیما وراء المادّة أورفضها وقبولها. أمّا الشّبهات الّتی تُطرح فی هذا المجال وتضع الدّین فی مواجهة العلم أو العقل وإلقاء تبعات تخلّف المجتمعات الدّینیّة علی الدّین؛ فهی أحکام جزافیّة لا أساس

ص:230


1- (1) المصدر نفسه.
2- (2) المصدر السّابق، ص 80.
3- (3) المصدر نفسه، ص 80.

لها ولیست من شأن العلم ونطاقه، أمّا انحراف الباحثین الشّباب عن الدّین و الأخلاق فهو لیس من مسؤولیّة الدّین، بل إنّ الدّین فی ذاته لیس له أیّ تعارض وتضادّ وعدم انسجام مع العلم والعقلانیّة والفطرة والقوانین الطّبیعیّة. ویشهد علی هذا الادّعاء أنّ انشداد الإنسان إلی الأصول العلمیّة لیس مطلقاً وتامّاً. فلم یکن للعلم أیّ دور فی الأضرار الّتی أصابت البشریّة. ولم یتمّ أیّ نهب وتخریب تحت ضوء هذا المصباح! ولأجل إدراک العلاقة الأدقّ فیما بین الدّین والعلم ینبغی ملاحظة مقدار تأثیر العلم علی المعتقدات الدّینیّة، فهل أنّ العلم یدعم مثل هذه الاعتقادات أم أنّه یبطلها وینفیها؟ وهل أنّ الأدیان ساهمت علی السّواء فی نشوء العلم ونموّه أم أنّها أوصدت الباب دونه؟ وهل بإمکان العلم القیام بدور الدّین؟ وإذا کان کذلک فهل یمکن إثبات قیمه والتزاماته الغائیّة عن طریق عملیّات البحث التجریبیّ؟ وبعبارة أخری، هل یستطیع العلم إضافة إلی توفیره الأدوات والأسالیب؛ تحدید قیمة الأهداف؟ وهل أنّ الافتراضات الأساسیّة للعلم هی فوق التّجربة کما هو الحال فی الدّین ولا یمکن تأییدها أو نفیها عن طریق أسالیب العلوم التّجربیّة؟

ففی الواقع إنّ العلاقات المنطقیّة لأسس العلم والدّین لا یمکن تحدیدها وفق ضوابط معیّنة؛ لکون الأدیان ونظراً لتنوّع ماهیّاتها واختلافاتها الأساسیّة فی المجال المعرفیّ ومعرفة العالم ومعرفة الإنسان؛ لا تقیم علاقة متکافئة مع العلم. فلو أخذنا علی سبیل المثال؛ الأدیان الشّعائریّة الّتی تقدّس رموزاً وطواطم خاصّة وتحوی مزیجاً خرافیّاً أکبر، فهذه الأدیان یمکنها إقامة نوع من العلاقة مع العلم.

ولکنّ الأدیان الّتی تعتمد الوحی تتمحور حول العلم والعقل والبصیرة الإنسانیّة وتقیم علاقة معقولة ومنظّمة ومکمّلة مع العلم. ومن جانب آخر یمکن القول: إنّ الأدیان العرفانیّة کالنّحل العرفانیّة المسیحیّة، والبوذیّة وطرق

ص:231

التّصوّف الإسلامیّ الّتی تتّبع أسلوباً خاصّاً؛ لا ترتبط بعلاقة وثیقة مع العلم. فبعد هذه المقدّمة یأتی دور الکلام حول الرّوابط المحتملة فیما بین العلم والدّین.

فأحد الآراء یعتقد بأنّ الدّین والعلم منسجمان مع بعضهما من الأساس ویسیران فی طریقین متوازیین باتّجاه الحقیقة، أو أنّ کلّ منهما له طریقه فی الوصول إلیها. وفی رأی القدّیس توماس «إذا کان الإنسان یمتلک علماً واطّلاعاً کافیاً فلن یلاحظ أیّ تعارض واختلاف فیما بین العلم والدّین».

ویمکن أن تکون وجوه الانسجام فیما بین العلم والدّین متنوّعة ومتعدّدة. ففی إحدی صورها هو انصباب سعی الاثنین نحو إدراک حقیقة العالم وجوهر الذّات، ولا یمکن ملاحظة الفرق فیما بین بحثهما وسعیهما. وکما یقول کانت: «إنّ الاختلاف فی نظرتنا إلی العالم هو النّظر إلی العمق والظّاهر، فالعلم یحاول کشف الحقیقة عن طریق معرفة حقیقة الظّواهر، ولکنّ الدّین والمیتافیزیّة تحاول ذلک عن طریق معرفة جوهر وذات وحقیقة الأشیاء، ولکون العالم لیس جوهراً قائماً فی ذات، فیتوصل الأسلوبان إلی الحقیقة ذاتها فی نهایة المطاف».(1)

إنّ إحدی الأسالیب والمساعی لحل الخلاف والصّراع فیما بین العلم والدّین هو افتراض عدم الارتباط التّام فیما بین الاثنین، فالعلم یرتکز علی العقل، فی حال أنّ الدّین یرتکز علی الإیمان. ولا یمکن الإغماض هنا عن احتمال قول القائل: إنّ أسس الاستدلال للمعرفة الدّینیّة یفترق بشکل تامّ عن عملیّات تقویم المعرفة غیر الدّینیّة.(2)

فالاستدلال الدّینیّ ینشأ من التّجربة الباطنیّة، ومن هنا فلا یستطیع العلم الوصول إلی غایة وحقیقة منطق الدّین.

ص:232


1- (1) هوبرماس: العولمة ومستقبل الدّیمقراطیّة.
2- (2) آلستون، بیتر وغیره...، الدّین والآفاق الجدیدة، ص 90، «التّرجمة الفارسیّة لغلام حسین توکّلی».

مکانة العلم فی المجتمعات الدّینیّة

کان العلم فی المجتمعات الدّینیّة تابع علی الدّوام للدّین والفلسفات الشّائعة، فالعلم لم یصل مطلقاً إلی ذلک الاستقلال والتّصرّف الّذی وصله فی الغرب، وطغی فیه علی الدّین والفلسفة، وجعل من الإنسان المالک الأوحد للعالم، أمّا العالم فی الشّرق فلم یصبح دنیویّاً مطلقاً، ولکنّه یری نفسه مرتبطاً علی الدّوام بالرّوح الحاکمة علیه وبما وراء الطّبیعة، ویری الدّین بأنّ العالم ما هو إلّا تجلّیاً للفیض الإلهیّ.

فلذا فهو لا یری له مساراً وعملیّة تحرفه عن ذلک. فالفلسفة الغربیّة ابتنیت علی فکرة التّصدیق العقلیّ والاتّجاه العینیّ، ولکنّها فی الشّرق ارتکزت علی المکاشفة والإیمان وکان لها دائماً وجهاً غیبیّاً وما فوق المادّیّ. ففی الغرب تختلف الأسالیب العلمیّة والفلسفیّة والأیدیولوجیّة والنظم السّیاسیّة والاجتماعیّة اختلافاً أساسیّاً عنها فی الشّرق والمجتمعات المذهبیّة. فمرجعیّة الإرادة البشریّة، إعطاء العلم وزناً أکثر من الحدّ اللازم، عدم السّماح للقوی الغیبیّة بالتّدخّل فی الحیاة والمصیر البشریّ، محوریّة الإنسان وحرّیّته المطلقة فی التّدخّل والتّصرّف والبحث فی الطّبیعة؛ تعدّ من ممیّزات الثّقافة الغربیّة. فلذا یمکن تحدید خصوصیّات الحضارة الغربیّة بالشّکل التّالی:

1. تقنیة الفکر وتقنینه.

2. النّظرة المادّیّة والمیکانیکیّة للعالم وجعله دنیویّاً.

3. تطبیع الإنسان (من مصادیق الطّبیعة).

4. محاربة الأسطورة والهبوط عن مستوی الغائیّة والأخرویّة إلی طبیعة الحیاة المادّیّة والنفعیّة فی اتّجاهات العلم الغربیّ.

ص:233

مکانة الدّین فی عصر العلم

إنّ الإطاحة بظروف ومقتضیات الزّمان یعدّ من أکثر العوامل أساسیّة فی انسجام الدّین مع التّقدّم العلمیّ وعملیّة التّنمیة. فهو من مستلزمات احتفاظ الدّین بقدرته، وصیانة الشّریعة داخلیّاً واستعداده لتحمّل المسؤولیّة وفتح عیون أتباعه علی آفاق وطرق واضحة فی عالم التّقدّم العلمیّ. ومع أنّ الدّین بإمکانه التّأثیر فی تعزیز أو تضییق أو إبطاء نمو التّقدّم العلمیّ، ولکنّ حاجات ومقتضیات الحیاة البشریّة وضرورة سیرها التّکاملیّ توجب إدامة هذه المسیرة، وأنّ معارضة القائمین علی الدّین للعقل الحدیث والتّطوّر البشریّ المتنامی یؤدّی إلی إیجاد شرخ وبعد عن الدّین وکراهیّته باعتباره عائقاً دون التّطوّر، وإلی انعکاسه بشکل، کالّذی یحاول أن یفسّره علماؤه والقائمین علیه، ولیس بعنوانه حقیقة إلهیّة فیکون معرضاً للنّقد والانتقاد. ومن هنا یحاول العلماء غیر الدّینیّین قراءة الدّین بشکل یؤهّله للانسجام والتناغم مع الأصول العلمیّة. وهذا ما أدّی لعرض قراءات متنوّعة عنه علی مرّ التّاریخ.

وکما أنّ الاتّجاهات المنظّمة للنّزعة الطّبیعیّة والفلسفة الوضعیّة وإجراءات الشیوعیّة والعلمانیّة اللادینیّة لم تتمکّن من عزل المذهب عن حیاة النّاس، فکذا الأنظمة اللیبرالیّة والاتّجاهات الغربیّة الأخری المنظویة تحت لافتة العلمیّة أو العقلنة أو العصرنة أو العولمة؛ لا تستطیع بدورها ملء فراغ حضور الدّین وعزله عن واقع الحیاة. فلا یستطیع أیّ بدیل مصطنع انتزاع الدّور الّذی یقوم به الدّین.

ص:234

7: علاقة الدّین والعصرنة

اشارة

إنّ الادّعاء الّذی یقول بعدم قابلیّة الدّین للانسجام مع عناصر العصرنة وأسسها ومکاسبها؛ فلذا ینبغی تأویله وتطویره حسب قراءات وتفسیرات حدیثة أو إبعاده من الأساس عن التّدخّل فی الشّؤون الدّنیویّة والحکومیّة والمؤسّسات المدنیّة والاجتماعیّة وغضّ النّظر عنه؛ إنّ هذا القول یعدّ قولاً مغرضاً وغیر منصف فیما یتّصل بالإسلام وناجم عن الجهل بأبسط أسس الرؤیة العالمیّة والمعرفیّة للإنسان وتعالیم الإسلام، ومع الإغماض عن المستلزمات والنّتائج المرفوضة لهذه النّظریّة ینبغی عدّ هذه الرؤیة تعمیماً للتّجربة غیر الموفّقة والخائبة للغرب والّتی یطبّل لها بعض مقلدیه.

وبحسب تعبیر الأستاذ مطهّری: «کان العلم قبل حدوث النّهضة الصّناعیّة والتّنویریّة فی خدمة الحقیقة وغدا الیوم فی خدمة القوّة ورأس المال والمصالح المادّیّة. وهذا ما تسبّب فی فقد قداسته وخلعه لوجهه السّماویّ واصطباغه بصبغة الأرض والمادّة، فغدا مجرّد وسیلة لاکتشاف الطّبیعة وتذلیلها والاستفادة القصوی منها، ویقول بیغن: «العلم للقوّة وفی خدمتها». فلم یأت زمن علی الدّنیا کان العلم فیها أسیراً بهذا القدر وبهذه الدّرجة من خدمة المستبدین والطّغاة.(1)

ص:235


1- (1) مرتضی مطهّری، الفکر الفلسفیّ الغربیّ، ص 131، موجزاً.

فینبغی النّظر فی النّسبة بین هذا الاتّجاه وموقف الدّین من العلم، وهل أنّ وصایا القرآن والنّصوص الدّینیّة فی الدّعوة إلی العلم والتّعقّل والتّدبّر والتّفکّر والحکمة لم تکن دعوة إلی مثل هذا العلم؟ من الواضح أنّ مثل هذا الاتّجاه لا یرتضیه الإسلام ولا ینسجم مع التعالیم الدّینیّة بأیّ حال من الأحوال. فکما أنّ العلم الغربیّ یبتنی علی أسس الفلسفة العصرانیة والنّزعة الإنسانیّة الغربیّة، فالعلمیّة الإسلامیّة ینبغی مطالعتها فی هامش الرؤیّة العالمیّة والرؤیّة الإنسانیّة والنّظام الجامع للمعرفة الإسلامیّة.

فالاختلاف الجوهریّ فیما بین العلم الّذی یصبّ فی خدمة القوّة وتوفیر الحرّیّة البشریّة فی الاستمتاع المطلق والمنفلت وتسخیر والاستفادة من مصادر الطّبیعة بأیّ شکل کان، فمثل هذه النّظرة غیر معقولة وغیر منصفة. فالعلم الغربیّ لا یحمل أیّة قیم وحقوق ویبتنی علی أصالة الفرد واللیبرالیّة الغربیّة ولا یعترف بحقوق الشّعوب الأخری فی العیش واستثمار المصادر الطّبیعیّة.

والعلم الغربیّ لا یعیر أهمّیّة للإفرازات السّلبیّة للتّقنیة علی مصادر الحیاة والمجتمعات البشریّة. فهو علم بلا قیود وبلا ضوابط، ویعتقد بأنّ الدّین والرّؤیة الکونیّة والقیم الإنسانیّة تقف حائلاً دون التّقدّم.

«وللتّقنیة الحدیثة مقتضیاتها ومستلزماتها الخاصّة المرافقة لها، فإنّ أیّ نوع من التّقنیة یؤدّی إلی تطوّرات تتناسب واستخدامها فی البیئة الاجتماعیّة ولا یمکن افتراض حیادیّتها وعدم إحداثها تغییرات ثقافیّة اجتماعیّة واقتصادیّة».(1)

«بل إنّ التّقنیة تخلق ظروفاً جدیدة وتغیر کلّ شیء، فهی تغیّر طبیعة الحیاة».(2) فکما أنّ الثّورة الصّناعیّة فی أوربا أحدثت تغییرات مهمّة باختراع

ص:236


1- (1) مهدی نصیری، الإسلام والتجدّد، ص 334، «باللّغة الفارسیّة».
2- (2) المصدر نفسه، ص 335.

الطّباعة والتّقنیات الاُخر والتّقدّم العلمیّ و الصّناعیّ، وماأحدثه التّلفاز أو الکومبیوتر والأنترنیت.

فکذا یمکن تسخیر التّقنیة لخدمة الإنسان واستخدامها بطریقة تؤمّن الرّخاء والأمن، وتکون أرضیّة مناسبة للسّیطرة علی الطّبیعة لتأمین استثمار مصادرها ونعمها الإلهیّة بشکل أفضل وأکبر، ولیس استخدامها لتخریب الطّبیعة وتهدید الإنسان.

إذن فیمکن أن تکون هناک نظرة إنسانیّة وعلمیّة وعقلانیّة إلی الطّبیعة واستخدام التّقنیة لخدمة الإنسان، فإذا کانت لدینا مثل هذه النّظرة الفلسفیّة والعقلانیّة والعلمیّة والدّینیّة العادلة إلی العالم، فإنّ النّظرة الّتی تری الإنسان علی أنّه موجود فعّال لما یشاء وذو حرّیّة مطلقة یستخدم التّقنیة العلمیّة والعقل کوسیلة لنیل الملذّات وتحقیق مصالحه الشّخصیة مع جهله بحقیقة منشأ العالم والغایة من الوجود؛ فإنّ مثل هذه النّظرة تجعل منه إنساناً لا یمکنه إشباع رغباته، ویقوده ازدیاد حرصه إلی تعاظم إحساسه باللاهویّة والوحدة والکآبة؛ إذن فلابدّ من معرفة الإنسان والعالم بکافّة أبعاده، فحرّیّته المطلقة وترکه بلا توجیه معناه العبث والعدم، ویبیّن القرآن الکریم عاقبة مثل هذه النّظرة، بقوله: (ذَرْهُمْ فِی خَوْضِهِمْ یَلْعَبُونَ) ،(1) (یَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَیاةِ الدُّنْیا وَ هُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) ،(2) (ذَرْهُمْ یَأْکُلُوا وَ یَتَمَتَّعُوا وَ یُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ یَعْلَمُونَ) .(3)

نظریة إمکانیة الاستفادة من التّقنیة مع الحفاظ علی الهویّة الوطنیّة

إنّ هذه المسألة کانت ومنذ زمن بعید موضع نزاع فیما بین العصرانیّة

ص:237


1- (1) الأنعام، 91.
2- (2) الروم، 7.
3- (3) الحجر، 3.

والتّقلیدیّة، وشغلت أذهان المجتمعات بطرق متعدّدة، وتمثّلت علی شکل جدالات فی مجال التّغرّب والتّجدّد وتیّارات التّنویر، کلّ تلک الاتّجاهات المتنوّعة کانت تسعی لبیان نوع التّعامل فیما بین الشّرق والغرب والحفاظ علی الهویّة الأصلیّة فی مقابل النّفوذ المتزاید للغرب، ولکنّ السّؤال الّذی لازال مطروحاً؛ هو هل یمکن التّفکیک والتفریق فیما بین التّقنیة الغربیّة وبین ثقافة وأسس التّقدّم التّقنیّ والعلمیّ، والاستدلال علی أنّه من الممکن الاستفادة من المکاسب المفیدة للغرب وتقنیته مع رفض ثقافته وآدابه ورسومه الثّقافیّة؟ إنّ کثیراً من المفکّرین الغربیّین والتّنویریّین غیر السّیاسیّین یعتقدون بعدم إمکانیة الفصل فیما بین أجزاء الحضارة الغربیّة. فالمکاسب الظّاهریّة والتّقنیة هی نتاج تطوّر فکریّ ومساعٍ علمیّة علی مدی قرون مدیدة.

