آرشیو دروس خارج فقه آیت الله شیخ هادی آل راضی33-32

اشارة

سرشناسه:آل راضی، هادی

عنوان و نام پدیدآور:آرشیو دروس خارج فقه آیت الله شیخ هادی آل راضی33-32/هادی آل راضی.

به همراه صوت دروس

منبع الکترونیکی : سایت مدرسه فقاهت

مشخصات نشر دیجیتالی:اصفهان:مرکز تحقیقات رایانه ای قائمیه اصفهان، 1396.

مشخصات ظاهری:نرم افزار تلفن همراه و رایانه

موضوع: خارج فقه

کتاب القضاء-تعریفه-الفرق بین القضاء وبین الفتوی بحث الفقه

القضاء هو فصل الخصومة بین المتخاصمین ، والحکم بثبوت دعوی المدّعی أو بعدم حق له علی المُدّعی علیه (1)

(1) کلٌّ من الأمرین أعنی الحکم بثبوت دعوی المدّعی والحکم بعدم ثبوت حق له علی المُدّعی علیه یُمثّل فصل الخصومة ، وینبغی التعرّض أوّلاً لبیان معنی القضاء فی اللغة والاصطلاح :

فالقضاء فی اللغة یُطلق علی معانٍ عدیدة أنهاها بعضهم إلی عشرة کما نقله الشیخ صاحب الجواهر (قده) (1) ولعل المقصود بهذا البعض صاحب مجمع البیان حیث ذکر المعانی التی یُستعمل فیها القضاء (2) وذکر معانی عدیدة أنهاها إلی عشرة وذکر مثالاً لکل واحد من هذه المعانی فمثلاً ذکر قوله تعالی : " وقضی ربک ألا تعبدوا إلا إیاه " (3) فقال إن القضاء هنا بمعنی الأمر والوصیة ، وذکر قوله تعالی : " وقضینا إلی بنی إسرائیل " (4) فقال إن القضاء هنا بمعنی الإعلام والإخبار ، وذکر قوله تعالی : " فإذا قضیتم مناسککم " (5) فقال إن القضاء هنا بمعنی الفراغ عن الشیء وإتمامه ، وذکر قوله تعالی : " فاقض ما أنت قاض " (6) فقال إنه هنا بمعنی الفعل ، وذکر قوله تعالی : " فلما قضی موسی الأجل " (7) وقال إنه بمعنی الإتمام أی أتمّ الأجل المضروب له ، وذکر قوله تعالی : " إن ربک

ص: 1


1- (1) قال فی الجواهر : " القضاء بالمد وقد یقصر الذی هو لغةً لمعانٍ کثیرة ربما أُنهیَتْ إلی عشرة : الحکم والعلم والإعلام - وعبّر عنه بعضهم بالإنهاء - والقول والحتم والأمر والخلق والفعل والإتمام والفراغ " جواهر الکلام مج40 ص7 .
2- (2) مجمع البیان ج1 ص193 .
3- (3) الإسراء / 23 .
4- (4) الإسراء / 4 .
5- (5) البقرة / 200 .
6- (6) طه / 72 .
7- (7) القصص / 29 .

یقضی بینهم بحُکمه " (1) فقال إن القضاء هنا بمعنی الحکم - أی یحکم بینهم بحکمه - ، وذکر قوله تعالی : " فقضاهن سبع سماوات " (2) فقال إن القضاء هنا بمعنی الجعل والخلق إلی آخر المعانی التی ذکرها ، ونُقل عن الأزهری إرجاع کل معانی القضاء إلی معنی واحد وهو الجامع بینها وهی مصادیق له وهذا المعنی هو عبارة عن إتمام الشیء والفراغ عنه ، وفی کشف اللثام نقلاً عن معجم مقاییس اللغة لابن فارس قال : " القاف والضاد والحرف المعتل أصل صحیح یدل علی إحکام أمر وإتقانه وإنفاذه " (3) .

وواضح أن المعنی الذی أُرجعَتْ إلیه المعانی علی الأول (4) یختلف عن المعنی الثانی (5) فإن إتمام العمل قد لا یکون مستلزماً لإحکامه وإتقانه ولعله یمکن الجمع بین هذین المعنیین ویقول بأن المعانی جمیعاً کلها ترجع إلی هذا المعنی الواحد وهو غیر بعید لأن هذه المعانی تتشابه فی مسألة الإتمام والإنفاذ .

والقضاء فی اصطلاح الفقهاء عُرّف بتعریفات عدیدة :

ففی المسالک والتنقیح وکشف اللثام وقیل بأنه المعروف والمشهور بینهم أنه عبارة عن : " ولایة الحکم شرعاً لمن له أهلیّة الفتوی بجزئیات القوانین الشرعیة علی أشخاص معینة من البریة بإثبات الحقوق واستیفائها للمستحق " (6) فهو عبارة إذاً عن الولایة علی أن یحکم بین الناس ویفصل الخصومة والنزاع بینهم .

ص: 2


1- (8) النمل / 78 .
2- (9) فصّلت / 12 .
3- (10) معجم مقاییس اللغة مج5 ص99 .
4- (11) وهو ما عن الأزهری من إتمام الشیء والفراغ عنه .
5- (12) وهو ما عن المقاییس من إحکام الأمر وإتقانه وإنفاذه .
6- (13) مسالک الأفهام مج13 ص325 ، وقریب منه ما عن کشف اللثام (ط . ج) مج10 ص5 .

وفی الدروس عرّفه بأنه : " ولایة شرعیة علی الحکم والمصالح العامة من قبل الإمام [علیه السلام] " (1) وبذلک أدخل مثل الحکم بالهلال فإنه لیس ولایة علی الحکم الذی تُفصل به الخصومة ویُحلّ به النزاع وإنما هو حکم یرتبط بالمصالح العامة فأدرجه فی القضاء .

وفی المتن (2) عرّفه بأنه : " فصل الخصومة بین المتخاصمین والحکم بثبوت دعوی المدّعی أو بعدم حق له علی المُدّعی علیه " ولم یُعرّفه بأنه ولایة علی الحکم وعلی فصل الخصومة وإنا هو عبارة عن نفس فصل الخصومة .

والظاهر أن ما فی المتن مأخوذ من صاحب العروة حیث ذکره فی ملحقاتها فقد عرّفه بأنه : " الحکم بین الناس عند التنازع والتشاجر ورفع الخصومة وفصل الأمر بینهم " (3) .

ویلاحظ علی مجموع هذه التعریفات التی هی التعریفات المعروفة :

أولاً : أن تعریف الشهید (قده) فی الدروس أعمّ من التعریف الأول - الذی قیل أنه هو المعروف والمشهور - باعتبار عدم اختصاصه بفصل الخصومة إثبات الحقوق واستیفائها بل یشمل مثل الحکم بالهلال - کما ذکرنا - الذی هو من المصالح العامة فکل ذلک یدخل فی باب القضاء والذی یحکم به هو القاضی ، وهذا التعمیم من قبل الشهید الثانی لعله ناشئ من تولّی القضاة فی تلک الأزمنة لهذه المهمة أعنی الحکم بثبوت الهلال التی یتوقف علیها کثیر من الأمور الشرعیة کالصوم والعیدین والحج حیث مسّت الحاجة إلی وجود موقف واحد للدولة فی هذه المسألة منعاً للاختلاف أُوکِ_ل هذا الأم_ر إلی القاضی إلا أن هذا لا یعنی بالض_رورة أن_ه من صل_ب مَهامّ_ه وأن_ه یدخل فی باب

ص: 3


1- (14) فی المصدر (الدروس مج2 ص65) بحرف الجر (فی) أی : فی المصالح العامة_ - ولکن الأستاذ (دامت برکاته) نقله بالواو العاطفة وکذا وجدته بالواو عن الجواهر وکتاب القضاء للشیخ الأنصاری نقلاً عن الدروس ولعله من نسخة ثانیة .
2- (15) مبانی تکملة المنهاج للسید الخوئی (قده) کتاب القضاء مج1 ص3 .
3- (16) العروة الوثقی مج6 ص413 .

القضاء فإنه من الواضح أن الحکم بثبوت الهلال لیس من شؤون القاضی بما ه_و قاضٍ وإنما هو من شؤون الحاکم والوالی حیث یُنظّم أمور المسلمین ویرعی المصالح العامة بل حتی لو فرضنا أنه کان منصباً للقاضی بحیث لم یکن له من عمل آخر غیره فالظاهر أن صدق المبدأ أعنی القضاء لیس باعتبار حکمه بالهلال ولذا لا یکون هذا الأمر أعنی الحکم بثبوت الهلال - لازماً بمجرد نصب القاضی وإنما یحتاج إلی تنصیص .

وثانیاً : إن الولایة قد أُخذت فی التعریفین الأول والثانی دون الثالث والرابع وتعریف القضاء بأنه الولایة علی الحکم فی قبال تعریفه بأنه فصل الخصومة قد یلاحظ علیه بأن القضاء حین تعریفه بکونه ولایة یکون حینئذ منصباً من المناصب من قبیل الولایة علی المسلمین - مثلاً - والقضاء لا یکون منصباً إلا بعد التعیین والنصب وأما بقطع النظر عن ذلک فلا یکون القضاء منصباً فإن القضاء إنما هو عبارة عن فصل الخصومة بین الناس وحلّ المنازعات بینهم ، وبعبارة أخری مضافاً إلی ما تقدّم من أنه لو أُخذ فی مفهومه الولایة یکون حاله حال المناصب الأخری کالوزارة والرئاسة أن القضاء یکون حینئذ من المصادر التی تُستعمل فی الشأنیة التی لا تتوقف علی ممارسة العمل الخارجی (1) لا فی المصادر التی تُستعمل فی نفس الحدث والمبدأ بخلاف ما لو قلنا بأنه فصل الخصومات فإنه یکون حینئذ المبدأ الذی علی أساسه حصل الاشتقاق هو نفس الحدث والممارسة والفعل وأما قبل ذلک فلا یقال له قاضٍ بل لا یصدق القضاء أصلاً ، وکون المبدأ بالشأن والمنصب فی قبال أن یکون بالاشتقاق الذی هو عبارة عن الحدث والفعل والممارسة وإن کان أمراً متعارفاً بالنسبة إلی المشتق أعنی القاضی فیقال (فلان قاضٍ) بمجرد تعیینه وإن لم یکن یمارس فصل الخصومة فعلاً ولکن بالنسبة إلی القضاء لیس هو أمراً متعارفاً - والمقام مقام تعریف القضاء لا القاضی فإن القضاء حیث یُطلق یُفهم منه الحدث والممارسة الخارجیة التی هی فصل الخصومة والنزاع کما سیأتی فی المسألة الأولی من أن القضاء یجب کفایة فإن المقصود به الفعل الخارج_ی أعن_ی ح_لّ الخصوم_ات ورف_ع النزاع_ات فإط_لاق القض_اء وإرادة الولای_ة التی منص_ب م_ن

ص: 4


1- (17) فإن الوزیر - مثلاً یکون وزیراً بمجرد النصب والتعین ولو لم یمارس مهام عمله فعلاً .

المناصب - حیث یتحقق معناها بمجرد النصب والتعیین ولا یتوقف علی ممارسة الفعل خارجاً -إطلاق بعید وهو خلاف الظاهر ، نعم .. القاضی یتوجّه فیه ذلک دون القضاء .

ومن هنا یظهر ضعف ما قد یُستدلّ به علی أخذ الولایة فی تعریف القضاء بصدق عنوان القاضی بمجرّد النصب والتعیین ولو لم یتلبّس بالفعل خارجاً للفرق الواضح بین القضاء - مصدراً - وبین القاضی فإنه مسلّم فیه دون القضاء فإنه وإن لم یمتنع فیه ذلک إلا أنه لم یتعارف إطلاقه وإرادة المنصب منه وإنما هو فی الإطلاقات المتعارفة فی الکتب الفقهیة وغیرها عبارة عن الحدث والممارسة المعبّر عنها بفصل الخصومة وحلّ النزاع .

نعم .. یمکن أن یقال إنه لا ضیر فی أن یُلحظ القضاء بلحاظین فتارة یُلحظ باعتباره منصباً من المناصب وأخری یُلحظ باعتباره فعلاً خاصّاً یصدر من شخص خاص یُسمّی بالقاضی فعلی الأول لا بدّ من أخذ الولایة فی تعریفه وعلی الثانی لا یکون ثمة وجهٌ لأخذها فیه .

ولکن الأقرب هو التعریف الثانی والثالث أعنی فصل الخصومة مع ما ذُکر له من لواحق فیهما ولعل القرینة المؤیدة علی ذلک هو إدراج قاضی التحکیم فی باب القضاء مع وضوح أنه لیس منصباً من المناصب فلو کان القضاء هو الولایة لم یکن ثمة وجه لإدراجه فیه مضافاً إلی أنهم ذکروا بعدما عرّفوا القضاء أنه یحتاج إلی تولیة وتعیین ونصب وأن من بیده ذلک هو الإمام (علیه السلام) أو نائبه فلو کانت الولایة مأخوذة فی مفهومه لم یکن ثمة داعٍ لما ذُکر لکونه مفروضاً فیه حینئذ فهذه القرینة تناسب تعریف القضاء بالتعریف الثالث والرابع وإن کان یمکن علی أیة حال توجیهها أیضاً علی التعریفین الأول والثانی - .

ص: 5

هذا .. ولا بدّ من الالتفات إلی أن مسألة الخصومة والتنازع المأخوذین فی تعریف القضاء لا بدّ من أن یکون المقصود به هو الشأنیة والاقتضاء لا الفعلیة لوضوح أن بعض الدعاوی لیس فیها خصومة وتنازع فعلی کما إذا فرضنا أن المُدعی علیه أقرّ بما یدّعیه المدعی ولکنه کان یُماطل فی إیفائه حقّه فلا وجه حینئذ لتقیید التعریف بالخصومة الفعلیة بحیث تختصّ بما إذا کان هناک تشاجر واقعی قائم بین شخصین .

هذا ما یمکن ذکره باختصار لتعریف القضاء فی اللغة والاصطلاح .

والفرق بینه وبین الفتوی أن الفتوی عبارة عن بیان الأحکام الکلیة من دون نظر إلی تطبیقها علی مواردها وهی - أی الفتوی - لا تکون حجة إلا علی من یجب علیه تقلید المفتی بها ، والعبرة فی التطبیق إنما هی بنظره دون نظر المفتی ، وأما القضاء فهو الحکم بالقضایا الشخصیة التی هی مورد الترافع والتشاجر فیحکم القاضی بأن المال الفلانی لزید أو أن المرأة الفلانیة زوجة فلان وما شاکل ذلک ، وهو نافذ علی کل أحد إذا کان أحد المتخاصمین أو کلاهما مجتهداً (1) نعم قد یکون منشأ الترافع الاختلاف فی الفتوی کما إذا تنازع الورثة فی الأراضی فادّعت الزوجة ذات الولد الإرث منها وادّعی الباقی حرمانها فتحاکما لدی القاضی فإن حکمه یکون نافذاً علیهما وإن کان مخالفا لفتوی من یرجع إلیه المحکوم علیه (/)

(1) تعرّض (قده) هنا إلی الفرق بین القاضی والفقیه - بعد توافقهما فی شرطیة الاجتهاد فی کل منهما کما سیأتی منه (قده) فی لزوم أن یکون القاضی کالفقیه مجتهداً وخلاصة ما یُفهم من کلامه (قده) أن الفرق بینهما من جهتین :

ص: 6

الأولی : أن القضاء هو الحکم بقضایا جزئیة شخصیة وقعت مورداً للنزاع والتخاصم ومستند القاضی فی فصل الخصومة فیها هو القواعد المقرّرة فی باب القضاء ومنها کما سیأتی علمه بالواقع ، وأما الفتوی فهی عبارة عن بیان الأحکام الإلهیة الکلیة او وبعبارة أخری الإخبار عن الأحکام الشرعیة الکلیة من غیر نظر إلی تطبیقاتها الخارجیة التی یکون تشخیصها بعهدة المکلّف ومستند الفقیه فی الفتوی هو الأدلة المعروفة .

الثانیة : أن حکم القاضی یکون نافذاً فی حقّ الجمیع حتی فی حقّ المتخاصمین إذا کانا مجتهدَین أو کان أحدهما کذلک فی حین أن فتوی المجتهد إنما تنفذ فی دائرة ضیّقة وهی خصوص الأفراد الذین یلزم علیهم تقلیده .

کتاب القضاء-تکملة-المسألة 1 القضاء واجب کفائی-أدلة وجوب القضاء بحث الفقه

ثم إنه لا إشکال عندنا فی أن القضاء من مناصب النبی (صلی الله علیه وآله) والإمام (علیه السلام) وأوصیائه فهؤلاء هم أصحاب الولایة العامة والقضاء یُعدّ فرعاً من هذه الولایة العامة ولا یشرع القضاء إلا لمن أذنوا له فی ذلک إما إذناً عاماً أو خاصاً وبدونه لا یکون القضاء جائزاً ومشروعاً ، وهذا المعنی مما لا إشکال ولا خلاف فیه بیننا وقد دلّت علیه الروایات المستفیضة :

منها : مقبولة عمر بن حنظلة : " قال : سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن رجلین من أصحابنا بینهما منازعة فی دین أو میراث فتحاکما إلی السلطان أو إلی القضاة أیحلّ ذلک ؟ فقال : من تحاکم إلیهم فی حق أو باطل فإنما تحاکم إلی طاغوت وما یحکم له فإنما یأخذ سُحتاً وإن کان حقّه ثابتاً لأنه أخذه بحکم الطاغوت وقد أمر الله أن یُکفَر به قال الله تعالی : (یریدون أن یتحاکموا إلی الطاغوت وقد أُمروا أن یکفروا به) .. إلخ " (1) .

ص: 7


1- (1) الوسائل مج27 ص13 ، وفی الکافی (مج1 ص67) والتهذیب (مج6 ص301) بلفظ : فإنما تحاکم إلی الطاغوت .

ومنها : روایة إسحاق بن عمار عن أبی عبد الله (علیه السلام) : " قال : قال أمیر المؤمنین (علیه السلام) لشریح : یا شریح قد جلست مجلساً لا یجلسه إلا نبی أو وصی نبی أو شقی " (1) .

ومنها : روایة سلیمان بن خالد عن أبی عبد الله (علیه السلام) قال : اتّقوا الحکومة (2) فإن الحکومة إنما هی للإمام العالم بالقضاء العادل فی المسلمین لنبی أو وصی نبی " (3) .

وهذه الروایات فیها ما هو صحیح سنداً کالمقبولة بناءً علی ما تقدّم فی بحث سابق (4) من أنها صحیحة سنداً - ، وکذلک روایة سلیمان بن خالد فإنها تامة سنداً ولکن لا بسند الشیخ الکلینی فی الکافی الذی ینقل عنه الشیخ صاحب الوسائل لوجود سهل بن زیاد فیه وإنما بطریق الصدوق فإنه رواها فی الفقیه بإسناده عن سلیمان بن خالد وسندُه إلیه کما فی المشیخة صحیح فتکون الروایة صحیحة بطریق الشیخ الصدوق .

إلی غیر ذلک من الروایات التی یُفهم منها أن القضاء من المناصب الخاصة التی هی من فروع الولایة العامة التی لا یجوز لکل أحد ممارستها بدون إذن من النبی أو الوصی ولذا نصّ فقهاؤنا علی أنه لیس لأهل بلد أن یرتضوا قاضیاً وینصبوه لأن القضاء کما ذکرنا - من المناصب التی لا تثبت إلا بالنصّ والتعیین من قبل من له الحق فی ذلک وهو النبی أو الوصی کما هو مدلول تلک الروایات ، نعم .. یبقی شیء وهو أن قاضی التحکیم لیس کذلک فإنه یُشرع له القضاء من غیر نصب فیقع السؤال أنه کیف یُشرع له القضاء مع عدم نصبه من قبل النبی أو الإمام (علیه السلام) أو نائبهما ؟ وسیأتی الکلام حوله مفصّلاً إن شاء الله تعالی عند تعرّض السید الماتن له .

ص: 8


1- (2) الکافی مج7 ص406 .
2- (3) أی القضاء .
3- (4) الکافی مج7 ص406 ، وفی الفقیه (مج3 ص5) بلفظ : کنبی .
4- (5) یُلاحظ بحث الخمس لسماحة شیخنا الأستاذ (دامت برکاته) .

وقد یُعترض علی ما تقدّم بأن الحکومة هی للإمام (علیه السلام) خاصة کما صرّحت بذلک روایة سلیمان بن خالد مع أن ثبوت الحکومة لغیره من الضروریات والواضحات فإنه یمکن بلا إشکال لغیر الإمام (علیه السلام) وهو المجتهد الجامع للشرائط ممارسة القضاء وهو مشروع له وصحیح منه فقد یُتساءل بدواً أنه کیف یمکن الجمع بین ما نعلمه قطعاً من جواز القضاء ومشروعیته لغیر الإمام (علیه السلام) وبین هذه الروایات التی تنصّ علی أن القضاء لا یکون إلا لنبی أو وصی نبی .

ولا یخفی جوابه فإن المجتهد لم یثبت له القضاء فی عرض النبی والوصی وإنما هو بإذن منهما لأن الإمام (علیه السلام) هو الذی نصب الفقیه الجامع للشرائط بشخصه أو بعنوانه کما تشهد بذلک روایة أبی خدیجة حیث قال (علیه السلام) : " اجعلوا بینکم رجلاً ممن قد عرف حلالنا وحرامنا فانی قد جعلته قاضیاً " (1) وعلی هذا فلا یُشکّل الاعتراض المزبور نقضاً علی مضمون الروایات المتقدمة .

وقد یقال : نسلّم أنه قد ثبت أن القضاء من المناصب الخاصة وهو لا یثبت إلا لمن أذن له الإمام (علیه السلام) ولکن ما الدلیل علی أنه (علیه السلام) قد أذن لشخص أو أشخاص معیّنین بالقضاء ؟

فیقال : إنه لا إشکال ولا خلاف بیننا أیضاً فی أن الإمام (علیه السلام) قد أذن للفقیه الجامع للشرائط ف_ی تولّ_ی القض_اء وی_دلّ عل_ی نص_ب الفقی_ه قاضی_اً من قِبَل_ه (علی_ه الس_لام) مقبول_ة عم_ر ب_ن حنظل_____________ة

ومعتبرة أبی خدیجة (2) فقد ورد عقیبَ ما ذکرناه من المقبولة قولُه (علیه السلام) : " فإنی قد جعلته علیکم حاکماً " (3) ، والروایة وإن لم تُصرّح بالفقیه إلا أنها ذکرت صفاتٍ لمن جعله (علیه السلام) حاکماً لو نوزع فی اختصاص هذه الصفات بالفقیه فلا یمکن المنازعة فی أن القدر المتیقّن منها هو ذلک فعلیه یکون الفقیه منصوباً قطعاً من قبل الإمام (علیه السلام) بمقتضی هذه الروایة ، وکذا ورد فی المعتبرة : " إیاکم أن یحاکم بعضکم بعضاً إلی أهل الجور ولکن انظروا إلی رجل منکم یعلم شیئاً من قضائنا فاجعلوه بینکم فإنی قد جعلته قاضیاً فتحاکموا إلیه " (4) فإن هذه الروایة صریحة فی نصب من یعرف شیئاً من قضائهم أو قضایاهم حاکماً وقاضیاً ویأتی هاهنا ما تقدّم من کون القدر المتیقّن منها هو الفقیه .

ص: 9


1- (6) التهذیب مج6 ص303 .
2- (7) وهاتان الروایتان قد تقدّم الحدیث عنهما سنداً ومتناً وأنه لا بأس بهما ، لاحظ بحث ولایة الفقیه فی مبحث الخمس لسماحة شیخنا الأستاذ (دامت برکاته) حیث ذُکر هذا البحث استطراداً فیه .
3- (8) تمامه : " قلت : فکیف یصنعان ؟ قال : ینظران [ إلی ] من کان منکم ممن قد روی حدیثنا ونظر فی حلالنا وحرامنا وعرف أحکامنا فلیرضوا به حکماً فإنی قد جعلته علیکم حاکماً " والمقصود بالحکومة هو القضاء ، وقد تقدم تخریج الحدیث .
4- (9) الکافی مج7 ص412 ، وفی الفقیه (مج3 ص3) بلفظ : قضایانا .

نعم .. هنا کلام سیأتی مفصّلاً فی أن القضاء هل یثبت لغیر المجتهد - الذی هو القدر المتیقّن من مورد الإذن - وهل یکون مشروعاً له ، وبعبارة أخری هل أن الاجتهاد شرط فی القضاء أو لیس شرطاً ؟ سیأتی التعرّض له قریباً وسیتبیّن أن فی قبال المشهور رأیاً بعدم الاشتراط .

هذا .. ویدلّ علی مشروعیة القضاء للفقیه وأنه القدر المتیقّن منها مع قطع النظر عمّا تقدّم - ما ذُکر فی کلماتهم من أن القضاء - الذی هو بمعنی نفوذ حکم شخص علی غیره علی خلاف الأصل إذ الأصل عدم ثبوت الولایة لأحد علی أحد فإذا کان الأمر کذلک والدلیل دلّ علی وجوب القضاء فحینئذ ینبغی الاقتصار فی هذا الدلیل علی القدر المتیقّن ولا إشکال فی أن القدر المتیقّن من ذلک هو الفقیه فالفقیه هو الذی یجب علیه القضاء وهو الذی یُشرع له وما عداه یبقی علی مقتضی الأصل القاضی بعدم نفوذ حکم شخص بحقّ شخص آخر .

نعم .. قد یُناقش فی دلالة الروایتین السابقتین (1) بإنکار کون الجعل فیهما حکماً عامّاً ساریاً فی جمیع الأزمنة کما هو الحال بالنسبة إلی الأحکام الشرعیة الواقعیة الأخری وإنما هو جعلٌ من باب إعمال الولایة من قبل الإمام ومن الواضح أن الأحکام الولائیة موقّتة تنتهی بانتهاء حیاة جاعلها فبعد موت الإمام الذی صدر منه هذا النصب فإن مقتضی القاعدة أن لا یکون هناک نصب فلا دلیل حینئذ علی نصب الفقیه قاضیاً فی هذه الأزمنة .

ویمکن دفعه بالخدشة فی کون النصب فی الروایتین من باب إعمال الولایة وإنما هو إخبار عن حکم إلهی شرعی فیکون وزانه وزان سائر الروایات التی تخبر عن أحکام شرعیة واقعیة فمدلول الروایتین هو إخبار عن أن من کان واجداً للصفات المذکورة فیهما فله أهلیة القضاء وهذا حکم شرعی واقعی لا مبرّر لتقییده بزمان الإمام الذی صدر منه هذا النصب وعلی ذلک فیمکن الاستدلال بالروایتین فی محلّ الکلام .

ص: 10


1- (10) یعنی مقبولة ابن حنظلة ومعتبرة أبی خدیجة .

ولکن یمکن التأمل فی هذا الدفع بأنه علی خلاف الظاهر فإن قول الإمام (علیه السلام) : " فإنی قد جعلته قاضیاً " یأبی الحمل علی کونه فی مقام الإخبار عن حکم شرعی واقعی بل الظاهر أنه (علیه السلام) فی مقام إعمال الولایة حیث رأی أن المصلحة تقتضی جَعْلَ من عرف حلالهم وحرامهم قاضیاً فالروایة لیست ظاهرة کما یُدّعی فی أنه حکم شرعی واقعی کسائر الأحکام الشرعیة الواقعیة فلا یکون محدوداً وموقّتاً وإنما هی ظاهرة فی کون ذلک الجعل من باب إعمال الولایة .

ولکن یمکن أن یقال فی مقام دفع الإشکال المذکور بأن الأحکام الولائیة وإن کانت تختلف بلا إشکال عن الأحکام الواقعیة إلا أنها تشترک معها فی قضیة الدوام والاستمرار إلی أن یأتی ما یرفعها ، والرافع للحکم الواقعی هو النسخ الإلهی الذی یُخبر به الإمام (علیه السلام) وأما الحکم الولائی فهو کالحکم الواقعی إذا وجد فمن شأنه البقاء والاستمرار إلا أن الذی یرفعه هو الإمام اللاحق وذلک عندما تتغیّر المصالح التی اقتضت جعله من قبل الإمام السابق ویکون الحکم الجدید من باب إعمال الولایة أیضاً، وأما إذا فرض عدم صدور الرافع من قبل الإمام اللاحق فلا ضیر فی أن نقول بأن ذلک الحکم

(مسألة 1) : القضاء واجب کفائی (1)

الولائی الذی ثبت بإعمال الولایة من قِبَل الإمام السابق یبقی مستمراً باستمرار الزمان فلیس التوقیت إذاً مأخوذاً فی الحکم الولائی بل هو حکم ثابت طبق المصالح التی یُدرکها الإمام (علیه السلام) ولا یرتفع إلا بحکم آخر من قبله أو من قبل الإمام اللاحق ومع فرض عدم الرافع فإنه یکون حینئذ باقیاً ومستمراً حتی بعد انتهاء حیاة الإمام الجاعل له ، ومن المعلوم عدم ثبوت الرافع فی مدلول الروایات الواردة فی هذا الباب .

ص: 11

ومما یمکن أن یُذکر مؤیداً لما تقدّم أن النصب لم یکن نصباً شخصیاً بل کان نصباً للعنوان العام أعنی من عرف أحکامهم وعرف حلالهم وحرامهم فیساعد هذا علی الفهم المذکور من کون الحکم الولائی کالواقعی حکماً مستمراً وباقیاً .

وکذا یمکن أن یُذکر مؤیداً أیضاً أن هذا النصب حتی لو فرض کونه نصباً شخصیاً فلا نجد فی ارتکاز المتشرعة أنهم بعد موت الإمام الذی صدر منه هذا النصب یسارعون إلی الإمام اللاحق ویطلبون منه تجدیده کما هو مقتضی ما ذُکر من کون الأحکام الولائیة محدودة وموقّتة بحیاة من أعمل الولایة بل المرتکز لدیهم أن من عیّنه الإمام قاضیاً فی بلدة مّا فإنه یبقی فیها قاضیاً ولا ینعزل بمجرد موت الإمام الذی عیّنه لیحتاج فی بقائه إلی إقرارٍ من الإمام اللاحق .

هذا ما یمکن ذکره مختصراً بما یرتبط بالمقدمة التی ذکرها السید الماتن (قده) (1) .

(1) لا خلاف عند فقهائنا علی ما هو مذکور فی کتبهم الاستدلالیة فی وجوب القضاء واستُدل له بوجوه عمدتها وجهان :

الأول : دعوی توقّف حفظ النظام علی القضاء مع القطع بأن الشارع المقدّس لا یرضی بالإخلال بالنظام فإن إحقاق الحقوق ومنع المظالم الذی هو من جملة ما یتوقف علیه حفظ النظام لا یتأتّی إلا بنصب القضاة الذین یتولّون ذلک .

الثانی : التمسّک بعموم ما دلّ علی الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر .

ص: 12


1- (11) نبّه الأستاذ (دامت برکاته) إلی أن طریقته فی هذا البحث هی الترکیز علی المسائل المهمّة وأما المسائل التی لیس لها تلک الأهمیة فسیتطرّق إلیها باقتضاب .

ونوقش فی الأول بإنکار دعوی توقّف حفظ النظام علی القضاء وذلک لإمکان حفظ النظام وإحقاق الحقوق ومنع المظالم بطریق آخر غیر القضاء ، وما یضیع بهذا الطریق من الحقوق لا یزید علی ما یضیع بالطریق الأول (1) فإن من الواضح أن القضاء لا یکون مصیباً دائماً فقد یُخطئ الواقع فتضیع به بعض الحقوق .

أقول : من المحتمل أن المقصود بالطریق الآخر فی کلام المستشکل هو القضاء غیر الشرعی وهو ما یصدر من قبل القضاة الذین ینصبهم السلطان الجائر فإنه لا ریب فی دعوی المستشکل من أن النظام یُحفظ بتلک القوانین الوضعیة التی تنظّم للناس شؤون حیاتهم فإنه یحصل بها إحقاق الحقوق ومنع المظالم ، نعم .. قد یفوت مقدار من الحقوق ولا یُمنع مقدار من المظالم ولکن ما یفوت من ذلک بهذا الطریق لا یزید علی ما یفوت بالقضاء الشرعی .

فالنتیجة أن حفظ النظام لا یتوقّف علی القضاء وبالتالی لا یمکن إثبات وجوبه باعتباره مقدمة لحفظ النظام .

هذا .. ومن الواضح أن هذا الإشکال بهذا التقریب یتضمّن فی حقیقته الاعتراف بتوقّف حفظ النظام علی القضاء غایة الأمر أنه لا یری انحصار التوقّف بالقضاء الشرعی بل علی الأعمّ منه ومن القضاء الوضعی وعلیه فیمکن إثبات الوجوب للقضاء بهذا الاعتبار .

نعم .. لا یثبت بهذا الدلیل وجوب القضاء الشرعی فی حالة وجود قضاة منصوبین من قبل السلطان الجائر وذلک لوضوح ثبوت حفظ النظام بهم فی ما لو سلّمنا مضمون الإشکال المتقدّم .

فالنتیجة أن الدلیل المتقدّم یُثبت لنا وجوب القضاء الصحیح فی الجملة لا مطلقاً .

ص: 13


1- (12) یعنی القضاء .

کتاب القضاء-بقیة أدلة وجوب القضاء-المسألة 2-جواز الاجرة علی القضاء بحث الفقه

کان الکلام فی وجوب القضاء کفایة وقلنا إنه استدلّ علیه بدلیلین کان الأول منهما هو توقّف حفظ النظام علی القضاء وقلنا إن هذا الدلیل أُشکل علیه بأن حفظ النظام لا یتوقف علی القضاء الصحیح لإمکان حفظ النظام بطریق آخر غیر القضاء والظاهر أن مقصوده هو القضاء غیر الشرعی وحینئذ لا یمکن إثبات وجوب القضاء الصحیح الذی هو محلّ الکلام باعتباره مقدمة لحفظ النظام .

وهذا الإشکال یمکن الجواب عنه بأن حفظ النظام الذی یریده الشارع والذی نعلم ونقطع أنه لا یرضی بتفویته ولا یجوّز الإخلال به لیس هو حفظ النظام کیفما اتّفق وإنما هو حفظ النظام بطریقة خاصة وهی الطریقة التی یرتضیها الشارع والتی هی بحسب تقدیراته تُحفظ بها حقوق الناس وتُمنع بها المظالم بینهم ، نعم .. قد یُحفظ النظام بقضاة تنصبهم الحکومات الجائرة إلا أن الشارع لا یرید هذا النوع من الحفظ الحاصل بهذا الطریق وإنما یرید حفظ النظام بطریقة خاصة وهی تتحقّق بنصب القضاة العدول الواجدین للشرائط المقررة شرعاً ولا إشکال بأن حفظ النظام بهذا المعنی یتوقّف علی القضاء الصحیح .

ویؤیّد هذا الفهم هو أن الشارع نهی عن التحاکم إلی الطاغوت بالآیات الیبّنة والروایات الصریحة فی ذلک ومن الواضح أن هذا النهی عن التحاکم إلی الطاغوت قد أُنشئ وجُعل منظوراً به الحکومات غیر الشرعیة .. إذاً فهناک سلطان جائر وحکومات غیر شرعیة قد عیّنت قضاة لیسوا واجدین للشرائط فالشارع فی ظلّ مثل هذا الظرف نهی عن الرجوع إلی الطاغوت وأمر بالرجوع إلی القضاة العدول الذین نصبهم الأئمة (علیهم السلام) وهذا یکشف فی الحقیقة عن أن حفظ النظام الذی یتحقّق بالقضاء غیر الشرعی لا یرضی به الشارع ولا یکتفی به وعلی ذلک یکون حفظ النظام بهذا الطریق الخاص هو الواجب ولا شکّ أنه یتوقف علی جملة من الأمور منها القضاء الصحیح .. وبهذا یمکن تتمیم الدلیل بأن نقول : إن حفظ النظام الواجب الذی لا یرضی الشارع بتفویته یتوقف علی القضاء بالمعنی المبحوث عنه وهو القضاء الصحیح .

ص: 14

وأما بالنسبة إلی الدلیل الثانی وهو التمسّک بعمومات ما دلّ علی الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر والظاهر أن المقصود بذلک هو دعوی توقف عدم المنکر وسدّ باب المعاصی والظلامات علی القضاء وحیث إن تلک أمور لازمة وواجبة فیکون القضاء الذی هو مقدمة لها واجباً .

وأورد علی هذا الدلیل أیضاً بأن المتخاصمین فی الدعوی کلّ منهما یعتقد أن الحقّ إلی جانبه ولا یثبت کون هذا المدّعی منکراً وظلماً إلا بعد القضاء وحینئذ لا معنی لأن نستدل علی وجوب القضاء بأدلة النهی عن المنکر بدعوی توقف عدم المنکر والردع عنه علی القضاء وذلک لعدم تحقق موضوعه قبل القضاء فإن موضوع أدلة النهی عن المنکر إنما تتحقق بعد القضاء وأما قبل ذلک فلا یتحقق موضوعها حتی نتمسّک بها لإثبات وجوب القضاء .

وبعبارة أخری لتوضیح هذا الإشکال نقول إن وجوب القضاء من باب النهی عن المنکر لا یکون إلا إذا تحقق موضوع النهی وهو المنکر قبل الحکم والقضاء فحینئذ یقال إن هذا منکر والردع عنه واجب وهو یتوقف علی القضاء فیکون القضاء واجباً .. ولکن کون الشیء منکراً وظلماً لا یُعرف إلا بواسطة القضاء فإذاً موضوع الأدلة غیر متحقق قبل القضاء فلا معنی إذاً للاستدلال بها فی المقام .

وجوابه أن هذا التفسیر للدلیل یظهر أنه لیس هو المقصود فیمکن تفسیره بنحو یسلم عن هذا الإیراد وهو بأن یقال إن المنظور بهذا الدلیل قضیة وجدانیة عامة وهی أنه من الواضح أن المجتمع الذی لا یوجد فیه قضاة ومحاکم یکون الظلم والمنکر والتجاوز منتشراً فیه بنسبة أعلی من المجمع الذی یوجد فیه ذلک فالدلیل إذاً یشیر إلی هذه القضیة الوجدانیة التی تُبرز أن الظلمة والغاصبین والمتجاوزین والمعتدین لا یردعهم عن تجاوزهم وظلمهم - ولو فی الجملة - إلا إقامة القضاء فلیس المقصود إذاً النظر إلی قضیة شخصیة حتی یقال إنه لا یمکن تشخیص المنکر فی هذه الواقعة الشخصیة إلا بعد القضاء والحکم فکیف نحکم بوجوب القضاء من باب النهی عن المنکر قبل تحقق القضاء والحکم .

ص: 15

هذا .. وقد استشکل فی المقام فی منح القضاء صفة الوجوب ودعوی أن القضاء واجب من جهة أن القضاء منصب من المناصب بناءً علی ما تقدّم من تعریفه بالولایة فذکر الشیخ صاحب الجواهر (قده) أنه لا معنی لتعلّق الوجوب بالمنصب بل الوجوب إنما یتعلّق بأفعال المکلّفین فوَسْم القضاء بالوجوب لا یخلو عن تسامح ولذا ذهب إلی أن مقصود الفقهاء بکون القضاء واجباً - مع بنائه علی کون المراد به الولایة والمنصب - هو السعی لتحصیل ولایة القضاء فیکون حاله حال غسل المیت أو الصلاة علیه حیث إنهما واجبان کفائیان بلا إشکال لکن لمّا کان کلّ منهما مشروط بالإذن من الولی فبطبیعة الحال یکون هناک وجوب لتحصیل الإذن منه علی نحو الکفایة ، والقضاء من هذا القبیل فإنه لمّا کان یتوقف علی إذن الإمام (علیه السلام) فالمقصود بوجوب القضاء إذاً هو السعی لتحصیل الشرط الذی یتوقف علیه هذا المنصب .

هذا .. ومن الواضح أن الإشکال المتقدّم وهذا التوجیه ناشئ من البناء علی تفسیر القضاء بکونه منصباً وولایة ، وأما إذا قلنا إن القضاء عبارة عن نفس الفعل وهو فصل الخصومة فحینئذ لا محذور إطلاقاً فی أن یتعلّق به الوجوب فیکون هذا هو الواجب کفایة .. وقد تقدّم أن الأقرب والأنسب بالمقصود من القضاء هو هذا المعنی والأدلة المتقدمة تشیر إلی ذلک فإن حفظ النظام یتوقّف علی ممارسة فصل الخصومات خارجاً وهکذا الردع عن المنکر والمنع من الظلم وأمثال ذلک بل حتی الأدلة الأخری فی المقام التی نشیر إلیها الآن کبعض الروایات التی استُدل بها علی وجوب القضاء کمرسل ابن أبی عمیر عن جماعة من أصحابنا عن أبی عبد الله ( علیه السلام ) : " قال : ما قُدِّست أمةٌ لم یُؤخَذ لضعیفها من قویّها بحقه غیر متعتع " (1) وکالنبوی المروی من طرق العامة : " إن الله لا یُقدّس أمة لیس فیهم من یأخذ للضعیف حقّه من القوی " (2) فإن التعبیر ب_(یؤخذ) و(یأخذ) یشیر إلی ممارسة الفعل وهو فی محل الکلام فصل الخصومة فالأدلة إذاً تساعد علی أن المقصود بالقضاء هو هذا المعنی فلا مشکلة فی اتّصاف القضاء حینئذ بالوجوب .

ص: 16


1- (1) الکافی مج5 ص56 ، وقوله (غیر متعتع) یعنی : من غیر أن یصیبه أذی یقلقله ویزعجه (مجمع البحرین مج1 ص292) .
2- (2) عوالی اللئالی مج3 ص515 .

(مسألة 2) : هل یجوز أخذ الأجرة علی القضاء من المتخاصمین أو غیرهما ؟ فیه إشکال ، والأظهر الجواز (1)

وبناءً علی ما تقدّم نستطیع أن نقول إن الوجوب یتعلق بالقضاء بما هو فعل وعمل یصدر من القاضی وهذا هو الذی یکون واجباً علی نحو الکفایة .

نعم .. لأجل تتمیم کلام الشیخ صاحب الجواهر (قده) نقول إن هذا العمل الخارجی المسمّی بالقضاء مشروط بشروط منها الاجتهاد ومنها إذن الإمام (علیه السلام) وحینئذ ما نقوله فی غسل المیت من لزوم تحصیل إذن الولی علی نحو الکفایة نقوله فی باب القضاء کما یقول الشیخ صاحب الجواهر (قده) ولکن مع المحافظة علی کون المراد بالقضاء هو الفعل الذی یتوقف علی جملة من الشروط یجب تحصیلها علی نحو الکفایة منها الاجتهاد ومنها إذن الإمام (علیه السلام) کما تقدّم - غایة الأمر أن بعضها واجب کفائی مقدّمةً للقضاء علی نحو الوجوب الغیری بینما القضاء هو الواجب الکفائی النفسی .

(1) یقع الکلام فی هذه المسألة حول المال الذی یصل إلی القاضی وینبغی عقده فی مقامات أربعة:

الأول : فی جواز ارتزاق القاضی من بیت المال وما هی شروطه بعد فرض جوازه .

الثانی : فی جواز أخذ القاضی الأجرة علی القضاء من المتخاصمین أو من غیرهما .

الثالث : فی جواز أخذ الرشوة علی القضاء .

الرابع : فی جواز أخذ الهدیة والهبة علیه .

أما بالنسبة إلی المقام الأول أعنی جواز ارتزاق القاضی من بیت المال فنشیر أولاً إلی أن هناک خلافاً فی تفسیر المراد ببیت المال ففی بعض الإطلاقات هو المکان الذی تجتمع فیه جمیع الأموال والحقوق شبیهاً بخزینة الدولة فهو یشمل الأموال المشترکة بین جمیع المسلمین من قبیل الجزیة وخراج الأراضی والأرض المفتوحة عنوة وسهم سبیل الله من الزکاة والموقوف فی وجوه البرّ ، وهکذا الموصی به فی طری_ق الب_رّ ، وکذلک الأموال المختصة من قبیل سهم المساکین من الزکاة أو الخم_س

ص: 17

المتعلّق بالسادة ، وفی قبال هذا ما یُفهم منه أن بیت المال هو المکان الذی تُجمَع فیه خصوص الأموال المشترکة بین جمیع المسلمین .

والظاهر عدم تأثیر هذا الخلاف فی محلّ الکلام (1) لأن من یقول بجواز ارتزاق القاضی من بیت المال یُخصِّص ذلک بالأموال المشترکة فحینئذ لا ثمرة عملیة بین القولین فی المقام .

وعلی کل حال فالمراد بالارتزاق من بیت المال ما یأخذه القاضی ونحوه باعتباره قائماً بمصلحة من مصالح المسلمین لا بنحو العوضیة عن القضاء ویُدفع إلیه هذا المال ما دام شاغلاً لهذا المنصب ولا یُشترط فی ذلک ممارسته للقضاء عملاً إذ الارتزاق لیس أجرة تُعطی له لتکون مشروطة بممارسة العمل المستأجر علیه فیقع الکلام فی جواز هذا الارتزاق وعدمه وما هی الشرائط المعتبرة فیه علی فرض الجواز فنقول :

اختلف الفقهاء فی ذلک والقدر المتیقَّن من الجواز من کلماتهم هو ما إذا کان القاضی فقیراً وما إذا لم یکن القضاء واجباً علیه تعییناً فلو تعیّن القضاء علیه أو کان غنیاً دخل فی محل الخلاف فذهب بعضهم إلی عدم جواز ارتزاقه من بیت المال فی ما إذا کان غنیاً واستدلّ علیه فی الجواهر بدلیلین :

الأول : کونه واجباً علیه وإن فُرض کونه غیر متعیّن علیه فإنه لا مسوّغ للمطالبة بالمال فی مقابل ما هو الواجب .

الثانی : أن بیت المال مُعدّ للفقراء لا للأغنیاء فلا سبیل للقاضی إذا کان غنیّاً أن یأخذ منه .

مبحث القضاء-المسألة 2-الاموال فی هذه المسالة وهی ثلاثة المقام الاول بحث الفقه

ص: 18


1- (3) أی فی المراد ببیت المال .

کان الکلام فی المسألة الثانیة حول المال الذی یصل إلی القاضی وقلنا إنه ینبغی عقده فی مقامات أربعة کان الأول منها فی جواز ارتزاق القاضی من بیت المال وقلنا إن المراد بالارتزاق ما یأخذه القاضی أو یُعطی له من بیت المال باعتباره قائماً بمصلحة من مصالح المسلمین لا بنحو العوضیة عن القضاء وقلنا إنه لا یُعتبر فی ذلک ممارسة فصل الخصومات والحکم بین الناس خارجاً بل ه_و یُعطی ذلک بمجرد النصب .. فالکلام إذاً فی جواز ذلک وعدمه فنقول :

إنه لا إشکال فی جواز الارتزاق فی الجملة والقدر المتیقَّن الذی اتّفقوا علی حصوله فیه هو ما إذا کان القاضی فقیراً مع عدم تعیّن القضاء علیه ، وأما مع انتفاء أحد هذین القیدین فضلاً عن کلیهما فهو محلّ خلاف :

أما مع الغنی فیظهر من کلمات فقهائنا أن هناک خلافاً فی هذه الصورة ، وأهمّ الأقوالُ فیها ثلاثة :

الأول : عدم الجواز مطلقاً سواء تعیّن القضاء علیه أم لم یتعیّن ، وهذا القول هو الذی یظهر من الشهید الثانی فی الروضة والمحقق الأردبیلی فی فوائده وصرّح به الشیخ الأنصاری ولا یبعد میل صاحب الجواهر إلیه أیضاً .

وقد استُدلّ علی هذا القول بأن بیت المال موضوع للمصالح ولا مصلحة مع عدم الحاجة بل فی بعض عبائرهم أن إعطاءه من بیت المال مع غناه تضییع لمال المسلمین ، وقد ذکرنا أنه یُستفاد من کلام الشیخ صاحب الجواهر (قده) الاستدلال علی عدم الجواز مع الغنی حتی مع عدم التعیّن بدلیلین کان الأول منهما کونه واجباً علیه وإن فُرض کونه غیر متعیّن علیه فإنه لا مسوّغ للمطالبة بالمال فی مقابل ما هو الواجب ، وکان الثانی منهما أن بیت المال مُعدّ للفقراء لا للأغنیاء فلا سبیل للقاضی إذا کان غنیّاً أن یأخذ منه .

ص: 19

القول الثانی : هو الجواز مطلقاً حتی مع تعیّن القضاء علیه ، واختاره صاحب المستند (ره) وذهب إلیه من المتأخرین المحقق الأشتیانی (رض) فی کتاب قضائه والسید الخوئی (قده) وقد استُدلّ له بأدلة ثلاثة :

الأول : أن مجرد وجوب القضاء لا یُخرجه عن کونه مصلحة من مصالح المسلمین التی یؤخذ الرزق علیها کما هو الحال فی الجهاد فی حال وجوبه العینی - مثلاً فإنه یجوز بالنسبة إلی المقاتلین الارتزاق من بیت المال ولا یُشترط فیهم الفقر فأیّ فرق بین البابین ؟!

الثانی : أن الأدلة الدالة علی حرمة أخذ العوض وردت کما سیأتی فی المقام الثانی بعنوان الأجرة وهو عنوان آخر غیر محلّ کلامنا الذی هو عبارة عن الارتزاق .

الثالث : إطلاق بعض الروایات کما سنذکر بعضاً منها إن شاء الله تعالی .

القول الثالث : هو التفصیل بین صورة تعیُّن القضاء فلا یجوز الارتزاق وعدم تعیّنه فیجوز .

وهذا التفصیل محکیّ عن الشیخ الطوسی (قده) فی المبسوط والعلامة فی القواعد والشهید فی المسالک وقد ذَکر أنه الأشهر ، وقد عُلّل الشقّ الأول من التفصیل أعنی عدم الجواز مع التعیُّن بما تقدّم ذکره من کون القاضی یؤدّی فرضاً واجباً علیه کغیره من الواجبات مثل الصلاة والصیام الواجبین فکما لا یجوز أخذ شیء فی مقابلهما فکذا لا یجوز أخذ شیء فی مقابله ، وعُلّل الشقّ الثانی من التفصیل أعنی الجواز مع عدم التعیُّن بعدم وجود موجب لعدم الجواز مع کونه قائماً بمصلحة من مصالح المسلمین فإن المانع وهو الوجوب العینی منتفٍ بحسب الفرض .

هذا .. وفی ما یتعلّق بأدلة المنع مطلقاً التی قلنا بأن الشیخ صاحب الجواهر أشار إلیها وفی خصوص الدلیل الثانی وهو أن بیت المال مُعدّ للفقراء فلا یجوز إعطاء الأغنیاء منه قلنا بأن هذا لیس واضحاً بل هو فی حیّز المنع وذلک باعتبار أن بیت المال کما یظهر من کلمات الفقهاء معدّ لمصالح المسلمین ولا إشکال أن من أهمّ مصالحهم هو القضاء فیجوز الارتزاق من بیت المال حتی مع الغنی - الذی هو محلّ الکلام - خصوصاً مع وجود مصلحة فی هذا الارتزاق تتمثّل فی التشویق للتصدّی لهذا المنصب الذی لا یخلو عن خطورة وأهمیة ولا ریب أن المال أحد المرغّبات للإقدام علی مثل هذا الأم_ر ، وهذا التشوی_ق إنما یُتص_وّر علی أنه مصلحة فی ظرف عدم تعیّن القض_اء علی الشخ__ص إذ بإمکان____ه حینئ_ذ أن یترک____ه فلأج_ل أن یتش_وّق إلی هذا العم_ل یُ_رزق م_ن بی_ت

ص: 20

المال بل حتی فی صورة التعیّن یمکن أن تُتصوّر مصلحة تؤخذ بنظر الاعتبار فی ارتزاقه وهی مصلحة منعه من تأثیرات المال علی الحکم الذی یقضی به حیث إن المال یُستخدم عادة من قبل أطراف الدعوی لاستمالة القاضی لیحکم لصالحه ولا إشکال فی أن إغناء القاضی یسدّ مثل هذا الباب کما هو المشهود فی الحکومات الوضعیة حیث تخصّص للقضاة المرتّبات العالیة لیستغنوا عن أخذ المال من المدّعین .

فالنتیجة أن بیت المال من حیث إنه معدّ لمصالح المسلمین فکلما انطبقت مصلحة من مصالحهم یقوم بها شخص ویعود نفعها علیهم فیجوز حینئذ صرف المال له من بیت مال المسلمین ولا یُشترط فیه أن یکون فقیراً کما هو الحال فی عناوین ذکروها فی کلماتهم کثیراً من قبیل المؤذن وخادم الجامع وحارس السجن وصاحب الدیوان وغیرهم ممّن یُحتاج إلیهم فی مقام تطبیق القانون والمهمّات التی یعود نفعها إلی المسلمین کافّة .

والحاصل مما ذکرنا أن الفقر وتعیّن القضاء لا یمنعان من جواز الارتزاق من بیت المال .

هذا بالنسبة إلی الدلیل الثانی الذی ذکره الشیخ صاحب الجواهر (قده) ، وأما الدلیل الأول - الذی یقول بأن القضاء واجب حتی مع عدم تعیّنه فحینئذ لا یجوز له أخذ العوض علیه - فهو فی روحه کأنه یرجع إلی ما سیأتی فی المقام الثانی من الدلیل علی عدم جواز أخذ الأجرة علی الواجبات عینیة کانت أو کفائیة ، ومع فرض التسلیم بمضمونه نقول إنه لا یشمل محلّ الکلام لما أشرنا إلیه من الفرق الواضح بین عنوان الأجرة وعنوان الارتزاق فما دلّ علی تحریم الأول لا دلالة فیه علی تحریم الثانی فإن الارتزاق مال مقرّر یُعطی للشخص لقیامه بمصلحة من المصالح ولا یُعتبر فیه أن یمارس العمل خارجاً وهذا غیر الأجرة فإنه لو کان من هذا الباب لکان لنا أن نستردّ المال عند عدم ممارسته للعمل المستأجر علیه خارجاً بل کان الاسترداد واجباً حینئذ لأن المال قد أُعطی من بیت المال مع أن هذا خلاف السیرة فإن القاضی حتی لو لم یمارس القضاء فعلاً - ولو لعدم وجود متخاصمِین - لا یُستردّ منه مرتّبه الشهری .

ص: 21

هذا .. ویظهر من المحقق فی الشرایع اشتراط أحد الأمرین فی جواز الارتزاق علی سبیل منع الخلوّ إما الحاجة أو عدم التعیّن فیجوز الارتزاق مع الحاجة ولو مع التعیّن کما یجوز مع عدم التعیّن ولو مع الغنی ، ولازم هذا الکلام کما هو واضح عدم الجواز فی حالة انتفاء کلّ من الأمرین کما إذا کان غنیاً وتعیّن علیه القضاء ومضمون هذا هو مضمون التفصیل المتقدّم - أعنی القول الثالث إلا أن الأدلة لا تساعد علیه کما یُفهم منها وأن الارتزاق جائز مطلقاً مع الحاجة وعدمها ومع التعیّن وعدمه .

ویؤیّد جواز الارتزاق فی الجملة بعض الروایات منها ما ورد فی عوالی اللئالی وهی روایة ظاهرة جداً فی جواز الارتزاق مطلقاً إلا أنها ضعیفة سنداً ، وکذا ما ورد فی عهد الإمام (علیه السلام) إلی مالک الأشتر - ولعله أهمّ ما یؤیّد به فی المقام وهو وارد بسند صحیح وهو عهد طویل ینقله الشیخ صاحب الوسائل عن نهج البلاغة وممّا ورد فیه :

" وأعلم أن الرعیة طبقات لا یصلح بعضها إلا ببعض ولا غنی ببعضها عن بعض منها جنود الله ، ومنها کُتّاب العامة والخاصة ، ومنها قضاة العدل .. إلی أن قال : وکلّ قد سمّی الله له سهمه ووضعه علی حده وفریضته ، ثم قال : ولکل علی الوالی حق بقدر ما یصلحه ، ثم قال : واختر للحکم بین الناس أفضل رعیتک فی نفسک ممّن لا تضیق به الأمور ، ثم ذکر صفات القاضی ، ثم قال : وأکثر تعاهد قضائه وافسح له فی البذل ما یزیح علته وتقلّ معه حاجته إلی الناس وأعطه من المنزلة لدیک ما لا یطمع فیه غیره " (1) .

ص: 22


1- (1) الوسائل مج27 ص223 .

والشاهد فی قوله : " وافسح له فی البذل ما یزیح علته وتقلّ معه حاجته إلی الناس " ، وهذه الجملة لولا ذیلها (1) لکانت ظاهره فی جواز البذل له من بیت المال حتی مع غناه إلا أنه حتی مع هذا الذیل یمکن تفسیر العبارة بمعنی لا یتنافی وجواز ارتزاق القاضی الغنی من بی_ت المال لأن الغِنی یکفی فی_ه أن یمل_ک الشخ_ص ق_وت سنت_ه فحس_ب فالذی_ل یُعبّ_ر عن مست_وی أکث_ر ممّا یتحقّ_ق ب_ه مسمّی الغنی فق_د

یُفهم من الروایة جواز البذل حتی مع کونه مالکاً لقوت سنته أی کونه غنیاً - فیمکن الاستدلال بهذه الروایة علی جواز البذل حتی مع الغنی .

هذا .. ولم یُشترط فی الروایة عدم تعیّن القضاء فلذا تکون مطلقة فتشمل حالتی التعیّن وعدمه .. وعلی کل حال فهذه الروایة وإن لم تکن دلالتها بذلک الوضوح إلا أنها تصلح للتأیید ، کما أن هناک روایات أخری وإن کانت غیر تامة سنداً لکنها تصلح للتأیید أیضاً .

وفی مقابل ذلک قد یقال إن هناک روایة معتبرة سنداً تدلّ علی عدم جواز الارتزاق من بیت المال وهی ما رواه الشیخ الکلینی عن علی بن إبراهیم عن أبیه عن ابن محبوب عن عبد الله بن سنان : " قال : سئل أبو عبد الله (علیه السلام) عن قاضٍ بین قریتین یأخذ من السلطان علی القضاء الرزق فقال : ذلک السحت " (2) .

ولکن ما یدفع مثل هذا التوهّم (3) هو أن فی الروایة احتمالاً آخر وهو أن یکون المقصود به القاضی المنصوب من قبل السلطان الجائر فإنه لا إشکال أن ما یأخذه فی مقابل قضائه یکون سحتاً لأن قضاءه لیس علی وفق الموازین الشرعیة وهذا أجنبی عن محلّ الکلام الذی یُفترض فیه کون القاضی منصوباً من قبل الإمام (علیه السلام) أو من قبل نائبه وهو یقضی بالعدل وفق أحکامه سبحانه وتعالی بل یمکن أن یقال إن ظاهر الروایة هو ذلک فإن التعبیر ب_(السلطان) فی ألسنة الروایات یراد به السلطان الجائر ولا یُعبّر فی ألسنتها عن الإمام (علیه السلام) بهذا التعبیر فذلک القاضی منصوب من قبل السلطان الجائر وهو یأخذ الرزق منه مع کونه لیس أهلاً لهذا المنصب شرعاً والقضاء الصادر منه لیس علی طبق الموازین الصحیحة فالثمن الذی یأخذه فی مقابله یکون سحتاً فالروایة إذاً أجنبیة عن محلّ الکلام ولا یمکن الاستدلال بها علی جواز الارتزاق من بیت المال .

ص: 23


1- (2) یعنی قوله : (ما یزیح علته وتقلّ معه حاجته إلی الناس) .
2- (3) الکافی مج7 ص409 .
3- (4) أی توهّم دلالة الروایة علی عدم جواز الارتزاق من بیت المال .

ومن هنا یظهر أننا فی هذا المقام ننتهی إلی أن الأقرب هو جواز الارتزاق مطلقاً إلا أنه بالرغم من هذا فإن علماءن_ا (رض) مَن ق_ال منه_م بالج_واز مطلق_اً أو فی بع_ض الص_ور قال بأن الأول_ی للقاض____ی

إذا کان غنیاً - بل لعله الأحوط له أن یتعفّف عن أخذ المال من بیت مال المسلمین ولو من باب التوفیر علی ذوی الحقوق الآخرین .

المقام الثانی : فی جواز أخذ القاضی الأجرة علی القضاء من المتخاصمَین أو من غیرهما ، وهذا البحث المهم هو صغری لکبری کلیة تُبحث فی مقام آخر وهی فی جواز أخذ الأجرة علی الواجبات والمقصود بها الأعم من العینیة والکفائیة والتوصلیة والعبادیة - .

مبحث القضاء-المسألة 2-المقام الثانی بحث الفقه

کان الکلام فی المقام الثانی فی جواز أخذ الأجرة علی القضاء من دون فرق بین أن یکون ذلک من المتخاصمین أو من غیرهما وقلنا إن هذه مسألة مهمة تُبحث عادة فی کتاب الإجارة وقبل الدخول فی تفاصیل هذه المسألة نذکر أموراً یتشخّص بها موضوع النزاع :

الأمر الأول : إن الکلام أساساً لم یُعقد لبیان الحکم التکلیفی وإنما هو فی بیان الحکم الوضعی أی استحقاق الأجرة أو قل فی صحة الإجارة وعدم صحتها بمعنی أن کون متعلّق الإجارة من الواجبات هل یقتضی بطلان الإجارة أم لا ، نعم .. قد یُفهم ضمناً الحکم التکلیفی لکنه لیس مقصوداً أساساً فإن فساد المعاملة وعدم استحقاق الأجرة یُنتجان بطبیعة الحال عدم جواز التصرّف فی هذا المال الذی أخذه کأجرة علی الواجبات - إذا قلنا بالبطلان والفساد وأن کون متعلّق الإجارة من الواجبات یوجب فساد عقد الإجارة - .

ص: 24

الأمر الثانی : إن محل الکلام لا یختصّ بنوع معیّن من الواجبات بل یشمل جمیع أقسام الواجبات العینیة والکفائیة والتعبّدیة والتوصّلیة بل یشمل حتی المستحبات وذلک لأن أحد وجوه المنع وعدم الجواز وضعاً فی محلّ الکلام هو منافاة أخذ الأجرة لقصد القربة ومن الواضح أن هذا الوجه لو تمّ فهو لا یختصّ بالواجبات العبادیة بل یشمل حتی المستحبات .

الأمر الثالث : أن الکلام ینصبّ علی تحقیق هذه الجهة وهی أنه هل هناک منافاة بین صحة الإجارة وکون متعلّقها عبادیاً - واجباً کان أو مستحباً - أم لا ؟

ومعنی ذلک أننا لا بدّ أن نفترض صحة المعاملة التی نتکلم عنها بلحاظ سائر الجهات بمعنی أنه لا بد أن نفترض استجماع المعاملة التی فی محلّ کلامنا للشروط المعتبرة فی صحة الإجارة حتی لا تکون المعاملة فاقدة لأحد تلک الشرائط ویستند فسادها إلی تلک الجهة .

ومن هذا البیان یظهر أنه سوف تخرج عن محلّ الکلام جملة من الأمور فلا تدخل فی محل النزاع والنقض والإبرام مثل الإجارة علی الصلاة أو الصیام واجبین أو مستحبین - عن الأجیر نفسه لأن مثل هذه الإجارة لا تشملها أدلة الصحة لکونها معاملة سفهیة إذ لا یعود فیها أیّ نفع للمستأجِ____ر،

والإجارة لکی تکون عقلائیة ومشمولة لأدلة: (أوفوا بالعقود) ونحوها لا بد أن لا تکون من هذا القبیل، وکذلک یخرج عن محلّ النزاع الإجارة علی بعض الواجبات بل وبعض المستحبات التی یُفهم من دلیلها أو من الخارج لزوم الإتیان بها مجاناً کتجهیز المیت وغسله وتکفینه ودفنه فقالوا إن هذه الأمور یُفهم من دلیلها أنها حقّ من حقوق المیت علی أخیه المؤمن الحیّ وهذا یستدعی المجانیة ، وکذلک الأذان فهو مستحبّ مجانی .

ص: 25

الأمر الرابع : یُعتبر فی محلّ الکلام أن تتعلّق الإجارة بنفس ما یتعلّق به الوجوب فإن البحث فی منافاة صحة الإجارة لوجوب متعلّقها یستلزم اتّحاد المتعلّق فیهما ، وعلی أساس هذا یمکن أن یقال إنه عندما تتعلّق الإجارة بأحد فردی الواجب التخییری - کما لو استأجره علی العتق (مثلاً) فی خصال الکفارة المستحقة علی الأجیر نفسه - فإنه لا یدخل فی محلّ الکلام بل ینبغی الحکم بصحة الإجارة فیه لأن الإجارة لم تتعلّق بما تعلّق به الوجوب فإن الوجوب تعلّق بالجامع وأما الإجارة فتعلّقت بالفرد والفرد بحدّه الفردی لیس واجباً ولذا یجوز ترکه إلی بدل فلیس ثمة إلزام فی البین بمتعلّق الوجوب حتی یقال إن هذا الإلزام ینافی صحة الإجارة کما سیأتی فی الوجهین الذین یُستدلّ بهما علی بطلان الإجارة - .

والکلام نفسه یقال فی الواجب الکفائی فإن الوجوب یتعلّق بطبیعی المکلّف وأما الإجارة فتتعلّق بهذا الشخص بعینه فیخرج عن محلّ الکلام فیمکن أن یقال بجواز الإجارة فی هذه الموارد وأنه لا نزاع فی جوازها فیها بل قد وسّعها بعضهم فقال إنه لو کان للواجب أفراد کثیرة طولیة کانت أو عرضیة ووقعت الإجارة علی فرد من أفراده صحّت .

نعم .. إذا لم یکن للطبیعی إلا فرد واحد وتعلّقت الإجارة بذلک الفرد فهذا یدخل فی محلّ النزاع بالرغم من أننا قد نستشکل فی صدق الواجب علی الفرد لأن الفرد بحدّه الفردی لیس واجباً وإنما الواجب هو الطبیعی ولکن حیث قلنا إن الدلیل فی محلّ الکلام علی المنع هو لزوم الإتیان بما تعلّقت به الإجارة فإذا کان متعلّق الإجارة بقطع النظر عنها مما یلزم المکلّف الإتیان به فهنا یقال بأنه لا معنی لتعلّق الإجارة به بالرغم من أنه قد لا یصحّ لنا أن نقول إنه قد تعلّق به الوجوب لأن الوجوب کما أشرن__ا

ص: 26

لا یتعلّق بالفرد بخصوصیاته وإنما یتعلّق بالطبیعی ولکن لمّا کان الطبیعی منحصراً بهذا الفرد کان المکلّف ملزماً بالإتیان به فیقال - بحسب الدلیل - إن هناک منافاة بین الوجوب والإجارة فنکتة المنع الآتیة تکون جاریة فی محلّ الکلام فیقع الکلام فی أنها تامة أو لیست بتامة فنقول :

استدلّ القائلون بعدم صحة الإجارة علی الواجبات بوجوه عدیدة عُدّت مانعةً عن العمل بما دلّ علی صحة الإجارة فلو تمّت نفقد حینئذ الدلیل علی صحة الإجارة فیُحکم بفسادها :

الوجه الأول (1) : دعوی المنافاة بین الوجوب - بما هو وجوب - وأخذ الأجرة .

ولهذا الوجه تقریبات عدیدة مستفادة من کلماتهم :

التقریب الأول وهو المستفاد من کلمات الشیخ الأنصاری (قده) فی مکاسبه - : وهو أنه یُعتبر فی صحة الإجارة أن یکون متعلّقها مملوکاً ومستحقاً للأجیر حتی یستطیع هذا الأجیر بتوسّط الإجارة أن ینقل ملکیته إلی المستأجِر وإلا فلو کان لا یملک هذا العمل فلا معنی لأن یُستأجَر علیه وحینئذ یقال بأن هذا الشرط غیر متحقق فی محلّ کلامنا لأن العمل بمجرد افتراض کونه واجباً علیه فلا یکون مملوکاً له وإنما یکون مملوکاً ومستحقّاً لله سبحانه وتعالی فلا تصحّ الإجارة حینئذ .

وهذا الوجه اعتُرض باعتراضات کثیرة أهمّها اعتراضان :

الأول : أنّا لا نسلّم أن الوجوب یقتضی مملوکیة العمل لله سبحانه وتعالی فإن الوجوب لا یقتضی إلا الإلزام بالعمل خارجاً وأما أن یکون مملوکاً للموجِب ومستحقّاً له بحیث یمنع من تملیکه لغیره بتوسّط الإجارة فهو غیر مسلّم ولا ضیر فی أن یکون هناک إلزامان بالعمل : إلزام من قبل الله سبحانه وتعالی وإلزام باعتبار الإجارة فالوجوب إذاً لا یُفهم منه التملیک والاستحقاق بل غایة ما یُفهم منه الإلزام واستحقاق العقاب علی تقدیر الترک .

ص: 27


1- (1) وهو یختصّ بالواجبات فلا یشمل المستحبات ولکنه فی الوقت نفسه یشمل جمیع أصناف الواجبات حتی التوصّلیة منها . (منه دامت برکاته)

الثانی : سلمّنا أن الوجوب یقتضی الملکیة لکن ملکیة الله تعالی واستحقاقه هی من نوع خاص تختلف عمّا هی علیه عند الناس فما نُسلّمه إنما هو بطلان تملیک ما یکون ملکاً للناس بمعنی أن ما یکون مملوکاً لشخص لا یستطیع غیرُه تملیکه لآخر ولذا لو آجر نفسه لعمل معیّن لزید - مثلاً - فلا یکون قادراً علی تأجیر نفسه للعمل نفسه ثانیة من عمرو لأنه بالإجارة یکون العمل مستحقاً لزید ومملوکاً له فلا یستطیع هذا الشخص أن یُملّک ما هو مملوک لزید لشخص آخر بإجارة ثانیة ، وأما أن یُمنَع أن یُملّک أحدٌ لآخر ما هو مملوک مطلقاً - سواء کان مملوکاً للناس أو کان مملوکاً لله تعالی - فهذا غیر واضح فإن ملکیته تعالی لیست ملکیة اعتباریة کملکیتنا التی واقعها وحقیقتها بالاعتبار بل هی ملکیة تکوینیة وواقعیة لا تنافی ملکیة سائر الأشخاص ولذا فإنه فی عین الوقت الذی یکون هذا الشیء مملوکاً لله سبحانه وتعالی بالملکیة الحقیقیة یکون مملوکاً بالملکیة الاعتباریة لأحد من الناس فلا مانع من الجمع بین الملکیتین .. إذاً فکون الشیء مملوکاً لله سبحانه وتعالی لا ینافی جواز نقله إلی غیره وتملیکه له بالملکیة الاعتباریة عن طریق الإجارة .

ومن هنا یتبیّن أن هذا التقریب للوجه الأول لیس بتام .

القضاء-لایزال الکلام فی المسألة -2-جواز أخذ الاجرة علی القضاء بحث الفقه

التقریب الثانی : وهو منسوب إلی المحقق النائینی (قده) وحاصله : أن المعتبر فی صحة الإجارة أن یکون الأجیر قادراً علی العمل المستأجَر علیه قدرة تکوینیة وشرعیة وهو وإن لم یکن قد صرّح بهذا إلا أنه هذا هو مفاد کلامه ومن الواضح أن الوجوب یعنی عدم القدرة علی الترک شرعاً کما أن الحرمة تعنی یعنی عدم القدرة علی الفعل شرعاً فالعمل الذی یجب علی المکلّف هو غیر قادر علی ترکه شرعاً والعمل الذی یحرم علیه هو غیر قادر علی فعله شرعاً وإن کان قادراً علیه تکویناً فی الحالتین وهذا معناه أن العمل لا یکون دائماً تحت سلطنة الأجیر فی هذه الموارد وکما لا تصح الإجارة علی المحرمات باعتبار أن الحرمة توجب سلب قدرة الإنسان علی الفعل لأن القدرة تعنی أن له أن یفعل وله أن یترک فلا یکون حینئذ مسلّطاً علی الفعل فکذلک بالبیان نفسه لا تصح الإجارة علی الواجبات لأن الوجوب یعنی سلب القدرة علی الترک شرعاً فلا یکون حینئذ مسلّطاً علی الفعل فلا یکون العمل حینئذ مقدوراً علیه فی الحالین .

ص: 28

والحاصل أن الوجوب یعنی المقهوریة علی الفعل والتحریم یعنی المقهوریة علی الترک والمقهوریة تنافی السلطنة المعتبرة فی کل تصرّف معاملی ومن جملته الإجارة فلا تصحّ الإجارة حینئذ .

وفیه : أن هذا التقریب فی ضوء البیان المتقدّم لا یخلو عن مصادرة باعتبار اشتراط صحة الإجارة بالقدرة الشرعیة فإنه عبارة أخری عن اشتراطها بأن لا یکون متعلّقها واجباً ولا حراماً وهذا أول الکلام وهو محلّ النقض والإبرام حیث قلنا إنه هل یُشترط فی صحة الإجارة أن لا یکون متعلّقها واجباً أو لا وهذا یمکن أن یُصاغ بصیاغة أخری وهی أنه هل یجوز أخذ الأجرة علی الواجبات او لا وقد ذکرنا أن المراد بالجواز هو الجواز الوضعی لا الجواز التکلیفی .

وبعبارة أخری : إن القدرة المعتبرة فی صحة الإجارة أو فی صحة التصرفات المعاملیة تارة تُفسّر بما ذُکر من أن له أن یفعل وله أن لا یفعل تکویناً - مع تعمیمها للقدرة الشرعیة وهی بهذا التفسیر لا دلیل علی اعتبارها فی صحة الإجارة أو قل هی محلّ الخلاف والنقض والإبرام ولا معنی لأخذها مصادرة مفروضة ونستدلّ بها علی عدم جواز أخذ الأجرة علی الواجبات ، وأخری تُفسّر بالقدرة علی التسلیم والظاهر أنه لا إشکال فی اشتراطها بهذا المعنی فی صحة المعاملة عند الفقهاء وکما تنتفی فی حال عدم القدرة علی التسلیم عقلاً کذلک تنتفی عند عدم القدرة علی التسلیم شرعاً باعتبار أن المکلّف إذا کان غیر قادر علی التسلیم شرعاً فذلک یعنی أنه منهیّ عن الإتیان بالعمل وهذا یوجب بطلان الإجارة لأنه فی حال کون العمل منهیّاً عن الإتیان به شرعاً فلیس من المعقول أن نستدلّ علی صحة تلک المعاملة ب_(أوفوا بالعقود) فإن الشارع حیث یقول إنه یجب الوفاء بهذا العقد بمعنی أنه یجب الإتیان بالعمل المستأجَر علیه فلا یمکن فی الوقت نفسه أن یقول إن هذا العمل محرّم ولا یجوز الإتیان به فالعمل المستأجَر علیه إذا کان حراماً فنلتزم هنا أن هذا المکلّف غیر قادر علی تسلیمه وهذا ینافی وجوب الوفاء بالعقد الذی هو الدلیل علی صحة تلک المعاملة فإذاً یُشترط فی شمول أدلة وجوب الوفاء بالعقد وبالتالی صحة المعاملة أن لا یکون العمل حراماً أی أن لا یکون المکلّف منهیّاً عن الإتیان به وإلا لم یمکن تصحیح تلک المعاملة لوقوع التنافی بین وجوب الوفاء بالعقد وبین حرمة ذلک العمل إلا أن هذا یُنتج أنه من باب اشتراط القدرة علی التسلیم نشترط فی متعلّق الإجارة أن لا یکون حراماً للنافی المشار إلیه ولکنه من الواضح أن هذا الکلام لا یقتضی أن لا یکون متعلّق الإجارة واجباً إذ لا ضیر فی أن یکون متعلّق الإجارة واجباً فإن ذلک لا یکون منافیاً لوجوب الوفاء بالعقد بل یکون مؤکّداً له فإن کلاًّ منهما بمضمون واحد فلا یصحّ أن نشترط لتصحیح الإجارة أن لا یکون متعلّق الإجارة واجباً فإن القدرة علی التسلیم لا تُنتج ذلک بل تُنتج أن لا یکون متعلّق الإجارة حراماً لأنه حینئذ ینافی وجوب تسلیم العمل .. إذاً القدرة علی التسلیم التی نسلّمها شرطاً فی صحة المعاملة لا تُنتج أن یکون متعلّق الإجارة واجباً - الذی هو محلّ الکلام - بل تُنتج أن لا یکون متعلّق الإجارة حراماً فالإجارة علی الحرام باطلة لأنه مع افتراض الحرمة لا یُعقل أن یکون مشمولاً لأدلة الوفاء بالعقد فلا دلیل علی صحتها حینئذ وشمول دلیل وجوب الوفاء لها یلزم منه التنافی المزبور فإذاً تفسیر القدرة بأن له أن یفعل وله أن لا یفعل مع تعمیمها للقدرة الشرعیة غیر مسلّم فی المقام لأنه یلزم منه أخذه مصادرة فی الدلیل مع أنه محل الکلام والنقض والإبرام ، وأما تفسیرها بالقدرة علی تسلیم العمل عقلاً وشرعاً فهذا مسلّم ولکنه لا یُنتج عدم جواز أخذ الأجرة علی الواجبات وعدم صحة المعاملة فی هذا الفرض .

ص: 29

التقریب الثالث : أن الظاهر من تعلّق الوجوب بشیء کون المطلوب الإتیان به مجّاناً وأخذ الأجرة علیه یکون منافیاً لذلک فیُدعی استظهار المجانیة من نفس تعلّق الوجوب وکون العمل واجباً وهو ما قد فُرض فی محلّ الکلام فلا یصحّ حینئذ أخذ الأجرة علیه لکونه منافیاً لهذا الظهور المدّعی .

ولکن هذا التقریب غیر تام لمنع ذلک الظهور فإن الوجوب لا یعنی إلا الإلزام بالعمل والإتیان به خارجاً فهو أعمّ من أن یُؤتی به مجاناً أو بأجرة فالوجوب لا یمنع من أخذ العوض علی الإتیان بمتعلّقه لکون المطلوب معه قد تحقّق ، ولعل ملاحظة الأوامر العرفیة تساعد علی ذلک فإن الآمر حینما یأمر بشیء لا یلاحظ معه الإتیان به علی نحو المجانیة وإنما ینصبّ نظره علی أصل الإتیان بما أمر به بل حتی لو استفید ما ادّعی من کون الإتیان بالمطلوب مقیّداً بالمجانیة - إما من نفس الدلیل أو من قرینة خارجیة فمع ذلک نقول إنه لا یُنتج عدم جواز أخذ الأجرة وإنما یُنتج عدم تحقّق امتثال الوجوب خارجاً أی أنه إنما یُنتج عدم الجواز تکلیفاً ولا یُنتج عدم الجواز وضعاً - الذی هو محلّ الکلام - فالأجیر یستحق العوض علی الإتیان بالعمل وإن کان قد فعل حراماً حیث لم یمتثل الوجوب المقیّد بالمجانیة - بحسب الفرض خصوصاً وأن الإجارة لم تقع علی العمل بعنوان کونه واجباً وإنما وقعت علی ذات العمل .

اللّهم إلا أن یُدّعی أنه یُفهم إلغاء مالیة العمل من نفس دلیل وجوبه لیکون حاله حال الخمر والخنزیر فی إسقاط الشارع لمالیتهما فالوجوب إذا تعلّق بالعمل یکون کذلک مسقطاً لمالیته فیکون أخذ الأجرة علیه حینئذ أکلاً للمال بالباطل وعلی هذا یصحّ ما ذُکر من فساد الإجارة وعدم صحتها ، أو أن یُفهم من نفس دلیل الوجوب أو من قرینة أخری کون العمل مستحقّاً ومملوکاً للغیر کما یُدّعی ذلک فی تجهیز المیت حیث ذکروا أنه یُفهم من أدلته أن المیت یملک هذا العمل فی حقّ سائر المؤمنین علی نحو الکفایة وقد تقدّم أن ما یکون مملوکاً للناس لا یجوز أن یکون متعلّقاً للإجارة ، نعم .. ما یکون مملوکاً لله یُعقل تملیکه للغیر لأن ملکیته تعالی للأشیاء لا تنافی ملکیة غیره لها .

ص: 30

ولکن الکلام فی استفادة ذلک أعنی مجانیة العمل من نفس دلیل الوجوب والظاهر العدم ، ولو تنزلّنا عن ذلک وقلنا إن ظاهر دلیل الوجوب هو المجانیة إلا أن هذا لا یقتضی إلا عدم تحقق الوجوب خارجاً لا عدم استحقاق الأجرة ، نعم .. لا نمنع استفادة ذلک بالقرینة کما لا نمنع استفادة إلغاء المالیة أو کون العمل مستحقّاً ومملوکاً للغیر أما نحن وظاهر دلیل الوجوب نفسه فلا یکاد یُستفاد منه ذلک .

التقریب الرابع : ما بنی علیه الشیخ الأنصاری (قده) فی المکاسب من دعوی أن عمل المسلم مالٌ إلا أنه لا یکون مالاً محترماً عندما یکون واجباً فی صورة کونه عینیاً وتعیینیاً کما صرّح الشیخ نفسه باختصاصه بهما - لکون الشخص حینئذ مقهوراً علیه فیمکن استیفاؤه منه من دون دخل إذنه ورضاه بل حتی إجباره علیه فی بعض الأحیان وأخذُ الأجرة علیه من قبله والحال هذه یکون أکلاً للمال بالباطل فتکون الإجارة علیه باطلة ، وهذا بخلاف الواجب الکفائی والتخییری إذ لا مقهوریة علیه فی الحالین .

ویُلاحظ علیه أن المقدار المسلّم من دلالة الوجوب المتعلّق بالعمل هو أنه یقتضی سلب القدرة والسلطنة أی سلب الاختیار من أن یکون له أن یترک فهو ملزم بالعمل کما أن التحریم کذلک حیث یقتضی سلب قدرته علی الفعل فهو ملزم بالترک فالقدرة بمعنی أن له أن یفعل أو أن یترک عقلاً أو شرعاً لا تتحقّق عندما یکون العمل واجباً أو یکون محرّماً فالوجوب یسلب القدرة والاختیار بالمعنی المذکور .

ولکن ذکرنا فی مقام مناقشة التقریب الثانی المتقدّم أنه لا دلیل علی اشتراط عقد الإجارة بهذا المعنی بل قلنا إنه أول الکلام فإن دعوی عدم جواز أخذ الأجرة علی الواجبات هی عبارة أخری عن کون الإجارة مشروطة بأن لا یکون متعلّقها واجباً ، وأما احترام المال - بمعنی أن تکون مالیته معتبرة وأنه عند استیفائه لا بد من تدارکه وضمانه أی أن الشارع لم یُسقط مالیته فنسلّم کونه شرطاً فی صحة الإجارة بمعنی أن ما لا مالیة له شرعاً لا تصح الإجارة علیه إلا أننا نقول إن الوجوب لا ینافی کون العمل باقیاً علی مالیته وکونه متدارَکاً عند الاستیفاء لأن الوجوب لا یُلغی الاحترام بالمعنی المذکور فیمکن أن نجمع بین کون الشیء واجباً وکونه باقیاً علی مالیته .

ص: 31

متن الدرس بحث الفقه الأستاذ الشیخ آل راضی - الإثنین 27 شوال بحث الفقه

انتهی کلامنا إلی التقریب الأخیر للوجه الأول وهو أن عمل المسلم حینما یکون واجباً عینیاً تعیینیاً یفقد صفة الاحترام فیکون مالاً غیر محترم فیمکن استیفاؤه منه من دون تدارک وضمان وعلی هذا یکون أخذ الأجرة فی مقابله أکلاً للمال بالباطل فحال عمل المسلم إذا تعلّق به الوجوب حال الخمر والخنزیر .

والجواب عنه هو أن نقول بأن مال المسلم - ومنه عمله - له حیثیتان :

الأولی : کونه مالاً لمسلم وبهذه الحیثیة تثبت للمسلم السلطنة علیه ویکون مالاً محترماً ولا یجوز لأحد أن یتصرّف فیه بغیر إذنه ورضاه ، وهذا الاحترام یزول بالوجوب فعندما یکون العمل واجباً عینیاً تعیینیاً یفقد صفة الاحترام ویمکن استیفاؤه منه من دون إذنه ورضاه فهناک حالة مقهوریة علی العمل فتزول السلطنة التی تقتضی احترام المال بهذا المعنی .

ولکن هذا الاحترام الذی یزول بالوجوب قد تقدّم سابقاً أنه لا دلیل علی اعتباره فی صحة الإجارة فلا دلیل علی أنه یُعتبر فی صحة الإجارة أن یکون المکلّف لیس مقهوراً علی العمل المستأجَر علیه بمعنی أنه لا یجب علیه شرعاً إذ لا محذور فی أن یکون العمل واجباً بمعنی أن یکون المکلّف مقهوراً علیه فلا یُعتبر إذنه ورضاه فی تحققه خارجاً وفی استیفائه منه لو أمکن ذلک فعدم المقهوریة بهذا المعنی لیس شرطاً فی صحة الإجارة بل الإجارة تصحّ علی العمل حتی لو کان المکلّف مقهوراً علیه بمعنی کونه واجباً علیه فهذا الاحترام یزول بالوجوب بلا إشکال لکنه لا دلیل علی اعتباره فی صحة الإجارة .

الثانیة : کونه ممّا له مالیة شرعاً وبهذه الحیثیة یثبت له الاحترام شرعاً بمعنی أن استیفاءه یکون موجباً للتدارک والضمان ولیس هو مهدوراً فالشارع المقدّس لم یُسقط مالیته کما أسقط مالیة الخمر والخنزیر .

ص: 32

وهذا المعنی الثانی للاحترام یکون معتبراً فی صحة الإجارة علی ما هو المعروف والمشهور فی ما بینهم إلا أن الوجوب لا ینافی هذا الاحترام ولا یُزیله أی أن الوجوب لا یقتضی زوال المالیة عن العمل فلا مانع حینئذ من الجمع بین الإجارة وکون متعلّقها واجباً فإن هذه الإجارة تقع صحیحة لوجود الشرط المعتبر فیها وهو کون متعلّقها مما له مالیة وهذا الشرط محفوظ فی هذا العمل وإن کان واجباً لأن الوجوب لا یُزیل الاحترام بهذا المعنی .

إذاً لنا أن نقول إن ما یُزیله الوجوب من الاحترام ویکون منافیاً له لیس معتبراً فی صحة الإجارة ولیس شرطاً فیها وهو ما کان بمعنی السلطنة علی الفعل حیث لا یجوز للغیر أن یتصرّف فیه إلا بإذنه وهو الاحترام بالمعنی الأول کما أن لنا أن نقول إن ما هو شرط فی صحة المعاملة لا یُزیله الوجوب ولا ینافیه فالاحترام بمعنی أن یکون العمل له مالیة ویکون مضموناً عند استیفائه هو محفوظ حتی فی حالة کون العمل المستأجَر علیه واجباً فالوجوب لا یعنی إسقاط هذه المالیة مطلقاً والاحترام بهذا المعنی هو المعتبر فی صحة الإجارة دون المعنی الأول أی عدم المقهوریة فإنه لیس شرطاً فی صحة الإجارة فالإجارة تصحّ حتی إذا کان متعلّقها واجباً لأن وجوب العمل لا یُزیل مالیته وعلی هذا فیمکن تصحیح الإجارة ولا موجب للالتزام ببطلانها من هذه الجهة .

هذا هو التقریب الأخیر للوجه الأول لإثبات عدم جواز أخذ الأجرة علی الواجبات .. وهذا الوجه کان یُلحظ فیه کما تبیّن - المنافاة بین أخذ الأجرة والوجوب بما هو وجوب ، ومن هنا یکون هذا الوجه مختّصاً بالواجبات ولا یشمل المستحبات .

ص: 33

الوجه الثانی : وهو مختصّ بالعبادیات - واجبة کانت أو مستحبة ولا یشمل الواجبات التوصّلیة ، وهذا الوجه لو تمّ فهو کما یُثبت عدم جواز أخذ الأجرة علی الواجبات العبادیة کذلک یُثبت عدم جواز أخذ الأجرة علی المستحبات العبادیة ، وهذا الوجه هو عبارة عن دعوی منافاة أخذ الأجرة لقصد القربة المعتبر فی العبادة باعتبار أن الداعی فی باب الإجارة هو الأجرة والعوض لا التقرّب إلیه سبحانه وتعالی فلا یقع الفعل عبادة لأن الداعی للإتیان به هو العوض والأجرة وإذا لم یقع عبادة فلا یستحق الأجیر حینئذ الأجرة لأنه إنما استؤجر علی الفعل العبادی وهو وإن جاء بذات الفعل إلا أنه قصد به العوض والأجرة .

وبعبارة ثانیة : إن الأجیر غیر قادر علی العمل المستأجَر علیه فی محلّ الکلام والقدرة علی العمل شرط فی صحة الإجارة لأنه لم یُستأجَر علی ذات العمل حتی یقال بکونه قادراً علی الإتیان به وإنما استؤجر علی الإتیان بعبادة وهو غیر قادر علی الإتیان بها لأنه عندما یأتی بالعمل العبادی کالصلاة - مثلاً فإنه یأتی بها بقصد العوض والأجرة لا بقصد التقرّب إلی الله سبحانه وتعالی .

وبعبارة ثالثة : إن دلیل صحة الإجارة الذی هو (أوفوا بالعقود) وأمثاله لا یشمل المقام فلا یمکن تصحیح الإجارة بهذه الأدلة لأن مفاد هذا الدلیل هو لزوم الوفاء بالعقد والإتیان بمتعلّقه أداءً لحقّ الطرف الآخر باعتباره یستحق هذا العمل علی الأجیر وذلک بأن یأتی بالفعل الذی هو متعلّق العقد وفاءً لحقّ الطرف الآخر وهذا ممّا لا یجتمع مع الإتیان بالفعل تقرّباً إلیه سبحانه وتعالی .

وهذا الوجه بجمیع تقریباته یرجع فی الحقیقة إلی أمر واحد وهو المنافاة بین قصد العوض والأجرة وقصد التقرّب وحیث إن الأجیر یقصد العوض ویقصد أداء حقّ المستأجِر فهو غیر قادر علی قصد القربة للمنافاة بینهما وعلی ذلک فهو لا یستحقّ الأجرة لأنه غیر قادر علی الإتیان بالعمل الذی وقعت علیه الإجارة فتقع الإجارة باطلة لعدم القدرة علی متعلّقها الذی هو شرط فی صحة الإجارة .

ص: 34

وهذا الوجه الذی یرجع إلی ما ذُکر یستبطن افتراض أن الأجیر لا بد أن یکون قاصداً للعوض والأجرة أو بحسب التقریب الثالث لا بد أن یقصد أداء حقّ المستأجر وحینئذ یقال إن قصد العوض أو قصد أداء حقّ المستأجر لا یجتمع مع قصد الإتیان بالفعل امتثالاً لأمره تعالی فالمفروض فی هذا الدلیل هو الفراغ عن أن الأجیر لا بد أن یکون قاصداً عند الإتیان بالعمل العوض والأجرة .

ومن هنا قد یُشکل علی هذا الوجه بعدم وجود الدلیل علی اللابدیة المذکورة التی تفترض أن الأجیر لا بد أن یقصد العوض فإذا لم یقصده ولو سهواً أو غفلة فهو لا یستحق الأجرة بل إن صحة الإجارة مرهونة بالإتیان بمتعلّقها فإذا فرضنا أنه بالإمکان أن لا یقصد الأجیر العوض فبإمکانه حینئذ أن یقصد القربة .

ولکن یجاب علیه بأن مقصود المستشکل لیس کون قصد القربة وقصد أداء حقّ المستأجِر أموراً اختیاریة معتبرة فی صحة الإجارة حتی یقال إنه لا دلیل علی اعتبارها ویمکن أن لا یقصد الأجیر القربة ولا أداء حقّ المستأجِر کما فی حالة الغفلة والنسیان وإنما الظاهر أن مقصوده هو أن هذه أمور قهریة موجودة فی ارتکاز الإنسان لا یمکن التفکیک بینها وبین الإجارة فالمستأجَر علی عمل الذی یُدفع إلیه لقاء ذلک العمل هو شاء أو أبی یأتی بالعمل بقصد تلک الأجرة إذ لولاها لما أتی بالعمل وهذا یکشف عن أن الداعی إلی الإتیان بالعمل هو العوض والأجرة ومن هنا لا یصح إنکار وجود هذا القصد فی باب الإجارة وفی محلّ الکلام ولا بد أن یتّجه الکلام اتجاهاً آخر غیر أن نبحث عن إمکان التفکیک بین الإجارة وقصد العوض وأن قصد العوض موجود أو هو غیر موجود وإنما لا بد أن یُبحث عن وجه إمکان الجمع بین قصد العوض وقصد القربة فهل المنافاة بینهما تامة بحیث لا یمکن الجمع بینهما فمن یقصد العوض لا یمکن أن یقصد التقرّب ومن یقصد التقرّب لا یمکن أن یقصد العوض أم هی غیر تامة بحیث یمکن الجمع بینهما ؟

ص: 35

حاول محقّقونا (رض) رفع المنافاة والجمع بین القصدین بتقریبات نذکر أهمها :

التقریب الأول : - وهو التقریب المعروف المذکور فی الکفایة والمکاسب وغیرهما - وهو ما یُسمّی بالداعی علی الداعی بدعوی أن العمل یصدر من المکلّف بداعی قصد القربة فتتحقّق العبادیة ویأتی بالعمل المستأجَر علیه وأما العوض والأجرة فهو داعٍ ولکنه داعٍ إلی العمل القربی أی أنه داعٍ إلی الإتیان بالعمل بقصد القربة فیکون داعیاً علی الداعی ولیس هو الداعی مباشرة للإتیان بالعمل .

وبعبارة أخری : إن المنافاة مسلّمة عندما یکون العوض داعیاً للعمل ویکون قصد القربة داعیاً للعمل أیضاً أی أنهما فی عرض واحد فلا یمکن حینئذ الجمع بینهما إذ لا یمکن أن یؤتی بالعمل بقصد الداعیین معاً ومن هنا لا یصح الإتیان بالعمل القربی مع الریاء ، وأما إذا کانت هناک طولیة بین الداعیین بأن یؤتی بالفعل بداعی القربة وامتثالاً لأمره تعالی ویکون المحرّک والداعی للإتیان به کذلک أی بقصد القربة - هو قصد العوض والأجرة فهذا لا یُخلّ بعبادیة العمل وإمکان الإتیان بالعبادة المستأجَر علیها .

ویتوجّه علی هذا التقریب اعتراض بدویّ حاصله أن هذا تلاعب بالألفاظ لم یُغیّر من الواقع شیئاً فالنتیجة أن العمل صدر منه بداعی العوض ولم یصدر منه بداعی القربة فقط ، وبعبارة أکثر وضوحاً أن العوض یساهم فی تحریک المکلّف نحو الإتیان بالعمل وهذا یتنافی مع قصد القربة .

ولکن أجیب عنه بأن هناک خلطاً بین افتراض أن یکون قصد الأجرة فی عرض قصد القربة وبین أن یکون فی طوله فالمدّعی فی أصل الوجه أی الداعی علی الداعی هو أن الداعی إلی أخذ الأجرة هو فی طول قصد القربة وإنما الذی ینافی قصد القربة هو کون الداعی فی عرضه مثل الریاء فالذی یأتی بالفعل ریاءً لا یمکنه أن یأتی به بقصد القربة فالمدّعی فی المقام هو کون الأجیر یأتی بالعمل بداعی قصد القربة ویکون الداعی إلی الإتیان به بقصد القربة هو قصد الأجرة والعوض فلا بد من التفریق بین الأمرین .

ص: 36

یشهد لما ذکرنا وقوعه فی کثیر من عبادات الناس فإن أکثر الناس لا یخلو من أن یکون الداعی لهم إلی الإتیان بالأعمال العبادیة هو الطمع فی الجنة أو الخوف من النار ولولا أحد هذین الأمرین لم نجد أکثر أولئک مطیعین فإذاً الإتیان بالعبادة غرض آخر غیر قصد التقرّب إلیه سبحانه وتعالی وهو الطمع فی الثواب أو الخوف من العقاب وهو غرض دنیوی یُرجی بسببه إبعاد الألم عن الشخص نفسه وهو ینشأ من حبّ الذات فحینئذ شکّل الطمع فی الثواب أو الخوف من العقاب داعیاً علی الداعی مع أن أحداً لم یستشکل فی صحة العبادات التی یؤتی بها کذلک وعلی هذا یکون التقریب المذکور تاماً .

متن الدرس بحث الفقه الأستاذ الشیخ آل راضی - الثلاثاء 28 شوال بحث الفقه

کان الکلام فی الإشکال الثانی المختصّ بأخذ الأجرة علی الواجبات العبادیة وحاصله أن أخذ الأجرة ینافی قصد التقرّب المعتبر فی العبادة وقلنا إن هذا له عدة أجوبة ودخلنا فی الجواب الأول وکان حاصله تخریج الجواز علی فکرة الداعی علی الداعی علی أساس أن الفعل عندما یأتی به الأجیر یأتی به بقصد التقرّب وأما العوض فهو داعٍ إلی ذلک الداعی .

واعُترض علیه بأن هذا لا یُلغی دور العوض فی صدور العمل من الأجیر أو فقل إن الداعی بالفعل لیس هو التقرّب محضاً وإنما هو التقرّب مع أخذ العوض فإنه لا یُمکن إنکار مساهمته فی صدور العمل ولذا لو لم یکن هناک عوض لما کان صدر منه الفعل .

وذُکر فی مقام دفع هذا الاعتراض بأن فکرة الداعی علی الداعی تنفع فی المقام لدفع الإشکال المذکور وذلک باعتبار أن الذی ینافی العبادیة إنما هو الداعی الدنیوی الذی یکون فی عرض الداعی الأخروی - أعنی قصد التقرّب ومثّلوا لذلک بقصد التبرید فی الوضوء فإنه یکون فی عرض قصد التقرّب فیکون من باب التشریک المضرّ بعبادیة العبادة ، وأما إذا فرضنا أن الداعی یکون فی طول الداعی الأخروی لا فی عرضه فهو لا یضرّ بعبادیة العبادة وإلا لبطلت عبادة کثیر من الناس کما ذکرنا لأن الداعی علی إتیانهم بالعبادة مقصوداً بها امتثال أمرها هو الطمع فی الثواب أو الخوف من العقاب وهی دواعٍ دنیویة ولکنها لما وقعت فی طول الداعی الأخروی فهی لا تضرّ بعبادیة العبادة ، وفکرة الداعی علی الداعی مبنیة علی هذا الأساس أی أن قصد أخذ الأجرة والعوض هو فی طول قصد التقرّب وبالتالی فإن العمل یصدر بقصد التقرّب .. وبناءً علی ذلک فإن فکرة الداعی علی الداعی ترفع الإشکال عن أخذ الأجرة علی الواجبات العبادیة .

ص: 37

ویُلاحظ علی هذا الکلام بما أشرنا إلیه من أن هذا بحسب ما یُتصوّر لا یُغیّر من الواقع شیئاً فإن الداعی الدنیوی ساهم فی صدور العمل وبالتالی لا نستطیع القول بأن العمل صدر من المکلّف بداعی التقرّب محضاً ، وأما قیاس محلّ الکلام بما ذُکر من عبادة أکثر الناس حیث یأتون بها امتثالاً لأمرها ولکن طمعاً أو خوفاً فهو قیاس مع الفارق وذلک لأن هذه الدواعی تنتهی فی الحقیقة إلی الله سبحانه وتعالی لأن المقصود من خوف العقاب إنما هو الخوف من عقابه سبحانه وتعالی والطمع إنما هو الطمع فی ثوابه سبحانه وتعالی وکذا یقال حینما یکون الداعی إلی العبادة بقصدها القربی هو ما یترتّب علیها من سعة الرزق - مثلاً فإن المصلی إنما یطلب من الله سبحانه وتعالی أن یوسّع علیه رزقه فهذه دواعٍ لیست أجنبیة عن الله سبحانه وتعالی وإنما هی تنتهی إلیه وحینئذ تکون مختلفة عن محلّ الکلام لأن العوض فیه مادیّ لا ینتهی إلیه سبحانه وتعالی فثمة فرق إذاً بین هذین الأمرین .

وبعبارة أخری : إن الأغراض المذکورة أغراض مرتبطة بالله تعالی وهذا یمکن لنا فیه أن نلتزم بأنه لا یضرّ بقصد القربة ولا یضرّ بعبادیة العبادة بخلاف الغرض المادی الصرف الذی هو الأجرة والعوض بل یمکن أن یقال إن العبادة لو صدرت مباشرة بهذه الدواعی - أی بقصد الفرار من العقاب أو الطمع فی الثواب - فیمکن الالتزام بصحتها لأن المطلوب فی العبادة أن یکون العمل فیها مرتبطاً بنحو من أنحاء الارتباط بالله تعالی ویکفی فی تحقق مثل هذا الارتباط صدور العمل منه بأحد ذینک الداعیین والجزاءُ وهو إعطاء الثواب والتأمین من العقاب یتحقّق منه تعالی ، وهذا بخلاف محلّ الکلام فإنه وإن أتی بالعمل العبادی بقصد امتثال أمره إلا أن المحرّک له والداعی إلی الإتیان به هو قصد العوض والأجرة وهو قصد دنیوی صرف لیس له أیّ ارتباط بالله سبحانه وتعالی وکونُه داعیاً علی الداعی لا یُحلّ من المشکلة شیئاً لأننا یصحّ لنا أن نقول بضرس قاطع أنها لم تصدر من العبد بمحض التقرّب فإن الجزاء علی ما صدر منه لا یتحقّق منه تعالی بل من المستأجٍر فقیاس ما نحن فیه علی ذلک المقام قیاس مع الفارق .

ص: 38

ومن هنا یظهر أن فکرة الداعی علی الداعی غیر واضحة لدینا ولا یمکننا أن نعتمد علیها فی دفع الإشکال السابق فیبقی الإشکال إلی هنا علی حاله .

التقریب الثانی : ما نقله الشیخ فی المکاسب عمّا أشار إلیه فی الجواهر من : " أن تضاعف الوجوب بسبب الإجارة یؤکد الإخلاص " (1) فلا موجب حینئذ لبطلان العبادة فإن ما هو معتبر فی العبادة هو الإخلاص والوجوب الناشئ من الإجارة یؤکّده فتصحّ العبادة لتوفّر ما اشتُرط فیها من الإخلاص الذی یکون مؤکَّداً .

وذکر الشیخ الأنصاری (قده) فی هذا الکلام احتمالین وأجاب عنهما :

الأول : أنه " إن أرید أن تضاعف الوجوب یؤکّد اشتراط الإخلاص فلا ریب أن الوجوب الحاصل بالإجارة توصلی لا یشترط فی حصول ما وجب به قصد القربة مع أن غرض المستدلّ منافاة قصد أخذ المال لتحقّق الإخلاص فی العمل لا لاعتباره فی وجوبه " أی أنه إنما یُتعقّل تأکّد الإخلاص فی ما لو کان کلّ من الوجوبین تعبدیاً لا کون أحدهما توصّلیاً فإنه لا یکون حینئذ مؤکّداً للإخلاص .

والثانی : أنه " إن أرید أنه یؤکّد تحقّق الإخلاص من العامل فهو مخالف للواقع قطعاً لأن ما لا یترتب علیه أجر دنیوی أخلص مما یترتب علیه ذلک بحکم الوجدان " أی أن العبادة التی یؤتی بها من دون افتراض أجر مادی تکون أکثر إخلاصاً مما یؤتی بها بذلک الداعی .

وما یقال فی مقام التعلیق علی کلام الشیخ الأنصاری هو أن کلام الشیخ صاحب الجواهر وإن کان یُحتمل فیه ما ذُکر من الاحتمالین إلا أن الظاهر أن مقصوده أن الوجوب الثانی الحاصل بالإجارة حتی لو کان توصّلیاً فهو علی أیة حال وجوب والوجوب یدعو إلی متعلّقه الذی هو العبادة فی محلّ الکلام لأن المفروض أن الإجارة وقعت علی العبادة والمشترط فی العبادة هو الإخلاص فالوجوب إذاً یدعو إلی الإخلاص ومن هذه الحیثیة یکون مؤکداً للإخلاص المعتبر فی العبادة فقوله : (إن تضاعف الوجوب یؤکد الإخلاص) إنما هو باعتبار أن الوجوب الحاصل بالإجارة یدعو الأجیر إلی أن یأتی بالعمل المستأجر علیه الذی هو بحسب الفرض عبادة وهی مشروطة بالإخلاص .. إذاً هو بالتالی یدعو إلی الإخلاص فیکون مؤکداً للإخلاص الذی یدعو إلیه الوجوب الأول .. وعلی هذا فلا تضرّ توصلیة الوجوب الثانی فی ما نحن فیه .

ص: 39


1- (1) المکاسب / االشیخ الأنصاری مج2 ص127 .

ولکن یبقی کلام الشیخ صاحب الجواهر (قده) علی حاله وهو أنه هل یمکن أن ندفع الإشکال بهذه الدعوی أعنی دعوی أن تضاعف الوجوب لا ینافی الإخلاص بل یؤکّده الذی بناءً علیه یُلتزم بتصحیح الإجارة وأنها لا تنافی العبادة ، أم لا ؟

متن الدرس بحث الفقه الأستاذ الشیخ آل راضی - الأربعاء 29 شوال بحث الفقه

کان الکلام فی التقریب الثانی الذی حاصله أن تضاعف الوجوب لا ینافی الإخلاص بل یؤکّده .. وتقدّم بیان ما ذکره الشیخ الأنصاری (قده) فی الاعتراض علیه وطرحنا احتمالاً فی تفسیر هذه العبارة وفی ضوئه یکون المراد أن الوجوب الاستیجاری الناشئ من الإجارة حیث إنه یدعو إلی الإخلاص - لکونه یدعو إلی متعلّقه - فلا یکون منافیاً للإخلاص المعتبر فی العبادة بل یکون مؤکداً له .

ویمکن الجواب عنه بأن المعنی المذکور (1) وإن کان صحیحاً إلا أنه لا یدفع الإشکال وذلک لأنه (2) لیس واقعاً فی طبیعة العلاقة بین الوجوب الاستیجاری والوجوب المتعلّق بها وأنه هل هناک منافاة بینهما أو لا حتی یقال بأن الوجوب الاستیجاری لا ینافی الوجوب الذی یَشترط الإخلاص بل یؤکّده ، وإنما الإشکال فی قضیة واضحة وهی أن الأجیر غالباً إن لم یکن دائماً - یأتی بالفعل بقصد العوض فکیف یمکن الجمع بین هذا القصد واشتراط الإخلاص والتقرّب بهذا الفعل ؟! فهذا الإشکال لا یُحلّه القول بأن الوجوب الاستیجاری الناشئ من الإجارة یدعو إلی الإخلاص لأنه لیس ثمّة ملازمة بین داعویة الوجوب الاستیجاری إلی الإخلاص وتحقق الإخلاص من الأجیر خارجاً فإن من یقصد العوض لا یتمکّن من أن یقصد الإخلاص بل حتی لو تمکّن بشکل مّا فسیحصل هناک تشریک فی الداعی فلا یُمکنه الإتیان بالعبادة قربة إلیه تعالی محضاً فالغرض المادی قادح فی العبادیة المعتبرة فی العبادات .. فالنتیجة أن الإشکال السابق لا یمکن دفعه بما ذکر (قده) .

ص: 40


1- (1) وهو کون الوجوب الاستیجاری یدعو إلی الإخلاص .
2- (2) أی الإشکال .

التقریب الثالث : ما یظهر من کلمات السید الطباطبائی صاحب العروة (قده) فی حاشیته علی المکاسب وخلاصته أنه بعد فرض التنزُّل عن أن الأجیر لا یمکنه الإتیان بالعبادة بقصد امتثال أمرها لأجل المنافاة المدّعاة بین الوجوب وقصد الأجرة فیمکن تصحیح العبادة المستأجَر علیها بقصد امتثال الأمر الاستیجاری وهذا کافٍ فی تصحیحها لأن المهم فی هذا الأمر هو قصد امتثال الإرادة الإلهیة ومن الواضح أنه لا فرق فی هذا بین قصد امتثال الوجوب الأصلی المتعلّق بالعبادة (1) والوجوب الحاصل من الإجارة المتعلّق أیضاً بالعبادة نفسها فهذا الأخیر یکفی فی تصحیح عبادیة العبادة ولا یتوقف الحلّ علی خصوص الأول .

وتوضیحه - کما أشار (قده) إلیه - أن الوجوب الاستیجاری وإن کان أمراً توصّلیاً یتحقّق الغرض منه بالإتیان بمتعلّقه ولو من دون قصد امتثاله لکن الأمر التوصّلی لا یعنی عدم إمکان قصد امتثاله لأنه لیس المقصود بالعبادة خصوص ما یُعتبر فی أصله قصد التقرّب بل الأمر العبادی أعمّ من هذا وممّا إذا أتی المکلّف بمتعلّقه قاصداً امتثال أمره کان عبادة .

إذاً فالأمر التوصّلی یمکن أن یکون موجباً لعبادیة متعلّقه وإن کان قصد امتثال الأمر لیس شرطاً فیه فحینئذ یمکن تصحیح العبادة بقصد امتثال الأمر الاستیجاری الذی هو - کما ذکرنا - أمر شرعی إلهی حینما یأتی بقصد امتثاله یکون متقرّباً حینئذ إلی الله تعالی .. وبهذا البیان ینحلّ الإشکال فی قصد امتثال الأمر الوجوبی الأصلی المتعلّق بالفعل - علی فُرض وجوده - .

ص: 41


1- (3) هذا باعتبار أن محلّ الکلام أعمّ من أن یکون قد استؤجر علی أن یقضی عن غیره الواجبات العبادیة المتعلّقة بذمته أو یؤدی هو عن نفسه ما کان واجباً بحقّه کصلاة الظهر التی دخل وقتها الآن .

ویُلاحظ علی ما تقدّم :

أولاً : إن غایة ما یَثبت به هو إمکان أن یقصد المکلّف المستأجَر علی العبادة امتثالَ الأمر الاستیجاری لا أن کل أجیر بالفعل هو یقصد امتثال الأمر الاستیجاری .

وبعبارة أخری : أنه لو سُلّم التقریب المتقدّم إلا أنه لا یکون مسلّماً إلا فی خصوص الأجیر الذی یقصد بالفعل امتثال الأمر الاستیجاری ، وأما ما فی الواقع فهو بخلاف هذا فإن أغلب الناس یقصدون العوض والأجرة فهذا الوجه لا یفی بتصحیح عبادات هؤلاء .

وثانیاً : إنه بعد فرض تعذّر قصد امتثال الأمر المتعلّق بالعبادة فإنه یثبت أیضاً تعذّر قصد امتثال الأمر الاستیجاری بالنکتة نفسها التی ثبت بها تعذّر الأول إذ لا فرق بینهما فی تلک الجهة بمعنی أن المنافاة المدّعاة بین امتثال الأمر الوجوبی المتعلّق بالعبادة وقصد العوض والأجرة تجری بنفسها فی قصد امتثال الأمر الاستیجاری فإننا نتمکّن من أن نقول بأن هذا الأجیر لا یستطیع أن یقصد امتثال الأمر الاستیجاری لأن من یقصد العوض والأجرة علی الفعل لا یتمکّن من أن یأتی بالفعل تقرّباً لله سبحانه وتعالی فصحیح أن الأمر التوصّلی یُمکن للإنسان أن یأتی بمتعلّقه قاصداً امتثال أمره فیقع عبادة إلا أنه لا یمکن الجمع بین قصد امتثال الأمر التوصّلی تقرّباً إلیه تعالی وقصد العوض والأجرة وعلی فرض إمکان ذلک فهو یضرّ بالعبادیة المعتبرة فلا یکون الفعل عبادة .

فإذاً لا یندفع الإشکال بنقل طرف المنافاة من الوجوب الأصلی المتعلّق بالعبادة إلی الوجوب الاستیجاری الناشئ من ناحیة الإجارة فإن کلاًّ منهما أمر إلهی وشرعی .

وثالثاً : إن تصحیح الإجارة بالوجوب الاستیجاری المتعلّق بها لا یخلو من شبهة الدور فإن صحة الإجارة ستتوقف حینئذ علی قصد امتثال الوجوب الاستیجاری والحال أن الوجوب الاستیجاری موقوف علی صحة متعلّقه وهو الإجارة لأن الوجوب الاستیجاری هو من موارد کبری (أوفوا بالعقود) وهی لا تشمل الإجارة الباطلة قطعاً بل هی فی مرتبة تالیة علی کون العقد صحیحاً فلا بد من فرض کون عقد الإجارة صحیحاً لکی یتوجّه الأمر التکلیفی (1) بالوفاء به .

ص: 42


1- (4) الذی هو الوجوب الاستیجاری .

والحاصل أن الوجوب الاستیجاری موقوف علی صحة الإجارة (1) فلو توقّفت صحة الإجارة علیه کما هو مقتضی هذا التقریب - لزم الدور .. فالنتیجة أنه لا یمکن تصحیح الإجارة بقصد امتثال الوجوب الاستیجاری المتعلّق بها .

متن الدرس بحث الفقه الأستاذ الشیخ آل راضی - السبت 2 ذی القعدة بحث الفقه

التقریب الرابع : ما ذکره السید الخوئی (قده) من أن المستأجَر علی العبادة لا یقصد عند الإتیان بها العوض والأجرة (2) وذلک باعتبار أن الأجیر یستحقّ الأجرة والعوض بنفس عقد الإجارة ویمکنه التصرّف بهما کما أن المستأجِر کذلک حیث یملک العمل فی ذمة الأجیر بنفس عقد الإجارة وهذا من آثار الملکیة المتحققة بنفس عقد الإجارة والتی لا تتوقف علی صدور العمل من الأجیر خارجاً ، نعم .. إذا لم یؤدِّ الأجیر العمل خارجاً جاز للمستأجِر فسخ عقد الإجارة واسترداد العوض إلا أن هذا أمر آخر .

وبناءً علی هذا الکلام فإن الأجیر حین الإتیان بالعمل لا یقصد استحقاق العوض وذلک لاستحقاقه له فی مرحلة سابقة وإنما هو حین الإتیان بالعمل یقصد الوفاء بعقد الإجارة أی تسلیم ما یملکه المستأجِر بعقد الإجارة إلیه ، ومن الواضح أن کل هذه القصود المتحققة عند الإتیان بالعمل قصود إلهیة لا تنافی قصد التقرّب بالعبادة وإنما المنافی له هو قصد العوض عند الإتیان بالعمل ، وأما إذا لم یقصد ذلک بل جاء بالعمل امتثالاً للأمر الاستیجاری - کما یقول السید صاحب العروة (قده) فی التقریب السابق من باب تسلیم ما یستحقه الغیر إلیه فهذا من القصود الإلهیة التی لا تتنافی مع قصد التقرّب إلیه تعالی فیقع الفعل عبادة وبالنتیجة تکون الإجارة إجارة مستحقة ولا موجب لبطلانها من هذه الجهة بخلاف ما کنّا نفترض سابقاً - قبل هذا التقریب - أن الأجیر یقصد العوض والأجرة عند الإتیان بالعمل فحینئذ یتأتّی الإشکال فی منافاة ذلک لقصد التقرّب المعتبر فی العبادة وعدم إمکان الجمع بین القصدین ، وأما فی هذا التقریب فتمّ حلّ الإشکال من أساسه حیث تبیّن فیه أن الأجیر حین الإتیان بالعمل لا یقصد العوض والأجرة لاستحقاقه لهما بنفس عقد الإجارة .. إذاً لا بد أن یکون قصده هو تسلیم العمل المملوک إلی صاحبه أو فقل قصد امتثال الأمر الاستیجاری وهذا أمر شرعی لا یضر بعبادیة العبادة فیقع العمل صحیحاً .

ص: 43


1- (5) بمقتضی دلیل (أوفوا بالعقود) حیث إن توجّه الأمر بالوفاء بالعقد الذی هو الوجوب الاستیجاری فی عقد الإجارة - فرع کون العقد صحیحاً فهو موقوف علیه .
2- (1) أی أنه (قده) شکّک فی أصل المطلب .

وهذا التقریب لعله من أحسن التقریبات التی ذُکرت فی المقام ولعله یمکن إرجاع بعض التقریبات السابقة إلیه أو إرجاعه إلیها .. ولکن بالرغم من هذا فإنه لا یحلّ الإشکال فی تمام مساحته وذلک لأنه لا یمکننا أن نفترض أن کل مستأجَر علی عبادة یأتی بها بقصد امتثال الأمر الاستیجاری بل الغالب کما ذکرنا کون الأجیر یأتی بها بقصد العوض والأجرة ولو فی مرحلة البقاء أی حتی لا یُسترَدّ منه ما ملکه فی ما لو لم یأت بما استُؤجر له ویفسخ المستأجِر فتصوّر کون الأجیر یأتی بالعمل بقصد الأجرة لیس بعزیز فیرجع الإشکال تارة أخری ، نعم .. یخرج عنه ما لو أتی بالعبادة بقصد الأمر الاستیجاری فإن هذا القصد لا یتنافی مع قصد القربة المعتبر فیها ولکن یبقی ما عداه تحت غائلة الإشکال .

فالنتیجة أننا بحاجة إلی تقریب آخر لدفع الإشکال فی تمام مساحة المدّعی .

هذا .. وهناک تقریبات أخری أعرضنا عنها لاتّضاح الجواب عنها بما ذُکر من ملاحظات علی التقریبات الأربعة المتقدمة .

ثم إن هناک تقریباً لحلّ الإشکال ادُّعی فی کلماتهم وهو یختصّ بالواجبات العبادیة حیث استدلّ علی عدم المنافاة فی محلّ الکلام وهو أخذ الأجرة علی الواجبات بإمکان الجمع بین قصد العوض وقصد التقرّب وبالنتیجة یرتفع الإشکال وذلک بما ثبت بالنصّ والإجماع من جواز أخذ الأجرة علی النیابة فی بعض الواجبات العبادیة کالحج والصلاة والصیام عن المیت حیث یقال بورود الإشکال نفسه فیها باعتبار أن النائب فی الحج - مثلاً - یجمع بین الأمرین فیأتی بالحج قربة إلی الله تعالی وفی نفس الوقت هو یقصد العوض والأجرة ولکن حیث دلّ الدلیل فی مورد الإجارة علی النیابة علی جواز ذلک فیُستکشف منه أن الجمع بین القصدین جائز ولا منافاة بینهما فلا بد أن نلتزم بجواز الجمع بینهما وعدم المنافاة فی محلّ الکلام أیضاً (1) ، نعم .. الفرق بین المقامین فی أن الأجیر فی محلّ الکلام یُستأجَر علی العبادة عن نفسه فی حین أنه فی باب النیابة یُستأجَر علی العبادة عن غیره إلا أن هذا غیر ضائر لأنه إذا لم یکن ثمة منافاة فی باب الإجارة عن الغیر فهو یکشف عن عدم وجود المنافاة فی محلّ الکلام أیضاً لأن الأجرة فی کل منهما مفروضة والنائب فی باب النیابة یقصد العوض والأجرة من غیر أن یکون ذلک منافیاً لقصد التقرّب بمقتضی الدلیل فلیکن فی ما نحن فیه کذلک لعدم وجود فرق بین المقامین ، نعم .. نحن لا ندّعی فی البین أن کل عمل عبادی تصحّ فیه النیابة وإنما هو تابع لورود الدلیل لأنه علی خلاف القاعدة ولذا فإن الطهارات الثلاث - مثلاً لم یقل أحد بجواز النیابة التبرعیة فیها فضلاً عن الاستیجاریة وهذا أمر آخر لا علاقة له بما نحن فیه .

ص: 44


1- (2) أی أخذ الأجرة علی الواجبات العبادیة .

ولکن لوحظ علی ما تقدّم بأن قیاس محلّ الکلام علی باب النیابة قیاس مع الفارق لأن الإجارة فی باب النیابة تقع علی النیابة أی علی أن یکون نائباً فی العمل المستأجَر علیه بمعنی أن یُنزّل النائب نفسه منزلة المنوب عنه فمتعلّق الإجارة فی باب النیابة هو نفس النیابة ولا إشکال فی أن هذه النیابة لیست عبادة فمتعلّق الإجارة فی باب النیابة إذاً هو عمل غیر عبادی فی حین أن متعلّق الإجارة فی محلّ الکلام هو نفس العبادة حیث تقع الإجارة علی العبادة والمنافاة المدّعاة إنما تُدّعی حینما یتّحد متعلّق الإجارة مع متعلّق الأمر العبادی فیقال کیف یمکن الإتیان بالعبادة بقصد التقرّب (1) مع قصد الأجرة فلا تکون الإجارة حینئذ صحیحة لعدم قدرة المکلّف علی الإتیان بها بقصد القربة إذ لا یمکن الجمع بین هذا القصد وقصد العوض فلا یجوز حینئذ أخذ الأجرة بخلاف أما إذا فرضنا کون الإجارة تتعلّق بفعل آخر غیر عبادی (2) حیث لا یُشترط فی امتثاله قصد التقرّب بالأمر المتعلّق به فیأتی المکلّف بالعبادة بقصد أمرها متقرّباً بها غیر قاصد للعوض ولکنه یقصد العوض فی مقابل نفس النیابة أی فی مقابل أن یُنزّل نفسه منزلة المنوب عنه فلیس ثمة إشکال حینئذ فی صحة هذه الإجارة (3) إذاً فهناک فرق بین المقامین فجواز الاستیجار فی باب النیابة کما ثبت بالنصّ والإجماع لا یعنی جواز أخذ الأجرة فی محلّ الکلام للفرق الواضح بینهما باعتبار أن متعلّق الإجارة فی باب النیابة لیس هو العبادة فی حین أن متعلّق الإجارة فی محلّ الکلام هو الأمر العبادی .

ص: 45


1- (3) أی امتثالاً لأمرها المتوجّه إلیها باعتبارها عبادة .
2- (4) یمثّل خصوصیة - مثلاً - للأمر العبادی .
3- (5) وهذا غیر محلّ الکلام الذی هو أخذ الأجرة علی الواجبات العبادیة التی فی ذمة الأجیر نفسه لا نیابة عن غیره.

وبعبارة أخری : إن النیابة کما فی کلماتهم - عنوان یطرأ علی الفعل المنوب فیه وهو کون ذلک العمل کالصلاة - مثلاً عن فلان فالفعل بهذا العنوان (أی کونه عن فلان) یقع متعلّقاً للإجارة ، وأما الصلاة بما هی صلاة فلا تکون متعلّقاً للإجارة وإنما هی من حیث ذاتها عبادة وهذا نظیر الصلاة فی البیت فإن اعتبار التقرّب فی الصلاة نفسها لا یتنافی مع عدم اعتبار التقرّب بالخصوصیة وهی کونها فی البیت ولذا یجوز أخذ الأجرة علی الخصوصیة أی علی وقوع الصلاة فی البیت فإن هذه الخصوصیة لیست عبادیة وإنما العبادی هو أصل الفعل فکما یجوز أخذ الأجرة علی هذه الخصوصیة فی هذا المثال من غیر أن یکون ذلک منافیاً للتقرّب بأصل الفعل کذلک یجوز فی باب النیابة .

وبهذا أجیب عن الإشکال المتقدّم وحاصل هذا الجواب أن هناک فرقاً بین محلّ الکلام ومورد الاستیجار فی باب النیابة فجواز الاستیجار فی باب النیابة لا یلازم الجواز فی محلّ الکلام حیث تکون الإجارة ابتداءً متعلقة بالعبادة فهنا لا یمکنه أن یجمع بین قصد القربة وقصد العوض فیتأتّی الإشکال السابق .

وإلی هنا نفرّق بین المقامین فنلتزم بجواز الاستیجار فی باب النیابة بمقتضی النصّ والإجماع بل وبمقتضی القاعدة أیضاً حیث تبیّن أنه لیس ثمّة منافاة لتعدّد المتعلّق کما ذکرنا بخلاف محلّ الکلام فننتهی فیه إلی عدم الجواز .

هذا .. وسیأتی منّا إمکان الخدشة فی ما ذکروه من دفع الإشکال عن باب النیابة وبیان أنه مثل محلّ الکلام فی لزوم الإشکال ، نعم .. تبقی مسألة النصّ والإجماع وسیأتی التعرّض لها إن شاء الله تعالی .

ص: 46

متن الدرس بحث الفقه الأستاذ الشیخ آل راضی - الأحد 3 ذی القعدة بحث الفقه

ذکرنا أنه استُدلّ علی جواز أخذ الأجرة علی العبادات فی محلّ کلامنا بجواز أخذها فی باب النیابة علی العبادات وقیل بأنه إذا ثبت عدم المنافاة ین قصد العوض وقصد التقرب فیکشف هذا عن أنه فی محلّ الکلام أیضاً لا منافاة وبالتالی یجوز أخذ الأجرة علی الواجبات العبادیة الذی هو محلّ کلامنا .

وقد ناقش المشهور الذی یری حرمة أخذ الأجرة علی الواجبات العبادیة فی هذا الدلیل بمناقشة تقدّمت فی البحث السابق وحاصلها أن هناک فرقاً بین المقامین ففی محل کلامنا وقعت الأجرة فی مقابل العبادة فی حین أنها فی باب النیابة وقعت فی مقابل النیابة - التی فُسّرت بأنها تنزیل النائب نفسه منزلة المنوب عنه وهذا (1) شیء یقوم به النائب غیر العبادة التی یأتی بها فی الخارج فالنیابة عمل غیر عبادی ولا محذور مطلقاً فی أخذ الأجرة علیه .. إذاً ما یُعتبر فیه قصد التقرّب شیء وما تؤخذ الأجرة فی مقابله شیء آخر - وهو النیابة - فلا موجب للاستشکال إذاً من هذه الجهة لأنه یأتی بالفعل بقصد التقرّب وقاصداً امتثال أمره ویقصد العوض فی مقابل تنزیل نفسه منزلة المنوب عنه .. ولهم کلمات تحوم حول هذه النقطة فبعضهم صوّرها بأن هناک عنواناً أولیّاً وعنواناً ثانویاً فقصْدُ التقرب یکون بالفعل بعنوانه الأولی - أی بما هو صلاة مثلاً - وقصْدُ العوض یکون بالفعل بعنوانه الثانوی أی بعنوان صدوره عن الغیر مع فرض التنزیل .

وذکرنا أنهم استشهدوا لذلک بمسألة الأجرة علی الصلاة فی مکان معیّن فقالوا إنه لا مانع من أن تؤخذ الأجرة فی مقابل الخصوصیة أی فی مقابل إیقاع الصلاة فی المکان المعیّن إذ لا یُعتبر فیه قصد القربة فیجوز أخذ الأجرة فی مقابله وقالوا إنه کما أن أخذ الأجرة علی هذه الخصوصیة لا یضرّ بقصد القربة فی أصل الفعل العبادی کذلک فی محلّ الکلام تؤخذ الأجرة علی الخصوصیة وهی کون الفعل عن فلان ولا یضرّ ذلک بقصد العبادة .

ص: 47


1- (1) أی النیابة .

وأقول : إن هذا الذی ذکروه - بقطع النظر عن الأدلة الخاصة من النصّ والإجماع علی جواز أخذ الأجرة علی النیابة فی باب العبادات کالحج والصلاة والصیام واجبة کانت أم مستحبة یمکن التأمل فیه وأن لیس ثمة فرق بین محلّ الکلام والاستیجار فی باب النیابة علی العبادات ، وحاصله : منع الفرق بینهما إذ بالنتیجة هو یأتی بالعبادة عن فلان بقصد أخذ العوض ، نعم .. بالتحلیل نستطیع القول بأن هناک شیئین : أصل الفعل العبادی والنیابة - التی تعنی تنزیل النائب نفسه منزلة المنوب عنه إلا أن ما یصدر خارجاً من الأجیر فعل واحد وهو عبارة عن الصلاة عن فلان وقد جاء به بقصد العوض فکیف یمکن أن یأتی به بقصد القربة ؟! وما ذُکر من التحلیل أمر غیر منظور عرفاً غایة الفرق بین المقامین أنه فی محلّ الکلام یأتی بالعبادة عن نفسه وأما فی باب النیابة فیأتی بها عن غیره وهذا الفرق یمکن أن یقال إنه لیس بفارق .

وعلی کل حال فتکفینا الروایات الخاصة والإجماع علی جواز أخذ الأجرة فی باب العبادات ولا حاجة إلی الاستدلال بالأدلة الدالة علی جواز أخذ الأجرة علی العبادة فی باب النیابة علی جواز أخذ الأجرة فی محلّ الکلام فإنه لا یخلو من صعوبة لاحتمال أن یکون ثمة فرق بین المقامین کما ذکر المشهور حیث التزموا بعدم جواز أخذ الأجرة فی محلّ الکلام وجوازه فی باب النیابة وهذا الفرق الذی جزم به المشهور والمحتمل عندنا یمنعنا من التمسّک بالأدلة الدالة علی جواز أخذ الأجرة فی باب النیابة والاستدلال بها علی جواز أخذ الأجرة فی محلّ الکلام .

هذا .. والظاهر أن ما ذُکر من جواز أخذ الأجرة علی الخصوصیة کما مُثّل له بالصلاة فی المکان المعیّن غیر مسلّم بل الواجب علی المکلّف أن یوقع الفعل العبادی فی هذا المکان أو غیره بقصد القربة وأخذ الأجرة یکون منافیاً لذلک بعد فرض البناء علی عدم جواز أخذ الأجرة علی الواجبات العبادیة - .

ص: 48

هذا .. وقد تبیّن من جمیع ما تقدّم أن الحکم بجواز أخذ الأجرة علی العبادات سواء کانت واجبة أو مستحبة لا یخلو من إشکال ، نعم .. جواز أخذ الأجرة علی الواجبات غیر العبادیة لا مانع منه فنحن نفرّق بین الواجبات التوصّلیة وبین العبادات - سواء واجبة أو مستحبة - فجواز أخذ الأجرة واضح عندنا علی الأول دون الثانی .. وهذا هو حکم المسألة الکلیة موجزاً .

ومنه یتّضح حکم أخذ الأجرة علی الواجبات الکفائیة غیر العبادیة فإن حکمها هو الجواز لما تقدّم سابقاً من عدم منافاة الوجوب لجواز أخذ الأجرة لأنّا لا نُفهم من الوجوب إلا الإقدام علی الفعل وضرورة الإتیان به بل الجواز لعله هو الأقرب حتی فی الواجبات العینیة غیر العبادیة للسبب السابق نفسه اللّهم إلا إذا فُرض قیام إجماع علی عدم الجواز فیها کما ذهب المشهور إلی ذلک وفرّق بین الواجبات العینیة والکفائیة فلم یلتزم بالجواز فی الأول فحینئذ نلتزم بعدم الجواز فیها ، نعم .. لا بد من استثناء ما دلّ الدلیل علی لزوم الإتیان به مجاناً من الواجبات الکفائیة غیر العبادیة وهذه المسألة بالخصوص وهی أن یُفهم من الدلیل لزوم الإتیان به مجاناً وکونه کافیاً فی الالتزام بحرمة أخذ الأجرة علیه قد تقدّمت الإشارة إلیها وسیأتی توضیحها قریباً .

هذا کله فی غیر ما یُعبّر عنه بالواجبات النظامیة التی تدخل فی الواجبات الکفائیة عادة ومقصودهم بها الصناعات التی یتوقف علیها حفظ النظام ، وأما فی هذه الواجبات فجواز أخذ الأجرة یکون أوضح بمعنی أنه إذا کان هناک مجال لتحریم أخذ الأجرة علی الواجبات الکفائیة غیر النظامیة فلا مجال لتحریم أخذ الأجرة علی الواجبات النظامیة - کالطبابة والزراعة وسواهما - وذلک لما صرّحوا به - کالمقدّس الأردبیلی فی مجمع الفائدة والبرهان وکذا صاحب الریاض - من قیام الإجماع والضرورة علی جواز أخذ الأجرة علی الواجبات النظامیة بل یمکن الالتزام بالجواز بقطع النظر عن الضرورة والإجماع وإن منعنا من ذلک فی الواجبات الکفائیة غیر النظامیة (1) من قبیل أداء الشهادة وذلک باعتبار أن الدلیل علی وجوب هذه الصناعات هو حکم العقل بوجوب حفظ النظام وعدم جواز الإخلال به فإذا کان یتوقف علیها فتکون واجبة حینئذ ومن الواضح أن هذا الدلیل لا یقتضی الإتیان بها مجاناً لوضوح أن النظام ینحفظ بالإتیان بهذه الصناعات سواء أُتیَ بها مجاناً أو بأجرة فیکون الدلیل الدالّ علی لزوم حفظ النظام والدالّ علی وجوب هذه الصناعات هو بنفسه یدلّ علی أنه لا فرق فی الإتیان بها مجاناً أو مع أخذ الأجرة بل قد نلتزم بأن عدم جواز أخذ الأجرة علی هذه الصناعات قد یؤدی إلی الإخلال بالنظام وعدم حفظه لأن الناس سوف یتواکلون ویمتنعون عن الإتیان بهذه الصناعات التی یتوقف علیها حفظ النظام فی ما لو أُلزموا بعدم أخذ الأجرة علیها .. وعلی هذا فإن دلیل حفظ النظام بنفسه سوف یکون مقتضیاً لکون الواجب هو الإتیان بهذه الصناعات مع الأجرة .. والنتیجة أنه لا إشکال فی أخذ الأجرة علی هذه الصناعات التی هی قسم من أقسام الواجبات الکفائیة .

ص: 49


1- (2) أی التی لا یتوقف علیها حفظ النظام .

ثم إنه بعد أن تبیّن حکم المسألة من ناحیة کلیة فلنأت إلی محلّ کلامنا وهو أخذ الأجرة علی القضاء والکلام فیه یقع فی مقامین :

الأول : بحسب مقتضی القاعدة والأسس التی أسّسناها من ناحیة کبرویة فی البحوث السابقة .

المقام الثانی : بحسب الأدلة الخاصة .

أما فی ما یتعلّق بالمقام الأول فالظاهر - بحسب مقتضی القاعدة - جواز أخذ الأجرة علی القضاء فی ما إذا لم یتعیّن (1) وذلک لکونه عملاً غیر عبادی حیث تقدّم سابقاً أنه لا منافاة بین وجوب الشیء کفایةً وجواز أخذ الأجرة علیه بل لا یبعد الجواز حتی إذا کان واجباً عینیاً علی الشخص للدلیل السابق نفسه وهو أن الوجوب حتی لو کان عینیاً فلا ینافیه جواز أخذ الأجرة علیه وهو ما تقدّم فی الوجه الأول من التقریبات الأربعة اللّهم إلا أن یقوم إجماع علی عدم جواز أخذ الأجرة علی الواجبات العینیة وإن لم تکن عبادیة کما حُکی عن بعضهم بل هو ظاهر کاشف اللثام والمحقق السبزواری فی کفایته ، نعم .. ذکروا أنه إذا استُفید من دلیل وجوب القضاء لزوم الإتیان به علی نحو المجانیة فحینئذ یتعیّن المنع من أخذ الأجرة کما صرّح به جماعة وقد تطرّقنا إلی هذا فی التقریب الثالث من تقریبات المنافاة بین الوجوب وأخذ الأجرة .

وتحقیق ذلک أن المجانیة التی یُفترض کونها مستفادة من وجوب الشیء کما ذکروا ذلک فی باب تجهیز المیت وباب الشهادة یمکن أن یُتصوّر لها معانٍ :

الأول : أن تکون المجانیة قیداً فی الواجب بمعنی أن الواجب لیس هو مطلق الفعل وإنما هو الفعل بقید أن یقع مجاناً فیکون حاله حال الواجبات المقیدة .

ص: 50


1- (3) أی بأن کان واجباً کفائیاً .

وهذا التفسیر إذا اقتصرنا علیه ولم نضمّ إلیه التفسیرات الأخری یمکن أن یُستشکل فیه بما تقدّم من أن غایة ما تقتضیه المجانیة بهذا المعنی هو عدم تحقق الامتثال إذا جاء المکلّف بالفعل مع أخذ الأجرة لأن المفروض کون الواجب مقیّداً بالمجانیة فإذا أخذ علیه أجرة فلا یکون حینئذ آتیاً بالواجب فلا یکون ممتثلاً .. ولکن هل معنی هذا أن الأجرة تحرم علیه (1) ؟

أقول : إن استفادة حرمة أخذ الأجرة - بالمعنی المبحوث عنه فی المقام (2) - من دلیل الوجوب المأخوذ فیه المجانیة بهذا المعنی لیس بواضح حتی لو قلنا بأن الأمر بالشیء یقتضی النهی عن ضدّه ونحن لا نقول به فإن غایة ما یثبت به أن القضاء مع أخذ الأجرة حرام لأن الأمر بالقضاء مجاناً بناءً علی هذا - یقتضی النهی عن ضدّه .. وضدُّه هو القضاء مع الأجرة ولکن هذا لا یعنی عدم استحقاق الأجرة لعدم التلازم بین الحرمة الوضعیة والحرمة التکلیفیة - اللهم إلا إذا ضممنا إلیه عنصراً آخر سیأتی الحدیث عنه لاحقاً - .

المعنی الثانی : أن یکون العمل مستحقّاً ومملوکاً للغیر أی أن نفهم من أدلة وجوب القضاء أنه مملوک ومستحقّ للغیر .

وأقول : غایة ما یقتضیه هذا المعنی هو عدم جواز أخذ الأجرة ممن استحقّ هذا العمل وأما أخذ الأجرة من غیره فلا مانع منه .

القضاء-جواز أخذ الاجرة علی القضاء بحث الفقه

کان الکلام فی حکم أخذ الأجرة علی القضاء وقلنا إن البحث فیه یقع فی مقامین :

ص: 51


1- (4) المقصود من حرمة الأجرة : الحرمة الوضعیة بمعنی عدم الاستحقاق لا الحرمة التکلیفیة .
2- (5) وهو ما یساوق عدم الاستحقاق .

الأول : بحسب مقتضی القاعدة والأسس التی أسّسناها فی البحوث السابقة من ناحیة کبرویة .

المقام الثانی : بحسب الأدلة الخاصة .

وعقدنا البحث فی المقام الأول وقلنا بأنهم ذکروا أن دلیل وجوب القضاء یُستفاد منه المجانیة فلا یجوز أخذ الأجرة علیه حینئذ وقلنا إن هذا یحتاج إلی توقف لأن المجانیة المحتملة یمکن تصوّرها علی أنحاء فتارة تفسّر بکونها قیداً فی الواجب وأخری تُفسّر بمعنی استحقاق الغیر للعمل وثالثة تُفسّر بإلغاء المالیة من قبل الشارع فتکون علی حدّ الخمر .

وقد ذکرنا فی ما یتعلق بالاحتمال الأول أنه علی الظاهر لا یؤثّر فی حرمة أخذ الأجرة بالمعنی المبحوث عنه أی الحرمة الوضعیة بمعنی عدم استحقاق الأجرة - .

وأما الاحتمال الثانی وهو کون العمل مستحقاً للغیر فالظاهر أیضاً أنه إنما یمنع من أخذ الأجرة من خصوص الشخص الذی استحقّ ذلک العمل وأما أخذ الأجرة من غیره مع أداء العمل فلا موجب للمنع عنه لأن کون العمل مستحقاً للغیر لا یُفهم منه إلا لزوم أداء العمل مجاناً من ذلک الغیر وأما أخذ الأجرة من غیره فلا یُفهم من نفس استحقاق الغیر للعمل .

هذا کله علی تقدیر أن یُفهم من دلیل الوجوب أن العمل مستحق للغیر کما نفهم من دلیل تجهیز المیت أن تجهیزه مستحق له وکذا فی موارد أخری .. إذاً فاستحقاق العمل لا ینافی أخذ الأجرة من الغیر ، نعم .. فی خصوص محلّ الکلام وهو باب القضاء - یمکن أن یُدّعی بأن الاستحقاق یقتضی المنع باعتبار أن القضاء علی تقدیر أن یُفهم من دلیل وجوبه استحقاق الغیر له فالمقصود بالغیر هم جمیع المسلمین لا خصوص المتخاصمین فحینئذ لا یصحّ أخذ الأجرة لا من المتخاصمین ولا من غیرهما لأن الجمیع یستحق هذا العمل وقد قلنا إن أخذ الأجرة ممن یستحق العمل ممنوع .

ص: 52

وأما الاحتمال الثالث وهو إلغاء المالیة شرعاً فهو علی تقدیر استفادته من الواضح أنه یمنع من أخذ الأجرة لأن المفروض أن العمل قد أسقط الشارع مالیته فیکون أخذ الأجرة فی مقابله أکلاً للمال بالباطل کما هو الحال فی الخمر والخنزیر .

هذا حال عالم الثبوت .

وأما فی مقام الإثبات فاستفادة المجانیة بأیٍّ من الاحتمالات المتقدمة لا یخلو من صعوبة خصوصاً فی محلّ الکلام فلا یمکن أن نستفید المجانیة من نفس دلیل وجوب القضاء مجرّداً عن أیّ شیء آخر ما لم نضمّ عنایة إضافیة سواء بالمعنی الأول وهو أخذها قیداً فی الواجب أو بالمعنی الثانی وهو کون العمل مستحقّاً للغیر أو بالمعنی الثالث وهو إلغاء المالیة شرعاً .

نعم .. قیل بأن العنایة التی نستفید فی ضوئها اعتبار المجانیة فی القضاء فضلاً عن مثل تجهیز المیت موجودة وهی مناسبات الحکم والموضوع فإنها تقتضی المجانیة إما بالمعنی الثانی أو الثالث .

ولکن یرد علیه أن ما یُفهم من دلیل وجوب تجهیز المیت فضلاً عن وجوب القضاء الذی هو محلّ الکلام هو الإلزام بالعمل لأجل الغیر ولا یُفهم منه جعل العمل للغیر الذی یمنع فی الحقیقة من أخذ الأجرة لأن معناه جعل العمل مملوکاً للغیر ومن المسلّم به أن جعل العمل مملوکاً لشخصٍ یقتضی استحالة تملیکه من قبل غیره بعوض وأجرة فإیجاب العمل علی شخص لا یُفهم منه جعله مملوکاً له وإنما غایة ما یُفهم منه أن ذلک الشخص یستحقّ هذا العمل لا علی نحو کونه مالکاً له ولذا لا ینافی ذلک أن یأخذ القائم بالعمل الأجرة علیه منه .

اللّهم إلا أن یُدّعی استفادة ذلک أی جعل العمل مملوکاً للغیر - من دلیل وجوب تجهیز المیت ولا ریب أن هذا یکون مانعاً من أخذ الأجرة .. ولکن فهم هذا من الدلیل لیس بذلک الوضوح .

ص: 53

وأما مناسبات الحکم والموضوع التی هی مناسبات عرفیة فهی تقتضی استحقاق العمل لأجل الغیر وإیجابه له ولکن هذا لا یعنی ملکیة العمل .. فإذاً لا الاستحقاق یمنع من أخذ الأجرة ولا الإیجاب کذلک وإنما الذی یمنع منه هو تملیک العمل للغیر وهو مما لا یُستفاد من مجرد دلیل وجوب تجهیز المیت أو من مجرد دلیل وجوب القضاء ، ولو تنزّلنا وسلّمنا ذلک فإنما نسلّمه فی مثل تجهیز المیت لا فی الأمر بالقضاء إذ الفرق بینهما واضح وجداناً ولذا لم یستدلّ الماتن (قده) علی مجانیة القضاء بهذا الدلیل وإنما استدلّ بدلیل آخر سیأتی التعرّض له إن شاء الله تعالی .

والحاصل أنه بلحاظ مقتضی القاعدة فإن إثبات عدم جواز أخذ الأجرة علی القضاء لا یخلو من صعوبة من دون فرق بین کونه واجباً کفائیاً أو عینیاً مع الالتفات إلی أن القضاء لیس من الواجبات العبادیة التی کنّا قد استشکلنا فی جواز أخذ الأجرة علیها - .

هذا کله بحسب المقام الأول أعنی مقتضی القاعدة - .

وأما بحسب المقام الثانی أی الأدلة الخاصة : فقد استُدلّ علی عدم الجواز بالمعنی المبحوث عنه فی المقام وهو عدم استحقاق الأجرة أی الحرمة الوضعیة - بعدّة أدلة :

أهمها - ممّا قد اعتنی به الفقهاء - روایة عمار بن مروان التی ینفرد بذکرها الشیخ الصدوق فی کتبه (1) فقد ذکرها فی الخصال بسند صحیح عن أبیه عن سعد (والمقصود به سعد بن عبد الله الأشعری الثقة بلا إشکال) عن أحمد بن محمد عن ابن محبوب (والمراد به فی هذه الطبقة هو أحمد بن محمد بن خالد البرقی الثقة لأنه هو الذی یروی عنه سعد وهو یروی عن الحسن بن محبوب) عن أبی أیوب (والمراد به أبو أیوب الخزاز المعروف المسمی بإبراهیم بن زیاد) عن عمار بن مروان (وهو ثقة وقد أثبتنا وثاقته فی بحث سابق فی باب الخمس) ، کما ذکرها فی معانی الأخبار أیضاً ولکن بطریق فیه ضعف وهو عن محمد بن موسی بن المتوکل عن عبد الله بن جعفر عن محمد بن الحسین عن الحسن بن محبوب ، وقد ذکر الطریقین الشیخ صاحب الوسائل فی الباب الخامس من أبواب ما یُکتسب به الحدیث الثانی عشر ، ونصّ الروایة هکذا :

ص: 54


1- (1) بل یذکرها الشیخ الکلینی فی الکافی بهذا السند : " عدة من أصحابنا عن سهل بن زیاد وأحمد بن محمد عن ابن محبوب عن ابن رئاب عن عمار بن مروان " الکافی مج5 ص126 ، وکذا یذکرها فی التهذیب عن (ابن محبوب عن ابن رئاب عن عمار بن مروان) التهذیب مج6 ص368 ، نعم لیس فی النقلین محل الشاهد وهو قوله (ومنها أجور القضاة) ولعل مراد شیخنا الأستاذ بالانفراد هو الانفراد بذکر هذه العبارة لا الانفراد بذکر أصل الروایة .. ولکن یرد علیه أن الروایة وفیها هذه العبارة مذکورة فی تفسیر العیّاشی ص322 فعلی هذا لا یتحقق انفراد الشیخ الصدوق (قده) بها .

" قال أبو عبد الله (علیه السلام) : کلّ شیء غُلّ من الإمام فهو سحت (وهذه العبارة لیست موجودة فی بعض نسخ الروایة ولیس لها کبیر دخل فی الاستدلال بهذه الروایة) والسحت أنواع کثیرة منها ما أصیب من أعمال الولاة الظلمة ومنها(أی من الأنواع) أجور القضاة وأجور الفواجر وثمن الخمر والنبیذ المسکر والربا بعد البینة فأما الرشا یا عمار فی الأحکام فإن ذلک الکفر بالله العظیم ورسوله صلی الله علیه وآله " (1) .

والاستدلال بهذه الروایة مبنی علی أن الضمیر فی قوله : (ومنها أجور القضاة) یعود إلی الأنواع فیکون المقصود : (ومن أنواع السحت أجور القضاة) فتکون أجرة القاضی سحتاً وهو معنی عدم الجواز الوضعی المبحوث عنه فی المقام فتدل الروایة علی الحرمة الوضعیة وعدم استحقاق الأجرة .

وهذا الاستدلال اعتُرض علیه باعتراضات :

الأول : کما فی کلمات الماتن (قده) الذی ذهب فی مصباح الفقاهة إلی حرمة أخذ الأجرة علی القضاء واستدلّ بروایات ومنها روایتنا هذه وبدلیل آخر ستأتی الإشارة إلیه إلا أنه فی کتاب القضاء عدل عن ذلک وذهب إلی جواز أخذ الأجرة علی القضاء واستشکل فی دلالة صحیحة عمار بن مروان بطرح احتمال آخر فی دلالتها تکون الروایة فی ضوئه أجنبیة عن محلّ الکلام فلا تدلّ علی حرمة أخذ الأجرة علی القضاء بقول مطلق حیث قال بأن الضمیر فی (منها) یعود إلی الموصول (ما) فی قوله : (ما أصیب من أعمال الولاة الظلمة) فیکون من متفرّعات ما أصیب من أعمال الولاة الظلمة - نعم .. الضمیر فی (منها) الذی سبق (ما) فی قوله : (والسحت أنواع کثیرة منها ما أصیب من أعمال الولاة الظلمة) لا إشکال فی عوده علی الأنواع وإنما الکلام فی الضمیر الثانی التالی له -وعلی ذلک یکون المراد الأجور التی یصدق علیها أنها أُصیبت من أعمال الولاة الظلمة فهی تدلّ علی سُحتیة أخذ الأجرة علی القضاء ولکن لا مطلقاً وإنما تدلّ علی کونه سحتاً فی ما إذا کان قد أصیب من أعمال الولاة الظلمة ، وبعبارة أخری هی تدل علی حرمة أخذ الأجرة علی القضاة الذین یأخذون أجورهم من السلطان الجائر وأین هذا من محلّ الکلام ؟! فنحن نتکلم عن القضاء بما هو بقطع النظر عن کونه یأخذه من السلطان الجائر أو من غیره فهل أخذ الأجرة علیه جائز أم لا سواء کان من المتخاصمین أو من غیرهما والروایة علی هذا لا تکون ناظرة إلی ذلک وإنما هی ناظرة إلی ما یُصاب من أعمال الولاة الظلمة فهو سحت ومن جملة هذا السحت أجور القضاة .. إذاً أجور القضاة إنما تکون سحتاً عندما ینطبق علیها عنوان (ما أصیب من أعمال الولاة الظلمة) ولذا یری (قده) أن هذه الروایة لا یمکن أن نُثبت بها حرمة أخذ الأجرة علی القضاء بما هو قضاء وإنما هی ناظرة إلی ما یأخذه القضاة من الولاة الظلمة وهذا لا إشکال فی کونه سحتاً فلا یصح الاستدلال بالروایة .

ص: 55


1- (2) معانی الأخبار ص211 .

هذا .. ویمکن أن یقال إن هذا الاحتمال الذی ذکره (قده) بعید بقرینتین :

الأولی : عطف أجور الفواجر وما بعدها من ثمن المیتة وغیرها علی أجور القضاة ب_(الواو) مع وضوح أن أجور الفواجر وما عُطف علیها لیست داخلة فی ما أصیب من أعمال الولاة الظلمة وهذا معناه أن أجور الفواجر وکذا العناوین التی عُطفت علیها هی نوع مستقل من أنواع السحت فی قبال ما أصیب من أعمال الولاة الظلمة وهذا أمر مقطوع به بغض النظر عن أیّ شیء آخر وهذا یُمثّل قرینة علی أن أجور القضاة تکون کذلک لأنه (علیه السلام) قال : (ومنها أجور القضاة وأجور الفواجر) ثم عطف علیها الأمور المذکورة فهذا العطف بالواو یکون قرینة علی أن أجور القضاة هو من هذا القبیل وهذا یؤید أن الضمیر فی (منها) یعود إلی الأنواع ولیس إلی الموصول فی قوله : (ما أصیب من أعمال الولاة الظلمة) .

القرینة الثانیة : - وهی الأهمّ تأنیث الضمیر فلو کان عنوان أجور القضاة یعود إلی (ما أصیب من أعمال الولاة الظلمة) لکان المتعیّن أن یأتی بالضمیر فی قوله (ومنه أجور القضاة) مذکّراً فتأنیثه قرینة علی عوده إلی الأنواع لا إلی الموصول فی الجملة المذکورة .

فکل من هاتین القرینتین علی نحو الاستقلال تجعل الکلام ظاهراً فی عود الضمیر فی قوله (ومنها أجور القضاة) إلی الأنواع وبهذا یثبت أن أجور القضاة من أنواع السحت فی قبال ما یصاب من أعمال الولاة الظلمة بمعنی أن أجور القضاة سحت بقطع النظر عن أنها تُصاب من الولاة الظلمة أو لا تُصاب منهم بل هی فی حدّ نفسها سحت فیثبت المطلوب .

تبقی مسألة وقد أشار الماتن (قده) إلیها - وهی أنه لو کان الأمر کما ذُکر أعنی کون ما أصیب من أعمال الولاة الظلمة عنواناً مستقلاً للسحت وأجور القضاة عنوان مستقل آخر للسحت وکذا أجور الفواجر وثمن الخمر لکان من المناسب أن تتکرر لفظة (منها) فی العناوین الأخری بأن یقال : (والسحت أنواع کثیرة منها ما أصیب من أعمال الولاة الظلمة ومنها أجور القضاة ومنها أجور الفواجر ومنها ثمن الخمر .. إلخ) مع أن الوارد فی الروایة عطف أجور الفواجر علی أجور القضاة .

ص: 56

وأقول : لعل الغرض من ذلک هو الفصل بین الفقرات وبیان أن ما بعد أجور القضاة غیر ما قبلها فالأول یدخل فی عنوان ما أصیب من أعمال الولاة الظلمة فی حین أن تلک العناوین الأخری لیست لها علاقة بکونها تؤخذ من السلطان الجائر وإنما هی عناوین مستقلة ذُکرت بهذا الشکل .

وکیف کان فلا یتوقف ما استظهرناه علی تمامیة هذا التوجیه لو طاله منعٌ علی أنه لیس من المستهجن فی مقام التعبیر عدم تکرار الضمیر حتی لو کان المقصود أن تلک العناوین هی عناوین مستقلة .

الاعتراض الثانی : أن یُدّعی أن الروایة لیست ناظرة إلی قضیة حقیقیة وحکم عام یکون شاملاً لکل القضاة علی مر العصور کما هو المطلوب فی المقام وإنما هی ناظرة إلی قضاة موجودین فی زمان صدور النصّ یأخذون الأجر من السلطان .

وهذا الاعتراض ینتهی إلی النتیجة نفسها التی ینتهی إلیها السید الماتن (قده) لکن بطریق آخر ، ولهذا الاعتراض تقریبان :

الأول : أن یقال بأن اللام فی القضاة للعهد لا للجنس فالمقصود بالقضاة هم القضاة المعهودون الموجودون فی زمان النصّ الذین یأخذون الأجور من السلطان الجائر فهذا الأجر الذی یأخذونه سحت وهذا لا ینفعنا فی مقام الاستدلال لإثبات حرمة أخذ الأجر علی القضاء مطلقاً .

وجواب هذا التقریب واضح وذلک بقرینة وحدة السیاق لأن اللام إنما هی للجنس لا للعهد کما ادُّعی بقرینة أخواتها فی المعطوفات الباقیة کما فی الفواجر والخمر وسواهما إذ اللام فیها للجنس قطعاً واختلاف السیاق بعید .

وأما التقریب الثانی للإشکال فسیأتی الحدیث عنه إن شاء الله تعالی .

ص: 57

القضاء-جواز اخذ الاجرة علی القضاء بحث الفقه

بسم الله الرحمن الرحیم ..

کان الکلام فی صحیحة عمار بن مروان المتقدمة حیث استُدلّ بها علی حرمة أخذ الأجرة علی القضاء باعتبار ورود قوله (علیه السلام) : (ومنها أجور القضاة) بناءً علی أن الضمیر فیها یعود إلی الأنواع وقلنا إنه ذُکر إشکال علی هذا الفهم وادُّعی أنه من المحتمل أن یکون الضمیر راجعاً إلی الاسم الموصول المتقدم وهو (ما أصیب من أعمال الولاة الظلمة) .. وقلنا إن هذا الاحتمال بعید وذکرنا أن هناک قرینتین تنفیانه .. وقلنا بعد ذلک إن الاستدلال بالروایة یتوقف علی أن لا تکون الروایة ناظرة إلی القضاة المعهودین الموجودین فی زمان صدور النصّ وهم الذین یتولون القضاء من قبل السلطان الجائر .

ووجه توقف الاستدلال علی ذلک هو أن غایة ما تدل علیه الروایة حینئذ هو سُحتیة الأجور التی یأخذها القضاة المنصوبون من قبل الولاة الظلمة وهذا غیر محل الکلام فإنّا إنما نتکّلم علی القاضی الذی یکون قضاؤه طبق الموازین الشرعیة فهذا هل یجوز له أن یأخذ الأجرة علی القضاء أو لا یجوز له ذلک وهذه الروایة لیس فیها دلالة علی ذلک .. إذاً حتی یتم الاستدلال لا بد من إثبات أن الروایة لیست ناظرة إلی أولئک القضاة الموجودین فی زمان صدور النصّ .

وبعبارة أخری : إن القضیة لیست خارجیة یکون موضوعها هؤلاء الأفراد وإنما هی قضیة حقیقیة موضوعها کل من یتصدّی للقضاء فهذا لا یجوز له أخذ الأجرة لأن الأجور التی یأخذها القضاة هی من السحت .. وحینئذ قد یقال بأن هناک قرائن علی أن القضیة ناظرة إلی هؤلاء القضاة المعهودین فلا یمکن الاستدلال بالروایة :

ص: 58

منها : أن اللام فی القضاة عهدیة ولیست للجنس .. وقد ذکرنا أنه خلاف الظاهر ولا یُصار إلیه إلا بدلیل خصوصاً وأن اللّامات المذکورة بعدها فی المعطوفات کالفواجر والخمر لا تصلح لغیر الجنس فحمل اللام فی القضاة علی العهد خلاف الظاهر .

ومنها : أن یقال إن الأجور التی نستطیع القول إن الروایة سیقت لبیان حکمها لم یُعهد أخذها إلا من قبل السلطان الجائر فأخذ الأجرة من المتخاصمین الذی هو داخل فی محلّ الکلام بل هو الفرد الواضح منه أمر غیر معهود لا فی زمان صدور النص ولا فی غیره .. وبعد استبعاد أن یکون المراد من السلطان هو العادل بقرینة الحکم بسحتیة هذه الأجور لأن ما یدفعه الحاکم العادل لا یکون سحتاً قطعاً فإذاً یکون المقصود بالأجور التی سیقت الروایة لبیان حکمها هی الأجور التی یأخذها القضاة من السلطان الجائر الذی نصبهم لتولّی القضاة فعدم معهودیة أخذ الأجرة من المتخاصمین هو القرینة علی تخصیص الروایة بخصوص القضاة المعهودین الذین یأخذون أجورهم من الحاکم الجائر ، وهذا الاختصاص لیس من جهة حمل اللام فی القضاة علی العهد حتی یأتی ما تقدّم من أنه لا موجب لهذا الحمل وأنه خلاف الظاهر ولا یُصار إلیه إلا بقرینة وإنما هو من جهة شیوع کون أجور القضاة تؤخذ من السلطان الجائر فالروایة تشیر إلی خصوص هذه الأجور وحینئذ لا یصحّ الاستدلال بها فی محلّ الکلام .

ویرد علی ما تقدّم أنه مبنی علی افتراض أن القضیة خارجیة حیث یُفترض أن الروایة ناظرة إلی ما هو الشائع والمتعارف خارجاً من أن الأجور التی یأخذها القضاة إنما یأخذونها من السلطان الجائر وأما أخذ الأجرة من المتخاصمین أو من غیرهما فهو نادر جداً فحینئذ تُحمل الروایة علی ما هو الشائع .. ولکن من الواضح أن هذا الافتراض هو أول الکلام لأنه علی الأقلّ ثمة احتمال آخر وهو کونها ناظرة إلی الأجر الذی یُدفع إلی القاضی - بما هو قاضٍ - علی القضاء أی أن القضیة علی نهج القضیة الحقیقیة کما هو الحال فی أجور الفواجر إذ لیس من المحتمل حملها علی نساء معهودات فی ذلک الزمان وإنما المراد قضیة موضوعها کل فاجرة تأخذ الأجر علی الفجور فهذا الأجر یکون من السحت فهذه قضیة حقیقیة لا تتوقف علی ملاحظة ما فی الخارج بل هی تشمل ما هو المتعارف وغیره وفی ذلک الزمان وغیره بل هی صادقة حتی لو لم یتحقق موضوعها خارجاً کما هو شأن کل قضیة حقیقیة فلیس فیها ثمة افتراض لموضوع موجود متحقق فی الخارج ویُحمل علیه الحکم وإنما هی قضیة مفادها أنه کلما کان هناک قاضٍ یأخذ الأجر علی قضائه فما یأخذه یکون سحتاً .

ص: 59

هذا .. والذی یظهر من الروایة فی قوله (علیه السلام) : (أجور القضاة) هی الأجور التی یأخذها القاضی علی القضاء کما یقال (أجور المُفتین حرام) أی أن الأجور التی یأخذها المُفتُون علی الفتوی حرام ، وکذا فی (أجور الفواجر حرام) فالمقصود به الأجور التی تأخذها الفواجر علی الفجور حرام ، وفی محلّ الکلام ما یُفهم هو تحریم الأجر الذی یأخذه القاضی بما هو قاضٍ علی القضاء والمقصود بالقضاء کما أسلفنا فی أول هذا الکتاب هو حلّ الخصومة وفکّ النزاع فلسان الروایة هو الحکم بسحتیة ما یأخذه القاضی علی حلّ الخصومات ، وأما کون الروایة ناظرة إلی الأجر الذی یأخذه القاضی من السلطان فمستبعد لأن السلطان - عادلاً کان أو جائراً - إنما یُعطی الأجر للقاضی علی منصب القضاء لا علی مزاولة القضاء بالفعل ولذلک یأخذ القاضی أجره منه ولو فُرض أنه لم تکن ثمة قضیة لیفصل بها فی المدّة المرسومة للأجر علی غرار ما یُعطیه السلطان للوالی ولرئیس شرطته وسواهم .

هذا .. مع أن التعبیر الوارد فی الروایة وافٍ فی تحریم الأجر الذی یأخذه القاضی بما هو قاضٍ والحکم بسُحتیته من دون حاجة إلی نصب قرینة إضافیة علی إرادة هذا المعنی حتی یقال إنه حیث لم یُؤت بهذه القرینة فلا بد من حملها علی القضیة الخارجیة فالتعبیر المذکور فی الروایة تعبیر عرفی وافٍ بالمقصود فافتراض حمل الروایة علی القضاة المعهودین واختصاصها بهم خلاف الظاهر بل الظاهر کما تقدّم أنها ناظرة إلی ما یأخذه القاضی بما هو قاضٍ علی القضاء سواء من المتخاصمین أو من غیرهما وفی ذلک الزمان وغیره من الأزمنة علی نهج القضیة الحقیقیة کما هو الحال مع فقرات الروایة الأخری حیث لا نحتمل فیها المعهودیة والاختصاص بذلک الزمان .

ص: 60

ومنه یظهر أن هذا الاعتراض علی الروایة لیس تاماً کما أن الاعتراض المتقدم علی الروایة لیس تاماً أیضاً .. والنتیجة أن الاستدلال بالروایة إلی هنا فی محلّ الکلام لا بأس به فتدل علی حرمة أخذ الأجرة علی القضاء .

ثم إن هناک کلاماً حول دلالتها علی حرمة أخذ الأجرة علی القضاء مطلقاً أو خصوص ما إذا کان القضاء واجباً معیّناً وستأتی الإشارة إلیه لاحقاً بعد إتمام الأدلة فثمة احتمال أن الروایة ناظرة إلی صورة التعیّن لا إلی صورة عدم التعیّن وکون القضاء واجباً کفائیاً .

الدلیل الثانی : صحیحة عبد الله بن سنان التی مرّ ذکرها فی بحث الارتزاق وهی تامة السند حیث یرویها المشایخ الثلاثة (الصدوق والکلینی والطوسی قدهم -) بأسانید تامة ففی الکافی عن علی بن إبراهیم عن أبیه عن ابن محبوب عن عبد الله بن سنان : " قال : سئل أبو عبد الله (علیه السلام) عن قاضٍ بین قریتین یأخذ من السلطان علی القضاء الرزق فقال : ذلک السحت " (1) .

والاستدلال بالروایة فی محلّ الکلام مع أن العنوان الوارد فیها هو الرزق لا الأجرة التی هی محلّ الکلام مبنی علی أن یکون المراد بالرزق هو الأجر أو مطلق العوض ، والموجب للحمل علی هذا المعنی أمران :

الأول : الإجماع علی جواز ارتزاق القاضی من بیت المال وظاهر الروایة نفی ذلک فلا بد من حملها علی أن المراد من الرزق الأجر أو مطلق العوض .

ص: 61


1- (1) الکافی مج7 ص409 ، وکذا فی الفقیه مج6 ص6 ، ولکن الموجود فی النسخة المطبوعة من التهذیب مج6 ص222 : (قاضٍ بین فریقین) وهو المذکور فی کلمات الفقهاء .

الثانی : قوله فی الروایة (علی القضاء) فإنه ظاهر فی کون ما یأخذه عوضاً لا ارتزاقاً فیکون المراد بالرزق هو العوض الشامل للأجر الذی هو محل الکلام لأن ارتزاق القاضی لا یکون علی القضاء بل لکونه یقوم بمصلحة من مصالح المسلمین فتکون الروایة ناظرة إلی محلّ الکلام وتدل علی الحرمة والسُحتیة .

وهذا الاستدلال بهذا التقریب غیر واضح لقرائن :

الأولی : إن الظاهر کون المقصود بالسلطان فی الروایة هو السلطان الجائر فلا تنفع الروایة حینئذ فی مقام الاستدلال فی ما نحن فیه حتی لو أُرید من الرزق فیها الأجرة ، وإنما حملناه علی السلطان الجائر لأن الظاهر من هذا التعبیر عادة هو ذاک لا ما یشمل السلطان العادل .

الثانیة : إن الروایة تُصرّح أن القاضی المذکور فیها هو منصوب من قبل السلطان بین قریتین (أو بین فریقین) وهو یأخذ الرزق علی القضاء ولمّا کان من غیر المتعارف أن یتصدّی الإمام (علیه السلام) لنصب قاضٍ بین قریتین فلا بد من حمله إذاً علی السلطان الجائر ، نعم .. قد تعارف أن الإمام (علیه السلام) أَمَر بأن یُرجَع إلی من عرف حلالهم وحرامهم کما فی الروایات الدالة علی نصب القضاة إلا أنه لم یکن متعارفاً أن ینصب الإمام (علیه السلام) قاضیاً بین قریتین .

الثالثة : إن الحکم بسُحتیة الرزق الذی یأخذه هذا القاضی من السلطان دلیل علی أن المقصود بالسلطان لیس هو السلطان العادل بل السلطان الجائر لأن ما یدفعه السلطان العادل من الرزق لا یمکن أن یکون سُحتاً .

فلِما تقدّم یظهر أن الروایة تختصّ بخصوص الأجر الذی یُعطیه السلطان الجائر للقاضی وحینئذ تسقط عن صحة الاستدلال بها فی محلّ الکلام .

ص: 62

هذا کلّه إذا سلّمنا ما ذُکر فی تقریب الاستدلال من حمل الرزق فی الروایة علی الأجر أو مطلق العوض ، وأما إذا شکّکنا فی ذلک وقلنا إن الرزق باقٍ علی معناه فالروایة تکون حینئذ أجنبیة عن محلّ الکلام فتدلّ حینئذ علی أن ارتزاق القاضی من السلطان الجائر غیر جائز بخلاف القاضی وفق الموازین الشرعیة فإن ارتزاقه من بیت المال لا إشکال فیه .

وهذا الاحتمال (1) لیس ببعید بحسب ظاهر الروایة وما ذُکر من الأمرین الذین أوجبا حمل الرزق فی الروایة علی الأجرة أو علی مطلق العوض فغیر واضح :

أما بالنسبة إلی الإجماع المدّعی فإنه لا ینافی إبقاء الرزق فی الروایة علی معناه وعدم حمله علی الأجر لما ذکرنا من أن الإجماع قائم علی جواز ارتزاق القاضی الصحیح من بیت المال وهذا لا ینافیه عدم جواز أخذ الرزق للقاضی غیر الصحیح من الحاکم الجائر .

وأما قوله (علی القضاء) الذی ادُّعی کونه ظاهراً فی کون ما یأخذه القاضی عوضاً لا ارتزاقاً فیکون المراد بالرزق علی هذا هو العوض الشامل للأجر فهو کما عبّر السید صاحب العروة (قده) معترضاً علیه بقوله : (وهو کما تری وإن استدلّ به کثیر من مشایخنا المحقّقین) (2) فإن الظاهر أنه إشارة إلی أن التعبیر الوارد (3) یلائم الرزق کما یقال : (المؤذن یأخذ علی الأذان الرزق) وغیرها من الموارد الأخری التی هی من التعبیرات المتعارفة فی کون المأخوذ هو الرزق لا الأجر .. إذاً لا یکون ذلک (4) قرینة علی حمل الرزق علی الأجر بل یبقی الرزق علی ما هو علیه فی ظاهر معناه .

ص: 63


1- (2) أی کون المراد بالرزق هو الارتزاق .
2- (3) عبارته فی العروة هکذا : " ودعوی : أن الظاهر من قوله : (علی القضاء) کونه عوضاً عنه لا ارتزاقاً ، کما تری " ، ولیس فیها ما ذکره شیخنا الأستاذ بقوله (وإن استدلّ به کثیر من مشایخنا المحقّقین) لاحظ العروة الوثقی مج6 ص441 .
3- (4) یعنی قوله : (یأخذ من السلطان علی القضاء) .
4- (5) یعنی قوله (علی القضاء) .

ومنه یظهر أن الاستدلال بهذه الروایة علی حرمة أخذ الأجرة علی القضاء لیس تاماً .

الدلیل الثالث : ما أشار إلیه الشیخ صاحب الجوهر (قده) من أن القضاء من مناصب السلطان الذی أمره الله تعالی بأن یقول : (لا أسألکم علیه أجراً) (1) وأوجب التأسّی به " (2) .

أی أن القضاء من مناصب النبی (صلی الله علیه وآله) وقد أُمِر أن لا یطلب أجراً علی المنصب الذی منحه الله إیاه ونحن أُمِرنا بالتأسّی به (صلی الله علیه وآله) .

وأما وجه استدلاله (قده) بما ذُکر فهو باعتبار کون القضاء منصباً إلهیاً منحه الله تعالی للنبی (صلی الله علیه وآله) وبالتالی مُنح بإذنه تعالی للقاضی الواجد للشرائط ومثل هذا المنصب الممنوح من قِبَله تعالی لا ینبغی أن یُؤخذ علیه الأجر فلا بدّ أن یؤتی به مجّاناً، ویستدلّ (قده) علی ذلک بقوله تعالی: (لا أسألکم علیه أجراً) ، والسید الماتن (قده) یوافق علی هذا فی رأیه السابق وجعله مؤیّداً (3) ، وأما فی رأیه اللاحق - الذی ذکره فی کتاب القضاء - فلا یوافق علیه بل عدل عنه .

وفی وجه الاستدلال هذا تأمّلات یأتی ذکرها إن شاء الله تعالی .

القضاء-جواز أخذ الاجرة علی القضاء-بحث سندی فی روایة عمار بن مروان بحث الفقه

فی ما یتعلّق بروایة عمار بن مروان التی قلنا بتمامیة دلالتها علی حرمة أخذ الأجرة علی القضاء هناک ملاحظتان علیها من حیث السند :

ص: 64


1- (6) الأنعام / 90 ، الشوری / 23 .
2- (7) جواهر الکلام مج22 ص122 .
3- (8) مصباح الفقاهة مج1 ص373 .

الأولی : وهی منقولة عن المحقّق العراقی (قده) وحاصلها دعوی سقوط هذه الروایة عن الحجیة لإعراض المشهور عنها حیث إن المشهور وإن ذهب إلی عدم الجواز إلا أنه استند فی ذلک إلی قاعدة حرمة أخذ الأجرة علی الواجبات کما یشهد لذلک التفصیل بین الواجب العینی والواجب الکفائی فإن من الواضح أن مستنده هو القاعدة وإلا فلو کان مستنده هو الصحیحة فإن الصحیحة مطلقة لا تفرّق بین نوعی الواجب المذکورین فذهاب المشهور إلی التفصیل دلیل علی أن مستنده فی الحکم لیس هو الصحیحة بل هو القاعدة وهذا معناه الإعراض عن هذه الصحیحة وهو ما یوجب سقوطها عن الحجیة .

وأقول : یمکن أن یُلاحظ علیه بأن تحقّق الإعراض فی مثل المقام غیر واضح لاحتمالات نذکرها تجعلنا نشکّک فی صدق إعراض المشهور عن هذه الروایة :

منها : إن هذه الروایة بالنحو المذکور المشتمل علی فقرة الاستدلال أعنی (أجور القضاة) - انفرد بنقلها الشیخ الصدوق (قده) ولم ینقلها إلا فی بعض کتبه غیر الحدیثیة کما فی الخصال ومعانی الأخبار دون الفقیه - مثلاً وهذا یجعلنا نحتمل أن المشهور لم یلتفت إلی هذه الروایة فکیف یتحقّق الإعراض مع أنه فرع أن تکون الروایة بمرأی ومسمع منه ثم لا یطرحها للبحث فیتحقّق حینئذ الإعراض الموجب للسقوط عن الحجیة ، وأما عندما توجد روایة قد ذُکرت فی مثل الخصال ومعانی الأخبار ولم تُنقل فی الکتب الحدیثیة المتداولة لا الواصلة منها إلینا ولا تلک التی نقل عنها الفقهاء السابقون فهذا یقوّی احتمال أن المشهور لم یلتفت إلی هذه الروایة ممّا یجعلنا نشکّک فی صدق إعراضه عنها .

ومنها : أنه علی احتمال أن المشهور کان ملتفتاً إلی هذه الروایة لکنه لم یعمل بها والتزم بالتفصیل بین کون القضاء واجباً عینیاً وکونه واجباً کفائیاً لأجل عدم وضوح دلالتها عنده فنحن وإن قلنا بتمامیة دلالة هذه الروایة إلا أن هناک جمهوراً من الفقهاء لا یرونها دالة علی التحریم بل حُملت عندهم علی الأجور التی یأخذها القاضی من السلطان الجائر وهو غیر محلّ الکلام .. إذاً لعل دلالة الروایة علی حرمة القضاء بالمعنی المبحوث عنه فی ما نحن فیه لیست واضحة عندهم ولذا لم یعملوا بها فیکون الإعراض من جهة الدلالة لا من جهة ضعف السند ، وأما کون مثل هذا الإعراض (1) مؤثّراً أو غیر مؤثّر فهو بحث مطروح فی کلماتهم لسنا فی صدده الآن .

ص: 65


1- (1) أی من جهة الدلالة .

ومنها : أن الإعراض عن الروایة هو من جهة شذوذها حیث لم تُدوّن فی کتب الأصحاب والروایة الشریفة تقول : (خذ بما اشتهر بین أصحابک ودع الشاذ النادر) (1) والمقصود بالشهرة هنا الشهرة الروائیة أعنی شهرة تدوین الروایة ونقلها وهذه الصحیحة لیست مشهورة بهذا المعنی فهی شاذة نادرة لأنه لم یروها إلا الشیخ الصدوق فی بعض کتبه غیر الحدیثیة والمشهور لا یری العمل بالروایات الشاذة .

ومنها : اکتفاء المشهور بالقاعدة الفقهیة حیث لم یجعله یفحص کثیراً عن الأدلة والروایات فاکتفی فی ما نحن فیه بالقاعدة التی تنصّ علی حرمة أخذ الأجرة علی الواجبات وطبّقها فی محلّ الکلام والتزم بمضمونها من حرمة أخذ الأجرة علی القضاء فی المورد .

فهذه الاحتمالات المتقدمة احتمالات واردة تمنعنا من أن نلتزم بتحقّق صغری الإعراض فی محلّ الکلام فلیس واضحاً أن المشهور أعرض عن هذه الروایة فی ما نحن فیه حتی تسقط عن الحجیة لا سیّما أنها کما ذکرنا - مرویة فی الخصال ومعانی الأخبار ولیس من الواضح أن المشهور کان قد التفت إلی هذه الروایة خصوصاً وأن الشیخ الطوسی (قده) کثیراً ما کان ینقل روایات بتوسّط الشیخ الصدوق (قده) فلو کان ملتفتاً إلی روایته لها لکان قد نقلها کما هو دیدنه .

نعم .. ذکرها العیّاشی فی تفسیره أیضاً إلا أن هذا لا یقدح فی ما ذکرناه من عدم اطّلاع المشهور علیها لأن کتاب العیّاشی لیس من الکتب الحدیثیة أیضاً .

والاحتمال الأول ممّا تقدّم هو العمدة فی التشکیک فی تحقّق الإعراض الموجب لسقوط الروایة عن الحجیة .

ص: 66


1- (2) عوالی اللئالی مج4 ص133 .

