القانون الدولی فی الاسلام

اشارة

سرشناسه : عمید زنجانی، عباسعلی، - 1316

عنوان و نام پدیدآور : القانون الدولی فی الاسلام/ تالیف عباسعلی العمید الزنجانی؛ تعریب علی هاشم

مشخصات نشر : مشهد: بنیاد پژوهشهای اسلامی، 1417ق. = 1375.

مشخصات ظاهری : ص 372

یادداشت : عربی

یادداشت : کتابنامه بصورت زیرنویس

موضوع : اسلام و دولت

شناسه افزوده : هاشم، علی، مترجم

شناسه افزوده : بنیاد پژوهشهای اسلامی

رده بندی کنگره : BP231/ع 83ق 2 1375

رده بندی دیویی : 297/4832

شماره کتابشناسی ملی : م 77-14491

ص:1

اشارة

ص:2

ص: 3

ص: 4

مقدِّمة الطبعة الثانیة

مقدِّمة الطبعة الثانیة

تلا صدور کتابنا «القانون الدولیّ فی الإسلام» الذی تولّت «دار أمیر کبیر للنشر» فی طهران طبعه ، واضطلع مجمع البحوث الإسلامیّة التابع للأستانة الرضویّة المقدّسة فی مدینة

مشهد بنقله إلی العربیّة ، تصنیفُ کتابین آخرین لإکمال مباحث القانون الدولیّ فی الإسلام . وهما «حقوق و قواعد مخاصمات در حوزه جهاد اسلامی» [ قانون النزاعات وقواعدها فی نطاق الجهاد الإسلامیّ ] و «اصول و مقررات حاکم بر مخاصمات مسلحانه» [ المبادئ والمقرّرات السائدة فی النزاعات المسلّحة ] . وهما ممّا کان یتعیّن تعریبهما أیضا لإتمام الکتاب المذکور . بَیدَ أنّ تعذّر هذا الأمر فی الفرصة القصیرة التی أُتیحت لإعادة طبع هذا الکتاب دفعنی إلی تلخیص مباحث هذین الکتابین لإلحاقها بالطبعة العربیّة الثانیة له ریثما

تسنح الفرصة لتعریبهما تعریبا تامّا .

وعلَیَّ أن أُذکِّر بأ نّی وُفّقت خلال هذه المدّة لتألیف کتاب آخر بعنوان «حقوق تعهدات بین المللی ودیپلماسی در اسلام» [ قانون المواثیق الدولیّة والدبلوماسیّة فی الإسلام ] ولا بدّ من تعریبه فی الطبعة القادمة للقانون الدولیّ فی الإسلام ، وإلحاق وجیزه به .

وتؤلّف هذه الکتب الأربعة - فی الحقیقة - مضافا إلیها کتاب «حقوق اقلیتها در فقه اسلامی» [ قانون الأقلّیّات فی الفقه الإسلامیّ] موسوعةً تامّةً تقریبا تحدّد الرؤیة الإسلامیّة لحقوق الإنسان فی الحروب والنزاعات المسلّحة بالحُسنی وتستبین شمولیّة النظام الحقوقیّ

الإسلامیّ فی القضایا الدولیّة .

والیوم إذ أقبل العالم علی الدراسات المقارنة فی الموضوعات المرتبطة بالنظام الدولیّ ،

ص: 5

وها هو یحاول إعادة النظر فی ترکیبة منظّمة الأُمم المتّحدة ، یتعیّن علی المفکّرین وأُولی

الرأی فی الفقه والنظام الحقوقیّ الإسلامیّ أن ینهضوا بوعیٍ وشجاعةٍ ، ویؤدّوا رسالتهم

الإسلامیّة منسجمةً مع الظروف الزمنیّة .

إنّ الشوط القصیر الذی قطعتُه طوال السنین الخمس والأربعین الماضیة من أجل هذه البضاعة المُزجاة ، وأرانی فی بدایة الطریق حتّی الآن ، قطرة مطر لا تؤتی أُکلها إلاّ بعد مسلک طویل وتموینات علمیّة وجهود عملیّة کبیرة ، إلاّ أن یغنینا اللّه من فضله ، وتتهیّأ

الظروف المناسبة ویُشفَع السلم والأمن العالَمیّ بالعدالة المنشودة .

وفی ختام هذه المقدّمة المختصرة أودّ أن أُقدِّم جزیل الشکر للأخ الفاضل المبجّل حجّة الإسلام والمسلمین إلهی خراسانی رئیس مجمع البحوث الإسلامیّة فی مشهد . کما یتعیّن علَیَّ أن أُعبِّر عن إعجابی وتقدیری لفضیلة الأُستاذ المترجم علی الأسدیّ حفظه

اللّه . وللّه درّه فی إیضاحه لمبهمات کلامی وقوّة بیانه ونسق ما سطّره وأظهر فیه ما خفی عنّی من فنون الکتابة والمبانی ... .

عبّاس علی العمید الزنجانیّ

صیف سنة 1428 ه

ص: 6

القسم الأوّل: نظرات فی القانون الدولیّ

اشارة

ص:7

ص: 8

الفصل الأوّل: بحوث تمهیدیة

عرض الموضوع

یری أهل الاختصاص أنَّ القانون الدولیّ هو من الفروع الجدیدة فی الحقوق ، ومن نتاج تفکیر سیاسی حقوقی علی الصعید العالمی . بید أنَّ دراسة العلاقات السائدة بین الشعوب والمجتمعات السیاسیّة فی الماضی السحیق تدلّ علی أنَّ جذور هذا الفرع الحقوقی

تعود إلی أعصار ضاربة فی عمق التاریخ البعید ، کما أنَّ الآداب والتقالید المألوفة فی العلاقات الخارجیّة للشعوب القدیمة المختلفة تحکی ظهورنوع من القانون الدولیّ فی المجتمعات السیاسیّة البدائیّة .

إنَّ أُوربا التی دأبت - بالرغم من الأدلّة التاریخیّة الدامغة - أن تنسب الفضل إلیها فی تدوین العلوم لتظهر بمظهر الوارثة للحضارة الجدیدة ، وصاحبة الامتیاز فی العلم والتکنولوجیا فی العالم المعاصر ، اتّبعت نفس السیاسة أیضا فیما یخصّ القانون الدولیّ ، إذ استأثرت بتدوینه . ولکنَّ حقوقیّین مشهورین من أمثال ابنهام وجورج سل(1) کانوا فی طلیعة من أزاح هذه الشبهة من خلال تقیید القانون الدولیّ بصفة ( الجدید ) ، لئلاّ یثبت خلاف ذلک لدی المتبحّرین من أهل الاختصاص ، ولا تثار مشکلة عند المعنیّین بمطالعة

ص:9


1- یقول ابنهام : إنَّ القانون الدولیّ الجدید ولید الحضارة المسیحیّة ؛ لأ نَّه ظهر لأوّل مرّة بین البلدان المسیحیّة .ویضیف جورج سل بأنَّ القانون الدولیّ قد ولد فقط فی الوسط المسیحی . فالذین یبحثون عنه فی العصور الأثریّة إنَّما هم یعبثون . لأ نَّهم لا یعثرون هناک إلاّ علی بقایا متفرّقة ومفکّکة من مسائل القانون الدولیّ . نقلاً عن کتاب حقوق بین الملل عمومی للدکتور خلیلیان : 67 - 68 .

کتبهم

. بید أ نَّهم لم یستطیعوا أن یقنعوا بعض الحقوقیّین من أمثال تونکین ( الحقوقی

العالمی المعروف فی الاتّحاد السوفیتی [ سابقا ] ) ولم یکن فی وسعهم أن یغیّروا بعض الحقائق العلمیّة والتاریخیّة کالفقه والتاریخ السیاسی فی الإسلام .

إنَّ فکرة الحکومة العالمیّة المثالیّة التی تعتبر من أعمق الأفکار السیاسیّة جذورا عند الناس ، وکذلک النقوش العائدة إلی العصور الأثریّة فیما یخصّ العقود والاتّفاقیات الخارجیّة

بین الشعوب ، والوثائق المتعلّقة بتاریخ الیونان القدیمة ، وتاریخ الروم فی القرون الوسطی ، کلّ ذلک دلیل علی الخلفیّة التاریخیّة المتأصّلة للقانون الدولیّ .

إنَّ الأُسلوب الذی قدّمه العالم الغربی فی تبیان القانون الدولیّ ومنظّمته ذات القانون ( منظمة الأُمم المتّحدة ) هو فی الحقیقة جسر مُوصِل یربط النظریّتین القدیمتین فیما بینهما بنمط محافظ ، دون أن یزیل التعارض الموجود بینهما . النظریّة الأُولی : تجانس الشعوب

وتعاونها فیما بینها وإزاحة عوامل التفرقة من أجل الوصول إلی حکومة عالمیّة واحدة

. أمَّا النظریّة الثانیة فترتکز علی حفظ سیادة الحکومات ، واستقلال الشعوب وانفصالها بعضها

عن بعض ، حیث تفسّر جمیع القیم العالمیّة مثل : السلم ، والأمن والعدالة فی ضوء ما تتبنّاه . وسنلاحظ فی البحوث القادمة أنَّ هذا الأُسلوب الحقوقی - السیاسی لم یعالج مشاکل المجتمع

البشری قطّ .

تعریف القانون الدولیّ

إنّ ذلک الفرع من علم الحقوق الذی یُسمّی هذا الیوم بالقانون الدولیّ هو قسم من القانون العامّ والقانون الخارجی ، حیث یعود تدوینه فی الغرب إلی أوائل القرن السابع

عشر . وقد طرأت علیه تطوّرات ، عُرِفَ - لأجلها - بأسماء مختلفة مثل : قانون الحرب

والسلم ، قانون الدول ، قانون الإنسان ، القانون العامّ فی أُوربا ، القانون السیاسی

الخارجی ، وأخیرا سمّاه الحقوقی الإنجلیزی بنتهام فی القرن التاسع عشر : القانون الدولیّ ، وأطلق علیه البعض مثل کانت اسم : قانون الدول ؛ لأنَّ المجتمع یتکوّن من حکومات العالم

المختلفة . والحکومات هی وحدها لها علاقات فیما بینها ، ودّیّة کانت أو عدائیّة(1) . ووصفت

ص: 10


1- « القانون الدولیّ العامّ » للصفدری [ فارسی ] 1 : 18 .

دائرة المعارف الخاصّة بالقانون الدولیّ الاستعمال الجدید لعنوان القانون الدولیّ کالآتی : مجموعة القواعد المُلزمِة التی تحکم العلاقات الخارجیّة(1) .

لقد کان اسم القانون الدولیّ - قبل الحرب العالمیّة عادةً - یطلق علی مجموعة القواعد التی تری الدول نفسها ملزمة بمراعاتها ، وتطبّقها فی علاقاتها بعضها مع البعض الآخر . ولکن بعد تأسیس المنظّمات الدولیّة ، والاتّفاق علی الحقوق والحرّیّات الأساسیّة

، ومعاقبة مرتکبی الجرائم الدولیّة أیضا ، کان لابدَّ من تعریف جامع یشمل العلاقات التی تربط

المنظّمات الدولیّة ، وحقوق الأشخاص وتکالیفهم . وهذا التعریف یقول :

القانون الدولیّ هو مجموعة القواعد التی تری الدول ، أی : الأعضاء الأصلیّون فی المجتمع الدولیّ ، نفسها ملزمة برعایتها . وتحدّد کیفیّة تأسیس المنظّمات الدولیّة وواجباتها ، وعلاقاتها بعضها بالبعض ، وبالحکومات . وفی بعض المواطن أیضا تحدّد حقوق الأفراد وواجباتهم .

وفی ضوء هذا التعریف ، فإنَّ القانون الدولیّ یشمل ثلاثة أقسام متمیّزة هی :

1 - العلاقات المتبادلة بین الحکومات فی إطار العلاقات الدولیّة .

2 - المنظّمات الدولیّة .

3 - الحقوق والواجبات الدولیّة لبعض الأفراد .

وبالنظر إلی نطاق القانون الدولیّ ، فقد رأوا أ نَّه قابل للتقسیم إلی ثلاثة أنواع : عالمی ، وعامّ ، وخاصّ . فالمقصود بالعالمی هو القواعد التی تکون مراعاتها ضروریّة لجمیع دول

العالم . أمَّا العامّ فهو القانون المهیمن علی علاقات الدول الکبری فی منطقة واسعة مثل أُوربا . وأمَّا الخاصّ فهو سائد فقط فی المناطق التی تدیرها حکومات إقلیمیّة ، مثل القواعد المتعلّقة باللجوء السیاسی التی تراعی فی عدد من الدول علی شکل قواعد محلیّة . إنَّ ذلک القسم من القانون الدولیّ الذی له بعد عالمی یشمل القواعد العامّة المرتکزة علی الأعراف

والآداب المقبولة عند معظم الحکومات ، وعلی المعاهدات التی تتّفق علیها جمیع حکومات

المجتمع الدولیّ .

لکلّ قاعدة من هذه القواعد دور خاصّ فی الخلافات الدولیّة . علی سبیل المثال ،

ص:11


1- نقلاً عن « القانون الدولیّ الإسلامی » [ فارسی ] ص 96 .

عندما نظرت محکمة العدل الدولیّة سنة 1950م فی الخلافات التی نشبت بین کولومبیا وبیرو

بشأن اللجوء السیاسی ، أقرّت قواعد محلیّة ( القانون الدولیّ الخاصّ ) ووضعتها موضع

التنفیذ(1) .

یقسم القانون الدولیّ من حیث نطاقه إلی قسمین متمیّزین هما : القانون الدولیّ العامّ ، والقانون الدولیّ الخاصّ . فالمقصود من القانون الدولیّ العامّ هو القواعد القانونیّة التی تحکم العلاقات بین الدول والهیئات الدولیّة ، وأحیانا بشکل استثنائی تشمل الأفراد أیضا علی

نحو عامّ . أمَّا القانون الدولیّ الخاصّ ، فإنَّه یخصّ علاقات الأفراد فی الحیاة الدولیّة علی أساس الحدود والجنسیّة(2) . وأهمّ شؤونه هی الشؤون المتعلّقة بالجنسیّة ، ووضع الأجانب ، وتعارض القوانین ، والتعارض فی صلاحیة المحاکم . إنَّ تعبیر القانون الدولیّ الخاصّ طرح لأوّل مرّة سنة 1834م من قبل أحد الحقوقیّین الأمیرکیّین بوصفه قرینة للقانون الدولیّ

العامّ(3) .

موضوع القانون الدولیّ العامّ

یذکر المختصّون - عادة - العلاقات الدولیّة فی مجال السلم والحرب بوصفها الموضوع الأصلیللقانون الدولیّ . ولکن فی ضوء التعریف المطروح للقانون الدولیّ - نظرا لاتّساعه

بعد تأسیس منظمة الأُمم المتّحدة وظهور المواثیق والمعاهدات الدولیّة المتنوّعة - فلابدَّ من اعتبار شؤون القانون الدولیّ أوسع من شؤون العلاقات الدولیّة . لأ نَّه علی أساس مثل هذه التعاریف التی ذکرنا نماذج منها فی البحث المتقدّم ، ما عدا العلاقات القائمة بین الحکومات ، مبدئیّا ، فإنَّ کیفیّة تأسیس البنیة التنظیمیّة الداخلیّة للنظام الدولیّ والعلاقات السائدة داخلها ، والهیئات التابعة لها ، وعلاقات الحکومات بهذه الهیئات ، وأحیانا حقوق

ص: 12


1- « القانون الدولیّ الإسلامی » [ فارسی ] ص 35 .
2- « القانون الدولیّ الخاصّ » للنصیری [ فارسی ] ص 1 .
3- هناک علاقة مباشرة بین شؤون القانون الدولیّ الخاصّ وبین القانون الدولیّ الداخلی ، ولکنَّه أحیانا یتّخذ طابع القواعد القانونیّة الدولیّة علی شکل معاهدات دولیّة ، ووفقا لتعریف دائرة المعارف الخاصّة بالقانون الدولیّ الذی یراه علی أ نَّه عبارة عن کلّ نوع من القواعد المُلزِمة المهیمنة علی العلاقات الدولیّة ، فإنَّ شؤون القانون الدولیّ الخاصّ تدخل فی نطاق القانون الدولیّ .

الأشخاص وواجباتهم أیضا فیما یخصّ مسائل من قبیل الجرائم الدولیّة فی القانون الدولیّ ، وکلّ ذلک ممّا یقع تحت طائلة البحث والتحقیق .

بالرغم من ذلک ، فإنَّ الموضوع الرئیس للقانون الدولیّ هو نفس العلاقات القائمة بین الحکومات التی- لهذا السبب - أطلق علیها الحقوقی الهولندیّ غروتیوس ( 1583 - 1645م ) مبتکر تدوین القواعد الخاصّة بالقانون الدولیّ اسم : قوانین الحرب والسلم . ومن هذا المنطلق یمکن اعتبار موضوع القانون الدولیّ هو الحرب والسلم ، فنظفر من ذلک

بالنتیجتین الآتیتین :

1 - علی عکس ما یزعمه الحقوقیّون الغربیّون ، لا غروتیوس الهولندی هو أبو هذا الفرع الحقوقی ومبتکره ، ولا غیره من علماء الغرب الآخرین ، إنَّه الفقه الإسلامی ذو الخلفیّة الممتدّة إلی أربعة عشر قرنا ، حیث أبدع بتقدیمه مباحث مدوّنة فی مجال الحرب

والسلم وآثارهما ، وطرح قواعد عامّة بشأن العلاقات الودّیّة والعدائیّة بین الحکومات ، وفی المقیاس العالمی أیضا .

2 - إنَّ اصطلاح الفقه الدولیّ فی الإسلام لیس تقلیدا للقانون الدولیّ عند الغربیّین . إذ تحتلّ القواعد المتعلّقة بالسلم والحرب موقعا معیّنا ومحدّدا فی المباحث الفقهیّة الإسلامیّة . وهذا العنوان ، علی عکس ما یتوهّمه جمع من الذین لیس لهم اطّلاع علی القانون والفقه

الإسلامی ، لا یعدّ کبعض العناوین المختلقة الکاذبة مثل الکومبیوتر ( الحاسب الإلکترونی ) الإسلامی أو المارکسیّة الإسلامیّة .

هدف القانون الدولیّ

لتحدید هدف القانون الدولیّ أو أهدافه علاقة مباشرة بالتعریف الجامع للقانون الدولیّ . إنَّ الذین حصروا القانون الدولیّ بالعلاقات القائمة بین الدول المختلفة

، أو بکلمة بدیلة ، بالأشخاص الدولیّین ، ذکروا ثلاثة أهداف لهذا الفرع الحقوقی ، وهی کما یأتی(1) :

ص: 13


1- نظریّة شارل روسو أُستاذ القانون الدولیّ فی کلّیّة الحقوق بفرنسا ، نقلاً عن کتاب « القانون الدولیّ العامّ » [ فارسی ] للدکتور محمّد صفدری 1 : 14 .

1 - تحدید صلاحیّة الدول ، لأنَّ لکلّ دولة فی حدودها الجغرافیّة المعیّنة والمعلومة صلاحیّة تطبیق القواعد والقیام ببعض الأعمال ، وهی عدیمة الصلاحیّة خارج تلک الحدود

( إلاّ فی المواضع الاستثنائیّة ) .

2 - تحدید العهود بین الدول ، التی ربّما لها بعد سلبی أو موجب . وهذه العهود تؤدّی إلی تحدید الصلاحیّات وفقا لمقرّرات القانون الدولیّ .

3 - تنظیم صلاحیّة الهیئات الدولیّة .

ولکن یمکن أن نعتبر هدف القانون الدولیّ أعلی من تحدید العهود وصلاحیّات الدول والهیئات الدولیّة وفقا للتعمیم الصادر بعد الحرب العالمیّة فیما یخصّ تعریف القانون الدولیّ وموضوعه . لأنَّ من أهداف القانون الدولیّ هو التحکیم الدولیّ ، وفضّ النزاعات الموجودة بین الدول من قبل المحاکم الدولیّة استنادا إلی الأعراف أو المعاهدات الدولیّة التی تقرّ بها الدول أو طرفا النزاع . وممّا یدخل فی دائرة الأهداف العامّة للقانون الدولیّ أیضا هو تحدید حقوق الأشخاص وواجباتهم فیما یخصّ بعض المسائل من قبیل الجرائم الدولیّة .

إنَّ الأهداف المذکورة آنفا هی - فی الحقیقة - أهداف سیاسیّة عامّة تعقبها أهداف أکثر تجذّرا ، بحیث إنَّ الذی یُستنبط من مجموع المناقشات التی دارت بین أنصار هذا الفرع

الحقوقی ومناهضیه فی مجال الضرورة الوجودیّة للقانون الدولیّ وفلسفته السیاسیة - هو أنَّ الهدف الأصلی من تنظیم القانون الدولی وتدوینه وتنفیذه هو الوصول إلی السلم والأمن العالمی . ومن الوضوح بمکان أ نّنا ما لم نضف عنصر العدالة إلی هذا المفهوم السیاسی ، أی : السلم والأمن العالمی ، فلا نستطیع أن نعتبرهما هدفین إنسانیّین قمینین ببذل الجهود

البشریّة .

علی هذا الأساس - من خلال النظر إلی قداسة السلم والأمن العالمی العادلین ومرغوبیّتهما الذاتیّة - یجب أن نعتبرهما الهدف الأخیر للقانون الدولیّ ، وکذلک لکلّ نظام عالمی ، ومن ثمَّ نستنتج بأنَّ قواعد القانون الدولیّ ینبغی أن تتمتّع بمثل هذه الصفة لتأمین هذا الهدف المقدّس ، وإلاّ فإنَّ التضارب بین الهدف والوسیلة سیضفی إلی محق أحدهما .

ص: 14

علاقة القانون الدولیّ بالعلوم الأُخری

إنَّ القانون الدولیّ - بناءً علی تعریفه وموضوعه وهدفه - تربطه علاقة حمیمة بالعلوم الأُخری . ویمکن أن نشیر هنا إلی العلوم الاجتماعیّة ( خصوصا علم الاجتماع ) ، وعلم

الاجتماع السیاسی ، وعلم السیاسة ، والتاریخ السیاسی للعالم ، وعلم النفس الدولیّ ، والاقتصاد ، والقانون الأساسی ، والقانون الدولیّ الخاصّ . لأنَّ للاهتمام الکافی بالمسائل المطروحة فی کلّ علم من العلوم المذکورة فی المقیاس العالمی ضرورة لا مندوحة منها فی

تبیان القواعد المهیمنة علی علاقات البلدان المختلفة .

لا یکفی فقط أن نقتصر فی مباحث القانون الدولیّ علی دراسة العلاقة الموجودة بینه وبین الدساتیر الداخلیّة ( دساتیر البلدان ) ، لأ نَّنا إذا کنّا وراء سلم دائم وعادل ، وأمن یستحقّه المجتمع البشری ، فلا ینبغی أن نفسّر ذلک بمقیاس علم الاجتماع والتاریخ وعلم

النفس والنظام الاقتصادی والعقیدی ، وسیادة دولة أو عدد من الدول النموذجیّة أو المقتدرة ، أو سیادة شعب نموذجی أو مقتدر . بل یجب ، من أجل تحقیق ذلک ، أن یکون

الملاک الأصلی هو القیم المشترکة والمتّفق علیها التی یمکن بلوغها من خلال توظیف العلوم

المذکورة فی صالح جمیع الشعوب .

حتّی یمکن القول بکلّ جرأة إنَّ الاتّفاقیّات المعقودة بین الدول لا یمکن أن تکون ملاکا لتحدید السلم والأمن بمفهومهما العادل . فما أکثر الدول التی لابدَّ لها من أمثال هذه

الاتّفاقیّات علی أساس الأجواء السائدة فی النظام الدولیّ . وما أکثر المواضع التی تتحدّد

من خلالها المفردات فی تفسیر السلم والأمن علی أساس حضارة القوی الکبری وأفکارها وقیمها السیاسیّة دون الاهتمام بالهویّة الثقافیّة والوطنیّة وسائر الخصوصیّات النفسیّة

والعقیدیّة والتاریخیّة والاقتصادیّة للشعوب الأُخری .

ولیس من العجب أن یکون النظام الدولیّ المعاصر ولید الاتّفاق الحاصل بین الدول الکبری ،ونتیجته هی توظیف قواعد القانون الدولیّ فی الاتّجاه الذی یحقّق الأهداف الخاصّة لتلک الدول . عند تعریفه للقانون الدولیّ ، یقیّد الحقوقی الإنجلیزی برایرلی ذلک التعریف بصفة التحضّر التی لها مفهوم خاصّ تماما فی المنظور الغربی ، فیقول : القانون

الدولیّ هو مجموعة القواعد والمبادئ التی تراعیها الدول المتحضّرة فی علاقاتها بعضها مع

ص:15

البعض(1) .

یقول استوارت میل ، وهو أحد المتخصّصین فی الشؤون الحقوقیّة فی الغرب : لا یمکن تحکیم القانون وجعله مهیمنا علی الشعوب غیر المتحضّرة . وهناک من قسّم العالم إلی ثلاث

مناطق متمیّزة وهو یری أنَّ لکلّ منطقة قانونها الخاصّ بها . وعلی هذا النسق ، فإنَّ أُوربا والمنطقة المتحضّرة من الدنیا یجب أن تتمتّع بحقوق سیاسیّة کاملة ، أمَّا الدول شبه

المتحضّرة فلها أن تتمتّع ببعض تلک الحقوق ، وأمَّا الآخرون فهم أصحاب الحقوق العادیّة

البسیطة التی لیس وراءها أی إلزام(2) . وأخیرا فإنَّ ابنهایم أُستاذ القانون الدولیّ فی جامعة

کمبرج یری بأنَّ القانون الدولیّ الجدید هو ولید الحضارة المسیحیّة ، ویعتقد بأنَّ انبثاقه یعود إلی ما قبل أربعمائة سنة ، وإلی العلاقات التی تربط البلدان المسیحیّة . ولم یشر أیّ إشارة إلی أساس القانون الدولیّ فی الإسلام(3) .

مصادر القانون الدولیّ العامّ

العرف هو أقدم مصدر أصلی للقواعد الحقوقیّة ، وحتّی الاتّفاقیّات الدولیّة التی هی ثانی مصدر للقانون الدولیّ ترتکز علی قاعدة العرف الدولیّ - فیما یخصّ الاحترام الإلزامی

للعهود . أمَّا المصدر الثالث المهمّ للقانون الدولیّ فهو المبادئ والقواعد العالمیّة التی جاءت فی الوثائق الدولیّة نحو : میثاق عصبة الأُمم ، ومیثاق منظّمة الأُمم المتّحدة ، وقانون محکمة العدل الدولیّة ، ومیثاق الهیئات الدولیّة ، واتّفاقیّات جنیف سنة 1958م ، وقرارات لجنة القانون الدولیّ .

إنَّ بعض مبادئ القانون الدولیّ وقواعده التی جاءت فی هذه الوثائق هی کالآتی :

1 - الاعتراف بحقوق الإنسان وقیمته واعتباره . وجاء ذلک فی مقدّمة میثاق عصبة الأُمم والبند الأوّل ، والثالث عشر ، والخامس والخمسین ، والثانی والستّین ، والثامن

والستّین ، والسادس والسبعین منه .

2 - حرّیّة الشعوب فی تقریر مصیرها . جاء ذلک فی البند الأوّل ، والخامس

ص: 16


1- نقلاً عن کتاب « القانون الدولیّ العامّ » [ فارسی ] 1 : 14 .
2- یرجع إلی کتاب « القانون الدولیّ الإسلامی » [ فارسی ] لجلال الدین فارسی ، ص 8 .
3- یرجع إلی کتاب « القانون الدولیّ الإسلامی » [ فارسی ] للدکتور خلیلیان ، ص 67 .

والخمسین منه .

3 - مساواة جمیع الأفراد والشعوب فی الحقوق . وردت فی المقدّمة والبند الثانی من المیثاق .

4 - عدم التدخّل فی الشؤون الداخلیّة للدول الأُخری . نصّ علی ذلک البند الثانی من المیثاق .

5 - احترام وحدة الأراضی لکلّ دولة واستقلالها . جاء ذلک فی البند الثانی من المیثاق .

6 - احترام العهود الدولیّة وتنفیذها بنیّة حسنة . ورد ذلک فی المقدّمة والبند الثانی من المیثاق .

7 - المحافظة علی السلم والأمن العالمی . جاء ذلک فی المقدّمة والبند الأوّل ، والحادی

عشر ، والرابع والعشرین ، والثالث والثلاثین حتّی الحادی والخمسین ، والسادس والسبعین منه .

8 - التعاون الدولیّ والتضامن المتبادل بین الشعوب . ورد ذلک فی المقدّمة ، والبند الأوّل ، والثانی ، والثالث عشر ، والخامس والخمسین منه .

9 - الحلّ السلمی للخلافات الدولیّة . ویلاحظ ذلک فی البند الثالث والثلاثین حتّی الثامن والثلاثین منه .

عندما لا توجد اتّفاقیّة محدّدة لحلّ الخلافات بین طرفین متنازعین ، فإنَّ معاهدة لاهای المؤرّخة فیالثامن عشر من تشرین الثانی عام 1908م ، التی تعتبر من الوثائق المرجعیّة فی القانون الدولیّ ، تکلّف المحکمة الدولیّة بالرجوع إلی المبادئ والقواعد المقبولة بشکل عامّ . وإلاّ فإنَّ المحکمة تتّخذ الإجراء اللازم لحلّ الخلاف وفقا للمبادئ العامّة

للقانون الدولیّ ، والعدل والإنصاف .

جاء فی البند الثامن والثلاثین من نظام المحکمة الدائمیّة للعدل الدولیّ الذی وافق علیه أعضاء منظّمة الأُمم المتّحدة فی نظام محکمة العدل الدولیّة بعد الحرب العالمیّة الثانیة ، أنَّ مصادر القانون الدولیّ والمبادئ والقواعد التی یجب أن یستند إلیها قضاة المحکمة فی تسویة

ص: 17

الخلافات الموجودة بین الدول ، قد أُخذت بعین الاعتبار کالآتی(1) :

أ - الاتّفاقیّات الدولیّة التی تتضمّن قواعد تعترف بها الدول المتنازعة صراحةً ، سواءً کانت عامّة أم خاصّة .

ب - الأعراف الدولیّة التی اتّخذت طابع القواعد القانونیّة لکونها مقبولة عند عامّة الناس .

ج - المبادئ القانونیّة العامّة المعترف بها من قِبَل الأُمم المتمدّنة .

د - آراء أکفأ الحقوقیّین والمؤلّفین التی یستفاد منها بوصفها مصدرا ثانویّا لتحدید القواعد القانونیّة .

ه - مبادئ العدالة والإنصاف التی یرجع إلیها حسب طلب الطرفین فی الحکم اللازم .

نظرة أُخری علی مصادر القانون الدولیّ

إنَّ المقرّرات العادیّة أو الأعراف فی القانون الدولیّ هی عبارة عن القواعد التی أقرّت بها الدول علی أ نَّها قواعد ملزِمة وذلک بسبب التکرار ، ونتیجة لاعتقاد الناس بضرورة

مراعاتها فی العلاقات الدولیّة . ویستنبط هذا اللون من قواعد القانون الدولیّ من خلال

عمل الحکومات وسلوکها فی العلاقات الدولیّة وأُسلوبها بشأن تسویة الخلافات الناشبة بین الدول المختلفة .

غیر أ نَّنا یجب أن نلتفت إلی هذه النقطة وهی أنَّ المقرّرات الدولیّة العادیّة والعرفیّة ، مع أصالتهاوتجذّرها ، لکنّها خلوّ من الصراحة والوضوح . ومن هذا المنطلق فإنَّ مقرّرات

الاتّفاقیّات الدولیّة تحظی - عادة - بامتیاز کبیر . ونجد فی بعض الموارد أیضا أنَّ إثبات قاعدة عرفیّة وعادیّة یواجه إشکالاً بسبب الاختلاف فی ما تستند إلیه من مصادر .

وکذلک لا یمکن تأمین الحاجات الملحّة والمتغیّرة فی العلاقات الدولیّة من خلال العرف بسبب البط ء فی تبلور قاعدة من القواعد القانونیّة فی العلاقات الدولیّة .

إنَّ دراسة مبادئ القانون الدولیّ وقواعده تدلّ أیضا علی أنَّ هذه المقرّرات هی إمَّا

ص:18


1- إنّ ما جاء فی نظام محکمة العدل الدولیّة هو فی الحقیقة أعمّ من مصادر القانون الدولیّ ، ومصادر أدلّة الحکم التی ترجع إلیها محکمة العدل الدولیّة . وقد ذکرنا هذه النقطة فی موضوع : نظرة أُخری فی مصادر القانون الدولیّ .

مأخوذة من القوانین الداخلیّة ( مثل مبدأ احترام الاتّفاقیّات ، ومبدأ تعویض الخسائر غیر المستحقّة ، ومبدأ عدم صلاحیّة محکمة من المحاکم للنظر فی دعوی مطروحة فی محکمة أُخری ) أو أ نَّها مبادئ یُرجع إلیها فی القانون الدولیّ . مثل : مبدأ تقدیم القانون الدولیّ علی القانون الداخلی ، أو مبدأ إثبات الحکومة ، أی : لا یکون تبدیل الحکومة ناقضا للعهود

الدولیّة .

لا شکّ أنَّ فی کلا الموضعین لا یمکن التعویل علی إقرار الحکومات علی أساس اختیارها أو اختیار الشعوب کشرط للقبول . وما لم تلتزم الحکومات بهذه المبادئ والقواعد القانونیّة من خلال معاهدة أو اتّفاقیّة ، فسوف لا تکون ملزِمة لها .

إنَّ التصوّر بأنَّ منظّمة الأُمم المتّحدة أو الجمعیّة العامّة هی بمثابة السلطة التشریعیّة

للمجتمع الدولیّ یتناقض مع مبدأ حقّ الشعوب فی تقریر مصیرها ، وعدم التدخّل فی الشؤون الداخلیّة لأیّ دولة ، والمساواة بین الشعوب ، وعدم استخدام القوّة والإکراه ، وکذلک فإنَّ کون الشیء مقبولاً فقط لدی الشعوب المتحضّرة فی العالم لإثبات إلزامیّة هذه

القواعد بالنسبة إلی دول العالم الثالث أو الدول المتخلّفة یمثّل نوعا من التمییز المجحف والقسر

اللامنطقی .

علی نفس النسق یمکننا أیضا أن نناقش النظام القضائی لإجراءات المحاکم الدولیّة ونظریّة الحقوقیّین - وإن کانت قد وردت بوصفها مصادر من الدرجة الثانیة - لأنَّ تبلور

النظام القضائی بطیء جدّا کالعرف ، وأحیانا یکون عدیم الاعتبار بسبب ممارسة الضغوط

المحسوسة وغیر المحسوسة علی الصعید العالمی ، والمواقف والأجواء المفتعلة اللامنطقیّة

لا سیّما فرض الدول الکبری سیطرتها کما نلاحظه هذا الیوم . مبدئیّا فإنَّ النظام القضائی ، سواء فی القانون الداخلی أو القانون الدولیّ ، لا یوجد قاعدة قانونیّة ، والرجوع إلیه فی معالجة الخلافات الحادّة یصطدم بمشکلة تفسیره وشبهة عدم تماثل القضایا والخلافات

.

إنَّ نظریّات الحقوقیّین ، لا سیّما إذا کانت مرتکزة علی آراء ونظریّات اجتماعیّة وسیاسیّة واقتصادیّة وعقیدیّة أساسیّة ، لایمکن أن تکون معیارا لاستنباط قاعدة قانونیّة

لحلّ الخلافات والمشاکل الدولیّة .

نظرا إلی التحلیل الموجز الذی ذکرناه بشأن مصادر القانون الدولیّ ، لذلک یمکننا أن

ص: 19

نلمس هذه النتیجة بوضوح ، وهی أ نَّه لو کانت العدالة والحقّ والإنصاف هی الملاکات الأصلیّة فی العلاقات الدولیّة ، فلا یتسرّب فی أنفسنا الشکّ بأنَّ کلّ لون من الإلزام الذی یتنافی مع روح الحرّیّة ، والمساواة بین الشعوب ، واستقلال الشخصیّة الإنسانیّة واحترامها

هو ملغی ولیس له اعتبار . هذه المبادئ تقتضی المساواة والمحافظة علی اختیار الشعوب وإرادتها فی جمیع العهود الدولیّة . ولا یمکن تأمینها أیضا إلاّ عن طریق المعاهدات المتوکّأة علی رضا الطرفین .

إنَّ الرجوع إلی کثیر من المواضع المشکوکة أو المعلومة للقواعد العرفیّة لا سیّما قواعد

العرف الخاصّة للدول القویّة المتطوّرة والمتمدّنة التی تری لها حقّ السبق ، وحقّ تقریر

مصیر الآخرین ، وکذلک الرجوع إلی مصادر من قبیل المبادئ والقواعد القانونیّة المقبولة

من قبل مثل هذه الدول أو النظم القضائیّة فی المحاکم الدولیّة الفلانیّة ، والنظریّات المرتکزة علی الرؤی الهادفة ، کلّ ذلک لا ینسجم مع المبادئ المذکورة ، وخصوصا مبدأ المساواة

واستقلال الشعوب .

حتّی لو ناقشنا العلاقات الجائرة وغیر المتکافئة للدول المتسلّطة والمقتدرة مع الدول الأُخری ، فإنَّنا یجب أن نشکّک فی مشروعیّة الاتّفاقیّات والمعاهدات والمواثیق الدولیّة

أیضا . لأنَّ الدول الکبری ، بتوکّؤها علی قدراتها الاقتصادیّة والإعلامیّة ، والسیاسیّة ، والعسکریّة ، تفتعل ظروفا معیّنة للدول الأُخری بحیث لا تجد أمامها فی هذا الإطار المصطنع والطرق المسدودة إلاّ طریق المساومة والتبعیّة والإذعان للظروف القائمة . والواقع

أن کثیرا من دول العالم تتنازل عن الحدّ الأعلی من حقوقها الوطنیّة لحفظ الحدّ الأدنی منها

( دفع الأفسد بالفاسد ) وتستسلم للقسر المفروض علیها .

عند تحلیل المصادر الواردة فی البند الثامن والثلاثین من نظام محکمة العدل الدولیّة ، لا یکفی أن یقال إنَّ الموارد المذکورة فی هذا البند هی الأسباب المشروعة لحکم محکمة العدل الدولیّة ، لأنَّ هذا الموضوع - من منظور قانونی - یقبل المناقشة والتشکیک .

ص: 20

الفصل الثانی: نظرة نقدیّة علی القانون الدولیّ المعاصر

ضرورة التوصّل إلی قانون دولیّ عادل

إنَّ مفردات الخصومة والانتهاک ، والظلم السائدة فی علاقات الأُمم والشعوب لیست أقلّ - أبدا - ممّا هی علیه فی العلاقات التی تسود أفراد المجتمع الواحد أو الشعب الواحد . والحاجة إلی قواعد قانونیّة ومقرّرات عادلة لتنظیم العلاقات القائمة بین الأُمم والشعوب ، إن لم تکن أکثر وأمسّ من حاجة المجتمع أو الشعب إلی العدالة القانونیّة ، فهی - بلا ریب - لیست أقلّ منها ؛ لأنَّ حجم الظلم - کمّا ونوعا - المنبثق عن غیاب نظام قانونی علی الصعید

العالمی ، هو أشدّ وأکثر خطورة بدرجات ممّا یماثله علی صعید أحد الشعوب أو إحدی الدول .

إنَّ الأرض موطن فسیح لحیاة کلّ جیل من الأجیال الإنسانیّة . وکلّ وحدة من الوحدات البشریّة ( الشعوب - الحکومات ) إذا کانت قد استطاعت یوما ما أن تعیش حیاة مستقلّة ، وواصلت حیاتها الاجتماعیّة بمنأی عن الآثار الاجتماعیّة والسیاسیّة والاقتصادیّة والعسکریّة لحیاة الوحدات الأُخری ، فإنَّ هذا الأمر أضحی عسیرا ومستحیلاً فی حیاتنا المعاصرة ، إذ إنَّ المجتمعات البشریّة اتّخذت طابع الأُسرة الواحدة ، ولها أواصر متشابکة وعلاقات لا مندوحة لها منها أحکمت وثاق حیاتها ومصیرها ، وربطت بعضها ببعض .

لا یمکن أبدا أن تستقرّ هذه العلاقات وتتوطّد بالأسالیب السیاسیّة المتوکّئة علی

ص: 21

الدبلوماسیّة المتأرجحة . فالمجتمع الدولیّ کالمجتمع القومی بحاجة إلی قواعد قانونیّة ونظام عادل بحیث یکون قادرا علی ترسیخ السلم العادل ، وحفظ حقوق الشعوب فی مقابل الأسالیب السیاسیّة العدائیّة والمتباینة للحکومات ، والآراء والسیاسات التی ینتهجها قادة البلدان المختلفة .

لو أُقرّت نظریّة ثبات الحکومات واستمرارها کمبدأ ، فلابدَّ من اعتبار العثور علی حلّ قانونی لتنظیم العلاقات بین الحکومات أمرا حتمیّا لا مناص منه . من جهة أُخری فإنَّ

اتّساع العلاقات والاتّصالات الدولیّة فی الأبعاد السیاسیّة ، والثقافیّة ، والاقتصادیّة ، وحتّی العسکریّة ، قد ولّد أرضیّة شاذّة وغیر سلیمة للاستعمار والاستغلال والتسلّط

بألوان متنوّعة ملموسة وغیر ملموسة . فلا شکّ أنَّ محق آثار جمیع المظالم من الوسط

العالمی ، وأکثر من ذلک فإنَّ القضاء علی الأرضیّة الجائرة المضادّة للإنسانیّة یشدّد من حاجة المجتمع الدولیّ إلی العثور علی حلّ قانونی ، والظفر بنظام قانونی عادل فی المقیاس

العالمی أکثر من السابق . وغنیّ عن البیان بأنَّ الحدیث عن القیم العلیا مثل السلم والعدل والأمن الدولیّ خارج نطاق هذا النظام القانونی الدولیّ الشامل سوف یکون شعارا فحسب .

إنَّ الحضور الفاعل للقوی المتسلّطة فی الساحة الدولیّة ، ووجود المصانع الحربیّة الضخمة لإنتاج الأسلحة الذرّیّة والکیماویّة الرهیبة والمعقّدة فی أنحاء العالم حیث تدیرها تلک القوی المتسلّطة التی قامت بتأسیسها . وکذلک ما نلمسه من مراکز التوتّر والاختلافات العقیدیّة الحادّة ، والمصادمات السیاسیّة والعسکریّة هنا وهناک ، وعشرات

الأسباب الأُخری للتوتّر ، کلّ ذلک یقتضی ضرورة تنظیم القواعد العادلة للقانون الدولیّ .

لقد أثبتت الحربان العالمیّتان الکبریان کیف تتزعزع العلاقات الدولیّة السلمیّة وتکون عرضة للضرر حیال الأطماع والسیاسات التی تنتهجها القوی المتسلّطة ، وحتّی حیال تفکیر سیاسی لأحد السیاسیّین أو لجمع منهم . ولهذا السبب نجد النظام الدولیّ بعد

الحرب العالمیّة الثانیة قد اتّسم بالطابع العامّ بعدما کان یمثّل حالة خاصّة للنظام الأُوربی الدولیّ ، وشمل نطاقه الجغرافی العالم بأسره . ویفاقم نظام القطبین فی السیاسیّة الدولیّة هذا الیوم خطر المصادمات ونشوب التوتّرات أکثر من الماضی ، کما یطرح الحاجة إلی نظام

ص: 22

دولیّ فی مستوی الضرورة الملحّة .

للنظام تعاریف وتطبیقات متنوّعة . فإذا أردنا مفهوم النظام فی قالبه القانونی ، فلا ریب أ نَّه ینبغی أن یکون منسجما مع نظام من النظم الاجتماعیّة ، لکی تکون جمیع

أجزائه المکوّنة له مترابطة بعضها بعضا وفقا لخطّة معیّنة تبیّنها قواعد النظام القانونی . وهکذا فإنَّ النظام القانونی یعطی لمجموعة من المجموعات الاجتماعیّة صورة معیّنة

، ویحدّد نظامها بدقّة .

وعندما نستخدم کلمة النظام فی مجموعة دولیّة شاملة لوحدات سیاسیّة مستقلّة ومتعدّدة ، فإنّنا - شئنا أم أبینا - نأخذ بنظر الاعتبار فی أذهاننا خطّة تحدّد العلاقات التی تربط هذه الوحدات ، بحیث یتعیّن شکل السلطة وکیفیّة تقسیمها والنطاق الجغرافی للوحدات السیاسیّة ( الأقطار والحکومات ) ، وکیفیّة التعاون أو المعارضة ، والعلاقات

الأُخری بین الوحدات فی إطار من القواعد القانونیّة والمقرّرات العلیا المنظورة فی تلک

الخطّة .

بالنظر إلی الوضع المعاصر فی العالم وسیر التطوّرات التی شهدناها بعد الحرب العالمیّة الثانیة ، فلا ریب أنَّ المجتمع الدولیّ لابدَّ له من هذا المشروع وهذا النظام الدولیّ . ورأینا أنَّ نظام القطبین فی السیاسیّة الدولیّة کالحرب العالمیّة ، أوجد بعض التشویشات فی نظریّة

القانون الدولیّ لمدّة ، وأخیرا حلّ محلّه التعاون التکتیکی وأحیانا الاستراتیجی فی

علاقات الدولتین العظمیین . وأنَّ الاطّلاع علی النتائج الخطیرة لحرب ذرّیّة محتملة بین

قطبی السیاسة الدولیّة ، بدون أن تسفر عن شلّ القدرة ونزع السلاح ، قد قلّص -

کحدّ أدنی - من شأن فاعلیّة القوّة العسکریّة فی السیاسیّة العالمیّة . وبالرغم من التعارض

الموجود فی مصالح الدولتین العظمیین ، فإنَّه أرغمهما علی حفظ المصلحة المشترکة وهی

الاحتراس من الحرب الذرّیّة . وتمخّض ذلک عن سیاسة الردع وتوازن الرعب وتخفیف حدّة التوتّر . ولقد أثبت ذلک بوضوح لنتاج الأسلحة الاستراتیجیّة والصواریخ عابرة القارّات ، فیما تضرّرت من جرّائه جمیع الدول العظمی وعملائها وحلفائها . وذوت الثقة

بالحلول العسکریّة والسیاسیّة تدریجا . وأضحت حرکة عدم الانحیاز حرکة متعاظمة یوما بعد یوم لا سیّما بین الدول المستقلّة حدیثا حین تری مصالحها فی تفادی الاصطدامات

ص: 23

القائمة بین الشرق والغرب . وأصبحت بعض الأساطیر مثل المظلّة الذرّیّة الأمیرکیّة فی عداد السفاسف التی لا طائل تحتها . وتبدّل النظام الدولیّ برمّته منذ أواخر السبعینات . وتجلّت ضرورة التوکّؤعلی نظام قانونی عادل علی الصعید العالمی بشکل أوضح .

وقد دلّت التطوّرات التی حصلت إبّان الثمانینات أ نَّه بالإضافة إلی الدول العظمی ، فإنَّ الدول الأُخری یمکن أن تلعب دورا أساسیّا فی الأحداث العالمیّة(1) . کما برهنت أیضا علی استتار التناقضات العقیدیّة للدول الکبری ، وأصبح لبعض الدول - بالرغم من ضعفها

النسبی فی المجال العسکری - نفوذ وشأن کبیر فی مثل هذه الظروف . وصعّد صدی الإخفاق

الذرّی فی علاقة الدول الکبری واستحالة استخدام الأسلحة الاستراتیجیّة من أهمیّة القضایا الاقتصادیّة وشأنها . وما ظهور الیابان وبلدان أُوربا الغربیّة کقوّة ثالثة فی الساحة الدولیّة إلاّ مثال علی ذلک .

إنَّ الدولتین العظمیین ، وإن کانتا - استراتیجیّا - قادرتین - کما فی الماضی - علی

تدمیر إحداهما الأُخری ، بل تدمیر العالم برمّته تقریبا ، والأسلحة الذرّیّة ، وإن کانت لا تزال تعتبر من أرکان السیاسة فی العالم ، بحیث إنَّ الکثیرین یتصوّرون بأنَّ التشبّث بنظام قانونی هو أمر واهٍ وعقیم کعقد الأمل علی الحلول العسکریّة والسیاسیّة فی النزاعات الدولیّة ، ولم تعد الاستفادة من نظام القانون الدولیّ العادل إلاّ متأخّرة أیضا ، بید أنَّ دراسة ما وقع من أحداث علی الصعید العالمی فی القرن الأخیر - کحدّ أدنی - والتطوّرات السریعة

المتتابعة التی حصلت فی توازن القوی تستدعی أن تکون الظروف المعاصرة فی الساحة الدولیّة متقلقلة . من هذا المنطلق ینبغی التطلّع إلی آخر طموح ومطلب یهدف إلیه الإنسان ، وهو العیش فی ظلّ نظام قانونی عادل ، واعتبار ذلک هو الحلّ الأصلی الوحید

لضمان السلم العادل فی العالم .

إنَّ وجود الدول المتوسّطة ذات التکنولوجیا العسکریّة التقلیدیّة التی تطمح لتصنیع أرقی الأسلحة ، ویمکن أن تلتحق متی شاءت برکب القوی الذرّیّة خلال فترة قصیرة ، سیقضی - بالتدریج - لیس علی الهیبة الأُسطوریّة للقوی العسکریّة فحسب ، بل سیحبط

ص: 24


1- فی هذا المجال فإنَّ دور أقطار العالم الثالث والدول الأعضاء فی حرکة عدم الانحیاز جدیر بالدراسة حیث إنَّها قد أخلّت بعلاقات الدول الکبری فی بعض الصراعات الدولیّة ، وأوجدت لها مراکز معیّنة . وکذلک فإنَّ دور الثورة الإسلامیّة بوصفها قطبا جدیدا فی السیاسة العالمیّة جدیر بالتأمّل .

الدور المتزعزع للمشاریع السیاسیّة الیومیّة القصیرة الأجل والطویلة الأجل التی تتوکّأ - آخر المطاف - علی قدراتها العسکریّة أیضا ، ویفقده شأنه .

الأسالیب العسکریّة والسیاسیّة والقانونیّة الدولیّة

بکلمة بدیلة ، لا شکّ أنَّ النظریّة الثالثة من بین النظریّات الآتیة هی أکثر استمراریّة ومنطقیّة ، وأکثر انسجاما مع الواقعیّات المادّیّة الملموسة من أجل إخماد نار التوتّر وإزالة التشنّج وضمان السلم والأمن علی الصعید العالمی .

1 - إیجاد التوازن عن طریق سباق التسلّح وتوسیع التکنولوجیا العسکریّة والأسلحة المتطوّرة ممّا یتطلّب الارتداع عن استخدام السلاح والأسالیب العسکریّة . لأنَّ

مثل هذا النوع من الأسلحة الذرّیّة والصواریخ الموجّهة والأدوات الإلکترونیّة المعقّدة

لا یحمل معه إلاّ الذعر الذی یقتضی الارتداع عنه . ولمّا کان یتطلّب تکالیف باهظة ومجازفات خطیرة فی إنتاجه والمحافظة علیه ، لذلک لا یمکن تسویغ المبادرة إلی استخدامه بأیّ منطق وباعث کان ، وما هی إلاّ هذه التکالیف والمجازفات التی جعلت الحرب أمرا مستحیلاً بالنسبة إلی الطامعین والمعتدین .

2 - التوکّؤ علی السیاسات المتزعزعة والمتکیّفة مع الظروف ، واستخدام الأسالیب السیاسیّة والمشاریع والخطط المؤقّتة ، واستثمار الطرق التقلیدیّة مثل : الحمایة

، والوساطة ، والمساومة التی یمکن توظیفها بشکل من الأشکال وتحت أیّ ظرف ، من أجل إزالة التوتّر ، وحلّ الخلافات ، وضمان السلم والأمن فی المقیاس العالمی .

3 - الوصول إلی نظام قانونی عادل فی تنظیم العلاقات الدولیّة یکون - کالنظام القانونی الخاصّ ، والداخلی العامّ - مرجعا لتنظیم السلطة وتأمین حقوق الشعوب علی

الصعید العالمی . ویتمتّع أیضا بمجموعة من الأجهزة والدوائر والمؤسّسات اللازمة للتقنین

وتنفیذ القواعد القانونیّة العادلة ، والحکم فی المنازعات والخلافات الدولیّة .

یتّضح لنا الآن - بکلّ جلاء - أنَّ الأُسلوب الثانی ، فی الوقت الذی لا یتمتّع بضوابط مأمونة ، ویتّسم بطبیعته المؤقّتة ، یتوکّأ - آخر أمره - علی الأُسلوب الأوّل . أمَّا الأُسلوب الأوّل فهو - حسب ما تشهد به الحقائق القائمة - أحد البواعث علی التشنّج والتوتّر والحرب

ص: 25

وفقدان الأمن فی العالم . واللجوء إلی هذا الأُسلوب هو فی الحقیقة شکل آخر لاستخدام القوّة العسکریّة فی حلّ الخلافات الدولیّة .

النظم القانونیّة الدولیّة ( النظام القائم )

یمکننا دراسة نظام القانون الدولیّ خلاف النظریّات الثلاث الآتیة :

النظریّة الأُولی : منظمة الأُمم المتّحدة : إنَّ المشروع المنظّم مع نظریّة اتّحاد الدول ، هو النظام المتداول هذا الیوم ، حیث إنَّ بلدان العالم - من خلال عضویتها فی منظّمة عالمیّة

واحدة تحمل اسم منظّمة الأُمم المتّحدة - تنظّم علاقاتها علی أساس سلسلة من المقرّرات

المرتکزة علی المواثیق والاتّفاقیّات الدولیّة ، کما تتمسّک بقوانین السلم والأمن الدولیین .

لقد وضع هذا المشروع موضع التنفیذ مرّتین لحدّ الآن . الأُولی : بعد الحرب العالمیّة الأُولی باسم عصبة الأُمم . والثانیة : بعد الحرب العالمیّة الثانیة باسم منظّمة الأُمم المتّحدة .

إنَّ

القانون الدولیّ وفقا لهذا المشروع هو عبارة عن الترجمة العلمیّة للقواعد والمقرّرات الواردة فی المواثیق والمعاهدات المتعلّقة بمنظّمة الأُمم المتّحدة . أو أ نَّه یتّخذ فی المستقبل طابع المعاهدة المتّفق علیها بین الشعوب علی أساس الحاجات الدولیّة والمصالح

العامّة .

تستمدّ نظریّة النظام الدولیّ وجودها من تدوین مجموعة من الاتّفاقیّات الجماعیّة المعترف بها من قبل الحکومات . أمّا المصادر الأُخری للقانون الدولیّ الواردة فی البند الثامن والثلاثین من قانون محکمة العدل الدولیّة ، مثل العرف الدولیّ ، والمبادئ القانونیّة العامّة ، والقرارات القانونیّة ، وآراء علماء القانون ، فإنَّها لا تحتلّ لها موقعا فی النظام الدولیّ المعاصر ما لم تتّفق علیها الحکومات .

وفقا للبند الثالث عشر من میثاق الأُمم المتّحدة ، فإنَّ علی الجمعیّة العامّة لمنظمة الأُمم المتّحدة أن تهیّئ الأرضیّة اللازمة للقیام بدراسات معیّنة فی حقل التوسیع الدریجی

للقانون الدولیّ وتدوینه ، وإصدار التوصیات بهذا الشأن . وتنفیذا لمفاد هذا البند ، أصدرت الجمعیّة العامّة فی الحادی والعشرین من تشرین الثانی عام 1947م قرارا بتشکیل اللجنة الدائمیّة للقانونیّین تحت اسم : لجنة القانون الدولیّ .

ص: 26

وفی المواضیع التی تری فیها الجمعیّة العامّة أنَّ المشاریع المقترحة من قبل اللجنة المذکورة صالحة للتصویت علیها ، فإنَّها تدعو البلدان المختلفة لحضور مؤتمر یعقد بهذا

الشأن لتتّخذ القرار الأخیر .

لقد طُبِّق أوّل مؤشّر لهذا المشروع فیما یخصّ منظّمة الأُمم المتّحدة بعد الحرب العالمیّة

الثانیة وذلک فی الخامس والعشرین من نیسان 1945م بعد مشارکة ممثّلین عن خمسین دولة فی مؤتمر الأُمم المتّحدة . وتمَّ فی هذا المؤتمر تنظیم میثاق الأُمم المتّحدة المکوّن من مائة وأحد عشر بندا . وفی الخامس والعشرین من حزیران من نفس تلک السنة وافق الحاضرون بالإجماع علی ذلک المیثاق فی جلسة عامّة عقدت لأجل ذلک .

إنَّ محکمة العدل الدولیّة التی تمثّل الجهاز القضائی الرئیس لمنظّمة الأُمم المتّحدة

، ووفقا لورقة العمل التی تعتبر جزءا لا یتجزّأ من میثاق الأُمم المتّحدة ، یمکن أن تکون فی صالح الدول المختلفة فیما إذا أقرّت هذه الدول بقوانینها .

أمَّا مجلس الأمن الذی یمثّل - فی الحقیقة - جهاز الشرطة والقوّة القسریّة والضامن التنفیذی لمنظّمة الأُمم المتّحدة ، فإنَّه یتولّی مهمّة حفظ السلم والأمن الدولیّین وفقا لمبادئ المنظمة وتعلیماتها . وقد کلّف أعضاء المنظمة مجلس الأمن بهذه المهمّة وفقا لمیثاق الأُمم المتّحدة .

یستطیع مجلس الأمن النظر فی کلّ خلاف أو حالة یمکن أن تفضی إلی مصادمات واشتباکات دولیّة . ویصدر التوصیات اللازمة بشأن حلّ هذه الخلافات أو وضع حدّ لها . وتُنفّذ إجراءات مجلس الأمن بحقّ کلّ بلد أقرّ - أوّلاً - بالالتزامات المتعلّقة بالحلّ السلمی للخلافات ، المذکورة فی میثاق الأُمم المتّحدة ، سواء کان عضوا أم لم یکن . ویمکن للجمعیّة

العامّة أو الأمین العامّ لمنظّمة الأُمم المتّحدة أن یلفت نظر مجلس الأمن إلی الخلافات

والأوضاع التی یمکن أن تهدّد السلام والأمن الدولیّین .

ویستطیع مجلس الأمن أن یحدّد الخطر الذی یهدّد السلم ، ونقض السلم ، أو یحدّد حالة الانتهاک والاعتداء . وله أن یصدر توصیاته بشأن إقرار السلم والأمن الدولیّین

وحفظهما أو یتّخذ التدابیر القسریّة بشأن ذلک . ویمکن أن تشمل هذه التدابیر طلب مجلس

الأمن من الأعضاء ممارسة ضغوط اقتصادیّة علی الطرف المعنیّ أو أیّ تدابیر وإجراءات

ص:27

أُخری لا تؤدّی إلی استخدام القوّة العسکریّة . وإذا ما رأی المجلس أنَّ هذه التدابیر غیر

کافیة ، ففی مقدوره أن یتّخذ إجراءً عسکریّا ضدّ المعتدی . وما علی الأعضاء إلاّ وضع

القوّة العسکریّة والتسهیلات اللازمة تحت تصرّفه .

یتکوّن مجلس الأمن من خمسة أعضاء دائمیّین یمثّلون الولایات المتّحدة الأمیرکیّة ، وانجلترا ، والاتّحاد السوفیتی [ سابقا ] ، والصین ، وفرنسا . وعضوین مؤقّتین ینتخبان من قبل الجمعیّة العامّة لمدّة سنتین .

تمَّ لحد الآن إعداد وتنظیم موضوعات مختلفة فی مجال القانون الدولیّ علی شکل اتّفاقیّات ومعاهدات ، وذلک بفضل جهود الحکومات والهیئات الدولیّة . ویمکن أن نذکر

منها ما یلی :

1 - معاهدات واتّفاقیّات تتعلّق بالحلّ السلمی للخلافات الدولیّة . ( سبع فقرات ) .

2 - معاهدات واتّفاقیّات تتعلّق بقانون الحرب . ( ستّ فقرات ) .

3 - معاهدات عدم التعرّض والاعتداء . ( فقرتان ) .

4 - مقرّرات قانون البحار . ( ستّ فقرات ) .

5 - مقرّرات قانون الجوّ . ( فقرة واحدة ) .

6 - معاهدات الأمن الجوّی والقرصنة الجویّة . ( ثلاث فقرات ) .

7 - معاهدات قانون القضاء . ( ثلاث فقرات ) .

8 - معاهدات نزع السلاح وتجدید الأسلحة والحؤول دون تصنیع الأسلحة الجرثومیّة والکیمیاویّة وتخزینها . ( سبع فقرات ) .

9 - معاهدات تتعلّق بالعلاقات السیاسیّة والقنصلیّة . ( ثلاث فقرات ) .

10 - مقرّرات ومعاهدات تتعلّق بالوقوف ضدّ التمییز العنصری والطائفی . ( فقرتان ) .

11 - اتّفاقیّات حول إلغاء الرقّ . ( فقرتان ) .

12 - إعلان حقوق الإنسان . ( ثلاث فقرات ) .

13 - اتّفاقیّات حول اللجوء السیاسی . ( فقرتان ) .

14 - میثاق یتعلّق بقانون الاتّفاقیّات والمعاهدات . ( فقرة واحدة ) .

ص: 28

الضعف النظری فی النظام المعاصر للقانون الدولیّ

یمکننا دراسة النظریّة المتعلّقة بالقانون الدولیّ علی أساس نظام منظّمة الأُمم المتّحدة من الوجهة النظریّة مرّة ، ومن الوجهة العملیّة مرّة أُخری .

فمن الوجهة النظریّة ، یبدو أنَّ الأساس القانونی لهذه النظریّة ، أساس مشروع إذ إنَّه

مبدأ موافقة الحکومات وقبولها . وهذا المبدأ یبدو رائعا للغایة من حیث محافظته علی حرّیّة الشعوب ومساواتها التی تعنی إبطال منطق القوّة والتمییز فی المقیاس العالمیّ . بید أ نّنا یمکننا أن نقف علی مواطن الضعف الخافیة فی هذا المبدأ من خلال التدقیق فی طبیعة الموضوع

. ونشیر هنا إلی عدّة نقاط کأمثلة علی ما نقول :

1 - إنَّ النظام القانونی المرتکز علی مبدأ الاتّفاق والقبول یمکن أن یُفهَمَ فقط أ نَّه طریق باتّجاه تعطیل مفعول الحرب وممارسة أسالیب القوّة . علما بأنَّ نظام منظّمة الأُمم المتّحدة قد جاء بالضبط بعد الحربین العالمیّتین ونال من اهتمام الشعوب للتخلّص من ویلات الحرب المدمّرة وإنقاذ البشریّة من الوقوع فی فخّ الحرب العالمیّة الثالثة(1) . ولکن کلّنا نعلم بأنَّ مشکلة الإنسان لیست الحرب وحدها . وإنَّما المسألة المهمّة عنده هی وعیه وتکامله

، وینبغی أن تکون الحیاة میسّرة للشعوب علی الصعید العالمی بشکل یستطیع کلّ شعب أن یجد طریق نموّه وتکامله فی مسیرة الحیاة الدولیّة ، وأن لا یصطدم بعقبة فی هذا الطریق .

فالاستکبار أکبر عقبة تحول دون وعی الشعوب وتنامیها فی میدان الحیاة الدولیّة . فما هو الحلّ الذی یقدّمه النظام القانونی المرتکز علی مبدأ الاتّفاق لهذه المشکلة الکبیرة ؟

2 - إنَّ مبدأ الاتّفاق والقبول ، وإن کان مبدأً محترما ومستساغا ، لکنّه علی عکس التصوّر السائد ،لا یمکنه أن یکون وحده محافظا علی حرّیّة الشعوب ومساواتها ، فما أکثر ألوان الاتّفاق والقبول التی تنشأ عن ظروف مفروضة ، وعن الاضطرار . ولا یرضخ لها أیّ

إنسان وأیّ شعب فی الظروف الاعتیادیّة والاختیاریّة !

إنَّ معظم الاتّفاقیّات المعقودة بین القوی الکبری والشعوب الضعیفة المحتاجة هی من نوع الاتّفاقیّات المفروضة . إذ ما أکثر المواقف التی انقاد فیها شعب من الشعوب لمعاهدة أو

ص:29


1- نحن شعوب الدول الأعضاء آلینا علی أنفسنا أن نحافظ علی الأجیال المقبلة من ویلات الحرب التی أذاقت البشریّة - مرّتین وعلی امتداد جیل واحد - مصائب تستفرغ الوصف .

اتّفاقیّة مقرونة باتّفاق ثنائی أو جماعی ، وذلک للمحافظة علی الحدّ الأدنی من کیانه ومصالحه ، ولکی یظلّ یواصل حیاته . وما أکثر ما یتعلّق الطرف الضعیف بمثل هذه الاتّفاقیّات والمعاهدات ویرضی بها من وحی عدم وعیه وضیق أُفقه !

3 - إنَّ التوکّؤ علی الاتّفاقیّات والمعاهدات ، وجعل مبدأ الاتّفاق الثنائی أو الجماعی

ملاکا ومعیارا ، من العوامل التی تبعث علی الجمود ، والاقتناع بالظروف القائمة

. ویمکن أن یکون مفیدا لحفظ المصالح المشترکة فحسب ، فی الوقت الذی یجب أن یکون للنظام القانونی هدف أعلی من هذا ، ویغنی الشعوب بمثل هذا القانون الذی تستطیع من خلاله أن

تحقّق ما یکون لصالحها فی خضمّ التطوّرات وتبدّل الظروف . ففی النظام القانونی المرتکز

علی المعاهدات والاتّفاقیّات یظلّ القویُّ متربّعا علی أریکة قدرته ، ویظلّ الضعیف فی مکانه الخائر . لم یکسب القویّ نفعا أکثر فإنَّه یضیف إلی قوّته وقدرته ما یحصل علیه من نفع مماثل للنفع الذی یکسبه الضعیف من خلال المعاهدة .

4 - إنَّ الهدف الرئیس لهذه النظریّة هو المحافظة علی المصالح القائمة أو المصالح المثالیّة فی حین أنَّ أیّ نظام قانونی لا یمکن أن یبقی محصورا فی إطار المصالح ( وهی التی یظنّها الإنسان مفیدة له ) .

إنَّ النظام القانونی المثالی هو النظام الذی یهیّئ الظروف اللازمة فی الحیاة الاجتماعیّة

أو الدولیّة لما ینبغی أن یکون مستحقّا ، لا لما یظنّه أ نَّه فی مصلحته .

وهذه هی الرؤیة التی تثبت أصالة الوحی فی مقابل القوانین والقواعد القانونیّة الوضعیّة . ولا مجال عندنا هنا لتوضیح ذلک .

5 - إنَّ نظریّة النظام القانونی المرتکزة علی المعاهدة والاتّفاقیّة عاجزة عن معالجة کثیر من القضایا الدولیّة . ولا یمکن اعتبار مثل هذا النظام نظاما قانونیّا . والآن نوضّح ذلک من خلال المثال الآتی :

عندما نستعرض تعامل القانون الدولیّ ، وقبل ذلک تعامل منظّمة الأُمم المتّحدة مع قضیّة فلسطین والمشرّدین من تلک الأرض المحتلّة ، ودویلة إسرائیل اللقیطة الغاصبة

، فإنّنا نقف علی حقیقة لا مراء فیها ، وهی أ نَّه لم یقدّم لحدّ الآن حلّ قانونی یتجلّی فیه مبدأ المساواة والعدالة الذی ینصّ علیه میثاق الأُمم المتّحدة من أجل استئصال هذه الأزمة

.

ص: 30

ومع أنَّ الأوضاع التی فرضتها القوی الکبری وسیاساتها السلطویّة ، مدعومة بالقوّة العسکریّة دائما ، هی عقبة کؤود فی طریق معالجة هذه المشکلة الدولیّة ، ولکن بغضّ النظر عن هذه العقبة التی افتعلها الاستکبار علی الصعید العالمی . فإنَّ النظام القانونی الموجود - مبدئیّا - وبسبب طبیعته الخاصّة فی تحمّله مسؤولیّة المحافظة علی الظروف المختلقة والمزیّفة التی فرضت بالقوّة ، عاجز عن معالجة مثل هذه المشاکل المستعصیة علی الصعید العالمی .

لذلک نجد أنَّ سلطة سیاسیّة قد غصبت أرض فلسطین بالقوّة والقدرة العسکریّة ، وشرّدت أهلها ، وحرمتهم من حقوقهم الإنسانیّة والقانونیّة متذرّعة بذریعتین أمام القانون

الدولیّ ومنظّمة الأُمم المتّحدة . الأُولی : أنَّ الیهود کانوا یحکمون هذه الأرض قبل ألفی سنة تقریبا . الثانیة : الجرائم التی ارتکبها النازیّون بحقّ یهود أُوربا إبّان الحرب العالمیّة الثانیة .

وهکذا نری أنَّ حکومة إسرائیل الغاصبة ترجع عجلة التاریخ إلی الوراء وبالضبط إلی ما قبل عشرین قرنا . ولا أدری ، لو قام الآخرون بهذا العمل ، فکیف سیکون الوضع الجغرافی لبلدان العالم ، وبصورة عامّة ، النظام الدولیّ ؟ وأیّ ظروف خطیرة مهدّدة

بالانفجار سیشهدها العالم ؟

فالجواب الذی یمکن أن یقدّمه القانون الدولیّ ومنظّمة الأُمم المتّحدة أمام هذا التذرّع هو أنَّ الوضع الموجود الآن هو الأساس ، والکیان القائم للحکومات هو ملاک الشخصیّة القانونیّة الدولیّة ، ولنا أن نسأل هنا : فما عسی أن یقوم به الشعب الفلسطینی فی مثل هذه الحالة ؟

یقول هذا الشعب المظلوم والمشرّد : إنَّ الوضع القائم هو ولید مساومة سیاسیّة من قبل الاستعمار البریطانی ، وغصب أرض لشعب آخر بالقوّة . ومثل هذه الحالة لا

یمکن أن تحظی بالشرعیّة القانونیّة .

تستدلّ حکومة إسرائیل الغاصبة ، أو الأحری أن نقول : تتوکّأ علی السفسطة زاعمة بأ نَّه إذا لا یمکن رجوع عجلة التاریخ إلی الوراء ، وتصعب عودة ظروف ما قبل عشرین

قرنا ، فکذلک لا یمکن رجوع عجلة التاریخ إلی ما قبل ربع قرن من الزمان . وهذا الأمر

کسابقه مخالف لنظم المجتمع الدولیّ ؛ لأ نَّه لو قدّر لإسرائیل أن تعید الأراضی المغتصبة ، فینبغی أن یجری هذا التعامل مع کثیر من الدول الأُخری التی غصبت أراضی غیرها

ص: 31

بالقوّة

. وفی تلک الحالة یجب أن تتغیّر خارطة العالم السیاسیّة وتحلّ محلّها خارطة جدیدة

. وبالنتیجة یفقد النظام القانونی الموجود شأنه ، وأکثر من ذلک ، تفقد منظّمة الأُمم المتّحدة المؤلّفة من تلک الدول شأنها واعتبارها .

إنَّ مشکلة فلسطین لا تکمن فی رفض إسرائیل قرارات مجلس الأمن وموازین القانون الدولیّ أو سحقها جمیع الإجراءات القانونیّة باستخدام منطق القوّة . بل إنَّ مشکلتها الأساسیّة هی أنَّ النظام القانونی الموجود عاجز عن حلّ المشاکل . فهو یرید من الطرفین أن یعقدا اتّفاقیّة سلام فیما بینهما وذلک من أجل إنهاء النزاع وإقرار السلم والأمن الدولیّین . ولکن علی أیّ شیء یتّفقان ؟ وعلی أیّ مصالح ؟

واستمرّت هذه الأزمة حتّی آلت إلی حرب شاملة وقعت فی الخامس من حزیران سنة 1967م . ودفع القلق من نتائجها الخطرة الاتّحاد السوفیتی [ سابقا ] إلی أن یمارس ضغوطه علی منظّمة الأُمم المتّحدة لتحلّ مشکلة احتلال الأراضی الجدیدة فی مصر ، والأردن ، وسوریا من قبل إسرائیل . ولکنَّ الحلّ القانونی الوحید هو اتّفاق الطرفین علی توقیع معاهدة السلام .

حتّی قرار مجلس الأمن المرقّم 242 الذی یعتبر أکبر عطاء قدّمه النظام الدولیّ المعاصر ، فإنَّه فی الوقت الذی أکّد فیه علی عدم شرعیّة الحصول علی الأرض عن طریق

الحرب ، لکنّه طالب بضمان الحصانة الأرضیّة والاستقلال السیاسی لجمیع بلدان منطقة الشرق الأوسط ، ومنها إسرائیل . واعتبر الشرط الأساس لذلک الاعتراف بسیادة بلدان المنطقة علی أراضیها واحترام تلک السیادة ، وکذلک وحدة الأراضی والاستقلال السیاسی

لجمیع تلک البلدان بما فیها إسرائیل فی حدود آمنة بعیدة من کلّ لون من ألوان التهدید

والقوّة .

إنَّ هذا القرار یذکّر الإنسان بالمثل المعروف : أبلدة واحدة وسعران ؟ (1) فإذا کان احتلال الأرض عن طریق الحرب والقوّة العسکریّة مدانا ، فکیف تطالب البلدان المجاورة

لفلسطین أن تقرّ بسیادة إسرائیل ، ووحدة أراضیها ، واستقلالها السیاسی ، وفی حدود

ص: 32


1- المثل باللغة الفارسیّة وترجمته الحرفیّة : سطح واحد ومناخان . وهناک مثل آخر فی اللغة الفارسیّة یماثله وهو ما ترجم أعلاه . والمقصود هنا هو الفوضی وعدم وجود قانون واحد منظّم .

آمنة لا تتعرّض للتهدید أبدا ؟

ونشاهد مثل هذه المعضلة - بجلاء - فی الهجوم العسکری الذی شنّته الحکومة البعثیّة فی العراق ضدّ الجمهوریّة الإسلامیّة الإیرانیّة ، ونقضت به المواثیق الدولیّة . وصحیح أنَّ الدعم السخی للدول الکبری الشرقیّة والغربیّة فی المجالات العسکریّة ، والاقتصادیّة ، والإعلامیّة قد شدّ أزر المعتدی وجرّأه أکثر علی مواصلة اعتدائه بالرغم من المبادئ المتّفق

علیها فی إعلان الأُمم المتّحدة وقراراتها وعهودها ، بید أنَّ الضعف الموجود فی البنیة

الداخلیّة للقانون الدولیّ هو الذی أعجزه عن حلّ مثل هذه المسائل التی هی أوضح من الشمس .

6 - إنَّ میثاق الأُمم المتّحدة الذی یعتبر دستورا للمجتمع الدولیّ المعاصر یؤکّد فی مقدّمته - من أجل المحافظة علی السلم والأمن الدولیّین - علی توفیر الظروف اللازمة للمحافظة علی العدالة واحترام الالتزامات المنبثقة عن المعاهدات وسائر المصالح فی القانون

الدولیّ . ویری فی الفقرة الأُولی من البند الأوّل أنَّ تسویة الخلافات الدولیّة وفقا لمبادئ العدالة و القانون الدولیّ أمر لا محیص منه .

إنَّ أوّل سؤال یثار فی الذهن هنا هو : هل وردت العدالة و القانون الدولیّ فی میثاق الأُمم المتّحدة کعنصرین متباینین أو أ نَّهما یعبّران عن حقیقة واحدة ؟ وبذلک یکون ذکر أحدهما شیئا إضافیّا .

وفی ضوء الاحتمال الأوّل ، ما هو الاعتبار الذی یمکن أن یکون للقانون الدولیّ إذا کان مخالفا لموازین العدالة ؟ مبدئیّا ، فإنَّ العدالة خارج القواعد القانونیّة أیضا لیست إلاّ قیمة أخلاقیّة ومعنویّة غیر إلزامیّة .

وفقا لقانون محکمة العدل الدولیّة التی تمثّل الجهاز القضائی الرئیسی لمنظّمة الأُمم المتّحدة ، فإنَّ جمیع الأقطار التی أقرّت بذلک القانون ملزمة بالاعتراف بصلاحیّة المحکمة فی کافّة الدعاوی القانونیّة فیما یخصّ الموضوعات المتعلّقة بالقانون الدولیّ دون الحاجة إلی اتّفاقیّة خاصّة .

هل القانون الدولیّ المستند إلیه فی هذا المیثاق هو نفس النظام الذی تناوله أهل الاختصاص من الحقوقیّین ؟ أو أ نَّه النظام الذی کان علی لجنة القانون الدولیّ التابعة لمنظّمة

ص:33

الأُمم المتّحدة أن تهتمّ بتدوینه حسب قرار المنظّمة لسنة 1947م ، ومن ثمَّ تسلّمه إلی الجمعیّة العامّة . وعندها یمکن لهذه الجمعیّة - بدورها - أن تقیم مؤتمرا دولیّا لعقد میثاق بشأن تلک الموضوعات . وتترک المؤتمرات المدوّنة تلک المواثیق مفتوحة بعد الموافقة علیها ، وذلک من أجل أن تصوّت علیها البلدان المختلفة فتوقّعها وتقرّ بها ؟

بکلمة بدیلة ، عندما یُنظر إلی میثاق الأُمم المتّحدة علی أ نَّه دستور للمجتمع الدولیّ ، فهل القانون الدولیّ الذی أُشیر إلیه مرارا فی المیثاق هو بحکم « القانون الأساس الأوّل » بین دساتیر الدول إذ یتحدّث عن سلسلة من النظریّات ، ویدرس آراء الحقوقیّین فی مجال القضایا المتعلّقة بالقانون وواجبات وصلاحیّات الحکومة والدولة والشعب ، وأحیانا یوجّه إلیها الانتقاد ؟ أو أ نَّه بصفة « القانون الأساس الثانی » الذی هو - فی الحقیقة - تفسیر لدستور من الدساتیر وتبیین لقواعد ومقرّرات تتّفق علیها الشعوب وفقا لمیثاق الأُمم المتّحدة ؟

7 - إنَّ موضوع القانون الدولیّ هو الحکومات . وفی ضوء النظام القائم الذی یتکفّل میثاق الأُمم المتّحدة ببیانه ، فإنَّ الدول الأعضاء ینبغی أن تکون ممثّلة حقیقیّة لشعوبها . لقد تصدّرت مقدّمة المیثاق جملة تقول : « نحن شعوب منظّمة الأُمم المتّحدة » . والآن لننظر هل تسلّمت جمیع الحکومات التی هی موضوع القانون الدولیّ أو أعضاء فی منظّمة الأُمم المتّحدة مقالید الأُمور السیاسیّة برغبة شعوبها وإرادتها الحرّة وانتخابها ؟

أجل

، فإن وجود الحکومات المفروضة والعمیلة ، والأنظمة التی جاءت بها المؤامرات علی الصعید العالمی ، وتزعزع الحکومات فی مسیرة التطوّرات الدولیّة ، کلّ

أُولئک قد ضعضع النظام الدولیّ المعاصر وأفقده شأنه واعتباره . وسنتحدّث عن الموضوع

مرّة أُخری فی البحث المتعلّق بمبدأ الاعتراف بالحکومات .

8 - إنَّ أیّ نظام قانونی یحتاج إلی إمکانیّات علیا ومنظّمة یکون مرجع التشریع والقضاء والتنفیذ فیها معلوما . وعند وجود مثل هذه الإمکانیّات وهذه المنظّمة العلیا فی المقیاس العالمی ، فسوف تنقض سیادة الحکومات واستقلالها . من جهة أُخری ، أنَّ الدول

- عادة - تراعی مبادئ القانون الدولیّ ومقرّراته إلی الحدّ الذی لا تصطدم مع مصالحها ، ولو تمکّن النظام القانونی الدولیّ أن یتلافی الضعف المنبثق عن هذا النقص باستخدام العنف

ص: 34

والحرب

، فسوف ینتفی الغرض . وأ نَّی ساد منطق القوّة ، فلا مکان للقانون .

9 - إنَّ وجود حقّ الفیتو فی الأُمم المتّحدة یلغی جمیع قواعد القانون الدولیّ ودور الأُمم المتّحدة فی إقرار السلم والأمن الدولیّین . وهو بذاته نقض لمفاد میثاق الأُمم المتّحدة ؛ لأ نَّه یمثّل رمزا لأفظع وأظلم تمییز فی المقیاس العالمی .

10 - التعارض الموجود بین القانون الدولیّ والقوانین الداخلیّة للدول ، فیما سنتوفّر علی دراسته مفصّلاً فی البحوث القادمة .

الضعف العملیّ فی النظام القائم للقانون الدولیّ

أمَّا من الوجهة العملیّة لنظریّة القانون الدولیّ ، فیمکن دراسة القضیّة بوضوح أکثر علی أساس النظام الحالی لمنظّمة الأُمم المتّحدة ، إذ إنَّ الحقائق الظاهرة الموجودة قد بیّنت عدم وجود شأن یذکر لهذا النظام . وحسبنا أن نشیر هنا إلی النقاط الآتیة :

1 - أنَّ الرسالة الوحیدة التی یضطلع بها القانون الدولیّ من الوجهة العملیّة هذا الیوم

هی المحافظة علی الأوضاع المفتعلة التی وجدت بالقوّة فی الظروف غیر المتکافئة للشعوب

والحکومات ، لأنَّ المشرّع والمنفّذ والقاضی فی القانون الدولیّ هو منظّمة الأُمم المتّحدة

نفسها ، وهذه لا تخطو خطوة ناجعة - عملیّا - إلاّ لمصلحة الدول الکبری وعملائها

.

تقوم الدول الکبری - وفقا لمصالحها وأهدافها - بافتعال الحوادث فی أرجاء العالم . وتختلق مشاکل صغیرة وکبیرة ، ثمَّ تطرحها فی منظّمة الأُمم المتّحدة مستغلّة نفوذها

وتأثیرها هناک ، فتنبری إلی تسویة جمیع تلک المشاکل ، کما تشتهی وترغب . وتبرّئ ساحة الحکومات المعتدیة ، وتدین الحکومات المظلومة . ونراها تفسّر جمیع القیم المنصوص علیها فی میثاق الأُمم المتّحدة مثل : السلم ، والأمن الدولیّ ، والعدالة ، والمساواة ، وعدم التدخّل فی الشؤون الداخلیّة للبلدان والأقطار المختلفة ، وحقوق

الإنسان ، وحقوق الحکومة ، وعدم اللجوء إلی القوّة والتهدید ، والاستقلال ، فی إطار

أهدافها ومصالحها .

2 - أنَّ الانتهاکات المتکرّرة التی تقوم بها حکومات غاصبة مثل إسرائیل ، وجنوب إفریقیة ضدّ حرمة السلم والأمن الدولیّین ، واستقلال الدول المجاورة وحقوقها، والمخالفات

ص: 35

الصارخة التی ترتکبها حکومتا ذینک البلدین ضدّ المقرّرات الدولیّة ، کلّ أُولئک قد أخلّ بتطبیق القانون الدولیّ ، وأفقده شأنه فی المیدان العملیّ ، وهبط بقیمته إلی مستوی

التوصیات الفاقدة لضمان التنفیذ .

فإدانة الحکومة المعتدیة من خلال إصدار الأحکام المتوالیة لمحکمة العدل الدولیّة أو قرارات مجلس الأمن وتوصیات الجمعیّة العامّة ، کلّ ذلک لم یوقف هذه الحکومات عند حدّها عملیّا ، ولم یردعها عن سحق المواثیق والمقرّرات الدولیّة .

إنَّ الإفادة من الضغط الموجّه من الرأی العامّ العالمی ، والإرادة القویّة للشعب الذی یحکمه نظام معتد وناقض للمقرّرات الدولیّة ، وإن کانتا قوّة مؤثّرة وضامنة لتنفیذ عمل

مفید باتّجاه إجبار الحکومات علی احترام مبادئ القانون الدولیّ وقواعده ، ولکنَّ النظام

الحالی للقانون الدولیّ أغلق ذلک أیضا بوجهها ، ومنع المبادرة إلیه بذریعة عدم التدخّل فی الشؤون الداخلیّة للدول المختلفة .

3 - إذا قبلنا البند الأوّل من میثاق الأُمم المتّحدة بوصفه قاعدة متّفق علیها فی القانون

الدولیّ ، حیث إنَّ ضمان السلم والأمن الدولیّین بأیّ شکل ممکن غیر صحیح ، بل یجب أن یکون مطابقا لمبادئ العدالة والقانون ، ومتوکّئا علی احترام مبدأ الحقوق المتکافئة

، وحقّ الناس فی حکم أنفسهم وتقریر مصیرهم ، فهذا المبدأ یتناقض مع ما نشاهده علی الصعید العملیّ ، إذ نری أنَّ موضوع الشعب الفلسطینیّ ، والملوّنین فی جنوب إفریقیة بوصفه من القضایا الواقعیّة ، لا مکان له فی القانون الدولیّ ، والنظام الدولیّ المعاصر

. ومبدئیّا لا ینطبق علیهم تعریف الشعب والناس من منظار هذا القانون ، وهذا النظام .

یطلق مبدأ حقّ الناس فی تقریر مصیرهم علی أنظمة المستعمرات فی مقابل الاستعمار القدیم . بید أنَّ هذا المبدأ یلتزم جانب الصمت تماما حیال الاستعمار الحدیث ، والنظم

العمیلة والمفروضة التی تتحکّم فی رقاب الناس بالقوّة وعلی أساس مصالح الدول الکبری ، وکذلک حیال ما یجری فی إسرائیل ، وجنوب إفریقیة .

ینصّ إعلان مبادئ القانون الدولیّ علی أنَّ العلاقات الودّیّة ومجالات التعاون بین الدول ترتکز علی أساس میثاق الأُمم المتّحدة ، ومبدأ حقّ الناس فی تقریر مصیرهم

. وقد فُسّر هذا المبدأ فی قرار الجمعیّة العامّة المرقّم 2787 والمؤرّخ فی السادس من کانون الأوّل

ص: 36

عام 1971م کما یأتی :

إنَّ استقرار حکومة مستقلّة علی أرض من الأٔاضی ، تمارس سیادتها من قبل جمیع الناس الذین یعیشون علی تلک الأرض یجسّد مبدأ تقریر المصیر .

ولو بحثنا فی أرجاء العالم عن تطبیق هذا المبدأ ، فکم حکومة سوف نعثر علیها وهی تتوکّأ علی هذا المبدأ حتّی یتسنّی لنا أن نعثر علی موضوع القانون الدولیّ وأعضاء الأُمم

المتّحدة ؟

أمَّا الدول الکبری فحیثما اقتضت مصالحها الإمبریالیّة ، فإنّها تتذرّع بمبدأ تقریر المصیر لتقوم بتحریض الأقلیّات تحت ستار حقّ تقریر المصیر من أجل تفتیت الوحدة الوطنیّة أو وحدة الأراضی فی دولة من الدول ، ثمَّ تدعم تلک الأقلیّات باسم حقوق الإنسان .

ولکن فی إطار الکلام والکتابة - تحت عنوان الحقوق غیر المنقولة للناس ، وبناء علی مبادئ القانون الدولیّ - فإنَّ تلک الدول ما برحت تصرّ علی أنَّ أیّ محاولة لتفتیت الوحدة

الوطنیّة أو وحدة الأراضی التی انبثقت من حقّ تقریر المصیر فی دولة من الدول تتنافی مع مبادئ المیثاق وأهدافه(1) .

إنّنا لو سلّمنا بمبدأ توکّؤ کلّ اتّفاق - علی الصعید العالمی - علی المبدأ القائل بأنَّ « أیّ استقلال لا یتحقّق قبل تحقّق قانون الأکثریّة » کما جاء فی قرارات الجمعیّة العامّة لمنظّمة الأُمم المتّحدة ، فما هو الطابع الذی یتّخذه تطبیق القانون الدولیّ ؟ وما هو المدی الذی سیبلغه مجال تطبیقه ؟ وأ نَّی ستکون قواعد القانون الدولیّ صالحة للتطبیق ؟ وما هی الحکومة التی سوف تصدق علیها تلک القواعد فیما یخصّ علاقاتها الدولیّة ؟

4 - أنَّ مبدأ المساواة فی سیادة الدول ، الذی هو أساس المبدأ القانونی القائل بعدم التدخّل فی الشؤون الداخلیّة للدول الأُخری واحترام حقوقها فی سیادتها ووحدة أراضیها ، هو من قواعد النظام المعاصر للقانون الدولیّ . وقد أکّده أیضا میثاق الأُمم

المتّحدة وقراراتها .

ألا یعدّ دعم الأنظمة الغاصبة والحکومات العمیلة للاستعمار والدالّة علی سیادة

ص: 37


1- قرار الجمعیّة العامّة المرقم 2787 والمؤرّخ فی 6 کانون الأوّل 1971 م .

الأجنبیّ تدخّلاً فی الشؤون الداخلیّة للدول الأُخری ؟ أما یعتبر ذلک نقضا لحقوق السیادة ووحدة الأراضی ؟

فی أیٍّ من العلاقات السیاسیّة والاقتصادیّة والعسکریّة حتّی الثقافیّة التی تربط الدول فیما بینها ، یراعَی فیها مبدأ المساواة فی سیادة الدول ؟ علی سبیل المثال

، هل تتوکّأ علاقة أمیرکا بالأقطار الضعیفة ، وکذلک علاقة الاتّحاد السوفیتی [ سابقا ] بعملائه علی أساس علاقة الحاکم والمحکوم ، أو علی أساس المساواة والموقف المماثل ؟

5 - أنَّ النظام المعاصر للقانون الدولیّ لا یجیز لأیّ منظّمة أو سلطة علی أن تتدخّل فی

سیادة الدول ، ولذلک لا نری وجودا لأیّ سلطة أو قوّة لها حقّ علی إحدی الدول ، وبعبارة أوضح ، لا القانون الدولیّ یمکنه أن یمنح حقّا لإحدی الدول أو یسلبه منها ، ولا منظّمة الأُمم المتّحدة بمقدورها أن تفعل ذلک ، لأنَّ الذی یفقد شیئا ، کیف یمکنه أن یعطیه أو یأخذه ؟

والدول التی أقرّت بهذا النظام القانونی وتلک المنظّمة الدولیّة ، وأصبحت من أعضاء المنظّمة ، هی بدورها لا تستطیع - منفردة کانت أو مجتمعة - أن تتّخذ قرارا بشأن سیادة

الشعب ، وتفویض ذلک له أو تبدیله ، والإضرار به .

لو کانت هناک صلاحیّات لعصبة الأُمم - قبل حلّها - فیما یخصّ بعض المستعمرات والأراضی التی تحت الانتداب حسب البند الثانی والعشرین من میثاق العصبة ، فإنَّها -

بغضّ النظر عن الطبیعة القانونیّة لتلک الامتیازات - أعلنت فی قرار لها صدر عن آخر جلسة عقدتها فی الثامن عشر من نیسان عام 1946 م أنَّ مسؤولیّاتها حیال الأراضی الواقعة تحت الانتداب قد انتهت بحلّها ؛ وهکذا لم یتحقّق أیّ شکل من أشکال نقل تلک

السلطة إلی منظّمة الأُمم المتّحدة .

وبالنظر إلی هذه الحقیقة ، یتّضح حجم القیمة التطبیقیّة للنظام المعاصر للقانون الدولیّ إذ یتبیّن إلی أیّ مدی یکون عجز النظام الدولیّ المعاصر المتوکّئعلی القانون

الدولیّ ، وکم یکون عمله محدودا .

إنَّ قراءة فی النماذج المتقدّمة وعشرات غیرها تدلّ علی أنَّ النظام المعاصر للقانون الدولیّ لا یستطیع أن یملأ الفراغ القانونی فی العلاقات الدولیّة بصورة عامّة وشاملة

ص: 38

وعادلة ، ویُشبع حاجات المجتمع البشریّ فی هذا المجال .

نظریّة الحکومة العالمیّة علی أساس القانون الدولیّ الأساسی

لیس من سمات القانون الداخلی أن تکون له سلطات علیها مثل السلطة التشریعیّة ، والتنفیذیّة ، والقضائیّة . فهذه ضرورة لنظام قانونی کامل ینبغی - وفقا لطبیعته من حیث قابلیّته للتطبیق - أن تکون له مثل هذه الأرکان والإمکانیّات .

لیس القانون أمرا انتزاعیّا مجرّدا خارجا عن نطاق العمل . ولا یمکن للنظام القانونی أن یظلّ محصورا فی التصوّر الذهنی ، ویبقی مرتسما فی الفکر کالعلوم العقلیّة . فالقواعد

القانونیّة تطرح باتّجاه تبیین کیفیّة العیش وتنظیم العلاقات الظاهریّة القائمة فی الحیاة

الاجتماعیّة ، إذَن لابدَّ من درج کیفیّة تطبیق ذلک فی القانون نفسه . ویُراعی کلّ من بعدیه النظری والعملی معا .

إنَّ القاعدة القانونیّة هی أساس القانون والمبدأ المکوّن له . والقانون نفسه یجب أن یضع فی حسابه کیفیّة التطبیق والمواجهات المحتملة فیعمل علی علاجها ، ولیس هدف القانون هو العلم والکشف فحسب ، بل یقرن معهما التطبیق العملی أیضا . لذلک فإنَّ القانون

الدولیّ لا یمکن أن یکون نظاما قانونیّا کاملاً ومعتبرا ما لم یتمتّع بإمکانیّات علیا

کالسلطات الثلاث الأساسیّة . ولو قدّر أن تکون هناک دراسة حول نظام قانونی علی الصعید العالمی ، فلابدَّ أن یتّسم بتلک الصفة ، شأنه بذلک شأن جمیع المفاهیم القانونیّة .

من جهة أُخری ، فإنَّ القانون المتعلّق بعصبة الأُمم لا یُشبه القانون الداخلی ، فهو نوع من أنواع القانون الأساسی یطرح فی المقیاس العالمی ویخصّ عصبة الأُمم . ویدور الحدیث

فیه حول العلاقات المعقّدة والعادلة فی مجال السلطة . فواجبات وصلاحیّات الأجهزة التی

تمارس سلطتها ، وحقوق الناس الذین أقرّوا بتلک السلطة وحرّیّاتهم الأساسیّة - حیث تنبثق الحکومة عنهما ، وهو الموضوع الذی یبحثه القانون الأساسیّ ، والهدف العامّ للقانون

الأساسی هو التوفیق بین السلطة السیاسیّة للمجتمع والحرّیّات الفردیّة ، وبکلمة بدیلة ، دمج الحرّیّات الفردیّة بالأمن والنظم العامّ علی أساس العدالة - کلّ تلک المسائل تقتضی

دراستها ومناقشتها فی المقیاس العالمی وفی مجال العلاقات الدولیّة ، نوعا من القانون الدولیّ

ص: 39

الأساسی

.

ویتابع علم السیاسة نفس هذه المسائل بکیفیّة ونظرة خاصّتین . ویناقش الإطار الذی تطرح فیه مسائل السلطة ، والحرّیّة ، والأمن ، والنظم تحت عنوان : الحکومة

.

ولو اعتبرنا علم السیاسة هو علم السلطة فی کلّ مجموعة إنسانیّة ، فإنَّ علم السیاسة الدولیّة سیناقش نفس المسائل الأساسیّة التی تتعلّق بأحد المجتمعات السیاسیّة علی الصعید العالمی ، وسیطرح القدرات العلیا لإقرار النظم ، والعدالة ، والأمن الدولیّ .

یقال فی تعریف السلطة : إنَّها مجموعة من العوامل الکمیّة والنوعیّة التی یزاول فیها عضو أو هیئة إصدار الأوامر . ویستطیع العضو أو الهیئة فرض أرادتهما علی الطرف المقابل ، سرّا أو جهرا ، ومباشرة أو غیر مباشرة ، واختیارا أو إجبارا . وتکمن ظاهرة السلطة دائما فی العلاقات المتواصلة للناس سواء فی علاقة شخص بشخص آخر أو فی علاقته بالجماعة أو فی علاقة جماعة بجماعة أُخری ، ولا تستثنی عصبة الأُمم والمجتمع الدولیّ من هذه القواعد

أیضا .

إنَّ تنظیم ظاهرة السلطة علی أساس العدالة والأمن والنظم بین الشعوب والمجتمعات البشریّة یحتاج إلی مؤسّسة أعلی کانت مطروحة فی داخل المجتمع الواحد ، وتلک هی الحکومة العالمیّة الواحدة التی یحدّد القانون الدولیّ الأساسی المشترک وواجباتها وصلاحیّاتها ، ویعیّن حقوق الشعوب وحرّیّاتها فی داخل المجتمع البشری الواحد .

فکما أنَّ السلطة السیاسیّة فی جمیع کیانات المجتمع الواحد - الذی ظهر إثر تشکّل مجموعة من الناس علی إحدی الأراضی ، علی أساس المشترکات المادّیّة والمعنویّة وتحت

منظّمة مرکزیّة واحدة - کالدم الجاری فی عروق الإنسان ، وفی الوقت الذی تتشکّل فیه

الشعوب سیاسیّا علی أساس المشترکات المادّیّة والمعنویّة والأهداف المشترکة ، فلابدَّ أن تتجلّی مثل هذه السلطة السیاسیّة فی قالب الحکومة العالمیّة .

ولا ینبغی أن ننسی بأنَّ التشکّل السیاسی للشعوب فرضیّة سابقة فی کلتا النظریّتین . « النظام المعاصر للقانون الدولیّ » و « نظریّة الحکومة الواحدة علی أساس القانون الدولیّ

الأساسی المشترک » .

لو أردنا أن ندرس قضیّة السلم العادل ، والنظم والأمن الدولیّین وحرّیّة الشعوب فی

ص:40

تقریر مصیرها سواء من وجهة نظر قانونیّة فی قالب القواعد القانونیّة فی المقیاس الدولیّ

، أم من وجهة نظر سیاسیّة فی قالب منظّمة دولیّة . فلابدَّ من التسلیم بحکومة عالمیّة واحدة وقانون دولیّ أساسی مشترک له قدرات علیا ومؤسّسات مشترکة علی أساس مبدأ حقّ الشعوب فی تقریر مصیرها ، وعلی أساس السلم والنظم والأمن الدولیّ . وکما قمنا علی مرّ التاریخ بتبدیل نظم الأُسرة وحقوقها بنظم القبیلة وحقوقها ، ثمَّ بالنظام القانونی للمجتمع ، فلنواصل هذا الطریق التکاملی إلی مستوی نظام قانونی عامّ فی المقیاس العالمی .

کیف عالجت الطریقة الدیمقراطیّة - التی ینظر إلیها الیوم کأنسب طریقة - مسألة الأقلیّات والشرائح الساخطة فی المجتمع ؟ وکیف تعاملت مع الفئات السیاسیّة الضئیلة التی

تعارض حکم الأکثریّة ؟ فإذا کانت الطریقة الدیمقراطیّة علی أساس رأی الأکثریّة هی السبیل للمحافظة علی النظم والعدالة والحرّیّة والأمن فی مجتمع ما مع حفظ الحقوق القانونیّة

للأقلیّات والفئات المعارضة ، فستکون فاعلة مؤثّرة لتأمین نفس الأهداف بین الشعوب التی تتکوّن من المجموعات البشریّة المختلفة .

یتصوّر البعض بأنَّ المنظّمة ذات القدرات العلیا لیست شرطا لوجود القانون ، وذلک أ نَّه لم یحدث فی التاریخ أبدا أنَّ وئاما قد حصل بین القانون والمشرّع والقاضی

، وأنَّ علم الاجتماع قد أثبت تقدّم القانون العرفی علی القانون المدوّن . وهکذا فإنَّهم یبرّرون وجود نظام القانون الدولیّ بدون أن تکون له مؤسّسات تضمن التطبیق . بید أنَّ هؤلاء قد أغفلوا

بأنَّ عدم وجود منظّمة ذات قدرات علیا لا یضرّ النظام القانونی شیئا ، بشرط أنَّ مثل هذا النظام قد أخذ بنظر الاعتبار المنظّمة المشار إلیها ، وضمن کیفیّة وجوده الظاهری فی کیان منظّمة معیّنة .

ینبغی أن تکون الضمانة التنفیذیّة فی النظام القانونی الدولیّ کما هی فی القانون الأساسی ، بشکل یکون القانون فیه حافظا وحارسا نفسه . فالقانون الأساسی - علی عکس ما یتصوّر البعض - یتمتّع بالضمانة التنفیذیّة ، حیث تتولّی السلطات العلیا -

مدعومة برأی الأکثریّة - مهمّة الحفاظ علی القانون الأساسی ، والحؤول دون أیّ نقض له . وقد فوّضت مهمّة الإشراف علی تنفیذ القانون الأساسی فی کلّ نظام ، إلی مؤسّسة خاصّة

تأخذ علی عاتقها تلک المهمّة مع قدرة تنفیذیّة کافیة .

ص: 41

إنَّ تضرّر القانون الأساسی وهیئته السیاسیّة فی مقابل مطالب الأقلیّة ( الانقلاب العسکری ) أو مطالب الأکثریّة ( الثورة ) لا یعنی أنَّ القانون الأساسی لا یتمتّع بضمانة

تنفیذیّة ، لأنَّ هاتین الحالتین منبثقتان عن الظروف الطارئة فی المجتمع ، حیث یمکن أن تقع ظاهرة مماثلة لذلک فیمایخصّ القانون الداخلی الخاصّ - علی سبیل المثال ، یستغلّ أحد

السرّاق غفلة الشرطة وصاحب البیت فیسرق ما یشاء ، وبالرغم من التدابیر القضائیّة فإنَّه یفلت من قبضة الجهاز القضائی - ولکن علی أیّ حال فإنَّ القانون الأساسی یأخذ بنظر الاعتبار السبل المعقولة والممکنة فی الظروف الاعتیادیة المتداولة لضمان بقاء واستقرار

المنظّمة التی تمثّل مظهره البارز ، ویبیّن التدابیر القانونیّة المؤثّرة .

فلو روعیت تلک السبل والتدابیر المؤثّرة الواردة فی القانون الأساسی ، فی نظام القانون الدولیّ أیضا ، فلا شکّ أن نتیجة مثل هذا التحلیل سوف لا تکون إلاّ

نظریّة الحکومة العالمیّة والقانون الدولیّ الأساسی المشترک .

یقول أنصار القانون الدولیّ والنظام الدولیّ المعاصر بأنَّ القانون الدولیّ یطوی مراحله الأُولی فی التطوّر والتکامل ، لذلک لا یمکن مقارنته بالقانون الداخلی الذی یعتبر قانونا قدیما .

هذا الکلام ذو مدلول رائع ، لأ نَّه یعنی بأنَّ القانون الدولیّ فی مسیرته التکاملیّة ینبغی

أن یبلغ مرحلة من النموّ کالقانون الداخلی . ولمّا کانت القوانین الداخلیّة الاعتیادیّة تتمتّع بضمانة تنفیذیّة بعد تبلور القانون الأساسی ، فإنَّ القانون الدولیّ أیضا - وفی قالب قانون أساسی شامل له أجهزة ومؤسّساته المنبثقة عن الإرادة الحرّة للشعوب ، وعلی أساس مبدأ

حقّ الشعوب فی تقریر مصیرها - یجب أن یتمتّع بضمان کاف فی أداء دور أساس لإقرار النظم والعدل والأمن الدولیّ .

لقد أُنجزت فی الماضی وفی عصرنا الحاضر تجارب جدیرة بالدراسة فی مجال الحکومات المتّحدة ، ولا وجود فی هذا الیوم لسیادة الحکومات بالشکل الأُسطوری الذی

کانت تُطرح فیه سابقا ، وکما تضرّرت الحرّیّة الفردیّة فی مقابل النظم ، والأمن

، والعدل ، والمصالح الاجتماعیّة ، فکذلک تضرّرت السیادة الوطنیّة علی الصعید العالمی بسبب السلم

والأمن الدولیّین ، والأهمّ من ذلک ، بسبب استقرار النظام الإنسانی العادل .

ص: 42

وکما تُنظّم حقوق الأُسرة فی إطار الدستور ، فکذلک ینبغی أن تُحدّد وتنظّم حقوق الشعوب فی إطار منظّمة ذات قدرات علیا .

لقد وحّدت الحکومات الفیدرالیّة هذا الیوم أراضی واسعة ومجموعات بشریّة مکثّفة من جنسیّات متعدّدة فی کیان سیاسی منظّم . واستطاعت ، من خلال دستور مشترک ، أن توحّد عددا من الشعوب فی أشکال مختلفة ( جمهوریّات ، ولایات ، أقالیم ، محافظات ) خاضعة لحکومة واحدة ذات قدرات علیا . وهکذا فإنَّ علاقات الدول الأعضاء قد تجاوزت نطاق السیادة الوطنیّة ، واتّخذت طابعا فیدرالیّا إثر تحقّق الوحدة السیاسیّة .

فهل یمکن لهذه التجارب أن تشیّد أساس نظریّة الحکومة العالمیّة فی قالب قانون دولیّ أساسی وتحفّز أهل الاختصاص لأحداث تطوّر جوهری فی القانون الدولیّ ؟

إنَّ نظریّة وحدة أُوربا السیاسیّة التی تفضی إلی ظهور الاتّحاد الکبیر للمجتمع الأُوربی قد طوت إلی الآن بعض مراحلها ، وبعد إعلان شومن - علی أثر دمج سیادة ستّة أقطار ، وبعد ذلک تسعة أقطار - ظهرت إلی الوجود المجتمعات اللاقومیّة علی الأرض الأُوربیّة ، إلی أن دعا الساسة الإنجلیز البلدان الأُوربیّة إلی تأسیس الولایات الأُوربیّة

المتّحدة سنة 1946 م . وأخیرا طرحت نظریّة وحدة أُوربا السیاسیّة فی أوّل خطوة لها من خلال المیثاق المؤرّخ فی التاسع من آذار سنة 1953 م الخصائص الإداریّة والتنظیمیّة للنظام الفیدرالی الخاصّ بالمجتمع الأُوربی السیاسی علی أساس اتّحاد الشعوبات والحکومات .

وفقا لذلک المیثاق ، سوف یکون للمجتمع الأُوربی السیاسی برلمان مؤلّف من مجلسین هما : ( مجلس الشعوب ویمثل شعوب القارة الأُوربیّة ، ومجلس الشیوخ ویمثّل

حکوماتها ) . وفی مقابل البرلمان ، یکون هناک المجلس التنفیذی ، والمجلس الوطنی

للوزراء . وتساوی دورة أعضاء المجلس التنفیذی دورة ممثّلی مجلس الشعوب ( أی : خمس

سنوات ) . وتتولّی محکمة العدل ضمان مراعاة المبادئ القانونیّة لتنفیذ بنود المیثاق . ویختصّ المجلس الاقتصادی والاجتماعی - بدوره - بالأعمال الاستشاریّة . علما بأنَّ هذه المؤسّسات قد تمَّ إنشاؤها وفقا للنموذج المتداول فی الحکومة البرلمانیّة .

ینصّ البند السادس عشر بعد المائة من المیثاق المکوّن من مائة وسبعة عشر بندا

ص: 43

للمجتمع الأُوربی السیاسی ، فیما یخصّ انضمام أعضاء جدد ، علی ما یأتی :

یقبل المجتمع طلب الانضمام الذی یتقدّم به أعضاء المجلس الأُوربی ، بشرط أن یضمنوا المحافظة علی حقوق الإنسان والحرّیّات الأساسیّة .

کان تصوّر المؤسّسین لهذا المشروع هو العمل بأسرع ما یمکن - وفی نطاق المجتمع الأُوربی السیاسی الذی یتّسم بالطابع اللاقومی - علی تنظیم انتخابات مباشرة من خلال

تصویت عامّ یساهم فیه الرجال والنساء فی البلدان الأُوربیّة ، لکی تشترک عامّة الجماهیر

فی تنظیم أُوربا مباشرة .

إنَّ طرح مثل هذا اللون من الحکومة الفیدرالیّة فی أُوربا یواکب الأهداف الآتیة وفقا للبند الثانی من المیثاق الذی یعتبر الدستور الدولیّ فی أُوربا :

1 - المشارکة فی تطبیق مبدأ حقوق الإنسان والحرّیّات الأساسیّة فی نطاق الدول الأعضاء .

2 - التعاون مع الشعوب الحرّة الأُخری علی ضمان أمن الدول الأعضاء ضدّ أیّ اعتداء .

3 - تنسیق السیاسیّة الخارجیّة للدول الأعضاء فی الأُمور المتعلقة بوجود المجتمع وأمنه وازدهاره .

4 - تطویر التنمیة الاقتصادیّة ، وتوسیع نطاق التشغیل ، ورفع المستوی المعاشی للدول الأعضاء .

علی الرغم من أنَّ الرئیس الفرنسی شارل دیغول أعلن فی تصریح له سنة 1960 م أنَّ مشروع الاتّحاد الأُوربی بوصفه مشروعا خارجا عن نطاق الحکومات - وینبغی أن تدعمه الشعوب - أمر خیالی ، وأنَّ ما تتمیّز به کلّ دولة من حیاة ، وتاریخ ، ولغة ، وما تعیشه من تقلّبات ، ونوازع متنوّعة یحول دون تطبیق مثل هذا المشروع ، وأ نَّه اقترح

المشروع الدبلوماسی الخاصّ بالاتّحاد الکونفدرالی بدیلاً عن مشروع الاتّحاد الفیدرالی ، فإنَّ الظروف السیاسیّة المتغیّرة التی تعیشها أُوربا متزامنة مع مشکلة عضویّة إنجلترا فی المجتمع الأُوربی ، وتعاظم الدور الفاعل للولایات المتّحدة الأمیرکیّة فی أُوربا عوامل شلّت مشروع الوحدة السیاسیّة الأُوربیّة ، بید أنَّ هذه الفکرة لم تودع فی ملّف النسیان لحظة

ص: 44

واحدة .

لا ریب أنَّ مثل هذه المشاریع علی الصعید القارّی وکذلک علی الصعید العالمی منبثق عن بواعث إنسانیّة ومرتکز علی مبادئ وقیم إنسانیّة مشترکة . ولیس بدعا من الأمر أن

تری الدول الکبری فی تطبیق هذا المشروع خطرا علی مصالحها ، فتضع العراقیل أمامه بالرغم من الجذور التاریخیّة للهدف المقدّس الذی تحمله فکرة تأسیس الحکومة العالمیّة

الواحدة .

إنَّ الأدیان السماویّة ، والمدارس الفلسفیّة، وعلماء الاجتماع ، والمصلحین الکبار ما فتأوا یبشّرون المجتمع الإنسانی بالحکومة العالمیّة الواحدة ، وما برحوا یحافظون علی تألّق هذا النور المقدّس فی القلوب . وکلّ منهم یصرّح به بتعبیر أو کیفیّة خاصّة ، ویتحدّث عن مصلح کبیر سیکون مؤسّس الحکومة العالمیّة .

وتحدّث برتراند راسل فی کتاب ( الآمال الجدیدة ) عن الوحدة السیاسیّة للمجتمع البشری بوصفها أملاً متأصّلاً وانتظارا منطقیّا مرتکزا علی الحقائق الظاهریّة ، فقال : إذا نشبت الحرب العالمیّة الثالثة ، فلا ینبغی أن نتصوّر بأنَّ العالم قد بلغ آخر أشواطه ؛ إنَّ المجتمع الدولیّ سیصاب بمرض مزمن ، بید أ نَّه لن یموت . فواجبنا هو أن نعمل علی بقاء هذا الأمل نابضا بالحیاة .

تقویم نظریّة الحکومة العالمیّة الواحدة والقانون الدولیّ الأساسی

إنَّ مشکلة الحکومات فی هذه النظریّة کما فی نظام القانون الدولیّ غیر قابلة للعلاج من الناحیة القانونیّة والتنفیذیّة علی حدّ سواء . وفی النهایة ، نلحظ أنَّ وجود ممثّلی الحکومة إلی جانب ممثّلی الشعب سیولّد ازدواجیّة محرجة فی هذا النظام . یضاف إلی ذلک ، فإنَّ الشخصیّة القانونیّة للحکومات وشرعیّتها ستظلّ مشکلة مستعصیة .

من جهة أُخری ، فإنَّ تحدید المعیار فی توزیع السلطة والصلاحیّات مشکلة أُخری بذاتها ، حیث إنَّ مساحة الأرض ، وازدیاد عدد السکّان ، ومصادر الثروة الطبیعیّة

، والتنمیّة الاقتصادیّة ، والتسلّح ، والعلم والتکنولوجیا ، والمواقع المادّیّة الحسّاسة والقیّمة ، کلّ ذلک یمکن أن یکون مؤثّرا فی معاییر السلطة والصلاحیّات ، ویتمخّض عن نظام جدید

ص: 45

من التمییز والظلم ، ویصل أحیانا إلی مستوی الصراعات والخلافات الجوهریّة .

وسیرث المجتمع العالمی الواحد أیضا جمیع الأحقاد والضغائن والثارات والخلافات القدیمة للشعوب والأقوام المختلفة . وستتورّط الحکومة المتمکّنة - التی ینبغی لها أن تقرّ النظم والعدل والأمن علی الصعید العالمی - بمشاکل جمّة . وستتعرّض أحیانا إلی ضغط أشدّ ممّا یلاحظ عند الحکومات المقتدرة .

إنَّ الأهداف والمصالح المادّیّة - مبدئیّا - تستدعی منافسات حادّة وخلافات متأصّلة دائما ، إذ إنَّها ستهدّد فی النهایة أساس الحکومة العالمیّة الواحدة الذی ینبغی أن یکون مرتکزا علی الحرّیّة والرغبة والرضا .

ولعلّ هذه المشاکل والسلبیّات هی نفسها التی أفضت بأرباب السیاسة أن یتصوّروا بأنَّ هذا الهدف العریق والمقدّس أمر خیالی .

ولا یمکن أیضا إنکار الضعف الذی تحمله الضمانة التنفیذیّة فی القانون الأساسی ، وهو ما طرح نفسه فی القانون الدولیّ الأساسی ، لأنَّ الظروف الطارئة التی یتعرّض فیها کیان

النظام المتوکّئعلی دستور معیّن للخطر قابلة لان تؤخذ بنظر الاعتبار أیضا فی مجال الحکومة العالمیّة الواحدة المتوکّئة علی القانون الدولیّ الأساسی . وإذا کان هذا الإشکال

مرفوضا من الوجهة القانونیّة ، فإنَّه علی الأقلّ یزعزع ثبات النظام وموقعه الدائم علی الصعید العملی ، ویعرّضه للخلل .

إذا قمنا بدراسة لنظریّة الحکومة العالمیّة ونظام القانون الدولیّ الأساسی بنظرة أعمق

، فإنَّ بواعث هذا المشروع وقیمه السائدة فیه لیست إلاّ الوقایة من الحرب ، وإقرار السلم

والأمن الدولیّین .

بید أنَّ الأمر الأهمّ من ذلک هو مبدأ عدالة الإنسان ورقیّه الذی لا یمکن أن یحتلّ موقعا فی هذا المشروع ، ویؤدّی دورا لافتا للنظر فیه ، لأنَّ قسما کبیرا من ألوان الظلم المنبعثة عن الظروف المعقّدة للمنافسات والمخالطات والمآزق الأُخری یؤخذ بعین الاعتبار

فی هذا المشروع ؛ ونموذج الحرّیّة وتقریر المصیر فی هذه النظریّة هو الدیمقراطیّة نفسها علی الصعید العالمی . وإذا اعتبرنا الدیمقراطیّة سیادة رأی الأکثریّة ، ثمَّ ألقینا نظرة علی الفارق العمیق الموجود بین عدالة الإنسان ورقیّه من جهة ، وإرادة الأکثریّة من جهة أُخری ، فإنّنا

ص: 46

سنقف علی السلبیّات الجمّة فی هذه النظریّة .

ثمّة أسباب وعوامل عدیدة ومتنوّعة لفشل نظریّة الحکومة العالمیّة ؛ بید أنَّ أهمّ تلک الأسباب والعوامل هو طبیعة التربیة التی تقوم بها البیئات المادّیّة للشرق والغرب

، حیث إنَّ کلا المعسکرین ومن یدور فی فلکهما من عملاء ، وما یصل إلیه نفوذهما وتسلّطهما من مدی ، کلّ ذلک یرتکز علی أساس أصالة المادّة وهدفیّة الاقتصاد . وکلاهما قد أعرض عن

الأخلاق والمعنویّات والمثل الإنسانیّة العلیا ، وتعبّأ - بدلاً عن ذلک - للتحرّک باتّجاه النفع الأکثر والقدرة الأکبر .

ففی مثل هذه الظروف لن تکون الحکومة العالمیّة الواحدة أقلّ من القوی الظالمة والمتسلّطة حالیّا .

الأُمَّة العالمیّة الواحدة ونظام الإمامة تجسید للإرادة الحرّة الواعیة للشعوب

إنَّ المشروع الجامع الثالث الذی طرح فی مجال النظام القانونی للمجتمع البشری هو نظام الأُمَّة الواحدة وإمامتها العالمیّة الذی تمتّد جذوره فی تعالیم الأنبیاء ، ولکنَّ الإسلام قد بیّن ذلک بشکل جامع . إنَّ العالم کلّه فی النظرة الکونیّة للإسلام مجموعة واحدة متماسکة ، ونطاق الوجود مظهر الوحدة الکبری ، وعلامة توحید البارئ العظیم . ونجد فی هذا التماسک الکبیر أنَّ التوازن والنظم السائدین فی نظام الوجود قد حلاّ محلّ الاصتکاک

والتعارض وکلّ نوع من أنواع التناقض(1) .

هذا القانون لا یستثنی نطاق الحیاة الذی تمثّل حیاة الإنسان جانبا منه . وأصل الحیاة فی هذا النطاق الواسع قد استمدّ وجوده من الماء(2) . والإنسان الذی یجسّد أبرز مثال

لظاهرة الحیاة یرتبط أیضا فی الوجود مع العالم کلّه ، ویشترک مع ظواهر الحیاة جمیعها فی الأصل(3) . وأفراد النوع الإنسانی لهم کیان واحد وطبیعة متماثلة وفطرة مشترکة . وقد جاؤوا جمیعهم من أب واحد ، وأُمّ واحدة(4) .

ص: 47


1- قال تعالی : « فَاص رْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَری مِنْ فُطُورٍ » . الملک : 3 .
2- « وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ کُلَّ شَیْ ءٍ حَیٍّ » . الأنبیاء : 30 .
3- « وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الاِْنْسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طینٍ» . المؤمنون : 12 .
4- « اتَّقُوا رَبَّکُمُ الَّذی خَلَقَکُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا » . النساء : 1 .

علی أساس هذه النظریّة یری الإسلام أنَّ المجتمع البشری مجموعة واحدة تشترک فی الفطرة والتفکیر والهدف . وأنَّ جمیع الاختلافات وعوامل التفرقة طوارئ منبعثة من الطبائع السلبیّة البعیدة عن المکانة اللائقة بالإنسان . قال تعالی : « اِنَّ هذِهِ اُمَّتُکُمْ اُمَّةً وَاحِدَةً وَ اَنَا رَبُّکُمْ فَاص عْبُدُونِ » (1) .

وهذا الاختلاف المنبثق عن الصفات السیّئة فی الحیاة الاجتماعیّة هو الذی استدعی بعثة الأنبیاء ، وذلک لیعید اللّه المجتمعات البشریّة إلی حالتها الأُولی ، وهی الأُمّة الواحدة حتّی تقطع البشریّة طریق تکاملها فی ظلّ التعالیم السماویّة بأسرع ما یکون من خلال ممّر

الوحدة الکبری ( الأُمّة الواحدة ) ، وتنعم بالهدایة فی هذه المسیرة الخطیرة . یصرّح

القرآن فی هذا المجال فیقول : « کَانَ النَّاسُ اُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّه ُ النَّبِیّینَ مُبَشِّرینَ

وَمُنْذِرینَ وَاَ نْزَلَ مَعَهُمُ الْکِتَابَ بِاص لْحَقِّ لِیَحْکُمَ بَیْنَ النَّاسِ فیمَا اخْتَلَفُوا فیهِ وَمَا اخْتَلَفَ فیهِ اِلاَّ الَّذینَ اُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَیِّنَاتُ بَغْیًا بَیْنَهُمْ » (2) .

إنَّ الاختلاف وفق المنظور القرآنی ینبع من الظلم . والظلم یتأتّی عملیّا من ظاهرة الجشع الاجتماعیّة واستغلال الناس . ولکنَّ فطرة الإنسان وروحه وفکره وهدفه المشترک ، کلّ ذلک یدعو المجتمع البشری إلی الوحدة والانسجام . من هذا المنطلق کانت رسالة جمیع

الأنبیاء - حیث محطّتها فطرة الناس وفکرهم وإرادتهم - واحدة . وکان کافّة الأنبیاء

یدعون إلی دین واحد وطریق واحد وهدف واحد . قال تعالی : « شَرَعَ لَکُمْ مِنَ الدّینِ مَا وَصّی بِهِ نُوحًا وَ الَّذی اَوْحَیْنَا اِلَیْکَ وَ مَا وَصَّیْنَا بِهِ اِبْرهیمَ وَ مُوسی وَ عیسی اَنْ اَقیمُوا الدّینَ وَ لاَ تَتَفَرَّقُوا فیهِ » (3) .

فالإسلام وفق هذا المنظور لا یطرح الدین بصور متعدّدة (

أی : بصورة الأدیان المختلفة ) بل یطرحه بصورة واحدة ، وینظر إلیه کمنهج للتکامل الفردی والاجتماعی لکافّة

المجتمعات البشریّة ، ویشیّد أساس تعالیمه علی الوحدة النوعیّة للمجتمعات ، لأنَّ هذه

المجتمعات لو کانت أنواعا مختلفة ، وکان لکلّ منها هدف ومنهج ، فلابدَّ أن تکون ماهیّة

ص:48


1- الأنبیاء : 92 .
2- البقرة : 213 .
3- الشوری : 13 .

الأدیان ، وکذلک منهجیّة الأنبیاء مختلفة ومتعدّدة(1) .

فی ضوء ذلک فإنَّ للفکر الفلسفی الدینی مضمونا واحدا فی جمیع الأعصار والأمصار وعلی لسان کافّة الأنبیاء . وجاء اختلاف الشرائع السماویّة حسب تفاوت الظروف ، ومن

باب النقص والکمال . فمثل هذه النظرة الکونیّة عن العالم والإنسان والمجتمع تبیّن الوحدة

العضویّة للعالم ، واتّحاد النوع الإنسانی ، والاتّجاه الواحد للمجتمع الإنسانی

.