وقد أکّد بعض العلماء المسلمین فی القرون الأخیرة وکردّ فعل علی التّطوّر والتّقدّم العلمیّ والتّقنی الغربیّ علی أنّ اکتساب العلوم والفنون المهمّة؛ یعدّ من الأمور الضّروریّة وقد أوّلوا ما ورد فی القرآن والرّوایات المتطرّقة إلی الإطراء علی العلم والعقل وذم الجهل فی هذا النّطاق. ونفّروا المسلمین علی اقتباس مثل هذه العلوم وعدم التّریث ولو للحظة فی هذا المجال. ویعتقد هؤلاء المفکّرون فی تصوّر أولی بأنّ العلوم الجدیدة ما هی إلّا استمراراً منطقیّاً ووجهاً تکاملیّاً للعلوم الطّبیعیّة الّتی کانت موجودة، ولم یعتنوا بمبادئ وأسس وغایات هذه العلوم الحدیثة. فی حال أنّ أهمّ هدف للعلم الحدیث الّذی رافقه التّقدّم التّقنی العظیم «المیل نحو الاستیلاء والسّیطرة علی الطّبیعة» و «النّزعة الإنسانیّة». فالغرب یعتقد بأنّ المکاسب العلمیّة والتّقدّم یعتمد علی القول بأصالة العلم وأصالة الإنسان وتوهّم ألوهیّته والاعتقاد بالإرادة والقدرة البشریّة المطلقة ورفض المذهب والانفلات من سیطرة الدّین والکنیسة. «ویعتقد بأنّ البشریّة لیست بحاجة فی ظل العلم

ص:238

والتّقنیة إلی الخضوع لله والقوی الطّبیعیّة وغیر الطّبیعیّة، وأنّ الإنسان له السّلطة علی الطّبیعة ولیس له غایة سوی کسب قدرة أکبر والتّمتّع المفرَط بالدّنیا ولیس له رغبة فی الخلود فیها».(1)

إنجازات الدّین فی المجتمعات الحدیثة

إذا أراد الدّین أن یکون له دور وأهمّیّة فی المجتمع الحدیث فعلیه أن یکون عامّاً ومنظّماً، ومصدراً کامناً للإجابة علی جمیع الهواجس والمسائل العامّة والجماعیّة، والتّأثیر علی النّظام الاجتماعیّ کی یتمّ العمل بالأصول الدّینیّة ومسائل ما وراء الطّبیعة وتتوافق المسائل الاجتماعیّة والإنسانیّة معها.(2)

فإنّ عولمة المجتمع مع المیل إلی خصخصة الدّین یعدّ أرضیّة خصبة للنّفوذ الجدید والعام للدّین. ولیس المقصود من النّفوذ العامّ للدّین هو ارتقاء المستوی الدّینیّ للأفراد وإنّما المقصود هو جعل التّدیّن ردّ فعل عامّ مستلهم من الدّین.(3)

إنّ مسألة فعّالیّة الدّین فی العالم المعاصر ترتبط بشدّة بنفوذه وشموله ونفعه فی المجتمعات الحدیثة. وکذلک ترتبط بنظرته الأخلاقیّة إلی المسائل الاجتماعیّة والإنسانیّة وتنظیم العلاقات الأخلاقیّة للمجتمع علی أسس القواعد الدّینیّة، فتجعل هذه العملیّة من الدّین خُلقاً أو یمکن تسمیتها بتنمیة الأخلاق، کما أنّ النّظام الأخلاقیّ فی المجتمع یساعد کثیراً علی نفوذ الدّین فیه، وتؤثّر الأخلاق الدّینیّة علی تنظیم أسس العلاقات الاجتماعیّة، وتزید من العلاقات السّلیمة وتؤدّی إلی بسط الأمن والثّقة المتبادلة. وکذا تحدُّ من الفوضی السّلوکیّة، وتحول دون کثیر من

ص:239


1- (1) مهدی نصیری، الإسلام والتجدّد، ص 106، «باللّغة الفارسیّة».
2- (2) بایکین ریتشارد، الدّین، هنا، حالیاً، ص 26، «التّرجمة الفارسیّة لمجید محمّدی».
3- (3) المصدر نفسه، ص 178.

مسبّبات الأزمات الاجتماعیّة؛ ممّا یؤثّر تأثیراً إیجابیّا وبنّاء علی النّظام التّعلیمیّ والتّربویّ والاقتصادیّ للمجتمع.

علاقة العلم والدّین فی رأی بعض مفکّری العالم

یرسم العلّامة الإسلامیّ والفیلسوف البارز مرتضی مطهّری علاقة الدّین والعلم بهذه الصّورة: «لا یوجد شیء أفدح وأشأم علی البشریّة من فصل الدّین عن العلم. فهذا الفصل یدمّر التّوازن الاجتماعیّ للبشریّة والعالم القدیم والحدیث علی السّواء. إنّ مرض العالم القدیم یتمثّل فی بحث النّاس عن اتّجاههم الدّینیّ بمعزل عن العلم. وکما أنّ المرض الأساسیّ لعالم الیوم هو أنّ البعض یبحثون عن العلم بمعزل عن الدّین. فإنّ أغلب الانحرافات والشّقاء الّذی یهدّد إنسان الیوم ناجم عن طلب العلم دون إیمان. فالیوم الّذی تظلّل فیه السّعادة رؤوس البشریّة هو ذلک الیوم الّذی تشعر فیه شعوراً عمیقا أنّها کالطّیر بحاجة إلی جناحین، جناح للعلم وجناح للإیمان».(1)

فالإسلام لیس له تصوّر مزدوج للعالم والإنسان، وإنّما یقول بأصالة الدّنیا والآخرة، الجسم والرّوح وارتباطهما مع بعضهما البعض، وکذلک یقول بأنّ التّعبّد والتّعقّل، وأنّ النّظر إلی الفرد والمجتمع بشکل معقول له أهمّیّة فی تقریر مصیر الإنسان والمجتمع.

إنّ هذه النّظرة الإسلامیّة لیست مجرّد وهم وخیال لا یرتبط بالحیاة الواقعیّة، وإنّما مبتنیة علی الرّؤیة العالمیّة الخاصّة بالإسلام، والّتی تربط الاهتمام بالحیاة والغایات الدّنیویّة بشکل معقول وهادف مع القیم الإلهیّة الرّاقیة.

فإنّ القول بالتّعارض فیما بین المعنویّة والحاجات المادّیّة للإنسان، بین الأخرویّة ومحوریّة الدّنیا، بین الدّین والسّیاسة، بین الباطن والظاهر،

ص:240


1- (1) مرتضی مطهّری، الإنسان الکامل، ص 200-201.

وإعطاء الأولویّة لأحدهما وإسقاط الآخر؛ هو مخالف للنّصوص الصّریحة للإسلام.

إنّ بعض مدّعی الفکر التّنویریّ یسعون لإظهار عدم انسجام الإسلام مع العلم والتّجدّد وعلی هذا أساس هذه الرؤیة طرحوا نظریّة (عرفیّة الدّین) أو عدم انسجام القداسة الدّینیّة مع السّیاسة. فهذا الطیف من التنویریّین الدّینیّین یجعل للعقل البشریّ دائرة انتخاب ومناورة أوسع وأکبر من جمیع أبعاد الشّریعة. ولنقد مثل هذا الرأی ینبغی القول؛ بأنّ هذا التّأویل والصّیغة ترتکز علی افتراضین:

1. أنّ الدّنیا والآخرة أمران متضادّان، وتفترض أنّ نوع التّعامل فیما بینهما هو من نوع التّباین، ولا یمکن الجمع والمساومة فیما بین الدّنیویّة والأخرویّة.

2. أنّ أسلوب العلم یختلف ویغایر أسلوب ونتاج الدّین، ومن خلال إنکار الجوانب القدسیّة من الحیاة البشریّة وعالم الوجود تنتفی الحاجة إلی الدّین.

العولمة والدّین

فی رأی لوهان ذو الاتّجاه الدّینیّ؛ أنّ العولمة «لیست تقدّماً ثوریّاً إجباریّاً باتّجاه استیلاء العصرنة الغربیّة عالمیّاً، بل إنّ هذه العملیّة التّطوّریّة لیست بمعنی إنکار الواقعیّات التّجربیّة لمثل هذه الفرضیّة، وإنّما بحسب الرّأی النّظریّ ینبغی أن تکون للعولمة آثار عمیقة علی المجتمعات الأخری، والحال أنّ مقاومة العولمة وتوسّعها فی مختلف أرجاء العالم أدّی إلی نشوء حرکات مستوحاة من الدّین».(1)

ویقول فی تحلیله؛ أنّه حتّی فی المجتمعات الّتی یسیر فیها الدّین باتّجاه الخصخصة یمکن ملاحظة مثل هذه الفعّالیّة له.

ص:241


1- (1) بایکین، ریتشارد، الدّین، هنا، حالیاً، ص 206، «التّرجمة الفارسیّة لمجید محمّدی».

ویستدلّ بأنّ المعرفة المعنویّة فی المستقبل؛ ستصبح الوجه الغالب للحیاة البشریّة، ویسمّی ذلک «الرّؤیة الکونیّة المعنویّة للمجتمع الحدیث»، فهذه الرّؤیة الکونیّة تحافظ علی کثیر من المعتقدات والقیم والسّلوکیّات، ویعتقد أنّ أفضل إطار لتعزیز مثل هذا النّوع من المعنویّة هو إطار الفرد نورث وایتهد، ویتعرّض للدّفاع کلامیّاً لموقف وایتهد من الفکر الحدیث، فوایتهد ینفی دعوی الرّؤیة الکونیّة الحدیثة المبتنیة علی کشف العلاقة العلّیّة فیما بین الظّواهر الفیزیاویّة ویعتقد بنوع من العلاقة الرّوحیّة والمعنویّة للظّواهر العالمیّة. ویؤکّد من خلال علاقة وتأثیر اللطف الإلهیّ بالتّضافر مع عملیّة التّطوّر والبحث والتّجارب الإنسانیّة؛ علی ضرورة المعرفة المعنویّة فی عصر ما بعد الحداثة. «إنّ الاعتقاد بالعلاقة المعنویّة وتأثیر العوامل الملکوتیّة و الرّوحیّة علی الموجودات المادّیّة موجود أیضاً فی الأدیان الأخری».(1)

وعلی أساس هذا التّصوّر؛ فإنّ التّأثیر الإلهیّ والمعنویّ لله فی الحیاة البشریّة یتجلّی فی أشکال متنوّعة من العلاقة التّکوینیّة للموجودات، وحتی العلاقة الشّعوریّة و الرّوحانیّة وغوامضهما. وکذلک الاعتقاد بالتّقدیر العامّ والأجل وکثیر من الحقائق الاُخر الخارجة عن نطاق الإدراک والإرادة البشریّة، ولکنّها تؤثّر تأثیراً مهمّاً علی المصیر الإنسانیّ، کأمثال إعمال الله سلطته وتأثیره علی حیاة الإنسان من خلال الأنبیاء والکتب السّماویّة و الطّرق الأخری الّتی تتمثّل بالإرادة الحتمیّة والجازمة لله ودوامها؛ فکلّ ذلک یعدّ من الدلائل الحاکیة عن قاعدة اللّطف والعلاقة المعنویّة لله مع العالم والإنسان.

إنّ إحدی الجوانب الأخری لتأثیر العولمة؛ أنّها تؤدّی إلی تجدید الحیاة المذهبیّة، فبعض التّیّارات المذهبیّة ومن خلال تأکیدِها علی النّزعة الإیمانیّة

ص:242


1- (1) المصدر السّابق، ص 206.

بدل التّأکید علی القومیّة والوطنیّة والمحلّیّة أوجدت نوعاً من الانسجام والتّضامن فیما بین أتباع ذلک الدّین.

1. فالثّورة الإسلامیّة فی إیران علی سبیل المثال کان لها أصداء واسعة فی مختلف أرجاء العالم من خلال سرعتها والمراحل الّتی طوتها، بحیث لم یشاهد ذلک فی أیّة حرکة إسلامیّة تجدیدیّة.

2. إنّ العولمة عزّزت العلاقات المذهبیّة.(1) فعلی سبیل المثال، البلاغات والبیانات الّتی یصدرها البابا لکلّ العالم وکذلک زیاراته للدّول ولقاءاته مع قادتها قد روّجت للمسیحیّة بشکل جدید.

3. أمّا فی الإسلام فإنّ کثیراً من المسلمین یسافرون بسهولة إلی مکّة لأداء مناسک الحجّ ویؤدّی هذا العمل العبادیّ العظیم إلی انعکاسات متعدّدة سیاسیّة وثقافیّة ودینیّة.

4. انتشار کتاب سلمان رشدی عام 1989 والأصداء الواسعة لفتوی الإمام الخمینیّ عن طریق وسائل الإعلام العالمیّة، تحوّل إلی مناسبة عالمیّة لها انعکاس سیاسیّ ومذهبیّ واسع.

5. دور منظّمة المؤتمر الإسلامیّ - الّتی تأسّست فی سبعینیات القرن الماضی - فی المسائل العالمیّة والقرارات الدّینیّة المهمّة.

6. استفادة المسلمین من الأقمار الاصطناعیّة والأنترنیت للدّعوة إلی أهدافهم الدّینیّة والثّقافیّة.

أمّا الإجابة عن ماهیّة تأثیر عملیّة العولمة علی الدّین؛ فبعض المفکّرین الإسلامیّین أمثال محمد قطب یعتقدون بأنّ: «العولمة لا یمکنها إضعاف وإنکار الدّین وحسب، وإنّما تعدّ من أسباب تعزیزه وانتشار الصّحوة الإسلامیّة فی کافّة مناطق العالم. ویستدلّ علی إثبات مدّعاه بطریقین:

ص:243


1- (1) مظهر الإلوهیّة والربانیّة والمربوبیّة لله أو لمقام الخلیفة الإلهیّ.

الدّلیل الأوّل؛ الّذی یمکن إقامته فی هذا المجال هو «أنّ الحضارة الغربیّة الیوم مع ما حصدته من مکاسب علمیّة کثیرة، ولکنّها من جهة أخری ساقت البشریّة نحو الدّمار والانحطاط وأحدثت أزمات متعدّدة أخلاقیّة، اجتماعیّة، بیئویّة واقتصادیّة، وصور متنوّعة من اللا أمن واللا عدالة. فإنسان الیوم یعیش الفقر والتّعارض من ناحیة الأسس المعرفیّة، ویعانی من ضیاع هدفه الأساسیّ وفلسفة وجوده. ومن ناحیة الرؤیة الإنسانیّة والعالمیّة فقد دخل فی نفق مظلم وجهل مطبق؛ یواجه فیه وبقوّة أزمات روحیّة، أخلاقیّة، اجتماعیّة، بیئویّة ولا أمنیّة وتهدیدات دولیّة. فالبشریّة مع ما نالته من القدرة المادّیّة والعلمیّة والاقتصادیّة والتقنیّة الفائقة، ولکنّها باتّجاهها المادّیّ والمنحرف عن الدّین سقطت فی ورطة الانحراف والانحطاط وابتلیت بالغفلة عن نفسها. فالإنسان فی رأی المدارس الفکریّة الغربیّة حیوان داروینیّ طوی مراحل التّکامل من العقل والحیوانیّة، وتمکّن بواسطة ذلک من التّفکیر والتّحدّث واستخدام الوسائل والإمکانات وأوجد حضارة مادّیّة. فأهداف هذا الإنسان فی الحیاة هی الاستمثار الأقصی للذّات الحسیّة من جهة، والانتصار فی عملیّة تنازع البقاء من جهة أخری، ووسائله فی هذا النّزاع هی العلم والحرب والسّیاسة».(1) إنّ هذا الإنسان ومن خلال إنکاره علاقته بالله أوجد لنفسه (إحساساً بنوع من الإلوهیّة) وأخذ یمارس الأنانیّة واعتقد بأنّه (فعّال لما یشاء)، وأنّ شعوره بالاستغناء والسعادة یرتبط بإنکار الدّین وتدخّل الله، وهذه هی الأزمة المعنویّة والفکریّة للإنسان المعاصر والّتی لا یوجد طریق للخروج منها إلّا بالمصالحة مع الدّین، ولا توجد فی هذا المجال مدرسة بإمکانها إنقاذ الإنسان من هذه الأزمات المعرفیّة والفلسفیّة والمعنویّة والروحیّة والهوهویّة سوی الإسلام.

ص:244


1- (1) محمّد قطب، المسلمون ومسألة العولمة، ص 62، «التّرجمة الفارسیّة».

کیفیّة توافق الدّین مع الظّروف الجدیدة

هل أنّ الأصول والأحکام والتّعالیم الدّینیّة ینبغی تغییرها عند حدوث تغییر وتطوّر فی المحیط الخارجیّ، أم أنّها تبقی علی حالها من الأصالة والثّبات وعدم التّغیر والتّطوّر وإن تطوّرت الأوضاع الخارجیّة وتغیّر لون ورائحة آداب ورسوم الحیاة المادّیّة والفکریّة؟

وینبغی التّنبیه علی هذه النّقطة المهمّة فی هذا المجال وهی أنّنا عندما نتحدّث عن الدّین وتغییره فإنّ هذا الکلام لا یعنی تغییر جوهره وحقیقته باعتباره أمراً مقدّساً، وإنّما باعتباره دیناً موحَیاً و (کتاباً منزلاً) یتلائم تطبیقه وعمل واعتقاد الإنسان الأرضیّ، وله دور مصیریً وملهم فی الحیاة الفردیّة والاجتماعیّة. فإذا أراد الدّین أن یتوافق والتّغییرات الخارجیّة وظروفها الجدیدة بعنوانها ظرفاً لتبلور الدّین؛ فأیّ جانب من جوانب الدّین سیطاله التّغییر؟. قبل الإجابة علی هذه المسألة واکتشاف حلّها ینبغی أوّلاً مطالعة ماهیّة هذه التّطوّرات الجدیدة والتأمّل فیها. فهل أنّ التّطوّرات الّتی حدثت جرّاء العولمة اقتصرت علی اختزال الزّمان والمکان فینبغی علی الدّین الّذی کان نطاقه مقتصراً علی مجتمع صغیر ومنطقة خاصّة ویختصّ بقوم وقبیلة معیّنه؛ أن یتجاوز زمانه ومکانه المحدود ویتّسع لیشمل کلّ العالم ویشیر إلی نفسه فی المجتمع العالمیّ.

أم أنّ التّجمعات الدّینیّة والمراسم المذهبیّة تقام بذات الشّکل المعهود وفی مکانها وزمانها المعیّن؟ أم أنّها تقام بصورة غیر مباشرة وبواسطة وسائل الاتّصال والمواصلات الحدیثة؟ وما هو الاختلاف أساساً فیما بین السّلوک الدّینیّ لمتدیّنی المجتمع العالمیّ مع سلوکهم فی المحیطات الصّغیرة والمحلّیّة؟

إنّ عولمة الدّین یمکن أن تکون عملیّة تحدید وفرز جدید، تُوجد موقعاً عالمیّاً للمذهب، وتشمل هذه المرحلة ثلاثة جوانب:

ص:245

الأوّل: تؤدّی إلی تغییر حتمیّ فی کلّ المؤسّسات المذهبیّة.

الثّانی: یمکن توقّع حدوث ممیّزات جدیدة فی مضمون المعتقدات والمناسک والرّسوم والشّعائر.

الثّالث: إنّ العولمة الّتی رافقتها تغییرات فی جمیع الأدیان والمذاهب، وعلی الخصوص الرؤی الفکریّة والمعرفیّة لأتباعها فی العالم الجدید؛ ستتعرّض لتطوّرات وتغییرات أخری.

ویعتقد انتونی ماک غرو أن إحدی أشکال هذه التّغییرات هو (الأدیان متعدّدة القومیّات) الّتی تتمخّض فی ظروف ثقافیّة واجتماعیّة خاصّة بواسطة الجماعات المستقلّة والمنظّمات غیر المرتبطة بالدّول.

النّوع الثّانی من التّغییرات؛ هو تبلور الدّین فی صورة (دین شبکیّ) بمعنی أنّ الأدیان فی عصر العولمة تکسب بواسطة الإعلام العالمیّ أتباعاً عالمیّین من خلال محوریّة الفعّالیّات المذهبیّة والاجتماعیّة. وتتشکّل علی هذا الأساس حرکات عالمیّة جدیدة ذات اتّجاهات وفعّالیّات ثقافیّة واجتماعیّة أمثال؛ حرکات السّلام، العدالة، الإصلاحات الاجتماعیّة والسّیاسیّة، وحرکات صیانة البیئة وأنواع اخر من المسائل المرتبطة بحبّ الإنسانیّة وأعمال الخیر.