الملاحظة الثانیة : إن هذه الروایة کما ذکرنا ینفرد بروایتها الشیخ الصدوق (قده) فی الخصال ومعانی الأخبار وینقلها بالسند المذکور وهو سند معتبر ویشتمل هذا النقل علی فقرة الاستدلال أعنی قوله (علیه السلام) : (ومنها أجور القضاة) التی استدللنا بها علی حرمة أخذ الأجرة علی القضاء ، وهناک روایة ینقلها الشیخ الکلینی فی الکافی (مج5 ص126) والشیخ الطوسی فی التهذیب (مج6 ص368) عن عمار بن مروان ویذکران سندهما إلیه وهی مشابهة للروایة السابقة فی السند وفی المتن إلا أنه لیس فیها فقرة الاستدلال ، نعم .. کل الطرق لهذه الروایة علی تقدیر کونها روایة واحدة تنتهی إلی الحسن بن محبوب وهو یروی عن عمار بن مروان بواسطة أبی أیوب الخزاز فی نقل الشیخ الصدوق ویروی عنه بتوسّط علی بن رئاب فی نقلی الکلینی والطوسی وهذا معناه بعد فرض استبعاد تعدّد الواقعة لتشابه السند والمتن تقریباً إلا فی (أجور القضاة) أن الصادر من المعصوم (علیه السلام) کلام واحد فی واقعة واحدة وعمار بن مروان نقل لنا هذه الواقعة ولکن علی بن رئاب نقلها عنه من دون فقرة الاستدلال وأبو أیوب الخزاز نقلها عنه مع فقرة الاستدلال فحینئذ یحصل التعارض بین هذین النقلین - بعدما فرضنا استبعاد تعدّد الواقعة الذی لازمه کون الصادر منه (علیه السلام) کلام واحد إما یکون مشتملاً علی فقرة الاستدلال أو یکون خالیاً منها ومعنی هذا أن دلیل الحجیة لا یمکن أن یشمل کلا هذین النقلین بخلاف ما إذا کانت الواقعة متعدّدة فإنه لا ضیر فی شموله لکلیهما .

وفی الحقیقة أن الأمر یدور بین أن تکون الفقرة المعهودة موجودة واقعاً غایة الأمر أنها سقطت من روایة ابن رئاب وأن تکون غیر موجودة واقعاً وإنما زیدت فی روایة أبی أیوب الخزاز فثمة احتمالان فی المقام یدور الأمر بینهما والأقوائیة والترجیح للاحتمال الأول (1) لأن احتمال السقوط أقوی من احتمال الإضافة باعتبار أن مناشئ السقوط تکون متعددة مثل استعجال النُسّاخ فی النقل حیث تتخطّی عینُه بعض الکلمات وربما بعض الجُمَل مع استبعاد أن یکون ذلک عن عمد منه لإخلال مثل هذا بالوثاقة المفروضة فی الروایة المحکوم بصحتها وأن احتمال الإضافة من غیر عمد یحتاج إلی مؤنة أکبر لافتراضه وهذا هو السبب فی ترجیح أصالة عدم الزیادة علی أصالة عدم النقیصة عند دوران الأمر بینهما بالنظر العقلائی .

ص: 67


1- (3) وهو احتمال وجود الفقرة واقعاً وسقوطها من روایة ابن رئاب .

وما نحن فیه من هذا القبیل بعد فرض تسلیم مقدماته وإلا فقد یُشکّک فی وحدة الواقعة بنکتة أن الروایة منقولة عن إمامین فالروایة التی بنقل الخصال هی عن أبی عبد الله (علیه السلام) والتی بنقل الکافی والتهذیب عن أبی جعفر (علیه السلام) وهذا مما یُقوّی احتمال تعدّد الواقعة وحینئذ یکون دلیل الحجیة شاملاً لکلا النقلین .

إذا تبیّن هذا فلنعد إلی محلّ الکلام وهو الدلیل الذی ذکره صاحب الجواهر (قده) من أن : " القضاء من مناصب السلطان الذی أمره الله تعالی بأن یقول : (لا أسألکم علیه أجراً) وأوجب التأسّی به " فلا بد أن یقع مجّاناً .

فأقول : الظاهر أن الآیة الشریفة أجنبیة عن محلّ الکلام فهی تدلّ علی أن النبی (صلی الله علیه وآله) لا یطلب أجراً علی تبلیغ الرسالة ولنفترض شمولها للقضاء لیکون تطبیقها حینئذ أنه (صلی الله علیه وآله) لا یطلب أجراً علی القضاء ولکن أیّ علاقة لهذا بحرمة أخذه للأجرة لو أُعطیت له فإن غایة ما تدل علیه أنه لیس من شأنه أن یطلب الأجر ولا یناسبه ذلک إلا أن هذا لا یلازم عدم جواز أخذه الأجرة لو أُعطیت له من غیر سبق طلب منه .

ولو سلّمنا بدلالة الآیة الشریفة علی حرمة أخذ الأُجرة إلا أن الظاهر منها هو حرمة أخذ الأَجر علی تبلیغ الرسالة وشمولُها للقضاء محلُّ منع اللهم إلا بعنایات بعیدة جداً من قبیل أن یقال إن حرمة أخذ الأُجرة علی تبلیغ الرسالة إنما هو باعتبار کون الرسالة من المناصب الإلهیة وحیث إن القضاء من المناصب الإلهیة أیضاً فکما یحرم أخذ الأُجرة علی تبلیغ الرسالة یحرم أخذ الأُجرة أیضاً علی القضاء لاشتراکهما فی ملاک الحکم إلا أن دفع هذا واضح وذلک لأنّا حتی لو سلّمنا هذه الاستفادة إلا أن احتمال الفرق بین أنواع المناصب الإلهیة یبقی محفوظاً إذ ثمة فرق کبیر بین تبلیغ الرسالة والقضاء فیُحتمل اختصاص الحرمة علی تقدیر دلالة الآیة علیها - بتبلیغ الرسالة لکونه منصباً إلهیاً فی غایة الأهمیة ولا یمکن تعدیة هذا الحکم لکل منصب إلهی لیقال بحرمة أخذ الأُجرة علیه .

ص: 68

القضاء-مسالة-2-تکملةالکلام فی المقام الثانی-المقام الثالث-حرمة أخذ الرشوة علی القضاء بحث الفقه

کان الکلام فی الدلیل الذی أورده صاحب الجواهر (قده) حیث ذکر أن : " القضاء من مناصب السلطان الذی أمره الله تعالی بأن یقول : (لا أسألکم علیه أجراً) " وقد ناقشنا هذا الأمر .. ثم ذکر أن الله تعالی أوجب التأسّی بالنبی (صلی الله علیه وآله) وقد تُقرّب دلالة التأسّی علی حرمة أخذ الأجرة فی المقام ببیان أنه لا إشکال فی کون النبی (صلی الله علیه وآله) قد مارس القضاء بین الناس کما لا إشکال أیضاً فی کونه لم یأخذ أجراً علیه فوجوب التأسّی یقتضی أن نتأسّی به فی هذا الأمر وهذا معناه أنه یجب علینا ترک أخذ الأجرة وهو یعنی حرمة أخذ الأجرة علی القضاء .

ولکن من الواضح أنه لا یمکن الالتزام بهذا لأنه یؤدی إلی أن تنقلب کل المستحبات بل حتی المباحات التی یأتی بها النبی (صلی الله علیه وآله) إلی کونها واجبة علینا من باب التأسّی وهذا بیّن البطلان فلا بد أن یکون المقصود بالتأسّی هو اتّباع النبی (صلی الله علیه وآله) فی العمل علی الوجه الذی صدر منه فالعمل الذی صدر منه علی وجه الوجوب - مثلاً - یفرض التأسّی علینا فیه أن نلتزم بهذا العمل ونعدّه واجباً ، والعمل الذی صدر منه علی وجه الاستحباب فالتأسّی یفرض علینا أن نلتزم بکون هذا العمل مستحبّاً بغض النظر عن إتیاننا به وعدمه فالمراد بالتأسّی بالنبی (صلی الله علیه وآله) إذاً هو اتّباعه فی العمل علی الوجه الذی صدر منه ، وکذا لو کان قد ترک عملاً مّا فالتأسّی به هو اتّباعه بالترک علی الوجه الذی صدر منه هذا الترک فإذا ترک أخذ الأجرة علی القضاء من باب أنه یحرم علیه أخذ الأجرة فلا إشکال أنه یُثبّت حرمة أخذ الأجرة غیر أن هذا هو أول الکلام إذ من أین لنا أن نُثبت أن النبی (صلی الله علیه وآله) ترک أخذ الأجرة علی القضاء لکونه حراماً فإن هذا هو محلّ النزاع ولا یمکن فی البین إلا إثبات أنه (صلی الله علیه وآله) ترک أخذ الأجرة الذی هو أعمّ من الحرمة أو الجواز فیکون قد ترکه تعفّفاً فالتأسّی لا یمکن أن یُثبَت به وجوب الفعل علینا إلا إذا أثبتنا أن الترک کان علی وجه التحریم لا من باب التنزّه بل من باب الإلزام إلا أن إثبات هذا هو محلّ الکلام .

ص: 69

وأما مسألة أن القضاء من المناصب الإلهیة وأنه لا ینبغی أن یؤخَذ علیها الأجر فهذا الکلام یُستفاد من کلام الشیخ صاحب الجواهر وکذا السید الماتن (قده) حیث ذکر هذا المعنی .

وأقول : إنّا تارة نقول إن المقصود بالمناصب الإلهیة المناصب التی جُعلت من قبل الشارع ولو بالواسطة عن طریق النبی (صلی الله علیه وآله) أو أولیائه الکرام (علیهم السلام) بحسب الحاجة وأخری نقول إن المقصود بها المناصب التی یُشترط فیها إذن الشارع .

وعلی أحد هذین التفسیرین فلا إشکال فی أن القضاء من جملة المناصب الإلهیة لما سیأتی من أنه یُشترط فیه الإذن من قبل الشارع أو فقل إنه مجعول من قبل الله ولکن بوسائط إلا أن الکلام فی إثبات أن المنصب الإلهی بهذا المعنی الوسیع - أی کونه مجعولاً من قبل الله تعالی ولو بوسائط أو مشروطاً بالإذن منه ولو ممثّلاً بالمجتهد الجامع للشرائط - لا بد أن یقع مجاناً ولا ینبغی أن یؤخذ علیه الأجر .. فهذه الکبری الکلیة ممنوعة خصوصاً ونحن نری أن بعض المناصب بهذا المعنی یمکن أن نلتزم بجواز أخذ الأجرة علیها من قبیل الولایة علی الحضانة التی هی أمر مشروط بإذن الشارع وکذا الولایة علی بعض الأوقاف التی لا متولّی لها فهذا منصب مشروط بإذن الشارع أیضاً أو مجعول من قبله تعالی ولو بوسائط .. فإذا کان المقصود هذا المعنی فالقضاء وإن کان من المناصب الإلهیة إلا أنه لا دلیل علی ضرورة أن تقع هذه المناصب بأحد المعنیین المتقدمین - مجاناً .

وثالثة قد یُفسّر المنصب الإلهی بمعنی آخر وهو ما کان مجعولاً من قبل الله مباشرة کالنبوة والإمامة فهذه حتی لو سلّمنا أن هذه المناصب لا بد أن تقع مجاناً ولا ینبغی أن یؤخذ علیها الأجر إلا أن کون القضاء منها فی حیّز المنع ، نعم .. القضاء من المناصب الشرعیة التی یُشترط فیها الإذن ولکن لیس واضحاً أن المنصب الذی هو من هذا القبیل لا بد أن یقع مجاناً ولا یجوز أخذ الأجر علیه .

ص: 70

إذاً هذا الدلیل لا ینهض أیضاً لإثبات المدّعی .

الدلیل الرابع : روایة لیوسف بن جابر مرویة فی الباب الثامن الحدیث الخامس من أبواب آداب القاضی ، وهذه الروایة یرویها الشیخ الطوسی (قده) بإسناده عن محمد بن علی بن محبوب عن محمد بن عیسی بن عبید عن أحمد بن إبراهیم عن عبد الرحمن عن یوسف بن جابر : " قال : قال أبو جعفر (علیه السلام) : لعن رسول الله (صلی الله علیه وآله) من نظر إلی فرج امرأة لا تحلّ له ، ورجلاً خان أخاه فی امرأته ، ورجلاً احتاج الناس إلیه لفقهه (1) فسألهم الرشوة " (2) .

والاستدلال بها فی محلّ الکلام مستفاد من کلام الشیخ الأنصاری (قده) حیث یقول إن الروایة ظاهرة فی تحریم أخذ الأجرة ولا علاقة لها بالرشوة - التی سیأتی الکلام عنها فی المقام الثالث - وإن کانت قد وردت بهذا اللفظ .

ولکنه (قده) لم یُبیّن ما هو الوجه فی ذلک ولعله من جهة ما ورد فی الروایة من قوله (علیه السلام) : (ورجلاً احتاج الناس إلیه لفقهه فسألهم الرشوة) فإن الرشوة عادة لا تُسأل بل تُدفع ابتداءً من قبل الراشی وإن ما یسأله القاضی بحسب العادة هو الأجر علی القضاء فالرشوة فی الروایة یُراد بها علی هذا هو الأجر .

وأقول : لو تمّ هذا الاستظهار فی هذه الروایة وأنها ناظرة إلی تحریم الأجرة علی الشخص الذی یحتاج الناس إلیه لفقهه الشامل لمحلّ الکلام لأنه لا بد فی القضاء من الفقه والحکم الشرعی المستند إلی الأدلة الشرعیة إلا أن الروایة من حیث السند غیر تامة کما اعترف به الشیخ الأنصاری نفسه فلا یمکن الرکون إلیها لإثبات هذا المطلب ، نعم .. لو تم الاستظهار لکانت مؤیدة لما ذکرناه من حرمة أخذ الأجرة علی القضاء .. وضعف سند الروایة هو من جهة یوسف بن جابر وأحمد بن إبراهیم فإنهما مجهولان وکون عبد الرحمن مردّداً بین الثقة وغیره .

ص: 71


1- (1) هکذا فی التهذیب ولکن فی الوسائل (مج27 ص223) : لتفقّهه .
2- (2) التهذیب مج6 ص224 .

الدلیل الخامس : وقد استدل به غیر واحد من الفقهاء منهم الشیخ صاحب الجواهر (قده) وهو عبارة عن الأدلة الدالة علی حرمة أخذ الرشوة علی القضاء التی سیأتی استعراضها فی المقام الثالث بناءً علی أن الرشوة یراد بها مطلق ما یبذله المتحاکمان فتشمل الأجرة بل حتی الجعل لأنه أیضاً شیء یبذله المتخاصمان فإذا فسّرنا الرشوة بهذا التفسیر العام فستکون الروایات الدالة علی تحریم أخذ الرشوة علی القضاء وعلی الحکم - کما سیأتی - دالة أیضاً علی حرمة أخذ الرشوة علی القضاء لأنها شیء یبذله المتخاصمان فتشمل الرشوة بالمعنی الاصطلاحی وتشمل الجعالة وتشمل الأجرة أیضاً وسیأتی فی المقام الثالث تحقیق أن الرشوة هل هی بهذه السعة بحیث تشمل الجعالة والأجرة أم أنها معنی فی قبالهما وسیتبیّن أن هذا الدلیل لیس تاماً .

هذه هی أهم ما استُدلّ به علی عدم الجواز فی المقام .. ولا یخفی أن مقتضی إطلاق ما تمّ من هذه الأدلة عدم الفرق فی التحریم بین تعیّن القضاء وعدم تعیّنه فلا یختصّ التحریم بصورة تعیّن القضاء بل حتی لو کان القضاء واجباً کفائیاً فلا یجوز أخذ الأجرة علیه بمقتضی إطلاق ما تم من هذه الأدلة وهو معتبرة عمار بن مروان المتقدمة وإن کان الشیخ الأنصاری ادّعی بأن هذه الروایة منصرفة إلی صورة تعیّن القضاء بالخصوص فلا یمکن حینئذ التمسّک بها لإثبات الحرمة فی صورة عدم التعیّن ولذا التزم بالحرمة فی خصوص صورة التعیّن .. إلا أن هذا الانصراف المدّعی لیس بذلک الوضوح فإن الوارد فی الروایة هو : (أجور القضاة) ولیس ثمة نکتة فی هذا التعبیر تقتضی اختصاص هذا العنوان بالقضاة الذین تعیّن علیهم القضاء فلم یُفهم ما هو مقصود الشیخ من دعوی الانصراف فی هذه الروایة .

ص: 72

هذا وإن الشیخ (قده) قد عدّ روایة ابن مروان ضعیفة سنداً ولعله لبعض الملاحظات التی تقدّمت فیها والتی دفعناها کما تقدّم ومنها أن عمار بن مروان مشترک بین الثقة وغیره وهذه لعلها أهم ملاحظة عندهم بالنسبة إلی هذه الروایة إلا أننا أشرنا إلی أن هذا المطلب غیر تام وأثبتنا فی بحث مستقل أن الأمر لیس کذلک .. وعلی أیة حال فالروایة معتبرة سنداً عندنا ومقتضی إطلاقها عدم الفرق بین صورة تعین القضاء وعدمه .

هذا من جهة .. ومن جهة أخری فالظاهر أن التحریم لا یختص بالأجرة فی مقابل الجعل بل یشمل کلا الأمرین من الأجرة والجعل وإن کان الوارد هو أجور القضاة إلا أن الأجر بحسب ما یُفهم منه عرفاً أعم من الأجر الاصطلاحی ومن الجعل فی باب الجعالة فالمقصود بأجور القضاة هو ما یأخذونه فی مقابل القضاء أجرة کان أو جعلاً وإن تباین مفهومهما فی الاصطلاح الفقهی .

کما أن الظاهر أن الحکم مطلق من ناحیة أخری غیر ما ذکرناه من التعیّن وعدمه وهی الحاجة وعدم الحاجة بمعنی أنه تارة یُفرض کون القاضی مستغنیاً وأخری یُفرض کونه محتاجاً فالتحریم ثابت فی کلتا الحالتین ولا یختصّ بصورة الغنی وعدم الحاجة ویمکن إثبات هذا باعتبار إطلاق الدلیل من غیر وجود أدنی قرینة علی تخصیص القضاة بالاحتیاج فإن الحاجة لا تبرّر ارتکاب الحرام بناءً علی عدم جواز أخذ الأجرة علی القضاء - لأنه یمکن سدّ الحاجة وتأمینها من جهات أخری أهمها مسألة الارتزاق من بیت المال بناءً علی ما تقدّم من جوازه - .

ویؤید ما تقدّم شهرةُ الحکم بحرمة أخذ الأجرة علی القضاء مطلقاً أی مع التعیّن وعدمه - بل ادُّعی علیه الإجماع کما حُکی عن الشیخ الطوسی (قده) فی أکثر من کتاب له وإن کانت المسألة خلافیة والتفصیلُ بین صورة التعیّن وعدمه قول معروف بینهم .

ص: 73

وعلی کل حال فما أدّی إلیه النظر فی هذا المقام هو الحرمة مطلقاً سواء مع التعیّن وعدمه أو مع الحاجة وعدمها .

هذا کله فی المقام الثانی .

المقام الثالث : تحریم أخذ الرشوة علی القضاء .

وهذا الحکم مما اتّفق علیه علماء الفریقین ولا إشکال فیه عندهم بل هو علی حدّ جعله من ضروریات الدین وممّا أطبق علیه الکل .. وهذا المقدار کافٍ فی إثبات هذا الحکم فلا نحتاج فی المقام إلی البحث عن أدلة مثبتة له وإن کانت الأدلة غیر قاصرة لإثباته .

هذا .. ومن جملة الأدلة التی ذُکرت - غیر الروایات - قوله تعالی : (ولا تأکلوا أموالکم بینکم بالباطل وتُدلوا بها إلی الحکّام لتأکلوا فریقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون) (1) فاستدلّ بهذه الآیة غیرُ واحد من فقهائنا الأعلام .

ووجه الاستدلال أن المقصود بالإدلاء بالأموال إلی الحکّام هو الرشوة علی الحکم التی تکون سبباً فی أکل الدافع لها أموالاً لا یستحقها حیث إن الضمیر فی (بها) یعود إلی الأموال والفعل (تُدلوا) معطوف علی (تأکلوا) المنهی عنه ب_ (لا) فیکون مثله منهیاً عنه والمقصود بالحکّام هم القضاة والمراد ب_ (فریقاً من أموال الناس) هو مقدار منها ، والمعنی إجمالاً هو النهی عن الإدلاء بالأموال إلی الحکّام لغرض أن یؤکل بها مقدار من أموال الناس من غیر استحقاق ومعنی هذا تحریم الرشوة فی القضاء وهو المطلوب .

ویمکن أن یقال إنه یُفهم من الآیة الشریفة أن الأموال التی تصل إلی الإنسان هی أموال محلّلة إلا فی إحدی حالتین :

ص: 74


1- (3) البقرة / 188 .

الأولی : أن یأکلها بالباطل فنُهیَ فی الآیة المبارکة عن أن یأکل أحدٌ أموال غیره من دون استحقاق فإنها أموال محرّمة لا تدخل فی ملکه ولا یجوز له التصرف فیها .

الثانیة : الحصول علی الأموال نتیجة الرشوة بأن یُعطی للحاکم مالاً لکی یحکم لصالحه من غیر استحقاق فهذه الأموال التی یحصل علیها نتیجة الرشوة والإدلاء إلی الحکّام هی أموال محرّمة لا تدخل فی ملک الراشی .

وهذا السبب الثانی لأکل المال الحرام هو محلّ الکلام .

هذا .. مضافاً إلی الروایات المستفیضة المتواترة - کما ادُّعی فی تحریم الرشوة علی القضاء :

منها : معتبرة عمار بن مروان المتقدمة حیث یقول (علیه السلام) فی ذیلها : " فأما الرشا یا عمار فی الأحکام فإن ذلک الکفر بالله العظیم ورسوله صلی الله علیه وآله " .

ومنها : موثقة سماعة المرویة فی الباب الثامن من الوسائل فی آداب القضاء الحدیث الثالث : " عن أبی عبد الله (علیه السلام) قال : الرشا فی الحکم هو الکفر بالله " (1) .

ومن هنا یظهر أنه لا إشکال فی الحکم بالتحریم ولا یمکن التشکیک فیه ولا نحتاج کما ذکرنا إلی أدلة لإثباته وإنما عمدة الکلام هنا یقع فی تحدید الموضوع وهو أنه ما هو المقصود بالرشوة التی لا إشکال فی تحریمها فهل هی مختصّة بالحکم ولا تشمل غیره من الموارد ، وهل تشمل الجعالة والأجرة کما أشرنا إلی ذلک أم أن لها معنی آخر فی قبال ذلک ، ثم هل یُعتبر فیها شیء ؟

ص: 75


1- (4) الوسائل مج27 ص222 .

فالکلام تارة یقع فی تحدید مفهوم الرشوة عرفاً واصطلاحاً بقطع النظر عن حکمها وهو الحرمة ، وأخری یقع فی تحدید المراد بالرشوة المحرّمة التی تم الاتفاق علی تحریمها .

-القضاء-المسالة-2-جواز اخذ الاجرة علی القضاء-المقام الثالث-حرمة اخذ الرشوة علی القضاء-المقام الرابع -اخذ الهدیة علی القضاء بحث الفقه

کان الکلام فی الرشوة وقلنا إن الحکم بتحریم الرشوة مما لا إشکال فیه وبالاتفاق علیه فی الجملة أی أن تحریمها فی باب الأحکام أمر مسّلم، وأما فی غیره - بناءً علی صدق الرشوة فی غیر الأحکام - فتحریمها لیس واضحاً بل یحتاج إلی دلیل .

والظاهر أن الرشوة لها معنی واسع ویظهر من بعض النصوص عدم اختصاصها بباب الأحکام وهناک روایتان استدلّ الفقهاء بهما علی ذلک :

الأولی : صحیحة محمد بن مسلم : " قال : سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن الرجل یرشو الرجل الرشوة علی أن یتحوّل من منزله فیسکنه ؟ قال : لا بأس به " (1) .

قال صاحب الوسائل : " الظاهر أن المراد المنزل المشترک بین المسلمین کالأرض المفتوحة عنوة ، أو الموقوفة علی قبیل وهما منه " أی الموقوفة علی مجموعة من الناس ومنهم الراشی والمرتشی فی مورد الروایة ، وإذا عُمّم ذلک إلی الأمور المشترکة فیتأتّی حتی فی المساجد فیرشو شخصاً حتی یتنازل عن الحق الذی له فی المکان لیجلس هو فیه .

والشاهد فی الروایة لیس فی حلّیة هذا العمل بل فی إطلاق الرشوة فی غیر باب الأحکام إذ لم یُفرض فی الروایة تحاکُماً ومرافعة فأًطلقت الرشوة علی دفع مال فی مقابل تنازل عن حقّ فمنه یظهر أن الرشوة لا تختصّ باب الأحکام .

ص: 76


1- (1) الوسائل مج17 ص278 الباب 85 من أبواب ما یُکتسب به الحدیث الثانی .

الروایة الثانیة : روایة حکم بن حکیم الصیرفی : " قال : سمعت أبا الحسن (علیه السلام) وسأله حفص الأعور فقال : إن السلطان یشترون منّا القرب والأداوی فیوکّلون الوکیل حتی یستوفیَه منّا فنرشوه حتی لا یظلمنا ، فقال : لا بأس ما تصلح به مالک ، ثم سکت ساعة ثم قال : إذا أنت رشوته یأخذ أقلّ من الشرط ؟ قلت : نعم ، قال : فسدت رشوتک " (1) .

وتمامیة هذه الروایة سنداً موقوفة علی إثبات وثاقة إسماعیل بن أبی السمّال الواقع فیه ووثاقة هذا الرجل مبنیة علی تفسیر خاص لعبارة وردت فی رجال النجاشی عندما ترجم لأخی إسماعیل وهو إبراهیم ومتعارفٌ لدی النجاشی أن یوثّق شخص فی ترجمة غیره حیث قال بعد أن ساق کنیته ونسبه : " .. ثقة هو وأخوه إسماعیل بن أبی السمّال رویا عن أبی الحسن موسی (علیه السلام) وکانا من الواقفة " (2) فوقع خلاف فی فهم هذه العبارة فهل قوله (ثقة) یعود إلی خصوص إبراهیم المُترجَم له لیکون قوله بعد ذلک : (هو وأخوه إسماعیل بن أبی السمّال رویا عن أبی الحسن .. ) مستأنفاً فالوثاقة حینئذ تکون مختصّة بإبراهیم ولا تشمل أخاه إسماعیل ، أم أنه یعود لکلیهما بأن یُقرأ هکذا : (ثقة هو وأخوه إسماعیل بن أبی السمّال) فیکون قوله بعد ذلک : (رویا عن أبی الحسن (علیه السلام) وکانا من الواقفة) مستأنفاً فالوثاقة حینئذ تکون ثابتة لهما .

ویُستدلّ بهذه الروایة أیضاً علی إطلاق الرشوة علی دفع المال فی غیر باب الأحکام ولا یضرّ ضعف سندها علی تقدیره لأن الاستدلال بها لیس علی إثبات الحکم الشرعی وإنما علی استعمال لفظ فی معنی معیّن من قبل شخص ذی لسان عربی فی زمن متقدم .

ص: 77


1- (2) الوسائل مج18 ص96 الباب 37 من أبواب أحکام العقود من کتاب التجارة الحدیث الأول .
2- (3) رجال النجاشی ص22 .

والرشوة بهذا المعنی الوسیع بناءً علی شمولها لغیر باب الأحکام لا دلیل علی تحریمها وهذا معناه أنه لا یکفی فی تحریم الرشوة مجرد صدق هذا العنوان بل لا بد من إقامة الدلیل علی الحرمة ، نعم .. الرشوة فی الأحکام کما ذکرنا ثابتٌ تحریمها ..

نعم .. هناک بعض المطلقات التی قد یقال بأنه یُستفاد منها حرمة الرشوة مطلقاً من قبیل : (لعن الله الراشی والمرتشی ..) (1) لکن الظاهر أن التمسّک بإطلاق هذه الروایات لا یخلو من صعوبة بل الظاهر أن المقصود بها الرشوة فی الحکم لأن الظاهر أن التغلیظ فی التحریم الوارد فیها من قبیل کون الرشوة محض الکفر (2) وکون صاحبها ملعوناً (3) یجعل الرشوة فیها منصرفة إلی خصوص الرشوة فی باب الأحکام .

إذاً لا یکفی فی الحکم بتحریم الرشوة مجرد صدق هذا عنوان الرشوة بناءً علی التعمیم الشامل حتی لغیر الأحکام .

ثم إن الرشوة بمعناها العام هل یُعتبر فیها أن یکون المبذول مالاً أم أنها تصدق حتی لو کان المدفوع عملاً لیس من قبیل الأموال - وإلا یدخل تحت الأموال فیدخل فی الشق الأول مثل تقبیل ید القاضی أو القیام له إذا قدم فهل تصدق الرشوة علی أمثال هذه الأمور أم أنها تختصّ بما إذا کان المبذول مالاً بل یمکن تعمیم هذا التساؤل حتی للأقوال من قبیل مدح القاضی والثناء علیه فهل تصدق الرشوة هاهنا فیقال رشاه بالقول أو بالفعل ؟

الظاهر عدم الصدق ولا أقل من الشک فیه فإن الذی یُفهم من الرشوة عرفاً هو دفع المال ، نعم .. هو أعم من النقد فیصدق حتی علی العمل إذا کان ممّا له مالیة کخیاطة الثوب وبناء الدار .

ص: 78


1- (4) عوالی اللئالی ص266 .
2- (5) المصدر السابق ص274 .
3- (6) المصدر السابق .

ویمکن تعریف الرشوة بهذا المعنی الوسیع ب_(أنها المال الذی یبذله الشخص لغیره لیتوصّل به إلی تحقیق غرضه) ، وهذا الغرض مأخوذ فیه أن لا یکون له مالیة بنظر العقلاء (1) وهو یختلف باختلاف الموارد فتارة یکون الغرض هو إحقاق حقّ وأخری یکون تمشیة باطل وثالثة یکون بأن یحکم له حقّاً أو باطلاً ورابعة بأن یدفع الظلم عن نفسه وخامسة بأن یتوصّل إلی أمر مباح ففی جمیع هذه الحالات تصدق الرشوة بمعناها العام ، والجامع لکل ما سبق من تلک الأغراض کما ذکر السید الماتن (قده) هو أنها ممّا لا یُبذل بإزائه المال عرفاً وعقلاءً فمثل التوصّل إلی أمر مباح کما فی صحیحة محمد بن مسلم المتقدمة هو شیء لا یُبذل بإزائه المال بنظر العرف والعقلاء وکذا الحال فی بقیة الأغراض المتقدمة .

وأما الرشوة بمعناها الخاص وهی الرشوة فی باب الأحکام التی لا إشکال فی حرمتها فقد طُرح فی المقصود بها - بحسب الأدلة - احتمالات ثلاثة من قبل اللغویین والفقهاء کما فی کتبهم :

الأول : أن المقصود بها مطلق ما یبذله المتحاکمان .

الثانی : أن المقصود بها المال المبذول علی الباطل سواء کان بإقراره أو بدفع حقّ فإن دفع الحقّ یُعدّ باطلاً أیضاً .

ص: 79


1- (7) لا بد من التفریق فی باب الرشوة بین المبذول والمبذول لأجله فی کون المأخوذ فی الأول أن یکون له مالیة سواء کان مالاً بالفعل کالنقد او لم یکن ولکن کانت له مالیة بنظر العقلاء کالخیاطة والزراعة وکون المأخوذ فی الثانی أن لا تکون له مالیة بنظر العقلاء کالأمثلة الخمسة المذکورة - والمراد بالمبذول لأجله هو الغرض کما لا یخفی - .

الثالث : أن المقصود بها المال المبذول لأجل الحکم له حقّاً کان أو باطلاً .

والظاهر أن الرشوة المحرمة تشمل الأخیرین فقط وهی لا تختصّ بأحدهما دون الآخر ، وبعبارة أخری إن الرشوة المحرمة تشمل فردین :

الأول : صورة علم الراشی بکونه علی باطل فیدفع المال إلی الحاکم لیحکم له بالباطل .

الثانی : صورة جهل الراشی بکونه علی باطل فیحتمل کونه علی حقّ کما یحتمل أنه علی باطل .

فکل من هذین الفردین داخل فی الرشوة المحرمة ولا داعی لتخصیصها بأحدهما ، نعم .. المعنی الأول لها أی مطلق ما یبذله المتحاکمان لا تصدق علیه الرشوة ظاهراً فلا یمکن تفسیرها به فإنه من قبیل التفسیر بالأعم إذ هو یشمل الأجرة والجعالة والظاهر أنهما غیر الرشوة .

إذاً لا بد من تعریف الرشوة بتعریف لا یشمل أیّاً منهما لأنها لیست مطلق ما یبذله المتحاکمان وإنما هی عبارة عمّا یبذله أحدهما من المال لیحکم القاضی له بالباطل أو لیحکم لصالحه حقّاً کان أو باطلاً .

ومن هنا یظهر أنه لا داعی لتخصیص الرشوة بما إذا کان الباذل أحد المتحاکمین بل هی تشمل حتی ما لو کان الباذل أخاً لأحدهما أو أباً أو صدیقاً أو غیرهم ما دام غرضه أن یحکم للمبذول لأجله باطلاً أو یحکم له حقاً أو باطلاً فیصدق هنا علی الدافع أنه راشٍ وعلی المستلم أنه مرتشٍ ، نعم .. قد یُفرض أن شخصاً أجنبیاً عن المتحاکین یدفع مالاً للقاضی لا لأحد الغرضین المذکورین بل لغرض آخر لا علاقة له بأصل الدعوی فلا تصدق الرشوة حینئذ فیکون خارجاً عن محلّ الکلام کما لو دفع للقاضی مالاً فی إحدی المناسبات - مثلاً أو دفع له مالاً لیقضی بالباطل فی کل دعوی یحکم بها لغرض إفساد باب القضاء علی الناس فلیس من المعلوم صدق الرشوة علی هذا العمل فإن المأخوذ فی حدّ الرشوة هو کون المال المستلم من قبل القاضی فی مقابل أن یحکم لصالح أحد الطرفین .

ص: 80

ثم إن الفقهاء (رض) عمّموا الرشوة فی الحکم إلی المرافعات غیر المُقامة فضلاً عن المرافعات القائمة فعلاً فیدفع من یتوقّع أن تکون هناک مرافعة فی المستقبل یکون فیها أحد المتخاصمین مالاً للقاضی لیحکم له علی أحد الوجهین أی بالباطل أو بالأعم من الحقّ والباطل - .

وکذا عمّموا الرشوة لما إذا کان الغرض لا للحکم لصالحه أو لصالح أحد الطرفین بالباطل أو مطلقاً بل لما إذا کان البذل فی مقابل تعلیمه الطرق القانونیة لکسب القضیة والفوز بها فإنه بالنتیجة یصدق أنه قد دفع المال للقاضی لیوصله إلی الحکم له بالباطل أو مطلقاً فالنتیجة إذاً هی واحدة .

وعلی کل حال فلو نوقش فی دخول هذا التعمیم فی الرشوة موضوعاً ولم یُسلّم به فإن فقهائنا نصّوا علی أنها تلحق به حکماً فإن جوهر الرشوة موجود فی هذه الموارد فإن الغرض من تحریم الرشوة سدّ باب التلاعب بالأحکام والاعتداء علی حقوق الآخرین وهذا المعنی موجود فی جمیع موارد التعمیم .

وأما الرشوة فی غیر باب الأحکام فقد تقدّم منّا أنه لا یکفی مجرد صدق عنوانها للحکم بتحریمها بل لا بد من أن ینهض علیه دلیل والذی یُفهم من روایة حکم بن حکیم إذا جُعلت هی المیزان هو التمییز بین الرشوة بمعناها العام - وهی الرشوة فی غیر الأحکام - والرشوة المحرّمة فالتوصّل بدفع المال إلی جَنْیِ مصلحة مُستحقَّة أو الحصول علی أمر مباح فهو حلال وجائز ، وأما إذا کان التوصّل بدفع المال إلی جَنْیِ مصلحة غیر مُستحقة فهذا یکون محرّماً .. کما تشهد بذلک روایة ابن حکیم حیث فصّلت بین دفع المال لدفع الظلم فیکون جائزاً أو دفعه لِیغضّ الوکیل عن بعض الشروط اللازمة لموکّله فلا یکون جائزاً .

ص: 81

هذا تمام الکلام فی المقام الثالث .

المقام الرابع : فی الهدایا علی القضاء .

والهدیة التی تُدفع للقاضی علی القضاء تارة یُفترض أن المقصود بها نفس المقصود بالرشوة غایة الفرق أنه فی الرشوة تکون هی بنفسها السبب فی أن یحکم القاضی له بلا توسّط شیء آخر ، وأما فی الهدیة فثمة واسطة فی البین لتحصیل ذلک وهی کسب قلب القاضی وخلق المیل النفسی عنده وهو ما یحصل قهراً باستلامه الهدیة فیؤدّی إلی أن یحکم لصالحه .

والهدیة بهذا المعنی أی بأن یکون المقصود بها عین المقصود بالرشوة لا ینبغی الشکّ فی حرمتها بل لعله لا شک فی صدق کونها رشوة حقیقة لأنه لم یُؤخذ فی تعریف الرشوة أن یکون المال المبذول فی مقابل الحکم مباشرة وبلا وسائط .. ولو لم یُسلّم بصدق عنوان الرشوة علی الهدیة فلا إشکال فی أنها ملحقة بها حکماً فتکون محرّمة لاتحاد الملاک واتفاق النتیجة .

وأخری یُفترض أن یکون المقصود بها معنی آخر - غیر ما یُقصد بالرشوة ککون القاضی أهلاً لإعطائه الهدیة کما لو کان یبذل جهداً فائقاً فی الحکم علی طبق الموازین أو کونه حائزاً علی صفات کمال ومرتبة من العلم عالیة أو کون إعطاء الهدیة تقرّباً إلیه تعالی فأمثال هذه الموارد خارجة عمّا نحن فیه لأنها لیست هدیة علی الحکم والقضاء الذی هو محلّ الکلام .

نعم .. حینما یکون للدافع مرافعة وهو فی وقت هذه المرافعة یدفع الهدیة للقاضی حتی ولو لم یکن قاصداً تلک الخصوصیات المذکورة کنیّة القربة - مثلاً فإنه من غیر البعید صدق الرشوة عرفاً علی ذلک أی أن ما یفهمه العرف من إعطاء الهدیة إلی القاضی فی وقت المرافعة خصوصاً إذا لم یکن من عادة الدافع ذلک هو أنها رشوة حتی مع عدم کون الدافع قاصداً لها لأن صدق العناوین لا یتوقف علی القصد أی أن الصدق قهری کما فی عنوان الهتک عند الصلاة أمام قبر المعصوم (علیه السلام) فإن صدقه قهری بنظر العرف حتی لو فُرض أن المصلی کان غیر قاصد لذلک .

ص: 82

القضاء-تکملةالمسالة-2- المسالة-3- المسالة-4 بحث الفقه

نذکر هاهنا نصّ الروایتین اللتین تقدّم الکلام علیهما فی البحث السابق وهما :

صحیحة محمد بن مسلم :

" قال : سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن الرجل یرشو الرجل الرشوة علی أن یتحوّل من منزله فیسکنَه ؟ قال : لا بأس به " (1) .

قال صاحب الوسائل : " الظاهر أن المراد المنزل المشترک بین المسلمین کالأرض المفتوحة عنوة ، أو الموقوفة علی قبیل وهما منه " أی الموقوفة علی مجموعة من الناس ومنهم الراشی والمرتشی فی مورد الروایة .

وروایة حکم بن حکیم الصیرفی :

" قال : سمعت أبا الحسن (علیه السلام) وسأله حفص الأعور فقال : إن السلطان یشترون منّا القرب والأداوی فیوکّلون الوکیل حتی یستوفیَه منّا فنرشوه حتی لا یظلمنا، فقال : لا بأس ما تصلح به مالک، ثم سکت ساعة ثم قال: إذا أنت رشوته یأخذ أقلّ من الشرط ؟ قلت: نعم ، قال : فسدت رشوتک " (2) .

ولا ینبغی أن یکون الغرض من ذکر هاتین الروایتین هو الاستدلال بهما علی أن الرشوة تُستعمل علی نحو الحقیقة فی غیر باب الأحکام لیتوجّه علیه الإیراد بأنه استدلال بالاستعمال علی تشخیص المعنی الحقیقی والاستعمال أعمّ من الحقیقة والمجاز وإنما الغرض هو إثبات المعنی الحقیقی بکلمات اللغویین فإن هناک طائفة منهم فسّرت الرشوة بمعنی عام لا یختصّ بباب الأحکام بخصوصه من قبیل صاحب القاموس الذی فسّرها بالجعل (3) وصاحب النهایة الذی فسّرها ب_(الوصلة إلی الحاجة بالمصانعة) (4) ، ومن الواضح أن هذا لا اختصاص له بباب الأحکام بل یشمل غیر الأحکام أیضاً ، نعم .. ذکرنا أن بعض اللغویین فسّرها بما یختص بباب الأحکام لکن الظاهر کما نبّه علیه غیر واحد أن المنظور إلیه عندهم هو الرشوة المحرّمة التی وردت الروایات فی التغلیظ علیها من قبیل أنها الکفر بالله العظیم .

ص: 83


1- (1) الوسائل مج17 ص278 الباب 85 من أبواب ما یُکتسب به الحدیث الثانی .
2- (2) الوسائل مج18 ص96 الباب 37 من أبواب أحکام العقود من کتاب التجارة الحدیث الأول .
3- (3) القاموس المحیط مج4 ص334 .
4- (4) النهایة فی غریب الحدیث لابن الأثیر مج2 ص226 .

إذاً فالرشوة بحسب کلمات اللغویین - غیر هذا البعض هی أعمّ من باب الأحکام فتشمل غیر هذا الباب أیضاً وکلماتهم هذه تصلح أن تکون شواهد أو مؤیدات علی أن المعنی اللغوی للرشوة لا یختصّ بخصوص باب الأحکام ، واستعمال الرشوة فی غیر باب الأحکام موجود فی غیر هذه الروایات من دون نصب قرینة مما یشیر إلی أنه استعمال حقیقی حتی فی غیر باب الأحکام ففی معتبرة عمار بن مروان المتقدمة بل فی غیرها أیضاً ما یشیر إلی أن مفهوم الرشوة مفهوم واسع لا یختصّ بخصوص باب الأحکام وذلک لأن المذکور فی هذه المعتبرة قوله (علیه السلام) : " وأما الرشا فی الحکم فهو الکفر بالله العظیم " وهذا التعبیر مذکور فی غیر واحد من الأخبار وهو لا یخلو من تأیید لما ذکرناه باعتبار أن الرشا لو کان فی اللغة مختصّاً بباب الأحکام لکان التقیید بقوله : (فی الحکم) توضیحیاً لا احترازیاً فیکون حینئذ مستدرکاً لإمکان أن الاکتفاء بلفظ (الرشا) من دون تقیید فالترکیز علی هذا القید فی هذه الروایة وغیرها من روایات الباب لا یخلو من إشعار بأن مفهوم الرشوة أوسع من باب الأحکام فهو شامل لغیره أیضاً .. مضافاً إلی أنه بالإمکان بحسب الوجدان اللغوی أن یُستقرب عموم معنی الرشوة بدعوی الشعور بحسب هذا الوجدان بصحة إطلاق الرشوة فی غیر باب الأحکام من دون حاجة إلی عنایة أو قرینة کما هو المتعارف من قولهم رشوت الموظّف أو المدیر (1) فیکون هذا مؤیّداً لکون الرشوة موضوعة للأعمّ ولا تختصّ بباب الأحکام ، نعم .. بذل المال بإزاء ما تعارف عدم أخذ العوض علیه یکون داخلاً فی الرشوة وتطبیقاتُ الروایات تدخل فی هذا الباب کمنع الظلم وإحقاق الحقّ وتمشیة الباطل وغیرها .

ص: 84


1- (5) یمکن أن یقال إن هذا أجنبی عن المدّعی لأن الوجدان اللغوی الذی هو حجة فی تشخیص المراد الاستعمالی فی عصرٍ مّا هو ما کان مواکباً لذلک العصر لا ما تأخر عنه بفترة بعیدة إذ من الممکن أن یکون المعنی فی ذلک الزمان خاصّاً ثم یتّسع تدریجیاً فیصبح عاماً فی هذا الزمان فلا یکون ما نشعر به من الوجدان اللغوی علی التعمیم فی الزمن المتأخر حجة علی کونه کذلک فی الزمن المتقدم فالاستشهاد بالشعور الحاصل فی هذا الزمان لمعنیً معیّن علی کونه کذلک فی زمان سابق فی غیر محلّه ، نعم .. لا بأس به فی حدّ التأیید .

هذا .. وقد تقدّم منّا تعریف الرشوة المحرّمة بأنها : (المال المبذول للقاضی لیحکم بالباطل أو لصالح الباذل مطلقاً) وذکرنا أنه لا یبعد صدق الرشوة عرفاً علی الهدیة حتی إذا کان الدافع غیر قاصد بها أن یحکم القاضی له بل کان قاصداً للقربة - مثلاً فی إذا ما تزامن الدفع مع زمان المرافعة والخصومة لاسیّما إذا لم یکن من عادته دفع الهدیة للقاضی ومعنی هذا إلغاء اعتبار القصد فی تحقّق مفهوم الرشوة أی أنه لا یُعتبر فی الراشی عندما یبذل المال للقاضی قصدُ أن یحکم له بالباطل أو مطلقاً فیکون تحقّق مفهوم الرشوة علی هذا منوطاً بالصدق العرفی .

إذا تبیّن هذا فلنرجع إلی ما کنّا فیه من الکلام فی المقام الرابع فی جواز الهدیة التی تُعطی للقاضی وقد ذکرنا علی نحو القاعدة العامة أنه عندما یکون الغرض من الهدیة هو الحکم له بالحق أو الباطل فهی رشوة إما موضوعاً أو حکماً .. ولکن قد استُدلّ علی تحریم الهدیة علی القاضی بروایات :

الأولی : روایة الأصبغ بن نباتة المرویة فی الوسائل عن کتاب (عقاب الأعمال) للشیخ الصدوق عن أبیه عن أحمد بن إدریس عن محمد بن أحمد عن موسی بن عمر عن ابن سنان عن أبی الجارود عن سعد الإسکاف عن الأصبغ عن أمیر المؤمنین (علیه السلام) :

" قال : أیّما والٍ احتجب من حوائج الناس احتجب الله عنه یوم القیامة وعن حوائجه ، وإن أخذ هدیة کان غلولاً ، وإن أخذ الرشوة فهو مشرک " (1) .

ص: 85


1- (6) الوسائل مج17 ص94 الباب الخامس من أبواب ما یُکتسب به الحدیث العاشر .

وهذه الروایة تؤید ما ذکرناه من استعمال الرشوة بالمعنی العام - أی فی غیر باب الأحکام - لأن الحدیث فیها عن والٍ یمتنع من قضاء حوائج الناس فیُعطی الهدیة لکی یقضیها لهم .

وقد ذکر السید الماتن (قده) هذه الروایة وناقش فی سندها ودلالتها :

أما من حیث السند فقد قال بأن الروایة ضعیفة ولم یذکر وجه الضعف فیها ولکن ذُکِر فی حاشیة کتابه (المکاسب المحرّمة) أن الضعف من جهة سعد الإسکاف ومن جهة أبی الجارود .. ولکن الظاهر أن هذا اشتباه لأن السید (قده) ینصّ علی وثاقة زیاد بن المنذر أبی الجارود (1) ووثاقة سعد بن طریف الإسکاف (2) فی معجم الرجال ، ویُحتمل والله العالم أن الضعف فی نظره الشریف من جهة موسی بن عمر لکونه مجهولاً (3) ، وفی نسخةٍ موسی بن عمران واحتمال کونه کذلک ضعیف جداً والظاهر أنه موسی بن عمر وبالخصوص هو موسی بن عمر بن یزید بقرینة روایة محمد بن أحمد بن یحیی بن عمران فإنه یروی عن موسی بن عمر بهذا العنوان ویروی عن موسی بن عمر بن یزید أیضاً وکیف کان فهو مجهول ولعل الضعف الذی یشیر إلیه السید (قده) هو من هذه الجهة .

وأقول : یمکن البناء علی وثاقة موسی بن عمر باعتبار روایة محمد بن أحمد عنه لأن المراد بمحمد بن أحمد فی الروایة هو محمد بن أحمد بن یحیی بن عمران صاحب نوادر الحکمة وموسی بن عمر أحد رجال نوادر الحکمة الذین لم یستثنهم ابن الولید بناءً علی أن عدم استثناء شخص من رجال نوادر الحکمة من قبل ابن الولید دلیل وثاقته عنده وعند غیره أیضاً علی ما ذکرناه فی محلّه بغض النظر عن الخلاف الدائر فی تخصیص هذا الأمر بنوادر الحکمة ممن روی عنهم محمد بن أحمد بن یحیی فیها ولم یستثنهم ابن الولید أم تعمیمه لغیر نوادر الحکمة أیضاً ممن روی عنهم محمد بن أحمد بن یحیی ولم یدخل فی استثناء ابن الولید وذلک لأن الراوی فی ما نحن فیه هو من رجال نوادر الحکمة ولم یستثنه ابن الولید الذی هو (4) القدر المتیقّن من الدلیل علی الوثاقة بحسب ذلک المبنی وهذا بنظرنا کافٍ لإثبات الاعتماد علیه فتکون الروایة علی هذا صحیحة سنداً لوثاقة الرواة الباقین من الشیخ الصدوق وأبیه وأحمد بن إدریس القمی الأشعری الثقة المعروف ومحمد بن أحمد الذی هو محمد بن أحمد بن یحیی بن عمران صاحب نوادر الحکمة وهو ثقة بلا إشکال وموسی بن عمر الذی أثبتنا وثاقته الآن وابن سنان الذی هو عبد الله بن سنان وأبی الجارود زیاد بن المنذر وسعد الإسکاف وهم جمیعاً ثقات أیضاً والأصبغ بن نباتة الذی هو من خواصّ أمیر المؤمنین (علیه السلام) فالروایة معتبرة عندنا .

ص: 86


1- (7) لاحظ ترجمته فی المعجم مج8 ص332 وما بعدها .
2- (8) لاحظ ترجمته فی المعجم مج9 ص70 وما بعدها .
3- (9) لاحظ ترجمته فی المعجم مج20 ص63 وما بعدها .
4- (10) أی کون الراوی من رجال نوادر الحکمة ولم یدخل فی استثناء ابن الولید .

وأما من حیث الدلالة فقد نوقش فیها بکونها أجنبیة عن محلّ الکلام لأنها واردة فی الولاة وهو غیر ما نحن فیه فإن کلامنا فی الهدیة للقاضی لا للوالی .

وأقول : بعد فرض الالتزام بصحة الروایة سنداً والأخذ بظاهرها من حیث کونها واردة فی الولاة وبعد الالتزام بحرمة أخذ الهدیة علی الوالی فیمکن التعدّی إلی محلّ الکلام من القضاة إما بإلغاء الخصوصیة وعدم الفرق وإما بالأولویة ببیان أن الذی یُفهم من الروایة هو امتناع الوالی عن قضاء حوائج الناس أی امتناعه عن القیام بالوظیفة التی وُظّف لها والتی عادةً یتقاضی الأجر ممن ولّاه علیها فمثل هذا إذا أخذ هدیة لکی یقوم بوظیفته من قضاء حوائج الناس فقد فعل حراماً ، وهذا المعنی یُمکن إثباته بالنسبة إلی القاضی بمعنی أن القاضی عندما یمتنع عن القضاء إلا بأخذ الهدیة علیه فتُعطی له لأجل ذلک فیمکن أن یقال حینئذ إن هذه الهدیة تکون محرّمة إما بالأولویة باعتبار أهمیة منصب القضاء وخطورته فإذا کان أخذ هدیة علی القیام بالواجب الذی هو من قبیل قضاء حوائج الناس حراماً فأخذ الهدیة علی القیام بالقضاء الذی وُظّف هذا الشخص للقیام به یکون حراماً أیضاً أو بإلغاء الخصوصیة ودعوی عدم الفرق بینه وبین الوالی لأنه یُفهم من الروایة أن حرمة الهدیة ثبتت باعتبار کون العمل موظّفاً له ولذا خُصّت الروایة بالوالی ولذلک لا نتعدّی عن موردها إلی مطلق من یمتنع عن قضاء حوائج الناس إذا لم یکن ذلک من وظیفته المعیّن هو لها وفی المقابل یُمکننا التعدّی عن موردها إلی مطلق من یأخذ الهدیة علی عمل هو موظّف له ویأخذ الأجر علیه ومنه القاضی وهذا هو المیزان فی حرمة أخذ الهدیة للقیام بالعمل ، والوقوفُ علی علة الحکم فی روایةٍ مّا یفتح الباب واسعاً لتعمیمه إلی الموارد التی تشترک فی هذه العلة وإن لم تکن مذکورة فی متنها .

ص: 87

ومما تقدّم یظهر أن حرمة أخذ الهدیة من قبل القاضی لا تثبت فقط فی مورد الحکم بالباطل أو مطلقاً بل تثبت أیضاً فی مورد أخذها للقیام بأصل ما وُظّف له کما لو کان ممتنعاً أو متوانیاً عن القیام بوظیفته من القضاء بین الناس إلا بإعطائه الهدیة حتی لو کان قضاؤه علی وفق الموازین والقواعد الشرعیة .

الروایة الثانیة : ما رواه الحسن بن محمد الطوسی فی الأمالی عن أبیه عن ابن مهدی عن ابن عقدة عن عبد الرحمن عن أبیه عن لیث عن عطاء عن جابر عن النبی (صلی الله علیه وآله) أنه قال : " هدیة الأمراء غلول " (1) .

وهذه الروایة ضعیفة السند - کما هو واضح (2) ، وأما من حیث الدلالة فهی أجنبیة عن محلّ الکلام لکونها واردة فی هدایا الأمراء ولو عُمّمت إلی ما نحن فیه بما ذُکر من إلغاء الخصوصیة أو الأولویة فهی لیست ظاهرة فی المدعی لاحتمال أن یکون المراد الهدیة التی یُعطیها الأمراء لا التی یأخذونها أی أن إضافة الهدیة إلی الأمراء من قبیل الإضافة إلی الفاعل - علی حدّ جوائز السلطان - .

الروایة الثالثة : ما رواه الشیخ الصدوق فی عیون الأخبار بأسانیده عن الرضا عن آبائه عن علی (علیهم السلام) : " فی قوله تعالی : (أکّالون للسحت) ، قال : هو الرجل یقضی لأخیه الحاجة ثم یقبل هدیته " (3) .

ص: 88


1- (11) الوسائل مج27 ص223 الباب الثامن (باب تحریم الرشوة فی الحکم والرزق من السلطان علی القضاء) الحدیث السادس .
2- (12) فإن أغلب رجالاتها من العامة .
3- (13) الوسائل مج17 ص94 الباب الخامس من أبواب ما یُکتسب به الحدیث الحادی عشر .

وهذه الروایة ضعیفة السند کما هو واضح مضافاً إلی أنها أجنبیة عن محلّ الکلام بل هی فی موردها - وهو قضاء الحاجة - لا بد من تقییدها بما إذا کان الرجل موظّفاً لقضاء تلک الحاجة فإنه حینئذ إذا فعل ثم قبل الهدیة یکون هذا حراماً ، وأما إذا فرضنا أنه لم یکن موظّفاً لها فلیس ثمة مَن یُفتی بحرمتها حینئذ .. مضافاً إلی أن المفروض فیها کون الهدیة بعد العمل وهذا مما یُخفّف من إمکان القدح فی حلّیة مثل هذه الهدیة .

هذا .. وقد تبیّن من هذا المقام الرابع أنه لا مانع من الالتزام بحرمة الهدیة علی القاضی مقابل القیام بواجبه استناداً إلی روایة الأصبغ بن نباتة .. مضافاً إلی صدق عنوان الرشوة عرفاً علی الهدیة التی تُدفع لاستمالة قلب القاضی لکی یحکم له بالباطل أو مطلقاً وحینئذ فلا إشکال فی حرمتها ولا أقلّ من دخولها تحتها حکماً فی ما لو قلنا بخروجها عنها موضوعاً .

هذا .. وما تقدّم کله کان تعلیقاً علی قوله فی المتن فی المسألة الثانیة : " هل یجوز أخذ الأجرة علی القضاء من المتخاصمین أو غیرهما ؟ فیه إشکال ، والأظهر الجواز " وذکرنا أن هذا یمثّل رأیه المتأخّر ، وأما رأیه المتقدم فهو عدم الجواز ونحن نوافقه فیه .

قال (قده) فی المسألة الثالثة : " بناءً علی عدم جواز أخذ الأجرة علی القضاء هل یجوز أخذ الأجرة علی الکتابة ؟ الظاهر ذلک " أی الجواز إذ لا مانع من أخذ القاضی الأجرة علی ما یُدوّنه للمترافعین من الحکم الذی قضی به فی دعواهما (1) .

ص: 89


1- (14) لکونه خارجاً عمّا وجب علیه فإن الواجب علی القاضی إنما هو أصل الحکم والفصل فی الخصومة وأما کتابة ذلک وتدوینه فلیس مما وجب علیه فیجوز له أن لا یبذله مجاناً بل یأخذ الأجرة علیه .

ثمّ قال (قده) فی المسألة الرابعة : " تحرم الرشوة علی القضاء . ولا فرق بین الآخذ والباذل " .

قد تقدّم الکلام فی هذا الحکم ولکن هاهنا تعلیق سیأتی الحدیث عنه إن شاء الله تعالی .

القضاء-المسالة-5-المقام الاول-القاضی المنصوب-ادلة النصب العام بحث الفقه

تنبیه یتعلّق بروایة الأصبغ بن نباتة - التی ذکرنا فی البحث السابق أن سندها تام - :

أقول : یُحتمل أن یکون ابن سنان الواقع فی سند هذه الروایة هو محمد بن سنان لا عبد الله بن سنان باعتبار أن محمد بن سنان یروی عن أبی الجارود ویروی عنه موسی بن عمر وقد وقعت فی أسانید کثیرة روایته عن أبی الجارود مما یقوّی احتمال أن یکون المقصود فی المقام بابن سنان هو محمد بن سنان وسیأتی منّا مزید توضیح وتحقیق لذلک فی البحوث اللاحقة إن شاء الله تعالی .

ووصل بنا الکلام إلی قوله فی المسألة الرابعة : " تحرم الرشوة علی القضاء ، ولا فرق بین الآخذ والباذل " .

فنقول : لا إشکال فی ما ذکره من الحکم فی باب القضاء أعنی حرمة الرشوة علی القضاء بالنسبة إلی الآخذ والباذل - فیلزم ردّ المال إلی صاحبه ، وأما فی غیر باب الأحکام - بناءً علی التعمیم فالظاهر أنه الأمر یختلف باختلاف الموارد کما لو دفع مالاً لموظّف لکی لا یظلمه فإنه لا یحرم علی الدافع کما نصّت علیه روایة حکم بن حکیم المتقدمة وإنما تثبت علی الآخذ وهکذا إذا دفع مالاً لیستنقذ حقّه فلا یکون حراماً علی الباذل وإنما یکون حراماً علی الآخذ ، نعم .. إذا دفع مالاً لمن کان طرفاً فی القبض ولم یکن طرفاً فی المعاملة لکی یُنقِص مِن الشرط کالوکیل الذی یستوفی أقلّ من المقدار الذی یلزم الوفاء به للموکّل فالحرمة لا تختصّ بالآخذ حینئذ بل تعمّ الباذل أیضاً .

ص: 90

ثم قال (قده) فی المسألة الخامسة : " القاضی علی نوعین : القاضی المنصوب وقاضی التحکیم " .

الغرض من هذه المسألة بیان عدم اختصاص القاضی بالقاضی المنصوب بل ثمة قاضٍ آخر یُسمی بقاضی التحکیم ، والمقصود بالقاضی المنصوب الأعمّ من أن یکون النصب فیه نصباً خاصّاً یتعلّق بشخص بعینه أو یکون نصباً عاماً یَثبت فیه النصب لکل من وُجدت فیه شرائط ومواصفات معیّنة ، وفی قبال هذا (1) قاضی التحکیم .. وبدواً قد یظهر أن الفرق بینهما هو فی النصب وعدمه والإذن وعدمه فالأول یحتاج إلی إذن ونصب والثانی لا یحتاج إلیهما إلا أن الحقیقة أن الفرق بینهما لیس قائماً علی ذلک فإن کلاًّ منهما یحتاج إذن ونصب باعتبار أن القضاء ولایة علی الغیر والأصل الأولی أنه لا ولایة لأحد علی أحد بل الولایة لله سبحانه وتعالی ولمن عیّنه ونصبه ولا یمکن رفع الید عن مقتضی هذا الأصل إلا بدلیل وهو النصب والإذن وإلا فبأیّ وجه یکون لقاضی التحکیم الولایة علی المتخاصمین فإن مشروعیة القضاء فی التحکیم علی نحوٍ یکون نافذاً فی حقّ المتخاصمین نوعٌ من الولایة - کالولایة الثابتة للقاضی المنصوب وهی تفتقر إلی دلیل مُثبت لها ومُخرج عن مقتضی الأصل فیها وهو الإذن الشرعی وعلی ذلک فیقع السؤال فی الفرق بینهما بعد اشتراکهما فی الاحتیاج إلی إذن ونصب ؟

والظاهر أن الفرق بینهما یکمن فی أن النصب فی القاضی المنصوب یکون ثابتاً بشکل مباشر من دون أن یکون فی طول شیء یُفرض فی حین أن النصب فی قاضی التحکیمقد فُرض فی طول التحاکم والتراضی من قِبَل الطرفین ولذا حینما یتقدم أحد المتخاصمین إلی القاضی بالدعوی فإن کان قاضیاً منصوباً یکون بإمکانه أن یُجبر الطرف الآخر علی حضور المرافعة ویجب علیه أن یُطیعه لأن النصب کان من قبل الإمام (علیه السلام) مباشرة ولیس فی طول رضا کلّ من الطرفین ، وأما إذا کان قاضیَ تحکیمٍ فلیس من حقّه أن یُجبر الطرف الآخر علی الحضور إن کان ممتنعاً .

ص: 91


1- (1) أی القاضی المنصوب بالمعنی المتقدم .

نعم .. قد یظهر من کلمات بعضهم بل نُسب إلی المشهور علی شکّ فی صحة النسبة أنه لا یُعتبر فی قاضی التحکیم الإذن وهذا معناه أن مشروعیة القضاء فی باب التحکیم تُستمدّ من نفس التحاکم والتراضی من قبل الطرفین فإذا تحاکما إلی شخص وتراضیا به کان قضاؤه حینئذ مشروعاً ونافذاً من غیر حاجة إلی إذن ونصب .

ولکن الظاهر عدم صحة ذلک .. ویمکن أن یُوجّه ما تقدّم بأن قاضی التحکیم لا یحتاج إلی الإذن الذی یحتاجه القاضی المنصوب فی کونه إذناً مباشریاً لیس فی طول التحاکم .

والحاصل أن النصب المباشر قد یکون عامّاً وقد یکون خاصّاً وعلی کلا التقدیرین لا یتأتّی فی قاضی التحکیم .

هذا .. ولا إشکال - کما سیأتی فی أن هناک جملة من الأمور تُعتبر فی القاضی وهی شرائط القضاء من قبیل العدالة والإیمان وطهارة المولد والفقاهة والاجتهاد إلی غیرها مما سیأتی ذکره .. ولکن وقع الکلام فی أن هذه الشرائط هل هی معتبرة فی القضاء مطلقاً أم هی معتبرة فی خصوص القاضی المنصوب دون قاضی التحکیم فبناءً علی اعتبار هذه الشروط مطلقاً فی قاضی التحکیم کما هی معتبرة فی القاضی المنصوب فحینئذ یتولّد إشکال ذُکر فی کلماتهم وهو أنه هل یُمکن تصوّر قاضی التحکیم فی زمان الغیبة أم لا ؟ فقالوا بعدم إمکان ذلک لأن قاضی التحکیم إن کان واجداً لهذه الشرائط - ومن أهمّها الاجتهاد والفقاهة - فیکون قاضیاً منصوباً بالنصب العام وإن لم یکن واجداً لها فلا اعتبار بحکمه أصلاً لأن المفروض أن هذه الشرائط معتبرة فی القضاء مطلقاً فإذا کان القاضی فاقداً لبعض هذه الشرائط کالاجتهاد - مثلاً فلا یکون حکمه نافذاً ولا یکون قضاؤه معتبراً .. وعلی ذلک فلا یمکن تصوّر قاضی التحکیم فی زمان الغیبة بل لا یمکن فی زمان الحضور أیضاً إذا کان المنظور هو زمان ما بعد صدور النصب العام ، نعم .. إذا أنکرنا وجود نصب عام أصلاً أو آمنا به ولکن فرضنا الکلام قبل زمان صدور النصب العام فیمکن تصوّر قاضی التحکیم حینئذ .

ص: 92

والجواب عمّا سبق یمکن أن یکون بإنکار اعتبار تلک الشرائط فی قاضی التحکیم أو القول باعتبارها ولکن مع إنکار خصوص شرط الاجتهاد لنکتةٍ سیأتی الحدیث عنها وعندها یُمکن افتراض قاضی التحکیم فی زمان الغیبة ونستطیع حینئذ أن نعرّفه بأنه الشخص الذی لا یکون واجداً للشرائط جمیعاً أو علی الأقلّ لا یکون واجداً لشرط الاجتهاد فمثل هذا القاضی یکون قاضی تحکیم ویکون مأذوناً له فی القضاء بناءً علی مشروعیة قضاء التحکیم کما سیأتی - .

هذا .. وما تقدّم کان تمهیداً للخوض فی أصلِ المطلب ، والظاهر أن منهجیة البحث تقتضی تقدیم الکلام علی القاضی المنصوب وعمّا إذا وصل إلینا نصب عام وعن هذه الشرائط المعتبرة فی القاضی المنصوب ثم نعطف الکلام بعد ذلک علی قاضی التحکیم لنبحث فیه عن الدلیل علی مشروعیة قضاء التحکیم أولاً ثم نبحث عن أن الشرائط التی انتهینا إلی اعتبارها فی القاضی المنصوب هل هی معتبرة فی قاضی التحکیم أو لا ، وأما عکس ذلک الترتیب کما فعل السید الماتن بحسب ترتیب مسائله - فهو غیر صحیح منهجیاً .

إذاً فالکلام یقع فی مقامین :

الأول : فی القاضی المنصوب .

والثانی : فی قاضی التحکیم .

أما بالنسبة إلی المقام الأول ففی القاضی المنصوب ثمة جهات للبحث :

الأولی : ویُبحث فیها عن أدلة النصب العام (1) .

فقد استُدلّ علی وجود نصب عام فی الشریعة فی باب القضاء بما هو أشبه بالدلیل العقلی وبعدة روایات :

ص: 93


1- (2) وأما النصب الخاص فلا یقع تحت دائرة البحث لأنه عبارة عن تعیین الإمام (علیه السلام) لشخص بعینه قاضیاً بعد تشخیصه (علیه السلام) لتوفّر الشرائط فیه واقتضاء المصلحة لذلک . (منه دامت برکاته)

أما الروایات فقد تکلّمنا عنها فی بحث سابق (1) وهی عبارة عن التوقیع الشریف المروی من قبل إسحاق بن یعقوب : " وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فیها إلی رواة حدیثنا فإنهم حجتی علیکم وأنا حجة الله علیهم " (2) ، ومقبولة عمر بن حنظلة : " قال : انظروا إلی من کان منکم قد روی حدیثنا ونظر فی حلالنا وحرامنا وعرف أحکامنا فلیرضوا به حَکَماً فانی قد جعلته علیکم حاکماً " (3) ، ومعتبرة أبی خدیجة : " إیاکم أن یحاکم بعضکم بعضاً إلی أهل الجور ولکن انظروا إلی رجل منکم یعلم شیئاً من قضائنا فاجعلوه بینکم فإنی قد جعلته قاضیاً فتحاکموا إلیه " (4) .

وهذه الروایات قد فرغنا عن الکلام علی سندها بشکل مفصّل فی بحث سابق (5) وانتهینا إلی اعتبار أسانیدها جمیعاً ، نعم .. السید الماتن (قده) ناقش فی أسانیدها فأنکر صحة التوقیع والمقبولة دون المعتبرة فإنه ناقش فی خصوص دلالتها علی النصب العام ثم سلک مسلکاً آخر فی الاستدلال علی المدّعی أشبه ما یکون بالدلیل العقلی وسیأتی التعرّض له إن شاء الله تعالی .

فالکلام بعد الفراغ عندنا من تمامیة أسانید الروایات المتقدمة فی دلالتها علی النصب العام فنقول :

الإنصاف أن الاستدلال بالروایة الأولی أعنی التوقیع الشریف - علی المدعی غیر واضح فإن استفادة النصب العام للفقیه قاضیاً من قوله (علیه السلام) : (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فیها إلی رواة حدیثنا) بعید عن لسان هذه الروایة والظهور الأولی لها إنما هو فی الشبهات الحکمیة فإنها تبیّن الطریق الذی یتعیّن علی العوام سلوکه لرفعها وهو الرجوع إلی الفقیه المجتهد القادر علی استنباط الأحکام من أدلتها ، وأما القول بأنها ناظرة إلی نصب الفقیه العارف بالحلال والحرام قاضیاً فبعید عن لسانها ، نعم .. هناک طریق آخر للاستدلال بالروایة علی النصب العام مبنی علی استفادة ولایة الفقیه من هذا التوقیع الشریف أی أنه یدلّ علی جعل الفقیه والیاً ومتولّیاً للأمور بولایة عامة علی إدارة شؤون المجتمع ومن ذلک القضاء لإقرار الحقّ ومنع الظلم ونشر العدل بین الناس فإنه أحد فروع هذه الولایة العامة .. ولکننا فی بحث ولایة الفقیه شکّکنا فی دلالة التوقیع علی الولایة العامة وبالنتیجة لا یمکن من خلال هذا التوقیع إثبات الولایة علی القضاء .

ص: 94


1- (3) راجع بحثه الشریف حول ولایة الفقیه فی مبحث الخمس .
2- (4) کمال الدین وتمام النعمة للشیخ الصدوق ص485 .
3- (5) التهذیب مج6 ص218 .
4- (6) الکافی مج7 ص412 .
5- (7) یُلاحظ بحث ولایة الفقیه فی مبحث الخمس .

وربما یقال إن المدّعی لا یتوقف علی دلالة هذا النصّ علی الولایة العامة للفقیه لکی نُثبت بها الولایة علی القضاء لأننا وإن اُنکرنا دلالة هذه الروایة وغیرها علی الولایة العامة إلا أنّنا انتهینا بالنتیجة إلی إثبات الولایة للفقیه بأدلة أخری وعلیه فیکون هذا المنصب أی الولایة علی أمور المسلمین - ممنوح شرعاً للفقیه ولمّا کان القضاء أحد فروع هذه الولایة فیکون ثابتاً للفقیه تَبَعاً فنحن لا نحتاج إذاً إلی دلیل ینصّ علی منح هذا المنصب للفقیه بل یکفی فی إثباته الأدلة التی تُثبت منح الولایة العامة له لیثبت هو بالتَبَع لکونه فرعاً من فروعها .

وهذا ما سلکه السید الخوئی (قده) لإثبات المدّعی - أی النصب العام (1) وسیأتی الحدیث عنه إن شاء الله تعالی .

والنتیجة أن الاستدلال بالتوقیع الشریف لإثبات النصب العام من الصعوبة بمکان .

هذا ما یتعلّق بالروایة الأولی وسیأتی الکلام علی الروایة الثانیة وهی المقبولة فی البحث اللاحق إن شاء الله تعالی .

لقضاء-المسالة-5-المقام الاول-النصب العام-ادلة النصب العام بحث الفقه

وصل الکلام بناءً إلی المقبولة والاستدلال بها علی النصب العام للقضاة بشرائط ومواصفات معیّنة ، ونصّها :

" قال : سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن رجلین من أصحابنا بینهما منازعة فی دین أو میراث ، فتحاکما إلی السلطان وإلی القضاة أیحلّ ذلک ؟ قال : من تحاکم إلیهم فی حق أو باطل فإنما تحاکم إلی الطاغوت وما یحکم له فإنما یأخذ سحتاً وإن کان حقا ثابتا له لأنه أخذه بحکم الطاغوت وما أمر (2) الله أن یکفر به ، قال الله تعالی : (یریدون أن یتحاکموا إلی الطاغوت وقد أمروا أن یکفروا به)، قلت : فکیف یصنعان ؟ قال : ینظران من کان منکم ممن قد روی حدیثنا ونظر فی حلالنا وحرامنا وعرف أحکامنا فلیرضَوا به حکماً فانی قد جعلته علیکم حاکماً فإذا حکم بحکمنا فلم یُقبل منه فإنما استخفّ بحکم الله وعلیه ردّ (3) والرادّ علینا الراد علی الله وهو علی حدّ الشرک بالله .. الحدیث " (4) .

ص: 95


1- (8) وهذا ما تقدّمت الإشارة إلیه بأنه أشبه بالدلیل العقلی .
2- (1) کذا فی الوسائل مج27 ص137 ، ولکن فی ص13 منها وفی الکافی مج1 ص67 والتهذیب مج6 ص218 بلفظ (وقد أمر الله) .
3- (2) کذا فی الوسائل مج27 ص137 ، ولکن فی ص13 منها وفی الکافی والتهذیب بلفظ (وعلینا ردّ) .
4- (3) الوسائل مج27 ص137 الباب الحادی عشر من أبواب صفات القاضی الحدیث الأول .

وهذه الروایة الشریفة تامة سنداً کما هو الصحیح ویُستدلّ بها علی النصب العام الذی یُستفاد من قوله (علیه السلام) : (فانی قد جعلته علیکم حاکماً) والضمیر فی (جعلته) یعود إلی الشخص الذی روی حدیثهم ونظر فی حلالهم وحرامهم وعرف أحکامهم (علیهم السلام) وقد تقدّم أن المقصود بالحاکم هو القاضی کما هو المناسب لمورد السؤال من المنازعة فی دین أو میراث .

وقد طُرح إشکال فی هذه الروایة - ویجری فی سائر الروایات وقد تقدّم ذکره فی أول هذا الکتاب - وحاصله أن یقال إننا نسلّم أن فی هذه الروایة نصّاً علی النصب إلا أنه نصب مؤقت بفترة وجود الإمام (1) لأنه صادر منه (علیه السلام) فی وقته باعتباره ولیّ الأمر فهو نصب ولائی ناشئ من إدراک الإمام (علیه السلام) لمصلحة ولا یعبّر عن حکم شرعی واقعی فلا یکون ثابتاً لا فی هذا الزمان ولا حتی فی زمان مَن بعده مِن الأئمة (علیهم السلام) فالنتیجة أنه لا یمکن الاستدلال به علی النصب العام فی زماننا .

وقد تقدّم الجواب عنه بما محصّله أنه لا فرق بین الأحکام الولائیة والأحکام الإلهیة فی أنها إذا صدرت تکون باقیة وثابتة إلی أن یأتی ما یُلغیها ویقطع بقاءها غایة الفرق بینهما إنما هو فی ما یرفع هذا الحکم فالحکم الإلهی الواقعی لا یُرفع إلا بالنسخ فی حین أن الحکم الولائی یرفعه الإمام نفسه أو الإمام اللاحق وإلا فکل من الحکمین سواءٌ فی شأنیة البقاء والاستمرار وفی لزوم الالتزام به من قِبَل المکلّفین .

وقد حاول بعضهم الجواب عنه بإنکار أن یکون النصب نصباً ولائیاً فزعم أنه من باب الإخبار عن الحکم الشرعی والجعل الإلهی - أی جعل الفقیه قاضیاً کما هو الحال فی إخباره (علیه السلام) عن أیّ حکم شرعی آخر .

ص: 96


1- (4) أی الذی صدر منه ذلک النصب .

وهذه المحاولة وإن کانت تحلّ الإشکال إلا أنها خلاف الظاهر فإن الروایة ظاهرة فی النصب لا الإخبار کما یشهد به قوله (علیه السلام) فیها : (قد جعلته علیکم حاکماً) .

واعتُرض أیضاً علی الاستدلال بالروایة بما حاصله أن الروایة لیست ناظرة إلی محلّ الکلام الذی هو القاضی المنصوب فلا یُستفاد منها نصب الفقیه قاضیاً بالنصب العام وإنما هی ناظرة إلی قاضی التحکیم ویُستفاد منها مشروعیة القضاء للتحکیم باعتبار أن قول الإمام (علیه السلام) : (فانی قد جعلته علیکم حاکماً) متفرّع علی قوله قبل ذلک : (فلیرضَوا به حکماً) فیکون نصب الفقیه قاضیاً وجعله حاکماً هو فی طول التراضی وهذا شأن قاضی التحکیم وأما القاضی المنصوب فنصبه إنما یکون بقطع النظر عن افتراض التحاکم والتراضی .

ونظیر هذا الإشکال ما ذکره السید الخوئی (قده) فی الروایة الثالثة - أعنی معتبرة أبی خدیجة - ولکنه لم یذکره فی هذه المقبولة بل یری أنها تامة الدلالة إلا أنها ضعیفة السند بعمر بن حنظلة حیث لم یثبت توثیقه لدیه ، والتعبیر فی هذا الإشکال وما ذکره فی المعتبرة واحد والأسلوب واحد ولیس من الواضح أنه لمَ خصّ الإشکال بتلک الروایة دون هذه فإن هذه الروایة قد یُتوهّم أیضاً وروده فیها .

وحلّ الإشکال - بحیث یظهر الجواب عنه فی هذه المقبولة ومعتبرة أبی خدیجة الآتیة - هو بأن یقال : إن الذی یُفهم من لسان هذه الروایة أن قوله (علیه السلام) : (فانی قد جعلته علیکم حاکماً) بمثابة التعلیل للرضا بکونه حاکماً فقوله : (فلیرضَوا به حکماً) کأنه قد عُلّل بقوله (لأنی قد جعلته علیکم حاکماً) فلیس جعله حاکماً هو فی مرتبة متأخرة عن التراضی به وإنما هو بمثابة العلة أی أنه إنما أمرهم بالرضا به حکماً لأنه (علیه السلام) جعله علیهم حاکماً فیکون الرضا به حکماً فی طول جعله حاکماً فلا یکون هذا النصب المستفاد من قوله (علیه السلام) : (فإنی قد جعلته علیکم حاکماً) فی طول التراضی والتحاکم وإنما هو نصب مستقل بل الأمر بالرضا به هو الذی یکون فی طوله ومتفرع علیه فتکون الروایة ظاهرة الدلالة فی القاضی المنصوب وفی النصب العام بعد دفع الإشکالات الدلالیة عنها وکذلک السندیة .

ص: 97

الروایة الثالثة : معتبرة أبی خدیجة :

" بعثنی أبو عبد الله (علیه السلام) إلی أصحابنا فقال : قل لهم : إیاکم إذا وقعت بینکم خصومة أو تداری فی شیء من الأخذ والعطاء أن تحاکموا إلی أحد من هؤلاء الفسّاق ، اجعلوا بینکم رجلاً قد عرف حلالنا وحرامنا فانی قد جعلته علیکم قاضیاً وإیاکم أن یخاصم بعضکم بعضاً إلی السلطان الجائر " (1) .

وثمة روایة أخری لأبی خدیجة : " قال : قال أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق (علیه السلام) : إیاکم أن یحاکم بعضکم بعضاً إلی أهل الجور ولکن انظروا إلی رجل منکم یعلم شیئاً من قضایانا فاجعلوه بینکم فإنی قد جعلته قاضیاً فتحاکموا إلیه " (2) .

وقد ذکر السید الخوئی (قده) أن هذه الروایة ناظرة إلی قاضی التحکیم لأن قوله : (فانی قد جعلته علیکم قاضیاً) متفرّع علی قوله : (فاجعلوه بینکم) أی حاکماً وقاضیاً فیکون فی طوله ، وإذا کان الجعل فی طول التراضی والتحاکم فیکون القاضی حینئذ قاضیَ تحکیم لا قاضیاً منصوباً .

والجواب عنه هو الجواب المتقدم نفسه وهو أن المستفاد من العبارة أن قوله (علیه السلام) : (فانی قد جعلته علیکم قاضیاً) بمثابة قوله : (لأنی قد جعلته علیکم قاضیاً) فیکون الأمر بالرجوع إلیه فی طول نصبه قاضیاً لا أن نصبه قاضیاً یکون فی طول تحاکمهم إلیه وتراضیهم به .. فالإنصاف أن الروایة سالمة من هذا الأشکال وهی ناظرة إلی النصب العام للقاضی بقطع النظر عن التحاکم والتراضی .

ص: 98


1- (5) الوسائل مج27 ص137 الباب الحادی عشر من أبواب صفات القاضی الحدیث السادس ، و(التداری) مخفّف التدارؤ وهو التدافع ، وفی التهذیب مج6 ص303 : (تداری بینِکم) - بإضافة (التداری) إلی (بینکم) - ، و(تتحاکموا) بتاءین ، و(ممّن قد عرف) بزیادة (ممّن) .
2- (6) الوسائل مج27 ص13 الباب الأول من أبواب صفات القاضی الحدیث الخامس ، وفی الکافی مج7 ص412 وفیه : (قضائنا) بدل (قضایانا) .

ومن هنا یتبیّن أننا لا نحتاج فی الحقیقة إلی الاستدلال علی النصب العام إلی دلیل آخر لأن هاتین الروایتین تکفیان لإثبات النصب العام ، والسید الخوئی (قده) کما أشرنا بعد أن ردّ هذه الروایات بضعف السند أو عدم الدلالة استدلّ علی النصب العام الذی هو محلّ الکلام بحکم العقل بوجوب حفظ النظام مع وضوح توقف حفظ النظام علی القضاء الذی به استتباب الأمن وإقامة العدل فیکون القضاء واجباً کفایة - إذ لیس ثمة احتمال کونه واجباً عینیاً لأن حفظ النظام یتأدّی بوجوبه علی نحو الکفایة - وهذا کما یقتضی الوجوب الکفائی المشار إلیه یقتضی أیضاً أن یحکم الشارع بنفوذ هذا القضاء وذلک لوضوح أن مجرد وجوب القضاء علی نحو الکفایة بل وتصدّی بعض من یلتزم بهذا الوجوب لا ینحفظ به النظام ما لم یکن حکم القاضی نافذاً .. إذاً لا بد من فرض وجود قضاة یجب علیهم القضاء ویحکم الشارع بنفوذ قضائهم لأن حفظ النظام لا یتمّ إلا بذلک .

ومن هذا الدلیل یُستکشف علی نحو الجزم أن الشارع نصب قضاة وحکم بنفوذ قضائهم لأجل حفظ النظام فلا حاجة إلی تجشّم البحث عن روایة تدل علی هذا المضمون ، وأولئک القضاة المنصوبون من قبل الشارع لذلک الغرض هم الفقهاء أخذاً بالقدر المتیقّن مما استُکشف بذلک الدلیل واقتصاراً علیه باعتبار ما تقدّم مراراً من أن نفوذ حکم شخص علی آخر علی خلاف الأصل فیُقتصر فی مخالفته علی القدر المتیقّن من مورده ولا إشکال فی أن القدر المتیقّن هو الفقیه باعتبار الحاجة فی مورد القضاء إلی استنباط الأحکام من أدلتها المقررة (1) وهو عمل الفقیه دون غیره ، ولا احتمال جزماً أن ینصب الشارع غیر الفقیه قاضیاً دون الفقیه وإنما الاحتمال فی أن ینصب کلاًّ منهما فیدور الأمر بین الأخذ بکل منهما أو الاقتصار علی أحدهما وکل ذلک مخالف للأصل المذکور (2) ولکن لما دل العقل علی لزوم نصب القاضی فیُقتصر فی مخالفة الأصل علی القدر المتیقّن من ذلک وهو الفقیه .. مضافاً إلی إمکان الاستدلال علی المدّعی بما یُعرف بدلیل الحسبة وهو غیر مسألة حفظ النظام ومحصّله :

ص: 99


1- (7) ولذلک اشتُرط الاجتهاد فی القاضی .
2- (8) وهو عدم ولایة أحد علی أحد ولا نفوذ لحکم أحد علی أحد .

أن هناک أموراً یُعبّر عنها - فی کلمات فقهائنا (رض) - بالمعروف فکل معروف نحن نقطع بلا بدیة تحقّقه فی الخارج شرعاً کما نقطع بأن الشارع لا یرید تحقّقه من أیٍّ أحد بل یرید تحقّقه من أفراد مخصوصین کما نجد ذلک - مثلاً فی الولایة علی أموال الغائب أو الیتیم فإن هذا معروف ونحن نقطع بأن الشارع یرید تحقّقه خارجاً ولا یرضی بتفویته کما نقطع بأنه لا یرید تحقّقه من أیّ أحد وإنما یرید تحقّقه من أشخاص معیّنین یتصدّون لهذا الأمر - الذی نقطع بأن الشارع یرید تحقّقه خارجاً -فیدور الأمر بین جماعة یُمثّلون القدر الذی یُتیقّن برضا الشارع بتحقّق ذلک الأمر علی أیدیهم وآخرین یُشکّ فی رضا الشارع بهم فیؤخذ بالقدر المتیقّن ویُترک ما وراءه ولا ریب أن القدر المتیقّن فی ما نحن فیه إنما یُمثّله الفقهاء دون غیرهم .

فهذا دلیل آخر یُثبت المطلوب .. ولکن من الممکن إدخاله فی الدلیل السابق أعنی دلیل حفظ النظام باعتبار أن منشأ لا بدیة ما نقطع به من أن الشارع یرید تحقّق ذلک الأمر فی الخارج علی کل حال ولا یرضی بتفویته إنما هو إرادة الشارع لحفظ النظام .

وهذا الدلیل فی نظرنا تام بل إن تطبیقه فی محلّ الکلام لعله أوضح من تطبیقه علی ولایة الفقیه وإن کنّا قد طبّقناه علی بحث ولایة الفقیه فی محلّه وذلک لأن الارتباط بین القضاء والاجتهاد وما یستتبع ذلک من الاستنباط ومعرفة الأحکام الشرعیة أوضح من ارتباط الولایة العامة بالاجتهاد حیث إنه فی بحث ولایة الفقیه تأتّت شبهة إمکان أن یوجد من هو أکفأ من الفقیه فی إدارة شؤون المجتمع مما یؤدّی إلی عدم ضرورة أن یکون هذا الدلیل منتجاً لانحصار الولایة العامة بالفقیه بمعنی أنه لا یُشکّل القدر المتیقّن إذ لعل غیره إذا کان یحمل مواصفات خاصة تؤهّله لتلک المهمة (1) یکون أولی منه فاحتجنا فی ذلک البحث لدفع هذه الشبهة إلی بیان ارتباط الولایة العامة بمعرفة الأحکام الشرعیة وتطبیقها علی مواردها ولا إشکال فی أن الفقیه هو الأقدر علی معرفة رأی الشارع وتمییز ما یریده ممّا لا یریده ، وهذه الشبهة لا تجری هاهنا لوضوح الارتباط بین القضاء ومعرفة الأحکام الشرعیة فإن القضاء حکم شرعی یحتاج فی معرفته إلی استنباط الأحکام الشرعیة من مدارکها المقررة إلا أنه مما تُفصَل به الخصومة ویُحلّ به النزاع ، ففی هذا المورد یکون الفقیه المجتهد هو القدر المتیقّن ممّن یرید الإمام (علیه السلام) تصدّیهم للقیام لمنصب القضاء من باب الحسبة أو من باب حفظ النظام .

ص: 100


1- (9) أی إدارة شؤون المجتمع .

إذاً فهذا الدلیل فی محلّ الکلام تام بل هو تام حتی فی باب إثبات الولایة العامة للفقیه .

فالنتیجة أنه لا ینبغی التشکیک فی ثبوت النصب العام بناءً علی ما تقدّم من الأدلة .

ثم یأتی الکلام علی الجهة الثانیة من البحث وهی الشرائط المعتبرة فی القاضی .

القضاء-المسالة-5-المقام الاول-النصب العام-الجهة الثانیة-شرائط نصب-القاضی-1 البلوغ2 العقل3 الذکورة بحث الفقه

تقدّم إن الکلام یقع فی مقامین :

الأول : فی القاضی المنصوب .

والثانی : فی قاضی التحکیم .

وذکرنا أن الکلام فی المقام الأول یقع فی جهات وقد تحدّثنا عن الجهة الأولی وهی إثبات النصب العام وصدور النصّ من قبل الأئمة (علیهم السلام) لمن کان واجداً لجملة من الصفات والشرائط وقلنا إن هناک دلیلاً یمکن التمسّک به لإثبات هذا النصب العام وقد تقدّم ذکره .

الجهة الثانیة : فی الشرائط المعتبرة فی القاضی المنصوب بالنصب العام :

ذکر السید الماتن (قده) فی المتن عدة أمور قال إنها شرائط للقاضی المنصوب بالنصب العام ونحن نتعرض لها تباعاً ولکن نشیر هنا إلی أن طریقة إثبات اعتبار هذه الشرائط فی القاضی المنصوب علی مسلکه (قده) فی إثبات النصب العام تختلف عنها علی المسلک الصحیح المختار فطریقة إثباتها علی المسلک المختار تکون بالرجوع إلی النصّ الدال علی النصب العام فلا بد من مراجعته لمعرفة الشرائط التی تضمّنها هذا الدلیل فما یُستظهر اعتباره فیه یُحکم بکونه معتبراً وما یُشکّ فی اعتباره فلا یُسلّم باشتراطه فی القاضی المنصوب ما لم یدلّ دلیل بالخصوص علی اعتباره واشتراطه وحینئذ فإن أمکن التمسّک بتلک الأدلة اللفظیة لنفی اعتباره بأن کانت فی مقام البیان أو بنکتة أخری تُثبت أنها مطلقة من ناحیة ما یُشکّ فی اعتباره فحینئذ یمکن التمسّک بإطلاقها لنفی اعتباره وإن لم یمکن التمسّک بالإطلاق فحینئذ تدخل المسألة فی باب الأصل العملی .. وهل یقتضی عدم الاعتبار أم الاعتبار ؟

ص: 101

بناءً علی ما تقدّم مراراً من أن القضاء ونفوذ حکم شخص فی حقّ غیره هو علی خلاف القاعدة ولا بد أن یُقتصر فیه علی القدر المتیقّن فحینئذ لا بد من اعتبار هذا الشیء المشکوک الاعتبار الذی لم یمکن استظهار اعتباره بالدلیل اللفظی بحسب الفرض کما لا یمکن نفی اعتباره بالتمسّک بإطلاق الدلیل اللفظی لعدم وجود إطلاق فیه حسب الفرض فإذا وصلت النوبة إلی الأصل العملی فمقتضی لزوم الاقتصار علی القدر المتیقن فی مخالفة الأصل والقاعدة هو اعتبار ذلک الشیء المشکوک ولازمه القول بعدم نصب من کان فاقداً لذلک الشیء المشکوک الاعتبار قاضیاً بالنصب العام .

هذه طریقة إثبات هذه الشرائط بناءً علی المسلک المختار ، وأما بناء علی مسلک السید الخوئی (قده) الذی تقدم فی باب النصب العام فهی تختلف عنها فإن عنده أن کل شرط یُشک فی اعتباره فهو معتبر لأنه کان قد أثبت النصب العام بحکم العقل من باب حفظ النظام فقال إنه یُستکشف عقلاً من وجوب حفظ النظام أن الشارع نصب قضاة لئلا یلزم اختلال النظام وذکر أن المتیقن منهم هم الفقهاء فإذا شککنا فی اعتبار شیء فی الفقیه الذی استکشفنا نصبه من الدلیل العقلی فلا بد من اعتباره کما لو شککنا فی اعتبار شرط طهارة المولد فلا بد من اعتباره من باب التمسّک بالقدر المتیقّن لأن الأمر فی الواقع یدور بین أن یکون المنصوب هو مطلق الفقیه سواء کان طاهر المولد أم لا أو یکون المنصوب هو خصوص طاهر المولد فیکون طاهر المولد هو القدر المتیقّن إذ لا یُحتمل العکس - أی أن یکون المنصوب هو غیر طاهر المولد دون طاهر المولد ، وهذه هی القاعدة فی استنتاج القدر المتیقّن - ، وهکذا سائر الأمور التی یُشکّ فی اعتبارها لأنه یری عدم وجود الدلیل اللفظی الدال علی النصب العام حتی یُرجع إلیه ویُستنطَق فی اعتبار ذلک الشیء المشکوک من عدمه فإذا فُقد النصّ علی اعتباره فنتمسّک بالإطلاق حینئذ لنفی اعتباره فتصل النوبة دائماً إلی ما یشبه الأصل العملی ویُقتصر فیه علی القدر المتیقّن ولذا لا یُحتاج علی مسلکه إلی أدلة لاعتبار الشرائط التی ذکرها ، نعم .. لا بد أن یکون احتمال ما یُشکّ فی اعتباره معتداً به ولیس احتمالاً واهیاً غیر عرفی وعقلائی ولو کان منشأه ذهاب جملة من الفقهاء إلی اعتباره .

ص: 102

هذا بیان الطریق علی المسلکین وسنقتصر فی محاسبة الشرائط المذکورة علی خصوص المسلک المختار الذی ذکرنا أنه یتضمّن أدلة لفظیة تدل علی النصب العام فطریقة إثبات اعتبار هذه الشرائط أو نفی اعتبارها تکون بمراجعة تلک الأدلة فنقول :

أول شرط - ذُکر فی المتن - : هو البلوغ ولا إشکال فی أنه معتبر عند المشهور بل قال فی الجواهر بشأن هذا الشرط مع شرائط أخری ذکرها : " بلا خلاف أجده فیها " ، ونقل عن الشهید الثانی فی المسالک أنها (1) موضع وفاق ، واستدل فی الجواهر علی اعتبار شرطیة البلوغ بأمرین :

أولاً : سلب الاعتبار عن أقوال غیر البالغ وأفعاله فکیف مع هذا یصلح لهذا المنصب العظیم الذی هو القضاء .

وثانیاً : کونه مولّیً علیه - أی واقعاً تحت الولایة والوصایة - .

فیُستکشف من هذین الدلیلین اعتبار البلوغ فی القاضی المنصوب .

وأقول : أما بالنسبة إلی الدلیل الأول (2) فلا إشکال فی أن من کان حاله کذلک لا یصلح لأن یتولّی هذا المنصب الخطیر (3) وإنما الکلام فی أنه هل اللازم اعتبار البلوغ مطلقاً فی القاضی المنصوب فالخارج حینئذ هو الصبی مطلقاً - ممیّزاً کان أو غیر ممیّز - أو یمکن إلحاق الصبی الممیز بالبالغ فالخارج حینئذ هو الصبی غیر الممیز فحسب ؟

ووجه هذا التفصیل أن الصبی مطلقاً لا یکون مسلوب العبارة إذ یمکن أن یقال إن من البعید عقلاءً الالتزام بأن الصبی الممیز الذی تفصله ساعة عن البلوغ - مثلاً - هو مسلوب العبارة قبل ساعة وغیر مسلوبها بعد ساعة فإن مثل هذا الزمان القصیر لا یُعدّ عند العقلاء مؤثّراً وفارقاً فی المقام وبناءً علی هذا لا ینهض الدلیل المذکور لإثبات هذا الشرط مطلقاً .

ص: 103


1- (1) أی تلک الشرائط التی ذکرها مع شرط البلوغ .
2- (2) وهو سلب الاعتبار عن أقواله وأفعاله واعتبارها کلا أقوال ولا أفعال .
3- (3) أی القضاء .

وأما بالنسبة إلی الدلیل الثانی (1) فقد یبرز تساؤل هاهنا وحاصله أن الشیخ صاحب الجواهر (قده) تبعاً للمحقق الحلی فی الشرایع ذهب إلی عدم اشتراط الحریة فی القاضی أی جواز أن یتولّی العبد القضاء ولا فرق فی هذه المسألة بین العبد والصبی فی کون کل منهما مولّی علیه ولا تنفذ تصرفاته إلا بإذن الولی وإمضائه بل الأمر فی العبد أشدّ (2) فإذا کانت الولایة علی الشخص تمنع من تسنّمه هذا المنصب فینبغی أن تکون مانعة من تولّی العبد له مع أن الشیخ (قده) یصرّح بعدم اشتراط الحریة فی القاضی المنصوب مستدلاً له (3) بإطلاق أدلة النصب العام فإن مقتضی إطلاقها عدم الاشتراط وجواز تولّی العبد لهذا المنصب .

وأقول : مقتضی إطلاق روایات النصب العام عدم الاشتراط بالإضافة إلی البلوغ أیضاً فلماذا لا یُستدل بهذه الروایات لنفی اعتباره - والمقصود بالروایة المطلقة فی أدلة النصب العام بالقیاس إلی البلوغ مقبولة ابن حنظلة فإن الوارد فیها : (ینظران من کان منکم ..) وهذا العنوان - أعنی الاسم الموصول : (مَن) کما یشمل العبد والحر یشمل کذلک البالغ وغیره وهو الممیز - ولیس ثمة من یخصّصه بالبالغ .

إذاً .. هذا إیراد یُسجلّ علی الشیخ صاحب الجواهر بناء علی تمسّکه بالإطلاق وإن کنّا لا نقول به کما سیأتی - .

نعم .. قد یُناقش فی إطلاق المقبولة بالنسبة إلی محلّ الکلام بأنه لا یصح التمسّک به لنفی اعتبار البلوغ وذلک باعتبار عدم تمامیة هذا الإطلاق - علی تقدیر القول به وبغض النظر عن المناقشات الآتیة - لکونه مقیّداً بمعتبرة أبی خدیجة التی تقول : (ولکن انظروا إلی رجل منکم ..) حیث إن الظاهر أن قوله : (رجل) قید یُستفاد منه اعتبار البلوغ واعتبار الذکوریة کما سیأتی فالمأمور بالرجوع إلیه هو رجل لا صبی ولا امرأة .

ص: 104


1- (4) وهو کونه مولّیً علیه .
2- (5) باعتبار أن الولایة علی الصبی تنتهی قهراً ببلوغه وهو أمر حاصل بخلاف العبد فقد یبقی فی الرقّ طیلة حیاته فیکون مولّی علیه تمام عمره .
3- (6) أی لعدم الاشتراط .

وقد یُناقش بعدم دلالة الروایة علی اعتبار البلوغ والذکوریة لأن هذا الاعتبار مبنی علی مفهوم اللقب (1) وهو أضعف المفاهیم ولا قائل به .

ولکن یُجاب عنه بأن الاستدلال فی الحقیقة لیس مبنیاً علی مفهوم اللقب وإنما هو مبنی علی استظهار أن الإمام (علیه السلام) فی هذه الروایة بصدد تحدید من یجب الرجوع إلیه (2) بکونه رجلاً أی ذکراً بالغاً وهذا یصلح أن یکون مقیّداً للمطلق فی المقبولة لو قیل بانعقاد الإطلاق فیها .

مضافاً إلی أنه یمکن المناقشة فی أصل انعقاد الإطلاق فی المقبولة وذلک باعتبار وجود ارتکاز عند المتشرّعة فی عدم صلاحیة الصبی لتسنّم هذه المناصب باعتبار عدم نفوذ تصرفاته ، وهذا الارتکاز الموجود لدیهم إما أن یکون قرینة لبّیة متّصلة بالکلام تمنع من انعقاد الإطلاق ولو سُلّم بدواً أن قوله (علیه السلام) : (انظروا إلی من کان منکم ..) لو خُلّی ونفسه یکون مطلقاً ولکن المتشرعة الذین یتلقّون هذا الکلام مرتکز فی أذهانهم أن الصبی لا یصلح لهذا المنصب لکونه مولّی علیه ومسلوب النفوذ ، أو یقال بأنها تفید الانصراف عن الصبی إلی البالغ .. وعلی کلا التقدیرین ثمة تشکیک فی انعقاد الإطلاق فی هذه الروایات بالنسبة إلی محلّ الکلام .

فظهر مما سبق الخدشة فی وجود إطلاق فی أدلة النصب العام لیُتمسّک به لنفی اعتبار شرطیة البلوغ فلا نملک حینئذ الدلیل الذی یشمل بإطلاقه غیر البالغ بل نملک الدلیل علی اعتبار البلوغ واشتراطه وهو معتبرة أبی خدیجة .

فالصحیح وفاقاً للمشهور بل المتّفق علیه بینهم هو اعتبار البلوغ فی القاضی .

ص: 105


1- (7) وذلک باعتبار عدم ذکر الموصوف قبله .
2- (8) فی مقابل التحاکم إلی الطاغوت .

الشرط الثانی - الذی ذکره فی المتن - : هو العقل واشتراطه مما لا یحتاج إلی أن یُستدلّ علیه بدلیل کانصراف الأدلة عن المجنون وأمثاله بل من غیر المعقول بالنسبة إلی الشارع أن ینصب المجنون قاضیاً .

الشرط الثالث : هو الذکورة أی یُعتبر فی القاضی أن یکون ذکراً ، وهذا الشرط مشهور بین الأصحاب وادُّعی علیه الإجماع حیث ادّعی الشیخ الأنصاری (قده) الإجماع المحصّل والمنقول علیه وعلی البلوغ .

وأقول : مما تقدّم بحثه فی الشرط الأول یتبیّن الحال فی هذا الشرط وحاصل ما نذکره هاهنا أن بعض أدلة النصب (1) وإن کانت قد یُتوهّم إطلاقها بالنسبة إلی هذا الشرط کما فی قوله (علیه السلام): (من کان منکم) حیث یشمل الموصول (مَن) بإطلاقه الذکر والمرأة إلا أنه لا بد من رفع الید عن هذا الإطلاق کما تقدّم وتقییده بخصوص الذکر باعتبار ما ورد فی معتبرة أبی خدیجة من قوله : (انظروا إلی رجل منکم) بالبیان السابق نفسه من کون الإمام (علیه السلام) فی مقام التحدید مضافاً إلی عدم معهودیة أن تکون المرأة قاضیاً ویمکن أن یکون هذا سبباً فی انصراف الإطلاق عن المرأة ، هذا .. وینبغی أن لا یکون المقصود بعدم المعهودیة هو عدم التعارف الخارجی فقط إذ أنه لا یکون حینئذ مانعاً من الإطلاق وإنما المراد نحوٌ آخر من عدم التعارف وهو أنه لم یُنقل فی زمان من الأزمنة تولّی المرأة لمنصب القضاء .. مضافاً إلی الارتکاز القائم علی أن المرأة لا تصلح لهذا المنصب وأنها فی أبواب لیست قلیلة من الفقه لها أحکام خاصة تنفرد فیها عن الرجل مما قد یکوّن منشأ طبیعیاً لهذا الارتکاز .. مضافاً إلی تأیید ذلک ببعض الروایات وإن کانت ضعیفة السند من قبیل ما رُوی فی الخصال بسند ضعیف - : (ولا تُولّی المرأة القضاء) (2) ، وفی الفقیه أیضاً حیث روی الشیخ الصدوق بإسناده عن حماد بن عمرو وأنس بن محمد عن أبیه جمیعاً عن جعفر بن محمد عن آبائه (علیهم السلام) فی وصیة النبی (صلی الله علیه وآله) لعلی (علیه السلام) : (قال یا علی لیس علی المرأة جمعة .. إلی أن قال : ولا تُولّی القضاء) (3) مع ضمیمة الروایات العامیة التی نقلها علماؤنا فی کتب الاستدلال والظاهر أنها روایات لیست بالقلیلة فمن مجموع ما سبق کله لعله یحصل الرکون إلی أن هذا المضمون (4) صادر عن المعصومین (علیهم السلام) .

ص: 106


1- (9) والمقصود بذلک مقبولة ابن حنظلة .
2- (10) الخصال ص585 الحدیث الثانی عشر .
3- (11) الفقیه مج4 ص364 ، والوسائل فی الباب الخامس والعشرین من أبواب صفات القاضی الحدیث الأول مج12 ص46 .
4- (12) أی اعتبار الذکوریة فی القاضی المنصوب .

-القضاء-المسالة-5-المقام الاول-النصب العام-شرائط نصب القاضی-4الایمان 5-طهارة المولد -6العدالة بحث الفقه

الشرط الرابع - المذکور فی المتن - : الإیمان والمراد به الکون علی مذهب الإمامیة الاثنی عشریة بمعنی أن غیر المؤمن لا یجوز له تولّی القضاء أی أن قضاءه لا یکون نافذاً ولا ممضیً شرعاً .

والظاهر أن اشتراط الإیمان مما لا خلاف فیه بین علمائنا (رض) بل قال الشیخ صاحب الجواهر (قده) : " إنه من ضروریات مذهبنا " ، واستدل علیه فی الجواهر بما دلّ علی النهی عن الترافع إلی قضاتهم - أی العامة - ، ویبدو أن مقصوده من ذلک الأدلة التی جمعها الشیخ صاحب الوسائل (قده) فی الباب الأول من کتاب القضاء الدالة علی تحریم التحاکم إلی الطاغوت بعناوین مختلفة ولکن أکثرها بعنوان الطاغوت وأهل الجور والسلطان وأمثالها التی تشیر بأجمعها إلی تحریم التحاکم إلی الطاغوت فکأنه یستدل بهذه الروایات علی اعتبار الإیمان فی القاضی الذی هو محلّ الکلام .. ولکن یبدو أن الأصح والأنسب الاستدلال علی اعتبار بمقبولة ابن حنظلة ومعتبرة أبی خدیجة المتقدمتین حیث ورد فی الأولی : " ینظران من کان منکم " ، وفی الثانیة : " انظروا إلی رجل منکم " فإن لفظ (منکم) المتکرر فی کلتا الروایتین یُستفاد منه اعتبار شرط الإیمان بالبیان السابق الذی استفدنا منه اشتراط الذکوریة والبلوغ وهو کون الروایة ظاهرة فی مقام التحدید وأن الإمام (علیه السلام) فی مقام تعیین من یجوز الرجوع إلیه وهو کونه : (منکم) أی من أهل الإیمان فتدلان علی اعتبار الإیمان فی القاضی .

وقد یُستدلّ علی ذلک أیضاً بفحوی ما دل علی اعتبار الإیمان فی إمام الجماعة فیقال إن هذه الأدلة حیث دلّت علی اعتبار الإیمان فی إمام الجماعة فهی تدلّ علی اعتباره فی محلّ الکلام - وهو القاضی - بطریق أولی وذلک باعتبار أن منصب القضاء أهمّ من إمامة الجماعة والاهتمام به فی الشرع أکثر منها فإذا کان یُعتبر فی إمام الجماعة أن یکون مؤمناً فاعتبار الإیمان فی القاضی من باب أولی .

ص: 107

ثم إن هذه الأولویة هل هی قطعیة أو عرفیة ؟

سیأتی الحدیث عنه عند الکلام علی بعض الشرائط التی یکون أظهر الأدلة علیها هذه الأولویة .

وأما أدلة التحاکم إلی الطاغوت التی من المحتمل أن الشیخ صاحب الجواهر (قده) کان قد استدل بها علی اعتبار الإیمان فی القاضی فالظاهر أنها أجنبیة عن محلّ الکلام لأن المستفاد من هذه الأدلة هو تحریم التحاکم إلی الطاغوت ، والنسبة بین عنوانی الطاغوت والمؤمن الواقع شرطاً فی محلّ الکلام - هی العموم والخصوص من وجه فیجتمعان فی مورد کون الطاغوت مؤمناً أی حاکماً جائراً وإن کان إمامیاً اثنی عشریاً ، نعم .. من حیث المصداق الخارجی قد لا یکون هذا المورد متحققاً إلا أن هذا لا یعنی تخصیص الدلیل المطلق فلو وجد حاکم جائر ولکنه مؤمن فهو أیضاً ممن یحرم التحاکم إلیه ویفترق کل منهما عن الآخر فی مورد یخصّه إذ لا مانع من افتراض کون الحاکم طاغوتاً غیر مؤمن أو مؤمناً غیر طاغوت .. فإذاً لا موجب لتخصیص أدلة التحاکم إلی الطاغوت بخصوص غیر المؤمن وإنما هی مطلقة تشمل کل طاغوت وجائر وظالم مؤمناً کان أو غیر مؤمن فالتحاکم إلیه یکون منهیاً عنه بنص الأدلة الواردة فی هذا الباب ، وبعد تعدد العنوان وتعدد الملاک الذی یُفهم من هذه الأدلة وهو أن ملاک التحریم فی أدلة التحاکم إلی الطاغوت هو کونه طاغوتاً وجائراً فی حین أن الملاک فی عدم جواز تولّی غیر المؤمن للقضاء هو کونه غیر مؤمن فحینئذ لا وجه للاستدلال علی اعتبار الإیمان فی محلّ الکلام بما دل علی تحریم التحاکم إلی الطاغوت فإنهما من بابین منفصلین مستقلین لا یصحّ الاستدلال علی أحدهما بما دلّ علی الآخر فالصحیح الاستدلال بالروایتین وکونهما فی مقام التحدید علی اعتبار الإیمان فی القاضی مضافاً إلی الأولویة علی تقدیر تمامها کما سیأتی .

ص: 108

الشرط الخامس : طهارة المولد بمعنی أن ابن الزنا لا یصلح لتسنّم هذا المنصب ، والظاهر أن هذا الشرط لا خلاف فی اعتباره عندهم .

واستدلّ علیه بدلیلین :

الأول : فحوی ما دل علی اشتراط طهارة المولد فی إمام الجماعة وفی قبول الشهادة بناءً علی ثبوت ذلک فیهما کأصل مسلّم فی المقام فحینئذ یقال بأن اعتبار طهارة المولد فی هذین البابین یدل بالأولویة علی اعتبارها فی محلّ الکلام (1) فهذه الأولویة - کما یظهر من بعض کلمات السید الخوئی (قده) - قطعیة تورث الیقین باعتبار طهارة المولد فی ما نحن فیه .

وأما إذا فُرض عدم التسلیم بها (2) نتنزّل حینئذ إلی الأولویة العرفیة لاسیما فی الدلیل الدال علی اعتبار طهارة المولد فی الشاهد فإن العرف إذا رأی اشتراط طهارة المولد فی الشاهد والحال أن الشهادة فرع القضاء ودورها فی إثبات الدعوی وفصل الخصومة أقلّ بکثیر من دوره - رأی أن ذلک یکون موجباً لثبوت هذا الشرط فی القاضی بطریق أولی .

فالنتیجة أنه إذا لم یحصل لنا جزم ویقین فی اعتبار هذا الشرط بالأولویة القطعیة فنتنزّل إلی الأولویة العرفیة التی تُستظهر من الدلیل وهی علی فرض ثبوتها توجب فی الدلیل الدال علی اعتبار طهارة المولد فی الشاهد بل حتی فی إمام الجماعة أن یکون ظاهراً فی اعتبارها فی ما هو أهمّ منه وهو القاضی نظیر ما ذُکر فی قوله تعالی : (ولا تقل لهما أُفٍّ) حیث یدل بالأولویة علی النهی عن السبّ والضرب .

هذا هو الدلیل الأول الذی ذُکر فی کلماتهم واستند إلیه کثیر ممن تعرّض إلی هذه المسألة .

ص: 109


1- (1) أی القضاء .
2- (2) أی بالأولویة القطعیة .

الدلیل الثانی : الانصراف بمعنی أن الدلیل الدال علی نصب القاضی ینصرف عن ابن الزنا فلا یکون الدلیل شاملاً له بإطلاقه وهذا الانصراف یُعلّل بأن عدم طهارة المولد وکون الشخص ابن زنا یُعدّ منقصة لا بمعنی أنها منقصة ذاتیة فی الشخص بل بمعنی أنها منقصة بحسب النظر العرفی - لا یصلح الشخص معها لأن یتسنّم إمامة الجماعة أو یکون شاهداً فی قضیة ، وإذا کانت مثل هذه المنقصة الثابتة بنظر العقلاء حتی لو لم یکن لها أصل شرعی تؤثّر فی منعه من ذلک فهی من باب أولی تکون موجبة لمنعه من أن یتسنّم منصب القضاء فالدلیل الدال علی نصب القاضی یکون منصرفاً عمّن وجدت فیه فلا یشمل الدلیل حینئذ ابن الزنا بل یختصّ بغیره .

وأقول : إذا تمّمنا الأولویة ولو بصیغتها الثانیة أی العرفیة فیمکن الاستدلال علی المدعی .. وإلا فالاستدلال بالانصراف وإن ذکره کثیر منهم لا یخلو من حزازة لعدم الموجب له فإن مجرد وجود منقصة فی الشخص من ناحیة اجتماعیة - لا من ناحیة شرعیة - قد لا یکون موجباً للانصراف ، نعم .. ما یؤکّد الأولویة العرفیة أنّ کون الشخص ابن زنا یُعدّ منقصة عرفاً فإذا کانت هذه المنقصة منعته من أن یکون إمام الجماعة بنظر الشارع لکونها منقصة بنظر العرف فهنا یمکن أن یقال إنه من باب أولی أن تمنعه من أن یتسنّم منصب القضاء والولایة العامة وهکذا غیرهما من المناصب فإن المنصب کلما ازداد أهمیة ثبت المنع فیه بطریق أولی ، ومن هنا یمکن إثبات الأولویة العرفیة والاعتماد علیها فی المقام حیث تشکّل وضوحاً فی الدلیل یمکن معه من الاستناد إلیها لإثبات هذا الاشتراط .

ص: 110

الشرط السادس : العدالة ، والظاهر اتفاقهم علی اعتبارها بلا خلاف ولا إشکال ، واستُدلّ علی هذا الاشتراط بجملة من الأمور :

منها : التمسّک بمقبولة ابن حنظلة باعتبار أنها بعد الرجوع إلی مضمونها ذکرت فی صورة التعارض بین الحَکَمَین أن (الحُکم ما حکم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما فی الحدیث) فیُفهم من استخدامه (علیه السلام) لصیغة أفعل الدالة علی التفضیل أنه فرَض فی الحاکمین أن کلاًّ منها کان عادلاً وفی التعارض رجّح الأعدل منهما فیُفهم من ذلک لاسیما مع افتراض وجود الوصف (1) وعدم الإشارة إلیه فی صدر الحدیث - الفراغ عن اعتبار کون الحاکم والقاضی عادلاً .. وهذا الدلیل لو تمّ یکون مقیّداً لإطلاق ما دل علی النصب العام علی تقدیر وجود مثل هذا الإطلاق الشامل للعادل والفاسق - .

ومنها : الفحوی والأولویة بالبیان السابق نفسه ، وحاصله هنا أن یقال :

إن اعتبار العدالة فی إمامة الجماعة والشاهد یدلّ بالأولویة علی اعتبارها فی القاضی ، وهی إما أولویة قطعیة أو أولویة عرفیة بالبیان الذی تقدّم من کون دور القاضی أکبر وأهمّ من دور الشاهد فی فصل الخصومة فلیست المسألة هی نقل خبر حتی نرفع الید عن شرط العدالة ونکتفی بالوثاقة وإنما هی مسألة مهمة وخطیرة لا یمکن إیکالها إلی من لم یثبت لنا تدیّنه فضلاً عمّن ثبت عدم تدیّنه فیمکن القول بأنّا نطمئن باشتراط العدالة فی القاضی بقطع النظر عن وجود ما یدل علیه فی باب الشهادة ولو من باب استهجان ردّ شهادة الفاسق من قِبَل القاضی الذی هو فاسق مثله !!

فالظاهر أن المسألة واضحة لا تحتاج إلی تجشّم الاستدلال .

ص: 111


1- (3) أی العدالة .

ومنها : صحیحة سلیمان بن خالد وهی تامة سنداً بروایة الشیخ الصدوق (قده) فی الفقیه حیث یرویها عن سلیمان بن خالد وطریقه إلیه تام کما فی المشیخة لا بروایة الکافی والتهذیب فإن الطریق فیهما یمرّ بسهل بن زیاد بناءً علی الخدشة فیه - :

عن أبی عبد الله (علیه السلام) قال : " اتقوا الحکومة فإن الحکومة إنما هی للإمام العالم بالقضاء ، العادل فی المسلمین کنبی (1) أو وصی نبی " (2) .

والاستدلال بها علی نسخة الکاف (3) أوضح منه علی نسخة اللام لکون التمثیل فیها بالمصداق الواضح ولا یُفهم منه الحصر بالممثّل به بل یُفهم منه أن القضاء یکون للشخص الذی هو واجد لهذه الصفات التی منها العدالة .

وأما علی نسخة اللام فیتأتّی فیها احتمال اختصاص هذا المنصب بالنبی ووصیّه ولا یُستفاد منها تعمیم شرط العدالة التی هی الصفة الواضحة فیهما - إلی القاضی المنصوب بالنصب العام .

ومنها : روایة أبی خدیجة التی تقدّم ذکرها بسند معتبر وآخر غیر معتبر مذکورین فی أبواب صفات القاضی من الوسائل فالأول مذکور فی الباب الأول الحدیث الخامس والثانی مذکور فی الباب الحادی عشر الحدیث السادس :

عن أبی خدیجة : " قال : بعثنی أبو عبد الله (علیه السلام) إلی أصحابنا فقال : قل لهم : إیاکم إذا وقعت بینکم خصومة أو تداری فی شیء من الأخذ والعطاء أن تحاکموا إلی أحد من هؤلاء الفسّاق ، اجعلوا بینکم رجلاً قد عرف حلالنا وحرامنا فإنی قد جعلته علیکم قاضیاً وإیاکم أن یخاصم بعضکم بعضاً إلی السلطان الجائر " (4) .

ص: 112


1- (4) فی بعض النسخ : (لنبی) باللام .
2- (5) الفقیه مج3 ص5 ، وفی الوسائل مج27 ص17 الباب الثالث من أبواب صفات القاضی الحدیث الثالث ، والمقصود بالحکومة القضاء کما تقدم التنبیه علیه فی بحث سابق وکما یشیر إلیه قوله (علیه السلام) : (العالم بالقضاء) .
3- (6) أی : کنبی .
4- (7) الوسائل مج27 ص139 .

والشاهد فی قوله (علیه السلام) : (إیاکم ... أن تحاکموا إلی أحد من هؤلاء الفسّاق) من جهة توصیف المنهیّ عن التحاکم إلیهم بالفسّاق فإن فیه إشعاراً بعلیته للحکم بالنهی عن التحاکم إلیهم - کما ذکر الشیخ الأنصاری (قده) أن الوصف مشعر بالعلیة وهذا معناه اشتراط العدالة ، ومن الواضح أن المقصود بهؤلاء - المنهیّ عن التحاکم إلیهم - هم حکّام الجور .

ومنها : روایة موسی بن أکیل وهی مرویة فی الباب التاسع من أبواب صفات القاضی الحدیث الخامس والأربعون یرویها الشیخ الطوسی (قده) بإسناده عن محمد بن علی بن محبوب عن محمد بن الحسین (بن أبی الخطّاب) عن ذبیان بن حکیم عن موسی بن أکیل عن أبی عبد الله (علیه السلام):

" قال : سُئل عن رجل یکون بینه وبین أخ منازعة فی حق فیتفقان علی رجلین یکونان بینهما فحکما فاختلفا فی ما حکما ، قال : وکیف یختلفان ؟ قال : حکم کل واحد منهما للذی اختاره الخصمان ، فقال : ینظر إلی أعدلهما وأفقههما فی دین الله فیمضی حکمه " .

وهذه الروایة لا مشکلة فی سندها إلا من جهة ذبیان بن حکیم فإنه لا توثیق له وقد ذکره النجاشی فی ترجمة ابن أخیه أحمد بن یحیی بن حکیم حیث قال فی ترجمته : (ابن أخی ذبیان) وهذا المقدار لا یُستفاد منه إلا أنه رجل معروف ولا یُستفاد منه التوثیق .

والاستدلال بها نظیر الاستدلال بمقبولة ابن حنظلة من حیث دلالتها علی المفروغیة عن اشتراط العدالة فی القاضی والحاکم .

والنتیجة أن اشتراط العدالة فی القاضی من الوضوح بمکان .

ص: 113

متن الدرس بحث الفقه الأستاذ الشیخ آل راضی - الإثنین 18 ذی القعدة بحث الفقه

(بحث یوم الاثنین 18 ذق 1432 ه 22)

الشرط السابع - المذکور فی المتن - : الرشد واشتراطه مما لا إشکال فیه فهو کاشتراط العقل ولا ریب أن السفیه والمجنون لیس لهما صلاحیة تولّی مثل هذا المنصب بل لیس لهما صلاحیة تولّی ما هو أقلّ أهمیة منه .

الشرط الثامن - المذکور فی المتن - : الاجتهاد وهو الشرط الأهمّ فی ما نحن فیه ، والکلام فیه یقع فی جهات :

الأولی : فی أصل اشتراط العلم (1) فنقول :

لا خلاف ولا إشکال فی اشتراط العلم بالحکم فی مقابل الجهل به ویکفی لإثباته الأدلة الکثیرة الناهیة عن العمل بغیر علم أو التی تنهی عن العمل بالظن بشکل عام التی تُطبّق فی محلّ الکلام - ، من الآیات الکریمة والروایات الشریفة .

وتقریب الاستدلال بها هو بأن یقال : إن القاضی إذا کان جاهلاً بالحکم الذی یصدر منه فهو حکم من غیر علم والعمل بهذا الحکم یکون عملاً بغیر علم وهو منهیّ عنه فی هذه الأدلة ، والمفهوم منها أن حُکْم هذا الذی حَکَم بغیر علم لا یکون نافذاً وهو معنی الاشتراط .. إذاً یُشترط فی نفوذ حکم القاضی أن یکون عالماً .

وکذلک الأدلة الدالة فی خصوص باب القضاء حیث إنها تنهی عن القضاء بغیر علم ففی المرفوع عن أبی عبد الله (علیه السلام) :

ص: 114


1- (1) أی قبل الحدیث عن اشتراط الاجتهاد إذ المراد بالعلم بالحکم ما یقابل الجهل به کما ذکره (دامت برکاته) .

" قال : القضاة أربعة ثلاثة فی النار وواحد فی الجنة : رجل قضی بجور وهو یعلم فهو فی النار ، ورجل قضی بجور وهو لا یعلم فهو فی النار ، ورجل قضی بالحق وهو لا یعلم فهو فی النار ، ورجل قضی بالحق وهو یعلم فهو فی الجنة " (1) .

وواضح أنه یُفهم من ذلک عدم نفوذ حکمه فیدل علی الاشتراط ، وکذلک الأدلة الناهیة عن الإفتاء بغیر علم أو القول بغیر علم وهی أدلة کثیرة جمعها فی الوسائل نذکر منها روایة تامة السند وهی صحیحة أبی عبیدة :

" قال : قال أبو جعفر (علیه السلام) : من أفتی الناس بغیر علم ولا هدیً من الله لعنته ملائکة الرحمة وملائکة العذاب ولحقه وزر من عمل بفُتیاه " (2) .

وتعلّقها بمحلّ الکلام واضح فإن القاضی حیث یُصدر حکمه یکون فی مقام الفُتیا بذلک الحکم غایة الأمر أنه یفصل به الخصومة بین المتنازعین ولذلک اشترط المشهور فیه الاجتهاد فإذا أفتی بغیر علم کان مشمولاً لهذه الأدلة التی ذکرنا أن النهی فیها یُستفاد منه عرفاً عدم نفوذ قضائه وحکمه وهو معنی الاشتراط أی أن القاضی الذی یُفتی ویحکم بغیر علم لا ینفذ قضاؤه ومعنی هذا أنه یُشترط فی نفوذ قضائه أن یکون عالماً .

ویدل أیضاً علی اشتراط العلم - مضافاً إلی هذه الروایات الکثیرة - روایات أخری من قبیل مقبولة ابن حنظلة وصحیحة سلیمان بن خالد المتقدمین .

ص: 115


1- (2) الکافی مج7 ص407 .
2- (3) الوسائل مج27 ص20 الباب الرابع من أبواب صفات القاضی الحدیث الأول .

إذاً فاشتراط العلم فی القاضی مما لا إشکال فیه وإنما وقع الکلام فی أن الشرط هل هو مطلق العلم من أیّ سبب ولو کان عن تقلید - أم أنه عبارة عن علم خاص بالحکم وهو ما یحصل عن طریق الاجتهاد ؟ ولا ریب أن المجتهد یعتمد علی الظنون الخاصة ولو مثل حجیة خبر الثقة فی باب الأحکام وأمثالها مما قام الدلیل القطعی علی اعتباره فإن هذا علم لکونه ینتهی إلی القطع والیقین لأن الأدلة الدالة علی اعتبار تلک الظنون الخاصة هی أدلة قطعیة تورث الیقین إذاً الظن الاجتهادی التعبدی هو علم اجتهادی لأنه ینتهی إلی العلم بهذا الاعتبار فعلی هذا نقول هل یُشترط فی القاضی أن یعلم بالحکم الشرعی علماً اجتهادیاً أم لا بل یکفی أن یعلم بالحکم الشرعی عن طریق التقلید ؟

المعروف والمشهور الذی صرّح به الفقهاء (رض) هو اشتراط أن یکون العلم علماً اجتهادیاً وعبّر غیر واحد من فقهائنا عن هذا الشرط ب_(أهلیة الفتوی) فقد قال المحقق فی الشرایع : " وکذا لا ینعقد لغیر العالم والمستقل بأهلیة الفتوی ولا یکفیه فتوی العلماء" (1) أی لا بد من أن یکون فقیهاً مجتهداً ، وفی المسالک فی مقام التعلیق علی عبارة المحقق ادّعی الإجماع علی ذلک من غیر فرق بین حالتی الاضطرار والاختیار حیث قال : " المراد بالعالم هنا [ الفقیه ] المجتهد فی الأحکام الشرعیة ، وعلی اشتراط ذلک فی القاضی إجماع علمائنا . ولا فرق بین حالة الاختیار والاضطرار . ولا فرق فی من نقص عن مرتبته بین المطّلع علی فتوی الفقهاء وغیره " (2) ، ولکن نقل صاحب التنقیح (3) عن الشیخ الطوسی (قده) فی المبسوط أن الشیخ نقل قولاً بجواز قضاء المقلِّد وجعله أحد الأقوال فی المسألة فأصبح فیها أقوال ثلاثة وهو (4) لم یُصرّح فی تلک المسألة باختیاره لأحد هذه الأقوال الثلاثة .

ص: 116


1- (4) شرایع الإسلام مج4 ص860 .
2- (5) مسالک الأفهام مج13 ص328 .
3- (6) التنقیح مج4 ص234 .
4- (7) أی الشیخ (قده) .

أی أن صاحب التنقیح یرید فرض احتمال أن الشیخ (قده) قد اختار هذا القول وهو جواز قضاء المقلّد ولکن الشیخ الأنصاری (قده) أنکر هذه النسبة وظاهر کلامه أنه لم یر ذلک فی مبسوط الشیخ (قده) بل علی العکس ما فی المبسوط یدل علی أنه یختار رأی المشهور بل إنه (1) نقل عن الشیخ (قده) فی الخلاف دعوی الإجماع علی اعتبار الاجتهاد واشتراطه .

وفی المستند نقل عن بعض معاصریه (2) جواز المرافعة إلی العالم العادل المطّلع علی جمیع المسائل الدقیقة المتعلقة بواقعةٍ تقلیداً ، ویظهر من صاحب المستند المیل إلی هذا الرأی معلّقاً إیاه علی عدم قیام الإجماع علی خلافه بل قال بعدم تحقق مثل هذا الإجماع (3) إلا أنه بعد ذلک لا یختاره .

وممن اختار هذا الرأی وأصرّ علیه واستدلّ علیه بشکل مفصّل الشیخ صاحب الجواهر (قده) کما هو المعروف عنه من عدم منعه من أن یقضی بالحکم العالم به عن طریق التقلید ولا یستفید من الأدلة اشتراط الاجتهاد ، ولا إشکال فی أن الشهرة فی جانب القول الأول دون الثانی .

وأهمّ ما یُستدلّ به علی الرأی المشهور (4) مقبولة عمر بن حنظلة - بناءً علی أن هذه الروایة من أدلة نصب القاضی کما تقدّم - حیث أرجع فیها الإمام (علیه السلام) الشخص إلی أن یرجع فی القضاء إلی شخص یحمل صفات معیّنة ذکرها الإمام (علیه السلام) بالترتیب ، قال (علیه السلام) : (ینظران إلی من کان منکم ممن قد روی حدیثنا ونظر فی حلالنا وحرامنا وعرف أحکامنا فلیرضوا به حکماً فإنی قد جعلته علیکم حاکماً) .

ص: 117


1- (8) أی الشیخ الأنصاری (قده)
2- (9) والظاهر أن المقصود به المحقق القمی (قده) - (منه دامت برکاته) - .
3- (10) لاحظ المستند مج17 ص24 .
4- (11) أی الاشتراط .

والاستدلال بهذه الروایة علی اشتراط الاجتهاد یکون ببیان أنه یُفهم من هذه الأمور المذکورة والمشروطة فی من یصحّ له القضاء ویکون حکمه نافذاً أن یکون قد روی حدیثهم ونظر فی حلالهم وحرامهم وعرف أحکامهم فهذه الأمور التی سیقت فی الروایة علی الترتیب المذکور بالخصوص لا تحصل لغیر المجتهد عادة فإنه هو الذی یروی الأحادیث وهو الذی ینظر فی الحلال والحرام وهو الذی یعرف الأحکام ، نعم .. قد یروی المقلّد الحدیث وقد یعرف الأحکام أیضاً إلا أنه ینقصه النظر فی الحلال والحرام إذ لا یراد بالنظر ما یتحقق بقراءة الأحکام الشرعیة وهو فهمها علی الوجه الصحیح - بعد وضوح أنه لا یراد به النظر البصری - بل المراد به هو کون الشخص صاحب رأی وفکر بمعنی أنه یتأمّل المسائل ویتعمّق فیها ویحلّلها .. ومن هنا تکون الروایة ظاهرة فی اشتراط أن تکون المعرفة بالأحکام الشرعیة معرفة نظر وتأمل فالمجتهد هو الذی یروی الأحادیث وهو الذی ینظر فیها نظر تأمل وتعمّق وهو الذی یستنبط منها بعد ذلک الأحکام الشرعیة فیکون عارفاً بها ، وأما المقلد فلیس شأنه ذلک وإنما تکون معرفته للحکم بالرجوع إلی رسالة المجتهد فیعرف الحکم عن هذا الطریق لا عن طریق النظر والتأمل فی الأحادیث .. إذاً فهذه الصفات لا تصدق إلا فی حقّ المجتهد والإمام (علیه السلام) فی الروایة کان فی مقام تحدید من یجوز الرجوع إلیه فی القضاء فنستفید من ذکره القیود فیها أنها معتبرة فی القاضی فإذا کان الاجتهاد معتبراً فی القاضی بحسب ظاهر الدلیل فحینئذ تکون هذه الروایة مقیدة للمطلقات المتقدمة التی ورد فیها اشتراط العلم بالحکم الشرعی حیث إنه (1) أعمّ من العلم الاجتهادی والعلم الحاصل عن تقلید خصوصاً وأن کلاًّ منهما لیس علمه علماً وجدانیاً بل علم بحجة فالمجتهد قامت عنده الحجة علی الحکم الشرعی کخبر الثقة - مثلاً والمقلد قامت عنده الحجة أیضاً علی الحکم الشرعی وهی فتوی المجتهد الذی یجب علیه تقلیده .. فیتحصّل مما سبق أنه لا بد من أن نشترط الاجتهاد فی القاضی .

ص: 118


1- (12) أی العلم بالحکم .

هذا غایة ما یمکن أن یقال فی مقام الاستدلال بهذه الروایة علی الاشتراط ، وأما غیر هذه المقبولة من الروایات کمعتبرة أبی خدیجة المتقدمة فلیس فیها هذا الوضوح فی اشتراط الاجتهاد فإن الوارد فیها : (عرف شیئاً من قضایانا) أو (من قضائنا) وهذا التعبیر وإن کان فیه ظهور فی أنه عرف شیئاً معتداً به إلا أن المعرفة أعمّ من أن تکون عن اجتهاد أو تقلید فلسان هذه الروایة یختلف عنه فی المقبولة فهناک مجال للتشکیک فی دلالة هذه الروایة علی اعتبار الاجتهاد إذ أنه یصدق علی المقلّد أیضاً أنه یعرف شیئاً من قضایاهم .

فالنتیجة أننا لا نستطیع جعلها من أدلة الاجتهاد لاسیما مع ما ذکرناه من أن معرفة کلّ من المجتهد والمقلّد تعبدیة لا وجدانیة .

وأما التوقیع الشریف فإن المذکور فیه : (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فیها إلی رواة حدیثنا) وهذا التعبیر أظهر من سابقه (1) إذ یقال إنه بمناسبات الحکم والموضوع وأمثالها لا یکون المقصود من رواة الحدیث مطلق من ینقل الحدیث إلی آخر ولو من دون تأمّل فی معناه ونظر فی مضمونه بل المراد باعتبار کون الإمام (علیه السلام) فی مقام الإرجاع إلیهم هم الذین یروون الأحادیث ویتدبّرون معانیها وینظرون فی جهاتها ویمیّزون بین الصحیح منها والسقیم وبین الخاص والعام وبین المطلق والمقیّد ویستنبطون منها الأحکام فیمکن أن یقال حینئذ إن الروایة تشترط الاجتهاد فی من یُرجع إلیه لأخذ الأحکام الشرعیة ولها ظهور فی هذا المعنی وإن کان أدنی من ظهور المقبولة .. ولکن المشکلة فی التوقیع الشریف کما تقدّم فی بحث ولایة الفقیه أنه لیس من أدلة نصب القاضی ولا من أدلة ولایة الفقیه فلا مجال للاستدلال به علی اشتراط الاجتهاد فی القاضی کما لا مجال للاستدلال به علی اشتراط الاجتهاد فی الولیّ بالولایة العامة لأنه لیس من أدلة نصبهما وإنما هو ناظر إلی الشبهات الحکمیة التی تطرأ علی الإنسان ولا یعرف حکمها فأمر الإمام (علیه السلام) بالرجوع فیها إلی المجتهد والإرجاع إلیه إنما هو فی مقام الفُتیا فتکون من أدلة جواز التقلید ولزوم الرجوع إلی المجتهد وعلیه فلا یمکن الاستدلال بها علی اشتراط الاجتهاد فی القاضی .

ص: 119


1- (13) أی ما ورد فی معتبرة أبی خدیجة من قوله : (عرف شیئاً من قضایانا) .

فالنتیجة أن العمدة فی الاستدلال علی رأی المشهور هی مقبولة عمر بن حنظلة .

نعم .. لمّا نهج السید الخوئی (قده) طریقاً خاصّاً فی إثبات هذه الشرائط - علی ما تقدّم سابقاً من رفضه للأدلة اللفظیة علی النصب فی باب القضاء إما من حیث ضعف السند أو ضعف الدلالة وأثباته النصب العام للقاضی بحکم العقل من باب حفظ النظام وأمثاله فإنه فی مسألة تعیین من هو المنصوب بهذا النصب العام الثابت بالدلیل العقلی ذکر أنه لا بد فیه من الاقتصار علی القدر المتیقّن لأن القضاء ونفوذ الحکم علی خلاف الأصل والقدر المتیقَّن بلا إشکال هو المجتهد العالم بالأحکام الشرعیة عن طریق الاجتهاد فأثبت اشتراط الاجتهاد فی القاضی المنصوب بهذا الطریق ..

إلا أننا ذکرنا أنه لا تصل النوبة إلی هذا الطریق وإن وصلت إلیه فی بحث ولایة الفقیه لفرض وجود الأدلة اللفظیة الدالة علی النصب العام - والمقصود بذلک هو مقبولة عمر بن حنظلة کما تقدّم فکانت الوظیفة تعیّن الرجوع إلیها وقد تمّ استکشاف دلالتها علی اشتراط الاجتهاد .

ثم إن تمامیة الاستدلال بهذا الدلیل علی الاشتراط وفقاً لرأی المشهور - مضافاً إلی الاستظهار المتقدم وغیره - موقوف علی إثبات أمرین :

الأول : أن تکون الروایة (1) ناظرة إلی القاضی المنصوب الذی هو محلّ الکلام - لا إلی قاضی التحکیم لأنها إن کانت ناظرة إلی قاضی التحکیم فقد یقال بأنها تدل علی اعتبار الاجتهاد فیه بالخصوص .. اللّهم إلا أن یُعمّم بادّعاء الأولویة - مثلاً - .

والثانی : أن تکون الروایة ناظرة أیضاً إلی نصب القاضی لا إلی نصب الحاکم والوالی .

ص: 120


1- (14) أی مقبولة عمر بن حنظلة .

وقد یقال هنا : إنّا نتمسّک بما ورد من قوله (علیه السلام) : (فإنی جعلته علیکم حاکماً) فی أن الروایة ناظرة إلی نصب الحاکم لا إلی نصب القاضی فتکون من أدلة نصب الفقیه حاکماً وولیاً بالولایة العامة فإذا دلّت علی اشتراط الاجتهاد فإنما تدلّ علیه فی ذاک الباب ولا مجال للاستدلال بها علی اشتراط الاجتهاد فی القاضی الذی هو محلّ الکلام وإن کان القضاء فرعاً من فروع الولایة العامة إلا أن هذا لا یعنی أن ما یکون شرطاً فی الحکومة والولایة العامة یکون شرطاً فی القضاء الذی هو من فروعها إذ من الممکن أن یُشترط فی الأصل ما لا یُشترط فی الفرع .

إلا أنه یُجاب علیه : بأن التعبیر ب_(الحاکم) الوارد فی المقبولة قد فُسّر فی المعتبرة (1) بالقاضی فی قوله (علیه السلام) : (فإنی جعلته علیکم قاضیاً) فلا مجال لدعوی کون المراد به الولیّ .

هذا .. وقد تقدّم أن کلا هذین الأمرین الذین یتوقف علیهما الاستدلال صحیحان وثابتان فإن المقبولة لیست ناظرة إلی قاضی التحکیم - خلافاً لمن یحتمل کونها کذلک - بتوجیه کون قول الإمام (علیه السلام) : (فإنی قد جعلته علیکم حاکماً) هو بمثابة العلة وقوله : (فلیرضوا به حکماً) متفرع علیه وهو بمثابة المعلول له ، کما أنها لیست من أدلة نصب الحاکم والولیّ بل هی من أدلة نصب القاضی لما أُشیر إلیه وقد تقدّم أیضاً - من أن المقصود بالحکومة فی هذه الروایات هو القضاء فالحاکم هو القاضی لاسیما أن هذا هو مورد السؤال من افتراض السائل المنازعة بین شخصین .

ص: 121


1- (15) أی معتبرة أبی خدیجة .

متن الدرس بحث الفقه الأستاذ الشیخ آل راضی - الثلاثاء 19 ذی القعدة بحث الفقه

تقدّم منّا ذکر الرأی المعروف والمشهور فی المسألة وهو اشتراط الاجتهاد فی القاضی والاستدلال علیه ولا بأس بذکر ما یؤید فهم اشتراط الاجتهاد من مقبولة ابن حنظلة المتقدمة وهو أن فی ذیل هذه الروایة بعد فرض التعارض بین الحکمین وتقدیم بعض المرجّحات تصل إلی فقرة یسأل فیها السائل الإمام (علیه السلام) بقوله : (أرأیت إن کان الفقیهان عرفا حکمه من الکتاب والسنّة ووجدنا أحد الخبرین موافقا للعامة والآخر مخالفاً لهم بأیّ الخبرین یؤخذ ؟ قال : ما خالف العامة ففیه الرشاد ..) (1) حیث یُفهم من هذا أن السائل فهم من قول الإمام (علیه السلام) فی صدر الروایة : (ینظران إلی من کان منکم ممن قد روی حدیثنا ونظر فی حلالنا وحرامنا وعرف أحکامنا) الفقاهة إذ قد عبّر عن الحاکم الذی فُرض فی الروایة کونه ممن روی حدیثهم ونظر فی حلالهم وحرامهم وعرف أحکامهم بأنه فقیه بل إن قول الإمام (علیه السلام) قبل ذلک حینما سأله السائل : (فإن کان کل رجل اختار رجلاً من أصحابنا فرضیا أن یکونا الناظرین فی حقهما واختلفا فی ما حکما وکلاهما اختلفا فی حدیثکم ؟ قال : الحکم ما حکم به أعدلهما وأفقههما) حیث یُفهم من ذلک الفراغ عن فرض فقاهة الحاکم کما فهمنا ذلک بالنسبة إلی العدالة فیُفهم من ذلک کله أن الفقاهة هی المنظور إلیه بما ذکره الإمام (علیه السلام)من القیود .

وأمّا الرأی الآخر وهو عدم اشتراط الاجتهاد فی القاضی - فالظاهر أن أهم من تبنّاه ودافع عنه هو الشیخ صاحب الجواهر (قده) حیث ذکر فی ضمن کلام طویل له فی مقام الاستدلال علی رأیه : " إن المستفاد من الکتاب والسنة صحة الحکم بالحق والعدل والقسط من کل مؤمن " یعنی سواء کان مجتهداً أم لم یکن وإنما المهم أن یحکم بالحق والعدل والقسط ثم ذکر آیات قرآنیة وروایات قال إنها ظاهرة فی هذا نحو قوله تعالی : (إن الله یأمرکم أن تؤدّوا الأمانات إلی أهلها ، وإذا حکمتم بین الناس أن تحکموا بالعدل) (2) ، وقوله تعالی : (یا أیها الذین آمنوا کونوا قوّامین لله شهداء بالقسط ولا یجرمنکم شنآن قوم علی أن لا تعدلوا) (3) ، وقوله تعالی : (یا أیها الذین آمنوا کونوا قوامین بالقسط شهداء لله ولو علی أنفسکم أو الوالدین والأقربین .. فلا تتبعوا الهوی أن تعدلوا) (4) ، ومفهوم قوله تعالی: (ومن لم یحکم بما أنزل الله فأولئک هم الفاسقون) وفی أخری (هم الکافرون) إلی غیر ذلک من الآیات الکریمة فإن مفهومه أن من یحکم بما أنزل الله فلیس هو من الفاسقین ولا من الکافرین .

ص: 122


1- (1) الکافی مج1 ص68 .
2- (2) النساء / 58 .
3- (3) المائدة / 8 .
4- (4) النساء / 135 .

وذکر من النصوص قول الإمام الصادق (علیه السلام) فی مرفوعة تقدّم نقلها أوّلها : (القضاة أربعة) وفی ذیلها قوله : (ورجل قضی بالحق وهو یعلم فهو فی الجنة) فإن هذا عام ولا یختص بالمجتهد إذ أن المقلّد عندما یأخذ الحکم من مجتهده بعد فرض کون الاجتهاد والتقلید صحیحین فهو یقضی بالحقّ عن علم أیضاً .. إلی غیر ذلک من النصوص التی ذکرها الدالة بحسب رأیه علی أن المدار هو الحکم بالحقّ الذی هو عند محمد (صلی الله علیه وآله) وعند أهل بیته (علیهم السلام) فکل من المجتهد والمقلّد إذا قضیا فعن حجة معتبرة (1) وحکمهما حکمٌ بما أنزل الله بحسب الموازین الشرعیة فیکون نافذاً .

ثم ذکر أنه یندرج فی ما تقدّم من الحکم بالحقّ والعدل والقسط مَن سمع منهم أحکاماً خاصة وحکم فیها بین الناس فیکون حکمه جائزاً وصحیحاً وفق الأدلة السابقة وإن لم یکن له مرتبة الاجتهاد ، ثم قال مترقّیاً عن حالة السماع من المعصومین (علیهم السلام) إلی حالة وصول الأحکام من غیر طریق السماع فقال : (بل قد یقال باندراج مَن کان عنده أحکامهم بالاجتهاد الصحیح أو التقلید الصحیح وحکم بها بین الناس کان حکماً بالحق والقسط والعدل) فلا مشکلة علی هذا فی التمسّک بهذه الأدلة لإثبات جواز الحکم بالنسبة إلی المقلّد فی ما وصله من أحکامهم (علیهم السلام) سواء عن طریق القطع أو عن طریق الاجتهاد أو عن طریق التقلید فیجوز له أن یحکم بهذه الأحکام .

نعم .. ذکر (قده) اعتراضاً علی نفسه وحاصله :

ص: 123


1- (5) غایة الفرق بینهما أن الحجة لدی المجتهد هی إعمال نظره ولدی المقلّد هی ما یأخذه من مجتهده من الأحکام .

أن لدینا أدلة تقول بتوقّف القضاء علی إذن الإمام (علیه السلام) فتکون مانعة من الأخذ بإطلاق تلک النصوص المتقدمة فلا یسعنا إلا تقییدها بالإذن الذی لم یثبت إلا للمجتهد أو یقال بحملها (1) علی إرادة الأمر بالمعروف ونحوه مما لیس فیه قضاء وفصل .. وعلی کلا التقدیرین لا یصحّ الاستدلال بها علی أهلیة المقلّد للقضاء :

أما علی التقدیر الأول : فلعدم الإذن للمقلّد فی القضاء .

وأما علی الثانی : فتکون خارجة عن محلّ الکلام لاختصاصها حینئذ بباب الأمر بالمعروف فتکون أجنبیة عمّا نحن فیه حتی لو فُرض أن المخاطب بها هو المجتهد والمقلّد .

وتکفّل (قده) الجوابَ عن هذا الاعتراض بعدة أجوبة :

الأول : إن تلک النصوص مفادها الإذن لشیعتهم فی الحکم بین الناس بأحکامهم الواصلة إلیهم أعمّ من أن تکون واصلة عن اجتهاد أو تقلید ، ثم استشهد علی جواز الحکم لکل أحد بما حکم به النبی (صلی الله علیه وآله) بروایةٍ لعبد الله بن طلحة عن الصادق (علیه السلام) یأذن الإمام فیها للسائل بأن یقضی بما حکم النبی (صلی الله علیه وآله) به (2)

ص: 124


1- (6) أی تلک النصوص المطلقة .
2- (7) علی بن إبراهیم عن أبیه عن محمد بن حفص عن عبد الله بن طلحة عن أبی عبد الله (علیه السلام) : " قال : سألته عن رجل سارق دخل علی امرأة لیسرق متاعها فلما جمع الثیاب تابعته نفسه فکابرها علی نفسها فواقعها فتحرک ابنها فقام فقتله بفأس کان معه فلما فرغ حمل الثیاب وذهب لیخرج حملت علیه بالفأس فقتلته فجاء أهله یطلبون بدمه من الغد ، فقال أبو عبد الله (علیه السلام) : اقض علی هذا کما وصفت لک فقال : یضمن موالیه الذین طلبوا بدمه دیة الغلام ویضمن السارق فی ما ترک أربعة آلاف درهم بمکابرتها علی فرجها إنه زانٍ وهو فی ماله عزیمة ولیس علیها فی قتلها إیاه شیء قال رسول الله (صلی الله علیه وآله) : من کابر امرأة لیفجر بها فقتلته فلا دیة له ولا قود " .

(1) .

الجواب الثانی : إن غایة ما تدلّ علیه الروایات المشار إلیها وفی مقدمتها المقبولة أنها تضمّنت الإذن للمجتهد إلا أن هذا لا یعنی خروج المقلّد عن الأهلیة لتسنّم هذا المنصب .

وبعبارة أخری : أن هذه الروایات تدل علی الإذن للمجتهد بالقضاء ولکن لیس لها دلالة علی عدم أهلیة المقلّد لتسنّم القضاء فغایة ما فی المقام أن هذه الأدلة لا تشمل المقلّد إلا أن هذا لا یعنی أن المقلد لیس أهلاً لتسنّم هذا المنصب بل یمکن إثبات أهلیة المقلّد لتسنّم هذا المنصب عن طریق الإذن من المجتهد نفسه أی أن المجتهد إذا أذن للمقلد فی أن یحکم بین الناس فیُصبح هذا المقلد مأذوناً ولا یکون حینئذ ثمة فرق بینه وبین المجتهد فی أن کلاً منهما مأذون غایة الأمر أن المجتهد مأذون بحسب النصّ والمقلّد یکون مأذوناً باعتبار إذن الفقیه والمجتهد له فی فصل الخصومات والحکم بین الناس بل إنه بناءً علی القول بالولایة العامة للفقیه یکون کالإمام (علیه السلام) فکما أن الإمام (علیه السلام) یمکن أن یأذن لشخص بالحکم بین الناس ولو لم یکن مجتهداً کما تدل علیه الروایات السابقة کروایة عبد الله بن طلحة فیمکن للفقیه أیضاً باعتبار ولایته العامة حتی علی منصب القضاء أن یأذن للمقلد بأن یحکم بین الناس فالمقبولة وإن اختصّت بالمجتهد إلا أنها لا تنفی أهلیة المقلّد لتسنّم هذا المنصب لأن لسانها لیس لسان الحصر لینعقد لها مفهوم بالنفی .

الجواب الثالث : التشکیک فی أن أدلة النصب العامة مثل المقبولة والمعتبرة والتوقیع الشریف بناءً علی دلالتها علی النصب العام وإن تقدّمت منّا المناقشة فیه ببیان أنها جمیعاً لیست ناظرة إلی القضاء وإنما هی ناظرة إلی الحکومة والولایة العامة فهی وإن تضمّنت اشتراط الاجتهاد إلا أنها تشترطه فی الحاکم لا فی القاضی فلا یمکن إذاً دعوی أن هذه الروایات یختص الإذن فیها فی باب القضاء بخصوص المجتهد لأنها لیست ناظرة أصلاً إلی القضاء فتبقی المطلقات علی حالها من شمولها للمجتهد والمقلد علی حدّ سواء ولکن فی مورد الحکومة والولایة العامة ، واستشهد (قده) علی ذلک بأن التعبیر الوارد فی المقبولة إنما هو(جعلته حاکماً) لا (جعلته قاضیاً) معزّزاً ذلک بالاستشهاد بالتوقیع الشریف علی کون النظر إلی باب الحکومة والولایة العامة لا إلی باب القضاء .

ص: 125


1- (8) الوسائل مج29 ص62 الباب الثالث والعشرین من أبواب القصاص الحدیث الثانی ، وفی الفقیه مج4 ص164 ، والتهذیب مج10 ص209 باختلاف یسیر فیهما .

هذا ملخّصاً توضیح رأی الشیخ صاحب الجواهر (قده) فی هذه المسألة ، وقد ناقش فی ما ذکرناه عنه کلُّ من تأخّر عنه وتعرّض لهذه المسألة مبدیاً ملاحظات عدیدة علیه ونحن نقتصر علی المهمّ منها :

فأما ما ذکره أولاً من الاستدلال بالآیات والروایات علی صحة الحکم بالحقّ لکل مؤمن فلیس بتام وذلک لوضوح أن تلک الأدلة - باستثناء واحد منها - لیست فی مقام تعیین من یجوز له الحکم بالحقّ وإنما هی فی مقام بیان لزوم الحکم بالحق والعدل والقسط فی مقابل الحکم بالباطل والظلم والجور لا فی مقام بیان من الذی یحکم بالحقّ فهی تبیّن لزوم کون الحکم علی طبق الموازین الشرعیة لاسیما قوله تعالی : (ومن لم یحکم بما أنزل الله فأولئک هم الفاسقون) فإنه فی مقام بیان لزوم الحکم بما أنزل الله والمنع من الحکم بما لم یُنزل وترتّب أثر الفسق علی من لم یحکم بما أنزل ، وأما تعیین من الذی یحکم هل هو مطلق من وصله ذلک الحکم عن اجتهاد أو تقلید أو قطع أم هی فئة خاصة تستطیع أن تحکم بالحق عن طریق الاجتهاد فالآیة لیست بصدد بیان ذلک فلا یصحّ التمسّک حینئذ بإطلاقها لجواز الحکم بالحقّ لکل أحد سواء عَلِمه عن اجتهاد أو تقلید ، والفرق الدلالی شاسع بینها وبین المقبولة فی کون الأخیرة فی مقام تعیین من یجوز الترافع إلیه حیث تنهاه عن الترافع إلی الطاغوت وتأمره بالترافع إلی من نظر فی حلالهم وحرامهم وعرف أحکامهم .

وکذا یقال بالنسبة إلی الآیات التی ذکرها کقوله تعالی : (وإذا حکمتم بین الناس أن تحکموا بالعدل) فإنها ناظرة إلی تعیین کیفیة الحکم ولیست ناظرة إلی تعیین من هو الحاکم فلا یصح کذلک التمسّک بإطلاقها من هذه الجهة .

ص: 126

نعم .. فی خصوص روایة (القضاة أربعة ..) - التی تقدّم نقلها - حیث ورد فی ذیلها : (ورجل قضی بالحق وهو یعلم فهو فی الجنة) فهی فی مقام بیان من یجوز له أن یقضی بالحق حیث نصّت علی بطلان قضاء ثلاثةٍ فهم فی النار وعلی صحة قضاء واحد فهو فی الجنة وهو من (قضی بالحق وهو یعلم) فیُتمسّک بإطلاق (یعلم) فی شموله للعلم الاجتهادی والعلم الحاصل عن تقلید لولا أن هذه الروایة غیر تامة سنداً .

القضاء-المسالة-5-المقام الاول -النصب العام-الجهة الثانیة-شرائط نصب القاضی-8-الاجتهاد بحث الفقه

بحث یوم الأربعاء 20 ذ ق 1432 ه

کان الکلام فی روایة عبد الله بن طلحة التی استشهد بها الشیخ صاحب الجواهر (قده) علی مختاره بسند عن علی بن إبراهیم عن أبیه عن محمد بن حفص عن عبد الله بن طلحة عن أبی عبد الله (علیه السلام) :

" قال : سألته عن رجل سارق دخل علی امرأة لیسرق متاعها فلما جمع الثیاب تابعته نفسه فکابرها علی نفسها فواقعها فتحرک ابنها فقام فقتله بفأس کان معه فلما فرغ حمل الثیاب وذهب لیخرج حملت علیه بالفأس فقتلته فجاء أهله یطلبون بدمه من الغد ، فقال أبو عبد الله (علیه السلام) : اقض علی هذا کما وصفت لک فقال : یضمن موالیه الذین طلبوا بدمه دیة الغلام ویضمن السارق فی ما ترک أربعة آلاف درهم بمکابرتها علی فرجها إنه زانٍ وهو فی ماله عزیمة ولیس علیها فی قتلها إیاه شیء قال رسول الله (صلی الله علیه وآله) : من کابر امرأة لیفجر بها فقتلته فلا دیة له ولا قود " (1) .

ص: 127


1- (1) الوسائل مج29 ص62 الباب الثالث والعشرین من أبواب القصاص الحدیث الثانی ، وفی الفقیه مج4 ص164 ، والتهذیب مج10 ص209 ولکن مع خلوّهما من فقرة : (اقض علی هذا کما وصفت لک) .

والاستشهاد بقوله (علیه السلام) : (اقض علی هذا کما وصفت لک) ، والظاهر أن المقصود ب_( ما وصفت لک) الأحکام التی ذکرها الإمام (علیه السلام) بقوله : (یضمن موالیه الذین طلبوا بدمه دیة الغلام ویضمن السارق ..إلخ) .

والکلام فی هذه الروایة من جهة سندیة وأخری دلالیة :

أما من الجهة الأولی فإن سند هذه الروایة غیر تام لأن محمد بن حفص وعبد الله بن طلحة مجهولان لاسیما أن مضمون الروایة نفسها مرویّ فی الفقیه بطریق آخر وهو عن محمد بن علی بن الحسین بإسناده عن یونس بن عبد الرحمن عن عبد الله بن سنان عن أبی عبد الله (علیه السلام) ومشکلة هذا السند أن الشیخ الصدوق لم یذکر طریقه فی المشیخة إلی یونس بن عبد الرحمن ، ونقله (قده) خالٍ من فقرة الاستشهاد (1) ، وهذا وسابقه (2) یجعلنا نشکّک فی أصل وجود هذه الجملة بناءً علی کونهما روایة واحدة کما لعله یشهد به اتّحاد المتن فیهما .

وأما من جهة الدلالة فإن غایة ما تدل علیه الروایة فی ما لو فرضنا أن السائل (3) کان مقلّداً أن المقلّد یجوز أن یتولّی القضاء فی واقعة خاصة جزئیة بإذن من الإمام (علیه السلام) الذی اطّلع علیها وبعد تعلیمه له بأحکامها وکیفیة القضاء فیها بتلک الأحکام فالروایة تدلّ إذاً علی جواز قضاء المقلّد فی هذه الحالة بالقیود المشار إلیها وأین هذا ممّا نحن فیه من القاضی المنصوب بالنصب العام والبحث عن اشتراط الاجتهاد فیه ثبوتاً ونفیاً فلا دلالة فی هذه الروایة إذاً علی جواز تسنّم غیر المجتهد منصب القضاء مطلقاً .

ص: 128


1- (2) بعنی قوله (علیه السلام) : (اقض علی هذا کما وصفت لک) .
2- (3) أی عدم تمامیة السند فی النقلین (نقل الوسائل ونقل الفقیه) .
3- (4) وهو عبد الله بن طلحة .

وبعبارة أخری : أننا وإن استفدنا منها أهلیة المجتهد لأن یکون قاضیاً منصوباً بالنصب العام إلا أننا لا نستفید منها أهلیة غیر المجتهد لذلک لأنها تتحدّث عن واقعة جزئیة اطّلع علیها الإمام (علیه السلام) وبیّن للسائل أحکامها وأمره أن یقضی بها کما وصف له .

هذا کله مع افتراض أن السائل کان مقلّداً ویمکن أن یقال إن ذلک لیس واضحاً بل ولا کونه مجتهداً کذلک غایة الأمر کما ذکرنا أن الروایة تدلّ علی کونه قد تولّی القضاء فی واقعة جزئیة بأمر الإمام (علیه السلام) الذی اطّلع علی خصوصیاتها وأمره أن یحکم فیها بما علّمه .

تبقی هاهنا مسألة أخری وهی إمکان تعدیة المورد المزبور إلی ما یماثله من الموارد بمعنی أنه هل یمکن القول بجواز أن یحکم المقلد بقضیة من هذا القبیل لکن مع أخذ الإذن من المجتهد الذی یطّلع علیها ویبیّن له کیفیة الحکم فیها أو فقل هل یمکن الاکتفاء بإذن المجتهد فی مثل هذا الأمر أم لا ؟

هذه المسألة سیأتی البحث عنها فی الجهة الثانیة من الجهات المتعلّقة بهذا الشرط إن شاء الله تعالی.

هذا .. وقد تقدّم منّا ما لوحظ علی الجواب الأول للشیخ صاحب الجواهر (قده) علی ما أورده علی نفسه (1)

(2)

ص: 129


1- (5) وملخّص إیراده : أن لدینا أدلة تقول بتوقّف القضاء علی إذن الإمام (علیه السلام) فتکون مانعة من الأخذ بإطلاق تلک النصوص المتقدمة فلا یصحّ الاستدلال بها علی أهلیة المقلّد للقضاء .
2- (6) وحاصل الجواب الأول له (قده) : إن تلک النصوص مفادها الإذن لشیعتهم فی الحکم بین الناس بأحکامهم الواصلة إلیهم أعمّ من أن تکون واصلة عن اجتهاد أو تقلید .

(1) .

وأما ما لوحظ علی جوابه الثانی (2) فهو المنع ممّا ذکره فی مثل المقبولة فإن ظاهرها نفی أهلیة غیر من ذُکر فیها (3) لتسنّم منصب القضاء لظهورها فی أن الإمام (علیه السلام) فی مقام تحدید من یجوز الرجوع والترافع إلیه لحلّ الخصومات ولو کان من یجوز الترافع له فی الواقع هو الأعمّ من المجتهد وغیره لم یکن من المناسب التعبیر بمثل ما ذُکر لاسیما وأنه (علیه السلام) فی ذلک المقام (4) وعلی هذا تکون الروایة ظاهرة فی أن من یجوز الرجوع والترافع إلیه ویکون أهلاً للقضاء هو المجتهد لیس غیر فتکون نافیة لأهلیة الفاقد لشرط الاجتهاد بمعنی أنها تکون نافیة لأهلیة المقلّد لتسنّم هذا المنصب لا أنها ساکتة عنه ولیست لها دلالة علی نفی أهلیته کما یدّعی ذلک الشیخ (قده) .

ص: 130


1- (7) وإجمال ما تقدّم من الملاحظة علیه من قِبَل من تأخّر عنه : أن النصوص لیست فی مقام البیان من هذه الجهة فهی أساساً لیست فی مقام صحة الحکم وأن یتولّی ذلک الحکم کل أحد وإنما هی فی مقام بیان لزوم الحکم بالحق والعدل والقسط فی مقابل الحکم بالباطل والظلم والجور .
2- (8) وحاصله : دعوی أن المقبولة وأمثالها مما دلّ علی النصب العام وإن کانت دالة علی أهلیة المجتهد لتسنّم القضاء إلا أنه لیس فیها دلالة علی نفی أهلیة المقلّد لتسنّم هذا المنصب فحینئذ یُکتفی بإذن المجتهد له فی ذلک .
3- (9) ممن تنطبق علیه الصفات التی ذکرها الإمام (علیه السلام) بکونه ممن روی حدیثهم ونظر فی حلالهم وحرامهم وعرف أحکامهم ولیس ذلک إلا المجتهد .
4- (10) یعنی مقام تحدید من یجوز الرجوع والترافع إلیه .

وفی ضوء ذلک لا یکون ما ذکره من أخذ الإذن للمقلد من المجتهد لتسنّم منصب القضاء وجیهاً لعدم کفایته فی جواز ذلک بسبب عدم أهلیته (1) له بحسب الأدلة الشرعیة فیکون هذا نظیر أخذ الإذن منه للصبی أو المرأة أو ابن الزنا لتسنّم منصب القضاء - بناءً علی اعتبار البلوغ والذکوریة وطهارة المولد مع أنه من الواضح أنه لیس من حقّ المجتهد إعطاء الإذن لأولئک إذ لیس من حقّه أن یجعل الأهلیة لتسنّم منصبٍ مّا لمن لم تجعله الشریعة أهلاً لذلک .

وأما ما لوحظ علی جوابه الثالث (2) فهو ما تقدّم سابقاً من أن المقصود بالحاکم فی المقبولة هو القاضی کما هو واضح من صدرها حیث إن السؤال فیها عن خصومة وتنازع بین طرفین وهذا الأمر یحتاج إلی قاضٍ یرفع ذلک التنازع ویحلّ تلک الخصومة فلذا قال الإمام (علیه السلام) : (ینظران إلی من عرف حدیثنا .. [إلی قوله] .. فإنی قد جعلته علیکم حاکماً) أی قاضیاً لحلّ الخصومة ولیس المقصود بالحاکم هنا الولی بالولایة العامة کما لا یخفی ، واستعمال الحکومة بمعنی القضاء موجود فی الروایات کما فی صحیحة سلیمان بن خالد المتقدّمة : (اتقوا الحکومة ..) حیث إن المقصود بها القضاء کما یشهد لذلک قوله (علیه السلام) فیها : (إنما هی للإمام العالم بالقضاء) .

وخلاصة ما تقدّم أن رأی الشیخ صاحب الجواهر (قده) یستند فی الحقیقة إلی المناقشة فی مقبولة عمر بن حنظلة من جهتین :

ص: 131


1- (11) أی المقلّد .
2- (12) وحاصله : دعوی أن المقبولة وغیرها من أدلة النصب العام - کالتوقیع الشریف - ناظرةٌ إلی باب الحکومة والولایة العامة لا باب القضاء مستشهداً علی ذلک بقوله فی المقبولة : (فإنی قد جعلته حاکماً) .

أولاً : من حیث إنها ناظرة إلی الولایة العامة لا إلی القضاء .

وثانیاً : من حیث إن غایة ما تدلّ علیه هو أهلیة المجتهد للمنصب ولا دلالة فیها علی عدم أهلیة غیره .

وفرّع علی ذلک عدم صلاحیة الروایة لتقیید الأدلة المطلقة من الآیات والروایات فلذا تبقی هذه الأدلة محافظة علی ظهورها من کون المستفاد منها جواز أن یحکم کل أحد بالحقّ والعدل والقسط من غیر فرق بین طرق وصول الحقّ إلیه من القطع أو الاجتهاد أو التقلید فیمکن حینئذ الاستدلال بها علی أهلیة المقلّد للقضاء مشروطاً بأن یقضی بما أنزل الله من الحقّ والعدل والقسط وهذا کما هو موجود لدی المجتهد موجود کذلک لدی المقلد إذ کل منهما قامت عنده الحجة الشرعیة علی أن هذا هو حکم الله وما أنزله الله فیکون اشتراط الاجتهاد بلا وجه علی أساس حمل المقبولة علی أحد المحملین السابقین (1) .. وقد عرفت الخدشة فی کلا المحملین فإن نظر الروایة إنما هو إلی القضاء حیث إن المراد بالحاکم هو القاضی بقرینة صدرها من کون السؤال عن تنازع وخصومة بین طرفین کما أن الروایة فی مقام تحدید من یجوز الرجوع إلیه وقد ذکرت صفات له لا تنطبق إلا علی المجتهد کما تقدّم ذکر هذا کله - وعلی ذلک فتکون الروایة صالحة لتقیید تلک المطلقات ولذا فمن الصعب جداً الالتزام بما ذهب إلیه الشیخ صاحب الجواهر (قده) فالصحیح بناءً علی ما تقدّم وفاقاً للمشهور هو اشتراط الاجتهاد فی القاضی المنصوب بمعنی أن المنصوب قاضیاً بالنصب العام لا بد أن یکون مجتهداً ولا یجوز أن یکون مقلّداً .

ص: 132


1- (13) أی نظر المقبولة إلی الولایة العامة لا إلی القضاء ، وأن غایة ما تدلّ علیه هو أهلیة المجتهد للمنصب ولا دلالة فیها علی عدم أهلیة غیره .

الجهة الثانیة من جهات البحث عن شرط الاجتهاد - : هی أنه بعد الفراغ من اشتراط الاجتهاد فهل یجوز للمجتهد أن یأذن للمقلد فی أن یحکم فی قضیة من القضایا أم لا ؟

سیأتی الکلام فی ذلک إن شاء الله تعالی .

القضاء-المسالة-5-المقام الاول-النصب العام-الجهة الثانیة-شرائط نصب القاضی-8-الاجتهاد بحث الفقه

(بحث یوم السبت 23 ذ ق 1432 ه)

الجهة الثانیة (1) : فی أنه بعد الفراغ من اشتراط الاجتهاد فی تولّی منصب القضاء کما دلّت علیه المقبولة یقع الکلام فی أن المجتهد الذی هو مأذون لذلک بموجب الأدلة - هل یصحّ له أن یأذن للمقلد فی القضاء أم لا ؟

حُکی القول بالجواز عن جماعة والظاهر أن الدلیل علیه عندهم هو التمسّک بعموم ولایة الفقیه باعتبار أن المستفاد منه (2) هو أن یثبت للمجتهد کل ما ثبت للإمام (علیه السلام) من الولایة فی الأمور العامة ومن جملتها نصب القضاة وإن لم یکونوا مجتهدین - ، وأما ثبوت ذلک (3) للإمام (علیه السلام) فبما هو المعروف والمنقول من أن القضاة الذین نُصبوا فی زمان النبی (صلی الله علیه وآله) وفی زمان الإمام (علیه السلام) لم یکونوا مجتهدین ومع ذلک نُصبوا من قِبل المعصوم (علیه السلام) للقضاء فإذا کان هذا ثابتاً للإمام (علیه السلام) فیکون ثابتاً للمجتهد بمقتضی أدلة ولایة الفقیه .

وهذا الدلیل کما لا یخفی یبتنی علی مقدمتین :

ص: 133


1- (1) من جهات البحث عن شرط الاجتهاد .
2- (2) أی من عموم دلیل ولایة الفقیه .
3- (3) یعنی نصب غیر المجتهد قاضیاً .

الأولی : أن نصب غیر المجتهد للقضاء أمر جائز للمعصوم (علیه السلام) .

الثانیة : أن کل ما هو جائز للمعصوم من باب الولایة العامة الثابتة له یکون جائزاً للفقیه .

وقد أُجیب عمّا تقدّم بالمناقشة فی کلتا المقدمتین :

أما بالنسبة إلی المقدمة الثانیة فبمنع المبنی بتقریب أن الأدلة التی استُدلّ بها علی ولایة الفقیه (1) لا تساعد علی ذلک .

وأما بالنسبة إلی المقدمة الأولی فبأن الإذن فرع الأهلیة والمفروض فی محلّ الکلام المفروغیة من عدم أهلیة غیر المجتهد لتولّی القضاء (2) بل استفدنا من الأدلة - فی ضوء ما تقدّم - عدم أهلیة غیر من ذُکر فی أدلة النصب العام - وهی المقبولة وأمثالها - لتولّی هذا المنصب وحینئذ یقال بأنه کیف یُؤذن لمن لیس أهلاً لذلک فی تولّیه ، وأما ولایة الإمام (علیه السلام) فهی مختصّة بحدود ما هو جائز فی الشریعة التی جاء بها النبی (صلی الله علیه وآله) فإذا فرضنا أن تولّی غیر المجتهد لمنصب القضاء غیر جائز فیها لکونه لیس أهلاً له فلا یُتصوّر حینئذ أن یأذن المعصوم لغیر المجتهد فی تولّی ذلک فإن الجمع بین الأمرین (3) نوع تهافت فی الکلام وخلف لما فُرض سابقاً فلا یُعقل أن یأذن المعصوم لغیر المجتهد فی تولّی منصب القضاء ویتفرّع علیه بالضرورة عدم ثبوته للمجتهد حتی لو قلنا بتمامیة أدلة ولایة الفقیه واستفدنا العموم منها .

ص: 134


1- (4) من أنه یثبت للفقیه کل ما ثبت للإمام (علیه السلام) من الولایة فی الأمور العامة .
2- (5) وذلک فی الجهة الأولی من جهات البحث عن شرطیة الاجتهاد فی القضاء .
3- (6) أی بین فرض کون تولّی غیر المجتهد لمنصب القضاء غیر جائز فی الشریعة وإذن المعصوم له فی تولّی ذلک .

إذاً ففی المقام وجهتا نظر مختلفتان :

إحداهما : التمسّک بعموم أدلة ولایة الفقیه وإثبات جواز الإذن للمجتهد کما هو جائز للمعصوم (علیه السلام) والاستدلال علی جوازه له (علیه السلام) بوقوعه منه خارجاً فی زمان النبی (صلی الله علیه وآله) وفی زمان أمیر المؤمنین (علیه السلام) حیث نصبا القضاة فی البلدان المختلفة مع أنهم لیسوا جمیعاً واجدین لشرط الاجتهاد .

والأخری : عدم جواز الإذن لأن غیر المجتهد لیس أهلاً لتولّی هذا المنصب فیُشکّ فی أصل ثبوته للمعصوم (علیه السلام) إن لم یُجزم بعدمه لأن عدم الأهلیة ثبت فی الشرع فکیف یُتعقّل أن یأذن المعصوم لفاقدها فی تولّی هذا المنصب .

وفی مقابل ذلک کلّه قد یقال بأنه لا إشکال فی أن أدلة النصب العام ومن أهمّها المقبولة تدلّ علی أهلیة المجتهد لتولّی القضاء ویُستفاد من کون الروایة فی مقام التحدید عدم أهلیة غیره لتولّیه .. وعلی ذلک فینبغی أن یقع الکلام فی أنها (1) حیث تُثبت الأهلیة للمجتهد وتنفیها عن غیره فهل هی ناظرة فی ذلک إلی القضاء نفسه - بمعنی فصل الخصومة - أم هی ناظرة إلی القضاء علی أنه منصب مجعول بالنصب العام غیر محدّد بزمان أو مکان معیّنین ؟

فإذا بُنی علی الثانی فیثبت أن غیر المجتهد لیس أهلاً لتولّی هذا المنصب أی أنه لیس منصوباً بالنصب العام إلا أنه لا یُستفاد حینئذ من الروایة عدم أهلیته لتولّی نفس القضاء وفصل الخصومة فی قضیة جزئیة معیّنة .

وبعبارة أخری : أن الروایة علی هذا الاحتمال لیست ناظرة إلی اشتراط الاجتهاد فی نفس القضاء وفصل الخصومة لکی تدل علی عدم أهلیة غیر المجتهد لذلک بل هی ناظرة إلی القضاء علی أنه منصب ومن الواضح الفرق بینهما فإنه من الممکن جداً أن یُشترط فی ذلک النصب العام غیر المحدد بزمان أو مکان أو أشخاص معیّنین ما لا یُشترط فی النصب الخاص (2) ولیُعتبر بمثل طهارة المولد علی نحو التقریب لا الالتزام فمن غیر المناسب تولّی من لم یتوفّر علی هذا الشرط منصب القضاء ولکن لا مانع من أن یفصل فی قضیة جزئیة یؤذن لها فیها .. إذاً یمکن افتراض أن هناک شرطاً معتبراً فی تولّی منصب القضاء مع کونه غیر معتبر فی نفس القضاء وفصل الخصومة .

ص: 135


1- (7) أی المقبولة .
2- (8) أی القضاء فی قضیة جزئیة .

وأما إذا بُنی علی الاحتمال الأول (1) فتدلّ الروایة حینئذ علی عدم أهلیة غیر المجتهد لفصل الخصومة .

وحینئذ فلا مانع علی الاحتمال الثانی من أن یأذن المعصوم (علیه السلام) لغیر المجتهد فی فصل خصومة جزئیة معیّنة فی واقعة شخصیة لأن المفروض أنه لم یدلّ دلیل بناءً علی هذا الاحتمال - علی اعتبار الاجتهاد فی نفس القضاء وفصل الخصومة إذ لا دلیل فی البین إلا المقبولة وهی بحسب الفرض ناظرة إلی النصب العام فهی تنفی أهلیة غیر المجتهد فی هذا الباب ، وأما بالنسبة إلی نفس القضاء وفصل الخصومة فی واقعة جزئیة معیّنة فهی لا تدلّ علی عدم أهلیة غیر المجتهد للفصل فیها حتی یقال بأنه کیف یُؤذن لغیر المجتهد بتولّی القضاء فیها ؟َ!

فالنتیجة أنه لا یکون علی هذا الاحتمال ثمة إشکال فی إذن المعصوم (علیه السلام) لغیر المجتهد فی فصل الخصومة فی واقعة شخصیة معیّنة ونتعدّی بمقتضی أدلة ولایة الفقیه بناءً علی تمامیتها إلی المجتهد فی زمان الغیبة فیجوز له حینئذ أن یأذن لمن لم یصل إلی مرتبة الاجتهاد فی أن یقضی فی الوقائع الجزئیة إذا کان عالماً بأحکامها .

وأما علی الاحتمال الأول فالمسألة مشکلة لأن الروایة بناءً علی هذا الاحتمال تدلّ علی عدم أهلیة غیر المجتهد للقضاء وفصل الخصومة فکیف یؤذن له فی ذلک ؟!

هذا .. والظاهر أن نظر المقبولة بملاحظة صدرها وذیلها إنما هو إلی النصب العام حیث تنهی عن التحاکم إلی أهل الجور والطاغوت ثم تأمر بالرجوع إلی من روی حدیثهم ونظر فی حلالهم وحرامهم وعرف أحکامهم (علیهم السلام) فهی تتصدّی لنصب من توافرت فیه هذه الصفات (2) فی کل زمان ومکان قاضیاً یُرجَع إلیه فی فصل الخصومات وحلّ النزاعات وهذا - کما هو واضح - نصب عام ولیس نصباً فی واقعة شخصیة جزئیة وقد فُهم من کون الروایة فی مقام التحدید نفیُ أهلیة غیر المجتهد لتولّی هذا المنصب ، ولا ریب أن هذا المفاد أجنبی عن مسألة أهلیة غیر المجتهد للقضاء (3) وعدم أهلیته له .. إذاً لا دلالة فی الروایة علی ذلک وإنما غایة ما تدلّ علیه أن غیر المجتهد لم ینصبه الإمام (علیه السلام) بالنصب العام ولا یلزم من هذا عدم صلاحیته للقضاء وفصل الخصومة فی الوقائع الجزئیة المعیّنة .. وعلی ذلک فلو دلّ دلیل علی إذن المعصوم لغیر المجتهد للقضاء فی واقعة أو وقائع معیّنة - کروایة عبد الله بن طلحة المتقدمة - أمکن الالتزام بجواز ذلک للفقیه أیضاً بمقتضی عمومات أدلة ولایة الفقیه وهذا حدیث مطروح فی هذه المسألة .

ص: 136


1- (9) أی کون المقبولة ناظرة إلی نفس القضاء وفصل الخصومة .
2- (10) وهی لا تجتمع إلا فی المجتهد - کما تقدّم - .
3- (11) بمعنی فصل الخصومة فی واقعة جزئیة .

فالنتیجة إذاً أننا لا نملک دلیلاً علی عدم أهلیة غیر المجتهد لتولّی القضاء فی واقعة أو وقائع شخصیة معیّنة فیقع الکلام فی کفایة ذلک المقدار (1) لتولّی غیر المجتهد للقضاء وفصل الخصومة بمعنی أنه هل یکفی عدم وجود الدلیل علی عدم الأهلیة أم لا بد من الدلیل علی الأهلیة لذلک ؟

الظاهر عدم الکفایة بل لا بد من إقامة الدلیل علی أهلیة غیر المجتهد لتولّی القضاء وفصل الخصومة ، والسرّ فی ذلک ما تقدّم مراراً من أن القضاء ونفوذ حکم شخص بحقّ غیره علی خلاف الأصل والقاعدة ولا مخرج عنه إلا بدلیل ، وما وقع تحت الید منه إنما یتکفّل ببیان أهلیة المجتهد لتولّی منصب القضاء وصلاحیته لنفس القضاء وفصل الخصومة بالتبع ، وهل یوجد دلیل فی البین علی أهلیة غیر المجتهد لتولّی القضاء وفصل الخصومة لکی نلتزم بجوازه له فی واقعة جزئیة بشرائط معینة مع إذن المجتهد له فی القضاء فیها أم لا ؟

وبعبارة أخری : أنه مع عدم الدلیل المزبور یلزم القول بشرطیة الاجتهاد فی من یقضی فی الواقعة الجزئیة علی حدّ لزوم القول بها فی من یتولّی منصب القضاء لأن القضاء علی خلاف الأصل ولا یُخرَج عنه إلا بدلیل فهل ادّعی فی المقام وجوده علی ذلک ؟

ذُکر فی کلماتهم أن ثمة أدلة لإثبات أهلیة غیر المجتهد لتولّی القضاء وهی المقبولة وروایة عبد الله بن طلحة وأهمّ منهما ما تداولوه من أننا نعلم أن المنصوبین للقضاء فی زمان النبی (صلی الله علیه وآله) وفی زمان الوصی (علیه السلام) لیسوا واصلین إلی مرتبة الاجتهاد .

