آرشیو دروس خارج اصول آیت الله سید علیرضا حائری31-30

اشارة

سرشناسه:حائری، علیرضا

عنوان و نام پدیدآور:آرشیو دروس خارج اصول آیت الله سید علیرضا حائری31-30 /علیرضا حائری.

به همراه صوت دروس

منبع الکترونیکی : سایت مدرسه فقاهت

مشخصات نشر دیجیتالی:اصفهان:مرکز تحقیقات رایانه ای قائمیه اصفهان، 1396.

مشخصات ظاهری:نرم افزار تلفن همراه و رایانه

موضوع: خارج اصول

دلالة النَّهْی/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: دلالة النَّهْی/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

قلنا إن السید الخوئی رحمه الله اعترض علی کلام الْمَشْهُور القائلین بأن الأمر یَدُلّ علی البعث نحو الفعل وَالنَّهْی یَدُلّ علی الزَّجْر عن الفعل قائلاً: ما المقصود من البعث وَالزَّجْر؟ هل المقصود البعث وَالزَّجْر التکوینیان أو التشریعیان؟

إن کان المقصود هو الأوّل فقد ذکرنا إشکاله بالأَمْسِ.

وأمّا إن کان المقصود البعث وَالزَّجْر التَّشْرِیعِیَّیْنِ، فیقول السید الخوئی: إِنَّه یرد علیه أن الأمر لا یَدُلّ علی البعث، بل الأمر بنفسه بعث تشریعی، لا أَنَّهُ یَدُلّ علی بعث تشریعیّ؛ فإنّ معنی قولنا: یَدُلّ هو أن الأمر یکشف عن بعث تشریعی، والمفروض أن یکون الکاشف غیر المنکشف، بینما الأمر هنا هو بعث تشریعی؛ فَإِنَّ المولی حینما یأمر إِنَّمَا یبعثنا نحو الفعل تشریعاً. وکذلک النَّهْی فإِنَّهُ بوجوده الواقعی زجر تشریعی عن الفعل. وهذا مثل سائر الموارد، فحینما نقول: أرید الماء إِنَّمَا تَدُلّ کلمة الماء علی السائل الخارجیّ، ولا یَدُلّ علی صوت الماء الخارج من الفم.

هذا حاصل اعتراض السید الخوئی رحمه الله((1) ).

تحریر محلّ الإشکال علی کلام السید الخوئی:

لنفترض أنّ النُّقْطَة المشترکة بین أصحاب التَّیَّار الحدیث (بین الرَّأْی المشهور السَّائِد بینهم وبین رأی السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ رَحِمَهُ اللَهُ) وهی النُّقْطَة القائلة بأن متعلّق الأمر وَالنَّهْی شیء واحد وهو الفعل، هی الصحیحة خلافاً لما اشتهر بین القدامی مِنَ الأُصُولِیِّینَ (حیث کانوا یقولون بأن مُتَعَلَّق الأمر طلب الفعل وَمُتَعَلّق النَّهْی طلب ترک الفعل، کما تقدّم بالأمس)، لنفترض ذلک کی نتفرّغ للبحث عن النُّقْطَة المختلف فیها بین أصحاب التَّیَّار الحدیث، وهی عبارة عن معنی الأمر ومعنی النَّهْی، فهل أن معناهما هو ما یقوله الرَّأْی المشهور بین أصحاب التَّیَّار الجدید من البعث وَالزَّجْر، أم أن معناهما ما یقوله السَّیِّد الْخُوئِیّ رَحِمَهُ اللَهُ من اعتبار الفعل واعتبار الحرمان منه؟!

ص: 1


1- (1) - راجع محاضرات فی أصول الفقه: ج4، ص 84-85.

الإشکال علی کلام السید الخوئی: الَّذی نراه هو أنَّ الاعتراض المتقدّم الَّذی وجَّهه السَّیِّد الْخُوئِیّ رَحِمَهُ اللَهُ إلی الرَّأْی المشهور مبنیّ علی مبناه فی الوضع، حیث یقول: إن حقیقة الوضع عبارة عن التَّعَهُّد والالتزام مِن قِبَلِ الواضع (والواضع عند السید الخوئی هو کل متکلم یتکلم بالعربیة أو بالفارسیة أو بأیة لغة أخری) بأَنَّهُ کلّما قصد تفیهم هذا المعنی المعیَّن أتی بهذا اللَّفظ الخاصّ.

ومن آثار هذا المبنی وممَّا یتفرع عنه ما صَرَّح به رَحِمَهُ اللَهُ وصرح به غیره فی بحث الوضع وفی غیره مراراً من أن الدِّلالة الوضعیَّة للألفاظ عبارة عن الدِّلالة التَّصدیقیَّة الَّتی فیها جهة الکشف عمَّا فِی نفس الْمُتِکَلِّم، خلافاً لما هو المشهور والصحیح من أن الدِّلالة الوضعیَّة عبارة عن الدِّلالة التصوریة، فالدلالة التَّصدیقیَّة الموجودة فی الجملة التَّامَّة (وهی دلالتها علی وجود المعنی فی نفس الْمُتِکَلِّم وکشفها عن أَنَّهُ قد أراده واقعاً) منشأها الوضع؛ وذلک لأَنَّهُ إذا کان الوضع عبارة عن أن الْمُتِکَلِّم قد تعهَّد بأَنَّهُ کلما قصد تفهیم هذا المعنی المعیَّن أتی بهذا اللَّفظ الخاصّ.

فهو عندما یتلفّظ بهذا اللَّفظ الخاصّ یکشف هذا اللَّفظ عند السامع عن وجود هذا المعنی المعیَّن فی نفس الْمُتِکَلِّم ویدلّ علی أَنَّهُ قد أراده وقَصَده واقعاً؛ لأَنَّهُ قد تعهَّد بأَنَّهُ کلما أراد هذا المعنی تلفَّظَ بهذا اللَّفظ.

فبناءًا علی هذا المبنی یتوجّه الاعتراض الَّذی وَجَّهَهُ رَحِمَهُ اللَهُ إلی الرَّأْی المشهور؛ إذ یقال: إِنَّه لا یمکن أن یکون الأمر موضوعاً للبعث وَالنَّهْی موضوعاً لِلزَّجْر؛ لأَنَّ هذا معناه أن الْمُتِکَلِّم قد تعهَّد بأَنَّهُ کلّما قصد البعث وأراده أتی بلفظ الأمر وکلما قصد الزَّجْر وأراده أتی بلفظ النَّهْی، فإذا تَلَفَّظَ بالأمر کشف الأمر عن وجود البعث فی نفس الْمُتِکَلِّم ودلّ علی أَنَّهُ قد أراده وقصَده، وإذا تَلَفَّظَ بالنهی کشف النَّهْی عن وجود الزَّجْر فی نفسه ودلّ علی أَنَّهُ قد أراده وقصده.

ص: 2

إذن، إن معنی وضع الأمر للبعث ووضع النَّهْی لِلزَّجْر هو أن الأمر وَالنَّهْی یکشفان عن البعث وَالزَّجْر، بینما هذا باطل؛ لأَنَّهُ إن کان المقصود عبارة عن البعث وَالزَّجْر التَّکْوِینِیَّیْنِ فمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ الأمر وَالنَّهْی لا یَدُلاَّنِ علیهما، أی: لا یکشفان عن وجود بعث وزجر تَکْوِینِیَّیْنِ فی نفس الآمِر وَالنَّاهِی؛ إذ لیس فی نفس المولی بعث وزجر تَکْوِینِیَّانِ؛ إذ لو کان کذلک لَمَا کان یأمر وینهی، بل کان یدفع العبد نحو الفعل دفعاً تَکْوِینِیّاً ویجرّه إلیه جَرّاً؛ فَإِنَّ الدَّفْع والمنع التَّکْوِینِیَّیْنِ لا یَتَحَقَّقَانِ بالألفاظ (أعنی: بالأوامر وَالنَّوَاهِی)، بل یَتَحَقَّقَانِ بإعمال القوّة خارجاً.

وإن کان المقصود عبارة عن البعث وَالزَّجْر التَّشْرِیعِیَّیْنِ، فمِنَ الْوَاضِحِ أیضاً أَنَّ الأمر وَالنَّهْی لا یَدُلاَّنِ علیهما ولا یکشفانِ عن وجودهما فی نفس المولی الآمِر وَالنَّاهِی؛ لأنهما بنفسهما بعث وزجر تَشْرِیعِیَّانِ، لا أنهما یکشفان عن بعث وزجر تَشْرِیعِیَّیْنِ؛ إذ المفروض فی الکاشف أن یکون غیر المنکشَف لا عینه.

إذن، فاعتراضه رَحِمَهُ اللَهُ علی الرَّأْی المشهور هو فی الواقع انسیاق مع مبانیه رَحِمَهُ اللَهُ فی باب الوضع.

وأمّا بناءًا علی المسلک الصَّحِیح عندنا فی باب الوضع وهو القول بأن الوضع عبارة عن إقران اللَّفظ بالمعنی إقراناً أکیداً بحیث یتبادر المعنی إلی ذهن السامع کُلَّمَا سمع اللَّفظ، وکذلک بناءًا علی المسلک المشهور القائل بأن الوضع عبارة عن جعل اللَّفظ بإزاء المعنی واعتبار ذلک، فَالدِّلاَلَةُ الوضعیَّة النَّاشِئَة من الوضع لیست دلالة تَصْدِیقِیَّة، بل هی دلالة تَصَوُّرِیَّة بحتة لیس فیها جهة کشفٍ عن شیء أصلاً، بمعنی أن اللَّفظ إنّما یوجب خطور المعنی وتبادره إلی ذهن السامع، فَالَّذِی یصنعه الوضع ویولِّده (سواء قلنا إِنَّه القرن الأکید بین اللَّفظ والمعنی، أو قلنا: إِنَّه الجعل والاعتبار) لیس إلاَّ عبارة عن خطور المعنی إلی الذِّهْن عند سماع اللَّفظ، وهذا الخطور هو الَّذی نسمیه بالدِّلالة التصوریة، أی: أن سماع اللَّفظ وتصوّره یسبّب تصوّر المعنی فی الذِّهْن.

ص: 3

وأمّا الدِّلالة التَّصدیقیَّة فهی لیست من صنع الوضع ولیست ناشئة ومتولِّدة منه، بل مصدرها السِّیَاق والمناسبات وظهور حال الْمُتِکَلِّم. فبناءًا علی هذا المبنی لا یتوجه الاعتراض المذکور الَّذی وَجَّهَهُ السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ رَحِمَهُ اللَهُ إلی الرَّأْی المشهور، وذلک لإمکان القول بأن الأمر یدلّ علی البعث التَّکوینیّ، وَالنَّهْی یدلّ علی الزَّجْر التَّکوینیّ، بمعنی أنهما یُخطران هذا المعنی إلی ذهن السَّامِع ویوجبان ارتسام صورة البعث وَالزَّجْر التَّکْوِینِیَّیْنِ فی ذهنه.

وطبعاً نقصد بالبعث وَالزَّجْر معناهما الاِسْمِیّ فی مادّة الأمر وَمَادَّة النَّهْی، ومعناهما الْحَرْفِیّ النِّسْبِیّ (أی: النِّسْبَة الْبَعْثِیَّة وَالإِرْسَالِیَّة، وَالنِّسْبَة الزَّجْرِیَّة) فی صیغة الأمر وصیغة النَّهْی، علی شرح وتفصیل سبق فی بحث معانی الحروف وبحث معانی الهیئات، وأیضاً فی بحث دلالة صیغة الأمر.

إذن، فالمولی یأمر وینهی لیُخطر فی ذهن المُکَلَّف صورة البعث وَالزَّجْر التَّکْوِینِیَّیْنِ، هذا ما یدلّ علیه الأمر وَالنَّهْی بالدِّلالة الوضعیَّة، وبعد ذلک نستکشف بالسیاق والمناسبات وظهور حال الْمُتِکَلِّم أن الأمر وَالنَّهْی کان بداعی البعث التّشریعیّ وَالزَّجْر التّشریعیّ، بمعنی أنَّ الظُّهُور الحالی للمتکلم یکشف کشفاً تصدیقیّاً عن أن المراد النَّفْسِیّ والداعی الحقیقی له وهدفه من إخطار صورة البعث التَّکوینیّ (فی الأمر) وصورة الزَّجْر التَّکوینیّ (فی النَّهْی) إنّما هو البعث التّشریعیّ هناک وَالزَّجْر التّشریعیّ هنا، وهذا الکشف هو الَّذی نسمّیه بالدِّلالة التَّصدیقیَّة.

هذا کله عن اعتراض السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ رَحِمَهُ اللَهُ علی الرَّأْی المشهور، وقد عرفت عدم صحته.

یبقی بعد ذلک أن نعالج رأیه رحمه الله حول معنی الأمر وَالنَّهْی حیث قال: إن الأمر هو اعتبار الفعل فِی العهدة ومعنی النَّهْی هو اعتبار الحرمان. وهذا ما یأتی إن شاء الله غداً.

دلالة النَّهْی/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

ص: 4

العنوان: دلالة النَّهْی/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

بِالنِّسْبَةِ إلی اعتراض السید الخوئی رحمه الله عَلَیٰ الرَّأْیِ الْمَشْهُورِ اتَّضَحَ لنا أن هذا الاعتراض اعتراض مبنائی مبتنٍ علی مبناه هو رحمه الله فِی باب الوضع وما یتفرع علی ذاک المبنی من کون الدِّلاَلَة تَصْدِیقِیَّة. أما علی مبنی القوم فِی باب الوضع بأن الدِّلاَلَة الوضعیَّة تَصَوُّرِیَّة ولیست وضعیَّة فلا یُسجَّل اعتراضه رحمه الله.

یبقی أصل رأیه رحمه الله الَّذی أبداه رَحِمَهُ اللَهُ حول مفاد صیغة الأمر وصیغة النَّهْی، وهو أن مفاد صیغة الأمر عبارة عن اعتبار الفعل فی ذمّة المُکَلَّف وعهدته، ومفاد النَّهْی عبارة عن اعتبار حرمان المُکَلَّف من الفعل، فهذا الرَّأْی أیضاً فرع عن مبناه رَحِمَهُ اللَهُ فی باب الْوَضْع وما یتفرّع علیه من کون الدِّلالة الوضعیَّة هی الدِّلالة التَّصدیقیَّة الکاشفة عن وجود المعنی فی نفس الْمُتِکَلِّم وإرادته له واقعاً؛ وذلک لأَنَّ دلالة الأمر وَالنَّهْی علی اعتبار الفعل أو الحرمان من الفعل لا یعنی سوی کشف الأمر وَالنَّهْی عن وجود الاعتبار المذکور فی نفس المولی وإرادته له واقعاً.

إذن، فرأیه رَحِمَهُ اللَهُ مبنیّ علی ذاک المبنی، فإِنَّه حیث بَنی علی ذاک المبنی، صار هنا فی مقام التفتیش عن المدلول التَّصدیقی للأمر وَالنَّهْی، فقال: إن صیغة الأمر وضعت لإبراز اعتبار الفعل فی العهدة، وصیغة النَّهْی وضعت لإبراز اعتبار الحرمان منه.

أما نحن فقد ناقشنا هذا المبنی بتفصیل فی باب الوضع، فلا نتعرّض له هنا، وإنَّما نقتصر فی المقام علی القول بأن اعتبار الفعل فی ذمّة المُکَلَّف، أو اعتبار حرمانه منه، وإن کان یفهم أحیاناً بِالسِّیَاقِ والمناسبات وظهور حال الْمُتِکَلِّم، إلاَّ أَنَّهُ لیس هو المدلول الوضعیّ للأمر وَالنَّهْی، وذلک لقرینتین:

ص: 5

الأولی: أن المدلول الوضعیّ للأمر وَالنَّهْی أبسط وأوضح تصوُّراً وأقدم بکثیر من مفهوم «الاعتبار» و«العهدة» أو «الذِّمَّة» وما إلی ذلک من المفاهیم الدَّقِیقَة المعقَّدة وَالَّتِی هی مُتِأَخِّرَة زَمَنِیّاً عن وضع الأمر وَالنَّهْی، ولم یکن یفهما الإنسان البدائی، بینما کان هذا الإنسان یفهم الأمر وَالنَّهْی علی أوضح ما یکون.

الثَّانیة: أن صیغة الأمر وصیغة النَّهْی تُستعملان فی کثیرٍ من الأحیان (بنفش معناهما الوضعیّ اللغوی) فی موارد لا تنطبق علیها هذه المفاهیم (أی: مفهوم الاعتبار والعهدة والذِّمَّة)، وذلک کما فی الطّلب من الله تعالی، کما أن صیغة الأمر تصدر ممّن یملک اعتبار الفعل علی عهدة المخاطب، کالمولی العالی، فَإِنَّهَا کذلک تصدر ممّن لا یملک اعتبار شیء أو جعله فی عهدة المخاطب، کالعبد الَّذی یخاطب الله تعالی ویقول: «ربنا اغفر لنا» و«ارحمنا» و«عافنا» و«اعف عنا» وما إلی ذلک.

وکما أن صیغة النَّهْی تصدر ممَّن یملک اعتبار حرمان المخاطَب من الفعل، کالمولی العالی؛ فَإِنَّهَا کذلک تصدر ممَّن لا یملک ذلک، کالعبد الَّذی یخاطب الله تعالی ویقول: «ربنا لا تؤاخذنا»، «ربنا لا تکلنا إلی أنفسنا»، «ربنا لا تسلط علینا من لا یرحمنا» وما إلی ذلک.

وَالْحَاصِلُ: أَنَّ صیغة الأمر وصیغة النَّهْی تُستعملان فی هذه الموارد فی نفس معناهما اللغوی الَّذی تُستعملان فیه فی سائر الموارد، بینما لا یصحّ أن یقال فی هذه الموارد: إن مفادهما عبارة عن اعتبار العبد الفعلَ فی ذمّة الله وعهدته تعالی، أو اعتباره حرمان الله تعالی عن الفعل.

هذا کُلّه عن النُّقْطَة المختلف فیها بین أصحاب التَّیَّار الحدیث (بین الرَّأْی المشهور وَالسَّائِد بینهم وبین رأی السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ رَحِمَهُ اللَهُ) وقد اتَّضَحَ لنا أن اعتراضه رَحِمَهُ اللَهُ علیهم لیس بصحیح؛ وأن رأیه رَحِمَهُ اللَهُ فی مفاد صیغة الأمر ومفاد صیغة النَّهْی أیضاً غیر صحیح.

ص: 6

وأمّا النُّقْطَة المشترکة بینهم القائلة بأنّ متعلّق الأمر وَالنَّهْی شیء واحد وهو الفعل، خلافاً لِلْقُدَامَیٰ مِنَ الأُصُولِیِّینَ القائلین بأنّ متعلّق الأمر هو الفعل، وَمُتَعَلّق النَّهْی ترک الفعل. فقد اِسْتَدَلَّ علیها السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ رَحِمَهُ اللَهُ بما علیه الْعَدْلِیَّة من تَبَعِیَّة الأحکام للمصالح والمفاسد الثابتة فی متعلقاتها؛ فإِنَّه بناءًا علی هذا المسلک الَّذی هو الصَّحِیح یکون مِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ الأمر وَالنَّهْی یَتَعَلَّقَانِ بالفعل. فکما یَتَعَلَّقُ الأمر بالفعل، لوجود مصلحة لزومیّة فیه، کذلک النَّهْی یتعلّق بالفعل، لوجود مفسدة لزومیّة فیه، ولا یتعلّق بترک الفعل؛ إذ لیس فی التَّرک مصلحة، وإنَّما مصبّ المصلحة والمفسدة نفس الفعل، فیکون نفس الفعل مرکز الأمر وَالنَّهْی ومصبّهما((1) ).

أقول: هذا الدَّلِیل أیضاً غیر صحیح، کما أفاده سَیِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِید رَحِمَهُ اللَهُ؛ وذلک:

أوَّلاً: لأَنَّ البحث هنا إنّما هو عن معنی الأمر وَالنَّهْی لغةً قبل فرض إسلامٍ أو عَدْلِیَّة أو أشاعرةٍ، فالمبحوث عنه فی المقام إنّما هو الوضع والمدلول اللغوی الثَّابت قبل تکوّن مثل هذه المسالک الْفَلْسَفِیَّة أو الْکَلاَمِیَّة لدی علماء المسلمین، بل قبل مجیء الإسلام، فلا معنی للاستدلال علی مدلولٍ لُغَوِیٍّ وضعیّ بمذهب کلامیٍّ لفرقةٍ من المسلمین ظَهَر مؤخّراً؛ فإنَّنَا نفترض فی هذا البحث آمِراً وَنَاهِیاً لا یتبع المصالح والمفاسد فی أوامره ونواهیه أصلاً، کما إذا کان یأمر وینهی ظلماً وَجَوْراً وَتَضْیِیقاً علی النَّاس مثلاً، فما هو مفاد أمره؟ وما هو مفاد نهیه؟ من حیث اللُّغَة، هل أن مفاد نهیه هو طلب ترک الفعل؟ أم هو الزَّجْر عن الفعل، أم هو اعتبار حرمان المأمور من الفعل؟ هذا بحث لا یرتبط أبداً بوجهة نظر الْعَدْلِیَّة.

ثانیاً: لأَنَّهُ حتّی علی مذهب الْعَدْلِیَّة القائل بِتَبَعِیَّة الأحکام للمصالح والمفاسد لا یتعیَّن المصیر إلی ما ذهب رَحِمَهُ اللَهُ إلیه من کون مفاد صیغة النَّهْی عبارة عن اعتبار حرمان المُکَلَّف من الفعل؛ فَإِنَّ مسلک الْعَدْلِیَّة لا یقتضی أکثر من کون المفسدة فی الفعل وبتبعها یصدر النَّهْی من الشَّارع، وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ المولی لا یرید من نهیه هذا سوی إبعاد المُکَلَّف عن المفسدة الموجودة فی الفعل، فهو یطلب الفرار عنها إلی النَّقِیض، وهذا کما یعقل بِالزَّجْر عن الفعل، أو باعتبار حرمان المُکَلَّف من المُکَلَّف، کذلک یعقل بطلب ترک الفعل.

ص: 7


1- (1) - محاضرات فی أصول الفقه: ج4، ص 87-88.

نعم کون مفاد النَّهْی عبارة عن الزَّجْر عن الفعل أو اعتبار الحرمان منه أنسب، باعتبار أن النَّهْی تابع للمفسدة، والمفسدة کامنة فی الفعل، فالمناسب أن یکون النَّهْی أیضاً متعلّقاً بالفعل لا بترکه، لکن الأَنْسَبِیَّة لیست دَلِیلاً علی الوضع اللغوی وعلی أن الواضع قد لاحظ هذه الأَنْسَبِیَّة وأخذها بعین الاعتبار حین الوضع ولم یغفل أو یتغافل عنها، ووضع (علی وضوئها) صیغة النَّهْی لِلزَّجْر عن الفعل أو لاعتبار الحرمان منه، ولم یضعها لطلب ترک الفعل کما هو واضح.

هذا بِالنِّسْبَةِ إلی نقاشنا مع السید الخوئی، ویبقی الرَّأْی الصَّحِیح الَّذی سوف نذکره غداً إن شاء الله تعالی.

دلالة النَّهْی/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: دلالة النَّهْی/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

انتهینا عن مناقشاتنا مع الأصحاب وبقی أن نذکر الرَّأْی الصَّحِیح فِی هذه النُّقْطَة الَّتی اختلف فیها الأصحاب الْمُتِأَخِّرُونَ عن الْقُدَامَیٰ، حیث قالت القدماء بأن مفاد الأمر وَالنَّهْی واحد وهو الطّلب، لکن الأمر طلب الفعل وَالنَّهْی طلب ترک الفعل، بینما رأی المتأَخِّرین یرفض هذا الکلام برمّته ویقول إِنَّه: لَیْسَ مفاد الأمر وَالنَّهْی واحداً بل مفادهما مختلف، فإن مفاد الأمر هو الطّلب والبعث والإرسال والدفع نحو الفعل عند الْمَشْهُور (حیث لم نقبل کلام السید الخوئی)، بینما مفاد النَّهْی لَیْسَ عبارة عن طلب ترک الفعل، بل هو عبارة عن الزَّجْر وَالرَّدْع عن الفعل.

الصَّحِیحُ عندنا هو أَنَّ النَّهْی بمادّته دالّ علی الزَّجْر (بمعناه الاِسْمِیّ) عن الفعل، وبهیئته وصیغته دالّ علی النِّسْبَة الزَّجْرِیَّة بین الفعل والمخاطب، کما قلنا فی بحث دلالة مادّة الأمر أن الأمر یدلّ علی طلب الفعل، أو الإلقاء علی الفعل والدفع والبعث والإرسال نحوه، وقلنا فی بحث دلالة صیغة الأمر: إِنَّها تدلّ علی النِّسْبَة الإِرْسَالِیَّة وَالْبَعْثِیَّة، ولیست صیغة النَّهْی دالَّة علی طلب ترک الفعل.

ص: 8

وأیضاً فإِنَّ النَّهْی (مادّةً وهیئةً) ظاهر فی الحرمة ونشوء الزَّجْر المولویّ من مفسدة لزومیّة وملاک إلزامی وموضوع لذلک، کما قلنا نظیر ذلک فِی مَادَّةِ الأَمْرِ وَهَیْئَتِهِ، حَیْثُ تَقَدَّمَ هُنَاکَ أَنَّ الأَمْرَ مَادَّةً وَهَیْئَةً موضوع للوجوب ونشوء الطّلب وَالإِرْسَال من ملاک لُزُمِیّ ومصلحة إِلْزَامِیَّة.

والدَّلیل الأولیّ لنا علی ذلک کُلّه عبارة عن الوجدان اللُّغَوِیّ وَالْعُرْفِیِّ وتبادر الطّلب والبعث الْوُجُوبِیّ هناک، وتبادر الزَّجْر وَالرَّدْع التَّحْرِیمِیّ هنا.

إذن، فلیس المفهوم من صیغة النَّهْی طلب ترک الفعل، بل المفهوم منها بدلیل الوجدان اللُّغَوِیّ وَالْعُرْفِیّ هو الزَّجْر عن الفعل؛ فهناک فرق بین مفاد صیغة الأمر ومفاد صیغة النَّهْی، فکل من الصِّیغَتَیْنِ لها دلالة تَصَوُّرِیَّة ودلالة تَصْدِیقِیَّة وهما تختلفان فی کلتا الدِّلاَلَتَیْنِ؛ فصیغة الأمر تدلّ بالدِّلالة التَّصوُّریَّةِ علی النِّسْبَة الإِرْسَالِیَّة بین المخاطب والفعل، وَبِالدِّلاَلَةِ التَّصدیقیَّةِ علی الإرسال التّشریعیّ نحو الفعل، وصیغة النَّهْی تدلّ بالدِّلالة التَّصوُّریَّة علی النِّسْبَة الزَّجْرِیَّة بین المخاطب والفعل، وَبِالدِّلاَلَةِ التَّصدیقیَّةِ علی الزَّجْر التّشریعیّ؛ وَالدَّلِیلُ عَلَی ذَلِکَ کُلِّهِ هو الوجدان القاضی بأن ما یُفهم من صیغة الأمر یختلف عمَّا یُفهم من صیغة النَّهْی اختلافا ذاتیّاً، لا اختلافا فی الْمُتَعَلَّق، ولیس بإمکاننا إقامة البرهان علی ما نقول، لکن یمکننا ذکر منبِّهاتٍ تنبّه الوجدان المذکور وهی:

الأوّل: أَنَّهُ یوجد لدینا فی صیغة النَّهْی دالّ ومدلول، فمثلاً إذا قال: «لا تکذب» فَالدَّالُّ عبارة عن شَیْئَیْنِ: أحدهما الْمَادَّة، وثانیهما الهیئة. والمدلول إن فَسَّرنا صیغة النَّهْی بِالزَّجْر، فیتطابق حینئذٍ الدَّالّ والمدلول؛ إذ الجزء الأوّل من الدَّالّ (وهو الْمَادَّة) یدلّ علی الجزء الأوّل من المدلول (وهو الفعل)، والجزء الثَّانِی من الدَّالّ (وهو الهیئة) یدلّ علی الجزء الثَّانِی من المدلول، أی: الزَّجْر بمعناه الْحَرْفِیّ (أی: النِّسْبَة الزَّجْرِیَّة).

وأمّا لو فَسَّرْنّا صیغة النَّهْی بطلب ترک الفعل، فیصبح المدلول مُرَکَّباً من ثلاثة أجزاء: أحدها الفعل، والثانی الطّلب، والثالث التَّرک؛ فالفعل تدلّ علیه الْمَادَّة، وَالطَّلَب (بمعناه الْحَرْفِیّ، أی: النِّسْبَة الطَّلبیَّة) تدلّ علیه الهیئة، وأمّا التَّرک فلا یبقی ما یدلّ علیه، فلا یحصل تطابق بین الدَّالّ والمدلول؛ وذلک لأَنَّ التَّرک:

ص: 9

إما أنَّ یُفرض أَنَّهُ یدلّ علیه دالّ ثالث غیر الْمَادَّة والهیئة، ومن الواضح عدم وجود دالّ ثالث فی الکلمة وراء الْمَادَّة والهیئة.

وإما أنَّ الدَّالّ علیه عبارة عن الْمَادَّة، وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ الْمَادَّة لا تدلّ علی التَّرک لا دلالةً اِسْتِعْمَالِیَّةً ولا دلالةً فنائیةً.

والمقصود بالدِّلالة الاِسْتِعْمَالِیَّةِ دلالة اللَّفظ علی المعنی الَّذی استُعمل اللَّفظ فیه بمعنی أَنَّهُ أرید إخطاره فی ذهن السَّامِع من خلاله.

والمقصود بالدِّلالة الْفَنَائِیَّة دلالة المفهوم والعنوان علی المصداق والمعنون، بمعنی أَنَّهُ مرآة له وحاکٍ عنه وفانٍ فیه ویُری من خلاله؛ وذلک لوضوح أن مادّة الکذب فی المثال لا تُستعمل إلاَّ فی الکذب لا فی ترک الکذب، فلا یُراد من التَّلَفُّظِ بها إخطار التَّرک فی ذهن السَّامِع، وأیضاً لوضوح أن هذه الْمَادَّة (کعنوانٍ من العناوین ومفهومٍ من المفاهیم) لا تَفنی إلاَّ فی مصادیق الکذب، لا فی مصادیق ترکه، فلیست مرآةً لترک الکذب، وحاکیةً عنه ولا یُری التَّرک من خلالها.

وإما أن یفرض أن الدَّالّ علی التَّرک عبارة عن الهیئة، وهذا یعنی أن الهیئة تدلّ علی شَیْئَیْنِ:

أحدهما: المعنی الْحَرْفِیّ الَّذی هو عبارة عن النِّسْبَة الطَّلبیَّة.

والآخر: المعنی الاِسْمِیّ الَّذی هو طرف النِّسْبَة وهو التَّرک.

وهذا أمر غریب غیر معهود فی باب وضع الحروف والهیئات، حیث لم نشاهد حرفاً أو هیئةً یدلّ علی النِّسْبَة وعلی طرفها معاً، بل إن هذا یعنی دلالة الهیئة علی ثلاثة أشیاء:

أحدها: المعنی الْحَرْفِیّ التام (أی: النِّسْبَة الطَّلبیَّة التَّامَّة الثابتة بین الطّلب وترک الفعل).

وثانیها: المعنی الْحَرْفِیّ الناقص (أی: النِّسْبَة الناقصة الإضافیة الثابتة بین التَّرک وبین الفعل).

ص: 10

وثالثها: المعنی الاِسْمِیّ وهو التَّرک.

وطبعاً هذا (أی: دلالة الهیئة علی معنی حرفی وهو النِّسْبَة ومعنی اسمی وهو طرفها) لیس مستحیلاً؛ لإمکان أن لا تکون الهیئة هنا هیئة خالصة، کی یقال: إن من المستحیل دلالة الهیئة علی معنی حرفی ومعنی اسمی؛ إذ لعلّها هیئة غیر خالصة، لٰکِنَّهُ أمر غریب وغیر معهود فی باب وضع الحروف والهیئات((1)

(2) ).

وللکلام تتمة نذکرها غداً إن شاء الله تعالی.

ص: 11


1- (1) - نعم فی خصوص «المشتقّ» قلنا (کما تقدّم فی بحث دلالة المشتقّ) بضرورة أخذ طرف النِّسْبَة أیضاً (وهو «الشَّیْء» أو «الذّات» الَّذی هو معنی اسمی) فی مدلول هیئته؛ وذلک لأَنَّ المشتقّ یصحّ حمله علی الذّات عرفاً بلا إشکال، وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ شرط الحمل هو الاِتِّحَاد فی الوجود مع الذّات بلا إشکال، فلو لم یؤخذ «الذّات» أو «الشَّیْء» فی مدلول هیئة المشتقّ، لبقی المشتقّ دالاًّ (بمادّته) علی الحَدَث، و(بهیئته) علی النِّسْبَة، والحدث لیس مُتَّحِداً فی الوجود مع الذّات عرفاً، حتّی وإن قلنا بِاتِّحاَدِهِ معها فی الوجود فَلْسَفِیّاً.
2- (3) إذن، فلا بُدَّ من أن یکون الأمر الآخر الإِضَافِیُّ الزَّائِد علی الحَدَث وَالَّذِی هو مأخوذ فی مدلول المشتقّ ومعناه عبارة عن «النِّسْبَة» مع طرفها (أی: الذّات أو الشَّیْء) الَّذی هو معنی اسمی. فبهذا الدَّلِیل قلنا فی المشتقّ بضرورة أخذ طرف النِّسْبَة أیضاً فی معنی هیئته، فَتَدُلُّ الهیئة علی معنی حرفی ومعنی اسمی. وأساس هذا الدَّلِیل هو کون المشتقّ مِمَّا یصحّ حمله علی الذّات عرفاً، وعلیه فیختص هذا الدَّلِیل بالکلمة الَّتی یصحّ حملها علی الذّات، أمّا ما لا یصحّ حمله علی الذّات فأخذ طرف النِّسْبَة مع النِّسْبَة فی مدلول هیئته وَضْعاً أمر غریب وغیر مألوف، ولا برهان علی ضرورة أخذه فیه کما هو واضح.

دلالة النَّهْی/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: دلالة النَّهْی/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

کُنَّا نناقش الرَّأْی القدیم الأُصُولِیّ الَّذی کان یقول: إن مفاد صیغة الأمر وصیغة النَّهْی مفادهما ومدلولهما واحد، وهو الطّلب، غایة الأمر مُتَعَلَّق الطّلب مختلف، فإِنَّهُ هو الفعل فِی صیغة الأمر، بینما مُتَعَلَّق الطّلب فِی صیغة النَّهْی عبارة عن ترک الفعل. فکنا نناقش هذا الرَّأْی.

وَالْحَاصِلُ: أَنَّ المفهوم من صیغة الأمر مغایر للمفهوم من صیغة النَّهْی، ولیس الاختلاف وَالتَّغَایُر بینهما من حیث الْمُتَعَلَّق (کما یدّعی قدماء الأُصُولِیِّینَ ذلک)؛ لأَنَّ صیغة الأمر وصیغة النَّهْی لو کان مفادهما متباینین (کما نَدَّعِیهِ نحن) فلا نحتاج إلی افتراض شیء غیر المعنی الْحَرْفِیّ للهیئة والمعنی الاِسْمِیّ لِلْمَادَّة فی اقتناص مفاد الأمر وَالنَّهْی کَامِلاً؛ إذ یکون مفاد قوله «صلِّ» مثلاً الإرسال نحو الصَّلاة، فالإرسال فهمناه من الهیئة والصلاة من الْمَادَّة، ومفاد قوله: «لا تکذب» مثلاً الزَّجْر عن الکذب، فالزجر فهمناه من الهیئة، والکذب من الْمَادَّة.

فالهیئة فی کل من الأمر وَالنَّهْی تَدُلّ علی النِّسْبَة، والمادة فی کلٍّ منهما تَدُلّ علی طرف النِّسْبَة، وأمّا إذا أخذنا بوجهة نظر القدماء القائلة بأن مفاد کلتا الصِّیغَتَیْنِ واحد وهو الطّلب، فحینئذٍ نحتاج إلی توسیط عنصر ثالث وإدخال معنی آخر (غیر معنی الهیئة ومعنی الْمَادَّة) فی مفاد صیغة النَّهْی، فمثلاً لو قلنا بما یقوله القدماء من أن قوله: «لا تشرب» یَدُلّ علی نفس ما یَدُلّ علیه قوله: «اشرب» (وهو الطّلب)، إذن نسأل: هل أن الطّلب، وبتعبیر أدق: النِّسْبَة الطَّلبیَّة الَّتی تَدُلّ علیها هیئة «لا تشرب» متعلّقة بمفاد الْمَادَّة (أی: بالشرب)؟

هذا خُلف المقصود من النَّهْی؛ لأَنَّ المقصود منه لیس هو التَّحریک نحو الفعل، بل الإبعاد عنه، أم أن هذه النِّسْبَة الطَّلبیَّة متعلّقة بترک الشُّرْب؟

ص: 12

إذن، فهذا «التَّرک» عنصر ثالث أدخلناه فی البین، وهو لیس مدلولاً لِلْمَادَّة؛ لأَنَّ مدلولها الطَّبیعة، وهی وإن کانت لم یؤخذ فیها الوجود ولا العدم، إلاَّ أنَّها إنّما تصلح أن تکون مرآة لما یوجد من أفرادها، لا لترکها. إذن، کیف یؤخذ «التَّرک» فی مدلول الْمَادَّة؟

فهذه مشکلة تنشأ من محاولة القدماء إرجاع مدلول صیغة النَّهْی إلی مدلول صیغة الأمر، وحینئِذٍ فَهُمْ بین أَمْرَیْنِ: إما أن یلتزموا بوجود دالّ ثالث مستقلّ (غیر الْمَادَّة والهیئة) فی صیغة النَّهْی یَدُلّ علی هذا العنصر الغریب عن الْمَادَّة وَالْهَیْئَة (أی: یَدُلّ علی التَّرک)، وهذا خلف المفروض، وإما أن یأخذوا هذا العنصر (أعنی التَّرک) فی مدلول أحد الدالّین إما الْمَادَّة أو الهیئة، فإن أُخِذ فی مدلول الْمَادَّة، أی: فی مدلول «الشُّرْب» فی المثال، إما بدعوی أن الشُّرْب قد استعمل فی ترک الشُّرْب، أو بدعوی أَنَّهُ فانٍ فی ترکه. فکلاهما واضح البطلان.

أمَّا الأوّل: فَلأَنَّهُ لا علقة أبداً بین لفظ «الشُّرْب» وبین ترک الشُّرْب، حتّی بصورة غیر مباشرة کما فی المجازات، فلا یصحّ استعمال هذا اللَّفظ فیه حتّی مجازاً ومع العنایة، فلا یمکن القول بأَنَّهُ قد استعمل فیه هنا بنحو المجاز؛ فَإِنَّ الوجدان اللُّغَوِیّ وَالْعُرْفِیّ یقضی بعدم وجود أی تجوّز وعنایة فی صیغة النَّهْی مثل «لا تشرب»، کما لا تجوّز ولا عنایة فی صیغة الأمر، مثل «اشرب»، فکما لا نحسّ بِالتَّجَوُّزِ فی مادّة الشُّرْب فی صیغة الأمر، کذلک لا نحس به فیها فی النَّهْی.

وأمّا الثَّانِی: إن أخذ «التَّرک» فی مدلول الهیئة، بأن یفرض دلالة الهیئة علی نفس التَّرک إضافةً إلی النِّسْبَة الطَّلبیَّة بین التَّرک والمخاطب، فهو أیضاً غیر عُرْفِیّ، بل هو واضح البطلان، لکونه علی خلاف الأوضاع اللُّغَوِیَّة؛ فَإِنَّ الوضع اللغوی للهیئة عبارة عن وضعه لمعنی حرفی نسبی، بینما التَّرک معنی اسمی، فلا بُدَّ من أن یقع طرفاً لِلنِّسْبَةِ، ودلالة الهیئة فی أمثال المقام علی النِّسْبَة وطرفها معاً، أی: علی معنی حرفی ومعنی اسمی أمر لا نقبله؛ إذ لم نعهد أن یکون مثل هذه الهیئة دالاًّ علی النِّسْبَة وطرفها، ولا برهان علیه.

ص: 13

مضافاً إلی أَنَّنَا حتّی لو تنزَّلنا عن هذا وقلنا: إن الهیئة هنا تَدُلّ علی النِّسْبَة وطرفها، رغم ذلک تبقی مشکلة أخری وهی عبارة عن مشکلة الدَّالّ علی نسبة أخری بین «التَّرک» (الَّذی هو المعنی الاِسْمِیّ وهو طرف النِّسْبَة الطَّلبیَّة الثابتة بین التَّرک والمخاطب وقد فرضنا أنَّ الدَّالّ علیه الهیئة) وبین «الفعل» (أی: الْمَادَّة وَالطَّبِیعَة) وهی نسبة الإضافة؛ فَإِنَّ التَّرک الَّذی هو طرف النِّسْبَة الطَّلبیَّة لیس عبارة عن مطلق التَّرک من دون إضافة إلی شیء؛ أی: لیس مطلوب المولی النَّاهِی الَّذی قد طلب التَّرک عبارة عن أی ترکٍ کان، بل مطلوبه هو ترک الفعل والمادة (أی: ترک الشُّرْب فی المثال).

فهناک إذن نسبة إضافة للترک إلی الفعل، فیأتی هذا السؤال وهو أَنَّهُ ما هو الدَّالّ علی هذه النِّسْبَة الثَّانیة الناقصة؟

من الواضح أَنَّهُ لا دالّ ثالث فی قوله مثلاً: «لا تشرب» غیر الْمَادَّة وَالْهَیْئَة، فهل أن الْمَادَّة تَدُلّ علی هذه النِّسْبَة الناقصة أم أن الهیئة تَدُلّ علیها؟ مِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ الْمَادَّة لا تَدُلّ علیها.

وأمّا دلالة الهیئة علیها، فمعناها دلالة الهیئة إذن علی ثلاثة أشیاء: «التَّرک» و«النِّسْبَة الطَّلبیَّة الثَّابِتَة بین التَّرک والمخاطب» و«النِّسْبَة الناقصة (نسبة الإضافة) الثَّابِتَة بین التَّرْک والفعل» فیصبح الأمر أغرب وأبعد.

الثَّانِی: أن صیغة النَّهْی قد تَتَعَلَّقُ بمادّة التَّرْک، فیقال مثلاً: «لا تترک الصَّلاة»، ولا یحس العرف بأیّ نوع من الحزازة فی الاستعمال المذکور، وهذا إنّما یستقیم علی تفسیرنا لصیغة النَّهْی؛ فإِنَّهُ بناءًا علی أنَّها تَدُلّ علی الزَّجْر عن الشَّیْء، یکون معناها فی هذا الاستعمال النِّسْبَة الزَّجْرِیَّة الثَّابِتَة بین الزَّجْر وبین التَّرْک، فهو یزجر عن التَّرْک، وأمّا علی تفسیرها بطلب التَّرْک فیکون معناها هنا طلب ترکِ التَّرْک، وهذا المعنی فیه نوع حزازة عند العرف، بینما لیس فی مثل قولنا: «لا تترک..» شیء من الحزازة.

ص: 14

الثَّالث: أَنَّنَا نَحُسُّ بأن صیغة النَّهْی موازیة فی المعنی لمادّة النَّهْی، غایة الأمر أن هذه فی عالم الحروف، وتلک فی عالم الأسماء، ونری أن مادّة النَّهْی تتعدّی ب_«عن»، فیقال: «نهی عن کذا..». فإذا فَسَّرْنّا صیغة النَّهْی بِالزَّجْر عن الفعل، یحصل التَّطَابُق الکامل بین صیغة النَّهْی ومادّته؛ إذ الزَّجْر أیضاً یتعدی ب_«عن» فیقال: «زَجَره عن کذا..» کما یَتَعَدّیٰ بها النَّهْی.

وأمّا لو فَسَّرْنّاها بطلب التَّرْک، فلا یحصل التَّطَابُق الکامل بینهما؛ إذ أن مادّة النَّهْی تَتَعَدَّیٰ ب_«عن»، فیقال مثلاً: «أنهاک عن الکذب»، بینما الهیئة (علی هذا التَّفْسِیر) لا تَتَعَدَّیٰ بحرف الجر أصلاً، بل تَتَعَدَّیٰ بنفسها؛ إذ معنی قوله: «لا تکذب» هو «أطلب منک ترک الکذب»، فلا تتطابق الْمَادَّة وَالْهَیْئَة.

هذا تمام الکلام فی الجهة الثَّانیة وهی البحث عن دلالة صیغة النَّهْی ومفادها، وقد اتَّضَحَ لدینا أن مفادها لیس هو اعتبار الحرمان من الفعل، ولا هو طلب ترک الفعل، بل مفادها عبارة عن الزَّجْر عن الفعل بنحو المعنی الْحَرْفِیّ، أی: النِّسْبَة الزَّجْرِیَّة.

دلالة النَّهْی/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: دلالة النَّهْی/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

وَأَمَّا الجهة الثَّالثة: ففی البحث عن کون النَّهْی اِنْحِلاَلِیّاً، فهل الْمُسْتَفَاد من النَّهْی هو الانحلال وتعدُّد الحکم، بحیث یکون الإطلاق فیه شُمُولِیّاً وَاِسْتِغْرَاقِیّاً، فإذا قال مثلاً: «لا تکذب» أو قال: «أنهاک عن الکذب»، یکون مقتضی إطلاقه الشُّمُولِیّ حرمة کل کذب علی نحو الاستغراق، فَتَتَعَدَّدُ الحرمة وتنحلّ إلی حرمات عدیدة بعدد أفراد الطَّبِیعَة ومصادیق الکذب، أم أن النَّهْی لا یستفاد منه الانحلال وتعدُّد الحکم، بل الإطلاق فیه بدلیّ، فلا توجد إلاَّ حرمة واحدة متعلِّقة بکذبٍ واحد علی سبیل البدل، کما هو الحال فی الأمر؛ فَإِنَّ الإطلاق فیه بدلیّ حیث أن قوله مثلاً: «صلِّ» أو قوله: «آمرک بالصَّلاة» لا یستفاد منه إلاَّ وجود واحد مُتَعَلِّق بصلاة واحدة. فصحیح أن إطلاقه یشمل کل صلاة؛ لعدم تَقَیُّد طبیعة الصَّلاة بقیدٍ، إلاَّ أنَّ هذا الإطلاق بدلیّ، بمعنی أَنَّهُ تجب صلاة واحدة علی البدل، ولیس الْمُسْتَفَاد منه الانحلال وتعدُّد الحکم بحیث توجد وجوبات عدیدة بعدد أفراد الطَّبِیعَة ومصادیق الصَّلاة.

ص: 15

والأثر الْعَمَلِیّ یظهر فی ما لو صدر الفعل الْمَنْهِیُّ عَنْهُ من المُکَلَّف مرّةً واحدة، کما لو کذب مرّةً، فبناءًا علی أن الْمُسْتَفَاد من النَّهْی کالأمر وحدة الحکم وعدم انحلاله إلی أحکام عدیدة بعدد مصادیق الطَّبِیعَة المنهی عنها، لا یکون الکذب الثَّانِی محرَّماً علیه؛ لأَنَّ الْمُسْتَفَاد من النَّهْی کان عبارة عن حرمة واحدة، وقد ارتفعت بالعصیان من خلال الکذب الأوّل.

وبعبارة أخری: یکون مطلق وجود الکذب حراماً، فکل وجودٍ من وجوداته له حرمة، ولها امتثال وعصیان مستقلّ.

وعلی کل حال فالمعروف والمشهور، بل الظَّاهِر أَنَّهُ لا خلاف ولا إشکال فی أن الإطلاق فی النَّهْی شُمُولِیّ اِنْحِلاَلِیّ، خلافاً للأمر الَّذی إطلاقه بدلیّ.

فالمستفاد من النَّهْی هو کون مُتَعَلَّق التَّحْرِیم عبارة عن المطلق بنحو الإطلاق الاستغراقیّ الشُّمُولِیّ، بینما الْمُسْتَفَاد من الأمر هو کون مُتَعَلَّق الوجوب عبارة عن المطلق بنحو الإطلاق الْبَدَلِیّ، فالحرام هو مطلق وجود الطَّبِیعَة، بینما الواجب هو صرف وجودها.

إنّما البحث یدور حول تکییف الإطلاق الْبَدَلِیّ فی باب الأمر والإطلاق الشُّمُولِیّ فی باب النَّهْی وتفسیر هذا الاختلاف فی الإطلاق بین البابین؛ إذ نواجه السؤال القائل: کیف اختلف مُتَعَلَّق الأمر عن مُتَعَلَّق النَّهْی، مع أنَّ کُلاَّ منهما مُتَعَلَّق للحکم الشَّرْعِیّ، وکل منهما أرید به الطَّبِیعَة، فلماذا أصبح الإطلاق فی الأوّل بَدَلِیّاً، وفی الثَّانِی شُمُولِیّاً؟ وما هو تفسیر هذا الاختلاف مع أن کلا الإطلاقین ثابت بِمُقَدَِّمَاتِ الْحِکْمَةِ الَّتی لا تختلف فی باب الأمر عنها فی باب النَّهْی، فکیف أنْتَجَتْ الْبَدَلِیَّةَ هناک وَالاِنْحِلاَلِیَّة هنا؟!

وقد ذکر السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ رَحِمَهُ اللَهُ (فی مقام علاج الإشکال والجواب علی السؤال المذکور) أنَّ مُقَدَِّمَاتِ الْحِکْمَةِ إنّما تُنتِج دائماً (سواء فی باب الأمر أو فی باب النَّهْی) الإطلاق، وأمّا تعیّن قسمٍ من أقسام الإطلاق وأنه هل هو بدلیّ أو شُمُولِیّ؟ فهو إنّما یکون بقرینة عَقْلِیَّة، فالمقدار المشترک الَّذی تُثبته مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ فی کلا البابین وفی سائر الموارد إنّما هو أصل الإطلاق، لکن هذا المقدار لا یعیّن لنا أن الإطلاق من أیّ قسمٍ هو؟ هل هو بدلیّ أم هو شُمُولِیّ؟ وإنَّما الَّذی یعیِّن ذلک عبارة عن قرینة عَقْلِیَّة تَنْضَمُّ إلی مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ، فتکون النَّتِیجَة عبارة عن الإطلاق الْبَدَلِیّ فِی بَعْضِ الْمَوَارِدِ، والإطلاق الشُّمُولِیّ فِی بَعْضِهَا الآخَرَ.

ص: 16

فمثلاً فی باب الأمر حینما یقول المولی مثلاً: «صلِّ» فإنَّ مُتَعَلَّق الأمر لا یخلو من أحد فروض ثلاثة:

فإما أن یکون عبارة عن صلاةٍ معیَّنة (کالصَّلاة فی المسجد) أو مجموعة معیَّنة من الصلوات (کعشرین صلاة فی عِشْرِینَ مَسْجِداً). وإما أن یکون عبارة عن مطلق وجود الصَّلاة (أی: جمیع الصلوات) وهو معنی الإطلاق الشُّمُولِیّ الاستغراقیّ. وإما أن یکون عبارة عن صرف وجود الصَّلاة (أی: إحدی الصلوات لا بعینها، بل علی البدل)، وهو معنی الإطلاق الْبَدَلِیّ. فأمَّا الفرض الأوّل: فهو منفی بِمُقَدَِّمَاتِ الْحِکْمَةِ؛ إذ لا خُصُوصِیَّة فی تلک الصَّلاة الخاصّة أو تلک المجموعة الخاصّة من الصلوات توجب حمل لفظ «الصَّلاة» علیها بالخصوص. فهی وسائر الأفراد والمجامیع علی حدّ سواء بالنسبة إلی الطَّبِیعَة المأمور بها، فلو کان مقصود المولی تلک الصَّلاة أو تلک المجموعة بالخصوص، کان علیه أن ینصب قرینة علی ذلک ویذکر قیداً للطبیعة (بأن یقول: «صلِّ فی المسجد» أو «صلِّ عِشْرِینَ صلاةً فی المسجد)؛ لعدم دلالة نفس لفظ «الصَّلاة» علی خصوص تلک الصَّلاة أو تلک المجموعة، وحیث أن المولی کان فی مقام البیان، ولم یذکر القید والقرینة علی إرادة خصوص تلک الصَّلاة أو خصوص تلک المجموعة، إذن فاحتمال أن تکون هی بالخصوص مرادةً للمولی احتمال ساقط. وأمّا الفرض الثَّانِی: فهو منفیّ بالقرینة الْعَقْلِیَّة القائلة باشتراط القدرة علی مُتَعَلَّق التَّکلیف والأمر؛ فَإِنَّ الإتیان بجمیع الصلوات غیر مقدور للمکلَّف، لتزاحم أفراده العَرْضِیَّة وَتَضَادّهَا. إذن، فلا یمکن أن یکون مُتَعَلَّق الأمر عبارة عن مطلق وجود الصَّلاة.

وعلیه، فیتعیَّن الفرض الثَّالث وهو الإطلاق الْبَدَلِیّ.

وفی باب النَّهْی حینما یقول المولی مثلاً: «لا تکذب» فإن مُتَعَلَّق النَّهْی أیضاً لا یخلو من أحد فروض ثلاثة:

ص: 17

فإما أن یکون عبارة عن کذبٍ خاصّ، کالکذب علی الله ورسوله، أو مجموعة خاصّة من الأکاذیب (کالکذب علی الله والرسول والکذب فی حال الصوم، والکذب فی حال الإحرام). وإمّا أن یکون عبارة عن أحد الأکاذیب لا بعینه، بل علی البدل، بحیث یُکتفی من المُکَلَّف أن یترک کذباً واحداً، وهو معنی الإطلاق الْبَدَلِیّ. وإمّا أن یکون عبارة عن مطلق وجود الکذب وجمیع مصادیقه، وهو معنی الإطلاق الشُّمُولِیّ. فأمَّا الفرض الأوّل: فهو منفیّ بِمُقَدَِّمَاتِ الْحِکْمَةِ؛ إذ لا خُصُوصِیَّة فی ذاک الکذب الخاصّ أو فی تلک المجموعة الخاصّة من الأکاذیب توجب حمل لفظ «الکذب» علیه أو علیها بالخصوص، فکل أفراد الکذب وکل مجموعة من مجامیعه الَّتی نتصوّرها علی حدّ سواء بالنسبة إلی الطَّبِیعَة المنهی عنها، فلو کان مقصود المولی ذاک الفرد الخاصّ أو تلک المجموعة الخاصّة کان علیه أن ینصب قرینة علی ذلک ویذکر قیداً للطبیعة (بأن یقول: «لا تکذب علی الله ورسوله» أو یقول: «لا تکذب علی الله والرسول ولا فی الإحرام ولا فی الصَّوْم») لعدم دلالة نفس لفظ «الکذب» علی خصوص ذاک الکذب الخاصّ أو تلک المجموعة الخاصّة. وحیث أن المولی کان فی مقام البیان ولم یذکر القید والقرینة علی إرادة خصوص ذاک الکذب أو خصوص تلک المجموعة، إذن فاحتمال أن یکون المراد تحریمه بالخصوص أو تحریمها بالخصوص احتمال ساقط ومنتفٍ. وأمّا الفرض الثَّانِی: فهو منفیّ بالقرینة الْعَقْلِیَّة علی عکس ما وجدناه فی مُتَعَلَّق الأمر، فبینما کانت القرینة الْعَقْلِیَّة تنفی الإطلاق الشُّمُولِیّ فی مُتَعَلَّق الأمر، نجدها هنا تنفی الإطلاق الْبَدَلِیّ فی مُتَعَلَّق النَّهْی، وتقول: إِنَّه لا یعقل تعلّق النَّهْی والحرمة بأحد الأکاذیب لا بعینه وعلی نحو البدل، بحیث یُکتفی من المُکَلَّف أن یترک کَذِباً وَّاحِداً من الأکاذیب؛ لأَنَّ هذا حاصل طبعاً وَقَطْعاً من المُکَلَّف؛ فَإِنَّ المُکَلَّف بنفسه ومن دون أن یُنهی سوف یترک کَذِباً وَّاحِداً حتماً، فترک کذب واحد أمر ضروری وقهری؛ إذ یستحیل عادةً أن یرتکب الإنسان کل الأکاذیب المتصوّرة، إذن فلا یعقل التَّکلیف وَالنَّهْی عمَّا ترکه قهری وضروری وحاصل؛ لأَنَّ مثل هذا التَّکلیف وَالنَّهْی لغو. وعلیه فیتعیّن الفرض الثَّالث وهو الإطلاق الشُّمُولِیّ، وحرمة کل أقسام الکذب.

ص: 18

وکذلک فی باب الأحکام الوضعیَّة حینما یقول المولی مثلاً: ﴿أحل الله البیع﴾؛ فإن موضوع هذا الحکم الوضعیّ (حسب تعبیره رَحِمَهُ اللَهُ) أیضاً لا یخلو من أحد فروض ثلاثة:

فإما أن یکون عبارة عن بیعٍ خاصّ کالبیع العقدی الواقع بِاللُّغَةِ الْعَرَبِیَّةِ الماضی مثلاً، أو مجموعة خاصّة من البیوع (کالبیوع العقدیة الواقعة بالعقد بأیّ لغة کانت وبأی صیغة مثلاً). وإما أن یکون عبارة عن أحد البیوع لا بعینه، بل علی البدل، وهو معنی الإطلاق الْبَدَلِیّ. وإما أن یکون عبارة عن مطلق وجود البیع وجمیع البیوع، وهو معنی الإطلاق الشُّمُولِیّ. فأمَّا الفرض الأوّل: فهو منفیّ بِمُقَدَِّمَاتِ الْحِکْمَةِ؛ إذ لا خُصُوصِیَّة فی ذاک البیع أو فی تلک المجموعة الخاصّة من البیوع تُوجب حمل لفظ ﴿البیع﴾ علیه أو علیها بالخصوص، فکل أفراد البیع وکل مجامیعه الَّتی نتصورها علی حدّ سواء بالنسبة إلی الطَّبِیعَة الَّتی ثبت الحکم الوضعیّ (وهو الحلیة والنفوذ) لها. فلو کان مقصود المولی ذاک البیع الخاصّ أو تلک المجموعة الخاصّة کان علیه أن ینصب قرینةً علی ذلک ویذکر قیداً للطبیعة (بأن یقول مثلاً: «أحلَّ اللهُ البیعَ العقدیَّ»)؛ لعدم دلالة نفس لفظ ﴿البیع﴾ علی خصوص البیع العقدی. وحیث أن المولی کان فی مقام البیان ولم یذکر القید والقرینة علی إرادة خصوص البیع العقدی، إذن فاحتمال أن یکون المراد حلیته ونفوذه بالخصوص احتمال ساقط ومنتفٍ. وأمّا الفرض الثَّانِی: فهو منفیّ بالقرینة الْعَقْلِیَّة القائلة بأن من المستحیل أن یکون بیع واحد علی البدل نَافِذاً. وعلیه: فیتعیّن الفرض الثَّالث وهو الإطلاق الشُّمُولِیّ ونفوذ کل البیوع.

هذا ما أفاده السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ رَحِمَهُ اللَهُ((1) )، ولم یذکر المقرِّر نکتة استحالة الفرض الثَّانِی فی مثل: ﴿أحل الله البیع﴾.

ص: 19


1- (1) - محاضرات فی أصول الفقه: ج4، ص106-110، وراجع أیضاً دراسات فی علم الأصول: ج2، ص97، ویوجد تهافت بین التقریرین یظهر بالتأمّل.

وندرسه غداً إن شاء الله تعالی.

دلالة النَّهْی/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: دلالة النَّهْی/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

تقدّم کلام السید الخوئی رحمه الله بالأَمْسِ حول المقیاس الَّذی فِی ضوئه نعرف أَنَّهُ فِی أی مورد یکون الإِطْلاَق بَدَلِیّاً وفی أی مورد یکون الإِطْلاَق شُمُولِیّاً. إلاَّ أن هذا الکلام قابل للمناقشة من جهات عدیدة نذکرها تباعاً:

أوَّلاً: یرد علیه بما أفاده سَیِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِید رَحِمَهُ اللَهُ من أن کلامه رَحِمَهُ اللَهُ فی باب الأمر لا یکفی للانتهاء إلی الإطلاق الْبَدَلِیّ وتعیّنه فی مقابل الإطلاق الشُّمُولِیّ؛ وذلک بناءًا علی مبناه هو رَحِمَهُ اللَهُ فی «القدرة» حیث یری أنَّها شرط فی تنجّز التَّکلیف لا فی نفس التَّکلیف، فلا مانع عقلی ولا محذور ثبوتی فی توجه الأمر والتَّکلیف وتعلقه بجمیع أفراد الطَّبِیعَة، غایة الأمر أَنَّهُ لا یتنجَّز علیه إلاَّ المقدار المقدور من أفراده. إذن فالقرینة الْعَقْلِیَّة القائلة باشتراط القدرة علی مُتَعَلَّق التَّکلیف والأمر لا تنفی سوی تنجّز التَّکلیف والأمر بجمیع أفراد الطَّبِیعَة علی المُکَلَّف؛ لأَنَّ الإتیان بجمیعها غیر مقدور له، لکن لا مانع من أن یکون نفس الأمر والتَّکلیف متعلّقاً بجمیع أفراد الطَّبِیعَة بنحو الإطلاق الشُّمُولِیّ.

وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ بناء علی هذا المبنی لنفترض أن قول المولی: «صلِّ» مثلاً أمر بمطلق وجود الصَّلاة (أی: بکل الصَّلوات)، رغم أن المُکَلَّف غیر قادر علیها، غایة الأمر أَنَّهُ لا یتنجَّز علیه إلاَّ المقدار المقدور له، إذن فلا یتعیَّن الإطلاق الْبَدَلِیّ فی مُتَعَلَّق الأمر، بل لعلّه شُمُولِیّ بمعنی أَنَّهُ مُکَلَّف بکل مصادیق الصَّلاة.

بل إن ما أفاده رَحِمَهُ اللَهُ فی باب الأمر غیر کافٍ للانتهاء إلی الإطلاق الْبَدَلِیّ وتعیّنه فی مقابل الإطلاق الشُّمُولِیّ حتّی بناءًا علی غیر مبناه أیضاً فی «القدرة»، فنحن إذا قلنا بأن «القدرة» شرط فی نفس التَّکلیف؛ فإِنَّهُ مع ذلک لا یَتَعَیَّنُ أن یکون الإطلاق فی مُتَعَلَّقات الأوامر بَدَلِیّاً؛ إذ من الممکن أن یکون شُمُولِیّاً مقیَّداً بالمقدار المقدور؛ فَإِنَّ قید «القدرة» قید لُبِّیّ ارتکازیّ کالمتصل بالخطاب والتَّکلیف والأمر، فلا ینعقد معه إطلاق فی الخطاب لغیر المقدور من أفراد الْمُتَعَلَّق، فتثبت الشُّمُولِیَّة فی حدود هذا المقیِّد المتصل الَّذی یقیِّد دائرة الإطلاق الشُّمُولِیّ کسائر القیود الَّتی تقیِّد الإطلاقات الشُّمُولِیَّة، فتجب علی المُکَلَّف فی المثال جمیع الصلوات المقدورة لا إحدی الصلوات علی البدل، وبالتَّالی فلا یَتَعَیَّنُ أن یکون الإطلاق فی قوله: «صلِّ» إطلاقاً بَدَلِیّاً.

ص: 20

وَالْحَاصِلُ: أَنَّ القرینة الْعَقْلِیَّة الَّتی أفادها رَحِمَهُ اللَهُ القائلة باشتراط القدرة علی الْمُتَعَلَّق لا تقتضی سوی تضییق دائرة الإطلاق الشُّمُولِیّ، فبدلاً عن أن تکون دائرته واسعة تشمل جمیع الصلوات تتضیَّق (بسبب القرینة الْعَقْلِیَّة المذکورة) فتشمل جمیع الصَّلَوَات المقدورة، أمّا أن تکون هذه القرینة الْعَقْلِیَّة مقتضیة لنفی الإطلاق الشُّمُولِیّ رأساً وتعیّن الإطلاق الْبَدَلِیّ فلا.

وثانیاً: ما أفاده أیضاً سَیِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِید رَحِمَهُ اللَهُ من أن کلامه رَحِمَهُ اللَهُ فی باب النَّهْی غیر کافٍ للانتهاء إلی الإطلاق الشُّمُولِیّ وتعیّنه فی مقابل الإطلاق الْبَدَلِیّ فی سائر الموارد الَّتی لا شکّ فی فهم الإطلاق الشُّمُولِیّ فیها رغم عدم وجود القرینة الْعَقْلِیَّة الَّتی ذکرها رَحِمَهُ اللَهُ فی مُتَعَلَّق النَّهْی لنفی الإطلاق الْبَدَلِیّ وتعیّن الإطلاق الشُّمُولِیّ؛ فنحن قد نحمل الإطلاق علی الشُّمُولِیَّة مع عدم وجود قرینة عَقْلِیَّة تعیّنها وتنفی الْبَدَلِیَّة؛ وذلک کما فی موضوع التَّکلیف، مثل «العالم» فی قوله: «أکرم العالم» مثلاً؛ فإِنَّهُ الإطلاق فیه شُمُولِیّ بلا إشکال عندهم، فیجب إکرام کل عالم، مَعَ أَنَّ هذه الشُّمُولِیَّة لیست نتیجة وضع المفرد الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ للعموم؛ إذ أنهم (ومن جملتهم السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ رَحِمَهُ اللَهُ نفسه) لا یعترفون بوضع الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ وکذلک المفرد المحلی بها للعموم، ولا هی نتیجة وجود قرینة عَقْلِیَّة تعیّن الشُّمُولِیَّة (کالقرینة الْعَقْلِیَّة الَّتی عیّنت الشُّمُولِیَّة عنده رَحِمَهُ اللَهُ فی مُتَعَلَّق النَّهْی)؛ لأَنَّ الإطلاق الْبَدَلِیّ أیضاً معقول فی المقام، بمعنی أَنَّهُ یمکن أن یکون الواجب إکرام عالم علی البدل، ولذا لو قال: «أکرم عالماً..» حمل علی الْبَدَلِیَّة، فَالْبَدَلِیَّة فی أمثال هذا المورد أیضاً معقولة. ثالثاً: أنَّ ما ذکره رَحِمَهُ اللَهُ من أن مُتَعَلَّق النَّهْی حیث یستحیل أن یکون إطلاقه بَدَلِیّاً (للزوم اللُّغَوِیَّة) یَتَعَیَّنُ أن یکون شُمُولِیّاً، غیر صحیح؛ لأَنَّ من الممکن أن یکون الإطلاق فیه مجموعیّاً، فلا هو شُمُولِیّ ولا هو بدلیّ، بمعنی أن هناک حرمة واحدة ثابتة علی مجموع مصادیق الکذب مثلاً فی قوله: «لا تکذب..» بحیث لو کذب مرّةً واحدة سقط النَّهْی بموجب العصیان، فلا یحرم علیه بعد ذلک أن یکذب؛ لعدم إمکان ترک مجموع أنواع الکذب بعد ذلک، بینما لا إشکال فی أن الإطلاق فی مُتَعَلَّق النَّهْی شُمُولِیّ اِنْحِلاَلِیّ لا مجموعیّ، فلا بُدَّ من وجود نکتة أخری ومقیاس آخر لاِنْحِلاَلِیَّة النَّهْی غیر ما أفاده رحمه الله.

ص: 21

فإن قلت: کون النَّهْی مجموعیّاً یعنی فی الحقیقة تَقَیُّد حرمة کل کذب مثلاً بما إذا لم یکذب سابقاً، وهذا التَّقَیُّد منتفٍ بالإطلاق ومقدّمات الحِکْمَة الجاریة فی کل حرمة، إذن یَتَعَیَّنُ أن یکون الإطلاق شُمُولِیّاً بعد أن انتفی الْبَدَلِیّ بالقرینة الْعَقْلِیَّة الَّتی ذکرها السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ رَحِمَهُ اللَهُ وانتفی الْمَجْمُوعِیّ بمقدمات الحِکْمَة.

قلت: ثبت العرش ثم انقش؛ فَإِنَّ جریان الإطلاق فی کل حرمة متوقّف علی وجود حرمات عدیدة بعدد مصادیق الکذب، وهذا متوقّف علی کون النَّهْی اِنْحِلاَلِیّاً، وهو أوَّل الکلام، فلا یمکن إثبات الانحلال بهذا الإطلاق.

وبتعبیر آخر: بعد أن انتفی احتمال تعلّق النَّهْی بکذب خاصّ بالإطلاق ومقدّمات الحِکْمَة، وانتفی أیضاً احتمال أن یکون الإطلاق فیه بَدَلِیّاً بالقرینة الْعَقْلِیَّة الَّتی ذکرها السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ رَحِمَهُ اللَهُ ولزوم اللَّغْوِیَّةِ، یبقی احتمالان آخران:

أحدهما: أن تکون هناک حرمة واحدة منصبّة علی مجموع الأکاذیب، وهذا هو الإطلاق الْمَجْمُوعِیّ.

وثانیهما: أن تکون هناک حرمات عدیدة بعدد الأکاذیب، وهذا هو الإطلاق الشُّمُولِیّ الاِنْحِلاَلِیّ.

وکلاهما ممکن ولا مُعَیِّن لِلثَّانِی فی قِبَال الأوّل، کما هو واضح.

رابعاً: أَنَّنَا سوف نوضّح فی الجهة الرَّابعة من جهات هذا البحث - إن شاء الله تعالی - أن النَّهْی یقتضی الشمول بِغَضِّ النَّظَرِ عن القرینة الْعَقْلِیَّة الَّتی ذکرها السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ رَحِمَهُ اللَهُ؛ وذلک لأَنَّ النَّهْی إنّما هو نهی عن الطَّبِیعَة، وهی لا تنعدم إلاَّ بانعدام کل مصادیقها خارجاً، وإذا أردنا أن نتکلّم طِبْقاً لوجهة نظر السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ رَحِمَهُ اللَهُ فی مفاد النَّهْی قلنا: إن النَّهْی إنّما هو عبارة عن اعتبار الحرمان من الطَّبِیعَة، والحرمان من الطَّبِیعَة لا یکون إلاَّ بالحرمان من کل مصادیقها خارجاً.

ص: 22

إذن، فقد تبیَّن حتّی الآن أن المقیاس الَّذی أفاده السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ رَحِمَهُ اللَهُ فی المقام لِبَدَلِیَّة الإطلاق أو شُمُولِیَّتِهِ وَاِنْحِلاَلِیَّته غیر صحیح.

وللبحث صلة تأتی إن شاء الله تعالی.

دلالة النَّهْی/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: دلالة النَّهْی/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

کُنَّا نبحث عن المقیاس والضابط لِلْبَدَلِیَّةِ أو الشُّمُولِیَّة للإطلاق، فقد عرفنا لحد الآنَ أن المقیاس الَّذی ذکره السید الخوئی رحمه الله لا یمکن المساعدة علیه لوجود ملاحظات وإیرادات علیه قد تقدمت مفصَّلاً.

وأفاد المُحَقِّق الخُراسانیّ صاحب الکفایة رَحِمَهُ اللَهُ فی وجه اِنْحِلاَلِیَّة النَّهْی أن متعلّقه مطلق یشمل إطلاقه ما بعد الإتیان ببعض الأفراد أیضاً. فمثلاً «الکذب» فی قوله: «لا تکذب» مطلق یشمل إطلاقه الکذب الثَّانِی، إذن فهو أیضاً حرام، ویشمل إطلاقه الکذب الثَّالث، إذن فهو أیضاً حرام، وهکذا.. وهذا هو الانحلال وتعدُّد الحکم. ویرد علیه: أن الإطلاق الَّذی تُثبته مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ فی الْمُتَعَلَّق لا یقتضی سوی تعلّق النَّهْی بذات الطَّبِیعَة بما هی هی، من دون قیدٍ من القیود، وأمّا أن هذا النَّهْی الْمُتَعَلِّق بذات الطَّبِیعَة هل هو اِنْحِلاَلِیّ لا یسقط بالعصیان فی الفرد الأوّل، أم هو غیر اِنْحِلاَلِیّ فیسقط به؟ فهذا أمر آخر لا یرتبط بإطلاق الْمُتَعَلَّق.

وبتعبیر آخر: کما کُنَّا نقول فی باب الأمر أن سقوطه بالامتثال أو العصیان لا ینافی إطلاق الْمُتَعَلَّق، کذلک هنا نقول: إن سقوط النَّهْی بالامتثال أو العصیان لا ینافی إطلاق الْمُتَعَلَّق. فالمهم إثبات الانحلال وتعدُّد الحکم، وهذا مِمَّا لا یَتَکَفَّلُهُ إطلاق الْمُتَعَلَّق.

إذن، فما هو المقیاس الصَّحِیح لِبَدَلِیَّة الإطلاق أو شُمُولِیَّته؟ وما هی نکتة کون النَّهْی اِنْحِلاَلِیّاً؟

ص: 23

الصَّحِیح: هو أنَّ هناک نکتة أخری (غیر ما ذکر) تقتضی الْبَدَلِیَّة أو الشُّمُولِیَّة فی موارد الإطلاق ومقدّمات الحِکْمَة، وأن هناک ضَابِطاً کُلِّیّاً للانحلال وعدمه، وقد شرحناه مفصَّلاً فی بحث دلالة الأمر علی المرَّة أو التَّکرار، ونذکره هنا بإیجاز، وهو أن الأصل دائماً فی موضوع الحکم هو الانحلال (سواء فی باب الأمر أو النَّهْی)؛ وذلک لأَنَّ الموضوع مأخوذ دائماً مفروض الوجود فی مقام جعل الحکم. فمثلاً «العالِم» فی قوله: «أکرم العالِم» أخذ مفروض الوجود، ثم انصبّ علیه الحکم بوجوب إکرامه، ومن هنا ترجع الْقَضِیَّة الحملیة إلی قضیة شرطیة، وهی «إن وجد عالِم فأکرمه». وکذلک مثلاً «الخمر» فی قوله: «لا تشرب الخمر» أخذ مفروض الوجود ثم انصبّ علیه الحکم بحرمة شرمه، ولو لم یکن «العالم» فی المثال الأوّل و«الخمر» فی المثال الثَّانِی مَفْرُوضَیِ الوجود، لَوَجَبَ إیجاد «العالِم» فی المثال الأوّل ثم إکرامه، وَلَوَجَبَ إیجاد «الخمر» فی المثال الثَّانِی ثم الاجتناب عن شربها، وهذا خُلف کونهما موضوعین للحکم وأنا لحکم لا یحرّک نحوهما.