ففی عملیّة العولمة «تتوفّر الإمکانیّة لکلّ دین ومذهب لترویجه خارج نطاق حدوده الوطنیّة».(1) وذلک لتطوّر مکانة الدّین من خلال الاستفادة من الأجواء والإمکانات المستجدّة، وکذا من خلال زوال کثیر من معوّقات تبلیغ الدّین والحواجز المفروضة الأخری. أمّا المسألة المهمّة الأخری والّتی یبرز لها ارتباط روحیّ وعاطفیّ بمکانة الدّین «فنظراً للنّزعة الدّینیّة الحدیثة فی

ص:246


1- (1) محسن الویری، الدّین والعولمة؛ الفرص والإشکالات، (مجموعة مقالات المؤتمر 16 للوحدة الإسلامیّة).

العالم، فقد انساق عالم الیوم نحو الدّین لملء الفراغ المعنویّ والأخلاقیّ الّذی یعانیه، وکذا فکریّاً ومعرفیّا لإذعانه بعدم فعّالیّة الأیدیولوجیّة الدّیمقراطیّة اللیبرالیّة والنّماذج الموجودة، فأخذ یبحث عن حیاته فی النّظریّات الثّقافیّة والدّینیّة، ممّا أعطی المبلّغین الدّینیّین فرصةً وظرفاً جدیداً لاطّلاع عامّة المجتمع ونخبه علی التّعالیم الدّینیّة».(1)

وفی مقالة لأحد المفکّرین والباحثین الدّینیّین تحت عنوان (مشاکل التدیّن فی العالم المعاصر) یذکر فیها بأنّ مشکلة العولمة هی من إحدی المشاکل الّتی تواجه التّدیّن. ویطرح فی هذا المجال أسئلة وإشکالات یمکن أن یواجهها المتدیّنون فی عملیّة العولمة وتتمثّل فی:

أ) هل أنّ العولمة متحقّقة أم هی فی طور التّحقّق؟

ب) و هل أنّها إرادیة ومختارة فی حال تحقّقها أم أنّها غیر إرادیّة؟

ج) وهل أنّها تؤمّن مصالح فئة خاصّة من النّاس؟

د) وما هی مستلزماتها ونتائجها علی الذّهنیّة والنّفسیّة البشریّة؟

ثمّ یشیر إلی الطّموحات والآفاق الّتی ینتظرها الإنسان من الدّین ویقول: إنّ العولمة تؤدّی بنا إلی مواجهة ظواهر دینیّة أخری، وتعرّفنا علی نقاط القوّة والضّعف وامتیازات کلّ دین، وتعزّز القدرة علی الانتخاب والمنافسة فیما بین المتدیّنین.

ویمکن الإشارة فی هذا السّیاق إلی ردود الأفعال المتفاوتة الّتی أثارتها العولمة فی المحافل السیاسیّة والعلمیّة والثّقافیّة؛ فالبابا جان بول الثّانی رئیس الکنیسة الکاثولیکیّة خاطب مجمع الفاتیکان السّنویّ قائلاً: «یجب أن لا تتمثّل العولمة کنوع من الاستعمار، بل ینبغی احترام التّنوّع الثّقافیّ، ودعی البشریّة إلی الاهتمام بالأخلاق الإنسانیّة والحرّیّة فی انتخاب الثّقافة والدّین فی مسیرة

ص:247


1- (1) المصدر نفسه، ص 278.

العولمة. وحذّر من أن یقتصر التّمتّع بالعلم والتّقنیة والمواصلات ومصادر الثّروة علی الأقلّیّة علی حساب الإضرار بالأکثریّة».(1)

ویحذّر ماهتیر محمد رئیس الوزراء المالیزیّ السّابق من أنّ أنصار العولمة مکبون علی التّهیؤ لإساءة استثمار السّوق العالمیّة المفتوحة، وأهاب بالمسلمین أن یسعوا بشکل منسجم للتّأثیر من خلال تعریف مفاهیمها وتقنینها، وینبغی علیهم أن یکونوا أذکیاء فی امتلاک بعض الوسائل الأساسیّة للعولمة وإدراک أبعادها.

وأکّد علی ارتباط دور الإسلام فی عصر العولمة بکیفیّة تعامل المسلمین حیال المسائل العالمیّة المهمّة من قبیل السّلام والعدالة وعملیّة التّنمیة والرّخاء العام.

ویبیّن کارل جوزف کوشل مصیر الدّین فی عصر العولمة قائلاً: «إنّ العدالة والسّلام العالمیّین وظائف ترتبط بجمیع النّاس، فلا ینبغی أن توکل إلی خصوص السیاسیّین والاقتصادیّین» فتقع علی عاتق الاقتصاد والأنترنیت والبورصة والأدیان مسؤولیّة خاصّة لبسط الرّخاء العام. وینبغی إیکال السّیاسة والاقتصاد والحیلولة دون اللا أمن واللا عدالة ومواجهة أسباب تهدید السّلامة الروحیّة والنّفسیّة وصیانة المسؤولیات الأخلاقیّة والقیم الإنسانیة للمواطنین فی القریة العالمیّة؛ إلی عهدة الفلاسفة والمفکّرین الدّینیّین.

ومن الطّبیعی أنّه ینبغی علینا الالتزام بعقائدنا وعدم التّفریط بها لمجاراة العولمة، والاعتقاد بضرورة التّعامل والحوار فیما بین الأدیان. فسیکون للثّقافات والأدیان مکانة مهمّة فی عصر العولمة.

ولا یستطیع أحد أن یدّعی عدم وجود سوی دین واحد فی المستقبل، لعدم وجود ممهّدات وأسباب مثل هذه القضیّة فی الحالة العادیّة. ومن هنا ینبغی اعتراف الجمیع بقبول الاختلاف فیما بین الأدیان وحق الانتخاب وحرّیّة أتباعها.

ص:248


1- (1) فصلیّة مطالعات استراتیجیّة، العدد 13، ص 309، «باللّغة الفارسیّة».

العولمة والإسلام

لطالما کانت العلاقة بین الإسلام والتّطوّر العالمیّ حیّة، فالإسلام باعتباره تیّاراً حیّاً ومتجدّداً کان علی الدّوام یسایر التّطوّر علی مرّ التّاریخ.(1) ولکن ینبغی الإذعان بأنّ التّطوّر البنّاء للإسلام باعتباره دیناً مهمّاً یقع علی کاهل المسلمین. فلدراسة المسیرة التّکاملیّة للإسلام ومطالعة التّطوّر الجدید للدّین؛ ینبغی الأخذ بنظر الاعتبار أیضاً العوامل الخارجیّة المنبثقة عن التّطوّرات المستمرّة فی المحیط المحاذی للإسلام، فتطوّر الإسلام ینبغی مطالعته ضمن هذه المجموعة العالمیّة العامّة.

وکما قیل؛ إنّ العولمة تجرّ الإنسان نحو الصّراع فی المجالات الاجتماعیّة المختلفة ولا یشذّ أیّ مجال من المجالات البشریّة عن التّأثّر بها. فهذه العملیّة شئنا أم أبینا هی فی حال شمول، سواء کان ذلک إیجابیّاً أم سلبیّاً. وکما یقول رولاند روبتسون: «إنّ توحّد العالم أمر محتوم. فهذه الظّاهرة فی ذات الوقت الّذی تظلّل فیه جمیع الحدود المادّیّة یمکنها أیضاً من تطویر الحدود المعنویّة والعقائدیّة».(2)

فما هی وظیفة المسلمین فی مقابل عملیّة العولمة؟ فالأصل الأوّل للحصول علی المعرفة والاطّلاع اللازم للتّعامل مع الافتراضات الأساسیّة للحضارة الغربیّة هو النّظر فی الأسس والمبانی الفلسفیّة والسّیاسیّة والاقتصادیّة الغربیّة، وإلی أزماتها الاجتماعیّة والثّقافیّة والدّینیّة العمیقة الّتی انتجت المدارس الإلحادیّة واللا أدریّة وعشرات المدارس العبثیّة واللهویّة، والّتی ساعدت فی نهایة الأمر علی السّقوط الأخلاقیّ فی الغرب، فإنّ لذلک أهمیّة قصوی، «فالوظیفة المهمّة للمسلمین فی مقابل عملیّة العولمة هی معرفة

ص:249


1- (1) ویلفرد، کنت وول سمیث، الإسلام فی عالم الیوم، «التّرجمة الفارسیّة لحسین علی هروی».
2- (2) جان تاملسون، العولمة والثّقافة، ص 25، «التّرجمة الفارسیّة».

الحضارة الغربیّة وأسسها من جهة، والإدراک الکامل لمحتوی الثّقافة الإسلامیّة الغنیّة وظرفیّتها العالمیّة من جهة أخری؛ لأجل التّمکّن من معالجة الأزمات الفکریّة والمعنویّة للعصر الحالی والسّعی لترویض الرّوح المعنویّة والفکریّة للحضارة الغربیّة».(1)

الإسلام فی عالم الیوم

لقد رضخت المجتمعات الإسلامیّة الیوم لضرورة إقامة علاقات عالمیّة متبادلة وتأسیس مؤسّسات فی هذا المجال لجعل الدول الإسلامیّة قادرة علی التّعاون والظّهور برأی واحد فی الاجتماعات الدّولیّة.

ولکنّ النّموّ التّعلیمیّ والتّربیة العامّة و التّعرّف علی التّراث الإسلامیّ الثّر هو من أهمّ المسائل المؤثّرة الّتی ینبغی علی المسلمین الاهتمام بها. فإنّ ازدیاد معرفة المسلمین بالدّور الّذی من الممکن أن یضطلع به التّراث الثّقافیّ الإسلامیّ العظیم یجعلهم أکثر معرفة وأکبر قدرة ممّا یؤدّی إلی اعتدادهم بهویّتهم الثّقافیّة والتّاریخیّة والدّینیّة وسعیهم للحفاظ علیها فی ذات الوقت الّذی یتقبّلون فیه نماذج التّجدّد ومکاسب التّقنیة، والحیلولة دون الذّوبان فی الثّقافات الحدیثة.

فأغلب المفکّرین الإسلامیّین یؤکّدون علی أنّ النّظرة العقلانیّة والانتقادیّة والإحاطة بالظّروف الزّمانیّة والمکانیّة بإمکانه أن یحافظ علی جوهر الدّین فی عصر العولمة. والبعض الآخر یشیر إلی إمکانیّة التّغلب علی الثّقافة الحدیثة بواسطة المعنویّة والعرفانیّة الإسلامیّة، ویؤکّدون علی إمکانیّة ترویض العلم والتّقنیة الغربیّة وجعلها تسیر فی خدمة الأهداف الأصیلة والمعقولة للبشریّة، والاستفادة منها لنشر وتوسیع المعنویّة علی مستوی العالم.

ص:250


1- (1) مهاتیر محمّد، خطابه فی افتتاحیّة مؤتمر القمّة الإسلامیّة.

وتؤکّد هذه الفئة علی القابلیّات المتعدّدة للإسلام للقضاء علی الفقر و استعادة المعنویّة فی العالم المعاصر نظراً لضعف الأدیان الأخری فی سدّ هذه الحاجات.

ولکن عموماً ینبغی القول؛ بأنّه یمکن للمسلمین اتّخاذ طریقین فی مقابل الحضارة الغربیّة:

1. الانسجام مع حرکة الحضارة العالمیّة مع الحفاظ علی هویّتهم.

2. العمل علی تقویة أسسهم العلمیّة والتقنیّة من خلال إعادة بناء هیکلیّتهم الدّاخلیّة والالتزام بالإیمان وتعالیمهم الدّینیّة والعقلانیّة الأصیلة.

وبما أنّ علاقة الإسلام والغرب وصلت إلی حدود الصّراع فیما بین ثقافتین والمواجهة بین فکرین وأسلوبین یرتکزان علی أسس دینیّة وفلسفیّة وسیاسیّة منفصلة؛ فستؤدّی هذه المواجهة الجدّیّة والخطیرة إلی نزاعات ومعضلات کثیرة، وستکون هذه الحقیقة أوضح وأقوی فی إطار عملیّة العولمة. ومن هنا؛ یمکن التکهّن بأنّ الإسلام سیکون من إحدی الثّقافات المهمّة والمؤثّرة فی المستقبل.

فکیف سیکون تعامل الإسلام وعلاقته بالأدیان الأخری عند تحقّق التّطوّرات الفکریّة والثّقافیّة للمسلمین، وما هی استراتیجیّته فی حل المعضلات العالمیّة؟ فمن خلال إمعان النّظر فی التّعارضات المتعدّدة، کتضادّ الإیمان والشّکاکیّة، السّنّة والبدعة، الأصالة والالتقاطیّة، الأصولیّة فی مقابل التّردّد المفرط للتجدّدیّة؛ ینبغی القول:

توجد طروح جدیدة لإعادة قراءة الدّین، فالتّجدید الفکریّ للتّنویریّین الإسلامیّین والإصلاحیّین فی العالم الإسلامیّ استطاع تجاوز المراحل الأولی للدّور العالمیّ للإسلام. أمّا الآن فقد برزت ثلاثة اتّجاهات أساسیّة داخل العالم الإسلامیّ:

1. طلب التحدیث والوسوسة الدّائبة للتّغییر علی أمل الخلاص من الاستعمار السّیاسیّ والاقتصادیّ الغربیّ.

ص:251

2. الاستفادة من الأفضلیّة الفکریّة والجدارة الإسلامیّة فی المواجهات السّیاسیّة والسّعی نحو الاستقلال واستغلال الجهاد والشّهادة فی طریق العقیدة والأهداف الإسلامیّة.

3. بروز فکرة عودة الحکومة فی إطار الضّوابط والمعاییر الإسلامیّة.

إنّ طراوة الأیدیولوجیّة الإسلامیّة لجدیرة وقادرة علی إقامة مجتمع حدیث علی أنقاض المجتمعات المنهارة، فالإسلام قادر علی إثارة قلوب أتباعه لیکافحوا بعزم معوّقات ومشاکل الحیاة من خلال التّسلّح بالإیمان والاتّحاد. فإنّ دور الإیمان لا یقتصر علی البناء الذّاتیّ للمسلم، فیستطیع الإسلام الیوم بأسلوبه الأیدلوجیّ الشّامل أن یطرح نفسه فی العالم من خلال خصوصیّتی التّسامح والطّموح فی المجال الاجتماعیّ.

وللإجابة عن هذا السّؤال وهو هل أنّ الإسلام یمکن تطابقه والتّعالیم الأساسیّة الهشّة للعولمة أم لا؟ یمکن عرض رأیین فی هذا المجال:

الرّأی الأوّل؛ یمکن طرحه وتحلیله بناءً علی مقولة علاقة الإسلام بالعصرنة، فعلی أساس هذا الرّأی یستطیع الإسلام الإجابة علی کثیر من المعضلات العلمیّة والانسدادات الفکریّة الّتی نتجت عن تناقضات العصرنة وطرح حلول ناجعة لها. ومن خلال التّفسیر الخاصّ للعصرنة یمکن التّوفیق فیما بین العقلانیّة الحدیثة والإسلام بقراءة خاصّة، وتلفیق العلم الحدیث والعقل الحدیث مع العلم المعرفیّ الدّینیّ الأساسیّ والمعرفة الغائیّة الدّینیّة للإنسان، وتعریف الدّین بعنوانه عاملاً فوق المادّة ولیست هی بدیلاً عنه ومسؤولاً عن توفیر الحاجات الأساسیّة والضّروریّة للبشریّة. واعتبار العلم ومقولة محوریّة العلم والعقلنة العصرانیّة مسؤولة أیضاً عن توفیر الحاجات المادّیّة المعیشیّة للإنسان، ففی هذه المقولة یوضع الدّین فی مکانه الّذی یستحقّه، وکذا العقلانیّة الحدیثة تتمتّع بتأیید الدّین وقبوله، ومن خلال هذا

ص:252

التّفسیر یزول التّعارض فیما بین الدّین والعلم والعقلانیّة وکذلک التّعارض فیما بین العقلنة والنّزعة الإیمانیّة.

ولکنّ الکلام الأساسیّ فی أنّه هل ینبغی أن تطالَع وتحلَّل علاقة العالم الإسلامیّ بمسار العولمة فی قالب مقولة علاقة الإسلام بالعصرنة، أم أنّ الإسلام باعتباره نظاماً دینیّاً یتضمّن تعالیم وقیم ونماذج اعتقادیّة وعملیّة معیّنة یمکنه لعب دور أساسیّ فی عملیّة العولمة وعملیّة توحید القیم الثّقافیّة، ویُطرح علی أنّه عنصر مقتدر وعامل حاسم. ویعتمد هذا التّحلیل علی افتراض أنّه فیما إذا أدّت عملیّة العولمة إلی توحید الهویّات والثّقافات وتحطیم الأسس والعناصر الحالیّة للمجتمعات. ففی هذه الحالة تکون عاملاً عالمیّاً یمتلک إرادة القوّة حسب رأی هیجل وفوکو وإرادة العقلانیّة حسب رأی ماکس وهوبرماس؛ یلعب دوراً مؤثّراً وأساسیّاً، وترتکز هذه الفکرة علی أصول وعناصر العصرنة.

ویمکن تفسیر وتأویل هذا الرّأی بناءً علی نظریّة أمثال جون غینز وهوبرماس الّتی تری بأنّ العصرنة هی مشروع غیر متکامل. ففی هذه النّظرة؛ تکون العصرنة فی صدد توسیع نفسها والسّیطرة علی الثّقافات والمقولات الأخری، وفی صدد تحطیم أساس کلّ من التّقلیدیّة والأصولیّة أو الشّمولیّة، فمن هذا الجانب تقوم العصرنة بإنکار الآخر وکلّ ما وراء الطّبیعة وکلّ أمر قدسیّ.

ویمکن تحلیل علاقة الإسلام بالعولمة علی أساس مبنی العصرنة بطریقة أخری؛ وهی أنّ الإسلام وعلی أساس بعض تعالیمه کالدّعوة إلی العقلانیّة والعلم والإنسانیّة... الخ؛ ینسجم نوعاً ما مع مبانی العصرنة، ولکنّ العصرنة من جهة أخری لا تتّفق مع بعض «وجوه مقتضیات وتعالیم الدّین کغائیّة الأخلاق، الزّهادة، المعنویّة، الإیثار، اجتناب الاستهلاک المفرَط والإسراف

ص:253

وغیرها. فمن هذه النّاحیة لا ینسجم ولا یتّفق الإسلام مع العولمة ذات المعاییر والمبانی العصرانیّة».(1)

الوجه الآخر الّذی یؤدّی إلی نزاع الإسلام مع العولمة؛ هو أنّ التّعالیم الأصیلة للإسلام تؤکّد علی کون الحقائق الدّینیّة مطلقة وثابتة وعلی أصالة القیم الدّینیّة، وکون المعاییر الأخلاقیّة مطلقة وعدم قبول الأحکام الدّینیّة للتّعطیل. فی حال أنّ العولمة تتعارض والقیم الدّینیّة الثّابتة والمطلقة؛ وعلی الخصوص إذا ما حلّلنا العولمة حسب مبنی ما بعد الحداثة؛ فیقوم التّعارض أیضاً فیما بین أصالة القیم الدّینیّة مع نزعة النّسبیّة والتّعدّدیّة الثّقافیّة لما بعد الحداثة.

أمّا الرّأی الآخر الّذی یعبّر عن رأی بعض الباحثین الدّینیّین المعاصرین؛ فهو یری بأنّ الماهیّة الأیدیولوجیّة للعولمة لا تنسجم وتتعارض ذاتیاً مع الإسلام. ویستدلّ أنصار هذا الرّأی بأنّ العولمة تقوم علی التّعالیم اللیبرالیّة وتعمل علی تحطیم أسس الهویّات والثّقافات الاُخر لتصبح عالمیّة وتفرض علیها أشکالاً ونماذج ومقتضیات جدیدة.