ص: 137


1- (12) أی عدم الدلیل علی عدم أهلیة غیر المجتهد لتولّی القضاء فی واقعة أو وقائع شخصیة معیّنة .

ولا بد فی المقام من التحقّق من مدی وفاء هذه الأدلة بالمدّعی وسیأتی إن شاء الله تعالی .

القضاء-المسالة-5-المقام الاول-النصب العام-الجهة الثانیة-شرائط نصب القاضی-8-الاجتهاد بحث الفقه

(بحث یوم الأحد 24 ذ ق 1432 ه)

انتهی الکلام فی البحث السابق إلی أنه لا یکفی لجواز تولّی القضاء لغیر المجتهد وکذا جواز الإذن له فی ذلک مجرد أن لا یکون هناک دلیل علی عدم صلاحیته لذلک بل الأمر یتوقّف علی إثبات هذه الصلاحیة فلا بد من إقامة الدلیل علی أن غیر المجتهد أهلٌ لفصل الخصومة وتولّی القضاء فحینئذ یقال إن المجتهد من حقّه أن یأذن له فی ذلک أی أنه بعد فرض الأهلیة فلا مانع من افتراض الإذن تمسّکاً بعمومات أدلة ولایة الفقیه لأن القضاء یحتاج إلی إذن ولا یکفی فی نفوذ حکم القاضی غیر المجتهد مجرد کون الآذن صالحاً بنفسه لتولّی القضاء بأن یکون مجتهداً (1) فإذا أقمنا الدلیل علی أهلیة غیر المجتهد لفصل الخصومات فحینئذ نقول إن المجتهد یجوز له بعمومات أدلة ولایة الفقیه أن یأذن لغیره ممن لیس مجتهداً فی تولّی القضاء وفصل الخصومات فالمهم إذاً هو إقامة الدلیل علی صلاحیة غیر المجتهد لتولّی القضاء وحینئذ یقال بأنّا لا نملک الدلیل علی هذه الصلاحیة وذلک لأن الأدلة المتوافرة فی البین هی إما المقبولة وما ماثلها من أدلة نصب القاضی أو ما ذُکر من نصب القضاة فی زمان النبی والوصی (صلوات الله علیهما وآلهما) :

أما المقبولة فلیست فیها دلالة علی صلاحیة غیر المجتهد لتولّی القضاء لأنها إن کانت ناظرة إلی منصب القضاء کما استقربناه فحینئذ تکون ساکتة عن مسألة فصل الخصومات وتولی القضاء وتدلّ حینئذ علی عدم صلاحیة غیر المجتهد لمنصب القضاء وأما صلاحیته لنفس القضاء وفصل الخصومة فی واقعة معیّنة من دون تولّی منصب القضاء فالروایة لا یمکن أن یُستفاد منها عدم صلاحیته له - کما لا یُستفاد منها أیضاً صلاحیته له - ، وإن ناقشنا فی ما تقدّم وقلنا إنها ناظرة إلی نفس القضاء وفصل الخصومة فتدلّ حینئذ علی عدم صلاحیة غیر المجتهد لأصل القضاء .

ص: 138


1- (1) أی لا بد من وجود دلیل یُعطی للمجتهد الحقّ فی أن یأذن للمقلد فی تولّی القضاء وفصل الخصومة .

إذاً فالروایة علی کلا التقدیرین لا یُستفاد منها صلاحیة غیر المجتهد لتولّی القضاء فلا تنفع دلیلاً فی المقام .

وأما بالنسبة إلی نصب القضاة فی زمان النبی وفی زمان الإمام (علیه السلام) حیث یقال إنه لا إشکال فی أن النبی (صلی الله علیه وآله) نصب القضاة وکذلک فعل الوصی (علیه السلام) فی مختلف البلدان حیث إن الرقعة الجغرافیة التی کانت علیها الدولة الإسلامیة فی زمان الإمام (علیه السلام) کانت واسعة جداً وهؤلاء القضاة المنصوبون من قبله (علیه السلام) لیسوا مجتهدین بطبیعة الحال فیکون هذا دلیلاً علی صلاحیة غیر المجتهد لا لتولی القضاء وفصل الخصومة فحسب بل لتولّی منصب القضاء أیضاً فیکون هذا دلیلاً مخرجاً عن الأصل فی الموردین معاً (1) فیتبیّن علی هذا أن الاجتهاد لیس شرطاً فیهما فهذا الدلیل - لو تمّ - یکون بظاهره منافیاً لمفاد المقبولة لأن ظاهرها اشتراط الاجتهاد فی منصب القضاء فی حین أن هذا النصّ لو قیل بتمامیة مقدماته یؤدّی إلی عدم اشتراط الاجتهاد لتولی هذا المنصب ولذا حاول بعضهم الجمع بینهما بحمل النصّ علی التقیة وبعض آخر بحمله علی الضرورة بدعوی أنهما (2) یُبیحان التنازل عن شرط معتبر فی منصب القضاء وهو الاجتهاد .

هذا .. ولکن یمکن الجمع بین الدلیلین بکون النصب فی المقبولة قد صدر من الإمام الصادق (علیه السلام) بإعمال ولایته حیث تقدّم سابقاً أن النصب لم یکن حکماً إلهیاً ثابتاً فی الواقع وإنما هو حکم ولائی حصل بإعمال الإمام (علیه السلام) لولایته طبقاً لإدراک المصلحة فی تنظیم شؤون الشیعة فنصب من کان واجداً لتلک الصفات قاضیاً وأمر الشیعة بالرجوع إلیه لحلّ الخصومات ویُستفاد هذا - کما تقدّم - من قوله (علیه السلام) فی الروایة : (فإنی قد جعلته علیکم حاکماً) وفی روایة أخری (قد جعلته علیکم قاضیاً) ولازم کونه کذلک (3) هو أن الاجتهاد لیس شرطاً مقرّراً فی الشریعة فی تولّی هذا المنصب وإنما هو متروک للإمام طبقاً لإدراک المصلحة والإمام (علیه السلام) أدرک المصلحة فاشترط الاجتهاد فی تولّی هذا المنصب وأما قبل ذلک فلم تکن هذه المصلحة موجودة فلذا نصب النبی والوصی (صلوات الله علیهما وآلهما) القضاة غیر المجتهدین فی البلدان ، نعم .. هذا الحکم الولائی الصادر من الإمام الصادق (علیه السلام) یبقی نافذ المفعول إلی یومنا هذا لعدم وجود ما یرفعه إذ لم یصدر من إمام متأخّر عن الإمام الصادق (علیه السلام) رفع هذا النصب .. إذاً فی زماننا لا بد من أن نلتزم بهذا الحکم الولائی ونقول إن منصب القضاء لا یتسنّمه إلا المجتهد فلا منافاة علی هذا بین نصب القضاة غیر المجتهدین فی الأماکن المختلفة من قبل النبی ووصیه (صلوات الله علیهما وآلهما) وهذا الحکم الولائی الصادر من الإمام الصادق (علیه السلام) فیُحلّ التنافی بهذا من غیر حاجة إلی إقحام مسألة التقیة - التی هی بعیدة لاسیما فی زمان النبی (صلی الله علیه وآله) أو الضرورة ، نعم .. لو کان الحکم الصادر من الإمام الصادق (علیه السلام) حکما إلهیاً کسائر الأحکام الشرعیة الثابتة فی الواقع والتی أخبر الإمام (علیه السلام) عنها فیتحقّق التنافی حینئذ فنضطرّ إلی حمله علی التقیة أو الضرورة .

ص: 139


1- (2) أی فی نفس القضاء وفی منصب القضاء .
2- (3) أی التقیة والضرورة .
3- (4) أی حکماً ولائیاً .

نعم .. لو بقینا وهذا الدلیل ولم ترد روایة عمر بن حنظلة التی تتحدث عن نصب الإمام (علیه السلام) للقضاة لالتزمنا بعدم اشتراط الاجتهاد حتی فی منصب القضاء ولکن لمّا ورد عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه أعمل ولایته واشترط الاجتهاد فی منصب القضاء فلا بد من الالتزام به وهو ساری المفعول إلی زماننا فیلزم أن نشترط الاجتهاد فی تولّی المنصب ، وأما ممارسة القضاء وفصل الخصومة فی واقعة جزئیة - مثلاً من دون استلام منصب فلا دلیل علی اشتراط الاجتهاد فیها لا بحکم واقعی ولا بحکم ولائی فیبقی علی الجواز استناداً إلی نصب النبی والوصی القضاة غیر المجتهدین لتولّی القضاء الذی یُعبّر عن کون الاجتهاد لیس شرطاً فی نفس القضاء وفصل الخصومة وهذا دلیل علی صلاحیة غیر المجتهد لذلک .

هذا غایة ما یمکن أن یقال فی مقام تقریب دلالة هذا النصب علی جواز تولّی غیر المجتهد للقضاء وبالتالی إمکان أن یأذن المجتهد له فی ذلک .. إلا أن الکلام فی تمامیة هذا الدلیل فنقول :

أما مسألة نصبهما (صلوات الله علیهما وآلهما) للقضاة فهی قضیة مسلّمة وغیر قابلة للتشکیک فإنه لا یمکن إنکار أن النبی (صلی الله علیه وآله) نصب قضاة فی أماکن مختلفة کما هو المنقول عن قضیة معاذ بن جبل ونصبه قاضیاً فی الیمن وکذلک الإمام (علیه السلام) قطعاً لأن القضاء من أهمّ الأمور التی ینبغی الاعتناء بها .

ولکن المقدمة الثانیة (1) محلّ تأمّل وإشکال فإنه یمکن أن یقال بإمکان کونهم مجتهدین فإن القضاة المنصوبین فی ذلک الزمان کانوا یحکمون بما سمعوه من النبی أو الوصی ولو بالواسطة وکانوا یتعلّمون قواعد باب القضاء وأحکامه فیحکمون بها فی ضوء ذلک ولکن کان یُترک لهم أمر تطبیق تلک القواعد علی مواردها وتشخیص صغریاتها إذ لا یمکن مراجعة النبی أو الإمام (علیهما السلام) فی ذلک ، ولا مجال فی هذه القواعد الکلیة للاجتهاد وإعمال النظر لأنها قواعد جاهزة وواضحة قد تُلقّیت من المعصوم (علیه السلام) ولم یُفترض فی المقام أن لدیهم أدلة یستنبطونها منها لیکون للنظر واختلاف الرأی فیها مجال فدور القضاة المنصوبین إذاً إنما هو تطبیق تلک الکبریات علی صغریاتها وترتیب الأحکام علی موضوعاتها وتشخیص الموضوعات ففی صورة دعوی الزوجة - مثلاً بامتناع زوجها عن الإنفاق علیها مع کون ظاهر الحال خلاف ذلک یستحضرون ما سمعوه من الإمام (علیه السلام) من أن الزوج الممتنع عن الإنفاق علی زوجته یُجبَر علی الإنفاق علیها وأن البیّنة علی من ادّعی والیمین علی من أنکر وأن الشاهد یجب أن یشهد عن حسّ لا عن حدس فیطالبون الزوجة حینئذ بالبیّنة لأنها المدّعیة مع کون ظاهر الحال خلاف ما تدّعیه وأنه یلزم فی شهادة بیّنتها أن تکون حسّیة فإذا تمّت هذه الأمور حکموا بإجبار الزوج علی الإنفاق علیها وبیّنوا کیفیة هذا الإنفاق وهکذا الحال فی الموارد الأخری .. وهل یصحّ أن یُسمّی مثل هذا اجتهاداً ؟

ص: 140


1- (5) وهی أن أولئک المنصوبین قضاة من قِبلهما (علیهما السلام) لم یکونوا مجتهدین .

یمکن دعوی کونه نوعاً من أنواع الاجتهاد لأنه لا یخلو من إعمال النظر ولو فی ذلک الدور المذکور (1) ، ویؤیّده روایة منقولة فی کتب العامة عن کیفیة تعیین معاذ بن جبل قاضیاً علی الیمن (2) جاء فیها بعد فرض عدم وجود حکم المسألة فی کتاب الله ولا فی سنة رسوله (صلی الله علیه وآله) بحسب الروایة قولُ معاذ : (أقضی بکتاب الله) وقوله بعد فرض عدم وجدان الحکم فیه : (فبسنة رسول الله) وقوله بعد فرض عدم وجدان الحکم فیها أیضاً : (أجتهد رأیی ولا آلو) یعنی یقضی بما یفهمه من کتاب الله وسنة رسوله (صلی الله علیه وآله) وهذا هو الاجتهاد غایة الأمر أنه فی ذلک الزمان کان قضیة سهلة للقطع الصدوری والوضوح الدلالی فلیس هناک ظهورات متعددة کما أنه لیس لدیهم مشکلة فی استظهار المعنی من النصّ فما یقومون به إذاً اجتهاد ولکن فی صورته البدائیة الیسیرة بخلاف ما تلاه من الأزمنة حیث ازداد صعوبة بتقادم الزمان والبعد عن النصّ ، ومن الصعب بمکان تسمیة ذلک تقلیداً وأن القضاة المنصوبین کانوا مقلّدة .

ص: 141


1- (6) یعنی دورهم فی تطبیق الکبریات علی صغریاتها وترتیب الأحکام علی موضوعاتها وتشخیص الموضوعات .
2- (7) جاء فی سنن أبی داوود (مج2 ص162) : " عن أُناس من أهل حمص من أصحاب معاذ بن جبل أن رسول الله صلی الله علیه وسلم لما أراد أن یبعث معاذاً إلی الیمن قال : کیف تقضی إذا عرض لک قضاء ؟ قال : أقضی بکتاب الله ، قال : فإن لم تجد فی کتاب الله ؟ قال : فبسنة رسول الله صلی الله علیه وسلم ، قال : فإن لم تجد فی سنة رسول الله صلی الله علیه وسلم ولا فی کتاب الله ؟ قال : أجتهد رأیی ولا آلو .. " أی ولا أقصّر .

وکیف کان فلا إشکال فی کون ذلک اجتهاداً بمعنیً من المعانی وکونه کافیاً لممارسة القضاء وحلّ الخصومة فیکون موضوع الدلیل المتضمّن لنصب القضاة من قبل النبی ووصیّه (علیهما السلام) علی هذا هو المجتهد ولا أقل من احتماله فلا یسعنا حینئذ الاستدلال به علی صلاحیة غیر المجتهد أو قل المقلّد (1) لتولّی القضاء .

فتحصّل من جمیع ما تقدّم أن المقبولة إن لم تکن دلیلاً علی عدم صلاحیة غیر المجتهد فهی لیست دلیلاً علی الصلاحیة ، وأن نصب القضاة فی زمانهما (صلوات الله علیهما وآلهما) یظهر بالبیان السابق أنه لیس دلیلاً علی صلاحیة المقلّد لتولّی القضاء ، وأما روایة عبد الله بن طلحة فمع افتراض کون السائل (2) فیها مقلّداً مع أن ذلک لیس واضحاً بل یمکن أن یقال إنه کان مجتهداً بالمعنی المتقدم فالروایة لیس فیها دلالة علی صلاحیة المقلّد لتولّی القضاء استقلالاً وهو المبحوث عنه فی المقام وإنما هی تضمّنت ما هو أشبه بالإذن له بأن ینطق بالحکم الذی ذکره الإمام (علیه السلام) بعد اطّلاعه علی تفاصیل الواقعة وتبیان حکمها وقوله (علیه السلام) له : (اقض بما وصفت لک) فیُفهم من ذلک أنه أشبه بالنائب عن الإمام (علیه السلام) فی النطق بحکم هذه الواقعة فلیس دوره دوراً حقیقیاً فی ذلک ، وهذا المعنی قریب جداً ولا أقلّ من احتماله علی نحو لا یمکن الاستناد إلی هذه الروایة - غیر التامة سنداً أیضاً - لإثبات صلاحیة غیر المجتهد أو المقلّد لتولّی القضاء .

فالنتیجة أن الاجتهاد شرط فی تولّی القضاء وغیرُ المجتهد لیست له صلاحیة فلا یحقّ له تولّیه ، وأما القول بإمکانه مع إذن المجتهد له فممنوع لما تقدم من أنه لا بد فی الإذن من أن یکون المأذون له الأهلیة وهی مفقودة فی غیر المجتهد کما تبیّن .

ص: 142


1- (8) کما هو المتعارف فی هذه الأزمنة .
2- (9) وهو الراوی المباشر نفسه أعنی عبد الله بن طلحة - .

ولکن مع ذلک کله ثمة دعوی بجواز أن یأذن المجتهد للمقلّد فی تولّی القضاء وفصل الخصومة وسیأتی الحدیث عنها إن شاء الله تعالی .

القضاء-المسالة-5-المقام الاول-النصب العام-الجهة الثانیة-شرائط نصب القاضی-8-الاجتهاد بحث الفقه

(بحث یوم الاثنین 25 ذ ق 1432 ه 27)

وصلنا فی البحث السابق إلی أنه لیس لدینا من الأدلة ما نستطیع أن نعتمد علیه فی إثبات صلاحیة المقلد لتولّی القضاء کما أننا فی المقابل لا نملک دلیلاً واضحاً یدلّ علی عدم الصلاحیة وقد تقدّم الکلام حول المقبولة وروایة عبد الله بن طلحة وکذا مسألة نصب القضاة من قبل النبی (صلی الله علیه وآله) والوصی (علیه السلام) حیث لم تنفع هذه الأدلة لإثبات اشتراط الاجتهاد فی تولّی القضاء لتدلّ علی عدم صلاحیة غیر المجتهد لذلک کما لم یمکن الاعتماد علیها لإثبات صلاحیته لذلک لأنه لم یظهر منها أن من نُصب للقضاء کان مقلّداً بالمعنی المبحوث عنه فی المقام وإنما الذی یغلب علی الظن أنهم کانوا یتلقّون القواعد العامة فی باب القضاء سماعاً من المعصوم - أو ما هو بمنزلة السماع منه - ثم یحکمون بما سمعوه منه وهذا غیر ما نحن فیه من الحدیث عن مقلّد یأخذ ما یستنبطه مجتهده من الأحکام ثم یحکم بها تعبّداً وهذا الأمر لا یمکن الاستدلال علیه بذاک .

فالنتیجة فقدان الدلیل علی صلاحیة غیر المجتهد لتولّی القضاء فضلاً عن تولّی منصب القضاء ومعه تصل النوبة إلی الأصل المقتضی لعدم جواز التولّی لأن القضاء عبارة عن نفوذ حکم الحاکم فی حقّ المتخاصمین والأصل عدم نفوذ حکم شخص فی حقّ آخر إلا بدلیل ولا نملک الدلیل علی نفوذ حکم غیر المجتهد فی حقّ المتداعیین فلا بد من الاقتصار فی مخالفة الأصل علی القدر المتیقَّن الذی یمثّله المجتهد ویبقی غیره داخلاً تحت حکم الأصل .

ص: 143

وهاهنا أمر آخر ینبثق بعد تسلیم ما سبق من الالتزام بعدم صلاحیة المقلّد لتولّی القضاء وهو إمکان القول بجواز أن یأذن له المجتهد فی ذلک بالرغم من عدم صلاحیته له بتقریب أن عدم جواز تولّی المقلّد للقضاء لم یثبت علی أساس نهوض الدلیل بعدم صلاحیته له إذ لم یقم دلیل علی ذلک - وإنما التزمنا بعدم جواز تولّیه القضاء من باب الاقتصار علی القدر المتیقَّن (1) فی مخالفة الأصل ، وحیث لم یدل دلیل أیضاً علی عدم جواز الإذن من قبل المجتهد فحینئذ یمکن لنا أن نلتزم بجواز إذن المجتهد له فی تولّی القضاء .

ولکن هذا الکلام غیر تام لأن عدم الدلیل علی عدم جواز الإذن لیس کافیاً فی إثبات جواز الإذن والسرّ فی ذلک هو أننا لا نملک أصلاً یقتضی جواز الإذن من قبل المجتهد له لتصل النوبة إلیه بعد فقدان الدلیل الاجتهادی علی عدم جواز الإذن بل نحن فی الحقیقة نملک أصلاً علی خلاف ذلک وهو ما تقدّم مراراً من أن الأصل عدم نفوذ حکم شخص فی حقّ آخر ومقتضاه کفایة عدم وجود الدلیل علی جواز الإذن للحکم بعدم جواز الإذن ، والشک فی مقامنا لیس شکّاً فی حکم تکلیفی حتی یقال بجریان البراءة والأصول المؤمّنة فیه وإنما هو فی اشتراط أمر فی تولّی القضاء ونفوذ الحکم من قبل المقلد وهو إذن المجتهد ولا یمکن إثبات ذلک بمجرد عدم الدلیل علی عدم جواز الإذن بل لا بد من وجود الدلیل علی الجواز ومع فقدانه ووجود الأصل المقتضی لعدم الجواز یُتمسّک بهذا الأصل فیثبت عدم جواز الإذن .

ودعوی التمسّک بعموم أو إطلاق أدلة ولایة الفقیه لإثبات جواز إذن المجتهد للمقلّد فی تولّی القضاء قاصرة لأن مضمون هذه الأدلة - علی تقدیر تمامیتها هو أنه یثبت للفقیه من الولایة ما ثبت للإمام (علیه السلام) منها ومن الواضح أن التمسّک بهذه الأدلة فی المورد یتوقف علی إثبات هذه الولایة للإمام (علیه السلام) أولاً حتی یقال بثبوتها للفقیه بتلک الأدلة تبعاً مع أن ثبوتها للإمام (علیه السلام) لیس واضحاً للشک فی کون الاجتهاد معتبراً شرعاً فی نفس القضاء وفصل الخصومة وعلی تقدیر اعتباره فلا یکون غیر المجتهد أهلاً لتولّی القضاء ومعه کیف یُمکن للإمام (علیه السلام) نصب مثله قاضیاً فإن الولایة إنما تتحدّد بحدود ما هو جائز شرعاً فلا ولایة لأحد لتجویز ما هو غیر جائز فی الشرع حیث إن المطلوب منها هو الحفاظ علی الشریعة وتطبیقها تطبیقاً صحیحاً فلا تکون شاملة لما یمثّل خرقاً ومخالفة صریحة لها .

ص: 144


1- (1) والقدر المتیقَّن هو المجتهد .

إذاً فالشک فی اعتبار الاجتهاد وعدمه (1) یعنی الشک فی أن الإمام (علیه السلام) له الولایة أو لیست له الولایة إذ علی أحد التقدیرین (2) تکون له الولایة وعلی الآخر لا تکون له الولایة فلا یکون ثمة مجال للتمسّک بعموم أدلة الولایة لإثبات هذه الولایة للمجتهد لفرض عدم ثبوتها للإمام (علیه السلام) کی یقال بتعدیتها للمجتهد بمقتضی تلک الأدلة .

هذا کله بحسب ما تقتضیه محاسبة ما وصل إلینا من أدلة .. ولکن لأجل کون المسألة بالغة الأهمیة والوقوف علی حصول التساهل فی تطبیق الشرط المذکور بما ذُکر من أنه یحصل الاطمئنان فی أن القضاة المنصوبین فی زمان النبی (صلی الله علیه وآله) وزمان الإمام (علیه السلام) لیسوا جمیعاً واجدین للشرائط المعتبرة ولتحقق نوع من الحرج والضیق عند التقیّد بهذا الشرط ذکر جماعة من فقهائنا (رض) بعض الصور والحالات التی استُثنیت من القاعدة المتقدمة (3) فحُکم فیها بجواز تولّی غیر المجتهد للقضاء :

فعن المحقق فی الشرایع فی المسألة العاشرة من مسائل أحکام القاضی ذکر أنه :

" إذا اقتضت المصلحة تولیة من لم یستکمل الشرائط انعقدت ولایته مراعاة للمصلحة فی نظر الإمام کما اتفق لبعض القضاة (4) فی زمان علی (علیه السلام) ، وربما مُنع من ذلک (5) فإنه (علیه السلام) لم یکن یفوّض إلی من یستقضیه ولا یرتضیه (6) بل یشارکه فی ما ینفذه فیکون هو (علیه السلام) الحاکم فی الواقعة لا المنصوب " (7) .

ص: 145


1- (2) أی فی نفس القضاء وفصل الخصومة لا فی منصب القضاء للاقتصار فی المنصب علی خصوص المجتهد أخذاً بالقدر المتیقّن فی مخالفة الأصل من عدم نفوذ حکم أحد فی حقّ آخر - .
2- (3) وهو عدم اعتبار الاجتهاد .
3- (4) أی عدم جواز الإذن واشتراط الاجتهاد .
4- (5) وهو شریح .
5- (6) أی من انعقاد ولایة من لم یستکمل الشرائط علی نحوٍ یکون الفصل فی الواقعة وإنفاذ الحکم فیها بیده استقلالاً .
6- (7) إشارة إلی روایات واردة فی قضیة شریح - وبعضها صحیح السند - مضمونها أن الإمام (علیه السلام) اشترط علیه بأن یرفع إلیه کل قضیة یرید أن یقضی بها .
7- (8) شرایع الإسلام مج4 ص863 .

وأقول : الإشکال لیس مقتصراً علی شریح القاضی لکی یوجّه بأن الإمام (علیه السلام) أمره بأن یراجعه فی ما یعتزم القضاء فیه بل هو أوسع من هذا خصوصاً فی زمان الإمام (علیه السلام) حیث اتّسعت رقعة الدولة مما یقتضی الحاجة إلی نصب القضاة فی الأمکنة المختلفة کمکّة والمدینة والمدائن ومن شأن الخلیفة والوالی أن یُعیّن القضاة فیها فالکلام إذاً فی أن مجموعة من القضاة نُصبوا من قبل المعصوم (علیه السلام) ونحن نقطع بأن بعضهم علی الأقل لم یکونوا واجدین لبعض الشرائط ومنها الاجتهاد وهذه حقیقة غیر قابلة للدحض ، والمحقق (قده) وجّه المسألة بأنه إذا کانت هناک مصلحة یراها الإمام (علیه السلام) فبإمکانه أن یُلغی هذا الشرط .

وعن المحقق النراقی فی المستند بعد أن ذکر أنه لا یجوز أن یأذن المجتهد للعامی فی تولّی القضاء واستدل علیه قال :

" لا یبعد جواز حکم مقلّد عادل عالم بجمیع أحکام الواقعة الخاصة فعلا أو بعد السؤال فی تلک الواقعة الخاصة بعد إذن المجتهد له فی خصوص تلک الواقعة بعد رجوع المدعی أو المتخاصمین فیها إلی المجتهد " .

إذاً فتجویزه للمسألة بالقیود المذکورة لا مطلقاً معلّلاً إیّاها بقوله : " لأن التحاکم والترافع والرجوع فی الواقعة إنما وقع عند المجتهد .. والمجتهد أمر بأن یفتش مقلده عن حقیقة الواقعة ویحکم " (1) .

وهذه الطریقة إن تمّت فإنها تخفّف من المشکلة بعض الشیء .

وعن الشیخ الأنصاری (قده) فی قضائه أنه حکی القول بالجواز عند عدم التمکّن من المجتهد - إما لأجل عدم التمکّن من تحصیل الإذن منه أو عدم توفّر المجتهد أصلاً - منسوباً إلی ابن فهد الحلّی (قده) وذهب هو (2) إلی القول بالجواز مع عدم التمکّن (3) فی ما إذا کانت الواقعة مما لا تحتاج إلی اجتهاد وتقلید ومثّل لها بأن الحکم للمدّعی إذا أقام بیّنة عادلة فإنه هذه المسألة من الوضوح بمکان .

ص: 146


1- (9) مستند الشیعة مج17 ص26 .
2- (10) أی الشیخ الأنصاری فی قضائه .
3- (11) أی من الرجوع إلی المجتهد .

وعن المحقق الاشتیانی فی قضائه التفصیل بین الشبهات الموضوعیة والشبهات الحکمیة ففی الأولی (1) - بعد تقییدها من قِبَله بقیود - القول بعدم المنع من تولّی المقلّد للقضاء فیها مع الإذن من قبل المجتهد .

هذا .. وثمة أمور أخری نتعرض لها فی البحث اللاحق إن شاء الله تعالی .

القضاء-المسالة-5-المقام الاول-النصب العام-الجهة الثانیة-شرائط نصب القاضی-8-الاجتهاد بحث الفقه

(بحث یوم الثلاثاء 26 ذ ق 1432 ه 28)

تقدّم نقل بعض الکلمات عن الأصحاب ممّن ذهب إلی جواز نصب غیر المجتهد للقضاء بشرائط معیّنة فی حالات خاصّة .. وممن سلک سبیلهم فی ذلک المقدّس الأردبیلی حیث قال بعد أن ذکر عدم الجواز : " وإلا مع فرض المصلحة بحیث لا یندفع المفسدة إلا به (2) فالظاهر الجواز من غیر نزاعٍ کسائر الضروریات (3) " (4) .

فتحصّل من مجموع ما نُقل من هذه الکلمات الاتفاق علی وجود حاجة مُلحّة وضرورة مُلجئة إلی نصب القضاة مع التنازل عن بعض الشرائط وإن اختلفت عبائرهم من حیث عموم بعضها فلا تختصّ بشرط معیّن فتشمل الاجتهاد الذی هو محلّ الکلام بل إن استشهادهم لذلک فی مسألة تولیة القضاة فی زمان المعصوم (علیه السلام) بتولیة شریح القاضی وأمثاله یقتضی التنازل عن شرط آخر غیر الاجتهاد وهو العدالة .

ص: 147


1- (12) أی الشبهات الموضوعیة - التی میزانها عدم الرجوع فیها إلی المجتهد وسؤاله عنها بل التشخیص فیها موکول إلی المکلّف نفسه - .
2- (1) أی بنصب العامی للقضاء .
3- (2) أی من حیث کونها تُبیح المحظورات .
4- (3) مجمع الفائدة والبرهان مج12 ص23 (مکتبة أهل البیت / القرص اللیزری) ، وفیه بلفظ (یندفع) والأنسب بالتاء.

وکیف کان فالکلام فعلاً فی شرط الاجتهاد الذی هو أخفّ مؤنة من غیره من الشروط لأنه لم یدل دلیل علی شرطیته فی القضاء وفصل الخصومة الذی استدللنا علی اعتباره فیه بالاقتصار علی القدر المتیقَّن فی مخالفة الأصل وإنما دل الدلیل علیه کما تقدّم فی منصب القضاء الذی قلنا إنه یُحتمل لأهمیته أن یُعتبر فیه ما لا یُعتبر فی الأول (1) .

إذاً .. هناک فرق بین الشروط من حیث دلالة الدلیل علی اعتبار بعضها واشتراطه فی القضاء کالعدالة ، وعدم دلالته علی اعتبار بعضها الآخر فتمّ الالتزام به من باب الاقتصار علی القدر المتیقَّن فی مخالفة الأصل کالاجتهاد .. وکلامنا فی التنازل عن شرطیة هذا الأخیر وعباراتهم تشیر إلی أن هناک حاجة لنصب قضاة وإن کانوا فاقدین لبعض الشرائط المعتبرة لعدم وجود العدد الکافی من القضاة الواجدین لتمام الشرائط بنحو ترتفع به الضرورة وتُسدّ به الحاجة ، وهذه القضیة یمکن إدراکها وإثباتها إذا التفتنا إلی خصوصیاتها .. ولتوضیحها نقول :

إنه لا إشکال فی ضرورة وجود قضاة یتولّون فصل الخصومات وحلّ النزاعات أو فقل ضرورة وجود سلطة قضائیة تتولّی إدارة شؤون القضاء لأن عدم ذلک یؤدّی فی الحقیقة إلی زیادة الخصومات والنزاعات بین الناس مما یترتّب علیه ما لا یُحمد عقباه من إراقة الدماء وانتهاک الأعراض واستباحة الأموال وبالجملة شیوع الظلم بین الناس وحکومة شریعة الغاب بینهم .. ومن هنا تنشأ الحاجة المُلحّة والضرورة المُلجئة إلی وجود قضاة یأخذون علی عاتقهم فصل الخصومات وفضّ المنازعات ولا بد أن یکون عددهم متناسباً مع عدد السکّان وحجم الخصومات بینهم وإلا فلو لم یکن ثمة قضاة مؤهّلون تُسدّ بهم الحاجة وتُرفع بهم الضرورة أو وُجدوا ولکن بعدد قلیل لا یفی بذلک ولا یمنع من وقوع المحاذیر المتقدمة ودار الأمر بین الإصرار علی اعتبار جمیع الشرائط وما ینتج عنه من إلغاء تعیین القضاة غیر المستجمعین لها أو فقل إلغاء السلطة القضائیة فی المجتمع وبین التنازل عن بعض هذه الشرائط فی حالات الضرورة والحاجة فتقام سلطة قضائیة فی هذا المکان أو ذاک ویُعیّن القضاة حتی لا تقع الفوضی ویختلّ النظام فالظاهر (2) من کلمات فقهائنا (رض) الإشارة إلی أن العقل یحکم بلزوم الالتزام بالثانی أعنی التنازل فی حالات الضرورة عن بعض هذه الشرائط المعتبرة قطعاً بالدلیل فضلاً عن مثل الاجتهاد الذی لم یدل دلیل علی اعتباره .

ص: 148


1- (4) أی تولّی القضاء فی خصومة معیّنة جزئیة .
2- (5) جواب قوله : (وإلا فلو لم یکن ثمة قضاة مؤهّلون ..) .

وبعبارة أخری : إن هناک أموراً لا ینبغی التشکیک فیها :

أولها : حفظ النظام فإن العقل یُدرک ضرورته والشارع یهتمّ به ولا یرضی بتفویته .

والثانی : توقّف حفظ النظام علی جملة من الأمور منها وجود سلطة قضائیة تتمثّل بالقضاة المعیّنین الذین یمنعون الظلم ویُحقّون الحقّ .

والثالث - وهو المهمّ : أن ما یتوقف علیه حفظ النظام لیس هو تعیین القضاة وإقامة السلطة القضائیة فحسب بل وإنفاذ أحکامهم علی وجه تکون ملزمة للأطراف المتخاصمة والجهات المتنازعة وإلا فإن مجرد تعیین القضاة من دون ذلک لا یُجدی فی رفع ما ذُکر من المحاذیر الموجبة لاختلال النظام ، ومهمة الحاکم والوالی وإن کانت هی تعیین القضاة إلا أنه لیس من شأنه إنفاذ أحکامهم شرعاً وإنما الذی یتولّی ذلک هو الشارع المقدّس ویُستکشف ذلک منه بضمّ المقدمات الثلاثة المذکورة بعضها إلی بعض فإنه إذا کان حفظ النظام واجباً عقلاً وشرعاً وهو یتوقف علی تعیین القضاة وأن هذا بمجرده لا یکون مُجدیاً فی ذلک بل لا بد من إنفاذ أحکامهم علی وجه ملزم وأن هذا من شأن الشارع المقدّس یُستکشف من ذلک إنفاذه لها شرعاً .

وعلی ذلک فلو لم ینحفظ النظام بتعیین القضاة الواجدین للشرائط لقلّتهم فی کل الأزمنة وتوقّفَ علی تعیین قضاة غیر مستجمعین لتمام الشرائط وتولّی الحاکم تعیینهم فإن نفس هذا الأمر یدل علی نفوذ حکمهم من قبل الشارع لأن حفظ النظام - الذی لا یرضی الشارع بالإخلال به - یتوقف علی ذلک ، وأما إذا کان تعیین واجدی الشرائط جمیعاً کافیاً فلا تصل النوبة حینئذ إلی تعیین قضاة فاقدین لبعض الشرائط کما هو واضح .

ص: 149

هذا .. ولکن ما تقدّم (1) مشروط بشرطین :

الأول : أن تکون هناک ضرورة أو حاجة أو مصلحة علی اختلاف عبائرهم فی ذلک - لتعیین هؤلاء وإلا فلو فُرض أن النظام ینحفظ بدون تعیینهم فلا مجال حینئذ لهم .

الثانی : إذن المجتهد لمن کان فاقداً لبعض الشرائط فی تولّی القضاء ، وتخریجه أن الدلیل الذی یُعتمد علیه فی المقام دلیل لبّی - ولیس دلیلاً لفظیاً حتی یُتمسّک بإطلاقه - فیُقتصر فیه حینئذ علی القدر المتیقَّن وهو نفوذ القضاء بعد أخذ إذن المجتهد .

هذا ما یمکن أن یقال فی هذه الجهة .

الجهة الثالثة : إنه بعد الفراغ عن اشتراط الاجتهاد - فی خصوص المنصب أو فی الأعمّ منه ومن نفس القضاء وفصل الخصومة فهل الاجتهاد المعتبر هو الاجتهاد المطلق أم یکفی الاجتهاد المتجزّی ؟

وللتجزّی فی الاجتهاد معانٍ ثلاثة :

الأول : التجزّی فی مقدمات الاجتهاد .

الثانی : التجزّی فی نفس الاجتهاد باعتبار کونه ملکة .

الثالث : التجزّی فی إعمال ملکة الاجتهاد لاستنباط الأحکام الشرعیة .

أما فالأول : فلا ریب أنه قضیة یمرّ بها کل من یسلک طریق الاجتهاد ویطوی المراحل إلیه (2) ، وغیرُ خافٍ أن هذا لیس محل کلامنا فإن من الواضح أنه لا یجوز له أن یقضی بناءً علی اعتبار الاجتهاد - لأنه فی الطریق إلی الاجتهاد ولم یُصبح مجتهداً بعدُ فلا ینطبق علیه أنه نظر فی حلالهم وحرامهم (علیهم السلام) وإنما معرفته لها کمعرفة أیّ عامی آخر ولیست معرفة عن فکر وإعمال نظر لأنه لم یصل إلی مرتبة الاجتهاد ولم یحصل علی ملکته وإن کان ثمة فرق بینه وبین غیره ممن لم یسلک هذا السبیل .

ص: 150


1- (6) أی من جواز تعیین فاقدی بعض الشرائط .
2- (7) وقد یُقال علی المتلبّس بهذه المرحلة : المجتهد المتجزّی کما فی بعض الإطلاقات . (منه دامت برکاته)

وأما الثانی : فیتحقّق بافتراض کون الشخص مجتهداً فی باب دون باب آخر کما لو کان ذا ملکة فی باب المعاملات دون أن یکون کذلک فی باب العبادات ؛ وهل یمکن فرض مثل هذا فعلاً أم لا ؟

سیأتی الکلام فیه إن شاء الله تعالی .

القضاء-المسالة-5-المقام الاول-النصب العام-الجهة الثانیة-شرائط نصب القاضی-8-الاجتهاد بحث الفقه

(بحث یوم الأربعاء 27 ذ ق 1432 ه 29)

هاهنا أمور ینبغی التنبیه علیها تتعلّق ببحوث سابقة :

الأمر الأول : تقدّم أنه قد استُدلّ بعموم أدلة ولایة الفقیه علی جواز أن یأذن الفقیه لغیر الواجد للشرائط فی تولی القضاء وتقدّم أیضاً أنه قد نوقش فیه من جهة أنّا لو سلّمنا عموم أو إطلاق أدلة ولایة الفقیه فهذا یتوقف علی أن هذا الحق ثابت للإمام (علیه السلام) أولاً حتی یثبت بتلک الأدلة للفقیه ولیس من الواضح ثبوته له (علیه السلام) وذلک لأن علی تقدیر کون الاجتهاد شرطاً فحاله حال الأمور الأخری المعتبرة شرطاً فی القضاء کالذکوریة والعلم والعدالة التی لا إشکال فی اعتبارها ومن الواضح عدم ثبوت الولایة للإمام (علیه السلام) علی تغییرها .

وهذا المعنی مذکور فی کلمات معظم علمائنا (قدهم) :

منهم المحقق العراقی (قده) حیث یقول : " وأما مرحلة إعطاء المنصب فهو فرع تمامیة مقدمتین : إحداهما قابلیة المقلّد للتصدّی له (1) بحسب الحکم الجعلی الإلهی .. [إلی أن یقول] .. أما المقدمة الأولی فهو فرع إثبات عدم دخل الاجتهاد فی أصل موضوع القضاء شرعاً ، کیف ! وعلی فرض دخله فیه لا یبقی مجال تغییر مثل هذا الحکم الإلهی حتی من الإمام فضلاً عن نائبه " .

ص: 151


1- (1) أی للقضاء .

ومنهم المحقق النراقی (قده) حیث یقول : " وهل یجوز له (1) التولی من جانب المجتهد وبإذنه الخاص؟ .. [إلی أن یقول] .. وتوهّم أن عموم الولایة - فی ما للإمام فیه الولایة - ثابت للمجتهد ومنها الإذن الخاص فی القضاء مدفوعٌ بأن للإمام الإذن للأهل والقابل فالجواز للمجتهد أیضاً یکون مقصوراً علی من له الأهلیة " (2) .

ومنهم المحقق الإشتیانی (قده) حیث یقول : " وفیه أن الاستدلال بالعمومات لا یتم إلا بعد إثبات صغری وهی قولک إن نصب الإمام (علیه السلام) للمقلد کان جائزاً .. [إلی أن یقول] .. أما الصغری فللمنع من جوازه للإمام بعدما عرفت من کون الاجتهاد شرطا مشروعاً فبعد إثبات کون اشتراط الاجتهاد فی القاضی حکماً إلهیاً نقول بعدم جواز تغییره للإمام (3) " (4) .

وهکذا عبارات غیرهم فالقضیة إذاً واضحة ، نعم .. هذا الذی یقولونه - وهو الصحیح - لا ینافی النتیجة التی انتهینا إلیها من جواز تولّی غیر المجتهد للقضاء (5) فإن کلامهم إنما هو بحسب العناوین الأولیة فیقال لیست هناک ولایة لأحد علی تغییر الحکم الشرعی وخصوصاً الإمام (علیه السلام) لأنه هو الحافظ لهذه الشریعة والمنفّذ لها ، وأما تلک النتیجة فهی بحسب العناوین الثانویة أی فی حالة الضرورة أو التقیة أو المصلحة الملزمة حیث تقتضی التنازل عن شرط من الشرائط المعتبرة فإن الضرورات تبیح المحظورات .

ص: 152


1- (2) أی لغیر المجتهد .
2- (3) مستند الشیعة مج17 ص26 .
3- (4) فضلاً عن المجتهد .
4- (5) کتاب القضاء للشیخ الإشتیانی ص12 .
5- (6) ذُکر ذلک فی بحث یوم الاثنین 25 ذ ق ص3 وذُکرت کلمات لبعض علمائنا الأعلام تأییداً فراجع !

الأمر الثانی : تقدّم أن الإذن للقضاة فی زمان النبی والوصی (علیهما السلام) لا یلازم الإذن للمقلد فی زماننا فلا یمکن الاستدلال علی جواز الإذن للمقلد فی زماننا بصدور الإذن من النبی والوصی (علیهما السلام) للمقلّد فی زمانهما وتقدم أیضاً عدم التسلیم بکون المنصوبین من قبلهما (علیهما السلام) مقلّدین بالمعنی المبحوث عنه فی المقام وإنما الذی یغلب علی الظن أنهم کانوا یتلقّون القواعد العامة فی باب القضاء سماعاً من المعصوم - أو ما هو بمنزلة السماع منه - ثم یحکمون بما سمعوه منه فیتلخّص دورهم فی تطبیق تلک الکبریات علی صغریاتها وترتیب الأحکام علی موضوعاتها وتشخیص الموضوعات وربما یمکن تسمیة ذلک اجتهاداً ولکن بما یناسب ذلک الزمان من حیث کونه قضیة سهلة للقطع الصدوری والوضوح الدلالی فلیس هناک ظهورات متعددة کما أنه لیس لدیهم مشکلة فی استظهار المعنی من النصّ .

وهاهنا نقول : لو تنزّلنا عن ذلک وسلّمنا بکونه مقلّداً إلا أننا نقول إنه مقلّد من نوع خاص فهو مقلّد قد سمع من الإمام (علیه السلام) بنفسه أو بالواسطة - أحکام القضاء والقواعد العامة فی هذا الباب فمثل هذا الذی أذن له المعصوم (علیه السلام) أن یقضی بما یعلم أنه هو حکم الله الذی أنزله لا یصحّ أن نقیس علیه مقلّداً یأخذ أحکامه الشرعیة تعبّداً من المجتهد الذی بدوره یأخذها تعبّداً من الأدلة الشرعیة فجواز الإذن لذاک لا یلازم جواز الإذن لهذا .

الأمر الثالث : لا یخفی أنه لیس الغرض مما تقدّم إثبات أن أولئک المنصوبین فی زمان النبی (صلی الله علیه وآله) والوصی (علیه السلام) کانوا مجتهدین فعلاً (1) ولا الغرض القبول بکونهم مقلّدین من نوع خاص (2) وإنما الغرض نفی کونهم مقلّدین بالمعنی المبحوث عنه فی المقام الذی یلازم وجود المجتهد وإثبات أن غایة شأنهم أنهم سمعوا من المعصوم (علیه السلام) حکماً وقضوا بما سمعوه .

ص: 153


1- (7) وإن کان بالإمکان دعوی ذلک بالمعنی الذی تقدّم .
2- (8) فإن ذلک کان علی مستوی التنزّل والتسلیم .

هذا .. وقد کان الکلام فی الجهة الثالثة وهی مسألة التجزّی فی الاجتهاد وهناک خلاف فی کفایته فی القضاء - ونظیر هذا یُطرح أیضاً فی مقام الإفتاء إلا أنه ربما جُزم بعدم الکفایة فیه وقد نسب غیرُ واحد إلی المشهور بین الأصحاب القول بعدم جواز القضاء للمتجزّی ونُقل عن مفتاح الکرامة دعوی الإجماع علی عدم الکفایة وعن بعضهم أیضاً (1) الاتفاق علی عدم کفایة التجزّی حتی علی تقدیر کفایته فی باب الإفتاء ، وفی المقابل یُنسب إلی العلامة فی القواعد وفی جملة من کتبه القول بکفایته مطلقاً وعن بعضهم القول بکفایته علی تقدیر کفایته فی باب الإفتاء .

هذا .. وقد کنّا ذکرنا أنه لا بد - قبل ذکر الأدلة - من تنقیح معنی التجزّی المبحوث عنه فی المقام وهو معانٍ ثلاثة :

الأول : التجزّی فی مقدمات الاجتهاد .

الثانی : التجزّی فی الاستنباط أی التجزّی فی نفس الاجتهاد باعتبار کونه ملکة - .

الثالث : التجزّی فی الملکة أی التجزّی فی إعمال ملکة الاجتهاد لاستنباط الأحکام الشرعیة - .

أما فالأول : فقد ذکرنا أنه لا ریب فی کونه قضیة یمرّ بها کل من یسلک طریق الاجتهاد ، وقلنا إن هذا لیس محل کلامنا فإن من الواضح أنه لا یجوز له بناءً علی اعتبار الاجتهاد - أن یقضی لأنه فی الطریق إلی الاجتهاد ولم یُصبح بعدُ مجتهداً فلا ینطبق علیه أنه نظر فی حلالهم وحرامهم (علیهم السلام) .

ص: 154


1- (9) والظاهر أنه المحقق السید محسن الکاظمی صاحب کتاب المحصول وکتاب وسائل الشیعة فی الفقه (منه دامت برکاته) .

وأما الثانی (1) : فالمقصود به الشخص القادر علی استنباط بعض الأحکام دون بعض لا لعدم الملکة بل لأحد أمرین :

الأول : عدم إحاطته بما یُمثّل مبادئ تصدیقیة یتوقف علیها الاستنباط فی تلک الأحکام کما لو کان محیطاً ببعض المبادئ التصدیقیة التی تمکّنه من الاستنباط فی أحکام المعاملات دون العبادات أو کانت لدیه إحاطة ببحث الظواهر ولکن لم تکن لدیه إحاطة ببحث المستقلاّت العقلیة فهو قادر علی استنباط الأحکام التی تستند إلی الظهور ولکنه غیر قادر علی استنباط الأحکام التی تستند إلی الملازمات العقلیة .

الثانی : عدم توفّر العناصر اللازمة للاستنباط فی تلک الأحکام لدیه کما لو لم تکن روایات باب المعاملات متوفّرة لدیه بل کان الموجود عنده الروایات المرتبطة بباب العبادات فهو قادر علی استنباط الأحکام المتعلّقة بباب المعاملات وغیر قادر علی استنباط الأحکام المتعلّقة بباب العبادات فمثل هذا یُسمی بالمجتهد المتجزّی .

ولا بد فی هذا المعنی للتجزّی من افتراض حصول الشخص علی الملکة أی حصوله علی القدرة علی الاستنباط .

وأما الثالث (2) : فالمقصود به من تکون له ملکة الاستنباط فی باب ولیست لدیه ملکة الاستنباط فی باب آخر حتی لو فُرضتْ إحاطته بمبادئه التصدیقیة وتوفّر عناصر الاستنباط لدیه .

وقد وقع الکلام فی إمکان هذا القسم فذهب کثیر إلی عدم إمکانه باعتبار بساطة مفهوم الملکة حیث یدور أمرها بین الوجود والعدم فتوجد عند وجود عللها وأسبابها وإلا فلا تحصل وإذا وجدت فهی توجد فی جمیع الأبواب ولا تختصّ بباب دون باب ولا تتبعّض بلحاظ الأبواب .

ص: 155


1- (10) أی التجزّی فی الاستنباط .
2- (11) أی التجزّی فی نفس الملکة .

وفی المقابل ذهب بعض إلی إمکان تبعّضها واستدلّ بشهادة الوجدان بأنّا نجد العالم النحریر قد یکلّ فی بعض الأحیان عن الاستنباط فی مسألة من المسائل باعتبار تزاید تشعباتها وکثرة المتعارضات فی روایاتها فهو وإن کان ذا ملکة فی الاستنباط إلا أنه ذو ملکة فی غیر تلک المسألة وإلا لما عجز عن الاستنباط فیها وقالوا إن هذا أمر ملاحظ بالوجدان ولا یمکن إنکاره .

وکیف کان فالصحیح فی المقام أن یقال إن الظاهر کفایة التجزّی فی باب القضاء بالمعنی الأول من المعنیین الأخیرین بعد فرض وجود الملکة (1) وبعد فرض الإحاطة بما یتولاّه من القضاء .

وبعبارة أخری : أننا نکتفی فی باب القضاء بکون القاضی عالماً بالحکم الذی یقضی به عن اجتهاد ولا نشترط أکثر من ذلک فی الأحکام الأخری غیر المرتبطة بالقضاء (2) فلو فرضنا - مثلاً أنه لم تتوفر له العناصر اللازمة للاستنباط فی باب الصوم - الذی هو أجنبی عن باب القضاء - إلا أنه کان لدیه العناصر اللازمة للاستنباط فی باب القضاء واستنبط الأحکام التی یرید أن یقضی بها من أدلتها بما لدیه من الملکة فإن هذا المقدار فی باب القضاء کافٍ .

وسیأتی الاستدلال علی ما ذکرناه إن شاء الله تعالی .

القضاء-المسألة-5-المقام الاول-النصب العام-الجهة الثانیة-شرائط نصب القاضی-8-الاجتهاد-التجزی فی الاجتهاد بحث الفقه

(بحث یوم السبت 1 ذح 1432 ه 30)

ذکرنا فی البحث السابق أن المتجزّی تارة یراد به القادر علی استنباط بعض الأحکام دون بعض لعدم الإحاطة بجمیع المسائل والعلوم التی یتوقف علیها تحقق الاجتهاد فی جمیع المسائل أو لعدم تهیّؤ وسائل الاستنباط وعناصره بالنسبة إلی بعض المسائل وفی هذا المعنی من التجزّی یُفترض وجود الملکة أی القدرة علی استنباط جمیع الأحکام لکنه لم یستنبط جمیع الأحکام لأحد السببین المذکورین (3) وقد سُمّی هذا بالمتجزّی فی الاستنباط .

ص: 156


1- (12) أی القدرة علی الاستنباط - کما هو المفروض فعلاً فی هذا القسم - .
2- (13) أی من کونه عالماً عن اجتهاد فیها .
3- (1) من عدم الإحاطة بجمیع المسائل والعلوم التی یتوقف علیها تحقق الاجتهاد فی جمیع المسائل أو عدم تهیّؤ وسائل الاستنباط وعناصره بالنسبة إلی بعض المسائل .

وأخری یراد به عدم اطّراد الملکة فی جمیع المسائل بأن کانت له القدرة علی الاستنباط فی بعض المسائل ولکن لم تکن له القدرة علی الاستنباط فی البعض الآخر .

وفی هذا الأخیر ذکرنا أن جماعة ذهبوا إلی استحالته من جهة کون الملکة أمراً بسیطاً دائراً بین الوجود والعدم غیر قابل للتجزّؤ إذا تحققت موجباته تتحقّق بالنسبة إلی جمیع الأحکام وإلا لم یتحقّق بالنسبة إلی جمیعها فنسبته إلی الجمیع نسبة واحدة ولا یُتصوّر وجوده فی بعض المسائل دون البعض الآخر .

ولکن الصحیح تبعاً للمحققین إمکان التجزّی فی الملکة علی نحو إمکانه فی الاستنباط فمعنی التجزّی فی الملکة هو القدرة علی الاستنباط فی بعض الأحکام وعدم القدرة علیه فی البعض الآخر وهذا الأمر لیس محالاً کما ادُّعی بل هو واقع کما یُلاحظ بالوجدان أن بعض المسائل لسهولة مقدماتها وتیسُّر مدارکها یکون المتصدّی لها قادراً علی استنباط الحکم فیها فی حین أن بعض المسائل الأخری لصعوبة مقدماتها وتعسُّر مدارکها وکثرة المتعارضات فی أدلّتها وتعدد الأقوال فیها یصعب علی المتصدّی لها أن یصل فیها إلی نتیجة حتی مع فرض توفر جمیع وسائل الاستنباط لدیه وعناصره عنده فهو لیست له القدرة علی استنباط مثل هذه المسائل وإن کانت له القدرة علی استنباط مسائل أخری وهذا أمر بعد ثبوته بالوجدان ولحاظه بالعیان فلا ننازع فی مرحلة إثبات إمکانه ورفع استحالته بل عن بعضهم (1) دعوی الضرورة علیه وأنه لا بد أن یمرّ به کل من یطوی المراحل فی سلّم الاجتهاد فهو یبتدئ بالدائرة الضیّقة للاستنباط أولاً ثم یتطوّر شیئاً فشیئاً إلی أن یصل إلی مرحلة الاجتهاد المطلق .

ص: 157


1- (2) وهو صاحب الکفایة (قده) .

ومن هنا لا یکون الفرق بین المجتهد المطلق والمتجزّی راجعاً إلی أن الملکة موجودة عند الأول بتمامها وعند الثانی بنقصان مما یعنی قابلیة الملکة للتبعّض والتجزّو بل الفرق بینهما فی الحقیقة یکمن فی سعة دائرة القدرة علی الاستنباط وضیقها فثمة مجتهد له القدرة علی الاستنباط فی مساحة من المسائل واسعة وآخر تتحدّد قدرته فی مساحة من المسائل ضیّقة .

وعلی ذلک فالفرق بینهما أن المتجزّی علی المعنی الأول (1) یکون هو صاحب الملکة علی الاستنباط فی جمیع المسائل إلا أنه لم یستنبط إلا بعض المسائل دون البعض الآخر لأحد السببین المذکورین آنفاً (2) ، وأما علی المعنی الثانی (3) فیُفترض فیه عدم وجود الملکة لدیه بمعنی عدم قدرته علی الاستنباط إلا فی بعض المسائل دون البعض الآخر .

وبعد ما تقدّم فهل یُمکن الالتزام بکفایة التجزّی بالمعنی الأول فی القضاء مع افتراض کون القاضی عالماً بالحکم الشرعی عن اجتهاد بأن تکون له القدرة علی الاستنباط فی باب القضاء فی الأحکام التی یرید أن یقضی بها مع کونه قد استنبطها فعلاً ؟

الظاهر کفایة هذا المقدار وإن لم یکن کذلک بالنسبة إلی الأحکام الأخری التی لا ترتبط بباب القضاء فلا یُشترط فی هذا المستنبط المتجزّی أن یکون عالماً بتمام الأحکام الأخری غیر المرتبطة بباب القضاء عن اجتهاد غایة الأمر أن لا یکون مقلّداً فی الواقعة التی یرید الحکم فیها سواءً کان غیر مقلّد فی غیرها من الوقائع أو کان مقلّداً فیها .

ص: 158


1- (3) أی التجزّی فی الاستنباط .
2- (4) أی إما لعدم إحاطته بالعلوم التی یتوقف علیها الاستنباط فی کل المسائل أو لعدم توفر أدوات الاستنباط إلا فی بعض المسائل وکل منهما مع فرض وجود الملکة والقدرة علی الاستنباط لدیه .
3- (5) أی التجزّی فی الملکة .

والحاصل أنه قد اشتُرط فی المتجزّی بالمعنی الأول أن یکون قادراً علی الاستنباط فی جمیع المسائل لکنه لم یستنبط فعلاً إلا الأحکام المرتبطة بباب القضاء فمثلُ هذا یجوز له القضاء لکونه مجتهداً وذا ملکة وقدرة علی الاستنباط فی جمیع المسائل غایته أنه لم یستنبط فعلاً إلا الأحکام المرتبطة بباب القضاء بل هذا المقدار کافٍ فی الجواز حتی لو کان غیر قادر علی الاستنباط فی المسائل الأخری المرتبطة بباب القضاء فإن المهمّ فی المقام کما ذکرنا - أن لا یکون القاضی مقلّداً فی المسألة التی یرید أن یقضی بها وإن لم یجتهد فی المسائل الأخری .

واعتُرض علیه بعدم کفایة ذلک وحده حتی لو فُرض کون المتجزّی ممّن له أهلیة الفتوی بناءً علی التفریق بین بابی الإفتاء والقضاء - بل یحتاج إلی الإذن (1) وهو منفی عن المتجزّی باعتبار ظهور أخبار الإذن والنصب العام فی خصوص المجتهد المطلق وغیره لم یُؤذن له فی تولّی القضاء ولم یُجعل قاضیاً بالنصب العام وإن فُرض کونه أهلاً للفتوی والقضاء کما تشهد بذلک المقبولة التی هی أهم أخبار الإذن العام فی القضاء حیث یقول (علیه السلام) فیها : " نظر فی حلالنا وحرامنا وعرف أحکامنا " إذ لیس المراد به النظر فی بعض حلالهم وحرامهم ولا معرفة بعض أحکامهم (علیهم السلام) بناءً علی تعریف النظر بالاجتهاد والمعرفة بالمعرفة الاجتهادیة کما تقدّم بل المراد جمیع الحلال والحرام بمقتضی ما یُفهم من إضافتهما إلی ذواتهم المقدسة والکلام نفسه یقال فی روایة أبی خدیجة - بطریقها الضعیف - حیث ورد فیها التعبیر بقوله : " عرف حلالنا وحرامنا " وعلی هذا فالمجتهد المتجزّی لم یُؤذن له بالقضاء فهو غیرُ جائزٍ له ولا نافذٌ منه .

ص: 159


1- (6) وهذه خصوصیة معتبرة فی باب القضاء .

ولکن یمکن دفع هذا الاعتراض بوجوه :

الأول : صعوبة الالتزام بهذا الظهور المدّعی فی الروایتین (1) لأن لازمه هو الالتزام بأن یکون من جاز له القضاء وأُذن له فیه خصوص العارف بجمیع الحلال والحرام عن اجتهاد مع أنه صعب التحقق خارجاً إذ لیس هناک مجتهد مطلق عارف بجمیع الأحکام - علی نحو الاستیعاب المنطقی والشمول الدقّی - عن اجتهاد وإن کان فهو من الندرة بمکان بحیث یُستبعد کونه متعلّقاً للإذن .. مضافاً إلی عدم القائل به حتی ممن یشترط الاجتهاد المطلق وإنما یُکتفی منه بمعرفته لمعظم الأحکام عن اجتهاد فإن معرفة الأحکام والعلم بها مأخوذان عادةً علی نحو الطریقیة - بحسب الارتکاز العرفی - للوصول إلی الحکم الذی یریده الشارع ، ومن الواضح - بحسب الفهم العرفی - أنه لیس لمعرفة الأحکام غیر المرتبطة بباب القضاء عن اجتهاد دخل فی الوصول إلی الحکم فی تلک الواقعة والقضاء بذلک الحکم فیها حتی تُشترط معرفته بتلک الأحکام عن اجتهاد ولا یُکتفی بعلمه عن اجتهاد فی باب القضاء أو فی خصوص الحکم الذی یقضی به .

ولأجل ذلک فالالتزام بهذا الظاهر صعب للغایة فلا بد من حمل الروایة علی معرفة أحکامهم (علیهم السلام) فی الجملة أو علی معرفة أحکامهم فی باب القضاء ونتیجة ذلک أن لا مشکلة فی افتراض شمول الإذن للمتجزّی .

الوجه الثانی : لو تنزلّنا وسلّمنا ظهور الروایتین باعتبار الاجتهاد المطلق فهما تدلان علی اعتباره فی النصب العام فمن نصبه الإمام (علیه السلام) بالنصب العام اعتبر فیه أن یکون مجتهداً ، وأما النصب الخاص فی واقعة معیّنة فلا یُستفاد من تلک الأدلة اعتباره فیه فلا تنافی إذاً بین اعتبار الاجتهاد المطلق فی النصب العام وعدم اعتباره فی النصب الخاص .

ص: 160


1- (7) أی مقبولة ابن حنظلة وروایة أبی خدیجة بطریقها الضعیف .

الوجه الثالث : إن فی مقابل ذینک الروایتین روایة أخری ظاهرها کفایة التجزّی فی محلّ الکلام وهی روایة أبی خدیجة بطریقها الصحیح الذی ینقله الشیخ الصدوق (قده) لأن الوارد فیها قوله (علیه السلام) : " یعلم شیئاً من قضایانا " أو " من قضائنا " فإن المفهوم منها بقرینة قوله : (شیئاً) هو العلم ببعض الأحکام فتکون ظاهرة فی الاکتفاء بذلک وهی علی حدّ المقبولة واردة فی النصب العام ولسانها نفس اللسان .

إن قیل : إنه بناءً علی ما تقدّم یحصل نوع من التنافی بین الظهورین لکون المراد فی المقبولة هو العلم بجمیع الأحکام والمراد فی المعتبرة العلم ببعض الأحکام .

فإنه یقال : یمکن الجمع بینهما بالتصرّف بظاهر المقبولة بحمله (1) علی إرادة معرفة أحکامهم فی الجملة لا بالجملة - وهذا أهون بکثیر من التصرّف بظاهر المعتبرة بحمله علی إرادة معرفة جمیع الأحکام لإبائه عنه إذ لا یمکن حمل قوله : (شیئاً من قضایانا) علی إرادة العموم فیرتفع التنافی بین الروایتین حینئذ لاتّفاقهما فی کفایة معرفة بعض أحکامهم (علیهم السلام) ولا یُشترط معرفة جمیع الأحکام .

ثم إن روایات المقام جمیعها ناظرة إلی النصب العام فإذا ناقشنا فی استفادة الاجتهاد المطلق منها وأثبتنا کفایة التجزّی وکفایة معرفة بعض الأحکام فحینئذ یثبت فی النصب العام عدم اشتراط الاجتهاد المطلق فمن ینصبه الإمام (علیه السلام) بالنصب العام لا یشترط فیه إلا معرفة بعض الأحکام عن اجتهاد ، وأما فی باب النصب الخاص فهل یجوز للمجتهد المطلق أن یأذن للمتجزّی فی القضاء وفصل الخصومة فی واقعة معیّنة أم لا ؟

ص: 161


1- (8) أی ظاهر المقبولة .أأأ

سیأتی الکلام فیه إن شاء الله تعالی .

القضاء-المسالة-5-المقام الاول-النصب العام-الجهة الثانیة-شرائط نصب القاضی-8-الاجتهاد-التجزی فی الاجتهاد-9-الحریة بحث الفقه

(بحث یوم الأحد 2 ذح 1432 ه 31)

تبیّن مما سبق أن الصحیح کفایة التجزّی فی القاضی سواء أکان منصوباً بالنصب العام أم لم یکن أما کفایته فی الأول فباعتبار أن الأدلة الدالة علی النصب العام لا یُستفاد منها اشتراط معرفة جمیع الأحکام عن اجتهاد : أما المعتبرة فلأن الوارد فیها التعبیر بقوله : (شیئاً من قضایانا) ودلالته علی کفایة معرفة البعض واضحة ، وأما المقبولة فلما تقدّم من أنه لو سُلّم ظهورها الابتدائی فی معرفة جمیع الأحکام إلا أنه یصعب الالتزام بهذا الظهور لندرة مورده خارجاً مما یُستبعد کونه متعلّقاً للإذن فلا بد من حملها علی معرفة الأحکام فی الجملة عن اجتهاد .

وأما کفایته فی الثانی (1) فهو من باب أولی لأن الاهتمام بالنصب العام فی نظر الإمام (علیه السلام) أعظم لسعة مورده زماناً ومکاناً قیاساً بالنصب الخاص الذی یتحدّد بحدود ضیّقة من حیث الزمان والمکان .

وما انتهینا إلیه من کفایة التجزّی فی القضاء مطلقاً (2) هو الموافق لجملة من علمائنا منهم العلامة فی التحریر والفوائد والشهیدین فی الدروس والروضة والمحققین السبزواری فی الکفایة والقمی فی الغنائم وهو الموافق کذلک للشیخ الأعظم فی قضائه ولآخرین .

نعم .. ذکر المحقق فی الشرایع فی صفات القاضی أنه: " لا بد أن یکون عالماً بجمیع ما ولیه " (3) ، وقد حملها الشهید فی المسالک علی اعتبار الاجتهاد المطلق حیث قال : " فلا یکفی اجتهاده فی بعض الأحکام دون بعض علی القول بتجزّی الاجتهاد " (4) .

ص: 162


1- (1) أی غیر المنصوب بالنصب العام .
2- (2) أی سواءً فی النصب العام او الخاص .
3- (3) الشرایع مج4 ص860 .
4- (4) مسالک الأفهام مج13 ص328 .

ولکن الظاهر أن هذا الفهم (1) محلّ تأمل بل منع لاحتمال إرادة المحقق الاجتهاد فی خصوص ما ولیه من القضاء لا مطلقاً ولیس فی العبارة ما یشیر إلی إرادة الاجتهاد المطلق ، وقد نبّه علی هذا التأمل المحققُ النراقی فی مستنده والشیخ الأعظم فی قضائه حیث ذکرا أن المقصود بالعبارة هو أن یکون عالماً بجمیع أحکام الوقائع التی یرید أن یقضی بها لا أن یکون عالماً بجمیع الأحکام حتی غیر المرتبطة بباب القضاء لتکون دالة علی اشتراط الاجتهاد المطلق وعلیه فلا یمکن أن یُنسب إلی المحقق اشتراط ذلک .

هذا تمام الکلام فی الشرط الثامن المذکور فی المتن وهو الاجتهاد .

ثم ذکر السید الماتن (قده) عقیب هذا الشرط قوله : " بل الضبط علی وجه " أی یُعتبر فی القاضی أن یکون ضابطاً ، والمقصود بالضبط - کما یظهر من کلماتهم - هو عدم غلبة النسیان ویعنی فی المقام أن لا یکثر من الناظر فی القضایا والخصومات نسیان تفاصیلها .

واستُدلّ لاشتراط الضبط بانصراف أدلة نصب القاضی عن غیر الضابط ، ولم یُذکر هذا الشرط مستقلاًّ بل جُعل فی ضمن شرط الاجتهاد کما فی المتن وکذا فی الشرایع حیث قال فی صفات القاضی وشرائطه : " ولا بد أن یکون عالماً بجمیع ما ولیه ، ویدخل فیه أن یکون ضابطاً فلو غلب علیه النسیان لم یجز نصبه " (2) ، وعلّل فی الجواهر هذا الإدخال بضرورة عدم الدلیل علیه بالخصوص (3) .

ص: 163


1- (5) أی فهم الاجتهاد المطلق من قبل صاحب المسالک لعبارة المحقق فی الشرایع .
2- (6) شرایع الإسلام مج4 ص860 .
3- (7) جواهر الکلام مج40 ص20 .

والظاهر أن هذا هو الصحیح إذ لا دلیل بالخصوص علی اشتراط أن یکون ضابطاً فإن الغرض منه یتأدّی بغیر الاشتراط کما لو عیّن ثقاة یضبطون عنه تفاصیل القضایا أو تُضبط له بالکتابة ونحوها حتی إذا أراد أن یحکم فی الواقعة حکم فیها علی طبق الوقائع الحاصلة المضبوطة من ثقاته مشافهة أو بالکتابة ونحوها من دون أن یقع فی البین محذور النسیان ومن هنا لا یکون لاشتراط الضبط بحدّه فی القاضی وجهٌ ما دام الغرض منه یتأدّی بطریق آخر یرفع المحذور وربما لهذه الجهة لم یرد دلیل علیه بالخصوص ، ونظیر هذا یقال فی اشتراط البصر والکتابة فإنه مما لا دلیل علی اعتبارهما فی القاضی بالخصوص بل مقتضی الإطلاقات التی یُستند إلیها فی نفوذ حکم القاضی عدم اعتبارهما ولذا نفی اشتراطهما فی المتن .

نعم .. لا إشکال فی لزوم اعتبار تلک الأمور إذا أدّی فقدانها إلی ارتفاع شرط مفروغ من اعتباره کالعدالة أو الاجتهاد ، ومن هذه الجهة اعتُبر الضبط شرطاً کما تقدّم عن الشرایع والمتن - وإن لم یدل علیه دلیل بالخصوص لأن الاجتهاد بالمعنی الذی تدل علیه الأدلة فی القاضی لا یتحقق عندما یکون القاضی کثیر النسیان فی تفاصیل الوقائع التی یرید أن یقضی فیها .

هذا .. ولکن الشیخ الأنصاری (قده) وجّه اشتراط تلک الأمور بما هو أشبه بالتفصیل بین منصب القضاء ونفس القضاء وفصل الخصومة فی واقعة جزئیة معیّنة حیث قال (قده) : " واعلم أنه لا یبعد أن یکون مراد القائلین باشتراط البصر والضبط والکتابة اشتراطها فی تولیة الشخص ولایة عامة فی صقع من الأصقاع بحیث نعلم أن فقدان هذه الأمور موجب لاختلال قضائه فی بعض الوقائع - کما هو کذلک بمقتضی الإنصاف - فهذه من شروط تولیة الإمام له ولیست شروطاً فی صحة کل فردٍ فردٍ من أقضیته " (1) .

ص: 164


1- (8) القضاء والشهادات / الشیخ الأنصاری / ص44 .

وکیف کان فالصحیح ما ذکرناه من عدم الدلیل علی اعتبار هذه الأمور بالخصوص اللهم إلا إذا کان فقدانها مؤثّراً فی ارتفاع شرط مفروغ منه .

ثم قال السید الماتن (قده) عقیب الضبط : " ولا تعتبر فیه الحریة " أی لا یُشترط فی القاضی أن یکون حرّاً فیجوز للعبد أن یکون قاضیاً .

وهذه المسألة من المسائل الخلافیة وقد وافق الماتن (قده) فیها جملة من الفقهاء منهم المحقق فی الشرایع والشهید فی المسالک وغیرهما خلافاً للمشهور بین الأصحاب لاسیما الشیخ الطوسی وأتباعه علی ما ذُکر حیث اشترطوا فی القاضی أن یکون حرّاً .

واستُدلّ لعدم اعتبار الحریة (1) بإطلاق أدلة النصب حیث لم تُقیّد بأن یکون القاضی حرّاً ومقتضی إطلاقها عدم اشتراط الحریة ، وبدعوی عدم الفرق بین الحرّ والعبد فی أمثال ذلک من المناصب الإلهیة .

ومقابل ذلک استُدلّ لاعتبارها بأن القضاء یحتاج إلی الإذن ولم یثبت الإذن للعبد ، وبما دلّ علی عدم نفوذ شهادة العبد فعدم نفوذ حکمه أولی .

هذه عمدة الأدلة التی استدل بها الطرفان ویبدو أن أهمّها دعوی إطلاق أدلة النصب ونفوذ قضاء القاضی ، وهذا الإطلاق إن تمّ یثبت به الإذن للعبد فی القضاء علی حدّ ثبوته به للحرّ من غیر فرق وهذا یُنتج عدم صحة الاستدلال بما ذُکر لمنع قضاء العبد من عدم ثبوت الإذن له لأن مقتضی الإطلاق علی فرض تمامیته - ثبوته له ، وکذلک عدم صحة الاستدلال بما دلّ علی عدم نفوذ شهادته إذ الفرض وجود الدلیل علی نفوذ قضائه ولا تنافی بینهما (2) .

ص: 165


1- (9) أی جواز أن یکون العبد قاضیاً .
2- (10) أی بین نفوذ القضاء وعدم نفوذ الشهادة .

وبعبارة أخری : إن أدلة عدم نفوذ شهادة العبد لیست دلیلاً قطعیاً علی عدم نفوذ قضائه غایة الأمر دعوی ذلک استظهاراً بالأولویة العرفیة وهی لا تقاوم دلالة الدلیل علی خلافها فیتعیّن رفع الید عنها حینئذ .

هذا إذا قلنا بتمامیة الإطلاق فی الأدلة ، وأما إذا ناقشنا فی ذلک فلا مجال حینئذ لما استُدل به علی اعتبار قضائه من دعوی إطلاق الأدلة إذ الفرض عدم تمامیته ، وکذا لا مجال لما استُدل به من دعوی عدم الفرق بین الحرّ والعبد فی المناصب الإلهیة من القضاء وغیره إذ لا جزم بذلک بل المرتکز فی الأذهان وجود الفرق بینهما فی تسنّم هذه المناصب حیث ثبت شرعاً فی جملة منها عدم صلاحیة العبد لها .

إذاً فالمهم فی المقام هو الکلام حول ثبوت الإطلاق فی الأدلة أو عدم ثبوته لیکون التمسّک به ممکناً علی الأول ومحالاً علی الثانی .

فأقول : تقدّم فی بحث اشتراط طهارة المولد طرح احتمال انصراف الإطلاق عن الفاقد لهذا الشرط بنکتة أن ولادة الشخص من زنا تُعدّ بنظر العرف منقصة ولذا لا یری العرف هذا الشخص مناسباً لیتحمّل منصباً من المناصب المهمة ، وهذا البناء من العرف لو لم یشکّل قرینة منفصلة فی الکلام توجب تقیید الدلیل الدال علی النصب بغیر ابن الزنا فلا یتم حینئذ الإطلاق فلا أقلّ من أنه یوجب انصراف الدلیل عنه .

ومثل هذا الکلام یمکن أن یُذکر فی المقام فإن العبودیة بنظر العرف تُعدّ منقصة أیضاً وإن کان اتّجاه الشرع الحنیف إلی أن یُنظر إلی الحرّ والعبد نظرة سواء إلا أن العرف لا یتقبّل هذه المساواة بینهما ، وهذا الأمر إن لم یکن قرینة متّصلة فی الکلام توجب تقیید الدلیل فلا أقلّ من أنه یوجب انصرافه عن العبد فلا یکون الإطلاق تاماً بالنسبة إلیه فلا دلیل حینئذ علی کفایة أن یکون القاضی عبداً .

ص: 166

وهل هذه القرینة من الوضوح بحیث تُستظهر فی مقام فهم الدلیل لتوجب صرفه عن العبد فی محلّ الکلام أو أنها لیست کذلک فلا مانع من شمول الإطلاق له ؟

یمکن دعوی الأول لاسیما مع تأییده بما هو المرتکز فی أذهان المتشرعة من أن العبد قد نُهی عن تسنّم جملة من المناصب کإمامة الصلاة والشهادة فی باب القضاء مما یورث الظن بعدم صلاحیة العبد لتسنّم مثل هذه المناصب ومعه کیف یتأتّی الجزم بعدم الفرق بینه وبین الحرّ ؟!

ومن هنا فلا یبعد فی باب القضاء دعوی اشتراط الحریة بلحاظ الأدلة لاسیما مع ذهاب الشیخ ومتابعیه بل المشهور إلیه ، نعم .. مورد ذلک هو منصب القضاء دون نفس القضاء وفصل الخصومة فی کل واقعة جزئیة و(فی کل فرد فرد من أقضیته) (1) إذ لا دلیل علی اشتراط الحریة فیه ، وما ذُکر من القرینة الارتکازیة العرفیة علی عدم صلاحیة العبد إنما هو بلحاظ منصب القضاء لا بلحاظ أصل القضاء وفصل الخصومة فلا مانع من تولّی العبد القضاء فی الوقائع الجزئیة لعدم اعتبار الحریة شرطاً فی المورد .

القضاء-المسالة-5-المقام الاول-النصب العام-الجهة الثانیة-شرائط نصب القاضی-9-الحریة-تنبیهات بحث الفقه

(بحث یوم الاثنین 3 ذح 1432 ه 32)

تنبیه یرتبط بالبحث السابق :

إن ما استُدل به علی عدم نفوذ قضاء العبد بما دلّ علی عدم نفوذ شهادته باعتبار الملازمة بین عدم نفوذ الشهادة وعدم نفوذ القضاء لو تمّ بمقدماته لصلح أن یکون مقیّداً للمطلقات الدالة علی تسویة العبد بالحر فی أهلیّته لأن یکون منصوباً للقضاء بالنصب العام وکون قضائه نافذاً .. إلا أن الکلام فی تمامیة مقدماته فإن کبراه ممنوعة إذ لا تنافی ثبوتاً بین عدم نفوذ الشهادة ونفوذ القضاء فلا مانع من دلالة الدلیل إثباتاً علی کل منهما ، وأما الصغری فلمعارضة الدلیل الدال علی عدم نفوذ شهادة العبد بالروایات الصحیحة الدالة علی قبول شهادته .

ص: 167


1- (11) علی حدّ تعبیر الشیخ الأنصاری المتقدم ، والأقضیة جمع قضاء ، والضمیر فی أقضیته یرجع إلی القاضی .

والنتیجة عدم إمکان الاستدلال بما دلّ علی عدم نفوذ شهادته علی عدم نفوذ قضائه کی یُجعل مقیّداً للأدلة المطلقة فحینئذ یسلم إطلاقها من التقیید فیصحّ التمسّک بها لعدم اعتبار الحریة .

أما السید الماتن (قده) فالظاهر أنه یستند فی عدم اشتراط الحریة وجواز تولّی العبد للقضاء إلی القطع بعدم الفرق بین الحرّ والعبد فی تسنّم هذه المناصب الإلهیة ومنها القضاء ولولا ذلک (1) لکان اللازم بعد عدم تمامیة المطلقات لدیه هو الرجوع إلی الأصل الذی یقتضی اعتبار کل ما یُحتمل اعتباره ودخالته أخذاً بالقدر المتیقن وهو یقتضی فی المقام اعتبار الحریة .

ولکن دعوی القطع بعدم الفرق لا تخلو من إشکال لاسیما بعد ما ذکرناه من وجود موارد مُنِع العبد فیها شرعاً من التصدّی لها ومناصب لم یُرخّص له بتسنّمها فکیف یتأتی معها دعوی حصول القطع بعدم الفرق .

وکیف کان فالصحیح ما ذکرناه من أن اعتبار الحریة لیس أمراً بعیداً بالنسبة إلی تسنّم المنصب دون أصل القضاء وفصل الخصومة .

هذا .. ولْنأتِ هاهنا علی ذکر تنبیهات ترتبط بما تقدّم وفی طیّاتها فروع لم یتعرّض لها فی المتن ناسب التعرّض لها فی ذیل هذا البحث :

التنبیه الأول : ذُکر فی کلمات بعضهم شرط آخر غیر ما تقدّم وهو أن لا یکون القاضی طاغوتاً (2) ، واستُدل علیه بالأدلة الکثیرة الناهیة عن التحاکم إلی الطاغوت باعتبار أن مدلولها المطابقی هو حرمة التحاکم إلی الطاغوت ومدلولها الالتزامی هو عدم نفوذ حکمه فیُفهم من هذا (3) أنه یُشترط فی صحة حکم القاضی ونفوذه أن لا یکون طاغوتاً .

ص: 168


1- (1) أی القطع بعدم الفرق .
2- (2) أی حاکماً جائراً .
3- (3) أی بحسب المدلول الالتزامی .

وأقول : لم یذکر الأصحاب هذا الشرط مع أنه قد یقال إن دلیله واضح وهو ما ذُکر من الأدلة الناهیة عن التحاکم إلی الطاغوت ولا إشکال فی کون مدلولها الالتزامی هو عدم نفوذ حکم القاضی إذا کان سلطاناً جائراً أو منصوباً من قبله حیث یُعدّ من جملة أعوانه ومن المنسوبین إلیه ، ولعل السرّ فی ذلک (1) هو اکتفاؤهم باشتراط العدالة الذی دلّ الدلیل علیه عندهم فإن من الواضح أن کون الحاکم طاغوتاً یعنی أنه لیس بعادل فإن الجور سالب للعدالة التی یراد بها الاستقامة فی جادة الشرع وغیر الإمامی (2) وکذا الإمامی إذا کان جائراً لیس بمستقیم .

وقد ذکرنا فی بحث شرطیة الإیمان أنه لا یُغنی اشتراطه عن اشتراط أن لا یکون القاضی طاغوتاً لأن النسبة بینهما هی العموم والخصوص من وجه إذْ لم یؤخذ فی مفهوم الطاغوت أن یکون مخالفاً لیختصّ به دون المؤمن (3) فالمؤمن قد یکون طاغوتاً کما أن الطاغوت قد یکون مؤمناً فالدلیل الدال علی اعتبار الإیمان فی القاضی لا یکون دلیلاً علی اعتبار أن لا یکون طاغوتاً بخلاف الدلیل الدال علی اشتراط العدالة فإنه یدلّ ضمناً علی اعتبار أن لا یکون القاضی طاغوتاً فلا داعی لاشتراطه بالخصوص .

التنبیه الثانی : فی حکم الترافع إلی الطاغوت تکلیفاً ووضعاً ، وهل ما یثبت من الأحکام یثبت بالتحاکم إلیه مطلقاً أم یختصّ ببعض الحالات لاسیما إذا لم نجمد علی حاق هذا اللفظ (4) وعمّمنا هذه الأحکام - کما سیأتی لکل قاضٍ لا تجتمع فیه الشرائط ، وفی حال التمکّن من الرجوع إلی القاضی المنصوب الجامع للشرائط فما هو حکم الترافع إلی غیره ؟

ص: 169


1- (4) أی فی عدم ذکر هذا الشرط من قبل الأصحاب مع وضوح دلیله .
2- (5) أی الاثنی عشری وکذا یراد بما بعده أین ما ذُکر .
3- (6) وهو الإمامی الاثنا عشری .
4- (7) أی الطاغوت .

هذه المسألة فی غایة الأهمیة ولم یتعرّض لها فی المتن وهی محلّ ابتلاء واسع کما هو واضح .. فأقول : لا ینبغی الإشکال فی حرمة التحاک_م إلی الطاغوت تکلیف_اً ویکفی للدلالة علی ذلک قول_ه تعالی : " ألم تر إلی الذین یزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إلیک وما أنزل من قبلک یریدون أن یتحاکموا إلی الطاغوت وقد أُمِروا أن یکفروا به " (1) فإن فی هذه الآیة المبارکة دلالة واضحة علی حرمة التحاکم إلی الطاغوت بل هی تجعله موجباً لعدم الإیمان حیث أبطلتْ زعمهم أنهم آمنوا ودلّت علی أن الإیمان لا یجتمع مع إرادة التحاکم إلی الطاغوت فکیف بالتحاکم إلیه فعلاً فتکون دالة علی حرمة ذلک بأبلغ وجه ، فضلاً عن الروایات التی یکفینا منها المقبولة والمعتبرة اللتان تنهیان بصراحة ووضوح عن التحاکم إلی الطاغوت حیث ورد فی الأولی بعد فرض السائل التحاکم إلی السلطان أو إلی قضاته قوله (علیه السلام) : " من تحاکم إلیهم فی حق أو باطل فإنما تحاکم إلی طاغوت وما یحکم له فإنما یأخذ سُحتاً وإن کان حقّه ثابتاً لأنه أخذه بحکم الطاغوت وقد أمر الله أن یُکفَر به قال الله تعالی : (یریدون أن یتحاکموا إلی الطاغوت وقد أُمروا أن یکفروا به) .. " (2) ، ولأجل ذلک أطبقت الفتاوی علی حرمة التحاکم إلی قضاة الجور تکلیفاً فی حال الاختیار .

نعم .. وقع الخلاف فی حکم ما یؤخذ بحکم الطاغوت وضعاً (3) عند الترافع إلیه فی حال الاختیار علی أقوال :

ص: 170


1- (8) النساء / 60 .
2- (9) الوسائل مج27 ص13 ، والکافی (مج1 ص67) والتهذیب (مج6 ص301) .
3- (10) أی من حیث الحلیة وعدمها ، وفی جمیع الأحوال أو علی تفصیل .

الأول : الحرمة (1) مطلقاً سواء کان الآخذ محقّاً أم غیر محقّ .

واستُدل لهذا القول بالمقبولة المتقدمة باعتبار ما ورد فیها من قوله (علیه السلام) : (وما یحکم له فإنما یأخذ سُحتاً وإن کان حقّه ثابتاً) والسحت هو الحرام فتدل الروایة علی حرمة ما یؤخذ بحکم السلطان مطلقاً وإن کان الآخذ محقّاً فی الواقع .

واعترض علیه بما قیل من احتمال أن یکون المقصود فی هذه الروایة هو ثبوت حقّه بمقتضی حکمهم لا ثبوت حقه واقعاً فقوله (علیه السلام) : (وإن کان حقّه ثابتاً) بمعنی وإن کان حقّه ثابتاً بحکم السلطان الجائر فثبوت الحق له متفرع علی حکم السلطان الجائر فمثل هذا لا یکون حلالاً ویکون سحتاً فلیس فی الروایة دلالة علی عدم حلیة ما یأخذه بحکم السلطان الجائر حتی إذا کان حقّه ثابتاً واقعاً وبقطع النظر عن حکمه فلا یصح الاستدلال بالروایة علی الحرمة مطلقاً .

وهذا الاعتراض واضح الدفع فإنه خلاف ظاهر الروایة جداً فإن ظاهرها النظر إلی الثبوت الواقعی لا إلی الثبوت فی طول حکم الحاکم الجائر فإن هذا المعنی یحتاج إلی قرینة زائدة وهی مفقودة فی المقام (2) .

ص: 171


1- (11) والمراد بالحرمة هنا الحرمة الوضعیة أی عدم حلیة المأخوذ بحکم الطاغوت .
2- (12) بل توجد القرینة علی عدم إرادته وإرادة الثبوت الواقعی وهی أنه لو کان المراد الثبوت بحکم السلطان الجائر لکان قوله : (وإن کان حقّه ثابتاً) مستدرکاً لا محلّ له لأن المفروض أن ما أخذه هذا الطرف - حیث حکم الإمام (علیه السلام) بکونه سحتاً - إنما أخذه بحکم السلطان الجائر وقد ثبت له - بحسب الفرض - بحکمه فأیّ معنی حینئذ لقوله : (وإن کان حقّه ثابتاً) الذی فُسّر بکونه ثابتاً بحکم السلطان الجائر ؟!

إن قیل : إن هذه الروایة مختصة بما إذا کان الحاکم هو السلطان أو القاضی المنصوب من قبله فلا تدل علی حرمة ما یؤخذ حتی فی حل کون القاضی غیرهما بأن کان إمامیاً ولکنه فاقد لبعض الشرائط وکان الآخذ محقاً فی الواقع .

فإنه یقال : بعد التسلیم بکون مورد الروایة هو ما ذُکر (1) إلا أنه بقرینة المقابلة مع ما ذکره الإمام (علیه السلام) حیث أمر بالرجوع إلی من نظر فی حلالهم وحرامهم وعرف أحکامهم یتبیّن أن ما یؤخذ بحکم غیر هذا الذی أمر الإمام (علیه السلام) بالرجوع إلیه یکون سحتاً سواء کان الحاکم به هو السلطان الجائر والمنصوب من قبله أو کان غیرهما ممن کان فاقداً لبعض الشرائط فیُفهم من الروایة أن الحکم بحرمة المأخوذ یدور مدار فقدان الحاکم لبعض الشرائط سواء کان المفقود هو العدالة کما فی السلطان الجائر والمنصوب من قبله أو کان غیرها من بقیة الشرائط المعتبرة شرعاً فالتحاکم إلی هؤلاء یکون غیر جائز تکلیفاً وما یؤخذ بحکمهم یکون حراماً وضعاً .

القول الثانی : التفصیل بین ما إذا عُلم کونه محقّاً واقعاً فیُحکم بحلیة ما یأخذه بحکم القاضی وما إذا لم یُعلم کونه محقّاً إلا بطریق القاضی الفاقد للشرائط - جائراً کان أو لا - فیُحکم بالحرمة .

واستُدل له بروایتین :

إحداهما : موثّقة ابن فضّال التی یرویها الشیخ الطوسی (قده) بإسناده عن محمد بن أحمد بن یحیی عن محمد بن عیسی عن الحسن بن علی بن فضّال :

" قال : قرأت فی کتاب أبی الأسد إلی أبی الحسن الثانی (علیه السلام) (2) وقرأته بخطّه سأله ما تفسیر قوله تعالی : (ولا تأکلوا أموالکم بینکم بالباطل وتدلوا بها إلی الحکام) (3) قال : فکتب إلیه بخطّه : الحکّامُ القضاةُ ، قال : ثم کتب تحته : هو أن یعلم الرجل أنه ظالم فیحکم له القاضی فهو غیر معذور فی أخذه ذلک الذی حکم له إذا کان قد علم أنه ظالم " (4) .

ص: 172


1- (13) أی من السلطان الجائر وقضاته .
2- (14) وهو الإمام الرضا (علیه السلام) .
3- (15) البقرة / 188 .
4- (16) التهذیب مج6 ص220 ، والوسائل مج27 ص27 الباب الأول من أبواب صفات القاضی الحدیث التاسع .

وهذه الروایة تامة سنداً لأن طریق الشیخ (قده) إلی محمد بن أحمد بن یحیی بن عمران الأشعری صاحب نوادر الحکمة صحیح والرجل ثقة وکذا ابن فضّال ولکنْ وقع فی محمد بن عیسی کلام کثیر حیث تقدّم أن أحمد بن محمد بن عیسی استثناه من رجال نوادر الحکمة وقد تعجّب من ذلک ابن نوح وقال : (لا أدری ما الذی رابه فیه؟!) ولکن الصحیح کونه ثقة فالروایة معتبرة سنداً ولا یضرّ جهالة أبی الأسد فی اعتبارها لأن الراوی یقول إنه قرأ الکتاب مکتوباً بخطّ السائل نفسه (1) ولم یتوسّط أحد بینه وبین روایة ما فی الکتاب بل إنه قرأ الجواب بخطّ الإمام (علیه السلام) فلا مجال للخدشة فی السند بجهالة السائل بل حتی بضعفه لو فُرض - .

وتقریب الاستدلال بالروایة هو أن یقال بأنها ظاهرة فی أن الباطل الذی لا یحلّ أکله فی الآیة الشریفة هو ما یأخذه الرجل بحکم القاضی وهو (2) یعلم أنه ظالم (3) ، ومفهوم الحصر المستفاد من تفسیر الإمام (علیه السلام) للفظ الباطل هو أن غیر ذلک - وهو ما یأخذه بحکم القاضی وهو لا یعلم أنه ظالم وغیر مستحقّ له فضلاً عمّا إذا علم أنه مستحقّ له وغیر ظالم - لیس بباطل ولا یحرم أکله فتدلّ الروایة حینئذ علی اختصاص التحریم بما إذا علم أنه ظالم وغیر مستحقّ لما أخذ .

-القضاء-المسالة-5-المقام الاول-النصب العام-الجهة الثانیة-شرائط نصب القاضی-تنبیهات بحث الفقه

(بحث یوم الثلاثاء 4 ذح 1432 ه 33)

ص: 173


1- (17) أی أبی الأسد .
2- (18) أی الآخذ .
3- (19) أی غیر مستحق لما أخذ .

کان الکلام فی القول الثانی من الأقوال فی الحکم الوضعی لما یؤخذ بحکم الجائر عند الترافع إلیه فی حال الاختیار وهو التفصیل بین ما إذا علم کونه محقّاً واقعاً فیُحکَم بحلیة ما یأخذه وما إذا لم یعلم کونه محقّاً فیُحکَم بالحرمة .

وذکرنا أنه استُدل له بروایتین :

إحداهما : موثّقة ابن فضّال التی جاء فیها :

" سأله ما تفسیر قوله تعالی : (ولا تأکلوا أموالکم بینکم بالباطل وتدلوا بها إلی الحکام) (1) قال : فکتب إلیه بخطّه : الحکّامُ القضاةُ ، قال : ثم کتب تحته : هو أن یعلم الرجل أنه ظالم فیحکم له القاضی فهو غیر معذور فی أخذه ذلک الذی حکم له إذا کان قد علم أنه ظالم " (2) .

وقد بیّنا تقریب الاستدلال بها فی البحث السابق .. وقد لوحظ علیه :

أولاً : بأن هذه الروایة - علی تقدیر الالتزام بظهورها وصلاحیتها للاستدلال فی المقام - لا تُنتج التفصیل المذکور وذلک لأن الحلیة فیها لا تختصّ بما إذا علم بکونه محقّاً واقعاً بل تشمل صورة الشک بذلک - أی فی ما إذا لم یعلم أنه ظالم - فی حین أن الحلیة فی التفصیل المذکور تختصّ بحالة العلم بکونه محقّاً .

وبعبارة أخری : إن صورة الشکّ فی التفصیل المذکور کانت إلی جانب صورة العلم بکونه ظالماً فی مقابل صورة العلم بکونه محقّاً وحُکم بالحرمة فی الأُولَیَیْن والحلیة فی الأخیرة فی حین أنها فی الروایة جُعلت إلی جانب صورة العلم بکونه محقّاً فی مقابل صورة العلم بکونه ظالماً وحُکم بالحلیة فی الأُولَیَیْن وبالحرمة فی الأخیرة .

ص: 174


1- (1) البقرة / 188 .
2- (2) التهذیب مج6 ص220 ، والوسائل مج27 ص27 الباب الأول من أبواب صفات القاضی الحدیث التاسع .

وثانیاً : بإمکان أن یقال إن الروایة أجنبیة عن محلّ الکلام ولیست ناظرة إلی ما نحن فیه من التحاکم إلی أهل الجور والطاغوت وأن ما یؤخذ بحکمهم فی صورةٍ یکون حلالاً وفی أخری یکون حراماً وإنما هی ناظرة إلی أمر آخر وهو أن ما یؤخذ بحکم القاضی مع العلم بعدم الاستحقاق یکون حراماً بقطع النظر عن کون الحاکم بذلک جائراً أو عادلاً وفاقداً لبعض الشرائط أو مستجمعاً لها فهی تشیر إلی ما هو مقتضی القواعد من حرمة ما یؤخذ بحکم القاضی إذا کان الآخذ عالماً بعدم استحقاقه له (1) ، ویشهد لعدم کونها ناظرة إلی محلّ الکلام إطلاق لفظ القاضی وعدم تقییده بکونه جائراً ونحوه فالروایة أجنبیة عمّا نحن فیه فلا تصلح لأن یُستدلّ بها فی المقام .

وقد یُعترض علی ذلک بأن من الواضح أن المراد بالحکّام الذین فُسّروا فی الروایة بالقضاة هم حکّام الجور لأنهم هم الذین یأخذون الرُّشا حیث نوّهت الآیة الشریفة إلی ذلک بقوله تعالی : (وتُدلوا بها إلی الحکّام) والفعل فیها معطوف علی ما تقدّمه من الفعل المنهیّ (2) فالمعنی هو النهی عن الإدلاء بالأموال إلی الحکّام أی النهی عن الرشوة والرشوةُ لا یأخذها إلا حکّام الجور وأما الحاکم العادل الجامع للشرائط فلا یقربها البتّة فتکون الآیة الشریفة واضحة الاختصاص بحکّام الجور فتکون ناظرة إلی حرمة أخذ المال بحکم القاضی الجائر إذا کان الآخذ عالماً بعدم کونه مستحقّاً ، ومفهوم الشرطیة أنه إذا لم یَعلم أنه ظالم فیجوز له الأخذ فتدلّ علی التفصیل فتکون ناظرة إلی محلّ الکلام فکیف یُدّعی کونها أجنبیة عنه ؟!

ص: 175


1- (3) نظیر ما ورد عن رسول الله (صلی الله علیه وآله) قوله : " إنما اقضی بینکم بالبیّنات والأیمان وبعضکم ألحن بحجته من بعض فأیّما رجل قطعت له من مال أخیه شیئاً فإنما قطعت له به قطعة من النار " الکافی مج7 ص414 ، والأیمان جمع الیمین وهو القسم .
2- (4) أی (ولا تأکلوا) .

ولکن یمکن الخدشة فی هذا الاعتراض بأن یقال إن الآیة الشریفة تتعرّض إلی أمرین : الأول ما جاء فی صدرها من قوله تعالی : (ولا تأکلوا أموالکم بینکم بالباطل) والثانی ما جاء فی ذیلها من قوله تعالی : (وتدلوا بها إلی الحکّام) ، وفقرة الاستدلال فی الروایة أعنی قوله (علیه السلام) : (هو أن یعلم الرجل أنه ظالم فیحکم له القاضی ..) - مرتبطة بصدرها لا بذیلها وإنما الذی له ارتباط بذیلها هو قوله (علیه السلام) : (الحکّام القضاة) فما ذکره الإمام (علیه السلام) بالعبارة المستدلّ بها کان تفسیراً لما جاء فی صدر الآیة وبیاناً لمصداق من مصادیقه فکأنه قال إن من جملة أکل المال بالباطل هو أن یأخذ الرجل ما یأخذه بحکم القاضی وهو یعلم أنه ظالم فهذا سبب من الأسباب الباطلة لأکل المال فالإمام (علیه السلام) کان بصدد تفسیر صدر الآیة الشریفة ، وما ذکره بقوله : (الحکّام القضاة) کان أشبه بالجملة المعترضة بین المفسِّر والمفسَّر .

ومن ذلک یظهر أن الروایة لا ارتباط لها بمحلّ الکلام لأنه لم یُفترض فیها أن القاضی کان حاکماً جائراً بل هی ناظرة إلی أمر آخر وهو تحریم ما یؤخَذ بحکم القاضی مطلقاً (1) إذا کان الآخذ عالماً أنه غیر مستحقّ له وحینئذ یندفع الاعتراض المزبور فیتوجّه الإیراد المتقدم علی الروایة فی کونها أجنبیة عن محلّ الکلام .

ومن هنا یظهر أن الاستدلال بهذه الروایة علی هذا القول (2) أدنی ما یقال فیه أنه لیس بذلک الوضوح .

ص: 176


1- (5) أی : جائراً کان او عادلاً .
2- (6) أی التفصیل بین کون الآخذ محقّاً وعدم کونه کذلک .

الروایة الثانیة : صحیحة عبد الله بن سنان وهذه الروایة یرویها المشایخ الثلاثة (1) بأسانید معتبرة :

محمد بن یعقوب عن محمد بن یحیی عن أحمد بن محمد عن الحسن بن محبوب عن عبد الله بن سنان عن أبی عبد الله (علیه السلام) : " قال : أیّما مؤمن قدّم مؤمناً فی خصومة إلی قاضٍ أو سلطان جائر فقضی علیه (2) بغیر حکم الله فقد شَرِکَه (3) فی الاثم " (4) .

وتقریب الاستدلال بها علی التفصیل المذکور دعوی کون الروایة ظاهرة فی اختصاص الإثم بما إذا حکم القاضی بغیر حکم الله ویترتب علی الإثم عدم جواز الأخذ - أی الحرمة الوضعیة - ، ومقتضی مفهوم الاختصاص نفی الإثم إذا حکم بحکم الله کما إذا کان المدّعی محقّاً واقعاً وحکم القاضی له بما ادّعاه فلیس کل ما یصدر من الحاکم الجائر یکون مخالفاً لحکم الله .

إذاً فالروایة تفصّل بین ما إذا حکم القاضی بحکم الله بأن کان المدّعی محقّاً واقعاً والقاضی حکم له فیُحکَم هنا بنفی الإثم وجواز أخذ المال فتثبت الحلیة التکلیفیة والوضعیة وما إذا حکم بغیر حکم الله بأن کان المدّعی غیر محقّ فی الواقع وحکم له فیُحکَم هنا بثبوت الإثم وعدم جواز أخذ المال فتثبت الحرمة التکلیفیة والوضعیة .

ص: 177


1- (7) الکلینی والطوسی والصدوق (قدهم) .
2- (8) أی علی المؤمن المقدَّم من قبل المؤمن الأول إلی السلطان الجائر .
3- (9) أی أن کلاًّ من القاضی والمؤمن الاول کان آثماً .
4- (10) الوسائل مج27 ص11 الباب الأول من أبواب صفات القاضی الحدیث الأول ، والکافی مج7 ص411 ، والتهذیب مج6 ص219 ، والفقیه مج3 ص4 .

إذاً فالتفصیل یدور بین حالتین : کون المدّعی محقّاً وکونه غیر محقّ .

وأُجیب کما عن بعض علمائنا المحققین - أن المراد بالقضاء بغیر حکم الله فی الروایة لیس ما یقابل القضاء بحکم الله حتی یقال بأن الجائر لا یمتنع منه أن یحکم بحکم الله وذلک فی ما إذا کان المدّعی محقّاً واقعاً بل المقصود بالحکم بغیر حکم الله هو مطلق ما یصدر من الحاکم الجائر أو الفاقد للشرائط ولو لم یکن جائراً فکل حکم یصدر منه ولو کان موافقاً للواقع هو حکم بغیر حکم الله لأن القاضی إذا لم یکن مستجمعاً للشرائط یکون حینئذ فاقداً لأهلیة القضاء ویکون قضاؤه دائماً حکماً بغیر حکم الله فیکون مفاد الروایة نفس مفاد المقبولة - بناءً علی الاستدلال بها علی القول الأول وهو الحرمة مطلقاً - حیث ورد فیها قوله (علیه السلام) : (وإن کان حقّه ثابتاً) .

وهذا الجواب إن تمّ استظهاره من الروایة فهو وإلا فلا أقلّ من کونه احتمالاً معتداً به یمنع من الاستدلال بها علی التفصیل المذکور .

ومن هنا یظهر أن هذا القول لم یتم علیه دلیل .

القول الثالث : التفصیل بین الدین والعین فیقال إن کان المُدّعی الذی حکم به الحاکم الفاقد للشرائط جائراً کان أو لم یکن دیناً فیحرم أخذه وأما إذا کان عیناً فیحلّ أخذه .

ویبدو أن الأصل فی هذا التفصیل لیس هو المحقق السبزواری فی کفایته کما ما ذُکر وإنما هو المحقق الأردبیلی (1) فی مجمع فائدته حیث ذکر أن فی مقبولة ابن حنظلة فوائد جلیلة ومطالب مهمة وساق جملة مما استفاده منها ثم قال: " وتحریم ما أخذ بحکمهم فی الدین ظاهر دون العین " ثم قال: " فتأمل " (2) ، والظاهر أن المحقق السبزواری أخذه منه بعده حیث یقول : " ویستفاد من الخبرین (3) عدم جواز أخذ شیء بحکمهم وإن کان له حقّاً ، وهو فی الدین ظاهر ، وفی العین لا یخلو عن إشکال لکن مقتضی الخبرین التعمیم (4) " (5) وذُکِر مثلُ هذا فی کلام غیره أیضاً .

ص: 178


1- (11) المتقدم زماناً علیه حیث توفّی (قده) سنة 993 ه_ فی حین توفّی المحقق السبزواری (قده) سنة 1090 ه_ .
2- (12) مجمع الفائدة والبرهان فی شرح إرشاد الأذهان مج12 ص10 .
3- (13) أی مقبولة ابن حنظلة ومعتبرة أبی خدیجة .
4- (14) أی تعمیم الحرمة للدین والعین .
5- (15) کفایة الأحکام مج2 ص663 .

وفسّر الشیخ صاحب الجواهر (قده) الفرق بین الدین والعین بقوله : " وکأن فرقه بین الدین والعین باحتیاج الأول إلی تراضٍ فی التشخیص والفرض جَبْر المدیون بحکمهم بخلاف العین " (1) .

أی لکون الدین کلیّاً فی الذمة فیحتاج تطبیقه خارجاً علی فرده إلی تشخیص من قبل المدین ورضا منه والحال أن المدین لیس راضیاً بهذا التشخیص فی ماله لکونه مُجبراً علیه بحکم الحاکم وکیف یُحتمل رضاه وهو منکر لاشتغال ذمته بالدین أصلاً لکونه هو المدّعی علیه .. وعلیه فیحرم أخذ المال من قبل المدّعی ، وهذا بخلاف العین لفرض کونها ملکاً للمدّعی ولا تخرج عن ملکه بالتداعی إلی الجائر فله أن ینتزعها من ید المُدّعی علیه مطلقاً سواء حکم الحاکم الجائر له أو علیه .

القضاء-المسالة-5-المقام الاول-النصب العام-الجهة الثایة-شرائط نصب القاضی-تبیهات بحث الفقه

(بحث یوم الأربعاء 5 ذح 1432 ه 34)

کان الکلام فی التفصیل الثالث بین الدین والعین وذکرنا کلمات الفقهاء فی هذا المجال وهنا لا بد من التنبیه علی أن المفروض فی محلّ الکلام کون العین ملکاً للمدّعی فیجوز له أخذها متی تمکّن منها حتی قبل حکم الحاکم ولم تخرج عن ملکه بالتداعی إلیه ، والحکمُ بصیرورة هذه العین سحتاً وحراماً علی صاحبها بمجرد أن الجائر حکم باستحقاق العین له أمر یصعب جداً الإذعان به بخلاف الدین لأن الدین کلی فی الذمة والکلی فی الذمة لا یتشخّص فی العین الخارجیة إلا برضا المدین الذی هو المدّعی علیه فی المقام فالمأخوذ فی باب الدین لیس هو ممّا یستحقّه الدائن إلا بعد التشخیص ورضا المدین به ، وأما إجبار المدین علی التشخیص وعدم الاعتناء برضاه (2) ومن ثمّ أخذ العین منه قهراً وإکراهاً علی أنها مصداق لذلک الکلی فی الذمة فیمکن القول بأنه سحت لا یجوز أخذه بحکم الحاکم الجائر لأن دفع هذه العین الخارجیة إلیه علی أنها بدل عن الکلی فی الذمة إنما کان بحکم الحاکم الجائر فیکون سحتاً وحراماً وعلی هذا الأساس یمکن التفریق بین العین والدین فیکون منشأً لهذا التفصیل .

ص: 179


1- (16) جواهر الکلام مج40 ص36 .
2- (1) والحال أنه لا یرضی لفرض عدم اعترافه بأصل الدین .

ولکن یمکن أن یُلاحظ علی هذا الکلام أنه إنما یکون وارداً وتکون له صورة مقبولة عندما یُفترض أن إجبار المدین کان متعلّقاً بالتشخیص نفسه فیقال حینئذ إن هذا التشخیص لم یصدر منه عن رضا فیکون المأخوذ سحتاً ، وأما إذا فرضنا أن الإکراه والإجبار لم یکن علی التشخیص وإنما کان علی أداء الدین وإن کان التشخیص لازماً له فلا یضرّ مثل هذا بصحة التشخیص نظیر ما إذا أُکره علی أن یدفع غرامة للظالم وکان لازم ذلک أن یبیع بیته لعدم تمکّنه من دفع الغرامة إلا ببیع البیت حیث لم یستشکل هاهنا أحد فی صحة هذا البیع مع کونه لازماً لدفع تلک الغرامة التی أُکره علیها ، وفی المقام لمّا کان المفروض أن إکراه الحاکم إنما کان علی دفع الدین لا علی تشخیص ما ینطبق علیه وإن کان لازماً له لم یکن هذا بضائر فی صحة هذا التشخیص وبالتالی لا یبقی فرق بینه وبین العین إلا فی صورة الإکراه علی نفس التشخیص وهو ما لم یُفرض فی المقام لندرته بل حتی لو فرضنا أن الإکراه وقع علی التشخیص إلا أن من الواضح أنه إنما یقع علی التشخیص الکلی الذی له مصادیق متعددة ولا یقع علی تشخیص معیّن فلا یتعلّق الإکراه بالتشخیص الخارجی الذی یتحقق بأداء الدین إلی الدائن فإذا لم یکن ثمة إشکال فی صحة التشخیص الخارجی الذی هو لازم للأداء المُکرَه علیه فمن باب أولی لا إشکال فی ما إذا کان اللازم للأداء المُکرَه علیه هو التشخیص الکلی وبالنتیجة لا یبقی فرق واضح بین الدین والعین وعلیه فیمکن الالتزام بأن المأخوذ ممّا قد صحّ فیه التشخیص ورضی المدین بأدائه إلی الدائن وإن کان مُکرَهاً علی أصل أداء الدین فلا وجه لأن یکون المدفوع سُحتاً من هذه الجهة .

ص: 180

والمهم فی المقام (1) هو النظر إلی ما تمسّکنا به من الدلیل لإثبات حرمة ما یؤخذ بحکم الحاکم الجائر فی محلّ الکلام لمعرفة مدی اختصاصه بالدین لیُقتصر فی الحکم بالحرمة علیه أو شموله للعین والدین فیُلتزَم بحرمة کل منهما ولا یُفرّق بینهما ، فنقول :

لا إشکال فی شمول الدلیل للدین فإن المقبولة واردة فی المنازعة فی دین فیکون القدر المتیقّن منها هو موردها وإنما الکلام فی شمولها للعین أیضاً فقد یقال بشمولها لها لأن ما عُطف فی المقبولة علی الدین هو المیراث وهو بإطلاقه یعمّ العین (2) فحینئذ تدل الروایة علی حرمة الأخذ فی العین کما دلّت علی الحرمة فی الدین .

وقد یقال فی مقابله بعدم الشمول لوجوه عدّة :

الأول : دعوی أن السُحت لغةً هو مال الغیر المحرّم وهذا لا یصدق فی ما إذا کان المتنازع فیه عیناً لعدم صدق مال الغیر علیه لفرض أن المدعی جازم بکون العین ملکه ولیست للغیر فلا یصدق حینئذ علی ماله أنه سحت ومن هنا تکون الروایة غیر شاملة للعین فتختصّ بالدین .

الثانی : أن یقال إن قوله (علیه السلام) فی الروایة : (وإن کان حقّه ثابتاً) واضح فی کونه دیناً لا عیناً لأنه عبّر عنه بالحقّ وهو یناسب الدین دون العین فتکون الروایة مختصّة بالدین وغیر شاملة للعین .

الوجه الثالث : ما تقدّمت الإشارة إلیه من استبعاد أن یکون الحکم بالتحریم وسُحتیة المأخوذ ثابتاً فی العین إذ لیس فی البین ما یوجب الحکم علیها بذلک - بعد اعتقاد المدّعی أنها له وأنها لم تخرج عن ملکه بأیّ ناقل وأنه کان یجوز له أخذها لو تمکّن منها - إلا حکم الحاکم الجائر بأنها له وهذا بمجرّده لا یجعلها سُحتاً ولا یوجب تحریمها علی مالکها فحینما تؤکّد الروایة علی کون المأخوذ حراماً وسُحتاً فلا بد أن تکون ناظرة إلی الدین لا إلی العین .

ص: 181


1- (2) أی فی هذا التفصیل الثانی بین العین والدین .
2- (3) لأن المیراث قد یکون عیناً خارجیة وقد لا یکون .

هذه وجوه ثلاثة ذُکرت فی کلماتهم واستُدلّ بها علی عدم شمول الروایة للعین .

وأقول : یمکن الخدشة فی کلّ واحد من هذه الوجوه الثلاثة :

أما الأول : فبمنع کون السحت فی اللغة هو مال الغیر المحرّم بل هو الحرام مطلقاً کما فی الصحاح (1) والعین (2) وهو وإن کان قد یوصف أحیاناً ببعض الأوصاف لکن لیس بما ذُکر من کونه مال الغیر .

وأما الثانی : فالظاهر أن المراد بالحقّ هو الاستحقاق مطلقاً لا ما یقابل العین بالخصوص کما ذُکر - فالمقصود بقوله (علیه السلام) : (وإن کان حقه ثابتاً) هو أن ما حکم به الحاکم الجائر حرام علیه وإن کان هو مستحقاً له ، ومن الواضح أن هذا المعنی أعمّ من الدین والعین .

وأما الثالث - الذی هو مذکور فی کلمات أکثر من ذهب إلی هذا التفصیل - : فیمکن أن یلاحظ علیه بأنّا لا نُنکر عدم خروج العین عن ملکه بحسب اعتقاده وأنه کان یجوز له أخذها إلا أن المفروض فی محلّ الکلام أن المُدّعی علیه یُنکر استحقاق المُدّعی لهذه العین ولهذا یمتنع عن دفعها إلیه وإنما یُضطرّ إلی تسلیمها إلیه نتیجة حکم الحاکم الجائر فیکون أخذ المدّعی لها مستنداً إلی حکم الجائر ومن الممکن أن یکون الحکم بالتحریم والسحتیة بلحاظ هذا الأمر (3) بحیث لولا حکم الحاکم الجائر لم یتمکّن المدّعی من أخذها .

وبعبارة أخری أن الروایة بصدد النهی عن التحاکم إلی الطاغوت وإلی أئمة الجور والنهی عن الترافع إلیهم وتحریم کل ما یؤخذ من الغیر استناداً إلی أحکامهم وإن کان حقّ الآخذ فیه ثابتاً ولا مانع ثبوتاً من أن یکون هذا ملاکاً خاصّاً لتحریم کل ما یؤخذ بحکم الحاکم الجائر ومن الواضح أن هذا کما یجری فی الدین یجری فی العین أیضاً .

ص: 182


1- (4) الصحاح مج1 ص252 .
2- (5) العین مج3 ص132 .
3- (6) وهو کون الأخذ مستنداً إلی الحاکم الجائر .

والحاصل أن الشارع المقدّس لم یجوّز سلوک مثل هذا الطریق لأخذ ما هو حقّ للشخص وذلک لمنع مفاسد معلومة لدیه کتأیید الجور والظلم وعلی ذلک فلا بد أن نعمل بهذه الروایة ونلتزم بالحرمة مطلقاً سواء کان الآخذ محقّاً أم لم یکن (1) وسواء کان المتنازع فیه دیناً أم عیناً (2) .

هذا کلّه فی حال الاختیار وتبیّن أن الصحیح هو ثبوت الحرمة التکلیفیة والوضعیة فی المقام فلا یجوز التحاکم إلی الطاغوت وأن ما یؤخذ بحکمه حرام وسحت مطلقاً (3) ، وأما فی حال الاضطرار إلی ذلک (4) فهل ترتفع الحُرمتان (5) أم لا ترتفعان أم أن فی البین تفصیلاً ؟

هذا ما سوف یأتی الکلام فیه إن شاء الله تعالی .

القضاء-المسالة-5-المقام الاول-النصب العام-الجهة الثانیة-شرائط نصب القاضی-تنبیهات بحث الفقه

(بحث یوم السبت 22 ذح 1432 ه 35)

کان الکلام فی جواز التحاکم إلی الطاغوت بل إلی کل فاقدٍ للشرائط المعتبرة فی باب القضاء وقد تبیّن من البحث السابق أنه غیر جائز تکلیفاً (6) ووضعاً (7) ، وتقدّم أن هذا فی خصوص حالة الاختیار .

ص: 183


1- (7) هذا بلحاظ التفصیل الأول .
2- (8) هذا بلحاظ التفصیل الثانی .
3- (9) أی لا یحلّ للآخذ سواء کان مستحقّاً له أو غیر مستحق وسواء کان المأخوذ دیناً أو عیناً .
4- (10) أی إلی التحاکم إلی الطاغوت .
5- (11) أی التکلیفیة والوضعیة .
6- (1) بمعنی حرمة التحاکم وعدم جوازه فی نفسه .
7- (2) بمعنی عدم حلّیة المال المأخوذ بحکم الجائر وعدم جواز التصرّف فیه وإن کان الآخذ مستحقّاً له واقعاً .

والکلام الآن یقع فی حالة الاضطرار - والمقصود بها صورة عدم التمکّن من الرجوع إلی القاضی الجامع للشرائط إما لعدم وجوده أصلاً أو وجوده وعدم التمکّن من الوصول إلیه أو عدم رضا الخصم بالتحاکم إلا إلی القاضی الفاقد للشرائط ، والجامع التعبیری لها هو عدم التمکّن من أخذ الحقّ إلا بالترافع إلی غیر الواجد لمجموع الشرائط أو قل هو الاضطرار إلی الترافع إلی الفاقد للشرائط فهل یکون التحاکم إلیه حینئذ جائزاً وهل یکون المال المأخوذ بحکمه حلالاً ؟

نُسب إلی مشهور الفقهاء ذهابهم إلی الجواز حیث ذکروا أنه یجوز التحاکم إلی غیر القاضی الجامع للشرائط حینما لا یتمکّن الشخص من استنقاذ حقه إلا بالترافع إلیه ، والظاهر منهم قولهم بالجواز مطلقاً (1) فلیس ثمة حرمة فی نفس الترافع إلیه کما أن المال المأخوذ بحکمه حلال .

واستُدلّ علی الجواز فی هذه الحال (2) بدلیلین :

الأول : دعوی اختصاص أدلة المنع بحال الاختیار وعدم شمولها لحال الاضطرار وذکروا أن جملة من الروایات یُستظهر منها هذا الاختصاص ، ومنها روایتان لأبی بصیر :

الأولی : قوله (علیه السلام) :

" أیُّما رجل کان بینه وبین أخ له مماراة فی حق فدعاه إلی رجل من إخوانکم لیحکم بینه وبینه فأبی إلا أن یرافعه إلی هؤلاء کان بمنزلة الذین قال الله عز وجل : (ألم تر إلی الذین یزعمون أنهم آمنوا بما أُنزل إلیک وما أُنزل من قبلک یریدون أن یتحاکموا إلی الطاغوت وقد أُمروا أن یکفروا به) (3) " (4) .

ص: 184


1- (3) أی تکلیفاً ووضعاً .
2- (4) أی حال الاضطرار .
3- (5) النساء / 60 .
4- (6) الفقیه مج3 ص4 ، وکذا فی الکافی مج7 ص411 والتهذیب مج6 ص220 والوسائل مج27 ص12 الباب الأول من أبواب صفات القاضی الحدیث الثانی ولکن بلفظ (إخوانه) فیها .

وقد رواها الشیخ الکلینی (قده) عن محمد بن یحیی عن محمد بن الحسین عن یزید بن إسحاق عن هارون بن حمزة الغنوی عن حریز عن أبی بصیر عن أبی عبد الله (علیه السلام) ، وفی هذا السند مشکلة تکمن فی یزید بن إسحاق حیث لم تثبت وثاقته ، وکذلک رواها الشیخ الطوسی (قده) بسند لم یخل من هذه المشکلة ولکن الشیخ الصدوق (قده) رواها فی الفقیه بإسناده عن حریز وطریقه إلیه صحیح کما فی المشیخة فتکون الروایة معتبرة سنداً بهذا الطریق دون سابقیه .

ومن الواضح أن هذه الروایة مختصّة بصورة التمکّن من الترافع إلی غیر قضاة الجور - المعبَّر عنها فی محلّ الکلام بحالة الاختیار - لأن المفروض فیها أن أحد المتخاصمین دعا الآخر إلی رجل من إخوانه (1) لیقضی بینهما ولا تشمل حالة عدم التمکّن من الرجوع إلی غیر هؤلاء - المعبَّر عنها فی محلّ الکلام بحالة الاضطرار - .

الروایة الثانیة : عن أبی بصیر :

" قال : قلت لأبی عبد الله (علیه السلام) : قول الله عز وجل فی کتابه : (ولا تأکلوا أموالکم بینکم بالباطل وتدلوا بها إلی الحکام) فقال : یا أبا بصیر إن الله عز وجل قد علم أن فی الأمة حکّاماً یجورون أما إنه لم یعن حکام أهل العدل ولکنه عنی حکّام أهل الجور ، یا أبا محمد إنه لو کان لک علی رجل حق فدعوته إلی حکام أهل العدل فأبی علیک إلا أن یرافعک إلی حکام أهل الجور لیقضوا له لکان ممن حاکم إلی الطاغوت وهو قول الله عز وجل : (ألم تر إلی الذین یزعمون أنهم آمنوا بما انزل إلیک وما انزل من قبلک یریدون أن یتحاکموا إلی الطاغوت) " (2) .

ص: 185


1- (7) والمقصود به أحد حکّام العدل بقرینة المقابلة مع (هؤلاء) الذین قًصد بهم حکّام الجور .
2- (8) الکافی مج7 ص411 ، والوسائل مج27 ص12 الباب الأول من أبواب صفات القاضی الحدیث الثالث .

وقد رواها الشیخ الکلینی (قده) عن محمد بن یحیی عن أحمد بن محمد عن الحسین بن سعید عن عبد الله بن بحر عن عبد الله بن مسکان عن أبی بصیر وفی هذا السند مشکلة أیضاً تکمن فی عبد الله بن بحر حیث لم تثبت وثاقته .

وهذه الروایة واضحة الدلالة أیضاً علی الاختصاص بحال التمکّن من الرجوع إلی غیر الطاغوت لأنه قد فُرض فیها الدعوة إلی حکام أهل العدل حیث قال (علیه السلام) مخاطباً أبا بصیر : (فدعوتَه إلی حکام أهل العدل) إلا أن الخصم أبی الرجوع إلا إلی غیرهم فحکم الإمام (علیه السلام) بکون التحاکم حراماً وجعل الرجوع إلیهم کالرجوع إلی الطاغوت فتدل علی المنع من التحاکم لکن فی حالة الاختیار والتمکّن من الرجوع إلی حکّام أهل العدل ولیست ناظرة إلی حالة الاضطرار وعدم التمکّن من الرجوع إلی حکّام أهل العدل .

بل الکلام نفسه یقال فی عمدة أدلة المقام أعنی المقبولة والمعتبرة (1) لأن کلاًّ منهما نهت عن الرجوع إلی الطاغوت وأهل الجور والتحاکم إلیهم فی سیاق الأمر بالرجوع إلی حکّام أهل العدل الواجدین للشرائط کما ورد فی معتبرة أبی خدیجة : (إیاکم أن یحاکم بعضکم بعضاً إلی أهل الجور ولکن انظروا إلی رجل یعلم شیئاً من قضایانا ..) وکذا الحال فی المقبولة ، ومن الواضح أن هذا أمر یوجب الاختصاص بحالة الاختیار والتمکّن من الرجوع إلی الحاکم العادل ولیس هناک إطلاق یشمل حالة الاضطرار وعدم التمکّن من الرجوع إلی الحاکم العادل .

الدلیل الثانی : بعد فرض التنزّل والتسلیم بوجود الإطلاق فی تلک الروایات فیقال حینئذ بحکومة أدلة نفی الحرج والضرر علی أدلة المنع من التحاکم إلی الطاغوت کحکومتها علی جمیع الأدلة بتقریب أن منع الشخص من أن یأخذ حقّه فیه حرج أو ضرر علیه فتتکفّل أدلة نفی الحرج والضرر برفع هذا المنع وبالنتیجة نصل إلی الحکم بالجواز .

ص: 186


1- (9) یعنی مقبولة ابن حنظلة ومعتبرة أبی خدیجة اللتین تقدّم ذکرهما .

هذا .. ویمکن أن یلاحظ علی الدلیل الأول بأن غایة ما یثبت به هو حرمة التحاکم إلی غیر الواجد للشرائط فی حال الاختیار ولا یثبت به جواز التحاکم إلیه فی حالة الاضطرار فإن غایة ما بُیّن فی تلک الروایات هو اختصاص المنع بصورة الاختیار وهذا وحده غیر کاف لینهض بالحکم بالجواز فی الصورة الأخری کما یروم المشهور کما أنه لیس لتلک الروایات مفهوم یمکن استفادته منها لیُتمسّک به فی إثبات ذلک .

هذا .. ولکن الإنصاف أنه لیس مقصود المشهور بسَوقهم لهذا الدلیل هو إثبات الجواز فی حال الاضطرار لیرد علیهم ما تقدّم بل مقصودهم منع إطلاق هذه الأدلة لحال الاضطرار بإثبات اختصاصها بحال الاختیار فیُفتقد الدلیل المتکفّل لبیان حکم صورة الاضطرار فتصل النوبة حینئذ إلی التمسّک بالأصول المؤمّنة لإثبات الجواز لأن الکلام فی الحکم التکلیفی فی حال الاضطرار وهو جواز التحاکم الذی یترتّب علیه حلیة المال الذی یؤخذ به وعدم الجواز الذی یترتّب علیه حرمته فإذا ثبت أن دلیل المنع لا یشمل صورة الاضطرار فلا دلیل إذاً علی الحرمة فی هذه الصورة فیمکن التمسک بأصالة البراءة وأمثالها لإثبات الجواز والحلیة .

هذا هو مقصود المستدلّ بسَوقه لهذا الدلیل ولیس مقصوده الاستدلال علی الجواز بالروایتین المذکورتین حتی یقال بأنْ لیس فیهما دلالة علی الجواز وإنما هما تدلّان علی الحرمة فی حال الاختیار وغیر متعرّضتین لحال الاضطرار .

وبعبارة أخری : أنه لا إشکال فی أن الأصل الأولی فی مسألة التحاکم إلی الطاغوت ومسألة حلیة أکل المال - الذی هو حقّ لمدّعیه بحسب الفرض کما یُنبئ به تعبیر الفقهاء عن صورة الاضطرار بأنها عبارة عن عدم التمکّن من استنقاذ الحقّ إلا بالترافع إلی الفاقد للشرائط هو الجواز فیهما وإنما نرفع الید عن هذا الأصل بمقدار ما تدل علیه أدلة المنع وهذه الأدلة لا إطلاق فیها لتشمل حالة الاضطرار بل هی مختصة بصورة الاختیار فإذا کان دلیل المنع غیر شامل لحال الاضطرار فلا مانع من الرجوع حینئذ إلی الأصل الأولی لإثبات جواز التحاکم وحلیة المال الذی یؤخذ بحکم هذا الحاکم .

ص: 187

إن قیل : سلّمنا بعدم الإطلاق لهذه الروایات ولکن یُدّعی فی المقام وجود دلیل آخر یدل علی حرمة التحاکم إلی الطاغوت وإلی أهل الجور بل إلی مطلق الفاقد للشرائط وهو یشمل بإطلاقه صورتی الاختیار والاضطرار ولو تمّ فلا یکون ما ذُکر (1) متّجهاً لقیام الدلیل بحسب الفرض فی حکم صورة الاضطرار فلا تصل النوبة حینئذ إلی التمسّک بالأصول المؤمّنة کأصالة البراءة وأمثالها ، وذلک الدلیل (2) نصوص قرآنیة یمکن أن یُستدلّ بها علی الحرمة مطلقاً وقد ذُکر فی المقام آیتان :

الأولی : قوله تعالی : (ألم تر إلی الذین یزعمون أنهم آمنوا بما أُنزل إلیک وما أُنزل من قبلک یریدون أن یتحاکموا إلی الطاغوت وقد أُمروا أن یکفروا به) (3) .

فهذه الآیة الشریفة ظاهرة فی المنع من التحاکم إلی الطاغوت باعتبار أن الامتناع من التحاکم إلیه من لوازم الإیمان وهؤلاء الذین یدّعون الإیمان بما أُنزل إلی الرسول (صلی الله علیه وآله) وما أُنزل من قبله یریدون أن یتحاکموا إلی الطاغوت والحال أنهم أُمروا أن یکفروا به فمقتضی الآیة الشریفة عدم إمکان الجمع بین الإیمان والتحاکم إلی الطاغوت فیقال هنا بأن الآیة الشریفة مطلقة ومقتضی إطلاقها هو المنع من التحاکم إلی الطاغوت باعتباره (4) من لوازم الإیمان مطلقاً (5) فلو سلّمنا باختصاص الروایات المتقدمة بحال الاختیار فهذه الآیة الشریفة مطلقة تشمل الحالین وعلیه فلا مجال للرجوع إلی الأصول المؤمّنة حینئذ .

ص: 188


1- (10) أی من التمسّک بالأصول المؤمّنة کالبراءة .
2- (11) أی الذی یدل علی المنع مطلقاً حتی فی صورة الاضطرار .
3- (12) النساء / 60 .
4- (13) أی الامتناع من التحاکم إلی الطاغوت .
5- (14) أی فی حال الاختیار وفی حال الاضطرار .

الآیة الثانیة : قوله تعالی : (ولا ترکنوا إلی الذین ظلموا فتمسّکم النار) (1) .

بدعوی صدق الرکون إلی الذین ظلموا علی التحاکم إلی أهل الجور ولو کان لأجل استنقاذ الحقّ فتکون الآیة الشریفة شاملة له بنهیها ومقتضی إطلاقها أنها تنهی عنه مطلقاً سواء کان مختاراً أو مضطرّاً .

قلتُ : أما بالنسبة إلی هذه الآیة فیلاحظ بشأن الاستدلال بها فی المقام ملاحظتان :

الأولی : عدم وضوح صدق عنوان الذین ظلموا فی محلّ الکلام إذ لیس الکلام فی خصوص قضاة الجور الذین یُعیّنهم السلطان الجائر وإنما هو أعمّ یشمل کل من یکون غیر واجد لمجموع الشرائط المعتبرة فی باب القضاء ولو کان بفقد واحد منها .

وبعبارة أخری : أن ظاهر هذه الآیة الشریفة أن عنوان الذین ظلموا صادق علی هؤلاء الذین نُهینا عن الرکون إلیهم بقطع النظر عن مسألة الترافع والتحاکم إلیهم فلیس ثبوت هذا العنوان لهم یتحقّق بالرکون إلیهم بل هو ثابت لهم فی مرتبة سابقة (2) فحینئذ یکون هذا صادقاً علی قضاة الجور لأنهم معیّنون من قبل السلطان الجائر فهم من الذین ظلموا بقطع النظر عن التحاکم إلیهم إلا أن هذا العنوان غیر صادق علی من یُترافع إلیه وقد فُرض فیه أنه واجد لجمیع الشرائط المعتبرة ما عدا شرطاً واحداً کالحریة - مثلاً - لو قیل باعتبارها فالتمسّک بهذه الآیة لإثبات الإطلاق فی محلّ الکلام لا یخلو من إشکال .

الملاحظة الثانیة : أن صدق الرکون علی مجرد الترافع إلی شخص لاستنقاذ الحقّ منه لیس واضحاً أیضاً باعتبار أن الظاهر من هذا التعبیر (3) هو الاعتماد والاستناد إلی قوة وسلطة وما شابه دون ما إذا استند إلی شخص یزاول القضاء وهو فاقد لبعض الشرائط بل صدق الرکون غیر واضح حتی فی حال الترافع إلی قضاة الجور لاستنقاذ الحقّ منهم لاسیّما علی قول بعض المحققین من أن الرکون لیس هو مطلق الاعتماد علی الشیء بل هو الاعتماد علی الشیء مع المیل بالقلب والنفس إلیه فإن المفروض فی ما نحن فیه هو الحدیث عن رجل مؤمن ملتزم یرید أن یستنقذ حقّه وخصمه یأبی إلا أن یتحاکم إلی السلطان الجائر فهو (4) یتحاکم إلیه مضطراً من غیر أن یکون لدیه أیّ میل قلبی أو هوی نفسی إلیه .

ص: 189


1- (15) هود / 113 .
2- (16) أی عن الترافع والتحاکم إلیهم .
3- (17) أی الرکون .
4- (18) أی هذا المؤمن الملتزم .

والحاصل أن هناک إشکالاً فی صدق عنوان الذین ظلموا فی محلّ الکلام وعدم وضوح فی صدق الرکون أیضاً .. ومن هنا فمن الصعوبة بمکان الالتزام بإطلاق الآیة الشریفة لحالتی الاختیار والاضطرار .

وأما ما یُلاحظ علی الآیة الأولی والدلیل الثانی فسیأتی الکلام فیه إن شاء الله تعالی .

المسالة-5-الکلام فی-قاضی التحکیم بحث الفقه

(بحث یوم الأحد 23 ذح 1432 ه 36)

کان الکلام فی صورة ما إذا لم یتمکّن الشخص من أخذ حقّه إلا بالترافع إلی حکّام الجور المعبّر عنها بصورة الاضطرار وتقدّم استعراض أدلة الجواز وکان البحث فی خصوص الدلیل الأول منها الذی هو فی واقعه تمسّک بالأصول المؤمّنة لکن بعد إخراج صورة الاضطرار من أدلة المنع والتحریم فإنه بعد عدم شمول هذه الأدلة لحال الاضطرار فحینئذ یُشکّ فی ثبوت الحرمة فی هذه الصورة فتجری الأصول النافیة - کالبراءة - للتأمین عنها فی هذه الصورة حیث بُیّن فی هذا الدلیل أن ما یدلّ علی المنع مختص بصورة الاختیار ولیس فیه إطلاق یشمل حالة الاضطرار وقد بیّنا کیفیة دلالة هذه الروایات علی ذلک ولکن قلنا إنه فی المقابل قد یقال بوجود بعض الأدلة المطلقة التی تدلّ علی المنع مطلقاً (1) فحینئذ لا یمکن الرجوع إلی البراءة (2) وقلنا إنه قد ذُکرت فی المقام آیتان کمثال علی الأدلة المطلقة وقد تقدّم الکلام حول الآیة الأولی وبیّنا أنه لا إطلاق لها .

وأما الآیة الأولی وهی قوله تعالی : (ألم تر إلی الذین یزعمون أنهم آمنوا بما أُنزل إلیک وما أُنزل من قبلک یریدون أن یتحاکموا إلی الطاغوت وقد أُمروا أن یکفروا به) فقد بیّنا تقریب الاستدلال بها بما حاصله أن المفهوم من الآیة أن الامتناع عن التحاکم إلی الطاغوت هو من لوازم الإیمان بما أُنزل إلی الرسول (صلی الله علیه وآله) وما أُنزل من قبله ومن بعض ما أُنزل إلیه (صلی الله علیه وآله) الأُمر بالکفر بالطاغوت فلا یجتمع الإیمان مع التحاکم إلی الطاغوت فتدلّ الآیة علی المطلوب وهو المنع من التحاکم إلی الطاغوت بأوضح عبارة وأبلغها ویُدّعی فی هاهنا أن هذا المنع مطلق یشمل حالتی الاختیار والاضطرار .

ص: 190


1- (1) أی الشامل لصورتی الاختیار والاضطرار .
2- (2) لطولیة الأدلة اللفظیة علی الأصول العملیة .

ولکن یمکن الخدشة فی هذا التقریب بأن سیاق الآیة الشریفة - بضمیمة ما ذُکر قبلها من الآیات کقوله تعالی : (وإن تنازعتم فی شیء فردّوه إلی الله والرسول) یُبیّن أنها تتحدّث عن جماعة معیّنة تدّعی أنها تؤمن بما أُنزل إلی الرسول (صلی الله علیه وآله) وما أُنزل من قبله لکنها فی الوقت نفسه تتحاکم إلی الطاغوت ومن الواضح أن هذه الجماعة کان بإمکانها أن تتحاکم إلی الرسول (صلی الله علیه وآله) فتکون مختصّة بصورة الاختیار وتدلّ علی المنع عن التحاکم إلی الطاغوت فی خصوص هذه الصورة ولا إطلاق لها لتشمل صورة الاضطرار .

ومن هنا یبدو أن الدلیل الأول (1) تام بمعنی أن الأدلة الدالة علی تحریم التحاکم إلی الطاغوت لیس فیها إطلاق یشمل حالة الاضطرار - کما صرّح بذلک المحقّقون من علمائنا فتخرج صورة الاضطرار من حیّز أدلة المنع فینفتح المجال لجریان الأصول المؤمّنة لتنفی الحرمة فیثبت الجواز .

الدلیل الثانی (2) : إنه بعد التنزّل والتسلیم بدلالة الدلیل علی المنع من التحاکم الی الطاغوت مطلقاً (3) نلجأ إلی التمسّک بأدلة نفی العسر والحرج ونفی الضرر وأمثالها ممّا یکون حاکماً علی الأدلة الأولیة بلا إشکال فإنه عندما یتحقّق موضوعها من العسر والحرج والضرر ونحوها من العناوین الثانویة تتقدّم بالحکومة علی أدلة الأحکام الأولیة فتکون رافعة للحرمة مطلقاً ومُثبتة للجواز تکلیفاً ووضعاً فلا إثم فی التحاکم إلی الطاغوت فی صورة لزوم الحرج والضرر عند عدم التحاکم إلیه کما لا حرمة لأکل المال المأخوذ بحکمه .

ص: 191


1- (3) وهو التمسّک بالأصول المؤمّنة لنفی الحرمة فی صورة الاضطرار .
2- (4) مما یُستدلّ به علی الجواز فی صورة الاضطرار .
3- (5) أی سواء فی صورة الاختیار أو فی صورة الاضطرار .

وإذا استُشکل فی هذا الدلیل بدعوی عدم تحقّق الحرج فی جمیع الموارد عند عدم التحاکم إلی الجائر فلا ریب أنه لا یمکن الاستشکال فی تحقّق الضرر لأن هذا الشخص المفروض عدم تمکّنه من أخذ حقه بالترافع إلی الحاکم العادل إذا مُنع من استنقاذ حقّه بالتحاکم إلی القاضی الفاقد للشرائط یکون قد فات علیه استرداد حقّه من خصمه فإن لم یکن مثل هذا فی جمیع الحالات حرجیاً إلا أنه فی جمیعها ضرری وأدلة نفی الضرر تکون موجبة لانتفاء الحرمة وإثبات الجواز فی محلّ الکلام ، علی أنه یکفی فی المقام تمامیة الدلیل الأول لإثبات الجواز لو نوقش فی صدق تحقق الضرر أیضاً فی جمیع الموارد .

هذا کله فی صورة کون المدّعی للحق - الذی یراد تجویز التحاکم الی الطاغوت له فی صورة الاضطرار - عالماً بثبوت حقه واقعاً أو تعبّداً کما لو أفتی مجتهده بثبوت حقٍّ له فی هذا المال أو قامت عنده البیّنة علی أن له مقداراً من المال عند زید - مثلاً ففی کلتا الحالتین یجوز له التحاکم إلی الجائر لاستنقاذ حقّه ویحلّ له المال المأخوذ بحکمه .

وأما إذا فُرض أنه لم یکن عالماً بذلک لا واقعاً ولا تعبّداً ففی هذه الحالة هل یجوز له الترافع عند الجائر إذا لم یتمکن من الترافع عند الحاکم العادل وهل یحلّ له أخذ المال بحکمه ؟

الظاهر عدم الجواز مطلقاً (1) ، والسبب فی ذلک هو الاستشکال فی صدق الاضطرار المسوّغ للجواز فی المورد لأن المقصود بالاضطرار کما فُسّر فی کلماتهم هو أن لا یتمکّن من استنقاذ حقّه إلا بالترافع عند الحاکم الجائر وهذا لا یصدق إلا عندما یکون عالماً بثبوت حقّه وأما إذا کان شاکاً فی أن له حقّاً عند زید - مثلاً - فلا یصدق الاضطرار حینئذ فلا یکون هذا مستثنی من الأدلة بل یکون مشمولاً لأدلة المنع وتحریم الرجوع إلی الطاغوت ومقتضی هذه الأدلة حرمة الرجوع إلیه والتحاکم عنده وبالتالی حرمة أخذ المال الذی یحکم به له .

ص: 192


1- (6) أی تکلیفاً فیترتب الإثم عند التحاکم إلی الجائر ووضعاً بمعنی عدم حلیة المال المأخوذ بحکمه .

وهاهنا مطلب ذکره غیر واحد من علمائنا (رض) وهو منقول عن المحقق السبزواری (قده) وحاصله الاستشکال فی الجواز الذی انتهینا إلیه فی صورة الاضطرار (1) ببیان أن الحکم من قبل الجائر هو فعل محرّم والترافع إلیه یُعدّ إعانة له علی الإثم فیکون منهیاً عنه ومحرّماً .

وقد نوقش فی هذا الکلام من قبل المحققین وعمدة الإشکال فیه أن الإعانة مأخوذ فی مفهومها قصد تحقق الفعل المُعان علیه ولذا لا تصدق فی مورد تهیئة الشخص للمقدمات التی یُرتکَب معها الحرام من قبل غیره إذا لم یکن من قصده ذلک والإعانةُ لا تصدق فی محلّ الکلام لأن المفروض أن قصد المدّعی هو استنقاذ حقّه ولیس من قصده إعانة الجائر علی الحرام المتمثّل بقضائه .

ولو تنزّلنا وسلّمنا صدق الإعانة فی المقام فتکون محکومة لأدلة نفی الحرج والضرر إذ لا یُفرّق فی الدلیل المحکوم لها بین أن یکون هو حرمة التحاکم إلی الطاغوت أو یکون هو حرمة الإعانة علی الإثم ففی الموردین تُخرج هذه الأدلة حالات الحرج والضرر من تحت أدلة المنع والتحریم لتکون النتیجة هو الحکم بالجواز .

وبهذا یتمّ الکلام فی المقام الأول حیث تقدّم فی بدایة البحث أن الکلام یقع فی مقامین : کان أولهما فی القاضی المنصوب والشرائط المعتبرة له والدلیل علی نصبه - .

المقام الثانی : فی قاضی التحکیم .

والکلام هنا فی أن الشرائط المفروغ عن اعتبارها فی القاضی المنصوب هل تکون معتبرة أیضاً فی قاضی التحکیم - کلاًّ أو بعضاً - أم لا ؟

ص: 193


1- (7) وأما فی صورة الاختیار فلا إشکال عندهم فی التحریم .

والمراد بقاضی التحکیم الشخص الذی یتراضی به الخصمان علی تقدیم الدعوی إلیه والفصل فیها لدیه ، ولا إشکال فی أن نفوذ حکمه - علی تقدیر القول به (1) - یکون فی طول التراضی والتوافق علی الرجوع إلیه فلو لم یتراض الطرفان به فلا یکون حکمه فی حقّهما نافذاً .. ومن هنا یختلف عن القاضی المنصوب فإن الأخیر لا یکون نفوذ حکمه فی طول التراضی بین الخصمین فلو فُرض أن أحد الخصمین لم یرض بحکمه مع ذلک ینفذ حکمه فی حقّه ویکون ملزماً بتنفیذه .

وعلیه فبالإمکان القول إنه یُعتبر فی قاضی التحکیم أن لا یکون منصوباً بالنصب الخاص ولا بالنصب العام لأنه بمجرد أن یکون منصوباً بأحد النصبین فلا إشکال فی أن نفوذ حکمه لا یکون فی طول التراضی حینئذ ، ولیس مقصودنا من ذلک أنّا لا نحتاج إلی إقامة الدلیل علی الإذن لقاضی التحکیم فی قضائه ونفوذ حکمه إذ لا یکفی فی مجرد تراضی الطرفین بهبل لا بد من إثبات ذلک بالدلیل کما هو الحال فی القاضی المنصوب غایة الفرق بینهما ما ذکرناه من کون نفوذ حکم الأول فی طول التراضی بخلاف الثانی .

وبناءً علی ما تقدّم نقول : إنه یمکن تصوّر قاضی التحکیم وتحقّقه فی زمان الغیبة وذلک بأن یرجع المتخاصمان إلی شخص فاقد لبعض الشروط المعتبرة فی القاضی المنصوب شریطة أن لا تکون من الشروط المعتبرة فی نفس القضاء وفصل الخصومة بل تکون من الشرائط المعتبرة فی منصب القضاء وإلا فلا یمکن حینئذ تصوّر قاضی التحکیم فی زمان الغیبة لأنه إذا کان یُعتبر فیه کل ما یُعتبر فی القاضی المنصوب من الشرائط فحینئذ یقال إنه إذا کان جامعاً لکل تلک الشرائط یکون فی الحقیقة قاضیاً منصوباً فلا یمکن حینئذ تصور قاضی التحکیم بهذا العنوان أصلاً وإن لم یکن جامعاً للشرائط فلا یکون حکمه حینئذ نافذاً لتوقّف نفوذ حکمه علی جامعیته للشرائط وهو غیر جامع لها بحسب الفرض وعلیه فینحصر تصور قاضی التحکیم فی زمان الغیبة فی ما إذا کان من یتراضی به الخصمان حکماً بینهما فاقداً لبعض الشرائط المعتبرة فی القاضی المنصوب علی أن لا تکون من الشرائط المعتبرة فی نفس القضاء وفصل الخصومة فبعدم جامعیته للشرائط المعتبرة فی القاضی المنصوب لا یکون حینئذ من هذا القبیل کما لو کان فاقداً لشرط الاجتهاد وبکون ما یفتقده من الشرائط لیس من قبیل ما یُعتبر فی أصل القضاء یکون حکمه نافذاً فی حقّ من تراضیا به کما لو کان فاقداً لشرط العدالة .

ص: 194


1- (8) وهذه مسألة سیأتی الحدیث عنها وبیان أدلتها ومدی تمامیتها (منه دامت برکاته) .

فالنتیجة أنّا إذا قلنا بأنه یُعتبر فی قاضی التحکیم جمیع ما یُعتبر فی القاضی المنصوب فیتّجه الإشکال بعدم إمکان تصوّر قاضی التحکیم فی زمان الغیبة لأن الشخص إن کان واجداً لجمیع تلک الشرائط فهو قاض منصوب وإلا فهو قاض جائر ، وأما إذا قلنا بأنه لا یُعتبر فی قاضی التحکیم جمیع ما یُعتبر فی القاضی المنصوب بل المعتبر فیه خصوص ما هو معتبر فی أصل القضاء وفصل الخصومة فحینئذ یمکن البحث فی نفوذ حکمه بحسب الأدلة وعدمه وهذا ما سیظهر من خلال استعراض الأدلة الدالة علی ذلک .

القضاء-المسالة-5-الکلام فی-قاضی التحکیم-ادلة مشروعیة قضاء التحکیم بحث الفقه

(بحث یوم الاثنین 24 ذح 1432 ه 37)

تقدّم الکلام بأنه علی تقدیر أن یکون المعتبر فی قاضی التحکیم خصوص ما هو معتبر فی أصل القضاء وفصل الخصومة فحینئذ یمکن البحث فی نفوذ حکمه بحسب الأدلة وعدمه وهذا ما سیظهر من خلال استعراض الأدلة الدالة علی مشروعیة قضاء قاضی التحکیم وما یُستدلّ به علی نفوذ قضائه حیث استُدلّ علی ذلک بعدّة أمور :

الأمر الأول : الروایات ، وهی علی طوائف :

القسم الأول :

ما دلّ علی نصب الحاکم وجعله من قبل الإمام (علیه السلام) وهما روایتان :

الأولی : معتبرة أبی خدیجة المتقدّمة التی ورد فیها قوله (علیه السلام) : " انظروا إلی رجل منکم یعلم شیئاً من قضائنا فاجعلوه بینکم فإنی قد جعلته قاضیاً فتحاکموا إلیه " .

والثانیة : مقبولة ابن حنظلة المتقدّمة أیضاً التی ورد فیها قوله (علیه السلام) : " انظروا إلی من کان منکم قد روی حدیثنا ونظر فی حلالنا وحرامنا وعرف أحکامنا فارضوا به حَکَماً فإنی قد جعلته علیکم حاکماً " .

ص: 195

وتقریب الاستدلال بالروایتین أن قوله (علیه السلام) فی المعتبرة : (فإنی قد جعلته قاضیاً) قد ورد بعد قوله : (فاجعلوه بینکم) ، وقوله فی المقبولة : (فإنی قد جعلته علیکم حاکماً) قد ورد بعد قوله : (فارضوا به حَکَماً) فیکون کلّ من القولین متفرّعاً عمّا قبله ممّا یعنی أن جعل الشخص قاضیاً وحاکماً وجعل قضائه نافذاً من قبل الإمام (علیه السلام) هو فی طول التراضی به من قبل الخصمین فتکون الروایة مشیرة إلی قاضی التحکیم لا إلی القاضی المنصوب .

وأقول : تقدّم سابقاً المناقشة فی هذا التقریب بأنّا نحتمل أن قوله (علیه السلام) : (فإنی قد جعلته قاضیاً) وقوله : (فإنی قد جعلته علیکم حاکماً) هو بمثابة العلّة لما قبله ولیس متفرّعاً علی ما قبله کما ادّعیَ بمعنی أن الإمام (علیه السلام) بعد أن جعل الشخص المذکورة صفاته فی الروایتین (1) قاضیاً وحاکماً أمرهم (علیه السلام) بأن یجعلوه بینهم قاضیاً ویرضوا به حَکَماً فیکون جعله ونصبه (علیه السلام) علّة لأمرهم بالرضا به قاضیاً وحاکماً وإذا کان الأمر کذلک یکون التفرّع حینئذ بالعکس فیکون الرضا به هو الذی فی طول الجعل والنصب لا العکس .

وعلی ذلک فتکون الروایتان ناظرتین إلی القاضی المنصوب فیصحّ الاستدلال بهما علیه لا علی قاضی التحکیم ، وهذا الاحتمال إن لم یکن هو المستظهر من الروایتین فلا أقلّ من کونه احتمالاً معتداً به فیهما علی نحو یمنع من الاستدلال بهما علی نفوذ قضاء التحکیم .

وقد تقدّم سابقاً الإشارة إلی أن السید الخوئی (قده) اعترف بهذا الأمر (2) فی المقبولة - ولذا جعلها من الأدلة علیه ، نعم .. ناقش (قده) فی سندها وألغاها بهذا الاعتبار - لکنه أنکره فی المعتبرة وإنما استدل بها (3) علی قاضی التحکیم .. کما تقدّم أیضاً الإشارة إلی أن الظاهر أن هذا التفریق بین الروایتین لیس واضحاً لأنهما بمثابة واحدة ففی کل منهما ورد ما یُشیر إلی الجعل من قوله : (فإنی قد جعلته - أی قاضیاً أو حاکماً -) بعد قوله : (فاجعلوه بینکم) أو (فارضوا به حَکَماً) ولیس ثمة فرق ظاهر بین التعبیرین یستدعی التفرقة بینهما فی الاستدلال لیُذعن بدلالة المقبولة علی القاضی المنصوب وتُنکر دلالتها علیه فی المعتبرة بل قد یقال إن الأمر بالعکس وهو أن احتمال نظر المقبولة بقرینة ذیلها إلی قاضی التحکیم أکبر من احتمال نظر المعتبرة إلیه حتی إن بعضهم استدلّ بهذه القرینة علی ذلک فقد ورد فی ذیل المقبولة قول السائل : (فإن کان کل واحد اختار رجلاً من أصحابنا ... [إلی أن قال :] فماذا یفعل فی حالة اختلافهما فی الحکم ؟ .. إلی آخر الروایة) حیث یقال هنا بأن اختیار کلّ واحد من المتخاصمین رجلاً للقضاء إنما یناسب قاضی التحکیم لا القاضی المنصوب إذ لا اختیار فیه وظاهر هذا الکلام هو المفروغیة لدی السائل عن مشروعیة قاضی التحکیم ولذا سأل عن تعارض القاضیین فی باب التحکیم والإمام (علیه السلام) أجابه علی حکم التعارض ولم یتطرّق إلی أصل المشروعیة فیُفهم من سکوته (علیه السلام) عنها الإمضاء والتقریر فتثبت بذلک مشروعیة قضاء التحکیم .

ص: 196


1- (1) من کونه قد علم شیئاً من قضایاهم وروی حدیثهم ونظر فی حلالهم وحرامهم وعرف أحکامهم .
2- (2) أی نظر الروایة إلی القاضی المنصوب لا إلی قاضی التحکیم .
3- (3) أی بالمعتبرة .

هذا .. ولکن الصحیح خلاف هذا وهو عدم تمامیة أن یکون الذیل المذکور قرینة علی نظر المقبولة إلی قاضی التحکیم وذلک لأنه یُحتمل فیه أیضاً أن یکون السؤال ناظراً إلی القاضی المنصوب لا إلی قاضی التحکیم .. وتوضیح ذلک :

أنه قد تقدّم قبل قلیل (1) أن صدر الروایتین ناظر إلی القاضی المنصوب الذی ذُکرت صفاته فی الروایتین فجاء عقیبه سؤال السائل متفرّعاً علی ذلک وهو أنه ماذا یُفعل فی حالة اختلاف الفقیهین المنصوب کلّ منهما بالنصب العام فی الحکم ؟

والحاصل أن القرینة المزبورة لا تتم إلا علی دعوی کون صدر الروایة وارداً فی قاضی التحکیم لیکون الذیل باعتباره متفرعاً علیه مؤکّداً علی نظر الروایة إلیه وقد عرفت أن الصحیح خلافها وأن صدر الروایة ناظر إلی القاضی المنصوب وبهذا ینهدم ما بُنی علی تلک القرینة من المفروغیة لدی السائل عن مشروعیة قضاء التحکیم ولذا کان سؤاله عن تعارض القاضیین فی باب التحکیم وأن الإمام (علیه السلام) أجابه علی حکم التعارض ولم یتطرّق إلی المشروعیة فیُفهم من سکوته (علیه السلام) عنها الإمضاء لها إلی آخر ما ذُکر .

والحاصل أنه لم یتّضح الوجه فی ما أبداه السید (قده) من التفرقة بین الروایتین بل هما بمثابة واحدة وتقریب الاستدلال فیهما واحد وجوابه فیهما واحد أیضاً .

القسم الثانی :

ما دلّ علی افتراض المنازعة بین رجلین والتراضی منهما بثالث حکماً وهی صحیحة الحلبی : " قال : قلت لأبی عبد الله (علیه السلام) : ربما کان بین الرجلین من أصحابنا المنازعة فی الشیء فیتراضیان برجل منّا ، فقال : لیس هو ذلک إنما هو الذی یجبر الناس علی حکمه بالسیف والسوط " (2) .

ص: 197


1- (4) فی الحدیث عن علّیة الجعل والنصب للأمر بالرضا بالمجعول قاضیاً وحاکماً .
2- (5) التهذیب مج6 ص223 والوسائل الباب الأول الحدیث الثامن مج27 ص15 .

وهذه الروایة رواها الشیخ (قده) بإسناده عن الحسین بن سعید عن ابن أبی عمیر عن حمّاد عن الحلبی والرواة ثقات وطریق الشیخ (قده) إلی الحسین بن سعید صحیح کما فی المشیخة .

وتقریب الاستدلال بهذه الروایة أن ظاهرها جواز التحاکم إلی الرجل الذی تراضی به المتنازعان ویترتب علی ذلک بالملازمة العرفیة نفوذ حکمه لأن نفوذ حکم الحاکم فرع جواز الترافع إلیه شرعاً وإلا انعدمت فائدة الترافع إلیه ، وکان السائل متردّداً فی صدق التحاکم إلی الطاغوت علی مورد فرضه من تراضی الخصمین برجل من أهل الاعتقاد بالولایة فنفی له الإمام (علیه السلام) ذلک وأجابه بأن المنهیّ عنه هو التحاکم إلی من یجبر الناس علی حکمه بالسیف والسوط فیظهر من ذلک جواز التحاکم إلی من یتراضی به المتنازعان ممّن کان من أهل الاعتقاد بالولایة فیثبت بذلک مشروعیة قضاء التحکیم وجوازه تکلیفاً ووضعاً .

وسیأتی التعلیق علی هذه الروایة بعد إتمام سرد روایات الاستدلال .

القسم الثالث :

ما دلّ علی افتراض المنازعة بین رجلین وعدم التراضی من أحدهما بثالث حَکَماً وهی صحیحة أبی بصیر عن أبی عبد الله (علیه السلام) : " قال : أیُّما رجل کان بینه وبین أخ له مماراة فی حق فدعاه إلی رجل من اخوانه لیحکم بینه وبینه فأبی إلا أن یرافعه إلی هؤلاء کان بمنزلة الذین قال الله عز وجل : (ألم تر إلی الذین یزعمون أنهم آمنوا بما انزل إلیک وما انزل من قبلک یریدون أن یتحاکموا إلی الطاغوت وقد أمروا أن یکفروا به) " (1) .

ص: 198


1- (6) الکافی مج7 ص411 ، والتهذیب مج6 ص220 ، والفقیه مج3 ص4 ، والوسائل الباب الأول الحدیث الثانی مج27 ص12 .

وهذه الروایة رواها الشیخ الصدوق (قده) عن حریز وطریقه إلیه صحیح کما فی المشیخة ولکن طریق الشیخ الطوسی (قده) فیه مشکلة تقدّم بیانها .

وتقریب الاستدلال بهذه الروایة أن إطلاق الرجل الذی دعا أحدُ الخصمین صاحبَه إلی التحاکم إلیه وعدم تقییده إلا بکونه من إخوانه - أی أهل الاعتقاد بالولایة - مقتضاه صحة التحاکم عند من یکون من هذا القبیل (1) سواء کان واجداً لسائر الشرائط أو لم یکن غایة الأمر حصول التراضی به وذلک هو قاضی التحکیم فیثبت المطلوب من قیام الدلیل علی مشروعیة قضائه ونفوذ حکمه فإن الروایة ظاهرة فی صحة الترافع إلی مثل هذا الشخص لولا امتناع الطرف الآخر من دعوة صاحبه إلی الترافع عنده وطلبه فی المقابل إلی التحاکم إلی أهل الجور وهو ما وصفه الإمام (علیه السلام) بأنه تحاکم إلی الطاغوت وجعله مصداقاً للآیة الشریفة المذکورة .

هذا .. ولکن التمسّک بالإطلاق مشکل لأن الروایة لیست مسوقةً لبیان خصوصیة الحاکم وهل یُعتبر فیه أن یکون واجداً للشرائط المعتبرة فی القاضی المنصوب أو لا وإنما هی مسوقة لبیان النهی عن التحاکم إلی الطاغوت فإن مصبّ جواب الإمام (علیه السلام) کان حول رَفْض الطرف الآخر وإصراره علی التحاکم إلی هؤلاء ووَصْف الإمام (علیه السلام) ذلک ب_أنه تحاکم إلی الطاغوت فکیف یصح التمسّک بإطلاق لم یکن الإمام (علیه السلام) فی مقام بیانه لکی یُثبَت به أن الرجل من أهل الاعتقاد بالولایة یجوز التحاکم إلیه مطلقاً سواء کان منصوباً أو لم یکن وسواء کان واجداً للشرائط أو لم یکن .

القسم الرابع :

ص: 199


1- (7) أی رجل من أهل الاعتقاد بالولایة .

ما دلّ علی عدم المنع من تولیة أهل محلّة لشخصٍ قاضیاً بینهم وهی روایة أحمد بن الفضل الکناسی : " قال: قال لی أبو عبد الله (علیه السلام): أیّ شیء بلغنی عنکم ؟ قلت: ما هو ؟ قال : بلغنی أنکم أقعدتم قاضیاً بالکناسة ، قال : قلت : نعم جُعلت فداک رجل یقال له عروة القتّات وهو رجل له حظّ من عقل نجتمع عنده فنتکلم ونتساءل ثم یردّ ذلک إلیکم ، قال : لا بأس " (1) .

وسیأتی التعقیب علی هذه الروایات إن شاء الله تعالی .

القضاء-المسالة-5-الکلام فی-قاضی التحکیم-ادلة مشروعیة قضاء التحکیم بحث الفقه

(بحث یوم الثلاثاء 25 ذح 1432 ه 38)

کان الکلام فی روایة أحمد بن الفضل الکناسی الواردة فی القسم الرابع التی نصّها :

" قال : قال لی أبو عبد الله (علیه السلام) : أیّ شیء بلغنی عنکم ؟ قلت : ما هو ؟ قال : بلغنی أنکم أقعدتم قاضیاً بالکناسة ، قال : قلت : نعم جُعلت فداک رجل یقال له عروة القتّات وهو رجل له حظّ من عقل نجتمع عنده فنتکلم ونتساءل ثم یردّ ذلک إلیکم ، قال : لا بأس " (2) .

وتقریب الاستدلال بالروایة باعتبار ظهورها فی أن عروة القتّات منصوب من قبل الناس قاضیاً فتکون الروایة مشیرة إلی قضاء التحکیم ، وقوله (علیه السلام) : (لا بأس) یدلّ علی مشروعیة هذا النوع من القضاء ونفوذ الحکم فیه .

ص: 200


1- (8) اختیار معرفة الرجال للشیخ الطوسی مج2 ص669 ، والوسائل الباب الحادی عشر الحدیث الواحد والثلاثون مج27 ص147.
2- (1) اختیار معرفة الرجال للشیخ الطوسی مج2 ص669 ، والوسائل الباب الحادی عشر الحدیث الواحد والثلاثون مج27 ص147.

واعتُرض علی هذا الاستدلال بأن قول الراوی فی ذیل الروایة : (نجتمع عنده فنتکلم ونتساءل ثم یردّ ذلک إلیکم) یفسّر القضاء الوارد فی صدر الروایة وأن المراد به التباحث فی الأمور الفقهیة والعلمیة فتکون الروایة حینئذ أجنبیة عن محلّ الکلام إذ لا إشکال فی أنه یجوز لجماعةٍ أن ینصبوا شخصاً یتباحثون معه ویتذاکرون أمور دینهم لاسیما وأنه یردّ أجوبته إلی الأئمة (علیهم السلام) .

هکذا ذُکر .. ولکنه غیر وارد لأنه یُحتمل فی المقابل أن المقصود بذیل الروایة (1) لیس ما ادُّعی من کونه تفسیراً للقضاء بل المقصود بیان حالهم مع هذا الشخص المنصوب من قبلهم قاضیاً فالسائل بعد أن أجاب الإمام (علیه السلام) بأن الأمر کما بلغه من أنهم نصبوا رجلاً منهم قاضیاً شرع فی بیان حال هذا الشخص وکونه رجلاً له حظّ من عقل یجتمعون عنده ویتکلمون ویتساءلون فیجیبهم بما یعرف عن الأئمة (علیه السلام) فالروایة لیس لها ظهور فی تفسیر القضاء کما زًعم بل هی ظاهرة فی القضاء بمعنی فصل الخصومة وذیلُها یُبیّن حالهم مع هذا الشخص الذی نصبوه قاضیاً .

نعم .. ما یرد علی هذه الروایة أمر آخر وهو أنه لیس فیها ما یدلّ علی عدم توفّر الشروط المعتبرة فی القاضی المنصوب فی ذلک الشخص لیقال بدلالتها حینئذ علی قاضی التحکیم أی أننا لا نستطیع أن نستفید من الروایة أن ذلک الشخص لم یکن واجداً للشرائط المعتبرة فی القاضی المنصوب حتی ینفتح المجال للقول بدلالتها علی قاضی التحکیم بل المستفاد منها أن هذه الشرائط متوفرة فیه ومنها الذکورة لقول السائل فی جوابه للإمام (علیه السلام) : (رجل) ، وکذا الإیمان والعدالة بمعنی ظهور الصلاح وعدم الفسق - لاستبعاد أن یجتمع الشیعة عند شخص وینصبونه قاضیاً بینهم ویردّ أجوبته عن مسائلهم إلی الأئمة (علیهم السلام) ثم لا یکون مثلهم شیعیاً أو غیر ظاهر الصلاح ، ومنها أیضاً العلم بالروایات والأخبار لأنه مقتضی کونهم یجتمعون عنده ویتذاکرون ویتساءلون لدیه وکونه یصدر فی أجوبته لهم عن منهل الأئمة (علیهم السلام) ، وهذه الشرائط متی ما توفّرت فی شخص فیکون منصوباً من قبل الأئمة (علیهم السلام) بالنصب العام ، وقول الإمام (علیه السلام) : (لا بأس) إشارة إلی جواز التحاکم إلی شخص جامع لتلک الصفات لکونه حینئذ منصوباً من قبلهم بالنصب العام فتکون الروایة واردة فی القاضی المنصوب لا قاضی التحکیم .

ص: 201


1- (2) أعنی قوله : (نجتمع عنده فنتکلم ونتساءل ثم یردّ ذلک إلیکم) .

هذا مضافاً إلی عدم تمامیة سند هذه الروایة باعتبار أن کلاًّ من أحمد بن منصور وأحمد بن الفضل الکناسی لم یوثّق بل هما من المجاهیل .

القسم الخامس :

ما دلّ علی التراضی بعدلین واختلافهما فی الحکم ، وهما روایتان :

الأولی : معتبرة داوود بن الحصین :

" فی رجلین اتفقا علی عدلین جعلاهما بینهما فی حکم وقع بینهما فیه خلاف فرضیا بالعدلین فاختلف العدلان بینهما ، علی قول أیّهما یمضی الحکم ؟ قال : یُنظَر إلی أفقههما وأعلمهما بأحادیثنا وأورعهما فینفذ حکمه ولا یلتفت إلی الاخر " (1) .

ولهذه الروایة طریقان أحدهما عن الشیخ الصدوق (قده) بإسناده عن داوود بن الحصین عن أبی عبد الله (علیه السلام) وهذا السند صحیح لتمامیة طریق الصدوق (قده) إلی داوود بن الحصین کما فی المشیخة ، والآخر عن الشیخ الطوسی (قده) بإسناده عن محمد بن علی بن محبوب عن الحسن بن موسی الخشّاب عن أحمد بن محمد بن أبی نصر عن داوود بن الحصین عن أبی عبد الله (علیه السلام) ، وهذا السند ضعیف لأن طریق الشیخ (قده) یمرّ بالحسن بن موسی الخشّاب وهو ممّن لم تثبت وثاقته فالروایة معتبرة بالطریق الأول .

وتقریب الاستدلال بهذه الروایة من جهة ظهور قوله : (فی رجلین اتّفقا علی عدلین جعلاهما بینهما فی حکم وقع بینهما فیه خلاف فرضیا بالعدلین) فی قاضی التحکیم لفرض الاتفاق من المتخاصمین علی الحاکم والتراضی به والروایة تدلّ علی إمضاء حکمه ومشروعیة قضائه فإن جواب الإمام (علیه السلام) بقوله : (فینفذ حکمه) وإن کان وارداً فی حالة التعارض بین الحاکمین اللذین یرضی بهما کلا الطرفین إلا أنه حیث حکم (علیه السلام) بتقدیم حکم من هو أعدل وأفقه وأورع دلّ علی المفروغیة عن مشروعیة الاتفاق علی حاکم والتراضی به غایة الأمر أنه فی خصوص المورد لم یتّفق المتخاصمان علی حاکم واحد بل علی حاکمین ولذا لمّا اختلفا فی حکمها احتاج السائل أن یبیّن له الإمام (علیه السلام) أن الحکم یمضی علی قول أیّ منهما فظاهر الروایة إذاً المفروغیة عن مشروعیة قضاء الحاکم مطلقاً - أی سواء کان منصوباً أو لم یکن وسواء کان واجداً للشرائط المعتبرة فی القاضی المنصوب أو لم یکن ولا نعنی بقاضی التحکیم إلا هذا .

ص: 202


1- (3) الفقیه مج3 ص8 ، والتهذیب مج6 ص301 ، والوسائل الباب التاسع الحدیث العشرون مج27 ص113 .

والحاصل أن قاضی التحکیم لا بدّ فیه من توفر الإطلاق من جهتی النصب والشرائط المعتبرة فی القاضی المنصوب فإذا ثبت مثل هذا الإطلاق فی مشروعیة حکم القاضی ونفوذ حکمه یثبت بها مشروعیة قضاء التحکیم ونفوذ الحکم فیه .

هذا .. ولکن لوحظ علی هذا الاستدلال بعدم تمامیة الإطلاق لأمرین :

الأول : ظهور کون الروایة مسوقة سؤالاً وجواباً لبیان حکم التعارض بین الحاکمین فإن السؤال کان منصبّاً علی هذه الجهة لا علی بیان مشروعیة قضاء کلّ من الحاکمین حتی یصحّ التمسّک بإطلاق الروایة لإثبات مشروعیة قضاء کلّ منهما ونفوذ حکمه وإن لم یکن منصوباً وواجداً لسائر الشرائط المعتبرة فی القاضی المنصوب ولذا لا یصحّ القول بأنها فارغة عن مشروعیة قضاء کلّ من الحاکمین .

وإن أبیت فلا أقلّ من أن هذه الروایة کما یُمکن تفسیرها بقاضی التحکیم یُمکن تفسیرها أیضاً بالقاضی المنصوب إذ لا مشکلة فی افتراض أن کلاًّ من الحاکمین کان واجداً للشرائط المعتبرة فی القاضی المنصوب ، والتعارضُ بین الحاکمین کما یُمکن فرضه فی قاضی التحکیم یُمکن فرضه فی القاضی المنصوب أیضاً .. وعلی هذا فتکون الروایة مجملة من هذه الجهة فلا یصحّ الاستدلال بها علی المطلوب أعنی مشروعیة قضاء التحکیم .

وتجدر الإشارة إلی أن التراضی وحده لا یُشکّل قرینة علی النظر إلی قاضی التحکیم إذ لا مانع من فرضه بالنسبة إلی القاضی المنصوب أیضاً .

الأمر الثانی : مناقضة قوله (علیه السلام) : (یُنظَر إلی أفقههما وأعلمهما بأحادیثنا وأورعهما) له (1) لأن الظاهر من هذه العبارة أن کلاًّ منهما واجد للصفات المعتبرة فی القاضی المنصوب حیث إن کلاًّ منهما فقیه وعالم وورع وهی من الصفات المعتبرة فی القاضی المنصوب .

ص: 203


1- (4) أی للإطلاق .

وعلی ذلک فیشکل التمسّک بالإطلاق فلا یمکن الاعتماد علی هذه الروایة لإثبات مشروعیة قضاء التحکیم .

الروایة الثانیة : روایة موسی بن أکیل :

" قال : سُئل عن رجل یکون بینه وبین أخ منازعة فی حقّ فیتّفقان علی رجلین یکونان بینهما فحکما فاختلفا فی ما حکما قال : وکیف یختلفان ؟ قلت : حَکَم کل واحد منهما للذی اختاره الخصمان فقال : یُنظَر إلی أعدلهما وأفقههما فی دین الله عزّ وجل فیمضی حکمه " (1) .

وهذه الروایة أوردها الشیخ (قده) فی التهذیب بإسناده عن محمد بن علی بن محبوب عن محمد بن الحسین عن ذبیان بن حکیم الأودی عن موسی بن أکیل النمیری عن أبی عبد الله (علیه السلام) والسند ضعیف بذبیان بن حکیم فإنه لم یوثّق .

نعم .. یظهر من النجاشی فی ترجمة ابن أخیه وهو أحمد بن یحیی بن حکیم أن ذبیان من المعاریف المشهورین علی صعید الرواة حیث قال فی ترجمة أحمد : (أبو جعفر ابن أخی ذبیان) (2) ، ولکن الکلام فی کفایة هذا القدر فی إثبات الوثاقة والظاهر عدم الکفایة إلا إذا بُنی علی ما التزم به بعضٌ من وثاقة المعاریف والمشهورین ما لم یرد فیهم قدح ، وهو ضعیف .

والکلام فی هذه الروایة من حیث الاستدلال وما لوحظ علیه من الأمرین نفسه فی سابقتها فلیُلاحظ .

هذه هی عمدة الروایات فی المقام وتبیّن مما سبق عدم تمامیة شیء منها بنحوٍ یمکن الاعتماد علیه لإثبات مشروعیة قضاء التحکیم .

ص: 204


1- (5) التهذیب مج6 ص301 ، والوسائل الباب التاسع الحدیث الخامس والأربعون مج27 ص123 .
2- (6) رجال النجاشی ص81 .

نعم .. تبقی عندنا روایة أجّلنا الکلام علیها إلی هذا المحلّ وهی روایة الحلبی الواردة فی القسم الثانی وقد تقدّمت الإشارة إلی تمامیتها سنداَ .

وأما من حیث دلالتها فلا ینبغی التأمل والتشکیک فی أنها ظاهرة فی جواز التحاکم إلی رجل من أهل الاعتقاد بالولایة مع افتراض تراضی الطرفین به وتقدّم أن هذا یدلّ بالملازمة العرفیة الواضحة علی نفوذ حکمه فیثبت المطلوب وهو مشروعیة قضاء التحکیم ونفوذ الحکم فیه .

ولکن ثمة تساؤل هاهنا وحاصله أنه ما الذی دعا المتکلّم إلی أن یطرح ما طرحه علی الإمام (علیه السلام) من قوله : (ربما کان بین الرجلین من أصحابنا المنازعة فی الشیء فیتراضیان برجل منّا) لیقول له الإمام (علیه السلام) : (لیس هو ذلک إنما هو الذی یجبر الناس علی حکمه بالسیف والسوط) ، وبعبارة أخری ما الشبهة التی علقت فی ذهن المتکلّم حتی دعاه إلی ذکر ما ذکره للإمام (علیه السلام) ممّا یتضمّن السؤال عن مشروعیة هذا النوع من القضاء ؟

ثمة احتمالان فی المقام :

الأول : أن یکون من جهة ارتکاز الحکم بحرمة التحاکم إلی الطاغوت وهو أمر معروف وشائع فاستدعی من السائل أن یشکّ فی أنه هل ینطبق علی مثل هذا الترافع أو لا .. فالشکّ فی المشروعیة ناشئ من احتمال مصداقیة المورد للتحاکم إلی الطاغوت المرتکز حرمته فی الأذهان .

الثانی : أن یکون من جهة احتمال التلازم بین نفوذ الحکم ونصب الحاکم من قبل الأئمة (علیهم السلام) فاستدعی من السائل أن یشکّ فی أن الحاکم الذی یتراضی به المتخاصمان ولم یکن منصوباً من قبل الأئمة (علیهم السلام) هل یکون نافذ الحکم أو لا .. فالشک فی نفوذ الحکم فی المورد ناشئ من احتمال اعتبار النصب فی کل قضاء .

ص: 205

والآثار تختلف باختلاف هذین الأمرین وسیأتی الکلام علی ذلک إن شاء الله تعالی .

القضاء-المسالة-5-الکلام فی قاضی التحکیم ادلة مشروعیة قضاء التحکیم بحث الفقه

(بحث یوم الأربعاء 26 ذح 1432 ه 39)

کان الکلام فی صحیحة الحلبی وقلنا إنها ظاهرة فی السؤال عن مشروعیة التحاکم إلی رجل من أهل الاعتقاد بالولایة وبالتالی نفوذ حکمه مع افتراض تراضی الطرفین به .. وتقدّم أن ثمة تساؤلاً فی المقام حاصله أنه ما الذی دعا المتکلّم إلی أن یذکر للإمام (علیه السلام) قولَه : (ربما کان بین الرجلین من أصحابنا المنازعة فی الشیء فیتراضیان برجل منّا) لیقول له الإمام (علیه السلام) : (لیس هو ذلک إنما هو الذی یجبر الناس علی حکمه بالسیف والسوط) ؟

وبعبارة أخری : ما هی الشبهة التی علقت فی ذهن المتکلّم حتی استدعت منه أن یذکر للإمام (علیه السلام) ما یتضمّن السؤال عن مشروعیة القضاء بالتراضی کما یشیر إلیها قوله (علیه السلام) فی الجواب : (لیس هو ذاک) وأن هناک مطلباً فی ذهن السائل تخیّل بموجبه انطباقه علی ذلک الترافع ؟

وذکرنا أنه یمکن تصوّره بنحوین :

الأول : أن یکون من جهة ارتکاز الحکم بحرمة التحاکم إلی الطاغوت وهو أمر معروف وشائع فاستدعی من السائل الشکّ فی انطباقه علی مثل هذا الترافع .. فالشکّ فی المشروعیة ناشئ من احتمال مصداقیة المورد للتحاکم إلی الطاغوت المرتکز حرمته فی الأذهان .

الثانی : أن یکون من جهة احتمال التلازم بین نفوذ الحکم ونصب الحاکم من قبل الأئمة (علیهم السلام) فاستدعی من السائل الشکّ فی مشروعیة الحاکم الذی یتراضی به المتخاصمان ولم یکن منصوباً من قبل الأئمة (علیهم السلام) ونفوذ حکمه .. فالشکّ فی نفوذ الحکم فی المورد ناشئ من احتمال اعتبار النصب فی کل قضاء ، وکأن السائل هنا یرید أن یستعلم عن مدی قیام التراضی مقام النصب بحیث إن مشروعیة القضاء کما تستند إلی النصب العام أو الخاص تستند إلی التراضی أیضاً .