فإذا کان الموضوع مفروض الوجود دائماً، فمع تَعَدُّدِه تَتَعَدَّدُ فعلیّة الموضوع، وبالتَّالی تَتَعَدَّدُ فعلیّة الحکم؛ لأنَّها تابعة لها، وتعدُّد فعلیّة الحکم هو معنی الانحلال. هذا فی الموضوع.

وأمّا مُتَعَلَّق الحکم فالأصل دائماً فیه عَدَم الاِنْحِلاَل (سواء فی باب الأمر أو النَّهْی)؛ لأَنَّهُ لم یؤخذ مفروض الوجود، بل الحکم بَعث نحو إیجاده (إذا کان الحکم عبارة عن الأمر) وزجر عن إیجاده (إذا کان الحکم عبارة عن النَّهْی)، فلا ترجع الْقَضِیَّة بلحاظه إِلَی قَضِیَّةٍ شَرْطِیَّةٍ. فمثلاً الإکرام فی قوله: «أکرم العالِم» لم یؤخذ مفروض الوجود، بحیث یرجع الکلام إلی قوله: «إن وجد إکرام فأکرم العالم» بحیث تکون فعلیّة الحکم تابعة لِفِعْلِیَّةِ متعلّقه، فإنّ هذا لغو وتحصیل للحاصل، بل الحکم هو الَّذی یبعث نحو إیجاده، وحینئِذٍ فلا نکتة ولا دلیلَ لتعدُّد الحکم وانحلاله بعدد المصادیق المتصوَّرة لِلْمُتَعَلَّقِ؛ إذ لیست فِعْلِیَّة الحکم تابعة لِفِعْلِیَّة الْمُتَعَلَّقِ - کما أشرنا إلیه - کی یتعدّد الحکم بتعدده، بل هو حکم واحد ثابت علی الطَّبِیعَة بَعْثاً نحو إیجادها أو زجراً عن إیجادها.

ص: 24

إذن، فالأصل فی الموضوع انحلال الحکم وشمولیته بلحاظه، والأصل فی الْمُتَعَلَّق بَدَلِیَّة الحکم وعدم انحلاله بلحاظه.

فَالْبَدَلِیَّةُ وَالشُّمُولِیَّة الثَّابِتَتَانِ للحکمِ فی باب المطلقات لیستا من شؤون الإطلاق ومقدّمات الحِکْمَة، خلافاً لِلْبَدَلِیَّةِ وَالشُّمُولِیَّةِ الثَّابِتَتَیْنِ للحکم فی باب العمومات، حیث أنهما من شؤون العموم نفسه، حیث أن العموم والاستیعاب الَّذی یوضع اللَّفظ له تارةً یکون استیعاباً بنحو الشمول والاستغراق فیکون العامّ عامّاً شُمُولِیّاً، کما فی لفظة «کل» فی قوله: «أکرم کل عالِم» الموضوعة لهذا النَّحْو من الاستیعاب، وأخری یکون استیعاباً علی نحو البدل فیکون العامّ عامّاً بَدَلِیّاً، کما فی لفظة «أیّ» و«أحد» فی قوله: «أکرم أیّ عالمٍ» أو «أکرم أحد العلماء»، فإِنَّهُمَا مَوْضُوعَتَانِ لهذا النَّحْو من الاستیعاب.

أما فی باب المطلقات فالأمر لیس کذلک؛ فَإِنَّ الْبَدَلِیَّة وَالشُّمُولِیَّة لیستا من شؤون الإطلاق نفسه (وإن تُوهّم ذلک وقیس باب المطلق بباب العموم)؛ فَإِنَّ الإطلاق لا یُثبت سوی أن الحکم ثابت علی الطَّبِیعَة من دون قید زائد، وأمّا بَدَلِیَّة الحکم أو شُمُولِیَّته فهما من شؤون تطبیق الحکم وفعلیته، لا أنهما مدلولان لمقدمات الحِکْمَة أو للوضع؛ فَإِنَّ الحکم علی الطَّبِیعَة لو کان غیر قابل للانطباق علی جمیع أفرادها فهو بدلیّ، وإلا فَشُمُولِیٌّ؛ ففی جانب الموضوع وإن کان الموضوع عبارة عن طبیعی العالم مثلاً، لکن الحکم قابل للانطباق علی جمیع أفراد العالم، أی: هو قابل لِتَعَدُّدِهِ وانحلاله بعدد أفراد العالم، لما قلناه من أن فِعْلِیَّة الحکم تابعة لِفِعْلِیَّته، فکُلَّما صار الموضوع فعلیّاً صار الحکم فعلیّاً، وهو معنی الانحلال والشمول.

وأمّا فی جانب الْمُتَعَلَّق فأیضاً الحکم ثابت علی الطَّبِیعَة، لکن هنا لیس الحکم قابلاً للتعدد والانحلال بعدد أفراد هذه الطَّبِیعَة؛ إذ لیست فِعْلِیَّة الحکم تابعة لِفِعْلِیَّة الْمُتَعَلَّق کما قلنا؛ ففی عالم تطبیق الحکم وفعلیته لا موجب لتعدُّد الحکم، وهو معنی الْبَدَلِیَّة وعدم الانحلال.

ص: 25

إذن، فَمُقَدَِّمَاتُ الْحِکْمَةِ إنّما تُثبت أن الطَّبِیعَة بذاتها وقعت موضوعاً أو مُتَعَلَّقاً للحکم من دون قید زائد علیها؛ لأَنَّ المولی فی مقام البیان، فلو أراد قیداً زائداً علی ذات الطَّبِیعَة لَبَیَّنَهُ، وحیث لَمْ یُبَیِّنْهُ فَیَدُلُّ ذَلِکَ عَلَی أَنَّ موضوعَ حکمه أو مُتَعَلَّق حکمه هو ذات الطَّبِیعَة، هذا ما تُنتجه مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ فی جمیع الموارد.

غایة الأمر أن هذا الحکم المنصبّ علی ذات الطَّبِیعَة قد یکون قابلاً للانحلال فی مقام تطبیقه نظراً إلی أن الطَّبِیعَة أصبحت موضوعاً للحکم، والموضوع یُفرض فی مرتبة سابقة علی الحکم، لتوقّف الحکم علی الموضوع، وَالطَّبِیعَة المفروغ عنها قبل الحکم تستتبع لا محالة انطباقها علی جمیع مصادیقها وسریانها إلیها، فلذا یتعدّد الحکم کُلَّمَا تعدّدت مصادیق الطَّبِیعَة الَّتی هی موضوع الحکم؛ لأَنَّ الحکم قد أنیط بالموضوع، وهذا هو معنی قولنا: «إن الأصل العامّ فی طرف الموضوع دائماً هو انحلال الحکم وتعدُّدِهِ بتعدُّد الموضوع» فیصبح الإطلاق شُمُولِیّاً؛ لأَنَّ الشُّمُولِیَّة حینئذٍ من شؤون الطَّبِیعَة وقعت موضوعاً للحکم.

وقد لا یکون الحکم قابلاً للانحلال فی مقام تطبیقه نظراً إلی أنَّ الطَّبِیعَة أصبحت متعلّقاً للحکم، وَالْمُتَعَلَّق لا یُفرض وجوده قبل الحکم، وإلا لکان طلبه تحصیلاً للحاصل، بل هو من تبعات الحکم، وهذه الطَّبِیعَة الَّتی وقعت متعلّقاً للحکم وإن کانت منطبقة علی جمیع مصادیقها وساریة إلیها، إلاَّ أن الحکم لا یتعدّد بتعدُّد مصادیقها؛ لأَنَّ الحکم لیس تابعا لها (خلافاً للموضوع)؛ إذ لم یُنَط الحکم بها، وإنَّما هی فی طول الحکم ومن تبعاته، وتوجد بعد وجود الحکم، والحکم واحد. فإذا وجد الحکم ووُجدت الطَّبِیعَة ضمن أحد مصادیقها، انتهی الأمر، ولا موجب حینئذٍ لأَنْ یتعدّد الحکم ویوجد حکم ثانٍ بلحاظ مصداق ثانٍ لهذه الطَّبِیعَة؛ فَإِنَّ الحکم إنّما یتعدّد بعدد فِعْلِیَّاتِ شیء آخر لم یُنط الحکم به (وهو الْمُتَعَلَّق الَّذی هو فی الواقع جزاء فی الْقَضِیَّة الشَّرْطِیَّة)، وهذا هو معنی قولنا: «إنَّ الأصل العامَّ فی طرف الْمُتَعَلَّقِ إنّما هو عدم انحلال الحکم وتعدُّدِهِ بعدد المصادیق الْمُتَصَوَّرَة لِلْمُتَعَلَّقِ» فَیَصِحُّ الإطلاق بَدَلِیّاً حینئذٍ؛ لأَنَّ الْبَدَلِیَّة من شؤون الطَّبِیعَة الَّتی وقعت متعلّقاً للحکم. هذان هما الأصلان الْعَامَّانِ فی جمیع الموارد.

ص: 26

ولکل من الأصلین استثناء بموجب قرینة سنذکرهما غداً إن شاء الله تعالی.

دلالة النَّهْی/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: دلالة النَّهْی/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

تلخص مِمَّا تقدّم بالأَمْسِ وقبل الأمس أن هناک أصلین وقانونین عامّین لاِنْحِلاَلِیَّة الحکم وبدلیّته فِی باب الإِطْلاَق، بأَنَّهُ متی یکون إطلاق الحکم بَدَلِیّاً ومتی یکون إطلاقه اِنْحِلاَلِیّاً؟ وهذان الأصلان والقانونان هما:

القانون الأوّل: الأصل الجاری فِی طرف الْمَوْضُوع. أی: أن الطَّبِیعَة إذا وقعت مَوْضُوعاً للحکم فالأصل الأولی والقانون العامّ (بِغَضِّ النَّظَرِ عن الاستثناء الَّذی سوف نذکره) أن یَنْحَلُّ الحکم إلی أحکام عدیدة بعدد أفراد هذا الْمَوْضُوع وبعدد مصادیق هذه الطَّبِیعَة الَّتی وقعت مَوْضُوعاً للحکم. وذکرنا النُّکتة فِی ذلک فلا نعید.

إذن، إن إطلاق الحکم بلحاظ أفراد الْمَوْضُوع یکون إطلاقاً بَدَلِیّاً واِنْحِلاَلِیّاً.

القانون الثَّانِی: هو الأصل الجاری فِی طرف مُتَعَلَّق الحکم، بأن الطَّبِیعَة إذا وقعت متعلَّقاً للحکم، فالقانون الأولی العامّ هو أن لا یَنْحَلُّ الحکم إلی أحکام عدیدة بعدد أفراد هذا الْمُتَعَلَّق ومصادیق هذه الطَّبِیعَة، وذکرنا أیضاً النُّکتة فِی عدم الاِنْحِلاَل، فَیَکُونُ الإِطْلاَق بَدَلِیّاً.

وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الأصل الأولی یقول: إن إطلاق الحکم لجمیع أفراد موضوعه إطلاق شُمُولِیّ والأصل الثانی یقول: إن إطلاق الحکم لجمیع أفراد متعلّقه إطلاق بدلیّ.

ولکن لکل من هذین القانونین وَالأَصْلَیْنِ استثناء، والاستثناء لیس اعتباطیّاً، وإنَّما یَتُِمّ بموجب قرینة فِی کُلّ منهما، فنذکر الاستثناءین تباعاً:

فالأصل العامّ الجاری فی طرف الموضوع (وهو انحلال الحکم وتعدُّده بتعدُّد أفراد الموضوع) یُستثنی منه ما إذا کان الموضوع مُنَوَّناً بتنوین الوحدة، کما إذا قال مثلاً: «أکرم عالماً..»؛ فَإِنَّ هذا التَّنْوِین یَدُلّ علی أن المطلوب إکرام عالم واحد، ویستحیل الانحلال حینئذٍ، ولا یکون الإطلاق شُمُولِیّاً، بل هو بدلیّ؛ لأَنَّ هذا التَّنْوِین حینئذٍ قید للطبیعة الَّتی وقعت موضوعاً للحکم، فلم تصبح ذات الطَّبِیعَة موضوعاً، بل الطَّبِیعَة المقیّدة بقید الوحدة هی الموضوع، وَالطَّبِیعَة المقیّدة بقید الوحدة لا تقبل الانطباق علی جمیع المصادیق ویستحیل سریانها إلیها، فالحکم وإن کان تابعا للموضوع، إلاَّ أن الموضوع لا تکثّر فیه (لتقیّده بقید الوحدة الَّذی دلَّ علیه تنوین الوحدة).

ص: 27

إذن، فلا تَکَثُّر للحکم ولا تعدّد ولا انحلال فیه، بل یستحیل ذلک کما قلنا.

هذا بالنسبة إلی الاستثناء عن الأصل الجاری فی طرف الموضوع.

وللسید الهاشمی حفظه الله فی المقام تعلیق علی هذا الاستثناء الَّذی أفاده سَیِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِید رَحِمَهُ اللَهُ، وهو أن التَّنْوِین الدَّالّ علی الوحدة لا ینافی الشُّمُولِیَّة؛ بدلیل دخوله علی موضوع النَّهْی فی قولک: «لا تکرم عالماً» مع شُمُولِیَّته، بل حتّی فی الأمر إذا أخذ مقدّر الوجود، کما إذا قال: «إن رأیت عالماً فأکرمه»، بل السِّرُّ هو أن «عالماً» فی «أکرم عَالِماً» وإن کان بحسب الموقع اللَّفظیّ موضوعاً فی الجملة، ولٰکِنَّهُ بحسب المعنی واللب قید فی مُتَعَلَّق الأمر، فلا یُفهم أخذه مقدَّر الوجود، بل لو أمکن إیجاده لإکرامه لَوَجَبَ لولا القرینة الخاصّة.

نظیر قولنا: «اِبنِ مَسْجِداً» أو «توضّأ بالماء» (رغم عدم التَّنْوِین فی الأخیر)، فالمعنی: أوجِد إکرام عالمٍ، وهذا یتحقّق بإکرام عالم واحد بنحو صرف الوجود، وأمّا فی «لا تکرم عَالِماً» فحیث أن المطلوب إعدام إکرام عالمٍ، فلا یتحقّق إلاَّ بترک إکرام کل عالم.

فالحاصل: کُلَّمَا کان القید قیداً فی مُتَعَلَّق الأمر ولو کان بحسب ظاهر اللَّفظ فی مرکز الموضوع فلا یَنْحَلُّ الحکم بلحاظه، فلیس هذا استثناءً عن القاعدة السَّابِقَة. وأمّا الانحلال فی «أکرم العالم» فَلأَنَّ اللاَّم تَدُلّ علی أَنَّهُ مقدَّر الوجود سواء کانت للعهد أو الجنس((1) ).

أقول: هذا الکلام کُلّه غریب؛ إذ یرد علیه: أوَّلاً: أن التَّنْوِین الدَّالّ علی قید الوحدة کیف لا ینافی الشُّمُولِیَّة؟! فإنَّ الطَّبِیعَة إذا قیّدت بقید الوحدة استحال شمولها وسریانها إلی جمیع الأفراد، فقوله: «أکرم عَالِماً» بمثابة قوله: «أکرم عَالِماً واحداً»، فالاعتراف بکون التَّنْوِین دالاًّ علی الوحدة لا یجتمع مع القول بعدم منافاته لِلشُّمُولِیَّةِ؛ إذ الواحد لا یمکن أن یکون مُتِکَثِّراً إلاَّ إذا أمکن اجتماع النقیضین. ثانیاً: أن التَّنْوِین الداخل علی موضوع النَّهْی فی قولنا: «لا تکرم عَالِماً» لیس کالتنوین الَّذی ذکره سَیِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِید رَحِمَهُ اللَهُ فی الاستثناء المذکور (وهو تنوین الوحدة)، ولذا فلا ینافی الشُّمُولِیَّة؛ فَإِنَّ تنوین التَّنْکِیر قد یکون دالاًّ علی الوحدة، کما فی المثال الَّذی ذکره سَیِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِید رَحِمَهُ اللَهُ فی الاستثناء المذکور (وهو قولنا: «أکرم عَالِماً») وکما فی نظائره مثل قولنا: «أطعم مسکیناً» و«اقرأ کتاباً» و«انفق دِرْهَماً» وما إلی ذلک؛ فَإِنَّ التَّنْوِین فی أمثال هذه الموارد یَدُلّ عرفاً علی الوحدة؛ لأَنَّ هذا هو ظاهر هذا التَّنْوِین عند عدم وجود نکتة أخری فی الکلام توجب عدم انعقاد ظهور له فی ذلک.

ص: 28


1- (1) - هامش بحوث فی علم الأصول: ج3، ص18.

وقد لا یکون دالاًّ علی الوحدة، کما فی المثال الَّذی ذکره السَّیِّد الهاشمیّ حفظه الله (وهو قولنا: «لا تکرم عَالِماً») وکما فی نظائره مثل قولنا: «لا تقتل مُؤْمِناً» و«لا تؤذ مُسْلِماً» و«لا تشرب خَمْراً» وما إلی ذلک؛ فَإِنَّ التَّنْوِین فی أمثال هذه الموارد لا یَدُلّ عرفاً علی الوحدة؛ لوجود نکتة أخری فی الکلام توجب عدم انعقاد ظهور له فی ذلک وهی عبارة عن وقوعه فی سیاق النَّهْی وسیأتی قریبا فی الاستثناء الثَّانِی أن ذلک یوجب الظُّهُور فی الشُّمُول وَالاِنْحِلاَل لغلبة نشوء النَّهْی من وجود المفسدة وغلبة انحلال المفسدة، والتنوین الَّذی لا ینافی الشُّمُولِیَّة هو الثَّانِی؛ لعدم دلالته علی الوحدة، فیبقی الموضوع عبارة عن ذات الطَّبِیعَة من دون قید الوحدة، فتکون قابلة للانطباق علی جمیع أفرادها.

بینما مقصود سَیِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِید رَحِمَهُ اللَهُ لم یکن عبارة عن التَّنْوِین الثَّانِی، بل مقصوده هو التَّنْوِین الأوّل الدَّالّ علی الوحدة. فکأنه حصل الخلط لدی السید الهاشمی حفظه الله بین التَّنْوِین الدَّالّ علی الوحدة وَالتَّنْوِین غیر الدَّالّ علی الوحدة؛ ولذا اِسْتَدَلَّ بِالتَّنْوِین الدَّاخِل علی موضوع النَّهْی، بینما التَّنْوِین الدَّاخِل علی موضوع النَّهْی لا یَدُلّ عرفاً علی الوحدة (لما قلناه ویأتی). فما ذکره سَیِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِید رَحِمَهُ اللَهُ فی وادٍ، وما ذکره السَّیِّد الهاشمیّ حفظه الله فی وادٍ آخر.

وَالْحَاصِلُ: أَنَّ مقصود سَیِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِید رَحِمَهُ اللَهُ هو أن موضوع الحکم إذا کان مُنَوَّناً بتنوین الوحدة (لا بمطلق تنوین التَّنْکِیر) فسوف یتقید بقید الوحدة، ومعه فلا یعقل الاِنْحِلاَل، وأمّا إذا م یکن الموضوع مُنَوَّناً بتنوین الوحدة، بأن کان مُنَوَّناً بتنوین التَّنْکِیر غیر الدَّالّ علی الوحدة (کما فی «لا تکرم فَاسِقاً» وکما فی «إن رأیت عَالِماً فأکرمه»، حیث لا ظهور لِلتَّنْوِینِ فی الوحدة وکما فی سائر الأمثلة الَّتی ذکرناها) أو لم یکن مُنَوَّناً ونکرة أصلاً، بل کان معرَّفا بالألف وَاللاَّم کما فی «أکرم العالم» و«لا تکرم الفاسق»، فیعقل الاِنْحِلاَل؛ لعدم تَقَیُّد الطَّبِیعَة بقید الوحدة، فتقبل الانطباق علی جمیع أفرادها، وَکُلَّمَا أصبح فرد من أفرادها فعلیّاً أصبح الحکم فعلیّاً.

ص: 29

وهناک إِشْکَال ثالث نذکره غداً إن شاء الله تعالی.

دلالة النَّهْی/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: دلالة النَّهْی/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

کان البحث حول المقیاس الَّذی ذکره السید الشهید الصدر رحمه الله لِبَدَلِیَّة الإِطْلاَق أو شُمُولِیَّته، وکان المقیاس یقول: إن الأصل العامّ فِی طرف موضوع الحکم هو أن یکون إطلاق الحکم بِالنِّسْبَةِ إلی أفراد هذا الْمَوْضُوع إطلاقاً شُمُولِیّاً لا بَدَلِیّاً، أی: یَنْحَلُّ الحکم إلی أحکام عدیدة بعدد أفراد الْمَوْضُوع. هذا هو القانون العامّ الأولی.

ثم ذکر استثناء قائلاً: إلاَّ إذا کان هذا الْمَوْضُوع مُنَوَّناً بتنوین الوحدة (کما فِی قولنا: أکرم عَالِماً واقرأ کتاباً)، فلا یکون إطلاق الحکم بِالنِّسْبَةِ إلی أفراد هذا الْمَوْضُوع إطلاقاً شُمُولِیّاً؛ لأَنَّ تنوین الوحدة قید الطَّبِیعَة بقید الوحدة، وهذه الطَّبِیعَة لا یمکن أن یکون شُمُولِیّاً.

قلنا: إن السید الهاشمی حفظه الله ناقش هذا الکلام فِی الهامش، وقال إِنَّه لَیْسَ استثناء عن القاعدة الَّتی أسسها السید الشهید الصدر رحمه الله، فدرسنا هذا النقاش وعلقنا علیه بتعلیقین تقدما، ووصل الدّور إلی التَّعْلِیق الثَّالث علی ما ذکره حفظه الله، وإلیک التَّعْلِیق الثَّالث:

ثالثاً: أن ما اعتبره السَّیِّد الهاشمیّ حفظه الله هو السِّرُّ فی بَدَلِیَّة الإطلاق فی مثل «أکرم عَالِماً» وعدم انحلال الحکم وعدم تَعَدُّده بتعدُّد الأفراد (وهو أن «عَالِماً» فی هذا المثال لیس هو «الموضوع» بحسب المعنی والواقع، بل هو قید فی الْمُتَعَلَّق، فیکون حاله حالَ الْمُتَعَلَّق من حیث عدم انحلال الحکم بلحاظه) کلام غیر صحیح؛ فَإِنَّ المقصود من «الموضوع» فی قولنا: «إن الأصل دائماً فی الموضوع هو انحلال الحکم بلحاظه إلاَّ إذا کان مُنَوَّناً بتنوین الوحدة» هو ما یکون خطاب الحکم ودلیله ظاهراً فی کونه سبباً لِفِعْلِیَّةِ الْحُکْمِ، بحیث یکون مرجع الکلام (بحسب الظُّهُور العرفی) إِلَی قَضِیَّةٍ شَرْطِیَّةٍ شرطها هو تحقّق الموضوع وَجَزَاؤُهَا ثبوت الحکم، وبالتَّالی یکون الکلام ظاهراً فی کون الموضوع هو السَّبَب والشرط لِفِعْلِیَّةِ الْحُکْمِ، فما للکلام بحسب مقام الإثبات والفهم العرفی دلالة علی کونه سبباً لِفِعْلِیَّةِ الْحُکْمِ نعتبره هو الموضوع، مثل «العالم» فی قولنا: «أکرم العالم» ومثل «عَالِماً» فی قولنا: «أکرم عَالِماً»، ومثل سائر الأمثلة المتقدّمة.

ص: 30

وأمّا ما لا یکون للکلام دلالة عرفاً علی کونه کذلک، مثل «الماء» فی قولنا: «تَوَضَّأْ بِالْمَاءِ»، ومثل «التُّرَاب» فی قولنا: «تَیَمَّمْ بالتُّرَابِ»، ومثل «الطَّهَارَة» فی قولنا: «صلِّ بطهارةٍ» ونحو ذلک، حیث لا ظهور للکلام (فی هذه الأمثلة) بحسب المتفاهم العرفی فی کون «الماء» أو «التُّرَاب» أو «الطَّهَارَة» سبباً لِفِعْلِیَّة وجوبِ الوضوء أو التَّیَمُّمِ أو الصَّلاة (أی: لیس الکلام ظاهراً فی رجوعه إلی قَضِیَّة شرْطِیَّة وهی أَنَّهُ «إن وجد ماء فتوضأ به»، أو «إن وجد تراب فَتَیَمَّمْ به» أو «إن وجدت طهارة فصلِّ»؛ ولذا لولا الدَّلِیل الخارجیّ الدَّالّ علی عدم وجوب إیجاد الماء علی فاقده، وعدم وجوب إیجاد التُّرَاب علی فاقده، لکنَّا نفهم من الکلامین فی المثالین الأولین وجوب إیجاد الماء وَالتَّوَضُّأ به، ووجوب إیجاد التُّرَاب والتَّیَمُّم به، کما نفهم من المثال الثَّالث وجوب إیجاد الطَّهَارَة والصلاة بها.

إذن، فمثل هذا لا نعتبره هو الموضوع ولا نقول بانحلال الحکم بلحاظه حتّی وإن لم یکن مُنَوَّناً بتنوین الوحدة (کما فی المثالین الأولین).

وعلیه، فقیاس «عَالِماً» فی قولنا: «أکرم عَالِماً» ب_«الماء» أو «التُّرَاب» فی قولنا: «تَوَضَّأْ بِالْمَاءِ أو تَیَمَّمْ بالتُّرَابِ» کما فعله السَّیِّد الهاشمیّ حفظه الله قیاس مع الفارق، حیث أن قولنا: «أکرم عَالِماً» ظاهر عرفاً فی کون «عَالِماً» هو السَّبَب والشرط لِفِعْلِیَّةِ الْحُکْمِ، أی: ظاهر فی الرجوع إِلَی قَضِیَّةٍ شَرْطِیَّةٍ، وهذا بخلاف قولنا: «تَوَضَّأْ بِالْمَاءِ»، أو «تَیَمَّمْ بالتُّرَابِ»؛ فإِنَّهُ لیس ظاهراً عرفاً فی ذلک کما قلنا.

والأغرب من ذلک قیاس «عَالِماً» فی قولنا: «أکرم عَالِماً» ب_«مَسْجِداً» فی قولنا: «اِبنِ مَسْجِداً»؛ فَإِنَّ «مَسْجِداً» فی هذه الجملة حاله حال الْمُتَعَلَّق أساساً، لا الموضوع؛ فهو وإن وقع موضوعاً فی الترکیب اللَّفظیّ للجملة، إلاَّ أَنَّهُ بحسب المعنی والواقع کَالْمُتَعَلَّقِ؛ فَإِنَّ بناء المسجد لیس إلاَّ إیجاده، فالأمر ببنائه أمر بإیجاده، فحاله حال «الإکرام» فی «أکرم عَالِماً» وحال «التَّوَضُّأ» فی «تَوَضَّأْ بِالْمَاءِ»، فکما أن الأمر فِی هَاتَیْنِ الْجُمْلَتَیْنِ أمر بإیجاد الإکرام وبإیجاد الوضوء، کذلک الأمر فِی هذه الجملة أمر بإیجاد المسجد.

ص: 31

وعلیه: فهذه الجملة تختلف اِخْتِلاَفاً جَوْهَرِیّاً عن جُمْلَتَیْ «أکرم عَالِماً» و«تَوَضَّأْ بِالْمَاءِ»، کما أنَّ هَاتَیْنِ الْجُمْلَتَیْنِ أیضاً تختلف إحداهما عن الأخری، والفارق بین هذه الجمل الثَّلاث هو أن «مَسْجِداً» فِی «اِبنِ مَسْجِداً» لا یمکن أن یکون موضوعاً، أیک سبباً لِفِعْلِیَّةِ الْحُکْمِ.

وبتعبیر آخر: لا یمکن أن ترجع الجملة إِلَی قَضِیَّةٍ شَرْطِیَّةٍ وهی «إن وجد مسجد فَابْنه»؛ فَإِنَّ هذا تحصیل للحاصل کما هو واضح، ولذا قلنا: إِنَّه بحسب المعنی والواقع کَالْمُتَعَلَّقِ، فکما أن الکلام لا یمکن أن یرجع (بلحاظ الْمُتَعَلَّق) إِلَی قَضِیَّةٍ شَرْطِیَّةٍ، فمثلاً قولنا: «أَکْرِم العالم» لا یمکن أن یرجع (بلحاظ الإکرام) إلی قولنا: «إن وُجِد إکرام للعالم فأکرم العالم»؛ لأَنَّهُ لغو وتحصیل للحاصل، کذلک هذه الجملة لا یمکن أن ترجع (بلحاظ المسجد) إلی قَضِیَّة شرْطِیَّة؛ للزوم اللَّغْوِیَّةِ وتحصیل الحاصل، فالمحذور ثبوتی فِی رجوع الکلام إِلَی قَضِیَّةٍ شَرْطِیَّةٍ.

وأما «الماء» فی جملة: «تَوَضَّأْ بِالْمَاءِ»، فبالإمکان أن یکون موضوعاً وسببا لِفِعْلِیَّةِ الْحُکْمِ، وبتعبیر آخر: یمکن أن ترجع الجملة إِلَی قَضِیَّةٍ شَرْطِیَّةٍ وهی «إن وجد ماء فتوضأ به»؛ إذ لیس فِی هذا محذور ثبوتی؛ إِذْ لاَ یَلْزَمُ مِنْهُ اللَّغْوُ وتحصیل الحاصل، لکن الجملة بِحَسَبِ مَقَامِ الإِثْبَاتِ والفهم الْعُرْفِیّ لیست ظاهرة فِی کون «الماء» مَوْضُوعاً وَّسَبَباً لِفِعْلِیَّةِ الْحُکْمِ - کما قلنا - فالمحذور هنا (فِی رجوع الکلام إِلَی قَضِیَّةٍ شَرْطِیَّةٍ) مَحْذُور إِثْبَاتِیّ لا ثُبُوتِیّ.

وأمّا «عَالِماً» فِی جملة «أکرم عَالِماً» فلا مَحْذُور ثُبُوتِیّ ولا إِثْبَاتِیّ فِی أن یکون مَوْضُوعاً وَّسَبَباً لِفِعْلِیَّةِ الْحُکْمِ.

إذن، فالخلط بین هذه الجمل الثَّلاث غریب.

وهناک إِشْکَال رابع علی ما ذکره حفظه الله یأتی - إن شاء الله - غداً.

ص: 32

دلالة النَّهْی/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: دلالة النَّهْی/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

تقدّمت ملاحظات ثلاث علی کلام السَّیِّد الهاشمیّ حفظه الله وهناک ملاحظة رابعة وهی الأخیرة نذکرها فیما یلی:

رابعاً: أن ما ذکره حفظه الله فِی آخر کلامه من أن الاِنْحِلاَل فِی «أکرم العالم» إنّما هو لسبب أن اللاَّم تَدُلّ علی أَنَّهُ مُقَدَّرُ الْوُجُود سواء کانت للعهد أو الجنس، کلام لم نفهمه؛ إذ ما هی علاقة اللاَّم بکون مدخولها مُقَدَّرُ الْوُجُود؟ فإن ما هو مُقَدَّرُ الْوُجُود هو الموضوع. أی: هو الَّذی یرجع الکلام بلحاظه إلی قَضِیَّة شرْطِیَّة (کما قلنا) ویکون هو شرط هذه الْقَضِیَّة الشَّرْطِیَّة باعتبار أن الموضوع یُفرض فِی مرتبة سابقة علی الحکم، وهذا لا فرق فیه بَیْنَ أَنْ یَّکُونَ مُعَرَّفاً بِاللاَّم (سواء لام العهد أو الجنس) وَبَیْنَ أَنْ لاَّ یَکُونَ مُعَرَّفاً أصلاً، بل یکون نکرة وَمُنَوَّناً بتنوین التَّنْکِیر کما فِی «أکرم عَالِماً» و«لا تکرم فَاسِقاً»؛ فکل هذا مُقَدَّرُ الْوُجُود.

نعم، انحلال الحکم بلحاظه مشروط بِأَنْ لاَّ یَکُونَ مُنَوَّناً بتنوین النَّکِرَة الدَّالّ علی الوحدة کما فِی «أکرم عَالِماً» (کما تقدّم شرحه). فانحلال الحکم بلحاظ الموضوع شیء، وکون الموضوع مُقَدَّرُ الْوُجُود شیء آخر، وَاللاَّم لاَ عَلاَقَةَ لَهَا بشیء من هذین، وإنَّما هی لِلتَّعْرِیفِ وَاِتِّکَاءِ الکلمة علیها فقط؛ إذ لا بُدَّ لِلْکَلِمَةِ من الاِتِّکَاءِ علیها أو علی التَّنْوِین.

وکیف کان، فلنرجع إلی ما کُنَّا بصدده، حیث ذکرنا أن لکلٍّ من الأَصْلَیْنِ استثناءً، وذلک بموجب قرینة، فذکرنا الاستثناء عن الأصل الأوّل الجاری فِی طرف الموضوع.

وأمّا الأصل العامّ الجاری فِی طرف الْمُتَعَلَّق (وهو عدم انحلال الحکم وعدم تَعَدُّده بعدد أفراد الْمُتَعَلَّق) فیُستثنی منه مُتَعَلَّق النَّهْی؛ وذلک لوجود قرینة عُرْفِیَّة فیه تَدُلّ علی الاِنْحِلاَل، وهی عبارة عن غلبة نشوء النَّهْی من وجود مفسدة فِی متعلّقه، وغلبة انحلال المفسدة وتعددها بعدد أفراد الطَّبِیعَة الَّتی تعلّق بها النَّهْی، أی: کون کل فرد من أفرادها مُشْتَمِلاً علی المفسدة. وبعبارة أخری: الغالب هو کون مطلق وجود الطَّبِیعَة الَّتی تعلّق بها النَّهْی مُشْتَمِلاً علی المفسدة. فمثلاً إذا قال: «لا تکرم الفاسق..» فَحَیْثُ أَنَّ النَّهْی عن شیء ینشأ غالباً من وجود مفسدة فِی ذاک الشَّیْء، والمفسدة غالباً موجودة فِی کل مصداق من مصادیق ذاک الشَّیْء، فهذه الغلبة الارتکازیة تُوَلِّدُ ظُهُوراً سِیَاقِیّاً لِمُتَعَلَّقِ النَّهْیِ فِی انحلال النَّهْی إلی نواهٍ عدیدة بعدد مصادیق الْمُتَعَلَّق، فتکون کل مصادیق «إکرام الفاسق» فِی المثال مَنْهِیّاً عَنْهَا، وکل فرد من أفراد الْمُتَعَلَّق محرّماً بحرمة مستقلّة، فالإطلاق فِی مُتَعَلَّق النَّهْی شُمُولِیّ لا بدلیّ؛ وذلک بموجب هذه القرینة الَّتی لولاها لکان مقتضی الأصل العامّ الَّذی شرحناه أن یکون الإطلاق فیه بَدَلِیّاً کما هو کذلک فِی مُتَعَلَّق الأمر، نظراً إلی عدم وجود هذه القرینة فیه؛ فَإِنَّ الأمر وإن کان ناشئاً غالباً من وجود مصلحة فِی متعلّقه، لکن لیس الغالب فِی المصلحة انحلالها وتعددها بعدد أفراد الطَّبِیعَة الَّتی تعلّق بها الأمر وکون کل فرد من أفرادها مُشْتَمِلاً علی المصلحة. وبعبارة أخری: لیس الغالب کون مطلق وجود الطَّبِیعَة الَّتی تعلّق بها الأمر مُشْتَمِلاً علی المصلحة، بل الغالب هو کون صرف وجودها مُشْتَمِلاً علی المصلحة. إذن، فالإطلاق فِی مُتَعَلَّق الأمر بدلیّ وفی مُتَعَلَّق النَّهْی شُمُولِیّ. وقد اعترض السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ رَحِمَهُ اللَهُ علی هذه القرینة الَّتی ذکرها سَیِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِید رَحِمَهُ اللَهُ فِی مُتَعَلَّق النَّهْی (أعنی غلبة انحلال المفسدة) باعتراضین(- رغم أَنَّهُ رَحِمَهُ اللَهُ اعترف بها فِی دراسات فِی علم الأصول: ج2، ص95-97.): الأوّل: أن هذه القرینة إنّما تصح علی مبنی الْعَدْلِیَّة فحسب، وهو المبنی القائل بِتَبَعِیَّة الأحکام للمصالح والمفاسد المحتواة فِی متعلقاتها، ولا تصح علی مبنی الأَشَاعِرَة القائل بعدم تَبَعِیَّة الأحکام للمصالح والمفاسد؛ إذ لا موضوع لها حینئذٍ؛ لأَنَّ النَّهْی بناءًا علی هذا المبنی لیس ناشئاً من وجود مصلحة أصلاً کی یقال: إن الغالب فِی المفسدة أن تکون اِنْحِلاَلِیَّة، کما هو واضح. وَرَدَّهُ سَیِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِید رَحِمَهُ اللَهُ قائلاً: إن الکلام إنَّمَا هو فی الظهور الْعُرْفِیّ واللغوی للنهی عن شیء، بینما النِّزَاع بَیْنَ الْعَدْلِیَّةِ وَالأَشَاعِرَة حول تَبَعِیَّة الأحکام للمصالح والمفاسد وعدمها إِنَّمَا هو نزاع ثُبُوتِیّ خاصّ بالأوامر وَالنَّوَاهِی الشَّرعیَّة، وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ الأَشَاعِرَةَ الَّذین ینکرون تَبَعِیَّة أوامر الله تعالی ونواهیه للمصالح والمفاسد لا ینکرون تَبَعِیَّة أوامر النَّاس والعقلاء ونواهیهم للمصالح والمفاسد، وهذا کافٍ فِی تَمَامِیَّةِ القرینة الْمُدَّعَاة؛ فَإِنَّ النَّواهی الْعُرْفِیَّةَ وَالْعُقَلاَئِیَّةَ إذا کانت ناشئة غالباً من مفاسد فِی متعلقاتها وکانت المفسدة غالباً اِنْحِلاَلِیَّة ثابتة فِی کل فرد من أفراد الطَّبِیعَة الَّتی تعلّق بها النَّهْی، أصبح النَّهْی ظاهراً عرفاً فِی الاِنْحِلاَل، وکان هذا الظُّهُور حجّة حتّی إذا صدر النَّهْی من الشَّارع. وهذا ما أردناه من القرینة.

ص: 33

هذا هو الاعتراض الأول مع مناقشته وللبحث صلة تأتی إن شاء الله تعالی.

دلالة النَّهْی/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: دلالة النَّهْی/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

قلنا إن هناک قرینةً عُرْفِیَّةً فِی باب النَّهْی بالخصوص توجب ظهور النَّهْی فِی الاِنْحِلاَل بلحاظِ متعلّقه (أی: توجب أن یکون الإِطْلاَق فِی النَّهْی بلحاظ متعلّقه إطلاقاً شُمُولِیّاً، یعنی: یکون النَّهْی مُنْحَلاًّ إلی نواه عدیدة بعدد أفراد ذاک الشَّیْء الْمَنْهِیّ عَنْهُ). والقرینة الْعُرْفِیَّة الَّتی توجب هذا الظُّهُور الْعُرْفِیّ هی الَّتی تقدمت بالأَمْسِ، فکانت عبارة عن غلبة نشوء النَّهْی عن شیء من المفسدة فِی ذلک الشَّیْء، بالإضافة إلی غلبة أخری هی أن المفسدة غالباً اِنْحِلاَلِیَّة (أی: إذا کانت هناک مفسدة فِی شیء مّا فالغالب هو أَنْ تَکُونَ هذه المفسدة موجودة فِی کُلّ فرد فردٍ من أفراد ذاک الشَّیْء). وَالنَّتِیجَة أن هَاتَیْنِ الغلبتین تولِّدانِ ظُهُوراً عُرْفِیّاً لِلنَّهْیِ فِی الاِنْحِلاَل.

وتقدم أن السید الخوئی اعترض علی هذه القرینة (طبعاً، علی ما یبدو فِی الدورات الأخیرة من بحثه الشریف، رغم أَنَّهُ اعترف بهذه القرینة فِی الدورات المتقدّمة، علی ما فِی دراسات فِی علم الأصول، دون ما ورد فِی محاضرات الشَّیْخ الفیاض حفظه الله)، وقد تقدّم الاعتراض الأوّل بالأَمْسِ، وإلیک الاعتراض الثَّانِی:

الثَّانِی: أَنَّهُ لا طریق لنا إلی إحراز کون المفسدة اِنْحِلاَلِیَّة إلاَّ النَّهْی نفسه؛ فإِنَّهُ إذا کان النَّهْی اِنْحِلاَلِیّاً عرفنا أن المفسدة اِنْحِلاَلِیَّة، ومن دونه لا طریق لنا إلی إحراز ملاک الحکم، إذن، فلا یصحّ أَنْ نَّسْتَدِلَّ علی اِنْحِلاَلِیَّة النَّهْی بِانْحِلاَلِیَّةِ المفسدة؛ فَإِنَّ اِنْحِلاَلِیَّةَ المفسدة لا طریق لنا إلی إحرازها إلاَّ خطاب المولی ونهیه؛ إذ لا نعرف ملاکات خطابات الشَّارع إلاَّ من خلال خطاباته نفسها، فالاستدلال علی اِنْحِلاَلِیَّة النَّهْی والخطاب بِانْحِلاَلِیَّة المفسدة والملاک یستلزم الدّور، لتوقف کل منهما علی الآخر. وهذا الاعتراض أیضاً اتَّضَحَ جوابه من الجواب علی الاعتراض الأوّل؛ لأَنَّ المُدَّعی لیس عبارة عن غلبة اِنْحِلاَلِیَّة ملاکات النَّواهی الشَّرعیَّة، فلا نرید الاستدلال علی اِنْحِلاَلِیَّة النَّهْی الشَّرْعِیّ عن طریق اِنْحِلاَلِیَّة المفسدة الَّتی نشأ النَّهْی الشَّرْعِیّ منها، کی یقال: إِنَّنّا لا طریق لنا إلی إحراز ملاک الحکم وَالنَّهْی الشَّرْعِیّ ومعرفة اِنْحِلاَلِیَّة الملاک والمفسدة إلاَّ النَّهْی والخطاب الشَّرْعِیّ نفسه، بل المُدَّعی عبارة عن غلبة اِنْحِلاَلِیَّة ملاکات النَّواهی العرفیة الْعُقَلاَئِیَّة، فنرید الاستدلال علی اِنْحِلاَلِیَّة النَّهْی الشَّرْعِیّ عن طریق اِنْحِلاَلِیَّة المفسدة الَّتی ینشأ النَّهْی الْعُرْفِیّ الْعُقَلاَئِیّ منها، ونقول: إن الغالبَ فِی نواهی النَّاس هو نشوؤها من مفاسدَ اِنْحِلاَلِیَّةٍ، وهذه الغلبة تستوجب ظهور النَّهْی الْعُرْفِیّ الْعُقَلاَئِیّ فِی کونه اِنْحِلاَلِیّاً، وهذا الظُّهُور حجّة، فإذا صدر النَّهْی من الشَّارع فهم العرف منه أیضاً الاِنْحِلاَل کما یفهمه من نواهی النَّاس؛ إذ لم یخترع الشَّارع لنفسه طریقاً خاصّة (فِی نواهیه) غیر الطَّرِیقَة الْعُرْفِیَّة، ویکون هذا الفهم والظهور حجّة. وحاصل الجواب علی کلا الاعتراضین الَّذَیْن ذکرهما السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ رَحِمَهُ اللَهُ هو أَنَّنَا لا نقصد التَّمسُّک باِنْحِلاَلِیَّةِ المفسدة فِی نهی الشَّارع لإثبات أنَّ نهیه اِنْحِلاَلِیّ، کی یقال: إن هذا یتوقَّف علی القول بِتَبَعِیَّة نهی الشَّارع للمفسدة، ویقال أیضاً: إِنَّه لا طریق لنا إلی معرفة اِنْحِلاَلِیَّةِ المفسدة فِی نهی الشَّارع إلاَّ نفس النَّهْی، فما لم یثبت کون النَّهْی نفسه اِنْحِلاَلِیّاً لا تثبت اِنْحِلاَلِیَّة المفسدة، بل إِنَّنّا نقصد بالتمسک بغلبة نشوء النَّهْی الْعُقَلاَئِیّ عن وجود مفسدة عُقَلاَئِیَّة فِی متعلّقه، وغلبة کون المفسدة الْعُقَلاَئِیَّة اِنْحِلاَلِیَّةٌ، نقصد التَّمسُّک بهذه الغلبة الاِرْتِکَازِیَّة لإثبات أن النَّهْی عند العقلاء ظاهر (بالظهور السیاقی المتولِّد من الغلبة المذکورة) فِی الاِنْحِلاَلِیَّة، وبالتَّالی فهذا الظُّهُور یتحکّم فِی نهی الشَّارع أیضاً ویسری إلیه قهرا، باعتباره نَهْیاً مُلقی إلی العرف والعقلاء.

ص: 34

إذن، اتَّضَحَ وجه الفرق بین الأمر وَالنَّهْی وأنه لماذا یسقط الأمر بالعصیان أو الامتثال مرّةً، ولا یسقط النَّهْی بل یبقی حتّی بعد الامتثال أو العصیان؟ فحرمة شرب الخمر مثلاً إذا اِمْتَثَلَهَا المُکَلَّف مرّةً ولم یشرب الخمر لا تسقط عنه فِی المرَّة الثَّانیة بعد الامتثال فِی المرَّة الأولی، بل تبقی مُسْتَمِرَّةً، وکذلک إذا أعصاها المُکَلَّف مرّةً وشرب الخمر لا تسقط عنه فِی المرَّة الثَّانیة بعد العصیان فِی المرَّة الأولی، بل تبقی مُسْتَمرَّة، وهذا معناه وجود خطابات عدیدة بحرمة شرب الخمر وحرمات متعدّدة تنتظر امتثالها أو عصیانها، بخلاف الأمر حیث لا یوجد إلاَّ أمر وتکلیف واحد لا یبقی بعد العصیان الأوّل أو الامتثال الأوّل، والنُّکتة عبارة عمَّا قلناه من اِنْحِلاَلِیَّةِ النَّهْی بلحاظ الْمُتَعَلَّقِ وتعدده بعدد مصادیق الْمُتَعَلَّق، وعدم اِنْحِلاَلِیَّة الأمر بلحاظ الْمُتَعَلَّق وعدم تَعَدُّده بعدد مصادیق الْْمُتعَلَّق.

هذا تمام الکلام فِی الجهة الثَّالثة، وقد اتَّضَحَ أن النَّهْی اِنْحِلاَلِیّ، بخلاف الأمر.

وَأَمَّا الجهة الرَّابعة: ففی البحث عن کون النَّهْی شُمُولِیّاً وَنَهْیاً عن الطَّبِیعَة، وفی هذا البحث نرکّز علی فارق آخر بین الأمر وَالنَّهْی، فنحن حتّی إذا غضضنا النَّظَر عن الفارق المتقدّم ذکره وهو کون النَّهْی اِنْحِلاَلِیّاً بموجب القرینة الَّتی ذکرناها فِی الجهة الثَّالثة، وفرضنا أَنَّهُ کالأمر، فَکَمَا أَنَّ الأمر أمر واحد بالطبیعة ووجوب واحد ولا یَنْحَلُّ إلی أوامر ووجوبات عدیدة بعدد أفراد الطَّبِیعَة، کذلک النَّهْی نهی واحد عن الطَّبِیعَة وحرمة واحدة متعلّقة بها ولا یَنْحَلُّ إلی نواهٍ وحرمات عدیدة بعدد أفراد الطَّبِیعَة. مع ذلک نجد فرقاً آخر بینه وبین الأمر فِی عالم الامتثال والعصیان، وهو فرق عقلی (خلافاً للفرق المتقدّم فِی الجهة السَّابِقَة حیث کان فرقاً لفظیّاً فِی ظهور الکلام ودلالته، حیث استظهرنا من النَّهْی کونه اِنْحِلاَلِیّاً بلحاظ متعلّقه بموجب القرینة الَّتی ذکرناها، بینما لم نستظهر من الأمر ذلک).

ص: 35

وهذا الفرق العَقْلِیّ عبارة عمَّا کان هو المشهور بین الأُصُولِیِّینَ إلی عصر صاحب الکفایة رَحِمَهُ اللَهُ من أن العقل یری فارقا بین وجود الطَّبِیعَة وبین عدمها، والفارق هو أو وجود الطَّبِیعَة یتحقّق بوجود فرد واحد من أفرادها، بینما عدمها لا یکون إلاَّ بانعدام جمیع أفرادها، وعلیه فالأمر حیث أَنَّهُ طلب للطبیعة، فالمقصود إیجادها، والعقل یری أن إیجادها یتحقّق بإیجاد فرد واحد من أفرادها، فلذا یتحقّق الامتثال فِی باب الأمر بالإتیان بفرد واحد من أفراد متعلّقه، بینما النَّهْی زجر عن الطَّبِیعَة، فالمقصود عدمها، والعقل یری أن عدمها لا یکون إلاَّ بانعدام جمیع أفرادها، فلذا لا یتحقّق الامتثال فِی باب النَّهْی إلاَّ بترک کل أفراد متعلّقه، والاجتناب عن جمیع مصادیق الطَّبِیعَة، أمّا الاجتناب عن مصداقٍ وفرد واحدٍ فقط فهو لیس امتثالا للنهی. هذا هو الفرق العَقْلِیّ بینهما فِی جانب الامتثال.

وکذلک یوجد فرق عقلی بینهما فِی جانب العصیان؛ فَإِنَّ الأمر حیث أَنَّهُ طلب للطبیعة، إذن فالمقصود إیجادها، فعصیان الأمر إِنَّمَا یتحقّق بعدم إیجاد الطَّبِیعَة، والعقل یری أن عدمها لا یکون إلاَّ بانعدام جمیع أفرادها وترک کل مصادیقها، فلذا لا یتحقّق العصیان فِی باب الأمر إلاَّ بترک کل أفراد متعلّقه، أمّا ترک فرد واحد فهو لیس عصیانا للأمر، بینما النَّهْی زجر عن الطَّبِیعَة، فالمقصود عدمها، والعقل یری أن عدمها لا یکون إلاَّ بعدم وجود أی فرد من أفرادها، فمادام یوجد ولو فرد واحد من أفرادها إذن فهی غیر معدومة، فلذا یتحقّق العصیان فِی باب النَّهْی بإیجاد فرد واحد من أفراد متعلّقه.

وَالْحَاصِلُ: أَنَّ العقل ما دام یری أن الطبیعی یوجد بوجود فرد واحد من أفراده، ولا ینعدم إلاَّ بانعدام جمیع أفراده، لذا فالأمر یُمتثل بالإتیان بفرد واحد من أفراد الطبیعی الَّذی تعلّق الأمر به، ولا یُعصی إلاَّ بترک جمیع أفراده، بینما النَّهْی لا یُمتثل إلاَّ بترک جمیع أفراد الطبیعی الَّذی تعلّق النَّهْی به، ولٰکِنَّهُ یُعصی بالإتیان بفرد واحد من أفراده.

ص: 36

هذه بَدَلِیَّة وشمولیة أخری غیر الْبَدَلِیَّة وَالشُّمُولِیَّة الَّتی کُنَّا نراها فِی الجهة السَّابِقَة؛ فتلک شمولیة وبدلیة فِی مرحلة فِعْلِیَّة الحکم وانطباق الحکم، وهذه بَدَلِیَّة وشمولیة فِی مرحلة الامتثال.

وللبحث توضیح وشرح أکثر یأتی غداً إن شاء الله تعالی.

دلالة النَّهْی/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: دلالة النَّهْی/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

قلنا إن هناک فرقاً عَقْلِیّاً بین باب الأمر وباب النَّهْی، باعتبار أن العقل یفرّق بین وجود الطَّبِیعَة وبین انعدامها، فإِنَّهُ یری أن الطَّبِیعَة یوجد بوجود فرد واحد لٰکِنَّهَٰا لا تنعدم إلاَّ بانعدام کل الأفراد. وفی ضوء هذا الفارق العَقْلِیّ الَّذی یدرکه العقل بین جانبی الوجود والعدم فِی الطَّبِیعَة، یحصل فارق بین باب الأمر وباب النَّهْی، فارق من جهة الامتثال وفارق من جهة العصیان؛ ففی جانب الامتثال یتحقّق امتثال الأمر بالإتیان بفرد واحد، بینما فِی باب النَّهْی لا یتحقّق بالاجتناب عن فرد واحد، وقد تقدّم شرحه بالأَمْسِ. کما یحصل (فِی ضوء ذاک الفارق العَقْلِیّ المتقدّم) فارقٌ بین الأمر وَالنَّهْی فِی جانب العصیان أیضاً؛ فَإِنَّ عصیان الأمر إِنَّمَا یتحقّق بترک کل الأفراد والمصادیق، بینما عصیان النَّهْی یتحقّق بفرد واحد، فإِنَّهُ لو کذب کذبةً واحدة یکون قد عصی لحرمة النَّهْی.

إذن، تحصَّل لدینا إلی الآن وجود فارقین بین الأمر وَالنَّهْی:

أحدهما: الفرق الَّذی ذکرناه فِی الجهة السَّابِقَة من البحث، وهو أن النَّهْی اِنْحِلاَلِیّ بخلاف الأمر الَّذی هو بدلیّ؛ ففی النَّهْی توجد حرمات عدیدة بعدد أفراد الْمُتَعَلَّق، أمّا فِی الأمر فلا یوجد إلاَّ وجوب واحد لا یتعدّد بعدد أفراد الْمُتَعَلَّق. ثانیهما: الفرق الَّذی ذکرناه الآن فِی هذه الجهة من البحث، وهو أن النَّهْی شُمُولِیّ بخلاف الأمر؛ فَإِنَّ العقل یری أن امتثال الأمر یَتُِمّ بالإتیان بفرد واحد، بینما امتثال النَّهْی لا یَتُِمّ إلاَّ بترک جمیع الأفراد، ویری أن عصیان الأمر لا یتحقّق إلاَّ بترک جمیع الأفراد، بینما عصیان النَّهْی یتحقّق بالإتیان بفرد واحد.

ص: 37

فحتی لو غضضنا الطَّرْف عن الفرق الأوّل بینهما وافترضنا وحدة الحکم وعدم تَعَدُّده فِی باب الأمر وَالنَّهْی، لکن مع ذلک یوجد هذا الفرق الثَّانِی بینهما فِی عالم الامتثال والعصیان.

وبهذا التمییز بین الجهة الثَّالثة من البحث والجهة الرَّابعة منه یَتَّضِحُ الخلطُ الموجود فیما یُنقل عن المُحَقِّق الْعِرَاقِیّ رَحِمَهُ اللَهُ بین هَاتَیْنِ الجهتین، حیث یُحکی عنه أَنَّهُ ذکر نکتةً للفرق الَّذی نراه بین الأمر وَالنَّهْی، حیث نری أن النَّهْی لا یسقط بالعصیان، بل یبقی مُسْتَمِرّاً، فمن کذب مثلاً لا تسقط عنه حرمة الکذب، بل تبقی ثابتة علیه حتّی وإن عصی مائة مرّةً، بینما الأمر لیس کذلک، فإِنَّهُ یسقط بالعصیان. والنُّکتة هی أن الطَّبِیعَة المنهی عن إیجادها (أی: المطلوب عدمها) لا تنعدم إلاَّ بانعدام کل أفرادها، فلذا لا یسقط النَّهْی بعصیان فرد واحد، ولکن الطَّبِیعَة المأمور بإیجادها توجد بوجود فرداً واحد.

فإن هذا الکلام خلط بین جهتی البحث والفارقین الَّذین ذکرناهما فیهما؛ وذلک لأَنَّ «سقوط النَّهْی بالعصیان وعدم سقوطه به» مطلب، و«کون العصیان فِی النَّهْی بماذا یتحقّق؟» مطلب آخر؛ فَإِنَّ سقوط النَّهْی بالعصیان یتبع عدم انحلاله، بینما عدم سقوطه بالعصیان یتبع انحلاله، کما تقدّم فِی الجهة السَّابِقَة من البحث.

أما النُّکتة الَّتی ذکرها رَحِمَهُ اللَهُ فلا ربط لها بالانحلال، بل هی أعمّ منه؛ فَإِنَّ الطَّبِیعَة وإن کانت لا تنعدم إلاَّ بانعدام کل أفرادها، لکن هذا لا ینتج الاِنْحِلاَل وبالتَّالی عدم سقوطه بالعصیان، بل ینتج أن العصیان فِی النَّهْی یتحقّق بفرد واحد، أمّا أن النَّهْی لا یسقط بهذا العصیان، فهذا مِمَّا لا یثبت بهذه النُّکتة؛ إذ قد یکون النَّهْی نَهْیاً عن ذات الطَّبِیعَة وعن تلوّث صفحة الوجود بها، فإذا عصی وأتی بفرد واحد منها فقد تلوّثت صفحة الوجود بها فیسقط النَّهْی، فلا بُدَّ (لإِثْبَات عدم سقوطه بالعصیان) من إثبات أن النَّهْی اِنْحِلاَلِیّ ومتعدد بعدد أفراد الطَّبِیعَة کما صنعناه نحن فِی الجهة السَّابِقَة.

ص: 38

وَکَیْفَ کَانَ، فلنرجع إلی ما کُنَّا بصدده، حیث ذکرنا فِی هذه الجهة فارقاً آخر بین الأمر وَالنَّهْی وهو الفارق العَقْلِیّ بینهما فِی مقام الامتثال والعصیان، فامتثال الأمر یتحقّق بفرد واحد، بینما امتثال النَّهْی لا یتحقّق بترک فرد واحد، وإنَّما بترک الکل، وعصیان الأمر یتحقّق بترک الکل، بینما عصیان النَّهْی یتحقّق بفرد واحد، وهذا الفارق العَقْلِیّ مبنیّ کما قلنا علی حکم العقل بأن وجود الطَّبِیعَة یتحقّق بوجود فرد واحد، أمّا عدمها فلا یکون إلاَّ بانعدام کل الأفراد.

ومن هنا فقد وقع الإشکال فِی هذا الفرق بین الأمر وَالنَّهْی (کما أفاده سَیِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِید رَحِمَهُ اللَهُ ونَسَبه إلی المحققین المتأَخِّرین عن صاحب الکفایة رَحِمَهُ اللَهُ((1) )) وهذا الإشکال قد تعرَّضنا له مع الجواب علیه فِی بحث دلالة الأمر علی المرَّة أو التَّکرار.

وحاصل الإشکال هو أن الفرق المذکور بین الأمر وَالنَّهْی مبنیّ علی القول بأن الطَّبِیعَة توجد بوجود فرد واحد ولا تنعدم إلاَّ بانعدام کل الأفراد، وهذا إِنَّمَا یصحّ بناءًا عَلَی الْقَوْلِ بِأَنَّ نِسْبَةَ الْکُلِّیِّ الطَّبِیعِیِّ إلی أفراده نِسْبَةُ الأَبِ الْوَاحِدِ إِلَی أَبْنَائِهِ (کما کان یقول به الرَّجُلُ الْفَیْلَسُوفُ الْهَمِدَانِیُّ الَّذی التقی به ابن سینا ونقل عنه هذه الفکرة، فاشتهرت بفکرة الرَّجُلِ الْهَمِدَانِیِّ عن الکلّی الطَّبِیعِیِّ، کما اشتهرت أیضاً ب_«الکلّی الْهَمِدَانِیِّ»)؛ فإِنَّهُ بناءًا علی هذه الفکرة عن الکلّی، یکون لِلْکُلِّیِّ وجود واحد عددیّ سعیّ منتشر فِی جمیع أفراده، فَکَمَا أَنَّ الأب الواحد له وجود واحد بالنسبة إلی وجودات أبنائه، کذلک الکلّی الطَّبِیعِیّ له وجود واحد بالنسبة إلی وجودات أفراده، یوجد مع أوَّل فرد، وتعرض علیه أعراض الفرد، فکل حالة للفرد هی حالة لِلْکُلِّیِّ. وعلیه، فهذا الوجود الواحد یوجد بوجود فرد واحد، ولا ینعدم هذا الوجود الواحد إلا بانعدام کل الأفراد، فالفرق الْعَقْلِیّ المذکور بین الأمر وَالنَّهْی القائم علی أساس القول بأنَّ الطَّبِیعَة توجد بوجود فرد واحد، ولا تنعدم إلا بانعدام کل الأفراد، مبنیّ علی قبول فکرة «الرَّجُل الْهَمِدَانِیّ» المتقدّمة آنِفاً، بینما الصَّحِیح فَلْسَفِیّاً والمشهور هو بطلان الکلّی الْهَمِدَانِیّ وأن نسبة الکلّی الطَّبِیعِیّ إلی أفراده لیست نِسْبَة الأَبِ الْوَاحِدِ إِلَی أَبْنَائِهِ، بل هی نسبة الآباء العدیدین الَّذی یفترض لکل واحد منهم ابن مستقلّ إلی الأبناء، فَکَمَا أَنَّ للآباء وجودات مستقلّة وعدیدة بعدد الأبناء، فکذلک لِلْکُلِّیِّ الطَّبِیعِیّ وجودات مستقلّة وعدیدة بعدد أفراده، فهو فِی کل فردٍ له وجود مستقلّ عن وجوده فِی الفرد الآخر، وفی مقابل کل وجودٍ من هذه الوجودات عدم، وهذا هو الَّذی یقول عنه المُلاَّ هادی السبزواری رَحِمَهُ اللَهُ فِی منظومته:

ص: 39


1- (1) - الظَّاهِر أن المقصود هو المُحَقِّق الإصفهانی رَحِمَهُ اللَهُ، راجع نهایة الدِّرایة: ج2، ص185.

لیس الطَّبِیعِیّ مع الأفرادکالأب، بل آباء مع الأولادفبناءًا علی هذه الفکرة الصحیحة عن الکلّی الطَّبِیعِیّ، یوجد الکلّی بوجود فرد واحد وینعدم أیضاً بانعدام فرد واحد؛ إذ کما أن هناک وجودات عدیدة لِلْکُلِّیِّ الطَّبِیعِیّ فهناک أیضاً أعدام عدیدة له؛ فوجود کل فرد هو ناقض لعدم الطَّبِیعَة فِی ضمن ذاک الفرد لا مطلقاً، فلا یبقی معنی محصَّل لما اشتهر من أن الطَّبِیعِیّ یوجد بوجود فرد واحد ولا ینعدم إلاَّ بانعدام تمام أفراده؛ إذ لا نتصور أن تکون الطَّبِیعَة موجودة ومحفوظة فِی فردٍ واحد، ورغم هذا فهی لا تنعدم بانعدام ذاک الفرد وإنَّما تنعدم بانعدام جمیع الأفراد. هذا غیر معقول؛ لأَنَّ وجود الطَّبِیعِیّ فِی ضمن کل فرد لا یُحفظ إلاَّ فِی ضمن ذاک الفرد، ولا ینعدم أیضاً إلاَّ بانعدام ذاک الفرد.

وعلیه، فلا یبقی فرق بین الأمر وَالنَّهْی فِی عالم الامتثال والعصیان، ما دام قد فرضنا أن للطبیعة وجودات وأعداماً عدیدة بعدد الأفراد؛ لأَنَّ الأمر طلب إیجاد الطَّبِیعَة، وَالنَّهْی زجر عن إیجاد الطَّبِیعَة.

فحینئذٍ نتساءل هل أن الطّلب وَالزَّجْر تعلَّقا بوجود واحد من الوجودات العدیدة للطبیعة، أم تعلّقا بوجوداتها العدیدة؟

فإن کان الأوّل (أی: أن الأمر هو طلب وجودٍ واحد من هذه الوجودات وَالنَّهْی زجر عن وجودٍ واحد منها) فهذا معناه تحقّق الامتثال (فِی کل من الأمر وَالنَّهْی) بفرد واحد؛ لأَنَّهُ وجود واحد من وجدات الکلّی الطَّبِیعِیّ الَّذی تعلّق به الأمر أو النَّهْی؛ فامتثال الأمر الْمُتَعَلَّق بکلی الصَّلاة یتحقّق بالإتیان بصلاة واحدة؛ لأَنَّهَا وجود واحد من وجودات هذا الکلّی، وامتثال النَّهْی الْمُتَعَلَّق بکلی الکذب أیضاً یتحقّق بترک کذل واحد والانزجار عنه؛ لأَنَّهُ انزجار عن وجود واحد من وجودات هذا الکلّی، فلا فرق بین الأمر وَالنَّهْی فِی جانب الامتثال، وکذلک لا فرق بینهما فِی جانب العصیان، فکما یتحقّق العصیان فِی النَّهْی بالإتیان بوجودٍ واحد من وجودات هذا الکلّی، کذلک یتحقّق العصیان فِی الأمر بعدم وجودٍ واحدٍ من وجودات هذا الکلّی وترکه.

ص: 40

وأمّا إن کان الثَّانِی (أی: أن الأمر هو طلب الوجودات العدیدة لِلْکُلِّیِّ الطَّبِیعِیّ، وَالنَّهْی هو زجر عن وجوداته العدیدة، فهذا معناه عدم تحقّق الامتثال (لا فِی الأمر ولا فِی النَّهْی) إلاَّ بجمیع الأفراد؛ لأَنَّهَا الوجودات العدیدة لِلْکُلِّیِّ الطَّبِیعِیّ الَّذی تعلّق به الأمر أو النَّهْی؛ فامتثال الْمُتَعَلَّق بکلی الصَّلاة لا یتحقّق إلاَّ بالإتیان بجمیع الصَّلَوَات، وامتثال النَّهْی الْمُتَعَلَّق بکلیّ الکذب أیضاً لا یتحقّق إلاَّ بترک کل أفراد الکذب. فلا فرق بین الأمر وَالنَّهْی فِی جانب الامتثال، وکذلک لا فرق بینهما فِی جانب العصیان، فکما یتحقّق العصیان فِی الأمر بترک کل الوجودات، کذلک یتحقّق العصیان فِی النَّهْی بإیجاد کل الأفراد والوجودات العدیدة لِلْکُلِّیِّ الطَّبِیعِیّ.

هذا هو حاصل الإشکال الَّذی نسبه سَیِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِید رَحِمَهُ اللَهُ إلی المحققین المتأَخِّرین عن صاحب الکفایة حول الفرق العَقْلِیّ الَّذی ذکرناه بین الأمر وَالنَّهْی فِی الامتثال والعصیان، بعد ذلک - إن شاء الله - فِی یوم السبت نتعرض للجواب، أمّا غداً فمعطل بمناسبة استشهاد الإمام الصادق صلوات الله علیه.

دلالة النَّهْی/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: دلالة النَّهْی/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

قلنا إن هناک إشکالاً مطروحاً حول ما قلناه من أن العقل یری فرقاً فِی الکلّی الطَّبِیعِیّ بین جانب الوجود وجانب العدم، فیری أن الطَّبِیعَة توجد بوجود فرد واحد، بینما لا تنعدم إلاَّ بانعدام کل الأفراد. وهذا الفارق یؤثر علی الأمر وَالنَّهْی فِی مقام امتثال المُکَلَّف لهما، حیث أَنَّهُ فِی مقام امتثال الأمر یحکم العقل بأن الإتیان بفرد واحد من أفراد الْمُتَعَلَّق کافٍ؛ لأَنَّ الطَّبِیعَة قد وجدت بوجود هذا الفرد الواحد، فتحقق الامتثال بوجود هذا الفرد الواحد، ولا یتحقّق عصیان الأمر إلاَّ بترک کل الأفراد. بینما فِی جانب النَّهْی تنعکس الآیة، حیث یُراد فِی النَّهْی إعدامُ الطَّبِیعَة، والعقل یری أن الطَّبِیعَة فِی جانب العدم لا تنعدم إلاَّ بانعدام جمیع أفرادها، فلا یتحقّق امتثال النَّهْی إلاَّ بالاجتناب عن کل الأفراد.

ص: 41

فحصل فرق بین مُتَعَلَّق الأمر وَمُتَعَلّق النَّهْی فِی مقام الامتثال. فالإطلاق فِی عالم الامتثال فِی جانب الأمر بدلیّ أیضاً، بینما الإِطْلاَق فِی مُتَعَلَّق النَّهْی فی عالم الامتثال شُمُولِیّ أیضاً.

وقلنا: إن هذا الفرق واجهَ إشکالاً یقول: هذا الفرق مبتنٍ علی أن نَقُول: إِنَّ الکلّی الطَّبِیعِیّ یوجد بوجود فرد واحد وینعدم بانعدام کل الأفراد، وهذا إِنَّمَا یصحّ بناءًا علی تصوّر الْهَمِدَانِیّ عن الکلّی الطَّبِیعِیّ، الَّذی کان یتصوّر أن الکلّی الطَّبِیعِیّ له وجود واحد منتشر فِی الأفراد. فبناءًا علی هذا التَّصَوُّر فتوجد الطَّبِیعِیّ بوجود فرد ولا تنعدم إلاَّ بانعدام کل الأفراد. أما علی التَّصَوُّر الصَّحِیح القائل بأن الکلّی الطَّبِیعِیّ لَیْسَ وجوداً واحداً عددیّاً منتشراً فِی الأفراد، بل هو وجودات عدیدة منتشرة فِی الأفراد (نسبته إلی الأفراد نسبة الآباء لا نسبة الأب الواحد إلی الأولاد). فلم یبق فرق بین الأمر وَالنَّهْی. هذا هو الإشکال المتقدّم شرحه.

والجواب علی هذا الإشکال هو ما تقدّم فِی بحث دلالة الأمر علی المرَّة أو التَّکرار حیث قلنا هناک: إن مسألتنا الأصولیة هنا لا ربط لها بتلک المسألة الْفَلْسَفِیَّة والخلاف حول الکلّی الطَّبِیعِیّ وأن نسبته إلی أفراده هل هی نسبة الأب أو الآباء إلی الأبناء؛ فَإِنَّ ذاک النزاع الْفَلْسَفِیّ إِنَّمَا یرتبط بالوجود الخارجیّ لِلْکُلِّیِّ وأنه هل له وجود خارجی واحد کالأب، أم أنَّ له وجودات خارجیّة عدیدة کالآباء، وهذا أجنبی عمَّا هو محلّ البحث هنا فِی المسألة الأصولیة؛ لأَنَّ البحث هنا إِنَّمَا هو عن معروض الأمر ومعروض النَّهْی، وقد قلنا مراراً: إن معروض الحکم (أمراً کان أم نَهْیاً) عبارة عن المفهوم والعنوان والصورة الذِّهْنِیَّة ولیس عبارة عن الوجود الخارجیّ مباشرةً، فالمفهوم والعنوان هو مُتَعَلَّق الأمر وَالنَّهْی، طِبْقاً لا بما هو مفهوم وعنوان وصورة ذهنیة، بل هو بما هو مرآة للوجود الخارجیّ وفانٍ فیه. وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ نسبة المفهوم والعنوان إلی المصادیق والمعنونات هی نسبة الأب إلی الأبناء بلا خلاف ولا إشکال؛ لأَنَّ مفهوم «الصَّلاة» مثلاً مفهوم واحد وعنوان فارد، ولیس له فِی عالم المفاهیم والعناوین إلاَّ وجود واحد لا وجودات عدیدة کالآباء.

ص: 42

وحینئِذٍ فَیَصِحُّ أن نقول: إن هذا المفهوم والعنوان یوجد بوجود فرد واحد من مصادیقه وأفراده، ولا ینعدم إلاَّ بانعدام الکل، فیکون الفرق العَقْلِیّ المذکور بین الأمر وَالنَّهْی تامّاً، حیث أن المطلوب فِی باب الأمر إیجاد المفهوم، وهو یتحقّق بوجود فرد واحد، فامتثال الأمر یکون بفرد واحد، وعصیان الأمر لا یکون إلاَّ بترک جمیع الأفراد؛ لأَنَّ ترکها إعدام للمفهوم الَّذی أُمِرَ بإیجاده والمطلوب فِی باب النَّهْی إعدام المفهوم، وهو یتحقّق بإعدام جمیع الأفراد، فامتثال النَّهْی یکون بترک کلّ الأفراد، وعصیانه یکون بإیجاد فرد واحد؛ لأَنَّ إیجاده إیجاد للمفهوم الَّذی نَهَیٰ عن إیجاده.

هذا تمام الکلام فِی الجهة الرَّابعة، وقد اتَّضَحَ أن النَّهْی شُمُولِیّ، بخلاف الأمر.