إحدی الاستدلالات الاُخر لهذه الفئة أنّ الثّقافة الغربیّة ومن خلال الاستفادة من التّقنیة والقدرة السّیاسیّة والاقتصادیّة الأکبر وعن طریق سیطرتها علی الجمعیّات والوسائل الثّقافیّة المتعدّدة ووسائل الاتّصال تحاول سوق عملیّة العولمة لصالحها الخاصّ.

بعض المنظّرین الّذین یعتقدون بأنّ العولمة تعنی غربنة العالم أو سیطرة النّظام الرأسمالیّ الغربیّ، یحلّلون المسألة بهذا الاتّجاه، ولکن فی مقابل هذا الرّأی یقف أمثال غینز، روبتسون لیعتقدوا «بأنّ العولمة تختلف وترویج المؤسّسات الغربیّة عالمیّاً وأنّ وصول الثّقافات الأخری إلی حالة التعقّل هو من آثارها».(2)

ص:254


1- (1) سیّد عبد العلی قوّام، العولمة والعالم الثّالث، ص 358.
2- (2) السّید حسین نصر، الشّباب المسلم والعالم المتجدّد، ص 8.

ولیس بإمکان الغرب فرض ثقافته بالإکراه علی الثّقافات والمجتمعات الأخری. وأنّ ماهیّة ومقتضیات العولمة النّاقضة للأسس الّتی تعمل علی تحطیم الحدود السّیاسیّة والجغرافیّة والثّقافیّة لا تنسجم والماهیّة الاستبدادیّة والسّاعیة لتفوّق الحضارة الغربیّة. وأُکّد فی هذه المقالة کذلک علی أنّ العولمة هی عملیّة وصیغة للنّموّ والتّنمیة التاریخیّة للبشریّة. ولیس لها فی ذاتها ارتباط جوهریّ بالعصرنة، ولذا بإمکان أیّة حضارة وثقافة ومذهب أداء دور فی أجواء العولمة. وهی فی ذاتها لا تحمل أیّة ثقافة خاصّة، وإنّما هی فرصة للتّنافس الثّقافیّ العالمیّ.

نتائج البحث

فی حصیلة عامّة لکلّ ما تقدّم یمکن القول؛ بأنّ العولمة أثّرت تأثیراً عمیقاً علی أوضاع العالم الإسلامیّ فی العقود الأخیرة. ویمکن ملاحظة مثل هذا التّأثیر فی المؤسّسات الحکومیّة والاتّجاه التّجدیدی للمجتمعات الإسلامیّة فی تفاعلها مع القضایا العالمیّة والحیاة الفردیّة والاجتماعیّة والثّقافیّة. فالاتّجاه نحو التّقنیات المتقدّمة، الانضمام إلی المؤسّسات الدولیّة ورواج الدیمقراطیّة؛ أدخل المجتمعات الإسلامیّة فی خضمّ حیاة عالمیّة یصطلح علیها (القریة العالمیّة). أمّا المنظومات السّابقة والأسس التّقلیدیّة فقد تعرّضت للتّغیر والتّحوّل فأصبحنا نسیر نحو مجتمع غیر محدود. ففی هذه العملیّة الّتی تدعو إلی الوحدة الثّقافیّة والهوهویّة توضع القیم الثّقافیّة أمام خیارین؛ فإمّا أن تختار الانسجام والتّناغم معها أو الافتراق والمقاومة ضدّها. فلو افترضنا بأنّ العولمة صیغة لا یمکن اجتنابها وهی فی طور التّحقّق أو قد کشفت عن بعض ممیّزاتها؛ فهل یمکن الاحتراز من إفرازاتها وأمواجها المروّعة والسّیطرة علیها؟

وهل یمکن التّوصّل إلی کیفیّة مواجهة العالم الإسلامیّ لها، بناءً علی

ص:255

الافتراض الآنف؟ وهل یمکن للتّعالیم الدّینیّة التّعامل والانسجام مع المنهج التّقنی لها؟ أم أنّ التّعارض وعدم التّوافق فیما بینها وبین الإسلام سیکون حاسماً وقاطعا خصوصاً فی بعده الأیدیولوجیّ؟

فإذا قبلنا الافتراض الأوّل وقلنا بالانسجام فیما بین الإسلام والتّقنیة، یطرح حینها هذا السؤال الهامّ؛ وهو هل من الممکن أن لا تکون للتّقنیة أیّة امتدادات قیمیّة وثقافیّة ومقتضیات وآثار أخری؟ فإنّ القول بالفصل المطلق فیما بین الثّقافة والاقتصاد والسّیاسة والتّقنیة لا یمکن الجزم به، نظراً للأبعاد المعقّدة للمجتمعات البشریّة والتأثیر والارتباط الواسع والمتنامی للتّقنیة فی جمیع شؤون الحیاة. ولهذا ونظراً للأبعاد المختلفة للعولمة لا یمکن اتّخاذ أسلوب عامّ فی هذا المجال. فلمعرفة أبعاد علاقتها بالدّین لابدّ من أخذ تأثیرها والتغییرات الّتی تحدثها بعین الاعتبار والرضوخ لواقعیّة (أنّ العولمة تتعارض والثّقافة الإسلامیّة والفکر الدّینیّ). ولأجل؛ عدم إمکان التّکافؤ بین جمیع الثّقافات والمجتمعات فی الحصول علی التّقنیة أوّلاً، وعدم لعبها دوراً مشترکا فی بروزها وتحقّقها ثانیاً، وأنّ ردود أفعال الثّقافات والاتّجاهات القومیّة والمحلّیّة تّجاه العولمة - الّتی تمخّضت عن هویّات جدیدة - یحکی عن عدم الانسجام والتّعارض فیما بینهما ثالثاً.

وهنا ینبغی التّذکیر بأرنست غلنز الّذی یقول: «هناک عدم انسجام فیما بین ادّعاءات وتعالیم الغرب الّتی تتّصف بالعالمیّة والشّمولیّة وبین التّعالیم الإسلامیّة، ویؤدّی عدم الانسجام هذا إلی إنکار أحدهما للآخر، وإلی توالد الأصولیّة الإسلامیّة من جدید؛ لإحساسها بخطر محو الهویّة الإسلامیّة، ومن جهة تزداد تبعیّة وتماثل ثقافة المجتمعات الإسلامیّة لثقافة الغرب من خلال التّقلید الأعمی وغیر المدروس، وصحوتها وحذرها من فقد هویّتها الإسلامیّة من جهة أخری، وهذا ما سیشکّل

ص:256

تهدیداً خطیراً فی مقابل ثقافة الهیمنة الغربیّة. ویماثل هذا الوضع نهضة إحیاء الفکر الدّینیّ والإصلاح فی المجتمعات الإسلامیّة أبان السّیطرة والنّفوذ الاستعماریّ فی الدّول الإسلامیّة».(1)

ومن هنا تنشأ حاجة المسلمین إلی التّقدّم العلمیّ والتّقنیّ والثّقافیّ أکثر من أیّ وقت مضی، والسّعی لنقد الحضارة العالمیّة و قویمها للاستفادة من نقاطها الإیجابیّة. وینبغی فی هذا المجال؛ عدم الهیبة من الغرب أو الغفلة عن القدرات والقابلیات الّتی یتمتّع بها الإسلام.

ففی رأی المجدّدین الدّینیّین؛ أنّ الإسلام دین شامل وذو رسالة عالمیّة تعمّ جمیع البشر. وأنّ الرسالة الأساسیّة له - باعتباره الدّین التّوحیدیّ الخاتم - هی هدایة الإنسان نحو العبودیّة لله وإنقاذه من عبودیّته للإنسان الآخر والطواغیت، والخلاص من الاستبداد والجهل والأمیّة. وأنّ الکرامة الإنسانیّة والعدالة الاجتماعیّة وحرّیّة الفکر والبیان والمشارکة فی تقریر المصیر الفردیّ والسیاسیّ والاجتماعیّ من الأهداف الأساسیّة للإسلام.

إنّ الشّمولیّة العالمیّة والنّظرة العالمیّة للإسلام ونزعته السّلمیّة تّجاه أتباع الأدیان الأخری، واحترامه للثّقافات المختلفة، وتعالیمه العادلة والسلمیّة والتّفاهم والمساواة والأخوّة والعقلانیّة الّتی یتمتّع بها، وتثمینه دور العلم والعلماء؛ تشکّل أرضیّة مناسبة لقبوله عالمیّاً وتضمن تجدّده ودوامه وعدم تقوقع هذه الثّقافة الغنیّة والشّاملة فی حدود ضیّقة.

ویعتقد بعض المفکّرین الدّینیّین؛ بأنّ علی الإسلام ولأجل تمکّنه من الانسجام مع عملیّة العولمة ترک بعض رکائزه التقلیدیّة، ففی رأی هذه الفئة أنّه ینبغی اتّخاذ بعض الخطوات فی هذا السّبیل:

ص:257


1- (1) نیل مارفیلت، العولمة و العالم الثالث، ص 133، «الترجمة الفارسیة».

1. تجاوز الفردانیّة.

2. الإدراک الصّحیح لجوهر الدّین.

3. الاتّجاه نحو العقلانیّة الدّینیّة والبیان العقلانیّ للتّعالیم الدّینیّة.

ومن خلال تأکید القائلین بهذه النّظریة علی قابلیّة الإسلام لأن یصبح عولمیّاً؛ یعتقدون بأنّ الدّعوة إلی التّوحید والعقلانیّة یشکّل عاملاً وحدویّاً وتضامنیّاً للمجتمع الإنسانیّ وسلامة الحیاة الاجتماعیّة، وأنّ العقلانیّة الّتی یراها الإسلام تتفاوت وعقلانیّة الفکر الغربیّ المرتکز علی نزعة الفلسفة الإنسانیّة وأصالة المنفعة.

فیبدو أنّ العولمة تساعد علی الصّحوة الإسلامیّة وانتشار الأفکار والأهداف الإنسانیّة والمعقولة للإسلام. فالإسلام دین حیویّ وتوعویّ، یتعاطی مع روح وفکر وإحساس الإنسان، ویشمل جمیع شؤون حیاته، ولا یقف حائلاً دون النّموّ والرّقیّ العقلانیّ له فحسب؛ وإنّما یلقی علی عاتقه مسؤولیّة فردیّة واجتماعیّة أکبر. فالإسلام یدعو الإنسان إلی الوعی والحرکة والسعی لإصلاح الفرد والمجتمع والإعمار والتّنمیة وخدمة البشریّة، ویتضمّن أرقی الحقوق وأروع التّعالیم الأخلاقیّة المدعومة بعقلانیّة محکمة.

فإذا کان التّعولم بمعنی العولمة أو الغربنة وفرض نماذج الحیاة الغربیّة علی المجتمعات الأخری؛ فسیکون فی نظر البشریّة من أسوء أنواع الاستعمار. فمع أنّ ترویج العولمة یتمّ تحت غطاء مفاهیم وقیم عامّة ومقبولة، ولکنّها فی واقع الأمر هی الاستعمار القدیم ذاته، بل وحسب توقّع الکثیر من العلماء والباحثین فی العلوم الاجتماعیّة والفلاسفة الدّینیّین أنّ العولمة تعنی انتشار الحضارة والنّماذج الغربیّة بنتائجها وأزماتها المتعدّدة کالأزمات الاقتصادیّة، الحرکات المتعدّدة، الشّرخ الطّبقیّ، تزاید الفقر، الأزمات البیئویّة، أزمة الهویّة، أزمة المعنویّة، أزمة الحاکمیّة، أزمة مشروعیّة السّلطة و... الخ.

ص:258

فإحدی الجوانب الثّقافیّة للعولمة؛ الفساد الأخلاقیّ وعدم الالتزام بالقیم الدّینیّة الّتی تتّسع یوماً بعد آخر بواسطة الأقمار الاصطناعیّة والأنترنیت والوسائل الأخری، والّتی تعدّ النّموذج البارز للفساد فی الأرض وطغیان الإنسان فی مقابل الله، والّذی یؤدّی إلی القضاء علی الحرث والنّسل وکما نلاحظ بعض نماذجه فی عصرنا الحاضر، والّذی حسب السّنن الإلهیّة والمنظار الدّینی لا یبقی دون جواب. فمثل هذه الحضارة ستلاقی نهایة فاجعة تکون أکبر خطراً ممّا نواجهه منها الیوم؛ لبعدها عن کثیر من الواقعیّات وإغماضها عن الحقائق الملموسة والعلمیّة واشتباهاتها الفاحشة فی نظرتها إلی الإنسان والعالم.

وقد أکّدت السّنّة الإلهیّة وبأسالیب متعدّدة ومکرّرة علی أنّ (الله تعالی لا یترک الإنسان أن یمارس ما یرید دون رادع، وحذّرة من الظّلم والطّغیان وارتکاب الآثام، وأنّ الجزاء الطّبیعیّ والوضعیّ للفسق والفجور والفساد فی الأرض سیکون بتعرّض الإنسان نفسه للهلاک والخسران). وتشیر أیضاً إلی الاعتبار بالمصیر الّذی واجهته المجتمعات السّابقة، فمع ما کان لها من القدرة وما وصلت إلیه من الحضارة لم تکن بمنأی عن العذاب الإلهیّ.

ماکس ویبر و من خلال نظرته الانتقادیّة للحداثة واتّباعاً لملهمه نیتشه، یتکهّن بموت الله وانتفاء المذهبیّة عن الثّقافة و انتشار النّسبیّة وصیرورة الدّنیا مجرّد شیء کمّیّ وشیوع العبثیّة.(1)

إنّ العلاقات العلمیّة فیما بین الغرب والشّرق الّتی نجمت عن عملیّة الاستشراق وجذب نُخب العالم الإسلامیّ العلمیّة إلی المراکز العلمیّة الغربیّة، نجاح نماذج التّنمیة فی بعض الدّول الإسلامیّة کمالیزیا وغیرها، حدوث الثّورة الإسلامیّة فی إیران باتّجاهها الشّعبیّ، الاستفادة من وسائل الاتّصال

ص:259


1- (1) ما بعد الحداثة والعولمة، ص 146، «التّرجمة الفارسیّة».

الحدیثة لإطّلاع العالم علی التّعالیم والعلوم الإسلامیّة، روعة السّیاحة فی العالم الإسلامیّ، الحرکات الإسلامیّة، جذّابیّة المناهج والرّسوم العبادیّة کالحجّ وصلاة الجمعة، الآثار الثّقافیّة والاجتماعیّة للمساجد فی الحیاة المعنویّة والاجتماعیّة للمسلمین، الفن والعمارة الإسلامیّة؛ کلّ ذلک یعدّ من العوامل الملفتة والمدهشة بالنسبة للأمم الأخری وذات التّأثیر العالمیّ لهذا الدّین.

فإذا استطاع الإسلام الاستفادة من وسائل التّقنیة الحدیثة وإبراز حقیقته الثّقافیّة الأفضل بشکل منظّم ومنسجم ومتفکّر؛ فبإمکانه طرح نفسه فی مقابل أزمات تعدّدیّة ما بعد الحداثة وأزمات المعنی والهویّة للعصرنة. فالإسلام لازال ینبض بالحیاة سواء أخذناه کدین أم حضارة ولازالت تعالیمه علی صعید مفاهیم، کالإنسان، العالم، الله ومستقبل الوجود متوهّجة بالحیویّة لدی المسلمین. ولذا فعلی المسلمین الجدّ والسعی للحفاظ علی دینهم وتأسیس حضارة إسلامیّة جدیدة، وذلک من خلال معرفة الأزمات الرّاهنة ومخاطر الحضارة الغربیّة.

فالحضارة الغربیّة الیوم تتضمّن ثلاثة اتّجاهات مختلفة مع بعضها البعض ولکنّها تترابط فیما بینها لفرض وجودها وبسط نفوذها:

الأوّل: محاولة القضاء علی جمیع الحضارات الأخری، ومن ضمنها الإسلامیّة بذریعة تحقیق (النّظام العالمیّ).

الثّانی: تدمیر البیئة الطّبیعیّة من خلال استخدام التّقنیة المرافق لحرص ونهم الإنسان اللیبرالیّ.

الثّالث: الانهیار الدّاخلیّ الذّاتیّ ومحو ما بقی من أخلاق المسیحیّة وقیم الإنسانیّة.

ومن هنا؛ فعلی المسلمین أن لا ینخدعوا بفکرة الحضارة العالمیّة الفاقدة للهیئة والهویّة، والتّقلید الأعمی للعلم والتّقنیة الغربیّة فیساهموا فی تدمیر البیئة الطّبیعیّة وعدم المبالاة بالقیم الدّینیّة والإنسانیّة.

ص:260

ففی عقیدة جورج بنارد شاو، إنّ أعظم وأهم التّعالیم المذهبیّة هو (أصالة إعانة البشریّة)، ثمّ یعقّب بذکر بعض الأسباب الّتی یشیر من خلالها إلی أنّ باستطاعة الإسلام إعداد الوسائل الممکنة لوصول إنسان العصر الرّاهن إلی هذا المبتغی.

الاستدلال الأوّل الّذی یذکره برنارد شاو لقابلیّة تعالیم الإسلام لأن تکون مقبولة من عامّة النّاس؛ هو أنّ الإسلام لا یتنکّر للتطوّرات النّاجمة عن (الفلسفة والعلم)، وأنّه أبقی طریق التّقدّم والتّطوّر مفتوحاً علی مصراعیه أمام البشریّة، وأنّ تعالیمه ذاتها تؤدّی إلی رواج الفلسفة والعلم. فمع أنّ الإسلام یحتضن وبانفتاح العلم ومکاسبه، ولکنّه فی ذات الوقت بقی محافظاً علی طهارته وخلوصه الدّائم وعلی قواعده وأسسه.

السّبب الآخر لأفضلیّة الإسلام (احترامه لحقوق الأفراد)، فالإنسان فی الإسلام یتمیز بالکرامة الذّاتیّة والحقوق الطّبیعیّة، ویتعامل مع القضایا المعنویّة والعلمیّة للأفراد باحترام بالغ، ویعدّ نظام المساواة والأخوّة فیه أساساً دینیّاً مهمّا.

«فمسألة (اللون والعنصر) فی عالمنا المتقدّم یُحکم علیها من خلال الأحاسیس الشّخصیّة ولکنّ الإسلام یحارب ویمنع التّمییز بکلّ أشکاله وألوانه».(1)

فالمسیحیّون لا یمکنهم إنکار الحقائق المهمّة للعالم الإسلامیّ؛ الله من جهة والإنسان من جهة أخری، ودور الإسلام فی إقامة علاقة عقلانیّة ومنطقیّة فیما بین الله والإنسان.

فالمستقبل المادّیّ والمعنویّ للمسلمین یتوقّف علی شرطین:

1. أنّ بعث الحیاة الإسلامیّة فی العصر الحاضر یؤدّی اجتماعیّاً إلی اکتساب المجتمعات الإسلامیّة قدرة وحرکة وحیویّة جدیدة.

ص:261


1- (1) السّیّد هادی خسروشاهی، الإسلام؛ الدّین ومستقبل العالم. ویلفرد ول سمیث، الإسلام فی عالم الیوم.

2. وینفض الغبار الّذی علق بإیمان المسلم واستعادته معرفته البنّاءة بالله وعدله الشّمولیّ.

فإنّ الوهن الأساسیّ للحضارة الغربیّة فی المجالات الفکریّة والاجتماعیّة والثقافیّة یتمثّل فی عدم امتلاکها نظرة متوازنة ومتکافئة لجمیع النّاس باعتبارهم أفراداً یستحقّون الاحترام، وعدم إحساسها بأنّ لها التزامات متبادلة مع الآخرین، کما هو علیه فی الإسلام.