ص: 206

وأقول : لا یخفی أنه علی کلّ من الاحتمالین یُستفاد من جواب الإمام (علیه السلام) بقوله : (لیس هو ذاک) جواز مثل هذا الترافع إما لعدم کونه من الترافع إلی الطاغوت بناءً علی الاحتمال الأول وإما لعدم احتیاجه إلی النصب بناءً علی الثانی .

کما لا یخفی أیضاً أن قوله (علیه السلام) فی ذیل الروایة : (إنما هو الذی یجبر الناس علی حکمه بالسیف والسوط) ناظر بناءً علی الاحتمال الأول إلی أهل الجور والقضاة المعیّنین من السلاطین الظلمة فیکون المقصود بقوله (علیه السلام) : (لیس هو ذاک) أن القاضی الذی یتراضی به الطرفان لیس من قبیل قضاة الجور الذین یحرم التحاکم إلیهم ، وبناءً علی الاحتمال الثانی ناظر إلی القاضی المنصوب الجامع للشرائط فیکون المقصود بقوله المتقدّم هو أن القاضی الذی یتراضی به الطرفان لا یحتاج إلی النصب وإنما الذی یحتاج إلیه هو القاضی المنصوب الذی من صلاحیاته أن یجبر الناس علی تنفیذ حکمه بالقوة إذا تمکّن من ذلک .

إذاً فعلی کلا التقدیرین نستفید جواز الترافع إلی رجل من أهل الاعتقاد بالولایة مع التراضی به إما لعدم کونه من أهل الجور وإما لعدم احتیاجه إلی النصب .

والروایة علی الاحتمال الثانی لها دلالة واضحة علی مشروعیة قاضی التحکیم ونفوذ حکمه لأن السائل فیها یسأل عن مدی مشروعیة التحاکم إلی قاضٍ غیر منصوب حصل التراضی به فکأنه یسأل عن مدی قیام التراضی مقام النصب والإمام (علیه السلام) أجابه بأن مثل هذا لا یحتاج إلی نصب بل یکون قضاؤه مشروعاً وحکمه نافذاً بمجرّد التراضی وإنما الذی یحتاج إلی النصب هو القاضی الذی تُعطی له شرعاً صلاحیة تنفیذ أحکامه بالقوة .. فإذاً دلالة الروایة علی المطلوب (1) علی هذا الاحتمال لا تتوقف مؤونة زائدة .

ص: 207


1- (1) أی جواز الترافع إلی رجل من أهل الاعتقاد بالولایة مع التراضی به ونفوذ حکمه وبالمحصّلة مشروعیة قضاء التحکیم بالمعنی المطروح فی محلّ الکلام .

وأما علی الاحتمال الأول فإن دلالتها علی ذلک تتوقّف علی التمسّک بالإطلاق بمعنی أن المفهوم من جواب الإمام (علیه السلام) هو جواز الترافع إلی الرجل الذی تراضی به الخصمان مطلقاً أی وإن لم یکن منصوباً ولم یکن جامعاً للشرائط بل یکفی کونه من أهل الاعتقاد بالولایة مع التراضی به .. والإطلاق فی الروایة لیس هو بذلک الوضوح بل یصعب إثباته فیها لأن الإمام (علیه السلام) - بناءً علی هذا الاحتمال (1) - لم یکن فی مقام بیان ماذا یُعتبر فی هذا القاضی الذی یظهر من الروایة جواز الترافع إلیه حتی یُتمسّک بإطلاق کلامه (علیه السلام) وسکوته عن اشتراط النصب لإثبات عدم اعتبار النصب فی نفوذ حکمه لیکون قضاؤه مشروعاً وحکمه نافذاً ولو لم یکن منصوباً فتثبت بذلک مشروعیة قاضی التحکیم وإنما هو فی مقام نفی کون الترافع إلیه ترافعاً إلی الطاغوت .

هذا .. ومن المستبعد أن یکون ما هو المعروف والشائع والمرتکز فی ذهن السائل من حرمة التحاکم إلی الطاغوت هو الذی جعله یشکّ بأن الترافع إلی رجل من أهل الاعتقاد بالولایة مع التراضی به هو من قبیل التحاکم إلی الطاغوت مما دعاه إلی السؤال عن ذلک لوضوح أن المورد لیس من هذا القبیل بالمعنی الذی ینطبع فی الذهن عند سماع الآیة المتضمّنة للنهی عن التحاکم إلی الطاغوت فإن الذهن لا ینتقل إلی أن الطاغوت الذی نهت الآیة عن التحاکم إلیه یمکن أن ینطبق علی رجل من أهل الاعتقاد بالولایة مع التراضی به حکماً والذی یستبطن کما سیأتی توفّر الشروط به حتی مثل العدالة (2) لکی یکون هذا موجباً للشکّ وبالتالی موجباً للسؤال .

ص: 208


1- (2) أی الاحتمال الأول من الاحتمالین المذکورین .
2- (3) دون شرط الاجتهاد وإلا لم یبق فارق بینه وبین القاضی المنصوب کما سیأتی بیانه منه (دامت برکاته) .

وهذا بخلاف الحال مع الاحتمال الثانی فإنه لیس من المستبعد افتراض أن المرتکز فی ذهنه أن القضاء هو من المناصب الإلهیة التی تحتاج إلی النصب فیشکّ فی إمکان قیام التراضی مقامه (1) فیسأل عن ذلک .

ومع بُعد الاحتمال الأول وقرب الثانی فإن الروایة تکون دلیلاً علی مشروعیة قضاء التحکیم وحینئذ تصل النوبة إلی البحث عن الشرائط المعتبرة فی قاضی التحکیم التی یمکن استفادتها من هذه الروایة ویتمخّض البحث فیها عن استفادة اشتراط الذکوریة لقول الراوی : (رجل) ، والإیمان لقوله : (منّا) ، والعدالة باعتبار استبعاد أن یحصل التراضی بشخص ظاهر الفسق .. مضافاً إلی استبعاد أن یکون الجواز المفهوم من کلام الإمام (علیه السلام) لمثل هذا التحاکم لغیر من هو ظاهر الصلاح .

وکذا یُمکن إثبات اعتبار سائر الشرائط الأخری من قبیل الحریة وطهارة المولد - فی ما لو بنینا علیها - وذلک ببیان أنه لا یمکن التمسّک بالإطلاق لنفی اعتبارها إذ لا إطلاق للروایة أصلاً لأنها لیست فی مقام البیان من هذه الجهة (2) .. وعلی ذلک فکل ما یُشکّ فی اعتباره من الشرائط لا سبیل إلی نفیه فیکون معتبراً حینئذ .

نعم .. الشرط الوحید الذی نقطع بعدم اعتباره فی المقام هو الاجتهاد إذ لو اشترطناه لم یبق فارق بین المقام (3) والقاضی المنصوب مع أن الروایة ظاهرة فی أن التراضی هو السبب فی الحکم بمشروعیة قضائه ونفوذ حکمه لا النصب .

ص: 209


1- (4) أی مقام النصب .
2- (5) أی جهة بیان الشرائط المعتبرة فی قاضی التحکیم وإنما هی فی مقام بیان عدم احتیاج من یتراضی به الخصمان إذا کان من أهل الاعتقاد بالولایة إلی النصب .
3- (6) أی قاضی التحکیم .

والحاصل أنه یمکن أن یُستفاد من هذه الروایة مشروعیة قاضی التحکیم ونفوذ قضائه وأنه یُشترط فیه کل الشرائط المعتبرة فی القاضی المنصوب ما عدا الاجتهاد .

وتجدر الإشارة إلی أن عدم اشتراط الاجتهاد لا یعنی عدم اشتراط العلم بالحکم إذ لا یمکن تصوّر أن من یقضی فی واقعة لا یکون عالماً بحکمها فإنه لا بدّ فی القاضی مطلقاً (1) أن یحکم بالحقّ والقسط وبما أنزل الله غایة الأمر أنه فی القاضی المنصوب یکون ذلک عن اجتهاده وفی غیره یکون عن تقلید للمجتهد .

هذا .. وقد ذُکر فی کلماتهم ما یمکن أن یقال بدلالته علی المدّعی من مشروعیة قضاء التحکیم وهو ما رُوی عن النبی الأکرم (صلی الله علیه وآله) من أنه قال : " من حکم بین اثنین تراضیا به فلم یعدل فعلیه لعنة الله " حیث یُفهم من هذا الحدیث أنه إذا حکم بین اثنین تراضیا به وعدل فلیس علیه لعنة الله فیُفهم منه نفوذ حکمه ومشروعیة قضائه .

وقد استدلّ بهذا النبوی جماعة من علمائنا (رض) منهم الشهید فی المسالک (2) والعلامة (3) وفخر المحققین (4) (قدهم) .. إلا أنه لا یمکن التعویل علیه لضعفه سنداً بالإرسال ولا بأس بجعله مؤیّداً لو تمّت دلالته علی المطلوب .

ص: 210


1- (7) أی سواء کان قاضیاً منصوباً او قاضیَ تحکیمٍ .
2- (8) مسالک الأفهام مج13 ص332 .
3- (9) أقول : ما ذکره العلامة فی المختلف نقله عن الخلاف (لاحظ المختلف للعلامة (قده) مج8 ص442 والخلاف للشیخ الطوسی (قده) مج6 ص242) .
4- (10) إیضاح الفوائد مج4 ص296 .

هذا تمام الکلام فی أصل قضاء التحکیم .. ثم إن هناک أموراً لا بدّ من ذکرها فی ذیل هذا البحث ترتبط بنفوذ حکم قاضی التحکیم وسیأتی الکلام علیها إن شاء الله تعالی .

القضاء-المسالة-5-ادلة مشروعة قضاء التحکیم بحث الفقه

(بحث یوم السبت 14 محرم الحرام 1433 ه 40)

کان الکلام فی قاضی التحکیم ونفوذ قضائه وذکرنا فی مقام الاستدلال عدة روایات استُدلّ بها علی ذلک وانتهی الکلام إلی الروایة الأخیرة وهی ما رُوی عن النبی الأکرم (صلی الله علیه وآله) من أنه قال : " من حکم بین اثنین تراضیا به فلم یعدل فعلیه لعنة الله " ، وذکرنا تقریب الاستدلال بها وکان حاصله أن هذا الحدیث ظاهر فی أن سبب اللعن هو عدم العدل من الحاکم لا نفس التراضی به حَکَماً فالروایة ترکّز علی عدم العدل فی الحکم لا علی أصل الحکم فیُفهم من ذلک أن حکم الحاکم الذی تراضی به الطرفان مما لا مانع منه وإنما المانع (1) فی ما إذا حُکم بغیر طریق العدل فیُفهم من هذا إمضاء حکم الحاکم الذی یتراضی به الطرفان ونفوذ قضائه وذلک عبارة عن قاضی التحکیم .

وهذه الروایة مضافاً إلی عدم تمامیتها سنداً یمکن الإشکال فی دلالتها باعتبار أنها مسوقة أساساً لبیان المنع من الحکم بغیر العدل ولیست مسوقة لبیان نفوذ قضاء الحاکم الذی تراضی به الطرفان - الذی اصطُلح علیه بقاضی التحکیم - .

وبعبارة أخری إن الروایة مسوقة لبیان لزوم الحکم بالعدل علی القاضی وحرمة أن یحکم بالظلم والجور ، وأما مسألة نفوذ حکمه - بعد أمره بأن یحکم بالعدل - مطلقاً أو باشتراطٍ فالروایة لیست بصدد البیان من هذه الجهة لکی یمکن التمسّک بإطلاقها لإثبات نفوذ قضاء هذا القاضی (2) مطلقاً (3) .

ص: 211


1- (1) المشار إلیه باللعن .
2- (2) أی الذی تراضی به الطرفان .
3- (3) أی وإن لم یکن منصوباً .

هذا ما یتعلّق بهذا النبویّ الذی ذُکر فی جملة ما ذُکر من الأدلة فی کلماتهم (رض) فی محلّ الکلام ولنجعله الدلیل الأول ممّا تُذیَّل به الأقسام التی تقدّم سردها فی مقام الاستدلال علی المطلوب .

الدلیل الثانی : التمسّک بالسیرة العقلائیة القائمة علی الالتزام بقضاء قاضی التحکیم بعد التراضی به وحیث لم یرد ردع من قبل الشارع عنها فیُستکشف من ذلک إمضاء التداعی إلی الحاکم بمجرد التراضی به ویکون حکمه نافذاً ولازماً فیثبت بذلک مشروعیة قضاء التحکیم .

وقد ادُّعی أنه لا سبیل إلی إنکار قیام هذه السیرة وأنها موجودة فی الأعراف المختلفة ونُقل تحقّقها فی زمان سابق علی بعثة الرسول الأکرم (صلی الله علیه وآله) حیث کانوا یتحاکمون إلی أشخاص معیّنین بعد التراضی بهم فیکون نفوذ حکمهم فی طول التراضی وتلک میزة قاضی التحکیم ، وقد استُشهد بعدّة قضایا فی المقام :

منها : قضیة نزاع قریش والمشاجرة التی وقعت بینهم فی من یتصدّی منهم لنصب الحجر الأسود حیث تراضوا بأول من یخرج علیهم من باب عیّنوه وقُدّر أن النبی (صلی الله علیه وآله) کان هو أول من خرج علیهم من ذلک الباب فتراضوا به حکماً لحلّ نزاعهم وفصل خصومتهم .

ومنها : قضیة یهود بنی قریضة الذین حُکّم فیهم سعد بن معاذ فحکم بهم بالحکم المعروف ونُفّذ فیهم حکمه بعد أن تراضوا هم والمسلمون علی أن یکون هو الحَکَم فیهم .

ومنها : قضیة صفّین وما جری فیها من التحکیم حیث تراضی الطرفان علی تحکیم شخصین معیّنین .

وهذه الدلائل تکشف عن أن هذا کان أمراً مألوفاً ومتعارفاً عند العقلاء فلا یمکن إنکار انعقاد السیرة علی مسألة التحکیم ونفوذ حکم الحاکم بعد فرض التحکیم .

ص: 212

وفی المقابل قد یقال بأن هذه السیرة مردوع عنها ویکفی فی الردع الموجب لعدم استکشاف الإمضاء ما دلّ من الأدلة علی اعتبار النصب فی القاضی وأن القضاء من المناصب التی تتوقف علی الجعل من قبل الشارع وأنه لا یکون إلا لنبی أو وصیّ نبی أو لمن یُجعَل من قبلهم (علیهم السلام) فهذا المنصب مقصور علی أشخاص معیّنین قد جُعلوا لهذا المنصب ولا یکفی فیه مجرّد تراضی الطرفین لیکون من تراضیا به قاضیاً شرعیاً فهذه الأدلة - وهی کثیرة قد جُعلت رادعاً عن هذه السیرة بعد التسلیم بأصل انعقادها .

ولکن للمستدلّ أن یدّعی فی مقام التخلّص من هذا الإشکال أنه بالإمکان أن نستکشف من هذه الوقائع التی تقدّم ذکرها إمضاء الشارع لهذا النوع من القضاء وإقراره لحکم قاضی التحکیم فی أمثالها وحینئذ فلا یتأتّی القول بأن مثل تلک الأدلة تکون رادعاً عن هذه الطریقة ففی قضیة سعد بن معاذ لا ریب فی أن الرسول (صلی الله علیه وآله) کان راضیاً بذلک وممضیاً لهذا التحکیم بل الظاهر من بعض الأخبار أنه هو الذی عرض علی یهود بنی قریضة أن یکون الحَکَم رجلاً حلیفاً لهم وهو سعد بن معاذ وهم قد رضوا به علی أمل أن یحکم لهم لا علیهم ، وکذلک فی قضیة صفّین فإنه وإن بدا أن هناک اعتراضاً إلا أنه لم یکن منصبّاً علی کبری الرجوع إلی الحاکم والرضا به حَکَماً للفصل فی الخصومة أی أصل التحکیم وجعل شخصین یحکمان فی هذا النزاع وإنما کان الاعتراض علی الشخصیات التی اقتُرحت للحکم فی هذه القضیة ولذا رشّح الإمام (علیه السلام) کما فی بعض الروایات عبد الله ابن عباس لکی یکون هو أحد الحکمین .

ص: 213

هذا .. ولکن الجزم بذلک (1) مشکل جداً فإن القضیة تفتقر إلی مراجعة تاریخیة وإلی سبر الروایات ومعرفة تفاصیل الأحداث لاسیما ما ذُکر من مسألة نصب الحجر الأسود إذ من الظاهر أنه لیس من باب الحکومة والتحکیم وإصدار الأحکام المُلزمة تجاه الأطراف المتنازعة بل هو أشبه ما یکون بباب المصالحة بین طرفین متخاصمین واقتراح حلّ وسط یرضی به کل منهما أو هو اتّفاق علی ترشیح شخص معیّن لکی یوقع الصلح یبن الطرفین وهذا ما یجعله أجنبیاً عمّا نحن فیه فإن کلامنا فی قاضٍ یتراضی به الطرفان علی نحوٍ یکون حکمه ملزماً لکل منهما بناءً علی تعاهدهما والتزامهما ورضاهما بحکمه .

ومما یُمکن إدخاله فی هذا الباب أیضاً آیة الشقاق وهی قوله تعالی : (وإن خفتم شقاقَ بینِهما فابعثوا حکماً من أهله وحکماً من أهلها إن یریدا إصلاحا یوفّق الله بینهما إن الله کان علیما خبیراً) (2) .

وبغضّ النظر عن مرجع الضمائر فی (یریدا) و(بینَهما) فی کون المراد بهما الزوجین أو الحکمین أو الزوجین فی الأولی والحکمین فی الثانیة فالذی یظهر من الآیة الشریفة أنها تعالج مسألة الصلح بین الزوجین اللذین وقع الخلاف بینهما لیصلح الحکمان بینهما لا لیفرضا علیهما حکماً وقضاء یکون ملزماً لهما ولعل قوله تعالی : (إن یریدا إصلاحاً) یشیر إلی هذا المعنی وهو أن القرار النهائی الذی یصدر من الحکمین یکون موضع رضا من قبل الطرفین فتکون الآیة الشریفة إذاً أجنبیة عن محلّ الکلام ومن الصعوبة بمکان إقحامها فی المقام للاستدلال بها علی المطلوب .

ص: 214


1- (4) أی کون المقام من قبیل التحکیم .
2- (5) النساء / 35 .

نعم .. من المسلّم به أن هناک سیرة قائمة وتبانیاً من العقلاء علی التحاکم إلی شخص یکون حکمه نافذاً ویکون نفوذ حکمه فرع تراضی الطرفین وتعاهدهما فعلی تقدیر المنع من کون تلک الأدلة (1) رادعة عنها فیتمّ حینئذ مثل هذا الدلیل ، وأما إذا قلنا بدلالة الأدلة علی اشتراط النصب وأن القضاء من المناصب الإلهیة التی لا تکون إلا لنبی أو وصیّ نبی ولا تثبت بمجرد التراضی بل تحتاج إلی جعل ونصب فلا یکون ذلک الدلیل حینئذ تامّاً ولأجل هذا نصّ الفقهاء (رض) علی أن القاضی لا یکون قراره مشروعاً بمجرد توافق أهل بلدة علی تعیینه قاضیاً من غیر جعل ونصب .

الدلیل الثالث : التمسّک بأدلة وجوب الوفاء بالشرط بدعوی أن المتنازعین تعاقدا علی قبول حکم الحاکم الذی تراضیا به سواء کان هذا التعاقد علی الالتزام بحکمه فیکون من قبیل شرط الفعل أو علی نفوذ حکمه فیکون من قبیل شرط النتیجة .. وعلی کل حال فإن أدلة وجوب الوفاء بالشرط تدلّ علی لزوم الالتزام بحکم هذا الحاکم وتنفیذه من قبل الطرفین أو علی نفوذ حکمه مباشرة ، واستبطانُ التحاکم للتعاقد والاشتراط من قبل الطرفین مما لا مجال لمنعه ، واستفادةُ وجوب الالتزام من مثل (المؤمنون عند شروطهم) وسائر الأدلة الدالة علی وجوب الالتزام بالشرط واضح لا غبار علیه .. وعلیه فیتم مثل هذا الدلیل علی مشروعیة قضاء قاضی التحکیم .

ولکن لوحظ علی هذا الدلیل :

أولاً : إن المشهور لا یلتزم بوجوب الوفاء بالعقد الابتدائی ، وأدلة : (المؤمنون عند شروطهم) وأمثالها إنما تشمل الشروط الواقعة فی ضمن عقد والتزام - ولذا یُعبّر عن الشرط بأنه التزام فی ضمن التزام - ، وأما الشرط الابتدائی فهو داخل فی باب الوعد الذی دلّت الأدلة علی استحباب الوفاء به لا وجوب الالتزام به .

ص: 215


1- (6) التی أشیر إلیها سابقاً .

وثانیاً : إن أدلة الوفاء بالشرط علی تقدیر أن تکون شاملة لمثل محلّ الکلام فهی تدل علی نفوذ الشرط عندما یکون الشرط من قبیل الأمور غیر الخطیرة کالسفر إلی البلد الفلانی أو التصدّق بالشیء الفلانی وأمثال ذلک فالتشارط حینئذ یُنتج لزوم الوفاء بذلک ، وأما إذا کان الشرط من قبیل الأمور الخطیرة کالأعراض والأموال والدماء وأمثالها لتکون نتیجته هو الفصل فی هذه الأمور بالتفریق بین الزوجین - مثلاً أو الحکم باستحقاق أحد المتداعیین للمال دون الآخر أو القصاص فی الدماء فلا تدل تلک الأدلة علی نفوذ الشرط فی أمثال ذلک فإن لسانها لا یتعدّی إلزام الشخص بما ألزم به نفسه مما هو لیس بلازم علیه ابتداءً فی الشرع .

هذا .. وسیأتی التعقیب علی ما لوحظ آنفاً إن شاء الله تعالی .

القضاء-المسالة-5-تکملة ادلة مشروعیة قضاء التحکیم-المسالة-6-الکلام فمن یعین القاضی بحث الفقه

(بحث یوم الأحد 15 محرم الحرام 1433 ه 41)

کان الکلام فی الدلیل الثالث وهو التمسّک بأدلة وجوب الوفاء بالشرط لإثبات نفوذ قضاء قاضی التحکیم ولزوم العمل بما یحکم به بالتقریر المتقدّم ، وذکرنا أنه لوحظ علی هذا الدلیل :

أولاً : إن ما نحن فیه یدخل فی باب الشرط الابتدائی وقد ذهب المشهور إلی عدم وجوب الوفاء به وعدم دخوله فی أدلة وجوب الوفاء بالشرط لاختصاصها بما یقع فی ضمن عقد وهو غیر حاصل فی الشرط الابتدائی .

ولکن قد یقال فی مقام دفع هذا الإشکال إنه لو سلّمنا أن الشرط الابتدائی مما لا یجب الوفاء به - کما ذهب إلیه المشهور إلا أنه یُستحبّ الوفاء به إذ لا أقلّ من دخوله فی باب الوعد الذی لا إشکال فی استحباب الوفاء به وهذا المقدار یکفی لإثبات المشروعیة ولا حاجة إلی القول باندراج المورد تحت أدلة وجوب الوفاء بالشرط لیتّجه الاعتراض المتقدّم .

ص: 216

ولکن هذا الکلام غیر تام لأنه لا یکفی مجرّد دعوی استحباب الوفاء ودخول المورد فی باب الوعد فی مشروعیة النفوذ بالمعنی المبحوث عنه فی المقام - الذی هو مضیّ الحکم فی حقّ المتخاصمین وعدم جواز نقضه من قبل أیّ منهما وذلک لوضوح أن لازم کون الشیء مستحبّاً جواز ترکه وعدم الالتزام به وهذا لا یتوافق مع النفوذ المبحوث عنه هاهنا فإن المراد به کون قضاء قاضی التحکیم لازماً بحقّ المتخاصمین لا یجوز لأیّ منهما نقضه وترک الالتزام به علی غرار الحال فی نفوذ قضاء القاضی المنصوب .

وثانیاً : إن هذا الدلیل (1) إنما یتم فی ما لو أرید به إثبات اللزوم للفعل المباح فی حدّ نفسه (2) فیُستند إلی هذا الدلیل لإثبات لزومه کخیاطة الثوب فإنه إذا أُخِذ شرطاً مطلقاً (3) أو فی ضمن عقد (4) فیمکن حینئذ أن نتمسک بأدلة وجوب الوفاء بالشرط لإثبات لزومه فتکون خیاطة الثوب المأخوذة شرطاً واجبةً بعد أن کانت مباحة فی حدّ نفسها ، ولا خصوصیة لأدلة وجوب الوفاء بالشرط فی المورد فکما یمکن إثبات لزوم خیاطة الثوب إذا أُخذت شرطاً کذلک یمکن إثبات لزومها إذا جُعلت متعلّقاً للنذر أو الیمین أو العهد .

ص: 217


1- (1) أی التمسّک بأدلة وجوب الوفاء بالشرط إثبات نفوذ حکم قاضی التحکیم ومشروعیة قضائه ، وهو الدلیل الثالث حسب الترتیب المتقدّم .
2- (2) قید للمباح .
3- (3) أی سواء کان شرطاً ابتدائیاً او فی ضمن عقد علی رأی من ذهب إلی شمول أدلة لزوم الوفاء بالشرط لما کان شرطاً ابتدائیاً فضلاً عمّا إذا کان شرطاً فی ضمن عقد .
4- (4) علی ما ذهب إلیه المشهور من تخصیص أدلة لزوم الوفاء بالشرط بما إذا کان الشرط فی ضمن عقد .

وأما إذا کان المراد إثبات أمر ینحصر طریق ثبوته بالدلیل الشرعی فلا یکون هذا الدلیل حینئذ تاماً إذ لا یمکن إثبات الزوجیة - مثلاً - التی ینحصر طریق إثباتها بالدلیل الشرعی أو ما یقوم مقامه کحکم القاضی المنصوب بالشرط مطلقاً أو فی ضمن عقد أو بجعلها متعلّقاً للنذر أو الیمین أو العهد .

وثالثاً : إنه بالإمکان دعوی أن هذا الشرط (1) لاغٍ وباطل لکونه مخالفاً للکتاب والسُنّة ضرورة أن من جملتها ما دلّ علی أن القضاء من المناصب الإلهیة التی تحتاج إلی الجعل والتنصیب وأنه یختصّ بالنبی أو الوصی أو من یُعیّن من قبلهما ولیس الذی تحاکم إلیها المتنازعان بواحد منهم .

ولکن هذا الاعتراض یتوقّف - کما هو واضح من معتبرة سلیمان بن خالد المتقدّمة - علی أن تکون تلک الأدلة ناظرة إلی مطلق القضاء ، وأما إذا استظهرنا أنها ناظرة إلی قضاء قاضٍ خاص وهو المتمثّل بالقاضی المنصوب الذی تتوقّف مشروعیته ونفوذه علی الجعل والنصب من قبل النبی أو الوصی دون مجرّد الترافع من قبل شخصین إلی ثالث فی قضیة خاصة من غیر أن یکون القضاء منصباً له فلیس (2) من الواضح شمول الأدلة المذکورة له (3) ، ولعل فی معتبرة سلیمان بن خالد ما یشیر إلی ذلک ، ولا أقلّ من التشکیکِ فی أن تکون تلک الأدلة فی مقام اشتراط النصب فی مطلق القضاء واحتمالِ (4) أن یکون نظرها إلی خصوص القضاء المعبِّر عن منصب خاص یُعیّن فیه بعض الأشخاص مع استبعادِ أن یکون لها نظر إلی محلّ الکلام من قاضی التحکیم حتی یکون الاشتراط حینئذ مخالفاً للسُنّة .

ص: 218


1- (5) وهو اشترط المتخاصمین علی نفسیهما أن یقبلا بحکم هذا الحاکم غیر المنصوب بالنصب العام الذی تراضیا به .
2- (6) جواب قوله : (وأما إذا استظهرنا ..) .
3- (7) أی للترافع من قبل شخصین فی قضیة خاصة عند ثالث وهو المعبّر عنه بقاضی التحکیم .
4- (8) بالعطف علی (التشکیک) .

الدلیل الرابع : دعوی الإجماع علی مشروعیة قضاء التحکیم ونفوذه ولزوم الالتزام به ، وهذا الإجماع منقول عن جماعة من علمائنا (قدهم) منهم الشیخ فی الخلاف ، وذکره فی المسالک بصورة نفی الخلاف ، وأشار إلیه الشیخ الأنصاری فی قضائه ، وادّعی فی الجواهر انحصار دلیل مشروعیة قضاء التحکیم به (1) ولا دلیل آخر علیه برأیه .

وفی ضوء ذلک یبدو أن المعروف عندهم والمشهور بینَهم مشروعیةُ قضاء التحکیم .

ثم إن هناک بعض الأدلة التی ذُکرت أعرضنا عنها لوضوح دفعها .

فتبیّن من جمیع ما تقدّم تمامیة بعض الأدلة السابقة کصحیحة الحلبی بالتقریب المتقدّم مؤیدة بالروایات المذکورة - التی هی تامة سنداً إلا أن دلالتها لم تکن واضحة کفایةً ولکنها علی أیة حال تصلح للتأیید - ، وبالإجماع المدّعی من قبل جماعة - کما ذکرنا - ، والظاهر کفایة هذا المقدار فی مشروعیة قضاء التحکیم ونفوذه .

وقد تبیّن أیضاً ممّا تقدّم وبالخصوص ممّا ذکرناه فی التعقیب علی صحیحة الحلبی أن الفرق بین القاضی المنصوب وقاضی التحکیم یکون من وجوه :

الأول : اعتبار النصب فی القاضی المنصوب وعدم اعتباره فی قاضی التحکیم .

الثانی : استناد مشروعیة القضاء فی القاضی المنصوب إلی النصب العام واستنادها فی قاضی التحکیم إلی تراضی المتخاصمین بالتحاکم إلیه .

الثالث : إنه وإن کان العلم بحکم المسألة المترافَع فیها مما لا بد منه فی کلیهما لحرمة الإفتاء بغیر علم إلا أنه یُعتبر أن یکون عن اجتهاد فی القاضی المنصوب ولا یُعتبر ذلک فی قاضی التحکیم فیجوز أن یکون عن تقلید .

ص: 219


1- (9) أی بالإجماع .

وفی ما عدا ما ذُکر فیشترکان فی اعتبار بقیة الشرائط کالعدالة والإیمان والذکورة وغیرها مما تقدّم ذکره فی القاضی المنصوب .

ومن هنا یتبیّن الجواب عن الإشکال الذی ذُکر فی کلماتهم فی تحقّق قاضی التحکیم فی زمان الغیبة من جهة أنهم قالوا إنه یُعتبر فی قاضی التحکیم جمیع الشرائط المعتبرة فی القاضی المنصوب فأسّسوا علی ذلک أن ما یُصطلح علیه بقاضی التحکیم إن کان واجداً لجمیع الشرائط فهو قاضٍ منصوب بالنصب العام وإن لم یکن واجداً لها فلا اعتبار بقضائه أصلاً وعلی ذلک فلیس ثمة قاضی تحکیم فی قبال القاضی المنصوب فی زمان الغیبة بل أَسْرَوا هذا الإشکال حتی إلی زمان الحضور بالتقریر المذکور لکن بعد أوان صدور النصب العام من قبل الإمام الصادق (علیه السلام) علی ما جاء فی روایة عمر بن حنظلة ومعتبرة أبی خدیجة وغیرهما فیقال بعدم تحقق قاضی التحکیم فی ذلک الزمان وما بعده .

وحاصل الجواب : أن هذا الإشکال یبتنی علی أنه یُعتبر فی قاضی التحکیم جمیع ما یُعتبر فی القاضی المنصوب من الشرائط ولکن قد تبیّن أن الأمر لیس کذلک فإن الاجتهاد وإن کان معتبراً فی القاضی المنصوب إلا أنه غیر معتبر فی قاضی التحکیم وبهذا یمکن افتراض تحقق قاضی التحکیم فی زمان الغیبة وقبله بأن یکون واجداً لکل الشرائط ما عدا الاجتهاد ولا یکون منصوباً ویکون قضاؤه نافذاً علی القول بمشروعیة قضاء التحکیم .

هذا تمام الکلام فی أصل مشروعیة قضاء التحکیم وقد تبیّن ثبوتها بموجب صحیحة الحلبی المتقدّمة مع مؤیّداتها .

قال (قده) فی المسألة السادسة :

" هل یکون تعیین القاضی بید المدعی أو بیده والمدعی علیه معاً ؟ فیه تفصیل ، فإن کان القاضی قاضی التحکیم فالتعیین بیدهما معاً ، وإن کان قاضیاً منصوباً فالتعیین بید المدعی ، وأما إذا تداعیا فالمرجع فی تعیین القاضی عند الاختلاف هو القرعة " .

ص: 220

هذه المسألة تتضمّن عدة فروع والجامع بینها تحدید مَن یکون بیده تعیین القاضی الذی یفصل فی النزاع والخصومة وذلک فی حالة وجود عدة قضاة واجدین للشرائط :

الفرع الأول : فی قاضی التحکیم ، وقد بیّن فی المتن أن تعیینه یکون بید المتداعیین کلیهما ، وهذا واضح ممّا تقدّم من کون القضاء علی خلاف الأصل وأن نفوذ حکم إنسان علی آخر علی خلاف القاعدة وإنما یُلتزَم به فی حدود ما یدلّ علیه الدلیل ، والدلیلُ الدالّ علی نفوذ حکم قاضی التحکیم ونفوذ قضائه مختص بصورة تراضی المتداعیین کلیهما علی ما صرّحت به صحیحة الحلبی حیث جاء فیها : (یتراضیان برجل منّا) فتدل علی النفوذ فی خصوص هذا المورد وجواب الإمام (علیه السلام) یُفهم منه الإمضاء فی حدود مفروض السؤال فلا یمکننا التعدّی عنه إلی إثبات النفوذ فی صورة ما إذا رضی به أحدهما ورفض الآخر .

الفرع الثانی : فی القاضی المنصوب ، والکلام فیه یقع فی موردین :

الأول : ما إذا کان أحدهما مدعیاً والآخر منکراً .

الثانی : ما إذا کانا متداعیین (1) :

أما الأول : فالمعروف بینهم علی ما قیل أن تعیین القاضی یکون بید المدّعی ولیس من حقّ المنکر الرفض وطلب رفع الدعوی عند آخر ، وهذا ما اختاره فی المتن بل ادُّعیَ علیه الإجماع کما فی المستند واستدلّ علیه فیه بما حاصله أن المدعی هو المطالِب بالحق ولا حقّ لغیره أولاً فإذا طلب المدعی من حاکم استنقاذ حقّه فیجب علیه الفحص وترتیب آثار الدعوی واستنقاذ حقه لو کان قد ثبت ذلک له ولیس للمنکر أن یرفض رفع الدعوی إلیه (2) .. فیتبیّن أن مستند صاحب المستند فی من له حقّ تعیین القاضی کون المُدّعی هو المطالِب بالحقّ والمنکر لیس کذلک .

ص: 221


1- (10) أی کان کلّ منهما مدّعیاً .
2- (11) وهذه نصّ عبارته (قده) : (المسألة التاسعة : إذا کان هناک مجتهدان أو أکثر یتخیّر فیهما الرعیة فالحکم لمن اختاره المدعی ، وهو المتبع إجماعاً له ، ولأنه المطالب بالحق ولا حق لغیره أولاً فمن طلب منه المدعی استنقاذ حقه یجب علیه الفحص فیجب اتباعه ، ولا وجوب لغیره ، وهذا مما لا إشکال فیه) مستند الشیعة للمحقق النراقی مج17 ص51 .

ولکن هذا الدلیل یواجه اعتراضاً ذکره السید صاحب العروة (قده) فی ملحقاتها وسیأتی الکلام علیه إن شاء الله تعالی .

القضاء-المسالة-6-الکلام فی من یعین القاضی بحث الفقه

(بحث یوم الاثنین 16 محرم الحرام 1433 ه 42)

کان الکلام فی تحقیق من له حقّ تعیین القاضی من المتخاصِمَین فی ما إذا کان أحدهما مدّعیاً والآخر منکراً .. وذکرنا أن المشهور ذهب إلی أن حقّ التعیین یثبت للمدعی مستدلاً علیه فی المستند بما حاصله : أن المدّعی هو المطالب بالحق ولا حقّ للمنکر أولاً (1) وعلی ذلک فیجوز للمدعی أن یرفع دعواه إلی قاضٍ یختاره هو ویَلْزَم علیه (2) أن ینظر فی الدعوی ویرتّب الآثار علیها ولیس من حقّ المنکر أن یرفض الرجوع إلی هذا القاضی (3) .

هذا .. ولکن السید صاحب العروة (قده) فی ملحقاتها اعترض علی هذا الدلیل وذکر أنه إن کان المراد أن ثبوت حقّ التعیین للمدّعی باعتباره صاحب الحقّ فهذا أول الکلام إذ لم یثبت أنه کذلک قبل الفصل (4) غایة الأمر أنه یدّعی ذلک وهو غیر مؤثّر فی المقام ، وإن کان المراد أن ثبوته له باعتبار أن حقّ الدعوی له بمعنی أن من حقّه أن یُقیمها أو یترکها فهذا المقدار لا یوجب اختصاصه بحقّ التعیین لأن المنکر بعد إقامة الدعوی یکون له حقّ الجواب أیضاً فإذا کان ملاک حقّ التعیین یکمن فی من یکون ذا حقّ فیتساویان حینئذ ولا موجب لاختصاص ذلک بالمدّعی ، وکونُ حقّ المدّعی فی إقامة الدعوی وحقّ المنکر فی الجواب عنها غیر فارق فی ما نحن فیه إذ یصدق علی کلّ منهما أنه ذو حقّ (5) .

ص: 222


1- (1) أی قبل الدعوی .
2- (2) أی علی القاضی المختار .
3- (3) قد تقدّم بسط الکلام فی هذا الدلیل فی البحث السابق فراجع .
4- (4) أی فصل القاضی بالحکم .
5- (5) قال (قده) فی العروة : " وفیه : أن کون الحق له غیر معلوم ; وإن أرید أن حق الدعوی له حیث إن له أن یدّعی وله أن یترک ففیه : أن مجرد هذا لا یوجب تقدم مختاره إذ بعد الدعوی یکون للآخر أیضا حق الجواب ، مع أنه یمکن أن یسبق المُدّعی علیه بعد الدعوی إلی حاکم ویطلب منه تخلیصه من دعوی المدّعی " العروة الوثقی مج6 ص432 .

وأقول : یمکن الخدش فی ما ذُکر من جهة عدم صدق الحقّ علی جواب المنکر إقراراً أو إنکاراً - وإنما هو (1) حکم شرعی مترتّب علی رجوع المدّعی إلی القاضی فإنه عندما یرفع المدّعی دعواه إلی القاضی وهو بدوره یتقبّلها وینظر فی مقدماتها ویطالب المنکر بالجواب عنها فیتوجّه حینئذ إلی المنکر حکم شرعی بلزوم الامتثال لذلک والجواب من قبله إقراراً أو إنکاراً .

هذا .. ویمکّن أن یقرّب دلیل صاحب المستند بوجهٍ یسلم فیه عن الإشکال المتقدّم ولا یبعد أن یکون هذا المعنی هو مقصوده بما حاصله :

أنه قد ذُکر فی مقام تمییز المدّعی عن المنکر أن المدّعی هو صاحب الخصومة والدعوی الذی یُعبّر عنه بأنه : (الذی یُترک لو ترک) أی أنه إذا ترک القضیة فیُترک ولا یُجبَر علی إقامتها وأما المنکر فإنه لو ترک (2) لا یُترک بل یُلزم بالجواب فإذا بنی المدّعی علی عدم ترک الدعوی والمطالبة باستنقاذ حقّه الثابت له - بحسب اعتقاده - فلا إشکال حینئذ فی أنه یجوز له أن یرفع دعواه إلی قاضٍ یختاره هو کما لا إشکال فی أنه یجوز لهذا القاضی أن یتقبّل النظر فی هذه الدعوی فإذا نظر فیها وأرسل خلف المنکر فلیس للمنکر أن یمتنع ویطالب بأن تقام الدعوی عند قاضٍ آخر لأنه لیس هو صاحب الخصومة والمطالب باستنقاذ حقّه إذ الفرض أن أحد الطرفین مدّعٍ والآخر منکر ولم یُفرض التداعی بینهما کما سیأتی وعلی ذلک فیثبت حقّ تعیین القاضی للمطالِب باستنقاذ حقّه ولا قصور فی شمول أدلة المشروعیة والنفوذ لهذا الفرض (3) .

ص: 223


1- (6) أی الجواب من قبل المنکر .
2- (7) أی امتنع عن الجواب علی دعوی المدّعی .
3- (8) أی للقاضی المعیّن من قبل المدّعی .

والحاصل أن المدّعی لا یُلزم بالتحاکم إلی غیر مَن اختاره لأنه هو صاحب الخصومة والمطالِب بالحقّ فیحقّ له تعیین القاضی لیفصل فی دعواه وأما المنکر فلیس له هذه المثابة إذ لا خصومة من طرفه أولاً تجاه المدّعی فحینئذ لیس له فرض قاضٍ آخر علیه .

هذا ظاهراً مراد صاحب المستند من دلیله وهو تام مُثبت للمطلوب .

هذا .. وقد ذکر السید الخوئی (قده) دلیلاً آخر لإثبات أن حقّ التعیین فی هذه الصورة (1) بید المدّعی ومحصّله : أن المدّعی هو المُلزَم بإثبات دعواه بأیّ طریق شاء ولیس للمنکر أیّ حقّ فی تعیین الطریق له أو منعه من إثبات دعواه بطریق خاص فیکون حقّ التعیین بید المدّعی .

وأقول : یمکن إرجاع هذا المضمون إلی ما ذکره صاحب المستند فلا یکون دلیلاً فی مقابله بأن یکون مقصوده من أن المدّعی هو المُلزم بإثبات دعواه أنه هو المطالِب بالحقّ وإلا فلو لم یرجع إلیه وکان دلیلاً فی مقابله فلا یتّضح حینئذ المقصود بقوله : (إثبات دعواه بأیّ طریق شاء) فهل المراد منه هو إثبات الدعوی بطریق القضاء أم بغیره من الطرق - فی حدود المسموح به شرعاً - أم أن مراده الإشارة إلی وسائل الإثبات المستخدمة فی مقام إثبات الدعوی أم أن مراده بالطریق ردّ الیمین علی المنکر فی ما إذا لم تکن له بیّنة عادلة یُقیمها أم أن المقصود بالطریق هو القاضی الذی یکون فی الحقیقة طریقاً للمدّعی لإثبات دعواه فقوله: (بأیّ طریق شاء) یعنی بأی قاضٍ شاء فتأمّل !

هذا تمام الکلام فی المورد الأول (2) من الفرع الثانی (3) .

ص: 224


1- (9) یعنی صورة کون أحد الطرفین مدعیاً وکون الآخر منکراً .
2- (10) وهو کون أحد المتخاصمین مدّعیاً والآخر منکراً .
3- (11) وهو القاضی المنصوب .

المورد الثانی : ما إذا کلّ من المتخاصمین مدّعیاً وقد یُعرف بباب التداعی - .

ومُثّل لذلک بما إذا زوّجت البالغة الرشیدة الباکر نفسها من شخص وزوّجها أبوها من آخر - باعتبار ولایة الأب علی الباکر - فحصل النزاع بین الشخصین فادّعی کلّ منهما زوجیة المرأة ، ومُثّل له أیضاً بما إذا تنازع شخصان فی ملکیة شیء بید ثالث مع افتراض إنکاره لملکیتهما وعدم إقراره لأیّ منهما بالملکیة .. فالشخصان فی المثالین یدخلان فی باب التداعی والمعروف بینهم فی هذا الباب أن حقّ تعیین الحاکم والقاضی یکون بالقرعة فی ما إذا أصرّ کل من المتداعیان علی من اختاره قاضیاً ولم یتوافقا علی واحد .

وقد اختار السید الماتن (قده) ذلک (1) إلا أن ثمة مشکلة فی الرجوع إلی القرعة - التی سیأتی بحثها فی بعض مسائل التداعی ومدی اعتبارها وسیلة من وسائل الإثبات فی باب القضاء وتکمن فی أنه ماذا یُستفاد من أدلّتها فثمة اتّجاه بأن المستفاد منها أن القرعة معیِّنة لکل أمر مشکل ، وثمة اتّجاه آخر بأن المستفاد منها أنها للأمر المجهول عندنا المعیَّن فی الواقع فتشخّص القرعة لنا أن الواقع هو هذا دون ذاک ، وأما الأمور التی لا تعیّن لها أصلاً ففی هذه الحالة یُدّعی أن هناک قصوراً فی أدلة القرعة عن شمولها إذ أننا لا نرید هنا أن نعیّن أن هذه المرأة هی زوجة لهذا أو أن هذا المال لفلان حتی یقال إن المال فی الواقع له تعیّن لأحد الشخصین بالخصوص بل المقصود بالقرعة تعیین القاضی من بین قاضیین اختار کلاًّ منهما کلّ من المتداعیین ولا یمکن الجمع - کما لا یخفی - بین الحقّین ، ومن الواضح أنه لیس للقاضی تعیّن فی الواقع لیُفرَض کونه مجهولاً عندنا ومن ثمّ یقال إن القرعة تکون دلیلاً لتعیینه ظاهراً فلا بد لاندراج المقام تحت أدلة القرعة من أن نفهم من هذه الأدلة الشمول لکل مشکل مطلقاً - سواء کان له تعیّن فی الواقع أو لم یکن .

ص: 225


1- (12) أی التعیین بالقرعة .

ثم لو فُرض عدم شمول هذه الأدلة لما لا تعیّن له فی الواقع الذی هو محلّ الکلام - فاستبعدنا احتمال الرجوع إلی القرعة فحینئذ یقال إنه تارة یُفرض أن أحد القاضیین سبق الآخر بقبول الدعوی والنظر فی مقدماتها وإصدار الحکم فیها فلا ریب هنا فی نفوذ الحکم الصادر منه وعدم جواز أن ینظر القاضی الآخر فی الدعوی لأن القضیة بُتّ فیها من قبل قاض شرعی ولا یجوز استئنافها بعد ذلک من قبل آخر فإن من الواضح أن أدلة نفوذ قضاء القاضی المنصوب لیس لها اختصاص بصورة کون أحد الطرفین مدّعیاً والآخر منکراً حیث یکون حقّ تعیین القاضی بید المدّعی بل هی شاملة أیضاً لصورة ما إذا کان کل منهما مدّعیاً واختار کل منهما قاضیاً وسبق أحد القاضیین بالحکم .

نعم .. مع فرض عدم السبق تشکل المسألة ومع عدم القول بالقرعة ولو بدعوی قصور أدلتها عن الشمول لما لا تعیّن له واقعاً ینغلق الباب ولا حلّ إلا بتوافق المتداعیین علی قاض بعینه ممّن اختاراه أو تَرْکهما والرجوع إلی ثالث .

هذا تمام الکلام فی المسألة السادسة .

بحث رجالی فی-سند روایة الاصبغ بن نباتة عن أمیر المؤمنین-ع-والمرویة فی الوسائل باب 5-أبواب مایکتسب به-ج 1 بحث الفقه

(بحث یوم الثلاثاء 17 محرم الحرام 1433 ه 43)

الکلام فی سند روایة الأصبغ بن نباتة المرویة فی الوسائل نقلاً عن کتاب (ثواب الأعمال وعقاب الأعمال) فقد رواها الشیخ الصدوق عن أبیه عن أحمد بن إدریس (القمی) عن محمد بن أحمد (بن یحیی) عن موسی بن عمر (أو عمران) عن ابن سنان عن أبی الجارود عن سعد الإسکاف عن الأصبغ عن أمیر المؤمنین (علیه السلام) (1) .

ص: 226


1- (1) " قال : أیّما والٍ احتجب من حوائج الناس احتجب الله عنه یوم القیامة وعن حوائجه ، وإن أخذ هدیة کان غلولاً، وإن أخذ الرشوة فهو مشرک " الوسائل مج17 ص94 الباب الخامس من أبواب ما یُکتسب به الحدیث العاشر .

وهذا السند لا یختلف عما هو المذکور فی الوسائل إلا فی موسی الراوی عن ابن سنان فإن الموجود فی (ثواب الأعمال) موسی بن عمران فی حین أن الموجود فی الوسائل موسی بن عمر ولکن لا یبعد صحة ما فی الوسائل وذلک لأن محمد بن أحمد بن یحیی (صاحب نوادر الحکمة) یروی عن موسی بن عمر بهذا العنوان کما یروی عن موسی بن عمرو بن یزید ولا توجد له روایة عن موسی بن عمران علی ما ذکره المحققون وهذه قرینة یمکن التعویل علیها للقول بصحة ما فی الوسائل دون ما فی (ثواب الأعمال) ، وموسی بن عمر وإن کان مشترکاً بین جماعة لکن الذی یظهر بقرینة روایة صاحب نوادر الحکمة عنه أن المراد به هو موسی بن عمر بن یزید الصیقل وهو ممّن لم یرد فیه توثیق لا موسی بن عمر بن بزیع المنصوص علی وثاقته ، نعم .. بالاعتماد علی کبری وثاقة کل من روی عنه صاحب نوادر الحکمة ولم یستثنه محمد بن الحسن بن الولید فیمکن حینئذ توثیقه بناء علی أن دخول الراوی فی المستثنی منه توثیق له من قبل محمد بن أحمد بن یحیی وهذا التوثیق مقبول عند ابن الولید بدلالة عدم استثنائه من قبله .

وتبرز عندنا فی سند الروایة المذکورة مشکلتان :

الأولی : إنه قد تقدّم فی بحث سابق أن هذا التوثیق مختصّ بمن یروی عنه محمد بن أحمد بن یحیی فی خصوص نوادر الحکمة إذ لم یثبت هذا الأمر لکل من یروی عنه فی غیره ، ومن الواضح أنه لا یروی عنه هذه الروایة فی هذا الکتاب .

ومستند هذا الکلام ما تقدّم ذکره من أن الشیخ الطوسی (قده) عندما یبتدئ باسم صاحب کتاب فی أول السند فهو یأخذ الروایة من کتابه ولکن هذا الأمر غیر حاصل فی هذه الروایة بالنسبة إلی محمد بن أحمد بن یحیی عن موسی بن عمر بن یزید فإن الشیخ (قده) لا یذکرها فی کتبه لکی نستفید من ذلک أنه أخذها من کتاب نوادر الحکمة فی ما لو ابتدأ بسندها عنه ونطبّق کبری ذلک التوثیق (1) ونخرج بوثاقة الرجل وإنما الموجود هو ذکرها فی کتاب (ثواب الأعمال وعقاب الأعمال) للشیخ الصدوق (قده) وهذا ما لا یُجدی فی ما نحن فیه .

ص: 227


1- (2) یعنی وثاقة کل من روی عنه صاحب نوادر الحکمة ولم یستثنه محمد بن الحسن بن الولید .

ولکن یمکن التغلّب علی هذه المشکلة والالتزام بوثاقة هذا الرجل تمسّکاً بتلک الکبری فی ما إذا فرضنا أن محمد بن أحمد بن یحیی یروی عن موسی بن عمر بن یزید فی نوادر الحکمة ولو فی غیر هذه الروایة ، والظاهر أن الأمر کذلک فإن هناک موارد (1) ابتدأ فیها الشیخ (قده) بمحمد بن أحمد بن یحیی عن موسی بن عمر بن یزید فیثبت بذلک أن موسی بن عمر بن یزید هو من رجال نوادر الحکمة وهذا المقدار یکفی بعد ضمیمة عدم استثناء ابن الولید له ، ولا خصوصیة فی المقام لخصوص تلک الروایة .

المشکلة الثانیة : إن ابن سنان الذی یروی عنه موسی بن عمر مردّد بین عبد الله بن سنان الذی لا إشکال فی وثاقته ومحمد بن سنان الذی فیه کلام معروف .

ولکن الظاهر أن هذا الإشکال مندفع وأن المراد به محمد بن سنان وذلک لقرائن :

أولاً : إن موسی بن عمر بهذا العنوان وکذلک بعنوان موسی بن عمر بن یزید إنما یروی عن محمد بن سنان ولا یروی عن عبد الله بن سنان .

ثانیاً : إن من المعروف عند الرجالیین أن محمد بن سنان یروی عن أبی الجارود کثیراً بهذا العنوان (2) وبعنوان زیاد بن المنذر (3) حتی إن الغضائری قال فی ترجمته : " وأصحابنا یکرهون ما رواه محمد بن سنان عنه ویعتمدون ما رواه محمد بن بکر الأرجنی " ، والنجاشی فی ترجمته أیضاً ذکر روایة بسنده (4) عن محمد بن سنان قال فیها : " قال لی أبی الجارود : وُلدت أعمی ما رأیت الدنیا قطّ " ، وهذا یُثبت أن محمد بن سنان کان من أصحاب أبی الجارود ویروی عنه .

ص: 228


1- (3) یُلاحظ التهذیب مج2 ص87 ، ومج6 ص47 و240 و396 ، ومج8 ص225 ، وقد یجد المتتبّع غیرها .
2- (4) یعنی أبی الجارود .
3- (5) وهو اسم أبی الجارود .
4- (6) أی بسند النجاشی نفسه .

ثالثاً : إن عبد الله بن سنان لا توجد له إلا روایة واحدة عن أبی الجارود وبالتحدید فی أحد الکتب الأربعة (1) ، نعم .. له فی غیرها روایات عنه لکنها روایات نادرة (2) .

إذاً فابن سنان علی الاحتمال الأقوی هو محمد بن سنان وفیه کلام .. وسیأتی البحث فی تحقیق وثاقته .

وأما أبو الجارود فهو زیاد بن المنذر کوفی زیدی له أصل أعمی وله کتاب التفسیر روی عن أبی جعفر وأبی عبد الله (علیهما السلام) وتغیّر لمّا خرج زید (3) ، لیس له توثیق صریح إلا من قبل الشیخ المفید (قده) فی الرسالة العددیة التی ردّ فیها علی الرأی الذی تبنّاه الشیخ الصدوق وغیره من أن هلال شهر رمضان لا یختلف باختلاف الشهور فهو تام دائماً (4) ولا ینقص فقد ذکر فی رسالته جملة من الأشخاص قال إنهم رووا أن شهر رمضان حاله حال سائر الشهور یزید وینقص وأن هؤلاء الذین رووا هذا المعنی هم من الرواة الأعلام الذین یُؤخذ عنهم الحلال والحرام والفُتیا والأحکام الذین لا مطعن علیهم ولا طریق إلی ذمّ واحد منهم ، وعدّ أبا الجارود واحداً منهم فیکون هذا توثیقاً صریحاً للرجل .

ص: 229


1- (7) وهی ما رواه الکلینی عن علی بن إبراهیم ، عن أبیه ، عن محمد بن عیسی ، عن یونس ، عن حماد ، عن عبد الله بن سنان ، عن أبی الجارود قال : " قال أبو جعفر (علیه السلام) : إذا حدّثتکم بشیء فاسألونی من کتاب الله ... إلخ الروایة " الکافی مج1 ص60 .
2- (8) لم أعثر إلا علی الروایة المتقدمة عن الکافی ذکرها فی المحاسن ص269 .
3- (9) رجال النجاشی ص170 .
4- (10) أی ثلاثون یوماً .

هذا هو المدرک الوحید لإثبات وثاقة الرجل ، نعم .. یمکن أن یُستفاد من عبارة الغضائری المتقدّمة الاعتماد علیه لأنه قال : (وأصحابنا یکرهون ما رواه محمد بن سنان عنه ویعتمدون ما رواه محمد بن بکر الأرجنی) حیث یُفهم منها الاعتماد علی روایات الرجل وإن کان بروایة الأرجنی عنه .

ولکن فی المقابل نقل الکشی عدة روایات فی ذمّ أبی الجارود وفی بعضها کونه کذّاباً .. لکن الظاهر أن کل الروایات التی نقلها الکشی ضعیفة السند یصعب التعویل علیها لإثبات ضعف الرجل ، ونقل ابن الندیم فی الفهرست عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه لعن أبا الجارود وقال إنه أعمی القلب أعمی البصر .

هذا .. والعمدة توثیق الشیخ المفید فإذا ثبت ثبت بموجبه وثاقة الرجل وإلا کان الحاکم فیه روایات التضعیف ، ومن هنا لا بد من بسط الکلام علی توثیق الشیخ المفید فأقول :

إن هناک ملاحظات علی توثیقاته الذی ذکرها فی رسالته (1) وفی الإرشاد ففی الرسالة بلغ مجموع من وثّقهم وذکر لهم روایات علی أن شهر رمضان یزید وینقص أربعة وعشرین شخصاً وقد عبّر عنهم بأنهم یُؤخذ عنهم الحلال والحرام .. إلخ ومنهم أبو الجارود ، ثم ذکر فی الرسالة نفسها أسماء ثلاثة وعشرین آخرین رووا هذا المعنی (2) لکن لم یذکر نصّ روایاتهم معللاً ذلک بأنه قد اختصر ذکر المتون والأسانید ، وأما فی الإرشاد فقد ذکر فی فصل النصّ علی إمامة الإمام الکاظم (علیه السلام) (3) سبعة من الرواة وقال إنهم : " من أصحاب أبی عبد الله (علیه السلام) وخاصته وبطانته وثقاته الفقهاء الصالحین رضی الله عنهم " ، وفی فصل النصّ علی إمامة الإمام الرضا (علیه السلام) ذکر اثنی عشر راویاً وذکر أنهم : " من خاصة أبیه وثقاته وأهل الورع والعلم والفقه من شیعته " فالشیخ المفید لدیه توثیقات لجماعة من الرواة فی الرسالة العددیة ولدیه توثیقات أخری لجماعة فی الإرشاد ، والبحث فی توثیقاته عام یشمل کلا الموردین وإن کان ما یخصّنا هنا توثیقه لأبی الجارود فی الرسالة العددیة .

ص: 230


1- (11) أی الرسالة العددیة .
2- (12) أی من أن شهر رمضان یزید وینقص .
3- (13) الإرشاد مج2 ص16 .

إذا عرفت هذا فاعلم أن هناک خلافاً بین المحققین الرجالیین فی تقییم توثیقات الشیخ المفید لاسیّما فی الإرشاد فمنهم من أخذ بتوثیقاته علی القاعدة واستند إلیها :

ومن أهمّ الآخذین بها الشیخ الوحید فی فوائده (1) ویُستفاد من عبارته الاعتماد علی ذلک کما یُستفاد من عبائر أخری له فإن الشیخ الوحید وإن تأمّل فی استفادة العدالة بالمعنی الاصطلاحی منها (2) إلا أنه ذکر أنه یُستفاد منها الوثاقة والاعتماد وقد جری فی جملة من الرواة کذلک معتمداً علیهم استناداً إلی توثیق المفید وصرّح بذلک کما سیأتی .

ومنهم أیضاً الفاضل الجزائری فی ترجمة داوود بن زُربی (3) فقد صرّح باعتماده علی توثیقات المفید بل یظهر من العلامة فی الخلاصة کفایة التوثیق من عبارة المفید حیث نقل فی ترجمة محمد بن سنان توثیق المفید له مع أنه لیس للمفید عبارة فی توثیقه سوی ما ذکره فی الإرشاد من أنه ممن نصّ علی إمامة الإمام الرضا (علیه السلام) وساق العبارة المذکورة (4) فیظهر أنه یستفید من عبارته التوثیق له وظاهره الأخذ بذلک .

ومنهم أیضاً السید الخوئی (قده) حیث بنی علی وثاقة أبی الجارود معتمداً علی توثیقات الشیخ المفید فی الرسالة العددیة ووجوده فی أسانید تفسیر علی بن إبراهیم القمی .

وفی المقابل من شکّک فی الأخذ بهذه التوثیقات وأهمهم المحقق الشیخ محمد بن الشیخ حسن نجل الشهید الثانی کما نقل عنه الشیخ الوحید (5) ذاکراً أنه علّله بتحققها بالنسبة إلی جماعة اختصّ بهم (6) من دون کتب الرجال بل وقع التصریح بضعفهم من غیره علی وجه یقرب الاتفاق علی ضعفهم ، ثم ذکر الشیخ الوحید أنه : " لعل مراده من التوثیق شیء آخر وإلا فمن الصعب جداً الالتزام بتوثیق جماعة یختص بتوثیقهم من دون کتب الرجال بل بعضهم اتفقوا علی ضعفه) .

ص: 231


1- (14) فی الفائدة الثالثة .
2- (15) أی من عبارات الشیخ المفید .
3- (16) الحاوی مج1 ص361 المطبوع حدیثاً .
4- (17) أی من أنهم من خاصة أبیه وثقاته وأهل الورع .. إلخ .
5- (18) والمظنون أنه أخذه من کتاب المحقق الشیخ محمد المعروف باستقصاء الاعتبار .
6- (19) أی الشیخ المفید (رض) .

ویمکن أن نضیف إلی هذا التشکیک أن المفید نفسه قال فی حقّ محمد بن سنان فی الرسالة العددیة معلّقاً علی حدیثٍ : (طریقه محمد بن سنان وهو مطعون فیه لا تختلف العصابة فی تهمته وضعفه) فی حین أنه ذکره فی الإرشاد ضمن من نصّ علی إمامة الإمام الرضا (علیه السلام) من ثقاة الإمام وخواصّه وأهل الورع والعلم (1) بل استدلّ فی الرسالة نفسها علی مدّعاه من أن شهر رمضان کباقی الشهور یزید وینقص وبعد عدة صفحات من کلامه المتقدّم فی حقّ محمد بن سنان (2) بروایة یرویها محمد بن سنان عن أبی الجارود .. وهذا أشبه بالتهافت (3) ، ومن الواضح أنه من الصعوبة أن نجمع بین کون ابن سنان من خواص الإمام (علیه السلام) وثقاته وأهل العلم والورع .. إلخ وبین أنه قد اتفقت العصابة علی اتهامه وضعفه .. إلخ .

بحث رجالی فی سند روایة الاصبغ بن نباتة عن أمیر المؤمنین-ع- والمرویة فی الوسائل باب -5- أبواب مایکتسب به-ح10 بحث الفقه

(بحث یوم الأربعاء 18 محرم الحرام 1433 ه 45)

کان الکلام فی توثیقات الشیخ المفید والملاحظة المهمة علیها هی ما أشار إلیها المحقق الشیخ محمد مما نقله عنه الشیخ الوحید فی فوائده وهی أن الشیخ المفید ذکر فی توثیقاته أشخاصاً لم یوثّقهم غیره بل قد ضعّفهم غیره بل بعضهم قد اتفقوا علی ضعفهم .. بل لو فُرض عدم الاتفاق علی تضعیفهم إلا أن صدق العناوین (4) التی ذکرها علیهم محلّ منع ، ومن هنا لا یمکن الاطمئنان بهذه التوثیقات ولا الرکون إلیها .

ص: 232


1- (20) یُلاحظ الإرشاد ص20 .
2- (21) من کونه مطعوناً فیه .. إلخ .
3- (22) أی بین ما ذکره فی الإرشاد وما ذکره فی الرسالة العددیة .
4- (1) من قبیل أنه من الرؤساء الأعلام الذین یؤخذ عنهم الحلال والحرام وأصحاب العلم والورع .. إلخ .

ویمکن أن یقال فی مقام الجواب عن ذلک هو أن الموثَّقین فی الرسالة العددیة لیس فیهم من هو معروف بالضعف بل ولا من صُرّح بضعفه حتی مثل أبی الجارود بل قد تقدّم فی عبارة الغضائری ما قد یُفهم منه الاعتماد علیه من أن الأصحاب وإن کانوا لا یعملون بروایاته عن طریق محمد بن سنان ولکنهم یعتدّون بروایاته المرویة عن طریق الأرجلی بل إن الشیخ الطوسی فی الفهرست عندما ذکر طریقه إلی تفسیر أبی الجارود نصّ علی ضعف الراوی عنه وسکت عن النصّ علی ضعفه فقال عن کثیر بن عیّاش الذی یروی عن أبی الجارود : (کان ضعیفاً وخرج أیام أبی السرایا فأصابته جراحة) (1) لکنه سکت عن أبی الجارود مما قد یُفهم منه أنه لیس واضح الضعف .

فإذاً لیس فی من ذکرهم الشیخ المفید من هو متسالَم علی ضعفه بل لیس فیهم من هو منصوص علی ضعفه بل الظاهر أن معظم من ذکرهم أو کلهم هم من الثقات الذین ثبتت وثاقتهم .

نعم .. قد یُتأمّل فی صدق العناوین التی ذکرها فی کلامه علی بعضهم إلا أن هذا مندفع بملاحظة أنه لیس ثمة جزم بعدم انطباقها علیهم بل من المحتمل صدقها علیهم باعتبار أن الرجالیین لا یلتزمون بذکر کل خصوصیات الراوی فی کلماتهم وإنما جلّ ترکیزهم علی بیان الوثاقة وعدمها وأما کونه من الرؤساء الأعلام الذین یؤخذ منهم الحلال والحرام ... إلخ فلیس عدم ذکرهم لها یعنی عدم صدقها علیهم بل من المحتمل أنهم کانوا کذلک غایة الأمر أنها لم تُذکر بحقهم ولعل الشیخ المفید کان قد أحرز انطباقها علیهم .

ص: 233


1- (2) الفهرست ص132 .

ولکن مع ذلک لا بد لتحرّی الجواب عمّا ذُکر من استعراض الرواة الذین ذکرهم الشیخ المفید فی الرسالة العددیة حیث قال فیها :

" وأما رواة الحدیث بأن شهر رمضان شهر من شهور السنة یکون تسعة وعشرین یوماً ویکون ثلاثین یوماً فهم فقهاء أصحاب أبی جعفر محمد بن علی وأبی عبد الله جعفر بن محمد وأبی الحسن موسی بن جعفر وأبی الحسن علی بن موسی وأبی جعفر محمد بن علی وأبی الحسن علی بن محمد وأبی محمد الحسن بن علی بن محمد (صلوات الله علیهم) والأعلام الرؤساء المأخوذ عنهم الحلال والحرام والفتیا والأحکام الذین لا مطعن علیهم [أو لا یُطعن علیهم] فلا طریق إلی ذمّ واحد منهم وهم أصحاب الأصول المدوّنة والمصنّفات المشهورة وکلّهم قد أجمعوا نقلاً وعملاً علی أن شهر رمضان یکون تسعة وعشرین یوماً نقلوا ذلک عن أئمة الهدی (علیهم السلام) وعرفوه فی عقیدتهم واعتمدوه فی دیانتهم ثم یقول وقد فصّلت أحادیثهم بذلک فی کتابی المعروف بمصباح النور فی علامات أوائل الشهور وأنا أُثبت من ذلک ما یدل علی تفصیلها إن شاء الله فممن روی عن أبی جعفر محمد بن علی الباقر (علیه السلام) أن شهر رمضان شهر من الشهور یُصیبه ما یُصیبه الشهور من النقصان أبو جعفر محمد بن مسلم أخبرنی بذلک أبو غالب أحمد بن محمد الزراری (رحمه الله) عن أحمد بن محمد .. " إلی أن یصل بالسند إلی محمد بن مسلم ثم ینقل الروایة ، ثم یقول :

" وروی محمد بن قیس مثل ذلک ومعناه أخبرنی أبو القاسم .. " ثم یذکر طریقه إلی محمد بن قیس عن أبی جعفر ثم یذکر الروایة ، ثم یقول :

ص: 234

" وروی محمد بن سنان عن أبی الجارود قال سمعت أبا جعفر .. " ثم یذکر روایةً لأبی الجارود ، ثم یقول :

" وروی مصدّق بن صدقة عن عمار بن موسی الساباطی عن أبی عبد الله جعفر بن محمد (علیه السلام) .. " ثم یذکر روایة عمار ، ثم یقول :

" وروی الحسن بن الحسین بن أبان عن أبی أحمد عمر بن الربیع قال : سئل جعفر بن محمد عن الأهلة .. " ، ثم یقول :

" وروی الحسین بن سعید عن محمد بن الفضیل عن أبی الصباح الکنانی عن أبی عبد الله (علیه السلام) .. " ثم یذکر روایته .. وهکذا إلی آخر کلامه (قده) .

فإذا فرضنا أن المقصود بالرواة الذین یروون هذا المعنی عن الأئمة (علیهم السلام) هم الرواة المباشرون عنهم (علیهم السلام) بحسب ما ذکره فی عبارته من المدح بقوله : (الأعلام الرؤساء المأخوذ عنهم الحلال والحرام .. إلخ) وهم ممن قد نُصّ علی وثاقتهم ولیس فیهم من هو واضح الضعف أو یُتردد فی ضعفه فإذا غضضنا النظر عن أبی الجارود ومورد آخر فیه اختلاف بین النسخ لم نعلم المقصود به (1) وهو المورد الثالث عشر الذی یذکره إلا أن ما عداهم مثل محمد بن مسلم وعمار الساباطی وعمر بن الربیع (2) وأبی الصباح الکنانی ومنصور بن حازم وعبد الله بن مسکان وزید الشحّام ویونس بن یعقوب وإسحاق بن جریر وجابر بن یزید الجعفی وعبد الله بن أبی یعفور وعبد الله بن بکیر ومعاویة بن وهب وعبد السلام بن سالم وعبد الأعلی بن أعین وهارون بن حمزة الغنوی (3) وسماعة بن مهران وعبید بن زرارة والفضل بن عبد الملک (4) وحمّاد بن عثمان ویعقوب بن سالم الأحمر فکل من ذکرهم ما عدا الموردین المزبورین ینطبق علیهم ما ذکره من العناوین .

ص: 235


1- (3) هل هو أبو مخلّد أم أبو خالد ، الواسطی أم غیره .
2- (4) منصوص علی وثاقته وله کتاب .
3- (5) موثّق وله أکثر من کتاب .
4- (6) وهو البقباق .

وبما ذکرناه (1) یندفع ما قد یُشکل فی المقام بحصول التنافی فی کلام الشیخ المفید إذ فی الوقت الذی یمدح رجال السند وفیهم مثل محمد بن سنان بکونهم من الرؤساء الأعلام .. إلی آخر ما ذکره نجده یقول عن محمد بن سنان إنه : " معروف بالضعف واتفقت العصابة علی تهمته " ، ویقول أیضاً :

" محمد بن سنان وهو مطعون فیه لا تختلف العصابة فی تهمته وضعفه وما کان هذا سبیله لم یُعمل علیه فی الدین " .

وجه الاندفاع : أن الشیخ لا یرید تطبیق تلک العناوین علی جمیع رجال السند بل علی خصوص الرواة المباشرین فی الروایة عن الأئمة (علیهم السلام) فلم یکن الشیخ بصدد توثیق کل من یقع فی الطریق إلی أصحاب تلک الروایات مطلقاً .

وبذلک یظهر أنه لا محلّ لما ذکره المحقق الشیخ محمد من أنه قد ثبت ضعفهم أو اتفقوا علی ضعف بعضهم مثل یزید بن إسحاق الملقّب بشعر فإنه مجهول وإن کان له کتاب ومثل أبی سارة والحسن بن نصر بن قابوس فإنهما مجهولان وعمرو بن شمر الضعیف جداً کما عن النجاشی وأبی جمیلة المفضّل بن صالح المتسالم علی ضعفه فإنه ناظر إلی مجموع رجال السند وقد عرفت أن نظره إلی خصوص الرواة المباشرین .

هذا .. والذی یظهر من السید الخوئی (قده) هو هذا الفهم (2) بدلیل أنه استند إلی عبارة المفید فی توثیق أبی الجارود ولم یستند إلیها فی توثیق عمرو بن شمر المفضّل بن صالح والحسن بن نصر وغیرهم ممن ترجمهم وذکرهم بالضعف ولذلک نراه یلجأ فی توثیق من یراه ثقة منهم إلی مثل وروده فی کامل الزیارات أو فی أسانید تفسیر القمی ومعنی هذا أنه لا یرید أن یفهم توثیق کل من وقع فی الطریق إلی أصحاب الکتب وإنما یفهم توثیق الرواة المباشرین عن الأئمة (علیهم السلام) ، وبالبناء علی هذا الفهم وهو أمر غیر بعید یندفع إشکال التهافت فی کلام المفید بالنسبة إلی خصوص الرسالة العددیة .

ص: 236


1- (7) أی مِن أن مَن تنطبق علیهم العناوین المذکورة هم الرواة المباشرون عن الأئمة (علیهم السلام) .
2- (8) أی الرواة المباشرین .

إن قیل : إذا کان الأمر کذلک فکیف یعتمد علی الروایة إذا لم یکن یعتمد علی الرجال الواقعین فی الطریق إلیها .

فإنه یقال : إنه من الممکن افتراض أن الشیخ المفید یعتمد علی أن الروایة واصلة إلیه عن طریق کتب الرواة المباشرین فمثلاً یروی عن محمد بن مسلم ما نقله من کتاب محمد بن مسلم نفسه المعلوم الانتساب إلیه فی ذلک الزمان وحینئذ لا یؤثّر وجود محمد بن سنان فی السند حتی لو بنینا علی ضعفه ، وکذا یقال فی بقیة الرواة ، کما أنه من الممکن أیضاً افتراض وجود قرائن متّصلة أورثت للشیخ الوثوق أو الاطمئنان بصدور تلک الروایة .

یبقی شیء فی المقام وهو أن طعنه فی محمد بن سنان کما تقدّم ذکر عبارته - قد ینافی توثیقه له فی الإرشاد - کما صُرّح بذلک حیث ذکر محمد بن سنان فیه بأنه ممن سمع النصّ علی إمامة الإمام الرضا (علیه السلام) وعبّر عنهم بأنهم خواصّ الإمام الکاظم (علیه السلام) وثقاته .. إلخ فلم ینحصر إشکال التهافت فی خصوص الرسالة العددیة حتی ینحلّ بما ذکرناه (1) بل الأمر یطال الإرشاد أیضاً ، ولا بد من نقل عبارته بنصّها لنقف علی حقیقة الأمر من اندفاع هذا التهافت هاهنا أیضاً أو ثبوته .. وسیأتی الکلام فیه إن شاء الله تعالی .

بحث رجالی فی سند روایة الاصبغ بن نباتة عن أمیر المؤمنین-ع- والمرویة فی الوسائل-باب-5-أبواب مایکتسب به-ح10 بحث الفقه

(بحث یوم السبت 21 محرم الحرام 1433 ه 45)

تقدّم ذکر احتمال إرادة توثیق الرواة المباشرین عن الأئمة (علیهم السلام) فی عبارة الشیخ المفید فی الرسالة لا جمیع من وقع فی طریق تلک الروایة وقلنا إن هذا یحلّ الإشکال فی هذه الرسالة بمعنی أن الروایة لا تکون مشتملة حینئذ إلا علی التضعیف والطعن فی محمد بن سنان (2) دون التوثیق له الذی یبتنی علی فهم آخر للعبارة وهو توثیق کل من وقع فی طریق السند .

ص: 237


1- (9) أی من فهم من الرواة المباشرین .
2- (1) والکلام وإن کان کبرویاً بمعنی البحث فی توثیقات الشیخ المفید إلا أن المقصود منه بالذات هو تطبیق النتیجة علی محمد بن سنان بالخصوص کونه أحد رجال سند الروایة المبحوث عنها - لتثبت له الوثاقة أو عدمها .

استدراک :

کنّا قد ذکرنا فی الدرس السابق أنه یظهر من السید الخوئی (قده) أنه فهم الاحتمال الأول فی العبارة (1) وقلنا إنه استناداً إلی ذلک وثّق أبا الجارود دون مثل عمرو بن شمر وغیره ممن وقع فی الطریق .. ولکن یبدو بعد المراجعة أن الأمر لیس کذلک بدلیل أنه (قده) یذکر من جملة الأدلة علی وثاقة محمد بن سنان توثیق الشیخ المفید له فی الرسالة مع أنه لیس من الرواة المباشرین عن الإمام (علیه السلام) فی الروایات التی ذُکرت فی الرسالة وفی ضوء هذا یکون - وفق فهمه - أن کل من ذکرهم الشیخ هم من الرؤساء الأعلام الذین یؤخذ منهم الحلال والحرام .. إلخ ، وکذلک وجدت غیره (قده) ینحو هذا المنحی أیضاً کالوحید البهبهانی وآخرین فیظهر أنه واضح لدیهم کون الشیخ المفید قد وثّق بتلک العبارة محمد بن سنان وأضرابه ممن وقع فی طریق أسانید تلک الروایات بحسب هذا الفهم .

وأقول : إنه بمراجعة عبارة الشیخ (قده) یتّضح أن الاحتمال الأول احتمال وارد والجزم بالاحتمال الثانی قد یصعب حمل العبارة علیه ، حیث قال :

" وأما رواة الحدیث بأن شهر رمضان .. فهم فقهاء أصحاب أبی جعفر محمد بن علی وأبی عبد الله جعفر بن محمد .. والأعلام الرؤساء المأخوذ عنهم الحلال والحرام .. وکلّهم قد أجمعوا نقلاً وعملاً (علیه السلام) علی أن شهر رمضان یکون تسعة وعشرین یوماً نقلوا ذلک عن أئمة الهدی (علیهم السلام) وعرفوه فی عقیدتهم واعتمدوه فی دیانتهم .. فممن روی عن أبی جعفر محمد بن علی الباقر (علیه السلام) أن شهر رمضان شهر من الشهور یُصیبه ما یُصیبه الشهور من النقصان أبو جعفر محمد بن مسلم .. إلخ " .

ص: 238


1- (2) وهو إرادة توثیق الرواة المباشرین عن الأئمة (علیهم السلام) .

إذاً فهو یذکر هاهنا محمد بن مسلم کما یذکر غیره أیضاً ممن ذکرنا أسماءهم فیبدو أن احتمال کون منظوره هو خصوص محمد بن مسلم وأمثاله من الرواة المباشرین لا مجموع الرواة فی الأسانید احتمال قائم لا دافع له فکیف یتأتی معه الجزم بالفهم الثانی (1) .. مع أن دعوی استظهار الفهم الأول من العبارة لیست بعیدة لاسیما إذا ضممنا إلیها ما ذکره الشیخ المفید نفسه فی کلام سابق له من الطعن فی محمد بن سنان والتضعیف له - وقد تقدّم نقل عبارته - فإن هذا یُشکّل قرینة واضحة ومرجّحة علی أن مراده توثیق خصوص الرواة المباشرین وإلا لزم التهافت فی کلامه وبعید جداً صدورُه من مثلِه ، ومثلُه فی البعد توهّم عدوله عن رأیه من تضعیف الرجل وأضرابه إلی القول بتوثیقهم مع أن محلّ ذلک إنما هی رسالته العددیة وهی لا تبلغ إلا صفحات معدودة فکیف یُعقل عدوله من رأی إلی آخر فیها .

هذا .. وقد تقدّم الجواب عمّا قد یُشکل فی المقام من أن لازم هذا الفهم (2) أن یکون قد اعتمد روایةً وقع مثل محمد بن سنان فی طریقها حیث قلنا إنه لا یبعد أن یکون قد أخذ الروایة من الأصل الذی ذُکرت فیه وهو کتاب أبی الجارود الراوی المباشر ومن المعلوم أن ضعف الطریق لا یؤثّر مع افتراض شهرة الأصل ومعلومیة انتسابه إلی صاحبه .

وکیف کان فالترجیح للاحتمال الأول (3) بموجب استظهار ذلک فی نفسه مؤیّداً بالقرینة المذکورة .. وعلی ذلک فلیس ثمة تهافت واضح فی الرسالة العددیة .

ص: 239


1- (3) أی کون المنظور فی التوثیق مجموع الرواة فی الأسانید .
2- (4) أی کون المنظور فی التوثیق هم الرواة المباشرون عن الأئمة (علیهم السلام) .
3- (5) الهامش السابق .

نعم .. قیل کما عن غیر واحد بأن التهافت إنما هو بین تضعیف محمد بن سنان فی الرسالة العددیة وتوثیقه فی الإرشاد علی ما ذکره فیه فی باب من روی النصّ علی الإمام الرضا (علیه السلام) بقوله : " فممن روی النص علی الرضا علی بن موسی (علیهما السلام) بالإمامة من أبیه والإشارة إلیه منه بذلک من خاصته وثقاته وأهل الورع والعلم والفقه من شیعته : داود بن کثیر الرقی ، ومحمد بن إسحاق بن عمار ، وعلی بن یقطین ، ونعیم القابوسی ، والحسین بن المختار ، وزیاد بن مروان ، والمخزومی ، وداود بن سلیمان ، ونصر بن قابوس ، وداود بن زربی ، ویزید بن سلیط ، ومحمد بن سنان " (1) .

والسؤال هنا أنه هل یؤثّر هذا الاختلاف فی ما ذکره فی الرسالة من التضعیف وما ذکره فی الإرشاد من التوثیق من الأخذ بتوثیقاته فی الرسالة ؟

والجواب عدم التأثیر لأن لهذا الرجل (2) خصوصیة من بین من ذکرهم من الرواة حیث تعدّدت فیه الأقوال فیمکن افتراض اختلاف رأی الشیخ المفید فی کتابیه (3) فعدل فی الإرشاد إلی مدحه لثبوت وثاقته عنده .

والنتیجة أنه لا مانع من الأخذ بتوثیقات الشیخ المفید مطلقاً (4) مع الأخذ بعین الاعتبار تطبیق القواعد العامة لعلم الرجال علیها من أنه إذا وجد لها معارض فیلزم التوقف عن الأخذ بالتوثیق فی مورد المعارضة کما هو الحال فی محمد بن سنان وأما فی ما عدا هذه الحالة فتکون التوثیقات مستنداً لإثبات الوثاقة وهذا الرأی هو الحریّ بالقبول .

ص: 240


1- (6) الإرشاد مج2 ص247 من الطبعة الحدیثة .
2- (7) أی محمد بن سنان .
3- (8) ولیس هذا کدعوی اختلاف رأیه فی الرسالة نفسها کما عرفت وجهه من کونها عبارة عن صفحات یسیرة لا یُعقل معها تبنّی رأیین مختلفین والعدول من أحدهما إلی الآخر فیها .
4- (9) أی سواء کانت مذکورة فی الرسالة العددیة أو مذکورة فی الإرشاد .

هذا .. وممن وقع فی السند سعد الإسکاف الذی اشتهر بروایته عن الأصبغ بن نباتة کما نصّ علی ذلک کل من ذکره وترجم له فلا یُسمع لدعوی التشکیک فی إمکان روایته عنه .. قال عنه النجاشی : " یُعرف ویُنکر " (1) ، ونقل الکشی عن حمدویه : " أنه کان ناووسیاً وقف علی أبی عبد الله (علیه السلام) (2) " (3) ، وضعّفه ابن الغضائری فی کتابه .

وفی مقابل ذلک ذُکر دلیلان لإثبات وثاقته :

الأول : ما ذکره الشیخ (قده) فی رجاله (4) - بعد أن عدّه فی أصحاب السجّاد (علیه السلام) - بقوله : " صحیح الحدیث " ، وذکره فی أصحاب الباقر والصادق (علیهما السلام) من دون التعرّض إلی توثیقه ، فیقال إن قوله : " صحیح الحدیث " شهادة منه بوثاقته .

الثانی : سند روایة فی الکافی (5) جاء فیها : " علی بن إبراهیم عن أبیه عن ابن أبی عمیر عن سعد بن طریف " (6) ، فیثبت بهذا السند أن ابن أبی عمیر روی عن سعد بن طریف وهذا یکفی فی توثیقه بناءً علی وثاقة مشایخ ابن أبی عمیر .

ص: 241


1- (10) رجال النجاشی ص176 .
2- (11) أی الإمام الصادق (علیه السلام) .
3- (12) اختیار معرفة الرجال مج2 ص476 .
4- (13) رجال الطوسی ص115 .
5- (14) الکافی باب من غسّل مؤمناً الحدیث الثانی مج3 ص164 .
6- (15) الذی هو سعد الإسکاف ، قال الکشی : " قال حمدویه : سعد الإسکاف وسعد الخفاف وسعد بن طریف واحد " اختیار معرفة الرجال مج2 ص476 .

هکذا ذُکر .. ولکن الظاهر أنه یمکن الخدشة فی الدلیل الثانی بدعوی سقوط الواسطة بین ابن أبی عمیر وسعد بن طریف ، والظاهر أن الواسطة هو سیف بن عمیرة لقرائن ثلاث :

الأولی : ما ذکره فی الکافی من سند روایة جاء فیها : " علی بن إبراهیم عن أبیه عن ابن أبی عمیر عن سیف بن عمیرة عن سعد بن طریف " (1) ، فیقال إن هذا یُشکّل قرینة علی أن السند الذی فی الروایة السابقة هو أیضاً کذلک .

الثانیة : إن الشیخ الطوسی (قده) روی فی التهذیب الروایة نفسها التی ذُکرت فی الدلیل الثانی بالسند نفسه ولکن مع ذکر الواسطة وهو سیف بن عمیرة (2) .

الثالثة : عدم ذکر المحققین لکون ابن أبی عمیر ممن یروی عن سعد بن طریف مباشرة وإنما یروی عنه بواسطة سیف بن عمیرة - عادة - أو غیره .

فإن تمّ ما ذُکر دلیلاً علی القطع بوجود الواسطة فهو وإلا فلا أقلّ من احتمالها وهو کافٍ للمنع من الاستناد إلی ما ذُکر لإثبات وثاقة الرجل (3) .

وعلی هذا فإن اعتمدنا تضعیفات ابن الغضائری وأخذنا بما ذکره من تضعیفه صریحاً (4) فحینئذ یحصل التعارض بینه وبین توثیق الشیخ الطوسی (قده) فی قوله : (صحیح الحدیث) ونتیجة ذلک عدم ثبوت الوثاقة ، لا من باب تقدیم الجرح علی المدح - الذی لا نعتدّ به - بل من باب استلزام التعارض للتساقط فیبقی الرجل بلا توثیق .

ص: 242


1- (16) الکافی باب من کفّن مؤمناً - وهو حدیث واحد مج3 ص164 .
2- (17) أقول : بعد المراجعة إلی الموضع المشار إلیه من التهذیب (مج1 ص45) وجدت أن السند هکذا : " عنه (یعنی علی بن إبراهیم) عن أبیه عن سیف بن عمیرة عن سعد بن طریف " أی من غیر ذکرٍ لابن أبی عمیر .
3- (18) یعنی سعد الإسکاف .
4- (19) الثابت بحسب نقل مجمع الرجال له الذی یُستند إلیه لإثبات ما فی کتاب الضعفاء لابن الغضائری ، وأما ما ذکرناه من کونه (یُعرف ویُنکر) أو کونه (ناووسیاً) فلیست مؤثرة فی المقام فإن التعبیر الأول معهود لدیهم فی إطلاقه علی من یروی روایات مختلفة من حیث المضمون العقائدی حیث یُنکر المضمون فی بعض الأحیان عند الأصحاب ، وأما التعبیر الثانی فمن الواضح عدم تأثیره بناءً علی اشتراط الوثاقة لا العدالة (منه دامت برکاته) .

وأما إذا خدشنا فی تضعیفات ابن الغضائری ولم نعتمدها - کما ذهب إلی ذلک جملة من المحققین -فحینئذ یمکن الاعتماد علی کلام الشیخ الطوسی (قده) من قوله : (صحیح الحدیث) لإثبات وثاقة الرجل .

اللّهم إلا أن یُشکّک فی دلالة هذه العبارة علی التوثیق من جهة أن معنی الصحة عند القدماء یختلف عنه عند المتأخرین فإنها عند القدماء وصف للحدیث من جهة کون جمیع رجال السند عدولاً علی مذهب الإمامیة فیوصف الحدیث بکونه صحیحاً متی ما کان جمیع رجاله علی ذلک الطرز (1) .

وأما الصحة عند المتأخرین مطابقة الحدیث للواقع أی القطع بالصدور وهذا قد یحصل من أسباب شتّی غیر وثاقة رجال الروایة من قبیل تدوین الحدیث فی المجامیع الحدیثیة ووصوله إلی الأصحاب بطرق مختلفة واهتمامهم به وعمل المشهور به بل عن بعضهم عدم مخالفته للقرآن الکریم وما یحکم به العقل .. فکل هذه الأمور قرائن یمکن تجمیعها لتحصیل القطع بصدور الروایة أو الوثوق به وإن کان ثمة من هو ضعیف فی رجال السند .

هذا بالنسبة إلی حال سعد الإسکاف .

وأما الأصبغ بن نباتة فقد نصّ النجاشی (2) والشیخ الطوسی فی الفهرست (3) علی أنه من خاصة أمیر المؤمنین (علیه السلام) ، وفی الکشی (4) أنه من شَرَطة الخمیس الذین ضمنوا للإمام (علیه السلام) الذبح وضمن لهم الفتح (5) ، وفی التحریر الطاووسی والخلاصة للعلامة عبّر عنه بأنه (مشکور) وقد نصّ کل من النجاشی والشیخ بأنه عمّر بعد أمیر المؤمنین (علیه السلام) وبه یندفع إشکال الإرسال فی روایة سعد الإسکاف عنه بدعوی أن سعداً یروی عن الإمامین الباقر والصادق (علیهما السلام) فکیف یمکن له أن یروی عن الأصبغ بن نباتة .

ص: 243


1- (20) لاحظ فی معنی صحة الحدیث کتاب الرعایة فی علم الدرایة للشهید الثانی ص77 .
2- (21) رجال النجاشی ص8 .
3- (22) الفهرست ص85 .
4- (23) اختیار معرفة الرجال مج1 ص321 .
5- (24) الشَّرَط (بفتح الراء) بمعنی العلامة وجمعه أشراط ومنه أشراط الساعة أی علاماتها ، ومنه أیضاً قولهم (شرطة الخمیس) لطائفة من الجیش تقدم أمام الجند لأنهم أعلموا أنفسهم بعلامات یُعرفون بها ( یُلاحظ حاشیة المکاسب للسید الیزدی (قده) ط . ق مج2 ص106 - القرص اللیزری مکتبة أهل البیت - ) .

ثم إنّا لو لم نستفد التوثیق له (1) فلا أقل من المدح غیر المعارض بخلافه فیمکن الاعتماد علی الروایة من جهته .

بقی فی المقام مشکلة محمد بن سنان فإذا التزمنا بوثاقته فتکون الروایة خالیة حینئذ من الإشکال وسنبسط الکلام فیه إن شاء الله تعالی .

بحث رجالی فی سند روایة الاصبغ بن نباتة عن أمیر المؤمنین-ع- والمرویة فی الوسائل-باب-5- أبواب مایکتسب به-ح10 بحث الفقه

(بحث یوم الأحد 22 محرم الحرام 1433 ه 46)

کان الکلام فی حال سعد الإسکاف حیث ذکرنا بأن ابن الغضائری ضعّفه وفی المقابل قال عنه الشیخ الطوسی (قده) بأنه صحیح الحدیث ، وقلنا إنه إذا اعتمدنا تضعیفات ابن الغضائری فیقع التعارض حینئذ بین التوثیق والتضعیف ، وإن لم نعتمدها من جهة الشکّ فی نسبة الکتاب إلیه - کما ذهب إلی ذلک بعضهم - فحینئذ ینفرد توثیق الشیخ الطوسی فیُبنی علیه .

وقد تقدّم طرح التشکیک فی دلالة قوله : (صحیح الحدیث) علی التوثیق بدعوی أن صحة الحدیث عند القدماء لا تعنی وثاقة الراوی بل هی أعمّ منها فقد یکون الحدیث صحیحاً من دون أن یکون راویه ثقة وذلک لوجود قرائن خارجیة تدل علی صحته ومطابقته للواقع .

ولکن والصحیح أن یقال : إن الصحة تارة تکون وصفاً للحدیث فهنا ینفتح المجال لما تقدّم ذکره من اختلاف معنی الصحة بین القدماء والمتأخرین وما یترتّب علی کل منهما من حیث وثاقة الراوی (2) ، وأخری تکون وصفاً للمحدِّث فیتعیّن هنا أن یکون المراد بالحدیث معناه اللغوی وهو النقل والإخبار والتحدیث لا الحدیث الاصطلاحی - الذی بمعنی الروایة - فیکون وصف الحدیث بالصحة کنایة عن صدق المحدِّث ووثاقته .

ص: 244


1- (25) أی للأصبغ بن نباتة .
2- (1) أما عند القدماء فتکون صحة الحدیث أعمّ من الوثاقة فلا یمکن إثباتها بها وأما عند المتأخرین فیمکن ذلک بل یلزم .

وما نقوله هنا هو أنه علی کلا التقدیرین أی سواء کانت الصحة صفة للحدیث أو کانت صفة للمحدّث - فیمکن الاستدلال بها علی الوثاقة :

أما علی التقدیر الثانی فواضح لأنها کما ذکرنا - تکون کنایة عن صدق المحدِّث فی حدیثه وإخباره ونقله فتکون دالة علی وثاقته .

وأما علی التقدیر الأول (1) فالظاهر إمکان استفادة الوثوق منها أیضاً وذلک لأنه لا یقال : (فلان صحیح الحدیث) إلا بعد انتزاع الصحة من عموم أحادیثه وعدم اختصاصها ببعض دون بعض وعلی ذلک فالحکم بصحة أحادیث من قیلت هذه العبارة بحقه إما أن یکون مستنداً إلی وثاقته وتحرّزه عن الکذب فیثبت المطلوب (2) ، وإما أن یکون مستنداً إلی قرائن خارجیة جُمعت واستفید منها صحة الحدیث ومطابقته للواقع .

ولمّا کان هذا الاحتمال (3) یستلزم افتراض ملاحظة جمیع روایات هذا الشخص وأن کل واحدة من هذه الروایات تشتمل علی قرینة - علی الأقلّ - من القرائن الموجبة لإحراز الصحة والمطابقة للواقع کان لا ریب بعیداً فی حدّ نفسه ومخالفاً للظاهر ومفتقداً للدلیل علیه إثباتاً .

وهذا بخلاف الاحتمال الأول الذی یُفسّر لنا الحکم بصحة أحادیثه جمیعاً ومطابقتها للواقع وأن مرجعها إلی کونه ثقة لا إلی أیّ افتراض زائد .

والنتیجة أن قولهم : (صحیح الحدیث) یدلّ علی وثاقة الشخص والرکون إلیه والاعتماد علیه سواء کان وصفاً للحدیث أم کان وصفاً للمحدِّث وهو الأرجح بحسب ظاهر الکلام - بلا فرق فی هذا (4) بین القدماء والمتأخرین .

ص: 245


1- (2) أی أن تکون صفة للحدیث .
2- (3) أی وثاقة الشخص الذی وُصف بکونه صحیح الحدیث .
3- (4) أی الثانی .
4- (5) أی فی النتیجة المذکورة وهی دلالة قولهم : (صحیح الحدیث) علی وثاقة من قیلت بحقّه .

وفی ضوء ذلک یثبت توثیق الشیخ الطوسی لسعد الإسکاف .. ولکنه معارض کما ذکرنا بتضعیف ابن الغضائری ، ولمّا کانت تضعیفاته محلّ اعتماد (1) فیقع التعارض حینئذ بین التوثیق والتضعیف وعلی ذلک تواجه الروایة مشکلة عدم ثبوت وثاقة سعد الإسکاف الواقع فی السند .

ثم یقع الکلام فی رجل آخر وقع فی السند أیضاً وهو محمد بن سنان فقد ذکرنا سابقاً أن الظاهر أن المراد بابن سنان فی الروایة هو محمد بن سنان لا عبد الله بن سنان (المفروغ عن وثاقته) ، ومن هنا لا بد من البحث عن حال هذا الرجل فأقول :

قد اختلفت الأقوال فی محمد بن سنان کثیراً حتی إن الشخص الواحد ربما تکون له فیه أقوال متعددة فتارة یُضعّفه وأخری یوثّقه وتارة یروی عنه وأخری یردّ الروایة بسببه ، وهذا الاختلاف لیس حادثاً بل هو قدیم ولا بد لمعرفة السرّ فیه من استنطاق الکلمات التی قیلت فی حقه .. ولنبدأ أولاً بذکر الروایات التی اشتملت علی تضعیف الرجل ثم نتلو ذلک بذکر أسماء المضعّفین له والقادحین ونقل کلماتهم وتحلیلها لمعرفة هل أن لها ظهوراً فی التضعیف أم یمکن حملها علی محامل لا تنافی الوثاقة فهنا خمسة روایات :

ص: 246


1- (6) فنحن نأخذ بتضعیفات ابن الغضائری کما ذکرناه فی محلّه - وهی منقولة إلینا من خلال الخلاصة للعلامة ورجال ابن داوود وحلّ الإشکال للسید ابن طاووس ومجمع الرجال للقهبائی ، فما ینقلونه هؤلاء الأعلام (رض) عن کتابه نأخذ به ونعدّه موجوداً حقیقة فی کتابه (الضعفاء) لثبوت کون الکتاب له وأنه وصل بشکل أو بآخر مع قرائن دالة علی أنه نفس الکتاب الذی ألّفه ابن الغضائری کان قد وصل إلی السید ابن طاووس .

الأولی : ما رواه الکشی عن حمدویه :

" قال : کتبت أحادیث محمد بن سنان عن أیوب بن نوح ، وقال (1) : لا أستحلّ أن أروی أحادیث محمد بن سنان " (2) .

والراوی وهو حمدویه قال الشیخ الطوسی (قده) عنه : " حمدویه بن نصیر بن شاهی ، سمع یعقوب بن یزید ، روی عن العیاشی ، یکنی أبا الحسن ، عدیم النظیر فی زمانه ، کثیر العلم والروایة ، ثقة، حسن المذهب " (3) .

الثانیة : ما رواه أحمد ابن محمد بن عیسی :

" قال : کنّا عند صفوان بن یحیی فذکر محمد بن سنان فقال : إن محمد بن سنان کان من الطیارة فقصصناه " (4) .

الثالثة : ما رواه عبد الله بن محمد بن عیسی الأسدی الملقب ببنان :

" قال : کنت مع صفوان بن یحیی بالکوفة فی منزل ، إذ دخل علینا محمد بن سنان ، فقال صفوان : هذا ابن سنان لقد همّ أن یطیر غیر مرة فقصصناه حتی ثبت معنا " (5) .

الرابعة : ما رواه ابن قتیبة النیسابوری :

" قال : قال : أبو محمد الفضل بن شاذان : رُدّوا أحادیث محمد بن سنان ، وقال : لا أحلّ لکم أن ترووا أحادیث محمد بن سنان عنی ما دمتُ حیاً ، وأذن أی الفضل - فی الروایة بعد موته " (6) .

ص: 247


1- (7) یعنی أیوب بن نوح .
2- (8) اختیار معرفة الرجال مج2 ص687 .
3- (9) رجال الطوسی ص421 .
4- (10) اختیار معرفة الرجال مج2 ص795 .
5- (11) اختیار معرفة الرجال مج2 ص796 .
6- (12) المصدر السابق ص795 .

الخامسة : ما رواه الکشی عن محمد بن مسعود :

" قال : قال عبد الله بن حمدویه : سمعت الفضل بن شاذان ، یقول : لا أستحل أن أروی أحادیث محمد بن سنان " (1) .

هذه هی الروایات الواردة فی ذمّ الرجل وتضعیفه .

وأما المضعّفون له والقادحون وکلماتهم فی هذا الصدد فعلی النحو الآتی :

الفضل بن شاذان : وهو أول القادحین فی محمد بن سنان وأقدمهم وقد نقل الکشی کلماته فی ذمّه وطریق بعض هذه النقول صحیح ومعتبر فمنها قوله : " وذکر الفضل فی بعض کتبه : أن من الکاذبین المشهورین ابن سنان ولیس بعبد الله " (2) .

أیوب بن نوح : قال الکشی : " ذکر حمدویه بن نصیر أن أیوب بن نوح دفع إلیه دفتراً فیه أحادیث محمد بن سنان ، فقال لنا : إن شئتم أن تکتبوا ذلک فافعلوا ، فإنی کتبت عن محمد بن سنان ولکن لا أروی لک أنا عنه شیئاً ، فإنه قال (3) قبل موته : کلما حدثتکم به لم یکن لی سماع ولا روایة إنما وجدته " (4) .

فیتبیّن من هذا النصّ أن أیوب بن نوح یستشکل فی أن یروی عن محمد بن سنان لأن مرویاته کانت عن طریق الوجادة أی أنه وجدها فی کُتُب ثم نقلها - .

ص: 248


1- (13) المصدر السابق ، ویعنی بقوله : (ولیس بعبد الله ) أنه محمد بن سنان ولیس عبد الله بن سنان .
2- (14) المصدر السابق .
3- (15) یعنی محمد بن سنان .
4- (16) یعنی بطریق الوجادة وهی إحدی طرق تحمّل الحدیث (ومنها القراءة والسماع والإجازة) .

الکشی : حیث رماه فی عدة مواضع بالغلوّ ففی ترجمة المفضّل بن عمر فی حدیثٍ یقول : " حدثنی أبو القاسم نصر بن الصباح وکان غالیاً ، قال : حدثنی أبو یعقوب بن محمد البصری ، وهو غالٍ رکنٌ من أرکانهم أیضاً ، قال : حدثنی محمد بن الحسن بن شمّون ، وهو أیضاً منهم ، قال : حدثنی محمد بن سنان وهو کذلک " (1) .

أی غالٍ مثلهم فهذه شهادة من قبل الکشی بأن محمد بن سنان من الغلاة فیقال إن هذا یوجب القدح فیه .

ولکن هذا لیس بشیء إذ من الواضح کما علیه رأی المحقّقین أن الغلوّ لا یؤثر فی الوثاقة فی ما لو دلّ علیها دلیل .

النجاشی : حیث قدح فیه فی موضعین :

الأول : فی ترجمته له إذ قال : " قال أبو العباس أحمد بن محمد بن سعید (وهو ابن عقدة) أنه (2) روی عن الرضا (علیه السلام) ، قال : وله مسائل عنه معروفة ، وهو رجل ضعیف جداً لا یعول علیه ولا یلتفت إلی ما تفرد به .. " (3) .

واستشکل بعضهم فی نسبة هذه العبارة للنجاشی فنسبها لابن عقدة إلا أنه غیر ضائرٍ فی المقام للبناء علی الأخذ بتضعیفات ابن عقدة .

الثانی : فی ترجمته لمیّاح المدائنی حیث قال : " میّاح المدائنی ضعیف جداً ، له کتاب یعرف برسالة میّاح ، وطریقها أضعف منها ، وهو محمد بن سنان " (4) .

ص: 249


1- (17) اختیار معرفة الرجال مج2 ص613 .
2- (18) أی محمد بن سنان .
3- (19) رجال النجاشی ص328 .
4- (20) رجال النجاشی ص425 .

ابن الغضائری : حیث نقل العلامة فی الخلاصة عنه قوله بحق الرجل : " ضعیفٌ لا یُلتفت إلیه " .

الشیخ الطوسی : حیث ضعّفه فی عدة موارد ، منها قوله : " وقد طُعن علیه وضُعّف " (1) ، ومنها قوله : " محمد بن سنان مطعون علیه ضعیف جداً " (2) .

وقد یقال هنا إنه لم یظهر کونه بانیاً علی ضعفه حیث ألقی عهدة التضعیف علی الغیر .

ولکن لو تمّ هذا فإنه غیر ضائر لتصریحه بضعفه فی رجاله فبعد أن عدّه من أصحاب الإمام الرضا (علیه السلام) قال : " محمد بن سنان ضعیف " .

وهناک الکثیر بعد طبقة الشیخ ممن ضعّف محمد بن سنان کالمحقق والشیخ ابن سعید الحلی فی نزهة الناظر والعلامة وابن داوود وغیرهم من المتأخرین .

وللکلام بقیة ستأتی إن شاء الله تعالی .

-بحث رجالی فی سند روایة الاصبغ بن نباتة عن أمیر المومنین-ع- والمرویة فی-الوسائل-باب-5- أبواب مایکتسب به-ح10 بحث الفقه

(بحث یوم الاثنین 23 محرم الحرام 1433 ه 47)

تقدّم ذکر کلمات القادحین فی محمد بن سنان وقلنا إنه لا بد من النظر فیها لمعرفة هل أن لها ظهوراً فی التضعیف أم یمکن حملها علی محامل لا تنافی الوثاقة ، والظاهر أن فیها مجالاً للتأمل والخدش بل المنع فی بعض الأحیان ، وتقدّم أن أقدم من نُقل عنه القدح هو الفضل بن شاذان وله عدة کلمات فی محمد بن سنان أهمّها قوله : " من الکاذبین المشهورین ابن سنان ولیس بعبد الله " ، وقد نقل الکشی هذه العبارة عنه فی موضع من کتابه (3) .

ص: 250


1- (21) الفهرست ص219 .
2- (22) التهذیب مج7 ص361 ، الاستبصار مج3 ص224 .
3- (1) اختیار معرفة الرجال مج2 ص796 .

ولکن من الصعوبة بمکان تصدیق أن یکون الرجل (1) من الکاذبین المشهورین بحیث یکون فی عداد أبی الخطّاب وأبی سمینة ویونس بن ظبیان وغیرهم من الأشخاص المعروفین بالکذب والمشهورین به (2) ، نعم .. قد یقع التشکیک فی وثاقته ولکن مما لا یُمکن التصدیق به کونه معروفاً بالکذب مشهوراً به ، والمستند فی ذلک (3) أمور :

الأول :

روایة الأجلاّء عنه کما ذکر الکشی ذلک بقوله : " قد روی عنه الفضل وأبوه ویونس ومحمد بن عیسی العبیدی ومحمد بن الحسین بن أبی الخطاب والحسن والحسین ابنا سعید الأهوازیان وابنا دندان وأیوب بن نوح وغیرهم من العدول والثقات من أهل العلم " (4) .

الثانی :

روایة أحمد بن محمد بن عیسی الأشعری مع ما علم من تحفّظه فی النقل وتسرّعه إلی القدح ونفیه الاجلاّء بتهمة الغلوّ والروایة عن الضعفاء .. ذکر ذلک السید بحر العلوم فی فوائده (5) بل یظهر من بعض الأخبار أن أحمد بن محمد بن عیسی کان من المدافعین عنه والنافین عنه التهم ویسوق الروایات التی تتحدّث عن رضا الإمام (علیه السلام) عنه من ذلک ما رواه الکشی بقوله : " حدثنی محمد بن قولویه ، قال : حدثنی سعد بن عبد الله ، قال : حدثنی أبو جعفر أحمد بن محمد بن عیسی (6) ، عن رجل ، عن علی بن الحسین بن داود القمی قال : سمعت أبا جعفر الثانی (علیه السلام) یذکر صفوان بن یحیی ومحمد بن سنان بخیر ، وقال : رضی الله عنهما برضای عنهما فما خالفانی قط " (7) .

ص: 251


1- (2) أی محمد بن سنان .
2- (3) کما ذکر الکشی فی عبارة أخری .
3- (4) أی فی عدم التصدیق بکونه کاذباً مشهوراً .
4- (5) اختیار معرفة الرجال مج2 ص796 .
5- (6) الفوائد الرجالیة مج3 ص269 .
6- (7) وهنا محلّ الشاهد من روایة أحمد بن محمد بن عیسی فی حقّ محمد بن سنان ما یفید رضا الإمام (علیه السلام) عنه ، ولکن الروایة ضعیفة لأنه یرویها عن رجل مجهول إلا أنها مع ذلک تصلح للتأیید .
7- (8) اختیار معرفة الرجال مج2 ص792 .

الثالث :

إسناد الفقهاء الثقات ومشاهیر الرواة الموثّقین عنه وقد ذکرهم السید بحر العلوم بقوله :

" فقد أسند عنه من الفقهاء الثقات الاثبات المتحرزین فی الروایة والنقل : أحمد بن محمد بن عیسی وأیوب بن نوح والحسن بن سعید بن سعید والحسن بن علی بن یقطین والحسین بن سعید وصفوان بن یحیی والعباس بن معروف وعبد الرحمان بن أبی نجران وعبد الله بن الصلت والفضل بن شاذان ومحمد بن إسماعیل بن بزیع ومحمد بن الحسین بن أبی الخطاب ومحمد بن عبد الجبار وموسی بن القاسم ویعقوب بن یزید ویونس بن عبد الرحمان ؛ ومن مشاهیر الرواة الموثقین أو المقبولین : إبراهیم بن هاشم وأحمد ابن محمد بن خالد والحسن بن الحسین اللؤلؤی والحسن بن علی بن فضال وشاذان بن الخلیل (1) وعلی بن أسباط وعلی بن الحکم ومحمد بن أحمد بن یحیی ومحمد بن خالد البرقی ومحمد بن عیسی بن عبید ، وغیرهم ، وأروی الناس عنه محمد بن الحسین بن أبی الخطاب ، وقد قال النجاشی فیه (2) : إنه جلیل من أصحابنا عظیم القدر کثیر الروایة ثقة عین حسن التصانیف مسکون إلی روایته " (3) .

وعلی ذلک فالتشکیک فی ثبوت تلک العبارة (4) عن الفضل أهون فی النفس من تصدیق مضمونها فی حقّ محمد بن سنان بل قد علمت مما تقدّم أن نفس الفضل ممن روی عنه أیضاً .

ص: 252


1- (9) والد الفضل (بن شاذان) .
2- (10) أی فی محمد بن الحسین بن أبی الخطاب .
3- (11) الفوائد الرجالیة مج3 ص270 .
4- (12) أی قوله : (کان من الکاذبین المشهورین) .

هذا .. وللفضل بن شاذان کلام آخر فی محمد بن سنان نقله الکشی عن عبد الله بن حمدویه قال : " سمعت الفضل بن شاذان یقول : لا أستحلّ أن أروی أحادیث محمد بن سنان " (1) .

وهذا الحدیث ضعیف لجهالة راویه وهو عبد الله بن حمدویه فإنه لم یوثّق .

وقد نقل الکشی حدیثاً آخر جاء فیه : " أبو الحسن علی بن محمد بن قتیبة النیسابوری ، قال : قال أبو محمد الفضل بن شاذان : رُدّوا أحادیث محمد بن سنان ، وقال : لا أحلّ لکم أن ترووا أحادیث محمد بن سنان عنی ما دمت حیاً ، وأذن فی الروایة بعد موته " (2) .

وأبو الحسن علی بن محمد بن قتیبة النیسابوری لا یوجد توثیق صریح بحقّه ولکن الشیخ (قده) عبّر عنه بالفاضل فإذا استفید منه المدح فتکون الروایة مقبولة حینئذ ،

وذیل هذه الروایة صریح فی إذن الفضل فی الروایة عنه بعد موته عقیب منعه من الإذن فی الروایة عنه فی حیاته وهذا الکلام إن لم یدل علی الاعتماد علی محمد بن سنان ووثاقته فهو لا یدل علی القدح فیه وإلا فأیّ معنی للتفصیل بین الحیاة والممات فإنه إذا لم یکن الرجل ثقة وکان معروفاً بالکذب وضعیفاً فلا فرق فی عدم جواز الروایة عنه بین حالی الحیاة والممات ویکون التفصیل بینهما حینئذ غیر وجیه .. ولکن هذا التفصیل یعطی أن هناک سبباً معیّناً هو الذی منع الفضل من أن یأذن فی الروایة عنه فی حال حیاته ، وقد احتمل المحققون أن السبب یکمن فی أنه کان فی تلک الفترة جوّ عام مشحون ضدّ محمد بن سنان لأنه روی أحادیث یُستشمّ منها رائحة الغلوّ فلعل الفضل وهو من الأجلاّء - أراد أن یُنزّه نفسه من الروایة عن شخص شاع فی أوساط الناس أنه من الغلاة فمنع من الروایة عنه فی حال حیاته وأما بعد وفاته فحیث لا یکون لذلک المحذور تأثیر علیه فقد أجاز الروایة عنه .

ص: 253


1- (13) اختیار معرفة الرجال مج2 ص796 .
2- (14) المصدر السابق .

فتحصّل ممّا تقدّم أن للفضل بن شاذان عبارتین استُدلّ بهما علی القدح فی محمد بن سنان وقد تبیّن أن الأولی وإن کانت صریحة فی التضعیف والشهرة بالکذب إلا أنها کما ذکرنا یصعب التصدیق بها ، وأما الثانیة فلیس فیها دلالة علی التضعیف والقدح مطلقاً .

هذا فی ما یتعلّق بأول القادحین وأقدمهم .

وأما أیوب بن نوح بن درّاج (1) فقد ذکرنا أن الکشی نقل عنه روایة تامة سنداً مضمونها أن حمدویه بن نصیر ذکر أن أیوب بن نوح دفع إلیه دفتراً فیه أحادیث محمد بن سنان ، وقال : إن شئتم أن تکتبوا ذلک فافعلوا ، فإنی کتبت عن محمد ابن سنان ولکن لا أروی أنا عنه شیئاً ، فإنه قال قبل موته : کلما حدثتکم به لم یکن لی سماع ولا روایة انما وجدته " ، أی أنه یروی بطریق الوجادة " (2) .

وعن الکشی فی حدیث آخر قال : " قال حمدویه : کتبت أحادیث محمد بن سنان عن أیوب بن نوح وقال (3) : لا أستحلّ أن أروی أحادیث محمد بن سنان " (4) .

والظاهر أنهما حدیث واحد وواضحٌ تعلیل المنع من روایته عنه کونه یروی بالوجادة ، وإلی هذا السبب أشار ابن داوود فی رجاله بقوله : " وروی عنه (5) أنه قال عند موته : " لا ترووا عنی مما حدّثت شیئاً فإنما هی کتب اشتریتها من السوق " یعنی أنه کان یرویها بطریق الوجادة .

ص: 254


1- (15) ثقة ومنصوص علی وثاقته .
2- (16) اختیار معرفة الرجال مج2 ص795 .
3- (17) یعنی أیوب بن نوح .
4- (18) المصدر السابق ص687 .
5- (19) یعنی عن محمد بن سنان .

ومن الواضح أن هذا الأمر لا یوجب قدحاً فی شخص الراوی وإنما یوجب القدح فی روایاته وأخباره من حیث إن طریق التحمّل فیها لیس هو القراءة أو السماع أو الروایة وإنما هو الوجادة لاسیما أن هذا الرجل لیس فی روایاته تدلیس بل إنه صرّح وأخبر الأعلام بأن ما یرویه إنما هو بطریق الوجادة فإعلانه هذا الأمر یدل فی حدّ نفسه علی أن له قدراً من الورع والالتزام بحیث دفعه إلی التصریح بذلک خصوصاً لو قلنا بأنه کان یری جواز الروایة بالوجادة ولکن لئلاّ یقع تدلیس صرّح بهذا المعنی مع أن الظاهر أن مقصوده بذلک لیس جمیع روایاته وإلا فإن بعضها کان عن الإمام (علیه السلام) مباشرة فمن الصعب افتراض الوجادة فیه .

وکیف کان فإن جهة الوجادة لو کانت توجب طعناً فهی لا توجبه فی نفس الراوی لاسیما فی ما لو کان بانیاً علی جواز النقل بالوجادة کما ذکرنا - .

فالنتیجة أن لیس فی ما ذُکر دلالة علی الطعن فی نفس الراوی .

وأما الکشی فهو لم یطعن فی الرجل إلا بکونه من الغلاة وقد ذکرنا أن الغلوّ فی حدّ نفسه لا ینافی الوثاقة علی فرض ثبوتها بالدلیل - ، ولعل الکشی أشار إلی عدم التنافی عندما عقّب کلامه السابق فی محمد بن سنان بقوله : " وقد روی عنه الفضل وأبوه ویونس .. " فإن تصدّیه إلی بیان کون الرجل ممن روی عنه الأکابر لا یخلو من إشارة علی کونه من الثقات ، ومثل هذا یقال فی بقیة النصوص التی تدلّ - کما سیأتی - علی أنه من الطیّارة (1) خصوصاً إذا کانت تدلّ علی تلبّسه بهذا الوصف لفترة معیّنة فمثلها لا یضرّ بالوثاقة لو قام علیها دلیل .

ص: 255


1- (20) الظاهر أن المراد به الکنایة عن الغلوّ والارتفاع فی المذهب .

وأما الشیخ المفید فی الرسالة العددیة فتضعیفه معارَض کما تبیّن سابقاً بما ذکره فی الإرشاد حیث نصّ فیه علی أنه من خواصّ الإمام الکاظم (علیه السلام) وثقاته وأهل العلم .. إلخ .

نعم یبقی النجاشی والشیخ الطوسی وابن الغضائری :

فأما النجاشی فقد ضعّفه فی ترجمة میّاح وإن کانت عبارته فی ترجمة الرجل (1) فیها احتمال أن التضعیف لیس له وإنما هو ینقله عن ابن عقدة .

وأما الشیخ الطوسی فقد ضعّفه أیضاً فی صریح عبارته فی رجاله حین عدّه فی أصحاب الإمام الرضا (علیه السلام) ، وکذلک فی الاستبصار والتهذیب .

وأما ابن الغضائری فعبارته صریحة أیضاً فی التضعیف حیث قال : " ضعیف لا یُلتفت إلیه " .

والنتیجة أن هؤلاء الأعلام الثلاثة ضعّفوه بشکل صریح لا یقبل التأویل مطلقاً .

هذا حال المضعّفین له والقادحین وکلماتهم فی هذا الصدد .

وأما الروایات المادحة فقد جمعها الشیخ الکشی فی رجاله فی موردین :

الأول :

فی باب صفوان بن یحیی بیّاع السابری ومحمد بن سنان وزکریا بن آدم وسعد بن سعد القمی .

الثانی :

فی ترجمة محمد بن سنان .

وهی کما یأتی :

الروایة الأولی :

ما ذکره الکشی بقوله : " حدثنی محمد بن قولویه ، قال : حدثنی سعد بن عبد الله (2) ، قال : حدثنی أبو جعفر أحمد بن محمد بن عیسی ، عن رجل ، عن علی بن الحسین بن داود القمی قال : سمعت أبا جعفر الثانی (علیه السلام) یذکر صفوان بن یحیی ومحمد بن سنان بخیر ، وقال : رضی الله عنهما برضای عنهما فما خالفانی قط ، هذا بعد ما جاء عنه فیهما ما قد سمعته من أصحابنا " (3) .

ص: 256


1- (21) أی محمد بن سنان .
2- (22) وهو الأشعری .
3- (23) اختیار معرفة الرجال مج2 ص792 .

فکأنه أراد بهذا الحدیث تکذیب ما هو المشهور بین الأصحاب من تضعیفه الذی أشار إلیه بقوله : (بعد ما جاء عنه فیهما ما قد سمعته من أصحابنا) حیث وردت هذه الروایة فی رضا الإمام (علیه السلام) عنهما وأنهما ما خالفاه قط لاسیما مع اقترانه بصفوان بن یحیی .

ولکن هذه الروایة غیر تامة سنداً من جهة أن الأشعری یرویها عن رجل ومن جهة أن هذا الرجل یرویها عن علی بن الحسین بن داود القمی وهو مجهول لم تثبت وثاقته ، وإلا فإن دلالة هذه الروایة علی توثیق محمد بن سنان وکذا صفوان بن یحیی تامة .

الروایة الثانیة :

عن الکشی أیضاً : " عن أبی طالب عبد الله بن الصلت القمی ، قال : دخلت علی أبی جعفر الثانی (علیه السلام) فی آخر عمره فسمعته یقول : جزی الله صفوان بن یحیی ومحمد بن سنان وزکریا بن آدم عنی خیراً فقد وفوا لی ولم یذکر سعد بن سعد . قال : فخرجت فلقیت موفّقاً (1) فقلت له : إن مولای ذکر صفوان ومحمد بن سنان وزکریا بن آدم وجزّاهم خیراً ، ولم یذکر سعد بن سعد . قال : فعدت إلیه ، فقال : جزی الله صفوان بن یحیی ومحمد بن سنان وزکریا ابن آدم وسعد بن سعد عنی خیراً فقد وفوا لی " (2) .

ودلالة هذه الروایة علی المطلوب من توثیق الرجل واضحة ، وقد وصفها السید الخوئی (قده) بالصحیحة ولکن لم یتّضح وجه صحتها فإن الکشی یرویها مباشرة عن أبی طالب عبد الله بن الصلت القمی مع أنه لا یمکن أن یروی عنه بلا واسطة بحسب اختلاف الطبقة فإن الکشی من التاسعة وابن الصلت القمی من السابعة ومن هنا یکون ثمة إرسال فی الروایة .

ص: 257


1- (24) هو مولی الإمام (علیه السلام) .
2- (25) المصدر السابق .

واحتمل بعضهم أن الکشی أخذ الروایة من کتابه (1) ولکنه غیر نافع لأنه لم یصلنا طریق الکشی إلی کتابه فإن تصحیح الروایة یتوقف علی وجود طریق صحیح إلی الکتاب المأخوذ منه الروایة .

وقد یقال فی المقام : إن الشیخ الطوسی (قده) ذکر الروایة نفسها فی کتابه الغیبة وابتدأها أیضاً بأبی طالب عبد الله بن الصلت القمی وللشیخ طریق إلی کتابه فی الفهرست وطریقه إلیه صحیح .

إلا أنه یقال : إنه لیس ثمة دلیل علی أن الروایة موجودة فی الکتاب الذی یملک الشیخ (قده) طریقاً إلیه مضافاً إلی أن الروایة مضمونها مدح أشخاص والترضّی علیهم والرجل له کتاب تفسیر فمن البعید أن تکون مذکورة فیه إذ لا ربط لمضمونها به .. ومن هنا فهذه الشبهة هی التی تمنع من الاستدلال بهذه الروایة علی المطلوب (2) ، والمحتمل والله العالم أن الشیخ الطوسی نقلها من الکشی .

الروایة الثالثة :

عن الکشی أیضاً قال : " حدثنی محمد بن قولویه ، قال : حدثنی سعد ، عن أحمد بن هلال ، عن محمد بن إسماعیل بن بزیع ، أن أبا جعفر (علیه السلام) کان لعن صفوان بن یحیی ومحمد بن سنان ، فقال : إنهما خالفا أمری ، قال : فلما کان من قابل ، قال أبو جعفر (علیه السلام) لمحمد بن سهل البحرانی : تولّ صفوان بن یحیی ومحمد بن سنان فقد رضیت عنهما " (3) .

ص: 258


1- (26) أی من کتاب عبد الله بن الصلت القمی .
2- (27) وهو وثاقة محمد بن سنان .
3- (28) المصدر السابق .

وهذه الروایة أیضاً وصفها السید الخوئی (قده) بکونها صحیحة السند وهذا بناءً منه علی أن أحمد بن هلال العبرتائی ثقة یمکن الاعتماد علی مرویّاته - کما هو الصحیح علی ما ذکرناه فی محلّه - ومن هنا تکون هذه الروایة تامة سنداً .

هذا من حیث السند .. وأما من حیث الدلالة فهذه الروایة واردة فی صفوان (1) کما هی واردة فی محمد بن سنان وفیها دلالة علی أنهما کان قد صدر منهما ما یُستحق به اللعن من قبل الإمام (علیه السلام) لکنهما رجعا وتابا وأصلحا حالهما بحیث رضی عنهما الإمام (علیه السلام) .

وسیأتی التأمّل فی هذه الروایة ومحاکمة دلالتها إن شاء الله تعالی .

-بحث رجالی فی روایة الاصبغ بن نباتة عن أمیر المؤمنین-ع- والمرویة فی الوسائل باب-5- ابواب میکتسب به ح10 بحث الفقه

(بحث یوم الأحد 29 محرم الحرام 1433 ه 48)

کان الکلام فی بیان حال محمد بن سنان حیث تقدّم ذکر الروایات القادحة له وکلمات المضعفّین ثم شرعنا فی ذکر الروایات المادحة وقد تقدّم منها روایات ثلاث وما زال الکلام فی الروایة الثالثة منها وهی ما رواه الکشی قائلاً :

" حدثنی محمد بن قولویه ، قال : حدثنی سعد ، عن أحمد بن هلال ، عن محمد بن إسماعیل بن بزیع ، أن أبا جعفر (علیه السلام) کان لعن صفوان بن یحیی ومحمد بن سنان ، فقال : إنهما خالفا أمری ، قال : فلما کان من قابل ، قال أبو جعفر (علیه السلام) لمحمد بن سهل البحرانی : تولّ صفوان بن یحیی ومحمد بن سنان فقد رضیت عنهما " (2) .

ص: 259


1- (29) وهذا مما یصعّب قبولها فإن صفوان من الأجلاّء وأصحاب الإجماع ومن البعید جداً صدور اللعن فیه من الإمام (علیه السلام) .
2- (1) اختیار معرفة الرجال مج2 ص792 .

وقد تعرّضنا لبیان حال سندها حیث ذکرنا أن السید الخوئی (قده) وصفها بکونها صحیحة السند وقلنا إن هذا بناءً منه علی أن أحمد بن هلال العبرتائی - الراوی عن ابن بزیع - ثقة یمکن الاعتماد علی مرویّاته - کما هو الصحیح علی ما ذکرناه فی محلّه ، کما أن الظاهر أن سعد بن عبد الله الأشعری حینما یروی عنه إنما یروی عنه فی أیام استقامته وقبل صدور اللعن من قبل الإمام (علیه السلام) فیه وتحذیر الشیعة من مخالطته والاستماع إلی قوله إذ من البعید أن لا یلتزم مثل سعد بن عبد الله الأشعری بتعلیمات الإمام (علیه السلام) .. ومن هنا تکون هذه الروایة تامة سنداً .

ثم وصل الکلام إلی بیان دلالة هذه الروایة وقلنا إنها واردة فی صفوان بن یحیی کما هی واردة فی محمد بن سنان وفیها دلالة واضحة علی أنهما کان قد صدر منهما ما یُستحق به اللعن من قبل الإمام (علیه السلام) لکنهما رجعا وتابا وأصلحا حالهما بحیث رضی عنهما الإمام (علیه السلام) .

وهذه الروایة هی العمدة فی المقام کما سیظهر فهل یمکن الاستناد إلیها لإثبات وثاقة محمد بن سنان أم لا ؟

الحقّ أن هناک مجالاً للتشکیک فی صحة الاعتماد علی هذه الروایة وذلک لأمور :

الأول :

صدور اللعن فی حقّ صفوان بن یحیی مع أن هذا الرجل کان من الأجلاّء وأصحاب الإجماع الذین من الصعب جداً تصدیق صدور لعن بحقّهم (1) .

ص: 260


1- (2) ویکفی الاطّلاع علی ترجمته من قِبَل من یُعتمد قولهم من الرجالیین لیُری ما له من علوّ الدرجة وسموّ المرتبة ما یستحیل معه عادة أن یصدر من الإمام (علیه السلام) مثل ما ورد فی الروایة بحقّه من اللعن فقد قال النجاشی عنه : " صفوان بن یحیی أبو محمد البجلی بیاع السابری ، کوفی ، ثقة ثقة ، عین ، روی أبوه عن أبی عبد الله (علیه السلام) ، وروی هو عن الرضا (علیه السلام) ، وکانت له عنده منزلة شریفة . ذکره الکشی فی رجال أبی الحسن موسی علیه السلام ، وقد توکل للرضا و أبی جعفر علیهما السلام ، وسلم مذهبه من الوقف ، وکانت له منزلة من الزهد والعبادة وکان جماعة الواقفة بذلوا له مالا کثیراً ، وکان شریکاً لعبد الله بن جندب وعلی بن النعمان ، وروی أنهم تعاقدوا فی بیت الله الحرام أنه من مات منهم صلّی من بقی صلاته وصام عنه صیامه وزکّی عنه زکاته فماتا وبقی صفوان فکان یصلّی فی کل یوم مائة وخمسین رکعة ویصوم فی السنة ثلاثة أشهر ویزکّی زکاته ثلاث دفعات وکل ما یتبرّع به عن نفسه ممّا عدا ما ذکرناه یتبرّع عنهما مثله ، وحکی أصحابنا أن إنساناً کلّفه حمل دینارین إلی أهله إلی الکوفة فقال : إن جمالی مکریة وأنا أستأذن الأُجراء ، وکان من الورع والعبادة علی ما لم یکن علیه أحد من طبقته رحمه الله " رجال النجاشی ص197 .

الثانی :

قرن محمد بن سنان بصفوان مع وضوح الفارق بینهما فإن صفوان ممن لم یختلف فی وثاقته اثنان علی کثرة الاختلاف فی غیره من الرواة ومحمد بن سنان ممن ثبت فیه خلاف کبیر منذ زمان الفضل بن شاذان کما مرّ - فالقرن بین الرجلین فی الروایة مع وضوح الفارق بینهما لا یخلو من شائبة تشکیک فی مضمونها وهذا ما یورث الشک فی صدورها ولعله من هذه الجهة حملها بعضهم علی التقیة .

الثالث :

إن کل من ترجم لصفوان بن یحیی لم یتطرّق البتة لذکر ما ورد فی الروایة من صدور اللعن بحقّه وتعقُّبه برضا الإمام (علیه السلام) بل الأمر بالعکس فإن المُتقصّی لا یجد له إلا الذکر الحَسَن، نعم .. یذکرون مثل ذلک فی شأن محمد بن سنان ، ولکن لو کان ما تضمّنته الروایة صادراً فعلاً لَما انفرد به محمد بن سنان فی کلماتهم دون صفوان .

الرابع :

مجهولیة الرجل الذی وجّه الإمام (علیه السلام) الأمر إلیه بالتولّی أعنی محمد بن سهل البحرانی فإن هذا الرجل مهمل فی کتب الرجال لیس له ذکر کما أنه لم یُعلم أن الأمر الموجّه إلیه من الإمام (علیه السلام) هل هو مختص به أم هو عام وإنما جُعل مرآة لغیره من الأفراد لکونه المُشافَه بالخطاب .

فهذه الأمور مجتمعة تجعل الروایة غریبة المضمون ما یؤدّی بالتالی إلی زعزعة الوثوق بدلالتها ومن ثَمّ الشکّ بأصل صدورها .

وعلی کل حال فهذه الروایة هی الروایة الوحیدة کما سیظهر - التی یمکن الاستناد إلیها لإثبات وثاقة الرجل وقد عرفت حالها .

ثم إن الشیخ الکشی ذکر فی کتابه أربع روایات أُخَر مادحة نذکرها تباعاً لنعرف مدی تمامیة سندها ووضوح دلالتها :

ص: 261

الروایة الأولی : " عن أبی طالب عبد الله بن الصلت القمی ، قال : دخلت علی أبی جعفر الثانی (علیه السلام) فی آخر عمره فسمعته یقول : جزی الله صفوان بن یحیی ومحمد ابن سنان وزکریا بن آدم عنی خیراً فقد وفوا لی ولم یذکر سعد بن سعد . قال : فخرجت فلقیت موفّقاً ، فقلت له : إن مولای ذکر صفوان ومحمد بن سنان وزکریا بن آدم وجزّاهم خیراً ، ولم یذکر سعد بن سعد . قال : فعدت إلیه ، فقال : جزی الله صفوان بن یحیی ومحمد بن سنان وزکریا ابن آدم وسعد بن سعد عنی خیرا فقد وفوا لی " .

هذه الروایة ظاهرة فی مدح محمد بن سنان ولکنها مبتلاة فی سندها بالإرسال لأن الکشی بحسب الظاهر لا یمکن أن یروی مباشرة عن أبی طالب عبد الله بن الصلت القمی وإنما یروی عنه بالواسطة لتفاوت الطبقة بینهما فإن ابن الصلت القمی من الطبقة السابعة وهو من أصحاب الرضا والجواد (علیهما السلام) وقیل إن عمره امتدّ فأدرک الإمام الهادی (علیه السلام) ونصّ علی ذلک الشیخ والبرقی فی رجالهما فی حین أن الکشی - محمد بن عمر بن عبد العزیز - یُعَدّ من طبقة الکلینی وهی الطبقة التاسعة وقد عاصر أواخر الغیبة الصغری وأدرک أوائل الغیبة الکبری ومن البعید جداً أن یروی من هو فی هذه الطبقة عمن هو فی تلک الطبقة ممن یُعدّ من أصحاب الرضا والجواد (علیهما السلام) فالظاهر عدم خلوّ الروایة من واسطة محذوفة فتکون مرسلة ، وقد روی الشیخ (قده) فی کتاب الغیبة الروایة نفسها (1) عن أبی طالب عبد الله بن الصلت القمی أیضاً والإرسال فی روایته یکون أوضح باعتبار أنه متأخر عن الکشی زماناً وطبقة .

ص: 262


1- (3) الغیبة ص348 .

وقد حاول بعض العلماء من المعنیّین بالرجال (1) التغلّب علی هذه المشکلة فی روایة الشیخ فی الغیبة فذکر جملة من الأمور تستحق الذکر والتوقف .

وحاصل کلامه أنه یمکن أن یقال إن الشیخ أخذ الروایة من کتاب أبی طالب عبد الله بن الصلت القمی - کما یشعر به اقتصاره علی ذکره وحذف الطریق - فبدأ السند باسمه ومعلوم من طریقة الشیخ أنه عندما یبدأ السند باسم شخص فهذا یعنی أنه أخذ الروایة من کتابه وعلی ذلک فیکون الحدیث موضع البحث - صحیحاً ، والشیخ ذکر فی الفهرست طریقه إلیه کما أن له فی کتابی الأخبار (2) عدة طرق صحیحة فإنه یروی عنه بواسطة الحسین بن سعید وأحمد بن محمد بن عیسی ومحمد بن الحسن الصفار وطریق الشیخ صحیح إلی الجمیع (3) .

ومراده (قده) أن الشیخ أخذ الروایة من کتاب عبد الله بن الصلت لأنه بدأ السند باسمه وکتابه معروف ونسبته إلیه نسبة مشهورة وبهذا تکون الروایة صحیحة سنداً لأنها تکون مأخوذة من کتابه مباشرة .

وإن أبیت فالشیخ له طریق إلی عبد الله بن الصلت فی الفهرست .

وإن أبیت أیضاً فیمکن تحصیل طریق للشیخ إلی ابن الصلت باعتبار أنه روی عنه فی التهذیب والاستبصار عن طریق الحسین بن سعید وأحمد بن محمد بن عیسی ومحمد بن الحسن الصفار وللشیخ طرق صحیحة إلی هؤلاء الثلاثة وبهذا نحصل علی طریق بل عدة طرق للشیخ إلی ابن الصلت من دون أن تکون تلک الطرق مذکورة فی الفهرست ولا فی المشیخة وإنما استکشفناها من خلال الأخبار التی رواها عنه بواسطة هؤلاء الذین له إلیهم طرق معتبرة .

ص: 263


1- (4) وهو السید بحر العلوم (قده) .
2- (5) یعنی التهذیب والاستبصار .
3- (6) الفوائد الرجالیة ج3 ص264 .

ولکن فی هذا الکلام عدّة ملاحظ :

الأول :

ما تقدّمت الإشارة إلیه من أن أبا طالب عبد الله بن الصلت القمی لیس له إلا کتاب تفسیر کما نصّ علی ذلک النجاشی فیُستبعد أن تکون هذه الروایة مذکورة فیه فإنه لیس لمضمونها أیّ علاقة بالتفسیر ولا بآیات الکتاب المجید ولذلک یُستبعَد وجودها أیضاً حتی لو کان له کتاب فی الحلال والحرام لما عرفت من عدم تعلّقها بالأحکام وإنما هی تتحدّث عن حال محمد بن سنان وأن الإمام (علیه السلام) رضی عنه وجزّاه خیراً .. ولذا فمن الصعوبة بمکان التسلیم بکون هذه الروایة مأخوذة من کتاب عبد الله بن الصلت .

الثانی :

إن التزام الشیخ (قده) بما ذُکر من أنه إذا بدأ السند باسم شخص فهذا یعنی أنه أخذ الروایة من کتابه لیس علی إطلاقه وإنما هو فی خصوص کتابیه التهذیب والاستبصار ولم یُعلم أن هذا دأبه فی سائر کتبه فالتعدّی عنهما مشکل .

الثالث :

إن طریق الشیخ (قده) إلی عبد الله بن الصلت القمی فی الفهرست ضعیف بأبی المفضّل (1) وابن بطة (2) - کما هو المعروف والمشهور - فالاستعانة بطریق الشیخ (قده) فی الفهرست لکتاب عبد الله بن الصلت غیر مُجدیة لعدم خلوّ الطریق من الإشکال .

الرابع :

من المسلّم به

أن الشیخ (قده) فی التهذیب - علی الأقل - روی عن عبد الله بن الصلت بواسطة الحسین بن سعید (3) کما أنه لا إشکال أنه روی عن عبد الله بن الصلت بواسطة أحمد بن محمد بن عیسی (4) وکذا یقال عن الصفّار (5) کما أننا لا نشک فی أن الشیخ (قده) یملک طریقاً صحیحاً إلی هذین الرجلین .. ولکن الکلام فی أنه هل یستلزم هذا أن تکون الواسطة المحذوفة بین الشیخ (قده) وابن الصلت أحد هؤلاء الثلاثة ؟

ص: 264


1- (7) محمد بن عبد الله بن محمد بن عبید الله الشیبانی ، منصوص علی ضعفه .
2- (8) فیه کلام لکن المعروف عدم ثبوت وثاقته .
3- (9) التهذیب مج7 ص381 الحدیث 1540 .
4- (10) التهذیب مج2 ص120 الحدیث 433 .
5- (11) کما عن السید بحر العلوم (قده) .

بالطبع لا ، فإننا کما نحتمل ذلک نحتمل أیضاً أن تکون الواسطة غیرهم وإثبات انحصارها بهم دونه خرط القتاد .

فالنتیجة أنه لا یمکن الاعتماد علی هذه المحاولة لإثبات صحة الروایة سنداً فتبقی الروایة أسیرة الإرسال .

الروایة الثانیة : " حدثنی محمد بن قولویه ، قال : حدثنی سعد بن عبد الله ، قال : حدثنی أبو جعفر أحمد بن محمد بن عیسی ، عن رجل ، عن علی بن الحسین بن داود القمی قال : سمعت أبا جعفر الثانی (علیه السلام) یذکر صفوان بن یحیی ومحمد بن سنان بخیر ، وقال : رضی الله عنهما برضای عنهما فما خالفانی قط ، هذا بعد ما جاء عنه فیهما ما قد سمعته من أصحابنا " .

وهذه الروایة سندها ضعیف أیضاً من جهة مجهولیة الرجل ومن جهة إهمال علی بن الحسین بن داود القمی فإنه لیس له ذکر فی کتب الرجال وعلی ذلک فلا تصلح هذه الروایة للاستدلال .

الروایة الثالثة : " محمد بن مسعود ، قال : حدثنی علی بن محمد ، قال : حدثنی أحمد بن محمد ، عن رجل ، عن علی بن الحسین بن داود القمی ، قال : سمعت أبا جعفر (علیه السلام) یذکر صفوان بن یحیی ومحمد بن سنان بخیر ، وقال : رضی الله عنهما برضای عنهما ، فما خالفانی وما خالفا أبی علیه السلام قط ، بعد ما جاء فیهما ما قد سمعه غیر واحد " .

والکلام فی سند هذه الروایة عین الکلام فی سابقتها فتسقط للسبب نفسه عن صلاحیة الاستدلال ، والظاهر اتّحاد هاتین الروایتین وأنهما روایة واحدة رُویت عن أحمد بن محمد بن عیسی الأشعری بطریقین أحدهما عن سعد بن عبد الله والآخر عن علی بن محمد ، وتوافق المضمون بل المتن أیضاً یساعد علی هذا جداً .

ص: 265

الروایة الرابعة : " حدثنی حمدویه ، قال : حدثنی الحسن بن موسی ، قال : حدثنی محمد بن سنان ، قال : دخلت علی أبی الحسن موسی علیه السلام قبل أن یحمل إلی العراق بسنة ، وعلی ابنه (علیه السلام) بین یدیه ، فقال لی : یا محمد ، قلت : لبّیک .. إلی آخر الروایة " وهی طویلة .

وهذه الروایة تشتمل علی مدح واضح لمحمد بن سنان وسندها لا بأس به لأن حمدویه ثقة ، والمراد بالحسن بن موسی - ظاهراً هو الحسن بن موسی الخشّاب الممدوح من قبل النجاشی مدحاً یقرب من التوثیق .

لکن مشکلة هذه الروایة أنها مرویة عن محمد بن سنان نفسه ولا یمکن إثبات وثاقة شخص بروایة یقع هو فی طریقها أو یکون هو راویها .. ومن هنا فلا مجال الاستدلال بهذه الروایة علی وثاقة محمد بن سنان .

والنتیجة أن هذه الروایات الأربع لا تصلح للاستدلال لما بُیّن بإزاء کل منها وقد عرفت عدم صلاحیة ما سبقها من الروایات الثلاث وعلی ذلک فلا تتم لنا أیّة روایة للاستدلال بها علی المطلوب من وثاقة محمد بن سنان .

والحاصل أنه لا یتبقّی لنا إلا ما مرّ من التوثیق والتضعیف الصادر من الرجالیین وهو لا یخلو إما أن یکون مدرکه هذه الروایات المتقدّمة فحاله حینئذ کحالها من السقم المانع عن صحة الاستدلال ، وإما أن یکون مدرکه نفس ما یصدر من الرجالیین من الشهادة عن حسّ مما یکون حجة فی المقام فحینئذ نقول :

إنه لمّا کان التوثیق مبتلیً بالمعارِض وهو التضعیف فلا بد من الموازنة بینهما لیُصار إلی ترجیح الأقوی منهما أو التساقط عند التساوی لتکون النتیجة عدم الاعتماد علی الرجل فی حالتین : ترجّح التضعیف وعدم المرجّح لأحدهما (1) ، والاعتمادُ علیه فی حالة ترجّح توثیقه .

ص: 266


1- (12) وهی حالة التساوی .

وفی المقام یترجّح التضعیف إذ قد ثبت فی کلمات جملة ممن سردنا أسماءهم کالفضل بن شاذان وأیوب بن نوح بن درّاج والکشی والنجاشی وابن الغضائری وغیرهم ، وأما التوثیق فلم یصدر إلا من قِبَل الشیخ المفید فی الإرشاد ومن الشیخ الطوسی فی الغیبة - هذا مع إغماض النظر عن توثیقات المتأخرین لأنها إما مدرکیة (1) أو حدسیة (2) - :

أما الشیخ المفید فتوثیقه معارَض بتضعیفه فإنه وإن کان قد وثّق محمد بن سنان فی الإرشاد إلا أنه ضعّفه صریحاً فی الرسالة العددیة ولا ترجیح للتوثیق علی التضعیف .

وأما الشیخ الطوسی فلا یخلو توثیقه أیضاً من المعارضة فهو وإن کان فی الغیبة ذکره بأنه ممن یتولّی أمر الإمام (علیه السلام) من الممدوحین ولکنه ضعّفه مراراً فی کتابی الأخبار التهذیب والاستبصار مضافاً إلی مدرکیة توثیقه فی الغیبة بالنظر إلی استناده فیه إلی الروایة الثالثة (3) فلا یمکن الاعتماد علیه (4) لعدم أرجحیته .

وعلی کل حال فأمثال هذه التوثیقات یصعب جداً الرکون إلیها والاعتماد علیها .

فالنتیجة التی نصل إلیها أن محمد بن سنان لا یمکن الاعتماد علیه لمعارضة توثیقه بتضعیفه من غیر أرجحیة له علیه (5) سواء ثبتت أرجحیة التضعیف أو لم تکن أرجحیة فی البین .

ص: 267


1- (13) مدرکها ما تقدّم من الروایات المادحة وکلام الشیخ المفید فی الإرشاد والشیخ الطوسی فی الغیبة مع عدم الاعتناء بالخلاف لأوجه مدّعاة .
2- (14) أی اجتهادیة .
3- (15) الغیبة ص348 .
4- (16) أی علی توثیقه .
5- (17) أی للتوثیق علی التضعیف .

المسالة-7-المسالة-8- هل علم القاضی هو احد الامور التی یستند الیها القاضی فی الحکم بحث الفقه

(بحث یوم الاثنین 1 صفر الخیر 1433 ه 49)

هاهنا أمران :

الأول :

ذکرنا فی بحث سابق أن محمد بن أحمد بن یحیی لا یروی عن موسی بن عمران وإنما یروی عن موسی بن عمر وکان المستند فی ذلک ما ذکره السید الخوئی (قده) فی الطبقات والظاهر أن مقصوده أنه لا یروی عنه (1) فی خصوص الکتب الأربعة .. ومن هنا قلنا إن الروایة فیها نسختان : (موسی بن عمر) و(موسی بن عمران) ونفینا أن یکون المروی عنه هو الثانی باعتبار أن محمد بن أحمد بن یحیی لا یروی عنه وإنما یروی عن موسی بن عمر .. ولکن وجدنا له بعد الفحص روایات عنه مذکورة فی ثواب الأعمال وکامل الزیارات ومعانی الأخبار - وربما یجد المتتبّع غیرها أیضاً - فعلی هذا فمن الممکن أن یکون قد روی عنه فی الروایة التی کانت موضع البحث (2)

(3) ولا موجب لحصر الأمر فی موسی بن عمر بل الأمر دائر بینهما فینبغی أن یؤخذ هذا بنظر الاعتبار فی الروایة .

الأمر الثانی :

إنه بناءً علی النتیجة التی انتهینا إلیها وهی عدم تمامیة سند روایة الأصبغ بن نباتة فلا بد أن نرجع إلی ما ذکرناه فی بحث الهدیة علی القضاء التی ذکرنا هذه الروایة فیه وقلنا إن الروایة صحیحة بناءً علی أن المراد هو موسی بن عمر وقد وثّقناه لکونه من رجال نوادر الحکمة ولم یستثنه ابن الولید والآن بعد أن تبیّن احتمال أن یکون المراد هو موسی بن عمران لوجود روایات لمحمد بن أحمد بن یحیی عنه وإمکان أن یکون هو المروی عنه فی هذه الروایة وهو ممن لم یوثّق ولکنه من رجال تفسیر القمی فإن لم نبن علی ما بنی علیه السید الخوئی (قده) من اعتبار وثاقتهم فتسقط الروایة عن الاعتبار من جهته وکذا من جهة ابن سنان لتبیّن کونه محمد بن سنان الذی لم یثبت توثیقه فینبغی تصحیح ما ذُکر هناک من القول بصحة الروایة سنداً إلی ما انتهینا إلیه هاهنا من عدم اعتبارها سنداً وتعدیل ذلک فی ضوء هذه النتیجة .

ص: 268


1- (1) أی عن موسی بن عمران .
2- (2) وهی روایة الأصبغ بن نباتة عن أمیر المؤمنین (علیه السلام) :
3- (3) " قال : أیّما والٍ احتجب من حوائج الناس ... " الوسائل مج17 ص94 الباب الخامس من أبواب ما یُکتسب به الحدیث العاشر .

ثم إنه (رض) قال فی المسألة الثامنة :

" کما أن للحاکم أن یحکم بین المتخاصمین بالبینة وبالإقرار وبالیمین ، کذلک له أن یحکم بینهما بعلمه ولا فرق فی ذلک بین حق الله وحق الناس ، نعم لا یجوز إقامة الحدّ قبل مطالبة صاحب الحقّ وإن کان قد علم الحاکم بموجبِه ، علی ما یأتی " .

البحث فی هذه المسألة یقع فی أن القاضی هل له أن یستند إلی علمه الخاص فی الحکم والقضاء بلا حاجة إلی بیّنة أو یمین ونحوهما من مثبتات باب القضاء ؟

أقوال فی المسألة :

الأول :

ما هو المشهور والمعروف من جواز ذلک مطلقاً بل ادُّعی علیه الإجماع کما عن الانتصار (1) والخلاف (2) والغنیة (3) وهو ظاهر السرائر (4) .

وممن ذهب إلی هذا القول سوی من ذکرنا أبو الصلاح الحلبی فی الکافی وابن البرّاج فی المهذّب والمحقق فی الشرایع والعلامة فی المختلف والشهیدان وغیرهم من علمائنا الأعلام (رض) .

الثانی :

التفصیل بین حق الله وحق الناس فیجوز فی الثانی دون الأول .

وممن ذهب إلیه الشیخ (قده) فی المبسوط والنهایة وابن حمزة فی الوسیلة .

الثالث :

ما نُسب إلی ابن الجنید من عدم الجواز مطلقاً .

الرابع :

ص: 269


1- (4) الانتصار للسید المرتضی ص486 .
2- (5) الخلاف للشیخ الطوسی مج6 ص242 .
3- (6) الغنیة للسید ابن زهرة ص436 .
4- (7) السرائر مج2 ص179 .

ما نُسب إلی ابن الجنید أیضاً - کما فی الانتصار والمسالک - من التفصیل بین حق الله وحق الناس فیجوز فی الأول دون الثانی عکس القول الثانی .

وأقول : ربما یُتوهّم عدم الحاجة إلی الاستدلال فی المقام بدعوی أن العلم لما کان حجة وکانت حجیته ذاتیة فلا یمکن الردع عنه ولا النهی عن العمل به فلا نحتاج حینئذ إلی التماس دلیل لجواز الاعتماد علیه فلذا یجوز للقاضی أن یحکم بعلمه مطلقاً .

ولکنه مندفع وذلک لأن العلم فی المسألة المبحوث عنها وقع موضوعاً للحکم - کسائر الموضوعات الشرعیة الأخری حیث یقال : (علم القاضی مستند للحکم والقضاء) فیدّعی بعض کونه کذلک مطلقاً ویدّعی آخرون کونه کذلک فی الجملة فنحتاج حینئذ إلی إثبات هذه القضیة والاستدلال علیها لنصل إلی الحقّ من خلال الدلیل .

فظهر بما سبق أن کون العلم حجة وکون حجیته ذاتیة فلا یحتاج إلی الاستدلال إنما هو فی العلم الطریقی وما یکون العلم کاشفاً عنه ومحرزاً له حیث لا یمکن الردع عنه ولا النهی عن العمل به ، وأما فی ما نحن فیه من أخذ العلم موضوعاً للحکم الشرعی فهو بحاجة إلی إثبات وبرهان للتصدیق بموضوعیته له لیترتب علیه بالنتیجة الحکم الشرعی المأخوذ فی قضیته .

وبعبارة أخری : إن وقوع العلم طرفاً فی قضیة حُمل علیه فیها الحکم الشرعی یعنی أخذه موضوعاً فیها فلا یکون طریقاً حینئذ فیکون حاله حال أیّ موضوع لحکم شرعی فی الحاجة إلی إقامة الدلیل علیه أو الدلیل علی عدمه .

ومن هنا یظهر أنه لا بد من إقامة الدلیل علی موضوعیة العلم فی قضیتنا سواء لمن قال بجواز القضاء استناداً إلی علم القاضی أو لمن قال بعدم الجواز فعلی کلا التقدیرین لا بد من إثبات ذلک .. ولذا ینساق البحث إلی استعراض ما استُدلّ به علی الجواز وما استُدلّ به علی عدم الجواز :

ص: 270

أما ما استُدلّ به علی الجواز فعدّة أدلة - وقد أشار إلیها الشیخ صاحب الجواهر (قده) (1) - :

الأول :

الآیات القرآنیة التی تحدّثت عن الحکم بالحقّ والعدل والقسط کقوله تعالی : " یا داوود إنا جعلناک خلیفة فی الأرض فاحکم بین الناس بالحقّ " (2) ، وقوله تعالی : " وإذا حکمتم بین الناس أن تحکموا بالعدل " (3) ، وقوله تعالی : " وإن حکمت فاحکم بینهم بالقسط " (4) ، وغیرها من الآیات التی یُستفاد منها لزوم الحکم بالحقّ والعدل والقسط .

وتقریب الاستدلال بها : أن موضوع جواز الحکم والقضاء حسب ما یُفهم من هذه الآیات الشریفة هو عبارة عن الحقّ والقسط والعدل فإذا علم القاضی بهذه العناوین فحینئذ یکون قد علم وقطع بموضوع الحکم الشرعی - وهو جواز القضاء ، ولا إشکال فی کون هذا القطع قطعاً طریقیاً لا موضوعیاً فهو من قبیل القطع بالخمریة فی قضیة : (الخمر حرام) حیث إنه یؤدی إلی القطع بالحکم وهو الحرمة کما لا إشکال فی أن هذا القطع الطریقی حجة بذاته ولا یمکن الردع عنه ولا النهی عن العمل به ولا معنی لسلب الحجیة عنه فالقاضی عندما یعلم بالحق فمعناه أنه قد انکشف له الحق ومفاد الآیة الشریفة أن علیه أن یقضی بالحق فیکون القطع بالحق مستلزماً للقطع بجواز القضاء والحکم ، نعم .. لو قلنا إن موضوع الحکم وهو جواز القضاء - هی البیّنات والأیمان والشهادات فحینئذ نفتقر إلی دلیل لإثبات أن العلم یقوم مقام البیّنة فی کونه موضوعاً لجواز القضاء لما تقدّم من أن موضوعیة الموضوع بحاجة إلی دلیل ولا یکفی فیها أن یکون العلم حجة بذاته فإن ذلک لا ینفع فی ما لو أُرید التصدیق بکونه موضوعاً لحکم شرعی بل یحتاج إلی إثبات أن الشارع المقدّس جعله کذلک (5) ، وکذا لا یمکن تنزیله منزلة ما هو موضوع للحکم إلا بدلیل أیضاً فعندما یکون موضوع الحکم بجواز القضاء هو البیّنة - مثلاً فهنا لا یمکن تنزیل علم القاضی منزلة البیّنة إلا بدلیل لاحتمال أن یکون للبیّنة خصوصیة فی أخذها موضوعاً للحکم الشرعی ومن الواضح أن علم القاضی وقطعه یکون حینئذ قطعاً موضوعیاً فیفتقر إلی الدلیل المثبت لجواز التنزیل .

ص: 271


1- (8) جواهر الکلام مج40 ص86 .
2- (9) ص / 26 . .
3- (10) النساء / 58 .
4- (11) المائدة / 42 .
5- (12) أی موضوعاً للحکم ، نعم کون العلم حجة بذاته ینفع فی إحراز صغریات موضوع الحکم بعد التصدیق بموضوعیته الذی یترتّب علی إثباته بالدلیل ، ولا ینفع فی إحراز نفس موضوعیة الموضوع أی لا ینفع فی إحراز کون الخمر (مثلاً) موضوع للحکم بالحرمة وإنما ینفع فی إحراز کون هذا السائل خمراً - .

ولکن تقریب الاستدلال بالآیات الشریفة مبنی کما عرفت - علی أن الظاهر منها أن موضوع جواز الحکم والقضاء هو العدل والحق والقسط الثابت واقعاً وفی نفس الأمر فیکون علم القاضی طریقاً إلی إحراز صغریات هذا الموضوع فیترتّب الحکم الشرعی حینئذ قهراً فإذا علم القاضی بالحقّ فی قضیة معیّنة کالسرقة - مثلاً فعلم بأن هذا الشخص هو السارق فیترتّب قهراً جواز أن یقضی علیه بما یستحقّه وفق الشرع - وهذا علی حدّ إحراز المکلّف بأن هذا خمر فیترتّب قهراً حینئذ الحکم علیه بحرمة شربه - فبمقتضی هذه الآیات الشریفة یثبت جواز أن یستند القاضی فی حکمه إلی علمه.

والحاصل أن الاستدلال بالآیات الشریفة مضافاً إلی بعض الروایات التی بنفس المضمون - مبنی علی أنه یُستظهر منها أن المراد بالحق - وغیره من العناوین المذکورة فی سائر الآیات أو الروایات کالقسط والعدل - هو الحق الثابت فی الواقع ونفس الأمر وحینئذ یکون القطع طریقاً إلیه - علی حدّ القطع بالخمریة الذی یکون طریقاً إلی إحراز الواقع ، وهذا القطع حجیته ذاتیة لا الحق الثابت بملاحظة موازین خاصة وعند جماعة معینة فإن هذا خلاف ظاهر الآیات الشریفة فالمراد بقوله تعالی : (أن تحکموا بالعدل) هو أن تحکموا بالعدل الواقعی فإذا قطع بأن هذا عدل فیکون هذا القطع قطعاً طریقیاً یستلزم القطع بالحکم وجواز القضاء علی طبقه .

وقد اعترض المحقق العراقی (قده) بما حاصله أن کون موضوع جواز القضاء هو الحق واقعاً وفی نفس الأمر لا الحق بحسب ما تؤدی إلیه موازین الإثبات القضائی یتعارض مع ما ورد فی الروایة المعروفة المشهورة التی تقسّم القضاة إلی أربعة أقسام واحد منهم فی الجنة وثلاثة فی النار من جملتهم رجل قضی بالحق وهو لا یعلم (1) فإن الروایة تنصّ علی أنه قضی بالحق مطلقاً (2) فبأی سبب یستوجب دخول النار والحال أن قضاءه جائز تکلیفاً وصحیح ونافذ وضعاً فحکم الإمام (علیه السلام) بدخول النار لحکمه بالحق وهو لا یعلم یُنبئ إلی أنه لا یکفی فی جواز القضاء تکلیفاً وفی صحة القضاء وضعاً أن یحکم الإنسان بالحق والواقع بل لا بد أن یکون حکمه بالحق وفق موازین باب القضاء ولهذا فإن من یحکم بالحق وهو لا یعلم یکون فی النار لکونه لم یسلک طریق الموازین المنصوبة فی باب القضاء وإن فُرض أنه وصل إلی الحق وحکم به من باب الاتّفاق والمصادفة فیکون هذا مؤشّراً وقرینة واضحة علی أنه حتی لو سلّمنا ظهور الآیات الشریفة فی ما ادُّعی من جواز الحکم بالحق الثابت واقعاً وفی نفس الأمر ولکن لا بد من التصرّف فی هذا الظاهر وحمل الآیات الشریفة علی أن المقصود بالحق فیها هو الحق بحسب الموازین المقررة فی باب القضاء وهذا یبرّر لنا الحکم علی الرجل الذی قضی بالحق وهو لا یعلم بکونه فی النار .

ص: 272


1- (13) فی باب أصناف القضاة من الکافی عن أبی عبد الله (علیه السلام) : " قال : القضاة أربعة ثلاثة فی النار وواحد فی الجنة : رجل قضی بجور وهو یعلم فهو فی النار ، ورجل قضی بجور وهو لا یعلم فهو فی النار ، ورجل قضی بالحق وهو لا یعلم فهو فی النار ، ورجل قضی بالحق وهو یعلم فهو فی الجنة الکافی مج7 ص407 .
2- (14) أی ولو من باب مصادفة حکمه للحق الواقعی .

فیتحصّل أنه لیس المطلوب أن یقضی الشخص بالحق فحسب وإنما المطلوب أن یقضی بالحق وفق الموازین المقرّرة فی باب القضاء .. وسیأتی النظر فی هذا الاعتراض وتکملة سرد ما استُدلّ به علی جواز أن یحکم القاضی بعلمه إن شاء الله تعالی .

الموضوع :- المسألة الثامنة / علم القاضی هل هو من وسائل الإثبات فی باب القضاء کالبیّنة / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) بحث الفقه

(بحث یوم الثلاثاء 2 صفر الخیر 1433 ه 50)

کان الکلام فی أن علم القاضی هل هو من وسائل الإثبات فی باب القضاء کالبیّنة لیجوز أن یقضی القاضی بعلمه أم لا .. وقد تقدّم ذکر الدلیل الأول الذی استًدل به علی الجواز وما اعترض به المحقق العراقی (قده) علیه ممّا حاصله :

أنه لو کان المراد بالعدل فی الآیات الشریفة - وکذا سائر العناوین المذکورة فیها - هو العدل فی الواقع ونفس الأمر فحینئذ لا یکون هناک وجه للحدیث الشریف : (رجل قضی بالحقّ وهو لا یعلم فهو فی النار) إذ کیف یمکن أن یکون هذا الرجل فی النار والحال أنه قضی بالحقّ وقد فُرض أن المیزان هو القضاء بالحقّ الواقعی فمن هنا یُستکشف أن المراد بالحقّ وغیره من العناوین لیس هو الحقّ الثابت واقعاً بل الحقّ الثابت باعتبار الموازین المقرّرة فی باب القضاء .. وبناء علیه فلا یصح الاستدلال بالآیات الشریفة المذکورة لأن الاستدلال بها مبنیّ علی افتراض أن المراد بالحقّ هو الحقّ الثابت واقعاً وبقطع النظر عن الموازین وقد ثبت ولو بمعونة هذه القرینة أن المراد به هو الحقّ الثابت من خلال هذه الموازین لا الثابت بقطع النظر عنها .

ص: 273

وأقول : من الواضح أن هذا الاعتراض یُدّعی فیه ظهور الآیات الشریفة فی إرادة العدل والقسط والحقّ الثابت بملاحظة موازین القضاء ولکن تارة یُدّعی الظهور الذاتی بمعنی ظهور الآیات بنفسها فی ذلک المعنی - ، وأخری یُدعّی ظهورها فیه بملاحظة القرینة الخارجیة التی هی روایة (القضاة أربعة) المتقدّمة .

والأول خلاف الظاهر وعهدة دعواه علی مدّعیها فإنه قد قُرِّر فی محلّه أن الألفاظ التی تقع موضوعات فی الأدلة الشرعیة تُحمل علی معانیها الواقعیة ، وعلی هذا الأساس کان تعاملهم مع الأدلة فیحملون الخمر - مثلاً فی قضیة (الخمر حرام) علی معناه الواقعی وهو الخمر الثابت واقعاً وفی نفس الأمر ولذا یعدّون العلم والقطع به علماً وقطعاً طریقیاً ولا یفترضون أن المراد به فی الدلیل هو الخمر المعلوم الخمریة بحیث یکون أخذ العلم جزءاً من الموضوع ولا الخمر الثابتة خمریته عند جماعة من الناس أو باعتبار موازین معیّنة بل یقرّرون أن المراد ذات الخمر واقعاً وفی نفس الأمر وهکذا الحال فی سائر العناوین المأخوذة فی الأدلة فالعدل والقسط فی الآیات القرآنیة یُحملان علی معناهما الواقعی وهو العدل والقسط الثابتان واقعاً وفی نفس الأمر .

إذا اتّضح هذا فإن کان مقصود المعترِض دعوی أن الآیات ظاهرة فی إرادة العدل والقسط بحسب موازین معیّنة فهو علی خلاف الظاهر والمصیر إلیه رهن بالقرینة علیه .

وأما إن کان مدّعاه کما لا یبعد أن یکون کذلک أن الآیات ظاهرة فی هذا المعنی لا بنفسها بل بمعونة الروایة بمعنی أن الروایة هی التی تکون قرینة علی التصرّف فی الآیات الشریفة بأن تُحمل علی خلاف ظاهرها وهو العدل الثابت بملاحظة هذه الموازین الثابتة فی باب القضاء .. ففیه أن غایة ما یمکن أن تکون هذه الروایة قرینة علیه هو تقیید العدل الذی یجوز الحکم به بأن یکون عن علم بمعنی أن یکون القاضی عالماً بما یحکم به فی مقابل ما إذا کان جاهلاً بالحقّ وإنما قضی به من باب المصادفة والاتفاق بل ربما کان یعتقد أن ما حکم به هو باطل ولیس بحقّ .. فمفاد الروایة إذاً أن من یقضی بالحقّ من غیر أن یکون علی درایة ومعرفة سابقة بحکم القضیة التی قضی بها فهو فی النار فإن مجرّد مصادفة القضاء للحقّ غیر کاف بل لا بد من أن یکون القاضی عالماً بحکم المسألة التی یرید القضاء بها ولذا فإن القاضی الذی یحکم بالحقّ عن معرفة وعلم (1) فهو فی الجنة بنصّ الروایة .

ص: 274


1- (1) مطلقاً أی سواء کان عن اجتهاد أو تقلید - .

فظهر مما سبق أن جعل هذه الروایة قرینة علی التصرّف بالمراد من الحقّ فی الآیات الشریفة لیکون هو الحقّ الثابت بحسب الموازین لا الحقّ الثابت واقعاً علی خلاف الظاهر وإنما الظاهر کون الروایة قرینة علی إضافة قید جدید للحقّ المذکور الذی هو الحقّ الثابت واقعاً لیکون المراد النهائی هو أن حکم القاضی لا بد أن یکون عن علم ودرایة فقضاؤه ولو کان موافقاً للحقّ إذا کان من باب المصادفة والاتّفاق غیر جائز ویدخل مصداقاً فی ما صرّحت الروایة به من أن من قضی بالحقّ وهو لا یعلم فهو فی النار .

فتحصّل ممّا تقدّم أن هذه القرینة المدّعاة علی هذا التوجیه لا تضرّ بالاستدلال لأن الآیات الشریفة تبقی ظاهرة فی لزوم الحکم بالحقّ الثابت واقعاً وفی نفس الأمر فیکون العلم به علماً طریقیاً ومستلزماً لجواز القضاء به والحکم علی طبقه وهو حجة بذاته ولا یحتاج فی إثبات حجیته إلی التماس دلیل آخر فیجوز للقاضی أن یستند فی الحکم إلی علمه بأن هذا عدل وحقّ وقسط فیتم الاستدلال بالآیات من دون أن یرد علیه الاعتراض المذکور .

الدلیل الثانی :

ما أُشیر إلیه فی کلماتهم من أن عدم القضاء بعلم القاضی یستلزم إما فسق الحاکم أو إیقاف الحکم واللازم بشقّیه باطل فالملزوم (1) مثله فیثبت نقیضه (2) وهو المطلوب .

وذکروا فی توضیحه أنه إذا طلّق رجلٌ زوجته ثلاثاً أمام القاضی ثم جحد الطلاق فبحسب موازین باب القضاء - کما هو واضح - یکون القول قوله مع یمینه لأنه منکر (3) ولکن القاضی یعلم بأنه طلّق زوجته ثلاثاً ولا یجوز إرجاعها إلیه فحینئذ إن حکم القاضی بغیر علمه بأن طلب من الرجل أن یحلف علی أنه لم یُطلّق امرأته فحلف فسلّم القاضی له امرأته (4) ففی هذه الحالة یلزم فسق القاضی لأنه یعلم أن المرأة قد بانت منه بتطلیقها ثلاثاً فانقطعت العصمة بینهما فلا تکون زوجة له وهو مع ذلک یُسلّمها إلیه اعتماداً علی یمینه ، وأما إذا أراد أن یحکم بعلمه فهنا یلزم إیقاف الحکم بلا موجب لأنه من جهة یُمنع من أن یحکم بعلمه - بحسب الفرض - ومن جهة أخری یُلزَم بإعمال موازین باب القضاء من الاستحلاف والیمین وهو لا یرید أن یحکم بذلک بل یرید أن یحکم بعلمه فحینئذ یقف الحکم وتتعطّل الدعوی وهو لازم باطل أیضاً .

ص: 275


1- (2) وهو عدم القضاء بعلم القاضی .
2- (3) وهو جواز القضاء بعلم القاضی .
3- (4) بعد فرض عدم وجود بیّنة للمرأة علی دعواها طلاقها من قبله .
4- (5) لأنها بعد إنکاره الطلاق وحلفه علی ذلک یثبت ظاهراً کونها زوجته فتُسلّم إلیه وهذا بحسب إعمال موازین باب القضاء ومنع القاضی من أن یحکم بعلمه کما هو المفروض فی هذا الشقّ من التردید .

وهذان اللازمان الباطلان أعنی فسق الحاکم وإیقاف الحکم إنما نتجا من القول بمنع القاضی من الحکم بعلمه ولا مجال للتخلّص منهما إلا بالقول بنقیض ملزومهما وهو جواز أن یحکم القاضی بعلمه فیثبت المطلوب .

وذکروا أیضاً فی سیاق هذا الدلیل أن منع القاضی من أن یحکم بعلمه یستلزم عدم وجوب إنکار المنکر وعدم وجوب إظهار الحقّ مع إمکانه فالقاضی یری بعینه المنکر أعنی رجوع المرأة إلی فراش الرجل مع کونها قد بانت منه بطلاقه لها ثلاثاً بعلم القاضی ومع ذلک لا یُنکره بیده مع إمکان ذلک له .

ونوقش فی هذا الدلیل وما ذُکر له من اللوازم الباطلة بأن لزوم هذه الأمور فرع القول بکون العلم حجة کالبیّنة فی باب الإثبات القضائی (1) ، وأما مع إنکار ذلک والقول بأن المطلوب من القاضی إنما هو الحکم طبقاً للموازین المقرّرة فی باب القضاء ولیس منها علمه الخاص فحینئذ لا یلزم شیء ممّا ذُکر لأنه إذا کانت وظیفته الشرعیة هی الحکم طبقاً للبیّنة والیمین - ولو علم أن الواقع خلاف مؤدّاهما - فلا یلزم فسقه لأنه حینما یُسلّم المرأة إلی الرجل إنما یفعل ذلک وفقاً لوظیفته المقررة شرعاً وکونه یعلم أن الواقع خلاف ذلک لا أثر له بحسب مقام الظاهر الذی علیه العمل فی باب القضاء إذ الفرض عدم عدّ علم القاضی من وسائل الإثبات القضائی ، کما لا یلزم إیقاف الحکم کما هو ظاهر إذ بموجب الاستحلاف والحلف اللذین هما الوظیفة المقررة شرعاً بحسب الفرض حَکَم القاضی بکون المرأة زوجةً للرجل ، کما لا یلزم أیضاً عدم إنکار المنکر مع إمکانه لأن المفروض أن إرجاع المرأة إلی الرجل جری وفقاً للوظیفة المقررة شرعاً وما کان کذلک لا یکون منکراً بل یکون حقّاً .

ص: 276


1- (6) أی فرع القول بجواز الاستناد إلی العلم الخاص فی مقام الإثبات فی باب القضاء .

فتبیّن مما سبق أن هذا الدلیل أشبه ما یکون بالمصادرة حیث یؤخذ العلم حجة فی باب الإثبات القضائی ومن الوسائل المعتمدة فیه فتترتب تلک اللوازم مع أن کونه کذلک أول الکلام .

الدلیل الثالث :

ما ذُکر فی الجواهر وغیره من أنه لمّا کان المعلوم فی وجه اعتبار البیّنة شرعاً فی باب الإثبات القضائی إرادة الکشف بها وکان العلم أقوی کاشفیة منها لکونه بذاته کاشفاً تاماً بخلافها حیث یکون کشفها ناقصاً وإنما یُتَمّ بالاعتبار الشرعی کان اعتباره فی هذا الباب أولی .

إذاً فهذا الدلیل فی الحقّیقة یستبطن أمرین :

الأول :

أن اعتبار البیّنة فی باب القضاء إنما هو من باب کشفها عن الواقع وإن کان کشفاً ناقصاً إلا الشارع اعتبرها فی هذا الباب بل فی غیره أیضاً .

الثانی:

إن العلم أقوی کشفاً عن الواقع من البیّنة .

ونتیجة ذلک أن یکون العلم من وسائل الإثبات القضائی من باب أولی .

وستأتی المناقشة فی هذا الدلیل إن شاء الله تعالی .

الموضوع :- المسألة الثامنة / أدلة جواز الاستناد إلی علم القاضی فی الحکم والقضاء/ الدلیل الرابع / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) بحث الفقه

(بحث یوم الأربعاء 3 صفر الخیر 1433 ه 51)

کان الکلام فی الدلیل الثالث الذی استُدل به علی جواز الاستناد إلی علم القاضی فی الحکم والقضاء وکان حاصله أن البیّنة إنما اعتُبرت فی باب القضاء من باب کشفها عن الواقع ، ولا إشکال فی أن العلم أقوی کشفاً عن الواقع منها فیکون اعتباره فی باب القضاء أولی .

ص: 277

ویُلاحظ علیه :

أولاً :

أن هذه الأقوائیة إنما تکون مسلّمة بالنسبة إلی القاضی نفسه باعتبار أنه یری أن کشف علمه عن الواقع أقوی لدیه من کشف البینة فهنا ثمة مجال لدعوی الأقوائیة وما یترتّب علیها من أن هذا القاضی حینما یری أن الاستناد فی الحکم إلی البیّنة حجة لکونها وسیلة من وسائل الإثبات فهو بلا ریب یری أن الاستناد فی الحکم إلی علمه یکون حجة من باب أولی ، ولو کان إلیه جَعْلُ الحجیة فی باب الإثبات القضائی لجَعَل علمه حجة قبل جعل البینة لأن علمه أقوی کشفاً عن الواقع منها .

وأما إذا لاحظنا ذلک بالنسبة إلی شخص آخر غیر القاضی فلا تکون هذه الأقوائیة واضحة بل ربما یکون الأمر حینئذ بالعکس بمعنی أن البینة التی تعنی عدولاً متعدّدین یشهدون عن علمهم بالواقعة - تکون أقوی کشفاً عن الواقع من علم القاضی لأنه عبارة عن دعوی شخص واحد عن علمه بالواقعة ، ولا ریب أن التعدّد فی الشهادة بالنسبة إلی طرف ثالث أولی من شهادة شخص واحد سیّما وأن الجمیع یشهدون عن علمهم بالواقعة .

وعلی ذلک فلا مجال لأن یقال إن علم القاضی أقوی کشفاً من البینة ولا لما یبتنی علیه من أنه لو کان إلیه جَعْلُ الحجیة فی باب الإثبات القضائی لجَعَل علمه حجة قبل جعل البینة فإن اعتبار الحجیة فی الأبواب الشرعیة جمیعاً بید الشارع المقدّس وهو قد اعتبر البیّنة فیها ولا مُلِزم له لأن یعتبر علم القاضی إذا کان لم یعتبره أصلاً .

وثانیاً :

إن الاستناد إلی أقوائیة العلم فی الکاشفیة عن الواقع من البیّنة وغیرها فی إضفاء الحجیة علیه کما هی ثابتة لها بل دعوی أنه أولی منها إنما یتّجه فی ما لو تیقّنّا بأن الوجه فی اعتبار البیّنة وسیلةً من وسائل الإثبات منحصرٌ بکشفها عن الواقع بحیث یکون ملاک الاعتبار والحجیة هو ذاک لا غیره ، وأما إذا احتملنا أن هناک أمراً آخر غیر الکشف یکون له تمام الدخالة فی اعتبار البیّنة وسیلةً من وسائل الإثبات وهو موجود فیها من غیر أن یکون موجوداً فی علم القاضی ففی هذه الحالة لا یمکن أن نستدلّ بالأقوائیة لإثبات اعتبار علمه بل لو سلّمنا أن البیّنة معتبرة من باب الکشف ولکن أنّی لنا أن نثبت أن للکشف تمام الدخالة فی الملاک وأن الملاک منحصر فیه ، وفی المقام لا دافع لاحتمال أن یکون غیر الکشف دخیلاً أیضاً ولو من باب کونه جزء المرکّب لما هو الدخیل فی الملاک .

ص: 278

إذاً فهناک احتمال أن تکون فی البیّنة خصوصیة هی غیر موجودة فی علم القاضی اقتضت اعتبار البیّنة دونه .. ومعه لا یمکن التعدّی منها (1) إلیه .

نعم .. لو أمکن إثبات الانحصار فی الکشف فیمکن التعدّی بالأولویة إلی علم القاضی ولکن هذا یتوقّف علی القطع بعدم الخصوصیة ولا سبیل إلیه مع قیام الاحتمال بشهادة الوجدان فی أن یکون تعدد الشهود فی باب البیّنة وعدم کونهم أطرافاً فی الدعوی وکون الحکم مستنداً إلی شهادتهم مؤثّراً فی قبول الحکم عند الجمیع بصورة أقرب ممّا لو صدر الحکم استناداً إلی علم القاضی بل لو فُرض قیام الدلیل علی جواز الاستناد إلی علم القاضی لما کان یورث القناعة بالحکم لدی الخصوم وغیرهم بالدرجة التی تورثها البیّنة ، ولو کان مقبولاً عندهم فبنحو من التعبّد والتسلیم إذ من الجائز أن یکون الغرض النوعی من اعتبار البیّنة إیصال أطراف الدعوی إلی القناعة بالحکم ممّا قد لا یتحصّل بحکم القاضی بعلمه .

ومن هنا یظهر عدم تمامیة هذا الدلیل .

الدلیل الرابع :

آیات الحدود والمقصود بها نحو قوله تعالی : " والسارق والسارقة فاقطعوا أیدیهما " (2) وقوله تعالی : " الزانیة والزانی فاجلدوا کل واحد منهما .. " (3) وغیرها من الآیات التی یکون الخطاب فیها موجّهاً إلی من علیه إقامة الحدّ وفی هذه الآیات رُتّبتْ أحکام خاصة علی موضوعات معیّنة (4) فیقال فی مقام الاستدلال أنه إذا ثبت عند القاضی موضوعٌ مّا وعلم به فحینئذ لا بد أن یثبت الحکم المترتّب علیه فی القضیة الشرعیة بمعنی أن علی القاضی أن یُرتّب ذلک الحکم المذکور فی الآیة الشریفة وهذا معناه جواز أن یقیم الحدّ علی الزانی والسارق - مثلاً - اعتماداً علی علمه بالزنا والسرقة لأنه هو المخاطَب بقوله تعالی : " فاجلدوا کل واحد منهما " وقوله : " فاقطعوا أیدیهما " وأمثالهما ، وإذا تمّ هذا المعنی فی باب الحدود فیمکن التعدّی حینئذ إلی غیره من الأبواب إما بالقطع بعدم الفرق أو بضمیمة القول بعدم الفصل بین مورد ومورد فعلم القاضی حینما یکون حجة ومعتبراً فی مورد فإنه یکون کذلک فی جمیع الموارد بلا فرق بین باب الحدود وغیره من الأبواب .

ص: 279


1- (1) أی من البیّنة .
2- (2) المائدة / 38 .
3- (3) النور / 2 .
4- (4) فقطع الید - مثلاً - حکم یترتب علی موضوع السرقة والجلد حکم یترتب علی موضوع الزنا وهکذا .