وأمّا الجهة الخامسة: ففی التَّنبیه علی أَمْرَیْنِ یَتَعَلَّقَانِ بالجهة الثَّالثة والرابعة:

التَّنبیه الأوّل: أَنَّنَا ذکرنا فِی الجهة الثَّالثة أن النَّهْی اِنْحِلاَلِیّ بنکتة غلبة نشوئه من المفسدة وغلبة کون المفسدة اِنْحِلاَلِیَّة، وذکرنا فِی الجهة الرَّابعة أن النَّهْی شُمُولِیّ بنکتة کونه نَهْیاً عن الطَّبِیعِیّ وهو لا ینعدم إلاَّ بانعدام جمیع أفراده، والآن نقول: إن هَاتَیْنِ المیزتین الثَّابِتَتَیْنِ للنهی (الاِنْحِلاَلِیَّة وَالشُّمُولِیَّة) محفوظتان له سواء قلنا فِی الجهة الثَّانیة من البحث أن مفاد صیغة النَّهْی عبارة عن الزَّجْر عن الفعل کما هو الصَّحِیح الَّذی اخترناه، أم قلنا: إن مفادها هو طلب التَّرْک؛ وذلک أما بالنسبة إلی المیزة الأولی فَلأَنَّ کلاًّ من «الزَّجْر عن الفعل» و«طلب ترک الفعل» یحصل غالباً من المفسدة الاِنْحِلاَلِیَّة الموجودة فِی کل مصداق من مصادیق الفعل، فیکون النَّهْی اِنْحِلاَلِیّاً حتّی ولو کان النَّهْی عبارة عن طلب ترک الفعل؛ ولذا فإنّ العرف یفهم الاِنْحِلاَل أیضاً حتّی إذا صرَّح بطلب التَّرْک، کما إذا قال: «أطلب منک ترک شرب الخمر»، أو أَمَر بالتَّرک، کما إذا قال: «آمرک بترک شرب الخمر»، أو قال: «اُترک شرب الخمر»، مَعَ أَنَّ الطّلب أو الأمر لیس اِنْحِلاَلِیّاً؛ فإِنَّهُ مع ذلک یفهم العرف من ذلک کُلّه الاِنْحِلاَل، ولیس ذلک إلاَّ من جهة غلبة کون طلب التَّرْک أیضاً کالزجر عن الفعل ناشئاً عن وجود مفسدة اِنْحِلاَلِیَّة ثابتة فِی کُلّ مصداق من مصادیق الفعل.

ص: 43

هذا بِالنِّسْبَةِ إلی المیزة الأولی الَّتی ذکرناها للنهی فِی الجهة الثَّالثة، وکذلک الأمر بِالنِّسْبَةِ إلی المیزة الثَّانیة الَّتی ذکرناها له فِی الجهة الرَّابعة، وهی الشُّمُولِیَّة بنکتة أن الطَّبِیعِیّ الْمَنْهِیّ عَنْهُ لا ینعدم إلاَّ بانعدام جمیع أفراده، فإِنَّهُ أیضاً لا فرق فیها بین أن نقول: إن مفاد النَّهْی هو الزَّجْر عن الطَّبِیعِیّ، أو أن نقول: إنّ مفاده هو طلب ترک الطَّبِیعِیّ؛ فإنَّ الزَّجْر عن الطَّبِیعِیّ والانزجار عنه لا یکون إلاَّ بِالزَّجْر والانزجار عن جمیع أفراده، کما أن ترک الطَّبِیعِیّ أیضاً لا یکون إلاَّ بترک جمیع أفراده.

التَّنبیه الثَّانِی: أَنَّنَا ذکرنا فِی الجهة الرَّابعة وجود فارق عقلی بین الأمر وَالنَّهْی فِی مقام الامتثال والعصیان، وهو أن فِی الأمر یُراد إیجادُ الطَّبِیعَة، وبما أنَّها توجد بوجود فرد واحد، لذا یُکتفی فِی امتثاله بإیجاد فرد واحد، وأمّا فِی النَّهْی فالمُراد إعدامها والانزجار والانتهاء عنها، وهذا لا یکون إلاَّ بانعدام جمیع أفرادها، لذا لا یُکتفی فِی امتثاله بترک فرد واحد، بل النَّهْی یشمل جمیع الأفراد، والآن نقول: إن هذه المیزة الثَّابِتَة للنهی (وهی أنّ امتثاله إِنَّمَا یکون بالاجتناب عن کلّ الأفراد) إِنَّمَا تَتُِمّ وتصح فِی ما إذا کان مُتَعَلَّق النَّهْی عبارة عن الکلّی الطَّبِیعِیّ والجامع الحقیقی کالکذب وشرب الخمر ونحوهما مِمَّا کُنَّا نمثّل به حتّی الآن، أمّا إذا کان متعلّقه عبارة عن الجامع الانتزاعی مثل عنوان «أحدهما» أو «أحدها»، فَلاَ یَصِحُّ أَنْ یُقَالَ: إن هذا النَّهْی أیضاً (کسائر النَّواهی الْمُتَعَلَّقَةِ بِالْکُلِّیَّاتِ وَالطَّبَائِع والجوامع الحقیقیَّة)، إِنَّمَا یُمتثل بترک کِلا فردیْ هذا الجامع الانتزاعی أو بترک کل أفراده، نظراً إلی أن الجامع ینطبق علی کل من الفردین أو الأفراد؛ فَإِنَّ هذا الکلام غیر صحیح. بل یکفی فِی امتثال النَّهْی الْمُتَعَلَّق بالجامع الانتزاعی ترک أحد الفردین أو الأفراد والاجتناب عنه.

ص: 44

والنُّکتة فِی ذلک هی أن العنوان والجامع الاِنْتِزَاعِیّ لیس إلاَّ عُنْوَاناً ذِهْنِیّاً مشیراً إلی فرد مُعَیَّنٍ تارةً کما فِی قوله: «جاءنی أحدهما أو أحدهم» بدلاً من أن یقول مثلاً: «جاءنی زید»، وإلی فردٍ مُرَدَّدٍ تارةً أخری (ونقصد بِالْمُرَدَّدِ ما هو مُرَدَّد فِی الإشارة إلیه، لا ما هو مُرَدَّد فِی وجوده الخارجیّ؛ فَإِنَّ ذاک مستحیل)، وذلک کما فِی قوله: «جئنی بأحدهم أو بأحدهما»، فلیس الجامع الاِنْتِزَاعِیّ جامعاً فِی الحقیقة بحیث ینطبق علی کلا الفردین أو علی کل الأفراد، سواء المشار إلیه وغیره کما فِی سائر الجوامع، بل هو عنوان مشیر إلی فردٍ واحدٍ من الفردین أو الأفراد. وحینئِذٍ إذا تعلّق النَّهْی به کفی فِی امتثاله ترک فرد واحد والاجتناب عنه؛ لأَنَّ هذا الجامع لم یکن أکثر من عنوانٍ مشیرٍ إلی فرد واحد کما قلنا.

وبعبارة أخری: مثل عنوان «أحدهما» أو «أحدها» أو نحو ذلک یختلف عن أی عنوان جامع آخر فِی نقطة وهی أَنَّهُ یمکن أن یصدق فِی حقه «الوجود» و«العدم» فِی آنٍ واحد، فنقول مثلاً: «أحدهما موجود» و«أحدهما معدوم»، وهذا بخلاف سائر الْجَوَامِع وَالطَّبَائِع الکلّیّة؛ فإِنَّهُ لا یُضاف إلیها العدم إلاَّ بانعدام تمام مصادیقها وأفرادها، وهذا یعنی أن مثل عنوان «أحدهما» ونحوه لیس جامعاً حقیقیّاً وکلّیّاً طبیعیا، بل هو شبه کلی ومجرّد رمزٍ ذهنی یُراد به التَّعْبِیر عن شیء فِی الخارج، فبدلا عن أن یقول مثلاً: «جاء زید» یقول: «جاء أحدهما أو أحدهم»، فإن هذا لیس جامعاً ینطبق علی زید وعمرو کما فِی سائر الجوامع مثل «الإنسان»، بل هو رمز فقط.

وتأتی تتمة البحث - إن شاء الله - غداً.

دلالة النَّهْی/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

ص: 45

العنوان: دلالة النَّهْی/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

قلنا سابقاً: إن النَّهْی إذا تعلّق بالشیء فلا یکفی فِی مقام امتثال هذا النَّهْی ترکُ أحد أفراد ذاک الشَّیْء وأحد مصادیقه، بل لا بُدَّ من ترک جمیع الأفراد والمصادیق؛ لأَنَّ الکلّی الطَّبِیعِیّ لا ینعدم إلاَّ بانعدام جمیع أفراده.

وقلنا بالأَمْسِ فِی التَّنبیه الثَّانِی: إن هذا یصحّ فیما إذا کان مُتَعَلَّق النَّهْی جامعاً حقیقیّاً، أی: لا یُمتثل النَّهْی الْمُتَعَلَّق بهذا الجامع إلاَّ بترک کل أفراد هذا الجامع ومصادیقه. أما إذا کان الجامع الَّذی تعلّق به النَّهْی جامعاً انتزاعیّاً من قبیل عنوان: «أحدهما» أو «أحدها»، فلو تعلّق النَّهْی بعنوان وقال: «أنهاک عن أحدهما» أو «نَهَیٰ النَّبِیّ صَلَّیٰ الله علیه وآله وسلم عن أحدهما»، فهنا لا یَتُِمّ ما قلناه، أی: یکفی فِی امتثال هذا النَّهْی أن یترک أحد الفردین، ولیس امتثاله بحیث لا یتحقّق إلاَّ بترک کلا الفردین؛ وذلک لأَنَّ الجامع الاِنْتِزَاعِیّ لَیْسَ جامعاً فِی الحقیقة، بحیث ینطبق علی کل الأفراد، وإنَّما کما قلنا بالأَمْسِ هو عنوان مشیر یشیر إلی فرد واحد، ولیس جامعاً حقیقیّاً. أی: یختلف عن الجوامع وَالطَّبَائِع الأخری فِی نقطة وهی أَنَّهُ یمکن أن یُحمل علیه الوجود والعدم فِی آن واحد (أحدهما موجود فِی هذه الغرفة الآنَ، وفی الوقت نفسه نقول: أحدهما معدوم فِی هذه الغرفة الآنَ)، فنحمل الوجود والعدم فِی آن واحد علی هذا الجامع. فمثل هذا لا یصحّ فِی الجوامع الحقیقیَّة (فلا یصحّ أن نقول: الإنسان موجود فِی هذه الغرفة الآنَ، والإنسان معدوم فِی هذه الغرفة الآنَ).

والشَّاهد والبرهان علی أن الجامع الاِنْتِزَاعِیّ لیس جامعاً فِی الحقیقة هو أن الجامع الحقیقی یستحیل انطباقه علی خُصُوصِیّات الأفراد (أو بتعبیر آخر: علی الأفراد بخصوصیاتها)؛ لأَنَّهُ إِنَّمَا یتحصّل بعد عزل الخُصُوصِیّات وفرزها عن الأفراد وتجرید الأفراد عن خصوصیاتها، فیکف ینطبق علیها؟ بینما العنوان والجامع الاِنْتِزَاعِیّ قد ینطبق علی الخُصُوصِیّات بما هی خُصُوصِیّات، وذلک فیما إذا انتُزع من الخُصُوصِیّات نفسها، کما فِی عنوان «إحدی الخُصُوصِیّات». هذا تمام الکلام فِی الجهة الخامسة.

ص: 46

وأمّا الجهة السَّادسة: ففی البحث عن دلالة النَّهْی فِی مورد الأمر أو توهّمه، وهو عکس البحث السَّابِع المتقدّم (أی: بحث دلالة الأمر فِی مورد الحظر أو تَوَهُّمه) فَکَمَا أَنَّ الأمر قد یرد فِی مَوْرِد النَّهْیِ أو تَوَهُّمه، کذلک النَّهْی قد یرد فِی مورد الأمر أو تَوَهُّمه.

کَالنَّهْیِ عن العبادة مثلاً، من قبیل النَّهْی عن صوم یوم عاشوراء؛ فَإِنَّ العبادة من حیث أنَّها عبادة شیء یترقّب ورود الأمر به أو یتوهّم فیه ذلک، فالعبادة فِی معرض الأمر بها.

وأیضاً کَالنَّهْیِ عن خُصُوصِیَّة من خُصُوصِیّات العبادة الَّتی یُتَوَهَّم فیها أنَّها جزء للعبادة أو شرط لها أو وصف لها، کَالنَّهْیِ عن قراءة فاتحة الکتاب فِی الصَّلاة علی المیِّت؛ فَإِنَّ المرکوز فِی الأذهان هو أَنَّهُ لا صلاة إلاَّ بفاتحة الکتاب، فیترقّب حینئذٍ کون الفاتحة جزءاً من الصَّلاة علی المیِّت.

وَکَالنَّهْیِ عن الوضوء لصلاة المیِّت؛ فَإِنَّ المرکوز فِی الأذهان أن الوضوء وَالتَّطَهُّر شرط للصَّلاَة، فَیُتَرَقَّبُ حینئذٍ الأمرُ به لها.

وَکَالنَّهْیِ عن الإخفات فِی القراءة فِی الصَّلاة یوم الجمعة، حیث یُتَرَقَّبُ ورود الأمر به کما فِی سائر الأیام. وهکذا فِی أمثال هذه الأمثلة.

والقاعدة الکلّیّة هنا کالقاعدة المتقدّمة فِی بحث دلالة الأمر فِی مورد الحظر أو تَوَهُّمه، فکما قلنا هناک: إن المدلول التَّصوّری للأمر محفوظ، إلاَّ أن المدلول التَّصدیقیّ المناسب له غیر منحصر فِی الطّلب، فَیَکُونُ مُجْمَلاً من حیث المدلول التَّصدیقیّ ولا یستفاد منه أکثر من عدم الحظر والحرمة، فکذلک نقول هنا: إن المدلول التَّصوُّریّ لِلنَّهْیِ محفوظ، حیث یخطر فِی ذهن السَّامِع بمجرّد سَمَاعِ النَّهْیِ الزَّجْر التَّکوینیّ والإبعاد الحقیقی والجرّ عن الفعل.

إلاَّ أن المدلول التَّصدیقیّ المناسب له غیر منحصر فِی الزَّجْر وَالرَّدْع التّشریعیّ عن الفعل، بل کما یحتمل هذا، یحتمل أیضاً أن یکون المولی قد أراد کسر وسوسة المُکَلَّف وتردّده فِی الإقدام علی الفعل وذلک عن طریق إبعاده وجرّه عنه من دون أن یکون قد أراد ترک الفعل واقعاً؛ فَإِنَّ المُکَلَّف فِی مورد توهّم الأمر یَتَرَدَّدُ فِی إیجاد الفعل، فلأجل القضاء علی حالة التردد النَّفْسِیَّة الموجودة لدیه یسلک المولی أحسن طریق لذلک وهو جَرُّهُ عن الفعل.

ص: 47

إذن، فورود النَّهْی فِی مورد الأمر یوجب إجمال النَّهْی فِی مدلوله التَّصدیقیّ رغم انحفاظ مدلوله التَّصوُّریّ، فلا یستفاد منه أکثر من عدم الوجوب (فِی مثل المثال الأوّل) أو عدم الجزئیة (فِی مثل المثال الثَّانِی) أو عدم الشَّرْطِیَّة (فِی مثل المثال الثَّالث) أو عدم الوصفیة (فِی مثل المثال الرَّابع)، وأمّا الحرمة فلا ظهور له فیها.

هذا تمام الکلام فِی الجهة السَّادسة.

وأمّا الجهة السَّابعة: ففی البحث عن دلالة الجملة الخبریّة النافیة المستعملة فِی مقام النَّهْی، وهو نظیر البحث الرَّابع المتقدّم، أی: بحث دلالة الجملة الخبریّة المستعملة فِی مقام الطّلب، فَکَمَا أَنَّ الْجُمْلَةَ الْخَبَرِیَّةَ قد تستعمل فِی مقام طلب الفعل، کذلک قد تستعمل فِی مقام الزَّجْر عن الفعل، کقوله تعالی: ﴿فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فِی الحج﴾((1) ) وکقوله: «لا یرتمسُ الصائم فِی الماء» و«لا یَقْتُلُ المحرمُ الصیدَ» ونحوها.

ولا إشکال فِی صحَّة الاستعمال المذکور، کما لا إشکال فِی دلالة هذه الجملة علی الزَّجْر والحرمة عند ظهور حال الْمُتِکَلِّم فِی کونه فِی مقام إعمال المولویَّة لا فِی مقام الإخبار الصرف، وأمّا تفسیر هذه الدِّلالة (أعنی دلالتها علی الزَّجْر ودلالتها علی الحرمة) فالکلام فیه هو الکلام المتقدّم فِی بحث دلالة الْجُمْلَة الْخَبَرِیَّة المستعملة فِی مقام الطّلب حول تفسیر دلالتها علی الطّلب وتفسیر دلالتها علی الوجوب.

فمثلاً بناءًا علی المسلک المشهور المتقدّم هناک یقال هنا فِی تفسیر دلالة الجملة علی الزَّجْر عن الفعل: إِنَّها مستعملة فِی نفس المعنی الَّذی وضعت له الْجُمْلَة الْخَبَرِیَّة النافیة، وهو نفی صدور الفعل. فقوله مثلاً: «لا یرتمسُ الصائم فِی الماء» مستعمل فِی عدم صدور الارتماس من الصائم، فَیَکُونُ مقتضی الطبع أن یُفهم منه الإخبار عن عدم الارتماس، لا الزَّجْر عنه، لکن بسبب إعمال عنایة من العنایات أصبح دالاًّ علی الزَّجْر عن الارتماس، والعنایة عبارة عن أحد الوجوه الأربعة الَّتی ذکرناها فِی بحث دلالة الْجُمْلَة الْخَبَرِیَّة المستعملة فِی مقام الطّلب، ولا نعیدها هنا خوفا من الإطالة، وإنَّما نقتصر علی الوجه الأوّل منها من باب المثال ومن أجل التذکیر، فیقال هنا:

ص: 48


1- (1) - سورة البقرة (2): الآیة 197.

إن الْجُمْلَة الْخَبَرِیَّة النافیة بحسب طبعها الأولیّ ذات مدلول تصوری وهو عدم صدور الفعل، وذات مدلول تصدیقی وهو الإخبار عَنْ عَدَمِ الصُّدُورِ، وبالإمکان التَّحَفُّظُ علی کِلا المدلولین فِی موارد استعمال هذه الجملة فِی مقام الزَّجْر عن الفعل، فیحمل قوله: «لا یرتمس الصائم فِی الماء» علی أَنَّهُ یحکی حقیقة ویُخبر عن أن الصائم سوف لا یرتمس فِی الماء، لکن هذا الإخبار لیس إخباراً عن عدم صدور الارتماس فِی الماء من کل صائم، بل من خصوص الصائم الملتزم الَّذی یطبّق أعماله وَتُرُوکه علی موازین الشّریعة، وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ کون الصَّائِم الَّذی یطبّق أعماله وَتُرُوکه علی موازین الشّریعة تَارِکاً لِلاِرْتِمَاسِ فِی الماء ملازم لا محالة لکون الشّریعة قد زجرته عن الارتماس فِی الماء. فَیَدُلُّ هذا الإخبار حینئذٍ علی الزَّجْر عن الارتماس بالملازمة.

هذا عن تفسیر دلالة هذه الجملة علی الزَّجْر عن الفعل فِی ضوء المسلک المشهور المتقدّم هناک.

وللبحث صلة تأتی إن شاء الله تعالی.

دلالة النَّهْی/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: دلالة النَّهْی/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

وأمّا الجهة الثَّامنة: ففی البحث عن دلالة النَّهْی علی الْمَوْلَوِیَّةِ أو الإِرْشَادِیَّة، وهو نظیر البحث الحادی عشر المتقدّم، أی: بحث دلالة الأمر علی الْمَوْلَوِیَّةِ أو الإِرْشَادِیَّة، فَکَمَا أَنَّ الأمر قد یکون مولویّاً وقد یکون إرشادیّاً (کما تقدّم فِی ذاک البحث) کذلک النَّهْی قد یکون مولویّاً وقد یکون إرشادیّاً:

فَالنَّهْیُ الْمَوْلَوِیُّ هو الَّذی یزجر فیه المولی المُکَلَّفَ عن فعلٍ مُعَیَّنٍ:

فإن حرّمه علیه تحریما نفسیّاً کتحریم الکذب وشرب الخمر والغیبة وَالزِّنَا وَالرِّبَا ونحوها، حکم العقلُ حینئذٍ بلزوم طاعته وامتثاله وبقبح عصیانه وباستحقاق العقوبة علی مخالفته وعصیانه.

ص: 49

وَإِنْ حَرَّمَهُ عَلَیْهِ تَحْرِیماً غَیْرِیّاً (کتحریم مقدّمة الحرام بناءًا علی أنَّها محرّمة، وکتحریم ضدّ الواجب بناءًا علی أن الأمر بالشیء یقتضی النَّهْی عن ضِدّه کتحریم الصَّلاة الَّذی یقتضیه الأمر بتطهیر المسجد) لم یکن له امتثال ولا عصیان ولا عقاب مستقلّ عقلاً.

وإن لم یحرّمه علیه، بل زجره عنه زَجْراً غیر إلزامی کما فِی المکروهات، حکم العقل حینئذٍ بحُسن امتثاله وباستحقاق الثَّواب علیه.

ولا فرق فِی ذلک بین ما کان بصیغة النَّهْی أو بمادّته أو بالْجُمْلَة الْخَبَرِیَّة النافیة الَّتی تستعمل فِی مقام النَّهْی أو بأیّ لفظ آخر دالّ علی الزَّجْر وَالتَّحْرِیم.

وأمّا النَّهْی الإرشادی فهو الَّذی لا یزجر فیه المولی المُکَلَّفَ عن الفعل ولا یردعه عنه، وإنَّما یرشده إلی شیء مُعَیَّن ویخبره به، فلذا لا یحکم العقل حینئذٍ بشیء تجاه هذا النَّهْی؛ إذ لا زجر حقیقی فِی البین مِن قِبَلِ المولی، فلا امتثال ولا عصیان ولا ثواب ولا عقاب.

والإرشاد (فِی النَّوَاهِی الإِرْشَادِیَّة) قد یکون إرشاداً إلی أمر عقلی وإخباراً به، کما فِی النَّهْی عن معصیة الله تبارک وتعالی؛ فإِنَّهُ إرشاد إلی ما یحکم به العقل ویدرکه من قبح عصیان المولی الحقیقی، وَقَدْ یَکُونُ إِرْشَاداً إلی أمر عُقَلاَئِیّ وَإِخْبَاراً به، کما فِی النَّهْی عن تصدیق غیر الثقة فِی إخباراته؛ فإِنَّهُ إرشاد إلی ما جرت علیه سیرة العقلاء من عدم تصدیق غیر الثقة.

وَقَدْ یَکُونُ إِرْشَاداً إلی أمرٍ شرعی، وهو:

تارةً یکون عبارة عن ثبوت حکم شرعی کَالْمَانِعِیَّةِ الَّتی هی حکم شرعی وضعی، کما فِی النَّهْی عن الصَّلاة فیما لا یؤکل لحمه کجلد النِّمْر وجلد الأسد، وکما فِی النَّهْی عن القِران والجمع بین سورتین فِی الصَّلاة.

ص: 50

وأخری یکون عبارة عن نفی حکم شرعی، کنفی الحجیة الَّتی هی حکم شَرْعِیّ وَضْعِیّ کما فِی النَّهْی عن العمل بخبر الواحد؛ فإِنَّهُ إرشاد إلی عَدَمِ حُجِّیَّتِهِ، وکنفی الوجوب أو الاستحباب کما فِی النَّهْی عن صوم یوم عَاشُورَاء (بناءًا علی کونه تَحْرِیمِیّاً أو کَرَاهَتِیّاً) فإِنَّهُ إرشاد إلی عدم وجوبه أو عدم استحبابه، وکنفی الجزئیة أو الشَّرْطِیَّة أو الوصفیة، کما فِی النَّهْی عن قراءة فاتحة الکتاب فِی صلاة المیِّت؛ فإِنَّهُ إرشاد إلی عدم شَرْطِیَّتِهِ لها، وکما فِی النَّهْی عن الإخفات فِی صلاة الجمعة مثلاً؛ فإِنَّهُ إرشاد إلی عدم کونه وصفاً للقراءة فیها.

وَقَدْ یَکُونُ الإرشاد فِی النَّوَاهِی الإِرْشَادِیَّة إِرْشَاداً إلی أمرٍ تَکْوِینِیّ، کما فِی نهی الطَّبِیب المریضَ عن تناول بعض الأَطْعِمَة أو الأَشْرِبَة؛ فإِنَّهُ إرشاد إلی الضَّرَر الموجود فِی الطَّعَام أو الشَّرَاب.

وَقَدْ یَکُونُ الکثیر من النَّوَاهِی الواردة فِی الروایات عن أکل بعض الفواکه وغیرها مطلقاً أو فِی بعض الأوقات أو لبعض الأشخاص من هذا القبیل، أی: هی مثل نواهی الطَّبِیب وصادرة من المعصوم عَلَیْهِ السَّلاَمُ بوصفه عَالِماً بالطب أیضاً إذا لم تُحمل علی النَّهْی الْمَوْلَوِیّ الْکَرَاهَتِیّ.

وَکَیْفَ کَانَ، فَالنَّهْیُ إذن ینقسم إلی قِسْمَیْنِ: مولویّ وإرشادیّ.

وفی کل الحالات (سواء الَّتی یکون النَّهْی فیها مولویّاً وَالَّتِی یکون النَّهْی فیها إرشادیّاً) یحتفظ النَّهْی بمدلوله التَّصوُّریّ الوضعیّ وهو الزَّجْر التَّکوینیّ عن الفعل، ویحتفظ أیضاً بمدلوله التَّصدیقیّ الاستعمالی وهو قصد إخطار هذا المعنی الوضعیّ التَّصوُّریّ، أی: الزَّجْر التَّکوینیّ عن الفعل فِی ذهن السَّامِع؛ ولذا لا یکون النَّهْی الإرشادی مجازاً، وإنَّما یختلف مدلوله ومعناه التَّصدیقیّ الْجِدِّیّ من موردٍ إلی آخر؛ ففی النَّوَاهِی الْمَوْلَوِیَّةِ یکون المدلول التَّصدیقیّ الْجِدِّیّ (الَّذی یکشف عنه الظُّهُور الْحَالِیّ لِلْمُتِکَلِّمِ کَشْفاً تَصْدِیقِیّاً ویدلّ علیه) هو الزَّجْر التّشریعیّ عن الفعل، حیث یَدُلّ ظهور حاله علی أن المراد النَّفْسِیّ والداعی الحقیقی لِلْمُتِکَلِّمِ وهدفه من إخطار صورة الزَّجْر التَّکوینیّ فِی ذهن السَّامِع عبارة عن ردعه تشریعاً عن الفعل، أمّا فِی النَّوَاهِی الإِرْشَادِیَّة فالمدلول التَّصدیقی الْجِدِّیّ (الَّذی یکشف عنه الظُّهُور الْحَالِیّ لِلْمُتِکَلِّمِ کَشْفاً تَصْدِیقِیّاً ویدلّ علیه) لیس عبارة عن الزَّجْر بل هو عبارة عن الإرشاد إلی أمرٍ عقلی أو عُقَلاَئِیّ أو شَرْعِیّ أو تَکْوِینِیّ والإخبار به کما لاحظنا فِی الأمثلة المتقدّمة.

ص: 51

دلالة النَّهْی/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: دلالة النَّهْی/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

کُنَّا نتکلّم عن النَّهْی وانقسامه إلی نهی مولویّ ونهی إرشادی، وذکرنا معنی النَّهْی الْمَوْلَوِیّ ومعنی النَّهْی الإرشادی، وذکرنا أیضاً ما یترتَّب علی کل واحد منهما من حیث العقل، وکذلک ذکرنا أقسام النَّهْی الإرشادی.

بقی أن نبحث عن أَنَّهُ ما هو مقتضی النَّهْی الصَّادر من الشَّارع؟ هل الأصل فِی النَّهْی الشَّرْعِیّ أن یکون مولویّاً، إلاَّ إذا وجدت قرینة علی الإرشاد، بحیث یکون النَّهْی الإرشادی هو المحتاج إلی قرینة، وإلا فإن النَّهْی مِنْ دُونِ قرینة یَدُلّ علی النَّهْی الْمَوْلَوِیّ؟!

إذن، أوَّلاً ندرس مقتضی الأصل اللَّفظیّ.

وثانیاً: ندرس مقتضی الأصل الْعَمَلِیّ عند الشَّکّ فِی کون النَّهْی مولویّاً أو إرشادیّاً.

أما الأوّل فلا إشکال فِی أن مقتضی الأصل اللَّفظیّ فِی النَّهْی الصَّادر من المولی کونه مولویّاً لا إرشادیّاً، فهو ظاهر فِی الزَّجْر الْمَوْلَوِیّ التَّحْرِیمِیّ عن الفعل؛ فَإِنَّ هذا هو مقتضی أصالة التَّطَابُق بین المدلول التَّصوُّریّ والمدلول التَّصدیقیّ.

إذن، فحمل النَّهْی علی الإرشاد بحاجة إلی قرینة؛ لأَنَّ النَّهْی الإرشادی (کما عرفنا) یختلف مدلوله التَّصدیقیّ عن مدلوله التَّصوُّریّ ولا یتطابقان، وهذا الاختلاف وعدم التَّطَابُق خلاف الأصل وَالظَّاهِر، فلا بُدَّ له من قرینةٍ تَدُلّ علیه.

والقرینة قد تکون عَقْلِیَّة أو وجدانیة، کما فِی النَّهْی عن معصیة الله تبارک وتعالی؛ فَإِنَّ القرینة علی إرشادیة النَّهْی المذکور عبارة عن لزوم التسلسل فیما إذا حمل علی النَّهْی الْمَوْلَوِیّ، وهو إما مستحیل عقلاً لو قلنا باستحالة التسلسل فِی مثل ذلک من الأمور الاعتباریة، وإما هو خلاف الوجدان الحاکم بعدم وجود نواهٍ متسلسلة ومتکرّرة من هذا القبیل فِی مثل هذا المورد.

ص: 52

وَقَدْ تَکُونُ القرینة ارتکازیة عُقَلاَئِیَّة، کما فِی النَّهْی الصَّادر من المولی فِی موردٍ توجد فیه سیرة عُقَلاَئِیَّة مُعَیَّنة علی طبقه أو ارتکاز عُقَلاَئِیّ مُعَیَّن علی طبقه، مثل النَّهْی عن تصدیق الإنسان غیر الثقة.

وَقَدْ تَکُونُ القرینة عبارة عن ضرورةٍ فِقْهِیَّة مُعَیَّنَة موجودة فِی المورد تسالم فِقْهِیّ مُعَیَّن موجود فِی ذلک المورد، أو نکات أخری قد تَتَوَفَّرٌ فِی الدَّلِیل الَّذی یرد فیه النَّهْی فتکون قرینة علی کونه إرشادیّاً، من قبیل النُّکتة الموجودة فِی دلیل النَّهْی عن الصَّلاة فِی ما لا یؤکل لحمه، أو الصَّلاة فِی النجس أو فِی الحریر أو فِی الذَّهَب مثلاً؛ فَإِنَّ النُّکتة الَّتی توجب حمل النَّهْی المذکور عرفاً علی الإرشاد إلی مَانِعِیَّة هذه الأمور عن الصَّلاة عبارة عن تعلّق النَّهْی بإیقاع الصَّلاة فِی هذه الأمور لا بِنَفْسِ الصَّلاَةِ، فَلَمْ یَتَعَلَّقْ النَّهْیُ بذات الصَّلاة کی یکشف عن وجود مفسدة فیها ویکون نَهْیاً مولویّاً، وإنَّما تعلّق بإیقاعها فیها، وهذه النُّکتة قرینة عُرْفِیَّة مثلاً علی أن النَّهْی إرشاد إلی مَانِعِیَّة هذه الأمور وَتَقَیُّد الصَّلاة بعدمها ما دام النَّهْی وبالتَّالی ملاک النَّهْی قائما بإیقاع الصَّلاة فیها لا بذات الصَّلاة.

وأمّا الثَّانِی: وهو مقتضی الأصل الْعَمَلِیّ عند الشَّکّ فِی کون النَّهْی مولویّاً أو إرشادیّاً فلا إشکال فِی أن الأصل الْعَمَلِیّ یقتضی کونه إرشادیّاً لجریان البراءة عن الحرمة النَّفْسِیَّة عند الشَّکّ فیها کما هو واضح. هذا تمام الکلام فِی الجهة الثَّامنة.

وأمّا الجهة التَّاسعة: ففی البحث عن دلالة النَّهْی علی النَّفْسِیَّة أو الغَیْرِیَّة، وهو نظیر البحث الثَّالث عشر المتقدّم (أی: بحث دلالة الأمر علی النَّفْسِیَّة أو الغَیْرِیَّة)، فَکَمَا أَنَّ الأمر قد یکون نفسیّاً وَقَدْ یَکُونُ غَیْرِیّاً (کما تقدّم فِی ذاک البحث)، فکذلک النَّهْی قد یکون نفسیّاً وَقَدْ یَکُونُ غَیْرِیّاً.

ص: 53

والمقصود بِالنَّهْیِ النَّفْسِیّ هو النَّهْی عن شیء لملاک فِی نفسه، کَالنَّهْیِ عن شرب الخمر والکذب والغیبة وَالرِّبَا وَالزِّنَا ونحوها، وَکَالنَّهْیِ عن الشرک بالله تعالی وعن السجود للصنم باعتباره شرکاً.

والمقصود بِالنَّهْیِ الغَیْرِیّ هو النَّهْی عن شیء لملاکٍ فِی غیره، کَالنَّهْیِ عن مقدّمة الحرام الَّتی هی علّة تامَّة له (بناءًا علی أن مقدّمة الحرام حرام)، وَکَالنَّهْیِ عن الضد الَّذی یقتضیه الأمر بالشیء (بناءًا علی اقتضاء الأمر بالشیء النَّهْی عن ضِدّه)، کَالنَّهْیِ عن الصَّلاة الَّذی یقتضیه الأمر بإزالة النَّجَاسَة عن المسجد.

وخصائص النَّهْی النَّفْسِیّ کخصائص الأمر النَّفْسِیّ، کما أن خصائص النَّهْی الغَیْرِیّ کخصائص الأمر الغَیْرِیّ، وقد تقدّمت خصائص الأمر النَّفْسِیّ والأمر الغَیْرِیّ فِی بحث دلالة الأمر علی النَّفْسِیَّة أو الغَیْرِیَّة.

فمثلاً الحرام النَّفْسِیّ له عصیان مستقلّ وعقاب مستقلّ، بینما الحرام الغَیْرِیّ لیس له عصیان وعقاب مستقلّ.

وبعبارة أخری: إن التَّنَجُّز وحکم العقل بقبح العصیان وباستحقاق العقاب علی العصیان خاصّ بالحرمة النَّفْسِیَّة، أمّا الحرمة الغَیْرِیَّة فلا تنجّز لها غیر تنجّز الحرمة النَّفْسِیَّة الَّتی نشأت هی منها، فَمَن فَعَل الحرام النَّفْسِیّ، بعد فعل مقدّمته مثلاً لم یرتکب عصیانین ولا یستحقّ عقابین عقلاً حتّی علی القول بحرمة مقدّمة الحرام.

وَکَیْفَ کَانَ، فلا إشکال فِی أن مقتضی الأصل اللَّفظیّ فِی النَّهْی هو کونه نَهْیاً نفسیّاً، فلا یحمل علی الغَیْرِیّ إلاَّ بقرینة. فإذا قال المولی مثلاً: «لا تشرب الخمر» حمل علی کون شرب الخمر حراماً نفسیّاً ولیس حراماً غَیْرِیّاً من باب أَنَّهُ مقدّمة وعلة تامَّة لحرام آخر؛ وذلک لأَنَّ الظَّاهِر من النَّهْی الْمُتَعَلِّقِ بفعلٍ هو کون ملاک النَّهْی کامناً فِی نفس الفعل، لا فِی شیء آخر. فظاهر الحرمة هو کونها ناشئة من ملاکٍ فِی نفس الحرام، لا فِی شیء آخر، وهذا یعنی أن الحرمة نفسیة؛ فَإِنَّ الحرمة النَّفْسِیَّة هی الحرمة النَّاشِئَة من ملاکٍ فِی نفس الحرام، بینما الحرمة الغَیْرِیَّة هی الْحُرْمَة النَّاشِئَة من ملاکٍ فِی غیر الحرام، فینطبق فِی المقام ما اخترناه (فِی البحث الثَّالث عشر المتقدّم، أعنی: البحث عن دلالة الأمر علی النَّفْسِیَّة والغَیْرِیَّة) من تقریب لإِثْبَاتِ أَنَّ مُقْتَضَی الأَصْلِ اللَّفْظِیِّ کونه نفسیّاً.

ص: 54

وحاصله أَنَّهُ کُلَّمَا دار الأمر ثبوتاً بین خُصُوصِیَّتَیْنِ وکانت کل واحدة منهما تناسب خصوصیةً فِی مقام الإثبات، فأصالة التَّطَابُق بین مقامی الثُّبوت والإثبات تعیّن الْخُصُوصِیَّة الثُّبوتیّة المتناسبة مع الْخُصُوصِیَّة الموجودة فِی عالم الإثبات.

وفی المقام حیث یدور الأمر ثبوتاً بین خُصُوصِیَّة النَّفْسِیَّة وخصوصیة الغَیْرِیَّة، والأولی تناسب الاستقلال فِی الذکر إثباتاً، بینما الثَّانیة تناسب التَّبَعِیَّة فِی الذکر إثباتاً، فیقال نظراً إلی أن المولی قد نَهَیٰ عن الشَّیْء إثباتاً وکان هذا النَّهْی الإثباتیّ مستقلاًّ ولم یکن بِتَبَعِ النَّهْی عن شیء آخر، فمقتضی أصالة التَّطَابُق بین الثُّبوت والإثبات هو أن المراد ثبوتاً أیضاً هو النَّهْی النَّفْسِیّ دون الغَیْرِیّ التَّبَعِیّ، وإلا لکان المناسب أن یُذکر النَّهْی إثباتاً بشکل تبعی. هذا فیما یقتضیه الأصل اللَّفظیّ.

مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

بقیت نقطة تَتَعَلَّقُ بالبحث الأخیر وهو البحث عن دلالة النَّهْی علی النَّفْسِیَّة والغَیْرِیَّة، وهذه النُّقْطَة عبارة عن الکلام فیما یقتضیه الأصل فِی نهی المولی، بأن الأصل فِی صالح النَّفْسِیَّة أو فِی صالح الغَیْرِیَّة؟ ومن الطَّبِیعِیّ أن الکلام یدور تارةً حول الأصل اللَّفظیّ وأخری حول الأصل الْعَمَلِیّ.

أما فیما یَتَعَلَّقُ بالأصل اللَّفظیّ فلا إِشْکَال فِی أن مُقْتَضَی الأَصْلِ اللَّفْظِیِّ فِی النَّهْی الصَّادر من المولی هو أَنَّهُ نهی نَفْسِیّ؛ وذلک لأَنَّ ظاهر النَّهْی عبارة عن کونه ناشئاً من ملاک فِی هذا الحرام نفسه، لا أَنَّ الْحُرْمَة ناشئة من مفسدة موجودة فِی حرام آخر، وهذا مقدّمة لذاک؛ وذلک بالبیان نفسه الَّذی اخترناه سابقاً فِی بحث الوجوب النَّفْسِیّ والوجوب الغَیْرِیّ، حیث اخترنا تقریبین أحدهما ینطبق علی ما نحن فیه، وکان حاصل هذا التَّقریب هو أَنَّهُ کُلَّمَا دار أمر مراد المولی ثبوتاً بین خُصُوصِیَّتَیْنِ وافترضنا أن کُلاًّ من هَاتَیْنِ الْخُصُوصِیَّتَیْنِ تناسب خُصُوصِیَّةً مُعَیَّنَةً فِی عالم الإثبات والکلام، فأصالة التَّطَابُق بین مقامی الثُّبوت والإثبات تعیّن الْخُصُوصِیَّة الثُّبوتیّة المتناسبة مع الْخُصُوصِیَّة الموجودة فِی عالم الإثبات.

ص: 55

وأثبتنا هناک أن مقتضی أصالة التَّطَابُق بین عالم الإثبات وعالم الثُّبوت هو أن مراد المولی هو الوجوب النَّفْسِیّ؛ فَإِنَّ الکلام التَّبَعِیّ یناسب الوجوب التَّبَعِیّ، والکلام الاِسْتِقْلاَلِیّ یناسب الوجوب الاِسْتِقْلاَلِیّ (والوجوب النَّفْسِیّ هو الوجوب الاِسْتِقْلاَلِیّ).

وأمّا مُقْتَضَی الأَصْلِ الْعَمَلِیِّ عند الشَّکّ فِی کون الْحُرْمَة نفسیة أو غَیْرِیَّة فهو یختلف باختلاف صور المسألة، وهی نفس الصور المتقدّمة فِی بحث الشَّکّ فِی کون الوجوب نفسیّاً أو غَیْرِیّاً، فالکلام هنا هو الکلام هناک بلا فرق سوی أن الشَّکّ هناک إِنَّمَا هو فِی أن الوجوب نَفْسِیّ أو غَیْرِیّ؟ أما هنا فهو فِی أن الْحُرْمَة نفسیة أو غَیْرِیَّة.

هذا تمام الکلام فِی الجهة التَّاسعة، وبه تَمَّت جهات بحث دلالة النَّهْی، وبهذا تَمَّ الکلام عن البحث السَّابِعَ عَشَرَ من بحوث دلالات الدَّلِیل الشَّرْعِیّ اللَّفظیّ وهو بحث دلالة النَّهْی، وبعد هذا ننتقل إلی البحث الثامن عشر منها وهو بحث دلالة الشَّرْط علی المفهوم (مفهوم الشَّرْط).

البحثُ الثَّامِنَ عَشَرَ

بحث دلالة الشَّرْط علی المفهومِ

(مفهوم الشَّرْط)

هذا البحث مع البحوث السِّتَّة الَّتی تلیه، وهی «بحث دلالة الوصف» و«بحث دلالة اللّقب» و«بحث دلالة العدد» و«بحث دلالة الغایة» و«بحث دلالة الاستثناء» و«بحث دلالة الحصر» سلسلة البحوث المعروفة فِی علم الأصول ب_«المفاهیم»، حیث یبحث فیها عن مفهوم الشَّرْط والوصف وَاللَّقَب والعدد والغایة والاستثناء والحصر، والبحث فِی الحقیقة إِنَّمَا هو عن أن الشَّرْط أو الوصف أو سائر أخوته هل یَدُلّ علی المفهوم أم لا؟

ومن هنا یتّجه إلینا فِی البدایة وقبل کل شیء سؤالان:

أحدهما: ما هو «المفهوم»؟

ثانیهما: ما هو ضابط دلالة الکلام علی المفهوم؟

فلا بُدَّ من تمهید لبحث «المفاهیم» عموماً یُجاب فیه علی هذین السؤالین قبل الدخول فِی صلب البحث.

ص: 56

تمهید:

1). تعریف المفهوم

2). ضابط المفهوم

تعریف المفهوم

أما السُّؤَال الأوّل فهو عن تعریف «المفهوم» الَّذی هو موضوع هذه السِّلْسِلَة من البحوث (بحوث المفاهیم) فما هو المفهوم فِی مصطلح الأُصُولِیِّینَ فِی هذه البحوث؟ وما هو المقصود منه؟

لا إشکال فِی أن «المفهوم» هو من نوع الْمَدْلُول الاِلْتِزَامِیّ للکلام فِی مقابل «المنطوق» الَّذی هو من نوع الْمَدْلُول الْمُطَابَقِیّ له.

کما لا شکّ أیضاً فِی أَنَّهُ لیس کل مدلول التزامی مفهوماً بالمصطلح الأُصُولِیّ، فمثلاً دلیل وجوب صلاة الجمعة یَدُلّ بالالتزام علی عدم وجوب صلاة الظهر، مع أَنَّهُ لا إشکال فِی أن عدم وجوب صلاة الظهر لا یعتبر «مفهوماً» للدلیل الدَّالّ علی وجوب صلاة الجمعة، کما أن الدَّلِیل المذکور یَدُلّ بالالتزام أیضاً علی وجوب مقدّمة صلاة الجمعة (بناءًا علی القول بالملازمة بین وجوب الشَّیْء ووجوب مقدّمته) مَعَ أَنَّ مِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ وجوب المقدّمة لیس من المفاهیم، وأن البحث عنه غیر داخل فِی بحث المفاهیم.

وأیضاً فإن الدَّلِیل المذکور یَدُلّ بالالتزام علی حرمة ضدّ صلاة الجمعة (بناءًا علی أن الأمر بالشیء یقتضی النَّهْی عن ضِدّه) مع أَنَّهُ لا إشکال فِی أن دلالة الأمر علی حرمة الضد لیست من نوع الدِّلاَلَة علی «المفهوم» بالمصطلح الأُصُولِیّ.

مثلاً الدَّلِیل الدَّالّ علی النَّهْی عن العبادة أو المعاملة (کَالنَّهْیِ عن صوم یوم عاشوراء، وَالنَّهْی عن البیع وقت النداء) یَدُلّ بالالتزام علی بطلانها وفسادها (بناءًا علی أن النَّهْی یقتضی الفساد) لکن لا شکّ فِی أن البطلان والفساد لیس «مفهوماً» للدلیل المذکور، ومثلا الدَّلِیل الدَّالّ علی مطهّریّة شیء یَدُلّ بالالتزام علی طهارته، مع أَنَّهُ من المفاهیم.

ص: 57

إذن، فالمفهوم عبارة عن حصّة خاصّة ونوع مُعَیَّن من الْمَدْلُول الاِلْتِزَامِیّ، فهناک نکتة إضافیة فِی الْمَدْلُول الاِلْتِزَامِیّ بها یصبح الْمَدْلُول الاِلْتِزَامِیّ «مفهوماً» فِی المصطلح الأُصُولِیّ، فما هی تلک النُّکتة الإضافیة فِی الْمَدْلُول الاِلْتِزَامِیّ؟ وما هی تلک الحِصَّة الخاصّة من الْمَدْلُول الاِلْتِزَامِیّ؟ وما هو تعریف «المفهوم» الَّذی نمیزه عن سائر المدالیل الاِلْتِزَامِیَّة؟

هناک وجوه عدیدة ذکرت فِی مقام تعریف «المفهوم» وبیان تلک النُّکتة وتمییز تلک الحِصَّة:

الأوّل ما نقله المُحَقِّق الْعِرَاقِیّ رَحِمَهُ اللَهُ عن الأصحاب حیث قال: «إنهم ذکروا فِی تعریفه: أن المفهوم هو ما دلَّ علیه اللَّفظ لا فِی محلّ النطق، والمنطوق هو ما دلَّ علیه اللَّفظ فِی محلّ النطق».

وللکلام تتمة نذکرها غداً إن شاء الله تعالی.

مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

کانَ الکلامُ فی تعریف الْمَفْهُوم، وانتهینا إلی التَّعْرِیف الَّذی أفاده المُحَقِّق الخُراسانیّ وهذا نص عبارته:

«

المفهوم - کما یظهر من موارد إطلاقه - هو عبارة عن حکم إنشائیّ أو إخباری تستتبعه خصوصیّة المعنی الذی أرید من اللفظ، بتلک الخصوصیّة ولو بقرینة الحکمة، وکان یلزمه لذلک، وافَقَه فی الإیجاب والسلب أو خالفه».

أقول: لنا علی کلامه رَحِمَهُ اللَهُ تعلیقان کما أفاد سَیِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِید رَحِمَهُ اللَهُ:

الأوّل: حول العبارة الأخیرة الَّتی عَمَّمَ فیها التَّعْرِیف لمفهوم الموافقة؛ فَإِنَّ هذا التعمیم فِی غیر محلّه؛ لأَنَّ التَّعْرِیف الَّذی ذکره رَحِمَهُ اللَهُ لا یشمل مفهوم الموافقة ولا ینطبق علیه؛ وذلک لأَنَّ مفهوم الموافقة لأصل الْمَدْلُول الْمُطَابَقِیّ، لا لِخُصُوصِیَّتِهِ. فمثلاً قوله تعالی: ﴿ ولا تقل لهما أفّ ولا تنهرهما﴾(- سورة الإسراء (17): الآیة 23.) یَدُلّ علی حرمة شتم الأبوین أو ضربهما بالأولویة، وهذا هو مفهوم الموافقة، وهذه الْحُرْمَة لازم لنفس حرمة قول ﴿أفٍّ﴾ لهما، ومستفادة من نفس معنی اللَّفظ، لا من خُصُوصِیَّته، فنفس حرمة قول «أف لهما» تستلزم حرمة شتمهما وضربهما، لا أن خُصُوصِیَّتها تستلزم ذلک.

ص: 58

فمفهوم الموافقة یعتبر من هذه الجهة مثل سائر الْمَدَالِیلِ الاِلْتِزَامِیَّةِ الَّتی هی لوازم لأصل الْمَدْلُول الْمُطَابَقِیّ لا لِخُصُوصِیَّتِهِ، فهو مثل وجوب المقدّمة خارج عن التَّعْرِیف المذکور.

وطبعاً لا نقصد من هذا التعلیق أن نعترض علی التَّعْرِیف الَّذی ذکره رَحِمَهُ اللَهُ بعدم شموله لمفهوم الموافقة؛ لأَنَّ المفروض فِی تعریف المفهوم فِی هذه السلسة من البحوث هو ذلک، أی: أن لا یکون شاملاً لمفهوم الموافقة.

إذن، فالتعریف الَّذی ینبغی أن یُذکر للمفهوم فِی هذه البحوث هو التَّعْرِیف الَّذی لا یشمل مفهوم الموافقة؛ إذ المقصود من المفهوم الَّذی یبحث عنه فیها هو مفهوم المخالفة دون مفهوم الموافقة. ولذا نراهم یبحثون فیها عنه دون أن یبحثوا عن مفهوم الموفقة.

فلیس ما ذکرناه إشکالا علی أصل التَّعْرِیف، وإنَّما نقصد فِی هذا التَّعْلِیقِ أن نقول: إن ما ذکره رَحِمَهُ اللَهُ من التَّعْرِیف یتهافت مع ما اعتَرَف به رَحِمَهُ اللَهُ من دخول مفهوم الموافقة فیه؛ فَإِنَّ التَّعْرِیف المذکور لا یدخل فیه مفهوم الموافقة.

الثَّانِی: حول أصل التَّعْرِیف الَّذی ذکره رَحِمَهُ اللَهُ؛ فإِنَّهُ یرد علیه أَنَّهُ ربما یکون المفهوم عبارة عمَّا یستلزمه إطلاق المنطوق، لا خُصُوصِیَّة داخلة فِی المنطوق وثابتة لِلْمَدْلُولِ الْمُطَابَقِیّ بالوضع، وذلک بناءًا علی أن الانحصار فِی الْقَضِیَّة الشَّرْطِیَّة (الَّذی یستلزم ثبوت مفهوم الشَّرْط) لیس مدلولاً وَضْعِیّاً للقضیة الشَّرْطِیَّة، بل هو مِمَّا یستلزمه إطلاق الْقَضِیَّة، کما ذهب إلیه البعض فِی مفهوم الشَّرْط، وذکره المُحَقِّق الخُراسانیّ رَحِمَهُ اللَهُ وناقشه فِی محلّه مع تسلیمه بتسمیته مفهوماً علی فرض صحَّة المبنی.

إذن، فلا إشکال فِی أن مفهوم الشَّرْط بناءًا علی هذا المبنی داخل فِی المفهوم المصطلح، مع أَنَّهُ مِمَّا استلزمه إطلاق الْقَضِیَّة المستلزم للانحصار المستلزم للمفهوم (وهو الانتفاء عند الانتفاء)؛ فإطلاق الْقَضِیَّة قد استلزم المفهوم بالواسطة وحینئِذٍ فإن کان استلزام إطلاق الْقَضِیَّة لمعنیً کافیاً فِی تسمیة ذاک المعنی ب_«المفهوم» اصطلاحا، کما یرشدنا إلی ذلک ما ذکره رَحِمَهُ اللَهُ فِی التَّعْرِیف من قوله: «ولو بقرینة الحِکْمَة..» لزم عدم کون التَّعْرِیف مانعاً؛ لشموله لبعض الْمَدَالِیلِ الاِلْتِزَامِیَّة الَّتی لا تعتبر من الْمَفَاهِیم اِصْطِلاَحاً؛ فَإِنَّ المفهوم إذا کان عبارة عمَّا هو لازم لِخُصُوصِیَّة المعنی والْمَدْلُول الْمُطَابَقِیِّ حتّی وإن کانت هذه الْخُصُوصِیَّة مستفادة من المعنی بمعونة الإطلاق ومقدّمات الحِکْمَة ولم تکن ثابتة له بالوضع وداخلة فِی الْمَدْلُول الوضعیّ للکلام.

ص: 59

إذن، فینبغی أن یُجعل وجوب المقدّمة مثلاً من الْمَفَاهِیم، وذلک بناءًا علی بعض المسالک فِی دلالة الأمر علی الوجوب، وهو مسلک المُحَقِّق الْعِرَاقِیّ رَحِمَهُ اللَهُ القائل بأن الأمر بالشیء یَدُلّ علی وجوبه بالإطلاق لا بالوضع؛ فَإِنَّ وجوب مقدّمة ذاک الشَّیْء حینئذٍ یکون مِمَّا استلزمه إطلاق الأمر المستلزم لوجوب ذی المقدّمة المستلزم لوجوب المقدّمة. فإطلاق الْقَضِیَّة قد استلزم وجوب المقدّمة بالواسطة، فَکَمَا أَنَّ مفهوم الشَّرْط (وهو الانتفاء عند الانتفاء) لازم لِخُصُوصِیَّة الْمَدْلُول الْمُطَابَقِیِّ (الَّتی هی عبارة عن الانحصار) وهذه الْخُصُوصِیَّة ثابتة للْمَدْلُول الْمُطَابَقِیِّ بالإطلاق لا بالوضع (بناءًا علی المبنی المشار إلیه) فکذلک وجوب المقدّمة لازم لِخُصُوصِیَّة الْمَدْلُول الْمُطَابَقِیِّ للأمر بذی المقدّمة (الَّتی هی عبارة عن الوجوب) وهذه الْخُصُوصِیَّة ثَابِتَة للْمَدْلُول الْمُطَابَقِیِّ (أی: الطّلب) بالإطلاق لا بالوضع، فینبغی أن یُجعل وجوب المقدّمة بناءًا علی هذا المسلک من الْمَفَاهِیم، مع أَنَّهُ لیس منها حتّی بناءًا علی هذا المسلک.

وللبحث تتمة تأتی إن شاء الله تعالی.

مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

کانَ الکلامُ فی التَّعْرِیف الَّذی ذکره المُحَقِّق الخُراسانیّ لِلْمَفْهُومِ، وقلنا: یرد علی هذا التَّعْرِیف إشکالان، ذکرنا الإشکال الأوّل وذکرنا قسماً من الإشکال الثَّانِی، وإلیک تتمته:

وأمّا إن لم یکن استلزام إطلاق الْقَضِیَّة لمعنیَ کافیاً فِی تسمیته ب_«المفهوم»، فیرد علیه:

أوَّلاً: أن هذا خلاف ما صَرَّحَ رَحِمَهُ اللَهُ به فِی کلامه بقوله: «ولو بقرینة الحِکْمَة..». وثانیاً: أَنَّهُ یلزم أَنْ لاَّ یَکُونَ التَّعْرِیف جامعاً؛ وذلک لما عرفتَ من النَّقض بمفهوم الشَّرْط بناءًا علی أن الانحصار مستفاد من الإطلاق، لا من وضع الجملة الشَّرْطِیَّة أو أداة الشَّرْط، کما هو واضح.

ص: 60

إذن، فهذا التَّعْرِیف أیضاً غیر تامّ.

الرَّابع ما ذکره المُحَقِّق الإصفهانی رَحِمَهُ اللَهُ من أَنَّ الْمَفْهُومَ عبارة عن التَّابِع فِی فهمنا للَّفظ مع فرض کون حَیْثِیّة الفهم مأخوذة فِی المنطوق ومذکورة فِی الْمَدْلُول الْمُطَابَقِیِّ.

توضیحه: أَنَّهُ لاَ إِشْکَالَ فِی أَنَّ المفروضَ فِی محلّ البحث هو أن المنطوق (الَّذی استفید منه اللاَّزِم بالدِّلالة الاِلْتِزَامِیَّة) دالّ علی نفس الملزوم (سواء کان الملزوم عبارة عن نفس المعنی الْمُطَابَقِیّ وکان اللاَّزِم لاَزِماً لنفس ذاک المعنی، أم کان الملزوم عبارة عن خُصُوصِیَّة المعنی وکان اللاَّزِم لاَزِماً لتلک الْخُصُوصِیَّةِ لا لنفس المعنی، وهو الَّذی قال عنه المُحَقِّق الخُراسانیّ رَحِمَهُ اللَهُ أَنَّهُ هو المفهوم)، وحینئِذٍ:

فتارة: یکون المنطوق (بالإضافة إلی دلالته علی نفس الملزوم) دالاًّ علی حَیْثِیّةِ فهم اللاَّزِم منه.

وأخری: لا یَدُلّ علیها.

فعلی الأول: یکون اللاَّزِم هو الْمُسَمَّی اِصْطِلاَحاً ب_«المفهوم»، بخلافه علی الثَّانِی، حیث لا یعتبر اللاَّزِم حینئذٍ من الْمَفَاهِیم. فمثلاً الأمر بالشیء یَدُلّ علی وجوبه، وهذا الوجوب هو الملزوم ولازمه هو وجوب مقدّمة ذاک الشَّیْء، ولا یَدُلّ الأمر (إضافة إلی دلالته علی الوجوب) علی حَیْثِیّة فهم اللاَّزِم من ذاک الملزوم؛ فَإِنَّ حَیْثِیّة (الملازمة بین وجوب الشَّیْء ووجوب مقدّمته) لا تُفهم من المنطوق، بل لا بُدَّ من البرهنة علیها من الخارج، فلذا لا یعتبر مثل هذا اللاَّزِم من الْمَفَاهِیم، وأمّا الجملة الشَّرْطِیَّة مثلاً فالمفروض أنَّها تَدُلّ علی ترتّب الجزاء علی الشَّرْط، وهذا التَّرَتُّب کُلَّمَا کان علی نحو الانحصار (ولو واقعاً وفی علم الله تعالی) یکون ملزوما ولازمه عبارة عن انتفاء الجزاء عند انتفاء الشَّرْط، وَالْمَفْرُوض أن الجملة الشَّرْطِیَّة (بالإضافة إلی دلالتها علی التَّرَتُّب الَّذی هو الملزوم) تَدُلّ أیضاً علی نفس الانحصار الَّذی هو عبارة عن حَیْثِیّة فهم اللاَّزِم من الملزوم، وهذا القسم هو الَّذی یُسمی ب_«المفهوم».

ص: 61

وفیه: ما أفاده سَیِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِید رَحِمَهُ اللَهُ من أَنَّنَا لا نتعقّل معنی لحَیْثِیّة فهم اللاَّزِم سوی نفس برهان الملازمة ونکتتها، وهذا البرهان مشتمل فِی جمیع الموارد علی صغری وکبری؛ فکبری الملازمة بین وجوب الشَّیْء ووجوب مقدّمته مثلاً مشتمل علی صغری، وهی أن الواجب متوقّف علی هذا، وعلی کبری، وهی أَنَّهُ کُلَّمَا یتوقَّف الواجب علیه فهو واجب.

وبرهان الملازمة بین المنطوق والمفهوم فِی الجملة الشَّرْطِیَّة مثلاً مشتمل علی صغری وهی أن الجزاء مترتّب علی المنطوق علی الشَّرْط بنحو التَّرَتُّب العلی الانحصاری، وعلی کبری وهی أن کل ما یترتَّب علی شیء بنحو العلّة المنحصرة فهو ینتفی بانتفاء ذاک الشَّیْء، وهکذا فِی سائر موارد الملازمة بین الْمَدْلُول الْمُطَابَقِیِّ والمدلول الالتزامی.

وحینئِذٍ فإن أراد المُحَقِّق الإصفهانی رَحِمَهُ اللَهُ من أخذ حَیْثِیّةِ فهم اللاَّزِم فِی المنطوق أخذ الکبری فِی المنطوق، لم یکن التَّعْرِیف الَّذی ذکره جامعاً؛ لأَنَّ کبری الانتفاء عند الانتفاء غیر مأخوذة فِی منطوق الجملة الشَّرْطِیَّة مثلاً.

وإن أراد أخذ الصغری فیه، لم یکن التَّعْرِیف مانعاً؛ إذ قد تؤخذ الصغری فِی المنطوق، ومع ذلک لا یُسمی اللاَّزِم مفهوماً؛ وذلک کما إذا قال المولی: اِئتِ بما هو متوقّف علی الوضوء؛ فَإِنَّ هذا الکلام مشتمل علی صغری توقّف الواجب علی الوضوء، ومع ذلک لا یُسمی وجوب الوضوء الْمُسْتَفَاد من هذا الکلام بالملازمة مفهوماً فِی الاصطلاح.

إذن، تحصَّل أن الوجوه المذکورة فِی مقام تعریف «المفهوم» وبیان النُّکتة الَّتی بها یُصبح الْمَدْلُول الالتزامی «مفهوماً» فِی المصطلح الأُصُولِیّ ویمتاز عن سائر المدالیل الاِلْتِزَامِیَّة غیر تامَّةٍ، فما هو الوجه الصَّحِیح؟ وما هو التَّعْرِیف المختار للمفهوم؟ وهذا ما سوف یأتی ذکره غداً إن شاء الله تعالی.

ص: 62

مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

تحصّل مِمَّا ذکرناه أن کل الوجوه الَّتی ذکرت فِی مقام تعریف الْمَفْهُوم وبیان تلک النُّکتة الَّتی توجب أن یصبح الْمَدْلُول الاِلْتِزَامِیّ للکلام مفهوماً فِی المصطلح الأُصُولِیّ، کانت غیر تامَّةً. فلا زال السُّؤَال باقیاً حول النُّکتة الَّتی تصیّر المدلول الاِلْتِزَامِیّ مفهوماً فِی المصطلح الأُصُولِیّ، أو قل: ما هو تعریف الْمَفْهُوم بالدِّقَّة؟! وهذا ما نجیب عنه کالتالی:

الوجه الخامس: وهو الصَّحِیح الَّذی یقتضیه التَّحْقِیق فِی مقام تعریف الْمَفْهُوم، وهو ما أفاده سَیِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِید رَحِمَهُ اللَهُ من أَنَّهُ عبارة عن لازم ربط الحکم المنطوق بطرفه. وبعبارة أخری: هو الْمَدْلُول الالتزامی المتفرّع علی الرَّبْط الخاصّ القائم بین طرفیْ الکلامِ. وبعبارة ثالثة: هو الْمَدْلُول الاِلْتِزَامِیُّ الَّذی تکون نکتة اللزوم فیه قائمة بربط الحکم بموضوعه لا بالحکم بخصوصه، ولا بالموضوع بخصوصه.

توضیح ذلک: أنَّ الْمَدْلُول الاِلْتِزَامِیَّ أو بتعبیر آخر: «الحکم الْمُسْتَفَاد بالملازمة» تارةً یکون مَتَفَرّعاً علی خصوص الموضوع الَّذی یَدُلّ علیه الکلام بالمطابقة (أی: یکون لاَزِماً لطرف الحکم بما هو طرف للحکم) علی نحوٍ یزول هذا الْمَدْلُول الاِلْتِزَامِیُّ وتنتفی الملازمة بزوال الموضوع وطرف الحکم وتغیّره واستبداله بموضوع وطرف آخر، فاللازم لازم لِلطَّرَفِ بما هو طرف. أو قل: «لازم للموضوع بخصوصه»، بحث کما أَنَّهُ قد یکون تغیّر أصل الحکم موجباً لانتفاء الملازمة لخروج الطَّرَف عن کونه طرفاً لذلک الحکم، کذلک قد یکون تغیّر طرف الحکم موجباً لانتفاء الملازمة أیضاً، وذلک کما فِی مفهوم الموافقة.

فقولنا: «یجب إکرام خدّام العلماء» یَدُلّ (بِمَفْهُوم الموافقة والفحوی وَالأَوْلَوِیَّة) علی وجوب إکرام العلماء أنفسهم، وقولنا مثلاً: «إذا زارک ابن کریمٍ وجب احترامه، یَدُلّ کذلک علی وجوب احترام الکریم نفسه عند زیارته، وقولنا: مثلاً: «أکرم ابن العلویة» یَدُلّ کذلک علی وجوب إکرام العلویة نفسها، وهکذا فِی سائر أمثلة الفحوی ومفهوم الموافقة؛ فَالْمَدْلُولُ الاِلْتِزَامِیّ والحکم الْمُسْتَفَاد بالملازمة فِی هذه الأمثلة (وهو وجوب إکرام العلماء ووجوب احترام الکریم ووجوب إکرام الْعَلَوِیَّة) متفرع علی خصوص الموضوع المذکور فِی الکلام ومرتبط به، أی: هو لازم لطرف الحکم بما هو طرف للحکم، أی: هو لازم لخدام العلماء ولابن الکریم ولابن الْعَلَوِیَّة بما هو طرف للوجوب.

ص: 63

فإذا تغیّر أصل الحکم المذکور فِی المنطوق وهو الوجوب، بأن قیل: «یستحب إکرام خدام العلماء» أو قیل: «إذا زارک ابن کریم استحب احترامه» أو قیل: «یستحب إکرام ابن الْعَلَوِیَّة»، أو تغیّر طرفه بأن قیل: «تجب الصَّلاة» انتفت الملازمة ولا یثبت اللاَّزِم وهو وجوب إکرام العلماء، ووجوب احترام الکریم، ووجوب إکرام الْعَلَوِیَّة.

وأخری: یکون الْمَدْلُول الاِلْتِزَامِیّ والحکم الْمُسْتَفَاد بالملازمة مَتَفَرّعاً علی خصوص المحمول الَّذی یَدُلّ علیه الکلام بالمطابقة، أی: یکون لاَزِماً لأصل الحکم المذکور فِی المنطوق علی نحو یزول هذا الْمَدْلُول الاِلْتِزَامِیّ وتنتفی الملازمة بینه وبین المنطوق بزوال الحکم و تغیّره واستبداله بحکم آخر، بخلاف ما لو زال الموضوع المذکور فِی المنطوق وتَغیَّرَ طرف الحکم الْمَنْطُوقِیّ إلی موضوع آخر، فإِنَّهُ لا تنتفی الملازمة حینئذٍ بین الْمَدْلُول الاِلْتِزَامِیّ وبین المنطوق، بل یتغیّر حینئذٍ طرفُ الْمَدْلُول الاِلْتِزَامِیِّ وَمَوْضُوعُ الحکم الْمُسْتَفَاد بالملازمة، فاللازم فِی هذا الفرض لازم لنفس الحکم لا لطرفه، أو قل: لازم للمحمول بخصوصه.

فقولنا (فِی المثال السَّابِقَ): «إذا زارک ابن کریمٍ وجب احترامه» یَدُلّ بالملازمة علی وجوب مقدّمة احترام الابن الزائر، وقولنا (فِی المثال السَّابِقَ): «أکرم ابن الْعَلَوِیَّة» یَدُلّ بالملازمة علی وجوب توفیر المقدّمات الَّتی یتوقَّف علیها إکرام ابن الْعَلَوِیَّة.

وهکذا فِی سائر أمثلة وجوب مقدّمة الواجب؛ فَإِنَّ الْمَدْلُول الاِلْتِزَامِیَّ والحکم الْمُسْتَفَاد بالملازمة فِی هذه الأمثلة (وهو وجوب مقدّمة الواجب) مَتَفَرّع علی خصوص الحکم المذکور فِی الکلام ومرتبط به، فهو لازم لِنَفْس وجوب ذی المقدّمة. فلو تَغَیَّرَ الحکم من الوجوب إلی حکم آخر، بأن فُرض الاستحباب بدلاً عن الوجوب فِی الأمثلة المتقدّمة انتفت الملازمة بین المنطوق ووجوب المقدّمة، بخلاف ما إذا بقی الحکم هو الوجوب ولکن تَغَیَّرَ طرف الحکم، بأن فُرض الواجب شیئاً آخر؛ فَإِنَّ الملازمة بین المنطوق وبین وجوب المقدّمة باقیة علی حالها؛ ففی المثال الأوّل مثلاً إذا بقی الحکم علی حاله وهو الوجوب ولکن تَغَیَّرَ طرفه (وهو إکرام خدام العلماء) إلی طرف آخر، بأن فُرض الواجب عبارة عن الصَّلاة مثلاً، فإن الملازمة بین المنطوق وبین وجوب المقدّمة باقیة علی حالها، وإنَّما یتغیّر (بِتَبَعِ تغیُّر طرف الحکم الْمَنْطُوقِیّ) طرف الحکم اللاَّزِم، فتکون المقدّمة الواجبة عبارة عن الوضوء مثلاً فِی المثال (بوصفه مقدّمة للصَّلاَة) بدلاً عن أن تکون عبارة عن مقدّمة إکرام خدّام العلماء.

ص: 64

وثالثةً: یکون الْمَدْلُول الاِلْتِزَامِیَّ والحکم الْمُسْتَفَاد بالملازمةِ مَتَفَرّعاً علی الرَّبْط الخاصّ القائم بین طرفی الْقَضِیَّة الَّذی یَدُلّ علیه الکلام بالمطابقة، أی: یکون لاَزِماً لا لأصل الحکم المذکور فِی المنطوق، ولا لطرفه المذکور فِی المنطوق، بل لربط الحکم الْمَنْطُوقِیّ بطرفه، علی نحو لا یزول هذا الْمَدْلُول الاِلْتِزَامِیُّ ولا تنتفی الملازمة بینه وبین المنطوق لا بزوال الحکم وتغیُّره إلی حکم آخر، ولا بزوال طرفه واستبداله بطرف آخر، بل یبقی محفوظاً ولو تبدّل کِلا طرفی الْقَضِیَّة (أی: المحمول والموضوع، أو قل: الحکم وطرفه)، فَمَهْمَا تغیَّر أصل الحکم أو تغیَّر طرفه أو تغیَّر کلاهما کانت الملازمة ثَابِتَة علی حالها، فاللازم فِی هذا الفرض لازم لربط الحکم بطرفه، لا للحکم نفسه، ولا لطرفه، وهذا اللاَّزِم منحصر فِی الانتفاء عند الانتفاء.

فقولنا (فِی المثال السَّابِقَ): «إذا زارک ابن کریمٍ وجب احترامه» یَدُلّ بالملازمة علی عدم وجوب الاحترام المذکور فِی حالة عدم الزِّیَارَة، وهذا الْمَدْلُول الاِلْتِزَامِیُّ مَتَفَرّعٌ علی الرَّبْط الخاصّ القائم بین طرفی الْقَضِیَّة الَّذی تَدُلّ علیه الجملة (أی: الرَّبْط بین الجزاء والشرط، أو قل: بین الحکم وطرفه) وهذا الرَّبْط عبارة عن «التَّوَقُّف» أو «التَّرَتُّب العلی الانحصاری» (علی ما یأتی إن شاء الله) ولازمه انتفاء الجزاء والحکم عند انتفاء الشَّرْط وطرف الحکم.

وهذا اللاَّزِم ثابت، والملازمة باقیة علی حالها مهما تَغَیَّرَ الجزاء والحکم أو تَغَیَّرَ الشَّرْط وطرف الحکم، فلو غُیِّر الحکم وجمیع أطرافه فِی الْقَضِیَّة الشَّرْطِیَّة مع التَّحَفُّظ علی نفس الرَّبْط کانت الملازمة بینها وبین الاِنْتِفَاءِ عِنْدَ الاِنْتِفَاءِ ثابتة وإن أوجب ذلک تَغْیِیراً فِی أطراف الاِنْتِفَاء عِنْدَ الاِنْتِفَاءِ؛ فَالتَّغْیِیرُ فِی مفردات المنطوق لا یغیّر الْمَدْلُول الاِلْتِزَامِیّ، بل یظلّ بروحه ثابتاً ومعبِّراً عن اِنْتِفَاء الجزاءِ عِنْدَ اِنْتِفَاءِ الشَّرْط، وإن کان التَّغْیِیر فِی مفردات المنطوق ینعکس علی هذا الْمَدْلُول الاِلْتِزَامِیِّ فیغیّرُ من مفرداته إلاَّ أَنَّهُ نفسه لا یتغیر.

ص: 65

ففی المثال السَّابِقَ إذا غیّرنا الشَّرْط وطرف الحکم وقلنا: «إذا زارک الیتیم وجب احترامه» أو غیَّرنا الجزاء والحکم نفسه وقلنا: «إذا زارک ابن کریمٍ استحب احترامه» أو غیَّرنا کِلَیْهِمَا وقلنا: «إذا أحدثتَ فِی الصَّلاة بطلتْ صلاتُک»؛ فَإِنَّ هذا التَّغْیِیر کُلّه فِی مفردات المنطوق لا یوجب زوال الملازمة بین المنطوق وبین لازمه الَّذی هو عبارة عن انتفاء الجزاء (مهما کان) بانتفاء الشَّرْط (مهما کان) بل الملازمة باقیة واللازم ثابت بروحه (وهو الاِنْتِفَاءُ عِنْدَ الاِنْتِفَاءِ) وإن کانت مفردات هذا اللاَّزِم وأطراف الاِنْتِفَاء عِنْدَ الاِنْتِفَاءِ تتغیّر طبعاً بِتَبَعِ تَغَیُّرِ مفردات المنطوق.

فبینما کان اللاَّزِم فِی مثالنا السَّابِقَ عبارة عن انْتِفَاءِ وجوب الاحترام عند انْتِفَاء زیارة ابن الکریم، یُصبح (بعد تغییر الشَّرْط فِی المثال) عبارة عن انْتِفَاء وجوب الاحترام عند انْتِفَاء زیارة الیتیم، ویُصبح (بعد تغییر الجزاء فِی المثال) عبارة عن انْتِفَاء بطلان الصَّلاة عند انْتِفَاء الحَدَث.

إذن، فهذا القسم الثَّالث من الْمَدْلُول الاِلْتِزَامِیّ هو «المفهوم» المصطلح المبحوث عنه فِی هذه السلسة من البحوث المعروفة ب_«الْمَفَاهِیم»، فهو عبارة عن لازم ربط الحکم الْمَنْطُوقِیّ بطرفه، بلا فرق بین کون اللاَّزِم بَیِّناً وکونه غیر بین خلافاً لِلتَّعْرِیفَیْنِ الأوّلَیْنِ، وبلا فرق أیضاً بین کون الملزوم عبارة عن نفس المعنی وکونه عبارة عن خُصُوصِیَّة المعنی، خلافاً لِلتَّعْرِیفِ الثَّالث، وبلا فرق أیضاً بین کون حَیْثِیّة فهم اللاَّزِم مأخوذة ومذکورة فِی المنطوق وعدم کونها کذلک، خلافاً لِلتَّعْرِیفِ الرَّابع((1)

(2) ).