أمّا علی الصّعید السّیاسیّ والاقتصادیّ فلا تتقبّل إلّا علی مضض بأنّ السّلام والتّطوّر العالمیّ مرهون بالتّطوّر الفکریّ والتّفاهم البنّاء، ولذا فهی تجیز لنفسها استثمار المصادر الطّبیعیّة المشترکة وإن کانت فی أرض الغیر بإیّ طریقة وکیفیّة کانت، وهذا ما یؤدّی إلی عدم إمکان الاستفادة العادلة من الثّروات فی العالم.

ما الخطاب الّذی یرید الإسلام أن یوصله إلی العالم ؟

یمتلک الإسلام خطابات متعدّدة یمکن أن یلفت انتباه العالم إلیها، فبإمکانه طرح فکره العقلانیّ والأصیل الّذی لم یتأزّم مطلقاً کالفکر الفلسفیّ الغربیّ، أو أن یصل إلی طریق مسدود کما وصله. فبإمکانه طرحه علی المستوی العالمیّ والتّوفیق فیما بین نظرته الفلسفیّة والعلمیّة. فثقافة الإسلام غنیّة بالتّعالیم والقیم الإنسانیّة والأخلاقیّة والمعنویّة الأصیلة؛ المعروضة فی أجمل الحلل والقوالب الأدبیّة والفنیّة وأکثرها رونقاً وجاذبیّة. وکشف النّقاب عن أحاسیسه المملوءة بالمحبّة، الإخلاص، الوفاء، العفو والإیثار، المساواة والمواساة، خدمة الآخرین والالتزام بالأصول الإنسانیّة الراقیة؛ کی یروی غلیل البشریّة المتعطّشة للمعنویّة والمحبّة.

ص:262

وبإمکانه إراءة تعریف عقلانیّ وعرفانیّ وعلمیّ کامل للإنسان، بدل التّعریف الّذی تعرضه نزعة الفلسفة الإنسانیّة الغربیّة والّذی یعدّ من أکثر النّظرات خطراً وانحطاطاً للإنسان، وإخراج العلم المعرفیّ للغرب ومعرفته للإنسان والعالم من هذا الانسداد الفکریّ والفلسفیّ الّذی وصله. فالمعرفة الذّاتیّة للإنسان الشّرقیّ تجعله أکثر لطافة ورحمة فی تعامله مع نفسه والعالم، ولکن نظرة الإنسان الغربیّ القاسیة والجافّة لبنی جنسه وللطبیعة خلقت أزمات متعدّدة کبّلت العالم والبشریّة بأغلالها.

ویتعرّض جان سبرزیتو فی کتابه «الإسلام صراط مستقیم» لتحلیل موجز وجدید عن الإسلام من خلال تقصّیه فی مجالات ظهوره وانتشاره وتبلور المعتقدات والرؤی الإسلامیّة علی صعید (التقنین، الإلهیّات، الفلسفة، العرفان والعلوم الأخری)، وسعی فیه أیضاً إلی بیان وکیفیّة ارتباط المسلمین بأسلوب الحیاة الإسلامیّة، ومن خلال طرحه لمشاکل المسلمین علی نطاق واسع یشیر إلی موضوع شمولیّ ومهمّ؛ وهو هاجس الأدیان الإبراهیمیّة من شیوع العلمانیّة واضمحلال الإیمان والقیم الإنسانیّة.

ویشیر فی النهایة إلی الغلیان الّذی تعیشه کثیر من مناطق العالم الإسلامیّ لوضع قدمیها علی جادّة الثّورة الإسلامیّة، ولکنّ أهمّیّة وانتشار مثل هذه الثّورة لا تنطلق من کونها قنبلة تدمیریّة أو عنفاً أو إرهاباً؛ وإنّما من کونها تطوّراً علمیّاً یشمل کافّة جوانب الحیاة وعودة إلی الهویّة الأصیلة.

هل باستطاعة الإسلام قیادة العالم فی العصر الرّاهن ؟

یمکن الإجابة علی هذا السّؤال من خلال حدیث شاو، الکاتب والمحقّق الإیرلندی، المعروف بکتبه علی المستوی العالمیّ، فیقول: «أنا علی الدّوام منبهر ومندهش من دین محمّد لتمیّزه بالحیویّة، وأکنّ له فائق الاحترام، وفی

ص:263

رأیی أنّ الإسلام هو المذهب الوحید الّذی له قابلیّة الانسجام مع المتغیّرات الحیاتیّة فی القرون المختلفة، واعتقد وکما تتّضح آثار ذلک حالیّاً بأنّه سیکون موضع ترحیب أوربا الغد»

ویقول فی موضع آخر: «فی عقیدتی أنّه لو کان مثل (محمّد) حاضراً فی عالم الیوم فإنّه سیوفّق فی حلّ مشاکل العالم وأزماته ویبسط السّلام والسّعادة الّتی تتأمّلها البشریّة».(1)

لقد أسّس الإسلام البنی الاجتماعیّة اعتماداً علی العقل والأصول الدّینیّة، وقام بتقویة المؤسّسات المدنیّة والاجتماعیّة، وأسّس فی هذا المجال مؤسّسات رائعة؛ فالاجتماع الإسلامیّ لیس اجتماعاً طبقاتیّاً، بل علی العکس من ذلک فهو یحارب الطّبقیّة والتّمییز بکافّة أشکاله وألوانه، فإنّ ملاک الحضارة الإسلامیّة هو الاعتراف بالحقوق والکرامة الذّاتیّة للإنسان وحقّ اختیاره وتقریر مصیره بنفسه، والسّعی لتنمیة وتفتّح مهارات الفرد والمجتمع.

وترتکز الحضارة الإسلامیّة علی أساس العلم والجدّ والعمل والتّقوی والهدفیّة والقیم الإنسانیّة والإسلامیّة (محوریّة التقوی، العقلنة، محوریّة العدالة، خیر وصلاح المجتمع البشریّ) الّتی استلهمت جمیعها من الإسلام.

أمّا أسسها السّیاسیّة؛ فهی تؤکّد وبشدّة علی محاربة وإسقاط الحکومات الطّاغوتیّة والاستبدادیّة والحکومات غیر العادلة (ذات الاتّجاه المعارض للإنسانیّة والمذهبیّة).

ویهیّء الإسلام الأرضیّة المناسبة لنمو وازدهار وارتقاء جمیع أفراد المجتمع ویعترف ویحترم حقوق الجمیع من کلّ جنس وصنف وقوم وقبیلة ولون وعرِق.

ص:264


1- (1) برنارد شاو، رسالة التّوحید وأفکار الیوم، ص 47-48.

ویدین الظّلم والتّجاوز علی حقوق الآخرین بکلّ أشکاله ویعتبره أمراً مخالفاً للشّرع والقانون. والملاحظة الجدیرة بالانتباه هنا؛ هی أنّ أغلب الحقوق فی الإسلام هی حقوق ذاتیّة وطبیعیّة ولیست عقدیّة أو علی سبیل المنحة أو التّوافق.

ویحول دون جمیع معوّقات التّنمیة والسعادة الفکریّة والثّقافیّة والسّیاسیّة والاقتصادیة للمجتمع ولأیّ فرد منه وبأیّ باعث کان، ویخطّط لآفاق النّمو والکمال والازدهار بأقصی درجاته ولجمیع أبناء البشریّة. ویعتبر حقّ الدّفاع عن الحقوق الفردیّة والاجتماعیّة حقّاً ذاتیّاً ومشروعاً وواجباً.

آراء بعض العلماء بالإسلام

1. یقول البروفسور والمستشرق الغربیّ ارلبری فی کتابه (العقل والوحی فی الإسلام): «فکما أنّ الإسلام یعدّ حرکة مذهبیّة فی جذوره وأصوله، فهو حرکة سیاسیّة کذلک، وبعبارة أخری لا یوجد أیّ اختلاف بین مذهبه وسیاسته، وقد أقیم الاستدلال علی أنّ تعیین القیادة والقائد کان من أُولی الخطوات الأصیلة والجذریّة فی تاریخ الإسلام».

2. وتکتب مارغریت مارکوس فی کتابها (الشّرق الأوسط ومؤامرة الشّرق أوسطیّون): «مع أنّ الحضارة الإسلامیّة تعیش الضّعف والانحطاط ویتعرّض المسلمین للقهر والغلبة من قبل الأیدیولوجیّات الأجنبیّة، ولکنّ الإسلام لازال یتمتّع بقوّة وحیویّة فی عالم الیوم، حتّی عُدّ المنافس الأوحد القویّ والمهیب للإلحاد والمادّیة فی هذا العصر».(1) فمع أنّ المستشرقین الغربیّین عکسوا القیم والتّعالیم الإسلامیّة الوضّاءة بأسلوب غیر واقعیّ لحاجة فی نفس یعقوب، وعرّفوا الإسلام علی أنّه مذهب سیاسیّ حیناً، ومجرّد

ص:265


1- (1) مارکوس، مارغریت: الشّرق الاوسط ومؤامرة الشّرق أوسطیّون.

مذهب معنویّ جافّ ذی مناسک وعبادات شاقّة عرفانیّة وصوفیّة حیناً آخر؛ و لکنّنا نعلم بأنّ الإسلام مذهب شامل وکامل ومذهب اجتماعیّ فعّال وناشط ومذهب تحرّریّ وعقلانیّ وبنّاء.

3. ویعتقد روجیه غارودی الفیلسوف الفرنسیّ الّذی أسلم حدیثاً:

«أنّ القدرة البرهانیّة والاستدلالیّة والحقائق الواضحة للإسلام والّتی تنسجم مع الفطرة؛ جعلت من منهجه منهجاً عالمیّا للبشریّة جمعاء، وعلی الخصوص بعد اندحار وخیبة الأیدیولوجیّات الاشتراکیّة والرأسمالیّة وأمثالها الّتی کانت تدّعی قدرتها علی إیصال البشریّة إلی سعادتها المنشودة».(1) ویشیر إلی «أنّی عثرت علی الاشتراکیّة والمسیحیّة فی الإسلام» ویقول: «تتمیّز القوانین الإسلامیّة بشمولها کافّة وجوه الحیاة مع محافظتها علی القیم المعنویّة».(2)

4. ویقول أحد المفکّرین البوسنائیّین: «یعتقد أغلب المحلّلین العالمیّین وبعض المفکّرین الغربیّین کذلک؛ أنّ الحضارة الغربیّة تمرّ فی أزمة معنویّة کبری، وأنّ هذه الأزمة فی حالة توسّع وانتشار حتی عصفت بجمیع مؤسّسات وأعمدة النّظام الغربیّ وکذا بالحیاة الاجتماعیّة فیه».(3)

5. ویقول لوی کار استاذ فرع الحضارة الإسلامیّة فی جامعة باریس فی تحلیلٍ لحاجة الغرب إلی الإسلام:

«إنّ الفراغ النّاشئ من فقد الرّوح والمعنویّة فی العالم المادّیّ الغربیّ أدّی بالعالم المعاصر إلی البحث عن ما یوازن بین المادیّة والمعنویّة، ویستطیع الإسلام القیام بهذا الدّور».(4)

ص:266


1- (1) منوجهر دبیر سیاقی، ماذا یجری فی الغرب، ص 288، حوار صحفیّ.
2- (2) المصدر نفسه، ص 237.
3- (3) میر أحمد رضا حاجتی، عصر الإمام الخمینیّ، ص 220، «باللّغة الفارسیّة».
4- (4) نشرة الرّسالة الثّقافیّة، ربیع 1987، ص 36.

«فی رأی مفکّری الغرب الواعین أنّ سرّ الأزمة الشّاملة للحضارة الغربیّة والّتی لا یمکن إنکارها؛ لم یکن سوی إعراضها عن الوحی والمعنویّة، ولا یمکن علاج هذه الأزمة وهذا الدّاء إلّا بالعودة إلی الفکر المعنویّ والمنطقیّ للإسلام».(1)

عوامل استعادة الهویّة الإسلامیّة (عوامل التحضّر الإسلامیّ)

1. ینبغی العمل علی تقویة روحیّة الشّباب المسلم لیتکوّن لدیه إحساس بالقوّة والعزّة، ویعدّ التّعریف بالشّخصیّات الإسلامیّة العظیمة وبالنّوابغ والتّراث الثّقافیّ والإمکانات العلمیّة والتّاریخیّة والوطنیّة من أفضل السّبل فی هذا المجال.

2. تحفیز الشّباب للسّعی نحو طلب العلم واکتساب العلوم والتّحقیق والتّعقّل والعنایة القصوی بما أکّد علیه الإسلام علی صعید التّعلّم والتّفکّر وقیمة العلم والعلماء؛ لیکتسب العلم صفة العموم علی مستوی الأفراد وعلی مستوی الفروع المعرفیّة.

3. سعی عموم المسلمین للتّوحّد والتّضامن والتّفاهم والانسجام فیما بینهم، وبذل الجهد لمحو وإزالة جذور الخلاف وسوء الظّن والعصبیّة والالتفات إلی أنّ الوحدة والأخوّة الصّادقة کانت من أعظم العوامل وأهمّ الأسباب الّتی ساعدت علی تقدّم المسلمین فی صدر الإسلام، وأنّ الاختلاف والفرقة من العوامل الأساسیّة فی انحطاطهم وأفول نجمهم.

4. مبادرة جمیع المسلمین وممثّلیهم وعلی الخصوص القادة الفکریّین والدّینیّین للتخطیط لتربیة الشّباب تربیة دینیّة وأخلاقیّة علی أساس الهویّة الإسلامیّة لیبقی عنصر الإیمان وهّاجاً فی قلوبهم ویکون فی ذلک بصیص أمل وقوّة للوصول إلی العزّة فی طریق التّقدّم والتّطوّر. وعدم تناسی أنّ التّخلّف والفقر وفقد الإحساس بالمسؤولیّة الاجتماعیّة والدّینیّة واللا إیمان والفساد

ص:267


1- (1) میر أحمد رضا حاجتی، عصر الإمام الخمینیّ، ص 220.

الأخلاقیّ کان من أهمّ العوامل الّتی أدّت إلی سقوط الحضارة الإسلامیّة وانهزام المسلمین أمام مخطّطات وضربات الصّلیبیّین فی الأندلس.

5. وعلی المفکّرین والمحقّقین الإسلامیّین؛ بیان المعارف الدّینیّة والحقائق الإسلامیّة بأفضل وسائل الاستدلال وأوضح طرق البیان اتّباعاً لأسالیب الأنبیاء، وبعیداً عن الانحراف الفکریّ والعملیّ والتحریف والخرافة والسّطحیّة، وتنقیة الدّین ممّا علق به من الآفات والأضرار والّتهم.

إنّ الثّقافة الغربیّة المستوردة تفقد فی کلّ یوم یمرّ علیها بعضاً من نفوذها فی مقابل الثّقافة الإسلامیّة الّتی ترتکز علی التّکامل المعنویّ والارتقاء الرّوحیّ. فمع کلّ هذا التّطوّر والتّقدّم الصّناعیّ والبحث العلمیّ الّذی شهده الغرب والعالم تبقی للثّقافة الإسلامیّة جذّابیّتها الخاصّة لدی قطّاعات الشّباب.

فلم تستطع تلک المظاهر الغربیّة أن تزعزع ارتباط المسلمین بمعنویّة الإسلام، بل نبّهتهم إلی ضرورة تعزیز إیمانهم بالله والأمل بالمستقبل والتّعلّق بالتّجربة الإسلامیّة فی صدر الإسلام، ولکنّهم من جهة أخری؛ لابدّ أن یذعنوا بأنّ الإسلام إذا أراد أن یلعب الدّور المطلوب منه علی السّاحة العالمیّة فی مثل هذه الظّروف العالمیّة؛ أن یخطوا فی ساحة التّقدّم العلمیّ والتّقنیّ بموازاة ما یمتلکونه من إیمان مذهبیّ وقیم أخلاقیّة.

والإسلام قادر دون شکّ علی توظیف التّجارب والنّظریات السّیاسیّة والاقتصادیّة والعلمیّة للأمم الأخری. وعلی العالم الغربیّ أن یخطوا بدوره لمحاولة معرفة الإسلام بحقائقه وواقعیته الّتی لا یحجبها حجاب، وتقویم ما یمکن أن یضطلع به من دور، من خلال برامجه وتعالیمه الفعّالة والمتجدّدة للتّخفیف من وطأة المشاکل الّتی یعیشها العالم وإیجاد الحلول المناسبة لها. فالکتّاب الغربیّون الّذی یعیشون قلقاً مستمرّاً فی کافّة شؤون حیاتهم جرّاء التّقدّم التّقنیّ؛ لم یحاولوا أن یفصحوا عن ذلک ولم یحاولوا فی هذا المجال

ص:268

أن یستقرؤا الرّؤیة الإسلامیّة بشمولیّتها الّتی تری أنّ القضاء علی هذا القلق والاضطراب من أولی مهامها وذلک من خلال تقویة روح الإیمان وبسط العدالة الاجتماعیّة.

فالأمّة الإسلامیّة الّتی تفتّش عن نظام یعید لها أصالتها الحیاتیّة تأمل من الإسلام أن یقوم بهذا الدّور بثقافته الأصیلة والحیویّة بعد أن ضلّت طریقها من خلال رکوبها موجة المظاهر المادّیّة للحضارة الغربیّة.

تحلیل نظریّة تعارض الإسلام مع العولمة

یعتقد بعض المفکّرین والباحثین؛ بأنّ العولمة الفعلیّة تتعارض والثّقافة الإسلامیّة والفکر الدّینیّ، ویستدلّون علی مدّعاهم هذا بأنّ الثّقافات والمجتمعات لیست علی قدم المساواة والقدرة فی الحصول علی التّقنیة أوّلاً، وعدم قیامها بدور مشترک فی عملیّة بلورة وتحقّق تلک التّقنیة ثانیاً، أمّا ثالثاً؛ فإنّ ردود أفعال الثّقافات والاتّجاهات القومیّة والمحلّیّة تّجاه العولمة ونمو وتبلور الهویّات الجدیدة؛ تحکی عن تعارضها وعدم انسجامها مع عملیّة العولمة. ویؤیّد هذا الرأی ویؤکّد علیه ارنست غلنر فیقول: «یوجد نوع من عدم التّوافق بین الدّعوی الّتی تقول بأنّ التّعالیم الغربیّة تتحوّل إلی تعالیم عالمیّة وشمولیّة فی عملیة العولمة وبین التّعالیم الإسلامیّة، ویؤدّی عدم التّوافق هذا إلی محاولة الطّرفین للقضاء علی أحدهما الآخر، فالأصولیّة الإسلامیّة تحاول إعادة بناء وتحدیث نفسها لإحساسها بخطر محو هویّتها الإسلامیّة. ونحن نشاهد تقلید بعض المجتمعات الإسلامیّة للغرب تقلیداً أعمی وغیر مدروس وتبعیّتها ومحاکاتها لثقافته من جهة، ویقظة وصحوة تلک المجتمعات من جهة أخری خشیة فقد هویّتها فی ظلّ تلک العملیّة. فکما أنّ نهضة إحیاء الفکر الدّینیّ وإصلاح المجتمعات الإسلامیّة برزت کردّ فعل

ص:269

علی التّسلّط والنفوذ الاستعماریّ، فإنّ هذا التّقلید وهذه التّبعیّة لثقافة الغرب التّسلّطیّة یعدّ تهدیداً جدّیّاً لها».(1)

فالمسلمون الیوم بحاجة أمسّ من أیّ وقت مضی إلی الاطّلاع علی التّقدّم والتّطوّر العلمیّ والثّقافیّ والحضاریّ العالمیّ. وتشمیر سواعدهم لنقده وتقییمه لاختیار ما هو إیجابیّ ومفید، وعدم الغفلة عن قابلیّات وإمکانیّات الدّین الإسلامیّ، وطرح الخوف والهیبة من الغرب جانباً.