یوضّح الإسلام علی أساس هذه النظرة مستقبل المجتمعات البشریّة . وفی ضوء نظریّة أصالة الفطرة ، والوحدة الفطریّة للناس ، واعتبار الوجود الاجتماعی للإنسان وحیاته

الجماعیّة ، وحیاة المجتمع وسائل اختارتها الفطرة النوعیّة للإنسان من أجل أن یبلغ أقصی درجات کماله ، فإنَّه یری بأنَّ مستقبل المجتمعات والمدنیّات والحضارات یسیر نحو الوحدة

والالتحام ، ویعتقد - بعد وعی الإنسان وتفتّق مواهبه وتحقّق جمیع قیمه الممکنة

- بأنَّ الوصول إلی المجتمع الواحد المتکامل هو المرحلة الأخیرة للحیاة الاجتماعیّة(2) .

ویمکن الحصول علی هذه النتیجة من خلال نظرة فلسفیّة أیضا ، لأنَّ الحرکة والتکامل یستدعیان بلوغ الکمال فی الإبداع الحکیم . إذَن ، فالإنسان أیضا بوصفه جزءا

من الکائنات ینبغی أن یبلغ الکمال والغایة الوجودیّة فی المستقبل ، ویتوکّأ قانون الطبیعة

علی جمع الأشتات وتوحید المتفرّقات ، وهکذا تقترب الطبیعة من هدفها الأخیر أکثر

. وفیما یخصّ الإنسان أیضا فإنَّ الانشقاقات والتکتّلات الوطنیّة أو القبلیّة ، فی الوقت الذی توحّد أفراد الوطن الواحد أو القبیلة الواحدة فی مجموعة معیّنة ، فإنَّها تجعلهم أمام وحدة أُخری ، فتستمرّ الحرکة من الکثرة نحو الوحدة فی جمیع میادین الحیاة(3) .

وهذا الموضوع - وفق منظور علم الاجتماع - هو علی نفس المنوال ، لأ نّنا عندما نفترض - فی ضوء هذا المنظور - بأنَّ المجتمع یشبه عضوا حیّا ، فإنَّ حرکته ستکون حتمیّة .

وتلک السلسلة من العلل التی أدّت إلی ظهور الحضارات وأُفولها ، ونشوء ظروف الحیاة الاجتماعیّة والقوانین العامّة المهیمنة علی جمیع المجتمعات ، والتی تتعلّق بجمیع الأعصار

وتطوّراتها ، هی قوانین بقاء المجتمعات . وأمَّا ما یتعلّق بأسباب تقدّم المجتمع من مرحلة إلی

ص:49


1- ر . م مکایور « المجتمع والتاریخ » ترجمة علی إبراهیم کنی ص 45 - 46 [ الکتاب مترجم إلی الفارسیّة ] .
2- نفسه .
3- « المیزان فی تفسیر القرآن » للأُستاذ العلاّمة الطباطبائیّ 4 : 133 .

مرحلة أُخری ، ومن نظام إلی نظام آخر فهی قوانین التطوّر .

فالنوع الأوّل هی القوانین الحیاتیّة ، والنوع الثانی هی القوانین التکاملیّة التی تتولّی

فلسفة التاریخ مهمّة دراستها . وتفسّر کیفیّة دراسة المسیرة التکاملیّة للمجتمعات البشریّة

ومقیاس التکامل ومعرفة العوامل التی تقوم بالدور الأوّل فی هذه المسیرة من وجهات نظر

وفلسفات وإیدیولوجیّات متباینة ، بید أنَّ الذی یهمّنا فی هذا البحث هو مبدأ التطوّر

والتکامل الذی ینبغی أن یقود الإنسان نحو الوحدة ، بالرغم من جمیع الاختلافات والتناقضات .

یعتقد أغلب علماء الاجتماع بأنَّ الفُرقة والوحدة لیسا جانبین متناقضین من جوانب المجتمع ، بل إنَّ أحدهما متمّم للآخر فی الحقیقة ، فعاقبة التفرّق ، والتعارض

، والتناقض ، وحتّی الصراع هی اتّساع نطاق الوحدة والتجانس .

إنَّ کلّ صراع ینمی فی داخله مشروع الوحدة ، وهو فی الحقیقة جهد یصبّ باتّجاه تحقیق الوحدة . والتناقضات الاجتماعیّة ، حتّی مع اتّساع رقعتها ، فهی تسیر نحو فنائها

وظهور المجتمع المتجانس المتناسق . وللسباق الاقتصادی والکفاح السیاسی نتائج مماثلة . والکفاح فی فلسفة مارکس قوّة حرکیّة لتطوّر المجتمعات تفضی إلی زوال التناقضات وإحیاء المجتمع اللامتناقض(1) .

من هذا المنطلق ، فإنَّ المارکسیّة لم تتخلّف عن الموکب الفعّال للفکر الواقعی ، ومن

خلال التبشیر بالمجتمع اللاطبقی الواحد ، فإنَّها قد تنبّأت بنوع من الوحدة والتجانس فی آخر مرحلة من مراحلها فی المستقبل البعید ، وهی مرحلة طویلة معیّنة [ بزعمهم ] .

إنَّ جاذبیّة هذا التفکیر الذی أبدعته الأدیان السماویّة قد أفضت بالبعض إلی أن یطرح هذا الفکر المارکسی مع تفسیره الطبقی فی قالب التوحید ، علی شکل مشروع المجتمع اللاطبقی التوحیدی دون الالتفات إلی تناقضاته .

بغضّ النظر عن خطأ منهج الوعی الطبقی ( الدیالکتیک ) ، فإنَّ النتیجة المتمخّضة عن هذا الوعی - کحدّ أدنی - تنسجم فی الظاهر مع النتیجة المتولّدة عن الوعی التوحیدی

ص: 50


1- ینظر : کتاب « علم الاجتماع السیاسی » للبروفسور موریس دورغیه ، ترجمة الدکتور قاضی ، ص 205 . [ الکتاب منقول إلی اللغة الفارسیّة ] .

وأصالة الفطرة والهویّة الواحدة للإنسان ؛ کما أنَّ نظرة علم الاجتماع ، وکذلک النظرة الفلسفیّة والسیاسیّة قد بلغت بنا إلی نفس هذه النتیجة أیضا .

ولکنَّ هذا التماثل هو تماثل فی الظاهر واللفظ فحسب ، فالنتائج المذکورة تختلف فی المعنی تماما ، حیث إنَّ لکلّ منها معنی یخصّها .

إنَّ الوحدة وفق المفهوم المشترک لوجهات النظر المختلفة هی عملیّة اتّحاد المجتمعات البشریّة ، العملیّة التی تسعی بأن تجعل من ذلک المجتمع مجتمعا متجانسا ؛ لکی یتقوّم علی أساس نظم خاصّ . ویمکن أن نعتبر استقرار الاتّکاء المتبادل بین أجزاء الکائن الحی ، أو بین أعضاء المجتمع نوعا من تعریف الوحدة .

هل یعتبر هذا المجتمع الموحّد هو المجتمع المثالی المترف والمستهلک الذی تبشّر به الفلسفات والمدارس الاقتصادیّة فی الغرب ؟ أو هو المجتمع اللاطبقی والمرحلة المثالیّة

للشیوعیّة ، الذی بشّرت به المارکسیّة علی أ نَّه الجنّة الموعودة للمستقبل البعید ؟ أو هو المجتمع الذی ترتکز وحدته وتجانسه علی أساس أکثر میزات الإنسان أصالة ، وهو الفکر والعقیدة والإیمان والهویّة المشترکة ( الفطرة ) ؟

یری الإسلام أنَّ الإنسان کائن حرّ ، ویفسّر تطوّراته وسیره نحو الکمال علی أساس حرّیّته ، ویرفض کلّ ما تفرضه الطبیعة علی الإنسان ذی الفکر والاختیار . ومن هنا فإنَّه

یری ذلک النوع من الوحدة المثالیّة للإنسان التی شُیّدت علی أساس فطرته وهویّته المشترکة وفکره وإرادته ، وکذلک اعتقاده وإیمانه ، وهما مظهرا فکره وإرادته .

إنَّ العامل الاقتصادی ، کما فی معظم المسائل الفوقیّة الأُخری للإنسان ، معلول لظروف خاصّة فی الحیاة الاجتماعیّة . فالحاجات متغیّرة دائما ، وعند ظهور حاجات أکثر

أصالة تزول الحاجات القدیمة والفوقیّة . وحینما تطرح الحاجات الأصیلة للإنسان التی

ترتبط مع عناصره الأصلیّة ، وهی الإرادة والفکر والفطرة والهویّة البشریّة المشترکة ، بمظهر جدید تماما ، فلم یعد هناک مکان للدور الحاسم الذی یؤدّیه الاقتصاد والعوامل

الفوقیّة الأُخری المنبثقة عنه .

وسیصل المجتمع الإنسانی فی مسیرته التکاملیّة إلی مثل هذه الحاجات والظروف حیث تتفتّق مواهب الفرد والمجتمع وتتحقّق قیمهما الإنسانیّة بدون وجود للتناقض

ص: 51

والتعارض

، ویتیسّر استقلال الإنسان فی داخل المجتمع الذی ذاب فیه ، واتّخذ طابع شخصیّته الجماعیّة دون أن یکون هناک اغتراب أو انسلاخ .

وفی مثل هذه الظروف ستتّخذ الحرکة الواحدة ، ویتّخذ التفکیر والطریق والهدف طابع الحرکة المتّزنة . وهذه المجموعة هی تلک الأُمّة الواحدة التی بشّر بها الإسلام ، واعتبر تحقیقها أمرا حتمیّا فی حالة توکّؤ المجتمع علی عنصری الإیمان والعمل الصالح . قال تعالی : « وَعَدَ اللّه ُ الَّذینَ امَنُوا مِنْکُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَیَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِی الاَْرْضِ کَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذینَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَیُمَکِّنَنَّ لَهُمْ دینَهُمُ الَّذِی ارْتَضی لَهُمْ وَلَیُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ اَمْنًا یَعْبُدُونَنی لاَ یُشْرِکُونَ بی شَیْٔا » (1) .

وسیظهر فی مثل هذا المجتمع البشری الموحّد نظام الإمامة ، لا علی النحو الإلزامی ، بل علی نحو ظاهرة سیاسیّة وقیادة متّحدة حتمیّة . ولا تعنی هذه القیادة إیجاد حرکة واحدة

متماثلة وفق ما یریده القائد ویرضاه حیث یتجلّی هنا عنصر الإلزام والقدرة التحکمیّة

، ونوع من الخداع اللامحسوس . کما لا تعنی السیر وراء مشتهیات الرأی العامّ (

السیر وراء رغبة الأفراد ) حیث یکون هناک مفهوم مبتذل عن الحرّیّة . بل تعنی أنَّ التفکیر العملی

للقائد هو مظهر لإرادة المجتمع ورغبته . وتتجلّی الجماعة فی القائد ، ویذوب القائد فی الجماعة . وتظهر هذه الکیفیّة من الحرکة المتجانسة للمجتمع(2) .

یعمل الإسلام علی تقریب المجتمعات البشریّة من المجتمع العالمی الواحد وبلورة کیان الأُمّة ، ویهیئ الأرضیّة لتحقیق ذلک من خلال استراتیجیّة الدعوة إلی مدرسة الفطرة

، وتقدیم الفکر المنسجم مع منطق الفطرة والعقل .

لا شکّ أنَّ المجتمع البشری یصطدم بعقبات کثیرة فی طریقه إلی بلوغ مثل الهدف والوحدة الکبری . فالحکومات اللا شعبیّة عقبة تعیق سیر هذه الحرکة الشعبیّة ، من أجل

الحفاظ علی سلطتها وموقعها السیاسی . ویظنّ الاستکبار والقوی النفعیّة المتسلّطة أنَّ تلک الحرکة تمثّل عائقا یحول دون أطماعهم ، ویقف المستضعفون دائما مقابل المستکبرین والطواغیت فی حرکة المجتمع البشری تلقاء نظام الأُمّة والإمامة .

ص: 52


1- النور : 55 .
2- یرجع إلی کتابنا « الفقه السیاسی » ج 2 ، فصل القیادة فی نظام الإمامة .

وینتصر الإسلام للناس فی تمکینهم من التغلّب علی الطواغیت ( الحکومات المفروضة ) والاستکبار ( القوی المتسلّطة المتفوّقة ) وذلک من خلال الإفادة من استراتیجیّة الجهاد . ویستثمر السلطة العامّة فی مجال التعلیم ، والإرشاد ، والنصح ، والأمر بالمعروف والنهی عن المنکر للوقوف بوجه العقبات الأُخری مثل الجهل ، والتعصّب ، والإعلام المضاد(1) .

فی هذا المشروع المثالی للإسلام ، أی : بلوغ المجتمع البشری مرحلة تشکیل الأُمّة الواحدة وإحلال نظام الإمامة محلّ غیره ، وإلغاء الحکومات المتوکّأة علی السلطات الفردیّة ، لیس الهدف الأخیر هو إقرار السلم والأمن الدولیّین . وبالرغم من أنَّ طبیعة مثل هذا النظام - فی ضوء خصوصیّته الشعبیّة والفطریّة - ستکون ملازمة للسلم والأمن ، بید

أنَّ الخصوصیّة البارزة له - وهی فی الحقیقة هدفه الأخیر أیضا - هی الحرکة الواحدة للمجتمع البشری فی مسیرة مفتوحة خالیة من العقبات نحو تفتّق جمیع المواهب البشریّة الکامنة ، والقیم والمثل الممکنة ، وتنضیج الإنسان فی جمیع أبعاده الوجودیّة الواسعة

.

ویمکن مقارنة الهدف الأعلی لآخر مرحلة فی النظام السیاسی العالمی الواحد ( نظام الأُمّة والإمامة العالمیّة ) بالمرحلة المثالیّة للشیوعیّة التی تتصوّر المارکسیّة أ نَّها الجنّة الموعودة ، وأ نَّها تحظی بخصوصیّة عالمیّة ، وذلک من أجل التوفّر علی وضوح أکثر لذلک

الهدف .

وفقا لرأی مارکس ولینین ، فإنَّ مستقبل البشریّة یتحقّق من خلال عدّة مراحل متوالیة . وتزول الرأسمالیّة بفعل تأثیر التناقضات الداخلیّة للمجتمع ، فتمسک طبقة العمّال بزمام الأُمور . وتتربّع حکومة ثوریّة علی أریکة السلطة بدیلة عن الحکومة البورجوازیّة

التی تمثّل أداة لهیمنة طبقة البورجوازیّین ، فتقضی علی الملکیّة الخاصّة لوسائل الإنتاج ، وتنهی التمییز الطبقی ، وتقوّض الأسباب التی أدّت إلی التناقضات وألوان الاغتراب والانسلاخ . فتبدأ فی أعقاب ذلک المرحلة العلیا للشیوعیّة ، وتأفل الحکومة ، ویعیش

الناس فی مجتمع موحّد متجانس تماما . وهکذا سوف یتنامی الحسّ الاجتماعی فی مجتمع

ص: 53


1- یُرجَع إلی الجزء الأوّل من کتابنا : « الفقه السیاسی » موضوع الإشراف العامّ .

کامل موجَّه نحو المصلحة الجماعیّة(1) .

إنَّ نظریّة المجتمع الموحَّد المثالی عند الشیوعیّة ، بالرغم من أ نَّها تقترح نوعا من

المجتمع العالمی الموحَّد ، بید أ نَّها لا تجیب عن جمیع الأسئلة فی مجال العقبات التی تحول دون بلوغ الناس هذه المرحلة من الوعی . ویحلّ الهدف الجماعی فی هذه النظریّة بدیلاً عن

المصلحة الخاصّة ، وذلک بعد إلغاء الرأسمالیّة التی هی سبب المصالح الخاصّة والتناقضات ؛ ولکن هل ستأتی ظروف مناسبة أیضا للنشاط الحرّ والإبداع وتحمّل المسؤولیّة ؟

ما هی الضمانة علی أنَّ الإنسان سیستعید ازدهاره وسعادته بالشکل الذی کان یطمح إلیه منذ أقدم مراحل التاریخ البشری حتّی الیوم ؟

من أین نعلم أنَّ الإنسان لا ینجرف نحو الجشع ، والتسلّط ، والمصلحة الخاصّة ، والاغتراب والانسلاخ بفعل تأثیر القیم السلبیّة ؟ هل تزول جمیع الأسباب الداخلیّة والنفسیّة للتناقضات السیاسیّة بمجردّ انتهاء الصراع الطبقی والقضاء علی النظام الاقتصادی

الرأسمالی ؟ کیف یمکن أن نتوقّع زوال التناقضات المتعلّقة بالأُمور الجنسیّة أو الفکریّة أو العقیدیّة أو الأنانیّات والعصبیّات بزوال الملکیّة والصراع الطبقی ؟

من جهة أُخری ، ما هو البدیل إذا أفل نجم الحکومة ؟ وکیف تظهر وتتبلور السلطة العامّة المنبثقة عن وحدة المجتمع العالمی ؟ وما هو الاتّجاه والهدف الذی ترمی إلیه ؟

هل المجتمع المثالی عند المارکسیّة مجتمع حرکی أو جامد ؟ ما هی مهمّته ونوع حرکته ونشاطه وإبداعه ؟ فتبدیل الصراع الطبقی بالصراع مع الطبیعة لا یحمل مفهوما واضحا للإجابة عن جمیع تلک الأسئلة العویصة ، وذلک لأنَّ السؤال ما زال قائما .

فما هو الهدف من وراء الصراع مع الطبیعة ، وما هی المبادئ والمصالح الجماعیّة ؟ وما عدا الترف والرفاهیّة ، ما هو المفهوم الذی یمیّز النظام المارکسی المثالی عن النظام المثالی المماثل له فی الغرب(2) ؟

ص: 54


1- ینظر : « علم الاجتماع السیاسی » [ فارسی ] ص 281 - 282 .
2- یحاول معظم المنظّرین المارکسیّین أن یوجّهوا نظریّة المجتمع المثالی التی تتبنّاها الشیوعیّة . لذلک هم یرونأن جمیع التناقضات منبثقة عن الصراع الطبقی . وعندما ینتهی هذا الصراع بموت الرأسمالیّة ، فلا وجود لطبقة أو تناقض ، ولا حاجة إلی جهاز قسری تمثّله الحکومة . فکلّ الناس أحرار فی ظلّ إطاعة القواعد العامّة . وهذه القواعد لا تضرّ أحدا . ولا تبقی من الحکومة إلاّ مجموعة إداریّة مثل شرطة المرور ، تتولّی إدارة الدولة الکبری . إنَّ هذا التوجیه لم یجب عن الاسئلة المطروحة وأسئلة أُخری کثیرة غیرها فحسب ، بل ضاعف مشکلة المارکسیّة أیضا ، لأنَّ الواقع العملی یشهد بأنَّ الحکومة لم تَزُلْ فحسب ، بل أصبحت أکثر اقتدارا ، وتجاوزت حدّها بالتدخّل فی نطاق أکبر ، وتجلّت بشکل أشدّ بطشا وغِلظة .

فی نظریّة النظام العالمی الواحد ، تحلّ الأُمّة محلّ الحکومة ، والسلطات الفردیّة والوطنیّة المحدودة بالحدود الجغرافیّة ، وتتجلّی قیادة مستضعفی العالم المنتصرین ، فی الإمامة العالمیّة . ویواصل المجتمع البشری الموحَّد حرکته المتواترة فی طریق التکامل

بأهداف محدّدة تتلخّص فی السعی من أجل تنضیج جمیع المواهب والقیم الممکنة للإنسان

. ولیس فی مقدور الأهداف المادّیّة ، مثل : وفور النعمة والرفاهة ، أن تشلّه عن مواصلة هذا الطریق اللا متناهی أبدا .

ص:55

الفصل الثالث: من النظرة الواقعیّة إلی الاتّجاه المثالی

المشروع الإسلامی ذو المراحل الثلاث

لا یعنی مفهوم المجتمع العالمی الواحد ، ونظام الإمامة الواحدة للأُمّة ، الذی نسبناه إلی الإسلام أنَّ الإسلام لا یعترف بنظام غیر هذا من أجل بلوغ هذا الهدف ، وأ نَّه یحصر

علاقات الشعوب والحکومات فی العلاقة الجهادیّة ، ویأمر أتباعه بإقامة النظام المثالی بعد إلغاء القومیّات وزوال الحکومات .

وبغضّ النظر عن مثالیّة هذه النظریّة التی لا تنسجم مع النظرة الواقعیّة للإسلام ، فإنَّ

مثل هذا التوجّه یتنافی مع روح الإسلام وطبیعته ، وأنَّ المبادئ السیاسیّة للقرآن ، والسیرة السیاسیّة لرسول اللّه صلی الله علیه و آلهوأئمّة الدین علیهم السلام لا تتوائم مع ذلک .

إنَّ الإسلام ینظر إلی القضایا الدولیّة نظرة واقعیّة ، أو أ نَّه لابدَّ له من الاهتمام بالظروف القائمة فیما یخصّ وجود الشعوب والحکومات ، ولا مناص له من تمهیدات کثیرة لإقامة النظام المثالی وقد طرح مشروعا مؤلّفا من ثلاث مراحل هی :

1 - مرحلة الاتّصالات الدولیّة ، والإفادة من القواعد القانونیّة العادلة فی علاقات الشعوب . یری الإسلام فی هذه المرحلة التی تتماشی - عادة - مع ظروف استقرار الشعوب

والحکومات أنَّ اتّباع نظام قانونی عادل متوکّئ علی العرف والاتّفاقیّات الدولیّة أمر

ضروری . ویرحّب بالمشارکة الفعّالة للشعوب فی الهیئات الدولیّة علی أساس المساواة والحقّ والعدالة والاحترام المتبادل . إنَّ هذا التخطیط هو أسمی من أن یکون تکتیکا ، کما

المشروع الإسلامی ذو المراحل الثلاث

ص: 56

أ نَّه لا یعنی المساومة والتخلّی عن الکفاح والنضال .

2 - یدافع الإسلام فی هذه المرحلة عن أُطروحة الحکومة العالمیّة الواحدة ، وإنشاء مؤسّسة قانونیّة وإقرار قانون دولیّ أساسی ، وذلک من خلال توظیف استراتیجیّتی الدعوة

والجهاد لتوعیة الشعوب وتحریرها ، ومحق الاستکبار وآثاره . إنَّ هذا المشروع لا

یعنی الجمود عند نقطة معیّنة ، أو الانصهار والذوبان فی تنظیم سیاسی عالمی .

3 - فی هذه المرحلة حیث یکون التحرّک صوب الدعوة فی الفکر والعقیدة والهدف من خلال مواصلة استراتیجیّة الدعوة والجهاد ، تتهیّأ الأرضیّة لتنفیذ المشروع الخاصّ بالمجتمع العالمی الواحد ، وتشکیل الأُمّة الواحدة والإمامة الکفوءة ، فیأخذ التخطیط

المثالی للإسلام طریقه إلی التطبیق العملی علی امتداد العصور .

یری الإسلام أنَّ اجتیاز هذه المراحل الثلاث آخر المطاف فی ثلاثة أنواع من الظروف المتناسبة مع کلّ مرحلة ، والمتباینة من حیث المنظور التحلیلی شرط التطوّر الجوهریّ

للمجتمع الإسلامی ، وتکامل الحرکة الجماعیّة للمجتمع البشری . ولابدّ لنا فی البحوث

القادمة أن نوضّح هذا الادّعاء ونبیّنه بنحو استدلالی .

ص: 57

ص: 58

القسم الثانی: أساس القانون الدولیّ فی الإسلام

اشارة

ص: 59

ص: 60

الفصل الاوّل: المبادئ العامّة للقانون الدولیّ فی الإسلام

عرض الموضوع وعنوان البحث

لا تُنکَر الحقائق المسیطرة علی الحیاة الإنسانیّة مهما کانت غیر مرغوبة ، وغیر مقبولة . فینبغی التفکیر بعلاج للظروف المنبثقة عن هذه الحقائق فی کلّ نظام قانونی . ولا یتیسّر تحقیق الأهداف البعیدة إلاّ عبر علاج المشاکل الناجمة عن هذه الظروف فحسب . ما هو المشروع الذی قدّمه الإسلام لبلوغ النظام المثالی للإمامة العالمیّة

، وهو الدین الواقعی والرسالة الشاملة ؟ وما هو الفکر الذی طرحته الدراسة القانونیّة فی الإسلام

بشأن العلاقات المتبادلة بین الدول والشعوب فی ظروف استسلمت فیها شعوب العالم لألوان التفرقة الناشئة عن أسباب مختلفة ، ولم توفَّق إلی الوحدة ، واتّخذ المجتمع البشری طابع الأُسر الکبیرة منقسما إلی شعوب صغیرة وکبیرة تحت غطاء الاستقلال والسیادة الوطنیّة ، وانقسمت جغرافیّة الأرض إلی عشرات المناطق الصغیرة والکبیرة المنفصلة بعضها عن بعض ؟ وما هو النظام والقواعد القانونیّة التی یراها الإسلام مجدیة ومنطقیّة ومقبولة فی هذا المستوی من الضرورة لضمان السلم العادل ، وأمن شعوب العالم ، وأخیرا

اجتیاز هذا الممرّ باتّجاه الأُمّة العالمیّة المثالیّة الواحدة ؟

وجاء الفقه الدولیّ فی الإسلام للإجابة عن هذه الأسئلة ، وهو مشروع تدریجی ومتلائم مع المراحل القادمة تماما . ویعتبر جسرا للعبور ممّا هو قائم فعلاً باتّجاه ما ینبغی أن یکون .

ص: 61

لیس القصد من العناوین المذکورة کالضرورة ، والممرّ ، والمستوی والاجتیاز ، هو أنَّ التصمیم القانونی المتعلّق بهذه العناوین یحظی بأهمیّة أقلّ فی الإسلام ، أو أ نَّه یتعارض مع أهداف الإسلام وأُسسه الأصیلة ، لأنَّ جمیع القوانین والقواعد القانونیّة تدور حول

الحرکة والعبور من الحالة القائمة إلی الحالة الأفضل ، وکافّة هذه القوانین لها حکم ثابت من باطن متغیّر . وحکمها واقعی ثابت حیال الظروف القائمة ؛ وکأنَّ أحکاما جدیدة حلّت محلّ الأحکام السابقة بعد تغییر الظروف القائمة ، ونری فی الفقه الإسلامی دائما أنَّ تبدّل

موضوعات الأحکام وعناوین الأحکام الدولیّة یستدعی إحداث تغییرات جوهریّة فی الأحکام .

ولکن علی أیّ حال فإنَّ هذه القوانین کلّها هی أحکام إلهیّة ، وتحظی بقیم رفیعة کالفطرة ، والعقل ، والوحی . ومن هذا المنطلق ، فلا وجود لاختلاف بینها . وفی جمیع هذه الحالات ، فإنَّ الإنسان - فی جمیع مراحل تحرّکه وتطوّره - هو موضع اهتمام الأحکام . وقد أُخذت الأُسس الاعتقادیّة ، والکیفیّات السلوکیّة الأصیلة ، والخطط الأصلیّة للعمل ، والأهداف العامّة بنظر الاعتبار علی نحو الدقّة .

ومن أجل تلمّس عنوان مناسب لهذا القسم من الفقه الإسلامی الذی یتولّی تبیان العلاقات الدولیّة لمختلف البلدان علی فرض الوجود الظاهری لهذه البلدان بثقافة وتقالید

وقوانین وأفکار متباینة مع النظرة القانونیّة ، فإنَّه ینبغی ، بادئ ذی بدء ، تحدید محتواه ومسائله علی النحو الإجمالی ، لیتّضح اسمه وتعریفه وموضوعه تماما .

لا شکّ أنَّ قصدنا هنا هو ذلک القسم من الفقه الإسلامی الذی ینبری إلی تبیین علاقة الإسلام بالقضایا الدولیّة ، ویحدّد القواعد القانونیّة المتعلّقة بمثل هذا النظام المفروض

والمبادئ المهیمنة علی العلاقات الدولیّة .

إنَّ هذا المحتوی مماثل تماما للتعریف الذی طرحه علماء القانون حول القانون الدولیّ وتطبیقه الجدید ، کما رأینا أنَّ دائرة المعارف الخاصّة بالقانون الدولیّ اختارت هذا التعریف للقانون الدولیّ الجدید ، وهو : « مجموعة القواعد المُلزِمة التی تحکم جمیع العلاقات

الدولیّة » .

فی ضوء هذا التعریف للقانون الدولیّ ، یمکن تأمین الحاجات الموجودة فی العلاقات

ص: 62

الدولیّة بشکل کاف ، والإفادة من جمیع القواعد القانونیّة المسیطرة علی أیّ لون من العلاقات الدولیّة .

یمکن أن تکون هذه المبادئ والقواعد جزءا من القانون الداخلی ، أو أ نَّها تکون منبثقة عن العرف الدولیّ أو المعاهدات الخارجیّة ، سواء کانت سائدة فی علاقات الحکومات أم

الشعوب ، أو کانت سائدة فی علاقات الأفراد أم الدولة الأجنبیّة ، أو کانت مرتبطة بعلاقات الأفراد من قطرین مختلفین .

اختیار الاسم لهذا الفرع من القانون الإسلامیّ

ینبغی أن نری الآن ما هو الاسم والعنوان الأنسب لهذا القسم من الفقه السیاسی . فالعناوین المقترحة هی : القانون الدولیّ فی الإسلام ، الإسلام والقانون الدولیّ ، الإسلام وقانون الشعوب ، الفقه العامّ ، الإسلام والقضایا الدولیّة والفقه الدولیّ فی الإسلام .

لمّا کنّا قد اخترنا سابقا اسما مناسبا لمجموعة المبادئ والمقرّرات الفقهیّة المتعلّقة بجمیع

القضایا الدولیّة والشاملة للنظریّات الثلاث جمیعها ، وهو : الفقه الدولیّ فی الإسلام ، فمن بین العناوین المذکورة أعلاه یمکن أن نختار عنوان القانون الدولیّ فی الإسلام لهذا القسم من الفقه الدولیّ الإسلامی .

أمَّا عنوان الإسلام والقانون الدولیّ من حیث مفهومه المقارن ، وعنوان الإسلام وقانون الشعوب من حیث مفهومه المقارن أیضا ومن حیث عجزه بالنسبة إلی جمیع القضایا الدولیّة ، وعنوان الفقه العامّ من حیث غموضه ، فکلّها لا تصلح أن تکون عناوین مناسبة

لهذا البحث .

إنَّ الاختلاف الشکلی الموجود فی مقارنة العلاقات الدولیّة المعاصرة بالعلاقات التاریخیّة السابقة للشعوب(1) جعل البعض یستعمل ، بدل تعبیر « القانون الدولیّ » الذی ابتکره بنتهام ، تعبیر قانون الشعوب فیما یخصّ القانون الإسلامی المماثل ، وذلک لکی یشمل النماذج التاریخیّة المتنوّعة ، ویفی بالغرض المطلوب .

ص: 63


1- السلم والحرب فی الإسلام ، مجید خدّوری ، نقله إلی الفارسیّة : غلام رضا سعیدی ، طهران ، 1956م ، ص 70 .

کان عنوان البحث الذی طرحه البروفسور أحمد رشید فی أکادیمیّة لاهای حول هذا الموضوع سنة 1937م هو الإسلام والقانون الدولیّ الذی ترجم إلی الفارسیّة تحت عنوان :

« اسلام وحقوق بین الملل عمومی » (1) . [ وتعریبه : الإسلام والقانون الدولیّ العامّ ] .

اختار بعض الکتّاب عنوان : القانون الدولیّ فی الإسلام وذلک من وحی تأکیدهم أنَّ قواعد هذا الفرع القانونی أصیلة وعریقة فی الفقه الإسلامی(2) .

ومع وجود الفهم المقارن عن الإسلام والقانون الدولیّ ، مثل : إیران والقانون الدولیّ

، أو البلدان الاشتراکیّة والقانون الدولیّ ، اختار البعض الآخر أیضا نفس ذلک العنوان ، وهو القانون الدولیّ فی الإسلام ، وذلک أ نَّه قد استُخدم سابقا . وأنَّ نغمة متّزنة کامنة فی مفرداته(3) .

أساس القانون الدولیّ فی الإسلام

بالرغم من أنَّ النقاش حول اختیار الاسم لا طائل تحته ، ولکن یمکن أن یدور حول ما یفهم منه ، وهذا الفهم هو أساس ذلک الاسم . فالذین قاموا باستنباط مقارن بشأن اختیار الاسم بهذا الفرع القانونی فیء الفقه الإسلامی هم فی الحقیقة قد اعتبروا مجموعة

القواعد القانونیّة فی الإسلام بمثابة القانون الداخلی ، وخاضوا فی القانون الدولیّ من ذلک المنظار کما نری فی العنوانین المقارنین الآخرین اللذین ذکرناهما آنفا .

لقد صرّح بهذا الاستنباط مجید خدّوری الذی کان فی طلیعة من استخدموا العنوان المقارن للإسلام والقانون الدولیّ ، فقال :

حقیقة الأمر أ نَّه لا وجود فی الإسلام لقانون الشعوب بمعنی أنَّ هناک فرقا بین القوانین المحلیّة والقوانین الدولیّة . وأ نَّه متوکّئ علی مصادر مختلفة ، ومحفوظ بواسطة وثائق

وأحکام(4) .

ص: 64


1- « الإسلام والقانون الدولیّ العامّ » للدکتور سیّدی [ فارسی ] ، طهران ، مرکز الدراسات الدولیّة العلیا ، 1974م .
2- « القانون الدولیّ فی الإسلام » لجلال الدین فارسی [ فارسی ] ، طهران ، 1965م ، ص 5 .
3- نفسه ص 80 .
4- «السلم والحرب فی الإسلام » لمجید خدّوری ، 75 .

إنَّ الذی دفع هذا الکاتب الحقوقی إلی ارتکاب مثل هذا الخطأ هو اعتقاده بأنَّ قانون الشعوب الجدید یتضمّن قبل کلّ شیء وجود أُسرة من الشعوب تتکوّن من الدول والحکومات المحلیّة والحزبیّة الخاصّة . ولکلّ من هذه الدول والحکومات حقوق متساویة ، مع المحافظة علی الحرّیّة فی وضعها الاجتماعی . ولمّا کان هدف الإسلام هو جعل العالم کلّة تابعا لنظم قانونی ودینی معیّن ، وأنَّ هذا النظم یطبّق بواسطة سلطة الإمام المتفوّقة ، لذلک فإنَّ قانون الشعوب فی الإسلام لا یعترف بکلّ شعب إلاّ شعب الإسلام ، وأ نَّه متوکّئ علی أساس نظریّة الحکومة العالمیّة الواحدة(1) .

إنَّ مشروع الحکومة العالمیّة فی الإسلام لا یلغی فلسفة وجود القانون الدولیّ أبدا ، بل یرسّخها بوصفها ضرورة من الضرورات ، کما ذکرنا ذلک فی بدایة البحث . وأمَّا مرحلیّة

القانون الدولیّ من منظور الإسلام العامّ فلا تعنی وقتیّته التی تفضی إلی إلغائه

. وهذه خاصّیّة القاعدة القانونیّة ، إذ إنَّها متی بلغت الهدف ، وانتفت أرضیّتها وظرفها ، فإنَّها تفقد قیمتها العملیّة . ولا تعنی قیمة القاعدة القانونیّة أنّ لها أن تسود دائما وفی جمیع الظروف والأحوال .

إنَّ الغایة من وجود کثیر من القواعد القانونیّة هی فضّ النزاع ، والنظر فی المخالفات

، وتسویة الدعاوی والشکاوی ، ومن البدیهی أنَّ المجتمع الذی بلغ أفراده مستوی رفیعا من

الوعی والتقدّم ، تنعدم فیه الخلافات والشکاوی والمخالفات ، وبالنتیجة فإنَّ القانون سیفقد الغایة من وجوده ، شئنا أم أبینا ، ولیس فی هذا مؤاخذة علی طبیعة القانون ، کما لا یعدّ مثلبة علی النظام القانونی ، بل هو دلیل علی رقیّ ذلک النظام الذی ظفر بتلک النتیجة

العالیة ، دون أن یفید من وسائل القانون وأجهزته التنفیذیّة .

صحیح أنَّ الهدف الأخیر للإسلام هو تشکیل الحکومة العالمیّة الواحدة ، ولو تحقّق هذا الهدف المثالی یوما ما ، فإنَّ الغایة من وجود القانون الدولیّ ستنتفی ، بید أ نَّه فی الظروف التی لا یتحقّق فیها هذا الوضع ، وأنَّ الشعوب والحکومات الخارجة عن حدود الدولة

الإسلامیّة تعیش بنظم وأفکار أُخری لأسباب متنوّعة ، وأنَّ العلاقات بین الشعوب الإسلامیّة وغیر الإسلامیّة ضرورة من الضرورات ، فالحاجة إلی قواعد قانونیّة تنظّم هذه

ص:65


1- «السلم والحرب فی الإسلام » لمجید خدّوری ، ص 71 - 72 .

العلاقات بنحو عادل أمر لا مندوحة منه .

ومن المستساغ أنَّ الفرض المسبق للقانون الدولیّ هو وجود نظام دولیّ وأُسرة کبیرة من الشعوب تتألّف من الدول والحکومات المختلفة والسیادات المتنوّعة ، ولکلّ من هذه الحکومات وضعها الاجتماعی والسیاسی ، والاعتقادی ، والثقافی الخاصّ ، وینبغی أن تتمتّع بحرّیّة الإرادة وحقّ المساواة ، غیر أنَّ هذا الکلام لا یعنی الاحتفاظ بالظروف

القائمة ، مهما کلّف الأمر ، من أجل إبقاء الغایة من وجود القانون الدولیّ وموقعه . فوضع القانون والنظام الدولیّ کلیهما هو من أجل الوصول إلی السلم والأمن والعدالة علی الصعید

العالمی . والآن لو أنَّ المجتمع البشری بلغ الوحدة عن طریق آخر ، وتبلور فی نظام متّحد ، وبعد إلغاء جمیع أسباب التفرقة ، وکسر الحواجز والحدود التی جعلته شعوبا وحکومات مستقلّة ، بلغ أهدافه المذکورة دون الحاجة إلی قواعد القانون الدولیّ ، فهل یتمّ تأمین

الهدف الجوهری ؟ وما هی الضرورة التی تجعل الاحتفاظ بالفروض المسبقة للقواعد القانونیّة مُلزِما ؟ مثلاً فی القانون الجنائی ، یطرح نقاش حول مقرّرات العقوبة علی جریمة مثل السرقة ، فهذا لا یعنی أنَّ السرقة ینبغی أن تکون موجودة فی المجتمع . ولو طرحت

خطّة لاستئصال السرقة ، فلا تعنی إلغاء الغایة من وجود القانون الجنائی ، والتعریض

بقواعده القانونیّة .

إنَّ کثیرا من المقرّرات والقواعد القانونیّة تتغیّر ذاتیّا بتغیّر الموضوع . والمدرسة القانونیّة فی الإسلام تراعی الظروف القائمة ، فهی تقدّم نوعا معیّنا من المقرّرات والقواعد القانونیّة فی الظروف التی توجد فیها شعوب مستقلّة وحکومات منفصلة بعضها عن بعض ، فی حین تقترح خططا أُخری فی الظروف التی تتوحَّد فیها الشعوب والحکومات ، ویکون فیها نزوع نحو وحدة العقیدة والهدف ، وهذا لا یعنی أنَّ القانون الدولیّ -

من منظور إسلامی - ملغیً أو هو مؤقّت .

ونظرا إلی خلود الأحکام الإسلامیّة ، فإنَّ جمیع المقرّرات القانونیّة فی الإسلام أبدیّة خالدة ، ولا تتغیّر إلاّ ظروفها الموضوعیّة .

لا شکّ أنَّ الإسلام یعتبر انفصال الشعوب بعضها عن بعض ، وألوان التفرقة ، والتکتّلات السیاسیّة منافیة للفطرة الإنسانیّة وطبیعة الحیاة الاجتماعیّة للإنسان ، سواء

ص: 66

کانت علی شکل حکومات مستقلّة أو علی شکل نُظُم دولیّة . بید أنَّ مفهوم هذه النظریّة فیما

یخصّ القضایا الدولیّة هو کإلغاء قیمة السرقة فیما یخصّ المقرّرات الجنائیّة .

ویری الإسلام أنَّ الاستکبار ، والأسالیب الطاغوتیّة ، والأفکار المعادیة للإنسانیّة هی الأسباب التی تؤدّی إلی التفرقة القومیّة والسیاسیّة . ویحاول أن یستأصل هذه الأسباب من الحیاة الجماعیّة للإنسان . ولکنّه - عند وجود الشعوب والحکومات - یعتبر

سیادة المبادئ والقواعد القانونیّة العادلة أمرا لا مندوحة منه . ومن الواضح جدّا أنَّ رفض فرض مسبق لقاعدة قانونیّة أو قبوله لا یعنی رفض القاعدة أو قبولها .

لا یمکننا أن نطرح المدرسة القانونیّة فی الإسلام بوصفها نظاما للقانون الداخلی ، حتّی

یُنظَر إلی القواعد القانونیّة المتعلّقة بالعلاقات الدولیّة فی الإسلام علی أ نَّها جزء من القانون الداخلی ؛ کما أنَّ جمیع المقرّرات المتعلّقة بالسیاسة الخارجیّة لبلد من البلدان تعتبر جزءا من القانون الداخلی ما دامت مرتبطة بدستور ذلک البلد .

إنَّ المخاطبین بالقواعد القانونیّة فی الإسلام لیسوا المسلمین فقط ، أو شعب ونطاق خاصّ من الأرض .

فالإسلام مدرسة عامّة شاملة للبشریّة جمعاء ، وله نظام قانونی کامل یحکم العلاقات الداخلیّة والخارجیّة ، ومقرّرات عادلة مناسبة تلائم الظروف المختلفة للحیاة الاجتماعیّة . وبعض هذه القواعد القانونیّة یحکم علاقات الأفراد والجماعات داخل المجتمع السیاسی والحکومة الواحدة ، وبعضها یرتبط بالأُسرة البشریّة وعلاقات الشعوب ، والبعض والآخر یحکم حیاة الإنسان فی النظام الذی یسود العالم کلّه بوصفه وطنا واحدا للبشریّة .

فالحقیقة هی أنَّ الإسلام متی اتّخذ طابعا قانونیّا بوصفه مدرسة فکریّة ومصدرا لنظام قانونی فی دولة ما - کما یلاحظ ذلک فی نظام الجمهوریّة الإسلامیّة الإیرانیّة - فإنَّ المقرّرات التی تحکم العلاقات الخارجیّة والخطوط العامّة للسیاسة الخارجیّة الخاصّة بتلک الدولة ، والتی تشکّل جزءا من دستورها- ولو کانت منطبقة مع الموازین الإسلامیّة - تعتبر قسما

من القانون الداخلی ، ولکنَّ هذا النوع من التیّار المقارن لا یُخرج الإسلام أبدا عن شمولیّته ونظرته العامّة حیث ینظر إلی جمیع العلاقات الإنسانیّة ، والعلاقات الداخلیّة والخارجیّة

نظرة واحدة .

ص: 67

ولا یمکن تشبیه الإسلام بالمارکسیّة فی القضایا المتعلّقة بالقانون الدولیّ ؛ کما فعل البعض عندما أراد أن یعرض رأی الإسلام والمارکسیّة فی القانون الدولیّ علی أ نَّه رأی

واحد عنوا بذلک أنَّ الاتّحاد السوفیتی [ سابقا ] والأقطار الأُخری التی تقرّ بالمارکسیّة بوصفها الرکیزة الفکریّة للنظام السیاسی ، قد اعترفت بالقانون الدولیّ المعاصر علی النحو المؤقّت ، وأنَّ سیاستها وخطّها العامّ هو استثمار هذا الطریق للوصول إلی الحکومة الشیوعیّة

العالمیّة(1) . واضطرّت مثل هذه الأنظمة السیاسیّة من أجل علاج کثیر من التناقضات الموجودة إلی تهذیب الآراء القانونیّة للمارکسیّة ، وتجاهل بعض القضایا ، والتسلیم لنوع

من التساوم ، وفی نفس الوقت ، فإنَّ المارکسیّة تری أنَّ الثورة هی الطریق الوحید لتحقیق الحکومة الشیوعیّة العالمیّة .

أمَّا فی المدرسة القانونیّة فی الإسلام ، فإنَّ مبدأ احترام الإنسان من حیث اختیاره ، والاعتراف الصریح بکرامته الرفیعة فی سیادته علی مصیره ، یحولان دون ممارسة الأسالیب التعسّفیّة اللا منطقیّة من أجل قبول مشروع شمولیّة الإسلام ، ومجالات الوصول

إلی مثل هذا المشروع المثالی ترتبط بکیفیّة الوعی والتقدّم الثقافی والعقیدی للمجتمع

البشری ، ولا تتحقّق إلاّ من هذا الطریق ، ویُراعی مبدأ الحرّیّة واحترام التفکیر الحرّ للإنسان فی جمیع المراحل .

وبالرغم من أنَّ انفصال الشعوب والحکومات بعضها عن بعض زائل من وجهة نظر الإسلام والمارکسیّة ، إلاّ أنَّ الأُسلوب الذی ینتهجه کلّ منهما لتحقیق وحدة العالم الإنسانی وإقامة الحکومة العالمیّة الواحدة متباین تماما . فالإسلام یری بأنَّ مشروع الوحدة یتوکّأ

علی مبدأ الحرّیّة واحترام کرامة العقل واختیار الإنسان وتقدّم المجتمع البشری . أمَّا

المارکسیّة فإنَّها تری أنَّ الوحدة لا تتحقّق إلاّ عن طریق ممارسة الأسالیب التعسّفیّة

ودکتاتوریّة البرولیتاریا .

مضافا إلی ذلک فإنَّ المعنیّ بخطاب المارکسیّة هو المجتمع

، أمَّا المعنیّ بخطاب الإسلام فهو الفرد والمجتمع معا ؛ لأنَّ الإسلام یری أنَّ وعیهما معا لا یقبل الانفصال ، وأنَّ للإنسان

ص: 68


1- « الاتّحاد السوفیتی والقانون الدولیّ » لتارا غوزیو ، ص 10 نقلاً عن کتاب « السلم والحرب فی الإسلام » لمجید خدّوری ، ص 72 .

شخصیّة ذات بعدین .

من البدیهی أنَّ مفهوم أصالة التقوی وقیمتها السامیة فی الإسلام ، واعتبارها معیارا فی التقویم ، وتفوّق قیمتها بالموازنة مع القیم العنصریّة والقبلیّة ، والطبقیّة

، والجغرافیّة ، وغیرها من القیم المادّیّة ، کلّ ذلک لا یعنی أنَّ الإسلام ذو نزعة فردیّة ؛ کما أنَّ الاهتمام بهذه القیم لا یعنی تأصیل المجتمع والاعتناء بشأنه .

إنَّ الهدف الجوهری لجمیع المقرّرات والقواعد القانونیّة فی الإسلام ، سواء علی صعید العلاقات الفردیّة أو الاجتماعیّة أو الدولیّة ، هو تقدّم الإنسان ورقیّه . ولهذا السبب ، فلابدَّ من مقیاس التقوی بوصفه أساسا فی کافّة العلاقات الأصلیّة .

موقع القانون الدولیّ من النظام القانونی فی الإسلام

یقول هیجو کراب فی کتابه : « النظریّة الحدیثة حول الحکومة » : إنَّ الفرق بین القانون الدولیّ الجدید والقانون الداخلی ( المحلّی ) هو أنَّ الأوّل تفصیل للثانی . وعندما یخرج القانون الداخلی من إطار شعب ونطاق خاصّ ، فإنَّه سوف یُدعی : قانون الأُمم .

ویقول اندرس ودیرک فی کتابه : « النظریّة العامّة للقانون والحکومة » :

إنَّ نماذج القانون المحلّی والقانون الدولیّ واحدة . إلاّ أنَّ نماذج القانون المحلّی بدائیّة

وناقصة .

أُکملت هذه النظریّة فیما بعد ، فأسفرت عن طرح نظریّة الوحدة القانونیّة . وبناءً علی رأی الأنصار الجدد لهذه النظریّة ، مثل : جرجل ، ولوفورا ، وکلسن فإنَّ نظام القانون

الداخلی والقانون الدولیّ مظهر لمبادئ محدّدة تحکم النشاطات الاجتماعیّة للإنسان

، وهناک علاقة منطقیّة بین الاثنین دائما .

وهکذا یتّضح أنَّ وحدة النظام القانونی فی الإسلام لا تعنی إلغاء القانون الدولیّ ، بل تعنی أنَّ مفهومه القانونی هو العلاقة المنطقیّة بین الأقسام المختلفة للنظام القانونی . ویمکن دراسة وحدة النظام هذه بالعلاقة المنطقیّة من نواح مختلفة :

1 - إنَّ مصادر القانون فی الإسلام بقسمیه الخاصّ ، والعامّ الداخلی والعامّ الخارجی هی مصادر واحدة تماما . ومرجعه الأصلی فی الأحکام التأسیسیّة : هو الوحی ، وفی

ص: 69

الأحکام الممضاة : العرف ، والأدلّة الکاشفة عن الوحی هی الکتاب ، والسنّة ، والإجماع

، والعقل .

2 - إنَّ أُسس جمیع الفروع القانونیّة فی الإسلام واحدة أیضا . والفطرة الإنسانیّة هی

الأساس الجوهری للقواعد القانونیّة فی الإسلام . وأمَّا الضرورات والحاجات المتغیّرة فقد أقرّت بوصفها أساسا ثانویّا فی القانون الإسلامی .

3 - من الناحیة الموضوعیّة ، فإنَّ العلاقات الإنسانیّة فی الحیاة الاجتماعیّة هی موضوع النظام القانونی الواحد فی الإسلام ، وفی هذا المجال ، لیس هناک اختلاف جوهری

فی العلاقات التی تربط الأفراد فیما بینهم أو فی علاقات الفرد بالحکومة ، أو علاقات

الحکومة بحکومة أُخری .

4 - إنَّ أنصار النظریّة المزدوجة لنُظُم القانون الداخلی والقانون الدولیّ یقولون بأنَّ

نظام القانون الداخلی قد ظهر بالتدریج وهو متکامل ، فی حین أنَّ نظام القانون الدولیّ نظام بدائی ، ولیس له سلطة تشریعیّة .

إنَّ هذا اللون من الازدواجیّة لیس له وجود فی النظام القانونی فی الإسلام أیضا ، حیث انبثقت أقسامه المختلفة من نظام واحد وجهاز تشریعی واحد ( الوحی ) .

5 - لا وجود لأیّ تعارض بین قواعد القانون الداخلی ومقرّرات القانون الدولیّ فی النظام الإسلامی إذ یسود بینهما الانسجام والوحدة والسمة القانونیّة الواحدة .

6 - من ناحیة الإقرار ، فقد أقرّت أیضا القواعد القانونیّة الخاصّة بالشؤون الدولیّة فی

القانون الداخلی ، وروعیت أیضا مبادئ القانون الداخلی وقواعده فی المقرّرات الدولیّة فی الإسلام . إنَّ هذا اللون من الإقرار هو غیر مبدأ تعارض القواعد القانونیّة فی البعدین

الداخلی والخارجی ، المذکور فی الفقرة المتقدّمة . فمفهومه هنا یماثل ما یلاحظ الیوم فی دساتیر بعض البلدان نحو : أمیرکا ، وفرنسا ، حیث أقرّت بالقوانین الدولیّة ، وأیّدت

تقدّمها علی القوانین الداخلیّة .

من الضروری هنا التذکیر بأنَّ هناک اختلافا بین أنصار نظریّة وحدة النظام القانونی حول تقدّم القانون الداخلی علی القانون الدولیّ أو تقدّم الأخیر علیه ، بید أنَّ هذا الموضوع لا وجود له فی القانون الإسلامی ، لأنَّ عدم تعارض الأقسام المختلفة للقانون الإسلامی

ص: 70

یحول دون ظهور أوضاع تحتاج إلی تقدیم قسم علی قسم آخر .

أمَّا فی مواضع التعارض والاختلاف فی الاستنباط والتنازع ، فإنَّ مبدأ التحکیم وتشکیل المحکمة الدولیّة یمکن أن یعالج المشاکل القائمة .

نعتقد أن مؤلّف کتاب « السلم والحرب فی الإسلام » قد أحرز قصب السبق فی تبیان بعض قواعد القانون الدولیّ فی الإسلام ، بالرغم من الأخطاء التی وقع فیها بشأن تقویم

قانون الشعوب فی الإسلام ( وقد وضّحنا بعض تلک الأخطاء ) ، لکنَّه یستحقّ الثناء لما

ذکره فی هذا المجال ، حیث قال :

إنَّ قانون الشعوب فی الإسلام لیس مجموعة منفصلة عن القوانین الإسلامیّة الأُخری ، بل هو تفصیل وتوسیع لقوانین ینبغی أن تسود علاقات المسلمین مع غیرهم ، سواء فی داخل دار الإسلام أو خارجها (1) .

فالمفهوم الدقیق لهذه النظریّة هو الوحدة القانونیّة ووجهات النظر المشترکة فی نظام القانون الإسلامی التی تمّ توضیحها فی عدد من الفقرات .

ومن أجل تحدید القانون الدولیّ فی النظام الإسلامی لا یمکن اختیار نظریّة أرجحیّة القانون الدولیّ ، أو أرجحیّة القانون الداخلی ، بید أ نَّا إذا أخذنا فی هذه الدراسة أهداف التشریع والآراء المثالیّة فی الإسلام بعین الاعتبار ، فإنَّ الهرم المرسوم عن هذه القواعد القانونیّة لنیل تلک الأهداف یعکس أهمیّة القانون الدولیّ فی الإسلام وموقعه فی حقل

الأهمّ حسب قاعدة تقدّم الأهمّ علی المهمّ .

وینبغی الالتفات هنا أیضا إلی أنَّ رعایة المبادئ الفطریّة فی المقرّرات القانونیّة الأساسیّة للإسلام فی القانون الدولیّ لا تعنی تقدّم القانون الداخلی علی القانون الدولیّ ، لأنَّ هذه المبادئ الفطریّة قد روعیت بصورة متساویة فی جمیع الأقسام المتنوّعة للقانون

الإسلامی ، ومن هذا المنطلق لم یؤخذ بعین الاعتبار أیّ تقدّم أو تأخّر .

إنَّ الذین فسّروا النظریّة التوحیدیّة بتفوّق القانون الداخلی علی القانون الدولیّ ، تصوّروا - من حیث لا یشعرون - أنَّ النظام القانونی فی الإسلام یعتبر قانونا داخلیّا ، وقدّموه علی القانون الدولیّ بسبب أحقیّته .

ص:71


1- «السلم والحرب فی الإسلام » [ إنجلیزی ] ص 74 .

تعریف القانون الدولیّ فی الإسلام

فی ضوء ما تقدّم من إیضاحات ، یمکن أن نعرّف القانون الدولیّ فی الإسلام کالآتی : القانون الدولیّ فی الإسلام هو مجموعة المبادئ والقواعد القانونیّة التی تنظّم المسائل المختلفة فی العلاقات الدولیّة .

لقد أُطلق اصطلاح القواعد فی هذا التعریف بمعناه الأعمّ ، أی : جمیع المقرّرات الملزِمة

التی تنظّم العلاقات الاجتماعیّة . وینبغی أن لا یلتبس مع الاصطلاح الفقهی الذی یطلق

علی القضایا الفقهیّة العامّة - حیث تظهر الأحکام العامّة المتعدّدة فی الموضوعات الفقهیّة

المتنوّعة من کلّ حالة من حالات تلک القضایا والقواعد(1) . کما أنَّ مفهوم الحقوق [ القانون ] هنا أیضا قد استعمل بالمعنی المتعارف فی الدراسات الحقوقیّة [ القانونیّة ] أی : القواعد العامّة الملزمة التی تنظّم الحیاة الاجتماعیّة . ویختلف تماما عن الاصطلاح الفقهی لهذه الکلمة ، إذ إنَّ ( حقوق ) جمع حقّ ، ویعنی نوعا من الحرّیّة والاختیار ، حیث یستطیع الإنسان - فی ضوئه - أن یقوم بعمل ما ، أو ینتهی عنه ؛ کما أنَّ هذه الکلمة قد أُطلقت فی المحاورات الفلسفیّة ، وتعنی - علی الأغلب - الأمر الثابت الذی له وجود ظاهر خارج ذهن الإنسان .

وقد عبّروا عن المعنیین الأوّلین فی اللغة الإنجلیزیّة عادة : Law . وفی اللغة الفرنسیّة ، الأوّل ( Loi ) بمعنی ( قانون

) ، والثانی ( Droit ) بمعنی ( حقوق ، جمع : حقّ ) .

إنَّ تعریف القانون الدولیّ فی الإسلام بأ نَّه « مجموعة القواعد القانونیّة التی تحکم العلاقات الدولیّة لبلد إسلامی » لا ینسجم مع التعریف المتداول للقانون الدولیّ ( مجموعة القواعد القانونیّة التی تنظّم العلاقات الدولیّة ) فحسب ، بل یهبط بمفهوم القانون الدولیّ فی الإسلام إلی مستوی قوانین فی السیاسة الخارجیّة لبلد ما .

ص: 72


1- یری بعض الکتّاب أنَّ القانون الدولیّ الإسلامی - بما یحمله من معنی ، وهو دراسة القواعد والقوانین التی تحکم علاقات الأقطار الإسلامیّة - لا یستحقّ اسم : القانون الدولیّ العامّ ، بل یلیق به اسم : القانون الدولیّ الخاصّ . ولهذا السبب فإنَّهم اعتبروا القانون الدولیّ الإسلامی مقبولاً - فحسب - علی صعید اختیار القضایا المتداولة فی القانون الدولیّ المعاصر ، وشرح الآراء الإسلامیّة بشأن تلک القضایا ( یرجع إلی کتاب « الإسلام والقانون الدولیّ » للدکتور ضیائی بیگدلی ، ص : 20 ، 21 [ فارسی ] ) . وهذا کلام ، مضافا إلی أ نَّه لم یستعمل اصطلاح القانون الدولیّ الخاصّ بمعناه المتداول هذا الیوم ، فإنَّ أصحابه تجاهلوا الإسلام بوصفه مدرسة تخاطب جمیع الشعوب ، وله قواعده الخاصّة لتنظیم علاقاتها .

صحیح أنَّ أحد الجوانب فی ضوء القانون الدولیّ فی الإسلام هو دار الإسلام أو أحد الأقطار الإسلامیّة دائما ، بید أنَّ هذا لا یعنی أنَّ قواعد القانون الدولیّ فی الإسلام جاءت لتوضیح واجبات الحکومة الإسلامیّة وتحدید سیاستها الخارجیّة فحسب .

إنَّ النظرة الشمولیّة للإسلام تهتمّ بالعلاقات الدولیّة بشکل عامّ ، وتخاطب کافّة الحکومات من أجل نیل الأهداف الخاصّة ، نحو : السلم والأمن العادلین ، وإعداد الأرضیّة

للتوکّؤ علی المشترکات الإنسانیّة ، والرجوع إلی الفطرة البشریّة الواحدة . وتقدّم مبادئ وقوانین عادلة فیما یخصّ العلاقات بین الشعوب .

ولمّا کانت الدولة الإسلامیّة أو دار الإسلام مسؤولة عن تحقیق أهداف النظام القانونی فی الإسلام ، فإنَّ لها دورا تنفیذیّا مؤثّرا خلال ذلک . وینبغی أن تکون دائما سبّاقة إلی تقدیم هذا النظام القانونی وتطبیقه وتمسک بزمام الأُمور .

من هذا المنطلق یمکن القول بأ نَّه متی کانت القواعد القانونیّة الخاصّة بالعلاقات الدولیّة فی الإسلام تتّصل بدولة إسلامیّة ما أو بدار الإسلام ، فإنَّها تتّخذ طابع القواعد والمبادئ التی تحدّد السیاسة الخارجیّة لتلک الدولة أو دار الإسلام ، وموقفها حیال العالم الخارجی وفی میدان العلاقات الدولیّة . ومتی ما کانت تلک القواعد مرتبطة بالقضایا الدولیّة ؛ فإنَّها تتّخذ طابع القانون الدولیّ .

علی سبیل المثال ، عندما تتّخذ إحدی الدول ، مثل الجمهوریّة الإسلامیّة الإیرانیّة

، من قوانین الإسلام أساسا لتنظیم علاقاتها العامّة ، وتتولّی مهمّة تطبیق النظام القانونی فی الإسلام بوصفه فکرا رسالیّا ، فلابدَّ لها من تحکیم بعض المبادئ فی سیاستها الخارجیّة ، نحو : « سعادة الإنسان فی المجتمع البشری برمّته » و « الاستقلال والحرّیّة وحکومة الحقّ والعدل ، وهی من حقّ جمیع أبناء العالم » ، و « إقرار العلاقات السلمیّة المتبادلة » (1) ، وستتّخذ هذه المبادئ طابع القانون الداخلی ، وتکون جزءا من قوانین هذه الدولة الإسلامیّة .

ولکن من جهة أُخری فإنَّ هذه القوانین والقواعد العامّة ، بغضّ النظر عن تطبیق إحدی الدول لها فی سیاستها الخارجیّة ، عندما تناقش فی مجال القضایا الدولیّة ، بصفة

ص: 73


1- المادّة الرابعة والخمسون بعد المائة من دستور الجمهوریّة الإسلامیّة الإیرانیّة .

عامّة

، فإنَّها تعتبر قسما من القانون الدولیّ فی الإسلام ، لأ نَّها تعکس الآراء القانونیّة

للرسالة الإسلامیّة فیما یخصّ النظام الدولیّ وترکیبته القانونیّة .

فی ضوء هذا التوضیح ، یمکننا أن نقف علی الخطأ الذی ارتکبه البعض فی تبیان المفهومین المتباینین : السیاسة الخارجیّة للحکومة الإسلامیّة ، والقانون الدولیّ الإسلامی . ونلتفت إلی أ نَّنا کیف نعتبر قواعد السیاسة الخارجیّة للدولة الإسلامیّة ضمن قواعد

القانون الدولیّ ، مع وجود التباین فی مفهوم کلّ منهما ؟

أجاب أحد الکتّاب عن السؤال المطروح حول وجود القانون الدولیّ فی الإسلام ، وتعریفه ، وبیّن ذلک بصورة غیر مباشرة قائلاً : إذا اعتبرنا فلسفة تأسیس العلم الخاصّ

بالقانون الدولیّ علی أ نَّها تغییر فی علاقات الشعوب ، وصدّ لاعتداء الأقویاء والمقتدرین ، ومساواة وأُخوّة بین الناس ، فینبغی أن نذعن بأنَّ نبی الإسلام صلی الله علیه و آله کان الواضع الأوّل للبنات القانون الدولیّ(1) .

إنَّ مشروع الأخلاق الدولیّة - بوصفها مجموعة قواعد تنظّم السلوک الإنسانی ، وتکسب قوّتها الملزمة فی تطبیق معاییر الخیر والشرّ من الاعتقاد الباطنی للناس - اقتراح

جدید طرحه الکاتب المدافع عن الإسلام فی الغرب : مارسل بوازار(2) ، ودافع عنه بشدّة بدیلاً عن القانون الدولیّ الذی أثبت عجزه .

إنَّه یعتبر عالمیّة القانون الواقعیّة رهنا لاستکمال الضمیر العامّ فحسب ، ویحاول أن یقدّم قواعد القانون الدولیّ فی الإسلام علی أ نَّها نوع من نظام الأخلاق الدولیّة

، وذلک من خلال إضافته المبدأ القائل بأنَّ الضمیر العامّ مؤشّر لنوع عن المعیار الذی یکمن فی

الأخلاق .

ولمّا کان یری أنَّ اتّساع التعمیم التدریجی للضمیر العامّ ممکن علی أساس القیم العالمیّة ، فإنَّه یستنتج علی أنَّ من أراد - حقّا - أن تتحقّق العدالة الدولیّة

، وینعم العالم الإنسانی بالسلم والسعادة الحقیقیّة ، فعلیه أن یتعرّف علی نظام الأخلاق الدولیّة فی

الإسلام ، ویدرک مدی أهمیّة العالم الإسلامی ؛ ویجدّ فی إقرار نظام دولیّ جدید علی أساس

ص: 74


1- یرجع إلی کتاب : « الإسلام فی العالم المعاصر » ص 270 لمارسل بوازار .
2- یرجع إلی کتاب : « حمایة البشریّة فی الإسلام » ص 11 - 12 .

ذلک

. ویتخلّی عن أفکاره السقیمة فی هذا المجال . تلک الأفکار التی کانت سائدة فی غرب الأرض علی الصعید الاجتماعی والفکری والحضاری منذ أربعة عشر قرنا وما زالت حتّی الیوم(1) .

إنَّ الأخلاق والقانون متباینان من حیث الهدف ، والأساس ، وصفة الإلزام والضمانة التنفیذیّة . فهدف الأخلاق : کمال الإنسان ، وهدف القانون : النظم المطلوب . وأساس

الأخلاق : الخیر والشرّ ، وأساس القانون : العدالة . وتفتقد الأخلاق صفة الإلزام وضمانة التنفیذ بسبب توکّؤها علی الضمیر والوجدان ، بینما نجد القانون ، وبسبب طبیعته الاجتماعیّة ، یمتلک صفة الإلزام وضمانة التنفیذ بواسطة الحکومة .

بالرغم من أنَّ الفکر المادّی قد فصل القواعد القانونیّة عن الأخلاق ، لکنّنا نری أنَّ الجذور الأصلیّة لمعظم القواعد القانونیّة هی الأخلاق . وأنَّ استثمار الضمیر العامّ للمجتمع فی المحافظة علی النظم وتطبیق القانون یستدعی أن یسنّ المشرّع القواعد القانونیّة علی

أساس القواعد الأخلاقیّة ، حتّی أنَّ ما تعتبره الحکومة قانونا ، یعتبره الناس خیرا .

فی ضوء هذا التوضیح ، فإنَّ طرح نظام الأخلاق الدولیّة بدیلاً عن قواعد القانون الدولیّ ، إمَّا ناتج عن الشعور بفقدان الضمانة التنفیذیّة وصفة الإلزام فی القانون الدولیّ ، وبشکل عامّ ، فقدان الخصائص الأربع للقاعدة القانونیّة فی نظام القانون الدولیّ المعاصر ، وإمَّا ناتج عن أ نَّه بالرغم من جمیع المحاولات المبذولة لتأمین الهدف ، والأساس ، وصفة الإلزام ، وضمانة التنفیذ فی القانون الدولیّ المعاصر ، فلا أمل بالحصول علی النتائج المنشودة فی الظروف العالمیّة المعاصرة والمقبلة ، وبالنتیجة یتولّد اطمئنان أکثر بتطبیق الأخلاق .

تلاحظ الیوم توجّهات طائشة نحو هذا التفکیر . وثمّة حقوقیّون - ممّن یواکبون الأفکار الجدیدة ، وتأسیس المجتمع الدولیّ علی أساس کیانات حدیثة ومعاییر متفوّقة من

القانون الدولیّ - یحاولون علاج المشاکل المستعصیة للقانون الدولیّ المعاصر ، والظفر بنظام متقن متوکّئ علی الأخلاق .

هذه المحاولات الإنسانیّة تستحقّ الثناء ، بید أنَّ تطبیقها علی النظام الدولیّ فی

ص:75


1- الإنسانیّة فی الإسلام ، القسم الأخیر من الکتاب وهو تحت عنوان « الطریق الإسلامی » [ فارسی ] ص 321 .

الإسلام لا یمکن أن یکون مقبولاً . وکما أنَّ الإسلام یؤکّد - فی النظام الداخلی - توطید الأواصر الأساسیّة بین القانون والأخلاق ، وتخصیص حقل مستقلّ للقانون ، فکذلک یُؤکّد فی النظام الدولیّ فی أوّل مرحلة من مشروعه ذی المراحل الثلاث ضرورة تطبیق سلسلة من القواعد القانونیّة فی علاقات الشعوب . وهذه القواعد تتمتّع بجمیع المواصفات

اللازمة من حیث الهدف ، والأساس ، وصفة التلازم ، وضمانة التنفیذ .

إنَّ تأکید الإسلام فی نظامه القانونی أن یکون تطبیق القانون متوکّئا علی الإیمان ومنطلقا من وحی العقیدة ، هو فی الحقیقة لإکمال الضمانة التنفیذیّة لحقل القواعد القانونیّة ، ولا وجود لأیّ منافاة بینه وبین مواصفات القواعد القانونیّة ، ولا یستدعی الخلط بین

حقل القانون وحقل الأخلاق .

لا شکّ أنَّ میزة الإسلام فی تلمّسه مصادر القانون الدولیّ فی العقیدة والإیمان أکثر من

الطرق العملیّة ، هی من أبرز میزات القانون الدولیّ فی الإسلام بالموازنة مع القانون الدولیّ المعاصر .

ولو درسنا حجم التأثیر الذی تترکه العقیدة والمظاهر المعنویّة فی الممارسات الاجتماعیّة ( وهو أساس القانون الجدید ) ، فإنّنا سنقف علی أهمیّة هذه المیزة أکثر .

بید أنَّ مفهوم هذه المیزة ، مع غایة الأهمیّة التی علیها ، لا یعنی أنَّ النظام القانونی فی الإسلام ، حتّی فی بعده الدولیّ ، معرّض للنقاش والمؤاخذة ، أو أ نَّه یستدعی أن تکون الأخلاق الدولیّة فی الإسلام بدیلاً عن القانون الدولیّ الإسلامی .

ص: 76

الفصل الثانی: تأسیس القانون الدولیّ فی الإسلام وتدوینه

اشارة

إنَّ علاقات الجوار بین الشعوب ، التی هی منشأ لسلسلة من الظواهر السلمیّة أو العدائیّة قد ألزمت تلک الشعوب برعایة واجبات ومسؤولیات خاصّة دائما علی أساس سلسلة من القواعد العرفیّة ؛ وقد تبلورت هذه القواعد العامّة علی تعاقب الأیّام - وتعمّقت

أکثر ، حتّی اتّخذت طابع القانون الدولیّ .

ویمکن العثور علی المرحلة المبکّرة لهذا الفرع القانونی بین الأقوام البدائیّة أیضا . یقول

موتنسکیو : کان لجمیع الشعوب فی التاریخ - بما فیها قبائل الایروکوا (1) التی کانت تأکل أسراها - نوع من القانون الدولیّ .

فإذا کانت ضرورة القانون والقواعد القانونیّة أمرا لا مناص منه لتنظیم علاقات أفراد القبیلة أو الشعب فی منطقة أو أرض ما ، فهی أیضا ستکون حتمیّة فی المجتمع البشری المؤلّف من القبائل والشعوب .

کانت المجتمعات المنظّمة فی الماضی ، سواء فی شکلها البدائی المتمثّل بالقبیلة أو فی شکلها المتطوّر المتمثّل بالشعب ، تشیّد علاقاتها المتبادلة دائما علی أساس الاتّفاقیّات ، ومجموعة من القواعد الأخلاقیّة والعرفیّة ، وذلک للحدّ من الفوضی ، والمحافظة علی المصالح المشترکة ، وصدّ الاعتداءات والهجمات ، وإقرار الأمن فی مقابل الفتن والعملیّات

ص:77


1- ظهر بعد التتبّع أ نَّهم من قبائل الهنود الحمر فی أمیرکا کما أفاد ذلک أحد المطّلعین . Iroquois .

الانتقامیّة

.

ولم یتغاضَ الإسلام ، بوصفه مدرسة شاملة ونظاما قانونیّا کاملاً ، عن تلک الضرورة المذکورة ، لا سیّما وأنَّ التفکیر الأساس للنظام القانونی فی الإسلام تفکیر عالمی یخاطب البشریّة جمیعها . ولم یقتصر علی شعب دون آخر ، ولا علی دولة دون أُخری

، ولم یضع فی حسابه الاهتمام بعلاقات خاصّة فی الحیاة الإنسانیّة .

فالقانون الدولیّ فی مثل هذا النظام مأخوذ بعین الاعتبار ، شاء المرء أم أبی ، ویتمتّع بموقع متمیّز وقیمة رفیعة ، ویتّسم بمواصفات معیّنة أیضا من منظور تاریخی .

ولقد تحدّث علماء القانون فی الغرب عن تاریخ ظهور القانون الدولیّ فی العالم المسیحی کثیرا ، وذهبوا إلی أنَّ نشأته تمتدّ مع عمق التاریخ المدوّن للبشریّة ، وذکروا أنَّ تدوینه یعود إلی ما قبل أربعمائة سنة ، یعنون بذلک القرن السابع عشر ، لکنّهم لم یهتمّوا اهتماما کافیا بمهد القانون الدولیّ وتدوینه فی الإسلام .

ونحن فی هذا البحث نجیب عن عدد من الأسئلة الآتیة ، بدقّة :

1 - کیف ظهرت قواعد القانون الدولیّ فی المجتمع السیاسی الإسلامی ؟

2 - متی قدّم الإسلام المقرّرات المتعلّقة بالقانون الدولیّ ؟ ومتی وضعها موضع التنفیذ ؟

3 - کیف تمّ تدوین هذه المقرّرات والقواعد ؟ وکیف تمّ جمعها وتبویبها فی قالب النصوص القانونیّة ؟

لا شکّ أنَّ الإجابة عن السؤال الأوّل تتّضح من خلال الإجابة عن السؤال الثانی ؛ لأ نَّه منذ الوهلة التی قدّم فیها الإسلام قوانینه الخاصّة فی حقل العلاقات الدولیّة ، ظهر المجتمع السیاسی الأوّل فی الإسلام علی ید النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله فوضع تلک القوانین موضع التنفیذ .

ونظرا إلی أنَّ المقرّرات القانونیّة فی الإسلام قد تبلورت تدریجا ، ووفقا للعلاقات والظروف المناسبة ، وأ نَّها کانت فی البدایة مؤقّتة ، ثمّ اتّخذت طابع القواعد القانونیّة

الدائمیّة ، لذلک یمکن أن ندرک العلاقة المباشرة بین السؤال الأوّل والثانی وجوابیهما .

وبعد أن تبلورت الحکومة والمجتمع السیاسی للمسلمین فی عصر النبیّ صلی الله علیه و آله ظهرت علاقات تلک الحکومة مع القبائل والحکومات الأُخری تدریجا ، فأعلنت منذ ذلک العصر

ص: 78

مقرّرات القانون الدولیّ من قبل الوحی ، وکان النبیّ صلی الله علیه و آله نفسه المبیّن لتلک المقرّرات الإسلامیّة والمطبّق الأوّل لها .

ویعود ظهور المقرّرات العامّة التی تحکم العلاقات الدولیّة فی الإسلام ، سواء فی مرحلة التشریع أم فی مرحلة التطبیق ، إلی القرآن والسنّة النبویّة اللذین یتکفّلان ببیان وتوضیح المصدر الأصلی للتشریع فی الإسلام ، أی : الوحی .

ویستبین هذا الموضوع تماما عندما نلتفت إلی المفهوم الصحیح للسنّة ؛ فالسنّة - وفقا لما یصطلح علیها فقهیّا - هی قول ، وفعل ، وتقریر النبیّ صلی الله علیه و آله أو الإمام المعصوم علیه السلام .

وفی ضوء هذا المبدأ ، فإنَّ فعل النبیّ صلی الله علیه و آله الذی یعکس ظهور المقرّرات القانونیّة فی حقل العمل الإسلامی ، یمثّل المرحلة الأُولی لتقدیم هذه القواعد القانونیّة فی مجال التشریع أیضا .

والآن حیث اتّضحت العلاقة المباشرة بین السؤال الأوّل والثانی ، ینبغی الالتفات إلی أنَّ العلاقة بین السؤال الثانی والثالث تماثل تلک العلاقة ، لأنَّ تدوین المقرّرات العامّة التی تحکم العلاقات الدولیّة فی الإسلام قد تمَّ علی أساس الوحی متجلّیا فی القرآن والسنّة .

وسنوضّح هذه النقطة أیضا فی الفصل الذی یتحدّث عن مصادر القانون الدولیّ فی الإسلام ، حیث إنَّ تعمیم السنّة لتشمل تقریر المعصوم علیه السلام فی الفقه الإسلامی یعنی أنَّ قسما من هذه المقرّرات لم یکن تأسیسیّا ، ولم یضع الإسلام لَبِناته ، بل نجد النبیّ الکریم صلی الله علیه و آله قد قرّره وأیّده فحسب ، وهذا دلیل علی وجود سلسلة من القواعد العرفیّة بین المقرّرات القانونیّة فی الإسلام .

من هذا المنطلق ، فإنّنا فی دراستنا لظهور المقرّرات العامّة التی تحکم العلاقات القائمة

بین الشعوب فی الإسلام ، نجد الاتّصال الموجود بین النظام القانونی فی الإسلام والقانون

العُرفی ، الذی یربط تاریخ نشأة المقرّرات القانونیّة فی الإسلام بالتاریخ العرفی لهذه

المقرّرات .

مراحل تأسیس القانون الدولیّ فی الإسلام وتدوینه

مرّت المقرّرات والقواعد الخاصّة بالقانون الدولیّ فی الإسلام - فیما تمثّل قسما من

ص: 79

النظام القانونی العامّ ، کسائر الأقسام الفقهیّة - بعدّة مراحل لدی تأسیسها وتدوینها . وفیما

یلی أهمّ تلک المراحل :

1 - مرحلة الوحی الذی تلقّاه النبیّ صلی الله علیه و آله من اللّه تعالی ، وفی هذه المرحلة وُضع حجر الأساس للأحکام والقوانین الإسلامیّة .

2 - مرحلة التبلیغ الذی تحقّق من خلال الآیات القرآنیّة ، وأقوال النبیّ صلی الله علیه و آله وأفعاله وتقریراته .

3 - مرحلة التدوین الذی أُنجز بجمع القرآن والسنّة .

4 - مرحلة تفریع المبادئ المطروحة فی الکتاب والسنّة وتوسیعها وشرحها ، وهو ما قام به الأئمّة المعصومون علیهم السلام .

5 - مرحلة تدوین أحادیث الأئمّة المعصومین علیهم السلام حیث جمعت من قبل المحدّثین فی کتب باسم الأُصول وغیرها من کتب الحدیث المعتبرة .

6 - مرحلة تأسیس الاجتهاد ، واستنباط المقرّرات والأحکام والقواعد العامّة للفقه علی أساس الکتاب والسنّة والشرح الذی أُثر عن الأئمّة المعصومین علیهم السلام ، وهو ما بدأ به أصحاب الأئمّة علیهم السلام وأنجزه الفقهاء من بعدهم .

7 - مرحلة تدوین الفقه ( الاجتهاد والاستنباط ) ، حیث قام الفقهاء الکبار بعرض مدوّن للأحکام الفقهیّة والقواعد القانونیّة فی الإسلام بشکل مستدلّ ومتوکّئ علی المصادر

الفقهیّة .

8 - مرحلة تدوین طرق الاستنباط والقواعد والمقرّرات التی تحکم استنباط الأحکام الفقهیّة من الأدلّة ، حیث تمَّ ذلک من خلال تألیف کتب علم أُصول الفقه

. فأصبح الاجتهاد منظّما ، وصار لعملیّات الاستنباط - وإن کانت مختلفة - عناصر متماثلة وقوانین

عامّة واحدة . ولذلک عرّفوا علم أُصول الفقه بأ نَّه العلم بالقواعد المشترکة واستنباط

الأحکام الإسلامیّة .

9 - مرحلة فصل الأبواب الفقهیّة وتقسیم المسائل والقواعد الفقهیّة والقانونیّة فی الإسلام . وقد أُنجز ذلک خلال عدّة مراحل بأنماط متنوّعة . وقد ظهر بین ذلک الفقه

السیاسی فی حقل العلاقات الدولیّة ، حیث تمَّ طرحه تحت عنوان کتاب السِیَر أو کتاب

ص: 80

الجهاد ضمن أبواب الفقه أو بشکل مستقلّ .

10 - المرحلة الجدیدة فی تدوین القانون الدولیّ فی الإسلام ، التی طرحت فی القرن الأخیر من قبل جمع من الحقوقیّین المسلمین ، وقد نالت من اهتمام الحقوقیّین الغربیّین .

لا

شکّ أنَّ شرح کلّ مرحلة من هذه المراحل یحتاج إلی بحوث طویلة قد تخرج أحیانا عن موضوع بحثنا (1) .

ولمّا کنّا مضطرّین إلی مراعاة الإیجاز فی هذا البحث ( نظرة تاریخیّة علی أساس القانون الدولیّ فی الإسلام ) ، لذلک نکتفی بتوضیح بعض المراحل المتقدّمة التی تتمتّع

بأهمیّة أکبر - فیما یتعلّق ببحثنا - ونترک الباقی للباحثین . وهذه المراحل هی :

أ - التأسیس والتشریع علی شکل تبیان عملی للمقرّرات التی تحکم علاقات الشعوب فی الحیاة السیاسیّة للنبیّ صلی الله علیه و آله .

ب - مرحلة تدوین الفقه بشکل عامّ ، وقسم الفقه السیاسی بشکل خاصّ .

ج - المرحلة الجدیدة فی تدوین مقرّرات القانون الدولیّ فی الإسلام .

والآن نقوم بشرح المراحل الثلاث بشکل یناسب هذا البحث الموجز .

نشأة القواعد الخاصّة بالقانون الدولیّ فی الإسلام

فتح النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله باب العلاقات الحرّة المتوکّئة علی حفظ کیان الشعوب والبلدان ، وذلک من خلال وضع مبدأ التوکّؤ علی القدر المتیسّر من نقاط الالتقاء

، ودعا تلک الشعوب والبلدان إلی قبول أساس القواعد المنبثقة عن ذلک القدر من نقاط الالتقاء ، والعمل فی ضوئه .

ولقد وضع القرآن الکریم الأُسس الخاصّة بمرحلة التشریع فی حقل المقرّرات التی تحکم علاقات الشعوب ، فقال عزّ من قائل : « قُلْ یَا اَهْلَ الْکِتَابِ تَعَالَوْا اِلی کَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَیْنَنَا وَبَیْنَکُمْ » (2) . ونجد النبیّ صلی الله علیه و آلهطبّق هذه الآیة مباشرة فی علاقاته الأُولی التی

ص: 81


1- من أجل الاطّلاع علی هذه البحوث ، یراجع کتاب « مراحل الفقه » لمحمود شهابی [ فارسی ] وکتاب « تاریخ الفقه الجعفری » لهاشم معروف الحسنیّ ، ومقالتین نشرتا فی مجلّة « کیهان اندیشه » تحت عنوان « فی رحاب مراحل الفقه » و « مدارس الفقه » [ باللغة الفارسیّة ] .
2- آل عمران : 64 .

أقامها مع عدد من رؤساء الدول آنذاک (1) .

ثمَّ تمَّ شرح وإیضاح المبادئ والقواعد العامّة لقانون المقرّرات الدولیّة من خلال نشاطات النبیّ صلی الله علیه و آلهالمتمثّلة بالمکاتبات والمفاوضات والمعاهدات المتعدّدة(2) . وتکفّلت الآیات القرآنیّة - فی کلّ حقل - بتبیان خطط العمل والضوابط العامّة بشکل عامّ أوّلاً ، ثمَّ وُضعت موضع التنفیذ من خلال السنّة النبویّة الشریفة ( قول ، وفعل ، وتقریر النبیّ صلی الله علیه و آله ) .

ولا فرق بین الآیات القرآنیّة والسنّة النبویّة فی نشأة وتأسیس الأحکام الإلهیّة والقواعد القانونیّة فی الإسلام ، فکلاهما بمثابة عنصرین متلازمین یعتبران أساسا للتشریع

فی الإسلام .

وقد أکّد القرآن علی هذا التلازم والدور الموحَّد ، وبیَّن ذلک بصورة واضحة ودقیقة تماما ، فقال : « وَ مَا یَنْطِقُ عَنِ الْهَوی * اِنْ هُوَ اِلاَّ وَحْیٌ یُوحی * عَلَّمَهُ شَدیدُ الْقُوی » (3) .

ودفعا لکلّ لون من ألوان الازدواجیّة المحتملة ، فقد أمر المسلمین بصراحة أن یأخذوا بما آتاهم الرسول وینتهوا عمّا نهاهم عنه ، فقال : « وَ مَا اتیکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مَا نَهیکُمْ عَنْهُ فَاص نْتَهُوا » (4) .

وبالرغم من أنَّ بعض المبادئ العامّة فی حقل القضایا المرتبطة بعلاقات الشعوب قد تمَّ إیضاحها من قبل القرآن والسنّة النبویّة فی مکّة - مثل مبدأ التقیّة أمام الأعداء الأقویاء - بید أنَّ القسم الأعظم من القواعد القانونیّة فی هذا المجال قد وضع فی المدینة . ویطلقون علی عصر تأسیس الأحکام : عصر التشریع الذی انتهی بوفاة النبیّ صلی الله علیه و آله .

تدوین الفقه

جاء الفقه فی اللغة بمعنی الفهم والعلم مع التأمّل والتفکیر . وورد أیضا بمعنی الفتح والشقّ . وفسّره البعض ، کالراغب الأصفهانیّ فی مفرداته ، بأ نَّه نوع من العلم المقرون

ص:82


1- یراجع فی هذا الموضوع کتاب « مکاتیب الرسول » لأحمد میانجی ، ص 91 .
2- یرجع إلی « الوثائق السیاسیّة » للبروفسور حمد اللّه .
3- النجم : 3 - 5 .
4- الحشر : 7 .

بالاستدلال . قال الراغب : ( هو التوصّل إلی علم غائب بعلم شاهد ) .

وجاء فی المصطلح القرآنی ، المتوکّئ علی المعنی اللغوی غالبا ، بمعنی العلم المتوکّئ علی التحرّی والتفکیر ، والتدقیق ، والوعی ، واجتیاز عقبة الظواهر والأشیاء المحسوسة ، والترکیز علی عمق الأشیاء .

وبالرغم من أنَّ الفقه کان فی العصور الإسلامیّة الأُولی یراد به - بالمعنی المطلق والواسع - العلم الناتج عن التفکیر ، والتحرّی ، والتدقیق فی جمیع القضایا الإنسانیّة

والإسلامیّة ، بید أ نَّه أطلق - تدریجا - علی مفهوم اصطلاحی خاصّ ، وهو العلم الحاصل

عن طریق استنباط الأحکام والقوانین الإسلامیّة بشکل مستدلّ ومتوکّئ علی المصادر الإسلامیّة .

یتّضح من خلال ذلک الکلام أنَّ مثل هذا المفهوم الاصطلاحی الشائع للفقه المتداول حتّی عصرنا الحاضر یختلف اختلافا مبدئیّا عن العلم بالأحکام والقوانین الإسلامیّة الخاصّة بالحاجات الفردیّة والاجتماعیّة للإنسان فی کلّ عصر . وهذا یعنی العلم بالمعنی

المطلق . أمَّا المعنی المتقدّم ، فالفقه - فی ضوئه - هو العلم بالاستدلال واستنباط الأحکام الإلهیّة ، وهو أوسع من أن یحدّه زمان ومکان ، ولا ینظر إلی الاختلافات والفروق

الموجودة ، وکذلک الظروف والمتطلّبات الخاصّة .

بدأ الفقه بهذا المعنی بین أهل السنّة منذ عصر ما بعد التابعین ، وبین الشیعة منذ عصر الغیبة الکبری . وأُطلق عنوان الفقیه علی الشخص القادر علی تقدیم الأحکام الإلهیّة عن طریق الاستنباط من الأدلّة الفقهیّة .

أصبحت عملیة الاستنباط أکثر صعوبة وتعقیدا من جرّاء الابتعاد عن عصر التأسیس ( عصر النبیّ صلی الله علیه و آله ) وعصر الشرح والتوضیح ، وهو عصر الأئمّة المعصومین علیهم السلام ، واتّسع نطاق الفقه والتفریع والاستدلال بعد بروز الاختلافات والآراء المتنوّعة والمذاهب الفقهیّة من جهة ، وازدیاد الأحداث والوقائع المهمّة المفاجئة من جهة أُخری . ووضع الفقهاء أُصولاً وقوانین عامّة موحَّدة لتبیان الرکائز الأساسیّة للاستنباط

الفقهی ، أطلقوا علیها اسم : أُصول الفقه . وظهر علم الحدیث لجمع المستندات الموجودة

من السنّة وتبویبها وتیسیر الحصول علیها . وتمخّضت دراسة أنواع الحدیث وتحلیلها عن

ص: 83

بروز علم الدرایة . وأفضی التحرّی فی أحوال رواة الحدیث إلی ظهور علم الرجال .

ومنذ ذلک الحین ، اتّسعت دائرة الفقه سریعا ، وتبلور التبویب والتحقیق بشکل عمیق وشامل .

وقد احتاج أتباع الخلفاء الراشدین المعروفون بأهل السنّة - بسبب إقصائهم العترة الطاهرة - إلی الفقه قبل أتباع أهل البیت علیهم السلام المعروفون بالشیعة ، لأنَّ المصدر الوحید فی استنباط الأحکام - حسب رأیهم - هو القرآن وأحادیث النبیّ صلی الله علیه و آله وإجماع الصحابة ، ولذلک فتحوا باب الاجتهاد والاستنباط منذ الأیّام الأُولی التی تلت وفاة النبیّ صلی الله علیه و آله .

یعتقد أهل السنّة أنَّ تدوین الفقه کان فی عصر التابعین(1) . وذکروا أنَّ سبب ذلک هو منع الخلیفة الثانی من تدوین الحدیث . ولمّا کان هذا المنع باعثا علی ضیاع معظم الأحادیث ، وشیوع الأحادیث الموضوعة ، لذلک بدأ تدوین الحدیث أوّلاً ، ثمَّ تلاه

تدوین الفقه ، وذلک منذ القرن الثانی للهجرة ، بید أنَّ الصحابة لو لم یمنعوا تدوین الحدیث ، وکانوا قد اهتموا به منذ البدایة کما اهتموا بجمع القرآن وتدوینه والمحافظة علیه

، لوصلت الأجیال اللاحقة أحادیث متواترة وصحیحة غیر محرّفة ، وتیسّر العمل فی میدان الفقه(2) .

کان الاجتهاد فی عصر الصحابة یجری بهذه الصورة ، وهی أنَّ الصحابة کانوا یرجعون إلی القرآن فی البدایة ، وإذا لم یعثروا علی مرادهم فیه ، کانوا یرجعون إلی

الحدیث ، وإذا لم یجدوا فیه شیئا لحلّ مشکلتهم ، فإنَّ الخلیفة یدعو الصحابة إلی عقد اجتماع لذلک الغرض ، فیصدر أمره فی ضوء ما أجمعوا علیه(3) .

امتزج الاجتهاد مع الرأی فی عصر التابعین ؛ لأ نَّهم کانوا یلجأون إلی الرأی عند عدم وجود الآیة المناسبة والحدیث الملائم بین محفوظاتهم(4) .

وبالرغم من أنَّ تدوین الفقه قد بدأ منذ النصف الثانی للقرن الثانی الهجری بعد تدوین

ص:84


1- یعتقد الشیعة وبعض علماء السنّة کالدکتور محمّد یوسف فی کتاب « تاریخ الفقه الإسلامی » ، ص 184 أنَّ أوّل تدوین للفقه قد تمّ من قبل الإمام علیّ علیه السلام وکان یحمل اسم « الصحیفة » . یُرجَع إلی کتاب « أضواء علی السنّة المحمّدیّة » ، محمود أبو ریّة ، ص 94 .
2- یرجع إلی « أضواء علی السنّة المحمّدیّة » للأُستاذ أبو ریّة ، ص 53 لکسب مزید من الاطّلاع .
3- « أعلام الموقّعین » 1 : 70 ؛ و « المدخل للتشریع الإسلامی » ص 176 .
4- « المدخل للتشریع الإسلامی » ص 141 .

الحدیث

، إلاّ أنَّ أشخاصا مثل مکحول المتوفّی سنة 116ه ، وابن جریج المتوفّی سنة 150ه قد اهتمّوا بتدوین قسم من أبواب الفقه . وأقدم کتاب فقهی لأهل السنّة هو کتاب « الموطّأ » لمالک بن أنس المتوفّی سنة 179ه ، وهو الیوم قریب المنال ، ویعدّ مرجعا لفقهاء السنّة .

أمَّا فی الوسط الشیعی ، فقد کان الاجتهاد متداولاً بین أصحاب أئمّة أهل البیت علیهم السلام حتّی أنَّ الأئمّة أنفسهم کانوا یدعون أصحابهم إلی الاجتهاد ، وأحیانا کانوا یُرجعونهم إلی استنباطهم بدل أن یسألوا الإمام نفسه . کما ورد عن الإمام الصادق علیه السلام أ نَّه قال لأبان بن تغلب : یا أبان تعلّم هذا وأشباهه من کتاب اللّه(1) . بید أنَّ تدوین الفقه بالمفهوم الاصطلاحی بین الشیعة(2) تمَّ فی القرن الثالث(3) من قبل الحسن بن علیّ النعمانیّ المعروف بابن أبی عقیل متزامنا مع أوّل کتاب من کتب الشیعة الأربعة ( وهو الکافی للکلینیّ ) .

یعتبر کتاب « المستمسک بحبل آل الرسول » فی الفقه لابن أبی عقیل أوّل فقه مدوّن معروف للشیعة . وکذلک کتاب « تهذیب الشیعة لأحکام الشریعة » ، وکتاب « الأحمدیّ للفقه المحمّدیّ » ، وکتاب « النصرة لأحکام العترة » لمحمّد بن الجنید المعروف بالأسکافیّ ، وکان معاصرا لابن أبی عقیل ، فإنَّ هذه الکتب تُعتبر من أقدم النصوص الفقهیّة فی القرن

الثالث(4) . ویری البعض أنَّ کتاب « المجموع » لزید بن علیّ بن الحسین المستشهد سنة 121ه أوّل مؤلَّف للشیعة فی الفقه .

تدوین الفقه السیاسی

جاءت المسائل المتعلّقة بالفقه السیاسی والعلاقات الدولیّة فی ثنایا المباحث الفقهیّة

ص: 85


1- « وسائل الشیعة » 1 : 327 .
2- إنَّ بعض الکتّاب الباحثین من أهل السنّة مثل الأُستاذ مصطفی عبد الرزّاق فی کتابه « تمهید لتاریخ الفسلفة الإسلامیّة » ، والدکتور نبهان فی کتابه « المدخل للتشریع الإسلامی » عدّوا الشیعة متقدّمین علی السنّة فی تدوین الفقه وذلک بسبب اهتمامهم الأکثر بتدوین علوم أهل البیت . وأُثرت فی هذا المجال کتب تشتمل علی فتاوی الأئمّة علیهم السلام مثل : کتاب السنن لأبی رافع ( من أصحاب علیّ علیه السلام ) ، وکتاب الخطبة لأبی ذرّ الغفاریّ ، وکتاب محمّد بن قیس البجلیّ ، وکتاب الجامع فی الفقه لثابت بن هرمز ( من أصحاب السجّاد علیه السلام ) ، وکتاب « جامع أبواب الفقه » لعلیّ بن حمزة ( من أصحاب الصادق علیه السلام ) .
3- « تأسیس الشیعة لعلوم الإسلام » للسیّد حسن الصدر ، ص 303 .
4- نفسه ص 304 .

الأُخری فی کتب الفقه المدوّنة ، بید أنَّ هذا القسم من الفقه قد تمَّ تبویبه وتنقیحه فی وقت

اتّسعت فیه دائرة الفقه وتشعّبت موضوعاته أکثر .

وکان أوّل فقیه دوّن مباحث الفقه السیاسی بین فقهاء السنّة هو أبو یوسف ( 113ه - 182ه ) الذی ألّف کتاب الخراج وکتاب الردّ علی الأوزاعیّ . وقد دوّن کتابه

الثانی للردّ علی الأوزاعیّ الذی اعترض علی آراء أبی حنیفة فی الحقل الخاصّ بأحکام السِیَر والجهاد .

ودوّن محمّد بن الحسن الشیبانیّ المولود سنة 132ه ، وهو من تلامذة أبی حنیفة ، المسائل المتعلّقة بالجهاد والمقرّرات الدولیّة بشکل منظّم ومفصّل من خلال تألیف کتابی

السیر الصغیر ، والسیر الکبیر .

وأمَّا بین أتباع أهل البیت علیهم السلام فإنَّ سلمان الفارسیّ المتوفّی فی النصف الأوّل من القرن الأوّل الهجری یعدّ أوّل مؤلّف فی میدان القضایا الدولیّة فی الإسلام ، حیث ذکر العلاقة

الثقافیّة والسیاسیّة بین النبیّ صلی الله علیه و آلهوامبراطور الروم من خلال تألیف کتاب حدیث الجاثلیق الرومیّ(1) . ویمکن أن نعدّ جزءا من کتاب المجموع لزید الشهید هو الکتاب الثانی فی الفقه السیاسی .

ویعتبر محمّد بن إسحاق المتوفّی سنة 151ه أقدم مؤلّف فی حقل السیرة السیاسیّة للنبیّ صلی الله علیه و آله حیث کانت تسمّی علم المغازی والسیر . وذکره صاحب کتاب کشف الظنون وأطلق علیه لقب الإمام بوصفه أوّل مؤلّف فی علم السیر ورئیس المؤلّفین فی میدان المغازی(2) .

وفی عصر ازدهار الفقه الإمامی الذی بلغ ذروته أیّام الشیخ الطوسیّ ( 385 - 460ه ) ، إذ ألِف الناس فروعا جدیدة وأسالیب عمیقة فی الاستدلال الفقهی ، فإنَّ تألیف

الکتابین القیّمین : الخلاف والمبسوط من قبل الشیخ الطوسیّ قد أحدث تطوّرا فی الفقه

السیاسی والقضایا المتعلّقة بالفقه الدولیّ فی الإسلام .

فقد طرح الشیخ قضایا الفقه الدولیّ فی کتاب الخلاف تحت عنوان کتاب السیر(3) ،

ص:86


1- « تأسیس الشیعة لعلوم الإسلام » ص 280 .
2- نفسه ص 232 .
3- « کتاب الخلاف » 3 : 229 - 246 .

وکتاب الجزیة(1) بأُسلوب مقارن علی شکل موازنة بین الآراء الفقهیّة ، وفی قسم الجهاد وسیرة الإمام من کتاب المبسوط تعرّض الشیخ إلی المسائل المهمّة المتعلّقة بقانون الحرب ، وتقسیم الشعوب ، والمعاهدات الدولیّة ، وقانون الأسری ، والمواطنیّة ، وغنائم الحرب ، وأنواع المواثیق ، والآثار المترتّبة علی نقض المعاهدة والتحکیم بشکل منطقی ومستدلّ (2) .

ولو أبدلنا التاریخ الهجری بالتاریخ المیلادی فإنَّ تأسیس القانون الدولیّ فی الإسلام یعود إلی القرن السادس المیلادی ، وأنَّ تدوین کتاب فقهی فی هذا المجال یرجع إلی القرن

السابع ، وأنَّ العصر الذهبی للقانون الدولیّ هو القرن التاسع .

إنَّ علی بعض علماء القانون من - أمثال ابنهام ( أُستاذ القانون الدولیّ فی کمبرج ) الذی یری بأنَّ القانون الدولیّ ولید الحضارة المسیحیّة ، أو جورج سل ( أُستاذ آخر فی القانون الدولیّ ) الذی یحمل نفس الرؤیة - أن یعودوا إلی التاریخ العلمی والقانونی للقرن السادس حتّی القرن التاسع المیلادی ، ویوازنوا بین الظلمات التی کانت تخیّم علی أجواء

المسیحیّة ، والنور الذی کانت تتألّق به الحضارة الإسلامیّة لکی یدرکوا الحقیقة کما هی علیه .

المرحلة الجدیدة فی تدوین القانون الدولیّ فی الإسلام

مع فتح باب الاستشراق ومعرفة الإسلام من قبل المؤرّخین وعلماء الاجتماع ، والمختصّین بالقانون ، والفلاسفة الغربیّین ، واکتشاف أشیاء جدیدة فی الإسلام ، اشتهر اسم الشیبانیّ وکتابه السیر الکبیر علی ألسنة الناس . وکانت أوّل طبعة لترجمته مع شرح السرخسیّ المتوفّی سنة 483ه فی سنة 1825م . وأطلق علیه عالم القانون الغربی جوزیف همرفون لقب : غروتیوس الإسلام .

وشاع اسم الشیبانیّ والقانون الدولیّ فی الإسلام بین علماء القانون الغربیّین أکثر بعد طبع الأجزاء الأربعة من شرح السرخسیّ علی کتاب السیر الکبیر سنة 1335ه فی

حیدر آباد . وتأسّست جمعیّة الشیبانیّ للقانون الدولیّ سنة 1955م .

ص:87


1- « کتاب الخلاف » 3 : 237 - 241 .
2- « المبسوط فی فقه الإمامیّة » 2 : 2 - 74 .

یری الدکتور صلاح الدین المنجّد فی مقدّمته علی شرح کتاب السیر الکبیر أنَّ تأسیس الجمعیّة المناصرة للقانون الدولیّ فی ألمانیا أوائل القرن التاسع عشر المیلادی دلیل علی تعظیم علماء القانون الدولیّ ، واعتبر انتخاب الدکتور عبد الحمید بدوی رئیسا لهذه

الجمعیّة دلالة علی الهدف الأصلیّ للجمعیّة فی تعریف شخصیّة الشیبانیّ والقانون الدولیّ فی الإسلام(1) .

وهکذا فإنَّ معرفة القانون الدولیّ فی الإسلام من جدید قد نالت من اهتمام علماء القانون الغربیّین . وقدّم أشخاص مثل : أدموند ربات دراسات تحت عنوان « نظریّة حول

القانون الدولیّ فی الإسلام » (2) .

وانبری إلی دراسة الفقه الدولیّ من الشرق بعض علماء القانون نحو : البروفسور حمد اللّه مؤلّف کتاب « سلوک الحکومة الإسلامیّة » ، والدکتور مجید خدّوری صاحب کتاب « السلم والحرب فی القانون الإسلامی » ، والأُستاذ أحمد رشید مؤلّف کتاب « الإسلام والقانون الدولیّ العامّ » حیث ألّفوا کتبهم علی أساس المصادر الغربیّة وبعض

المصادر الإسلامیّة .

وألّف رجال الأزهر وعلماء العرب کتبا فی هذا المجال منها : « الشرع الدولیّ فی الإسلام » لنجیب الأرمنازی ، و « مبادئ القانون الدولیّ العامّ فی الإسلام » لمحمّد عبد اللّه دراز ، و « العلاقات الدولیّة العامّة فی الإسلام » لإبراهیم عبد الحمید ، و « التعایش الدینی فی الإسلام » لموسی العرب ، و « العلاقة الدولیّة فی الحروب الإسلامیّة » لعلی قراعة ، و « الإسلام والعلاقات الدولیّة » للشیخ محمود شلتوت ، و « آثار الحرب فی الإسلام » للدکتور وهبة الزصیلی ، و « نظم الحرب فی الإسلام » لجمال عیاد . وقد أضفی هؤلاء بمؤلّفاتهم تنمیقا أکثر علی الفقه الدولیّ .

وقد صدر باللغة الفارسیّة عدد من الکتب فی حقل القانون الدولیّ فی الإسلام ، مضافا إلی ترجمة بعض الکتب المذکورة آنفا إلی اللغة الفارسیّة . ونذکر فیما یلی بعضها إتماما للبحث :

ص: 88


1- مقدّمة « شرح السیر الکبیر » 1 : 14 .
2- مجلّة « القانون الدولیّ » ( مصریّة ) ، ج 6 ، ص 1 ، سنة 1950م .

« القانون الدولیّ الإسلامیّ » سنة 1965م ، و « الإسلام والقانون الدولیّ » سنة 1967م ، و « قانون الأقلیّات من منظور الفقه الإسلامی » سنة 1973م ، و « محلّ الإقامة

وآثاره القانونیّة » سنة 1977م ، وهذه الکتب الأربعة من تألیف جلال الدین الفارسیّ . وللدکتور خلیلیّان کتابان هما : « القانون الدولیّ الإسلامیّ » سنة 1983م ، و « الوطن

والأرض وآثارهما القانونیّة » سنة 1985م . وللدکتور ضیائی بیگدلی کتاب « الإسلام والقانون الدولیّ » .

وعندما نلقی نظرة خاطفة علی تطوّرات المرحلة الجدیدة فی تدوین القانون الدولیّ فی الإسلام ، فإنّنا ندرک هذه الحقیقة المرّة ، وهی : أنَّ مثل هذا الموضوع الحسّاس والقیّم

والعمیق فی الفقه السیاسی لم یطو طریقه بشکل صحیح وعمیق علی صعید اللغة الفارسیّة

. ویمکن أن یدلّ هذا الفراغ علی فقرنا العلمی فی حقل أهمّ القضایا الخاصّة بمجتمعنا الإسلامی المعاصر ، إلی الحدّ الذی نجد فی أحد کتب القانون الدولیّ العامّ ، أنَّ القانون الدولیّ فی الإسلام صُنّف فی عداد القوانین التی کانت سائدة فی القرون الوسطی ، وقد لُخّص فی ثلاث صفحات(1) .

ص: 89


1- راجع کتاب « القانون الدولیّ العامّ » للدکتور ضیائی بیگدلی [ فارسی ] ص 45 - 48 . فقد تدارک الکاتب هذا النقص من خلال کتابه : « الإسلام والقانون الدولیّ » [ فارسی ] .

الفصل الثالث: مصادر القانون الدولیّ فی الإسلام

مصادر القانون الدولیّ فی الإسلام

اشارة

یعتبر القانون الدولیّ فی الإسلام قسما من الفقه السیاسی ، والفقه السیاسی نفسه جزء من الفقه الإسلامی . وثمّة مصادر معیّنة لاستنباط القواعد القانونیّة وأحکام الفقه ، یصحّ أن نطلق علی جمیع أجزائها اسم ( الفقه والنظام القانونی فی الإسلام ) .

إنَّ مصادر القانون الدولیّ فی الإسلام أیضا هی التی تستنبط منها القواعد الفقهیّة للأقسام القانونیّة والفقهیّة الأُخری . وقد قدّمنا فی المبحث الماضی بعض التوضیح بشأن

معنی الفقه والاجتهاد والاستنباط والأدلّة الفقهیّة . وظهر لنا أنَّ قواعد القانون الدولیّ فی الإسلام کسائر المسائل المتعلّقة بالفقه السیاسی والنظام القانونی تؤخذ من المصدرین

الرئیسین التالیّین :

1 - القرآن الکریم

وهو الذی أُوحی إلی النبیّ صلی الله علیه و آله علی امتداد ثلاث وعشرین سنة . وکان النبیّ صلی الله علیه و آلهیقوم بتبلیغه . وأمر بتنظیمه وترتیبه وجمعه . وقد تمَّ تدوینه فی عصر النبیّ صلی الله علیه و آله (1) ولم یأل المسلمون جهدا فی المحافظة علیه .

کان خطاب القرآن عامّا ولم یقتصر علی المسلمین فحسب ؛ وآیات الأحکام فیه کسائر الآیات تتحدّث إلی الناس جمیعهم ، وتعرض أحکام اللّه علی المجتمع البشری ،

ص: 90


1- من أجل کسب مزید من الاطّلاع فی هذا المجال ، ینظر : « القرآن فی الإسلام » للعلاّمة الطباطبائیّ ، ص 111 ؛ و « المیزان » 12 : 106 ؛ و « البیان فی تفسیر القرآن » ص 255 ؛ و « الإتقان فی علوم القرآن » للسیوطیّ 1 : 58 ؛ و « الدرّ المنثور » 4 : 187 .

وتطرح خلال ذلک أُصولاً وقواعد تتعلّق بالمجتمع الدولیّ والعلاقات المتبادلة بین الشعوب

، وتعتبر مهیمنة علی العلاقات الدولیّة نتیجة لإلزامیّة الأحکام الإلهیّة .

إنَّ القرآن لیس لغة فرد أو شعب خاصّ ، بل هو لغة الوحی الإلهی . وعندما یتحدّث عن علاقات الشعوب ، فإنَّه یخاطب جمیع الشعوب والبلدان مسلمة کانت أو غیر مسلمة

.

ولم تُحدَّد الآیات التی تتحدّث عن العلاقات الدولیّة والمجتمع العالمی علی نحو الدقّة

، بید أنَّ ما یربو علی ثلاثمائة وخمسین آیة یمکن التعویل علیها فی تبیان هذه الأُمور .

هذه الآیات التی تبیّن المبادئ العامّة والقواعد والأُصول الأساسیّة للقضایا القانونیّة والسیاسیّة الخاصّة بالعلاقات الدولیّة والمجتمع العالمی تماثل الآیات الخاصّة بالأقسام

القانونیّة الأُخری فی حاجتها إلی الدراسة والتبویب والتفریع والإمعان الکثیر ، وهذا ما لم یحقّقه الفقهاء لحدّ الآن بالشکل الذی نراه فی قسم القانون المدنیّ مثلاً .

وأحیانا یکون شمول الآیات بشکل یستوعب فیه المسائل المتعلّقة بالقانون الداخلی والخارجی فی آن واحد ، وهذا لا یعود إلی الاندماج الموجود بین مسائل ذینک القسمین القانونیّین فی التشریع الإسلامی ، لأ نَّه قد تمَّ فرز وتبویب المباحث القانونیّة فی الفقه بدقّة ، ولکن لمّا کانت المجموعة القانونیّة فی الإسلام صادرة عن الوحی ، فإنَّ نوعا من التماسک

والنظم والانسجام یحکم جمیع أجزائها ، ممّا یفضی إلی استنباط عدد من القواعد القانونیّة

المتعلّقة بالأقسام والفروع القانونیّة المتنوّعة من مبدأ واحد . نحو مبدأ لزوم الوفاء بالعهد واحترام الالتزامات الذی ینظر إلیه بوصفه مبدأً سائدا لا یقبل الخرق والنقض ، سواء فی قانون التجارة ، أو فی القانون المدنی ، أو فی القانون الأساسی ، وأخیرا فی القانون الدولیّ فی الإسلام .

2 - السنّة

وفقا لاصطلاح فقهاء الشیعة ، فإنَّ السنّة عبارة عن قول المعصوم وفعله وتقریره الذی بلغنا عنه بطریق قطعی ( متواتر ) أو ظنّی معتبر ( خبر الواحد ) .

والمعصوم هنا یشمل النبیّ صلی الله علیه و آله وعترته الطاهرة علیهم السلام ، ویعتقد الشیعة بأ نَّه کما تنطق سنّة النبیّ صلی الله علیه و آله عن الوحی ، وأنَّ العمل بها إلزامی حسب أوامر القرآن(1) ، فکذلک سنّة الأئمّة

ص: 91


1- بناءً علی الآیات الواردة ، من قبیل : « وَ مَا یَنْطِقُ عَنِ الْهَوی * اِنْ هُوَ اِلاَّ وَحْیٌ یُوحی »وآیات أُخری ذکرناها فیما تقدّم .

المعصومین علیهم السلام حیث ثبتت حجّیّتها بالنسبة لأحکام الوحی عن طریق القرآن وسنّة النبیّ صلی الله علیه و آله (1) .

أمَّا فقهاء السنّة فإنَّهم یرون بأنَّ السنّة هی فقط قول النبیّ صلی الله علیه و آله وفعله وتقریره ، وأ نَّها مصدر استنباط الأحکام الإلهیّة ، هذا مع أ نَّهم - عملیّا - یرجعون فی بعض المواطن إلی قول الصحابة ، وفعلهم ، وتقریرهم .

ولا منافاة - من وجهة نظر الشیعة - بین حجّیّة قول ، وفعل ، وتقریر الأئمّة المعصومین علیهم السلام وبین انتهاء عصر الوحی بعد وفاة النبیّ صلی الله علیه و آله ، لأنَّ قول الأئمّة ، وفعلهم ، وتقریرهم یمثّل مضمون الوحی النازل علی النبیّ صلی الله علیه و آله ، وأ نَّهم ، فی الحقیقة ، منصوبون من قبل اللّه لبیان أحکام الدین کما أُوحیت إلی النبیّ صلی الله علیه و آله .

وثمّة موضوعات من السنّة ، ممّا یدور حول القانون الدولیّ ، تشمل قسما یؤبه له من أحادیث النبیّ صلی الله علیه و آله والأئمّة علیهم السلام وسیرتهم السیاسیّة . وقد تمَّ تدوین قسم منها وتبویبه تحت عناوین متعدّدة ، مثل : السِیَر ، والمغازی ، والمواثیق ، والمکاتیب . بید أنَّ الأقسام الأُخری ما زالت موزّعة بین ثنایا کتب الأحادیث والسیر .

المصادر الأُخری للقانون الدولیّ فی الإسلام

اشارة

ثمّة مصادر فرعیّة أُخری یرجع إلیها أیضا فی النظام القانونی فی الإسلام ، إلی جانب المصدرین الأصلیّین ( الکتاب والسنّة ) . وهذه المصادر ترجع فی الحقیقة إلی ذینک المصدرین .

إنَّ الإجماع ، والعقل ، والعرف وقوانین الحکومة فی ضوء ما یراه فقهاء الشیعة ، وکذلک الإجماع ، والقیاس ، والاستحسان ، والمصالح المرسلة فی ضوء ما یراه فقهاء السنّة ، تضاف إلی الکتاب والسنّة بوصفها أدلّة فقهیّة . وهذا یعنی أنَّ الفقیه یستطیع أن یستنبط الأحکام الإلهیّة من هذه المصادر عند تعسّر الرجوع إلی الکتاب والسنّة(2) .

ص: 92


1- بناءً علی بعض الآیات الواردة ، مثل قوله تعالی : « اَطیعُوا اللّه َ وَاَطیعُوا الرَّسُولَ وَاُولِی الاَْمْرِ مِنْکُمْ » ولمّا کان الأمر بالإطاعة مطلق ، فإنَّه یستدعی عصمة أُولی الأمر . وکذلک بسبب بعض الأحادیث من قبیل : حدیث الثقلین وحدیث المنزلة .
2- یلاحظ فی بعض المواطن طبعا أنَّ أهل السنّة یرون الرجوع إلی القیاس والرأی حتّی فی المواضع التی فیها نصّ من الکتاب والسنّة ، کما نجد ذلک فی الاجتهاد الذی جوّزه بعض السلاطین فی المواضع التی فیها نصّ صریح . ولکنَّ الشیعة یرون عدم جواز الاجتهاد والرجوع إلی الأدلّة الأُخری أبدا فی المسائل المنصوص علیها .
1 - الإجماع

إنَّ الإجماع سواء بمعنی اتّفاق جمیع الأُمَّة أو اتّفاق أهل الرأی فیها ( کما عند معظم السنّة ) ، أو بمعنی اتّفاق الفقهاء الکاشف عن رأی المعصوم ( کما عند الشیعة ) هو کالخبر المتواتر ، وخبر الواحد ، وسیلة للکشف عن السنّة .

لأنَّ حجّیّة الإجماع إمَّا تعود إلی حدیث النبیّ صلی الله علیه و آله القائل : « لا تجتمع أُمَّتی علی الخطأ » (1) ( کما یعتقد السنّة بذلک )

، أو أنَّ الإجماع هو الکشف عن رأی المعصوم ( کما یری الشیعة ذلک ) . وهو - فی کلا الحالتین - ضرب من الأُسلوب للکشف عن السنّة والعمل

بها .

2 - العقل

یری فقهاء الشیعة أنَّ العقل هو أحد الأدلّة الأربعة فی الفقه ، بید أ نَّهم یقصرون استعماله فی المواضع التی لیس فیها نصّ من الکتاب والسنّة . وبین هؤلاء الفقهاء

طائفة تنکر دور العقل ، وهم الأخباریّون الذین یعتقدون بأنَّ جمیع الأحکام والقوانین التی تحتاجها البشریّة موجودة فی الکتاب والسنّة ، ولا وجود لما لا نصّ فیه .

ویعتقد معظم فقهاء الشیعة ( الأُصولیّون ) أنَّ الشرع تحدّث مع الإنسان بلغة العقل . وأنَّ العقل والوحی مصباحان متألّقان منَّ اللّه بهما علی الإنسان . فالشرع یؤیّد ما یدرکه العقل ویتولّی إرشاده ، وما عجز العقل عن إدراکه ، فالشرع یتولّی توجیهه .

ولمّا کانت جمیع الأحکام الإلهیّة متوکّئة علی المصالح والمفاسد الحقیقیّة ، ومرتکزة علی أساس النظرة الواقعیّة ومصلحة الإنسان ، فالنظام القانونی فی الإسلام متوکّئ علی

الحقّ والعدل ، وبالنتیجة فهو نظام عقلانی . وهذا یعنی أ نَّه متی اختار العقل طریقا فی المعرفة التامّة لهذه الواقعیّات والحقائق والمصالح والمفاسد ، فهو یختار نفس الطریق الذی أقرّه الشارع . لذلک لو وجد نصّ فی المواضع التی یمکن فیها اکتشاف قاعدة قانونیّة بمقتضی

الدلیل العقلی القاطع ، فإنَّ أوامر الشرع تتّخذ طابعا إرشادیّا بالنسبة إلیها ، وتخرج عن طابعها المولویّ . ویطلق علی هذه المواضع فی أُصول الفقه : المستقلاّت العقلیّة

. والعقل فی هذه الحالة یکتشف حکم الشرع فی الحقیقة . والفقیه یصل إلی مضمون الوحی عن طریق

ص: 93


1- « لا تجتمع أُمَّتی علی الخطأ » و « إنَّ أُمَّتی لا تجتمع علی ضلالة » ، « سنن ابن ماجة » ، باب الفتن ، 8 .

العقل

، إلاّ أنَّ هذا لا یعنی أنَّ العقل ذاته مصدر الکشف القانونی ، لأنَّ المصدر الأصلی هو الوحی ، فهو یعنی أنَّ العقل یستطیع أن یجد طریقا إلی معرفة الوحی .

لیس المقصود هنا أصالة العقل والرأی واتّباع الشرع للعقل ، بل المقصود هو أنَّ مضمون اعتبار العقل ( الحجّیّة ) فی المستقلاّت العقلیّة یعنی انسجام العقل مع الشرع .

ویمکن أن ندرک من خلال هذا التوضیح الفرق المبدئی بین العقل والإجماع . ونستطیع أن نوضّح هذا الفرق بالصور الآتیة :

أ - الإجماع طریق للکشف عن السنّة ، أمَّا العقل فإنَّه لا یکشف عن السنّة ، بل هو کالسنّة یکشف عن مضمون الوحی المتمثّل بالأحکام الإلهیّة مباشرة ویوضّحه . وفی مقدورنا هنا أن نخوض فی قضیّة لزوم مراعاة العدالة فی العلاقات القائمة بین الشعوب بوصفها مثالاً علی المستقلاّت العقلیّة .

لا شکّ أنَّ هذا المبدأ بوصفه قاعدة قانونیّة یحکم العلاقات الدولیّة من الناحیّة العقلیّة . وذلک اللزوم یکشفه العقل دون تردّد ویحکم فی ضوئه ، ویری أنَّ الظلم مرفوض

ومخالف للنظم السائد فی خلق الإنسان وطبیعته وحیاته الاجتماعیّة . وفی مثل هذه الحالة ، فإنَّ الفقیه یفهم بشکل جازم لا یقبل الشکّ ما أراده اللّه من الإنسان . ولا یشکّ فی أنَّ الحکم الإلهی هو ما وصل إلیه العقل الیقینی . وکما أنَّ السنّة کانت تکشف عن الحکم

الإلهی ، فها هو العقل أیضا قد بلغ درجة الکشف عن الحکم الإلهی .

ب - لمّا کان العقل یکشف أیضا عن المواضع التی لا نصّ فیها أحیانا ، ومتی فرضنا أنَّ بعض الأُمور لم ترد علی لسان الشرع والوحی(1) ، فإنَّ الکشف عن طریق العقل بمستوی

الکشف عن طریق الوحی . أی : أ نَّنا نحصل علی الأحکام الإلهیّة عن طریق الوحی حینا ، وحینا آخر یحلّ العقل بدیلاً عن الوحی فی المواضع التی لا نصّ فیها .

ج - یستعمل الإجماع فقط عندما لا یوجد نصّ من الکتاب والسنّة . أمَّا العقل فإنَّه یستطیع فی جمیع الحالات أن یصل إلی نتائج یقینیّة من خلال الاستدلال والتعمّق . ومتی

وصل إلی نتائج یقینیّة من خلال نصّ صریح قطعی استفاده من الکتاب والسنّة ، وکانت

ص: 94


1- کما یستفاد هذا الموضوع من بعض الروایات . فقد سکت الشرع عن بعض الأُمور لتیسیرها علی المکلّفین ، کما ورد : « اسکتوا عمّا سکت اللّه عنه » و « إنَّ اللّه سکت لکم عن أشیاء ولم یدعها نسیانا ، فلا تتکلّفوها » . الکلمات القصار فی نهج البلاغة ، رقم 105 .

تلک النتائج متعارضة مع ما جاء فی الکتاب والسنّة ، فلابدَّ أن یستدعی ذلک النصّ احتمال

خطأ العقل فی استدلاله . ومع هذا الاحتمال ، فإنَّ معرفة العقل تخرج عن طابع القطع

والجزم .

أمَّا عند انطباق المعرفة العقلیّة مع مفاد الکتاب والسنّة ، فإنَّ الفقهاء یحملون النصّ

الشرعی علی الإرشاد وتقریر حکم العقل ، لکی یظلّ الشرع منزّها عن العبث .

إنَّ الحالة الثالثة تعنی أنَّ العقل یصل إلی معرفة قاعدة قانونیّة مُلزِمة بنحو قاطع

، ولا یکون لهذه القاعدة وجود فی الکتاب والسنّة . وهذه هی الصورة التی تحدّثنا عنها فی الفرضیّة ( ب ) .

والنقطة التی تستحقّ الدراسة هنا هی سبب سکوت الکتاب والسنّة عن هذه الموضوعات . وهنا عدّة احتمالات :

1 - کانت هذه الموضوعات من الأحکام الإلهیّة ، بید أ نَّها لم ترد فی الکتاب والسنّة ،

لأنَّ العقل یستطیع الوصول إلیها ، وقد فوّض الشرع إلیه کشفها . مثل : العلوم ومعرفة

القوانین السائدة فی عالم التکوین ، حیث بیّن الکتاب والسنّة قسما منها ، وترکا الباقی إلی کشف العقل البشری ومعرفته .

2 - بالرغم من أ نَّها کانت من الأحکام الإلهیّة ، لکنّها لم ترد فی الکتاب والسنّة

، فنُسیت أو أُهملت . إلاّ أ نَّه لا یمکن فرض هذا الاحتمال ، لأنَّ حکمة اللّه وإتقان الشریعة الذی یستدعی الاعتقاد باللّه والوحی ، یعتبران ذلک مرفوضا ، کما أ نَّه لا ینسجم مع السنّة أیضا (1) .

3 - مبدئیّا فإنَّ مثل هذه الموضوعات لا حکم لها من قبل اللّه ، ولذلک سکت عنها الکتاب والسنّة ، کی یفسح المجال لاختیار الإنسان فی میدان من میادین حیاته ، فیمکنه

أن یعیش فی ذلک المیدان باختیاره دون الانصیاع إلی قانون معیّن ، ودون أن یکون هناک

أیّ إجبار .