ص: 66


1- (1) - قد یقال: لماذا لا نعرّف «المفهوم» بأَنَّهُ اللاَّزِم الَّذی هو عبارة عن الاِنْتِفَاء عِنْدَ الاِنْتِفَاءِ؟
2- (2) والجواب: أن اللاَّزِم قد یکون عبارة عن الاِنْتِفَاء عِنْدَ الاِنْتِفَاءِ، ومع ذلک لا یکون «مفهوماً» فِی المصطلح، کما إذا علمنا إجمالاً بوجود أمرٍ بشیء أو بانتفاء أمرٍ آخر عند انْتِفَاء شیء ثالث، وجاء دلیل یَدُلّ علی انْتِفَاء الأمر الأوّل؛ فَإِنَّ هذا الدَّلِیل یَدُلّ بالملازمة علی انْتِفَاء الأمر الثَّانِی عند انْتِفَاء الشَّیْء الثَّالث، مَعَ أَنَّ مِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ هذا لیس «مفهوماً».

وأمّا القسم الثَّانِی من الْمَدْلُول الاِلْتِزَامِیّ وهو لازم نفس الحکم فلا یُبحث عنه هنا، بل یُبحث عنه (کما یأتی إن شاء الله تعالی) فِی مباحث الدَّلِیل العَقْلِیّ والملازمات الْعَقْلِیَّة.

وأمّا القسم الأوّل من الْمَدْلُول الاِلْتِزَامِیّ وهو لازم طرف الحکم، أی: مفهوم الموافقة فلیس مِمَّا یستشکل فیه ولا مِمَّا یُبحث عنه إلاَّ ببعض مراتبه وهو قیاس الأَوْلَوِیَّة، وهذا مِمَّا یأتی ذکره - إن شاء الله تعالی - فِی مبحث القیاس وَالأَوْلَوِیَّة فِی مباحث الدَّلِیل العَقْلِیّ.

مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

وبما ذکرناه من البیان لِلتَّعْرِیفِ الصَّحِیح والمختار للمفهوم فِی المقام یَتَّضِح الإشکال فِی ما أفاده السَّیِّد الهاشمیّ حفظه الله من الملاحظات، حیث أورد علی التَّعْرِیف المذکور:

أوَّلاً: بأَنَّهُ لا یشمل مفهوم الموافقة لو أرید به تعریف الأعمّ منه ومن مفهوم المخالفة.

وثانیاً: بأَنَّهُ لا یشمل مثل مفهوم العدد الَّذی هو مدلول اِلْتِزَامِیّ لنفس العدد الَّذی هو مفهوم اسمی لا للربط.

وثالثاً: بأَنَّهُ یشمل دلالات لیست من المفهوم، کدلالة قولنا: «مَن کان عَالِماً وجب إکرامه» علی أنّ مَن لا یجب إکرامه لیس بعالم، مع أَنَّهُ لیس بمفهوم اِصْطِلاَحاً.

وفی ضوء هذه الملاحظات مال فِی تعریف المفهوم إلی القول بأَنَّهُ عبارة عمَّا یکون لاَزِماً لِخُصُوصِیَّةٍ أخذت فِی الْقَضِیَّة زائداً علی أصل النِّسْبَة الحکمیة، سواء کانت خُصُوصِیَّة للموضوع والمحمول (کما فِی مفهوم الموافقة) أو خُصُوصِیَّة فِی ثبوت المحمول للموضوع کما فِی مفهوم الشَّرْط والوصف((1) ).

أقول: أما الملاحظة الأولی فقد عرفت عدم صحّتها، لما قلناه من أن التَّعْرِیف الَّذی ینبغی أن یُذکر للمفهوم فِی هذه السِّلْسِلَة من البحوث الأصولیة المعروفة ب_«الْمَفَاهِیم» هو التَّعْرِیف الَّذی لا یشمل مفهوم الموافقة؛ إذ المقصود من المفهوم الَّذی یُبحث عنه فِی هذه البحوث هو مفهوم المخالفة فقط، ولذا نراهم یبحثون فیها عنه خاصّة لا عن مفهوم الموافقة؛ فَإِنَّ مفهوم الموافقة لیس محلاًّ للإشکال والبحث إلاَّ ببعض مراتبه وهو قیاس الأَوْلَوِیَّة الَّذی لیس محلّ بحثه هنا أساساً، فالاعتراض علی التَّعْرِیف الَّذی أفاده سَیِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِید رَحِمَهُ اللَهُ بعدم شموله لمفهوم الموافقة غیر وارد.

ص: 67


1- (1) - هامش بحوث فِی علم الأصول: ج3، ص141.

وأمّا الملاحظة الثَّانیة: فهی أیضاً غیر واردة لشمول التَّعْرِیف لمفهوم العدد؛ لأَنَّ مفهوم العدد مدلول اِلْتِزَامِیّ لربط الحکم بالعدد، ولیس مدلولاً اِلْتِزَامِیّاً لنفس العدد، ولذا فحتی لو تَغَیَّرَ العدد إلی عدد آخر رُبط الحکم به، تبقی الملازمة ویبقی مفهوم العدد علی حاله وهو انْتِفَاء الحکم عند انْتِفَاء ذاک العدد، کما أَنَّهُ إذا تَغَیَّرَ الحکم أیضاً إلی حکم آخر ربط بالعدد، تبقی الملازمة علی حالها ویبقی مفهوم العدد معبِّرا عن انْتِفَاء ذاک الحکم عند انْتِفَاء العدد، وهکذا لو تَغَیَّرَ العدد والحکم معاً، فمفهوم العدد کمفهوم الشَّرْط وغیره من هذه النَّاحیة، فهو لازم لربط الحکم بالعدد، ولیس لاَزِماً للحکم بخصوصه ولا للعدد بخصوصه، فلم نفهم ماذا یقصد السَّیِّد الهاشمیّ حفظه الله بقوله: «إن مفهوم العدد مدلول اِلْتِزَامِیّ لنفس العدد الَّذی هو مفهوم اسمی لا للربط؟

فإن قصد به أَنَّهُ لازم لنفس العدد الخاصّ المذکور فِی المنطوق وَالَّذِی رُبط الحکم به، فقد عرفت أَنَّهُ لیس کذلک، بدلیل ثبوت هذا اللاَّزِم حتّی مع تغییر ذاک العدد الخاصّ إلی عدد آخر.

وإن قصد به أَنَّهُ لازم للعدد بمعناه العامّ الشامل لکل الأعداد، فهو غیر تامّ؛ لأَنَّ الحکم الْمَنْطُوقِیّ لم یُربط بمفهوم العدد العامّ، بل رُبط بمفهوم العدد الخاصّ کما هو واضح.

وأمّا الملاحظة الثَّالثة: فهی أیضاً مِمَّا لا یمکن المساعدة علیه؛ إذ لا دلالة أصلاً لمثل قولنا: «مَن کان عَالِماً وجب إکرامه» علی أنّ مَن لا یجب إکرامه لیس بعالم، بل غایة ما یَدُلّ علیه (بناءًا علی القول بمفهوم الشَّرْط أو الوصف) هو أن مَن لم یکن عَالِماً فلا یجب إکرامه من باب مفهوم الشَّرْط (إذا کانت الجملة شرْطِیَّة) أو من باب مفهوم الوصف (إذا کانت الجملة وصفیة) أما أن کل مَن لا یجب إکرامه فلیس بعالم، فهذا مِمَّا لا تَدُلّ علیه الجملة أصلاً.

ص: 68

إذن، فالملاحظات المذکورة غیر واردة.

وأمّا التَّعْرِیف الَّذی مال إلیه وقال عنه إِنَّه لعلّه الأوفق، فیرد علیه:

أوَّلاً: أَنَّهُ شامل لمفهوم الموافق الَّذی هو خارج عن محلّ البحث کما قلنا. فَلِکَیْ لا یشمله لا بُدَّ من أن یقول: إن المفهوم هو لازم خُصُوصِیَّة فِی ثبوت المحمول للموضوع.

وثانیاً: أَنَّنَا لا نتعقل معنی لکون اللاَّزِم لاَزِماً لِخُصُوصِیَّة فِی ثبوت المحمول للموضوع سوی کونه لاَزِماً لِخُصُوصِیَّة فِی ربط المحمول بالموضوع؛ فَإِنَّ ثبوت المحمول للموضوع لیس شیئاً آخر غیر ربطه به.

وبعبارة أخری: اللاَّزِم لازم لِخُصُوصِیَّة فِی ربط الحکم بطرفه، وهذا هو عین التَّعْرِیف الَّذی ذکره سَیِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِید رَحِمَهُ اللَهُ، فرجعنا مرّةً أخری إلی القول بأن المفهوم هو لازم للربط الخاصّ القائم بین الحکم وطرفه، فما ذکره لیس تعریفاً جدیدا.

هذا تمام الکلام فِی تعریف المفهوم،وقد عرفت ما هو الصَّحِیح فِی تعریفه، وبهذا نکون قد فرغنا عن الإجابة علی السُّؤَال الأوّل من السُّؤَالین المطروحین فِی المقام.

تنبیه: وقبل الانتقال إلی الجواب علی السُّؤَال الثَّانِی حول ضابط المفهوم، ینبغی التَّنبیه علی أمرٍ له علاقة بتعریف المفهوم، وهو أَنَّنَا بعد أن عرفنا أَنَّ الْمَفْهُومَ عبارة عن الحکم الْمُسْتَفَاد من المنطوق بالدِّلالة الاِلْتِزَامِیَّة الثَّابِتَة علی أساس الملازمة الموجودة بین هذا اللاَّزِم وبین ربط الحکم الْمَنْطُوقِیّ بطرفه، فهناک ملزوم وهو ربط الحکم الْمَنْطُوقِیّ بطرفه، وهناک لازم وهو المفهوم، أی: الحکم الْمُسْتَفَاد من المنطوق بالالتزام.

وحینئِذٍ فنحن نواجه سؤالاً وهو أن هذا الحکم الْمَفْهُومِیّ الْمُسْتَفَاد من المنطوق بالالتزام لا بُدَّ من أن یکون له موضوع؛ إذ لا حکم من دون موضوع، ولا إشکال فِی أن نفس الحکم غیر مذکور فِی المنطوق، لا بشخصه، وإلا لأصبح منطوقاً، ولا بسنخه ونوعه وإلا لم یکن مفهوماً مخالفاً.

ص: 69

وإنَّما الکلام فِی موضوعه، وأنَّه هل هو مذکور فِی المنطوق أم لا؟ فهل أن من خواص المفهوم الَّذی نبحث عنه فِی المقام عدم کون موضوعه مذکوراً فِی المنطوق؟

المشهور ذلک، حیث قالوا إن من خواص المفهوم هو أَنَّهُ حکم علی موضوع غیر مذکور فِی المنطوق، بینما ذکر المُحَقِّق الإصفهانی رَحِمَهُ اللَهُ أَنَّهُ لیس حکماً علی موضوع غیر مذکور، بل هو حکم غیر مذکور فِی المنطوق، حیث قال بعد عبارته الَّتی نقلناها عنه فِی التَّعْرِیف: «فصح أن یقال: إن المفهوم إِنَّمَا هو حکم غیر مذکور لا أَنَّهُ حکم لغیر المذکور».

مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

والوجه فِی ما أفاده رَحِمَهُ اللَهُ من العدول عن التَّعْبِیر المشهور إلی ما ذکره هو أَنَّ الْمَوْضُوعَ فِی مفهوم المخالفة عین الموضوع فِی المنطوق. فمثلاً موضوع کل من المنطوق والمفهوم فِی قولنا: «إن جاء زید فأکرمه» هو «زید» المذکور فِی المنطوق. بل لعلّ نظره رَحِمَهُ اللَهُ إلی الاستشکال فِی ذلک فِی مفهوم الموافقة أیضاً، حیث أَنَّهُ وإن کان ربما یختلف موضوع مفهوم الموافقة عن موضوع المنطوق، کما فِی قولنا: «أکرم خدّام العلماء» الَّذی یقتضی بمفهومه الموافق وبالفحوی وَالأَوْلَوِیَّة وجوب إکرام العلماء أنفسهم؛ فَإِنَّ موضوع «المنطوق» عبارة عن «خدام العلماء»، بینما موضوع «المفهوم» عبارة عن «العلماء».

فموضوع مفهوم الموافقة هنا غیر مذکور فِی المنطوق، إلاَّ أَنَّهُ قد یکون موضوعهما أَحْیَاناً شیئاً واحداً، کما فِی قوله تعالی: ﴿ ولا تقل لهما أفّ ولا تنهرهما﴾((1) ) الَّذی یقتضی بمفهومه الموافق حرمة ضرب الوالدین؛ فَإِنَّ الموضوع فِی المنطوق والمفهوم معاً عبارة عن «الوالدین»، فموضوع مفهوم الموافقة هنا مذکور فِی المنطوق.

ص: 70


1- (1) - سورة الإسراء (17): الآیة 23.

اللهم إلاَّ أن یُسمّی نفس الْمُتَعَلَّق موضوعاً، فینعکس الأمر، حیث یتّحد موضوع المنطوق وَمَوْضُوع المفهوم فِی قولنا: «أکرم خدّام العلماء» بِاعْتِبَارِ أن ذات الْْمُتعَلّق فیهما واحد وهو الإکرام، بینما یتعدّد فِی الآیة الشریفة ویختلف موضوع المنطوق عن موضوع المفهوم، باعتبار أن ذات الْمُتَعَلَّق فِی منطوقها عبارة عن قول ﴿أفٍّ﴾، بینهما هو فِی مفهومها عبارة عن «الضَّرب».

وعلی کل حال فهل أن الرَّأْی المشهور هو الصَّحِیح؟ أم أن ما أفاده المُحَقِّق الخُراسانیّ رَحِمَهُ اللَهُ هو الصَّحِیح؟

تحقیق الکلام فِی المقام هو أن یقال:

أما الرَّأْی المشهور القائل بأن موضوع المفهوم غیر مذکور فِی المنطوق:

فإن أرید به الموضوع فِی عالم الإثبات وفی مرحلة الإسناد والکلام، فهو غیر صحیح؛ لأَنَّ الموضوع فِی المنطوق بحسب عالم الإثبات والإسناد هو موضوع المفهوم دائماً.

وإن أرید به الموضوع فِی عالم الثُّبوت، فهو إِنَّمَا یَتُِمّ بناءًا علی ما اختاره المُحَقِّق النائینی رَحِمَهُ اللَهُ ومدرسته من أن الشَّرْط یرجع دائماً إلی الموضوع ویُعتبر من مقوّماته؛ إذ بناءًا علی ذلک یصبح من الواضح حینئذٍ أَنَّ الْمَوْضُوعَ فِی منطوق قولنا: «إن جاءک زید فأکرمه» هو «زید الجائی»، والموضوع فِی مفهومه هو «زید غیر الجائی»، وهو غیر مذکور فِی اللَّفظ.

وینبغی أن یکون المقصود من عدم کونه مذکوراً فِی المنطوق أَنْ لاَّ یَکُونَ مذکوراً فیه بما هو موضوع، بِأَنْ لاَّ یَکُونَ موضوع المفهوم نفس موضوع المنطوق، کی لا یرد النقض بمثل قوله تعالی: ﴿ثم أتمّوا الصیام إلی اللیل﴾((1) ) المقتضی بمفهومه انْتِفَاء هذا الحکم عن اللیل بناءًا علی خروج الغایة عن المغیَّیٰ؛ فَإِنَّ موضوع المفهوم (وهو اللیل) وإن کان مذکوراً فِی المنطوق، لکن لا بعنوان کونه موضوعاً للحکم، بل بعنوان کونه حَدّاً له.

ص: 71


1- (2) - سورة البقرة (2): الآیة 187.

وأمّا بناءًا علی مبنی المُحَقِّق الْعِرَاقِیّ رَحِمَهُ اللَهُ (وهو الصَّحِیح) القائل بأن الشروط لا ترجع دائماً إلی الموضوع، بل بعضها مقوم للموضوع، وبعضها شرط لترتَّب الحکم علی الموضوع، فالرأی المشهور غیر تامّ؛ لإمکان أن یقال: إن الموضوع فِی المنطوق وفی المفهوم فِی قولنا مثلاً: «إن جاءک زید فأکرمه» هو «زید»، ویکون مجیئه شرطاً لترتُّب وجوب الإکرام علی هذا الموضوع، وعدم مجیئه شرطاً لترتَّب عدم وجوب الإکرام علیه.

وأمّا ما أفاده المُحَقِّق الخُراسانیّ رَحِمَهُ اللَهُ من أَنَّ الْمَفْهُومَ هو حکم غیر مذکور فِی المنطوق:

فإن أراد بذلک عدم کون المفهوم حکماً مذکوراً بشخصه فِی المنطوق، فهو صحیح فِی مفهوم الموافقة والمخالفة معاً کما لا یخفی، وإن أراد بذلک عدم کونه حکماً مذکوراً بسنخه ونوعه فِی المنطوق، فهو صحیح فِی مفهوم المخالفة، فإن نوع الحکم فِی المفهوم یختلف عن نوعه فِی المنطوق، ولا یعقل أن یکونا من نوح واحد کالوجوب مثلاً؛ فَإِنَّ المفروض هو أن مفهوم وجوب شیء بشرط شیء مثلاً عبارة عن انْتِفَاء الوجوب عند انْتِفَاء الشَّرْط، ولٰکِنَّهُ غیر صحیح فِی مفهوم الموافقة؛ فَإِنَّ الحکم فِی منطوق قوله تعالی: ﴿ ولا تقل لهما أفّ ولا تنهرهما﴾((1) ) وهو حرمة قول ﴿أفٍّ﴾ للوالدین، والحکم فِی مفهومه وهو حرمة ضربهما، من نوع واحد.

هذا إن اعتبرنا النوعیة من حیث ذات الحکم بما هو وبقطع النَّظَر عن متعلّقه وموضوعه، وأمّا نوعیة الحکم حتّی بِالنَّظَرِ إلی متعلّقه، فأیضاً قد یتفق فِی مفهوم الموافقة أن یتّحد الحکم وَالْمُتَعَلَّق فِی المفهوم مع الحکم وَالْمُتَعَلَّق فِی المنطوق من حیث النوع وَالسِّنْخ، کما فِی قولنا: «أکرم خُدَّام العلماء»؛ فَإِنَّ مفهومه الموافق هو وجوب إکرام العلماء، وهو من سنخ الحکم المذکور فِی المنطوق حتّی بلحاظ متعلّقه.

ص: 72


1- (3) - سورة الإسراء (17): الآیة 23.

بل قد یتفق اتّحاد الحکم فِی المنطوق مع الحکم فِی المفهوم الموافق سِنْخاً وَنَوْعاً حتّی بلحاظ الموضوع أیضاً، وإنَّما یکون الاختلاف بین الحکم المنطوق والحکم المفهوم فِی الشَّرْط فقط، کما إذا قال: «أَکْرِم زیداً إن جاهد مع الفقیه العادل» الدَّالّ بمفهومه الموافق علی وجوب إکرام زیدٍ إن جاهد مع الإمام المعصوم علیه الصَّلاة والسلام؛ فَإِنَّ نوع الحکم وسنخه فِی المنطوق وفی المفهوم واحد ذاتاً وَمُتَعَلَّقاً وموضوعاً، وإنَّما یختلف شرط الحکم فِی المنطوق عنه فِی المفهوم.

هذا إجمال الکلام فِی هذا المقام، وإن أردت تحقیقه علی وجه التفصیل قلنا إِنَّه:

تارةً: یقع البحث فِی مفهوم الموافقة وإن کان خارجاً عن محلّ الکلام کما تقدّم.

وأخری: یقع البحث فِی مفهوم الموافقة:

فأمَّا مفهوم الموافقة:

فتارةً: نتکلّم عن أن الحکم الْمَفْهُومِیّ هل هو مذکور (شَخْصاً أو نَوْعاً) فِی المنطوق أم هو غیر مذکور أصلاً فیه؟

وأخری: نتکلّم عن أنّ موضوع الحکم الْمَفْهُومِیّ هل هو مذکور فِی المنطوق أم لا؟

فأمَّا الحکم فِی مفهوم الموافقة فهو غیر مذکور (بشخصه) فِی المنطوق؛ لوضوح أَنَّهُ لو کان کذلک لأصبح منطوقا لا مفهوماً، وأمّا سنخه ونوعه فهل هو مذکور فِی منطوق الجملة الدَّالَّة علی مفهوم الموافقة أم لا؟

التَّحْقِیق هو التَّفصیل؛ لأَنَّ مفهوم الموافقة یمکن تَقْسِیمه إلی عدّة أقسام، ففی بعضها یکون سنخ الحکم مذکوراً فِی المنطوق وفی بعضها لا یکون کذلک.

وبیانه: أنَّ مفهوم الموافقة مدرکه ونکتته عبارة عن أن العرف یفهم من الکلام أن الْمُتِکَلِّم إِنَّمَا نَبَّهَ علی قسم خاصّ، نظراً إلی أَنَّهُ أخفی الأفراد من حیث الحکم، أو نظراً إلی أَنَّهُ محلّ الابتلاء مثلاً، لا من أجل کونه هو بالخصوص محط نظره. وذلک القسم الخاصّ:

ص: 73

تارةً یکون عبارة عن نفس الحکم، کما إذا قال: «لا یستحبّ إکرام الفسّاق»، حیث یَدُلّ بمفهومه الموافق علی عدم وجوب إکرامهم، نظراً إلی أن العرف یفهم من الکلام أن التَّنبیه علی هذا الحکم وهو الاستحباب بالخصوص ونفیه عن إکرام الفسّاق، لیس من أجل وجود خُصُوصِیَّة فِی عدم الاستحباب فِی نظر الْمُتِکَلِّم غیر موجودة فِی عدم الوجوب، وإنَّما هو من أجل أن عدم الاستحباب أخفی مثلاً من عدم الوجوب، فلذا یَدُلّ الکلام عرفاً بالفحوی وَالأَوْلَوِیَّة علی عدم وجوب إکرامهم.

وأخری یکون عبارة عن مُتَعَلَّق الحکم، کقوله تعالی: ﴿ ولا تقل لهما أفّ ولا تنهرهما﴾((1) ) حیث یَدُلّ بمفهومه الموافق علی حرمة ضرب الوالدین، نظراً إلی أن العرف یفهم منه أن التَّنبیه علی هذا الْمُتَعَلَّق وهو قول ﴿أفٍّ﴾ للوالدین لیس لِخُصُوصِیَّة فیه غیر موجودة فِی الضَّرب، بل لکونه أخفی من الضَّرب من حیث الحکم، أو لکونه أکثر ابتلاءً به، فلذا یَدُلّ الکلام عرفاً بالفحوی وَالأَوْلَوِیَّة علی حرمة الضَّرب.

مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

کانَ الکلامُ فی الخلاف الدائر بین الْمَشْهُور وبین المُحَقِّق الخُراسانیّ حول أن الْمَفْهُوم هل هو حکمٌ ثابت علی مَوْضُوع غیر مذکور فِی المنطوق أم هو حکم غیر مذکور فِی المنطوق؟! وبالمآل هل من خواص الحکم الْمَفْهُومِیّ أَنْ لاَّ یَکُونَ مذکوراً فِی المنطوق؟ أو من خواصه أَنْ لاَّ یَکُونَ مَوْضُوعه مذکوراً فِی المنطوق؟ أو أی شیء؟

وتقدم أَنَّهُ تارةً نحن نتکلّم عن مفهوم الموافقة وأخری نتکلّم عن مفهوم المخالفة.

ص: 74


1- (4) - سورة الإسراء (17): الآیة 23.

أما فِی مفهوم الموافقة فتارة نرید أن نعرف أن الحکم الْمَفْهُومِیّ نفسه هل هو مذکور فِی المنطوق؟ أو هو حکم غیر مذکور فِی المنطوق کما قاله الآخوند؟!

وأخری نتکلّم عن مَوْضُوع الحکم الْمَفْهُومِیّ، بأَنَّهُ هل هو مذکور فِی المنطوق أم لا؟

أما الکلام فِی الحکم الْمَفْهُومِیّ نفسه، فمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ نفس الحکم الْمَفْهُومِیّ بشخصه غیر مذکور فِی المنطوق، وإلا لأصبح هو المنطوق، وَهَذَا خُلْف الفرض.

إِنَّمَا الکلام فِی أَنَّهُ بعد التَّسْلِیم بعدم ذکره بشخصه فِی المنطوق هل ذُکر بسنخه ونوعه فِی المنطوق أم لا؟

قلنا: إِنَّه یختلف باختلاف مفهوم الموافقة، ومن هنا فدخلنا فِی بیان أقسام مفهوم الموافقة، فإن الحکم الْمَفْهُومِیّ ذُکر فِی بعضها فِی المنطوق بسنخه، وفی بعضها لم یذکر؛ وذلک لأَنَّ مدرک مفهوم الأَوْلَوِیَّة ومفهوم الموافقة ونکتته عبارة عن أن العرف یفهم من الکلام أن الْمُتِکَلِّم إِنَّمَا نبّه علی هذا القسم الخاصّ أو علی هذا الفرد الخاصّ، لا لِخُصُوصِیَّة موجودة فِی هذا القسم الخاصّ غیر موجودة فِی غیره، وإنَّما نبّه علیه لکونه أخفی الأفراد، أو لکونه محلّ ابتلاء أکثر من غیره.

وحینئِذٍ ذاک القسم الخاصّ الَّذی نبه الْمُتِکَلِّم علیه (لکونه أخفی الأفراد أو أکثر ابتلاءً) علی أقسام، فقد یکون عبارة عن الحکم نفسه کما تقدّم بالأَمْسِ، وَقَدْ یَکُونُ عبارة عن مُتَعَلَّق الحکم کما تقدّم بالأَمْسِ، هناک قسمان آخران نردفهما کالتالی:

وثالثةً: یکون عبارة عن موضوع الحکم، کما إذا قال: «أکرم خُدَّام العلماء» حیث یَدُلّ بمفهومه الموافق علی وجوب إکرام العلماء أنفسهم، نظراً إلی أن العرف یفهم منه أن التَّنبیه علی هذا الموضوع وهو خُدَّام العلماء لیس لِخُصُوصِیَّة فیهم غیر موجودة فِی العلماء أنفسهم، بل لکونهم أخفی من العلماء من حیث الحکم مثلاً، فلذا یَدُلّ الکلام عرفاً بالفحوی وَالأَوْلَوِیَّة علی وجوب إکرام نفس العلماء، وکما إذا قال: «یحرم علی المحدث بالحدث الأصغر مس الکتاب»، حیث یَدُلّ بمفهومه الموافق علی حرمة مس الکتاب علی المحدث بالحدث الأکبر، نظراً إلی أن العرف یفهم منه أن التَّنبیه علی هذا الموضوع وهو المحدث بالحدث الأصغر لیس لِخُصُوصِیَّة فیه غیر موجودة فِی المحدث بالحدث الأکبر، بل لکونه أخفی من المحدث بالحدث الأکبر من حیث الحکم، أو لکونه أکثر ابتلاء به، فلذا یَدُلّ الکلام عرفاً بالفحوی وَالأَوْلَوِیَّة علی حرمة المس علی المحدث بالحدث الأکبر.

ص: 75

ورابعةً: یکون عبارة عن شرط الحکم بناءًا علی ما هو الصَّحِیح من عدم رجوعه إلی الموضوع وإلا لدخل ف القسم السَّابِقَ، کما إذا قال: «أکرم زیدا إن جاهد مع الفقیه العادل» حیث یَدُلّ بمفهومه الموافق علی وجوب إکرام زید إن جاهد مع الإمام المعصوم علیه الصَّلاة والسلام، نظراً إلی أن العرف یفهم منه أن التَّنبیه علی هذا الشَّرْط (وهو الجهاد مع الفقیه العادل) لیس لِخُصُوصِیَّة فیه غیر موجودة فِی الجهاد مع الإمام المعصوم علیه الصَّلاة والسلام، بل لکونه أخفی من الجهاد مع الإمام عَلَیْهِ السَّلاَمُ من حیث الحکم، أو لکونه أکثر ابتلاءً به، فلذا یَدُلّ الکلام عرفاً بالفحوی وَالأَوْلَوِیَّة علی وجوب الإکرام عند الجهاد مع الإمام علیه الصَّلاة والسلام.

إذن، فمفهوم الموافقة علی أربعة أقسام:

الأوّل: أن یکون المفهوم بلحاظ الحکم.

الثَّانِی: أن یکون المفهوم بلحاظ مُتَعَلَّق الحکم.

الثَّالث: أن یکون المفهوم بلحاظ موضوع الحکم.

الرَّابع: أن یکون المفهوم بلحاظ شرط الحکم.

فأمَّا فِی القسم الأوّل فلیس سنخ الحکم الْمَفْهُومِیّ ونوعه بمعنی من المعانی مذکوراً فِی المنطوق، فسواء لوحظ سنخ الحکم الْمَفْهُومِیّ بذاته ومع قطع النَّظَر عن شیء آخر، أم لوحظ مع متعلّقه، أم لوحظ مع متعلّقه وموضوعه، أم لوحظ مع متعلّقه وموضوعه وشرطه، فإِنَّهُ فِی کُلّ هذه الأحوال لیس مذکوراً فِی منطوق الجملة الدَّالَّة علی مفهوم الموافقة، ففی المثال المتقدّم للقسم الأوّل وهو قوله: «لا یستحب إکرام الفسّاق»، نلاحظ أن سنخ عدم الوجوب ونوعه غیر مذکور فِی المنطوق أصلاً، سواء لوحظ عدم الوجوب بذاته، أم مع متعلّقه، أم معه ومع موضوعه، أم معه ومع شرطه (إن کان له شرط کما إذا کان قد قال: لا یستحب إکرام الْفُسَّاق إذا زاروک) فلا «عدم وجوب إکرام الْفُسَّاق إذا زاروک» مذکور فِی المنطوق، ولا «عدم وجوب إکرام الْفُسَّاق»، ولا «عدم وجوب الإکرام» ولا «عدم الوجوب» کما هو واضح.

ص: 76

وأمّا فِی الثَّانِی فسنخ الحکم الْمَفْهُومِیّ ونوعه مذکور فِی المنطوق بذاته ومع قطع النَّظَر عن متعلّقه، ففی المثال المتقدّم للقسم الثَّانِی وهو قوله تعالی: ﴿ ولا تقل لهما أفّ ولا تنهرهما﴾((1) )، نلاحظ أن سنخ الْحُرْمَة ونوعها بذاتها وبقطع النَّظَر عن متعلّقها مذکور فِی الآیة الشریفة، وإنَّما مُتَعَلَّق الحکم الْمَفْهُومِیّ (أی: الضَّرب) غیر مذکور فیها.

وأمّا فِی القسم الثَّالث فسنخ الحکم الْمَفْهُومِیّ ونوعه مذکور فِی المنطوق لا بذاته فحسب، بل حتّی بِالنَّظَرِ إلی متعلّقه، فالسنخیّة بین الحکم الْمَفْهُومِیّ والحکم الْمَنْطُوقِیّ ثابتة ومحفوظة حتّی بلحاظ مُتَعَلَّق الحکم دون الموضوع، ففی المثال الأوّل المتقدّم للقسم الثَّالث وهو قوله: «إکرام خُدَّام العلماء» نلاحظ أن سنخ الحکم الْمَفْهُومِیّ، أی: الوجوب ونوعه مع متعلّقه (وهو الإکرام) مذکور فِی المنطوق وإنَّما موضوع المفهوم (وهو العلماء) غیر مذکور فِی المنطوق بعنوان کونه موضوعاً، وفی المثال الثَّانِی المتقدّم لهذا القسم وهو قوله: «یحرم علی المحدث بالحدث الأصغر مسّ الکتاب»، نلاحظ أن سنخ الحکم الْمَفْهُومِیّ، أی: الْحُرْمَة ونوعها مع متعلّقها (وهو مسّ الکتاب) مذکور فِی المنطوق، وإنَّما موضوع المفهوم (وهو المحدث بالحدث الأکبر) غیر مذکور فیه.

وأمّا فِی القسم الرَّابع فسنخ الحکم الْمَفْهُومِیّ ونوعه مذکور فِی المنطوق لا بذاته فحسب، ولا بِالنَّظَرِ إلی متعلّقه فحسب، بل حتّی بِالنَّظَرِ إلی موضوعه، فالسنخیة بین الحکم الْمَفْهُومِیّ والحکم الْمَنْطُوقِیّ ثابتة ومحفوظة حتّی بلحاظ موضوع الحکم، ففی المثال المتقدّم للقسم الرَّابع وهو قوله: «أکرم زیداً إن جاهد مع الفقیه العادل»، نلاحظ أن سنخ الحکم الْمَفْهُومِیّ (أی: الوجوب) ونوعه مع متعلّقه (أی: الإکرام) وموضوعه (وهو زید) مذکور فِی المنطوق، وإنَّما شرط الحکم الْمَفْهُومِیّ (وهو الجهاد مع الإمام المعصوم علیه الصَّلاة والسلام) غیر مذکور فِی المنطوق.

ص: 77


1- (1) - سورة الإسراء (17): الآیة 23.

إذن، تَحَصَّلَ أن شخص الحکم فِی مفهوم الموافقة غیر مذکور فِی المنطوق.

إذن، تحصّل أن شخص الحکم فِی مفهومه الموافقة غیر مذکور فِی المنطوق، وأمّا سنخ الحکم ونوعه فهو غیر مذکور فِی المنطوق فِی القسم الأوّل من أقسام مفهوم الموافقة، ومذکور فیه فِی الأقسام الثَّلاثة الأخری کما عرفت. هذا تمام الکلام عن الحکم الْمَفْهُومِیّ (فِی مفهوم الموافقة) وأنه هل هو مذکور فِی المنطوق أم لا؟

وأمّا موضوع الحکم الْمَفْهُومِیّ فِی مفهوم الموافقة فهل هو مذکور فِی المنطوق أم لا؟

الجواب: هو أَنَّهُ إن کان المراد بموضوع الحکم الْمَفْهُومِیّ مُتَعَلَّق الْمُتَعَلَّق، مثل «الْفُسَّاق» فِی مثال القسم الأوّل من الأقسام الأربعة المتقدّمة لمفهوم الموافقة، وهو قوله: «لا یستحب إکرام الْفُسَّاق» ومثل «الوالدین» فِی مثال القسم الثَّانِی منها، وهو قوله تعالی: ﴿ ولا تقل لهما أفّ ولا تنهرهما﴾((1) ) ومثل «العلماء» و«المحدث بالحدث الأکبر» فِی مثالی القسم الثَّالث منها، وهما قوله: «أکرم خُدَّام العلماء» وقوله: «یحرم علی المحدث بالحدث الأصغر مسّ الکتاب»، ومثل «زید» فِی مثال القسم الرَّابع منها وهو قوله: «أکرم زیداً إن جاهد مع الفقیه العادل، فموضوع المفهوم مذکور فِی المنطوق فِی القسم الأوّل والثانی والرابع من تلک الأقسام الأربعة لمفهوم الموافقة.

أمّا کونه مذکوراً فِی القسم الرَّابع فَلأَنَّ المفروض عدم رجوع الشَّرْط إلی الموضوع کما هو الصَّحِیح، فشرط الجهاد مع الإمام عَلَیْهِ السَّلاَمُ لا یقوّم الموضوع، فیبقی الموضوع عبارة عن «زید» فِی المثال وهو مذکور فِی المنطوق.

وأمّا بناءًا علی رجوع الشَّرْط إلی الموضوع فیرجع القسم الرَّابع إلی القسم الثَّالث.

وأمّا فِی القسم الثَّالث فموضوع المفهوم غیر مذکور فِی المنطوق إن کان المراد من کونه مذکوراً أن یکون مذکوراً بما هو موضوع، بأن یکون موضوعاً للمنطوق، وإلا فقد یکون مذکوراً فیه، کما فِی المثال الأوّل للقسم الثَّالث؛ فَإِنَّ «العلماء» غیر مذکور فِی المنطوق (وهو قوله: «أکرم خُدَّام العلماء» بعنوان کونه موضوعاً للمنطوق، وکما فِی مثال القسم الرَّابع بناءًا علی رجوعه إلی القسم الثَّالث نظراً لرجوع الشَّرْط إلی الموضوع؛ فَإِنَّ «زید» غیر مذکور فِی المنطوق بعنوان کونه موضوعاً للمنطوق.

ص: 78


1- (2) - سورة الإسراء (17): الآیة 23.

وأمّا إن کان المراد بموضوع الحکم الْمَفْهُومِیّ مُتَعَلَّق الحکم، مثل «الإکرام» فِی مثال القسم الأوّل (وهو قوله «لا یستحب إکرام الْفُسَّاق» وفی أوَّل مثالی القسم الثَّالث (وهو قوله: «أکرم خُدَّام العلماء») وفی مثال القسم الرَّابع (وهو قوله: «أکرم زیداً إن جاهد مع الفقیه العادل») ومثل «الضَّرب» فِی مثال القسم الثَّانِی (وهو قوله تعالی ﴿ ولا تقل لهما أفّ ولا تنهرهما﴾((1) )) ومثل «مسّ الکتاب» فِی ثانی مثالی القسم الثَّالث (وهو قوله: «یحرم علی المحدث بالحدث الأصغر مسّ الکتاب)، فهو مذکور فِی المنطوق فِی القسم الأوّل والرابع من الأقسام المتقدّمة لمفهوم الموافقة، سواء أرید بالمتعلَّق مطلق الْمُتَعَلَّق، أم أرید به الْمُتَعَلَّق المضاف إلی الموضوع الخاصّ، وغیر مذکور فِی المنطوق أصلاً فِی القسم الثَّانِی.

وأمّا فِی القسم الثَّالث فهو مذکور فِی المنطوق إن أرید بالمتعلّق مطلق الْمُتَعَلَّق، فإنَّ «الإکرام» وکذلک «مَسّ الکتاب» مذکو فِی المنطوق فِی کِلا مثالی القسم الثَّالث.

وأمّا إن أرید به الْمُتَعَلَّق المضاف إلی الموضوع الخاصّ فهو غیر مذکور فِی المنطوق؛ فَإِنَّ «إکرام العلماء» وکذلک «مَسّ المحدث بالحدث الأکبر للکتاب (فِی مثالی القسم الثَّالث)» غیر مذکور فِی المنطوق.

هذا، وما ذکرناه بِالنِّسْبَةِ إلی موضوع الحکم الْمَفْهُومِیّ (بمعنی مُتَعَلَّق متعلّقه) من أَنَّهُ فِی القسم الرَّابع مذکور فِی المنطوق (بناءًا علی عدم رجوع الشَّرْط إلی الموضوع) وغیر مذکور فِیه بعنوان کونه موضوعاً له (بناءًا علی رجوع الشَّرْط إلی الموضوع) إِنَّمَا هو بِالنِّسْبَةِ إلی الموضوع بلحاظ عالم الثُّبوت، وأمّا الموضوع بلحاظ عالم الإثبات وفی مرحلة الإسناد فهو مذکور فِی المنطوق فِی القسم الرَّابع مطلقاً حتّی وإن قلنا برجوع الشَّرْط إلی الموضوع؛ لأَنَّ القول برجوع الشَّرْط إلی الموضوع معناه القول بصیرورة جزء الموضوع بحسب عالَم الثُّبوت والواقع، ولا نظر له إلی عالَم الإثبات والکلام، فیبقی «زید» المذکور فِی المنطوق فِی مثال القسم الرَّابع هو موضوع الحکم الْمَفْهُومِیّ إثباتاً حتّی وإن بنینا علی رجوع شرط الجهاد مع الإمام عَلَیْهِ السَّلاَمُ إلی الموضوع ثبوتاً کما هو واضح.

ص: 79


1- (3) - سورة الإسراء (17): الآیة 23.

وما ذکرناه من التَّفْصِیل فِی موضوع الحکم الْمَفْهُومِیّ فِی القسم الرَّابع بین مقام الثُّبوت ومقام الإثبات یجری أیضاً بالتَّبَعِ (أی: بِتَبَعِ جریانه فِی الموضوع) فِی مُتَعَلَّق الحکم الْمَفْهُومِیّ فِی هذا القسم، إن أرید به الْمُتَعَلَّق المضاف إلی الموضوع الخاصّ، لا مطلق الْمُتَعَلَّق؛ فَإِنَّ الإکرام المضاف والمنتسب إلی زید (فِی قولنا: «أکرم زیداً إن جاهد مع الفقیه العادل» وهو «أکرم زیداً إن جاهد مع الإمام المعصوم علیه الصَّلاة والسلام») یُفصَّل فیه بین مقام الثُّبوت ومقام الإثبات، فبلحاظ عالم الثُّبوت یکون مذکوراً فِی المنطوق بناءًا علی عدم رجوع الشَّرْط إلی الموضوع، وغیر مذکور فیه بعنوان کونه موضوعاً بناءًا علی رجوع الشَّرْط إلی الموضوع، وأمّا بلحاظ عالَم الإثبات فهو مذکور فِی المنطوق مطلقاً حتّی بناءًا علی رجوع الشَّرْط إلی الموضوع، لما قلنا آنِفاً من اختصاص رجوع الشَّرْط إلی الموضوع بمقام الثُّبوت، فیبقی «إکرام زید» المذکور فِی المنطوق فِی مثال القسم الرَّابع هو مُتَعَلَّق الحکم الْمَفْهُومِیّ إثباتاً حتّی وإن بنینا علی رجوع شرط الجهاد مع الإمام عَلَیْهِ السَّلاَمُ إلی الموضع ثبوتاً کما هو واضح.

وأمّا إن أرید بالموضوع الْمُتَعَلَّق نفسه، فهذا ما سیأتی الکلام فیه غداً إن شاء الله تعالی.

مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

کانَ الکلامُ فی أن مَوْضُوع الحکم الْمَفْهُومِیّ هل هو مذکور فِی المنطوق أو غیر مذکور فِی المنطوق؟ فقلنا إن المقصود من الْمَوْضُوع إن کان عبارة عن مُتَعَلَّق الْمُتَعَلَّق، فقد تقدّم حکمَه، وأمّا إن کان المراد من الْمَوْضُوع الْمُتَعَلَّق نفسه فهذا ما تقدّم شطر منه وإلیک تکملته:

وأمّا مطلق مُتَعَلَّق الحکم الْمَفْهُومِیّ فِی القسم الرَّابع فلا یُفصّل فیه بین مقام الثُّبوت والإثبات، بل هو مذکور فِی المنطوق مطلقاً، سواء فِی عالم الإثبات کما هو واضح، أم فِی عالم الثُّبوت، سواء بنینا علی عدم رجوع الشَّرْط إلی الموضوع کما هو واضح، أم بنینا علی رجوعه إلیه؛ إذ لا تأثیر لرجوع الشَّرْط إلی الموضوع فِی الْمُتَعَلَّق ما لم یَنتسب ویُضاف إلی الموضوع؛ لأَنَّهُ أجنبی عن الموضوع حینئذٍ کما هو واضح، فیبقی «الإکرام» المذکور فِی المنطوق فِی مثال القسم الرَّابع هو مُتَعَلَّق الحکم الْمَفْهُومِیّ إثباتاً وثبوتا حتّی وإن بنینا علی رجوع شرط الجهاد مع الإمام المعصوم علیه الصَّلاة والسلام إلی الموضوع ثبوتاً.

ص: 80

هذا تمام الکلام فِی مفهوم الموافقة، وقد عرفت أن أقسامه أربعة، وأن شخص الحکم الْمَفْهُومِیّ غیر مذکور فِی المنطوق فِی جمیع الأقسام، وأمّا سنخ الحکم الْمَفْهُومِیّ ونوعه فهو فِی بعض هذه الأقسام مذکور فِی المنطوق، وفی بعضها الآخر غیر مذکور فِی المنطوق، وأمّا موضوع الحکم الْمَفْهُومِیّ فهو أیضاً یختلف باختلاف هذه الأقسام، وباختلاف المراد من الموضوع، علی شرح وتفصیلٍ عرفتَه من خلال العَرَض المتقدّم.

وقبل أن ننتقل إلی البحث عن مفهوم المخالفة ینبغی التَّنبیه علی أَمْرَیْنِ:

الأوّل: أن ما ذکرناه من أقسام مفهوم الموافقة إِنَّمَا هو بلحاظ ما إذا کان المفهوم بِالنَّظَرِ إلی خصوص الحکم (وهو القسم الأوّل) أو بِالنَّظَرِ إلی خصوص الْمُتَعَلَّق (وهو القسم الثَّانِی) أو بِالنَّظَرِ إلی خصوص الموضوع (وهو القسم الثَّالث) أو بِالنَّظَرِ إلی خصوص الشَّرْط (وهو القسم الرَّابع).

وأمّا إذا فُرض أَنَّ الْمَفْهُومَ کان بِالنَّظَرِ إلی مجموع أَمْرَیْنِ مثلاً من هذه الأُمُور الأربعة بنحو الترکیب، کما إذا قال: «یجب السلام علی خُدَّام العلماء» حیث یَدُلّ بمفهومه الموافق وَالأَوْلَوِیَّة والفحوی علی وجوب ردّ سلام العلماء؛ فَإِنَّ هذا المفهوم إِنَّمَا هو ثابت بلحاظ المجموع المرکب من الْمُتَعَلَّق (وهو رد السلام) والموضوع (وهو «العلماء») فحینئذٍ یلحقه حکم کل من القسمین فِی عدم کون ما هو مذکور فِی المفهوم مذکوراً فِی المنطوق، فَمُتَعَلَّق الحکم الْمَفْهُومِیّ وهو رد السلام غیر مذکور فِی المنطوق أصلاً، سواء أرید بالمتعلّق مطلق الْمُتَعَلَّق أم أرید به الْمُتَعَلَّق المضاف إلی الموضوع الخاصّ وهو «العلماء» الحکم الْمَفْهُومِیّ غیر مذکور أیضاً فِی المنطوق أصلاً، سواء أرید به مُتَعَلَّق الْمُتَعَلَّق (وهو «العلماء») أم أرید به الْمُتَعَلَّق مطلقاً أو مضافاً إلی الموضوع الخاصّ.

الثَّانِی: أن الضّابط الکلّی فِی جمیع ما ذکرناه فِی مفهوم الموافقة هو أن ما یکون المفهوم بلحاظه لا یعقل أن یکون مذکوراً فِی المنطوق، وإلا لانقلب المفهوم منطوقا، ففی القسم الأوّل حیث أَنَّ الْمَفْهُومَ إِنَّمَا هو بلحاظ الحکم، فلا یعقل أن یکون الحکم الْمَفْهُومِیّ مذکوراً فِی المنطوق، وإلا لأصبح منطوقا، وهو خلف.

ص: 81

وفی القسم الثَّانِی حیث أَنَّ الْمَفْهُومَ إِنَّمَا هو بِلِحَاظِ الْمُتَعَلَّقِ الْحُکْمِ، فلا یعقل أن یکون مُتَعَلَّق الحکم الْمَفْهُومِیّ مذکوراً فِی المنطوق، وإلا لأصبح منطوقاً، وهو خُلف.

وفی القسم الثَّالِث: حیث أَنَّ الْمَفْهُومَ إِنَّمَا هو بلحاظ موضوع الحکم، فلا یعقل أن یکون موضوع الحکم الْمَفْهُومِیّ مذکوراً فِی المنطوق، وإلا لأصبح منطوقا، وهو خلف.

وفی القسم الرَّابع حیث أَنَّ الْمَفْهُومَ إِنَّمَا هو بلحاظ شرط الحکم، فلا یعقل أن یکون شرط الحکم الْمَفْهُومِیّ مذکوراً فِی المنطوق، وإلا لأصبح منطوقا وهو خلف. هذا تمام الکلام فِی مفهوم الموافقة.

وأمّا مفهوم المخالفة فهل الحکم أو موضوع الحکم فیه مذکور فِی المنطوق أم لا؟

الجواب: أما الحکم الْمَفْهُومِیّ فلا إشکال فِی أَنَّهُ غیر مذکور فِی المنطوق، لا بشخصه کما هو واضح وإلا لم یکن مفهوماً بل یصبح منطوقا، ولا بسنخه ونوعه کما هو واضح أیضاً، وإلا لم یکن مفهوماً مخالفاً، بل یصبح مفهوماً موافقاً؛ ضرورةَ أنّ الاِتِّحَاد السنخی بین الحکم الْمَفْهُومِیّ والحکم الْمَنْطُوقِیّ ینافی فرض مخالفة المفهوم للمنطوق فِی الکیف.

وأمّا موضوع الحکم الْمَفْهُومِیّ فهل هو مذکور فِی المنطوق أم لا؟

التَّحْقِیق هو التَّفْصِیل بین أقسام مفهوم المخالفة، فنقول:

أما مفهوم الشَّرْط کما إذا قال: «إن جاء زید فأکرمه»، حیث یَدُلّ بمفهومه (بناءًا علی القول بمفهوم الشَّرْط) علی انْتِفَاء وجوب «إکرام زید» عند انْتِفَاء «مجیئه». فالأمر فیه دائر مدار رجوع الشَّرْط إلی الموضوع وعدم رجوعه إلیه. فإن رجع إلیه فموضوع المفهوم غیر مذکور فِی المنطوق بلحاظ عالَم الثُّبوت والواقع؛ لأَنَّ الشَّرْط مُنْتَفٍ فِی المفهوم حسب الفرض، وبانتفائه ینتفی الموضوع، لرجوع الشَّرْط إلی الْمَوْضُوع ثبوتاً حسب الفرض، فمَوْضُوعُ المفهوم ثبوتاً غیر مَوْضُوع المنطوق قَطْعاً؛ ففی المثال مَوْضُوع عدم وجوب الإکرام هو «زید غیر الجائی» ومَوْضُوع وجوب الإکرام هو «زید الجائی».

ص: 82

نعم، مَوْضُوع المفهوم مذکور فِی المنطوق بلحاظ عالَم الإثبات والإسناد (وهو زید فِی المثال)، وأمّا إن لم یرجع الشَّرْط إلی المَوْضُوعِ، إذن فموضوع المفهوم مذکور فِی المنطوق مطلقاً ثبوتاً وإثباتا (وهو زید فِی المثال).

هذا إذا کان المراد من المَوْضُوعِ مُتَعَلَّق الْمُتَعَلَّق.

وأمّا إذا کان المراد نفس الْمُتَعَلَّق من حیث هو (أی: الإکرام فِی المثال)، فالمتعلق فِی المفهوم عین الْمُتَعَلَّق فِی المنطوق.

وأمّا إن کان المراد منه الْمُتَعَلَّق المضاف والمنتسب إلی المَوْضُوعِ الخاصّ (أی: إکرام زید) فحاله حال ذاک المَوْضُوع الخاصّ، وقد عرفت الحال فیه آنِفاً.

وأمّا مفهوم الوصف کما إذا قال: «أکرم العالم العادل»، حیث یَدُلّ بمفهومه (بناءًا علی القول بمفهوم الوصف) علی انْتِفَاء وجوب إکرام العالم عند انْتِفَاء العدالة فیه، فَحَیْثُ أَنَّ الوصف داخل فِی المَوْضُوع دائماً، فلذا یکون مَوْضُوع المفهوم غیر مذکور فِی المنطوق إن کان المراد من المَوْضُوع مُتَعَلَّق الْمُتَعَلَّق (وهو العالم العادل فِی المثال)، أو الْمُتَعَلَّق المضاف والمنتسِب إلی المَوْضُوع الخاصّ (وهو إکرام العادل فِی المثال)؛ وذلک لأَنَّ الوصف مُنْتَفٍ فِی مفهوم الوصف حسب الفرض، وبانتفائه ینتفی الموضوع المذکور فِی المنطوق؛ لدخول الوصف فِی الموضوع کما قلنا.

وأمّا إن کان المراد من الموضوع نفس الْمُتَعَلَّق من حیث هو (أی: الإکرام فِی المثال) فهو مذکور فِی المنطوق کما هو واضح.

وأمّا مفهوم اللَّقَب (کما إذا قال: «أکرم الرجال»، حیث یَدُلّ بمفهومه - بناء علی القول بمفهوم اللَّقَب - علی انْتِفَاء وجوب الإکرام عند انْتِفَاء الرجولة) فالموضوع فیه عین الموضوع فِی المنطوق إن أرید به الْمُتَعَلَّق من حیث هو (أی: الإکرام فِی المثال).

وأمّا إن أرید به مُتَعَلَّق الْمُتَعَلَّق (أی: الرّجال فِی المثال)، أو الْمُتَعَلَّق المضاف إلی المَوْضُوع الخاصّ (أی: إکرام الرّجال) فهو غیره؛ فَإِنَّ مُتَعَلَّق الْمُتَعَلَّق فِی المفهوم عبارة عن «النساء»، وَالْمُتَعَلَّق المضاف إلی المَوْضُوع الخاصّ عبارة عن «إکرام النساء»، وهما غیر مذکورین فِی المنطوق کما هو واضح.

ص: 83

وأمّا مفهوم العدد (کما إذا قال: «أکرم عشرة أشخاص» أو قال: «صُم ستّین یوماً» حیث یَدُلّ بمفهومه - بناءًا علی القول بمفهوم العدد - علی انْتِفَاء وجوب الإکرام والصیام عند انْتِفَاء العدد المذکور)، فجمیع الخُصُوصِیّات فیه مشترکة بینه وبین المنطوق سوی العدد الخاصّ، فذلک العدد (أیّ شیء فرض) یختلف فِی المفهوم عنه فِی المنطوق، وأمّا سائر الخُصُوصِیّات المفهومیة (من الحکم ومتعلّقه وموضوعه وشرطه) مع قطع النَّظَر عن الإیجاب وَالسَّلْب فهی ثابتة فِی المنطوق.

وأمّا مفهوم الغایة (کما إذا قال: «صُم إلی اللیل» حیث یَدُلّ بمفهومه - بناءًا علی القول بمفهوم الغایة - علی انْتِفَاء وجوب الصوم عند تحقّق الغایة) فَحَیْثُ أَنَّ الحکم فِی المنطوق (وهو وجوب الصوم فِی المثال) محدَّد بتلک الغایة فِی آخره، والحکم فِی المفهوم وهو عدم وجوب الصوم فِی المثال محدَّد بتلک الغایة فِی أوله، لذا یستحیل أن یکون موضوع المفهوم مذکوراً فِی المنطوق بعنوان کونه موضوعاً له بناءًا علی خروج الغایة عن المغیّی؛ إذ بناءًا علی ذَلِکَ یکون موضوع الحکم الْمَنْطُوقِیّ عبارة عمَّا قبل الغایة (أی: اللیل فِی المثال) بینما مَوْضُوع الحکم الْمَفْهُومِیّ عبارة عن اللیل، واللیل لم یذکر فِی المنطوق بعنوان کونه مَوْضُوعاً للحکم الْمَنْطُوقِیّ. نعم، ذُکر فیه بعنوان کونه حَدّاً للحکم الْمَنْطُوقِیّ.

هذا إن کان المراد من المَوْضُوعِ مُتَعَلَّق الْمُتَعَلَّق کما مثَّلنا.

وأمّا إن کان المراد من المَوْضُوع نفس الْمُتَعَلَّق من حیث هو (أی: الصیام فِی المثال)، فالمَوْضُوعُ فِی المفهوم والمنطوق واحد.

وأمّا إن کان المراد من المَوْضُوعِ الْمُتَعَلَّق المضاف إلی المَوْضُوع الخاصّ (أی: صیام ما قبل اللیل فِی المثال) فحاله حال المَوْضُوع الخاصّ، وقد عرفت أَنَّهُ فِی المفهوم غیره فِی المنطوق، فصیام اللیل لم یُذکر فِی المنطوق.

ص: 84

بعد ذلک نأتی إلی مفهوم الاستثناء والحصر غداً إن شاء الله تعالی.

مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

وأمّا مفهوم الاستثناء (کما إذا قال: «لا یجب إکرام الجهّال إلاَّ عدولهم» أو قال: «یجب إکرام العلماء إلاَّ فساقهم» حیث أَنَّهُ بناءًا علی القول بمفهوم الاستثناء یَدُلّ الأوّل بمفهومه علی وجوب إکرام الجهّال العدول، والثانی علی عدم وجوب إکرام العلماء الْفُسَّاق)، فإن أرید بمَوْضُوع الحکم الْمَفْهُومِیّ مُتَعَلَّق مُتَعَلَّقِهِ، فهو مذکور فِی المنطوق، لٰکِنَّهُ غیر موضوع الحکم الْمَنْطُوقِیّ، ففی المثال الأوّل موضوع الحکم الْمَنْطُوقِیّ عبارة عن الْجُهَّال، بینما موضوع الحکم الْمَفْهُومِیّ عبارة عن الْجُهَّال العدول، وفی المثال الثَّانِی مَوْضُوع المنطوق «العلماء» ومَوْضُوع المفهوم «العلماء الْفُسَّاق».

وإن أرید بموضوع الحکم الْمَفْهُومِیّ نفس الْمُتَعَلَّق من حیث هو، فهو مذکور فِی المنطوق بعینه، وهو «الإکرام» فِی المثالین، وإن أرید به الْمُتَعَلَّق المضاف والمنسوب إلی الموضوع الخاصّ فهو غیر مذکور فِی المنطوق، ف_«إکرام الْجُهَّال العدول» فِی المثال الأوّل و«إکرام العلماء الْفُسَّاق» فِی المثال الثَّانِی غیر مذکورین فِی المنطوق.

وأمّا مفهوم الحصر فالحق هو التَّفْصِیل فیه، وبیانه: إن الحصر علی أقسام؛ إذ:

تارةً یکون بلحاظ ذات الحکم (أی: یحصر الحکم فِی حکم مُعَیَّن کالوجوب مثلاً) کما إذا قال: «إِنَّمَا إکرام زید واجب» فَیَدُلُّ بمفهومه (کما إذا قال: «إِنَّمَا إکرام زید واجب»)، فَیَدُلُّ بمفهومه (بناءًا علی القول بمفهوم الحصر) علی انْتِفَاء الأحکام الأخری (غیر الوجوب) عن إکرام زید.

وأخری یکون بِلِحَاظِ مُتَعَلَّقِ الحکم، أی: یحصر الْمُتَعَلَّق فِی فعلٍ مُعَیَّنٍ، کما إذا قال: «إِنَّمَا الواجب فِی حق زید هو الإکرام»، فَیَدُلُّ بمفهومه (بناءًا علی القول بمفهوم الحصر) علی انْتِفَاء الوجوب عن فعل آخر بشأن زید غیر إکرامه.

ص: 85

وثالثةً یکون بلحاظ مَوْضُوعِ الحکم، بمعنی مُتَعَلَّق مُتَعَلَّقه، أی: یحصر المَوْضُوع فِی شخصٍ مُعَیَّن أو فِی شیءٍ مُعَیَّن، کما إذا قال: «إِنَّمَا الَّذی یجب إکرامه هو زید»، أو قال: «إِنَّمَا الَّذی یجب الصیام فیه هو نهار شهر رمضان، فبناءًا علی القول بمفهوم الحصر یَدُلّ المثال الأوّل بمفهومه علی انْتِفَاء وجوب إکرام غیر زید، ویدلّ المثال الثَّانِی بمفهومه علی انْتِفَاء وجوب صیام غیر نهار شهر رمضان.

ورابعةً یکون بلحاظ شرط الحکم، أی: یحصر الشَّرْط فِی شرط مُعَیَّن، کما إذا قال «إنَّ زَیْداً إِنَّمَا یجب إکرامه إن زارک»، أو قال: «إن القصر إِنَّمَا یجب علیک إذا کنتَ مسافراً»، فبناءًا علی القول بمفهوم الحصر یَدُلّ المثال الأوّل بمفهومه علی انْتِفَاء وجوب إکرام زید عند انْتِفَاء الزِّیَارَة، ویدلّ المثال الثَّانِی بمفهومه علی انْتِفَاء وجوب القصر عنک عند انْتِفَاء السفر.

إذن، فهذه أقسام أربعة للحصر.

ففی القسم الأوّل یکون مَوْضُوع المفهوم عین مَوْضُوع المنطوق المذکور فِی الکلام مطلقاً، سواء أرید بالمَوْضُوع مُتَعَلَّق الْمُتَعَلَّق (وهو زید فِی المثال)، أم أرید به الْمُتَعَلَّق من حیث هو (وهو الإکرام فِی المثال)، أم أرید به الْمُتَعَلَّق المضاف إلی المَوْضُوع الخاصّ (وهو إکرام زید فِی المثال) کما هو واضح.

وفی القسم الثَّانِی یکون مَوْضُوع المفهوم عین مَوْضُوع المنطوق المذکور فِی الکلام، إن أرید بالمَوْضُوع مُتَعَلَّق الْمُتَعَلَّق (وهو زید فِی المثال). أما إذا أرید به الْمُتَعَلَّق سواء ذات الْمُتَعَلَّق من حیث هو، أم الْمُتَعَلَّق المضاف إلی المَوْضُوع الخاصّ، فهو غیر مذکور فِی المنطوق؛ لأَنَّ مُتَعَلَّق المفهوم غیر الإکرام، وهو غیر مذکور فِی المنطوق أصلاً.

وفی القسم الثَّالث یکون مَوْضُوع المفهوم عین مَوْضُوع المنطوق إن أرید بالمَوْضُوع الْمُتَعَلَّق من حیث هو (وهو الإکرام فِی المثال الأوّل، والصیام فِی المثال الثَّانِی). أما إذا أرید به مُتَعَلَّق الْمُتَعَلَّق (وهو غیر زید فِی المثال الأوّل، وغیر نهار شهر رمضان فِی المثال الثَّانِی) أو أرید به الْمُتَعَلَّق المضاف إلی المَوْضُوع الخاصّ (وهو إکرام غیر زید فِی المثال الأوّل، وصیام غیر نهار شهر رمضان فِی المثال الثَّانِی) فهو غیر مذکور فِی المنطوق.

ص: 86

وفی القسم الرَّابع یکون مَوْضُوع المفهوم عین مَوْضُوع المنطوق إن أرید بالمَوْضُوع الْمُتَعَلَّق من حیث هو (وهو الإکرام فِی المثال الأوّل، والقصر فِی المثال الثَّانِی).

وأمّا إذا أرید به مُتَعَلَّق الْمُتَعَلَّق، أو الْمُتَعَلَّق المضاف إلی المَوْضُوع الخاصّ، فإن لم نقل برجوع الشَّرْط إلی المَوْضُوع (کما هو الصَّحِیح)؛ فمَوْضُوعُ المفهوم غیر مَوْضُوع المنطوق؛ فَإِنَّ مُتَعَلَّق الْمُتَعَلَّق للمفهوم هو زید فِی المثال الأوّل، والمکلَّف فِی المثال الثَّانِی، وهما مذکوران فِی المنطوق، کما أن الْمُتَعَلَّق المضاف إلی المَوْضُوع الخاصّ فِی المفهوم هو إکرام زید فِی المثال الأوّل، وقصر المُکَلَّف صلاته فِی المثال الثَّانِی، وهما مذکوران فِی المنطوق.

وأمّا إن قلنا برجوع الشَّرْط إلی المَوْضُوع، فمَوْضُوعُ المفهوم غیر مَوْضُوع المنطوق ثبوتاً؛ فَإِنَّ الشَّرْط إذا حُصر فِی شرط مُعَیَّنٍ کان مفهوم الحصر عبارة عن انْتِفَاء الحکم الْمَنْطُوقِیّ عند انْتِفَاء الشَّرْط، وبانتفاء الشَّرْط ینتفی موضوع الحکم الْمَنْطُوقِیّ؛ لرجوع الشَّرْط إلی المَوْضُوعِ حسب الفرض. نعم مَوْضُوع المفهوم عین مَوْضُوع المنطوق إثباتاً، کما هو واضح.

هذا تمام الکلام فِی تعریف المفهوم. وبه تَمَّت الإجابة علی السُّؤَال الأوّل حول تعریف المفهوم.

مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

کُنَّا نتحدث قبل العطلة فِی الْمَفَاهِیم، وقلنا فِی البدایة قبل الدخول فِی صلب البحث عن الْمَفَاهِیم أَنَّنَا نواجه سؤالین لا بُدَّ من الإجابة عنهما:

السُّؤَال الأوّل: ما هو تعریف الْمَفْهُوم؟ وهذا سؤال أجبنا عنه قبل العطلة، وتلخص من جمیع ما ذکرناه بهذا الصدد أن الْمَفْهُوم فِی المصطلح الأُصُولِیّ عبارة عن الْمَدْلُول الاِلْتِزَامِیّ الْمُتَفَرّع علی ربط خاصّ قائم بَیْنَ طَرَفَیِ الْکَلاَمِ. فإذا کان الکلام دالاًّ علی ربط مُعَیَّن بین طرفیه، حینئذٍ ذاک الرَّبْط الخاصّ هو الَّذی لازمه ثبوت الْمَفْهُوم (أی: انْتِفَاء شیء عند انْتِفَاء شیء آخر). هذا هو التَّعْرِیف الصَّحِیح الَّذی انتهینا إلیه بِالنِّسْبَةِ إلیه. وبقیت الإجابة عن السُّؤَال الثَّانِی نذکرها فیما یلی:

ص: 87

وأمّا السُّؤَال الثَّانِی فهو عن ضَابِطِ الْمَفْهُومِ فِی هذه السِّلْسِلَة من البحوث المعروفة ببحوث الْمَفَاهِیم. فما هو ضَابِط دلالة الکلام علی الْمَفْهُوم المبحوث عنه فِی المقام؟ فنحن بعد أن عرفنا تعریف الْمَفْهُوم والمقصود منه فِی المقام، نواجه سؤالا آخر حول المناط والمقیاس لاقتناص الْمَفْهُوم، فما هو الضّابط والنُّکتة الَّتی لو ثبتت دلالة جملة من الجمل (شرْطِیَّة کانت أم غیرها) علیها دلت علی الْمَفْهُوم؟ وما هو ذاک الرَّبْط الخاصّ القائم بَیْنَ طَرَفَیِ الْکَلاَمِ وَالَّذِی یکون الْمَفْهُوم مدلولاً اِلْتِزَامِیّاً مَتَفَرّعاً علیه؟ فبأیّ شکلٍ یجب أن تکون الجملة وعلی أیّ ربط یجب أن تَدُلّ، کی یکون لهذا الرَّبْط لازم یُسَمَّی ب_«الْمَفْهُوم»؟

وبعبارة أخری: ما هو الضّابط الَّذی مِن هَمِّ القائلین بالمفهوم إثباته کی یثبت الْمَفْهُوم، ومن همِّ المنکرین للمفهوم نفیه کی ینتفی الْمَفْهُوم؟ فما هو ذاک الَّذی ینبغی جعله ضَابِطاً لاقتناص الْمَفْهُوم وینکره مُنکِر الْمَفْهُوم ویثبته مثبِت الْمَفْهُوم؟

والمناسب بیان الضّابط مستقلاًّ ومع قطع النَّظَر عن عنوان خصوص مفهوم الشَّرْط أو غیره، إلاَّ أن المُحَقِّق الخُراسانیّ وتلمیذه النائینی رحمهما الله ذکراه فِی خصوص عنوان مفهوم الشَّرْط، ویظهر الحال فِی سائر الْمَفَاهِیم بالقیاس إلیه، ونحن نقتفی أثرهما تسهیلاً لتناول ما نبیّنه بشأن کلامهما، فنقول ومن الله التوفیق:

إن الأصحاب - رضوان الله علیهم - سلکوا فِی المقام مسلکین متعاکسین، فالرأی المشهور بینهم هو جعل الضّابط والمحور الَّذی یدور الْمَفْهُوم مداره وجوداً وعدماً عبارة عن أمرٍ، بعد تسلیمهم بأمر آخر، ولکن المُحَقِّق الْعِرَاقِیّ رَحِمَهُ اللَهُ جعل الضّابط والمحور الَّذی یدور الْمَفْهُوم مداره عبارة عن ذاک الأمر الَّذی اعتُبر مُسَلَّماً فِی الرَّأْی المشهور، بعد تسلیمه بالأمر الَّذی اعتبره الرَّأْی المشهور مِحْوَراً للمفهوم.

ص: 88

فالضابط فِی اقتناص الْمَفْهُوم فِی الرَّأْی المشهور هو أن یکون الشَّرْط أو الوصف أو أی شیء آخر علّةً منحصرة للجزاء والحکم، فینتفی الجزاء والحکم بِانْتِفَائِهِ، ویثبت الْمَفْهُومُ بذلک، بَعْدَ الْفَرَاغِ وَالتَّسْلِیمِ بِأَنَّ مَا ربط بالشرط أو بالوصف أو بغیرهما وعُلِّق علیه عِبَارَةٌ عَنْ سِنْخِ الْحُکْمِ وَطَبِیعِیِّهِ لاَ شَخْصَهُ، بَعْدَ الْفَرَاغِ وَالتَّسْلِیمِ بِأَنَّ الشَّرْطَ أو الوصف أو غیرهما علّة منحصرة للجزاء والحکم، فهو رَحِمَهُ اللَهُ یَقُولُ: إِنَّهُ لاَ خِلاَفَ فِی أَنَّ جمیع الجمل الَّتی اِخْتَلَفَ الأَصْحَابُ فِی دَلاَلَتِهَا عَلَی الْمَفْهُومِ تَدُلّ علی ذاک الرَّبْط الخاصّ المستدعی لِلاِنْتِفَاءِ عِنْدَ الاِنْتِفَاءِ (أی: علی الْعِلِّیَّة الاِنْحِصَارِیَّة مثلاً کما هو علی الرَّأْی المشهور).

فَلاَ خِلاَفَ بین المثبِتین لِلْمَفْهُومِ وَالنَّافِینَ له فِی هذه النُّقْطَة؛ وذلک بدلیل اتفاقهم جمیعاً عَلَی انْتِفَاءِ شَخْصِ الْحُکْمِ بِانْتِفَاءِ الْقَیْدِ (سَوَاءٌ کَانَ شرطاً أو وصفاً أو غیرهما).

وإنَّما الاختلاف بینهم فِی انْتِفَاء طبیعی الحکم وسنخه عِنْدَ انْتِفَاءِ الْقَیْدِ؛ فالمثبِتون لِلْمَفْهُومِ یدّعون الدِّلاَلَة علیه، والنافون له ینفونها، فلولا أن الجملة تَدُلّ عندهم جمیعاً علی هذا الرَّبْط الخاصّ الَّذی ذکرناه لَما تسالموا عَلَی انْتِفَاءِ شَخْصِ الْحُکْمِ بِانْتِفَاءِ الْقَیْدِ؛ فَإِنَّ الجملة الشَّرْطِیَّة مثلاً إذا لم تکن دالَّة عندهم جمیعاً علی أن الشَّرْط علّة منحصرة للجزاء، لَما اتفقوا عَلَی انْتِفَاءِ شَخْصِ الْحُکْمِ الْمَذْکُورِ فِی الْجَزَاءِ عِنْدَ انْتِفَاءِ الشَّرْطِ؛ لوضوح أن الشَّرْط إذا لم یکن علّة منحصرة للجزاء، فهذا یعنی أن هناک علّة أخری أیضاً للجزاء غیر الشَّرْط، فَکَمَا لا ینتفی طبیعی الحکم بانتفاء الشَّرْط، کذلک لا ینتفی شخص الحکم بِانْتِفَائِهِ؛ لقیام العلّة الأخری مقام الشَّرْط، فلا بُدَّ من بقاءِ شخص الحکم، بینما تسالموا علی انتفائه بانتفاء الشَّرْط، وهذا یعنی تسالمهم علی کون الشَّرْط علّة منحصرة للجزاء، وعلی هذا الأساس فالبحث فِی إثبات الْمَفْهُوم فِی مقابل المنکرین له ینحصر فِی رأی المُحَقِّق الْعِرَاقِیّ رَحِمَهُ اللَهُ فِی مدی إمکان إثبات أن طرف الرَّبْط الخاصّ المذکور المتسالم علیه لیس هو شخص الحکم، بل سنخه وطبیعیه، لیکون هذا الرَّبْط مُسْتَدْعِیاً لاِنْتِفَاءِ الطَّبِیعِیِّ بِانْتِفَاءِ الْقَیْدِ. هذا هو رأی المُحَقِّق الْعِرَاقِیّ رَحِمَهُ اللَهُ.

ص: 89

وَیَظْهَرُ مِنْ ذَلِکَ کُلِّهِ أَنَّ الضَّابِطَ فِی اقتناص الْمَفْهُوم عند کلا الطرفین (أی: عند الأصحاب وعند المُحَقِّق الْعِرَاقِیّ رَحِمَهُ اللَهُ) فِی الحقیقة واحد مرکب من أَمْرَیْنِ:

أحدهما: أن یکون الشَّرْط (أو أیّ شیء آخر یُفترض) علّة منحصرة لِما عُلِّق علیه، ورُبط به.

ثانیهما: أَنْ یَّکُونَ مَا عُلِّقَ عَلَیْهِ وَرُبِطَ بِهِ سنخ الحکم وطبیعیه لا شخصه.

إلاَّ أن الرَّأْی المشهور قد جعل الثَّانِی مُسَلَّماً عِنْدَ الْجَمِیعِ حتّی عند مَن ینکر الْمَفْهُوم، وحَصَر النزاع الدائر بین مُثبِتی الْمَفْهُوم ومنکریه فِی الأمر الأوّل.

بینما المُحَقِّق الْعِرَاقِیّ رَحِمَهُ اللَهُ قد جَعَل الأمر الأوّل مُسَلَّماً عِنْدَ الْجَمِیعِ حتّی عند مَن ینکر الْمَفْهُومَ، وَحَصَرَ النِّزَاعَ حول ثبوت الْمَفْهُوم وعدم ثبوته فِی الأمر الثَّانِی.