إنّ المجدّدین الدّینیّین یعتبرون الإسلام دیناً شاملاً ذا رسالة عالمیّة تعمّ جمیع أفراد البشریّة. وأنّ الرسالة الأساسیّة للإسلام - باعتباره آخر الأدیان التّوحیدیّة - هی هدایة الإنسان إلی عبادة الله والخلاص من عبادة النّاس والطّواغیت والانعتاق من الاستبداد والجهل والأمیّة. وتعدّ الکرامة الإنسانیّة والعدالة الاجتماعیّة والحرّیّة الفکریّة وحرّیّة التعبیر والمشارکة فی تقریر المصیر الفردیّ والسیاسیّ والاجتماعیّ من الأهداف الرئیسیّة للدّین الإسلامیّ الحنیف.

وأنّ الرؤیة العالمیّة والشّاملة للإسلام تؤیّد وتدعو إلی السّلام مع أتباع الأدیان الأخری واحترام جمیع الثّقافات. فالتّعالیم العدالتیّة للإسلام وسعیه للسّلام والتّفاهم والمساواة والأخوّة والعقلانیّة وتثمین العلم والعلماء، تعدّ أرضیّة مناسبة للقبول به عالمیّاً، وممّا یؤدّی إلی ضمان تجدّده ودیمومته، فلذا لا یمکن لهذه الثّقافة الغنیّة والشّمولیّة أن تبقی محصورة فی نطاق حدودها الجغرافیّة الضیّقة.

أمّا هل أنّ الإسلام ینسجم والمنهج التّقنی للعولمة أم أنّه یقف علی خط النّزاع والتّعارض معه؟ فجوابه لیس بتلک السّهولة المتصوّرة، نظراً للآراء المختلفة الّتی نادت بها کلا مدرستیهما الفکریّتین. ولکن من الممکن القول وبصورة إجمالیّة؛ إنّ هناک اتّجاهات متعدّدة تطرح علی هذا الصّعید:

ص:270


1- (1) نیل مارفیلت، العولمة والعالم الثّالث، ص 133، «التّرجمة الفارسیّة».

1. إنّ الإسلام ینسجم والبعد التّقنی للعولمة ولا ینکر علیه ذلک أبداً، ویعتقد بأنّ التّقنیة مکسب علمیّ وجاءت نتیجة الإرادة والإبداع والعقلانیّة لتحسین وتنظیم ظروف الحیاة العالمیّة، وإذا أخذنا بنظر الاعتبار القرائن والشّواهد الّتی یمکن قراءتها فی التّعالیم الدّینیّة؛ فإنّ أساس الإبداع والإنتاج العلمیّ لا یتنافی وتعالیم الإسلام فحسب، وإنّما تعدّه أمراً معقولاً ومقبولاً ومرحب به.

2. الاتّجاه الآخر یرتبط بکیفیّة الاستخدام والاستفادة من هذه التّقنیات والمکاسب العلمیّة والّذی یتعلّق بالجوانب الإنسانیّة والأخلاقیّة والتّکلیفیّة والحقوقیّة، ففی هذا المجال ینبغی القول؛ بأنّ الإسلام یتّفق وینسجم مع تعدّدیّة العصرنة وعقلانیّة التّفاهم فیما بین البشر. وهو من حیث الأساس یؤیّد ویوافق علی استخدام الآلات والأدوات فی طریق تحقیق الأهداف العقلائیّة المنشودة. فعلی هذا الأساس ینبغی النّظر فی أنّ الواقع هل هو کذلک أم لا؟.

إنّ مسلمی عالم الیوم فقدوا ولأسباب مختلفة القدرة والأرضیّة للتّقدّم والتّخطیط للتّنمیة، وغدوا فی أمسّ الحاجة إلی الآخرین علی أصعدة عدّة إلی درجة سُلبوا أبسط وسائل العیش. ففی العالم المتقدّم الّذی نعیشه وصلت التّقنیة إلی أوج تطوّرها حتی أنّ عقلاً ألکترونیّا بإمکانه استنتاج حلّ (400 ألف) مسألة فی دقیقة واحدة.، فهذه القدرة العلمیّة والإبداعیّة الخارقة تمخّضت عن العقل الإنسانیّ وتوظیفه فی مجاله الصّحیح، فتتوفّر الیوم أجهزة کامبیوتریّة مختلفة تستطیع تسجیل وتنظیم وخزن (ملایین) الکتب والموضوعات العلمیّة، بینما نلاحظ أنّ هناک (ملیارد) مسلم یمتلکون أفضل الإمکانات والمصادر العلمیّة والفکریّة والثّروات الاقتصادیّة، یعیشون الفقر والتّبعیّة للمستعمرین والنّظام الإمبریالیّ وکأنّ التّخلّف ختم علی جبینهم (لَقَدْ کانَ فِی قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ) ، فإنّ حکایة أهل الباطل وسیطرتهم علی الأمّة

ص:271

الإسلامیّة تعدّ عبرة ما بعدها عبرة. فالمسلمون الّذین أقاموا أعظم حضارة عرفها التّاریخ، ویمتلکون رصیداً علمیّاً واقتصادیّاً وسیاسیّاً ضخماً وأعظم المفکّرین الّذین ترعرعوا فی أحضانه، وبنفوسهم الّتی تتجاوز (الملیارد) نسمة، وبقوانینهم الإسلامیّة الراقیة الّتی تعتمد علی العقل والوحی؛ یزدادون ضعفاً وتخلّفا یوماً بعد یوم.

ولکن مع هذا کلّه؛ فإنّ هناک أطروحات جدیدة لأجل إعادة النّظر فی فهم الدّین، فالتّجدید الفکریّ للتّنویریّین الإسلامیّین والباحثین الجدد استطاع توفیر متطلّبات المراحل النّهائیّة لما یمکن أن یقوم به العالم الإسلامیّ من دور علی الصّعید العالمیّ، فبرزت الیوم ثلاثة اتّجاهات أساسیّة فی داخل العالم الإسلامیّ:

1. التّحدیث والبحث الدّائب عن التّغییر علی أمل الخلاص من الاستعمار السّیاسیّ والاقتصادیّ للغرب.

2. توظیف أرقی الأفکار والقابلیّات فی مجال الکفاح السّیاسیّ والتّحرّریّ.

3. الاهتمام بالعلم ومکاسبه الحدیثة والاستفادة منها علی طریق الوصول إلی الأهداف الإسلامیّة الراقیة.

فربّما یمکن من خلال ذلک تحقیق تحدیث الإسلام فی إطار الاتّجاه نحو العلم العقلانیّ.

ولأجل توضیح العلاقة الدّقیقة فیما بین العلم والعولمة؛ ینبغی الالتفات إلی الاتّجاهات المختلفة فی هذا المجال:

1. اتّجاه یسعی لإعادة تقییم المسائل الأساسیّة للمذاهب الفکریّة والثّقافیة العالمیّة المتنافسة والّتی تدّعی القیم والحقائق الشّمولیّة، وذلک فی إطار نظام ثقافیّ عالمیّ، وبضمنها الإسلام.

2. الاتّجاه الثّانی یربط فیما بین التّعدّدیّة الثّقافیّة القائمة علی أساس ما بعد الحداثة والاتّجاه الأصولیّ القائم علی أساس القیم والعقائد الدّینیّة المنسجمة.

ص:272

ففی رأی والرشتاین أنّ العالم یسیر فی نظام امبراطوریّ عریض وبزخم کبیر باتّجاه العولمة؛ یترابط أساسه الاقتصادیّ بواسطة الأنظمة السّیاسیّة المحلّیّة المستبدّة. فإذا عمّمنا هذا الاستدلال علی نسیج الأنظمة المذهبیّة العالمیّة، یبرز الإسلام والمسیحیّة کأدیان عالمیّة، وسنواجه فی هذه الحالة بشکل خاصّ مشکلة إقامة العلاقة مع الأنظمة السّیاسیّة المحلّیّة. وسیساعد تطوّر وظهور وسائل اتّصال حدیثة علی ازدیاد تلک العلاقات وبشکل واسع وکبیر.

فالإسلام باعتباره دیناً عالمیّاً ذا أبعاد اجتماعیّة، فردیّة، سیاسیّة، اقتصادیّة، عقلانیّة وعرفانیّة؛ أوسع وأشمل من النّظریّات السّیاسیّة والعرفانیّة والقراءات الطّائفیّة والفئویّة الخاصّة؛ ویقوم علی دعائم الإیمان والتعلیم والتّربیة والإنسان والاجتماع والحکومة والعرفان والممارسات العبادیّة... الخ؛ یختلف والقراءات الرّائجة للفرق المختلفة الّتی ظهرت فی أدوار التّاریخ الإسلامیّ.

إنّ الإسلام هو الوحید من بین الأدیان الّذی لا یتنکّر لدور العقل والعلم، ویضع الإنسان بوجوده الواقعیّ والموضوعیّ فی مقام أسمی ممّا تضعه فیه المدارس الوضعیّة، ویرسم دوره علی أساس معرفة عمیقة وشاملة وکاملة لنظام الوجود وفلسفة خلافة الإنسان. فالإسلام الّذی یضفی علی الإنسان صفة (الخلیفة الإلهیّ) ویسمو به من خلال وضع الطّبیعة بجمیع أبعادها تحت تصرّفه وإرادته وعلمه، ویأخذ فی عین الاعتبار منزلته العقلیّة والمعنویّة الرفیعة، بحیث یخرجه وینأی به بعیداً عن خصائص الحیوانیّة والمیول الشّهوانیّة والمادّیّة، ولا یضع حدوداً بوجه نموّه وتطوّره وتکامله.

ص:273

عولمة الإسلام

یعرض القرآن الکریم الإسلام علی أنّه دین کامل ورفیع، وأنّه الدّین الّذی سیظهر علی جمیع الأدیان والمدارس والثّقافات من خلال إرادة الله وسنّته الحتمیّة فی الهدایة والحیلولة دون تغلب الکفر والباطل علی الحقّ، ویتحقّق بذلک الوعد الإلهیّ بغلبة دینه الحقّ (هُوَ الَّذِی أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدی وَ دِینِ الْحَقِّ لِیُظْهِرَهُ عَلَی الدِّینِ کُلِّهِ وَ لَوْ کَرِهَ الْمُشْرِکُونَ) : «فبنظرة مستقبلیّة إلی التّقدّم الحاصل فی العلم والفکر ویسر الاتّصالات؛ یتّضح جلیّاً کیف أنّ الحقائق ستبرز من خلف ستار الإعلام المضلّل والمنافق. وکیف أنّ المعوّقات الّتی وضعها أعداء الحقّ فی طریقه ستُنسف وتغدو هشیماً تذروه الرّیاح؛ لینتشر الحقّ ویعمّ کافّة بقاع العالم؛ وذلک لکون جبهة الکفر والنّفاق تسیر باتّجاه معاکس للسّنّة الإلهیّة الحتمیّة وفلسفة الخلق».(1)

وقد عرض بعض المفکّرین وعلماء الدّین وجوهاً لکیفیّة غلبة الإسلام علی الأدیان الأخری؛ من جملتها الغلبة المنطقیّة والعقلانیّة والّتی تتمّ من خلال القبول بالفطرة النّقیّة والعقل السّلیم. البعض الآخر ومن خلال بیان موارد الضّعف والخلل والتّحریف الّتی ابتلیت بها الأدیان الأخری؛ یثبتون بأنّ الإسلام یتمیّز بمیزات عقلانیّة متعدّدة وأنّه دین خالص ینسجم والفطرة ویؤمّن جمیع الحاجات البشریّة ویتّفق والعقل والعلم والظّروف الزّمانیّة والمکانیّة لجمیع المجتمعات.

وأمّا من خلال النّظرة الدّینیّة الدّاخلیّة؛ فإنّ کلّ مسلم وعلی أساس التّعالیم الإسلامیّة یعتقد بعالمیّة وخلود الإسلام، ویعتبر ذلک من

ص:274


1- (1) ناصر مکارم الشیرازی، التّفسیر الأمثل، ج 7، ص 370.

المسلّمات الضّروریّة له، وممّا یؤیّد هذه الحقیقة الإجماع المتحقّق فیما بین المسلمین حولها، وکذا وجود البراهین العقلیّة والنّقلیّة والشّواهد التّاریخیّة فی هذا المجال.

ویؤکّد القرآن المجید هذه السّمة العالمیّة للإسلام فی آیات قرآنیّة صریحة وواضحة، والّتی یمکن الإشارة إلی بعض مواردها:

1. الآیات الّتی تصف القرآن بالهادی لجمیع النّاس وفی جمیع الأزمنة، کالآیة (185 من سورة البقرة) والآیة (27 من سورة التکویر).

2. الآیات الّتی یتّسم خطابها بالشّمول والعموم لجمیع النّاس، والّتی لا تقتصر دعوتها علی قوم أو عِرق أو منطقة معیّنة.

3. الآیات الّتی تبیّن أنّ رسالة نبیّ الإسلام تشمل جمیع النّاس وأنّ خطابه ورسالته عالمیّة وأنّه نبیّ العالم أجمع، أمثال:

(وَ ما أَرْسَلْناکَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِینَ) .(1)

(وَ أُوحِیَ إِلَیَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَکُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ) .(2)

(وَ أَرْسَلْناکَ لِلنّاسِ رَسُولاً) .(3)

(قُلْ یا أَیُّهَا النّاسُ إِنِّی رَسُولُ اللّهِ إِلَیْکُمْ جَمِیعاً) .(4)

(وَ ما أَرْسَلْناکَ إِلاّ کَافَّةً لِلنّاسِ بَشِیراً وَ نَذِیراً...) .(5)

4. مجموعة الآیات الّتی توضّح أنّ أحکام وقوانین الإسلام عامّة وشاملة لجمیع أبناء البشریّة من کلّ لون وعنصر ولغة، ولم تُحدَّد بجهة خاصّة.

ص:275


1- (1) الأنبیاء، 107.
2- (2) الأنعام، 19.
3- (3) النّساء، 153.
4- (4) الأعراف، 158.
5- (5) سبأ، 28.

5. الآیات الّتی تُلزم أهل الکتاب بقبول الإسلام والإیمان بدعوة نبیّه، کالآیة الّتی تقول: (وَ لَوْ آمَنَ أَهْلُ الْکِتابِ لَکانَ خَیْراً لَهُمْ) .(1)

6. الآیات الّتی وعدت بغلبة الإسلام علی کافّة الأدیان، وتشیر علی أنّه دین عالمیّ: (هُوَ الَّذِی أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدی وَ دِینِ الْحَقِّ لِیُظْهِرَهُ عَلَی الدِّینِ کُلِّهِ) .(2)

7. الآیات الّتی تبیّن التّعالیم العالمیّة للإسلام، فإنّ سنخیّتها العالمیّة وعدم اختصاصها بمنطقة محدّدة تدلّل علی عالمیّة الإسلام؛ أمثال: التّعالیم الّتی تؤکّد علی حقیقة التّوحید والمعاد، والّتی تنفی الاتّجاهات الثّنویّة والتّثلیثیّة والاتّجاهات الإشراکیّة المشابهة:

(قُلْ یا أَهْلَ الْکِتابِ تَعالَوْا إِلی کَلِمَةٍ سَواءٍ بَیْنَنا وَ بَیْنَکُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ) .(3)

ویعلن القرآن الکریم فی سورة الفتح عالمیّة الإسلام وعموم تعالیمه العالم أجمع، فبعض مفسّری الآیة المتقدّمة یرون بأنّ هذه القضیّة لابدّ وأن تتحقّق؛ لکونها وعداً إلهیّاً حتمیّاً، وأنّ سرعة تفشّی الإسلام ونفوذه المتعاظم فی جمیع المجتمعات یعدّ دلیلاً علی صبغته العالمیّة المتوخّاة. ولکن طبقاً للرّوایات الّتی أشارت إلی البرامج العالمیّة للإمام المهدیّ عجل الله تعالی فرجه الشریف تکشف عن أنّ العالمیّة المنتظرة للإسلام لا تتحقّق إلّا بظهوره عجل الله تعالی فرجه الشریف. وینقل العلّامة الطّبرسیّ رحمه الله فی کتابه (مجمع البیان) حدیثاً بهذا المضمون عن الإمام الباقر علیه السلام «أنّ ذلک یکون عند خروج المهدیّ فلا یبقی أحد إلّا أقرّ بمحمّد صلی الله علیه و آله».

ویبدو أنّ أیّ جهد یبذل لجعل النّاس متماثلین سیمنی بفشل ذریع؛ ففی عقیدة علماء الّنفس والاجتماع وکذا القرآن؛ أنّ هناک فروقاً ذاتیّة عِرقیّة

ص:276


1- (1) آل عمران، 110.
2- (2) أصالة العقلانیّة و تعلّم الحکمة.
3- (3) أصالة العدل وطلب العدالة: (اعدلوا هو أقرب للتقوی).

وذهنیّة وعاطفیّة وذوقیّة فیما بین النّاس. ویشیر القرآن الکریم إلی أنّ هذه الفروق فروقاً تکوینیّة وجوهریّة لیس باستطاعة الإنسان تغییرها:

1. (إن فی اختلاف ألسنتکم و ألوانکم... لآیات لأولی الألباب).

2. (وَ لَوْ شاءَ رَبُّکَ لَجَعَلَ النّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَ لا یَزالُونَ مُخْتَلِفِینَ) .(1)

إنّ المظهر الأساسیّ للعولمة الغربیّة هو التّسلّط والسّیطرة وممارسة الضّغوط علی المظلومین لإخضاعهم وإجراء ما یطمحون إلیه.

فی حال أنّ النّداء الخالد للإسلام یدعو إلی الحرّیّة وحقّ الاختیار العقلانیّ بعیداً عن أیّ نوع من الإکراه والإجبار.

(لا إِکْراهَ فِی الدِّینِ قَدْ تَبَیَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَیِّ) .(2)

ومن جهة أخری فإنّ العولمة الّتی هی بحسب اعتراف الغرب مفروضة فرضاً وعلی أساس معاییر الحضارة الغربیّة وتقول فی الوقت ذاته بأصالة حرّیّة واختیار الإنسان تتضمّن تناقضاً ظاهریّاً، کما هو واضح.

أدلّة شمولیّة وعالمیّة الإسلام

إنّ الإسلام دین عالمیّ وعامّ لا یختصّ بقوم وعِرق ولغة وبلد دون غیره، وهو عبارة عن مذهب إنسانی عظیم جاء من أجل هدایة وسعادة ونجاة کافّة أفراد البشریّة. فعموم وعالمیّة الإسلام حقیقة قاطعة وبدیهیّة لا یشکّ أو یختلف علیها المسلمون، فکلّ المذاهب الإسلامیّة ومفکّریها یعتقدون بذلک ویعتبرونه من ضروریّات الإسلام ومن المحکَمات الأساسیّة للقرآن الکریم.

وسنحاول فی هذا البحث مطالعة الأدلّة النّظریّة فی کون الإسلام دیناً عالمیّاً وحتمیّة عولمته والّتی ستتحقّق علی ید الإمام المهدیّ عجل الله تعالی فرجه الشریف، وکذا

ص:277


1- (1) هود، 118.
2- (2) البقرة، 256.

بیان ماهیّة العولمة الإسلامیّة وعلاقتها ومقارنتها بمسار العولمة الفعلیّة الّتی یمرّ بها العالم.

فإنّ کون الإسلام دیناً عالمیّاً یمکن إثباته من خلال ما جاء فی الإسلام من عالمیّة نبوّة نبیّه وخاتمیّة رسالته، وکذلک بناءً علی أسسه العقلیّة والعلمیّة وانسجامها وتوافقها مع الفطرة الإنسانیّة.