ویمکن أن نستشفّ هذا الموضوع من السنّة ، کما جاء فی نهج البلاغة قوله علیه السلام : « إنَّ

ص: 95


1- فقد جاء فی السنّة قوله صلی الله علیه و آله فی حجّة الوداع : « أیُّها الناس ما من شیء یقرّبکم إلی اللّه إلاّ وقد أمرتکم به . وما من شیء یبعدکم عن اللّه إلاّ وقد نهیتکم عنه » .

اللّه سکت لکم عن أشیاء ولم یدعها نسیانا فلا تتکلّفوها » (1) .

ومع هذا الاحتمال ، فإنَّ العقل یفقد حجّیّته فی ما لا نصّ فیه ، لأنَّ کشف قاعدة قانونیّة مُلزمة فی المواضیع المسکوت عنها یتضمّن إلزاما نهی الشرع الإنسان عن اتّباعه .

بید أ نَّه یبدو بأنَّ فحوی قوله : « فلا تتکلّفوها » لا یعنی بأ نَّه متی تمَّ - فی حالات ما - تحدید قاعدة من القواعد القانونیّة علی أ نَّها إلزامیّة من ناحیة العقل ، عدم وجوب اتّباعها ، بل یعنی أن لا یکن همّکم هو أن تنسبوا حکما إلی اللّه والشرع فی المواضع المسکوت عنها

بدون دلیل ، وتکلّفوا أنفسکم فی البحث عنه ، ولکن إذا أخذ الإنسان علی نفسه مراعاة

قاعدة أو عدد من القواعد القانونیّة کما یرید ، وعلی أساس اتّفاق ما ، واتّخذ ذلک ملاکا لعمل جماعی ، أو عمل علی تحکیمه فی العلاقات الاجتماعیّة أو الدولیّة ، فلا

منافاة مع سکوت الشرع عن تلک القاعدة القانونیّة .

لأنَّ سکوت الشرع هو من أجل تفویض عمل الإنسان إلی نفسه ، ومنحه حرّیّة أکثر ، ومراعاة اللطف به . وهذه الفسلفة لا تنسجم مع منع الإنسان عن الالتزام بقاعدة أو عدد من القواعد القانونیّة التی عرف أ نَّها تصبّ فی مصلحته .

کما نری فی بعض الحالات أنَّ الکتاب والسنّة قد ترکا الإنسان حرّا مختارا . ومن خلال التصریح القائل : « کلّ شیء مطلق حتّی یرد فیه نهی » (2) ، فقد ترکت للإنسان حرّیّة مطلقة إلاّ فی المواضیع التی ورد نهی صریح عنها فی الکتاب والسنّة . وشاء الإنسان أم أبی فقد فُوّض إلیه تحدید مسیرته فی الحیاة فی مثل هذه الحالات ، وهو یستطیع أن ینبری إلی

کشف القواعد القانونیّة ووضع القوانین بتوجیه العقل .

ثمّة مجال آخر لدور العقل فی المسائل القانونیّة فی الإسلام ، وهو مجال المباحات الفسیح ؛ حیث إنَّ الإنسان حرّ مختار هنا بتوجیه العقل . وله أن یبادر إلی کشف القواعد

القانونیّة ووضع القوانین وفقا للمصالح والاتّفاقات الجماعیّة .

ویمکن أن نستنتج فی ضوء هذه الإیضاحات أنَّ المیدان العملی لدور العقل فی النظام القانونی فی الإسلام واسع للغایة ، وبمقدوره أن یجدّ فی جمیع المجالات القانونیّة لکشف

ص: 96


1- « نهج البلاغة » الکلمات القصار ، رقم 105 .
2- « وسائل الشیعة » 18 : 127 .

القواعد القانونیّة علی النحو الآتی :

1 - یدرک خطأه المحتمل عندما یری أنَّ الموضوعات المنصوص علیها تتعارض مع معرفته بنحو جازم فیقتفی النصوص الشرعیّة .

2 - یبادر إلی کشف القواعد القانونیّة والأحکام الإلهیّة بمؤازرة الاستدلال الصحیح والمعرفة المنطقیّة ، وذلک فی الموضوعات التی لا یجد فیها نصّا .

3 - ینبری إلی کشف القواعد القانونیّة من أجل حیاته وحیاة مجتمعه ، وکذلک علی الصعید الدولیّ ، مستفیدا من جمیع الوسائل والإمکانیّات العقلیّة ، وذلک فی الموضوعات

التی سکت عنها الشرع مبدئیّا .

4 - یجتاز طریق الشرع والعقل معا فی الموضوعات التی یصل معها إلی معرفة موائمة لنصوص الکتاب والسنّة .

یتّضح ممّا تقدّم أنَّ العقل یقوم بدور أساس فی القانون الدولیّ من منظور إسلامی ، لأنَّ ما جاء فی الکتاب والسنّة بشأن قواعد القانون الدولیّ مبادئ عامّة رکّزت علی الموضوعات الحسّاسة والضروریّة ، ولها صفة وقائیّة غالبا ، وترکت مجالات واسعة للإنسان یعمل فیها باختیاره . وللعقل أو الرأی تفریعات بشأن المبادئ العامّة الواردة ، ویمکنهما أن یؤدّیا دورا أساسیا من خلال کشف مجالات کثیرة من القواعد القانونیّة وتطبیقها علی المبادئ العامّة المذکورة .

کما أنَّ مجال التخطیط القانونی وکشف القواعد التی تهیّئ الأرضیّة لإمکانیّة العمل بتلک المبادئ العامّة ، دور مهمّ آخر یضطلع به العقل فی النظام القانونی فی الإسلام . وینبغی الالتفات إلی أنَّ المعرفة العقلیّة تکون معتبرة ( حجّة ) عندما تکون نتیجة الاستدلال قطعیّة وخالیة من احتمال وجود أیّ نتیجة أُخری . والاستنتاج المتوکّئ علی الظنّ لیس له اعتبار

عند فقهاء الشیعة أبدا .

وتحدّث فقهاء الشیعة عن دور العقل فی الموضوعین التالیین :

أ - المستقلاّت العقلیّة ، حیث تتحقّق جمیع مقدّمات المعرفة والاستدلال والاستنتاج عن طریق العقل ولا یحتاج العقل فیها إلی أیّ مصدر آخر ، وتصدر المعرفة عن العقل وحده ؛ ویستفید الفقهاء فی هذا الموضوع من مثال قاعدة لزوم إطاعة الوحی ، لأنَّ العقل

ص: 97

لا

یمکنه أن یستفید من بیان الشرع فی استنتاج هذه القاعدة ، وإلاّ فإنَّه یتورّط بالدور

الباطل . وقد طرحنا فیما مضی المثال الخاصّ بقاعدة لزوم مراعاة العدالة فی العلاقات

الدولیّة .

ب - غیر المستقلاّت العقلیّة حیث یصل العقل إلی النتائج غیر المذکورة فی الشرع بما یمتلکه من مبدأ عقلی مرفقا بقاعدة شرعیّة . کما أنَّ العقل - علی سبیل الفرض - یری بنحو یقینی أنَّ هذا المبدأ إلزامی ، وهو أنَّ کلّ عمل ضروریٌّ لتحقیق کلّ قاعدة قانونیّة إلزامیّة ، وأ نَّه لا وجود لإمکانیّة العمل بتلک القواعد والتکالیف إلاّ عن طریق أعمال خاصّة

، فلابدَّ أن تعتبر هذه الأعمال التمهیدیّة أساسیّة لا غنی عنها . والآن إذا أرفقنا هذا المبدأ العقلی بمبدأ وجوب احترام الالتزامات والوفاء بالعهد ، فإنّنا نستنتج أنَّ جمیع الأعمال التی هی

ضروریّة لأداء الواجبات المنبثقة عن مبدأ الوفاء بالعهد واجبة التنفیذ . ویصل العقل إلی کشف قاعدة أو عدد من القواعد القانونیّة الملزمة عن هذا الطریق .

أمَّا فقهاء أهل السنّة ، فإنَّهم قد وسّعوا من دائرة دور العقل أکثر ، وجوّزوا الاستنتاج

عن طریق القیاس ( التشبیه والتمثیل ) ، والاستحسان ( نوع من القیاس الخفی المتوکّئ علی تشخیص المصلحة والضرورة ، وبالنتیجة فإنَّه ینسجم مع العدالة والمصلحة العامّة ، وهو

مصداق لاتّباع الأحسن ) ، والمصالح المرسلة ( الحکم وفقا لما ینسجم مع روح الشریعة ) (1) . وبالرغم من أنَّ فقهاء السنّة لم یجمعوا علی العمل بتلک الأدلّة المذکورة ، وأنَّ فقهاء المذهب الظاهریّ یحرّمونها جمیعا ، وأنَّ بین فقهاء الشیعة شخصا ینسب إلیه العمل

بالقیاس ، وهو ابن أبی عقیل ، بید أنَّ هذه الأدلّة الثلاثة المذکورة - عادة - تعتبر من الأدلّة التی یختصّ بها فقه أهل السنّة .

3 - العرف
اشارة

العرف فی القانون الداخلی سلوک مطّرد یمارسه الناس بدون تذمّر واستیاء . ویشمل هذه السلوک کافّة التقالید والآداب التی تبلورت فی المجتمع علی مرّ

العصور بشکل رتیب وتدریجی . وقد أقرّ بصفتها الإلزامیّة جمیع الناس أو معظمهم .

وللعرف فی القانون الدولیّ موقع أهمّ ، لأنَّ قلّة القواعد الوضعیّة قد ضاعفت من أهمّیّة القواعد العرفیّة . ویمکن تعریف العرف فی القانون الدولیّ علی النحو الآتی :

ص:98


1- یرجع إلی کتاب « فلسفة التشریع فی الإسلام » للدکتور صبحی محمصانی ، الفصل الخامس والسادس .

تکرار العمل المماثل من قبل البلدان وممثّلی الشعوب ، فیما اتّخذ طابعا إلزامیّا فی العلاقات المشترکة بالتدریج ، ووقع موقع القبول بوصفه معیارا لقیاس المثل السائدة

. فالقواعد القانونیّة العرفیّة فی العلاقات الدولیّة هذا الیوم تحظی بأهمّیّة وقیمة متماثلة حیث لا وجود لقاعدة قانونیّة وضعیّة مدوّنة ، وهی أساس الإجراءات القضائیّة فی حلّ الخلافات الدولیّة . وقد نصّت علی ذلک المادّة الثامنة والثلاثون من نظام محکمة العدل

الدولیّة(1) .

ویطلق علی القواعد العرفیّة فی اصطلاح الفقهاء : بناء العقلاء أیضا . ومیدانها العملی فی استنباط القواعد القانونیّة فی الإسلام واسع للغایة ، ویستعمل الفقهاء فی المراجع العرفیّة عادة جملة : « العرف ببابک » .

ویری بعض الفقهاء أنَّ المرجع فی اعتبار العرف هو السنّة . وفی ضوء الحدیث النبویّ : « ما رآه المسلمون حسنا فهو عند اللّه حسن » (2) ، فإنَّ مرجع العرف فی قواعد القانون الدولیّ فی الإسلام هو المجال الذی لا یمکن الرجوع فیه إلی أدلّة أُخری ( المجال الخاصّ بما لا نصّ فیه ) .

وللعرف فی الفقه الإسلامی استعمال واسع ، فحینا یضع القواعد القانونیّة بوصفه عاملاً مستقلاًّ ، وحینا آخر یُرجَع إلیه بوصفه أصلاً فی تبیان موضوعات الأحکام

، وله تأثیره فی کشف القواعد القانونیّة واستنباطها بصورة غیر مباشرة .

ینبغی إحراز شرطین جوهریّین فی تبلور العرف :

1 - التکرار المستمرّ للسلوک والعمل .

2 - بعده الإلزامی بحیث یقرّ به الجمیع أو الأغلبیّة .

وینبغی أیضا مراعاة النقطتین الآتیتین فی الرجوع إلی العرف :

ص:99


1- عندما اصطدمت الباخرتان : لوکوس وبزکورت سنة 1926م ، وتمَّ تقدیم الضبّاط الفرنسیّین الثلاثة الذین کانوا یعملون فی باخرة بزکورت إلی المحکمة من قبل الحکومة التی تعود إلیها باخرة بزکورت ترکیا ، فإنَّ المحکمة الدائمیّة للعدل الدولیّ رجعت إلی القاعدة العرفیّة فی حکمها المرقّم ( 9 ) ، واعتبرت احتجاج الحکومة الفرنسیّة علی أهلیّة الحکومة الترکیّة مرفوضا .
2- هذا الحدیث رجع إلیه السیوطیّ - وهو من علماء السنّة - وناقشه . یرجع إلی « القانون الإسلامی » للدکتور جعفری لنکرودی [ فارسی ] ص 22 .

1 - لا وجود لأیّ قاعدة قانونیّة مأخوذة من المصدرین الأصلیّین : الکتاب والسنّة .

2 - عدم نهی الشرع عن اقتفاء العرف فی مجال خاصّ مستنَد .

إنَّ المقارنة بین الإسلام والنظام القانونی المعاصر فی قیمة العرف ، وإن کانت تدلّ فی البدایة علی أنَّ العرف یتمتّع بأهمّیّة أکبر فی النظام القانونی المعاصر ، ویعتبر فی القانون الدولیّ المعاصر ( العامّ ) أحد المصدرین الأصلیّین فی وضع القانون ؛ فی حین یعدّ أحد المصادر من الدرجة الثانیة فی النظام القانونی فی الإسلام . ولکن بالنظر إلی أنَّ العرف فی القانون الدولیّ المعاصر ( العامّ ) تقلّ أهمّیّته إذا ما قیس بمصدر قانونی آخر ، وهو المعاهدات ، والمعاهدات الدولیّة - أساسا - تعتبر مصدرا من مصادر القانون ، یتّضح أنَّ العرف فی کلا النظامین القانونیّین یتمتّع بقیمة متکافئة .

العلاقة بین العقل والعرف

ذکر معظم الفقهاء أنَّ العقل والعرف مصدران ( دلیلان ) مستقلاّن للقانون الإسلامی . وذکر البعض کالغزالیّ أنَّ العقل یرجع إلی العرف . وهناک جمع ، بینهم السیوطیّ

، أسقطوا العقل من مصادر القانون الإسلامی .

وقد قلنا فی حدیثنا عن العقل أنَّ الشرع ، لأسباب ما ، ترک الباب مفتوحا أمام العقل لوضع قسم من القواعد القانونیّة . وتؤدّی قاعدة الملازمة بین حکم العقل وحکم الشرع

دورا مهمّا فی إنشاء القواعد القانونیّة فی المجالات التی لا نصّ فیها . والمستقلاّت العقلیّة خلال ذلک عناصر رئیسة فی هیکل الأحکام العقلیّة . ولمّا کانت المستقلاّت العقلیّة تُفسَّر

علی أساس قاعدة الحسن والقبح العقلیّین ، فنطاقها - شاء المرء أم أبی - هو العقل العملی ، وهو مقصور علی الآراء المحمودة(1) .

ومن هنا تداخل العقل مع العرف ، وسیصبحان فی النهایة مترادفین فی المفهوم .

نعتقد أنَّ هذا الخطأ ناتج عن أنَّ هؤلاء لمّا رأوا أن الاختلاف فی مسألة الحسن والقبح العقلیّین بین الأشاعرة والعدلیّة [ المعتزلة ] یخصّ المسائل المتعلّقة بالعقل العملی ، تصوّروا

ص:100


1- یرجع إلی بحث المستقلاّت العقلیّة فی « قوانین الأُصول » للمیرزا القمّیّ ج 2 ؛ و « أُصول المظفّر » 2 : 24 ؛ و « الأُصول العامّة للفقه المقارن » للسیّد محمّد تقی الحکیم ، ص 283 .

أنَّ المستقلاّت العقلیّة التی اعتبرت حجّة فی أُصول الفقه هی المسألة التی یحوم حولها الاختلاف . وقد غفلوا عن نطاق المستقلاّت العقلیّة المتوکّئة علی العقل النظری مثل : قاعدة الملازمة بین حکم العقل وحکم الشرع ، وقاعدة قبح العقاب بلا بیان ، اللتین تستنتجان من استدلال العقل النظری الذی یتّفق علیه الطرفان .

ویمکن من خلال هذا التوضیح فصل نطاق العقل عن نطاق العُرف ، بأن نجعل مجال العرف مقصورا فقط علی ذلک القسم من العقل العملی الذی لم یتوکّأ علی العقل النظری

، وقد طُرح فی الحکمة العملیّة والأخلاق علی شکل آراء محمودة ، وجعل نطاق العقل شاملاً

لذلک الضرب من مجالات العقل العملی المتوکّئ علی الاستدلال والعقل النظری .

4 - المعاهدة

تعتبر المعاهدات أهمّ مصدر لوضع القانون فی القانون الدولیّ المعاصر ( العامّ ) . وقد قدّمت لجنة القانون الدولیّ فی مشروعها الخاصّ بالمعاهدات سنة 1962م

تعریفا للمعاهدة علی النحو الآتی :

کلّ اتّفاق دولیّ خطّیّ مذکور فی وثیقة أو وثیقتین أو عدد من الوثائق الملحقة ، ومعقود بین حکومتین أو أکثر فی عدد من الموضوعات الخاصّة بالقانون الدولیّ ، تقرّه

اللجنة دون الالتفات إلی اسمه الخاصّ .

إنَّ جمیع المعاهدات فی الفقه الإسلامی هی أساس للتعهّدات القانونیّة بشرط عدم تعارضها مع الموازین الإسلامیّة ، ولها موقع مهمّ للغایة فی القانون الدولیّ فی الإسلام ، ویری الإسلام أنَّ الالتزامات المنبثقة عن المعاهدات لا تقبل الخرق وفقا للقاعدة العامّة

المتمثّلة بلزوم الوفاء المطلق بالعقود . وهکذا جعل المعاهدات مصدرا قانونیّا لکشف

الالتزامات المنبثقة عنها .

ولمّا کان الإسلام فی النظام الدولیّ یوصی الشعوب دائما بالاهتمام بنقاط الالتقاء والمشترکات التی تجمعها ، ویری أنَّ بناء العلاقات وتوسیعها فی المجتمع الدولیّ عملی بتوکّؤه علی مبدأ الاتّفاق علی القواسم المشترکة . « قُلْ یَا اَهْلَ الْکِتَابِ تَعَالَوْا اِلی کَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَیْنَنَا وَبَیْنَکُمْ » (1) . من هذا المنطلق تتمتّع المعاهدات فی القانون الدولیّ فی الإسلام بقیمة وأهمّیّة فائقة ، ویمکن أن تعتبر أساس التفاهم ، والحقّ ، والعدالة ، والإنصاف ، والسلم ،

ص: 101


1- آل عمران : 64 .

والأمن

، والمساواة فی العلاقات الدولیّة .

مبدئیّا

، فإنَّ الاستراتیجیّة العالمیّة فی الإسلام تقوم علی أساس توسیع دائرة المشترکات ونقاط الالتقاء بأکبر ما یمکن ، وبلوغ المجتمع الدولیّ مرحلة الاتّفاق علی الفکر والنظام المثالی الواحد من أجل الحصول علی العدالة ، والمساواة ، والسلم ، والأمن . والطریق الوحید لبلوغ هذا الهدف السامی ، وتطویر مثل هذه الاستراتیجیّة ، هو اللجوء

إلی المعاهدات الثنائیّة أو المتعدّدة الأطراف ، لأنَّ کلّ معاهدة ترسی دعائم قسم من

المشترکات ، وتهیّئ الأرضیّة من أجل الظفر بمشترکات أکثر .

إنَّ تأکید المصادر الأصلیّة للفقه السیاسی فی الإسلام ، أی : الکتاب والسنّة علی مبدأ لزوم الوفاء بالعهود واحترامها ، خاصّة فی العلاقات الدولیّة ، یبیّن لنا أنَّ مصادر القانون الدولیّ فی الإسلام قد تجلّت بصورة رئیسة فی مکان واحد ، ووضعت أُسس مصدر واحد .

إنَّ القواعد التی تقدّمها المصادر الأصلیّة فی حقل القانون الدولیّ هی ملهمة فی الحقیقة للعناصر الأساسیّة للمعاهدات الدولیّة . وما ینتظره الإسلام من المجتمع الدولیّ هو إمَّا أن یقرّ بهذه القواعد من وحی المبدأ والاعتقاد ، أو یلتزم بها عن طریق المعاهدات .

وغنیٌّ عن البیان أن نقول بأ نَّه من أجل بلوغ الهدف الأخیر ، وهو إقرار المجتمع الدولیّ بالقانون الدولیّ فی الإسلام بوصفه قانونا واجب التطبیق علی الصعید العالمی ، فإنَّ الاتّفاق التدریجی علی قسم بعد قسم من هذه القواعد عن طریق المعاهدات هو السبیل الفرید لبلوغ الغایة المنشودة .

5 - الأحکام الحکومیّة

یضاف إلی المصادر المذکورة فی الفقه السیاسی مصدر قانونی آخر یعبّر عنه الفقهاء : الأحکام الحکومیّة .

وبالرغم من أنَّ الفقهاء لم یجمعوا علی المساحة التی تملأها هذه النظریّة ، بید أنَّ هذا المبدأ لا یقبل الشکّ ، وهو أنَّ جمیع الأحکام والمقرّرات القانونیّة فی الإسلام تقوم علی أساس المصالح الواقعیّة للفرد ، والمجتمع ، والمجتمع الدولیّ . وقد روعیت فی تأسیس النظام القانونی فی الإسلام (عن طریق الوحی الإلهی ) والحقّ ، والعدالة ، والمصلحة العامّة ، الحرّیّة وحقوق أعضاء المجتمع ( القومی ) أو المجتمع العالمی بدقّة منبثقة عن الحکمة والعدالة والعلم بجمیع شؤون الوجود ؛ هذا من جهة ، ومن جهة أُخری فإنَّ النظام القانونی فی

ص:102

الإسلام یقوم علی أساس من المرونة وتیسیر الأُمور فی الحیاة البشریّة ، ولم یشأ اللّه أن ینغّص الحیاة ویجعلها عسیرة علی الناس من خلال قوانین ومقرّرات شاقّة(1) .

فی ضوء هذین المبدأین ، لابدَّ من تفویض الصلاحیات من قبل الوحی إلی النبیّ صلی الله علیه و آله والإمام من بعده . وهکذا یمکن أن نقسّم القواعد القانونیّة ، خاصّة فی الفقه السیاسی إلی ثلاثة أقسام :

1 - الأحکام والقواعد القانونیّة العامّة الأوّلیّة الثابتة .

2 - الأحکام والقواعد القانونیّة الثانویّة المتغیّرة .

3 - القوانین الحکومیّة .

إنّ ما یتمتّع به الإمام والقائد السیاسی للأُمَّة من السلطة التشریعیّة ( المؤقّتة

) نوعا ما ، لیس مکسبا أو امتیازا مبتنیا علی مصلحة فردیّة أو جماعیّة ، بل هو اضطلاع بمسؤولیّة

القیادة . والأمر المکرّر بالطاعة الوارد فی قوله تعالی : « اَطیعُوا اللّه َ وَاَطیعُوا الرَّسُولَ

وَاُولِی الاَْمْرِ مِنْکُمْ » (2)یدلّ علی وجوب اتّباع الأوامر الأُخری للرسول وأُولی الأمر ، مضافا إلی إطاعتهم فی الأحکام والقوانین الواجبة التطبیق .

وما تفیده الآیة الکریمة : « وَ مَا کَانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لاَ مُؤْمِنَةٍ اِذَا قَضَی اللّه ُ وَ رَسُولُهُ اَمْرًا اَنْ یَکُونَ لَهُمُ الْخِیَرَةُ » (3) هو تأکید أیضا علی هذا القانون الراقی فی الإسلام ، حیث إنَّه یُیسّر انسجام النظام القانونی فی الإسلام مع الظروف السائدة دائما (4) .

وقد شهد التاریخ الإسلامی استغلالاً وتحریفا جمّا بسبب إساءة استعمال السلطة والصلاحیّات الممنوحة ، من قبل الحکّام والسلاطین ، ممّا یثبت الحسّاسیّة الناشئة من جرّاء تطبیق هذا القانون ، وصعوبته(5) .

ویمکن الاعتماد علی القوانین الحکومیّة بوصفها مصدرا قانونیّا فی النظام القانونی فی

ص: 103


1- « یُریدُ اللّه ُ بِکُمُ الْیُسْرَ وَلاَ یُریدُ بِکُمُ الْعُسْرَ »البقرة : 185 . وقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : بعثنی بالحنفیّة السمحة ( السهلة ) . « وسائل الشیعة » 14 : 74 .
2- النساء : 59 .
3- الأحزاب : 36 .
4- یرجع إلی « تهذیب الأُصول » ( تقریرات درس الإمام الخمینیّ ) 3:115 - 117 ، ومقالة « الولایة والزعامة فی الإسلام » فی کتاب « الدراسات الإسلامیّة » [ فارسی ] ، للعلاّمة الطباطبائیّ ص 180 .
5- یراجع کتاب « فلسفة التشریع فی الإسلام » للدکتور صبحی محمصانی ، ص 175 .

الإسلام

. وأنَّ استعمالها فی القانون الدولیّ فی الإسلام لافت للنظر تماما ، لکن لیس بمعنی

فرض آراء الإمام وأوامره علی المجتمع الدولیّ ، لأنَّ القواعد الأُخری للقانون الدولیّ فی الإسلام أیضا لیس لها مثل هذه الحالة ، بل إنَّ الاستراتیجیّة العامّة للإسلام فی مجال قواعد القانون الدولیّ سوف تکون منطبقة علی هذه الحالة أیضا ، حیث إنَّ الإسلام ، بدعوته

المجتمع الدولیّ إلی قبول نظام الوحی علی أساس الاستدلال ، والتحمّس ، وتبادل الآراء ، والمناقشة « اُدْعُ اِلی سَبیلِ رَبِّکَ بِاص لْحِکْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جَادِلْهُمْ بِاص لَّتی هِیَ اَحْسَنُ » (1) . یحاول بالتدریج أن یضع أجزاء هذه المجموعة القانونیّة موضع التنفیذ عن طریق الاتّفاقیّات والمعاهدات علی صعید المجتمع الدولیّ .

إنَّ آراء إمام المسلمین هی ذات قیمة وشأن من الناحیة القانونیّة فی الإسلام إذ یمکن أن تکون فی الخطّ الاستراتیجی للإسلام مثل بقیّة القواعد القانونیّة المستنبطة من الکتاب

والسنّة . أی : أ نَّها إمَّا تُقَرّ من قبل المجتمع الدولیّ أو أ نَّها تکسب اعتبارها القانونی عن طریق الاتّفاقیّات والمعاهدات .

فالقوانین الحکومیّة وآراء إمام المسلمین لا تطرح بوصفها تمثّل آراء رئیس دولة ، بل بوصفها آراء قائد المسلمین فی العالم ، ولها شأن وقیمة خاصّة من وجهة نظر الإسلام والمجتمع الدولیّ .

وتعتبر الاتّفاقیّات المعقودة بین البابا والدول الأُخری جزءا من الاتّفاقیّات الدولیّة المشرّعة للقانون فی القانون الدولیّ المعاصر ( العامّ ) ، والبابا فی هذا الضرب من الاتّفاقیّات یحتلّ موقعا دولیّا بوصفه رئیسا للکنیسة وقائدا دینیّا للکاثولیک فی العالم ، لا بوصفه

رئیسا للفاتیکان وممثّلاً للحکومة(2) .

ص: 104


1- النحل : 125 .
2- « القانون الدولیّ العامّ » [ فارسی ] للدکتور ضیائی بیگدلی ، ص 98 .

الفصل الرابع: الضمانة التنفیذیّة فی القانون الدولیّ فی الإسلام

ذکرنا فیما مضی أنَّ إحدی نقاط الضعف فی القانون الدولیّ ، کما فی القانون الأساسی ، هی فقدان الضمانة التنفیذیّة ، إذ لا وجود لأیّ قوّة دولیّة قاهرة تضمن تنفیذ القواعد

الدولیّة حتّی تری الحکومات المختلفة فی العالم نفسها مکلّفة بتنفیذها . فالقانون الدولیّ

یفتقد السلطة التشریعیّة ، والتنفیذیّة ، والقضائیّة دائما ، ویشکّل عاملاً وقائیّا فحسب . وأمَّا ممارسة القوّة العسکریّة ، فإنَّها إذا ما تحقّقت ، فإنَّ نتیجتها إثارة الحرب ونقض الهدف . والحرب رمز تامّ لمنطق القوّة ، وتمثّل تهدیدا للسلم ، والأمن ، والعدالة . وعندما یسود منطق القوّة ، فلا یمکن عقد الأمل علی الحقّ ، والعدالة ، وسیادة القانون

.

من هذا المنطلق ، فإنَّ معظم علماء القانون فی الغرب یلغون الفلسفة من وجود القانون الدولیّ ، وینظرون إلی قواعده علی أ نَّها فاقدة للخاصّیّة القانونیّة ، وأ نَّها مجرّد قواعد أخلاقیّة دولیّة . وهبط به البعض إلی مستوی القانون الخارجی للبلدان(1) .

إنَّ طبیعة النظام القانونی فی الإسلام تحکی لنا أنَّ الأحکام والقواعد القانونیّة مقدّمة

دائما علی المجتمع والحکومة ، ولم یتوقّف وجودها یوما علی وجود تنظیم سیاسی أو سلطة

حکومیّة . بل بالعکس ، نجد أنَّ الفسلفة من وجود المجتمع والحکومة هی أ نَّهما وسیلة لتنفیذ القانون .

ص: 105


1- یرجع إلی کتاب « القانون الدولیّ العامّ » [ فارسی ] للدکتور صفدری 1 : 45 .

إنَّ الهدف من منح الحکومة سلطة مقتدرة هو تمکینها من تطبیق النظام القانونی فی المجتمع ، وتنفیذ القانون فی جمیع أرجائه وأنحائه .

ولکن متی عجز المجتمع والحکومة عن قبول القانون وتطبیقه ، فربّما یفقدان الغایة من وجودهما ، بید أنَّ القواعد القانونیّة تظلّ سائدة وراسخة . وکلّ إنسان مکلّف - بدوره - أن یطبّق القانون والقواعد القانونیّة حتّی الإمکان بعیدا عن الآخرین .

إنَّ فلسفة النظام القانونی فی الإسلام هی تحقیق الحیاة الأفضل للإنسان فی أعلی مستوی ممکن ، والاستقامة علی طریق الحقّ والعدل والحکمة ، وطلب الکمال ، والقرب من الکمال المطلق . والحیاة الجماعیّة والحکومة تساعدان الإنسان فی هذا الاتّجاه

. إلاّ أ نَّه فی هذه الحرکة اللا متناهیة لا یقعد أبدا علی أمل مساعدة المجتمع والحکومة ، ولا یتوقّف عن الحرکة ، بل یواصل حرکته حتّی یلتحق به الآخرون أیضا ، بما فیهم المجتمع والحکومة

.

هذا الموضوع الواضح لا یعنی إلغاء ضرورة الحکومة ، وأصل الإمامة ، والتشکیلات الحکومیّة فی الإسلام ؛ لأنَّ التنظیم السیاسی ، وإقرار السلطة العلیا ، والسیادة علی أساس إمامة الصالحین ( الأئمّة المعصومین أو الفقهاء جامعی الشرائط ) أُمور لا محیص منها فی الإسلام ، إلی درجة أ نَّه لو بقی فی العالم شخصان ، فلابدَّ أن یکون أحدهما إماما ، والثانی تابعا له(1) . فهو یعنی أ نَّه متی لم یتبلور النظام السیاسی - لأیّ سبب کان - ولم تتحقّق الإمامة ، أو أنَّ مراکزها السیاسیّة عجزت عن تنفیذ القوانین ، فکلّ إنسان مکلّف أن یطبّق القانون ما استطاع إلی ذلک سبیلاً .

ولهذا السبب نفسه ، فإنَّ النظام السیاسی فی الإسلام لیس له شکل واحد ، وظروف متکافئة ثابتة ، فهو یتّخذ شکلاً معیّنا عند حضور الإمام المعصوم ، فی حین یتّخذ شکلاً

آخر مغایرا فی عصر الغیبة مع إمکان تصدّی الفقیه الجامع للشرائط . وعند عدم بسط ید

الفقیه ( عدم قدرته ) ، فإنَّ له شکلاً ثالثا من خلال حکومة الأشخاص الصالحین ، وحتّی

عند عدم توفّر هؤلاء ، فإنَّه لابدَّ أن یتحقّق بشکل من الأشکال حتّی من قبل غیر الکفوءین ، لأنَّ الشریعة تمثّل قانون اللّه وفطرة الإنسان ، ولابدَّ أن تطبّق مهما کانت الظروف ، حتّی فی نطاق الفرد وحیاته الفردیّة .

ص: 106


1- راجع الفصل الثانی من الجزء الثانی من هذا الکتاب ، موضوع : النظام السیاسی والحکومة فی الإسلام .

ولا تقع مهمّة تنفیذ هذا النظام القانونی علی عاتق الحکومة وأجهزتها التنفیذیّة فقط ، بل الکلّ یضطلع بهذه المهمّة فی میدانها الفسیح « کلّکم راع وکلّکم مسؤول عن رعیّته » (1) . فالقواعد القانونیّة هنا هی بمثابة واجبات عبادیّة ، والإنسان المؤمن یذلّل الصعاب التی یواجهها فی طریق تنفیذ تلک القواعد ، لکنَّه بالرغم من تلک الصعاب ، فإنَّ قلبه مسرور

طافح بالأمل بما سیلاقیه من الفوز الأبدی وجنّة الخلد من خلال هذا الطریق .

هذا اللون من الضمانة التنفیذیّة القویّة الواسعة هو من خصائص القانون الإسلامی . وینطبق علی القانون الداخلی والقانون الدولیّ بنفس الدرجة .

إنَّ قواعد القانون الدولیّ فی الإسلام ، مثل جمیع القواعد القانونیّة والنظام القانونی

الکامل ، هی أوسع من أن تستوعبها الأجهزة التنفیذیّة وکلّ قوّة قاهرة ، لأنَّ قاعدتها

الأساسیّة هی إیمان الناس واعتقادهم بأحقیّة أُسس هذه القواعد القانونیّة . وتجلّی هذا الإیمان فی الساحة الدولیّة یعنی أنَّ المعتقدین بذلک والناس الکفوءین والمؤمنین بهذه

المبادئ لا یقعدون مکتوفی الأیدی أبدا ، بل هم یبذلون قصاری جهدهم فی سبیل ترسیخ أُسس العدالة ، والسلم ، والأمن فی العالم ، وهم فی طلیعة من یتولّی هذه المهمّة من خلال تطبیق القواعد المرتکزة علی هذه المبادئ . وبالرغم من العناء الذی یتجشّمونه ، فإنَّهم

یأخذون علی عاتقهم حراسة القانون العادل وحمایته بأکبر ما یمکن من التضحیة ، وإلی جانب الکفاح الذی یخوضونه ضدّ الطاغوت المتمثّل برموز الاستبداد فی النطاق الداخلی للبلدان ، فإنَّهم یهبّون للنضال ضدّ الاستکبار علی الصعید العالمی ، ویرکعون القوی

الاستکباریّة المستبدّة لتنقاد خاضعة لحقوق الشعوب العادلة ، أو یزیلونها .

ولو أدّی هذا اللون من النضال إلی الحرب ، فهی لیست الحرب التی یفهم منها خرق لأهداف القانون الدولیّ ، لأنَّ الحرب متی قامت ضدّ الشعوب فهی مدانة وتمثّل خرقا للهدف من زاویة الأهداف الإنسانیّة للقانون الدولیّ . إذ إنَّ هذا النضال الذی یمارسه

الصالحون وطلائع العدل والسلم والأمن فی الساحة الدولیّة ، هو فی الحقیقة نضال ضدّ

القوی الاستکباریّة التی فرضت وجودها علی الشعوب .

ولا ریب أنَّ فریقا من هؤلاء الصالحین والطلائع المضحّیة یعیش فی أوساط کلّ

ص: 107


1- « مجموعة ورّام » ص 6 .

شعب

، فیأخذ علی عاتقه مهمّة الحفاظ علی القانون الدولیّ العادل من خلال تنظیم عالمی . ولا یستأثر بهذه المهمّة شعب أو مجموعة أو شخص معیّن . فالکلّ بمقدورهم أن یساهموا فی هذا السباق الکبیر لنشدان العدالة ، ویشارکوا فی هذا النضال المتمثّل بالجنوح إلی السلم(1) .

ویؤکّد الإسلام فی هذا المجال أن تکون الأُمَّة الإسلامیّة أُمَّة نموذجیّة(2) ، حاملة هذه الرسالة الکبری ورافعة لواء السلم ، وحامیة حریم العدالة علی الصعید العالمی ، ومستظهرة

فی هذا الاتّجاه بالمنطق والعلم(3) والسلاح(4) ، لا من أجل التحکّم فی رقاب الناس ، والتسلّط علی الآخرین ، بل من أجل الریادة فی الإیثار لإحیاء المبادئ الإنسانیّة وتطبیق

الحقّ والعدالة فی العالم .

وقد وضع الإسلام هذه المهمّة علی عاتق جمیع الناس ، وأناط رسالتها بالضمائر الحیّة . ولا شکّ أنَّ أیّ سلطة سیاسیّة لا یمکن أن تکون لها مثل هذه الضمانة التنفیذیّة .

واضطلع نبیّنا الکریم صلی الله علیه و آله ومعه ثلّة من أصحابه بإقرار النظم ، وبسط العدل ، وتوطید النظام المتوکّئ علی المثل ، بینما لم یمثّل علی ما یبدو قوّة ملحوظة یحسب لها حسابها حیال القوی المعاصرة له . ولم یتصرّف فی تنفیذ تلک المهمّة الکبری کأحد الأُمراء الغازین قطّ ، ولم یدع أحدا إلی طاعته ، بل دعا العالم إلی اتّباع شریعة اللّه ، وإطاعة حاکمیّة ربّ العالمین ، وطلب من الناس التحرّک والسعی ، لا لنفسه ، بل للّه وعلی أساس شریعته(5) .

إنَّ أحد عناصر الثبات والاقتدار فی هذا اللون من الضمانة التنفیذیّة هو أنَّ النظام القانونی هنا لا ینظر إلیه بوصفه نظاما مؤقّتا قابلاً للتغییر ، لأنَّ هذه الصفة تولّد نوعا من الضعف فی القدرة التنفیذیّة دائما . أمَّا النظام القانونی فی الإسلام فإنَّه - مع المرونة التی یتّصف بها ( من خلال المقرّرات القانونیّة الثانویّة ) - ثابت ودائمی . وینمّ عن الثبات والاقتدار اللازم فی تطبیق القواعد القانونیّة ، ویفضی إلی سعی العاملین فی الجهاز التنفیذی بکلّ ما أُوتوا من قوّة وإمکانیّات بالقوّة وبالفعل نحو التطبیق العملی للقانون وإعداد

ص:108


1- « یَآءَیُّهَا الَّذینَ امَنُوا ادْخُلُوا فِی السِّلْمِ کَآ فَّةً »البقرة : 208 .
2- «وَکَذلِکَ جَعَلْنَاکُمْ اُمَّةً وَسَطًا لِتَکُونُوا شُهَدَآءَ عَلَی النَّاسِ » البقرة : 143 .
3- « اُدْعُ اِلی سَبیلِ رَبِّکَ بِاص لْحِکْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جَادِلْهُمْ بِاص لَّتی هِیَ اَحْسَنُ »النحل : 125 .
4- « وَاَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَیْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّه ِ وَعَدُوَّکُمْ » الأنفال : 60 .
5- « اَنْ تَقُومُوا للّه ِِ مَثْنی وَ فُرَادی ثُمَّ تَتَفَکَّرُوا » سبأ : 46 .

الأرضیّة لضمان مستقبله .

ومتی کانت للقانون - بطبیعته - ظروف مناسبة لسهولة التطبیق ، فإنَّه یستغنی عن الضمانة التنفیذیّة الخارجیّة تلقائیّا . والقواعد العرفیّة تطبّق بسهولة بین عامّة الناس وجمیع الشعوب بلا حاجة إلی سلطة أعلی تضمن تنفیذ تلک القواعد .

إنَّ النظام القانونی فی الإسلام الذی یحمل عنوان الشریعة السهلة « یُریدُ اللّه ُ بِکُمُ الْیُسْرَ وَلاَ یُریدُ بِکُمُ الْعُسْرَ » (1) ، لا یحتاج کثیرا إلی سلطة خارجیّة تضمن تطبیقه ، وذلک لما یتمتّع به من عناصر معیّنة نحو : أصل الصحّة وحسن الظنّ ، والتوکّؤ علی الملکات

الأخلاقیّة ، وإیقاظ الضمیر وإحیاء الالتزام عند الإنسان ، والترکیز علی المشترکات

ونقاط الالتقاء ، وتوسیع مبدأ الالتزامات علی أساس المعاهدات والاتّفاقیّات ، ونسف

منطق القوّة والتحکّم فی رقاب الآخرین ، وعشرات العناصر المنسجمة مع الفطرة البشریّة . وطبیعة هذا النظام تتمثّل فی أ نَّه یتلمّس الضمانة التنفیذیّة القویّة فی ضمائر الناس .

إنَّ الطریق الذی اختاره الإسلام لتطبیق قواعد القانون الدولیّ ( المعاهدة ، والدعوة

، والنضال العقائدی - السیاسی ) یسوق المجتمع الدولیّ نحو الوحدة والانسجام . ولا

شکّ أنَّ الوحدة المتوکّئة علی الإرادة الحرّة تتمخّض عن آصرة راسخة ، وتبطل مفعول العوامل التخریبیّة ، والضغط ، وکلّ لون من ألوان التحکّم والتأمّر ، وتقرّ التعاون والنظم . ولمّا کان هذا التعاون والتضامن والنظم ، والقواعد القانونیّة التی تحکم العلاقات قد تحقّقت بوعی

وقبول وإرادة حرّة جماعیّة ، فإنَّها - شاء الإنسان أم أبی - ستربّی فی داخل الإنسان أقوی ضمانة تنفیذیّة .

إنَّ التسلیم بالمقرّرات القانونیّة فی مثل هذا المجتمع الدولیّ لا یحتاج إلی قوّة قاهرة وسلطة علیا أبدا (2) . بل إنَّ دعامته الأساسیّة هی التعاون الطوعی ، والقبول الواعی والحرّ .

ص: 109


1- البقرة : 185 .
2- یراجع کتاب « القانون الدولیّ الإسلامی » [ فارسی ] ص 235 .

الفصل الخامس: نظرة تاریخیّة علی العلاقات الدولیّة فی الإسلام

اشارة

إنَّ دراسة تاریخ العلاقات الدولیّة للمسلمین شاهد آخر علی عراقة نظریّة القانون الدولیّ فی الإسلام ، وحجم الاتّجاه الذی علیه المجتمع الإسلامی نحو المبادئ والقواعد

القانونیّة فی العلاقات الدولیّة .

ویمکن أن ندرس تاریخ التطوّرات التی مرّت بها العلاقات الدولیّة للمجتمعات الإسلامیّة فی عدد من العصور المتمیّزة التالیة : عصر النبیّ الأعظم صلی الله علیه و آله ، عصر الخلفاء والسلاطین ، عصر الإمبراطوریّة العثمانیّة ، والعصر الحدیث . وفیما یلی نبذة مختصرة عن کلّ واحد من هذه العصور .

1 - عصر النبیّ الأعظم صلی الله علیه و آله

اشارة

ینبغی فی البدایة دراسة الأوضاع السیاسیّة فی العالم ، والعلاقات بین القبائل والحکومات والإمبراطوریّات أیّام النبیّ صلی الله علیه و آله ، ثمَّ ننتقل بعدها إلی دراسة التطوّر الذی أحدثه النبیّ صلی الله علیه و آله فی العلاقات الدولیّة ، وذلک من أجل التوفّر علی دراسة صحیحة لسیرة النبیّ صلی الله علیه و آله السیاسیّة ، لا سیّما ذلک القسم من سیرته الذی یرتبط بالعلاقات التی کانت قائمة بینه وبین القبائل القریبة والبعیدة ، والحکومات المجاورة وغیر المجاورة ، والإمبراطوریّتین

الکبیرتین الفارسیّة والرومانیّة . ونبدأ القسم الأوّل بعلاقات القبائل :

ص: 110

ألف - علاقات القبائل العربیّة

کانت القبائل فی الجزیرة العربیّة بعیدة عن الانسجام والتبلور فی داخل مجتمع سیاسی موحَّد له حکومة واحدة ، ولم تکن العلاقات السائدة بینها إلاّ الحرب والصراع والمنافسات الدمویّة . وکلّ ذلک یعود إلی التعصّب ، والتفاخر ، والاعتداء علی حریم

القبائل الأُخری ، والتمرّس علی الحرب وإراقة الدماء ، والتنقّل من مکان إلی آخر ، وروح الحرّیّة وعدم التقیید ، والتعلّق بوضع خاصّ .

من الطبیعی ینبغی أن لا نغفل هنا ما للماء ، والجوّ ، والظروف الإقلیمیّة من تأثیر أیضا ، فشحّة المیاه والمراتع کانت تفرض علیهم التنقّل والتصرّف بنحو غیر مطلوب أحیانا .

ومن العوامل الأُخری التی کانت تؤدّی إلی تدهور العلاقات واستشراء العنف بین القبائل هی الاختلافات والضغائن الدفینة التی کانت علیها بعض القبائل العربیّة ، والحروب الطویلة التی کانت تستغرق أحیانا أربعین سنة .

وکانت المنافسة السیاسیّة - العسکریّة بین الإمبراطوریّتین الکبریین آنذاک ( الفارسیّة والرومانیّة ) تهیّئ بدورها البواعث علی بروز النزعات المتطرّفة المتفاقمة بین القبائل المتجاورة ممّا یفضی إلی استغلالها فی الحروب والمنازعات الطویلة التی کانت تنشب بین تینک الحکومتین المقتدرتین ، إلی درجة أنَّ الخوف من الهجمات المحتملة لهما کان یرغم تلک القبائل القاطنة فی الأطراف الحدودیّة لهما أن تهبّ لدعمهما وإسنادهما .

وکانت القبائل القاطنة فی الحدود مع الحکومات المجاورة وشبه الجزیرة العربیّة ، وکذلک القبائل المرکزیّة فی شبه الجزیرة ، تأبی الخضوع للحکومات الکبیرة والصغیرة المحیطة بها بشدّة ، وحتّی أ نَّها لم تتّحد فیما بینها إلاّ فی حالات نادرة .

کان توحّد القبائل البدویّة فی شبه الجزیرة العربیّة مقتصرا علی بعض الآداب والتقالید فقط ، وعلی عبادة الأصنام أیضا ، ولمّا لم تجد تلک القبائل ما یشبع طموحها من تلک الأصنام ، کانت تعمد إلی تدمیرها ، ورجمها أحیانا .

مع ذلک ، فقد کانت کلّ قبیلة علی شکل مجتمع سیاسی ، وتتمتّع بالعناصر الرئیسة المکوّنة للحکومة ( الجماعة المنظّمة ، السلطة السیاسیّة ، ونوع من الحکومة )

. وتتحدّد

ص: 111

أرض القبیلة وفقا لما یرتأیه شیخها ، فحینا تکون متغیّرة متنقّلة ، وحینا آخر ثابتة

.

وتتجلّی السلطة السیاسیّة للقبیلة فی شخصیّة رئیس القبیلة الذی یکون عادة من أکبر الموجودین سنّا أو أکثرهم قدرة وسطوة . وللقبائل تقسیمات قبلیّة معیّنة لکلّ واحد

منها اسم خاصّ ، وهی موزّعة فی مناطق مختلفة من الجزیرة العربیّة بأشکال متنوّعة مع

تسمیة تطلق علی کلّ واحدة منها (1) .

وکانت القبائل الحضریّة القاطنة غالبا فی الیمن ، وحمیر ، والحیرة ، وغسّان ، والحجاز ، ومکّة ، والمدینة تتمتّع بظروف متماثلة . وکانت تظهر بینها فی بعض هذه المناطق أحیانا تنظیمات سیاسیّة وحکومات مقتدرة سرعان ما تزول وتقسّم إلی قوی صغیرة بسبب الطباع والتقالید القبلیّة(2) .

وکانت السلطة السیاسیّة فی مکّة ، مهد النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله ، بِیَد قریش ، وکانت قبیلتا

الأوس والخزرج المتنافستان فی المدینة تعیشان حیاة زاخرة بالشحناء . وفی أطراف المدینة

قبائل من الیهود کانت تستغلّ الصراعات القائمة داخل المدینة وتستثمرها لتصبّ باتّجاه

المصالح والأرباح الاقتصادیّة الفاحشة .

ولو اعتبرنا کلّ قبیلة مجتمعا سیاسیّا وبلدا صغیرا ، فقد کانت فی أرجاء شبه الجزیرة العربیّة الفسیحة مئات القبائل التی کانت کلّ واحدة منها تتلقّی الأوامر من شیخها

، وتتحامی الاقتراب من القبائل الأُخری ومناطق نفوذها . وهذا هو الذی أفضی إلی أن تظلّ

القبائل بمأمن من انتهاک الغازین والقوی الکبری یومئذٍ .

حدث ذات مرّة أنَّ أحد الأُمراء العسکریّین الیونانیّین تحرّک نحو الحجاز لاحتلال إحدی المناطق فیه ، فخاطبه أحد شیوخ العرب قائلاً : ترانا نقطن فی هذه البقاع القاحلة

فرارا من العبودیّة . اقبل هدیّتنا وارجع إلی حیث کنت . سنکون من أوفی الأصدقاء لک . ولکنَّک إذا رغبت فی حصرنا ، حرمت کلّ هناءة ورأیت عجزک عن إکراهنا علی تبدیل طرق حیاتنا التی تعوّدناها منذ نعومة أظفارنا . وإذا قدرت علی أسر بعضنا ، أیقنتَ أ نَّک لن

ص:112


1- ینظر کتاب « نهایة الإرب وتاریخ العرب قبل الإسلام » ، وکتاب « تاریخ التمدّن » ، لجرجی زیدان ، الفصل المتعلّق بالقبائل العربیّة .
2- انظر : « تاریخ سیاسی إسلام » 1 : 1 .

تجد واحدا ممّن أسرتَ یستطیع أن یألف حیاة غیر التی ألفناها (1) .

وهکذا فإنَّ العلاقات السائدة بین المجتمعات السیاسیّة القبلیّة کانت تفتقر إلی النظم وبعض القوانین الخاصّة إبّان البعثة النبویّة الشریفة ، وکثیرا ما یشوبها الاغتراب ، والعداء ، والحرب ، وإراقة الدماء ، والنهب . وقد وصف الإمام علیّ علیه السلام حالة العرب قبل الإسلام فی إحدی خطبه فذکر تطاحنهم وإراقتهم الدماء(2) .

إنَّ القانون السلمی الوحید الذی کان یحکم العلاقات القائمة بین القبائل العربیّة هو تفادی الحرب والقتال فی الأشهر الحرم وهی ( ذو القعدة ، وذو الحجّة ، والمحرّم ، ورجب ) وکانوا یسمّون الحرب فی هذه الأشهر : حرب الفجار . بید أ نَّهم کانوا یحتالون أحیانا

بإجراء بعض التغییرات فی حساب الأشهر الحرم لیکون ذریعة لهم للتملّص من هذا القانون . وقد ذمَّ القرآن هذا العمل تحت عنوان النسیء(3) .

ب - علاقات الحکومات المتجاورة

کانت الحکومات المتجاورة فی شبه الجزیرة العربیّة ، مثل : حکومة الحبشة ، والحیرة ، وغسّان ، وسبأ التی کان یحکمها ملوک حمیر تعانی من حمّی الصراعات المزمنة

للإمبراطوریّتین الکبیرتین : الفارسیّة والرومانیّة من جهة ، ومن جهة أُخری ، کانت

منهمکة بالخلافات الداخلیّة وعدم الاستقرار . وهذا کلّه یؤدّی إلی تصدّع هذه الحکومات ، وتصدّع العلاقات القائمة بینها وبین القبائل القاطنة فی أطرافها أیضا

.

وکانت للحبشة علاقات طیّبة مع الإمبراطوریّة الرومانیّة بسبب میولها النصرانیّة .

وکان ذو نواس ملک الیمن قد اعتنق الیهودیّة . وأسفر هجومه علی نجران وارتکابه مذبحة جماعیّة بحقّ نصاری نجران - إذ بلغت ضحایاها عشرین ألف مسیحی(4) - عن نشوب

ص:113


1- « حضارة العرب » لغوستاف لوبون ، ص 91 - 92 ، ترجمة الدکتور عادل زعیتر . الطبعة الرابعة . نقلته عن المصدر المذکور نصّا . وأمَّا ما ورد فی النصّ الفارسیّ ، فهو غیر سلیم ، وسها المؤلّف بذکره جرجی زیدان کما أنَّ عنوانه الفارسیّ غیر دقیق .
2- « نهج البلاغة » الخطبة 26 .
3- « اِنَّمَا النَّسیءُ زِیَادَةٌ فِی الْکُفْرِ یُضَلُّ بِهِ الَّذینَ کَفَرُوا » . التوبة : 37 .
4- « حیاة محمّد (ص) » للدکتور محمّد حسنین هیکل ، ص 75 ، الطبعة 13 ، سنة 1968م .

الاشتباکات بین الحبشة والیمن ممّا أدّی ذلک إلی انقراض ملوک الیمن علی ید الأحباش ودخول الیمن تحت الاحتلال الحبشی .

وتعرّضت حکومتا الحیرة وغسّان اللتان ظهرتا علی أرض العراق والشام إلی هجوم الإسکندر مرّة . وفقدتا استقلالهما بواسطة أردشیر بابکان مرّة أُخری ، فأصبح بعض ملوک

الحیرة ، مثل : النعمان بن المنذر عملاء لکسری(1) .

ج - علاقات الإمبراطوریّتین الکبیرتین

کانت الإمبراطوریّتان الکبیرتان الفارسیّة والرومانیّة تعیشان صراعات مستمرّة . وکانت العلاقات التی تربطهما مع جیرانهما قائمة علی أساس التسلّط والتحکّم .

وعندما کتب أنوشیروان رسالة إلی ملک الروم ذکر له بأ نَّه بطل الأبطال ، وأ نَّه مصنوع علی شکل إله ، ووجوده إلهیّ یجب احترامه(2) .

وکان الإمبراطور البیزنطیّ یوستینیانُس الذی حکم مدّة ثمانی وثلاثین سنة قبل المبعث النبویّ الشریف قد أشعل فتیل الحرب المصحوبة بالمذابح الجماعیّة وتدمیر المدن

أکثر من خمسین مرّة ، ومع ذلک فإنَّه یری بأنَّ سلطته أمانة إلهیّة(3) .

وکانت المنافسة السیاسیّة والعسکریّة قائمة علی قدم وساق بین الإمبراطوریّتین الفارسیّة والرومانیّة . وکانت الحروب الشاملة بینهما من حین إلی آخر تسلب الهدوء والأمن من المناطق المجاورة لهما ، وتعرّض الدول الصغیرة المجاورة إلی مشاکل جمّة

. وتنتهی تلک الحروب والاشتباکات العسکریّة بانتصار الرومان مرّة ، وبانتصار الفرس أُخری

. ولکن علی أیّ حال لم تکن العلاقات ودّیّة وطیّبة بینهما فی یوم من الأیّام .

وکان نزوع النصاری القاطنین فی الشریط الحدودی للإمبراطوریّة الفارسیّة نحو الإمبراطوریّة الرومانیّة یفضی إلی قلق أباطرة الفرس وغیظهم دائما . ولمّا کان أکثر أُولئک النصاری هم من الأسری الذین وقعوا فی قبضة الفرس إبّان الحروب الجاریة بینهما ، وتوزّعوا فی مختلف أنحاء البلاد . لذلک کانوا یتجرّعون الغصص ویعیشون معاناة أکثر فی

ص: 114


1- « تاریخ الیعقوبی » 1 : 245 .
2- « تاریخ البیزنطینیّة » القسم الأوّل ، ص 253 ، نقلاً عن « محمّد خاتم النبیّین » 1 : 56 .
3- ینظر : « تاریخ تمدّن » لول دیورانت 10 : 196 .

خضمّ العلاقات العدائیّة بین الدولتین .

وکان سابور الثانی قلقا مضطربا للغایة بسبب دعم أُولئک النصاری للإمبراطوریّة الرومانیّة ، لذلک کتب إلی أحد عملائه من الحکّام قائلاً :

القوا القبض علی سیمون رئیس النصاری ، وما لم یوقّع هذه المذکّرة ، ولم یدفع ضریبة الرؤوس والخراج بشکل مضاعف فی بلادنا التی یعیش فیها الإله ! فلا تترکوه وحاله ، لأ نَّنا نحن الآلهة مشغولون بالحرب وهذا وأمثاله یعیشون فی الترف والنعیم ؛ إنَّهم یسکنون فی بلادنا لکنّهم أصدقاء عدوّنا قیصر(1) .

ولم

تؤثر المعاهدات التی کانت تعقد أحیانا بین ممثّلی کسری وهرقل(2) علی إزالة غبار العداء عن علاقات الدولتین قطّ ، ولم تدفعهما إلی السلم والتعایش بصفاء ووئام . وقد ذکر بروکبیوس الذی کان یعیش فی أواخر القرن الخامس المیلادی قریبا من بزوغ فجر الإسلام ، ذکر تلک الحروب الطویلة بین الفرس والروم التی شهدها هو بنفسه ، فی کتاب

تحت عنوان : حروب الفرس والروم . وقد أشار القرآن الکریم إلی تلک الحروب فی أوائل سورة الروم .

د - علاقات النبیّ صلی الله علیه و آله بالقبائل العربیّة

علی الرغم من البعد والافتراق والعلاقات العدائیّة التی کانت قائمة بین النبیّ صلی الله علیه و آله والقبائل العربیّة ، فقد حاول النبیّ صلی الله علیه و آله جاهدا منذ بدایة البعثة ، وحتّی فی البرهة التی ما آمن بنبوّته فیها إلاّ قلیل ، أن یستثمر موسم الحجّ ویتّصل بالوافدین من مختلف القبائل

العربیّة لأداء فریضة الحجّ بنحو انفرادی أو جماعی .

کان النبیّ صلی الله علیه و آله یتّصل بهؤلاء الوافدین بشکل سرّی ، وکان یزورهم ویتفقّدهم مستثمرا ذلک من أجل إیصال ندائه إلی الآخرین من القبائل البعیدة والقریبة . ویعتبر هذا

ص: 115


1- یرجع إلی کتاب « إیران فی العصر الساسانی » لکریستن سن ، ترجمه إلی الفارسیّة رشید یاسمی ، ص 292 .
2- ینظر : « تمدّن إسلام وعرب » [ عنوانه العربیّ : حضارة العرب ] لغوستاف لوبون ، ترجمة فخر داعی گیلانی ص 116 ؛ وکتاب « الحروب بین الفرس والروم » لبروکوبیوس ، ترجمه إلی الفارسیّة محمّد سعیدی ، ص 189 ، 202 .

النوع من الاتّصال فی الظروف الصعبة للاتّصالات فی ذلک العصر أسرع وأقرب وسیلة لإیصال النداء .

وقد بلغ بناء العلاقات المتواصل مع القبائل وتوسیعها من قبل النبیّ صلی الله علیه و آله درجة توحّدت فیها القبائل المختلفة المتناحرة المتنافرة بحیث استطاعت فی برهة قصیرة أن تنهی

حیاة القوّتین العظمیین حینئذٍ ، وأصبحت باتّحادها القوّة الفریدة التی لا منازع لها فی جمیع المناطق التی کانت خاضعة لتینک الإمبراطوریّتین(1) .

ه - علاقات النبیّ صلی الله علیه و آله بالحکومات المجاورة

عندما أحسّ النبیّ صلی الله علیه و آله أنَّ عدوّه فی موقع ضعیف ، طفق یجری اتّصالاته مع الدول والحکومات المجاورة علی الرغم من الممارسات العدوانیّة المتواصلة لقریش . وقد فتح باب

الاتّصال من خلال إیفاد مبعوث عنه أو إرسال کتاب أو عقد معاهدة مع رؤساء تلک الدول والحکومات ، ووسّع بذلک العمل من العلاقات السلمیّة للدولة الإسلامیّة مع تلک الدول

والحکومات .

إنَّ رسائل النبیّ صلی الله علیه و آله إلی أمیر البحرین(2) ، وملک حمیر(3) ، وأهل عمان(4) ، والنجاشی الأوّل ، والنجاشی الثانی(5) ، وملک غسّان(6) ، وحاکم الیمامة(7) ، وأُسقف الروم(8) ، وأُسقف نجران(9) ، وأهل الیمن(10) ، وعشرات الرسائل الأُخری ، کلّها تبیّن لنا کیف قام النبیّ صلی الله علیه و آله

بتوسیع العلاقات الطیّبة مع الدول المجاورة .

إنَّ توجّه رؤساء هذه الدول الصغیرة نحو الحکومة الإسلامیّة الفتیّة - علی الرغم من

ص: 116


1- سنطالع توضیحات أکثر بهذا الشأن فی هذا الکتاب ، فصل : دبلوماسیّة النبیّ صلی الله علیه و آله .
2- « مکاتیب الرسول » لعلی أحمدی میانجی ، 1 : 104 .
3- نفسه ص 117 .
4- نفسه ص 118 .
5- نفسه ص 121 - 133 .
6- نفسه ص 134 .
7- نفسه ص 136 .
8- نفسه ص 169 .
9- نفسه ص 175 .
10- نفسه ص 188 .

الحسّاسیّة السیاسیّة التی تبدیها الإمبراطوریّتان المقتدرتان : الفارسیّة ، والرومانیّة - دلالة

علی نجاح النبیّ صلی الله علیه و آله فی بناء العلاقات السلمیّة .

و - علاقات النبیّ صلی الله علیه و آله بالإمبراطوریّتین الفارسیّة والرومانیّة

قام النبیّ صلی الله علیه و آله ببناء العلاقات الدولیّة الواسعة فی ظروف کانت حکومته الفتیّة مهدّدة من قبل القوّة العسکریّة لقریش ومؤامرات الیهود باستمرار ، وأنَّ الهدوء النسبی والفرصة

التی أُتیحت له بعد صلح الحدیبیّة ساعداه علی أن یوسّع علاقاته الدولیّة قصاری جهده

آنذاک .

وأنَّ إیفاد السفراء وإرسال الرسائل إلی إمبراطوری فارس والروم فی تلک الظروف لیسا عملاً بسیطا . وهذه الالتفاتة الواعیة من لدن النبیّ صلی الله علیه و آله فی توسیع العلاقات الدولیّة من

الحوادث النادرة فی تاریخ العلاقات الدولیّة .

إنَّ ردّ الفعل الذی أبداه الإمبراطوران آنذاک - مهما کان - لم یقلّل من قیمة هذه الالتفاتة قطّ . مضافا إلی ذلک ، فإنَّ معظم المؤرّخین ذکروا ردود الفعل الإیجابیّة التی تلقّاها النبیّ صلی الله علیه و آله . وحول تمزیق رسالة النبیّ صلی الله علیه و آله من قبل ملک فارس ، ذکروا أیضا بأ نَّه قرّر تدارک عمله المشین بعد رجوع السفیر المبعوث من قبل النبیّ صلی الله علیه و آله - ( عبد اللّه بن حذافة ) (1) .

2 - العلاقات الدولیّة فی الإسلام إبّان حکومة الخلفاء

إنَّ العلاقات الواسعة التی أقامها النبیّ صلی الله علیه و آله منذ السنة السادسة للهجرة مع الشعوب والحکومات البعیدة والقریبة آتت أُکلها أکثر بعد وفاته . فسقوط الإمبراطوریّة البیزنطینیّة

وانسحاب هرقل من مناطق الشام ، وکذلک انهیار الإمبراطوریّة الفارسیّة فی عصر الخلیفة

الثانی انعکاس سیاسی للأُسلوب الذی اتّخذه النبیّ صلی الله علیه و آله فی توسیع العلاقات الدولیّة خلال

السنین الأخیرة من عمره الشریف .

وفتوحات المسلمین فی عصر الخلفاء اسم أطلقه المؤرّخون علی هذا الانعکاس

ص: 117


1- یرجع إلی « السیرة الحلبیّة » 3 : 277 ؛ و « مسند أحمد بن حنبل » 1 : 96 و 145 ؛ وکذلک یرجع إلی الفصل المتعلّق بدبلوماسیّة النبیّ صلی الله علیه و آله فی هذا الکتاب .

السیاسی والنتائج التی تمخّضت بها السیاسة الدولیّة للنبیّ صلی الله علیه و آله . وأنَّ الحضور الفاعل الذی سجّله الإسلام فی الساحة الدولیّة آنذاک أرغم القوی المتحکّمة حقّا أن تنقاد لهذه الحقیقة ، وهی أنَّ السلطة قد انتقلت إلی حکومة جدیدة ، ورسالة فتیّة ، وأُمَّة حدیثة الوجود(1) . ولقد سقطت حکومة القیاصرة التی امتدّت سبعمائة سنة خلال ثلاثة أیّام(2) . ولم یستغرق

فتح العراق وفارس ، وسقوط الحکومة الساسانیّة والتاج والعرش الملکی ، وأُفول نجم الإمبراطوریّة البیزنطینیّة أکثر من شهرین(3) . بید أنَّ هذه الانتصارات جمیعها لا یمکن أن

تکون انعکاسا لعملیّات عسکریّة أو حصیلة لتجهیز الجیوش والحملات الحربیّة . لا شکّ

أنَّ لأسباب هذه الانتصارات جذورا فی العمل السیاسی الذی مارسه النبیّ صلی الله علیه و آله فی الساحة الدولیّة یومئذٍ . وجمیع هذه المشاهد تمثّل انعکاسا للسیاسة التی وضع النبیّ صلی الله علیه و آله حجر الأساس لها فی مجال العلاقات التی تحکم الشعوب .

إنَّ العطاء الکبیر الذی تمخّضت به انتصارات المسلمین هو تعرّف أعداد غفیرة من شعوب العالم وقتذاک علی مفاهیم جدیدة فی مجال العدالة ، والمساواة ، والکرامة الإنسانیّة . وکان لکلام قائد المسلمین أمام الجبابرة وعملاء الدولة الساسانیّة أثر عمیق فی صحوة الفرس ویقظتهم .

وعندما ذهب الملک الغسّانی إلی المدینة للقاء الخلیفة الثانی ، علی أثر حادثة بسیطة وقعت له مع مسلم بدوی إذ اصطدم به الملک غیر متعمّد ، فاشتکی إلی الخلیفة ، فأمر الخلیفة بتنفیذ حکم العدالة بحقّه . وأصبح قومه أمام أمر لم یعهدوه من قبل إذ شاهدوا

شخصا عادیّا له الحقّ أن یتطاول علی ملکهم اقتصاصا منه ممّا دفعهم إلی الالتحاق بهذه

الحرکة الإنسانیّة الجدیدة التی بدأت ببزوغ فجر الإسلام .

ولم یشاهد فی عصر الخلفاء مظهر من ذلک التحرّک الذی بدأ أیّام النبیّ صلی الله علیه و آله فی مجال العلاقات الخارجیّة لانهماک المسلمین أکثر بالشؤون الداخلیّة والمشاکل الناتجة عنها ؛ وقد حالت الحروب الداخلیّة دون طموحات الحکومة الإسلامیّة للاهتمام بالقضایا الدولیّة

. ولو لوحظ فی هذا المجال مجیء بعض الوفود إلی المدینة ممثّلة للحکومات والقبائل والشعوب البعیدة والقریبة ، ولقائها الخلفاء وتفاوضها معهم ، فإنَّ هذا لا یدلّ علی إبداع الحکومة

ص: 118


1- ینظر : « تمدّن إسلام وعرب » للدکتور غوستاف لوبون ، ترجمة فخر داعی ، ص 166 و 180 .
2- ینظر : « تمدّن إسلام وعرب » للدکتور غوستاف لوبون ، ترجمة فخر داعی ، ص 166 و 180 .
3- ینظر : « تمدّن إسلام وعرب » للدکتور غوستاف لوبون ، ترجمة فخر داعی ، ص 166 و 180 .

الإسلامیّة فی حقل العلاقات الخارجیّة ؛ لأنَّ هدف الوفود من تلک الزیارات هو اللقاء مع النبیّ صلی الله علیه و آله إذ لم یصلهم خبر موته من قبل

. وعندما علموا بموته ، کانوا یبحثون عن خلیفته . وکان علیّ علیه السلام کالعادة هو المرجع الذی یتکفّل بحلّ المشاکل المطروحة فی مثل هذه المجالات .

3 - انحراف المسلمین علی صعید السیاسة الدولیّة

حلّ لون جدید من الدبلوماسیّة أیّام حکومة معاویة بدیلاً عن الدبلوماسیّة التی کان یمارسها النبیّ صلی الله علیه و آله . فإنَّ النبیّ صلی الله علیه و آله مع ما کان یُبدیه من تحرّک وبِدار نحو توسیع العلاقات علی الصعید الخارجی کلّه ، کان یحافظ علی المبادئ والمعاییر والقیم الإسلامیّة بمقدار الإبقاء

علی کرامة الأُمَّة الإسلامیّة وسیادتها ، ولو اضطرّ فی بعض المواضع والمناسبات الخاصّة إلی تقدیم امتیاز معیّن ، فإنَّ هذا الامتیاز لا یکون علی حساب سیادة الأُمَّة الإسلامیّة

وکرامتها .

بینما نجد أنَّ هذا الامتیاز قد قدّم من قبل معاویة علی حساب سیادة الأُمَّة الإسلامیّة وکرامتها ، فإنَّه - بسبب عجزه عن مواجهة المشاکل الداخلیّة ، وتفکیره بتدارک الضعف

الناتج عن مکانته فی المجتمع الإسلامی ، وما کان یراه من تهدید متواصل لموقعه حیال

المجتمع الذی کان یحکمه فی یوم من الأیّام خلیفة عادل مثل علیّ بن أبی طالب علیه السلام ، وما کان یلاحظه من تزعزع ذلک الموقع بسبب الحرکات المحتملة المنبعثة من وعی المسلمین لا سیّما أنصار علیّ علیه السلام المتربّین فی مدرسته ، وعلی عادة جمیع السیاسیّین المصلحیّین - قام ضمن تنشیطه العلاقات السیاسیّة مع الحکومة البیزنطینیّة التی کانت مهیمنة علی الشریط

الحدودی لدولته ، بتقدیم امتیازات أضرّت بسیادة الإسلام والأُمَّة الإسلامیّة ممّا جعله یقرّ بنوع من التفوّق لتلک الحکومة ویدفع لها ما تفرضه علیه من أتاوات . وقد استسلم لهذا

الانحراف المبدئی ، وشوّه سیرة النبیّ صلی الله علیه و آلهعملیّا من أجل أن یطمئنَّ علی الحدود الغربیّة

لدولته ، ویخلّص نفسه من خطر الاصطدام بالأعداء الأجانب .

إنَّ شجاعة الجیش الرومانی التی کانت فی یوم ما ترغم الدنیا علی التعظیم أمام قیاصرة الروم ، وتلقی الرعب فی قلوب الناس لا تسوّغ أبدا الذلّة والامتهان الناتجین عن

ص: 119

سیاسة معاویة . وعلی الرغم من أنَّ نقض سیادة الإسلام والأُمَّة لا یعوّض بأیّ ثمن ، فلو

کان ذلک الإیمان ، والصرامة ، والثقة بالنفس ، والتوکّل علی اللّه ، التی کانت تؤلّف

بمجموعها أساس السیاسة الدولیّة للنبیّ صلی الله علیه و آله کلّ هذه الأشیاء لو کانت موجودة ، فلا شکّ أنَّ الخوف من حکومة قویّة مجاورة مثل حکومة الروم لا مبرّر له ، وکان بمقدور حاکم

المسلمین أن یثق بقدرة الأُمَّة ومقاومتها واتّحادها أمام الخطر الناشئ عن هجوم الروم ، ویکون متفائلاً بردود الفعل التی تبدیها الأُمَّة حیال الأزمات التی تهدّد أساس الإسلام

والأُمَّة ، وبالنجاح الذی تحقّقه سیاسة التعبئة العامّة . ویفعل نفس ما فعله الخلیفة الثانی ، عندما بلغه أنَّ عبد اللّه بن حذیفة یرزح فی سجن هرقل إمبراطور الروم . فقد کتب إلیه

رسالة یهدّده فیها قائلاً : أطلِق عبد اللّه بن حذیفة فور وصول کتابی إلیک وأشخصه إلینا

عسی اللّه أن یهدیک إلی الصراط المستقیم وإلاّ فسأرسل لقتالک رجالاً لا تلهیهم الدنیا عن دینهم .

وکان طبیعیّا أنَّ هرقل عندما قرأ الکتاب أمر فورا بإطلاق عبد اللّه بن حذیفة وإرساله إلی الخلیفة مزوّدا بالهدایا (1) .

ونلاحظ لونا آخر من هذا الانحراف فی عصر ازدهار العالم الإسلامی أیّام حکومة هارون الرشید ، العصر الذی بلغ فیه الإسلام ذروته . وفی هذا العصر - القرن الثانی للهجرة - حیث امتدت حدود الدولة الإسلامیّة فی أُوربا حتّی نهر لوار داخل الأرض الفرنسیّة ، وفی آسیا حتّی الهند وسواحل البحر المتوسّط ، وفی إفریقیة حتّی أعماقها ، وحیث انضوت أقسام مهمّة من آسیا وإفریقیة وقسم من أُوربا تحت لواء الإسلام ، فإنَّ

العلاقات الخارجیّة للمسلمین قامت علی أساس أخذ الإتاوی وحبّ السلطة . واستخدمت أسالیب جدیدة فی السیاسة الدولیّة للمحافظة علی السلطة وتوسیعها ، وتحقیق الاستثمار المادّی . بینما لو طبّقت سیرة النبیّ صلی الله علیه و آله فی مثل تلک الظروف التی کانت مؤاتیة لتطبیق السیاسة الدولیّة فی الإسلام من جمیع الجهات ، لاستطاع المسلمون فی برهة

قصیرة من الزمن أن یکثّفوا وجودهم فی الساحة الدولیّة أکثر من خلال العلاقات الدولیّة ، ویدرکوا انعکاسه فی قیادة العالم خلال السنین التی أعقبت وفاة النبیّ صلی الله علیه و آله ، ویوسّعوا نطاق

ص: 120


1- « تاریخ الحضارة الإسلامیّة والعربیّة » ص 182 .

الحضارة الإسلامیّة بدل الحدود الجغرافیّة(1) .

4 - العلاقات الدولیّة فی عصر الإمبراطوریّة العثمانیّة

إنَّ سیاسة العنف التوسعیّة الهوجاء التی سلکها العثمانیّون حیال البلدان المجاورة أیّام

کانت إمبراطوریّتهم فی أوج ازدهارها من جهة ، والتنازل المخزی للإمبراطوریّة فی عصر

ضعفها من جهة أُخری ترکا انطباعا سیّئا جدّا فی أذهان الغربیّین عن السیاسة الدولیّة فی الإسلام .

وهذا الانطباع الخاطئ هو الذی أفضی بالبعض أن یتصوّر بأنَّ الإقرار بوجود بلدان غیر إسلامیّة فی الساحة الدولیّة وبناء علاقات سیاسیّة معها علی أساس مبدأ التعایش السلمی کانت سیاسة جدیدة

أدخلها العثمانیّون فی العالم الإسلامی والنظریّة الدولیّة فی الإسلام(2) .

یری الدکتور مجید خدّوری أنَّ أوّل معاهدة عقدت بین فرنسوا الأوّل ملک فرنسا وحکومة السلطان سلیمان القانونی سنة 1535م تمثّل ثورة أساسیّة فی النظام السیاسی والقانونی فی الإسلام ، ویقول : وفقا للمادّة الأُولی من هذه المعاهدة ، فإنَّ السلطان

الإسلامی - لأوّل مرّة - یطالب بإلغاء حالة الحرب الدائمة بین قطر إسلامی وقطر غیر إسلامی ، وإحلال السلم الدائم والثابت بین الحکومة الفرنسیّة والحکومة العثمانیّة بدیلاً عن الحرب . وأنَّ مدّة هذه المعاهدة - التی لم یقرّرها الإسلام أکثر من عشر سنین - غیر

محدودة . وأنَّ تحقیق ما فیه المصلحة علی الصعید الخارجی یتمّ بواسطة أُخری غیر الجهاد . وهذا نفسه یعتبر تبدّلاً آخر فی مبادئ العلاقات الدولیّة فی الإسلام(3) .

فی حین أنَّ هذا التبدّل هو فی الحقیقة تبدّل فی السیاسة الخارجیّة للإمبراطوریّة العثمانیّة لا فی السیاسة الدولیّة للإسلام ؛ لأنَّ هناک شرطین أساسیّین للجهاد فی السیاسة الخارجیّة للدولة الإسلامیّة ، حتّی علی أساس الفقه السنّی الذی لا یشترط حضور الإمام

ص: 121


1- یرجع إلی کتاب « الحضارة الإسلامیّة فی القرن الرابع الهجری » لآدم متز .
2- یرجع إلی مقالة « العلاقات الدولیّة فی الإسلام أیّام الإمبراطوریّة العثمانیّة » ، مجلّة کلّیّة الحقوق والعلوم السیاسیّة [ فارسیّة ] العدد 12 ، ص 110 .
3- نفسه ص 114 .

المعصوم فی الجهاد الابتدائی . وهذان الشرطان هما :

1 - استعداد المسلمین من حیث القوّة والتجهیزات ، ووجود القدرة الکافیة لدیهم لخوض الجهاد .

2 - دعوتهم دار الحرب إلی الإسلام وإلقاء الحجّة علی أهلها ، واطّلاعهم علی أحقّیّة الإسلام عن طریق الاستدلال والموعظة الحسنة قبل القیام بأیّ عمل عسکری .

علی الرغم من سیاسة العنف التوسعیّة التی انتهجها العثمانیّون ، فلا شکّ أ نَّهم لم

یحرزوا الشرطین المذکورین لخوض الجهاد ؛ وفی مثل تلک الظروف ، فإنَّ الهجوم العسکری لا یعتبر أبدا مبدأً من مبادئ العلاقات الدولیّة فی الإسلام حتّی یخال أنَّ التبدّل فی سیاسة العثمانیّین إبداع فی السیاسة الدولیّة فی الإسلام .

ویعتقد معظم فقهاء الشیعة أنَّ الشروع بالجهاد الابتدائی مشروط بحضور الإمام المعصوم ، ومع وجود الشرطین المذکورین أیضا فإنَّ علاقة دار الإسلام ( الدولة الإسلامیّة ) مع العالم غیر المسلم لا تتحدّد علی أساس الجهاد المستمر .

وعقد العثمانیّون أیضا معاهدات مع حکومات أُخری غیر الحکومة الفرنسیّة ، کالحکومة النمساویّة ، والإنجلیزیّة ، والألمانیّة ، والروسیّة . وهذه المعاهدات ، طبیعتها وظروفها تعکس الأهداف السیاسیّة للعثمانیّین أکثر من أن تعکس مبادئ القانون الدولیّ فی الإسلام وقواعده .

فکانت معاهدة 1535م بین العثمانیّین وملک فرنسا بعد هزیمة العثمانیّین فی هجومهم علی فینّا سنة 1529م . وکانت تلک الهزیمة نقطة انعطاف فی سیاسة العثمانیّین علی صعید

العلاقات الخارجیّة مع الأقطار غیر الإسلامیّة فأصبحوا مرغمین علی إبداء المرونة أمام

سلطة أُوربا المتعاظمة .

وکان المستشرق المعروف برنارد لویس یری بأنَّ السلاطین العثمانیّین کانوا لا یعترفون بالبلدان غیر الإسلامیّة ، ولیس لهم معها صفقات ومعاملات دولیّة ، وعلاقات

خارجیّة سلمیّة حتّی کانت هزیمتهم فی احتلال فینّا ، فحصل تبدّل مدهش فی توجّهاتهم ، ممّا أفضی ذلک إلی اعتراف المسلمین بالبلدان غیر الإسلامیّة ، وبناء علاقات ودّیّة

ودبلوماسیّة معها . وهکذا لأوّل مرّة أُقرَّ مبدأ المساواة بین البلدان المسلمة وغیر المسلمة فی

ص: 122

العلاقات الدولیّة . واستخدمت الأعراف الدبلوماسیّة والمساعی الحمیدة فی الإسلام لأوّل مرّة . واضطلع منصب فی الجهاز السیاسی بمهمّة النظر فی الشؤون الدولیّة فی الإسلام ، وتنظیم الشؤون الخارجیّة(1) .

إنَّ الدفاع عن ممارسات العثمانیّین لیس عملاً منطقیّا ، ولا عملاً منسجما مع الموازین الإسلامیّة ، بید أنَّ جهل البعض - ممّن یسمّون مستشرقین - بأوضح المسائل والقضایا

الإسلامیّة ، وبالجانب السیاسی من سیرة النبیّ الکریم صلی الله علیه و آله الذی هو من أوضح الجوانب فی سیرته ، لا یمکن توجیهه أبدا . وینبغی التوفّر علی دراسة لممارسات النبیّ الأعظم صلی الله علیه و آله من أجل تحدید المقیاس الصائب فی العلاقات الدولیّة فی الإسلام ، ومعرفة التبدّل الحاصل فی

هذا المقیاس ، لا أن نقوم بدراسات لممارسات العثمانیّین وسیاستهم العنصریّة فی الغزو

والاجتیاح التی تبیّن لنا أنَّ الإمبراطور العثمانی یمثّل إمبراطورا قومیّا أکثر من أن یمثّل إمبراطورا مسلما ، فضلاً عن أن یکون إمبراطورا إسلامیّا .

إنَّ نظام منح الامتیازات للأجانب ، الذی أقرَّ به العثمانیّون فی معاهداتهم ، خارج عن

الإسلام ، لیس فی الأصل فحسب ، بل وفی الخصوصیّات أیضا ، وأنَّ المعاهدتین اللتین

عقدتهما الدولة العثمانیّة مع السوید وبروسیا سنة 1789 و1790م من أجل مواصلة الحرب مع روسیا والنمسا ، مع أ نَّهما فی طبیعتهما لا تخلوان من الانحراف عن المبادئ الإسلامیّة ، بید أ نَّهما فی الأصل کمعاهدتین عسکریّتین دفاعیّتین کانتا شیئا متعارفا فی الإسلام

، علی عکس ما فهمه المحلّلون الغربیّون(2) عنهما . وعندما حرّم العلماء تینک المعاهدتین واعتبروهما مخالفتین للمبادئ الإسلامیّة ، فإنَّ سبب ذلک هو الظروف الخاصّة لتلک الفترة

الزمنیّة ، وعدم مراعاة الشروط الإسلامیّة فی المعاهدتین کلتیهما .

إنَّ معاهدات العثمانیّین تعبّر عن الظروف الزمنیّة الخاصّة فی وقتها أکثر من أن تعبّر عن

مبادئ القانون الدولیّ فی الإسلام وقواعده . ویمکن الوقوف علی هذه الحقیقة من خلال

التصریحات التی أدلی بها المندوب العثمانی حیال الدعوة التی وجّهتها الأقطار الأُوربیّة من أجل التعاون حفاظا علی الظروف القائمة فی مقابل الثورة الفرنسیّة .

ص: 123


1- مقالة « العلاقات الدولیّة فی الإسلام أیّام الإمبراطوریّة العثمانیّة » مجلّة کلّیّة الحقوق والعلوم السیاسیّة [ فارسیّة ] العدد 12 ، ص 116 و117 .
2- برنارد لویس ، نقلاً عن المصدر السابق ، ص 118 .

فقد صرّح هذا المندوب بشأن السیاسة الخارجیّة للإمبراطوریّة قائلاً : ینبغی أن تکون لکلّ دولة سیاستان علی الصعید الخارجی : الأُولی : سیاسة دائمة تشکّل الرکیزة التی

تتوکّأ علیها جمیع الأعمال الخارجیّة للدولة ؛ والثانیة : سیاسة مؤقّتة تُنتهج فی فترة زمنیّة معیّنة حسب متطلّبات کلّ عصر وظروفه(1) .

5 - العلاقات الدولیّة للعالم الإسلامی فی العصر الحاضر

بعد الحرب العالمیّة الأُولی ، وانهیار الإمبراطوریّة العثمانیّة ، واستقلال بلدان الشرق

الأوسط والمناطق الإسلامیّة فی إفریقیة ، وبروز القوی العالمیّة ، والتسلّط الثقافی

والسیاسی للغرب فی العالم الإسلامی ، وطرح الخطّة المعروفة بفصل الدین عن السیاسة

، ونزعة الحکّام الجدد فی الأقطار الإسلامیّة نحو النظام السیاسی والقانونی الغربی

، بعد هذا کلّه تمَّ فصل الحکومة والقانون عن الشریعة فی هذه الأقطار ، وتسلّمت حکومات قومیّة مقالید الأُمور فیها مع هیمنة النظام القانونی الغربی ، وفرض النظام الدولیّ الجدید - المتوکّئ علی أساس التفکیر والمصالح الغربیّة - علی تلک الأقطار .

إنَّ الترکیبة السیاسیّة والقانونیّة للنظام الدولیّ الجدید ، وإن کانت تضمن مصالح الدول الغربیّة ، بید أ نَّها لم تحقّق للدول الإسلامیّة أیّ مکسب سوی ترسیخ دعائم التسلّط الغربی الشامل ، وترکیز التبعیّة فی جمیع المجالات السیاسیّة ، والاقتصادیّة ، والثقافیّة

المختلفة . ومن أجل بلوغ هذا الهدف ، فإنَّ أرباب السیاسة الغربیّة سلّطوا الضوء علی الفکر القومی فی الوطن الإسلامی بدیلاً عن الإسلام الذی یمثّل خطرا مهمّا علی الغرب . وذلک

الفکر عقبة فی طریق وحدة العالم الإسلامی وبدیل عن الفکر الدینی فی آن واحد . وخالوا

بزعمهم أ نَّهم قضوا علی سیادة الإسلام ونظمه الحکومیّة ، والقانونیّة ، والسیاسیّة .

وعلی الرغم من أنَّ فکرة أُفول عصر السیادة السیاسیّة والقانونیّة للإسلام فی الأقطار الإسلامیّة وفی الساحة الدولیّة لم تکن أکثر من حلم لذیذ وفکرة عابرة ، إذ إنَّ انتصار

الثورة الإسلامیّة فی إیران وصداها العالمی قد خیّب آمال الغربیّین جمیعها فی هذا المجال ،

ص: 124


1- مقالة « العلاقات الدولیّة فی الإسلام أیّام الإمبراطوریّة العثمانیّة » مجلّة کلّیّة الحقوق والعلوم السیاسیّة ، العدد 12 ، ص 119 ؛ وکذلک یرجع إلی کتاب « تاریخ الشعوب والحکومات الإسلامیّة » ، لکارل بروکلمان ؛ وکتاب « الشرق الأدنی فی التاریخ » ، لفلیب حتّی .

لکن لا ریب فی أنَّ الأمل بالعودة إلی سیادة الإسلام الواحدة وحضوره الناشط ، وتمتّعه

بدور حاسم فی العلاقات الدولیّة قد ضعف بعد الحرب العالمیّة الثانیة ، والتأثیر العمیق

الذی ترکه النظام السیاسی والقانونی الغربی علی النظم الحاکمة فی الأقطار الإسلامیّة ، وظهرت حکومات فی العالم الإسلامی ذابت فی الغرب علی الصعید الدولیّ ، فزال التمییز بین العالم الإسلامی وغیر الإسلامی تدریجا ، وتبلور معیار العلاقات دولیّا علی أساس التفکیر ، والسیاسة ، والقانون الغربی .

إنَّ الحرکات التی ظهرت فی القرن التاسع عشر تحت عنوان الجامعة الإسلامیّة ، أو إقامة المؤتمرات الإسلامیّة لتحقیق وحدة العالم الإسلامی ، وإعادة المبادئ الإسلامیّة إلی العلاقات التی تربط الوطن الإسلامی بالعالم الغربی(1) ، نحو : الحرکات الجدیدة التی ظهرت من أجل اتّحاد الأقطار المسلمة ، وإحیاء الدولة الإسلامیّة ، وبناء المعسکر الإسلامی فی المجتمع الدولیّ ، وتطبیق مبادئ السیاسة الدولیّة فی الإسلام کما کانت مطبّقة فی عصور

الإسلام الأُولی(2) ، إنَّ تلک الحرکات - علی الرغم من جمیع نقاط الضعف التی اتّسمت بها علی الصعید النظری والعملی - کانت عرضة للإحباط فی کلّ عصر بسبب ممارسات عملاء الغرب والمتغرّبین الغرباء عن الإسلام وعن أنفسهم .

إنَّ الصدی المتعاظم للثورة الإسلامیّة فی عالم الیوم ودورها فی السیاسة العالمیّة وتأثیرها الواسع علی شرائح کبیرة من المسلمین فی الأقطار الإسلامیّة وغیر الإسلامیّة ، علی الرغم من المؤامرات والأسالیب الماکرة المتنوّعة التی تنتهجها الدول الکبری وحماتها

من الغربیّین والشرقیّین وحتّی عملاءها فی الأقطار الإسلامیّة من أجل القضاء علی الثورة

الإسلامیّة أو تطویقها ، کلّ ذلک یثیر - یومیّا - مسألة جدیدة فی الساحة الدولیّة

، وله تأثیر ملحوظ فی العلاقات الدولیّة بشکل فعّال ومستمرّ بحیث تألّق فی القلوب - مرّة أُخری - بصیص أمل لتحقیق وحدة العالم الإسلامی ، وإحیاء مبادئ القانون الدولیّ فی

ص: 125


1- یرجع إلی کتاب « الحرکة الإفریقیّة - الآسیویّة » لبطرس غالی ، وذلک من أجل کسب مزید من الاطّلاع فی هذا المجال .
2- لکسب مزید من الاطّلاع فی هذا المجال ، یرجع إلی مقالة تحت عنوان : « مبادئ العلاقات الدولیّة وتطوّراتها فی الإسلام » ، للدکتور حمید بهزادی ، مجلّة کلّیّة الحقوق والعلوم السیاسیّة [ فارسیّة ] جامعة طهران ، العدد 12 .

الإسلام وقواعده ، وإعادة النظر فی الترکیبة السیاسیّة والقانونیّة للنظام الدولیّ المعاصر ، وبذلت جهود مثمرة علی الصعید العملی والعلمی . وتوفّرت ظروف جدیدة للانعتاق من ربقة التسلّط الغربی الشامل ، لا سیّما فی العالم الثالث .

ولمّا کان الإسلام مؤثّرا فی الاتّحاد المعنوی لمئات الملایین من المسلمین ، وکان خطرا یهدّد مصالح القوی العالمیّة بوصفه باعثا علی الوحدة ، وأساسا للقیم القانونیّة

، والثقافیّة ، والسیاسیّة فی میادین السیاسة الداخلیّة والخارجیّة للأقطار الإسلامیّة ، ولا

سیّما أقطار الشرق الأوسط الغنیّة بالنفط فی ظروف تنشغل فیها القوی الکبری بقضایاها الاستراتیجیّة وخلافاتها العمیقة ، وکان الوعی الشعبی فی ازدیاد ، وثقة الحکومات المسلمة العمیلة فی تزعزع ، لذلک یمکن أن نتوقّع نجاح الثورة الإسلامیّة فی إقرار الوحدة ، وتطبیق مبادئ القانون الدولیّ فی الإسلام وقواعده ، من وحی الواقع لا من وحی الخیال إذ إنَّ الآثار والدلائل علی ذلک ملحوظة وملموسة .

ص: 126

القسم الثالث: موضوع القانون الدولیّ فی الإسلام

اشارة

ص: 127

ص: 128

الفصل الأوّل: الدولة - الحکومة

اشارة

الفصل الأوّل: الدولة - الحکومة(1)

المبحث الأوّل : الإسلام رسالة شاملة

ثمّة بون شاسع وحواجز جمّة بین الأفکار النظریّة وما هو واقع ، وبین الحقائق العملیّة وما ینبغی أن یکون .

إنَّ الهدف الأخیر للإسلام - علی صعید العلاقات الإنسانیّة - هو تحقیق أُطروحة الأُمَّة البشریّة الواحدة ، وعلی صعید الأرض ، هو إزالة الحواجز الجغرافیّة والقیود

الحدودیّة ، وإنشاء الدولة العالمیّة الواحدة تحت سیادة القانون الإلهی الواحد

.

والهدف الذی تنشده رسالة نبیّنا صلی الله علیه و آله هو التعجیل فی سیر الحرکة التکاملیّة للمجتمع البشری من أجل بلوغ هذه المرحلة المثالیّة المنشودة .

وقد أعلن القرآن ذلک بصراحة فی قوله تعالی : « وَ مَا اَرْسَلْنَاکَ اِلاَّ کَا فَّةً لِلنَّاسِ ... » (2) فنحن لم نرسلک إلی جماعة خاصّة أو دولة معیّنة بل أنت رسولنا إلی الناس کافّة .

وأکّد علی هذه الحقیقة معبّرا عن لسان النبیّ صلی الله علیه و آله فی قوله تعالی : « قُلْ یَاءَیُّهَا النَّاسُ اِنّی رَسُولُ اللّه ِ اِلَیْکُمْ جَمیعًا » (3) .

ص:129


1- نقلنا قسما من مباحث هذا الفصل من کتابنا : « الأرض والوطن من منظور الفقه الإسلامی » [ فارسی ] .
2- سبأ : 28 .
3- الأعراف : 158 .

ونجد النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله أیضا فی رسالته إلی کسری ملک الفرس یعرّف نفسه ورسالته علی النحو الآتی : « ... فإنِّی رسول اللّه إلی الناس کافّة لأُنذر من کان حیّا » (1) .

فالهدف الذی تواکبه هذه الرسالة الشاملة بنظرتها العالمیّة لیس إلاّ بناء الأُمَّة المنظّمة

فی أرجاء المعمورة .

ویبذل الإسلام کلّ ما فی وسعه من أجل تحقیق هذا الهدف مستضیئا بالاستراتیجیّة التی یؤمن بها فی الدعوة والجهاد . ویذکی ذلک الهدف کشعلة وقّادة فی عمق الإیمان وضمائر

المؤمنین . ویجعل انتظار ذلک الهدف الکبیر علامة الإیمان ، ویقود القافلة البشریّة جیلاً بعد آخر باتّجاهه .

ولکن ماذا ینبغی أن نفعل لبلوغ تلک المرحلة النهائیّة ؟ فهل نتغافل عن الحقائق الموجودة ونتغاضی عنها ونلغی کلّ شیء ؟ أو نتعامل بنظرة واقعیّة ، فنصنع جسرا یعبر بنا ممّا هو کائن إلی ما ینبغی أن یکون ؟

یعترف الإسلام بالحدود الجغرافیّة مع الشعوب والحکومات - التی طوّقت نفسها بها - وذلک فی برهة زمنیّة معیّنة وفترة انتقالیّة محدّدة بشکل نسبی مع مراعاة الضرورة

. یعترف بتلک الحدود بالمستوی الذی یمکنه من بناء العلاقات ، والتوصّل إلی اتّفاق نسبی علی

أساس القواسم المشترکة ، حتّی یستطیع ، عبر هذا الطریق ، أن یعقد أکبر عدد ممکن من

المعاهدات والاتّفاقیّات المبدئیّة فی الوقت الذی یبلّغ فیه رسالته العالمیّة .

من هنا تطرح فی القانون الإسلامی مسائل من قبیل الدولة ، والوطن ، والشعب ، والحکومة ، والنطاق الجغرافی للحکومات ، والاعتراف بالبلدان ، وخطوط السیاسة الخارجیّة ، والعلاقات الدولیّة ، والشؤون الدبلوماسیّة ، وأمثالها . ویمکن أن نجد فی الفقه الإسلامی جوابا مفصّلاً لکلّ واحدة منها .

المبحث الثانی : الأرض للحیاة

ینبغی فی بدایة هذا البحث أن نتعرّف علی منطق القرآن فیما یخصّ الهدف من خلق الأرض التی تمثّل وطن الإنسان . ونلقی نظرة خاطفة علی نماذج من الآیات الواردة فی هذا

ص:130


1- « مکاتیب الرسول » ج 1 .

المجال .

إنَّ دراسة هذه الآیات یمکن أن تکشف لنا نظرة القرآن الواسعة السامیة بشأن الأرض ، والخلل الموجود فی المفهوم القانونی للوطن .

بصورة عامّة ، إنَّ التدبّر فی الآیات القرآنیّة الواردة بشأن الأرض یفیدنا أنَّ السمة الوحیدة التی یمکن أن تتّصف بها الأرض هی أ نَّها وسیلة لحیاة الناس وسکنهم واستقرارهم واستراحتهم ، وأ نَّها خلقت لذلک الغرض .

إنَّ القرآن الکریم ، فی الوقت الذی یعتبر ، فی عدد من آیاته - ملکیّة الأرض المطلقة والحقیقیّة للّه کما جاء فی قوله تعالی : « وَللّه ِِ مُلْکُ السَّموَاتِ وَالاَْرْضِ وَاللّه ُ عَلی کُلِّ

شَیْ ءٍ قَدیرٌ » (1) . فإنَّه یذکر خلقها بوصفها إحدی النِّعم والمواهب الکبیرة : « وَ الاَْرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ » (2) .

ویری أنَّ السکن فیها واستثمارها حقّ للجمیع ولا یقبل المصادرة ، مثل ضرورات الحیاة الأُخری : « وَ الاَْرْضَ وَضَعَهَا لِلاَْنَامِ » (3) .

ویذکرها مرّة بوصفها محلاًّ للرخاء العامّ ، فیقول : « اَلَّذی جَعَلَ لَکُمُ الاَْرْضَ فِرَاشًا » (4) . وأُخری بوصفها وسیلة للاستراحة ، فیقول : « اَلَمْ نَجْعَلِ الاَْرْضَ مِهَادًا » (5) . وثالثة بوصفها محلاًّ للإقامة والسکن ، فیقول : « وَ لَکُمْ فِی الاَْرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتَاعٌ اِلی حینٍ » (6) . ورابعة بوصفها مکانا ووسیلة للحیاة ، فیقول : « وَلَقَدْ مَکَّنَّاکُمْ

فِی الاَْرْضِ وَجَعَلْنَا لَکُمْ فیهَا مَعَایِشَ » (7) . وضمن إشارته إلی بدء الخلیقة وحیاة الإنسان ، فإنَّه یقدّم الإنسان علی أ نَّه خلیفة اللّه فی الأرض ، فیقول : « وَ اِذْ قَالَ رَبُّکَ

ص: 131


1- آل عمران : 189 . والآیة 116 من سورة التوبة : « اِنَّ اللّه َ لَهُ مُلْکُ السَّموَاتِ وَ الاَْرْضِ یُحْیی وَ یُمیتُ » .
2- الذاریات : 48 . والآیة 19 من سورة الحجر : « وَالاَْرْضَ مَدَدْنَاهَا وَاَلْقَیْنَا فیهَا رَوَاسِیَ وَاَ نْبَتْنَا فیهَا مِنْ کُلِّ شَیْ ءٍ مَوْزُونٍ » .
3- الرحمن : 10 .
4- البقرة : 22 .
5- النبأ : 6 .
6- البقرة : 36 .
7- الأعراف : 10 .

لِلْمَلئِکَةِ اِنّی جَاعِلٌ فِی الاَْرْضِ خَلیفَةً » (1) .

ووُعد الصالحون والمخلَصون فی عدد من الآیات أ نَّهم سیرثون الأرض وتکون لهم حکومتها الحقیقیّة : « وَ لَقَدْ کَتَبْنَا فِی الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّکْرِ اَنَّ الاَْرْضَ یَرِثُهَا عِبَادِیَ الصَّالِحُونَ » (2) . وقال تعالی : « لَیَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِی الاَْرْضِ کَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذینَ مِنْ قَبْلِهِمْ ... » (3) .

لقد ذکّر القرآن فی عدد من آیاته ، ووفقا لما یتطلّبه منهجه التربویّ العامّ ، بهذه الملاحظة الجوهریّة أیضا ، وهی أنَّ الاستقرار ، والسکن ، والرفاه ، والاستثمار ، وأخیرا الحکومة علی الأرض ، أُمور سائرة نحو الزوال شاء الإنسان أم أبی . وأنَّ الناس

، وفقا لنظام التکامل العامّ ، یفقدون حیاتهم المادّیّة علی الأرض ، ویضطرّون إلی الإعراض عن جمیع

ضروب التعلّق وحبّ الجاه والمیول التوسعیّة ، ویُیمّمون وجوههم صوب العالم الأبدی والحیاة الإنسانیّة الحقیقیّة . وهکذا فإنَّ الحکومة المطلقة للأرض ، کسائر المخلوقات البعیدة المنال ، سوف تعود مرّة أُخری إلی اللّه الذی یرثها لا محالة ، وسترجع الأرض إلی حالتها

السابقة قبل الخلق واستقرار الإنسان علیها : « اِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الاَْرْضَ وَ مَنْ عَلَیْهَا وَ اِلَیْنَا یُرْجَعُونَ » (4) .

فالنتیجة التی یمکن أن نخلص إلیها ، بوصفها مبدأً جوهریّا ، من وراء دراسة الآیات المذکورة هی أنَّ حقّ الحیاة علی الأرض حقّ طبیعی عامّ مشروع لأبناء النوع الإنسانی ، ونطاقه الواسع من حیث الاستثمار واختیار السکن مطلق ومفسوح للجمیع بصورة متساویة تماما .

ولکنَّ هذا المبدأ یقبل الاستثناء فی مرحلة التقویم الثانوی بحکم الضرورة ، کأیّ مبدأ آخر ، ویتحدّد للسببین التالیّین اللذین هما فی عداد الظروف الاستثنائیّة .

1 - بناءً علی قانون الملکیّة الشخصیّة الذی أقرّه الإسلام تحت ظروف محدودة بوصفه من الحقوق الطبیعیّة والعُرفیّة ، واعتبره حقّا إلزامیّا محترما ، فإنَّ حرّیّة السکن فیما یخصّ

ص: 132


1- البقرة : 30 .
2- الأنبیاء : 105 .
3- النور : 55 .
4- مریم : 40 .

الأراضی العائدة للآخرین ، شاء الإنسان أم أبی ، تُعتبر منتفیة وغیر قانونیّة فی الظروف القانونیّة .

بید أنَّ العلاقة المعقّدة بین مبدأ « الأرض للحیاة » ومبدأ « احترام الملکیّة الشخصیّة » ، وهی إحدی المسائل العمیقة والطریفة فی المباحث الإسلامیّة ، خارجة عن

موضوع بحثنا وعن حدود الأهداف المتوخّاة من وراء هذا الکتاب . من هذا المنطلق ، ینبغی أن نرکّز الاهتمام علی السبب الثانی من الظروف الاستثنائیّة .

2 - إنَّ الإسلام ، مع تصریحه بمبدأ حرّیّة السکن ، ومبدأ « الأرض للحیاة » ، لا یغفل عن هذه الحقیقة أیضا ، وهی أنَّ الأراضی لابدَّ أن تقسّم إلی مناطق وأقسام

مستقلّة ، وأنَّ الفوارق الحدودیّة أمر لا مندوحة منه ، علی الرغم من الخلافات الفکریّة

والمنازعات العقائدیّة .

ولکنَّ الإسلام یعتبر هذه الظروف استثنائیّة ومؤقّتة من حیث إنَّه یمهّد السبیل أمام الإنسان لعودته إلی المبدأ الأوّل « حرّیّة السکن » ومبدأ « الأرض للحیاة » وذلک من خلال مواکبة هدفه الأساس وضمان وحدة العقیدة والقانون والنظام الاجتماعی والحکومة العالمیّة ، ویری أنَّ الفطرة الإنسانیّة مؤهّلة لقبول هذا المبدأ .

إنَّ هذه التقسیمات الجغرافیّة التی تظهر لأسباب عرضیّة علی أ نَّها أمر لا مناص منه تترک آثارا قانونیّة من منظار القضایا المتعلّقة بالحیاة الدولیّة للشعوب . وفی ضوء هذا المبدأ ، تطرح مسألة الأرض فی الفقه الإسلامی علی أ نَّها مبدأ عرضی غیر أصیل ، ویحسم

علی أساسها قسم من القضایا الأُخری أیضا فی حقل العلاقات الخارجیّة للمسلمین .

ولمّا کان القانون الإسلامی ، فی ضوء هذه الخلافات ، لابدَّ له من رأی خاصّ بشأن الأرض ، فإنَّ المبدأ الأوّل « حرّیّة السکن » یواجه مصاعب کثیرة تبعا لذلک ، ویخرج عن حالته الأُولی التی کان علیها وفقا للمبدأ الأوّل . وینبغی دراسة هذا الموضوع وتوضیحه

من خلال التفاصیل التی سنتطرّق إلیها فیما یلی :

المبحث الثالث : حرّیّة السکن أو الوطن الحرّ

بناءً علی مبدأ « الأرض للحیاة » فکلّ مکان من الأرض صالح لحیاة الإنسان .

ص:133

ویستطیع الإنسان أن یلقی رحله أ نَّی شاء من الأرض متناسبا ذلک مع حاجاته ، واستعداداته ، ورغباته ، وأهدافه .

قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : « البلادُ بلادُ اللّه والعباد عیال اللّه ، أینما أصَبتَ خیرا فَأَقم » (1) . مفاد هذا الکلام هو مع أنَّ الناس هم الذین ینشئون المدن ، وهم الذین یشیّدون صرح البلدان ، بید أن البلاد تظلّ بلاد اللّه مع وجود تلک المدن ، وأنَّ الناس جمیعهم هم أعضاء الأُسرة البشریّة الکبیرة ، وهم خلق اللّه . بکلمة بدیلة ، أنَّ المجموعة الإنسانیّة الکبیرة هم عیال اللّه ، ولهم حقّ الاستفادة من بلاد اللّه .

فکلّ إنسان یستطیع أن یختار المکان المناسب الذی یصیب به خیرا وبرکة فی حیاته ، فیتّخذه سکنا ، ویجعله وطنا له .

قال الإمام علیّ علیه السلام : « لیس بلد بأحقَّ بِکَ من بلد . خیر البلاد ما حملک » (2) .

فالمعیار فی اختیار الوطن هو أنَّ الأرض التی تعیش علیها تقلّک وأنت تتمتّع بشخصیّتک وکرامتک ، وتحترم حاجاتک وأهدافک وطموحاتک .

ومع وجود هذا المبدأ ، فإنّنا نجد فی النصوص الإسلامیّة مضامین تقسّم الأراضی والبلدان إلی قسمین : قسم ممدوح ، وآخر مذموم(3) ، وبعض هذه المضامین یعود إلی أصل الأرض ، وبعضها الآخر یبیّن مواصفات الساکنین علیها .

وجاء فی بعض الروایات والأحادیث المأثورة أیضا ذمٌّ للسکن فی الأراضی والمدن والأقطار التی لا یجد الإنسان فیها الأمن ، والرفاه ، والاقتصاد السلیم . نحو : « شرّ الأوطان

ما لم یأمن فیه القُطّان »(4) .

إنَّ المحفّزات التی تشدّ الإنسان إلی أرض ما لکی تکون وطنه لا یمکن أن تکون لها الأولویّة فی سکن الإنسان ما لم یسُد الأمن تلک الأرض . « شرّ البلاد بلد لا أمن فیه ولا خصب » (5) .

ص: 134


1- « مسند أحمد بن حنبل » 1 : 166 ؛ و « نهج الفصاحة » ص 223 .
2- « غرر الحکم » للآمدی ، 5 : 83 ، طبعة الجامعة .
3- « بحار الأنوار » 57 : 210 .
4- « غرر الحکم » للآمدی 4 : 171 .
5- نفسه ص 165 .

هذه الروایات فی الوقت الذی تحدّد المعیار الصحیح فی اختیار الوطن ، فإنَّها تؤکّد علی مبدأ حرّیّة السکن والوطن الحرّ .

مبدئیّا

، عندما تکون الظروف الإقلیمیّة والأوضاع الاجتماعیّة ، والسیاسیّة ، والثقافیّة فی مدینة أو فی بلد ما غیر مؤاتیة للمسلم أن یعیش فیها کما یرید الإسلام ، ولا یتسنّی له القیام بواجباته الدینیّة والتزاماته المبدئیّة ، فإنَّه یستطیع أن یختار الوطن المناسب الذی تتوفّر فیه الإمکانیّات المطلوبة ، منطلقا من مبدأ الهجرة : « اِنَّ الَّذینَ تَوَفّیهُمُ الْمَلئِکَةُ ظَالِمی اَ نْفُسِهِمْ قَالُوا فیمَ کُنْتُمْ قَالُوا کُنَّا مُسْتَضْعَفینَ فِی الاَْرْضِ قَالُوا اَلَمْ تَکُنْ اَرْضُ اللّه ِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فیهَا فَاُولئِکَ مَاْویهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصیرًا * اِلاَّ الْمُسْتَضْعَفینَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ یَسْتَطیعُونَ حیلَةً وَلاَ یَهْتَدُونَ سَبیلاً » (1) .

فی ضوء مبدأ حرّیّة السکن والوطن ، فإنَّ البقاء فی مدینة أو دولة تصادر حرّیّة الإنسان فی العیش المناسب ، وتحول دون قیامه بواجباته ، وتسلب منه مواهبه وقدراته

الکامنة عنده بالقوّة ، وتوصد فی وجهه طریق النموّ والتطوّر ، وتضع العراقیل أمام حرکته التکاملیّة ، بقاء لا مسوّغ له علی الرغم من کلّ ما یشدّ الإنسان إلیها من محفّزات ومغریات وعلاقات .

إنَّ الاستثناء الذی ذکره القرآن فی الآیة 98 من سورة النساء یخصّ الحالة التی لا یجد فیها المستثنون أیّ إمکانیّة أو قوّة أو وسیلة لتغییر الظروف القائمة فی المدینة أو الدولة التی یعیشون فیها ، ولم یهتدوا معها إلی سبیل ودلیل . أمَّا فی الظروف التی یستطیعون فیها أن یخوضوا الجهاد ضدّ النظام القائم والأوضاع السائدة ، ولهم قیادة صالحة تواکب معهم السیر نحو الجهاد ، فإنَّ علیهم بذل کلّ ما فی وسعهم من أجل تغییر الأوضاع القائمة والانقضاض علی المؤسّسات الحکومیّة ، ولا یلجأوا إلی الهجرة بدیلاً عن ذلک .

إنَّ مسألة الهجرة لاتّخاذ الوطن الأفضل فی الإسلام تبلغ حدّا یستطیع الإنسان فیه

حتّی ترک وطنه إذا لم یجد فیه الحیاة الإسلامیّة المناسبة ، ولم یألف فیه الحرّیّة لإقامة شعائره والقیام بواجباته والتزاماته . ولو هاجر هادفا السکن فی أرض أفضل وأنسب وأکثر

ص:135


1- النساء : 97 - 98 .

راحة ، وراغبا فی بلوغ حیاة أکثر انفراجا وأوسع إمکانیّات من الحیاة فی وطنه ، فإنَّ

هجرته هذه تعتبر هجرة فی سبیل اللّه ، قال تعالی : « وَمَنْ یُهَاجِرْ فی سَبیلِ اللّه ِ یَجِدْ

فِی الاَْرْضِ مُرَاغَمًا کَثیرًا وَسَعَةً » (1) . والمراغم فی اللغة الأرض ذات التراب اللیّن ، والتراب اللیّن دلالة علی أ نَّها صالحة للزراعة ، ومن ثمَّ ستکون الحیاة علیها أفضل

وأنسب ، وفسّر البعض المراغم علی أ نَّه التراب مطلقا أو أ نَّه المهرب فی الأرض

.

أمّا کلمة السعة التی تعنی البسط والتوسّع والکثرة ، فقد جاءت فی الآیة بنحو مطلق . وتدلّ - بوضوح - علی أنَّ هذا البسط والکثرة ، التی تنتظر المهاجرین فی أرض المهجر

لیست فی بعد واحد من أبعاد الحیاة ، ولا تخصّ اتّجاها معیّنا ، بل یمکن أن تصدق علی أبعاد الحیاة وظروفها جمیعا .

إنَّ الحدیث المعروف : « حبّ الوطن من الإیمان » (2) یعکس علاقة الإیمان بالمحلّ الدائم

لسکن الإنسان . وما یفهم منه هو أنَّ العلاقة الإیمانیّة بالوطن تفرض علی الإنسان أن یتعلّق به ویحبّه ، ومتی انعدمت هذه العلاقة فالحبّ والتعلّق سوف ینعدمان أیضا ، شاء الإنسان أم أبی .

هذا المعنی معاکس تماما للفهم المشهور الذی یستشفّ ممّا یوحیه هذا الحدیث ، وهو أنَّ حبّ کلّ مدینة أو بلد ، بسبب کونهما سکنا ووطنا للإنسان ، من الإیمان . بینما نجد أنَّ أُسلوب الکلام فی هذا الحدیث یختلف تماما عن أُسلوبه فی الحدیث الآخر القائل إنَّ

: « النظافة من الإیمان » . فالوطن ، بما هو وطن ، لیس من متطلّبات الإیمان ، کما أنَّ النظافة من تعالیم الإیمان ، بل إنَّ حبّ الوطن مرتبط بالإیمان . ومن البدیهی فإنَّ الحبّ حالة نفسیّة ترتبط بالاعتقاد ، وأ نَّها لمتطلّبات الإیمان إذ تحدّد الحبّ وتفرضه علی الإنسان . والآن ینبغی أن نری هل للوطن علاقة بإیمان الإنسان أو لا ؟ فمتی کان الوطن مدعاة لإیمان الإنسان ، فحبّ مثل هذا الوطن - بلا ریب - جزء من الإیمان ، ومن معطیات الإیمان

.

ص: 136


1- النساء : 100 .
2- نقل المرحوم الشیخ الحرّ العاملیّ مؤلّف کتاب « وسائل الشیعة » هذا الحدیث مرسلاً فی مقدّمة کتاب « أمل الآمل » وقال : قد عزمنا علی تقدیم ذکر علماء جبل عامل علی باقی علمائنا المتأخّرین لوجوه ، أحدها : قضاء حقّ الوطن ، لما روی : « حبّ الوطن من الإیمان » . وروی : « من إیمان الرجل حبّه لقومه » . ( نقلاً عن « سفینة البحار » 2 : 668 ) .

المبحث الرابع : المجتمع السیاسی للقبیلة

لا شکّ أنَّ مساحة الأرض ، کبیرة کانت أو صغیرة ، لا تأثیر لها فی هویّة الأرض بالمفهوم القانونی ، تلک الهویّة التی تمثّل موضوع الدولة والعنصر المادّی للمفهوم القانونی للحکومة ، بوصفها النطاق الجغرافی لممارسة السیادة القانونیّة علی تلک الأرض . کما نجد فی الیونان القدیمة أنَّ أثینا بما کانت علیه من طول وعرض جغرافیّین محدودین جدّا ، کانت

تعتبر دولة تتمتّع بکلّ العناصر المطلوبة ، وکذلک کانت مدن الیونان الأُخری ، ومدن

فینیقیّة وکلدة ، إذ کانت کلّ واحدة منها دولة مستقلّة لها سیادتها وحکومتها . والیوم أیضا نجد فی أرجاء العالم المختلفة دولاً صغیرة جدّا قد لا تتجاوز مساحة الواحدة منها خمسة

کیلو مترات مربّعة .

علی سبیل المثال تعتبر جزیرة ( بکترن ) دولة فی حین أنَّ مساحتها التقریبیّة تبلغ 5 کم2 ونفوسها 75 نسمة . ونالت ( نرو ) استقلالها وأصبحت ذات نظام جمهوری منذ سنة

1968م ، وهی جزیرة برکانیّة مساحتها حوالی 22 کم2 . ودولة ( میدیا ) مساحتها 5

کم2 ونفوسها 2000 نسمة

. وجمهوریّة ( ناورو ) ومساحتها 22 کم2 ونفوسها 8000 نسمة ، ودولة ( نورفک ) ومساحتها 36 کم2 ونفوسها 2000 نسمة ، ودولة ( انکویلا ) ومساحتها 91 کم2 ونفوسها 6600 نسمة ، وجزائر ( ساموس الشرقیّة ) ومساحتها 197 کم2 ، ونفوسها زهاء 31000 نسمة ، لها حاکم منتخب ، وتُدار من قبل رؤساء القبائل ، وجمهوریّة ( مالطا ) ، ومساحتها 315 کم2 ونفوسها حوالی 360000 نسمة

، وهی دولة مستقلّة انضمّت إلی منظّمة الأُمم المتّحدة منذ سنة 1964م ، و (

غرانادا ) ومساحتها 344 کم2 ونفوسها 100000 نسمة ، انضمّت إلی منظّمة الأُمم المتّحدة منذ سنة

1974م ، وأخیرا إمارة ( لیشتنشتاین ) التی تقع بین سویسرا والنمسا ، مساحتها 160 کم2 ، نالت استقلالها منذ سنة 1866م .

ویمکن أن نتصوّر مساحة هذه الدول المذکورة جیّدا عندما نقارنها بمساحة مدینة صغیرة من مدن إیران مثل : مدینة آستانة فی محافظة جیلان ، التی تبلغ 356 کم2 ، ونستطیع أن نحصل علی القاسم المشترک فی انطباق مفهوم الدولة بین الاتّحاد السوفیتی [ السابق ] ومساحته 22 ملیون کم2 ، ونفوسه 265 ملیون نسمة ، وبین ( ناورو )

ص: 137

ومساحتها 22 کم2 ونفوسها 8000 نسمة ، إذ إنَّ للاثنین دستورا ونظاما جمهوریّا مستقلاًّ .

والآن فی ضوء هذا القیاس ، نحاول أن نتحدّث عن الوضع السیاسی للأراضی التی کانت تُدار من قبل رؤساء القبائل والحکّام فی عصر البعثة النبویّة ، بخاصّة شبة الجزیرة

العربیّة وما یجاورها .

ولو تخطّینا الحدیث عن بعض الدول الکبیرة مثل : الإمبراطوریّة الفارسیّة والرومانیّة ، والحبشة ، والیمن ، ومصر ، وحمیر ، حیث کانت لها أجهزتها السیاسیّة المنظّمة وحکوماتها بالمفهوم القانونی لها ، فإنَّ الوضع السیاسی للمناطق الأُخری کان غیر واضح

حتّی یتسنّی لنا دراسة المقاییس القانونیّة الجدیدة بشأنها علی النمط الذی نسیر علیه الیوم فی حدیثنا عن بلدان العالم المختلفة . ولکن کما سنلاحظ فإنَّ العلاقات السیاسیّة للنبیّ صلی الله علیه و آله مع سکّان تلک المناطق تنسجم مع المفاهیم القانونیّة .

کانت المناطق السکنیّة فی شبه الجزیرة العربیّة البالغة مساحتها أکثر من ثلاثة ملایین کیلو متر مربّع تحتلّ نطاقا ضیّقا من أراضیها . وبسبب شحّة المیاه ، کان أهلها مرغمین علی التنقّل من نقطة إلی أُخری باستمرار وذلک بحثا عن الماء والکلأ .

وکانت شبه الجزیرة تشمل بصورة رئیسة : نجد ، والحجاز ، والیمن ، وعدن ، وحضرموت ، والیمامة ، ونجران . ولم یسکن فی الحواضر إلاّ سدس السکّان .

وفی الحجاز کانت المناطق السکنیّة ، ما عدا مکّة والمدینة والطائف تحت تصرّف شتّی القبائل والبدو الرحّل بشکل متفرّق . وکان النظام القبلی أیضا سائدا فی المدن المذکورة ، متّسما بشیء من الانعزال ، وقلّما کان یلفت إلیه أنظار القوی الکبری آنذاک .

وأفضی الاستقلال السیاسی للحجاز أمام دول مثل : الإمبراطوریّة الرومانیّة والفارسیّة ، والیمن إلی أن تحافظ القبائل العربیّة علی نظامها باستمرار ، ومن ثمَّ یقلّ تأثّرها بثقافة النظم الأُخری .

ولذلک نجد أنَّ أفواجا من النصاری والیهود الذین اختاروا الاستیطان ، لأسباب خاصّة ، فی نجران ( منطقة بین الحجاز والیمن ) ، وخیبر ، وأرض یثرب بالترتیب

، کانوا یتمتّعون بالاستقلال أیضا ، ولهم نظام مماثل لنظام القبائل العربیّة . ووردت أسماء تسع من

ص: 138

قبائل الیهود فی أوّل معاهدة عُقدت بین النبیّ صلی الله علیه و آلهوبینهم(1) .

کان النظام القبلی ، مبدئیّا ، هو الأساس فی الانتماء القومی ، والمجتمع السیاسی ، والنظام الحکومی فی الحجاز والأقسام الأُخری من شبه الجزیرة العربیّة . وهو یتلاءم مع المفاهیم القانونیّة أیضا بناءً علی المعنی المتغیّر للدولة فی عالم الیوم .

إنَّ تاریخ العلاقات الدبلوماسیّة الغربیّة والقانون الدولیّ یتحدّث لنا عن عهود سحیقة فی مجال العلاقات السیاسیّة للبلدان والشعوب التی کان لکلّ منها تشکیلات أقلّ ممّا کان

للقبیلة الصغیرة .

علی سبیل المثال ، بعد تقسیم الإمبراطوریّة الرومانیّة الذی کان یمثّل حادثا عظیما فی تاریخ أُوربا ظهرت فی ألمانیا فقط أکثر من 350 دولة مستقلّة .

ومن یطالع التاریخ الدبلوماسی والقانون الدولیّ یستحوذ علیه هذا التصوّر ، وهو أ نَّه لم یکن فی العالم غیر أُوربا وقسم آخر کان مرتبطا بها .

أقام النبیّ صلی الله علیه و آله علاقات سیاسیّة مع معظم القبائل والحواضر والمجتمعات فی عصره ، فهل کانت هذه العلاقات خارجة عن إطار العلاقات الدبلوماسیّة ؟ وهل کانت تلک الأراضی خارجة عن نطاق القانون الدولیّ ؟ وللإجابة علی هذا السؤال ینبغی لنا أن نلقی

نظرة أُخری علی النظام السیاسی القبلی .

تتألّف القبیلة - عادة - من مجموعة الأُسر التی تربطها قرابة العصب . وتعیش مجتمعة علی أرض واحدة بسبب العلاقة النسبیّة والسببیّة ودافع الحیاة المشترکة . وتدار شؤونها

من قبل شیخ القبیلة ، الذی یکون - عادة - من أکبر أفراد القبیلة سنّا أو أکثرهم مقدرة ، وفقا لسلسلة من الآداب والتقالید والمقرّرات العرفیّة المشترکة .

وتتوفّر فی المجتمع السیاسی للقبیلة عناصر الدولة ومحتواها مثل : الأرض ، والتنظیم العامّ ، والسلطة السیاسیّة ، والحکومة .

فالأرض متغیّرة حینا ، وثابتة حینا آخر . وفی الحالة الأُولی یتمّ اختیار الأرض الجدیدة وفقا لتقالید ومقرّرات ثابتة . ویتحقّق ذلک فی إطار صلاحیّات شیخ القبیلة وقدراته .