وعلی کل حال فتارةً یقع الکلام فِی البحث فِی الرَّأْی المشهور بین الأصحاب، وأخری فِی ما أفاده المُحَقِّق الْعِرَاقِیّ رَحِمَهُ اللَهُ، فنقول:

أَمَّا الرَّأْیُ الْمَشْهُورُ الْقَائِلُ بِأَنَّ الضَّابِطَ فِی دَلاَلَةِ الْجُمْلَةِ الشَّرْطِیَّةِ مثلاً علی الْمَفْهُوم هو کون الشَّرْط علّةً منحصرة للجزاء، فهو یَنْحَلُّ فِی الحقیقةِ إلی اشتراط أمور ثلاثة أو أربعة لتحقّق الْمَفْهُوم:

فَالْمُحَقَّقُ النائینی رَحِمَهُ اللَهُ ذکر شروطاً ثلاثة:

الأوّل: أن تکون الْقَضِیَّة لزومیّة لا اتفاقیة، أی: أن یکون الرَّبْط المخصوص (بین الحکم وطرفه) الَّذی یستلزم الْمَفْهُوم وَالاِنْتِفَاءَ عِنْدَ الاِنْتِفَاءِ عِبَارَةٌ عَنِ الرَّبْطِ اللُّزُومِیِّ بینهما، لا الرَّبْط الاِتِّفَاقِیّ وَالصُّدَفِیّ؛ فَإِنَّ ربط شیء بشیء علی نحو الصُّدفَة والاتفاق کما لو کان مجیء زید مرتبطاً (صُدْفَةً وَّاتِّفَاقاً) بمجیء عمرو، لا یستلزم انْتِفَاء المرتبِط عند انْتِفَاء المرتبَط به کما هو واضح؛ ففی الْقَضِیَّة الشَّرْطِیَّة مثلاً إذا کان الجزاء مرتبطا بالشرط بنحو الصُّدفَة وَالاِتِّفَاقِ کما إذا قیل: «إن جاء عمرو جاء زید، لا یثبت الْمَفْهُوم». إذن فَالشَّرْطُ الأوّلُ إِنَّمَا هو لإخراج الرَّبْط الاِتِّفَاقِیّ.

ص: 90

الثَّانِی: أن تکون الْقَضِیَّة اللزومیة تَرَتُّبِیَّة، وبعبارة أخری: أن یکون ذاک الرَّبْط اللُّزومیّ الَّذی ذکرناه فِی الشَّرْط الأوّلِ تَرَتُّبِیّاً (أی: یَکُونُ عِلِّیّاً)، وذلک بأن یکون الحکم مُتَرَتِّباً علی طرفه ومعلولا له، ویکون الجزاء مثلاً فِی الْقَضِیَّة الشَّرْطِیَّة مُتَرَتِّباً علی الشَّرْط ومعلولاً له، لا أن یکونا معلولین لشیء آخر؛ فَإِنَّ الرَّبْط اللُّزومیّ بین شَیْئَیْنِ قد یکون بنحو علیة أحدهما للآخر، وَقَدْ یَکُونُ بنحو علیة شیء آخر لهما معاً؛ ففی الْقَضِیَّة الشَّرْطِیَّة مثلاً إذا کان الجزاء مُرْتَبِطاً رَبْطاً لُزُومِیّاً بالشرط، لکن لم یکن الشَّرْط علّة للجزاء، بل کانا معاً معلولین لشیءٍ آخر، فإن مثل هذا الرَّبْط اللُّزومیّ لا یستلزم الْمَفْهُوم وانتفاء الجزاء عِنْدَ انْتِفَاءِ الشَّرْطِ لإمکان أن یکون للجزاء علّة أخری خاصّة به غیر العلّة المشترکة بینه وبین الشَّرْط فانتفاء الشَّرْط وإن کان یعنی انْتِفَاء علته الَّتی یشترک فیها الشَّرْط مع الجزاء لکن هذا لا یستلزم انْتِفَاء الجزاء لإمکان قیام تلک العلّة الأخری الخاصّة بالجزاء مقام العلّة المشترکة کما هو واضح.

إذن، فَالشَّرْطُ الثَّانِی إِنَّمَا هو لإخراج الرَّبْط اللُّزومیّ غیر العلی.

الثَّالث: أن تکون الْقَضِیَّة اللُّزُومِیَّة التَّرَتُّبِیَّة اِنْحِصَارِیَّة. وبعبارة أخری: أن یکون ذاک الرَّبْط اللُّزُومِیّ الْعِلِّیّ اِنْحِصَارِیّاً؛ وذلک بأن یکون الحکم مُتَرَتِّباً علی طرفه وَمَعْلُولاً له بنحو الانحصار بحیث لا تکون هناک علّة أخری له. فَالشَّرْطُ الثَّالث هو أن یکون طرف الحکم علّةً منحصرة له، ویکون الشَّرْط مثلاً فِی الْقَضِیَّة الشَّرْطِیَّة علّة منحصرة للجزاء، أمّا إذا لم یکن کذلکن بأن کانت هناک علّة أخری أیضاً تقوم مقامه، فحینئذٍ لا یکون هذا الرَّبْط اللُّزُومِیّ الْعِلِّیّ مستلزما لِلْمَفْهُومِ وَانْتِفَاءِ الْجَزَاءِ عِنْدَ انْتِفَاءِ الشَّرْطِ؛ لقیام العلّة الأخری الْمَفْرُوضَة مقام الشَّرْط، فلا ینتفی الجزاء کما هو واضح.

ص: 91

إذن، فَالشَّرْطُ الثَّالث إِنَّمَا هو لإخراج الرَّبْط اللُّزُومِیّ الْعِلِّیّ غَیْر الاِنْحِصَارِیِّ. هذا ما أفاده المُحَقِّق النائینی رَحِمَهُ اللَهُ.

أما المُحَقِّق الخُراسانیّ رَحِمَهُ اللَهُ فقد ذکر شروطاً أربعة:

الأوّل: أن تکون الْقَضِیَّة لزومیّة لا اتفاقیة، کما تقدّم.

الثَّانِی: أَنْ یَکُونَ اللُّزُومُ تَرَتُّبِیّاً، بِأَنْ یَّکُونَ الجزاءُ (مثلاً) مُتَرَتِّباً علی الشَّرْط، لا أن یکونا فِی عَرض واحد، ولا أن یکون الشَّرْط مُتَرَتِّباً علی الجزاء.

الثَّالث: أَنْ یَکُونَ التَّرَتُّب علی نحو ترتّب المعلول علی عِلَّتِه، کما یأتی شرحه.

الرَّابع: أَنْ تَکُونَ العلّة منحصرةً، کما تقدّم فِی الشَّرْط الثَّالث من شروط المُحَقِّق النائینی رَحِمَهُ اللَهُ.

والعمدة عبارة عن الشَّرْط الأخیر، وسائر الشروط فِی الحقیقة مقدّمة له.

وَکَیْفَ کَانَ، فیرد علی ما ذکره المُحَقِّق الخُراسانیّ أن الشروط الثَّلاثة الَّتی ذکرها المُحَقِّق النَّائِینِیّ رَحِمَهُ اللَهُ کافیة فِی اقْتِنَاصِ الْمَفْهُومِ عَلَی الرَّأْیِ الْمَشْهُورِ.

ویحتمل أن یرید رَحِمَهُ اللَهُ بالشرط الثَّالث (وهو کون التَّرَتُّب علی نحو ترتّب المعلول علی علته) أحد أمور ثلاثة، أو اثنین منها، أو کُلّهَا، وهی:

الأوّل: أن یرید بترتّب المعلول علی علته ما یقابل التَّرَتُّب الزمانی، أی: أن الشَّرْط الثَّالث إِنَّمَا ذکره لإخراج التَّرَتُّب الزمانی؛ فَإِنَّ الأَمْرَیْنِ اللذین أحدهما متقدّم زماناً والآخر متأخر زماناً، یوجد بینهما ربط تَرَتُّبِیّاً، حیث أن المتأخر زمانا مترتّب علی المتقدّم زماناً، لکن هذا التَّرَتُّب لا یُنتج الْمَفْهُوم وانتفاء المترتِّب عند انْتِفَاء المترتَّب علیه، بل لا بُدَّ من أن یکون الرَّبْط التَّرَتُّبِیّ بنحو تَرَتُّب الْمَعْلُولِ عَلَی الْعِلَّةِ، ولا یُجدی أن یکون بنحو تَرَتُّب الْمُتَأَخِّرِ عَلَی الْمُتَقَدِّمِ زَمَاناً.

الثَّانِی: أن یرید به ما یقابل التَّرَتُّب الطَّبْعِیّ وهو ترتّب الشَّیْء عَلَی جُزْءِ عِلَّتِهِ، أَیْ: أَنَّ الشَّرْطَ الثَّالث إِنَّمَا ذکره لإخراج فرض کون الشَّرْط مثلاً جزء العلّة للجزاء؛ فَإِنَّ الرَّبْط بینهما حینئذٍ وإن کان رَبْطاً لُزُومِیّاً، لٰکِنَّهُ لیس بنحو الرَّبْط اللُّزُومِیّ بین المعلول وعلته التَّامَّة، فَالشَّرْطُ الثَّالث یراد به کون الشَّرْط مثلاً علّةً تامَّة للجزاء.

ص: 92

الثَّالث: أن یرید به ما یقابل کون الجزاء مثلاً مَعْلُولاً لما یلازم الشَّرْط، بدعوی أن ما یکون متأخّراً عن شیء ومترتبا علیه فهو متأخر عمَّا فِی رتبة ذلک الشَّیْء، ومترتب علیه أیضاً؛ فَإِنَّ هذا الفرض لم یخرج بالشرط الثَّانِی، لانحفاظ التَّرَتُّب بین الشَّرْط والجزاء فِی هذا الفرض، فأخرجه بِهَذَا الشَّرْطِ؛ فَإِنَّ الجزاء إذا کان مَعْلُولاً لما یلازم الشرط، فَهُوَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ عِلَّتِهِ وَمُتَرَتِّبٌ عَلَیْهَا، وهو أیضاً متأخر عمَّا یلازمها (أَیْ: الشَّرْطَ) ومترتب علیه؛ لأَنَّ ما مع المتقدّم متقدّم، وما هو متأخر عن شیء متأخر أیضاً عمَّا معه وفی رتبته. فرغم أن التَّرَتُّب حینئذٍ بَیْنَ الْجَزَاءِ وَالشَّرْطِ محفوظ وثابت، إلاَّ أَنَّهُ لیس بنحو تَرَتُّب الْمَعْلُولِ علی علته، بل بنحو تَرَتُّب الْمَعْلُولِ علی ملازم العلّة.

مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

قلنا بالأَمْسِ إن الْمَشْهُور فِی ضَابِط الْمَفْهُوم هو أن یکون هذا الرَّبْط الخاصّ (القائم بَیْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ مثلاً فِی الْقَضِیَّة الشَّرْطِیَّة) رَبْطاً عِلِّیّاً اِنْحِصَارِیّاً (أی: أَنْ یَکُونَ هذا الشرط عِلَّةً مُّنْحَصِرَةً لِلْجَزَاءِ).

إلاَّ أن التَّحْقِیق هو أن الْمَفْهُوم لا یتوقَّف علی الْعِلِّیَّة الاِنْحِصَارِیَّة، فکون الْقَضِیَّة الشَّرْطِیَّة مثلاً ذات مفهوم غیر متوقّف علی ثبوت کَوْن الشَّرْط علّة منحصرة لِلْجَزَاءِ، بل الَّذی یوجب إفادة الکلام لِلْمَفْهُومِ هو أن یَدُلّ علی ربطٍ بین الحکم وطرفه مفاده عبارة عن أن ثبوت الحکم منحصر فِی فرض ثبوت طرفه، فکون الْقَضِیَّة الشَّرْطِیَّة مثلاً ذات مفهوم متوقّف علی دلالتها علی هذا الرَّبْط بین الْجَزَاء والشرط، وهو أن ثبوت الْجَزَاء منحصر فِی فرض ثبوت الشرط، ولیس متوقّفاً علی دلالتها علی أَنَّ الشَّرْطَ علّة منحصرة لِلْجَزَاءِ، فالقائل بثبوت الْمَفْهُوم للقضیة الشَّرْطِیَّة مثلاً لا یجب علیه أن یلتزم بتحقّق تلک الشُّرُوط الثَّلاثة الَّتی أفادها المُحَقِّق النائینی رَحِمَهُ اللَهُ غیر صحیح إلاَّ مع فرض تَمَامِیَّة إحدی دعویین:

ص: 93

الدَّعْوَیٰ الأولی هی أن یقال: إن مجرّد انحصار ثبوت الْجَزَاء فِی فرض ثبوت الشرط لا یوجب انْتِفَاء الْجَزَاء عِنْدَ انْتِفَاءِ الشَّرْطِ.

وهذه الدَّعْوَیٰ کما تَرَیٰ واضحة البطلان؛ فإِنَّهُ إذا ثبت فِی جملة من الجمل أن تلک الجملة تَدُلّ علی أن ثبوت الْجَزَاء منحصر بفرض ثُبُوت الشَّرْطِ، فلازمه العَقْلِیّ هو انْتِفَاء الْجَزَاء عِنْدَ انْتِفَاءِ الشَّرْطِ.

الدَّعْوَیٰ الثَّانیة هی أن یقال: إن انحصار ثبوت الْجَزَاء فِی فرض ثبوت الشرط یکون فِی عالم الثُّبوت منحصراً فِی فرض کَوْن الشَّرْط علّة منحصرة لِلْجَزَاءِ (أی: علینا أن نلتزم بما یقول به الْمَشْهُور).

ویرد علی هذه الدَّعْوَیٰ أن انحصار ثبوت الْجَزَاء فِی فرض ثبوت الشرط لیس منحصراً فِی عالم الثُّبوت فِی فرض کَوْن الشَّرْط علّة منحصرة لِلْجَزَاءِ، لکن هناک حالات أخری بِالرَّغْمِ من أَنَّ الشَّرْطَ فیها لَیْسَ علّةً تامَّةً منحصرة لِلْجَزَاءِ، مع ذلک ثبوت الْجَزَاء منحصر بثبوت الشرط، وحینئِذٍ یثبت الْمَفْهُوم رغم أَنَّ الشَّرْطَ غیر منحصر (أی: خلافاً للمقیاس الذی ذکره الْمَشْهُور) وإلیک تلک الحالات الخمس أو الملاکات الخمسة:

الحالة الأولی: ما إذا فرضنا أَنَّ الشَّرْطَ علّة غیر منحصرة لِلْجَزَاءِ وأن هناک علّةً أخری لِلْجَزَاءِ غَیْر الشَّرْطِ، إلاَّ أن تلک العلّةَ الأخری لا توجد فِی الخارج، فَیَنْحَصِرُ ثبوت الْجَزَاء فِی فرض ثبوت الشرط من دون أن یَکُون الشَّرْطُ علّةً منحصرة لِلْجَزَاءِ، وحینئِذٍ فالمفهوم ثابت، وینتفی الْجَزَاء عِنْدَ انْتِفَاءِ الشَّرْطِ رغم عدم توفر الشرط الرَّابع من تلک الشُّرُوط وعدم کَوْن الشَّرْط علّة منحصرة لِلْجَزَاءِ.

اللهم إلاَّ أن یکون مرادهم مِنَ الشَّرْطِ الرَّابع (وهو الانحصار) ما یعمّ الانحصار بهذا المعنی (أی: الانحصار فِی الخارج)، لٰکِنَّهُ خلاف ظاهر کلماتهم.

الحالة الثَّانیة: ما إذا فرضنا کَوْن الشَّرْط جزءاً لعلّةِ الْجَزَاء، لٰکِنَّهُ جزء لا بدل له (أی: هو جزء منحصر لا بُدَّ من فرضه فِی کُلّ علّة ارتبطت بالجزاء)، فهو جزء لکل ما هو علّة الْجَزَاء، فَیَنْحَصِرُ ثبوت الْجَزَاء فِی فرض ثبوت الشرط من دون أن یَکُون الشَّرْطُ علّة تامَّة لِلْجَزَاءِ، وحینئِذٍ فالمفهوم ثابت وینتفی الْجَزَاء عِنْدَ انْتِفَاءِ الشَّرْطِ (أی: ثبوت الْجَزَاء منحصر بفرض ثُبُوت الشَّرْطِ) رغم أَنَّ الشَّرْطَ لَیْسَ علّة تامَّة منحصرة لِلْجَزَاءِ. فلیس ما قلناه راجعاً إلی ما قالوه، فیَتمّ ما قلناه ولا یَتُِمّ ما قالوه.

ص: 94

الحالة الثَّالثة: ما إذا فرضنا کَوْن الشَّرْط والجزاء معاً معلولین لعلة واحدة مشترکة، فَیَنْحَصِرُ ثبوت الْجَزَاء فِی فرض ثبوت الشرط من دون أن یکون الْجَزَاء مُتَرَتِّباً عَلَیٰ الشَّرْطِ، بل هما فِی عَرض واحد حسب الفرض، وحینئِذٍ فالمفهوم ثابت وینتفی الْجَزَاء عِنْدَ انْتِفَاءِ الشَّرْطِ؛ إِذْ أَنَّ انْتِفَاءَ الشرط مساوق لانتفاء علته الَّتی هی علّة الْجَزَاء أیضاً حسب الفرض، فبالرغم من عدم تَمَامِیَّة الضّابط الَّذی ذکروه من وجوب التَّرَتُّب بَیْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ (فضلاً عن کَوْن الشَّرْط علّة تامَّةً منحصرة لِلْجَزَاءِ) یثبت الْمَفْهُوم.

الحالة الرَّابعة: ما إذا فرضنا انْتِفَاء جمیع الشُّرُوط الأربعة (أی: اللُّزُوم وَالتَّرَتُّب والعلّیّة والانحصار)، وذلک بأن یفرض انحصار ثبوت الْجَزَاء فِی فرض ثبوت الشرط من باب الاتفاق، بِأَنْ یَّکُونَ من الاتّفاقیّات أن الْجَزَاء مهما کان موجوداً فَالشَّرْطُ أیضاً موجود، فلو فرضنا أن نزول المطر منحصر بمجیء زید، أو إن فرضنا أن مجیء زید مثلاً منحصر (صُدْفَةً وَّاتِّفَاقاً) فِی فرض مجیء عمرو، فَسَوْفَ یَنْتَفِی مجیئه عند انْتِفَاء مجیء عمرو، فرغم انْتِفَاء جمیع الشُّرُوط بما فیها اللُّزُوم وعدم وجود أیّ لزوم بین الشرط (وهو مجیء عمرو) والجزاء (وهو مجیء زید) مع ذلک یثبت الْمَفْهُوم.

فإن قیل: هل یمکن انحصار ثبوت شیء فِی فرض ثبوت شیء آخر من دون أن یکون هناک لزوم بین الشیئین أصلاً؟

قلنا: نعم هو ممکن، کما فِی أعمال الإنسان الاختیاریة؛ فَإِنَّ الفعل الاختیاری منحصر بفرض ثبوت الحُبّ والإرادة لدی الإنسان تجاه ذاک الفعل، لٰکِنَّهُ مع ذلک لا لزوم بین الإرادة وبین صدور الفعل، بل حتّی بعد تحقّق الإرادة التَّامَّة لدی الإنسان تجاه ذاک الفعل تبقی للإنسان حالة السَّلْطَنَة علی ذاک الفعل من دون أی لزوم وضرورة فِی الْبَیِّن، فلیس علیه أن یفعل، بل له أن یفعل وله أن لا یفعل.

ص: 95

إذن، فانحصار ثبوت الْجَزَاء فِی فرض ثُبُوت الشَّرْطِ لیس مَحْصُوراً ثبوتاً بفرض کَوْن الشَّرْط علّة تامَّةً منحصرة لِلْجَزَاءِ، بل إن کَوْن الشَّرْط علّة تامَّةً منحصرة لِلْجَزَاءِ هو أحد تلک الحالات الخمس أو الملاکات الخمس لانحصار ثبوت الْجَزَاء بفرض ثُبُوت الشَّرْطِ کما قلنا.

وعلیه، فالدَّعْوَیٰ الثَّانیة أیضاً غیر تامَّة. هذا تمام الکلام فِی الرَّأْی الْمَشْهُور، وبعد ذلک ننتقل - إن شاء الله تعالی - إلی رأی المُحَقِّق الْعِرَاقِیّ الَّذی ذکرناه بالأَمْسِ.

مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

انتهینا إلی هذه النَّتِیجَة وهی أن القول بثبوت الْمَفْهُوم (فِی أیة قَضِیَّة من القضایا کالشرطیة أو الوصفیة أو..) لا یتوقَّف علی أن نلتزم بالشروط الَّتی ذکرها المُحَقِّق النائینی، فإن القائل بأن الجملة الشَّرْطِیَّة لها مفهوم لَیْسَ ملزماً بالذهاب إلی أن الرَّبْط بَیْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ ربط عِلِّیّ توقفیّ اِنْحِصَارِیّ. هذا ما تقدّم بالأَمْسِ، وسیأتی مزید توضیح وشرح وتفصیل له فی أثناء البحوث الآتیة.

وقد اتَّضَحَ أن الرَّأْی الْمَشْهُور حول ضَابِط الْمَفْهُوم (وهو أن الضّابط منحصر فِی أن یکون الرَّبْط عِلِّیّاً اِنْحِصَارِیّاً) غیر تامّ.

ونأتی الآنَ إلی رأی المُحَقِّق الْعِرَاقِیّ الَّذی قلنا بأَنَّهُ یمثل اتجاهاً معاکساً للاتجاه الْمَشْهُور فیما یلی:

یری المُحَقِّق الْعِرَاقِیّ رَحِمَهُ اللَهُ أن الضَّابِطَ فِی اِقْتِنَاصِ الْمَفْهُومِ لَیْسَ عبارة عن کون الرَّبْط رَبْطاً عِلِّیّاً اِنْحِصَارِیّاً، فهذا مسلم عِنْدَ الْجَمِیعِ، فإن من الواضح لدی الجمیع (بما فیهم المنکر لِلْمَفْهُومِ) - ولو ارتکازاً - فِی أَنَّ الشَّرْطَ علّة منحصرة لِلْجَزَاءِ. فاختلاف منکری الْمَفْهُوم مع مُثبتیه فِی أنّ الأمر الثَّانِی الَّذی ذکرناه فِی الیوم الأوّل، وهو ما هو الْجَزَاء؟ فإن خفاء الأذان علّة منحصرة لوجوب القصر، لکن هل المقصود من وجوب القصر هو کلیّ وجوب القصر أو شخص وجوب القصر؟

ص: 96

فیقول المُحَقِّق الْعِرَاقِیّ أن الخلاف بین النائینی والمشهور هو فِی أنَّ کون الْمُعَلَّق عَلَیٰ الشَّرْطِ سنخ الحکم فِی الْجَزَاء لا شخصه بعد فرض مُسَلَّمِیَّةِ (النُّقْطَة الأولی وهی) کَوْن الشَّرْط علّةً منحصرة لِلْجَزَاءِ. فهذا الرَّأْی یَنْحَلُّ فِی الحقیقة إلی دعاوی أربع:

الدَّعْوَیٰ الأولی: توقّف الْمَفْهُوم علی الرَّبْط اللُّزُومِیّ الْعِلِّیّ الاِنْحِصَارِیّ کما قال به الرَّأْی المشهور أیضاً، وهذا ما یقبل به المُحَقِّق الْعِرَاقِیّ.

الدَّعْوَیٰ الثَّانیة: أن هذا الرَّبْط اللُّزُومِیّ الْعِلِّیّ الاِنْحِصَارِیّ مسلَّم عِنْدَ الْجَمِیعِ حتّی عند منکری الْمَفْهُوم ولو ارتکازاً، فکون الشرط مثلاً علّة منحصرة لِلْجَزَاءِ أمر یراه حتّی منکر مفهوم الشرط أمراً ثابتاً ویعترف به ولو ارتکازاً.

الدَّعْوَیٰ الثَّالثة: أن هذا الرَّبْط اللُّزُومِیّ الاِنْحِصَارِیّ فِی الْقَضِیَّة لو کان رَبْطاً قَائِماً بین شخص الحکم وبین طرفه (شرطاً کان أم وصفاً أم أیّ شیء آخر) لما کان للقضیة مفهوم ولم یکن هناک مجال لادّعائه؛ لأَنَّ غایة ما تقتضی الجملة حینئذٍ عبارة عن انْتِفَاء شخص الحکم عند انتفاء طرفه بعد أن فرضنا أن الرَّبْط بین الحکم وطرفه ربط لُزُومِیّ عِلِّیّ اِنْحِصَارِیّ، فبانتفاء طرف الحکم یَنْتَفِی شَخْص الحکم، وهذا لَیْسَ مفهوماً؛ لأَنَّ الْمَفْهُوم عبارة عن انتفاء سنخ الحکم بانتفاء طرفه.

الدَّعْوَیٰ الرَّابعة: أن هذا الرَّبْط اللُّزُومِیّ الْعِلِّیّ الاِنْحِصَارِیّ فِی الْقَضِیَّة لو کان رَبْطاً قَائِماً بَیْنَ سِنْخِ الْحُکْمِ وَطَرَفِهِ (الَّذی هُوَ الشَّرْطُ) کانت الْقَضِیَّة ذات مفهوم؛ لأَنَّ المفروض أن الرَّبْط بین الحکم وطرفه ربط لُزُومِیّ عِلِّیّ اِنْحِصَارِیّ، فبانتفاء طرف الحکم یَنْتَفِی سِنْخ الحکم، وهذا هو الْمَفْهُوم.

أما الدَّعْوَیٰ الأولی: فقد اتَّضَحَ من خلال بحثنا بالأَمْسِ عندما کُنَّا نناقش الرَّأْی الْمَشْهُور بأن الْمَفْهُوم لا یتوقَّف إثباتُه علی إثبات أن الرَّبْط ربط لُزُومِیّ عِلِّیّ اِنْحِصَارِیّ، بل یکفی أن نثبت أن ثبوت الْجَزَاء منحصر بفرض ثُبُوت الشَّرْطِ، وبیّنّا حالات یختلف فیها أحد الأَمْرَیْنِ عن الآخر، فلیست القضیتان متساویتین، فإن کَوْن الشَّرْطِ عِلَّةً منحصرة لِلْجَزَاءِ لا یساوی ما نقوله من أن ثبوت الْجَزَاء منحصر بفرض ثُبُوت الشَّرْطِ، فقد یحصل الأوّل مع الثَّانِی، وقد یحصل الأوّل ولا یحصل الثَّانِی. فالمفهوم الَّذی نبحث عنه فِی الْمَفَاهِیم لَیْسَ هذا الَّذی قالوه.

ص: 97

فهذه الدَّعْوَیٰ الأولی یأتی فیها ما قلناه، کما یأتی فیها ما سنقوله فِی ثنایا البحث - إن شاء الله تعالی- من ضرورة الالتزام بالربط الْعِلِّیّ اللُّزُومِیّ الاِنْحِصَارِیّ أو عدم ضرورته.

أما الدَّعْوَیان الثَّالثة والرّابعة: فنوافق علیهما کما سوف یأتی - إن شاء الله تعالی -، أی: نحن نقبل بأن أیة الجملة (کالجملة الشَّرْطِیَّة مثلاً) إذا دلت حقیقة علی أَنَّ الشَّرْطَ علّة منحصرة لِلْجَزَاءِ ودلّت علی أن الْجَزَاء شَخْص الْحُکْمِ لا سنخه، هکذا جملة لا مفهوم لها، کما قال الْعِرَاقِیّ (أی: لا یکون الرَّبْطُ اللُّزُومِیُّ الْعِلِّیُّ الاِنْحِصَارِیُّ بین الشرط وبین شَخْص الْحُکْمِ منتجاً للمفهومِ).

أما الدَّعْوَیٰ الثَّانیة: فهی مرکز الخلاف بین الْمَشْهُور والمُحَقِّق الْعِرَاقِیّ، حیث یقول الأخیر: إن کون الرَّبْط لُزُومِیّاً عِلِّیّاً اِنْحِصَارِیّاً مسلم عِنْدَ الْجَمِیعِ، حتّی عند منکری الْمَفْهُوم، وإنَّما الخلاف بین المنکرین وَالنَّافِینَ فِی نقطة أخری. فالسؤال هو: ما الَّذی جعل الْعِرَاقِیّ یتأکد من أن الخلاف لَیْسَ فِی کون الرَّبْط رَبْطاً لُزُومِیّاً عِلِّیّاً اِنْحِصَارِیّاً؟

دلیل العراقی للدَّعْوَیٰ الثانیة: هو ما أفاده فِی وجه کون الرَّبْط اللُّزُومِیّ الْعِلِّیّ الاِنْحِصَارِیّ مُسْلَّماً ولو ارتکازا عِنْدَ الْجَمِیعِ سواء القائلون بالمفهوم والمنکرون له: أن الجمیع قالوا فِی باب المطلق والْمُقَیَّد المثبِتین کقوله: «أعتق رقبة» وقوله: «اعتق رقبة مؤمنةً» بحمل المطلق علی المقیَّد فیما إذا عُلم بأن الحکم المجعول فِی کلا الدَّلِیلَیْنِ واحد ولم یُحتمل تَعَدُّده، فیحکم بوجوب عتق خصوص الرقبة المؤمنة، ولا وجه لذلک سوی أن انْتِفَاء القید (کالإیمان فِی المثال) موجب لانتفاء الحکم المذکور فِی الدَّلِیل المقیَّد، وبما أن المفروض هو العلم بوحدة الحکم المذکور فِی الدَّلِیل المطلق والحکم المذکور فِی الدَّلِیل المقیَّد، وعدم احتمال وجود حکمین أحدهما مطلق والآخر مقیَّد بالإیمان، إذن فهذا یعنی أَنَّهُ بِانْتِفَاءِ الْقَیْدِ المذکور فِی الدَّلِیل المقیَّد یَنْتَفِی الحکم المذکور فِی الدَّلِیل المطلق، وهذا هو حمل المطلق علی المقیَّد، ولا وجه لانتفاء الحکم المذکور فِی الدَّلِیل المقیَّد عِنْدَ انْتِفَاءِ الْقَیْدِ بعد أن نکروا مفهوم الوصف سوی أن القید علّة تامَّة منحصرة لِشَخْصِ الْحُکْمِ الْمَذْکُورِ فِی الدَّلِیل المقیَّد.

ص: 98

وبهذا تصحّ حینئذٍ دعوی استحالة ثبوت الحکم بعد انْتِفَاء موضوعه، وإلا فلا یکفی فِی ثبوت حمل المطلق علی المقیِّد مجرّد دعوی انْتِفَاء الحکم بِانْتِفَاءِ الْقَیْدِ نظراً إلی أن استحالة ثبوت الحکم مع انْتِفَاء موضوعه عقلاً؛ وذلک لأَنَّهُ لَوْ لَمْ یَکُنْ الْمَوْضُوعُ علّة منحصرةً للحکم لما استحال ثبوت الحکم عند انْتِفَاء الْمَوْضُوعِ؛ لإمکان قیام علّة أخری مقامه. فیثبت الحکم رغم انْتِفَاء ذاک الْمَوْضُوع، وبالتَّالی لم یکن هناک وجه لحمل المطلق علی المقیَّد، بل کان لا بُدَّ من أن نأخذ بالمطلق والْمُقَیَّد معاً.

إذن، فقد اتَّضَحَ أن القید والشرط والغایة ونحوها إِنَّمَا هی من قبیل العلّة المنحصرة، فلا محالة یثبت الاِنْتِفَاء عِنْدَ الاِنْتِفَاءِ((1) )؛ فَإِنَّ کان الْمُعَلَّقُ علیه سنخ الحکم ثبت الْمَفْهُوم؛ لانْتِفَاءِ سنخ الحکم بانتفاء العلّة المنحصرة، وإن کان الْمُعَلَّق علیه شخص الحکم فلا یلزم من انْتِفَاء العلّة المنحصرة سوی انْتِفَاء شخص الحکم، ولا یثبت الْمَفْهُوم.

ص: 99


1- (1) - لا یخفی أن ما نحن بصدد إثباته بناءًا علی ضَابِط الْمَفْهُوم فِی الرَّأْی المشهور هو کون الوصف مثلاً علّة منحصرة للحکم، وحینما نبحث عن أن الوصف هل هو علّة منحصرة للحکم أم لا؟ نقصد بالحکم (طبعاً) ذات الحکم من دون أخذ الوصف فیه، أی: ذات وجوب عتق الرقبة المذکور فِی قوله مثلاً: «اعتق رقبةً مؤمنةً»، لا وجوب عتق الرقبة المؤمنة؛ إذ لولا تجرید الحکم عن وصف الإیمان لا معنی للبحث عن أن الإیمان هل هو علّة منحصرة للحکم أم لا؟ کما هو واضح. وأمّا مقصودهم من الحکم فِی باب المطلق والْمُقَیَّد حیث قالوا: إِنَّه مع العلم بوحدة الحکم یقع التَّنَافِی بین المطلق والْمُقَیَّد المثبتین ویحمل المطلق علی المقیَّد؛ فهو الحکم بکل ما له من قیود الْمَوْضُوع أو الْمُتَعَلَّق، فلا یجرد من قید الإیمان مثلاً، وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ الحکم الواحد إما هو متقوّم بقید الإیمان کما هو الْمُسْتَفَاد من الدَّلِیل المقیِّد (أی: قوله مثلاً: «اعتق رقبةً مؤمنةً») ولا یمکن التقوّم به وعدم التقوّم به فِی آنٍ واحد، فیقع التَّنَافِی بین الدَّلِیلَیْنِ، إذن فمسألة حمل المطلق علی المقیِّد لا ربط لها بما نحن فیه أصلاً.

وبالجملة فَالْعِلِّیَّةُ المنحصرة مسلَّمة عندهم کما یظهر منهم فِی باب المطلق والْمُقَیَّد، فلا یبقی فِی ما نحن فیه (أی: فِی بحوث الْمَفَاهِیم) ما نبحث عنه سوی أن الْمُعَلَّق هل هو شخص الحکم أم سنخه؟

هذا ما أفاده المُحَقِّق الْعِرَاقِیّ رَحِمَهُ اللَهُ. وسوف یأتی نقاشه غداً إن شاء الله تعالی.

مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

کانَ الکلامُ فِی ما أفاده المُحَقِّق الْعِرَاقِیّ فِی وجه کون الرَّبْط اللُّزُومِیّ الْعِلِّیّ الاِنْحِصَارِیّ مُسْلِماً ولو ارتکازاً عِنْدَ الْجَمِیعِ، سواء القائلون بالمفهوم أم المنکرون لِلْمَفْهُومِ. وکان حاصل ما قاله فِی وجه ذلک: أن الجمیع قالوا فِی باب المطلق والْمُقَیَّد المثبِتین کقوله: «اعتق رقبة» وقوله: «اعتق رقبة مؤمنةً» بحمل المطلق علی المقیَّد فیما إذا عُلم بأن الحکم المجعول فِی کلا الدَّلِیلَیْنِ واحد ولم یُحتمل تَعَدُّده، فیحکم بوجوب عتق خصوص الرقبة المؤمنة، ولا وجه لذلک سوی أن انْتِفَاء القید (کالإیمان فِی المثال) موجب لانتفاء الحکم المذکور فِی الدَّلِیل المقیَّد، وبما أن المفروض هو العلم بوحدة الحکم المذکور فِی الدَّلِیل المطلق والحکم المذکور فِی الدَّلِیل المقیَّد، وعدم احتمال وجود حکمین أحدهما مطلق والآخر مقیَّد بالإیمان، إذن فهذا یعنی أَنَّهُ بِانْتِفَاءِ الْقَیْدِ المذکور فِی الدَّلِیل المقیَّد یَنْتَفِی الحکم المذکور فِی الدَّلِیل المطلق، وهذا هو حمل المطلق علی المقیَّد، ولا وجه لانتفاء الحکم المذکور فِی الدَّلِیل المقیَّد عِنْدَ انْتِفَاءِ الْقَیْدِ بعد أن نکروا مفهوم الوصف سوی أن القید علّة تامَّة منحصرة لِشَخْصِ الْحُکْمِ الْمَذْکُورِ فِی الدَّلِیل المقیَّد.

وبهذا تصحّ حینئذٍ دعوی استحالة ثبوت الحکم بعد انْتِفَاء موضوعه، وإلا فلا یکفی فِی ثبوت حمل المطلق علی المقیِّد مجرّد دعوی انْتِفَاء الحکم بِانْتِفَاءِ الْقَیْدِ نظراً إلی أن استحالة ثبوت الحکم مع انْتِفَاء موضوعه عقلاً؛ وذلک لأَنَّهُ لَوْ لَمْ یَکُنْ الْمَوْضُوعُ علّة منحصرةً للحکم لما استحال ثبوت الحکم عند انْتِفَاء الْمَوْضُوعِ؛ لإمکان قیام علّة أخری مقامه. فیثبت الحکم رغم انْتِفَاء ذاک الْمَوْضُوع، وبالتَّالی لم یکن هناک وجه لحمل المطلق علی المقیَّد، بل کان لا بُدَّ من أن نأخذ بالمطلق والْمُقَیَّد معاً.

ص: 100

إذن، فقد اتَّضَحَ أن القید والشرط والغایة ونحوها إِنَّمَا هی من قبیل العلّة المنحصرة، فلا محالة یثبت الاِنْتِفَاء عِنْدَ الاِنْتِفَاءِ(

مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

قلنا: إن الضّابط الَّذی ذکره الْمَشْهُور مرکَّب من عنصرین ورکنین:

الرُّکْن الأوّل: هو الرَّبْط اللُّزُومِیّ الْعِلِّیّ الاِنْحِصَارِیّ، بین الحکم من جهة، وبین طرف الحکم أیّاً کان (شرطاً کان کما فِی الجملة الشَّرْطِیَّة، أو وصفاً کان کما فِی الجملة الوصفیّة أو لقباً أو عدداً أو غایة أو..) من طرف آخر.

الرُّکْن الثَّانِی: أَنْ یَکُونَ المرتبط بِهَذَا الشَّرْطِ أو الوصف أو أی شیء آخر عِبَارَةٌ عَنْ سِنْخِ الْحُکْمِ وَطَبِیعِیّه وکلیه.

فمتی ما توفر هذان العنصران تَدُلّ الجملة علی الْمَفْهُوم، وتدلّ علی أن هذا الحکم سنخه وکلیّه یَنْتَفِی بانتفاء ذاک الشَّیْء.

نحن فِی مقام التَّعْلِیق علی هذا الضّابط الَّذی ذکره الْمَشْهُور (والَّذی ذکره کلهم إلاَّ أن فِی داخلهم اتجاهان معاکسان کما تقدّم فِی أن أیّاً من هذین العنصرین مسلَّم عِنْدَ الْجَمِیعِ وأیّاً منهما محلاً للنزاع بین الْعِرَاقِیّ وبین الآخرین حیث اتفق جمیعهم علی أن ضَابِط الْمَفْهُوم عبارة عن توفر هذین الأَمْرَیْنِ) قلنا بشکل موجَز فِی الیوم الأوّل إن دلالة جملة من الجمل علی الْمَفْهُوم لا تتوقف علی العنصر الأوّل من هذین العنصرین (أی: عَلَی الرَّبْطِ اللُّزُومِیّ الْعِلِّیّ الاِنْحِصَارِیّ)، فلو أردنا أَنْ تَکُونَ الجملة الشَّرْطِیَّة دالَّة علی الْمَفْهُوم لا یتوقَّف ثبوت الْمَفْهُوم لها علی أن نُثبت أنَّ الجملة تَدُلّ علی أَنَّ الشَّرْطَ علّة تامَّة منحصرة لِلْجَزَاءِ، لا بالانحصار ولا تَمَامِیَّة العلّة ولا أصل الْعِلِّیّة ولا أصل اللُّزُوم، فلم نقبل أن یکون شیئاً منها ضروریّاً لإِثْبَاتِ الْمَفْهُوم. وإنَّما یکفی لإِثْبَاتِ الْمَفْهُوم فِی أی جملة من الجمل أن یکون الرَّبْط رَبْطاً اِنْحِصَارِیّاً لِلْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ، کما قلنا. أی: أَنْ یَکُونَ الکلام دالاًّ علی أن ثبوت الْجَزَاء منحصر بفرض ثُبُوت الشَّرْطِ.

ص: 101

أو بعبارة أخری: یکفی أن یکون الرَّبْط رَبْطاً توقّفیّاً، وأن تَدُلّ الجملة علی أن الْجَزَاء متوقّف عَلَیٰ الشَّرْطِ أو قل ملتصق بِالشَّرْطِ.

فإذا دلت الجملة علی أن الحکم ملتصق بالألف (أیّاً کان الألف، سَوَاءٌ کَانَ شرطاً أو وصفاً أو..) أو متوقّف علی الألف، فهذا المقدار یکفی لإِثْبَاتِ الْمَفْهُوم، حیث سوف یَدُلّ هذا الکلام حینئذٍ علی أن الحکم یَنْتَفِی إذا انتفی الألف.

هذا کان تعلیقنا بنحو الإیجاز علی کلام الْمَشْهُور.

ثانیهما: التَّعْلِیق المفصَّل الَّذی تتّضح به حقیقة الأمر، وهو أَنَّنَا إذا لاحظنا الجملة الشَّرْطِیَّة أو الجملة الوصفیة أو أی جملة أخری من الجمل والقضایا الَّتی نبحث هنا عن ضَابِط استفادة الْمَفْهُوم منها نجد أن لها مدلولین کسائر الجمل: أحدهما مدلول تصوری، والآخر مدلول تصدیقی.

وحینما نفترض الْمَفْهُوم للجملة:

فتارةً نفترضه علی مستوی مدلولها التَّصوُّریّ، بمعنی أَنَّ الضَّابِطَ الَّذی به یثبت الْمَفْهُوم یکون داخلاً فِی الْمَدْلُول التَّصوُّریّ للجملة.

وأخری: نفترضه علی مستوی مدلولها التَّصدیقیّ، بمعنی أَنَّ الضَّابِطَ الَّذی به یثبت الْمَفْهُوم لَیْسَ مدلولاً علیه بالدِّلالة التَّصوُّریَّة، ولیس داخلاً فِی الْمَدْلُول التَّصوُّریّ للجملة، بل هو داخل فِی مدلولها التَّصدیقیّ وتدلّ علیه الجملة بالدِّلالة التَّصدیقیَّة.

ولنأخذ الجملة الشَّرْطِیَّة علی سبیل المثال لا علی سبیل الحصر، فنقول:

تارةً: یُدَّعی استفادة الْمَفْهُوم من مدلولها التَّصوُّریّ.

وأخری: یُدَّعی استفادته من مدلولها التَّصدیقیّ، فلا بُدَّ هنا ونحن نرید بیان ضَابِط الْمَفْهُوم استفادة الْمَفْهُوم من أن نبیّن کلا الضابطین، أعنی: الضّابط لدلالة الجملة علی الْمَفْهُوم دلالة تَصَوُّرِیَّةً، والضابط لدلالتها علیه دلالةً تَصْدِیقِیَّة:

أما کیفیَّة استفادة الْمَفْهُوم من الْمَدْلُول التَّصوُّریّ فبأن یقال: إن المفاد والمدلول التَّصوُّریّ لهیئة الجملة الشَّرْطِیَّة أو لأداة الشرط عبارة عن الرَّبْط بین الْجَزَاء والشرط، لکن لا بالمعنی الاِسْمِیّ للربط؛ فَإِنَّ المعنی الاِسْمِیّ لکلمة «الرَّبْط» هو مفهوم الرَّبْط الَّذی هو مفهوم اسمی، بینما معنی الهیئة أو الأداة عبارة عن معنی حرفی لا اسمی (بل بالمعنی الْحَرْفِیّ للربط)، فمدلولها هو واقع الرَّبْط لا مفهوم الرَّبْط، غَایَة الأَمْرِ أَنَّ هذا الرَّبْط الَّذی هو معنی حرفی یوازیه معنی اسمی للربط، وهو مفهوم الرَّبْط، ولذا قد نعبّر عن المعنی الْحَرْفِیّ بالمعنی الاِسْمِیّ الموازی له، فنقول مثلاً: إن «فِی» معناها «الظرفیة»، أو نقول فِی المقام إن هیئة الجملة الشَّرْطِیَّة أو أداتها تَدُلّ علی الرَّبْط.

ص: 102

وعلی کل حال فهذا الرَّبْط (بالمعنی الْحَرْفِیّ) الَّذی تَدُلّ علیه الهیئة أو الأداة (وهو ربط الْجَزَاء بِالشَّرْطِ) یُتصوَّر علی أحد نحوین:

النَّحْو الأوّل: أَنْ یَکُونَ من النوع الَّذی یَسْتَلْزِم انْتِفَاء الْجَزَاء عِنْدَ انْتِفَاءِ الشَّرْطِ، وهذا النوع عبارة عن الرَّبْط التَّوَقُّفِیّ، أو بعبارة أخری: التَّعْلِیقِیّ، أو بعبارة ثالثة: الاِلْتِصَاقِیّ، بمعنی توقّف الْجَزَاء عَلَیٰ الشَّرْطِ، أو تعلیق الْجَزَاء عَلَیٰ الشَّرْطِ، أو التصاق الْجَزَاء بِالشَّرْطِ، فعندما نقول: إن الجملة الشَّرْطِیَّة تَدُلّ بهیئتها أو بأداة الشرط فیها علی الرَّبْط بَیْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، نقصد بذلک أنَّها تَدُلّ علی النِّسْبَة التَّوَقُّفِیَّة أو التَّعْلِیقِیَّة أو الاِلْتِصَاقِیَّة الثَّابِتَة بین المتوقِّف أو الْمُعَلَّق أو الملتصق وهو الْجَزَاء، وبین المتوقَّف علیه أو الْمُعَلَّق علیه أو الملتصَق به وَهُوَ الشَّرْطُ، وهذه النِّسْبَة (کسائر النِّسب والمعانی الحرفیَّة) لها معنی اسمی یوازیها وهو مفهوم لفظ «الْمُتَوَقِّف» أو لفظ «الْمُعَلَّق» أو لفظ «الملتصِق»، ففی قولنا مثلاً: «إن جاءک زید فأکرمه»، إذا افترضنا دلالة الجملة علی هذا النَّحْو من الرَّبْط بین المجیء وبین وجوب الإکرام، فهذا معناه أن الجملة تَدُلّ علی نسبةٍ تَوَقُّفِیَّةٍ بین وجوب الإکرام وبین المجیء، إذا أردنا أن نعبِّر عنها بالمعنی الاِسْمِیّ الموازی لها وجدنا أن بالإمکان التَّعْبِیر عنها بلفظ «الْمُتَوَقِّف» بحیث نقول (بدلاً عن «إن جاءک زید فأکرمه»): «وجوب إکرام زید متوقّف علی مجیئه»، وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ الرَّبْطَ التَّوَقُّفِیَّ یَسْتَلْزِم انْتِفَاء الْمُتَوَقِّف عند انْتِفَاء الْمُتَوَقَّف علیه، وإلا لم یعقل التَّوَقُّف. والربط التَّعْلِیقِیّ یَسْتَلْزِم انْتِفَاء الْمُعَلَّق عند انْتِفَاء الْمُعَلَّق علیه، وإلا لم یعقل التَّعْلِیق. والربط الاِلْتِصَاقِیّ یَسْتَلْزِم انْتِفَاء الملتصِق عند انْتِفَاء الملتصَق به، وإلا لم یعقل الالتصاق.

فإذا کانت الجملة الشَّرْطِیَّة دالَّة تصوُّراً علی هذه النِّسْبَة، فلا إِشْکَال حینئذٍ فِی استفادة الْمَفْهُوم من مدلولها التَّصوُّریّ؛ لأَنَّنَا إذا بدّلناها إلی موازیها الاِسْمِیّ وقلنا: «وجوب إکرام زید متوقِّف علی مجیئه» لَما شکّ أحد فِی دلالة الکلام حینئذٍ علی انْتِفَاء وجوب الإکرام عند انْتِفَاء المجیء، وهذا هو الْمَفْهُوم.

ص: 103

فالجملة إذن إذا کانت دالَّة بالدِّلالة التَّصوُّریَّة علی الرَّبْط التَّوَقُّفِیّ التَّعْلِیقِیّ الاِلْتِصَاقِیّ بنحو المعنی الْحَرْفِیّ، کانت دالَّة بالالتزام علی الْمَفْهُوم دلالة تَصَوُّرِیَّة حتّی وإن لم یکن هذا الرَّبْط والتوقف والالتصاق بنحو الْعِلِّیَّة التَّامَّة المنحصرة لِلشَّرْطِ بِالنِّسْبَةِ إلی الْجَزَاء (کما تقدّم شرحه سابقاً) بل حتّی وإن لم یکن بنحو اللُّزُوم أصلاً، بل کان التَّوَقُّف والالتصاق اِتِّفَاقِیّاً وبمحض الصُّدفَة؛ فَإِنَّ التَّوَقُّف وَالتَّعْلِیقَ یَسْتَلْزِم علی کل تقدیر انْتِفَاء الْجَزَاء عِنْدَ انْتِفَاءِ الشَّرْطِ؛ إذ لو کان الْجَزَاء ثابتاً مِنْ دُونِ ثُبُوتِ الشَّرْطِ فهذا خلف التصاقه به وتوقفه وتعلیقه علیه کما هو واضح.

النَّحْو الثَّانِی: أَنْ یَکُونَ من النوع الَّذی لا یَسْتَلْزِم انْتِفَاء الْجَزَاء عِنْدَ انْتِفَاءِ الشَّرْطِ، وهذا النوع عبارة عن الرَّبْط الإِیجَادِیِّ، أو بعبارة أخری: الاِسْتِلْزَامِیّ، بمعنی إیجاد الشرط لِلْجَزَاءِ، أو استلزام الشرط لِلْجَزَاءِ، فعندما نَقُول: إِنَّ الْجُمْلَةَ الشَّرْطِیَّةَ تَدُلُّ بِهَیْئَتِهَا أو بأداة الشرط فیها علی الرَّبْط بَیْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، نقصد بذلک أنَّها تَدُلّ عَلَی النِّسْبَةِ الإِیجَادِیَّةِ أو الاِسْتِلْزَامِیَّة الثَّابِتَة بین الموجِد أو المستلزِم وَهُوَ الشَّرْطُ وبین الموجَد أو المستلزَم وهو الْجَزَاء.

وهذه النِّسْبَة (کَسَائِرِ النِّسَبِ وَالْمَعَانِی الْحَرْفِیَّةِ) لها معنی اسمی یوازیها، وهو مفهوم لفظ «الْمُسْتَلْزِم» أو لفظ «الموجِد»، ففی قولنا مثلاً: «إن جاءک زید فأکرمه» إذا افترضنا دلالة الجملة علی هذا النَّحْو من الرَّبْط بین المجیء وبین وجوب الإکرام، فهذا معناه أن الجملة تَدُلّ علی نسبةٍ اِسْتِلْزَامِیَّةٍ إِیجَادِیَّةٍ بین المجیء وبین وجوب الإکرام إذا أردنا أن نعبِّر عنها بِالْمَعْنَی الاِسْمِیِّ الموازی لها وجدنا أن بالإمکان التَّعْبِیر عنها بلفظ «الْمُسْتَلْزِم» أو «الموجِد»، بحیث نقول (بدلاً عن «إن جاءک زید فأکرمه»): «مجیء زید موجِد أو مستلزِم لوجوب إکرامه»، وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ الرَّبْط الإِیجَادِیّ الاِسْتِلْزَامِیّ لا یَسْتَلْزِم انْتِفَاء الموجَد أو الْمُسْتَلْزَم عند انْتِفَاء الموجِد أو الْمُسْتَلْزِم، لإمکان وجوب موجِد أو مستلزِم آخر.

ص: 104

فاستلزام المجیء لِوُجُوبِ الإِکْرَامِ لا یَدُلّ علی انْتِفَاء الوجوب عند انْتِفَاء المجیء؛ لإمکان أن یکون الفقر أیضاً مستلزِماً وموجِداً لِوُجُوبِ الإِکْرَامِ، نظیر ما إذا قلنا: «النار تستلزم الحرارة»؛ فإِنَّهُ لا یَدُلّ علی عدم استلزام الشَّمس للحرارة.

فإذا کانت الجملة الشَّرْطِیَّة دالَّة علی هذه النِّسْبَة تصوُّراً، فلا إِشْکَال حینئذٍ فِی عدم استفادة الْمَفْهُوم من مدلولها التَّصوُّریّ؛ لأَنَّنَا إذا بدّلناها إلی موازیها الاِسْمِیّ وقلنا: «مجیء زید موجِد أو سبب أو مستلزِم لوجوب إکرامه» لَما شَکَّ أحد فِی عدم دلالة الکلام حینئذٍ علی انْتِفَاء وجوب الإکرام عند انْتِفَاء المجیء؛ لإمکان أن یکون هناک سبب آخر غیر المجیء یوجِد وجوب الإکرام.

وإن شئتَ قلت: إن مجرّد هذا الْمَدْلُول التَّصوُّریّ (وهو کَوْن الشَّرْط موجِداً لِلْجَزَاءِ) لا یُثبِت التصاق الْجَزَاء بِالشَّرْطِ وتوقفه وتعلیقه علیه؛ لإمکان ثبوت موجِدین وسببین لِلْجَزَاءِ، فقد یثبته الْجَزَاء مِنْ دُونِ أن یثبت الشرط.

فالجملة إذن إذا کانت دالَّةً بِالدِّلاَلَةِ التَّصَوُّرِیَّةِ عَلَی الرَّبْطِ الاِسْتِلْزَامِیِّ الإِیجَادِیّ بنحو المعنی الْحَرْفِیّ، لم تکن دالَّة بالالتزام علی الْمَفْهُوم دلالة تَصَوُّرِیَّة.

إذن، فلکی تکون الجملة مشتملةً فِی مرحلة الْمَدْلُول التَّصوُّریّ علی ضَابِط إفادة الْمَفْهُوم، لا یکفی أَنْ تَکُونَ دالَّة تصوُّراً عَلَی الرَّبْطِ الإِیجَادِیّ الاِسْتِلْزَامِیّ، بل لا بُدَّ من أَنْ تَکُونَ دالَّة تصوُّراً عَلَی الرَّبْطِ التَّوَقُّفِیّ الاِلْتِصَاقِیّ التَّعْلِیقِیّ حتّی وإن لم تَتَوَفَّرٌ الأُمُور الأربعة الَّتی ذکروها، وهی: «اللُّزُوم» و«الْعِلِّیَّة» و«التَّمَامِیَّة» و«الانحصار»؛ فَإِنَّهَا وإن کانت من أسباب التَّوَقُّف ومن الحیثیات التعلیلیة للتعلیق و الالتصاق، إلاَّ أن التَّوَقُّف والانحصار والالتصاق وَالتَّعْلِیق غیر منحصر بها کما تقدّم شرحه.

وبهذا یَتَّضِح أن الرُّکْن الأوّل من رکنی الضّابط المذکور فِی الرَّأْی المشهور لاقتناص الْمَفْهُوم غیر تامّ، بمعنی أَنَّهُ لَیْسَ رُکْناً ولیس ضروریّاً فِی مقام استفادة الْمَفْهُوم من الْمَدْلُول التَّصوُّریّ.

ص: 105

هذا کُلّه عن کیفیَّة استفادة الْمَفْهُوم من الْمَدْلُول التَّصوُّریّ.

مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصولs بحث الأصول

العنوان: مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

کانَ الکلامُ فی الضّابط الَّذی ذکره الْمَشْهُور لإفادة الکلام المفهومَ المصطلح فِی الأصول، وکان هذا الضّابط یشترط عنصرین:

أحدهما: الرَّبْط اللُّزُومِیّ الْعِلِّیّ الاِنْحِصَارِیّ.

ثانیهما: کون المرتبط طَبِیعِیّ الحکم.

فکنا نتحدث عن هذا الضّابط وقلنا إن استفادة الْمَفْهُوم من أی جملة من الجمل تارةً تکون استفادةً لِلْمَفْهُومِ علی مستوی الدِّلاَلَة التَّصوُّریَّة للکلام، وأخری یکون استفادةً لِلْمَفْهُومِ علی مستوی الدِّلاَلَة التصدیقیة الجدّیَّة للکلام. فکیفیة استفادة الْمَفْهُوم علی نحوین. أما کیفیَّة استفادة الْمَفْهُوم من الْمَدْلُول فقلنا إن المعیار والمیزان فِیها هو أن یکون الکلام دالاًّ بِالدِّلاَلَةِ التَّصَوُّرِیَّةِ علی ربط لازمه الاِنْتِفَاء عِنْدَ الاِنْتِفَاءِ. وقد حدّدنا هذا الرَّبْط بأَنَّهُ لَیْسَ إلاَّ عبارة عن الرَّبْط التَّوَقُّفِیّ الاِلْتِصَاقِیّ التَّعْلِیقِیّ، ومعنی ذلک إفادة الْمَفْهُوم وثبوته. أما إذا کانت الجملة دالَّة بِالدِّلاَلَةِ التَّصَوُّرِیَّةِ علی نوعٍ آخر من الرَّبْط وهو الرَّبْط الاِسْتِلْزَامِیّ الإِیجَادِیّ، فهذا لا یَسْتَلْزِم ثبوت الْمَفْهُوم ولیس من لوازمه الاِنْتِفَاء عِنْدَ الاِنْتِفَاءِ.

وأمّا کیفیَّة استفادة الْمَفْهُوم من الْمَدْلُول التَّصدیقیّ فیما إذا فرض أَنَّنَا لم نتمکن من استفادة المفهوم من الْمَدْلُول التَّصوُّریّ (کما لو فرض أَنَّنَا لم نقل بدلالة الجملة تصوُّراً عَلَی الرَّبْطِ التَّوَقُّفِیّ الاِلْتِصَاقِیّ التَّعْلِیقِیّ، بل قلنا بدلالتها تصوُّراً عَلَی الرَّبْطِ الاِسْتِلْزَامِیِّ الإِیجَادِیّ الَّذی لا یَسْتَلْزِم الْمَفْهُوم وَالاِنْتِفَاء عِنْدَ الاِنْتِفَاءِ کما تقدّم) فبأن یقال: إن الجملة وإن کانت لا تَدُلّ تصوُّراً إلاَّ علی أَنَّ الشَّرْطَ سبب ومستلزِم لِلْجَزَاءِ، لٰکِنَّهَٰا تَدُلّ بِالدِّلاَلَةِ التَّصْدِیقِیَّةِ علی أمر یبرهن علی أَنَّ الشَّرْطَ سبب تامّ منحصر لِلْجَزَاءِ، أو جزء سبب تامّ منحصر لِلْجَزَاءِ. وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ الشرط إذا کان علّة تامَّةً منحصرة أو جزء علّة منحصرة لِلْجَزَاءِ کان لازمه انْتِفَاء الْجَزَاء عِنْدَ انْتِفَائِهِ، وبذلک یثبت الْمَفْهُوم ویبقی السُّؤَال عن ذاک الأمر الَّذی تَدُلّ الجملة علیه بِالدِّلاَلَةِ التَّصْدِیقِیَّةِ وَالَّذِی یبرهن علی الْعِلِّیَّة الاِنْحِصَارِیَّة لِلشَّرْطِ بِالنِّسْبَةِ إلی الْجَزَاء، فما هو؟

ص: 106

والجواب: أَنَّهُ یختلف باختلاف التقریبات والمحاولات والوجوه المتعددة الهادفة لإِثْبَاتِ الْمَفْهُوم وَالَّتِی یَأْتِی الکلام عنها - إن شاء الله تعالی -، ولنذکر هنا علی سبیل المثال وجهین وتقریبین:

أحدهما: الوجه والتَّقریب الَّذی یحاول إثبات الْمَفْهُوم عن طریق التَّمسُّک بالإطلاق الأحوالی لِلشَّرْطِ؛ فَإِنَّ الجملة وإن کانت لا تَدُلّ تصوُّراً إلاَّ علی أَنَّ الشَّرْطَ سبب مؤثّر فِی إیجاد الْجَزَاء کما هو المفروض، إلاَّ أن مقتضی الإطلاق الأحوالی لِلشَّرْطِ هو أَنَّهُ سبب ومؤثّر مطلقاً وفی کل الأحوال سواء سبقه شیء آخر أم لا، وهذا الإطلاق ینتج أَنَّ الشَّرْطَ سبب منحصر لِلْجَزَاءِ؛ إذ لَوْ لَمْ یَکُنْ علّةً منحصرة بل کانت لِلْجَزَاءِ علّة أخری غَیْر الشَّرْطِ، ففی حالة سبق تلک العلّة وتقدمها عَلَیٰ الشَّرْطِ تکون هی السَّبَب المؤثر فِی إیجاد الْجَزَاء دون الشرط، لاستحالة اجتماع عِلَّتَیْنِ تامتین علی معلول واحد.

وهذا خلاف الإِطْلاَق الأَحْوَالِیّ المذکور الَّذی یقتضی کَوْن الشَّرْط سبباً مؤثّراً فِی إیجاد الْجَزَاء حتّی فِی حالة عدم وجود شیء آخر.

إذن، فمقتضی الإِطْلاَقِ الأَحْوَالِیِّ لِلشَّرْطِ هو کونه علّةً منحصرة لِلْجَزَاءِ، وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ لازم ذلک هو انْتِفَاء الْجَزَاء عِنْدَ انْتِفَاءِ الشَّرْطِ، وهذا هو الْمَفْهُوم، وبما أن الْمَفْهُوم حینئذٍ منتَزع ومستفاد من الإِطْلاَق الأَحْوَالِیّ لِلشَّرْطِ، والإطلاق مدلول لقرینة الحِکْمَة، وقرینة الحِکْمَة ذات مدلول تصدیقی دائماً ولا تساهم فِی تکوین الْمَدْلُول التَّصوُّریّ للکلام، إذن فالمفهوم مستفاد من الْمَدْلُول التَّصدیقیّ.

ثانیهما: الوجه والتَّقریب الَّذی یحاول إثبات الْمَفْهُوم عن طریق التَّمسُّک بقانون «أن الواحد لا یصدر إلاَّ من واحد»؛ فَإِنَّ الجملة وإن کانت لا تَدُلّ تصوُّراً إلاَّ علی أَنَّ الشَّرْطَ سبب مؤثر فِی إیجاد الْجَزَاء کما هو المفروض، إلاَّ أن مقتضی هذا القانون الْفَلْسَفِیّ العَقْلِیّ هو کَوْن الشَّرْط سبباً مُنْحَصِراً لِلْجَزَاءِ؛ إذ لَوْ لَمْ یَکُنْ کذلک، وکان هناک سبب آخر لِلْجَزَاءِ، لزم صدور الواحد (وهو الجزء) من اثنین، وهذا مستحیل.

ص: 107

فالجزاء إذن لا یصدر إلاَّ مِنَ الشَّرْطِ، وهذا یعنی انحصار الْجَزَاء بِالشَّرْطِ، فمع انْتِفَاء الشرط یَنْتَفِی الجزاء، وهذا هو الْمَفْهُوم.

وبما أن الْمَفْهُوم حینئذٍ منتزَع ومستفاد من حکم العقل وتصدیقه بالقانون المذکور، إذن فالمفهوم مستفاد من المدلول التَّصدیقیّ.

هذا ما ینبغی أن یقال فِی مقام التَّعْلِیق علی الرُّکْن الأوّل من رکنی الضّابط المذکور فِی الرَّأْی الْمَشْهُور، وحاصله أن استفادة الْمَفْهُوم علی مستوی الْمَدْلُول التَّصوُّریّ لیست متوقّفة علی الأُمُور الَّتی ذکروها (وهی اللُّزُوم والعلّیّة والانحصار) بل یکفی فیها إثبات کون الجملة موضوعة (بهیئتها أو بأداتها) لِلنِّسْبَةِ التَّوَقُّفِیَّة أو الاِلْتِصَاقِیَّة.

وأمّا استفادة الْمَفْهُوم علی مستوی الْمَدْلُول التَّصدیقیّ فبأن تکون دالَّة مثلاً بِالدِّلاَلَةِ التَّصْدِیقِیَّةِ علی أَنَّ الشَّرْطَ علّة منحصرة لِلْجَزَاءِ.

وهنا تعلیق للسَّیِّد الهاشمی حفظه الله یأتی غداً إن شاء الله تعالی.

مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

هذا، ویوجد فِی المقام تعلیق للسَّیِّد الهاشمی حفظه الله علی ما أفاده سَیِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِید رَحِمَهُ اللَهُ یشتمل علی مقطعین:

أحدهما: هو أَنَّهُ لا معنی لِلنِّسْبَةِ التَّوَقُّفِیَّة أو الاِلْتِصَاقِیَّة فِی المقام؛ إذ لو أرید بها نسبة خارجیّة کنسبة الظرفیة فِی الخارج، فمن المُحَقِّق فِی محلّه أن النِّسب الخارجیة کُلّهَا نسب ناقصة تحلیلیّة، بینما مدلول الجملة الشَّرْطِیَّة نسبة تامَّة، فلا یمکن أَنْ تَکُونَ خارجیّة.

مضافاً إلی أَنَّهُ لا توجد فِی الخارج نسبة تَوَقُّفِیَّة تختلف عن النِّسْبَة والربط غیر التَّوَقُّفِیّ، وإنَّما التَّوَقُّف والالتصاق کالانحصار یُنتزع من ملاحظة عدم وجود الْجَزَاء فِی غیر مورد الشرط، وهذا خارج عن مدلول الرَّبْط وَالنِّسْبَة((1) ).

ص: 108


1- (1) - هامش بحوث فِی علم الأصول: ج3، ص142.

أقول: کُنَّا ننتظر أن یبین السید الهاشمی حفظه الله الشِّق الثَّانِی وهو أن یُراد بِالنِّسْبَةِ التَّوَقُّفِیَّة أو الاِلْتِصَاقِیَّة نسبة ذهنیة لا خارجیّة، وهذا هو المتعیَّن؛ فَإِنَّ سَیِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِید رَحِمَهُ اللَهُ لم یکن غافلاً عن أن مدلول الجملة الشَّرْطِیَّة أو أداة الشرط عبارة عن نسبة تامَّة، باعتبار أنَّها جملة تامَّة یصحّ السُّکوت علیها، ولم یکن غافلاً أیضاً عن أن النِّسْبَة التَّامَّة لا یمکن أَنْ تَکُونَ خارجیّة؛ لأَنَّ النِّسَب الخارجیة کُلّهَا نسب ناقصة تحلیلیّة کما تقدّم تفصیل ذلک فِی بحث معانی الحروف والهیئات، فمقصوده رَحِمَهُ اللَهُ من النِّسْبَة التَّوَقُّفِیَّة عبارة عن نسبة ذهنیة قائمة فِی الذِّهْن بین مفهومین (مفهوم مجیء زید ومفهوم وجوب إکرامه فِی المثال)، فهی کالنسبة التصادقیة الَّتی تَدُلّ علیها هیئة الجملة الخبریّة، وکالنسبة الإضرابیة الَّتی تَدُلّ علیها أداة الإضراب، وکالنسبة الاستثنائیة الَّتی تَدُلّ علیها أداة الاستثناء، وکالنسبة التفسیریة الَّتی تَدُلّ علیها أداة التَّفْسِیر، وکالنسبة التحقیقیة الَّتی یَدُلّ علیها حرف التَّحْقِیق مثل «قد»، وکالنسبة التأکیدیة الَّتی یَدُلّ علیها حرف التأکید مثل «إنَّ»، وکنسبة العطف الَّتی یَدُلّ علیها حرف العطف؛ فکل هذه النِّسب نسبٌ تامَّة ذهنیة لا خارجیّة، کما تقدّم شرح ذلک فِی بحث معانی الحروف والهیئات، فلا أساس لهذا المقطع من التَّعْلِیق.

وأمّا المقطع الآخر من تعلیقه فَسَوْفَ نورده ونناقشه فِی النُّقْطَة الثَّالثة - إن شاء الله تعالی -.

النُّقْطَة الثَّالثة: أن الرُّکْن الثَّانِی فِی الضّابط المذکور فِی الرَّأْی الْمَشْهُور (وهو کون المربوط بالطرف عِبَارَةٌ عَنْ سِنْخِ الْحُکْمِ ونوعه وطبیعیه لا شَخْص الحکم) وإن کان لا إِشْکَال عندنا فِی اعتباره فِی الجملة لاقتناص الْمَفْهُوم، نظراً إلی أن الرَّبْط التَّوَقُّفِیّ الاِلْتِصَاقِیّ التَّعْلِیقِیّ الَّذی اشترطناه لاقتناص الْمَفْهُوم إذا کان رَبْطاً بین شَخْص الْحُکْمِ وَطَرَفِهِ، فلا یثبت الْمَفْهُوم وانتفاء مطلق الحکم وطبیعیه عند انْتِفَاء الطَّرَف؛ لاحتمال ثبوت طبیعی الحکم أیضاً، لکن فِی شخصٍ آخر من الحکم وبملاک آخر غیر ملاک الشخص الأوّل من الحکم، إلاَّ أن هنا أَمْرَیْنِ لا بُدَّ من التَّنبیه علیهما بشأن هذا الرُّکْن:

ص: 109

الأمر الأوّل: أَنَّهُ قد یورد علی هذا الرُّکْن بما نسبه سَیِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِید رَحِمَهُ اللَهُ إلی المُحَقِّق الْعِرَاقِیّ رَحِمَهُ اللَهُ من أَنَّهُ علی أحد الفرضین یکفی وحده لإِثْبَاتِ الْمَفْهُوم بلا حاجة إلی الرُّکْن الأوّل (سواء بصیغته المذکورة فِی الرَّأْی الْمَشْهُور وَالَّتِی هی عبارة عن کون الرَّبْط لُزُومِیّاً علیا اِنْحِصَارِیّاً، أم بصیغته الَّتی ذکرناها نحن وَالَّتِی هی عبارة عن کون الرَّبْط تَوَقُّفِیّاً تَعْلِیقِیّاً اِلْتِصَاقِیّاً، وعلی الفرض الآخر لا یکفی لإِثْبَاتِ الْمَفْهُوم حتّی مع انضمام الرُّکْن الأوّل (بأیّ صیغة کان) إلیه، فلا بُدَّ من ذکر هذا الإشکال وردّه:

أما الإشکال فهو أن الإِطْلاَق وکون المربوط بِالطَّرَفِ مُطْلَق الْحُکْمِ وَطَبِیعِیّه له أحد معنیین: الأوّل «الإِطْلاَق الاستغراقیّ». الثَّانِی «الإِطْلاَق الْبَدَلِیّ».

فإنَّ الطَّبِیعَة تارةً تلحظ بنحو مُطْلَق الْوُجُودِ، فتشمل جمیع الأفراد، وأخری تلحظ بنحو صِرْف الْوُجُودِ. فإذا قال المولی مثلاً: «إن جاء زید فأکرمه» وَفَرَضْنَا أَنَّ المربوط بالمجیء عبارة عن مطلق وجوب الإکرام وَطَبِیعِیّه لا شخصه، فتارة یفرض أن المربوط بالمجیء هو طَبِیعِیّ وجوب الإکرام بنحو مُطْلَق الْوُجُودِ، وأخری یفرض أن المربوط بالمجیء هو طَبِیعِیّ وجوب الإکرام بنحو صِرْف الْوُجُودِ.

مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

ففی الفرض الأوّل یکون المربوط بالمجیء عبارة عن کل أفراد وجوب الإکرام، وحینئِذٍ یثبت الْمَفْهُوم بلا حاجة إلی الرُّکْن الأوّل (بأیّ صیغةٍ کان)، فَحَتَّی مع انْتِفَاء الرُّکْن الأوّل بصیغته المشهورة وعدم کونا لربط بین المجیء وبین طَبِیعِیّ الحکم رَبْطاً لُزُومِیّاً عِلِّیّاً اِنْحِصَارِیّاً، أی: عدم کون المجیء علّة تامَّةً منحصرة لطبیعی وجوب الإکرام، بل کان المجیء وطبیعی وجوب الإکرام معلولین لعلةٍ واحدة مثلاً، مع ذلک حیث أن المفروض هو أن الکلام یَدُلّ بالإطلاق علی أن طَبِیعِیّ وجوب الإکرام بنحو مُطْلَق الْوُجُودِ (أی: کل أفراد وجوب الإکرام) مربوط بالمجیء، فهذا لازمه انْتِفَاء هذا الطَّبِیعِیّ عند انْتِفَاء المجیء؛ إذ ثبوت فردٍ من أفراد وجوب الإکرام رغم عدم ثبوت المجیء خُلف فرض ارتباط کل أفراد وجوب الإکرام بالمجیء، کما أن الأمر کذلک حتّی مع انْتِفَاء الرُّکْن الأوّل بصیغته الَّتی ذکرناها نحن، فَحَتَّی إذا لم یکن الرَّبْط بین المجیء وبین طَبِیعِیّ الحکم رَبْطاً تَوَقُّفِیّاً، بل کان رَبْطاً اِسْتِلْزَامِیّاً إِیجَادِیّاً، بحیث یَدُلّ الکلام علی أن المجیء موجِد ومستلزِم لطبیعی وجوب الإکرام، مع ذلک حیث أن المفروض هو أن الکلام یَدُلّ بالإطلاق علی أن المجیء موجِد ومستلزِم لطبیعی وُجُوب الإِکْرَامِ بنحو مُطْلَق الْوُجُودِ (أی: لِکُلِّ أَفْرَادِ وُجُوبِ الإِکْرَامِ) فهذا لازمه انْتِفَاء هذا الطَّبِیعِیّ وعدم وُجُوب الإِکْرَامِ عند انْتِفَاء المجیء؛ إذ لو وجب الإکرام حتّی مع عدم المجیء، فهذا فرد من أفراد وُجُوب الإِکْرَامِ لم یکن المجیء موجِداً ومستلزماً له، وَهَذَا خُلْف فرض أن المجیء موجِد لتمام أفراد وُجُوب الإِکْرَامِ.