فالأحکام والقوانین الإسلامیّة بإمکانها الإجابة عن أسئلة العالم المعاصر فی إیجاد الحلول المناسبة للخلاص من أزماته المستعصیة والمتعدّدة والعبور به إلی شاطئ الأمن والسّعادة؛ فإنّ أمماً کثیرة تعایش حالیّاً تحوّلات لها عواقب سلبیّة وغیر محمودة.

ویمکن الإشارة إلی عالمیّة الإسلام من خلال بعض النّصوص القرآنیّة الّتی تؤکّد وبصراحة هذه الحقیقة النّاصعة:

1. عالمیّة رسالة نبیّ الإسلام صلی الله علیه و آله: (قُلْ یا أَیُّهَا النّاسُ إِنِّی رَسُولُ اللّهِ إِلَیْکُمْ جَمِیعاً) .(1)

2. نزول القرآن لکافّة النّاس: (وَ ما هُوَ إِلاّ ذِکْرٌ لِلْعالَمِینَ) .(2)

3. (وَ مَنْ یَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِیمَ إِلاّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) ؛ وتبیّن هذه الآیة بأنّ تعالیم الإسلام السّماویّة والّذی هو دین التّوحید والفطرة والعدالة والنّجاة والکمال؛ تتمیّز فی رؤیة الإنسان الحرّ وذی العقل السّلیم بالجذّابیّة علی طول الزّمن.

4. إنّ الإسلام یتضمّن قوانین منسجمة تتطابق والفطرة البشریّة: (فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِی فَطَرَ النّاسَ عَلَیْها لا تَبْدِیلَ لِخَلْقِ اللّهِ) .(3)

ص:278


1- (1) الأعراف، 158.
2- (2) القلم، 52.
3- (3) الروم، 30.

5. التّرغیب فی العلم وتفضیل العلماء: (هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَ الَّذِینَ لا یَعْلَمُونَ) .(1)

6. نظرته الشّاملة والکاملة لجمیع أبعاد عالم الوجود والحاجات البشریّة: (ما فَرَّطْنا فِی الْکِتابِ مِنْ شَیْءٍ) وقد وصفه الله تعالی بکونه (تِبْیاناً لِکُلِّ شَیْءٍ) .

7. اهتمامه بالبعد المعنویّ للحیاة الإنسانیّة الّتی قام بتفصیل خطوطها بشکل معقول ومعتدل.

8. تأکیده علی المساواة بین جمیع النّاس، ومعارضته للتّمییز فیما بینهم عِرقیّاً ومادّیّاً وقومیّاً ولغویّاً.

9. معارضته للخضوع والعبودیّة لغیر الله (وَ لا یَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ)2 (وَ لَنْ یَجْعَلَ اللّهُ لِلْکافِرِینَ عَلَی الْمُؤْمِنِینَ سَبِیلاً) .(2)

10. دعوته إلی العدل والإنصاف: (کُونُوا قَوّامِینَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلّهِ) .(3)

11. محاربته الظّلم والفساد بکافّة أشکالهِ وبواعثه: (وَ لا تُفْسِدُوا فِی الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) .(4)

فنظراً لهذه الممیّزات البارزة والعالمیّة للإسلام یتّضح بأنّ دائرة شعاراته وبرامجه وأهدافه السّامیة تتّخذ بعداً عالمیّاً ولا تختصّ بقوم وشعب ومکان وزمان معیّن.

ویؤکّد القرآن الکریم فی مواطن أخری علی أنّ الدّین الوحید الّذی

ص:279


1- (1) الزمر، 9.
2- (3) النّساء، 141.
3- (4) النّساء، 135.
4- (5) الأعراف، 56.

یتمیّز بالشّمول والکمال والّذی یکون موضع ترحیب وقبول واسع هو الإسلام؛ کما فی الآیات التالیة:

1. (إِنَّ الدِّینَ عِنْدَ اللّهِ الْإِسْلامُ) .(1)

2. (وَ مَنْ یَبْتَغِ غَیْرَ الْإِسْلامِ دِیناً فَلَنْ یُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِی الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِینَ) .(2)

وقد جاء عن الإمام الصّادق علیه السلام فی تفسیر الآیات الآنفة ما مضمونه:

«فوالله یا مفضّل لیرفع عن الملل والأدیان الاختلاف، ویکون الدّین کلمة واحدة، کما قال الله عزّ و جلّ: إنّ الدّین عند الله الإسلام».(3)

3. وتصرّح الآیة (33 من سورة البقرة) وبشکل حاسم بأنّ الإسلام هو دین الحقّ والهدایة وستدور دائرته علی سائر الأدیان. فهذه الآیة إضافة إلی دلالتها علی حقّانیّة الإسلام تشیر إلی عالمیّته وحتمیّة تحقّق الإرادة الإلهیّة فی استیلائه وغلبته.

4. ویأمر الله عزّ و جلّ نبیّ الإسلام بإبلاغ عالمیّة دعوته ورسالته، فیقول:

(قُلْ یا أَیُّهَا النّاسُ إِنِّی رَسُولُ اللّهِ إِلَیْکُمْ جَمِیعاً) .(4)

ویقول الإمام الحسن علیه السلام فی خصوص تفسیر وشأن نزول هذه الآیة الکریمة ما مضمونه: جاء بعض الیهود إلی النبیّ صلی الله علیه و آله وقالوا: یا محمّد! هل تقول بأنّک مرسل من قِبل الله، ویجیئک الوحی کموسی؟ فسکت النبیّ صلی الله علیه و آله قلیلاً، ثمّ قال: نعم، أنا سیّد ولد آدم ولا فخر، إنّما أنا خاتم النّبیّین وأسوة المتّقین ورسول ربّ العالمین. فسألوا (إلی مَن؟ إلی العرب أم العجم أم إلینا؟)؛ و هنا أوحی الله لنبیّه هذه الآیة.

ص:280


1- (1) آل عمران، 19.
2- (2) آل عمران، 85.
3- (3) ر. ک: ناصر مکارم الشیرازیّ، حکومة الإسلام العالمیّة.
4- (4) الأعراف، 158.

ویتّفق جمیع المفسّرین علی أنّ لفظ (جمیعاً) فی الآیة الکریمة تؤکّد علی عموم وشمول رسالة نبیّ الإسلام جمیع النّاس.

5. وتوجد آیات أخری تؤکّد علی عالمیّة الإسلام، من جملتها الآیة (90 من سورة الأنعام) الّتی تقول: (قُلْ لا أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاّ ذِکْری لِلْعالَمِینَ) .

6. والآیة (107 من سورة الأنبیاء) تبیّن وبصراحة هذه المسألة: (وَ ما أَرْسَلْناکَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِینَ) .

7. الآیة الأولی من سورة الفرقان والّتی تقول: (تَبارَکَ الَّذِی نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلی عَبْدِهِ لِیَکُونَ لِلْعالَمِینَ نَذِیراً) .

وتبیّن هذه الآیة أیضاً بأنّ الهدف النّهائی للقرآن هو إنذار کافّة أفراد البشریّة وتعلیمهم وهدایتهم فی کلّ زمان ومکان. وقد فسّر الشّیخ الطبرسیّ رحمه الله ذیل هذه الآیة الکریمة (لِلْعالَمِینَ) (جمیع المکلّفین من الإنس والجن).(1)

8. الآیة الأخری؛ الآیة (28 من سورة سبأ) الّتی تقول: (وَ ما أَرْسَلْناکَ إِلاّ کَافَّةً لِلنّاسِ بَشِیراً وَ نَذِیراً وَ لکِنَّ أَکْثَرَ النّاسِ لا یَعْلَمُونَ) .

وینقل صاحب تفسیر (البرهان فی تفسیر ا لقرآن) حدیثاً فی ذیل هذه الآیة الکریمة یدلّ إضافة علی ثبوت عالمیّة رسالة النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله علی عالمیّة الإمامة؛ یسأل فیه عبد الله بن بکر الإمام الصّادق علیه السلام: «جعلت فداک فهل یری الإمام ما بین المشرق والمغرب؟» فیقول الإمام الصّادق علیه السلام ضمن تأکیده علی عالمیّة إمامة أهل بیت العصمة علیهم السلام وشهادة کلّ إمام منهم علی الخلق ورؤیته جمیعهم وکونه حجّة وإمام علی البشریّة جمعاء، «والله یقول: (وَ ما أَرْسَلْناکَ إِلاّ کَافَّةً لِلنّاسِ) ؛ یعنی «مَن علی الأرض و الحجّة من بعد

ص:281


1- (1) الطبرسیّ، مجمع البیان، ج 4، ص 160.

النبیّ صلی الله علیه و آله هو یقوم مقام النبیّ وهو الدّلیل علی ما تشاجرت فیه الأمّة والأخذ بحقوق النّاس».(1)

وإضافة إلی الآیات المتقدّمة توجد آیات متعدّدة أخری تدّل علی عالمیّة الإسلام وتَحقّق الأمر الإلهیّ علی هذا الصّعید. وأکّدت کذلک أحادیث کثیرة علی هذه المسألة، ونطالع منها علی سبیل المثال الأحادیث التّالیة:

1. ینقل عبد الله بن عباس عن النّبی صلی الله علیه و آله أنّه قال: «أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شریک له وأنّی محمّداً عبده ورسوله، أرسلنی برسالته إلی جمیع خلقه، لیهلک مَن هلک عن بیّنة ویحیی مَن حییَ عن بیّنة، واصطفانی علی جمیع العالمین من الأوّلین والآخرین».(2)

2. و یقول الإمام الرضا علیه السلام فی وصفه معجزة القرآن وخلوده: «إنّ الله تبارک وتعالی... لم یجعله لزمانٍ دون زمان و لا لناسٍ دون ناس، فهو فی کلّ زمان جدید وعند کلّ قومٍ غضّ إلی یوم القیامة».(3)

3. إنّ عولمة الإسلام ستتحقّق من خلال الثّورة العالمیّة للإمام المهدیّ عجل الله تعالی فرجه الشریف. وأنّ هذا الوعد الإلهیّ حتمیّ لا یقبل التّخلّف والتّغییر. وقد أورد الشّیخ الطّبرسیّ فی ذیل الآیة الکریمة: (وَعَدَ اللّهُ الَّذِینَ آمَنُوا مِنْکُمْ وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ لَیَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِی الْأَرْضِ) أنّ النّبی صلی الله علیه و آله قال فی تفسیرها: «لا یبقی علی الأرض بیت مدر ولا وبر إلّا أدخله الله تعالی کلمة الإسلام».(4)

«أجل؛ فانتشار الإسلام فی کافّة أرجاء العالم حقیقة حتمیّة ستتحقّق فی عصر ظهور الإمام المهدیّ عجل الله تعالی فرجه الشریف والّذی سیثمر رقیّاً فکریّاً ومعنویّاً

ص:282


1- (1) البحرانیّ، البرهان فی تفسیر القرآن، ج 3، ص 352.
2- (2) المجلسیّ، محمّد باقر، بحار الأنوار، ج 16، ص 374.
3- (3) المصدر نفسه، ج 2، ص 280.
4- (4) الطبرسیّ، مجمع البیان، ج 4، ص 152.

لجمیع النّاس، وتفشّیاً للسّلام والعدالة واندثار الاستعمار والأنظمة اللادینیّة والاستغلال والفساد. وکما جاء فی الرّوایات والأدعیة: أنّ الإمام المهدیّ عجل الله تعالی فرجه الشریف سیقوم بطوی بشاط الجبّارین والکافرین والملحدین فی کافّة بقاع العالم. وستهبّ ریاح المعنویّة والطهارة والعدالة الخالصة والاطمئنان لتقتلع الظّلم والفساد إلی الأبد، ویتحقّق الدّعاء الوارد فی (دعاء العهد): «و أقصم به جبابرة الکفر واقتل به الکفّار والمنافقین وجمیع الملحدین، حیث کانوا من مشارق الأرض ومغاربها وبرّها وبحرها واملأ به الأرض عدلاً».

وسیستثمر ویستخدم الإمام المهدیّ عجل الله تعالی فرجه الشریف أبان ثورته العالمیّة وسائل اتّصال وتقنیة معلومات متطوّرة ومتقدّمة جدّاً، وقد لمّحت بعض أحادیث عصر الظّهور لهذه النّقطة، فجاء ما مضمونه: «عندما یقوم قائمنا یمدّ الله فی بصر وسمع شعیتنا فلا تکون بینهم وبینه واسطة. ففی أیّ مکان کانوا یسمعون خطابه ویرونه ویراهم».(1)

وقد ورد حدیث عن الإمام الصّادق علیه السلام ما مضمونه: «ویری المؤمن فی زمن القائم وهو فی المشرق أخیه وهو فی المغرب وکذلک الّذی فی المغرب یری أخیه الّذی فی المشرق».(2)

فمن خلال الآفاق الّتی ترسمها أحادیث المعصومین علیهم السلام عن الحکومة العالمیّة للإمام المهدیّ عجل الله تعالی فرجه الشریف یمکن الاستنتاج بأنّ عولمة الإسلام ووعد استخلاف المؤمنین الصّالحین علی الأرض ووراثتهم لها وانتشار العدل وتجسّد الإسلام المحمّدیّ الأصیل بکافّة جوانبه؛ سیتحقّق فی زمن حکومة الإمام العالمیّة وأنّ ذلک سیتمّ علی یدیه.

ص:283


1- (1) الکافی، ج 2، ص 240.
2- (2) حکومة المهدیّ العالمیّة، ص 296، «باللّغة الفارسیّة».

ومن هنا؛ فإنّ هناک ارتباطاً کاملاً ووثیقاً فیما بین العولمة وتحقّق عالمیّة الإسلام والثورة العالمیّة للإمام المهدیّ عجل الله تعالی فرجه الشریف. وستتهیّء جمیع ظروف وأدوات ووسائل عولمة الدّین فی هذه المرحلة الحسّاسة والّتی أشارت إلیها النّصوص الدّینیّة بشکل صریح لا یقبل التّأویل:

1. یقول الإمام الباقر علیه السلام فی تفسیر الآیة الکریمة (لِیُظْهِرَهُ عَلَی الدِّینِ کُلِّهِ) : «إنّ ذلک یکون عند خروج المهدیّ عجل الله تعالی فرجه الشریف من آل محمّد صلی الله علیه و آله فلا یبقی أحد إلّا أقرّ بمحمّد».(1)

2. ونُقل عن ابن عباس فی تفسیر الآیة الکریمة (هُوَ الَّذِی أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدی وَ دِینِ الْحَقِّ...) ما مضمونه: «لا یأتی تأویل هذه الآیة حتی یدخل جمیع الیهود والنصاری وأتباع جمیع الأدیان الإسلام. ویعمّ عند ذاک الأمن والسّلام حتی تأمن الشّاة والذئب والأسد والنّاس والأفاعی بعضهم بعضاً»، «... و ذلک یکون عند قیام القائم».(2)

3. ویورد علی بن إبراهیم حدیثاً حول تفسیر الآیة (8 من سورة الصّف) (یُرِیدُونَ لِیُطْفِؤُا نُورَ اللّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ اللّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَ لَوْ کَرِهَ الْکافِرُونَ) یقول فیه: «قال بالقائم من آل محمّد علیهم السلام، حتی إذا خرج یظهره علی الدّین کلّه حتی لا یعبد غیر الله».(3)

وقد فصّل المفسّرون والمفکّرون الشّیعة آیات أخری تشیر إلی غیبة وظهور الإمام المهدیّ عجل الله تعالی فرجه الشریف: فالفیلسوف الشّهیر مرتضی مطهّری ذکر ممیّزات هذا الفکر المقدّس وهذه العقیدة القرآنیّة تحت عنوان (ممیّزات الانتظار الکبیر):

ص:284


1- (1) الطبرسیّ، مجمع البیان، ج 3، ص 25، و أیضاً ج 5، ص 127.
2- (2) الطبرسیّ، مجمع البیان، ج 4، ص 543.
3- (3) تفسیر القمّیّ، ج 2، ص 365.

1. التّفاؤل بمستقبل البشریّة؛ یعتقد البعض بأنّ الشّرّ والفساد والشّقاء من اللّوازم الحتمیّة للحیاة البشریّة، لذا؛ فإنّ أفضل ما یمکن القیام به هو إنهاء هذه الحیاة الّتی لا قیمة لها.

2. ویعتقد البعض الآخر بأنّ الحیاة البشریّة بتراء من الأساس، فقد وصل الإنسان مرحلة یحفر فیها قبره بنفسه إثر التّطوّر التّقنیّ المذهل وخزین أسلحة الدّمار المرعبة.

3. وفی مقابل هاتین النّظریّتین؛ توجد نظریّة أخری تعتقد: بأنّ الشّرّ والفساد لیسا من الأمور الطّبیعیة الملازمة للحیاة البشریّة، وإنّما معلولاً ناشئاً عن الملکیّة الفردیّة، فما دامت جذور الشّرّ والفساد حاضرة فإنّهما کذلک. وأنّ الملکیّة الفردیّة تنشأ فی الحقیقة من خلال تکامل وسائل الإنتاج. ولکن سیأتی الیوم الّذی یقوم التّکامل هذا باقتلاع تلک الجذور. إذن فالتّکامل الصّناعیّ هو الأساس والقاعدة لبنیان السّعادة المرجوّة.

4. النّظریّة الرّابعة تُرجع سبب الفساد والشرّ إلی الفقر الرّوحیّ والمعنویّ للإنسان، فمازال الإنسان یعیش إلی الآن مرحلة الشّباب وعدم النّضج والّتی یطغی علیه فیها الغضب والشّهوة علی التّعقّل.

فالإنسان یسیر فطریّاً باتّجاه التّکامل الفکریّ والأخلاقیّ والمعنویّ. فلیس الشّرف والکمال من اللوازم الطّبیعیّة للإنسان، ولا الحتم الحضاریّ یستلزم الانتحار الجماعیّ للبشریّة.

«وإنّما ذلک المستقبل الوضّاء والسّعید والإنسانیّ هو الّذی یقتلع الشرّ والفساد من جذوره، فالنّظریّة هذه بشارة وعدَ بها الدّین»:

1. الانتصار النّهائی للصّلاح والتّقوی والسّلام والعدالة والحرّیّة والإخلاص علی الظّلم والاستکبار والاستعباد والدّجل والتّضلیل.

2. الحکومة العالمیّة الواحدة.

ص:285

3. عمران الأرض جمیعاً.

4. البلوغ العقلی الکامل للبشریّة واتّباعها الفکر والأیدیولوجیّة والحرّیّة دون العبودیّة للظّروف الطّبیعیّة والاجتماعیّة والغرائز الحیوانیّة.

5. الاستثمار الأمثل والأقصی لثروات الأرض.

6. التقسیم المتکافئ للثّروات فیما بین النّاس.

7. الانعدام الکامل للمفاسد الأخلاقیّة کالرّبا والزّنا والسّرقة والقتل والخیانة، ونقاء الأذهان من العُقد والأحقاد.

8. انعدام أسباب الحرب، وبسط السّلام والمحبّة والتّعاون والإخلاص فیما بین الشّعوب.