هذا ما یمکن أن یقال فی مقام تقریب الاستدلال بهذا الدلیل .

ولکن یمکن الخدشة فیه من جهة أن الآیات الشریفة لیست فی مقام بیان موضوع الحکم وحدوده وشرائطه (1) وأنه هل یثبت بوسائل الإثبات المعروفة فی باب القضاء من البیّنة والیمین وأمثالهما أم أنه یثبت أیضاً بعلم القاضی وإنما قد افُترِض فی تلک الآیات تحقق الموضوع بمعنی أنه قد أُخذ فیها علی نحوٍ مفروض التحقّق والحصول وأُثبت له الحکم فهی إذاً فی مقام بیان تشریع الحدود لهذه الموضوعات فی الجملة .

ومن هنا لا یصح التمسّک بإطلاق هذه الآیات لإثبات مشروعیة إقامة الحدّ للقاضی عندما یثبت موضوع الحدّ بعلمه لأنها لیست فی مقام البیان من هذه الجهة .

ویشهد لهذا المعنی (2) أن من الواضح عدم ثبوت جواز إقامة الحدّ لکل أحد وإنما یثبت لبعض الناس فی بعض الحالات بشرائط معینة لا مطلقاً وهذا یکشف فی الحقیقة عن عدم وجود إطلاق فی هذه الآیات لیُستفاد منه التعمیم لیقال بثبوته للقاضی ویُتعدّی بعد ذلک عن مورد الحدود إلی غیرها من الموارد بما تقدّم (3) وإنما هی کما ذکرنا - بصدد تشریع الحدّ إجمالاً (4) کسائر أدلة التشریعات الأخری التی لا إطلاق لها .. مع أن دعوی الإطلاق یلزمها ما یشبه تخصیص الأکثر لأن مراد المستدلّ إدخال خصوص القاضی فی صورة علمه بموضوع الحکم فی دائرة من یجوز له إقامة الحدّ فلا بد له بعد ادّعاء الإطلاق من استثناء غیره (5) فیلزم ما یشبه تخصیص الأکثر المستهجن .

ص: 280


1- (5) فلیست هذه الآیات فی مقام بیان موضوع الحکم بالجلد أو القطع وأمثالهما .
2- (6) أی عدم کون الآیات الشریفة فی مقام بیان وسائل الإثبات اقضائی وأنها تقتصر علی مثل البینة والیمین أم تتعدّی لتشمل علم القاضی وغیره مما یصلح للإثبات ، وإذا لم تکن فی مقام البیان من هذه الجهة فلا یمکن التمسّک بإطلاقها حینئذ للقول بالتعمیم .
3- (7) أی من القطع بعدم الفرق أو بضمیمة القول بعدم الفصل بین مورد ومورد .
4- (8) أی من غیر التعرّض للتفاصیل من بیان الشرائط والموانع وغیرها مما له الدخالة فی تحقق موضوع الحکم الشرعی .
5- (9) أی غیر القاضی .

ومن هنا یظهر عدم تمامیة هذا الدلیل أیضاً .

الدلیل الخامس :

.. یأتی الکلام علیه إن شاء الله تعالی .

الموضوع :- المسألة الثامنة / أدلة جواز الاستناد إلی علم القاضی فی الحکم والقضاء/ الدلیل الخامس / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) بحث الفقه

(بحث یوم السبت 6 صفر الخیر 1433 ه 52)

الدلیل الخامس

المسألة الثامنة / بحث رجالی / الجهة الثانیة والثالثة فی محمد بن أحمد المحمودی وأبیه أحمد المحمودی / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) بحث الفقه

(بحث یوم الاثنین 8 صفر الخیر 1433 ه 53)

تقدّم الکلام حول روایة الحسین بن خالد التی مثّلت الدلیل السابع - وذکرنا أن فیها کلاماً من جهة السند ومن جهة الدلالة وقلنا بأن الکلام فی السند یقع فی جهات ثلاثة تقدّم أولاها وکان فی روایة الشیخ الکلینی (قده) عن علی بن محمد المتردّد بین جماعة وقد أمکن تجاوز هذه المشکلة بما ذُکر من أن الإطلاق ینصرف إلی علی بن محمد بن بندار الموثّق من قبل النجاشی .

وأما الجهة الثانیة والثالثة فهی فی محمد بن أحمد المحمودی وأبیه أحمد المحمودی :

أما من جهة محمد بن أحمد المحمودی المکنّی بأبی علی فقد ذُکر أنه من أصحاب الإمام الهادی والذی یظهر من الروایات أنه من أصحاب الإمام الجواد أیضاً بل فی بعضها أنه من أصحاب الإمام العسکری کذلک (صلوات الله علیهم أجمعین) .

وهذا الرجل یُستدلّ علی وثاقته بل جلالته بما رواه الکشی من توقیعٍ للإمام العسکری (علیه السلام) أورده عن إسحاق بن إسماعیل النیسابوری ونقله عن بعض الثقاة من نیسابور حیث قال (1) فی عنوان (ما رُوی فی إسحاق بن إسماعیل النیسابوری وإبراهیم بن عبده والمحمودی والعمری والبلالی والرازی) :

ص: 281


1- (1) أی الکشی .

" حکی بعض الثقات بنیسابور أنه خرج لإسحاق بن إسماعیل من أبی محمد علیه السلام توقیع .. " ثم ذکر نصّ التوقیع وهو طویل فیه جملة من المطالب وأوله : " یا إسحاق بن إسماعیل سترنا الله وإیاک بستره ، وتولاک فی جمیع أمورک بصنعه .. إلخ " ، وفقرة الاستدلال تقع فی ذیل هذا التوقیع الشریف وهی : " واقرأه علی المحمودی عافاه الله فما أحمدنا له لطاعته " (1) .

والمراد بالمحمودی محمد بن أحمد بن حمّاد المحمودی ، والتوقیع تام السند یرویه الکشی عن بعض الثقاة من نیسابور وفیه ما هو بمثابة المدح له فیُستفاد منه توثیق الرجل .

وقد یُستدلّ علی وثاقته ووثاقة أبیه أیضاً بما سیأتی نصّه من کتاب الإمام الجواد (علیه السلام) إلیه (2) عند وفاة أبیه معزّیاً له بوفاته .

هذا من جهة الابن ، وأما من جهة الأب الذی هو أحمد بن حماد المروزی فیُستدل علی وثاقته بما رواه الکشی عن محمد بن مسعود العیّاشی عن محمد بن أحمد المحمودی (3) من أن الإمام الجواد (علیه السلام) کتب إلیه کتاباً یعزّیه بوفاة أبیه ونصّه :

" وکتب إلیّ الماضی علیه السلام بعد وفاة أبی : قد مضی أبوک رضی الله عنه وعنک وهو عندنا علی حالة محمودة ولن تبعد من تلک الحال " (4) .

ص: 282


1- (2) اختیار معرفة الرجال ج2 ص844 الحدیث 1088 .
2- (3) علی إشکال سیأتی بیانه والجواب علیه عند الاستدلال علی وثاقته أبیه .
3- (4) أی الابن .
4- (5) اختیار معرفة الرجال ج2 ص833 الحدیث 1057 .

فیُستفاد توثیق الأب من قول الإمام (علیه السلام) أنه (عندنا علی حالة محمودة) فضلاً عن الترضّی الذی هو آیة الجلالة لو بُنی علیه (1) - ، کما یُستفاد منه وثاقة الابن أیضاً بقوله (علیه السلام) : " ولن تبعد من تلک الحال " یعنی الحالة المحمودة التی کان علیها أبوه فضلاً عن الترضّی عنه (2) لو بُنی علیه أیضاً - .

وقد یُستشکل فی الاستدلال علی الوثاقة بکتاب الإمام الجواد (علیه السلام) باعتبار أن الراوی للکتاب هو نفس المحمودی وهو یروی مدحه ومدح أبیه ومن المعلوم أنه یلزم الدور فی ما لو کان إثبات وثاقة شخص یروایة یرویها الشخص نفسه .

ولکن هذا الإشکال لیس وارداً :

أما بالنسبة إلی توثیق الأب فواضح عدم لزوم الدور بشأنه حیث لم یکن الاستدلال علی وثاقته بروایة یرویها هو عن نفسه بل بروایة یرویها الابن عنه فهناک تغایر بین الراوی والممدوح ، نعم .. وثاقته تتوقف علی وثاقة راوی المدح عنه وهو ابنه إلا أن المفروض أننا فرغنا عن وثاقته بالتوقیع المتقدّم الذی نقله الکشی عن بعض الثقات بنیسابور .

وأما بالنسبة إلی توثیق الابن فإنه إنما یلزم الدور لو کان المراد استفادة نفس توثیقه بما رواه هو ولیس المدّعی ذلک بل التأیید علی توثیقه الذی استفید من نصّ آخر وهو ما ذکرناه من التوقیع المنقول عن الکشی عن بعض ثقاته بنیسابور .

ص: 283


1- (6) فإن فی اعتبار الترضّی شهادة بالوثاقة خلافاً فقال بعضهم باعتباره لأنه آیة جلالة الشخص وأنکر آخرون ذلک .
2- (7) أی عن الابن لعطفه فی الترضّی علی أبیه فی قوله (علیه السلام) : " رضی الله عنه وعنک " .

فالنتیجة ثبوت توثیق کلا الرجلین فلا مشکلة فی سند الروایة المبحوث عنها (1) من جهتهما .

نعم .. یبقی شیء فی المقام یختصّ بالتوقیع الشریف یتلخّص فی أن الکشی یروی التوقیع عن بعض الثقات فی نیسابور وهذا البعض غیر معروف لدینا ومن هنا قد یقال إن هذا التوقیع غیر نافع إذ من المعلوم أن التوثیق المجرد لا یکفی وحده لإثبات الوثاقة بل لا بد من کونه توثیقاً غیر معارض بالجرح والتضعیف (2) ولا یمکن إحراز ذلک إلا بأمرین :

الأول :

معرفة الشخص الموثّق بعینه .

الثانی :

عدم کونه مضعّفاً أو مجروحاً ، وهذا یتوقّف علی الفحص عن عدم ورود ذلک بشأنه فی کتب الرجالین وکلماتهم .

ولا ریب أن الثانی من هذین الأمرین یتوقف علی الأول فإذا کان الشخص مجهولاً لم یمکن حینئذ استحصال الیقین أو الاطمئنان بعدم کونه مضعّفاً أو مجروحاً فلا یکون التوثیق الصادر بحقّه نافعاً .

هذا الإشکال یُذکر فی علم الرجال تحت مسألة : (إذا قال الثقة حدّثنی الثقة) (3) وهو یرد فی الحقیقة علی کل من یعمل بمراسیل بعض الرواة من قبیل مراسیل ابن أبی عمیر وصفوان ومراسیل الصدوق علی رأی فإن هؤلاء جمیعاً یروون فی مراسیلهم عن ثقة من غیر تعیین ولا طریق لنا لمعرفة أن هذا الثقة أو الثقاة الذین یروون عنهم لیسوا بمضعّفین ولا یکفی حینئذ التوثیق الصادر بحقهم من أنهم لا یروون إلا عن ثقة (4) ما لم یُضَمّ إلیه إحراز عدم الجرح والقدح وهو غیر ممکن فی المقام لمجهولیة المروی عنهم ، وتعذّرُ إحراز الشرط لا یوجب سقوطه بل الشرط یبقی علی حاله ولا بد من الاعتناء به والنتیجة أنه لا یمکن العمل بمثل هذا التوثیق لأن العمل به مشروط بإحراز عدم المعارض وفی المقام لا یمکن ذلک .

ص: 284


1- (8) وهی المذکورة فی الدلیل السابع المتقدّم : " قال : سمعته یقول : الواجب علی الإمام إذا نظر إلی رجل یزنی أو یشرب الخمر أن یقیم علیه الحدّ ولا یحتاج إلی بیّنة مع نظره .. " .
2- (9) وأما التوثیق المعارض بالجرح فمن الواضح عدم نفعه إذ لا أقلّ من التساقط إن لم تکن الأرجحیة للتضعیف .
3- (10) أی من دون أن یذکر اسم المحدَّث عنه .
4- (11) کما صدر مثل هذا القول بحقهم من قبل الشیخ الطوسی (قده) أی من أن مثل ابن أبی عمیر لا یروی إلا عن ثقة - .

وأقول : قد ذکرنا فی بعض ما کتبناه فی الرجال عدة طرق لحلّ هذا الإشکال :

الطریق الأول :

أن یُستظهر من کلام الموثّق (1) أنه فی مقام التزکیة والشهادة الفعلیة بالوثاقة ، ومنشأ هذا الاستظهار کون المحدِّث فی مقام إثبات ما حدّث به الثقة والاعتماد علیه ومن الواضح أن اعتماد الموثّق علی ما حدّث به الثقة یتوقف علی أن یکون المحدَّث عنه ثقة بالفعل وکونه کذلک بحیث یثبت حدیثه ویصحّ الاعتماد علیه یتوقّف علی عدم کونه مجروحاً ومضعّفاً فلا بدّ من أن یکون المحدِّث قد أحرز بنفسه فی مرحلة سابقة ذلک وإلا فکیف یکون فی مقام إثبات ما حدّث به الثقة والاعتماد علیه والحال أنه لا یجوز له ذلک إلا مع تمامیة أرکان التوثیق من المعرفة عن حسّ وإحراز عدم القدح فشهادة الموثِّق تنحلّ فی الحقیقة إلی شهادتین : شهادة بالتوثیق وشهادة بعدم الجرح ، ومن الواضح أن الرجالی الخبیر الثقة کما یُعتمَد علی شهادته بالتوثیق یُعتمَد أیضاً علی شهادته بعدم الجرح .

وبعبارة أخری : إن کون الموثِّق فی مقام إثبات ما حدّث به الثقة والاعتماد علیه یکشف لنا بالإنّ أن أرکان التوثیق تامة لدیه فنحرز نحن توثیقه للشخص بالوجدان ونحرز عدم القدح فیه بالالتزام فیمکننا علی هذا الاعتماد علی ما صدر منه من توثیق .

نعم .. لا یُنکر أنه یُحتمل فی البین أن الجرح لم یصل إلیه أو وصل ولم یَعتمِد علیه ولکن هذا الاحتمال منفی بالنسبة لنا فإنّا غیر مکلّفین بإحراز عدم الجرح واقعاً بل یکفینا إحراز عدم الجرح ظاهراً وهو یُستحصَل فی ما یصل إلینا من أقوال الرجالیین کما أن الکشی وغیره من أهل التخصّص فی هذا الفن لیسوا مکلّفین بإحراز عدم الجرح واقعاً إذا فُرض عدم وصوله إلیهم ، وکذا الحال فی احتمال أن یکون قد وصل إلیه جرح لکنه لم یعتمد علیه فإنه منفی بالنسبة لنا أیضاً وإنما العمدة فی ما وصل إلینا من أقوال الرجالیین .. مع أن هذین الاحتمالین یردان حتی فی صورة تعیین الشخص الموثَّق فعندما یشهد النجاشی بأن أبان بن عمر الأسدی - مثلاً ثقةٌ (2) یتأتّی احتمال أن یکون هناک جرح فی شأن أبان ولم یصل إلی النجاشی وأن یکون قد وصله ولکنه لم یعتمد علیه فهذان احتمالان واردان حتی فی هذه الصورة (3) ومع ذلک لا یمنعان من الأخذ بشهادته والعمل بها.

ص: 285


1- (12) وهو الکشی فی محلّ الکلام .
2- (13) وهذه الشهادة تنحلّ - کما ذُکر - إلی عقدین : إیجابی بالتوثیق وسلبی بعدم التضعیف فتؤخَذ شهادته هذه ویُعتمد علیها .
3- (14) أی صورة التعیین .

والحاصل أن أمثال هذه الاحتمالات منفیة ظاهراً ویکفی أن یُستظهَر من کلام الموثِّق أنه فی مقام إثبات وثاقة الشخص الذی لم یسمّه - بنحو یَعتمِد هو علیه ویکون غرضه إثبات ما أخبر به هذا الثقة فحیث یتوقف ذلک علی إحرازه عدم الجرح بحقّه فتعدّ هذه شهادة ضمنیة منه تضاف إلی توثیقه له لتکون النتیجة تمامیة أرکان التوثیق فیصحّ الاعتماد حینئذ علیه .

الطریق الثانی :

الالتزام بسقوط هذا الشرط أعنی إحراز عدم الجرح - فی حالة تعذّر تحصیله کما فی حال عدم تعیین الشخص الموثّق دون ما إذا أمکن تحصیله (1) فلا یصحّ حینئذ الاعتماد علی التوثیق بمجرّده فلا یجوز لنا الأخذ بتوثیق النجاشی للمعلّی بن خنیس - مثلاً إلا بعد إحراز عدم الجرح بحقّه ، وفی المقام حیث لا یمکن إحراز هذا الشرط لعدم تعیین الشخص الموثَّق فهنا یسقط اعتبار هذا الشرط ، والمستند فی ذلک دعوی أن سیرة العقلاء قائمة علی العمل بالتوثیق بمجرد وصوله ولا یتوقفون - فی حال تعذّرَ علیهم الفحص - عن الأخذ به حتی یحرزوا عدم الجرح ، وهذه الدعوی لیست جزافاً کیف! وقد ادُّعیت فی ما هو أهّم من هذا المقام کما فی علم الأصول حیث نُصّ علی العمل بالعمومات والمطلقات عندما یتعذّر الفحص عن المخصّصات والمقیّدات کما فی بعض الظروف الحرجة کظرف التقیة مع أن الفارق بین ما نحن فیه وهذا المورد عظیم إذ أن المتکلم بالعام والخاص واحد ، والعمومات فی معرض التخصیص لأن طریقة الشارع أن لا یُلقی مطالبه کلها دفعة واحدة وإنما یُبیّنها من خلال المقیّدات والمخصّصات ومع ذلک فی حالات عدم التمکن من الفحص جوّز العمل بالعام بخلاف المقام حیث یکون الکلام صادراً من جهتین فالتوثیق صادر من جهة والتضعیف یصدر من أخری ولیس لدینا أصل مفاده کون التوثیق فی معرض التضعیف فإذا جاز العمل بالعام فی حالات تعذّر الفحص عن مخصّصه فجواز العمل بالتوثیق فی حالات تعذّر الفحص عن معارضه من باب أولی .

ص: 286


1- (15) أی إحراز عدم الجرح .

والحاصل أن دعوی سقوط هذا الشرط فی محلّ الکلام عند التعذّر وعدم التمکن لیست ببعیدة .

وهناک طریق ثالث یأتی الکلام علیه إن شاء الله تعالی .

المسألة الثامنة / بحث رجالی / فی سند التوقیع المروی من قبل الکشی / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) بحث الفقه

(بحث یوم الثلاثاء 9 صفر الخیر 1433 ه 54)

کان الکلام فی التوقیع الشریف الذی رواه الشیخ الکشی عن بعض الثقات بنیسابور وکان الإشکال فی سند هذا التوقیع من جهة أن الثقة الذی یخبر عنه غیر معلوم لدینا حتی نحرز عدم وجود جرح وتضعیف بشأنه وکنّا قد ذکرنا طریقین للتغلّب علی هذا الإشکال وتم الکلام فیهما .

وهاهنا نقول : إنه یرد علی الطریق الأول (1) أنه لو تمّ فهو لا یُثبت إلا شهادة الکشی بعدم وجود جرح صادر ممن هو معاصر له أو سابق علیه ولکنه لا یُثبت عدم وجود جرح متأخر عنه فإن الشیخ الکشی إنما یشهد بحسب ما وصل إلیه من کلمات الرجالیین ممن سبقه أو عاصره من أساتذته وقرنائه ومن الواضح أن هذا لا ینفی احتمال أن یکون قد صدر جرح متأخر عنه کما لو صدر من النجاشی أو الشیخ الطوسی (قدهما) فیعود الإشکال فی السند حینئذ جذعاً .

ولکن هذا الإیراد مندفع فإن احتمال وجود جرح متأخر عن زمان الشهادة بالتوثیق الفعلی یمکن نفیه بالاستعانة بالوجوه الأخری لحلّ الإشکال من الطریق الثانی المتقدّم (2) والثالث الآتی .

ص: 287


1- (1) وهو أن یُستظهر من کلام الموثّق أنه فی مقام التزکیة والشهادة الفعلیة بالوثاقة .
2- (2) وهو الالتزام بسقوط هذا الشرط فی حالات عدم التمکّن کما هو محلّ الکلام .

الطریق الثالث : وهو أن یقال :

إن الملاحظ بعد التتبع والتأمّل فی کلمات الرجالیین التزامهم بالتنبیه علی وجود المعارض لما یُثبتونه لو کان موجوداً فعلاً ولیس هذا دأبهم فی مقام التوثیق فحسب بل حتی فی مجال إخبارهم بانتساب الشخص إلی العشیرة الفلانیة أو تعیین سنة تولّده أو ذکر عام وفاته أو کونه یُکنّی بالکنیة الکذائیة أو کونه من أصحاب الإمام الباقر أو الصادق (علیهما السلام) - مثلاً وأنه قد روی عنهما إلی غیر ذلک من الأحوال المعنیّ بذکرها فی علم الرجال فإنهم إذا وجدوا لما ذکروه معارضاً نبّهوا علیه بقولهم: (وقیل کذا) .

ومن هنا یمکن أن یقال إنه إذا أُطلق التوثیق فی کلامهم من دون الإشارة إلی وجود المعارض له فحینئذ یمکن الاستناد إلیه لإثبات عدم وجود الجرح والتضعیف .

وهذا الوجه مع سابقه یمکن الاستناد إلی کل منهما لتجاوز المشکلة المتقدّمة ، نعم .. هذه الوجوه الثلاثة وإن کانت قد لا تجری جمیعاً فی کل الموارد إلا أنه یمکن دفع الإشکال بشکل عام فی جمیع الموارد استناداً إلی مجموع هذه الوجوه لا إلی کل وجه وجه منها .

نعم .. یرد علی هذا الوجه بأن ما ذُکر فیه إنما یتمّ فی خصوص ما لو فرضنا أن کلام الموثّق کان مسوقاً فی الأصل لغرض التوثیق کما هو الملاحظ فی مثل (رجال النجاشی) فإنه کتاب معدّ لهذا الغرض فإذا قال : (فلان ثقة) فهنا یمکن التمسّک بإطلاق کلامه لنفی وجود جرح بحقّ من وثّقه إذ لو کان لبیّنه وأشار إلیه .

وأما إذا فرضنا أن الکلام کان مسوقاً لبیان شیء آخر وقد ذُکر فیه التوثیق عَرَضاً فلیس من الواضح تمامیة هذا الوجه فی هذه الحالة کوضوحها فی حال کون الکلام مسوقاً لغرض التوثیق .

ص: 288

هذا ما یمکن أن یقال فی مقام دفع الإشکال عن سند هذه الروایة .. وقد تحصّل ممّا تقدّم أن سندها تام لثبوت وثاقة رجاله جمیعاً (1) .

وأما من جهة الدلالة فقد استُدل بالروایة المبحوث عنها (2)

(3)

ص: 289


1- (3) حیث تقدّم أن علی بن محمد الذی یروی عنه الشیخ الکلینی هو علی بن محمد بن بندار الموثّق من قبل النجاشی ، ومحمد بن أحمد المحمودی ثبتت وثاقته بالتوقیع الشریف وقد دُفع الإشکال عن هذا التوقیع من جهة ما تضمّنه من الروایة عن بعض الثقات من غیر تعیین ، وأحمد بن حماد المروزی المحمودی (الأب) ثبتت وثاقته أیضاً بکتاب الإمام الجواد (علیه السلام) لابنه فی مقام تعزیته بوفاة أبیه ، وأما بقیة رجال السند فلا خدشة فیهم فإن یونس - وهو یونس بن عبد الرحمن - معروف الجلالة والوثاقة ، وکذا الحسین بن خالد فإنه ثقة منصوص علی وثاقته .
2- (4) وهی روایة الحسین بن خالد التی یرویها الشیخ الکلینی (قده) عن علی بن محمد ، عن محمد بن أحمد المحمودی ، عن أبیه ، عن یونس ، عن الحسین بن خالد ، عن أبی عبد الله (علیه السلام) :
3- (5) " قال : سمعته یقول : الواجب علی الإمام إذا نظر إلی رجل یزنی أو یشرب الخمر أن یقیم علیه الحدّ ولا یحتاج إلی بیّنة مع نظره لأنه أمین الله فی خلقه ، وإذا نظر إلی رجل یسرق أن یزبره وینهاه ویمضی ویدعه ، قلت : وکیف ذلک ؟ قال : لأن الحق إذا کان لله فالواجب علی الإمام إقامته وإذا کان للناس فهو للناس " .

(1) علی التفصیل بین حقّ الله فیکون علم الحاکم نافذاً فیه بلا حاجة إلی البیّنة ، وحقّ الناس فلا یکون علمه نافذاً فیه ، ومن الواضح أن هذا الاستدلال إنما یتم لو فرضنا أن الروایة تدلّ علی کلا شقّی التفصیل بمعنی أنها کما تدل علی نفوذ علم الحاکم فی حقّ الله فهی تدلّ کذلک علی عدم نفوذه فی حقّ الناس .

ولکن الذی یظهر أن الروایة وإن کانت لها دلالة علی الشقّ الأول من التفصیل المذکور (2) إلا أنها قاصرة عن الدلالة علی الشقّ الثانی (3) إذ أن فی مفادها احتمالین کلاهما لا یتکفّل بهذا المطلوب :

الأول : التفصیل بین حقّ الله وحقّ الناس من حیث المطالبة وعدمها بمعنی أنه یمکن للحاکم أن یستوفی حقّ الله تعالی بإقامة الحدّ من دون أن یتوقف ذلک علی المطالبة به من قبل أحد بخلاف حقّ الناس فإن الحکم وإقامة الحدّ فیه تتوقف علی المطالبة به من قِبَلهم فقَبْل المطالبة لیس من حقّ الحاکم أن یفعل شیئاً ، وأما نفوذ علم الحاکم فربما یکون کلا الحقّین مشترکاً فیه فإن الروایة حیث صرّحت بکونه نافذاً فی حقّ الله تعالی فأیّ مانع من کونه نافذاً کذلک فی حقّ الناس ، وهذا لو تمّ فإنه لا ینافی التفصیل المذکور الناظر إلی جهة المطالبة وعدمها .

الاحتمال الثانی : إنه بعد التنزّل والتسلیم بدلالة الروایة علی التفریق بین الموردین بلحاظ نفوذ علم الحاکم فیکون علمه نافذاً فی حقّ الله دون حقّ الناس ولکن مع ذلک فهی لا تنفع فی المقام لإثبات المقصود من الشقّ الثانی من التفصیل وهو عدم نفوذ علمه فی حقّ الناس بعد المطالبة وإقامة الدعوی إذ لا دلالة فیها علی ذلک ، ومن المعلوم أن عدم نفوذ علم الحاکم فی حقّ الناس قبل المطالبة وإقامة الدعوی لا یستلزم عدم نفوذ علمه بعدهما لیثبت المطلوب إذ من الجائز أن یکون نافذاً بعد المطالبة وحینئذ لا یثبت المطلوب .

ص: 290


1- (6) التهذیب مج10 ص44 الوسائل الباب 32 من أبواب مقدّمات الحدود الحدیث الثالث مج28 ص58 .
2- (7) أی دلالتها علی نفوذ علم الحاکم فی حقّ الله .
3- (8) أی عدم نفوذ علم الحاکم فی حقّ الناس .

ولکن بالرغم من ذلک یمکن الالتزام بالتفصیل المذکور وإن لم تنهض الروایة بإثباته بکلا شقّیه وذلک بالاستناد إلی هذه الروایة نفسها فی إثبات خصوص الشقّ الأول من التفصیل وهو نفوذ علم الحاکم فی حقّ الله بلا حاجة إلی بینة أو توقّف علی مطالبة فإن الروایة صریحة بهذا المعنی ، وأما الشقّ الثانی (1) فیمکن استفادته من جهة اقتضاء القاعدة الأولیة فی المقام (2) له فإنها تقتضی عدم نفوذ علم الحاکم فی حقّ الغیر خرج منها ما دلّ علیه الدلیل (3) من نفوذه فی حقّ الله وبقی الباقی تحتها - وهو عدم نفوذ علم الحاکم فی حقّ الناس حتی بعد المطالبة وإقامة الدعوی - فإنه حیث لم یدل علی استثنائه دلیل یکون مشمولاً للأصل .

نعم .. لم تمّ لنا دلیل من نصّ خاص أو عموم أو إطلاق فإنه یکون مُخرِجاً عن مقتضی القاعدة ولکن قد عرفت عدم تمامیة شیء ممّا ذُکر من الأدلة فتکون النتیجة حینئذ الالتزام بنفوذ علم الحاکم فی حقّ الله بمقتضی الدلیل (4) والالتزام بعدم نفوذه فی حقّ الناس بمقتضی القاعدة فیتم المطلوب وهو التفصیل المذکور ولکنْ تلفیقاً بین مقتضی الدلیل اللفظی ومقتضی الأصل العملی .

نعم .. ثمة کلام فی الدلیل الأول (5) والإجماع - سیأتی ذکره - ، ولو أمکن إثبات شیء منهما فسیؤثّران حینئذ علی النتیجة المذکورة .

ص: 291


1- (9) أی عدم نفوذ علم الحاکم فی حقّ الناس بعد المطالبة وإقامة الدعوی .
2- (10) أی باب القضاء .
3- (11) وهو الروایة المبحوث عنها روایة الحسین بن خالد - .
4- (12) وهی روایة الحسین بن خالد المتقدّمة .
5- (13) وهی الآیات القرآنیة التی تحدّثت عن الحکم بالحقّ والعدل والقسط .

هذا ما یمکن أن یقال فی دلالة هذه الروایة وما تقتضیه فی محلّ الکلام .. ولکن هناک اعتراض علی الاستدلال بها فی ما نحن فیه وحاصله : دعوی اختصاصها بالإمام المعصوم (علیه السلام) فی موردها من نفوذ علم الحاکم فی حقّ الله تعالی بلا حاجة إلی بیّنة أو توقّف علی مطالبة وعدم شمولها لکل قاضٍ کما یُدّعی ثبوته فی المقام ، والمستند فی ذلک أمران :

الأول : التعبیر بالإمام فی لفظ الروایة فی قوله (علیه السلام) : (الواجب علی الإمام) فإن المتبادَر منه هو الإمام المعصوم (علیه السلام) .

الثانی : قوله (علیه السلام) فیها : (لأنه أمین الله علی خلقه) ولا ریب أن هذا التعبیر مما یختصّ به

المعصوم (علیه السلام) (1) فالتعدّی عنه إلی مطلق القاضی مشکل .

هذا اعتراض آخر یُسجّل علی الروایة ویمنع من الاستدلال بها .. وسیأتی الکلام فیه إن شاء الله تعالی .

المسألة الثامنة / فی الاعتراض الذی أُورد علی الدلیل السابع وهو روایة الحسین بن خالد المستدل بها علی التفصیل بین حقّ الله وحقّ الناس / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) بحث الفقه

(بحث یوم الأربعاء 10 صفر الخیر 1433 ه 55)

کان الکلام فی الاعتراض الذی أُورد علی الدلیل السابع وهو روایة الحسین بن خالد حیث تمثّل بدعوی اختصاصها بالإمام المعصوم (علیه السلام) فی موردها من نفوذ علم الحاکم فی حقّ الله تعالی بلا حاجة إلی بیّنة أو توقّف علی مطالبة وعدم شمولها لکل قاضٍ کما یُدّعی ثبوته فی المقام وذکرنا أن مستنده أمران کان أحدهما أن ذاک (2) هو المتبادَر من التعبیر بالإمام فی لفظ الروایة فی قوله (علیه السلام) : (الواجب علی الإمام) ، وکان الآخر ما ورد فیها من التعبیر بقوله (علیه السلام) : (لأنه أمین الله علی خلقه) حیث یُدّعی وضوح اختصاصه بالمعصوم (علیه السلام) فلا یمکن التعدّی معه إلی مطلق الحاکم الشرعی کما هو المطلوب فی المقام .

ص: 292


1- (14) کما ورد التعبیر بذلک فی بعض الروایات الحاکیة لزیارة الأئمة (علیهم السلام) ومنها ما یُزار به أمیر المؤمنین (علیه السلام) حیث جاء فی بعضها : (السلام علیک یا أمین الله ..) .
2- (1) أی اختصاص الروایة بالإمام المعصوم (علیه السلام) وعدم شمولها لکل قاضٍ کما هو المطلوب .

هذا ما تقدّم .. وأقول :

أما بالنسبة إلی الأمر الأول فالذی یظهر من موارد استعمال لفظ (الإمام) فی الروایات عدم اختصاصه بالمعصوم (علیه السلام) حیث جُعل فی مقابل السلطان والحاکم الجائر فیکون المراد به مطلق الحاکم الشرعی الأعمّ من کونه معصوماً وغیر معصوم ویتّضح هذا بمراجعة الروایات التی تضمّنت التعبیر بهذا اللفظ وهی کثیرة :

منها : روایة الحلبی عن أبی عبد الله (علیه السلام) :

" قال : سألته عن الرجل یأخذ اللص یرفعه أو یترکه ؟ فقال : إن صفوان بن أمیة کان مضطجعاً فی المسجد الحرام فوضع رداءه وخرج یهریق الماء فوجد رداءه قد سرق حین رجع إلیه ، فقال : من ذهب بردائی ؟ فذهب یطلبه فأخذ صاحبه فرفعه إلی النبی (صلی الله علیه وآله) فقال النبی (صلی الله علیه وآله) : اقطعوا یده ، فقال صفوان : أتقطع یده من أجل ردائی یا رسول الله ؟ قال : نعم ، قال: فأنا أهبه له فقال رسول الله (صلی الله علیه وآله) : فهلّا کان هذا قبل أن ترفعه إلیّ ، قلت : فالإمام بمنزلته إذا رُفع إلیه ، قال: نعم ، قال: وسألته عن العفو قبل أن ینتهی إلی الإمام؟ فقال: حسن " (1) .

حیث لم یفهم أحد من الفقهاء (رض) اختصاص لفظ (الإمام) بالمعصوم (علیه السلام) وإنما فهموا منها مطلق الحاکم الشرعی المتولّی للأمور الذی تُرفع إلیه القضایا لیحکم فیها ویقیم الحدود علی مستحقیها .

ومنها : روایة سماعة بن مهران عن أبی عبد الله (علیه السلام) :

ص: 293


1- (2) الکافی مج7 ص251 ، الوسائل الباب السابع عشر الحدیث الثانی مج28 ص39 .

" قال : من أخذ سارقاً فعفی عنه فذاک له فإن رفع إلی الإمام قطعه فإن قال الذی سرق منه : أنا أهب له لم یدعه الإمام حتی یقطعه إذا رفع إلیه وإنما الهبة قبل أن یُرفع إلی الإمام وذلک قول الله عزّ وجل : (والحافظون لحدود الله) فإذا انتهی الحدّ إلی الإمام فلیس لأحد أن یترکه " (1) .

فإن الحدود لا تُعطّل بل هی قائمة ما بقی التکلیف فعند التمکّن منها وبسط الید علیها یقیمها الحاکم الشرعی الجامع للشرائط ومنها مورد الروایة من جواز الهبة قبل الرفع إلی الحاکم ولزوم إقامة الحدّ بعد الرفع فإنه حکم شرعی ثابت یُقیمه الحاکم الشرعی مطلقاً (2) ولا یختصّ بزمان الحضور بل هو شامل لزمان الغیبة أیضاً .

ومنها : روایة عمر بن یزید :

" قال : قلت لأبی عبد الله (علیه السلام) : ما تقول فی الاعتکاف ببغداد فی بعض مساجدها؟ فقال: لا اعتکاف إلا فی مسجد جماعة قد صلی فیه إمام عدل بصلاة جماعة .. " (3) ، وقریب منه قوله (علیه السلام) : " لا اعتکاف إلا فی مسجد تصلی فیه الجمعة بإمام وخطبة " (4) .

فإن من الواضح عدم کون المقصود بالإمام فیها خصوص المعصوم (علیه السلام) بل المراد الأعمّ منه ومن الإمام العادل .

ص: 294


1- (3) المصدر السابق .
2- (4) أی سواء کان المعصوم (علیه السلام) أو نائبه الخاص أو العام .
3- (5) الکافی مج4 ص176 ، الوسائل أبواب الاعتکاف الباب الثالث الحدیث الثامن مج10 ص540 .
4- (6) المصدر السابق الحدیث الثانی ص538 .

ومنها : روایة موسی بن بکر عن أبی الحسن (علیه السلام) قال :

" من طلب هذا الرزق من حلّه لیعود به علی نفسه وعیاله کان کالمجاهد فی سبیل الله عز وجل فإن غلب علیه فلیستدن علی الله وعلی رسوله ما یقوت به عیاله فإن مات ولم یقضه کان علی الإمام قضاؤه ، فإن لم یقضه کان علیه وزره " (1) .

ومنها : مرسل محمد بن سلیمان عن رجل من أهل الجزیرة یکنی أبا محمد قال :

" سأل الرضا (علیه السلام) رجلٌ وأنا أسمع فقال له : جعلت فداک إن الله عز وجل یقول : (وإن کان ذو عسرة فنظرة إلی میسرة) أخبرنی من هذه النظرة التی ذکرها الله عز وجل فی کتابه لها حدّ یعرف إذا صار هذا المعسر إلیه لا بد له من أن ینتظر .. إلی أن قال : نعم ینتظر بقدر ما ینتهی خبره إلی الإمام فیقضی عنه ما علیه من سهم الغارمین إذا کان أنفقه فی طاعة الله عز وجل " (2) .

ومنها : روایة حفص المؤذن قال :

" حج إسماعیل بن علی (3) بالناس سنة أربعین ومائة فسقط أبو عبد الله (علیه السلام) عن بغلته فوقف علیه إسماعیل فقال له أبو عبد الله (علیه السلام) : سِرْ فإن الإمام لا یقف " (4) .

ص: 295


1- (7) الکافی مج5 ص93 ، الوسائل الباب السادس والأربعون الحدیث الرابع مج9 ص296 وفی مواضع غیره .
2- (8) الکافی مج5 ص94 ، الوسائل الباب التاسع الحدیث الثالث مج18 ص336 .
3- (9) هو إسماعیل بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ، وهو أمیر الحاج فی سنة 138 وکان علی الموصل علی ما نقله الطبری فی تاریخه ج6 ص138 عن الواقدی ولم یذکره فی سنة 140 فی أمراء الحاج (هامش الکافی) .
4- (10) الکافی مج4 ص541 ، الوسائل أبواب آداب السفر الباب السادس والعشرون الحدیث الأول مج13 ص525 .

وهذه واضحة الدلالة علی عدم الاختصاص لإطلاقها علی غیر المعصوم (علیه السلام) وهو إسماعیل المذکور فیها .

وغیرها من الروایات بهذا المضمون کثیر فالاستناد إلی لفظ الإمام الوارد فی الروایة لإثبات دعوی الاختصاص بالمعصوم (علیه السلام) لیس فی محلّه .

وأما بالنسبة إلی الأمر الثانی وهو الاستدلال بالتعلیل الوارد فی الروایة من قوله (علیه السلام) : " لأنه أمین الله فی خلقه " علی الاختصاص بالمعصوم (علیه السلام) فلیس فی محلّه أیضاً إذ أن المراد بالأمین هو المؤتمن (1) والمقصود به فی الروایة المؤتمن علی استیفاء حقّ الله تعالی وتنفیذ أحکامه وإقامة حدوده ولا ریب أن هذا المعنی کما هو ثابت للإمام المعصوم (علیه السلام) کذلک هو ثابت لکل حاکم شرعی عادل مجتهد جامع للشرائط ثبتت له الولایة من الإمام (علیه السلام) سواء بالأدلة الخاصة أو بأدلة الحسبة فلا مانع بحسب الظاهر من تعمیم المعنی المذکور لغیر المعصوم فیکون حینئذ أمین الله فی خلقه بمعنی أنه شخص مؤتمن من قبل الله تعالی - ولو بوسائط - علی استیفاء حقوق الله الثابتة علی الناس ، ولا محذور فی ذلک بل إنه علی تقدیر ثبوت الولایة العامة له مؤتمن علی ما هو أکثر من ذلک .

وعلی هذا فیندفع الإشکال عن دلالة الروایة فیثبت بها بعد تمامیتها سنداً کما تقدّم - نفوذ علم الحاکم فی خصوص حقّ الله تعالی ولا مانع من الالتزام بهذا .

ص: 296


1- (11) فأمین الشخص هو الذی یتولّی شؤونه ویحافظ علی أمواله وممتلکاته ویستوفی حقوقه فالمقصود بذلک التعبیر هو أن الله تعالی له حقوق والإمام هو المؤتمن علیها فی خلقه وهو الذی یستوفیها منهم . (منه دامت برکاته)

ولکن هذا غیر مُجدٍ فی ما نحن فیه لأن کلامنا فی حقوق الناس والبحث فی أن علم الحاکم هل ینفذ فیها أم یحتاج إلی البیّنات والأیمان والطرق المتَّبعة فی باب القضاء والروایة المذکورة ساکتة عن هذا الأمر ، نعم .. عدم نفوذ حکمه هو مقتضی القاعدة فی باب القضاء کما ذکرنا .

یبقی الکلام فی التمییز بین حقّ الله وحقّ الناس حتی نطبّق ما دلّت علیه الروایة من نفوذ علم الحاکم فی حقّ الله تعالی وعدم نفوذ علمه فی حقّ الناس بناءً علی أنه مقتضی القاعدة أو استناداً لدعوی دلالة الروایة علیه کما ذهب إلی ذلک بعضهم - .

فأقول : لقد صرّحت الروایة بکون حدّ الزنا وحدّ شرب الخمر هما من حقوق الله وکون حدّ السرقة من حقوق الناس والذی یُفهم بدواً من المقابلة بین الحقّین فیها أن المائز بین الحدّین هو التعدّی والتجاوز علی حقوق الآخرین فمتی ما حصل ذلک کان الحدّ من حقّ الناس وإلا فهو من حقّ الله تعالی .. ولکن هذا الضابط فی التفریق بین الحقّین یواجه مشکلة وهی أن الروایات قد اختلفت ألسنتها بالنسبة إلی بعض الحدود کالسرقة - مثلاً فهذه الروایة دلّت صریحاً علی أنه من حقوق الناس ، وروایات أخری معتبرة کصحیحة الفضیل بن یسار (1) دلّت صریحاً علی أنه من حقوق الله وأنه یثبت بالإقرار مرة عند الإمام بل إن بعضهم یستفید هذا المعنی (2) من الآیة الشریفة : " والسارق والسارقة فاقطعوا أیدیهما " ، وروایات أخری (3) فصّلت فیه فجعلته قبل رفعه إلی الإمام من حقوق الناس وبعد رفعه إلیه من حقوق الله .

ص: 297


1- (12) محلّ الشاهد فیها قوله (علیه السلام) : " إذا أقرّ علی نفسه عند الإمام بسرقة قطعه ، فهذا من حقوق الله " الوسائل الباب الثانی والثلاثون الحدیث الأول مج28 ص57 .
2- (13) أی کونه من حقوق اله تعالی .
3- (14) منها روایتا الحلبی وسماعة المتقدمتین فی ضمن الشواهد علی عدم اختصاص لفظ الإمام بالمعصوم (علیه السلام) .

فهذا الاختلاف یجعلنا نتأمل فی الضابط الذی ذکرناه سابقاً فی مقام التمییز بین الحقّین (1) .. وسیأتی التعقیب علیه إن شاء الله تعالی .

المسألة الثامنة / فی تحدید ما هو الضابط فی مقام التمییز بین حقّ الله وحقّ الناس / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) بحث الفقه

(بحث یوم السبت 13 صفر الخیر 1433 ه 56)

کان الکلام فی تحدید ما هو الضابط فی مقام التمییز بین حقّ الله وحقّ الناس وذکرنا أن ألسنة الروایات قد اختلفت فی نسبة بعض الحدود کالسرقة حیث تجعلها بعض الروایات فی ضمن حقّ الله وأخری فی ضمن حقّ الناس مما جعلنا نتأمّل فی ما طرحناه مائزاً بین الحقّین من (التعدّی والتجاوز علی حقوق الآخرین) وجوداً (2) وعدماً (3) .

ویمکن أن یقال إن قضیة انتساب الحدود لیست قضیة حدّیة فلا مانع من افتراض أن بعض الحدود یتمحّض فی کونه من حقوق الله تعالی من قبیل شرب الخمر وبعضها الآخر یتمحّض فی کونه من حقوق الناس (4)

ص: 298


1- (15) وهو التعدّی والتجاوز علی حقوق الآخرین .
2- (1) فی حقّ الناس .
3- (2) فی حقّ الله تعالی .
4- (3) أقول : الظاهر أن لا أصل لهذا الشقّ لأن فرض کونه حدّاً یقتضی کون حصول مسبّبه عن عمد وحینئذ فلا بد من أن تکون فیه کلتا الجنبتین فمن جهة هو من حقّ الله تعالی لفرض التعدّی علی حقوق الآخرین وقد ضمن الله تعالی الحقوق لأهلها ما لم تکن مهدورة من قبله ومن جهة هو من حقّ الناس لفرض الاستیلاء علیها بغیر وجه حقّ فکلّما حصل التعدّی عن عمد کان لا ریب ملزوماً للإثم فیکون حینئذ من حقّ الله تعالی ثم لأجل کونه مالَ الغیر أو من مختصّاته یکون من حقّ الناس ففی المقام حقیقة شقّان : ما یتمحّض کونه من حقّ الله تعالی وما یکون مشترکاً بین الحقین فیتأتی الجواب حینئذ بأن مثل حدّ السرقة إنما اختلفت فیه ألسنة الروایات من جهة تغلیب أحد الحقّین علی الآخر .

(1) وبعض ثالث تکون فیه کلتا الجنبتین فمن جهة یکون من حقّ الله ومن جهة أخری یکون من حقّ الناس وعلی ذلک فیمکن تخریج جعل الروایات لهذا القسم من حقوق الله بکونه من باب التغلیب .

ویمکن أن یقال أیضاً إن الغرض فی جعل حدّ السرقة من حقوق الله إنما هو لإثبات الحدّ علی السارق ولو من دون مطالبة من المسروق منه ولذا دلّت بعض الروایات علی أن الحدّ یثبت بعلم القاضی ولو لم یطالب المسروق منه بإقامته علی السارق بل ولو وهبه ما سرقه فإن الحدّ حقّ الله ولا یسقط بإسقاط أحد ولکن من حیث الجانب المالی من السرقة فإن المال لا یثبت علی السارق إلا إذا أقام المسروق منه الدعوی علیه لدی القاضی فحینئذ یقضی هذا بعلمه أو بالطرق المعروفة فی باب القضاء - علی الخلاف فی نفوذ علمه فی حقّ الناس - .

الدلیل الثامن :

التمسّک بالروایات الظاهرة فی المفروغیة عن جواز أن یقضی القاضی بعلمه وأن الرجوع إلی البیّنات والأیمان إنما هو فی صورة عدم العلم فتکون دلیلاً علی جواز استناد الحاکم فی قضائه إلی علمه :

ص: 299


1- (4) ولکن هذا الجواب لا یخلو من ضعف ، والأولی أن یقال إن مرجع ذلک الاختلاف إلی التفصیل بین حال ما بعد رفع الأمر إلی الحاکم فیتمحّض فی کونه من حقّ الله ، وحال ما قبل رفعه إلیه فیتمحّض کونه من حقّ الناس فالروایات التی جعلته من حقّ الله تعالی کانت ناظرة إلی حال ما بعد الرفع والتی جعلته من حقّ الناس کانت ناظرة إلی حال ما قبل الرفع .. وبذلک یمکن حلّ إشکال الاختلاف فی ألسنة تلک الروایات .

فمنها : ما رواه الکلینی عن محمد بن یحیی عن أحمد بن محمد عن الحسین بن سعید عن النضر بن سوید عن هشام بن سالم عن سلیمان بن خالد عن أبی عبد الله (علیه السلام) :

" قال : فی کتاب علی (علیه السلام) أن نبیاً من الأنبیاء شکا إلی ربه فقال : یا ربّ کیف أقضی فی ما لم أشهد ولم أرَ ؟ قال : فأوحی الله عز وجل إلیه أن احکم بینهم بکتابی وأضفهم إلی اسمی فحلّفهم به ، وقال : هذا لمن لم تقم له بینة " (1) .

وهذه الروایة معتبرة سنداً .

ومنها : ما رواه الکلینی أیضاً عن محمد بن یحیی عن أحمد عن الحسین بن سعید عن فضالة بن أیوب عن أبان بن عثمان عمن أخبره عن أبی عبد الله (علیه السلام) :

" قال : فی کتاب علی (علیه السلام) أن نبیاً من الأنبیاء شکا إلی ربه القضاء ، فقال : کیف أقضی بما لم تر عینی ولم تسمع أذنی ؟ فقال : اقض بینهم بالبینات ، وأضفهم إلی اسمی یحلفون به " (2) .

وهذه الروایة ضعیفة سنداً بالإرسال .

والمراد ب_(أضفهم إلی اسمی) هو ألجئهم إلی اسمی ، واستعمال (أضاف) بمعنی (ألجأ) مذکور فی کتب اللغة .

ومنها : ما رواه الکلینی أیضاً عن علی بن إبراهیم عن أبیه عن بعض أصحابه عن عاصم بن حمید عن محمد بن قیس عن أبی جعفر (علیه السلام) :

ص: 300


1- (5) الکافی مج7 ص415 ، الوسائل أبواب کیفیة الحکم الباب الأول الحدیث الأول مج27 ص229 .
2- (6) المصدر السابق الحدیث الثانی .

" قال : إن نبیاً من الأنبیاء شکا إلی ربه کیف أقضی فی أمور لم أُخبَر ببیانها ؟ قال : فقال له : رُدّهم إلیّ وأضفهم إلی اسمی یحلفون به " (1) .

وهذه الروایة ضعیفة سنداً أیضاً بالإرسال .

وربما یجد المتتبّع روایات أخری غیرها بالمضمون نفسه ، والعمدة من هذه الروایات هی الروایة الأولی باعتبار تمامیتها سنداً .

وتقریب الاستدلال بها من جهة ظهور دلالتها فی أن تحیّر هذا النبی وتردّده فی کیفیة القضاء إنما هو فی صورة عدم علمه بالقضیة من جهة عدم مشاهدتها والاطّلاع علی تفاصیلها مما أوجب تحیّره فی کیفیة القضاء فیها ولذا أُخبر من الباری عزّ وجل بأن یقضی بالبیّنات والأیمان ، وأما فی صورة العلم بها وبتفاصیلها فهو لا یتحیّر لأنه یقضی فیها حینئذ بعلمه فلم یحتج إلی السؤال عن کیفیة القضاء فی هذه الحالة وإلا فلو کانت البیّنات والأیمان مما یجب القضاء به حتی فی حالة العلم لکان المناسب أن یُنبّه علی ذلک فیُفهم من ذلک إقراره عمّا استقر فی ذهنه من الفراغ عن جواز الاستناد إلی العلم حیثما وُجد ، ومن هنا تکون هذه الروایة ظاهرة فی المفروغیة عن جواز أن یقضی القاضی بعلمه .

وهذا ما یُستظهر أیضاً من باقی الروایات التی سقناها وما هو بمعناها مما یقف علیه المتتبّع فالتعبیرات وإن اختلفت إلا أن المضمون واحد .

نعم .. أقصی ما یثبت بهذه الروایة هو نفوذ علم الحاکم إذا کان مستنداً إلی الحسّ لا مطلقاً والقرینة علی ذلک قوله : (لم أشهد ولم أرَ) فإن الشهادة والرؤیة من موجبات العلم الحسّی کما هو واضح ، ولا خصوصیة لهما بحسب المتفاهم العرفی بل الأمر یشمل کل ما من شأنه أن یورث العلم من بقیة الحواس وعلی ذلک فلا یثبت بهذه الروایة نفوذ علم الحاکم إذا کان مستنداً إلی غیر الحسّ کالحدس .

ص: 301


1- (7) المصدر السابق الحدیث الثالث ص230 .

هذا بالنسبة إلی الروایة الأولی .

وأما الروایة الثانیة - وهی مرسلة أبان بن عثمان - فهی وإن کان یجری فیها تقریب الاستدلال نفسه ویُتوصّل بها إلی النتیجة نفسها إلا أن لها تتمة قد تُنافی هذه النتیجة فقد ورد فی ذیلها قوله (علیه السلام) :

" إن داود (علیه السلام) قال : یا رب أرنی الحقّ کما هو عندک حتی أقضی به ، فقال : إنک لا تطیق ذلک فألحّ علی ربه حتی فعل فجاءه رجل یستعدی علی رجل فقال : إن هذا أخذ مالی ، فأوحی الله إلی داود أن هذا المستعدی قتل أبا هذا وأخذ ماله فأمر داود بالمستعدی فقُتل وأخذ ماله فدفع إلی المُستعدَی علیه ، قال : فعجب الناس وتحدّثوا حتی بلغ داود (علیه السلام) ودخل علیه من ذلک ما کره فدعا ربّه أن یرفع ذلک ففعل ثم أوحی الله إلیه أن احکم بینهم بالبیّنات وأضفهم إلی اسمی یحلفون به " .

فقد یقال إن الذی یظهر من هذا الذیل أن الاستناد فی الحکم إلی العلم ولو کان حسیاً لم یکن مشروعاً قبل النبی داوود (علیه السلام) وإنما هو الذی ألحّ علی ربّه أن یُریَه الحقّ والواقع لیقضی به کما هو عنده (1) وهذا الأمر قد ارتفع فی زمان هذا النبی نفسه کما صرّحت به الروایة حیث طلب من ربه أن یرفعه فرفعه وأرجعه فی القضاء إلی البیّنات والأیمان فلا یمکنه بعد صدور الأمر الإلهی إلیه بالحکم بین الناس علی وفق ذلک أن یقضی بعلمه حتی لو کان عن حسّ .

إذاً فجواز الاعتماد علی العلم أمر شُرّع فی فترة معینة وارتفع فلا یمکن الالتزام بمضمون المعتبرة المتقدّمة وصدر هذه المرسلة فی مثل هذا الزمان .

ص: 302


1- (8) أی عند الله عزّ وجل .

ولکن یمکن الجواب عن ذلک بأن الذی ارتفع هو إطْلاع داوود (علیه السلام) علی الواقع والحقّ من قبل الله تعالی فحیث لا یُخبَر داوود بعد ذلک بالحقّ من جهة الوحی یکون حینئذ مضطراً إلی أن یحکم بین الناس بالوسائل المتاحة من البیّنات والأیمان وهذا لا ینافی أنه إذا علم بالحقّ فی واقعة من الوقائع استناداً إلی بعض الأمور الحسیة کالرؤیة والسمع بل حتی استناداً إلی الوحی فی بعض القضایا الخاصة - ولو من جهة اقتضاء المصلحة ذلک أن یقضی بعلمه فیها .

وهذا الجواب لا یخلو من ضعف لتعارضه مع التعلیل المستفاد للرفع من قوله : (فعَجِب الناس وتحدّثوا حتی بلغ داود (علیه السلام) ودخل علیه من ذلک ما کره فدعا ربّه أن یرفع ذلک ففعل) حیث یُستفاد منه أن طلبه رفع إطلاعه علی الحق من قبله تعالی إنما کان لحدیث الناس وتألّمه مما دخل علیه منه والذی سبّب ذلک هو حکمه بعلمه حیث لا یکون فی غالب الأحوال مقنعاً للناس وإنما المقنع لهم حکم الحاکم علی وفق البیّنات والأیمان فکیف یجوز بعد ذلک أن یقضی بعلمه ولو کان مستنداً إلی الحسّ فضلاً عمّا إذا کان مستنداً إلی الغیب .

وکیف کان فلا یؤثّر هذا الإشکال ولو تمّ فی ما استفید من دلالة المعتبرة المتقدّمة لضعف هذه الروایة بالإرسال .

وأما الروایة الثالثة - وهی مرسلة محمد بن قیس فسندها ضعیف أیضاً بالإرسال من جهة قوله : (عن بعض أصحابه) حیث لم یُصرّح باسمه لیُستبان مدی وثاقته .

اللّهم إلا أن یقال إن إبراهیم بن هاشم وإن کان یروی عن کثیرین قد یبلغ عددهم مئة وخمسین أو اکثر إلا أن معظم هؤلاء من الثقات الأجلّاء لاسیما من یُکثِر الروایة عنه مضافاً إلی ما یوحیه التعبیر عن المُرسَل عنه بقوله : (عن بعض أصحابه) من الإشارة إلی الاعتماد علیه .. فبضمّ هذا إلی ذاک قد یُطمأن بأن ذلک البعض من الأصحاب لا بد أن یکون من الثقات فإذا تمّت هذه الدعوی فالروایة تتمّ سنداً .

ص: 303

هذا من حیث السند ، وأما من جهة الدلالة فإن فُسّر قوله : (کیف أقضی فی أمور لم أُخبَر ببیانها؟)

بأن المقصود هو الاستفهام عن کیفیة القضاء فی أمور لم یَطّلع علی تفاصیلها فمفادها یکون حینئذ نفس مفاد سابقتیها ، وإن فُسّر بأن المقصود به الاستفهام عن کیفیة القضاء فی أمور لم یُخبّر من قِبَل الله تعالی بکیفیة القضاء فیها فأُجیب بأن یردّهم إلیه ویُضیفهم إلی اسمه عزّ وجل یحلفون به فالروایة تکون علی هذا أجنبیة عن محلّ الکلام من نفوذ علم القاضی فلا یصحّ الاستدلال بها فی المقام .

فتحصّل ممّا تقدّم أن العمدة هی الروایة الأولی لتمامیتها سنداً - مؤیّدةً بباقی الروایات - وهی دالة بالبیان المذکور علی نفوذ علم القاضی إذا کان مستنداً إلی الحسّ دون ما إذا کان مستنداً إلی غیره .

وحیث انتهینا من ذکر الأدلة التی سیقت فی المقام علی دعوی جواز استناد القاضی إلی علمه ومناقشتها سنداً ودلالة یبقی التطرّق إلی أهمّ ما ذُکر منها وهی أربعة : (الإجماع والآیات الآمرة بالحکم بالعدل ومعتبرة الحسین بن خالد ومعتبرة سلیمان بن خالد) (1) فإن فیها مزید کلام سیأتی التعرّض إلیه إن شاء الله تعالی .

المسألة الثامنة النظر فی الأدلة التی سیقت علی دعوی جواز استناد القاضی إلی علمه / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) بحث الفقه

(بحث یوم الأحد 14 صفر الخیر 1433 ه 57)

کنّا قد انتهینا من ذکر الأدلة التی سیقت فی المقام علی دعوی جواز استناد القاضی إلی علمه ومناقشتها سنداً ودلالة وینبغی هاهنا التطرّق إلی أهمّ ما ذُکر منها وهی أربعة : (الإجماع والآیات الآمرة بالحکم بالعدل ومعتبرة الحسین بن خالد ومعتبرة سلیمان بن خالد) (2) فأقول :

ص: 304


1- (9) وهی علی الترتیب الدلیل الخامس والأول والسابع والثامن .
2- (1) وهی علی الترتیب الدلیل الخامس والأول والسابع والثامن .

ذکرنا فی ما سبق أن ثلّة من علمائنا کالسید المرتضی فی الانتصار والشیخ الطوسی فی الخلاف (1)

(2) وابن زهرة فی الغنیة ادّعوا الإجماع صریحاً علی جواز أن یقضی القاضی بعلمه ، وهو ظاهر السرائر (3) أیضاً إلا أن بعضهم أشکل علی هذه الدعوی بمخالفة ابن الجنید قائلاً :

" کیف تستجیزون ادّعاء الإجماع من الإمامیة فی هذه المسألة وأبو علی بن الجنید یصرّح بالخلاف فیها ویذهب إلی أنه لا یجوز للحاکم أن یحکم بعلمه فی شیء من الحقوق ولا الحدود ؟ " (4) .

ثم تصدّی لدفع هذا الإشکال مجیباً :

أنه : " لا خلاف بین الإمامیة فی هذه المسألة ، وقد تقدم إجماعُهم ابنَ الجنید وتأخّر عنه (5) وإنما عوّل ابنُ الجنید فیها (6) علی ضرب من الرأی والاجتهاد وخطؤه ظاهر " .

وعقّبه بذکر الروایات التی تقدّم الاستدلّال ببعضها من قبیل قضیة الأعرابی مع النبی (صلی الله علیه وآله) (7) وقضیة شریح القاضی مع درع طلحة ثم قال مستنکراً :

ص: 305


1- (2) من المعلوم أن إجماعات الشیخ فی الخلاف فیها کلام فهی تختلف عن إجماعاته فی سائر کتبه .
2- (3) (منه دامت برکاته)
3- (4) لعل فی تعبیرهم بالظاهر إیحاءً بالتشکیک فی إفادة عبارته دعوی الإجماع . (منه دامت برکاته)
4- (5) الانتصار ص487 .
5- (6) یعنی أن مخالفة ابن الجنید مسبوقة بالإجماع وملحوقة به .
6- (7) أی فی مخالفته للإجماع .
7- (8) حیث ادّعی باطلاً علی النبی (صلی الله علیه وآله) أنه لم یُوْفِهِ حقّه فما کان من أمیر المؤمنین إلا أنْ قتله جزاءً لتکذیبه النبی (صلی الله علیه وآله) .

" فمن یروی هذه الأخبار مستحسناً لها ومعوّلاً علیها کیف یجوز أن یُشَکّ فی أنه کان یذهب إلی أن الحاکم یحکم بعلمه لولا قلة تأمّل ابن الجنید ؟! " .

وفی الحقیقة أن عمدة الإشکال والمناقشة فی دعوی الإجماع - بعد افتراض تمامیة صغراه (1) - تکمن فی تطرّق احتمال المدرکیة إلیه بمعنی أنه یُحتمَل استناده إلی أحد الوجوه المتقدّمة ، ومن المعلوم أن الإجماع المدرکی لیس بحجة إذ لیس هو إجماعاً تعبدّیاً لیمکن التعویل علیه فی مقام الکشف عن الحکم الشرعی المتمثّل برأی المعصوم (علیه السلام) .

وهذه المناقشة تارة یکون المقصود بها أن من ادُّعیَ إجماعُهم علی جواز أن یحکم القاضی بعلمه قد استندوا فی فتواهم هذه إلی الأدلة المذکورة أو إلی بعضها فکانت هی المدرک لهم فی الفتوی ، وهذا التفسیر هو الظاهر من نسبة الإجماع إلی الأصحاب ؛ وأخری یکون المقصود بها أن مدّعی الإجماع قد استند فی نسبة الإجماع إلی الأصحاب إلی هذه الأدلة بمعنی أنه اطلع علی أنهم قد ذکروا هذه الروایات فی کتبهم التی هی بنظره دالة علی جواز أن یحکم القاضی بعلمه - فنسب إلیهم القول بالجواز بناءً علی ذلک لا أنه وجد لهم فتوی تُصرّح بذلک فیکون قد استنبط رأیهم من تدوینهم لهذه الأخبار ، وهذا التفسیر هو الظاهر من کلام السید فی الانتصار فی عبارته المتقدمة (2) وهو نظیر ما أشار إلیه الشیخ فی الرسائل حین ناقش فی مصادیق بعض الإجماعات ذاکراً أن بعض المجمعین یستخدم هذه الطریقة فی مقام نسبة الإجماع إلی الأصحاب لا أنه یفحص عن کلماتهم ویراهم یُفتون صریحاً بذلک فهو یجدهم یعوّلون علی قاعدة عامة من قبیل (أحلّ الله البیع) و(ما یُضمن بصحیحه یُضمن بفاسده) - التی یرتضیها من ینسب الإجماع حتی إذا شکّ فی رأیهم فی مورد من الموارد الجزئیة نسب إلیهم القول بالصحة لمجرّد أنهم یؤمنون بتلک القاعدة وإن لم یجد تطبیقاً لها من قبلهم علی المورد فیکون هذا استنتاجاً منه بلزوم کونهم یُفتون بما تقتضیه تلک القاعدة فی المورد (3) .

ص: 306


1- (9) وهی أن موردنا أعنی مسألة جواز حکم القاضی بعلمه من مصادیق ما انعقد علیه الإجماع فعلاً .
2- (10) وهی قوله : " فمن یروی هذه الأخبار مستحسناً لها ومعوّلاً علیها کیف یجوز أن یُشَکّ فی أنه کان یذهب إلی أن الحاکم یحکم بعلمه ؟ " .
3- (11) أی الذی یشکّ - من ینسب الإجماع فی رأیهم فیه .

ومرجع الإشکال علی دعوی الإجماع بهذا التفسیر الثانی فی الحقیقة إلی إنکار تحقّق الإجماع فی المورد فإن السید المرتضی - مثلاً - لم یتتبع کلماتهم وینقلها فی أنهم یفتون بجواز أن یحکم القاضی بعلمه وإنما هو استنتج ذلک منهم لمجرد ذکرهم تلک الروایات ومثل هذا لا یُعدّ إجماعاً حقیقیاً کاشفاً عن الحکم الشرعی .

ومرجعه علی التفسیر الأول إلی الاعتراف بتحقّق الإجماع فی المورد ولکن الخدشة فیه بعدم الحجیة لکونه مدرکیاً حیث یُحتمل فیه استناد الأصحاب إلی الأدلة المطروحة فی المقام .

وهذا الاحتمال أرجح لأن الذی یظهر من کلمات المتقدمین من علمائنا أنهم یستدلّون بهذه الأدلة لاسیما روایة الأعرابی مع النبی (صلی الله علیه وآله) وروایة درع طلحة وروایة خزیمة بن ثابت (1) وأمثالها فلا یبعد أن یکون ما ذهبوا إلیه من الفتوی بنفوذ علم الحاکم مستنداً إلی هذه الأدلة فیکون إجماعاً مدرکیاً .

وعلی کل حال فالإجماع مخدوش إما بعدم تحقّقه فی المورد أصلاً وأنّ ما ادُّعی لیس من الإجماع فی شیء أو بکونه إجماعاً إلا أنه لیس بحجة لکونه مدرکیاً ، والنتیجة علی التقدیرین عدم جواز الاعتماد علی مثل الإجماع هذه .

ص: 307


1- (12) وحاصلها : " أن أعرابیاً نازع النبی (صلی الله علیه وآله) فی ناقة فقال (صلی الله علیه وآله) : (هذه لی وقد خرجت إلیک من ثمنها) فقال الأعرابی : من یشهد لک بهذا فقام خزیمة بن ثابت فقال : أنا أشهد بذلک فقال النبی (صلی الله علیه وآله) : ( من أین علمت ؟ أحضرت ابتیاعی لها ؟) فقال : لا ، ولکن علمتُ ذلک من حیث علمتُ أنک رسول الله فقال النبی (صلی الله علیه وآله) : (قد أجزتُ شهادتک وجعلتها شهادتین) فسُمّی خزیمة بذلک : (ذا الشهادتین) " الشافی فی الإمامة مج4 ص96 .

وأما الدلیل الأول (1) فقد تقدّمت المناقشة فیه من جهة أن تلک الآیات لیست فی مقام بیان جواز الحکم بالعدل أو وجوبه حتی یُتمسَّک بإطلاقها لإثبات مشروعیة الحکم وجوازه استناداً إلی علم الحاکم وإنما الذی یظهر من ألسنتها لاسیما قوله تعالی : (وإذا حکمتم بین الناس أن تحکموا بالعدل) أنها فی مقام بیان اشتراط الحکم المفروغ عن جوازه أو وجوبه بأن یکون حکماً بالحقّ والعدل لا حکماً بالباطل والجور فأصل المشروعیة إذاً أمر مفروغ منه ولیست هذه الآیات فی مقام بیانه فالتمسک بإطلاقها لإثبات مشروعیة علم الحاکم لیس بتام .

وهذا نظبر الإشکال المتقدّم فی الدلیل الرابع أعنی آیات الحدود التی یکون الخطاب فیها موجّهاً إلی من علیه إقامة الحدّ (2) من جهة أن هذه الآیات الشریفة لیست فی مقام بیان موضوع الحکم وحدوده وشرائطه وإنما قد أُخذ فیها الموضوع علی نحوٍ مفروض التحقّق والحصول وأُثبت له الحکم .

وأما معتبرة الحسین بن خالد (3) فلا إشکال فی الاستدلّال بها علی جواز أن یقضی الحاکم بعلمه ولکن بقیدین : أحدهما أن یکون علمه عن حسّ والآخر أن یکون قضاؤه فی خصوص حقّ الله تعالی لدلالتها علی ذلک وسکوتها عن حکم قضائه بعلمه فی حقّ الناس بعد المطالبة ، نعم .. هی تنهی عنه قبل المطالبة إلا أن هذا لیس محلّ الکلام وإنما محلّ الکلام کما تبیّن - فی جواز أن یقضی الحاکم بعلمه فی صورة مطالبة صاحب الحقّ وإقامته للدعوی والروایة إنما تتعرّض لخصوص صورة عدم المطالبة وتفصّل فیها بین حقّ الله فتدلّ علی الجواز وحقّ الناس فتدلّ علی عدم الجواز .

ص: 308


1- (13) وهی الآیات القرآنیة التی تأمر بأن یُحکَم بالعدل والحقّ والقسط .
2- (14) کقوله تعالی : " والسارق والسارقة فاقطعوا أیدیهما " ، وقوله تعالی : " الزانیة والزانی فاجلدوا کل واحد منهما .. " وغیرهما .
3- (15) عن أبی عبد الله (علیه السلام) : " قال : سمعته یقول : الواجب علی الإمام إذا نظر إلی رجل یزنی أو یشرب الخمر أن یقیم علیه الحدّ ولا یحتاج إلی بیّنة مع نظره لأنه أمین الله فی خلقه ، وإذا نظر إلی رجل یسرق أن یزبره وینهاه ویمضی ویدعه .. إلی آخر الروایة " .

والحاصل أن ما یمکن استفادته من هذه الروایة هو جواز أن یستند القاضی إلی علمه الحسّی فی حقّ الله تعالی .

وأما معتبرة سلیمان بن خالد (1)

(2) فإنها تدلّ علی أن تحیّر النبی المذکور إنما کان فی حال عدم الرؤیة والشهادة فتدلّ علی أنه فی حال الرؤیة والشهادة ینتفی التحیّر فی کیفیة القضاء لأنه یقضی حینئذ بعلمه فتدلّ علی أنه یجوز للقاضی أن یحکم استناداً إلی الرؤیة والشهادة وغیرهما من الأدوات التی تورث العلم الحسّی (3) ، وهذا نظیر أن یقول الشخص : (کیف أحلّ مشکلتی والحال أن لا مال عندی ولا صدیق لدیّ فأعتمد علیه) حیث یُفهم منه أن المال والصدیق الذی یُعتمد علیه مما یُحلّ به تلک المشکلة ، ومقامنا من هذا القبیل فإن قوله : (کیف أقضی فی ما لم أر ولم أشهد ؟) یدلّ علی أنه إذا رأی وشهد لا یتحیّر إذ یعتمد حینئذ علی علمه المستند إلی النظر والشهادة فیقضی وفقاً له .

وفی هذه الروایة من جهة إطلاقها وعدمه وقبولها للتقیید وعدمه احتمالات ثلاثة :

ص: 309


1- (16) وهی عن أبی عبد الله (علیه السلام) :
2- (17) " قال : فی کتاب علی (علیه السلام) أن نبیاً من الأنبیاء شکا إلی ربه فقال : یا ربّ کیف أقضی فی ما لم أشهد ولم أرَ ؟ قال : فأوحی الله عز وجل إلیه أن احکم بینهم بکتابی وأضفهم إلی اسمی فحلّفهم به ، وقال : هذا لمن لم تقم له بیّنة " .
3- (18) للقطع بعدم الخصوصیة لها وإنما ذُکرا لکونهما أبرز مصادیق ما یُورث العلم الحسّی .

الأول : أنها مطلقة وإطلاقها یقبل التقیید .

الثانی : أنها مطلقة وإطلاقها آبٍ عن التقیید .

الثالث : أنها غیر مطلقة .

أما علی الأول فنقیّد إطلاقها بالمعتبرة (1) فیکون مفادهما (2) حینئذ واحداً وهو أن الاعتماد علی العلم مشروط بشرطین :

الأول : أن یکون مستنداً إلی الحسّ .

الثانی : أن یکون فی حقّ الله تعالی .

وأما علی الاحتمال الثالث (3) فنشکّ حینئذ فی أن دائرة جواز القضاء هل هی خصوص حقّ الله تعالی أم خصوص حقّ الناس أم الأعمّ منهما فتکون الروایة حینئذ مجملة ولا یمکن الانتفاع بها فی المقام فتکون روایة الحسین بن خالد فی هذه الحالة بلا معارض فتنفرد بالدلالة علی ما ذُکر (4) .

وأما علی الاحتمال الثانی فیکون من قبیل دوران الأمر بین المطلَق والمقیِّد والمختار تقدیم المطلق فتتغیر النتیجة حینئذ بمعنی أنه لیس فی البین إلا قید واحد وهو أن یکون العلم مستنداً إلی الحسّ ولا یُخصّص بحقّ الله بل یعمّ حقّ الناس أیضاً تمسّکاً بإطلاق معتبرة سلیمان بن خالد .

وعلی هذا فالکلام یقع فی أن معتبرة سلیمان بن خالد هل لها إطلاق أم لا ؟ وهل إطلاقها لو فُرض وجوده قابل للتقیید أم لا ؟

وسیأتی الحدیث عن ذلک إن شاء الله تعالی .

ص: 310


1- (19) یعنی معتبرة الحسین بن خالد .
2- (20) یعنی معتبرة سلیمان بن خالد ومعتبرة الحسین بن خالد .
3- (21) وهو منع الإطلاق فی معتبرة سلیمان بن خالد .
4- (22) أی فی الاحتمال الأول .

المسألة الثامنة / العود إلی مسألة التمییز بین حقوق الله وحقوق الناس لبحثها بشکل أدقّ / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) بحث الفقه

(بحث یوم الثلاثاء 23 صفر الخیر 1433 ه 58)

وصل الکلام إلی البحث عن أن معتبرة سلیمان بن خالد هل لها إطلاق أم لا ؟ وعلی فرض وجود الإطلاق فهل هو قابل للتقیید أم لا ؟

وقبل الدخول فی هذا البحث ینبغی الرجوع إلی مسألة أسبق وهی مسألة التمییز بین حقوق الله وحقوق الناس لبحثها بشکل أدقّ ویبدو بعد مراجعة الروایات أن هناک ظاهراً - نحو تشویش فی هذه المسألة بالنسبة إلی بعض الروایات التی تکفّلت ببیان الحدود فمعتبرة الحسین بن خالد المتقدّمة دلّت علی أن حدّ السرقة من حقوق الناس فی حین عدّته روایة أخری - وهی صحیحة للفضیل بن یسار - من حقوق الله ورتّبت علیه آثار کونه منها فقد روی محمد بن الحسن بإسناده عن الحسن بن محبوب ، عن أبی أیوب ، عن الفضیل :

" قال : سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) یقول : من أقرّ علی نفسه عند الإمام بحق من حدود الله مرة واحدة حرّاً کان أو عبداً أو حرة کانت أو أمة فعلی الإمام أن یُقیم الحدّ علیه للذی أقرّ به (1) علی نفسه کائناً من کان إلا الزانی المحصن (2) .. ثم قال : وقال أبو عبد الله (علیه السلام) : ومن أقرّ علی نفسه عند الإمام بحقّ حدّ من حدود الله فی حقوق المسلمین فلیس علی الإمام أن یُقیم علیه الحدّ الذی أقرّ به عنده حتی یحضر صاحب الحقّ أو ولیّه فیطالبه بحقّه ، قال : فقال له بعض أصحابنا : یا أبا عبد الله فما هذه الحدود التی إذا أقرّ بها عند الإمام مرة واحدة علی نفسه أُقیم علیه الحدّ فیها ؟ (3) فقال : إذا أقرّ علی نفسه عند الإمام بسرقة قطعه فهذا من حقوق الله " (4) .

ص: 311


1- (1) أی لأجل الذی أقرّ به .
2- (2) فإن له خصوصیة من حیث إنه لا یرجمه الإمام حتی یشهد علیه أربعة شهداء فإذا شهدوا ضربه الحدّ مائة جلدة ثم رجمه کما نطقت به الروایة .
3- (3) یعنی من غیر حاجة إلی حضور صاحب الحقّ ومطالبته .
4- (4) التهذیب مج10 ص7 ، الوسائل الباب الثانی والثلاثون من مقدمات الحدود الحدیث الأول مج28 ص57 .

وهذا تصریح من الروایة بأن السرقة من حقوق الله فی حین صرّحت معتبرة الحسین بن خالد المتقدّمة أنه من حقوق الناس حیث ورد فیها : (وإذا نظر إلی رجل یسرق أن یزبره وینهاه ویمضی ویدعه (1) ، قلت : وکیف ذلک ؟ قال : لأن الحقّ إذا کان لله (2) فالواجب علی الإمام إقامته وإذا کان للناس فهو للناس (3) ) (4) .

والذی یمکن أن یقال فی المقام إنه لا إشکال بحسب الروایات أن حدَّی الزنا وشرب الخمر من حقوق الله وقد صرّحت بذلک صحیحة الفضیل ومعتبرة الحسین بن خالد المتقدمتین ویلحق بذلک حدّی اللواط والسحق وحدّ الارتداد (5) ، والذی یُفهم من کون الحدود من حقوق الله أن أسبابها عبارة عمّا لا تجاوز فیه ولا اعتداء علی الآخرین .

والمستفاد من الروایات أن حقوق الله تعالی تثبت لها أحکام ثلاثة :

الأول :

کفایة مجرد الإقرار فی إقامة الحدّ کما ورد فی صحیحة الفضیل حیث إنها تصرّح بأن ما کان من حقوق الله إذا أقرّ به الشخص مرة واحدة کان کافیاً فی إقامة الحدّ علیه .

ص: 312


1- (5) أی لا یقیم علیه الحدّ .
2- (6) کما فی الزنا وشرب الخمر .
3- (7) فجعل حدّ السرقة من حقوق الناس الذی لیس علی الإمام أن یقیمه إذا نظر إلیه او شاهده بینما تلک الروایة تجعله من حقوق الله .
4- (8) التهذیب مج10 ص44 ، والوسائل الباب الثانی والثلاثون من أبواب مقدّمات الحدود الحدیث الثالث مج28 ص58.
5- (9) للدلیل اللفظی أو لتنقیح المناط القطعی .

الثانی :

عدم ثبوت حقّ العفو عنه إلا للإمام إذا رأی المصلحة فی ذلک کما دلّت علیه صحیحة ضریس الکناسی ، وهی ما رواه محمد بن یعقوب عن عدة من أصحابنا ، عن سهل بن زیاد ، وعلی بن إبراهیم ، عن أبیه ، جمیعاً عن ابن محبوب ، عن ابن رئاب ، عن ضریس الکناسی ، عن أبی جعفر (علیه السلام) :

" قال : لا یُعفی عن الحدود التی لله دون الامام (1) فأما ما کان من حق الناس فی حدّ فلا بأس أن یُعفی عنه دون الامام (2) " (3) .

الثالث :

جواز أن یحکم القاضی فیها بعلمه من دون توقّف علی المطالبة من قبل أحدٍ کما صرّحت بذلک معتبرة الحسین بن خالد فی قوله : (الواجب علی الإمام إذا نظر إلی رجل یزنی أو یشرب الخمر أن یُقیم علیه الحدّ) اعتماداً علی علمه الحسّی المستند إلی الرؤیة والمشاهدة من دون أن یتوقف ذلک علی مطالبة أحد به .

کما أنه لا إشکال ظاهراً فی أن حدَّی القذف والقتل من حقوق الناس کما دلّت علیه صحیحة الفضیل المتقدّمة حیث ورد فیها : (وأما حقوق المسلمین فإذا أقرّ علی نفسه عند الامام بفریة لم یحدّه (4) حتی یحضر صاحب الفریة أو ولیّه ، وإذا أقرّ بقتل رجل لم یقتله (5) حتی یحضر أولیاء المقتول فیطالبوا بدم صاحبهم) .

ص: 313


1- (10) یعنی لیس لأحد غیر الإمام أن یعفو عن الحدود التی هی لله تعالی .
2- (11) أی غیر الإمام .
3- (12) الکافی مج7 ص252 ، والوسائل الباب الثامن عشر من مقدمات الحدود الحدیث الأول مج28 ص40 ، ووصفها بالصحة باعتبار الطریق الثانی وهو طریق علی بن إبراهیم .
4- (13) أی حدّ القذف .
5- (14) أی لم یُقم علیه حدّ القتل .

کما أن المستفاد من الروایات أن ما کان من حقوق المسلمین یثبت له أحکام معاکسة للأحکام الثلاثة الثابتة لحقوق الله :

فأما الحکم الأول : فلا یکفی فی إقامة الحدّ هنا (1) مجرد الإقرار ، وقد صرّحت بهذا صحیحة الفضیل المتقدّمة کما صرّحت به أیضاً صحیحة له أخری وهی ما رواه محمد بن یعقوب ، عن علی بن إبراهیم ، عن أبیه ، عن ابن محبوب ، عن أبی أیوب ، عن الفضیل بن یسار ، عن أبی عبد الله (علیه السلام) :

" قال : من أقرّ علی نفسه عند الامام بحقّ أحدّ من حقوق المسلمین فلیس علی الإمام أن یُقیم علیه الحدّ الذی أقرّ به عنده حتی یحضر صاحب حقّ الحدّ أو ولیّه ویطلبه بحقّه " (2) .

فهذا صریح فی أن ما کان من حقوق المسلمین من الحدود لا یُقام بمجرد الإقرار من دون مطالبة صاحب الحقّ .

وأما الحکم الثانی : فإن العفو ثابت فیها لغیر الإمام (3) کما صرّحت به معتبرة ضریس المتقدمة فی قوله : (فأما ما کان من حقّ الناس فی حدّ فلا بأس أن یُعفی عنه دون الامام) .

وأما الحکم الثالث : فلا یجوز للقاضی أن یستند فی إقامة ما هو من حقوق المسلمین من الحدود إلی علمه قبل مطالبة صاحب الحقّ حتی لو کان علمه علماً حسیاً مستنداً إلی النظر والمشاهدة کما دلّت علیه معتبرة الحسین بن خالد المتقدمة حیث یقول : (لأن الحقّ إذا کان لله فالواجب علی الإمام إقامته وإذا کان للناس فهو للناس) أی فلیس علی الإمام إقامته إلا إذا طالب به صاحب الحقّ .

ص: 314


1- (15) أی لما هو من حقوق المسلمین .
2- (16) التهذیب مج10 ص7 ، الوسائل الباب الثانی والثلاثون من مقدمات الحدود الحدیث الأول مج28 ص57 .
3- (17) وهو أی غیر الإمام - صاحب الحقّ فی الجملة (یعنی فی خصوص حال ما قبل الرفع إلی الإمام) .

فتحصّل ممّا تقدّم أن الأحکام الثلاثة الثابتة لحقوق الله یثبت عکسها فی حقوق الناس وهذا واضح بحسب الروایات ولا مجال للتشکیک فیه ، نعم .. یبقی حدّ السرقة ولا بد - بحسب ما یُفهم من التمییز بین حقوق الله وحقوق الناس من أن یکون من قبیل حقوق الناس لأن فیه تجاوزاً ومساساً بالآخرین إذ لا فرق فی التجاوز علی الغیر بین أن یکون علی نفسه أو عرضه أو ماله والقذف فیه تجاوز علی العرض ولذا عُدّ من حقوق الناس ، وکذا الحال فی القتل فإنه یُعدّ أیضاً منها لأن فیه تجاوزاً علی النفس فینبغی علی هذا أن تُعدّ السرقة منها لأن فیها تجاوزاً علی المال .. وبناء علی هذا فلا بد أن تُرتّب علیه الأحکام الثلاثة الثابتة لحقوق الناس (1) ، والروایات دلّت علی ترتیب الآثار الخاصة لحقوق الناس علی حدّ السرقة فمن ذلک صحیحة الحلبی وموثّقة سماعة حیث دلّتا علی ثبوت العفو فیه (2) من قبل صاحبّ الحق لکن قبل الرفع إلی الإمام وهذا من شؤون حقوق الناس لأن حقّ الله لا یثبت العفو فیه لغیر الإمام کما تقدّم :

فأما صحیحة الحلبی : فهی ما رواه الکلینی عن علی بن إبراهیم ، عن أبیه ، عن ابن أبی عمیر ، عن حماد ، عن الحلبی ، عن أبی عبد الله (علیه السلام) :

" قال ، سألته عن الرجل یأخذ اللص یرفعه أو یترکه ؟ فقال : إن صفوان بن أمیة کان مضطجعاً فی المسجد الحرام فوضع رداءه وخرج یهریق الماء فوجد رداءه قد سرق حین رجع إلیه ، فقال : من ذهب بردائی ؟ فذهب یطلبه فأخذ صاحبه (3) فرفعه إلی النبی (صلی الله علیه وآله) فقال النبی (صلی الله علیه وآله) : اقطعوا یده ، فقال صفوان : أتقطع یده من أجل ردائی یا رسول الله ؟ قال : نعم ، قال : فأنا أهبه له ، فقال رسول الله (صلی الله علیه وآله) : فهلّا کان هذا قبل أن ترفعه إلیّ ، قلت (4) : فالإمام بمنزلته إذا رُفع إلیه ؟ قال : نعم " (5) .

ص: 315


1- (18) التی هی عکس الأحکام الثلاثة الثابتة لحقوق الله .
2- (19) أی فی حدّ السرقة .
3- (20) یعنی قبض علی السارق .
4- (21) أی السائل وهو الحلبی .
5- (22) الکافی مج7 ص251 ، والوسائل الباب السابع عشر فی أبواب مقدمات الحدود الحدیث الثانی مج28 ص29 .

وأما موثقة سماعة : فهی ما رواه الکلینی أیضاً عن عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن عثمان بن عیسی ، عن سماعة بن مهران ، عن أبی عبد الله (علیه السلام) :

" قال : من أخذ سارقاً فعفا عنه فذلک له (1) ، فإذا رُفع إلی الامام قطعه (2) ، فإن قال الذی سُرق له (3) : أنا أهبه له لم یدعه [إلی] (4) الامام حتی یقطعه إذا رفعه إلیه ، وإنما الهبة قبل أن یرفعه إلی الامام ، وذلک قول الله عزّ وجل: (والحافظین لحدود الله) فإذا انتهی الحدّ إلی الامام فلیس لأحدّ أن یترکه " (5) .

فهاتان الروایتان صریحتان فی أن حدّ السرقة یترتّب علیه أثر الحدود التی هی من قبیل حقوق المسلمین وهو أن العفو یثبت فیها ولو فی الجملة .

کما أن معتبرة الحسین بن خالد دلّت علی عدم جواز إقامة الحدّ اعتماداً علی علم الحاکم الحسّی المستند إلی النظر والمشاهدة وهذا أیضاً من آثار حقوق الناس لأن حقوق الله یمکن للحاکم أن یُقیمها استناداً إلی نظره ومشاهدته کما هو الحال فی حدّ الزنا وشرب الخمر کما صرّحت به معتبرة الحسین بن خالد المتقدّمة .

ص: 316


1- (23) وهذا محل الشاهد وهو أن حدّ السرقة یثبت فیه العفو لغیر الإمام ولو فی الجملة - أی قبل رفعه إلی الإمام - .
2- (24) یعنی لا مجال بعد الرفع للعفو .
3- (25) أی للإمام .
4- (26) هکذا فی المصدر والسیاق یقتضی حذفها .
5- (27) المصدر السابق الحدیث الثالث .

نعم .. بالنسبة إلی الأثر الأول - وهو الإقرار - کان مقتضی القاعدة المتقدّمة (1) عدم کفایته فی حدّ السرقة لأنه کما تقدّم من حقوق الناس ومجرد الإقرار لا یکفی فیها إلا أنه فی هذا المورد بالخصوص دلّت صحیحة الفضیل الأولی علی أنه یکفی فیه مجرد الإقرار فعومل فیها معاملة حقوق الله حیث ورد فیها : (ومن أقرّ علی نفسه عند الإمام بحقّ حدّ من حدود الله فی حقوق المسلمین فلیس علی الإمام أن یُقیم علیه الحدّ الذی أقرّ به عنده حتی یحضر صاحب الحقّ أو ولیّه فیطالبه بحقّه ، قال : فقال له بعض أصحابنا : یا أبا عبد الله فما هذه الحدود التی إذا أقرّ بها عند الإمام مرة واحدة علی نفسه أُقیم علیه الحدّ فیها ؟ فقال : إذا أقرّ علی نفسه عند الإمام بسرقة قطعه فهذا من حقوق الله).

فهذه الروایة ظاهرة ظهوراً واضحاً بل هی نصّ علی أن حدّ السرقة من حدود الله ورتبت آثار حقوق الله علی ذلک وهو کفایة مجرد الإقرار فی إقامة هذا الحدّ .

فکیف یتمّ التوفیق فی حدّ السرقة فی هذه الروایات التی یجعله بعضها من حقوق الناس ویرتّب علیه أثرین من الآثار المترتبة علیها وهما العفو لغیر الإمام وجواز أن یحکم القاضی فیها بعلمه الحسّی فی حین یجعله بعضها الآخر من حقوق الله ویرتّب علیه أثراً من الآثار المترتبة علیها وهو کفایة مجرّد الإقرار فی إقامة الحدّ ؟

قد یقال بأن المَخْلَص هنا یکمن فی الالتزام بالتخصیص بمعنی انخرام القاعدة المتقدّمة فی خصوص حدّ السرقة بالنسبة إلی هذا الأثر ، وبعبارة أخری : أن مقتضی القاعدة فی حدّ السرقة کان فی عدم کفایة مجرّد الإقرار فی إقامة هذا الحدّ لکونه من حقوق الناس لکن دلّ الدلیل وهو صحیحة الفضیل الأولی - علی کفایته فیه فنخصّص القاعدة بمقدار ما دلّ علیه الدلیل وهذا لا یؤثّر فی الالتزام بجریان باقی الآثار فی حدّ السرقة باعتباره من حقوق الناس وقد دلّت الروایات علی ذلک (2) ، ولیس فی قبال هذه الصحیحة (3) روایة صریحة تدل علی أن حدّ السرقة لا یکفی فیه مجرّد الإقرار حتی یکون التعارض بینها وبین صحیحة الفضیل تعارضاً مستقراً فیُصار حینئذ إلی إجراء قواعد باب التعارض فی المقام ، وإنما الموجود فی قبالها مطلقات وقواعد عامة دلّت علیها بعض الروایات کروایة الفضیل الثانیة حیث ذکرت عدم کفایة الإقرار فی حقوق الناس من غیر أن تنصّ علی حدّ السرقة بالخصوص فقد ورد فیها : (ومن أقرّ علی نفسه عند الإمام بحقّ حدّ من حدود الله فی حقوق المسلمین فلیس علی الإمام أن یُقیم علیه الحدّ الذی أقرّ به عنده حتی یحضر صاحب الحق أو ولیّه فیطالبه بحقّه) وهذه قاعدة عامة لسانها عدم کفایة مجرد الإقرار بالحدّ فی إقامته إذا کان من حقوق المسلمین فیمکن تخصیص هذه القاعدة بخصوص حدّ السرقة فیقال کل حقوق المسلمین لا یکفی فیها مجرد الإقرار بالحدّ فی إقامته حتی یحضر صاحب الحقّ إلا حدّ السرقة فقد دلّ الدلیل علی أن الإقرار به یکفی فی إقامته قبل حضور صاحب الحقّ ولیس ثمة محذور فی الالتزام بانخرام القاعدة فی خصوص حدّ السرقة بالنسبة إلی هذا الأثر بمقتضی ما ورد فی الدلیل إذ لیست هی من القواعد العقلیة التی لا تقبل التخصیص .

ص: 317


1- (28) من أن مجرد الإقرار یکفی فی إقامة الحدّ إذا کان من حقوق الله ولکنه لا یکفی إذا کان من حقوق الناس .
2- (29) أی علی ترتیب الآثار الأخری لحقوق الناس علی حدّ السرقة .
3- (30) یعنی صحیحة الفضیل الأولی التی تدلّ علی أن حدّ السرقة یکفی فیه مجرد الإقرار .

هذا .. وربما یتخرّج علی ما ذُکر (1) إطلاق صحیحة الفضیل علی حدّ السرقة أنه من حقوق الله حیث لم تکتف بترتیب ما هو من آثار حقوق الله (2) علیه (3) .

والنتیجة أنه لا مانع بحسب الصناعة من التبعیض فی الآثار فی هذا الحدّ بحسب ما دلّ علیه الدلیل الخاص وبحسب ما تقتضیه القاعدة المستفادة من الأدلة .

المسألة الثامنة / فی ذکر ما تمّ من الأدلة التی استُدلّ بها علی نفوذ علم القاضی فی باب القضاء / الکلام فی أن معتبرة سلیمان بن خالد هل لها إطلاق أم لا ؟ ولو فُرض وجود إطلاق لها فهل هو قابل للتقیید أم لا ؟ / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) بحث الفقه

(بحث یوم الأربعاء 24 صفر الخیر 1433 ه 59)

کنّا قد استعرضنا الأدلة التی استُدلّ بها علی نفوذ علم القاضی فی باب القضاء وذکرنا أن ما تمّ منها سنداً ودلالة دلیلان :

أحدهما : معتبرة الحسین بن خالد (4)

(5) ، والآخر : معتبرة سلیمان بن خالد (6)

ص: 318


1- (31) أی من اعتبار أن حدّ السرقة یکفی فیه مجرّد الإقرار من دون أن یتوقّف علی مطالبة صاحب الحقّ .
2- (32) أی من کفایة مجرّد الإقرار فی ثبوت الحدّ .
3- (33) أی علی حدّ السرقة .
4- (1) وهی الدلیل السابع بالترتیب المتقدّم :
5- (2) عن الحسین بن خالد ، عن أبی عبد الله (علیه السلام) : " قال : سمعته یقول : الواجب علی الإمام إذا نظر إلی رجل یزنی أو یشرب الخمر أن یقیم علیه الحدّ ولا یحتاج إلی بیّنة مع نظره لأنه أمین الله فی خلقه ، وإذا نظر إلی رجل یسرق أن یزبره وینهاه ویمضی ویدعه ، قلت : وکیف ذلک ؟ قال : لأن الحق إذا کان لله فالواجب علی الإمام إقامته وإذا کان للناس فهو للناس " .
6- (3) وهی الدلیل الثامن بالترتیب المتقدّم :

(1) ،

أما معتبرة الحسین بن خالد فقد دلّت علی جواز أن یقضی الحاکم بعلمه ولکن بقیدین :

أحدهما : أن یکون علمه عن حسّ .

والآخر : أن یکون قضاؤه فی خصوص حقّ الله تعالی .

وأما معتبرة سلیمان بن خالد فقد دلّت علی أن تحیّر النبی المذکور إنما کان فی حال عدم الرؤیة والشهادة فتدلّ علی المفروغیة عن عدم تحیّره فی حال الرؤیة والشهادة لأنه یقضی حینئذ بعلمه ویمکن التعدّی عن موردها للقطع بعدم الخصوصیة إلی مطلق القاضی فتدلّ حینئذ علی أنه یجوز للقاضی أن یحکم استناداً إلی الرؤیة والشهادة - وغیرهما مما یورث العل_م الحسّی فإن العرف لا یُفرّق فی العلم المستند إلی الحسّ المتعارف بین النبی وغیره فلا یری خصوصیة هنا للنبی حتی یجوز له فقط أن یقضی استناداً إلی علمه الحسّی المتعارف بل یمکن التعدّی إلی غیره ولو لم یکن نبیاً ، نعم .. قد یُفرّق بینهما فی العلم المستند إلی أمور أخری لیست متعارفة ولکنه خارج عن محلّ الکلام .

هذا .. وقد ذکرنا أن فی هذه الروایة من جهة إطلاقها وعدمه وقبولها للتقیید وعدمه احتمالات ثلاثة :

الأول :

أنها مطلقة وإطلاقها یقبل التقیید .

ص: 319


1- (4) " قال : فی کتاب علی (علیه السلام) أن نبیاً من الأنبیاء شکا إلی ربه فقال : یا ربّ کیف أقضی فی ما لم أشهد ولم أرَ ؟ قال : فأوحی الله عز وجل إلیه أن احکم بینهم بکتابی وأضفهم إلی اسمی فحلّفهم به ، وقال : هذا لمن لم تقم له بینة " .

الثانی :

أنها مطلقة وإطلاقها آبٍ عن التقیید .

الثالث :

أنها غیر مطلقة .

وقد ذکرنا فی ما سبق ما یترتّب علی کل احتمال من هذه الاحتمالات الثلاثة وانتهینا إلی أن الکلام یقع فی أن معتبرة سلیمان بن خالد هل لها إطلاق أم لا ؟ ولو فُرض وجود إطلاق لها فهل هو قابل للتقیید أم لا ؟

وأقول : قد یُدّعی ترجیح الاحتمال الأول (1)

(2)

(3) ویُرتّب علیه ما تقدّم ذکره من الجمع بتقیید إطلاقها بمعتبرة الحسین بن خالد فیکون مفاد الروایتین حینئذ واحداً وهو الالتزام بنفوذ علم الحاکم فی باب القضاء ولکن مشروطاً بشرطین :

الأول :

أن یکون مستنداً إلی الحسّ .

الثانی :

أن یکون فی حقّ الله تعالی .

ص: 320


1- (5) وقد تقدّم ذکر ما یترتب علی الاحتمال الثانی والثالث :
2- (6) فأما علی الاحتمال الثانی فیکون من قبیل دوران الأمر بین المطلَق والمقیِّد والمختار تقدیم المطلق فتتغیر النتیجة حینئذ بمعنی أنه لیس فی البین إلا قید واحد وهو أن یکون العلم مستنداً إلی الحسّ ولا یُخصّص بحقّ الله بل یعمّ حقّ الناس أیضاً تمسّکاً بإطلاق معتبرة سلیمان بن خالد .
3- (7) وأما علی الاحتمال الثالث فیُشکّ حینئذ فی أن دائرة جواز القضاء هل هی خصوص حقّ الله تعالی أم خصوص حقّ الناس أم الأعمّ منهما فتکون الروایة حینئذ مجملة ولا یمکن الانتفاع بها فی المقام فتکون روایة الحسین بن خالد فی هذه الحالة بلا معارض فتنفرد بالدلالة علی ما ذُکر فی الاحتمال الأول .

وتقریب هذا الجمع هو باعتبار وضوح دلالة روایة الحسین بن خالد علی الاختصاص بالعلم الحسّی لما ورد فیها من إسناد إقامة الحدّ إلی النظر فی قوله : " الواجب علی الإمام إذا نظر إلی رجل یزنی أو یشرب الخمر أن یقیم علیه الحدّ ولا یحتاج إلی بیّنة مع نظره " ، وعلی الاختصاص بحقوق الله تعالی لما ورد فیها من إقامة الحدّ علی من صدر منه الزنا وشرب الخمر وهذان الحدّان من حقوق الله کما هو واضح - فالروایة إذاً ظاهرة فی جواز استناد الحاکم فی إقامة الحدّ الذی هو من حقوق الله تعالی إلی علمه الحسّی .

وأما معتبرة سلیمان بن خالد فهی تدلّ - بالتقریب الذی أشرنا إلیه سابقاً - علی المفروغیة من نفوذ العلم الحسّی للقاضی ولکنها مطلقة من جهة الحقّ النافذ ذلک العلم فیه فیقال إن هذا الإطلاق یُقیّد بمعتبرة الحسین بن خالد فتکون النتیجة نفوذ علم الحاکم فی خصوص حقوق الله إذا کان مستنداً إلی الحسّ .

ولکن هذا التقریب غیر صحیح لما ذکرناه سابقاً من أن معتبرة الحسین بن خالد لیس فیها دلالة علی عدم نفوذ علم القاضی فی حقوق الناس حتی تصلح لتقیید الإطلاق فی معتبرة سلیمان بن خالد وإنما تقتصر دلالتها علی نفوذ علمه فی حقوق الله فهی ساکتة عن حقوق الناس بعد المطالبة ، وما یصلح لتقیید الإطلاق إنما هو ما لو دلّت معتبرة الحسین بن خالد علی عدم نفوذ علم القاضی فی حقوق الناس فیکون مقتضی الجمع بین مفاد الإطلاق من نفوذ علم القاضی فی حقوق الله وحقوق الناس ومفاد المعتبرة من عدم نفوذ علمه فی حقوق الناس بحسب الفرض هو تقیید الإطلاق بخصوص حقوق الله وإخراج حقوق الناس من أن یکون مشمولاً له ، وأما مع کونها تدلّ علی نفوذ علم القاضی فی حقوق الله - من غیر أن تکون لها دلالة علی عدم نفوذ علمه فی حقوق الناس - فإن هذا المدلول لا ینافی مدلول معتبرة سلیمان بن خالد من الإطلاق الشامل لنفوذ علمه فی حقوق الله وحقوق الناس .. ومن هنا قد یقال بأنه لا مانع حینئذ من التمسّک بهذا الإطلاق لإثبات نفوذ علم القاضی فی حقوق الله وحقوق الناس .

ص: 321

هذا .. ولکن الصحیح أن یقال بمنع وجود إطلاق أصلاً فی معتبرة سلیمان بن خالد بتقریب أن هذه المعتبرة لیست مسوقة لبیان نفوذ علم القاضی المستند إلی الحسّ حتی نتمسّک بإطلاقها لإثبات شموله لحقوق الله وحقوق الناس وإنما هی مسوقة أساساً لبیان الوظیفة التی ینبغی العمل بها عند عدم وجود العلم کما یشهد به سؤال النبی حیث قال : (کیف أقضی بما لم أشهد ولم أرَ ؟) ، نعم .. المدلول العرفی لهذا السؤال کما تقدّم فی تقریب الاستدلال بهذه الروایة هو المفروغیة عن عدم التحیّر فی باب القضاء فی حالة وجود علم مستند إلی النظر والشهادة أو غیر ذلک من أدوات العلم الحسّی لأن القاضی یقضی حینئذ بعلمه ولا یمکن التمسّک بإطلاق هذه المفروغیة لإثبات نفوذ علم الحاکم الحسّی فی حقوق الله وحقوق الناس لأن هذا لیس مدلولاً مطابقیاً للکلام إذ الروایة کما ذکرنا - لیست مسوقة لبیان جواز الاستناد فی العلم الحسّی فی باب القضاء لیجوز التمسّک بإطلاقها بل هو مدلول التزامی عرفی لا إطلاق له .

ومن هنا ننتهی إلی أن الاحتمال الثالث (1) هو الأرجح فی النظر ومقتضاه إجمال الروایة فلا یمکن أن یُستفاد منها شمول دائرة جواز القضاء لحقوق الله وحقوق الناس أو اختصاصها بأحدهما دون الآخر وعلی ذلک فلا یمکن الانتفاع بهذه الروایة فی المقام فتکون روایة الحسین بن خالد من هذه الجهة بلا معارض فتنفرد بالدلالة علی ما ذُکر فی الاحتمال الأول من نفوذ علم القاضی المستند إلی الحسّ فی حقوق الله تعالی .

هذا ما ننتهی إلیه بعد استعراض الأدلة التی یُستدلّ بها علی نفوذ علم القاضی فی باب القضاء .

ص: 322


1- (8) وهو عدم وجود إطلاق لمعتبرة سلیمان بن خالد .

وأما ما استُدلّ به فی مقابل ذلک من عدم نفوذ علم القاضی فهی أیضاً أدلة عدیدة :

الدلیل الأول :

الروایات التی یُستفاد منها حصر القضاء بالبیّنات والأیمان ، وهذا الحصر یقتضی عدم جواز القضاء استناداً إلی العلم ، وهو (1) یتمثّل فی عدة روایات :

الروایة الأولی :

معتبرة سلیمان بن خالد المتقدّمة حیث ذُکرت هنا دلیلاً علی عدم نفوذ علم القاضی وهی کما تقدّم - ما رواه الکلینی عن محمد بن یحیی عن أحمد بن محمد عن الحسین بن سعید عن النضر بن سوید عن هشام بن سالم عن سلیمان بن خالد عن أبی عبد الله (علیه السلام) :

" قال : فی کتاب علیّ (علیه السلام) أن نبیاً من الأنبیاء شکا إلی ربه فقال : یا ربّ کیف أقضی فی ما لم أشهد ولم أرَ ؟ قال : فأوحی الله عزّ وجل إلیه أن احکم بینهم بکتابی وأضفهم إلی اسمی فحلّفهم به ، وقال : هذا لمن لم تقم له بیّنة " (2) .

وهذه الروایة کما ذکرنا - معتبرة سنداً ، والمستفاد منها حصر القضاء بالیمین والبیّنة الذی یُستفاد منه بالنتیجة عدم نفوذ علم القاضی .

وأقول : تقدّم سابقاً ذکر هذه الروایة وذکر کیفیة الاستدلال بها علی نفوذ علم القاضی فی باب القضاء وقد قلنا هناک بأنّا إنما نلتزم بدلالتها علی نفوذ علمه المستند إلی الحسّ ولا نلتزم بدلالتها علی نفوذ علمه مطلقاً وعلی ذلک فلا بأس أن یُدّعی هنا أن الحصر المُستفاد من هذه الروایة إنما هو بالنسبة إلی علمه الحدْسی بتقریب أن صدر الروایة ظاهر فی نفوذ علم القاضی المستند إلی الحسّ فی باب القضاء وذیلها یحصر القضاء بخصوص البیّنات والأیمان فیُستفاد من ذلک أن ما عدا ما ذُکر وهو علم القاضی الحدْسی - لا یکون نافذاً (3) ، ولا مجال لهذه الدعوی فی العلم الحسّی کما هو واضح (4) .. ومن هنا فلیس فی هذه الروایة دلالة علی ما ینافی ما انتهینا إلیه بعد استعراض الأدلة السابقة من نفوذ علم القاضی إذا کان مستنداً إلی الحسّ .

ص: 323


1- (9) أی هذا الدلیل .
2- (10) الکافی مج7 ص415 ، الوسائل أبواب کیفیة الحکم الباب الأول الحدیث الأول مج27 ص229 .
3- (11) أی تکون دالة حینئذ علی عدم نفوذ علم القاضی المستند إلی الحَدْس .
4- (12) وذلک لمنافاة هذه الدعوی لصدر الروایة الظاهر فی نفوذ علم القاضی المستند إلی الحسّ .

الروایة الثانیة :

ما رواه الکلینی عن علی بن إبراهیم ، عن أبیه ، ومحمد بن إسماعیل ، عن الفضل بن شاذان جمیعاً ، عن ابن أبی عمیر ، عن سعد (1) وهشام بن الحکم (2) ، عن أبی عبد الله (علیه السلام) :

" قال : قال رسول الله (صلی الله علیه وآله) : إنما أقضی بینکم بالبیّنات والأیمان وبعضکم ألحن بحجته من بعض فأیُّما رجل قطعت له من مال أخیه شیئاً (3) فإنما قطعت له به قطعة من النار " (4) .

وهذه الروایة صحیحة السند وتدلّ علی أن القضاء منحصر بخصوص البیّنات والأیمان ومقتضی ظاهرها الأولی أن هذا الحصر حصر حقیقی فتکون دالة علی عدم نفوذ ما عدا الأیمان والبینّات فی القضاء ومنه علم القاضی ولو کان مستنداً إلی الحسّ .

وسیأتی التعقیب علیها إن شاء الله تعالی .

المسألة الثامنة / فی ذکر ما تمّ من الأدلة التی استُدلّ بها علی نفوذ علم القاضی فی باب القضاء / الکلام فی أن معتبرة سلیمان بن خالد هل لها إطلاق أم لا ؟ ولو فُرض وجود إطلاق لها فهل هو قابل للتقیید أم لا ؟ / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) بحث الفقه

ص: 324


1- (13) هو سعد ابن أبی خلف .
2- (14) فی الوسائل : عن سعد عن هشام .
3- (15) یعنی استناداً إلی البیّنات والأیمان .
4- (16) الکافی مج7 ص414 ، الوسائل الباب الثانی من أبواب کیفیة القضاء الحدیث الأول مج27 ص232 .

(بحث یوم الاثنین 29 صفر الخیر 1433 ه 60)

تقدّم أن هناک فی مقابل أدلة النفوذ أدلة قد یُستدلّ بها علی عدم جواز استناد القاضی إلی علمه فی باب القضاء وعدم نفوذه فیه وکان الدلیل الأول عبارة عن الروایات الدالة علی حصر القضاء بالبیّنات والأیمان وقد مرّ ذکر روایتین منها کانت أولاهما معتبرة سلیمان بن خالد المتقدّمة وقد تمّ الکلام علیها وکانت الثانیة صحیحة هشام بن الحکم عن أبی عبد الله (علیه السلام) وقد ورد فیها قوله (صلی الله علیه وآله) : " إنما أقضی بینکم بالبیّنات والأیمان .." وهذا الحصر یدلّ علی أنه لا یقضی بینهم بغیرهما الشامل (1) للقضاء بالعلم الذی هو محلّ الکلام ، ومقتضی ظاهره (2) الأولی أنه حصر حقیقی فتکون الروایة دالة حینئذ علی عدم نفوذ ما عدا الأیمان والبینّات فی القضاء ومنه علم القاضی ولو کان مستنداً إلی الحسّ .

ولکن قد یقال بأن هذا الحصر إضافی لا حقیقی ، والظاهر بدواً فیه احتمالان :

الأول : أن یکون حصراً بالإضافة إلی الأدلة غیر العلمیة فلا یشمل العلم الذی هو محلّ الکلام .

الثانی : أن یکون حصراً بالإضافة إلی العلم الغیبی الإلهی (3) وکأنه (صلی الله علیه وآله) یقول - وفق هذا الاحتمال - أنه لا یقضی بالعلوم الغیبیة وإنما یقضی بالبیّنات والأیمان فهو نفی للعلم المستند إلی الغیب لا إلی مطلق العلم ولو کان عن حسّ .

ص: 325


1- (1) أی هذا الغیر وهو ما عدا البیّنات والأیمان - .
2- (2) أی ظاهر الحصر .
3- (3) الذی ورد فی الروایات أنه یختصّ بالإمام الحجة (عجّل الله فرجه الشریف) فبعد ظهوره الشریف هو یقضی بالواقع المستند إلی علمه الإلهی به . (منه دامت برکاته)

أما الأول فهو خلاف الظاهر لأن مقتضی إطلاق الحصر کونه حصراً حقیقیاً فهو لا یتکفّل بنفی ما عدا هذین (1) من الأدلة العلمیة وإنما ینفی غیر هذین مطلقاً سواء کان من الأدلة العلمیة أو کان من غیرها (2) .

وأما الثانی فهو لا ینافی استناد القضاء إلی العلم العادی الذی یحصل من الأسباب الطبیعیة کالرؤیة والمشاهدة لأن الروایة وفقاً له لیست فی مقام نفی نفوذ القضاء المستند إلی العلم مطلقاً وإنما هی فی مقام نفی نفوذ القضاء المستند إلی العلم الغیبی الإلهی .

إن قیل : لو تمّ ما ذُکر لکان ینبغی أن یُذکر العلم العادی إلی جنب ما ذُکر من البیّنات والأیمان .

فإنه یقال : إنه ذُکر خصوص البیّنات والأیمان لأن القضاء بهما هو الشیء المتعارف بین الناس أو هو الشیء الذی تعارف أن یقضی به (صلی الله علیه وآله) من غیر أن یعنی ذلک عدم جواز قضائه بالعلم المستند إلی الأمور العادیة فهو إذاً فی مقام نفی أن یقضی استناداً إلی العلم الغیبی ولیس فی مقام نفی نفوذ القضاء المستند إلی العلم مطلقاً ومنه العلم العادی الذی هو محلّ الکلام .

ص: 326


1- (4) أی البیّنات والأیمان .
2- (5) سیأتی منه (دامت برکاته) - فی ضمن البحث - التسلیم بکونه حصراً إضافیاً ولکن وفق الاحتمال الثانی أی من أنه بالإضافة إلی العلم الغیبی الإلهی وهو لا ینافی استناد القضاء إلی العلم العادی الذی یحصل من الأسباب الطبیعیة کالرؤیة والمشاهدة وسیقیم مؤیّدات علی إنکار کون الحصر حقیقیاً فیتبیّن أنه جوابه علی الاحتمال الأول من أن مقتضی إطلاق الحصر کونه حصراً حقیقیاً إنما کان فی مقام تفنید هذا الاحتمال لا القبول بکونه کذلک - أی حصراً حقیقیاً - .

ویمکن أن یُؤیَّد ما تقدّم (1) بأمور :

الأول :

أن الظاهر أنه لا إشکال عندهم فی أن النبی (صلی الله علیه وآله) یجوز له أن یقضی بالعلم العادی وإنما وقع البحث والکلام فی استناد غیر المعصوم من القضاة إلی علمه العادی ، ومن هنا فإن الروایة حیث تتحدّث عن قضاء النبی (صلی الله علیه وآله) ولا تتحدّث عن قضاء الحاکم غیر المعصوم فلا یمکن أن یکون الحصر فیها حقیقیاً بل هو بالنسبة إلی العلوم الغیبیة الإلهیة فکأنه (صلی الله علیه وآله) یرید أن یقول إنی لا أقضی بینکم بالعلم الغیبی الإلهی بل أقضی بینکم بالبیّنات والأیمان ولا بد من حمله علی الحصر الإضافی لأن الحمل علی الحصر الحقیقی ینافی الاتفاق بینهم علی أن النبی (صلی الله علیه وآله) یجوز له أن یقضی بعلمه العادی وإنما الخلاف کما ذکرنا - وقع فی غیر المعصوم من القضاة والحکّام .

فهذا یؤید کون الروایة فی مقام نفی القضاء بالنسبة إلی العلوم الغیبیة ولیست هی فی مقام حصر قضائه (صلی الله علیه وآله) بخصوص البیّنات والأیمان .

الثانی :

معتبرة سلیمان بن خالد المتقدّمة الدالّة علی أن الإمام المعصوم الذی هو القدر المتیقَّن من المراد بلفظ الإمام - وإن حملناه علی المعنی الأعمّ - یجوز له أن یقضی بعلمه فی بعض الموارد وهذا یمثّل قرینة علی أن الحصر فی قوله (صلی الله علیه وآله) : (إنما أقضی بینکم بالبیّنات والأیمان) هو حصر إضافی بالنسبة إلی العلوم الغیبیة .

نعم .. لو کانت الروایة تدلّ علی الحصر حقیقی بمعنی أن النبی لا یقضی بغیر الأیمان والبیّنات لدلّت علی عدم جواز القضاء بغیرهما لغیره من باب أولی فالاستدلال بها علی عدم نفوذ قضاء المعصوم المستند إلی العلم العادی یستلزم کما هو واضح عدم نفوذ قضاء غیره المستند إلی هذا العلم ولکن قد عرفت عدم دلالتها علی ذلک وأن المراد بها نفی قضائه بالنسبة إلی العلم الغیبی فلا دلالة لها علی نفی قضائه بالنسبة إلی غیره من العلوم ومنه العلم العادی الذی ثبت بالاتفاق أن النبی (صلی الله علیه وآله) کان یجوز له أن یقضی استناداً إلیه .

ص: 327


1- (6) أی من إنکار کون الحصر حقیقیاً .

الثالث :

عدم الإشکال فی أنه یجوز القضاء اعتماداً علی الإقرار مع أن الإقرار لیس بیّنة ولا یمیناً فهذا یؤید فی الجملة (1) - کون الحصر إضافیاً لا حقیقیاً .

الرابع :

أن الذی یُفهم من التعبیر الوارد فی هذه الصحیحة : (إنما أقضی بینکم بالبیّنات والأیمان) وما ورد فی ذیلها من قوله (صلی الله علیه وآله) : (فأیُّما رجل قطعت له من مال أخیه شیئاً (2) فإنما قطعت له به قطعة من النار) أن المقصود هو تأتّی احتمال عدم مطابقة القضاء للواقع بمعنی أنه لیس ثمّة ضرورة فی کون القضاء الذی یقضی به (صلی الله علیه وآله) بین الناس مطابقاً للواقع دائماً بل قد یکون مطابقاً وقد لا یکون وذلک لأن قضاءه إنما هو بالبیّنات والأیمان ومن الواضح أن شیئاً منهما لیس مأخوذاً فی حدّه المطابقة للواقع فهو إذاً لیس فی مقام بیان حصر القضاء بالبیّنات والأیمان ، ومن الواضح أیضاً أن العلم العادی یشترک مع البیّنات والأیمان فی کونه قد یطابق الواقع وقد لا یطابقه ، نعم .. علمه الغیبی الإلهی یکون دائماً مطابقاً للواقع ولکنه (صلی الله علیه وآله) لا یرید أن یقول إنه یستند فی قضائه إلی ذلک ، وهذا المعنی لا ینافی أنه (صلی الله علیه وآله) یجوز أن یقضی استناداً إلی العلم العادی الذی یشترک مع البیّنات والأیمان فی کونه تجوز فیه المطابقة للواقع وعدمها ولا مانع من الالتزام بذلک فی حقّ النبی (صلی الله علیه وآله) والأئمة (علیهم السلام) فإنه قد یحصل لهم علم عادی نتیجة أمر حسی ویتّفق أن لا یکون مطابقاً الواقع ولیس فی هذا مثلبة فی أشخاصهم المقدّسة أو فی عصمتهم حاشا لله .

ص: 328


1- (7) وإنما قلنا فی الجملة - لأنه قد یقال بأن الحصر حقیقی ولکن نرفع الید عنه بمقدار ما یدلّ علیه الدلیل فإذا دلّ الدلیل علی أن الإقرار أحد الأمور التی یمکن أن یستند إلیها القاضی فی قضائه فحینئذ نرفع الید عن هذا الحصر الحقیقی بالإضافة إلی الإقرار کما قیل بمثل ذلک فی باب الصوم عندما ورد فی الدلیل : (لا یضرّ الصائم إذا امتنع عن ثلاثة) مع أنه قد دلّت الأدلة علی أنه لا یضرّه الامتناع عن أمور أخری أیضاً فیبقی الحصر حقیقیاً بالإضافة إلی غیر ما دلّ علیه الدلیل .. قد یقال هذا ولکن لا إشکال أنه لا یخلو من تأیید علی عدم کون الحصر حقیقیاً بل هو إضافی کما ذکرنا . (منه دامت برکاته)
2- (8) یعنی استناداً إلی البیّنات والأیمان .

والحاصل أن الروایة لیس فیها دلالة علی عدم جواز قضائه بالعلم العادی حتی یُستدلّ بها علی عدم جواز قضاء غیره بالعلم العادی لتکون من أدلة عدم نفوذ القضاء استناداً إلی العلم العادی الذی هو محلّ الکلام .

هذا .. مع أنه لو سُلّمت دلالة الروایة علی الحصر الحقیقی إلا أنها لیست واضحة فی کونه حصراً بالنسبة إلی الجواز بمعنی أنها لا تدلّ علی حصر جواز قضائه (صلی الله علیه وآله) بالبیّنات والأیمان لیُفهم منها عدم جواز القضاء بغیرهما وإنما هو حصر فی مقام العمل أی أن النبی (صلی الله علیه وآله) لم یصدر منه خارجاً قضاءٌ إلا بالبیّنات والأیمان وهذا لا یعنی عدم جواز أن یقضی بغیرهما وهو العلم العادی فی محلّ الکلام فالروایة لیس فیها ظهور واضح فی عدم جواز أن یستند فی قضائه إلی هذا العلم حتی یقال إن عدم الجواز فی حقّه یستلزم عدم الجواز فی حقّ غیره فیثبت المطلوب .

قد یقال : إن الروایة علی تقدیر أن تدلّ علی عدم نفوذ علم القاضی [کما هی مسوقة لهذا الغرض] فهی إنما تدلّ علی عدم نفوذ علمه الحدسی ولیس فیها دلالة علی عدم نفوذ علمه الحسّی بتقریب أن استناد الحاکم إلی البیّنة والیمین إنما یکون مع علمه بهما عن حسّ بمعنی أنه یری البیّنة ویسمع إفادتها ویری الحالف ویسمع قسمه وحینئذ یقال بأن احتمال أن یکون العلم الحسّی بالبیّنة والیمین نافذاً مع عدم نفوذ العلم الحسّی بالواقع الذی هو محلّ الکلام هو احتمال بعید جداً بل هو خلاف الظاهر لأن العلم الحسّی بالواقع هو أقرب إلی الواقع من العلم الحسّی بالبیّنة أو الیمین الکاشفین عن الواقع .

ص: 329

وعلی ذلک فالروایة علی تقدیر أن تدلّ علی عدم نفوذ علم القاضی فهی إنما تدلّ علی عدم نفوذ علمه الحدسی لا علمه الحسّی لأن عدم نفوذ العلم الحسّی بالواقع مع نفوذ العلم الحسّی بالبیّنة احتمال بعید جداً کما ذکرنا - فإذا دلّت الروایة علی نفوذ العلم الحسّی الکاشف عن الواقع بواسطة البیّنة أو الیمین فهی تدلّ بالأولویة علی نفوذ العلم الحسّی بالواقع الکاشف عنه مباشرة .. وعلی ذلک فلو سُلمّت دلالة الروایة علی عدم نفوذ علم القاضی فلا بد من حملها علی إرادة عدم نفوذ علمه الحدسی لا الحسّی .

وحینئذ یقال إن الروایة لا تعارض ما انتهینا إلیه من نتیجة فی روایات النفوذ لأن المحصّلة النهائیة من تلک الروایات هی نفوذ علم القاضی المستند إلی الحسّ وفی حقوق الله وما یقال هنا هو عدم نفوذ العلم الحدسی للقاضی وعدم جواز الاستناد إلیه فی جمیع الموارد وهذا لا ینافی جواز الاستناد إلی العلم المستند إلی الحسّ فی موارد معیّنة .

هذا .. وللکلام بقیة ستأتی إن شاء الله تعالی .

المسألة الثامنة / أدلة عدم جواز استناد القاضی إلی علمه فی باب القضاء / الدلیل الثالث عدم المعهودیة عن النبی (صلی الله علیه وآله) أو أحد من الأئمة (علیهم السلام) القضاء بعلمهم بل قضاؤهم بالأیمان والبیّنات / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) بحث الفقه

(بحث یوم الثلاثاء 30 صفر الخیر 1433 ه 61 ، والأربعاء 1 ربیع الأول 1433 ه 62)

کان الکلام فی الروایة الثانیة وهی صحیحة هشام بن الحکم وذکرنا أنه قد یقال بأن هذه الروایة لیس فیها دلالة علی عدم نفوذ علم القاضی الحسی وإنما هی لو دلّت علی عدم نفوذ العلم فإنما تدلّ علی عدم نفوذ العلم الحدسی بتقریب أن استناد الحاکم إلی البیّنة والیمین إنما یکون مع علمه بهما عن حسّ بمعنی أنه یری البیّنة ویسمع إفادتها ویری الحالف ویسمع قسمه وحینئذ یقال بأن احتمال أن یکون العلم الحسّی بالبیّنة والیمین نافذاً مع عدم نفوذ العلم الحسّی بالواقع الذی هو محلّ الکلام هو احتمال بعید جداً بل هو خلاف الظاهر لأن العلم الحسّی بالواقع هو أقرب إلی الواقع من العلم الحسّی بالبیّنة أو الیمین الکاشفین عن الواقع .

ص: 330

وأقول : یمکن أن یُلاحظ علی هذا البیان أن ما یکون نافذاً عند قیام البیّنة وکذا الیمین - لیس هو العلم الحسی بما قامت علیه البیّنة بل هو القضاء المستند إلیها ، وبعبارة أخری أن علم القاضی الحسی بالبیّنة لیس علماً بما قامت علیه مباشرة لیکون فی عَرَضها فیکون نافذاً مثلها بل هو علم بمؤدّاها بواسطتها فالقاضی بعد سماعه البیّنة إن حصل له علم بمؤدّاها فلیس هو علماً حسیّاً به إذ هو لم یشاهد بعینه ما شاهدته البیّنة بعینها بل هو علم حصل نتیجة الرکون إلیها واستیجابها فی بعض الأحیان - وثوق القاضی بحصول مؤدّاها ومثله لا یکاد یُعدّ علماً حسیّاً بالمؤدّی علی غرار علم البیّنة به ، ومن الواضح أنه لیس فی هذا دلالة علی المطلوب من نفوذ علم القاضی إذا کان عن حسّ فإن المراد به علمه بالواقعة عن حس علماً مباشریاً لا علماً بها بواسطة استیجاب أمر آخر فإن مثل هذا العلم هو فی الحقیقة علم حدسی لا حسی .

ومع الغضّ عمّا ذُکر والتسلیم بکونه علماً حسیاً بالواقعة فإن هناک فرقاً بینه وبین علم البیّنة والیمین - باعتبارها طرقاً شرعیة معتبرة للإثبات القضائی - وهو أن ما یُقصد بالقضاء إنما هو حلّ الخصومة ورفع النزاع ومن الواضح أن الاستناد فی القضاء إلی البیّنات والأیمان یُخرج القضاء عن کونه قضیة شخصیة ترتبط بالقاضی نفسه وتعطیه نوع شفافیة وقبول لدی الأطراف فتُسرع فی إنهاء الخصومة وتُعجّل فی حلّ النزاع بصورة أکبر مما لو قضی القاضی استناداً إلی علمه الشخصی .. ومع هذا الفارق - ولو کان بمستوی الاحتمال - لا یسع القول بأن القضاء اعتماداً علی البیّنة ولو استلزمت علم القاضی بمؤدّاها ملازم لنفوذ القضاء المعتمد علی العلم الحسی الشخصی فإن هذا فارق وجدانی واضح یکفی احتماله مانعاً من الانتقال من نفوذ القضاء المعتمد علی البیّنة أو الیمین المحسوسین إلی نفوذ القضاء المستند إلی العلم الحسی .

ص: 331

وبعبارة أخری : إنه لا أولویة فی البین بل ولا مساواة بین نفوذ القضاء اعتماداً علی البیّنة أو الیمین المحسوسین ونفوذ القضاء استناداً إلی العلم الحسی فیمکن بناءً علی هذا - التفریق بینهما فی الحکم وتجویز الأول دون الثانی .

فظهر مما تقدّم أن الاستدلال بالروایة علی عدم نفوذ العلم باعتبار حصر القضاء بالبیّنات والأیمان لو تمّ فهو إنما یتمّ مطلقاً أی سواء فی العلم الحسی أو العلم الحدسی إذ لا فرق فی ما یخرج عن المحصور (1) بین العلمین فلا یکون کل منهما معتبراً .

لکن عرفت فی ما تقدّم الخدشة فی أصل الاستدلال حیث طرحنا قرائن عدیدة علی عدم کون الحصر فی الروایة الشریفة حقیقیاً وإنما هو حصر بالإضافة إلی العلم الغیبی للنبی (صلی الله علیه وآله) أی أنه یرید أن ینفی أن یکون قضاؤه مستنداً إلی علمه الغیبی المطابق للواقع حتماً وإنما یرید أن یُثبت أنه یقضی استناداً إلی علمه العادی الحاصل من الرؤیة والمشاهدة - مثلاً ، وهذا قد یُفترض فیه المخالفة للواقع (2) فیکون حاله حال البیّنات والأیمان .

الروایة الثالثة

(3) :

ما رواه الکلینی عن عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن عیسی عن الحسین بن سعید عن فضالة بن أیوب عن داود بن فرقد قال :

ص: 332


1- (1) وهو البیّنات والأیمان .
2- (2) بناءً علی أن علم المعصوم (علیه السلام) هو علم إرادی أی أن علمه (علیه السلام) بتفاصیل القضایا لیس علماً فعلیاً حاضراً علی کل حال وإنما هو مرتبط بإرادته واختیاره الاطّلاع علیها . (منه دامت برکاته)
3- (3) التی تدخل فی ضمن الدلیل الأول الذی هو عبارة عن الروایات التی یُفهم منها حصر القضاء بالبیّنات والأیمان.

" سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) یقول : إن أصحاب النبی (صلی الله علیه وآله) قالوا لسعد بن عبادة : أرأیت لو وجدت علی بطن امرأتک رجلاً ما کنت صانعاً به ؟ قال : کنت أضربه بالسیف ، قال : فخرج رسول الله (صلی الله علیه وآله) فقال : ماذا یا سعد ؟ قال سعد : قالوا : لو وجدت علی بطن امرأتک رجلا ًما کنت تصنع به ؟ فقلت : أضربه بالسیف ، فقال : یا سعد وکیف بالأربعة الشهود ؟ فقال : یا رسول الله بعد رأی عینی وعلم الله أنه قد فعل ؟ قال : إی والله بعد رأی عینک وعلم الله أنه قد فعل لأن الله عز وجل قد جعل لکل شیء حدّاً وجعل لمن تعدّی ذلک الحدّ حدّاً " (1) .

وهذه الروایة معتبرة سنداً وقد رُویت بعدة طرق ، وتقریب الاستدلال بها من جهة ظهورها فی عدم نفوذ علم الرجل وأنه لا بد من الأربعة شهود وأنه من دونها لا یمکن أن یثبت هذا الحدّ ، ویُعمّم هذا الأمر للقاضی بالأولویة فیقال بعدم جواز استناده فی القضاء إلی علمه وعدم نفوذ حکمه حینئذ .

ولکن یمکن أن یُلاحظ علی هذا البیان بأن الروایة لیست بصدد نفی الاستناد إلی العلم فی باب القضاء وإنما هی فی مقام بیان أن إقامة الحدّ هو من وظیفة الحاکم بعد الترافع وشهادة أربعة شهود ولیس من شأن الزوج ذلک (2)

ص: 333


1- (4) الکافی مج7 ص176 ، الوسائل الباب الثانی من أبواب مقدمات الحدود الحدیث الأول مج28 ص14 .
2- (5) أی أن یقیم الحدّ علی الزانی ، وطبعاً هذا لا ینافی الروایات التی تجوّز للشخص أن یُدافع عن عرضه ولو بقتل المعتدی لأن المفترض فی هذه الروایة هو علم الزوج بالحدث بعد صدوره لا فی الأثناء حیث یجوز حینئذ للشخص أن یدافع عن عرضه ولو بقتل المعتدی بناءً علی الالتزام بجواز الدفاع عن المال والعرض والنفس ولو بقتل الشخص الذی یرید انتهاک شیء من ذلک . (منه دامت برکاته)

ولذا جُعل الأربعة شهود فی هذه الروایة فی مقابل علم الزوج لا فی مقابل علم القاضی بل لم یُذکر علم القاضی فیها أصلاً حتی یُدّعی نظر الروایة إلی عدم نفوذه بل هی إن دلّت علی شیء فإنما تدلّ علی عدم الاعتبار بعلم الزوج ولا دلالة فی هذا علی عدم الاعتبار بعلم القاضی ، ومن هنا کان ذکر الأربعة شهود فی الروایة للإشارة إلی لزوم وجود قاضٍ ووجود قضیة تُرفع إلیه ولذا فلا یجب علی القاضی أن یستند فی قضائه إلی خصوص الأربعة شهود بل یمکن له الاستناد إلی طرق أخری لو توفّرت له فإن الروایة لیست بصدد البیان من هذه الجهة ویشهد لذلک عدم ذکر الإقرار فی الروایة مع أنه لا إشکال فی کونه وسیلة من وسائل إثبات الزنا ومقتضیاً لإقامة الحدّ .

فتحصّل أن الذی یُفهم من قوله (صلی الله علیه وآله) : (فأین الأربعة شهود؟) هو الکنایة عن لزوم الترافع إلی الحاکم الذی یقضی عادة فی مثل القضیة بأربعة شهود فالروایة إذاً لیست فی مقام نفی جواز استناد الحاکم إلی غیر الأربعة شهود لإثبات الزنا وإقامة الحدّ وإنما هی فی مقام نفی إقامة الحدّ من قبل الزوج فلا یُفهم منها انحصار طریق ثبوت الزنا وإقامة الحد بخصوص الأربعة شهود لیقال بأنه یثبت حینئذ بمفهوم الحصر نفی الاستناد إلی غیر ذلک ومنه علم القاضی .. ومن هنا فلا تعارض بین هذه الروایة وما دلّ علی جواز إقامة حدّ الزنا للحاکم إذا اطّلع علی الواقعة وعدم احتیاجه حینئذ إلی بیّنة أصلاً کما صرّحت بذلک معتبرة الحسین بن خالد المتقدمة .

الروایة الرابعة :

ما رواه الکلینی عن الحسین بن محمد عن معلّی عن أحمد بن محمد بن عبد الله عن أبی جمیلة عن إسماعیل بن أبی أویس عن ضمرة بن أبی ضمرة عن أبیه عن جدّه قال :

ص: 334

" قال أمیر المؤمنین (علیه السلام) : " أحکام المسلمین علی ثلاثة : شهادة عادلة ، أو یمین قاطعة أو سُنّة ماضیة من أئمة الهدی " (1) .

وتقریب الاستدلال بهذه الروایة من جهة ظهورها فی حصر أحکام المسلمین فی ثلاثة فیثبت بالمفهوم نفی الاستناد إلی ما عدا هذه الأمور الثلاثة ومن ذلک علم القاضی .

ولکنه غیر تام وذلک لتأتّی احتمال عدم کون الحصر فیها حصراً حقیقیاً لاسیما بعد ما تقدّم من أن صحیحة هشام بن الحکم المتقدّمة قد حصرت القضاء فی شیئین وهما البیّنات والأیمان وهذه الروایة تحصره فی ثلاثة فهذا یُشکّل قرینة علی عدم کون الحصر فی هذه الروایات حصراً حقیقیاً ، ومع الغضّ عن ذلک فیتأتّی احتمال اندراج علم القاضی فی الفقرة الثالثة وهی الشهادة العادلة فتدلّ حینئذ علی عکس مطلوب المستدلّ (2) ، ومع الغضّ عن ذلک وتسلیم تمامیة دلالتها فلا یمکن الاستناد إلیها لضعفها سنداً للقدح فی کثیر ممن ذُکر فی سندها أو مجهولیته .

هذه عمدة الروایات التی قد یُفهم منها الحصر بالأیمان والبینات والجواب عنها .

الدلیل الثانی (3) : ما قد یقال من أن بعض الطرق المجعولة فی باب القضاء من قبیل الإقرار والشهادة کثیراً ما یحصل العلم للحاکم بالواقع قبل تمامیتها فالإقرار بالزنا - مثلاً الذی لا یستوجب الحدّ إلا بتکرره أربع مرات وعدم کفایة الإقرار فیه مرة واحدة قد یحصل منه بحسب العادة العلم للحاکم بالواقع قبل حصول الإقرار الرابع من جهة کون هذا الذی یُقرّ هو بحکم مجیئه باختیاره وإقراره بذنبه مع عدم کونه ملزماً بذلک إنما یُعبّر فی ذلک عن صدقه الکاشف عن وقوع ما أخبر به فإذا ضممنا إلی هذا (4) إصرار الروایات علی اشترط الإقرار أربع مرات فهذا یکون کالصریح فی عدم جواز التعویل علی العلم الحاصل للحاکم قبل ذلک .

ص: 335


1- (6) الوسائل الباب الأول من أبواب کیفیة القضاء الحدیث السادس مج27 ص44 .
2- (7) حیث تدلّ حینئذ علی نفوذ علم القاضی واعتباره .
3- (8) مما یُستدلّ به علی عدم النفوذ .
4- (9) أی حصول العلم للحاکم قبل حصول الإقرار الرابع .

ومثل هذا البیان یجری فی الشهود الأربعة فی باب الزنا حیث إن الشهود عندما یکونون عدولاً فقد یحصل العلم من شهادة عادل واحد فضلاً عن اثنین أو ثلاثة منهم ومع ذلک فالروایات تصرّ علی کون الشهود أربعة فهذا الإصرار هو کالصریح فی أن العلم الذی یحصل قبل الشهادة الرابعة لا اعتبار به ولا یجوز أن یُستند إلیه فی إقامة الحدّ بل قد یقال بأنه یمکن تعمیم ذلک حتی للبیّنة التی هی عبارة عن شهادة عادلین مع أنه قد یحصل العلم بشهادة عادل واحد لکونه ثقة أو کونه خبیراً - مثلاً أو لظروف خاصة فی القضیة فالإصرار علی أن یکون هناک شاهد آخر حتی مع فرض حصول العلم قبله یکشف عن عدم الاعتبار بهذا العلم .

بسم الله الرحمن الرحیم

(بحث یوم الأربعاء 1 ربیع الأول 1433 ه 62)

استدراک :

ذکرنا فی الدلیل الأول عدة روایات ادُّعیَ أنها ظاهرة فی حصر القضاء بالبیّنة أو بالبیّنة والیمین حسب اختلاف ألسنتها وهاهنا نضیف إلیها روایة أخری ذُکرت فی کلماتهم وهی الخبر المروی من طرق العامة عن النبی (صلی الله علیه وآله) فی قضیة حول الملاعنة ورد فیها هذه العبارة : " لو کنت راجماً أحداً بغیر بیّنة لرجمتها " ونحوه أیضاً قوله : " لو کنت راجماً أحداً بغیر بینة لرجمت فلانة فقد ظهر منها الریبة فی منطقها وهیئتها ومن یدخل علیها " (1) .

حیث یظهر منه أنه (صلی الله علیه وآله) لم یکن لیرجم تلک المرأة إلا ببیّنة مع وضوح أنه کان عالماً بکونها بغیّاً فیُستفاد منه أنه (صلی الله علیه وآله) کان لا یرجم أحداً إلا ببیّنة حتی مع علمه باستحقاقه الحدّ .

ص: 336


1- (10) سنن ابن ماجة مج2 ص856 .

ولکن یُشکل علی الاستدلال بهذا الحدیث - مضافاً إلی عدم اعتباره سنداً تطرّق احتمال أن العلم الحاصل عند النبی (صلی الله علیه وآله) بکون المرأة بغیّاً هو علم غیبی إلهی فکأنه (صلی الله علیه وآله) یرید أن یقول إنی لو کنت أرجم أحداً اعتماداً علی العلم الغیبی الإلهی لرجمت هذه المرأة لکنی لا أرجم إلا اعتماداً علی الموازین القضائیة من البیّنة وأمثالها وهذا غیر ما هو المطلوب من هذه الأدلة من إرادة نفی اعتبار العلم الحاصل من الأسباب العادیة .

هذا فی ما یتعلّق بالدلیل الأول .

وأما بالنسبة إلی الدلیل الثانی المذکور - الذی مفاده أن بعض الطرق المجعولة فی باب القضاء من قبیل الإقرار والشهادة کثیراً ما یحصل العلم بالواقع للحاکم قبل تمامیتها فیُفهم من الإصرار علی إکمال العدد (1) وعدم الاکتفاء بالعلم الحاصل قبل ذلک عدمُ جواز التعویل علی مثل هذا العلم - فقد یُشکل علیه بأن هذه النتیجة أعنی عدم جواز التعویل علی العلم فی باب إقامة حدّ الزنا حتی یکمل العدد المعتبر کما هو صریح الروایة لاسیما فی حدّ الله تنافی ما تدلّ علیه معتبرة الحسّین بن خالد المتقدّمة من جواز إقامة الحدّ فی باب الزنا استناداً إلی العلم حیث ورد فیها أن : " الواجب علی الإمام إذا نظر إلی رجل یزنی أو یشرب الخمر أن یقیم علیه الحدّ ولا یحتاج إلی بیّنة " فإن المراد من النظر والشهادة العلم .

ولکن یمکن الجواب عنه بالتفریق بین ما تدلّ روایة الحسّین بن خالد علی اعتباره من العلم فی إقامة الحدّ وما یدلّ هذا الدلیل علی عدم اعتباره وعدم جواز التعویل علیه .. بیان ذلک :

ص: 337


1- (11) أی وصول عدد الإقرارات والشهادات إلی أربعة .

أنّه قد تقدّم منّا أن العلم الذی تدلّ روایة الحسّین بن خالد علی اعتباره وجواز إقامة حدّ الزنا اعتماداً علیه هو العلم الحسّی المستند إلی النظر والمشاهدة وهو علم بالواقع مباشرة فی حین أن العلم الذی یحصل من الإقرار أو شهادة الشهود لیس علماً بالواقع مباشرة وإنما هو علم بالواقع بتوسّط إقرار المقرّ أو شهادة الشهود فلیس هو علماً حسّیاً مباشریاً بل هو أشبه بالعلم الحدسی إذ لم یطّلع الحاکم به علی الواقع کاطّلاع المقرّ أو البیّنة علیه .

وبهذا التفریق بین العلمین یرتفع التعارض بین الدلیلین .

نعم .. قد یورد علی هذا الدلیل بأنه أخصّ من المدعی لأن اشتراط وصول عدد الإقرارات والشهود إلی أربعة مختصّ بحدّ الزنا ولم یثبت فی غیره من الحدود فضلاً عمّا هو محلّ الکلام من باب المرافعات والقضاء ففی حدّ الزنا حیث تصرّ الروایات علی عدم ثبوته إلا بالإقرار أربع مرّات مع وضوح أنه کثیراً ما یحصل العلم نتیجة الإقرار مرة واحدة أو مرتین یکون المفهوم منه عدم جواز التعویل علی العلم الحاصل نتیجة الإقرار .. ولکن هذا فی خصوص حدّ الزنا ، وأما فی غیره من الأقضیة والمرافعات حیث لا یُکتفی إلا بشهادة العدلین وهی البیّنة - فلا نستطیع القول هنا أنه کثیراً ما یحصل العلم نتیجة شهادة شاهد واحد ، وعلی ذلک فیمکن أن تُحمل الأدلة الدالة علی اشتراط التعدد فی الشهود علی أنها غیر ناظرة إلی حالة حصول العلم بشهادة الشاهد الواحد حتی تنفی اعتباره ، ویکونُ المفهوم من إصرارها علی اشتراط انضمام الشاهد الثانی هو عدم جواز التعویل علی شهادة الشاهد الواحد لا علی عدم اعتبار العلم الحاصل منه لو فُرض تحقّقه - .

ص: 338

فالنتیجة أن هذا الدلیل لو کان منتجاً لعدم جواز التعویل علی العلم فهو إنما یُنتج ذلک فی خصوص باب الزنا لا فی جمیع الموارد لاسیما محلّ الکلام الذی هو باب المرافعات .

مع أنک قد عرفت أن ما ینفی جواز التعویل علیه من العلم إنما هو العلم الحدسی الحاصل من الإقرار أو الشهادة لا ما هو المطلوب من العلم الحسّی .

الدلیل الثالث

(1) :

ما یقال من أنه لم یُعهد عن النبی (صلی الله علیه وآله) أو أحد من الأئمة (علیهم السلام) أنهم کانوا یقضون بعلمهم وإنما کانوا یقضون بالأیمان والبیّنات کما یُؤید هذا بعض ما تقدّم من الأحادیث ولو کان القضاء بالعلم جائزاً لفعلوه ولو نادراً مع أنه لم یُنقل ذلک عنهم (علیهم السلام)

وفی هذا دلالة علی عدم جواز التعویل علی العلم وعدم نفوذ القضاء الناشئ منه .

ولکن هذا الکلام ضعیف فإن ما هو مسلّم ومتّفق علیه أن النبی (صلی الله علیه وآله) وکذا أئمة الهدی (علیهم السلام) لم یکن یقضون بعلمهم الغیبی الإلهی الذی هو مطابق للواقع جزماً وهذا لا یعنی إطلاقاً أنهم کانوا لا یستندون إلی العلم العادی الذی یحصل من أسباب معینة التی لو حصلت لغیرهم لحصل له العلم بالواقع أیضاً ولعل فی بعض الروایات ما یشیر إلی هذا المعنی (2) ،

وأما ما ورد فی هذا الدلیل من أنه لم یُنقل عنهم (علیهم السلام) ما یُشیر إلی استنادهم إلی العلم العادی فی قضائهم فیمکن أن یُجاب علیه بناءً علی اختیار أن علم المعصوم (علیه السلام) إرادی لا فعلی بأن عدم قضائهم (علیهم السلام) استناداً إلی العلم لیس فیه دلالة علی عدم جواز التعویل علیه لو حصل - اتفاقاً أو بإرادة - وإنما هو من جهة عدم علمهم الفعلی بتفاصیل القضایا وجزئیاتها وإن کانوا لو أرادوا أن یعلموا بها لعلموا فی ما إذا اقتضت المصلحة ذلک ولذا هم یقضون بالبیّنات والأیمان .

ص: 339


1- (12) مما یُستدلّ به علی عدم جواز التعویل علی العلم .
2- (13) أی أنهم کانوا یقضون بعلمهم العادی .

ولکن هذا الجواب - کما علمت - مبنی علی اختیار أن علم المعصوم (علیه السلام) إرادی ولیس علماً فعلیاً .

المسألة الثامنة / أدلة عدم جواز استناد القاضی إلی علمه فی باب القضاء / الدلیل الرابع : الغالب حصول العلم من خبر العادل الواحد أو من القرائن التی تحتفّ بالواقعة أو من خبر الثقة / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) بحث الفقه

(بحث یوم السبت 4 ربیع الأول 1433 ه 63)

الدلیل الرابع : ما یُدّعی من أن الغالب حصول العلم من خبر العادل الواحد أو من القرائن التی تحتفّ بالواقعة أو من خبر الثقة - وإن لم یکن عادلاً فالإصرار علی عدم الاکتفاء بذلک ولزوم تحقق البیّنة التی هی شهادة عدلین یدل علی عدم التعویل علی العلم الحاصل قبل تحقّقها .

وهذا الدلیل فی الحقیقة نظیر الدلیل الثانی المتقدّم ولکن هناک طُبّق علی باب الإقرار والشهادة أربعاً وهنا یُطبّق علی البیّنة نفسها .

ویرد علیه ما تقدّم من أن هذا إن تمّ فإنما یدلّ علی اعتبار العلم الحدسی الناشئ مما أُشیر إلیه (1) ولا یدلّ علی عدم اعتبار العلم الحسّی بالواقع نفسه مباشرة فلا یکون منافیاً لما دلّ علی اعتباره (2) وجواز أن یحکم القاضی استناداً إلیه .

علی أنه یمکن منع دعوی أغلبیة حصول العلم من المناشئ المذکورة .. وعلی ذلک فیمکن أن یقال بإمکان حمل الأدلة الدالة علی اشتراط التعدد فی الشهود علی أنها غیر ناظرة إلی حالة حصول العلم بشهادة الشاهد الواحد حتی تنفی اعتباره ، ویکونُ المفهوم من إصرارها علی اشتراط انضمام شاهد آخر هو عدم جواز التعویل علی شهادة الشاهد الواحد لا علی عدم اعتبار العلم الحاصل منه لو فُرض تحقّقه - .

ص: 340


1- (1) أی من خبر الواحد عادلاً کان أو ثقة أو من القرائن التی تحتفّ بالواقعة .
2- (2) أی العلم الحسّی .

نعم .. لو فرضنا أن حصول العلم من تلک المناشئ غالبی - کما ادُّعی ذلک فی باب الزنا فی الإقرار والشهادة - فعدم الاکتفاء به هنا والإصرار علی لزوم اکتمال البیّنة یعنی عدم الاعتبار به فلا یمکن توجیه الأدلة حینئذ علی عدم حصول العلم لأنه خلاف فرض کون حصوله غالبیاً ولکن حیث لا واقع لهذه الغالبیة فیمکن تنزیل الأدلة التی تصرّ علی اشتراط انضمام شاهد آخر علی عدم حصول العلم أصلاً لا علی عدم اعتباره .

الدلیل الخامس : ما یُلاحظ من أن الشارع المقدّس اهتمّ - بحسب ما وصل إلینا من الروایات بطرق الإثبات فی باب القضاء ووضّحها وبیّن شروطها وأحکامها وکیفیة تحققها کما هو الملاحظ فی باب البیّنة وباب الیمین حیث ورد الکثیر من الروایات التی تبیّن ما یتعلّق بهما من الشروط والأحکام فی حین أن العلم لو کان مثلهما من طرق الإثبات لکان المناسب - بل لعله المتعین - أن یرد ولو دلیل واحد علی الأقلّ یُتعرّض فیه إلی ذلک فیکشف عدم الورود عن عدم کونه من تلک الطرق فیدلّ بالتالی علی عدم نفوذ علم القاضی فی باب القضاء .

ولکن هذا الدلیل فی الحقیقة لا یتمّ فی المدّعی أعنی العلم الحسّی وذلک باعتبار ارتکازیة الاعتماد علیه فی أذهان العقلاء والمتشرعة وقیام سیرتهم العملیة علی الاستناد إلیه فبضمیمة عدم الردع عن هذه السیرة من جهة الشرع وتعویل الشارع المقدّس علی هذا الارتکاز المتشرّعی والعقلائی فی ترک بیان الاعتماد علیه إثباتاً یُثبت کونه مُمضیً شرعاً فلا یحتاج حینئذ إلی ورود دلیل علی اعتباره بالخصوص ، ومثل هذه الارتکازیة والسیرة الجاریة غیر متوفّرة فی العلم الحدسی فیتأتّی حینئذ أن یقال بشأنه إنه لو کان العلم الحدسی للقاضی معتبراً لکان المناسب أن یُشار إلی اعتباره ونفوذه ولو فی بعض الروایات مع أنه لم ترد روایة واحدة - علی الأقلّ تشیر إلی هذا المعنی فیکون ذلک مؤشّراً علی أن العلم الحدسی لیس من طرق الإثبات القضائیة فالدلیل المتقدّم إن تمّ فإنما یتم فی غیر ما هو المطلوب من العلم الحسّی .

ص: 341

هذا تمام ما یُستدلّ به علی عدم النفوذ وقد تقدّم ما یُستدلّ بها علی النفوذ فنصل بعد استعراض أدلة الدعویین إلی ما یُستحصل من النتیجة بشأنهما وهی تتلخّص فی أمرین (1) :

الأول :

إن ما تم من أدلة النفوذ - علی ما تقدّم سابقاً - هو معتبرة الحسّین بن خالد ومعتبرة سلیمان بن خالد - هذا مع افتراض أن الآیات الشریفة التی تأمر بالحکم بالقسط والعدل والحق (2) وکذلک الآیات التی تبیّن حدّ الزانی والسارق (3) غیر تامة کما تقدّمت الإشارة إلی ذلک :

فأما معتبرة الحسّین بن خالد فلا إشکال فی أنها تدلّ علی نفوذ علم الحاکم الحسّی فی حقوق الله بقرینة ما ورد فیها من قوله (علیه السلام) : (نظر إلی رجل یزنی ..) (4) ، ولیس فیها دلالة علی نفوذ علم القاضی فی حقوق الناس بل هی ساکتة عن ذلک بالبیان الذی تقدّم سابقاً کما أنه لا یمکن التعدّی عن موردها وهو العلم الحسّی إلی غیره (5) .

وأما معتبرة سلیمان بن خالد فقد تقدّم أن ظاهرها المفروغیة عن جواز القضاء بالرؤیة والمشاهدة عند حصولهما وقد تقدّم سابقاً أنه لا خصوصیة لهما وإنما ذُکرا باعتبار أنهما یمثّلان الحسّ الموجب لحصول العلم فتکون هذه الروایة ظاهرة فی اعتبار العلم الحسّی وجواز التعویل علیه وأن البیّنة والیمین إنما یُلتجأ إلیهما فی حال عدم حصول هذا العلم .

ص: 342


1- (3) سیتبیّن أن الأول منهما یتضمّن استدراکاً مؤثّراً فی ما یُتوصّل إلیه من النتیجة .
2- (4) وهی الدلیل الأول من أدلة النفوذ .
3- (5) وهی الدلیل الرابع من أدلة النفوذ .
4- (6) فالنظر إشارة إلی العلم الحسّی والزنا إشارة إلی حقّ الله تعالی من إقامة الحدّ علی مرتکبه .
5- (7) وهو العلم الحدسی .

هذا .. وقد تقدّم أن القدر المتیقَّن من هذه الروایة هو حقوق الله حیث منعنا الإطلاق فیها علی نحو تکون شاملة لحقوق الله وحقوق الناس بتقریب أن الروایة لیست فی مقام البیان من هذه الجهة وإنما هی سؤالاً وجواباً فی مقام بیان کیفیة الحکم عند عدم حصول العلم ، وأما جواز الاعتماد علی العلم الحسّی عند حصوله فهو شیء قد أُخذ مفروغاً عنه فیها فهی لیست فی صدد بیانه فلا یمکن التمسّک بإطلاقها من هذه الجهة ولأجل هذا قلنا إن مفاد المعتبرتین واحد فی اعتبار العلم الحسّی فی حقوق الله لأنه هو القدر المتیقَّن من مفاد معتبرة سلیمان بن خالد بعد منع وجود إطلاق لها .

ولکن الصحیح أن یقال إن الإطلاق وإن کان ممنوعاً - بالبیان المتقدّم إلا أن القدر المتیقَّن من موردها هو حقوق الناس لا حقوق الله (1) لقیام القرینة علیها وهی التعبیر بالقضاء الذی هو ظاهر فیها دون إقامة الحدود فإنه لا یُستعمل فی شأنها هذا اللفظ فالروایة ظاهرة فی جواز أن یستند القاضی إلی علمه الحسّی بمقتضی التعبیر بالرؤیة والمشاهدة وذلک فی حقوق الناس بمقتضی التعبیر بالقضاء .

ص: 343


1- (8) أقول بیاناً لذلک : إنه لا یخفی أن الروایة حیث دلّت علی اعتبار العلم الحسّی من جهة أخذه مفروغاً منه وإنما کانت بصدد السؤال عن کیفیة القضاء فی حال غیاب هذا العلم وقد مُنع أن یکون لها إطلاق بحیث تکون شاملة لحقوق الله وحقوق الناس فلا بد من أن یکون لها مورد ینفذ فیه ذلک العلم المعتبر ومع عدم قیام القرینة علی کون موردها هو حقوق الله أو حقوق الناس بالخصوص یکون المصیر إلی اختیار حقوق الله مورداً لها لأنه الأخفّ مؤونة إذ لا یستلزم وجود مرافعة ولا توقُّف إنفاذ الحدّ علی إذن أحد ولکن بعد التنبّه إلی وجود قرینة علی أحدهما بالخصوص فلا بد من المصیر إلیه من هذه الجهة والقرینة هاهنا هی التعبیر بالقضاء فإنه إنما یناسب حقوق الناس ولا یناسب حقوق الله إذ لا یُعبّر عن إقامة الحدود بالقضاء .

فالنتیجة أن مقتضی الجمع بین معتبرة الحسّین بن خالد الواردة فی حقوق الله (1) ومعتبرة سلیمان بن خالد الواردة فی حقوق الناس هو الالتزام باعتبار العلم الحسّی مطلقاً (2) .

الثانی :

إن ما سیق من أدلة عدم النفوذ لم تتمّ دلالة شیء منه علی ذلک کما هو ظاهر بالمراجعة .

فتحصّل من جمیع ما تقدّم أن النتیجة التی نصل إلیها هی التفصیل بین شقّی العلم فأما الحسّی منه فهو نافذ ومعتبر ویجوز الاستناد إلیه مطلقاً أی فی حقوق الله وفی حقوق الناس - ، وأما الحدسی فهو غیر نافذ ولا یجوز الاستناد إلیه مطلقاً .

هذا تمام الکلام فی هذه المسألة (3) .

المسألة الثامنة / أدلة عدم جواز استناد القاضی إلی علمه فی باب القضاء / تنبیهات تتعلّق بالبحث السابق / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) بحث الفقه

(بحث یوم الأحد 5 ربیع الأول 1433 ه 64)

تنبیهات تتعلّق بالبحث السابق :

التنبیه الأول : تقدّم أن مفاد الدلیل الثانی من أدلة عدم النفوذ هو التمسّک بأن إصرار الروایات علی اعتبار کون الإقرار أربع مرات بالرغم من فرض حصول العلم قبل ذلک فیه دلالة علی عدم اعتبار العلم ، ومبنی هذا الاستدلال - کما هو واضح - علی أنه فی حدّ الزنا لا یُقبل الإقرار إلا أربع مرات ولکن ورد فی معتبرة للفضیل بن یسار (4) کفایة الإقرار فی حدّ الزنا مرة واحدة فلو بنینا علی هذا المضمون فلا یکون هذا الدلیل فی مورد الإقرار حینئذ تاماً کما لا یخفی .

ص: 344


1- (9) أی فی إقامة الحدود .
2- (10) أی فی حقوق الله وفی حقوق الناس .
3- (11) وهی المسألة الثامنة .
4- (1) عن الفضیل بن یسار : " قال : سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) یقول : من أقرّ علی نفسه عند الإمام بحقّ من حدود الله مرة واحدة حرّاً کان أو عبداً أو حرّة کانت أو أمة فعلی الإمام أن یقیم الحدّ علیه للذی أقرّ به علی نفسه کائناً من کان إلا الزانی المحصن " الوسائل مقدمات الحدود الباب الثانی والثلاثون الحدیث الأول مج28 ص58 .

ولکن هذه الروایة بالرغم من اعتبارها سنداً إلا أن الأصحاب لم یعملوا بها وقد حُملت عندهم علی التقیة وذلک باعتبار أنها تتضمّن أموراً لا یلتزمون بها کقبول إقرار العبد مع أن بناءهم علی عدم مضیّ إقراره وکعدم تحقّق حدّ الرجم فی شأن الزانی المحصن بالإقرار ولو کان أربع مرات بل لا بد من شهادة أربعة شهود مع أنهم یبنون علی تحققّه بالإقرار أربع مرات .. ولأجل ذلک حملوا الروایة علی التقیة ولم یعملوا بها ، ومن هنا لا یکون وجود هذه الروایة مؤثّراً فی الحکم الواضح والمسلّم عندهم من اعتبار أن یکون الإقرار أربع مرات فی إقامة حدّ الزنا فلا ینهدم ما بُنی فی الدلیل الثانی من هذه الجهة .

التنبیه الثانی : تقدّم أن المحصّلة النهائیة بعد استعراض أدلة النفوذ وما یقابلها من أدلة عدم النفوذ هی التفصیل بین العلم الحسّی والعلم الحدسی فی حقّ الله وحقّ الناس فالأول یثبت مطلقاً فی الحقّین والثانی لا یثبت مطلقاً فیهما ، وکان مستند هذا التفصیل ما استُفید من قوله (علیه السلام) فی معتبرة الحسّین بن خالد : (الواجب علی الإمام إذا نظر إلی رجل یزنی أو یشرب الخمر أن یقیم علیه الحدّ ولا یحتاج إلی بیّنة) ، وقوله (علیه السلام) فی معتبرة سلیمان بن خالد : (کیف أقضی فی ما لم أر ولم أشاهد) (1)

(2) ، ولا ریب أن المستفاد من هذه الأخیرة جواز استناد القاضی إلی الرؤیة والمشاهدة فی القضاء لأنها کما تقدّم تفترض المفروغیة من ذلک وإنما کان الاستفهام فیها عن کیفیة القضاء فی حال فقدانهما ، ومن الواضح أن المتفاهم العرفی أن لا خصوصیة للرؤیة والمشاهدة وإنما سیقا من باب المثالیة لما یوجب العلم الحسّی فحالهما حال سائر أدوات تحصیل هذا العلم کالسمع واللمس وسواهما وعلی ذلک فلا إشکال فی إمکان التعدّی عنهما إلی غیرهما من تلک الأدوات فإن المناط فی الحقیقة هو العلم الحسّی بالواقعة وهو حاصل بهما ، ومثل هذا التعدّی لا إشکال فی مقبولیته وإنما الإشکال فی التعدّی إلی مطلق العلم ولو کان علماً حدسیاً مبنیاً علی التأمل والاستدلال والانتقال إلی النتیجة بمقدمات نظریة صرفة .. اللّهم إلا أن یقال إن مثالیة الرؤیة والمشاهدة إنما هی إلی مطلق العلم لا إلی خصوص العلم الحسّی إلا أن الجزم بهذا مشکل جداً لاسیما مع احتمال الفرق (3) فی محلّ الکلام (4) .

ص: 345


1- (2) لا إشکال فی أن ما یرتبط بمحل الکلام فعلاً وهو القضاء هی معتبرة سلیمان بن خالد ، وأما معتبرة الحسین بن خالد فهی ترتبط بإقامة الحدود الی هی حقّ الله تعالی لا فصل الخصومات بین الناس الذی هو محلّ الکلام .
2- (3) (منه دامت برکاته)
3- (4) أی بین العلم الحسّی والعلم الحدسی .
4- (5) أی باب القضاء .

وعلی أیّة حال فالظاهر عدم مقبولیة هذا النحو من التعدّی .

ولکن الکلام فی الحقیقة فی نحو ثالث من التعدّی إلی قسم من العلم یکاد یکون برزخاً بین العلمین ، وبیان ذلک :

أنه قد یحصل العلم بالواقعة من مقدمة حسّیة کما لو علم القاضی بالواقعة لا من جهة اطّلاعه المباشری علیها بل من جهة إقرار المقرّ أو إخبار الثقة أو الشیاع الخارجی فهنا یقع السؤال عن إمکان التعدّی إلی هذا النحو من العلم بالواقع المستند إلی قضیة حسّیة فهل یجوز للقاضی الاستناد إلی هذا العلم کما یجوز له الاستناد إلی علمه الحسّی المباشری ؟

لا بدّ أولاً قبل الإجابة علی هذا السؤال من تحدید هویّة هذا العلم فهل هو من قبیل العلم الحسّی أم من قبیل العلم الحدسی بعد عدم الإشکال فی کونه علماً حسّیاً بنفس تلک المدارک المشار إلیها من الإقرار والإخبار والشیاع (1) ؟

ربما یقال بأنه علم حسّی بالواقعة من جهة کون مقدماته حسّیة .. ولکنه ممنوع فإنه لا یصدق أن هذا القاضی قد رأی الواقعة علی حدّ رؤیة المقرّ والثقة لها فلیس له فی الحقیقة علم حسّی بها وإنما الذی حصل له هو انتقالة ذهنیة من تصدیق المقرّ فی إقراره والثقة فی إخباره إلی الاعتقاد الجازم بحصول ما أقرّ به أو أخبر وهذا إن لم یکن علماً حدسیاً موضوعاً فهو ملحق به حکماً فلا یمکن التعدّی إلیه .

وقد یُعترض بأنه یکفی فی انتساب هذا النحو من العلم إلی العلم الحسّی کون مقدماته حسّیة ویشهد لذلک ما ذُکر فی علم الرجال من أن توثیقات الرجالیین حسّیة وإن کان بین الموثِّق والموثّق فاصل زمنی کبیر فإنه لا ریب أن ذلک من جهة کون مقدّمات تلک التوثیقات حسّیة تتمثّل فی ما تلقاه الرجالی سماعاً عن أساتذته الذین یخبرونه عمّا تلقّوه بدورهم عن أساتذتهم مع أنه لم یتلقّ عن غیر أساتذته حسّاً ، وکذا فی ما اطّلع علیه من کلمات المتقدّمین فی کتبهم الرجالیة مع أنه لم یُدرک أعصارهم لیتلقّی عنهم حسّاً .

ص: 346


1- (6) إذ لا إشکال فی أن القاضی قد سمع إقرار المقرّ وإخبار الثقة ورأی الشیاع خارجاً .

ولکن الظاهر أن هذا الاعتراض غیر وارد لأن توثیقات الرجالیین تدخل فی باب الإخبار وأن حجیّتها باعتبار أنها أخبار ثقات فتشملها أدلة حجیة خبر الثقة (1)

(2) فالاعتماد فی الحقیقة لیس علی رأی النجاشی - مثلاً - فی توثیقه لهذا الراوی أو ذاک بل علی قوله ونقله لأنه یُخبرنا عن توثیق من تقدّمه ممن عاصر الشخص الموثّق وعایشه ولمس منه الوثاقة حسّاً ، ومن هنا ورد إشکال الإرسال فی توثیقاتهم حیث تکون إخباراتهم مع الواسطة وإلا فلو کان الاعتماد علی توثیق الرجالی من جهة أنه یمثّل رأیاً له - ولو بالاستناد إلی مقدمات حسّیة لا خبراً عنه فلا یکون حینئذ ثمة موضوع لذلک الإشکال أصلاً کما لا یخفی (3) فهذه الأخبار وإن کانت مع الواسطة وهی قد لا تکون مصرّحاً بها إلا أنها لا ریب فی کونها أخباراً حسّیة علی حدّ الأخبار المنقولة عن الواسطة المصرّح بها ومن هذه الجهة کانت توثیقات الرجالیین حسّیة (4) وأین هذا من محلّ الکلام الذی هو حدیث عن علم بالواقعة مستند إلی قضیة حسّیة فیقال هل هو علم حسّی بالواقعة أم هو علم حدسی بها أم هو قسم ثالث ملحق بالحدسی حکماً ؟

ص: 347


1- (7) هذا بناءً علی المختار من أن حجیة خبر الرجالی من باب حجیة خبر الثقة کما هو مبنی کثیر من المحقّقین .
2- (8) (منه دامت برکاته)
3- (9) إذ لا واسطة فی البین أصلاً لأن المفروض أن توثیقه قد تُلقّی علی أنه رأی له ولم یُتلقّ علی أنه خبر عن فلان عن فلان إلی أن یصل إلی الموثِّق المباشر حتی تثبت الواسطة بینه وبین من نُقل عنه التوثیق .
4- (10) أی لا من جهة کون مقدّماتها حسیة کما ادُّعی فی الاعتراض .

فأقول : لا ینبغی أن یقع التساؤل عن ثبوت التسمیة له وعدم ثبوتها (1) فإنه لم یرد فی الروایة التعبیر بالعلم الحسّی حتی یقال إنه إذا شُکّ فی شموله لهذا النوع من العلم یُتمسّک بإطلاقه للشمول له فیجری علیه حکمه وإنما الوارد فیها التعبیر بالرؤیة والمشاهدة الذی قلنا بأنه علی سبیل المثال لما یوجب العلم الحسّی فحینئذ یمکن التعدّی عنهما إلی سائر الأدوات الموجبة له ولا مجال للتعدّی إلی العلم الحدسی للمباینة بینهما بالذات وإنما وقع الإشکال فی العلم المستند إلی مقدمات حسّیة فهل یقال بإلحاقه بالعلم الحسّی بغضّ النظر عن صدق عنوانه علیه وعدمه - أم لا ؟

والجواب علی ذلک هو عدم إمکان التعدّی إلیه وذلک لقیام الاحتمال علی وجود الفرق فی باب القضاء بین العلم بالواقعة مباشرة من غیر مقدمات والعلم بالواقعة المستند إلی المقدمات وهذا الاحتمال لا دافع له ولا یمکن التغاضی عنه وعلی ذلک فیکون هذا النحو من العلم (2) ملحقاً بالعلم الحدسی من حیث عدم جواز التعویل علیه والاستناد إلیه .

فالنتیجة هی التفصیل بین العلم الحدسی وما یلحق به من العلم المستند علی مقدمات حسّیة فلا یکون معتبراً مطلقاً (3) والعلم الحسّی بالواقعة مباشرة فیجوز مطلقاً .

التنبیه الثالث : إن محلّ الکلام فی الحقیقة - فی جواز الاستناد إلی علم القاضی وعدم جواز الاستناد إلیه - إنما هو فی الشبهات الموضوعیة ، وأما الشبهات الحکمیة فلا إشکال عندهم ولا خلاف بینهم فی جواز استناد القاضی إلی علمه الحدسی للحکم فیها کما مثّلوا لذلک بما إذا فُرض أن الولد الأکبر تنازع مع بعض الورثة فی حکم الحبوة فإن هذا التنازع الذی هو من حیث الشبهة الحکمیة لا بد أن یکون ناشئاً من اختلاف المتنازعین فی التقلید (4) أو الاجتهاد (5) فإذا تراضوا فی الرجوع إلی حاکم شرعی ممن یُشترط فیه أن یکون مجتهداً (6) ففی هذه الحال لا إشکال فی أن القاضی یجوز له أن یحکم بعلمه الحدسی فی هذه الشبهة الحکمیة ویجب علی کلّ منهم أن یعمل بحکمه وإن کان مخالفاً لرأیه (7) أو لرأی من یرجع إلیه فی التقلید .

ص: 348


1- (11) أی من أنه یصدق علیه العلم الحسّی أو لا یصدق .
2- (12) أی المستند إلی مقدمات ولو کانت حسّیة .
3- (13) أی فی حقوق الله وحقوق الناس .
4- (14) بأن کانوا عواماً فیرجع الاختلاف بینهم إلی الاختلاف بین مراجع تقلیدهم فی الحکم المتنازع علیه .
5- (15) بأن کانوا مجتهدین فیرجع الاختلاف بینهم إلی الاختلاف فی فتواهم فی الحکم المتنازع علیه .
6- (16) وهو القاضی المنصوب .
7- (17) أی فی ما لو کان مجتهداً .

هذه تنبیهات ترتبط بالبحث السابق .

المسألة الثامنة / أدلة عدم جواز استناد القاضی إلی علمه فی باب القضاء / تنبیهات تتعلّق بالبحث السابق / التنبیه الرابع / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) بحث الفقه

(بحث یوم الاثنین 6 ربیع الأول 1433 ه 65)

التنبیه الرابع

المسألة التاسعة : اشتراط الجزم فی الدعوی / بیان المراد بالجزم / ذکر أدلة قول المشهور وهو الاشتراط / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) بحث الفقه

(بحث یوم الثلاثاء 7 ربیع الأول 1433 ه 66)

(مسألة 9) : یعتبر فی سماع الدعوی أن تکون علی نحو الجزم ، ولا تسمع إذا کان علی نحو الظن أو الاحتمال .

اختلف علماؤنا فی اشتراط الجزم فی الدعوی فمنع بعضهم من سماعها إذا کانت ظنیة أو احتمالیة وأجاز آخرون سماعها مطلقاً فیقع الکلام أولاً فی المقصود بهذا الشرط وثانیاً فی ذکر الأقوال فی هذه المسألة :

فأقول : یمکن أن یراد بالجزم أحد معنیین :

الأول : الجزم النفسی ، وهو أن یکون المدّعی من حیث بناؤه النفسی جازماً بکون مضمون دعواه مطابقاً للواقع (1) .

الثانی : الجزم الصیاغی ، وهو أن یکون المدّعی من حیث صیاغة دعواه قد عبّر بشکل صریح أو ظاهر عن کونه جازماً بمضمون دعواه وإن لم یکن معتقداً فی نفسه بذلک فعلاً .

ویمکن التعبیر عن الأول بالجزم الواقعی لأنه ناظر إلی مرحلة الاعتقاد بحسب الواقع ، وعن الثانی بالجزم الظاهری لأنه ناظر إلی مرحلة التعبیر عن الاعتقاد والکشف عنه .

ص: 349


1- (1) فی مقابل ان یکون ظانّاً او محتملاً .

وهل یشمل النزاع کلا المعنیین أم یختص بأحدهما دون الآخر ؟

اتّجاهات ثلاثة .. فظاهر کلمات بعضهم وکذا ظاهر بعض الأدلة أن النزاع یشمل کلا المعنیین ولکن ظاهر آخرین اختصاصه بالثانی (1) ، قال صاحب الریاض : (واشتراط الجزم إنما هو فی الصیغة لا فی نفس الأمر والعقیدة ، کما صرّح به الشهیدان فی النکت والمسالک والصیمری فی شرح الشرائع) (2) .

هذا .. ولکن سیأتی أن بعض ما یُستدلّ به فی المقام یناسب أن یکون المقصود بالجزم المعنی الأول (3) من قبیل ما ذُکر من أن الدعوی غیر الجزمیة حیث یُفرض فیها عدم وجود بیّنة لدی المدّعی فیطالَب المنکِر بالیمین فإذا نکل وامتنع من الحلف فهنا لا یمکن ردّ الیمین علی المدّعی لأن المفروض عدم کونه جازماً .

وهذا الکلام منهم إنما یناسب الجزم الواقعی فإن غیر الجازم واقعاً هو الذی لا یتمکّن من الحلف لاستلزامه الکذب مع أن المتردّد ظاهراً لو کان جازماً واقعاً لجاز ردّ الیمین علیه والحال أن الدعوی غیر الجزمیة یمکن أن یُراد بها هذا المعنی أیضاً کما لو صیغت بصیاغة الاحتمال أو الظن مع کون المدّعی جازماً واقعاً - فمن هذا یظهر أن هذه الصورة (4) غیر منظورة لهم ، ولو کان محلّ الکلام عندهم أعمّ من المعنیین لفصّلوا فی المدّعی بین کونه جازماً واقعاً حتی لو کان متردّداً ظاهراً فیحکموا بإمکان ردّ الیمین علیه وکونه غیر جازم واقعاً فیحکموا بعدم إمکان ردّ الیمین علیه فحکمهم بعدم إمکان الردّ بقول مطلق من غیر نظر إلی صورة التردّد الظاهری من حیث الصیغة مع الجزم الواقعی من حیث البناء النفسی یُعطی أن نظرهم مقصور علی المعنی الأول .

ص: 350


1- (2) أی الجزم الصیاغی .
2- (3) ریاض المسائل مج13 ص163 .
3- (4) أی الجزم الواقعی .
4- (5) أی المعنی الثانی وهو صورة التردّد من حیث الصیاغة والتعبیر مع کون المدّعی جازماً واقعاً .

وکیف کان فالأقوال فی المسألة عدیدة أهمّها أربعة :

الأول : الاشتراط مطلقاً ، بمعنی أن سماع الدعوی من قبل القاضی ووجوب النظر علیه فیها مختصّ بالدعوی الجزمیة وأما الدعوی غیر الجزمیة فلا تکون مسموعة .. وهذا القول مختار کثیر من علمائنا بل نُسب إلی المشهور .

الثانی : عدم الاشتراط مطلقاً ، بمعنی أن الدعوی مطلقاً جزمیة کانت أو غیر جزمیة - تکون مسموعة .. وذهب إلی هذا القول فخر المحقّقین فی الإیضاح (1)

(2) ومال إلیه المقدّس الأردبیلی فی مجمع الفائدة والبرهان .

الثالث : التفصیل بین صورتی التهمة وعدمها فإذا تضمّنت الدعوی اتّهاماً من المدّعی للمدّعی علیه فتُسمع وإن لم تکن جزمیة وإلا فلا تُسمع إلا إذا کانت جزمیة .

ص: 351


1- (6) قال فی الإیضاح (مج4 ص328) :
2- (7) " وذهب شیخنا أبو القاسم بن سعید إلی اشتراط الجزم ، قال أی المحقق فی الشرایع - : (وکان بعض من عاصرناه یسمعها فی التهمة ویحلف المنکر وهو بعید عن شبه الدعوی) - والأقوی عندی الأول خ - " انتهی ، فإن قول صاحب الإیضاح : (والأقوی عندی الأول الوارد فی نسخة کما أشیر إلیه بالحرف : خ -) إنما یرید به ما ذهب إلیه ابن نما من سماعها فی التهمة الذی هو معنی عدم الاشتراط - فإن هذا هو (الأول) فی مقابل ما ذکره المحقق فی الشرایع بقوله : (وهو بعید عن شبه الدعوی) الذی یمثّل تضعیفاً منه للقول بعدم الاشتراط وإشارة إلی مختاره وهو الاشتراط الذی ذکره صریحاً فی الشرایع (مج4 ص872) حیث قال : (ولا بد من إیراد الدعوی بصیغة الجزم) .

وهذا التفصیل نسبه المحقق صاحب الشرایع بعد أن اختاره (1) إلی بعض معاصریه والمقصود به شیخه نجیب الدین محمد بن نما کما ذکر ذلک فخر المحقّقین فی الإیضاح .

الرابع : التفصیل بین ما یتعسّر الاطّلاع علیه کالقتل والسرقة فتُسمع الدعوی وإن لم تکن جزمیة ، ومالا یتعسّر الاطّلاع علیه فلا تُسمع إلا إذا کانت جزمیة .

هذه هی عمدة الأقوال فی المقام وهناک أقوال أخری أعرضنا عنها لعدم أهمیّتها .

أما القول الأول (2) فقد استُدلّ له بأمور :

الأول : دعوی أن المتبادر من الدعوی ما کان بنحو الجزم لأنها فی اللغة هی الإخبار الجازم فلا تصدق إلا إذا سیق الکلام بنحو الجزم لا بنحو الظن والاحتمال .

وتمامیة هذا الدلیل تتوقف علی أمرین :

أولهما : افتراض أن المأخوذ فی مفهوم الدعوی هو الجزم بحیث لا یصدق من دونه مفهوم الدعوی أصلاً .

ثانیهما : أن سماع المرافعة من قبل القاضی مشروط بصدق الدعوی علیها وحیث إن الدعوی منوطة بحسب الأمر الأول - بالجزم فالنتیجة أن الدعوی الجازمة هی التی تُسمع دون غیرها .

ولولا هذا الأمر الثانی لکان موضوع سماع القاضی ووجوب نظره أعمّ من أن تکون المرافعة جازمة أو غیر جازمة فإن أقصی ما یثبت فی الأمر الأول أن الدعوی قد أًخذ فی مفهومها الجزم ولیس فی هذا تحدید کون موضوع ما یلزم القاضی سماعه والنظر فیه هو هذا الأمر دون غیره بل یکون الموضوع حینئذ المرافعة مطلقاً سواء کانت جزمیة فتکون دعوی أو لم تکن فتکون محض مرافعة ولکن بعد اشتراط هذا الأمر الثانی الذی یُلزِم بصدق الدعوی علی المرافعة وقد تبیّن من خلال الأمر الأول أن الجزم مأخوذ فی مفهومها (3) فلا مجال حینئذ لسماع ما لم یکن جزمیاً من المرافعات .