ص: 110

وأمّا فِی الفرض الثَّانِی (وهو أن یکون المربوط بالمجیء طَبِیعِیّ وُجُوب الإِکْرَامِ بنحو صِرْف الْوُجُودِ) فمن المعلوم أن صِرْف الْوُجُودِ مساوق للوجود الأوّل، ویتحقق دائماً به؛ لأَنَّ صِرْفَ الْوُجُودِ هو الناقض للعدم المطلق، وذلک یساوق الوجود الأوّل، فَیَکُونُ مفاد قوله: «إن جاء زید فأکرمه» أن أوَّل وجودٍ لِوُجُوبِ الإِکْرَامِ مرتبط بالمجیء، وهذا لا یکفی لإِثْبَاتِ الْمَفْهُوم الَّذی نحن بصدد إثباته حتّی مع انضمام الرُّکْن الأوّل إلیه، سواء بصیغته المشهورة أم بصیغته الَّتی ذکرناها نحن؛ لأَنَّ المفهوم الَّذی نحن بصدد إثباته عبارة عن نفی کل وجودات وُجُوب الإِکْرَامِ بانتفاء المجیء لا نفی خصوص الوجود الأوّل منه عند انْتِفَاء المجیء، فَحَتَّی إذا ضممنا الرُّکْن الأوّل بصیغته المشهورة وافترضنا أن الرَّبْط بین المجیء وبین طَبِیعِیّ وُجُوب الإِکْرَامِ ربط لُزُومِیّ عِلِّیّ اِنْحِصَارِیّ وأن المجیء علّة تامَّة منحصرة لطبیعی وُجُوب الإِکْرَامِ، مع ذلک حیث أن المفروض فِی الرُّکْن الثَّانِی هو أن الطَّبِیعِیّ عبارة عن صِرْف الْوُجُودِ المساوق للوجود الأوّل، إذن فهذا معناه أن المجیء علّة تامَّة منحصرة للوجود الأوّل لِوُجُوبِ الإِکْرَامِ، وهذا وإن کان یَسْتَلْزِم انْتِفَاء الوجود الأوّل لِوُجُوبِ الإِکْرَامِ عند انْتِفَاء المجیء، فلا یثبت وُجُوب الإِکْرَامِ إذا لم یجیء زید أصلاً.

إلاَّ أن هذا معناه ثبوت نصف الْمَفْهُوم الَّذی نحن بصدد إثباته لا تمامه، أی: أَنَّهُ یثبت الْمَفْهُوم بِالنِّسْبَةِ إلی الوجود الأوّل، فما دام لم یجئ زید بعدُ لا یثبت أوَّل وجودٍ لِوُجُوبِ الإِکْرَامِ، لکون المجیء علّة منحصرة له حسب الفرض، لکن لو فرض أَنَّهُ جاء مرّةً فوجب إکرامه، فأکرمناه وامتثلنا الحکم، ثم بعد ذلک مرض مثلاً فشککنا فِی أَنَّهُ هل یجب أیضاً إکرامه بملاک کونه مریضا أم لا؟

فلا یمکن حینئذٍ نفی احتمال وجوب إکرامه من خلال الْمَفْهُوم المذکور؛ فَإِنَّ هذا الْمَفْهُوم إِنَّمَا ینفی الوجود الأوّل لِوُجُوبِ الإِکْرَامِ وَالْمَفْرُوض أن الوجود الأوّل قد تحقّق خارجاً، فغایة ما یَدُلّ علیه هذا الْمَفْهُوم هو أن الوجود الأوّل لِوُجُوبِ الإِکْرَامِ لا یتحقّق إلاَّ بسبب المجیء، بینما ما فرضناه هو وجود ثانٍ لِوُجُوبِ الإِکْرَامِ، وهذا الْمَفْهُوم لا یتکفَّل بنفی هذا الوجود الثَّانِی؛ لأَنَّ کون المجیء عِلَّةً مُّنْحَصِرَةً للوجود الأوّل لِوُجُوبِ الإِکْرَامِ، لا ینافی أن یکون المرض مثلاً عِلَّةً مُّنْحَصِرَةً للوجود الثَّانِی لِوُجُوبِ الإِکْرَامِ کما هو واضح.

ص: 111

فکلا الرکنین علی هذا الفرض لا یُثبتان الْمَفْهُوم بالمعنی الَّذی هو محلّ الکلام وَالَّذِی هو عبارة عن نفی وجوب إکرامه قبل مجیئه، وأنه إذا جاء وأکرمناه فلا یوجد سبب آخر یقتضی وجوب إکرامه بعد ذلک.

وکذلک إذا ضممنا الرُّکْن الأوّل بصیغته الَّتی نحن ذکرناها وافترضنا أن الرَّبْط بین المجیء وبین طَبِیعِیّ وُجُوب الإِکْرَامِ ربط توقفی تعلیقی التصاقی وأن طَبِیعِیّ وُجُوب الإِکْرَامِ متوقّف ومعلق علی المجیء وملتصق به؛ فإِنَّهُ مع ذلک حیث أن المفروض فِی الرُّکْن الثَّانِی هو أن الطَّبِیعِیّ عبارة عن صِرْف الْوُجُودِ المساوق للوجود الأوّل.

إذن، فهذا معناه أن الوجود الأوّل لِوُجُوبِ الإِکْرَامِ معلّق ومتوقف علی المجیء وملتصق به، وهذا وإن کان یَسْتَلْزِم انْتِفَاء الوجود الأوّل لِوُجُوبِ الإِکْرَامِ عند انْتِفَاء المجیء، فلا یثبت وُجُوب الإِکْرَامِ إذا لم یجئ أصلاً، إلاَّ أن هذا معناه ثبوت الْمَفْهُوم بِالنِّسْبَةِ إلی الوجود الأوّل، فمادام لم یجئ بعدُ لا یثبت أوَّل وجودٍ لِوُجُوبِ الإِکْرَامِ، لِتَوَقُّفِهِ علیه حَسَبَ الْفَرْضِ، لکن لو فرض أَنَّهُ جاء وأکرمناه، ثم مرض واحتملنا وجوب إکرامه بملاک المرض، فلا یمکن نفی هذا الاحتمال بالمفهوم المذکور؛ لأَنَّهُ إِنَّمَا ینفی الوجود الأوّل والمفروض أَنَّهُ قد تحقّق خارجاً، بینما ما فرضناه هو وجود ثانٍ لا یتکفَّل بنفیه الْمَفْهُوم المذکور؛ لأَنَّ کون الوجود الأوّل لِوُجُوبِ الإِکْرَامِ معلقا ومتوقّفاً علی المجیء، لا ینافی أن یکون الوجود الثَّانِی له مُعَلَّقاً وَّمُتَوَقَّفاً علی شیء آخر غیر المجیء کالمرض کما هو واضح.

وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ علی أحد الفرضین یکفی الرُّکْن الثَّانِی وحده لإِثْبَاتِ الْمَفْهُوم، وعلی الفرض الآخر لا یکفی کلا الرکنین لإثباته.

وأمّا الجواب والرَّدّ علی هذا الإشکال فهو أن الإِطْلاَق فِی الرُّکْن الثانی القائل باشتراط أن یکون المربوط بِالطَّرَفِ مُطْلَق الْحُکْمِ وَطَبِیعِیّه لا یُقصد به شیء من المعنیین المذکورین فِی الإشکال، فلا المقصود اشتراط أن یکون المربوط بِالطَّرَفِ مطلق وجود الحکم، ولا المقصود اشتراط أن یکون المربوط بِالطَّرَفِ صرف وجود الحکم؛ فعندما یقال: إِنَّه یشترط فِی اِقْتِنَاصِ الْمَفْهُومِ من الجملة الشَّرْطِیَّة مثلاً أن یکون المرتبط بِالشَّرْطِ مُطْلَق الْحُکْمِ لا یُقصد بالإطلاق هنا الإِطْلاَق الشُّمُولِیّ، ولا الإِطْلاَق الْبَدَلِیّ؛ فالإشکال المذکور غیر تامّ؛ وذلک لأَنَّهُ مبنیّ علی أَنَّ الإِطْلاَق الشُّمُولِیّ الاستغراقیّ یرجع إلی ملاحظة تمام الأفراد (نظیر العموم الاستغراقیّ) وأن الإِطْلاَق الْبَدَلِیّ بنحو صِرْف الْوُجُودِ یرجع إلی ملاحظة الوجود الأوّل، مَعَ أَنَّ هذا کُلّه غیر صحیح.

ص: 112

توضیح ذلک یتوقَّف علی التَّنبیه علی أمر قد تقدّم تحقیقه سابقاً (فِی بحث دلالة الأمر علی المرَّة أو التَّکرار) فِی مقام التفریق بین الأمر وَالنَّهْی من حیث أن الإِطْلاَق فِی مُتَعَلَّق الأمر بدلیّ بنحو صِرْف الْوُجُودِ، والإطلاق فِی مُتَعَلَّق النَّهْی شُمُولِیّ اِنْحِلاَلِیّ بنحو مُطْلَق الْوُجُودِ، حیث ذکرنا هناک أن المطلق یختلف عن العامّ، فالمنظور فِی «العامّ» عبارة عن الأفراد، بینما «المطلق» لا نظر فیه إلی الأفراد، وإنَّما النَّظَر فیه إلی ذات الطَّبِیعَة بما هی هی، مِنْ دُونِ لحاظ شیء زائد.

غَایَة الأَمْرِ أَنَّ هذه الطَّبِیعَة إذا حُمل علیها محمول من المحمولات، فقد یکون حمله علی الطَّبِیعَة مقتضیاً لتأثیره فِی جمیع أفراد الطَّبِیعَة، وَقَدْ یَکُونُ حمله علیها مقتضیاً لتأثیره فِی أحد أفرادها.

والمثال الواضح لذلک عبارة عن «الأمر» و«النَّهْی»، فإذا حُمل علی الطَّبِیعَة محمول من قبیل «الأمر» کقوله: «صلِّ»، فحمله علیها یقتضی تأثیره فِی أحد أفرادها؛ لأَنَّ المحمول هنا (وهو الأمر) یقتضی إیجاد طبیعة الصَّلاة، وهذا یتحقّق بإیجاد فرد واحد منها، وهذا هو ما یُسَمَّی بالإطلاق الْبَدَلِیّ بنحو صِرْف الْوُجُودِ، لا من جهة أن الإِطْلاَق هنا معناه ملاحظة صرف وجود الطَّبِیعَة المساوق للوجود الأوّل من وجوداتها؛ فإِنَّ الإِطْلاَق معناه واحد فِی جمیع الموارد ولیس له معنیان: شُمُولِیّ وبدلی، بل معناه عبارة عن ملاحظة ذات الطَّبِیعَة بما هی هی، مِنْ دُونِ لحاظ شیء زائد علیها، بل من جهة أن المحمول علی ذات طبیعة الصَّلاة فِی المثال سنخ محمول یقتضی التَّأثیر فِی أحد أفراد الطَّبِیعَة؛ لأَنَّهُ أمر بإیجادها، وهو یتحقّق بإیجاد فرد واحد منها.

وأمّا إذا حمل علی الطَّبِیعَة محمول من قبیل «النَّهْی» کقوله: «لا تکذب»، فحمله علیها یقتضی تأثیره فِی جمیع أفراده؛ لأَنَّ المحمول هنا (وهو النَّهْی) یقتضی إعدام الطَّبِیعَة، وهذا لا یکون إلاَّ بإعدام جمیع أفرادها، وهذا هو ما یُسمی بالإطلاق الشُّمُولِیّ أو الاستغراقیّ بنحو مُطْلَق الْوُجُودِ، لا من جهة أن الإِطْلاَق هنا معناه ملاحظة مطلق وجود الطَّبِیعَة الشامل لجمیع أفرادها؛ فَإِنَّ الإِطْلاَق لا نظر فیه إلی الأفراد کما قلنا بخلاف العموم، ومعناه واحد فِی جمیع الموارد، وهو عبارة عن ملاحظة ذات الطَّبِیعَة بما هی هی، بل من جهة أن المحمول علی ذات طبیعة الکذب فِی المثال سنخ محمول یقتضی التَّأثیر فِی جمیع أفراد الطَّبِیعَة؛ لأَنَّهُ نهی عن إیجادها، فهو یقتضی إعدامها، وهی لا تنعدم إلاَّ بانعدام جمیع أفرادها.

ص: 113

وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الإِطْلاَق دائماً معناه لحاظ ذات الطَّبِیعَة مِنْ دُونِ لحاظ أیّ شیء آخر غیرها، فلا الشُّمُول لجمیع الأفراد مأخوذ فیه، ولا صِرْف الْوُجُودِ المساوق للوجود الأوّل، وإنَّما الَّذی یَتَعَلَّقُ بذات الطَّبِیعَة ویُحمل علیها یختلف من موردٍ إلی آخر، فطبیعة الصَّلاة فِی «صلِّ» وطبیعة الکذب فِی «لا تکذب» لوحظتا بما هی هی ومن دون قید زائد، والملحوظ فیهما شیء واحد، ولکن مع ذلک یکفی فِی امتثال الأمر إیجاد فرد واحد، ولا یکفی فِی امتثال النَّهْی إلاَّ ترک جمیع الأفراد؛ لأَنَّ المحمول علی ذات الطَّبِیعَة وَالْمُتَعَلَّق بها یختلف کما قلنا.

وبناءًا علی هذا الفهم نقول فِی المقام: إن المقصود بالإطلاق فِی الرُّکْن الثَّانِی (القائل باشتراط کون المربوط بِالطَّرَفِ مُطْلَق الْحُکْمِ لا شخصه) لَیْسَ هو الإِطْلاَق الشُّمُولِیّ بنحو مطلق وجود الحکم، ولا هو الإِطْلاَق الْبَدَلِیّ بنحو صِرْف الْوُجُودِ المساوق للوجود الأوّل للحکم، فکلاهما شیء زائد علی ذات الطَّبِیعَة، بل المقصود به لحاظ طبیعة الحکم بما هی هی مِنْ دُونِ لحاظ شیء زائد علیها، فیعتبر (فِی ضوء الرُّکْن الثَّانِی لاقتناص الْمَفْهُوم) أن یکون المربوط بِالطَّرَفِ طَبِیعِیّ الحکم بما هو هو، مِنْ دُونِ لحاظ شیء آخر.

وهذا الطَّبِیعِیّ قد وقع بحسب اللّبّ والمعنی فِی الْقَضِیَّة (کالقضیة الشَّرْطِیَّة مثلاً) مَوْضُوعاً لمحمول، والمحمول عبارة عن الرَّبْط (فقوله مثلاً: «إن جاء زید فأکرمه» یرجع لُبّاً ومعنیً إلی قوله: «طَبِیعِیّ وجوب إکرام زید مرتبط بمجیئه»)، حیث رُبط طَبِیعِیّ الحکم بطرفٍ (کالشرط مثلاً فِی الْقَضِیَّة الشَّرْطِیَّة)، وحینئِذٍ فلا بُدَّ من ملاحظة أن المحمول علی ذات طبیعة الحکم ما هو؟ هل هو سنخ محمول یقتضی التَّأثیر فِی جمیع أفراد الطَّبِیعَة نظیر النَّهْی أم هو سنخ محمول یقتضی التَّأثیر فِی أحد أفرادها نظیر الأمر؟

ص: 114

وهذا ما یحدّده لنا الرُّکْن الأوّل؛ فإِنَّهُ هو الَّذی یحدد الرَّبْط الَّذی یجب أن تَدُلّ الْقَضِیَّة علی توفّره بین الحکم وطرفه، کی تَدُلّ علی الْمَفْهُوم.

وقد تقدّم أن الرَّبْط بین الحکم وطرفه (أی: بین الْجَزَاء والشرط مثلاً فِی الجملة الشَّرْطِیَّة) یتصوّر علی أحد نحوین:

الأوّل: الرَّبْط الَّذی یَسْتَلْزِم الاِنْتِفَاء عِنْدَ الاِنْتِفَاءِ وهو الرَّبْط التَّوَقُّفِیّ.

الثَّانِی: الرَّبْط الَّذی لا یَسْتَلْزِم ذلک وهو الرَّبْط الإِیجَادِیّ الاِسْتِلْزَامِیّ.

وحینئِذٍ إن بنینا علی ما ذکرناه فِی مقام التَّعْلِیق علی الرُّکْن الأوّل من رکنی الضّابط الْمَشْهُور من أن استفادة المفهوم علی مستوی الْمَدْلُول التَّصوُّریّ لیست متوقّفة علی الأُمُور الَّتی ذکروها (وهی اللُّزُوم والعلّیّة والانحصار) بل یکفی فیها إثبات کون الجملة موضوعة (هیئةً أو أداةً) للربط التَّوَقُّفِیّ الاِلْتِصَاقِیّ، وقلنا فعلاً بأن الجملة تَدُلّ علی هذا النَّحْو من الرَّبْط، إذن فطبیعی الحکم قد حمل علیه الرَّبْط التَّوَقُّفِیّ، فیرجع قولنا: «إن جاء زید فأکرمه» إلی قولنا: «طَبِیعِیّ وُجُوب الإِکْرَامِ متوقّف علی مجیء زید».

وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ هذا المحمول (وهو التَّوَقُّف) سنخ محمول یقتضی التَّأثیر فِی جمیع أفراد طَبِیعِیّ الحکم، فهو نظیر النَّهْی؛ لأَنَّهُ یقتضی انعدام الطَّبِیعِیّ عند انعدام الشرط وهو المجیء؛ فَإِنَّ معنی توقّف شیء علی شیء لَیْسَ إلاَّ انعدامه عند انعدامه، فَتَدُلُّ الجملة علی الْمَفْهُوم وانتفاء جمیع أفراد طَبِیعِیّ الحکم عِنْدَ انْتِفَاءِ الشَّرْطِ، لا من جهة أن الأفراد ملحوظة ومنظور إلیها فِی الإِطْلاَق (لِما عرفتَ من أن الأفراد غیر ملحوظة ولا یُنظر إلیها، وإنَّما النَّظَر إلی ذات الطَّبِیعِیّ بما هو هو)، بل من جهة أن المحمول علی ذات طبیعة الحکم سنخ محمول یقتضی التَّأثیر فِی جمیع أفراد الطَّبِیعَة، فثبوت فردٍ من أفراد الطَّبِیعِیّ عند انعدام الشرط خُلف فرض انعدام الطَّبِیعِیّ عند انعدام الشرط، وعدم انعدام الطَّبِیعِیّ عند انعدام الشرط خُلف فرض توقّف الطَّبِیعِیّ عَلَیٰ الشَّرْطِ.

ص: 115

إذن، فیثبت الْمَفْهُوم فِی هَذَا الْفَرْضِ، لکن بعد ضمّ الرُّکْن الأوّل بالصیغة الَّتی ذکرناها نحن إلی الرُّکْن الثَّانِی، فلا بُدَّ (لاِقْتِنَاصِ الْمَفْهُومِ من الجملة الشَّرْطِیَّة مثلاً) من أن تَدُلّ الجملة عَلَی الرَّبْطِ التَّوَقُّفِیّ بین الْجَزَاء والشرط (أی: توقّف الْجَزَاء عَلَیٰ الشَّرْطِ) وهذا هو الرُّکْن الأوّل بالصیغة المتبنّاة عندنا، ولا بُدَّ أیضاً من أن تَدُلّ علی أن الْجَزَاء الْمُتَوَقَّف عَلَیٰ الشَّرْطِ عبارة عن طَبِیعِیّ الحکم لا شخصه، وهذا هو الرُّکْن الثَّانِی.

إذن، ففی هذا الفرض لم نستغنِ عن الرُّکْن الأوّل، ولم یکف الرُّکْن الثَّانِی وحده لاِقْتِنَاصِ الْمَفْهُومِ.

مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

یوجد فِی المقام تعلیق للسَّیِّد الهاشمی حفظه الله علی کلام سَیِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِید رضوان الله علیه، منقول تحت الخط، وهو فِی الواقع المقطع الثَّانِی من تعلیقه، الَّذی سبق المقطع الأوّل من تعلیقه فیما مضی(فِی نهایة النُّقْطَة الثَّانیة)، ووعدنا بذکر المقطع الثَّانِی من تعلیقه عندما یحین حینه وقد حان حینه، لنرد علی کلامه بما یلی:

أوَّلاً: أن ما ذکره من نحوی ربط الْجَزَاء بِالشَّرْطِ إما أن یرجع بروحه إلی ما أفاده سَیِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِید رَحِمَهُ اللَهُ من أن الرَّبْط بین الْجَزَاء والشرط یتصوّر علی نحوین: أحدهما «الرَّبْط التَّوَقُّفِیّ» وثانیهما «الرَّبْط الاِسْتِلْزَامِیّ»، بحیث یرجع النَّحْو الأوّل الَّذی ذکره السَّیِّد الهاشمیّ حفظه الله إلی الرَّبْط التَّوَقُّفِیّ، والنحو الثَّانِی إلی الرَّبْط الاِسْتِلْزَامِیّ، فیثبت الْمَفْهُوم فِی النَّحْو الأوّل دون الثَّانِی کما تقدّم.

فلا یکون فِی کلام السَّیِّد الهاشمیّ حینئذٍ شیء جدید زائداً علی ما أفاده سَیِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِید رَحِمَهُ اللَهُ، ولا یکون ما ذکره ضَابِطاً آخر لاقتناص الْمَفْهُوم ولا مطلباً جدیدا لا بُدَّ من التوجه إلیه، بل هو لَیْسَ إلاَّ تَغْیِیراً فِی التَّعْبِیر، وإما أن لا یرجع کلامه بروحه إلی کلام سَیِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِید رَحِمَهُ اللَهُ، فیرد علیه أن مجرّد کون الرَّبْط عارضاً علی الْجَزَاء لا یُثبت الْمَفْهُوم؛ فَإِنَّ أصل الرَّبْط لا یکفی لاقتناص الْمَفْهُوم حتّی وإن کان طَبِیعِیّ الحکم المذکور فِی الْجَزَاءِ هو الْمَوْضُوع حقیقةً ولُبّاً وکان محموله عبارة عن ربطه بِالشَّرْطِ، بحیث یکون قولنا: «إن جاء زید فأکرمه» بمثابة قولنا: «طَبِیعِیّ وجوب إکرام زید مربوط بمجیئه» کما افترض السَّیِّد الهاشمیّ فِی النَّحْو الأوّل من نحوی الرَّبْط الَّذین ذکرهما؛ فإِنَّهُ مع ذلک لا یَتُِمّ الْمَفْهُوم؛ وذلک لأَنَّ مجرّد کون الطَّبِیعَة مَوْضُوعاً فِی الْقَضِیَّة لا یکفی لصیرورة الإِطْلاَق فِی الْمَوْضُوع اِنْحِلاَلِیّاً (خلافاً لما هو الظَّاهِر من کلام السید الهاشمی)، بل لا بُدَّ من النَّظَر إلی محمول هذه الطَّبِیعَة کما أفاد سَیِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِید رَحِمَهُ اللَهُ، فقد یکون المحمول علیها من قبیل الأمر، فَیَکُونُ حمله علیها مقتضیاً لتأثیره فِی أحد أفراد الطَّبِیعَة لا جمیعها، فلا یکون الإِطْلاَق اِنْحِلاَلِیّاً کما تقدّم.

ص: 116

وَقَدْ یَکُونُ المحمول من قبیل النَّهْی، فَیَکُونُ حمله علیها مقتضیاً لتأثیره فِی جمیع أفراد الطَّبِیعَة، فَیَکُونُ الإِطْلاَق اِنْحِلاَلِیّاً کما تقدّم أیضاً.

وعلیه، ففی المقام مجرّد افتراض أن طَبِیعِیّ الحکم هو الْمَوْضُوع، لا یکفی لإِثْبَاتِ الْمَفْهُوم ما دام المحمول عبارة عن أصل الرَّبْط (کما افترض السید الهاشمی)؛ فَإِنَّ أصل الرَّبْط لَیْسَ من سنخ المحمولات الَّتی یقتضی حملها علی الطَّبِیعَة التَّأثیر فِی جمیع أفراد الطَّبِیعَة کی یصبح الإِطْلاَق اِنْحِلاَلِیّاً؛ لأَنَّ الرَّبْط کما تقدّم علی نحوین، فقد یکون الرَّبْط اِسْتِلْزَامِیّاً إِیجَادِیّاً، وهو مِمَّا لا یقتضی حمله علی الطَّبِیعَة التَّأثیر فِی جمیع أفرادها؛ إذ لا یکون حینئذٍ معنی قولنا: «إن جاء زید فأکرمه»، عبارة عن أن طَبِیعِیّ وُجُوب الإِکْرَامِ یستلزمه ویوجده المجیء. وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ هذا المحمول (وهو الإیجاد) سنخ محمول یقتضی التَّأثیر فِی أحد أفراد طَبِیعِیّ الحکم، فهو نظیر الأمر؛ لأَنَّ إیجاد الطَّبِیعِیّ یتحقّق بإیجاد فرد واحد من أفراده، فلا تَدُلّ الجملة حینئذٍ علی الْمَفْهُوم وانتفاء جمیع أفراد طَبِیعِیّ الحکم عِنْدَ انْتِفَاءِ الشَّرْطِ؛ لأَنَّ کون المجیء مُوجِداً لطبیعیّ وُجُوب الإِکْرَامِ لا یتنافی مع کون شیء آخر أیضاً مُوجِداً لطبیعیّ وُجُوب الإِکْرَامِ؛ إذ یکفی فِی إیجاد الطَّبِیعِیّ إیجاد فرد واحد من أفراده، فَکَمَا أَنَّ المجیء یوجد طَبِیعِیّ الحکم من خلال إیجاد أحد أفراده، کذلک قد یکون شیء آخر أیضاً مُوجِداً لطبیعی الحکم من خلال إیجاد فرد آخر من أفراده، فلا تَدُلّ الجملة علی أَنَّهُ عند انْتِفَاء المجیء تنتفی کل أفراد طَبِیعِیّ الحکم، وَقَدْ یَکُونُ الرَّبْط تَوَقُّفِیّاً، وهو مِمَّا یقتضی حمله علی الطَّبِیعَة التَّأثیر فِی جمیع أفرادها؛ إذ یرجع حینئذٍ قولنا: «إن جاء زید فأکرمه»، إلی قولنا: «طَبِیعِیّ وُجُوب الإِکْرَامِ متوقّف علی المجیء»، وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ هذا المحمول (وهو التَّوَقُّف) سنخ محمول یقتضی التَّأثیر فِی جمیع أفراد الطَّبِیعَة، فهو نظیر النَّهْی، لأَنَّهُ یقتضی انعدام الطَّبِیعِیّ عند انعدام الشرط وهو المجیء؛ فَإِنَّ هذا هو معنی توقّف الطَّبِیعِیّ علیه، فَتَدُلُّ الجملة علی الْمَفْهُوم وانتفاء جمیع أفراد طَبِیعِیّ الحکم عِنْدَ انْتِفَاءِ الشَّرْطِ.

ص: 117

وَالْحَاصِلُ: أَنَّ ما أفاده السید الهاشمی من أن مجرّد کون الرَّبْط عارضاً علی الْجَزَاء، وکون طَبِیعِیّ الحکم مَوْضُوعاً فِی الْقَضِیَّة بحسب اللب والحقیقة یکفی لإِثْبَاتِ الْمَفْهُوم وصیرورة الإِطْلاَق فِی طرف الْمَوْضُوع اِنْحِلاَلِیّاً غیر تامّ، لما عرفت من أَنَّهُ لا بُدَّ من افتراض کون المحمول علی هذا الْمَوْضُوع عبارة عن نوع خاصّ من الرَّبْط وهو ذاک النَّحْو من الرَّبْط الَّذی یَسْتَلْزِم الاِنْتِفَاء عِنْدَ الاِنْتِفَاءِ، أی: الرَّبْط التَّوَقُّفِیّ، أی: لا بُدَّ من أن یکون خصوص الرَّبْط التَّوَقُّفِیّ عارضاً علی الْجَزَاء، دون مطلق الرَّبْط، وهذا هو ما أفاده سَیِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِید رَحِمَهُ اللَهُ بالضَّبط.

إذن، ففی النَّحْو الأوّل من النحوین المذکورین فِی کلام السید الهاشمی لا یتحقّق ما یتوخّاه السید الهاشمی من ثبوت الْمَفْهُوم إلاَّ بالرجوع إلی ما أفاده سَیِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِید رَحِمَهُ اللَهُ.

کما أَنَّهُ فِی النَّحْو الثَّانِی أیضاً لا یتحقّق ما یتوخاه من عدم ثبوت الْمَفْهُوم إلاَّ بالرجوع إلی ما أفاده سَیِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِید رَحِمَهُ اللَهُ؛ لأَنَّ المفروض عند السید الهاشمی فِی النَّحْو الثَّانِی هو جعل الْمَوْضُوع عبارة عن جملة الشرط، وجعل المحمول عبارة عن جملة الْجَزَاء وجعل الرَّبْط عبارة عن نسبة بینهما.

ومن الواضح أَنَّنَا حتّی لو تعقلنا هذا النَّحْو وتصورناه بحیث یکون مفاد قولنا: «إن جاء زید فأکرمه»، عبارة عن الرَّبْط وَالنِّسْبَة بین مجیء زید وبین طَبِیعِیّ الحکم بوجوب الإکرام؛ فَإِنَّ هذا لا یعنی عدم إمکان إثبات الْمَفْهُوم، إلاَّ إذا افترضنا أن هذا الرَّبْط ربط إیجادی وأن هذه النِّسْبَة نسبة اِسْتِلْزَامِیَّة وهذا هو ما أفاده سَیِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِید رَحِمَهُ اللَهُ بالضَّبط، وإلا فإن مجرّد جعل الشرط (أی: المجیء) هو الْمَوْضُوع، وجعل طَبِیعِیّ الحکم فِی الْجَزَاءِ هو المحمول لا ینفی الْمَفْهُوم ما دام نفترض أن الرَّبْط بینهما ربط توقفی وأن النِّسْبَة الثَّابِتَة بینهما نسبة تعلیقیة التصاقیة.

ص: 118

مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

ثانیاً: أن ما ذکره من شهادة الوجدان الْعُرْفِیّ بأننا حتّی لو سَلَّمنا أن الجملة الشَّرْطِیَّة تَدُلّ عَلَی الرَّبْطِ وَالنِّسْبَة التَّامَّة بین الْجَزَاء والشرط بحیث یکون هذا الرَّبْط هو المنظور إلیه أساساً، لا نقبل أن یکون هذا الرَّبْط عارضاً علی الْجَزَاء وبمثابة المحمول له ممنوع جِدّاً؛ فإِنَّهُ مع التَّسْلِیم بدلالة الجملة الشَّرْطِیَّة عَلَی الرَّبْطِ وَالنِّسْبَة التَّامَّة بین الْجَزَاء والشرط لا محیص عن قبول عروض هذا الرَّبْط وهذه النِّسْبَة التَّامَّة علی الْجَزَاء، کما لا محیص عن قبول عروض ذلک عَلَیٰ الشَّرْطِ أیضاً؛ فَإِنَّ هذا هو شأن النِّسْبَة التَّامَّة دائماً؛ فَإِنَّهَا عارضة علی طرفیها، وبمثابة المحمول لکل منهما، فمثلاً النِّسْبَة التَّامَّة التصادقیة القائمة بین مفهوم «زید» ومفهوم «قائم» فِی جملة «زید قائم» (وَالَّتِی علیها هیئة هذه الجملة التَّامَّة) عارضة علی کل من الطرفین والمفهومین، وهی بمثابة المحمول لکل منهما؛ إذ ترجع الجملة فِی الحقیقة إلی قولنا: «مفهوم زید ومفهوم قائم متصادقان».

وإن شئت قلت: إِنَّها ترجع إلی قولنا: «مفهوم "زید" صادق علی ما یصدق علیه مفهوم "قائم"، ومفهوم "قائم" صادق علی ما یصدق علیه مفهوم "زید"»، وهکذا فِی سائر النِّسب التَّامَّة.

والمقام أیضاً لا یشذّ عن هذه القاعدة؛ فَإِنَّ النِّسْبَة التَّامَّة القائمة بین الْجَزَاء والشرط وَالَّتِی تَدُلّ علیها الجملة الشَّرْطِیَّة (بهیئتها أو بأداتها) عارضة علی کل من الْجَزَاء والشرط وهی بمثابة المحمول لکل منهما؛ إذ ترجع الجملة الشَّرْطِیَّة (کجملة «إن جاء زید فأکرمه» مثلاً) فِی الحقیقة إلی قولنا: «مجیء زید ووجوب الإکرام مترابطان».

وإن شئت قلت: إِنَّها ترجع إلی قولنا: «مجیء زید مرتبط بوجوب إکرامه ووجوب إکرامه مرتبط بمجیئه»، غَایَة الأَمْرِ أَنَّ هذا الرَّبْط الَّذی تَدُلّ علیه الجملة الشَّرْطِیَّة إذا افترضناه رَبْطاً تَوَقُّفِیّاً، ترجع الجملة المذکورة فِی المثال إلی قولنا: «مجیء زید»، یتوقَّف علیه وجوب إکرامه، ووجوب إکرامه یتوقَّف علی مجیئه، والتوقف یَسْتَلْزِم انْتِفَاء الْمُتَوَقِّف عند انْتِفَاء الْمُتَوَقَّف علیه، فیثبت الْمَفْهُوم، وأمّا إذا افترضناه رَبْطاً اِسْتِلْزَامِیّاً إِیجَادِیّاً، فترجع الجملة إلی قولنا: «مجیء زید یَسْتَلْزِم ویوجِد وجوب إکرامه، ووجوب إکرامه یَسْتَلْزِم ویوجده مجیئه»، والاستلزام والإیجاد لا یَسْتَلْزِم انْتِفَاء الموجَد (بالفتح) عند انْتِفَاء الموجِد (بالکسر)؛ لإمکان قیام موجِد آخر مقامه، فلا یثبت الْمَفْهُوم، وهذا کُلّه هو ما أفاده سَیِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِید رَحِمَهُ اللَهُ بالضَّبط کما عرفت، فلا أساس لما ذکره السید الهاشمی حفظه الله.

ص: 119

ثالثاً: أن ما ذکره من منبّه علی الوجدان المزعوم لا یُنبّه علیه ولا ینهض شَاهِداً له؛ فَإِنَّ الوجدان الَّذی زعمه عبارة عن عدم کون الرَّبْط (الَّذی تَدُلّ علیه الجملة الشَّرْطِیَّة) عارضاً علی الْجَزَاء وَمَحْمُولاً علیه، بینما المنبِّه والشَّاهد الَّذی أقامه لإِثْبَاتِ هذا الوجدان عبارة عن أَمْرَیْنِ:

أحدهما: لزوم ثبوت الْمَفْهُوم لمثل قولنا: «إن تشرب السَّمّ تَمُت»؛ إذ یکون معناه حینئذٍ (لو کان الرَّبْط عارضاً علی الْجَزَاء وَمَحْمُولاً علیه) هو أن الموت معلَّق علی شرب السَّمّ، مع وضوح عدم ثبوت الْمَفْهُوم له، وعدم دلالته علی انْتِفَاء الموت عند انْتِفَاء شرب السَّمّ.

أقول: عدم ثبوت هذا الْمَفْهُوم المذکور فِی مثل هذه الجملة لَیْسَ منبِّهاً وشاهداً علی عدم کون الرَّبْط عارضاً علی الْجَزَاء وَمَحْمُولاً علیه، بل بِالرَّغْمِ من دلالة الجملة المذکورة (کسائر الجمل الشَّرْطِیَّة) علی عروض الرَّبْط التَّوَقُّفِیّ التَّعْلِیقِیّ علی الْجَزَاء وحمله علیه، یمکن تفسیر عدم ثبوت هذا الْمَفْهُوم المذکور فیها بتفسیرات أخری، وذلک من قبیل أن الْجَزَاء فیها لَیْسَ عبارة عن المحکِیّ (أی: الموت فِی المثال) کی یثبت لها الْمَفْهُوم المذکور (وهو انْتِفَاء الموت عند انْتِفَاء شرب السَّمّ)، بل هو عبارة عن الحکایة والإخبار عن الموت، فَتَدُلُّ الجملة علی أن الإخبار عن الموت متوقّف علی شرب السَّمّ، وبانتفاء شرب السب یَنْتَفِی الإخبار والحکایة عن الموت، وهذا غیر الْمَفْهُوم المذکور، ولیس من الواضح عدم ثبوته له.

وَالْحَاصِلُ: أَنَّ ذاک الْمَفْهُوم الواضح عدم ثبوته لمثل هذه الجملة إِنَّمَا هو عبارة عن انْتِفَاء الموت عند انْتِفَاء شرب السَّمّ، وعدم ثبوت هذا الْمَفْهُوم لَیْسَ شَاهِداً علی عدم دلالة الجملة علی توقّف الْجَزَاء عَلَیٰ الشَّرْطِ، بل رغم دلالتها علیه لا یثبت هذا الْمَفْهُوم؛ لأَنَّ الْجَزَاء فیها لَیْسَ هو نفس الموت، بل هو الإخبار عنه.

ص: 120

وبعبارة أخری: إن مدلول الجملة لَیْسَ هو الرَّبْط بین الموت وشرب السَّمّ، بل هو الرَّبْط بین الإخبار عن الموت وشرب السَّمّ، أو من قبیل أن الْجَزَاء فیها حتّی لو کان هو المحکی (أی: الموت) لکن مع ذلک لا یثبت لها مفهوم؛ لأَنَّ الرُّکْن الثَّانِی لِلْمَفْهُومِ غیر ثابت فِی مثل هذه الجملة، وهو کون الْمُتَوَقِّف عَلَیٰ الشَّرْطِ عبارة عن الطَّبِیعِیّ، فلیست الجملة دالَّة علی أن طَبِیعِیّ الموت متوقّف علی شرب السَّمّ، بل هی دالَّة علی أن أحد مصادیق الموت متوقّف علی شرب السَّمّ، وبانتفاء شرب السَّمّ یَنْتَفِی ذاک المصداق من الموت، لا مطلق الموت، هذا لَیْسَ مفهوماً کما هو واضح.

ثانیهما: لزوم لغویّة التَّعْلِیق فِی القضیة الشَّرْطِیَّة المسوقة لبیان الْمَوْضُوع، کقولنا: «إن رُزِقتَ ولداً فاختنه»؛ إذ یکون معناه حینئذٍ (لو کان الرَّبْط عارضاً علی الْجَزَاء وَمَحْمُولاً علیه) هو أنَّ ختان ولدک معلّق علی وجوده، وهذا أشبه بالقضیة بشرط المحمول.

أقول: هذا غریب جِدّاً؛ فَإِنَّ الْجَزَاء لَیْسَ عبارة عن نفس الختان، کی یکون تعلیقه وتوقفه علی وجود الولد لغواً، وبالتَّالی یصیّر الجملة أشبه بالقضیة بشرط المحمول کما أفاد حفظه الله، بل الْجَزَاء فِی هذه الجملة عبارة عن وجوب الختان، فهی دالَّة علی توقّف وجوب الختان علی وجود الولد، ومن الواضح عدم لغویّة مثل هذا التَّوَقُّف وَالتَّعْلِیق، لوضوح توقّف کل حکم علی وجود موضوعه؛ فالقضیة المذکورة نظیر قولنا: «إذا وجد عالم فأکرمه»؛ فَإِنَّ معناه أن وُجُوب الإِکْرَامِ متوقّف ومعلق علی وجود العالِم، فهل أن بیان مَوْضُوع للحکم وبیان توقّف الحکم علی ذلک الْمَوْضُوع یعتبر لغواً؟

نعم، أمثال هذه القضایا الشَّرْطِیَّة المسوقة لبیان الْمَوْضُوع لا مفهوم لها، رغم دلالتها علی توقّف الحکم علی وجود الْمَوْضُوع وربطه وتقییده به، وذلک لأَنَّ مفهوم الشرط إِنَّمَا هو من نتائج ربط الحکم بِالشَّرْطِ وتقییده به وراء ربطه بالموضوع وتقییده به؛ وذلک لأَنَّ مفهوم الشرط إِنَّمَا هو من نتائج ربط الحکم بِالشَّرْطِ وتقییده به وراء ربطه بالموضوع وتقییده به، وهذا إِنَّمَا یکون فیما إِذَا کَانَ الشَّرْطُ مغایرا للموضوع کما فِی قولنا: «إذا جاء زید فأکرمه» أو کان أحد أسالیب تحقیق الْمَوْضُوع کما فِی آیة النبأ.

ص: 121

فَالشَّرْطُ فِی المثال الأوّل مغایر للموضوع، وتدلّ الجملة علی ربط وُجُوب الإِکْرَامِ بالمجیء وراء ربطه بوجود زید، والشرط فِی آیة النبأ وإن لم یکن مغایراً للموضوع بل هو محقق لوجوده حیث أن مجیء الفاسق بالنبأ عبارة أخری عن إیجاد النبأ، لٰکِنَّهُ لَیْسَ هو الأسلوب الوحید لإیجاده؛ لأَنَّ النبأ کما یوجده الفاسق یوجده العادل أیضاً، فَتَدُلُّ الآیة علی ربط وجوب التبیّن بمجیء الفاسق به وراء ربطه بوجود موضوعه الَّذی هو النبأ.

أمّا إذا لم یکن الشرط مغایراً للموضوع بل کان محقِّقاً لوجوده، وکان هو الأسلوب الوحید لتحقیقه کما فِی قولنا: «إن رزقت ولداً فاختنه»، وقولنا: «إن وجد عالم فأکرمه»، حیث أن رزق الولد عبارة أخری عن وجوده، فَالشَّرْطُ عین الْمَوْضُوع ومساوٍ له، فلیس هناک فِی الحقیقة ربط للحکم بِالشَّرْطِ وراء ربطه بموضوعه. فقولنا: «إن رزقت ولداً فاختنه» بمثابة قولنا: «اختن ولدک»، وقولنا: «إن وجد عالم فأکرمه» فِی قوّة قولنا: «أکرم العالم».

فالحکم مرتبط بموضوعه، ولیس له ارتباط آخر بشیء آخر غیر الْمَوْضُوع، ومن الطَّبِیعِیّ أن یَنْتَفِی الحکم حینئذٍ بانتفاء موضوعه، لکن هذا لَیْسَ مفهوماً، وإنَّما الْمَفْهُوم عبارة عن انْتِفَاء الحکم عن الْمَوْضُوع (مع بقاء الْمَوْضُوع) بانتفاء الشرط.

وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْقَضِیَّة الشَّرْطِیَّة المسوقة لبیان الْمَوْضُوع لا مفهوم لها، لکن هذا لا یعنی أَنَّهُ لا تعلیق فیها، بل فیها تعلیق للحکم علی موضوعه، ولیس هذا التَّعْلِیق لغواً، بل فائدته انْتِفَاء ذاک الحکم عند انْتِفَاء ذاک الْمَوْضُوع، فلیست الْقَضِیَّة قَضِیَّة بشرط المحمول ولا هی شبیهة بها، فما أفاده السید الهاشمی حفظه الله غیر تامّ.

هذا تمام الکلام فِی الأمر الأوّل من الأَمْرَیْنِ الَّذَیْن کان لا بُدَّ من التَّنبیه علیهما بشأن الرُّکْن الثَّانِی من رکنی الضّابط المشهور.

ص: 122

مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

الأمر الثَّانِی: أن اعتبار الرُّکْن الثَّانِی فِی ضَابِط اقتناص الْمَفْهُوم واشتراط أن یکون المربوط بِالطَّرَفِ (شرطاً کان الطَّرَف أم وصفاً أم أیّ شیء آخر) عِبَارَةٌ عَنْ سِنْخِ الْحُکْمِ لا شخصه، مِمَّا لا إِشْکَال فیه فیما إذا أردنا استفادة الْمَفْهُوم من الْمَدْلُول التَّصوُّریّ للجملة واشترطنا الرُّکْن الأوّل بصیغته الَّتی اخترناها وهو أن یکون الرَّبْط تَوَقُّفِیّاً کما تقدّم، حیث قلنا: إن کیفیَّة استفادة الْمَفْهُوم من الْمَدْلُول التَّصوُّریّ یکفی فیها الالتزام بدلالة الجملة أو الأداة بِالدِّلاَلَةِ التَّصَوُّرِیَّةِ عَلَی الرَّبْطِ التَّوَقُّفِیّ بین الحکم وبین طرفه (بلا حاجة إلی إثبات دلالتها عَلَی الرَّبْطِ اللُّزُومِیّ الْعِلِّیّ الاِنْحِصَارِیّ الَّذی اعتبره الرَّأْی الْمَشْهُور)؛ فإِنَّهُ حینئذٍ (بناءًا علی هذا المبنی) لا یثبت المفهوم ولا یَنْتَفِی سنخ الحکم عند انْتِفَاء طرفه إلاَّ إذا کان هذا الرَّبْط رَبْطاً بَیْنَ سِنْخِ الْحُکْمِ وبین طرفه، بمعنی أن یکون الْمُتَوَقِّف علی الطَّرَف سنخ الحکم.

أما إذا کان الْمُتَوَقِّف شَخْص الْحُکْمِ فلیس من الضروری أن یَنْتَفِی سنخ الحکم بانتفاء الطَّرَف لاحتمال ثبوت سنخ الحکم وَطَبِیعِیّه أیضاً، لکن فِی شخصٍ آخر من الحکم وبملاک آخر غیر ملاک الشخص الأوّل من الحکم الَّذی کان متوقّفاً علی الطَّرَف کما هو واضح.

وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الرُّکْن الثَّانِی إِنَّمَا نحتاج إلیه ونعتبره فِی ضَابِط اِقْتِنَاصِ الْمَفْهُومِ فیما إذا أردنا اقتناص الْمَفْهُوم من الْمَدْلُول التَّصوُّریّ للکلام، واکتفینا بالربط التَّوَقُّفِیّ، وأمّا لو أرید استفادة الْمَفْهُوم من الْمَدْلُول التَّصدیقیّ واشترطنا الرُّکْن الأوّل بصیغته المشهورة وهو أن یکون الرَّبْط لُزُومِیّاً عِلِّیّاً اِنْحِصَارِیّاً فبناءًا علی بعض الوجوه والبراهین الَّتی ذکرها الأصحاب لا نحتاج إلی الرُّکْن الثَّانِی، بل یمکن استفادة الْمَفْهُوم وإثباته حینئذٍ مِنْ دُونِ حاجة إلی إثبات أن المربوط بِالطَّرَفِ سنخ الحکم، بل حتّی لو کان المربوط بِالطَّرَفِ شَخْص الْحُکْمِ؛ فإِنَّهُ مع ذلک یثبت الْمَفْهُوم بعد ضمّ ضمیمة.

ص: 123

توضیح ذلک: أن بعض الأصحاب حاول إثبات الْمَفْهُوم علی مستوی الْمَدْلُول التَّصدیقیّ وذلک من خلال بعض البراهین الَّتی لو تَمَّت فهی تُثبت الْمَفْهُوم مِنْ دُونِ حاجة إلی الرُّکْن الثَّانِی المذکور فِی الرَّأْی الْمَشْهُور، ولنذکر فِی المقام برهانین منها:

الأوّل: برهان الإِطْلاَق الأَحْوَالِیّ، فقد حاول البعض استفادة الْعِلِّیَّة الاِنْحِصَارِیَّة من الجملة الشَّرْطِیَّة علی مستوی الْمَدْلُول التَّصدیقیّ للجملة ببرهان أن مقتضی الإِطْلاَق الأَحْوَالِیّ فِی الشرط هو أن هذا الشرط علّة لِلْجَزَاءِ علی کل حال، سواء قارنه شیء آخر أم لا، ولازم ذلک هو الانحصار وعدم وجود علّة أخری غیر هذا الشرط؛ لأَنَّهُ لو کان هناک علّة أخری غیر هذا الشرط للزم فِی حال اجتماعهما أَنْ تَکُونَ العلّة إما المجموع المرکب منهما، أو کل منهما وحده.

والأول ینافیه الإِطْلاَق الأَحْوَالِیّ؛ باعتبار أَنَّهُ یقتضی کَوْن الشَّرْطِ عِلَّةً مستقلّة، سواء انضمّ إلیه شیء آخر أم لا (کما عرفت).

وَالثَّانِی: یلزم منه اجتماع عِلَّتَیْنِ مستقلتین علی معلول واحد، وهو مستحیل.

وبهذا یتبرهن عدم وجود علّة أخری، وبالتَّالی یثبت أَنَّ الشَّرْطَ علّة منحصرة لِلْجَزَاءِ.

وهذا البیان لو تَمَّ فهو یُثبت الْمَفْهُوم بلا حاجة إلی الرُّکْن الثَّانِی؛ لأَنَّهُ حتّی لو کان المربوط بِالشَّرْطِ شَخْص الْحُکْمِ الْمَذْکُورِ فِی الْجَزَاءِ، فمع ذلک یثبت الْمَفْهُوم بضم ضمیمة ونکتة وهی عبارة عن استحالة اجتماع المثلین.

وبیان ذلک هو أن مقتضی الإِطْلاَق الأَحْوَالِیِّ لِلشَّرْطِ کَوْن الشَّرْطِ عِلَّةً مستقلّة هذا الشخص من الحکم (وهو وُجُوب الإِکْرَامِ مثلاً) مطلقاً، سواء وجد شیء آخر مع الشرط أو قبله أم لم یوجد.

وهذا الإِطْلاَق ینفی کون شیء آخر علّةً ولو لشخص آخر من الحکم، فضلاً عن شخص هذا الحکم الأوّل المذکور فِی الْجَزَاءِ؛ وذلک لأَنَّهُ لو کان شیء آخر علةً وفرض تقدمه عَلَیٰ الشَّرْطِ أو مقارنته معه فی فرض بقاءً الشرط أیضاً علی حاله من کونه علّة تامَّة لِشَخْصِ الْحُکْمِ الْمَذْکُورِ فِی الْجَزَاءِ، فإما أن یکون علّةً لشخص هذا الحکم الأوّل، فیلزم اجتماع عِلَّتَیْنِ مستقلتین علی معلول واحد، وهو مستحیل، وإما أن یکون علّةً لشخص آخر من الحکم، فیلزم اجتماع کلا الحکمین، أی: الوجوبین فِی المثال، وهما متماثلان، واجتماع المثلین محال.

ص: 124

وفرض التأکد وحصول حکم واحد متأکد من أَمْرَیْنِ کل منهما علّة تامَّة ینفیه برهان استحالة اجتماع عِلَّتَیْنِ علی معلول واحد، کما أن فرض تحقّق وجوبین بمعنی وجوب مصداقین للإکرام: مصداق بسبب الشرط، ومصداق آخر بسبب شیء آخر خلاف ظاهر الْقَضِیَّة الدَّالّ علی أن مُتَعَلَّق الوجوب طَبِیعِیّ الإکرام لا المصداق.

إذن، فلو تَمَّ هذا البرهان ثبت الْمَفْهُوم مِنْ دُونِ حاجة إلی الرُّکْن الثَّانِی، وهو أن یکون الْجَزَاء سنخ الحکم.

مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

الثَّانِی: برهان استحالة صدور الواحد من الکثیر، فقد حاول البعض استفادة الْعِلِّیَّة الاِنْحِصَارِیَّة من الجملة الشَّرْطِیَّة علی مستوی الْمَدْلُول التَّصدیقیِّ للجملة ببرهان أن الواحد لا یصدر من الاثنین؛ وذلک لأَنَّهُ لو کان هناک علّة أخری لِلْجَزَاءِ غَیْر الشَّرْطِ المذکور فِی الْقَضِیَّة الشَّرْطِیَّة، کما لو فرض أن مجیء زید علّة لوجوب إکرامه، وأن فقره أیضاً علّة أخری لوجوب إکرامه، فحینئذٍ یقال: إما أن یفرض أن کلا منهما علّة بخصوصه، فیلزم صدور الواحد بالنوع (وهو الوجوب) من المتعدد بالنوع؛ لأَنَّ المجیء نوع، والفقر نوع آخر، وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ صدور الواحد بالنوع من المتعدد بالنوع مستحیل. وإما أن یفرض أن العلّة عبارة عن الجامع بینهما، فیلزم أَنْ لاَّ یَکُونَ الشرط المذکور فِی الْقَضِیَّة مؤثراً بِعُنْوَانِهِ فِی الْجَزَاءِ، مَعَ أَنَّ هذا خلاف ظاهر الجملة الشَّرْطِیَّة الدَّالّ علی أَنَّهُ مؤثر فیه بِعُنْوَانِهِ.

وبهذا یتبرهن عدم وجود علّة أخری وبالتَّالی یثبت أَنَّ الشَّرْطَ علّة منحصرة لِلْجَزَاءِ.

وهذا البیان أیضاً لو تَمَّ فهو یثبت المفهوم بلا حاجة إلی الرُّکْن الثَّانِی؛ لأنَّه حتّی لو کان المربوط بِالشَّرْطِ شَخْص الْحُکْمِ، فمع ذلک یثبت الْمَفْهُوم بضم الضمیمة والنُّکتة المتقدّمة، وهی عبارة عن استحالة اجتماع المثلین؛ وذلک لأَنَّ المقصود من قانون «الواحد لا یصدر إلاَّ من واحد» إن کان عبارة عن الواحد بالنوع وأنه لا یمکن أن یصدر من المتعدد بالنوع، إذن یثبت الْمَفْهُوم؛ إذ لو کان هناک شخص آخر من نفس نوع الحکم مترتّب علی شیء آخر غَیْر الشَّرْطِ المذکور لزم صدور الواحد بالنوع من الاثنین بالنوع، فلکی لا یلزم صدور الواحد بالنوع من اثنین بالنوع لا بُدَّ من انْتِفَاء جمیع أفراد نوع الحکم وأشخاصه عِنْدَ انْتِفَاءِ الشَّرْطِ وهذا هو الْمَفْهُوم. وإن کان المقصود عبارة عن الواحد بالشخص وأنه لا یمکن أن یصدر من المتعدد، فأیضاً یمکن استفادة الْمَفْهُوم؛ إذ لو کانت هناک علّة أخری غَیْر الشَّرْطِ، فإما أَنْ تَکُونَ علّةً لنفس هذا الشخص من الحکم، فیلزم صدور الواحد بالشخص من المتعدد، وإما أَنْ تَکُونَ علةً لشخص آخر من الحکم، فیلزم اجتماع المثلین؛ إذ یلزم أن نُثبت وجوبین للإکرام مثلاً عند تحقّق کلتا العلتین، أعنی: الشرط وتلک العلّة الأخری المفترضة.

ص: 125

إذن، فلو تَمَّ هذا البرهان ثبت الْمَفْهُوم بلا حاجة أیضاً إلی الرُّکْن الثَّانِی وهو أن یکون الْجَزَاء سنخ الحکم.

وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ بناءًا علی تَمَامِیَّة هذین البرهانین یثبت الْمَفْهُوم، بلا حاجة إلی الرُّکْن الثَّانِی المذکور فِی الرَّأْی الْمَشْهُور.

لکن بما أن الصَّحِیح بطلان البرهانین المذکورین (علی ما سوف یأتی - إن شاء الله تعالی - عند الحدیث عن دلالة الشرط علی الْمَفْهُوم)، إذن فالرکن الثَّانِی ضروری فِی مقام إثبات الْمَفْهُوم وشرط أساسی لاستفادته.

هذا تمام الکلام فِی الأمر الثَّانِی من الأَمْرَیْنِ الَّذیْنِ کان لا بُدَّ من التَّنبیه علیهما بشأن الرُّکْن الثَّانِی من رکنی الضّابط الْمَشْهُور، وبه تَمَّ الکلام فِی النُّقْطَة الثَّالثة.

النُّقْطَة الرَّابعة: أن ما ذکره المُحَقِّق الْعِرَاقِیّ رَحِمَهُ اللَهُ من أن الرکنین المذکورین فِی الضّابط الْمَشْهُور (أی: الْعِلِّیَّة الاِنْحِصَارِیَّة، وکون الْمُعَلَّق سنخ الحکم وَطَبِیعِیّه) وإن کانا دخیلینِ فِی استفادة الْمَفْهُوم من الکلام، إلاَّ أن الرُّکْن الأوّل محلّ وفاق بین الأصحاب، حتّی فِی مثل الجملة الوصفیة، وإنَّما النِّزَاع الدائر بینهم فِی بحث الْمَفَاهِیم قد وقع فِی الرُّکْن الثَّانِی، وأن الْمُعَلَّق عَلَیٰ الشَّرْطِ أو الوصف أو نحوهما هل هو نوع الحکم کی یثبت الْمَفْهُوم؟ أم هو شَخْص الْحُکْمِ کی لا یثبت؟

فالضابط لاِقْتِنَاصِ الْمَفْهُومِ عنده رَحِمَهُ اللَهُ هو کون الْمُعَلَّق سنخ الحکم مستدلاً علی اتفاقهم علی الرُّکْن الأوّل وکون الشرط أو الوصف أو نحوهما عِلَّةً تَامَّةً منحصرةً للحکم باتفاقهم فِی باب المطلق والْمُقَیَّد علی حمل المطلق علی المقیَّد، کقوله: «اعتق رقبة» وقوله: «اعتق رقبة مؤمنة»، وذلک فیما لو عُلم بوحدة الحکم المجعول فِی کلا الدَّلِیلَیْنِ، فیحکم بوجوب عتق خصوص الرقبة المؤمنة، وهذا لا یمکن أن یُفسَّر إلاَّ علی أساس کون القید والوصف (کالإیمان فِی المثال) علّة منحصرة للحکم عندهم، فَیَکُونُ انتفاؤه موجباً لانتفاء الحکم المذکور فِی المقیَّد، وبما أن المفروض هو العلم بوحدة الحکم فِی المطلق والْمُقَیَّد وعدم احتمال تَعَدُّده، فهذا یعنی أَنَّهُ بِانْتِفَاءِ الْقَیْدِ المذکور فِی المقیَّد یَنْتَفِی الحکم المذکور فِی المطلق، وهذا هو معنی حمل المطلق علی المقیِّد، ولا وجه لانتفاء الحکم المذکور فِی المقیِّد عِنْدَ انْتِفَاءِ الْقَیْدِ بعد أن أنکروا مفهوم الوصف سوی کون القید علّة تامَّة منحصرة للحکم المذکور فِی القید؛ إذ لَوْ لَمْ یَکُنْ کذلک وفرض احتمال وجود علّة أخری للحکم (کالعلم) لاحتُمل ثبوت الحکم مع انْتِفَاء القید، وحینئِذٍ لم یکن هناک وجه لحمل المطلق علی المقیِّد والحکم بوجوب عتق خصوص الرقبة المؤمنة، بل کان لا بُدَّ من الأخذ بالمطلق والْمُقَیَّد معاً والحکم بوجوب عتق الرقبة المؤمنة وبوجوب عتق الرقبة العالِمة مثلاً وإن لم تکن مؤمنة((1) ).

ص: 126


1- (1) - راجع مقالات الأصول: ج1، ص138.

أقول: ما ذکره رَحِمَهُ اللَهُ غیر تامّ کما أفاد سَیِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِید رَحِمَهُ اللَهُ؛ لأَنَّ اتفاقهم علی حمل المطلق علی الْمُقَیَّد یکشف عن اتفاقهم علی أن شَخْص الْحُکْمِ یَنْتَفِی بانتفاء شرطه أو وصفه وقیده، وهذا یعنی أَنَّ الشَّرْطَ أو الوصف علّة تامَّة منحصرة بِالنِّسْبَةِ لِشَخْصِ الْحُکْمِ الْمُعَلَّق علیهما، وهذا لا خلاف فیه، وبهذا یثبت اتفاق الأصحاب علی دلالة الْقَضِیَّة الوصفیة علی أن الوصف علّة تامَّة منحصرة لِشَخْصِ الْحُکْمِ الْمُعَلَّق علی الوصف.

إلاَّ أن هذا لا یکشف عن اتفاقهم علی أن الْقَضِیَّة الوصفیة تَدُلّ علی کون الوصف علّة تامَّة منحصرة لطبیعی الحکم فیما لو کان الْمُعَلَّق علی الوصف هو طَبِیعِیّ الحکم؛ وذلک لأَنَّ البرهان الَّذی یُثبت الْعِلِّیَّة الاِنْحِصَارِیَّة للوصف إِنَّمَا تُثبتها بِالنِّسْبَةِ لِشَخْصِ الْحُکْمِ إذا فرض أن الْمُعَلَّق علی الوصف شَخْص الْحُکْمِ، ولا یُثبت الْعِلِّیَّة الاِنْحِصَارِیَّة للوصف بِالنِّسْبَةِ إلی طَبِیعِیّ الحکم.

توضیح ذلک یتوقَّف علی ذکر هذا البرهان وحاصله هو أن تشخص کل حکم إِنَّمَا یکون بجعله، وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ کل جعلٍ له مَوْضُوع واحد یُجعل الحکم علی أساسه، ولا یُعقل أن یکون لشخص حکم واحد موضوعان عَرضیان.

نعم، یمکن أن یکون له موضوعان علی سبیل البدل، وبناءًا علی ذلک یقال: إذا ورد دلیل مطلق کقوله: «اعتق رقبة» وورد دلیل مقیَّد کقوله: «اعتق رقبة مؤمنة»، وعلمنا بوحدة الحکم المجعول فیهما، فَحَیْثُ أَنَّ مِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ وحدة الحکم ترجع إلی وحدة الجعل، لذا یمکن أن نُثبت أن الإیمان الَّذی أخذ فِی الدَّلِیل المقیِّد هو علّة تامَّة منحصرة بِالنِّسْبَةِ إلی شَخْص الْحُکْمِ بوجوب العتق، بمعنی أَنَّهُ مأخوذ فِی مَوْضُوع ذلک الجعل الواحد، بنحو لا یکون الجعل شاملاً لحالة فقده.

ص: 127

وَالَّذِی یدلنا علی ذلک هو أَنَّهُ لو کان هناک علّة أخری لوجوب العتق غیر «الإیمان» یقوم مقامه، من قبیل «العلم» مثلاً، فإما أن یکون کل من العلتین بِعُنْوَانِهِ مأخوذاً فِی موضوع هذا الجعل الواحد، وإما أن یکون المأخوذ هو الجامع بینهما.

فإن کان الأوّل فهو مستحیل؛ إذ یستحیل أن یکون للجعل الواحد موضوعان عَرضیان کما عرفت، وإن کان الثَّانِی فهو ممکن، إلاَّ أَنَّهُ یعنی أن «الإیمان» بِعُنْوَانِهِ الخاصّ لم یؤخذ فِی عالم الجعل، وإنَّما هو مأخوذ فِی ضمن أخذ الجامع بینه وبین «العلم»، وهذا ینافی أصالة التَّطَابُق بین مقام الثُّبوت ومقام الإثبات؛ فإنَّ مقتضی هذا الأصل هو أن کل قید أخذ فِی عالم الجعل إثباتاً فهو مأخوذ فِیه ثبوتاً، وإذا لم یکن مأخوذاً فیه إثباتاً فلیس مأخوذاً فیه ثبوتاً.

وفی المثال قد فرض أن الإیمان بِعُنْوَانِهِ الخاصّ قد أخذ فِی عالم الجعل إثباتاً، وهذا یکشف عن أَنَّهُ مأخوذ کذلک ثبوتاً، وبذلک یبطل فرض کونه مأخوذاً فِی ضمن الجامع.

وعلیه فإذا بطل هذان الاحتمالان الْمُتَفَرّعان علی فرض وجود علّة أخری غیر الإیمان، یثبت حینئذٍ أن الإیمان علّة تامَّة منحصرة لِشَخْصِ الْحُکْمِ، وحینئِذٍ فبإنتفائه یَنْتَفِی شَخْص الْحُکْمِ الواحد المجعول فِی کلا الدَّلِیلَیْنِ، وهو معنی حمل المطلق علی المقیِّد.

إلاَّ أن هذا البرهان لا یَتُِمّ فیما إذا کان الْمُعَلَّق علی الوصف عبارة عن طَبِیعِیّ الحکم؛ لأَنَّنَا نختار الاحتمال الأوّل، وهو أن یکون هناک علّة أخری للوجوب غیر الوصف المذکور، ویکون کل من العلتین بِعُنْوَانِهِ الخاصّ علّة وموضوعاً مأخوذاً فِی عالم الجعل، ولا یلزم منه تقوّم الجعل الواحد بموضوعین عرْضیین؛ لأَنَّ کلامنا فِی طَبِیعِیّ الحکم، وطبیعی الحکم یفترض له أفراد من الحکم والجعل، فلا مانع من وجود فردین من طَبِیعِیّ الحکم وجعلین:

ص: 128

أحدهما: أخذ فِی موضوعه فِی عالم الجعل الوصف المذکور، فَیَکُونُ الوصف بِعُنْوَانِهِ الخاصّ علّةً ومُوجِداً له، وبإیجاده له یتحقّق إیجاد الوصف لطبیعی الحکم.

وثانیهما: أخذ فِی موضوعه فِی عالم الجعل العلّة الأخری المفترضة، فتکون تلک العلّة بعنوانها الخاصّ موجِدةً له، وبإیجاده یتحقّق إیجادها لطبیعی الحکم.

إذن، فالبناء علی أن الوصف علّة منحصرة لِشَخْصِ الْحُکْمِ (فیما إذا عُلِّق شَخْص الْحُکْمِ علی الوصف) لا یلزم منه البناء علی أن الوصف علّة منحصرة لطبیعی الحکم (فیما إذا عُلِّق طَبِیعِیّ الْحُکْمِ علی الوصف)؛ لأَنَّ البرهان الَّذی یُبت الْعِلِّیَّة الاِنْحِصَارِیَّة للصوف إِنَّمَا یُثبتها له بِالنِّسْبَةِ إلی شَخْص الْحُکْمِ فیما إذا فرض أن الْمُعَلَّق علی الوصف شَخْص الْحُکْمِ، ولا یُثبتها له بِالنِّسْبَةِ إلی طَبِیعِیّ الحکم فیما إذا فرض أن الْمُعَلَّق علیه طَبِیعِیّ الحکم، فلا یمکن أن نستکشف من اتفاق العلماء علی حمل المطلق علی المقیَّد اتفاقهم علی الرُّکْن الأوّل المذکور فِی الضّابط الْمَشْهُور وهو کون الوصف علّة تامَّة منحصرة، کی لا نکون بحاجة (لإِثْبَاتِ الْمَفْهُوم) إلاَّ إلی الرُّکْن الثَّانِی کما أفاد المُحَقِّق الْعِرَاقِیّ رَحِمَهُ اللَهُ.

وَالْحَاصِلُ: أَنَّ المطلوب من الرُّکْن الأوّل من رکنی الضّابط الْمَشْهُور لاِقْتِنَاصِ الْمَفْهُومِ هو أن یَکُون الشَّرْطُ مثلاً أو الوصف أو غیرهما علّة منحصرة للحکم حتّی لو فرض أن الحکم عِبَارَةٌ عَنْ سِنْخِ الْحُکْمِ لا شخصه، بینما غایة ما یستکشف من حمل المطلق علی المقیَّد علی تقدیر إحراز وحدة الحکم فیهما هو أن القید علّة منحصرة لشخص هذا الحکم، ولا تلازم بین القول بأن القید علّة منحصرة لِشَخْصِ الْحُکْمِ (کما یستفاد من حمل المطلق علی المقیَّد علی تقدیر وحدة الحکم) وبین القول بأن القید علّة منحصرة لسنخ الحکم وَطَبِیعِیّه؛ فَإِنَّ هناک برهاناً علی أن شَخْص الْحُکْمِ لا بُدَّ من أَنْ تَکُونَ له علّة واحدة وَمَوْضُوع واحد، وهذا البرهان لا یجری فِی سنخ الحکم.

ص: 129

والبرهان هو أن الحکم إِنَّمَا یتشخّص بالجعل مهما تعدّدت مجعولاته، ومن الواضح أَنَّهُ لا یمکن أن یکون لجعل واحد موضوعان، بینما یعقل أن یکون لجعلین مستقلین موضوعان مستقلان.

هذا تمام الکلام فِی النُّقْطَة الرَّابعة.

وبذلک انتهینا من الکلام فِی ضَابِط الْمَفْهُوم. وبه تَمَّت الإجابة علی کلا السؤالین (السُّؤَال عن تعریف المفهوم، والسؤال عن ضَابِط المفهوم) وآن الأوان للدخول فِی صلب البحث عن دلالة الشرط (مفهوم الشرط).

دَلاَلَة الشَّرْطِ عَلَی الْمَفْهُومِ

(مَفْهُومُ الشَّرْطِ)

هل أن الْقَضِیَّة الشَّرْطِیَّة تَدُلّ علی الْمَفْهُوم أم لا؟

لا بُدَّ لنا (فِی مقام تحقیق الجواب علی هذا السُّؤَال) من البحث من ثلاث نقاط:

النُّقْطَة الأولی: أن مفاد الْقَضِیَّة الشَّرْطِیَّة بحسب منطوقها ما هو؟ فهل أنَّها تَدُلّ علی ربط الْجَزَاء بِالشَّرْطِ أم لا تَدُلّ علی ذلک؟ وعلی الأوّل فهل أنَّها تَدُلّ علی أن المربوط بِالشَّرْطِ هو الْمَدْلُول التَّصوُّریّ لِلْجَزَاءِ، أم تَدُلّ علی أن المربوط به مدلوله التَّصدیقیّ؟ وعلی الأوّل فهل تَدُلّ علی أن الْمَدْلُول التَّصوُّریّ المربوط بِالشَّرْطِ هو الْمَدْلُول التَّصوُّریّ لهیئة الْجَزَاء، أم تَدُلّ علی أن المربوط به هو الْمَدْلُول التَّصوُّریّ لمادّة الْجَزَاء؟

النُّقْطَة الثَّانیة: أن الحکم فِی الْجَزَاءِ هل هو طَبِیعِیّ الحکم وسنخه، أم هو شَخْص الْحُکْمِ؟!

النُّقْطَة الثَّالثة: أن الرَّبْط الَّذی تَدُلّ الْقَضِیَّة علیه هل هو ربط توقفی تعلیقی أم هو ربط عِلِّیّ اِنْحِصَارِیّ، أم لا هذا ولا ذاک؟!

أما النُّقْطَة الأولی: فیقع البحث فیها من جهات ثلاث:

الجهة الأولی: فِی دلالة الْقَضِیَّة علی أصل ربط الْجَزَاء بِالشَّرْطِ.

الجهة الثَّانیة: فِی دلالتها علی أن المرتبط بِالشَّرْطِ هو الْمَدْلُول التَّصوُّریّ لِلْجَزَاءِ، لا الْمَدْلُول التَّصدیقیّ له.

ص: 130

الجهة الثَّالثة: فِی دلالتها علی أن الْمَدْلُول التَّصوُّریّ المرتبط بِالشَّرْطِ هو الْمَدْلُول التَّصوُّریّ لهیئة الْجَزَاء، لا الْمَدْلُول التَّصوُّریّ لمادّة الْجَزَاء.

أما الجهة الأولی: ففی البحث عن دلالة الْقَضِیَّة الشَّرْطِیَّة علی أصل ربط الْجَزَاء بِالشَّرْطِ. وَالظَّاهِر أَنَّهُ مِمَّا لا إِشْکَال فیه، وإنَّما الکلام فِی الدَّالّ علیه؛ فَإِنَّ الْمَشْهُور بین علماء الْعَرَبِیَّة، وکذلک الْمَشْهُور بین الأُصُولِیِّینَ، وأیضاً المرتکز فِی أذهان العرف والعقلاء وأهل المحاورة هو أن الدَّالّ عَلَی الرَّبْطِ عبارة عن أداة الشرط، فهی موضوعة للربط بین جُمْلَةِ الشَّرْطِ وجملة الْجَزَاء بنحو من الرَّبْط یأتی تحقیقه والحدیث عن هویّته فِی النُّقْطَة الثَّالثة - إن شاء الله تعالی-؛ ففی قول القائل: «إن جاء زید فأکرمه» یَکُون الشَّرْطُ عبارة عن المجیء والجزاء عبارة عن وُجُوب الإِکْرَامِ، والأداة قد أوجدت الرَّبْط بینهما ودلت علی أن وُجُوب الإِکْرَامِ مرتبط بالمجیء خارجاً.

مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

إلاَّ أن المُحَقِّق الإصفهانی خالفهم فِی ذلک قائلاً: إن أداة الشرط لیست موضوعة لِلرَّبْطِ بَیْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، بل هی موضوعة لإفادة أن مدخولها مفروض ومقدر، فمفادها هو جعل المدخول مقدرّاً وأمّا الرَّبْط وَالتَّرَتُّب بین المدخول المفروض والمقدر وبین الْجَزَاء، فالدال علیه عبارة عن هیئة ترتیب الْجَزَاء عَلَیٰ الشَّرْطِ وتفریع التالی علی المقدَّم، کما تفید «الفاء» فِی الْجَزَاءِ؛ فَإِنَّ الفاء أیضاً للترتیب، ولیس لأداة الشرط دخل فِی ذلک، فَالشَّرْطُ فِی المثال المذکور لَیْسَ عبارة عن المجیء الخارجیّ، بل هو المجیء المقدر المفروض، وهیئة الترتیب دلت علی ربط الْجَزَاء به وثبوت وُجُوب الإِکْرَامِ فِی فرض تحقّق المجیء.

توضیحه: أَنَّنَا إذا لاحظنا جملة «جاء زید»، فهذه الجملة تارةً تقع موقع الإخبار والحکایة، وذلک حینما یقول: «جاء زید» ومعناه «أُخبِر بمجیء زید»، وأخری تقع موقع الاستفهام، وذلک حینما یقال: «هل جاء زید» ومعناه: «أستفهم عن مجیء زید»، وثالثة تقع موقع التمنّیّ، وذلک حینما یقال: «لیت زَیْداً جاء»، ورابعة تقع موقع الترجیّ، وذلک حینما یقال: «لعلّ زیداً جاء»، ومعناه: أرجو مجیء زید، وخامسة تقع موقع الفرض والتقدیر، وذلک حینما یقال: «إن جاء زید فأکرمه»؛ فَإِنَّ قوله: «إن جاء زید» فِی هذه الجملة معناه: «أَفرُض وأُقَدِّرُ مجیء زید»، فَکَمَا أَنَّ أداة الاستفهام وضعت للدِّلالة علی الاستفهام عن مدخولها، وأداة التمنی والترجی وُضعتا للدِّلالة علی تمنی المدخول وترجّیه، کذلک أداة الشرط وضعت للدِّلالة علی فرض المدخول وتقدیره، وأمّا قولنا: «فأکرمه» فِی المثال فهو الدَّالّ عَلَی الرَّبْطِ بین الْجَزَاء والمجیء المفروض والمقدَّر وترتُّب الأوّل علی الثَّانِی.