9. الانسجام التّام فیما بین الإنسان والطّبیعة.(1)

تمایز العولمة الفعلیّة وعالمیّة حکومة المهدیّ

ولاکتشاف ماهیّة العلاقة فیما بین العولمة والشّمولیّة العالمیّة لحکومة الإمام المهدیّ عجل الله تعالی فرجه الشریف؛ ینبغی أوّلاً مطالعة أسّس وممیّزات وأهداف کلّ من العملیّتین، والنّظر فی ما تشترکان فیه وما تفترقان وتتمایزان عنه. وماهی غایة کلّ منهما؟ وهل أنّ إحداهما هی امتداد للأخری؟

فهل من الممکن أن تکون العولمة مقدّمة للثّورة العالمیّة للإمام المهدیّ عجل الله تعالی فرجه الشریف وحکومته العالمیّة الواحدة؟. فالإجابة علی هذه الأسئلة ستتمخّض تلقائیاً عندما نستطیع معرفة عملیّة العولمة الفعلیّة وعولمة الإمام المهدیّ عجل الله تعالی فرجه الشریف بشکل دقیق وموزون.

وقبل کلّ شیء ینبغی النّظر فی أنّ التّعولم هل هو عملیّة حقیقیّة أم أنّ الموجود هو مجرد نماذج له؟ وهل أنّ التّعولم هو العولمة ذاتها أم أنّهما

ص:286


1- (1) مرتضی مطهّری، الثّورة الإسلامیّة للمهدیّ، ص 60-61.

عملیّتان مختلفتان ومنفصلتان عن بعضهما البعض؟ وما هی النّماذج السّائدة للتّعولم؟ وأیّ من نظریّات التّعولم تتّفق وتنسجم مع عولمة المهدیّ عجل الله تعالی فرجه الشریف.

ممیّزات عولمة الإمام المهدیّ عجل الله تعالی فرجه الشریف

یتّسم الإسلام بممیّزات وخصائص لا یمکن مقایستها ومقارنتها مع أیّ من الأنظمة السّائدة، فعولمة الإسلام فی الحقیقة تعنی عولمة تلک العناصر والممیّزات، فالإسلام باعتباره دیناً کاملاً ونظاماً شاملاً یرتکز علی أسس العقلانیّة والعلمیّة، المعنویّة، الکرامة الإنسانیّة والعدالة و المساواة، الأمن والحقوق البشریّة الفطریّة. وطبقاً للوعد الإلهیّ فستکون للإسلام الغلبة والاستیلاء علی جمیع الثّقافات والأدیان.

فعولمة الإسلام تعنی عولمة العلم والعقلانیّة والعدالة والأمن ووعی ورقی الإنسان حیثما حلّ وأینما عاش.

وقد عرفنا ما ابتنیت علیه العولمة الغربیّة من أسس وأصول فکریّة وفلسفیّة مستمدّة من الحضارة الغربیّة والّتی یمکن الإشارة إلیها بإیجاز:

1. العقلانیّة والعلم الوضعیّین.

2. النّزعة الإنسانیّة.(1)

3. اللیبرالیّة.

4. العلمانیّة.

وتقف فی مقابلها العولمة الإسلامیّة والّتی تتّسم بما یلی:

1. الفطریّة.

2. تثمین دور العقل والعلم.

ص:287


1- (1) فلسفة تقول بقیمة الإنسان وقدرته علی تحقیق الذّات عن طریق العقل ورفض أیّة قوّة خارقة للطّبیعة، «المعرّب عن قاموس المحیط».

3. الاعتقاد بوجود علقة بین عالم الوجود ومبدئه.

4. غائیّة نظام الخلق، والإنسان منه علی وجه التّحدید.

5. الأصالة القانونیّة (أصالة التّشریع وأصالة الدّین).

6. استمرار نظام الهدایة والقیادة الإلهیّة.

7. أصالة الکرامة الإلهیّة للإنسان.

8. أصالة الحاکمیّة الإلهیّة لعالم الوجود.

9. أصالة الحرّیّة وحقّ العیش والاستفادة من مواهب الطّبیعة.

10. أصالة العزّة والشّرف ونفی سلطة الآخرین.

11. أصالة حقّ اختیار الاتّجاه وحق النّموّ والرّقی، الّذی یعدّ من مستلزمات أصالة التّکامل الفطریّ.

فنموذج العولمة الإسلامیّة یتفاوت ویختلف عن نموذجها الغربیّ الّذی یرتکز علی اللیبرالیّة القدیمة منها والجدیدة:

1. فصیغة العولمة الإسلامیّة ترتکز علی القیم الإلهیّة والأخلاقیّة والمعاییر الدّینیّة، ونوعیّة نظر الإنسان إلی العالم والإنسان.

2. إنکار العولمة فی إطارها الإسلامیّ لأیّة سلطة واستعمار واستغلال ولاعدالة ولامساواة وتمییز. فی حال أنّ الغربیّة تحاول السّیطرة علی العالم أجمع من خلال فرضها صیغتها وقیمها علی باقی الثّقافات والمجتمعات. فالعولمة الإسلامیّة تعتمد الاتّجاهات الفکریّة الّتی تتلائم والعقلانیّة والمعاییر والقیم الإنسانیّة والّتی تتّصف بالحرّیّة وحقّ الاختیار.(1)

3. و العولمة الغربیّة بطبیعتها لا تتمکّن من تحسین الوضع الحیاتیّ وإقرار الأمن والعدالة والمساواة والسّلام، أمّا فی العولمة الإسلامیّة وثقافتها فإنّ هذه المسألة تعدّ من الأهداف الغائیّة للعالم والسّیر التّکاملیّ للتّاریخ البشریّ. وتقع

ص:288


1- (1) الشّمولیّة العالمیّة للإسلام والعولمة، ص 316.

فی طریق إزالة کافّة موانع النّموّ والکمال البشریّ وتحقّق القیم الإنسانیّة العلیا، وإقرار الأمن والعدالة والسّلام والمساواة والمحبّة، وإنهاء کافّة مظاهر الفساد والکفر والشّرک والظّلم.

4. إنّ الأساس البارز للعولمة الغربیّة هو فرض طراز وصیغة معیّنة من الحیاة ترتکز علی الفکر العلمانیّ. فهذا النموذج من العولمة یعنی فرض سلطة شاملة للغرب، وذلک بالإکراه والإجبار والّتی سیکون الاستضعاف والإلحاد والفساد الإخلاقیّ واللاعدالة والفقر والتمییز والاستغلال؛ ثمارها النّهائیّة. فی حال أنّ العولمة الإسلامیّة وعلی خلاف ذلک تعتمد العقل والعلم والقیم الإنسانیّة الرّاقیة؛ لتصون حقوق الإنسان وکرامته وتوفّر الحرّیّة والمساواة والعدالة والسّلام لجمیع أبناء البشریّة.

فالحضارة الإسلامیّة توظّف العلم والتقنیة والصّناعة والاقتصاد لخدمة البشریّة، وتعمل علی محو وإزالة أسباب الاستعمار والاستغلال والظّلم والتّمییز.

وبتعبیر أحد علماء الإسلام الغربیّین: «إنّ الطّریق الوحید لإیجاد الهدوء والاطمئنان والاستقرار للإنسان لا یمرّ إلّا عبر الصّیغ الدّینیّة والأخلاقیّة والمعنویّة. وعالمنا الیوم ینبغی أن یتّجه فقط وفقط صوب الدّین وأسس المساواة والأخوّة بین جمیع النّاس».(1) وأمّا معاییر وأسس الثّقافة الغربیّة الّتی لا تعترف بالمعاییر الدّینیّة والأخلاقیّة والقیم الإنسانیّة؛ فإنّها تعجز عن توفیر حاجات الشّعوب من العدالة والسّلام والمعنویّة.

ص:289


1- (1) مارسل بوازر، الإسلام فی العالم المعاصر، ص 252، «التّرجمة الفارسیّة».

ص:290

المصادر

اشارة

آلبرو، مارتی، العصر العالمیّ، ترجمة: نادر سالار زاده أمیری، النّاشر: آزاد اندیشان، طهران.

آلستون، بیتر و یینغر میلتون ولنغهاوزن، الدّین والآفاق الجدیدة، ترجمة: غلام حسین توکّلی، النّاشر: مرکز مطالعات وتحقیقات إسلامی، قم 1376.

استوری، جان، العولمة والثّقافة العامّة، ترجمة: حسن یابنده، مجلّة ارغنون، ع 24، طهران 1383.

استین، والتر، الدّین والرؤیة الجدیدة، ترجمة: أحمد رضا جلیلی، انتشارات حکمت، طهران 1377.

بوازار، مارسل، الإسلام فی عالم الیوم، ترجمة: د. م. ی، دفتر نشر فرهنگ إسلامی، طهران 1361.

هنتیغتون، روزاموند... وآخرین، الثّقافة والمجتمع، ترجمة: فریبا عزبدفتری، نشر قطره، طهران 1380.

بویر، مارتین، کسوف الله، ترجمة: عبّاس کاشف وابو تراب سهراب، نشر فروزان، طهران 1380.

بول تیلیخ، مستقبل الأدیان، ترجمة: أحمد رضا جلیلی، النّاشر: مرکز مطالعات وتحقیقات أدیان ومذاهب، قم 1378.

سمر امین، هاری مجدف، جیفانی اریک، العولمة؛ بأیّ هدف؟ ترجمة: ناصر زرافشان، نشر آگه، طهران 1377.

بول، سوئیزی، العولمة؛ بأیّ هدف؟ ترجمة: ناصر زرافشان، نشر آگه، طهران 1380.

بایکین، ریتشارد، الدّین، هنا، حالیّاً، ترجمة: مجید محمّدی، نشر قطره، طهران 1377.

بهلوان، جنکیز، علم الثّقافة وأحادیث حول الثّقافة والحضارة، انتشارات أمیر کبیر، طهران.

ص:291

تافلر، الوین، الموجة الثّالثة، ترجمة: شهیندخت خوارزمی، نشر آسمان، طهران 1370.

تامیلسون، العولمة والثّقافة، ترجمة: محسن حکیمی، نشر بژوهشهای فرهنگی، طهران 1380.

ترنر، برایان، فضل العولمة علی الدّین فی العصر العالمیّ، ترجمة: هاله لاجوردی، مجلة ارغنون، ع 245.

طهرانیان، مجید، العولمة؛ الأزمات واللا أمن، بإشراف أصغر افتخاری، بژوهشکده مطالعات راهبردی، طهران 1380.

جیمس، روزنا، عقد وتناقضات العولمة، مجلّة سیاست خارجی، طهران 1378.

جهانبکلو، رامین، الموجة الرّابعة، ترجمة: منصور کودرزی، نشر نی، طهران 1381.

حاجتی، میر أحمد رضا، عصر الإمام الخمینیّ، مؤسّسه بوستان کتاب، قم 1382.

حکیمی، محمّد رضا، شمس المغرب، دفتر نشر فرهنگ إسلامی، طهران 1381.

روبتسون، رونالد، العولمة، ترجمة: کمال بولادی، نشر ثالث، طهران 1380.

ریمون، اغناسیو، هل تتّجه العولمة نحو الفوضی، ترجمة: بریجهر شاهسوند، مؤسّسه انتشاراتی عطا، طهران.

رجائی، فرهنگ، ظاهرة العولمة، ترجمة: عبد الحسین آذرنک، نشر آگه، طهران 1380.

ریفکن، جرمی و تید هوارد، العولمة؛ نحو الهاویة، ترجمة: محمّد بهزاد، نشر سروش، طهران 1374.

ساراب، مادن، ما بعد الأصولیّة ومابعد الحداثة، ترجمة: محمّد رضا طاجیک، نشر نی، طهران 1382.

شایکان، داریوش، تحت سماوات العالم، ترجمة: نازی عظیما، نشر فروزان، طهران 1376.

شجاعی زند، هذا المجتمع والعرفیّة، مقالات فی علم الاجتماع الدّینی، نشر مرکز، طهران 1380.

عاملی، سعید رضا، التّعامل التّماثلی للعولمة والدّین والمواطنة، نامه علو اجتماعی، 1380.

علمداری، کاظم، نقد حول نظریّة حوار الحضارات وصراع الحضارات، نشر توسعه، طهران 1381.

قطب، سید محمّد، المسلمون و مسألة العولمة، ترجمة: زاهد ویسی، انتشارات أمیر کبیر، طهران 1382.

قوام، سیّد عبد العلیّ، العولمة والعالم الثّالث (مسار العولمة ومکانة المجتمعات النّامیة فی النّظام الدّولیّ)، النّاشر: دفتر مطالعات سیاسی وزارت خارجه، 1382.

کاستلر، عمانوئیل، عصر المعلومات؛ المجتمع الشّبکیّ، ترجمة: أحمد علی قلیان وافشین خاکبار، ج 1 و 3، النّاشر: طرح نو، طهران 1380.

ص:292

کاظمی، علی أصغر، عولمة الثّقافة والسّیاسة، نشر قدس، طهران 1379.

کندی، بول، فی استقبال القرن الواحد والعشرین، العالم حتّی عام 2025، ترجمة: عبّاس مخبر، طهران 1372.

کیت نش، عالِم الاجتماع السّیاسیّ المعاصر، ترجمة: محمّد تقی دلفروز، نشر کویر، طهران 1382.

کینغ، الکساندر وبراتراند، شنایدر، الثّورة العالمیّة الأولی، ترجمة: شهیندخت خوارزمی، النّاشر: احیاء کتاب، طهران 1374.

غریفن، دیفید ری، الله والدّین فی عالم ما بعد الحداثة، ترجمة: حمید رضا آیة اللّهی، النّاشر: آفتاب توسعه، طهران 1381.

غینز، انتونی، إفرازات العصرنة، ترجمة: محسن ثلاثی، النّاشر: نشر مرکز، طهران 1377.

غینز، هوبرماس، جیمس اف بونن و... آخرین، العصرنة والعصرانیّون، ترجمة: حسین علی نوذری، نشر نقش جهان، طهران 1378.

مالکوم، ووترز، العولمة، ترجمة: إسماعیل مرانی کیوی، سازمان مدیریت صنعتی، طهران.

مجموعة مقالات، العولمة والدّین؛ الفرص والإشکالات، النّاشر: دین بژوهان، قم 1382.

محمدی، مجید، الدّین ضدّ الإیمان، انتشارات کویر، طهران 1378.

مرقاتی، سیّد طه، الإسلام الشّمولیّ والعولمة، مجموعة مقالات مؤتمر الوحدة الإسلامیّة السّادس عشر، مجمع تقریب مذاهب إسلامی، طهران 1382.

مطهّری، مرتضی، الإسلام ومقتضیات الزّمان، انتشارات قم 1368.

مکارم الشّیرازیّ، ناصر، حکومة المهدیّ العالمیّة، انتشارات هدف، قم.

نصر، سیّد حسن، الشّباب المسلم والعالم المتجدّد، طرح نو، طهران 1381.

نوذری، حسین علی، إعادة قراءة هوبرماس، نشر چشمه، طهران 1381.

هوبرماس، یورغن، العولمة ومستقبل الدّیمقراطیّة، ترجمة: کمال بولادی، نشر مرکز، طهران 1380.

هکسلی، الدّوس، عالم جدید مذهل، ترجمة: حشمت الله صباغی وحسین کامیار، انتشارات کارگاه هنر، طهران 1366.

هال، غیس و سام وب و مارشال و زیرغانوف، المراحل الأخیرة للعولمة، ترجمة: أحمد جواهریان أحمد زادة، نشر بژوهنده، طهران 1381.

هنتغتون، صاموئیل، صراع الحضارات، ترجمة: مجتبی أمیری، مجلّة اطلاعات سیاسی - اقتصادی، ع 69-70، 1372.

الموجة الثّالثة للدّیمقراطیّة، ترجمة: أحمد شهسا، الناشر، روزنه، طهران 1373.

هولد، دیفید و انتونی ماک غرو، العولمة و معارضوها، ترجمة: عرفان ثابتی، نشر ققنوس، طهران 1382.

ص:293

هاملتون، ملکوم، علم الاجتماع الدینیّ، ترجمة: محسن ثلاثی، الناشر: مؤسسة فرهنگی انتشاراتی تبیان، طهران 1370.

هودشتیان، عطا، العصرنة و عولمة إیران، الناشر: چاب بخش، طهران 1380.

هوور، ستیوارت ام و نات لاندبای، الإعلام، الدّین والثّقافة، ترجمة: مسعود آریایی نیا، تصحیح محمّد مظاهری، النّاشر: سروش، طهران 1382.

هیک، جان، البعد الخامس (بحث فی مجال الرّوحانیّ)، ترجمة: بهزاد سالکی، نشر قصیدهسرا، طهران 1382.

المجلّات

1. معلومات سیاسیّة واقتصادیّة، ع 147-148.

فکر الحوزة، ع 41-42، بیتر ا. هاف: نزاع الأصولیّة فی الحوار بین الأدیان، ترجمة علی خزاعی فر.

بحوث دینیّة، دوره 3، ع 2، آبان 1382 و ع 4 و 5، اسفند 1382.

رواق الفکر، ش 26.

فصلیّة ارغون، ع 24، صیف 83.

فصلیّة الحوار العالمیّ، الأدیان التّوحیدیّة فی عصر عولمة فالک.

فصلیّة مطالعات وطنیّة، السّنة الثّانیة، ع 5 و 6.

قبسات، ع 29، معهد بحوث الثّقافة والفکر الإسلامیّ.

مجلّة کتاب نقد، ع 24 و 25.

مجلّة السیّاسة الخارجیّة، ع 2، 3، 4 سنة 81.

رسالة العلوم الاجتماعیّة، ع 18، شتاء 80.

ملاحظة: جمیع ما ذکر من المصادر هو باللّغة الفارسیّة.

ص:294

الآیات

1. إنّ الدّین عند الله الإسلام، 264

تبارک الّذی نزّل الفرقان علی عبده لیکون للعالمین نذیرا، 266

تبیاناً لکلّ شیء، 263

ذرهم فی خوضهم یلعبون، 223

ذرهم یأکلوا و یتمتّعوا و یلههم الأمل فسوف یعلمون، 223

فأقم وجهک للدّین حنیفاً فطرة الله الّتی فطر النّاس علیها...، 199، 263

قل لا أسألکم علیه أجراً إن هو إلا ذکری للعالمین، 266

قل یا أهل الکتاب تعالوا إلی کلمة سواءٍ بیننا و بینکم ألّا نعبد إلّا الله، 261.

قل یا أیّها الناس إنّی رسول الله إلیکم جمیعا، 260، 263، 265

کونوا قوّامین بالقسط شهداء لله، 264

لا إکراه فی الدّین قد تبیّن الرشد من الغی، 262

لقد کان فی قصصهم عبرة، 257

لیظهره علی الدّین کلّه، 269

ما فرّطنا فی الکتاب من شیء، 263

و أرسلناک للنّاس رسولا،

و أوحی إلی هذا القرآن لأنذرکم به و من بلغ

و جعلناکم شعوباً و قبائل لتعارفوا إنّ أکرمکم عند الله أتقاکم،

وعد الله الّذین آمنوا و عملوا الصّالحات لیستخلفنّهم فی الأرض،

و لا تفسدوا فی الأرض بعد إصلاحها،

و لا یتّخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله،

ص:295

و لن یجعل الله للکافرین علی المؤمنین سبیلا،

و لو آمن أهل الکتاب لکان خیراً لهم،

و لو شاء ربّک لجعل الناس أمّة واحدةً و لا یزالون مختلفین،

و ما أرسلناک إلا رحمةً للعالمین،

و من یبتغ غیر الإسلام دیناً فلن یقبل منه و هو فی الآخرة من الخاسرین،

و من یرغب عن ملِّة إبراهیم إلّا من سفه نفسه،

قل هل یستوی الّذین یعلمون و الّذین لا یعلمون،

هو الّذی أرسل رسوله بالهدی و دین الحقّ...،

یریدون لیطفئوا نور الله بأفواههم و الله متمّ نوره و لو کره الکافرون،

یعلمون ظاهراً من الحیاة الدّنیا و هم عن الآخرة هم غافلون.

ص:296

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.