ص: 139


1- « مکاتیب الرسول » 1 : 253 .

والأرض فی النظام السیاسی للقبیلة لها بُعد القانون الخاصّ الذی ینظّم مع القوانین المتعلّقة بالملکیّة الخاصّة ، وهی فی الآن ذاته تمثّل النطاق الذی تمارس القبیلة فیه سیادتها ؛ ولها بُعد القانون العامّ ، ولهذا السبب یصدق علیها تعبیر : دولة القبیلة .

أمَّا التنظیم العامّ فی النظام القبلی فقد کان مدعاة إلی تضامن وثیق ودائم بین القبائل العربیّة .

وکانت کلّ قبیلة تتألّف من عدد من الطبقات ، ولکلّ طبقة - بدورها - تقسیمات فرعیّة ، وهذه التقسیمات لها تقسیمات فرعیّة أُخری ، وهکذا حتّی تصل إلی مجموعات أصغر فأصغر ، وتدار کلّ واحدة منها حسب مراتب متسلسلة .

یتحدّث صاحب کتاب « نهایة الإرب » عن طبقات قبائل العرب فیقول : تسمّی هذه الطبقات حسب المراتب المتسلسلة من الأعلی إلی الأسفل کما یلی : الشعب ، القبیلة ، العِمارة ، البطن ، الفخذ ، والفصیلة .

الشعب اسم شامل لجمیع الأعضاء والجماعات ، وهو یقسّم إلی مجموعات کبیرة یطلق علی کلّ واحدة منها اسم : القبیلة مثل : قبیلة ربیعة ومضر . ولکلّ قبیلة مجموعات

أیضا یطلق علی الواحدة منها اسم : العِمارة ؛ مثل : قریش ، وکنانة . وکلّ عمارة تنقسم إلی أقسام أیضا ، یسمّی الواحد منها : بطنا ؛ مثل : بنی عبد المناف ، وبنی مخزوم

. ولکلّ بطن تقسیمات أیضا ، یسمّی کلّ واحد منها : فخذا ، مثل : بنی هاشم ، وبنی أُمیّة . والفخذ ینقسم إلی مجموعات متشعّبة تسمّی کلّ واحدة منها : فصیلة ، مثل : بنی العبّاس ، والطالبیّین

. وفی معاهدة المدینة التی أعلن فیها النبیّ صلی الله علیه و آله عن تأسیس الأُمَّة الإسلامیّة الواحدة

، ذکرت أسماء عدد من الطوائف والقبائل العربیّة التی کان لها حضور فی ذلک التجمّع السیاسی الجدید ، مثل : بنی عوف ، وبنی الحارث ، وبنی حشم ، وبنی النجّار ، وبنی عمرو ، وبنی البنیت ، وبنی أوس .

یقول المؤرّخ المعروف جرجی زیدان فی کتابه : « تاریخ العرب قبل الإسلام » بشأن تکوّن المجتمع السیاسی فی الیمن الذی یمثّل نوذجا آخر من النظام القبلی :

کانت الیمن فی أقدم زمانها وأصل نظامها تقسم إلی محافد ( جمع محفد ) ، والمحفد إلی قصور ، والقصر کالحصن أو القلعة یحیط به سور ویقیم فیه شیخ أو أمیر ، أو وجیه تحفّ به

ص: 140

الأعوان والحاشیة والخدم کما کانت حکومات بابل قدیما ... ویعرف صاحب المحفد أو القصر بلفظ ( ذو ) أی : صاحب ..

وأشهر المحافد أو القصور التی وصلت إلینا أسماؤها : غمدان ، تلفم ، ناعم ، ناعط ، ضرواح ، سلحین ، ظفار ، شبام ، بینون ، دیام براقش ، روثان ، أریاب ، عمران ، وغیرها . وبعض هذه القصور بقی إلی ما بعد الإسلام .

وقد یجتمع عدة محافد ، یتولّی شؤونها أمیر واحد یسمّی : قیل . ویسمّی مجموع المحافد مع ما یلحقها من القری والمزارع : مخلاف .

وقد ینبغ بین الأقیال أو الذوین رجل ذو مطامع أهل للسیادة العامّة ، فیمدّ سلطته علی جیرانه ، ویسمّی نفسه : ملکا . وینظّم مملکة یجعل محفده قصبتها ، وتنسب المملکة

إلیه(1) . واعتنق أحد ملوک الیمن الدین الیهودی . وبعد أن قام بارتکاب المذبحة الجماعیّة ضدّ النصاری ، استنجد نصاری الیمن بسلطان الحبشة . وأدّی استیلاء الأحباش علی الیمن إلی

أن یفقد ملوک الیمن سیادتهم السیاسیّة مع استقلال کلّ منهم بشؤونه الداخلیّة .

واعترف النبیّ صلی الله علیه و آله بذلک الاستقلال تحت ظروف خاصّة وأرسل علیّا علیه السلام ممثّلاً عنه إلی الیمن ممّا أفضی ذلک إلی دخول أغلب الناس فی الدین الإسلامی خلال برهة قصیرة

. ومنذ ذلک الحین تبودل المبعوثون من قبل النبیّ صلی الله علیه و آله وملوک الیمن بین المدینة ومحافد الیمن . وعقدت معاهدات ومکاتبات بین الطرفین . وبناءً علی ما ذکره یاقوت الحموی فی « معجم البلدان » فقد کان عدد محافد الیمن سبعة وعشرین محفدا (2) .

وکانت العلاقات التی تربط الوحدات القطریّة للقبائل العربیّة فی شبه الجزیرة إبّان البعثة النبویّة الشریفة لیست علی وتیرة واحدة ، فمرّة ودّیّة ، وأُخری عدائیّة

؛ وتارة تترافق مع الحرب والسلب والنهب وإراقة الدماء .

علی سبیل المثال ، کان العداء متأصّلاً بین الأوس والخزرج وکلاهما کان یسکن فی أرض یثرب . وربّما أسفر ذلک العداء عن حروب دمویّة طاحنة فی بعض الحالات . بید أنَّ

ذلک العداء المتأصّل قد ذوی من خلال مبدأ المؤاخاة الإسلامیّة التی أوثق الرسول الأکرم

ص: 141


1- « تاریخ العرب قبل الإسلام » نقلاً عن « مکاتیب الرسول » ص 190 .
2- نقلاً عن کتاب « مکاتیب الرسول » ص 192 .

عراها بین المسلمین .

وظهر ملوک فی المناطق الداخلیّة للجزیرة العربیّة کانوا ینتمون إلی قبیلة کندة . وقد بسطوا سیطرتهم علی قسم من تلک المناطق سنین عدیدة ، بید أنَّ دولتهم قد انقرضت بسبب الخلافات الداخلیّة ورخاوة الأساس الذی کانت تتوکّأ علیه نظمها ، فانقسمت إلی

دویلات صغیرة(1) .

وظهر من الآثار التی اکتشفت أخیرا فی بلاد الحجاز وأیّدتها کتابات الیونانیّین ، وجود دولة باسم ( معین ) کانت لها تشکیلاتها السیاسیّة وحکومتها المقتدرة فی الجزیرة

العربیّة قبل ظهور الإسلام بقرون .

وکانت دولة سبأ التی حکمها ملوک حمیر تتمتّع بقدرة ونظام وشوکة خاصّة . وآخر ملوکها یوسف ذو نواس ، قتله ملک الحبشة بأمر الإمبراطور الرومانی .

وظهرت إمارتا الحیرة وغسّان علی شکل دولتین صغیرتین مجاورتین لصحراء الشام . وکانتا تمثّلان الحدّ الفاصل بین الإمبراطوریّتین الرومانیّة والفارسیّة

، وتتمتّعان بدعمهما .

وکان لابدَّ للقبائل العربیّة المجاورة لتلک الدول من إطاعة ملوک تلک الدول وحکّامها عادة . بید أنَّ أغلب قبائل الحجاز القاطنة فی الصحراء ، أو فی الحواضر ، لا سیّما أهالی مکّة لم یقایضوا استقلالهم بالعلاقات الاقتصادیّة أو الدعم السیاسی قطّ . فکانوا یعیشون

فی الصحاری والمدن العامرة علی شکل وحدات قبلیّة مستقلّة .

وکان لکلّ قبیلة رئیس یتمیّز غالبا بالشجاعة والکرم والثراء ، ویحکم قبیلته بما یتمتّع به من صفات مرموقة بارزة وفقا للتقالید القبلیّة السائدة . وقد اکتسب شیخ القبیلة

مکانته وموقعه بحکم ما اتّسم به من حنکة وشهامة وشجاعة . ویتولّی أمر قبیلته غالبا عند بروز الخلافات ونشوب الحروب . فکان یدلی برأیه فی الأعمال العامّة للقبیلة وفی تسویة

خلافاتها . وأحیانا کان یستشیر جمعا من الکبار ورؤساء الأُسر فی بعض المسائل

، لا سیّما المهمّة منها .

وکان یتمّ اختیار الشیخ الجدید للقبیلة بعد موت الشیخ السابق أو قتله خلال مراسیم

ص: 142


1- « تاریخ الإسلام السیاسی » [ فارسی ] 1 : 16 .

خاصّة تجری وفقا لآداب القبیلة وسننها . ویؤدّی رأی الأفراد الکبار من ذوی التجربة والنفوذ ، ورأی رؤساء المجموعات الصغیرة دورا مؤثّرا فی ذلک . ولکن علی الرغم من کلّ

هذه الإجراءات التقلیدیّة المتّبعة ، کان یبرز أحیانا خلاف بین أبناء الشیخ السابق

وأقاربه ، قد ینتهی إلی الحرب وإراقة الدماء .

إنَّ ما یعبّر عنه بالجنسیّة هذا الیوم کان فی النظام القبلی القدیم یجری علی أساس رابطة القرابة والدم . فالعلاقات النسبیّة والسببیّة - مبدئیّا - هی التی تحدّد جنسیّة الأشخاص . ولکن کان یستخدم - أحیانا - طریق آخر لکسب جنسیّة القبیلة . علی سبیل المثال کان

الالتجاء إلی قبیلة ما یفضی إلی تمتّع اللاجئ - الذی کان یصطلح علیه : الدخیل - بدعم

تلک القبیلة وامتیازاتها . أو أنَّ مشارکة شخص فی طعام أحد أعضاء القبیلة فی بعض الحالات ، أو امتصاص قطرات من دمه یفضی إلی قبوله عضوا فی القبیلة بالتبنّی .

کانت القبائل العربیّة تتحالف فیما بینها وتلتزم بالوفاء لتلک الأحلاف . وکان للأحلاف دور خطیر فی المحافظة علی الأرواح والأموال أمام التحرّشات المحتملة .

وکان التعصّب والتفاخر من الصفات القبلیّة التی کانت تفضی إلی کثیر من الخلافات والحروب ، وفی هذا الصدد قد یفقد الشخص عضویّته فی القبیلة ، فیخلع منها بشکل رسمی .

تمیّزت مکّة بموقعها المرموق بین مناطق الحجاز . ووجدت لها قدسیّة خاصّة بسبب الکعبة ، بیت اللّه الحرام . فکانت الجموع الغفیرة من الناس تتقاطر علیها من شتّی الأنحاء فی کلّ عام لزیارة الکعبة . ولمّا کانت مکّة وادیا غیر ذی زرع ، انبری أهلها للعمل فی الحقل التجاری . وهذان سببان جوهریّان ساعدا علی أن تصبح مکّة مرکزا تجاریّا هامّا ، وتحظی القبائل القاطنة فیها بأهمّیة خاصّة ومکانة متمیّزة .

وکانت قریش صاحبة السیادة فی مکّة ولها نفوذها التامّ بین عدد کبیر من القبائل العربیّة بسبب سدانة الکعبة التی نصب علیها ( 360 ) صنما ، یعود کلّ واحد منها إلی

إحدی القبائل ، وقریش کانت هی المسؤولة عن حراسة الأصنام وتأمین الطرق التی کان یفد منها الزوّار .

تحریم القتال فی الحرم ، احتراما للکعبة ، أضفی علی المدینة أمنا وهدوءا خاصّین ،

ص: 143

وضاعف من ازدهارها ونشاطها التجاری ، ولفت أنظار القبائل العربیّة إلیها .

وکانت الدور التی یسکنها أعضاء القبائل المختلفة واقعة فی أطراف بیت اللّه الحرام متناسبة مع شأنها وسیادتها ، لذلک نجد دور القریشیّین ملاصقة للکعبة ، وتلیها دور

القبائل الأُخری .

وقریش نفسها تتألّف من قبائل کثیرة ، کانت تنقسم فی بدایة نشوئها إلی قبیلتین أصلیّتین هما : قریش البطاح ، وقریش الظواهر . وأهم القبائل التی تؤلّف قریش البطاح

هی : بنو عبد المناف ، وبنو عبد العزّی ، وبنو عبد الدار ، وبنو زهرة ، وبنو تمیم ، وبنو مخزوم ، وبنو جمع ، وبنو سهم . أمّا أهم القبائل التی تؤلّف قریش الظواهر فهی : بنو عامر بن لؤ ، وبنو فهر ، وبنو تیم ، وبنو قیس ، وبنو الحارث ، وبنو مالک .

تمثّل مکّة وحدة سیاسیّة مستقلّة ودولة حرّة . وکانت قریش تتولّی سدانة الکعبة ، وهو أهم منصب من مناصب السیادة . ولهذا السبب کانت صاحبة النفوذ المطلق فی مکّة

، ولها صلاحیّات أُخری مثل : سقایة الحاجّ ، والضیافة ، وتسویة الأُمور ، والنظر فی

المنازعات ، وحلّ الخلافات .

ویذکر المؤرّخ المعروف جرجی زیدان زهاء عشرین منصبا یرتبط بالمؤسّسات التابعة للکعبة وإدارة مدینة مکّة . وکلّ واحد من هذه المناصب کانت تتولاّه واحدة من

قبائل قریش .

وأصبح لعبد المطّلب موقع متفوّق وسیادة متمیّزة فی مکّة بعد حفر بئر زمزم - التی کانت قد طُمّت مدّة مدیدة - والعثور علی سیف وأشیاء أُخری ثمینة أثناء الحفر .

وفی هجوم إبرهة الحبشی علی مکّة ، التقی عبد المطّلب ابرهة بوصفه رئیس مکّة وممثّلاً لقبائلها ، ولکنّه أبی أن یتنازل عن سیادة مکّة لأجل ابرهة . وعندما قال له عبارته المشهورة : « وللبیت ربّ یمنعه » ، فإنَّه ألقی فی قلبه الرعب ، وتحدّث معه بهدوء تامّ عن إبل أهل مکّة التی نهبها جنوده من الناس . ومن جهة أُخری فإنَّ أهل مکّة ترکوا دیارهم بأمر

عبد المطّلب ، فالتجأوا إلی الجبال المحیطة بمکّة . والتحدّی المتوکّئ علی إیمان عبد المطّلب ، مقرونا بخطّته فی إخلاء المدینة أرعب ابرهة وجیشه فذعروا ذعرا شدیدا لا یوصف ، وکان

ص: 144

اندحارهم - آخر المطاف - بفضل الإمداد الغیبی(1) .

وفی صلح الحدیبیّة أیضا نجد النبیّ صلی الله علیه و آله بوصفه ممثّلاً لمکّة ، عقد هدنة مع قریش ممّا أدّی إلی ردع قریش عن التعرّض للمسلمین وإثارة الناس ضدّ الإسلام ، وفرض عقائدهم علیهم ، والتآمر علی الدعوة الإسلامیّة .

وینبغی فی ختام بحثنا عن النظام السیاسی للقبیلة ومواصفات الأقطار القبلیّة أن نذکّر بأنَّ طبیعة النظام الخاصّ للقبائل العربیّة فی الجزیرة تتوکّأ علی مبدأ الحرّیّة

.

ویظنّ الکثیرون أنَّ الحیاة البدویّة للعرب ناتجة عن تخلّفهم الحضاری ، فی حین أنَّ السبب الأصلی لهذا الضرب من الحیاة هو حبّ الحرّیّة ، والتخلّص من التبعیّة المکبِّلة

للإنسان .

وعلی الرغم من وجود رئیس القبیلة ، والتسلسل الهرمی فی النظام القبلی ، والقدرة التی تتلخّص فی النفوذ الذی یتمتّع به رئیس القبیلة ، وسیادة الآداب والسنن والمقرّرات

الخاصّة للقبیلة ، بید أنَّ الشخص والأُسرة یتمتّعان بحریّة تامّة . والحیاة الفردیّة لا تمتزج بالحیاة الاجتماعیّة کما یلاحظ فی المجتمع السیاسی المعاصر . والقانون الذی یحکم المجتمعات

المتطوّرة هذا الیوم ، لا نجد له أثرا فی المجتمع القبلی . ومع هذا کلّه فإنَّ أعضاء القبائل متمسّکون أیّما تمسّک بتقالیدهم وعاداتهم وآدابهم ، ولکنّهم یؤثرون حرّیّتهم علی کلّ

شیء .

نجد فی النظام الحضری أنَّ الأفراد یتنازلون عن کثیر من حقوقهم وحرّیّاتهم لمصلحة النظام الاجتماعی ، ویلزمون أنفسهم - طواعیة - بالتمسّک بالقوانین والمقرّرات ، ویسلّمون

ید الطاعة لحکومتهم وحکّامهم . أمَّا إنسان البادیة الذی اکتفی بأقلّ حجم من الرفاه ، واختار راحة البال ، فإنَّه لا ینطلی علیه شیء ، ولا یضحّی بحرّیّته حیال أیّ شیء . وأنَّ ما یرضی سکّان المدینة لا یرضیه ولا یسعده ، إذا کان علی حساب حرّیّته . ولکنّه یشترک

مع سکّان المدینة بالرغبة فی الحیاة ، والصراع من أجل البقاء ، والدفاع عن حیاته .

إنَّ حسّ الحرّیّة والاستقلال المتنامی عند قبائل البادیة دفعهم إلی شیء من التعصّب

ص:145


1- جاءت قصّة ابرهة فی سورة الفیل ، قال تعالی : « وَ اَرْسَلَ عَلَیْهِمْ طَیْرًا اَبَابیلَ * تَرْمیهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجّیلٍ * فَجَعَلَهُمْ کَعَصْفٍ مَاْکُولٍ » .

والتشدّد الذی جعلهم ینظرون إلی الآخرین علی أ نَّهم أجانب غرباء ، ولم یقرّوا لهم بشیء من الحقوق ، ولم یعیروا لهم اهتماما . وینظر أفراد القبیلة إلی قبیلتهم علی أ نَّها الملاذ الوحید لهم ، وهم یفتخرون بذلک ، وکانوا ملتزمین بشیء من القومیّة القبلیّة .

ویلاحظ الاستقلال بمعناه الحقیقی فی النظام السیاسی الذی یسود قبائل البادیة ، وذلک لأ نَّها لم تخضع قطّ للإمبراطوریّتین الکبیرتین : الفارسیّة والرومانیّة علی الرغم من مجاورتها لهما ، ولم تتنازل أو تستسلم أمامهما . ولهذا السبب ظلّت الحجاز والقبائل القاطنة فیها بمأمن من أطماع الناهبین والقوی الکبری آنذاک .

حدث ذات مرّة أنَّ أحد الأُمراء العسکریّین المعروفین من الیونان عزم علی غزو الحجاز ، فلمّا تقدّم جیشه إلی هذه المنطقة ، قال له أحد سکّان البادیة فی أوّل لقائه : ترانا نقطن فی هذه البقاع القاحلة فرارا من العبودیّة . اقبل هدیّتنا وارجع إلی حیث کنت ، سنکون من أوفی الأصدقاء لک . ولکنّک إذا رغبت فی حصرنا ، حرمت کلّ هناءة ورأیت عجزک عن إکراهنا علی تبدیل طرق حیاتنا التی تعوّدناها منذ نعومة أظفارنا . وإذا قدرت

علی أسر بعضنا ، أیقنت أ نَّک لن تجد واحدا ممّن أسرتَ یستطیع أن یألف حیاة غیر التی

ألفناها .

یقول مؤلّف کتاب « حضارة العرب » بعد نقل هذه القصّة : قبل القائد الیونانی هذا النداء السلمی وعزف عن غزو تلک الأرض والسیطرة علیها (1)

المبحث الخامس : المؤسّسات الحکومیّة فی النظام القبلی

کان رؤساء القبائل یتولّون المهام المتعلّقة بقبائلهم ، ویتمتّعون بصلاحیّات تنفیذیّة فی

مجال تطبیق الآداب والتقالید والمقرّرات السائدة بین قبائلهم إلی جانب القدرات المتفوّقة

التی یتحلّون بها کرؤساء . وکان هذا التقلید متداولاً علی النمط الذی کان معروفا فی النظم الملکیّة . فعقد الأحلاف مع القبائل الأُخری ، وإعلان الحرب وتعبئة أفراد القبیلة

، ومعاقبة المخالفین ، والترحیب بالوافدین الجدد ، واستقبال ممثّلی القبائل الأُخری ، والمراسلات ، والتفاوض مع رؤساء القبائل الأُخری ، هذه المهام کلّها کان یتولاّها شیخ القبیلة

.

ص: 146


1- ( ) « حضارة العرب » لغوستاف لوبون ، ص 91 - 92 ، ترجمة الدکتور عادل زعیتر .

وکان أفراد القبیلة یطبّقون الأوامر الصادرة عن شیخ القبیلة ، نحو المقرّرات المتعلّقة بآداب القبیلة وسننها . وکان رؤساء الأفخاذ الصغیرة فی القبیلة ورجالها ومعمّروها تحت

تصرّف شیخ القبیلة بوصفهم موظّفین تنفیذیّین . ویمارس شیخ القبیلة سلطته وصلاحیّاته التنفیذیّة من خلال تسلسل هرمی تنفیذی بسیط .

إنَّ شیوخ القبائل الذین یکونون عادة من أکبر أفراد القبیلة سنّا ، ومن أشجعهم وأکرمهم ، ویتمتّعون إلی حدّ کبیر بالشمائل القبلیّة نحو : التعصّب ، والضیافة

، والحرّیّة ، ویتشدّدون فی الالتزام بتقالید القبیلة ، ولا یُمنَون کثیرا بالعناد والاستبداد السائد فی النظم الملکیّة الاستبدادیّة .

وکان رئیس القبیلة یدیر شؤون قبیلته بعطفه الأبوی ، وبالتعصّب الذی کان یشدّه إلی أفراد قبیلته ، وبمعرفته الدالّة علی تجربته الطویلة فلم یعد بحاجة إلی الدکتاتوریّة

ومصادرة الحرّیّات .

وکان یضع فی حسابه استشارة المعمّرین من ذوی التجربة ، ورؤساء الأفخاذ الصغیرة المنبثقة عن القبیلة ، والعلماء والعقلاء ، وذلک فی الشؤون المهمّة المتعلّقة بالقبیلة ، فکان یستضیء بآراء المستشارین فی بعض المناسبات .

إنَّ ما یطلق علیه الیوم السلطة التشریعیّة علی النسق الذی یدرس الیوم فی القانون الأساسی والعلوم السیاسیّة کان مفقودا فی النظام السیاسی للقبیلة ، بید أنَّ القبائل العربیّة کانت تتمتّع بنظام مماثل للسلطة التشریعیّة فی یومنا هذا ، کان یقوم بما تقوم به من

واجبات . علی سبیل المثال کانت « سقیفة بنی ساعدة » التی تمثّل المرکز الرئیس لإصدار

القرارات الأساسیّة فی قضایا خلافیّة مهمّة جدّا فی المدینة ، تمارس ما یمارسه مجلس

الشوری والبرلمان من صلاحیّات هذا الیوم .

کان کبار الأوس والخزرج یجتمعون فی سقیفة بنی ساعدة لتسویة خلافاتهم مشتورین . وکان یناقش فی هذه الشوری مشتورین . وکان یناقش فی هذه الشوری أحیانا الاختلاف حول مسألة رئاسة المدینة أو القبیلة .

وما ذهاب عدد من المسلمین إلی سقیفة بنی ساعدة بعد وفاة النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله للتداول فی قضیّة الخلافة إلاّ انعکاس لذلک التقلید القبلی الذی کان سائدا بین العرب .

ص:147

وکان لدار الندوة فی النظام السیاسی بمکّة دور مهمّ فی اتّخاذ القرارات الخطیرة ، ورئاستها کانت مناطة بالکبار من قریش . وکان شیوخ القبائل یجتمعون فی هذا المرکز الذی یماثل البرلمان ، ویتشاورون بشأن الأعمال المهمّة . وللعضویّة فی اجتماعات دار الندوة شروط خاصّة ، وینبغی أن لا یقلّ عمر العضو عن أربعین سنة .

وإلی جانب ما نصطلح علیه بالسلطة التنفیذیّة ، والسلطة التشریعیّة ، کانت السلطة القضائیّة قائمة بین القبائل العربیّة أیضا متّخذة طابع التحکیم . علی سبیل المثال کان التحکیم بین قریش لتسویة الخلافات مناطا ب ( بنی سهم ) . وکانت ( خزاعة ) تتولّی هذه المهمّة قبل ( بنی سهم ) .

وعندما کانت السیادة علی مکّة لقبیلة ( جرهم ) عقدوا حلفا یدعی ( حلف الفضول ) لحفظ حقوق الناس ونجدة المظلومین ، وتنظیم العلاقات بین القبائل . وکان ذلک

الحلف ملاذا للبؤساء والمظلومین شوطا من الزمان . ویمثّل حلف الفضول ضربا من وثیقة حقوق الإنسان ، إذ یدافع عن حقوق الضعفاء والمظلومین . وسمّی الحلف بهذا الاسم لأنَّ

اسم کلّ واحد من مؤسّسیه الأربعة : هو الفضل . وبلغ من تأثیره أنَّ کلّ حلف جاء بعده

للدفاع عن الضعفاء والمحرومین قد حمل اسمه .

واشترک النبیّ الأعظم صلی الله علیه و آله فی هذا الحلف أیّام شبابه وکان یذکره بخیر دائما فیقول : « لقد شهدتُ فی دار عبد اللّه بن جدعان حلفا لو دعیت به فی الإسلام لأجبت » .

وبلغ الاستقرار السیاسی فی مکّة حدّا أنَّ قوافل قریش التجاریّة کانت تجوب أرجاء الجزیرة العربیّة بکلّ أمن واطمئنان علی الرغم من النزاعات والمناوشات الناشبة بین القبائل العربیّة المختلفة . ولم یتعرّض أحد لتلک القوافل . وکانت رحلة الشتاء نحو الیمن عادة ، ورحلة الصیف نحو الشام .

وتحوّلت مکّة - تدریجا - من مرکز دینی وتجاری إلی مرکز سیاسی ، وشهدت اللقاءات وعقد الأحلاف بین شیوخ القبائل وممثّلیهم .

المبحث السادس : الجذور التاریخیّة لتأسیس الدولة والحکومة فی الإسلام

استطاع النبیّ الأعظم صلی الله علیه و آله أن یؤسّس دولة اسلامیّة قویّة فی أرجاء الجزیرة العربیّة

ص: 148

بعد ثلاث عشرة سنة من السعی الجاد المثمر فی مکّة ، وإرساء دعائم النشاط الدبلوماسی فی السنین الأُولی من هجرته إلی المدینة .

إنَّ تحلیل هذا الحدث التاریخی الذی یعتبر من التطوّرات النادرة فی تاریخ البشریّة یحتاج إلی دراسة مسائل ومواضیع کثیرة . ولکن قبل کلّ شیء ینبغی أن نجیب علی سؤالین

رئیسیّین هما :

1 - لماذا لم تظهر السلطة السیاسیّة فی هذه البلاد قبل الإسلام ، ولم تستطع حکومة قویّة أن تجمع القبائل العربیّة المختلفة تحت نظام سیاسی واحد ؟

2 - ما هو الأُسلوب الذی مارسه النبیّ صلی الله علیه و آله لتوحید القبائل وإقناعها باتّباع النظام الواحد ؟ وما هی الطرق التی سلکها لإنجاز هذا النصر التاریخی الکبیر ؟

أمَّا السؤال الأوّل فنقول فی جوابه : إنَّ ما عرف به العرب من تعصّب ، وتفاخر ، وانتهاک لحریم القبائل الأُخری ، وتمرّس علی القتال وإراقة الدماء ، وعدم الاستقرار فی مکان واحد ، وروح الحرّیّة والانطلاق کلّ ذلک حال دون بروز نظام وسلطة سیاسیّة توحّد القبائل العربیّة فی الحجاز وأرض الجزیرة العربیّة المترامیة الأطراف ، وتنظّمهم فی مجتمع کبیر ، تسوده حکومة واحدة .

ومن الطبیعی هنا أ نّنا لا یمکن أن نتجاهل الدور الذی یترکه المناخ والظروف الجغرافیّة ، فلا مدینة ولا نهر فی أرض شاسعة مثل أرض الجزیرة العربیّة ؛ ولا موسم معیّن لأمطارها ، ولا زراعة فی تلک الأراضی الفسیحة إلاّ فی أرض الیمن . وما أن استقرّت إبلهم فی مکان ، حتّی اضطرّوا إلی الانتقال منه طلبا للکلأ . وما أن نفد ماء الحفر التی ملأتها الأمطار ، حتّی یمّموا وجوههم تلقاء مکان آخر طلبا للماء . وکانت هذه الآداب والتقالید

موجودة حتّی عند القبائل المتحضّرة فی مکّة والمدینة والطائف . غیر أنَّ المیزة الوحیدة

لهذه القبائل هی إقامتها فی مکان واحد ، وهذه لا تکفی لخلق الحوافز من أجل تأسیس الدولة العربیّة الواحدة .

ومن العوامل الأُخری التی کان لها دور ملحوظ فی زرع التفرقة بین القبائل والحؤول دون اتّحادها هی الخلافات والضغائن الدفینة التی کانت معشعشة بین بعض القبائل ، والحروب الطویلة التی کانت تستغرق أحیانا أربعین سنة . ولکن فی نفس الوقت فإنَّ اتّباع

ص: 149

طریقة واحدة فی الحیاة والآداب والتقالید جعل مناطق الجزیرة العربیّة کلّها وکأ نّها دولة واحدة .

إنَّ الاحتمال الذی یری بأنَّ هذا الوضع ناتج عن غفلة القبائل العربیّة ، وأ نَّه قائم بصورة لا إرادیّة ضعیف للغایة ؛ وذلک لأنَّ الحوادث التی شهدتها القبائل القاطنة فی أطراف الجزیرة مجاورة للحکومة الفارسیّة القویّة أو قریبة من نطاق الحکومة الرومانیّة ، والمنافسة

التی کانت قائمة بین تینک الحکومتین وخوفهما أیضا من الهجمات المباغتة لعرب البادیة - ممّا حداهما علی دعم هذه القبائل المجاورة - وکذلک الحروب والمنازعات الطویلة بین الحکومتین القویّتین ، هذه العوامل کلّها جعلت تلک القبائل ملمّة بما یجری فی أکنافها بنحو من الأنحاء .

وأمَّا السؤال الثانی فینبغی أوّلاً دراسة الظروف الاجتماعیّة والسیاسیّة للحیاة القبلیّة فی الجزیرة العربیّة ، یتلو ذلک دراسة طبیعة التعالیم الإسلامیّة ، وبعدها نتوفّر علی دراسة الأسالیب العملیّة التی انتهجها النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله فی الموازنة بینهما .

قلنا

: إنَّ أُسلوب العیش الذی اقتفته القبائل العربیّة بخاصّة فی المناطق الداخلیّة لشبه

الجزیرة العربیّة لم یفقد المرکزیّة فحسب ، بل کان یعتبر عقبة کبیرة فی طریق اتّحادها

وتنظیمها .

والسبب الذی یدعو تلک القبائل الحرّة فی هذه المنطقة الشاسعة إلی عدم الانصیاع للحکومات القویّة المجاورة یماثل السبب الذی جعلهم یرفضون الاتّحاد السیاسی وتأسیس المجتمع الواحد والخضوع أمام حکومة واحدة ، حتّی فیما بینهم .

ثمّة عوامل أُخری فی مقابل هذا النوع من العقبات ، کانت تساعد النبیّ صلی الله علیه و آله فی بلوغ الهدف المتمثّل فی إرساء دعائم القیادة السیاسیّة ، والمرکزیّة ، والاتّحاد بین القبائل العربیّة . ویمکن تقسیم هذه العوامل علی النحو الآتی :

1 - إنَّ التماثل فی طریقة العیش والإقرار بالنظام القبلی الخاصّ أوجدا نوعا من الانسجام ووحدة الاتّجاه بین العرب ، فکان لهم نظام واحد وکانوا یسیرون باتّجاه واحد

علی الصعید العملی . وهذا النوع من الاتّحاد الموجود بالقوّة مهّد الأرضیّة المناسبة لوحدة القیادة .

ص:150

2 - إنَّ القواسم المشترکة الکثیرة التی کانت تجمع قبائل البادیة متمثّلة بالآداب والتقالید والسنن القومیّة والقبلیّة والقوانین السائدة ، کانت تقودهم باتّجاه الوحدة . وذلک لأنَّ وحدة القانون هی من البواعث القومیّة علی الاتّحاد والتضامن .

3 - کانت القبائل العربیّة جمیعها تعیش رغبات وأهدافا مشترکة ذات قوّة وجاذبیّة ، تأصّلت فی أعماق قلوب أفرادها وضمائرهم ، فأضحت المحفّز الأساس لحیاتهم . وکان کثیر

من مناسبات الفرح والعزاء ، وأُسلوب التعامل مع الحقائق والأحداث قد انبثق عن تلک الرغبات والأهداف ، وتجلّی فی أشعارهم ونتاجاتهم الأدبیّة وحتّی فی اعتقاداتهم الدینیّة .

4 - الناس المتشتّتون فی شبه الجزیرة العربیّة کانوا یعیشون فی فراغ مؤسف من الناحیة الدینیّة . فإنَّهم ،من جهة ، کانوا یعتبرون الیهودیّة والمسیحیّة دیانتین غریبتین علیهم ، فلم یرغبوا فیهما رغبة ملحوظة ، ولم یعتنقوهما علی الرغم من النفوذ السیاسی

والثقافی للروم ، ویستثنی من ذلک القاطنون فی مناطق المدینة ونجران والیمن . ومن جهة

أُخری فإنَّ ما کان عندهم لم یشبع طموحاتهم ، ووجود ما یربو علی ثلاثمائة إله کان یقلقهم

ویسلب منهم الهدوء المنشود . وکذلک فإنَّهم کانوا یشعرون بالغربة فی الوسط الصنمی ، لأنَّ عبادة الأصنام لم تکن الدین الأصلی لآبائهم الأوّلین ، فقد کان أبناء إبراهیم ذوو الجذور

العربیّة یعتقدون باللّه وحده .

وکان عدنان ، وهو الجدّ الأعلی لأهمّ القبائل القاطنة فی تهامة والحجاز ونجد ، ابنا لإسماعیل وعلی ملّة إبراهیم ، وحتّی أنَّ آثارا من الحنیفیّة کانت موجودة بین بعض القبائل . وکانت الحنیفیّة دینا معروفا عند أهل مکّة إبّان البعثة النبویّة الشریفة .

یقول الیعقوبی : کان عمرو بن لُحَیّ أوّل من سنّ عبادة الأصنام فی الحجاز ، إذ خرج إلی الشام ، وبها قوم من العمالقة یعبدون الأصنام ، فأخذ منهم صنما یقال له هبل

، فقدم به مکّة . بید أنَّ ابن هشام نقل أنَّ عمرو بن لحیّ قدم بهذا الصنم إلی الحجاز من مؤاب ( من مناطق العراق ) .

کانت الأصنام فی بادئ الأمر علی صورة البشر ، ثمَّ أُضیفت إلیها تدریجا صور الحیوانات والنباتات والنجوم والملائکة الخیالیّین . ولم یکن لتعصّب قریش فی المحافظة علی الأصنام أمام الدعوة الإسلامیّة بُعْدٌ اعتقادی ، وإنَّما کانت تقوم بذلک لأنَّ أُفول الصنمیّة

ص: 151

یعنی تهدیدا حقیقیّا لسیادتها .

5 - إنَّ الالتزام المتعصّب بالأحلاف والمعاهدات عامل آخر فی تمهید الأرضیّة للاتّحاد

بین القبائل العربیّة . وقد استثمر النبیّ صلی الله علیه و آله ذلک کثیرا ، وتمکّن من إرساء قواعد الوحدة السیاسیّة بین القبائل العربیّة من خلال عقد الأحلاف المتنوّعة .

6 - کانت أغلب القبائل فی الجزیرة العربیّة تری نفسها من طائفة واحدة ، أو من شعب واحد کما جاء فی الاصطلاح الذی نقلناه آنفا عن « نهایة الإرب » . وأنَّ رابطة الدم

والتعصّب قد هیّأت الأرضیّة المساعدة لإقرار التقارب بین العرب وتوحیدهم . وقد استفاد النبیّ صلی الله علیه و آله من ذلک فبذل قصاری جهده من أجل أن لا یتحوّل هذا الحافز القوی إلی عقبة کبیرة تحول دون شمولیّة الإسلام ، وتسبّب له المتاعب ، وقد أدان وشجب مرارا کلّ

فکرة یُشمّ منها رائحة العنصریّة والقومیّة والاستعلاء العرقی .

7 - ألقی التعصّب ، بالمعنی السلبی المرفوض ، ظلّه علی حیاة القبائل العربیّة عامّة

. فکان یهیئ بالقوّة أرضیّة المقاومة والصمود والتحمّل الشدید حیال الرغبات والأهداف حتّی التضحیة . إنَّ التوجیه الصائب لهذه الصفة باتّجاه الطرق الإیجابیّة ، من أجل تحقیق الأهداف الإنسانیّة العلیا ، یمکن أن یمهّد الأرضیّة لوحدة سیاسیّة وهدفیّة .

لقد أفرغ النبیّ صلی الله علیه و آله هذه الصفة من محتواها المضاد للقیم والمثل ، نحو : التعصّب العنصری والقبلی ، ووأد البنات ، وأمثالهما . واستثمرها للمحافظة علی المثل الإنسانیّة

العلیا .

قال الإمام علیّ علیه السلام فی تبیان هذا الأُسلوب : « فإن کان لابدَّ من العصبیّة فلیکن

عصبیّتکم لمکارم الخصال ومحامد الأفعال ومحاسن الأُمور » (1) .

8 - النبیّ صلی الله علیه و آله من حیث المحتد ینحدر من أصل عربیّ ، منتمیا إلی أبرز القبائل وأفضلها ، وهی قریش . وکانت قبائل البادیة تعتبره منها ، فلم تشعر أ نَّه غریب علیها أو هی غریبة علیه ، وهذا ممّا ساعده علی أن یتقدّم باتّجاه إرساء دعائم المجتمع الموحّد

والمنظّم .

إنَّ مرحلیّة الدعوة الإسلامیّة ، حیث بدأ النبیّ صلی الله علیه و آله بدعوة عشیرته الأقربین إلی

ص: 152


1- « نهج البلاغة » الخطبة 192 .

التوحید

، ثمَّ دعا أهل مکّة ، وأعقبهم بدعوة قبائل یثرب والقبائل الأُخری فی أرجاء الجزیرة العربیّة ، تدلّ علی استثمار النبیّ صلی الله علیه و آلهفرصة وجود الحرّیّة .

وقد أکّد القرآن أیضا علی هذا الأمر ، فقال عزَّ من قائل : « لَقَدْ مَنَّ اللّه ُ عَلَی الْمُؤْمِنینَ اِذْ بَعَثَ فیهِمْ رَسُولاً مِنْ اَ نْفُسِهِمْ » (1) .

وعندما کان النبیّ صلی الله علیه و آله یخاطب العرب بقوله : یا قوم أو معاشر العرب ، أو أیّ عنوان آخر ، فإنَّه کان یشعرهم بهذا الانتماء مستثمرا رابطة الدم التی تربطه بهم ، فکان یأخذ بأیدیهم نحو اتّجاه واحد .

9 - کان الإسلام یمثّل الامتداد الطبیعی لحنیفیّة إبراهیم الخلیل علیه السلام . وقد أعلن النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله ذلک للعرب فقال لهم بأنَّ دینه هو الدین الأصلی لأسلاف العرب . وهو فی الحقیقة تجدید لنظام التوحید الذی کان مألوفا لدی قبائل الجزیرة العربیّة .

بدأ القرآن دعوته لقبائل العرب علی النحو الآتی فقال : « فَاص تَّبِعُوا مِلَّةَ اِبْرهیمَ حَنیفًا» (2) . وأکّد حیال معارضة الیهود علی قوله : « مَا کَانَ اِبْرهیمُ یَهُودِیًّا وَلاَ نَصْرَانِیًّا

وَلکِنْ کَانَ حَنِیفًا مُسْلِمًا » (3) . وفی آیة أُخری یلفت أنظار قریش وسائر القبائل العربیّة إلی هذه العلاقة بصراحة ، فیقول : « مِلَّةَ اَبیکُمْ اِبْرهیمَ هُوَ سَمّیکُمُ الْمُسْلِمینَ مِنْ قَبْلُ » (4) .

ونظرا إلی هذه العلاقة المتأصّلة بین العرب أنفسهم وبین الدین الإسلامی الحنیف ، فإنَّهم لم یشعروا بالغرابة ، بل کانوا یحملون شعورا مشترکا وفّر الأرضیّة لإقرار المجتمع الواحد بین القبائل جمیعها .

10 - استثمر النبیّ صلی الله علیه و آله هذه العوامل جمیعها ، بید أنَّ العامل الأساس فی إقرار حکومة قویّة ومجتمع سیاسی موحّد وأجهزة حکومیّة شاملة تحقّقت خلال مدّة وجیزة هو جذّابیّة الإسلام وانسجامه مع الفطرة ، وشمولیّة هذا الدین العظیم .

الإسلام لیس مسائل اعتقادیّة وطقوسا عبادیّة فحسب ، بل هو نظام سیاسی

ص: 153


1- آل عمران : 164 .
2- نفسها ، الآیة 95 .
3- نفسها ، الآیة 67 .
4- الحجّ : 78 .

واقتصادی وثقافی وعسکری ینسجم مع الفطرة والحیاة ، ویملأ الفراغ الفکری والعقائدی والاجتماعی فی حیاة الناس ، ویمنحهم الهدوء الحقیقی والحرّیّة - فیما کانوا یطمحون إلیه دائما - بشکل عمیق .

کان الإسلام ینقذهم من قلق الهجمات والاعتداءات المباغتة وإراقة الدماء ، ویجعل طاعة اللّه بدیلة عن طاعة جمیع الطواغیت . وقد عمل علی تنمیتهم وتصعید مستویاتهم من خلال روح التوحید ، وصبغة الحرّیّة ، ووسّع من دائرة الأُخوّة والوئام والصفاء إذ سادت هذه المفاهیم بین شتّی القبائل وعلاقاتها بعدما کانت تعیش فی نطاق القبیلة الواحدة .

إنَّ الکلام البسیط الذی أدلی به جعفر بن أبی طالب فی بلاط النجاشی ، وکان یحوم حول تعریف المبادئ الأساسیّة للتعالیم الإسلامیّة(1) یدلّ علی قدرة الإسلام -

بوصفه عقیدة ونظاما إلهیّا وإنسانیّا - علی کسب القلوب وضمّ بعضها إلی بعض فی أرجاء الجزیرة العربیّة .

یذکر مؤلّف کتاب « التاریخ السیاسی فی الإسلام » التأثیر السیاسی الذی ترکه الإسلام فی الوسط الاجتماعی ، وذلک بعد نقله آراء بعض المفکّرین الغربیّین بشأن القوّة

السحریّة العجیبة للآیات القرآنیّة ، وطبیعة الدین الذی یدعو الإنسان - لا إرادیّا - إلی الشجاعة والطهارة والصدق والأمانة وحمایة الضعفاء وعبادة اللّه الواحد . یقول هذا المؤلّف :

جمع الإسلام قبائل العرب تحت لوائه ، وألّف بین قلوبهم ، واستأصل العصبیّات الجاهلیّة ، وقضی علی الأحقاد والضغائن التی کانت موجودة عند القبائل منذ القدیم

. والکلّ أضحوا مطیعین للّه وتعالیمه القرآنیّة . وهکذا ظهرت حکومة مرکزیّة قویّة فی أرض الجزیرة العربیّة ، وانتظمت الأوضاع الداخلیّة لتلک البلاد(2) .

ولکن ینبغی أن لا ننسی بأنَّ تشکیل مجتمع سیاسی موحّد وقوی فی المدینة لم یکن میسورا فی السنین الأُولی من الهجرة النبویّة . وعلی الرغم من جمیع ما یتمتّع به الإسلام من

ص: 154


1- راجع : « الکامل » لابن الأثیر 2 : 54 - 55 ؛ و « فروغ أبدیّت » [ فارسی ] 1 : 225 .
2- « التاریخ السیاسی للإسلام » [ فارسی ] 1 : 196 .

جاذبیّة وأرضیّة مساعدة ، فإنَّ صنادید قریش الذین أبدوا مواجهة عنیفة ضدّ الإسلام ، لمّا رأوا أنَّ الخطر یهدّد سیادتهم المتوکّئة علی عبادة الأصنام ، من خلال طرح فکرة

التوحید ، سارعوا إلی إثارة المشاکل ووضع العراقیل الکثیرة فی طریق اتّساع الدین الإسلامی .

وکانت ثمرة الجهود التی بذلها النبیّ صلی الله علیه و آله فی مکّة لیلاً ونهارا علی امتداد عشر سنوات ، إعداد ثلّة من المسلمین الفقراء والمستضعفین الذین عاشوا فی ظروف قاسیة عسیرة .

إنَّ مقاومة العرب للإسلام الذی أکّد علیهم کثیرا أن یترکوا ما دأبوا علیه من عادات وسنن مذمومة ، وکذلک تعنّتهم فی عدم التمسّک بالقوانین السماویّة ، وأداء الواجبات

الاجتماعیّة التی تتعارض مع ما جبلوا علیه من روح بدویّة ، وما ألفوه من حیاة بسیطة

عادیّة ، کلّ أُولئک یمثل مشاکل أُخری کانت تعترض طریق النبیّ صلی الله علیه و آله .

وبالموازنة بین العادات والتقالید التی کانت سائدة فی العصر الجاهلی وبین العادات والتقالید فی العصر الإسلامی ، تطالعنا مسائل کانت تبطِّئ حرکة الإسلام بین القبائل

العربیّة ، وتشلّها عن المسیر أحیانا . علی سبیل المثال کانت القبائل البدویّة وکذلک

الحضریّة تلجأ إلی الأصنام عندما تضغطها عوادی الحیاة وخطوبها ، وکانت تستثمر هذا الانتماء والتعلّق ، بید أنَّ الإسلام کان یرید منها إطاعة اللّه عند المحن والشدائد ، وإذا کانت تلک العوادی والخطوب ممّا یمکن رفعها ، فینبغی تکریس کلّ الجهود لأجل ذلک . وإذا تعسّر رفعها فلابدَّ من التسلیم أمام القضاء الإلهی .

کذلک فإنَّ کثیرا من عرب البادیّة کانوا یطلبون حاجاتهم من الأصنام فیلجأون إلیها ، وإذا لم یبلغوا حاجاتهم کانوا یغضبون ، وربّما کانوا یکسرونها أو یرجمونها .

أمَّا فی الإسلام ، فلابدَّ لهم من الطاعة المطلقة للّه والرضا بقضائه ، وهذا ما لا ینسجم

مع روحیّاتهم .

وفیما یخصّ مقرّرات الحیاة أیضا فإنَّ الإسلام کان یؤکّد علی إیثار المصلحة العامّة علی المصلحة الشخصیّة والفئویّة ، وتجنّب الریاء والتفاخر والتعصّب . وکان یذمّ کثیرا من العادات والتقالید الجاهلیّة التی تطبّعوا علیها . فهذه المسائل کلّها یمکن أن تشکّل عقبة أمام العرب فی نزعتهم إلی الدین الجدید ، ومن ثمَّ فی الانضواء تحت لواء المجتمع الموحّد الجدید .

ص: 155

وحدث مرّة أنَّ أهل الطائف أرسلوا مبعوثا منهم إلی النبیّ صلی الله علیه و آله یعلن له استعدادهم لقبول الإسلام بشرط أن یترکوا أحرارا فی ممارسة الفساد والعادات الأُخری .

إنَّ الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله علی الرغم من جمیع العقبات والمصاعب ، استطاع أن یؤسّس حکومة قویّة واحدة بالتوکّؤ علی القیم والإیجابیّات والقواسم المشترکة ، وبانتهاج دبلوماسیّة ناشطة وفریدة من نوعها . وتمکّن من تطویع القبائل ورؤساء المجتمعات الصغیرة لتسیر فی رکابه ، وذلک من خلال التفاوض مع ممثّلی القبائل ، وعقد معاهدات

الصداقة مع صنادید العرب ، والمراسلات ، وإیفاد المندوبین ، وتهیئة الأجواء الجذّابة ، فاستطاع أن یرسی أوتاد الدولة الإسلامیّة الکبری التی اجتازت حدودها فی برهة زمنیّة قصیرة تقدّر بأقلّ من ربع قرن لتصل إلی أعماق أُوربا وضفاف المحیطات البعیدة ، وعلی حدّ قول ( جیورجیو ) فإنَّ 822 کیلو متر مربّع کانت تضاف إلی مساحة الدولة الإسلامیّة یومیّا بشکل متوسّط ، وذلک منذ السنة الأُولی حتّی السنة العاشرة للهجرة(1) .

وقد بلغ اتّساع الدولة الإسلامیّة المترامیة الأطراف حدّا انقسمت فیه إلی عشرات الدویلات الصغیرة والکبیرة بسبب عدم کفاءة السلاطین الأمویّین والعبّاسیّین وظلمهم ، وأصبح لکلّ منها حکومة مستقلّة ، مثل : ( البویهیّین ) فی فارس والری وأصفهان وغرب

إیران ، وحکومة ( محمّد بن إلیاس ) فی کرمان ، وحکومة ( الحمدانیّین ) فی الموصل ودیار بکر وشمال ما بین النهرین ، وحکومة ( محمّد بن طغج ) الملقّب بالإخشید فی مصر والشام ، وحکومة ( الفاطمیّین ) فی تونس والمغرب ، وحکومة ( عبد الرحمن الأمویّ ) فی الأندلس ، وحکومة ( أبو طاهر القرمطیّ ) فی الیمامة والبحرین ، وحکومة ( الدیلم ) فی طبرستان وجرجان ، وحکومة ( نصر السامانی ) فی خراسان ، وحکومة ( آل برید ) فی الأهواز وواسط والبصرة ، وظلّت حکومة بغداد بید السلاطین العبّاسیّین .

وشبّه المسعودیّ سلطة کلّ واحد من هؤلاء الأُمراء والحکّام علی جزء من الدولة الإسلامیّة الفسیحة بسلطة ملوک الطوائف علی ملک الإسکندر بعد موته(2) .

ص: 156


1- « محمّد نبیّ ینبغی أن یُعرَف من جدید » مترجم إلی الفارسیّة ، ص 410 .
2- « مروج الذهب » 1 : 306 .

المبحث السابع : المفهوم القانونی للدولة

تستعمل فی القانون الدولیّ والعلوم السیاسیّة - عادة - کلمة etat وقد ترجمت إلی الفارسیّة بمعنی دولة مرّة ، وحکومة مرّة أُخری ، وکلمة مرکّبة من الدولة والحکومة مرّة ثالثة .

وقد تخطّی البعض ذلک فزعم أنَّ کلمة etat تطلق فی الاصطلاح القانونی علی جمیع المعانی الاصطلاحیّة للدولة والحکومة ، والشعب أیضا .

ویبدو أنَّ الکتب القانونیّة باللغة الفارسیّة لم تراع الدقّة الکافیة فی ترجمة الاصطلاحات وترکیبها ، لذلک یلاحظ خلاف کثیر فی تقدیم تعریف دقیق وحتّی تفسیر مفهومی للدولة والحکومة . وعندما نعرض للحکومة فی إطار البحث ، فإنَّ الإشکال یتضاعف .

یری کثیر من علماء القانون أنَّ الدولة مفهوم مرکّب من أربعة عناصر هی : الأرض ، والشعب ، والسیادة ، والحکومة ، وأنَّ الحکومة هی أعلی سلطة منظّمة فیها ، ولمّا کانت السلطة العلیا المنظّمة مؤلّفة من عنصری السیادة والحکومة ، لذلک یری البعض أن الدولة

تتکوّن من الأرض والشعب والحکومة .

وربّما أدخلوا مفهوم الشعب فی معنی الحکومة وفسّروا الحکومة علی أ نَّها السلطة العلیا المنبثقة عن التنظیم السیاسی للشعب . وربّما جعلوا من هذا المعنی ، مع تغییر طفیف ، تعریفا للدولة فقالوا : الدولة هی الشعب المنظّم .

وفی ضوء هذا التفسیر فإنَّ التمییز بین الحکومة والدولة سیکون عسیرا ، ودقیقا علی الأقلّ .

ووفقا لتعریف الدولة علی أ نَّها الشعب المنظّم ، یری البعض أنَّ النطاق الجغرافی لا یدخل فی مفهوم الدولة ، وإنَّما هو فقط شرط لتحقّقها ، لأنَّ الشعب المنظّم لا یستطیع أن یعیش بدون نطاق جغرافی معیّن . کما أنَّ الإنسان یحتاج إلی المکان ، بید أنَّ المفهوم الفلسفی للمکان لا یدخل فی العناصر المکوّنة لجسم الإنسان .

وعلی أساس هذا التحلیل یمکن - بشکل أوضح - أن نفصل مفهوم النطاق الجغرافی عن معنی الدولة التی تمثّل السلطة المنظّمة ، وکذلک عن معنی الحکومة التی تمثّل الأجهزة

ص: 157

التنظیمیّة لسلطة الدولة .

ومن أجل التوفّر علی تحلیل دقیق لهذه المسألة ، نبدأ بذکر معنی الدولة باللغة الفارسیّة . فقد جاء فی معجم دهخدا فی معنی الدولة قوله : الدولة ( کِشْوَرْ ) تعنی الإقلیم الذی یمثّل قسما من الأقسام السبعة للمعمورة ، کما یقولون الدولة الأُولی ، والدولة الثانیة یعنون الإقلیم الأوّل والإقلیم الثانی ، بعد ذلک یأتی بمعان أُخری لها فیجعلها مرادفة

للموطن ، ومسقط الرأس ، والوطن ، ومحلّ السکن ، ویقول فی ختام کلامه : والدولة فی

الاصطلاح المعاصر هی البقعة الخاضعة لحکومة ونظام خاصّ ، ولها حدود معیّنة ، وعاصمة محدّدة ، ومدن وقصبات مختلفة ، وتربطها بالدول الأُخری علاقات سیاسیّة منتظمة .

ویقول فی معنی الوطن ( مِیْهَنْ ) : هو الوطن ، والمسکن ، ومحلّ الإقامة ، ومسقط الرأس ، والموطن . وعند المقارنة بین الاصطلاحین ، یقول دهخدا : نصل إلی هذه النقطة

وهی أنَّ لکلمة الدولة مفهوم الإضافة(1) ، أی فیها نوع من النسبة ، إذ لا یمکن تصوّر الدولة بنحو تامّ ما لم یکن هناک تصوّر لمعنی الحکومة والأجهزة السیاسیّة والسلطة العلیا

، بید أنَّ الوطن مفهوم مجرّد یستطیع کلّ إنسان أن یقیم فیه ویتّخذه سکنا دون الحاجة إلی حکومة

، فیکون له موطنا . وهذا هو ما یطلقون علیه اسم : الوطن .

وما یرادف معنی الدولة ( کِشْوَرْ ) فی اللغة العربیّة : المملکة ، وهی تطلق علی الأرض

التی علیها مُلک . أی الأرض التی علیها حکومة تدیر شؤونها . وتطلق المملکة - خطأ -

هذا الیوم علی الدولة التی یحکمها نظام ملکیّ ، وتدعی الدول التی یحکمها الأُمراء :

الإمارات .

ثمّة تعابیر أُخری نحو : البلد ، والوطن ، والقطر وأمثالها تبیّن لنا أنَّ أرضا بصفة خاصّة

تطلق علیها هذه الکلمات .

وما کان یقال فی اللغة الیونانیّة هو کلمة ( Polis ) التی تشیر إلی المعنی الأصلی للمدینة . وکان للشعب مفهوم المواطن ، وتطلق کلمة ( بولیس ) علی أرض محدّدة لها قانون

ص: 158


1- وهی المقولة الرابعة من مقولات أرسطو . وهی نسبة بین شیئین بحیث لا یُعقَل وجود أحدهما إلاّ مع وجود الآخر کالأُبوّة والبنوّة . نقلاً عن « المنجد الطبعة » 26 ، ص 946 .

وحکومة قانونیّة .

وکان الروم یستعملون کلمة Cirvitas . واختار ماکیافلی کلمة Stato ، واختار بدن Republique وفقا لآرائهما فی مجال الحکومة والسیادة .

وتستعمل کلمة Etat فی اللغة الفرنسیّة

، وکلمة State فی اللغة الإنجلیزیّة للإشارة إلی معنی الدولة . وبسبب الاستعمال الکثیر لهاتین الکلمتین فی معنی الدولة ، نشأ التردید فی إطلاقهما علی الأرض التی تدیرها الحکومة والأجهزة السیاسیّة .

علی سبیل المثال ، عندما نقول : أب أو زوجة ، فلابدَّ أن تکون هناک حقیقة علی أرض الواقع وهی أنَّ رجلاً قد تزوّج امرأة فأولدها ، أو أ نَّنا علی الأقل نفرض هذه

الحقیقة ، وعند ذاک نطلق علی العضو المذکّر فی هذه الأُسرة : الأب ، وعلی العضو المؤنّث : الزوجة أو الأُمّ . فلا یمکن أبدا أن نتصوّر مفهوم الأب بدون الأخذ بعین الاعتبار علاقة

الزوجیّة والبنوّة ، کما لا یمکن أن نتصوّر زوجیّة المرأة بدون الالتفات إلی أصل الزواج وما یتّصف به الرجل فی هذا المجال . بینما نستطیع أن نتصوّر مفهوم الإنسان بدون الأخذ بعین

الاعتبار مفهوما آخر .

ویطلق علی معانی النوع الأوّل فی الاصطلاح الفلسفی مفهوم : النسبیّة ، والإضافة ، والحرفیّة ، والترابطیّة ، وعلی معانی النوع الثانی مفهوم : الاستقلالیّة ، والاسمیّة . ففی مفهوم النسبیّة والإضافة مثل : الأب ، والأُمّ ، والابن ، هناک معنی مشترک فی جمیع الکلمات ، إذ إنَّ کلّ کلمة - فی الحقیقة - تدلّ علی بُعد خاصّ لذلک المعنی المشترک . فمرّة یلاحظ المعنی فی وجود الرجل ، فیطلق علیه : الأب ، وأُخری فی وجود المرأة ، فیطلق علیها : الأُمّ ، وثالثة فی وجود الطفل ، فیطلق علیه : الولد .

ویبدو أنَّ الدولة والشعب والحکومة ، هی مفاهیم إضافیّة أیضا من وحی ما تقدّم ، أی أ نَّه متی ما أصبح لشعب ما تکوین سیاسی علی أرض معیّنة ، وانبثق عن ذلک التکوین

سیادة وسلطة علیا ، وظهرت أنظمة وأجهزة سیاسیّة ، ومورست السلطة العلیا من قبل المؤسّسات والدوائر الأساسیّة التابعة لتلک الأجهزة ، ففی مثل هذه الفرضیّة ، یتّخذ کلّ عنصر من هذه العناصر طابع النسبیّة والإضافة ، وبالنظر إلی المجموع ، یمکن تصوّر هذه

الحقیقة وعناصر أُخری .

ص: 159

من هذا المنطلق ، عندما ننظر إلی عنصر الأرض فی هذه المجموعة ، فإنَّنا نعبّر عنها

: الدولة . ومع ملاحظة عنصر السکّان ، فإنّنا نطلق عنوان الشعب الإضافی . وکذلک عندما

ننظر إلی عنصر السلطة العلیا ، فإنّنا نسمّیه : الحکومة مع ملاحظة البنی التی تتوکّأ علیها الحکومة . بید أنَّ کلّ واحدة من هذه الکلمات لا تخلو من الترابط فیما بینها . فلیست کلّ أرض ووطن ، دولة . بل إنَّ تعبیر الدولة یطلق علی الأرض والوطن الذی أصبح لشعبه تکوین سیاسی تمخّضت عنه سلطة علیا ، واستطاع ذلک الشعب أن یرسی دعائم التشکیلات السیاسیّة ، وأصبحت له سلطات ومؤسّسات ودوائر حکومیّة . وکذلک الشعب فإنَّه لا یطلق علی کلّ تجمّع سکّانی ، بل یطلق علی ذلک التجمّع الذی یتمتّع بسلطة

سیاسیّة وسیادة مشترکة ، وله حکومة تدیر شؤونه .

وهکذا فإنَّ مفردات مثل الوطن ، ومحلّ الإقامة ، والأرض ، وأمثالها لها مفاهیم مستقلّة ومجرّدة عن المعانی المتقدّمة ، کالتکوین السیاسی للشعب ، وظهور السلطة السیاسیّة المتنفّذة والأجهزة الحکومیّة .

بید أنَّ مفردة الدولة تستوعب جمیع تلک المعانی ، وفی نفس الوقت فإنَّها تطلق علی الوطن ، والأرض ، والنطاق الجغرافی . ویمکن تصوّرها بالقیاس إلی مفردات : الشعب ، والحکومة وغیرهما .

فی ضوء ذلک فإنَّ علاقة الدولة بالأرض والنطاق الجغرافی هی لیست فی حکم العلاقة بین الإنسان والمکان ، بل هی فی حکم العلاقة بین الأب والأُمّ والولد . فتصوّر الدولة بدون أرض هو کتصوّر الأب والولد بدون امرأة فی الأُسرة .

لهذا السبب نجد أنَّ أیّ لون من ألوان التبدّل الطارئ علی الأرض من حیث الاتّساع أو الانفصال یترک أثره بنفس الحجم علی المعنی الخارجی للشعب والدولة والسیادة والحکومة . کما مرّ بنا فی المثال المتقدّم تماما ، فعندما یولد الولد الثانی والثالث أو یموت أحد الأبناء فإنَّ کیان الأُسرة لا یتصدّع . بید أنَّ أُبوّة الأب وأُمومة الأُمّ وبنوّة الولد الأوّل أو بقیّة الأولاد معرّضة إلی التبدّل والتغیّر علی صعید المفهوم . فربّ الأُسرة الآن هو أب لولدین ، أو أب لمن بقی حیّا من الأولاد .

فی البلدان الفیدرالیّة أو بلدان الدومینیون ، تسود فی الدولة نفس الحالة التی تسود فی

ص: 160

الحکومة

، وتتوزّع السیادة المستقلّة للدولة بنفس النسبة فی مثل هذه الحالات .

یتوکّأ بعض المختصّین فی القول بعدم ارتباط الأرض بمفهوم الدولة علی مسألة إطلاق الدولة علی القوم الرحّل ، ویقولون بأنَّ الجهاز الحاکم بین هؤلاء القوم یمکن أن یتمتّع

بصلاحیّة دولیّة .

یبدو أنَّ منح الصلاحیّة الدولیّة یتحقّق علی أساس أمر مفروض ، حیث إنَّ هؤلاء القوم الرحّل یمکن أن یتنقّلوا فی نطاق واسع من الأرض . لأ نَّنا إذا اعتبرنا هذا الفرض

المسبق منتفیا فلا یعد هناک مفهوم معقول للتمتّع بالصلاحیّة الدولیّة .

کما أنَّ صغر الأرض وکبرها لیس له تلک العلاقة الملحوظة بأصل المسألة ، ووجود بلدان أراضیها محدودة للغایة لا یمکن أن یشکّل دلیلاً مقبولاً فی إلغاء عنصر الأرض .

إنَّ مشروع الأرض المتحرّکة الذی کان فی برهة قصیرة أُطروحة المنظّرین السوفییت ومؤامرة هتلر وأدمغة الرایخ الثالث ذات التوجّهات التوسّعیّة - ویقال الیوم أیضا إنَّ

إسرائیل تتمسّک به - خارج عن القیود القانونیّة ، ویمثّل فی الحقیقة شعارا هدفه الأخیر

تحقیق البلد الأکبر المنشود .

وتدخل الحدود العقیدیّة فی هذا الموضوع أیضا ولها طابع الشعارات . وعندما تکون الأرض فی داخل المعاهدة ، وتقبل الحدود علی أساس المعاهدات والالتزامات الثنائیّة أو

المتعدّدة الجوانب ، فإنَّها - تلقائیّا - ستجد لها أثرا قانونیّا ، وستترک بصماتها فی ممارسة السیادة وصلاحیّة الحکومات .

من هذا المنطلق فإنَّ خرق سیادة الأراضی فی کلّ دولة یستلزم خرق الاستقلال وسیادة الحکومة ، ویعتبر بمثابة تقسیم البلاد .

یتصوّر البعض أنَّ تشکیل الحکومة فی المنفی ، وحتّی تنظیم السلطة العلیا للشعب خارج النطاق الجغرافی للدولة یعنی تحقّق السیادة والحکومة بدون أرض ، بینما الواقع علی عکس ذلک . فالحکومة المشکّلة فی المنفی ، أین تمارس سیادتها وسلطتها العلیا ، وأین

تکون مؤسّساتها وأجهزتها ؟ لا ریب أنَّ سیادة الحکومة التی شکّلها شارل دیغول فی المنفی

کانت علی أرض فرنسا . وأنَّ الصلاحیّات الحکومیّة العلیا التی مارسها الإمام الخمینی قائد الثورة الإسلامیّة فی إیران خلال إقامته فی إحدی ضواحی باریس کانت تجری علی أرض

ص:161

إیران

.

إنَّ الاعتراف بدول مثل : بولندا وألبانیا بعد الحرب العالمیّة الأُولی وقبل التخطیط النهائی لحدودهما الجغرافیّة ، ووجود البلدان القدیمة التی کانت بلا حدود ، وممارسة

الصلاحیّة الدولیّة من قبل بلد یحتلّ العدوّ أرضه کلّها ، هذه من المسائل التی یُستدل بها علی نفی عنصر الأرض من المفهوم القانونی للدولة ، فی حین نلاحظ وجود نطاق جغرافی فی

تلک الحالات جمیعها ، بید أنَّ الحدود فی بعضها لم تخطّط بدقّة ، وفی بعضها الآخر لم تتحقّق عملیّا .

إنَّ هذا الاستدلال فی الحقیقة هو بحکم ذهابنا إلی أنَّ عدم مشارکة عدد من المواطنین فی صنع القرارات العامّة وجمع الأصوات لتحدید الکیفیّة التی تمارس فیها السیادة الوطنیّة

یعتبر ناقضا لمبدأ السیادة وحاجزا دون تحقّق الحکومة .

یمکن فی بعض الحالات أن لا یتحقّق النطاق الجغرافی بصورة تامّة کما فی سیادة الشعب ، ولکن هذا لا یعنی أ نَّه لا یتحقّق ، وإلاّ یمکن التشکیک بمبدأ السیادة الوطنیّة

وسلطة الحکومة بسبب عدم تحقّقها فی نطاق جغرافی ما وذلک عند احتلال بلد من قبل قوّات العدوّ .

إنَّ دور الأرض فی مفهوم الحکومة لا یعنی أنَّ تعتبر الأرض موضوعیّا کالمال الذی هو موضوع الملکیّة ، والسلطة کملکیّة الأرض فی حدود الأرض نفسها وآثارها القانونیّة .

إذ إنَّ هذه النظریّة فی الوقت الذی تخلط فیه قضایا القانون الخاصّ والقانون العامّ فإنَّها

تحدّ من سلطات الحکومة وتسیء إلی الشخصیّة القانونیّة للحکومة ، بل یتجلّی دور الأرض فی تحقیق سیادة الحکومة وممارسة صلاحیّاتها ، وتحقیق عنوان الدولة .

بعبارة أُخری ، أنَّ الأرض تحدّد الإطار المادّی للسلطة السیاسیّة والسیادة فی داخل الحدود ، والإطار المادّی لاستقلالها فی خارج الحدود ، کما أنَّ الإرادة العامّة للشعب

وأصواته هی التی تحدّد الإطار المعنوی لسلطات الحکومة .

ویمکن القول فی الحقیقة إنَّ علاقة الأرض بالدولة والحکومة لها نمطان متباینان .

فالأرض نوعا ما هی موضوع الدولة ، بید أنَّ العنصر المادّی المحدّد للنطاق هو سلطة الحکومة وسیادتها .

ص: 162

کما أنَّ السیادة والسلطة العلیا أیضا فی الوقت الذی تمثّل فیه موضوع الحکومة ، فإنَّها تبیّن العنصر المعنوی للدولة .

ص: 163

الفصل الثانی: عناصر الدولة

المبحث الأوّل : الجماعة - الشعب - الأُمَّة

اشارة

یعتبر الشعب من أهمّ العناصر المکوّنة للدولة ، مهما کان تعریفها . والشعب عبارة عن جماعة من الناس تربطهم أواصر مادّیّة ومعنویّة تشدّهم إلی حیاة مشترکة علی أرض معیّنة . بکلمة بدیلة ، یطلق الشعب علی جماعة تعیش نوعا من العلاقات السیاسیّة والقانونیّة ( المادّیّة والمعنویّة ) فی نظام واحد .

وهذه العلاقات السیاسیّة تربط الشعب بالحکومة من الناحیّة السیاسیّة ، وتشکّل أساس الجنسیّة(1) من الناحیّة القانونیّة .

وفی ضوء الصبغة السیاسیّة لتلک العلاقات ، تُخوّل الحکومة صلاحیّة تعیین الحدود الخاصّة بالجنسیّة ومواصفاتها ، وتخرج هذه الصلاحیّة عن نطاق الصلاحیّات الفردیّة

. وهکذا فإنَّ الحکومة تتمتّع بحرّیّة تامّة فی فرض جنسیّتها علی شخص أو عدد من الأشخاص ، واعتبار المتقدّم للتجنّس بجنسیّتها أحد أفراد شعبها .

بید أ نَّه لمّا کان تخویل الحکومة مثل هذا الحقّ اللا محدود متضمّنا مفاسد جمّة وأضرارا قانونیّة ، فإنَّ الحقّ المذکور ینحصر من الناحیة القانونیّة بأحد الأساسین ( الدم )

ص: 164


1- راجع کتابی : « حقوق الأقلیّات » ص 25 ؛ وکتابی الآخر « الرکائز الأصیلة للمواطنة » ص 97 . [ کلاهما باللغة الفارسیّة ] .

أو ( الأرض ) ، وأصبح هذان الأساسان هما الملاک فی عمل الحکومات .

إنّنا فی هذا الموضوع نستعرض أوّلاً ( مفهوم القومیّة ) کما جاء فی نظریّات علماء القانون ، ثمَّ نناقش الآراء المتنوّعة التی طرحت فی مجال العناصر التی تؤلّف مفهوم القومیّة ، یتلو ذلک حدیث عن موضوع القومیّة من منظار القانون الإسلامی .

وفقا للتعریف المطروح للقومیّة ، فإنَّها رابطة قانونیّة وسیاسیّة تنبع من مبدأ السیادة والسلطة السیاسیّة للحکومة .

إنَّ الإمعان فی هذا التعریف یدلّنا جیّدا أنَّ الفرز بین سلطة الحکومة وبین شخصیّة الإنسان کان أساس هذا التعریف ، فی حین أنَّ علم القانون ، فی بحثه المتعلّق بالحکومة ، یعتبر سلطة الحکومة وشخصیّتها القانونیّة منبثقة عن قدرة الفرد وإرادته وحرّیّته فی تقریر مصیره .

فی ضوء ذلک ، فإنَّ جعل شخصیّة الحکومة وحرّیّتها المطلقة هی الأساس - بالمعنی الذی یفیده علم القانون - کما ینبغی الخوض فیه مفصّلاً عند الحدیث عن الحکومة - وفرض إرادتها علی الفرد ، أمر مجحف ومرفوض . کما أنَّ جعل رباط القومیّة رباطا تلقائیّا

لا إرادیّا مفروضا خرق لمبدأ حرّیّة الفرد فی تقریر مصیره .

ولمّا کانت القومیّة متقدّمة علی الحکومة من حیث أصالة التکوین ، فإنَّ فرض القومیّة قسرا ، ومصادرة هذا الحقّ الطبیعی من الشخص لا ینسجم مع مبدأ حرّیّة الفرد ، والمحافظة علی هذا الحقّ تستدعی أن یبقی حقّ اختیار القومیّة محفوظا له دائما .

إنَّ الاجتماع والتعایش والتضامن بشکل منظّم ، کلّ هذه الأشیاء هی فی الحقیقة ناتجة عن عقد بین الناس . والفرد هو الموجد لهذه الحالة ، وهذا العقد لا یمکن أن یکون خارجا

عن إرادة الفرد واختیاره . إذَن ، فإنَّ رابطة القومیّة سوف تنبعث دائما عن ( متطلّبات الحیاة الجماعیّة ) .

عناصر القومیّة

ثمة آراء متنوّعة بشأن عناصر القومیّة ، ویمکن أن نذکر منها : العنصر ، ووحدة اللغة

، ووحدة التاریخ ، ووحدة الأرض ، والدم .

ص: 165

إنَّ الرابطة التی تنبثق عن هذه العناصر تؤلّف جماعة یطلق علیها علم القانون اسم : الشعب . ثمَّ تشکّل هیئة عن طریق الشعب وقدرته ، یُطلق علیها اسم : الحکومة .

ولکن من غیر المعلوم أنَّ الجماعة التی لها عقائد مختلفة وأُسس فکریّة متباینة ، ومن ثمَّ ، مصالحها وطموحاتها وطلباتها متفاوتة ، وأحیانا متضاربة ، کیف یمکنها أن تشکّل

شعبا ، وتشیّد اجتماعها علی أساس التعایش والحیاة الأفضل ؟

وهل یمکن إقرار الانسجام والتضامن الذی یشکّل ضرورة لمجتمع منظّم مع وجود الخلافات الفکریّة والعقائدیّة ؟ وهل یمکن أن تنبثق حکومة عن قدرة مثل هذا المجتمع

وإرادته لتنظیم الحیاة الاجتماعیّة ، حتّی لو کان ذلک المجتمع متمتّعا بکافّة العناصر

المذکورة ؟ صحیح أنَّ العناصر المذکورة تعتبر عاملاً للتجمّع ، لکنّها غیر قادرة وحدها أن تکوّن شعبا واحدا أبدا . وما لم تتّحد الروابط اللا إرادیّة المذکورة مع الرابطة الإرادیّة ، وما لم یکن للجماعة المشکّلة من تلک العناصر مبدأ وعقیدة ونظام واحد ، فسوف لن یکون هناک شعب منظّم ومجتمع قویّ .

إنَّ تشکیل شعب منظّم وثابت ومتعاون لن یتحقّق إلاّ عن طریق وحدة العقیدة والهدف .

ولا یمکن أن نعتبر جماعة ما شعبا واحدا إلاّ إذا کان جمیع أفرادها قد اختاروا لأنفسهم - بکامل حرّیّتهم - شرکاء فی الحیاة الاجتماعیّة ، فاتّفقوا فی منهج الحیاة والنظم الاجتماعی والعقیدة .

ولو سادت مثل هذه الرابطة المعنویّة والاختیاریّة فی مجتمع ، فلا تعد هناک حاجة إلی وجود العناصر والروابط اللا إرادیّة ، وسیتمکّن أفراد ذلک المجتمع من تنظیم حیاتهم الجماعیّة ، والانقیاد لنظام معیّن قد انبثق عن عقیدة وهدف واحد ، وتحقیق أعلی نمط

للتعایش فی مجتمعهم ، علی الرغم من الاختلافات الموجودة علی صعید العنصر واللغة والدم والأرض .

إنَّ هذا الموضوع واضح تماما من منظار العقل والبرهان ؛ لأنَّ العنصر ، والأرض ، والدم ، واللغة ؛ کلّ هذه المفردات لا تشکّل مقوّما لحیاة الإنسان . ففکره وعقیدته هی التی تحدّد مسیرة حیاته . ولا تکون الحیاة حرّة وخلیقة بالإنسان الحرّ إلاّ إذا کانت مرتکزة

ص: 166

علی أساس عقیدته وتعقّله .

إذَن

، ینبغی القول إنَّه لیست العناصر اللا إرادیّة والمادّیّة وحدها عاجزة عن ضمان الوحدة الاجتماعیّة وتشکیل أساس « القومیّة » ، بل إنَّ الاتّحاد فی الخطّ والعقیدة عندما ینشئ شعبا منظّما ومتّحدا ، فإنَّ زوال الاختلافات علی صعید العنصر ، واللغة ، والأرض ، والدم سوف لن یکون أمرا لا مناص منه .

إنَّ نظریّة ( القومیّة علی أساس العنصر ) التی تحمل طابع ( الاستعلاء العرقی ) أیضا ، طرحت لأوّل مرّة فی منتصف القرن التاسع عشر من قبل ( غوبینو ) ، وبعد برهة قصیرة أصبحت رکیزة لسیاسة العنف التوسّعیّة التی انتهجها موسولینی وهتلر ، وکانت أحد الأسباب الرئیسة فی الحربین العالمیّتین إذ دمّرت العالم . وبثّ الألمان هذه النظریّة

اللا إنسانیّة بغیة تحقیق دعاواهم علی صعید الأرض والسیاسة .

وبغضّ النظر عن أنَّ مسألة العنصر نظریّة سیاسیّة بحتة لیس لها أیّ قیمة علمیّة وتاریخیّة ، وهی « ولیدة السیاسة » ، إلاّ أ نَّها خطرة ومدانة أیضا من حیث بعدها التوسّعی والانتهاکی . وأکبر دلیل علی ذلک هو التجربة المرّة التی شهدها العالم - خلال تطبیق هذه النظریّة - وعانی من آثارها المأساویّة المشؤومة إذ عاش تلک الحروب القاسیة المدمّرة .

یضاف إلی ذلک فإنَّ النظریّة العنصریّة معرّضة للنقد أیضا من حیث إنَّها عاجزة تماما عن تکوین شعب متمیّز علی أساس عنصر ممتاز ، علی الرغم من وجود الامتزاج العنصری المستمرّ الذی ظهر علی مرّ التاریخ - وعلی فرض صحّة النظریّة العنصریّة - ولا

یمکن أن یتحقّق وجود عنصر خالص فی أیّ بلد ، ولأیّ واحد من العناصر الأصلیّة التی اختلقها دعاة ( الأُسطورة العنصریّة ) .

والمشکلة الأهمّ فی النظریّة العنصریّة هی التمییز القانونی الذی یؤسف لوجوده مع جمیع ما یحمله من مفاسد وتبعات غیر إنسانیّة . وما فتأ هذا التمییز یؤدّی دورا مهمّا فی قوانین الدول الکبری فی العالم المتحضّر . وهو بلا شکّ وصمة عار کبیرة علی جبین الحضارة البشریّة . وما زال الزواج محظورا بین البیض والسود فی جنوب إفریقیة . ولا

یحمل مثل هذا الزواج طابعا قانونیّا .

فی سنة 1962م لأوّل مرّة ، عندما تزوّج رجل أسود یبلغ من العمر 28 سنة من فتاة

ص: 167

بیضاء عمرها 22 سنة ، فقد حوکما بتهمة الفسق حسب هذا القانون . ووفقا لهذا التمییز المخزی فإنَّ البنت السوداء التی تولد فی أُسرة بیضاء یمکنها فقط أن تعمل خدّامة فی ذلک البیت .

ولا یحقّ للسود فی جنوب إفریقیة أن یتملّکوا بیوتا فی الأحیاء التی تضمّ دورا حدیثة الإنشاء ، کما لا یحقّ لهم الاستفادة من الباصات والمساطب والمتنزّهات والمرافق

الصحّیّة والمطاعم العائدة للبیض . ولا یحقّ لهم عند مراجعة دائرة البرید شراء الطوابع من الشبّاک الخاصّ بهم ، وإذا ما أرادوا السفر فعلیهم أن یستأذنوا البیض . ولا یحقّ لهم تغییر عملهم وحرفتهم . ویمنعون من التجوّل فی الشوارع لیلاً الساعة الحادیة عشرة .

یقول الکاتب الأمیرکی الکبیر ( هاری هاریود ) فی کتابه : « حرّیّة الزنوج » :

«

صحیح أنَّ الرقّ قد امّحی بالصورة التی کانت متداولة فی القرون الوسطی ، إلاّ أ نَّه ما زال قائما فی نظامنا الاجتماعی [ أمیرکا ] علی شکل طبقی . وینصبّ الاهتمام علی بقاء السود فی مستوی واطئ » .

ویمکن أن نشرح وضع السود فی الولایات المتّحدة بعد الحرب العالمیّة الثانیة متطرّقین إلی تنفیذ القوانین المحلیّة الخاصّة التی تطبّق فی کثیر من الولایات ، مع التغاضی عن أنَّ هذا الانتهاک وهذا الضغط الذی یواجهونه هو جزء من سیاسة الحکومة . وفیما یأتی بعض القوانین المطبّقة فی ولایة المسسیبّی کمثال علی ما نقول :

تقول المادّة 207 من الفصل الثامن من قانون التربیة والتعلیم : « یجب عزل الطلاّب السود عن البیض ، ویدرس کلّ منهم فی مدرسة خاصّة به » .

وتقول المادّة 263 من الفصل الرابع من القوانین العامّة : « یعتبر زواج الأبیض من الأسود الخالص أو الهجین ، أو أیّ شخص امتزج دم الزنجی بدمه بنحو من الأنحاء عملاً

منافیا للقانون !! » .

ومن أعجب القوانین فی الولایة المذکورة ، هو القانون الآتی : « کلّ من قام بتوزیع مجلّة تدعو الناس إلی إقرار المساواة الاجتماعیّة ، وتنادی بحرّیّة الزواج بین البیض والسود ، أو تدافع عن هذه النظریّة دفاعا مقرونا بالدلیل ، أو تحمل اقتراحات فی هذا المضمار ، فإنَّ عمله هذا یعتبر جریمة ، ویحکم علیه بدفع غرامة مالیّة قدرها خمسمائة دولار کحدّ أعلی ،

ص: 168

أو بالسجن لمدّة ستّة أشهر کحدّ أعلی ، أو بکلا العقوبتین !! » .

وانتبهوا هنا أیضا إلی هذا الخبر المأساوی المروّع : فی الستّین سنة الأخیرة ، کان یقتل فی کلّ سنة زهاء 120 شخصا من الزنوج عملاً بالسنّة المخزیة المشینة ( لینج ) فی أمیرکا . و ( لینج ) نوع من مذابح الزنوج التی تدعم فی ظلّ السنن والقوانین الخاطئة ...

.

یعیش الزنوج غالبا فی أحیاء وضیعة غیر مناسبة ، محرومین من القواعد الأوّلیّة للصحّة وسلامة البیئة . وکلّ طفل زنجی یولد الیوم فی أمیرکا هو أقلّ حظّا من طفل أبیض فی مواصلة الدراسة حتّی بلوغ المرحلة الإعدادیّة . وتتضاءل النسبة فی الالتحاق بالجامعة

أو العمل کمتخصّص فنّی ، بینما یتضاعف حظّه من البطالة .

یحظی هذا الخبر بأهمیّة خاصّة لأنَّ ( جون کندی ) أحد الرؤساء السابقین للولایات المتّحدة قدّمه إلی الکونغرس الأمیرکی سنة 1963م کحقیقة من الحقائق .

وکذلک بناء علی ما أفادته الصحف ، فإنَّ الکتب الکلاسیکیّة الخاصّة بالزنوج توضع علی الرفوف معزولة فی مکتبات أمیرکا المتحضّرة .

ولا یحقّ للزنجی أن یدخل إلی فناء المکتبة من باب یدخل منه الأبیض . ألیست هذه الآثار المخزیة للکبریاء والعنصریّة الذی یمارس بحقّ السود والصفر والحمر فی ربوع العالم

المتحضّر - وما برحت ظلال سیاسته اللا إنسانیّة المشؤومة المشینة تلوح علی مفرق الحضارة الإنسانیّة - أدلّة صارخة لا تنکر علی فساد الأُسس الفکریّة للحضارة الغربیّة

وإدانتها ؟

ألا تعتبر المظاهر الصفیقة لهذا اللون من الکبریاء دلیلاً حیّا علی إدانة النظریّة العنصریّة ، وکشف القناع عن وجهها اللا إنسانی الحقیقی ، بأیّ شکل کانت ؟

ألا یمکن أن تشکّل هذه الحقائق المرّة جوابا دامغا لمن یتستّر علی وجه هذا النظام اللا إنسانی بأقنعة برّاقة خادعة عن طریق التسویفات السوفسطائیّة السقیمة . ویعتبره

مشروعا ومفیدا ؟

وعندما یحوم الحدیث حول الأُسطورة العنصریّة فی بعض الکتب القانونیّة . فإنَّ المدهش هو توجیه هذا الأُسلوب الجائر الذی تمارسه بعض الدول الکبری التی تدعم ( النظام العنصری ) وذلک علی النحو الآتی :

ص: 169

«

للنظام العنصری بعدان : أحدهما دفاعی ، والآخر هجومی وتوسّعی . ومسألة العنصر من حیث البُعد الأوّل تتجلّی فی وجوب المحافظة علی أصالة الشعب صونا له من الامتزاج بالعناصر الأُخری ، لأنَّ عددا غفیرا من الأجانب المتجنّسین یشکّلون مصدر

خطر علی الحکومة ، بلا أدنی شکّ .

وقد استغلّت الحکومة الأمیرکیّة - المصمّمة علی تجنیس البیض فحسب بالجنسیّة الأمیرکیّة - البُعد الدفاعی للنظریّة العنصریّة !! » .

بینما لو تغافلنا عن جمیع تلک التبعات المشؤومة ، وألوان الظلم ، والجرائم الناتجة عن قبول النظام العنصری ، فلا یخالجنا الشکّ أ نَّنا لا یمکن أبدا أن نتغافل عن الخطر الذی یهدّد العالم من جرّاء ردود الفعل النفسیّة للعناصر والسلالات المحرومة ، ونعتبر الانفجار العظیم الناتج عن تراکم الغضب لدی العنصر المحروم شیئا تافها .

یتمثّل تفسیر ( مسألة القومیّة ) علی أساس نظریّة الدم فی أنَّ الطفل یکتسب جنسیّة أبویه منذ لحظة ولادته ، وتنتقل إلیه الجنسیّة عن طریق النسب لا إرادیّا .

لیس للقومیّة علی أساس ( وحدة الدم ) أیّة علاقة ملازمة مع مسألة العنصر . ویمکن أن تکون القومیّة التی یحصل علیها الطفل عن طریق النسب علی خلاف سلالة الطفل وسلالة أبویه . وهذا الفرض یتحقّق عندما لا تتطابق قومیّة الأبوین مع السلالة التی

ینحدران منها .

یقول أنصار نظریّة الدم :

«

إنَّ تطبیق نظریّة الدم یعتبر أفضل وسیلة لحفظ أصالة السلالة من التأثّر بالسلالات الأُخری ، ومن ثمَّ فإنَّها تضمن حبّ الوطن . فالإنسان کائن بیئی یعیش فی بیئته

. وهو صنیع المناخ والتربیة . وقد امتزج حبّ الوطن بدمه ، وسری هذا الحبّ إلی أطفاله

. وکذلک فإنَّ البلدان ذات المساحة الصغیرة بالقیاس إلی عدد السکّان ، تستطیع من خلال تطبیق

نظریّة الدم أن تعتبر سکّانها أ نَّی کانوا فی عداد أتباعها » .

ولکی یسوّغ هذا الکلام ینبغی أن نضیف إلیه أنَّ الدم هو المحور ، وأ نَّه یحمل جمیع الآثار التی تترکها العوامل الطبیعیّة علی الأشخاص ( الأبوین ) ، وتنتقل مجموعة هذه

الآثار التی تمثّل المعلم البارز لشخصیّة ذلک الشعب ، والضامن لوحدته ، إلی الأولاد عن

ص: 170

طریق الدم ، وتربط الولد بأبویه برباط وطنی .

هذا التسویغ وإن کان یجیب علی کثیر من المؤاخذات الموجّهة إلی نظریّة ( أصالة الدم ) ، بید أ نَّه فی الوقت نفسه لا یمکن أن یحمل جوابا منطقیّا عن المؤاخذات الأُخری .

إذ إنَّ من الواضح جدّا أنَّ انتقال الجنسیّة عن طریق الدم یمکن أن یکون صحیحا فیما إذا اعتبرنا الوحدة الوطنیّة مجموعة من الظروف المادّیّة والآثار الطبیعیّة للبیئة

، حتّی ینقل الدم المجموعة المذکورة إلی الطفل . وفی غیر هذه الحالة فإنَّ الدم لا یمکن أن یعتبر ضامنا للوحدة الوطنیّة بین الأبوین والولد .

وکما أشرنا فیما سبق ، وسیأتی تفصیله فی البحث القادم ، فإنَّ نظریّة الوحدة القومیّة علی أساس العوامل المادّیّة غیر صائبة تماما ، ومغایرة للعقل والمنطق والعلم ، وأقلّ ما تتمخّض به هو تکبیل شخصیّة الإنسان بطوق المادّة والبیئة .

والمؤاخذة الأُخری التی یمکن أن نسجّلها علی النظریّة المتقدّمة هی أ نَّه لمّا کانت نظریّة الدم قد أُقیمت علی أساس نظریّة فرض القومیّة ، وأ نَّها لا توائم الحرّیّة الفردیّة . فهی مرفوضة وغیر منسجمة مع مبادئ الحیاة الاجتماعیّة للإنسان .

یضاف إلی ذلک ، أنَّ حالات تطرأ لا یمکن معها أن تحدّد نظریّة الدم وحدها قومیّة الإنسان وجنسیّته . علی سبیل المثال ، فی الحالات التی لا یُعرَفُ فیها أبوا الطفل أو أ نَّهما ترکا الجنسیّة فرضا ، فی هذه الحالات لا یعد تحدید جنسیّة الطفل علی أساس نظریّة الدم

ممکنا . یقولون : « تتّکئ نظریّة الدم علی القصد المحتمل الذی یحمله الأشخاص ، أی عندما یغلب الظنّ أنَّ ولدا قد ولد من أبوین إیرانیّین مثلاً ، واکتسب الجنسیّة الإیرانیّة ، فإنَّ القانون یعتبره إیرانیّا من هذا المنطلق ... » .

ومن الوضوح بمکان أنَّ الظنّ الاحتمالی یمکن أن یشکّل مؤشّرا علی الجنسیّة - بشکل ظاهری - عندما یفتقد الطفل الوعی الفکری لاختیار الجنسیّة التی یریدها ، أو أ نَّه یمتنع عن إبداء أیّ اعتراض . بید أ نَّه عندما یبلغ الإنسان سنّ الرشد ، ویمتنع عن قبول

( الجنسیّة ) والتابعیّة الخاصّة بفترة عدم بلوغ سنّ الرشد ، فإنَّ فرض الجنسیّة علی أساس الظنّ المحتمل ، سیکون مثله مثل من یحتمل أنَّ عطیّة مالیّة ستقدّم من قبل شخص ما ، فیتصرّف علی أساس الظنّ المحتمل ، ومع وجود الاعتراض وعدم الرغبة من قبل صاحب

ص: 171

المال .

یخال البعض من المولعین بتطبیق القانون الإسلامی علی القانون الغربی الجدید أنَّ نظریّة الدم فی القانون الإسلامی قد استعملت فی بعض الحالات لتحدید الجنسیّة ، وفی

ضوئها فإنَّ الأطفال الذین یولدون من أبوین مسلمین یکتسبون الجنسیّة الإسلامیّة ، والأطفال الذین یولدون من أبوین غیر مسلمین ، لا یکتسبون الجنسیّة الإسلامیّة ، ویتحدّد وضعهم تبعا لجنسیّة الأبوین .

إنَّ توکّؤ هذا الموضوع علی نظریّة الدم غیر صائب تماما ، وإن کان أمرا جازما لا ینکر من المنظار الفقهی . وذلک للأسباب الآتیة :

أوّلاً : یمکن للطفل أن یتمتّع بحرّیّة تامّة فی اختیار الجنسیّة التی یریدها وذلک بعد بلوغه سنّ الرشد سواء ولد من أبوین مسلمین أو غیر مسلمین . ولا یمکن أن یحدّد جنسیّته

من منظار القانون الإسلامی إلاّ عقیدته .

ثانیا : لا یمکن بأیّ وجه من الوجوه أن تشکّل تبعیّة الطفل المؤقّتة واللا إرادیّة لجنسیّة أبویه خلال فترة عدم البلوغ دلیلاً علی التوکّؤ علی وحدة الدم فی تحدید الجنسیّة

. لأ نَّه ینبغی ، فی ضوء ذلک ، الاستفادة من جنسیّة أخ الطفل أو أقاربه الذین تربطهم به وحدة

الدم من أجل تحدید جنسیّته ، وذلک فی الحالات التی یکون فیها أبواه مجهولَی الجنسیّة .

إنَّ المواطنة التبعیّة - کما سنوضّحه - مبدأ مستقلّ یرجع إلیه فی القانون الإسلامی ولا یخصّ تبعیّة الطفل لجنسیّة أبویه . وتوکّؤه علی العناصر المادّیّة غیر صحیح ولا ینسجم مع الواقع بأیّ وجه من الوجوه .

ولمّا کان کلّ شخص یولد فی مکان ما ، وذلک المکان یخضع لنفوذ إحدی الحکومات ، فإنَّ عددا من علماء القانون اتّخذوا هذا الموضوع معیارا لتحدید جنسیّة الأشخاص ، وجعلوا الجنسیّة علی أساس مسقط الرأس .

یقول أنصار نظریّة الإقلیم :

« تمارس الحکومة سلطتها علی من یعیش فی نطاقها من الناس ، ولا سلطة لها علی الناس الذین یعیشون خارج ذلک النطاق .

فکلّ من أقام فی أرض ، لا یمکن أن یتمیّز علی غیره من سکّانها . وتطبّق علیه

ص: 172

القوانین التی تطبّق علیهم . بشکل عامّ ، فإنَّ من ولد فی بیئة ، ونشأ علی عاداتها ، فإنَّه

یتطبّع بأخلاق أهلها شیئا فشیئا ، ویختلط بهم اختلاطا تامّا بمرور الزمان . ولعلّ العوامل الاجتماعیّة تقضی علی العوامل الوراثیّة » .

ویمکن أن نناقش الجنسیّة فی ضوء نظریّة الإقلیم من وجهتین :

1 - بوصفها وسیلة غیر مباشرة للحؤول دون فقدان الجنسیّة بالنسبة إلی بعض الأشخاص المحرومین من الوسائل الأُخری للجنسیّة . یقول أنصار هذه النظریّة :

« کلّ من یولد علی أرض دولة ما فإنَّه خارج لا محالة من نفوذ الدول الأُخری . ولیس لهذه الدول أن تفرض جنسیّتها علیه . فإذا رفض أحد جنسیّة البلد الذی ولد علی أرضه ، فإنَّ حکومة أُخری یمکنها أن تمنحه جنسیّتها » .

2 - بوصفها رکیزة أساسیّة للجنسیّة التی تحدّد فی ضوئها جنسیّة الأشخاص علی نحو قسری ، کما اتّکأت الأدلّة المذکورة سلفا علی هذه الرکیزة ، وأُقیمت لإثبات صحّتها .

أمَّا الوجهة الأُولی فإنَّ ضعف الجنسیّة فی ضوء نظریّة الإقلیم فی غایة الوضوح ، لأنَّ التوکّؤ علی نظریّة الإقلیم فی تحدید جنسیّة الأشخاص یکون موضوعیّا عندما تنعدم العناصر والعوامل الأساسیّة الأُخری . وأمَّا عند توفّر عناصر أصیلة نحو ( العقیدة ووحدة

الهدف والنظام ) فإنَّها ستفقد قیمة التعویل علیها . إذَن ، فإنَّ تحدید جنسیّة الأشخاص

حتّی مع قبول مبدأ ( القومیّة فی ضوء العناصر المادّیّة ) ، سیکون مرفوضا وعدیم القیمة .

وأمَّا الوجهة الثانیة ، فلو تغاضینا عن عدم صحّتها بسبب الضعف فی مبدأ ( القومیّة فی ضوء العناصر المادّیّة ) . فإنَّها معرّضة للنقد من حیث إنَّ نظریّة الإقلیم کنظریّة العنصر ، ونظریّة الدم ، لا یمکن وحدها أن تشکّل مؤشّرا معیّنا فی تحدید القومیّة ؛ لأنَّ طفلاً - مثلاً - ولد علی أرض حرّة ، فإنَّه لابدَّ أن یکون فاقدا للجنسیّة وفقا للنظریّة المتقدّمة

.

یضاف إلی أنَّ نظریّة الإقلیم لمّا کانت مماثلة للنظریّات الأُخری المتّکئة علی مبدأ ( القومیّة المفروضة ) فهی مرفوضة ، ولا یمکن التعویل علیها مع الاحتفاظ بالحریّات

الطبیعیّة .

ومن الجدیر ذکره أنَّ البعض ظنّ بأنَّ القانون الإسلامی قد اتّخذ نظریّة الإقلیم ملاکا فی تحدید جنسیّة الأطفال فی بعض الحالات ، وحکم علی الأطفال الذین یعثر علیهم فی

ص:173

الأرض الإسلامیّة وفی داخل نطاق الحکومة الإسلامیّة ( اللقطاء ) بالمواطنة الإسلامیّة . أمَّا

الأطفال الذین یعثر علیهم خارج نطاق الحکومة الإسلامیّة فإنَّهم محکومون بالکفر عندما

لا یلوح فی الأُفق احتمال ولادتهم من أبوین مسلمین .

بید أ نَّه بناء علی التوضیح المقدّم فی بحث نظریّة الدم بالنسبة إلی التصوّر المذکور یتّضح خطأ هذا التصوّر فیما یخصّ ( نظریّة الإقلیم ) أیضا ، ولا یعد بحاجة إلی توضیح أکثر . ویتراءی لنا أنَّ أنصار نظریّة الإقلیم هم کأنصار العناصر المادّیّة الأُخری ربّما کانوا یحاولون - دون الالتفات إلی الواقع - توجیه النظریّة التی اختاروها أنفسهم .

ومن أجل أن یکون هذا الادّعاء مشفوعا بالدلیل ، ففیما یأتی قسم من الانتقادات الواضحة التی تمثّل کما یبدو نظریّة مجملة حیال الأدلّة المذکورة ، نأتی بها هنا ونحیل الحکم علیها إلی القرّاء .

1 - فی الدلیل الأوّل ، تمّ تبنّی المبدأ القائل بحصر سلطة الحکومات فی النطاق الجغرافی ، بینما لو کان هذا الدلیل تامّا ، فلابدَّ للأشخاص الذین یخرجون من النطاق

الجغرافی للحکومة تحت عنوان السفر أو غیره ، من أن لا تنطبق علیهم تابعیّة الحکومة المذکورة - فی ضوئه - فیتحوّلوا إلی تابعیّة الحکومة التی دخلوا فی نطاقها .

مضافا إلی ذلک ، فإنَّ السلطة السیاسیّة للحکومات حیال الأشخاص الذین یعتبرون من أتباعها لا یمکن أن تتحدّد فی إطار النطاق الجغرافی . فکلّ حکومة ، فی ضوء القانون الداخلی والمعاهدات الخارجیّة ، یمکنها أن تحتفظ بسلطتها السیاسیّة حیال أتباعها

الذین یعیشون فی الخارج .

وینبغی أن تؤسّس الحکومة متوکّئة علی مثل هذا القانون إذ یتیسّر لها الاحتفاظ بنفوذها السیاسی حیال الأشخاص حیثما کانوا .

2 - فی الدلیل الثانی ، تمّت الاستفادة من مبدأ ( مساواة الأشخاص فی القانون الخاصّ بمحلّ الإقامة ) ، وهذا المبدأ کما سنتعرّض إلیه فی بحوثنا القادمة مبدأ مرفوض ویتعذّر علینا قبوله . فتبعیّة الأشخاص للقانون الخاصّ بمحلّ الإقامة یصحّ فی حالة قبولهم تابعیّة ذلک القانون ، وأنَّ فرض الأحوال الشخصیّة للقانون الخاصّ بمحلّ الإقامة علی الأشخاص الذین یحملون عقائد مناهضة لذلک القانون من الوجهة الدینیّة أمر مناف لروح العدالة

،

ص: 174

ویصطدم بالحرّیّات الطبیعیّة . کما أنَّ المصالح الاجتماعیّة لا تستدعی مثل هذه المساواة أیضا . وقد یکون ضروریّا فی بعض الحالات التی یخضع فیها جمیع الأشخاص - بما فیهم الأتباع وغیرهم - لقانون الإقامة . وهو ما سنأتی علیه فی بحوثنا اللاحقة شرحا وتفصیلاً .

3 - فی الدلیل الثالث ، نری أن رکیزة الاستدلال هی ( تأثیر التربیة البیئیّة ) . وکأ نَّه قد غُفل عن أنَّ أثر التربیة البیئیّة لا یعوّل علیه إلاّ إذا کان محسوسا ومحرزا علی الصعید العملی .

ویتبیّن ذلک أ نَّه لو کانت التربیة الناتجة عن البیئة قد آتت أُکلها بالنسبة إلی شخص ما ، فإنَّه لا یجد مناصا من اختیار الجنسیّة الخاصّة بتلک البیئة عن طواعیة . وأمَّا إذا کان ذلک الشخص أو غیره من الأشخاص ، بعد إقامتهم فی أرض ما ، لم یتأثّروا بالتربیة الفکریّة

والعملیّة للبیئة ، وظلّوا محتفظین بعقائدهم وآدابهم الخاصّة متشدّدین فی التمسّک بها ، فکیف یمکن فرض القانون الخاصّ بمحلّ الإقامة علیهم عملاً بمبدأ ( تأثیر التربیة البیئیّة ) .

ثمّة عوامل أُخری یرجع إلیها أیضا فی تکوین الشعب ، ما عدا العوامل المذکورة آنفا ( العنصر ، الدم ، الأرض ) ، نذکر منها : التاریخ ، واللغة ، والمصالح العامّة ، والرغبة فی الحیاة المشترکة . ولمّا کانت وحدة التاریخ بمفردها لا یمکن أن تضمن الوحدة الوطنیّة أبدا ، لذلک جاءت - عادة - متقارنة مع وحدة اللغة . واعتبرهما البعض عاملاً حقیقیّا فی تکوین

القومیّة .

طرح أحد العلماء الألمان هذه النظریّة بادئ ذی بدء فی أوائل القرن التاسع عشر بشأن الوحدة الألمانیّة ، ثمَّ أصبحت موضع اهتمام القومیّین العرب علی صعید عامّ .

یقول أنصار هذه النظریّة ما مضمونه : اللغة روح الأُمّة وحیاتها . والجماهیر التی تتحدّث بلغة واحدة ، لها قلب واحد وإدراک واحد . ویعتبر التاریخ القوّة الحارسة للأُمّة

ومصدر إدراکها ومشاعرها (1) .

ویقولون ما فحواه : میزة الإنسان فی خاصّیّتین ذاتیّتین کامنتین فیه : إحداهما تعقّله ، والأُخری حیاته الاجتماعیّة .

ومن الواضح أنَّ هاتین الصفتین تتحقّقان بواسطة اللغة ، لأنَّ لکلّ من التصوّرات والمفاهیم الذهنیّة علاقة خاصّة بکلمات وألفاظ معیّنة ، وتُدرس وتُحلّل تحلیلاً عقلیّا

ص:175


1- « ما هی القومیّة » ص 252 .

بمؤازرتها

، کما أنَّ التفاهم یعتبر القاعدة الأصلیّة فی الحیاة الاجتماعیّة . ولا یمکن أن یتحقّق

أیضا إلاّ عبر اللغة(1) .

علی الرغم من أنَّ الحقائق الملموسة قد أظهرت بطلان هذه النظریّة . وأنَّ کثیرا من الناس ، مع ما هم علیه من وحدة اللغة ، لا یفتقدون الانسجام فحسب ، بل یعتبرون أعداء ألدّاء بعضهم لبعض . وأنَّ وحدة التاریخ أیضا باعثة علی استرجاع شریط الذکریات

المرّة لإراقة الدماء والضغائن والخصومات ، علی الرغم من ذلک کلّه ، فإنَّ تسجیل الملاحظات الآتیة فی جوابها لا یخلو من فائدة :

1 - إنَّ لغة أغلب الشعوب والجماهیر لیست أصیلة ، بل هی اکتسابیّة ، لأنَّ التاریخ یدلّنا علی أنَّ الفتوحات العسکریّة والسیاسیّة کانت تترک تأثیرها فی مجال اللغة ممّا یفضی إلی سیطرتها سیطرة لا محیص منها . فتألف الشعوب المغلوبة علی أمرها لغة الغالبین ، بعد أن تفقد خصوصیّتها اللغویّة تدریجا بسبب المدّة المدیدة التی ترزح فیها تحت تسلّط الشعوب الفاتحة . ومن الجدیر ذکره هنا أنَّ ( وحدة اللغة ) لا یمکنها فی مثل هذه الحالات أن تنوب عن ( الوحدة الوطنیّة ) أو ( وحدة المشاعر والانسجام الروحی ) أبدا .

2 - والنقطة الأُخری التی ینبغی أن نلتفت إلیها فیما یخصّ هذه النظریّة هی مسألة تغییر اللغات . فلا یغلب الظنّ أنَّ أنصار هذه النظریّة یستطیعون إقناع أنفسهم من أنَّ اللغة القومیّة تتغیّر فی بعض الحالات لأسباب - سواء کانت سیاسیّة أم کانت نابعة عن تعاقب

الزمن - فتتغیّر تبعا لها قومیّتهم ، وتتّخذ الوحدة الوطنیّة طابعا آخر لها .

3 - صحیح أنَّ اللغة دخیلة فی التفاهم ، بید أ نَّها لیست سببا فیه . إذ إنَّ السبب فی التفاهم هو ( وحدة الفکر والعقیدة والإرادة ) . وکلّ ما فی الأمر أنَّ هذا التفاهم یتحقّق بواسطة اللغة . فشخصان یحملان فکرا مضادّا وعقیدة متعارضة وإرادة متباینة ، کیف یمکنهما أن یتفاهما وینشآ حیاة مشترکة حتّی لو کانت لغتهم واحدة ؟

4 - یمکن تصوّر العلاقة بین اللغة والتعقّل أیضا من خلال فهم اللغة علی أ نَّها وسیلة لإدراک المفاهیم الذهنیّة وتحقّقها فحسب ، ولا یمکن أن یکون لها أیّ أثر فی العملیّات

الذهنیّة التی نطلق علیها اسم التعقّل . ( فوحدة التعقّل ) ممکنة مع ( وحدة الفکر والعقیدة )

ص: 176


1- « ما هی القومیّة » ص 54 - 55 .

دون غیرها . فی ضوء ذلک فإنَّ استنتاج الوحدة الوطنیّة من وحدة اللغة بناءً علی وجود علاقة بین اللغة والتعقّل والحیاة الاجتماعیّة لیس أکثر من مغالطة واضحة .

وقد شیّد ( أرنست رنان ) أساسا لنظریّة جدیدة تخصّ العناصر المکوّنة للشعب ، وذلک فی خطابه المعروف الذی ألقاه فی باریس سنة 1882م . أ نَّه یقول فی هذا الخطاب

التاریخّی الذی کان یتباهی به دائما ، وادّعی فیه أ نَّه لم یصرف جهدا فکریّا فی تألیف کتاب ما بحجم الجهد الذی بذله فی تدوین أُسس هذه النظریّة :

« إنَّ الرغبة فی الحیاة المشترکة رکیزة أساسیّة لتکوین الشعب . وإنَّ العنصر الحقیقی

الوحید للوحدة القومیّة هو الرغبة فی الحیاة المشترکة ، إذ إنَّ الشعب هو عبارة عن مجموعة من الأفراد الذین تجعل منهم الرغبة فی الحیاة المشترکة کیانا واحدا » (1) .

هذه النظریّة التی تماثل نظریّة الذین جعلوا وحدة المصالح العامّة أو وحدة المصالح الاقتصادیّة مقیاسا للوحدة الوطنیّة مرفوضة ، من حیث إنَّ إرادة الحیاة المشترکة أو وحدة المصالح هی ولیدة عامل آخر ، وتعتبر فی الحقیقة من لوازم ( الوحدة الوطنیّة ) ، لا من أسبابها وعناصرها المکوّنة لها .

صحیح أنَّ الشعب یتألّف من مجموعة أشخاص لهم رغبة فی الحیاة المشترکة ، بید أ نَّه ینبغی طرح هذا السؤال وهو : لماذا أصبحت لهؤلاء الأشخاص رغبة فی الحیاة المشترکة ؟ ولماذا نری أنَّ مصالحهم واحدة ؟ وکیف ستظهر وحدة الإرادة لدیهم إذا لم تهیمن علی هذه

الإرادة عقیدة واحدة ؟

لا یخالجنا الشکّ أنَّ الرغبة فی الحیاة المشترکة ووحدة المصالح هی من نتائج وحدة الفکر والعقیدة التی لا تقبل الفرز والانفصال . وما لم تتکّئ الرغبة فی الحیاة المشترکة علی وحدة الفکر والعقیدة ، فلا نرتاب أ نَّها لا یمکن أن تستمرّ ، وستتقوّض عاجلاً أو آجلاً .

وفی ضوء ما مرّ بنا ، لا نحتاج إلی التبسّط فی انتقاد النظریّة التی یری أصحابها أنَّ الشعب یتألّف من العوامل المتقدّمة مجموعة . وعلی الرغم من أنَّ هؤلاء خالوا بأ نَّهم لو جمعوا العوامل المذکورة کلّها ، فإنَّ الانتقادات سوف تزول لا محالة ، غافلین عن أنَّ هذا التصوّر هو أیضا ولید خطأ فادح مُنی به أنصار النظریّات الأُخری . وذلک الخطأ هو أ نَّهم

ص: 177


1- نقلاً عن کتاب : « ما هی القومیّة ؟ » بإیجاز ، ص 130 - 133 .

خلطوا النتیجة بالعامل واللازم بالسبب .

الأُمَّة شعب متکامل

ینبغی الآن أن ندرس الموضوع بنظرة أوسع ، فنقول متسائلین : ما هی العناصر والسمات التی یمکن فی ضوئها تقسیم المجتمع البشری إلی شرائح متمیّزة انبثقت عنها شعوب متنوّعة ؟ وما هو القصد من هذه الفوارق ؟ وکیف یمکن أن تکون ؟

مبدئیّا

، یمکن أن یتحقّق تکوین ( الشعب ) متّکئا علی أحد الأرکان الآتیة :

1 - ( المیزات الذاتیّة ) وما یمثّل مقوّما فی تکوین شخصیّة الإنسان .

2 - ( العناصر والسمات الفکریّة والعقیدیّة ) التی تمثّل أهمّ رکیزة من رکائز الوفاق الحقیقی فی الحیاة الاجتماعیّة .

3 - ( الخصائص والمیزات المادّیّة ) وهی أساس الاختلافات الاعتباریّة وغیر الأصیلة .

وسندرس فیما یأتی تکوین ( الشعب ) فی ضوء کلّ رکن من الأرکان المشار إلیها ، ثمّ ندرس النظریّة الإسلامیّة وأُسسها الخاصّة بها .

إذا اقتصرنا فی تشکیل الشعب علی المیزات الذاتیّة دون غیرها ، وانصبّ اهتمامنا علی الأرکان الأصلیّة فی شخصیّة الإنسان ، وعلی تلک العناصر التی قام علی أساسها کیان

الإنسان المعقّد ، متغاضین عن الاختلافات الاعتباریّة التی تفضی إلی التفرقة بین الجمهور

البشری الواحد ، فلا یداخلنا الشکّ أ نّنا ینبغی أن نذعن بأنَّ البشریّة لیست أکثر من شعب واحد ، وأنَّ تشکیل شعبین علی هذا الأساس متعذّر .

تتلخّص المیزات الذاتیّة للإنسان فی موهبتین : ( التعقّل ) و ( الفطرة ) . فالتعقّل هو العنصر الذی أضفی علی الإنسان کرامة واحتراما ، وأعدّه لضروب السموّ والارتقاء وکسب أنواع الکمال والمثل . وأمَّا الفطرة فهی عبارة عن مجموعة الخصائص الخلیقة بالمنزلة

الإنسانیّة فی الحیاة ، ولها دور مهمّ وأساس ، وتوجّه الإنسان من حیث لا یشعر .

إنَّ استهداء الإنسان بموهبة ( التعقّل ) أمر اختیاری ، بینما نری استهداءه بالفطرة خارجا عن اختیاره ، ویجری بصورة تلقائیّة وطبیعیّة . وهذا من الرموز اللافتة للنظر فی

ص: 178

الخلق الحافل بالأسرار .

ومن المعلوم أنَّ کلّ إنسان یتمتّع بهذه المواهب الذاتیّة سواء کان أبیض ، أم أصفر ، أم

أحمر ، أم أسود . کما أنَّ هذا التمتّع واحد لا یختلف بالنسبة إلی الأشخاص الذین یعیشون فی نقاط متنوّعة من الأرض أو الذین یتکلّمون بلغات مختلفة ، أو الذین ینحدرون من أُصول

متباینة آریّة ، أو سامیّة ، أو شرقیّة ، أو غربیّة ، أو غیرها من الأُصول .

من هذا المنطلق فإنَّ الإنسان یستطیع أن ینشئ مجتمعا واحدا وشعبا واحدا من مجموعة الأشخاص فیرسی أوتاد حیاته الاجتماعیّة فی ضوء ذلک . وهذا أقصی وأعلی هدف یتحرّاه القانون الإسلامی فی نظامه التربویّ الخاصّ ، ویدعو الإنسان إلی تحقیقه . ونجد هذا الموضوع فی التعالیم الإسلامیّة الوضّاءة بنحو ألطف وأروع .

یقدّم الإسلام الإنسان بوصفه کائنا مکرّما ومحترما ، ویعتبره خلیفة اللّه فی الأرض ، ویبشّره بأنَّ خالق العالم قد جعل الکون کلّه تحت تصرّفه ، ومنّ علیه بمواهب وقوی واستعدادات کی یصیب حظّه من الاستمتاع بما فی الوجود من مواهب ونِعَم وآلاء ، ویکون بالمستوی المطلوب فی التصرّف بها واستثمارها ، ویکشف رموزها وأسرارها .

وجاءت هذه الحقیقة فی القرآن الکریم مسجّلة فی قوله تعالی : « وَ اِذْ قَالَ رَبُّکَ لِلْمَلئِکَةِ اِنّی جَاعِلٌ فِی الاَْرْضِ خَلیفَةً قَالُوا اَتَجْعَلُ فیهَا مَنْ یُفْسِدُ فیهَا وَ یَسْفِکُ الدِّمَاءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِکَ وَ نُقَدِّسُ لَکَ قَالَ اِنّی اَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ » (1) .

وجاء فی مکان آخر من القرآن قوله جلّ من قائل : « وَ لَقَدْ کَرَّمْنَا بَنی ادَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِی الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ رَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّیِّبَاتِ وَ فَضَّلْنَاهُمْ عَلی کَثیرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضیلاً » (2) .

ونلحظ ثناءه علی الإنسان فی قوله عزّ شأنه : «وَ سَخَّرَ لَکُمْ مَا فِی السَّموَاتِ وَ مَا فِی الاَْرْضِ جَمیعًا مِنْهُ اِنَّ فی ذلِکَ لاَیَاتٍ لِقَوْمٍ یَتَفَکَّرُونَ » (3) .

ویری الإسلام أنَّ جمیع الناس متساوون فی هذه الکرامة والشرف الذاتی ، ویعتبر کلّ إنسان یجسّد معنی الإنسانیّة قمینا بهذه الکرامة العظیمة ، ویلغی الاختلافات

ص: 179


1- البقرة : 30 .
2- الإسراء : 70 .
3- الجاثیة : 13 .

الاعتباریّة والعنصریّة . وقد أعلن النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله فی إحدی خطاباته التاریخیّة بصراحة قائلاً : «

کلّکم لآدم وآدم من تراب ، لا فضل لعربیّ علی أعجمیّ إلاّ بالتقوی » .

وکان رسول اللّه ذات یوم جالسا مع جمع من أصحابه ، فمرّت جنازة فقام لها احتراما . فغمزه أحد أصحابه قائلاً : إنَّه یهودیّ . فقال : « ألیست نفسا ؟ » .

وفی ضوء هذا الاحترام والکرامة الذاتیّة ، اعتبر الإسلام جمیع الناس أُمَّة واحدة ؛ وأُمَّة تستوعب المجموعات الإنسانیّة برمّتها . وأعلن القرآن هذه الوحدة الأصیلة بصراحة ، واعتبر ألوان التفرقة والاختلاف عرضیّة ومنبعثة عن اتّباع الأهواء ، وصرّح

بأنَّ السرّ من بعثة الأنبیاء یکمن فی علاج هذه الخلافات وقیادة الرکب البشری ، قال

تعالی : « وَ مَا کَانَ النَّاسُ اِلاَّ اُمَّةً وَاحِدَةً فَاص خْتَلَفُوا » (1) . وقال عزّ من قائل : «کَانَ

النَّاسُ اُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّه ُ النَّبِیّینَ مُبَشِّرینَ وَمُنْذِرینَ وَاَ نْزَلَ مَعَهُمُ الْکِتَابَ بِاص لْحَقِّ لِیَحْکُمَ بَیْنَ النَّاسِ فیمَا اخْتَلَفُوا فیهِ وَمَا اخْتَلَفَ فیهِ اِلاَّ الَّذینَ اُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَیِّنَاتُ بَغْیًا بَیْنَهُمْ » (2) .

إنَّ القرآن لا ینظر إلی اختلاف اللغات والألوان کعقبة فی طریق الوحدة الإنسانیّة ، بل یری أنَّ هذا الاختلاف من السنن الکونیّة ومن مظاهر القدرة الإلهیّة . قال تعالی : « وَ مِنْ ایَاتِهِ خَلْقُ السَّموَاتِ وَ الاَْرْضِ وَاخْتِلاَفُ اَلْسِنَتِکُمْ وَ اَلْوَانِکُمْ » (3) .

ویتطرّق القرآن أیضا إلی الاختلافات القبلیّة والعنصریّة بوصفها باعثا علی ترسیخ الوحدة والعلاقات الاجتماعیّة ، والتعاون بین أعضاء المجتمع البشری . قال جلّ شأنه : « یَاءَیُّهَا النَّاسُ اِنَّا خَلَقْنَاکُمْ مِنْ ذَکَرٍ وَ اُ نْثی وَ جَعَلْنَاکُمْ شُعُوبًا وَ قَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا » (4) .

ویسوّغ القرآن حتّی فلسفة الاختلاف فی المستوی المعیشی للشرائح الاجتماعیّة لئلاّ یساء استغلاله کباعث علی التمییز والاستعلاء . قال تبارک اسمه : « نَحْنُ قَسَمْنَا بَیْنَهُمْ مَعیشَتَهُمْ فِی الْحَیوةِ الدُّنْیَا وَ رَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِیَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ

ص: 180


1- یونس : 19 .
2- البقرة : 213 .
3- الروم : 22 .
4- الحجرات : 13 .

بَعْضًا سُخْرِیًّا وَ رَحْمَتُ رَبِّکَ خَیْرٌ مِمَّا یَجْمَعُونَ » (1) .

من جهة أُخری ، فإنَّ القرآن لا ینظر إلی الفارق الجنسی بوصفه باعثا علی الاختلاف فی الأبعاد الإنسانیّة ، وکان یوبّخ الذین یتبرّمون من ولادة الأُنثی . قال تقدّس ذکره : « وَ اِذَا بُشِّرَ اَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ کَظیمٌ » (2) .

وفی مجال آخر ، عندما یروم القرآن تقویم المثل المادّیّة والظواهر الدنیویّة فی مقابل الحیاة الإنسانیّة الشریفة الخالدة ، فإنَّه یعلن هذه الحقیقة مرّة أُخری ، فیقول : « وَ لَوْلاَ اَنْ یَکُونَ النَّاسُ اُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ یَکْفُرُ بِاص لرَّحْمنِ لِبُیُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَ مَعَارِجَ عَلَیْهَا یَظْهَرُونَ » (3) .

ولا یسمح القرآن أبدا أن یشکّل التفاوت فی المواهب البشریّة أو المواقع الاجتماعیّة المتنوّعة ، أو بقیّة الفوارق الطبیعیّة ، حاجزا ومانعا فی المجتمع الإنسانی ، فینقسم المجتمع إلی شرائح مختلفة فی ضوء هذه الفوارق ، وعند ذلک تتولّد التکتّلات والتجمّعات ، فتصبح

سببا فی التمایز ، وقد تؤدّی إلی الظلم والإجحاف . قال تعالی : « اِنَّ الَّذینَ فَرَّقُوا دینَهُمْ وَکَانُوا شِیَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فی شَیْ ءٍ » (4) . وقال جلّ وعلا : « وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ

بِکُمْ عَنْ سَبیلِهِ » (5) .

تمثّل هذه التعالیم والنداءات فی الحقیقة تنشیطا معنویّا فی توطید الوشائج والأواصر لمجتمع آمن بأصل هذه التعالیم والنداءات وانشدّ إلیها من أعماقه ، ویمکن أن تشکّل إنذارا

لتوعیة الأُمَّة وإیقاظها أمام کلّ لون من ألوان الغزو والتفریق الذی تمارسه القوی الشیطانیّة

المعادیة للبشریّة ووحدتها ، وفی الوقت نفسه فهی صمّام أمان فی مواصلة الطریق ومقاومة

ضرب من ضروب الانصهار والذوبان .

ص: 181


1- الزخرف : 32 .
2- نفسها ، الآیة 17 .
3- نفسها ، الآیة 33 .
4- الأنعام : 159 .
5- نفسها ، الآیة 153 .
عنصر الفکر والعقیدة

لا یداخلنا الشکّ أنَّ المحور الأساس فی حیاة الإنسان هو ( الفکر والعقیدة ) سواءً اعتبرنا الحافز الحقیقی لاجتماعیّته : الفطرة ، أم ( العقد الاجتماعی ) . وتوضیح ذلک :

إنّنا لو عرفنا أنَّ الإنسان کما یقول أغلب علماء الاجتماع کائن اجتماعی ، وأدرکنا میله إلی الحیاة الاجتماعیّة فی کیانه الفطری ، ووجدنا الدافع من اجتماعیّته کالغرائز البشریّة

الأُخری ، فلابدَّ من الإذعان لهذه الحقیقة وهی أنَّ تحقّق الحیاة الاجتماعیّة واستقرار المجتمع متعذّر بدون نظم معیّنة . وهذه الحقیقة تقتادنا إلی حقیقة أُخری لا تنکر ، وهی وجود

العلاقة المباشرة التی لا تقبل الانفصال بین الحیاة الاجتماعیّة والعقیدة .