ص: 131

فالمراد من وقوع المدخول موقع الفرض والتقدیر نظیر ما اشتهر فِی علم المنطق فِی الْقَضِیَّة الحقیقیَّة من أن موضوعها ینطبق علی الأفراد المحقَّقة والمقدَّرة، فإذا قیل: «کل إنسان ضاحک» لا یختصّ الْمَوْضُوع بما صدق علیه الإنسان محققاً فِی أحد الأزمنة، لعدم اختصاص المحمول به، بل یعمّ کل ما لو وجد کان إنساناً، فکل ما فرضه وقدَّره العقل مصداقاً لطبیعی الإنسان یراه مصداقاً لعنوان الضاحک.

وهذا بخلاف الْقَضِیَّة الخارجیة الَّتی یکون الحکم فیها بالمحمول علی الْمَوْضُوع المحقَّق فِی زمان خاصّ (کقولنا: «کل مَن کان فِی المعسکر قُتل») أو المُحَقَّق فِی أحد الأزمنة الثَّلاثة أو کُلّهَا (کقولنا: «الإنسان الموجود حیوان ناطق»).

فالقضیة الحقیقیَّة هی الَّتی حکم فیها بالمحمول علی الْمَوْضُوع سواء تحقّق فِی أحد الأزمنة أم لا، بأن لا یلحظ الْمَوْضُوع بِعُنْوَانِهِ الإشارة إلی ما فِی الخارج، بل یقدر محقَّقاً ویحکم علیه وإن لم یکن محقَّقاً کقولنا: «کل إنسان حیوان ناطق»، فإِنَّهُ لَیْسَ معناه أن خصوص الأفراد الْمُحَقَّقَة فِی الخارج فِی أحد الأزمنة الثَّلاثة حیوان ناطق، بل معناه أَنَّهُ کُلَّمَا فُرض إنسان فهو حیوان ناطق، ونحوه قولنا: «النار حارّة»؛ فَإِنَّ معناه أَنَّهُ کُلَّمَا فرضت نار فهی حارة، لا بمعنی أن الفرض والتقدیر هو الْمَوْضُوع، بحیث یکون المفروض بما هو مفروض هو الْمَوْضُوع، کی یستلزم حصول الحیوان الناطق أو الحرارة بمجرّد تصویر الإنسان أو النار وفرضه وتقدیره، بل بمعنی فرض الْمَوْضُوع وتقدیره، بحیث یکون الفرض هو فرض الْمَوْضُوع، ویکون الْمَوْضُوع الحقیقی عبارة عن کل ما هو إنسان أو نار بالحمل الشائع؛ فَإِنَّ ما هو إنسان أو نار بالحمل الشائع قد یکون محقَّقاً، وَقَدْ یَکُونُ مقدَّراً ومفروضاً.

وَالْحَاصِلُ: أَنَّ أداة الشرط فِی الْقَضِیَّة الشَّرْطِیَّة تفید کون مدخولها مَفْرُوضاً وَّمُقَدَّراً (کالموضوع فِی الْقَضِیَّة الحملیة الحقیقیَّة) فَیَکُونُ الشرط أعمّ من الموجود فِی أحد الأزمنة الثَّلاثة. ثم لما رُتّب الْجَزَاء علی هذا الشرط، فمن نفس هذا الترتیب یستفاد الرَّبْط وَالتَّعْلِیق.

ص: 132

ولم یُقم رَحِمَهُ اللَهُ دَلِیلاً علی مُدَّعَاه، وإنَّما استشهد علیه بأمور ثلاثة:

أحدها:شهادة الوجدان بذلک.

ثانیها: کون هذا هو المنسوب إلی علماء الْعَرَبِیَّة.

ثالثها: أن أداة الشرط فِی اللُّغَة الْفَارِسِیَّة معناها ذلک، فبملاحظة مرادفها فِی الْفَارِسِیَّة یکون لدینا شاهد آخر علی أنَّها فِی اللُّغَة الْعَرَبِیَّة أیضاً کذلک؛ لأَنَّ من المستبعد جِدّاً الفرق فِی أداة الشرط بین اللُّغَات((1) ).

أقول: ما ذکره رَحِمَهُ اللَهُ من الشواهد لا یمکن قبوله وذلک:

أما الوجدان فشهادته علی کلامه رَحِمَهُ اللَهُ ممنوعة، بل الوجدان شاهد علی خلافه، کما یضح ذلک إن شاء الله تعالی من خلال البحث.

وأمّا شهادة علماء الْعَرَبِیَّة بذلک، فَحَتَّی إذا صحّت نسبة ذلک إلیهم، فَإِنَّهَا لیست حجّةً.

وأمّا کون مفاد أداة الشرط فِی اللُّغَة الْفَارِسِیَّة ذلک، فهو أیضاً ممنوع؛ فَإِنَّ معناها فِی هذه اللُّغَة أیضاً هو نفس ما ذکر فِی الرَّأْی الْمَشْهُور.

وبغض النَّظَر عن هذه الشواهد لم یستدلّ المُحَقِّق الإصفهانی رَحِمَهُ اللَهُ علی کلامه بدلیل، کما أن الرَّأْی الْمَشْهُور أیضاً لم یُستدلّ علیه بدلیل.

إلاَّ أن سَیِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِید رَحِمَهُ اللَهُ تبرَّع بذکر دلیل علی کلٍّ من الرأیین، فذکر صورة دلیل وبرهان علی مدعی المُحَقِّق الإصفهانی رَحِمَهُ اللَهُ وناقشه، وذکر أیضاً دَلِیلاً علی الرَّأْی الْمَشْهُور وتبنّاه، والصحیح عندنا هو ما أفاده رَحِمَهُ اللَهُ.

فأمَّا الدَّلِیل الَّذی یمکن الاستدلال به علی کلام المُحَقِّق الإصفهانی رَحِمَهُ اللَهُ فهو:

أن الْجَزَاء إذا کان مستفهما عنه، فعلی مبنی المُحَقِّق الإصفهانی رَحِمَهُ اللَهُ لا یوجد إِشْکَال، ویکون الاستفهام مُرْتَبِطاً بالتقدیر والفرض الَّذی أفادته أداة الشرط.

ص: 133


1- (1) - راجع کلماته رَحِمَهُ اللَهُ فِی نهایة الدرایة: ج2، ص52-54 و412-413.

مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

وأمّا علی المبنی الْمَشْهُور یقع الإشکال فِی أَنَّهُ ما هو المرتبط؟ هل هو الاستفهام أم هو المستفهم عنه؟

توضیحه: أن الاستفهام قد یدخل علی الجملة الشَّرْطِیَّة، ودخوله علیها یکون بأحد نحوین:

النَّحْو الأوّل: أَنْ یَکُونَ الاستفهام استفهاما عن أصل الجملة الشَّرْطِیَّة، أی: أن تدخل أداة الاستفهام علی أوَّل الجملة الشَّرْطِیَّة وتکون الجملة الشَّرْطِیَّة بتمامها معلَّقة للاستفهام، کما إذا قیل: «هل إن جاء زید تکرمه»؟ وکما إذا قیل: «هل إن جاء زید یجب إکرامه»؟

النَّحْو الثَّانِی: أَنْ یَکُونَ الاستفهام استفهاما عن نفس الْجَزَاء، أی: أن مُتَعَلَّق الاستفهام لَیْسَ عبارة عن الجملة الشَّرْطِیَّة بتمامها، فلا تدخل أداة الاستفهام علی أوَّل الجملة الشَّرْطِیَّة، بل تَدخل علی الْجَزَاء ویکون هو مُتَعَلَّق الاستفهام. کما إذا قیل: «إن جاء زید فهل یجب إکرامه؟».

وفی کل هذه الأمثلة یُفترض أن مراد الْمُتِکَلِّم هو الاستفهام عن الْجَزَاء، لا عن الجملة بتمامها.

ولا إِشْکَال فِی أن الاستفهام فِعلیّ فِی کلا النحوین، ولذا فإنّ السائل فِی کلا النحوین یَتَرَقَّبُ فعلاً جواباً علی هذا الاستفهام، سواء بالنحو الأوّل أم الثَّانِی.

وحینئِذٍ نَقُول: إِنَّ فِعْلِیَّة الاستفهام فِی النَّحْو الأوّل واضحة ومعقولة ولا یوجد إِشْکَال فِی تفسیرها علی کلا المبنیین؛ فَإِنَّ الاستفهام استفهام فعلی عن أصل الرَّبْط بَیْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، سواء قلنا إن الأداة تَدُلّ عَلَی الرَّبْطِ، أم قلنا: إن ترتیب الْجَزَاء عَلَیٰ الشَّرْطِ یَدُلّ علیه.

والمرتبِط بِالشَّرْطِ لَیْسَ عبارة عن الاستفهام، بل هو عبارة عن النِّسْبَة الثَّابتة فِی الْجَزَاء، سواء کانت نسبة خبریة (کما فِی المثال الأوّل) أم نسبة إنشائیة (کما فِی المثال الثَّانِی).

ص: 134

أما فِعْلِیَّة الاستفهام فِی النَّحْو الثَّانِی فهی غیر واضحة علی المبنی الْمَشْهُور، بل یوجد إِشْکَال فِی تفسیرها علی هذا المبنی القائل بأن أداة الشرط موضوعة لِلرَّبْطِ بین الْجَزَاء والشرط؛ وذلک لأَنَّهُ بناءًا علی هذا یکون المرتبِط بِالشَّرْطِ عبارة عن نفس الاستفهام، لوقوع الاستفهام هنا فِی الْجَزَاءِ حَسَبَ الْفَرْضِ، وهذا یعنی أن الاستفهام لَیْسَ فعلیّاً ما دام الشرط (وهو مجیء زید) لَیْسَ فعلیّاً.

وبعبارة أخری: إذا کانت أداة الشرط تَدُلّ علی ربط الْجَزَاء وإناطته بوقوع الشرط کما یدّعیه الرَّأْی الْمَشْهُور، إذن ففی النَّحْو الثَّانِی حیث أن جملة الاستفهام هی جملة الْجَزَاء، یلزم أن یکون الاستفهام منوطاً ومرتبطاً بوقوع الشرط ولیس فعلیّاً، مَعَ أَنَّ من البدیهیّ جِدّاً کون الاستفهام فعلیّاً کما قلنا.

بینما نجد أن فِعْلِیَّة الاستفهام فِی النَّحْو الثَّانِی قابلة للتفسیر علی مبنی المُحَقِّق الإصفهانی رَحِمَهُ اللَهُ؛ وذلک لأَنَّ المرتبط بِالشَّرْطِ (فِی هذا النَّحْو) وإن کان عبارة عن الاستفهام (کما قلنا) لوقوع الاستفهام فِی الْجَزَاءِ حَسَبَ الْفَرْضِ، إلاَّ أَنَّ الشَّرْطَ (علی هذا المبنی) لَیْسَ عبارة عن الواقع الخارجیّ لمجیء زید (کی یلزم عدم فِعْلِیَّة الاستفهام لعدم فِعْلِیَّة الشرط)، بل الشرط هو فرض مجیء زید؛ لأَنَّ الأداة تَدُلّ علی فرض مدخولها وتقدیره، فالجزاء الَّذی هو الاستفهام یکون منوطاً ومرتبطاً (بحکم هیئة ترتیب الْجَزَاء عَلَیٰ الشَّرْطِ المتمثل بالفاء)، بفرض الشرط وتقدیره لا بواقعه خارجاً، وحیث أن هذا الفرض والتقدیر ثابت وفعلی ببرکة أداة الشرط، فَالشَّرْطُ بوجوده الفرضی فعلی ومتحقق، فَیَکُونُ الاستفهام المنوط به أیضاً فعلیّاً ومتحقّقاً.

وحیث أَنَّهُ لا إِشْکَالَ فِی فِعْلِیَّة الاستفهام، فیتعیّن لا محالة مبنی المُحَقِّق الإصفهانی رَحِمَهُ اللَهُ فِی قِبَال مبنی الْمَشْهُور.

هذا هو الدَّلِیل الَّذی یمکن الاستدلال به علی رأی المُحَقِّق الإصفهانی رَحِمَهُ اللَهُ، ویمکننا بیانه بعبارة أخری وهی:

ص: 135

أَنَّهُ فِی کثیر من الموارد یدخل الاستفهام فِی الجملة الشَّرْطِیَّة ویکون مقصود السائل الاستفهامَ عن وجود الْجَزَاء وثبوته علی تقدیر وجود الشرط، کما فِی قولنا: «إن جاء زید فهل تکرمه؟»، ففی مثله نتساءل: ما هو المرتبِط بِالشَّرْطِ (أی: مجیء زید فِی المثال)؟ وتوجد بهذا الصدد احتمالات ثلاثة:

الاحتمال الأوّل: أَنْ یَکُونَ المرتبِط بِالشَّرْطِ عبارة عن المستفهَم عنه (وهو الإکرام فِی المثال) لا الاستفهام.

وبعبارة أخری: تکون أداة الاستفهام خارجة عن نطاق الْجَزَاء المرتبِط بِالشَّرْطِ، ولیست جزءاً داخلاً فیه ومقوِّماً له، بل الْجَزَاء المرتبط بِالشَّرْطِ هو ما بعد أداة الاستفهام؛ فهی وإن دخلت لفظاً علی الْجَزَاء، إلاَّ أن الْجَزَاء فِی الحقیقة مدخولها لا نفس الاستفهام.

وعلیه، فالاستفهام استفهام عن الْجَزَاء المرتبِط بِالشَّرْطِ، وهذا فِی الحقیقة یرجع إلی الاستفهام عن أصل الرَّبْط بَیْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، فیرجع قولنا: «إن جاء زید فهل تکرمه؟» إلی قولنا: «هل إن جاء زید تکرمه؟» أو «هل تکرم زید إن جاء؟». أی: یرجع إلی النَّحْو الأوَّل من نحوی الاستفهام الدَّاخِل فِی الجملة الشَّرْطِیَّة وَالَّذِی قلنا فیه إن الاستفهام فعلی علی کلا المسلکین، مِنْ دُونِ إِشْکَال فِی الْبَیِّن.

وهذا الاحتمال غیر صحیح؛ إذ لا بُدَّ من أَنْ تَکُونَ جُمْلَة الشَّرْطِ وجملة الْجَزَاء فِی الْقَضِیَّة الشَّرْطِیَّة جملتین تامّتین فِی أنفسهما وبقطع النَّظَر عن أداة الشرط، بینما بناءًا علی هذا الاحتمال لا یکون الْجَزَاء جملة تامَّة فِی بعض الموارد، کما فِی قولنا: «إن زارک عدوّک فکیف حالک؟» فإِنَّهُ بِقَطْعِ النَّظَرِ عن أداة الشرط، ومع إخراج «کیف» عن نطاق الْجَزَاء (کما هو المفروض فِی هذا الاحتمال، حیث أن المفروض فیه هو أن الاستفهام معزول ومنحاز عن الْجَزَاء ولیس جزءاً منه) لا تبقی لدینا سوی کلمة «حالک»، وهی لیست جملةً تامَّة، فلا یمکن أَنْ تَکُونَ هی المرتبِطة بِالشَّرْطِ.

ص: 136

فهذا دلیل علی أن أداة الاستفهام داخلة فِی الْجَزَاءِ ومقوِّمة له؛ لأَنَّ الْجَزَاء فِی هذا المثال لا یکون جملةً تامَّةً إلاَّ بأداة الاستفهام، فلا بُدَّ من أن نفترض أن الاستفهام داخل فِی الْجَزَاءِ المرتبط بِالشَّرْطِ ولیس خارجاً عنه.

الاحتمال الثَّانِی: أَنْ یَکُونَ المرتبِط بِالشَّرْطِ عبارة عن نفس الاستفهام، لٰکِنَّهُ مرتبِط بالوجود الخارجیّ لِلشَّرْطِ، فیرجع قولنا: «إن جاء زید فهل تکرمه؟» إلی أن استفهام الْمُتِکَلِّم عن الإکرام منوط بمجیء زید خارجاً، ولازم ذلک أَنَّهُ قبل مجیئه لا استفهام.

وهذا الاحتمال واضح البطلان؛ لأَنَّهُ لا إِشْکَال فِی فِعْلِیَّة الاستفهام فِی المثال حتّی قبل تحقّق مجیء زید خارجاً، ولذا یَتَرَقَّبُ السائل جواباً قبل وقوع المجیء خارجاً.

الاحتمال الثَّالث: أَنْ یَکُونَ المرتبط بِالشَّرْطِ هو الاستفهام نفسه، لٰکِنَّهُ مرتبِط بالوجود التقدیری الفرضی لِلشَّرْطِ، لا بوجوده الخارجیّ کی یلزم الإشکال المتقدّم.

وهذا الاحتمال هو المتعین بعد بطلان الاحتمالین السابقین، ولا یرد علیه ما ورد علی الاحتمال الثَّانِی کما عرفت، کما أَنَّهُ لا یرد علیه ما ورد علی الاحتمال الأوّل؛ لأَنَّهُ لم یعزل أداة الاستفهام عن الْجَزَاء.

وهذا الاحتمال الثَّالث إِنَّمَا ینسجم مع رأی المُحَقِّق الإصفهانی رحمه الله، ولا ینسجم مع الرَّأْی الْمَشْهُور، فَیَکُونُ دَلِیلاً علی ما ذهب إلیه المُحَقِّق الإصفهانی رحمه الله.

أما انسجامه مع رأی المحقّق الإصفهانی رحمه الله فواضح؛ لأَنَّهُ یری أَنَّ الشَّرْطَ یصبح أمراً تَقْدِیرِیّاً وَفَرْضِیّاً بواسطة أداة الشرط، وحینئِذٍ لا مانع من أن یقال: إن الاستفهام یکون مُرْتَبِطاً بِهَذَا الشَّرْطِ التقدیری الفرضی کما هو مقتضی الاحتمال الثَّالث، والوجود التقدیری لِلشَّرْطِ فعلیّ، فالاستفهام فعلیّ.

وأمّا عدم انسجامه مع الرَّأْی الْمَشْهُور فَلأَنَّ إثبات کون الاستفهام مُرْتَبِطاً بالوجود التَّقْدِیرِیّ لِلشَّرْطِ له أحد طریقین کلاهما مسدود علی المذهب الْمَشْهُور:

ص: 137

الطَّرِیق الأوّل: هو ما سلکه المُحَقِّق الإِصْفِهَانِیّ رحمه الله مِنَ أَنَّ أََدَاةَ الشَّرْطِ نفسها تَدُلّ علی فرض الشرط وتقدیره، وانسداد هذا الطَّرِیق عَلَیٰ الرَّأْیِ الْمَشْهُورِ واضح.

الطَّرِیق الثَّانِی: أن یقاس الاستفهام بالحکم، فیقال: کما أن «الحکم» له مرتبتان، مرتبة الجعل ومرتبة المجعول، فإذا کان الحکم مشروطاً بشرط من الشُّرُوط، کما إذا قال: «إن جاء زید فأکرمه»، یکون الجعل فیه مشروطاً ومنوطاً بالوجود التَّقْدِیرِیّ الفرضی لِلشَّرْطِ. والمجعول منوطاً ومشروطاً بالوجود الخارجیّ لِلشَّرْطِ، کذلک الاستفهام له مرتبتان، فإذا کان الاستفهام منوطاً بشرط کما فِی قولنا: «إن جاء زید فهل تکرمه؟» کان فِی مرتبة جعله منوطاً ومشروطاً بالوجود التَّقْدِیرِیّ الفرضی لِلشَّرْطِ لا بالوجود الخارجیّ له، فیتحقق ما یقتضیه الاحتمال الثَّالث الَّذی هو الصَّحِیح، مِنْ دُونِ الالتزام برأی المُحَقِّق الإِصْفِهَانِیّ رحمه الله، فَحَتَّی بناءًا عَلَیٰ الرَّأْیِ الْمَشْهُورِ القائل بأن أَدَاة الشَّرْطِ لا تَدُلّ علی فرض الشرط وتقدیره، بل تَدُلّ علی ربط الْجَزَاء وإناطته بِالشَّرْطِ، یَدُلّ قولنا: «إن جاء زید فهل تکرمه؟» علی ربط الْجَزَاء (وهو الاستفهام عن الإکرام) بِالشَّرْطِ وإناطته به، فَیَکُونُ الاِسْتِفْهَامُ هنا اِسْتِفْهَاماً مشروطاً، وحاله حال الحکم المشروط، فَیَکُونُ جعله وإنشاؤه فعلاً منوطاً ومشروطا بالوجود التَّقْدِیرِیّ لِلشَّرْطِ، وحیث أن الوجود التَّقْدِیرِیّ لِلشَّرْطِ حاصل فعلاً، فَیَکُونُ جعل الاِسْتِفْهَام وإنشاؤه أیضاً حاصلاً فعلاً، فَیَکُونُ الاِسْتِفْهَام فعلیّاً.

مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان:مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

إلاَّ أن هذا الطَّرِیق أیضاً مسدود عَلَیٰ الرَّأْیِ الْمَشْهُورِ، ولا یمکن قیاس الاِسْتِفْهَام بالحکم؛ إذ لَیْسَ للاستفهام جعل ومجعول کی یُناط جعله بفرض الشرط، ومجعوله بوجود الشرط خارجاً؛ فَإِنَّ الاِسْتِفْهَامَ حالة وجدانیة لا اعتباریة کی یُتصوَّر فیها ما یُتصوّر فِی الأحکام من مرتبتین.

ص: 138

وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَی: إِنَّ الاِسْتِفْهَامَ لَیْسَ حاله حال «الوجوب» کی یُتصوّر له جعل ومجعول، بل حاله حال «جعل الوجوب»، فَکَمَا أَنَّ «الجعل» أمر وجدانی ولیس له مرتبتان؛ إذ لَیْسَ أمراً اعتباریّاً، کذلک «الاِسْتِفْهَام» أمر وجدانی لا اعتباری، فلا معنی لافتراض مرتبتین له.

إذن، فلا یمکن للرأی الْمَشْهُور إثبات کون الاِسْتِفْهَام مَنُوطاً ومشروطاً بالوجود التَّقْدِیرِیّ لِلشَّرْطِ کما یریده الاحتمال الثَّالث الصَّحِیح.

وعلیه، فالاحتمال الثَّالث لا ینسجم مع الرَّأْی الْمَشْهُور، وبهذا یتکون لدینا دلیل علی بطلان ما تبنّاه المذهب الْمَشْهُور وصحّة ما تبناه المُحَقِّق الإِصْفِهَانِیّ رحمه الله.

هذا هو الدَّلِیل الَّذی تبرع به سَیِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِید رحمه الله للاستدلال علی مُدَّعَی المُحَقِّق الإصفهانی رحمه الله، إلاَّ أَنَّهُ رحمه الله ناقشه وَقَالِ: إِنَّ الصَّحِیحَ بطلان هذا الدَّلِیل، وذلک:

أما أوَّلاً: فَلأَنَّ بالإمکان اختیار الاحتمال الثَّانِی وهو کون الاِسْتِفْهَام مَنُوطاً بالوجود الخارجیّ لِلشَّرْطِ، مِنْ دُونِ استلزام ذلک عدم فِعْلِیَّة الاِسْتِفْهَام (رغم عدم إمکان استفادة فِعْلِیَّة الاِسْتِفْهَام حینئذٍ من نفس اللَّفظ والکلام، باعتبار أن دلالته علی إناطة الاِسْتِفْهَام وربطه بوجود الشرط خارجاً، وهو لم یوجَد بعدُ حَسَبَ الْفَرْضِ)؛ وذلک لوجود قرینةٍ عُرْفِیَّة فِی المقام یمکن بواسطتها استفادة فِعْلِیَّة الاِسْتِفْهَام، وهی عبارة عن نفس توجیه هذا الکلام والخطاب (وهو قوله: إن جاء زید فهل تکرمه؟)؛ فإِنَّهُ قرینة عُرْفِیَّة علی طلب الجواب فعلاً. وهذا لا یعنی سوی کون الاِسْتِفْهَام فعلیّاً.

وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْمَدْلُول التَّصوُّریّ للجملة وإن کان عبارة عن ربط الاِسْتِفْهَام وإناطته بوجود الشرط خارجاً، إلاَّ أَنَّهُ بقرینة توجیه الخطاب یُعرف أن مقصود الْمُتِکَلِّم هو الاِسْتِفْهَامُ الفعلیّ وطلب الجواب فعلاً؛ فالمقصود الْجِدِّیّ والمدلول التَّصدیقیّ لجملة «إن جاء زید فهل تکرمه؟» هو أَنَّهُ هل تکرم زَیْداً إن جاء؟

ص: 139

إذن، فالاحتمال الثَّانِی تامّ ولا إِشْکَال فیه، فلم ینحصر الاحتمال الصَّحِیح بالاحتمال الثَّالث الَّذی لا ینسجم مع الرَّأْی الْمَشْهُور، کی یَتُِمّ هذا الدَّلِیل.

وأمّا ثانیاً: فَلأَنَّ الإشکال الَّذی کان یورد علی الاحتمال الثَّانِی (وهو استلزامه عدم فِعْلِیَّة الاِسْتِفْهَام) یرد علی الاحتمال الثَّالث أیضاً، لو قطعنا النَّظَر عمَّا ذکرناه من القرینة الْعُرْفِیَّة، وبالتَّالی فإن إِشْکَال لزوم عدم فِعْلِیَّة الاِسْتِفْهَام یرد حتّی علی مبنی المُحَقِّق الإِصْفِهَانِیّ رحمه الله؛ لأَنَّ الاحتمال الثَّالث المنسجم مع مبناه رحمه الله یفترض الْجَزَاء (وهو الاِسْتِفْهَام) مَنُوطاً وَمُرْتَبِطاً بالوجود التَّقْدِیرِیّ الفرضی لِلشَّرْطِ کما تقدّم.

وحینئِذٍ نتساءل: هل هو منوط ومرتبط بفرض الشرط وتقدیره بما هو فرض وتقدیر، أم هو منوط ومرتبط به بما هو مرآة للمفروض والمقدَّر وفانٍ فیه؟

فإن قیل بالأول: لزم منه أن یکون الحکم المشروط فعلیّاً بشأن المُکَلَّف، قبل تحقّق شرطه خارجاً، فإذا قال المولی مثلاً: «إن جاء زید فأکرمه، فَحَیْثُ أَنَّ الْجَزَاء (وهو وُجُوب الإِکْرَامِ) أُنیط بفرض الشرط وتقدیره بما هو فرض وتقدیر، وهذا الفرض والتقدیر فعلی قبل تحقّق الشرط خارجاً، فلا بُدَّ من الالتزام بأن وُجُوب الإِکْرَامِ یصبح فعلیّاً علی المُکَلَّف من الآنَ ویجب علیه امتثاله حتّی قبل تحقّق المجیء، وهذا خُلف کون الحکم مشروطاً ولا یلتزم به أحد حتّی المُحَقِّق الإِصْفِهَانِیّ رحمه الله نفسه.

وإن قیل بالثّانی: وهو کون الْجَزَاء مَنُوطاً بفرض الشَّکّ بما هو فانٍ فِی المفروض ویُری به المفروض والوجود الخارجیّ لِلشَّرْطِ، فلا یلزم منه الإشکال المتقدّم آنِفاً بِالنِّسْبَةِ إلی الحکم المشروط؛ لأَنَّ الحکم أُنیط بفرض وجود الشرط بما هو عین وجود الشرط خارجاً، فلا یکون فعلیّاً إلاَّ حین فِعْلِیَّة الشرط ووجوده خارجاً.

لکن یرد علیه فِی المقام أنَّ الْجَزَاء لمَّا کان عبارة عن الاِسْتِفْهَامِ کما هو المفروض، إذن فقد أنیط الاِسْتِفْهَامُ بفرض وجود الشرط بما هو عین وجود الشرط خارجاً، فلا یکون الاِسْتِفْهَامُ فعلیّاً إلاَّ حین فِعْلِیَّة الشَّرطِ ووجوده خارجاً. فحال الاِسْتِفْهَامِ حینئذٍ حال الحکم المشروط. وحینئِذٍ فیعود الإشکال؛ إذ یقال: کیف أصبح الاِسْتِفْهَامُ فعلیّاً مع عدم فِعْلِیَّة الشرط خارجاً؟

ص: 140

إذن، فالاحتمال الثَّالث لا یدفع إِشْکَال عدم فِعْلِیَّة الاِسْتِفْهَام، وَالَّذِی یدفعه هو ما ذکرناه من القرینة الْعُرْفِیَّة.

وبهذا یثبت أن الاحتمال الثَّالث علی فرض صحته غیر متعیَّن؛ لتمامیة الاحتمال الثَّانِی أیضاً، ومعه فلا یَتُِمّ الدَّلِیل المذکور للاستدلال به علی مبنی المُحَقِّق الإِصْفِهَانِیّ رحمه الله.

وبهذا البیان اتَّضَحَ ضعف مناقشة السَّیِّد الهاشمیّ حفظه الله فِی المقام لکلام سَیِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِید رحمه الله، حیث قاس الاِسْتِفْهَام بالإیجاب وافتَرَضَ لکل منهما إنشاءً ومُنْشِئاً أو (بتعبیر آخر) جعلاً ومجعولاً، وجَعَل إنشاء الاِسْتِفْهَامِ أو الإیجاب فعلیّاً، والمُنشَأ منوطاً بفرض تحقّق الشرط وتقدیره، وقال: حیث أن الَّذی یدخل فِی العهدة فِی باب التکالیف إِنَّمَا هو المنشأ والحکم الفعلی المجعول، لا الإنشاء والجعل، لذا لا یجب الامتثال إلاَّ حین تحقّق الشرط خارجاً، بینما الَّذی یحتاج إلی جواب فِی باب الاِسْتِفْهَام هو نفس إنشاء الاِسْتِفْهَام الفعلی کان لا بُدَّ من الإجابة.

ووجه الضَّعْف فِی هذه المناقشة ما عرفته من عدم إمکان قیاس الاِسْتِفْهَام بالحکم؛ إذ لَیْسَ للاستفهام إنشاء ومُنشأ، وجعل ومجعول، کی یُناط جعله وإنشاؤه بفرض الشرط وتقدیره الَّذی هو فعلی، بل هو عبارة عن حالة وجدانیة، بخلاف الحکم الَّذی هو أمر اعتباری لا وجدانی، فیعقل افتراض مرتبتین له.

وتأتی تتمة الکلام غداً إن شاء الله تعالی.

مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

وأمّا الدَّلِیل الَّذی یمکن الاستدلال به علی صحَّة المبنی الْمَشْهُور وبطلان مبنی المُحَقِّق الإِصْفِهَانِیّ رَحِمَهُ اللَهُ فهو أَنَّهُ لا إِشْکَال فِی أن جُمْلَة الشَّرْطِ وحدها قبل دخول أَدَاة الشَّرْطِ علیها جملة تامَّة یصحّ السُّکوت علیها، لکن بمجرّد دخول أَدَاة الشَّرْطِ علیها تتحول إلی جملة ناقصة لا یصحّ السُّکوت علیها؛ فقولنا مثلاً: «جاء زید» کلام تامّ یصحّ الاکتفاء به والسکوت علیه، لکن قولنا: «إن جاء زید» لَیْسَ کَلاَماً تامّاً ولا یصحّ الاکتفاء به والسکوت علیه.

ص: 141

إذن، فهذا التَّحَوُّل الَّذی حصل فِی هذه الجملة وهذا النقض الَّذی طرأ علیها وهذا الخروج من صحَّة السُّکوت علیها إلی عدم صحَّة السُّکوت علیها إِنَّمَا کان بسبب أَدَاة الشَّرْطِ بلا إِشْکَال، وهذا إِنَّمَا یمکن تفسیره علی المبنی الْمَشْهُور ولا یمکن تفسیره علی مبنی المُحَقِّق الإِصْفِهَانِیّ رَحِمَهُ اللَهُ.

توضیح ذلک وتفصیله هو: أن هناک فِی بادئ النَّظَر احتمالین فِی مقام تفسیر هذا الخروج من صحَّة السُّکوت إلی عدم صحته:

الأوّل: أن یقال إن أَدَاة الشَّرْطِ بَدَّلَتْ النِّسْبَة التَّامَّة الثَّابِتَة بین الفعل والفاعل (الَّتی کانت تَدُلّ جُمْلَة الشَّرْطِ قبل دخول أَدَاة الشَّرْطِ علیها) إلی نسبة ناقصة، فأصبحت النِّسْبَة الَّتی تَدُلّ علیها الجملة بعد دخول الأداة علیها مغایرة مع النِّسْبَة الَّتی کانت تَدُلّ علیها قبل دخول الأداة، من قبیل التَّغَایُر بین النِّسْبَة فِی «جاء زید»، وَالنِّسْبَة فِی «مجیء زید»، فبهذا الاعتبار لا یصحّ السُّکوت علی الجملة بعد دخول الأداة علیها؛ لعدم صحَّة السُّکوت عَلَی النِّسْبَةِ الناقصة.

الثَّانِی: أن یقال: إن أَدَاة الشَّرْطِ لم تبدّل النِّسْبَة من التَّمَامِیَّة إلی النُّقْصَان، بل النِّسْبَة باقیة علی حالها تامَّة لم تتغیّر ولم تتبدّل کما کانت قبل دخول الأداة علیها، ولکن مع هذا لا یَصِحُّ السُّکُوتُ علی الجملة بعد دخول الأداة؛ لأَنَّ للأداة معنی یُنتظَر معه لحوق شیء بجملة الشرط، ومع عدم اللحوق لا یکتمل معنی الأداة، فجملة الشرط فِی نفسها وإن کانت کاملة مِنْ دُونِ لحوق الْجَزَاء، إلاَّ أن معنی الأداة لا یکتمل إلاَّ بمجیء الْجَزَاء ولحوقه، وهذا یوجب عدم صحَّة السُّکوت علی الجملة، وعدم صحَّة الاکتفاء بها بعد أن دخلت علیها الأداة، فعدم صحَّة السُّکوت علیها بعد دخول الأداة لم ینشأ من نقصان النِّسْبَة الَّتی تَدُلّ علیها الجملة، بل نشأ من نقصانٍ فِی معنی الأداة.

ص: 142

هذان احتمالان فِی تفسیر عدم صحَّة السُّکوت علی الجملة بعد دخول الأداة.

ففی ضوء الاحتمال الأوّل لا یمکن ترجیح المبنی الْمَشْهُور ولا مبنی المُحَقِّق الإِصْفِهَانِیّ رَحِمَهُ اللَهُ؛ لأَنَّ کلا المبنیین یتلائم مع هذا الاحتمال؛ إذ بإمکان کل منهما أن یدّعی أنَّ النِّسْبَة التَّامَّة تَتَغَیَّرُ وتتبدّل إلی النِّسْبَة الناقصة بمجرّد دخول الأداة علی الجملة؛ فَإِنَّ هذا التغیّر والتبدّل فِی النِّسْبَة من التَّمَامِیَّة إلی النقصان ینسجم مع الرَّأْی الْمَشْهُور القائل بأن معنی الأداة هو الرَّبْط بَیْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، کما ینسجم أیضاً مع رأی الْمُحَقِّق الإِصْفِهَانِیّ القائل بأن معنی الأداة هو الفرض والتقدیر.

والحاصل أن شیئاً من المبنیین لا ینافی ولا ینفی خروج النِّسْبَة من التَّمَامِیَّة إلی النُّقْصَان.

وأمّا فِی ضوء الاحتمال الثَّانِی فیتمّ الرَّأْی الْمَشْهُور دون رأی المُحَقِّق الإِصْفِهَانِیّ رَحِمَهُ اللَهُ.

أَمَّا تَمَامِیَّة الرَّأْی الْمَشْهُور فَلأَنَّ هذا الرَّأْی یقول: إن الأداة موضوعة لِلرَّبْطِ بَیْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ «الرَّبْط» بین طرفین لا یکتمل إلاَّ بثبوت کلیهما، فما لم یأت الْجَزَاء فِی الکلام لا یکون المعنی الَّذی وضعت له الأداة مکتملاً، ولذا فلا یصحّ السُّکوت علی جُمْلَة الشَّرْطِ بعد دخول الأداة علیها، رغم أنَّها جملة تامَّة تَدُلّ علی نسبة تامَّة؛ وذلک لعدم اکتمال معنی الأداة.

وأمّا عدم تَمَامِیَّة رأی المُحَقِّق الإِصْفِهَانِیّ رَحِمَهُ اللَهُ فَلأَنَّ أَدَاة الشَّرْطِ عنده رَحِمَهُ اللَهُ موضوعة لإفادة کون مدخولها واقعاً موقع الفرض والتقدیر، وهذا المعنی لا یستوجب شیئاً وراء وجود المدخول، وحینئِذٍ ففی قولنا: «إذا جاء زید ..» تکون الأداة مستکملة لمعناها، فینبغی أن یصحّ السُّکوت علیها، مع أَنَّهُ لا إِشْکَال فِی عدم صحَّة السُّکوت علیها.

والحاصل أن الاحتمال الثَّانِی لا یناسب مبنی المُحَقِّق الإِصْفِهَانِیّ رَحِمَهُ اللَهُ ولا ینسجم معه؛ إذ لو کانت النِّسْبَة الَّتی تَدُلّ علیها جُمْلَة الشَّرْطِ فِی نفسها تامَّة حتّی بعد دخول الأداة علیها (کما هو المفروض فِی الاحتمال الثَّانِی) فلماذا لا یمکن الاکتفاء بجملة الشرط بمجرّد دخول الأداة علیها؟ ألیست الأداة فِی رأی المُحَقِّق الإِصْفِهَانِیّ رَحِمَهُ اللَهُ تَدُلّ علی افتراض المدخول وجعله مقدّر الوجود؟ فلتکن الأداة حینئذٍ دالَّة علی افتراض هذه النِّسْبَة التَّامَّة (الَّتی تَدُلّ علیها جُمْلَة الشَّرْطِ) وجعلها مقدَّرة الوجود.

ص: 143

وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ مجرّد افتراض النِّسْبَة التَّامَّة وتقدیرها لا یسبب عدم إمکان الاکتفاء بها وعدم صحَّة السُّکوت علی الجملة الَّتی تَدُلّ علیها، ونحن نعلم أن الافتراض لَیْسَ من قبیل الرَّبْط کی یحتاج إلی طرف آخر وینتظر شیئاً آخر غیر متعلّقه، وبهذا یبطل کلام المُحَقِّق الإِصْفِهَانِیّ رَحِمَهُ اللَهُ.

إذن، فلا بُدَّ من أن نُثبت أن الاحتمال الثَّانِی (فِی تفسیر عدم صحَّة السُّکوت علی الجملة بعد دخول الأداة) هو المتعیّن، وأن الاحتمال الأوّل غیر صحیح، فإذا أمکن ذلک فلا محالة تثبت صحَّة الرَّأْی الْمَشْهُور فِی قِبَال رأی المُحَقِّق الإِصْفِهَانِیّ رَحِمَهُ اللَهُ.

وإثبات بطلان الاحتمال الأوّل وعدم صحته یکون ببیان أَمْرَیْنِ:

الأمر الأوّل: أن جُمْلَة الشَّرْطِ لها مدلول تصدیقی باعتراف المُحَقِّق الإِصْفِهَانِیّ رَحِمَهُ اللَهُ؛ لأَنَّهُ رَحِمَهُ اللَهُ یقول: إن أَدَاة الشَّرْطِ موضوعة لإفادة کون مدخولها واقعاً موقع الفرض والتقدیر، ومقصوده رَحِمَهُ اللَهُ هو أنَّها تکشف عن ثبوت الفرض والتقدیر فِی نفس الْمُتِکَلِّم وتدلّ علی وجوده فِی أفق النَّفس، وهذا هو معنی الدِّلاَلَة التصدیقیة، ولیس مقصوده رَحِمَهُ اللَهُ أنَّها تَدُلّ علی مفهوم الفرض بنحو الدِّلاَلَة التَّصوُّریَّة کما هو واضح.

الأمر الثَّانِی: أن الجملة لا یعقل أن یکون لها مدلول تصدیقی إلاَّ إذا کانت جملة تامَّة مشتملة علی نسبة تامَّة؛ فَإِنَّ الجملة التَّامَّة المشتملة عَلَی النِّسْبَةِ التَّامَّة هی الَّتی تفید مدلولاً تَصْدِیقِیّاً؛ فالجملة التَّامَّة الخبریّة مثلاً تفید ما فِی نفس الْمُتِکَلِّم من الإخبار، والجملة التَّامَّة الاستفهامیة تفید ما فِی نفس الْمُتِکَلِّم من الاِسْتِفْهَام، وجملة الأمر تفید ما فِی نفس الْمُتِکَلِّم من الحکم، وهکذا.. وأمّا الجملة الناقصة غیر المشتملة عَلَی النِّسْبَةِ التَّامَّة فیستحیل إفادتها مدلولاً تَصْدِیقِیّاً؛ فقولنا مثلاً: «مجیء زید» لا یفید أن الْمُتِکَلِّم یُخبر عن مجیء زید، أو یستفهم عنه، أو یأمر به، أو أیّ شیء آخر.

ص: 144

وهذا المطلب حقَّقناه فِی بحث معانی الحروف والهیئات عندما کُنَّا نبحث عن الفرق بین الجملة وَالنِّسْبَة التَّامَّة وبین الجملة وَالنِّسْبَة الناقصة، حیث کانت توجد هناک فِی مقام التمییز والتفریق بینهما نظریتان:

إحداهما: أن تَمَامِیَّة الجملة وَالنِّسْبَة إِنَّمَا هی بالمدلول التَّصدیقیّ، فالجملة وَالنِّسْبَة التَّامَّة هی ما کان علی طبقها مدلول تصدیقی، والجملة وَالنِّسْبَة الناقصة هی الَّتی لا یکون علی طبقها مدلول تصدیقی. وقد تبنّی هذه النَّظریّة السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ رَحِمَهُ اللَهُ وَقَالِ: إِنَّ هیئة الجملة الناقصة موضوعة لِلتَّحْصِیصِ، بینما هیئة الجملة التَّامَّة موضوعة لإبراز أمر نفسانی کقصد الحکایة فِی الجملة الخبریّة، وقصد الإنشاء فِی الجملة الإنشائیة.

ثانیتهما: أن تَمَامِیَّة الجملة وَالنِّسْبَة إِنَّمَا هی بالمدلول التَّصوُّریّ لا التَّصدیقیّ. وهذه هی النَّظریّة المشهورة؛ فالجملة التَّامَّة هی الَّتی تَدُلّ تصوُّراً علی نسبة تامَّة، والجملة الناقصة هی الَّتی تَدُلّ تصوُّراً علی نسبة ناقصة، فالفرق بین مدلولی الْجُمْلَتَیْنِ تصوُّریّ وَالنِّسْبَة نفسها علی قِسْمَیْنِ: تامَّة وناقصة.

وقلنا هناک: إن تَمَامِیَّة النِّسْبَة إِنَّمَا هی بکونها نسبة واقعیة فِی صقع الذِّهْن، بمعنی وجود مفهومین فِی الذِّهْن مع نسبة تربط بینهما، ونقصانها إِنَّمَا هو بکونها نسبة تحلیلیّة، بمعنی وجود مفهوم واحد فِی الذِّهْن إذا حلَّله الذِّهْن رآه مُرَکَّباً من طرفین مع نسبة؛ فالنسبة الناقصة تُرجع الکلمتین إلی کلمة واحدة، بخلاف النِّسْبَة التَّامَّة.

وقلنا هناک: إن الضّابط العامّ لتشخیص النِّسْبَة الواقعیة عن النِّسْبَة التحلیلیة هو أن کل نسبةٍ یکون موطنها الأصلی هو العالم الخارج فهی نسبة تحلیلیّة وبالتَّالی فهی ناقصة، وکل نسبة یکون موطنها الأصلی هو عالم الذِّهْن فهی نسبة واقعیة وَبِالتَّالِی فهی تامَّة.

هذا ما قلناه هناک وتَبَنَّیْنَاه واخترناه، وفی ضوئه فالمدلول التَّصدیقیّ یکون فرع النِّسْبَة التَّامَّة؛ إذ النِّسْبَة الناقصة لیست نسبة واقعاً ولا یوجد فِی موردها سوی مفهوم إفرادی واحد، وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ الْمَفْهُوم الإفرادی الواحد لا یعقل التَّصدیق به، ولا یمکن أن یکون له مدلول تصدیقی، بل لَیْسَ قابلاً إلاَّ للتصور فقط، فالتصدیق والمدلول التَّصدیقیّ خاصّ بِالنِّسْبَةِ الواقعیة الَّتی یکون لدینا فِی موردها مفهومان مع نسبة بینهما، فالمدلول التَّصدیقیّ فرع النِّسْبَة التَّامَّة.

ص: 145

وسواء لاحظنا النَّظریّة الأولی أو الثَّانیة فِی المقام فإِنَّهُ علی کل حال تکون الجملة الشَّرْطِیَّة الَّتی دخلت علیها أَدَاة الشَّرْطِ دالَّة علی نسبة تامَّة؛ وذلک:

أَمَّا بناءًا علی النَّظریّة الأولی فَلأَنَّ تَمَامِیَّة النِّسْبَة إِنَّمَا تکون (حسب هذه النَّظریّة) بالمدلول التَّصدیقیّ، وقد ثبت فِی الأمر الأوّل أن جُمْلَة الشَّرْطِ لها مدلول تصدیقی، إذن فالنسبة فیها تامَّة.

وأمّا بناءًا علی النَّظریّة الثَّانیة فَلأَنَّ وجود الْمَدْلُول التَّصدیقیّ (حسب هذه النَّظریّة) إِنَّمَا هو فرع تَمَامِیَّة النِّسْبَة؛ فالجملة الَّتی لها مدلول تصدیقی فلا محالة تکون النِّسْبَة فیها تامَّة، وقد ثبت فِی الأمر الأوّل أن جُمْلَة الشَّرْطِ لها مدلول تصدیقی، إذن فالنسبة فیها تامَّة.

وعلیه، فإذا کانت النِّسْبَة فِی جُمْلَة الشَّرْطِ تامَّة حتّی بعد دخول الأداة علیها، فهذا یعنی صحَّة الاحتمال الثَّانِی وبطلان الاحتمال الأوّل، بمعنی أن ما نشاهده من عدم صحَّة السُّکوت علی جُمْلَة الشَّرْطِ بعد دخول الأداة علیها لَیْسَ بسبب کون النِّسْبَة فیها ناقصة (کما یفترضه الاحتمال الأوّل) بل بسبب نقصان معنی الأداة حیث أنَّها موضوعة لِلرَّبْطِ بین الْجُمْلَتَیْنِ، وهذا هو الرَّأْی الْمَشْهُور، وبهذا یبطل رأی المُحَقِّق الإِصْفِهَانِیّ رَحِمَهُ اللَهُ ویتضح أن الأداة لیست موضوعة لإفادة أن مدخولها واقع موقع الفرض والتقدیر.

هذا هو الدَّلِیل والوجه الفنّیّ الَّذی یمکن الاستدلال به علی صحَّة الرَّأْی الْمَشْهُور وبطلان مبنی المُحَقِّق الإِصْفِهَانِیّ.

وَالْحَاصِلُ: أَنَّه لا إِشْکَال فِی أَنَّهُ قولنا: «إن جاء زید» جملة ناقصة لا یصحّ السُّکوت علیها، مَعَ أَنَّ قولنا: «جاء زید» جملة تامَّة یصحّ السُّکوت علیها، فالنقص إِنَّمَا جاء من أَدَاة الشَّرْطِ، ولا یعقل أن یجیء النَّقص من ناحیتها إلاَّ بأحد وجهین:

الوجه الأوّل: أَنْ تَکُونَ الأداة قد بَدَّلَتْ النِّسْبَة التَّامَّة فِی قولنا: «جاء زید» إلی النِّسْبَة الناقصة، فتصیر جملة «إن جاء زید» کقولنا: «مجیء زید».

ص: 146

الوجه الثَّانِی: أَنْ تَکُونَ نفس الأداة بما لها من خُصُوصِیَّة المعنی بحاجة إلی التتمیم بالجزاء.

والوجه الأوّل غیر صحیح؛ لأَنَّ النِّسْبَة التَّامَّة والناقصة متباینان ذاتاً، فالنسبة الناقصة هی ما تُرجع الکلمتین إلی کلمة واحدة کما فِی «مجیء زید»، وَالنِّسْبَة التَّامَّة لا ترجعهما إلی کلمة واحدة کما فِی «جاء زید»، والجملة المشتملة علی النِّسْبَة التَّامَّة تفید مدلولاً تَصْدِیقِیّاً دائماً؛ بخلاف الجملة غیر المشتملة علی النِّسْبَة التَّامَّة، فإِنَّهُ یستحیل إفادتها لمدلول تصدیقی کما فِی قولنا: «مجیء زید»؛ فإِنَّهُ لا یفید أن الْمُتِکَلِّم یخبر عن مجیء زید، بخلاف قولنا: «جاء زید».

وعلیه، فلو کانت أَدَاة الشَّرْطِ فِی قولنا: «إن جاء زید» قد بَدَّلَتْ مفاد «جاء زید» لم یکن قولنا: إن جاء زید مفیداً لمدلول تصدیقی، بینما المفروض علی کلام المُحَقِّق الإِصْفِهَانِیّ رَحِمَهُ اللَهُ هو أن أَدَاة الشَّرْطِ تفید الفرض والتقدیر، فهذا الکلام لا محالة یفید مدلولاً تَصْدِیقِیّاً؛ فإِنَّهُ یکشف عن فرض مجیء زید وتقدیره فِی نفس الْمُتِکَلِّم، نظیر ما إذا قال: «أقدّر مجیء زید»، فلو کان قد انقلب قولنا «جاء زید» بعد دخول الأداة علیه إلی جملة ناقصة، أی: إلی قولنا «مجیء زید»، لکان قولنا «إن جاء زید» نظیر قولنا «مجیء زید المقدَّر» غیر دالّ علی تحقّق الغرض والتقدیر فِی نفس الْمُتِکَلِّم.

وبالجملة لَیْسَ للمحقق الإِصْفِهَانِیّ أن یقول: إن جملة «جاء زید» انقلبت (بدخول الأداة علیها) إلی جملة ناقصة؛ لأَنَّ مفروضه رَحِمَهُ اللَهُ هُوَ أَنَّ الأَدَاةَ تَدُلّ علی فرض مدخولها وتقدیره مِن قِبَلِ الْمُتِکَلِّم، وهذا یعنی أن الدِّلاَلَة التصدیقیة ثابتة، فَیَکُونُ الفرض والتقدیر الَّذی جیء به فِی هذه الجملة نظیر الاِسْتِفْهَام وَالنَّفْی وغیرهما، فکما أَنَّهُ إذا لُوّنت هذه الجملة بلون الاِسْتِفْهَام کما إذا قیل: «هل جاء زید؟» لم تخرج عن کونها تامَّة، وکذلک إذا لوّنت بالنفی کما إذا قیل: «ما جاء زید»، فکذلک الحال إذا لُوّنت بلون الفرض والتقدیر، فإذا بطل الوجه الأوّل تعیّن الوجه الثَّانِی وهو أَنْ تَکُونَ نفس الأداة بما لها من خُصُوصِیَّة المعنی بحاجة إلی تتمیمٍ بالجزاء، وتلک الْخُصُوصِیَّة هی دلالتها عَلَی الرَّبْطِ، فیثبت المطلوب.

ص: 147

هذا تمام الکلام فِی الجهة الأولی (وهی عبارة عن البحث عن دلالة الْقَضِیَّة الشَّرْطِیَّة علی أصل ربط الْجَزَاء بِالشَّرْطِ) وقد عرفت أن الصَّحِیح هُوَ أَنَّ الأَدَاةَ موضوعة لهذا الرَّبْط؛ وذلک لما عرفته من الدَّلِیل، مضافاً إلی شهادة الوجدان بذلک کما تقدّم.

مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

وأمّا الجهة الثَّانیة: ففی البحث عن دلالة الْقَضِیَّة الشَّرْطِیَّة علی أن المرتبط بِالشَّرْطِ هل هو الْمَدْلُول التَّصوُّریّ لِلْجَزَاءِ أم هو الْمَدْلُول التَّصدیقیّ له؟ فهل الأداة تفید رأساً ربط الْمَدْلُول التَّصدیقیّ لِلْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ، أم أنَّها أوَّلاً وبالذات تفید ربط مدلوله التَّصوُّریّ بِالشَّرْطِ؟

فبعد أن اتَّضَحَ لدینا فِی الجهة الأولی أن أَدَاة الشَّرْطِ تَدُلّ عَلَی الرَّبْطِ بَیْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ کما هو الْمَشْهُور وأنها تَدُلّ علی أن الْجَزَاء مرتبط بِالشَّرْطِ، أصبح من الضروری الآنَ أن نبحث عن أن أَدَاة الشَّرْطِ فِی قولنا مثلاً: «إن جاء زید فأکرمه» هل تَدُلّ علی أن المرتبط بِالشَّرْطِ أوَّلاً وبالذات إِنَّمَا هو الْمَدْلُول التَّصوُّریّ لجملة «فأکرمه» (وهو عبارة عن النِّسْبَة الإِرْسَالِیَّة التحریکیة الثَّابِتَة بین المُکَلَّف والإکرام)؟ أم أنَّها تَدُلّ رأساً علی أن المرتبط بِالشَّرْطِ هو الْمَدْلُول التَّصدیقیّ لهذه الجملة (وهو عبارة عن جعل الوجوب للإکرام، أو بعبارة أخری: الإلزام والإیجاب الثَّابِت فِی نفس الْمُتِکَلِّم؟

وکما یَتَّضِح فیما یأتی لَیْسَ المقصود من کون المرتبط بِالشَّرْطِ هو الْمَدْلُول التَّصوُّریّ أن الْمَدْلُول التَّصدیقیّ سوف لا یکون مُرْتَبِطاً به، بل یمکن أن یکون أیضاً مُرْتَبِطاً، لکن بِتَبَعِ ربط الْمَدْلُول التَّصوُّریّ، بحث أن الأداة تربط أوَّلاً وبالذات الْمَدْلُول التَّصوُّریّ لِلْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ، ثم بِتَبَعِ هذا الرَّبْط تربط الْمَدْلُول التَّصدیقیّ لِلْجَزَاءِ أیضاً بِالشَّرْطِ.

ص: 148

وَکَیْفَ کَانَ، فهل الصَّحِیح هو الأوّل أم الثَّانِی؟

قد یقال بالثانی (وهو أن الأداة تفید کون المرتبط بِالشَّرْطِ رأساً هو الْمَدْلُول التَّصدیقیّ لِلْجَزَاءِ) وذلک لأحد وجهین:

الوجه الأوّل: البناء علی مبانی السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ رَحِمَهُ اللَهُ القائلة بأن الوضع عبارة عن التَّعَهُّد، وبأن الدِّلاَلَة الوضعیَّة دائماً إِنَّمَا هی الدِّلاَلَة التصدیقیة، لا الدِّلاَلَة التَّصوُّریَّة، فالجملة التَّامَّة موضوعة للدِّلالة التصدیقیة، فدلالة قول الْمُتِکَلِّم مثلاً: «جاء زید» علی إخبار الْمُتِکَلِّم بمجیء زید والحکایة عنه مستفادة من الوضع، وکذلک دلالة قوله مثلاً: «صلِّ» علی ما هو مقصوده من الإیجاب والحکم تکون ناشئة من الوضع، وهکذا..

وفی هذا الضوء یقال کما قال السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ رَحِمَهُ اللَهُ فعلاً((1) ) فِی المقام بأن أَدَاة الشَّرْطِ تَدُلّ علی أن المرتبط بِالشَّرْطِ رأساً إِنَّمَا هو الْمَدْلُول التَّصدیقیّ لِلْجَزَاءِ، لا الْمَدْلُول التَّصوُّریّ له؛ إذ لَیْسَ للجزاء مدلول تصوُّریّ ناشئ من الوضع، کی یقال: إن الأداة تَدُلّ علی ربطه بِالشَّرْطِ.

وبعبارة أخری: ما دام الْجَزَاء قد وضع للمدلول التَّصدیقیّ واستعمل فیه، ولم یوضع للمدلول التَّصوُّریّ ولم یستعمل فیه، فلا محالة تکون أَدَاة الشَّرْطِ دالَّة علی ربط هذا الْمَدْلُول التَّصدیقیّ بِالشَّرْطِ رأساً.

وهذا الوجه غیر تامّ عندنا، فقد برهنا فِی محلّه علی بطلان هذه المبانی، فلا الوضع عبارة عن التَّعَهُّد، ولا الدِّلاَلَة التصدیقیة ناشئة ومستفادة من الوضع، بل هی مستفادة من الظُّهُور الْعُرْفِیّ، فلو قال مثلاً: «جاء زید» وأقام قرینة علی أَنَّهُ فِی مقام الهزل، لم یَدُلّ کلامه علی مدلول تصدیقی، بِالرَّغْمِ من أَنَّهُ مستعمل فِی معناه الحقیقی بلا إِشْکَال. إذن فَالدِّلاَلَةُ الوضعیَّة النَّاشِئَة من الوضع إِنَّمَا هی الدِّلاَلَة التَّصوُّریَّة فقط دائماً، وعلیه فالجزاء له مدلول تصوُّریّ ناشئ من الوضع وقد استعمل الْجَزَاء فیه، فبإمکان الأداة أن تَدُلّ علی ربطه بِالشَّرْطِ.

ص: 149


1- (1) - أجود التقریرات: ج2، ص 420.

الوجه الثَّانِی: أن یقال إن الجملة التَّامَّة وإن لم تکن موضوعة للدِّلالة التصدیقیة لٰکِنَّهُ رغم ذلک تَدُلّ أَدَاة الشَّرْطِ فِی المقام علی أن المرتبط بِالشَّرْطِ رأساً إِنَّمَا هو الْمَدْلُول التَّصدیقیّ لِلْجَزَاءِ دون مدلوله التَّصوُّریّ، وذلک من باب ضیق الخناق وعدم إمکان أن یکون المرتبِط بِالشَّرْطِ هو الْمَدْلُول التَّصوُّریّ؛ لأَنَّ الْمَدْلُول التَّصوُّریّ لِلْجَزَاءِ لَیْسَ إلاَّ عبارة عن النِّسبة (کالنسبة التصادقیة بین «جاء» و«زید» فِی قولنا: «جاء زید»، أو النِّسْبَة الإِرْسَالِیَّة التَّحْرِیکِیَّة بین المخاطب والإکرام فِی قولنا: «أکرمه») وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ النِّسْبَةَ باعتبارها معنیً حرفیّاً خاصّاً وَجُزْئِیّاً لا تقبل التَّقْیِید والربط وَالتَّعْلِیق، فبما أن الْمَدْلُول التَّصوُّریّ لِلْجَزَاءِ یستحیل ربطه بِالشَّرْطِ، فلا محالة یکون الرَّبْط (الَّذی تَدُلّ علیه أَدَاة الشَّرْطِ) راجعا إلی الْمَدْلُول التَّصدیقیّ للجزاء.

وهذا الوجه أیضاً غیر تامّ عندنا، فقد ذکرنا فِی بحث معانی الحروف والهیئات أن کون المعنی الْحَرْفِیّ خاصّاً وَجُزْئِیّاً لا یعنی عدم قابلیته لِلتَّقْیِید والربط، ویأتی (إن شاء الله تعالی) فِی الجهة الثَّالثة من البحث فِی بحث الواجب المشروط أیضاً بیان أن مفاد الهیئة قابل لِلتَّقْیِید والربط.وعلیه، فمن الممکن أن یکون المرتبط بِالشَّرْطِ فِی المقام هو الْمَدْلُول التَّصوُّریّ.

إذن، فلا یمکننا البناء علی أن المرتبط بِالشَّرْطِ رأساً هو الْمَدْلُول التَّصدیقیّ.

نعم، لو بنینا علی أن الأداة فِی المقام تَدُلّ علی أن المرتبط بِالشَّرْطِ هو الْمَدْلُول التَّصدیقیّ (لأحد الوجهین المتقدّمین) کان ذلک نکتةً واضحةً للفرق الثَّابِت والواضح بین الحکم وبین الجملة الخبریّة؛ فَإِنَّ الْجَزَاء إذا کان عبارة عن جملة خبریة لم یکن للقضیة الشَّرْطِیَّة مفهوم، فمثل قولنا: «إذا طلعت الشَّمس فالنهار موجود» لَیْسَ له مفهوم؛ لأَنَّ المرتبط بِالشَّرْطِ عبارة عن الْمَدْلُول التَّصدیقیّ لِلْجَزَاءِ حَسَبَ الْفَرْضِ وهو عبارة عن إخبار الْمُتِکَلِّم بوجود النهار، فغایة ما تقتضیه هذه الجملة انْتِفَاء الْمَدْلُول التَّصدیقیّ بانتفاء الشرط، فیستفاد منها أَنَّهُ إن لم تطلع الشَّمس فلیس الْمُتِکَلِّم مخبِراً بوجود النهار، أَمَّا أَنَّهُ هل النهار موجود حینئذٍ أم لا؟ فهذا مِمَّا لا تَدُلّ علیه الجملة.

ص: 150

وهذا بخلاف ما إذا کان الْجَزَاء عبارة عن الأمر والحکم، مثل قولنا: «إذا زارک زید فأکرمه» فإن المرتبط بِالشَّرْطِ مادام قد فرضناه عبارة عن الْمَدْلُول التَّصدیقیّ لِلْجَزَاءِ وهو عبارة عن إیجاب الإکرام والأمر به، فَتَدُلُّ الجملة علی انْتِفَاء هذا الْمَدْلُول التَّصدیقیّ بانتفاء الشرط، وهذا هو الْمَفْهُوم.

لکنک قد عرفت عدم إمکان المساعدة علی شیء من الوجهین المتقدّمین لإِثْبَاتِ کون المرتبط بِالشَّرْطِ هو الْمَدْلُول التَّصدیقیّ.

فالصحیح هو أن أَدَاة الشَّرْطِ تَدُلّ أوَّلاً وبالذات علی رَبْط الْمَدْلُول التَّصوُّریّ لِلْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ؛ وذلک لأَنَّ الْقَضِیَّة الشَّرْطِیَّة بمجموعها المتکوّن من أَدَاة الشَّرْطِ وجملة الشرط وجملة الْجَزَاء تَدُلّ (بلا إِشْکَال) دلالة تَصَوُّرِیَّة علی معنی کامل، فلا بُدَّ من فرض معنی کامل لها فِی مرحلة الْمَدْلُول التَّصوُّریّ قبل ملاحظة مدلولها التَّصدیقیّ، وهذا ینبّه علی أن الأداة تَدُلّ علی ربط الْمَدْلُول التَّصوُّریّ لِلْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ ولا تَدُلّ رأساً علی ربط مدلوله التَّصدیقیّ بِالشَّرْطِ؛ إذ قد لا یکون لِلْجَزَاءِ مدلول تصدیقی وذلک إما لأَنَّ الکلام برمّته لَیْسَ له مدلول تصدیقی أصلاً، کما إذا کانت الْقَضِیَّة الشَّرْطِیَّة بکاملها قد صدرت من غیر العاقل الملتفِت، مثل آلة التسجیل، وإما لأَنَّ الْجَزَاء لَیْسَ له مدلول تصدیقی رغم أن مجموع الکلام له مدلول تصدیقی، لکن هذا الْمَدْلُول التَّصدیقیّ لَیْسَ علی طبق الْجَزَاء وموازیاً له، بل هو علی طبق ما دخل علی الکلام من أداةٍ، کما إذا دخلت أداة الاِسْتِفْهَام علی الْقَضِیَّة الشَّرْطِیَّة فقیل مثلاً: «هل إن زارک زید فتکرمه؟» أو دخلت أداة النَّفْی علیها فقیل مثلاً: «لَیْسَ إن زارک زید فتکرمه»؛ فَإِنَّ مجموع الکلام (المرکب من أداة الاِسْتِفْهَام أو النَّفْی ومن مدخولها الَّذی هو عبارة عن الْقَضِیَّة الشَّرْطِیَّة) وإن کان له مدلول تصدیقی، لٰکِنَّهُ لَیْسَ علی طبق الْجَزَاء وموازیاً له؛ فَإِنَّ الْمَدْلُول التَّصدیقیّ المطابق لِلْجَزَاءِ والموازی له هو الإخبار عن إکرام زید (فِی المثال) بینما الْمَدْلُول التَّصدیقیّ لمجموع الکلام إِنَّمَا هو الاِسْتِفْهَام عن الرَّبْط بین الزِّیَارَة والإکرام، أو نفی هذا الرَّبْط، ولیس عبارة عن الإخبار عن الإکرام کما هو واضح.

ص: 151

إذن، فمع عدم وجود مدلول تصدیقی لِلْجَزَاءِ کیف یمکن لأداة الشرط أن تربط الْمَدْلُول التَّصدیقیّ بِالشَّرْطِ، فلو کانت الأداة مفیدة رأساً لربط الْمَدْلُول التَّصدیقیّ لِلْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ، لزم أَنْ لاَّ یَکُونَ هناک معنی متکامل للقضیة الشَّرْطِیَّة فِی موارد عدم وجود الْمَدْلُول التَّصدیقیّ، مَعَ أَنَّ هذا واضح الفساد؛ فَإِنَّ المعنی المتکامل للقضیة الشَّرْطِیَّة محفوظ علی مستوی الْمَدْلُول التَّصوُّریّ ویأتی إلی الذِّهْن عند سماعها تصوّر معنی کامل سَوَاءٌ کَانَ لها أو لِلْجَزَاءِ مدلول تصدیقی أم لا.

فلیس المرتبط أوَّلاً وبالذات عبارة عن الْمَدْلُول التَّصدیقیّ قَطْعاً، ولیس فِی مثل قولنا: «لَیْسَ إن جاء زید وجب إکرامه..» أیّة مؤونة أصلاً، مع أَنَّهُ لَیْسَ فِی هذا الکلام دلالة علی کون القائل مخبِراً عن وجوب إکرام زید أو حاکماً به فِی فرض المجیء، وکذا فِی مثل قولنا: «هل إن جاء زید وجب إکرامه؟»، ونحو ذلک من الأمثلة؛ فَإِنَّ قولنا: «وجب إکرامه» لَیْسَ له دلالة تَصْدِیقِیَّة.

مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

وفی هذا الضوء فمثل السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ رَحِمَهُ اللَهُ یواجه إشکالاً فِی القضایا الشَّرْطِیَّة الَّتی دخلت علیها إحدی أدوات الاِسْتِفْهَام أو النَّفْی، مثل قولنا: «هل إن جاء زید وجب إکرامه؟» وقولنا: «لَیْسَ إن جاء زید وجب إکرامه»، والإشکال هو أَنَّهُ إما أن یلتزم فیها بعدم دلالتها عَلَی الرَّبْطِ بَیْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ أصلاً، وإما أن یلتزم فیها بدلالتها علی ربط الْمَدْلُول التَّصوُّریّ لِلْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ، وإما أن یلتزم فیها بدلالتها علی ربط الْمَدْلُول التَّصدیقیّ لِلْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ، والکل لا سبیل له إلیه.

أَمَّا الأوّل فَلأَنَّهُ واضح البطلان؛ لوضوح أن الْمُتِکَلِّم إِنَّمَا هو فِی مقام الاِسْتِفْهَام عن الرَّبْط بَیْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ أو فِی مقام نفی هذا الرَّبْط، فلا بُدَّ من افتراض ربط بَیْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ کی یُستفهم عنه أو یُنفی.

ص: 152

وأمّا الثَّانِی فَلأَنَّ المفروض علی مبناه هو أن الْجَزَاء قد وضع للمدلول التَّصدیقیّ واستعمل فیه، ولم یوضع للمدلول التَّصوُّریّ ولا استعمل فیه، فکیف یُستفاد من الجملة ربط الْمَدْلُول التَّصدیقیّ لِلْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ؟ وما هو المبرِّر لهذه الاستفادة؟ وما هو وجه هذه الدِّلاَلَة؟

وأمّا الثَّالث فلما قلناه قبل قلیل من عدم وجود مدلول تصدیقی لِلْجَزَاءِ فِی أمثال هذه القضایا، فکیف تَدُلّ علی ربط الْمَدْلُول التَّصدیقیّ لِلْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ؟

إذن، فیضطر مثل السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ رَحِمَهُ اللَهُ إلی أمر رابع وهو الالتزام بِأَنَّ الْقَضِیَّةَ الشَّرْطِیَّة الَّتی دخلت علیها أداة الاِسْتِفْهَام مثلاً (کقولنا «هل إن جاء زید وجب إکرامه؟») وُضعت بمجموعها بوضعٍ واحد للاستفهام عن الرَّبْط بین مجیء زید وبین وجوب إکرامه، مِنْ دُونِ أن یفترض تعدّد الدَّالّ والمدلول، یعنی مِنْ دُونِ أن یفترض أن جُمْلَة الشَّرْطِ دَلَّتْ علی مجیء زید، وجملة الْجَزَاء دَلَّتْ علی وجوب إکرامه، وأداة الشرط دَلَّتْ علی ربط الثَّانِی بالأول، وأداة الاِسْتِفْهَام دَلَّتْ علی الاِسْتِفْهَام عن هذا الرَّبْط، وکذا الحال فِی الْقَضِیَّة الشَّرْطِیَّة الَّتی دخلت علیها أداة النَّفْی کقولنا: «لَیْسَ إن جاء زید وجب إکرامه»؛ فإِنَّهُ رَحِمَهُ اللَهُ مضطر إلی الالتزام بأنها موضوعة بمجموعها بوضعٍ واحد لنفی الرَّبْط بین مجیء زید ووجوب إکرامه، مِنْ دُونِ أن یکون الدَّالّ والمدلول متعدّداً.

أقول: ولئن أمکن الالتزام بوحدة الوضع وبالتَّالی بوحدة الدَّالّ والمدلول فِی مثل الْقَضِیَّة الشَّرْطِیَّة الَّتی دخلت علیها أداة النَّفْی، إلاَّ أن مِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ الالتزام بذلک فِی مثل الْقَضِیَّة الشَّرْطِیَّة الَّتی دخلت علیها أداة الاِسْتِفْهَام مثل «هل إن جاء زید وجب إکرامه؟» غیر ممکن؛ فَإِنَّ استفادة الاِسْتِفْهَام عن الرَّبْط بَیْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ من مثل هذه الجملة إِنَّمَا هی من باب تعدّد الدَّالّ والمدلول قَطْعاً. والشَّاهد علی ذلک صحَّة الجواب عن مثل هذه الجملة ب_«نعم» أو ب_«لا». وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ «نعم» فِی قوّة تَکرار المستفهَم عنه الَّذی دخلت علیه أداة الاِسْتِفْهَام و«لا» فِی قوّة نفیه، فلا بُدَّ من افتراض معنی للمدخول بِقَطْعِ النَّظَرِ عن الأداة کی یکون قابلاً للتصدیق ب_«نعم» أو للإنکار وَالنَّفْی ب_«لا». فلو لم تکن استفادة الاِسْتِفْهَام عن الرَّبْط بَیْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ من مثل هذه الجملة من باب تعدّد الدَّالّ والمدلول ومن باب أن نفس الاِسْتِفْهَام یستفاد من أداة الاِسْتِفْهَام وأن المستفهَم عنه یستفاد من مدخول الأداة (وهو عبارة عن الْقَضِیَّة الشَّرْطِیَّة) بل کانت من باب وحدة الدَّالّ والمدلول ومن باب أن الجملة بمجموعها (بأداة الاِسْتِفْهَام وبمدخولها الَّذی هو عبارة عن الْقَضِیَّة الشَّرْطِیَّة) موضوعة بوضع واحد لإبراز قصد الاِسْتِفْهَام عن الرَّبْط بَیْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، لما صَحَّ تصدیق هذه الجملة ب_«نعم» ولا صَحَّ إنکارها ب_«لا»؛ لوضوح أن «الاِسْتِفْهَام عن الرَّبْط بَیْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ» غیر قابل للتصدیق ولا للإنکار وَالنَّفْی، وإنَّما القابل لذلک عبارة عن «الرَّبْط بَیْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ»، إذن فلا سبیل للسَّیِّد الأستاذ الخوئیّ ره الأستاذ الخوئی رَحِمَهُ اللَهُ فِی مثل هذه الجملة حتّی إلی هذا الأمر الرَّابع کما هو واضح.

ص: 153

فتحصل أن الْقَضِیَّة الشَّرْطِیَّة تَدُلّ أصالة وأولاً وبالذات علی ربط الْمَدْلُول التَّصوُّریّ لِلْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ.

لکن یقع البحث حینئذٍ فِی أن کون الْمَدْلُول التَّصدیقیّ لِلْجَزَاءِ هل یرتبط أیضاً بِالشَّرْطِ ولو بالتبع من الْمَدْلُول التَّصوُّریّ إلی الْمَدْلُول التَّصدیقیّ أم لا یسری؟ فهل تَدُلّ الْقَضِیَّة الشَّرْطِیَّة (ثانیاً وبالتبع) علی ربط الْمَدْلُول التَّصدیقیّ لِلْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ أم لا؟

مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

التَّحْقِیق فِی المقام هو أن یقال: إن الْقَضِیَّة الشَّرْطِیَّة تارةً یفترض انه لَیْسَ لجزائها مدلول تصدیقی أصلاً، لا لأَنَّ الْقَضِیَّة برمّتها لیست ذات مدلول تصدیقی (کما فِی موارد صدورها من غیر العاقل الملتفِت کالنائم مثلاً أو کأداة التسجیل) بل لأَنَّ مدلولها التَّصدیقیّ لَیْسَ علی طبق الْجَزَاء وَمُوَازِیاً له، بل هو علی طبق ما دخل علی الْقَضِیَّة الشَّرْطِیَّة من أداةٍ، کما إذا دخلت علیها أداة الاِسْتِفْهَام أو النَّفْی، کقولنا: «هل إن جاء زید یجب إکرامه؟» وقولنا: «لَیْسَ إن جاء زید وجب إکرامه»؛ فَإِنَّ مجموع الکلام وإن کان له مدلول تصدیقی (وهو عبارة عن الاِسْتِفْهَام عن الرَّبْط بین المجیء ووجوب الإکرام، أو نفی هذا الرَّبْط) لکن هذا الْمَدْلُول التَّصدیقیّ لَیْسَ علی طبق الْجَزَاء ولیس مُوَازِیاً له؛ إذ الْمَدْلُول التَّصدیقیّ المطابق والموازی لِلْجَزَاءِ هو الإخبار عن وُجُوب الإِکْرَامِ.