ص: 352


1- (8) أقول : قد عرفت من الهامش السابق أن مختار صاحب الشرایع إنما هو الاشتراط لا هذا التفصیل کیف ! وقد ردّه بقوله : (وهو بعید عن شبه الدعوی) فراجع وتحقّق .
2- (9) وهو القول المنسوب للمشهور .
3- (10) أی مفهوم الدعوی .

هذا .. وقد اختُلِف فی الأمر الأول فأصرّ بعضهم علی اعتبار الجزم فی الدعوی بدعوی أنه هو المفهوم عرفاً من مثل قول القائل : (ادّعی عمرو علی زید مالاً) ، وأنکر آخرون أخذه فی مفهومها مستشهدین بتفسیرها فی کلمات اللغویین بالزعم الذی یأبی الحمل علی الجزم بخصوصه وبصحة تقسیم الدعوی إلی جزمیة وظنیة واحتمالیة من غیر أدنی شعور بالمسامحة أو التجوّز وجداناً ، ولو کان الجزم معتبراً فی الجامع (1) لم یصحّ هذا التقسیم لأنه یکون حینئذ من باب تقسیم الشیء إلی نفسه وغیره .

وأما الأمر الثانی فقد استُدلّ له بما دلّ علی أن (البیّنة علی المدّعی والیمین علی المنکر) حیث یُفهم منه أن البیّنة الذی یطلبها القاضی لکی یرتّب علیها القضاء وما یستتبعه من الآثار هی بیّنة المدّعی وهذا اللفظ مشتق کما هو ظاهر من لفظ الدعوی فیکون معتبراً فیه ما هو معتبر فیها وقد اعتُبر فیها - بحسب الأمر الأول - الجزم فالنتیجة أن المرافعة لا بد أن تکون جازمة لتکون مسموعة وهذا معنی اشتراط صدق الدعوی علیها .

وهکذا بالنسبة إلی المدّعی علیه الذی قوبل فی الأدلة بالمدّعی وورد فیها بعنوان المنکر وجُعل الیمین علیه فمقتضی هذه المقابلة یستدعی أن یکون یمینه الذی یُطالب به هو فی دعوی جزمیة فإن مقابله - وهو بیّنة المدّعی - هو فی دعوی لا تکون إلا کذلک (2) ، وأما إذا لم تکن کذلک فلا تکون مشمولة للأدلة التی تقرّر ضابطة کون البیّنة علی المدّعی والیمین علی المنکر .

ومن هنا یظهر أن ترتیب الآثار علی المرافعة ووجوب النظر علی القاضی وسماعه لها منوط بأن یتمکّن من أن یفصل الخصومة الواردة فیها بالموازین المحدّدة له شرعاً وأهمّها البیّنة والیمین ، والأدلة دلّت علی أن البیّنة التی تُطلب هی بیّنة الجازم بالخصوص دون غیره .

ص: 353


1- (11) یعنی الدعوی .
2- (12) أی جزمیة .

هذا .. ولکن یُلاحظ علی هذا الدلیل أن اعتبار الجزم لیس بذلک الوضوح وإن کان فی نفسه محتملاً، علی أن بعضهم حاول تعمیم تشریع البیّنة لغیر الدعوی الجازمة مع الاعتراف بأن الجزم مأخوذ فی الدعوی وذلک بتقریب أن قوله (صلی الله علیه وآله) : (البیّنة علی من المدّعی والیمین علی من أنکر) لا یُفهم منه أن الروایة بصدد تشریع البیّنة لخصوص موردها وهو المدّعی - الذی هو بحسب الفرض مأخوذ فی مفهومه الجزم - وإنما المفهوم منها أنها فی مقام تطبیق کبری ارتکازیة علی موردها ، والفرق بین المقامین أنه علی الأول لا یمکن التعدّی من الدعوی إلی غیرها من المرافعة الظنیة أو الاحتمالیة - بناءً علی أن الجزم مأخوذ فی مفهوم الدعوی - فی حین أنه علی الثانی یمکن التعدّی إلی ذلک لأن البیّنة لا تختصّ حینئذ بالدعوی إذ الفرض أن الروایة لیست فی مقام التشریع لخصوص موردها وإنما هی فی مقام تطبیق أمر کلی ارتکازی علی المدّعی فلا مانع من أن یکون شاملاً لغیره .

الدلیل الثانی (1) : إن من لوازم الدعوی صحة ردّ الیمین علی المدّعی فی حالة نکول المدّعی علیه عن الیمین عندما لا تکون للمدّعی بیّنة وهذا یعنی أن الدعوی جزمیة لما تقدّمت الإشارة إلیه من أن الدعوی حینما لا تکون جزمیة لا یصحّ ردّ الیمین علی المدّعی بل لا یجوز لعدم تمکّنه من الحلف لافتراض کونه غیر جازم .

وأجیب عنه بأنه لا مانع من الالتزام بأن ما ورد فی هذا الدلیل هو من لوازم الدعوی الجزمیة لا من لوازم الدعوی مطلقاً بمعنی أنه عندما تکون الدعوی جزمیة فلازمها أنه فی حالات النکول یُردّ الیمین علی المدّعی وأما فی حال عدم کونها جزمیة فلیس من لوازمها ذلک مطلقاً حتی یقال إن إمکان ردّ الیمین لا یحصل إلا فی حالات الجزم فالدعوی غیر الجزمیة لا تکون مشمولة للمقام فلا تُسمع .

ص: 354


1- (13) ممّا استُدلّ به للمشهور .

وبذلک یظهر أنه یمکن الالتزام أن القاضی فی حال کون الدعوی جزمیة یُطالب المدّعی بالبیّنة فإن لم توجد عنده بیّنة یُلقی الیمین علی المنکر فإن نکل یردّ الیمین علی المدّعی ، وأما فی حال کونها غیر جزمیة فبعد عدم وجود بیّنة للمدّعی ونکول المُدّعی علیه عن الیمین لا یردّ القاضی الیمین علی المدّعی حینئذ بل تتوقّف الدعوی ، ولا ضیر فی الالتزام بذلک فیکون المسار القضائی فی الدعوی الجزمیة بخطوات ثلاث وفی غیر الجزمیة بخطوتین فتکون الدعوی مسموعة مطلقاً (1) فإن القضاء موضوع لحلّ المنازعات وفضّ الخصومات فیلزمه النظر فی جمیع المرافعات لاسیما فی الأمور المهمة أو فی موضع التهمة أو مما یعسر الاطّلاع علیه فإن لازم عدم سماع بعض المنازعات بقاء الخصومات وهو خلاف مقتضی تشریع القضاء فلا بدّ لتحقیق الغرض من سماع الدعاوی مطلقاً أقصی الأمر رفع الید عن ردّ الیمین إلی المدّعی غیر الجازم فی حالات النکول (2) .

المسألة التاسعة : اشتراط الجزم فی الدعوی / ذکر أدلة قول المشهور وهو الاشتراط / الدلیل الثالث / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) بحث الفقه

(بحث یوم السبت 11 ربیع الأول 1433 ه 67)

کان الکلام فی مسألة اشتراط الجزم فی الدعوی بنحوٍ لا تکون مسموعة ولا یُرتّب علیها أثر إذا لم تکن جازمة .. وتقدّم أن فی المسألة أقوالاً تعرّضنا أولاً لقول المشهور وهو الاشتراط وذکرنا دلیلین ممّا استُدلّ به لهذا القول .

الدلیل الثالث : ما ذکره السید الخوئی (قده) ، وحاصله :

ص: 355


1- (14) أی سواء کانت جزمیة أو غیر جزمیة .
2- (15) أی امتناع المُدّعی علیه من الحلف .

أن قول المُدّعی علیه - وهو المنکر - یکون مطابقاً فی کل دعوی لإمارة أو أصل ومقتضی إطلاق دلیل حجیّتهما لزوم ترتیب الأثر حتی بالنسبة إلی المدّعی لأن الحجیة لا یُفرّق فیها بین أطراف الدعوی .. وعلی ذلک فإذا لم تکن الدعوی جزمیة فلا یجوز للمدّعی إلزام الخصم بشیء علی أساسها لأن دلیل حجیة الأصل (1) لا یُجیز له أن یتوسّل بالدعوی لإلزام الطرف الآخر بما یدّعیه فلا تکون مثل هذه الدعوی مسموعة فإن استصحاب عدم ثبوت المال (2) فی الذمة کما هو حجة للمُدّعی علیه فلا یکون مُلزَماً ببرکة هذا الأصل ببذله (3) کذلک هو حجة علی المدّعی فلا یُجیز له أن یتسبّب بالدعوی لإلزام المُدّعی علیه بمدّعاه (4) ، وهذا کما لو قطع بأنه لیس له حقّ فی ذمة الآخر فإن قطعه یکون حجة علیه یمنعه من إلزام الطرف الآخر بمضمون دعواه وعلی ذلک فلا تکون الدعوی غیر الجزمیة مسموعة .

ولکن یُلاحظ علیه بأنه أخصّ من المدّعی من وجهین :

الأول :

أنه لا یشمل صورة وجود بیّنة تشهد بصحة دعوی المدّعی ، ومن المعلوم أن الأصل ینسحب مع وجود إمارة علی خلافه للطولیة بینهما .

ولکنه غیر تام لأن صورة وجود بیّنة تشهد بصحة دعوی المدّعی تدخل فی الدعوی الجزمیة وهی غیر محلّ الکلام (5) وذلک لأن المراد بالجزم أعمّ من أن یکون مستنده العلم والقطع أو مطلق الحجة الشرعیة وعلی ذلک فیتحقّق الجزم بالدعوی فی ما إذا کان المدّعی مستنداً إلی بیّنة تشهد بصحة مدّعاه فهذه الملاحظة غیر واردة علی هذا الدلیل فحینئذ یصحّ أن یقال إنه فی الدعوی غیر الجزمیة تکون الإمارة أو الأصل الموافق لقول المدّعی علیه مُلزِماً للمدّعی لأن المفروض أنه غیر جازم فهو غیر عالم بالواقع وجداناً ولا عالم به تعبّداً (6) وعلیه فیصحّ هذا الدلیل ویُنتج اشتراط الجزم فی الدعوی کما یقول المشهور .

ص: 356


1- (1) الموافق لقول المُدّعی علیه .
2- (2) أی المُدّعی به .
3- (3) أی ببذل المال المُدّعی به .
4- (4) أی بما یدّعیه علیه من المال مثلاً - .
5- (5) فإن محلّ الکلام هو الدعوی غیر الجزمیة حیث وقع الخلاف فی کونها تُسمع أو تُردّ .
6- (6) لعدم وجود بیّنة له ولذلک انتقل الکلام للمدّعی علیه فقیل بأنه قوله مطابق للأصل ، وأما فی صورة وجود بیّنة له فهی تدخل فی الدعوی الجزمیة کما تبیّن .

وثانیاً :

أنه لا یشمل ما إذا کان المدّعی یحتمل أن یعترف الخصم بحقّه لاحتمال أن یکون (1) مطّلعاً علی الواقع فإذا سُمعت هذه الدعوی من قبل القاضی وألزم الخصم بالجواب فقد یعترف بحقّ المدّعی بخلاف ما إذا مُنع من سماعها فإنه یفوت علی المدّعی حینئذ أخذ حقّه باعتراف الخصم به لو فُرض فمثل هذه الفائدة یتوقف استثمارها علی الالتزام بسماع الدعوی وإن لم تکن جزمیة فاشتراط الجزم مفوّت لها .

ولکن هذه الملاحظة واضحة الدفع لعدم نفع الاحتمال بعد قیام الحجة المعتبرة فی جانب المُدّعی علیه (2) التی تُلزِم المدّعی بعدم جواز التوسّل بالدعوی لنیل ما یدّعیه ما دام غیر جازم به .

ومن هنا یظهر أن هذا الدلیل تام لإثبات اعتبار الجزم فی الدعوی سواء کان جزماً ناشئاً عن علم بالواقع أو کان مستنداً إلی إمارة أو أصل موافق لقول المدّعی کما لو استصحب عدم أداء الطرف الآخر للدین المُحرَز کونه فی ذمته (3) فإن الجزم المعتبر فی سماع الدعوی لا یختصّ بالجزم الواقعی بالاستحقاق بل یعمّ الجزم الظاهری به أیضاً ولذا یجوز للمدّعی أن یُبرز دعواه بصیغة جازمة حتی لو کان فی ذلک مستنداً إلی إمارة أو أصل موافق لقوله وهذا ما لا یتسنّی لغیر الجازم ارتکابه لاستلزامه الکذب .

هذه هی أدلة القول الأول .

وأما القول الثانی وهو عدم الاشتراط مطلقاً الذی یفید سماع الدعوی سواء کانت جزمیة أو لم تکن فعمدة أدلته التمسّک بالمطلقات والعمومات الدالة علی وجوب الحکم والقضاء الذی یلزمه سماع الدعوی مطلقاً فیکون موضوع القضاء فی الحقیقة ما یصدق علیه عنوان المخاصمة والمنازعة بغضّ النظر عن تضمّنها للجزم وعدمه .. ومن هنا یلتزم القائل بهذا القول بمساوقة الدعوی لذلک العنوان (4) فالدعوی عنده أعمّ من أن تکون جازمة أو غیر جازمة ففی ضوء هذا یمنع من عدم صدق الدعوی علی حالات عدم الجزم بل تصدق الدعوی وإن لم تکن جزمیة ، کما یلتزم أیضاً بعدم کون ردّ الیمین علی المدّعی (5) من لوازم أصل الدعوی (6) بل هو من لوازم الدعوی الجازمة (7) فیکون المعتبر فی الدعوی غیر الجازمة بیّنة المدّعی وإلا فیمین المنکر وإلا فتتوقف الدعوی ولا یردّ الیمین فیها علی المدّعی ، وکون المناط علی البیّنة فی أمثال هذه الدعاوی (8) لا ینافی الحدیث الوارد فی استخراج الحقوق وحصرها بأربعة وجوه وهو ما رواه یونس عمّن رواه :

ص: 357


1- (7) أی المُدّعی علیه .
2- (8) وهی الإمارة أو الأصل .
3- (9) أی فی ذمة الطرف الآخر .
4- (10) یعنی عنوان المخاصمة والمنازعة .
5- (11) بعد نکول المُدّعی علیه عن الیمین .
6- (12) حتی یقال انتصاراً لقول المشهور وهو القول الأول أی اشتراط الجزم بأن من لوازم الدعوی صحة ردّ الیمین علی المدّعی فی حالة نکول المدّعی علیه عن الیمین عندما لا تکون للمدّعی بیّنة وهذا یعنی لزوم کون الدعوی جزمیة فإن الدعوی غیر الجزمیة لا یصحّ ردّ الیمین فیها علی المدّعی بل لا یجوز لعدم تمکّنه من الحلف لافتراض کونه غیر جازم فیلزم الکذب لو حلف .
7- (13) فلا مانع لدی هذا القائل من الالتزام بأن ردّ الیمین علی المدّعی هو من لوازم الدعوی إذا کانت جزمیة لا من لوازم الدعوی مطلقاً بمعنی أنه عندما تکون الدعوی جزمیة فلازمها أنه فی حالات النکول یُردّ الیمین علی المدّعی وأما فی حال عدم کونها جزمیة فلیس من لوازمها ذلک مطلقاً فیکون المسار القضائی فی الدعوی الجزمیة بخطوات ثلاث وفی غیر الجزمیة بخطوتین فتکون الدعوی مسموعة مطلقاً کما تقدّمت الإشارة إلیه فی البحث السابق - .
8- (14) أی غیر الجزمیة .

" قال : استخراج الحقوق بأربعة وجوه : بشهادة رجلین عدلین فإن لم یکونا رجلین فرجل وامرأتان فإن لم تکن امرأتان فرجل ویمین المدّعی فإن لم یکن شاهد فالیمین علی المُدّعی علیه فإن لم یحلف وردّ الیمین علی المدّعی فهی واجبة (1) علیه أن یحلف ویأخذ حقّه فإن أبی أن یحلف فلا شیء له " (2) .

فقد یقال : إن هذه الروایة ذکرت یمین المدّعی حیث ورد فیها : (فإن لم تکن امرأتان فرجل ویمین المدّعی) فحیث لا یمکن یمین المدّعی (3) فلا یمکن استخراج الحقّ فلا تکون الدعوی مسموعة أساساً .

ولکن یقال : إن هذه الأمور المذکورة فی الروایة التی علی أساسها یُستخرج الحقّ إنما ذُکرت فیها لا علی نحو المجموع بل علی نحو البدل بمعنی أن أیّ واحد من هذه الأمور توفّر أمکن حینئذ استخراج الحقّ لا أنه یُشترط اجتماع هذه الأمور کلها لیُستخرج الحقّ حتی یقال إن الدعوی غیر الجزمیة حیث لا یمکن فیها اجتماع هذه الأمور فلا یمکن استخراج الحقّ منها فلا تکون مشمولة لأدلة اعتبار الدعوی فلا تکون مسموعة .

المسألة التاسعة : اشتراط الجزم فی الدعوی / ذکر أدلة القول الثانی وهو عدم الاشتراط وأهمّها التمسّک بالمطلقات والعمومات / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) بحث الفقه

(بحث یوم الأحد 12 ربیع الأول 1433 ه 68)

ص: 358


1- (15) فی المصدر : (فهو واجب) .
2- (16) الوسائل أبواب کیفیة الحکم الباب السابع الحدیث الرابع مج27 ص242 ، الکافی مج7 ص416 .
3- (17) وذلک فی الدعوی غیر الجزمیة .

کان الکلام فی ذکر أدلة القول الثانی وهو عدم الاشتراط مطلقاً الذی یفید سماع الدعوی سواء کانت جزمیة أو لم تکن وذکرنا أن عمدة أدلته التمسّک بالمطلقات والعمومات الدالة علی وجوب الحکم والقضاء التی یکون مفادها سماع الدعوی مطلقاً حیث لم یرد فیها تقیید بأنه یُشترط فی السماع والحکم أن تکون الدعوی جزمیة فیکون موضوع القضاء فی الحقیقة ما یصدق علیه عنوان المخاصمة والمنازعة بغضّ النظر عن تضمّنها للجزم وعدمه .. ومن هنا یُلتزم بمساوقة الدعوی لهذا العنوان (1) .

ویُلاحظ علی ما تقدّم :

أولاً :

منع انعقاد الإطلاق فی هذه الأدلة بناءً علی ما تقدّم من أن أدلة الحکم والقضاء مختّصة بالدعوی التی قد أُخذ فی مفهومها الجزم بحیث لا تصدق فی غیر مورد الجزم إلا بالعنایة والمجاز وحینئذ فلا محالة تکون هذه الأدلة الدالة علی وجوب الحکم والقضاء مختّصة بالدعوی الجزمیة .

وثانیاً :

إنه علی تقدیر التسلیم بتمامیة الإطلاق فی أدلة الحکم والقضاء - فتکون شاملة للدعوی مطلقاً جزمیة کانت أو غیر جزمیة کما لو فرضنا أن موضوع تلک الأدلة هو المخاصمة والمنازعة التی من الواضح عدم أخذ الجزم فی مفهومها - فحینئذ یقال إنه لو ورد دلیل یدلّ علی اشتراط الجزم فسیکون مقیّداً لذلک الإطلاق فتکون تلک الأدلة مختّصة حینئذ بالدعوی الجزمیة .

وأما القول الثالث : - وهو التفصیل بین صورتی التهمة وعدمها فإذا تضمّنت الدعوی اتّهاماً للمدّعی علیه فتُسمع وإن لم تکن جزمیة وإن لم تتضمّن فلا تُسمع إلا إذا کانت جزمیة فقد استُدلّ له بأدلة ثلاث :

ص: 359


1- (1) یعنی عنوان المخاصمة والمنازعة .

الأول :

کونه مقتضی القاعدة .

الثانی :

جریان السیرة العقلائیة .

وحاصل هذین الدلیلین دعوی أنه فی صورة کون المدّعی علیه متّهماً فإن القاعدة تقتضی أن من حقّ صاحب الدعوی أن یقیم دعواه ولو لم یکن جازماً بها (1) والسیرة العقلائیة جاریة أیضاً علی ذلک کما فی قضایا القتل - مثلاً - فإن المدّعی قد لا یکون جازماً بأن القاتل هو هذا الشخص وإنما کان محتمِلاً لکونه کذلک لبعض القرائن الخاصة الموجبة لاتّهامه ومع ذلک فإن من حقّه أن یقیم الدعوی وتکون دعواه مسموعة کما هو المشاهد خارجاً من قیام السیرة علی ذلک .

وهذا الکلام إن تمّ - سواء استُدلّ له بالروایات کما سیأتی أو ببناء العقلاء وسیرتهم - فلا إشکال فی أنه یکون موجباً للتفصیل فی موارد الدعوی فتُسمع مع التهمة ولو لم تکن جزمیة ولا تُسمع مع عدم التهمة إلا إذا کانت جزمیة .

ص: 360


1- (2) أقول : الوجه فی ذلک حسب ما یتراءی فی النظر القاصر أن الأمر یدور واقعاً بین کون المدّعی مصیباً فی دعواه أو مخطئاً وعلی تقدیر الإصابة فإما أن یثبت للقاضی ذلک - أی کون المدّعی مصیباً - فیحکم له فتکون الدعوی حینئذ سبباً لاستنقاذ حقّه أو لا یثبت له فلا یکون قد دخل ضرر معتدّ به علی المُدّعی علیه بسبب الدعوی ومن هنا کان مقتضی القاعدة جواز إقامة الدعوی مع التهمة فإن احتمال ثبوت المُدّعی به فی ذمة المُدّعی علیه یکون قویّاً مع التهمة فیکون هناک مبرّر لمراعاته ، وهذا بخلاف الحال مع عدم التهمة فإن الاحتمال لا یمتلک حینئذ سبباً للقوة یُبرّر مراعاته فلذا لا یکون مقتضی القاعدة فی هذا الحال جواز إقامة الدعوی .

وبعبارة أخری : إن صورة التهمة لا بدّ من استثنائها من القول باشتراط الجزم لقیام الدلیل الخاص فی موردها إما للروایات الآتیة أو لکونها مقتضی القاعدة أو لقیام السیرة العقلائیة الممضاة شرعاً بعدم الردع فیکون هذا تخصیصاً لما دلّت علیه الأدلة السابقة من اشتراط الجزم واستثناءً منها فتکون النتیجة صحة هذا القول من التفصیل فی الدعوی بین صورتی التهمة وعدمها .

الثالث :

الروایات ، وقد ذکر السید الخوئی (قده) ثلاث روایات فی المقام :

الأولی :

صحیحة الحلبی عن أبی عبد الله (علیه السلام) :

" کان أمیر المؤمنین (علیه السلام) یضمّن القصّار والصائغ احتیاطاً للناس وکان أبی یتطوّل علیه إذا کان مأموناً " (1)

(2)

(3) .

وتقریب الاستدلال بها هو أنه یُفهم منها أنها تتحدث عن دعوی لدی الحاکم بین صاحب المال والقصّار - أو الصائغ فالطرف الأول یدّعی علی الثانی إتلاف ماله وهذا الآخر یُنکر ذلک والحاکم فی دعوی من هذا القبیل یحکم لصاحب المال علی القصّار - أو الصائغ ویضمّنه ما تلف عنده مطلقاً (4) مع أنه لم یُفترض أن صاحب المال کان جازماً بدعواه وبقرینة مفهوم الذیل من تضمین الإمام (علیه السلام) له إذا کان غیر مأمون (5) تکون الروایة دالة علی سماع الدعوی غیر الجزمیة إذا کان الطرف الآخر متّهماً .

ص: 361


1- (3) الکافی مج5 ص242 ، الوسائل أبواب أحکام الإجارة الباب التاسع والعشرون الحدیث الرابع مج19 ص142.
2- (4) قال (دامت برکاته) : " الظاهر أن لفظة (یتطوّل) اشتباه والموجود فی المصدر هو (یتفضّل) وهو الأصحّ " .
3- (5) أقول : وجدت الروایة بلفظ (یتطوّل) فی الکافی بطریق علی بن إبراهیم عن أبیه عن ابن أبی عمیر عن حماد عن الحلبی ، وکذا وجدتها فی الاستبصار بالطریق نفسه ، وأما فی التهذیب فیوجد للروایة نقلان کل نقل بطریق : أحدهما : بالطریق المذکور فی الکافی وبلفظ (یتطوّل) ، والآخر : بطریق الحسین بن سعید عن فضالة وأبی المغرا عن أبی بصیر بلفظ (یتفضّل) .
4- (6) أی ولو کان مأموناً ، غایة الأمر أنه یجوز للإمام (علیه السلام) بمقتضی الولایة أن لا یضمّنه تطوّلاً إذا کان مأموناً .
5- (7) أی کان متّهماً .

ولکن یُلاحظ علی هذا الاستدلال أن الروایة غیر ناظرة إلی مسألة إقامة الدعوی وسماعها ولیس فیها ما یشیر إلی ذلک إطلاقاً وإنما هی ناظرة إلی مجرّد إیجاب الضمان مطلقاً علی القصّار والصائغ وأمثالهما احتیاطاً لأموال الناس (1) فتکون أجنبیة عن محل الکلام ولا یمکن أن نستفید منها ما ذُکر من أن الدعوی فی موارد الاتهام تُسمع من قبل القاضی ولو لم تکن جازمة حتی نقیّد بها ما دلّ علی اعتبار الجزم مطلقاً .

الروایة الثانیة :

معتبرة أبی بصیر عن أبی عبد الله (علیه السلام) :

" قال : سألته عن قصّار دفعتُ إلیه ثوباً فزعم أنه سُرق من بین متاعه ، قال : فعلیه أن یُقیم البیّنة أنه سُرق من بین متاعه ولیس علیه شیء ، وإن سُرق متاعه کله فلیس علیه شیء " (2) .

هذه الروایة رواها الشیخ الکلینی عن محمد بن یحیی عن أحمد بن محمد عمن ذکره عن ابن مسکان عن أبی بصیر عن أبی عبد الله (علیه السلام) ، والظاهر أن المراد ب_ (من ذکره) هو علی بن نعمان بقرینة ما فی سند الشیخ الطوسی من روایتها عن أحمد بن محمد عن علی بن النعمان عن ابن مسکان عن أبی بصیر فیرتفع الإرسال عن سند الکلینی ، ولو مُنع من ذلک فسند الشیخ الطوسی معتبر فتکون الروایة معتبرة ولا یضرّ وجود الإرسال حینئذ فی سند الکلینی .

ص: 362


1- (8) وأما مسألة الالتزام بهذا الحکم أو لا فهی أمر آخر فإن لهذا الحکم معارضات لیس هاهنا محلّ بیانها .
2- (9) الکافی مج5 ص242 ، التهذیب مج7 ص218 ، الوسائل مج 19 ص142 .

وتقریب الاستدلال بهذه الروایة من جهة أنها تفرّق بین حالتین : حالة ما إذا کان المدّعی علیه موضع تهمة بأن ادّعی أن الثوب سُرق من بین متاعه فهاهنا تجب علیه إقامة البیّنة فإن أقامها فلیس علیه شیء ویُفهم منه أنه إذا لم یُقِمْها یکون ضامناً ، وحالة ما إذا لم یکن موضع تهمة بأن کان قد سُرق متاعه کله فلیس علیه شیء فیقال إن هذه الروایة تدلّ علی المطلوب من حیث إنها تُفصّل بین صورة الاتهام مع کون المدّعی غیر جازم فتُسمع الدعوی حینئذ وصورة عدم الاتهام فلا تُسمع الدعوی إلا إذا کانت جزمیة (1) ویقال إنها تدلّ علی محلّ الکلام باعتبار أن هذا الطرف یتّهم الآخر فی صدق دعواه من أن الثوب سُرق من بین متاعه فیقیم علیه الدعوی لدی القاضی مع کونه غیر جازم بأن المدّعی علیه قد استولی علی ثوبه وهو لا یرید إرجاعه بل یحتمل ذلک من جهة تخصیص الطرف الآخر للسرقة بخصوص الثوب والقاضی یسمع هذه الدعوی وإن لم تکن جزمیة .

ولکن لیس من الواضح ظهور الروایة فی ما هو محلّ الکلام من سماع الدعوی فی مورد التهمة وإن لم تکن جزمیة فإن الروایة وإن ذُکرت فیها البیّنة وبهذا تختلف عن الروایة السابقة حیث لم یُذکر فیها ذلک إلا أنه لا ینحصر تفسیرها بما ادُّعی بل من الممکن تفسیرها بنحوٍ لا یکون لها ارتباط بمحلّ الکلام وهو أن الروایة إنما تتحدّث عن حکم شرعی بتضمین القصّار قیمة ما تلف من المال الذی عنده إذا کان متّهماً ولم یأت ببیّنة تشهد لصاحب المال علی صحة زعمه أنه سُرق بخصوصه من بین متاعه وبعدم تضمینه إن لم یکن متّهماً کما لو کان المتاع جمیعه بما فیه ذلک الثوب قد سُرق .. وهذا لا علاقة له بمحلّ الکلام من الدعوی وسماعها وکونها جزمیة أو غیر جزمیة ، ویکفی فی مقام ردّ الاستدلال مجرّد کون ذلک التفسیر محتملاً .

ص: 363


1- (10) لا یخفی أن الروایة وإن کانت غایة ما تدلّ علیه فی صورة عدم الاتهام هو عقد المستثنی منه [أعنی عدم سماع الدعوی فی حالة عدم التهمة] إلا أنه یُرجَع فی الاستدلال علی المستثنی [أعنی سماع الدعوی فی حالة عدم التهمة إذا کانت الدعوی جزمیة] إلی ما دلّ علی اشتراط الجزم مطلقاً فإن هذه الصورة من تطبیقاتها کما لا یخفی .

الروایة الثالثة :

صحیحة جعفر بن عثمان :

" قال : حمل أبی متاعاً إلی الشام مع جمّال فذکر أن حِمْلاً منه ضاع فذکرتُ ذلک لأبی عبد الله (علیه السلام) قال : أتتّهمه ؟ قلت : لا ، قال : فلا تضمّنه " (1) .

هذه الروایة تامة سنداً وهی ظاهرة فی التفصیل فی الضمان بین صورتی الاتهام وعدمه ففی صورة الاتهام یکون من حقّ صاحب المتاع أن یُضمّن الجمّال بعد عدم وجود بیّنة له بمقتضی الروایة السابقة ، وفی صورة الاتهام لا یکون من حقّه ذلک .

ویرد علیها ما ورد علی سابقتها من أنه لیس فیها ما یشیر إلی محلّ الکلام من الدعوی وسماعها فإنها تتحدّث عن حکم شرعی بالتفصیل بین حالتین من غیر افتراض دعوی ومرافعة .

ومن هنا یظهر أن استفادة المستدلّ لمطلوبه من هذه الروایات الثلاث لیس واضحاً ، نعم .. هناک روایات أخری استُدلّ بها علی هذا القول من التفصیل فی سماع الدعوی غیر الجازمة بین صورتی الاتهام وعدمه وسیأتی التعرّض لها إن شاء الله تعالی .

المسألة التاسعة : اشتراط الجزم فی الدعوی / ذکر أدلة القول الثالث وهو التفصیل بین صورتی التهمة وعدمها / الدلیل الثالث وهو الروایات / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) بحث الفقه

(بحث یوم الاثنین 13 ربیع الأول 1433 ه 69)

کان الکلام فی القول الثالث وهو التفصیل بین صورتی التهمة وعدمها وتقدّم ذکر الدلیل الثالث مما یمکن أن یُستدلّ به علی هذا القول وهو الروایات .. وقد ذکرنا منها روایات ثلاثاً لم یمکن اعتماد أیّ منها دلیلاً فی المقام لأنها تشیر إلی باب آخر (2) وهو باب الضمان حیث إنها بعد جمع دلالاتها تتحدّث عن تضمین الطرف الآخر إذا کان متهماً إلا إذا أقام بیّنة علی صحة ما یدّعیه من تلف ما فی یده من دون تعدٍّ أو تفریط أو حَلَف علی ذلک کما سیأتی فی روایة أخری (3) تجعل الحلف فی طول عدم وجود البیّنة ، ولا أقلّ من احتمال أن یکون هذا حکماً شرعیاً لا ربط له بباب الدعوی فیُثبِت متعلّقه (4) من دون حاجة إلی إعمال قواعد باب القضاء (5) ، ومجرّد ورود الاحتمال مانع بطبیعة الحال من الاستدلال .

ص: 364


1- (11) الکافی مج5 ص244 ، الوسائل أبواب أحکام الإجارة الباب الثلاثون الحدیث السادس مج19 ص50 .
2- (1) غیر ما نحن فیه من باب القضاء .
3- (2) وهی معتبرة أبی بصیر الآتیة .
4- (3) أی الضمان .
5- (4) بغضّ النظر عن کون هذا هو الموقف الشرعی النهائی الذی یُتمسّک به فإن هذا فرع أمور أخری دخیلة کمسألة عدم وجود المعارض له مع أنه توجد فی المورد روایات معارضة مفادها عدم تضمین الأمین ، وتمام الکلام فی محلّه من باب الضمان . (منه دامت برکاته)

ویُضاف إلی الروایات الثلاث المتقدّمة التی ذکرها السید الخوئی (قده) روایات أربع قد یُدّعی دلالتها علی المطلوب ، وهی :

الأولی :

روایة بکر بن حبیب :

" قال : قلت لأبی عبد الله (علیه السلام) : أعطیتُ جبّة إلی القصّار فذهبتْ بزعمه ، قال : إن اتهمته فاستحلفه ، وإن لم تتهمه فلیس علیه شیء " (1) .

وهذه الروایة غیر معتبرة سنداً من جهة راویها المباشر وهو بکر بن حبیب ، والظاهر أنها أجنبیة عن محلّ الکلام حیث لم یُفرض فیها دعوی ومقاضاة (2) .

الثانیة :

روایة أخری لبکر بن حبیب عن أبی عبد الله ( علیه السلام ) :

" قال : لا یضمن القصّار إلا ما جنت یده وإن اتهمته أحلفته " (3) .

والکلام فی سند هذه الروایة ودلالتها کالکلام فی سابقتها .

الثالثة :

معتبرة أبی بصیر عن أبی عبد الله ( علیه السلام ) :

" قال : لا یضمن الصائغ ولا القصّار ولا الحائک إلا أن یکونوا متّهمین فیُخوّف بالبیّنة ویُستحلف لعله یستخرج منه شیئاً ، وفی رجل استأجر جمّالاً فیکسِر الذی یحمل أو یُهریقه ، فقال : علی نحوٍ من العامل (4) إن کان مأموناً فلیس علیه شیء وإن کان غیر مأمون فهو ضامن " (5) .

ص: 365


1- (5) التهذیب مج7 ص221 ، الوسائل الباب التاسع والعشرون من أبواب أحکام التجارة الحدیث السادس عشر مج19 ص146 .
2- (6) أقول : مما یشیر إلی عدم تعلّق الروایة بمحلّ الکلام أن الإمام (علیه السلام) یذکر فیها للسائل أنه یجوز له استحلاف الطرف الآخر إن کان یتّهمه مع أن الاستحلاف فی باب القضاء وظیفة القاضی لا المدّعی فهذه قرینة علی أن موردها لیس باب القضاء .
3- (7) المصدر السابق الحدیث السابع عشر .
4- (8) یعنی حاله حال القصّار والصائغ .
5- (9) التهذیب مج7 ص218 ، الوسائل الباب التاسع والعشرون من أبواب أحکام التجارة الحدیث الحادی عشر مج19 ص144 ، قال (دامت برکاته) : قوله : (فیخوّف بالبیّنة) هو الموجود فی التهذیب وغیره لکن الموجود فی الفقیه (حیث إن له طریقاً آخر الی هذه الروایة) قوله : (فیجیئون) بدل (فیخوّف) .

الرابعة :

معتبرة الحلبی عن أبی عبد الله ( علیه السلام ) :

" فی حمّال یحمل معه الزیت ، فیقول : قد ذهب أو أُهرق أو قُطع علیه الطریق فإن جاء ببیّنة عادلة أنه قُطع علیه أو ذهب فلیس علیه شیء وإلا ضمن " (1) .

وهاتان الروایتان وإن کانتا معتبرتین سنداً إلا أنه یرد علی دلالتهما ما ورد علی الروایات المتقدّمة من عدم التعلّق بمحلّ الکلام حیث لم یُفرَض فیهما إقامة دعوی ومرافعة وإنما هما یتعلّقان بباب الضمان الذی لا یحتاج فی إجرائه إلی إعمال قواعد باب القضاء فإنه وإن ذُکر فیهما البیّنة والحلف إلا أن الظاهر أن المراد هو تعلیق الضمان علی عدمهما (2) ، ولو کان من باب القضاء لزم ردّ الیمین علی المدّعی مع أنه لم یُفرض فی هذه الروایات ذلک فیکون هذا مؤشّراً علی أن موردها لا یتعلّق بهذا الباب (3) .

مضافاً إلی أن هذه الروایات لم تُذکر فی باب القضاء فی کتب الأحادیث کالکتب الأربعة (4) والمجامیع الحدیثیة کالوسائل وإنما ذُکرت فی باب الإجارة کما هو ظاهر بالاستقصاء وهذا یدلّ علی أن بعض فقهائنا لم یفهموا منها تعلّقها بمحلّ الکلام .

ص: 366


1- (10) الفقیه مج3 ص254 ، الوسائل الباب الثلاثون من أبواب أحکام التجارة الحدیث السادس عشر مج19 ص153.
2- (11) ومن ذلک یُعلم أن المطالبة بالبیّنة والیمین کما یجری فی باب القضاء یجری فی باب الضمان لکن الفرق أن المطالِب - بالکسر - بهما فی الأول هو صاحب المال وفی الثانی هو القاضی .
3- (12) الذی هو محلّ الکلام .
4- (13) أی الکافی والفقیه والتهذیب والاستبصار .

نعم .. فی مقابل ذلک ما یظهر من عدد غیر قلیل من فقهائنا (قدهم) فهم تعلّقها بباب القضاء ولذا استدلّوا بها علی التفصیل المتقدّم من أنه فی موارد التهمة یُسمع قول المدّعی ولو لم یکن جازماً .

ولکن یظهر من صاحب الجواهر (1) الاعتراف بعدم تعلّقها بمحلّ الکلام إلا أنه یستفید منها کبری کلیة وهی أن التهمة تقتضی الاستحلاف فتُطبّق فی باب القضاء کغیره من الأبواب بمعنی أن المُدّعی علیه عندما یکون متهماً والدعوی تکون غیر جزمیة ولم تکن لدیه بیّنة یُستحلف ولا یُضمّن حینئذ .

هذا .. ولو تنزّلنا عمّا ذُکر وقلنا بأن لها نحو تعلّق بالمقام إلا أنها مع ذلک تکون أخصّ من المدّعی إذ لا یمکن التعدّی عن موردها وهو صورة تحقّق الید المقتضیة للضمان فی حدّ نفسها إلی ما لا یکون کذلک فلو سلّمنا بأن هذه الروایات تدلّ علی استحلاف المُدّعی علیه إذا کان متّهماً وسماع دعوی المدّعی فی حقّه وإن لم تکن دعواه جزمیة إلا أن موردها خصوص ما لو کان مال المدّعی تحت ید المُدّعی علیه مع اعتراف هذا الأخیر بذلک والتعدّی عن هذا المورد إلی مطلق الموارد کما فی حالات الاتهام بالقتل أو الاعتداء أو التزویر - حیث لا معنی لوجود ید فیها - یحتاج إلی القطع بعدم الخصوصیة وهو ممّا لا مجال له إذ أن احتمالها (2) قائم لا دافع له .

نعم .. ربما یقال إنه یمکن إلغاؤها بالنظر إلی ما ورد فی معتبرة أبی بصیر المتقدّمة من قوله (علیه السلام) : (لعله یستخرج منه شیئاً) الذی هو بمثابة جواب لسؤال مقدّر عن سبب مطالبة صاحب المال للمدّعی علیه بالبیّنة والحلف فیقال لعله یستخرج منه شیئاً من حقّه فیُدّعی أن هذا التعلیل بمثابة کبری کلیة مضمونها أن کل مورد یُحتمل أن یترتب علی الدعوی فیه استخراجُ شیء من الحقّ تکون (3) الدعوی فیه مسموعة ولو لم یُفترض وجود ید فی موردها حیث فرضنا - تنزّلاً - تعلّق الروایة بمحلّ الکلام - ولکن مع خصوصیة الید التی یراد رفع الید عنها بمقتضی هذه الکبری المستفادة من التعلیل المذکور - ولمّا کانت کل دعوی تقام عند القاضی تحتمل فی حدّ نفسها استخراج شیء من الحقّ فیها فیثبت المطلوب حینئذ وهو أن کل دعوی غیر جزمیة ولو لم تشتمل علی ید مقتضیة بذاتها للضمان تکون مسموعة لأنها بطبیعة الحال لا تخلو من ذلک الاحتمال .

ص: 367


1- (14) جواهر الکلام مج40 ص155 .
2- (15) أی تلک الخصوصیة وهی الید .
3- (16) جملة (تکون) خبر (أن) .

ولکن هذا الاستدلال غیر تام إذ لا یمکن معه التعدّی إلی غیر مورد تلک الروایات وهو صورة کون مال المدّعی تحت ید المُدّعی علیه وذلک لعدم إمکان شمول التعبیر بالاستخراج لغیر هذا المورد لأن معنی الاستخراج هو خروج ما هو ثابت فلا یجری إلا فی موارد الید حیث یکون المال ثابتاً فی ید المُدّعی علیه لیقال بعد ذلک : (لعل المدّعی یستخرج منه بسبب الدعوی شیئاً) فالکبری المستفادة من التعلیل المذکور مختصّة بصورة الید ولیست عامة لجمیع الصور .

وبعبارة أخری : إنه یُفهم من التعبیر بالاستخراج المفروغیة عن ثبوت الحقّ فی رتبة سابقة وهذا لا یتحقق إلا بعد افتراض وجود ید مقتضیة فی حدّ نفسها للضمان ، وأما الموارد التی لا یُفترض فیها ذلک مثل دعاوی القتل أو الاعتداء أو التزویر فلا یناسبها مثل هذا التعبیر فالتعدّی عن مورد الروایة إلی مثل هذه الموارد مشکل .

والحاصل أن الروایات المذکورة لا تدل علی ما هو المطلوب من سماع الدعوی غیر الجزمیة مطلقاً ، ولو تنزّلنا وسلّمنا دلالتها علی ذلک فلا یمکن التعدّی عن موردها من وجود ید مقتضیة للضمان إلی مطلق الموارد لعدم مناسبتها مع التعبیر بالاستخراج الوارد فیها .

هذا .. ولکن یمکن إثبات المطلوب بطریق آخر انطلاقاً ممّا أشار إلیه المحقق العراقی (قده) فی قضائه من دعوی استقرار سیرة العقلاء علی عدم عدّ الدعوی مع الید المقتضیة للضمان فی صورة التهمة (1) سفهیةً بل یرون أنه ینبغی سماع هذه الدعوی وترتیب الأثر علیها فیقال بالتعدّی إلی غیر موارد وجود الید المقتضیة للضمان بادّعاء قیام السیرة علی أن الدعوی فی مثل ذلک لیست سفهیة أیضاً کما هو المشاهد خارجاً فی دعاوی القتل فی حال وجود ما یشیر إلی اتّهام شخص معیّن فإنه لا ریب فی کون هذه الدعاوی مسموعة حتی مع الغضّ عن وجود روایات بهذا الخصوص بل یمکن أن یقال إن عدم سماع الدعوی فی موارد الاتهام لمجرد أنها غیر جزمیة یؤدّی إلی ضیاع کثیر من الحقوق لعدم کون هذا الفرض من الحالات النادرة التی قد لا تکون مورد اهتمام الشارع المقدّس فی سنّ الأحکام الکلیة بشأنها .

ص: 368


1- (17) الذی تقدّم أنه مورد الروایات المذکورة ، قال (دامت برکاته) : (لا بد أن تکون التهمة مبنیة علی أساسٍ کشهادة شاهد - مثلاً - ولیست تهمة جزافیة أو مبتنیة علی غرض لا یمتّ إلی الدعوی بصلة کالتسبّب بها إلی إیقاع الضرر بالمدّعی علیه بلا وجه حقّ) .

المسألة التاسعة : اشتراط الجزم فی الدعوی / ذکر أدلة القول الثالث وهو التفصیل بین صورتی التهمة وعدمها / إضافة بعض المؤیدات ، والمناقشة فی دلالة الروایات / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) بحث الفقه

(بحث یوم الثلاثاء 14 ربیع الأول 1433 ه 70)

کان الکلام فی ذکر ما یمکن أن یُستدلّ به علی القول الثالث وهو التفصیل بین صورتی التهمة وعدمها وتقدّم ذکر أدلة ثلاث - کان آخرها الروایات - ، ویُضاف إلیها ما یمکن أن یکون مؤیّداً فی المقام وهو اتّفاق الفقهاء (رض) فی بعض الفروع الفقهیة علی جواز سماع الدعوی مع التهمة وإن لم تکن جزمیة مع وضوح عدم اشتمالها علی ید مقتضیة للضمان فی حدّ نفسها کما لو ادّعی شخص علی آخر أنه مدین لمورّثه استناداً إلی کتابة وجدها بهذا المضمون فإن هذه الدعوی عندهم مسموعة والظاهر اتّفاقهم علی ذلک (1) بل قالوا إن الحاکم إذا عثر علی ما یفید أن للمیت دیناً بذمة شخص فمن حقّه أن یتصدّی لإقامة الدعوی علی المدین ولو عند حاکم آخر فی ما إذا لم یکن للمیت وارث ویظهر اتفاقهم علی هذا الحکم مع أن الدعوی فیه غیر جزمیة ولیست مشتملة علی ید کما هو ظاهر.

ولکن ما ذُکر لا یعدو کونه مؤیّداً ولا یمکن الرکون إلیه بمفرده لإثبات المطلوب ، نعم .. لا بأس به إذا ضُمّ إلی ما ذُکر دلیلاً علی المدّعی من قیام السیرة العقلائیة علی عدم عدّ الدعوی مع التهمة سفهیة سواء اشتملت علی ید مقتضیة فی حدّ نفسها للضمان أم لم تشتمل .

ص: 369


1- (1) وهی دعوی غیر جزمیة ولیست مشتملة علی ید .

هذا .. وقد تقدّم أنه لا یمکن الاستدلال بالروایات المتقدّمة لعدم الجزم بکونها ناظرة إلی محلّ الکلام حیث یُحتمل قویّاً تعلّقها بباب الضمان مع أنّا لو تنزّلنا عن ذلک وسلّمنا تعلّقها بباب القضاء إلا أنها لا تُثبت المطلوب علی عمومه إذ لا یمکن التعدّی عن موردها المتضمّن للید المقتضیة للضمان وإن کان داخلاً تحت المطلوب من حیث کون الدعوی فیه غیر جزمیة .

هذا .. مضافاً إلی أنه یشکل الاستدلال بها (1) من جهة أخری وهی اختلاف موردها عمّا نحن فیه فإن موردها هو اتّهام المنکر للمدعی لا اتّهام المدّعی للمنکر الذی هو محلّ الکلام ، وتوضیحه :

إن مقامنا هو صورة ما إذا کانت الدعوی غیر جزمیة مع کون المدّعی فیها متّهماً للمدّعی علیه فیُراد إثبات کون هذه الدعوی مسموعة وتُطبّق فیها قواعد باب القضاء استناداً إلی ما تقدّم من الأدلة ومنها الروایات .. إلا أن التأمّل فی هذه الروایات یُعطی أن موردها هو اتّهام المنکر للمدّعی وهو خلاف ما نحن فیه فإن ظاهرها أن الذی یبادر بالدعوی لیس هو صاحب المال وإنما هو الطرف الآخر حیث یدّعی أن المال الذی تحت یده سُرق منه وصاحبُ المال یُنکر ذلک ویتّهمه بالتعدّی علی المال فصاحبُ المال فی هذه الروایات منکر والذی تحت یده المال مُدّعٍ فی حین أن صاحب المال فی محلّ الکلام مُدّعٍ والذی تحت یده المال منکر ، کما أن المتَّهم (2) فی محلّ الکلام هو المنکر فی حین أن المتَّهم فی تلک الروایات هو المدّعی (3) ، ولمّا کانت القاعدة تقتضی طلب البیّنة من المدّعی فیکون طلبها فی مورد الروایات ممن تحت یده المال (4) فی حین أن طلبها فی محلّ الکلام یکون من صاحب المال (5) ، وأما إذا ادّعی من طُلبت منه البیّنة عدم توفّرها فتصل النوبة إلی طلب الیمین ولکن حیث کان جوازه مشروطاً بالجزم إذ غیر الجازم لا یمکنه الحلف وصاحبُ المال فی مورد الروایات غیرُ جازم فحینئذ یُردّ الیمین علی المدّعی نفسه - بعد عدم وجود بیّنة عنده تشهد علی صحة دعواه من کزن المال قد سُرق منه - فیکون هو نفسه المطالَب بالبیّنة والحلف فی حین أنه فی محلّ الکلام یکون المطالَب بالبیّنة غیر من هو مطالَب بالحلف ، نعم .. إذا نکل المنکر هاهنا عن الیمین رُدّ علی المدّعی .

ص: 370


1- (2) أی بالروایات المتقدمة فی الدلیل الثالث وما أضیف علیها من الروایات الأربعة الأخیرة .
2- (3) بالفتح - بصیغة المفعول - .
3- (4) نعم .. الذی تحت یده المال یمثّل کلاً منهما فی الموردین ففی الروایات هو مدّعٍ وفی محلّ الکلام هو منکر ولکن اختلاف وصفه بین الموردین ظاهر .
4- (5) لأنه هو المدّعی فیها حیث یدّعی أن المال قد سُرق منه .
5- (6) لأنه هو المدّعی فیه حیث یدّعی أن الطرف الآخر قد سرق ماله الذی کان تحت یده .

فظهر بما تقدّم الفرق الشاسع بین محلّ الکلام ومورد الروایات بما لا یدع مجالاً للاستدلال بها علی المطلوب بوجه .

والنتیجة أن الجزم من شروط الدعوی المسموعة إلا فی صورة التهمة فتُقبل الدعوی ولو لم تکن جازمة ولکن الدلیل علیها لیس الأخبار بل ما تقّدمت الإشارة إلیه من استقرار سیرة العقلاء وتبانیهم علی عدم عدّ الدعوی فی مورد التهمة سفهیةً فتُسمع ویُطبّق بشأنها قواعد باب القضاء لاسیما مع افتراض وجود ید مقتضیة فی حدّ نفسها للضمان .

هذا کله فی تکلیف القاضی والحاکم من حیث جواز سماع الدعوی وعدمه (1) .

وأما بالنسبة إلی المدّعی من حیث جواز إقامته للدعوی تکلیفاً فالذی ینبغی أن یقال :

إن المدّعی بالإضافة إلی ما یدّعیه لا یخلو من حالات ثلاث :

الأولی : أن یکون قاطعاً بثبوتها فهنا لا إشکال فی جواز إقامته للدعوی لأنها سبب فی استرداد حقّه.

الحالة الثانیة : أن یکون قاطعاً بعدم ثبوتها فهنا لا إشکال فی عدم جواز إقامته للدعوی لاستلزامها الافتراء وطلب ما لیس بحقّ .

الحالة الثالثة : أن یکون شاکّاً ، وهنا صورتان :

الأولی : أن یُبرز دعواه بصورة جازمة فلا یجوز لأنه کذب إذ المفروض کونه شاکّاً .

الصورة الثانیة : أن یُبرز دعواه بصورة غیر جازمة فإن کان معتمداً علی إمارة معیّنة کشهادة شخص أو قراءة المضمون فی ورقة - مثلاً فیجوز وإلا فیشکل (2) .

ص: 371


1- (7) الذی تقدّم أن فیه أقوالاً ثلاثة أوجهها ثالثها وهو التفصیل بین صورتی التهمة وعدمها الذی استُدلّ علیه بما أشیر إلیه من السیرة .
2- (8) أی أصل إقامة الدعوی فی هذه الحالة .

المسألة التاسعة / بیان تکلیف المدّعی من حیث جواز إقامته للدعوی وعدمه / ذکر حالات المدّعی/ الحالة الثالثة : أن یکون متردّداً وملاحظة مدی جواز إقامة الدعوی بصورة الجزم فی هذه الحالة / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) بحث الفقه

(بحث یوم الأربعاء 15 ربیع الأول 1433 ه 71)

کان الکلام فی بیان تکلیف المدّعی من حیث جواز إقامته للدعوی وعدمه حیث ذکرنا أنه بالإضافة إلی ثبوت ما یدّعیه لا یخلو من إحدی حالات ثلاث فإما أن یکون جازماً به أو جازماً بعدمه أو متردّداً ، وقلنا إنه لا إشکال فی جواز إقامته للدعوی فی الحالة الأولی وعدم جوازها فی الثانیة ولکن وقع الکلام فی الثالثة فهل یجوز له إقامتها بصورة الجزم أم لا ؟

وذکرنا أنه لا یجوز أن یُبرز دعواه بصورة جازمة لاستلزامه الکذب ، وأما إبرازها بصورة غیر جازمة فقلنا إنه إن کان معتمداً علی إمارة معیّنة فیجوز وإلا فیشکل .

ولا یخفی أن هذا بناءً علی اشتراط الجزم فی الدعوی - مطلقاً أو علی التفصیل بین مورد التهمة وعدمها - بمعنی أن الدعوی لا تُسمع إلا إذا کان المدّعی جازماً .

ویقع الکلام هاهنا فی ما هو المقصود بالجزم ؟ فهل المقصود به الجزم الواقعی بمعنی أن یکون جازماً فی نفسه وعقیدته أم المقصود به الجزم الظاهری وهو ما عبّرنا عنه سابقاً بالجزم الصیاغی أی الجزم فی مقام اللفظ والتعبیر ؟

المعتبر فی الحقیقة هو الأول ولو کان مستکشفاً من الثانی بمعنی أن الذی یدور حوله سماع الدعوی وجوداً وعدماً هو کون المدّعی جازماً ولا عبرة بالجزم فی صورة الدعوی وصیاغتها إلا من حیث کونه کاشفاً عن کون المدّعی جازماً فاعتبار الأول من حیث الموضوعیة واعتبار الثانی من حیث الطریقیة وحینئذ فإن علم القاضی بکون المدّعی جازماً فی دعواه فلا إشکال فی جواز سماعه لها ، وإن علم بکونه غیر جازم فیها فلا تکون دعواه مسموعة وإن صیغت بصورة جزمیة ، وأما إذا لم یعلم (1) حال المدّعی فیجوز له أن یستند إلی جزمه الظاهری (2) فی إحراز کونه جازماً فی الواقع (3) وذلک من باب مطابقة الظاهر للواقع وکونه طریقاً لإثباته إذ الجزم الظاهری بمثابة الإمارة الکاشفة التی یجوز الاستناد إلیها فی حالات الشکّ والتردّد .

ص: 372


1- (1) أی القاضی .
2- (2) أی إبرازه لدعواه بصیغة جزمیة .
3- (3) أی فی نفسه ومعتقده علی حدّ تعبیر صاحب الریاض (قده) وستأتی الإشارة إلیه - .

وقد ذکرنا فی مبحث سابق أن بعض ما استُدلّ به لاعتبار الجزم کان یشیر إلی أن المعتبر هو الجزم الواقعی وهو مسألة عدم إمکان ردّ الیمین علی المدّعی فی ما إذ اکانت الدعوی غیر جزمیة فإن هذا یناسب أن یکون هناک جزم واقعی فإن المتردد واقعاً هو الذی لا یمکنه أن یحلف وأما المتردد ظاهراً (1) مع کونه جازماً فی الواقع فلا مانع من ردّ الیمین علیه ویصحّ منه فإن الیمین وإن کان یعتبر فی جوازه الجزم ولکن لا یضرّه عدم الجزم فی الصیغة ما دام الشخص جازماً واقعاً ، ولو کان المراد هو الجزم الظاهری لم یصحّ حکمهم بعدم جواز ردّ الیمین علی المدّعی بهذا الإطلاق بل کان یلزم تقییده بغیر صورة إبراز الدعوی بصیغة جزمیة فإنه لا مانع فی ما لو کان مرادهم الجزم الظاهری من ردّ الیمین علی من أبرز دعواه بصیغة جزمیة ولو لم یکن فی الواقع جازماً فیُستکشف من حکمهم بعدم إمکان ردّه علیه فی الدعوی غیر الجزمیة أن المعتبر هو الجزم الواقعی ، نعم .. ذکر بعض الفقهاء (2) أنه : " یُعتبر الجزم فی الصیغة لا فی نفس الأمر والعقیدة " ولکن یمکن حمل هذا الکلام علی ما ذکرناه من اشتراط الجزم الواقعی وذلک بأن یقال إن الجزم فی الصیغة إنما یُعتبر من حیث کونه کاشفاً عادة عن الجزم فی النفس والاعتقاد وطریقاً لإحراز ذلک لا من جهةٍ موضوعیة .

هذا کله فی التفصیل الثالث - وهو التفصیل بین التهمة وعدمها ففی موارد التهمة تُسمع الدعوی وإن کانت غیر جزمیة وفی موارد عدم التهمة لا تُسمع الدعوی إلا إذا کانت جزمیة - .

ص: 373


1- (4) أی بحسب الصیغة .
2- (5) وهو صاحب الریاض (قده) .

التفصیل الرابع : وهو التفصیل بین ما یعسر الاطّلاع علیه (1) وما لا یعسر فیُلتزم بالسماع فی الأول وإن لم تکن الدعوی جزمیة وعدم السماع فی الثانی إلا إذا کانت الدعوی جزمیة .

وذُکر أن أول من صرّح به هو المحقق الکرکی (قده) وتبعه جماعة فی ذلک ولکن یبدو من عبارة فی الدروس طرح هذا الاحتمال من غیر تبنٍّ حیث یقول : " وأما الجزم فالإطلاق محمول علیه ولو صرّح بالظن أو الوهم فثالث الأوجه السماع فی ما یعسر الاطّلاع علیه " (2) .

استُدلّ علی الشقّ الثانی من هذا التفصیل الذی یشترط الجزم فی ما لا یعسر الاطّلاع علیه بما استُدلّ به علی القول الأول من اشتراط الجزم مطلقاً ، وأما الشق الأول منه وهو سماع الدعوی مطلقاً فی ما یعسر الاطلاع علیه (3) فلا بد فی الاستدلال علیه من الجواب علی دعوی مشمولیة هذا المورد لما دلّ علی اشتراط الجزم مطلقاً (4) فأجیب بأنه لما کان یلزم من عدم سماع الدعوی غیر الجزمیة فی هذا المورد (5) ضیاع کثیر من الحقوق والتسبّب فی إبطالها (6) من جهة أنه لا یمکن حصول الجزم فی کثیر من الموارد کالقتل والسرقة لتعسّر الاطّلاع علی الحدث فیها وفی هذا خطر کبیر ومحذور عظیم لا یمکن دفعه وتلافیه إلا بأن نلتزم بسماع أمثال هذه الدعاوی (7) غیر الجزمیة فیکون هذا استثناءً من القول باشتراط الجزم مطلقاً فینتج محلّ الکلام من القول بالتفصیل بین ما یعسر الاطّلاع علیه فیکون مسموعاً وما لا یعسر الاطّلاع علیه فلا یکون مسموعاً إلا إذا کان جزمیاً .

ص: 374


1- (6) کالقتل والسرقة علی ما مُثّل به فإن القاتل والسارق یُخفیان فی العادة جرمهما بحیث یکون من الصعب جداً أن یطّلع علیه أحد .
2- (7) الدروس للشهید الأول مج2 ص84 ، فالوجه الأول هو السماع مطلقاً والثانی هو عدم السماع مطلقاً والثالث هو التفصیل بین ما یعسر الاطّلاع علیه فیُسمع وإن لم تکن الدعوی جزمیة وما لا یعسر الاطّلاع علیه فلا یُسمع إلا إذا کانت الدعوی جزمیة .
3- (8) أی سواء کانت جزمیة أو غیر جزمیة .
4- (9) فإنها کما تشمل بإطلاقها مورد عدم تعسّر الاطّلاع کذلک تشمل بإطلاقها مورد تعسّر الاطّلاع .
5- (10) أی ما یعسر الاطّلاع علیه .
6- (11) أی تعطیلها وعدم استیفائها لمستحقیها .
7- (12) أی التی یعسر الاطّلاع علیها .

ولکن نوقش هذا الدلیل بأن المحذور المذکور - أعنی دعوی لزوم تضییع الحقوق - لیس فی الحقیقة علّة للزوم الحکم بالسماع یدور مداره وجوداً وعدماً لیقال إنه فی کل مورد یلزم من عدم السماع تضییع للحقوق یُحکم فیه بالسماع وفی کل مورد لا یلزم من عدم السماع تضییعها یُحکم بعدم السماع بل الظاهر أن ما ذُکر هو بمنزلة الحکمة التی لا تستتبع الحکم فی جمیع موارد وجودها ولا تقتضی عدمه فی موارد عدمها (1) من قبیل مسألة اختلاط المیاه فی باب العدة ، نعم .. فی ما یعسر الاطّلاع علیه من هذه الدعاوی إذا اشتمل علی تهمة (2) کما هو الغالب فی حالات القتل والسرقة فیکون مسموعاً وإن لم یکن صاحب الدعوی جازماً وذلک بمقتضی ما دلّ من الأدلة علی سماع الدعوی فی حالات الاتهام وإن لم تکن جزمیة فیتعلّق السماع بوجود التهمة وعدمها وهذا فی الحقیقة رجوع إلی التفصیل السابق .

هذا تمام الکلام فی هذه المسألة .

المسألة العاشرة / فی الدعوی المالیة / صور المُدّعی علیه / الصورة الأولی : اعتراف المُدّعی علیه / أدلة نفوذ الإقرار وحجیته / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) بحث الفقه

(بحث یوم السبت 18 ربیع الأول 1433 ه 72)

قال (قده) فی المسألة العاشرة : " إذا ادّعی شخص مالاً علی آخر فالآخر لا یخلو من أن یعترف له أو ینکر علیه أو یسکت بمعنی أنه لا یعترف ولا ینکر ، فهنا صور ثلاث : (الأولی) : اعتراف المُدّعی علیه فیحکم الحاکم علی طبقه ویؤخذ به " .

ص: 375


1- (13) فقد یثبت الحکم مع عدمها وقد ینتفی الحکم مع وجودها .
2- (14) شریطة أن تکون مستندة إلی أمارة معینة ولیست اعتباطیة أو ناشئة من أغراض شخصیة .

لعل الوجه فی تخصیص هذه المسألة بالدعوی المالیة - کما هو الظاهر من قوله : (إذا ادّعی شخص علی آخر مالاً) - أن الأدلة الآتیة والأحکام المترتّبة علیها التی تُذکر فی کل صورة من الصور الثلاث التی یکون علیها المنکر (1) واضحة الجریان فی الدعوی المالیة وهذا بخلاف الدعوی غیر المالیة - سواء تعلّقت بالعین أو بغیرها - فبعض الأدلة والأحکام لا یجری فیها فعُقدت هذه المسألة فی ما هو محلّ اتّفاق فی جریان الأدلة فیه بغضّ النظر عن مدی الالتزام بمقتضی هذه الأدلة وإثبات الأحکام التی تترتّب علیها .

هذا .. وقد ذُکر فی المتن ثلاث صور للمنکر عندما توجّه إلیه الدعوی هی الاعتراف والإنکار والسکوت ، وأضاف بعضهم صورة رابعة وهی قول المنکر : (لا أدری) - وهو غیر السکوت - ، وأضاف السید صاحب العروة (قده) فی ملحقاتها صوراً أخری مثل قول المنکر : (أدّیتُ) أو (رددتُ) أو (أنت أبرأتنی) ونحو ذلک مما یکون منافیاً لدعوی المدّعی .. ونحن نتعرّض لما ذکره فی المتن من الصور الثلاث بالترتیب :

الصورة الأولی :

اعتراف المُدّعی علیه .. وهو ما یُسمّی بالإقرار وهو لغة من قَرّ الشیء یَقِرّ إذا ثبت فالمدّعَی علیه یُثبت ما یدّعیه المدّعِی علیه واصطلاحاً عُرّف بأنه إخبار عن حقّ لازم له وهو صحیح لأن الإقرار یدخل فی باب الإخبار لا الإنشاء ، والمراد به الإذعان بالشیء ، وهو من طرق الإثبات فی باب القضاء علی حدّ البیّنة والیمین وعلم القاضی المباشر عن حسّ - کما تقدّم - .

ومن المناسب قبل البحث عن الأحکام المترتبة علی الإقرار البحث عن مدی حجیته ونفوذه وکیف تثبت الدعوی به فأقول :

ص: 376


1- (1) وهی الاعتراف والإنکار والسکوت .

قد ذُکرت أدلة علی نفوذ الإقرار وحجیته من جملتها روایات نتعرّض لبعضها :

الروایة الأولی :

النبوی المشهور : (إقرار العقلاء علی أنفسهم جائز) .

ودلالة هذه الروایة علی نفوذ الإقرار واضحة لأن المراد بالجواز فیها هو الجواز الوضعی أی النفوذ لا الجواز التکلیفی کما هو ظاهر .. ولکن الکلام فی سندها فإن هذه الروایة وردت فی کتب الأحادیث مرسلة إلا أنها وردت کثیراً فی کلمات الفقهاء فی مقام الاستدلال وادّعی فی الجواهر استفاضتها أو تواترها ومن المحتمل قویاً أن مقصوده الاستفاضة والتواتر المعنویین وهذه الدعوی لیس ببعیدة کما سیأتی فإن هناک روایات کثیرة ظاهرة فی نفوذ الإقرار ، وأما احتمال أن یکون مقصوده الاستفاضة والتواتر اللفظیین فبعید جداً لأن هذه الروایة لیس لها طریق وسند غایة الأمر تأتّی القطع بمضمونها .

هذا .. وقد یُدّعی جبرها بعمل الأصحاب بالرغم من کونها مرسلة ومن المعلوم أن عملهم جابر لضعف السند فتصحّ الروایة حینئذ اعتماداً علی قاعدة الجبر .. ولکن لو سُلمت هذه القاعدة کبریً فهناک تشکیک فی کون المقام صغری لها وذلک من جهة أن الفقهاء وإن ذکروا هذا الحدیث فی مقام الاستدلال إلا أنه لیس من الواضح أنهم قصدوا الاستدلال به باعتباره حدیثاً بل من المحتمل أنهم أرادوا الاستدلال به من حیث مضمونه ومعناه فیکون ذلک منهم إشارة إلی قضیة ارتکازیة عقلائیة مفادها أن إقرار العاقل علی نفسه نافذ .

الروایة الثانیة :

خبر جرّاح المدائنی عن أبی عبد الله (علیه السلام) أنه قال : " لا أقبل شهادة الفاسق إلا علی نفسه " (1) .

ص: 377


1- (2) الکافی مج7 ص395 ، الوسائل الباب السادس من أبواب الإقرار الحدیث الأول مج23 ص186 .

والکلام فی هذه الروایة یقع فی سندها وفی دلالتها :

أما من حیث السند فهی ضعیفة برجلین أحدهما القاسم بن سلیمان والآخر جرّاح المدائنی فإنهما لم یُوثّقا فی کتب الرجال .

نعم .. ربما یقال بإمکان الاعتماد علی المدائنی من جهة أن النجاشی ذکر بشأنه أنْ : (له کتاب یرویه عنه جماعةٌ منهم النضر بن سوید) والتعبیر بالجماعة ینصرف إلی الکثیر والظاهر أنها روایةُ کتابةٍ لا روایة وجادة فلا یبعد أن یحقق هذا إکثار الروایة عنه (1) .

وأما من حیث الدلالة فالمستفاد من منطوق القضیة الواردة فیها أن شهادة الفاسق تُقبل علی نفسه فبالأولویة القطعیة یثبت أن شهادة غیر الفاسق - وهو العادل - علی نفسه تکون مقبولة (2)

(3)

(4)

ص: 378


1- (3) أقول تتمیماً لهذا الوجه : أن إکثار الروایة عن الشخص یجعله من المعاریف والمشهورین فإذا ضُمّ إلیه أنه ممن لم یرد بحقّه تضعیف فینتج توثیقه بناءً علی کبری توثیق الشخص إذا کان من المعاریف ولم یرد بشأنه تضعیف .. ولکنْ فی تمامیة هذه الکبری کلام مذکور فی محلّه من علم الرجال .
2- (4) إذ لا یُحتمل البتة اختصاص الفاسق بقبول شهادته فی حقّ نفسه دون العادل بل قبول شهادة العادل فی حقّ نفسه أولی .
3- (5) أقول : تطرّق (دامت برکاته) فی مجلس بحثه الشریف فی بیان الدلالة هاهنا إلی مفهوم الحصر فذکر أن الفاسق لا تُقبل شهادته علی غیره فیُفهم أن غیر الفاسق - وهو العادل - تکون شهادته علی نفسه وعلی غیره مقبولة ، والملاحظ علیه أمران :
4- (6) الأول : إن عدم قبول شهادة الفاسق علی غیره - وهو المستفاد من مفهوم الحصر أجنبی عن المطلوب فإن الکلام فی إقرار الشخص علی نفسه وأما شهادة الشخص علی غیره فتدخل فی باب البینة وهی غیر محلّ الکلام .

(1)

(2) فیتحصّل أن شهادة الإنسان مطلقاً - عادلاً کان أو فاسقاً - علی نفسه تکون مقبولة وقبول الشهادة یساوق نفوذها وحجیتها فالنتیجة أن شهادة الإنسان علی نفسه تکون نافذة ومقبولة وعلی ذلک فتکون شهادة المنکِر واعترافه علی نفسه نافذاً فی حقّه فیثبت المطلوب .

والحاصل أن الروایة تامة الدلالة ولکن سندها لیس بتام .

الروایة الثالثة :

مرسلة العطار عن بعض أصحابه عن أبی عبد الله (علیه السلام) : " قال : المؤمن أصدق علی نفسه من سبعین مؤمناً علیه " (3) .

وهذه الروایة لیست موجودة فی الکتب الحدیثیة المعروفة وإنما رواها الشیخ الصدوق فی کتاب صفات الشیعة عن محمد بن الحسن بن الولید عن الصفّار عن أحمد بن محمد عن محمد بن الحسن العطّار.

وفی بعض النسخ بدل (محمد بن الحسن العطّار) ذُکر (محمد بن یحیی العطّار) وهو شیخ القمیین فی زمانه وبناءً علی هذا یمکن إخراج الروایة عن حدّ الإرسال وعدم الاعتماد بملاحظة أن نسبة من یروی عنه محمد بن یحیی العطّار من الثقات والأجلاء کبیرة جداً فحینئذ یکون احتمال أن یکون الشخص المعبّر عنه بقوله (عن بعض أصحابه) من المجاهیل أو الضعاف احتمالاً ضعیفاً مما یورث الوثوق أو الاطمئنان بصحة الروایة سنداً .

ص: 379


1- (7) الثانی : إن الانتقال من قبول شهادة الفاسق علی نفسه إلی قبول شهادة العادل علی نفسه لا بد أن یکون بتوسّط الأولویة القطعیة وکأنه (دامت برکاته) أضمرها فلم یتبیّن وجه الانتقال .
2- (8) ومن هنا آثرنا ذکر الأمر الثانی وعدم ذکر الامر الأول معتمدین علی استبیان ما ذُکر فی مجلس البحث بما ذکرناه فی هذا الهامش توخّیاً للأمانة فی التقریر فلیُلاحظ .
3- (9) صفات الشیعة للصدوق ص37 ، الوسائل أبواب الإقرار الباب الثالث الحدیث الأول مج23 ص184.

وأما من حیث الدلالة فهی تامة بتقریب أن المقصود بها أن الإنسان إذا شهد علی نفسه فإن شهادته علیها تکون أصدق وأقرب إلی الواقع من شهادة سبعین مؤمناً یشهدون علیه فتکون شهادته علی نفسه مقبولة ونافذة .

الروایة الرابعة :

ما ورد فی أبواب متفرّقة مثل باب الغصب والإقرار والعتق وغیرها - مما یدلّ علی أن الشارع المقدّس حکم فی مواردها بنفوذ إقرار الشخص علی نفسه :

منها : ما رواه السکونی عن أبی عبد الله (علیه السلام) : " قال : قال أمیر المؤمنین (صلوات الله علیه) فی رجل أقرّ عند موته لفلان وفلان لأحدهما عندی ألف درهم ثم مات علی تلک الحال (1) ، فقال : أیهما أقام البیّنة فله المال فإن لم یقم واحد منهما البیّنة فالمال بینهما نصفان " (2) .

ودلالتها علی ما نحن فیه واضحة وذلک من جهة المفروغیة عن نفوذ الإقرار وإنما الکلام فیها وقع فی تحدید المقرّ له بمقتضی ما ذکره الإمام (علیه السلام) من الضابطة فی ذلک وهی أن المال لمن أقام البیّنة وإلا فهو بینهما نصفان .

ومنها : ما رواه عبد الله بن سنان عن أبی عبد الله (علیه السلام) قال : " کان أمیر المؤمنین (علیه السلام) یقول : إن الناس کلهم أحرار إلا من أقرّ علی نفسه بالعبودیة وهو مُدْرِک من عبد أو أمة ومن شُهِد علیه بالرقّ صغیراً کان أو کبیراً " (3) .

ص: 380


1- (10) أی من غیر أن یُشخّص من هو الدائن منهما .
2- (11) الکافی مج7 ص58 ، الوسائل أبواب الإقرار الباب الثانی الحدیث الأول مج23 ص184 .
3- (12) الکافی مج6 ص195 ، الوسائل أبواب العتق الباب التاسع والعشرون الحدیث الأول مج23 ص54 .

هذه الروایة وإن لم یکن موردها الدعوی المالیة التی هی محلّ الکلام ولکنها تُشیر بلا إشکال إلی أن إقرار الإنسان علی نفسه بالعبودیة یکون نافذاً فتدلّ علی نفوذ الإقرار فی ما نحن فیه من الإقرار بالمال بالأولویة .

هذا .. وسیأتی الکلام علی بقیة الروایات إن شاء الله تعالی .

المسألة العاشرة / فی الدعوی المالیة / صور المُدّعی علیه / الصورة الأولی : اعتراف المُدّعی علیه / أدلة نفوذ الإقرار وحجیته / إیضاح یتعلّق بسند روایة السکونی المتقدّمة / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) بحث الفقه

(بحث یوم الأحد 19 ربیع الأول 1433 ه 73)

إیضاح یتعلّق بسند روایة السکونی المتقدّمة فی البحث السابق :

ورد فی سند هذه الروایة فی الوسائل (أبو إسحاق) والظاهر أن المراد به إبراهیم بن هاشم القمی الثقة المعروف بقرینة أن الشیخ الکلینی (قده) روی هذه الروایة أیضاً فی الکافی وسنده فیه هکذا : (علی بن إبراهیم عن أبیه عن النوفلی عن السکونی) (1) مما یعنی أن الراوی عن النوفلی فی هذه الروایة هو إبراهیم بن هاشم مضافاً إلی أن الشیخ الصدوق (قده) روی هذه الروایة نفسها بإسناده عن السکونی (2) وطریقه إلیه یمرّ بإبراهیم بن هاشم ، وأبو إسحاق وإن کان مشترکاً بین جماعة إلا أنه لا یبعد أن یُستظهر بهذه القرینة أن المقصود به هو إبراهیم بن هاشم فإنه یُکنّی بأبی إسحاق أیضاً .

ثم إن من جملة الروایات الواردة فی الأبواب المتفرّقة الدالة علی نفوذ الإقرار فی حقّ المقرّ :

ص: 381


1- (1) الکافی مج7 ص58 .
2- (2) الفقیه مج4 ص23 .

روایة إسحاق بن عمار عن أبی عبد الله (علیه السلام) : " فی رجل مات فأقرّ بعض ورثته لرجل بدین ، قال : یلزمه ذلک فی حصته " (1) .

أی یلزم المقرّ فی حصته ما أقرّ به ولا یلزم باقی الورثة ممن لم یقرّ بمثل ذلک لأن الإقرار إنما ینفذ فی خصوص المقرّ ، وهذه الروایة واضحة الدلالة فی نفوذ الإقرار علی النفس وترتیب الأثر علیه ولکنها ضعیفة بالإرسال فلا یتم الاستدلال بها (2)

(3)

(4) .

ص: 382


1- (3) الوسائل أبواب الإقرار الباب الخامس الحدیث الأول مج23 ص185 .
2- (4) حیث ورد السند فی الوسائل هکذا : " محمد بن الحسن بإسناده عن محمد بن الحسن الصفار عن أحمد بن محمد بن عیسی عمّن رواه عن محمد بن أبی عمیر عن محمد بن أبی حمزة وحسین بن عثمان عن إسحاق بن عمار عن أبی عبد الله ( علیه السلام ) " .
3- (5) هذا .. ولکنی وجدتُ فی الکافی سنداً آخر لهذه الروایة خالیاً من الإرسال هکذا : " علی بن إبراهیم عن أبیه عن ابن أبی عمیر عن محمد بن أبی حمزة وحسین بن عثمان عن إسحاق بن عمار عن أبی عبد الله (علیه السلام) " الکافی مج7 ص43 و168 .. کما أنی وجدت السند (المذکور فی الوسائل) بعینه مذکوراً فی التهذیب والاستبصار فی عدة مواضع خالیاً من جملة (عمّن رواه) فیُحتمل قویاً زیادتها فی الوسائل بل هو الظاهر .
4- (6) فالنتیجة خلوّ الروایة من الإرسال استناداً إلی ما هو المذکور فی الکافی والتهذیبین وکون جملة الإرسال أعنی قوله (عمن رواه) مزیدة فی الوسائل کما هو الظاهر .

ومنها : معتبرة محمد بن قیس عن أبی جعفر (علیه السلام) عن أمیر المؤمنین (علیه السلام) :

" فی رجل أقرّ علی نفسه بحدّ ولم یسمّ أیّ حدّ هو ، قال : أَمَر أن یُجلد حتی یکون هو الذی ینهی عن نفسه [ فی ] الحدّ " (1) .

وهذه الروایة واضحة الدلالة أیضاً علی أن الإقرار یترتب علیه الأثر والأثر الذی رُتّب فی المقام هو إقامة الحدّ علی المقرّ .

ومنها : معتبرة الحلبی ، عن أبی عبد الله ( علیه السلام ) :

" فی رجل أقرّ علی نفسه بحدّ ثم جحد (2) بعدُ ، فقال : إذا أقرّ علی نفسه عند الإمام أنه سرق ثم جحد قطعت یده وإن رغم أنفه وإن أقرّ علی نفسه أنه شرب خمراً أو بفریة فاجلدوه ثمانین جلدة، قلت: فإن أقرّ علی نفسه بحدّ یجب فیه الرجم أکنت راجمه ؟ فقال : لا ، ولکن کنت ضاربه الحدّ " (3) .

ومنها : معتبرة عبد الله بن المغیرة عن غیر واحد من أصحابنا عن أبی عبد الله (علیه السلام) :

" فی رجلین کان معهما درهمان فقال أحدهما : الدرهمان لی ، وقال الآخر : هما بینی وبینک ، فقال: أمّا الذی قال : (هما بینی وبینک) فقد أقرّ بأن أحد الدرهمین لیس له وأنه لصاحبه ویُقسّم الآخر بینهما " (4) .

ص: 383


1- (7) الکافی مج7 ص219 ، الوسائل أبواب مقدمات الحدود الباب الحادی عشر الحدیث الأول مج28 ص25 .
2- (8) أی إذا رجع وأنکر ما أقرّ به .
3- (9) الکافی مج19 ص220 ، الوسائل مج28 ص26 .
4- (10) الفقیه مج3 ص35 ، الوسائل أبواب الصلح الباب التاسع الحدیث الأول مج18 ص450 .

هذه الروایة معتبرة من حیث السند فإن التعبیر ب_(غیر واحد) یراد به الکنایة عن الکثرة بحسب التلقّی العرفی ، وأما من حیث الدلالة فهی ظاهر فی المطلوب فإن الإمام (علیه السلام) رتّب الأثر علی هذا الإقرار فتکون من أدلة اعتبار الإقرار ونفوذه .

ولکن هذا إذا فهمنا منها تعلّقها بباب الإقرار مع أنه یُحتمل أن المراد ب_(أقرّ) هو التسلیم وعدم النزاع لا الإقرار بالمعنی المصطلح فتکون الروایة حینئذ أجنبیة عن محلّ الکلام .

وهناک روایات أخری کثیرة یمکن العثور علیها فی ابواب الفقه المختلفة لها تعلّق بالمطلوب .

وتقریب الاستدلال بهذه الروایات أن یقال إن المستظهر من الدلیل بمقتضی الفهم العرفی هو إلغاء خصوصیات هذه الموارد والنظر إلی أن ما یکون دخیلاً فی إثبات الإقرار إنما هو الجهة المشترکة بینها وهی کون الإقرار صادراً من قبل الشخص علی نفسه ولا خصوصیة بنظر العرف لکونه وارداً فی باب الصلح أو باب الحدود أو غیرهما من تلکم الموارد فتُستنبط حینئذ قاعدة کلیة مفادها أن إقرار الشخص علی نفسه نافذ وتُطبق هذه الکلیة فی جمیع الموارد حتی تلک التی لم یرد فیها نصّ بالخصوص بل قد یُترقّی عن مستوی الاستظهار إلی ادّعاء الجزم فی إلغاء الخصوصیات وحینئذ یکون الاستدلال أوضح .

الدلیل الثانی :

الارتکاز العقلائی القاضی بنفوذ إقرار الشخص علی نفسه فإن المرتکز فی أذهان العقلاء أن إقرار الشخص علی نفسه نافذ ولذلک فهم یرتّبون الأثر علیه ویُلزمون الشخص بمقتضی إقراره ، والظاهر أن هذه القضیة لیست مختصّة بعقلاء هذا الزمان وإنما هی موجودة عند العقلاء فی الأزمنة المتقدّمة بما فی ذلک زمان الأئمة المعصومین (علیهم السلام) .

ص: 384

والسرّ فی ذلک أن هذا الارتکاز لا یعتمد علی نکات خاصة بعقلاء هذا الزمان دون غیرهم من عقلاء الأزمنة المتقدّمة وإنما هو یعتمد علی نکات عامة ومشترکة عند العقلاء فی کل زمان بمعنی أن الانسان عندما یراجع أحاسیسه وانسیاقاته لا یشعر بأن المؤثر فی هذا الارتکاز - الذی لا إشکال فی وجوده عنده - هو جهات الامتیاز وإنما هو نابع من نکات عقلائیة مشترکة بین الجمیع وعلی ذلک فیُستکشف وجوده فی الأزمنة السابقة بما فی ذلک زمان الأئمة المعصومین (علیهم السلام) وبضمیمة عدم الردع یثبت الإمضاء وحینئذ یترتّب الأثر علیه - کما هو مقرّر فی محلّه من بحث السیرة فی الاصول - (1) .

هذا .. وإنما استُند فی هذا الدلیل إلی الارتکاز العقلائی دون دعوی السیرة العقلائیة وذلک من جهة أن موارد إقرار الشخص علی نفسه لیست من الکثرة بحیث تنعقد علیها السیرة .. علی أنه لا فرق بینهما فی مجال استکشاف الحکم الشرعی منهما بضمیمة عدم الردع .

هذان دلیلان لإثبات أصل المطلب من نفوذ الإقرار علی النفس وفیهما غنی وکفایة ، نعم .. ذکر الفقهاء (رض) جملة من الآیات القرآنیة التی تدل علی نفوذ الإقرار وحجّیته ووقع فی مدی دلالتها علی ذلک کلام طویل لکن الظاهر أنّنا فی غنی عن الدخول فی ذلک (2) لاسیما فی ما یرتبط بتفسیر کلام الله تعالی .

ص: 385


1- (11) أقول : دعوی کون الردع عن الارتکازات العقلائیة - التی لم تقم سیرة فی متعلّقها لندرة مواردها - هو من وظیفة الشارع المقدّس علی حدّ وظیفته فی الردع عن السیرة العقلائیة فی ما إذا لم تکن مرضیة لدیه لا تخلو من إشکال أو منع .
2- (12) لعدم انحصار الدلیل بها حتی یستدعی ذلک تجشّم الخوض فیها .

ثم إن هاهنا مبحثاً مرتبطاً بالمقام وهو أن مقتضی إطلاق الأدلة الدالة علی نفوذ الإقرار هو أنه لا فرق فی اعتباره بین أن یتعقّبه الانکار من المقرّ أو لا یتعقّبه فالإقرار مطلقاً (1) یکون نافذاً سواء استُفیدت حجیته من الأدلة اللفظیة أو من بعض الأدلة اللّبیة من قبیل الارتکاز العقلائی المتقدّم ولا محذور فی التمسّک بهذا الارتکاز مطلقاً (2) وإن کان دلیلاً لبیاً لأن الاقتصار علی القدر المتیقَّن فی الدلیل اللّبی إنما هو فی مورد الشکّ وأما عندما یُستوضَح قیامه فی مطلق الموارد فلا محذور فی التمسّک به مطلقاً ، وفی المقام فإن هذا الارتکاز قائم علی نفوذ الإقرار حتی بعد الإنکار فلا ضیر فی التمسّک به فی مطلق موارده التی یُستوضَح عند العقلاء قیامه فیها ، نعم .. لا بد من استثناء ما دل الدلیل علی استثنائه بالخصوص ومن ذلک ما ورد فی بعض الأدلة من عدم نفوذ الإقرار فی موارد خاصة کما فی قضیة الرجم ومن عدم نفوذه إلا بانضمام إقرارات أخری إلیه بعدد معیّن کما فی حدّ الزنا فمثل هذه الأدلة لا ریب فی کونها مقیّدة للإطلاق لفظیاً کان أو لبّیاً .

المسألة العاشرة / فی الدعوی المالیة / صور المُدّعی علیه / الصورة الأولی : اعتراف المُدّعی علیه / أدلة نفوذ الإقرار وحجیته / استدراکات ترتبط بما تقدّم / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) بحث الفقه

(بحث یوم الاثنین 20 ربیع الأول 1433 ه 74)

استدراکات ترتبط بما تقدّم :

أولاً :

ص: 386


1- (13) أی سواء تعقّب بالإنکار أو لم یتعقّب .
2- (14) الهامش السابق .

فی ما یخصّ روایة جرّاح المدائنی (1) التی ضعّفناها من جهة عدم توثیق الراوی المباشر نفسه (2) وکذلک من جهة عدم توثیق رجل آخر ممن وقع فی السند وهو القاسم بن سلیمان فقد وجدنا أن مضمون الروایة نفسه مذکور فی ما رواه الشیخ الصدوق بسند تام عن محمد بن قیس عن أبی جعفر (علیه السلام) قال : " کان أمیر المؤمنین (علیه السلام) یقول : لا آخذ بقول عرّاف ولا قائف ولا لصّ ولا أقبل شهادة الفاسق إلا علی نفسه " (3) .

وثانیاً :

بالنسبة إلی روایة إسحاق بن عمار (4) التی ضعّفناها من جهة الإرسال والتی نقلناها عن کتاب الإقرار فقد وجدنا أن هذه الروایة نفسها مرویة فی کتاب الوصایا بسند معتبر (5) ینقلها صاحب الوسائل عن الفقیه والکافی والتهذیب .

وسند الفقیه فی الوسائل هکذا : " وبإسناده (6) عن ابن أبی عمیر عن محمد بن أبی حمزة وحسین بن عثمان عن إسحاق بن عمار عن أبی عبد الله (علیه السلام) " .

وهذا السند معتبر فإن طریق الشیخ الصدوق إلی ابن أبی عمیر تام ، ومحمد بن أبی حمزة یمکن توثیقه من جهتین :

ص: 387


1- (1) مرّ ذکرها فی بحث یوم السبت 18 ربیع 2 .
2- (2) أی جرّاح المدائنی .
3- (3) الفقیه مج3 ص50 .
4- (4) مرّ ذکرها فی بحث یوم الأحد 19 ربیع 2 .
5- (5) الوسائل الباب السادس والعشرون الحدیث الثالث مج23 ص324 .
6- (6) أی الشیخ الصدوق (قده) .

الأولی :

کونه من مشایخ ابن أبی عمیر الذی ثبت أنه لا یروی إلا عن ثقة .

الثانیة :

بالاعتماد علی ما نقله الکشی عن شیخه حمدویه بن نصیر حیث سأله عن أولاد أبی حمزة الثمالی وهم علی والحسین ومحمد فقال : (کلهم ثقاة فاضلون) .

وأما حسین بن عثمان فهو وإن کان مشترکاً بین جماعة إلا أنهم جمیعاً ثقاة ، ومع قطع النظر عن هذا فلا یضرّ وروده فی السند فی کون الروایة صحیحة سنداً لکونه معطوفاً فیه (1) علی محمد بن أبی حمزة ، وأما الراوی المباشر عن الإمام (علیه السلام) أعنی إسحاق بن عمار فهو ثقة أیضاً فالروایة تامة بسند الشیخ الصدوق .

وکذلک هی تامة أیضاً بسند الشیخ الکلینی حیث یرویها عن علی بن إبراهیم عن أبیه عن ابن أبی عمیر عن محمد بن أبی حمزة وحسین بن عثمان عن إسحاق بن عمار والسند تام بل الشیخ الطوسی الذی اشتمل سنده علی الإرسال یروی الروایة نفسها بطریق آخر خالٍ عن الإرسال وذلک بإسناده عن أحمد بن محمد بن عیسی عن محمد بن أبی عمیر (2) لأن الإرسال کان واقعاً فی ذلک السند قبل ابن أبی عمیر (3) .

ص: 388


1- (7) أی فی السند .
2- (8) أقول : لا بد أن یکون هذا بضمیمة صحة طریق الشیخ (قده) إلی أحمد بن محمد بن عیسی .
3- (9) أقول : قد تبیّن لک مما ذکرناه فی هامش سابق أن جملة الإرسال أعنی قوله (عمن رواه) مزیدة فی الوسائل کما هو الظاهر (یُلاحظ بحث الأحد 19ر2 ص1 هامش4) .

وثالثاً :

کنّا قد استدللنا علی نفوذ الإقرار بالارتکاز العقلائی وقد یُدّعی مضافاً إلیه الاستدلال بارتکاز المتشرعة وسیرتهم الممتدّة إلی زمان الشارع .. وهذا إذا تمّ یکون کاشفاً عن الدلیل الشرعی من غیر احتیاج إلی ضمیمة عدم الردع للدلالة علی الإمضاء لأن سیرة المتشرّعة معلولة للدلیل الشرعی .

ولکن هذا الاستدلال یتوقف علی انحصار تفسیر السیرة - أو الارتکاز المتشرّعی - بالدلیل الشرعی بحیث لا یوجد أیّ تفسیر آخر لانعقاد سیرة المتشرّعة - أو ارتکازهم - علی ما ادُّعی قیامها علیه إلا بالتلقّی من الشارع فتکون کاشفة عنه حینئذ کشفاً إنیاً من باب کشف المعلول عن العلة ، وأما إذا أمکن تفسیرها بغیر ذلک فلا یتمّ کشفها عنه لأنها لا تکون معلولة له حینئذ وإنما تکون معلولة لما المُدّعی تفسیرها به وهو فی المقام الارتکاز العقلائی المتقدّم لأن المتشرّعة بعضٌ من العقلاء فإذا فُرض أنه کان هناک ارتکاز عقلائی علی نفوذ إقرار المقرّ علی نفسه وفی الوقت نفسه کان هناک سیرة - أو ارتکاز متشرّعی - علی ذلک فمن المحتمل أن تکون مستندة فی ذلک إلیه فلا تکشف حینئذ عن دلیل شرعی بل هذه السیرة بناءً علی هذا الاحتمال هی سیرة عقلائیة غایة الأمر أنها سیرة عقلائیة امتدّت للمجال الشرعی فهی سیرة صادرة من المتشرّعة بما هم عقلاء لا بما هم متشرّعة فیشملها حینئذ ما یشمل سیرة العقلاء من أنها لا تکون کاشفة علی الدلیل الشرعی مباشرة وإنما تحتاج إلی توسّط عدم الردع ، ولا ضرورة لإحراز استنادها إلی ذلک (1) فإن احتماله کافٍ فی المنع من الاستدلال .

هذا .. وقد کان الکلام فی أن مقتضی إطلاق الأدلة المتقدّمة نفوذ الإقرار حتی بعد التعقّب بالإنکار لکن قلنا إنه لا بد من تقیید ذلک بما دلّ علی عدم نفوذ الإقرار بعد الانکار فی موارد معینة وردت فی بعض الروایات :

ص: 389


1- (10) أی إلی الارتکاز العقلائی .

منها : معتبرة الحلبی المتقدّمة - عن أبی عبد الله ( علیه السلام ) :

" فی رجل أقرّ علی نفسه بحدّ ثم جحد (1) بعدُ ، فقال : إذا أقرّ علی نفسه عند الإمام أنه سرق ثم جحدّ قطعت یده وإن رغم أنفه وإن أقرّ علی نفسه أنه شرب خمراً أو بفریة فاجلدوه ثمانین جلدة ، قلت : فإن أقرّ علی نفسه بحدّ یجب فیه الرجم أکنت راجمه ؟ فقال : لا ، ولکن کنت ضاربَه الحدّ " (2) .

ومنها : روایة أخری للحلبی بالمضمون نفسه عن أبی عبد الله (علیه السلام) :

" قال : إذا أقرّ الرجل علی نفسه بحدّ أو فریة ثم جحدّ جُلد ، قلت : أرأیت إن أقرّ بحدّ علی نفسه یبلغ فیه الرجم أکنت ترجمه ؟ قال : لا ولکن کنت ضاربه " (3) .

ومنها : روایة محمد بن مسلم عن أبی عبد الله (علیه السلام) :

" قال : من أقرّ علی نفسه بحدّ أقمته علیه إلا الرجم فإنه إذا أقرّ علی نفسه ثم جحدّ لم یُرجم " (4) .

فلا بد من تخصیص إطلاقات الأدلة المتقدّمة الدالة علی نفوذ الإقرار حتی بعد الإنکار بمقتضی هذه الأدلة من استثناء الرجم من ذلک کما أنه لا بد من تقییدها أیضاً بما دلّ علی عدم نفوذ الإقرار إذا کان إقراراً واحداً بل لا بد من أن ینضمّ إلیه إقرارٌ آخر أو عدّة إقرارات کما فی حدّ الزنا واللواط بل ادُّعی ذلک فی السرقة أیضاً .

ص: 390


1- (11) أی رجع وأنکر ما أقرّ به .
2- (12) الکافی مج19 ص220 ، الوسائل مج28 ص26 .
3- (13) الکافی مج7 ص219 ، الوسائل أبواب مقدمات الحدود الباب الثانی عشر الحدیث الثانی مج28 ص26 .
4- (14) الکافی مج7 ص220 ، الوسائل أبواب مقدمات الحدود الباب الثانی عشر الحدیث الثلث مج28 ص27 .

ثم بعد الفراغ عن حجیة الإقرار ونفوذه والاستدلال لذلک بما تقدّم نقول :

إنه یترتب علی ذلک إمکان استناد الحاکم إلیه فی باب القضاء فیحکم بناءً علیه بثبوت الحقّ للمقرّ له وإلزام المقرّ بما أقرّ به فإذا کان قد أقرّ بمالٍ - مثلاً - وکان واجداً للمال حکم علیه الحاکم بدفعه وإذا امتنع فبإمکانه أن یجبره علی أدائه فیکون الإقرار من طرق الاثبات فی باب القضاء علی حدّ البیّنة والیمین .

ثم إن هاهنا أبحاثاً أربعة طُرحت فی کلماتهم ترتبط بالإقرار ، وهی :

الأول : إذا ثبت الحقّ بالإقرار فهل یمکن للمُقَرّ له استیفاؤه بنفسه أم یتوقّف ذلک علی حکم الحاکم ؟

الثانی : هل یُشترط فی استناد الحاکم إلی الإقرار وقوعه أمامه أم یکفی ثبوته عنده بحجة ولو لم یقع أمامه ؟

الثالث : هل یتوقف حکم الحاکم بالمُقَرّ به استناداً إلی الإقرار علی طلب المدّعی أم لا بل هو من وظیفة الحاکم ولا یتوقف علی طلب المُقَرّ له ؟

الرابع : هل یلزم فی کتابة الإقرار بعد الحکم معرفة المُقِرّ باسمه ونسبه بدعوی الخشیة من أن ینتحل إنسان مّا شخصیة آخر ویقرّ لثالث تواطأ معه لینال هذا الأخیر من أموال الثانی بمقتضی الإقرار (1) ما لیس له بحقّ أم لا یُعتبر ذلک ؟

ولنعقد الکلام حول هذه الأبحاث بإیجاز :

أما الأول : فالظاهر أنه لا یوجد خلاف بینهم فی أن استیفاء الشخص لما أُقِرّ له به لا یتوقف علی حکم الحاکم فبإمکان الشخص إذا سمع من یُقِرّ له بمال - مثلاً أن یرتّب الأثر علی هذا الإقرار ویطالبه بذلک الحقّ ویلزمه بأدائه وبإمکانه أن یستوفی حقّه منه بالطرق المشروعة من دون أن یتوقف ذلک علی حکم الحاکم ، وقد صرّح بهذا جملة من الفقهاء (رض) کالشهید فی المسالک من المتقدّمین والشیخ صاحب الجواهر والسید صاحب العروة (قدهما) من المتأخرین بل إن هناک خلافاً طُرح فی کلماتهم یلوح منه المفروغیة عن ثبوت الحقّ بالإقرار (2) ولا یتوقف علی حکم الحاکم حیث قالوا بأن البینة هل هی کالإقرار فی ذلک فیثبت الحقّ بها ولا یتوقف علی حکم الحاکم ؟

ص: 391


1- (15) أی الزائف .
2- (16) ویتبع ثبوت الحقّ بالإقرار استیفاؤه من المقرّ به فکلما توقف الأول علی حکم الحاکم توقف هذا علیه أیضاً وإذا لم یتوقف لم یتوقف هذا ایضاً .

وقد ذهب إلی التفریق بین البابین (1) الشهید فی المسالک والأردبیلی فی مجمع الفائدة فقالوا بأن ما یجری فی الإقرار من ثبوت الحقّ به من غیر توقف علی حکم الحاکم لا یجری فی البینة بل ثبوت الحقّ بها یحتاج إلی حکم الحاکم وإعمال نظره فلیس بوسع من قامت عنده البینة علی أن له حقّاً عند شخص أن یستوفیه منه مباشرة بل لا بد من أن یقیم الدعوی أولاً ویثبت الحقّ عند الحاکم بموجب شهادة البینة ویحکم به ثم یستوفیه له من المقرّ .

والوجه فی الفرق بینهما أن ثبوت الحقّ بالبینة منوط باجتهاد الحاکم فی قبولها أو ردّها وهذا غیر معلوم للمقرّ له إلا بعد الترافع بخلاف الإقرار فإنه یکون مقبولاً ونافذاً من غیر توقف علی اجتهاد الحاکم ونظره ، وبعبارة أخری إن الإقرار حجة مطلقاً بینما البینة لیست حجة إلا عند الحاکم .

وذکر الشیخ الأنصاری (قده) نکتة أخری فی التفریق بین البینة والإقرار وهی أن أدلة حجیة البینة (2) لا دلالة فیها علی فصل الخصومة بها فلا تنافی الأدلة الدالة علی أن الخصومة لا تُفصل إلا عند الحاکم وبضمّ أحد الدلیلین إلی الآخر ینتج أن البینة لا تکون حجة إلا عند الحاکم ولا یترتّب الأثر علیها إلا عنده منوطاً بقبولها لدیه .

وأما الاقرار فلیس کذلک إذ لیس فیه خصومة أساساً حتی یقال إنه لا دلالة لأدلة حجیته علی أن الخصومة لا تُفصل به لأن أحد الطرفین یعترف من الأول أن للآخر حقّاً فی ذمته ولا یُنازعه فی ذلک ومن هنا یکون الإقرار حجة مطلقاً ولا یتوقف استیفاء الحقّ فی مورده علی حکم الحاکم بل للمُقَرّ له أن یستوفیه بالطرق المشروعة ، وفی مقابل ذلک من یری عدم الفرق بینهما کالشیخ صاحب الجواهر والسید صاحب العروة (قدهما) فکل منهما یثبت به الحقّ من دون أن یتوقف علی حکم الحاکم .

ص: 392


1- (17) یعنی باب الإقرار وباب البینة .
2- (18) وبعبارة أخری أن أدلة حجیة البینة فی حدّ ذاتها مطلقة تُثبت کون البینة حجة عند الحاکم وغیره کالمقرّ له - .

والظاهر أن الاختلاف ناشئ ممّا أشار إلیه بعضهم وهی أن حجیة البینة هل هی مطلقة فلا تحتاج فی ثبوت مضمونها إلی حکم الحاکم أو غیر مطلقة فتحتاج .

ولکن الصحیح هو الإطلاق فإن أدلة البینة لیس فیها ما یشیر إلی اختصاصها وتقییدها بأن تقوم عند الحاکم وبناء علی إطلاق الأدلة فالمسألة محسومة فی عدم الفرق بین الإقرار والبینة حینئذ .

وکیف کان فلا إشکال ظاهراً فی ثبوت الحقّ بالإقرار واستیفاؤه من قبل المُقَرّ له بلا توقف علی حکم الحاکم .

ولکن هذا فی ما إذا لم یمتنع المُقِرّ من أداء ما أقرّ به وإلا استحالت القضیة إلی خصومة لا ترتفع إلا بحکم الحاکم حیث یتکفّل القضاء بإلزامه بالدفع والأداء وفق الخطوات المناسبة لتحقیق ذلک حسب ما هو مذکور فی محلّه .

هذا ما یرتبط بالأمر الأول وستأتی بقیة الکلام إن شاء الله تعالی .

المسألة العاشرة / فی الدعوی المالیة / صور المُدّعی علیه / الصورة الأولی : اعتراف المُدّعی علیه / أبحاث متعلقة بباب الإقرار / البحث الثانی : هل یُشترط فی استناد الحاکم إلی الإقرار وصیرورة حکمه نافذاً وقوعه أمامه أم یکفی ثبوته عنده بحجة معتبرة / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) بحث الفقه

(بحث یوم الثلاثاء 21 ربیع الأول 1433 ه_ 75)

کان الکلام فی ما یرتبط بباب الإقرار من الأبحاث وقد ذکرنا أنها أربعة وقد تقدّم البحث الأول منها :

البحث الثانی : هل یُشترط فی استناد الحاکم إلی الإقرار وصیرورة حکمه نافذاً وقوعه أمامه أم یکفی ثبوته عنده بحجة معتبرة (1) ؟

ص: 393


1- (1) أی ولو لم یقع أمامه .

الظاهر أن هذا الاشتراط لیس له عین ولا أثر فی الروایات أو فی کلمات الفقهاء بل وکذا ما سیق من الأدلة أی علی نفوذ الإقرار وعمدتها الارتکاز حیث لا یفرق فیه بین وقوعه أمام القاضی وعدمه بل المهم فی المقام هو أصل ثبوت الإقرار وتحقّقه فإذا حصل جاز للحاکم أن یستند إلیه مطلقاً سواء اطّلع علیه وجداناً أو ثبت عنده تعبّداً (1) وهذا هو مقتضی إطلاقات الأدلة المتقدّمة الدالة علی نفوذ الإقرار مطلقاً .

نعم .. وردت فی أبواب خاصة بعض الروایات التی ظاهرها اشتراط أن یقع الإقرار أمام الحاکم لکی یکون نافذاً ومن ذلک روایتان بهذا الشأن (2) فی حدّ القذف :

الأولی :

صحیحة محمد بن مسلم عن أبی جعفر (علیه السلام) :

" فی رجل قال لامرأته : یا زانیة أنا زنیت بک ، قال : علیه حدّ واحد لقذفه إیاها ، وأما قوله : أنا زنیت بک فلا حدّ فیه إلا أن یشهد علی نفسه أربع شهادات بالزنا عند الإمام " (3) ، والمقصود بالشهادة هنا هو الإقرار کما هو واضح .

الثانیة :

مرسلة الصدوق :

" قال : وسئل الصادق (علیه السلام) عن رجل قال لامرأته : یا زانیة ، فقالت : أنت أزنی منی ، قال : علیها الحدّ فی ما قذفته به ، وأما فی إقرارها علی نفسها فلا تحدّ حتی تقرّ بذلک عند الإمام أربع مرات " (4) .

ص: 394


1- (2) أی بحجة معتبرة .
2- (3) أی فی اشتراط أن یقع الإقرار أمام الحاکم لکی یکون نافذاً .
3- (4) الکافی مج7 ص211 ، الوسائل أبواب الحدود الباب الثالث عشر الحدیث الأول مج28 ص195 .
4- (5) الفقیه مج4 ص73 ، الوسائل أبواب الحدود الباب الثالث عشر الحدیث الثالث مج28 ص195 .

والشاهد فی هاتین الروایتین قوله (علیه السلام) : (عند الإمام) حیث یُفهم منه أنه یُعتبر فی قبول الإقرار ونفوذه فی حدّ القذف أن یقع أمام الحاکم فإذا تمّت هاتان الروایتان سنداً ودلالة فلا بد من الالتزام بهما فی موردهما بالخصوص ولا یعنی هذا تعمیم الحکم إلی غیر ذلک من الموارد کما لا یخفی .

الفرع الثالث : هل یتوقف حکم الحاکم بالمُقَرّ به استناداً إلی الإقرار علی طلب المدّعی أم لا بل هو من وظیفة الحاکم محضاً ؟

هذا الفرع من المسائل التی وقع الخلاف فیها بین علمائنا حیث انقسموا إلی فریقین : فبعضٌ یری التوقف بمعنی أن حکم القاضی استناداً إلی الإقرار یتوقف علی طلب المدّعی منه الحکم فإذا حکم من غیر طلب منه فلا أثر لحکمه ، وبعض یری عدم التوقف وأن الحکم من وظیفة الحاکم محضاً ولا علاقة له بطلب المدّعی فالحکم له جائز والأثر علیه مترتّب ولو لم یکن بطلب من المدّعی .

قال فی مفتاح الکرامة مشیراً إلی هذا الاختلاف تعلیقاً علی قول العلامة فی القواعد : " فإذا أقرّ وکان جائز التصرف (1) حکم علیه إن سأله المدّعی " فقال معلّقاً علیه : " وإن لم یسأله یتوقف وفاقاً للمبسوط والسرائر والشرایع والإرشاد والنافع والدروس والمسالک والروضة والمفاتیح وغیرها وخلافاً لظاهر النهایة والکافی والمراسم والغنیة وظاهر الشرایع فی أول البحث حیث نسبه إلی القیل (2) وصریح المجمع وحاشیة الدروس واحتمله فی التحریر " فیظهر أن المسألة خلافیة .

ص: 395


1- (6) هذه إشارة إلی ما یُعتبر من الشروط فی المقرّ .
2- (7) وهذا یُشعر بتضعیفه ومعناه أنه یری عدم التوقف ولذا عدّه بالنظر إلی هذه العبارة من أصحاب القول الثانی أی عدم التوقف فی حین أنه عدّه بلحاظ ما ذکره فی نفس البحث من أصحاب القول الأول . (منه دامت برکاته)

وقد ذُکر نظیر هذه المسألة (1) فی کلماتهم بالنسبة إلی جواب المدّعی علیه فقالوا بأن طلب القاضی من المُدّعی علیه أن یجیب (2) علی دعوی المدّعی هل یتوقف علی طلب المدّعی أم لا ؟

فیظهر أنه قد وقع الکلام عندهم بلحاظ کلتا المسألتین (3) من حیث توقفهما علی طلب المدّعی وعدمه.

والظاهر أن هذه المسألة خلافیة أیضاً بل ظاهر عبارة الشیخ فی المبسوط دعوی الإجماع علی أن طلب الحاکم من المدّعی علیه الجواب علی دعوی المدّعی یتوقف علی طلب المدّعی نفسه .

وقد استُدلّ علی التوقف بأن حکم الحاکم وجواب المُدّعی علیه حقّ للمدّعی فیتوقفان علی طلبه ومساءلته .

وقد یُوجّه هذا من جهة أنه لا إشکال عندهم فی أن المدّعی له حقّ رفع الید عن الدعوی حتی بعد إقامتها فلا یجوز للحاکم حینئذ أن یحکم سواء صرّح المدّعی برفع یده عنها أو ظهر منه عدم الرضا بالحکم فیها فیُفهم منه أن الحکم له نحو ارتباط بالمدّعی وأن المدّعی له نحو حقّ فیه حیث إن بإمکانه أن یرفع یده عن الدعوی فلا یکون ثمة موضوع للحکم حینئذ .

واستُدلّ لعدم التوقف بأدلة - بعضها واضح الضعف وإن صدرت من الأعاظم - ، وهی :

الدلیل الأول :

ص: 396


1- (8) أی توقف حکم الحاکم - استناداً إلی الإقرار - علی طلب المدّعی .
2- (9) وقد تقدّم أن جوابه إما اقرار او إنکار او سکوت .
3- (10) الأولی هی حکم الحاکم فی الدعوی ، والثانیة طلبه من المدّعی علیه الجواب علی دعوی المدّعی .

ما نُقل عن العلامة فی المختلف من أنه ربما یجهل المدّعی أن ذلک حقّ له فیضیع علیه حقُّه ، ومقصوده أن الحکم لو کان حقّاً للمدّعی فهو قد یکون جاهلاً بکونه حقّاً له فلا یطالِب به فیضیع علیه حقّه بخلاف ما لو قلنا بعدم التوقف فلا یکون حقّاً له فلا یضیع فی حالة الجهل شیء له إذ تکون من قبیل السالبة بانتفاء الموضوع .

وجوابه واضح کما أشاروا إلیه وهو أن غایة ما یقتضی هذا هو أن الحاکم یُنبّه المدّعی بأن له حقّاً فی الحکم فلا یضیع علیه حقّه فی حالة الجهل فلا یُبرّر مجرّد هذا (1) حکم الحاکم من دون طلب المدّعی ومساءلته لأن المفروض أننا نحتمل دخالة ذلک فی جواز حکم الحاکم فمسألة ضیاع الحقّ لا تنفی هذا الاحتمال .

الدلیل الثانی :

ما ذکره الشهید فی المسالک من قیام شاهد الحال علی إرادة المدّعی الحکم من الحاکم فإن إقامته الدعوی کاشفة عن إرادته الحکم ورضاه به فلا بد حینئذ من أن یطلب القاضی الجواب من المُدّعی علیه إذ من المعلوم أن المتظلّم لا یرید إقامة الدعوی إلا لأجل فصل الخصومة بینه وبین خصمه وهو یتوقف علی الحکم الذی یتوقف علی جواب المُدّعی علیه علی دعوی المدّعی وشاهد الحال موجود دائماً فإذاً یجوز للحاکم أن یحکم دائماً (2) .

ولکن هذا الدلیل لا یُجدی فی إثبات القول الثانی لأن مفاده الالتزام بالقول الأول - غایة الأمر أن طلب المدّعی تارة یثبت بالتصریح وأخری یثبت بشاهد الحال - فکیف یکونه حجة علی مقابله (3) .

ص: 397


1- (11) أی دعوی أنه لو قلنا بالتوقف فربما یجهل المدّعی أن ذلک حقّ له فیضیع علیه حقّه حیث لا یعلم به لیطالِب به.
2- (12) أی اعتماداً علی شاهد الحال .
3- (13) أی القول الثانی وهو عدم التوقف .

الدلیل الثالث :

ما استدل به الشیخ صاحب الجواهر (قده) وحاصله أن مقتضی إطلاق الأدلة أن الحکومة (1) ومقدماتها (2) راجعة إلی القاضی - ما لم یرفع المدّعی یده عن الدعوی - فلا تتوقف علی إجازة من المدّعی .

وأشار السید صاحب العروة (قده) فی ملحقاتها إلی نظیر هذا الکلام ولکن لم یعبّر عنه بالإطلاق حیث قال : " إن مقتضی الأدلة بعد الرجوع إلی الحاکم جواز تصدّیه (3) لها بجمیع کیفیاتها (4) من دون حاجة إلی سؤال من المدّعی أو المُدّعی علیه (5) " .

ولکن هذا الدلیل غیر واضح لاسیما بالنسبة إلی الإطلاق الذی ورد فی عبارة الشیخ صاحب الجواهر (قده) إذ لیس لدینا دلیل فی البین أصلاً حتی یُدّعی أن له إطلاقاً بحیث یکون مثبتاً لکون الحکومة حقّاً للحاکم حتی فی حالة عدم مطالبة المدّعی فإن أدلة القضاء لیست ناظرة إلی هذه الجهة وإنما هی ناظرة إما إلی بیان أصل نصب المجتهد حاکماً وقاضیاً وإلی الشروط المعتبرة فیه أو لبیان ماذا یترتب علی حکم الحاکم من الآثار ولا یوجد فی البین دلیل یکون ناظراً إلی إطلاق حکم الحاکم أو تقییده بصورة طلب المدّعی ، نعم .. من المسلّم به من غیر إشکال أن الحکومة وظیفة الحاکم ولکن الکلام حدود هذه الوظیفة وإطلاقها لصورة عدم طلب المدّعی .. وهذه الجهة لا یتکفّل بتأمینها هذا الدلیل فلا یصلح للاستدلال به فی المقام .

ص: 398


1- (14) أی الحکم .
2- (15) لعل فی هذا إشارة إلی المسألة الثانیة المتقدمة وهی جواب المُدّعی علیه فإنه من مقدمات الحکم کما لا یخفی . (منه دامت برکاته) .
3- (16) أی الحاکم .
4- (17) أی من شروطها ومقدماتها .
5- (18) غایة الأمر أن المدّعی له حقّ رفع الید عن الدعوی .

الدلیل الرابع :

یأتی الکلام عنه إن شاء الله تعالی .

المسألة العاشرة / فی الدعوی المالیة / صور المُدّعی علیه / الصورة الأولی : اعتراف المُدّعی علیه / أدلة عدم توقف حکم الحاکم علی طلب المدّعی / الدلیل الرابع / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) بحث الفقه

(بحث یوم الأربعاء 22 ربیع الأول 1433 ه_ 76)

کان الکلام فی أدلة عدم التوقف - أی أن حکم الحاکم لا یتوقف علی طلب المدّعی - وتقدّم ذکر ثلاثة أدلة علی ذلک :

الدلیل الرابع : التمسّک بسیرة العقلاء القائمة علی إطلاق وظیفة الحاکم وأن الحاکم له أن یحکم وإن لم یطلب منه المدّعی ذلک کما هو المعلوم من سیرة القضاة غیر الشرعیین فی زمان الأئمة (علیهم السلام) وبضمیمة عدم ورود الردع عنها یثبت إمضاء مضمونها شرعاً .

ونوقش فی هذا الدلیل بأنه إن کان المقصود هو الاستدلال بما هو المتعارف خارجاً بین القضاة غیر الشرعیین من عدم إناطة الحکم بطلب المدّعی فهو واضح المنع إذ لا حجیة لعملهم حتی یکون دلیلاً علی ثبوت مثله عند الشرع .

وإن کان المقصود هو الاستدلال بالکبری المعهودة فی بعض الأبحاث الاستظهاریة من أن سکوت الشارع عن بیان شیء بحیث یلزم من عدم بیانه الإخلال بالغرض یقتضی أنه أوکل الأمر فیه إلی ما هو المتعارف خارجاً فیکون هو المقصود شرعاً أی أنه اکتفی عن بیانه بالتعارف الخارجی ، وفی المقام حیث سکت الشارع المقدّس ولم یُبیّن الإطلاق (1) لفرض عدم العثور علی دلیل یکون مطلقاً من هذه الناحیة کما لم یبیّن التقیید لو کان مراداً له والمسألة تحتاج إلی تشخیص وتعیین فیُفهم من ذلک أنه أوکل الأمر فیها إلی ما هو المتعارف خارجاً من عمل القضاة ولو کانوا غیر شرعیین وحیث إن عملهم کان قائماً علی عدم تعلیق الحکم بصورة طلب المدّعی فیکون هذا هو الثابت شرعاً من غیر حاجة إلی ضمیمة عدم ورود الردع .

ص: 399


1- (1) یعنی إطلاق حکم الحاکم حتی لصورة عدم طلب المدّعی .

ولکن هذا الوجه مخدوش أیضاً فإن الکبری المزبورة وإن کانت مسلّمة - من جهة أنه یلزم من ترک تعیین الحدّ من دون الإیکال إلی ما هو المتعارف الإخلالُ بالغرض وعدمُ تمکّن المکلّف من امتثال الحکم الشرعی فی مورده وذلک من قبیل ما ذُکر فی باب النفقة حیث یکون الشخص ملزماً بها شرعاً تجاه زوجته وعیاله - مثلاً - مع عدم ورود نصّ بتحدیدها شرعاً والحال أن امتثال الأمر بها یتوقف علی معرفة مقدار المأمور به منها فیُفهم من ذلک أن الشارع أوکل الأمر فیها إلی ما هو المتعارف خارجاً والمعیّن عرفاً فلا یبقی المکلّف متحیِّراً بشأنها - إلا أن انطباقها فی المقام ممنوع وذلک لعدم وصول الأمر فی ما نحن فیه إلی الوقوع فی الحیرة والتردد فإنه مع عدم ورود دلیل مطلق یُثْبِت عدم إناطة الحکم بصورة طلب المدّعی أو مقیّد یُثْبِت إناطته بها یکون دلیل المشروعیة والنفوذ مجملَ الحدود فتصل النوبة حینئذ إلی التمسّک بالقدر المتیقَّن منه وهو الالتزام بأن حکم الحاکم إنما یکون جائزاً فی خصوص صورة طلب المدّعی .

والنتیجة عدم تمامیة هذا الدلیل أیضاً .

الدلیل الخامس : ما قد یقال من أن إطلاق وظیفة الحاکم وثبوت حقّ الحکم له بقطع النظر عن طلب المدّعی یُفهم من اقتضاء ما یدلّ من الأدلة علی سقوط تعلّق حقّ المدّعی بالدعوی بعد رفعه لها ویکون الأمر فیها من حیث الحکم ومقدماته وشؤونه موکولاً إلی الحاکم وخالصاً له وهذا معناه أن حکم الحاکم لا یکون متوقّفاً علی طلب المدّعی لانقطاع صلته بالقضیة بعد رفعه لها إلیه ، نعم .. غایة ما یثبت للمدّعی حقّ التنازل عن الدعوی ورفع یده عنها .

ص: 400

ومن تلک الأدلة الدالة علی انقطاع صلة المدّعی بالقضیة بعد رفعه لها إلی الحاکم :

صحیحة الحلبی عن أبی عبد الله (علیه السلام) :

" قال : سألته عن الرجل یأخذ اللص یرفعه ؟ أو یترکه ؟ فقال : إن صفوان بن أمیة کان مضطجعاً فی المسجد الحرام فوضع رداءه وخرج یهریق الماء فوجد رداءه قد سرق حین رجع إلیه فقال : من ذهب بردائی ؟ فذهب یطلبه فأخذ صاحبه فرفعه إلی النبی (صلی الله علیه وآله) : فقال النبی (صلی الله علیه وآله) : اقطعوا یده ، فقال الرجل : تقطع یده من أجل ردائی یا رسول الله ؟ قال : نعم ، قال: فأنا أهبه له ، فقال رسول الله (صلی الله علیه وآله) : فهلّا کان هذا قبل أن ترفعه إلیّ ، قلت : فالإمام بمنزلته إذا رفع إلیه ؟ قال : نعم " (1) .

ومنها أیضاً موثّقة سماعة عن أبی عبد الله (علیه السلام) :

" قال : من أخذ سارقاً فعفا عنه فذلک له ، فإذا رفع إلی الامام قطعه ، فإن قال الذی سرق له : أنا أهبه له لم یدعه إلی الإمام حتی یقطعه إذا رفعه إلیه ، وإنما الهبة قبل أن یرفعه إلی الإمام ، وذلک قول الله عز وجل : (والحافظین لحدود الله) فإذا انتهی الحدّ إلی الإمام فلیس لأحد أن یترکه " (2) .

ص: 401


1- (2) الکافی مج7 ص251 ، الوسائل مقدمات الحدود الباب السابع الحدیث الثانی مج28 ص39 .
2- (3) المصدر السابق الحدیث الثالث .

ولکن نوقش فی الاستدلال بهاتین الروایتین - وما بمضمونهما - أن موردهما أجنبی عن محلّ الکلام وذلک من جهة أن الروایتین تتحدّثان عن عفو الشخص عن حقّه وهبته له وهو فرع ثبوته له أولاً مع أنه أول الکلام فی ما نحن فیه إذ لم یثبت الحقّ للمدّعی فی ما یدّعیه بعدُ کما أن مورد الروایتین هو تقدیم السارق لإقامة الحدّ علیه ولم یُفترض فیهما إقامة دعوی لدی الحاکم فی خصومة ومنازعة علی حقّ وأین هذا ممّا نحن فیه من أن المدّعی إذا رفع دعواه إلی الحاکم لینظر فیها فبعد ثبوت إقرار المُدّعی علیه بمضمون الدعوی فهل للحاکم أن یحکم استناداً إلی الإقرار من دون طلب المدّعی .

هذا .. مع أن جواز رفع المدّعی یده عن الدعوی بعد إقامته لها وثبوت حقّ التنازل له عنها یشیر إلی أن له نحو ارتباط بها ولم تنقطع صلته بها بمجرد رفعها إلی الحاکم .

وینبغی الالتفات فی هذه المسألة إلی أمرین :

أولهما : إن محلّ الکلام فی هذا الفرع والتساؤل عن توقف حکم الحاکم علی طلب المدّعی وعدمه إنما هو بعد المرافعة لا قبلها فإن من الواضح أنه لا یجوز للحاکم الحکم قبل المرافعة ولو ثبت لدیه الإقرار وجداناً أو تعبّداً .

وثانیهما : إن فی باب الإقرار خصوصیة استوجبت وقوع ذلک التساؤل فیه وهی أن الحکم بطبیعة الحال إنما یصدر لحلّ الخصومة ورفع النزاع بین الطرفین فإذا فُرض أن الطرف الآخر قد أقرّ بما یدّعیه علیه الطرف الأول فهذا یُثبت الحقّ للمدّعی ویستوجب حلّ الخصومة ورفع النزاع بین الطرفین فأیّ موجب للحکم حینئذ بل قد قیل بأن أدلة نفوذ حکم الحاکم لا تشمل مثل هذا الفرض لأن الذی یُفهم منها أنها مختصة بما إذا کان هناک منازعة یتوقف حلّها علی الحکم أو کانت هناک مصلحة واضحة یترتّب استیفاؤها علیه وکل منهما غیر متوفّر فی المقام فإن المفروض عدم وجود خصومة بعد الإقرار وأن الحقّ قد ثبت للمدّعی بموجب الإقرار (1) ، ولأجل هذه الخصوصیة لم یجر هذا الکلام فی غیر باب الإقرار من طرق الإثبات کالبیّنة والیمین وغیرهما کما یشهد به ذکر هذا الفرع فی خصوص باب الإقرار ، نعم .. قد یُفرض أن یطلب المدّعی الحکم من الحاکم ولو لخوفه من رجوع الطرف الآخر عن إقراره فیتوسّل بحکم الحاکم لتوثیق إقراره واستیفاء الحقّ المُقَرّ به منه ولکن هذا غیر ما نحن فیه فإن محلّ الکلام إنما هو فی أن حکم الحاکم بعد صدور الإقرار هل یتوقف أساساً علی طلب المدّعی أم أنه وظیفة الحاکم محضاً ولا شأن للمدّعی بها فإذا أقرّ المُدّعی علیه بالحقّ حکم الحاکم بموجبه ولا یتوقف علی أن یطلب المدّعی منه ذلک ؟

ص: 402


1- (4) نعم .. فی صورة ما إذا امتنع المقرّ عن أداء ما أقرّ به فهنا یتدخّل الحاکم لاستیفاء حقّ المدّعی منه بالطرق القضائیة ولکن هذا کلام آخر غیر ما نحن فیه . (منه دامت برکاته)

وللکلام تتمة یأتی ذکرها إن شاء الله تعالی .

المسألة العاشرة / فی الدعوی المالیة / صور المُدّعی علیه / الصورة الأولی : اعتراف المُدّعی علیه / الالتزام بتوقف حکم الحاکم علی طلب المدّعی / تحدید الأصل العملی/ ذکر أحوال المدین المقرّ بالدین / الحالة الأولی : ما لو عُلم بواجدیته للمال / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) بحث الفقه

(بحث یوم السبت 25 ربیع الأول 1433 ه_ 77)

کان الکلام فی أن حکم الحاکم فی باب الإقرار هل یتوقف علی طلب المدّعی أم لا ، وکان آخر ما ذکرناه أنه یمکن الالتزام بالتوقف (1) من جهة وجود خصوصیة للإقرار یفترق بها عن غیره من وسائل الإثبات القضائیة وهی أنه بعد حصوله ترتفع فی مورده الخصومة والمنازعة فإذا کان المفهوم من الأدلة العامة التی تجعل المجتهد قاضیاً أنها مختصة بما إذا کان الحکم رافعاً للنزاع بحیث کان حلّ الخصومة وفضّ النزاع یتوقف علی حکم الحاکم فحینئذ یکون الحکم من صلاحیة الحاکم ویکون منه جائزاً بلا توقف علی أمر آخر وتَخْرُج المواردُ التی لا یکون الحکم فیها رافعاً للنزاع (2) فإن شمول تلک الأدلة لها محّل إشکال ، نعم .. ذکرنا ما یُمثّل استثناء من ذلک وهو طلب المدّعی من الحاکم الحکم استناداً إلی إقرار المقرّ ولو لخوفه من رجوع الطرف الآخر عن إقراره فیتوسّل بحکم الحاکم لتوثیق إقراره واستیفاء الحقّ المُقَرّ به منه فهنا لا ضیر فی الالتزام بمشروعیة الحکم للحاکم .

ص: 403


1- (1) أی توقف حکم الحاکم علی طلب المدّعی .
2- (2) سواء لم یکن فی البین نزاع أصلاً کما فی مورد الإقرار الابتدائی (وهو أن یُقرّ الشخص ابتداء ومن غیر سبق دعوی بأن لفلان حقّاً فی ذمته) أو کان هناک نزاع فی ضمن دعوی ولکنه انحلّ بإقرار المُدّعی علیه بمضمون الدعوی کما هو الحال فی ما نحن فیه .

والحاصل أن حکم الحاکم فی باب الإقرار یتوقف علی طلب المدّعی ، فإن طلب منه فهو وإلا فلیس من الواضح أن الحکم یکون مشمولاً للأدلة الدالة علی المشروعیة والجواز .

وهذا الکلام إن تمّ فهو یعنی الالتزام بالقول الأول - أعنی التوقف - ، وإن لم یتم فتصل النوبة حینئذ إلی التمسّک بالأصل العملی ، وفی تحدیده اتّجاهات ثلاثة :

الأول :

إن الأصل هو البراءة ومثلها أصالة الإباحة - وهی تقتضی الجواز ، والمقصود بالجواز هنا هو الجواز التکلیفی بمعنی أن الحاکم یجوز له أن یحکم حتی فی حالة عدم طلب المدّعی وهذا یُنتج القول بعدم التوقف .

الثانی :

أن الأصل هو عدم التوقف (1)

(2)

(3) .

الثالث :

أن یقال بأن الشک فی المقام (4) مسبّب عن الشک فی مشروعیة حکم الحاکم فی حالة عدم طلب المدّعی فإذا قلنا بأن الحاکم له أن یحکم حتی فی حالة عدم طلب المدّعی فیترتب علیه الجواز التکلیفی وعدم التوقف بلا إشکال ، وإذا قلنا بأن الحاکم لیس له أن یحکم فی حالة عدم طلب المدّعی ولا سلطنة له علی الحکم بدونه فهذا ینتج التوقف وعدم الجواز التکلیفی بمعنی أن حکمه یکون متوقفاً علی طلب المدّعی ولا یکون جائزاً بدونه ولما کان الأصل الجاری فی مورد الشک السببی حاکماً علی الأصول الجاریة فی الشک المسببی ورافعاً لموضوعها فیکون الأصل الجاری عند الشک فی السلطنة حاکماً علی الأصول الجاریة عند الشک فی التوقف والجواز ورافعاً لموضوعها ، ولا ریب أن الأصل عند الشک فی السلطنة یقتضی عدم السلطنة فیثبت حینئذ توقف حکم الحاکم علی طلب المدّعی وعدم جواز تصدّیه للحکم بدونه .

ص: 404


1- (3) أقول : الظاهر أن الوجه فیه هو استصحاب العدم ، وهنا تقریبان :
2- (4) الأول : استصحاب العدم المحمولی - أی العدم الثابت قبل تحقّق الموضوع فإنه لم یکن الحکم قبل الدعوی متوقفاً علی طلب المدّعی ویُشکّ بعد الدعوی بتوقفه علیه فالأصل عدم التوقف - .
3- (5) الثانی : استصحاب العدم النعتی - أی العدم الثابت بعد تحقّق الموضوع فإنه لم یکن الحکم بعد الدعوی وقبل الإقرار متوقفاً علی طلب المدّعی ویُشکّ بعد الإقرار بتوقفه علیه فالأصل عدم التوقف - .
4- (6) أی فی کل من الأمرین المتقدمین من الجواز التکلیفی وعدمه والتوقف وعدمه .

فالنتیجة أن مقتضی الأصل العملی هو التوقف أیضاً بمعنی أن الحاکم لیس له أن یحکم مع عدم مطالبة المدّعی ، وفی الحقیقة أن هذا لخصوصیة فی باب الإقرار إذ لولاها لأمکن ادّعاء إطلاق الأدلة الدالة علی مشروعیة حکم الحاکم المقتضیة للجواز وعدم التوقف مطلقاً وتقدّم أنه یؤیّد هذا الأمر (1) أن هذا الفرع (2) مذکور فی باب الإقرار فقط ولم یُذکر فی غیره من طرق الإثبات القضائیة کالبیّنة والیمین .

والحاصل أن الصحیح من القولین هو القول الأول - أی التوقف - .

هذا ما یرتبط بالفرع الثالث .

الفرع الرابع : هل یلزم فی کتابة الإقرار بعد الحکم معرفة المُقِرّ باسمه ونسبه بدعوی الخشیة من أن ینتحل إنسان مّا شخصیة آخر ویقرّ لثالث تواطأ معه لینال هذا الأخیر من أموال الثانی - بمقتضی الإقرار الزائف - ما لیس له بحقّ أم لا یُعتبر ذلک ؟

المنسوب إلی المشهور وجوب الکتابة علی القاضی فی ما إذا توقف علیها تنفیذ الحکم وأما إذا فُرض أن تنفیذ الحکم ووصول الحقّ إلی صاحبه لا یتوقف علی الکتابة فلیس واضحاً من الأدلة أنها تجب علی القاضی فی هذه الحالة ، نعم .. إذا طلبها المدّعی منه لغرض عقلائی کخوف تراجع المقر عن إقراره فلا یبعد فی هذه الحالة لزوم استجابة القاضی لطلبه باعتبار أنها من توابع القضاء ومتمّماته .

ثم ذکروا أنه علی فرض وجوب الکتابة لا یجوز أخذ الأجرة علیها لأنها کأصل الحکم إذ هی من توابعه ومتعلّقاته فإن الحکم من الواجبات والمفروض تمامیة أدلة عدم جواز أخذ الأجرة علی الواجبات ، نعم .. هذا لا یشمل أخذ قیمة القرطاس والمداد الذی یستعمله الحاکم فی کتابة الإقرار لقصور أدلة عدم جواز أخذ الأجرة علی الواجبات عن الشمول لما یکون من مستلزمات الکتابة نظیر عدم وجوب قیمة الکفن علی من وجب علیه التکفین .

ص: 405


1- (7) أی أن لباب الإقرار خصوصیة یفترق بها عن سائر طرق الإثبات القضائیة .
2- (8) أی أن حکم الحاکم المستند إلی الإقرار هل یتوقف علی طلب المدّعی ام لا .

وفی الحقیقة إن هذا الفرع وإن ذُکر فی باب الإقرار إلا أنه لا یختصّ به بل یجری فی سائر ما یستند إلیه الحاکم فی حکمه من الطرق فیقال هل یجب علی الحاکم کتابة الحکم مطلقاً أو فی خصوص ما إذا توقف علیه تنفیذه ولذا کان من المناسب أن یُذکر هذا الفرع بعد إکمال أصل المسألة وحالات المنکر الثلاثة جمیعاً من الإقرار والإنکار والسکوت .

کما أن المناسب أن یُذکَر مکانه فرعٌ آخر مهم مختصّ بباب الإقرار لم یُشَرْ إلیه فی المتن - مع أنه متعلّق بما عقد (قده) لأجله الکلام فی هذه المسألة من الدعوی المالیة - وهو أن المُدّعی علیه إذا أقر بالمال الذی ادُّعی به علیه فلا یخلو من إحدی حالات ثلاث :

الأولی :

أن یُعلم بیُسره وواجدیته للمال .

الثانیة :

أن یُعلم بعُسره وعدم واجدیته للمال .

الثالثة :

أن لا یُعلم بأیّ من الأمرین .

والحکم من حیث إلزامه بما أقرّ به وعدمه وعقوبته وعدمها وغیر ذلک من الأحکام الجزائیة یختلف بحسب هذه الحالات فأقول :

أما فی الحالة الأولی

(1) :

فإن المقرّ تارة یُفرض کونه غیر ممتنع من أداء ما أقرّ به فلا مشکلة فی البین ، نعم .. یجب علیه المسارعة بالدفع ولا یجوز له التأخیر والمماطلة وهذا حکم علی المدین عموماً وتدلّ علیه الأدلة الآتی ذکرها ، وأخری یُفرض کونه ممتنعاً من الأداء وفی هذه الحالة :

إما أن یتیسّر للحاکم أن یُجبره علی الأداء فلا إشکال فی لزوم ذلک ، ویمکن تخریجه إما علی أساس الولایة الثابتة للحاکم فی إحقاق الحقوق وإیصالها إلی مستحقیها أو من باب الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر الذی من مراتبه الإلزام الخارجی غایة الأمر أن التخریج إن کان علی الأساس الأول (2) فهو یختص بالحاکم ولا یشمل غیره ، وإن کان علی الأساس الثانی (3) فهو یشمل کل أحد بالشرائط المعتبرة فی هذا الباب .

ص: 406


1- (9) وهی أن یکون المقرّ واجداً للمال .
2- (10) أی الولایة .
3- (11) أی الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر .

وإما ان لا یتیسّر للحاکم أن یُجبره علی الأداء فذکروا أنه فی هذه الحالة تجوز عقوبته بالتغلیظ له بالقول ، واستُدلّ علی جوازه بنبوی الأمالی من قوله : " لیّ الواجد بالدین یُحلّ عرضه وعقوبته " (1) علی تفسیر حلیة العرض بالتعدّی علیه بالتغلیظ بالقول کأن یقال له (یا ظالم) أو (یا فاسق) وشبه ذلک بل أجاز بعضهم الشتم أیضاً ، والمراد باللیّ المماطلة والتسویف ، ولا ریب أن حلیة العرض مختصّة بالمورد وإلا فإن عموم الأدلة یقتضی عدمها ، ویمکن الاستدلال علی جوازه أیضاً بأدلة الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر فإنه یدخل تحت مرتبة فعل ذلک باللسان مع التقیّد بالشرائط المعتبرة فی هذا الباب ، وإن لم یُجْدِ ذلک (2) نفعاً فذکروا أنه تجوز عقوبته بالحبس وسیأتی الکلام علیه إن شاء الله تعالی .

المسألة العاشرة / فی الدعوی المالیة / صور المُدّعی علیه / الصورة الأولی : اعتراف المُدّعی علیه / ذکر الروایات المستدل بها علی جواز حبس المقرّ الواجد للمال الممتنع عن الأداء / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) بحث الفقه

(بحث یوم الأحد 26 ربیع الأول 1433 ه 78)

تقدّم الکلام فی الفرع الرابع حول کتابة الإقرار بعد الحکم وینبغی فی ذیله ذِکْرُ شیء ذُکِر فی کلمات الفقهاء وهو أنه لا بد فی کتابة الحاکم من أن تکون بنحوٍ یُؤمَن معه من التزویر بأن یثبت المحکوم علیه للحاکم قبل الکتابة باسمه ونسبه أو مطلق ما یرفع الإبهام والالتباس کالمشخّصات الخارجیة حتی لا یکون ثمة مجال لأن یدّعی (3) اسم شخص آخر ونسبه .

ص: 407


1- (12) الأمالی للشیخ الطوسی ص521 .
2- (13) أی التغلیظ بالقول .
3- (1) أی هذا المحکوم .

هذا .. وقد کان الکلام فی أن المقر إذا کان واجداً للمال وامتنع عن الأداء فیجوز للحاکم أن یُغلّظ له فی القول إن نفع وإلا جاز له أن یحبسه ، واستُدلّ علی جواز الحبس بروایات :

الأولی :

صحیحة زرارة عن أبی جعفر (علیه السلام) أنه قال : " کان علی (علیه السلام) لا یحبس فی الدین إلا ثلاثة : الغاصب ومن أکل مال الیتیم ظلماً ومن اؤتمن علی أمانة فذهب بها وإن وجد له شیئاً باعه (1) غائباً کان أو شاهداً " (2) .

هکذا فی الوسائل بلفظ (الدین) ولکن فی الکافی والتهذیبین بلفظ : (السجن) بدله ، والروایة تامة سنداً.

ووجه الاستدلال بها فی المقام مبنی علی إدراج محلّ الکلام (3) فی أحد العناوین الثلاثة المذکورة فی المستثنی (4) والعنوان المؤهّل لذلک هو الغصب لأن المدین الواجد للمال الممتنع عن الأداء یکون غاصباً فإذا دخل تحت هذا العنوان فالروایة تدلّ حینئذ علی جواز حبسه وإذا استُظهر أن حبس الغاصب إنما هو من باب العقوبة فینطبق هذا أیضاً علی المقام ، فهنا دعویان :

ص: 408


1- (2) أی لغرض وفاء دینه الذی ثبت بأحد الأسباب الثلاثة المذکورة .
2- (3) الوسائل أبواب القضاء الباب الحادی عشر فی کیفیة الحکم الحدیث الثانی مج27 ص248 ، الکافی مج7 ص263 ، التهذیب مج6 ص299 .
3- (4) أی علی جواز حبس المدین الواجد للمال الممتنع عن الأداء .
4- (5) وإلا لو کان مندرجاً فی المستثنی منه لکانت الروایة دالّة علی عکس المقصود لأن الحکم بالحبس منفی عن المستثنی منه .

الأولی : أن محلّ الکلام یندرج تحت عنوان الغاصب المحکوم بالحبس .

الثانیة : أن الحبس هو من باب العقوبة .

أما الدعوی الأولی : فالظاهر أن الأصحاب لم یفهموا هذا المعنی من الروایة (1) کما یظهر من الشیخ (قده) فی التهذیب وغیره ممن تأخّر عنه بل فهموا منها معنی یتنافی مع مدلول الروایات الآتیة من جواز حبس المدین ولذلک حاولوا علاج هذا التنافی بحمل الصحیحة علی معانٍ أُخَر فکأنهم فهموا اندراج محلّ الکلام فی المستثنی منه لا المستثنی أی أنهم فهموا أن ما نحن فیه داخل تحت قوله : (لا یحبس فی السجن) ولیس داخلاً تحت أحد العناوین الثلاثة التی هی مشمولة للحبس ولا ریب أن نفی الحبس عنه بموجب هذا الفهم یتنافی مع ما تدل علیه الروایات الآتیة من جواز حبسه ولذا قال الشیخ (قده) فی رفع هذا التنافی : " هذا الخبر وخبر طلحة بن زید لا ینافیان خبر زرارة الذی ذکر فیه أنه ما کان یحبس إلا الثلاثة الذین ذکرهم لأن ذلک الخبر یحتمل شیئین أحدهما : أنه ما کان یحبس علی جهة العقوبة إلا الذین ذکرهم ، والوجه الثانی أنه ما کان یحبسهم حبساً طویلاً إلا الذین استثناهم لأن الحبس فی الدین إنما یکون بمقدار ما یبیّن حاله فإن کان مُعدماً وعلم ذلک منه خلّاه وإن لم یکن مُعدماً ألزمه الخروج منه " (2) فتصدّیه (قده) لرفع التنافی بأحد الوجهین المذکورین یدلّ علی أنه فهم من الصحیحة أن محل الکلام لا یدخل فی المستثنی تحت عنوان الغاصب وإنما یدخل فی المستثنی منه فتکون الصحیحة من أدلة عدم حبس المدین لا من أدلة حبسه .

ص: 409


1- (6) أی لم یفهموا من الروایة أن المدین الممتنع عن الأداء داخل فی الغاصب .
2- (7) التهذیب مج6 ص299 .

ویؤید هذا المعنی ما رواه الشیخ الکلینی عن عبد الرحمن بن الحجاج مرفوعاً : " أن أمیر المؤمنین (علیه السلام) کان لا یری الحبس إلا فی ثلاث : رجل أکل مال الیتیم أو غصبه أو رجل اؤتمن علی أمانة فذهب بها " (1) فإن من الواضح أن محلّ الکلام لا یدخل فی أیّ من هذه العناوین إذ لم یُفرَض فیه أنه أکل مال یتیم أو غصبه أو اؤتمن علی أمانة فذهب بها وإنما فُرض أنه مدین أقرّ بدینه وامتنع عن أدائه .

وأما الدعوی الثانیة : فلا یبعد أن یکون المفهوم من الروایة أن الحبس لأجل العقوبة إذ بعد الالتزام بعدم اندراج ما نحن فیه تحت عنوان الغاصب فأیّ مانع من أن یقال إن هذا الحبس هو لأجل عقوبة أولئک المذکورین جزاءَ لما ارتکبوه من الاعتداء علی مال الغیر وأکل مال الیتیم وخیانة الأمانة وعلی ذلک فهی تنفی الحبس من باب العقوبة عن المدین الذی هو غیر الثلاثة بعد دخوله فی المستثنی منه وهذا لا ینافی أن یُحبس من باب آخر کالاستظهار (2) أو الإلزام بالأداء (3) فلا یکون دلالة هذه الصحیحة علی عدم حبس المدین من باب العقوبة منافیاً لدلالة بعض الروایات الآتیة من جواز حبسه استظهاراً لحاله أو إجباراً له علی الأداء .

الروایة الثانیة : روایة الأصبغ بن نباتة عن أمیر المؤمنین (علیه السلام) : " أنه قضی أن الحَجْر علی الغلام حتی یعقل ، وقضی (علیه السلام) فی الدین أنه یحبس صاحبه فان تبیّن إفلاسه والحاجة فیُخلّی سبیله حتی یستفید مالاً (4) ، وقضی (علیه السلام) فی الرجل یلتوی علی غرمائه (5) أنه یُحبس ثم یأمر به (6) فیُقسّم ماله بین غرمائه بالحصص فإن أبی باعه (7) فقسّمه بینهم " (8) .

ص: 410


1- (8) الکافی مج7 ص263 الحدیث الحادی والعشرون .
2- (9) فی ما إذا لم یکن قد تبیّن حاله من کونه واجداً للمال أو معسراً .
3- (10) فی ما إذا کان قد عُلم کونه واجداً للمال .
4- (11) أی یُحبس استظهاراً ، وهو یتأتّی حیث لا یُعلم حال المدین من حیث واجدیته للمال فإن تبیّن أنه معسر یُطلق سراحه .
5- (12) یعنی یمتنع من أداء الدین لهم .
6- (13) أی یأمره أمیر المؤمنین (علیه السلام) بأن یُقسّم هو ماله بین غرمائه .
7- (14) أی أمیر المؤمنین (علیه السلام) .
8- (15) التهذیب مج6 ص232 ، الفقیه مج3 ص28 .

هذه الروایة تدل علی جواز حبس المدین الممتنع من الأداء لا من جهة التأدیب والعقوبة بل من أجل إجباره علی أداء الدین .

وهذه الروایة رُویت بطریقین أحدهما للشیخ الطوسی والآخر للشیخ الصدوق (قدهما) ولکنها غیر تامة بکلا الطریقین :

أما الأول :

فإن الشیخ لم یذکر طریقه إلی الأصبغ بن نباتة فی المشیخة ، نعم .. ذکر فی الفهرست طریقه إلیه لکنه لم یکن إلی مطلق مرویاته ومنها محلّ الکلام وإنما هو إلی خصوص ما رواه من عهد الإمام أمیر المؤمنین (علیه السلام) إلی مالک الأشتر ووصیته (علیه السلام) إلی ولده محمد بن الحنفیة والأول صحیح والثانی لا یخلو من ضعف - .

وأما الطریق الثانی :

فإن الشیخ الصدوق وإن کان قد ذَکَر طریقاً له إلی الأصبغ بن نباتة إلا أنه ضعیف بمحمد بن علی ماجیلویه إذ المعروف عدم ثبوت وثاقته وإن کان الصدوق قد ترضّی عنه ، ولو تجاوزنا هذا الإشکال بالبناء علی أن الترضّی علامة الجلالة وقلنا بوثاقته لذلک فلا یمکن تجاوز کون من یروی عنه ابن ماجیلویه - وهو أبوه - مجهولاً .

الروایة الثالثة : موثّقة عمار عن أبی عبد الله (علیه السلام) : " إن علیاً (علیه السلام) کان یحبس الرجل إذا التوی علی غرمائه ثم یأمر به فیقسّم ماله بینهم بالحصص فان أبی باعه فقسّم بینهم - یعنی ماله " (1) ، وفی مضمونها بل بألفاظها روایة غیاث بن إبراهیم (2) إلا أن المذکور فیها (یُفلّس) مکان (یحبس) والمراد من التفلیس هو المنع من التصرّف بالمال وهو أعم من المدّعی (3) فالاستدلال یکون بروایة عمار لورودها بلفظ الحبس ، وقد رُویت هذه الروایة بطریقین أحدهما للشیخ الطوسی والآخر للشیخ الکلینی (قدهما) وکلا الطریقین صحیح .

ص: 411


1- (16) التهذیب مج6 ص191 ، الکافی مج5 ص102 .
2- (17) الوسائل مج18 ص416 .
3- (18) یعنی الحبس .

الروایة الرابعة : روایة السکونی عن جعفر عن أبیه (علیهما السلام) : " أن علیاً (علیه السلام) کان یحبس فی الدین ثم ینظر فإن کان له مال أعطی الغرماء وإن لم یکن له مال دفعه (1) إلی الغرماء فیقول لهم اصنعوا به ما شئتم إن شئتم آجروه وإن شئتم استعملوه " (2) .

ودلالة هذه الروایة علی المدّعی من الحبس فی الدین ظاهرة .

وللکلام بقیة ستأتی إن شاء الله تعالی .

المسألة العاشرة / فی الدعوی المالیة / صور المُدّعی علیه / الصورة الأولی : اعتراف المُدّعی علیه / ذکر الروایات المستدل بها علی جواز حبس المقرّ الواجد للمال الممتنع عن الأداء / الروایة الرابعة / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) بحث الفقه

(بحث یوم الاثنین 27 ربیع الأول 1433 ه_ 79)

کان الکلام فی ذکر الروایات التی استُدلّ بها علی جواز حبس المدین المقرّ بالدین الممتنع عن الأداء ووصل الکلام إلی الروایة الرابعة وهی روایة السکونی عن جعفر عن أبیه (علیهما السلام) :

" أن علیاً (علیه السلام) کان یحبس فی الدین ثم ینظر فإن کان له مال أعطی الغرماء وإن لم یکن له مال دفعه (3) إلی الغرماء فیقول لهم اصنعوا به ما شئتم ، إن شئتم آجروه وإن شئتم استعْمِلوه " (4) .

ص: 412


1- (19) أی دفع المدین نفسه إلی الغرماء .
2- (20) التهذیب مج6 ص300 ، الوسائل الباب السابع من أبواب الحجر أیضاً الحدیث الثالث مج18 ص417 .
3- (1) أی دفع المدین نفسه إلی الغرماء .
4- (2) التهذیب مج6 ص300 ، الوسائل الباب السابع من أبواب الحجر أیضاً الحدیث الثالث مج18 ص417 .

هذه الروایة معتبرة سنداً وهی وإن کانت ظاهرة فی الحبس من جهة الدین إلا أن الحبس فیها استظهاری لأجل تبیُّن حال المدین من کونه واجداً للمال أو معسراً وهو إنما یناسب عدم العلم بحاله ولا یناسب العلم بکونه واجداً للمال کما هو الحال فی ما نحن فیه ولذلک فهی لا تصلح للاستدلال فی محلّ الکلام وإن کان لها نحو تعلّق بالمقام من جهة کون الحبس بلحاظ الدین .

الروایة الخامسة : معتبرة غیاث بن إبراهیم عن جعفر عن أبیه (علیهما السلام) :

" أن علیاً (علیه السلام) کان یحبس فی الدین فان تبیّن له إفلاس وحاجة خلّی سبیله حتی یستفید مالاً " (1) .

وتقریب الاستدلال بها من جهة ظهورها فی کون المراد بالحبس هو الحبس فی السجن دون المنع من التصرّف فی المال فإن هذا الأخیر فرع العلم بکون الشخص ذا مال وهذا مما لم یُفرض فی الروایة وإنما المفروض فیها عدم العلم بحاله .

وأُشکل بأن هذا وإن کان یتعلّق بما نحن فیه من هذه الجهة إلا أنه من جهة أخری یفترق عنه لأن الحبس الوارد فی الروایة إنما هو حبس استظهاری یُراد به تبیُّن حال المدین من حیث واجدیته للمال وهذا غیر ما نحن فیه من فرض کونه واجداً للمال فعلاً وفَرْض علم الحاکم بذلک .

هذه هی الروایات المُستدلّ بها فی المقام علی جواز حبس المدین المقرّ بالدین الممتنع عن أدائه وعمدتها موثّقة عمّار (2) فإنها تامة سنداً ودلالة لظهورها فی الحبس لأجل إجبار المقرّ علی الأداء بعد فرض کونه واجداً للمال .

ص: 413


1- (3) التهذیب مج6 ص299 وفی موضع منه روایتها عن غیاث عن أبیه وهو اشتباه والصحیح عن جعفر عن أبیه (علیهما السلام) بقرینة الموضع الآخر ، الوسائل مج18 ص418 .
2- (4) عمار عن أبی عبد الله (علیه السلام) : " إن علیاً (علیه السلام) کان یحبس الرجل إذا التوی علی غرمائه ثم یأمر به فیقسّم ماله بینهم بالحصص فان أبی باعه فقسّم بینهم - یعنی ماله " التهذیب مج6 ص191 ، الکافی مج5 ص102 .

ولکن احتمل بعض فقهائنا (رض) - کالشیخ صاحب الجواهر (قده) (1) وصاحب مفتاح الکرامة ونُقل استظهاره عن العلامة المجلسی الأول فی شرحه علی الفقیه - أن یکون المراد بالحبس فی هذه الروایة هو حبس المال أی منع المدین من التصرف فیه فتکون الروایة حینئذ أجنبیة عن محلّ الکلام بالمرّة ، ویؤیّد هذا الاحتمال ما ورد فی عدة روایات کمعتبرة غیاث بن إبراهیم وموثّقتی عمار وإسحاق بن عمّار - التی تنقل القضیة نفسها - من التعبیر ب_(یُفلّس) بدل (یحبس) والتفلیس یناسب هذا المعنی المحتمل (2) ، ویؤیده أیضاً أن تفریع الأمر بتقسیم المال علی الغرماء علی هذا المعنی أنسب من تفریعه علی الحبس فی السجن لاسیما مع ما ذکره بعضهم من أن المماطلة فی دفع الدین لا تستوجب الحبس فی السجن فإنه مع وجود أموال للمدین المماطل وإمکان وفاء الدین منها بأمر الحاکم للمدین بتقسیمها علی الغرماء أو بتصدّی الحاکم نفسه لذلک لا تصل النوبة إلی الحبس إذ لا مبرّر له فیقوی حینئذ أن یکون المراد من الحبس هو المنع من التصرف لا الزجّ فی السجن ولا أقلّ من کونه احتمالاً قائماً یقف حائلاً فی طریق الاستدلال .

ومن هنا یتبیّن أن هذه الروایات إما هی غیر تامة سنداً أو غیر ناظرة إلی محلّ الکلام أصلاً أو هی ناظرة إلیه ولکن دلالتها علی الحبس فی السجن مع فرض واجدیة المدین للمال لیست واضحة بدرجة یمکن التعویل علیها فی مقام الاستدلال .

ومن هنا یظهر أن من الصعوبة بمکان أن نستدل علی جواز الحبس فی محلّ الکلام بهذه الروایات وإن کان الإنصاف یقتضی الاعتراف بأن الفقهاء (رض) فهموا من الحبس ولا أقل فی موثّقة عمار المتقدّمة وروایة الأصبغ بن نباتة التی بمضمونها والتی هی ناظرة إلی محلّ الکلام أیضاً الحبس فی السجن ولکن مع ذلک فإن الاحتمال الذی ذکرناه عن عدد من الأعلام لا دافع له فیکون مانعاً من الاستدلال .

ص: 414


1- (5) جواهر الکلام مج25 ص281 .
2- (6) أی المنع من التصرف فی المال .

هذا .. وقد استُدلّ علی جواز الحبس فی المقام بطرق أخری - غیر الروایات - :

منها : ما فی المستند من الاستدلال علی ذلک بتوقف إیصال الحقّ لصاحبه علیه (1) فیکون واجباً علی الحاکم لأنه مکلف بإیصال الحقوق إلی أصحابها فیثبت بذلک مشروعیة الحکم بالسجن .

ولکن یمکن التأمل فیه صغرویاً من جهة أن توقف إیصال الحقّ لصاحبه علی حبس المدین لیس مفروضاً فی محل الکلام وإنما المفروض أن المدین مقرّ واجد للمال غایة الأمر أنه ممتنع عن أداء الدین فلا یتوقف إیصال الحقّ لصاحبه علی حبسه بل یمکن للحاکم أن یوصل الحق إلی أصحابه بطریق آخر وهو أن یمنعه من التصرّف فی أمواله ویأمره أولاً بأن یقسّم أمواله علی غرمائه بالحصص فإن امتنع تولّی ذلک الحاکم بنفسه فیوزّع أمواله النقدیة إن وُجدتْ - بینهم أو یبیع عروضه إن لم یکن له نقد .

ومنها : التمسّک بتطبیق أدلة الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر علی المورد من جهة أن عدم أداء الدین مُنْکَر یجب الردع عنه أو أن الأداء معروف یجب الأمر به وحیث لا تُجدی مرتبة التطبیق باللسان بالتغلیظ له بالقول تصل النوبة إلی التطبیق بالید ومن مصادیقها الإیداع فی السجن فیثبت المطلوب .

وأجیب بمنع انطباق کبری الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر فی محل الکلام ولو سُلّم فیکون الدلیل أخصّ من المدّعی إذ أن المفروض هو جواز حبس المدین فی المقام (2) مطلقاً مع أن قضیة الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر أنها محدّدة بشروط ولا تکون فعلیة إلا بتوفر شروطها ودعوی توفّرها فی جمیع الحالات فی ما نحن فیه دونها خرط القتاد .

ص: 415


1- (7) أی علی الحبس فی السجن .
2- (8) المقرّ بالدین الممتنع عن أدائه .

مع أنه لو سُلّم صغرویة المقام لها فهی لا تختص بالحاکم بل تثبت لکل قادر علی الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر حتی لو کان هو المحکوم له نفسه فیکون بإمکانه لو تمّ ما سبق أن یحبس المدین فی السجن مع أن فتوی الفقهاء (رض) اختصاص ذلک (1) بالحاکم لا عمومه لکل أحد .

فالنتیجة أنه لم یثبت ما یدل علی جواز حبس الغریم الممتنع عن أداء الدین مع العلم بکونه واجداً للمال بل الذی ثبت بموجب بعض الروایات المتقدّمة هو منعه من التصرف فی أمواله ثم أداء دیون الغرماء منها ، نعم .. قد یُضطرّ فی بعض الموارد لأجل إیصال الحقّ إلی أصحابه إلی التسبّب إلی ذلک بحبسه ولکنها موارد جزئیة غیر مفروضة فی محلّ الکلام .

هذا ما یرتبط بالحالة الأولی وهی ما إذا کان المدین واجداً للمال .

الحالة الثانیة : ما إذا عُلم بکونه معسراً .. وسیأتی الکلام فیه إن شاء الله تعالی .

المسألة العاشرة / فی الدعوی المالیة / صور المُدّعی علیه / الصورة الأولی : اعتراف المُدّعی علیه / الحالة الثانیة : ما إذا کان المقرّ معسراً وقد ثبت إعساره لدی الحاکم / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) بحث الفقه

(بحث یوم الثلاثاء 28 ربیع الأول 1433 ه_ 80)

کان الکلام فی البحث السابق عمّا إذا کان المدین المقرّ بالدین واجداً للمال وقد تمّ الکلام فیه ، ولا بأس أن ننبّه علی أن هناک فروعاً أخری لها نحو ارتباط بهذا البحث لم نتعرّض لها لکونها مما یُبحث مستقلّاً فی محلّ آخر (2) .

ص: 416


1- (9) أی الحبس فی السجن .
2- (1) یُلاحظ بشأنها کتاب المفلّس .

الحالة الثانیة : ما إذا کان المقرّ معسراً وقد ثبت إعساره لدی الحاکم .

والحکم فیه ما تکفّلت ببیانه الآیة الشریفة من إنظاره إلی حین تیسّر حاله بقوله تعالی : " فنظرة إلی میسرة " (1) وما هو بمضمونها من الروایات ، والمراد بإنظار المدین ترک مطالبته بالدین وعدم جواز حبسه ، وبعبارة أخری إعطاؤه مهلة إلی حین حصول التمکّن المالی والقدرة له علی وفاء الدین .

وقد وقع البحث هاهنا فی أنه هل یُلزَم المدین بالتکسّب لاستحصال المال الوافی بأداء الدین أم أن اللازم علیه الوفاء بالدین علی تقدیر حصول المال لدیه دون ما یزید علی ذلک بعد الاتّفاق علی عدم جواز مطالبته بالدین فعلاً ما دام معسراً فضلاً عن حبسه ؟

أقوال فی المسألة ، وعمدتها ما یأتی :

القول الأول : ما نُسب إلی المشهور من عدم وجوب التکسّب بل اللازم علی الحاکم إذا ثبت عنده الإعسار أن یُمهله حتی یحصل له مال ولا یجوز له أن یُلزمه بتحصیله کما لا یجوز له أو للدائن التصرّف بالمدین نفسه بمؤاجرته للغیر وأخذ الأجرة وفاء للدین أو تسخیره فی مطلق الأعمال لقاء الدین .

ویترتب علی ذلک أنه لا یجب علی المدین قبول الهدیة للوفاء بالدین ولا العمل بالاصطیاد أو الاحتشاش أو الاحتطاب علی ما مثّلوا به - ، کما لا یجب علی المرأة لو کانت مدینة أن تتزوج لتدفع المهر وفاء لدینها ، ولا علی الرجل أن یُطلّق زوجته طلاقاً خلعیاً (2) لیدفع ما تبذله له وفاءً لدینه بل المنقول عن بعضهم إرسال عدم وجوب التکسّب إرسال المسلّمات .

ص: 417


1- (2) البقرة / 280 .
2- (3) أی فی ما لو فُرض توفّر شروط هذا النوع من الطلاق - طبعاً فهاهنا لا یُلزَم بالطلاق لاستیفاء الدین من مال البذل .

القول الثانی : ما اختاره جماعة من فقهائنا (رض) کالحلبی فی الکافی من وجوب التکسّب علی المدین وجواز إلزامه به مع کونه متمکّناً منه (1) سواء کان ذا حرفة أو لم یکن إلا إذا کان حرجیّاً علیه أو کان غیر لائق بشأنه .

القول الثالث : ما نُسب إلی الشیخ (قده) فی النهایة (2) من جواز أن یُدفع المدین نفسه إلی غرمائه لیؤاجروه للغیر أو یستعملوه لأنفسهم فضلاً عن جواز إلزامه بالتکسّب .

هذه هی عمدة الأقوال فی المسألة والذی ینبغی أن یُذکر أولاً قبل استعراض أدلتها هو بیان نکتة هذا النزاع والخلاف وهی تکمن فی أن أداء الدین هل هو واجب مطلق من ناحیة القدرة والتمکّن المالی أو هو واجب مشروط (3)

(4)

ص: 418


1- (4) أی من التکسّب .
2- (5) علی تشکیک فی صحة هذه النسبة لأن بعض المحققین (وهو صاحب مفتاح الکرامة علی ما یخطر فی البال) ذکر أنه راجع النهایة فلم یجد فیها هذا الکلام . (منه دامت برکاته)
3- (6) ولا بأس فی بیان الفرق بین هذین الواجبین إجمالاً لتوقف فهم ما نحن فیه علی ذلک ، فأقول :
4- (7) إنه قد ذُکر فی محلّه من علم الأصول أن الواجب إذا نُسِب وجوبه إلی شیء فتارة یکون مشروطاً به ومتوقّفاً علی تحقّقه فهو الواجب المشروط وأخری یکون غیر مشروط به ولا متوقّفاً علی تحقّقه فهو الواجب المطلق فالحج - مثلاً بالنسبة إلی الاستطاعة واجب مشروط لأن وجوبه متوقّف علی تحقّقها فلا وجوب أصلاً من غیر حصولها ، وبالنسبة إلی السفر إلی الدیار المقدّسة واجب مطلق لأن وجوبه غیر متوقّف علی تحقّقه .

(1) فعلی الأول (2) یتفرّع القولان الثانی والثالث - بقطع النظر عن الاختلاف بینهما - فإنهما مبنیان علی لزوم تحقیق ما یتوقف علیه أداء الدین من التکسّب أو المؤاجرة للغیر أو الاستعمال للنفس فهو علی حدّ السفر بالنسبة إلی حج المستطیع أو تحصیل الطهارة بالنسبة إلی الصلاة ، وعلی الثانی (3) یتفرّع القول الأول فإنه مبنی علی عدم لزوم تحصیل ما یتوقف علیه الوجوب فلا یلزم علی المدین التکسّب لأجل أداء الدین وإنما هو رهن بحصول القدرة المالیة ولو اتّفاقاً - .

فأقول : إن ما یُعیّن کون الواجب مطلقاً أو مشروطاً فی حالة الشک أحد أمور مترتّبة طولاً :

الأول : نصُّ الدلیل الخاص علی کون الواجب مطلقاً أو مشروطاً بالخصوص .

الثانی : مقتضی الأصل اللفظی العام .

الثالث : مقتضی الأصل العملی .

ص: 419


1- (8) والثمرة العملیة للفرق بین هذین الواجبین هی أنه فی الواجبات المشروطة لا یجب علی المکلّف السعی لتحصیل الشرط فهو غیر ملزم بالسعی لتحقیق الاستطاعة - مثلاً - بل إذا حصلت لدی شخص - ولو اتّفاقاً - ترتّب علی ذلک صیرورة الحج واجباً علیه وفعلیاً بحقّه ، ویُسمّی هذا الشرط بشرط الوجوب أو مقدمة الوجوب ، وهذا بخلاف الواجبات المطلقة فإنها مما یجب علی المکلّف تحصیلها فلذا یلزم علیه السفر إلی الدیار المقدّسة لتوقف أداء الحج علیه بل یلزم علیه تهیئة ما یکون من مقدمات ذلک کاستخراج جواز السفر - مثلاً - ، ویُسمّی هذا الشرط بشرط الواجب أو مقدمة الواجب . (منه دامت برکاته)
2- (9) أی کونه واجباً مطلقاً .
3- (10) أی کونه واجباً مشروطاً .

ومع قطع النظر عن الأمر الأول - أعنی الدلیل الخاص الذی یُعیّن أحد النوعین بالخصوص - فالذی یقال هنا إن مقتضی إطلاق أدلة وجوب أداء الدین أن أداء الدین واجب مطلق من ناحیة القدرة المالیة ولیس مشروطاً بها فإن الاشتراط فی الحقیقة یحتاج إلی دلیل خاص یتضمّن کون الواجب مشروطاً من جهة القید المطروح فلو فُرض عدم توفّره فی المقام فنبقی نحن وأدلة وجوب أداء الدین ومقتضی إطلاقها کون الوجوب غیر مقیَّد بذلک القید ومعنی هذا کونه مطلقاً من جهته .

وهذا البیان إن تمّ فهو وإلا فتصل النوبة إلی الأمر الثالث وهو التمسّک بالأصل العملی الجاری فی المورد ولا ریب أن مقتضاه کون الواجب مطلقاً إذ الأصل عدم التقیید .

فالنتیجة أن الأصل مطلقاً لفظیاً کان أو عملیاً یقتضی إطلاق الواجب والقول بکونه مشروطاً رهن بالدلیل .

وأما بالنظر إلی الأدلة الخاصة التی علیها المعوّل مع توفّرها (1) فینبغی استعراضها بالنسبة إلی کل قول من الأقوال المتقدّمة :

فأما ما ذُکر بالنسبة إلی القول الأول وهو ما نُسب إلی المشهور من عدم وجوب التکسّب لکون الواجب فی ما نحن فیه من قبیل الواجب المشروط الذی لا یلزم تحصیل مقدمات وجوبه فقد استُدلّ له :

أولاً : ما أُشیر إلیه فی کلماتهم کالجواهر وغیرها من التمسک بالأصل فإنه یقتضی عدم وجوب التکسب ، والظاهر أن المقصود بالأصل هنا ما یکون من قبیل أصالة البراءة عند الشک فی الوجوب (2) .

ص: 420


1- (11) ومهما کانت نتیجة الأدلة الخاصة فهی لا تنافی ما ذکرناه من أن نتیجة الأصل اللفظی والعملی تقتضی الإطلاق وذلک لکونهما متأخّرین مرتبة عنها ولا یصار إلیهما إلا بعد فقدها . (منه دامت برکاته)
2- (12) الذی مرجعه إلی الشک فی التکلیف وهو مجری للبراءة .

ولکن أُشکل علیه بأن من الواضح أن هذا الأصل لا یمکن الالتزام به فی محل الکلام وذلک من جهة أن الشک فی وجوب التکسب الذی هو مجری لأصالة البراءة مسبَّب عن الشک فی إطلاق الوجوب واشتراطه فإنه إذا کان أداء الدین واجباً مشروطاً فلا یجب التکسب کما یقول المشهور ، وإذا کان واجباً مطلقاً فیجب حینئذ التکسب (1) ، والأصل الجاری فی السبب حاکم علی الأصل الجاری فی المسبَّب ورافع فی الحقیقة لموضوعه وهو الشک ، وقد تقدّم أن الأصل اللفظی بل والعملی أیضاً - فی المقام وهو إطلاق أدلة وجوب أداء الدین یقتضی کون الواجب مطلقاً بالإضافة إلی القدرة المالیة وهذا معناه لزوم تحصیل ما یتوقف علیه من المقدمات ومنها التکسب فیکون التکسّب واجباً علی المدین ویجوز إلزامه به ، وبذلک یکون کل من الأصلین حاکماً علی أصالة البراءة التی استُدلّ بها لهذا القول فیرفعان موضوعها - وهو الشک فی کون التکسب واجباً - حیث ثبت فی مرتبة متقدمة أن هذا الواجب هو واجب مطلق وأن التکسب من المقدمات الوجودیة التی یجب علی المکلّف تحصیلها .. وعلی ذلک فلا یتم هذا الدلیل لإثبات هذا القول .

ثانیاً : قوله تعالی : " وإن کان ذو عسرة فنظرة إلی میسرة " .

وتقریب الاستدلال بهذه الآیة الشریفة أن المقصود بها لزوم إنظار المعسر إلی حین حصول میسرة فتدلّ علی أن الإنظار ثابت للمعسر ما دام معسراً فلا یجب التکسّب علیه .

ولکن أجیب علیه :

أولاً : إن غایة ما تدل علیه الآیة الشریفة هو الإنظار حال العسر بمعنی عدم مطالبته بالدین فی هذا الحال - فضلاً عن عدم جواز سجنه - ولزوم إمهاله إلی حین الیسر وهذا لا ینافی وجوب التکسب علیه إذ لیس فی الآیة الشریفة ما یشیر إلی عدم وجوب التکسب لتکون دلیلاً للمشهور بل مفادها یجتمع مع وجوب التکسب إذ لا مانع من إعطائه المهلة وعدم مطالبته بالدین فی حال العسر ولکن فی الوقت نفسه یُلزَم بالتکسب من جهة کونه مقدمة للوفاء بالدین الواجب علیه .

ص: 421


1- (13) الذی هو مقدمة لأداء الدین الواجب .

وثانیاً : إن الآیة الشریفة لا تشمل محلّ الکلام أصلاً وذلک من جهة أن المدین إذا کان قادراً علی التکسب - کما هو المفروض فلا ینطبق علیه عنوان المعسر الذی هو موضوع الآیة المبارکة وإنما المعسر من لا یکون واجداً للمال فعلاً ولا قادراً علی تحصیله بالأسباب المشروعة کالتکسّب ، وأما إذا کان قادراً علی ذلک فلیس هو بمعسر وإن لم یکن واجداً للمال فعلاً بل إن مثل هذا یُعدّ غنیاً فی الحقیقة ولذا حکموا فی باب الزکاة بعدم جواز إعطائها لمن کان متمکّناً من الکسب لعدم کونه والحال هذه فقیراً بل هو غنی بالقوة فالآیة الشریفة حتی لو سُلّمت دلالتها علی عدم لزوم التکسب إلا أن محلّ الکلام خارج عن موضوعها تخصّصاً فإن موضوعها المعسر وما نحن فیه لا یدخل تحت هذا العنوان وإنما الداخل تحته من لا یملک المال بالفعل ولیس لدیه المقدرة علی التکسب وأما مع وجود أحدهما فلا ینطبق علیه موضوع الآیة حینئذ .

وعلیه فلا یصح الاستدلال بالآیة الشریفة فی محلّ الکلام .

المسألة العاشرة / فی الدعوی المالیة / صور المُدّعی علیه / الصورة الأولی : اعتراف المُدّعی علیه / الأدلة التی استُدلّ بها علی قول المشهور من عدم وجوب التکسب علی المدین / الدلیل الثالث / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) بحث الفقه

(بحث یوم الأربعاء 29 ربیع الأول 1433 ه_ 81)

کان الکلام فی ذکر الأدلة التی استُدلّ بها علی قول المشهور من عدم وجوب التکسب علی المدین وعدم جواز إلزامه به وتقدّم ذکر دلیلین أحدهما هو التمسّک بالأصل والآخر قوله تعالی : " وإن کان ذو عسرة فنظرة إلی میسرة " ، وقد تقدّمت المناقشة فی کل منهما ولمزید التوضیح أقول :

ص: 422

أما بالنسبة إلی الأصل (1) فمن المعلوم أن النوبة لا تصل إلیه إلا بعد الالتزام بأمرین :

أولهما : القول بعدم وجود إطلاق لأدلة وجوب الوفاء بالدین یقتضی (2) عدم تقیّد الوجوب بالتمکّن المالی (3) علی غرار تقیّد وجوب الحج بالاستطاعة .

ثانیهما : القول بأن لیس مقتضی الأصل عند الشکّ فی کون الواجب مطلقاً أو مشروطاً هو کونه مطلقاً (4) ، وهذا الأمر فی الحقیقة یدخل فی کبری دوران الأمر بین رجوع القید إلی المادة فیکون قیداً للواجب فیکون الواجب مطلقاً أو رجوعه إلی الهیأة فیکون قیداً للوجوب فیکون الواجب مشروطاً (5)

ص: 423


1- (1) وهو جریان البراءة عن وجوب التکسّب .
2- (2) أی هذا الإطلاق .
3- (3) وإلا فلو وُجد هذا الإطلاق لتعیّن التمسّک به لإثبات المطلوب من عدم وجوب التکسّب ولم تصل النوبة إلی التمسّک بالأصل العملی للطولیة بین الدلیل اللفظی والأصل العملی .
4- (4) وإلا فلو قلنا بأن مقتضی الأصل عند الشکّ فی کون الواجب مطلقاً أو مشروطاً هو کونه مطلقاً لکان هذا الأصل مقدّماً علی أصالة البراءة لحکومته علیها إذ هو فی الحقیقة رافع لموضوعها وهو الشک فإنه إذا تمسّکنا بذلک الأصل وقلنا بکون الواجب مطلقاً فلا یکون حینئذ ثمة شک أصلاً لیکون هناک مجال لجریان أصالة البراءة .
5- (5) لا یخفی أن وصف الإطلاق والاشتراط وإن وُصف بهما الواجب إلا أن وصفه بهما إنما هو علی نحو العنایة والمجاز بحذف المضاف (أی وجوب الواجب) والوصف فی الحقیقة إنما هو للوجوب ، ومن هنا تعلم بأن لا تهافت فی ما ذُکر من أن : (القید إذا رجع إلی المادة یکون قیداً للواجب فیکون الواجب مطلقاً) فإن الإطلاق وصف للوجوب فلا ینافی کون الواجب مقیّداً فتدبّر!

(1)

(2) .

هذا .. ولکن لا یبعد القول بوجود إطلاق لبعض أدلة وجوب الوفاء بمعنی أن وجوب الأداء لیس مشروطاً بالقدرة المالیة ولو تمّ هذا لأوجب تحصیل مقدمة الأداء الواجب کالتکسّب (3) ، وهذه هی الثمرة بین القول بالإطلاق والقول بالاشتراط (4) .

والحاصل أن التمسّک بالبراءة لا یُصار إلیه إلا بعد القول بعدم وجود أصل لفظی أو أصل عملی مقدّم علی أصالة البراءة .

وأما بالنسبة إلی الآیة الشریفة فقد تقدّم أنه قد اعتُرض علیها بأمرین کان أوّلهما أن غایة ما تدل علیه هو الإنظار حال العُسر بمعنی عدم مطالبته بالدین فی هذا الحال (فضلاً عن عدم جواز سجنه) ولزوم إمهاله إلی حین الیسر وهذا لا ینافی وجوب التکسب علیه (بل وإلزامه به من جهة کونه مقدمة للوفاء بالدین الواجب علیه) إذ لیس فی الآیة الشریفة ما یشیر إلی عدم وجوب التکسب لتکون دلیلاً للمشهور .

ص: 424


1- (6) هذا .. وقد ذکر الأستاذ (دامت برکاته) ما مفاده - بتصرّف - :
2- (7) " لا یخفی أن تقیید المادة حاصل علی کل تقدیر : أما علی رجوع القید إلی المادة فواضح وأما علی رجوع القید إلی الهیأة فلأن تقیید الهیأة یستلزم تقیید المادة بلا عکس ، ومن هنا یکون تقیید المادة معلوماً علی کل حال فالدوران المزبور هو فی الحقیقة بین رجوع القید إلی المادة فقط أو رجوعه إلی الهیأة والمادة معاً فعلی الأول یکون قیداً للواجب فیکون الواجب (أی وجوب الواجب - کما عرفت -) مطلقاً ، وعلی الثانی یکون قیداً للوجوب فیکون الواجب (أی وجوب الواجب) مشروطاً " .
3- (8) مثال لما یکون من مقدمات تحصیل الأداء الواجب .
4- (9) فعلی الإطلاق یلزم تحصیل المقدمات التی یتوقف علیها الأداء کالتکسب وعلی الاشتراط لا یلزم ذلک .

وکان ثانیهما أن القادر علی التکسب خارج موضوعاً عن الآیة الشریفة لأنه متمکن وواجد للمال ولا یُشترط فی واجدیة المال أن یکون موجوداً نقداً بل إذا کان قادراً علی التکسب یُعدّ متمکناً ولا ینطبق علیه عنوان المعسر ولذا لم یُعدّ فی سائر الموارد التی یُشترط فیها الفقر کالزکاة والخمس مستحقّاً بل عُدّ فیها غنیاً ولیس فقیراً .

هذه تتمةٌ وتذکیر بما سبق .

الدلیل الثالث :

روایة الأصبغ بن نباتة عن أمیر المؤمنین (علیه السلام) أنه :

" قضی (علیه السلام) فی الدین أنه یحبس صاحبه فإن تبیّن إفلاسه والحاجة فیُخلّی سبیله حتی یستفید مالاً (1) " (2) .

الدلیل الرابع :

معتبرة غیاث بن إبراهیم عن جعفر عن أبیه (علیهما السلام) :

" أن علیاً (علیه السلام) کان یحبس فی الدین فان تبیّن له إفلاس وحاجة خلّی سبیله حتی یستفید مالاً " (3) .

وتقریب الاستدلال بهما من جهة البناء علی ظهور (حتی) فیهما بمعنی (إلی) الغائیة فالمقصود هو أن المدین یُخلّی سبیله إلی أن یستفید مالاً فیکون الظاهر منه عدم وجوب التکسّب .