إذ إنَّ من الجدیر ذکره أنَّ الأُسس الفکریّة والعقیدیّة هی من أنجع الدعائم وأهمّها فی

إنشاء النظم وکیفیّة تطبیق متطلّباتها من أجل إیجاد الحیاة الاجتماعیّة والمحافظة علی بقائها . ولمّا کان لابدَّ لهذه النظم من أن تکون منسجمة ومتطابقة تماما مع الحقائق والأسرار التی تخصّ خلق الإنسان والعالم ، فإنّه ینبغی فی قیاس القیمة الحقیقیّة لهذه النظم الاجتماعیّة أن نأخذ بنظر الاعتبار حجم الأُسس الفکریّة والعقیدیّة ، ویمکن عن هذا الطریق تحدید الصواب والخطأ ، والضرورة وعدم الضرورة ، ومدی الحاجة إلی تلک النظم .

وعندما ننظر إلی الإنسان ، کما ینظر إلیه عدد من علماء الاجتماع ، فنفرضه کائنا مجرّدا من الدافع الذاتی ( کونه اجتماعیّا ) فطریّا ، ونعتبر حیاته الاجتماعیّة حالة عرضیّة

وتعاقدیّة ، فلابدَّ لنا من الإذعان لهذه الحقیقة مرّة أُخری ، وهی أنَّ مبدأ (

الفکر والعقیدة ) یؤدّی دورا مهمّا فی هذا العقد ، وما لم تکن هناک أُسس فکریّة وعقیدیّة ، فإنَّ تحقّق مثل هذا العقد واستمراریّته أمر متعذّر .

ویمکننا أن نلخّص النتیجة التی نقتطفها من هذا الموضوع بالمبدأ الآتی :

( العقیدة أساس الحیاة الاجتماعیّة ) .

والآن ینبغی أن نضیف مبدأ آخر لا ینکر إلی هذا المبدأ لکی نبلغ الغایة المنشودة ؛ وذلک لأنَّ المبدأ المذکور لا یکفی وحده لإثبات الهدف الأساس ( المواطنة علی أساس العقیدة ) ، بینما لو أخذنا بعین الاعتبار المبدأ المذکور مع المبدأ القائل بأنَّ ( العقیدة ضامنة لوحدة حیاة المجتمع ) ، فسیکون استنتاج الهدف المذکور طبیعیّا وواضحا تماما . وبالنظر

ص: 182

إلی أنَّ المبدأین المذکورین لا یقبلان الانفصال بعضهما عن بعض ، بل إنَّ المبدأ الثانی من نتائج المبدأ الأوّل ، فسوف لن تکون هناک ضرورة تذکر لإثبات المبدأ الثانی . ویکفی

لإیضاح هذا الموضوع أن نلفت نظر القرّاء مرّة أُخری إلی المبدأ الأوّل .

تبیّن لنا فی ضوء التوضیح الذی قدّمناه حول المبدأ الأوّل أنَّ تحقّق المجتمع وبقاءه یتیسّر عن طریق إقرار النظم والأجهزة القانونیّة وتطبیقها ، وأنَّ الرکیزة الأساسیّة فی تکوین نظام وجهاز قانونی هی الفکر والعقیدة . بید أ نَّه لا یمکن أبدا أن تنتج الأفکار

والعقائد المختلفة نظاما واحدا وجهازا قانونیّا منسجما ، فالنظام الواحد والجهاز القانونی

المنسجم یتحقّقان ناتجین عن فکر واحد وعقیدة واحدة .

کیف یمکن تأسیس وتحقیق نظام واحد وجهاز قانونی منسجم یضمن وحدة المجتمع بالتوکّؤ علی أفکار متضاربة وعقائد متباینة ، ومن ثمَّ آمال وطموحات متنوّعة ، بل

رغبات متناقضة ؟ ومن الجدیر ذکره أ نَّه ما لم یحکم المجتمع نظام واحد ، فلن تکون هناک وحدة اجتماعیّة ، وبکلمة أصحّ : ( اجتماع ) و ( مجتمع ) .

إنَّ ( مبدأ التعاون ) الذی یعدّ من المبادئ الضروریّة للمجتمع وبقائه ، فیما لا تزدهر الحیاة الاجتماعیّة ولا تنسجم بدونه ، لا یتحقّق إلاّ فی مجال وحدة العقیدة . والناس الذین یحملون عقائد مختلفة وآراء ومیول متضاربة ورغبات متعارضة لا یبدون أیّ استعداد للتعاون فیما بینهم ، ولا تتظافر جهودهم أبدا من أجل سدّ الحاجات القائمة وعلاج المشاکل

المعیشیّة ، کما یلیق بمجتمع موحّد .

إنَّ التضادّ فی الفکر والعقیدة مقرون دائما بالتضادّ فی الرغبات والمصالح ، ولا یمکن أن

یکون ولید التضادّ فی الرغبات والطلبات إلاّ النفاق والصراع والنزاع . ومع وجود هذه

الحالة ، فإنَّ التعایش والوحدة والانسجام الاجتماعی لن یتحقّق أبدا ، حتّی لو حقّقت

عناصر أُخری کالأرض ، والدم ، والسلالة ، التقارب بین الأشخاص ، وأوجدت بینهم الباعث علی الوحدة ظاهریّا .

وحسبنا من أجل إدراک هذه الحقیقة أن ندرس العلاقات التی تربط بین شخصین مختلفین فی العقیدة فی الوسط الاجتماعی ، ونفرض أ نَّهما ینحدران من أصل واحد ، ویعیشان علی أرض واحدة ، ویعتبران کالأخوین من ناحیة الدم أیضا ، بید أنَّ بینهما

ص: 183

اختلافا فی الأُسس الفکریّة والعقیدیّة ، فأحدهما مادّیّ متشدّد ومنکر حقائق ما وراء الطبیعة ، ولیس له هدف فی الحیاة إلاّ السعی - کیفما کان - من أجل العیش والاستمتاع

باللذائذ المادّیّة وحبّ الشهوات من السلطة وغیرها . والثانی یقف فی الصفّ الآخر باتّجاه

معاکس له تماما من الناحیة الفکریّة ، ویعتبر ثمرة أعماله وأفکاره - صالحة کانت أم سیّئة - عائدة له وفقا لحساب دقیق ، وذلک بسبب الإیمان باللّه والیوم الآخر . ومن هذا المنطلق

فإنَّه ألزم نفسه بالاجتناب عن کثیر من الأعمال والأفکار ، ویری أنَّ القیام بقسم آخر

منها ، من الواجبات التی لا یمکن ترکها . فهل یمکن فی مثل هذه الحالة أن یخطّط هذان

الشخصان لحیاة مشترکة واحدة ؟ وهل یمکن أن ینظّما برنامجا واحدا لمواصلة حیاتهما المشترکة مع تمسّکهما بعقائدهما وأفکارهما المتضادّة ؟ فهذا لا یمکن تحقّقة إلاّ أن یتنازل کلّ منهما عن عقائدة وأفکاره الخاصّة والمتضادّة ، وتتقارب وجهات نظرهما علی خلاف الأُسس الفکریّة والعقیدیّة التی یتبنیّانها . وفی مثل هذه الحالة ، فإنَّ الذی یجدر ذکره هو أنَّ هذا الصلح لا یکتب له البقاء ، ولابدَّ للفکر والعقیدة أن یترکا أثرهما شاء الإنسان أم أبی ، فیحوّلا الاتّفاق إلی تضادّ ، والتعایش إلی عداء ، والسلم إلی حرب .

عنصر الإیمان

یُعتبر ( الإیمان ) فی الإسلام ممیّزا للشعب وعنصرا حقیقیّا یدخل فی تکوینه ، وتتألّف الأُمَّة الإسلامیّة من أفراد وجماهیر تؤمن بالإسلام وعقائده وقوانینه ، وفی ضوء ذلک یستعمل الإسلام اصطلاح ( الأُمَّة ) بدیلاً عن اصطلاح ( الشعب ) ، ویعتبر الأُمَّة

المؤمنة بالإسلام أُمَّة واحدة .

ویعلن القرآن هذه الحقیقة قائلاً : « اِنَّ هذِهِ اُمَّتُکُمْ اُمَّةً وَاحِدَةً وَ اَنَا رَبُّکُمْ فَاص عْبُدُونِ » (1) . ویؤکّد فی مکان آخر قائلاً : « وَ اِنَّ هذِهِ اُمَّتُکُمْ اُمَّةً وَاحِدَةً وَ اَنَا رَبُّکُمْ فَاص تَّقُونِ » (2) . ویقدّم الأُمَّة الإسلامیّة فی آیة أُخری بوصفها الأُمَّة الوسط فیقول : « وَکَذلِکَ جَعَلْنَاکُمْ اُمَّةً وَسَطًا لِتَکُونُوا شُهَدَاءَ » (3) .

ص:184


1- الأنبیاء : 92 .
2- المؤمنون : 52 .
3- البقرة : 143 .

إنَّ القانون الإسلامی لا یعبأ بالتفرقة علی أساس العنصر ، والدم ، والأرض ، ... ، ویری أنَّ المسلمین کافّة متساوون أمام القانون کأسنان المشط . وقد صرّح النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آلهبهذه الحقیقة الإسلامیّة مؤکّدا علیها فی خطبته التاریخیّة التی ألقاها فی ( حجّة الوداع ) ، قال فیها : « یا أیُّها الناس ، إنَّ ربّکم واحد وإنَّ أباکم واحد . کلّکم لآدم وآدم من تراب . أکرمکم عند اللّه أتقاکم . لیس لعربیّ علی عجمیّ ولا لعجمیّ علی عربیّ ولا لأحمر علی أبیض ولا لأبیض علی أحمر فضل إلاّ بالتقوی ، ألا بلّغت ، اللهمَّ فاشهد ، ألا فلیبلّغ الشاهد منکم الغائب » .

والآن

، إذا نظرنا بهذا النسق إلی وضع یتّسم به مجتمع کبیر ، فسیتّضح لنا تماما أنَّ الوحدة ، فی العناصر المادّیّة مهما کانت قویّة ومهما أفضت إلی تضامن أکثر ، لا تستطیع أن تشکّل دعامة ( لحیاة مشترکة وأهداف ومصالح مشترکة ) إذ إنَّ التضارب فی المطالب

، والتباین فی الأفکار ، والاختلاف فی الرغبات ، وأخیرا الاختلاف فی تحدید المصالح وتعیین الأهداف فی الحیاة ، کلّ ذلک سیفصم عقد المجتمع ویقوّض أساس الوحدة الاجتماعیّة والتنسیق الجماعی .

بینما لو اتّسم مجتمع مؤلّف من أفراد مختلفین من حیث ( العنصر ) ، و ( الأرض ) و ( الدم ) ب- ( وحدة الفکر والعقیدة والهدف ) فسیکون قادرا علی تنظیم برنامج واحد علی أساس المصالح المشترکة ، وتطبیق ذلک البرنامج بتنسیق خاصّ ، وستتظافر جهود أبنائه

للمحافظة علیه .

فی ضوء ما تقدّم ، یمکن أن نخلص إلی هذه النتیجة ، وهی : أنَّ وحدة الفکر والعقیدة

، کما تضمن الوحدة الاجتماعیّة ، فهی تضمن وحدة القومیّة أیضا ، وتمثّل مؤشّرا لها . وینبغی تحدید الفوارق بین الشعوب والمجتمعات ، وتعیین حدود القومیّة فی ضوء اختلاف العقیدة

أو وحدتها .

لذلک ، ینبغی القول بأنَّ الأُمَّة الواحدة عبارة عن مجموعة من الأشخاص الذین اختاروا لأنفسهم حیاة مشترکة ومنسجمة علی أساس عقیدة واحدة ، وأنَّ ( القومیّة ) عبارة عن رباط عقیدیّ وفکریّ یربط الأشخاص فیما بینهم ، ویوجد بینهم آصرة ونظاما

خاصّا تستلزمه العقیدة .

ص:185

رابطة أقوی من الوحدة القومیّة

إنَّ المجتمع الإسلامی ، وفقا للنظریّة الإسلامیّة ، ید واحدة أمام الأجانب ، والمسلمین

کعناصر البناء الواحد والقویّ ، کلّ منهم یقوم بدوره فی المحافظة علی هذا البناء الفخم

وتوطیده ، والإیمان هو الوسیلة الوحیدة لارتباطهم واتّصالهم وتعاونهم .

إنَّ العلاقة المعنویّة والمتماسکة للمواطنة فی الإسلام تتألّق بشکل أروع وأکثر إنسانیّة

، ذلک لأ نَّها اتّخذت طابعا أخویّا ، وفی ضوء القانون الإسلامی القائل بأنَّ ( المسلم أخو المسلم ) ، فإنَّ وحدة الإیمان استبدلت بوحدة أُخری أهمّ منها ، وهی ما نعبّر عنها بوحدة الدم . ومن هذا المنطلق ینبغی القول : إنَّ المجتمع الإسلامی ( مجتمع أخویّ ) ، وهذا أسمی مظهر من مظاهر الحیاة الاجتماعیّة الإنسانیّة التی تلیق بمقام الإنسان الرفیع .

ونری فی هذا النظام أنَّ ( العقل ) و ( العاطفة ) و ( القانون ) کلّها قد امتزجت بعضها ببعض ، فأفضی ذلک الامتزاج إلی تحرّر الحیاة الاجتماعیّة من الجفاف والجمود والرتابة التی قد تطغی علیها بسبب تحکیم القانون والانضباط ، فاستعادت الحیاة وجهها الإنسانی والحقیقی بکلّ صفاء ونشاط ونضارة . ولمّا کانت هذه العلاقة المعنویّة والأخویّة تتحقّق

علی شکل میثاق طوعی ( قبول الإیمان طوعا ) ، لذلک فإنَّ جذور هذه الوشیجة الممتزجة

بروح الأُمَّة والشعب ، کالمصدر الثابت الراسخ ، تفیض علی الوسط الاجتماعی بالدف ء

والوئام ، وتبدّل المجتمع الإنسانی الکبیر إلی وسط عائلی منسجم تعلوه البهجة والسعادة .

نری فی المجتمع الإسلامی الأخویّ أنَّ کلّ شخص له أن ینضوی تحت لوائه بعد عقد المیثاق الطوعی ( الإیمان ) ، وتتظافر جهوده مع إخوانه الآخرین فی الإیمان لتنظیم الحیاة الفردیّة والاجتماعیّة . وفی ضوء هذا المیثاق یختار نظاما واحدا للمجتمع الأخویّ ویتولّی

اتّباعه ، وهکذا تزول الفوارق والاختلافات الأُخری . فالعالی والدانی ، والفقیر والغنیّ ، والکبیر والصغیر ، والأبیض والأسود ، والأحمر والأصفر ، والآری والسامی ، والعربی

والأعجمی ، والآسیوی والأُوربی ، والأمیرکی والإفریقی و ... کلّهم إخوة وأعضاء فی

مجتمع واحد ، وقد اختاروا قانونا واحدا لتنظیم مجتمعهم الأخویّ .

وقد تجلّت هذه الحقیقة الإنسانیّة فی القرآن من خلال آیة قصیرة هی قوله : « اِنَّمَا

ص: 186

الْمُؤْمِنُونَ اِخْوَةٌ » (1) .

وفی ضوء هذه الآیة ، ینحصر الرباط الذی یشدّ المجتمع الإسلامی فی العلاقة الأخویّة التی تعتبر من أوثق العلاقات الإنسانیّة وأقدسها وأکثرها عاطفیّة . قال جلّ من قائل : « فَاِنْ تَابُوا وَاَقَامُوا الصَّلوةَ وَ اتَوُا الزَّکوةَ فَاِخْوَانُکُمْ فِی الدّینِ » (2) .

وأعلن النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله هذه الحقیقة ضمن خطبة ألقاها فی مسجد الخیف ، فقال : « المؤمنون إخوة تتکافأ دماؤهم ویسعی بذمّتهم أدناهم وهم ید علی من سواهم » (3) .

وقال علیّ علیه السلام للذین طالبوه بامتیازات معیّنة علی أساس شرف الدم والعنصر :

« من استقبل قبلتنا ، وأکل ذبیحتنا ، وآمن بنبیّنا ، وشهد شهادتنا ، ودخل فی دیننا ، أجرینا علیه حکم القرآن ، وحدود الإسلام ، لیس لأحد فضل إلاّ بالتقوی » .

« انظروا أهل دین اللّه فیما أصبتم کتاب اللّه ، وترکتم عند رسول اللّه ، وجاهدتم به فی ذات اللّه ، أم بحسب أو بنسب أم بعمل أم بطاعة أم زهادة ؟ وفیما أصبحتم فیه راغبین » .

وقال أیضا لتلک المرأة العربیّة التی ساءها تقسیم الغنائم إذ ساواها الإمام مع رجل أعجمی : «

إنّی لا أری فی هذا الفیء فضیلة لبنی إسماعیل علی غیرهم » . وجاء فی بعض کلماته ما مضمونه :

« نحن جند بلد واحد . وندافع جمیعنا عن عرض واحد ، ودین واحد . ونبغی غایة واحدة ، ولا فضل لأحد علی آخر . ومقام الحاکم مهما یُفْتَخَر به ، فهو خاضع لقانون

المساواة . نحن کلّنا إخوة متساوون » .

نظرة أُخری علی دور العوامل المادّیّة

صحیح أنَّ العناصر والامتیازات المادّیّة لا تستطیع ، فی ضوء ما تقدّم من توضیح ،

أن تنشئ وتضمن وحدة اجتماعیّة حقیقیّة ، ورباطا وطنیّا . ولا یمکن أبدا إرساء القواعد

لمجتمع واحد منظّم بالتوکّؤ علی عناصر مادّیّة نحو : العنصر ، والأرض ، والدم ، والتاریخ ، واللغة ، لکن لا یمکن التغاضی عن هذه الحقیقة أیضا ، وهی أنَّ هذه العناصر المادّیّة قد تمهّد

ص:187


1- الحجرات : 10 .
2- التوبة : 11 .
3- « أُصول الکافی » 1 : 333 ؛ « الخصال » ص 150 .

لعناصر الوحدة الحقیقیّة وأرکان الرباط الاجتماعی ، وتتولّی دورا ما فی بناء کیان الشعب .

والآن ینبغی أن نتطرّق إلی هذه النقطة متسائلین عن الدور الذی یمکن أن تؤدّیه العناصر المادّیّة المذکورة فی مجتمع منظّم مرتکز علی ( العناصر الحقیقیّة للوحدة

) ، والأثر الذی یمکن أن تترکه علی الوضع النوعی للشعب . ولا نرتاب أنَّ الاختلاف فی العناصر المشار إلیها سیترک أثره إلی حدّ ما علی الحیاة والمیول ، وجاذبیّة الغرائز ، وحتّی علی الوضع الکیفی لحیاة الإنسان . کما أنَّ له دورا ملحوظا فی العلاقات الاجتماعیّة أیضا .

بید أنَّ هذا اللون من التأثیر یبرز فی ظروف تتّکئ فیها العلاقات الاجتماعیّة علی أُسس العاطفة المتهرّئة ، والقواعد غیر الفکریّة . ولمّا کانت البنی الفکریّة والعقیدیّة تشکّل الأساس فی العلاقات الاجتماعیّة فإنَّ المیول الغریزیّة الحادّة والعواطف المنبعثة عن العناصر المادّیّة ، محکومة بالأُسس الفکریّة ، وفی ضوئها تأخذ طابعها المحدّد .

ولو شوهد فی بعض الحالات نوع من التضامن والاتّحاد علی أساس الاشتراک فی عنصر أو فی عدد من العناصر المادّیّة ، وجسّدت العواطف الهائجة - کالأمواج العابرة -

سرابا خادعا من الوحدة الوطنیّة یتراءی للناظرین ، فلأنَّ ذلک یعود إلی ظهور فکر واعتقاد مشترک عابر وکاذب فی مثل هذه الظروف عادة ، یؤدّی دورا جوهریّا فی تحقیق الوحدة الوطنیّة - علی النحو المؤقّت - بدیلاً عن الفکر الأصیل والثابت .

کما لو کان عکس هذا الفرض ، فعندما یتمتّع المجتمع بعقیدة وفکر مشترک وثابت ومتأصّل ، وعندما تتّکئ الحیاة الاجتماعیّة والتضامن الوطنی علی مثل هذه الرکیزة والوطیدة ، فلابدَّ للمیول والعواطف أن تتبدّل أیضا بشکل متناسب وموائم لتلک العقیدة

والفکر ، وتتجلّی فی قوام قشیب وموحّد تماما . علی سبیل المثال ، تتّخذ ( عاطفة حبّ

الوطن ) طابعا آخر ، والوطن من منظار الجمهور الذی یبنی حیاته الاجتماعیّة فی ظلّ الفکر والعقیدة الواحدة هو العقیدة ، وتتوسّع الأرض أو تتجدّد متزامنة مع العقیدة ، کما أنَّ الاشتراک فی الدم أیضا یتّخذ طابعا أکثر تعقّلاً بصورة تامّة ، والعقیدة کالدم تمثّل رصیدا لحیاتهم الاجتماعیّة ، وتشعرهم بالأُخوّة فیما بینهم . ومثل هذه العقیدة یصنع تاریخا ویوجد عنصرا واحدا ، وکثیرا ما تنبثق عنه وحدة اللغة أیضا ، وکما لوحظ فإنَّ لغة خاصّة بوصفها لغة ذلک الفکر والعقیدة تختصّ بتلک العقیدة . وعبر هذا الطریق تعالج مشکلة

ص:188

(

وحدة اللغة ) التی یدعمها البعض بقوّة ، ویراها العنصر الوحید أو العنصر المؤثّر فی

الوحدة القومیّة .

لا یخالجنا الشکّ أنَّ مجتمعا تصنعه مثل هذه الوحدة الحقیقیّة ، هو مجتمع یغمره الانسجام والتضامن والاتّساق فی جمیع زوایاه . والوحدة فی الأبعاد التی ذکرناها من

المظاهر التی لا تقبل الانفصال للوحدة الحقیقیّة ( العقیدة ) التی یتّسم بها ذلک المجتمع . وأ نَّی کانت العواطف المنبثقة عن الاشتراک فی الدم مضادّة لمتطلّبات العقیدة ، فإنَّها لا تظهر إلی عالم الوجود . وسوف تذوب هذه العواطف المضادّة بفعل القوّة التی تصنعها العقیدة فی القلوب ، وتتحقّق هذه الحالة فی البدایة علی شکل فعل وانفعالات نفسیّة وبصورة فردیّة ثمَّ تتوازن شیئا فشیئا ، وفی الحالات التی تتسرّب فیها أعراض هذه العواطف المضادّة إلی

المجتمع ، فللمجتمع أن یستخدم سلطته العامّة للقضاء علی هذه الانتهاکات وفقا لمیثاق

مشترک یربط حقوق الناس جمیعهم بعضها ببعض .

بید أ نّنا ینبغی أن لا ننسی بأنَّ إدانة العواطف المنبعثة عن الاشتراک فی العناصر المادّیّة

إنَّما تتحقّق عندما تکون لتلک العواطف مظاهر سلبیّة وحالات مضادّة أمام متطلّبات ( العقیدة ) والقانون . وأمَّا فی الحالات التی لا تفضی فیها الوحدة فی الدم ، والانتماء القبلی ، والأرض ، والعنصر إلی عواطف غیر منغّصة ، کحبّ الآباء لأبنائهم ، أو العواطف التی

تسود بین أفراد القبیلة الواحدة أو السلالة الواحدة ، فلا شکّ أ نَّها غیر مدانة

، ولعلّها تکون مقبولة أیضا وفقا لمتطلّبات خاصّة تنشأ عن وحدة العقیدة .

المواطنة علی أساس القومیّة

یمکن أن تبرز الأفکار القومیّة فی المجتمع وتترک أثرها - بعامّة - فی الأشکال الثلاثة الآتیة :

1 - وسیلة للحصول علی مکاسب قانونیّة .

2 - وسیلة للتفاخر وإقرار النظام الارستقراطی .

3 - عواطف إیجابیّة لا تسبّب إحراجا لحقوق الآخرین .

إنَّ اللافت للنظر أکثر فی التوکّؤ علی الأفکار القومیّة هو استخدام هذه الأفکار من

ص:189

أجل الحصول علی مکاسب قانونیّة . وقد برهنّا فی المباحث المتقدّمة علی إدانة هذه النظریّة

من منظار العقل والمنطق وکذلک من منظار الفکر الإسلامی ، ونبّهنا علی أنَّ الإسلام یحارب هذا اللون من التفکیر حربا لا هوادة فیها ، ویری أنَّ الکفاح للتحرّر من ربقة هذا التفکیر یدخل فی دائرة الضرورات الفکریّة والعملیّة لکلّ مسلم .

وکذلک استخدام الأفکار القومیّة للتفاخر وإقرار النظام الارستقراطی فإنَّه مدان من منظار ( المنطق الإسلامی ) . إذ نری القرآن بتعالیمه المؤکّدة یردع المسلمین من أن یکونوا من أصحاب هذا التوجّه السقیم ، ویوجّههم قائلاً : « یَاءَیُّهَا الَّذینَ امَنُوا لاَ یَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسی اَنْ یَکُونُوا خَیْرًا مِنْهُمْ وَ لاَ نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسی اَنْ یَکُنَّ خَیْرًا مِنْهُنَّ ... » (1) . ویقول أیضا : « تِلْکَ الدَّارُ الاْخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذینَ لاَ یُریدُونَ عُلُوًّا فِی الاَْرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَ الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقینَ » (2) .

وعندما سمع النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله أنَّ أحد الصحابة عیّر رجلاً أسود بسواده ، غضب وقال : « أتعیّره بسواد أُمّه ؟! أنت امرؤ فیک جاهلیّة » . ولمّا رأی الصحابی ذلک من النبیّ صلی الله علیه و آلهندم علی ما قال ، وأثّرت فیه کلمة النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله تأثیرا جعله یضع خدّه علی الأرض ویطلب من المسلم الأسود أن یضع قدمه علی خدّه .

وجاء قیس بن مطاطیة إلی حلقة فیها سلمان الفارسیّ ، وصهیب الرومیّ ، وبلال الحبشیّ فقال : هذا الأوس والخزرج قد قاموا بنصرة هذا الرجل ( النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله ) فما بال هؤلاء ؟ [ یرید سلمان وصاحبیه ] . فلمّا بلغ النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله مقالته ، قام مغضبا ودعا إلی الصلاة جامعة ، وقال : « یا أیُّها الناس ، إنَّ الربّ واحد ، والأب واحد . وإنَّ الدین واحد . ولیست العربیّة بأحدکم من أب ولا أُمّ ، وإنَّما هی اللسان » (3) .

وقال الإمام الصادق علیه السلام لرجل کان یقول : أنا فی الحسب الضخم من قومی : « إنَّ اللّه رفع بالإیمان من کان الناس یسمّونه وضیعا إذا کان مؤمنا ووضع بالکفر من کان الناس یسمّونه

شریفا إذا کان کافرا ، فلیس لأحد فضل علی أحد إلاّ بالتقوی » (4) .

ص: 190


1- الحجرات : 11 .
2- القصص : 83 .
3- « تفسیر المنار » 11 : 259 .
4- « سفینة البحار » 1 : 661 .

من الضروری هنا التذکیر بأنَّ التفاضل بالتقوی الوارد فی القرآن والمصادر الإسلامیّة الأُخری لا یعنی أنَّ القانون الإسلامی یجعل للمتّقین امتیازا معیّنا ، وأنَّ لهذه الشریحة شخصیّة قانونیّة متمیّزة ، أو أنَّ المسلم یستطیع أن یستغلّ هذا التفاضل فیجعل لنفسه

امتیازا من حیث القانون والمجتمع ، بل إنَّ هذا التفاضل هو تفاضل معنویّ بحت وله بُعد

أخلاقی ، ولیس فی قانون المساواة الإسلامی فصل متمیّز عن غیره أبدا . وهذا الامتیاز

المعنوی فی الإسلام یحظی بالاهتمام فی مجال اختیار العناصر الصالحة لتسنّم المناصب الاجتماعیّة والسیاسیّة وغیرها . ویتمّ اختیار الحکّام والقادة والموظّفین والمسؤولین

التنفیذیّین فی الحکومة الإسلامیّة من هذه الشریحة فحسب وفقا لشروط خاصّة .

أمَّا الشکل الثالث من مظاهر الأفکار القومیّة الذی ذکرناه فی مستهلّ حدیثنا تحت عنوان : عواطف إیجابیّة ، فمضافا إلی أ نَّه فی بعض الحالات قد یستمدّ وجوده من نقصان

المبدأ الإیمانی والعقیدی ، ویظهر بسبب عدم رسوخ الإیمان والعقیدة رسوخا تامّا ، فإنَّه

مالم یصطدم بحقوق الآخرین ، وزالت سلبیّاته ، فهو بلا شکّ لیس مثارا للنزاع ، ویحظی

بتأیید الإسلام فی مجال رابطة الدم . فالتعبیر عن العاطفة والحبّ حیال الأب والأُمّ

والأرحام مستحسن حتّی مع وجود الاختلاف فی العقیدة .

وکما جاء فی بعض المصادر الإسلامیّة ، فإنَّ التعصّب المذموم والمرفوض فی الإسلام لیس التعصّب الذی یُجَسَّد بشکل عواطف إیجابیّة ودّیّة حیال القوم والسلالة و

... ، بل هو التعصّب المدان الذی یجری فی غیر سدد ، وهو عبارة عن التعصّب الذی یتجلّی بالشکلین

المشار إلیهما ، ویکون مدعاة للتمییز القانونی أو الاختلاف الطبقی وإقرار نظام الإتراف .

وعندما شاهد النبیّ الأکرم تعجّب ( جویبر ) الشابّ الأسود ، لمّا عرض علیه الزواج من ( الذلفاء ) وهی بنت جمیلة لأحد الأشراف ، قال : « یا جویبر ، الناس کلّهم أبیضهم ، وأسودهم ، وقرشیّهم ، وعربیّهم ، وعجمیّهم لآدم وآدم من تراب . یا جویبر ، لیس لأحد من المسلمین فضل علیک ، إلاّ أن یکون أتقی منک » . وقال لزیاد والد الذلفاء الذی أمر بتزویج

بنته لجویبر ، وکان قد سأل متعجّبا عن هذا الزواج : « یا زیاد ، جویبر إنسان مؤمن ، والمؤن کفؤ المؤمنة . یا زیاد ، زوّجه بنتک ، ودع حسبه » .

وأتی أمیرَ المؤمنین علیّا علیه السلام عبد اللّه بن عمر ، وولد أبی بکر ، وسعد بن أبی وقّاص

ص:191

یطلبون منه التفضیل لهم ، فقال من خطبة له :

« من استقبل قبلتنا ، وأکل ذبیحتنا ، وآمن بنبیّنا ، وشهد شهادتنا ، دخل فی دیننا ، أجرینا علیه حکم القرآن ، وحدود الإسلام ، لیس لأحد فضل إلاّ بالتقوی ... انظروا أهل دین اللّه فیما أصبتم کتاب للّه ، وترکتم عند رسول اللّه ، وجاهدتم به فی ذات اللّه أم بحسب أو بنسب أم بعمل أم بطاعة أم زهادة ؟ وفیما أصبحتم فیه راغبین » (1) .

وقال الإمام موسی بن جعفر علیه السلام فی رجل من أهل السواد دمیم المنظر : « عبد من عبید اللّه ، وأخ فی کتاب اللّه ، وجار فی بلاد اللّه ، یجمعنا وإیّاه خیر الآباء آدم وأفضل الأدیان الإسلام » (2) .

وقال رجل من أهل بلخ : کنت مع الرضا علیه السلام فی سفر ، فدعا یوما بمائدة له ، فجمع علیها موالیه من السودان وغیرهم ، فقلت : لو عزلت لهؤلاء مائدة ، فقال : « إنَّ الربّ تبارک وتعالی واحد ، والأُمّ واحدة ، والأب واحد ، والجزاء بالأعمال » (3) .

تقسیم الشعوب

ناقش الفقهاء بشکل ضمنی نوعا من التحزّب السیاسی فی قالب مسألة قانونیّة من خلال طرح أنواع العقود والاتّفاقیّات المشروعة مع الشعوب والجماعات المختلفة ، لأنَّ لکلّ واحد من هذه العقود عنوانا خاصّا فی الفقه ، کما نجد الصلح ، والمهادنة ، والمحایدة ، والذمّة ، والاستئمان ، والموادعة(4) مفردات معدّة للتعبیر عن جماعة خاصّة . وهکذا فإنَّ الشعوب التی تشکّل طرفا فی هذه العقود تنقسم من الناحیّة العقیدیّة والسیاسیّة إلی أقسام

متنوّعة ، وتبعا لهذا التقسیم ، تنقسم الأراضی والدول التی تقیم فیها تلک الجماعات من حیث الجغرافیة السیاسیّة إلی عدد من الکتل أو المعسکرات التی یصطلح علیها الفقهاء اسم : الدار .

إنَّ أهمّ تقسیم فقهی یخصّ الشعب هو :

ص: 192


1- « روضة الکافی » ص 304 .
2- « تحف العقول » ص 413 .
3- « سفینة البحار » ص 767 .
4- یرجع إلی الفصل الخاصّ بالعقود من هذا الکتاب .

1 - شعب تسوده علاقة الأُخوّة الإسلامیّة ویعیش فی سلم تامّ ، وکلّ أفراده یعتقدون بالإسلام ، والتمییز بینهم لیس قانونیّا .

یطلق علی هذا الشعب اسم : ( الأُمَّة الإسلامیّة ) . قال تعالی : « اِنَّ هذِهِ اُمَّتُکُمْ اُمَّةً وَاحِدَةً وَ اَنَا رَبُّکُمْ فَاص عْبُدُونِ » (1) . ویطلق علیه أیضا : الأُمّة الوسط(2) .

2 - شعب انضمّ إلی المسلمین بعد أن أعلن إسلامه ، واختار السکن فی أرض المسلمین . ویطلق علیه اسم المهاجرین . قال تعالی : « لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرینَ الَّذینَ اُخْرِجُوا مِنْ دِیَارِهِمْ وَ اَمْوَالِهِمْ » (3) .

3 - جماعة ظلّت تعیش بین الکفّار بعد إسلامها ولم تخرج عن أرضهم . یعبّر القرآن عنها : المستضعفین . قال جلّ من قائل : « قَالُوا فیمَ کُنْتُمْ قَالُوا کُنَّا مُسْتَضْعَفینَ فِی الاَْرْضِ قَالُوا اَلَمْ تَکُنْ اَرْضُ اللّه ِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فیهَا » (4) .

4 - أصحاب الأدیان السماویّة وهم : الیهود ، والنصاری ، والمجوس . یسمّی القرآن هؤلاء : أهل الکتاب(5) . وعندما یکون لهم عقد ذمّة مع المسلمین فإنَّهم یسمّون : أهل الذمّة(6) ، أو أهل الجزیة(7) .

5 - الکفّار الذین لیس لهم أعمال عدائیّة ضدّ الإسلام والمسلمین وترکوا عقد معاهدة مع المسلمین . ویسمّی هؤلاء : أهل الحیاد(8) .

ص:193


1- الأنبیاء : 92 . وقال تعالی : « رَبَّنَا وَ اجْعَلْنَا مُسْلِمَیْنِ لَکَ وَ مِنْ ذُرِّیَّتِنَآ اُمَّةً مُسْلِمَةً لَکَ »- البقرة : 128 .
2- « وَکَذلِکَ جَعَلْنَاکُمْ اُمَّةً وَسَطًا لِتَکُونُوا شُهَدَاءَ عَلَی النَّاسِ وَ یَکُونَ الرَّسُولُ عَلَیْکُمْ شَهیدًا » - البقرة : 143 .
3- الحشر : 8 . ویرجع أیضا إلی « جواهر الکلام » 21 : 34 .
4- النساء 97 ؛ وکذلک الآیة 98 والآیة 127 .
5- - « قُلْ یَآ اَهْلَ الْکِتَابِ تَعَالَوْا اِلی کَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَیْنَنَا وَبَیْنَکُمْ » آل عمران : 64 .
6- یرجع إلی « جواهر الکلام » 21 : 227 ؛ و « نیل الأوطار » 7 : 63 ؛ و « المحلّی » 7 : 306 ؛ و « البحر الزخّار » 5 : 263 ؛ و « تذکرة الفقهاء » 1 : 438 ؛ و « المبسوط » 2 : 43 .
7- « قَاتِلُوا الَّذینَ لاَ یُؤْمِنُونَ بِاص للّه ِ وَلاَ بِاص لْیَوْمِ الاْخِرِ وَلاَ یُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّه ُ وَرَسُولُهُ وَلاَ یَدینُونَ دینَ الْحَقِّ مِنَ الَّذینَ اُوتُوا الْکِتَابَ حَتّی یُعْطُوا الْجِزْیَةَ عَنْ یَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ » - التوبة : 29 .
8- یرجع إلی « آثار الحرب » للدکتور وهبة الرحیلی : 197 و 400 . علی الرغم من أنَّ کلمة الحیاد جدیدة فی القانون الدولیّ العرفی بَیدَ أ نَّها تنسجم مع المعاییر القائمة . ولنا بحث مستقلّ فی هذا الحقل سنتطرّق إلیه فی الفصول القادمة .

6 - جماعة تنهی تعاملها العدائی من خلال الهدنة مع المسلمین بید أ نَّها ترفض عقد معاهدة معهم . وتسمّی هذه الجماعة : أهل الاعتزال . قال تعالی : « لاَ یَنْهیکُمُ اللّه ُ عَنِ الَّذینَ لَمْ یُقَاتِلُوکُمْ فِی الدّینِ وَ لَمْ یُخْرِجُوکُمْ مِنْ دِیَارِکُمْ اَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا

اِلَیْهِمْ » (1) .

7 - الشعوب التی عقدت مع المسلمین معاهدة الصلح . وتسمّی : أهل الصلح . قال تعالی : « فَاِنِ اعْتَزَلُوکُمْ فَلَمْ یُقَاتِلُوکُمْ وَاَلْقَوْا اِلَیْکُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّه ُ لَکُمْ عَلَیْهِمْ

سَبیلاً » (2) .

الشقّ الأوّل من الآیة یخصّ أهل الاعتزال . أمَّا الشقّ الثانی فإنَّه یتحدّث عن جماعة أُخری تمثّل فی الحقیقة جزءا من أهل الاعتزال ، وقد خضعت لمعاهدة الصلح .

8 - جماعة استفادت من عقد الأمان ، ویطلق علیها اسم : المستأمنة . وقد خصّص الفقهاء بابا واسعا للبحث حول عقد الأمان وشروطه وحقوق المستأمنین ، وهو ما سنتحدّث عنه فی قسم مستقلّ(3) .

وقد یعیش المستأمن فی الأرض الإسلامیّة بین المسلمین . وقد یعیش فی أرض الکفّار وفی محلّ خارج عن نطاق الحکومة الإسلامیّة . وهو ما یمکن أن ینطبق علی الفارّین

من مکّة إذ فرّوا إلی مناطق واقعة بین مکّة والمدینة بعد إسلامهم خوفا من تعذیب قریش . ووفقا لما جاء فی صلح الحدیبیّة لا یحقّ لأیّ طرف من الأطراف أن یتعرّض إلی هذه المناطق . ویعتبر هؤلاء مستأمنین شاء الإنسان أم أبی(4) .

9 - الجماعات التی بینها وبین الحکومة الإسلامیّة هدنة ، وتعیش فی أجوائها علی النحو المؤقّت . یقال لهذه الجماعات : أهل الهدنة(5) .

10 - الجماعات التی ترکها المسلمون وشأنها بسبب انعدام القدرة الکافیة فیهم

ص:194


1- الممتحنة : 8 .
2- النساء : 90 .
3- یرجع إلی « جواهر الکلام » 21 : 92 ؛ و « تذکرة الفقهاء » 1 : 414 » و « المحلّی » 7:306 ؛ و « فتح القدیر » 4 : 353 .
4- یرجع إلی « تاریخ الطبری » 2 : 284 .
5- یرجع إلی « جواهر الکلام » 21 : 113 ؛ و « المبسوط » 2 : 50 ؛ و « تذکرة الفقهاء » 1 : 447 ؛ و « البحر الزخار » 5 : 451 .

لخوض الجهاد . وقد اصطلح الفقه علی هذه الحالات عنوان : الموادعة . ویقال لهذه الجماعات : أهل الموادعة(1) .

11 - الجماعة التی بینها وبین المسلمین نوع من العهد ، وتسمّی : أهل العهد . قال تعالی : « فَاَتِمُّوا اِلَیْهِمْ عَهْدَهُمْ اِلی مُدَّتِهِمْ » (2) .

12 - الجماعة التی بینها وبین المسلمین حرب ، وتسمّی : أهل الحرب . قال جلّ شأنه : « اِنَّمَا جَزَاؤُا الَّذینَ یُحَارِبُونَ اللّه َ وَرَسُولَهُ ... » (3) .

13 - جماعة أو أفراد یخلّون بالنظام ، ویبثّون الخوف والإرهاب ، ویفسدون ولا یصلحون . یسمّی هؤلاء : المفسدین ، أو أهل الفساد . قال عزّ اسمه : « وَیَسْعَوْنَ فِی الاَْرْضِ فَسَادًا » (4) .

14 - أفراد أو جماعة من المسلمین تتمرّد ضدّ الإمام والحکومة الإسلامیّة ، وتعتزم الإطاحة بالنظام الإسلامی . یدعی هؤلاء : البغاة(5) .

15 - جماعة تتمرّد ضدّ تطبیق الأحکام الإسلامیّة ، وترتدّ عن الدین . فتسمّی : أهل الردّة(6) .

وفی ختام حدیثنا عن تقسیم الشعوب من منظار الفقه السیاسی ، ینبغی الالتفات إلی أنَّ هذا التقسیم ینطلق من رؤیة عقیدیّة بالنسبة إلی بعض الأقسام ، کالتقسیم الذی یتّکئ

علی الإیمان بالإسلام أو بأحد الأدیان الرسمیّة ( الیهودیّة ، والنصرانیّة ، والمجوسیّة ) . أمَّا بالنسبة إلی البعض الآخر ، فإنَّه ینطلق من رؤیة حقوقیّة کالتقسیم المتّبع فی ضوء معاهدة

الذمّة ، والصلح ، والاستیمان ؛ وثمّة حالات أُخری یتّخذ فیها التقسیم طابعا سیاسیّا بحتا ، کما نجد فی التقسیم المتوکّئ علی الهدنة ، والحیاد ، والاعتزال .

ص: 195


1- یرجع إلی « شرح السیر للشیبانیّ » لمحمّد بن أحمد السرخسیّ 5 : 1689 .
2- التوبة : 4 .
3- المائدة : 33 .
4- نفسها .
5- یرجع إلی « جواهر الکلام » 21 : 328 ؛ و « تذکرة الفقهاء » 1 : 452 .
6- یرجع إلی « تذکرة الفقهاء » 1 : 457 .

المبحث الثانی : الأرض - النطاق الجغرافی

اشارة

جاءت کلمة الأرض فی القرآن فی أکثر من 500 موضع منه . وقد ذکرت فی تلک المواضع جمیعها بوصفها محلاًّ للسکن وحیاة الإنسان . واللافت للنظر هنا أنَّ أحدا من

الفقهاء لم یتوکّأ علی آیة قرآنیّة واحدة لإثبات الاختصاص بالأرض علی سبیل الملکیّة وغیرها .

مع هذا ، فقد طرحت فی الإسلام ضروب من الاختصاص حیال الأرض ، فنسبت الأرض إلی الإنسان ، وفوّض إلیه حقّ الاختصاص بها ، حیث تمّ الاعتراف بهذا الحقّ قانونیّا فی ضوء ما تفیده الآیة الکریمة : « إنَّ الأرض للّه » . من هذا المنطلق لا یصطدم حقّ الاختصاص أبدا بصلاحیّات ولیّ الأمر .

من البدیهی أنَّ لاختصاص الأرض باللّه مفهوما تکوینیّا وحقیقیّا ، أمَّا اختصاصها بالإنسان ، فإنَّه یتحقّق فی إطار القانون ، وبنحو اعتباری ، وبالأشکال الآتیة :

أ - الأراضی الخاصّة

وهی الأراضی المعترف بملکیّتها فی المجال الشخصی . ویمکننا تقسیمها إلی(1) :

1 - أراضی الموات التی تمَّ إعمارها بواسطة الأشخاص .

2 - الأراضی التی انتقلت إلی أحد عن طریق الإرث أو عن طریق القنوات القانونیّة الأُخری .

3 - جمیع الأراضی التی أسلم أهلها طوعا .

4 - أراضی الصلح التی سجّل أصحابها الحقیقیّون ملکیّتهم الرسمیّة لها فی معاهدة الصلح مع المسلمین .

ب - الأراضی العامّة

وهی الأراضی التی تعود إلی المسلمین وجمیع أفراد المجتمع الإسلامی . وقد فصّلت کالآتی :

ص:196


1- یرجع إلی الفصل التاسع : الأُسس الفقهیّة للمبادئ العامّة للدستور : 276 - 280 .

1 - الأراضی المفتوحة عنوة ، وهی الأراضی التی استولی علیها الجیش الإسلامی بالحرب .

2 - أراضی الصلح التی فُوّض أمرها إلی عامّة المسلمین وفقا لمعاهدة .

إنَّ الأراضی العامّة هی تحت تصرّف الحکومة الإسلامیّة ، وتنفق عائداتها فی طریق المصالح الإسلامیّة وسدّ الحاجات العامّة .

ج - الأراضی الحکومیّة

تعود الأراضی الحکومیّة التی تشمل الأنفال إلی الحکومة الإسلامیّة ( الإمام ) ، وتُنْفَقُ عائداتها فی شؤون الحکومة الإسلامیّة ومهامّها وتوسیع أُمورها . وهذه الأراضی

هی :

1 - أراضی الموات ( الأراضی التی لم تعمر قطّ ) .

2 - الأراضی العامرة بشکل طبیعی ، کالغابات ، والمراتع ، وسواحل البحار .

3 - الأراضی المستجدّة(1) وجمیع الأراضی التی لیس لها مالک .

4 - الأراضی التی استولی علیها المسلمون من غیر حرب سواء کانت قد فوّضت إلی المسلمین قبل الحرب ، أو أنَّ أهالیها استسلموا من غیر حرب وبقوا فیها .

5 - الإقطاعات والأملاک الشخصیّة العائدة إلی حکّام الأراضی المفتوحة .

6 - الأراضی الحربیّة التی فتحت بدون إذن الإمام .

إنَّ جمیع الحالات التی جاءت فیها الأراضی الخاصّة ، والعامّة ، والحکومیّة هی من مصادیق الأراضی الملکیّة ، بید أنَّ القرآن یتحدّث عن نوع آخر من الأراضی التی تسمّی

فی عرف القانون : الأرض ونطاق نفوذ الحکومة .

د - الأرض أو نطاق السیادة

نسب القرآن الأرض إلی الشعوب فی بعض آیاته ، فهو یقول ، نقلاً عن الذین واجهوا

ص: 197


1- الأراضی المستجدّة عبارة عن الأراضی الجافّة الجدیدة التی تنشأ بسبب انخفاض مستوی المیاه فی سواحل البحار أو أ نَّها تکون علی شکل جزیرة .

دعوة الأنبیاء ، فیما خُیِّلَ إلیهم أنَّ الأنبیاء یحاولون السیطرة علی أرضهم کالجبابرة والطواغیت : « قَالُوا اِنْ هذَانِ لَسَاحِرَانِ یُریدَانِ اَنْ یُخْرِجَاکُمْ مِنْ اَرْضِکُمْ بِسِحْرِهِمَا » (1) . ویقول : « وَ قَالَ الَّذینَ کَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّکُمْ مِنْ اَرْضِنَا اَوْ لَتَعُودُنَّ فی مِلَّتِنَا » (2) . ویقول أیضا : « قَالَ اَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ اَرْضِنَا بِسِحْرِکَ یَا مُوسی » (3) . ( أُطلقت الأرض فی هذه المواضع علی نطاق نفوذ السلطة حیث الشعب ، والحکومة ، والسلطات العامّة ، ونسبت إلی الشعب ) .

لا

ریب أنَّ هذا النوع من الاختصاص لیس له طابع مِلکیّ ، بل یمثّل نوعا من الاختصاص القانونی الذی یتّسم بوجود أحکام وآثار قانونیّة ملحوظة . منها أنَّ هذا الاختصاص یمثّل مسوّغا للدفاع وباعثا علی الجهاد عند انتهاک هذا اللون من الأرض التی

هی تحت تصرّف الأُمَّة والحکومة بصورة قانونیّة . ویری القرآن أنَّ الاعتداء علی الأرض

من بواعث الجهاد والقتال ، لأ نَّه فی الآیات المشار إلیها لا یفنّد مزاعم فرعون والجهلة

الذین لم یستوعبوا حقیقة دعوة الأنبیاء بصورة صحیحة ، بل إنَّه یخطّئ تسرّب هذا المبدأ

العامّ فیما یخصّ الأنبیاء ، أو یعتبره دسیسة سیاسیّة فی قضیّة فرعون .

وجاء هذا النوع من الأرض فی عدد من الآیات مفسَّرا بالدار والدیار أیضا ، قال تعالی : « فَقَالَ تَمَتَّعُوا فی دَارِکُمْ ثَلثَةَ اَیَّامٍ » (4) . وقال جلّ شأنه : « اَلَمْ تَرَ اِلَی الَّذینَ خَرَجُوا مِنْ دِیَارِهِمْ وَهُمْ اُلُوفٌ » (5) .

وتمَّ فی آیات الجهاد أیضا التندید بإخراج الناس من دیارهم وبلادهم ، وأمر المسلمون بالجهاد بسبب هذا اللون من الاعتداء . قال جلّ من قائل : « فَاص لَّذینَ هَاجَرُوا وَاُخْرِجُوا مِنْ دِیَارِهِمْ وَاُوذُوا فی سَبیلی وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا » (6) . وأعلن القرآن حالة العداء فی مواجهة هؤلاء المعتدین ، ومنع المجتمع الإسلامی من الارتباط بهم وإقامة

ص: 198


1- طه : 63 .
2- إبراهیم : 13 .
3- طه : 57 .
4- هود : 65 .
5- البقرة : 243 .
6- آل عمران : 195 .

علاقات ودّیّة معهم . قال عزّ اسمه : « اِنَّمَا یَنْهیکُمُ اللّه ُ عَنِ الَّذینَ قَاتَلُوکُمْ فِی الدّینِ وَ اَخْرَجُوکُمْ مِنْ دِیَارِکُمْ » (1) . وبالإمعان فی هذه المفردات ، نحو : أرضکم ، أرضنا ، دارکم ، دیارهم ، ودیارکم ، یستبین المفهوم الجغرافی للدولة ، أو المفهوم القانونی لدائرة نفوذها فی الاصطلاح السیاسی .

وعلی الرغم من أنَّ تقسیم الأرض إلی قسمین هما دار الإسلام ، ودار الکفر - فی ضوء سیادة الإسلام أو سیادة الکفر - لم یرد فی القرآن بصراحة ، إلاّ أنَّ الفقهاء لم یجدوا مناصا من إیضاح الآثار القانونیّة لهاتین المنطقتین توکّؤا علی الروایات الإسلامیّة الموثوقة . وسنعرض لهذا الموضوع بالتفصیل فی بحوثنا القادمة .

إنَّ تخصیص أرض لشعب ما ، کما جاء فی القرآن ، یعکس لنا هذه الحقیقة ، وهی أنَّ هذا التخصیص قد نال حظّه من الاعتراف ، حتّی لو لم یؤمن ذلک الشعب بدین اللّه

، ولم یتّبع الأحکام الإلهیّة ودعوة الأنبیاء أیضا . قال تعالی : « وَ اَوْرَثَکُمْ اَرْضَهُمْ وَ دِیَارَهُمْ وَ اَمْوَالَهُمْ وَ اَرْضًا لَمْ تَطَٔوهَا » (2) . فهذه الآیة ، التی نزلت فی مجال الاستیلاء علی الأراضی والأموال العائدة إلی یهود بنی قریظة فی أعقاب خیانتهم ، تبیّن لنا سیادة هؤلاء علی أراضیهم قبل خیانتهم ، وهذه السیادة کانت محترمة . ویطبّق هذا الاحترام علی کافّة الأراضی التی لا ینوی أهلها انتهاک حرمة الأراضی الإسلامیّة ، ولا یشکّلون خطرا علی الإسلام والمسلمین سواء بالقوّة أم بالفعل . وقد صرّح القرآن

بذلک فقال : « لاَ یَنْهیکُمُ اللّه ُ عَنِ الَّذینَ لَمْ یُقَاتِلُوکُمْ فِی الدّینِ وَ لَمْ یُخْرِجُوکُمْ مِنْ دِیَارِکُمْ اَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا اِلَیْهِمْ » (3) .

من البدیهی - فی ضوء طبیعة الفکر الإسلامی الذی یتمیّز بشمولیّته ودعوته العالمیّة - أنَّ هذا اللون من الاعتراف هو من أجل الاتّفاق علی القواسم المشترکة لبلوغ

وفاقات أکثر ، ومن ثمَّ بلوغ السلم ، والنهج الواحد والحکومة العالمیّة الموحّدة فحسب .

إنَّ الإسلام دین واقعی ، ویأخذ بعین الاعتبار الضرورات القائمة ، ویبدأ بالأُسس والجذور مستهدفا قطع دابر الحقائق المنکرة ، وما هو قائم ، وما لا ینبغی أن یکون ؛ ویعالج

ص: 199


1- الممتحنة : 9 .
2- الأحزاب : 27 .
3- الممتحنة : 8 .

الأُمور مرحلیّا .

إنَّ إلغاء الحقائق القائمة ، وعدم الاعتراف بالحکومة التی لم تنبثق عن إرادة الشعب أو التی فرضت علیه من قبل شخص أو جماعة ، یکتسح کلّ ضرب من ضروب الإمکان لبلوغ الغایة المنشودة ، بینما نجد أنَّ الاعتراف النسبی والمؤقّت یفسح المجال أمام الحکومة الإسلامیّة أن تعالج المشکلة مرحلیّا ، وأن تبدأ بهذا العلاج من ألوان الوفاق النسبی فی القواسم المشترکة الموجودة . وهذه سیاسة تحتاج إلی اعتراف نسبی ، وتجد شرعیّتها من

باب الضرورات تبیح المحظورات . ومن ثمَّ تصبح - فی ضوء المبدأ القائل : الضرورات تقدّر بقدرها - منبعا لآثار قانونیّة فی المعاهدات والعلاقات السیاسیّة السلمیّة بشکل محدود .

إنَّ الوطن فی اصطلاح الفقهاء هو عبارة عن الأرض التی یتّخذها الإنسان سکنا له ، فینشأ بینهما نوع من التعلّق والانشداد والتخصیص ، ممّا تترتّب علیه أحکام وآثار فقهیّة

کثیرة من الناحیة الفقهیّة .

ویقسّم الفقهاء الوطن إلی ثلاثة أقسام :

1 - الوطن الأصلی الذی یولد فیه الإنسان ، ویعیش فیه أبواه . یجد الطفل نوعا من العلاقة القانونیّة بالمحلّ الذی یسکنه أبواه تبعا لهما ، وبعد بلوغه ، تشمله آثاره الفقهیّة . ولا تأثیر للملکیّة فی الأرض علی الآثار القانونیّة لهذا الوطن .

2 - الوطن العرفی أو المستجدّ ، ویعنی المحلّ الجدید الذی یختاره الإنسان لسکنه خارج وطنه الأصلی . ویکفی قصد السکن الدائم فیه لیصدق علیه عنوان الوطن العرفی . ولیس ثمّة ضرورة لعلاقة الملکیّة فی هذا الوطن المستجدّ .

ومتی عاش هذا الإنسان مدّة فی الوطن الجدید بحیث یعتبر وطنه فی عرف الناس ، فستترتّب علیه الآثار القانونیّة والفقهیّة للوطن .

إنَّ هذه المدّة الضروریّة للصدق العرفی للوطن تتباین تبعا للأشخاص أنفسهم ، فتتغیّر مع الظروف المعیشیّة ، والعمل ، والبیئة . ولعلّ إقامة شهر واحد یصدق علیها اسم الوطن عرفا بالنسبة إلی البعض ، وربّما یکفی أقلّ من شهر أیضا بالنسبة إلی البعض الآخر .

وأیّا کان الموضوع فالفقهاء یصرّحون بأ نَّه لا ضرورة لإقامة ستّة أشهر ، بید أنَّ قصد السکن الدائم یحقّق عنوان الوطن العرفی ، علما أنَّ بعض الفقهاء لم یشترط وجود ذلک

ص: 200

القصد أیضا ، ولکن اشترط عدم وجود مدّة معیّنة لقصد الإقامة . وکثیر من الفقهاء لم یشترط القصد أیضا بل اعتبر عنوان الوطن صادقا من خلال طول الإقامة(1) . وهکذا یمکن أن یکون للشخص الواحد أکثر من وطن .

3 - الوطن الشرعی ، وهو المعبّر عنه فی بعض الروایات بالاستیطان . ینقل ابن بزیع أحد أصحاب الإمام موسی الکاظم علیه السلام قائلاً : فقلت ما الاستیطان ؟ فقال : أن یکون فیها منزل یقیم فیه ستّة أشهر ، فإذا کان کذلک یتمّ فیها متی دخلها (2) .

یشترط الفقهاء فی صدق الوطن الشرعی شرطین جوهریّین هما :

الأوّل : الإقامة ستّة أشهر کحدّ أدنی .

الثانی : التملّک .

بید أنَّ کثیرا من الفقهاء لا یرون الوطن الشرعی معتبرا ، ویعدّونه فاقدا للأثر الفقهی

والقانونی(3) .

العالم الإسلامی

إنَّ ظهور المدارس الفکریّة الکبری التی تتّسم بالشمولیّة والعالمیّة تتواکب بالضرورة مع انقسامات المجتمع البشری . فالأتباع والأنصار - عادة - فی جانب ، والمعارضون والأعداء فی جانب آخر .

وبعد ظهور الشیوعیّة واتّساع نفوذها ، شهد المجتمع البشری أکبر وأوضح مظهر من مظاهر الانقسام من الناحیة الفکریّة ، وقد انشطر العالم الیوم إلی معسکرین هما : المعسکر

الرأسمالی ، والمعسکر الشیوعی ، ویهدّد التناقض بین المعسکرین المجتمع البشری فی کلّ

لحظة بأخطار لا یمکن تلافیها .

نجد فی هذا الانقسام الذی نشأ من منظار فکری أنَّ المعسکر الشیوعی لم یقیّد بالستار الحدیدی للبلدان الشیوعیّة ، وإنَّما یضمّ إلیه کلّ من انتهج أفکار هذه المدرسة بحیث إنَّ الشیوعی الأمیرکی أو السویدی یعتبر عضوا فی هذا المعسکر ، وهو أحد الأعضاء الدائمین

ص:201


1- « وسائل الشیعة » 5 : 522 .
2- « تحریر الوسیلة » 1 : 257 .
3- نفسه .

الذین یشکّلون قوام العالم الشیوعی بسبب الآصرة الفکریّة التی تربطه بهم . بینما لو درسنا

هذا الانقسام والتکتّل من الوجهة السیاسیّة ، فإنّنا سنحصل علی نتیجة أُخری وصورة متفاوتة تماما من الانقسام ، لأ نَّه فی هذه الحالة سیشمل العالم الشیوعی الأقطار الخاضعة

للنظام الشیوعی والتوجّهات الاشتراکیّة فحسب .

والآن لو أخذنا بعین الاعتبار المدرسة الإسلامیّة العالمیّة الأصیلة ودرسنا وضع المجتمع البشری حیال هذه المدرسة التی لا تقبل المرونة من الوجهة الفکریّة والأُسس العقیدیّة ، فإنّنا سنلاحظ مظهر الانقسام الفکری جیّدا . فالجناح المؤیّد فی هذا الانقسام

القسری ستتّسع قاعدته حیثما تقدّم الفکر الإسلامی ، وستشکّل العقیدة الحدّ الفاصل بین

الجناحین : المؤیّد ، والمعارض . ومن هذا المنطلق ینبغی القول : إنَّ هذا اللون من الانقسام لا علاقة له بخصوصیّات الأرض والدم وغیرهما ، ویتحقّق بالتوکّؤ علی مبدأ معنوی لیس

غیره .

وهکذا فإنَّ العالم الإسلامی أو دار الإسلام یضمّ جمیع الناس المؤمنین بالأرکان والأُسس الإسلامیّة ، ویشمل جمیع أنصار المدرسة الإسلامیّة وأتباعها مهما اختلفوا فی

أرضهم ، ولونهم ، وعرقهم ، ولغتهم . کما أنَّ الجناح المعارض أیضا یتألّف من جماهیر ذات موقف سلبی حیال الأُسس الفکریّة الإسلامیّة ، وفی هذا الانقسام ، سوف لن یکون هناک

اهتمام بالخلافات الداخلیّة التی یمکن أن یُمنی بها الجناح المعارض من الوجهة الفکریّة

والسیاسیّة أو من الأوجه المادّیّة الأُخری .

إذَن

، نجد أنَّ جمیع الشعوب غیر المسلمة ، یهودیّة کانت أو مسیحیّة ، أو بوذیّة ، أو

وثنیّة ، أو مادّیّة ، أو شیوعیّة ، أو ... تنتظم فی الصفّ المعارض للعالم الإسلامیّ . فما تقدّم یمثّل مفهوم دار الإسلام من حیث الانقسامات الفکریّة والعقیدیّة ، بید أ نَّه ینبغی أن لا ننسی بأنَّ الأثر القانونی الوحید المترتّب علی هذا الانقسام هو أنَّ کلّ عضو من الأعضاء الذین یشکّلون المعسکر الإسلامی مسؤول من الناحیة القانونیّة ، وینبغی له أن یطبّق جمیع الواجبات والمقرّرات الملقاة علی عاتقه من وحی انضوائه تحت لواء العقیدة الإسلامیّة(1) .

ص: 202


1- فی ضوء ما قیل فإنَّ هذا التقسیم ( من منظار الفکر الإسلامی ) یتواءم تماما مع تقسیم الفقهاء المرتکز علی عنوانین متضادّین هما : دار الإسلام ، ودار الکفر . وتوضیح ذلک أنَّ العنوانین المذکورین یختلطان عادة فی تبادل المفاهیم المتماثلة . وعندما نأخذ بعین الاعتبار العنوانین : دار الإسلام ، ودار الکفر بوصفهما عنوانین متضادّین ، فینبغی أن نضع فی حسابنا التقسیم من الوجهة العقیدیّة والفکریّة ، بینما لو وضعنا عنوان دار السلم أو دار السلام فی مقابل دار الحرب ، فإنَّ التقسیم یتّخذ طابعا سیاسیّا . أمَّا فی التقسیم الذی نجریه من منظار سیاسی ، إذا جعلنا دار الإسلام فی مقابل دار الحرب ، فإنَّ تقسیمنا سوف لن یُعدّ صحیحا لأ نّنا ینبغی أن نأخذ بعین الاعتبار أیضا عناوین : دار العهد ، ودار الهدنة ، ودار الحیاد فی مقابل العنوانین السیاسیّین المذکورین . من البدیهی أنَّ البلدان غیر الإسلامیّة التی عقدت مع المسلمین أحلافا ثنائیّة لا تحسب علی دار الإسلام ولا علی دار الحرب ، بل هی تمثّل جبهة ثالثة فی هذا التقسیم . کما أنَّ دار الهدنة ، ودار الحیاد - کلّ واحدة بدورها - تمثّلان جبهة أُخری أیضا . ذلک أنَّ البلدان غیر الإسلامیّة التی أبرمت مع المسلمین معاهدة السلام تعتبر دار الهدنة فیما إذا کانت تعتنق رسمیّا أحد الأدیان الثلاثة : الیهودیّة والمسیحیّة والمجوسیّة . أمَّا إذا کانت لا تعتنق أحد الأدیان الثلاثة أو کانت علمانیّة فإنَّها تعتبر دار الهدنة فیما إذا کانت بینها وبین المسلمین معاهدة سلام وهدنة . أمَّا دار الحیاد فإنَّها تشمل أیضا بلدا غیر إسلامی محاید . علما أنَّ توضیح ما تقدّم لیس من مهامّ هذا البحث . وسنتعرّض إلی هذه الموضوعات بشیء من التفصیل فی بحوثنا القادمة .

یقول العلاّمة الطباطبائیّ فی تفسیر المیزان تحت عنوان : ( ثغر المملکة الإسلامیّة هو الاعتقاد دون الحدود الطبیعیّة أو الاصطلاحیّة ) : « ألغی الإسلام أصل الانشعاب القومی

من أن یؤثّر فی تکوّن المجتمع أثره ذاک الانشعاب الذی عامله الأصلی البدویّة ، والعیش

بعیشة القبائل والبطون أو اختلاف منطقة الحیاة والوطن الأرضی . وهذان ، أعنی : البدویّة

واختلاف مناطق الأرض فی طبائعها الثانویّة من حرارة وبرودة وجدب وخصب وغیرهما ، هما العاملان الأصلیّان لانشعاب النوع الإنسانی شعوبا وقبائل واختلاف

ألسنتهم وألوانهم علی ما بُیِّن فی محلّه .

ثمَّ صارا عاملین لحیازة کلّ قوم قطعة من قطعات الأرض علی حسب مساعیهم فی الحیاة وبأسهم وشدّتهم وتخصیصها بأنفسهم وتسمیتها وطنا یألفونه ویذبّون عنه بکلّ مساعیهم . وهذا وإن کان أمرا ساقهم إلی ذلک الحوائج الطبیعیّة التی یدفعهم الفطرة إلی

رفعها غیر أنَّ فیه خاصّة تنافی ما یستدعیه أصل الفطرة الإنسانیّة من حیاة النوع فی مجتمع واحد . فإنَّ من الضروری أنَّ الطبیعة تدعو إلی اجتماع القوی المتشتّتة وتألفها وتقوّیها

بالتراکم والتوحّد لتنال ما تطلبه من غایتها الصالحة بوجه أتمّ وأصلح ، وهذا أمر مشهود

من حال المادّة الأصلیّة حتّی تصیر عنصرا ثمَّ ... ثمَّ نباتا ثمَّ حیوانا ثمَّ إنسانا .

ص:203

والانشعابات بحسب الأوطان تسوق الأُمَّة إلی توحّد فی مجتمعهم یفصله عن المجتمعات الوطنیّة الأُخری فیصیر واحدا منفصل الروح والجسم عن الآحاد الوطنیّة الأُخری فتنعزل الإنسانیّة عن التوحّد والتجمّع ، وتبتلی من التفرّق والتشتّت بما کانت تفرّ منه .

ویأخذ الواحد الحدیث یعامل سائر الآحاد الحدیثة بما یعامل به الإنسان سائر الأشیاء الکونیّة من استخدام واستثمار وغیر ذلک .

والتجریب الممتد بامتداد الأعصار منذ أوّل الدنیا إلی یومنا هذا یشهد بذلک .

وهذا هو السبب فی أن ألغی الإسلام هذه الانشعابات والتشتّتات والتمیّزات ، وبنی الاجتماع علی العقیدة دون الجنسیّة ، والقومیّة ، والوطن ، ونحو ذلک . حتّی فی مثل الزوجیّة والقرابة فی الاستمتاع والمیراث ، فإنَّ المدار فیهما علی الاشتراک فی التوحید لا المنزل والوطن مثلاً » (1) .

الآثار القانونیّة للوطن الإسلامی ( دار الإسلام )

والآن ینبغی أن نری ما هو المفهوم الذی یحمله اصطلاح : دار الإسلام فی الفقه من منظار الأحکام القانونیّة التی یتّسم بها ؟

ینبغی لنا فی مستهلّ هذا البحث أن نلقی الضوء علی عدد من الحالات التی تخصّ الآثار والأحکام القانونیّة التی لها علاقة مباشرة مع عنوان دار الإسلام ، لکی یتیسّر لنا أن نجد مفهوما ثابتا لهذا العنوان من حیث الآثار القانونیّة وذلک بالتوکّؤ علی الحالات

المذکورة :

أ - متی تمَّ العثور علی طفل لقیط فی دار الإسلام ، فإنَّ أحکام الإسلام ستجری علیه . ( تطرّقنا إلی هذه المسألة أیضا فیما تقدّم من بحوثنا ) .

ب - بالنظر إلی أنَّ جلد الحیوان ولحمه وأعضاءه الأُخری لا یمکن أن تکون طاهرة وصالحة للأکل إلاّ إذا کان الحیوان مذبوحا حسب الشروط الخاصّة المقرّرة فی الشریعة الإسلامیّة . فإنَّه متی وردت أعضاء ذلک الحیوان إلی أرض الإسلام مصدّرة من دار الحرب

ص: 204


1- « تفسیر المیزان » 4 : 133 .

وبلاد الکفر ، ولا یحتمل ذبح الحیوان من قبل إنسان مسلم مقیم فی دار الکفر ، فلا یمکن الحکم بطهارته وجواز أکله ، بینما لو ذبح فی دار الإسلام وبلاد المسلمین فإنَّه محکوم

بالطهارة وجواز الأکل .

ج - یجیز الإسلام للإنسان المسلم أن یعیش فی دار الحرب ، بشرط أن یکون قادرا علی إقامة شعائره الدینیّة وأداء واجباته الفردیّة بکلّ حریّة .

د - إذا تعرّض جزء من دار الإسلام إلی هجوم الأعداء ، فإنَّ علی کلّ مسلم الدفاع عن الوطن الإسلامی بوصفه واجبا کفائیّا .

یمکن القول فی ضوء الحالات المتقدّمة وأمثالها أنَّ دار الإسلام ذات مفهوم واحد وهو أ نَّها عبارة عن الأرض التی یطبّق فیها قانون الإسلام وتقام فیها الشعائر الدینیّة الإسلامیّة . وبکلمة بدیلة ، انضوی أهلها تحت رایة الإسلام ، وخضعوا للقوانین والشعائر

الإسلامیّة ، حتّی لو کانوا غیر مبالین ببعض القوانین والشعائر الدینیّة عملیّا

، وقد ینتهکونها فی بعض الأوقات .

إذَن

، مفهوم دار الإسلام فی الحالات المشار إلیها یشمل البلاد والأرض التی یسکنها المسلمون ، بید أنَّ الحکومة القائمة فیها حکومة کافرة ، ولذلک فإنَّ الأطفال اللقطاء الذین یعثر علیهم فی مدن المسلمین التابعة لأقطار مثل الهند ولبنان ، محکومون بالإسلام

، وکذلک أجزاء الحیوانات التی تذبح فی هذه المدن طاهرة وصالحة للاستعمال .

ویمکن تلخیص النتیجة المستقصاة من هذه الدراسة کالآتی :

دار الإسلام من منظار القانون الإسلامی الداخلی عبارة عن الأرض أو الأراضی التی یستطیع المسلمون إقامة شعائرهم الدینیّة علیها بکلّ حرّیّة ، والقانون الإسلامی فیها نافذ والمسلمون فی أمن وأمان .

إلاّ أنَّ النقطة الجوهریّة الجدیرة بالاهتمام فی هذا البحث هی عدم ترتّب الحکم علی عنوان دار الإسلام أو دار الحرب أبدا فی مثل هذه المسائل المتعلّقة بالقانون الداخلی ، ولذلک استعاضهما الفقهاء بإطلاق بلاد الإسلام وبلاد الکفر علیهما أیضا . والمناط فی هذه المسألة وحکمها هو الأکثریّة المسلمة التی تقطن هذه البلاد .

وکمثال علی ما نقول ، نلاحظ الحالة الثانیة ، فقد جاء فی أحد المدارک أنَّ إسحاق بن

ص:205

عمّار نقل عن الإمام الکاظم علیه السلام أ نَّه قال : « لا بأس بالصلاة فی الفراء الیمانی » ، وفیما صنع فی أرض الإسلام . یقول إسحاق بن عمّار : قلت للإمام : فإن کان فیها غیر أهل الإسلام ؟ قال : « إذا کان الغالب علیها المسلمین فلا بأس » .

الجغرافیة السیاسیّة للعالم من منظار الإسلام
اشارة

قلنا إنَّ الخصائص الفکریّة والعقیدیّة تمثّل أهمّ عنصر فی تکوین الشعب . ولا تتحقّق الوحدة الوطنیّة إلاّ عن طریق الاشتراک فی النظرة الکونیّة ، والهدف ، والنظام الاجتماعی ، ولهذا السبب نجد أنَّ لهذا اللون من الخصائص تأثیرا ملحوظا فی التمییز بین الدول

، إذ یعیّن الحدود فیما بینها .

إنَّ الدول والبلدان المختلفة ، قبل أن تتّخذ لها اسما من حیث الظروف الإقلیمیّة والجغرافیّة ، أو من حیث السلالة التی تنحدر منها شعوبها ، تکتسب سمتها الأصلیّة من

العقیدة والتفکیر السیاسی لشعوبها . وکذلک الشعوب فإنّها قبل أن تنتمی إلی المزایا

الشکلیّة والصفات العرضیّة کالعنصر ، والتاریخ ، والعادات والتقالید ، والحضارة والمدنیّة ، والأرض ، تنشدّ إلی عقیدتها ونظامها الفکری ، ومیزتها الأصلیّة البارزة تنبثق عن هذا المبدأ .

من هذا المنطلق ، قسّم الفقهاء الدول التی أطلقوا علیها عنوان : « الدار » من وحی موقفها حیال الإسلام عقیدیّا وسیاسیّا . وجعلوا المعلَم لکلّ دار ما علیه أهلها من الوجهة العقیدیّة والسیاسیّة . ومع أنَّ کلمة « دار » فی هذا التقسیم تمثّل مفهوم الدولة ، إلاّ أنَّ طرحها هنا یتأتّی من الدور الذی تساهم به الأرض فی تبلور المفهوم الفقهی للدار أو الدولة .

1 - دار الإسلام
اشارة

وهی الدولة والأرض التی تعیش فیها الأُمَّة الإسلامیّة ، وتلک الرقعة من العالم التی تدخل فی نطاق الإسلام ، وتستظلّ الحیاة فیها بظلال الأحکام الإسلامیّة .

وقد قدّم الفقهاء آراء متنوّعة فی تعریف دار الإسلام ، ومن هذا المنطلق وصفها

ص: 206

الکتّاب وعلماء القانون بأشکال مختلفة . جاء فی دائرة المعارف الإسلامیّة أنَّ دار الإسلام هی الأرض التی اعتنق أهلها الإسلام(1) .

وجاء فی الموسوعة العربیّة المیسّرة أنَّ دار الإسلام هی البلاد التی یحکمها مسلم وتؤدّی فیها أحکام الإسلام دون قید ، وتکون أکثریّتها مسلمة(2) .

وقدّم البعض هذا التعریف بشکل آخر ، فقال : دار الإسلام هی البلاد التی تکون فی نطاق السیادة الإسلامیّة ، وأحکام الإسلام فیها نافذة وشعائر الدین مقامة(3) . وقیل أیضا : إنَّ دار الإسلام هی نطاق الحکومة الإسلامیّة التی کانوا یعبّرون عنها فی عصر صدر الإسلام : دار البحرة(4) . ومن بین فقهاء الشیعة ، یعتبر العلاّمة الحلّیّ دار الإسلام تلک البلاد التی تطبّق فیها أحکام الإسلام ، وهی تشمل ثلاثة أقسام :

1 - ما أنشأه المسلمون وأحدثوه کالبصرة والکوفة .

2 - ما فتحه المسلمون عنوة .

3 - ما فتح صلحا علی أنَّ الأرض لأصحابها ویؤخذ منهم خراجها (5) .

یقول محمّد بن الحسن الشیبانیّ : المعتبر والملاک فی صدق ( الدار ) هو الحکومة والقدرة علی تنفیذ الأحکام(6) .

ویعتبر ابن حزم دار الإسلام دار البحرة فیقول : کلّ البلاد ما عدا المدینة هی حدّ الجهاد ودار الحرب(7) .

إنَّ إیضاح مصطلح دار الإسلام لا یؤثّر فی تعریف أنواع ( الدار ) الأُخری فحسب ، بل وتظهر آثاره الفقهیّة والقانونیّة فی کثیر من المباحث الأُخری کالسیاسة الخارجیّة ، والخلافات المالیّة بین الذین یعیشون فی دار الحرب ، والذین یعیشون فی دار الإسلام ، واللقطاء فی کلا الدارین . من هذا المنطلق فإنَّ أهمّیة هذا البحث تستدعی أن تطرح الآراء

ص: 207


1- یرجع إلی « دائرة المعارف الإسلامیّة » 9 : 77 فما بعدها .
2- یرجع إلی « الموسوعة العربیّة المیسّرة » 2 : 774 .
3- « آثار الحرب » ص 169 .
4- « ترمینولژی حقوق » [ علم المصطلحات القانونیّة ] للدکتور جعفری لنکرودی ص 281 .
5- یرجع إلی « تذکرة الفقهاء » 1 : 445 ، 446 .
6- یرجع إلی « شرح السیر الکبیر » 4 : 8 فما بعدها .
7- « المحلّی » 7 : 353 .

الفقهیّة الرئیسة وتقوّم لکی نحصل علی نتیجة صحیحة فی الحالات المذکورة .

نناقش فیما یأتی النظریّات المختلفة المطروحة حول دار الإسلام ، وذلک من أجل توضیح مفهومها .

النظریّة الأُولی : تعتبر الدولة التی هی فی نطاق الحکومة الإسلامیّة ، وتطبّق فیها أحکام الإسلام وتقام فیها الشعائر والمظاهر الدینیّة « دار الإسلام » . وعندما یتعرّض جزء من أجزائها إلی اعتداء یقوم به أعداء الإسلام ، فعلی المسلمین أن ینهضوا للدفاع بمقدار

الحاجة کواجب کفائی علیهم . وعندما تکون هناک حاجة إلی قدرة أکثر فإنَّ ضرورة الدفاع تکون أشمل . ویکون الدفاع حتمیّا علی جمیع المسلمین بوصفه واجبا عینیّا ، وتقع

المسؤولیّة علی الجمیع عند التخلّف عن القیام بهذه المهمّة .

إنَّ البلاد التی تعتبر جزءا من دار الإسلام وفقا للنمط المتقدّم لا تخرج عن عنوان بلاد الإسلام ودار الإسلام وأحکامها باستیلاء الأعداء والأجانب وسیطرتهم ، ومهما تأخّر زمنیّا فإنَّ مسألة وجوب الدفاع أمام الانتهاکات السابقة والحالیّة تبقی نافذة(1) .

إذَن

، سیشمل العالم الإسلامی شبه الجزیرة العربیّة والبلاد المفتوحة من قبل المسلمین ، وکذلک البلاد التی خضعت لسیادة الإسلام وقوانینه ، وطبّقت فیها النظم

الإسلامیّة .

وفی ضوء هذه النظریّة فإنَّ ( دار الحرب ) هی البلاد التی لم تطبّق فیها الأحکام الدینیّة

والسیاسیّة للإسلام ، وهی خارجة عن نطاق النفوذ الإسلامی .

النظریّة الثانیة : وفقا لهذه النظریّة ، فإنَّ المائز الجوهری بین العالمین المذکورین هو وجود الحکومة ونفوذ الأحکام . فعندما تکون الحکومة والأحکام النافذة إسلامیّة ، فإنَّ

العالم المذکور یعرف علی أ نَّه دار الإسلام ، وعندما تکون غیر إسلامیّة ، فإنَّه یعتبر ( دار الحرب ) .

وهکذا فإنَّ البلد الواحد یمکن أن یکون جزءا من دار الإسلام فی یوم من الأیّام ، ویمکن أن ینضمّ إلی دار الحرب فی یوم آخر بسبب سیطرة النظم غیر الإسلامیّة ، وزوال

الشعائر والأحکام الإسلامیّة .

ص: 208


1- راجع « تفسیر المنار » 10 : 316 ؛ و « مقدّمة ابن خلدون » ص 165 .

یزعم أنصار هذه النظریّة أنَّ ظهور الإسلام یتحقّق بظهور أحکامه وشعائره ، فإذا ما زالت هذه الأحکام والشعائر فی بلد ، فلا یعد یعرف بدار الإسلام ، وسیفقد عنوانه الأصلی(1) .

النظریّة الثالثة : تری هذه النظریّة أنَّ أساس الاختلاف بین العالمین ( الدارین ) فی وجود ( الأمان ) وانعدامه . یعنی متی ما کان هناک أمان من قبل المسلمین فی بلد ما ، فإنَّ هذا البلد یحسب علی الوطن الإسلامی ، ومتی فقد هذا الأمان فإنَّ ذلک البلد یحسب علی

دار الحرب . وفی ضوء هذه النظریّة فإنَّ أیّ بقعة من الوطن الإسلامی ( دار الإسلام ) سوف لا تتبدّل إلی دار الحرب إلاّ إذا توفّرت الشروط الثلاثة الآتیة :

1 - أحکام الکفر مطبّقة ونافذة فی تلک البقعة .

2 - البقعة المذکورة مجاورة(2) لدار الحرب وملاصقة لها .

3 - لا یبقی فی تلک البقعة مسلم ولا ذمّی یعیش فی أمان المسلمین(3) .

النظریّة الرابعة : بالنظر إلی العلاقات التی تنبثق عن عقد معاهدات السلام بین المسلمین وغیرهم ، فقد قسّم عدد من الفقهاء العالم إلی ثلاثة أقسام هی : دار الإسلام ، ودار الحرب ، ودار العهد . ودار الحرب ، فی ضوء هذا التقسیم ، تخصّ البلد الذی لم یعقد أهله معاهدة وصلحا مع المسلمین .

والقصد من دار العهد : الدولة التی لم یسیطر علیها المسلمون ، وإنَّما اکتفوا بتوقیع معاهدة الذمّة والهدنة مع أهلها ، وظلّ أهلها علی عقائدهم وآدابهم وقوانینهم واکتفوا فی علاقاتهم مع المسلمین بعقد معاهدة الذمّة معهم . وتتوکّأ هذه النظریّة علی المعاهدات التی کانت تعقد فی عصر صدر الإسلام ، نحو المعاهدات المعقودة مع أهالی نجران ، والنوبة

، وأرمینیّة . وقد احتفظت تلک المناطق باستقلالها وظلّ أهلها علی عقائدهم وآدابهم علی

الرغم من العلاقات الخاصّة التی کانت تربطهم بالمسلمین فی ضوء عقد الذمّة(4) .

ص:209


1- « آثار الحرب » ص 171 .
2- القصد من الجوار هنا عدم وجود بلد إسلامی بین ذلک البلد ودار الحرب .
3- « آثار الحرب » ص 172 .
4- « الشرع الدولیّ » ص 50 نقلاً عن « آثار الحرب » ص 175 ، 176 . و « العلاقات الدولیّة فی الإسلام » ص 53 .

بید أنَّ دار العهد وفقا لنظریّات أُخری وطبقا للعقد الرسمی بین الطرفین تعتبر جزءا من دار الإسلام . وممّا یدعم هذه النظریّة الشروط الواردة فی عقد الذمّة(1) .

النظریّة الخامسة : یمکن أن نبیّن النظریّة الخامسة فی هذا البحث استضاءة بالشرح الذی قدّمه بعض الکتّاب الإسلامیّین المتأخّرین حول نظریّة ( تقسیم العالم ) علی النحو

الآتی :

« لمّا کان تقسیم العالم من قبل فقهاء المسلمین إلی جبهتین باسم دار الإسلام ودار الحرب قائما علی أساس العلاقات الموجودة بین المسلمین وغیرهم ، ولا علاقة له بالتشریع

الإسلامی والاختلاف الدینی ، وکانت حالة الحرب أو السلم هی الباعث المهمّ علی هذا التقسیم ، لذا ینبغی أن نقول : إنَّ دار الحرب هی مجرّد منطقة حرب ومسرح معرکة . ولمّا

کانت الحرب حالة طارئة فی علاقات المسلمین ، فإنَّ موضوع دار الحرب ینتهی بانطفاء شعلتها ، ولن یبقی لها أثر .

وفی ضوء ذلک ، ینبغی ألاّ نتصوّر أنَّ فی قانون الإسلام دولتین أو کتلتین سیاسیّتین

، وأنَّ الإسلام یعترف بهذا الاختلاف والتقسیم ، بل إنَّ التقسیم المذکور هو بحسب توفّر

الأمن والسلام للمسلمین فی دارهم ، ووجود الخوف والعداء فی غیر دارهم . وأنَّ دار

الحرب اصطلاح یطلق علی البلاد التی لا تعیش مع المسلمین فی حالة سلام وتوادد » (2) .

علی الرغم من أنَّ هذه النظریّة فی مبناها تماثل النظریّة الثانیة تماما ، إلاّ أنَّ میزتها

لافتة للنظر أکثر من حیث إنَّ أنصار هذه النظریّة أقرّوا بقانون الجهاد فی الإسلام فی بُعده الدفاعی فحسب ، وهکذا حاولوا التوفیق بین نظریّة الفقهاء ونظریّة المتخصّصین فی القانون الدولیّ المتوکّئة علی وحدة العالم ، وعلی أنَّ الحرب حالة عرضیّة ومؤقّتة فی المجتمع البشری الکبیر ، وأنَّ المجتمع البشری یتوحّد بإزالة الحرب .

یحلّل مؤلّف کتاب « آثار الحرب » وهو من أنصار هذه النظریّة ، ( دار الإسلام ) والوطن الإسلامی کالآتی :

ص: 210


1- ( ) خُلط هنا بین دار الإسلام ودار السلام ، إذ من الصحیح أنَّ دار العهد تعتبر جزءا من دار السلام ودار السلم ، بید أ نَّها غیر مشمولة بدار الإسلام . ومن هذا المنطلق یتعذّر علینا أن نجعل التقسیم المذکور أساسا لنظریّة مستقلّة .
2- « السیاسة الشرعیّة » ؛ « نظام الدولة الإسلامیّة » ص 69 - 76 ؛ « آثار الحرب » ص 194 - 196 .

« تضمّ دار الإسلام جمیع الأقالیم الإسلامیّة الفسیحة والبعیدة . فلا ینطبق الوطن بالحدود الجغرافیّة والسیاسیّة المتداولة بین دول العالم هذا الیوم علی الوطن الإسلامی ، إذ إنَّ الوطن الإسلامی یتّسع باتّساع رقعة العقیدة الإسلامیّة . ومن هذا المنطلق ، فهو یشبه أکثر أمرا معنونا کالإیمان ، والعقیدة . ورعایا دار الإسلام هم المسلمون وغیر المسلمین من الذمّیّین والمستأمنین ، وهکذا فالمسلمون والذمّیّون کشعب واحد لدار الإسلام ، إلاّ أنَّ الذمّیّین لا یعتبرون جزءا من الأُمَّة الإسلامیّة . فالإسلام من حیث کونه عقیدة یعتبر

المسلمین جمیعا إخوة فی العقیدة ، ومن حیث العقد الثنائی یعتبر المسلمین وحلفاءهم شعبا

سیاسیّا واحدا » (1) .

النظریّة السادسة : ثمّة نقطة کان الاهتمام بها قلیلاً فی النظریّات المتقدّمة وهی أ نّنا ینبغی أن لا نعتبر مفهوم دار الإسلام أو الوطن الإسلامی فی هذه الدراسة مفهوما ثابتا وواحدا ، ونتغافل عن التبدّلات التی قد تطرأ علیه بسبب تبدّل وتنوّع الأحکام وآثارها .

حاول أصحاب النظریّات السالفة من خلال إبداء الآراء المذکورة أن یجدوا علاجا للمسائل التی تحوم حول عنوان دار الإسلام ، ویبیّنوا الآثار والأحکام القانونیّة والسیاسیّة

للعنوان المذکور جملة . بینما نجد أنَّ عنوان دار الإسلام إذا کان موضوعه الأحکام القانونیّة ، فهو یختلف عن عنوان دار الإسلام الذی استلّ بسبب الآثار السیاسیّة للموضوع .

نأخذ فی حسابنا المسألتین الآتیتین وذلک لکی یستبین الموضوع :

أ - یعتبر الطفل اللقیط الذی یعثر علیه فی دار الإسلام ولا یعرف دین أبویه ، مسلما من منظار القانون .

ب - یحظر دخول الشخص غیر المسلم إلی دار الإسلام بدون إحراز عنوان ( الذمّیّ ) أو ( المستأمن ) .

لا ریب أنَّ مفهوم دار الإسلام فی المسألة الأُولی یختلف تماما عن مفهومه فی المسألة الثانیة ، لأنَّ الحکم المترتّب علی العنوان الأوّل یصدق علی المناطق الإسلامیّة فی البلدان غیر الإسلامیّة کالهند ، ولبنان ؛ بینما لا یصدق العنوان الثانی باعتبار الحکم السیاسی فی المناطق المذکورة .

ص:211


1- « آثار الحرب » ص 177 - 180 .

یقول مؤلّف کتاب « الفقه - السیاسة » فی تعیین نطاق بلاد الإسلام وحدودها وبلاد الکفر :

« ما کان الکفّار سیطروا علیه وهو فی بلاد الإسلام کروسیا المسیطرة علی الجمهوریّات الإسلامیّة ، وکالیهود المسیطرین علی فلسطین ، وکذلک المناطق التی سیطر

علیها الاستعمار سیطرة سیاسیّة . ولا حدود بین هذه المناطق الإسلامیّة وبین بلاد الإسلام ، وللمسلم حقّ التردّد فیها .

وما کان الکفّار سیطروا علیه من البدایة کالقسم الأعظم من أُوربا ، فله حکمان :

1 - باعتبار أرض الکفر التی لها أحکام خاصّة نحو أحکام اللقطة وأحکام الأموات ، وأحکام اللحوم .

2 - باعتبار أرض اللّه الفسیحة التی منحها لعباده ، فلهم التمتّع بما یشاؤون منها ، ولا احترام لقوانین الکفّار فیها .

ویستثنی من ذلک ما لو کانت بین الکفّار وبین المسلمین معاهدة ، فاللازم علی المسلمین احترام تلک المعاهدة ، والوفاء بالعهد ، مع قید أن تکون المعاهدة من قبل الدولة الإسلامیّة المشروعة . وتتحقّق الدولة الإسلامیّة بشرطین :

1 - کون قانون الدولة قانون الإسلام .

2 - وکون رئیس الدولة رجلاً یرضاه الإسلام ، وترضاه أکثریّة الأُمَّة .

وبدون هذین الشرطین ، فکلّ أعمال الدولة غیر نافذة - وإن ادّعت أ نَّها إسلامیّة - والمسلمون أحرار فیما یفعلونه ، لا یقیّدون بمقرّرات الدولة . وأموال هذه الدولة من قسم مجهول المالک المرتبط بالحاکم الشرعی » (1) .

لا تحدّد هذه النظریّة نطاق دار الإسلام ودار الکفر بشکل واضح ، ولا یمکن قبول ما ذکرته فی مجال حیاة المسلمین فی البلاد الإسلامیّة التی لا تخضع لحکومة إسلامیّة

، وکذلک حیاة المسلم فی بلاد الکفر ، والحرّیّة التی سمحت بها للمسلم بشکلها اللا محدود

، لأنَّ احترام العهود الفردیّة وقیمتها القانونیّة یستدعی أ نَّه متی ما تقبّل المسلم -

فی هاتین الحالتین - الامتیازات والإمکانیّات التی أتاحتها الحکومة الکافرة أو الحکومة غیر

ص:212


1- « الفقه - السیاسة » ص 153 - 154 .

الإسلامیّة بشروط والتزامات خاصّة ، فلا مناص له من العمل وفقا لالتزاماته(1) .

ینبغی دراسة الفرضین الآتیین لکی یستبین هذا الموضوع :

1 - الوطن الإسلامی أو دار الإسلام عبارة عن ذلک القسم من البلاد وتوابعها التی تخضع للحکومة الإسلامیّة وتدار من قبل المسلمین . وتشمل هذه البلاد کلّ ما وقع فی أیدی المسلمین من مناطق رحّبت بالدعوة الإسلامیّة أو استجابت لها فی أعقاب الجهاد والفتوحات العسکریّة(2) .

2 - البلاد التی یسود فیها قانون الإسلام ویکون نافذا فیها بکلّ حرّیّة ، والمسلمون یعملون وفقا لما یریده الشرع بکامل حرّیّتهم ، والشعائر الدینیّة تمارس بحرّیّة تامّة ، والمسلمون یتمتّعون بأمن تامّ .

فی ضوء الفرض الأخیر فإنَّ البلاد الخاضعة لسیطرة الکفّار ، التی تدار من قبل حکومة غیر إسلامیّة ، یمکن أن تأخذ طابع البلاد الإسلامیّة فیما إذا کانت محلاًّ لسکن جمع من المسلمین ، ویتحقّق هذا الموضوع عندما یکون المسلمون أحرارا فی إقامة الشعائر وتطبیق الأحکام الدینیّة والقوانین الإسلامیّة . بینما تعتبر هذه البلاد خارجة عن دائرة

النفوذ الإسلامی بناءً علی النظریّة الأُولی .

وهکذا فإنَّ تحقّق الوطن الإسلامی ( دار الإسلام ) وفقا للنظریّة الثانیة منوط بتحقّق أحد الأمرین الآتیین :

1 - أن تخضع البلاد للحکومة الإسلامیّة وتُدار من قبلها .

2 - الأشخاص الذین یعیشون فی تلک البلاد یستطیعون تطبیق القانون الإسلامی بحرّیّة ، ویکون الإسلام سائدا وساری المفعول . وبناءً علی النظریّة الثانیة أیضا فإنَّ وطن الإنسان المسلم لا ینحصر فی الحدود الجغرافیّة لنطاق الحکومة الإسلامیّة وإنَّما یتّخذ

مفهوما أبرز وأکثر معنویّة .

وسیشمل الوطن الإسلامی البلاد التی یستطیع الإنسان المسلم أن یعیش فیها حرّ

ص:213


1- یمکن دراسة دار الإسلام من حیث أبعادها المختلفة کالبعد العقیدی ، والقانونی ، والسیاسی . انظر فی هذا المجال کتابنا « وطن و سرزمین وآثار حقوقی آن » ص 119 فما بعدها .
2- یعرّف محمّد أبو زهرة مؤلّف کتاب « العلاقات الدولیّة فی الإسلام » دار الإسلام کالآتی : « دار الإسلام هی الدولة التی تحکم بسلطان المسلمین ، وتکون المنعة والقوّة فیها للمسلمین » .

العقیدة

، ویکیّف منهجه فی الحیاة مع القانون الإسلامی .

إنَّ اللافت للنظر أکثر فی النظریّة الثانیة هو تقسیم العالم - فی ضوئها - إلی جبهتین مفتوحتین ومحدّدتین وذلک استعاضة عن تقسیمه إلی منطقتین مستقلّتین من الوجهة الجغرافیّة . والمؤشّر البارز لهاتین الجبهتین المفتوحتین هو نفوذ الإسلام وسیادة القانون

الإسلامی .

ولو أردنا أن نکیّف هذه النظریّة مع الأوضاع المعاصرة للمسلمین ، فلابدَّ أن نعتبر المناطق التی یقطنها المسلمون فی الهند أو لبنان مثلاً ، جزءا من دار الإسلام ، ووسطا

إسلامیّا . وکذلک یمکن أن یتحقّق الوسط الإسلامی فی معظم البلدان نحو : ترکیا حیث الحرّیّة الدینیّة موجودة ، ویستطیع المسلمون أن یمارسوا شعائرهم الدینیّة ویقوموا بواجباتهم الإسلامیّة بحرّیّة ؛ اللّهمَّ إلاّ أن تصادر القوانین الموجودة فی الأقطار المذکورة وأجهزتها الحکومیّة من المسلمین إمکانیّة الحیاة فی ضوء المنهج الإسلامی .

مناقشة أدلّة النظریّة الثانیة

یقال فی دعم النظریّة الثانیة :

1 - لمّا رکّز الإسلام علی الأشخاص الذین أسلموا وانضووا تحت لواء الأُمَّة والمجتمع الإسلامی علی أ نَّهم مکلّفون بتطبیق التعالیم الإسلامیّة ، ولم یرکّز علی الأرض التی یعیش علیها المسلمون ، فلابدَّ له أن یعترف بکلّ منطقة ، یراعی أهلها قوانین الإسلام

، علی أ نَّها دار الإسلام . وبکلمة بدیلة : فإنَّ القانون یحدّد وضع البیئة بالنسبة إلی الأُمَّة الإسلامیّة ، لا وضع المسلمین بالنسبة إلی البیئة . والوضع القانونی لمنطقة معیّنة سیتوکّأ علی رغبة أهلها فی الإسلام ، ومن ثمّ فإنَّ إطلاق عنوان دار الإسلام أو دار الحرب علی منطقة معیّنة

منوط بالاعتبار الذی یتمتّع به القانون الإسلامی علی نحو واسع أو محدود . وعندما یراعی

القانون الإسلامی فی منطقة ما ، حتّی من قبل ثلّة معدودة من المؤمنین ، فإنَّ تلک المنطقة سوف تعتبر وسطا إسلامیّا من الناحیة النظریّة .

2 - لو صدق عنوان دار الإسلام علی البلاد الخاضعة لحکومة إسلامیّة فحسب ، فینبغی أن لا یتحقّق عنوان دار الإسلام خارجیّا فی الحالات التی تنحلّ فیها الحکومة

ص: 214

الإسلامیّة أو لا تشکّل أساسا لأسباب معیّنة ، أو أ نَّها لا تملک القدرة علی المحافظة علی البلاد المذکورة . وما یلاحظ من صدق عنوان دار الإسلام فی جمیع الظروف والأحوال المشار إلیها دلیل علی أنَّ المَعلَم الوحید هو تطبیق الأحکام والتعالیم الإسلامیّة ولیس

تشکیل الحکومة الإسلامیّة .

3 - إنَّ البلاد التی یمارس فیها جماعة من المسلمین شعائرهم الإسلامیّة بحرّیّة - حتّی مع سیادة قانون الکفّار فیها - یمکن أن تعتبر من مناطق دار الإسلام ، من حیث إنَّ اتّساع نطاق الحکومة الإسلامیّة قد یشملها أو أنَّ سکّانها المسلمین ربّما استطاعوا إقناع الکفّار فی فرصة مناسبة لکسب استقلالهم وحقّهم فی السیادة علی شؤونهم .

یصدق هذا الموضوع بشکل أوضح علی المناطق التی انتزعتها حکومة غیر إسلامیّة من المسلمین قسرا ، وألحقتها بمناطق نفوذها .

مناقشة أدلّة النظریّة الأُولی

ثمّة أدلّة فی مصادر الفقه الإسلامی وکلام الفقهاء تدعم النظریّة الأُولی ، وفیما یلی عدد

من هذه الأدلّة :

1 - طرحت القضیّة المتعلّقة بسکن المسلمین فی المناطق التی یستطیعون فیها ممارسة الشعائر الإسلامیّة(1) ، فی الفقه الإسلامی بشکل اعتبرت فیه تلک المناطق المذکورة دار الحرب ، لأ نَّه من الواضح عندما یقال فی الفقه الإسلامی :

« إذا کان المسلمون الذین یعیشون فی بلاد الکفر أحرارا فی ممارسة شعائرهم الدینیّة فلا ضرورة من هجرتهم إلی دار الإسلام ، فالقصد من البلاد المشار إلیها : دار الحرب . والمناطق المذکورة خارجة عن دار الإسلام » .

2 - یقول الفقه الإسلامی عن الأطفال اللقطاء الذین یحکم علیهم بالتابعیّة الإسلامیّة من منظار القانون الإسلامی : ( الأطفال الذین یعثر علیهم فی دار الإسلام ، وکذلک الذین

یعثر علیهم فی دار الحرب ، محکومون بالإسلام إذا کان فی المحلّ المذکور مسلمون ، واحتملت ولادته بینهم وانتماؤه إلیهم ) .

ص: 215


1- القصد من هذه المناطق هو الأجزاء الخارجة عن نطاق الحکومة الإسلامیّة .

هذا الموضوع یشعر أنَّ سکن المسلمین وحده خارج نطاق الحکومة الإسلامیّة لا یمکن أن یفضی إلی صدق دار الإسلام ، بل إنَّ دار الإسلام تصدق علی النطاق الذی یحکمه

المسلمون فقط .

3 - إنَّ المجال الآخر الذی استعمل فیه عنوان دار الإسلام فی مدارک الفقه الإسلامی وکلام الفقهاء هو السماح لدخول الأجانب إلی دار الإسلام ، فیما سنتعرّض إلی تفصیله فی البحوث القادمة . ومن الواضح أنَّ دار الإسلام التی تناقش فیها مسألة السماح للأجانب

بالدخول عبارة عن نطاق الحکومة الإسلامیّة نفسه ، وإلاّ فلا جدوی من الخوض فی دخول الأجانب إلی البلاد التی هی موضع لسکنهم .

إنَّ مناقشة الحالات المشار إلیها وکذلک الحالات الأُخری التی استعمل فیها الفقهاء عنوان دار الإسلام یفید جیّدا أنَّ القصد من هذا العنوان هو البلاد التی تدار من قبل حکومة إسلامیّة فقط .

ولا ریب أنَّ عنوان دار الإسلام قد أُطلق صریحا فی الحالات المذکورة ، بید أ نّنا ینبغی أن نلتفت إلی هذه النقطة وهی : هل أنَّ الحالات التی یُطلق علیها ذلک العنوان

مقصورة علی البلاد الخاضعة للحکومة الإسلامیّة أو یمکن أن نتصوّر لها مفهوما أشمل

؟

إنَّ الذی یبدو هو أنَّ إطلاق عنوان دار الإسلام یتباین فی مجالات البحث المتنوّعة ، لأنَّ المسألة تطرح أحیانا بهذا الشکل ، وهو : فی أیّ أرض یحقّ للمسلمین السکن بحرّیّة ؟ لا محالة أنَّ البلاد الإسلامیّة أو دار الإسلام فی هذه الحالة ستنطبق علی النظریّة الثانیة(1) ، وکذلک فإنّنا لو نظرنا إلی دار الإسلام من زاویة دراسة العلاقة الموجودة بین الإسلام

والبلاد ، فلا مناص لنا من دعم النظریّة الثانیة .

بید أ نّنا إذا درسنا مسألة دار الإسلام من زاویة العلاقات الخارجیّة ، وأردنا أن نطرح المسألة ونعرف کیف نستنتج عقد الذمّة والاستئمان وحقوق الأجانب منها ، فلا شکّ أ نّنا

سنضطرّ إلی قبول النظریّة الأُولی ، کما أنَّ إطلاق دار الإسلام فی بعض الحالات السالفة

الذکر کان أیضا یتوکّأ علی هذا القصد ، لأ نَّه ما لم یفرض الاستقلال فی الحکومة وتشکیلها ، فلا جدوی للمجتمع الإسلامی من طرح المسائل المشار إلیها . ومن الضروری

ص: 216


1- یرجع إلی البحث السابق فیما یخصّ الموضوع من منظار القانون الداخلی .

هنا التذکیر بهذه النقطة وهی : علی الرغم من أنَّ فصل الحکومة عن دار الإسلام یبدو أمرا

غیر معقول من حیث تحقّقه الواضح فی القضایا السیاسیّة والعلاقات الخارجیّة فی الإسلام ، إلاّ أنَّ صدق العنوان المذکور من حیث القضایا المتعلّقة بالعلاقات الخارجیّة فی الحالات

الثلاث الآتیة قابل للمناقشة ولیس فیه إشکال :

1 - فی المناطق التی یعیش فیها جمع من المسلمین بحرّیّة ولیس لهم استقلال سیاسی وحکومة قانونیّة مستقلّة ، ویعیشون منفصلین خارج النطاق السیاسی للحکومة الإسلامیّة لأسباب معیّنة ، ولیس هناک أیّ حکومة غیر إسلامیّة تسیطر علیهم وتمارس نفوذها السیاسی بحقّهم .

2 - المناطق التی انفصلت عن الدولة الإسلامیّة بشکل عدائی ، وأصبحت خاضعة لحکومة غیر إسلامیّة .

3 - المناطق التی تدار أجهزتها القضائیّة والإداریّة وسائر مؤسّساتها تدریجا وفقا لمناهج وبرامج إسلامیّة ، وذلک فی أعقاب تغلغل الإسلام فیها واعتناق الأغلبیّة من أهلها

الدین الإسلامی . ولیس فیها شخص غیر مسلم إلاّ رئیس الدولة العمیل لحکومة الکافر الأجنبی ، أو السلطة الحاکمة فیها .

فی هذه الحالات الثلاث المشار إلیها ، لا نلحظ إشکالاً فی طرح بعض المسائل نحو : عقد الذمّة ، والاستئمان ، وسائر المسائل المرتبطة بالعلاقات الخارجیّة التی هی من الآثار والأحکام المترتّبة علی عنوان دار الإسلام . وفی هذه الحالات فإنَّ الذی ینبغی أن یطرح

أکثر من غیره هو تشکیل قدرة سیاسیّة إسلامیّة وقوّة دفاعیّة لکی یتسنّی تطبیق المسائل

المذکورة فی ظلّها لا محالة .

دور الحکومة فی مفهوم الوطن الإسلامی

یمکن تلخیص النتیجة المقتطفة من الکلام المتقدّم بما یأتی :

علی الرغم من أنَّ مفهوم دار الإسلام والوطن الإسلامی لا یقبل الانفصال عن مسألة الحکومة من منظار القضایا السیاسیّة ، بید أنَّ اشتراط تحقّق الحکومة فی الحالات الثلاث

السالفة یواجه إشکالاً أیضا .

ص: 217

إنَّ السبیل الوحید الذی یبدو ناجعا لعلاج هذا الإشکال هو أن نعلم بأنَّ الإشکال المذکور یتأتّی من أنَّ الموضوع الذی یحوم حوله البحث هو أنَّ تحقّق الحکومة فی صدق دار الإسلام یتمّ بصورة فعلیّة من منظار التحقّق الخارجی ، بینما نجد أنَّ إمکان تحقّق ذلک ، وإن لم یکن عملیّا لأسباب ما یفی بالغرض . وهکذا فی الحالة الأُولی ، وإن لم یفرض التحقّق

الخارجی للحکومة الإسلامیّة ، عندما یعیش المسلمون علی أرض معیّنة خارج نفوذ حکومة غیر إسلامیّة ، فسوف یطرح إمکان تحقّق الحکومة والجهة المسؤولة بالنسبة إلی المسائل السیاسیّة ، وهذا المقدار یکفی لصدق عنوان دار الإسلام علی الأرض المعیّنة

.

أمَّا الافتراض الثانی الذی یتعلّق بالمناطق الإسلامیّة السابقة أو الحالیّة لبلدان مثل

: إسبانیا ، وروسیا ، والهند ، والصین ، وإسرائیل ، ولبنان ، ینبغی القول إنَّ هذه المناطق لمّا کانت خاضعة یوما لحکومة المسلمین ، وکانت تعتبر جزءا من دار الإسلام ، وما دام المسلمون أحراراً فی إقامة شعائرهم الدینیّة ، ویتمتّعون بأمن دینی ، فإنَّ عنوان دار الإسلام یظلّ ساری المفعول . وبعبارة أُخری ، ما دام المسلمون یحظون بالاعتراف الرسمی من قبل

الحکومات غیر الإسلامیّة للبلدان المذکورة ، وما دام الإسلام دینا رسمیّا معترفا به لهم ، فإنَّ عنوان دار الإسلام سیبقی نافذا .

بید أ نَّه عندما تلغی الحکومات الصفة الإسلامیّة رسمیّا ، وتحرم المسلمین من إقامة شعائرهم الدینیّة وتصادر حرّیّتهم الدینیّة ، وتسلب الأمن من نفوسهم ، فإنَّ عنوان دار الإسلام فی مثل هذه الظروف سوف یرفع عن المنطقة المعیّنة ، لا محالة .

ویستبین هذا الموضوع من خلال الموازنة بین أوضاع بعض البلدان من قبیل روسیا المعاصرة ، وإسبانیا الأمس ، وأوضاع بلدان أُخری کالهند ولبنان .

وأمَّا الحالة الثالثة أیضا فلا ریب فی صدق عنوان دار الإسلام والوطن الإسلامی علیها . وبالنظر إلی ما قیل فی الحالة الأُولی ، فلا حاجة إلی التوضیح هنا . وبناءً علی ما مرّ بنا من حدیث ، یستبین جیّدا وضع بعض الدول مثل : ترکیا التی نکبت عن الصراط بترکها الإسلام ، أو بعض الأقطار الإسلامیّة المعاصرة التی لا تتمسّک حکوماتها بالقوانین

الإسلامیّة عملیّا .

ص: 218

نطاق الوطن الإسلامی

یشمل نطاق الوطن الإسلامی من حیث النفوذ السیاسی ممتلکات الحکومة الإسلامیّة کلّها ، والمناطق التی یستقلّ المسلمون فی تملّکها وهی خارجة عن هیمنة السیاسة الأجنبیّة . وتتولّی الحکومة الإسلامیّة المحافظة علی المناطق المذکورة وحراستها فی مقابل التدخّلات والاعتداءات الخارجیّة . ولابدَّ أن تتحدّد الممتلکات سواء بالوسائل الاصطناعیّة أو الطبیعیّة .

من الضروری أن نستعرض الحقول التالیة وذلک لکی یستبین الموضوع أکثر :

1 - طبیعة الممتلکات العائدة للحکومة الإسلامیّة .

2 - حدود الممتلکات العائدة للحکومة الإسلامیّة ( الأراضی الأصلیّة - والملحقة - والأراضی التی تحت الوصایة ) .

3 - الحدود والمرابطة من منظار القانون الإسلامی .

ملکیّة الأرض فی الحکومة الإسلامیّة
اشارة

لا ریب أنَّ الأرض تعتبر من الضروریّات الأولیّة لحیاة الإنسان . وهذا الموضوع فی غایة الوضوح من منظار القرآن والمصادر الإسلامیّة الأُخری . ویعتبر حرمان الإنسان من

الأرض ( استثمارا أو سکنا ) مدانا ومرفوضا من منظار العقل والقانون الإسلامی(1) .

بید أنَّ هذا الموضوع لا غبار علیه أیضا ، وهو : أنَّ کلّ إنسان یستطیع أن یضیف إلی مقدار حقّه فی استثمار الأرض وتملّکها عن طریق مشروع ، وله أن یستأثر بقسم من الأرض وفوائدها عن هذا الطریق .

یعترف الإسلام بهذا الاستثمار المشروع الذی نعبّر عنه بالملکیّة الفردیّة ، وینظر إلیه باحترام .

ومع أنَّ الکون کلّه للّه(2) من منظار الفکر الإسلامی ، بید أنَّ الملکیّة الفردیّة حقّ إلهی

ص:219


1- یمکن أن نستشفّ هذا الموضوع من الآیات التی نقلناها سلفا تحت عنوان ( الأرض ، والسکن ومحلّ استراحة الإنسان ) .
2- « للّه ِِ مَا فِی السَّموَاتِ وَمَا فِی الاَْرْضِ » - البقرة : 284 . « للّه ِِ مُلْکُ السَّموَاتِ وَ الاَْرْضِ » - الشوری : 49 .

مُنح للناس فی التشریع الإسلامی ، وفقا لنظام خاصّ تمَّ تحدیده لممارسة هذا الحقّ . وقد

جُعل احترام الملکیّة الفردیّة من منظار التشریع الإسلامی کاحترام الدم علی حدّ سواء(1) .

من هذا المنطلق ، فإنَّ الأراضی التی یتملّکها المسلمون أو الذین یعیشون فی کنفهم عن طریق مشروع لا تنتزع منهم أبدا ، حتّی أنَّ الحکومة نفسها لا تستطیع أن تتملّک

الأراضی المملّکة .

والآن یثار هذا السؤال وهو : کیف یتمّ استیلاء الحکومة الإسلامیّة علی الأرض ویکون لها حقّ فیها ؟ وما هی الطریقة التی یصادق فیها القانون الإسلامی علی ذلک

؟

وللإجابة علی هذا السؤال ، ینبغی أن نقول : إنّنا یمکن أن نتصوّر حقوق الحکومة الإسلامیّة فی الأرض من منظار القانون الإسلامی بشکلین هما :

1 - التملّک

تتحقّق ملکیّة الحکومة للأراضی فی عدد من الحقول ، یمکن أن نذکر منها ما یلی :

أ - تنتقل الأراضی إلی الحکومة عن طریق تحویلها إلیها من قبل أصحابها ، أو عن طریق الشراء والوسائل القانونیّة الأُخری التی تفضی إلی الملکیّة وانتقال الملک إلی

الحکومة .

ب - الأراضی التی استولی علیها المسلمون بلا قتال .

ج - الأراضی البائرة الیباب التی تعتبر للإمام ( رئیس الحکومة ) ، بسبب الفتوحات الإسلامیّة .

د - الأراضی البائرة الموجودة فی دار الإسلام ، وکذلک الأراضی الیباب فی نطاق الحکومة الإسلامیّة ، تعود للإمام وتصرف عائداتها فی الشؤون الاجتماعیّة والمصالح العامّة .

ه - المناطق الساحلیّة للبحار ، وقمم الجبال ، والغابات ، والمعادن ، والبحار ، هذه

کلّها تعتبر من الأنفال .

2 - الوقف

الأراضی الموقوفة وقفا عامّا ، وتمَّ تخویل أمرها إلی الإمام ورئیس

ص: 220


1- قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : « ... لا یحلّ دم امرئ مسلم ولا ماله إلاّ بطیبة من نفسه منه » - « الوسائل » ج 1 ، باب 3 من الأبواب الخاصّة بمکان المصلّی .

الحکومة

.

3 - الوکالة العامّة

الأراضی العامرة التی تقع فی أیدی المسلمین عند الجهاد والدفاع بوصفها من الفتوحات ، تعود إلی عامّة المسلمین . والأجیال القادمة لها حقّ فی الأراضی

المشار إلیها . وتستثمر هذه الأراضی تحت إشراف الإمام ( رئیس الدولة الإسلامیّة

) وتصرف عائداتها فی المصالح العامّة للمسلمین .

4 - الحقّ السیاسی

الأراضی العامرة أو البائرة التی تظلّ فی حیازة المسلمین الشخصیّة تخرج عن ممتلکات الحکومة . ویمکن أن نتصوّر حقّ الحکومة فی هذا اللون من الأراضی علی أ نَّه حقّ سیاسی وحقّ من حقوق الحاکمیّة .

ینبع هذا الحقّ من سیادة الحکومة وسلطتها ونفوذها السیاسی ، وهو یختلف تماما من حیث طبیعته وانبثاقه عن الملکیّة الفردیّة والحقوق الشخصیّة لأصحاب الأراضی . ولا خلل فی اجتماع الحقّین المتباینین المذکورین حین لا یمکن أن نتصوّر اجتماع الحقّین

المِلکیّین فی شیء واحد ، ویتعذّر أیضا من منظار القانون الإسلامی .

5 - المحمیّات

إنَّ القسم الآخر من الأراضی العائدة إلی الحکومة الإسلامیّة عبارة عن الممتلکات الأجنبیّة التی أصبحت تحت وصایة الحکومة الإسلامیّة بسبب عقد الذمّة . والمهمّة التی تأخذها الحکومة الإسلامیّة علی عاتقها حیال الأقلیّات الدینیّة فی ضوء عقد الذمّة تستدعی أن یکون هناک حقّ للحکومة بالنسبة إلی الممتلکات المشار إلیها ، ویمکن

أن نُعبّر عن هذا الحقّ بحقّ الوصایة .

الأراضی الأصلیّة ، والملحقة ، والأراضی التی تحت الوصایة ( المحمیّات )

تتألّف ممتلکات الحکومة الإسلامیّة ونطاقها السیاسی من الأراضی المشار إلیها . وهذه الأراضی وإن کانت متباینة من حیث تعلّقها بالحکومة ، بید أنَّ الحکومة الإسلامیّة

تحتفظ بحقّها السیاسی فی الأراضی المذکورة جمیعها .

إنَّ الأراضی التی تعتبر جزءا من نطاق الحکومة الإسلامیّة یمکن أن تضمّ العناوین الآتیة :

1 - الأراضی الأصلیّة : وتشمل الأراضی التی کانت تحت تصرّف المسلمین والحکومة

ص: 221

الإسلامیّة

، بکلمة بدیلة ، فإنَّ مبدأ ( الید ) والتصرّف الفعلیّ یعیّن اختصاص الأراضی المذکورة للمسلمین .

2 - الأراضی الملحقة : وهی الأراضی التی استولی علیها المسلمون بالجهاد والدفاع .

3 - المحمیّات : وهی الأراضی العائدة إلی أهل الذمّة والأقلّیّات الدینیّة بعد انعقاد عهد الذمّة . ویمکن أن نتصوّر الأراضی المذکورة داخل النطاق الإسلامی ( دار الإسلام ) أو

خارجه ، علی شکل بلد مستقلّ یتمتّع بدعم الحکومة الإسلامیّة وحمایتها .

قانون المرابطة

کما ألمحنا فی المباحث المتقدّمة فإنَّ الدین الإسلامی لا یقبل التحدید والتجزئة ، وکذلک حدود الدولة الإسلامیّة فإنَّها من الوجهة الفکریّة والهدفیّة لا تقبل ذلک بالموازنة

مع الحدود المادّیّة بید ، أ نَّه لابدَّ من التمییز سیاسیّا بین الأراضی الواقعة فی النطاق السیاسی للحکومة والأراضی العائدة إلی الأجانب والبلدان الأُخری بعلامات معیّنة .

إنَّ العلامات المذکورة التی تعرف کحدود یمکن أن تتعیّن بواسطة العادات والتقالید ، کما یمکن تعیین حدود الدولة الإسلامیّة ( دار الإسلام ) من خلال العلامات الطبیعیّة کالجبال والأنهار ، وکذلک من خلال العلامات المصطنعة کالعلامات المستعملة الیوم فی

التمییز بین حدود البلدان المختلفة .

لقد وضع قانون المرابطة فی الإسلام لحراسة ثغور الدولة الإسلامیّة ، وفسّر الفقهاء الثغور بالأشکال الثلاثة الآتیة(1) :

1 - الحدّ المشترک بین دار الشرک ودار الإسلام .

2 - مواضع فی أطراف الأراضی الإسلامیّة معرّضة لخطر الهجوم الأجنبی .

3 - کلّ منطقة تُهدّد من قبل القوی الأجنبیّة .

إنَّ عنوان المرابطة فی الفقه الإسلامی لا یرتبط بقضیّة الحرب والمناوشات ، فالقصد منه هو حراسة الحدود ومراقبة ما یجری علیها (2) فحسب . وإنَّ أهمّیة المرابطة فی القانون

ص: 222


1- « جواهر الکلام » ج 1 ، کتاب الجهاد ، بحث المرابطة .
2- نفسه .

الإسلامی وقیمتها لافتة للنظر کثیرا . وقد أُثرت أحادیث جمّة عن النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله حول القیمة المعنویّة لها (1) . وینظر الإسلام إلی المرابطة علی أ نَّها عبادة مهمّة وقیّمة ، والحدّ الأدنی لها ثلاثة أیّام . ولا تقع مهمّة المرابطة علی عاتق الحکومة فقط ، وإنَّما جعلها الإسلام عملاً عبادیّا فردیّا ، وحثّ المسلمین کافّة علی القیام بهذه المهمّة الوطنیّة الخطیرة .

سکن المسلم

إنَّ مبدأ حرّیّة السکن لکلّ شخص مسلم ، کما یعتبر حقّا شرعیّا فی أرجاء الدولة الإسلامیّة من منظار القانون الإسلامی ، فکذلک هو خارج الدولة الإسلامیّة حقّ مشروع

ومبدأ مقطوع به .

ولم یضع القانون الإسلامی أیّ حاجز ومانع لسکن أتباعه علی أرض الأجانب ، وقد منحهم حرّیّة تامّة للسکن فی أیّ بقعة یختارونها .

إلاّ أ نَّه فی حالة واحدة ، اعتبر سکن المسلمین علی أرض الأجانب غیر قانونی ، والهجرة إلی بلد إسلامیّ واجبة وضروریّة ، وتلک الحالة ترتبط بالبلاد التی لا تراعی فیها الحرّیّة الدینیّة ولا یستطیع الإنسان المسلم أن یقیم شعائره الدینیّة وفقا لعقیدته .

ولا

یری الإسلام جوّ الرعب والإرهاب الذی یکمّ الأفواه صالحا للسکن والحیاة فیه ، ویعتبر مصادرة الحرّیّة الدینیّة - وهی حقّ طبیعی للإنسان - إهانة لا تطاق من منظار القیم والمثل الإنسانیّة ، ولا یسمح لأتباعه أبدا أن یتحمّلوا مثل هذه الإهانة

، وکما یعتبر الحرّیّة الدینیّة حقّا طبیعیّا ومشروعا لا یقبل الخرق بالنسبة إلی الأجانب ، فإنَّه یری أنَّ مراعاة ذلک ضروریّ بالنسبة إلی أتباعه ، وأنَّ خرقه لا یطاق .

إنَّ علی المسلم الذی یعیش فی مثل هذا الوسط الإرهابی أن یترکه ویهاجر إلی بلد إسلامی فی أوّل فرصة متاحة . وکذلک الأشخاص الذین یعتنقون الإسلام فی مثل هذا الوسط ، فإنَّهم مکلّفون بالالتحاق بصفوف المسلمین فی البلد الإسلامی . ویبیِّن القرآن

الکریم الواجب الشرعی بالنحو الآتی :

ص: 223


1- قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : « الرباط لیلة خیر من صیام شهر وقیامه . فإن مات جری علیه عمله الذی کان یعمل وأجری علیه رزقه وأمن الفتان » .

« اِنَّ الَّذینَ تَوَفّیهُمُ الْمَلئِکَةُ ظَالِمی اَ نْفُسِهِمْ قَالُوا فیمَ کُنْتُمْ قَالُوا کُنَّا مُسْتَضْعَفینَ فِی الاَْرْضِ قَالُوا اَلَمْ تَکُنْ اَرْضُ اللّه ِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فیهَا فَاُولئِکَ مَاْویهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصیرًا * اِلاَّ الْمُسْتَضْعَفینَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ یَسْتَطیعُونَ حیلَةً وَلاَ یَهْتَدُونَ سَبیلاً * فَاُولئِکَ عَسَی اللّه ُ اَنْ یَعْفُوَ عَنْهُمْ وَکَانَ اللّه ُ عَفُوًّا غَفُورًا » (1) .

بیّن الفقهاء قانون الهجرة بالنسبة إلی المسلمین الذین یعیشون فی البلاد غیر الإسلامیّة فی الأشکال الثلاثة الآتیة(2) :

1 - الذین یعیشون فی البلاد غیر الإسلامیّة ولیس لهم حقّ فی إظهار عقائدهم وأداء فرائضهم وإقامة شعائرهم الدینیّة ، فهؤلاء یجب علیهم الهجرة إلی بلد إسلامی .