وعلیه، ففی مثل هذه الموارد الَّتی تکون الْقَضِیَّة الشَّرْطِیَّة فیها بنحوٍ لَیْسَ لجزائها مدلول تصدیقی لا مَوْضُوع ولا معنی للبحث عن أن الْقَضِیَّة هل تَدُلّ بالتبع علی ربط الْمَدْلُول التَّصدیقیّ لِلْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ أم لا؛ إذ لا مدلول تصدیقی لِلْجَزَاءِ حَسَبَ الْفَرْضِ حتّی یتعقل فرض ربطه بِالشَّرْطِ ولو تبعاً، فالقضیة الشَّرْطِیَّة فِی مثل هذه الموارد خارجة عن محلّ الکلام مَوْضُوعاً کما هو واضح.

ص: 154

وأخری یفترض أن لجزائها مدلولاً تَصْدِیقِیّاً وحینئِذٍ نَقُول: إِنَّ ربط الْمَدْلُول التَّصدیقیّ لِلْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ وعدم ربطه به کلاهما ممکن ومعقول والأمر بید الْمُتِکَلِّم.

وتوضیح ذلک: أن الْجَزَاء إذا کان لهه مدلول تصدیقی فهو یتصوّر علی نحوین:

النَّحْو الأوّل: أَنْ یَکُونَ الْجَزَاء جملة خبریة.

النَّحْو الثَّانِی: أَنْ یَکُونَ الْجَزَاء جملة إنشائیة.

أَمَّا فِی النَّحْو الأوّل (کقولنا: «إن طلعت الشَّمس فالنهار موجود»، وقولنا: «إن جاء زید جاء ابنه معه») فَحَیْثُ أَنَّ الْجَزَاء جملة خبریة فمدلوله التَّصدیقیّ عبارة عن قصد الحکایة والإخبار لا محالة، وحینئِذٍ فبالإمکان تصویر قصد الحکایة والإخبار علی ثلاثة وجوه:

الوجه الأوّل: أن نفترض فِعْلِیَّة کل من «قصد الحکایة» و«نفس الحکایة» و«الْمَحْکِیّ عَنْهُ» (ونقصد بالفعلیة عدم الارتباط والتَّقَیُّد بِالشَّرْطِ؛ فکل هذه الأُمُور الثَّلاثة ثابتة بالفعل ولیست منوطة ومرتبطة بِالشَّرْطِ)، ومن الواضح أَنَّهُ فِی مثل هذا الفرض لا یمکن أن یکون الْجَزَاء هو الْمَحْکِیّ عَنْهُ؛ لأَنَّ الْجَزَاء لَیْسَ فعلیّاً، بل هو مرتبط بِالشَّرْطِ بموجب أَدَاة الشَّرْطِ، بینما المفروض فِی هذا الوجه أن الْمَحْکِیّ عَنْهُ فعلی وغیر مرتبط ومنوط بِالشَّرْطِ، فیتعین أن یکون الْمَحْکِیّ عَنْهُ شیئاً آخر غیر الْجَزَاء، وهو لَیْسَ سوی الرَّبْط بَیْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ.

إذن، فَیَکُونُ مقصود المتکلم (فِی هَذَا الْفَرْضِ) هو الإخبار والحکایة والکشف عن نفس ربط الْجَزَاء بِالشَّرْطِ ونفس الملازمة الثَّابِتَة بینهما، فهو فِی حال التکلم قاصد للحکایة عن ذلک، ونفس الحکایة أیضاً ثابتة، والمحکی عنه (وهو الرَّبْط والتلازم بَیْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ) أیضاً ثابت بالفعل.

وفی هذا الفرض مِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ الرَّبْط لا یسری من الْمَدْلُول التَّصوُّریّ لِلْجَزَاءِ إلی مدلوله التَّصدیقیّ؛ لأَنَّ الْمَدْلُول التَّصدیقیّ لِلْجَزَاءِ کما قلنا عبارة عن قصد الحکایة والإخبار، بینما الْمَدْلُول التَّصوُّریّ له عبارة عن «وجود النهار» فِی المثال الأوّل، وعبارة عن «مجیء الابن مع أبیه» فِی المثال الثَّانِی. وقد فرضنا أن الدِّلاَلَة والإخبار عن «وجود النهار»، لا عن «مجیء الابن مع أبیه»؛ لأَنَّ الْمَدْلُول التَّصوُّریّ لِلْجَزَاءِ منوط ومرتبط بِالشَّرْطِ بموجب أَدَاة الشَّرْطِ ولیس فعلیّاً. بینما المفروض أن الْمَحْکِیّ عَنْهُ فعلیّ، فمصب الدِّلاَلَة التصدیقیة لم یفرض هو الْمَدْلُول التَّصوُّریّ لِلْجَزَاءِ حتّی یکون الْمَدْلُول التَّصدیقیّ أیضاً مَنُوطاً وَمُرْتَبِطاً بِالشَّرْطِ بالتبع، وإنَّما مصبّ الدِّلاَلَة التصدیقیة عبارة عن نفس ربط الْجَزَاء بِالشَّرْطِ، ومع اختلاف مصبّ الدِّلاَلَة التصدیقیة عن مصبّ الدِّلاَلَة التَّصوُّریَّة لا معنی لسریان القید والشرط من الْمَدْلُول التَّصوُّریّ لِلْجَزَاءِ إلی الْمَدْلُول التَّصدیقیّ له.

ص: 155

ومن هنا یکفی فِی صدق الْقَضِیَّة الشَّرْطِیَّة ثبوت الرَّبْط والتلازم واقعاً وإن لم یتحقّق طرفاها فِی الخارج إلی الأبد؛ لأَنَّ صدقها بصدق الحکایة فیها، وصدق الحکایة بصدق الْمَحْکِیّ عَنْهُ، وقد فرض أن الْمَحْکِیّ عَنْهُ هو الرَّبْط، وصدقه لا یَسْتَلْزِم صدق الطرفین؛ فَإِنَّ نفس الرَّبْط بین طلوع الشَّمس ووجود النهار صادق، سواء طلعت الشَّمس ووجد النهار أم لا.

ولا یخفی أَنَّهُ لَیْسَ المقصود من الحکایة عن نفس الرَّبْط ما هو من قبیل ما یقصد من قولنا: «إن من قال "زید قائم" فقد حکی عن ثبوت القیام لزید» حتّی یستشکل فیه بأن الرَّبْط فِی الْقَضِیَّة الشَّرْطِیَّة لم یقع مَحْمُولاً لشیء حتّی یُحکی عنه، بل المقصود منها ما هو من قبیل ما یُقصد من قولنا: «إنَّ من قال: "زید قائم" فقد حکی عن النِّسْبَة بین "زید" و"قائم" بما هی معنی حرفی».

الوجه الثَّانِی: أن نفترض فِعْلِیَّة «قصد الحکایة» فقط دون «نفس الحکایة» و«الْمَحْکِیّ عَنْهُ». وفی هذا الفرض یکون الْجَزَاء هو الْمَحْکِیّ عَنْهُ وهو المنوط والمرتبط بِالشَّرْطِ، وتکون الحکایة عنه أیضاً منوطة ومرتبطة بِالشَّرْطِ. فلو قال مثلاً: «إن جاء زید صافحته» کان مقصوده الإخبار عن أَنَّهُ سوف یصافح زَیْداً، لکن لَیْسَ مقصوده الإخبار الفعلی المطلق، بل یقصد الإخبار المنوط بالمجیء والمرتبط به، فَیَکُونُ مرجع الْقَضِیَّة إلی الإخبار بالجزاء إخباراً مَنُوطاً وَمَشْرُوطاً بِالشَّرْطِ. أی: أن مقصود الْمُتِکَلِّم هو الکشف والحکایة عن وجود الْجَزَاء لو تحقّق الشرط، بحیث ما لم یتحقّق الشرط لا کشف ولا حکایة، ولذا فإن صدق الْقَضِیَّة هنا أیضاً لا یَسْتَلْزِم صدق طرفیها، فلا تکون کاذبة بمجرّد عدم تحقّق الشرط والجزاء فِی الخارج إلی الأبد؛ إذ الحکایة حینئذٍ غیر متحققة وغیر فِعْلِیَّة. وفی هذا الفرض یسری الرَّبْط من الْمَدْلُول التَّصوُّریّ لِلْجَزَاءِ إلی مدلوله التَّصدیقیّ لا محالة؛ لأَنَّ مَصَبّ الدِّلاَلَة التصدیقیة عبارة عن نفس الْمَدْلُول التَّصوُّریّ الَّذی هو مصبّ الدِّلاَلَة التَّصوُّریَّة؛ فهو یُخبر عن وجود النهار مثلاً أو عن مجیء الابن مع أبیه، وما دام مصبّ الدِّلاَلَتَیْنِ واحداً، إذن مقتضی أصالة التَّطَابُق بین الْمَدْلُول التَّصدیقیّ والْمَدْلُول التَّصوُّریّ هو أن لا یختلفا من حیث الفعلیّة والربط، فأن یکون الْمَدْلُول التَّصوُّریّ لِلْجَزَاءِ مَنُوطاً وَمُرْتَبِطاً بِالشَّرْطِ لکن یکون مدلوله التَّصدیقیّ فعلیّاً وغیر منوط بِالشَّرْطِ، هذا خلاف التَّطَابُق بینهما.

ص: 156

مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

الوجه الثَّالث: أن نفترض فِعْلِیَّة کل من «قصد الحکایة» و«نفس الأمر» دون «الْمَحْکِیّ عَنْهُ».

وفی هذا الفرض یکون الْجَزَاء هو الْمَحْکِیّ عَنْهُ وهو المنوط والمرتبط بِالشَّرْطِ، لکن الحکایة عنه لیست منوطة ومرتبطة بِالشَّرْطِ، بل هی ثابتة بالفعل. فلو قال مثلاً: «إن جاء زید صافحته» کان مقصوده الإخبار الفعلی المطلق عن خصوص تلک الْحِصَّة من المصافحة الَّتی هی منوطة ومشروطة بالمجیء. فلو لم یجیء زید لکان هذا الشخص کاذباً؛ إذ سوف لا یصافح تلک المصافحة الَّتی تکون ثابتة عند مجیء زید ولو لعدم المجیء. فَیَکُونُ مرجع الْقَضِیَّة إلی الإخبار بالجزاء عند تحقّق الشرط إخباراً حَتْمِیّاً. أی: أن مقصود الْمُتِکَلِّم هو الکشف والحکایة عن تحقّق الْجَزَاء فِی الخارج حتماً، بحیث یکون زمان تحقّق الشرط فِی الخارج ظَرْفاً لتحقّق الْجَزَاء فِی الخارج، مِنْ دُونِ أن یکون نفس الکشف والحکایة مشروطاً بوجود الشرط، فَیَکُونُ مرجع قوله مثلاً: «إذا جاء زید جاء ابنه معه» إلی قوله: «سوف یجیء ابن زید حتماً فِی ظرف مجیء أبیه»؛ فهی حکایة فِعْلِیَّة ثابتة بنحو التَّنْجِیز عن مجی الابن فِی المستقبل.

ولذا فإن تحقّقَ الْجَزَاء عند تحقّق الشرط - فِی الخارج فِی وقت من الأوقات - کان الکلام صَادِقاً، وإلا فهو کذب، وهذا هو الفرق بین هذا الوجه وبین الوجهین السابقین، حیث لم یکن یلزم الکذب فیهما بصرف عدم تحقّق الشرط والجزاء، أَمَّا فِی هذا الوجه فیلزم الکذب فیما إذا لم یتحقّق الشرط؛ لأَنَّ له حکایة فِعْلِیَّة عن مجیء الابن عند مجیء الأب. فلو أن الأب لم یأت، کانت هذه الحکایة کاذبة؛ لأَنَّهَا حکایة عن أمر استقبالی لم یقع.

ص: 157

وفی هذا الفرض من الواضح أیضاً (کالفرض الأوّل) عدم سریان الرَّبْط من الْمَدْلُول التَّصوُّریّ لِلْجَزَاءِ إلی مدلوله التَّصدیقیّ؛ لأَنَّ المفروض هو أن الحکایة وإن کان مصبها هو الْجَزَاء، لٰکِنَّهَٰا ثابتة فعلاً وعلی نحو التَّنْجِیز کما قلنا. فَالْمَدْلُول التَّصوُّریّ لِلْجَزَاءِ وإن کان مَنُوطاً وَمُرْتَبِطاً بِالشَّرْطِ، لکن مدلوله التَّصدیقیّ (وهو الإخبار والحکایة عن الجزاء) فعلیّ ولیس مَنُوطاً وَمُرْتَبِطاً بِالشَّرْطِ.

ولا یخفی أن هذا الفرض خلاف الظَّاهِر؛ لأَنَّ مصبّ الدِّلاَلَة التصدیقیة والدِّلالة التَّصوُّریَّة واحد وهو الْجَزَاء (کمجیء الابن مع الأب فِی المثال) وبالرغم من ذلک أصبحت الدلالتان مختلفتین من حیث الفعلیّة والربط، فکانت الدِّلاَلَة التصدیقیة (أی: الإخبار عن الْجَزَاء) فِعْلِیَّة غیر مرتبطة بِالشَّرْطِ، لکن الدِّلاَلَة التَّصوُّریَّة (أی: نفس الْجَزَاء) مرتبطة بِالشَّرْطِ ولیست فِعْلِیَّة. وهذا خلاف ما تقتضیه أصالة التَّطَابُق بین الْمَدْلُول التَّصوُّریّ والمدلول التَّصدیقیّ، فکون الْمَدْلُول التَّصوُّریّ لِلْجَزَاءِ مَنُوطاً وَمُرْتَبِطاً بِالشَّرْطِ ومدلوله التَّصدیقیّ فعلیّاً غیر منوط بِالشَّرْطِ خلاف التَّطَابُق بینهما، فکان المفروض أن یسری الرَّبْط من الْمَدْلُول التَّصوُّریّ إلی الْمَدْلُول التَّصدیقیّ، مع أَنَّهُ لا سرایة کما قلنا.

فهذا دلیل لمّیّ (أی: الاستدلال بالعلة علی المعلول) علی کون هذا الفرض خلاف الظَّاهِر؛ فَإِنَّ اتحاد مصبّ الدِّلاَلَتَیْنِ التَّصوُّریَّة وَالتَّصْدِیقِیَّة علّة تقتضی وتوجب ظهور الکلام فِی سریان الرَّبْط من الْمَدْلُول التَّصوُّریّ إلی الْمَدْلُول التَّصدیقیّ. وحیث أن هذا الفرض لا سریان فیه کما قلنا، إذن فهو خلاف الظَّاهِر.

وهناک دلیل إنّیّ (أی: الاستدلال بِالْمَعْلُولِ عَلَیٰ الْعِلَّةِ) أیضاً علی کون هذا الفرض خلاف الظَّاهِر، وهو أن مَن تکلم بجملة شرْطِیَّة، فَسَوْفَ لا یکّذبه أحد بصرف عدم تحقّق طرفیها فِی الخارج إلی الأبد؛ فَإِنَّ العرف لو سمع هذه الجملة (کقولنا: «إن جاء زید جاء ابنه معه») فَسَوْفَ لا یتّهم الْمُتِکَلِّم بالکذب فیما إذا لم یتحقّق الشرط ولم یأت الأبد، بینما علی هذا الفرض یلزم الکذب کما قلنا، ولیس عدم التکذیب عرفاً إلاَّ من جهة عدم ظهور الجملة الشَّرْطِیَّة فِی هَذَا الْفَرْضِ الثَّالث وعدم وفائها ببیان ما یقوله الوجه الثَّالث، فمن عدم التکذیب عرفاً نفهم أن ظاهر الجملة الشَّرْطِیَّة شیء آخر غیر الوجه الثَّالث. وأن هذا الوجه خلاف الظَّاهِر.

ص: 158

وعلی کل حال فَحَیْثُ أَنَّ هذا الوجه خلاف الظَّاهِر، إذن فهو بحاجة إلی قرینة.

هذا تمام الکلام فِی النَّحْو الأوّل وهو أن یکون الْجَزَاء جملة خبریة، وقد اتَّضَحَ أن المناطَ فِی سرایة الرَّبْط من الْمَدْلُول التَّصوُّریّ لِلْجَزَاءِ إلی مدلوله التَّصدیقیّ فِی هذا النَّحْو من القضایا الشَّرْطِیَّة عبارة عن أَنْ تَکُونَ الْقَضِیَّة علی نحو الوجه الثَّانِی من هذه الوجوه الثَّلاثة، أی: أَنْ یَکُونَ قصد الحکایة فعلیّاً دون نفس الحکایة والمحکی عنه.

وبعبارة أخری: یکون الْمَدْلُول التَّصدیقیّ مُوَازِیاً لمفاد الْجَزَاء، لا مُوَازِیاً لمفاد هیئة الجملة الشَّرْطِیَّة.

وأمّا فِی النَّحْو الثَّانِی (وهو ما إذا کانت جملة الجزاء فِی الْقَضِیَّة الشَّرْطِیَّة جملة إنشائیة کقولنا: «إن جاء زید فأکرمه») فَحَیْثُ أَنَّ الْمَدْلُول التَّصدیقیّ لِلْجَزَاءِ حینئذٍ عبارة عن الإنشاء (الَّذی هو الطّلب وإیجاب الإکرام فِی المثال) فبالإمکان هنا أیضاً تصویر الْقَضِیَّة بوجهین:

الوجه الأوّل: أَنْ یَکُونَ الْمَدْلُول التَّصدیقیّ للکلام مُوَازِیاً وَمُطَابقاً لمفاد هیئة الجملة الشَّرْطِیَّة ککلّ، ومفادها عبارة عن الرَّبْط بَیْنَ الْجَزَاءِ وَالشَّرْطِ، بِأَنْ یَّکُونَ المقصود الْجِدِّیّ لِلْمُتِکَلِّمِ فِی المثال المذکور الإخبار عن الرَّبْط بین طلب الإکرام وإیجابه وبین المجیء، فحینئذٍ تکون جملة الْجَزَاء متمحّضة فِی الْمَدْلُول التَّصوُّریّ (وهو وُجُوب الإِکْرَامِ)، ولا یکون فِی عالم الْمَدْلُول التَّصدیقیّ ما یوازی هذا الْمَدْلُول التَّصوُّریّ؛ لأَنَّ مصبّ القصد رأساً هو الکشف عن النِّسْبَة الثَّابِتَة بَیْنَ الْجَزَاءِ وَالشَّرْطِ بما هی معنی حرفی.

وبعبارة أخری: یکون المقصود الکشف عن ذات الرَّبْط وبیان أن الْجَزَاء مرتبط بِالشَّرْطِ.

وفی مثل هذا الفرض لا إِشْکَال فِی أَنَّهُ لا یسری الرَّبْط من الْمَدْلُول التَّصوُّریّ لِلْجَزَاءِ إلی الْمَدْلُول التَّصدیقیّ؛ لأَنَّ الْمَدْلُول التَّصدیقیّ عبارة عن الإخبار عن الرَّبْط، ولیس عبارة عن ما یوازی الْجَزَاء المرتبِط بِالشَّرْطِ. أی: لَیْسَ المدلول التَّصدیقیّ فِی المثال عبارة عن طلب الإکرام وإیجابه حقیقةً، بل هو عبارة عن أن طلب الإکرام ووجوبه مرتبط بالمجیء، فکیف یسری الرَّبْط إلیه؟ فإن الرَّبْط إِنَّمَا یمکن أن یسری إلی المدلول التَّصدیقیّ فیما إذا کان الْمَدْلُول التَّصدیقیّ مُوَازِیاً وَمُطَابقاً لمفاد الْجَزَاء الَّذی هو المرتبِط بِالشَّرْطِ؛ فَالْمَدْلُولُ التَّصدیقیّ للجملة فِی هَذَا الْفَرْضِ غیر مرتبِط بشیء، وبهذا اللِّحَاظ تکون الجملة حینئذٍ خبریة وتنسلخ عن کونها إنشائیة رغم کون جملة الْجَزَاء إنشائیة؛ لأَنَّ مرجع الجملة بلحاظ مدلولها التَّصدیقیّ حینئذٍ إلی الحکایة عن ربط الْجَزَاء بِالشَّرْطِ، فتکون خبریة، ولذا فَسَوْفَ یکون هذا الفرض خلاف الظَّاهِر؛ لأَنَّهُ یلزم منه سلخ الْقَضِیَّة عن کونها إنشائیة حینما یکون الْجَزَاء إنشائیّاً، وهذا دلیل علی أَنَّهُ فِی النَّحْو السَّابِقَ (أی: فیما تکون جملة الْجَزَاء فِی الْقَضِیَّة الشَّرْطِیَّة جملة خبریة) یکون الظَّاهِر الْعُرْفِیّ هناک أیضاً عبارة عن أن مصبّ القصد هو الکشف عن النِّسْبَة الثَّابِتَة فِی الْجَزَاء.

ص: 159

وإن شئت قلت: إن الظَّاهِر عرفاً من الْقَضِیَّة الشَّرْطِیَّة هو کون مصبّ القصد الکشف عن النِّسْبَة الثَّابِتَة فِی الْجَزَاءِ علی تقدیر الشرط، لا الکشف عن النِّسْبَة والربط بَیْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ؛ بدلیل ما نراه من أن الْقَضِیَّة الشَّرْطِیَّة تتبع (فِی کونها خبریة أو إنشائیة) الجزاءَ، ولیست دائمة خبریة، فحینما یکون الْجَزَاء إنشائیّاً تکون الْقَضِیَّة إنشائیة لا تحتمل الصدق والکذب.

اللهم إلاَّ أن یناقش فِی هذا الدَّلِیل بأن تَبَعِیَّة الجملة الشَّرْطِیَّة لِلْجَزَاءِ فِی الإنشائیة والإخباریة صحیحة حتّی لو افترضنا أن مصبّ الدِّلاَلَة التصدیقیة ومصب القصد عبارة عن الکشف عن الرَّبْط بَیْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ؛ وذلک لأَنَّ النُّکتة فِی الإنشائیة الإنشاءَ والإخباریة الإخبارَ هی أن مفاد الخبر هو ما فِی النَّفس من قصد الکشف عن الواقع؛ فَإِنَّ طابَق الکشفُ الواقع کان صَادِقاً، وإلا کان کَاذِباً. وأمّا الإنشاء کالطلب، فبما أن نفس المنکشَف موجود فِی نفس الْمُتِکَلِّم، أصبح مفاده عرفاً نفس هذا المنکشف کالطلب، لا قصد الکشف عنه، ولذا لا یحتمل فیه الصدق والکذب. وأمّا الرَّبْط بَیْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ فهو حینما یکون الْجَزَاء خارجیا خارجی، فتکون الدِّلاَلَة التصدیقیة عبارة عن قصد الکشف عن ذاک الرَّبْط الخارجیّ، فتکون الْقَضِیَّة خبریة، وأمّا حینما یکون الْجَزَاء ثابتاً فِی النَّفس کالطلب فهو أیضاً ثابت فِی النَّفس، فتکون الدِّلاَلَة التصدیقیة عبارة عن نفس الرَّبْط لا قصد الکشف عنه، فتکون الْقَضِیَّة إنشائیة.

وعلیه، فما ذُکر من «أن کون مصبّ الدِّلاَلَة التصدیقیة هو الرَّبْط بَیْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ خلاف الظَّاهِر حینما یکون الْجَزَاء إنشائیّاً؛ إذ یلزم منه سلخ الْقَضِیَّة عن کونها إنشائیة» غیر تامّ؛ فَإِنَّ الظَّاهِر من الْقَضِیَّة الشَّرْطِیَّة - کما سیأتی قَرِیباً إن شاء الله تعالی - هو کون مصبّ الدِّلاَلَة التصدیقیة فیها عبارة عن الرَّبْط بَیْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ سَوَاءٌ کَانَ الْجَزَاء إنشائیّاً أم کان خَبَرِیّاً؛ وذلک لأَنَّ النِّسْبَة الموجودة فِی داخل الْجَزَاء (سواء کانت نسبة تصادقیة کما لو فرض الْجَزَاء جملة خبریة، أم کانت نسبة إنشائیة طَلَبِیَّة) حیث أنَّها بحسب عالَم الدِّلاَلَة التَّصوُّریَّة طرف لِلرَّبْطِ وَالنِّسْبَة الربطة بَیْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، فجعلُها محوراً فِی عالَم الدِّلاَلَة التصدیقیة والقول بأن «مصبّ هذه الدِّلاَلَة والقصد هو الکشف عن النسبة الثَّابِتَة فِی الْجَزَاءِ علی تقدیر الشرط لا النِّسْبَة والربط بَیْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ» خلافُ أصالة التَّطَابُق بین العالَمین. فَالظَّاهِر أن مصبّ الدِّلاَلَة التصدیقیة هو الرَّبْط وَالنِّسْبَة الربطیة، کی تبقی النِّسْبَة الجزائیة الثَّابِتَة فِی داخل الْجَزَاء طرفاً لِلرَّبْطِ فِی کلا العالَمین: «عالم الدِّلاَلَة التَّصوُّریَّة» و«عالم الدِّلاَلَة التصدیقیة».

ص: 160

وَکَیْفَ کَانَ، فلنرجع إلی ما کُنَّا بصدده وهو أن الْمَدْلُول التَّصدیقیّ للکلام إذا کان مُوَازِیاً لمفاد هیئة الجملة الشَّرْطِیَّة وَالَّذِی هو عبارة عن الرَّبْط بَیْنَ الْجَزَاءِ وَالشَّرْطِ لم یکن لِلْجَزَاءِ فِی عالَم الْمَدْلُول التَّصدیقیّ ما یوازی مدلوله التَّصوُّریّ بل یکون الْجَزَاء مُتَمَحّضاً فِی مدلوله التَّصوُّریّ الَّذی هو إنشائی حَسَبَ الْفَرْضِ.

وحینئِذٍ فقد یقال: إن هذا ینافی أصالة التَّطَابُق بین الْمَدْلُول التَّصوُّریّ والمدلول التَّصدیقیّ الَّتی تقتضی فِی المقام أن یکون الْمَدْلُول التَّصدیقیّ أیضاً إنشائیّاً. أی: أَنْ یَکُونَ ما یُفاد بهذا الکلام عبارة عن إیجاب الإکرام (فِی المثال)، لا عبارةً عن الرَّبْط بین إیجاب الإکرام ومجیء زید.

إلاَّ أَنَّهُ یرد علی هذا الکلام أن أصالة التَّطَابُق هذه إِنَّمَا تکون فیما إذا کان الْمَدْلُول التَّصدیقیّ مُوَازِیاً لمفاد جملة الْجَزَاء وَمُطَابقاً للمدلول التَّصوُّریّ لِلْجَزَاءِ، وهذا عکس فرض محلّ الکلام.

الوجه الثَّانِی: أَنْ یَکُونَ الْمَدْلُول التَّصدیقیّ للکلام مُوَازِیاً وَمُطَابقاً لمفاد جملة الْجَزَاء، الَّذی هو عبارة عن الطّلب، بِأَنْ یَّکُونَ المقصود الْجِدِّیّ لِلْمُتِکَلِّمِ فِی المثال المذکور هو إیجاب الإکرام وطلبه (لا الرَّبْط بین إیجابه وبین مجیء زید کما کان یُفترض فِی الوجه الأوّل). فمصبّ القصد هنا ذات الطّلب. فحینئذٍ تکون جملة الْجَزَاء ذات مدلول تصدیقی أیضاً بالإضافة إلی مدلولها التَّصوُّریّ المرتبِط بِالشَّرْطِ، وفی مثل هذا الفرض حیث أن الْمَدْلُول التَّصدیقیّ للکلام عبارة عن الطّلب والوجوب، وبما أن الوجوب له مرحلتان: مرحلة الجعل ومرحلة المجعول:

فتارة یقصد الْمُتِکَلِّم ربط الجعل والمجعول معاً بِالشَّرْطِ وتقییدهما به، فإن هذا أمر ممکن وله أن یقصده، بحیث ما لم یتحقّق مجیء زید فِی المثال لا یوجد حکم وجعل وإنشاء أصلاً. وهذا معناه أن الرَّبْط سارٍ من الْمَدْلُول التَّصوُّریّ لِلْجَزَاءِ إلی مدلوله التَّصدیقیّ، فَیَکُونُ الْمَدْلُول التَّصدیقیّ وهو الحکم والجعل والإنشاء مرتبِطاً بِالشَّرْطِ ومنوطاً به کما أن الْمَدْلُول التَّصوُّریّ مرتبط ومنوط به.

ص: 161

وأخری یقصد ربط المجعول بِالشَّرْطِ دون الجعل؛ فإِنَّهُ أیضاً ممکن وله أن یقصده، بحث یکون الجعل ثابتاً بالفعل غیر مرتبط ومقیّد بِالشَّرْطِ. أی: أَنَّهُ حتّی قبل تحقّق المجیء فِی المثال یکون الحکم والإنشاء وجعل الوجوب ثابتاً، لکن المجعول وهو نفس الوجوب مرتبط ومنوط بالمجیء ومقیّد به، وهذا معناه أن الرَّبْط غیر سارٍ إلی الْمَدْلُول التَّصدیقیّ لِلْجَزَاءِ؛ لأَنَّ المفروض أن الْمَدْلُول التَّصدیقیّ (وهو الجعل والإنشاء والحکم) ثابت فِعلاً قبل تحقّق الشرط، فهو غیر مرتبط وغیر مقیَّد بِالشَّرْطِ، وإنَّما المجعول (وهو نفس الوجوب) مقیَّد ومرتبط بِالشَّرْطِ.

نعم بما أن المجعول لَیْسَ له وجود آخر وراء الجعل (لما تحقّق فِی محلّه من أن المجعول عین الجعل) فلا محالة یکون الرَّبْط والتقیید بِالشَّرْطِ صُورِیّاً ولیس رَبْطاً حقیقیّاً، بمعنی کَوْن الشَّرْط سبباً حقیقةً لوجود المجعول؛ إذ لا وجود ولا ثبوت للمجعول حقیقةً عند ثُبُوت الشَّرْطِ؛ لأَنَّهُ لا وجود للأحکام وراء عالم الجعل.

والحاصل أن ربط المجعول وتقییده بِالشَّرْطِ إِنَّمَا هو ربط وتقیید صوریّ. أی: أن مرجع ربط المجعول وتقییده بِالشَّرْطِ إلی التحصیص، بمعنی أن الثَّابِت فعلاً هو جعل خاصّ ومجعول خاصّ متخصِّص بخصوصیة ناشئة من اعتبار الشرط.

هذا بِالنِّسْبَةِ إلی القضایا الحقیقیَّة الَّتی یکون للوجوب فیها مرحلة جعل ومرحلة مجعول، والقضایا الحقیقیَّة هی الَّتی تشکل أغلب القضایا فِی أحکام الشّریعة، وقد عرفت أن المتعیَّن فیها هو النَّحْو الثَّانِی الَّذی یرجع إلی التحصیص، فلا الجعل مقیَّد ومرتبِط بِالشَّرْطِ، ولا المجعول له وجود آخر (وراء الجعل) یکون مسبَّباً حقیقةً عن وجود الشرط، بل الثَّابِت فعلاً جعل خاصّ کما قلنا.

وأمّا بِالنِّسْبَةِ إلی القضایا الخارجیة فکما یمکن فرض کون الجعل والمدلول التَّصدیقیّ غیر مرتبط وغیر مقیِّد بِالشَّرْطِ (کما هو الغالب) کذلک یمکن فرض کونه مُرْتَبِطاً ومقیدا به، بحیث لا جعل أصلاً قبل وجود الشرط.

ص: 162

هذا تمام الکلام فِی النَّحْو الثَّانِی وهو أن یکون الْجَزَاء جملة إنشائیة، وقد اتَّضَحَ أن المناط فِی سرایة الرَّبْط من الْمَدْلُول التَّصوُّریّ لِلْجَزَاءِ إلی مدلوله التَّصدیقیّ عبارة عن کون الْقَضِیَّة علی نحو الوجه الثَّانِی وهو أن یکون الْمَدْلُول التَّصدیقیّ للقضیة مُوَازِیاً وَمُطَابقاً لمفاد جملة الجزاء الَّذی هو عبارة عن الطّلب، علی أن یکون المقصود ربط الجعل والمجعول معاً بِالشَّرْطِ وتقییدهما به بحیث لا یکون هناک طلب وجعل أصلاً قبل تحقّق الشرط کما تقدّم، لا أن یکون الْمَدْلُول التَّصدیقیّ لکلامه مُوَازِیاً لمفاد هیئة الجملة الشَّرْطِیَّة.

إذن، تلخص من جمیع ما ذکرناه أن ربط الْمَدْلُول التَّصدیقیّ لِلْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ وعدم ربطه به کلیهما ممکن ومعقول، والأمر بید الْمُتِکَلِّم، بِأَنْ یَّکُونَ الْمَدْلُول التَّصدیقیّ لکلامه مُوَازِیاً وَمُطَابقاً لمفاد جملة الْجَزَاء (سَوَاءٌ کَانَ الْجَزَاء جملة خبریة أو إنشائیة) لا أن یکون مُوَازِیاً وَمُطَابقاً لمفاد هیئة الجملة الشَّرْطِیَّة.

وإن شئت قلت: عندما یکون الْمَدْلُول التَّصدیقی للقضیة مُوَازِیاً وَمُطَابقاً لمفاد هیئة الجملة الشَّرْطِیَّة لا یسری الرَّبْط إلی الْمَدْلُول التَّصدیقیّ، وعندما یکون مُوَازِیاً لمفاد الْجَزَاء فَالظَّاهِر السریان.

یبقی علینا أن نبحث عن أن أیّهما هو الظَّاهِر من الْقَضِیَّة الشَّرْطِیَّة؟ هل الظَّاهِر منها أن مدلولها التَّصدیقیّ موازٍ ومطابق لمفاد هیئة الجملة الشَّرْطِیَّة، أم أن الظَّاهِر منها هو أن مدلولها التَّصدیقیّ موازٍ ومطابق لمفاد الْجَزَاء؟

قد یقال: إن الظَّاهِر هو الثَّانِی؛ لأَنَّهُ الَّذی تقتضیه أصالة التَّطَابُق بین الإثبات والثُّبوت؛ وذلک لأَنَّ الأوّل یخالف مقتضی أصالة التَّطَابُق بین عالَم الثُّبوت (أی: الْمَدْلُول التَّصدیقیّ الْجِدِّیّ للکلام) وبین عالَم الإثبات (أی: الْمَدْلُول التَّصوُّریّ للکلام) وذلک لأَنَّنَا بحسب عالَم الإثبات نری أن الْمَدْلُول التَّصوُّریّ لِلْجَزَاءِ مرتبط ومنوط بِالشَّرْطِ (لما تقدّم من دلالة الْقَضِیَّة الشَّرْطِیَّة علی ربط الْمَدْلُول التَّصوُّریّ لِلْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ) ونری أیضاً بحسب عالَم الإثبات أن الْمَدْلُول التَّصوُّریّ لِلْجَزَاءِ (فیما إذا کان الْجَزَاء جملة إنشائیة) عبارة عن «النِّسْبَة الإِرْسَالِیَّة».

ص: 163

وعلیه فمقتضی أصالة التَّطَابُق بین الإثبات والمدلول التَّصوُّریّ وبین عالَم الثُّبوت والمدلول التَّصدیقیّ الْجِدِّیّ للکلام هو أن یکون الْمَدْلُول التَّصدیقیّ مُوَازِیاً لمفاد نفس الْجَزَاء. أی: أَنْ یَکُونَ الْمَدْلُول التَّصدیقیّ الْجِدِّیّ للکلام عبارة عن الإرسال وَالطَّلَب المنوط والمرتبِط بتحقّق الشرط، لا أن یکون مُوَازِیاً لمفاد هیئة الجملة الشَّرْطِیَّة؛ إذ لو کان کذلک، بحیث کان الْمَدْلُول التَّصدیقیّ الْجِدِّیّ للکلام عبارة عن الرَّبْط بین الطّلب والشرط، لم یکن حینئذٍ مرتبِطا ومنوطا بِالشَّرْطِ؛ لوضوح أن الرَّبْط بین الْجَزَاء والشرط لَیْسَ مَنُوطاً ومرتبِطاً بِالشَّرْطِ، وکان الْمَدْلُول التَّصدیقیّ حینئذٍ مخالفاً للمدلول التَّصوُّریّ المذکور، وهذا ما ینافی وتنفیه أصالة التَّطَابُق بین الْمَدْلُول التَّصوُّریّ والمدلول التَّصدیقیّ.

مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: مفهوم الشَّرْطِ/البحوث اللُّغَوِیَّة الاکتشافیة/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

وفیه أنَّ أصالة التَّطَابُق هذه إِنَّمَا تقتضی مطابقة الْمَدْلُول التَّصدیقیّ للمدلول التَّصوُّریّ فیما إذا کان المدلول التَّصدیقی مُوَازِیاً لنفس ذاک الْمَدْلُول التَّصوُّریّ دون ما إذا کان مُوَازِیاً لمدلولٍ تصوُّریٍّ آخر، فلا یمکن إثبات لزوم کون الْمَدْلُول التَّصدیقیّ للکلام فِی المقام مُوَازِیاً لمفاد الْجَزَاء من خلال أصالة التَّطَابُق بین الْمَدْلُول التَّصدیقیّ للکلام والمدلول التَّصوُّریّ لِلْجَزَاءِ.

وبعبارة أوضح: أنَّ جریان أصالة التَّطَابُق المذکورة فیما نحن فیه موقوف علی أن یکون الْمَدْلُول والمراد التَّصدیقیّ الْجِدِّیّ لِلْمُتِکَلِّمِ فِی الْقَضِیَّة الشَّرْطِیَّة القائلة مثلاً: «إن جاءک زید فأکرمه» هو الإرسال وَالطَّلَب المنوط والمرتبط بِالشَّرْطِ (الَّذی هو موازٍ ومطابق مع النِّسْبَة الإِرْسَالِیَّة والطلبیة المنوطة بِالشَّرْطِ الَّتی هی الْمَدْلُول التَّصوُّریّ لِلْجَزَاءِ) فإذا ثبت ذلک، فحینئذٍ تجری أصالة التَّطَابُق بین الْمَدْلُول التَّصدیقیّ والمدلول التَّصوُّریّ وتُثبت أن الطّلب المراد جِدّاً مطابق فِی خصوصیاته وتفاصیله تماماً مع النِّسْبَة الطَّلبیَّة الَّتی فهمناها تصوُّراً من الْجَزَاء.

ص: 164

أَمَّا إذا لم یکن الْمَدْلُول والمراد الْجِدِّیّ التَّصدیقیّ لِلْمُتِکَلِّمِ فِی هذه الْقَضِیَّة أساساً هو الإرسال وَالطَّلَب المرتبط بِالشَّرْطِ، بل کان عبارة عن قصد الکشف عن الرَّبْط بین الشرط وبین الإرسال وَالطَّلَب (الَّذی هو موازٍ ومطابق مع الرَّبْط التَّصوُّریّ الَّذی نفهم من هیئة الجملة الشَّرْطِیَّة) فلا معنی حینئذٍ لإجراء أصالة التَّطَابُق بین الْمَدْلُول التَّصدیقیّ للکلام والمدلول التَّصوُّریّ لِلْجَزَاءِ؛ إذ لم یکن الْمَدْلُول التَّصدیقیّ أساساً مُوَازِیاً لِلْجَزَاءِ، بل کان مُوَازِیاً لهیئة الجملة الشَّرْطِیَّة.

وَالْحَاصِلُ: کما أن هناک مدلولاً تصوُّریّاً لِلْجَزَاءِ مُرْتَبِطاً بِالشَّرْطِ وهو عبارة عن النِّسْبَة الإِرْسَالِیَّة، کذلک هناک مدلول تصوُّریّ لهیئة الجملة الشَّرْطِیَّة وهو عبارة عن الرَّبْط بَیْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، فلا بُدَّ من أن یثبت أوَّلاً أن الْمَدْلُول التَّصدیقیّ موازٍ للمدلول التَّصوُّریّ الأوّل دون الثَّانِی، کی تجری أصالة التَّطَابُق بین الْمَدْلُول التَّصدیقیّ والمدلول التَّصوُّریّ لتُثبت مطابقتهما فِی الجزئیات والخصوصیات، بینما نحن لم نُثبِت بعدُ کون الْمَدْلُول التَّصدیقیّ للقضیة الشَّرْطِیَّة مُوَازِیاً لِلْجَزَاءِ، بل هو محلّ الکلام؛ فأصالة التَّطَابُق متوقّفة علی موازاة الْمَدْلُول التَّصدیقیّ لِلْجَزَاءِ، فکیف یُعقل إثبات هذه الموازاة بأصالة التَّطَابُق؟!

والصحیح هو أن الظَّاهِر من الْقَضِیَّة الشَّرْطِیَّة کون مدلولها التَّصدیقیّ مُوَازِیاً لمفاد هیئة الجملة الشَّرْطِیَّة، وذلک لما أشرنا إلیه سابقاً من أَنَّهُ فِی عالَم الدِّلاَلَة التَّصوُّریَّة (أی: بحسب الْمَدْلُول التَّصوُّریّ) تکون النِّسْبَة الإِرْسَالِیَّة (الَّتی هی الْمَدْلُول التَّصوُّریّ لجملة الْجَزَاء فِی الموارد الَّتی یکون الْجَزَاء فیها جملة إنشائیة طَلَبِیَّة) طرفاً لِلنِّسْبَةِ الربطیة (الَّتی هی الْمَدْلُول التَّصوُّریّ للجملة الشَّرْطِیَّة ککل کما تقدّم (فإن النِّسْبَة الربطیة نسبة بین مفاد الشرط ومفاد الْجَزَاء، ولیست النِّسْبَة الربطیة طرفاً لِلنِّسْبَةِ الإِرْسَالِیَّة، بل النِّسْبَة الإِرْسَالِیَّة الثَّابِتَة فِی الْجَزَاءِ نسبة قائمة بطرفین مستقلین لها (وهما فِی مثل قولنا: «إن جاء زید فأکرمه» عبارة عن المخاطب وإکرام زید).

ص: 165

وعلیه، فإذا لم تکن النِّسْبَة الربطیة طرفاً لِلنِّسْبَةِ الإِرْسَالِیَّة بِحَسَبِ عَالَم الدّلاَلَةِ التَّصوُّریَّة، بل کانت بحسب الْمَدْلُول التَّصوُّریّ نسبةً قائمة بین طرفین:

أحدهما: مفاد الشرط (أی: مجیء زید فِی المثال).

والآخر: مفاد الْجَزَاء (أی: النِّسْبَة الإِرْسَالِیَّة المذکورة).

إذن، فالمرکز والمحور والمنظور الأساسی فِی عَالَم الدّلاَلَةِ التَّصوُّریَّة ومن بین المدالیل التَّصوُّریَّة الموجودة فِی الْقَضِیَّة الشَّرْطِیَّة عبارة عن النِّسْبَة الربطیة، لا النِّسْبَة الإِرْسَالِیَّة. فکأنما جیء بِالنِّسْبَةِ الإِرْسَالِیَّة کی یَتُِمّ بها طرفاً النِّسْبَة الربطیة.

وحینئِذٍ فلو کان الْمَدْلُول التَّصدیقیّ والمنظور الأساسی للقضیة الشَّرْطِیَّة فِی عالَم الدِّلاَلَة التصدیقیة مُوَازِیاً وَمُطَابقاً لهذه النِّسْبَة الربطیة الَّتی هی المنظور الأساسی لها فِی عَالَم الدّلاَلَةِ التَّصوُّریَّة (أی: کان مُوَازِیاً لمفاد هیئة الجملة الشَّرْطِیَّة) تطابَق الْمَدْلُول التَّصدیقیّ للقضیة مع الْمَدْلُول التَّصوُّریّ لها، وأمّا لو کان الْمَدْلُول التَّصدیقیّ للقضیة مُوَازِیاً لِلنِّسْبَةِ الإِرْسَالِیَّة (أی: لمفاد جملة الْجَزَاء) انعکست المسألة ولم یحص التَّطَابُق بین عَالَم الدّلاَلَةِ التصدیقیة وعالَم الدِّلاَلَة التَّصوُّریَّة؛ إذ أصبح المنظور الأساسی فِی عالم الدِّلاَلَة التصدیقیة عبارة عن النِّسْبَة الإِرْسَالِیَّة وأصبحت النِّسْبَة الربطیة منظورةً بالتبع، بینما المنظور الأساسی فِی عالَم الدِّلاَلَة التَّصوُّریَّة عبارة عن النِّسْبَة الربطیة کما تقدّم قبل قلیل.

فمقتضی أصالة التَّطَابُق بین مقام الإثبات (أی: عَالَم الدّلاَلَةِ التَّصوُّریَّة) ومقام الثُّبوت (أی: عَالَم الدّلاَلَةِ التصدیقیة) هو أن الْمَدْلُول التَّصدیقیّ للقضیة موازٍ لمدلولها التَّصوُّریّ (أی: النِّسْبَة الربطیة، لا النِّسْبَة الإِرْسَالِیَّة). أی: أن مصبّ القصد والإرادة الجدّیَّة فیها عبارة عن الکشف عن الرَّبْط بین مفاد الشرط ومفاد الْجَزَاء، أی: الرَّبْط بین مجیء زید ووجوب إکرامه فِی المثال، ولیس عبارة عن مفاد الْجَزَاء المرتبِط بِالشَّرْطِ، أی: وجوب إکرام زید المرتبِط بالمجیء.

إذن، فظاهر الْقَضِیَّة الشَّرْطِیَّة عدم سریان الرَّبْط من الْمَدْلُول التَّصوُّریّ إلی الْمَدْلُول التَّصدیقیّ؛ لأَنَّ ظاهرها کما تقدّم آنِفاً هو کون مدلولها التَّصدیقیّ مُوَازِیاً لمفاد هیئة الجملة الشَّرْطِیَّة، لا لمفاد الْجَزَاء. وقد قلنا: إِنَّه عندما یکون الْمَدْلُول التَّصدیقیّ للقضیة مُوَازِیاً لمفاد هیئة الجملة الشَّرْطِیَّة لا یسری الرَّبْط إلی الْمَدْلُول التَّصدیقیّ.

ص: 166

وبهذا تَمَّ الکلام عن الجهة الثَّانیة، وهی عبارة عن البحث عن دلالة الْقَضِیَّة الشَّرْطِیَّة علی ربط الْمَدْلُول التَّصوُّریّ لِلْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ، وقد عرفت أنَّها تَدُلّ علی ذلک، وأن الظَّاهِر منها هو أن هذا الرَّبْط لا یسری إلی الْمَدْلُول التَّصدیقیّ.

التنبیه الخامس: هل القید المذکور بغیر لسان الشرط له مفهوم؟ بحث الاصول

العنوان: مفهوم الشرط / تنبیهات مفهوم الشرط / التنبیه الخامس: هل القید المذکور بغیر لسان الشرط له مفهوم؟

التنبیه الخامس

فی الفرق بین مثل قوله: «إن زالت الشمس فصلّ» وقوله: «صلّ عند الزوال».

توضیح ذلک أن القید الوارد علی هیئة الأمر ومفادها تارةً یکون بلسان الشرط وبسیاق الجملة الشرطیة کالمثال الأول، فلا إشکال فی ثبوت المفهوم له ودلالة الجملة علی انتفاء الجزاء ومفاد الهیئة بانتفاء الشرط والقید، کما عرفنا ذلک خلال البحوث السابقة.

وأخری یکون القید بغیر سیاق الشرط وبغیر لسان الجملة الشرطیة کالمثال الثانی. فهل یثبت المفهوم للقید حینئذ وتدل الجملة علی انتفاء مفاد هیئة الأمر بانتفائه أم لا؟

قد یقال بثبوت المفهوم له وذلک بنفس النکتة التی بها یثبت المفهوم له فیما إذا ورد بلسان الشرط، فکما أنه فی المثال الأول قُیِّدت النسبة التامّة (التی تدل علیها هیئة الأمر) بالقید ودلّ هذا التقیید علی انتفائها بانتفائه، کذلک فی المثال الثانی قُیِّدت نفس هذه النسبة بالقید، فیدل هذا التقیید علی انتفائها بانتفائه.

إلا أن هذا وهمٌ باطلٌ، فهناک فرق بین هاتین الجملتین، وعلی أساس هذا الفرق تسالم الفقهاء فی مقام التطبیقات الفقهیة علی عدم ثبوت المفهوم لمثل الجملة الثانیة، ولم یدّع ثبوت المفهوم لها حتی القائلون بمفهوم الشرط، کما أن الوجدان العرفی أیضاً قاضٍ بما تسالموا علیه، حیث لا إشکال بحسب الوجدان فی عدم دلالتها علی المفهوم وعلی انتفاء طبیعی الحکم بانتفاء القید؛ فلا کلام إذاً فی أصل وجود فرق بین الجملتین - أی: بین الجملة التی یُبیّن فیها القید بلسان الشرط، والجملة التی یُبَیَّن فیها نفس القید بغیر لسان الشرط - وإنما الکلام فی تخریج هذا الفرق الذی أدّی إلی ثبوت المفهوم للأولی دون الثانیة.

ص: 167

وکل دلیل من أدلة إثبات مفهوم الشرط إذا لم یکن متضمّناً لإبراز الفرق بین الجملتین بأن کان ذاک الدلیل جاریاً وساریاً فی مثل الجملة الثانیة أیضاً کان هذا بنفسه نقضاً علی صاحب ذاک الدلیل؛ إذ یقال له حینئذ: لو کان دلیلک علی مفهوم الشرط تامّاً للزم منه ثبوت المفهوم حتی لمثل الجملة الثانیة، بینما لا تلتزم أنت ولا غیرک بثبوت المفهوم لها.

والمثال علی ذلک هو الدلیل الذی حاول المحقق النائینی ره إثبات مفهوم الشرط به، أعنی: التمسک بالإطلاق الأوی. أی: الإطلاق فی مقابل التقیید والعطف ب_ «أو». حیث کان یقال إن مقتضی هذا الإطلاق هو انحصار السبب بالشرط، إذ لو کان هناک سبب آخر للجزاء غیر الشرط لکان یعطفه علی الشرط ب_ «أو»؛ فإن هذا الدلیل لو صَحَّ لکان لازمه ثبوت المفهوم حتی فی مثل الجملة الثانیة - أی: قوله «صل عند الزوال» - ؛ إذ یقال فیه أیضاً: إن مقتضی الإطلاق الأوی انحصار سبب الوجوب بالزوال؛ إذ لو کان هناک سبب آخر له غیره لکان یعطفه علیه ب_ «أو» ویقول: «صلّ عند الزوال أو عند تحقق کذا» فیکون هذا بنفسه نقضاً علی المحقق النائینی ره؛ إذ لا یلتزم بالمفهوم فی مثل هذه الجملة.

وکیفما کان فتوضیح الفرق بین الجملتین هو أن هناک فرقین بینهما:

الفرق الأول: هو أن الرکن الثانی من رکنی المفهوم تامّ فی الأولی دون الثانیة. وتوضیح ذلک هو أن ثبوت المفهوم للجملة الشرطیة متوقف علی رکنین - کما تقدّم فی البحث عن ضابط المفهوم - وکان الرکن الثانی عبارة عن إثبات أن المعلَّق علی الشرط هو طبیعی الحکم، لا شخصه. وکان الطریق لإثبات ذلک هو إجراء مقدمات الحکمة فی «الجزاء المعلّق علی الشرط» لیثبت أن «الجزاء المعلّق علی الشرط» هو الطبیعیّ، لا الشخص. وکان هذا الإجراء متوقفاً علی شروط من جملتها أن یکون مفاد الجزاء مدلولاً تصوریاً بحتاً لیس بإزائه مدلول تصدیقی جدّی، ویکون المدلول التصدیقی الجدّی للمتکلّم فی الجملة الشرطیة بإزاء النسبة التقییدیة الربطیة التی تدل علیها الجملة الشرطیة بکاملها، لا بإزاء مفاد الجزاء؛ إذ لو لم یکن مفاد الجزاء مدلولاً تصوریاً ومفهوماً کلیّاً، بل کان مدلولاً تصدیقیاً جدیّاً - أی: کان المراد الجدی للمتکلّم فی الجملتین المذکورتین فی المثالین عبارة عن وجوب الصلاة لا الربط بین وجوب الصلاة والزوال - للزم عدم جریان مقدمات الحکمة وبالتالی عدم ثبوت کون المعلّق طبیعی الحکم - بل یکون المعلّق شخص الحکم؛ لأن المدلول التصدیقی شخصی دائماً، وهذا بخلاف ما إذا فرغ مفاد الجزاء عن المدلول التصدیقی الجدی وبقی مدلولاً تصوریاً صالحاً لآن یقع طرفاً للتعلیق، کما هو واضح. ومن المعلوم أن بقاء مفاد الجزاء مدلولاً تصوریاً لا مرادَ جدیَ وراءه، ووقوع المدلول والمراد التصدیقی الجدی بإزاء النسبة التقییدیة والربطیة متوقف علی أن تکون هذه النسبة نسبةً تامّة؛ کی یعقل أن یقع بإزائها مدلول تصدیقی، فإن المدلول التصدیقی والمراد الجدی للمتکلّم لا یمکن أن یکون عبارة عن نسبة ناقصة؛ إذ لا یصحّ السکوت علیها.

ص: 168

إذن، فثبوت المفهوم للقید متوقّف علی ثبوت الرکن الثانی للمفهوم، وهو متوقّف علی کون النسبة التقییدیّة - الثابتة بین الحکم والقید - تامّة، ومن هنا تختلف الجملتان المذکورتان فی المثال وتفترق إحداهما عن الأخری. فنحن إذا لاحظنا الجملة الأولی الشرطیة - أی قوله: «إن زالت الشمس فصلّ» لرأینا أن النسبة التقییدیة الثابتة بین الحکم والقید - أی: بین وجوب الصلاة وزوال الشمس - نسبة تامة؛ إذ لا موطن لها فی الخارج، بل هی نسبة قائمة فی الذهن بین الشرط والجزاء، وکل نسبة کان موطنها الأصلی هو الذهن فهی تامّة - کما تقدم فی بحث معانی الحروف والهیئات - وحینئذ یعقل أن یکون المدلول التصدیقی للکلام بإزاء هذه النسبة التامة، وعلیه فیتمحضّ الجزاء، أی: قوله: «صل» فی المدلول التصوری الذی لا مراد جدی وراءه ولا مدلول تصدیقی بإزائه، فیکون مفاد الجزاء صالحاً لأن یقع طرفاً للتعلیق - أی: طرفاً لهذه النسبة التامة، ومعه یمکن جریان مقدمات الحکمة فی مفاد هذا الجزاء - لإثبات أن المعلَّق علی الشرط هو طبیعی الحکم والوجوب لا شخصه - علی حدّ جریان مقدمات الحکمة وإثبات الإطلاق فی أطراف سائر النسب التامّة، فیتمّ الرکن الثانی لإثبات المفهوم وبالتالی یثبت المفهوم.

التنبیه الخامس: هل القید المذکور بغیر لسان الشرط له مفهوم؟ بحث الاصول

العنوان: مفهوم الشرط / تنبیهات مفهوم الشرط / التنبیه الخامس: هل القید المذکور بغیر لسان الشرط له مفهوم؟

کان الکلام فی الفرق بین ما إذا ورد القید علی الحکم بلسان الشرط، کقوله: «إن زالت الشمس فصل» وبینما إذا ورد القید علی الحکم بغیر لسان الشرط، کقوله: «صل عند الزوال». فما هو الفرق بین هاتین الجملتین؟ الفرق الذی أدی إلی ثبوت المفهوم للأولی وعدمه للثانیة. قلنا: یوجد فرقان بینهما، وقد ذکرنا قسماً من الفرق الأول بالأمس، وهو أن الرکن الثانی من رکنی المفهوم تام فی الجملة الأولی وغیر تام فی الجملة الثانیة؛ فإن الرکن الثانی کان عبارة من أن المقید بالشرط أو المعلق علی الشرط هو طبیعی الحکم. وتمامیة هذا الرکن متوقفة علی أن تکون النسبة التقییدیة الثابتة بین الحکم والقید نسبة تامةً، لا نسبة ناقصة. ومن هنا تختلف هاتان الجملتان. فإن النسبة التقییدیة فی الجملة الأولی تامة کما شرحنا بالأمس.

ص: 169

أما إذا لاحظنا الجملة الثانیة - أی: قوله «صلّ عند الزوال» - لرأینا أن النسبة التقییدیة الثابتة بین الحکم والقید - أی: بین وجوب الصلاة والزوال - نسبة ناقصة؛ إذ أن موطنها الأصلی هو الخارج؛ لأنها نسبة قائمة فی الخارج بین «الوجوب» و«الزوال»، وکل نسبة کان موطنها الأصلی هو الخارج فهی ناقصة - کما تقدم أیضاً فی بحث معانی الحروف والهیئات - وحینئذ فیستحیل أن یکون المدلول التصدیقی للکلام بإزائها؛ إذ معناه کون الکلام ناقصاً لا یصحّ السکوت علیه، بینما هو کلام تامّ. فیتعیّن أن یکون المدلول التصدیقی للکلام بإزاء مفاد قوله «صل» الدالّ علی نسبة تامّة إرسالیة، ومعه لا یمکن جریان مقدمات الحکمة فی هذا المفاد لإثبات أن المقیّد بالزوال هو طبیعی الحکم والوجوب لا شخصه؛ لأن المدلول التصدیقی شخصی دائماً کما ذکرنا ذلک مراراً؛ إذ هو عبارة عمّا فی نفس المتکلّم، وهو شخصی کما هو واضح. فیکون مفاد الکلام عبارة عن وجوبٍ شخصی للصلاة مقیّدٍ بالزوال، ومع کون المفاد شخصیاً لا کلّیاً یکف یجری الإطلاق فیه؟ ومع عدم جریان الإطلاق لا یتمّ الرکن الثانی لإثبات المفهوم، وبالتالی فلا یثبت المفهوم. هذا هو الفرق الأول بین الجملة التی یُبیّن القید فیها بلسان الشرط والجملة التی یبیّن فیها نفس القید لکن بغیر لسان الشرط، الآمر الذی أدّی إلی ثبوت المفهوم للأولی دون الثانیة.

وما قلناه فی هذا التخریج الأوّل للفرق بین الجملتین نکتة عامّة وقاعدة ساریة فی کل القیود وفی جمیع المفاهیم ولیست مختصّة بالقید الشرطی وبمفهوم الشرط. فکلما کانت النسبة بین الحکم والقید نسبة تامةً یثبت الرکن الثانی للمفهوم، وبالتالی فیثبت المفهوم إذا تمّ رکنه الآخر، ولکما لم تکن النسبة بین الحکم والقید نسبةًَ تامة، بل کانت ناقصة، فلا یثبت الرکن الثانی للمفهوم، وبالتالی فلا یثبت المفهوم.

ص: 170

وبعبارة أخری: لکما کان تقیید الحکم بالقید من خلال نسبة تامّة کما فی الجملة الأولی الشرطیة حیث أن الحکم فی الجزاء قد قُیِّد بالشرط من خلال النسبة التامة التی تدل علیها هیئة جملة الشرط مثل قوله: «إن زالت الشمس فصلّ» حیث قُیّد وجوب الصلاة بالزوال من خلال النسبة التامة التی تدل علیها هیئة الجملة التامة وهی جملة «زالت الشمس»، فحینئذ یثبت الرکن الثانی للمفهوم ویجری الإطلاق فی الحکم لیثبت تقیّد سنخ الحکم وطبیعته بالقید، وکلما کان تقیید الحکم بالقید من خلال نسبة ناقصة کما فی الجملة الثانیة - أی قوله: «صلّ عند الزوال» - حیث قُید وجوب الصلاة بالزوال من خلال نسبة ناقصة تدل علیها هیئة الجملة الناقصة وهی جملة المضاف والمضاف إلیه، أی: «عند الزوال»؛ فإن «عند» ظرف وناقص وبحاجة إلی مکمّل، فحیث أن هذه النسبة الناقصة مندکّة فی النسبة التامة التی تدل علیها هیئة «صل» ولیست فی عرضها، فهی محصّصة لتلک النسبة التامة، فلیس للعندیة وجود مستقل عن النسبة التامّة التی قُیدت بها، کی نقول: إننا نشک فی أن النسبة التامة المقیَّدة بها هل هی بوجودها الشخصی مقیدة بالعندیة أم بوجودها النوعی الطبیعی؟ ومقتضی الإطلاق هو الثانی، کی یثبت المفهوم، بل توجد نسبة تامة محصَّصة؛ فإن قوله: «صلّ عند الزوال» یدل بمجموعه علی نسبة تامة واحدة وهی حصة خاصة من وجوب الصلاة، والإطلاق لا یجری فی الحصة الخاصة، فلا یثبت تقیّد سنخ الوجوب وطبیعیه بالقید، فلا یثبت المفهوم.

وقد یقال: إن تقیید الحکم بالقید فی الجملة الثانیة - أی: فی مثله قوله: «صلّ عند الزوال» - إنما هو من خلال نسبة تامة لا ناقصة، وذلک بناءاً علی ما ذکرتموه من ضابط النسبة التامة والنسبة الناقصة، حیث قلتم: إن النسبة التامة هی التی یکون موطنها الأصلی هو الذهن، والنسبة الناقصة هی التی یکون موطنها الأصلی هو الخارج، فإنه بناءً علی هذا الضابط تکون النسبة التقییدیة الثابتة فی هذه الجملة بین وجوب الصلاة وبین الزوال نسبة تامة؛ لآن موطنها الأصلی هو الذهن؛ لأحد أحد طرفیها - وهو الوجوب - ذهنی؛ فإن الوجوب من موجودات عالم النفس والذهن. وعلیه فلیست التمامیة التی نفهمها من قوله: صل عند الزوال من شؤون هیئة «صل»، بل هی من شؤون هیئة الجملة بکاملها الدالة علی الربط بین مفاد «صل» ومفاد «عند الزوال». أی: علی أن الوجوب مرتبط بالزوال، وإذا کانت الجملة دالة علی ربط الوجوب بالزوال لا علی حصة خاصة من الوجوب متقیدة ومرتبطة بالزوال، فتکون کالجملة الشرطیة الدالة علی ربط الجزاء بالشرط، فکما نثبت هناک بالإطلاق کون المرتبط بالشرط طبیعی الوجوب، کذلک نثبت هنا بالإطلاق کون المرتبط بالزوال طبیعی الوجوب، فیثبت الرکن الثانی للمفهوم هنا أیضاً. إلا أن هذا الکلام غیر صحیح وسیأتی شرحه غداً.

ص: 171

التنبیه الخامس: هل القید المذکور بغیر لسان الشرط له مفهوم؟ بحث الاصول

العنوان: مفهوم الشرط / تنبیهات مفهوم الشرط / التنبیه الخامس: هل القید المذکور بغیر لسان الشرط له مفهوم؟

الإجابة: الإشکال الذی طرحناه بالأمس الجواب علیه هو أن تقیید الحکم بالقید فی مثل قوله: «صلّ عند الزوال» إنما هو من خلال نسبة ناقصة لا تامّة، وذلک طبقاً لما ذکرناه من ضابط النسبة التامة والنسبة الناقصة، وذلک لآن النسبة التقییدیة الثابتة فی هذه الجملة بین وجوب الصلاة وبین الزوال نسبة ناقصة؛ لآن موطنها الأصلی هو الخارج؛ إذ لا نقصد ب_ «الخارج» العالم الخارج عن النفس والذهن، بل نقصد به العالم الخارج عن الذهن خاصة، سواء کان عالم النفس أم کان العالم الخارج عن النفس، فکل ما هو خارج عن عالم الذهن والمفاهیم الذهنیة نعدُّه من العالم الخارج وإن کان من موجودات عالم النفس، فإن عالم النفس أیضاً خارج عن عالم الذهن والمفاهیم الذهنیة.

توضیح ذلک: إن لکل کلامٍ مدلول بالذات ومدلولاً بالعرض، فأما المدلول بالذات فهو المفهوم الذهنی الذی یخطر فی الذهن عند سماع اللفظ، وهذا هو المدلول التصوری للکلام. وأما المدلول بالعرض فهو عبارة عن مصداق المدلول بالذات. أی: مصداق ذاک المفهوم الذهنی. وهذا المصداق خارج عن عالم الذهن والمفاهیم الذهنیة، ولیس معنی ذلک بالضرورة أن یکون هذا المصداق موجوداً فی خارج النفس، بل قد یکون کذلک، وقد یکون من الموجودات فی داخل النفس. فمثلاً کلمة «عالم» مدلولها بالذات هو مفهوم العالم، ومدلولها بالعَرَض هو مصداق العالم، وهذا المصداق موطنه خارج النفس، لکن کلمة «لحاظ» مدلولها بالذات هو مفهوم اللحاظ، ومدلولها بالعرض هو واقع اللحاظ ومصداقه وهذا المصداق موطنه داخل النفس، لکنه خارج عن عالم الذهن والمفاهیم الذهنیة.

ص: 172

فإذا اتضح المقصود من عالم الذهن وعالم الخارج، نقول: إن النسبة تارةً تکون بین المدلولین بالعرض، أی: بین مصداقی المفهومین، من قبیل نسبة الظرفیة التی یدل علیها قول القائل: الماء فی الإناء؛ فإن هذه النسبة لیست قائمة بین مفهوم الماء ومفهوم الإناء، بل هی قائمة بین المصداقین الخارجین عن الذهن والنفس وهما مصداق الماء ومصداق الإناء کما هو واضح، فیکون موطنها الأصلی هو خارج الذهن وخارج النفس، فتکون نسبةً ناقصة کما برهنّا علی ذلک فی بحث معانی الحروف والهیئات. وأخری تکون النسبة بین المدلولین بالذات، أی: بین نفس المفهومین من قبیل النسبة التصادقیة التی یدل علیها قول القائل: «الماء بارد»؛ فإن مفاد هذا الکلام کما تقدّم فی بحث معانی الحروف والهیئات عبارة عن النسبة التصادقیة. بمعنی أن ما یصدق علیه مفهوم الماء هو عین ما یصدق علیه مفهوم البارد، ومن الواضح أن النسبة التصادقیة نسبة قائمة بین المفهومین فی عالم الذهن لا بین المصداقین؛ لأن الذی یصدق إنما هو المفهوم لا المصداق؛ فإن الصدق من شؤون المفاهیم، وعلیه فیکون الموطن الأصلی لهذه النسبة هو الذهن، فتکون نسبة تامة طبقاً للضابط الذی ذکرناه للنسبة التامة؛ فهی نسبة ذهنیة لا خارجیة؛ إذ لا نسبة فی الخارج بین «الماء» و«البارد»، لتقوم النسبة بطرفین، ولا یوجد طرفان فی الخارج أحدهما «الماء» والآخر «البارد» کی تقوم بینهما نسبة خارجیة، بل هناک وجود واحد خارجی یصدق علیه مفهومان، نعم هناک فی الخارج طرفان أحدهما «الماء» والآخر «البرودة» فلذا تکون هناک نسبة خارجیة بین الماء والبرودة، لا بین الماء والبارد، ومن هنا یکون قولنا: «برودة الماء» دالاً علی نسبة ناقصة؛ لأنها نسبة خارجیة باعتبار أن موطنها الأصلی هو الخارج. أما قولنا: «الماء بارد» فهو دال علی نسبة تامة، لأنها نسبة ذهنیة باعتبار أن موطنها الأصلی هو الذهن.

ص: 173

فإذا اتضح ما ذکرناه نأتی إلی محل الکلام، أی: إلی النسبة التقییدة الثابتة فی قوله: «صلّ عند الزوال» بین الوجوب والزوال، فنقول: إن هذه النسبة نسبة ناقصة؛ لآن موطنها الأصلی هو العالم الخارج عن عالم الذهن والمفاهیم الذهنیة؛ فإن الوجوب وإن کان من موجودات عالم النفس، لکنک عرفت أن عالم النفس أیضاً خارج عن عالم الذهن والمفاهیم الذهنیة، فالجملة المذکورة تدلعلی نسبة بین واقع الوجوب ومصداقه وبین وافع الزوال ومصداقه، لا بین مفهوم الوجوب ومفهوم الزوال، ومن الواضح أن واقع الوجوب ومصداقه وکذلک واقع الزوال ومصداقه یُعتبران من موجودات العالم الخارج عن الذهن والمفاهیم الذهنیة، فإذا کان الموطن الأصلی لهذه النسبة هو الخارج، إذاً فهی نسبة ناقصة طبقاً للضابط الذی ذکرناه للنسبة الناقصة.

وعلیه، فالتمامیة التی نفهمها من قوله: «صلّ عند الزوال» إنما هی من شؤون هیئة «صل»، فلا تدل الجملة إذاً علی ربط الوجوب بالزوال، بل تدل علی حصة خاصة من الوجوب وهی الحصة المتقیّدة بالزوال، ومن الواضح أنه لا یجری الإطلاق فی الحصة، وبالتالی فلا یثبت تقید سنخ الوجوب وطبیعیه بالزوال کی یثبت المفهوم، بل تدل الجملة علی تقیّد هذه الحصة من الوجوب بالزوال، وبانتفاء الزوال تنتفی هذه الحصة وهذا لا ینافی ثبوت حصة أخری من الوجوب للصلاة رغم انتفاء الزوال.

وهذا بخلاف النسبة التقییدیة الثابتة بین الحکم والقید فی الجملة الشرطیة - مثل قوله: «إن زالت الشمس فصلّ» - فإنها نسبة تامة موطنها الأصلی هو الذهن، وذلک أما کونها تامة فبدلیل إمکان ورود النفی علیها بحیث یکون النفی منصبّاً علی مفاد الجملة الشرطیة بکاملها، لا علی مفاد الجزاء خاصة، وذلک بأن یقال: «لیس إذا زالت الشمس وجبت الصلاة». وکل نسبة یمکن أن یطرأ علیها النفی یمکن أن یطرأ علیها الإثبات؛ لأن النفی والإثبات یردان علی مورد واحد. إذاً فهذه النسبة یمکن أن تکون ذات مدلول تصدیقی وأن یطرأ علیها التصدیق بالنفی أو بالإثبات. وحینئذ تکون نسبة تامّة؛ لأن النسبة الناقصة یستحیل أن تکون ذات مدلول تصدیقی کما هو واضح. وأما أن موطنها الأصلی هو الذهن لا الخارج؛ فلأن المدلول التصدیقی المراد الجدی الواقع بإزاء هذه النسبة لیس هو الربط الواقعی الخارجی بین الجزاء والشرط، کی یتوهم أن موطنها الأصلی هو الخارج، فإن مفاد الجملة الشرطیة لیس هو الربط الخارجی، کما أنه لیس مفاد الجملة الحملیة أیضاً - مثل قولنا: «الماء بارد» - عبارة عن الربط الخارجی بین الموضوع والمحمول - کما تقدم - بل مفاد کلتا الجملتین عبارة عن النسبة التصادقیة، ففی القضیة الحملیة یقصد المتکلم بیان أن ما یصدق علیه الموضوع یصدق علیه المحمول، وفی القضیة الشرطیة یقصد بیان أنه کلما صدقت النسبة فی طرف الشرط صدقت النسبة فی طرف الجزاء، وبعبارة أخری یقصد بیان أن صدق النسبة فی طرف الجزاء یتوقف علی صدق النسبة فی طرف الشرط، ومن الواضح أن الصدق إنما هو من شؤون النسبة فی عالم الذهن، حیث أن الصدق من شؤون المفاهیم الذهنیة، وإلا ففی خارج الذهن لا تتصف النسبة بالصدق أو الکذب، وإنما تتصف بالوجود أو العدم.

ص: 174

وبالجملة فالمقصود بیانه فی القضیة الحملیة هو تصادق المفهومین فی عالم الذهن، والمقصود بیانه فی القضیة الشرطیة ه و تصادق النسبتین فی عالم الذهن، فالموطن الأصلی للنسبة التی تدل علیها القضیة الشرطیة هو الذهن، کما أن الموطن الأصلی للنسبة التی تدل علیها القضیة الحملیة أیضاً هو الذهن.

هذا کله فی الفرق الأول بین الجملتین، أی: الجملة التی یُبیّن فیها القید بلسان الشرط، والجملة التی یُبیَّن فیها نفس القید بغیر لسان الشرط.

الفرق الثانی: هو أن الرکن الأول من رکنی المفهوم تام فی الأولی دون الثانیة.

توضیح ذلک هو أن الرکن الأول لثبوت المفهوم کان عبارة عن دلالة الجملة علی توقف الحکم علی القید، وهذا الرکن متوفر فی الجملة الأولی الشرطیة باعتبار أن أداة الشرط دالة وجداناً علی توقف الجزاء علی الشرط - کما تقدم - بینما هو غیر متوفّر فی الجملة الثانیة لعدم بیان القید فیها بلسان الشرط؛ فلا وجدان یقضی هنا بالدلالة علی التوقف؛ لأن التقیید بکلمة «عند» لا یدل علی التوقف والتعلیق، کی یدل علی انتفاء الحکم عند انتفاء القید، بل یدل علی التحصیص فحسب، وتدل الجملة بکاملها علی حصة خاصة من الوجوب لا علی توقف الوجوب علی شیء؛ فلم یتمّ ضابط المفهوم.

وبهذا کله یصبح من الواضح تخریج عدم ثبوت المفهوم للقید المذکور بغیر لسان الشرط.

هذا تمام الکلام فی التنبیه الخامس.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.