ص: 425


1- (10) أی یُحبس استظهاراً ، وهو یتأتّی حیث لا یُعلم حال المدین من حیث واجدیته للمال فإن تبیّن أنه معسر یُطلق سراحه .
2- (11) التهذیب مج6 ص232 ، الفقیه مج3 ص28 ، الوسائل مج27 ص247 .
3- (12) التهذیب مج6 ص299 ، الوسائل مج18 ص418 ، ولا یخفی أن الأنسب جعلهما دلیلاً واحداً لأن فقرة الاستدلال فیهما واحدة لا اختلاف فیها فلا موجب للتعدّد .

وأجیب عنه :

أولاً :

المنع من ظهور (حتی) فی الغایة بل هی ظاهرة فی کونها تعلیلیة بمعنی (لکی) أو (لأجل) فالمعنی هو أن المدین یُخلّی سبیله لأجل أن یستفید مالاً فیکون الظاهر منه هو وجوب التکسّب ، وإن مُنع من هذا الظهور فلا أقلّ من کون محتملاً احتمالاً معتدّاً به علی نحو یمنع من الاستدلال بالروایتین علی ما ذُکر من عدم وجوب التکسب .

والحاصل أن (حتی) إن لم تکن ظاهرة فی کونها تعلیلیة فیکون الظاهر منها وجوب التکسب فلا أقلّ من عدم ظهورها فی کونها غائیة لیُدّعی کون الظاهر منها عدم وجوب التکسب .

وثانیاً :

لو سُلّم کون (حتی) غائیة وأن الظاهر من الروایتین أن المدین یُخلّی سبیله إلی أن یستفید مالاً إلا أن هذا المعنی لا ینافی وجوب التکسب إذ لیس فیه ظهور فی عدم وجوب التکسب بل غایته أنه لا یدلّ علی وجوب التکسب وهذا لا ینافی وجوب التکسب لو دلّ علیه دلیل فلا مانع من الالتزام بأن المدین یُخلّی سبیله إلی أن یستفید مالاً وفی الوقت نفسه یؤمر فی فترة الإنظار وتخلیة السبیل بالتکسب .

الدلیل الخامس :

موثّقة السکونی عن جعفر عن أبیه (علیهما السلام) عن علی (علیه السلام) : " أن امرأة استعدت علی زوجها أنه لا ینفق علیها وکان زوجها مُعسراً فأبی أن یحبسه وقال : إن مع العسر یسراً " (1) .

وهذه الروایة أُلحق بآخرها فقرةٌ ذُکرت فی ملحقات العروة (2) وهی : (ولم یأمره بالتکسب) ولا ریب أنه علی تقدیر وجود هذه الفقرة فی الروایة فعلاً تکون دالّة علی عدم وجوب التکسب إذ لو کان واجباً علیه لأمره به الإمام (علیه السلام) .

ص: 426


1- (13) التهذیب مج6 ص300 ، ومج7 ص454 ، الوسائل مج18 ص418 .
2- (14) العروة الوثقی مج6 ص495 .

ولکن الظاهر أن هذه الفقرة غیر موجودة فی المصدر أصلاً إذ یخلو منها التهذیب حتی المطبوع منه کما لا توجد أیضاً فی شرحه (ملاذ الأخیار للعلامة المجلسی) ولا فی الوسائل ولا فی الکتب الفقهیة التی نقلت هذه الروایة من قبیل مفتاح الکرامة وکشف اللثام والجواهر فیبدو - والله العالم - أن هذه الفقرة إنما هی تعلیقة من السید الیزدی (قده) ذیّل بها هذه الروایة غایة الأمر أنه وقع خطأ فی النَسْخ أو حصل اشتباه من الناسخ .

والروایة تامة سنداً .. ولکن قد یُخدش فیها من جهة محمد بن قولویه - الذی هو أبو صاحب کامل الزیارات (جعفر بن محمد بن قولویه) ، أو من جهة محمد بن عیسی - الذی هو أبو أحمد بن محمد بن عیسی ، أو من جهة السکونی فإن الأوّلین لم یوثّقا والأخیر عامی .

ولکنها فی الجمیع مدفوعة :

أما بالنسبة إلی محمد بن قولویه فإن ابنه صاحب کامل الزیارات قد روی عنه مباشرة فیه ورجالُ کامل الزیارات وإن لم یکن فی عبارة المصنّف فی بدایة کتابه دلالة علی توثیقهم جمیعاً إلا ان فیها دلالة علی توثیق من یروی عنهم مباشرة وهم من یُعبّر عنهم بالمشایخ وأبوه واحد منهم .

وأما بالنسبة إلی محمد بن عیسی فإنه قد عُبّر عنه فی المصادر الموثوقة کالنجاشی وغیره بأنه کان شیخ القمّیین ووجه الأشاعرة وظاهر هذا التعبیر أنه ینافی کونه شخصاً غیر معتمد علیه فی ما یُحدث به فهو إن لم یدلّ علی توثیقه فلا أقلّ من دلالته علی حسنه وإمکان الاعتماد علیه .

وأما بالنسبة إلی السکونی فلا یضرّ کونه عامیاً بعد کونه ثقة بحسب نصّ الشیخ (قده) .

ص: 427

وعلی ذلک فالظاهر تمامیة الروایة سنداً .

وأما تقریب الاستدلال بها علی قول المشهور فبالتمسّک بالإطلاق المقامی من جهة سکوت الإمام (علیه السلام) عن إلزام الزوج المعسر بالتکسب بعد تصریحه بعدم حبسه ولو کان التکسب واجباً لألزمه الإمام (علیه السلام) به .

هذا غایة ما یقال فی تقریب الاستدلال بهذه الروایة وستأتی المناقشة فیه إن شاء الله تعالی .

المسألة العاشرة / فی الدعوی المالیة / صور المُدّعی علیه / الصورة الأولی : اعتراف المُدّعی علیه / الأدلة التی استُدلّ بها علی قول المشهور من عدم وجوب التکسب علی المدین / مناقشة التمسّک بالإطلاق المقامی فی الدلیل الخامس / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) بحث الفقه

(بحث یوم السبت 2 ربیع الثانی 1433 ه_ 82)

کان الکلام فی ذکر الأدلة التی استُدلّ بها علی قول المشهور من عدم وجوب التکسّب علی المدین وعدم جواز إلزامه به وتقدّم ذکرُ الدلیل الخامس (1) ودَفْعُ ما أُشکل به علیه من جهة السند وتعقیب ذلک بذکر تقریب دلالته بالتمسّک بالإطلاق المقامی من جهة ظهور سکوت الإمام (علیه السلام) عن إلزام الزوج المعسر بالتکسّب فی عدم وجوب التکسّب علیه بعد البناء علی عدم وجود عبارة (ولم یأمره بالتکسّب) فی نصّ الروایة - کما هو الصحیح - .

ولکن نوقش فی هذا الاستدلال من جهتین :

الأولی :

عدم تمامیة الإطلاق المقامی فی المورد بمعنی أنه لا دلالة فی سکوت الإمام (علیه السلام) علی عدم وجوب التکسّب من جهة أن الروایة لیست فی مقام ما یجب علی الزوج المعسر حتی یکون الإطلاق المقامی المُستفاد من سکوت الإمام (علیه السلام) مقتضیاً لعدم وجوب التکسّب .

ص: 428


1- (1) وهو روایة السکونی .

الثانیة :

لو سُلّمت تمامیة الإطلاق المقامی فإن غایة ما یَثبت به هو عدم إلزامه (علیه السلام) للزوج المعسر بالتکسّب ولا دلالة فی هذا علی عدم وجوبه علیه فإن القضیة المنقولة فی الروایة عبارة عن واقعة جزئیة خارجیة لا قضیة کلیة ینعقد لها الإطلاق ومن المحتمل دخالة بعض الظروف الخاصة فی الحیلولة عن إلزامه بالتکسّب کما لو کان الإمام (علیه السلام) قد علم أن الشخص غیر قادر علی التکسّب أصلاً أو کان قادراً ولکن لم یتیسّر له الکسب المناسب لشأنه وعلی ذلک فلا یمکن أن نستدل من سکوت الإمام (علیه السلام) عن إلزامه بالتکسّب علی عدم وجوب التکسّب علیه (1) .

ومن هنا یتبین عدم تمامیة شیء مما استُدلّ به للقول المشهور (2) وبناء علیه تصل النوبة إلی التمسّک بمقتضی الأصل العملی المقتضی لوجوب التکسّب لفرض توقف وجود الواجب علیه لما تقدّم من أن أداء الدین بالنسبة إلی المدین واجب مطلق - ولیس واجباً مشروطاً - فتجب حینئذ مقدماته الوجودیة التی یتوقف علیها وجود الواجب خارجاً ویتفرّع علی هذا وجوب إلزامه به أیضاً باعتبار أن الحاکم هو المسؤول عن إحقاق الحقوق وإیصالها إلی أصحابها فإذا فُرِض توقّف ذلک علی أن یتکسّب المدین المعسر فبإمکان الحاکم إلزامه به .

هذا .. ویمکن أن یُستفاد وجوب التکسّب من معتبرة غیاث بن إبراهیم وروایة الأصبغ المتقدّمتین لأنهما تصرّحان بأن الإمام (علیه السلام) کان یحبس فی الدین فإن تبیّن له إفلاس المدین وحاجته خلّی سبیله حتی یستفید مالاً - بناءً علی أن (حتی) تعلیلیة بمعنی (لأجل) فإن المفهوم منه أن علّة إطلاق سراحه وتخلیة سبیله إنما هی استفادة المال الذی یفی بأداء الدین وهذا إنما یتحقّق بالتکسّب فیکون التکسّب واجباً لتحقیق تلک الغایة ویتفرّع علیه جواز أن یُلزمه الحاکم به فی ما لو امتنع أو یسجنه لما تقدّم من أن الحاکم هو المسؤول عن إحقاق الحقوق وإیصالها إلی أصحابها والمفروض توقف ذلک علی استفادة المال التی تتحقّق بالتکسّب ؛ ولو خُدش فی هذا البیان ففی التمسّک بمقتضی الأصل المذکور غنی وکفایة .

ص: 429


1- (2) وهذا الجواب یتأتّی حتی لو فُرض أن الفقرة التی أُضیفت فی ملحقات العروة إلی الروایة کانت موجودة فی نصّ الروایة واقعاً .. ولکن قد عرفت أنها أجنبیة عنها . (منه دامت برکاته)
2- (3) وهو عدم وجوب التکسب علی المدین المعسر وعدم جواز إلزامه به .

وکیف کان فالذی یظهر مما تقدّم أنه لا خصوصیة للتکسّب فی المقام بل یعمّ مطلق ما یتوقف علیه أداء الدین الواجب وإنما خُصّ التکسّب بالذکر من باب کونه المصداق الأبرز لتحقیق ذلک فیلزم بناءً علی هذا قبول الهبة - مثلاً إلا إذا فُرض کونه حرجیاً علیه أو کونه مستلزماً لتوهین شأنه فلا یجب حینئذ بلا إشکال بل إن بعض فقهائنا (رض) - وهو الشیخ (قده) فی النهایة علی ما هو المنسوب إلیه - التزم بأنه یجوز للحاکم أن یدفع المُعسر نفسه إلی الغرماء لیؤاجروه أو یستعملوه شریطة أن لا یکون ذلک حرجیاً علیه ولا موجباً للتوهین بشأنه والظاهر أن مستنده فی ذلک روایة السکونی عن جعفر عن أبیه (علیهما السلام) : " أن علیاً (علیه السلام) کان یحبس فی الدین ثم ینظر فإن کان له مال أعطی الغرماء وان لم یکن له مال دفعه إلی الغرماء فیقول لهم اصنعوا به ما شئتم إن شئتم آجروه وان شئتم استعملوه " (1) .

ولکن الأصحاب لم یوافقوا الشیخ (قده) فی ما ذهب إلیه ولم یعملوا بمقتضی هذه الروایة وإن کانت عندهم تامة سنداً بل إن بعضهم ناقش فی سندها فقال بعدم اعتبارها ولا بد أن یکون ذلک من جهة النوفلی بل والسکونی أیضاً - علی رأی بعضهم - .

ولکن تقدّم أنه یمکن إثبات وثاقة النوفلی بوجوه ذُکرتْ فی محلّها ، وأما السکونی فقد تقدّم أیضاً ما یدلّ علی وثاقته فالروایة من حیث السند معتبرة والمناقشة فیه غیر متّجهة .

نعم .. استشکل بعضهم فی الروایة من جهة أخری وهی الحجیة فقال بأن مضمون هذه الروایة مخالف للقواعد ولعمل الأصحاب کما أصرّ علی ذلک الشیخ الأنصاری (رض) بل والشیخ نفسه أیضاً إذ لم یظهر منه المخالفة للأصحاب والالتزام بهذه الفتوی وقد تقدّم أن صاحب مفتاح الکرامة ذکر أنه تتبّع کتاب النهایة فلم یجد ما یشیر إلی أن الشیخ (قده) یذهب إلی ما نُسب إلیه مما هو موافق لمضمون الروایة ولذلک نجد أنه (قده) فی باب الدین قد وافق الأصحاب وفی باب آخر اقتصر علی ذکر الروایة فقط .

ص: 430


1- (4) التهذیب مج6 ص300 ، الوسائل أبواب الحج الباب السابع الحدیث الثالث مج18 ص418 .

وبهذا یظهر أن الأصحاب مطبقون علی عدم العمل بهذه الروایة ممّا یحقّق کبری الإعراض عن الروایة المعتبرة سنداً وهو موجب لوهنها وسلب الحجیة عنها .

فالنتیجة أن روایة السکونی موهونة بالإعراض ولا عامل بها مما یوجب سقوطها عن الحجیة .

هذا .. وقد ناقش بعضهم فی دلالة الروایة - بقطع النظر عن المناقشة فی سندها فقال بعدم إمکان الالتزام بمضمونها وذلک من جهة مخالفتها للعقل والنقل :

أما مخالفتها للعقل فباعتبار أن ظاهر الروایة هو تجویز تسلیط شخص علی آخر لیفعل به ما یشاء وهذا ممنوع بحکم العقل لأن فیه سلباً للحریة .

وأما مخالفتها للنقل فمن جهة أن دفع المعسر إلی الغرماء لیستعملوه أو یؤاجروه مخالف مع ما دلّ علی لزوم الإنظار کقوله تعالی : (فنظرة إلی میسرة) .

وأقول : یمکن المنع من کلتا المخالفتین :

أما بالنسبة إلی المخالفة مع العقل فإنه وإن کان الوارد فی الروایة هو قوله : (اصنعوا به ما شئتم) ولکن من الواضح بقرینة الذیل أنه لیس المراد من : (ما شئتم) علی إطلاقه لیلزم ما یُشبه الاستعباد (1) لیقال بکونه ممنوعاً بحکم العقل وإنما المراد المؤاجرة للغیر وأخذ الأجرة وفاءً للدین أو الاستعمال للنفس فی الأعمال المقدورة للمدین من الصناعة والزراعة والتجارة وجعل ذلک عوضاً عمّا فی ذمة المدین فالغرض من ذلک إذاً هو أن یتمکّن المدین المعسر من تحصیل المال الوافی بأداء الدین الواجب والعقل لا یمنع من أن یُؤاجَر المدینُ المعسِر أو یُستعمَل توفیة لدینه إذا کان ذلک غیر حرجی له وغیر مخالف لشأنه کما لو کان هو نفسه عاملاً وکاسباً .

ص: 431


1- (5) أی صیرورة المدین عبداً للدائن یفعل به ما یشاء .

وأما بالنسبة إلی المخالفة مع النقل فهی غیر لازمة لما ذکرنا من قبلُ أن وجوب التکسّب علی المعسر وکذا مؤاجرته من قبل الغرماء للغیر أو استعماله لأنفسهم لا ینافی إنظاره فإن المقصود بالإنظار فی الآیة الشریفة کما تقدّم - هو عدم مطالبته بالمال ما دام معسراً وهذا لا ینافی إلزام الحاکم له بالتکسّب أو دفعه إلی الغرماء لیؤاجروه أو یستعملوه لتحصیل المال الوافی بأداء الدین فی زمان الإنظار .

فتحصّل ممّا تقدّم أن الأقرب ما ذهب إلیه جملة من المحققین من القول بوجوب التکسّب بل الالتزام بالتعمیم لغیره أیضاً مما یتوقف علیه أداء الدین الواجب مما لیس فیه حرج علی المعسر أو التوهین بشأنه کقبول الهبة - مثلاً کما الأقرب جواز إلزام الحاکم له بذلک مع مراعاة عدم الحرج أو التوهین.

هذا ما یرتبط بالحالة الثانیة التی یکون علیها المقرّ وهی الإعسار .

بقی الکلام فی الحالة الثالثة وهی ما لو لم یُعلم حال المدین المقرّ بالدین من حیث إعساره أو واجدیته للمال فما هو حکمه ؟

وأهمّ ما یُطرح هنا هو أنه هل یجوز حبسه لغرض استعلام حاله - وهو ما یُسمی بالحبس الاستظهاری - لیتبیّن کونه معسراً أو واجداً للمال لیلحقه الحکم الخاص بحالته أم لا یجوز ذلک بل علی الحاکم أن یتبیّن حاله بطرقه الخاصة ؟

الذی یظهر من بعض الروایات التی مرّ ذکرها جواز مثل هذا الحبس (1) کروایة السکونی المتقدّمة التی اشتملت علی قوله (علیه السلام) : " أن علیاً (علیه السلام) کان یحبس فی الدین ثم ینظر .. " حیث یمکن تعلیله بأنه إذا لم یُحبس المدینُ - الذی لم یُعلم حاله - لیُستظهَر فقد یکون فی الواقع موسراً ویتصرّف فی أمواله تصرّفات یُلحق نفسه بها بالمعسِر کما لو استغلّ کونه مخلّی السبیل ونقل جمیع أمواله إلی محلّ غیر معلوم .

ص: 432


1- (6) أی الحبس الاستظهاری .

وللکلام تتمة ستأتی إن شاء الله تعالی .

المسألة العاشرة / فی الدعوی المالیة / صور المُدّعی علیه / الصورة الأولی : اعتراف المُدّعی علیه / الأدلة التی استُدلّ بها علی قول المشهور من عدم وجوب التکسب علی المدین / مناقشة التمسّک بالإطلاق المقامی فی الدلیل الخامس / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) بحث الفقه

(بحث یوم الأحد 3 ربیع الثانی 1433 ه 83)

کان الکلام فی ذکر أحوال المدین المقرّ بالدین وتقدم ذکر حالتین أولاهما ما لو عُلم بواجدیته للمال وثانیهما ما لو عُلم إعساره :

الحالة الثالثة : وهی ما لو لم یُعلم حال المدین المقرّ بالدین من حیث إعساره أو واجدیته للمال فهنا یقال إنه لمّا کان من الواضح أن دعواه الإعسار بمجرّدها لا تُقبل منه فکان من اللازم الفحص عن حاله لیتبیّن کونه معسراً أو واجداً للمال لیلحقه الحکم الخاص بحالته ولکن وقع الکلام فی أنه فی مدّة الفحص هل یجوز حبسه ولو لأجل أنه قد یکون فی الواقع موسراً فیتمکّن لو کان مُخلّی السبیل من أن یتصرّف فی أمواله تصرّفات یُلحق نفسه بها بالمعسِر بخلاف ما لو حُبس فإنه لا یتمکن من ذلک أم لا یجوز ذلک (1) بل علی الحاکم أن یتبیّن حاله بطرقه الخاصة ؟

ومن الواضح أن هذه المسألة إنما تُطرح عند عدم وجود بیّنة تشهد بصدق دعوی المدین بالإعسار وأما مع وجودها فیدخل الکلام فی الحالة الثانیة وهی ما لو عُلم کون المدین معسِراً - کما صرّح بذلک فقهاؤنا (رض) کالمحقق صاحب الشرایع من المتقدمین والشیخ صاحب الجواهر (قده) من المتأخّرین .

ص: 433


1- (1) أی أن یُحبس حبساً استظهاریاً .

والکلام هنا یقع فی جهتین :

الأولی : فی جواز الحبس وعدمه .

الثانیة : فی بیان الحکم المترتّب فی ما لو لم یتبیّن حال المدین بعد الفحص .

أما الجهة الثانیة فنوکل الکلام حولها إلی البحوث الآتیة التی تتکفّل ببیان کیفیة تطبیق قوانین باب القضاء علی المدین الذی لم یتبیّن حاله بعد الفحص .

وأما الجهة الأولی فالکلام فیها یقع فی مقامین :

الأول : فی إقامة الدلیل علی جواز الحبس الاستظهاری .

الثانی : فی ذکر الأقوال فی الحبس فی مدة الفحص (1) .

أما المقام الأول : فیمکن أن یُستدلّ علی الجواز بالروایات المتقدمة کروایة السکونی عن جعفر عن أبیه (علیهما السلام) : " أن علیاً (علیه السلام) کان یحبس فی الدین ثم ینظر فإن کان له مال أعطی الغرماء .. " ، ومعتبرة غیاث بن إبراهیم عن جعفر عن أبیه (علیهما السلام) : " أن علیاً (علیه السلام) کان یحبس فی الدین فان تبیّن له إفلاس وحاجة .. " فإنهما ظاهرتان فی جواز الحبس لأجل الفحص والاستعلام وأن ذلک من وظائف الحاکم تمهیداً لحکمه .

وأما المقام الثانی : فالأقوال فی محلّ الکلام ثلاثة :

الأول : الحبس مطلقاً (2) .

الثانی : عدم الحبس مطلقاً (3) .

ص: 434


1- (2) أی بعد فرض ثبوت جواز الحبس .
2- (3) هذا الإطلاق فی هذا القول والقول الثانی هو فی مقابل التفصیل المذکور فی القول الثالث .
3- (4) أی یُطلق سراحه فی مدة الفحص والاستعلام عن حاله .

الثالث : التفصیل بین ما إذا علمنا بأن حالته السابقة هی کونه واجداً للمال ونشکّ الآن فی بقائها وما إذا لم یکن ثمة علم بحالته السابقة فیجوز حبسه فی الشقّ الأول سواء ادّعی الإعسار أو سکت ولم یدّع شیئاً بخلاف الشقّ الثانی فإنه یُخلّی سبیله فی مدّة الفحص ولا یُحبس .

وهذا القول هو مختار المحقق صاحب الشرایع وذکره فی کتاب المفلّس .

أما القول الأول - وهو الحبس مطلقاً : فقد استُدلّ له بإطلاق قوله (علیه السلام) فی معتبرة غیاث بن إبراهیم : " أن علیاً (علیه السلام) کان یحبس فی الدین فان تبیّن له إفلاس وحاجة خلّی سبیله حتی یستفید مالاً " فإنه شامل بإطلاقه لما إذا عُلم بکونه واجداً للمال سابقاً وشُکّ فی بقائه فحُکم حینئذ بحبسه إلی أن یتبیّن حاله فضلاً عمّا إذا لم یُعلم حاله سابقاً .

ولکن یمکن المنع من وجود إطلاق لهذه الروایة بتقریب أنها تتضمّن حکایة فعل خارجی ومن الواضح أنه مما لا إطلاق له لیُتمسّک به فی إثبات القول الأول کما رامه المستدلّ .

ولکن هذا الکلام مخدوش وذلک من جهة أن الروایة لیست مسوقة علی أنها قضیة خاصة تعالج حالة جزئیة بل هی مسوقة علی أنها قضیة کلیة تبیّن حکم حالة عامة من جهة أنها تحکی سیرة الإمام (علیه السلام) فی کیفیة تعامله فی قضایا الدین فیُتمسّک بإطلاقها لإثبات الحبس مطلقاً من جهة ترک الاستفصال إذ لو کان الحکم بالحبس مختصّاً بما لو لم یُعلم حال المدین سابقاً لاقتضی ذلک من الإمام (علیه السلام) أن یُبیّن الاختصاص دفعاً لتوهّم العموم فلمّا لم یفعل کشف ذلک عن کون الحکم مطلقاً .

ص: 435

واستدل للقول الثانی - وهو عدم الحبس مطلقاً : بأن موضوع الحبس الثابت فی الأدلة (1) إنما هو الواجد للمال الممتنع عن أداء الدین فإذا أُحرز الموضوع ترتّب الحکم علیه مباشرة ، وأما إذا لم یُحرز کما فی محلّ الکلام حیث لا یُعلم بحال المدین فلا یمکن الالتزام بترتّب الحکم حتی فی ما لو عُلم بکونه واجداً للمال سابقاً (2) .

ص: 436


1- (5) کما فی موثّقة عمار عن أبی عبد الله (علیه السلام) : " إن علیاً (علیه السلام) کان یحبس الرجل إذا التوی علی غرمائه .. " ، وروایة السکونی عن جعفر عن أبیه (علیهما السلام) : " أن علیاً (علیه السلام) کان یحبس فی الدین ثم ینظر .. " ، وروایة الأصبغ بن نباتة عن أمیر المؤمنین (علیه السلام) : " أنه قضی .. فی الدین أنه یحبس صاحبه .. " التهذیب مج6 ص191 و300 و 232 .
2- (6) أقول : لا یخفی ضعف هذا الاستدلال وذلک لأنه فی حالة العلم بکونه واجداً للمال سابقاً والشک فی بقائه کذلک الآن یکون مجری للاستصحاب فیُحرَز أحد جزئی الموضوع تعبّداً (وهو کونه واجداً للمال) ویُحرز الجزء الآخر بالوجدان (وهو کونه ممتنعاً عن الأداء) فیلتئم الموضوع بضمّ الوجدان إلی الأصل فیترتّب الحکم حینئذ وهو الحبس فلا ینفع هذا الاستدلال فی إثبات القول بعدم الحبس مطلقاً اللهم إلا إذا مُنع من کفایة الإحراز التعبّدی فی إثبات موضوع الحکم وقیل بأن اللازم إحرازه بالعلم أو الاطمئنان .. علی أنه وکما ذکر سماحة شیخنا الأستاذ فی مقام الردّ علی ما استُدلّ به للقول الثالث - لا تصل النوبة إلی التمسّک بالأصل العملی مع وجود الدلیل اللفظی القاضی بالحبس مطلقاً ... ولکن کان من المناسب هنا التطرّق إلی الردّ علی الاستدلال لهذا القول (الثانی) بما ذکرناه من حدیث جریان الاستصحاب .

ولکن هذا الکلام مندفع فإنه وإن سلّمنا بوجود أدلة دلّت علی أن موضوع جواز الحبس هو الواجد الممتنع - کما ذُکر إلا أن هذا لا یمنع من وجود ما یدلّ علی أن مجهول الحال یجوز حبسه حبساً استظهاریاً کمعتبرة غیاث بن إبراهیم المتقدّمة ونحوها فیکون الاستناد إلیها فی إثبات ما نحن فیه وعلی ذلک فیکون موضوع جواز الحبس هو الأعم من الواجد الممتنع ومن مجهول الحال .

وأما القول الثالث - وهو التفصیل بین العلم بالحالة السابقة من کونه واجداً للمال وعدم العلم بها - : فاستُدلّ له بأن الأصل فی الصورة الأولی أی فی ما إذا عُلم بوجود مال سابق له ثم شُکّ فی بقائه عنده - یقتضی استصحاب بقاء المال وحینئذ یُحبس حتی یثبت إعساره بخلاف الصورة الثانیة حیث لا أصل یقتضی بقاء المال فلا یُحبس فالفرق بین الصورتین فی وجود أصل فی الأولی یقتضی بقاء المال فیُحرز به موضوع الحکم تعبداً وعدم وجوده فی الثانیة بل قد یقال إنه فی هذه الصورة الثانیة یوجد أصل أیضاً ولکنه یقتضی استصحاب عدم واجدیة المدین للمال ولو کان هو استصحاب العدم الأزلی الثابت قبل وجود المدین نفسه .

ویرد علی هذا الاستدلال :

أولاً : أن النوبة لا تصل إلی التمسّک بالأصل مع وجود الدلیل اللفظی الذی یدلّ علی أن مجهول الحال یُحبس حبساً استظهاریاً وهی کما عرفت - معتبرة غیاث بن إبراهیم التی ذُکرت دلیلاً علی القول الأول وقد تبیّن أنها مطلقة تشمل کلتا صورتی هذا القول .

وثانیاً : إن ما ذُکر من وجود أصل یقتضی استصحاب عدم کون المدین واجداً للمال - ولو کان هو استصحاب العدم الأزلی الثابت قبل وجود المدین نفسه وإرادة إثبات إعسار المدین بذلک (بناءً علی کون الإعسار الذی هو موضوع للإنظار من المعانی الوجودیة) غیر نافع إلا علی القول بحجیة الأصل المثبت .

ص: 437

هذا تمام الکلام فی هذه الجهة وقد ذکرنا أن الجهة الثانیة نوکل الکلام حولها إلی البحوث الآتیة التی تتکفّل ببیان کیفیة تطبیق قوانین باب القضاء علی المدین الذی لم یتبیّن حاله بعد الفحص .

المسألة العاشرة / فی الدعوی المالیة / صور المُدّعی علیه / الصورة الثانیة : ما لو أنکر المُدّعی علیه ما ادُّعی به علیه من الحقّ وجحده / ذکر الأدلة علی مطالبة المُدّعی بالبیّنة فإن جاء بها وإلا فمطالبة المنکر بالیمین / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) بحث الفقه

(بحث یوم الاثنین 4 ربیع الثانی 1433 ه_ 84)

کان الکلام فی الصورة الأولی من صور الدعوی وهی ما إذا أقرّ المُدّعی علیه بالحقّ واعترف به وقلنا إنه لا إشکال فی جواز أن یستند الحاکم إلی هذا الإقرار فی حکمه من جهة کونه من طرق الإثبات فی باب القضاء ، وکانت هذه الصورة تتضمّن فروعاً ثلاثة وهی ما لو عُلم بکون المدین المقر بالدین واجداً للمال وما لو عُلم بکونه معسراً وما لو لم یُعلم بحاله وانتهینا من بیان هذا الفروع الثلاثة لنُنهی بذلک الکلام حول هذه الصورة .

الصورة الثانیة : ما لو أنکر المُدّعی علیه ما ادُّعی به علیه من الحقّ وجحده .

قال فی المتن :

" الثانیة: إنکار المُدّعی علیه فیطالَب المُدّعی بالبیّنة فإن أقامها حُکم علی طبقها وإلا حلف المنکر ".

والظاهر أنه لا إشکال ولا خلاف بین المسلمین قاطبة - بل ربما بین غیرهم أیضاً علی ما نُقِل فی أنه بعد إنکار المُدّعی علیه لدعوی المدّعی وعدم اعترافه بها یُطالب المُدّعی بالبیّنة فإن جاء بها حُکم له بموجبها وإن لم یأتِ بها طُولب المنکر بالیمین ، وتدلّ علی هذا الحکم روایات کثیرة :

ص: 438

منها : صحیحة جمیل وهشام عن أبی عبد الله (علیه السلام) : " قال : قال رسول الله (صلی الله علیه وآله) : البیّنة علی من ادّعی والیمین علی من أدُّعی علیه " (1) .

ومنها : صحیحة برید بن معاویة : " قال سألته عن القسامة فقال : الحقوق کلّها البیّنة علی المُدّعی والیمین علی المُدّعی علیه إلا فی الدم خاصة " (2) .

ومنها : معتبرة أبی بصیر : " قال : إن الله حکم فی دمائکم بغیر ما حکم به فی أموالکم ، حکم فی أموالکم أن البیّنة علی المُدّعی والیمین علی المُدّعی علیه ، وحکم فی دمائکم أن البیّنة علی من ادُّعی علیه والیمین علی من ادّعی ، لکیلا یبطل دم امرئ مسلم " (3) .

وروایات أخری غیرها بمفادها .

قال فی المتن :

" فإن حلف أی المنکر - سقطت الدعوی " .

هذا الحکم واضح وهو یُفهم من الأدلة السابقة حیث اقتصرت فی بیان وظیفة کل من المُدّعی والمنکر علی مطالبة الأول بالبیّنة والثانی بالیمین ولم تزد علی ذلک فیُفهم أنه بیمین المنکر تنتهی الدعوی ..

مضافاً إلی دلالة روایتین علی ذلک :

إحداهما : عن ابن أبی یعفور عن أبی عبد الله (علیه السلام) : " قال : إذا رضی صاحب الحقّ بیمین المنکر لحقّه فاستحلفه فحلف أن لا حقّ له قِبَلَه ذهبت الیمین بحقّ المُدّعی فلا دعوی له " (4) إلی آخر الروایة .

ص: 439


1- (1) التهذیب مج6 ص229 ، الوسائل أبواب کیفیة الحکم الباب الثالث الحدیث الأول مج27 ص233 .
2- (2) الکافی مج7 ص361 ، الوسائل الحدیث الثانی مج27 ص234 .
3- (3) الکافی مج7 ص362 الوسائل الحدیث الثالث مج27 ص234 .
4- (4) الکافی مج7 ص417 ، الوسائل أبواب کیفیة الحکم الباب التاسع الحدیث الأول مج27 ص245 .

والأخری : ما رواه الصدوق (قده) مُرسلاً عن رسول الله (صلی الله علیه وآله) أنه قال : " من حلف لکم بالله علی حقّ فصدّقوه ومن سألکم بالله فأعطوه ، ذهبت الیمین بدعوی المُدّعی ولا دعوی له " (1) .

ودلالتهما صریحة بأن الیمین تُسْقِط الدعوی ، وطریق الصدوق إلی ابن ابی یعفور تامّ وإن کان فیه أحمد بن محمد بن یحیی العطّار لأنه وإن کان لم یُنَصّ علی وثاقته إلا أن الظاهر کما ذکرنا فی محلّه - أنه یمکن توثیقه استناداً إلی بعض القرائن منها ما ذکره ابن نوح بقوله : " الذی اعتمد علیه من الطرق هو طریقان فی أحدهما یقع العطّار المذکور " فیُستفاد منه أن العطار محلّ اعتماد لابن نوح ، وقد جاء هذا فی ضمن کتاب بعث به إلی النجاشی بعد أن طلب منه النجاشی أن یبیّن طرقه إلی کتب الحسین بن سعید فذکر له ابن نوح طرقاً عدیدة ثم قال ما تقدّم نقله عنه .

علی أنه لا یضرّ وقوعه فی السند مع مجهولیة حاله لکونه شیخ إجازة فذِکْرُه شرفیّ بحت .

وعلی ما تقدّم فطریق الشیخ الصدوق إلی عبد الله بن أبی یعفور تام .

هذا .. وکان المفروض من ناحیة منهجیة أن یُقدّم البحث عن مسألتین فیهما بحث طویل فی هذا الباب:

الأولی : فی تحدید معنی المُدّعی والمنکر ، وذلک لکثرة ذکرهما من غیر أن یُبیَّن أولاً ما هو المراد منهما ، وقد تعارف أن یُذکرا فی فصل خاص سمّوه أحکام الدعاوی وسیتعرّض له السید الماتن (قده) قریباً حیث طُرحت هناک مسألة تحدید المناط فی کون الشخص مُدّعیاً أو منکراً .

ص: 440


1- (5) الفقیه مج3 ص62 ، وفی هامشه قال : (لم أجده مُسنداً وجعله فی الوسائل تتمة لخبر ابن أبی یعفور) ولذلک احتمل شیخنا الأستاذ (دامت برکاته) أن یکونا روایة واحدة .

الثانیة : فی أحکام البیّنة وشروطها ، وقد تعارف ذکرها فی کتاب مستقل سُمّیَ بکتاب الشهادات حیث یُبحث فیه عن شروط الشاهد وماذا یُعتبر فی البیّنة .

وقد جرت عادة الفقهاء علی تأخیر هذین البحثین ونحن نتبعهم فی ذلک لئلا یقع الارتباک وسیأتی الکلام فیهما إن شاء الله تعالی .

ثم قال فی المتن :

" ولا یحلّ للمُدّعی بعد حکم الحاکم التقاصُّ من مال الحالف " أی لا یجوز له أن یأخذ المقدار الذی یعتقد أنه ثابت له فی ذمة الحالف لأن یمین المنکر وحکم الحاکم قطعا ذلک ومنعاه منه .

وهذا الحکم مدلول الروایات السابقة ولاسیما روایة ابن أبی یعفور ومرسلة الصدوق فإنهما صریحتان فی أن الیمین ذهبت بحقّ المُدّعی أو ذهبت بالدعوی فلا یبقی له حقّ حتی یثبت له حکم التقاصّ فی ما لو وقع بیده مال للمنکر .

وفی المقام روایتان ذُکرتا فی المصادر ولکن لضعفهما سنداً تُساقان للتأیید علی المعنی المتقدّم :

الأولی : روایة خضر النخعی عن أبی عبد الله (علیه السلام) فی الرجل یکون له علی الرجل المال فیجحده قال : إن استحلفه فلیس له أن یأخذ شیئاً وإن ترکه ولم یستحلفه فهو علی حقّه " (1) .

ودلالتها علی عدم جواز التقاصّ بعد الاستحلاف ظاهرة ، والراوی لها - وهو خضر النخعی - ممن لم یوثّق فی کتب الرجال ، وأما بقیة رجال السند فکلهم ثقات .

الثانیة : روایة عبد الله بن وضّاح : " قال : کانت بینی وبین رجل من الیهود معاملة فخاننی بألف درهم فقدمته إلی الوالی فأحلفته فحلف وقد علمت أنه حلف یمیناً فاجرة فوقع له بعد ذلک عندی أرباح ودراهم کثیرة فأردتُ أن أقتصّ الألف درهم التی کانت لی عنده وحلف علیها فکتبتُ إلی أبی الحسن (علیه السلام) وأخبرته أنی قد أحلفته فحلف وقد وقع له عندی مال فإن أمرتنی أن آخذ منه الألف درهم التی حلف علیها فعلتُ ؟ فکتب (علیه السلام) : (لا تأخذ منه شیئاً إن کان قد ظلمک فلا تظلمه ولولا أنک رضیت بیمینه فحلّفته لأمرتک أن تأخذها من تحت یدک ولکنک رضیت بیمینه فقد مضت الیمین بما فیها) فلم آخذ منه شیئاً وانتهیت إلی کتاب أبی الحسن (علیه السلام) " .

ص: 441


1- (6) الکافی مج7 ص418 ، الوسائل مج23 ص286 .

ودلاتها علی ما نحن فیه ظاهرة أیضاً ، ولکن سندها مخدوش برجال عدّة .

ویُفهم من تقییده فی المتن عدم التقاصّ بکونه بعد حکم الحاکم أنه لا یکفی مجرد یمین المنکر فی سقوط الدعوی بل لا بد من أن یُضمّ إلیه حکم الحاکم وهو مبنی علی ما هو الصحیح والمعروف من أن الذی یُنهی الدعوی والخصومة هو حکم الحاکم لا الیمین وحده فلا یجوز للمُدّعی بعدها أن یطالب بحقّه ویُقیم الدعوی ولو عند حاکم آخر .

نعم .. ظاهر الروایات المتقدّمة أن هذا الحکم یترتب علی یمین المُدّعی علیه لأنها تصرّح بأن الیمین ذهبت بدعوی المُدّعی ومقتضاه الالتزام بعدم جواز التقاصّ بمجرد حصول الحلف من المُدّعی علیه من دون توقّفه علی صدور الحکم من الحاکم .

ولکن هذا الظاهر مما لم یلتزم به الفقهاء (رض) وذلک لما أشار إلیه الشیخ صاحب الجواهر (قده) من أننا لو التزمنا بهذا الظهور فحینئذ لا نحتاج إلی حکم الحاکم فی فضّ الخصومة وإنهاء الدعوی بل یکون یمین المنکر هو المتکفّل بذلک کما تتکفّل بیّنة المُدّعی به لو أقامها قبل یمین المنکر ، ولا یخفی بطلان هذا اللازم (1) ، نعم .. لا ضیر فی أن یکون حکم الحاکم معتمداً علی بیّنة المدّعی أو یمین المنکر فإنهما من طرق الإثبات القضائی ولکن الفیصل فی الدعاوی هو لا مجرد البیّنة أو الیمین ، ومن هنا لا یمکن الأخذ بظاهر هذه الروایات ولا بد من تأویلها بالاعتبار المذکور من اعتماد الحکم علیها واستناده إلیها .

ثم قال (قده) :

ص: 442


1- (7) أی عدم الاحتیاج إلی حکم الحاکم فی إنهاء الدعاوی وفضّ الخصومات .

" نعم .. لو کذّب الحالف نفسه جاز للمُدّعی مطالبته بالمال فإن امتنع حلّت له المقاصّة من أمواله "

الظاهر أن هذا الاستدراک مما لا خلاف فیه ونُقل علیه الإجماع من قبل علمائنا فإن الإقرار من المنکر بعد الإنکار یُبیح للمُدّعی أن یأخذ من أمواله بقدر حقّه من باب المقاصّة فی ما إذا امتنع المدین المقرّ من الأداء بعد مطالبة المُدّعی .

ویدل علیه معتبرة مسمع أبی سیّار (1) : " قال : قلت لأبی عبد الله (علیه السلام) : انی کنت استودعت رجلا مالاً فجحدنیه وحلف لی علیه ثم إنه جاءنی بعد ذلک بسنین بالمال الذی کنت استودعته إیاه فقال : هذا مالک فخذه وهذه أربعة آلاف درهم ربحتها فی مالک فهی لک مع مالک واجعلنی فی حلّ فأخذت المال منه وأبیتُ ان آخذ الربح منه وأوقفته المال الذی کنت استودعته واتیتُ حتی استطلع رأیک فما تری ؟ قال : فقال : خذ نصف الربح وأعطه النصف وحُلّه إن هذا رجل تائب والله یحبّ التوّابین " (2) .

ودلالتها علی المُدّعی ظاهرة من حیث إن المنکر حلف بعد عدم وجود بیّنة للمُدّعی ولکنه رجع وأقرّ بالحقّ فحکم الإمام (علیه السلام) بجواز أن یأخذ المدّعی حقّه منه بل وما استتبعه من الربح أیضاً .

هذا من جهة الدلالة ، وأما من جهة السند فطریق الشیخ الصدوق إلی مسمع بن عبد الملک لا یخلو من إشکال وهو یتمثّل فی القاسم بن محمد وفیه کلام إلا أن الظاهر أن المقصود به هو القاسم بن محمد الجوهری فإنه هو الذی ینصرف إلیه اللفظ عند الإطلاق ، وقد ذکرنا فی محلّه أنه یمکن توثیقه باعتبار ما ثبت بطریق صحیح من روایة بعض المشایخ عنه من الذین لا یروون ولا یُرسلون إلا عن ثقة ، ومن هنا یظهر أن الروایة معتبرة سنداً ویمکن الاستدلال بها فی محل الکلام .

ص: 443


1- (8) وهو مسمع بن عبد الملک الملقب بکردین .
2- (9) التهذیب مج7 ص180 ، الوسائل أبواب الأیمان الباب الثامن والأربعون الحدیث الثالث مج19 ص89 .

یبقی هنا شیء وهو أنه قد یقال بأن هذا الحکم - أعنی رجوع الحقّ للمدّعی المستلزم لجواز أخذه من الطرف الآخر بعد ذهابه بیمینه (1) - مخالف للروایات السابقة التی تقول بأن الیمین ذهبت بحق المُدّعی أو أنها ذهبت بالدعوی فکیف یمکن أن یعود حقّ المُدّعی بعد أن ذهب بیمین المنکر بتکذیب المنکر لنفسه ألیس هذا یعنی وجود تنافٍ بین الدلیلین (2) ومعه کیف یمکن الجمع بینهما ؟

هذا ما سیأتی الحدیث عنه إن شاء الله تعالی .

المسألة العاشرة / فی الدعوی المالیة / صور المُدّعی علیه / الصورة الثانیة / تفریع : ما لو کذّب الحالف نفسه بعد الإنکار / استدراک علی مسألة عدم جواز التقاصّ بعد یمین المنکر بکر صحیحة سلیمان بن خالد / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) بحث الفقه

(بحث یوم الثلاثاء 5 ربیع الثانی 1433 ه_ 85)

کان الکلام فی الصورة الثانیة من صور الدعوی وهی ما لو أنکر المُدّعی علیه ما ادُّعی به علیه من الحقّ ووصل البحث إلی تفریعٍ علی ذلک وهو ما لو کذّب الحالف نفسه بعد الإنکار ، وقبل إکمال ما یتعلّق به نُعرِّج علی ما تقدّمه من مسألة عدم جواز التقاصّ بعد یمین المنکر لنذکر روایة استُدِلّ بها فی المقام کان من المناسب التعرّض لها مع ما ذکرناه مما یدلّ علی المطلوب وهی صحیحة سلیمان بن خالد : " قال : سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن رجل وقع لی عنده مال فکابرنی علیه وحلف ثم وقع له عندی مال فآخذه مکان مالی الذی أخذه وأجحده وأَحْلِفُ علیه کما صنع ؟ فقال : إن خانک فلا تخنه ولا تدخل فی ما عبته علیه " (3) .

ص: 444


1- (10) أی بیمین الطرف الآخر وهو المنکر .
2- (11) أی بین دلیل ذهاب الیمین بحقّ المُدّعی وبین مفاد روایة مسمع أبی سیّار من أنه یحقّ للمدّعی أن یأخذ الحقّ من المنکر بعد تکذیبه لنفسه .
3- (1) الکافی مج5 ص98 (وفی التهذیبین والفقیه) ، الوسائل کتاب التجارة أبواب ما یُکتسب به الباب الثالث والثمانون الحدیث السابع مج17 ص274 .

ودلالتها علی المُدّعی ظاهرة من جهة نهی الإمام (علیه السلام) عن أن یأخذ من مال الحالف مکان ماله وجَعْلِ (1) ذلک من الخیانة .

لکن الظاهر أن الاستدلال بهذه الصحیحة مشکل لعدم ظهورها فی ما نحن فیه إذ لیس فیها ما یشیر إلی أن الحلف وقع داخل المرافعة والدعوی کما هو المُدّعی .. هذا إن لم یکن لها ظهور فی وقوعه خارجها وعلی ذلک فلا یکون لهذه الصحیحة تعلّق بمحلّ الکلام من وقوع الحلف داخل المرافعة والدعوی .

نعم .. یمکن تقریب الاستدلال بها فی ما نحن فیه (2) بالأولویة أو بإلغاء الخصوصیة لأن الحلف إذا کان خارج المرافعة کان مُسقطاً للحقّ ومانعاً لصاحبه من أن یقتصّ من أموال الحالف فیکون الحلف فی داخل الدعوی وأمام القاضی ولاسیما بعد صدور الحکم مبنیاً علیه ومستنداً إلیه مُسقطاً للحقّ ومانعاً من الاقتصاص من باب أولی ولا أقلّ من الجزم بعدم الفرق فیکون الاستدلال بهذه الصحیحة بمدلولها الالتزامی لا بمدلولها المطابقی .

ولکن یُستشکل فی هذا الاستدلال من جهة أخری وهی أن هذه الروایة بمدلولها المطابقی - وهو عدم جواز التقاصّ بالحلف خارج المرافعة کما استُظهِر منها - مُبتلاة بالمعارض فی موردها (3) متمثّلاً بمعتبرة أبی بکر الحضرمی : " قال : قلت له : رجل لی علیه دراهم فجحدنی وحلف علیها أیجوز لی إن وقع له قِبَلی دراهم أن آخذ منه بقدر حقی ؟ قال : فقال : نعم ، ولکن لهذا کلام ، قلت : وما هو ؟ قال تقول : اللهم لم آخذه ظلماً ولا خیانة وإنما أخذته مکان مالی الذی أخذ منی لم أزدد شیئاً علیه " (4) .

ص: 445


1- (2) بالعطف علی لفظة (نهی) .
2- (3) ولعل هذا هو مقصود من استدلّ بها فی محلّ الکلام . (منه دامت برکاته)
3- (4) أی فی مدلولها المطابقی نفسه .
4- (5) التهذیب مج6 ص348 ، الوسائل مج17 ص273 .

وهذه الروایة کصحیحة سلیمان المتقدمة لا یبدو منها أن الحلف کان داخل الدعوی ولکنها علی خلافها - تدلّ بظاهرها علی جواز التقاصّ (1) .

وحینئذ فإن أمکن التفریق بین مدلولی الصحیحة فی الحجیة بأن أمکن الالتزام بحجیة المدلول الالتزامی حتی بعد فرض سقوط المدلول المطابقی بالمعارضة فلا مانع حینئذ من الاستدلال بهذه الصحیحة فی محلّ الکلام فتدلّ علی عدم جواز التقاصّ بعد الیمین خارج المرافعة والدعوی وبالأولویة ولا أقلّ من الجزم بعدم الفرق کما ذکرنا - تدلّ علی عدم جواز التقاصّ بعد الیمین وبعد حکم القاضی داخل المرافعة والدعوی .

وإن لم یمکن ذلک بأن کان المدلول الالتزامی تابعاً فی الحجیة للمدلول المطابقی ثبوتاً وسقوطاً فلا یمکن الالتزام بحجیته بعد سقوط المدلول المطابقی عن الحجیة بالمعارضة فحینئذ یکون الاستدلال بالصحیحة فی محلّ الکلام مشکلاً .

هذا استدراک علی ما تقدّم من مسألة عدم جواز التقاصّ بعد الیمین .

ولنرجع الآن إلی ما شرعنا فیه من التفریع علیه بما لو أکذب الحالف نفسه بأن أقرّ بالحقّ بعد الإنکار حیث ذُکر أنه یجوز للمدعی حینئذ مطالبته بالمال کما یجوز له التقاصّ ، قال فی الجواهر : " بلا خلاف أجده فیه کما اعترف به غیر واحد بل عن المهذّب والصیمری الإجماع علیه " (2) ، واستُدلّ له بدلیلین :

الأول : عموم (إقرار العقلاء علی أنفسهم جائز) فإنه شامل لمحل الکلام فإن هذا حیث کذّب إنکاره السابق یکون بذلک قد أقرّ علی نفسه بالحقّ وهذا الإقرار نافذ بمقتضی القاعدة المذکورة ومؤثّر فی ثبوت الحقّ علیه وحینئذ یجوز للمدعی أن یطالبه به کما یجوز له التقاصّ منه .

ص: 446


1- (6) لا علی عدم جواز التقاصّ الذی هو مدلول الصحیحة .
2- (7) جواهر الکلام مج40 ص174 .

الثانی : روایة مسمع أبی سیّار المتقدّمة (1) حیث جوّز الإمام (علیه السلام) له أخذ المال بل وربحه أیضاً بعدما رجع الرجل الذی استودعه مسمع المال عن جحوده وحلفه فتدلّ علی ما نحن فیه من دعوی جواز أخذ الحقّ بعد تکذیب الحالف لنفسه وإذا جاز أخذ الحقّ لو أدّاه الطرف الآخر جازت مطالبته به لو لم یؤدّه کما جاز التقاصّ منه حینئذ .

ولکن قد یقال بأن هذا الحکم - أعنی رجوع الحقّ للمدّعی المستلزم لجواز أخذه من الطرف الآخر بعد ذهابه بیمینه (2) - مخالف للروایات السابقة التی تقول بأن الیمین ذهبت بحق المُدّعی أو أنها ذهبت بالدعوی فکیف یمکن أن یعود حقّ المُدّعی بعد أن ذهب بیمین المنکر بمجرد تکذیب المنکر لنفسه وهل هذا إلا تنافٍ بین الدلیلین (3) ؟

ص: 447


1- (8) عن مسمع أبی سیّار : " قال : قلت لأبی عبد الله (علیه السلام) : إنی کنت استودعت رجلاً مالاً فجحدنیه وحلف لی علیه ثم إنه جاءنی بعد ذلک بسنین بالمال الذی کنت استودعته إیاه فقال : هذا مالک فخذه وهذه أربعة آلاف درهم ربحتها فی مالک فهی لک مع مالک واجعلنی فی حلّ فأخذت المال منه وأبیتُ ان آخذ الربح منه وأوقفته المال الذی کنت استودعته واتیتُ حتی استطلع رأیک فما تری ؟ قال : فقال : خذ نصف الربح وأعطه النصف وحُلّه إن هذا رجل تائب والله یحبّ التوّابین " التهذیب مج7 ص180 ، الوسائل مج19 ص89 .
2- (9) أی بیمین الطرف الآخر وهو المنکر .
3- (10) أی بین دلیل ذهاب الیمین بحقّ المُدّعی وبین مفاد قاعدة (إقرار العقلاء علی أنفسهم جائز) وروایة مسمع أبی سیّار من أنه یحقّ للمدّعی أن یأخذ الحقّ من المنکر بعد تکذیبه لنفسه .

وأقول : الکلام یقع فی کل من الدلیلین المتقدمین :

أما بالنسبة إلی الدلیل الثانی وهو روایة مسمع فیمکن أن یقال فیها ما قیل فی صحیحة سلیمان بن خالد من أنه لیس فیها ما یشیر إلی أن الحلف وقع فی ضمن دعوی ومرافعة لاسیما وأن ظاهرها أنه لم یقع حتی بطلب من السائل وحینئذ یقال بأن الحکم بعدم سقوط الحقّ وبقائه وجواز التقاصّ خارج الدعوی لا یستلزم الحکم بذلک فی محلّ الکلام أیضاً ولا یمکن أن یُسحب ما قیل فی صحیحة سلیمان علی معتبرة مسمع وإن اشترکا فی أن الظاهر منهما أن الحلف لم یقع فی ضمن دعوی ، وتوضیحه:

أن هناک فرقاً بین الصحیحة والمعتبرة فی جواز الاستدلال علی المطلوب بالأولی وعدم جوازه بالثانیة فإن مورد الصحیحة هو کون الحلف خارج الدعوی من دون طلب من صاحب الحقّ وقد دلّت علی أنه مُسقط للحقّ ومانع من التقاصّ فیثبت هذا الحکم فی داخل الدعوی والمرافعة من باب أولی إذ لا یُحتمَل أن یکون لوقوعه خارج الدعوی خصوصیة توجب اختصاص الحکم (1) به فی مقابل ما لو وقع داخل الدعوی ، وأما فی المعتبرة فالأمر علی خلاف ذلک فإن موردها وإن کان هو الحلف خارج الدعوی ومن دون طلب من صاحب الحقّ أیضاً إلا أنها دلّت علی عدم سقوط الحقّ به وعلی جواز التقاصّ فکیف یتأتّی تسریة هذا الحکم إلی مورد الحلف داخل الدعوی بالأولویة مع تأتّی احتمال الخصوصیة من کونه (2) داخل الدعوی وبطلب من الحاکم حیث یذهب بالحقّ أو یذهب بالدعوی کما ورد فی لسان الروایات ، نعم .. لو أمکن أن یُدّعی کون موردها هو الحلف داخل الدعوی (3) لأمکن الاستدلال بها علی أنه بعد تکذیب الحالف نفسه تجوز مطالبته بالحقّ ویجوز التقاصّ من أمواله وفقاً لما دلّت علیه ولکن ادّعاء ذلک خلاف الظاهر إذ لیس من قرینة فی الروایة تشیر إلیه .

ص: 448


1- (11) أی إسقاط الحقّ والمنع من التقاصّ .
2- (12) أی الحلف من قبل الطرف الآخر .
3- (13) الذی هو محلّ الکلام فإن تکذیب الحالف لنفسه قد افتُرض فی ما نحن فیه بعد إنکاره وحلفه وهذا الإنکار إنما وقع بعد دعوی المدّعی بأن له حقّاً عنده فی مرافعة أمام الحاکم .

وأما بالنسبة إلی الدلیل الأول وهو قاعدة (إقرار العقلاء) فقد حاول الشیخ صاحب الجواهر (قده) رفع المنافاة بینها وبین الروایات السابقة (1) بدعوی أن الإقرار بعد الإنکار یکون : " سبباً مُثبتاً جدیداً للاستحقاق غیر ما سقط بالیمین " (2) ، ومقتضاه الالتزام بسقوط الحقّ بالیمین وفقاً لما دلّت علیه الروایات السابقة والالتزام بثبوت حقّ جدید بالإقرار مماثل للحقّ الساقط بالیمین فلا تنافی بین القاعدة والروایات حینئذ .

هذا .. ولکنه (قده) أفاد بأنه یحصل التعارض حینئذ بین مفاد القاعدة ومدلول الروایات فإن إطلاق القاعدة یقتضی ثبوت الحقّ وجواز التقاصّ بالإقرار سواء أکان عقیب الإنکار أم لا (3) ، وإطلاق الروایات یقتضی سقوط الحقّ بالیمین وعدم جواز التقاصّ سواء تعقّب بالإقرار أم لا ، وهذا التعارض هو بنحو العموم من وجه ومادة الاجتماع هی محلّ الکلام - أعنی حصول الإقرار ممن حلف بعد الإنکار - فمقتضی القاعدة هو ثبوت الحقّ وجواز التقاصّ ومقتضی الروایات سقوط الحقّ وعدم جواز التقاصّ ولمّا لم یمکن الجمع والتوفیق بینهما لکمال التنافی فیهما تصل النوبة إلی الترجیح وقد رجّح (قده) تقدیم القاعدة علی الروایات لیکون الحکم هو ثبوت الحقّ وجواز التقاصّ ، وذکر أن المرجّح للقاعدة أمران :

الأول : الإجماع المعتضِد بالشهرة (4) علی جواز التقاصّ بعد تکذیب الحالف لنفسه .

ص: 449


1- (14) أی بین ما تقتضیه القاعدة من رجوع الحقّ وجواز مطالبة صاحبه به والتقاصّ لنفسه من أموال الآخر ، وما تقتضیه الروایات السابقة من سقوط الحقّ بالیمین وعدم جواز التقاصّ بعده .
2- (15) جواهر الکلام مج40 ص174 .
3- (16) بأن کان إقراراً ابتدائیاً ممن علیه الحقّ غیر مسبوق بالإنکار منه .
4- (17) تعبیر صاحب الجواهر بالإجماع المعتضد بنفی الخلاف .

والثانی : معتبرة مسمع أبی سیّار (1) المتقدّمة .

ولکن یرد علی هذا الکلام ملاحظتان :

الأولی : أن ما ذکره لا ینسجم مع التقریب الذی ساقه لکیفیة الاستدلال بقاعدة الإقرار حیث أفاد أنها تقتضی ثبوت حقّ جدید لأن الإقرار بعد الإنکار یکون سبباً جدیداً مُثبتاً للاستحقاق غیر ما سقط بالیمین .

وجه عدم الانسجام أنه مع ثبوت هذا الحقّ الجدید المستلزم لجواز التقاصّ بالإقرار لا یکون هناک تعارض بین القاعدة والنصوص السابقة أصلاً حتی یقال بترجیح القاعدة اعتماداً علی الإجماع وعلی روایة مسمع فإن التقریب المذکور للاستدلال بالقاعدة یرفع التنافی بین مفادها ومفاد النصوص من رأس .

الثانیة : إنه بناءً علی تمامیة الإجماع وروایة مسمع (2) فهما یصلحان مقیّدین لإطلاق النصوص السابقة فیکون مفادها بعد التقیید سقوط الحقّ بالیمین إلا إذا تعقّب بتکذیب المنکر لنفسه فیثبت الحقّ ویجوز التقاصّ حینئذ وعلی ذلک فلا یکون ثمة تعارض أو منافاة أیضاً .

المسألة العاشرة / فی الدعوی المالیة / صور المُدّعی علیه / الصورة الثانیة / تعارض صحیحة سلیمان بن خالد مع معتبرة الحضرمی فی موردهما وهو الحلف خارج المرافعة / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) بحث الفقه

ص: 450


1- (18) یظهر من عدّ الشیخ صاحب الجواهر (قده) روایة مسمع مرجّحاً للقاعدة أنه لا یراها ظاهرة فی محلّ الکلام (من کون تکذیب الحالف لنفسه هو فی داخل الدعوی والمرافعة لا خارجها) کتلک الروایات ولذلک لم یوقع المعارضة بینها وبین النصوص السابقة کما أوقع المعارضة بین قاعدة الإقرار وبین تلک النصوص ثم رجّح القاعدة علیها بما ذُکر من الأمرین . (منه دامت برکاته)
2- (19) کما هما کذلک عنده (قده) .

(بحث یوم الأربعاء 6 ربیع الثانی 1433 ه_ 86)

تقدّم ذکر روایتین استدرکنا بهما مسألة عدم جواز التقاصّ بعد یمین المنکر إحداهما صحیحة سلیمان بن خالد (1) والأخری معتبرة الحضرمی (2) وقلنا بأن بینهما تعارضاً فی موردهما وهو الحلف خارج المرافعة - بقطع النظر عن محلّ الکلام (3) - فإن مفاد الصحیحة ترتّب الأثر علی الحلف من حیث کونه قاطعاً للخصومة ومانعاً من التقاصّ من جهة نهی الإمام (علیه السلام) عن أن یأخذ من مال الحالف مکان ماله وأنه (علیه السلام) جَعَلَ ذلک من الخیانة ، ومفاد المعتبرة عدم ترتّب الأثر علی الحلف فلا تنقطع به الخصومة ولا یکون مانعاً من التقاصّ .

وذکرنا أن الاستدلال بالصحیحة - مع الغضّ عن المعارضة - إنما هو بحسب مدلولها الالتزامی بالأولویة أو بإلغاء الخصوصیة ، وأما مع ابتلاء منطوقها بالمعارض (4) فیکون الاستدلال بها مبنیّاً علی التفریق بین مدلولیها المطابقی والالتزامی - فی الحجیة بأن یُلتزم بحجیة المدلول الالتزامی حتی بعد فرض سقوط المدلول المطابقی بالمعارضة .

ص: 451


1- (1) " قال : سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن رجل وقع لی عنده مال فکابرنی علیه وحلف ثم وقع له عندی مال فآخذه مکان مالی الذی أخذه وأجحده وأَحْلِفُ علیه کما صنع ؟ فقال : إن خانک فلا تخنه ولا تدخل فی ما عبته علیه " .
2- (2) " قال : قلت له : رجل لی علیه دراهم فجحدنی وحلف علیها أیجوز لی إن وقع له قِبَلی دراهم أن آخذ منه بقدر حقی ؟ قال : فقال : نعم ، ولکن لهذا کلام ، قلت : وما هو ؟ قال تقول : اللهم لم آخذه ظلماً ولا خیانة وإنما أخذته مکان مالی الذی أخذ منی لم أزدد شیئاً علیه " .
3- (3) وهو الحلف داخل المرافعة .
4- (4) وهو مفاد منطوق معتبرة الحضرمی .

وأما بالنسبة إلی تعارضهما فی موردهما وهو الحلف خارج المرافعة فقد ذکر الشیخ الأنصاری (قده) فی مقام رفع التنافی بینهما أنه یُحمل الحلف فی المعتبرة علی الحلف غیر المعتبر فی حین یُحمل الحلف فی الصحیحة علی الحلف المعتبر .

وأقول : إن کان المقصود من الحلف غیر المعتبر هو الحلف خارج المرافعة ففیه أنه لا فرق بین الروایتین فی ذلک إذ لیس فی أیّ منهما ما یشیر إلی کون الحلف داخل المرافعة لیتأتّی رفع التنافی بینهما بمثل هذا التغایر بل الظاهر منهما أن المفاد فیهما واحد وهو الحلف خارج المرافعة .

وإن کان المقصود هو الحلف غیر الجامع للشرائط المعتبرة فی الیمین ففیه أنه لا قرینة علیه فی الروایة .. اللّهم إلا أن یُجمع بینهما تبرّعیاً بمثل هذا بدعوی أن الجمع مهما أمکن أولی من الطرح .

هذا ما یرتبط بالبحث السابق .

وأما ما یرتبط بما شرعنا فیه من البحث وهو فی ما إذا أکذب المنکر نفسه حیث ذکر فی المتن أنه یجوز للمدعی حینئذ المطالبة بالمال کما یجوز له التقاصّ فقد ذکرنا أنه استُدلّ له کما فی الجواهر - بقاعدة الإقرار (1) ومعتبرة مسمع بن عبد الملک وما ذُکر من الإجماع المعتضِد بنفی الخلاف ، وقلنا بأنه یشکل الاستدلال بروایة مسمع من جهة عدم کونها ناظرة إلی محلّ الکلام من الحلف داخل المرافعة فهی کالروایتین المتقدّمتین ناظرة إلی وقوع الحلف خارج المرافعة فلا یمکن الاستدلال بمفادها (2) فی ما نحن فیه .

ص: 452


1- (5) أی إقرار العقلاء علی أنفسهم جائز .
2- (6) وهو جواز التقاصّ لصاحب الحقّ حتی بعد حلف من علیه الحقّ .

وعلی ذلک فینحصر الاستدلال علی المدّعی فی المقام بقاعدة الإقرار والإجماع المذکور .

یبقی هنا شیء وهو أنه کیف تُرفع المنافاة بین هذه الأدلة (1) التی مفادها جواز المطالبة بالحقّ والتقاصّ بعد تکذیب المنکر لنفسه وما تقدّم من أن الیمین ذهبت بالحقّ کما دلّت علیه روایة ابن أبی یعفور المتقدّمة (2) وغیرها فما وجه رجوع الحقّ بالتکذیب بعد ذهابه بالیمین .

والصحیح فی مقام الجواب الالتزام بأن نظر النصوص المتقدّمة الدالة علی أن الیمین ذهبت بالحقّ والدعوی إنما هو إلی الیمین التی یلتزم بها المنکر ویبنی علیها حتی انتهاء الدعوی ولا تشمل الیمین التی تراجع عنها صاحبها وأکذبها کما هو الحال فی محلّ الکلام فلا تنافی بینها أصلاً حتی نحتاج معه إلی وجه لرفعه .

الصورة الثالثة (3) : وهی سکوت المُدّعی علیه بمعنی عدم إقراره أو إنکاره .

وأفاد فی المتن بأن الحاکم هنا یطالب المدّعی بالبینة لما ذُکر فی الصورة الثانیة وهی الانکار من أن البینة علی من ادّعی والیمین علی ادُّعی علیه فإن أقام المدّعی البینة وإلا ألزم الحاکم المُدّعی علیه بالیمین فإن هذا مُدّعی علیه وإن سکت .

ص: 453


1- (7) قد علمت أن معتبرة مسمع أبی سیّار لم تدخل فی المعارضة لکونها غیر ناظرة إلی محلّ الکلام من کون الحلف داخل المرافعة والدعوی . (منه دامت برکاته)
2- (8) " قال : إذا رضی صاحب الحقّ بیمین المنکر لحقّه فاستحلفه فحلف أن لا حقّ له قِبَلَه ذهبت الیمین بحقّ المُدّعی فلا دعوی له " .
3- (9) بعد صورتی الإقرار والإنکار المتقدّمتین .

نعم .. استحلاف الحاکم للمدّعی علیه مشروط بما إذا رضی المدّعی به وطلبه منه ، وأما إذا لم یرض به ولم یطلبه منه فلیس للحاکم حینئذ أن یستحلف المُدّعی علیه ولا أن یتبرّع المُدّعی علیه بالحلف .

والظاهر أن هذا الأمر محلّ وفاق بین الأصحاب وقد نُقِل اتفاقهم علی عدم ترتّب الأثر علی یمین المُدّعی علیه من غیر طلب من المدّعی ، واستُدلّ له مضافاً إلی ذلک (1) بمعتبرة ابن أبی یعفور - کما سیأتی - وبروایات أُخَر ، وقد علّله فی الشرایع بأنه (2) : " حقّ للمدّعی فیتوقف استیفاؤه علی مطالبته " ، قال فی المسالک فی تعلیل هذا الحکم (3) : " فإن الإحلاف یُسقط الدعوی التی قد یتعلّق غرض المدّعی ببقائها إلی وقت آخر " ومراده أن إحلاف المُدّعی علیه یترتب علیه إنهاء الدعوی وإسقاط الحقّ والحکم لصالح الحالف (4) مع أن هذا قد لا یکون لصالح المدّعی (5) فإنه قد یتعلّق له غرض بتأخیر إنهاء هذه الدعوی کما لو لم تکن له بینة حاضرة وقت الدعوی ولکن یتوقع قریباً الحصول علیها أو أنه قد ینتظر وقتاً معیّناً یتهیّب المُدّعی علیه من الحلف کاذباً فیه ونحو ذلک فلا معنی لإلزام المدّعی بإنهاء الدعوی بطلب الحاکم الیمین من المُدّعی علیه ولو لم یرضّ به المدّعی .

ص: 454


1- (10) أی وفاق الأصحاب واتّفاقهم .
2- (11) أی إحلاف المُدّعی علیه .
3- (12) أی توقف إحلاف الحاکم للمُدّعی علیه علی إذن المدّعی .
4- (13) وهو المُدّعی علیه هنا .
5- (14) الذی هو صاحب الحقّ فی الاستحلاف .

والذی یظهر من عباراتهم أن الکلام یقع فی أن الحاکم هل یمکنه أن یستقلّ فی إحلاف المُدّعی علیه أم أن ذلک یتوقف علی إذن المدّعی ولتحقیق الأمر لا بد من استعراض الأدلة التی أُشیر إلیها فی کلماتهم :

الدلیل الأول : ما ذکره المحقق فی الشرایع من " أن الإحلاف حقّ للمدّعی فیتوقف استیفاؤه علی المطالبة " .

وهذا الکلام بظاهره الأوّلی لا یخلو من مصادرة فإن کلامنا فی الأساس هو فی أن هذا حقّ للمدّعی أو لیس حقّاً له فإذا کان حقّاً له فلا یجوز للحاکم استحلاف المُدّعی علیه إلا بعد أخذ الإذن منه (1) وإن لم یکن حقّاً له فیجوز للحاکم أن یستقلّ بالإحلاف .

ولعل مقصوده (قده) ما أشار إلیه صاحب المسالک من أنه قد یتعلّق غرض المدّعی بتأخیر الدعوی والبتّ فیها فیکون فی إعطاء الحقّ للحاکم مستقلاً فی إحلاف المُدّعی علیه وبالتالی إنهاء الدعوی تفویتٌ لهذا الغرض .

ولکن هذا أیضاً لا یخلو من مصادرة لأنه یستبطن أیضاً افتراض أن إنهاء الخصومة هو حقّ للمدّعی مع أنه أول الکلام إذ لو ثبت أنه حقّ له لم یجز للحاکم الاستقلال بالإحلاف إلا بعد أخذ الإذن منه وإلا کان ذلک جائزاً له .

الدلیل الثانی : معتبرة ابن أبی یعفور المتقدّمة حیث ورد فی صدرها : " إذا رضی صاحب الحقّ بیمین المنکر لحقّه فاستحلفه فحلف أن لا حقّ له قِبَله ذهبت الیمین بحقّ المدّعی " .

وتقریب الاستدلال بها أن یقال إن الظاهر منها أن سقوط حقّ المدّعی وبالتالی إنهاء الخصومة والدعوی مترتب علی استحلافه للمدّعی علیه ورضاه بحلفه لا علی استحلاف الحاکم له فإنه لم یُرُتّب علیه هذا الأمر فیها فیثبت ما هو المدّعی من أن الیمین الذی یُنهی الدعوی ویجوز للحاکم أن یحکم علی طبقه یتوقف علی رضا المدّعی به وإلا فلا یترتب علیه أثر .

ص: 455


1- (15) أی من المدّعی .

المسألة العاشرة / فی الدعوی المالیة / صور المُدّعی علیه / الصورة الثالثة : سکوت المُدّعی علیه بمعنی عدم إقراره أو إنکاره / ذکر الأدلة علی توقف إحلاف الحاکم للمدّعی علیه إذا لم یُقِم المدّعی البیّنة / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) بحث الفقه

(بحث یوم السبت 9 ربیع الثانی 1433 ه_ 87)

کان الکلام فی أن الحاکم هل یستقلّ بإحلاف المدّعی علیه إذا لم یُقِم المدّعی البیّنة أم أن استحلافه له یتوقف علی رضا المدّعی وطلبه ، ومرّ ذکر أدلة القول المشهور وهو التوقف وتقدّم الکلام فی الدلیل الثانی وهو معتبرة ابن أبی یعفور (1) ، وتقریب الاستدلال بها علی محل الکلام بوجوه شرعنا فی بیان الوجه الأول وهو مبنی علی أمرین :

الأول : الالتزام بأن الجملة الشرطیة الواردة فی المقام تدلّ علی المفهوم .

الثانی : أن یکون المراد بقوله : (فاستحلفه) هو استحلاف الحاکم .

وبناءً علی هذین الامرین فإن الجملة الشرطیة تکون ثلاثیة الأطراف تتألّف من موضوع وحکم وشرط فالحکم بسقوط حق المدّعی وذهاب الیمین به موضوعه إحلاف الحاکم للمنکر وشرطه رضا المدّعی بذلک فمفاد المعتبرة علی هذا هو أن إحلاف الحاکم للمنکر إنما یَذهب بالحقّ ویُسقط الدعوی إذا کان برضا من المدّعی لا بدونه .

ولکنْ یمکن التأمل فی کلّ من هذین الأمرین :

أما الثانی منهما : فمن جهة أن التعبیر ب_ (فاستحلفه) لیس واضحاً أن المقصود به استحلاف الحاکم للمنکر إذ أن هناک احتمالاً معتدّاً به أن یکون المقصود هو استحلاف المدّعی له وبناء علیه لا یتم التقریب المذکور للاستدلال وذلک لأن القضیة تکون حینئذ ثنائیة الأطراف مؤلّفة من حکم مترتب علی موضوعه فلا تدلّ علی المفهوم الذی هو الانتفاء عند الانتفاء بل إنما تدلّ علی أن سقوط حقّ المدّعی وذهاب الدعوی مترتب علی إحلاف المدّعی للمنکر وإحلافه له یستبطن رضاه بحلفه عادة ولیس هو شیئاً یمکن فرضه زائداً علیه بحیث یمکن معه فرض عدمه بل حیثما فُرض إحلاف المدّعی للمنکر فُرض معه عادة رضاه بحلفه فلیس لدینا فی هذه القضیة إلا طرفان : حکم بسقوط الحقّ وموضوع هو الإحلاف فتفتقد هذه القضیة - بناءً علی الاحتمال المطروح - للشرط الذی هو قوام المفهوم ، نعم .. قد نلتزم بالمفهوم ولکن بتقریب آخر سیأتی ذکره .

ص: 456


1- (1) " قال : إذا رضی صاحب الحقّ بیمین المنکر لحقّه فاستحلفه فحلف أن لا حقّ له قِبَلَه ذهبت الیمین بحقّ المُدّعی فلا دعوی له " .

وأما الأمر الأول : فلو بنینا علی أن الجملة الشرطیة عموماً لها دلالة علی المفهوم بمعنی أن للشرط دخالة فی الحکم بحیث ینتفی الحکم بانتفائه - وسلّمنا أن المقصود هو استحلاف الحاکم ولکن مع ذلک لا نسلّم أن الجملة الشرطیة فی ما نحن فیه لها مفهوم إذ غایة ما یُستفاد منها سقوط الحقّ فی حالة استحلاف الحاکم مع رضا المدّعی فهی بحدّ المنطوق وأما استحلاف الحاکم غیر المقرون برضا المدّعی - الذی هو مفاد المفهوم - فهی ساکتة عنه .

ومنشأ هذه الدعوی أن الأداة المستعملة فی المقام وهی (إذا) لیست من أدوات الشرط الصریحة من قبیل (إن) بل هی ظرف زمانی (1) قد لا یُستفاد منه إلا الحکم فی هذا الظرف وهو ما إذا رضی المدّعی بیمین المنکر فلا دلالة لها علی انتفاء هذا الحکم فی غیر هذا الظرف لتدل علی المفهوم .

الوجه الثانی (2) : أن یقال - بعد التسلیم بأن القضیة الشرطیة فی ما نحن فیه لیس لها مفهوم وأن غایة ما تدل علیه هو الحکم بإسقاط الحقّ وذهاب الدعوی فی حالة رضا المدّعی بیمین المنکر إن اللازم من کون الحکم بسقوط الحقّ ثابتاً فی الواقع لإحلاف الحاکم مطلقاً (3) هو لغویة التقیید برضا المدّعی فی کلام الإمام (علیه السلام) حیث قال : (إذا رضی صاحب الحقّ بیمین المنکر) مع أن ذکر هذا القید لا بد أن یکون لبیان دخالته فی ثبوت الحکم لموضوعه وعلی ذلک فیتوقف إحلاف الحاکم للمنکر علی رضا المدّعی لکی لا یلزم کون القید مستدرکاً .

ص: 457


1- (2) أقول : قال فی المغنی فی معنی إذا : (والثانی من وجهی إذا : أن تکون لغیر مفاجأة ، فالغالب أن تکون ظرفاً للمستقبل مضمّنة معنی الشرط) ، وقد عقد بعد ذلک فصلاً فی خروجها عن الشرطیة (المغنی مج1 ص93) .
2- (3) للاستدلال علی اشتراط إحلاف الحاکم برضا المدّعی وتوقفه علیه .
3- (4) أی سواء رضی المدّعی أم لم یرض .

وهذا التقریب وإن لم یعتمد علی الأمر الثانی المتقدّم - وهو کون الجملة الشرطیة لها مفهوم - إلا أنه یعتمد علی الأمر الأول وهو کون المراد بفاعل الاستحلاف فی قوله (علیه السلام) : (استحلفه) هو الحاکم لیکون لدینا أمور ثلاثة : موضوع (1) وحکم (2) وقید (3) ویکون الحکم متوقفاً علی حصول قیده فیثبت المطلوب من غیر حاجة إلی إثبات المفهوم (4) .

وأما إذا قلنا إنه یُحتمل فی الروایة أن یکون المراد بفاعل الاستحلاف هو المدّعی فلا یکون لدینا فی الحقیقة إلا أمران موضوع وحکم وأما رضا المدّعی فلیس هو أمراً منحازاً لیتأتی فرض وجوده أو فرض عدمه بل هو مستبطَن فی نفس الاستحلاف إذ کلما فُرض إحلاف المدّعی للمنکر فُرض رضاه بحلفه عادة .

وعلی ذلک فیکون المقام من قبیل ترتّب الحکم علی موضوعه (5) فکأنه قیل : (إذا استحلف المدّعی المنکر فحلف ذهبت الیمین بحقّ المدّعی) فلا یتأتّی حینئذ هذا التقریب .

الوجه الثالث : أن یُبنی علی الالتزام بأن المقصود بفاعل الاستحلاف هو المدّعی ولو بمعنی طلبه للاستحلاف ویقال إن من المسلّم به أن القائم بعملیة الإحلاف إنما هو الحاکم وأما المدّعی فلا یصح منه الانفراد بعملیة الاستحلاف حتی علی القول بالتوقف بل إن القائلین بعدم التوقف لیس مقصودهم منه استقلال المدّعی دون الحاکم باستحلاف المنکر بل مقصودهم أن بإمکانه أن یأذن للحاکم باستحلاف المنکر أو لا یأذن له فمباشرة استحلاف المنکر إذاً هی وظیفة الحاکم فإذا اعتمدنا هذا أصلاً موضوعیاً فی محل الکلام وضممنا إلیه ما تقدّم من أن المراد بالاستحلاف هو مجرد إذن المدّعی للحاکم بذلک فیمکن حینئذ أن یتم کلا التقریبین المتقدّمین لإثبات الرأی المشهور والصحیح وهو التوقف بأن یقال :

ص: 458


1- (5) وهو إحلاف الحاکم للمنکر .
2- (6) وهو سقوط حق المدّعی وذهابه بالیمین .
3- (7) وهو رضا المدّعی بإحلاف المنکر .
4- (8) أی من غیر حاجة إلی إثبات المفهوم من الدرجة الأولی وهو الانتفاء عند الانتفاء بالجملة وإلا فإن ما ذُکر فی التقریب الثانی یعتمد علی مفهوم القید وهو مفهوم من الدرجة الثانیة ومفاده الانتفاء عند الانتفاء فی الجملة .
5- (9) نظیر ما ذُکر فی مناقشة الأمر الثانی للوجه الأول .

إن الحکم وهو سقوط الحقّ وذهاب الدعوی مترتب علی موضوع وهو إحلاف الحاکم وهذا الأمر بحسب التقریب الأول مشروط بطلب المدّعی الیمین من المنکر فإحلاف الحاکم للمنکر لا یُسقط الحقّ ویَذهب بالدعوی إلا مع هذا الشرط لا مطلقاً .

هذا بناءً علی تمامیة مفهوم الشرط الذی اعتمده هذا التقریب ، وأما بناءً علی عدم تمامیته کما هو مبنی التقریب الثانی فقد تقدّم أن ذکر الاستحلاف من قبل المدّعی المتضّمن للرضا بحلف المنکر لا بد أن یکون لفائدة وإلا لزمت اللغویة إذ التعبیر وارد فی کلام الإمام (علیه السلام) لا فی کلام السائل حتی یُحمَل - مثلاً - علی أنه محلّ ابتلائه فی ما سأل عنه والفائدة هی بیان أن لرضا المدّعی وطلبه حلف المنکر - ولو من الحاکم (1) - دخلاً فی ثبوت هذا الحکم بإحلاف الحاکم .

إذاً ففاعل الاستحلاف وإن کان من البعید جداً إرجاعه إلی الحاکم لکن الاستدلال لا یتوقف علی ذلک لما تقدّم من أن المباشر للاستحلاف إنما هو الحاکم وهذه قضیة مفروضة فی محلّ الکلام - وسیأتی بحثها إن شاء الله تعالی ، وما ذکره المحقق فی الشرایع من أن الاحلاف حقّ للمدّعی کما تقدّم النقل عنه لیس معناه استقلاله بهذا الأمر بل المقصود به کما أشرنا إلیه - أنه هو الذی یجیز للحاکم أن یستحلف المنکر ، وأما التصدّی للاستحلاف فهو وظیفة الحاکم فمفاد الروایة بناءً علی کل من التقریبین المتقدمین - أن إحلاف الحاکم إنما یترتب علیه الأثر إذا طلبه المدّعی ورضی به لا مطلقاً .

ص: 459


1- (10) أی بأن یطلب من الحاکم إحلاف المنکر والمباشر للإحلاف هو الحاکم - .

هذا فی ما یتعلّق بالدلیل الثانی الذی استُدلّ به علی قول المشهور - وهو التوقف - .. وسیأتی الکلام فی الدلیل الثالث إن شاء الله تعالی .

المسألة العاشرة / فی الدعوی المالیة / صور المُدّعی علیه / الصورة الثالثة : سکوت المُدّعی علیه / ذکر الأدلة علی توقف إحلاف الحاکم للمدّعی علیه إذا لم یُقِم المدّعی البیّنة / الدلیل الثالث / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) بحث الفقه

(بحث یوم الأحد 10 ربیع الثانی 1433 ه_ 88)

کان الکلام فی استعراض الأدلة التی استُدلّ بها لقول المشهور - وهو توقف إحلاف الحاکم للمنکر علی رضا المدّعی وتقدم دلیلان :

الدلیل الثالث : روایة خضر النخعی عن أبی عبد الله (علیه السلام) :

" فی الرجل یکون له علی الرجل المال فیجحده ، قال : إن استحلفه فلیس له أن یأخذ شیئاً وإن ترکه ولم یستحلفه فهو علی حقه " (1) .

ودلالة هذه الروایة علی المطلوب واضحة من جهة أنها بمنطوقها تجعل الأثر - وهو سقوط حقّ المدّعی وعدم جواز أن یأخذ من خصمه شیئاً - مترتّباً علی استحلافه له بل هی تُصرّح بالمفهوم وهو أنه إن ترکه ولم یستحلفه فهو باقٍ علی حقّه بناء علی ما هو الظاهر من أن المقصود ب_(استحلفه) هو استحلاف المدّعی للمنکر ، کما أنها بإطلاق مفهومها تجعل المناط علی استحلاف المدّعی حیث تُبیّن أنه مع عدم استحلافه للمنکر فهو علی حقّه مطلقاً أی سواء استحلف الحاکم المنکر أم لا وهذا یعنی أن استحلاف الحاکم بمجرّده لا یترتب علیه أثر إلا إذا انضمّ إلیه رضا المدّعی (2) .

ص: 460


1- (1) الکافی مج7 ص418 ، الوسائل أبواب کیفیة الحکم الباب العاشر الحدیث الأول مج27 ص246 .
2- (2) توضیحه : أن الروایة حیث دلّت علی أن الذی یترتب علیه الأثر إنما هو استحلاف المدّعی فهنا إن لم یثبت الاستحلاف لغیره فلا کلام وإن ثبت للحاکم کما هو الصحیح وسیأتی فی بحث لاحق إن شاء الله تعالی فلا بد أن یکون حینئذ مشروطاً برضا المدّعی وإلا لم یکن له أثر وفقاً لما دلّت علیه الروایة بمفهومها وعلیه فیثبت المطلوب من توقف إحلاف الحاکم للمنکر علی رضا المدّعی .

وأما بناءً علی أن المقصود ب_(استحلفه) هو طلب المدّعی من الحاکم إحلاف المنکر وإذنه به له (1) لا تصدّی المدّعی لذلک فمفاد الروایة بمنطوقها حینئذ هو سقوط حقّ المدّعی وعدم جواز أن یأخذ من خصمه شیئاً فی ما إذا استحلف الحاکم المنکر بناءً علی طلب المدّعی ، وهی تفید بمفهومها المُصرَّح به بقاء حقّ المدّعی إذا لم یطلب من الحاکم إحلاف المنکر سواء استحلفه الحاکم من تلقاء نفسه (2) أو لا فتکون الروایة علی هذا الاحتمال أیضاً دالة علی ما هو المطلوب من توقف إحلاف الحاکم للمنکر علی طلب المدّعی المستبطن لرضاه بطبیعة الحال .

ولکنها مع ذلک لا تصلح للاستدلال لعدم تمامیتها سنداً لأن راویها - وهو خضر النخعی ممن لم تثبت وثاقته .

الدلیل الرابع : روایة عبد الله بن وضّاح :

" قال : کانت بینی وبین رجل من الیهود معاملة فخاننی بألف درهم فقدمته إلی الوالی فأحلفته فحلف وقد علمت أنه حلف یمیناً فاجرة فوقع له بعد ذلک عندی أرباح ودراهم کثیرة فأردت أن أقتصّ الألف درهم التی کانت لی عنده وحلف علیها فکتبت إلی أبی الحسن (علیه السلام) وأخبرته أنی قد أحلفته فحلف وقد وقع له عندی مال فإن أمرتنی أن آخذ منه الألف درهم التی حلف علیها فعلتُ ، فکتب : (لا تأخذ منه شیئاً إن کان ظلمک فلا تظلمه ولولا أنک رضیت بیمینه فحلّفته لأمرتک أن تأخذها من تحت یدک ولکنک رضیت بیمینه فقد مضت الیمین بما فیها) فلم آخذ منه شیئاً وانتهیت إلی کتاب أبی الحسن (علیه السلام) " (3) .

ص: 461


1- (3) کما قد یساعده ما سیأتی بحثه من أن الحاکم هو من یتصدّی لإحلاف المنکر .
2- (4) أی من دون طلب من المدّعی وإذن منه .
3- (5) الکافی مج7 ص431 ، الوسائل أبواب کیفیة الحکم الباب العاشر الحدیث الثانی مج28 ص246 .

ومحل الشاهد فیها قوله : (ولولا أنک رضیت بیمینه فحلّفته ..) حیث یُستدلّ به من جهة تصریح الإمام (علیه السلام) فیه بأن رضا المدّعی بیمین المنکر هو المقوّم لترتّب الأثر من سقوط الحقّ والذهاب بالدعوی فتدل علی أن إحلاف الحاکم للمنکر لا بد أن یکون متوقفاً علیه (1) لیترتب علیه ذلک الأثر .

ولکن هذه الروایة محلّ خدشٍ سنداً ودلالة :

أما من حیث السند فلوقوع عدّة مجاهیل فیه ، وأما من حیث الدلالة فلأنه وإن کان التعبیر برضا المدّعی بیمین المنکر قد ورد فی کلام الإمام (علیه السلام) (2) إلا أنه لا یعدو عن کونه من باب الجری علی ما فرضه السائل فی سؤاله حیث قال : (فأحلفته فحلف) (3) فالإمام (علیه السلام) بنی علی هذا الفرض الذی طرحه السائل وحکم فی ضوئه بأن هذه الیمین تکون مسقطة للحقّ وماضیة بما فیها وهذا لا یعنی أن إحلاف الحاکم للمنکر من دون رضا المدّعی لیس بمسقط للحقّ کما هو المدّعی - فلا یُستفاد من کلام الإمام (علیه السلام) هاهنا قاعدة کلیة تُثبت المطلوب بل غایة ما یُستفاد أن السائل حیث فُرِض رضاه بیمین المنکر وأحلفه فقد ذهبت هذه الیمین بحقّه ، والقائل بعدم التوقف لا یُنکر أن یمین المنکر برضا المدّعی تکون مسقطة للحق أیضاً (4) وإنما الکلام فی أن إحلاف الحاکم للمنکر من دون رضا المدّعی هل تُسقط الدعوی أو لا (5) ، والروایة لا دلالة فیها علی هذا المعنی .

ص: 462


1- (6) أی علی رضا المدّعی .
2- (7) فی قوله (علیه السلام) : " ولولا أنک رضیت بیمینه فحلّفته " .
3- (8) لما تقدّم مراراً من أن إحلاف المدّعی یستبطن رضاه .
4- (9) کما هو مفاد معتبرة ابن أبی یعفور حیث جاء فیها : " إذا رضی صاحب الحقّ بیمین المنکر لحقّه فاستحلفه فحلف أن لا حقّ له قِبَلَه ذهبت الیمین بحقّ المُدّعی فلا دعوی له " .
5- (10) فالمشهور علی عدم السقوط لأنه یری توقف إحلاف الحاکم للمنکر علی رضا المدّعی فبدونه لا یکون له أثر فلا یُسقط الدعوی ، وغیر المشهور علی السقوط لأنه یری عدم توقف إحلاف الحاکم علی رضا المدّعی .

نعم .. لو کان هذا التعبیر وارداً فی کلام الإمام (علیه السلام) ابتداءً کما فی معتبرة ابن أبی یعفور حیث یقول الإمام (علیه السلام) مبتدئاً : (إذا رضی صاحب الحق بیمین صاحبه ..) لکانت تدلّ علی سقوط حقّ المدّعی برضاه بیمین المنکر کما دلّت علیه المعتبرة فیقال حینئذ إن إحلاف الحاکم للمنکر لا بد أن یکون متوقفاً علیه (1) لیترتب علیه الأثر المزبور .

الدلیل الخامس : صحیحة محمد بن مسلم عن أحدهما (علیهما السلام) :

" فی الرجل یدّعی ولا بینة له ، قال : یستحلفه فإن رد الیمین علی صاحب الحقّ فلم یحلف فلا حقّ له " (2) .

وتقریب الاستدلال بها علی المطلوب بأن یقال إن الظاهر أن فاعل الاستحلاف فی قوله (علیه السلام) : (یستحلفه) هو المدّعی فیُفهم منها أن إحلاف المنکر هو وظیفة للمدّعی وهی تصدق فی مورد تصدّی المدّعی لها بنفسه کما تصدق أیضاً فی مورد طلب المدّعی من الحاکم القیام بذلک فاستحلاف المدّعی متحقّق فی الموردین إما مباشرة أو تسبیباً وعلی کل حال فإن رضاه بیمین المنکر مفروض فی المقام وهو المؤثر فی ترتّب الحکم فإن المُستفاد من الروایة أن المدّعی إن استحلف المنکر (3) فحلف سقط الحقّ وإن لم یحلف وردّ الیمین علی المدّعی فحلف ثبت الحقّ وإن لم یحلف فلا حقّ له .

ص: 463


1- (11) أی علی رضا المدّعی .
2- (12) الکافی مج7 ص416 ، الوسائل أبواب کیفیة الحکم الباب السابع الحدیث الأول مج27 ص241 .
3- (13) حیث إن الاستحلاف مستبطن للرضا بالحلف کما عُرف مما سبق .

ونوقش فی هذا الاستدلال بأن الظاهر أن الإمام (علیه السلام) لیس فی مقام بیان من الذی یحلف ومن الذی یستحلف بل الذی یظهر أنه (علیه السلام) فی مقام بیان الطریق الذی یمکن أن یسلکه المدّعی الذی لا بینة له لکی یصل إلی حقّه وهو (1) التوسّل بیمین المنکر فالإمام (علیه السلام) فی مقام بیان طریق من طرق الإثبات فی باب القضاء من غیر التعرّض إلی أن هذا الطریق هو وظیفة المدّعی المنحصرة به بحیث لا یجوز لغیره أن یقوم بها إلا برضاه لکی تدلّ علی المطلوب .

هذا غایة ما یمکن أن یقال فی مقام الاستدلال علی ما ذهب إلیه المشهور من توقّف إحلاف الحاکم للمنکر علی رضا المدّعی - وهو الصحیح - وقد تبیّن أن المهم فی الاستدلال علیه معتبرة ابن أبی یعفور بالتقریب الثالث المذکور سابقاً .. مضافاً إلی التسالم والإجماع المذکور فی کلماتهم المشیر إلی أن القضیة مسلّم بها عند فقهائنا (قدهم) بل إنها مسلّمة عند العامة أیضاً فإن صریح أحکامهم بأن الإحلاف حقّ للمدّعی ، ونظیر تعبیر المحقق فی الشرایع - المنقول من قبلُ قد ورد فی کتب العامة کالمغنی لابن قدامة مما یتأتّی معه دعوی وجود إطباق من قبل المسلمین علی هذا الأمر بل نُقل عن القوانین الوضعیة أنها تؤمن بهذا المعنی أیضاً (2) .

إذا تبیّن هذا فلنعقد البحث فی فروع متعلّقة بالمقام :

ص: 464


1- (14) أی الطریق الذی بیّنه الإمام (علیه السلام) لمن لا بیّنة له .
2- (15) وهو أن إحلاف الحاکم للمنکر لا یستقل به الحاکم وإنما لا بد من أخذ الإذن من المدّعی .

الفرع الأول : فی استحلاف المدّعی للمنکر من دون إذن الحاکم :

قال الشیخ الأنصاری (قده) فی قضائه : " واعلم أنه کما لا یجوز إحلاف الحاکم له من دون التماس المدعی ، کذلک لا یجوز إحلاف المدعی له من دون إذن الحاکم بلا خلاف ظاهر کما اعترف به جماعة واستظهر بعضهم الاجماع " (1) .

ومفاد هذه العبارة أنه یُعتبر رضا کل من المدّعی والحاکم وتوافقهما علی إحلاف المنکر فلا المدّعی ینفرد بإحلافه ولا الحاکم یستقلّ به .

وأقول : إن استحلاف المدّعی للمنکر من دون إذن الحاکم له فرضان :

الأول : أن یکون خارج المرافعة والدعوی کما لو ائتمنه علی مال فجحده فاستحلفه فحلف فیقال هنا هل أن استحلاف المدّعی للمنکر خارج المرافعة ومن دون إذن الحاکم مسقط للحقّ أم لا ؟

وهذا بحث لا یخلو من أهمیة لأن أغلب موارد طلب الحلف من الطرف الآخر لعلها من هذا القبیل فإنه إذا کان مما یسقط الحقّ معه فلا یکون للمدّعی حینئذ حقّ حتی یطالب به کما أنه لیس له أن یُقیم بعد الحلف دعوی جدیدة علی الحالف لفرض سقوط حقّه بهذا الیمین .

الفرض الثانی : أن یکون داخل المرافعة والدعوی وبمحضر من الحاکم لکن من دون إذنه فیقال هنا هل أن استحلاف المدّعی للمنکر داخل المرافعة ولکن من دون إذن الحاکم مسقط للحقّ أم لا ؟

أما فی هذا الفرض فالذی یظهر من کلماتهم أنه لا إشکال فی عدم ترتب الأثر علیه فلا یُسقِط الحقّ ولا یذهب بالدعوی واللازم علی الحاکم حینئذ إعادة إحلاف المنکر مرة أخری حتی یکون حکمه مستنداً إلی هذه الیمین بعد فرض رضا المدّعی بها (2) فیترتب الأثر حینئذ من سقوط حقّ المدّعی .

ص: 465


1- (16) القضاء والشهادات ص205 .
2- (17) کما هو کذلک فعلاً حیث فُرض صدور الإحلاف منه المستبطن لرضاه بحلفه .

ویُعلّل هذا بأن الإحلاف وظیفة الحاکم غایة الأمر أنه یُشترط أخذ إذن المدّعی قبله ، واستُدلّ علیه بروایات قیل إنه یظهر منها أن إحلاف المنکر وظیفة للحاکم فلا یجوز لغیره الاستقلال به ، وعمدتها روایتان :

إحداهما : صحیحة سلیمان بن خالد - المتقدّمة مراراً عن أبی عبد الله (علیه السلام) :

" قال : فی کتاب علی (علیه السلام) أن نبیاً شکا إلی ربه فقال : یا ربّ کیف أقضی فی ما لم أشهد ولم أر ؟ قال: فأوحی الله عز وجل إلیه أن احکم بینهم بکتابی وأضفهم إلی اسمی فحلّفهم به ، وقال: هذا لمن لم تقم له بینة " (1) .

أی أنه یتوجه الیمین إلی المنکر بعد أن یعجز المدّعی عن إقامة البیّنة .

والأخری : مرسلة محمد بن قیس عن أبی جعفر (علیه السلام) :

" قال : إن نبیاً من الأنبیاء شکا إلی ربّه کیف أقضی فی أمور لم أُخبَر ببیانها ؟ قال : فقال له : رُدّهم إلی وأضفهم إلی اسمی یحلفون به " (2) .

وروایات غیرها بهذا المضمون (ولعلها مستفیضة) فاستُفید منها - وفیها ما هو صحیح السند قطعاً - أن تحلیف المنکر وظیفة الحاکم فیقال حینئذ :

إن مقتضی الجمع بین هذه الروایات والروایات السابقة - کصحیحة ابن أبی یعفور الدالة علی توقف التحلیف علی إذن المدّعی - یکون بما ذُکر من أن الذی یتصدّی لعملیة الإحلاف هو الحاکم ولکن یجب أن یکون هذا بطلب من المدّعی وإذنه .

ص: 466


1- (18) الکافی مج7 ص415 ، الوسائل أبواب کیفیة الحکم الباب الأول الحدیث الأول مج27 ص229 .
2- (19) الکافی مج7 ص414 ، الوسائل أبواب کیفیة الحکم الباب الأول الحدیث الثالث مج27 ص230 .

وللکلام تتمة تأتی إن شاء الله تعالی .

المسألة العاشرة / فی الدعوی المالیة / صور المُدّعی علیه / الصورة الثالثة : سکوت المُدّعی علیه / فروع متعلقة بقضیة لزوم کون الإحلاف بموافقة المدّعی وطلبه / الفرع الأول : فی استحلاف المدّعی للمنکر من دون إذن الحاکم / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) بحث الفقه

(بحث یوم الاثنین 11 ربیع الثانی 1433 ه_ 89)

الموضوع :- المسألة العاشرة / الصورة الثالثة : سکوت المدعی علیه/ فروع متعلقة بقضیة لزوم کون إحلاف الحاکم للمنکر بموافقة المدّعی وطلبه / الفرع الأول : فی استحلاف المدّعی للمنکر من دون إذن الحاکم / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) .

کان الکلام فی ذکر فروع متعلقة بما تمّ الفراغ عنه من أن الإحلاف لا بد أن یکون بموافقة المدّعی وطلبه ، وتقدّم الفرع الأول وهو فی استحلاف المدّعی للمنکر من دون إذن الحاکم ، وذکرنا أن له فرضین أولّهما ما إذا کان خارج المرافعة والثانی ما إذا کان داخلها ، وأوقعنا الکلام فی الفرض الثانی وقلنا إن الظاهر من کلماتهم أنه لا إشکال فی عدم ترتّب الأثر علی الحلف داخل المرافعة من دون إذن الحاکم وأن اللازم علی الحاکم إعادة إحلاف المنکر لیقع حکمه مستنداً إلی یمینه من جهة أن الإحلاف وظیفة الحاکم مشروطاً بأخذ إذن المدّعی ، وقلنا إنه استُدلّ علیه بروایات ذکرنا روایتین منها أهمّهما صحیحة سلیمان بن خالد وهی تامة سنداً ودلالة ومضمونها - وهو الأمر بتحلیف أطراف الدعوی باسمه عزّ وجل المستفاد من قوله : (وأضفهم إلی اسمی فحلّفهم به) - موجود فی روایات کثیرة ادُّعیَ استفاضتها .

ص: 467

وقد یقال : إنه یمکن التمسّک بإطلاق هذه الروایات لإثبات کون الإحلاف وظیفة للقاضی مطلقاً - سواء أذن المدّعی أم لم یأذن - من جهة کون الخطاب فیها متوجّهاً إلی القاضی وحینئذ تکون منافیة للروایات المتقدّمة المُستدلّ بها علی لزوم أخذ إذن المدّعی .

ولکن الظاهر عدم تمامیة هذه الدعوی :

أولاً : من جهة عدم التسلیم بأصل وجود إطلاق فی تلک الروایات لما تقدّم الإیعاز إلیه من أنها لیست بصدد تشخیص من یکون الحالف ومن یکون المستحلِف حتی یُتمسّک بإطلاقها باعتبار کون الخطاب للقاضی لإثبات أن الإحلاف وظیفة له مطلقاً سواء أذن المدّعی أم لم یأذن وإنما هی بصدد بیان طریق من طرق الإثبات القضائی للحاکم الذی فُرض کونه لم یطّلع علی واقع الدعوی ولم یُشاهد مُجرَیاتِها فأُمر من قِبَله تعالی بأن یحکم بینهم بکتابه ویُضیفهم إلی اسمه فیُحلّفهم به .

وثانیاً : لو سلُمنا تمامیة الإطلاق المزبور إلا أنه لا بد من تقییده بمعتبرة ابن أبی یعفور الدالة علی اعتبار إذن المدّعی حملاً للمطلق علی المقیّد .

فظهر بما تقدم أن استقلال المدّعی بتحلیف المنکر (1) داخل المرافعة غیر جائز لما تبیّن من أن التحلیف داخل المرافعة وظیفة القاضی فلا یجوز لغیره التصدّی له ، نعم .. یمکن للمدّعی أن یقوم بذلک لکن بعد أخذ إذن القاضی لأن غایة ما یُستفاد من کون التحلیف وظیفة للقاضی أنه لا بد أن یقع برضاه سواء أقام هو به مباشرة أم أذن لغیره به إذ یصدق فی الحالین أن التحلیف صدر عن رضا منه .

ص: 468


1- (1) أی من دون أخذ موافقة الحاکم .

هذا فی ما یتعلّق بالفرض الثانی .

وأما الفرض الأول وهو ما إذا کان تحلیف المدّعی للمنکر مستقلاً خارج المرافعة :

فالظاهر أنه یُسقِط الحقّ استناداً إلی عدّة روایات مفادها سقوط حقّ المدّعی بعد تحلیفه للمنکر لا بتبرّع المنکر بالحلف من تلقاء نفسه فإنه من الواضح أنه لا یُسقِط الحقّ - ، وهی کما یأتی :

الأولی : مرسلة الصدوق : " قال رسول الله (صلّی الله علیه وآله وسلّم) : من حلف لکم علی حقّ فصدّقوه ومن سألکم بالله فأعطوه ذهبت الیمین بدعوی المدّعی ولا دعوی له " (1)

(2)

(3) .

ووجه الاستدلال بها أن لازم الأمر بتصدیق الحالف هو سقوط حقّ المحلوف له فإذا حلف المنکر لمدّعی الحقّ فحلفه یکون مسقطاً لحقّه ، ومقتضی إطلاقه أنه یکون کذلک مطلقاً سواء وقع داخل المحاکمة أو خارجها ولا موجب لتقییده بکونه أمام القاضی وفی داخل المرافعة فإن الروایة بظهورها الأوّلی تدلّ علی أن الیمین الصادر من المنکر یکون مسقطاً للحقّ مطلقاً .

الثانیة : روایة عبد الله بن وضّاح : " قال : کانت بینی وبین رجل من الیهود معاملة فخاننی بألف درهم فقدمته إلی الوالی فأحلفته فحلف وقد علمت أنه حلف یمیناً فاجرة فوقع له بعد ذلک عندی أرباح ودراهم کثیرة فأردتُ أن أقتصّ الألف درهم التی کانت لی عنده وحلف علیها فکتبتُ إلی أبی الحسن (علیه السلام) وأخبرته أنی قد أحلفته فحلف وقد وقع له عندی مال فإن أمرتنی أن آخذ منه الألف درهم التی حلف علیها فعلتُ ؟ فکتب (علیه السلام) : (لا تأخذ منه شیئاً إن کان قد ظلمک فلا تظلمه ولولا أنک رضیت بیمینه فحلّفته لأمرتک أن تأخذها من تحت یدک ولکنک رضیت بیمینه فقد مضت الیمین بما فیها) فلم آخذ منه شیئاً وانتهیت إلی کتاب أبی الحسن (علیه السلام) " (4) .

ص: 469


1- (2) الفقیه مج3 ص62 ، الوسائل أبواب کیفیة الحکم الباب التاسع الحدیث الثانی مج27 ص245 .
2- (3) قال صاحب الوسائل (قده) بعد أن ذکر معتبرة ابن أبی یعفور :
3- (4) " ورواه الصدوق بإسناده عن عبد الله بن أبی یعفور مثله یعنی مثل الحدیث السابق الذی هو معتبرة ابن أبی یعفور نفسها - ، ثم قال : " وزاد أی الشیخ الصدوق فی الفقیه .. " وذکر المرسلة المتقدمة مما یعنی أنه فهم أن هذه المرسلة هی تتمة للمعتبرة . (منه دامت برکاته)
4- (5) الکافی مج7 ص430 ، الوسائل أبواب کیفیة الحکم الباب العاشر الحدیث الثانی مج27 ص246 .

والروایة واضحة الدلالة علی أن یمین المنکر الصادر بطلب من المدّعی تمضی بما فیها وتُسقط حقّ المدّعی .

إن قیل : ولکن الروایة خارجة عن محلّ الکلام لأنها تبیّن أن الیمین قد وقع فی مرافعة وأمام الحاکم فکیف یُستدلّ بها علی ما نحن فیه من کون الیمین خارج المرافعة .

قلتُ : إن الأمر وإن کان کذلک إلا أنه لم یکن ترافعاً إلی حاکم شرعی بل کان ترافعاً إلی والی الجور کما هو الظاهر والترافع إلیه غیر معتبر شرعاً بل هو بمنزلة العدم ومع ذلک فقد رتّب الإمام (علیه السلام) الأثر علی الیمین فیُستفاد حینئذ أن یمین المنکر الصادر بطلب من المدّعی خارج المرافعة الشرعیة مما یترتّب علیه الأثر ویکون موجباً لسقوط الحقّ .

الثالثة : روایة خضر النخعی عن أبی عبد الله (علیه السلام) : " فی الرجل یکون له علی الرجل المال فیجحده قال : إن استحلفه فلیس له أن یأخذ شیئاً وإن ترکه ولم یستحلفه فهو علی حقّه " (1) .

وهذه الروایة ظاهرة فی أن یمین المنکر الصادر بطلب من المدّعی یترتّب علیه الأثر ویکون موجباً لسقوط الحقّ ومقتضی إطلاقها أنه کذلک سواء کان داخل المرافعة أو خارجها إذ یصدق علیه فی الموردین أنه استحلفه .

الرابعة : روایة عبد الرحمن بن أبی عبد الله البصری : " قال : قلت للشیخ (علیه السلام) (2) : خبّرنی عن الرجل یدّعی قِبَل الرجل الحقّ فلا یکون له بیّنة بما له ، قال : فیمین المُدّعی علیه فإن حلف فلا حقّ له " (3) .

ص: 470


1- (6) الکافی مج7 ص418 ، الوسائل أبواب کیفیة الحکم الباب العاشر الحدیث الأول مج27 ص246 .
2- (7) یعنی الإمام الکاظم (علیه السلام) .
3- (8) الکافی مج7 ص415 ، الوسائل أبواب کیفیة الحکم الباب الرابع الحدیث الأول مج27 ص236 .

وهذه الروایة ظاهرة أیضاً فی أن یمین المنکر مما یترتّب علیه الأثر ویکون موجباً لسقوط الحقّ ومقتضی إطلاقها عدم الفرق بین کون الیمین واقعاً داخل المرافعة أو خارجها .

الخامسة : مرسلة یونس : " قال : استخراج الحقوق بأربعة وجوه : بشهادة رجلین عدلین ، فإن لم یکونا رجلین عدلین فرجل وامرأتان ، فإن لم تکن امرأتان فرجل ویمین المدّعی ، فإن لم یکن شاهد فالیمین علی المدعی علیه ، فإن لم یحلف وردّ الیمین علی المدّعی فهو واجب علیه أن یحلف ویأخذ حقّه فإن أبی أن یحلف فلا شیء له " (1) .

وظاهرها أیضاً أن الیمین الصادر من المدّعی علیه یکون موجباً لإسقاط الحقّ ومقتضی إطلاقها أنه لا یتوقف علی أن یکون أمام الحاکم وفی داخل المرافعة .

هذه هی عمدة الروایات التی استُدلّ بها علی ما هو محلّ الکلام من أن یمین المنکر بطلب من المدّعی تکون مسقطة للحقّ ولو لم تکن أمام الحاکم .

ونوقش فی جمیع هذه الروایات بعدم تمامیة سندها ، نعم .. بالنسبة إلی مرسلة الصدوق ذکر صاحب الوسائل (قده) ما یُستفاد منه أنه فهم أن هذه المرسلة هی تتمة لمعتبرة ابن أبی یعفور حیث قال بعد إیراده للمعتبرة : " وزاد أی الشیخ الصدوق فی الفقیه .. " وذکر المرسلة مع أن الصدوق (قده) أوردها فی الفقیه مستقلة عن المعتبرة .

وکیف کان فإن هذه الروایة إن کانت تتمة لروایة ابن أبی یعفور فمنع الاستدلال بها فی محل الکلام واضح لظهور کون المعتبرة تتحدث عن دعوی ومحاکمة فلا یمکن حمل تلک التتمة علی کونها مطلقة تشمل حتی حالة صدور الیمین من المنکر خارج الدعوی والمرافعة بل تکون محکومة للصدر فی ذلک فتکون دلالتها فی ظرف الدعوی والمحاکمة أیضاً .

ص: 471


1- (9) الکافی مج7 ص416 ، الوسائل أبواب کیفیة الحکم الباب السابع الحدیث الرابع مج27 ص242 .

وأما إذا کانت روایة مستقلة لا علاقة لها بمعتبرة ابن أبی یعفور کما هو الظاهر والصحیح فتکون مرسلةً أرسلها الصدوق عن رسول الله (صلّی الله علیه وآله وسلّم) وحینئذ تکون ضعیفة بالإرسال بناء علی ما هو الصحیح من أن مراسیل الشیخ الصدوق مطلقاً سواء أرسلها بعنوان (رُوی عن ..) أو بعنوان (قال) ثم یذکر اسم المعصوم (علیه السلام) غیر معتبرة ولا تخلو من شوب إشکال خلافاً لمن یُفصّل ویلتزم بحجیة مراسیل الصدوق إذا کانت بالعنوان الثانی .

ویأتی الکلام فی دلالتها وفی سند الروایات الأخری ودلالتها إن شاء الله تعالی .

المسألة العاشرة / فی الدعوی المالیة / صور المُدّعی علیه / الصورة الثالثة : سکوت المُدّعی علیه / فروع متعلقة بقضیة لزوم کون الإحلاف بموافقة المدّعی وطلبه / الفرع الأول : فی استحلاف المدّعی للمنکر من دون إذن الحاکم / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) بحث الفقه

(بحث یوم الثلاثاء 12 ربیع الثانی 1433 ه_ 90)

الموضوع :- المسألة العاشرة / الصورة الثالثة : سکوت المدعی علیه/ فروع متعلقة بقضیة لزوم کون إحلاف الحاکم للمنکر بموافقة المدّعی وطلبه / الفرع الأول : فی استحلاف المدّعی للمنکر من دون إذن الحاکم خارج المرافعة / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) .

کان الکلام فی سند مرسلة الصدوق فی الفقیه وقد ذکرنا أن کونها مرسلة مبنی علی عدم کونها تتمة لمعتبرة ابن أبی یعفور ، ویُحتمل فی مقابله أن تکون تتمة لها فلا تکون حینئذ روایة مستقلة بل تکون ذیلاً لتلک المعتبرة یشملها سند الشیخ الصدوق إلی ابن أبی یعفور وتمثّل استشهاداً من الإمام (علیه السلام) بکلام رسول الله (صلی الله علیه وآله) .

ص: 472

ولکن یضعف هذا الاحتمال بملاحظة أن کلّاً من الشیخ الکلینی فی الکافی والشیخ الطوسی فی التهذیب قد رویا معتبرة ابن أبی یعفور من دون ذکر هذا الذیل وهذه قرینة یمکن اعتمادها علی نفی کونه تتمة للمعتبرة .

ولکن لو غُضّ النظر عن هذه القرینة وفُرض کونه تتمة للمعتبرة فیمکن أن یقال حینئذ بعدم تمامیة دلالته فی ما نحن فیه لما سبقت الإشارة إلیه من أن فرض کونه تتمة یجعله ناظراً إلی عین ما کانت المعتبرة ناظرة إلیه وهو کون یمین المنکر داخل المرافعة وهو غیر محلّ الکلام وحینئذ لا یصح إیراد هذا الذیل فی مقام الاستدلال .

وبالجملة إن تلک الفقرة إن کانت روایة مستقلة فهی مرسلة وإن کانت تتمة فلا تکون ناظرة إلی محلّ الکلام وعلی کلا الحالین لا تکون صالحة للاستدلال .

ولکن یمکن الجواب عن الشقّ الثانی بما حاصله أن الحلف فی المعتبرة وإن کان یراد به الحلف فی داخل المرافعة إلا أن استشهاد الإمام (علیه السلام) بکلام الرسول (صلی الله علیه وآله) إنما هو من باب تطبیق قاعدةٍ علی موردها ومن المعلوم أن المورد لا یخصِّص الوارد فیبقی هذا الوارد علی إطلاقه وعمومه فیمکن الاستدلال به بما هو مطلق وعام فی غیر مورد التطبیق من حیث کونه شاملاً لمحل الکلام إذ یصدق فی ما نحن فیه (1) أن هذا المنکر حلف للمدّعی علی حقّ فیکون المدّعی مأموراً بتصدیقه لقوله (صلی الله علیه وآله) : " من حلف لکم علی حقّ فصدّقوه " .

هذا .. مضافاً إلی أن نظیر هذا المضمون نفسه رواه الکلینی بسند صحیح عن أبی حمزة وهو الثمالی - عن علی بن الحسین (علیه السلام) : " قال : قال رسول الله (صلی الله علیه وآله) : لا تحلفوا إلا بالله ومن حلف بالله فلیصدق ، ومن حُلِف له بالله فلیرض ، ومن حُلِف له بالله فلم یرض فلیس من الله عزّ وجل " (2) .

ص: 473


1- (1) وهو الحلف خارج المرافعة .
2- (2) الکافی مج7 ص438 .

ونحوه ما رواه (1) بسند تام أیضاً عن أبی أیوب الخزّاز عن أبی عبد الله : " قال : من حلف بالله فلیصدق ، ومن لم یصدق فلیس من الله ومن حلف له بالله عز وجل فلیرض ، ومن لم یرض فلیس من الله عز وجل " (2)

(3) .

ولکن یمکن أن یقال باختلاف الأمر بین محلّ الاستشهاد من قول الرسول (صلی الله علیه وآله) وما جاء فی هاتین الروایتین فإنه فی ما نقله الصدوق قد ذُکر تقیید الحلف بکونه (لکم) الظاهر فی کونه حلفاً لمن یدّعی حقّاً وهو بإطلاقه شامل لحالة ما إذا کان داخل المرافعة أو خارجها فیعمّ محلّ الکلام وقد ورد الحکم من قِبَله (صلی الله علیه وآله) بلزوم تصدیقه وذهاب الیمین بدعوی المدّعی وسقوط حقّه ، وأما فی هاتین الروایتین فلم یُصرّح فیهما بأن الحلف یَذهب بالدعوی ویُسقط الحقّ ولا أقلّ من عدم ظهورهما فی ذلک فلا مجال للتعویل علیهما فی المقام فنبقی نحن وتلک الفقرة المنقولة فی الفقیه فعلی تقدیر کونها تتمة للمعتبرة فلصحة الاستدلال بها وجه (4) حتی مع کون مورد المعتبرة هو الحلف داخل الدعوی ، وأما إذا لم تکن تتمة لها - کما هو الأقرب بقرینة خلوّ نقل الکافی والتهذیب عنها ، ولا مجال فی المقام لدعوی دوران الأمر بین الزیادة والنقیصة لیقال بتعارض النقلین (أعنی نقل الصدوق من جهة (5) ونقل الکافی والتهذیب من جهة أخری) ومن ثم یصار إلی الترجیح بتقدیم إحدی الأصالتین (6) فإن هذا فرع تأتّی احتمال کل منهما (7) مع أن هذا غیر وارد فإن المستظهَر ولو بقرینة خلوّ نقل الکافی والتهذیب عنها کونها روایة برأسها لا تتمة للمعتبرة فمن الواضح عدم صلوحها للاستدلال لضعف سندها بالإرسال .

ص: 474


1- (3) أی الشیخ الکلینی (قده) .
2- (4) المصدر السابق .
3- (5) أقول : وجه الاستدلال بهاتین الروایتین هو قوله (فلیصدق) حیث قرأها سماحة شیخنا الأستاذ (دامت برکاته) بصیغة الأمر من المضعّف المبنی للمفعول أی بضمّ الیاء وفتح الدال المضعّفة وهو خلاف الظاهر جداً بل اللفظ إنما هو بصیغة الأمر من الصحیح المبنی للفاعل أی بفتح الیاء وضمّ الدال المخفّفة والشاهد علی ذلک هو السیاق فی الروایتین وقوله فی الروایة الثانیة : (ومن لم یصدق فلیس من الله) إذ لا معنی لحملها علی القراءة الأولی فتدبّر !
4- (6) وهو ما ذُکر سابقاً من کون هذه الفقرة التی استشهد بها الإمام (علیه السلام) بمثابة کبری کلیة طُبّقت علی مورد لها والمورد لا یُخصِّص الوارد فیصح تطبیقها علی مورد آخر ولو کان مغایراً ما دامت شاملة له بإطلاقها .
5- (7) بناء علی کون الفقرة المعهودة تتمة للمعتبرة کما أشار إلیه صاحب الوسائل بقوله : (وزاد - یعنی الصدوق فی الفقیه - ..) ثم ذکر تلک الفقرة .
6- (8) یعنی أصالة الزیادة أو أصالة النقیصة .
7- (9) أی احتمال الزیادة واحتمال النقیصة .

هذا فی ما یتعلّق بالروایة الأولی .

وأما الروایة الثانیة - وهی روایة عبد الله بن وضّاح فقد أشرنا إلی أن موردها وإن کان هو استحلاف المدّعی للمنکر أمام الوالی حیث قال : (فقدّمته إلی الوالی فأحلفته فحلف) وهو غیر محلّ الکلام إلا أن هذه الخصوصیة تُلغی باعتبار أن الحلف أمام الوالی الجائر مما لا أثر له شرعاً وهو بحکم العدم فاستحلاف المدّعی للمنکر فی مرافعة أمامه بمنزلة وقوع استحلافه خارج المرافعة والدعوی فإذا دلّت الروایة علی أن مثل هذا الحلف بالرغم من وقوعه أمام الوالی الجائر یُسقط الحقّ ویذهب بالدعوی فیصح الاستدلال بها فی محلّ الکلام .

ولکن سند هذه الروایة ضعیف لوجود عدّة اشخاص ممن ثبت ضعفهم أو لم تثبت وثاقتهم .

وأما الروایة الثالثة - وهی روایة النخعی فقد کان الاستدلال بها مبنیاً علی أن یکون المراد بقوله : (استحلفه) هو استحلاف المدّعی للمنکر لا طلب المدّعی حلف المنکر من الحاکم فإنه علی الثانی (1) وإن کان یُسقط الحقّ ویذهب بالدعوی بلا إشکال إلا أنه خارج عمّا نحن فیه من الحلف خارج المرافعة والدعوی ، وأما علی الأول (2) فیکون متعلّقاً بمحلّ الکلام بمقتضی الإطلاق (3) وقد حکم الإمام (علیه السلام) بسقوط الحقّ بعد الاستحلاف وأنه لا یجوز للمدّعی أن یأخذ من المنکر شیئاً فیتأتّی الاستدلال بالروایة فی المقام من هذه الجهة ولکن المشکلة فی سندها فإنه غیر تام لأن خضر النخعی مجهول لم تثبت وثاقته .

ص: 475


1- (10) أی طلب المدّعی من الحاکم استحلاف المنکر .
2- (11) أی استحلاف المدّعی للمنکر .
3- (12) یعنی إطلاق الاستحلاف الشامل لکونه داخل المرافعة أو خارجها .

وأما الروایة الرابعة - وهی روایة عبد الرحمن بن أبی عبد الله فهی لا تخلو من ضعف سنداً ودلالة :

أما بالنسبة إلی السند فمن جهة یاسین الضریر - الذی یروی عن عبد الرحمن بن أبی عبد الله البصری الثقة فإنه لم یُنصّ علیه بمدح ولا قدح فهو مجهول الحال (1) وإن کانت له ترجمة وعنوان فی کتب الرجال .

وأما بالنسبة إلی الدلالة فلأن الروایة کما هو الظاهر من سیاقها - ناظرة إلی الحلف فی داخل المرافعة وهو غیر محلّ الکلام ، وإن لم یُسلّم بهذا ویَتمسّک المستدلّ بإطلاقها لإثبات شمولها للمقام (2) ففیه إشکال سیأتی التعرّض إلیه .

وأما الروایة الخامسة - وهی روایة یونس فسندها ضعیف بالإرسال وأما دلالتها فالکلام فیها عین الکلام فی سابقتها حرفاً بحرف .

فتبین مما تقدّم أن دلالة هذه الروایات لو تمّت فإنما هی بالإطلاق ولکنه مما یمکن الخدشة فیه بعدة وجوه :

أولاً : دعوی الانصراف إلی خصوص کون الحلف داخل المرافعة ، ومبنی هذه الدعوی هو أن یقال إن هذه الروایات صادرة فی جوّ وارتکاز متشرّعی قاضٍ بأن فصل الخصومات وإنهاء النزاعات لا یکون إلا بالترافع أمام القاضی وهی دعوی غیر بعیدة لاسیما مع ما هو المشاهد خارجاً حتی فی هذه الأعصار بأن من یرید أن یُنهی نزاعه مع خصمه بنحو ملزم شرعاً یتوجّه إلی القضاء فقوله (علیه السلام) : (فیمین المدّعی فإن حلف فلا حقّ له) - مثلاً وإن کان مطلقاً إلا أنه منصرف الی خصوص الیمین فی مجلس القضاء المطلوب من قبل الشارع المقدّس ومثل هذه الیمین هی التی تسقط الحقّ وتذهب بالدعوی .

ص: 476


1- (13) أی من حیث التوثیق .
2- (14) وهو الحلف خارج المرافعة .

وثانیاً : لو تنزّلنا عمّا سبق وسلّمنا بوجود الإطلاق فی هذه الروایات إلا أنه مع ذلک لا یمکن التمسّک به وذلک لعدم کون هذه الروایات فی مقام البیان من الجهة التی نرید أن نتمسک بالإطلاق لأجلها وإنما هی فی مقام بیان تصدیق الحالف وترتیب الاثر علی یمینه ولیست ناظرة إلی ملابسات حلفه من ذکر الشروط المعتبرة فی تصدیقه وهل أن المعتبر فیه حصوله داخل المرافعة وأمام القاضی أم لا یُعتبر فیه ذلک فلیست هی ناظرة إلی هذه الجهة لیصحّ التمسّک بإطلاقها .

وثالثاً : مع الغضّ عمّا ذُکر والتسلیم بکون الروایات المتقدّمة فی مقام البیان من الجهة المبحوث عنها فیمکن أن یقال إن إطلاقها مقیّد بصحیحة سلیمان بن خالد التی مفادها أن التحلیف الشرعی الذی یترتب علیه الأثر هو وظیفة الحاکم لا المدّعی .

فتحصّل من جمیع ما تقدّم أن الأثر وهو سقوط حقّ المدّعی وذهاب الدعوی - إنما یترتب علی إحلاف الحاکم للمنکر بإذن من المدّعی وطلبه بحیث لا یجوز له المطالبة ولا التقاصّ ولا إقامة دعوی بعده ولا یترتب علی یمین المنکر إذا کان خارج الدعوی والمرافعة .

المسألة العاشرة / الصورة الثالثة : سکوت المدعی علیه / فروع متعلقة بقضیة لزوم کون إحلاف الحاکم للمنکر بموافقة المدّعی وطلبه / الفرع الثانی : فی أن المُدّعی علیه لا یصح منه أن یتبرّع بالیمین من دون طلب من المدّعی / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) . بحث الفقه

(بحث یوم الأربعاء 13 ربیع الثانی 1433 ه_ 91)

الموضوع :- المسألة العاشرة / الصورة الثالثة : سکوت المدعی علیه / فروع متعلقة بقضیة لزوم کون إحلاف الحاکم للمنکر بموافقة المدّعی وطلبه / الفرع الثانی : فی أن المُدّعی علیه لا یصح منه أن یتبرّع بالیمین من دون طلب من المدّعی / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) .

ص: 477

کان الکلام فی فروع متعلقة بقضیة لزوم کون إحلاف الحاکم للمنکر بموافقة المدّعی وطلبه وتقدم الکلام علی الفرع الأول وهو عدم استقلال المدّعی بتحلیف المنکر بل لا بد من أن یکون ذلک بإذن الحاکم وموافقته ومرجع هذا فی الحقیقة إلی أن الحاکم هو الذی یطلب الیمین من المنکر لکن بعد موافقة المدّعی .

الفرع الثانی : فی عدم صحة تبرّع المُدّعی علیه بالیمین من دون طلب من المدّعی .

وهذا واضح فی ضوء ما تقدّم من الأدلة السابقة حیث ظهر منها أن سقوط الحقّ إنما یترتب علی یمین المنکر إذا کان بموافقة المدّعی وطلب من الحاکم فتبرّع المنکر بالیمین مما لا یترتب علیه أثر.

ولکن قد یقال إن مرسلة الصدوق المتقدّمة تدل بإطلاقها علی سقوط حقّ المدّعی بیمین الحالف حتی من دون طلب من الحاکم وموافقة من المدّعی فإنها تقول : (من حلف لکم علی حقّ فصدّقوه) فإنه یصدق علی المنکر - ولو کان متبرّعاً - أنه حلف للمدّعی علی حقّ .

لکن تقدّم أن هذه الروایة سندها ضعیف بالإرسال .. مضافاً إلی احتمال انصرافها کما ذکرنا إلی خصوص الیمین الصادرة من المُدّعی علیه طبقاً للقواعد المقررة فی باب القضاء وهذا معناه أن یمینه صدرت بطلب من الحاکم ولیست یمیناً تبرّعیة من قبله فما أُمِرنا بتصدیقه من الیمین وفقاً للروایة هو هذا لا مطلق الیمین ولو کان تبرّعیاً .

والظاهر مسلّمیة هذه القضیة عند الأصحاب حیث أرسلوها إرسال المسلّمات وإن کانوا توقّفوا فی الفرع السابق .

الفرع الثالث : فی کفایة شاهد الحال عن تصریح المدّعی بالموافقة علی یمین المنکر وطلبه من الحاکم إحلافه .

ص: 478

هذا الأمر فی مقابل ما تقدّم اشتراطه فی ترتب الأثر علی الیمین من کونه بطلب والتماس وسؤال من المدّعی - علی اختلاف ما عُبّر به - فیقال إنه هل یُکتفی عن ذلک بشاهد الحال وهی القرینة الحالیة التی تشهد بأن المدّعی یوافق علی طلب الحاکم الحلف من المنکر أم لا بد من التصریح بذلک بواسطة الطلب أو السؤال أو الالتماس ؟

یمکن أن یقال بدواً إنه یمکن الاکتفاء بشاهد الحال لأن عمدة ما استُدلّ به علی عدم استقلال الحاکم بتحلیف المنکر وأنه لا بد من موافقة المدّعی هی معتبرة ابن أبی یعفور ومن الواضح أن الشرط المعتبر - بناءً علی التقریبات السابقة - هو رضا المدّعی بیمین المنکر وهذا الشرط کما یمکن إحرازه بالتصریح کذلک یمکن استکشافه من شاهد الحال إذ لا فرق بین کاشف وکاشف .

ولکن بالرغم من هذا فقد ذکر الشیخ الأنصاری (قده) فی قضائه أن ظاهر النصّ والإجماع علی العدم (1) ولعل مقصوده بالنصّ هو النصوص الواردة فی استحلاف المدّعی من قبیل روایة النخعی حیث ورد فیها : (إن استحلفه) وروایة عبد الله بن وضّاح التی ورد فیها : (فأحلفته) فإن المراد بالاستحلاف والإحلاف طلب الحلف کما أن معقد الإجماع علی المطالبة والسؤال والالتماس وهی (2) ظاهرة فی أنه لا بد من التصریح وعدم کفایة شاهد الحال لعدم صدق طلب الیمین علیه (3) .. مضافاً إلی ما یُلاحظ من کلمات الفقهاء (رض) حیث ورد فیها التعبیر بالسؤال والمطالبة کما عن المحقق فی الشرایع حیث یقول : (ولا یحلف المُدّعی علیه إلا بعد سؤال المدّعی لأنه حقّ له فیتوقف استیفاؤه علی المطالبة) ، وعن العلامة فی القواعد حیث یقول : (فإن طلب إحلافه أحلفه الحاکم ولا یتبرع الحاکم بإحلافه) فهذه العبائر واردة بالسؤال والإحلاف وظاهرهما عدم الاکتفاء بشاهد الحال .

ص: 479


1- (1) أی علی عدم الاکتفاء بشاهد الحال وأنه لا بد من الطلب والسؤال .
2- (2) أی هذه التعبیرات أعنی المطالبة والسؤال والالتماس .
3- (3) أی علی شاهد الحال .

ولکن یمکن أن یقال إنه یمکن حمل ما ورد فی النصوص وکلمات الفقهاء (رض) من التعبیر بالاستحلاف والإحلاف (1) أو المطالبة والسؤال (2) علی أنها واردة من باب المثال باعتبار أن الطریق المتعارف لاستکشاف رضا المدّعی یکون بالتصریح بالطلب والسؤال ولیست هناک خصوصیة لهما بما هما طلب وسؤال فی أنفسهما بل بما هما طریق لمعرفة رضا المدّعی بحلف المنکر فالمناط إذاً علی الرضا بل فی بعض الروایات التصریح به کما فی ذیل روایة ابن وضّاح حیث یقول الإمام (علیه السلام) : (ولولا أنک رضیت بیمینه فحلّفته) فإن الذی یُفهم من هذه العبارة أن المناط علی الرضا الذی یُبرَز عادة بالطلب والسؤال .

وعلی ذلک (3) فلا موجب لرفع الید عن ظهور المعتبرة (4) فی أن المعتبر هو رضا المدّعی وهو مما لا یفرّق فیه بین کاشف وکاشف .

هذا .. ولکن استشکل فی الجواهر فی الاکتفاء بشاهد الحال من جهة أخری وحاصلها : أن ظاهر النصوص - بما فی ذلک المعتبرة - هو اشتراط الرضا فلا بد من إحرازه حتی یترتب الأثر علی یمین المنکر وإحرازه لا یتم بشاهد الحال لأنه لا یفید إلا الظن .

وأقول : لا إشکال فی عدم الاعتبار بشاهد الحال حینما لا یکون مفیداً إلا الظن وإنما یعتبر الاکتفاء به حینما یکون مفیداً للعلم حیث یُحرَز به الشرط المعتبر فی ترتب الأثر علی یمین المنکر وهو رضا المدّعی فمن ذهب إلی الاکتفاء بشاهد الحال فإنما هو من حیث کونه مفیداً للعلم بتحقّق الشرط ، وأما دعوی أن شاهد الحال مطلقاً لا یفید إلا الظن فغیر مسلّمة .

ص: 480


1- (4) وقد تقدم ان المراد بهما طلب الحلف .
2- (5) یعنی طلب المدّعی من المنکر الحلف وسؤاله إیّاه ذلک .
3- (6) أی بعد إمکان حمل ما ورد فی النصوص علی المثالیة .
4- (7) أی معتبرة ابن أبی یعفور .

الفرع الرابع : فی أنه هل یکفی تحقق الیمین من المنکر بعد طلب المدّعی والحاکم فی ترتب الآثار من سقوط الحقّ وذهاب الدعوی أم یُعتبر انضمام حکم الحاکم إلیه ؟

وتظهر الثمرة فی ما لو فُرض عروض ما یمنع الحاکم من إصدار حکمه المستند إلی یمین المنکر الواجد للشرائط فهل یقال حینئذ بسقوط الحقّ والدعوی أم تتوقف القضیة إلی حین ارتفاع العارض وصدور الحکم من الحاکم ؟

جزم الشیخ صاحب الجواهر (قده) بالثانی وقال بعدم کفایة یمین المُدّعی علیه ولو کان واجداً للشرائط بل لا بد من انضمام حکم الحاکم إلیه بل نسب الاحتمال الآخر إلی کونه توهّماً من النصوص ودفعه بحملها (1) علی أنها فی مقام تعلیم الحاکم بأن یحکم بالبینة والیمین ولیست ظاهرة فی الاکتفاء بالیمین فی ترتب الأثر من دون حاجة إلی حکم الحاکم ، قال (قده) :

" ثم إنه قد یتوهم من ظاهر النصوص سقوط الدعوی بمجرد حصول الیمین من المنکر من غیر حاجة إلی إنشاء حکم من الحاکم بذلک لکن التحقیق خلافه ضرورة کون المراد من هذه النصوص وما شابهها تعلیم ما به یحکم الحاکم وإلا فلا بد من القضاء والفصل بعد ذلک کما أومأ إلیه بقوله (صلی الله علیه وآله) : (إنما أقضی بینکم بالبیّنات والأیمان) بل لو أخذ بظاهر هذه النصوص وشبهها لم یحتج إلی إنشاء الحکومة من الحاکم مطلقاً ضرورة ظهورها (2) فی سقوط دعوی المدّعی وثبوت الحقّ بالبیّنة ونحوها " (3) .

ص: 481


1- (8) أی دفع التوهّم بحمل النصوص .
2- (9) أی النصوص .
3- (10) جواهر الکلام مج40 ص175 .

والظاهر أن مقصوده (قده) بهذه العبارة الاستدلال علی مدّعاه من التوقف علی حکم الحاکم بأمرین :

الأول : قوله (صلی الله علیه وآله) : (إنما أقضی بینکم بالبیّنات والأیمان) حیث فهم منه أن القضاء لا یکون إلا بالبیّنات والأیمان وهی إنما تنفع حینما یتعقّبها القضاء والحکم .

والثانی : عدم إمکان الالتزام بظاهر النصوص لأن ظاهرها ثبوت الحقّ بنفس البینة والیمین فإذا ثبت الحقّ بمجرد البینة التی یقیمها المدّعی أو الیمین الذی یصدر من المُدّعی علیه فلا تکون ثمة فائدة فی حکم الحاکم بل یُصبح حینئذ لاغیاً لأن المفروض انقطاع الدعوی بنفس البینة أو الیمین .

هذا ما یُستفاد من عبارته (قده) وتکملة الکلام فی ما بعد إن شاء الله تعالی .

المسألة العاشرة / الصورة الثالثة : سکوت المدعی علیه / فروع متعلقة بقضیة لزوم کون إحلاف الحاکم للمنکر بموافقة المدّعی وطلبه / الفرع الثانی : فی أن المُدّعی علیه لا یصح منه أن یتبرّع بالیمین من دون طلب من المدّعی / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) . بحث الفقه

(بحث یوم السبت 16 ربیع الثانی 1433 ه_ 92)

الموضوع :- المسألة العاشرة / الصورة الثالثة : سکوت المدعی علیه / فروع متعلقة بقضیة لزوم کون إحلاف الحاکم للمنکر بموافقة المدّعی وطلبه / الفرع الثانی : فی أن المُدّعی علیه لا یصح منه أن یتبرّع بالیمین من دون طلب من المدّعی / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) .

کان الکلام فی فروع متعلقة بقضیة لزوم کون إحلاف الحاکم للمنکر بموافقة المدّعی وطلبه وتقدم الکلام علی الفرع الرابع وهو فی کفایة تحقق الیمین من المنکر - بعد طلبه من المدّعی والحاکم -فی ترتب الآثار من سقوط الحقّ وذهاب الدعوی أم یُعتبر انضمام حکم الحاکم إلیه ؟

ص: 482

وقد تقدّم فی البحث السابق أنه یظهر من الشیخ صاحب الجواهر (قده) الجزم باشتراط الانضمام بمعنی أن مجرد یمین المنکر قبل حکم الحاکم لا یترتب علیه السقوط وغیره من الآثار وقد تقدّم نقل عبارته وقلنا إن الذی یُستفاد منها هو الاستدلال علی رأیه بأمرین :

الأول : قوله (صلی الله علیه وآله) : (إنما أقضی بینکم بالبیّنات والأیمان) حیث فهم منه أن القضاء لا یکون إلا بالبیّنات والأیمان وهما إنما ینفعان حینما یتعقّبهما القضاء والحکم فیُستفاد منه عدم ترتب الأثر علی الیمین إلا بعد حکم الحاکم .

ولکن یرد علیه أن غایة ما یُفهم من هذا الحدیث أن القضاء والحکم لا یکون إلا بالأیمان والبیّنات وأما أن الأثر لا یترتب علی الیمین قبل حکم الحاکم فهذا مما لا یکاد یُستفاد منه .

والثانی : عدم إمکان الالتزام بظاهر النصوص لأن ظاهرها ثبوت الحقّ بنفس البیّنة والیمین فإذا ثبت الحقّ بمجرد البیّنة التی یقیمها المدّعی أو الیمین الذی یصدر من المُدّعی علیه فلا تکون ثمة فائدة فی حکم الحاکم بل یُصبح حینئذ لاغیاً لأن المفروض انقطاع الدعوی بنفس البیّنة أو الیمین وعلی ذلک فلا بد من حمل النصوص علی محمل آخر وهو أنها بصدد تعلیم الحاکم ما یحکم به من البیّنات والأیمان .

ولکن یمکن التأمل فی ما ذُکر بأن یقال إنه حتی مع الالتزام بأن یمین المنکر یکون مسقطاً للحقّ فهناک ثمرة تترتب علی حکم الحاکم وهی توفّر عنصر الإلزام فإن حکم الحاکم یکون مُلزِماً للجمیع سواء أکانوا أطرافاً فی الدعوی أم لم یکونوا کالقضاة الآخرین فی ما لو أراد المدّعی الترافع إلی أحدهم فی حین أن یمین المنکر لو فُرض سقوط الحقّ به اجتهاداً من المنکر أو تقلیداً - فلیس فیه عنصر الإلزام لاسیما إذا فرضنا أن المدّعی کان لا یری ذلک (1) - اجتهاداً أو تقلیداً - فإنه لو اقتصرنا علی یمین المنکر فلا یکون ثمة مُلزِم للمدّعی فی أن یلتزم بسقوط حقّه بمجرد هذه الیمین بخلاف ما لو انضم إلیها حکم الحاکم فإنه یکون ملزماً للجمیع وإن فُرض أنهم کانوا لا یرون ذلک اجتهاداً أو تقلیداً وذلک لأن لحکم الحاکم موضوعیة تؤثّر فی إلزام الکلّ بمفاد الحکم وحینئذ یظهر أنه لا معنی للقول بأن الحقّ إذا سقط بالیمین أو ثبت بالبیّنة فلا فائدة من حکم الحاکم .

ص: 483


1- (1) أی سقوط الحقّ بمجرّد یمین المنکر .

وهذه المسألة هی فی الحقیقة مسألة سیّالة وکان ینبغی بحثها فی ما تقدّم فی باب الإقرار بأن یقال إنه هل یکفی الإقرار فی سقوط الحقّ أو لا بد من حکم الحاکم وکذا فی باب البیّنة بأن یقال إنه هل تکفی البیّنة فی سقوط الحق أو لا بد من انضمام حکم الحاکم إلیها وکذلک یقال نظیر ذلک فی المقام، وفقهاؤنا الأعلام (قدهم) بحثوا هذه المسألة فی باب الإقرار ویظهر من کلماتهم هناک أن الإقرار یکون موجباً لثبوت الحقّ وترتّب الآثار فیجوز للمدّعی المطالبة والتقاصّ بلا توقف علی حکم الحاکم بخلاف البیّنة حیث قالوا بعدم ثبوت الحقّ بها وعدم ترتّب الآثار علیها من دون حکم الحاکم ففرّقوا بینهما .

هذا .. وقد ذُکرت وجوه عدیدة فی بیان الفرق بین الإقرار والبیّنة :

منها : ما أشار إلیه الشهید الثانی (قده) (1) من تعلیل الفرق بینهما بأن البیّنة منوطة باجتهاد الحاکم حیث یُعمل نظره فیقبلها أو یردّها وغیر الحاکم غیر قادر علی العمل بها لعدم قدرته علی إحراز وجود شرائطها وارتفاع موانعها لفقده للاجتهاد اللازم له (2) بخلاف الإقرار فإن غیر الحاکم قادر علی العمل به لعدم افتقاره إلی الاجتهاد فلا یکون العمل به ولا تحقق آثاره متوقفاً علی حکم الحاکم .

واعتُرض علیه :

أولاً : بالنقض بالبیّنة فی غیر مقام الخصومة کالبیّنة علی الطهارة أو النجاسة إذ ظاهرهم الاتفاق علی جواز العمل بها لکل من قامت عنده فی هذه الموارد من دون افتراض التوقف علی حکم الحاکم، ومن الواضح أن شرائط البیّنة وموانعها لا تختلف فی هذا المورد عمّا هی علیه فی محل الکلام ، وهذا یعنی أن غیر الحاکم یمکنه إحراز شرائط العمل بالبیّنة وإحراز ارتفاع الموانع التی تمنع من العمل بها فأیّ فرق بین البیّنة والإقرار حینئذ .

ص: 484


1- (2) المسالک مج13 ص442 .
2- (3) أی لإحراز وجود شرائط البیّنة وارتفاع موانعها .

وثانیاً : بالنقض بنفس الإقرار حیث إن له شرائط وموانع أیضاً مبحوثة فی کتاب الإقرار - فإذا التُزم فی البیّنة بأن إحراز شرائطها وارتفاع موانعها لا یکون إلا بالاجتهاد فلیکن الإقرار أیضاً کذلک إذ لا فرق بینهما من هذه الجهة وبالتالی لا یمکن التفریق بینهما علی هذا الأساس .. مضافاً إلی أنه یمکن أن نفترض إحراز توفّر شرائط العمل بالبیّنة وارتفاع الموانع بنظر الحاکم نفسه فهل یُلتزم حینئذ بلزوم الاحتیاج إلی حکم الحاکم فی هذه الحالة حتی بالنسبة إلی الحاکم نفسه !! لا جرم أن دعوی الاحتیاج لا تخلو من مجازفة .

ومنها : ما یُستفاد من کلمات الشیخ صاحب الجواهر (قده) والشیخ الأنصاری (رض) (1) مما حاصله :

أن الإقرار بنفسه یفصل الخصومة وینهی النزاع ولذلک لا یکون العمل به رفعاً للخصومة حتی یقال بأن رفع الخصومة مختص بالحاکم بل إنه بمجرد أن یقرّ المقرّ ترتفع الخصومة تلقائیاً ومعه لا وجه لحکم الحاکم لأن المطلوب منه إنما هو رفع الخصومة وحلّ النزاع فإذا حصلا بسبب معیّن فلا حاجة له حینئذ ، وهذا بخلاف الحال مع البیّنة فإنه لا توجب بنفسها رفع الخصومة وفضّ النزاع وإنما هی تکون مستنداً للحاکم فی حکمه المحقِّق لذلک (2) .

ولکن اعتُرض علیه بأنه لا إشکال عند فقهائنا (رض) فی صحة حکم الحاکم مع الإقرار بل إن ظاهرهم وجوب الحکم علی الحاکم بعد صدور الإقرار من المنکر إذا طلبه المدّعی بل لزوم کتابة الإقرار بعده أیضاً إذا طلبها المدّعی وهذا لا یکاد یجتمع مع القول بأن الإقرار یُنهی الخصومة فإنه لو کان الأمر کذلک لم یکن ثمة مجال لصدور الحکم وکتابته بعد الإقرار .

ص: 485


1- (4) کتاب القضاء باب الإقرار .
2- (5) أی لرفع الخصومة وحلّ النزاع .

ومن هنا فإن المسألة لا تخلو من اختلال ولأجل هذا ذهب جماعة آخرون من فقهائنا إلی عدم التفصیل بین البیّنة والإقرار وإن کانوا قد اختلفوا علی رأیین فقال بعضهم بعدم الفرق فی ثبوت الحقّ وجواز العمل بهما (1) لکل أحد بقطع النظر عن حکم الحاکم ، وقال آخرون بالمنع من ذلک (2) قبل حکم الحاکم .

والظاهر أن مبنی الرأی الأول (3) - بعد وضوح ثبوت الحقّ بالإقرار وجواز العمل به لکل أحد بلا توقف علی حکم الحاکم - هو عموم أدلة البیّنة وحجیتها فی إثبات مفادها لکل أحد ولا مبرّر لتخصیصها بشخص دون آخر ولا بمورد دون آخر فلو قامت البیّنة علی الطهارة أو النجاسة فیلزم العمل بها لکل من قامت عنده فلا فرق بین هذا المورد وما هو محل الکلام من إثبات الحقّ أو نفیه بها فإن عموم أدلتها یمنع من تخصیصها بمورد دون آخر فلا یکون حینئذ فرق بینها وبین الإقرار .

فظهر من هذا البیان أن إلغاء الفرق بین البابین یبتنی علی الالتزام بعموم أدلة البیّنة حتی لمحلّ الکلام ، وأما إذا استُشکِل فی ذلک مطلقاً أو بالنسبة إلی خصوص ما نحن فیه فیتّجه التفریق بینهما فیُلتزم حینئذ بشمول الإقرار لمحلّ الکلام لعموم أدلته وعدم شمول البیّنة له للاستشکال فی عموم أدلتها بحسب الفرض .

وأما الرأی الثانی فهو مبنی علی الاستناد إلی روایات مطلقة تقدّم ذکرها تدل علی أن الفصل فی الخصومات سواء کان بالبیّنة أو بالإقرار مختص بالحاکم ولیس ثمة فرق بینهما فی عدم جواز الاستناد إلیهما لکل أحد فی ذلک .

ص: 486


1- (6) أی بالإقرار وبالبینة .
2- (7) أی من ثبوت الحقّ بهما وجواز العمل بهما قبل حکم الحاکم .
3- (8) القائل بعدم الفرق بین البیّنة والإقرار فی ثبوت الحقّ وجواز العمل بهما لکل أحد بقطع النظر عن حکم الحاکم .

ولکن لا یخلو ما ذکرناه مما نقلناه عن علمائنا (رض) من نظر إذ الظاهر منه وجود خلط بین مقامین فإن ما نحن فیه قد طُرح أساساً فی ثبوت الحقّ وعدمه بالبیّنة أو بالإقرار بقطع النظر عن حکم الحاکم لا فی فصل الخصومة بهما الذی یترتّب علیه إنهاء الدعوی وعدم جواز المطالبة والتقاصّ أو إقامتها مجدّداً ولو عند حاکم آخر .

وهذا إذا أُخِذ بنظر الاعتبار فلعله یمکن الجمع بین هذه الکلمات التی یتراءی منها أنها متنافیة أو متعارضة .. وللکلام تتمة ستأتی إن شاء الله تعالی .

المسألة العاشرة / الصورة الثالثة : سکوت المدعی علیه / فروع متعلقة بقضیة لزوم کون إحلاف الحاکم للمنکر بموافقة المدّعی وطلبه / الفرع الثانی / فی الاحتیاج إلی حکم الحاکم فی ترتب الآثار علی یمین المنکر الجامع للشرائط المعتبرة / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) بحث الفقه

(بحث یوم الأحد 17 ربیع الثانی 1433 ه_ 93)

الموضوع :- المسألة العاشرة / الصورة الثالثة : سکوت المدعی علیه / فروع متعلقة بقضیة لزوم کون إحلاف الحاکم للمنکر بموافقة المدّعی وطلبه / الفرع الثانی / فی الاحتیاج إلی حکم الحاکم فی ترتب الآثار علی یمین المنکر الجامع للشرائط المعتبرة / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) .

کان الکلام فی مسألة الاحتیاج إلی حکم الحاکم فی ترتب الآثار علی یمین المنکر الجامع للشرائط المعتبرة وذکرنا کلمات بعض فقهائنا (رض) مما یتبیّن وقوع الخلط فی هذه المسألة بین مقامین تقدّمت الإشارة إلیهما ، والصحیح فی هذه المسألة أن یقال :

إن قضیة الاحتیاج إلی حکم الحاکم یمکن فرضها علی وجهین :

ص: 487

الأول : الاحتیاج إلی حکم الحاکم بالإضافة إلی البیّنة والإقرار .

الثانی : الاحتیاج إلی حکم الحاکم بالإضافة إلی الیمین .

وفی الوجه الأول ذکرنا أنهم قد اختلفوا فیه فهناک من ساوی بین البیّنة والإقرار وهناک من فرّق بینهما، والصحیح هنا أن یقال إنه تارة یقع الکلام فی ثبوت الحقّ بالبیّنة والإقرار بقطع النظر عن مقام المخاصمة وأخری فی ثبوت الحقّ بهما فی مقام المخاصمة .

وبعبارة أخری : إن الکلام یقع فی صورتین رئیستین :

الأولی : فی أن البیّنة هل یمکن العمل بها لغیر الحاکم ومن دون فرض حکم الحاکم فی غیر باب الخصومة .

والثانیة : فی إمکان العمل بالبیّنة لغیر الحاکم ومن دون فرض حکم الحاکم فی مقام الخصومة .

والصورة الأولی لا تدخل فی محل الکلام إذ لا إشکال فی أن البیّنة یصح العمل بها فی غیر مقام الخصومة بل هو مورد اتّفاق بینهم حیث یعملون بها فی باب الطهارة والنجاسة وفی الأمور الوضعیة کالزوجیة والملکیة وفی باب الاعتداد وغیر ذلک فلا یُشترط فی العمل بالبیّنة فی تلک الموارد حکم الحاکم ، وهذا الاتفاق یکشف عن أن أدلة حجیة البیّنة عامة لیست مختصة بخصوص باب المخاصمة فالبیّنة حجة مطلقاً وهذا لیس هو محل الکلام والنزاع ، وإنما الکلام یقع فی الصورة الثانیة أی فی إمکان الاعتماد علی البیّنة لغیر الحاکم فی مقام الخصومة ، ویمکن أن یُتصوَّر لهذه الصورة أنحاء ثلاثة :

النحو الأول : أن یُفترض کون العمل بالبیّنة فی مقام الخصومة لأجل ترتیب أثر شرعی لا علاقة له بباب الخصومة کما لو فرضنا أنه تخاصم زید وعمرو علی دار وکانت الدار بید عمرو وشهدت البیّنة أنها لزید وجاء شخص ثالث یرید أن یصلی فی الدار وأذن له زید - الذی شهدت البیّنة علی أن الدار له - فهل یمکن لهذا الشخص أن یعمل بهذه البیّنة ویرتب الأثر علیها بحیث یثبت له إباحة المکان وجواز الصلاة فیه ؟

ص: 488

الظاهر أنه لا خلاف بینهم فی جوازه لعدم کونه مشمولاً للأدلة المانعة من العمل بالبیّنة لغیر الحاکم فینبغی إلحاق هذا النحو بالصورة الأولی التی هی خارجة عن محل الکلام .

النحو الثانی : أن یُفترض کون العمل بالبیّنة فی مقام الخصومة لأجل الحکم وفصل الدعوی بالمعنی المطروح فی باب القضاء (1) .

والظاهر أنه لا إشکال فی عدم جوازه إلا للحاکم ، وهذا خارج أیضاً عن محلّ الکلام .

النحو الثالث : أن یُفترض کون العمل بالبیّنة فی مقام الخصومة لأجل حلّ الخصومة ولکن لیس بالمعنی المطروح فی باب القضاء کما لو اتّفق المتنازعان فی بینهما علی الاعتماد علی البیّنة لحلّ نزاعهما فهنا یقال هل أن أدلة حجیة البیّنة تشمل هذا النحو أم لا ؟

وهذا هو محل الکلام ، وفیه اتّجاهان :

الأول : الجواز بدعوی عموم أدلة البیّنة حتی لهذا النحو فلا یتوقف العمل بالبیّنة هاهنا علی حکم الحاکم بل هو جائز لغیر الحاکم أیضاً ولا ضیر فی الاعتماد علی البیّنة لحلّ النزاع لا بالمعنی المطروح فی باب القضاء .

وهذا النحو نظیر النحو الأول المتقدّم - وهو العمل بالبیّنة لغرض ترتیب أثر شرعی - .

الثانی : عدم الجواز بدعوی دلالة الأدلة علی أن العمل بالبیّنة لفصل النزاع وحلّ الخصومات مختص بالحاکم ، فلا یجوز العمل بها فی محل الکلام لأنه یراد بها حلّ الخصومة وفضّ النزاع .

ص: 489


1- (1) وهو أن یکون حکم الحاکم ملزماً لجمیع الأطراف ویترتب علیه عدم جواز إقامة الدعوی مجدداً ولو عند حاکم آخر کما لا یجوز لحاکم آخر أن ینظر فی هذه الدعوی وإن رُفعت إلیه باعتبار أن مفاد أدلة القضاء أن القضاء هو الفیصل فی إنهاء الخصومة والنزاع .

وهذا الرأی الثانی هو الأقرب لأدلة فصل الخصومة فإنها من وظائف الحاکم التی وُضعت له طرق لحلّ الخصومات وإحداها البیّنة فإن المتحصّل من هذه الأدلة أن الاستناد إلی البیّنة لأجل فصل الخصومة أمر مختص بالحاکم ولا یجوز لغیره .

وبناء علی ذلک یمکن حینئذ تصحیح ما تقدّم من التفریق بین البیّنة والإقرار من جهة أن الإقرار - کما تقدّم نقله عن بعض الفقهاء (رض) - هو بنفسه یحلّ الخصومة لا أن العمل به یُنهی النزاع وفرقٌ بین الأمرین ، ولا ضیر فی انضمام حکم الحاکم إلیه لغرض إلزام الأطراف بمضمونه (1) بخلاف ما لو لم ینضمّ إلیه فإنه وإن کان قاطعاً للدعوی وحاسماً للنزاع إلا أنه لا ضمان بدون حکم الحاکم من أن یتنصّل المقرّ عن لوازم إقراره ، وأما البیّنة فلأجل قیام الأدلة علی أن العمل بها مختصّ بالحاکم فلا تکون بنفسها قاطعةً للدعوی وحاسمة للنزاع من دون حکمه .

هذا کله فی ما یتعلّق بالوجه الأول من الاحتیاج إلی حکم الحاکم بالإضافة إلی البیّنة والإقرار.

وأما فی ما یتعلّق بالوجه الثانی وهو محل الکلام من أن یمین المنکر الجامع للشرائط هل یترتب علیه الاثر بمجرده أو أنه یتوقف علی حکم الحاکم فقد ذکرنا أن الشیخ صاحب الجواهر (قده) کان مصرّاً علی القول بالتوقف وفی مقابله قول بأن العمل بالیمین لا یتوقف علی حکم الحاکم لأن للیمین خصوصیة من جهة أن ظاهر الروایات أن الحقّ یسقط بالیمین وأن الیمین تذهب بالدعوی فی ما إذا کانت جامعة لشرائطها فلا یتوقف ترتّب الأثر علیها علی حکم الحاکم فیتبیّن من هذا أن للیمین خصوصیة تختلف بها عن البیّنة .

ص: 490


1- (2) أی مضمون الإقرار .

وهذا فی الحقیقة یحتاج إلی مراجعة تلک الروایات للتأمل فی مفادها وسیأتی إن شاء الله تعالی .

المسألة العاشرة / الصورة الثالثة : سکوت المدعی علیه / فروع متعلقة بقضیة لزوم کون إحلاف الحاکم للمنکر بموافقة المدّعی وطلبه / حال البیّنة والإقرار والیمین من حیث صحة الاستناد إلیها من دون حکم الحاکم فی سقوط الدعوی / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) بحث الفقه

(بحث یوم الاثنین 18 ربیع الثانی 1433 ه_ 94)

الموضوع :- المسألة العاشرة / الصورة الثالثة : سکوت المدعی علیه / فروع متعلقة بقضیة لزوم کون إحلاف الحاکم للمنکر بموافقة المدّعی وطلبه / حال البیّنة والإقرار والیمین من حیث صحة الاستناد إلیها من دون حکم الحاکم فی سقوط الدعوی / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) .

تبیّن مما تقدّم أن الأقرب عدم جواز العمل بالبیّنة لغیر الحاکم لأجل فصل الخصومة ولو بمعزل عن عنوان الحکومة الاصطلاحیة وأن العمل بها إنما یجوز لأجل ترتیب الآثار التی لا علاقة لها بفصل الخصومة کباب الطهارة والنجاسة وباب الأمور الوضعیة کالزوجیة والملکیة ونحو ذلک بل یمکن أن یقال إن الإقرار أیضاً کذلک بمعنی أن العمل به لأجل القضاء وفصل النزاع فصلاً شرعیاً قضائیاً مختص أیضاً بالحاکم ولا یجوز لغیره أن یستند إلی الإقرار فی الفصل القضائی بالمعنی الاصطلاحی وإنما یفترق الإقرار عن البیّنة فی صورة فصل الخصومة بالتوافق أی لا علی أساس الحکومة الاصطلاحیة فیجوز فی الإقرار دون البیّنة ، وقلنا إن الظاهر من الأدلة أن البیّنة طریق شرعی جعله الشارع المقدّس للحاکم فی مقام فصل الخصومة فمن المشکل جداً تعمیمها للفصل بین المتنازعین علی سبیل التوافق خارج إطار المحاکمة .

ص: 491

وأما الإقرار فالحال فیه یختلف فإن الإقرار لمّا کان بنفسه یُنهی الخصومة ویرفع موضوعها من رأس - لا أن العمل به والاستناد إلیه یکون منهیاً لها حتی یقال بأن هذا أیضاً عمل بطریق شرعی لإنهاء الخصومة فیختص بالحاکم - جاز العمل به فی صورة فصل الخصومة بالتوافق ، نعم .. الاستناد إلیه فی الحکم والقضاء بالمعنی المصطلح لا یکون جائزاً لغیر الحاکم کما قلنا بذلک فی باب البیّنة .

هذا حال البیّنة وحال الإقرار وتبیّن أن الاقرب هو التفریق بینهما باللحاظ المتقدّم .

وأما الیمین فیختلف حاله عنهما فإن ظاهر النصوص والفتاوی أن الأثر من سقوط الدعوی والحقّ یترتب علی مجرّد الیمین ولا یتوقف علی حکم الحاکم .

وأهمّ النصوص التی ظاهرها ذلک روایتان :

الأولی : معتبرة ابن أبی یعفور التی استندنا إلیها فی جملة من الأحکام المتقدّمة ففیها یقول الإمام (علیه السلام) : " إذا رضی صاحب الحقّ بیمین المنکر لحقّه فاستحلفه (1) فحلف أن لا حقّ له قبله ذهبت الیمین بحقّ المدّعی فلا دعوی له " (2) .

فإن ظاهر هذه المعتبرة أن ذهاب الدعوی وسقوطها یترتب علی مجرد یمین المنکر وهذا فی الحقیقة تمسّک بالإطلاق (3) فإن مقتضاه أنه یترتب علیه مطلقاً (4) وهذا معناه أن سقوط الحقّ وذهاب الدعوی یترتب علی یمین المنکر وإن لم ینضم إلیه حکم الحاکم وهذا هو المطلوب فی المقام .

ص: 492


1- (1) أی استحلف المدّعی المنکر أو طلب من الحاکم إحلافه .
2- (2) الکافی مج7 ص417 .
3- (3) أی إطلاق ترتب ذهاب الحقّ علی یمین المنکر .
4- (4) أی سواء انضم إلیه حکم الحاکم أو لم ینضم إلیه .

الثانیة : صحیحة سلیمان بن خالد : " قال : سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن رجل وقع لی عنده مال فکابرنی علیه وحلف ثم وقع له عندی مال فآخذه مکان مالی الذی أخذه وأجحده وأحلِفُ علیه کما صنع ؟ فقال : إن خانک فلا تخنه ولا تدخل فی ما عبته علیه " (1) .

فالإمام (علیه السلام) یُعبّر فی هذه الروایة عن أخذ المال بعد الیمین بالخیانة وهو ظاهر فی سقوط الحقّ بالیمین .

وهذه الصحیحة وإن کانت معارضة بمعتبرة الحضرمی التی ورد فیها : " رجل لی علیه دراهم فجحدنی وحلف علیها أیجوز لی إن وقع له قبلی دراهم أن آخذ منه بقدر حقی ؟ قال فقال : نعم " (2) فإن ظاهر هذه المعتبرة جواز التقاصّ بعد الحلف وهو یعارض ما دلّت علیه صحیحة سلیمان من النهی عن الأخذ بعد الیمین ولکن یرتفع التعارض بینهما بحمل الحلف فی المعتبرة علی الحلف التبرّعی فلا یسقط به الحقّ ولذا حکم الإمام (علیه السلام) بجواز التقاصّ بعده وحمل الحلف فی الصحیحة علی الحلف بعد الاستحلاف فتکون هذه الصحیحة دلیلاً علی أن الحلف بعد الاستحلاف الواجد للشرائط یکون موجباً لسقوط الحقّ ولذا لم یجوّز الإمام (علیه السلام) له التقاصّ بعده .

ویؤیّد هذا المعنی (3) بعض الروایات الأخری التی وإن کانت ضعیفة السند إلا أن لها ظهوراً فی المعنی المتقدّم :

ص: 493


1- (5) الکافی مج5 ص98 .
2- (6) التهذیب مج6 ص348 .
3- (7) أی فی سقوط الحقّ بمجرّد الیمین وعدم توقّفه علی حکم الحاکم .

منها : مرسلة الصدوق : " من حلف لکم بالله علی حقّ فصدّقوه ومن سألکم بالله فأعطوه ذهبت الیمین بدعوی المدّعی ولا دعوی له " (1) .

فإنها ظاهرة أیضاً فی أن الیمین بما هی یمین توجب ذهاب الدعوی فلا دعوی للمدّعی بعدها وهذا یعنی أن جمیع الآثار التی تترتب علی الدعوی لا تترتب فی المقام فلا تجوز له المطالبة بالمال ولا إقامة الدعوی عند حاکم آخر إلی غیر ذلک من الآثار .

ومنها : روایة النخعی : " قال : الرجل یکون له علی الرجل المال فیجحده ، قال : إن استحلفه فلیس له أن یأخذ شیئاً وإن ترکه ولم یستحلفه فهو علی حقّه " (2) .

وظاهرها أن سقوط الحقّ یترتب علی یمین المنکر ومقتضی إطلاقها أنه یترتب علیه مطلقاً وإن لم ینضم إلیه حکم الحاکم .

ومنها : روایة ابن وضّاح : " قال : کانت بینی وبین رجل من الیهود معاملة فخاننی بألف درهم فقدّمته إلی الوالی فأحلفته فحلف وقد علمت أنه حلف یمیناً فاجرة فوقع له بعد ذلک عندی أرباح ودراهم کثیرة فأردت أن اقتصّ الألف درهم .. فکتب (علیه السلام) : لا تأخذ منه شیئاً إن کان قد ظلمک فلا تظلمه ولولا أنک رضیت بیمینه فحلّفته لأمرتک أن تأخذها من تحت یدک ولکنک رضیت بیمینه فقد مضت الیمین بما فیها .. " (3) .

وهی واضحة فی أن سقوط الحقّ الذی ترتب علیه الحکم بعدم جواز التقاصّ إنما ترتب علی یمین المنکر ولیس فی الروایة ما یشیر إلی اعتبار حکم الحاکم بل مقتضی إطلاقها أن سقوط الحقّ یترتب علی یمین المنکر مطلقاً .

ص: 494


1- (8) الفقیه مج3 ص63 .
2- (9) الکافی مج7 ص418 .
3- (10) الکافی مج7 ص431 .

ومنها : روایة عبد الرحمن بن أبی عبد الله : " قلت للشیخ (علیه السلام) : خبّرنی عن الرجل یدّعی قِبَل الرجل الحقّ فلا یکون له بینة بما له ، قال : فیمین المدعی علیه فإن حلف فلا حق له " (1) .

وهذه الروایة ظاهرة أیضاً فی أنه لا یتوقف سقوط الحقّ علی حکم الحاکم بل علی مجرد یمین المُدّعی علیه .

فظهر ممّا تقدم أنه لا یوجد فی شیء من النصوص ما یشیر إلی اعتبار حکم الحاکم .

ولکن بالرغم من ذلک فإن جماعة من الفقهاء (رض) خالفوا فی ذلک واشترطوا لذهاب الدعوی بالیمین وسقوط الحقّ به حکم الحاکم منهم الشیخ صاحب الجواهر (قده) - کما تقدّم - حیث جزم بأن الیمین وحده لا یکفی لإسقاط الدعوی بل لا بد من انضمام حکم الحاکم إلیه وقد ذکر دلیلاً تأمّلنا فیه سابقاً .

ثم إن الشیخ الأنصاری (قده) استشکل فی التمسّک بإطلاق الروایات القاضیة بعدم التوقف علی حکم الحاکم بعد أن اعترف بأن ظاهرها ذلک وقد ذکر ما یمنعه من الالتزام بمفادها من عدم التوقف حیث قال : " لأن الاطلاقات مسوقة لبیان أسباب الحکم لا أسباب نفس قطع الدعوی " (2) .

ومقصوده (قده) إن التمسّک بإطلاق الروایات ممنوع لأنها لیست مسوقة لبیان ما یتحقق به قطع الدعوی حتی یقال إنها فی مقام البیان من هذه الجهة فإذا ذکرت الیمین وسکتت عن حکم الحاکم فمقتضی الإطلاق المقامی أن حکم الحاکم لیس دخیلاً فی سقوط الدعوی بعد الیمین وإنما هی مسوقة لبیان أسباب الحکم التی منها الیمین .

ص: 495


1- (11) الکافی مج7 ص416 .
2- (12) القضاء والشهادات ص211 .

ولکن یمکن التأمل فی ما ذکره (قده) وإثبات نظر الروایات إلی بیان ما یتحقق به قطع الدعوی فإن عمدتها کما تقدّم - معتبرة ابن أبی یعفور وقد ذُکر فیها شرط هو : (إذا رضی صاحب الحقّ بیمین المنکر لحقّه فأحلفه فحلف أن لا حقّ له قبله) وجواب هو : (ذهبت الیمین بحقّ المدّعی ولا دعوی له) وظاهر هذه العبارة أنها مسوقة لبیان ما تسقط به الدعوی ویتحقق به قطعها فلیست قضیة ذهاب الدعوی مسوقة عرضاً حتی یُدّعی أن الروایة لیست فی مقام البیان من هذه الجهة بل الکلام أساساً کان مسوقاً لأجلها فإنها وقعت جواباً للشرط لا أنها ذُکرت کمتعلق من متعلقاته وحالها فی ذلک حال قوله (علیه السلام) : (إذا خفی الأذان فقصّر) حیث لم یستشکل أحد فی التمسّک بإطلاق ترتب الجزاء علی الشرط فی کفایة مجرد خفاء الأذان فی التقصیر وعدم توقفه علی شیء آخر ، والاستدلال بالروایة کان علی هذا الاساس فإنه حیث لم یُذکر مع الیمین حکم الحاکم فمقتضی إطلاق ترتب ذهاب الدعوی علی الیمین الذی یرضی به المستحلِف بالشرائط المعتبرة أن حکم الحاکم غیر معتبر فی إسقاط الحقّ .

والحاصل أن الاستشکال فی الإطلاق لا یبدو وجیهاً .

وکیف کان فالذی یظهر من بعض الفقهاء (رض) کالمحقق الأردبیلی المفروغیة عن عدم التوقف علی حکم الحاکم فی باب الیمین حیث ذکر فی مقام الاستدلال علی عدم احتیاج ثبوت الحقّ بالیمین المردودة (1) إلی حکم الحاکم ما نصّه : (ولأن سقوط الدعوی بیمینه (2) لا یحتاج إلی حکم الحاکم فکذا یمین المدّعی فإنها لیست بأضعف من ذلک بل أقوی) (3) فاستدلّ علی عدم الاحتیاج إلی حکم الحاکم فی ثبوت الحقّ بیمین المدّعی المردودة بأن یمین المنکر فی إسقاط الحقّ لا تتوقف علی حکم الحاکم فیظهر أن هذه القضیة مفروغ عنها عنده (قده) حتی تأتّی له أن یستدلّ بها فی محل الکلام .

ص: 496


1- (13) وهی الیمین التی یردّها المنکر علی المدّعی (منه دامت برکاته) .
2- (14) أی المنکر .
3- (15) مجمع الفائدة والبرهان مج12 ص140 .

هذا .. واحتمل السید صاحب العروة (قده) فی ملحقاتها تعمیم عدم التوقف إلی الإقرار بل ترقّی واحتمل التعمیم إلی البیّنة ثم قال : (والإنصاف أنه (1) لیس کلّ البعید (2) إن لم یکن الإجماع علی خلافه) (3) ، ولکن الظاهر أنه لیس ثمة إجماع بل مقتضی إطلاق عبارات الفقهاء (رض) کقولهم : (بالیمین تسقط الدعوی) هو عدم التوقف علی حکم الحاکم .

تکملة المسألة السادسة عشر / التعمیم الأول للمسألة : تعمیم الحکم والاستثناء لما إذا ادّعی المدّعی الحقّ لغیره والاستدلال علیه / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) بحث الفقه

(بحث یوم الأربعاء 10 جمادی الثانیة 1433 ه_ 125)

الموضوع :- تکملة المسألة السادسة عشر / التعمیم الأول للمسألة : تعمیم الحکم والاستثناء لما إذا ادّعی المدّعی الحقّ لغیره والاستدلال علیه / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) .

کان الکلام فی المسألة السادسة عشر وتقدّم أن فیها تعمیمین کان أوّلهما تعمیم الحکم والاستثناء لما إذا ادّعی المدّعی الحقّ لغیره وعدم اختصاصه بما إذا ادّعاه لنفسه فیقال حینئذ أنه إذا ادّعاه لمورّثه أو لموکّله أو لمن هو مولّی علیه أو لمن هو وصیّ علیه فیُستثنی ذلک من الحکم بالاکتفاء بالبیّنة فلا تقبل دعواه ولا یثبت الحق المدّعی إلا بانضمام یمینه إلی البیّنة .

واستدل علی ذلک بالإطلاق من جهة أن الوارد فی النص هو عنوان : (الرجل الذی یدّعی قِبَل الرجل الحقّ) وهذا العنوان کما یشمل المدّعی لنفسه یشمل أیضاً المدّعی لغیره إذ یصدق علیه أنه رجل یدّعی قِبَل الرجل الحق فإذا کان المُدّعی علیه میتاً فحینئذ یثبت له هذا الحکم کما لو کان مدّعیاً لنفسه .

ص: 497


1- (16) أی عدم الاحتیاج وعدم التوقف علی حکم الحاکم .
2- (17) هکذا عبّر ومراده أنه لیس کل ذلک ببعید .
3- (18) العروة الوثقی مج6 ص505 .

ویشهد لهذا الإطلاق (1) أن المستفاد من النصوص أن ما یوجب ضم الیمین إلی البیّنة هو خصوصیة المُدّعی علیه وهی کونه میتاً لا خصوصیة المدّعی ککونه یدّعی لنفسه أی أن تمام الملاک فی هذا الاشتراط (2) ملحوظ فیه جانب المُدّعی علیه وهو کونه میتاً .

ویشهد لهذا الإطلاق أیضاً عموم التعلیل فی روایة البصری إذ لا ینبغی الإشکال فی أنه لا فرق بلحاظ العلة المذکورة بین من یدّعی الحق لنفسه ومن یدّعیه لغیره لأنها - کما تقدّم عبارة عن احتمال الوفاء مع عدم التمکن من الإثبات وهذان الأمران کما هما موجودان فی من یدّعی لنفسه فیقتضیان ضم الیمین إلی البیّنة کذلک هما موجودان فی من یدّعی لغیره فیقتضیان فیه الأمر عینه .

وقد یقال فی مقابل هذا (3) بمنع الإطلاق بمعنی أن النصوص مختصة بما إذا کان المدّعی یدّعی الحق لنفسه فلا تشمل ما إذا ادّعاه لغیره ویُستشهد لهذا المنع بأن الوارد فی النصوص عبارات ظاهرها دعوی الحق لنفسه من قبیل قوله فی روایة البصری : " یحلف .. أن حقّه لعلیه " فحقّه یعنی حقّ الحالف وهو المدّعی وإلا فلو ادّعی الحق لغیره فلا یکون حقّاً له بل یکون حقّاً لغیره ، ومن قبیل قوله أیضاً : " فلا حقّ له " فإنه یُفهم منها أن نظر الروایة إلی کون المدّعی یدّعی الحقّ لنفسه فإذا لم یحلف فلا حقّ له فیقال إن ظاهر النصوص هو الاختصاص بخصوص مدّعی الحق لنفسه .

ص: 498


1- (1) أی الشمول للمدّعی لغیره وعدم الاختصاص بالمدّعی لنفسه .
2- (2) أی اشتراط ضم الیمین إلی البیّنة .
3- (3) أی الإطلاق والالتزام بالتعلیل .

هذا هو المذکور فی کلمات الفقهاء (رض) ویظهر أن نکتة النزاع تتجسّد فی أمر ینبغی فی ضوئه أن تُحرّر المسألة بغیر ما مرّ تحریره وهو أنه قد تقدّم منّا أن المدّعی بالدین علی المیت لا یُکتفی منه بالبیّنة بل یُطالب بالیمین فإن جاء بهما فلا إشکال فی أنه یثبت له الحق وإلا فلا یکون ثابتاً له والذی یقال هنا إنه إذا فُرض عدم تمکنه من الحلف لأیّ سبب کان فهل یقال بثبوت الحق اکتفاءً بالبیّنة وإسقاطاً لاعتبار ضم الیمین مع تحقق موضوع الاستثناء فی هذه الحالة من کون الدعوی علی المیت أو یُلتزم بعدم الثبوت استناداً لاعتبار ضم الیمین حتی فی هذه الحالة ؟

ذُکرت هنا وجوه ثلاثة فی ما یلزم الالتزام به :

الأول : الالتزام بسقوط الحق فی هذه الحالة فلا یثبت الحق بالبیّنة وحدها دون انضمام الیمین عملاً بمقتضی الشرطیة المستفادة من الأدلة التی هی محفوظة حتی فی حال العجز وعدم القدرة .

الوجه الثانی : الالتزام بثبوت الحق بالبیّنة وحدها بدعوی أن غایة ما یُستفاد من النصوص هو اشتراط ضم الیمین إلی البیّنة فی حال التمکن والقدرة فلا یُستفاد من النصوص الشرطیة مطلقاً .

الوجه الثالث : أن یُلتزم باشتراط یمین نفی العلم فلا یُطلب من المدّعی الیمین علی نفی الوفاء وبقاء الحق إلی حین الموت واقعاً لأنه غیر قادر علیه بحسب الفرض ولکن یُطلب منه أن یحلف علی نفی علمه بالوفاء .. وعلی ذلک فیثبت الحق استناداً إلی البیّنة والیمین علی نفی العلم الذی یکون المدّعی قادراً علیه بحسب الفرض .

وهذه الوجوه الثلاثة المذکورة أضعفها أخیرها وذلک لأنه لا مجال للاکتفاء بالحلف علی نفی العلم والحال أن المطلوب کما هو صریح الروایة هو الحلف علی نفی الثبوت واقعاً .

ص: 499

هذا من جهة .. ومن جهة أخری أن نفی العلم بالوفاء لا یُثبت الحق للمدّعی بمعنی أنه لا یَثبت به بقاء الحق إلی حین موت المُدّعی علیه ومن هنا یکون الاکتفاء به لإثبات الحق خلاف الظاهر جداً وعلیه فیدور الأمر بین أول الوجهین وثانیهما فأقول :

إن ترجیح أحد الوجهین علی الآخر مبنی علی تحقیق جهة قد أشیر إلیها فی ما مرّ وهی أن الشرطیة (1) المستفادة من النصوص هل هی مطلقة فلا بد من ضم الیمین إلی البیّنة أم مخصوصة بحال القدرة حتی یمکن الاکتفاء بالبیّنة لإثبات الحق فی حال العجز وعدم القدرة ؟

مقتضی الظهور الأولی للأدلة هو الأول (2) بمعنی أن انضمام اشتراط الیمین إلی البیّنة فی النصوص لیس مقیّداً بالقدرة علی الحلف والیمین ، ولا یوجد فی قبال ذلک (3) إلا إحدی دعویین :

الأولی : أن یقال بأن دلیل الشرطیة وارد بلسان التکلیف فیجب تخصیصه بحال القدرة ، أما الکبری - أعنی کون التکلیف مشروطاً بالقدرة فواضحة ، وأما الصغری فهی ظاهر قوله (علیه السلام) : (فعلیه الیمین) وهذا اللسان لسان تکلیف کما لا یخفی .