2 - الذین یعیشون فی بلاد الأجانب ویتمتّعون بحرّیّة دینیّة ولهم حقّ الجهر بعقائدهم ، ولا یصطدمون بعقبة تحول دون أداء فرائضهم الدینیّة . فهؤلاء وإن لم

یجدوا ضرورة من الهجرة ، بید أ نَّهم حقیق بهم أن یلتحقوا بصفوف المسلمین .

3 - المسلمون الذین لا قِبَلَ لهم بالهجرة ، أو أنَّ هناک عقبات من مرض وغیره تفقدهم القدرة علی الهجرة ، فهؤلاء یستطیعون مواصلة حیاتهم فی البلد الأجنبی مع وجود

الظروف العصیبة .

مسؤولیّة المسلمین فی البلد غیر الإسلامی

ینبغی للمسلم الذی یختار السکن فی بلد غیر إسلامی ، بعد استئذانه أهله بدخوله ، وتقدیم التعهّدات القانونیّة اللازمة ، أن یعمل وفقا للتعهدات المقدّمة . وهو غیر مأذون أبدا أن یتصرّف تصرّفا معاکسا لما تعهّده ، ویخون أهل البلد الذین آمنوه وآووه ، ویتعامل

معهم تعاملاً ماکرا وغادرا ، کما لیس له أیّ حقّ أن یرتکب جرائم القتل والسرقة وغیرها

من الجرائم الأُخری ، أو ینکر ما فی ذمّته من حقوق للآخرین(3) .

وما دام یتمتّع بالأمان فی ذلک البلد ، فإنَّه یتعهّد - مبدئیّا - أن لا یقوم بکلّ ما من

ص: 224


1- النساء : 97 - 99 .
2- « جواهر الکلام » ج 21 ، کتاب الجهاد ، ص 35 - 36 .
3- یرجع إلی نفس المصدر ، ص 644 - 645 ( الطبعة الحجریّة ) .

شأنه الإضرار بغیر المسلمین .

وکما أ نَّه مکلّف بأداء الفرائض والعمل بالأحکام الدینیّة فی البلد غیر الإسلامی ، فهو

مکلّف أیضا أن یحترم مواثیقه وتعهّداته أمام الأجانب حکومة وشعبا إلی درجة لا تصطدم

فیها مع القانون الإسلامی ، ویفی بوعوده . وأن لا یبعث انتقاله إلی البلد الإسلامی علی خرق المواثیق والتعهّدات المذکورة أبدا ، وینبغی أن یؤدّی ما علیه من حقوق بعد عودته

إلی الوطن الإسلامی ، وینفّذ کلّ ما قام به من عقد(1) .

وفی الوقت ذاته لیس لأیّ مسلم أن یتواطأ مع الأجانب ضدّ المسلمین من خلال عقد یعقده معهم أو تعهّدات یأخذها علی عاتقه أمامهم . وأن یتفادی مثل هذه التعهّدات المحظورة والملغاة من منظار القانون الإسلامی ، وبعامّة ، التعهّدات التی لیس لها أیّ اعتبار وشأن ، ولیس له أیّ مسوّغ لاحترامها وتطبیقها .

الهجرة إلی اللّه

إنَّ قانون الهجرة من الفساد والإثم لتطهیر الوسط الحیاتی والمحافظة علی الإیمان ، وضمان الإمکانیّات للقیام بالواجبات المعهودة لا یقتصر علی الهجرة من البلد الأجنبی

وغیر الإسلامی ، بل ینبغی علی المسلم أن یراعی هذا المبدأ فی ظروفه الحیاتیّة کلّها ، وأن یغادر کلّ سکن ووطن یری فیه ضررا علیه وعلی أُسرته یهدّد إیمانهم وأخلاقهم وواجباتهم ، وأن یولّی وجهه نحو اللّه من خلال اختیار وسط جدید لحیاته یعینه علی أداء

واجباته . ویسمّی القرآن هذا اللون من الهجرة : ( مهاجرة فی سبیل اللّه ) . قال عزّ من قائل :

« وَ الَّذینَ هَاجَرُوا فِی اللّه ِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِی الدُّنْیَا حَسَنَةً وَ لاََجْرُ الاْخِرَةِ اَکْبَرُ لَوْ کَانُوا یَعْلَمُونَ * اَلَّذینَ صَبَرُوا وَ عَلی رَبِّهِمْ یَتَوَکَّلُونَ » (2) .

ویقول الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله فی هؤلاء الأشخاص الذین یبادرون إلی الهجرة من الوسط الموبوء حفظا لدینهم وظفرا بتوفیق أکبر لممارسة أعمالهم وشعائرهم :

ص: 225


1- « جواهر الکلام » 21 : 107 .
2- النحل : 41 - 42 .

« من فرّ بدینه من أرض إلی أرض وإن کان شبرا من الأرض ، استوجب الجنّة وکان رفیق أبیه إبراهیم ونبیّه محمّد صلی الله علیه و آله » (1) .

وجاء فی حدیث عن النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله قوله : « لا هجرة بعد الفتح » (2) .

وفی ضوء هذا الحدیث ألغی بعض الفقهاء وجوب الهجرة فی الحالات المشار إلیها . فی حین أنَّ التوکّؤ علی هذا الحدیث یستدعی أنَّ موضوع الآیتین المتقدّمتین قد انتفی تماما ، وأ نَّهما قد نسختا عملیّا .

واستدلّ أغلب الفقهاء بحدیث نبویّ آخر ، ما عدا الأدلّة المتقدّمة ، وهذا الحدیث ینصّ علی استمرار حکم الهجرة ودیمومته ، یقول صلی الله علیه و آله : « لا تنقطع الهجرة حتّی تنقطع التوبة

، ولا تنقطع التوبة حتّی تطلع الشمس من مغربها » (3) .

وفی ضوء هذا الحدیث الصریح قیل بأنَّ الحدیث الأوّل یخصّ الهجرة من مکّة . وبعد فتحها فإنَّ الهجرة منها هی لیست هجرة من بلاد الکفر(4) .

الدولة الإسلامیّة موطن الأقلّیّات

تستطیع الأقلّیّات الدینیّة بعد عقد الذمّة واکتساب المواطنة فی ضوئه أن تعیش کسائر المسلمین فی أیّ بقعة من بقاع الوطن الإسلامی تراها مناسبة لها ، وتتّخذها سکنا

دائمیّا أو مؤقّتا ، وکذلک تستطیع أن تغادر الوطن الإسلامی وتخرج من حدوده . بید أنَّ

عقد الذمّة فی هذه الحالة یفقد أثره تلقائیّا ، وتلغی الآثار المترتّبة علی المواطنة المکتسبة علی أساس عقد الذمّة(5) .

إنَّ المبادئ الثلاثة التی أُشیر إلیها فی مجال سکن المسلمین وإقامتهم فی الوطن الإسلامی تنطبق کلّها علی الأقلّیّات الدینیّة أیضا علی النحو الآتی :

1 - لا ضرورة من امتلاک أهل الکتاب والذمّة سکنا دائمیّا بالمعنی المتقدّم . وأنَّ تعیین

ص: 226


1- « جواهر الکلام » 21 : 35 .
2- « وسائل الشیعة » 13 : 238 .
3- « جواهر الکلام » 21 : 36 .
4- نفسه .
5- یمکن أن تطالعوا دراسة للقضایا المتنوّعة المتعلّقة بالأقلّیّات الدینیّة فی کتابی : « حقوق الأقلّیّات » .

السکن تابع لرغبة الأقلّیّات الدینیّة واختیارها الشخصی ، ولا قسر ولا إلزام فی هذا المجال

إلاّ فی الحالات الاستثنائیّة التی یتطلّب فیها عقد الذمّة أو مصالح الطرفین تحدید سکن معیّن لهم .

2 - یمکن أن تتعدّد مساکن أهل الذمّة .

3 - إنَّ سکن أهل الذمّة لیس دائمیّا ، فهم یستطیعون تغییر مساکنهم باختیارهم أ نّی شاءوا .

وقصاری القول ، إنَّهم عندما ینقلون سکنهم إلی خارج الدولة الإسلامیّة ، فإنَّ الأثر القانونی لعقد الذمّة یفقد مفعوله لا محالة ، دون أن یولّد هذا النقل خرقا لعقد الذمّة ، کما نوهنّا بذلک آنفا . ومن الجدیر ذکره أنَّ الحرّیّة المشار إلیها فی التنقّل للأقلّیّات الدینیّة تعتبر حقّا قانونیّا مسلّما فیما إذا لم ترد شروط خاصّة للسکن فی نصّ العقد .

المناطق المحرّمة

ینبغی استثناء المساجد ممّا قیل فی حرّیّة أهل الذمّة لاختیار السکن . فلا یحقّ للاقلّیات الدینیّة السکن وحتّی العبور من المعابد الإسلامیّة ولا سیّما المسجد الحرام . ولا یمکن أن یکون الإذن من المسلمین أیضا مسوّغا لدخولهم فی المساجد .

والوسط الآخر الذی یعتبر من المناطق المحرّمة للأقلّیات الدینیّة هو منطقة ( الحرم ) التی تشمل مکّة وقسما من أطرافها .

یحظر علی أهل الذمّة السکن فی منطقة الحرم والدخول إلیها ، ولیس لهم أن تطأ أقدامهم حدودها تحت عنوان الاجتیاز أو الأعمال التجاریّة .

وحظر کثیر من الفقهاء علی أهل الذمّة السکن فی الحجاز . ووردت أحادیث کثیرة فی هذا المجال یطلب فیها النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله بصراحة وفی اللحظات الأخیرة من حیاته إخراج المشرکین والیهود والنصاری من الجزیرة العربیّة(1) .

ص: 227


1- یقول ابن الجرّاح : کان آخر کلام للنبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله هو : أخرجوا الیهود من الحجاز ، وأهل نجران من الجزیرة . وجاء فی حدیث آخر : لا یجتمع ذمّیّان فی الحجاز . وقال صلی الله علیه و آله : سأطرد الیهود والنصاری من الحجاز . ذکر المرحوم صاحب « الجواهر » هذه الأحادیث فی أحکام الذمّة من کتاب الجهاد ، وادّعی - وفقا لها - إجماع الفقهاء علی ذلک .

وقد فسّر الفقهاء الجزیرة العربیّة علی أ نَّها أرض الحجاز ، ورأوا أ نَّها تشمل مکّة والمدینة والیمامة وینبع وخیبر وفدک وضواحیها . وقصرها بعضهم علی مکّة والمدینة

.

کما أنَّ بعض الفقهاء حرّم المرور عبر الحجاز للسفر أو لأهداف تجاریّة أیضا ، وأجاز بعضهم الآخر ذلک علی أن یکون الحدّ الأعلی للإقامة فیه ثلاثة أیّام لأهل الذمّة(1) .

إذن الدخول للأجانب

یدعی الأجنبی الذی لا یشمله عقد الذمّة ( حربیّا ) فی الفقه الإسلامی نظرا إلی موقفه الخاصّ حیال المجتمع الإسلامی . ویشمل هذا العنوان شریحتین متمیّزتین من الأجانب هما :

1 - الأجانب الذین لا یدینون بأحد الأدیان السماویّة الثلاثة ، وهی : الیهودیّة والنصرانیّة والمجوسیّة . فهؤلاء - کما ألمحنا سابقا - لا یستطیعون التمتّع بحقّ الذمّة .

2 - الأجانب من أهل الکتاب الذین یدینون بأحد الأدیان الثلاثة المذکورة ، بید أ نَّهم لم یقرّوا بعقد الذمّة .

إنَّ الحربی محروم من امتیازات أهل الذمّة جمیعها ، ومن ثمَّ لا یحقّ له الدخول إلی دار

الإسلام والإقامة فیها .

إنَّه یستطیع الدخول أو العبور أو السکن فی الدولة الإسلامیّة بلا تعرّض عندما یشمله قانون خاصّ فی الفقه الإسلامی تحت عنوان ( الأمان ) و ( الذمام ) فحسب(2) .

إنَّ ( الأمان ) أو ( الذمام ) هو فی الحقیقة نوع من العقد بین أحد المسلمین وبین الحربی ، وفی ضوئه یستطیع الحربی أن یحصل علی إذن رسمی لدخول دار الإسلام . ویمکن

أن نعتبر العقد المذکور بمنزلة جواز السفر لأحکام السیطرة علی الحدود ومراقبتها .

وقد یتحقّق عقد الأمان بناءً علی طلب سابق یتقدّم به الشخص الأجنبی ( الحربی ) .

ص: 228


1- « الشرائع » - أحکام الذمّة من کتاب الجهاد .
2- سنتحدّث بالتفصیل فی فصل مستقلّ عن مواصفات قانون الأمان وآثاره القانونیّة . وجاء طرحه مجملاً فی هذا البحث من زاویة سکن الأجانب .

وقد یتحقّق أیضا بلا طلب سابق ، بل علی شکل تعهّد أوّلی من قبل الشخص المسلم . کما أنَّ انعقاده أیضا بسیط تماما ؛ إذ إنَّ کلّ مسلم مؤهّل ، عندما یعتزم منح الأمان للحربی ، ویعبّر عن قصده واعتزامه بشکل شفوی أو خطّی أو تلمیحی ، فإنَّ أمانه متحقّق قانونیّا ، وبه یتمتّع الحربی بحصانة قانونیّة ، ویعتبر مستأمنا (1) .

وجاء التعلیم القرآنی فی هذا الصدد کالآتی :

« وإن أحد من المشرکین استجارک فأجره حتّی یسمع کلام اللّه ثمَّ أبلغه مأمنه » .

وأُثر عن نبیّنا الأکرم صلی الله علیه و آله قوله فی مواصفات الإنسان المسلم وشخصیّته الاجتماعیّة والقانونیّة : « ... یسعی بذمّتهم أدناهم » (2) .

ویوضّح الإمام الصادق علیه السلام هذا الکلام قائلاً : لو أنَّ جیشا من المسلمین حاصروا قوما من المشرکین فأشرف رجل ، فقال : أعطونی حتّی ألقی صاحبکم وأُناظره ، فأعطاه أدناهم الأمان ، وجب علی أفضلهم الوفاء به(3) .

ونقل عن الإمام علیّ علیه السلام فی إحدی حروبه ، عندما حاصر جیشه إحدی القلاع ، وسمع أنَّ عبدا مملوکا من المسلمین آمن أهل تلک القلعة ، أجاز أمانه ، وفکَّ الحصار عن تلک القلعة(4) .

ونقل الإمام الصادق علیه السلام عن النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله أ نَّه قال : أیّما رجل من أدنی المسلمین أو أفضلهم نظر إلی رجل من المشرکین فهو جار حتّی یسمع کلام اللّه ؛ فإن تبعکم ، فأخوکم فی الدین . وإن أبی ، فأبلغوه مأمنه ، واستعینوا باللّه علیه(5) .

وفی ضوء ما ذکرته المصادر المشار إلیها ، تستبین هذه النقطة أیضا ، وهی أنَّ إعطاء الأمان لا یقتصر علی إمام المسلمین أو أحد أُمرائهم . بل هو حقّ محفوظ لعامّة المسلمین

بوصفه حقّا قانونیّا .

بید أ نَّه لمّا کان کلام المجنون ، والصبی فاقدا للاعتبار من منظار القانون الإسلامی ، لذلک یعتبر فیمن یعطی الأمان أن یکون عاقلاً وبالغا . کما أنَّ إعطاء الأمان من قبل شخص غیر مسلم - حتّی لو کان مملوکا للمسلمین ویقاتل معهم أو کان ذمّیّا - لا عبرة فیه ، وهو غیر مقبول . ولکن یتساوی الذکر والأُنثی والحرّ والمملوک من المسلمین فی هذا الحقّ

ص: 229


1- « جواهر الکلام » 21 : 21 - کتاب الجهاد ، الطرف الثالث .
2- « جواهر الکلام » 21 : 21 - کتاب الجهاد ، الطرف الثالث .
3- « جواهر الکلام » 21 : 21 - کتاب الجهاد ، الطرف الثالث .
4- « جواهر الکلام » 21 : 21 - کتاب الجهاد ، الطرف الثالث .
5- « جواهر الکلام » 21 : 21 - کتاب الجهاد ، الطرف الثالث .

القانونی(1) .

یستطیع کلّ مسلم أن یجیر شخصا واحدا أو عدّة أشخاص من الأجانب . وبناءً علی رأی عدد من الفقهاء ، فإنَّ الأمان الصادر عن أحد المسلمین یمکن أن یشمل فئة أو أهل

قریة أو قافلة(2) . ویمکن أن نستشفّ هذا الحکم أیضا من المصادر السابقة .

2 - دار الحرب
اشارة

وهی البلاد الخارجة عن نطاق السیادة الإسلامیّة ، ولا تطبّق فیها أحکام الإسلام ، وتحکم فیها قوانین أرضیّة وضعیّة . وکان یقال لمکّة قبل الفتح وبعد الهجرة : دار الحرب ؛ ولکن بعد فتحها ، قال النبیّ صلی الله علیه و آله : « لا هجرة بعد الفتح » (3) . فأصبحت مکّة بعدئذٍ جزءا من

دار الإسلام .

واعتبر کثیر من الفقهاء الملاک فی صدق عنوان دار الحرب سیادة الکفّار وتطبیق الأحکام غیر السماویة . وأقدم تعریف لدار الحرب فی أیدینا هو التعریف الذی ذکره محمّد بن الحسن الشیبانیّ فی « شرح السیر الکبیر » ، حیث قال : الملاک فی عنوان الدار السیادة والقدرة العسکریّة علی تنفیذ القوانین(4) .

لذلک کان یقال إنَّه متّی طبّقت أحکام الکفر فی دار الإسلام ، فإنَّ عنوان دار الحرب یصدق علیها (5) . وإذا کانت هذه النظریّة مقبولة فی تفسیر دار الحرب ، فإنَّها تواجه إشکالاً فی تفسیر دار الإسلام ، ذلک لأنَّ الأحکام الإسلامیّة لا تطبّق فی أغلب الأقطار الإسلامیّة

المعاصرة ، کما أنَّ القدرة العسکریّة والسیادة فیها للقوانین الوضعیّة .

إنَّ الملاک فی الدار عند أبی حنیفة هو الأمن . فأیّ بلد کان الأمن فیه للمسلین فهو دار

ص: 230


1- لا یجیز أبو الصلاح ، وهو من فقهاء الشیعة ، لعامّة المسلمین الإجارة بدون إذن الإمام . ولکنَّ المرحوم صاحب « الجواهر» یعدّ رأیه هذا واضح الفساد . وأنَّ فقهاء الحنفیّة أیضا یجیزون إجازة المملوک والأمَة بعد استئذان مولاهما . ویجیز بعض فقهاء العامّة الإجارة حتّی للأطفال الذین تبلغ أعمارهم عشر سنین أیضا .
2- « جواهر الکلام » 21 : 21 - کتاب الجهاد ، الطرف الثالث .
3- « نیل الأوطار » 8 : 25 .
4- « شرح السیر الکبیر » 4 : 8 .
5- « آثار الحرب فی الفقه الإسلامی » ص 172 .

الإسلام

، وإلاّ فإنَّه دار الحرب . ویزول هذا الأمن بثلاثة أشیاء :

1 - تطبیق أحکام الکفر .

2 - مجاورة دار الحرب .

3 - عدم بقاء المسلم والذمّیّ الذی یعیش فی أمان المسلمین(1) .

مؤدّی هذا الکلام هو أنَّ الممیّز لدار الإسلام ودار الحرب لیس الحرب والصراع ، بل هو الأمن والسلام اللذین إذا انعدما فی مکان ما ، فذلک المکان یعتبر دار الحرب النسبة إلی المسلم ، ذلک لأنَّ المسلم عندما لا یتمتّع بالأمن فی مکان ما ، فإنَّ ظروف الانتهاک

والاعتداء سوف تسود فی ذلک المکان لا محالة ؛ وأ نَّی کان الأمن سائدا ، فلا مجال للانتهاک والاعتداء(2) .

وفی ضوء هذه النظریّة ، لیس هناک دار حرب فی الظروف التی یستطیع فیها کلّ إنسان أن یعیش آمنا فی أیّ بلد شاء علی أساس العلاقات الدولیّة .

وکذلک کثیر من الأقطار الإسلامیّة التی لا یجد فیها المسلمون المجاهدون الواعون فیها أمنا ، إذ ما فتأوا یکدحون لتحکیم شریعة اللّه فیها . فلابدَّ فی ضوء التعریف المشار إلیه ، أن تعتبرها : دار حرب .

مضافا إلی ذلک ، فی ضوء هذه النظریّة ، لمّا کان التقسیم قائما بین السلب والإیجاب ، فلابدَّ من عدم وجود دار أُخری غیر دار الإسلام ، ودار الحرب ،ومبدئیّا سوف لن یراعی

التناسب فی تسمیتهما أیضا .

إنَّ عدم وجود معیار دقیق فی تقسیم دار الإسلام ودار الحرب فی الفقه السنّیّ جعل المتأخّرین من علماء السنّة المتخصّصین یشکّکون فی إسلامیّة هذا التقسیم وینکرونها . فهم یرون أنَّ هذا التقسیم هو من مبتدعات الفقهاء فی القرن الثانی الهجری من أجل بیان أحکام

خاصّة فی مجال الحرب والسلم قد اضطرّوا إلیها حینئذٍ . ولمّا جاء التقسیم بسبب حالة

الحرب ، فلابدَّ أن یفقد اعتباره بانتهائها (3) .

ص:231


1- « آثار الحرب فی الفقه الإسلامی » ص 172 .
2- نفسه ؛ و « التشریع الجنائی الإسلامی » 1 : 117 .
3- یرجع إلی کتاب « السیاسة الشرعیّة » أو « نظام الدولة الإسلامیّة » للشیخ عبد الوهّاب خلاف ، ص 69 - 76 ؛ و « آثار الحرب فی الفقه الإسلامی » ص 194 - 196 .

وعلی الرغم من استعمال الفقه الشیعی تعابیر مماثلة لتعابیر الفقه السنّی ، بید أ نَّه لمّا

کانت الروایات المأثورة عن أئمّة أهل البیت علیهم السلام فضلاً عن الأحادیث النبویّة ، تشکّل مصدرا من مصادر الاستنباط فی الفقه الشیعی ، فإنَّ عنوان دار الحرب یظلّ عنوانا إسلامیّا

أصیلاً أُخذ من الحدیث النبویّ المأثور عن طریق أهل البیت علیهم السلام .

فقد نقل الإمام الصادق علیه السلام عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله أ نَّه قال : « ألا إنّنی بریء من کلّ مسلم ترک مع مشرک فی دار الحرب » (1) .

وقال الإمام الصادق علیه السلام فی حدیث آخر : « إنَّما الغریب الذی یکون فی دار الشرک » (2) .

وجاء فی روایة أُخری أنَّ الإمام الصادق علیه السلام سئل عن جیش غزا ( أرض الحرب ) فغنم غنیمة ، ثمَّ لحقه جیش آخر قبل أن یخرج الجیش الأوّل إلی دار الإسلام ، لکنَّه لم یغنم شیئا ، ودخل دار الإسلام بعد الجیش الأوّل ، فهل یشارکه فی الغنائم ؟ فقال الإمام : نعم(3) .

وسئل الإمام الصادق علیه السلام فی موضع آخر عن رجل من أهل الحرب أسلم فی دار الحرب وظهر علیهم المسلمون ، فکیف یکون حاله ؟ قال الإمام : إسلامه اسلام لنفسه ولولده الصغار ، وأمَّا داره وأرضه فهما من الفیء ، ذلک لأنَّ الأرض هی أرض جزیة لم یجر فیها حکم أهل الإسلام ، ولیس هذا بمنزلة ما ذکرناه ، لأنَّ ذلک یمکن احتیازه وإخراجه إلی دار الإسلام(4) .

المفهوم الفقهی لدار الحرب

فی حدیث آخر ، یمکن أن نعتبر استدلال الإمام علیه السلام علی أنَّ دار المسلم الساکن فی دار الحرب وأرضه هما من الغنائم ، تعریفا لدار الحرب . قال الإمام : « لأنَّ الأرض هی أرض جزیة لم یجر فیها حکم أهل الإسلام » . ویتکفّل هذا الحدیث ببیان نقطتین فیما یخصّ دار الحرب :

1 - لا شکّ فی أنَّ البلد الذی یعیش فیه أهل الذمّة ، والبلد الذی تفرض علیه الجزیة

ص: 232


1- « وسائل الشیعة » 6 : 76 ؛ « فروع الکافی » 1 : 339 ؛ و « تهذیب الأحکام » 2 : 50 .
2- « وسائل الشیعة » 6 : 76 ؛ « تهذیب الأحکام » 2 : 56 .
3- « وسائل الشیعة » 6 : 87 ؛ « فروع الکافی » 1 : 339 .
4- « وسائل الشیعة » 6 : 89 ؛ « تهذیب الأحکام » 2 : 50 .

یمثّلان دار العهد التی یعیش فیها أهل الکتاب وفقا لعقد الذمّة . إذَن ، تعتبر دار العهد جزءا

من دار الحرب أیضا .

وفی هذه الحالة فإنَّ مفهوم دار الحرب یشمل دار الصلح أیضا ، ولا یعد یعنی منطقة حربیّة . بید أنَّ هذا المعنی لا یوائم ما تفترضه الروایة من قیام الجیش الإسلامی بعملیّات

عسکریّة ، وظفره بفتح من الفتوحات ؛ فلابدَّ - إذن - أن نسوّغ تلک الروایة بأحد الشکلین

الآتیین :

أ - المنطقة المشار إلیها کانت سابقا دار العهد ، بید أ نَّها عادت إلی دار الحرب بسبب

نقض العهد والذمّة .

ب - أنَّ تعبیر أرض الجزیة یعود إلی أنَّ الأرض التی تقصدها الروایة قابلة لأن تبدّل إلی أرض الجزیة بسبب وجود أهل الکتاب فیها . وفی ضوء هذین التسویغین تخرج دار العهد من حظیرة دار الحرب .

2 - دار الحرب - علی حدّ تعبیر الروایة - هی المنطقة التی لم یجر فیها حکم الإسلام

.

هل القصد من ( حکم الإسلام ) فی هذه الروایة سیادة الإسلام أو تطبیق الأحکام والقوانین الإسلامیّة ؟ ولو کان القصد منه تطبیق الأحکام ، فهل هی الأحکام العبادیّة

والأحوال الشخصیّة وأمثالها ، أو هی الأحکام السیاسیّة والقضائیّة والجنائیّة ؟

لا

یلاحظ فی الکتب الفقهیّة الشیعیّة نصّ صریح فی هذا المجال . وفی القضیّة المتعلّقة باللقیط فی دار الإسلام تحوم عبارات الفقهاء أکثرها حول محور وجود المسلمین والأغلبیّة

الإسلامیّة فی تلک البقعة ، وفی القضیّة المتعلّقة بشروط عقد الذمّة إذ ذکروا قبول تطبیق الأحکام الإسلامیّة کأحد الشروط الأساسیّة لعقد الذمّة ، یستنبط مفهوم الأحکام القضائیّة منها .

علی أیّ حال لا یمکن أن یکون حکم الإسلام هو الأحکام العبادیّة فقط ؛ لأنَّ الأحکام العبادیّة فی الإسلام تطبّق حیثما کان المسلم . ولا یمکن أن یشکّل تطبیق الأحکام

المتعلّقة بالزواج ، والطلاق ، والإرث ، والوصیّة ، والمعاملات ، والوقف ، وما شابهها ملاکا لتحدید الدار ؛ لأنَّ الوفاق والتعاقد مع دار الحرب یمکن أن یمثّلا وسیلة لتطبیق الأحکام

بحقّ المسلمین القاطنین خارج دار الإسلام . فما یمیّز البلد إسلامیّا هو الأحکام القضائیّة

ص:233

والقوانین الجنائیّة الإسلامیّة التی لا تطبّق إلاّ فی دار الإسلام .

وهکذا یمکن أن نقول بأنَّ حکم الإسلام الوارد فی الحدیث هو الأحکام القضائیّة والجنائیّة ، بید أ نّنا لا یخالجنا الشکّ بأنَّ هذا اللون من الأحکام لا یطبّق إلاّ فی بلد حکومته إسلامیّة والسیادة فیه للإسلام .

ولمّا کانت الحکومة والسیادة فی کلّ بلد تمثّل بعدین هما : الحکومة ، والشعب ، وانَّ سلطة الحکومة ینبغی أن تنبثق من إرادة الشعب ، فالحکومة المنبثقة عن الإرادة الإسلامیّة

للشعب المسلم - إذن - ستتّخذ معها طابعها الإسلامی ؛ ومن هذا المنطلق ، یمکن أن نُعبّر عن الأقطار المعاصرة فی الوطن الإسلامی التی لا تطبّق فیها الأحکام الإسلامیّة الحقیقیّة

بالمعنی الصحیح للکلمة : دار الإسلام .

أمَّا لو کنّا فی بلد سکّانه کلّهم أو أغلبهم مسلمون وصوّت الأغلبیّة علی عدم تطبیق القوانین الإسلامیّة فیه مطالبین بتطبیق القوانین الشرقیّة أو الغربیّة ، فمن الصعوبة بمکان أن نعتبر ذلک البلد جزءا من دار الإسلام .

ولو ناقشنا المسألة بشکل أدقّ ، واعتبرنا الملاک فی دار الإسلام - وفقا للحدیث - هو بسط السیادة الإسلامیّة ، فلا جرم أنَّ سیادة الإسلام فی نظام الإمامة قابلة للبسط

والتطبیق . وإذا ما فقد نظام الإمامة بالأصالة فی عصر ما ، وکانت هناک ضرورة لإقرار

نظام الإمامة النیابی للفقیه الجامع للشرائط ، فسوف تتجسّد دار الإسلام فی دولة مثل

الجمهوریّة الإسلامیّة فی إیران .

من جهة أُخری ، فإنَّ فی التسلسل الهرمی للنظام السیاسی فی الإسلام حیث تستمرّ الحکومة منتقلة من النبیّ صلی الله علیه و آله إلی الإمام المعصوم علیه السلام ، ومن الإمام المعصوم علیه السلام إلی الفقیه الجامع للشرائط ، وعند عدم وجود الفقیه الجامع للشرائط ، إلی الفقیه الفاقد للشرائط ، ثمَّ تنتقل إلی عدول المؤمنین ، وعند عدم وجودهم تنتقل إلی المسلم الفاسق ، وهکذا تستمرّ

ما دام النظم والعدل قائمین فی المجتمع الإسلامی ، ففی هذا التسلسل تمَّ رصد المواصفات التی یتمتّع فیها الحاکم ، وکذلک نوع الحکومة القابلة للتبدّل تبعا للظروف الزمنیّة والأوضاع

العامّة فی المجتمع الإسلامی . بید أنَّ المرصود بشکل ثابت فی هذه الظروف والأحوال جمیعها هو تطبیق القوانین السماویّة . وإذا کان الأمر کذلک ، فیمکن التغاضی نوعا ما عن شروط

ص: 234

الحاکم ونوع الحکومة الإسلامیّة ، کما نلحظ ذلک فی سیرة الإمام علیّ علیه السلام قبل انقیاد الخلافة إلیه .

نتیجة البحث

یمکن أن نستنتج ممّا تقدّم أنَّ الملاک فی دار الإسلام ودار الحرب هو تطبیق القوانین السماویّة أو عدم تطبیقها . ولا تأثیر للحاکم ونوع الحکومة فی صدق هذا العنوان .

ولمّا کانت القوانین ومصادرها تحدّد عادة فی إطار الدساتیر المقرّرة فی الدول المختلفة ، فیمکن أن یتحقّق تطبیق القوانین الإسلامیّة عن طریق دساتیر البلدان بالأشکال

الثلاثة الآتیة :

1 - الإعلان عن تطبیق القوانین الإسلامیّة بصراحة فی الدستور بشکل یرد فیه انسجام القوانین مع الموازین الإسلامیّة فی نصوص الدستور .

2 - ذکر الشریعة الإسلامیّة فی نصوص الدستور بوصفها مصدرا من مصادر التشریع .

3 - تخویل الشعب المسلم مهمّة التشریع ، مع الافتراض أنَّ إرادة الأغلبیّة من ذلک الشعب منبثقة من عقیدتهم الإسلامیّة .

علی الرغم من أن وجود الشروط الثلاثة المتقدّمة ضروریّ لإسلامیّة الحکومة والحکم ، کالذی جاء فی دستور الجمهوریّة الإسلامیّة ، إلاّ أ نّنا لمّا اعتبرنا الملاک هو تطبیق القوانین الإسلامیّة ، فإنَّ تحقّق أحدها سوف یکون کافیا .

ومع هذا التعمیم فی ملاک دار الإسلام ، إلاّ أ نّنا سوف نواجه مشکلة بالنسبة إلی بلدان

مثل ترکیا ذات الأکثریّة الإسلامیّة القاطعة ، فیما کانت تحت السیادة الإسلامیّة طوال عدّة قرون ، إذ لا یصدق علیها أیّ شرط من الشروط المشار إلیها .

إلاّ أن نقول بإنَّه لمّا کانت أکثریّة الشعب الترکی المسلم المتجلّیة فی سلطة الحکومة وسیادتها تطالب بتطبیق الأحکام الإسلامیّة ، فإنَّ ذلک یکفی فی صدق الشرط الثالث

؛ علی الرغم من وجود عقبات فی هذا الطریق لا یرتضیها الشعب المسلم فی ترکیا .

ص: 235

أحکام دار الحرب

إنَّ أحکام دار الحرب وآثارها قابلة للبحث والدراسة لسببین هما :

1 - الأحکام والآثار التی تحمل العنوان الفعلی لدار الحرب دون أن نلتفت إلی جذورها التاریخیّة . ویمکن دراسة هذه الآثار تحت العناوین الآتیة :

أ - السلم والحرب والمعاهدات السیاسیّة ، لأنَّ التعریف المتقدّم یفیدنا بأنَّ جمیع

أنواع الدار ما عدا دار الإسلام تعتبر فی نطاق دار الحرب مع هذا الفارق ، وهو أنَّ العلاقات السائدة فی أقسام من دار الحرب مع دار الإسلام علاقات سلمیّة ( دار العهد ) ، وبعضها

حیادیّة ( دار الحیاد ) ، وبعضها الآخر أیضا عدائیّة ، فتستدعی الدفاع المشروع حینا ، والجهاد حینا آخر ، والهدنة حینا ثالثا .

ب - الأراضی ، إذ إنَّ المعاهدات المعقودة بین دار الإسلام ودار الحرب تحدّد وضعها من حیث الملکیّة أو الجزیة أو الخراج .

وقد تحوّل الأراضی الکائنة فی دار الصلح إلی الحکومة الإسلامیّة وفقا للمعاهدة المعقودة ، وقد تبقی فی حیازة أهلها علی أن یدفعوا خراجها . أمَّا الأراضی الکائنة فی دار الذمّة فستشملها الجزیة أیضا .

ج - الحقوق الاجتماعیّة والسیاسیّة للمسلمین القاطنین فی دار الحرب ، والمسؤولیّات الملقاة علی عاتقهم من هذه الناحیة کالجرائم التی تستدعی الکفالة المالیّة والعقوبة والقصاص وغیرها من المسؤولیّات المدنیّة والقانونیّة والجنائیّة ، وحفظ الأموال المنقولة

وغیر المنقولة ، والقضایا المتعلّقة بأحوالهم الشخصیّة التی تتطلّب مسؤولیّات متبادلة بین الحکومة الإسلامیّة ودار الحرب . وکذلک دراسة تعارض القوانین وآثار التجنّس الناتجة

عن الظروف التی یمرّ بها المسلم فی إقامته خارج دار الإسلام(1) .

د - العلاقات الاقتصادیّة والتجاریّة والمعاهدات الخاصّة بالمبادلات الزراعیّة والصناعیّة والتجاریّة ، والتعاون الاقتصادی علی الصعید الدولیّ ، وتبیان حدود الحرّیّات

التی یتمتّع بها التجّار الأجانب أو استیراد البضائع من دار الحرب إلی دار الإسلام ، وطبیعة

ص: 236


1- سنتناول بالدراسة هذه المباحث التی تترکّز علی القانون الدولیّ الخاصّ فی الإسلام ، فی جزء مستقلّ من سلسلة بحوث الفقه السیاسی .

البضائع التی تصدّرها دار الإسلام والقیود التی تقیّد التجّار المسلمین(1) ، والدور الذی تترکه التجارة والعلاقات التجاریّة والاقتصادیّة علی بثّ الإسلام وتوسیع رقعته ، وحرکات التحریر الإسلامیّة السیاسیّة فی أرجاء العالم ، بحیث یتسنّی لدار الإسلام أن

تستثمر العلاقات الاقتصادیّة مع دار الحرب کسلاح مصیری للمضیّ بالأهداف الإسلامیّة والسیاسة الإسلامیّة العامّة قدما ، وعبر هذا الطریق ، یمکنها أن ترأب الصدع فتقصر

المسافة الموجودة بین العالم الإسلامی والعالم الأجنبی من حیث العلم والتقنیة ، ویمکنها من خلال الاستعمال الصحیح للعلم والتقنیة أن تستبدل الحضارة الإسلامیّة الجدیدة بالحضارة

الوضعیّة الهابطة التی لا تنسجم مع النموّ المعنویّ للإنسان .

ه - التعاون بین الدارین لعلاج المشاکل الدولیّة والاضطلاع بدور مؤّر ومتناسب مع الأهداف الإسلامیّة العالمیّة فی القضایا الدولیّة وتطبیق المبادئ والقواعد الدولیّة فی الإسلام فی جمیع المجالات القانونیّة والسیاسیّة والثقافیّة .

2 - الهویّة السابقة لدار الحرب حیث کانت جزءا من دار الإسلام ، واتّخذت الآن طابع دار الحرب ، ونلاحظ الیوم أنَّ قسما کبیرا من الجغرافیّة السیاسیّة للعالم الذی یشاهد فی نطاق دار الحرب علی شکل دول مستقلّة أو جزء من أجزاء هذه الدول قد اتّخذ لنفسه طابع دار الحرب ، وعندما کانت حاملة للهویّة الإسلامیّة فی الماضی السحیق أو القریب ، أخذت علی عاتقها القیام بأعباء التاریخ والحضارة والمدنیّة الإسلامیّة ، وبشکل عامّ أعباء الرسالة الإسلامیّة .

لقد کانت إسبانیا ، والبرتغال ، وقسم کبیر من أُوربا الشرقیّة ، وعدد ملحوظ من الجمهوریّات الإسلامیّة فی الاتّحاد السوفیتی [ سابقا ] ، وأقسام من دول الشرق الأقصی ، ومناطق من الصین ، وخاصّة من قارّة آسیا ، کانت کلّها تحمل الهویّة الإسلامیّة یوما ما ، وکانت تعتبر جزءا من دار الإسلام .

فهل هذا القسم الکبیر والغنیّ والمکتظّ بالسکّان من العالم یظلّ مفصولاً عن دار الإسلام ومحکوما من قبل الکافرین ؟ ویأتی البلی علی التراث الإسلامی العظیم والحضارة

ص: 237


1- حظر بعض الفقهاء التجارة الخارجیّة والعلاقات التجاریّة بسبب سیطرة قانون دار الحرب علی التجارة . یرجع إلی « المحلّی » لابن حزم ، 7 : 349 / رقم 962 .

الإسلامیّة

، لا سیّما فی مجال العقیدة فی هذه الأقطار علی کرور الأیّام والشهور ؟ وتنسلخ البقیّة الباقیة من المسلمین عن هویّتها الإسلامیّة فی هذه البلدان فتظلّ أقلّیّة لا ملاذ لها ولا ملجأ ؟ ویغمر النسیان هذه الدول الإسلامیّة جمیعها وهی ثمرة الجهود المضنیة للأجیال

الإسلامیّة العدیدة خلال القرون المتمادیة ؟

من ذا الذی ینهض حقّا للدفاع عن الإسلام واستعادة الهویّة الإسلامیّة ، ویطالب باسترجاع الأجزاء السلیبة من العالم الإسلامی ، وینادی بالمحافظة علی استقلال أقطار دار الإسلام المعاصرة ، فی مثل هذه الظروف التی لم تستحوذ فیها الدول الکبری علی أجزاء من دار الإسلام فحسب ، بل اقتسمت ما تبقّی من دار الإسلام فیما بینها من خلال مفاوضاتها

ومعاملاتها السیاسیّة ؟ فالتفرقة والضرب علی وتر القومیّة ، والحدود المرفوضة التی تفصل أجزاء العالم الإسلامی بعضها عن بعض ، کلّ أُولئک یقضی علی الأرضیّة الممهّدة لظهور من ینهض ویدافع ویطالب بما ذکرناه . ونری کلّ دولة من الدول الإسلامیّة تؤثر التفکیر بمصالحها الوطنیّة علی التفکیر بمصلحة الإسلام والأُمَّة الإسلامیّة .

3 - دار الذمّة
اشارة

یطلق هذا العنوان علی الأرض التی یعیش علیها أهل الکتاب ( الیهود ، والنصاری ، والمجوس ) من خلال عقد ( الذمّة ) مع دار الإسلام . وبهذا یسمّی الیهود والنصاری

والمجوس الذین وقّعوا عقد الذمّة مع المسلمین : ( أهل الذمّة ) .

ولنا أن نتصوّر المناطق المتحالفة مع المسلمین ( دار الذمّة ) من خلال الأشکال الثلاثة الآتیة :

أ - المناطق المتفرقة لأهل الذمّة الواقعة فی نطاق دار الإسلام .

ب - مناطق خاصّة من دار الإسلام یقطنها أهل الذمّة بشکل مرکزی ، بحیث نری لهم مؤسّسات دینیّة وثقافیّة واجتماعیّة ، ویتمتّعون بشیء من التنظیم والمرکزیّة ، کما یلاحظ ذلک فی منطقة جلفا الواقعة فی محافظة أصفهان .

ج - البلدان التی تعتنق شعوبها أحد الأدیان الرسمیّة الثلاثة ( الیهودیّة ، والنصرانیّة ، والمجوسیّة ) وقد وقّعت عقد ( الذمّة ) مع الحکومة الإسلامیّة ( دار الإسلام ) .

ص: 238

وعلی الرغم من أنَّ الفقهاء خاضوا فی الحدیث عن دار الذمّة بمصداقیها الأوّلیّین أکثر ، إلاّ أنَّ دار الذمّة تصدق علی الشکل الثالث المتقدّم من الناحیة النظریّة

، وهی جدیرة بالبحث والمناقشة فی هذا المجال .

ویمکننا أن نضیف شکلاً رابعا إلی الأشکال الثلاثة المشار إلیها ، وهو عبارة عن کلّ مکان معیّن یقطنه الذمّی أو یعمل فیه ، لأنَّ الحصانة علی المال والروح والعرض ، والحرّیّات المشروعة التی یتمتّع بها أهل الذمّة وفقا للعقد یشمل کلّ مکان یقطنه الذمّی

ویعمل فیه . ولهذا السبب یمکن أن نعتبر بیوت أهل الذمّة ومحلاّت عملهم مشمولة أیضا

بالآثار القانونیّة والسیاسیّة لدار الذمّة .

إنَّ تداخل دار الذمّة مع دار الإسلام وفقا للفرض الأوّل والثانی ، والرابع لا یخرج هذا

النوع من دار الذمّة من نطاق دار الإسلام أبدا ، وفی مثل هذه الافتراضات یبقی الطابع العامّ لدار الإسلام محفوظا ویصدق کلا العنوانین حقّا ( دار الإسلام ودار الذمّة ) علی مثل هذه المناطق .

وتستبین الوحدة الجغرافیّة والقانونیّة لدار الإسلام ودار الذمّة وهی لا تقبل التشکیک ، لا سیّما فی الحالات التی لا تحظی بها المناطق الذمّیّة بالمرکزیّة والتنظیم ، ولیس هناک حدّ معیّن بین تلک المناطق وغیرها من المناطق الإسلامیّة .

بید أنَّ إطلاق دار الإسلام علی دار الذمّة فی ضوء الافتراض الثانی ( المناطق الذمّیّة المرکزیّة والمنظّمة ) قابل للنقاش ، بخاصّة فی الحالات التی تکون فیها هذه المراکز داخل دار الإسلام علی شکل محافظة أو ولایة متمتّعة بالاستقلال الداخلی أو الحکم الذاتی . وفی هذه الحالة لا یتسنّی لنا أن نسمّی هذه المناطق : دار الإسلام بسبب تبعیّتها واتّصالها بدار الإسلام فحسب .

اللقیط فی دار الذمّة

فی ضوء المثال الذی ذکره الفقهاء حول اللقیط ، یتبیّن لنا من دار الذمّة صدق دار الإسلام علی هذه المناطق . یقول المحقّق الحلّیّ (1) :

ص:239


1- « شرائع الإسلام » 3 : 286 ، دار الأضواء ، بیروت .

الملقوط فی دار الإسلام یحکم بإسلامه ، ولو ملکه أهل الکفر ، إذا کان فیها مسلم ، نظرا إلی الاحتمال وإن بعد ، تغلیبا لحکم الإسلام . وإن لم یکن فیها مسلم ، فهو رِقٌّ . وکذا إن وجد فی دار الشرک ، ولا مستوطن هناک من المسلمین .

أشار الفقهاء فی مقام الاستدلال علی إسلام الطفل اللقیط فی الافتراض الأوّل إلی دلیلین هما :

أ - قاعدة الظنّ یلحق الشیء بالأعمّ الأغلب . والأعمّ الأغلب فی دار الإسلام هو المسلم .

ب - قاعدة الإسلام یعلو ولا یعلی علیه . ومن هذا المنطلق ، متی کان الاحتمال مطروحا حول إسلام اللقیط أو کفره ، فحکم الإسلام هو المرجّح(1) .

وقال الفقهاء أیضا فی مقام الاستدلال علی الکفر فی الحالتین الثانیة والثالثة :

یثبت الإسلام عن طریقین ؛ الأوّل : إظهار الشهادتین . الثانی : التبعیّة للمسلم . والطریق الأوّل یخصّ البالغ العاقل . والثانی یخصّ الحالة التی تمکن فیها التبعیّة للسلم

( التبعیّة للأبوین ، والسابی ، ودار الإسلام ) .

لا نلمس فی الطریقین المشار إلیهما مستمسکا لإثبات إسلام الطفل اللقیط .

وأضاف الشیخ الطوسیّ طریقا ثالثا إلی الطریقین المذکورین لإثبات إسلام اللقیط وقال : المراهق الممیّز محکوم بالإسلام . ولو ارتدّ بعد ذلک فهو مرتدّ فطریّ(2) .

قبل فقهاء الإمامیّة هذه النظریّة فی إسلام علیّ علیه السلام الذی کان قبل بلوغه ، بید أ نَّهم تردّدوا فی مصادیقها الأُخری ؛ وذلک لأنَّ النصوص العدیدة(3) التی فی أیدینا تفید أنَّ البلوغ

من الشروط الجوهریّة فی التکلیف ، وکلّ عمل وقول للطفل قبله لیس له اعتبار قانونی .

فی الوقت نفسه ، فإنَّ بعض الفقهاء اعتبر الأطفال ( غیر المراهقین ) القادرین علی الاستدلال مکلّفین وقالوا بعدم الاستثناء فی الأدلّة العقلیّة حول لزوم المعرفة والاعتقاد ، واعتبروا ذلک شاملاً للأطفال الذین لهم قدرة علی الفهم والاستدلال ؛ ولکنّهم قالوا بأنَّ

ص:240


1- « جواهر الکلام فی شرح شرائع الإسلام » للشیخ محمّد حسن النجفیّ 38 : 181 ، دار إحیاء التراث العربیّ .
2- « المبسوط فی فقه الإمامیّة » للشیخ الطوسیّ 3 : 345 ، المکتبة المرتضویّة ، طهران .
3- « وسائل الشیعة » للشیخ الحرّ العاملیّ 1 : 30 و 3 : 11 .

التکالیف الفرعیّة منوطة بالبلوغ(1) .

واعتبر صاحب « الجواهر » هذه النظریّة بمنزلة الاجتهاد فی مقابل النصّ ، وهو فی مقابلة المقطوع به نصّا ، إلاّ أ نَّه قبل هذا الرأی ، وهو إذا کان أبوا الطفل کافرین ، فیفرق بینه وبینهما (2) .

دار الإسلام بدون مسلم

فی ضوء الافتراض الذی طرحه المحقّق الحلّیّ وأیّده شارحا کتابه « شرائع الإسلام » ، وهما صاحب « الجواهر » ، وصاحب « المسالک » ، فإنَّ إحدی صور دار الإسلام هی الصورة التی تخلو فیها دار الإسلام من المسلم الذی یحتمل إلحاق الطفل ( اللقیط ) به . ومن البدیهی أنَّ أحد الموارد فی هذا الافتراض هو وجود دار الإسلام بلا مسلم یسکنها .

وفی ضوء هذا الافتراض ، یمکن أن تنطبق دار الإسلام حتّی علی المناطق الذمّیّة المرکزیّة التی یسکنها أهل الذمّة لا غیر .

من جهة أُخری ، یقسّم الشیخ الطوسیّ دار الإسلام إلی ثلاثة أقسام هی :

أ - بلد بنی فی الإسلام ولم یقرّ به المشرکون .

ب - بلد کان دار کفر فغلب علیه المسلمون وأخذوه صلحا وأقرّوهم علی ما کانوا علیه ، علی أن یؤدّوا الجزیة .

ج - دار کانت للمسلمین وتغلّب علیها المشرکون(3) .

نلحظ فی هذا التقسیم أنَّ المناطق الذمّیّة ، مهما کانت ذات طابع مرکزی وتنظیمی ، فهی دار الإسلام أیضا ؛ ونری الشیخ الطوسیّ هنا یسمّی هذه الدار : دار الإسلام ، وفی

الوقت نفسه یعتبرها دار الکفر أیضا ، ولا یری فرقا بین الاثنین(4) .

وفی ضوء تقسیم الشیخ الطوسیّ ، فإنَّ دار الإسلام تقف فی مقابل دار الحرب ، ویمکن جمعها مع دار الکفر ، بینما نجد فی تقسیم آخر للعلاّمة الحلّیّ فی « تذکرة الفقهاء » أنَّ دار

ص:241


1- « جواهر الکلام » ، للشیخ محمّد حسن النجفیّ 38 : 182 .
2- نفسه ص 183 ؛ ویرجع إلی « تذکرة الفقهاء » للعلاّمة الحلّیّ 2 : 274 .
3- « المبسوط » للشیخ الطوسیّ 3 : 343 .
4- نفسه .

الإسلام تقف فی مقابل دار الکفر . ویقسّم العلاّمة الحلّیّ دار الکفر إلی قسمین هما :

أ - المناطق التی کانت للمسلمین واستولی علیها الکفّار .

ب - المناطق التی یقطنها الکفّار ولیس للمسلمین فیها أصالة ومسکن ثابت ، وإن کان بعضهم قد سکنها کالتجّار أو المسافرین ، أو استوطنها بنحو آخر(1) .

وبذلک اعتبر العلاّمة الحلّیّ المناطق الإسلامیّة التی استولی علیها الکفّار جزءا من دار الکفر .

وقسّم العلاّمة دار الإسلام إلی قسمین : أحدهما البلد الذی بناه المسلمون وعمروه . والثانی هو البلد الذی فتحه المسلمون ، وفی القسم الثانی ، اعتبر العلاّمة الناس الذین

یعیشون فی هذا البلد غیر مسلمین جمیعا ، ومن ثمَّ فإنَّ دار الإسلام بلا مسلم یسکنها قد تحقّق وجودها وفقا لنظریّة العلاّمة الحلّیّ(2) .

یلوح لنا عدد من الإشکالات علی تقسیم العلاّمة الحلّیّ وهی :

1 - نظرا إلی الاستنتاج الأخیر الذی تفیده نظریّة العلاّمة الحلّیّ ، فإنَّ مبدأ التقسیم إلی دار الإسلام ، ودار الکفر وفرض التقابل بینهما لا یمکن أن یکون مقبولاً عنده .

2 - فی ضوء نظریّة العلاّمة الحلّیّ ، فإنَّ البلد الذی أسلم قسم من أهله ، وحافظوا علی مواطنتهم ، وواصلوا سکنهم فیه لا یمکن أن یکون جزءا من دار الإسلام ، ولا جزءا من

دار الکفر ، لأنَّ هذا الافتراض خارج عن تقسیمه لنوعی دار الإسلام ، کما لا یصدق النوع

الأوّل لدار الکفر علیه أیضا ، وکذلک النوع الثانی فإنَّه لا یصدق علیه بالنظر إلی القید الملحوظ فی تفسیره ، ولما قلناه - بناءً علی رأی العلاّمة الحلّیّ - بعدم وجود المسلم فی دار الکفر ساکنا فیها سکنا ثابتا مع الاحتفاظ بمواطنته الأصلیّة .

3 - إنَّ المناطق الخارجة عن قبضة المسلمین ، والتی استولی علیها الکفّار بالقوّة ، مع أ نَّها تشبه دار الکفر من الناحیة القانونیّة فی بعض الحالات مثل حالة الطفل اللقیط إلاّ أ نّنا کیف نستطیع أن نعتبرها منفصلة عن دار الإسلام من الناحیة السیاسیّة ، کما فی النوع الثانی لدار الإسلام - وفقا لتقسیمه - حیث إنَّ المناطق والبلدان الواقعة تحت سیطرة المسلمین ،

ص: 242


1- « تذکرة الفقهاء » للعلاّمة الحلّیّ 2 : 276 .
2- نفسه ص 275 .

یصدق علیها عنوان دار الإسلام حتّی لو کان أهلها کلّهم کفّارا ، وفی الفرض الأوّل لدار الکفر یمکن أیضا أن ینطبق عنوان دار الإسلام علی المناطق المحتلّة مع سیطرة الکفر وإحکام

قبضته علیها .

4 - لو کان الملاک فی تقسیم دار الإسلام ودار الکفر هو السیادة الفعلیّة للمسلمین أو الکفّار ، فلا مناص من خروج المناطق غیر الخاضعة لسیطرة أیّ منهما من هذا التقسیم ، وهذه النتیجة سوف لا تنسجم مع تعبیر العلاّمة الحلّیّ إذ یقول : « الدار قسمان ، دار

الإسلام ، ودار الکفر » (1) .

5 - إنَّ تعبیر العلاّمة الحلّیّ فی کتاب « قواعد الأحکام » حول تقسیم ( الدار ) یناقض

تعبیره الوارد فی « التذکرة » ، لأ نَّه قسّم الدار فی کتاب « القواعد » إلی دار الإسلام ، ودار الحرب جریا علی عادة الفقهاء ، واعتبر المناطق التی یسیطر علیها الکفّار جزءا من دار

الإسلام(2) .

6 - إنَّ النتیجة المترتّبة علی تقسیم الدار إلی دار الإسلام ، ودار الکفر لا تتوقّف علی إسلام اللقیط أو کفره فحسب ، حتّی یتحقّق التقسیم لأجله ویتناسب معه ، لأ نّنا إذا سبرنا غور التقسیم الذی أتی به العلاّمة الحلّیّ فی حقل آخر من الحقول کتعیین حلّیة اللحم أو الجلد ، فلا یمکن أن یکون وجود المسلم فی الدارین ، أو سیادة الإسلام أو الکفر ملاکا فی تشخیص حلّیة اللحم وطهارة الجلد أبدا (3) .

7 - فی هذا التقسیم ، کان إمکان تحقّق دار الإسلام مع عدم وجود المسلم فیها منظورا بسبب سیادة الإسلام فحسب ، واعتبر النوع الثانی من دار الإسلام ، بینما یبدو أنَّ تحقّق دار الإسلام بعید فی هذا الافتراض . ویری الشهید الأوّل فی « الدروس » ، وصاحب « الجواهر » أنَّ وجود الحدّ الأدنی من المسلمین معتبر فی صدق دار الإسلام(4) .

ص: 243


1- « تذکرة الفقهاء » للعلاّمة الحلّیّ 2 : 276 .
2- « جامع المقاصد » للمحقّق الکرکیّ 1 : 351 : « فیحکم بإسلام کلّ لقیط فی دار الإسلام إلاّ أن یملکها الکفّار ولم یوجد فیها مسلم واحد » .
3- یرجع إلی کتاب « جواهر الکلام » 38 : 186 .
4- نفسه .
تعاریف أُخری

فی ضوء التعریف الذی ذکره السرخسیّ لدار الإسلام من أ نَّها الدار التی یسیطر علیها المسلمون ، ویشعر فیها أهل الإسلام بالأمن(1) ، یمکن الجمع أیضا بین دار الإسلام ودار الذمّة ، لأنَّ البلد الذی یعیش فیه أهل الذمّة ویحکمه المسلمون سیمثّل دار الإسلام .

ولکن بناءً علی التعریف الذی ذکره فقهاء الزیدیّة القائل : « إنَّ دار الإسلام ما ظهر فیها الشهادتان والصلاة من غیر ذمّة ولا جوار ، أو لم تظهر فیها خصلة کفریّة » (2) ، فإنّ صدق دار الإسلام علی البلد الذمّی سوف لن یخلو من القدح فیه ، لأنَّ أحد العناصر فی

تعریف دار الإسلام ، وهو إقامة الشعائر الدینیّة لا وجود له فی افتراض دار الذمّة المرکزیّة .

وکذلک فإنَّ دار الإسلام ، فی ضوء هذا التعریف ، هی عبارة عن البلد الذی تطبّق فیه أحکام الإسلام ، ویشعر المسلمون فیه بالأمن ، ویحقّ لغیر المسلمین أن یعیشوا فیه بعد

أخذ الأمان من المسلمین فقط(3) . وهذا تعریف یصدق علی دار الذمّة المفترضة بقیدیه الأخیرین ، بید أ نّنا لا نستطیع أن نسمّی دار الذمّة هذه : دار الإسلام بسبب فقدان القید الأوّل ، وهو تطبیق الأحکام الإسلامیّة ، وأهلها جمیعهم من أهل الذمّة .

ینصّ الرافعیّ صاحب « فتح العزیز » ، کالعلاّمة الحلّیّ ، والمحقّق الکرکیّ ، علی أنَّ

الملاک الوحید لصدق دار الإسلام هو استیلاء المسلمین علی البلد ، وسیادة الإمام

، حتّی لو لم یکن فیها مسلم واحد(4) .

وعلی هذا الأساس ، فلا شکّ أنَّ دار الذمّة سوف تکون جزءا من دار الإسلام . بید أنَّ الغموض یظلّ قائما فی افتراض دار الذمّة دولة مستقلّة ، لأنَّ معاهدة الذمّة مع البلدان الذمّیّة المستقلّة لا تفضی دائما إلی سیطرة المسلمین وسیادتهم علی تلک

البلدان .

ص: 244


1- یرجع إلی « شرح السیر الکبیر للسرخسیّ » 3 : 81 .
2- یرجع إلی « شرح الأزهار » 5 : 571 - 572 .
3- « السیاسة الشرعیّة » لعبد الوهّاب خلاف : 69 .
4- یرجع إلی « فتح العزیز » 8 : 14 .
دار الذمّة المستقلّة

لا جرم أنَّ البلدان التی یعیش فیها أهل الکتاب ، وتتمتّع بحکومة مستقلّة ، وتربطها بدار الإسلام معاهدة ( الذمّة ) خارجة عن نطاق دار الإسلام ، وذلک لأنَّ دار الإسلام

- بأیّ مؤشّر ومائز کانت - لا تنطبق علی مثل هذه البلدان .

إنَّ المؤشّرات المهمّة الواردة فی تعریف دار الإسلام هی سیادة الإسلام ، وحکومة المسلمین ، وإقامة الشعائر الإسلامیّة ، وتطبیق الأحکام الإسلامیّة ، ووجود المسلمین

کمواطنین أصلیّین ، وانتصار المسلمین وغلبتهم .

من الواضح أنَّ أیّ مؤشّر من هذه المؤشّرات لا ینطبق علی دار الذمّة المستقلّة ، إلاّ

مؤشّر ( شعور المسلمین بالأمن ) الذی ورد فی بعض التعاریف السابقة آیة لتعیین دار الإسلام .

بید أ نَّنا لا نرتاب فی أنَّ هذا المؤشّر لا یشکّل وحده دلیلاً علی أنَّ بلدا ما یمثّل دار الإسلام فی ضوئه ، وذلک لأنَّ دار الإسلام فی هذه الحالة ستصدق علی جمع الأقطار التی

یعیش فیها المسلمون آمنین .

إلاّ أنَّ الانطباع عن وجود بلدان مستقلّة تحت عنوان : دار الذمّة ، وهی تتمتّع باستقلال جغرافی وسیاسی مع معاهدة ذمّة تربطها بدار الإسلام لا ینسجم مع الافتراض القائل بقبول الأحکام الإسلامیّة من قبل أهل الذمّة بوصفه شرطا أساسیّا لا محیص منه فی عقد الذمّة .

وقد اعتبر الفقهاء احترام القوانین الإسلامیّة والالتزام بالمقرّرات الإسلامیّة والإقرار

بالأحکام القضائیّة والجنائیّة والاجتماعیّة ، التی تنفّذ فی نطاق الحکومة الإسلامیّة علی قدم المساواة وفقا للشریعة الإسلامیّة ، أحد الأرکان المهمّة فی عقد الذمّة .

وعلی هذا الأساس ، متی ارتکب الذمّی جریمة محرّمة فی دینه ، وعلیها فی الإسلام حدّ شرعی فإنَّه یعاقب علیها کأیّ شخص من المسلمین وفقا للمقرّرات الإسلامیّة(1) .

ولهذا السبب یمکن أن نسمّی القانون الجنائی فی الإسلام : القانون الجنائی الدولیّ . وقد أکّد الفقهاء المتقدّمون علی هذا المبدأ أیضا . یقول القاضی أبو یوسف :

ص: 245


1- یرجع إلی « جواهر الکلام » 21 : 318 .

القاعدة العامّة فی الأحکام الإسلامیّة سرایتها علی الناس جمیعهم ، إلاّ أن یتعسّر تنفیذ قسم منها ، کتنفیذ أحکام الإسلام فی دار الحرب بسبب عدم وجود الحکومة ؛ بید أنَّ

أحکام الإسلام ینبغی أن تطبّق ما أمکن ذلک (1) .

وفی ضوء هذا المبدأ ، فإنَّ القانون الجنائی فی الإسلام ینبغی أن یطبّق فی دار الإسلام

ودار الذمّة . ومثل هذه السلطة والسیادة لدار الإسلام علی دار الذمّة یقدح فی فرضیّة

استقلال دار الذمّة .

وعلی الرغم من أنَّ هذا اللون من السیادة یبدو للوهلة الأُولی سیادة قضائیّة مماثلة لنظام الامتیازات الأجنبیّة ، بید أنَّ الذی لا ریب فیه هو أنَّ ما نلحظه من إفرازاته

السیاسیّة یفضی فی آخر الأمر إلی خرق السیادة السیاسیّة لدار الذمّة ، ویستدعی نوعا من تبعیّة دار الذمّة لدار الإسلام .

ویمکن أن نقول بشأن المسؤولیّات الأُخری لأهل الذمّة ، المنبثقة عن معاهدة الذمّة(2) أ نَّها - کبقیّة التعهدات التی یقدّمها طرفا المعاهدة ، فیما لا تتنافی مع استقلالهما وسیادتهما - لا تخرق الاستقلال السیاسی لدار الذمّة .

نطاق دار الذمّة

یجمع فقهاء الإسلام(3) علی أنَّ دار الذمّة تطلق علی البلاد التی یقطنها أهل الکتاب المتحالفون مع المسلمین وفقا لمعاهدة الذمّة . أمَّا البلاد التی یقطنها الکفّار من غیر أهل الکتاب ، فیحوم الاختلاف حولها بین الفقهاء .

وهذا الاختلاف ینبع فی الحقیقة من حجم المشروعیّة الذی تتّسم به معاهدة الذمّة ونطاقها . وقد طرحت فی هذا المجال ثلاث نظریّات رئیسة هی :

أ - اختصاص معاهدة الذمّة بأهل الکتاب ( الیهود والنصاری والمجوس ) . قال بهذه النظریّة فقهاء الشیعة(4) ، وکذلک أغلب فقهاء الحنابلة والشوافع

ص: 246


1- ینظر : « بدائع الصنائع » 2 : 311 ؛ و « التشریع الجنائی الإسلامی » لعبد القادر عودة 1 : 285 - 287 .
2- ینظر : « حقوق الأقلّیّات » [ فارسی ] : 83 .
3- ینظر : « جواهر الکلام » 21 : 228 .
4- نفسه ، ص 231 .

والظاهریّة(1) .

ب - تعمیم معاهدة الذمّة علی الطوائف الدینیّة غیر المسلمة جمیعها ، إلاّ مشرکی العرب . وأساس هذه النظریّة أنَّ المجوس لیسوا أهل کتاب ، غیر أنَّ النبیّ صلی الله علیه و آله قبل منهم عقد الذمّة . وقد أیّد هذه النظریّة أغلب فقهاء المذهب الحنفیّ(2) .

ج - شرعیّة معاهدة الذمّة بالنسبة إلی أتباع الأدیان المختلفة للإسلام کافّة . هذه النظریّة التی تضفی الشرعیّة علی الارتباط القانونی للعالم الإسلامی بالعالم الکافر تنسب إلی المذهب الأوزاعیّ ، والمالکیّ ، والزیدیّ(3) .

لا ریب أنَّ نطاق دار الذمّة یتباین تبعا للنظریّات المشار إلیها ؛ بخاصّة أنَّ الاختلاف

بین النظریّة الأُولی والثالثة یتّسم بأهمّیّة ملحوظة من الناحیة السیاسیّة ، ویمکن أن تحدث النظریّة الثالثة أساسا لنظام دولیّ جدید یرتکز علی معاهدة الذمّة الدولیّة .

4 - دار العهد
اشارة

تمَّ التأکید علی نظریّة دار العهد من خلال الآیات القرآنیّة التی وجّهت المسلمین إلی لزوم الوفاء بالعهد فی عقودهم مع الشعوب الأُخری . وفیما یأتی عدد من هذه الآیات :

1 - « اِلاَّ الَّذینَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِکینَ ثُمَّ لَمْ یَنْقُصُوکُمْ شَیْٔا وَلَمْ یُظَاهِرُوا عَلَیْکُمْ اَحَدًا فَاَتِمُّوا اِلَیْهِمْ عَهْدَهُمْ اِلی مُدَّتِهِمْ اِنَّ اللّه َ یُحِبُّ الْمُتَّقینَ » (4) .

2 - « اِلاَّ الَّذینَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَکُمْ فَاص سْتَقیمُوا لَهُمْ اِنَّ اللّه َ یُحِبُّ الْمُتَّقینَ » (5) .

ص: 247


1- ینظر : « المغنی » لعبد اللّه بن أحمد بن قدامة 8 : 500 - 501 ؛ و « أحکام القرآن » للشافعیّ ، ص 50 ؛ و « المحلّی » لابن حزم 7 : 345 ؛ و « مغنی المحتاج » لمحمّد بن أحمد الشربینیّ 4 : 244 .
2- ینظر : « أحکام القرآن » للجصّاص 3 : 91 - 93 ؛ و « فتح القدیر » لابن همام الحنفیّ 4 : 173 .
3- یرجع إلی « شرح الموطأ » للزرقانیّ 2 : 139 ؛ و « تفسیر القرطبیّ » 8 : 110 ؛ و « الروض النضیر » لحسین بن أحمد السیاغیّ الیمنیّ الصنعانیّ 4 : 317 - 318 ؛ و « أحکام الذمّیّین والمستأمنین » للدکتور زیدان ، ص 28 .
4- التوبة : 4 .
5- نفسها ، الآیة 7 .

3 - « وَ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ اِذَا عَاهَدُوا » (1) .

دار العهد من منظار السنّة

یمکن استنباط نظریّة دار العهد من بین النصوص والمصادر الموجودة ، ونشیر فیما یلی إلی بعضها :

أ - الأحادیث التی جاءت فیها کلمة المعاهد . وترشدنا إلی أن نتصوّر دارا یعیش فیها المعاهد ، وینطبق علیها عنوان دار العهد .

1 - الحدیث القائل : « وإن قطع المسلم ید المعاهد خیّر أولیاء المعاهد » (2) .

2 - الأحادیث الخاصّة بدیة المعاهد(3) .

3 - الأحادیث التی تعتبر قتل المعاهد من الکبائر(4) .

4 - الأحادیث التی تؤکّد علی الوفاء بالعهد المعقود مع المعاهد ، واحترام العهود المقدّمة له(5) .

5 - الأحادیث الخاصّة بتحریم ظلم المعاهد ، والاعتداء علیه وانتهاک حرمته(6) .

6 - الأحادیث الخاصّة باحترام أموال المعاهدین(7) .

7 - الأحادیث التی تنهی عن أخذ الزکاة من المعاهدین(8) .

ب - أُشیر فی بعض النصوص الإسلامیّة إلی مبدأ العهد مع الکفّار الذی یفید قبول فرض ( الدار ) التی یعیش فیها الکفّار المعاهدون :

1 - حدیث : « ولا یجوز علیهم ما عاهد علیه الکفّار » (9) .

ص:248


1- البقرة : 177 .
2- « وسائل الشیعة » 19 : 139 .
3- ینظر : « سنن أبی داود » باب الدیات / 21 .
4- ینظر : « سنن النسائیّ » باب القسامة / 15 .
5- ینظر : « سنن أبی داود » باب الجهاد / 153 .
6- نفسه ، باب الإمارة / 33 .
7- نفسه ، باب الأطعمة / 32 .
8- ینظر : « سنن النسائیّ » باب الزکاة / 33 .
9- « وسائل الشیعة » 11 : 51 .

2 - حدیث : « من کان بینه وبین النبیّ صلی الله علیه و آله عهد فعهده إلی مدّته » (1) .

3 - الحدیث القائل بأ نَّه متی کان بین الإمام وبین العدوّ عهد(2) .

دار العهد عند الفقهاء

المقصود من دار العهد جمیع البلدان والمناطق التی عقد أهلها عهدا مع المسلمین ، فعاشوا فی جوار دار الإسلام تربطهم بالأُمَّة الإسلامیّة علاقات سلمیّة ، وقد انتظمت بینهم علاقات سیاسیّة واقتصادیّة وعسکریّة علی أساس میثاق مشترک .

طرح الفقهاء نظریّة دار العهد فی بعض المجالات وناقشوها ، ونتناول فیما یلی شیئا منها :

أ - اعتبرت دار الذمّة نوعا من دار العهد ، لأنَّ للیهود والنصاری والمجوس الذین یعیشون فی هذه الأرض أو هذا البلد علی أساس عقد الذمّة عهدا مع دار الإسلام ، ولذلک

تدعی دار الذمّة : دار العهد ، بحیث نلحظ فی التعابیر الفقهیّة المتنوّعة ترادف الذمّی

للمعاهد ، ودار الذمّة لدار العهد ، والذمّة للعهد(3) .

ب - فی ضوء النظریّة القائلة بتعمیم عقد الذمّة علی جمیع الدول والشعوب غیر المسلمة ما عدا المشرکین ، وکذلک فی ضوء النظریّة القائلة بتعمیمه علی کافّة الدول

والشعوب غیر المسلمة حتّی المشرکین ، فإنَّ دار العهد - شاء الإنسان أم أبی - یمکن أن تشمل جمیع الدول التی ترتبط مع الدولة الإسلامیّة بمعاهدة الذمّة .

ج - یعتبر محلّ السکن أو الأرض أو المدینة أو الدولة التی یقیم فیها المستأمنون وجمیع الأفراد والجماعات والشعوب التی تتمتّع بالأمان الممنوح لها من قبل دار الإسلام

بشکل مشروع ، دار العهد فی ضوء معاهدة الأمان . وسنتعرّض إلی هذا الموضوع فی بحوثنا

القادمة .

د - یطلق تعبیر الهدنة والمهادنة علی الحالة التی تتوقّف فیها الحرب بین جماعة أو حکومة أو دولة وبین دار الإسلام ، وتحظر هذه الحرب لمدّة بناءً علی اتّفاقیّة معیّنة ،

ص:249


1- ینظر : « سنن الترمذیّ » باب الحجّ / 44 ؛ و « سنن أحمد بن حنبل » 1 : 79 .
2- ینظر : « سنن أبی داود » باب الجهاد / 152 .
3- یرجع إلی « تذکرة الفقهاء » 1 : 451 ؛ و « السیر الکبیر » 1 : 252 .

وتسمّی الأرض أو المدینة أو الدولة التی بینها وبین دار الإسلام هدنة : دار العهد ، لأنَّ

المهادنة والمعاهدة کلمتان مترادفتان استعملتا بمعنی واحد فی الفقه السیاسی(1) .

ه - یمکن أن نطلق تعبیر دار العهد علی أرض لجماعة أو شعب تربطه بدار الإسلام اتّفاقیّة سلام(2) .

ینطبق عنوان دار العهد علی الدول التی تعیش حالة الحیاد والعزلة حیال دار الإسلام ، وذلک بسبب معاهدة الحیاد المعقودة بینهما .

ولمّا کان لکلّ حالة من الحالات المتقدّمة عنوانا خاصّا ، فالذی ینبغی أن نقوله هو أنَّ دار العهد ، فی الحقیقة ، عنوان عامّ یطلق علی دار الذمّة ، ودار الأمان ، ودار الهدنة ، ودار الصلح ، ودار الحیاد .

وهذا المفهوم العامّ لدار العهد هو الذی دعا جمعا من الفقهاء ، ومن بینهم فقهاء الشافعیّة ، أن یذکروا دار العهد بشکل مستقلّ فی مقابل دار الإسلام ، ودار الحرب ، وأن یقسّموا الدار إلی ثلاثة أقسام ، ویعتبروا دار العهد نوعا مستقلاًّ . وفی ضوء هذا التقسیم فإنَّ دار الحرب تشمل الدول التی لا معاهدة ولا اتّفاقیّة بین أهلها وبین المسلمین ، وأنَّ دار العهد عبارة عن الدار التی عقد أهلها معاهدة مع دار الإسلام(3) .

ویری بعض الفقهاء من الأحناف أنَّ دار العهد هی قسم من دار الإسلام ، لأنَّ العالم من منظارهم ینقسم إلی دارین وحسب . ولمّا جعلت معاهدة الصلح - کیفما کانت - المعاهدین جزءا ملحقا بالوطن الإسلامی ، فلابدَّ أ نّنا لا نستطیع أن نعتبر دار العهد جزءا من دار الحرب ، بید أنَّ هذا القسم من دار الإسلام سیتّخذ طابع دار البغاة حقّا (4) .

وفی هذا المجال ، یری البعض الآخر من الفقهاء أنَّ تحدید نوع الدار بالنسبة إلی أراضی أهل الذمّة یتوقّف علی ملکیّتهم الأرض ، فإن کانت الأرض ملکا لهم فهی دار العهد

، وإلاّ

ص: 250


1- ینظر : « تذکرة الفقهاء » 1 : 447 .
2- سنوضّح الفرق بین الهدنة والصلح لاحقا .
3- یرجع إلی « الشرع الدولیّ فی الإسلام » للدکتور الأرمنازیّ ص 50 ؛ و « الأُمّ » 4 : 103 ؛ و « مغنی المحتاج » 4 : 232 ؛ و « آثار الحرب » ص 175 .
4- یرجع إلی « الأحکام السلطانیّة » لأبی یعلی ، ص 149 .

فدار الحرب . وکان أبو یوسف یعتقد أنَّ دار العهد هی قسم من دار الحرب دائما (1) .

وبعد أن یقسّم الماوردیّ الأراضی إلی ثلاثة أقسام ، یکتب قائلاً : والقسم الثالث من الأراضی التی یستولی علیها صلحا فهی علی ضربین :

1 - الأراضی التی تصیر للمسلمین حسب المصالحة ؛ وتکون جزءا من دار الإسلام ، وأهلها من أهل العهد .

2 - الأراضی العائدة إلی أهلها حسب المصالحة ، وهنا ینبغی أن نعتبرها دار العهد ؛ غیر أنَّ أبا حنیفة یری أ نّها دار الصلح . فإن نقضوا الصلح وکانت الأراضی قد انتقلت إلی المسلمین ، فالشافعیّ یری أ نَّها علی حکمها الأوّل . وعند بقائها ملکا لأصحابها ، فهی دار حرب . ویقول أبو حنیفة : إن کان فی دارهم مسلم ، أو کان بینهم وبین دار الحرب بلد

للمسلمین فهی دار إسلام یجری علی أهلها حکم البغاة . وعند انتفاء الشرطین ، فهی دار

حرب(2) .

5 - دار الأمان
اشارة

تتوکّأ نظریّة دار الأمان علی شرعیّة نوع من المعاهدة الدولیّة یسمّیه الفقهاء : الاستئمان أو عقد الأمان .

ویعرّف العلاّمة الحلّیّ عقد الأمان قائلاً : عقد الأمان ترک القتال إجابة سؤال الکفّار بالإمهال(3) .

وبرهن الفقهاء علی شرعیّة عقد الأمان بالأدلّة التالیة :

1 - قوله تعالی : « وَاِنْ اَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِکینَ اسْتَجَارَکَ فَاَجِرْهُ حَتّی یَسْمَعَ کَلاَمَ اللّه ِ ثُمَّ اَبْلِغْهُ مَاْمَنَهُ » (4) .

تفید هذه الآیة أنَّ إمهال الکفّار ، حتّی علی شکل معاهدة ، جزء من مهام الدولة الإسلامیّة ، إذ یتسنّی لها عبر هذا الطریق أن تتیح المجال لأُولئک الذین یطلبون حقّ اللجوء

ص:251


1- یرجع إلی « الأحکام السلطانیّة » لأبی یعلی ، ص 149 .
2- نفسه ص 138 .
3- « تذکرة الفقهاء » 1 : 414 .
4- التوبة : 6 .

أن یقفوا علی أحقّیّة الإسلام .

2 - عقد النبیّ صلی الله علیه و آله صلح الحدیبیّة مع کفّار مکّة فی السنة الثامنة للهجرة . وبذلک أتاح لهم المجال أن یعیشوا مع المسلمین فی ظروف الأمان لمدّة عشر سنوات .

یستنتج الشیخ الطوسیّ من هذا أنَّ الأمان یطبّق فی ثلاث مراحل هی :

أ - العاقد هو إمام المسلمین ، إذ یجوز له أن یعقده لأهل الشرک کلّهم فی جمیع البقاع

والأماکن ، لأنَّ إلیه النظر فی مصالح المسلمین .

ب - العاقد خلیفة الإمام علی إقلیم ، فإنَّه یجوز له أن یعقد لمن یلیه من الکفّار دون

جمیعهم ، لأنَّ إلیه النظر فی ذلک دون غیرها .

ج - العاقد آحاد المسلمین ، فإنَّه یجوز له أن یعقد لآحادهم ، والواحد والعشرة ، ولا یجوز لأهل بلد عامّ ، ولا لأهل إقلیم ، لأ نَّه لیس له النظر فی مصالح المسلمین(1) .

3 - الحدیث النبویّ : « المسلمون تتکافأ دماؤهم وهم ید علی من سواهم ویسعی بذمّتهم أدناهم » (2) .

ونقل عن الإمام الصادق علیه السلام قوله فی تفسیر هذا الحدیث : « لو أنَّ جیشا من المسلمین حاصر قوما من المشرکین فأشرف رجل ، فقال : أعطونی الأمان حتّی ألقی صاحبکم فأنظره ، فأعطاه الأمان أدناهم ، وجب علی أفضلهم الوفاء به » (3) .

4 - إجماع فقهاء الإسلام علی شرعیّة عقد الأمان(4) .

الشروط المقرّرة فی عقد الأمان

یکفی فی شرعیّة عقد الأمان أن لا یترتّب علیه ضرر للإسلام والمسلمین ، ولکن لا یشترط أن تکون فیه مصلحة للإسلام أو المسلمین(5) . ویری کثیر من الفقهاء أنَّ مدّة

ص: 252


1- « المبسوط فی فقه الإمامیّة » 2 : 14 .
2- « أُصول الکافی » 1 : 332 ؛ و « مسند أحمد بن حنبل » 16 : 33 ؛ و « سنن الترمذیّ » 8 : 20 .
3- « تذکرة الفقهاء » 1 : 414 . یمکن أن یکون القصد من کلمة أدناهم یعنی أقرب المسلمین إلی المستأمن أو أفسق المسلمین .
4- نفسه .
5- نفسه ص 416 . وفی الصفحة 414 من الکتاب اعتبر العلاّمة الحلّیّ إحراز المصلحة فی عقد الأمان شرطا .

الأمان سنة واحدة(1) . ویمکن أن ینعقد الأمان تحریریّا ، أو شفویّا ، أو حتّی بالإشارة .

ویری بعض الفقهاء أنَّ شرعیّة الأمان من قبل آحاد المسلمین تتوقّف علی رأی الإمام(2) ، ویری البعض الآخر أیضا أ نَّه عندما ینهی إمام المسلمین عن إعطاء الأمان ، فإنَّ أمان آحاد المسلمین منوط بإذنه(3) . بینما یری آخرون أنَّ أمان آحاد المسلمین فی هذه الحالة لیس شرعیّا (4) .

ولا یری فقهاء الشیعة والحنابلة والشوافع أنَّ أمان آحاد المسلمین بخصوص أهل مدینة أو دولة ما نافذ ، بید أنَّ فقهاء الأحناف یعتقدون أنَّ هذا اللون من العقود والعهود یتّسم بالشرعیّة أیضا (5) .

نطاق دار الأمان

تشمل دار الأمان جمیع الأراضی ( المدن والبلدان ) التی یتمتّع أهلها بنوع من عقد الأمان بشکل مؤقّت أو دائم . ویمکن أن نوسّع من رقعة دار الأمان لتشمل دار العهد

، ودار الذمّة ، ودار الصلح ، ودار الهدنة ، ودار الحیاد ، ودار الموادعة ، وحتّی دار الإسلام ، ونعتبر حتّی الأماکن التی یسکنها المستأمنون ویعملون فیها جزءا من دار الأمان ، سواء

کانت فی دار الإسلام أو فی دار الحرب(6) .

والفقهاء الذین اشترطوا قبول طلب الأمان الذی یتقدّم به الکفّار ، قد وسّعوا من دائرة دار الأمان إلی ما لا یتناهی .

وفی ضوء نظریّة العلاّمة الحلّیّ التی اشترطت المصلحة فی شرعیّة عقد الأمان ، وحدّدت مدّة الأمان بسنة واحدة ، ولم تفرض علی المسلمین قبول طلب الأمان إلاّ فی حالات استثنائیّة یکون فیها الطلب من أجل تقصّی الحقائق عن الإسلام(7) ، تضیق دائرة

ص: 253


1- « تذکرة الفقهاء » 1 : 414 .
2- « منح الجلیل » للشیخ محمّد علیش ، من فقهاء المالکیّة 1 : 729 ؛ و « جواهر الکلام » 21 : 94 .
3- « شرح الزرقانیّ علی موطأ مالک » 3 : 122 .
4- « شرح الأزهار » لابن مفتاح ، من فقهاء الزیدیّة 4 : 559 .
5- یرجع إلی الدکتور زیدان فی کتابه « أحکام الذمّیّین والمستأمنین » ص 49 - 50 .
6- یرجع إلی « تذکرة الفقهاء » 1 : 417 .
7- نفسه ص 416 .

دار الأمان بشکل ملحوظ .

ویؤکّد العلاّمة الحلّیّ علی أنَّ الأعداء ربّما یستغلّون عقد الأمان کمؤامرة سیاسیّة أو خطّة حربیّة . ویصدق هذا الاحتمال أیضا علی الأمان الذی یقدّم من قبل آحاد المسلمین .

ثمّة فقهاء کصاحب کتاب « جواهر الکلام » لم یشترطوا فی شرعیّة عقد الأمان ( الذمام ) تقدیم طلب من قبل الکفّار(1) . وقد جوّزوا توسیع دائرة الأمان من قبل آحاد المسلمین حتّی فیما یخصّ المدن والأمصار ، وذلک بالتوکّؤ علی روایة مأثورة عن علیّ علیه السلام تعتبر أمان المسلم نافذا فی أهل قلعة ، وکذلک إطلاق الحدیث النبویّ القائل : « یسعی بذمّتهم أدناهم » ، والتعلیل الوارد فی حدیث علیّ علیه السلام (2) . وجوّزوه حتّی فی آخر لحظات الحرب عندما یکون المسلمون علی أبواب النصر(3) ، ولو لم تکن فیه مصلحة ، إذ إنَّ إحراز عدم المفسدة وحده یکفی ، ولم یحدّدوا مدّة لمصداقیّة عقد الأمان .

احترام دار الأمان

یتمتّع المستأمن فی دار الأمان بجمیع الحقوق الإنسانیّة وفقا لعقد الأمان . کما یتمتّع بالحصانة التامّة ضدّ کلّ ما من شأنه التعرّض إلی المال ، والنفس ، والعرض ، والحقوق

الأُخری المعترف بها .

إذن

، متی تعرّض المستأمنون إلی انتهاک من قبل المسلمین لم تعرف جهته ، فإنَّ الحکومة الإسلامیّة مکلّفة أن تدفع من بیت المال جمیع التعویضات اللازمة لهم فی مقابل

الخسائر الناجمة من الانتهاک .

وجاء فی روایة عن علیّ علیه السلام قوله : « من ائتمن رجلاً علی دمه ثمَّ خاس به فإنّی من القاتل بریء وإن کان المقتول فی النار » (4) .

وینقل الشیبانیّ فی کتاب « السیر الکبیر » عن الإمام الباقر علیه السلام أ نَّه عندما بلغ النبیّ صلی الله علیه و آلهفعل خالد الشنیع فی بنی جذیمة الذین کانوا قد استأمنوه ، رفع یدیه إلی السماء

ص:254


1- « جواهر الکلام » 21 : 92 .
2- نفسه ص 97 .
3- نفسه ص 100 .
4- نفسه ص 92 .

وقال ثلاث مرّات : اللّهمّ إنّی أبرأ إلیک ممّا فعل خالد . ثمَّ دعا علیّا علیه السلام وزوّده بالمال وأمره أن یذهب إلیهم ویطلب منهم أن ینسوا الضغائن التی بینهم وبین أهل مکّة ، والتی سبّبت

هذه الجرائم ، ویعوّض کافّة الذین تضرّروا فی تلک الأحداث . حتّی أنَّ علیّا علیه السلام عندما فرغ من تقدیم التعویضات ، قسّم الأموال المتبقیة علیهم(1) .

6 - دار الهدنة
اشارة

تطلق دار الهدنة علی الأرض أو الدولة التی بینها وبین الدولة الإسلامیّة هدنة یلتزم بها الطرفان .

والهدنة لغة تعنی وقف الحرب ، وفی اصطلاح الفقه السیاسی فی الإسلام هی اتّفاق یعقد بین دار الإسلام ودار الکفر لمدّة معیّنة بقصد إیقاف القتال بینهما أو تفادی وقوع

الحرب .

ویمکن أن یکون هذا الاتّفاق بناءً علی طلب الکفّار أو اقتراح الدولة الإسلامیّة ، وکذلک یجوز أن یشترط فیه المال أو لا یشترط .

والشرط المبدئی لشرعیّة عقد المهادنة هو أن یضمّ فی طیّاته مصلحة للمسلمین . ویمکن أن تحرز هذه المصلحة بالطرق الآتیة :

1 - تمهّد الهدنة الأرضیّة لرغبة الکفّار فی الإسلام .

2 - تفضی شروط الهدنة إلی تقویة المسلمین .

3 - تدفع الهدنة أضرارا أکثر وأخطارا أکبر عن الإسلام والمسلمین .

4 - الإمکانیّات والقوّة الدفاعیّة اللازمة غیر متوفّرة للمسلمین بدون هدنة .

ویری الفقهاء أنَّ المهادنة مع کافّة الجماعات غیر المسلمة شرعیّة ، ولم یفرّقوا فیها بین أهل الکتاب وغیرهم ، واعتبروا مجال المهادنة عامّا (2) فی ضوء الآیة الکریمة : « فَاَتِمُّوا اِلَیْهِمْ عَهْدَهُمْ اِلی مُدَّتِهِمْ » (3) ، والآیة الکریمة : « فَمَا اسْتَقَامُوا لَکُمْ فَاص سْتَقیمُوا

ص: 255


1- یرجع إلی السرخسیّ فی « شرح کتاب السیر الکبیر » 1 : 26 .
2- « جواهر الکلام » 21 : 294 .
3- التوبة : 4 .

لَهُمْ » (1) .

وفی ضوء اتّفاق الهدنة ، تتمتّع الجماعات والشعوب ذات العلاقة فی هذا الاتّفاق بالأمن علی أموالها وأنفسها وأعراضها ، ومتی دخل منهم شخص أو جماعة إلی دار الإسلام

فهو مصون من التعرّض ؛ کما نقرأ فی التاریخ أنَّ أبا سفیان دخل المدینة بعد صلح الحدیبیّة ولم یتعرّض له أحد بسوء(2) .

ولیس للدولة الإسلامیّة أن تخرق اتّفاق الهدنة بأیّ ذریعة وتهمة کانت إلاّ إذا ثبتت خیانة المهادنین ، وفی هذه الحالة ، یمکن ضرب الاتّفاق عرض الجدار ، وفقا لقوله تعالی : « وَاِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِیَانَةً فَاص نْبِذْ اِلَیْهِمْ عَلی سَوَاءٍ » (3) .

قبول عقد الهدنة

ذکر الفقهاء أنَّ قبول عقد الهدنة یرتبط بالمصلحة ؛ ولذلک فرّقوا بین هذا النوع من العقود وبین عقد الذمّة ، لأنَّ قبول عقد الذمّة إلزامیّ علی الدولة الإسلامیّة

، حتّی فی الظروف التی تسیطر فیها الدولة الإسلامیّة علی الشعوب الیهودیّة والنصرانیّة والمجوسیّة

الطالبة للذمّة ، فإنَّها ملزمة بقبوله . بید أنَّ شرعیّة الهدنة تابعة للمصلحة

، فعندما تکون هناک مصلحة إسلامیّة وضرورة ، فعلی الدولة الإسلامیّة أن تقبل ذلک ، وعندما لا

تکون هناک مصلحة غیر إلزامیّة فهی مختارة فی القبول ، ولا تتّخذ الهدنة طابعا شرعیّا بدون

مصلحة(4) .

وقال بعض الفقهاء : إنَّ الاختلاف فی جواز الهدنة أو وجوبها متوکّئ علی تعارض آیات الجهاد مع الآیة الکریمة : « وَلاَ تُلْقُوا بِاَیْدیکُمْ اِلَی التَّهْلُکَةِ » (5) . والذین اعتبروا قبول الهدنة إلزامیّا علی الدولة الإسلامیّة ، استدلّوا بأدلّة عقلیّة ونقلیّة فی مجال

حفظ النفس ( کالآیة التی تنهی عن إلقاء النفس فی التهلکة ) . واعتبروا هذه القاعدة العامّة

ص:256


1- التوبة : 7 .
2- یرجع إلی « شرح السیر الکبیر » 3:228 ، و4:6 و123 .
3- الأنفال : 58 .
4- یرجع إلی « جواهر الکلام » 21 : 294 .
5- البقرة : 195 .

سائدة إلاّ فی بعض الحالات کحرمة الفرار من الجهاد وأمثالها ، وسوّغوا ثورة الإمام

الحسین علیه السلام بعدم وجود طریق آخر للإمام غیرها . وفی ضوء هذه النظریّة ، فإنَّ الجهاد سیکون واجبا مع احتمال الانتصار أو مع عدم وجود طریق غیره .

اعتمد أنصار النظریّة القائلة بشرعیّة عدم الإلزام فی عقد المهادنة بصورة رئیسة علی آیات الجهاد ، واعتبروا مفاد الجمع بین الدلیلین منتجا لجواز ( عدم الإلزام ) فی المهادنة ، واستدلّوا علی جواز ترک المهادنة بعمل الإمام الحسین علیه السلام فی کربلاء ، وعمل العشرة الذین أوفدهم النبیّ صلی الله علیه و آله إلی قبیلة هذیل ، فعندما شاهدوا خیانتهم لم یهادنوهم بل قاتلوا حتّی لم یبق منهم إلاّ شخص واحد . ولم ینظر أنصار هذه النظریّة إلی ترک المهادنة ، والجهاد فی سبیل اللّه ، والاستشهاد بوصفها من الأُمور التی تلقی الإنسان إلی التهلکة(1) .

واعتبر العلاّمة الحلّیّ فی کتاب « القواعد » قبول الهدنة واجبا علی إمام المسلمین عند حاجة المسلمین إلی الهدنة ، وجوّز عدم إلزامها عند المصلحة(2) .

وتدلّ الموازنة بین هاتین الصورتین علی أنَّ مستند العلاّمة فی الحکم بوجوب الهدنة هو ( الضرورة ) ، وأ نَّه أوجب الهدنة حفظا للإسلام دون أن یرید الاعتماد علی الأدلّة

المشار إلیها ، لأنَّ ترک عقد الهدنة حتّی إذا أدّی إلی الشهادة ، فإنَّه یمکن أن یفضی إلی الإضرار بسیادة الإسلام ضررا لا یعوّض ، أو یفضی إلی ارتداد بعض المسلمین ونفوذ الأعداء .

یقول صاحب « الجواهر » بعد دحض النظریّتین ( وجوب الهدنة وجوازها ) : مقتضی التحقیق انقسام المهادنة إلی الأحکام الخمسة حسب تناسب مواردها (3) .

وهکذا یمکننا أن نسجّل الفروق الآتیة بین عقد الذمّة والمهادنة :

1 - عقد الذمّة دائمی ، أمّا عقد المهادنة فهو مؤقّت .

2 - عقد الذمّة مقرون بالشرط المالی ( الجزیة ) ، أمَّا فی المهادنة فإنَّ الشرط المالی

لیس إلزامیّا .

3 - قبول عقد الذمّة إلزامی بالنسبة إلی الدولة الإسلامیّة

، أمَّا قبول المهادنة فلیس

ص: 257


1- یرجع إلی « جواهر الکلام » 21 : 295 .
2- یرجع إلی « إیضاح الفوائد فی شرح القواعد » 1 : 392 .
3- « جواهر الکلام » 21 : 296 .

إلزامیّا

.

4 - لا تصحّ المهادنة عند احتمال الخطر ، بید أنَّ عقد الذمّة غیر قابل للرفض إلاّ فی

حالة یکون الخطر فیها قطعیّا (1) .

اقتراح الهدنة
اشارة

یمکن أن نتصوّر اقتراح الهدنة فی ظروف الحرب أو عند احتمال وقوعها ، والتعریف الذی ذکره الفقهاء للمهادنة یشمل الصورتین کلتیهما . بید أنَّ تعبیر الموادعة الملحوظ فی بعض المجالات(2) یتجسّد أکثر عند حدوث حرب بین المسلمین والکفّار ، وتتمّ الموادعة لإنهاء تلک الحرب .

علی أیّ حال ، یمکن أن نستعرض المهادنة فی الشکلین الآتیین :

1 - المهادنة باقتراح دار الکفر

عندما لا تتمتّع دار الإسلام بقدرة قتالیّة کافیة أو أ نَّها تعجز عن مواصلة القتال ، فلا ریب أنَّ المصلحة تکمن فی قبول هذا الاقتراح ، وتتّخذ

المهادنة طابعا شرعیّا وذلک من أجل إنهاء حرب قائمة أو تفادی حرب محتملة . أمّا لو کانت للدولة الإسلامیّة قدرة کافیة علی الحرب ومواصلتها ، فإنَّ قبول المهادنة مشروط بأربعة

شروط(3) :

أ - تقع مسؤولیّة المهادنة وعقدها علی الإمام المعصوم أو نائبه ، لأنَّ المهادنة بمعنی ترک الجهاد هی من الشؤون الاجتماعیّة والسیاسیّة المهمّة جدّا بالنسبة إلی المسلمین . ومثل هذه المسؤولیّات الخطیرة تناط بالإمام ، ولیس لأحد غیره أن یبادر إلی عقد المهادنة مستبدّا .

مفهوم هذا الشرط هو أنَّ کلّ جهة مسؤولة تتولّی مسؤولیّة الجهاد ( الابتدائی ) فی دار الإسلام تقع علی عاتقها مسؤولیّة المهادنة أیضا . وفی ضوء نظریّة الفقهاء الذین یعتبرون

الجهاد الابتدائی من المسؤولیّات الخاصّة بالإمام المعصوم ، فإنَّ الفقهاء فی عصر الغیبة لا یستطیعون المبادرة إلی عقد المهادنة .

ص: 258


1- یرجع إلی « جامع المقاصد فی شرح القواعد » 1 : 198 . سنناقش هذه الفروق فی المستقبل إلاّ الفرق الثالث .
2- یرجع إلی « أحکام الذمّیّین ص 51 ؛ و « تذکرة الفقهاء » 1 : 447 .
3- یرجع إلی المصدر الأخیر .

ووفقا لهذه النظریّة ، متی واجهت دار الإسلام حربا مفروضة علیها أو عاشت فی ظروف تحتمل فیها وقوع الحرب . ولمّا کان هذا الافتراض متصوّرا فی ظروف الجهاد الدفاعی ، فلابدَّ أن یقع اتّخاذ القرار بمعناه العامّ فی هذا الشأن علی عاتق الدولة الإسلامیّة ، ویخرج من دائرة الواجبات الخاصّة بالإمام المعصوم علیه السلامالمتعلّقة بظروف الجهاد الابتدائی .

ب - المجتمع والدولة الإسلامیّة بحاجة إلی المهادنة ، وبشکل تفرضه المصلحة الإسلامیّة ، وإلاّ فإنَّ عقد المهادنة سیفقد شرعیّته .

علی سبیل المثال ، متی کانت الأُمَّة الإسلامیّة تتمتّع بقدرة اقتصادیّة وسیاسیّة وعسکریّة بحیث تستطیع أن تنال من عدوّها المغلوب علی أمره نیلاً ، ومتی توقّعت هجوم

العدوّ علیها إن هی کفّت عن الحرب ، فالمهادنة غیر مشروعة فی مثل هذا الافتراض .

ویری العلاّمة الحلّیّ(1) أنَّ هذا الافتراض یدخل فی منطوق قوله تعالی : « فَلاَ تَهِنُوا وَ تَدْعُوا اِلَی السَّلْمِ وَاَ نْتُمُ الاَْعْلَوْنَ » (2) . ویعتبر اتّخاذ القرار بشأن المهادنة من مسؤولیّات الإمام حتّی فی حالة لیس فیها ضرر للمسلمین ، فینبغی للإمام أن یتّخذ القرار

الأخیر من وحی المصلحة اللازمة .

ج - ینبغی أن لا تدرج الشروط التی لیس لها صبغة شرعیّة عن منظار الإسلام ، فی عقد المهادنة ، لأنَّ هذه الشروط لا طائل فیها .

وأشار العلاّمة الحلّیّ إلی بعض شروط المهادنة مثل : ردّ السلاح إلی الکفّار ، وإرجاع النساء المسلمات إلی دار الحرب ، ودفع المال مع عدم الضرورة الداعیة إلی ذلک ، ومنح

الکفّار حقّ نقض الهدنة ، ودفع أموال المسلمین الباقیة فی دار الحرب إلی الکفّار

. وقال العلاّمة : هذه شروط فاسدة یفسد بها عقد الهدنة(3) .

یقول صاحب کتاب « جواهر الکلام » وهو یؤیّد هذه النظریّة(4) : الظاهر فساد عقد

ص: 259


1- « تذکرة الفقهاء » 1 : 447 .
2- محمّد : 35 . یتوکّأ الاستدلال بهذه الآیة فی هذا المجال علی أنّ قوله : « تَدْعُوا اِلَی السَّلْمِ » معطوف علی قوله : « تَهِنُوا » ونفی کلا الفعلین بکلمة « فَلاَ » ، أو أنَّ قوله : « وَ تَدْعُوا » حال . وفی غیر هاتین الحالتین ، فإنَّ قوله : « وَ تَدْعُوا »یفید الأمر .
3- « تذکرة الفقهاء » 1 : 447 .
4- « جواهر الکلام » 21 : 301 .

الهدنة باشتماله علی ما لا یجوز لنا فعله شرعا ممّا یکون الصلح معه من المحلّل للحرام أو بالعکس . أمَّا إظهار المناکیر فی شرعنا دون شرعهم ، فلا دلیل علی فسادها به ضرورة

کون ذلک من أفعالهم لا أفعالنا .

ویعتقد الإسکافیّ - وهو من الفقهاء القدماء - أ نَّه لو کان بالمسلمین ضرورة أباحت لهم شرطا فی الهدنة فحدث للمسلمین ما لم یکن یجوز معه ذلک الشرط ابتداءً لم یجز فسخ

ذلک الشرط ، ولا الهدنة لأجل الحادث(1) .

وقد ردّ النبیّ صلی الله علیه و آله أبا بصیر إلی المشرکین بعد أن کان قد أسلم ووصل المدینة ، ردّه إلیهم بناءً علی طلبهم ، لأنَّ هذا العمل لا مناص منه بمقتضی الشروط المطروحة فی صلح

الحدیبیّة(2) .

وأمر النبیّ صلی الله علیه و آله أیضا أحد أصحابه ، وهو حذیفة بن الیمان ، أن یفی للمشرکین بما أخذوا علیه من عدم القتال مع النبیّ صلی الله علیه و آله یوم بدر .

بینما نجد أنَّ وفاء حذیفة ، وفقا للعهد الذی قطعه للمشرکین ، یلزمه فیما إذا قاتل إلی جانب النبیّ صلی الله علیه و آلهفی بدر خلافا لذلک العهد(3) .

وجاء فی حدیث عن الإمام الصادق علیه السلام : أنَّ حیّا من العرب جاؤوا إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آلهفقالوا : یا رسول اللّه نسلم علی أن لا ننحنی ولا نرکع ، فقال لهم رسول اللّه صلی الله علیه و آله : نعم ، « ولکم ما للمسلمین وعلیکم ما علیهم » . قالوا : نعم . فلمّا حضرت الصلاة ، أمرهم بالرکوع والسجود ، فقالوا : ألیس قد شرطت لنا أن لا ننحنی ولا

نرکع ؟ فقال : قد أقررتم بأنَّ لکم ما للمسلمین وعلیکم ما علیهم(4) .

من البدیهی أنَّ هذا الحدیث - لو صحّ - فلابدَّ من تسویغه بأحد الشکلین الآتیین :

1 - الشرط الثانی عامّ ، والشرط الأوّل خاصّ ، والشرط العامّ ماض علی الخاصّ .

2 - الشرط الثانی ناسخ للشرط الأوّل .

وروی مرّة أنَّ قبیلة ثقیف سألت النبیّ صلی الله علیه و آله أن لا یرکعوا ولا یسجدوا ، وأن یتمتّعوا

ص:260


1- « جواهر الکلام » 21 : 301 .
2- « سیرة ابن هشام » 2 : 323 .
3- « المنتقی من أخبار المصطفی » 2 : 818 .
4- « جواهر الکلام » 21 : 302 .

باللاّت سنة ، فلم یجبهم رسول اللّه صلی الله علیه و آله (1) .

وجوّز بعض الفقهاء للمسلمین أن یقبلوا المهادنة بالشرط الباطل عند الضرورة ، غیر أ نَّهم لا یلتزموا بذلک الشرط بعد العقد ، لأنَّ الوفاء بالعقد والعهد لا یشمله بعد أن کان فاسدا (2) .

ومن الجدیر ذکره أنَّ مفاد الفساد فی هذا اللون من الشروط غیر المشروعة هو أنَّ أصل الالتزام فی هذا الموضوع فاسد وباطل . لذلک فإنَّ أصل الرضا بعقد یتضمّن شروطا

غیر مشروعة سوف لن یعدّ جائزا . والغریب أنَّ صاحب « الجواهر » قد أیّد النظریّة المشار

إلیها ، مع قبوله النظریّة القائلة ببطلان العقد الذی یشمل شروطا فاسدة(3) .

د - ینبغی أن تذکر مدّة المهادنة فی العقد . وینفّذ هذا الشرط علی وجهین : الأوّل

: تذکر مدّة المهادنة فی العقد ، الثانی : یکون العقد مطلقا ، بید أنَّ الدولة الإسلامیّة تحتفظ بحقّها فی نقض العهد .

ثمّة اختلاف بین الفقهاء یحوم حول مدّة المهادنة ؛ فمنهم من قال إنَّها جائزة حتّی أربعة أشهر ، ومنهم من یراها حتّی سنة واحدة . ویری عدد منهم أنَّ تحدید مدّة المهادنة یعود إلی الدولة الإسلامیّة . ومهما یکن من أمر فلو اعتبرنا وجوب الجهاد هو الأساس فی تحدید

المدّة لدار المهادنة ، وجعلنا الجهاد الابتدائی خاصّا بعصر الإمام المعصوم ، نستطیع أن نعتبر المهادنة مطلقة فی عصر الغیبة .

تلاحظ فی هذا المجال نظریّة أُخری أیضا تجوّز أن تکون المهادنة أکثر من سنة عند الحاجة ، وذلک بعقد هدنة أُخری للمدّة المضافة علی السنة أو تمدید العقد السابق(4) . ویعتقد صاحب « الجواهر » أنَّ الأدلّة الدالّة علی مشروعیّة المهادنة مطلقة ، ووقوع العشر سنین فی صلح الحدیبیّة لا یقتضی هذه الأدلّة . لذلک ینبغی أن یعود تحدید مدّة المهادنة إلی نظر الإمام(5) .

ص: 261


1- « جواهر الکلام » 21 : 302 .
2- نفسه ص 303 .
3- نفسه .
4- نفسه ص 303 .
5- نفسه ص 299 .
2 - المهادنة باقتراح دار الإسلام

هل تستطیع الدولة الإسلامیّة أن تقترح علی العدوّ إیقاف القتال وعقد الهدنة فی الظروف التی تعجز فیها عن الدفاع ومواصلة الحرب أو تواجه

خطرا جدّیّا من جرّاء حرب هجومیّة یقوم بها العدوّ ولا قبل لها بدفعه ؟

وإذا تطلّب الوفاق بین دار الإسلام ودار الحرب فی هذا المجال غرامة مالیّة ، واضطرّت الدولة الإسلامیّة إلی دفعها ، فهل هذا العقد یتّخذ طابعا شرعیّا ؟

إنَّ جواب الفقهاء علی هذین السؤالین إیجابی بشرط عدم وجود طریق آخر تکمن فیه المصلحة لضمان الأمن الداخلی والخارجی لدار الإسلام .

والمستند فی هذه القضیّة سیرة النبیّ صلی الله علیه و آله فی غزوة الأحزاب عندما استهدف إضعاف العدوّ فاضطرّ إلی أن یقترح علی أحد حلفاء قریش بأن یعطیه ثلث تمر المدینة علی أن یرجع بمن معه ویخذل قریشا (1) .

فاعترض علی النبیّ صلی الله علیه و آله زعیمان من زعماء الأنصار هما : سعد بن معاذ ، وسعد بن عبادة قائلین بأنَّ غطفان کانت محرومة من محاصیل المدینة أیّام الجاهلیّة ، والآن حیث جاء اللّه بالإسلام ، کیف یُعطَون ذلک ؟

وقد نقلت هذه القصّة بشکل آخر أیضا ، وهی أنَّ الحرث بن عمرو رئیس قبیلة غطفان أرسل إلی النبیّ صلی الله علیه و آله إنَّک إن جعلت لی شطر ثمار المدینة ، وإلاّ ملأتها علیک خیلاً ورکابا .

فقال النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله : حتّی أُشاور السعود ، یعنی : سعد بن عبادة ، وسعد بن معاذ ، وسعد بن زرارة ، فشاورهم ، فقالوا : یا نبیّ اللّه ، إن کان هذا أمرا من السماء فتسلیما لأمر اللّه وإن کان رأیک وهواک ، اتّبعنا رأیک وهواک . وإن لم یکن بأمر من السماء ولا برأیک وهواک ، فواللّه ما کنّا نعطیهم فی الجاهلیّة برّة ولا تمرة إلاّ شراءً أو قری ، فکیف وقد أعزّنا اللّه تعالی بالإسلام ؟ فقال النبیّ صلی الله علیه و آله لرسول غطفان : أوَ تسمع(2) ؟

یقول صاحب « الجواهر » بعد نقل هذا الحدیث : علی الرغم من أنَّ مفاد الحدیث جواز المهادنة فی الشروط الضروریّة ، ولکن لا تبعد مشروعیّته مع المصلحة للإسلام

ص:262


1- « جواهر الکلام » 21 : 299 .
2- نفسه ص 292 .

والمسلمین . وأولی بالجواز ما نصّ علیه العلاّمة الحلّیّ فی « المنتهی » من وضع شیء من حقوق المسلمین فی مال المهادنین ؛ کما تقبّل النبیّ صلی الله علیه و آلهفی أُحد عقود المهادنة أن لا تؤخذ

ضریبة العشر من المهادنین(1) .

رأی فقهاء السنّة

یقول ابن رشد : إنَّ بعض الفقهاء أجاز المهادنة ابتداءً من غیر سبب إذا رأی الإمام مصلحة للمسلمین ، وبعضهم لم یجزها إلاّ لمکان الضرورة الداعیة لأهل الإسلام من فتنة أو غیر ذلک .

ویمکن أن تکون المهادنة بالتزام مالی أو بدونه ، وکان الأوزاعیّ یجیز أن یصالح الإمام الکفّار علی شیء یدفعه المسلمون إلی الکفّار إذا دعت إلی ذلک ضرورة .

وقال الشافعیّ : لا یعطی المسلمون الکفّار شیئا إلاّ أن یخافوا أن یصطلموا لکثرة العدوّ . وممّن قال بإجازة الصلح إذا رأی الإمام ذلک مصلحة : مالک ، والشافعیّ

، وأبو حنیفة ، إلاّ أنَّ الشافعیّ لا یجوز عنده الصلح لأکثر من المدّة التی صالح علیها رسول اللّه صلی الله علیه و آله الکفّار عام الحدیبیّة .

وسبب اختلافهم فی جواز الصلح معارضة ظاهر قوله تعالی : « فَاص قْتُلُوا الْمُشْرِکینَ حَیْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ » (2) ، وقوله : « وَاِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاص جْنَحْ لَهَا وَتَوَکَّلْ عَلَی اللّه ِ » (3) .

فمن رأی أنَّ آیة الأمر بالقتال ناسخة لآیة الصلح قال : لا یجوز الصلح إلاّ من ضرورة . ومن رأی أنَّ آیة الصلح مخصّصة لآیة القتال ، قال : الصلح جائز إذا رأی ذلک

الإمام ، وعضد تأویله بفعل النبیّ صلی الله علیه و آلهذلک فی الحدیبیّة ، وذلک أن صلحه صلی الله علیه و آله عام الحدیبیّة لم یکن لموضع الضرورة .

وأمَّا الشافعیّ فلمّا کان الأصل عنده الأمر بالقتال حتّی یسلموا أو یعطوا الجزیة ، وکان هذا مخصّصا عنده بفعله علیه الصلاة والسلام عام الحدیبیّة ، لم یر أن یزاد علی المدّة

ص: 263


1- « جواهر الکلام » 21 : 293 .
2- التوبة : 5 .
3- الأنفال : 61 .

التی صالح علیها رسول اللّه صلی الله علیه و آله .

یواصل ابن رشد کلامه فیقول : وقد اختلف فی هذه المدّة ، فقیل : کانت أربع سنین ، وقیل : ثلاثا ، وقیل : عشر سنین ، وبذلک قال الشافعیّ .

وأمَّا من أجاز أن یصالح المسلمون الکفّار بأن یعطی لهم المسلمون مالاً ، فمستندهم هو إلی ما روی أ نَّه صلی الله علیه و آله کان قد همّ أن یعطی قسما من المدینة لبعض المشرکین لتحبیبهم ، فلم یوافقه علی القدر الذی کان سمح له به من ثمر المدینة حتّی أفاء اللّه بنصره .

وأمَّا من لم یجز ذلک إلاّ أن یخاف المسلمون أن یصطلموا فقیاسا علی إجماعهم علی جواز فداء أُساری المسلمین ، لأنَّ المسلمین إذا صاروا فی هذا الحدّ ، فهم بمنزلة الأُساری(1) .

7 - دار الحیاد ( الاعتزال )
اشارة

تطلق دار الحیاد علی البلد المحاید فی علاقاته السیاسیّة والفکریّة ، وفی المنازعات بین

دار الإسلام ودار الکفر منتهجا سیاسة عدم التدخّل ، ومحتفظا بحیاده فی الاشتباکات العسکریّة والمنازعات بین دار الإسلام ودار الحرب دون التحیّز إلی أحد الطرفین أو الأطراف المتنازعة .

وقد عبّر القرآن الکریم عن هذه الحالة السیاسیّة والعسکریّة فی العلاقات الدولیّة بکلمة ( الاعتزال ) ومن الضروری لنا قبل الخوض فی البحث أن نتوفّر علی دراسة لهذه

المفردة القرآنیّة لکی نتعرّف علی حدودها وآثارها والواجبات المنبثقة عنها بشکل أفضل .

کلمة الاعتزال فی القرآن
اشارة

جاءت کلمة الاعتزال فی القرآن فی عدد من المواضع الآتیة :

1 - الاعتزال عن المناقشات العقیدیّة العقیمة

أطلق القرآن کلمة الاعتزال علی الحالة التی یعتزل فیها المؤمنون مبتعدین عن المناقشات اللا منطقیّة وذلک فی الظروف التی لا یستطیعون معها إقناع معارضیهم وتحمّلهم ، أو أ نَّهم لا یستطیعون تحمّل المناقشات

ص: 264


1- « بدایة المجتهد ونهایة المقتصد » 1 : 387 و 388 .

اللا منطقیّة للمعارضین لأسباب ما .

ویحدّثنا القرآن أنَّ إبراهیم علیه السلام قد اعتزل قومه فی نزاعاته العقیدیّة مع الأسالیب الواهیة لعبدة الأصنام فی عصره إذ رأی أنَّ مناقشاته معهم لا تجدی نفعا ، ویصفه القرآن

بقوله : « وَاَعْتَزِلُکُمْ وَ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّه ِ وَاَدْعُوا رَبّی » (1) .

وعندما شاهد موسی علیه السلام فتور قومه وزیفهم وعدم شعورهم بالمسؤولیّة ، بحیث إنهم لم یشدّوا أزره ویعضدوه حتّی من أجل إنقاذ أنفسهم ، قالوا لهم : « وَ اِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لی فَاص عْتَزِلُونِ » (2) . أی : أنتم مختارون إمَّا أن تؤمنوا لی أو تبقوا أسری فی أغلال فرعون وقیوده .

وحینما شاهد أصحاب الکهف تعنّت قومهم وضلالهم ، اعتزلوا مناقشاتهم اللا منطقیّة بناءً علی إیصاء أحد الواعین . وعبّر القرآن عن هذه الحالة بالاعتزال . قال جلّ من قائل : « وَ اِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَ مَا یَعْبُدُونَ اِلاَّ اللّه َ فَاْوُوا اِلَی الْکَهْفِ یَنْشُرْ لَکُمْ رَبُّکُمْ مِنْ

رَحْمَتِهِ » (3) .

واستطاع إبراهیم علیه السلام من خلال الاعتزال أن یوطّد أرکان التوحید بشکل آخر ، ویضمن بقاء دعوته نابضة بالحیاة . قال عزَّ اسمه : « فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَ مَا یَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّه ِ وَهَبْنَا لَهُ اِسْحقَ وَ یَعْقُوبَ وَ کُلاًّ جَعَلْنَا نَبِیًّا » (4) .

ویمکن أن ندرس هذا الضرب من الاعتزال فی حیاة النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله قبل البعثة إذ آثر الاعتزال فی حراء علی البقاء مع قومه ، وکذلک فی الحیاة السیاسیّة للإمام علیّ علیه السلام عندما أُقصی من قیادة الأُمّة ، وأیضا فی حیاة الأئمّة المعصومین ، وحتّی فی أسالیب النضال التی انتهجها کثیر من القادة الدینیّین وغیرهم من القادة .

إنَّ هذا الاعتزال لیس بالمعنی السلبی ، ولا یعنی التنصّل من المسؤولیّة ، والتقوقع والانطواء والتخلّی عن الالتزامات التی لابدَّ أن یحملها کلّ إنسان عالم وواعٍ أمام مجتمعه وشعبه ، بل یعنی أُسلوبا ناجعا فی الاضطلاع بأعباء الرسالة وتبلیغها ، ویمکن أن نلمس

ص: 265


1- مریم : 48 .
2- الدخان : 21 .
3- الکهف : 16 .
4- مریم : 49 .

ذلک فی التکتیکات الحربیّة هذا الیوم .

ویلحظ فی القرآن الکریم موضع واحد ورد فیه ذمّ للاعتزال الذی سلکه أحد الأنبیاء ، ولکن لم یصرّح بکلمة الاعتزال ، قال تعالی : « وَ ذَا النُّونِ اِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا

فَظَنَّ اَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَیْهِ » (1) .

وأطلق القرآن کلمة « معزل » علی المکان الذی ولّی إلیه ابن نوح معتزلاً : « وَ نَادی نُوحٌ ابْنَهُ وَکَانَ فی مَعْزِلٍ یَا بُنَیَّ ارْکَبْ مَعَنَا » (2) .

وبناءً علی الآیات المتقدّمة ، یمکن القول : إنَّ الاعتزال یمثّل نوعا من اللجوء بغیة البقاء بعیدا عن الأخطار التی لا مناص منها ، والتمتّع بمأمن لا یصل إلیه ضرر فی مقابل

الأحداث الخارجة عن قدرة الإنسان واختیاره .

2 - الاعتزال عن المناقشات السیاسیّة

استعمل القرآن کلمة الاعتزال بشأن الأشخاص الذین یمتعضون من المنازعات والمناقشات السیاسیّة العقیمة ، ولیس لهم رغبة فیها

. وهم غیر مستعدّین للمشارکة فی تلک المناقشات سواء کانت من صالح المسلمین أو ضدّهم ، ویمیلون إلی حیاة سلمیّة مع الجمیع . قال تعالی : « فَاِنِ اعْتَزَلُوکُمْ فَلَمْ یُقَاتِلُوکُمْ وَاَلْقَوْا اِلَیْکُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّه ُ لَکُمْ عَلَیْهِمْ سَبیلاً » (3) .

للاعتزال فی هذه الآیة مغزی سیاسی ، وتضمّ فی تضاعیفها الاعتزال عن المصادمات والمناقشات السیاسیّة ؛ لأنَّ قوله « فَلَمْ یُقَاتِلُوکُمْ » ، وقوله : « اَلْقَوْا اِلَیْکُمُ السَّلَمَ » یفسّران قوله : « فَاِنِ اعْتَزَلُوکُمْ » . وهکذا یطرح الاعتزال الذی یحمل مفهوم عدم التدخّل السیاسی والاعتزال عن المناقشات السیاسیّة بوصفه مبدأ سیاسیّا قرآنیّا فی العلاقات الخارجیّة .

ولم یستعمل الاعتزال فی هذا المجال أیضا بمعنی التخلّی عن المسؤولیّة وعدم أداء دور معیّن ، والتنصّل عن الالتزامات الإنسانیّة . ومفهومه هنا هو ترک التدخّل فی أُمور هی إمَّا متعلّقة بشؤون الآخرین ، أو مفضیّة إلی تعکیر جوّ العلاقات ، وإثارة النوایا العدوانیّة

والمنازعات العقیمة .

ص:266


1- الأنبیاء : 87 .
2- هود : 42 .
3- النساء : 90 .
3 - مفهوم الحیاد فی الحرب

عندما تنشب اصطدامات عسکریّة فإنَّ القرآن الکریم یطلب من الدول الخارجة عن دائرة الصراع أن لا تدخل فی الحرب ضدّ دار الإسلام . وتستطیع أن لا تقحم نفسها فی الحرب لصالح دار الإسلام أیضا .

یعبّر القرآن الکریم عن هذه الحالة العسکریّة بالاعتزال ویقول : « فَاِنْ لَمْ یَعْتَزِلُوکُمْ وَیُلْقُوا اِلَیْکُمُ السَّلَمَ وَیَکُفُّوا اَیْدِیَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَیْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَاُولئِکُمْ جَعَلْنَا لَکُمْ عَلَیْهِمْ سُلْطَانًا مُبینًا » (1) .

سیاسة الحیاد وعدم الانحیاز

تتبلور سیاسة الحیاد - عادةً - وفقا لمعاهدة دولیّة أو معاهدة متعدّدة الأطراف مقرونة بضمان الدول الکبری أیضا علی النسق الذی ضمن فیه حیاد سویسرا فی مؤتمر فینّا

الذی شارکت فیه ثمانیة أقطار أُوربیّة سنة 1815م .

أمَّا سیاسة عدم الانحیاز فإنَّها تتبلور عادة من خلال إبداع القادة السیاسیّین فی قطر ما ، وتتّخذ طابعا قانونیّا علی أساس سیاسة ثوریّة أو وفقا لحاجات اقتصادیّة ، وظروف

سیاسیّة واجتماعیّة ، وبدون ضمان من دولة أجنبیّة .

نشأت حرکة عدم الانحیاز أو سیاسة عدم الانحیاز بعد الحرب العالمیّة الثانیة ولقیت ترحیبا من لدن الدول التی ذاقت مرارة الحرب وآثارها المشؤومة مرغمة . وتتوکّأ تلک الحرکة علی هذا التفکیر السیاسی وهو أنَّ التبعیّة العسکریّة للقوی المتنافسة والمتنازعة

- طوعا أو کرها - تفضی إلی فرض مشاکل الحرب علی الدول التابعة .

وعلی الرغم من أنَّ حرکة عدم الانحیاز توکّأت فی بادئ أمرها علی عدم التبعیّة العسکریّة ، بید أ نَّه قد استبان الیوم أنَّ المعیار فی عدم الانحیاز لیس التبعیّة العسکریّة فحسب ، وإنَّما ینبغی أن یکون عدم الانحیاز بمعنی عدم التبعیّة السیاسیّة والثقافیّة

والاقتصادیّة أیضا .

یقول المهاتما غاندی وهو أحد مؤسّسیّ حرکة عدم الانحیاز وقادتها : نرید أن نکون

ص:267


1- النساء : 91 . إذا استثنینا الموارد المذکورة ، فإنَّ القرآن أطلق کلمة الاعتزال علی القضایا العائلیّة فی موضعین . انظر : البقرة : 222 . الأحزاب : 51 . الشعراء : 212 .

مستقلّین علی أرضنا ، وإن کنّا لا نعلم علی وجه الیقین تفاصیل هذا الاستقلال تماما ، وما نعلمه هو أ نَّنا یجب أن نؤدّی واجبنا ونفوّض الباقی إلی اللّه(1) .

وجاء فی مقدّمة البیان الصادر عن أوّل اجتماع لقادة البلدان غیر المنحازة فی بلغراد الذی عقد فی أیلول سنة 1961م : أنَّ رؤساء الدول أو الحکومات غیر المنحازة علی علم بأنَّ بعض الأزمات تؤدّی إلی نزاع دولیّ فی مسار انتقال العالم من نظام قدیم مبنیّ علی

التسلّط ، إلی نظام جدید یقوم علی أساس التعاون بین الشعوب ، ویتوکّأ علی الحرّیّة ، والمساواة ، والعدالة الاجتماعیّة من أجل رفاه أکثر ... ولا یتحقّق السلم الثابت إلاّ إذا أوجدت هذه المواجهة عالما یقطع منه دابر التسلّط الاستعماری والإمبریالیّة والاستعمار

الجدید فی مظاهره کلّها ... ویتعذّر التغاضی عن التنافس علی السلطة الذی قد یؤدّی إلی

صراع دولیّ ... وأنَّ أُولئک الرؤساء یرغبون بکلّ صدق فی التعاون مع أیّ حکومة تسعی

إلی ترسیخ الثقة والسلم فی أرجاء المعمورة ... وتراقب البلدان المشارکة تأسیس القواعد

العسکریّة الأجنبیّة فی أراضی الدول الأُخری ، وهو ما یغایر إرادة الشعوب ، ویلغی

سیادة الدولة المعنیّة علی أرضها بنحو مکشوف . وتعلن تلک البلدان دعمها التامّ للأقطار

التی تحاول جمع القواعد المذکورة ، وتطلب من البلدان التی تحتفظ بالقواعد الأجنبیّة علی أراضیها أن تعتبر تدمیرها خطوة نحو السلم العالمی(2) .

ویلاحظ بین البلدان غیر المنحازة رأیان متباینان هما :

1 - إنَّ عدم الانحیاز یقترن بالنضال فی سبیل الحرّیّة ، والاستقلال ، والعدالة والسلم ، إذ إنَّ القضیّة الجوهریّة فی الخصام تتمثّل فی المستعمِر والمستعمَر .

2 - إنَّه یقترن بالمساومة ، إذ إنَّ القضیّة الجوهریّة فیه تتجسّد فی التوصّل إلی حلّ

للخلاف القائم بین الشرق والغرب .

ویقود الجناح الأوّل سوکارنو ، أمَّا الجناح الثانی فیتزعّمه نهرو(3) .

إنَّ هذا النمط من الاختلاف فی داخل حرکة عدم الانحیاز مهّد الأرضیّة لبعض الدول الأعضاء فی الحرکة أن تنحاز سیاسیّا إلی المعسکر الغربی وتوجّهاته ، أو تتعاطف مع

ص: 268


1- انظر : « جنبش عدم تعهّد » ص 29 . ( حرکة عدم الانحیاز ) .
2- نفسه ص 35 - 44 .
3- نفسه ص 45 .

المعسکر الشرقی مکتفیة من عدم الانحیاز بامتناعها عن تسخیر القواعد العسکریّة لصالح الکتل العسکریّة(1) .

ترتبط قضیّة الحیاد بظروف خاصّة تجعل المحافظة علیها ومواصلتها عسیرة :

1 - إلی أیّ مدی تستطیع الدولة المحایدة أن تلتزم بحیادها حیال الأطراف المتنازعة ؟

2 - ما هو المقیاس الذی تعتمده الدول المتنازعة فی تحمّل الدولة المحایدة بحیث تتقبّل

أنَّ هذا الحیاد یصبّ فی مصلحتها ؟

3 - تلقی الظّروف الخاصّة للحرب ظلالها علی الحیاد دائما کما نلحظ ذلک فی بلجیکا التی احتلّها النازیّون بسبب موقعها الاستراتیجی علی الرغم من إعلانها الحیاد سنة 1936م .

الإسلام والحیاد

یمکن أن نستنتج من الآیات التی تتحدّث عن الاعتزال أنَّ الإسلام لا یعارض الاعتزال السیاسی للشعوب غیر الإسلامیّة ، وعدم تدخّلها فی النزاعات السیاسیّة ، وکذلک لا یعارض حیادها العسکری فی الاصطدامات العسکریّة . ویثمّن هذه الحالة فی العلاقات الدولیّة ، ویمسک ید دار الإسلام عن خرقها .

إنَّ هذه الآیات فی الحقیقة تحدّد تلک المجموعة من الآیات التی تبیّن تعالیم الجهاد ( الابتدائی ) بشکل عامّ ، وتخصّصها علی حدّ تعبیر الفقهاء .

فی ضوء ما تقدّم ، لیس لدار الإسلام أن تخوض صراعا فی مجال جبهة الاعتزال بالنسبة إلی الشعوب المحایدة فی الأجواء التی یحکم فیها المعصوم المکلّف بتطبیق قانون

الجهاد الابتدائی . وهذا التقیید موجود أیضا فی الأجواء التی یحکم فیها الفقهاء حتّی علی أساس نظریّة الولایة الشاملة وصلاحیّات الفقیه فی عصر الغیبة بالنسبة إلی الأمر بالجهاد

الابتدائی . وفی ضوء الصلاحیّات المحدودة للدولة الإسلامیّة فی عصر الغیبة بالنسبة إلی

الجهاد الابتدائی ، فإنَّ طریق العمل بآیات الجهاد الابتدائی مسدود ، والحالة الأصلیّة

السائدة فی العلاقات الدولیّة هی التمسّک باحترام الاعتزال والسلم .

ص: 269


1- انظر : « مباحث فی السیاسة الدولیّة والسیاسة الخارجیّة » ص 188 .

ویمکننا من خلال هذا التوضیح أن نقف علی خطأ فهمین مختلفین فی هذا المجال ، وهما کما یأتی :

1 - یقول الدکتور مجید خدّوری تحت عنوان : الإسلام والحیاد : « إذا کان الحیاد(1) یعنی طلب الحکومة اعتزال الحرب طواعیة وعدم مناصرة طرف من الأطراف ، فهذا ممّا لا یعترف به الإسلام من منطلق نظریّته العامّة فی هذا المجال ، إذ إنَّ الإسلام فی حالة حرب مع کلّ حکومة لا تنقاد لأحکامه ، أو لا تعقد معه معاهدة صلح مؤقّتة » .

لا شکّ أنَّ آیات الاعتزال قد أُهملت فی إبداء هذا الرأی حول القانون الدولیّ فی الإسلام . والإسلام قد أضفی قیمة قانونیّة علی حالة الحرب مضافا إلی حالة التسلیم لأحکامه ، وإمضاء المعاهدة المؤقّتة ، واحترام ذلک قانونیّا . ومثالنا فی هذا المجال ذیل الآیة 90 من سورة النساء : « فَمَا جَعَلَ اللّه ُ لَکُمْ عَلَیْهِمْ سَبیلاً » .

2 - یقول أحد الکتّاب فی القانون الدولیّ فی الإسلام(2) : « الاعتزال بمعنی اتّخاذ سیاسة

محایدة أو عدم التدخّل فی شؤون الشعوب الأُخری - کما مرّ بیانه - مبدأ فی العلاقات

الدولیّة الإسلامیّة . والآن یثار سؤال مفاده : هل هناک حالات تقلّل شأن المبدأ المذکور ، أو حالات تجد فیها الحکومة الإسلامیّة نفسها مضطرّة إلی ترک سیاسة الحیاد أو ضرورة التدخّل ؟ والجواب إیجابیّ ، لأنَّ نطاق مبدأ الاعتزال یتحدّد فی حالات معیّنة کغیره من المبادئ الأُخری » .

ثمَّ انبری إلی الحالات الاستثنائیّة لمبدأ الحیاد ، وعدّ إلغاء هذا المبدأ شرعیّا فی الظروف الآتیة :

أ - فی حالات الدفاع الشرعی ، أی : إذا عرّض استمرار سیاسة عدم التدخّل أو الحیاد مصالح المسلمین الحیویّة أو مصالح المجتمع البشری للخطر .

ب - التدخّل الودّی من أجل دعم أکثر الأهداف الإنسانیّة أصالة ، أعنی : حرّیّة الفکر ، وحقّ تقریر المصیر .

ج - دعم الأقلّیّات المغلوب علی أمرها ( المستضعفین ) .

ص: 270


1- « جنگ وصلح در اسلام » ص 375 .
2- انظر : « حقوق بین الملل إسلامی » : 231 - 234 .

بالنظر إلی البحث القرآنی المعروض فی مجال الاعتزال یستبین لنا أنَّ الحالات المشار إلیها لا تعتبر استثناءً لمبدأ الحیاد أو عدم التدخّل ، لأنَّ هذه الحالات هی مصادیق الجهاد الابتدائی المخصّصة بآیات الاعتزال ، ومن جهة أُخری فإنَّ مشروعیّة الحرب الهجومیّة فی الظروف التی یحکم فیها الفقهاء فی عصر الغیبة تبعث علی الریب ، ویری کثیر من الفقهاء أنّ ذلک منوطا بإذن الإمام المعصوم علیه السلام وأ نَّه غیر مشروع فی عصر الغیبة(1) .

یضاف إلی ذلک ، أنَّ الحالات المذکورة بوصفها استثناءً من مبدأ الاعتزال لا تضمّ فی طیّاتها شروط الاعتزال حتّی تستثنی من حکمه ؛ لأ نَّه عندما تعرّض سیاسة الحکومة مصالح المسلمین الحیویّة أو مصالح البشریّة عامّة للخطر ، أو تهدّد حرّیّة الفکر واستقلال

الشعوب الأُخری وتفضی إلی استعباد المستضعفین ، فکیف یتسنّی لنا أن نعتبر مثل هذه الحکومة منتهجة سیاسة عدم التدخّل والحیاد ؟ إنَّ هذا اللون من الظواهر السیاسیّة علی

الصعید الدولیّ یمثّل السیاسات العدائیّة المنبثقة عن عمل الحکومة المفروضة .

حیاد دار الإسلام

مثلما یعضد الإسلام سیاسة الاعتزال التی تنتهجها الشعوب الأُخری فی علاقاتها مع دار الإسلام ، فإنَّ انتهاج سیاسة الاعتزال من قبل دار الإسلام حیال الدول الأُخری یمکن أن تکون مقبولة أیضا .

لا شکّ أنَّ الاعتزال الذی طرحه القرآن بشأن إبراهیم وأصحاب الکهف یتعلّق بظروف خاصّة تفرض مشروعیّة الاعتزال ، وهذه الظروف یمکن أن تنطبق علی دار الإسلام فی أعصار مختلفة :

1 - فی مجال النزاعات العقیدیّة ، متی کان استمرارها عقیما بشأن بعض الدول ، ومفضیا إلی مصادمات منهکة تجرّ الویلات علیها ، فإنَّ الاعتزال یمکن أن یکون مسموحا

به بوصفه یمثّل سیاسة عدم التدخل فی الشؤون الداخلیّة لهذه الدول . وهذا لا یعنی تعطیل

الدعوة ، بل یعنی نوعا من تغییر الأُسلوب بغیة اختیار الطریق الأفضل .

2 - لا یداخلنا الشکّ أن سیاسة عدم التدخّل والحیاد یمکن أن تمثّل حلاًّ منطقیّا

ص: 271


1- انظر کتاب : « البیع » ، لسماحة الإمام الخمینیّ 2 : 498 ؛ و « تحریر الوسیلة » 1 : 482 .

ومشروعا عند نشوب الأزمات السیاسیّة ، وبروز النزاعات المؤقّتة والعقیمة التی تورّط الدولة الإسلامیّة بمشاغبات ومعضلات غیر مدروسة ، ومؤامرات منهکة ، ومصادمات غیر مجدیة ، وهدر الطاقات ، والقضاء علی الإمکانیّات والالتزامات غیر المناسبة

، واستغلال الظروف التی تمرّ بها دار الإسلام من قبل الأعداء .

ویمکن أن تمثّل سیاسة ( لا شرقیّة ولا غربیّة ) فی الواقع العالمی المعاصر نوعا من سیاسة الحیاد بمفهومها الإیجابی ، لأنَّ التدخّل فی مثل هذه الظروف لمصلحة إحدی السیاستین المتعارضتین فی العالم ، والتدخّل فی منازعات إحداهما لا یمکن أن یکون مقبولاً

فی قاموس الدولة الإسلامیّة ، ونشاهد الیوم أنَّ أکثر الأزمات السیاسیّة فی العالم هی من هذا النوع ، إذ تبرز کالوشیعة المتشابکة علی شکل مؤامرات معقّدة وخفیّة ومجهولة ولا

یوثق بها ، وتکون موضعا لاستغلال القوی الکبری .

إنَّ سیاسة الاعتزال بمعنی حیاد الدولة الإسلامیّة وعدم تدخّلها یمکن أن یمثّل أُسلوبا منطقیّا ومشروعا فی مواجهة هذا اللون من الأزمات والحوادث السیاسیّة فی العالم .

3 - عندما تنشب النزاعات العسکریّة بین الدول بدوافع سلبیّة معروفة أو مجهولة ، وتعجز الدولة الإسلامیّة عن تسویتها ، أو أنَّ تدخّلها یفضی إلی حدوث خسائر لا

تعوّض أو یؤدّی إلی الوقوع فی فخّ المؤامرات ، وینتهی أحیانا علی حساب المثل العلیا ، عندما

یکون ذلک کلّه ، فلیس هناک من ردّ فعل منطقی وسیاسة مشروعة لدار الإسلام حیال هذه الظروف إلاّ الاعتزال .

إنَّ الاعتزال فی هذه الحقول الثلاثة لا یتّخذ طابعا شرعیّا بالنظر إلی العناوین الثانویّة

للإسلام فحسب مثل : ( نفی السبیل ) ، و ( نفی الضرر ) ، و ( نفی الحرج ) ، و (

حفظ بیضة الإسلام ) ، و ( تقدّم الأهمّ علی المهمّ ) ، و ( دفع الأفسد بالفاسد ) ، بل یُطبّق بوصفه مبدأ أوّلیّا أیضا ، والملاک فی شرعیّته فی جمیع المجالات یتمثّل فی مجانبة الدول الاصطدام بالدولة الإسلامیّة ، وعدم انتهاجها سیاسة عدائیّة مع دار الإسلام .

إنَّ شرعیّة الاعتزال فی الحقول الثلاثة سواء فی عصر حضور الإمام المعصوم علیه السلام ، أو فی عصر الغیبة حیث یحکم الفقیه ، یمکن أن تکون مقبولة بشکلین هما : أصل الاستثناء علی أصل الجهاد الابتدائی ، والأصل الأوّلی فی ظروف عدم وجوب الجهاد الابتدائی .

ص:272

الاعتزال والسیرة السیاسیّة للنبیّ صلی الله علیه و آله

یلاحظ فی تاریخ العلاقات السیاسیّة للنبیّ صلی الله علیه و آله مع قبائل الجزیرة العربیّة ، والحکومات المجاورة نماذج مورست فیها سیاسة الحیاد ، ونشیر فیما یأتی إلی بعضها

:

1 - عقد النبیّ صلی الله علیه و آله حلف الحیاد مع بنی ضمرة فی السنة الثانیة للهجرة وذلک عندما کانت القوافل التجاریّة بین مکّة والشام تحظی بأهمّیّة اقتصادیّة وعسکریّة خاصّة

، وکان التعرّض لها هو السبیل الوحید لضرب القدرة العسکریّة والمالیّة للعدوّ المعتدی والمهاجم . وجاء فی الحلف : « علی أن لا یغزو [ النبیّ صلی الله علیه و آله ]بنی ضمرة ولا یغزوه ، ولا یکثروا علیه جمعا ، ولا یعینوا عدوّا ، وکتب بینه وبینهم کتابا » (1) .

2 - فی موقعة مؤتة ، علی الرغم من التکتّل العدائی لبعض القبائل القاطنة فی تخوم الروم ، إلاّ أنَّ قبیلة بنی غنم أعلنت حیادها ، ولم یعترض النبیّ صلی الله علیه و آله علی ذلک (2) .

3 - لقیت سیاسة الحیاد تأییدا ضمنیّا فی النصوص الواردة فی صلح الحدیبیّة .

إنَّ العبارة الواردة فی الصلح : « علی أ نَّه لا إسلال ولا إغلال » (3) فیما تعنی نفی إعانة المتعاهدین علی الآخر ونفی الخیانة ، تدلّ علی قبول سیاسة الحیاد من قبل النبیّ صلی الله علیه و آله ، وهکذا فإنَّ مبدأ الاعتزال مبدأ مقبول بالنسبة إلی الشعب غیر المسلم ، ویحظی بالشرعیّة

من قبل الحکومة الإسلامیّة فی آن واحد .

4 - ذکر کتّاب السیر أنَّ الحبشة ظلّت دولة مصونة لم تتعرّض لها الحکومة الإسلامیّة

، وهذا الوضع الاستثنائی کان نابعا من موقف حکومة الحبشة وأهلها ، إذ کانت الحبشة منذ

البدایة عضدا قویّا للنبیّ صلی الله علیه و آلهوالمسلمین أمام تحرّشات قریش وحملاتها ، ومن جهة أُخری فإنَّ ذلک الوضع کان بسبب موقف حکومة الحبشة من المسلمین المهاجرین ، وجواب النجاشی حاکمها عن رسالة النبیّ صلی الله علیه و آله ، ذلک الجواب الذی کان سلمیّا ورقیقا إلی درجة أدهش معها کثیر من الکتّاب المسیحیّین لما لاحظوه من ردّ فعل النجاشی وأنصاره حتّی أ نَّهم ارتابوا فی الأحادیث المتعلّقة بالحبشة وعدّوها منحولة(4) .

ص:273


1- « الطبقات الکبری » لابن سعد 2 : 8 .
2- « السیرة النبویّة » لابن هشام 4 : 24 .
3- « مکاتیب الرسول » 1 : 275 .
4- « الحرب والسلم فی الإسلام » ص 382 - 384 .

یقول المترجم الإنجلیزی لرسالة النبیّ صلی الله علیه و آله إلی النجاشی : « إذا أخذنا بنظر الاعتبار السلوک الفظّ والتعصّب الذی کانت تتّسم به المسیحیّة فی الحبشة ، فإنَّه من المدهش أن یقبل " أرماح " وقساوسته دین الإسلام » (1) .

إنَّ إسلام النجاشی کما یستبین من رسالته إلی النبیّ صلی الله علیه و آله (2) یستدعی أن تحسب الحبشة علی دار الإسلام ، بید أنَّ الوضع الخاصّ لهذه الدولة یفتقد الشروط الکافیة للانضمام إلی دار الإسلام ؛ ذلک أنَّ رئیس الدولة وبعض المقرّبین إلیه قد أسلموا لیس غیرهم ، ولم تطبّق أحکام الإسلام فی تلک الدولة ؛ من جهة أُخری ، لم تظلّ الحبشة مصونة من تحرّشات المسلمین فی عصر النبیّ صلی الله علیه و آله فحسب . بل بقیت علی حالها فی عصر الخلفاء أیضا ، إذ امتنع المسلمون من مهاجمة الحبشة عملاً بالحدیث النبویّ المأثور : « ذروا الحبشة ما وذرتکم » (3) .

یمکن فی ضوء ما تقدّم أن نقبل أحد الآراء الآتیة حول الحبشة :

أ - الحبشة جزء من دار الإسلام ، ونهی النبیّ صلی الله علیه و آله عن التعرّض لها ، وکذلک عمل المسلمین فی عدم التعرّض کانا لهذا السبب .

ب - الحبشة جزء من دار العهد ودار الذمّة ، وفوّض أمرها إلی حاکمها لکونه مسلما ، وأهلها نصاری .

ج - هی جزء من دار الکفر ودار الحرب ، وظلّت مصونة من التعرّض بشکل استثنائی عملاً بالحدیث النبویّ وسیرة الخلفاء .

د - ینطبق علیها حکم الاعتزال ویطلق علیها دار الحیاد بسبب ما أبدته من موقف إیجابی حیال الإسلام .

وبالموازنة بین الآراء المشار إلیها یمکن أن نفهم - بوضوح - أنَّ الاحتمالات الثلاثة الأُولی واهیة لا یدعمها الدلیل ، والاحتمال الرابع هو الأرجح .

إنَّ طرح عنوان دار الحیاد علی أساس الوضع الخاصّ للحبشة وأمثاله هو الذی جعل کتّاب السیر والفقهاء یطبّقون علیها حکم الاعتزال .

إنَّ الموقع الخاصّ للحبشة هو الذی أفضی بالخلفاء أن یتعاملوا مع النوبة ، وقبرص ،

ص:274


1- « الحرب والسلم فی الإسلام » ص 382 - 384 .
2- « سنن أبی داود » 4 : 114 ؛ « وسائل الشیعة » 6 : 42 .
3- « بدایة المجتهد » 1 : 381 .

والأتراک بأُسلوب مماثل لأُسلوبهم فی الحبشة ، ویتّخذوا سیاسة الحیاد حیالهم(1) .

5 - الحدیث النبویّ المأثور حول الحبشة : « تارکوا الحبشة ما ترکوکم » (2) ، أو « ذروا الحبشة ما وذرتکم » (3) . مؤدّی هذا الحدیث وإن کان ینطبق علی الحبشة ، بید أ نَّه بالنظر إلی مبدأ تنقیح المناط فی الفقه ، وإحراز عدم الخصوصیّة فی مورد الحدیث وهی الحبشة ، فإنَّ

تعمیمه علی جمیع البلدان والحکومات التی لا تتعرّض للمسلمین وتتّخذ سیاسة الحیاد سیکون میسورا .

إلاّ أنَّ التشکیک فی صحّة هذا الحدیث ضعّف من إمکان الاعتماد علیه . وقد سئل الإمام مالک عنه ، فلم یشهد علی صحّته ، ولم یقرّه ، غیر أ نَّه أیّد مفاده بشکل ضمنی ، فقال : لم یزل الناس یتحامون غزوهم(4) .

أقسام الحیاد

بالنظر إلی التسلیم بمبدأ الحیاد بوصفه منهجا مشروعا فی العلاقات الدولیّة ، یمکن دراسة الأقسام المتنوّعة للحیاد بالصور الآتیة :

1 - الحیاد بالنسبة إلی عدّة دول ، والحیاد بالنسبة إلی جمیع حالات العداء .

2 - الحیاد الدائم ، والحیاد المؤقّت .

3 - الحیاد المشروط ، والحیاد المطلق .

4 - الحیاد المسلّح ، والحیاد غیر المسلّح .

5 - الحیاد السیاسی ، والحیاد العسکری .

إنَّ أهمّ تقسیم للحیاد هو التقسیم الذی یرتکز علی أساس التعاقد ، إذ یمکن - فی ضوئه - تبیان الوضع السیاسی والقانونی للأقسام المذکورة .

إنَّ الحیاد التعاقدی هو نوع من العقد اللازم یلتزم بموجبه الطرفان بالمسؤولیّات المنبثقة عن الحیاد . ویقسم الحیاد التعاقدی - بدوره - إلی قسمین :

ص: 275


1- « الحرب والسلم فی الإسلام » ص 387 - 401 .
2- « وسائل الشیعة » 6 : 42 .
3- « بدایة المجتهد » 1 : 381 .
4- نفسه .

1 - عقد الحیاد الذی یتّفق علیه طرفا العقد أو أطرافه المتعدّدة فحسب .

2 - عقد الحیاد الذی تؤیّده وتضمنه الدول الأُخری أیضا .

الحیاد الاعتیادی أو العرفی یمثّل نوعا من الاعتزال العملی ، ویقع موقع التنفیذ من قبل طرفی العقد أو أطرافه بشکل اعتیادی ، دون الحاجة إلی تنظیم میثاق بین جهاته المعنیّة .

المسؤولیّات المنبثقة عن الحیاد

إنَّ مفاد الحیاد أو عقد الحیاد هو أنَّ کلّ طرف من الأطراف المعنیّة یمتنع من الاشتراک فی نشاطات عدائیّة فی الحدود المتّفق علیها بصورة مباشرة أو غیر مباشرة ، ومن ثمَّ یمتنع من تقدیم المساعدة العسکریّة لصالح أحد الطرفین أو ضدّه ، ولا یسمح بتوظیف الأشخاص من أجل الاشتراک فی عملیّات عسکریّة .

وکذلک یحظر التسلیح وتقدیم المعدّات وإیصال المیرة والوسائل والأدوات العسکریّة الأُخری بالشکل الذی یعزّز أحد الأطراف المتنازعة .

ومن الأعمال التی تتنافی مع روح الحیاد تقدیم المساعدات النقدیّة سواء کانت بلا عوض أو کانت علی شکل قروض . وممّا یخرق الحیاد ویخلّ به هو إیواء العسکریّین الفارّین ، والمعارضین الناشطین ، واللاجئین السیاسیّین ، والأسری الذین وجدوا سبیلاً

للفرار ، وکشف الأسرار العسکریّة ، والسماح بعبور السیّارات التی تحمل التجهیزات العسکریّة ، ووضع الموانئ والجسور الجویّة والطرق ووسائل المواصلات البریّة تحت تصرّف أحد الأطراف .

ویمکن فی الحیاد التعاقدی تثبیت الحالات المذکورة ، والحالات الأُخری المریبة بصراحة ، أو جمعها من قبل الحکومات فی میثاق دولیّ وطرحها علی البلدان المختلفة للتصویت کما نلحظ فی معاهدة لاهای .

إنَّ المسؤولیّة المنبثقة عن خرق الحیاد ، لا سیّما إذا أسفرت عن أضرار مادّیّة ومعنویّة تصیب إحدی الدول المتنازعة ، ینبغی أن تحدّد فی عقد الحیاد ، أو تتمّ تسویتها برضا

الطرفین وفقا للمواثیق الدولیّة ، وإلاّ فإنَّ اللجوء إلی التحکیم هو الحلّ السلمی الوحید للخلافات المنبثقة عن مسؤولیّات خرق الحیاد . کما حدث فی غزوة الأحزاب عندما خرق

ص:276

یهود بنی قریظة الحیاد ، فأقرّ النبیّ صلی الله علیه و آله تحکیم سعد بن معاذ ، ورضخ یهود بنی قریظة لذلک (1) .

8 - دار الموادعة

تطلق دار الموادعة علی البلد الذی عقد أهله اتّفاقیّة الموادعة مع دار الإسلام . والموادعة فی الاصطلاح الفقهی نوع من عقد الأمان المؤقّت الذی یعقد علی أساس الهدنة بین المسلمین وغیر المسلمین وربّما ذکروا الموادعة مرادفة للمعاهدة والمهادنة(2) .

وفی ضوء تعالیم المذهب الحنبلیّ ، والشافعیّ ، فإنَّ للإمام أو من ینوبه ( الحکومة الإسلامیّة ) فقط حقّ عقد المعاهدة والموادعة(3) ، أمَّا فی المذهب الحنفیّ

، فإنَّ عقد الموادعة یجوز بدون إذن الإمام(4) .

والموادعة فی الفقه الشیعیّ لم تطرح بوصفها عقدا مستقلاًّ ، بل جاءت بوصفها تعبیرا آخر عن المهادنة(5) .

ولمّا کان مفهوم المهادنة أعمّ من مفهوم الموادعة ، والمهادنة تطلق عند انتهاء الحرب القائمة ، وکذلک للحیلولة دون وقوع حرب محتملة ، لذلک یمکن القول إنَّ للموادعة مفهوما

خاصّا بسبب استعمالها أکثر فی الحقل الأوّل ، ولکن مع ذلک ، لا یبدو أیّ فرق بین العنوانین

من حیث الحکم والشروط والمسائل التی ذکرناها فی بحث دار المهادنة .

یقول الشیخ الطوسیّ ضمن بحثه عن المهادنة وأحکامها فیما یخصّ الحدّ الأعلی للمدّة المشروعة لعقد المهادنة :

إذا أراد الإمام ترک القتال والموادعة علی مال یبذله للمشرکین ، فإن لم یکن مضطرّا إلی ذلک ، لم یجز سواء کان من حاجة أو غیر حاجة لقوله تعالی : « مِنَ الَّذینَ اُوتُوا

ص:277


1- « فتوح البلدان » لأبی الحسن البلاذریّ ص 26 .
2- « تذکرة الفقهاء » 1 : 447 ؛ و « المغنی » لابن قدامة 5 : 454 ؛ و « مغنی المحتاج » للشربینیّ 4 : 260 ؛ و « الأحکام السلطانیّة » للماوردیّ ص 57 ؛ و « المبسوط » 2 : 60 .
3- « المغنی » 8 : 261 .
4- « بدائع الصنایع فی ترتیب الشرایع » لابن مسعود الکاسانیّ الحنفیّ 7 : 108 .
5- « تذکرة الفقهاء » 1 : 447 .

الْکِتَابَ حَتّی یُعْطُوا الْجِزْیَةَ عَنْ یَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ » (1) .

9 - دار الصلح
اشارة

وتُطلق علی البلدان التی انعقد بینها وبین دار الإسلام عقد الصلح ، وعقد الصلح جائز للدولة الإسلامیّة بإجماع الفقهاء ، بید أنَّ هناک خلافا بین الفقهاء حول طبیعة العقد فیما إذا کان عقد الذمّة نفسه ، أو الهدنة ، أو الأمان ، أو عقدا مستقلاًّ غیر تلک العقود

.

یقول العلاّمة الحلّیّ فی « تذکرة الفقهاء » :

یجوز للإمام عقد الصلح ، لأنَّ أُمور الحرب موکولة إلیه ، کما کانت إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله . فإن رأی المصلحة فی عقده لواحد ، فعل ، وکذا لأهل حصن أو قریة أو بلد ، أو إقلیم ، ولجمیع الکفّار بحسب المصلحة لعموم ولایته . ولا نعلم فیه خلافا .

ویقول أیضا :

وأمَّا نائبه عامّة ( الفقهاء العدول ) کان له ذلک أیضا . وإن لم تکن ولایته عامّة ، جاز

عقد أمانه لجمیع من فی ولایته ولآحادهم(2) .

ویری ابن رشد فی کتابه « بدایة المجتهد » أنَّ مالکا ، والشافعیّ ، وأبا حنیفة ، والأوزاعیّ هم ممّن یری مشروعیّة الصلح لإمام المسلمین علی شرط وجود مصلحة فیه للإسلام والمسلمین ، فهو یقول :

وکان الأوزاعیّ یجیز أن یصالح الإمام الکفّار علی شیء یدفعه المسلمون إلی الکفّار إذا دعت إلی ذلک ضرورة(3) .

إنَّ کلمة الصلح هی ککلمة العهد والعقد ، تطلق علی جمیع العقود الموجودة بین المسلمین والکفّار ، ومن هذا المنطلق یعبّر عن عقود الذمّة ، والهدنة ، والأمان : صلحا أیضا . ویمکن أن نجد هذا اللون من التعبیر فی الکتب الفقهیّة کثیرا .

یقول الشیخ الطوسیّ فی « المبسوط » :

إذا صالح أهل الذمّة علی ما لا یجوز المصالحة علیه مثل أن یصالحهم علی أن لا تجری

ص: 278


1- التوبة : 29 ؛ « المبسوط فی فقه الإمامیّة » 2 : 51 .
2- « تذکرة الفقهاء » 1 : 414 .
3- « بدایة المجتهد » 1 : 388 .

علیهم أحکامنا ، أو لا یمتنعوا من إظهار المناکیر ... کان ذلک باطلاً (1) ؛ ویشاهد فی الروایات إطلاق کلمة الصلح علی عقد الذمّة أیضا (2) .

یقول صاحب کتاب « جواهر الکلام » ضمن بحثه فی شروط المهادنة :

متی کان الصلح ( المهادنة ) باطلاً ، لا یلزم العمل بشروطه(3) . ویلاحظ فی کتب السِّیَر والتواریخ أنَّ صلح الحدیبیّة قد أُطلق أیضا علی عقد الحدیبیّة الذی یمثّل لونا من المهادنة .

هل الصلح عقد مستقلّ ؟

توکّأ الفقهاء فی مجالات متعدّدة علی أدلّة عامّة ، ضمن بحثهم عن العقود ، مثل : عقد الذمّة ، والأمان ، والهدنة . ومن هذه الأدلّة : « اَوْفُوا بِاص لْعُقُودِ » (4) ، و « اِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاص جْنَحْ لَهَا » (5) ، و « اَتِمُّوا اِلَیْهِمْ عَهْدَهُمْ » (6) وأمثالها ، وهی تمثّل أصالة العقد

والصلح والعهد واستقلالها عن عقود معیّنة مثل : الذمّة ، والأمان ، والهدنة فی العلاقات

الخارجیّة لدار الإسلام(7) .

ومفاد هذا الاستدلال هو أنَّ الدولة الإسلامیّة تستطیع أن تعقد نوعا آخر من عقد الصلح مع دار الکفر خارج إطار العقود المعیّنة المذکورة وضوابطها وشروطها .

إنَّ السمة الموجودة فی کلّ واحد من عقود الذمّة ، والأمان ، والهدنة ترتکز علی طبیعة الأطراف ذات العلاقة فی العقد أو علی الظروف والأجواء التی تمّ فیها العقد

؛ لأنَّ عقد الذمّة یخصّ أهل الکتاب ، والأمان یخصّ أمن الأشخاص علی أموالهم وأنفسهم وأعراضهم ، والمهادنة تخصّ حالة الحرب أو احتمال وقوعها . فالسمات الخاصّة لا

تستطیع أن تخصّص عمومیّة الأدلّة المتقدّمة .

ولا ریب أنَّ لعقد الذمّة مواصفات ومیزات یختصّ بها أهل الکتاب ، وأمَّا غیرهم

ص: 279


1- « المبسوط » 2 : 52 .
2- « جواهر الکلام » 21 : 233 و 299 .
3- نفسه ص 311 .
4- المائدة : 1 .
5- الأنفال : 61 .
6- التوبة : 4 .
7- « جواهر الکلام » 21 : 293 و 295 ؛ و « تذکرة الفقهاء » 1 : 447 .

فلا

یبدو هناک دلیل علی التقیّد بنوع محدّد من العقود .

والمشکلة الوحیدة فی عقد الصلح بوصفه عقدا خارجا عن الأقسام الثلاثة المذکورة من العقود هی مدّته التی تفضی - طوعا أو کرها - إلی هذا التصوّر ، وهو أنَّ الصلح المؤقّت

لیس إلاّ المهادنة .

یقول الفقیه المذکور [ صاحب الجواهر ] فی بحثه المشار إلیه :

ولکنَّ الأدلّة الدالّة علی مشروعیّة المهادنة مطلقة ، فیرجع فیه إلی نظر الإمام . ووقوع العشر [ فی صلح الحدیبیّة ] لا یقتضی التقیید بعد احتمال کونه الأصلح فی ذلک الوقت(1) .

وفی ضوء هذا الاستدلال ، متی دخلت الدولة الإسلامیّة فی مفاوضات مع دار الحرب من باب الاضطرار أو من باب التفکیر بمصلحة الإسلام ودار الإسلام ، وذلک فی ظروف الصلح وبدون خطر الحرب وتمَّ توقیع عقد الصلح لمدّة طویلة ( أکثر من عشر سنین ) ، فإنَّ

هذا العقد ، فی الوقت الذی لا یمثّل فیه مصداقا لأیّ عقد من العقود الثلاثة المعیّنة ، یمکن أن یعتبر صلحا مشروعا .

فی هذا المجال ، فإنَّ أدلّة الجهاد الابتدائی نحو قوله تعالی : « فَاِذَا انْسَلَخَ الاَْشْهُرُ الْحُرُمُ فَاص قْتُلُوا الْمُشْرِکینَ حَیْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ » (2) ، لا یمکن أن تحول دون مشروعیّة

هذا الصلح ، لأنَّ المفروض فی هذا البحث هو عصر الغیبة الذی لا یجب فیه الجهاد الابتدائی ، أو لا تتوفّر فیه الأرضیّة والإمکانیّات المناسبة .

نقلنا فی تضاعیف المباحث المتعلّقة بدار الذمّة نظریّة فقهاء السنّة فی مجال جواز عقد الذمّة مع غیر المسلمین ، وهی تمثّل مشروعیّة عقد الصلح ( مقیّدا بالمسؤولیّة المالیّة

للکفّار ) بشکل عامّ(3) .

ومن الجدیر ذکره هنا هو أنَّ کثیرا من الفقهاء اعتبروا مؤدّی قوله تعالی : « یَاءَیُّهَا الَّذینَ امَنُوا اَوْفُوا بِاص لْعُقُودِ » (4) عامّا ، واعتبروا جمیع العقود العقلائیّة التی لم تضبط فیها

ص: 280


1- « جواهر الکلام » 21 : 299 .
2- التوبة : 5 .
3- « أحکام القرآن » للجصّاص 3 : 91 - 93 ؛ « تفسیر القرطبیّ » 8 : 110 .
4- المائدة : 1 .

الشروط اللا مشروعة مشروعة وفقا للمبدأ العامّ المستفاد من هذه الآیة ونظائرها .

رأی الشیخ کاشف الغطاء

یقول الشیخ کاشف الغطاء تحت عنوان : « المعتصمون بالصلح » : « إذا رأی الإمام أو نائبه الخاصّ أو من قام بسیاسة عساکر المسلمین ضعفا أو وهنا فیهم ، ورأی أنَّ إیقاع

الصلح بین الفریقین أصلح للمسلمین وأوثق بحفظ شریعة سیّد المرسلین ، أوقع الصلح بینهم وبین المسلمین علی الوجه الأصلح علی قدر ما یسعه .

ولا یقع الصلح من غیر الرئیس إذ لیس حکمه حکم الأمان . ویکفی فیه جمیع ما دلّ علیه ... ویستوی حکم الصلح بین الرئیسین من الفریقین إلی جمیع أهل الطریق .

ویجب أن یکون الواسطة من المسلمین مؤتمنا موثقا به عارفا بصیرا بالأُمور ویلزمه نشر ذلک بین الکفّار المخاصمین وإذا وقع الصلح علی شیء ، وجب أن یکون معلوما بین المتصالحین . وإذا فسد الصلح لفقد بعض شرائطه ولم یعلم الکفّار بذلک ، ودخلوا أرض

المسلمین ، کانوا آمنین حتّی یردّوهم إلی مأمنهم » (1) .

یرتکز رأی هذا الفقیه الکبیر علی مبدأ الولایة المطلقة للفقیه ، إذ ینوب الفقیه فی عصر الغیبة عن الإمام المعصوم فی أحکام الدین ، ویتولّی مهمّة الجهاد للمحافظة علی بیضة الإسلام وصدّ العدوّ وإخراجه من بلاد المسلمین(2) .

عقد الصلح فی عهد الإمام علیّ علیه السلام

لکنَّ الروایات التی وردت فیها کلمة الصلح تمثّل نوعا من معاهدة مدّتها غیر محدودة(3) .

ویکفینا فی هذا المجال أن نتوفّر علی دراسة دقیقة لعهد مالک الأشتر ، وعندئذٍ نجد أنَّ مقتطفات من هذا المیثاق التاریخی حدّدت السیاسة الخارجیّة للدولة الإسلامیّة وکذلک المبادئ المتعلّقة بقواعد القانون الدولیّ ، وأکّدت علی قضیّة الصلح بوصفها قاعدة قانونیّة

ص:281


1- « کشف الغطاء » کتاب الجهاد ، الفصل الخامس من الباب الرابع ، ص 399 من الطبعة الحجریّة .
2- نفسه ، کتاب الجهاد ، الباب الأوّل ، المبحث الأوّل .
3- « وسائل الشیعة » 19 : 54 ؛ 6 : 368 ؛ 18 : 45 ؛ 12 : 219 ؛ 11 : 116 .

مطلقة فی العلاقات الدولیّة . یقول الإمام علیّ علیه السلامفی جانب من هذا المیثاق :

«

... ولا تدفعنّ صلحا دعاک إلیه عدوّک للّه فیه رضیً ، فإنَّ فی الصلح دعة لجنودک

، وراحة من همومک ، وأمنا لبلادک .

ولکن الحذر کلّ الحذر من عدوّک بعد صلحه ، فإنَّ العدوّ ربّما قارب لیتغفّل ، فخذ بالحزم ، واتّهم فی ذلک حسن الظنّ .

وإن عقدت بینک وبین عدوّ لک عقدةً أو ألبسته منک ذمّةً فحط عهدک بالوفاء وارع ذمّتک بالأمانة ، واجعل نفسک جُنّة دون ما أعطیت ، فإنَّه لیس من فرائض اللّه شیء

الناس أشدّ علیها اجتماعا مع تفرّق أهوائهم وتشتّت آرائهم من تعظیم الوفاء بالعهود . فلا تغدرنّ بذمّتک ، ولا تخیسنّ بعهدک ، ولا تختلنّ عدوّک ، فإنَّه لا یجترئ علی اللّه إلاّ جاهل شقیّ .

وقد جعل اللّه عهده وذمّته أمنا أفضاه بین العباد برحمته ، وحریما یسکنون إلی منعته

، ویستفیضون إلی جواره ، فلا إدغال ولا مدالسة ولا خداع فیه .

ولا تعقد عقدا تجوّز فیه العلل ، ولا تعوّلنّ علی لحن قول بعد التأکید والتوثقة .

ولا یدعونّک ضیق أمر لزمک فیه عهد اللّه إلی طلب انفساخه بغیر الحقّ ، فإنَّ صبرک علی ضیق أمر ترجو انفراجه وفضل عاقبته خیر من غدر تخاف تبعته ، وأن تحیط بک من اللّه فیه طِلبة لا تستقیل فیها دنیاک وآخرتک » (1) .

أراضی الصلح

تحدّث الفقهاء عن الصلح بوصفه عقدا لتبیین الأحکام المتعلّقة بنوع من الأراضی ، أطلقوا علیها :

أراضی الصلح ، وسمّوا النوعین الآخرین من الأراضی : الأراضی المفتوحة عنوة ، وأراضی الموات .

ذکر العلاّمة الحلّیّ نوعین من أراضی الصلح(2) :

ص:282


1- « نهج البلاغة » کتاب رقم 53 .
2- « تذکرة الفقهاء » 1 : 444 - 446 ؛ و « جواهر الکلام » 21 : 174 .

1 - الأراضی التی عقد أهلها صلحا مع المسلمین ، فبقیت فی ملکهم ، علی أن یدفعوا خراجها .

2 - الأراضی التی سلّمت للمسلمین وفقا لعقد الصلح .

یقول صاحب کتاب « جواهر الکلام » : وکلّ أرض فتحت صلحا فهی لأربابها حتّی الموات ، فی قول ، وفی قول آخر إنّه للإمام علیه السلام ، ولعلّه الأقوی إذا لم یکن قد دخل فی عقد الصلح صریحا أو ظاهرا (1) .

عصر الغیبة هو عصر هدنة

إنَّ أحد الأدلّة علی عمومیّة عقد الهدنة والصلح فی عصر غیبة الإمام علیه السلام هو الأحادیث المأثورة فی مجال بیان الظروف الخاصّة لحکومة الإمام المهدیّ علیه السلام العالمیّة . والحدیث الآتی نموذج من هذه الأحادیث :

قال الإمام الباقر علیه السلام بعد أن سئل عن القائم علیه السلام إذا قام بأیّ سیرة یسیر فی الناس ؟ فقال : بسیرة ما سار به رسول اللّه صلی الله علیه و آله حتّی یظهر الإسلام . قیل : وما

کانت سیرة رسول اللّه صلی الله علیه و آله ؟ قال : أبطل ما کان فی الجاهلیّة ، واستقبل الناس بالعدل ، وکذلک القائم إذا قام یبطل ما کان فی الهدنة ممّا کان فی أیدی الناس ، ویستقبل بهم العدل(2) .

10 - دار الهجرة
اشارة

نقل کثیرا فی الجانب السیاسی من السیرة النبویّة أنَّ النبیّ صلی الله علیه و آله کان إذا بعث سریّة قال لأمیرها : إذا لقیت عدوّک فادعهم إلی ثلاث خصال أو خلال فأیّتهنّ ما أجابوک إلیها ، فاقبل منهم وکفّ عنهم ، ادعهم إلی الإسلام ، فإن أجابوک فاقبل منهم وکفّ عنهم ، ثمَّ

ادعهم إلی التحوّل من ( دارهم ) إلی ( دار المهاجرین ) وأعلمهم أ نَّهم إن فعلوا ذلک أنَّ لهم ما للمهاجرین وأنَّ علیهم ما علی المهاجرین ، فإن أبوا واختاروا دارهم فاعلمهم أ نَّهم

یکونون کأعراب المسلمین یجری علیهم حکم اللّه الذی یجری علی المؤمنین ، ولا یکون

ص:283


1- « جواهر الکلام » 21 : 171 .
2- « وسائل الشیعة » کتاب الجهاد ، الباب 25 .

لهم فی الفی ء والغنیمة نصیب إلاّ أن یجاهدوا مع المسلمین(1) .

إنَّ مفهوم هذا الکلام هو أنَّ المسلم یجب أن ینتقل إلی دار الهجرة أو دار المهاجرین ، ویحظر علیه البقاء فی دار الکفر ، إذ یفضی ذلک إلی حرمانه من امتیازات المواطنة فی دار الإسلام .

ویؤکّد القرآن علی هذه المسألة أیضا ویطلب من المستضعفین أن یجدوا سبیلهم للقیام بواجباتهم والتزاماتهم الإسلامیّة عن طریق الهجرة ، وإلاّ فهم مسؤولون ، قال جلّ من

قائل : « اَلَمْ تَکُنْ اَرْضُ اللّه ِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فیهَا » (2) .

وعلی الرغم من أنَّ مؤدّی آیة الهجرة لیس أکثر من أنَّ کلّ شخص لا یستطیع القیام بواجباته والتزاماته العبادیّة والاجتماعیّة وفقا لقوانین الشرع فی ظروف خاصّة معیّنة ، فإنَّ علیه أن یعتق نفسه من ربقة تلک الظروف المکبّلة مهاجرا ، وهذا اللون من الهجرة لا یستدعی الانتقال إلی دار الإسلام ، لأ نَّه من الممکن أن یقوم بمهمّة الهجرة الواردة فی الآیة من خلال الهجرة إلی قسم من دار الکفر حیث تتوفّر الأرضیّة المناسبة للعمل بالالتزامات الإسلامیّة .

بید أنَّ دار الإسلام نفسها هی من مصادیق دار الهجرة ، وقد جاء ذلک فی الآیة ضمنا ، وحیثما کان المسلم ، فإنَّه یستطیع أن یظفر بالإمکانیّات اللازمة للقیام بواجباته

والتزاماته الإسلامیّة وذلک من خلال الهجرة إلی دار الإسلام .

أین دار الهجرة ؟

یفید اصطلاح ( دار المهاجرین ) الوارد فی الحدیث النبویّ أنَّ المدنیة کانت فی عصر النبیّ صلی الله علیه و آله محلاًّ لحیاة المهاجرین واجتماعهم ، بید أنَّ هذا لا یعنی أنَّ دار الهجرة تخصّ المدینة ولا تنطبق علی مدینة أو دولة أُخری . فالظروف الخاصّة للمدینة عند هجرة الرسول إلیها . وتجمّع المسلمین فیها ، وتأسیس أوّل دولة إسلامیّة هناک ، کلّ ذلک أفضی إلی أن تکون

المدینة من المصادیق البارزة لدار الهجرة . فالمتبادر إلی الذهن أنَّ المدینة هی دار

ص: 284


1- « بدایة المجتهد » 1 : 386 .
2- النساء : 97 .

المهاجرین

، یعود إلی أنَّ المدینة کانت آنذاک المأمن الوحید للمسلمین لا غیر ؛ وبکلمة أوضح کانت المصداق الوحید لدار الهجرة .

إنَّ دراسة أدقّ لآیة الهجرة تدلّنا علی أنَّ دار الهجرة عبارة عن المأمن الذی یستطیع فیه المسلم أن یقوم بواجباته والتزاماته الإسلامیّة . ومن هذا المنطلق ، مثلما یمکن أن تکون دار الإسلام مصداقا لدار الهجرة ، فکذلک یمکن أن یشکّل قسم من دار الکفر مصداقا لدار

الهجرة بسبب الظروف الخاصّة السائدة هناک ، فیرغد المسلم بالأمن المنشود المشار إلیه فی الآیة ، فی ذلک القسم من دار الکفر أو دار الحرب .

ولهذا السبب یمکن القول : إنَّ المدینة فی عصر النبیّ صلی الله علیه و آله لم تمثّل المصداق الوحید لدار الهجرة ، وذلک لأنَّ الهجرة التی قام بها جماعة من المسلمین إلی الحبشة بإذن النبیّ

صلی الله علیه و آله جعلت الحبشة من مصادیق دار الهجرة أیضا ، وحتّی أنَّ عددا من المسلمین بقوا فیها بعد

رجوع جمع منهم إلی المدینة ، فلم یعترض النبیّ صلی الله علیه و آله علی ذلک (1) .

وکذلک نری أنَّ عددا من الذین أسلموا من أهل مکّة بعد صلح الحدیبیّة ، کانوا یعیشون فی ظروف إرهابیّة ولم یکونوا قادرین علی حفظ معتقداتهم والعمل بها ، فهؤلاء لو هاجروا إلی المدینة لأُرجعوا إلی قریش وفقا للشروط المطروحة فی عقد الحدیبیّة ، لذلک

اضطرّوا إلی اختیار مأمن یقع فی وسط الطریق بین مکّة والمدینة ، التجأ إلیه أکثر من سبعین مسلما فارّین من مکّة ، وألقوا هناک رحالهم ، فلم یبدر من النبیّ صلی الله علیه و آله أیّ اعتراض أیضا (2) .

ویعتقد فقهاء الشیعة أنَّ الهجرة - بوصفها واجبا - مستمرّة ما دام الکفر قائما . وینبغی أن تکون الهجرة إلی مکان یستطیع فیه المسلم أن یجهر بالشعائر الإسلامیّة ، والقصد من

الجهر هنا هو أنَّ المسلم یستطیع القیام بواجباته وهو رخیّ البال . ویری بعض الفقهاء أنَّ إمکان التظاهر بالأحکام والواجبات الإسلامیّة شرط فی سقوط وجوب الهجرة(3) .

الرجوع من دار الهجرة

یری الإسلام أنَّ الحیاة الکافرة فی أجواء دار الکفر هی حیاة جاهلیّة ، ولذلک أطلق

ص: 285


1- « الطبقات الکبری » 1 : 206 - 207 ؛ « الکامل » لابن الأثیر 2 : 79 .
2- « جواهر الکلام » 21 : 38 .
3- « وسائل الشیعة » 6 : 75 . والحدیث هو : « لا تعرّب بعد الهجرة » .

علی الذین یألفون هذه الحیاة ویتفاعلون معها کلمة ( الأعراب ) .

وکانت هذه الکلمة تطلق فی الأصل علی سکّان البوادی الذین لیس لهم حضارة إنسانیّة ، بید أنَّ القرآن أطلقها علی الذین یواصلون حیاتهم فی الأجواء الکافرة

، ویؤثرون الظلمة علی الحیاة فی ظلّ نور التوحید والإیمان .

وقد توکّأ الحدیث النبویّ المشهور حول حرمة التعرّب بعد الهجرة علی هذا التفسیر القرآنی لکلمة الأعراب ، ویمثل الحدیث حکما سیاسیّا فی مجال اختیار المحلّ المناسب

للمعیشة .

وفی ضوء هذا الحدیث ، فإنَّ المسلم الذی انتقل إلی دار الهجرة ، أی المکان الذی یضمن له أمنه الدینی والاعتقادی ، لا یستطیع أن یعود ثانیة إلی دار الکفر التی لا یجد فیها أمنا ، ولا متنفّسا لدینه . وهذا هو التعرّب ، أی : الرجوع إلی الجاهلیّة .

الهجرة والفتح

ینطلق موضوع الهجرة من المنظار الجغرافی لدار الإسلام . لذلک فمتی تبدّلت دولة بدار الإسلام ، أو اتّخذت طابع الدار من حیث الأمن والقانون الإسلامی ، فإنَّ الهجرة ستنتفی کما جاء فی الحدیث النبویّ : « لا هجرة بعد الفتح » (1) . فأحد البواعث لنفی وجوب الهجرة هو تبدیل دار الحرب بدار الإسلام ، الذی یمکن أن یفرض - من باب المقدّمة - مسؤولیّة علی

المسلمین الذین یعیشون فی البلدان العلمانیّة بشکل مختلط .

11 - دار الاستضعاف
اشارة

تقف دار الاستضعاف فی مقابل دار الهجرة . وتطلق علی البلد الذی لا یجد فیه المسلم الجوّ المناسب للدین والحیاة حول محور العقیدة والإیمان ، فالقیود والضغوط وضروب العنت والأذی التی تمارس من قبل الحکومة أو الشعب تعیقه عن القیام بواجباته والتزاماته ، وممارسة شعائره الإسلامیّة .

إنَّ آیة الهجرة هی الأساس فی تحدید دار الاستضعاف وحکمها

. قال جلّ من قائل :

ص:286


1- « وسائل الشیعة » 6 : 77 .

« اَلَمْ تَکُنْ اَرْضُ اللّه ِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فیهَا » (1) .

وکذلک الحدیث النبویّ فی مجال الدعوة ، الذی یلزم المسلمین الجدد بالهجرة إلی دار المهاجرین ، فإنَّه یمثّل الرؤیة الإسلامیّة فی مجال دار الاستضعاف .

ویعتبر ذمّ التعرّب بعد الهجرة أیضا تصریحا آخر حول حکم دار الاستضعاف .

وهکذا

، فلا یجوز للمسلم أن یعیش فی أجواء لا یستطیع معها أن یحفظ دینه ویعمل بأحکامه ، وکذلک لا یجوز له العودة إلی مثل هذه الأجواء .

ویتیسّر الخروج من دار الاستضعاف علی صورتین :

1 - تغییر الظروف السائدة بشکل تکفل فیه الحرّیّة والأمن اللازم للبقاء علی الإسلام ، وتطهیر الأجواء من الإرهاب ، والقسر ، وممارسة الضغوط ، وعوامل الاستضعاف .

2 - الهجرة من المدینة أو الدولة التی تسودها ظروف الاستضعاف إلی حیث الأمن والحرّیّة .

یقول صاحب کتاب « جواهر الکلام » فی هذا المجال : وتجب المهاجرة عن بلد الشرک علی من یضعف عن إظهار شعار الإسلام ، بلا خلاف أجده فیه بین من تعرّض له . وبذلک أمر النبیّ ، وعلی أساسه کانت هجرة المسلمین من مکّة إلی الحبشة ، وقد استثنی القرآن

فقط تلک الشریحة من المستضعفین الذین لا یستطیعون حیلة(2) .

وکذلک

، عندما یشیر القرآن إلی سعة أرض اللّه ، ویلفت أنظار المؤمنین إلی هذه النقطة(3) حیث حرّیّة العبادة ، فإنَّه یشیر إلی الهجرة .

وفی آیة أُخری أیضا حیث طرحت الهجرة إلی اللّه والاستشهاد فی هذا السبیل(4) ، أو هجرة المظلوم من دیار الظلم(5) ، فإنَّها جمیعا تدلّ علی وجوب الهجرة علی المستضعفین .

ص: 287


1- النساء : 97 .
2- « اِلاَّ الْمُسْتَضْعَفینَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ یَسْتَطیعُونَ حیلَةً وَلاَ یَهْتَدُونَ سَبیلاً * فَاُولئِکَ عَسَی اللّه ُ اَنْ یَعْفُوَ عَنْهُمْ وَکَانَ اللّه ُ عَفُوًّا غَفُورًا » - النساء : 98 - 99 .
3- « یَا عِبَادِیَ الَّذینَ امَنُوآ اِنَّ اَرْضی وَاسِعَةٌ فَاِیَّایَ فَاص عْبُدُونِ » - العنکبوت : 56 .
4- « وَالَّذینَ هَاجَرُوا فی سَبیلِ اللّه ِ ثُمَّ قُتِلُوآ اَوْ مَاتُوا » - الحجّ : 58 .
5- « وَ الَّذینَ هَاجَرُوا فِی اللّه ِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا » - النحل : 41 .

والأحادیث والروایات کثیرة فی هذا المجال أیضا کالحدیث النبویّ الآتی : « من فرّ بدینه من أرض إلی أرض وإن کان شبرا من الأرض استوجب الجنّة وکان رفیق أبیه إبراهیم » (1) .

المواصفات العامّة لدار الاستضعاف

جاءت کلمة الاستضعاف فی المصادر الإسلامیّة ( القرآن والحدیث ) کثیرا . وقد فسّرها أهل الاختصاص بأشکال متنوّعة ، ممّا جعل الموضوع یحتلّ موقعا بین البحوث الجوهریّة فی الفلسفة السیاسیّة فی الإسلام .

ویمکن أن نقسّم دار الاستضعاف إلی أقسام مختلفة وندرسها حسب المواصفات الآتیة :

1 - الدولة التی ولد المسلم علی أراضیها ، وهو غیر متمکّن من القیام بواجباته وإقامة شعائره الإسلامیّة فیها ، ولیس له أیّ عذر من مرض وغیره .

2 - الدولة التی اعتنق الإنسان فیها دین اللّه ، بید أ نَّه قادر علی الجهر بدینه والقیام

بالفرائض والشعائر الإسلامیّة علی أراضیها ، ویتمتّع بقدرة ترفده وتشدّ أزره فی هذا

المجال .

3 - الدولة التی لا یستطیع المسلم أن یهاجر منها بسبب المرض وغیره .

وکما ذکرنا عند حدیثنا عن دار الهجرة ، فإنَّ الهجرة واجبة فی القسم الأوّل ، ومستحبّة فی القسم الثانی ، ولا هی واجبة ولا مستحبّة فی القسم الثالث(2) . ولا ریب أ نّنا لا نستطیع أن نعتبر القسم الثانی فی مصافّ دار الاستضعاف ، أمّا القسم الثالث فلنا أن نعتبره جزءا من دار الاستضعاف فیما إذا أصبح القیام بالفرائض والشعائر الإسلامیّة متعذّرا

فیه .

ولعلّ أوضح صورة للاستضعاف فی القرآن هی الصورة التی ترسمها الآیات التی تتحدّث عن استضعاف بنی إسرائیل من قبل فرعون(3) . ویمکن أن نتوفّر علی دراسة لهذه

ص:288


1- « جواهر الکلام » 21 : 34 ، 35 .
2- نفسه ص 36 .
3- القصص : 5 .

الصورة

. فقد رسمت لنا الاستضعاف بوصفه ظاهرة منبثقة عن الاستکبار وناتجة عن توجّهات المستکبرین المضادّة للتوحید والإنسانیّة . حقّا إنَّها لطبیعة الاستکبار والتوجّهات الاستکباریّة إذ تفرض حالة الاستضعاف علی المظلومین .

وعلی الرغم من أنَّ القرآن ینظر إلی التضادّ القائم بین الاستضعاف والاستکبار علی أ نَّه تضادّ بین الحقّ والباطل ، وأنَّ ثمرة الکفاح والنضال المتواصل بینهما هی انتصار

المستضعفین وإمامتهم ، إلاّ أ نَّه لمّا کان یعتبر وجود الاستضعاف معلما لظاهرة الاستکبار

وتنامیها ، فلا سبیل له إلاّ أن یری أنَّ دار الاستضعاف هی دار الاستکبار نفسها

، وأنَّ دیمومة الأوّل دلیل علی بقاء الثانی ، وأنَّ السبیل الوحید لاجتثاث جذور الاستضعاف هو محق الاستکبار وسحقه .

إنَّ إمامة المستضعفین(1) التی تمثّل ذروة انتصار الاستضعاف علی الاستکبار هی فی الحقیقة إعلان عن مستقبل زاهر یبدأ عند نهایة أجل الاستکبار .

وإذا کان مفهوم الاستضعاف یعنی سلب الإنسان قدرته علی التفکیر والمعرفة السلیمة ، والعیش فی حیاة أفضل ، وبلوغ الوعی والعلم ، ومن ثمَّ سلب طموحه فی بلوغ

ذروة العظمة والسموّ الإنسانی ، فإنَّ طبیعة الاستکبار هی بشکل لا یری الاستکبار فیه

بقاءه واستمراره إلاّ بسلب هذه القدرات ، ولا یفکّر إلاّ بذلک .

وإذا کانت أحوال المستضعفین منبثقة عن طبیعة المستکبرین وطموحهم ، فإنَّ المستضعفین هم فی الحقیقة أداة لاختبار المستکبرین ، ومؤشّر لکشف النقاب عنهم .

وهذا هو مغزی کلام مولی المتّقین علیّ بن أبی طالب علیه السلام إذ قال : « فإنَّ اللّه سبحانه یختبر عباده المستکبرین فی أنفسهم بأولیائه المستضعفین فی أعینهم » (2) . وردّ الفعل الملحوظ لهذا الاختبار الإلهیّ هو أنَّ المستکبرین یصابون بمثل ما أصاب المستضعفین(3) .

ویستبین لنا ممّا تقدّم أنَّ السمة العامّة لدار الاستضعاف هی أنَّ الناس فیها محرومون من حرّیّة التعبیر عن الرأی ، ومن الحیاة الحرّة الکریمة ، ولیس لهم القیام بالفرائض

والآداب التی ینشدّون إلیها بحکم عقیدتهم وثقافتهم . وینهض المستکبرون لمعارضتهم

ص:289


1- القصص : 5 .
2- « نهج البلاغة » الخطبة 192 .
3- نفسه . « فاعتبروا بما أصاب الأُمم المستکبرین وکانوا قوما مستضعفین قد اختبرهم اللّه بالمخمصة » .

لأ نَّهم یرون فی حرّیّة الجماهیر الشعبیّة خطرا کبیرا علی سلطتهم ومصالحهم ، وینبرون إلی إیذائهم وقضّ مضاجعهم موصدین بوجوههم سبل الحرّیّة وإحقاق الحقوق(1) .

إنَّ کلّ لون من ألوان ممارسة الضغط علی الجماهیر الشعبیّة والاصطدام بها ، وهو ما ینبثق عن التوجّه الاستکباری ، معلم للاستضعاف ودلیل علی وجود حالة الاستکبار فی المجتمع .

الاستضعاف والاستکبار متلازمان ، یولدان معا ، ویفنیان معا .

من هذا المنطلق فإنَّ القرآن - علی عکس ما یتصوّر البعض - لم یمدح الاستضعاف قطّ ، ولم یمدح المستضعف لاستضعافه ، بل ذمّ أُولئک الذین لم یسعوا إلی التخلّص من

الاستضعاف وهو ما یمثّل فی الحقیقة محاولة باتّجاه محق الاستکبار واکتساحه(2) .

وعلی الرغم من أنَّ للاستکبار معالم وأصداء ومواصفات کثیرة . وکلّ معلم من معالم الاستضعاف ولید صفة أو أکثر من صفات الاستکبار ، إلاّ أنَّ أهمّ صفة تغطّی علی صفاته

الأُخری هی حبّ الاستعلاء والتفوّق والغطرسة ، وإضفاء صفة الأصالة علی نفسه .

وکان علیّ علیه السلام یؤکّد کثیرا (3) علی أنَّ من ظنّ أنَّ شراک نعله أجود من شراک نعل الآخرین ، فهو ممّن یشمله قوله تعالی : « تِلْکَ الدَّارُ الاْخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذینَ لاَ یُریدُونَ عُلُوًّا فِی الاَْرْضِ وَلاَ فَسَادًا » (4) . وکان النبیّ الأعظم صلی الله علیه و آله لظروف اقتصادیّة خاصّة عاشها فی عصره یخصف نعله بیده ، ویرقّع ثوبه بیده بغیة اقتلاع جذور

هذا التوجّه الاستکباری(5) .

12 - دار البغی
اشارة

البغی فی اللغة : الظلم ، والعدوان ، والعصیان . وفی اصطلاح الفقه السیاسی هو

ص: 290


1- « جواهر الکلام » 21 : 38 .
2- « وَمَا لَکُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فی سَبیلِ اللّه ِ وَالْمُسْتَضْعَفینَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ وَالْوِلْدَانِ » - النساء : 75 .
3- عن علیّ علیه السلام ، قال : « الرجل لیعجبه شراک نعله ، فیدخل فی هذه الآیة » . وفی روایة « إنَّ الرجل لیعجبه أن یکون شراک نعله أجود من شراک نعل صاحبه فیدخل تحتها » - ( « تفسیر الصافی » 4 : 106 ) .
4- القصص : 83 .
5- «نهج البلاغة » الخطبة 160 .

معارضة الحکومة الإسلامیّة . ویطلق الباغی علی المسلم الذی یعارض الحکومة الإسلامیّة ، ویتمرّد علیها ، وینهض ضدّ الإمام .

من هذا المنطلق ، تطلق دار البغی علی الدولة التی یتمرّد شعبها علی الحکومة الإسلامیّة ، ویعرّض سیادة الإمام للخطر ، علی الرغم ممّا یحمله ذلک الشعب من عقیدة

إسلامیّة .

ذکر الفقهاء أربعة شروط لصدق عنوان البغی والباغی(1) :

1 - أن یکونوا فی کثرة ومنعة لا یمکن کفّهم وتفریق جمعهم إلاّ باتّفاق وتجهیز جیوش وقتال . وبعبارة أُخری ، یتمتّعون بتنظیم متماسک وتجمّع موحّد .

2 - أن یخرجوا عن قبضة الإمام منفردین عنه فی بلد أو بادیة .

3 - أن یکونوا علی المباینة والمخالفة ، والخروج علی الإمام .

4 - أن لا یکون خروجهم لأغراض مادّیّة ودنیویّة . وأن تقع لهم شبهة تقتضی الخروج علی الإمام .

وبکلمة بدیلة ، فإنَّ الباغی هو من أراد الحقّ فأخطأ طریقه ولم یصل إلی مراده ، ممّا دفعه إلی الخروج علی الإمام .

ولا یمکن أن نعتبر التعاریف والشروط الواردة لدار البغی من المسائل المتّفق علیها بین الفقهاء ، لأنَّ بعض الفقهاء مثل صاحب کتاب « جواهر الکلام » قد تردّد فی بعض القیود والشروط ، وأجاز الجدال فیها (2) .

الخروج علی أیّ حکومة إسلامیّة
اشارة

علی الرغم من الاختلاف الموجود بین فقهاء السنّة فی تحدید الحکومة الإسلامیّة المؤهّلة وضوابطها (3) ، إلاّ أ نَّهم یتّفقون علی بغی کلّ من خرج علی الحکومة الإسلامیّة

ص: 291


1- « تذکرة الفقهاء » 1 : 454 .
2- « جواهر الکلام » 21 : 231 إلی 334 ؛ وسنحدّد حالات البغی فی بحوثنا القادمة .
3- تتحقّق الإمامة والخلافة والحکومة الإسلامیّة من منظار علماء السنّة بالنصّ ( التعیین من قبل النبیّ صلی الله علیه و آله ) أو البیعة ( الانتخاب ) أو استیلاء شخص مؤهّل لزعامة المسلمین علی السلطة . راجع الجزء الثانی من کتابنا هذا : « الفقه السیاسی » المبحث الخاصّ بشروط الحاکم ؛ وکذلک راجع : « فتح القدیر » 4 : 408 و 409 ؛ و « المغنی » 8 : 106 .

المؤهّلة التی تنتهج سبیل العدل .

وقد تحدّث فقهاء الشیعة عن موضوع البغاة ، وحام حدیثهم حول محور الحکومة العادلة للإمام المعصوم ، والتعمیم الوحید الملحوظ فی هذا المجال هو استعمال کلمة « نائبه » أو « من نصبه » التی ذکرها بعض الفقهاء بعد کلمة « الإمام » (1) ، واستعمل بعض الفقهاء کلمة « العادل » بدیلة عن کلمة « الإمام » (2) . وبناءً علی شرعیّة النیابة فی عصر غیبة الإمام المعصوم علیه السلام وتخویل الإمام المعصوم علیه السلامالصلاحیات الحکومیّة للفقیه العادل ، فلا شکّ أن الحکومة الإسلامیّة فی إطار حکومة الفقیه الجامع للشرائط ستتمتّع بصلاحیّة

تماثل صلاحیّة الحکومة المأذونة والمنصوبة من قبل الإمام المعصوم علیه السلام .

إنَّ ما تتطلّبه شرعیّة الحکومة المتّکئة علی ولایة الفقیه هو وجوب طاعتها علی الأُمّة جمیعها ، وعدم قانونیّة التمرّد علیها . وکما أنَّ الخروج علی الإمام المعصوم علیه السلام یستلزم العقوبة والقمع ، فکذلک الخروج علی الحکومة الإسلامیّة ذات النیابة العامّة . وهذا

الاستنتاج ممکن لا عن طریق القیاس ، بل عن طریق تنقیح المناط أو تعمیم مفهوم الإمام

بواسطة أدلّة ولایة الفقیه .

والآن

، بالنظر إلی خاصیّة البغاة ، ینبغی أن نقوم بدراسة لجماعات یمکن أن یحوم النقاش حول بغیهم بناءً علی تعریف الباغی .

1 - المنافقون ( المتآمرون )

وهم الذین أوجدوا تیّارا منحرفا فی المجتمع الإسلامی من وحی العناد وسوء النیّة ، ومهّدوا الأرضیّة للتمرّد بصورة تدریجیّة مریبة وخفیّة ، متظاهرین بمماشاة الحکومة الإسلامیّة من خلال الالتزام ببعض المظاهر الإسلامیّة بغیة التستّر علی نوایاهم ومقاصدهم ؛ کما نشاهد ذلک فی حادثة مسجد ضرار إذ تعامل النبیّ صلی الله علیه و آله مع هذه الحادثة

بحزم وصرامة ، حتّی أ نَّه أمر بهدم المسجد وتدمیره محبطا بذلک تلک المؤامرة الخفیّة لبُناته .

ص: 292


1- « تذکرة الفقهاء » 1 : 456 - 457 ؛ « جواهر الکلام » 2 : 324 .
2- نفسه .

ویمکننا أن نقف علی أُسلوب التعامل مع هذا اللون من التیّارات السیاسیّة المنافقة من خلال الآیات القرآنیّة العدیدة النازلة فی هذا المجال ، لا سیّما فی سورة البقرة ، وسورة

( المنافقون ) ، وعلی الرغم من أنَّ الحکومة الإسلامیّة تتعامل مع هذه الفئة بشدّة وصرامة إلاّ أ نَّها - من منظار فقهی - لا تعتبر من البغاة .

2 - المفسدون ( المشاغبون )

وهم الذین عصوا الإمام وتمرّدوا علیه وحرّضوا الناس علی الطغیان والتمرّد والعصیان عنادا منهم ، ورغبة فی تحقیق أهداف مادّیّة یبغونها ، وحبّا للسلطة والتحکّم .

إنَّ تمرّد هذه الفئة هو من مصادیق ( الفساد فی الأرض ) إذا کان تمرّدا غیر مسلّح ، وتعامل الحکومة الإسلامیّة مع مسبّبیه یتمّ علی أساس حکم المفسدین . ولا یقال لهذه

الفئة : بغاة أیضا .

3 - المبطلون ( المشاکسون الضالّون )

وهم الذین لم یبحثوا عن الحقّ ، وقد انتهجوا سیاسة معیّنة فی معارضة الحکومة الإسلامیّة استجابة لأهواء غیر منطقیّة ، ونیلاً لأهداف مادّیّة ودنیویّة ، ودفعوا الناس إلی التمرّد والخروج من خلال دعایاتهم السامّة المضلِّلة . ویری بعض الفقهاء أنَّ هؤلاء لیسوا من البغاة ، وقد ذکروهم تحت عنوان ( المبطلون ) (1) . ویری فقهاء آخرون کصاحب « جواهر الکلام » أ نَّهم من البغاة(2) ، وذلک لأنَّ القاسطین ( أهل الشام ) ، والناکثین ( طلحة والزبیر ومن معهما ) قاتلوا علیّا علیه السلام متمرّدین علیه ، ولم یکن تمرّدهم علی الإمام خطأً فی الاجتهاد ، وما جاء فی الحدیث النبویّ حول مقتل عمّار بن یاسر علی ید القاسطین : « تقتلک الفئة الباغیة »(3) ، وکذلک ما جاء فی حدیث آخر عندما سأل علیّ علیه السلام

رسول اللّه صلی الله علیه و آلهعن القوم الذین یجب قتالهم ، فقال : « وهم مخالفون لسنّتی وطاعنون فی

ص: 293


1- « تذکرة الفقهاء » 1 : 454 .
2- « جواهر الکلام » 21 : 326 ؛ و « دعائم الإسلام » 1 : 392 .
3- نفس المصدرین السابقین .

دینی

»(1) ، دلیل علی استعمال کلمة البغی فی هؤلاء . وکلمة « الفئة » فی الحدیثین إشارة إلی الآیة المتعلّقة بالفئة الباغیة(2) .

4 - حرکة مسلّحة

متی قام المبطلون ( المشاکسون الضالّون ) أو المفسدون ( المشاغبون ) أو المنافقون ( المتآمرون ) بحرکة مسلّحة ضدّ الحکومة الإسلامیّة والإمام ، سواء بصورة فردیّة أو

جماعیّة ، فإنَّهم محاربون ، ویحکم علیهم بالإعدام وفقا للتعلیم القرآنی الصریح(3) . ویری بعض الفقهاء من السنّة أنَّ من قام بعمل مسلّح ضدّ الحکومة الإسلامیّة فهو باغ حتّی لو کان عمله بصورة انفرادیّة . وقد أیّد بعض فقهاء الشیعة هذا الرأی ، مثل : العلاّمة الحلّیّ فی کتاب « المنتهی » و « التذکرة » (4) . بینما نجد أنَّ کلمة ( طائفة ) الواردة فی الآیة التاسعة من سورة الحجرات ، وکلمة ( الفئة ) الواردة فی الروایات لا تنطبقان علی الفرد ، ولا علی التجمّع الذی یفتقد التماسک والانسجام والتنظیم .

5 - المعارضون من دعاة الإصلاح

لا یخلو نظام - عادة - من المعارضین ودعاة الإصلاح الذین یستهدون بالتجارب الملموسة والدراسات النظریّة فیوجّهون انتقاداتهم لبعض الأعمال التی تقوم بها الحکومة ، ویقترحون علیها مشاریع وآراء إصلاحیّة . فإذا اتّخذ هؤلاء طابعا حرکیّا ضدّ الإمام والحکومة الإسلامیّة ،أو وقفوا من خطط الحکومة أو من عمل العاملین فیها أو من تشکیلتها موقف المعارض ، وطرحوا اقتراحاتهم الإصلاحیّة بدون إثارة الاضطرابات والتحرّک ضدّ الإمام مطالبین بإجراء تغییرات فی خطط الحکومة الإسلامیّة ، وأعمالها

وبرامجها ، أو فی تشکیلتها ، فهؤلاء لا یعتبرون فی عداد البغاة ، وعلی الحکومة الإسلامیّة

ص:294


1- « جواهر الکلام » 21 : 326 ؛ و « دعائم الإسلام » 1 : 392 .
2- « وَ اِنْ طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنینَ اقْتَتَلُوا فَاَصْلِحُوا بَیْنَهُمَا فَاِنْ بَغَتْ اِحْدیهُمَا عَلَی الاُْخْری فَقَاتِلُوا الَّتی تَبْغی » - الحجرات : 9 .
3- « اِنَّمَا جَزَآؤُا الَّذینَ یُحَارِبُونَ اللّه َ وَرَسُولَهُ وَیَسْعَوْنَ فِی الاَْرْضِ فَسَادًا اَنْ یُقَتَّلُوآ » - المائدة : 33 .
4- « جواهر الکلام » 21 : 326 .

أن تستمع - بکلّ صبر وأناة - إلی آراء واقتراحات هؤلاء الذین یتصرّفون بنزاهة ویستهدفون « النصیحة لأئمّة المسلمین » ، ولا تضنّ باستشارتهم ، وتنبّههم علی أخطائهم بصورة منطقیّة وموضوعیّة ، وتتفادی کلّ لون من ألوان العنف ما دام هناک حلّ منطقی لمشکلة معارضتهم ، وتکون أُذن خیر(1) ، وتتّبع الأُسلوب المتمثّل ب- « أُذن واعیة »(2) استهداءً بالسیرة السیاسیّة للرسول الأعظم صلی الله علیه و آله .

ویمکن أن نعثر علی نماذج من هذه الحالة فی حیاة النبیّ صلی الله علیه و آله وعلیّ علیه السلام إذ کانت الاستشارات والآراء الإصلاحیّة لذوی الرأی المخلصین مؤثّرة فی قرارات الحکومة الإسلامیّة(3) .

ولا تستطیع الحکومة الإسلامیّة أن تحرم هؤلاء من حقوقهم الشرعیّة حتّی مع علمها بخطئهم ، وثبوت سقم توجّههم واجتهادهم « فلیس من طلب الحقّ فأخطأه کمن طلب الباطل فأدرکه » (4) .

لقد کان الخوارج هکذا فی بدایة تحرّکهم . وقد جاراهم الإمام علیّ علیه السلام وسالمهم ، وبذل جهوده لهدایتهم وإرشادهم من خلال سلوکه المنطقی الإنسانی ، ووعدهم بأن یمتّعهم

بالحقوق التی تقع علی عاتق الحکومة الإسلامیّة للأُمّة(5) ؛ وقد رفض القرآن الإکراه والقسر

والعنف فی مثل هذه الحالات(6) .

6 - أصحاب البدع والفتن

وهم الذین ضلّوا السبیل بسبب سوء الفهم فی الاستنتاج من المصادر الخاصّة بمعرفة الدین ، فأبدعوا مذهبا جدیدا ، وأثاروا فی المجتمع الإسلامی فتنة من خلال دعوة الناس

ص: 295


1- « قُلْ اُذُنُ خَیْرٍ لَکُمْ » - التوبة : 61 .
2- « وَ تَعِیَهَآ اُذُنٌ وَاعِیَةٌ » - الحاقّة : 12 .
3- « أساس الحکومة الإسلامیّة » للسیّد کاظم الحائری ، ص 102 فما بعدها .
4- « نهج البلاغة » الخطبة 60 .
5- سنتحدّث عن ذلک فی الموضوع القادم .
6- فی آیات منه ، مثل قوله : « لاَ اِکْرَاهَ فِی الدّینِ » - البقرة : 256 ؛ وقوله : « وَ مَآ اَ نْتَ عَلَیْهِمْ بِجَبَّارٍ » - ق : 45 ؛ وقوله : « لَسْتَ عَلَیْهِمْ بِمُصَیْطِرٍ » - الغاشیة : 22 ؛ وقوله : « مَآ اَ نْتَ عَلَیْهِمْ بِوَکیلٍ » - الأنعام : 107 .

إلی مذهبهم وإضلالهم ، بید أ نَّهم متمسّکون بقوانین الحکومة الإسلامیّة ، ولا یدعون الناس إلی الخروج علی الإمام . ومع هذا الافتراض ، فإنَّ عنوان الباغی لا یصدق علیهم .

إنَّ هؤلاء الذین یطلق علیهم عنوان المبتدع ، إذا لم یفسدوا(1) ، فإنَّ أمام الحکومة الإسلامیّة طریقین لمواجهتهم :

الأوّل : عن طریق المنطق والاستدلال والإرشاد والتوجیه والنقاش والإجابة علی شبهاتهم وأخطائهم المستمرّة ؛ الثانی : بالأُسلوب السیاسی وکشف هویّتهم بغیة محو الآثار السلبیّة لدعوتهم بین الناس . وإذا ما أخفقت المواجهة بالأُسلوب الثقافی والسیاسی

، فإنَّها تتعامل معهم فی ضوء المراتب المتسلسلة المقرّرة فی الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر . کما نجد ذلک فی قضیّة الخوارج عندما علا کعبهم ، وانتقلوا من مرحلة الانتقاد إلی مرحلة إطلاق الشعارات وتحریض الناس ، فإنَّ علیّا علیه السلام اکتفی بالجواب المنطقی وسیاسة کشف الهویّة .

وعندما کان مشغولاً فی إلقاء إحدی خطبه ، زعق أحدهم : لا حکم إلاّ للّه لا لک یا علیّ ، فأجابه الإمام بهدوء : کلمة حقّ یراد بها باطل(2) .

ثمَّ أضاف قائلاً : لکم علینا ثلاث : لا نمنعکم مساجد اللّه أن تذکروا اسم اللّه فیها ، ولا نمنعکم الفیء ما دامت أیدیکم معنا ، ولا نبدأکم بقتال(3) .

وبعد اعتراضهم علی الإمام ، اعتزلوا الحکومة وامتنعوا من التعاون معه ، واجتمعوا فی مکان یعرف بالنهروان ، ولم یتعرّض لهم الإمام . بل ولّی علیهم عاملاً أقاموا علی طاعته زمانا ، وهو لهم موادع ، إلی أن قتلوه . وکان ردّ فعل الإمام لیّنا ، وأنفذ إلیهم أن سلّموا إلیّ قاتله فأبوا وقالوا : کلّنا قتله(4) .

ص: 296


1- جاء فی روایة عن الإمام الحسن العسکری علیه السلام فی فارس بن حاتم الذی کان یضلّ الناس : فمن هذا الذی یریحنی منه ویقتله وأنا ضامن له علی اللّه الجنّة ؟ ( « وسائل الشیعة » 6 : 95 ) .
2- « نهج البلاغة » الخطبة 40 .
3- المصدر السابق . « تذکرة الفقهاء » 1 : 554 . « جواهر الکلام » 21 : 332 . « الأحکام السلطانیّة » ، القاضی أبو لیلی 54 .
4- المصادر السابقة نفسها .
7 - المتمرّدون غیر المنظّمین

فرد أو جماعة یفتقدون التنظیم والمرکزیّة ، یتمرّدون ویخرجون علی الإمام لسبب من الأسباب ، أو أنَّ نجمهم یأفل بعد مسلسل من العملیات المنظّمة أمام ردّ الفعل الذی تتّخذه الحکومة الإسلامیّة ، ویتجنّبون القیام بنشاطات منظّمة . فهؤلاء غیر محکومین بالبغی

وأحکامه حتّی لو لم یکونوا فی وئام مع الإمام ، أو کانوا معارضین للحکومة الإسلامیّة .

إنَّ هؤلاء الأفراد والجماعات حتّی لو لم تراودهم فکرة المعارضة للحکومة الإسلامیّة والتمرّد علیها ولکنّهم یفتقدون التنظیم والمرکزیّة ، فإنَّهم فی مأمن من التحرّشات العسکریّة للحکومة الإسلامیّة .

یقول صاحب کتاب جواهر الکلام فی هذا المجال :

إن کانوا نفرا یسیرا ، وکیدهم ضعیف ، لم یجر علیهم حکم أهل البغی . وهو المحکیّ عن الشافعیّ ، مستدلّین علیه بأنَّ ابن ملجم لمّا جرح علیّا علیه السلام أوصی بالإحسان إلیه(1) .

وجاء فی الحدیث أنَّ علیّا علیه السلام أصدر أوامره بعد مقتل قادة الناکثین بترک من وضع سلاحه ورجع إلی بیته إذا لم تکن له فئة یرجع إلیها ، فتؤخذ أسلحته ما زال لا ینوی إعداد

العدّة للقتال ثانیة(2) .

وأُثر عن علیّ علیه السلام حدیث آخر فی أهل البصرة قال فیه : « من أغلق بابه فهو آمن(3) » ؛ وقال : « أسیر فی أهل البصرة کسیرة رسول اللّه فی أهل مکّة » (4) .

مواصفات البغاة

یطلق عنوان البغاة علی جماعة منظّمة تنطلق من فکر منحرف ، وتتمرّد علی الإمام ( الحکومة الإسلامیّة ) وتدعو الناس إلی الخروج علی الإمام ، وتعرّض سیادة الحکومة

الإسلامیّة للخطر ، وتخلق فی المجتمع الإسلامی تیّارا مناهضا لها من خلال خطّة معیّنة

تنتهج سیاسة الإطاحة بالحکومة .

ص: 297


1- « جواهر الکلام » 2 : 332 .
2- « وسائل الشیعة» ، کتاب الجهاد ج 6 ، الباب 24 ، ص 54 .
3- نفسه .
4- « مستدرک الوسائل » ، کتاب الجهاد ، الباب 22 ، ص 251 .

ولهذا الاصطلاح السیاسی فی الإسلام جذور قرآنیّة وروائیّة ، وعندما یقع نزاع بین طائفتین من المؤمنین ، فإنَّ القرآن الکریم یدعو بقیّة الأُمّة الإسلامیّة إلی الإصلاح وإقرار السلم العادل بین الطائفتین المتنازعتین ، وعند تعدّی إحداهما ، فإنَّه یسمّیها : باغیة ، قال تعالی : « وَ اِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنینَ اقْتَتَلُوا فَاَصْلِحُوا بَیْنَهُمَا فَاِنْ بَغَتْ اِحْدیهُمَا عَلَی الاُْخْری فَقَاتِلُوا الَّتی تَبْغی » (1) .

وجاء فی الحدیث النبوی أنَّ عمّارا تقتله الفئة الباغیة ( یا عمّار تقتلک الفئة الباغیة ) (2) ، وأُثرت روایات متعدّدة عن الأئمّة المعصومین علیهم السلام فی هذا المجال تحت عنوان الفئة الباغیة(3) .

وفی ضوء ما تقدّم یمکن أن نعتبر الحالات التالیة من مصادیق الباغی :

1 - الأحزاب والتجمّعات التی تعصی الإمام فی دار الإسلام وتتمرّد علیه وتری أنَّ طاعته منوطة بإحداث التبدّلات والإصلاحات التی تعنیهم .

2 - الأحزاب والتجمّعات التی تنوی الإطاحة بالحکومة الإسلامیّة من خلال تحریض الناس علی التمرّد والخروج علی الإمام ، وتثیر البلبلة بین الناس وهی تقصد خرق

السیادة الإسلامیّة ، دون أن تکون لها خطّة لتسلّم السلطة(4) .

3 - الأحزاب والمنظّمات التی تتمرّد وتحرّض الناس علی التمرّد بغیة تقسیم جزء من دار الإسلام وفصله عن سیادة الإمام . وتتطاول بانتهاک مرکزیّة الحکومة الإسلامیّة من

خلال معارضة الإمام والتمرّد علیه وتطالب بسیاسة کسیاسة ملوک الطوائف أو تنادی بتشکیل حکومة جدیدة فی قسم من دار الإسلام وتواکب أهدافها عن طریق إضعاف الحکومة الإسلامیّة وبثّ التفرقة وإشاعة روح التشاؤم ، ومن ثمّ مصادرة السیادة فی دائرة

النفوذ المعنیّة .

4 - الجماعة ذات الطابع التنظیمی التی تروم تحریض الناس علی الإمام علی شکل تحرّک خفیّ من خلال ممارسة الضغط السیاسی والإعلامی ، وحبک المؤامرات من خارج دار الإسلام ، والتغلغل فی الداخل وتخترق بذلک سیادة الدولة الإسلامیّة وتسقط

ص: 298


1- الحجرات : 9 .
2- « جواهر الکلام » 21 : 327 .
3- نفسه ص 329 .
4- نفسه ، ص 334 ( لم ینصّب أهل البصرة والناکثون إماما لهم فی معرکة الجمل ) .

حکومتها

.

5 - الأحزاب والمنظّمات التی ترید أن تتابع أحد الأهداف المذکورة عبر استخدام القوّة من خارج الدولة الإسلامیّة أو من داخلها ، وتمارس الکفاح المسلّح ضدّ الإمام .

6 - الجماعة التی تصطدم مع جماعة أُخری ، وبعد اصطدامها بها وإقرار السلم العادل بینهما من قبل جماعة ثالثة ، تعتدی علی الجماعة المنافسة لها مرّة أُخری .

مواجهة البغاة

ینبغی للدولة الإسلامیّة أن تتعامل مع البغاة بدقّة مستهدیة بالحلول الثقافیّة والسیاسیّة ، وتجدّ فی علاج مشاکلهم الاعتقادیّة والفقهیّة والاجتماعیّة عبر النقاش

والتفاوض ، وتطلب منهم اتّباع الإمام وحکومته بطرق سلمیّة ، وتناشدهم أن یراعوا وحدة المجتمع الإسلامی ویتصرّفوا وفقا لما یتطلّبه منطق الأُخوّة الإسلامیّة والإنصاف والعدل .

ومتی طلب المتمرّدون مهلة ، فإنّهم یمهلون . ومن الضروری للدولة الإسلامیّة فی غضون ذلک أن تطّلع علی حقیقة الأمر ، وتتعرّف علی نوایاهم برقابة تامّة . فإذا ما

لاحظت جنوحا منهم للطاعة ، فإنّها تمهلهم مهلة کافیة ؛ ومتی احتاجوا إلی الفحص والتنقیب ، فلا تضنّ بمدّ ید العون إلیهم . وإذا ما أضمروا سوءا ، واستغلّوا ذلک لاستعادة قواهم وإمکانیّاتهم ، فعلیها أن تضیّق الخناق علیهم ولا تتیح لهم مثل هذه الفرصة(1) . وکذلک إذا کان الخطر بمستوی لا یمکن معه استخدام الأسالیب السلمیّة(2) .

أرسل الإمام علیّ علیه السلام إلی الخوارج ، قبل قمعه لهم

، شخصیّة کبیرة کابن عبّاس للتفاوض معهم وحلّ مشاکلهم والإجابة علی مسائلهم ، بید أ نّه لم یفلح علی الرغم من کلّ الجهود التی بذلها معهم .

ویستطیع إمام المسلمین أیضا أن یتعامل مع المتمرّدین بوصفهم من « المؤلّفة قلوبهم » (3) وذلک بعد عجز الطرق السلمیّة والیأس من الحلّ الثقافی والسیاسی . وله أن

ص: 299


1- « تذکرة الفقهاء » 1 : 456 .
2- نفسه ص 454 .
3- جاء ذکرهم فی الآیة 60 من سورة التوبة ، وهم أحد الذین تصرف علیهم الزکاة .

یفعل ذلک عن طریق المساعدات المادّیّة والاقتصادیّة قاصدا تطبیع الظروف وإخماد نار الفتنة مستثمرا بیت المال ( الزکاة ) فی هذا الطریق .

وإذا افترضنا إخفاق جمیع هذه الحلول ، فإنَّ الإمام عندما یقرّر معاقبة المتمرّدین وقمعهم ، یجب علی کافّة شرائح الأُمّة تلبیة ندائه . وتعتبر معصیته من الکبائر

. وتجب المشارکة فی هذا الأمر وجوبا عینیّا علی الذین یخصّهم خطاب الإمام .

یقول العلاّمة الحلّی فی تذکرة الفقهاء :

کلّ من خرج علی إمام عادل ثبتت إمامته بالنصّ عندنا ( الشیعة ) ، والاختیار عند العامّة ، وجب قتاله إجماعا (1) .

إنَّ قتال البغاة کالجهاد مع المشرکین ، وفی ضوء الآیة التاسعة من سورة الحجرات ، یجب مصابرتهم حتّی یفیئوا إلی أمر اللّه ویرضوا بحکمه ویدخلوا فی طاعة الإمام(2) .

ولا یقبل منهم إذا طلبوا الهدنة(3) . ویعاقبوا علی ما قاموا به من جرائم عند نشوب الفتنة ، وذلک بعد إخماد نارها وفقا للقوانین الإسلامیّة(4) .

یتّکئ بعض الفقهاء کابن الجنید علی سیرة الإمام علیّ علیه السلام مع القاسطین والمارقین والناکثین إذ لم یبدأهم بقتال قبل أن یبدأوه . ویقول هؤلاء الفقهاء : لا یستحسن أن یبدأ المسلمون أهل البغی بحرب ، کما قال علیّ علیه السلام : لا تقاتلوا القوم حتّی یبدأوکم فإنَّکم بحمد اللّه علی حجّة . وترککم إیّاهم حتّی یبدأوکم حجّة أُخری(5) .

13 - دار الردّة

إنَّ تبلور دار الردّة فی الحقیقة هو بمفهوم تبدیل دار الإسلام بدار حرب جدیدة ، لأنَّ ارتداد المسلمین القاطنین فی دار الحرب لا یحدث أثرا وحکما جدیدا ؛ فما یفضی إلی بروز ظاهرة حقوقیّة وسیاسیّة جدیدة هو ارتداد جمع من القاطنین فی قسم من دار الإسلام أو

ص:300


1- « تذکرة الفقهاء » 1 : 454 .
2- نفسه ص 455 ؛ « جواهر الکلام » 21 : 326 .
3- نفسه ص 456 .
4- نفسه ص 457 .
5- نفسه ص 457 .

تجمّعهم فی قسم من دار الحیاد أو دار العهد ممّا یتطلّب حالة جدیدة .

إنَّ الارتداد عبارة عن حالة اعتقادیّة جدیدة وتبدّل عقیدی یقع للمسلم بإنکاره أحد أُصول الإسلام الثلاثة ( التوحید ، النبوّة ، المعاد ) أو نفی أصل من الأُصول الضروریّة للدین الذی یفضی إنکاره آخر الأمر إلی إنکار الأُصول الثلاثة(1) .

یعتبر الارتداد جریمة من منظار الإسلام ، لأ نّه یمثّل خرقا لعقد الالتزام أمام اللّه وسحقا للفطرة الإنسانیّة ، فتترتّب علیه عقوبة خاصّة فی قانون العقوبات الإسلامی

.

یقسّم الفقهاء المرتدّ إلی مرتدّ ملّی ، ومرتدّ فطری(2) .

المرتدّ الملّی هو الذی یولد من أبوین غیر مسلمین ، وکانت تابعیّته غیر إسلامیّة عند بلوغه ، ثمَّ أسلم ، وارتدّ بعد إسلامه .

والمرتدّ الفطری هو الذی یولد من أب مسلم أو من أُمّ مسلمة وکانت تابعیّته فطریّة إسلامیّة عند بلوغه ، ثمَّ ارتدّ بعدها (3) .

یقول الماوردی فی الأحکام السلطانیّة(4) : ولدار الردّة أحکام تفارق بها دار الإسلام ودار الحرب .

فأمّا ما تفارق به دار الحرب فمن أربعة أوجه :

1 - لا یجوز أن یهادنوا ( المرتدّون ) علی الموادعة فی دیارهم ، ویجوز أن یهادن أهل الحرب .

2 - لا یجوز أن یصالحوا علی مال یقرّون به علی ردّتهم ، ویجوز أن یصالح أهل الحرب .

3 - لا یجوز استرقاقهم ولا سبی نسائهم .

4 - لا یملک الغانمون أموالهم .

وأمّا ما تفارق به دار الإسلام فمن أربعة أوجه :

1 - وجوب قتالهم .

ص: 301


1- « تذکرة الفقهاء » 1 : 457 ؛ « جواهر الکلام » 21 : 343 .
2- « کشف الغطاء » کتاب الجهاد ، المبحث العاشر من الباب الأوّل ( طبعة حجریّة بدون ترقیم ) .
3- « الأحکام السلطانیّة » لعلیّ بن محمّد البغدادی الماوردی ، ص 57 .
4- نفسه .

2 - إباحة إمائهم .

3 - تصیر أموالهم فیئا لکافّة المسلمین .

4 - بطلان مناکحتهم بمضی العدّة .

ویقول القاضی أبو لیلی فی الأحکام السلطانیّة(1) : فإن انحازوا ( المرتدّون ) فی دار ینفردون بها عن المسلمین حتّی صاروا فیها ممتنعین ، فإنَّهم یقاتلون قتال أهل الحرب .

ویری الفقهاء أنَّ العلاقة بین دار الإسلام ودار الردّة علاقة عدائیّة ، وبناءً علی عدم

الاعتراف الرسمی بدار الردّة من قبل دار الإسلام فإنَّ الفقهاء أناطوا بالحکومة الإسلامیّة

مهمّة مواجهتها عند الاستطاعة وتوفّر الإمکانیّات ومؤاتاة الظروف .

وإذا تجمّع أهل الردّة فی دار العهد أو دار الحیاد ، وکانت لهم تنظیمات معادیة ، فإنَّ هذا

العمل السیاسی یمکن أن یعتبر نوعا من نقض العهد من قبل دار العهد ، وکذلک یعتبر نقضا

لشروط الحیاد بالنسبة إلی دار الحیاد .

إنَّ إرجاع أهل الردّة إلی الإسلام أو معاقبتهم مهمّة من المهمّات التی لابدّ للدولة الإسلامیّة أن تسوّی مشاکلها فی علاقاتها بدار الحرب علی نحو عامّ ، ودار العهد علی نحو خاصّ .

وهذه المسألة هی من المصادیق البارزة للوضع القانونی للمجرمین من المسلمین فی دار الحرب . وهی ما یحوم حولها الاختلاف بین الفقهاء ، وقد ذکر البعض أنَّ المسؤولیّة

المدنیّة والجنائیّة تتحقّق وفقا لمکان الجریمة ، ورأی بعضهم أنَّ الملاک هو علاقة العمل

باقتدار الحکومة الإسلامیّة(2) .

المبحث الثالث : السیادة

تعتبر سیادة الدولة من أهمّ العناصر المکوّنة لها ، کما وتعتبر أساس استقلالها وکیانها

ص:302


1- « الأحکام السلطانیّة » للقاضی أبی لیلی ، ص 52 .
2- «تذکرة الفقهاء » 1 : 417 و451 و 457 ؛ « وسائل الشیعة » 6 : 89 و 90 ؛ « جواهر الکلام » 21 : 107 و 109 و 154 و 186 و 226 ؛ « شرح السیر الکبیر » 4 : 107 ؛ « اختلاف الفقهاء » للطبری ، ص 59 ؛ « الخراج » لأبی یوسف ، ص 178 ؛ « العلاقات الدولیّة فی الحروب الإسلامیّة » للشیخ علی قراعة ، ص 116 ؛ « آثار الحرب فی الفقه الإسلامی » ص 183 .

علی الصعید الخارجی وفی میدان العلاقات الدولیّة . وفی ضوء هذا العنصر السیاسی تطرح فی العلاقات الدولیّة مسائل من قبیل المساواة بین الحکومات ، ومبدأ عدم التدخّل

، وحقّ الدفاع الشرعی ، وتتّسم بالشرعیّة .

تطلق السیادة علی السلطة السیاسیّة المتفوّقة التی تضمّ جمیع السلطات السیاسیّة فی داخل البلد ، ولا توجد سلطة قانونیّة أُخری أعلی منها ، وهی علی الصعید الخارجی لا تتسلّم الأوامر من أیّ سلطة سیاسیّة خارجیّة ولا تخضع لأیّ حکومة .

من هذا المنطلق ، فإنَّ لسیادة البلاد بُعدین :

1 - القدرات العلیا للحکومة فی نطاقها الجغرافی .

2 - الاستقلال الخارجی وعدم الخضوع للحکومات الأُخری .

یُطرح البُعد الأوّل للسیادة فی القانون الأساسی(1) . وبُعدها الثانی فی مفهوم الدولة من منظار القانون الدولیّ مع هذا الفارق ، وهو أنَّ المعاهدات الدولیّة والمشارکة فی المنظّمات

الدولیّة تحدّ من استقلال الدول وسیادتها خارج حدودها ، وتقدح سیادتها الوطنیّة(2) .

المبحث الرابع : الحکومة

تمارس الحکومات سلطتها السیاسیّة وسیادتها عبر مجموعة من الأجهزة والمؤسّسات والدوائر الخاصّة . ویطلق علی هذه المجموعة اسم الحکومة ، وتعتبر الحکومة

- فی الحقیقة - جهازا لممارسة السیادة ونوعا من تنظیم السلطة السیاسیّة . وتتألّف

الحکومات عادة من السلطات الثلاث ( التشریعیّة ، والتنفیذیّة ، والقضائیّة ) التی تمثّل الهیکل الأصلی للنظام السیاسی . وإلی جانب هذه السلطات ، هناک أجهزة أُخری تستخدم فی الدولة تختلف طبیعتها ونوع ارتباطها السیاسی والقانونی فیما بینها من جهة

، وبینها وبین السلطات السیاسیّة من جهة أُخری تبعا لاختلاف الأنظمة الحاکمة ؛ وقد تطرّقنا مفصّلاً إلی موقف الإسلام فی هذا المجال ، وذلک فی الجزء الأوّل ، والثانی من هذا الکتاب(3) .

ص: 303


1- « الفقه السیاسی » 1 : 94 .
2- نفسه ص 98 .
3- نفسه ص 258 ؛ و 2 : 243 .

الفصل الثالث: الاعتراف الرسمی بالحکومات ، والبلدان

اشارة

إنَّ مسألة الاعتراف بالحکومات الذی یشکّل ملاکا للعضویة فی المجتمع الدولی وفقا للنظام الدولی القائم هی عبارة عن العمل الذی تقوم به الحکومات القدیمة من أجل الإقرار

الرسمی بحکومة جدیدة ، إذ تؤیّد حکومة من الحکومات استقرار شعب یتمتّع بسلطة سیاسیّة مستقلّة فی بلد من البلدان .

وکان هذا العمل جاریا فی التاریخ السحیق لعلاقات الشعوب بوصفه تقلیدا من التقالید فی ساحة العلاقات الدولیّة ، وکان یطبّق کقاعدة عرفیّة ، ثمّ أصبح بالتدریج مبدأً قانونیّا منذ القرن الثامن عشر ، وطرح مع تشکیل المنظّمات الدولیّة بوصفه ضرورة فی

بلوغ القانون الدولیّ والمیزات المنبثقة عن العضویة فی المجتمع الدولی .

المبحث الأوّل : الاعتراف الرسمی

وضعت مؤسّسة القانون الدولیّ فی جلستها سنة 1936م تعریفا للاعتراف الرسمی بالحکومات ، وهو کالآتی : « الاعتراف عمل تؤیّد الحکومات القدیمة بموجبه قیام مجتمع

سیاسی جدید ومستقلّ یکون قادرا علی رعایة القانون الدولیّ ، وتعلن عن رغبتها فی انضمامه إلی المنظمّة الدولیّة » .نلاحظ فی هذا التعریف وجود عناصر مفترضة ، نحو : « الحکومات القدیمة » ، و« انبثاق مجتمع سیاسی مستقلّ وجدید » ، و« أساس القانون الدولیّ » ، و « قدرة

ص:304

الحکومات » ، و« الانضمام إلی المجتمع الدولی » . وفی ضوء هذه العناصر المفترضة مسبقا تمّ تحدید الاعتراف الرسمی ، وهو ما یعنی لا محالة أنَّ الاعتراف الرسمی من غیر هذه

العناصر لیس له اعتبار من الوجهة القانونیّة .

ولمّا کان کلّ مبدأ ینبثق وفقا لمواصفات وخصائص متمیّزة ، ویمکن لواضعه أن یعبّر عن وجهة نظره فی هذه المواصفات کمّا ونوعا ، ویقدّم المبدأ ، فی ضوء التعریف ، بهذه

المواصفات المفترضة سلفا ، لذلک لا یمکن القدح فی هذا التعریف الذی وضع لمبدأ الاعتراف بوصفه مبدأ قانونیّا جدیدا . أمّا الإمعان فی التعریف المذکور فإنَّه ینبئ عن غموض یکتنفه ویثیر أسئلة مختلفة ؛ وعلی الذین وضعوا هذا التعریف أو أقرّوا به علی الأقل ، أن یجیبوا علی هذه الأسئلة ، ویفکّروا بحلّ لإکمال هذا المبدأ أو تعریفه .

إنَّ النقاط الآتیة التی جاءت فی هذا التعریف جدیرة بالتأمّل والدراسة :

1 - کلّ عنصر من العناصر المذکورة یؤثّر بنحو من الأنحاء علی اعتبار الاعتراف بالحکومة الجدیدة ومن ثمّ علی الشخصیّة الدولیّة للمجتمع السیاسی الفتیّ ، یستدعی البحث والنقاش تبعا لما یتمتّع به من قیمة ، ولما یقوم به من دور موکول إلیه .

2 - کیف تمّ الاعتراف بالحکومات القدیمة ؟ وما هی میزة الحکومة القدیمة فی إضفاء الصبغة القانونیّة علی الحکومة الجدیدة ؟

3 - ما هو الأساس الذی توکّأ علیه المجتمع السیاسی الجدید فی ولادته ؟ وما هو منبع الشرعیّة لسیادته ؟

4 - ما هو الملاک القانونی الذی تمّ فی ضوئه تفسیر القانون الدولیّ وتوضیحه حتّی تلتزم الحکومة الجدیدة بمراعاته ؟

5 - ما هو المعیار الذی تقاس به قدرة الحکومة الجدیدة علی مراعاة القانون الدولیّ أو عدم قدرتها علی ذلک ؟

6 - کیف یتبلور المجتمع الدولی ؟ وما هو المعیار فی شرعیّته ؟

7 - ما هو حجم التأثیر الذی یترکه إعلان الحکومات القدیمة عن رأیها فی مصیر الحکومة الجدیدة ؟

8 - إلی أیّ مدی لوحظ دور الشعوب ، فی الاعتراف بالمفهوم الذی وضعه القانون

ص: 305

الدولیّ

؟

9 - ما هی المکاسب المرجوّة من وراء الانضمام إلی المجتمعات الدولیّة ؟

إنَّ الغموض الناتج عن التعریف المذکور یتضاعف ویتعمّق أکثر عندما نتوفّر علی دراسة النماذج المتنوّعة لانبثاق المجتمع السیاسی الجدید ، ودراسة الفروض المسبقة للتعریف فی کلّ منها .

المبحث الثانی : النماذج المتنوّعة لانبثاق المجتمع السیاسی الجدید

ثمة عوامل مختلفة وراء ولادة الحکومات والبلدان فی العالم ، وهی لیست علی وتیرة واحدة فی کلّ مکان . وتظهر الحکومات الجدیدة عادة بأحد الأشکال الآتیة :

1 - عندما تتحرّر الشعوب المستعبدة من أغلال الأسر والاستعباد ، وتتحرّک حرکة مضادّة للاستعمار فترغم الدولة أو الدول المستعمرة علی الإذعان للحقیقة وإعادة النظر فی موقفها ، وتتحکّم بمصیرها بعد کفاح لا هوادة فیه ، فتنال استقلالها ، عندما یکون ذلک کلّه ، فإنَّ المجتمع السیاسی الجدید یری نور الحیاة ، والحکومة تطلّ علی الوجود .

والآن إذا قمنا بدراسة الفروض المذکورة فی تحدید الاعتراف الرسمی بالحکومات فیما یخصّ الحکومة الفتیّة ، فإنَّ الاسئلة المطروحة تتّخذ بُعدا جدیدا .

ذلک لأنَّ ولادة هذه الحکومة الفتیّة تجری عادة معاکسة لإرادة ومصالح الحکومات الاستعماریّة القدیمة وعملائها وحلفائها . وهذه القوی الاستکباریّة الکبری تمثّل الرکیزة

الأصلیّة للاستعمار - عملیّا - وتشکّل الأساس للعناصر المذکورة أیضا . ومن البداهة أنَّ الاعتراف بالحکومة الجدیدة فی مثل هذه الظروف یواجه مصاعب تتّصل فی الأعمّ الأغلب بتلک العناصر التی أُخذت بعین الاعتبار فی التعریف المشار إلیه بوصفها فروضا

مسبقة .

وعلی الرغم ممّا یلاحظ فی مجالات عدیدة أنَّ إحدی الدول الاستعماریّة تمنح مستعمراتها استقلالها مرغمة بسبب مصالح سیاسیّة خاصّة وتقلّبات وقفزات سیاسیّة أو اقتصادیّة أو إعلامیّة ، إلاّ أنَّ هذه الظاهرة ینبغی أن تدرس بالنظر إلی أسبابها الخاصّة ، ذلک لأنَّ مسألة الاعتراف تتعلّق تماما بتلک الأسباب الخاصّة نفسها . ومثل هذه الأحداث

ص: 306

السیاسیّة المعقّدة جدیرة بالدراسة فیما یخصّ بعض الأقطار الإفریقیّة حدیثة الاستقلال ، إذ لا ریب أنَّ هذه الأسباب تختلف فی مسألة منح الجزائر وغینیا استقلالهما الذی تمّ من قِبَل فرنسا . وهذا الاختلاف هو الذی یوضّح لنا مسألة الاعتراف ، ویبیّن الأبعاد السیاسیّة

المتنوّعة لظاهرة قانونیّة ما ، وبذلک تتبدّل مسألة الاعتراف بحربة سیاسیّة تسخّر لقمع

الحکومات الثوریّة الفتیّة ، أو إضفاء الشرعیّة النسبیّة علی الحکومات المزیّفة

.

2 - إنَّ ظاهرة الانفصالیّة التی تنشأ بفعل الضغوط الخارجیّة والاستعماریّة وضعف السیادة السیاسیّة الداخلیّة والقضایا الاقتصادیّة وألوان الخلل والنقص الأُخری ، وتمنی

بها البلدان الضعیفة ، تفضی - فی ظروف خاصّة - إلی بروز مجتمع سیاسی جدید وتأسیس

دولة فتیّة ، لا یمکن التغاضی عن طرح مسألة الاعتراف بها دون الأخذ بنظر الاعتبار العوامل المؤثّرة فی موضوع الاعتراف .

وکلّ عنصر من العناصر المذکورة فی التعریف جدیرة بالدراسة فیما یتعلّق بهذا النوع من ظهور الدولة الفتیّة ، ولنا أن نقف علی مثال لهذا النوع من انبثاق الدولة الجدیدة یتجسّد فی تقسیم الهند وظهور الباکستان ، ثمّ تقسیم الباکستان وولادة بنغلادش .

ومن البداهة أنَّ الدولة التی تعرّضت للانفصال ، فی کلا الحالین ، حافظت علی استقلالها وکیانها ، وظهرت الدولة الجدیدة بعد الانفصال .

3 - قد یحدث فی التاریخ السیاسی للعالم أن تفضی التبدّلات الناتجة من تقسیم الغنائم والظروف الناجمة عنها إلی تقسیم إحدی الدول وحلّ الحکومة القائمة وتأسیس حکومتین مستقلّتین جدیدتین ؛ وفی أعقاب هذا التبدّل ، لا یبقی استقلال ولا سیادة للدولة التی

تعرّضت للتقسیم ، وتحلّ الدولتان الجدیدتان محلّ الدولة الواحدة والمستقلة السابقة

، کما حدث ذلک لألمانیا بعد الحرب العالمیّة الثانیة ، وکوریا بعد الحرب ، وفیتنام قبل اندحار

أمیرکا فیها ، إذ انقسمت کلّ واحدة منهما إلی دولتین .

وفیما یتعلّق بهذا النوع من ولادة المجتمع السیاسی الجدید ، فإنَّ مسألة الاعتراف وأرکانه والعناصر المذکورة فیه جدیرة بالدراسة ، لا سیّما من منظار الشرعیّة التی تتّسم

بها عوامل الاعتراف ، والاعتبار الذی یمنح للشعوب ، فإنَّها جدیرة بالدراسة أکثر .

4 - إنَّ اتّحاد دولتین أو أکثر ، وتأسیس دولة جدیدة واحدة علی أساس رغبة

ص: 307

الشعوب حینا ، ونتیجة للضغوط الخارجیّة والعوامل الاستکباریّة حینا آخر یولّد ظروفا جدیدة فی المجتمع الدولی تفضی إلی طرح مسألة الاعتراف من قبل الدول القدیمة بالنسبة إلی الدولة الجدیدة .

کما شهدت فیتنام ذلک إذ توحّدت فیتنام الشمالیّة والجنوبیّة بعد مسلسل من الحروب الطویلة المفروضة التی أُرغم علیها الشعب الفیتنامی المظلوم برهة من الزمن ، ثمّ انفصلت

الدولتان بعضهما عن بعض ، وتوحّدتا مرّة أُخری .

5 - إنَّ تأسیس الدویلة الصهیونیّة الغاصبة فی فلسطین المحتلّة نوع آخر من ولادة المجتمع السیاسی الجدید ، فقد ظهرت إلی الوجود بناءً علی قرار من منظّمة الأُمم المتّحدة ممّا أسفر عن مسائل معقّدة ومشاکل مستعصیة فی السیاسة الدولیّة .

شعب شرّد من أرضه ، وسلبت سیادته واستقلاله ، وانمحت دولة فلسطین من خارطة العالم ، وتقاطر الیهود الدخلاء علی أرض هی لیست أرضهم وافدین من بلدان مختلفة للاستیطان فی أرض تعود إلی شعب آخر ، وأسّسوا لهم دولة فیها . ومهّدت منظّمة

الأُمم المتّحدة الأرضیّة لقیام الدویلة الجدیدة الغاصبة علی أرض فلسطین مخالفة بذلک

فلسفة وجودها والأهداف التی تأسّست من أجل تحقیقها . فأصبح لتلک الدویلة کیان یتعذّر إنکاره ، واعترفت به الدول الاستکباریّة الکبری التی ترتبط مصالحها بهذا الکیان

الجدید . ونظر المراقبون السیاسیّون إلی هذا الحدث علی أ نَّه أمر طبیعی . وألفت الحکومات

المحتجّة هذا الوضع المفروض شیئا فشیئا إلی أن تمّ الإعلان عن تأسیس دولة إسرائیل من

قبل منظّمة الأُمم المتّحدة بعد تلک التمهیدات والظروف المؤاتیة .

ونلاحظ فی کثیر من الحالات أیضا أنَّ السلطة السیاسیّة فی بلد ما تتبدّل بشکل شعبی وقانونی ومشروع ، وتأتی حکومة جدیدة فی أعقاب ثورة جذریّة وشعبیّة ، إلاّ أنَّ الحکومات القدیمة تتحامی الاعتراف بمثل هذه الحکومة الثوریّة والشعبیّة لما تقتضیه مصالحها (1) .

ص: 308


1- عقدت خمسة أقطار من أمیرکا المرکزیّة معاهدة سنة 1907م اتّفقت فیها علی عدم الاعتراف بکلّ حکومة تتسلّم مقالید الأُمور بثورة شعبیّة وتغییر فی الدستور . وکانت الولایات المتحدة الأمیرکیّة تسیر علی هذا النهج مدّة ، غیر أنَّ کندی اعترف بحکومة السلفادور الجدیدة إبّان تشکیلها ، ولم یعترف بکوبا ، والبیرو .

ونری فی سیر الاعتراف أنَّ الاستقرار السیاسی للحکومة الجدیدة قد لا یکون ملاکا للاعتراف ، وربّما جاء الاعتراف بالحکومة الجدیدة تابعا لسیاسة الحکومة الراهنة ومقوَّما

علی أساس مصالحها .

إنَّ تسییس الاعتراف یمکن أن یکون مقبولاً من حیث إنَّ إبداء الرأی فی مشروعیّة الحکومات خارج عن رغبة الحکومات القدیمة ، وهو أمر یعود إلی الوضع الداخلی لشعب الحکومة الجدیدة تماما ، ویغایر مبدأ سیادة الحکومات .

ولا ریب أنَّ الاعتراف بمعنی الإعلان عن وجود الحکومة الجدیدة ، واعتبار وجودها أمرا مفروغا منه ، عمل سیاسی خالص ، وهو تابع لمصالح الدول القدیمة .

بینما لو جعلنا مبدأ توسیع العلاقات الودیّة هو الأساس کقاعدة قانونیّة فی ضوء البند الأوّل من میثاق الأُمم المتّحدة ، فإنَّنا ینبغی أن نعتبر الاعتراف بالحکومة الجدیدة التی تتوفّر فیها عناصر الشرعیّة إلزامیّا وأمرا قانونیّا ، وننظر إلی الاعتراف بالحکومة الجدیدة التی لا تتوفّر فیها الشروط اللازمة للشرعیّة علی أ نَّه عمل غیر قانونی ومرفوض

.

ومع ذلک ، فإنَّ المبدأ السائد فی الاعتراف بالحکومات هو أنَّ الاعتراف یتمّ علی أساس الاستقرار السیاسی والسیطرة علی الأوضاع ونفوذ السیادة . ومن هذا المنطلق ، قسّموا الاعتراف إلی قسمین : « دی فاکتو » وتعنی الاعتراف المؤقّت والمحدود ، و « دی جوری » وتعنی الاعتراف الکامل .

تکون حالة « دی فاکتو » عندما لا تطمئن الحکومات القدیمة بالاستقرار السیاسیللحکومة الجدیدة ؛ وفی هذه الحالة فإنَّ الاعتراف سیکون مؤقّتا ومحدودا ومعلّقا

علی الدراسة واتّخاذ القرار الأخیر . فی حین أنَّ الاعتراف « دی جوری » اعتراف کامل

ومؤکّد .

اعتراف أمیرکا وإنجلترا بدویلة إسرائیل سنة 1948م علی نحو « دی فاکتو » بادئ الأمر ، ثمّ بدّلتا هذا الاعتراف ب- « دی جوری » .

وقد فسّر البعض اعتراف « دی جوری » علی أ نَّه اعتراف إیجادی ، و « دی فاکتو » علی أ نَّه اعتراف إعلانی .

ص: 309

المبحث الثالث : دراسة المفهوم القانونی للاعتراف

اشارة

ما هو محتوی الاعتراف ؟ وما هو أثره القانونی علی المجتمع السیاسی الجدید ؟ وهل یطرح الاعتراف فی حالات مختلفة بشکل متباین مع اختلاف أساس المجتمع الجدید ؟ أو أنَّ

له مفهوما واحدا فی کلّ مکان ؟ وأخیرا ، هل أنَّ الاعتراف یعنی منح الحکومة الجدیدة

وجودا سیاسیّا ؟ أو إضفاء الشرعیّة علیها ؟ أو أنَّ منح الشخصیّة الدولیّة یعنی قبول

الحکومة الجدیدة عضوا جدیدا فی المجتمع الدولی ؟

تلاحظ هنا نظریّتان :

1 - النظریّة الإعلانیّة

فی ضوء هذه النظریّة ، تعلن الأقطار القدیمة عن الوجود السیاسی للمجتمع الجدید دون الالتفات إلی الکیفیّة التی ظهر فیها ذلک الوجود ، وتؤیّد هذه الحقیقة الجدیدة

، وتعترف بهذه الحکومة .

إنَّ الهدف المتوخّی من وراء هذا الاعتراف هو أنَّ البلدان القدیمة تستطیع من خلال هذا الاعتراف أن تقیم علاقات مع الدولة الجدیدة فی شتّی المجالات ، وتتعامل معها فی

الأوساط الدولیّة بوصفها عضوا رسمیّا فی المجتمع الدولی .

ولا

تقرّ هذه النظریّة بصلاحیّة البلدان القدیمة فی إضفاء الشرعیّة علی الدولة الجدیدة ، وهی ترتکز فی الحقیقة علی نظرة تری بأنَّ الحکومة الجدیدة کانت حائزة علی

هذه الشخصیّة ( الشرعیّة ) سلفا ، وما تفعله البلدان القدیمة هو أ نّها تؤیّدها ، وتعلن عن ذلک التأیید .

إلاّ أ نَّه لا ینبغی تلخیص المضمون والأثر القانونی للاعتراف بمعناه الإعلانی فی إمکان إقرار العلاقات الدبلوماسیّة . ذلک أنَّ إقرار العلاقات السیاسیّة - کما سنری - متعذّر أیضا بدون الإعلان الرسمی للاعتراف ، من جهة أُخری فإنَّ الفائدة الأهمّ لهذا الضرب من الاعتراف هو ولادة شخصیّة قانونیّة جدیدة بمعنی عضویّة الدولة المعترف بها فی ذلک النوع

من المحافل الدولیّة التی أنشأتها الدول القدیمة أو انضمّت إلیها .

ص:310

2 - النظریّة التأسیسیّة

فحوی هذه النظریّة هو أنَّ البلدان القدیمة تعبّر من وجهة نظرها حیال الدولة الجدیدة وحقّها فی الوجود والسیادة ، فتکتسب الدولة الجدیدة صلاحیّتها فی الوجود ، وتتمتّع

بالاستقلال وحقّ السیادة .

وأبرز أثر قانونی لهذا اللون من الاعتراف هو أنَّ الدولة الجدیدة تتمتّع بشخصیّة قانونیّة ودولیّة عن هذا الطریق ، وتصبح قادرة علی کسب حقوقها ومصالحها فی المجتمع

الدولی بعد إحراز هذه الصفة .

الفارق القانونی بین النظریّتین

علی الرغم من الاختلاف الذاتی بین النظریّتین الإعلانیّة والتأسیسیّة ، إلاّ أ نَّه لا یمکن العثور علی أثر قانونی متباین بینهما ، لأنَّ إحراز الشخصیّة القانونیّة بوصفه إنضماما إلی المجتمع الدولی یمثّل نوعا من الأثر القانونی الذی لابدّ لأصحاب النظریّتین من قبوله .

وسواء أضفت الدول القدیمة هذه الشخصیّة علی الدولة الجدیدة ( تأسیسیّ ) أو أیّدتها بعدما کانت موجودة من قبل ( إعلانی ) ، فإنَّ الدولة الجدیدة فی کلتا الحالتین

یعترف بها کعضوة جدیدة فی المجتمع الدولی .

إنَّ الاختلاف فی کیفیّة تشکیل الشخصیّة الدولیّة للدولة الجدیدة یعود إلی قضیّة سیاسیّة ولیس له طابع قانونی .

تقویم النظریّة التأسیسیّة

لا شکّ أنَّ السیادة والکیان السیاسی وشرعیّته فیما یخصّ جماعة متبلورة فی مجتمع سیاسی یعودان بالدرجة الأولی إلی حریّة الناس ، وهی العنصر الأصلی فی هذا التبلور السیاسی ، وبدونها لا یمکن فرض سیادة ما علیهم ، أو مصادرة حقّهم فی السیادة عند

اتّفاقهم علی تشکیل مجتمع سیاسی جدید .

وهکذا فإنَّ الدول القدیمة لا یمکن أن تؤدّی دورا تأسیسیّا فیما یتعلّق برغبة الناس ، دون أن یخوّلها الناس هذا الحقّ .

ص: 311

إنَّ النظریّة التأسیسیّة هی فی الحقیقة لون من التدخّل فی تقریر مصیر الآخرین ، وضرب من سلب الناس الذین یعیشون خارج نطاق السیادة للدول القدیمة حرّیّتهم وحقوقهم الأساسیّة .

وفی ضوء ذلک ، یمکن أن نطرح المؤاخذات الآتیة حول النظریّة التأسیسیّة فی المفهوم القانونی للاعتراف :

1 - تتشکّل کلّ دولة فی ظروف خاصّة وفقا لعناصر معیّنة ، وفی ضوء رغبة محدّدة لجماعة ما ، ولا یمکن أن یکون للدول الأُخری دور إیجابی أو سلبی فی هذا المجال

.

2 - الدولة التی جاءت إلی الوجود فی ظروف طبیعیّة کضرورة وظاهرة معلولة لحدث ما تتمتّع أیضا بکیانها وشرعیّتها وسیادتها وشخصیّتها القانونیّة بدون اعتراف الدول

القدیمة . وعدم اعتراف الدول القدیمة بها یمثّل سلبا لحقّ طبیعی من موجود شرعی ، أو

صدورا لحکم الإعدام بحقّ إنسان حیّ .

3 - إنَّ تشبیه ولادة مجتمع سیاسی جدید بولادة الإنسان فی نطاق سیادة الحکومة ، ومقارنة الشخصیّة القانونیّة للحکومة بالشخصیّة الحقیقیّة للفرد فی المجتمع . أی : کما تستطیع الحکومة أن تحرم الفرد أو الطفل - الذی لا تتوفّر فیه الشروط اللازمة ، أو ولد خلافا للقوانین الداخلیّة - من بعض الحقوق والامتیازات المدنیّة والاجتماعیّة ، فهی

تستطیع فی الساحة الدولیّة أن تحرم الدولة الجدیدة من الامتیازات المنبثقة عن الانضمام إلی المجتمع الدولی ، مغالطة واضحة لا حاجة إلی إیضاح بطلانها ، لأنَّ الدولة تستطیع فی نطاق سیادتها أن تتّخذ القرار فیما یخصّ الامتیازات وشروط التمتّع بالحقوق المدنیّة والاجتماعیّة ، ولکن لیس لها هذا الحقّ خارج نطاق سیادتها . یضاف إلی هذا ، فإنَّ حرمان الإنسان - مکرها علی ذلک ، ودون أن یرتکب أیّ جریمة ، ولا یحرم من الحقوق المدنیّة إلاّ بسبب

خطأ أبویه - مثار للنقاش ما تعلّق الأمر بحقوق الإنسان . والعالم أیضا لا یعتبر هذا الحرمان عادلاً .