وجواب هذه الدعوی ظاهر فی ضوء ما تقدّم سابقاً فإن المفهوم من هذا اللسان بل حتی مما هو أصرح منه لیس إلا الوجوب الشرطی وهو حکم وضعی ولیس حکماً تکلیفیاً ولذا لا یتوقف أحد فی أن المدّعی لو فُرض أنه لم یأت بالیمین حتی مع قدرته علیه لا یکون آثماً ومستحقاً للعقاب فقوله (علیه السلام) : (فعلیه الیمین)لا یُستفاد منه إلا الوجوب الشرطی الذی هو حکم وضعی مفاده أن الحق لا یثبت إلا بضم الیمین إلی البیّنة فإذا لم یأت بالیمین لا یثبت حقه لا أنه یکون آثماً ومستحقاً للعقاب .

ص: 500


1- (4) أی شرطیة انضمام الیمین إلی البیّنة فی ثبوت حقّ المدّعی علی المیت بالدین .
2- (5) أی إطلاق الشرطیة .
3- (6) أی فی قبال هذا الظهور الأولی .

الدعوی الثانیة : الانصراف - کما هو مذکور فی بعض الکلمات - أی انصراف النصوص عن العاجز فلا إطلاق لها حتی تشمل غیر القادر علی الیمین أو قل انصراف النصوص إلی القادر والمتمکن من الیمین .

وأُیّد هذا الانصراف من قبل الشیخ صاحب الجواهر (قده) باستبعاد الالتزام بسقوط الحق مع وجود البیّنة فإنه علی خلاف المذاق الفقهی علی حدّ تعبیره - ، ولو تم هذا فإنه یؤیّد أن اشتراط الضم مختص بالقدرة ففی حال عدم القدرة یسقط اعتبار ضم الیمین إلی البیّنة .

وسیأتی الکلام عن هذه الدعوی إن شاء الله تعالی .

تکملة المسألة السادسة عشر / إعادة للطرح الأول والثانی للمسألة وذکر دعوی الانصراف وردّها والشروع فی المسألة السابعة عشر / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) بحث الفقه

(بحث یوم السبت 13 جمادی الثانیة 1433 ه_ 126)

الموضوع :- تکملة المسألة السادسة عشر / إعادة للطرح الأول والثانی للمسألة وذکر دعوی الانصراف وردّها والشروع فی المسألة السابعة عشر / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) .

کان الکلام فی المسألة السادسة عشر وقلنا إن فی هذه المسألة یوجد تعمیمان :

الأول : تعمیم الحکم لما إذا کان المدّعی یدّعی الحق لغیره کموکّله أو مورّثه أو من هو مولّی علیه فضلاً عمّا إذا ادّعاه لنفسه .

وقد تبیّن مما تقدّم أن هذه المسألة لها طرحان :

الأول : وهو الطرح المتعارف وحاصله محاسبة التعمیم الأول وفق ما دلّت علیه النصوص (1) فیقال إنها إن کانت تختص بمدّعی الحق لنفسه فاللازم حینئذ الرجوع إلی مقتضی القاعدة وهو الاکتفاء بالبیّنة وعدم الحاجة إلی ضم الیمین ، وإن کانت شاملة لمدّعی الحقّ لغیره فلا بد حینئذ من الالتزام بضرورة انضمام الیمین إلی البیّنة مطلقاً سواء کان یدّعی الحق لنفسه أو کان یدّعیه لغیره .

ص: 501


1- (1) أی الدالة علی الاستثناء والحاجة إلی ضم الیمین .

والصحیح من الأمرین هو التعمیم (1) وذلک للنکات التی ذُکرت فی مدخل البحث وهی ثلاثة :

الأولی : إطلاق العنوان المأخوذ فی الروایة وهو قوله : (فی الرجل یدّعی قِبَل الرجل الحقّ) فإنه لیس فیه ما یشیر إلی الاختصاص بمدّعی الحق لنفسه .

الثانیة : إنه لا یُفهم من الروایة أن الاستثناء لخصوصیة فی المدّعی من حیث کونه یدّعی لنفسه أو لغیره وإنما المفهوم منها أنه لخصوصیة فی المُدّعی علیه من حیث کونه میتاً وهذه الخصوصیة موجودة فی محلّ الکلام .

الثالثة : عموم التعلیل فی روایة البصری المعتبرة سنداً عندنا فإن مقتضاه عدم الاختصاص بمدّعی الحق لنفسه لأن العلة - کما تقدّم - هی عبارة عن احتمال الوفاء مع عدم التمکن من ادّعائه وإثباته (2) وهذا الأمر کما هو موجود فی مدّعی الحق لنفسه موجود فی مدّعی الحق لغیره أیضاً فینبغی التعمیم لهما فالروایة بهذه القرائن یمکن التمسّک بإطلاقها لإثبات أن الاستثناء کما هو ثابت فی مدّعی الحق لنفسه ثابت أیضاً فی مدّعی الحق لغیره ، ولیس فی قبال ذلک إلا ما تقدّمت الإشارة إلیه من بعض العبائر الواردة فی الروایة کقوله : " وإن حقّه لعلیه " وقوله : " فلا حقّ له " فکأنه یظهر منها أن الحق حقّ للمدّعی لا أنه حقّ لغیره .

ولکن الظاهر أن هذه لیست قرائن تامة :

أولاً : لإمکان حملها علی المثالیة (3) بعد أظهریة عموم التعلیل .

ص: 502


1- (2) أی عدم الاختصاص بمدّعی الحق لنفسه .
2- (3) لکون المطلوب منه إثبات الوفاء - وهو المُدّعی علیه - میتاً کما هو مفروض المسألة .
3- (4) أی کونها قد سیقت من باب المثال .

وثانیاً : لإمکان ادّعاء أن الوصی والولی والوارث یصدق علی کل منهم أن حقّه لعلیه أو لا حقّ له لاسیما الأخیرین (1) فإن لهما أن یقولا إن حقّنا لعلی المیت .

فالصحیح علی هذا الطرح هو التعمیم وعدم الاختصاص بمدّعی الحق لنفسه کما اختاره السید الماتن (قده) .

الطرح الثانی : وهو أن یقال إن مدّعی الدین علی المیت والذی دلّت الروایات علی أنه لا یُکتفی منه بالبیّنة بل لا بد من ضم الیمین إلیها لو فُرض أنه عجز عن الیمین فلم یتمکن من الحلف فهل یُصَرّ علی شرطیة انضمام الیمین ویُلتزم بسقوط الحق لأن ثبوته مشروط بالانضمام أم یقال باختصاص الاشتراط بالقدرة ففی حالة العجز ترتفع الشرطیة فیمکن إثبات الحق حینئذ بالبیّنة بلا حاجة إلی ضمّ الیمین .

وقد تقدّم ذکر وجوه ثلاثة کان أضعفها ثالثها فدار الأمر بین الوجهین الآخَرَین وقد کان أولهما الالتزام بسقوط الحق عملاً بالشرطیة وکان الثانی الالتزام بإمکان إثبات الحق استناداً إلی البیّنة فقط .. کما تقدّم بیان أن اختیار أحد الوجهین یرتبط بتحقیق کون الشرطیة مطلقة أو هی مقیّدة بالقدرة فعلی الأول یتعین اختیار الوجه الأول وهو سقوط الحق عند العجز فلا یمکن إثبات الحق للمدّعی بالبیّنة وحدها لأن ثبوته له علی المیت مشروط بالبیّنة والیمین فمع عدم قدرة المدّعی علی الیمین فلا یمکنه إثبات حقّه ، وأما علی الثانی (2) فیتعین اختیار الوجه الثانی وهو عدم سقوط الحق وإمکان إثباته استناداً إلی البیّنة وحدها .

والصحیح فی المقام هو إطلاق الشرطیة بمعنی أن اشتراط انضمام الیمین إلی البیّنة عند دعوی الدین علی المیت غیر مقید بحال التمکن والقدرة .

ص: 503


1- (5) أی الولی والوارث .
2- (6) وهو کون الشرطیة مقیدة بحال التمکن فتسقط فی حال العجز .

ولیس فی قبال ذلک کما تقدّم - إلا إحدی دعویین :

الأولی : دعوی أن الشرطیة واردة بلسان التکلیف وهو مختص بالقادر .

وقد تمّت مناقشة هذه الدعوی وردّها .

الثانیة (1) : دعوی الانصراف بأن یقال إن الشرطیة (2) فی الروایات وإن کانت مطلقة لکنها تنصرف إلی خصوص حالة القدرة ، ویؤیّد هذا الانصراف ما نُقل عن الشیخ صاحب الجواهر (قده) من استبعاد سقوط الحق مع وجود البیّنة حتی لو کان المدّعی عاجزاً عن إثبات حقّه بالیمین حیث یقول إن هذا علی خلاف المذاق الفقهی فالالتزام بسقوط الحق ضعیف جداً کما یؤیّده أیضاً ما تقدّم من القرائن بقطع النظر عن المناقشة فیها - من قبیل قوله (علیه السلام) : (أن حقه لعلیه) و(فلا حقّ له) فهذه وإن دلّت علی الاختصاص بمدّعی الحق لنفسه ولیست دالة علی الاختصاص بالقادر الذی هو محلّ الکلام لکن هناک تلازماً - ولو کان تلازماً صوریاً ظاهریاً - بین مدّعی الحق لنفسه وبین القدرة والتمکن علی الیمین فإن من یدّعی الحقّ لنفسه یتمکن من أن یحلف وأما من یدّعی الحقّ لغیره فلا یمکنه ذلک فهذه القرائن لو تمّت علی اختصاص الروایة بمدّعی الحق لنفسه الذی یلازم القدرة والتمکن من الیمین تکون بالتالی قرائن علی الاختصاص بالقادر وعدم إطلاق الروایات لتشمل صورة العجز وعدم التمکن فیمکن أن یکون هذا مؤیداً لدعوی الانصراف .

ولکن دعوی الانصراف غیر واضحة وعهدتها علی مدّعیها ، والقرائن المذکورة غیر ناهضة بعد عموم التعلیل فهی لا تصلح قرینة علی الاختصاص بمدّعی الحق لنفسه حتی یقال بوجود ملازمة بینه وبین القادر فتدل بالتالی علی الاختصاص بالقادر ، وأما ما ذکره الشیخ صاحب الجواهر (قده) من أن هذا خلاف المذاق الفقهی ففهمه موکول إلیه فالصحیح فی المقام هو إطلاق الشرطیة فلا بد فی ثبوت الحق من انضمام الیمین إلی البیّنة فإذا لم یقدر علیه یسقط الحق کما لو لم یکن قادراً علی البیّنة نفسها .

ص: 504


1- (7) وهی التی انتهی إلیها الکلام فی البحث السابق .
2- (8) یعنی شرطیة انضمام الیمین إلی البیّنة .

هذا .. وقد تبیّن مما تقدّم وحدة النتیجة بناء علی کلا الطرحین من أن مقتضی الإطلاق شمولها لمدّعی الحق لغیره فلا تثبت دعوی الحق إذا کان المدّعی عاجزاً عن الیمین فالاستثناء إذاً لا یختص بمدّعی الحق لنفسه أو قل لا یختص بالقادر بل یشمل القادر وغیره .

هذا ما یرتبط بالتعمیم الأول فی المسألة .

التعمیم الثانی (1) : هو تعمیم المدّعی لنفسه لما إذا کان أجنبیاً أو وارثاً أو وصیاً .

ولا إشکال فی کون هذا التعمیم هو مقتضی الإطلاق فی الأدلة ، ولا مجال هنا لطرح مسألة العجز عن الیمین وعدم التمکن منها لأن الحق فی هذا الفرض یدّعیه الشخص لنفسه غایة الأمر أنه قد یکون أجنبیاً أو وارثاً أو وصیاً وإنما تُطرح هذه المسألة عندما یدّعی الحق لغیره فإنه قد یقال حینئذ إنه لا یتمکن فی الغالب من أن یحلف علی بقاء الحق إلی حین موت المُدّعی علیه .

هذا تمام الکلام فی هذه المسألة .

قال (قده) فی المسألة السابعة عشر :

" لو ثبت دین المیت بغیر بینة کما إذا اعترف الورثة بذلک (2) أو ثبت ذلک بعلم الحاکم أو بشیاع مفید للعلم واحتُمل أن المیت قد أوفی دینه فهل یُحتاج فی مثل ذلک إلی ضم الیمین أم لا ؟ وجهان : الأقرب هو الثانی (3) " .

المدرک للاستثناء الموجب لضم الیمین إما أن یکون صحیحة الصفار المتقدّمة أو روایة البصری فإن کان هو الصحیحة فلا بد حینئذ من الالتزام بعدم الحاجة إلی ضم الیمین بل یُکتفی فی ثبوت الحق بالمثبت من الإقرار أو علم الحاکم أو الشیاع المفید للعلم ذلک لأن مورد هذه الصحیحة ما إذا ثبت الحق بالبیّنة فیُقتصر فی الحکم بالاستثناء علیه وأما فی غیره (4) فلا حاجة إلی ضم الیمین إذ لا یمکننا التعدّی عن مورد الصحیحة کما لا دلیل علیه فیُرجع حینئذ إلی المطلقات الدالة علی حجیة ذلک المثبت کالإقرار - مثلاً - فی مقام الإثبات القضائی .

ص: 505


1- (9) أی لدعوی الحق علی المیت .
2- (10) أی ثبت الدین علی المیت بإقرارهم .
3- (11) أی عدم الحاجة إلی ضم الیمین .
4- (12) أی فی غیر مورد الصحیحة وهو ما إذا ثبت الحق بالبیّنة .

وقد یُشکل فی المقام بأن الفرض فی أصل المسألة هو ما إذا احتُمل الوفاء وهو یعنی أن المثبت کالإقرار - مثلاً لم یقم علی نفی هذا الاحتمال من رأس فیُحتمل معه عدم بقاء الحق إلی حین موت المُدّعی علیه فکیف یُعتمد علی مثل الإقرار القائم علی أصل الدین فی إثبات بقاء الحقّ إلی حین الموت ویُکتفی به مع أنه فی باب البیّنة التی تقوم علی أصل الدین یُحتاج معها إلی مکمّل وهو یمین المدّعی علی بقاء الحق إلی حین الموت .

والحاصل أنه لا بد فی هذه الحالة من مثبت لبقاء الحق إلی حین موت المُدّعی علیه ولا یصح الاکتفاء بما یُثبت أصل الحقّ لإثبات بقائه .

ولکن یُجاب عن هذا الإشکال بأن إثبات بقاء الحق إلی حین الموت یکون بالاستصحاب إذ أنه مع احتمال الوفاء یُشکّ فی بقاء الحق إلی حین الموت فیُستصحب وهکذا یقال فی علم الحاکم وفی الشیاع المفید للعلم .

وهذا لا ینافی أن یقوم الإقرار - مثلاً علی بقاء الحق إلی حین الموت إلا أنه غیر مفروض المسألة فإن المفروض فیها أنه یقوم علی أصل الدین کما هو قضیة احتمال الوفاء وإلا فلو کان الإقرار قد قام علی بقاء الحق إلی حین الموت لما کان الوفاء حینئذ محتملاً بل کان متیقّناً .

وأما إذا کان المدرک روایة البصری فیتعین حینئذ اختیار الثانی وهو الاحتیاج إلی ضم الیمین وذلک من جهة التعلیل المذکور فی هذه الروایة من أن الیمین إنما یُحتاج إلیه لنفی احتمال الوفاء وهذا الاحتمال کما هو موجود فی البیّنة موجود فی الإقرار أیضاً لأن فرض المسألة هو احتمال الوفاء من قبل المیت ومفاد الروایة أنه کلما کان احتمال الوفاء قائماً فیُحتاج إلی نفیه بالیمین وهذا الاحتیاج کما هو ثابت عند ثبوت الدین بالبیّنة هو ثابت أیضاً عند ثبوته بالإقرار ونحوه من علم الحاکم أو الشیاع فعموم التعلیل فی الروایة یقتضی الحاجة إلی ضم الیمین إلی کل ما یثبت أصل الدین سواء کان هو البیّنة أو الاقرار ونحوه .

ص: 506

هذا .. ولکنه (قده) یری ضعف روایة البصری سنداً ویعوّل علی صحیحة الصفار فیلتزم بعدم الحاجة إلی ضم الیمین .

وتتمة الکلام تأتی إن شاء الله تعالی .

المسألة السابعة عشر / الردّ علی تفصیل السید الماتن (قده) بحسب المدرک من کونه صحیحة الصفار أو روایة البصری / بیان أن فی العلة المذکورة فی روایة البصری فهمین أحدهما الاختصاص باحتمال الوفاء والآخر الشمول لمطلق ما یُسقط الحقّ عن المیت کالإبراء / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) بحث الفقه

(بحث یوم الأحد 14 جمادی الثانیة 1433 ه_ 127)

الموضوع :- المسألة السابعة عشر / الردّ علی تفصیل السید الماتن (قده) بحسب المدرک من کونه صحیحة الصفار أو روایة البصری / بیان أن فی العلة المذکورة فی روایة البصری فهمین أحدهما الاختصاص باحتمال الوفاء والآخر الشمول لمطلق ما یُسقط الحقّ عن المیت کالإبراء / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) .

کان الکلام فی أنه إذا ثبت الدین بغیر البینة کإقرار الورثة أو علم الحاکم أو الشیاع المفید للعلم فهل یُحتاج إلی ضم الیمین أم لا وتقدّم نقل تفصیل السید الماتن (قده) بین ما إذا کان المدرک للاستثناء هو صحیحة الصفار فلا یُحتاج إلی ضم الیمین وما إذا کان المدرک هو روایة البصری فیُحتاج إلی ضم الیمین وحیث إنه (قده) یبنی علی ضعف روایة البصری فهو ینتهی بالنتیجة إلی عدم الحاجة إلی ضم الیمین فی ما لو ثبت الدین بغیر البیّنة .

والسبب فی الحاجة إلی ضم الیمین علی تقدیر أن یکون المدرک صحیحة الصفار هو عدم اشتمالها علی تعلیل کما هو موجود فی روایة البصری وإنما موردها دعوی الحق علی المیت الثابتة بالبیّنة فیُقتصر علی ذلک ولا قابلیة لها لشمول ما إذا کان ثبوت الدعوی بالإقرار ونحوه .. وعلی ذلک فإذا ثبت الدین علی المیت بغیر البیّنة کالإقرار أو علم الحاکم أو الشیاع المفید للعلم فیُکتفی بهذه المثبتات باعتبار أنها تثبت أصل الدین ویُستعان بالاستصحاب لإثبات بقائه إلی حین الموت .

ص: 507

وهذا بخلاف ما إذا کان المدرک معتبرة البصری فإنها تشتمل علی تعلیل لا یختص بمورد الروایة - وهو ثبوت الدعوی بالبیّنة بل هو عام وهو احتمال الوفاء من قبل المیت فإنه لا یفرق فیه بین ثبوت الحق بالبیّنة أو بغیرها فلا بد من التعمیم وبالنتیجة لا بد من الالتزام بالاحتیاج إلی الیمین مطلقاً سواء ثبت الحق بالبیّنة أو بغیرها .

هذا حاصل ما ذُکر فی المتن .. وأقول :

لا یخلو هذا الکلام من ملاحظات :

الملاحظة الأولی : إنه یظهر منه أن إثبات بقاء الحق بالاستصحاب أمر ممکن فی کل حالة یکون الدلیل مثبتاً لأصل الحق غایة الأمر أنه (قده) یری بأن النصّ - وهو صحیحة الصفار - منع من ذلک فی ما إذا کان ثبوت الحق بالبیّنة لأن نفس اعتبار لزوم ضم الیمین الذی یشهد علی بقاء الحق إلی حین موت المیت یکشف عن عدم اعتبار الاستصحاب ولذا لو لم یکن هناک نصّ فلا مانع عنده (قده) من الاستعانة بالاستصحاب کما هو الحال فی غیر البیّنة التی هی مورد النصّ کالإقرار وعلم الحاکم والشیاع المفید للعلم فیمکن إثبات بقاء الحق إلی حین الموت فی هذه الموارد بالاستصحاب .

ولکن هذا الکلام لیس علی طبق القواعد إذ یَفترض أن اعتبار الیمین وعدم اعتبار الاستصحاب أشبه ما یکون بالأمر التعبدی الصرف وإلا فلا فرق فی الحقیقة بین ثبوت الحق بالبیّنة وثبوته بالإقرار حیث یُفترض فی محلّ الکلام أن کلّاً منهما قائم علی أصل الدین ویُحتاج معه لإثبات بقاء الحق إلی حین الموت إلی مثبت والاستصحاب إن کان مثبتاً فهو مثبت فی کل من الموردین (1) وإن لم یکن مثبتاً فهو کذلک فی کل منهما فالتفریق بینهما کما هو قضیة الاقتصار علی مضمون الصحیحة لا تفسیر له إلا بالتعبد الصرف وهو بعید .

ص: 508


1- (1) أی البیّنة والإقرار .

الملاحظة الثانیة : إن أصل استناد إثبات الحق إلی الاستصحاب لیس واضحاً فإن الاستصحاب وظیفة مقررة فی حقّ الشاک ولا إشکال فی أنها حجة ولکن لیس کل حجة تصلح لأن تکون مستنداً فی باب الإثبات القضائی فإنه لا دلیل علی کون الاستصحاب من وسائل الإثبات فی باب القضاء .

وبعبارة أخری : إن مقتضی دلیل (إنما أقضی بینکم بالبیّنات والأیمان) و(أن البیّنة علی من ادّعی والیمین علی المُدّعی علیه) ونحوهما هو انحصار وسائل الإثبات بهذین الأمرین ولا تُرفع الید عن مقتضی هذا الحصر إلا بقیام دلیل علی اعتبار أمر مّا من وسائل الإثبات القضائی کما فی الإقرار أو علم الحاکم لو قیل به ولم یقم دلیل علی اعتبار الاستصحاب من وسائل الإثبات فی باب القضاء فکیف یُعتمد علیه فی إثبات بقاء الحق إلی حین الموت .

نعم .. لا ضیر فی القول بأن الاستصحاب وظیفة مقرّرة شرعاً فی حقّ الورثة فإنه بعد أن أقرّوا علی مورّثهم المیت بأصل الدین وشُکّ فی بقائه فی ذمته أو ارتفاعه بوفائه فیُستصحب بقاؤه وتُرتّب الآثار علی ذلک ولکن هذا أمر وکون الاستصحاب من وسائل الإثبات فی باب القضاء أمر آخر ولا ملازمة بینهما بل هو کذلک (1) رهن بالدلیل ولا دلیل علیه .

الملاحظة الثالثة : إنه (قده) لم یذکر حکم ما لو بُنی علی صحة کلتا الروایتین - کما هو الصحیح عندنا - فإنه طرح احتمال کون المدرک هو صحیحة الصفار فلا حاجة للیمین واحتمال کونه روایة البصری فثمة حاجة له وبنی علی ضعف روایة البصری فالتزم بالحاجة إلی الیمین لکونه مقتضی الصحیحة ولم یتعرّض إلی الحکم فی ما لو کان المدرک کلتا الروایتین فی ما لو بُنی علی اعتبار روایة البصری .

ص: 509


1- (2) أی کونه من وسائل الإثبات فی باب القضاء .

وکیف کان فالصحیح هو لزوم العمل بکلتا الروایتین لصحة کل منهما سنداً وإن کان العمل بکل منهما منتجاً للعمل بمعتبرة البصری بالخصوص لأنها مفسّرة لصحیحة الصفار أو مقیدة لها وتدل علی أن المقصود بالیمین فیها (1) هی الیمین المذکورة فیها (2) المعلّلة بأنها الیمین التی لأجل نفی احتمال الوفاء فی حقّ المیت وهی المسماة عندهم بالیمین الاستظهاریة ولعل هذا هو السرّ فی أن الأصحاب - بملاحظة کلمات المحققین منهم یقصرون نظرهم علی روایة البصری فیأخذون التعلیل الوارد فیها علی أنه قضیة مسلّمة فی دلیل هذا الاستثناء وإن کانوا قد تعرّضوا لصحیحة الصفار وذکروها دلیلاً أیضاً وقد اعترف السید الماتن (قده) بأن مقتضی العمل بها هو الالتزام بالحاجة إلی ضم الیمین إلی کل ما یُثبت الحق علی المیت سواء کان بینة أو إقراراً أو علماً أو شیاعاً أو نحو ذلک لعموم التعلیل بالنحو الذی ذُکر سابقاً .

ومن هنا یظهر أن الصحیح تعیّن الالتزام بالحاجة إلی ضم الیمین فی محلّ الکلام باعتبار وجود العلة وشمولها لما إذا کان إثبات الحق بالإقرار ونحوه .

هذا .. وتنبغی الإشارة إلی أن ما تقدّم کله کان فی إقرار الورثة بالدین علی مورّثهم ، وأما إذا فرضنا أن الإقرار صدر من المیت فی حیاته فاعترف بأنه مدین لشخص مّا فالظاهر أنه لا إشکال فی نفوذ هذا الإقرار وترتُّب الأثر علیه بلا حاجة إلی ضم الیمین لقاعدة إقرار العقلاء علی أنفسهم جائز ، نعم .. ثمة إشکال یرتبط فی ما إذا کان الإقرار فی مرض الموت وکان المقرّ موضع تهمة فإن مفاد بعض الروایات عدم الأخذ بإقراره .

ص: 510


1- (3) أی فی صحیحة الصفار .
2- (4) أی فی روایة البصری .

هذا کله فی ما إذا کان المثبت للحق قائماً علی إثبات أصل الحق کما هو المفروض فی محلّ الکلام وأما إذا کان الإقرار - وغیره من المثبتات - قائماً علی بقاء الدین إلی حین الموت فقد تقدّم أن الظاهر أن الحکم فی المقام هو عدم الحاجة إلی ضم الیمین بل ذلک جارٍ حتی فی البیّنة التی هی مورد النصّ فإن العلة کما تعمّم تخصّص فیُخصّص بها مورد النصّ بخصوص البیّنة القائمة علی أصل الدین فلا یشمل الاستثناء البیّنة القائمة علی بقاء الدین إلی حین وفاة المُدّعی علیه .

فالنتیجة أنه لا فرق فی الحقیقة بین البیّنة من جهة وبین الإقرار والعلم والشیاع من جهة أخری فی أن کلاً منها إذا قام علی أصل الدین فیُحتاج معه إلی ضم الیمین وإذا قام علی بقاء الدین إلی حین الموت فلا یُحتاج معه إلی ضم الیمین .

نعم .. قیل بأن هذا التعمیم إلی غیر البیّنة من الإقرار والشیاع والعلم ونحو ذلک إنما یتم فی موارد احتمال الوفاء من قبل المیت وحینئذ یجری فی هذا الموارد الاحتیاج إلی الیمین ، وأما إذا عُلم بعدم الوفاء لکن احتُمل شیء آخر یقوم مقامه (1) فی سقوط الحق عن المیت من قبیل الابراء (2) أو الاحتساب علیه من الخمس أو الزکاة فیکون الاحتمال فی هذه الحالة شیئاً آخر غیر الوفاء ولکن علی تقدیر ثبوته یکون موجباً لسقوط الحق عن المیت فهل یشمله التعلیل وبالتالی یثبت فیه الاستثناء والحاجة إلی ضم الیمین أم لا ؟

ص: 511


1- (5) أی مقام الوفاء .
2- (6) أی بأن یکون الدائن قد أبرأه من الدین .

ومنشأ التساؤل هو أن الوارد فی روایة البصری التی هی العمدة وهی المفسرة لصحیحة الصفار کما تقدّم هو التعلیل باحتمال الوفاء ولا إشکال معه فی التعدی إلی غیر البیّنة من المثبتات کالإقرار والشیاع وعلم الحاکم ، وأما مع احتمال غیر الوفاء - کالإبراء مثلاً فقد قال بعضهم بأنه لا یمکن التعدی حینئذ .

ولکن هذا الکلام لیس واضحاً وذلک لأنه إذا تم فلا بد من الالتزام فی مورد النص - أعنی البیّنة - بعدم ثبوت الاستثناء فی ما إذا احتُمل غیر الوفاء للملاک نفسه فیقال حینئذ إنه فی مورد احتمال الوفاء یُحتاج إلی ضم الیمین وفی مورد العلم بعدم الوفاء واحتمال غیره کالإبراء فلا یُحتاج إلی ضم الیمین وبالنتیجة لا یکون النص شاملاً لکل موارد ثبوت الحق بالبیّنة ، ولا مشکلة فی هذا لو قام علیه دلیل والذی یُدّعی فی المقام أن الدلیل علیه هو أن العلة فی روایة البصری هی احتمال الوفاء بما هو وفاء أی أن خصوصیة الوفاء تکون مأخوذة فی هذا الحکم فی مقابل الابراء والاحتساب من الحقّ الشرعی ونحو ذلک .

وفی مقابل هذا الفهم أن یقال بعدم وجود خصوصیة للوفاء بل المقصود مطلق ما یُسقط الحق الثابت بالبیّنة أو الإقرار أو نحو ذلک فهنا یُحتاج إلی الیمین من جهة أن المُدّعی علیه فی مفروض البحث لا لسان له لینفی هذا الاحتمال فیُتدارک ذلک بضم الیمین فیعمّ التعلیل حینئذ الابراء أو الاحتساب من الحقّ الشرعی ونحو ذلک فضلاً عن الوفاء ، وهذا التعدی إلی غیر الوفاء من الابراء ونحوه یکون علی القاعدة بل هو فی حقیقة الأمر لیس تعدیاً وإنما هو من باب تنوّع المصادیق لشیء واحد وهی العلة التی هی احتمال مطلق ما یُسقط الحق عن المیت .

ص: 512

والحاصل أنه علی الفهم الأول - وهو الاختصاص باحتمال الوفاء فلا بد من الاقتصار حتی فی مورد النصّ وهو البیّنة علی صورة احتمال الوفاء فلا یکون احتمال الابراء ونحوه مشمولاً لهذا الاستثناء ، وأما علی الفهم الثانی أی عدم الاختصاص باحتمال الوفاء فیُتعدی حینئذ إلی احتمال مطلق ما یُسقط الحق عن المیت سواء کان هو احتمال الوفاء أو غیره .

وأیهما الأصح من هذین الوجهین ؟

هذا ما یأتی البحث عنه إن شاء الله تعالی .

المسألة السابعة عشر / الردّ علی تفصیل السید الماتن (قده) بحسب المدرک من کونه صحیحة الصفار أو روایة البصری / بیان أن فی العلة المذکورة فی روایة البصری فهمین أحدهما الاختصاص باحتمال الوفاء والآخر الشمول لمطلق ما یُسقط الحقّ عن المیت کالإبراء / الشروع فی المسألة الثامنة عشر / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) بحث الفقه

(بحث یوم الاثنین 15 جمادی الثانیة 1433 ه_ 128)

الموضوع :- المسألة السابعة عشر / الردّ علی تفصیل السید الماتن (قده) بحسب المدرک من کونه صحیحة الصفار أو روایة البصری / بیان أن فی العلة المذکورة فی روایة البصری فهمین أحدهما الاختصاص باحتمال الوفاء والآخر الشمول لمطلق ما یُسقط الحقّ عن المیت کالإبراء / الشروع فی المسألة الثامنة عشر / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) .

کان الکلام فی أنه هل نتعدّی من مورد النصّ وهو ما لو ثبت الدین بالبینة الذی نصّت الروایة علی أنه بحاجة إلی ضمّ الیمین إلی ما لو ثبت الدین بالإقرار لیکون بحاجة أیضاً إلی ضمّ الیمین .. وکانت نتیجة البحث المتقدم هی التعدی إلی مطلق ما یُثبت الدین سواء کان بینة أو إقراراً أو علم الحاکم أو نحو ذلک .

ص: 513

ثم إنه قد طُرحت بعده مسألة أخری وهی أن هذا التعدی إلی غیر البیّنة من مثبتات الحق هل یختص بما إذا کان هناک احتمال الوفاء کما لو أقرّ الورثة بالدین واحتُمل الوفاء من قبل المیت أم یعمّ کل ما یوجب سقوط الحق سواء کان وفاء أو إبراء أو احتساباً من الخمس أو الزکاة ونحو ذلک فیلزم فیها جمیعاً ضم الیمین .

وتقدّم أن المسألة مبنیة علی تنقیح أنه هل هناک خصوصیة لاحتمال الوفاء المنصوص علیه فی الروایة فلا یمکن حینئذ التعدی إلی غیره مما یُسقط الحقّ من الإبراء ونحوه وإن ثبت التعدی فی نفس دائرة احتمال الوفاء إلی کل ما یُثبت الحقّ سواء کان بینة أو إقراراً أو علم الحاکم ونحو ذلک أم لا خصوصیة لاحتمال الوفاء وإنما ذُکر من جهة کونه أوضح مصادیق ما یسقط به الحقّ وإنما العبرة بوجود احتمال ما یسقط به الحق عن المیت سواء کان وفاء أو إبراء أو احتساباً من الحقّ الشرعی فأیهما الأصح من هذین الوجهین ؟

الظاهر صحة الثانی وهو أن المستظهر من الروایة عدم الخصوصیة للوفاء وأنه ذُکر من باب الکنایة لمطلق ما یسقط به الحق والمراد هو احتمال براءة ذمة المیت من الدین المُدّعی علیه سواء کان هذا باحتمال الوفاء أو بشیء آخر یقوم مقامه فی براءة ذمته ولعل التعبیر بالحلف علی بقاء الحق إلی حین موت المُدّعی علیه الذی یظهر من معتبرة البصری قرینة علی ذلک حیث قال : " وإن حقه لعلیه (1) " ولم یرد فی الروایة أنه یحلف علی عدم الوفاء مع أن المذکور قبلها هو احتمال الوفاء حیث ذُکر علة لضم الیمین إلی البیّنة لأجل نفی هذا الاحتمال فلعل فی هذا إشارة أو إشعاراً علی أن المناط لیس علی الوفاء بما علی کل ما یسقط به الحقّ عن المیت فیحلف حینئذ علی بقاء الحق إلی حین موت المُدّعی علیه .

ص: 514


1- (1) أی علی المیت .

وعلی ذلک فالظاهر أن اشتراط انضمام الیمین ثابت حتی فی حالات العلم بعدم الوفاء ووجود احتمال الابراء ونحوه مما یوجب سقوط الحق .

فتحصّل ممّا تقدّم أن انضمام الیمین لا یُشترط فیه أن یکون ثبوت الحقّ بالبیّنة بل یثبت حتی إذا کان ثابتاً بغیرها کالإقرار أو علم الحاکم أو الشیاع المفید للاطمئنان کما لا یُشترط ذلک فی خصوص احتمال الوفاء بل یعم مطلق ما یکون موجباً لسقوط الحق عن المیت سواء کان وفاء أو ابراء ونحو ذلک .

هذا .. ویظهر من قوله (قده) فی المتن : " واحتُمل أن المیت قد أوفی دینه " أنه لا یری التعدی إلی احتمال الابراء ونحوه لأنه قیّد المسألة بما إذا احتُمل الوفاء جموداً علی مورد النصّ حیث جاء فیه : " لعله أوفاه حقّه " .

وأقول : قد تقدّم أن الأظهر التعمیم إلی مطلق احتمال ما یسقط به الحق عن المیت سواء کان إبراء أو وفاء أو غیرهما ولا یُقتصر علی خصوص احتمال الوفاء ولا بد فی ذلک من انضمام الیمین إلی ما یثبت به الحق سواء کان بینة أو إقراراً أو نحو ذلک .

ثم إن السید الماتن (قده) قد استقرب عدم الاحتیاج إلی ضم الیمین فی ما إذا ثبت الدین بالإقرار ونحوه لأنه یری أن المدرک علی هذا الحکم هو صحیحة الصفار وهی واردة فی البیّنة فیُقتصر علیها دون روایة البصری لضعفها عنده سنداً .

وقد ظهر مما تقدّم أن المدرک هو کلتا الروایتین لاعتبارهما عندنا سنداً وأن روایة البصری مفسّرة للصحیحة ومبینة للمراد بها ولذا یُحمل الیمین فی الصحیحة علی الیمین المذکور فی المعتبرة ، وعموم التعلیل الموجود فی المعتبرة یفسح المجال للتعدی إلی الإقرار ونحوه مما یثبت به أصل الحق.

ص: 515

ثم قال (قده) فی المسألة الثامنة عشر :

" لو أقام المدعی علی المیت شاهداً واحداً وحلف فالمعروف ثبوت الدین بذلک ، وهل یحتاج إلی یمین آخر فیه خلاف قیل بعدم الحاجة وقیل بلزومها ولکن فی ثبوت الحق علی المیت بشاهد ویمین اشکال بل منع " .

کان البحث المتقدّم فی ما لو أقام المدّعی علی المیت بینة وأما البحث فی هذه المسألة ففی ما لو أقام المدّعی علی المیت شاهداً واحداً وضم إلیه یمین نفسه (1) فصار فی البین شاهد ویمین مکان البیّنة والمعروف کما ذکر (قده) هو ثبوت الدین بذلک (2) ، وقد عرفت أنه فی باب البیّنة لا بد من ضم الیمین لإثبات بقاء الحق إلی حین موت المُدّعی علیه ونفی احتمال الوفاء من قبله فهل الأمر ذاته یجری فی ما نحن فیه فیقال إنه لمّا کان الشاهد والیمین بمنزلة البیّنة فیثبت له ما یثبت لها من الاحتیاج إلی ضم الیمین أم الحال فیه یختلف ؟

ذکر السید الماتن (قده) أن فیه خلافاً فقیل بعدم الحاجة وقیل بلزومها إلا أنه استشکل فی أصل ثبوت الحق علی المیت بشاهد ویمین بل منع من ذلک .

وتحریر المسألة أنه لا إشکال فی أن الحق المالی ولاسیما الدین یثبت بشاهد ویمین فی الجملة ولا یتوقف ثبوته علی البیّنة وهذا الحکم (3) مسلّم ولا إشکال فیه ولم یخالف فیه أحد وقد دلّت الروایات المتظافرة علی ذلک (4) وفیها ما هو صحیح السند جزماً ، والقدر المتیقَّن من ذلک (5) - سواء من الاتفاق أو من النصوص - هو دعوی الدین علی الحی ، وأما دعوی الدین علی المیت الذی هو محلّ البحث فقد وقع الکلام فیها فی أمرین علی الترتیب (6) :

ص: 516


1- (2) أی یمین المدّعی .
2- (3) أی بشاهد ویمین المدّعی .
3- (4) أی ثبوت الدین بشاهد ویمین فی الجملة .
4- (5) أی علی ثبوت الحق المالی وفی خصوص الدین بشاهد ویمین ، وهی روایات کثیرة مرویة فی الوسائل فی الباب الرابع عشر من أبواب کیفیة الحکم .
5- (6) أی من الثبوت بشاهد ویمین .
6- (7) أی بینهما طولیة .

الأمر الأول : فی أنه هل یُکتفی بشاهد ویمین فیها کما هو الحال فی دعوی الدین علی الحی أم لا بد فیها من البیّنة .

وهذا الأمر لم یُتطرّق له فی کلماتهم من جهة أن بناءهم علی التعمیم وقبول ثبوت دعوی الدین علی المیت بشاهد ویمین وإنما خالف فی ذلک السید الماتن (قده) فاستشکل فیه بل منع .

الأمر الثانی : أنه بعد البناء علی التعمیم فهل یُحتاج إلی ضم یمین آخر لإثبات بقاء الحق إلی حین الموت أم یُکتفی بالیمین المنضمّ إلی الشاهد الواحد .

وأقول : من الواضح أن هذا البحث الثانی مترتب علی القول بالتعمیم فی الأمر الأول بمعنی أنه لو قیل باختصاص النصوص (1) بدعوی الدین علی الحی فلا مجال حینئذ للبحث فی الأمر الثانی وینحصر إثبات الدین علی المیت حینئذ بالبیّنة وقد تقدّم سابقاً أنه لا إشکال فی اعتبار انضمام الیمین إلیها .

ویقع الکلام فعلاً فی الأمر الأول وهو هل أن النصوص الدالة علی کفایة الشاهد والیمین فی ثبوت الدین مختصة بالدین علی الحی أم تعمّ الدین علی المیت ؟

ولا بد لمعرفة ذلک من استعراض تلک النصوص حیث یتبیّن بعد مراجعتها أن فیها من الإطلاق ما یصح الاستدلال به لتعمیم ثبوت الدین بشاهد ویمین لدعوی الدین علی المیت .. وهذه نماذج منها (2) :

الأولی : صحیحة محمد بن مسلم عن أبی عبد الله (علیه السلام) :

ص: 517


1- (8) أی المُثبتة لکفایة الشاهد والیمین فی ثبوت الدین .
2- (9) یُلاحظ بشأنها الوسائل فی الباب الرابع عشر من أبواب کیفیة الحکم أو الکافی مج7 ص385 و386 .

" قال : کان رسول الله (صلی الله علیه وآله) یجیز فی الدین شهادة رجل واحد ویمین صاحب الدین ولم یکن یجیز فی الهلال إلا شاهدی عدل " .

الثانیة : صحیحة منصور بن حازم عن أبی عبد الله (علیه السلام) :

" قال : کان رسول الله (صلی الله علیه وآله) یقضی بشاهد واحد مع یمین صاحب الحق " .

الثالثة : روایة حماد بن عثمان :

" قال : سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) یقول : کان علی (علیه السلام) یجیز فی الدین شهادة رجل ویمین المدعی " .

الرابعة : صحیحة حماد بن عیسی :

" قال : قال : سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) یقول : حدّثنی أبی أن رسول الله (صلی الله علیه وآله) قضی بشاهد ویمین " .

وهکذا فی روایات کثیرة .. والملاحظ فیها أن الإمام (علیه السلام) لا ینسب الحکم الوارد فیها إلی نفسه مباشرة وإنما ینسبه إلی الرسول (صلی الله علیه وآله) تارة وإلی الإمام أمیر المؤمنین (علیه السلام) أخری والسرّ فی ذلک هو أن للعامة موقفاً مضاداً من هذا الحکم فهم لا یجیزون شهادة الشاهد والیمین وهناک مناظرات وقعت بین الإمام الصادق (علیه السلام) وبین بعض علمائهم بهذا الصدد ولا ریب أنه فی مقام إثبات هذا الرأی تکون نسبته إلی الرسول (صلی الله علیه وآله) أو إلی أمیر المؤمنین (علیه السلام) آکد فی ذهن الطرف المقابل وأوقع .

وهذه الروایات لیس فیها ما یشیر إلی اختصاص الحکم بدعوی الدین علی الحی کما هو واضح ، ویمکن تجمیع قرائن مؤیدة لهذا الإطلاق - وإن کان فی حدّ نفسه تاماً - منها المقابلة بین الدین والهلال فی جملة من الروایات ففی الهلال لا یجیز إلا شهادة عدلین (1) فی حین أنه فی الدین یجیز شهادة واحد ویمین المدّعی فهذه المقابلة لا تخلو من إشارة إلی أن الدین مطلق (2) فإنه لم یُقابل بین الدین علی الحی والدین علی المیت إذ لو کانت دعوی الدین علی المیت لا یُکتفی فیها بشاهد ویمین بل لا بد فیها من البیّنة فقد یقال بأن المناسب حینئذ أن تکون المقابلة بین الدین علی المیت وبین الدین علی الحی (3) لا بین الدین والهلال .

ص: 518


1- (10) أی بینة .
2- (11) أی سواء کان علی حی أو علی میت .
3- (12) من جهة أن الدین علی الحی یُکتفی فیه بشاهد ویمین .

ومن القرائن أیضاً ذیل موثقة سماعة عن أبی بصیر التی هی إحدی روایات هذا الباب :

" قال : سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن الرجل یکون له عند الرجل الحق وله شاهد واحد ، قال : فقال : کان رسول الله (صلی الله علیه وآله) یقضی بشاهد واحد ویمین صاحب الحق وذلک فی الدین " (1) .

فإن من الواضح أن الإمام (علیه السلام) کان فی مقام تحدید الموضوع فقال : (فی الدین) ولم یخصّصه بکونه علی الحی فلو کان موضوع الحکم هو هذا لکان من المناسب أن یقیّد الإمام (علیه السلام) بذلک ولکنه (علیه السلام) أطلق وهذا الإطلاق یکاد یکون ظاهراً ظهوراً واضحاً فی أن الحکم هو مطلق الدین لا خصوص الدین علی الحی .

والحاصل أن الإطلاق ثابت فی هذه الروایات ولم أر من یستشکل فیه فی حدود تتبّعی لکلمات القوم والمسألة کأنها مرسلة إرسال المسلّمات ولذا نراهم حینما یتطرّقون إلی هذه المسألة یدخلون مباشرة إلی البحث الثانی وهو أنه إذا أقام المدّعی شاهداً ویمیناً فهل یحتاج إلی ضم یمین آخر أم لا ، وهذا - کما تقدّم - متفرّع علی التعمیم فی الأمر الأول فیظهر من ذلک عدم وجود مخالف بینهم ، نعم .. الظاهر من عبارة السید الماتن (قده) هو المخالفة لأنه أفتی بأن الدین علی المیت لا یثبت بشاهد ویمین بل یثبت بخصوص البیّنة وقد فرغنا عن أنه یحتاج حینئذ إلی ضم الیمین وبناء علی هذا لا تصل النوبة إلی هذا البحث الثانی .

وقد استدل السید الماتن (قده) علی هذه الدعوی (2) بما سیأتی التعرّض له إن شاء الله تعالی .

ص: 519


1- (13) المصدر السابق .
2- (14) أی عدم کفایة الشاهد والیمین فی ثبوت الدین علی المیت .

المسألة الثامنة عشر / مناقشة مذهب السید الماتن (قده) من اختیار کون المدرک هو صحیحة الصفار دون روایة البصری والجواب عنه مبنی وبناءً / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) بحث الفقه

(بحث یوم الثلاثاء 16 جمادی الثانیة 1433 ه_ 129)

الموضوع :- المسألة الثامنة عشر / مناقشة مذهب السید الماتن (قده) من اختیار کون المدرک هو صحیحة الصفار دون روایة البصری والجواب عنه مبنی وبناءً / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) .

کان الکلام فی قبول شهادة الشاهد والیمین فی الدین علی المیت وقلنا إن النصوص الواردة فی المقام لا ینبغی الشک فی إطلاقها فی حدّ نفسها وشمولها للحی والمیت ولم یَستشکل فی ذلک أحد حسب الظاهر لکن السید الماتن (قده) ذکر أن الصحیح أن هذه النصوص کلّها محمولة علی دعوی الدین علی الحیّ ولا تشمل دعوی الدین علی المیت واستدلّ علی ذلک بأن صحیحة الصفار التی یُستدلّ بها علی الاستثناء (1) ظاهرة إن لم تکن صریحة فی أن ثبوت الدین علی المیت یتوقف علی ضم شهادة الوصی إلی شاهد عدل آخر والیمین ففی النصّ هکذا : " أوَتُقبل شهادة الوصی علی المیت مع شاهد آخر عدل ؟ فوقّع : نعم من بعد یمین " فیظهر منه أنه یُعتبر فی ثبوت الدین علی المیت انضمام شاهدین عادلین إلی الیمین وهذا فی الحقیقة یکون تخصیصاً لأدلة حجیة البیّنة (2) بمعنی أن البیّنة تُقبَل فی کل دعوی بلا حاجة إلی الیمین إلا فی دعوی الدین علی المیت فإنها لا تکون حجة وحدها بل لا بد من ضم الیمین إلیها فمن هنا یکون هذا تخصیصاً لأدلة حجیة البیّنة ، ومن الواضح أنه لو کان الدین علی المیت یثبت بشاهد ویمین لکان اشتراط انضمام شهادة الوصی إلی شاهد آخر عدل والیمین لغواً ولکانت صحیحة الصفار حینئذ بلا فائدة لأن المفروض بناءً علی عموم نصوص الشاهد والیمین أو إطلاقها أن دعوی الدین علی المیت تثبت بشاهد ویمین فلا معنی لاشتراط انضمام شهادة العدل الآخر إذ یکون اشتراطه حینئذ لغواً وحیث إن الروایة صحیحة وکلام المعصوم مُنزّه عن اللغویة فلا بد أن تکون مقیدة لإطلاق تلک النصوص فتُحمل تلک النصوص علی دعوی الدین علی الحیّ فتختص بها ، وأما دعوی الدین علی المیت فلا تکون مشمولة لإطلاق الروایة للمحذور المذکور .

ص: 520


1- (1) لأنها العمدة والمدرک بحسب نظره (قده) لأنه یری ضعف روایة البصری سنداً .
2- (2) أی أن روایة الصفار تکون مخصصة لهذه الأدلة .

وبعبارة أخری : إن هذا الکلام مبنی کما یُنقل عنه (قده) التصریح به علی افتراض أن الیمین فی مسألة الشاهد والیمین جزء متمم لثبوت أصل الدین علی المیت وبناء علیه فظاهر روایة الصفار أن البیّنة (1) لا تکفی لإثبات الدین علی المیت بل لا بد من ضم الیمین وهذا ما سلف عنه أنه تخصیص فی حجیة أدلة البیّنة وإلا فلو کان المقصود بالیمین إثبات بقاء الحقّ لا أصل ثبوته فلا یکون تخصیصاً فی حجیة أدلة البیّنة لأن البیّنة تثبت أصل الدین والیمین یثبت بقاء الدین إلی حین موت المیّت ولا تنافی بینهما حینئذ وإنما یری (قده) أن الیمین جزء متمم لثبوت أصل الدین ومفاد الصحیحة - التی هی المدرک عنده - أن البیّنة لا تکفی لإثبات أصل الدین بل تحتاج إلی ضم الیمین وظاهر هذه الیمین أنها یمین علی نفس ما یشهد به الشهود والمفروض أنهم یشهدون علی أصل الدین فالیمین یکون علی أصل الدین أیضاً ومن هنا یکون مفاد صحیحة الصفار تخصیصاً لأدلة حجیة البیّنة (2) فإثبات أصل الدین علی المیت یتوقف علی ضمّ الیمین إلی البیّنة وفی هذا منافاة مع دلیل کفایة الشاهد والیمین لإثبات أصل الدین ، وهذه المنافاة تُرفع بأن یُقیّد إطلاق تلک الروایات ویُحمل علی دعوی الدین علی الحیّ ، وأما دعوی الدین علی المیت فمقتضی صحیحة الصفار أنها لا تثبت بشاهد ویمین وإنما تثبت بشاهدین عدلین مع الیمین فیثبت تخصیص تلک النصوص .

ص: 521


1- (3) أی شهادة عدلین علی أصل الدین .
2- (4) لأن المفروض أن البیّنة وحدها تکون کافیة لإثبات ما تشهد به ومفاد الصحیحة عدم کفایتها فی إثبات الدین علی المیت بل لا بد من ضم الیمین .

وهذا بخلاف الحال مع معتبرة البصری فإنها لو کانت هی المدرک فتصل النوبة حینئذ إلی البحث الثانی لأنه کما مرّ یتوقف علی التعمیم فی البحث الأول الذی یتوقف بدوره علی القول بکفایة ثبوت الدین علی المیت بشاهد ویمین الذی هو مفاد هذه المعتبرة فیقع البحث حینئذ فی أنه هل یُضم إلیه یمین آخر أم لا ، وأما إذا قیل بعدم کفایة الشاهد والیمین لإثبات الدین علی المیت بل لا بد من البیّنة فلا معنی للبحث عن لزوم ضم الیمین أو عدم لزومه إذ لا إشکال فی ضوء ما تقدّم من أنه لا بد من ضم الیمین إلی البیّنة .

وعلی هذا لا تکون معتبرة البصری تخصیصاً لأدلة حجیة البیّنة لأن الیمین فیها لیس متمّماً لما یُثبت أصل الدین وإنما هو لإثبات بقائه إلی حین الموت وأما أصل الدین فیثبت بالبیّنة وحینئذ تبقی أدلة حجیة البیّنة عامة وشاملة حتی لمحلّ الکلام وهو دعوی الدین علی المیت فالبیّنة تبقی حجة ووظیفة الیمین الذی یُوجّه إلی المدّعی (1) هی إثبات بقائه إلی حین موت المُدّعی علیه .

فالنتیجة أنه لا یکون ثمة تخصیص لأدلة حجیة البیّنة فی ما لو کانت معتبرة البصری هی المدرک وبناء علی هذا لا توجد منافاة بین مفاد هذه المعتبرة وإطلاق أدلة کفایة الشاهد والیمین فی إثبات أصل الدین إذ لا محذور فی القول بأن الدین علی المیت یثبت بأحد أمرین : بالبیّنة أو بشاهد ویمین فیکون حال دعوی الدین علی المیت کدعوی الدین علی الحیّ فی عدم لزوم اللغویة وفی ثبوت کل من الدعویین بأحد ذینک الأمرین وهو ما ذهب إلیه المشهور تمسّکاً بإطلاق النصوص المتظافرة وحینئذ ینفتح المجال للبحث الثانی فی أنه هل یُطلَب من المدّعی أن یحلف مرة أخری علی بقاء الدین إلی حین موت المُدّعی علیه أم یُکتفی بیمینه الأولی .

ص: 522


1- (5) لا إلی المُدّعی علیه لأن المفروض أنه میت لا لسان له .

والحاصل أن الوصول إلی النتیجة فی الفرع الأول من التعمیم أو عدمه علی رأی السید الماتن (قده) موقوف علی اختیار ما هو المدرک فی هذه المسألة فإن کان هو صحیحة الصفار فلا بد من أن یُلتزم بتخصیص تلک المطلقات ویُمنع من ثبوت الدین علی المیت بشاهد ویمین فیختص ثبوته بهما حینئذ بالدعوی علی الحی ، وأما إذا کان المدرک هو معتبرة البصری فتلک الروایات تبقی علی إطلاقها فتشمل دعوی الدین علی الحی ودعوی الدین علی المیت علی حدّ سواء کما ذهب إلی ذلک المشهور .

هذا توضیح کلامه (قده) وإن کان قد ذهب إلی کون المدرک هو صحیحة الصفار لعدم تمامیة معتبرة البصری سنداً عنده (قده) .

ولکن یمکن الجواب عنه بجوابین :

الأول : اعتبار روایة البصری لتمامیّتها سنداً فتکون هی المدرک وعلیها المعوّل - کما هو ظاهر کلمات الفقهاء (رض) - لکونها مفسّرة لصحیحة الصفار وأن المقصود بالیمین فی الصحیحة هی الیمین القائمة علی بقاء الحقّ إلی حین موت المُدّعی علیه لا الیمین القائمة لإثبات أصل الدعوی حتی یلزم منه التخصیص فی أدلة حجیة البیّنة .

الجواب الثانی : التسلیم بأن المدرک هو خصوص صحیحة الصفار وأن روایة البصری غیر معتبرة ولکن لیس مفاد الصحیحة منافیاً لإطلاق نصوص الشاهد والیمین حتی تکون مقیّدة له وذلک لأن افتراض شهادة الوصی مع شاهد آخر عدل ویمین المدّعی لم یرد فی کلام الإمام (علیه السلام) وإنما ورد فی کلام السائل حیث قال : (أوَتُقبل شهادة الوصی علی المیت مع شاهد آخر عدل) والإمام (علیه السلام) وقّع : (نعم من بعد یمین) ولم یقل (علیه السلام) إن قبول هذه الدعوی (1) یتوقف علی وجود تلک الأمور الثلاثة : شهادة الوصی وشهادة عدل آخر ویمین المدّعی بل غایة ما أجاب به (علیه السلام) هو أنه فی مفروض السؤال لا بد من ضمّ الیمین فلأیّ شیء یکون هذا منافیاً لإطلاق النصوص المتظافرة بل یبقی إطلاقها علی حاله لیکون مفاده أنه یکفی فی ثبوت الدین مطلقاً (2) شاهد ویمین (3) فیکون لسان تلک النصوص قیام الشاهد والیمین مقام البیّنة لإثبات أصل الدین فینتج التعمیم فی البحث الأول وحینئذ ینفتح المجال للبحث الثانی فیقال هل یُشترط انضمام الیمین القائمة علی إثبات بقاء الحقّ إلی حین موت المُدّعی علیه أم لا یُشترط ذلک .

ص: 523


1- (6) أی الدعوی علی المیت وثبوت الدین علیه .
2- (7) أی سواء کانت الدعوی علی الحی أم علی المیت .
3- (8) مع الالتفات إلی أن الیمین فی نصوص الشاهد والیمین هی یمین علی أصل الدین (منه دامت برکاته) .

والنتیجة أنه لا ضیر فی القول بکفایة الشاهد والیمین لإثبات أصل الدین علی المیت کما یکفی لإثباته علی الحی فیکون قائماً مقام البیّنة وحینئذ تکون المطلقات باقیة علی إطلاقها ولا تطالها ید التقیید .

وبذا یتمّ الکلام فی البحث الأول حیث تبیّن فیه تمامیة القول بکفایة الشاهد والیمین فی إثبات الدین علی المیت فیکون حاله حال البیّنة والإقرار وعلم الحاکم علی القول به .

وسیقع الکلام إن شاء الله تعالی فی البحث الثانی وهو أنه هل یلزم حینئذ یمین آخر لإثبات بقاء الدین إلی حین الموت أم یُکتفی بالیمین الأولی ؟

المسألة الثامنة عشر / البحث الثانی ، وفیه قولان : الأول : التفصیل بالاکتفاء بالیمین الأولی فی الشاهد والیمین وعدم الاکتفاء فی البیّنة ، الثانی : عدم الاکتفاء / بیان أمرین ذکرهما السید الماتن (قده) فی ذیل البحث / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) بحث الفقه

(بحث یوم الأربعاء 17 جمادی الثانیة 1433 ه_ 130)

الموضوع :- المسألة الثامنة عشر / البحث الثانی ، وفیه قولان : الأول : التفصیل بالاکتفاء بالیمین الأولی فی الشاهد والیمین وعدم الاکتفاء فی البیّنة ، الثانی : عدم الاکتفاء / بیان أمرین ذکرهما السید الماتن (قده) فی ذیل البحث / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) .

کان الکلام حول ما ذکره السید الماتن (قده) فی البحث الأول من الاستدلال علی عدم ثبوت الدین علی المیت بشاهد ویمین بصحیحة الصفّار وتقدّم الجواب عنه بجوابین کان الأول منهما البناء علی اعتبار روایة البصری لتمامیّتها سنداً فتکون هی المدرک لکونها مفسّرة لصحیحة الصفار وعلیه فیثبت اعتبار الشاهد والیمین فی دعوی الدین علی المیت تمسّکاً بإطلاق أدلته (1) إذ لا محذور فی ذلک وإنما یلزم المحذور فی ما إذا کان المدرک هو صحیحة الصفار .

ص: 524


1- (1) أی أدلة اعتبار الشاهد والیمین .

وکان الجواب الثانی أنه بعد التسلیم بأن المدرک هو خصوص صحیحة الصفار وأن روایة البصری غیر معتبرة إلا أن مفاد الصحیحة لیس منافیاً لإطلاق نصوص الشاهد والیمین حتی تکون مقیّدة له إذ لیست هی ظاهرة فی توقف ثبوت الدین علی المیت علی ضمّ شهادة الوصی إلی شهادة عدل آخر ویمین المدّعی حتی یکون ذلک منافیاً لکفایة الشاهد والیمین فی دعوی الدین علی المیت وبالتالی یکون مقیّداً لإطلاق نصوص الشاهد والیمین لأن هذا الفرض لم یرد فی کلام الإمام (علیه السلام) وإنما ذُکر فی کلام السائل وجواب الإمام (علیه السلام) بلزوم ضم الیمین لیس منافیاً لإطلاق النصوص المتظافرة الذی مفاده کفایة الشاهد والیمین فی ثبوت الدین مطلقاً (1) فیکون لسان تلک النصوص قیام الشاهد والیمین مقام البیّنة لإثبات أصل الدین فینتج التعمیم فی البحث الأول وحینئذ ینفتح المجال للبحث الثانی فیقال هل یُشترط انضمام الیمین (القائمة علی إثبات بقاء الحقّ إلی حین موت المُدّعی علیه) إلی الشاهد والیمین (القائم علی إثبات أصل الدین) أم لا یُشترط ذلک بمعنی أنه لو فُرض أن المدّعی بالحقّ علی المیت لم یکن عنده إلا شاهد واحد وحلف یمیناً مکمّلاً لهذه الشهادة فهل یُکتفی منه بذلک فی إثبات الحقّ علی المیت أم لا بد من یمین ثانیة (2) ؟

قولان فی المسألة :

القول الأول : التفصیل بالاکتفاء بالیمین الأولی (3) فی ما إذا کان إثبات الدین علی المیت بالشاهد والیمین وعدم الاکتفاء فی ما إذا إثباته بالبیّنة بل لا بد من ضم یمین إلیها ، وعُلّل هذا کما فی الإرشاد للعلامة - بأمور :

ص: 525


1- (2) أی سواء کانت الدعوی علی الحی أم علی المیت .
2- (3) وقد کان تعرّض الفقهاء (قدهم) لهذا الفرض لا لأصل المطلب - أعنی البحث الأول - فإن التعمیم فیه مسلّم عندهم (منه دامت برکاته) .
3- (4) أی المکمّلة لشهادة الشاهد الأول .

الأول : دعوی الاقتصار علی مورد النصّ وهو ما إذا کان إثبات الدین علی المیت بالبیّنة فلا بد حینئذ من الیمین ولا مسوّغ للتعدی إلی غیره من الشاهد والیمین .

الثانی : لزوم التکرار غیر المفید فی طلب الیمین الثانیة فیُکتفی بالأولی .

الثالث : کون الشاهد والیمین حجة فی نفسه فلا یحتاج إلی ضم شیء آخر .

وأجیب عنها :

أما بالنسبة إلی الأمر الأول فإنه وإن کان مورد النص هو البیّنة بلا إشکال إلا أنه یمکن التعدّی إلی الشاهد والیمین بعموم التعلیل الموجود فی روایة البصری - حیث تدل هذه الروایة علی اشتراط انضمام الیمین إلی کل ما یثبت به أصل الدین - کما أمکن التعدّی إلی الإقرار وعلم الحاکم .

وأما بالنسبة إلی الأمر الثانی فأجیب عنه بوجود الفرق بین الیمینین فإن الیمین الأولی المکمّلة هی لإثبات أصل الدین فی حین أن الیمین الثانیة التی یُشترط انضمامها هی لإثبات بقاء الدین إلی حین وفاة المُدّعی علیه .

وأما بالنسبة إلی الأمر الثالث فأجیب عنه بأنه منقوض بالبیّنة فإنها أیضاً حجة فی نفسها مع أنها تحتاج إلی ضمّ الیمین بلا إشکال .

هکذا أجیب .. وأقول :

یمکن توجیه استدلال العلامة بهذه الأمور بنحو لا ترد علیه الأجوبة المذکورة وذلک بأن یقال إن کلامه (قده) مبنی علی انحصار مدرک الاستثناء بصحیحة الصفار کما هو الحال عند السید الماتن (قده) وحینئذ لا یصح الجواب عنه بما تقدّم من الأجوبة الثلاثة وذلک لوضوح عدم وجود تعلیل فی صحیحة الصفار حتی یُتعدّی بعمومه إلی الشاهد والیمین وإنما تدل الصحیحة علی اعتبار الانضمام فی خصوص البیّنة ، کما أنه من الواضح لزوم التکرار بناءً علی کون المدرک هو الصحیحة لأن الیمین المکمّلة لشهادة الشاهد یراد بها إثبات أصل الحقّ والیمین المشترط انضمامها یراد بها ذلک أیضاً ، کما أنه لا یرد النقض بالبیّنة أیضاً لأن الفارق بین (البیّنة) و(الشاهد والیمین) هو النصّ - وهو صحیحة الصفار بحسب الفرض - فإنه وإن کان کل منهما حجة فی حدّ نفسه إلا أن الدلیل دلّ علی أن البیّنة تحتاج إلی ضم الیمین ولم یدل دلیل علی اعتبار انضمام الیمین إلی الشاهد والیمین فإنه لا تعلیل فی هذا الدلیل لیُتمسّک بعمومه لأجل التعدّی .

ص: 526

هذا ما یمکن به توجیه ما ذکره العلامة .. ولکن قد عرفت أن هذا المبنی (1) غیر تام أصلاً وأن الصحیح کون المدرک هو معتبرة عبد الرحمن بن أبی عبد الله البصری وحینئذ یمکن التعدی بعموم التعلیل الموجود فیها لینتج عدم الفرق بین (البیّنة) و(الشاهد والیمین) .

القول الثانی : عدم الاکتفاء بالیمین الأولی المکمّلة لشهادة الشاهد الواحد (2) بل لا بد من ضم یمین آخر لإثبات بقائه إلی حین الموت ، والوجه فیه ما قد تبیّن من أن الصحیح کون المدرک لاشتراط انضمام الیمین إنما هو معتبرة البصری .

والصحیح من القولین - کما قد ظهر مما مرّ - هو الثانی ، نعم .. لو فُرض أن شهادة الشاهد قامت علی بقاء الحقّ إلی حین الموت وقامت الیمین علی ذلک أیضاً فثمة مجال هنا لأن یقال بعدم الحاجة إلی الیمین الثانیة لأن الیمین الأولی تستبطن الحلف علی أصل الحقّ فیلزم التکرار حینئذ لأن کلا الیمینین یکون لإثبات الحقّ إلی حین الموت .

هکذا قد یقال وإن کانوا قد منعوا منه حتی فی هذا الفرض لأصالة عدم التداخل فیُلتزم بأن یحلف مرتین مرة علی أصل ثبوت الحقّ وأخری علی بقائه إلی حین الموت (3) .

ص: 527


1- (5) أی کون المدرک هو صحیحة الصفار .
2- (6) اللذان یثبت بهما أی بالیمین وشهادة الشاهد - أصل الحقّ .
3- (7) ولکنک قد عرفت أن هذا غیر محلّ الکلام لأن المفروض فی ما نحن فیه أن الیمین المکمّلة لشهادة الشاهد هی یمین علی أصل ثبوت الدین لا علی بقائه إلی حین موت المُدّعی علیه (منه دامت برکاته) .

هذا .. وقد ذکر السید الماتن (قده) فی کلامه فی شرح المتن فی ذیل هذا البحث أمرین :

الأول : أن نصوص الشاهد والیمین لو استفید منها الدلالة علی تنزیل الیمین المکمّلة للشاهد الواحد منزلة الشاهد الثانی - الذی فُرض عدم وجوده - فیکون ذلک بمثابة البیّنة لا مجرد الدلالة علی أن الحقّ یثبت بشاهد ویمین فلا مانع حینئذ من التعمیم إلی الدین علی المیت وحینئذ ینفتح المجال للبحث الثانی من لزوم اشتراط الانضمام وعدمه إلا أنه (قده) یری عدم ثبوت التنزیل فی نصوص الشاهد والیمین بل الثابت عنهم (علیهم السلام) أنهم أجازوا شهادة الواحد ویمین المدّعی من غیر تنزیل هذا الیمین منزلة الشاهد الثانی .

وأقول : لا محصّل لهذا الکلام لأن المحذور عنده (قده) من إطلاق نصوص الشاهد والیمین بناءً علی ما فهمه من صحیحة الصفار من أن اشتراط انضمام شهادة الوصی إلی شهادة عدل آخر مع یمین المدّعی صادر من الإمام (علیه السلام) - هو لزوم اللغویة فإنه إذا اکُتفی بالشاهد والیمین لإثبات الدین علی المیت یکون اشتراط انضمام شهادة الوصی لغواً .. ولکن هذا المحذور ممّا لا یرتفع بالتنزیل حتی یقال بعدم المانع من التعمیم فإن لزوم اللغویة لا یعنی إلا أن الشاهد والیمین مُنزّل منزلة البیّنة لیس أکثر ومع الاکتفاء بشاهد ویمین لإثبات الدین علی المیت فلا معنی لاشتراط ضم شهادة الوصی إلی شهادة العدل الآخر والیمین فحینئذ یلزم إشکال اللغویة فی صحیحة الصفار حتی مع القول بالتنزیل .

الأمر الثانی : یأتی الکلام فیه إن شاء الله تعالی .

تکملة المسألة الثامنة عشر / الأمر الثانی من الأمرین اللذین ذکرهما السید الماتن (قده) فی ذیل البحث / الشروع فی المسألة التاسعة عشر ثم المسألة العشرین / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) بحث الفقه

ص: 528

(بحث یوم السبت 20 جمادی الثانیة 1433 ه_ 131)

الموضوع :- تکملة المسألة الثامنة عشر / الأمر الثانی من الأمرین اللذین ذکرهما السید الماتن (قده) فی ذیل البحث / الشروع فی المسألة التاسعة عشر ثم المسألة العشرین / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) .

کان الکلام فی الأمرین اللذین ذکرهما السید الماتن (قده) فی ذیل البحث وتقدّم الأول منهما وکان محصّله عدم المانع من التعمیم فی ما لو استفید من نصوص الشاهد والیمین الدلالة علی تنزیل الیمین المکمّلة للشاهد الواحد منزلة الشاهد الثانی - الذی فُرض عدم وجوده - فیکون ذلک بمثابة البیّنة وحینئذ ینفتح المجال للبحث الثانی من لزوم اشتراط الانضمام وعدمه .. وتقدّم الجواب عنه .

الأمر الثانی : ما ذکره (قده) من أنه وإن لم یمکن ثبوت الدین علی المیت بشاهد ویمین إلا أنه یمکن ثبوته بشهادة رجل وامرأتین وعلّل ذلک بأن شهادة امرأتین منزّلة منزلة الشاهد الواحد فإذا حلف المدّعی زائداً علی ذلک (1) فحینئذ تثبت الدعوی لدی الحاکم .

ویُلاحظ علیه أن قبول شهادة رجل وامرأتین فی ثبوت الدین علی المیت لا تتوقف علی التنزیل فإنه یمکن التمسّک بدلیل اعتبار شهادة رجل وامرأتین لإثبات الحقّ علی المیت وعلی الحی سواء ثبت التنزیل أو لم یثبت .

وبعبارة أخری : أن قبول شهادة رجل وامرأتین لإثبات الدین علی المیت لیس فیه محذور اللغویة المطروح فی قبول شهادة الشاهد الواحد والیمین فیمکن التمسّک بدلیل اعتباره لإثبات الدین علی المیت کما هو الحال فی الدین علی الحی ، نعم .. هو یفتقر إلی ضمّ الیمین ولکنه لا یتوقف علی التنزیل فلو فُرض أنه لم یقم دلیل علی تنزیل شهادة امرأتین منزلة شهادة الشاهد الواحد فمع ذلک یکفی دلیل اعتباره لإثبات الحقّ علی المیت من غیر حاجة إلی التنزیل ولا یلزم من ذلک محذور لأن المحذور الذی ذُکر یختص بالاعتماد علی شاهد ویمین وهو أن هناک روایة معتبرة بحسب الفرض - وهی صحیحة الصفار - تدلّ علی اعتبار أمر زائد علی الشاهد والیمین وهو انضمام شهادة الوصی إلیهما بمعنی أنها تدل علی عدم کفایة الشاهد والیمین فی إثبات الدین علی المیت ، وهذا منافٍ لدلیل اعتبار الشاهد والیمین لإثبات الحق علی المیت ، ومن الواضح أن هذا المحذور یختصّ بالشاهد والیمین ولا یشمل محلّ الکلام من شهادة رجل وامرأتین فهو غیر منظور له فی الصحیحة أصلاً حتی یقال بکونها دلیلاً علی عدم اعتبار شهادة رجل وامرأتین فی ثبوت الحق علی المیت .

ص: 529


1- (1) أی علی شهادة رجل وامرأتین .

قال (قده) فی المسألة التاسعة عشر :

" لو قامت البینة بدین علی صبی أو مجنون أو غائب فهل یحتاج إلی ضم الیمین ؟ فیه تردد وخلاف والأظهر عدم الحاجة إلیه " .

محلّ الکلام فی التعدّی من دعوی الدین علی المیت إلی کل من لیس له لسان فعلیّ کالصبی والمجنون والغائب فعلی القول بالتعدّی یلزم ضم الیمین کما فی المیت وعلی القول بالعدم لا یلزم ذلک والصحیح هو الثانی وقد مرّ بحث هذه المسألة مفصّلاً والنتیجة هی النتیجة من أن التعدّی مشکل فالحکم حینئذ یکون علی مقتضی القاعدة من کفایة البیّنة فی دعوی الدین علی المذکورین من غیر حاجة إلی ضم الیمین .

قال (قده) فی المسألة العشرین :

" لا یجوز الترافع إلی حاکم آخر بعد حکم الحاکم الأول ، ولا یجوز للآخر نقض حکم الأول إلا إذا لم یکن الحاکم الأول واجداً للشرائط أو کان حکمه مخالفاً لما ثبت قطعاً من الکتاب والسنة " .

محلّ الکلام فی حکم الترافع إلی حاکم آخر بعد أن رُفعت الدعوی إلی حاکم واجد للشرائط وحکم فیها علی طبق الموازین المعتبرة فی باب القضاء فالکلام تارة من جهة المترافِعَین وأخری من جهة المترافع إلیه وهو الحاکم الآخر فأما من جهة المترافِعَین (1) فقد أفتی السید الماتن (قده) بعدم جواز أن یترافعا إلی حاکم آخر بعد حکم الحاکم الأول ، وأما من جهة الحاکم الآخر فأفتی (قده) بعدم جواز أن ینقض حکم الأول ، واستثنی من ذلک صورتین :

ص: 530


1- (2) وبالخصوص المحکوم علیه فإنه هو الذی یهمّه إعادة رفع الدعوی إلی حاکم آخر .

الأولی : ما إذا لم یکن الحاکم الأول واجداً للشرائط .

والثانیة : ما إذا کان حکم الحاکم الأول مخالفاً لما ثبت قطعاً من الکتاب والسنة .

وأقول : أما بالنسبة إلی حرمة الترافع إلی حاکم آخر بعد حکم الحاکم الأول فالظاهر أنه مما لا إشکال فیه وذلک لمنافاته (1) لما دلّ من الأدلة علی نفوذ حکم الحاکم ولزوم ترتیب الأثر علیه ووجوب قبوله ولا إشکال فی أن الترافع إلی حاکم آخر یکون منافیاً لذلک فیجب قبول حکم الأول ویجب ترتیب الأثر علیه .

وبعبارة أخری : أنه لا إشکال - کما تقدّم - فی نفوذ حکم الحاکم الجامع للشرائط فی حقّ المتخاصمین من جهة أن الغرض من القضاء إنما هو إنهاء النزاع وفصل الخصومة ، ومن الواضح أنه لا معنی لذلک إذا لم یکن حکم الحاکم نافذاً وواجب الاتباع ولزوم ترتیب الأثر علیه فإنه إذا لم یکن کذلک فحینئذ لا یتحقق الغرض المزبور بل قد تقدّم سابقاً أن أصل تصور کون القضاء مشروعاً من دون نفوذ للحکم غیر صحیح فإن من لوازم مشروعیة القضاء أن یکون نافذاً وإلا فلا یتحقق الغرض المطلوب منه .

وبناء علی هذا فلا یجوز للمتخاصمین رفع القضیة إلی حاکم آخر بل لا یجوز للحاکم الآخر النظر فی هذه القضیة لغرض الحکم بها الذی قد یکون منافیاً للحکم الأول فإنه لا إشکال فی کونه ردّاً للحکم مع أن الروایات وخصوصاً المقبولة تصرّح بأن الرادّ علیه کالرادّ علی الأئمة (علیهم السلام) وهو علی حدّ الشرک بالله ولا إشکال فی أن نقض الحکم الأول یکون ردّاً له .

ص: 531


1- (3) أی الترافع إلی حاکم آخر .

هذا مع افتراض أن حکم الحاکم الأول کان علی طبق الموازین المعتبرة فی باب القضاء ، والأحکام المذکورة من حرمة الترافع وحرمة النظر لأجل إعادة الحکم وحرمة النقض هی قضایا مسلّمة عندهم إلا أنها مسلّمة فی الجملة بمعنی أن هناک بعض الحالات قد یقال - بل قد قیل - باستثنائها کلاً أو بعضاً من هذه القاعدة الأولیة (1) علی نحو التخصّص لا علی نحو التخصیص منها ما ذکره السید الماتن (قده) من استثناء الصورتین المذکورتین فی کلامه :

الأولی : ما إذا کان الحاکم بالحکم الأول فاقداً للشرائط المعتبرة فی القاضی کالعدالة أو الاجتهاد ففی هذه الحالة لا إشکال فی عدم حرمة الترافع إلی غیره وعدم حرمة النظر من قبل الغیر لأجل إعادة الحکم وعدم حرمة النقض من قبله فإن حکم مثل هذا الحاکم غیر الجامع للشرائط المعتبرة لیس حکماً بحکمهم (علیهم السلام) فإن المقصود بحکمهم (علیهم السلام) هو حکم الحاکم الواجد للشرائط فإذا ظهر أن الحاکم کان فاقداً لها حین الحکم فلا یکون حینئذ حکمه نافذاً ولا معتبراً ولا تشمله المقبولة المتقدّمة فالشارع المقدّس لا یرید فصل القضیة بأیّ حکم حاکم کان ولذا اشترط فیه شرائط معیّنة فاستثناء هذه الصورة أشبه بالاستثناء المنقطع لأنه خروج عن الموضوع لا خروج عن الحکم لأن فرض مسألتنا من حرمة الترافع وحرمة النظر لأجل إعادة الحکم وحرمة النقض إنما هو مفروض فی حاکم جامع للشرائط ویحکم علی طبق الموازین .

الصورة الثانیة : ما إذا کان حکم الحاکم مخالفاً لدلیل قطعی من الکتاب والسنة کما إذا حکم حاکم بحلیة الأخت الرضاعیة غافلاً عن أدلة تحریم الرضاع أو متعمّداً فبالنتیجة یکون حکمه مخالفاً لدلیل قطعی من الکتاب والسنة ففی هذه الحالة لا إشکال فی کون حکمه لیس نافذاً ولا مشمولة للأدلة التی تعتبر حکم الحاکم حکمهم (علیهم السلام) .

ص: 532


1- (4) أی حرمة الترافع وحرمة النظر لأجل إعادة الحکم وحرمة النقض .

وهذه الصورة کسابقتها فی کونها خروجاً عن الموضوع فهو استثناء من باب التخصّص أیضاً لما تقدّم ذکره .

وقد یقال بوجود صورة ثالثة غیر هاتین الصورتین تُستثنی من الحکم السابق بحرمة النقض وهی حالة تراضی الخصمین برفع الدعوی نفسها التی حکم بها الحاکم الأول إلی حاکم آخر فقالوا فی هذه الحالة بجواز الترافع وجواز نظر الحاکم الآخر لأجل إعادة الحکم وعدم حرمة النقض حتی إذا کان الحاکم الأول جامعاً للشرائط ولم یکن حکمه مخالفاً لدلیل قطعی من الکتاب والسنة بل کان حکمه طبقاً لدلیل اجتهادی وعن إعمال لنظره ، وممن ذهب إلی هذا الرأی الشیخ صاحب الجواهر (قده) وتبنّاه السید صاحب العروة (قده) مستدلاً علیه فی ملحقاتها بعدم صدق ردّ الحکم مع افتراض تراضی الخصمین برفع القضیة إلی حاکم آخر لاسیما إذا کان الترافع إلی حاکم ثانٍ لاحتمال خطأ الحاکم الأول ولاسیما إذا کان الحاکم الأول نفسه أراد تجدید النظر فی مقدمات حکمه .

ولکن هذا الرأی لم یقبل به المتأخرون وأشار إلیه السید الماتن (قده) فی کلامه والظاهر منه عدم قناعته به بمعنی أنه یری أن حرمة الترافع وحرمة النقض ثابتة مطلقاً سواء تراضی الخصمان بالدعوی عند حاکم آخر أو لم یتراضیا ، ولعل السرّ فی ذلک هو أن الدلیل علی عدم جواز النقض ونفوذ حکم الحاکم وجوب الالتزام بحکمه لا ینحصر بالمقبولة حتی یقال إنه إذا لم یصدق الردّ علی الترافع إلی حاکم آخر ونقض الحکم من قبله فی صورة التراضی فلا دلیل علی التحریم حینئذ .

أقول : هناک من الأدلة ما یکفی لإثبات حرمة النقض بقطع النظر عن المقبولة وهو ما أشرنا إلیه من أنه لا تُتصوّر مشروعیة القضاء إلا إذا کان نافذاً فالتفکیک بین مشروعیة القضاء ونفوذه غیر متصور لخصوصیة فیه وهی أن القضاء إنما شُرّع لغرض الفصل فی الخصومات وإنهاء النزاعات ومن لوازم ذلک أن یکون نافذاً وواجب الاتباع لا أنه یجوز نقضه لکل أحد ، ولا علاقة لتراضی الخصمین وعدم تراضیهما بذلک .

ص: 533

وتتمة الکلام تأتی إن شاء الله تعالی .

إعادة طرح المسألة العشرین / هل أن حکم الحاکم نافذ وعلی فرض نفوذه فهل هو مطلق / الحالات التی وقع التشکیک فی نفوذ حکم الحاکم فیها / الحالة الأولی : فرض العلم بخطأ الحکم / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) بحث الفقه

(بحث یوم الأحد 21 جمادی الثانیة 1433 ه_ 132)

الموضوع :- إعادة طرح المسألة العشرین / هل أن حکم الحاکم نافذ وعلی فرض نفوذه فهل هو مطلق / الحالات التی وقع التشکیک فی نفوذ حکم الحاکم فیها / الحالة الأولی : فرض العلم بخطأ الحکم / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) .

تقدّم الکلام فی المسألة العشرین ولا بأس بإعادة طرحها لمزید التوضیح ، فأقول :

هناک أمور ثلاثة :

الأول : فی حکم الترافع من قبل المتخاصمین أو أحدهما إلی حاکم آخر بعد حکم الحاکم الأول فهل هو جائز أم لا ؟

الأمر الثانی : أنه بعد فرض إعادة رفع القضیة إلی حاکم آخر فهل یجوز له النظر فیها لأجل الحکم أم لا ؟

الأمر الثالث : أنه بعد فرض نظر الحاکم الآخر فی القضیة التی فُرض إعادة رفعها إلیه وکان رأیه فی الحکم فیها مخالفاً لرأی الحاکم الأول فهل یجوز له نقض حکمه (1) أم لا ؟

ومعرفة حکم هذه الأمور الثلاثة من حیث الجواز وعدمه یرتبط فی الحقیقة ببحث قضیة تقدّمت الإشارة إلیها وهی أن حکم الحاکم هل هو نافذ أم لا ؟ وإذا کان نافذاً فهل یکون نفوذه عاماً بالنسبة إلی جمیع الأحوال وبالنسبة إلی کل الأشخاص أم یکون نافذاً فی الجملة بالنسبة إلی هذین الأمرین ؟

ص: 534


1- (1) أی حکم الحاکم الأول .

والسرّ فی هذا الارتباط هو أن نفوذ حکم الحاکم یقتضی عدم الجواز فی الأمور الثلاث فإن معنی نفوذ حکمه هو مضیّه علی جمیع الأطراف ولزوم تسلیمهم له وقبولهم به ولازمه عدم جواز أیّ عمل یستلزم ردّه وعدم الإذعان له ، وإعادة رفع القضیة نفسها إلی حاکم آخر ونظره فیها لأجل أن یُصدر حکمه ونقضه للحکم السابق فیه منافاة واضحة لنفوذ حکم الحاکم الأول .. ومن هنا کان لا بد من إثبات أن حکم الحاکم هل هو نافذ أم لا وأنه علی تقدیر نفوذه هل یکون نافذاً فی جمیع الحالات وبالنسبة إلی کل الأشخاص أم أنه یکون نافذاً فی الجملة .

ومما لا إشکال فیه أنه علی تقدیر النفوذ وکونه ثابتاً مطلقاً (1) فالحکم هو عدم الجواز فی الأمور الثلاثة المتقدّمة جمیعاً فلا الترافع ولا النظر ولا النقض یکون جائزاً لأن هذا کله خلاف نفوذ حکم الحاکم .

وأما إذا فُرض ولو فرضاً ثبوتیاً کون النفوذ ثابتاً فی الجملة (2) فلا بد حینئذ من التقیّد بذلک فإذا کان نافذاً فی حقّ المحکوم علیه فقط دون غیره لم یجز له ردّ الحکم برفعه إلی حاکم آخر لأن المفروض أن الحکم نافذ بحقّه ، وأما غیره فحیث لم یکن الحکم نافذاً بحقّه بحسب الفرض فیجوز له ردّه ، کما أنه لو فُرض أنه استفید من الأدلة أن حکم الحاکم یکون نافذاً فی حالة معیّنة فعدم جواز الردّ وإعادة رفع القضیة إلی حاکم آخر ونظره فیها ونقضه للحکم السابق إنما یثبت فی تلک الحالة وأما فی غیرها فتلک الأمور کلّها تکون جائزة .

ص: 535


1- (2) أی بلحاظ جمیع الحالات والأشخاص .
2- (3) أی فی حقّ شخص دون آخر أو فی خصوص حالة دون أخری .

إذا تبیّن هذا فأقول :

لا ینبغی الإشکال أو الشکّ فی نفوذ حکم الحاکم فی الجملة لدلالة المقبولة علیه أولاً لکونها صریحة فی نسبة حکم الحاکم إلیهم (علیهم السلام) بل جعله حکمهم وأن الرادّ علیه کالرادّ علیهم والرادّ علیهم کالرادّ علی الله وهو علی حدّ الشرک بالله تعالی ولا ریب أن معنی هذا نفوذ حکمه وعدم جواز ردّه ، وکذا دلالة ما أشیر إلیه سابقاً من عدم تعقّل مشروعیة القضاء من دون النفوذ .

وبعبارة أخری : أن القضاء إما أن لا یکون مشروعاً فلا یکون نافذاً أو إذا کان مشروعاً فیجب أن یکون نافذاً فالتفکیک بین المشروعیة والنفوذ بأن یکون القضاء مشروعاً ولکنه لیس نافذاً غیر متصوّر فی المقام ، والمراد من المشروعیة هاهنا لیست المشروعیة المستفادة من الأصل العملی کالاستصحاب بل تلک المستفادة من الأدلة الخاصة الواردة فی باب القضاء وهی تکون ملازمة لنفوذ القضاء قهراً لأن المستظهر من تلک الأدلة - کما تقدّم مراراً - أن تشریع القضاء إنما هو لإنهاء النزاع وحلّ الخصومة وغلق القضیة حتی لا تبقی مثاراً للجدل والنزاع والخصومة وتحقیق هذا الغرض یتوقف علی نفوذ حکم الحاکم ، ومن هنا نقول إن المشروعیة بلا فرض النفوذ لیس لها معنی وعلی ذلک فالالتزام بمشروعیة القضاء - کما یدل علیه الدلیل - التزام بنفوذ حکم الحاکم بالملازمة .

إذا تبیّن هذا فیقع الکلام فی حدود هذا النفوذ فهل هو مطلق أم مقیّد ؟

ولا بدّ من الإشارة أولاً إلی أن حکم الحاکم إنما یکون مشروعاً ونافذاً إذا کان علی طبق الموازین المقررة شرعاً فی باب القضاء ، وهذا واضح بملاحظة أدلة المقام کالمقبولة فإن مقصوده (علیه السلام) من حکم الحاکم إنما هو الحکم الصادر علی طبق الموازین المقررة من حاکم جامع للشرائط المعتبرة فذاک هو الذی جعله (علیه السلام) بمنزلة حکمه وأن الرادّ علیه رادّ علیه (علیه السلام) وهو علی حدّ الشرک بالله ، وأما الحکم المخالف لتلک الموازین فمن الواضح أنه لیس حکمهم (علیهم السلام) ولذا لا یکون مشمولاً لأدلة المشروعیة والنفوذ فلا یحرم ردّه ولا إعادة رفع القضیة إلی حاکم آخر ولا یحرم کذلک نظره فیها أو نقضه للحکم السابق فالمیزان العام إذاً للحکم النافذ هو ما کان علی طبق الموازین الشرعیة المقررة فی باب القضاء فما لا یکون کذلک لا یکون نافذاً وبالتالی یجوز معه الردّ والنظر والنقض ولذلک استُثنی کما فی المتن صورتان علی نحو الخروج الموضوعی والاستثناء التخصّصی إحداهما ما إذا کان الحاکم فاقداً لبعض الشرائط المعتبرة قطعاً فی باب القضاء کالعدالة ، والأخری ما إذا کان حکمه مخالفاً لدلیل قطعی من الکتاب والسّنة .

ص: 536

نعم .. هناک حالات وقعت محلاً للکلام فی أن حکم الحاکم هل یکون نافذاً فیها أم لا وذلک من جهة التشکیک فی أن الحکم فی مواردها هل هو واجد للموازین المعتبرة أم لیس واجداً لها أو قد یکون واجداً بحسب الظاهر لها ومع ذلک یقع التشکیک فی نفوذه ، وهی :

الحالة الأولی : فرض العلم بخطأ الحکم .

ومُثّل له بما لو رُفع إلی قاضِ نزاعٌ فی دار وکان المدّعی یملک بیّنة فحکم الحاکم استناداً إلی بینته - التی یُفترض أنها واجدة للشرائط المعتبرة فی باب البیّنة کما هو المیزان المقرّر شرعاً - بأن الدار للمدّعی لکنّ الطرفَ الآخر وهو المحکوم علیه أو شخصاً آخر غیره أجنبیاً عن القضیة کان یعلم بأن الحکم غیر مطابق للواقع وأن الدار لیست للمدّعی فالحکم هنا وإن کان علی طبق الموازین الظاهریة إلا أنه لیس مطابقاً للواقع ففی هذه الحالة هل یکون نافذاً أم لا ؟ وهل یجوز للمحکوم علیه أو للشخص الأجنبی أن یعمل عملاً منافیاً لهذا الحکم کاشفاً عن ردّه وعدم قبوله به ؟

الظاهر عدم جواز ذلک فإن حکم الحاکم فی الحالة المذکورة یکون نافذاً فی حقّ المحکوم علیه وفی حقّ الشخص الآخر وواجب الاتّباع فلا تجوز مخالفته مطلقاً سواء تمثّلت بالترافع إلی حاکم آخر أو بنقض الحکم أو بالإتیان بعمل خارجی منافٍ لما یقتضیه ذلک الحکم فإن الردّ یصدق فی کل تلک الحالات لحکم مشروع نافذ والردّ محرّم ، والدلیل علیه إطلاق المقبولة فیشمل المحکوم علیه وغیره ، ولم تؤخذ فیها المطابقة للواقع حتی یقال بأن الحکم الظاهری إذا کان یُعلم بمخالفته للواقع لا یکون حجة بل المعوّل علی الحکم الجاری علی وفق الموازین المقررة شرعاً ولو کان مخالفاً فی نظر بعض أطراف الدعوی أو غیرها للواقع بغض النظر عن قراءة الأفعال الواردة فی المقبولة بالبناء للمجهول أو المعلوم (1) أما علی الأول فواضح وأما علی الثانی فلأنه لا یُقصد أن یکون هذا حکم الله فی حقّ المحکوم علیه فقط وإنما المقصود أن هذا حکم یُنهی القضیة والخصومة وهذا یُناسب أن یکون نافذاً فی حقّ الجمیع .

ص: 537


1- (4) أی سواء قُرئت : (فلم یُقبَل منه .. فقد استُخفّ .. وعلینا رُدّ) بضم الیاء من الفعل الأول والتاء من الثانی والراء من الثالث أو قُرئت : (فلم یَقبَل منه .. فقد استَخفّ .. وعلینا رَدّ) بفتحها فی الجمیع .

إذاً مقتضی إطلاق المقبولة هو النفوذ فی حقّ الجمیع من دون فرق بین المحکوم علیه والمحکوم له وحاکم آخر مجتهد أو غیر مجتهد فلا یجوز الترافع والنظر والنقض مطلقاً .

هذا هو الصحیح فی هذه الحالة الأولی .

وسیأتی الکلام فی بقیة الحالات إن شاء الله تعالی .

المسألة العشرون / الموارد التی وقع الکلام فی نفوذ الحکم فیها وعدم نفوذه / المورد الثانی : ما إذا حکم الحاکم علی أساس میزان ثم ظهر میزان سابق علیه فی الاعتبار / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) بحث الفقه

(بحث یوم الاثنین 22 جمادی الثانیة 1433 ه_ 133)

الموضوع :- المسألة العشرون / الموارد التی وقع الکلام فی نفوذ الحکم فیها وعدم نفوذه / المورد الثانی : ما إذا حکم الحاکم علی أساس میزان ثم ظهر میزان سابق علیه فی الاعتبار / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) .

کان الکلام فی استعراض الموارد التی وقع الکلام فی نفوذ حکم الحاکم فیها وعدم نفوذه وذکرنا المورد الأول وهو العلم بخطأ الحکم واقعاً وقلنا بأن ظاهر الأدلة یقتضی النفوذ مطلقاً علی المحکوم علیه وعلی غیره ، وأما المطابقة للواقع فهی غیر معتبرة ما دام الحکم کان علی طبق الموازین کما هو المفروض فی محلّ الکلام .

ولکن هناک فی المقابل من منع من ذلک وقال بأنه فی فرض المخالفة للواقع لا یکون حکم الحاکم نافذاً بمعنی أنه یجوز للمحکوم علیه ولغیره ردّه ونقضه بل ترقّی بعضهم إلی القول بوجوب الردّ والنقض واستُدلّ علیه بأن حکم الحاکم إنما یکون معتبراً فی حالات الشک وعدم العلم بالخلاف کما هو شأن الأحکام الظاهریة وأما حیث یُعلم بمخالفته للواقع فلا یکون حینئذ معتبراً أصلاً فیجوز ردّه ونقضه وذلک من جهة أن حکم الحاکم مأخوذ علی نحو الطریقیة إلی الواقع وشأن الأحکام الطریقیة أن تکون معتبرة فی حالات الشک وعدم العلم وأما فی حالة العلم بالخلاف فلا تکون معتبرة ولا مشمولة ًلأدلة النفوذ .

ص: 538

إن قیل : إنه حیث کان حکم الحاکم علی طبق الموازین المنصوبة من قبل الشارع المقدّس کما هو المفروض فیکون من صغریات قوله (علیه السلام) : (إذا حکم بحکمنا فلم یُقبل منه فقد استُخف بحکم الله) إذ یصدق علی من یحکم وفقاً للموازین المعتبرة من قبلهم (علیهم السلام) أنه حکم بحکمهم.

فإنه یقال : إنه لمّا کان المقصود من حکمهم هو حکمهم المطابق للواقع وکان حکم الحاکم بحسب الفرض مخالفاً له لم یکن حینئذ حکمهم ولم یکن مشمولاً لمنطوق الروایة الشریفة .

هکذا قد یُدّعی فی المقام ولکنه ممنوع لأنه یبتنی علی أن حکم الحاکم مأخوذ علی نحو الطریقیة وأن المقصود بقوله (علیه السلام) : (إذا حکم بحکمنا) هو حکمهم الواقعی فحکم الحاکم الذی یکون موافقاً له هو الذی یکون عدم قبوله استخفافاً بحکم الله والرادّ علیه رادّ علیهم (علیهم السلام) وأما الذی یکون مخالفاً له فی ما لو فُرض انکشاف الخلاف فلا یکون حکماً بحکمهم وإن کان علی طبق الموازین الظاهریة فی باب القضاء ، ولکن هذا المبنی ضعیف فإن الصحیح أن حکم الحاکم الواجد للشرائط الذی یکون علی طبق الموازین المقرّرة شرعاً مأخوذ علی نحو الموضوعیة فلا یؤثّر فیه انکشاف مخالفته للواقع لأن المطابقة للواقع وعدمها غیر مأخوذة فی اعتباره فلذا یکون نافذاً علی جمیع الأطراف حتی مع انکشاف الخلاف فهو فی الحقیقة فی عرض الواقع لا فی طوله حتی یکون طریقاً إلیه .. هذا هو المفهوم من الأدلة وأن المراد بقولهم : (إذا حکم بحکمنا) لیس هو الحکم النفس الأمری الواقعی بل الحکم الجاری علی وفق الموازین المنصوبة من قبلهم (علیهم السلام) فی باب القضاء وأما قضیة المطابقة للواقع فهی لیست مطلوبة من الحاکم بل لیست مطلوبة من المعصوم (علیه السلام) ولذا کان النبی (صلی الله علیه وآله) یقول : (وإنما أقضی علی نحو ما أسمع فمن اقتطعت له قطعة من مال أخیه فإنما أقطع له قطعة من النار) (1) فی إشارة إلی أن حکمه (صلی الله علیه وآله) لمّا کان علی وفق البیّنات والأیمان فقد یتّفق کونه مخالفاً للواقع فالمطلوب من الحاکم أن یحکم علی طبق الموازین بغضّ النظر عن مدی إصابة حکمه للواقع وعدمها ، وآثار النفوذ من وجوب القبول وحرمة الردّ وغیرهما إنما تترتب علی هذا الحکم .

ص: 539


1- (1) معانی الأخبار للصدوق ص279 .

هذا هو الصحیح وإن کان هناک من یخالف فیه .

المورد الثانی : ما إذا حکم الحاکم علی أساس میزان ثم ظهر میزان سابق علیه فی الاعتبار بنحو لو کان موجوداً عنده لحکم علی طبقه دون ما حکم به أولاً .

وفرض هذا المورد ما لو حکم الحاکم لصالح المنکر - مثلاً - اعتماداً علی یمینه من جهة أن المدّعی لا یملک بیّنة ثم بعد صدور الحکم ظهرت بیّنة للمدّعی ففی هذه الحالة هل یجوز نقض هذا الحکم علی أساس ظهور میزان هو أسبق رتبة علی ما اعتمده الحاکم أعنی یمین المنکر - أم یکون بالرغم من ذلک نافذاً فلا یجوز نقضه سواء من قبل الحاکم نفسه أو من قبل حاکم آخر ؟

لا یبعد القول بالنفوذ کما هو المعروف بینهم فلا یجوز للحاکم أو لغیره نقض الحکم الصادر علی طبق یمین المنکر والاستناد إلی بینة المدّعی التی ظهرت بعده ، ویُستدل علیه (1) بأمور :

الأمر الأول : مقبولة عمر بن حنظلة (2) بتقریب دلالتها علی نفوذ الحکم الصادر علی طبق الموازین ووجوب قبوله وحرمة نقضه ، وهذا الحکم عندما صدر کان بحسب الفرض علی طبق الموازین حیث رسم له الشارع المقدّس أنه إذا لم تکن بیّنة فالحکم یکون علی طبق یمین المُدّعی علیه وفی المقبولة أنه إذا حکم بحکمنا - وحکمهم هو ما کان علی طبق الموازین المقررة من قبلهم (علیهم السلام) - فلم یُقبل منه فإنما بحکم الله استخفّ وعلینا ردّ فتکون شاملة لمثل هذا الحکم ودالة علی نفوذه ، وأما تقیید نفوذ هذا الحکم فی الروایة بعدم ظهور میزان آخر بعد صدوره فهو مما یفتقر إلی دلیل وهو منفی بالإطلاق فإن مقتضی إطلاق الروایة نفوذ هذا الحکم حتی إذا ظهر میزان آخر بحیث لو کان موجوداً لکان الحاکم یستند إلیه فی إصدار حکمه فعمدة الدلیل فی المقام إذاً هو التمسّک بالإطلاق .

ص: 540


1- (2) أی علی نفوذ حکم الحاکم فی هذا المورد .
2- (3) الکافی مج1 ص67 .

الأمر الثانی : صحیحة ابن أبی یعفور التی ورد فیها قوله (علیه السلام) : (ذهبت الیمین بحق المدعی فلا دعوی له) (1) بتقریب أن الحاکم حکم علی طبق یمین المُدّعی علیه لکون المدّعی لیست له بیّنة ومقتضی الروایة أن الیمین ذهبت بحق المدّعی فلا دعوی له ویُتمسّک بإطلاقها لشمول المورد لتدل علی إذهاب الیمین لحقّ المدّعی حتی إذا ظهر میزان آخر هو أولی من الأول بالاعتماد کما لو جاء ببینة بعد ذلک .

الأمر الثالث : ما تقدّم مراراً من أن الغرض من تشریع القضاء وإصدار الأحکام إنما هو إنهاء الخصومات وحسم النزاعات وهذا مما ینافیه تعلیق مضیّ الحکم علی عدم ظهور میزان آخر فإن معنی هذا أنه لم یُفصل فی القضیة جزماً وهذا لو جاز لعمّ مطلق القضایا فإنه یمکن افتراض أن کل حکم یتعقّبه ظهور میزان جدید لو کان موجوداً لحکم الحاکم علی طبقه ولم یأخذ بالمیزان الأول کما لو فُرض أن المنکر امتلک بعد حکم الحاکم علی وفق بیّنة المدّعی ما یقدح فی هذه البیّنة فإنه حینئذ یُصار إلی طلب یمین المُدّعی علیه .. فإذاً یمکن القول إنه فی غالب الحالات یمکن أن یکون حکم الحاکم معلّقاً علی عدم ظهور میزان آخر ولا یکون فاصلاً فی القضیة ومنهیاً للخصومة والنزاع وهذا مما ینافی الغرض من تشریع القضاء .

فإذاً یمکن الاستناد إلی هذه الأدلة لإثبات ما هو المختار والمعروف بینهم من نفوذ حکم الحاکم حتی فی حالات العلم بالخطأ .

نعم .. هناک حالة تُستثنی من الحکم بالنفوذ وهی ما إذا کان المحکوم علیه غائباً وحکم الحاکم اعتماداً علی میزان من موازین القضاء کما لو فُرض غیاب المدّعی علیه وقد أقام المدّعی بینة علی دعواه واعتمد الحاکم علی هذه البیّنة وحکم لصالحه فإنه إذا حضر المُدّعی علیه وجاء بما ینقض بینة المدّعی - کما لو أقام بینة علی کذب بینة المدّعی وعدم صلاحیتها للاستناد إلیها - ففی هذه الحالة لا یکون حکم الحاکم نافذاً وکان نقضه جائزاً .

ص: 541


1- (4) الکافی مج7 ص417 .

والدلیل علی هذا الاستثناء هو النصّ الخاص کما تقدّم فی بحث سابق وهو مرسل جمیل بن درّاج عن جماعة من أصحابنا عنهما (علیهما السلام) : " قالا : الغائب یُقضی علیه إذا قامت علیه البینة ویُباع ماله ویُقضی عنه دینه وهو غائب ویکون الغائب علی حجته إذا قدم ، قال : ولا یُدفع المال إلی الذی أقام البینة إلا بکفلاء " (1) فیجوز للحاکم طبقاً لهذا النصّ أن یحکم علی الغائب ولکن یبقی الغائب علی حجته بمعنی أنه إذا جاء بحجة أقوی من حجة الحاضر الذی حُکم له فتقدّم حجته الأقوی فیکون هذا نقضاً للحکم السابق ویکون الحکم فی هذه الحالة متوقفاً علی عدم مجیء الغائب بحجة أقوی من حجة الحاضر .

هذا من حیث دلالة الروایة ، وأما من حیث سندها فقد مرّ فی بحث سابق الکلام علیه وخلصنا إلی القول بصحته لکن بالطریق الثانی الذی یذکره الشیخ الطوسی (قده) حیث إنه ینقل هذه الروایة بثلاثة طرق - فإنه لا مشکلة فیه سوی الإرسال من جهة جمیل وقد تمّ تجاوز هذه المشکلة باعتبار أن جمیلاً یرسلها عن جماعة من أصحابنا ومن غیر المحتمل أن یکون کل هؤلاء الجماعة التی ینقل عنهم من غیر الثقاة ولا أقل من أن یکون واحد منهم من الثقاة فإنه إذا لوحظت نسبة الثقاة من مشایخ جمیل إلی غیر الثقاة منهم فبحسب حساب الاحتمالات یُطمأن بأن واحداً منهم علی الأقل ثقة .

المورد الثالث : ما إذا کان حکم الحاکم مستنداً إلی علمه الخاص .

وقد وقع الخلاف فی جواز نقضه بناءً علی أن إحدی طرق الإثبات هو حکم الحاکم مطلقاً أو بالقیود المتقدّمة ففی هذه الحالة هل یجوز للمحکوم علیه أن یرفع القضیة إلی حاکم آخر لیس لدیه علم خاص وهل یجوز له أن ینقض حکم الحاکم الأول الذی استند إلی علمه الشخصی ؟

ص: 542


1- (5) التهذیب مج6 ص296 ، الوسائل مج27 ص294 .

هذا ما سیأتی الکلام فیه إن شاء الله تعالی .

المسألة العشرون / الموارد التی وقع الکلام فی نفوذ الحکم فیها وعدم نفوذه / المورد الأول : العلم بخطأ الحاکم واقعاً / مراجعة إلی المورد الأول وبسط الکلام فیه / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) بحث الفقه

(بحث یوم الثلاثاء 23 جمادی الثانیة 1433 ه_ 134)

الموضوع :- المسألة العشرون / الموارد التی وقع الکلام فی نفوذ الحکم فیها وعدم نفوذه / المورد الأول : العلم بخطأ الحاکم واقعاً / مراجعة إلی المورد الأول وبسط الکلام فیه / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) .

کان الکلام فی استعراض الموارد التی وقع الکلام فی نفوذ حکم الحاکم فیها وعدم نفوذه وجواز نقضه وعدم جوازه وتقدّم ذکر المورد الأول وهو العلم بخطأ الحاکم واقعاً .

ولمزید البیان لهذا المورد أقول :

لقد ذکرنا أن فی هذا المورد رأیین :

الرأی الأول : جواز نقض حکم الحاکم عند العلم بخطئه وعدم مطابقته للواقع .

الرأی الثانی : عدم جواز نقض حکم الحاکم وإن عُلِم بخطئه وعدم مطابقته للواقع لأنه حکم نافذ بمقتضی الأدلة .

وقد اختار جماعة من المحقّقین الأول واختار آخرون الثانی .

وهذا الرأیان (مع افتراض أن الحکم فی کل منهما کان علی طبق الموازین ولم یکن هناک تخلّف فی تطبیقها مطلقاً عدا کون الحکم غیر مطابق للواقع) یبتنیان فی الحقیقة علی تحقیق جهة مهمة (غیر مسألة إصابة الحکم للواقع فإنها وإن کانت مسألة ملحوظة إلا أنها لیست هی المناط فی اعتباره وجعله نافذاً) وهی أن حکم الحاکم الوارد فی الأدلة هل هو مأخوذ فیها علی نحو الطریقیة الصرفة أم هو مأخوذ علی نحو الموضوعیة المحضة ؟

ص: 543

والکلام فی هذه الجهة فی مقامین : ثبوتاً وإثباتاً :

أما فی مقام الثبوت : فالحکم بالمنظور الأول یکون کسائر الطرق والإمارات کاشفاً محضاً عن الحکم الشرعی الواقعی فیُتصوّر فیه انکشاف الخطأ ، وبناءً علیه یتّجه ما علیه الرأی الأول من جواز النقض لأنه إنما یکون معتبراً ونافذاً عند الشک فی مطابقته للواقع ، وأما مع العلم بعدم إصابته له فلا یکون نافذاً فیتّجه حینئذ جواز نقضه .

وأما بالمنظور الثانی فیکون تطبیقاً للحکم الشرعی الواقعی فی مورده فالمطلوب بالحکم هنا إنهاء الخصومات وحلّ المنازعات والفصل فی القضایا وهی العلة فی اعتباره فلیس الحاکم وفق هذا المنظور - مجرد ناقل للحکم الشرعی ومخبر عنه کما هو الحال فی المفتی حیث إنه بمعنی من المعانی مخبر عن الحکم الذی یعتقده وأدّی إلیه اجتهاده وإنما المنظور فی الحاکم هنا أن یکون حکمه فیصلاً فی القضایا ورافعاً للخصومات فیکون حجة ونافذاً حتی فی حالات العلم بالخلاف والخطأ فیتّجه حینئذ القول بعدم جواز نقضه کما علیه الرأی الثانی .

وأما فی مقام الإثبات : فإن المستظهر من الأدلة فی باب القضاء أن الحکم شُرّع لغرض إنهاء الخصومة وفصل النزاع لأن الشارع المقدّس یعلم بأن إبقاء الخصومات قائمة دون إنهاء وفصل وإلزام الآخرین بالالتزام بهذا الفصل یکون مثاراً لاختلال النظام العام وموجباً لإثارة الفتن والصراعات لاسیما فی ذلک الزمان الذی کانت مثل تلک الخصومات تتطور وتؤدی إلی حروب بین القبائل والأقوام فالشارع المقدّس لاحظ هذا الجانب وشرّع القضاء واعتبر حکم الحاکم لهذا الغرض .

ومن الواضح أن هذا الغرض لا یتحقق فی ما لو کان حکم الحاکم مأخوذاً علی نحو الطریقیة المحضة لأن لازمه عدم نفوذه فی حالة العلم بالخطأ والخلاف ، ومن الواضح أیضاً أن هذه الحالة لیست نادرة وقلیلة الوقوع بل هی حالة عامة وشائعة إذ کثیراً مّا یحصل القطع بالخلاف فی معظم الدعاوی من قبل حاکم آخر أو من قبل أحد المتخاصمین فإن کل واحد منهما یجزم بأن الحقّ معه فإذا حکم الحاکم لأحدهما قَطَعَ المحکوم علیه بأن الحاکم قد أخطأ فی حکمه لأنه یری أن الحقّ له .

ص: 544

وحینئذ نقول : إنه مع کون هذه الحالة لیست قلیلة بل هی حالة شائعة فإذا جاز نقض الحکم لمن یقطع بخطأ الحاکم فیه لم یتحقّق الغرض من تشریع القضاء أعنی الفصل فی الخصومات وإنهاء النزاعات ، ویؤیِّد هذا المعنی :

أولاً : مقبولة عمر بن حنظلة فإنها واضحة الدلالة علی أن المراد بالحکم فی قوله (علیه السلام) : (فإذا حکم بحکمنا فلم یُقبل منه فإنما بحکم الله استخفّ وعلینا ردّ) هو الحکم علی طبق الموازین الموضوعة فی مقام الاجتهاد عموماً وفی باب القضاء بشکل خاص ، والمستفاد منها بمقتضی إطلاقها وعدم تقییدها بما إذا لم یُعلم بعدم المطابقة للواقع أن موضوع الحکم بالنفوذ هو حکم الحاکم الذی أدّی إلیه اجتهاده لا حکم الحاکم المطابق للواقع فیُستفاد منها نفوذ حکم الحاکم مطلقاً .. وهذا الأمر یکون واضحاً بملاحظة ما تقدّم ذکره من کون الغرض من تشریع القضاء إنما هو الفصل فی القضایا وحسم مادة النزاع فیها ومن أن حالات العلم بالخطأ فی الدعاوی لیست حالات نادرة وقلیلة فإنه مع ذلک یُلاحظ أن الإمام (علیه السلام) حکم فی هذه الروایة الشریفة بلزوم قبول حکم الحاکم وصرّح بان عدم قبوله یعنی الاستخفاف بحکم الله تعالی والردّ علی أولیائه الأطهار ولم یُقیّد القبول فیها بما إذا لم یُعلم بالخطأ والخلاف فتدل الروایة حینئذ علی لزوم قبول حکم الحاکم مطلقاً مما یعنی عدم جواز نقضه .

وثانیاً : صحیحة ابن أبی یعفور المتقدمة فإن الوارد فیها قوله (علیه السلام) : " إذا رضی صاحب الحق بیمین المنکر لحقه فاستحلفه فحلف أن لا حقّ له قِبَله ذهبت الیمین بحقّ المدّعی فلا دعوی له، قلت له : وإن کانت علیه بینة عادلة ؟ قال : نعم وإن أقام بعدما استحلفه بالله خمسین قسامة ما کان له وکانت الیمین قد أبطلت کل ما ادّعاه قِبَله مما قد استحلفه علیه " .

ص: 545

وهی تدل بوضوح علی أن یمین المُدّعی علیه التی هی أحد موازین باب القضاء إذا حکم الحاکم استناداً إلیها فإنها تذهب بحقّ المدّعی وتُسقط الدعوی ، ولم یُقیّد الحکم فیها بذهاب حقّ المدّعی بما إذا لم یُعلم بعدم مطابقته للواقع .

والنتیجة أن المستظهر من الأدلة أن حکم الحاکم مطلق فلا یبرّر نقضه العلم بالخطأ والخلاف ، نعم .. هناک خصوصیات فی موارد أخری وسیأتی الحدیث عنها - قد تبرّر النقض ولکن لم یُفترض فی محلّ الکلام وجود شیء منها البتة غایة الأمر حصول العلم بمخالفة حکم الحاکم للواقع بنظر الغیر .

هذا تمام الکلام فی المورد الأول .

المورد الثانی : وقد طرح فی البحث السابق ولا مزید علی ما طُرح فیه .

المورد الثالث : ما إذا کان حکم الحاکم مستنداً إلی علمه - بناءً علی أن علم الحاکم أحد طرق الإثبات القضائی ولیس مستنداً إلی بینة أو یمین أو إقرار فهنا هل یجوز لحاکم آخر لیس له مثل ذلک العلم بالقضیة أن ینظر فیها ویحکم بخلاف ما حکم به الحاکم الأول استناداً إلی بیّنة عنده - مثلاً وهل یجوز للمحکوم علیه فی القضیة أن یترافع إلی حاکم آخر أم لا یجوز کلا الأمرین بسبب أن حکم الحاکم المستند إلی علمه کحکمه المستند إلی البیّنة هو حکم نافذ یحرم ردّه ونقضه أو الترافع من قبل أحد المتخاصمین إلی حاکم آخر .

ربما یقال هنا باحتمال عدم نفوذ حکم الحاکم المستند إلی علمه علی أساس التفریق فی مستند الحاکم بین علمه وبین البیّنة فیُلتزم بعدم جواز نقض حکم الحاکم المستند إلی البیّنة باعتبار أنها کما هی حجة عند الحاکم الأول هی حجة أیضاً عند الحاکم الثانی فلا یبقی ثمة مبرر لنقض حکم الحاکم الأول من قبل الحاکم الثانی .. وهذا بخلاف العلم الشخصی إذا استند إلیه الحاکم فإنه لا یکون حجة علی غیره من الحاکمین فبإمکان حاکم آخر نقض حکم الحاکم الأول فیحکم حکماً آخر استناداً إلی البیّنة .

ص: 546

ویأتی الکلام فی ذلک إن شاء الله تعالی .

المسألة العشرون / الموارد التی وقع الکلام فی نفوذ الحکم فیها وعدم نفوذه / المورد الثالث : فی إذا کان حکم الحاکم مستنداً إلی علمه الشخصی / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) بحث الفقه

(بحث یوم الأربعاء 24 جمادی الثانیة 1433 ه_ 135)

الموضوع :- المسألة العشرون / الموارد التی وقع الکلام فی نفوذ الحکم فیها وعدم نفوذه / المورد الثالث : فی ما إذا کان حکم الحاکم مستنداً إلی علمه الشخصی / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده).

کان الکلام فی استعراض الموارد التی وقع الکلام فی نفوذ حکم الحاکم فیها وعدم نفوذه وجواز نقضه وعدم جوازه ووصل البحث إلی المورد الثالث وهو ما إذا کان حکم الحاکم مستنداً إلی علمه الشخصی لا إلی بیّنة أو یمین أو إقرار فهل یجوز لحاکم آخر نقض حکمه وإصدار حکم آخر مستند إلی البیّنة - مثلاً - وهل یجوز للمحکوم علیه فی القضیة أن یترافع إلی حاکم آخر أم لا ؟

ذکرنا فی البحث السابق أنه یمکن أن یقال إن حکم الحاکم المستند إلی علمه الشخصی إنما یکون حجة فی حقّه ولا یکون حجة فی حقّ الحاکم الثانی ولذا یُمکن للحاکم الثانی أن ینقض ذلک الحکم استناداً إلی میزان آخر فی باب القضاء کالبینة أو یمین المُدّعی علیه بخلاف ما إذا کان مستنده فی حکمه هو البیّنة فإنها کما هی حجة فی حقّ الحاکم الأول کذلک هی حجة أیضاً فی حقّ الحاکم الثانی فلا مبرّر حینئذ للحاکم الثانی فی نقض حکم الحاکم الأول لأنه استند فیه إلی ما هو حجة بنظره أیضاً .

ص: 547

ولکن یمکن أن یُجاب بأنه بعد البناء عن کون علم الحاکم من طرق الإثبات فی باب القضاء فلا فرق حینئذ فی أن یُستنَد فی الحکم إلی البیّنة أو إلی العلم الشخصی للحاکم إذ بالنتیجة یکون الحکم قد صدر علی طبق الموازین المقرّرة شرعاً فیشمله دلیل النفوذ وقول الإمام (علیه السلام) أنه : (إذا لم یُقبل منه بحکم الله استخفّ وعلینا ردّ) فعدم تجویز نقض الحکم من قبل الحاکم الثانی إذا کان الحاکم الأول مستنداً فیه إلی البیّنة لیس مرجعه فی الحقیقة إلی کون البیّنة حجة عند الطرفین حتی یقال بأن هذا لا یشمل العلم الشخصی لأنه إنما یکون حجة عند صاحبه فقط ولیُفرّع علیه جواز نقض الحکم من قبل الحاکم الثانی بل مرجعه إلی دلالة الدلیل الخاص علی أن الحکم المستند إلی أحد الموازین المقررة شرعاً للإثبات القضائی یحرم نقضه ولا یجوز ردّه ، وهذا الدلیل کما یشمل الحکم المستند إلی البیّنة یشمل کذلک الحکم المستند إلی علم القاضی بعد البناء عن کونه من وسائل الإثبات فی باب القضاء فلا فرق بینهما فی الحقیقة من هذه الجهة .

وأما التفریق بینهما بما ذُکر من کون البیّنة حجة عند الطرفین وکون العلم الشخصی مختصاً بصاحبه فهو وإن کان صحیحاً فی نفسه إلا أن الکلام فی حدود دلیل النفوذ وأنه هل یختصّ بالحکم المستند إلی البیّنة أم یشمل کل حکم یصدر من الحاکم إذا کان مستنداً إلی أحد الموازین الشرعیة المعتبرة ؟

الصحیح بحسب ما یُستفاد من المقبولة وغیرها هو الثانی بمعنی أن الدلیل لا یختص بالحکم المستند إلی خصوص البیّنة بل هو یشمل جمیع طرق الإثبات القضائی فإذا بُنی علی أن علم القاضی منها کان لا ریب داخلاً فی عمومها .

ص: 548

هذا من جهة .. ومن جهة أخری فإنه لو جاز للحاکم الثانی أن ینقض حکم الحاکم الأول ویحکم بحکم مخالف له فمع الالتزام بعموم دلیل النفوذ لکل مستند سواء کان هو البیّنة مثلاً أو علم القاضی بعد الفراغ عن کونه من طرق الإثبات فی باب القضاء یکون کل من حکم الحاکم الأول المستند إلی علمه الشخصی وحکم الحاکم الثانی المستند إلی البیّنة نافذاً ، ورفع الید عن الحکم الأول والالتزام بنفوذ الحکم الثانی ترجیح بلا مرجّح فإن کلاً منهما حکم صدر من الحاکم الجامع للشرائط علی طبق الموازین المقررة فحینئذ یقع التعارض بین الحکمین فیتبیّن أنه علی کل تقدیر لا یسقط حکم الحاکم الأول عن الاعتبار والنفوذ وینفرد حکم الحاکم الثانی بهما (1) بل فی الحقیقة أن المنفرد بالاعتبار والنفوذ هو الأول ولا مجال للثانی بإزائه .

المورد الرابع : ما إذا عُلم بمخالفة حکم الحاکم للحکم الواقعی النفس الأمری .

وقد یُمثّل لهذا المورد بما إذا حکم الحاکم بزوجیة الأخت الرضاعیة أو حکم بزوجیة الربیبة المدخول بأمّها أو حکم بصحة البیع الربوی ففی جمیع هذه الأمثلة یحصل علم بمخالفة حکم الحاکم للحکم الواقعی النفس الأمری .

ولکن هذا غیر وجیه لأن الحکم فی مثل هذه الأمثلة فی درجة من الوضوح والضرورة عادة بحیث لا یُتصوّر أن یحکم به إلا من لم یکن مجتهداً أصلاً أو کان ولکن لم یکن عادلاً ، وأما المجتهد العادل فلا یمکن افتراض أن یحکم بمثل هذه الأحکام فی تلک الأمثلة المذکورة مع أن من الواضح عدم صحتها بمجرد المراجعة الیسیرة إلی أدلتها .

ص: 549


1- (1) أی بالاعتبار والنفوذ .

والمناسب أن یُطرح مثالاً لهذا المورد لیکون مقابلاً للمورد الأول تماماً بما إذا کان الحکم غیر داخل فی ضمن الأحکام الضروریة الواضحة کما لو فرضنا أنه حکم بعدم زوجیة المرأة التی تربطها بزوجها رضاعة بمقدار عشر رضعات الذی هو محلّ خلاف فی کونه ناشراً للحرمة لکونه یری کفایة ذلک المقدار فی نشر الحرمة بین المرتضعین وفرضنا أنه قد حصل العلم لغیره بمخالفة حکمه للحکم الواقعی النفس الأمری لکون ذلک الغیر قد جزم بأن الحکم الواقعی النفس الأمری هو عدم کفایة ذلک المقدار وإنما لا بد فی نشر الحرمة من أن تکون الرضعات خمس عشرة رضعة .

والحاکم فی هذا المورد - کما فی المورد الأول - افتُرض فیه کونه جامعاً للشرائط وهو قد حکم علی طبق الموازین ولم یکن ثمة تقصیر فی اجتهاده غایة الأمر أن اجتهاده أدّی إلی أن یری کفایة العشر رضعات فی نشر الحرمة فحکم علی وفقه وهذا فی نظر الغیر حکمٌ مخالف للحکم الواقعی النفس الأمری ، نعم .. الفرق بین الموردین أنه فی المورد الأول کان الاختلاف بین الحاکم الأول والثانی فی واقع الموضوع المحکوم به فحکم الحاکم الأول بأن الدار لزید - مثلاً وکان الحاکم الثانی یری أنها لعمرو واقعاً ، وأما فی المورد الرابع فالاختلاف بینهما فی واقع الحکم الشرعی فکان الحاکم الأول یری - مثلاً - کفایة عشر رضعات فی نشر الحرمة بین المرتضعین فی حین أن الحاکم الثانی کان یری عدم کفایة هذا المقدار ومن ثم یتأتّی السؤال هنا - کما قیل فی المورد الأول فی أنه هل یجوز للحاکم الثانی الذی یعلم بالخلاف أن ینقض حکم الحاکم الأول ویُصدر حکماً آخر أم أن حکم الحاکم الأول نافذ غیر قابل للنقض .

ص: 550

والذی ینبغی أن یقال فی المقام ما قیل فی المورد الأول من نفوذ حکم الحاکم الأول وعدم جواز نقضه وإن عُلم هنا بمخالفته للحکم الواقعی النفس الأمری استدلالاً بنفس الدلیل المذکور فی المورد الأول .

المورد الخامس : ما إذا تبیّن خطأ الحاکم فی اجتهاده ، من دون افتراض القطع بمخالفة حکمه للواقع أو للحکم الواقعی النفس الأمری (1) .

وهذا المورد هو الحالة الشائعة فی باب القضاء ، وتبیُّن الخطأ فی الاجتهاد یُتصوّر علی انحاء :

النحو الأول : أن یتبیّن الخطأ فیه علی نحو القطع والیقین کما لو کان قد اعتمد فی حکمه علی روایة ضعیفة - مثلاً قد اتّفق الکل علی ضعفها لا أنه قد اجتهد فی العمل بها - مثلاً - بأن کان یری جواز العمل بالروایات الضعیفة فإن هذه مسألة سیأتی بحثها .. ولکن مع ذلک لا یُقطع بأن حکمه هذا مخالف للواقع إذ قد یکون فی الواقع مطابقاً له فعلاً .

ولهذا النحو صورتان :

الصورة الأولی : ما إذا کان الخطأ فی نفس المیزان الذی طبّقه کما لو اعتمد فی حکمه علی یمین المدّعی أو بینة المُدّعی علیه - مثلاً فهو فی الحقیقة استند إلی ما لا یصلح أن یکون میزاناً مع افتراض أنه قد أدّی نظره اشتباهاً إلی جواز الاعتماد علیه فیُقطع هنا بخطئه فی اجتهاده من جهة خطئه فی المیزان .

ص: 551


1- (2) فإن افتراض القطع بخطأ الحاکم فی اجتهاده لا یستلزم افتراض القطع بمخالفة حکمه للواقع أو للحکم الواقعی النفس الأمری فقد یتّفق موافقة حکمه للواقع وإن کان قد أخطأ الطریق فی الوصول إلیه .

وفی هذه الصورة لا ینبغی الشک فی عدم نفوذ حکمه وجواز نقضه لعدم کون هذه الصورة مشمولة لما استُدلّ به علی النفوذ وحرمة النقض إذ لا یصدق علی من حکم بغیر المیزان الشرعی أنه حکم بحکمهم (علیهم السلام) فلا یکون عدم قبوله حینئذ استخفافاً بحکم الله ولا ردّه ردّاً علی الأئمة (علیهم السلام) فإن موضوع النفوذ الذی تترتب علیه هذه الآثار إنما هو الحکم علی طبق الموازین المعتبرة التی نصّت علیها الأدلة الشرعیة وقد ثبت أن الشارع المقدّس جعل بینة المدّعی ویمین المُدّعی علیه هما المیزان لا بینة المُدّعی علیه ویمین المدّعی فالحکم المستند إلی غیر المیزان المجعول یجوز نقضه ولا یحرم ردّه لأن الأدلة الدالة علی النفوذ لا تشمله .

الصورة الثانیة : أن یتبیّن الخطأ علی نحو القطع والیقین فی تطبیق المیزان لا فی نفس المیزان کما لو فرضنا أنه اعتقد اشتباهاً - عدالة الشهود وأصدر حکمه استناداً إلی شهادتهم ولکن عُلم من قبل غیره أن الشهود کانوا فسّاقاً بحیث لو أُلْفِت نظر الحاکم إلی هذا الأمر لرأی ذلک أیضاً وتبیّن له اشتباهه ولم یُصرّ علی موقفه ، وکما لو وصلت النوبة أمام القاضی إلی یمین المنکر فحلف واعتقد القاضی أنه حلف بالله وأصدر حکمه استناداً إلی یمینه ولکن عُلم من قبل غیره أنه حلف بغیر الله تعالی - والحلف بغیر الله تعالی ممّا لا یترتب علیه أثر فی مقام الدعوی - ففی هذین المثالین ونحوهما هل یجوز نقض حکم هذا الحاکم أم لا ؟

الظاهر أن هذه الصورة کسابقتها فی عدم نفوذ حکم الحاکم وجواز نقضه لعدم کون هذه الصورة أیضاً مشمولة لما استُدلّ به علی النفوذ وحرمة النقض إذ أنه حکم بغیر المیزان الشرعی فلا یصدق أنه حکم بحکمهم (علیهم السلام) فالأدلة الدالة علی النفوذ لا تشمل هذه الصورة کما لم تشمل سابقتها .

ص: 552

وبقیة الکلام تأتی إن شاء الله تعالی .

المسألة العشرون / الموارد التی وقع الکلام فی نفوذ الحکم فیها وعدم نفوذه / المورد الخامس : ما إذا تبیّن للغیر خطأ الحاکم فی اجتهاده / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) بحث الفقه

(بحث یوم السبت 27 جمادی الثانیة 1433 ه_ 136)

الموضوع :- المسألة العشرون / الموارد التی وقع الکلام فی نفوذ الحکم فیها وعدم نفوذه / المورد الخامس : ما إذا تبیّن للغیر خطأ الحاکم فی اجتهاده / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) .

کان الکلام فی المورد الخامس وهو ما إذا تبیّن لغیر الحاکم خطؤه فی اجتهاده - الذی هو من مقدّمات حکمه - وذکرنا أن لهذا التبیُّن نحوین :

الأول : أن یتبیّن خطأ المجتهد فی مقدّمات حکمه علی وجه القطع والیقین .

ومرّ الکلام فی هذا النحو وقلنا إن له صورتین :

الصورة الأولی : ما إذا تبیّن الخطأ فی نفس المیزان .

الصورة الثانیة : ما إذا تبیّن الخطأ فی تطبیق المیزان .

وقد تقدّم الکلام علی هاتین الصورتین وذکرنا أنهما سواء فی عدم نفوذ حکم الحاکم وجواز نقضه لعدم کونهما مشمولتین لما استُدلّ به علی النفوذ وحرمة النقض إذ أنه حکم بغیر المیزان الشرعی فلا یصدق أنه حکم بحکمهم (علیهم السلام) فالأدلة الدالة علی النفوذ لا تشمل هاتین الصورتین .

هذا ما تقدّم .. ولکن بقی شیء یختصّ بالصورة الثانیة وهو أن عدم نفوذ الحکم فیها إنما هو فی ما إذا کان تبیُّن الخطأ فی التطبیق أمراً واضحاً بحیث یکون مقنعاً حتی للحاکم الأول فی ما لو قُدّمت له مدارک الخطأ فی التطبیق فیتبیّن له حینئذ أنه أخطأ واشتبه ویلتفت إلی أن حکمه لم یکن مستنداً إلی البیّنة العادلة ولا إلی الحلف بالله تعالی ، والحکم فی هذه الحالة لا یکون نافذاً ویجوز نقضه ولا یکون مشمولاً لأدلة النفوذ ، وأما إذا فرضنا أن الخطأ فی التطبیق إنما کان واضحاً عند المحکوم علیه فقط دون الحاکم بمعنی أن الحاکم لا یزال مقتنعاً بأن حکمه کان مستنداً إلی تطبیق صحیح للموازین فهو لا یزال یری أن البیّنة التی استند إلیها کانت حین الحکم بینة عادلة وأن الحلف وقت الحکم کان حلفاً بالله سبحانه وتعالی حتی بعد اطّلاعه علی مدرک المحکوم علیه فی اعتقاده وجزمه بحصول الخطأ فی التطبیق ففی هذه الحالة یمکن القول بنفوذ الحکم فیها ودخولها ولو حکماً فی النحو الآتی .

ص: 553

النحو الثانی : أن یتبیّن الخطأ فی الاجتهاد علی نحو الظن المعتبر .. وهو ما یُعبّر عنه بمسألة الاختلاف فی الاجتهاد فالحاکم یحکم بحکم وفق اجتهاده بینما یری المحکوم علیه - اجتهاداً أو تقلیداً - أن الحکم شیء آخر فیختلفان فی الاجتهاد فیتبیّن له خطأ الحاکم فی حدود الاجتهاد نفسه .

وهذا النحو یشترک مع النحو الأول فی أنه قد افتُرض فیهما عدم حصول القطع بمخالفة الحکم للواقع غایة الفرق بینهما أن تبیّن الخطأ تارة یکون بدلیل قطعی وأخری یکون بدلیل ظنی معتبر .

ویدخل فی هذا النحو جمیع موارد الاختلاف فی الرأی والنظر من قبیل الاختلاف فی معنی العدالة المعتبرة فی الشهود - مثلاً کما لو کان الحاکم الأول یفسّر العدالة المعتبرة بأنها عبارة عن ترک الکبائر فی حین أن الحاکم الثانی کان یری أنه لا بد من أن ینضم إلیها ترک الصغائر أیضاً فحکم الحاکم الأول بحکم استند فیه إلی شهادة شهود ثبت أنهم اجتنبوا الکبائر دون الصغائر وهو یری کفایة ذلک فی اعتبار عدالتهم فیکون حکمه علی طبق الموازین التی یراها هو وفق اجتهاده ولکن الحاکم الآخر کان لا یری ذلک بل یری أن هذا الاجتهاد لیس صحیحاً وإنما الدلیل المعتبر لدیه دلّ علی عدم کفایة ترک الکبائر فی صیرورة الإنسان عادلاً فهذا اختلاف اجتهادی بحت وتبیُّن الخطأ فی الاجتهاد کان علی أساس الدلیل المعتبر لا علی نحو القطع والیقین .

وکذا لو اختلفا فی مسألة الحکم بمجرد النکول وقد تقدّمت هذه المسألة الخلافیة وهی أنه هل یُحکم علی المدّعی علیه بمجرد نکوله أم یحتاج الحاکم إلی أن یُرجِع الیمین علی المدّعی بعد ذلک - فیمکن افتراض أن الحاکم الأول کان یری الاکتفاء فی الحکم بمجرد نکول المدّعی علیه فیحکم للمدّعی طبقاً لذلک فی حین أن حاکماً آخر کان یری عدم صحة هذا بل لا بد من إرجاع الیمین بعد ذلک إلی المدّعی (1) فإذا حلف حُکم له وإذا نکل حُکم لصالح المُدّعی علیه .

ص: 554


1- (1) وهذا ما رجّحه (دامت برکاته) فی محلّه .

وکذا لو کان الاختلاف بینهما فی مسألة الاستناد إلی العلم الشخصی للقاضی حیث یُفرض هنا أن الحاکم الأول حکم فی قضیة استناداً إلی علمه الخاص فی حین أن الحاکم الثانی کان یری عدم صحة ذلک وإنما ینحصر الاستناد عنده فی باب القضاء بالبیّنات والأیمان .

ففی هذه الأمثلة وغیرها مما یدخل فی هذا العنوان یقع الکلام فی أنه هل یجوز نقض الحکم بمجرد الاختلاف فی الاجتهاد أم لا یجوز ذلک ؟ وبعبارة أخری : هل أن الاختلاف فی الاجتهاد یُسوّغ نقض الحکم وإصدار حکم آخر ؟

الذی یظهر من عبارة بعض الفقهاء جواز النقض فقد صرّح المحقق صاحب الشرایع (قده) بتعمیم الحکم بجواز الإبطال والنقض فی ما إذا تبیّن الخطأ لما إذا کان المُستنَد اجتهادیاً فقال : (سواء کان مستند الحکم الثانی قطعیاً أو کان اجتهادیاً) فی إشارة إلی النحو الأول المتقدّم (1) وهذا النحو الثانی .

ویظهر من الشیخ الأنصاری (قده) فی قضائه أنه لم یُعرف قبل العلامة (قده) : " من یفصّل فی مسألة النقض بین الحکم الثابت بالدلیل القطعی والثابت بالدلیل الظنی " قائلاً أنّا : " لم نجد أحداً یدّعی الاجماع علی عدم النقض فی الدلیل الظنی ، نعم .. هو (2) مشهور فی ألسنة المعاصرین ومن یقرب منهم " (3) .

ص: 555


1- (2) وهو تبیّن الخطأ علی نحو القطع والیقین .
2- (3) أی التفصیل بین النحوین (الأول والثانی) فإذا کان تبیّن الخطأ علی نحو القطع والیقین فیجوز نقضه وإذا کان علی نحو الظن المعتبر فلا یجوز .
3- (4) القضاء والشهادات للشیخ الأنصاری (قده) ص149 .

وجری مجری المشهور بین المتأخرین فی التفصیل بین النحوین من یُعدّ فی طبقة صاحب الکفایة وصاحب المستند وصاحب الجواهر ومن تأخر عنهم (قدهم) فذهب إلی عدم جواز النقض فی النحو الثانی وجوازه فی الأول .

هذا .. واستُدلّ علی عدم جواز النقض (1) ونفوذ الحکم المستنِد إلی اجتهاد الحاکم الأول وإن تبیّن خطؤه عند مجتهد آخر بأدلة أهمّها المقبولة المتقدّمة بأن یقال إن المفروض فی محل الکلام أن الحکم الأول کان علی طبق الموازین لأنه صدر باجتهاد صحیح من مجتهد جامع للشرائط ولیس ثمة خلل فی مقدماته عند صدوره بل لیس ثمة خلل بنظر الحاکم به حتی بعد صدوره غایة الأمر أن هناک حاکماً آخر یری خلاف ذلک وهذه المخالفة لا تعنی أن الحکم الأول لم یکن علی طبق الموازین المعتبرة فی باب الاجتهاد وفی باب القضاء فیکون مشمولاً لقوله (علیه السلام) فی المقبولة : (فإذا حکم بحکمنا فلم یُقبل منه فقد استخف بحکم الله والراد علیه کالراد علینا ..) إلی آخر العبارة التی یُفهم منها النفوذ وعدم جواز النقض .

ولکن الشیخ الأنصاری (قده) اعترض علی هذا الکلام - وإن کان هو قد انتهی إلی نفس النتیجة من حرمة النقض - نافیاً صحة الاستدلال علی المدّعی بالمقبولة معلّلاً ذلک بقوله : " لأن المفروض أن الحکم الثانی هو حکمهم (علیهم السلام) لا الحکم الأول ولذا لا یجوز أن یحکم به فی الزمان الثانی بل یجب ردّه وعدم قبوله " (2) .

وحاصله : المنع من أن یکون حکم الحاکم الأول هو حکمهم (علیهم السلام) حتی یکون مشمولاً لقوله (علیه السلام) فی المقبولة : (فإذا حکم بحکمنا ..) لیترتب علیه النفوذ وحرمة النقض وإنما الذی یکون حکمهم (علیهم السلام) هو حکم الحاکم الثانی الناقض لحکم الحاکم الأول وذلک لوضوح أنه لا یجوز أن یُحکَم بالحکم الأول فی الزمان الثانی لأنه (3) قد جاء اجتهاد فی قباله فأبطله حیث تبیّن خطؤه بحسب نظر المجتهد الثانی فلا یجوز أن یُحکم به فی الزمان الذی أصدر الحاکم الثانی حکمه وفق نظره الخاص .

ص: 556


1- (5) أی فی النحو الثانی .
2- (6) القضاء والشهادات للشیخ الأنصاری (قده) ص150 .
3- (7) أی الحکم الأول .

ولکن هذا الکلام إنما یرد علی نقض الحاکم لحکم نفسه بتبدّل اجتهاده أی عندما یتبیّن له خطأ حکمه نتیجة تجدّد نظره فی المسألة فحینئذ یمکن أن یقال إنه لا یمکنه أن یحکم بالحکم الأول فی الزمان الثانی لأنه تبیّن له خطؤه فی اجتهاده فکیف یحکم بالحکم نفسه مرة أخری فی زمان آخر ، وأما فی محلّ الکلام وهو ما لو تبیّن الخطأ عند حاکم آخر من غیر مُلْزِم لافتراض تبدّل رأی الحاکم الأول فما هو الموجب بأن الحکم الثانی بالخصوص هو حکمهم (علیهم السلام) دون الحکم الأول بل کل منهما حکمان اجتهادیان صدرا من مجتهدین جامعین للشرائط وکل منهما بذل وسعه فی تحصیل الحکم الشرعی وعلیه فلمَ لا یجوز أن یُحکَم بالحکم الأول فی الزمان الثانی لاسیما وأن المفترض أن الحاکم الأول لم یتبدّل رأیه الذی بنی علیه حکمه وحینئذ فلا موجب للقول بأن المقبولة لا تشمل الحکم الأول لأنه لیس حکمهم (علیهم السلام) وإنما تشمل الحکم الثانی لأنه حکمهم بل الصحیح أنه لا فرق بین الحکمین فی أن کلاً منهما حکم اجتهادی صدر علی طبق الموازین .

والحاصل أن ما أشکل به الشیخ الأنصاری (قده) لا یرد فی محلّ الکلام وإنما یرد فی مسألة تبدّل رأی المجتهد نفسه (1) .

ص: 557


1- (8) أقول : بالمراجعة إلی عبارة الشیخ (قده) یتبیّن بوضوح أنه (قده) ساق هذا الإشکال فی مسألة تبدّل رأی المجتهد نفسه فلا مسوّغ لافتراض کون مورده مسألة اختلاف الحاکمین فی الاجتهاد ومن ثم الإیراد علیه بأنه هذا لیس محلّه بل محلّه مسألة تبدّل رأی المجتهد نفسه فإن کلامه (قده) صریح فی کونه إشکالاً علی هذا المورد الأخیر حیث قال: " بقی الکلام فی حکم النقض بالاجتهاد بناء علی ثبوت الخلاف فی المسألة ، فنقول : الأقوی حرمة نقض الحکم الأول بالاجتهاد .. لما تقرر فی محلّه من أن کل عمل أتی به بحسب الاجتهاد الأول فلا یجب إعادته لو ظهر فساده بالاجتهاد الثانی .. وهذا الکلام یجری فی کل واجب أُتِیَ به أولاً بظنّ اجتهادی ثم تغیر الظنّ " [[یُلاحظ القضاء والشهادات للشیخ الأنصاری (قده) ص150]] فراجع تمام عبارته فی محلّها وتدبّرها جیداً .

نعم .. قد یُشکل بعدم صحة الاستدلال بالمقبولة من جهة عدم إحراز أن الحکم الأول هو حکمهم (علیهم السلام) لعدم إحراز انطباق العنوان الوارد فی المقبولة علیه أعنی قوله (علیه السلام) : (إذا حکم بحکمنا) - ، ولا یمکن الالتزام بشمول المقبولة لحکمٍ - حتی تدل علی نفوذه وحرمة نقضه - إلا بعد إحراز انطباق العنوان الوارد فیها علیه وهو غیر محرز فی المقام ولا یجوز التمسّک بالدلیل مع الشک فی تحقق موضوعه لأن التمسّک بالدلیل فی الشبهة الموضوعیة للدلیل نفسه غیر جائز .

والفرق بین هذا الإشکال وسابقه أن الإشکال السابق کان یفترض إحراز أن الحکم الأول لیس حکمهم (علیهم السلام) ، وأما هذا الإشکال فیفترض عدم إحراز أنه لیس حکمهم (علیهم السلام) .

هذا ویقع الکلام فی البحث اللاحق إن شاء الله تعالی فی جواز أن ینقض الحاکم حکم نفسه فی ما لو تبیّن له خطؤه فی اجتهاده لاحقاً کما لو کان یری کفایة نکول المدّعی علیه فی الحکم وإنهاء الدعوی ثم بعد ذلک تغیّر رأیه إلی عدم کفایة ذلک ولزوم أن یُضمّ إلیه یمین المدّعی .

المسألة العشرون / الموارد التی وقع الکلام فی نفوذ الحکم فیها وعدم نفوذه / المورد الخامس : ما إذا تبیّن للغیر خطأ الحاکم فی اجتهاده / النحو الثانی : أن یتبیّن الخطأ فی الاجتهاد علی نحو الظن المعتبر / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) بحث الفقه

(بحث یوم الأحد 28 جمادی الثانیة 1433 ه_ 137)

الموضوع :- المسألة العشرون / الموارد التی وقع الکلام فی نفوذ الحکم فیها وعدم نفوذه / المورد الخامس : ما إذا تبیّن للغیر خطأ الحاکم فی اجتهاده / النحو الثانی : أن یتبیّن الخطأ فی الاجتهاد علی نحو الظن المعتبر / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) .

ص: 558

کان الکلام فی النحو الثانی وهو أن یتبیّن خطأ الحاکم عند مجتهد آخر فهل یمکن للحاکم الآخر نقض حکم الأول أم لا ؟

ذکرنا أن المعروف - لاسیما بین المتأخرین - هو حرمة النقض وقلنا إنه استُدلّ علیه بالمقبولة ببیان تقدّم حاصله أنها تدل علی أن الحاکم الجامع للشرائط إذا حکم علی طبق الموازین فإنما یحکم بحکمهم فیکون حکمه نافذاً فهنا یقال إنه إذا افتُرض تعدد الحاکم فهل یجوز لحاکم آخر ثبت عنده باجتهاده خطأ المجتهد الأول أن ینقض حکمه ویصدر حکماً آخر ؟

وقد ذکرنا أنه قد یُشکل صحة الاستدلال بالمقبولة من جهة عدم إحراز أن الحکم الأول هو حکمهم (علیهم السلام) لعدم إحراز انطباق العنوان الوارد فی المقبولة علیه أعنی قوله (علیه السلام) : (إذا حکم بحکمنا) - ، ولا یمکن الالتزام بشمول المقبولة لحکمٍ - حتی تدل علی نفوذه وحرمة نقضه - إلا بعد إحراز انطباق العنوان الوارد فیها علیه وهو غیر محرز فی المقام ولا یجوز التمسّک بالدلیل مع الشک فی تحقق موضوعه لعدم جواز التمسّک بالدلیل فی الشبهة الموضوعیة للدلیل نفسه .

ولکن یمکن دفع هذا الاعتراض بما قد مرّ مراراً من أن المقصود بحکمهم (علیهم السلام) فی المقبولة لیس هو حکمهم الواقعی النفس الأمری فإن مرجعه إلی اشتراط الإصابة للواقع فی نفوذ الحکم بمعنی أن الحکم لا یکون نافذاً إلا إذا کان مصیباً للواقع ومن الواضح أن إحراز إصابة الحکم للواقع غیر متیسّرة إن لم تکن متعذّرة وهذا مما یؤدی بالنتیجة إلی الحکم بعدم نفوذ أیّ حکم إذ کل حکم یصدر من أیّ حاکم لا یُحرز فیه أنه مطابق للحکم الواقعی .. وإنما المقصود بحکمهم (علیهم السلام) فی الروایة هو حکمهم الظاهری أی الحکم المستند إلی الموازین الظاهریة المجعولة من قبل الشارع المقدّس التی تحدّد للحاکم الطریق الخاص للوصول إلی الحکم فالحکم الصادر مع مراعاة هذه الموازین هو حکمهم (علیهم السلام) فإن الإمام (علیه السلام) لو عُرضت علیه قضیة عُرضت علی حاکم حکم فیها طبقاً لتلک الموازین لحکم فیها أیضاً علی طبق تلک الموازین وحینئذ نقول :

ص: 559

إن الذی یُفهم من المقبولة أنها تتضمّن قضیة حقیقیة موضوعها المقدّر الوجود هو الحکم بحکمهم (1) ومحمولها ما یؤدّی إلی معنی نفوذ ذلک الحکم ، وهذه القضیة کلما تحقق فرد من أفراد موضوعها شمله حکمها قهراً (2) - کما هو شأن کل قضیة حقیقیة - ، وفی محلّ الکلام إذا فُرض أن الحاکم الأول قد حکم وفق اجتهاده فقد تحقق فرد من أفراد تلک القضیة الحقیقیة فیکون حکمه نافذاً وفق ما تقدّم فیحرم نقضه وردّه ، وحرمة النقض فی الروایة مطلقة لیس فیها ما یوجب التقیید بمعنی أنها ثابتة فی حقّ الجمیع ولیست هی خطاباً خاصّاً بالمحکوم علیه فقوله (علیه السلام) : (إذا حکم بحکمنا فلم یُقبل منه فقد استُخف بحکم الله والرادّ علیه کالرادّ علینا) مطلق فیشمل حتی الحاکم الآخر فیحرم علیه النقض وهذا المناسب لما تقدّم من أن الغرض من تشریع القضاء هو فصل الخصومة وقطع النزاع وهو ما یوفّره تحریم النقض والردّ وإلا لجاز لکل حاکم أن ینقض حکم غیره ولا یخفی ما فیه .

وعلی هذا فلا یُحتمل أصلاً أن یکون الحکم الثانی هو حکمهم (علیهم السلام) بعد تحقق الحکم الأول وصیرورته فرداً للقضیة الحقیقیة وشمول حکمها له وهو النفوذ کیف! والحکم الثانی ردّ للحکم الأول الذی حکم الإمام (علیه السلام) بحرمة نقضه .

ومن هنا یتبیّن أن الاعتراض المتقدّم لیس بوارد أصلاً لابتنائه علی احتمال أن لا یکون الحکم الأول هو حکمهم (علیهم السلام) علی أساس أن کلاً من الحکمین کان علی طبق الموازین وقد عرفت الخدشة فیه من جهة صدق الردّ والنقض علی الحکم الثانی الذی حکم الإمام (علیه السلام) بحرمته ومعه کیف یصح أن یصدق علیه أنه حکمهم (علیهم السلام) ؟!

ص: 560


1- (1) وهذا إنما یتأتّی فی ما إذا حکم الحاکم علی طبق الموازین المجعولة شرعاً .
2- (2) أی النفوذ .

وبعبارة أخری : أن حکم الحاکم الثانی مع صدق النقض والردّ علیه لیس فرداً من أفراد موضوع القضیة الحقیقیة حتی یشمله الحکم بالنفوذ وإنما الفرد الثانی لموضوعها هو الحکم فی واقعة أخری من أیّ من الحاکمین صدر فی ما إذا کان جاریاً علی طبق الموازین مع عدم المجال للحاکم الآخر لأن یُصدر حکمه فیها أیضاً .

ومن هنا یظهر تمامیة الاستدلال بالمقبولة فی محلّ الکلام لإثبات حرمة النقض والردّ فی النحو الثانی .

وهاهنا صورة أخری لهذا النحو وهی ما إذا تبیّن الخطأ للحاکم نفسه بمعنی أنه عدل عن رأیه السابق کما فی مثال النکول المتقدّم حیث افتُرض أنه کان یری جواز الحکم بمجرد النکول ثم بعد ذلک تبیّن له بالتدقیق فی الأدلة أنه لا یجوز الحکم بمجرد ذلک بل لا بد من ردّ الیمین علی المدّعی ففی هذه الحالة هل یحرم علیه نقض حکمه الأول کما فی الصورة الأولی عند تبیّن الخطأ لمجتهد آخر ؟

الظاهر أن حالها حال الصورة السابقة للسبب المذکور نفسه فإن حکمه الأول الذی افتُرض صدوره علی طبق الموازین لمّا کان یحقق فرداً من أفراد القضیة الحقیقیة المتقدّمة فیشمله الحکم بالنفوذ وإذا حُکم بنفوذه یکون محکوماً بحرمة النقض والردّ علی کل أحد بما فیهم الحاکم نفسه فإنه لیس للمقبولة فی ذلک نظر خاص إلی حاکم بعینه بل لسانها فی تحریم النقض مطلق یشمل حتی الحاکم نفسه بالنسبة إلی حکمه فلا فرق فی حرمة النقض بین نقض حاکم آخر ونقض الحاکم نفسه .

وبعبارة أخری : أن المفروض فی هذه الصورة أن الفارق الوحید بین الحکم الأول والحکم الثانی هو تبدّل الاجتهاد فقط وأما الموازین فمراعاة فی کل منهما فیُنظَر إلیهما علی أنهما اجتهادان جامعان للشرائط رُوعی فیهما تمام الموازین ولکن حیث إن الحکم الأول کان له السبق بحسب الفرض فتشمله المقبولة فیُحکم علیه بالنفوذ وبحرمة النقض والردّ وأما الحکم الثانی الصادر من الحاکم نفسه فلا یکون مشمولاً لدلیل النفوذ ولا یحقّق موضوعاً جدیداً للقضیة الحقیقیة .

ص: 561

ومن هنا یتبیّن أن الاستدلال بالمقبولة علی نفوذ الحکم فی النحو الثانی بکلتا صورتیه تام لا غبار علیه .

الدلیل الثانی : ما ذُکر من أنه یلزم من عدم نفوذ الحکم الأول فی المقام وجواز نقضه الهرجُ والمرج واللازم باطل فالملزوم مثله وذُکر أن أصل الزوم واضح وبطلان اللازم أوضح .

وأجیب عنه بإنکار اللزوم وذلک لقلة نظر الحکّام فی أحکام غیرهم (1) وقلة نظرهم فی أحکام أنفسهم (2) فلا یلزم من تجویز النقض وعدم الحکم بالنفوذ ما ادّعی من الهرج والمرج .

وأقول : یمکن تفسیر هذا الدلیل بأن یکون المقصود منه فی الواقع الإشارة إلی ما تقدّم من أن الغرض من تشریع الحکم فی باب القضاء هو الفصل فی الخصومات وإنهاء النزاعات ولا إشکال فی أن عدم الحکم بنفوذ الحکم الجامع للشرائط والمُراعی فیه الموازین وتجویز نقضه وردّه لا یتحقق معه هذا الغرض وحینئذ تکون هناک قضایا معلّقة کلما أُصدِر فیها حکم نقضه حاکم آخر أو نقضه الحاکم نفسه - فی ما لو فُرض تبدّل اجتهاده فتتعطّل القضایا ویلزم ما ذُکر من الهرج والمرج .

الدلیل الثالث : ما ذکره بعضهم من أن الحکم الأول الجامع للشرائط بحسب الفرض والمشمول لأدلة النفوذ هو بنفسه یُنهی الخصومة فی الواقعة فلا تبقی بعده خصومة ونزاع حتی یکون ثمة مجال للحکم الثانی لیفصل فیها فتکون القضیة سالبة بانتفاء موضوعها ، ومن هنا لا معنی لأن یحکم الحاکم الثانی أو یحکم الحاکم الأول نفسه فی الواقعة نفسها بعد ارتفاع النزاع فیها تعبّداً بحکم الشارع المقدّس بنفوذ الحکم الأول .

ص: 562


1- (3) إشارة إلی الصورة الأولی من النحو الثانی .
2- (4) إشارة إلی الصورة الثانیة من النحو الثانی .

ولعل هذا الوجه یصلح للاستدلال به فی سائر الموارد التی نحکم فیها بحرمة النقض .

المسألة العشرون / الموارد التی وقع الکلام فی نفوذ الحکم فیها وعدم نفوذه / استدراک علی الصورة الثانیة من النحو الثانی وطرح رأی الشیخ صاحب الجواهر (قده) وتوجیهه مع الردّ وذکر فروع متمّمة لمحل الکلام / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) بحث الفقه

(بحث یوم الاثنین 29 جمادی الثانیة 1433 ه_ 138)

الموضوع :- المسألة العشرون / الموارد التی وقع الکلام فی نفوذ الحکم فیها وعدم نفوذه / استدراک علی الصورة الثانیة من النحو الثانی وطرح رأی الشیخ صاحب الجواهر (قده) وتوجیهه مع الردّ وذکر فروع متمّمة لمحل الکلام / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) .

ذکرنا فی البحث السابق صورة أخری للنحو الثانی (1) وهی نقض الحاکم لحکم نفسه عندما یتبدّل اجتهاده حیث قلنا إن مقتضی الأدلة أنه لا یجوز له النقض وننبّه هاهنا علی مطلب ذکرناه سابقاً وهو اعتراض الشیخ الأنصاری الذی قلنا إنه یرد أیضاً علی هذه الصورة وحاصله :

أن الحکم الأول لیس حکمهم (علیهم السلام) بل الثانی هو حکمهم فإذاً المقبولة لا تشمل الحکم الأول لتدلّ علی نفوذه ، واستدل علی ذلک بأنه لا یجوز له أن یحکم بحکمه الأول فی الزمان الثانی (2) .

ص: 563


1- (1) وهو أن یتبیّن الخطأ فی الاجتهاد علی نحو الظن المعتبر .
2- (2) أی بعد تغیّر اجتهاده ، أی أنه (قده) جعل عدم جواز أن یحکم الحاکم بحکمه الأول فی الزمان الثانی دلیلاً علی أن الحکم الأول لیس حکمهم (علیهم السلام) فلا تشمله أدلة النفوذ فلا یکون نافذاً .

وأقول : یمکن أن یُلاحظ علی هذا الاعتراض بأن عدم جواز الحکم بالحکم الأول فی الزمان الثانی لا یصلح أن یکون دلیلاً علی عدم کونه حکماً لهم (علیهم السلام) وقت صدوره من الحاکم الأول ، نعم .. هو دلیل علی أنه لیس هو حکمهم الآن لفرض تبدّل الاجتهاد وأما وقت صدوره فقد کان واجداً للشرائط فکان فی حینها حکمهم (علیهم السلام) .

ویمکن تطبیق هذا علی بعض الموارد المتقدّمة من قبیل ما إذا حکم الحاکم استناداً إلی یمین المُدّعی علیه من جهة أن المدّعی لیس له بینة ثم جاء المدّعی بالبینة فهنا یقال بأن الحکم الأول استناداً إلی الیمین یکون نافذاً ولو أظهر بعد ذلک المدّعی البیّنة (1) مع أنه لا إشکال فی عدم إمکان أن یحکم بالحکم الأول فی الزمان الثانی (2) .

والحاصل أن عدم جواز الحکم بالحکم الأول فی الزمان الثانی لیس دلیلاً علی أن الحکم الأول لم یکن حکمهم بل هو حینما صدر کان حکماً لهم غایة الأمر أنه بتبدّل الاجتهاد لا یکون حکماً لهم فی فی القضایا الحاصلة فی الأزمنة اللاحقة .

هذا وقد ذکر السید صاحب العروة (قده) فی ملحقاتها ما یمکن جعله من موارد الصورة الثانیة للنحو الثانی حیث قال :

" إذا استفرغ الحاکم وسعه فی الاجتهاد ولم یکن مقصّراً فی الفحص عن الدلیل وکان هناک خبر معتبر بلا معارض أو دلیل ظنی آخر (3) وکان بحیث لو عثر حین الحکم علیه (4) لحکم علی طبقه لکنه لم یعثر علیه فحکم بخلافه فالظاهر نفوذ حکمه مع عدم العلم بکونه خلاف الواقع وإن کان مخالفاً لذلک الخبر أو الدلیل الظنی فلا یجوز له ولا لغیره نقضه لأن ما أدّی إلیه اجتهاده مع فرض عدم تقصیره حجة شرعیة وحکمه حکم الله تعالی " .

ص: 564


1- (3) وهو مورد معتبرة ابن أبی یعفور المتقدّمة حیث ورد فیها أن الیمین أسقطت حقّ المدّعی فلا دعوی له .
2- (4) أی بعد ظهور البیّنة .
3- (5) أی بلا معارض أیضاً .
4- (6) أی علی ذلک الخبر المعتبر .

ثم إن الشیخ صاحب الجواهر (قده) (1) کان قد ذهب إلی جواز الترافع إلی حاکم آخر إذا تراضی المتخاصمان فیکون نظر الحاکم الثانی إذا رُفعت إلیه القضیة جائزاً ونقضه لحکم الحاکم الأول لو فُرض أنه أدّی نظره إلی ما یخالف حکم الحاکم الأول جائزاً أیضاً بالشرط المتقدّم (2) وذکرنا فی محلّه أن السید صاحب العروة (قده) استدلّ له بعد أن رجّحه واختاره بعدم صدق الردّ علیه حتی مع کون الحکم الثانی علی خلاف الأول لاسیما مع احتمال خطأ الحاکم الأول أو إرادته تجدید النظر فی مقدمات حکمه .

لکن یمکن أن یقال إن التراضی لیس له دخل فی تغییر الحکم بعد صدوره بحیث یرتفع عند وجوده ویثبت عند عدمه کیف !! وقد دلّت الأدلة علی نفوذه وحرمة نقضه والردّ علیه فأیّ علاقة للتراضی بثبوت الحکم وارتفاعه .

هذا .. ولکن یمکن أن یُذکر بعض ما یُعدّ توجیهاً لما ذهب إلیه الشیخ صاحب الجواهر (قده) :

الوجه الأول : أن یکون مقصوده (قده) أن الحکم بحرمة الترافع وتحریم النقض علی الحاکم الآخر هو من قبیل الأحکام الاحترامیة التی یُراد بها فی ما نحن فیه مراعاة جانب المحکوم له - مدّعیاً کان أم منکراً - فیُلتزم بأنه حکم نهائی لا یجوز نقضه ولا یجوز تجدید النظر فیه عند حاکم آخر فهو حکم من أجل المحکوم له فإذا فُرض رضاه بتجدید النظر عند حاکم آخر (3) فلا مانع حینئذ من أن یرتفع هذا الحکم لأنه إنما کان لأجله ومراعاة لجانبه فهو من قبیل الأحکام الاحترامیة التی تکون قابلة للإسقاط عندما یتنازل من جُعل الحکم لأجله .

ص: 565


1- (7) وهذا مطلب أشار إلیه سابقاً شیخنا الأستاذ (دامت برکاته) وذکره هنا أیضاً لدخالته فی محلّ الکلام .
2- (8) یعنی تراضی المتخاصمین .
3- (9) وهو معنی تراضی المتخاصمین لأن المحکوم علیه عادة یرضی بتجدید الدعوی وإنما الکلام فی المحکوم له (منه دامت برکاته) .

ولکن هذا لیس بذلک الوضوح لأن الذی نفهمه من الأدلة - کما تقدّم مراراً - أن الغرض من الحکم إنما هو إنهاء الخصومة وحلّ النزاع لأن الشارع المقدّس یری فی إبقاء الخصومات والنزاعات مفتوحة فساداً کبیراً ولا یُفهم من الأدلة أن هذا حکم احترامی للمحکوم له وأنه حُکم لمراعاة جانبه فی قبال المحکوم علیه .. وحینئذ نقول إن تجویز تجدید رفع القضیة عند حاکم آخر حتی برضا المحکوم له لا یُحقق هذا الغرض بل مقتضی إطلاق الأدلة هو الحکم بالنفوذ وحرمة النقض والردّ مطلقاً سواء أرضی المتخاصمان بتجدید الدعوی أم لم یتراضیا بذلک .

الوجه الثانی : ما أشار إلیه الشیخ الأنصاری (قده) من أن معنی تراضی المتخاصمین هو رفع الید عن الحکم الأول وبهذا یصبح بحکم العدم فلا مانع حینئذ من تجدید الدعوی ونظر الحاکم الثانی فیها وحکمه بحکم آخر مخالف للحکم الأول .

وأورد علیه بعدم الدلیل علی دوران الأمر مدار تشهّی المترافعین وتراضیهما حیث یکون لهما أن یُبطلا الحکم إن شاءا فیکون کأنه لم یکن أو یُبقیاه فیثبت ، ومقتضی الأصل بقاء أثر الحکم الأول ونفوذه حتی بعد رضا المتخاصمین بتجدید الدعوی عند حاکم آخر .

هذا .. ویُذکر فی المقام فروعاً متمّمة لمحلّ الکلام :

الفرع الأول : فی وجوب النظر علی الحاکم الثانی فی الحکم الصادر من الحاکم الأول ، وعلی تقدیر عدم الوجوب هل یُحکم بالجواز أم لا ؟

وهذا الفرع یمکن أن یُطرح علی نحو مسألتین :

الأولی : فی أنه هل یجب علی الحاکم النظر فی حکم الحاکم الأول ؟

وهذه المسألة قد افتُرضت فی القاضی الذی حلّ مکان القاضی المعزول فقیل إنه هل یجب علیه أن ینظر فی الأحکام التی أصدرها القاضی الأول ؟

ص: 566

المسألة الثانیة : بعد الذهاب إلی عدم الوجوب فقیل هل یجوز للحاکم الجدید النظر فی القضایا التی حکم بها الحاکم الأول أم علیه أن یُمضیها کما هی ؟

أما بالنسبة إلی المسألة الأولی فالظاهر أنه لا إشکال عندهم فی عدم الوجوب وقد علّل هذا فی کلماتهم :

تارة بحمل قضاء الحاکم الأول علی الصحة فإن مقتضاها أن الحکم الأول حکم صحیح صادر علی وفق الموازین ، والمراد بالنظر هنا هو النظر الذی یتعقّبه الحکم علی خلاف الحکم المنظور لو فُرض اختلاف الرأی وهذا لیس بجائز لأنه نقض للحکم الأول المُمضی شرعاً لأن هذا هو مقتضی حمل فعل المسلم علی الصحة فإنه قضاء صدر من أهله فیُحکم بصحته ونفوذه .

وأخری بأن الغرض هو إنهاء الخصومة وفصل النزاع وحینئذ یقال بأن الدعوی التی حکم فیها الحاکم الأول انتهت فیها الخصومة وفُصل بها النزاع فلا دلیل علی وجوب أن ینظر فیها الحاکم الثانی ثانیة ویُبدی رأیه فیها .

وثالثة بالأصل فإن مقتضاه عدم وجوب النظر فی دعاوی الحاکم الأول .

والحاصل أن مسألة عدم وجوب تجدید النظر مسألة مسلّمة لا إشکال فیها وإنما الکلام وقع فی جواز ذلک فأقول :

إذا کان المراد من النظر مجرد تقییم حکم الحاکم الأول ومعرفة مدی صحته فالظاهر عدم المنع منه ویمکن التمسّک له بالأصل - أعنی أصالة عدم الحرمة - بعد وضوح عدم صدق الردّ علی هذا المقدار منه (1) .

وأما إذا کان المراد منه هو إعادة النظر فی الدعوی لکی یحکم فیها بما یراه - وقد یکون ما یراه مخالفاً للحکم الأول - فحینئذ یکون وجوب النظر مشکلاً جداً لاحتمال صدق الردّ علیه بل قد لا یبعد صدق الردّ وعدم قبول الحکم علی أصل النظر فی الدعوی لذلک الغرض ولو قبل الحکم فیها مجدّداً فإن الوارد فی الروایة : (إذا لم یُقبل منه فقد استُخفّ بحکم الله سبحانه وتعالی -) .

ص: 567


1- (10) أی من النظر .

الفرع الثانی : فی طلب الاستئناف وتجدید النظر من قبل المحکوم علیه فی القضیة عند حاکم آخر.

وهذا یُفرَض إما لکون المحکوم علیه یدّعی - مثلاً أن الحاکم الأول لیس مجتهداً فهو یدّعی عدم أهلیته من جهة عدم اجتهاده أو یطعن فی أهلیته من جهة الطعن فی عدالته أو یدّعی أنه مقصّر فی مقدمات حکمه من جهة عدم مراجعته للأدلة - مثلاً أو یدّعی جوره فی الحکم أو یدّعی فسق الشهود الذین اعتمد علیهم فی حکمه ففی هذه الحالات وأشباهها یطلب المحکوم علیه إعادة النظر فی الدعوی فهل یُسمع منه ذلک أم لا ، وعلی فرض جواز السماع فهل یُطلب منه البیّنة لکی یثبت بها ما یدّعیه فیکون فی ذلک مدّعیاً ویکون الحاکم الأول مدّعی علیه أم لا ؟

سیأتی الکلام فی ذلک إن شاء الله تعالی .

المسألة العشرون / فروع متمّمة لمحلّ الکلام / الفرع الثانی : فی طلب الاستئناف وتجدید النظر من قبل المحکوم علیه فی القضیة عند حاکم آخر / طرح البحث بهیأة مسألتین کما هو صنیع الفقهاء (رض) / بیان حکم المسألة من حیث سماع الدعوی فیها وعدمه بناء علی تفسیر معنی الجور / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) بحث الفقه

(بحث یوم الثلاثاء 30 جمادی الثانیة 1433 ه_ 139)

الموضوع :- المسألة العشرون / فروع متمّمة لمحلّ الکلام / الفرع الثانی : فی طلب الاستئناف وتجدید النظر من قبل المحکوم علیه فی القضیة عند حاکم آخر / طرح البحث بهیأة مسألتین کما هو صنیع الفقهاء (رض) / بیان حکم المسألة من حیث سماع الدعوی فیها وعدمه بناء علی تفسیر معنی الجور / کتاب القضاء للسید الخوئی (قده) .

ص: 568

کان الکلام فی أنه هل تُسمع دعوی المحکوم علیه إذا کان مضمونها أو نتیجتها طلب تجدید النظر فی الدعوی لسبب أو لآخر کعدم أهلیة القاضی أو القدح فی عدالة البیّنة أو التقصیر فی الاجتهاد وغیر ذلک .. هذه هی المسألة بشکلها العام لکن الذی یظهر من عبارات الفقهاء والمتون الفقهیة - کما فی الشرایع - هو أنهم یذکرونها بهیأة مسألتین ویظهر منهم التفریق بینهما :

المسألة الأولی : وهی ما إذا ادّعی المحکوم علیه أن الحاکم الأول حکم علیه بالجور ، وقد ذکر فی الشرایع أنه یجب النظر علی الحاکم الثانی فی هذه الدعوی وأنه إذا ثبت عنده صحة حکم الحاکم الأول أمضاه وإذا ثبت عنده خطؤه نقضه وردّه (1)

(2) .

المسألة الثانیة : وهی ما لو ادّعی المحکوم علیه أن الحاکم قضی علیه بشهادة فاسقین (3) ، وقد ذکر فی الشرایع أنه علی الحاکم الثانی إحضار الحاکم الأول من دون فرق بین أن یقیم المُدّعی علیه بینة أو لا (4) فإن حضر واعترف أُلزم بالمال الذی استُوفیَ بحکمه فیکون ضامناً له وإن أنکر وقال لم أحکم إلا بشهادة عدلین دخل فی مسألة أخری وهی أنه هل یُکلّف (5) حینئذ بالبیّنة باعتبار کونه مدّعیاً حیث یدّعی أنه حکم بشهادة عدلین أحرز عدالتهما أو ثبتت عنده ببینة - مثلاً أم یُطالب بالیمین باعتبار کونه منکراً لما یدّعیه المحکوم علیه ؟

ص: 569


1- (1) قال فی الشرایع فی نصّ هذه المسألة (مج4 ص867) :
2- (2) " الرابعة : لیس علی الحاکم تتبّع حکم من کان قبله لکن لو زعم المحکوم علیه أن الأول حکم علیه بالجور لزمه النظر فیه ، وکذا لو ثبت عنده ما یُبطل حکم الأول أبطله سواء کان من حقوق الله أم من حقوق الناس " .
3- (3) أی أنه ادّعی فسق البیّنة .
4- (4) وإن کان هذا محلّ خلاف کما سیأتی (منه دامت برکاته) .
5- (5) أی الحاکم الأول .

اختار المحقق (قده) الثانی (1)

(2) .

والملاحظ مما تقدّم أن البیّنة والیمین قد طُرحت فی المسألة الثانیة باعتبارهما مرجعاً فی الفصل فی الخصومة ولم یُطرحا أصلاً فی المسألة الأولی مع أنها دعوی أیضاً وإنما الذی طُرح فیها لزوم النظر فیها من قبل الحاکم الثانی فإذا أدّی نظره إلی ما یوافق نظر الحاکم الأول واجتهاده أمضی حکمه وإذا اختلف معه فیه نقضه فیقع الکلام فی ما هو المقصود فی هذه المسألة (3) حتی یکون المرجع فیها نظر الحاکم واجتهاده ولا یکون المرجع فیها البیّنة والیمین کالمسألة الثانیة فأقول :

ثمة تفسیران للمسألة الأولی من جهة ما هو المقصود بالجور فیها (4) :

الأول : تجاوز الحقّ فی کیفیة فصل الخصومة کما إذا فُرض اعتماد الحاکم علی البیّنة فی غیر محلّها أو فُرض إهماله لها فی محلّها .

الثانی : بطلان الحکم أی کون ما صدر من الحاکم حکماً مخالفاً للواقع فهو حکم بغیر ما أنزل الله تعالی ، ویؤیده ما ورد فی بعض المتون - کما فی بعض کتب العلامة التعبیر بالبطلان بدل الجور .

ص: 570


1- (6) قال فی الشرایع فی نصّ هذه المسألة (مج4 ص867) :
2- (7) " الخامسة : إذا ادّعی رجل أن المعزول قضی علیه بشهادة فاسقین وجب إحضاره وإن لم یُقم المدّعی بینة فإن حضر واعترف به ألزم ، وإن قال : لم أحکم إلا بشهادة عدلین قال الشیخ (رحمه الله) : یُکلّف البینة لأنه اعترف بنقل المال وهو یدّعی ما یزیل الضمان عنه وهو یشکل لما أن الظاهر استظهار الحکّام فی الأحکام فیکون القول قوله مع یمینه لأنه یدعی الظاهر " .
3- (8) أی المسألة الأولی .
4- (9) حیث إن الوارد فیها دعوی المحکوم علیه أن الحاکم الأول حکم علیه بالجور .

وعلی هذا فیکون الفرق بین التفسیرین أن المحکوم علیه علی التفسیر الأول یدّعی اختلال شرط من الشروط المعتبرة فی القضاء فهو یدّعی مخالفة حکم الحاکم للموازین الظاهریة المجعولة فی باب القضاء ، وأما علی التفسیر الثانی فهو یدّعی بطلان الحکم نفسه من جهة مخالفته للحکم الواقعی .

ومن الواضح أن التفسیر الثانی هو المناسب لکون المرجع فی المسألة الأولی هو نظر الحاکم الثانی فی الدعوی لأن المسألة وفقاً له تکون من موارد الشبهات الحکمیة بمعنی أن دعوی المحکوم علیه بطلان الحکم ومخالفته للواقع یخلق شبهة حکمیة مفادها أن الحکم هل هو مطابق للواقع أم غیر مطابق له فحینئذ یکون المرجع فی حلّ هذه الشبهة هو النظر والاجتهاد ولا مجال فیه لإعمال البیّنة أو الیمین لأنه إنما یُستند إلیهما فی ما کانت المسألة من الشبهات الموضوعیة وأما فی الحکم فلا معنی للرجوع إلی شیء من ذلک وإنما المرجع فیه - لو قیل بسماع هذه الدعوی - هو نظر الحاکم فحسب .

إذاً فالمناسب لکون المرجع فی المسألة الأولی هو نظر الحاکم هو التفسیر الثانی لأنه یجعل المسألة من موارد الشبهات الحکمیة التی یکون علاجها بالنظر وإعمال الاجتهاد دون التفسیر الأول فإنه یجعلها من موارد الشبهات الموضوعیة التی لا مجال فیها لإعمال النظر والاجتهاد .

ومن هنا یترجّح التفسیر الثانی للمسألة الأولی علی التفسیر الأول لأن المطروح فیها کون المرجع هو نظر الحاکم لا البیّنة والیمین .

هذا .. ویؤید جعل المسألة الأولی مسألة مستقلة عن الثانیة لا أنهما مسألة واحدة أنها (1) علی التفسیر الأول تکون فی الحقیقة مصداقاً من مصادیق المسألة الثانیة فإن هذه الأخیرة لا تختص کما سیأتی - بدعوی أن الحاکم قضی علیه بشهادة فاسقین بل تشمل کل دعوی یُدّعی فیها وجود خلل فی الشروط والموازین کما لو ادّعی علیه أنه قضی علیه مع عدم کونه مجتهداً أو عدم کونه عادلاً أو قضی علیه ببینة هی لیست فی محلّها أو أهمل بینة مع أنه یجب علیه الرجوع إلیها فلو فُرض تفسیر المسألة الأولی وفق التفسیر الأول فقیل بأن المقصود بالجور بطلان الحکم لخلل فی الموازین المعتبرة فی باب القضاء لا بطلان الحکم لمخالفته للواقع کانت هذه المسألة مصداقاً من مصادیق المسألة الثانیة ولا داعی حینئذ للکلام علیها فی مقابلها کما هو صنیع الفقهاء (رض) علی ما تقدّم (2) .

ص: 571


1- (10) أی المسألة الأولی .
2- (11) حیث تبیّن أنهم تکلّموا عن مسألتین وفرّقوا بینهما ولم یتکلّموا عن مسألة واحدة .

وکیف کان فیقع الکلام فی هاتین المسألتین اللتین تکون الأولی منهما ناظرة إلی شبهة حکمیة والثانیة إلی شبهة موضوعیة فأقول :

أما بالنسبة إلی المسألة الأولی علی التفسیر الثانی (1) فإن هذه الدعوی لا تُسمَع من المحکوم علیه لأن المفروض أن لیس ثمة ادّعاء وجود خلل فی موازین القضاء ولا ادّعاء عدم أهلیة الحاکم ولا عدم اجتهاده ولا أنه قضی بغیر المیزان الشرعی وإنما الدعوی أن هذا الحکم الذی انتهی إلیه الحاکم مخالف للحکم الواقعی ، وقد تقدّم سابقاً أن حکم الحاکم الجامع للشرائط المعتبرة فی باب القضاء نافذ حتی مع قطع المحکوم علیه أو الحاکم الآخر بأنه مخالف للحکم الواقعی لفرض أنه جری علی طبق الموازین وما کان کذلک فإنه یحرم نقضه وردّه تمسّکاً بأدلة النفوذ .

لکن الذی یظهر من الشرایع وغیرها الحکم بسماع هذه الدعوی وأن الحاکم الذی رُفعت إلیه هذه الدعوی یجوز له نقضها ولا بد علی هذا أن یکون تفسیرها بالتفسیر الأول لا بالتفسیر الثانی وسیأتی أنه فی المسألة الثانیة التی تکون المسألة الأولی بالتفسیر الأول مصداقاً لها یجوز سماع الدعوی فیها فلعل ذهاب بعض الفقهاء إلی سماع هذه الدعوی مبنی علی أن المسألة الأولی مفسّرة بالتفسیر الأول .

والحاصل أن المسألة الأولی علی التفسیر الثانی لا تکون مسموعة .

وأما بالنسبة إلی المسألة الثانیة التی هی من قبیل الشبهات الموضوعیة وهی ما إذا فُرض أن المُدّعی علیه ادّعی بطلان الحکم لاختلال بعض الموازین المعتبرة فی باب القضاء من قبیل دعوی عدم أهلیة الحاکم للاجتهاد أو عدم عدالته أو دعوی خطئه فی تطبیق المیزان أو فی مقدمات الحکم أو دعوی فسق الشهود أو قضی علیه ببینة فی غیر محلّها أو أهمل العمل بها فی محلّها وهکذا - فهل تُسمع هذه الدعوی من المُدّعی علیه أم لا .. هذا ما سیأتی البحث عنه إن شاء الله تعالی .

ص: 572


1- (12) یعنی کون المسألة ناظرة إلی دعوی بطلان الحکم وکونه حکماً مخالفاً للحکم الواقعی .

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.