4 - الدولة الجدیدة التی تعلن عن وجودها وهی لا تمتلک العناصر الطبیعیّة اللازمة والمشروعة لتبلورها سیاسیّا ، ولیس لها ذلک الکیان المطلوب بوصفها دولة - حکومة

، لا یمکنها أن تکتسب الشرعیّة التی تفتقدها باعتراف الدول القدیمة بها أبدا . واعتراف

ص: 312

الدول القدیمة بالمعنی التأسیسی هو بمثابة الحیاة بجنسیّة إنسان میّت .

5 - إنَّ ما یحکیه التاریخ وعلم الاجتماع عن کیفیّة ظهور الدولة یغایر هذه النظریّة

؛ ذلک لأنَّ ظهور الدولة ناتج عن اجتماع الظروف السیاسیّة ، والجغرافیّة ، والتاریخیّة ، والاجتماعیّة ، والإحصائیّة ، ومنبثق عن تحرّکات إنسانیّة ، أو فتوحات ، أو منازعات

الجماعات والطبقات الاجتماعیّة والشعوب ، لذلک لا یتسنّی لنا أبدا أن نربط وجودها بما تریده الدول الأُخری(1) .

6 - فی ضوء النظریّة التأسیسیّة ، تستطیع الدول الحدیثة النشوء أن تتمرّد علی القوانین الدولیّة عند عدم اعتراف الدول القدیمة بها ، وعدم الاعتراف یسمح لها أن ترتکب

المخالفات فی العلاقات الدولیّة ، وتخرق النظم والقانون الدولیّ ، وذلک بسبب عدم تمتّعها

بوجود رسمی فی المجتمع الدولی .

7 - إذا اعترفت بعض الدول القدیمة بالدولة الجدیدة ، فهذا یعنی أنَّ هذه الدولة عضوة فی المجتمع الدولی من منظار تلک الدول فقط(2) . وهذه الحالة فی القانون الدولی ستخلق جوّا من عدم الانسجام .

8 - إنَّ النظریّة التأسیسیّة تلغی مبدأ استقلال الدول الجدیدة وسیادتها مبدئیّا ، لأنَّ

دولة تتوقّف شرعیّتها ووجودها وسیادتها واستقلالها علی رغبة دولة أُخری ، هی -

فی الحقیقة - فاقدة للسیادة والاستقلال بالمعنی الحقیقی .

9 - إنَّ إیکال شرعیّة الدول الجدیدة إلی رغبة الدول القدیمة فی النظریّة التأسیسیّة یسمح للدول القدیمة أن تعید النظر فی موقفها أ نّی شاءت . لأنَّ ما یسمح للدول القدیمة أن تؤدّی دورا حاسما فی مصیر ( شرعیّة ) الدولة الجدیدة یفضی إلی احتفاظ الدول القدیمة

بهذا الحقّ فی مواصلة هذه العلاقة .

تقویم النظریّة الإعلانیّة

مادامت النظریّة الإعلانیّة مرتبطة بالدولة المعلِنة ، فإنَّ من حقّ هذه الدولة أن تکون

ص: 313


1- « القانون الدولی العام » [ فارسی ] للدکتور ضیائی بیگدلی ، ص 174 .
2- نفسه .

حرّة فی التعبیر عن رأیها ، بید أ نَّه إذا کانت الآثار القانونیّة للاعتراف مرتبطة بالدولة

الجدیدة ، فیمکن أن یحوم النقاش حول النظریّة الإعلانیّة أیضا .

وحتّی لو کان هذا الأثر القانونی متمثّلاً بانضمام الدولة الجدیدة إلی المجتمع الدولی فإنَّ

النقاش یظلّ قائما حول هذه النقطة ، وهی متی کانت الدولة المذکورة مفتقرة إلی العناصر

اللازمة للوجود والشرعیّة ، فإنَّ الاعتراف بها متجسّد فی تأیید انضمامها إلی المجتمع الدولی یعتبر لونا من التدخّل فی الشؤون الداخلیّة للشعوب .

وکذلک عدم الاعتراف بالدولة الجدیدة التی تتوفّر فیها جمیع الشروط اللازمة لإحراز الشرعیّة والشخصیّة القانونیّة ، فإنَّه یتنافی مع مبدأ الاحترام المتبادل بین

الشعوب ، ویتضارب مع مبدأ العدالة والإنصاف والتعاون بین الشعوب .

إنَّ النظریّة الإعلانیّة قابلة للتسویغ عندما یتّسم الاعتراف بآثار قانونیّة تتمثّل فی رغبة الدولة القدیمة فی منح الامتیازات التی تستحقّها الدولة الجدیدة ، وذلک من خلال

عملیّة الاعتراف ، أو أ نّها ترید سلبها من الامتیازات الممکنة بینها وبین الدولة الجدیدة . بید أنَّ هذه المسألة تعتبر خصوصیّة بین الدولتین ولیس لها بُعد دولی . مضافا إلی ذلک ، فإنَّ بعض المؤاخذات المشار إلیها فی النظریّة التأسیسیّة تنطبق علی النظریّة الإعلانیّة

أیضا .

المفهوم المعقول للاعتراف

یمکن أن نتصوّر الاعتراف بالشکلین الآتیین :

1 - تعبّر الدولة القدیمة عن رأیها بالدولة الجدیدة لامتلاک الأخیرة العناصر المکوّنة لکیان المجتمع السیاسی وشرعیّته . وینبثق هذا الاعتراف عن الرغبة الحرّة للدولة القدیمة ، وعن حقّ الدولة الجدیدة فی الوجود والشرعیّة .

ویتمثّل الأثر القانونی لهذا الاعتراف فی إقرار العلاقات السیاسیّة ، والتعاون ، وتبادل الامتیازات بین الدولتین . إلاّ أنَّ عملیّة الاعتراف بالنسبة إلی الدولة الجدیدة

والدول القدیمة الأُخری لا یمکن أن تثبت حقّا أو تنفیه ، وکذلک لا یمکن أن تستلزم

ص: 314

مسؤولیّة ما (1) .

2 - فی الحالات التی لم تحرز فیها الدول القدیمة شخصیّة الدولة الجدیدة وشرعیّتها بشکل تامّ من الوجهة القانونیّة أو السیاسیّة ، فإنَّ المطلوب فی هذه الحالة علی صعید العلاقات الدولیّة هو افتراض وجود ظاهرة سیاسیّة تطرح نفسها بوصفها دولة جدیدة .

هذا اللون من الاعتراف ینطبق علی جمیع الحالات بما فیها حالة الدول اللاشرعیّة والغاصبة أیضا ، لأ نّنا فی ظروف الحرب - ما لم نفترض وجود دولة - فلا یمکن أن نتصوّر

إمکان إعلان الحرب أو استمرارها ، أو حتّی إدانة الدولة التی ینتفی أصل وجودها .

هل الاعتراف عمل قانونی أو سیاسی ؟

أمَّا المعنی الأوّل للاعتراف ، فلمّا کانت الدولة الجدیدة حائزة علی الشرعیّة والحقّ فی

الاعتراف بها لاجتماع العناصر الثلاثة فیها ، وهی : الشعب ، والنطاق الجغرافی ، والسلطة

السیاسیّة ، لذلک یمکن أن نعتبر الاعتراف الذی تعلنه الدول القدیمة عملاً قانونیّا ، وإلاّ فهو عمل سیاسی سواء کان بمعنی الإعلان عن الشرعیّة والشخصیّة الدولیّة ، أم بمعنی مفروضیّة

الوجود .

وفی التعریف الذی قدّمته مؤسّسة القانون الدولیّ ( فی جلسة سنة 1936م ) للاعتراف ، فإنَّ الاعتراف یعتبر عملاً حرّا وتحرّکا سیاسیّا .

ویتعامل العرف الدولی المعاصر مع الاعتراف بوصفه قضیّة سیاسیّة ، وتعترف الدول القدیمة بالدولة الجدیدة بمجرّد استقرارها ، وسیطرة قادتها علی الأوضاع ، وقمع

القوی المضادّة فی الداخل ، حتّی لو کانت الدولة الجدیدة قوّة قمعیّة وفاقدة للشرعیّة شعبیّا وقانونیّا .

المبحث الرابع : الاعتراف من منظار الإسلام

اشارة

یلزم الإسلام المجتمع الإسلامی علی صعید العلاقات الخارجیّة « بدعوة الشعوب إلی

ص:315


1- من هذا المنطلق لا یمکن أن یشکّل انضمام الدولة الجدیدة إلی المجتمع الدولی أثرا قانونیّا لعملیّة الاعتراف ، کما أنَّ الانضمام إلی منظّمة الأُمم المتّحدة لا یمکن أن یشکّل دلیلاً علی اعتراف جمیع الأعضاء بالعضو المنضمّ إلیها ، کما نجد ذلک فی إسرائیل .

الإسلام ونظام التوحید » ، و« الجهاد » ، و« تشکیل الحکومة العالمیّة الواحدة » ؛ وهذا ما أدّی إلی بروز آراء متنوّعة من قبل الفقهاء والکتّاب الإسلامیّین ، وغیر الإسلامیّین

( المستشرقین ) فی مجال العلاقات الدولیّة فی الإسلام ، والاعتراف بالدول والحکومات .

ولمّا کانت المبادئ الثلاثة المذکورة هی لیست المبادئ الوحیدة التی تحدّد العلاقات الدولیّة فی الإسلام ، بل إنَّ هناک مبادئ وقواعد أُخری غیرها أیضا لها تأثیرها فی تحدید المجتمع الدولی من منظار الإسلام ، فلابدّ من أن یرافق عملیّة الاعتراف فی النظریّة

الإسلامیّة تعقید خاصّ .

إنَّ مبدأ التفاهم بین الشعوب ولزوم قبول الصلح ، ومبدأ الاعتزال وما ماثله من جهة ، ومبدأ عدم الاعتراف إلاّ بالنظام الإسلامی ، وعدم الرکون إلی الشعوب الکافرة

وموالاتهم ، ومبادئ أُخری مماثلة ، کلّ ذلک قد زاد من التعقید فی العلاقات الدولیّة ، وقضیّة الاعتراف من منظار الإسلام . وکلّ واحد من أصحاب الاختصاص قد اهتمّ فی الحقیقة ببعد واحد أو عدد من الأبعاد وأهمل الأبعاد الأُخری .

نستهلّ حدیثنا عن أهمّ الآراء المطروحة حول موقف الإسلام من الاعتراف بذکر آراء المستشرقین أوّلاً ، ثمّ آراء الکتّاب المسلمین ، یتلو ذلک آراء الفقهاء .

1 - یعتقد المستشرق الإنجلیزی المعروف برنارد لویس أنَّ الإسلام لا یعترف إلاّ بالدولة الإسلامیّة ، ویستدلّ علی ذلک بقوله :

یری الإسلام نفسه أ نَّه وحده هو دین الحقّ ، وأ نَّه الدین العالمی الخاتم ، وقد رسم

سیاسته علی أساس تفوّق المسلمین والدولة الإسلامیّة ، وقسّم العالم إلی قسمین أساسیّین

هما : دار الإسلام ، ودار الحرب ، وأنَّ بینهما حربا دائمة ، إلی أن یحکم قبضته علی جمیع الشعوب فی أرجاء العالم .

وأوجب علی المسلمین واجبا کفائیّا أن یحوّلوا الکفّار إلی مسلمین عبر الجهاد أو أن یجعلوهم تحت نفوذ الحکومة الإسلامیّة وسیطرتها ، ولم تنقطع حالة الحرب والمنازعة هذه

قطّ إلاّ بشکل مؤقّت عن طریق الهدنة المتداولة فی عصرنا الحاضر .

وتری الحکومة الإسلامیّة أنَّ علی جمیع الشعوب فی العالم إمّا أن تسلم أو تهیّئ نفسها للحرب .

ص: 316

ثمّ یصرّح المستشرق المذکور أنَّ هذا الاعتقاد کان سائدا حتّی وقت اندحار الإمبراطوریّة العثمانیّة عند احتلال فینّا عام 1529م . وحینئذٍ طرحت مسألة الاعتراف

من قبل الحکومة الإسلامیّة ، وبدأت إقامة العلاقات الودّیّة والدبلوماسیّة مع العالم غیر الإسلامی . ومنذ ذلک الحین ، هیّأ الاندحار الذی منی به المسلمون فی مقابل الإمبراطوریّة

البیزنطیّة المسیحیّة فی القسطنطینیّة سنة 718 ه الأرضیّة للتفکیر بنقل الإسلام إلی ربوع العالم(1) .

2 - یقول الکاتب المسیحی العراقی مجید خدّوری(2) : إنَّ المسیحیّة والإسلام اللذین

یتّسمان معا بطابع ثیوقراطی إلهی ( حکومة القانون الإلهی ) یذهبان إلی أنَّ البشریّة أُمّة واحدة ، وعلیها أن تطبّق قانونا واحدا ، وینبغی أن تخضع لحکومة واحدة .

ویهدفان إلی انضواء البشریّة کلّها تحت لواء دین واحد . ومن هذا المنطلق فإنَّ القواعد والمقرّرات التی وضعاها للأجانب عبارة عن قواعد ونظم سائدة فی حکومة إمبراطوریّة ، فلا یعترفان بوضع اجتماعی خاصّ بظروف متکافئة لأیّ طرف ( أو أطراف )

سواء فی زمن الحرب أم فی زمن السلم .

ویعقد الإسلام علاقات مع المجتمعات الأُخری بغیة تحقیق أهدافه . ویرمی من وراء ذلک إلی التقدّم وإقامة حکومة عالمیّة واحدة .

بید أ نَّه لمّا کان عاجزا عن إدخال جمیع الناس فی حظیرته ، لذلک ترک غیر المسلمین الذین کانوا یعیشون خارج حدوده ، وکان علیه أن یتّصل بهم علی مرّ التاریخ ، ترکهم

وشأنهم .

ولم ترتکز علاقات الدولة الإسلامیّة بالآخرین علی رضا الطرفین ، بل کانت ترتکز علی تفسیرها السیاسی والأخلاقی الذی کانت تراه أعلی وأفضل ممّا عند الآخرین . وفی آخر المطاف علی العالم کلّه أن یخضع لنظام قانونیّ ودینیّ واحد ، ویطبَّق هذا النظام المتفوّق

ص: 317


1- انظر : مقالة بعنوان : « اصول روابط بین الملل وتحولات آن در اسلام » [ مبادئ العلاقات الدولیّة وتطوّراتها فی الإسلام ] بقلم الدکتور حمید بهزادی ، فی العدد الثانی عشر من مجلّة کلّیّة الحقوق ، جامعة طهران ، ص 130 ، وکذلک القسم الثانی من تلک المقالة ، وهو تحت عنوان : « روابط بین الملل در دوره امبراطوری عثمانی » ، [ العلاقات الدولیّة فی العصر العثمانی ] .
2- انظر : المصدر السابق . وکتاب « جنگ و صلح در اسلام » للدکتور مجید خدّوری ، ص 72 .

بواسطة سلطة الإمام ، ومن هذا المنطلق ، لا یعترف الإسلام بأُمّة غیر الأُمّة الإسلامیّة .

وعلی الرغم من القواسم المشترکة التی تجمع هاتین النظریّتین فی مجال الاستدلال ، فإنَّهما یتباینان من حیث إنَّ خدّوری فی الوقت الذی ینفی فیه الاعتراف کعمل دائم

، فإنَّه یقرّ بالاعتراف المؤقّت والإجباری ، إذ إنَّ الإسلام یترک البلدان والشعوب الأُخری

وشأنها علی النحو المؤقّت من أجل بلوغ هدفه الأخیر ، فیبنی معها علاقات خلال تلک المدّة تقوم علی أساس التفاهم والسلم المؤقّت . بینما نجد لویس ینفی کلّ لون من ألوان

الاعتراف والعلاقات السلمیّة بین دار الإسلام ودار الکفر .

رأی الکتّاب المسلمین

یری بعض الکتّاب المسلمین(1) أنَّ مبدأ « الاستیمان » یسمح للدولة الإسلامیّة أن تقیم علاقات سلمیّة مع الأقطار الأُخری ، وأن تعترف بها .

یناقش الأُستاذ أحمد رشید قضیّة السلم الرومی ، والسلم المسیحی ، والسلم بالمعنی الوارد فی میثاق الأُمم المتّحدة ، وینتقد ذلک . ویری أنَّ السلم فی الإسلام یختلف عن السلم القصیر الأجل بمعنی الهدنة ، الذی کان یدعمه البابا . ویقول : إذا سلّمنا بأنَّ الإسلام یعیش حربا دائمة مع الکفّار عادةً ، فعلینا الالتفات إلی نقطة مهمّة أیضا ، وهی أنَّ حالة العداء الدائم تتّخذ طابعا نظریّا محضا مع وجود الأمان الذی یمثّل أحد المبادئ الإسلامیّة

.

وفی الإسلام مبدأ یستطیع کلّ مسلم بموجبه أن یؤمن الکافر ، سواء کان المسلم ذکرا أم أُنثی ، حرّا أم عبدا ، متّقیا أم غیر متّقٍ ، ولکلّ مسلم ولایة الأمان ( الاختیار والقدرة ) التی تفرض الحصانة ، وتترتّب علیها بعض الآثار .

هذه الحصانة مطلقة . ویمکن الاستناد إلیها فی مقابل المسلمین کافّة . والأمان موضوع یحمل تعبیرا وتفسیرا واسعین . ومن هذا المنطلق ، یعطی بأبسط الوجوه ضمنیّا (

مثلاً یقال للکافر : لا تخف ) ، أو ینشأ من القرائن والأمارات الموجودة .

ویری البعض الآخر(2) أنَّ المسلمین کانوا یعرفون الحاکم أو الحکّام غیر المسلمین ،

ص:318


1- الأُستاذ أحمد رشید فی کتاب « الإسلام والقانون الدولیّ » ترجمة سیّدی ، ص 69 .
2- « نظریّة السیاسة فی الإسلام » ، أبو الأعلی المودودی ، نقلاً عن العدد 12 من مجلّة کلّیّة الحقوق ، جامعة طهران ، مقالة الدکتور حمید بهزادی ، ص 133 .

بید أنَّ هذا لا یعنی أ نّهم یعترفون بهم ، لأنَّ سیادة غیر المسلمین - فی هذه الحالة - تتکافأ مع سیادة المسلمین ، وهذا ممّا لا یقرّه الإسلام .

فی ضوء ذلک ، من مستلزمات الاعتراف بالحکومة غیر الإسلامیّة ، هو أنَّ المسلمین لو کانوا یعیشون فی هذه المناطق ، فلیس لهم حقّ أن یعارضوا الحکومة غیر الإسلامیّة أو

یحاربوها ، بینما کان علیهم فرضا أن یفعلوا ذلک . وأیضا لو التجأ المسلم إلی دولة غیر

إسلامیّة ، فعلیه أن یحترم حکومة دار الحرب وقوانینها ، إلاّ أ نَّه مرغم علی العمل بدینه(1) .

ویعتقد آخرون أنَّ الإسلام من الوجهة النظریّة یعترف فقط بسلطة سیاسیّة ، ودولة إسلامیّة یحکمها قانون واحد وهو الشریعة الإسلامیّة . وقد تمّ قبول البلدان غیر الإسلامیّة

فی الساحة الدولیّة وبناء علاقات سیاسیّة معها فی المعاهدة المعقودة بین فرانسوا الأوّل

إمبراطور فرنسا والإمبراطور العثمانی الأوّل سلیمان عام 1030م . من هذا المنطلق لا یمکن استنباط نظریّة العلاقات الدولیّة من القرآن أو من قول النبیّ صلی الله علیه و آله وفعله . وما یسمّی بالسیاسة والعلاقات الخارجیّة فی الإسلام هو ولید الظروف والأوضاع التی مرّت بها الإمبراطوریّات الإسلامیّة فی أعصار مختلفة ، وحاول الفقهاء والعلماء الإسلامیّون أن

یعرضوا آراء جدیدة تمشّیا مع تلک الظروف والحقائق السیاسیّة ، ثمّ لقیت ترحیبا نسبیّا

من قبل الحکّام والإمبراطوریّات الإسلامیّة ، ونزلت إلی ساحة العمل والتطبیق .

بدأ هذا التغییر الملحوظ منذ اندحار الدولة العثمانیّة فی احتلال فینّا سنة 1529م ، وأدّی إلی اعتراف المسلمین بالبلدان غیر الإسلامیّة ، وإقامة حاکم المسلمین علاقات ودّیّة ودبلوماسیّة معها (2) .

ونفی البعض عملیّة الاعتراف بمعناها الدائم من منظار الإسلام ، واعتبرها مغایرة لهدف الإسلام الجوهری ، وهو تأسیس الحکومة العالمیّة الواحدة(3) .

ص: 319


1- جاء فی المصدر المذکور قوله : « إلاّ أن یکون فرضا علیهم » بدل قوله : « بینما کان علیهم فرضا » . وجاء قوله : « حتّی لو کان مرغما » بدل قوله : « إلاّ أ نَّه مرغم » والسهو فی الترجمة کما یبدو .
2- الدکتور حمید بهزادی فی مقالته المدرجة فی العدد الثانی عشر من مجلّة کلّیّة الحقوق والعلوم السیاسیّة / جامعة طهران ، ص 134 تحت عنوان : « مبادئ العلاقات الدولیّة وتطوّراتها فی الإسلام » ، وکذلک فی مقالته المدرجة فی العدد الرابع عشر من المجلّة المذکورة ص 116 تحت عنوان : « العلاقات الدولیّة فی الإسلام أیّام الإمبراطوریّة العثمانیّة » .
3- نقلاً عن « القاموس السیاسی » ، أحمد عطیّة اللّه ، ص 544 - بتصرّف .

ثمّة نظریّة أُخری تلاحظ فی هذا المجال(1) ، وهی نظریّة الاعتراف المشروط ، وقد رسمت کالآتی :

أ - تحظی سلطة الحکومة بالشرعیّة لأ نّها تمثّل شعبها فحسب ، ویتیسّر الاعتراف فی هذه الحالة بشکل « دی فاکتو » .

ب - السلطة الجدیدة علی الحقّ وتتّسم بالشرعیّة ، فالاعتراف هنا تامّ و« دی جوری »(2) .

ج - متی کانت الحکومة الجدیدة فاقدة للضربین المشار إلیهما من الشرعیّة ، ولم ینطلق فقدانها للاعتبار والشرعیّة من وجهة شرعیّة أو قانونیّة ، فإنَّ الحکومة الإسلامیّة

تجیز لنفسها الاعتراف بمثل هذه الحکومة من باب الضرورة .

أمّا الاعتراف بالمعنی الضیّق والمتحفّظ جدّا ، فی إطار الاضطرار فقط ، وبحکم الضرورات یبیح المحظورات ، وعلی أساس المبدأ القائل : الضرورات تقدّر بقدرها ، فإنَّ

للحکومة أن تقیم علاقات محدودة ومتحفّظة أیضا فی ضوء ذلک .

یقول کاتب آخر(3) : « الإسلام لا ینوی التسلّط السیاسی علی العالم ، ولا یرید أن یسخّر الدنیا کلّها لطاعته (4) ، بل هو علی العکس یدین الدمار والشدّة التی لا طائل تحتها . ولمّا کان هدفه إحلال الوئام فی ربوع المعمورة وإقرار السلم بین الناس ، فإنَّه یجیز اللجوء إلی القوّة لدفع الشرّ ورفع الظلم ، وغایة ما یرمی إلیه هو إقرار السلم والعدل » .

« من هذا المنطلق ، فإنَّ الإسلام لم یظهر ابتکارا فی مجال العلاقات الدولیّة فحسب ، بل هو أوّل نظام قانونی رصین أکّد علی مفهوم الاعتراف التامّ بالنسبة إلی الحکومات الأجنبیّة ، وضمن - علی أساس الواجب المقدّس - حقوق الشعوب الأجنبیّة فی عصر السلم

، وعند الحرب » .

« إنَّ مفهوم الاصطلاحات الدولیّة الجدیدة لا ینسجم مع تعالیم الشریعة الإلهیّة

ص:320


1- « القانون الدولیّ فی الإسلام » [ فارسی ] للدکتور خلیلیان ، ص 186 .
2- ( دی فاکتو ) اصطلاح لاتینی یقصد به ما هو واقعی أو ما یکون علی أساس الأمر الواقع . أمّا ( دی جوری ) فیقصد به ما هو قائم علی أساس القانون حتّی ولو لم یکن له وجود واقعی .
3- مارسل بوازار فی کتاب « انسان دوستی در اسلام » ص 180 - 181 و 197 .
4- إشارة إلی سورة النحل : 93 .

تماما ، ولمّا کان النظام الدولی المعاصر قائما علی أساس المفهومین النظریّین : « المساواة والتضادّ » ، فإنَّ السؤال الآتی یثار ، وهو : هل یتیسّر توفیر هذه الظروف مع وجود قوانین الإسلام التقلیدیّة ذات النزعة العالمیّة ؟

یجیب المسلمون بالإیجاب مستدلّین علی ذلک بأنَّ الشریعة الإسلامیّة ینبغی أن تسود ربوع الأرض بکلّ الوسائل المتاحة ، ومنها الطرق والأسالیب السلمیّة بنحو خاصّ(1) ؛ لأ نّه لا یمکن فرض الدین بالقوّة(2) ؛ وینصّ القرآن الکریم علی مبدأ وجود الشعوب(3) ، ویوصی بالسلم .

ویدلّ خطاب النبیّ وخلفائه إلی السلاطین والرؤساء غیر المسلمین ، علی أ نّهم کانوا یتعاملون معهم بالمساواة » .

ویقول هذا الکاتب فی تسویغ السیاسة السلبیّة لبعض القادة المسلمین الثوریّین فی العلاقات الخارجیّة : « إذا کان بعض القادة المسلمین من أصحاب الروح الثوریّة لا یلتزمون کثیرا بمراعاة مبادئ السیاسة الدولیّة فی علاقاتهم مع البلدان الأُخری ، وکان هذا الأمر ذریعة بید الأجانب لتشویه سمعة المسلمین من خلال وصفهم بالفظاظة والغلظة

، فلابدَّ من الالتفات إلی أنَّ هذا الحکم حکم أجنبی سطحی من مخلّفات المستعمرین . وینبغی

أن نعطی الحقّ للمسلمین بأن لا یکون تعاملهم ودّیّا مع الحکومات التی ابتزّتهم ونهبت

ثرواتهم سنین مدیدة . وهم یدرکون مغزی الکلمات المعسولة والمکائد الخفیّة للساسة الغربیّین ، ولا تنطلی علیهم خدعة المفاوضات الودّیّة ، لأ نّهم خبروا منظّمة الأُمم المتّحدة ، والمفاوضات الثنائیّة ، والاعتراف ، والعلاقات الودّیّة ، وغیرها من هذه المفردات ، وعرفوا أ نّها مکیدة جدیدة لاستغلال المسلمین » .

وهناک نظریّة أُخری تری أنَّ مبدأ السیادة الوطنیّة الذی یمثّل قوام مبدأ الاعتراف بالحکومات خرافة من الخرافات(4) . وفی ضوء هذه النظریّة استبدل بعض الکتّاب مبدأ الکفاح الدائم والشامل فی الجبهات المفتوحة بمبدأ الاعتراف .

ص:321


1- إشارة إلی سورة العنکبوت : 46 .
2- إشارة إلی سورة البقرة : 256 .
3- إشارة إلی سورة البقرة : 62 ، وسورة الحجرات أیضا : 13 .
4- جلال الدین الفارسی فی کتابه « القانون الدولیّ فی الإسلام » ص 61 و 114 .

إذ إنَّ الإسلام یعترف بحقّ الناس فی « مقاومة ظلم الحکّام أو أیّ ظلم یقع فی جزء آخر من الکیان الاجتماعی الواحد ، وسعیهم لتغییر النظم الاجتماعیّة وفق إرادتهم » .

وأهم سلاح فی ساحة الصراع الدولی هو الطقوس الدینیّة ، والسنن والنظم الاجتماعیّة ، والعلم . ووسائل الإعلام أداة لاستخدام هذه الأسلحة . وهذه الأشیاء تفیض علی أرض العدو بالفضیلة والسعادة ، والعدالة والعلم والعقل بدل النار والرصاص ، والإعمار بدل الدمار . وما الخرافات القانونیّة ، التی تمثّل مستند السلطات الحکومیّة وأداة أجهزتها فی معارضتها ، إلاّ حواجز تحول دون الکفاح العقیدی - السیاسی فی الجبهة المفتوحة .

آراء الفقهاء فی الاعتراف

لم یتحدّث الفقهاء صراحة عن بحث یحمل عنوان « الاعتراف » بمفهومه القانونی والحقوقی ، إلاّ أ نّهم لم یألوا جهدا فی الحدیث عن آثار هذا المبدأ ونتائجه القابلة للبحث والمناقشة .

إنَّ الاعتراف بالحکومات قابل للبحث فی حالتی السلم والحرب من أبعاد متنوّعة :

1 - فی حالة السلم :

أ - الاعتراف من أجل إضفاء الشرعیّة علی نظام من النظم الحاکمة أو الإقرار بشرعیّته .

ب - الاعتراف من أجل إقامة العلاقات السیاسیّة والدبلوماسیّة السلمیّة واستمرارها .

ج - الاعتراف من أجل إقامة العلاقات الاقتصادیّة واستمرارها .

د - الاعتراف من أجل إقامة العلاقات الثقافیّة واستمرارها .

وفی الفقرات الثلاث الأخیرة ربّما لم ترد قضیّة إضفاء الشرعیّة علی الحکومة أو الإقرار بشرعیّتها ، ولکن لمّا کانت هذه العلاقات مفضیة إلی عقد معاهدات متنوّعة علی

سبیل الاحتمال ، فإنَّ تخویل الصلاحیّة أو الإذعان بها ملازم لکلّ لون من العلاقات

السلمیّة ، إلاّ أنَّ هذه الصلاحیّة لا تعنی إضفاء الشرعیّة أو قبولها .

ص:322

وعندما یتحدّث الفقهاء عن مسائل من قبیل : « الموادعة » ، و « المهادنة » ، و« الصلح » ، و« المحایدة » ، و« الذمّة » ، و« الاستیمان » وأمثالها من هذه المسائل ، فإنَّ مفهوم ذلک ، بالنظر إلی مؤدّی هذه العناوین ، هو أ نّهم أقرّوا ضمنیّا بصلاحیّة الأجانب

لیکونوا طرفا فی هذه الأُمور .

وبکلمة أُخری ، عندما عقد النبیّ الکریم صلی الله علیه و آله الأحلاف السیاسیّة مع یهود المدینة(1) ، وأبرم صلح الحدیبیّة مع المشرکین ، وأقام معاهدات واتّفاقیّات سیاسیّة واقتصادیّة وثقافیّة أُخری فی مجالات شتّی ، فإنَّ هذا یعنی أ نَّه أیّد صلاحیّة الطرف المقابل لتوقیع هذه المعاهدات ، أو لإقامة هذه العلاقات واستمرارها کحدّ أدنی .

2 - فی حالة الحرب : ولا یمکن طرح حالة الحرب أیضا بدون نوع من الاعتراف ، وقصاری القول إنَّ الاعتراف فی هذه الحالة ظریف للغایة ، ویعنی الإذعان للطرف المقابل

، لأ نّه لولا هذا الإذعان ، فلا یعد للحرب مفهوم معقول .

مضافا إلی ذلک فإنَّ مباحثات مباشرة وغیر مباشرة تجری أثناء الحرب ، وقد تعقد اتّفاقیّات ومعاهدات تتضمّن قبولاً لنوع من الصلاحیّة شاء الإنسان أم أبی .

وعندما یطرح الفقهاء شرعیّة المباحثات مع العدو أو جواز توقیع الاتّفاقیّات مع الدولة المتحاربة ، فإنَّ هذا یعنی أنَّ العدو یتمتّع بمثل هذه الصلاحیّة .

ومن أجل التوفّر علی دراسة لمسألة الاعتراف من منظار الفقه السیاسی ، ینبغی أن تطرح هذه المسألة بالنسبة إلی أنواع العلاقات المختلفة التی تحدّث عنها الفقه ؛ وبکلمة

بدیلة ، ینبغی دراسة المسألة بالنظر إلی تقسیم الجغرافیة السیاسیّة للعالم من منظار الفقه .

ص: 323


1- « مکاتیب الرسول » 1 : 241 .

ص: 324

القسم الرابع: السلم - أُسسه ومبادؤه

اشارة

ص: 325

ص:326

الفصل الأوّل: السلم والتعایش

المبحث الأوّل : السلم والرؤی المطروحة حوله

اشارة

یُعتبر السلم من أعرق الأهداف البشریّة المقدّسة . ولمّا کان معرّضا للتهدید والخطر أکثر من القیم الأُخری ، فإنَّ الناس فی جهد دائب للتخطیط نظریّا أو عملیّا من أجل

بلوغه .

وشهد التاریخ السیاسی فی العالم معاهدات واتّفاقیّات ثنائیّة أو متعدّدة الجوانب بین الحکومات ممّا یومئ إلی جانب من النشاطات البشریّة لإقرار السلم والتعایش .

والحقّ أنَّ السعی من أجل إقرار السلم فی ربوع الأرض قائم إلی جانب المحاولات التی تستهدف إشعال فتیل الحرب بین الشعوب ، والآن أیضا فإنَّ التحلیلات الاستراتیجیّة لو

طرحت الحرب بشکل شامل بوصفها وسیلة لتحقیق الأهداف المرجوّة ، واستثمرت کافّة الإمکانیّات المتاحة للعلم والتکنولوجیا بالقوّة وبالفعل ، فإنَّ البحوث المتأصّلة فی مجال السلم تستأثر بمساحة شاسعة من النشاطات الدولیّة . ویُستهدی فی هذه البحوث الموسّعة

بالتحقیقات العلمیّة فی شتّی المجالات لإدراک حقیقة العنف أو الحؤول دون بروز العنف فی المجتمع الدولی عند الإمکان ، وتعرض أسالیب عملیّة ومثمرة(1) .

ص: 327


1- مقالة تحقیقیّة حول السلم لاسبیون ایده ، العدد 9 من إصدارات مرکز الدراسات الدولیّة العالیة ، وهی تحت عنوان : « نقد النظریّات الخاصّة بالعلاقات الدولیّة وتقویمها » .
وجهات النظر المطروحة حول السلم

کلّ الذین یضربون علی وتر السلم لیسوا متساوین ، ولا یحملون مفهوما واحدا عن هذا الشعار المثالی ، لأنَّ الذی لا شکّ فیه هو أنَّ الأفکار والرؤی الفلسفیّة تمثّل أساس المفاهیم الخاصّة بالمفردات ، لا سیّما مفردات العلوم السیاسیّة . وعندما یتحدّث الغرب

الرأسمالی عن السلم ، فإنَّه یحمل مفهوما مغایرا لما یحمله الشرق الشیوعی عنه ، کما أنَّ السلم الذی تریده دولة کبری هو غیر السلم الذی تطمح إلیه دولة صغیرة حفظا لکیانها واستقلالها .

وقد تترک الظروف السائدة أیضا تأثیرا علی تبلور الاصطلاحات السیاسیّة . فالسلم بعد حرب مدمّرة له مفهوم یختلف عن مفهومه فی الظروف الاعتیادیّة .

إنَّ الذین یطرحون السلم خوفا من الآثار المدمّرة للحرب ، أو حرصا علی مصالحهم وحرّیّاتهم ، وطمعا فی استغلال الطاقات والإمکانیّات المتاحة أکثر ما یمکن ، ینظرون إلی هذه الکلمة علی أ نّها تعنی الحصانة من الاعتداء ، والهدنة ، وبعامّة ، حالة فی مقابل

الحرب ، مهما کان هذا السلم والتعایش مقرونین بالعداء الخفیّ ، وقصد التآمر والاعتداء ، وتربّص الفرص المناسبة ، وحتّی لو کان لهذا السلم ثمار النصر وغنائم الحرب أیضا

.

وکذلک دأب الذین ینظّرون للنضال الدائم والمستمیت للطبقة العاملة ضدّ کلّ جذور البرجوازیّة ومقوّماتها ، ویعتبرون هذه الطبقة الممتازة هی القادرة وحدها علی نیل کلّ

قیمة أُخری ، فإنَّهم ، عندما یحوم الحدیث حول السلم ، یقصدون به العنصر الممهّد الذی یسوّی طریق هذا النضال ویهیّئ الأرضیّة لاتّحاد الطبقة الممتازة ، ویقیها من الانتهاک

مؤقّتا حتّی بلوغ الهدف الأخیر .

والمقصود من السلم فی قاموس الدولة المقتدرة هو أن تکون مصالحها الوطنیّة فی مأمن من الخطر ، وأن تتمکّن من استیفاء جمیع المصالح القائمة بالقوّة وبالفعل .

أمّا البلدان الضعیفة فإنّها لا تتوخّی من السلم إلاّ حفظ وجودها ووقایة استقلالها وحکوماتها من الخطر .

وجاء السلم فی المعاجم السیاسیّة منسجما مع هذه الأهداف جمیعها : فهو حالة الهدوء التی تسود العلاقات الاعتیادیّة مع الأقطار الأُخری ، وعدم وجود الحرب ، وکذلک

ص:328

عدم وجود نظام التهدید ( استخدام جهاز قویّ للقسر والإکراه حیال الطرف المقابل ) (1) .

وأُطلق التعایش السلمی علی العلاقات التی تسود أقطارا لها نظم اجتماعیّة وسیاسیّة متنوّعة . والقصد منه هو مراعاة المبادئ المرتبطة بحقّ السیادة ، ومساواة الحقوق ، والحصانة ، ووحدة الأرض لکلّ دولة صغیرة أو کبیرة ، وعدم التدخّل فی الشؤون الداخلیّة لسائر البلدان ، وتسویة المنازعات الدولیّة عبر المفاوضات (2) .

وهکذا جاءت کلمة السلم مرادفة لکلمات أُخری کالأمن ، والاستقلال ، ومراعاة حقّ السیادة ، وعدم التدخّل ، وعدم اللجوء إلی القوّة والتهدید .

ویری بعض المعنیّین أنَّ السلم هو النظم ، وهو مشروط بوحدة المجتمع الدولی ، ومن هذا المنطلق یرون أنَّ تحقّقه متعذّر بدون الممهّدات الأساسیّة الآتیة :

1 - الوحدة وتنازل جمیع الشعوب عن مصالحها الوطنیّة بغیة تطبیق السیاسات الجماعیّة التی تصبّ فی خدمة الأهداف اللا قومیّة .

2 - وجود تصوّر ونظرة عامّة حول العدالة والإنصاف .

3 - إنشاء منظّمة دولیّة مقتدرة تتمتّع بسلطة أعلی . ومهمّتها الحؤول دون ممارسة أیّ

ضرب من ضروب القوّة ، ودون الوقوف بوجه المصالح الجماعیّة والعدالة(3) .

من هذا المنطلق ، فإنَّ فکرة الحکومة العالمیّة التی تضمّ هذه العناصر هی الحلّ المنطقی

لقضیّة السلم .

السلم من منظار منظّمة الأُمم المتّحدة

إنَّ السلم الذی جعله میثاق الأُمم المتّحدة شعاره الأصلی مفهوم ذو بُعد واحد ، یصبّ - آخر أمره - فی مصالح الدول الکبری .

وجاء السلم فی مقدّمة المیثاق والفصل الأوّل منه مشعّا ببریق باهر بوصفه هدفا جوهریّا للمنظّمة ، وطرح فی الفصول الأُخری منه بوصفه محورا لنشاطات المنظّمة المتنوّعة .

ص: 329


1- «معجم العلوم السیاسیّة » لعلی آقا بخشی [ فارسی ] ص 192 - 193 .
2- نفسه .
3- « القوی الکبری والسلم الدولی » [ فارسی ] للدکتور حمید بهزادی ، ص 14 .

وحسبنا فی هذا المجال أن ندرس تقسیم المسؤولیّات والصلاحیّات فی المنظّمة من خلال أرکانها السیاسیّة والأصلیّة الثلاثة وهی : الجمعیّة العامّة ، ومجلس الأمن

، والأمانة العامّة ، لأ نّنا سنواجه فی هذه الدراسة صورة مخیفة لکارثة کبیرة تتمثّل فی إلقاء الدول

الکبری ظلّها علی المنظّمة بأسرها ، ومن ثمّ علی العالم المعاصر والمجتمع الدولی

.

مجلس الأمن آخر أمل للسلم

حسبنا فی دراسة الدور الذی یضطلع به مجلس الأمن أن نعرف أنَّ ثلثی الأعضاء فی منظّمة الأُمم المتّحدة أو أکثر یمکن أن یطرحوا توصیاتهم فی الجمعیّة العامّة بشأن مسألة

خاصّة ، إلاّ أنَّ تسعة أعضاء من مجموع خمسة عشر عضوا فی مجلس الأمن - وبینهم خمسة أعضاء لهم حقّ الفیتو - یتّخذون قرارا آخر دون الالتفات إلی التوضیح المذکور(1) .

وفی ظلّ الواقع السیاسی المعاصر ، لابدّ لأغلب الأعضاء فی مجلس الأمن ، وبینهم الأعضاء الدائمیّون الذین لهم حقّ الفیتو أن یدعموا الموقف الذی تتّخذه أمیرکا ، والاتّحاد

السوفیتی ، والصین ، إذا ما دعت الضرورة إلی ذلک . ومتی ما اتّحد هؤلاء ، فلهم أن

یفرضوا أهدافهم علی العالم تحت ذریعة السلم وتفادی الحرب . وإذا ما اختلفوا ، فسوف

لا یبقی لمنظّمة الأُمم المتّحدة أیّ دور مؤثّر . وعلی حدّ تعبیر مورغانتا المنظِّر المعروف فی العلاقات الدولیّة : عندما تطرأ مثل هذه الحالة ، فإنَّ قرار مجلس الأمن لیس أکثر من ورقة مهملة(2) . وتؤیّد التقاریر الرسمیّة استنباط مورغانتا تماما ، لأنَّ الجمعیّة العامّة لمنظّمة الأُمم

المتّحدة صادقت منذ جلستها الثانیة سنة 1947م لحدّ الآن علی قرارات تتضمّن توصیات عامّة لتعزیز السلم ودعمه ، ووضعت مبادئ لحفظ السلم ، وصادقت علی قرار عنوانه : السلم عن طریق العمل ، وقرار آخر عنوانه : الاتّحاد من أجل السلم ، وذلک سنة 1950م ، لکی تتّخذ القرارات طابعا عملیّا . وجاء فی ذینک القرارین أنَّ مجلس الأمن إذا أخفق فی أداء مهمّته الرئیسة المتمثّلة فی المحافظة علی السلم نتیجة لعدم إجماع أعضائه الدائمیّین ، وذلک عندما یکون ثمّة خطر یهدّد السلم ، أو خرق للسلم ، أو انتهاک ما ، فإنَّ الجمعیّة

ص: 330


1- « القوی الکبری والسلم الدولی » [ فارسی ] للدکتور حمید بهزادی ، ص 80 .
2- نفسه ص 82 .

العامّة تبادر إلی التحقیق فی الموضوع حالاً ، وتصدر توصیاتها إلی الأعضاء بشأن بعض القضایا من قبیل خرق السلم ، أو حصول الاعتداء واختدام القوّات المسلّحة ، وذلک عند

الضرورة وحفظا للسلم والأمن الدولیّین . تلا ذلک تشکیل لجنة الإشراف علی السلم ، ثمّ

لجنة الإجراءات المشترکة ، وبعد ذلک تشکیل قوّة الطوارئ التابعة لمنظّمة الأُمم المتّحدة .

وأخیرا فوّضت الجمعیّة العامّة إلی رئیسها تشکیل لجنة خاصّة لحفظ السلم برئاسته وبالتعاون مع الأمین العامّ لمنظّمة الأُمم المتّحدة ، وذلک فی القرار الصادر سنة 1965م . وأعلنت هذه اللجنة فی تقریرها المعدّ بعد أربع عشرة جلسة أنَّ الإجماع غیر متحقّق حیال

مفهوم حفظ السلم ، ولا یمکن تبیان مفهومه بشکل دقیق وبما یرضی جمیع الحکومات ، وأکّدت علی أنَّ کلّ إجراء قسری ینبغی أن یتّخذ من قبل مجلس الأمن ، وفقا للبنود الواردة فی میثاق الأُمم المتّحدة . ولمّا کان عجز مجلس الأمن مرصودا بسبب نواقصه الذاتیّة ونقاط ضعفه العملیّة ، فإنَّ القسم الثانی من التقریر المذکور یفید بأنَّ مجلس الأمن إذا کان عاجزا عن اتّخاذ الإجراءات علی الرغم من التوصیات المؤکّدة للجمعیّة العامّة ، فإنَّ عجز منظّمة الأُمم المتّحدة عن التدخّل فی موقف خاصّ سیکون محرزا وقابلاً للتصوّر(1) .

وقد خبر العالم عجز مجلس الأمن عن علاج المشاکل المتعلّقة بالسلم علی امتداد الأربعین سنة المنصرمة . ولمس مواقفه فی قضایا الشرق الأوسط لا سیّما فلسطین ، وقضایا الشرق الأقصی لا سیّما فیتنام ، والقضایا الإفریقیّة لا سیّما جنوب إفریقیا ، والقضایا المتعلّقة بالأقطار الأمیرکیّة ، وأدرک بوضوح ما تتوقّعه اللجنة الخاصّة لأعمال

السلم - التی تمثّل آخر مکیدة قسریّة للأُمم المتّحدة - من عجز منظّمة الأُمم المتّحدة .

النتائج المستقصاة من هذا البحث

یمکن أن نحصل علی النتائج الآتیة من البحوث المتقدّمة فی مجال السلم :

1 - أنَّ جهود الإنسان فی مجال التوصّل إلی التحدید القانونی للسلم ، کجهوده لبلوغ السلم الراسخ المتّکئ علی العدالة ، لم تتوقّف علی امتداد التاریخ البشری قطّ .

ص: 331


1- «دلیل منظّمة الأُمم المتّحدة » ص 125 .

2 - للأفکار والرؤی الفلسفیّة تأثیر مباشر فی کلا التحرّکین علی طریق السلم .

3 - یطرح السلم عادة خشیة من خطر الحرب ، أو فرارا من الحروب المدمّرة بوصفه علاجا للوقایة من الحرب وآثارها المتولّدة عنها .

4 - یفسّر کلّ من القویّ والضعیف السلم بالمعنی الخاصّ الذی یحمله کلّ منهما عنه .

5 - یحتاج إقرار السلم إلی ممهّدات متنوّعة ، وما لم تتهیّأ تلک الممهّدات فلا یعد هناک

سلم ، أو لا یثبت له أساس .

6 - أنَّ السلم الذی جعلته منظّمة الأُمم المتّحدة شعارها الأصلی ، هو شعار ذو بعد واحد ، ویضمن مصالح القوی الکبری .

7 - لقد ذوت لحدّ الآن - ولمرّات - جمیع الآمال المعلّقة علی مجلس الأمن الذی یمثّل الضامن الوحید للسلم فی منظّمة الأُمم المتّحدة .

8 - رأی مورغانتا المنظِّر المعروف فی العلاقات الدولیّة حول قرارات مجلس الأمن .

9 - التقاریر الدامغة لمنظّمة الأُمم المتّحدة حول الآمال الذاهبة أدراج الریاح .

والآن

، بالنظر إلی هذه النتائج السقیمة ، نستعرض قضیّة السلم من منظار الإسلام داعین الباحثین إلی المقارنة والاستنتاج والحکم .

المبحث الثانی : مفردات السلم فی المعجم السیاسی الإسلامی

اشارة

یحظی « السلام » و « السلم » بأهمیّة خاصّة فی الفقه السیاسی الإسلامی . وقد استعملا فی النصوص القرآنیّة والأحادیث الإسلامیّة لتبیان مبدأ قانونی وسیاسیّ ، وتمّ

التأکید علیهما . وجاءت مشتقّاتهما فی القرآن علی النحو التالی :

1 - ورد السلم والسلامة والسلام فی اللغة بمعنی البراءة من العیوب والآفات والأمراض الظاهریّة والباطنیّة . والقلب السلیم فی قوله تعالی : « اِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلیمٍ » (1) : سلامة القلب من الآفات کالشکّ ، والحسد ، والکفر ، والرئاسة . و ( سبل السلام ) عبارة عن الطرق التی لا تعتریها الآفات کالخوف والخطر وغیرهما . قال تعالی :

ص: 332


1- الصافّات : 84 .

« یَهْدی بِهِ اللّه ُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ » (1) ، وکذلک دار السلام فی قوله جلّ

شأنه : « لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِنْدَ رَبِّهِمْ » (2) فإنّها تعنی المأمن البعید عن الآفات والأخطار .

والسلام الذی هو شعار الإسلام وتحیّته فی قوله جلّ من قائل : « وَاِذَا جَاءَکَ الَّذینَ یُؤْمِنُونَ بِایَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَیْکُمْ » (3) یعنی تمنّی السلامة وخلوّ الحیاة من الآفات والبلیّات والأخطار ، وتحیّة أتحف اللّه بها من اجتاز معبر الصبر ، قال عزَّ اسمه : « سَلاَمٌ عَلَیْکُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَی الدَّارِ » (4) .

عندما یسلّم شخص علی شخص آخر ، فهو یدعو اللّه له بالسلامة والأمن . أی : له السلامة والأمن من اللّه . وهذا الدعاء یفضی إلی نزول البرکات الطیّبة . قال جلَّ شأنه : « فَسَلِّمُوا عَلی اَنْفُسِکُمْ تَحِیَّةً مِنْ عِنْدِ اللّه ِ مُبَارَکَةً طَیِّبَةً » (5) ، وعندما یکون السلام من اللّه علی الإنسان کما فی قوله : « سَلاَمٌ عَلَی الْمُرْسَلینَ » (6) فهو یعنی تمتّع الإنسان بالعنایات الإلهیّة الخاصّة وبقاءه مصونا ، قال تعالی : « لاَ خَوْفٌ عَلَیْهِمْ وَ لاَ هُمْ یَحْزَنُونَ » (7) .

ویعتبر القرآن السلام تحیّة متداولة بین أهل الجنّة ، وینظر إلی السلام الحقیقی علی أ نَّه

من میزات حیاتهم الأبدیّة الخالدة ، قال تعالی : « لاَ یَسْمَعُونَ فیهَا لَغْوًا وَلاَ تَاْثیمًا * اِلاَّ قیلاً سَلاَمًا سَلاَمًا » (8) . ویری أنَّ ذلک اللون من الحیاة نقیّا من شوائب التنغیص .

ولا یقال السلام بوصفه شعارا للسلم فی مقابل دعاة السلم فحسب ، بل یقال أیضا

فی مقابل الأشخاص الذین یعرّضون السلم للخطر من خلال تصرّفاتهم الرعناء ، قال عزَّ من قائل : « وَ اِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا » (9) .

ص:333


1- المائدة : 16 .
2- الأنعام : 127 .
3- نفسها ، الآیة 54 .
4- الرعد : 24 .
5- النور : 61 .
6- الصافّات : 181 .
7- یونس : 62 .
8- الواقعة : 25 - 26 .
9- الفرقان : 63 .

ولا یقرّ القرآن بالفظاظة ، وعدم التصدیق ، وسوء الظنّ فی مقابل من یلقی السلام ، « وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ اَلْقی اِلَیْکُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا » (1) .

ویمثّل السلام أفضل الحالات التی یشعر بها الإنسان عند دخوله الجنّة وحصوله علی وثیقة الخلود فیها ، فقد قال جلَّ من قائل : « اُدْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ ذلِکَ یَوْمُ الْخُلُودِ » (2) .

وأکثر الأوقات فائدة وقیمة وأعظمها فی السنة هی لیلة القدر التی یذکرها القرآن بالسلام ، « سَلاَمٌ هِیَ حَتّی مَطْلَعِ الْفَجْرِ » (3) .

والسلام من الأسماء الإلهیّة المقدّسة ، لأ نّه یعکس أکبر نعمة إلهیّة : « هُوَ اللّه ُ الَّذی لاَ اِلهَ اِلاَّ هُوَ الْمَلِکُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ » (4) .

یقول الطبرسی فی مجمع البیان : السلام الذی سلم عباده من ظلمه ؛ وفسّره الصدوق فی کتاب التوحید بأ نّه الذی یمنح السلامة والأمن . ویراه البعض أیضا أ نَّه السالم من کلّ نقص وعیب وآفة ؛ وفسّره العلاّمة الطباطبائی فی تفسیر المیزان بمعنی عدم الأذی ، وقال : السلام من یلاقیک بالسلامة والعافیة من غیر شرّ وضرّ(5) .

والسِّلم ( علی وزن العِلم ) مرادف للصلح ، ویعنی المسالمة

، قال تعالی : « یَاءَیُّهَا الَّذینَ امَنُوا ادْخُلُوا فِی السِّلْمِ کَا فَّةً » ؛ وکذلک السَّلم ( علی وزن العقل ) فإنَّه یعنی المسالمة العادلة والتعایش ، قال جلَّ شأنه : « وَاِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاص جْنَحْ لَهَا » . والإسلام بمعنی الانقیاد ؛ والتسلیم بمعنی الخضوع ؛ وسمّی الإسلام بهذا الاسم فی قوله تعالی : « وَمَنْ یَبْتَغِ غَیْرَ الاِْسْلاَمِ دینًا فَلَنْ یُقْبَلَ مِنْهُ »(6) . لأنَّ الدین الحقیقی هو الانقیاد للّه ، والسلامة والمسالمة والصلح الحقیقی أُمور تتحقّق فی ضمیر الإنسان عندما یبلغ الانقیاد

التامّ للّه تعالی ، « اِنَّ الدّینَ عِنْدَ اللّه ِ الاِْسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذینَ اُوتُوا الْکِتَابَ اِلاَّ

مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْیًا بَیْنَهُمْ » (7) . وجاءت کلمة السلم بهذا المعنی أیضا ، قال

ص:334


1- النساء : 94 .
2- ق : 34 .
3- القدر : 5 .
4- الحشر : 23 .
5- « قاموس القرآن » 3 : 299 .
6- آل عمران : 85 .
7- نفسها ، الآیة 19 .

تعالی : « اَلْقَوْا اِلَی اللّه ِ یَوْمَئِذٍ السَّلَمَ » (1) .

2 - کلمة الصلح فی اللغة بمعنی المسالمة ، وإزالة النفار بین الناس(2) ، « الصُّلْحُ خَیْرٌ »(3) . والصلاح من هذه المادّة ، والصالح بمعنی المطابق للعدل والإنصاف ، واللائق البعید عن کلّ لون من ألوان الفساد « اِلَیْهِ یَصْعَدُ الْکَلِمُ الطَّیِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ یَرْفَعُهُ » (4) . والإصلاح بمعنی إقرار الصلح والإلفة « فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا اَوْ اِثْمًا فَاَصْلَحَ بَیْنَهُمْ » (5) ، أو بمعنی رفع کلّ عیب وآفة وإصلاح البال « کَفَّرَ عَنْهُمْ سَیِّاتِهِمْ

وَ اَصْلَحَ بَالَهُمْ » (6) .

وجاءت مفردات السلام والصلح بأشکال متنوّعة فی الأحادیث الإسلامیّة ، ونکتفی هنا بذکر نماذج منها :

1 - التسلیم علامة الأمن وتحلیل الصلاة(7) .

2 - الحمد للّه الذی شرع الإسلام فسهّل شرائعه لمن ورده وأعزَّ أرکانه علی من غالبه فجعله أمنا لمن علقه(8) .

3 - المسلم من سلم المسلمون من یده ولسانه . هذا الحدیث الوارد فی المصادر الإسلامیّة ، ومنها : نهج البلاغة ، الخطبة 167 ، وکنز العمّال 1:149 یدلّ علی التلازم بین الإسلام والصلح والتعایش .

4 - من أسلم سلم . ورد هذا الحدیث فی مسند أحمد بن حنبل 5:247 . ویماثل ما جاء فی کتاب النبیّ صلی الله علیه و آله إلی إمبراطور الفرس إذ قال فیه : « أسلم تسلم » . وکذلک یماثل حدیثاآخر جاء فی سنن أبی داود کتاب الجهاد ، ص 34 ونصّه : « وتغزو فتغنم وتسلم » .

5 - جاء فی الأحادیث المتعلّقة بظهور الإمام المهدی عجّل اللّه فرجه : « یملأ الأرض

ص:335


1- النحل : 87 .
2- « مفردات الراغب » مادّة صلح .
3- النساء : 128 .
4- فاطر : 10 .
5- البقرة : 182 .
6- محمّد : 2 .
7- « وسائل الشیعة » 4 : 1006 .
8- « نهج البلاغة » الخطبة 106 .

من السلم » (1) .

6 - « من مشی فی صلح بین اثنین صلّی علیه ملائکة اللّه حتّی یرجع » (2) .

7 - « ملعون رجل یبدئه أخوه بالصلح فلم یصالحه » (3) .

8 - « الصلح جائز بین المسلمین إلاّ صلحا أحلّ حراما وحرّم حلالاً » (4) .

9 - « یا أبا أیّوب ألا أُخبرک وأدلّک علی صدقة یحبّها اللّه ورسوله ، تصلح بین الناس إذا تفاسدوا وتباعدوا » (5) .

10 - المصلح لیس بکاذب(6) .

11 - « ستصالحکم وتصالحون الروم صلحا أمنا » (7) .

12 - إنَّ المشرکین واصلونا الصلح حتّی مشی بعضنا إلی بعض واصطلحنا (8) .

السلم والفطرة

لا یُنکر أنَّ ما تتطلّبه فطرة الإنسان فی علاقاته مع بنی جنسه فی میادین الحیاة الاجتماعیّة والسیاسیّة المختلفة هو الصلح والتعایش بغضّ النظر عن العوامل الخارجیّة . وهذه الحالة الفطریّة ترتبط ارتباطا عمیقا متلاحما بالشمائل الطیّبة والسجایا الرفیعة ، والملکات المحمودة المکتسبة للإنسان . ومبدئیّا ، ینبغی أن نعتبر ذلک من المظاهر المعنویّة

للحیاة والوحدة الروحیّة للناس .

وعلی الرغم من أنَّ حالة الصراع والحرب بین الناس تنبع من عواطف باطنیّة جامحة ، وأنَّ غریزة حبّ الذات وحسّ الاستغلال ( استغلال الآخرین ) والغرائز النابعة عنهما تؤدّی

دورا مهمّا فی التمهید للحرب ونشوب حالة الصراع ، إلاّ أ نّنا ینبغی أن لا نغفل عن أنَّ

ص: 336


1- « سنن ابن ماجة » باب الفتن ، ص 33 .
2- « وسائل الشیعة » 13 : 163 .
3- نفسه 11 : 519 .
4- نفسه 13 : 164 .
5- نفسه ص 161 .
6- « الکافی » 2 : 210 .
7- « سنن ابن ماجة » باب الفتن ، ص 35 .
8- « صحیح مسلم » کتاب الجهاد 133 .

ارتباط الحرب بالغرائز البشریّة یمکن أن یکون مقبولاً فی حالة تطرّف الإنسان فی استغلال الغرائز الباطنیّة . ومن هذا المنطلق ، لو دقّقنا فی تلمّس العوامل الداخلیّة والأسباب النفسیّة لظاهرة الحرب فی الإنسان ، فینبغی أن نضع إصبعنا علی الحالة النفسیّة الطارئة ، أو علی ما یسمّی بالغرائز الثانویّة التی تأخذ اسمها من الإفراط والتفریط فی استغلال الغرائز الأوّلیّة ، ونعتبر الحالات الانحرافیّة الباطنیّة سببا جوهریّا لها .

من جهة أُخری ، فإنَّ العلاقة الفطریّة والطبیعیّة والأخلاقیّة التی تربط الإنسان بالتعایش والسلم تلقی الترحیب والتأیید من منظار الحقائق التاریخیّة البیّنة ، وأنَّ مبادئ وقواعد العقل والفکر والعلم تعزّز هذه العلاقة المعنویّة أکثر من ذی قبل(1) .

وعلی الرغم من أنَّ بعض المنظّرین ینظرون إلی الحرب بوصفها أمرا لا مناصّ منه فی الحیاة البشریّة ، إلاّ أنَّ ما یقدّمونه من أدلّة فی هذا المجال(2) یمثّل انحرافات فی اختیار أسالیب

الحیاة ، تمنی بها الشعوب أو حکّامها .

المبحث الثالث : أصالة السلم بوصفه قاعدة قانونیّة فی الإسلام

تعتبر مسألة السلم والحرب فی الإسلام الدعامة الأساسیّة فی الفقه السیاسی الخارجی والرکیزة الأصلیّة للقانون الدولی فیه ، کما هی علیه فی القانون الدولی الوضعی إذ تعتبر أوّل وأهمّ مسأله فیه ، إلاّ أنَّ بین الفقهاء خلافا فی تحدید ما هو أصل ، وما هو طارئ واستثنائی .

والفقهاء - عادة - یبادرون إلی وضع القاعدة فی المسائل المهمّة قبل القیام بعمل آخر ، بحیث لو طرأ استثناء علی تلک القاعدة ، فلابدّ من إثباته بالدلیل ، وإلاّ فإنّنا سنطبّق

القاعدة علی الحالات المشکوکة ، وقد وضعوا الأصل فی المسؤولیّات علی البراءة ، وفی

أعمال الآخرین علی الصحّة ، والأصل الأوّلی فی حکم الأشیاء علی الإباحة . وفی ضوء

ذلک فهم یرون أنَّ إثبات أیّ نوع من المسؤولیّة أو الفساد فی أعمال الآخرین وحرمة الأشیاء منوط بالدلیل ، ویحتاج إلی إثبات شرعیّ .

ص: 337


1- « الإسلام والقانون الدولیّ » بقلم المؤلّف ، ص 86 .
2- سنتطرّق إلی هذا الموضوع فی المبحث الخاصّ بقانون الحرب .

وتلاحظ فی مسألة السلم والحرب ثلاث نظریّات أیضا فی وضع الأصل والقاعدة :

1 - نظریّة بعض المستشرقین(1) وعلماء القانون الذین لهم دراسات تحوم حول نظریّة القانون الدولیّ فی الإسلام ، وتتّکئ النظریّة علی اعتقاد هؤلاء بأنَّ الجهاد یحدّد العلاقة الأصلیّة لدار الإسلام بالعالم الخارجی . ویری هؤلاء أنَّ الإسلام لمّا عجز عن کبح الجبلّة المتمثّلة بحبّ القتال لدی العرب ، فإنَّه اختدم هذه الوسیلة لقمع غیر المسلمین

، وإذا ما تحدّث الإسلام عن السلم ، فإنَّه یبتغی من وراء ذلک تحقیق هدفه الأخیر المتمثّل فی بسط سیطرته وتوسیع رقعته فی أنحاء المعمورة ؛ وهذا یتحقّق فی ظروف لا یجدی الجهاد معها نفعا . والعلاقات الدولیّة والدبلوماسیّة فی العالم الإسلامی ظاهرة غریبة تماما (2) .

ومرجع هذه النظریّة : الآیات القرآنیّة التی تتحدّث عن الجهاد ، إذ أوجبته علی جمیع المسلمین ، ووبّخت المعرضین عنه توبیخا شدیدا . وخیّل إلی أصحاب هذه النظریّة ، من

خلال فهم سطحیّ ساذج ، أنَّ جمیع الآیات الخاصّة بالجهاد تتعلّق بالجهاد الابتدائی ، ومعنی الجهاد الابتدائی هو بقاء نار الحرب مضطرمة بین العالم الإسلامی والعالم الکافر بنحو مستمرّ . وسندرس المعنی والفهم الصحیح لآیات الجهاد فی المباحث القادمة .

2 - النظریّة القائلة باستحباب الجهاد ونفی وجوبه فی الإسلام . وهی ممّا أُثر عن بعض

التابعین کسفیان الثوری ، وعبد اللّه بن شبرمة ، وعطاء بن أبی رباح ، فقد قال هؤلاء :

الجهاد أمر اختیاریّ ومستحبّ ولیس فیه وجوب ، وللأوامر القرآنیّة طابع الندب والاستحباب . ویجب الجهاد فقط عند الضرورة لصدّ هجوم الأعداء ، کما یفیده ظاهر الآیة الکریمة : « فَاِنْ قَاتَلُوکُمْ فَاص قْتُلُوهُمْ » (3) والآیة الکریمة (4) « وَقَاتِلُوا الْمُشْرِکینَ کَافَّةً کَمَا یُقَاتِلُونَکُمْ کَافَّةً » (5) .

هذه النظریّة تغایر إجماع الفقهاء ، لأنَّ وجوب الجهاد أمر مسلَّم لا یقبل الشکّ

ص: 338


1- « العقیدة والشرعیّة » لجولدتسیهر ، ص 27 .
2- « الحرب والسلم فی الإسلام » للدکتور مجید خدّوری ، ص 82 ؛ ومقالة تحت عنوان : « مبادئ العلاقات الدولیّة وتطوّراتها فی الإسلام » للدکتور حمید بهزادی ، العدد الثانی عشر من مجلّة کلّیّة الحقوق والعلوم السیاسیّة / جامعة طهران ، وآراء المستشرق المعروف برنارد لویس فی تلک المقالة نفسها [ فارسی ] .
3- البقرة : 191 .
4- التوبة : 36 .
5- « آثار الحرب فی الإسلام » للدکتور وهبة الزحیلی ، ص 87 .

والتردید من منظار الإسلام . ویبدو أنَّ رأی التابعین المذکورین هو أنَّ شرعیّة الجهاد منوطة بأدلّة ومسوّغات خاصّة منها : الدفاع .

3 - الحرب ( الجهاد ) وسیلة لا هدف ، لأنَّ الهدف من الجهاد هو الهدایة . وجهاد الکفّار وقتلهم لیس هدفا جوهریّا . ولهذا السبب لو کانت الهدایة ممکنة بغیر الجهاد ، فإنَّ هذا الأُسلوب مقدّم علی الجهاد . وکذلک الأمر فی الجهاد ، فإنَّه یکتفی بالحدّ الأدنی ومقدار الضرورة منه . والحقّ أنَّ الضرورة بالمقدار الذی تستدعیه لا مناص منها فی مواطن خاصّة .

ومستند هذه النظریّة أحادیث تنهی عن جموح النزعة القتالیّة ، وتدعو المسلمین إلی العافیة ، نحو الحدیث الذی ینقله أبو هریرة ، قال : أیّها الناس لا تمنّوا لقاء اللّه ، وسلوا اللّه العافیة(1) .

علی الرغم من أنَّ هذه النظریّة المنسوبة إلی فقهاء الشافعیّة(2) قابلة للنقاش فی تسویغ الحافز علی الجهاد ، لأنَّ الهدف من الجهاد - فی ضوئها - لیس الهدایة . إذ إنَّه یتضمّن لونا من الإکراه لما یحمله من العنف ، والإکراه لیس وسیلة للهدایة من منظار الإسلام : « اَفَاَنْتَ تُکْرِهُ النَّاسَ حَتّی یَکُونُوا مُؤْمِنینَ » (3) « لاَ اِکْرَاهَ فِی الدّینِ » (4) إلاّ أنَّ الجوّ العامّ لهذه النظریّة یرتکز علی عدم أصالة الحرب ، وفی ضوء ذلک ینبغی دائما أن یکون هناک مسوّغ وحافز شرعیّ ومعقول لشنّ الحرب .

4 - النظریّة القائلة بنسخ الجهاد ، وهی تنسب إلی الحرکة القادیانیّة(5) . ونظرا إلی النصوص القرآنیّة والأحادیث الإسلامیّة التی تحوم حول وجوب الجهاد ، فلیس هناک ما یدعو إلی الخوض فی هذه النظریّة .

5 - النظریّة ذات المراحل الثلاث القائلة بأنَّ المسلمین مکلّفون بالإذعان لأحد

ص: 339


1- « صحیح البخاری » 4 : 63 .
2- « مغنی المحتاج » 4 : 210 .
3- یونس : 99 .
4- البقرة : 256 .
5- « آثار الحرب فی الإسلام » للدکتور وهبة الزحیلی ، ص 95 .

الأُمور الثلاثة : إمّا الإسلام ، أو الحلف ، أو الحرب . ومستند هذه النظریّة آیة الجزیة(1) التی وجّهت المسلمین إلی أنَّ الکفّ عن القتال منوط بالإذعان لدفع الجزیة بمعنی عقد الذمّة .

وترتکز هذه النظریّة علی هذا المبدأ الذی یری أنَّ آیة الجزیة هی القاعدة فی الاتّفاقیّة المعقودة بین الحکومة الإسلامیّة والحکومات غیر الإسلامیّة ، بینما نجد أنَّ هذه الآیة تخصّ أهل الکتاب ، وتعرض لونا خاصّا من المعاهدات الدولیّة بشأن أهل الکتاب .

إنَّ دراسة الشروط والقیود الخاصّة الواردة فی آیة الجزیة تبیّن لنا أنَّ تخییر أهل الکتاب بین الإسلام أو الإذعان للعقد أو الحرب یصدق علی من یزعم أ نَّه من أتباع الکتب

السماویّة ، بید أ نَّه لا یؤمن باللّه ولا بالآخرة ، ولا یرعی حرمة المحرّمات الإلهیّة التی قبلها ، ولا یعتقد بدین حقیقی أیضا . وفی ضوء ما یصطلح علیه علم الأُصول فإنَّ المفهوم

المخالف لهذه القیود هو أنَّ أهل الکتاب متی لم یکونوا کذلک وکان إیمانهم صادقا ، وکانوا

متمسّکین بمعتقداتهم ، وملتزمین بأحکام دینهم ، فلا إکراه ولا إرغام یمارس بحقّهم . وإذا کانوا بهذه المواصفات فهم مستعدّون لقبول عقد الصلح شئنا أم أبینا (2) .

ص: 340


1- « قَاتِلُوا الَّذینَ لاَ یُؤْمِنُونَ بِاص للّه ِ وَلاَ بِاص لْیَوْمِ الاْخِرِ وَلاَ یُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّه ُ وَرَسُولُهُ وَلاَ یَدینُونَ دینَ الْحَقِّ مِنَ الَّذینَ اُوتُوا الْکِتَابَ حَتّی یُعْطُوا الْجِزْیَةَ عَنْ یَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ » - التوبة : 29 .
2- « حقوق الأقلّیّات » بقلم المؤلّف ، ص 99 .

الفصل الثانی: الأمن

المبحث الأوّل : مبدأ الأمن

اشارة

إنَّ التمتّع بالأمن فی الحیاة الاجتماعیّة من الأهداف التی یتطلّع إلیها الإنسان منذ عهد

بعید . وکان کابوس الخوف المرعب الناتج عن الاعتداء ، والظلم ، والتهدید مدعاة إلی کآبة الإنسان وخیبة أمله ، وانکماشه ، وعجزه ، وقنوطه فی الحیاة الجماعیّة .

ویجنح الإنسان إلی التخلّص من هذا الکابوس ، والشعور بالحصانة ضدّ الأسباب التی تعرّض الأمن والهدوء وحقوق الفرد والمجتمع للخطر ، وتهدّد الحیاة والحرّیّة والمتع

المشروعة فی حیاة الإنسان أکثر من جنوحه إلی الحیاة نفسها ، ویجد فی ذلک لذّة واستمتاعا .

وفی هذا المجال ، تتقارب التجارب التاریخیّة والأفکار البشریّة الأصیلة والتوجّهات الفکریّة المنطقیّة العقلانیّة من توجیهات الأنبیاء ، لا سیّما توجیهات نبیّنا الکریم صلی الله علیه و آله ورسالته .

ومن الضروریّ ، قبل أن نتطرّق إلی النظرة الإسلامیّة حول الأمن وما یتّصل به ، أن نذکر بأنَّ التوصیات الإسلامیّة العامّة فی هذا المجال تعضد الفکر البشری والتفکّر المنطقیّ

للإنسان وتجاربه الواضحة الملموسة وتؤکّد علی حقیقة تتمثّل فی قدرة الإنسان علی بلوغ

ذلک عبر التجربة والعقل .

ص: 341

قیمة الأمن من منظار الإسلام

ینظر الإسلام إلی الأمن علی أ نَّه أحد رکائز الحیاة ، وأ نَّه أمر لا مناص منه فی الحیاة

الجماعیّة ، وعنصر ضروریّ فی التمتّع بمواهب الحیاة ، وممهّد لتطوّر الإنسان ورقیّه . ویذکره بوصفه من أقدس الأهداف البشریّة والإلهیّة ، ویمکننا أن نقف علی نظرة الإسلام فی هذا

الحقل من خلال استعراض الحالات الآتیة :

1 - إنَّ الإیمان الذی هو التصدیق مع العمل ، فیما یتحف الإنسان بالأمن(1) قد أُطلق فی القرآن والنصوص الإسلامیّة علی أقدس رصید إنسانی . وهو موهبة تتعلّق بها نجاة الإنسان وشموخه وشممه وإقبال حظّه وتعالیه ومصیره . وأنَّ الوعود الإلهیّة کلّها معلّقة

علیه ، وإقراره فی قلب الفرد والمجتمع من أهمّ الأهداف التی ینادی بها الدین(2) .

وهذا یعکس القیمة السامقة للأمن وقداسته فی تعالیم الوحی ورسالة السماء ، القیمة التی یمثّل الإیمان - علی عظمته وأصالته - وسیلة لبلوغها . وقد أطلق القرآن علی أرقی

الناس تعبیر « وَالَّذینَ امَنُوا » ، وفسّروا الأمن بمعنیین(3) : الأوّل : اسم للذین جعل لهم

الأمن . الثانی : اسم للمتمتّعین بالأمن أو ذوی الأمن .

2 - إنَّ الأمانة التی أکّد الإسلام علی حفظها ، وحظر خیانتها « وَتَخُونُوا

اَمَانَاتِکُمْ » (4) سمّیت بهذا الاسم لأ نّها مدعاة لهدوء البال والأمن . وهذه الجوهرة المقدّسة هی التی أضفت علی الأمانة قیمة وقداسة ، سواء کانت بشریّة أو إلهیّة . قال تعالی

: « اِنَّ اللّه َ یَاْمُرُکُمْ اَنْ تُؤَدُّوا الاَْمَانَاتِ اِلی اَهْلِهَا » (5) .

3 - وصف القرآن أقدس مکان فی العالم ، وهو الکعبة ، بالأمن ، فقال فی محکم کتابه : « وَ اِذْ جَعَلْنَا الْبَیْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَ اَمْنًا » (6) . وعبّر عن مکّة بأ نّها حرم آمن ، فقال : « اَوَ لَمْ یَرَوْا اَ نَّا جَعَلْنَا حَرَمًا امِنًا » (7) . وکذلک منَّ بالأمن ، بوصفه تحفة إلهیّة ، علی

ص:342


1- الإیمان هو التصدیق الذی معه الأمن . راجع : « مفردات الراغب » ص 26 .
2- « أُصول الکافی » 2 : 1 - 336 ؛ وشرح ذلک فی « مرآة العقول » ج 7 - 9 .
3- « مفردات الراغب » ص 26 .
4- الأنفال : 27 .
5- النساء : 58 .
6- البقرة : 125 .
7- العنکبوت : 67 .

من دخل هذا الحرم المقدّس ، فقال : « وَمَنْ دَخَلَهُ کَانَ امِنًا » (1) .

4 - جاء فی القرآن أنَّ المدینة التی تتمتّع بالأمن والاطمئنان تعتبر مثالاً وقدوة وأرضا نموذجیّة ، قال عزَّ من قائل : « وَ ضَرَبَ اللّه ُ مَثَلاً قَرْیَةً کَانَتْ امِنَةً مُطْمَئِنَّةً » (2) .

5 - عندما یدخل الصالحون الجنّة یوم القیامة ، فإنَّهم یُبَشَّرون بالأمن . قال تعالی : « اُدْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ امِنینَ » (3) .

6 - الأمن أکبر مکافأة تمنح لأهل الحقّ عند تمییزهم عن أهل الباطل ، قال جلَّ من قائل : « فَاَیُّ الْفَریقَیْنِ اَحَقُّ بِاص لاَْمْنِ » (4) .

7 - الأمن أعظم بشری یبشّر بها المجتمع المثالی فی طریق الإیمان والعمل الصالح ، ویمثّل أعلی مستوی من الرقیّ والسموّ الإنسانی الذی ضُمن فیه تکامل الإنسان . قال تعالی : « وَلَیُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ اَمْنًا » (5) .

8 - الشعور بالأمن حالة جعلها القرآن إمدادا إلهیّا یرفد المجاهدین فی سبیله . قال جلّ شأنه : « ثُمَّ اَ نْزَلَ عَلَیْکُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ اَمَنَةً نُعَاسًا » (6) .

وُصف الأمن فی هذه الآیة کباعث علی الارتخاء والانغمار فی النوم لما یحمله من هدوء مفرط . والآیة ترتبط بغزوة أُحد ، إذ ذاق المسلمون حلاوة النصر والأمن بعد اندحار

وهزیمة فیها .

9 - الإسلام بطبیعته مجلبة للأمن : فجعله ( الإسلام ) أمنا لمن علقه(7) .

10 - میثاق اللّه یفضی إلی التمتّع بالأمن : میثاقه الذی وضعه اللّه لکم حرما فی أرضه وأمنا بین خلقه(8) .

ص:343


1- آل عمران : 97 .
2- النحل : 112 .
3- الحجر : 46 .
4- الأنعام : 81 .
5- النور : 55 .
6- آل عمران : 154 .
7- « نهج البلاغة » الخطبة 106 .
8- نفسه ، الخطبة 192 .

11 - الصلح مقدّس ومطلوب بصفته طریقا لإقرار الأمن : فإنّ فی الصلح دعة لجنودک وراحة من همومک وأمنا لبلادک (1) .

12 - یصف الإمام علیّ علیه السلام رسول اللّه صلی الله علیه و آله بأ نَّه وسیلة للأمن : کان فی الأرض أمانان من عذاب اللّه ، وقد رفع أحدهما ( رسول اللّه صلی الله علیه و آله ) (2) .

13 - جزاء التقوی الأمن فی یوم القیامة : إنَّما هی نفسی أروّضها بالتقوی لتأتی آمنة یوم الخوف الأکبر (3) .

14 - الهدف من إقامة الحکومة وإرساء دعائم النظام السیاسی المرتکز علی قوانین الوحی وتحقیق الأمن : فیأمن المظلومون من عبادک (4) .

المبحث الثانی : الأمن عمل جماعی

لا ریب أنَّ الأمن لا یتحقّق بنشاط فردی أو نشاط یقوم به جانب واحد ، بل یتحقّق بتظافر الجهود . وأنَّ تظافر الجهود التی یبذلها أفراد الشعب لضمان الأمن الوطنی

، وتعاون الشعوب لضمان الأمن الدولی ضرورة لا محیص منها ، إذ علی کلّ فرد وکلّ شعب أن یضطلع

بدور معیّن ، ویتقبّل قسطا من المسؤولیّة ، وذلک بغیة تمتّعه والآخرین بهذه النعمة

الموهوبة .

وتستبین الضرورة المتمثّلة بضمان الأمن من منظار الإسلام بما ذکرناه عن قیمة الأمن من ذلک المنظار . والآن ینبغی أن نتعرّف علی الفروض المسبقة التی طرحها الإسلام لاستقرار الأمن الجماعی . والفروض التی یمکن أن یضمن الأمن الجماعی فی ضوئها هی

:

1 - الاتّکاء علی القواسم المشترکة التی تمثّل أهمّ المبادئ والأُسس التی تقوم علیها الدعوة والعلاقات الدولیّة فی الإسلام(5) . وفی ضوئها یمکن أن یتبلور الأمن الجماعی

ویضمن تماسکه .

ص:344


1- « نهج البلاغة » ، الرسالة 53 .
2- نفسه ، الکلمات القصار ، رقم 88 .
3- نفسه ، الرسالة 45 .
4- نفسه ، الخطبة 131 .
5- « قُلْ یَآ اَهْلَ الْکِتَابِ تَعَالَوْا اِلی کَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَیْنَنَا وَبَیْنَکُمْ » - آل عمران : 64 .

لأ نّنا إذا رفضنا بشکل مطلق هذا الافتراض المرتکز علی تکافؤ الحکومات کلّها فی الاستفادة من إقرار الأمن ، واعتبرنا المصالح الوطنیّة متغیّرة بالنسبة إلی الأمن بسبب

الدوافع والأهداف المتباینة للحکومات ، فلا یخامرنا الشکّ أنَّ قواسم مشترکة قائمة بین

الشعوب فی هذا المجال ، ویمکن أن تشکّل دعامة للأمن الجماعی .

والتأکید الذی أولاه الإسلام فی مجال توجیه الشعوب شطر القواسم المشترکة وإرساء دعائم الهیکل العامّ للعلاقات المتبادلة فی ضوء هذه القواسم المشترکة ، یمکن أن یعتبر عاملاً قویّا فی دیمومة الأمن الجماعی .

ونظرا إلی هذه الضرورة وهی أنَّ الاتّفاق علی القواسم المشترکة یوسّع دائرة القواسم المشترکة دائما ، وکلّ قاسم مشترک بالفعل یصبح قاعدة للوصول إلی قواسم مشترکة جدیدة ، لذا یمکن دراسة الأبعاد الخاصّة بضمان الأمن الجماعی من خلال ارتکازها علی

هذا المبدأ .

2 - لزوم المساهمة الجماعیّة فی حقلی « البرّ » و « التقوی » والتعاون فی جمیع القضایا

المرتبطة بهذین الحقلین(1) أساس آخر یمکن أن یقوم بدور لافت للنظر فی تحقیق الأمن الجماعی واستمراره .

ویشمل حقل « البرّ » جمیع المجالات التی یمکن أن تکون مفیدة فی حیاة الناس ولها دور فی رقیّها . ولا ریب أنَّ الأمن من منظار العقل والإسلام هو من وجوه البرّ

، ومن أبرز مصادیقه . ویعتبر أفضل وسیلة لاستثمار مواهب الحیاة ورقیّها .

ویشمل حقل « التقوی » أیضا کلّ سلوک یمکن أن یکون مؤثّرا فی تقرّب الإنسان إلی اللّه ، ولا شکّ أنَّ الأمن - کما رأینا فی الآیات السابقة - یؤدّی دورا خاصّا فی تقرّب

الإنسان إلی اللّه وعبودیّته ، إلی الحدّ الذی عبّرت فیه إحدی الآیات عن نعمة الأمن

بوصفها الأرضیّة التی تمهّد لعبودیّة اللّه والتوحید الخالص فی العبادة(2) .

إنَّ تأکید القرآن علی التعاون والمشارکة الجماعیّة فی کافّة حقول « البرّ » و« التقوی » ، ومنها الأمن ، یضفی علی هذه الضرورة الاجتماعیّة طابعا جماعیّا لا محالة ،

ص: 345


1- « تَعَاوَنُوا عَلَی الْبِرِّ وَالتَّقْوی » - المائدة : 2 .
2- « وَلَیُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ اَمْنًا یَعْبُدُونَنی لاَ یُشْرِکُونَ بی شَیْٔا » - النور : 55 .

ویرتقی بالأمن من صفته الفردیّة إلی صفته الجماعیّة إذ تکون له قاعدة شعبیّة عریضة وعمیقة ، ویستبدل الدافع الجماعی الواسع بالدوافع الفردیّة .

ومن جهة أُخری ، کلّما اتّخذ الأمن أبعادا أوسع بناءً علی ما تتطلّبه الظروف وما یستدعیه الرقیّ وتعمیق العلاقات الجماعیّة فی الحیاة ، فإنَّ الأمر الإلهی الداعی إلی التعاون والمشارکة ووحدة المسیر والاتّحاد یتّخذ أبعادا أیضا فی استقراره ودیمومته .

صحیح أنَّ الأمن بوصفه قیمة من القیم یتباین من ناس إلی آخرین ، ومن شعب إلی آخر ، وأنَّ جمیع الشعوب لا تتبرّأ من الانتهاک والتهدید بصورة متساویة ، وحتّی یمکننا أن نفترض أنَّ حکومة ما لا تشعر بإقرار الأمن فی منطقة من العالم أو فی کلّ العالم کالشعوب

التی تتمتّع بالأمن ، وذلک لأسباب ما ، وتجد مصالحها معرّضة للخطر أحیانا ، إلاّ أ نَّه متی کانت ظاهرة کالأمن ذات قیمة بمستوی البرّ والتقوی ، فلابدّ أن یزول هذا التصوّر الذی

یحوم حول الفائدة التی تعود علی الشخص أو علی الحکومة من وراء القیام بهذا العمل وتحقیق هذه الظاهرة .

والحکومات مکلّفة أن تمارس نشاطاتها من منطلق البرّ والتقوی ، حتّی أنَّ تحمّل الخسائر المحتملة فی هذا الطریق الذی یکفل السعادة القومیّة والأُممیّة أکثر موضوعیّة من تأمین مصالح تافهة محتملة علی حساب فقدان المصالح القومیّة والدولیّة الکبری فی ظلّ

الأمن الجماعی .

واتّسام الأمن الجماعی بالبرّ والتقوی بمفهوم واسع یشمل تماسک الأمن وعدم تجزئته أیضا ، وهو نفسه شاهد علی هذه الحقیقة وهی أنَّ الأمن متی استتبّ فی مکان ، فإنّه یشمل أمن الآخرین نوعا ما ، ویمکن أن یشکّل هذا المبدأ أیضا وثیقة لإدانة الافتراض القائل

بأ نَّه متی کانت مصالح إحدی الدول غیر معرّضة للخطر فی الظروف التی ینعدم فیها الأمن ، فیمکن أن یُسمح للمعتدی أو المعتدین أن یبیدوا ضحایاهم بدون أیّ قلق .

وفی ضوء هذا المنطق القرآنی ، فإنَّ الهدف من الإیمان هو « البرّ » و« التقوی » ، وهما

محور العمل الصالح أیضا ، وبهذا الافتراض یمکن القول : إنَّ الحکومات ذات مصالح مشترکة

فی إقرار الأمن ودیمومته ، وإنَّ الأمن هدف لجمیع الحکومات فی الحیاة الدولیّة .

وفی ضوء هذا المبدأ ، متی کان الأمن مهدّدا فی زاویة من زوایا العالم ، فلابدّ لجمیع

ص: 346

الحکومات أن تبدی ردود فعل مشترکة حیال ذلک ، وأن لا تنظر إلی أهمیّة الأمن وقیمته من منطلق المصالح الوطنیّة الخاصّة ، إذ عندما لا یهدّد الاعتداء تلک المصالح الخاصّة - وفقا لهذا الحساب الخاطئ والحدود - فلتترک الأمن ضحیّة لمطامح حکومة أُخری .

3 - أدان الإسلام کلّ ما من شأنه أن یهدّد الأمن بنحو من الأنحاء ، وأکّد علی تحریمه ، وحظر علی الناس أن یفعلوا ذلک . وهکذا فإنّه ضمن هذه القیمة الإنسانیّة الرفیعة من

خلال اجتثاث العوامل المهدّدة للأمن .

ویمکن أن نجمل أهمّ العوامل التی تهدّد الأمن القومی والدولی فیما یلی : الظلم ، والاعتداء ، والقسر والإکراه ، والتهدید والترعاب . وکما سنری فی البحث القادم

، فإنَّ الإسلام حرّم هذه العوامل کلّها ، ونهی عنها بقوّة ، وذکرها من الوجهة الحقوقیّة کجرائم

تستحقّ الملاحقة والعقاب .

4 - إنَّ منع الرضوخ للظلم ، والاعتداء ، والقسر ، والتهدید ، والتخویف ، هو نفسه

فرضیّة أُخری تلغی الأرضیّة المتمثّلة بتهدید الأمن علی نطاق واسع . ویوضّح المبدأ

القرآنی العامّ « لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ » (1) سعة هذا النطاق .

5 - التأکید علی المعاهدات وتبلور ضروب الوفاق الموسّع فی قالب الأحلاف الثنائیّة أو المتعدّدة الجوانب ، بحیث یتیسّر ضمان دیمومة المصالح الوطنیّة ضمن المصالح المشترکة

للشعوب .

لا ریب أنَّ الأمن علی أساس المعاهدات المشترکة یمکن أن یؤدّی دورا لافتا للنظر فی تعمیم المصالح المشترکة للحکومات فی الأمن الجماعی ، والعمل علی جعل المسؤولیّة التی

تتقبّلها الحکومات متساویة أمام الأخطار التی تهدّد الأمن ، ویضاعف من قدرة المواجهة

أمام العوامل المهدّدة ، ویحول دون تبدّل الدول الصغیرة بساحة لصراع القوی الکبری وتنافسها .

واصطباغ الأمن الجماعی بصبغة المعاهدة فرضیّة یمکن أن توحّد أنصار الأمن أمام الحکومات المعتدیة ، وتضفی علی قوّة الأمن المتّحدة تفوّقا أکثر .

إنَّ مبدأ الجمیع ضدّ شخص واحد یمکن أن تطبّقه عملیّا عبر اتّخاذ الأمن طابعا

ص: 347


1- البقرة : 279 .

تعاقدیّا

، ونحقّق بذلک الأمن الجماعی ، لأنَّ اتّحاد أکبر عدد من الدول علی أساس معاهدة مشترکة ، ینظّم قرارها فی مواجهة العوامل المهدّدة للأمن ، ویصنع من هذه الإرادة المشترکة قدرة متفوّقة لضمان الأمن الجماعی .

ولو افترضنا أنَّ دولة أو عددا من الدول کانت لها قابلیّة علی المقاومة أمام مثل هذه القدرة المنظّمة - مع أنَّ هذا الافتراض محتمل - إلاّ أنَّ تنظیم الدول فی معاهدة تضمن الأمن سیقلّل - علی أیّ حال - من احتمال التعرّض الذی قد تقوم به قوّة مهدّدة للأمن بشکل

لافت للنظر ، حتّی مع الافتراض المذکور .

وجود المنافسة بین الدول الکبری عامل آخر یضعف وقوع مثل هذه الحادثة المحتملة بقوّة ، ویجعله مستحیلاً ، کما نجد هذا الیوم أنَّ مثل هذه المنافسة بین المعسکرین : الغربی ، والشرقی تعتبر عقبة کؤودا تحول دون إمکان تهدید الأمن الدولی من قبل أحد المعسکرین ، أو دون قیام أحدهما بأعمال عدوانیّة ضدّ العالم الثالث .

إنَّ هذا الافتراض القائل بأنَّ أیّ دولة لا تستطیع أن تقاوم - بنجاح - قوّة متّحدة مؤلّفة من دول أُخری ، افتراض صحیح(1) . ویمکن تحقیق هذا الافتراض فی قالب المعاهدات المتعدّدة الجوانب(2) .

6 - عمومیّة المسؤولیّة المتمثّلة بمواجهة الظلم ، والعدوان ، والقسر والإکراه ، والتهدید ، والترعاب ، من الأرکان الرئیسیّة لضمان الأمن الجماعی فی الإسلام ؛ ذلک لأنَّ جمیع العوامل المهدّدة للأمن هی من مصادیق « المنکر » ، أی : العمل القبیح ، والخبث

والدنس ، والعمل المذموم ، والعمل المرفوض المضادّ للقیم ؛ ونجد أنَّ جمیع المجالات والطرق المؤدیّة إلی الأمن « المعروف » أی : العمل الطیّب ، والعمل المحمود ، مقبوله ، ومن القیم الإنسانیّة الرفیعة . وقد کلّف القرآن الکریم جمیع الناس(3) بالقیام فرادی وجماعات من

ص:348


1- ای . اف . ک أرغانسکی . « سیاست جهان » ترجمة حسین فرهودی ، ص 495 ، بنگاه ترجمه ونشر کتاب ، طهران 1976م .
2- إنَّ اصطلاح الأمن الجماعی المطروح هذا الیوم یعنی التعاون من خلال ردّ فعل مشترک علی أساس حلف مشترک . راجع : « معجم العلوم السیاسیّة » [ فارسی ] ص 52 .
3- « وَلْتَکُنْ مِنْکُمْ اُمَّةٌ یَدْعُونَ اِلَی الْخَیْرِ وَیَاْمُرُونَ بِاص لْمَعْرُوفِ وَیَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْکَرِ » - آل عمران : 104 .

أجل تحقیق کلّ ما هو معروف ، وقطع دابر ما هو منکر(1) .

وقد اعتبر القرآن المبادرة للقیام بهذه المسؤولیّة العامّة آیة التقدّم والرقیّ والسموّ ، وذکر الأفراد والأُمم التی تأمر بالمعروف وتنهی عن المنکر علی أ نّها قدوة للآخرین(2) ، وقد عدّ ذلک أیضا من آیات التوجّه نحو الوحدة ، ومن معطیات التنظیم والتنسیق والاتّحاد(3) .

ولا

ریب أ نّنا یمکن أن نتوقّع دیمومة الأمن الجماعی واستمراره من خلال هذا الافتراض المسبق . ویمکن أن یکون الأمن ذا قدرة متفوّقة علی مستوی واسع . لأنَّ الدولة

أو الدول التی تنوی تهدید الأمن - فی ضوء هذا الافتراض - تعلم أنَّ أعمالها العدوانیّة

ستجابه بردّ فعل موحدّ تقوم به بلدان العالم الأُخری ، ولمّا لم یبق لها أمل بالنجاح فی أعمالها العدوانیّة ، من خلال هذا التصوّر ، فإنّها تترک خطّتها المهدّدة للأمن جانبا ، وتقرّ بالأمن الجماعی مضطرّة .

ویمکن أن یکون هذا الافتراض مجدیا عند تخلخل الموازنة فی القوّة بین أقطاب القدرة والدول العظمی المتنافسة ، ولعلّه یجعل میزان القوّة لمصلحة الأمن الجماعی والدولی .

وفی ضوء هذا الافتراض أیضا ، فإنَّ مبدأ إیثار المصالح الوطنیّة علی المصالح الدولیّة العامّة ، الذی یمثّل سببا لکثیر من الأعمال العدوانیّة وتصعید الأزمات ، وإضرام نار الحرب أحیانا ، یصبح مرفوضا ، کما لا یدع اعتبارا للتفکیر بالمصلحة فی الوقوف إلی جانب

الأمن .

إنَّ تبلور المسؤولیّة العامّة فی مراعاة الأمن ومواجهة العوامل المهدّدة له ، فی قالب سلطة متفوّقة علی الصعید العالمی ، سیزیل کثیرا من الامتیازات الناشئة عن القدرة العلیا

التی استأثرت بها الدول العظمی ، وسیحرم تلک الدول إمکان استثمارها لقوّتها العسکریّة ، ویفسح المجال للدول الضعیفة أن تقف صفّا واحدا فی مواجهة النظام الدولی المفروض علیها

لمصلحة الدول العظمی ، وتدافع عن أمنها .

ص:349


1- « اَنْ تَقُومُوا للّه ِِ مَثْنی وَ فُرَادی » - سبأ : 46 .
2- « کُنْتُمْ خَیْرَ اُمَّةٍ اُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَاْمُرُونَ بِاص لْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْکَرِ » - آل عمران : 110 .
3- « وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ اَوْلِیَآءُ بَعْضٍ یَاْمُرُونَ بِاص لْمَعْرُوفِ وَیَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْکَرِ » - التوبة : 71 .

المبحث الثالث : التدابیر والفرضیّات الخاصّة بالأمن فی النظام الدولی المعاصر

اشارة

یتعرّض الأمن الدولی للتهدید هذا الیوم أکثر من أیّ وقت مضی وذلک فی ظلّ الظروف السیاسیّة والاقتصادیّة والعسکریّة المعاصرة للعالم ، وکذلک فی ظلّ النظام الدولی

المعاصر المرتکز علی تلک الظروف .

والمشکلة الأساسیّة هی أ نَّه کیف یمکن فی هذه الظروف السائدة فی النظام الدولی أن نضمن فشل کلّ اعتداء مسلّح وأعمال عدوانیّة تهدّد الأمن فی العلاقات الدولیّة ؟

ولا یمکن تفادی الخلافات التی تتّخذ صورا متباینة وأبعادا متنوّعة ، إلاّ أ نَّه لابدّ لنا من التفکیر بحلّ للطوارئ المرتقبة . فما هی الخطّة التی یمکن أن تحول دون تضرّر الأمن

الدولی فی مقابل هذه الخلافات ؟

وفی الوقت الذی ینبری فیه أهل الاختصاص فی العلوم السیاسیّة وعلماء القانون ، وقبلهم میثاق الأُمم المتّحدة وقرارات الجمعیّة العامّة لمنظّمة الأُمم المتّحدة ومجلس الأمن ، إلی تسویة هذه المشکلة الدولیّة الکبیرة ، فإنّهم یتغاضون عن القیم الأساسیّة التحتیّة

للأمن الدولی . وفیما یلی ندرس الحلول المقدّمة فی هذا المجال مستهلّین حدیثنا بتعریف

الأمن .

1 - الأمن القومی

وهو الشعور بحرّیّة البلد فی متابعة الأهداف القومیّة وعدم الخوف علی المصالح الأساسیّة والحیویّة للبلد(1) من الأخطار الخارجیّة الجدیّة

.

مفهوم الأمن القومی فی هذا التعریف یعنی الحرّیّة ، ویرتبط بالأهداف والمصالح القومیّة والحیویّة للبلد . من هذا المنطلق ، فإنَّ کلّ بلد یفسّر أمنه القومی بلون خاصّ یتناسب مع فهمه واستیعابه لهذه المفاهیم ؛ إلی درجة أنَّ نطاق الأمن القومی قد یشمل

سلب الأمن من البلدان الأُخری أیضا .

من هذا المنطلق ، یعتبر الأمن القومی أمرا نسبیّا ، ویتبلور ذهنیّا علی أساس أفکار خاصّة مذکورة فی مجال المفاهیم ، ویظهر تبعا لحجم القدرة . وهذه التعقیدات الذهنیّة هی

ص: 350


1- « معجم العلوم السیاسیّة » لعلی آقا بخشی ، ص 173 ، نشر تندر ، طهران ، 1984م .

التی تبدّل الأمن - عملیّا - إلی سبب للاعتداء ، أو تجعله عرضة للتضرّر فی مقابل الاعتداء .

2 - الأمن الجماعی
اشارة

عدد من البلدان التی تتعاون فیما بینها وفقا لأحلاف ومواثیق متنوّعة تبدی ردّ فعل مشترک إزاء الاعتداء أو التهدید الذی تتعرّض له . هذه الحالة المنبعثة عن العمل الجماعی

تدعی : الأمن الجماعی(1) .

یمثّل الأمن الجماعی - فی الحقیقة - مشروعا یستهدف الحفاظ علی النظام الدولی القائم ، والفرار من الحروب المدمّرة .

عجز الفرضیّات الخاصّة بالأمن الجماعی

أثبت الواقع المعاصر للنظام الدولی أنَّ الفرضیّات الخاصّة بالأمن الجماعی غیر عملیّة ، لأنَّ الاتّفاق علی تحدید المعتدی ترافقه مشاکل کثیرة باستمرار .

وإذا أغضینا عن الإشکال الرئیس الذی یحمله تعریف الاعتداء من الوجهة القانونیّة ، فإنَّ المحاولة المبذولة لتشویه صورة الأحداث تفضی دائما إلی غموض کبیر فی تحدید المعتدی ، إلی الحدّ الذی نلاحظ فیه أ نَّه علی الرغم من رفع الإشکال الناتج عن تعریف الاعتداء فی بعض الحالات ، ووضوح الاعتداء وعلنیّته ، فإنَّ الحقائق تشوّه إلی

درجة لا یبقی معها إمکان لتحقیق الاتّفاق بصورة عامّة .

ویمکننا أن ندرس فی هذا المجال نماذج متنوّعة من حیث طبیعة الاعتداء مثل : هجوم الیابان علی أمیرکا ، وهجوم ألمانیا علی بولندا ، وهجوم إیطالیا علی الحبشة وألبانیا ، وهجوم الروس علی فنلّندا ، وهجوم إسرائیل علی مصر ، وهجوم النظام العراقی علی الجمهوریّة الإسلامیّة الإیرانیّة .

إنَّ الفرضیّة القائلة بالمصالح المشترکة للحکومات فی إیقاف الاعتداء لا تنسجم - بدورها - مع الواقع العملی الملموس ، وإن کانت موائمة للعقل السلیم والمنطق

، ذلک لأنَّ

ص: 351


1- « معجم العلوم السیاسیّة » لعلی آقا بخشی ، ص 52 .

کثیرا من الحکومات تهمّها قیم أُخری غیر مواجهة الاعتداء ممّا یمنعها من مشارکة الحکومات الأُخری فی إیقاف الاعتداء ، ویرغمها علی أن لا تترک المعتدی وحده .

من هذا المنطلق نری أنَّ بعض الحکومات لا تری أنَّ مصالحها کامنة فی إیقاف الاعتداء فحسب ، بل وتتصوّر أنَّ المشارکة فی ذلک جزء من مصالحها .

ونلحظ - مبدئیّا - أنّ تساوی مصالح الحکومات مع الحکومة المعتدی علیها فی إیقاف الاعتداء أمر ترفضه الحقائق المادّیّة الملموسة ، لأ نّه علی الرغم من أنَّ أمن کلّ بلد من البلدان الأُخری یمکن أن یتعرّض للخطر من خلال استمرار الاعتداء ، إلاّ أنَّ تفاوت

الدول من حیث القدرة السیاسیّة والعسکریّة والاقتصادیّة ، والمواصلات الدولیّة ، والموقع

الجغرافی ، والخصوصیّات الأُخری المؤثّرة فی ضمان الأمن یفضی عادة إلی أنَّ الحکومات

لا تحمل شعورا متکافئا عند مواجهة الاعتداء .

ویمکن أن نتصوّر عدم المساواة هذه أیضا فیما یخصّ البلدان الصدیقة للبلد المعتدی ، وکذلک فیما یخصّ الحکومات التی تفید من الاعتداء بشکل من الأشکال .

ونری أنَّ فرضیّة المصالح المشترکة للحکومات فی إیقاف الاعتداء تتّکئ علی المبدأ القائل إنَّ جمیع الحکومات تفید من الأمن الجماعی والنظام الدولی المرتکز علیه بصورة

متساویة . ولا ریب أنَّ هذا الفرض لو کان بعیدا عن الواقع ، فإنَّ الفرضیّة المذکورة سوف تفقد اعتبارها لا محالة . ولعلّها تفید من تخلخل النظام الدولی المفروض بسبب الاعتداء

أکثر من إیقاف الاعتداء .

وفی هذا الصدد ، فإنَّ الحکومات المقتدرة والمقتنعة بالنظام الدولی هی التی توقف المعتدی عند حدّه ، وتضمن أمنها المثالی بمؤازرة الحکومات الأُخری ، وبتکالیف أقل .

والمبادئ النظریّة لهذا المشروع هی التی کانت الأساس فی تشکیل عصبة الأُمم السابقة . وساهم کثیر من فرضیّاتها فی تأسیس منظّمة الأُمم المتّحدة(1) .

وربّما جاء تفسیر الأمن الجماعی بمعنی توفیر الأمن لجمیع الشعوب أیضا (2) . والفرض المسبق للأمن الجماعی هو أ نَّه لا یمکن الوقوف بوجه المعتدی بالمنطق والدلیل والمشاعر

ص: 352


1- « سیاسة العالم » ص 479 .
2- نفسه .

الإنسانیّة الودّیّة والتوصیات الأخلاقیّة ، وإنَّما هناک قدرة أعلی تستطیع الحؤول دون الاعتداء .

من جهة أُخری ، یعتبر البدء بالاعتداء من قبل دولة ضدّ دولة أُخری خرقا للأمن الجماعی ، ومن ثمّ خرقا للنظم الدولی .

وفی مشروع الأمن الجماعی ، تتشابک خیوط الأمن القومی مع خیوط أمن البلدان الأُخری ، وأحیانا الأمن الدولی . فیطرح الأمن بوصفه أمرا لا یقبل الانفکاک والانفصال .

وکما أنَّ الأمن القومی عرضة للتغیّر والتبدّل فی ضوء التفسیرات المختلفة للأهداف والمصادر القومیّة ، فکذلک الأمن الجماعی فإنَّه یمکن أن یکون عرضة للتغیّر والتبدّل فی ضوء فرضیّات النظام الدولی وشرعیّة المنظّمات الدولیّة .

ونلحظ مبدئیّا أنَّ التفسیر المطروح للأمن هو فی الحقیقة حالة فی مقابل الاعتداء ، کما أنَّ السلم المطروح فی القانون الدولی حالة فی مقابل الحرب .

عجز الفرضیّات الخاصّة بالمشروع

أفضی هذا التفسیر إلی أن ینظر المنظّرون فی القانون الدولی الجدید إلی فکرة الأمن الجماعی بوصفها مرتکزة علی خمس فرضیّات(1) :

1 - ینبغی تحدید المعتدی من قبل جمیع البلدان عند نشوب أیّ اصطدام مسلّح . ویجب أن یتحقّق هذا الوفاق بشکل سریع وعاجل ، وذلک لتتهیّأ الأرضیّة من أجل إیقاف الاعتداء والاصطدام المسلّح بنحو إلزامی .

2 - البلدان کافّة لها مصلحة متکافئة فی إیقاف الاعتداء . ومواجهة الاعتداء تتمتّع بقیمتها من حیث إنَّها تلقی ظلّها علی سائر العلاقات الدولیّة . وینبغی أن لا

یکون هناک عائق یمنع الحکومات من مواجهة الاعتداء .

3 - تتمتّع جمیع البلدان بحرّیّة العمل والقدرة علی الوقوف بوجه المعتدی ، وذلک بصورة متساویة .

4 - ستکون القوّة المتّحدة للأمن الجماعی ، أی : دول العالم کافّة ما عدا الدولة

ص: 353


1- « سیاسة العالم » ص 482 .

المعتدیة ، علی درجة من القدرة بحیث تستطیع قمع المعتدی .

5 - الحکومة المعتدیة التی ساعدت الظروف القائمة علی قمعها ، تجد نفسها مضطرّة إلی الکفّ عن الاعتداء ، أو التراجع عن موقفها .

ولا یتیسّر لکلّ دولة الانضمام إلی الأمن الجماعی للإفادة من القدرة الدولیّة بغیة مواجهة الاعتداء أو الحؤول دونه . فدولة ضعیفة تقع محاددة لدولة مقتدرة وربّما معتدیة ، إذا أرادت الانضمام إلی الدول الأُخری - فی ضوء مشروع الأمن الجماعی - لإیقاف الاعتداء الذی تتعرّض له من قبل جارها المقتدر ، فماذا تحصل ؟ وهل یعنی هذا العمل شیئا غیر أ نّها تجعل أرضها وشعبها ووجودها مسرحا لاعتداء جارها ، فتبید نفسها بیدها ؟

ولو وعدت الدول الأعضاء بتحریر هذه الدولة بعد احتلالها من قبل المعتدی ، أو وعدت بإعمارها

بعد الدمار ، فإنَّ هذا التحریر ( أو الإعمار ) - کما یقول صاحب کتاب سیاسة العالم

- سیترک وراءه دمارا أکثر من الهجمات الأُولی للمعتدی(1) .

وقد دلّت التجارب السابقة جیّدا أنَّ الدول المقتدرة - قلّما - التزمت بعهودها فی هذا المجال . ونلمس ذلک فی هجوم إنجلترا وفرنسا علی مصر بذریعة تهدید الأمن من خلال غلق قناة السویس ، فإنَّ أمیرکا لم تتعاون معهما کحلیفة لهما علی الرغم من عهودها السابقة فی هذا المجال ، بید أ نّنا نجد لها تواجدا عسکریّا عدوانیّا فی الخلیج الفارسی بذریعة مماثلة لذریعة حلفائها فی قناة السویس ، فهل لإنجلترا وفرنسا وغیرهما من الدول أن تواجه هذا

الاعتداء الصارخ أو حتّی تعارضه ؟

ویصدق هذا السؤال أیضا علی المعسکر الشرقی وحلفائه ، فلابدّ أن تجری الأُمور علی النسق نفسه .

وإذا کانت الدول المعتدیة صغیرة وضعیفة ، فلن تطرأ مشکلة یؤبه لها ؛ وأمّا إذا کانت کبیرة ومقتدرة ، فإلی أین یؤول مصیر الأمن الجماعی ؟ وهل تطبّق فرضیّة تفوق القوّة المتّحدة للأمن الجماعی ؟

وقد رأینا عملیّا أنَّ ألمانیا الهتلریّة لم تبق وحدها قطّ فی الحرب العالمیّة الثانیة ،

ص:354


1- « سیاسة العالم » [ فارسی ] ص 490 .

ولم

تحارب العالم قطّ ، بل ترکت ضحایاها وحدهم فی البدایة ثمّ قتلتهم ، مع أنَّ مآل الحرب قد أثبت أهمّیّة الأمن الجماعی .

ویختلف الوضع بالنسبة إلی أمیرکا والاتّحاد السوفیتی ، لأ نّه ما لم یکن هناک أمن جماعی فإنَّ البدء بالاعتداء لا یمکن أن یصدر عن إحداهما بشکل یهدّد الأمن الدولی ، إلاّ

أنَّ هذا الوضع نتج عن سبب هو غیر الأمن الجماعی ، وأمّا إذا اتّفقت هاتان الدولتان ، فماذا سیحدث ؟ وفی هذه الحالة أیضا ، هل أنَّ مشروع الأمن الجماعی سیفقد أثره ؟

وهکذا یلاحظ أنَّ المنظّمات الدولیّة التی تأسّست لتطبیق مشروع الأمن الجماعی تعجز عن القیام بعمل ما عندما تکون هناک حاجة ماسّة للأمن الجماعی(1) .

المبحث الرابع : إحیاء الفرضیّات الجدیدة المرتکزة علی القیم الإسلامیّة

اشارة

إنَّ دراسة الأسباب المؤدیّة إلی فشل الفرضیّات الخمس فی الأمن الجماعی تدلّ علی أنَّ العامل الرئیس لهذا الفشل هو سیادة النظام المادّی والتوجّهات المصلحیّة علی جمیع

الجوانب فی العلاقات الدولیّة ، ومنها العلاقات الإنسانیّة فی الساحة الدولیّة .

وعندما لا یکون هناک ضابط أخلاقی مرتکز علی القیم الإنسانیّة الرفیعة بوصفه درعا یحول دون الانتهاک وممارسة القوّة ، وعندما یقرّ النظم والأمن أُناس یستغلّون الوضع القائم إلی أبعد حدّ ، ولیس هناک محکمة أو حکومة عامّة تفرض سیادتها علی الحکومات الأُخری ، فلابدّ أن یسود المنطق القائل بأنَّ « دلیل القانون الأقوی أقوی دائما » ، وتغدو القدرة معیارا أصلیّا وفریدا فی النظام الدولی(2) .

إنَّ المبادئ والفرضیّات التی تحدّثنا عنها فی مستهلّ هذا البحث بوصفها فرضیّات إسلامیّة مسبقة ، لو أُقرّت کبنیة تحتیّة للفرضیّات الخمس فی مشروع الأمن الجماعی ، فلا ریب أ نّها تستطیع أن تحیی المشروع المذکور الذی یمثّل الأمل الوحید الذی تتطلّع إلیه شعوب العالم فی استقرار الأمن المضمون ، وتجعله صالحا للتطبیق .

ولا یعنی هذا الکلام سلب الاعتبار من قواعد القانون الدولیّ ، کما لا یعنی اللجوء إلی

ص: 355


1- « سیاسة العالم » ص 503 .
2- انظر : ماراسل بوازار فی کتاب « انسان دوستی در اسلام » ترجمة الدکتور مهدوی والدکتور یوسفی ، ص 315 ، 1983م .

القیم الأخلاقیّة ، بل یعنی أنَّ الاهتمام بالقیم الأخلاقیّة وتوسیع دائرتها یمکن أن یشکّل بنیة تحتیّة للقانون .

ومن البدیهی أنَّ هذا التطور الجوهری یمکن أن یحدث خللاً فی النظام الدولی المعاصر وآلیة المنظّمات الدولیّة القائمة علی أمدٍ ما ، إلاّ أنَّ الخطر لمّا کان مرتقبا ومروّعا ، فلنا أن نجرّب ذلک بغیة الوصول إلی مرافئ الأمن الحقیقی علی الصعید الدولی .

ولو درسنا الجذور التاریخیّة لمنظّمة الأُمم المتّحدة وعالمیّتها ، ومن ثمّ مشروع الأمن

الجماعی الذی کان یضمّ ( 51 ) عضوا سنة 1945م ، ویضمّ الآن ( 109 ) أعضاء ، فإنّنا

یمکن أن نتوقّع إمکانیّة الظفر بمثل هذا التطوّر العظیم الضامن للأمن الدولی فی خطّة مبرمجة زمنیّا .

ونری أنَّ التطوّرات السیاسیّة والاجتماعیّة علی الصعید الدولی جعلت کلّ تغییر ممکنا . علی سبیل المثال کانت الأقطار الأُوروبیّة تشکّل الأکثریّة فی تدوین العهود

والمواثیق الدولیّة حتّی سنة 1950م ، بینما تشکّل الیوم ، علی الصعید الدولی ، أقلّ من ربع أعضاء الجمعیّة العامّة لمنظّمة الأُمم المتّحدة .

ونظرا إلی الدور الذی تؤدّیه الجمهوریّة الإسلامیّة الإیرانیّة هذا الیوم فی القضایا المتعلّقة بحرکات التحریر والحرکات الإسلامیّة الأصیلة فی ربوع العالم الإسلامی ، والصدی

الذی ترکته الثورة الإسلامیّة یدوّی فی الآفاق نافذا ومتجذّرا فی أعماق الشعوب الإسلامیّة

والشعوب المستضعفة فی العالم بوصفه عاملاً مصیریّا فی السیاسة الدولیّة دفع الدول الکبری

إلی إبداء ردود فعل سیاسیّة وعسکریّة حادّة وخطیرة للغایة ، ونظرا إلی أنَّ الزمن ، الذی کانت فیه الحکومات والشعوب الإسلامیّة کأحجار الشطرنج تبدّلها الدول الکبری فی الألعاب السیاسیّة أ نّی شاءت دون الأخذ بنظر الاعتبار دینها الإسلامی العظیم ، قد ولّی بلا رجعة ، نظرا إلی هذا کلّه ، ألا یمکن الاطمئنان إلی أنَّ ما وراء التطوّرات القادمة التی ستحصل علی نفس النسق هو أنَّ الفرضیّات الأساسیّة فی الإسلام تؤدّی دورها فی إحیاء المبادئ الدولیّة المعروفة التی تقع موقع القبول عادة ، کالدور الذی قامت به الثورة

الإسلامیّة فی إقرار ودیمومة النظام السیاسی المرتکز علی المبادئ والمعطیات الإسلامیّة

بدیلاً عن النظام السیاسی الملکی الجائر فی إیران ؟

ص: 356

انطلاق الأمن من باطن الإنسان

لا شکّ أنَّ ما یقال عن السلم أ نَّه یتبلور فی فکر الإنسان ، وکذلک ما یقال عن الحرب ، ینطبق علی الأمن أیضا بمفهوم أوسع من الفکر طبعا ، لأنَّ الفکر نفسه معلول ، وینبغی أن نستقصی علله أیضا .

وللأمن جذور فی عواطف الإنسان وغرائزه ومشاعره السامیة ( الأخلاق ) وعقیدته . وتتبلور الحیاة الاجتماعیّة للإنسان بالآثار المنبعثة من هذه العوامل . وینبغی أن نتحرّی الآثار المتناسبة معها من هذه العوامل وذلک من أجل إقرار الأمن واستمراره فی

العلاقات الاجتماعیّة أو الدولیّة . وهذا لا یتحقّق إلاّ إذا جعلنا هذه العوامل جمیعها منسجمة مع ما نریده وننشده ؛ أی : تعمر العواطف والغرائز والمشاعر السامیة (

الأخلاق ) والعقیدة علی صعید المجتمع والعالم بنحو یتحقّق فیه الأمن المثالی للإنسان علی أساس

هذه العوامل .

وتشکّل المبادئ التی طرحناها علی أساس التعالیم الإسلامیّة جزءا من مدرسة بنّاءة تستهدف تربیة العوامل الأصیلة للحیاة فی باطن الإنسان وتنضیجها بنحو لا یشاهَد منه فی

الواقع العملی للحیاة الاجتماعیّة إلاّ السلم ، والأمن ، والأُخوّة ، والصفاء

، والانسجام ، وما ماثلها من المبادئ التی یحتاجها المجتع والعالم .

بید أ نّنا نعلم أنَّ الهدایة لا تبلغ هدفها المنشود بلا رقابة . وما قلناه فی الحقیقة یمثّل

خطّة فی هدایة الإنسان ، ومن ثمّ النظام الدولی ، نحو الأفکار الإنسانیّة الأصیلة کالأمن ، إلاّ أنَّ وجود الرقابة إلی جانب هذه الهدایة أمر ضروری لا مندوحة منه ، وذلک لضمان

الحصانة اللازمة ضدّ الأخطار والسلبیّات أیضا .

لأجل ذلک نری من الضروری أن نتعرّف أوّلاً علی العوامل التی تهدّد الأمن ، ثمّ ننبری إلی دراسة الأسالیب التی تمکّننا من السیطرة علیها .

المبحث الخامس : العوامل التی تهدّد الأمن

اشارة

یعتبر الاعتداء عاملاً مهدّدا للأمن کالحرب التی تعتبر عاملاً مهدّدا للسلم . ولأجل ضمان السلم عن طریق السیطرة علی الحرب ، فإنَّ مبدأ الحلّ السلمیّ للخلافات الدولیّة

ص: 357

یُستبدَل بمبدأ قانونیّة الحرب ، وفی ضوء ذلک ، نری منذ عصر عصبة الأُمم أنَّ اللجوء إلی الحرب لحلّ الخلافات الدولیّة أصبح محظورا ، والحرب نفسها غیر قانونیّة . وفی ضوء

الوثائق الدولیّة المدوّنة فی الفترة الواقعة بین الحربین العالمیّتین ، فقد تمّ تحدید الحرب علی أ نّها عمل عدوانی ، وأصبح حظرها مفهوما قانونیّا ملزما (1) ، وفوّض إلی رکن مرکزی فی الأُمم المتّحدة ، وهو مجلس الأمن ، استخدام القوّة عند الحاجة(2) .

وکذلک تمّ تحدید الاعتداء بوصفه عاملاً مهدّدا ، وأعلن عن حظره بغیة إقرار الأمن الإقلیمی والدولی واستمرارها . وعلی الرغم من الجهود المبذولة فی مجال تدویل الاعتداء

وإدانته منذ الوقت الذی تمّ فیه تدوین میثاق عصبة الأُمم ( 1919م ) ، ومع الإصرار علی

هذا المبدأ من خلال میثاق منظّمة الأُمم المتّحدة والمواثیق والمعاهدات والقرارات العدیدة ، إلاّ أ نّنا لا نجد تعریفا للاعتداء حتّی سنة 1974م التی تمّ فیها التصویت علی قرار یقضی بتعریف الاعتداء ، من قبل الجمعیّة العامّة للأُمم المتّحدة . ولا نری غیر

الإدانة وإعلان الحظر فی جمیع الحالات دون تفسیر دقیق للاعتداء . ودون طرحه بشکل قانونیّ وقضائی صالح للتطبیق .

1 - الاعتداء ، عامل أساس یهدّد الأمن
اشارة

ما فتأ الاعتداء علی حقوق الآخرین باعثا علی العداء ، وتعرّض الأمن للخطر . وعندما تنتهک حکومة ما حرمة أرض وممتلکات وحقوق تعود إلی حکومة أُخری ، فإنَّ هذا العمل یفضی إلی خرق الأمن الدولی ونقض حرمته ، وتهدید أمن الآخرین .

ونظرا إلی دور الإسلام فی قطع دابر الاعتداء لضمان الأمن واستمراره ، فإنَّه یری أنَّ الاعتداء کبیرة من الکبائر التی تستوجب أشدّ العقوبات إلاّ إذا کان علی الظالمین

« فَلاَ عُدْوَانَ اِلاَّ عَلَی الظَّالِمینَ » (3) ، وأنَّ مرتکبه ظالم ، « وَمَنْ یَتَعَدَّ حُدُودَ اللّه ِ

ص:358


1- « مفهوم الاعتداء فی القانون الدولیّ » ص 58 ، إصدارات مرکز الدراسات الدولیّة العلیا ، [ فارسی ] .
2- جاء فی مقدّمة میثاق الأُمم المتّحدة : « عدم استخدام القوّة المسلّحة إلاّ فی طریق المصالح المشترکة » . وقد أُنیطت هذه الصلاحیّة أخیرا إلی مجلس الأمن فی قرار صدر سنة 1965م . یراجع : « الدلیل إلی منظّمة الأُمم المتّحدة » ص 125 .
3- البقرة : 193 .

فَاُولئِکَ هُمُ الظَّالِمُونَ » (1) .

ویری القرآن الکریم أنَّ نتیجة الاعتداء تعود علی المعتدی نفسه : « وَ مَنْ یَتَعَدَّ حُدُودَ اللّه ِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ » (2) . ویعتبر عقوبة المعتدی اعتداءً بالمثل : « فَمَنِ اعْتَدی عَلَیْکُمْ فَاص عْتَدُوا عَلَیْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدی عَلَیْکُمْ » (3) . وأدان تجاوز الحدّ فی المقابلة

بالمثل : « وَقَاتِلُوا فی سَبیلِ اللّه ِ الَّذینَ یُقَاتِلُونَکُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا » (4) . ووعد المعتدین بأشدّ العقوبات : « وَمَنْ یَفْعَلْ ذلِکَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلیهِ نَارًا » (5) . وحذّر أخیرا بقوله : إنَّ اللّه أعلم بالمعتدین : « اِنَّ رَبَّکَ هُوَ اَعْلَمُ بِاص لْمُعْتَدینَ » (6) .

وقد یتحقّق الاعتداء تحت غطاء عنوان خادع ، کما نجد ذلک فی معرکة صفّین إذ قال علیّ علیه السلام عند رفع المصاحف : فقلت لکم هذا أمر ظاهره إیمان وباطنه عدوان(7) .

ولا یلیق الاعتداء بالإنسان فی ضوء المنطق الإسلامی ، إذ یمثّل صفة حیوانیّة تنبع من الغرائز الجامحة للضواری المفترسة : إنَّ السباع همّها العدوان علی غیرها (8) .

ولیس للمعتدی أیّ احترام من منظار الإسلام . ومتی اعتدی علیه أحد ، فله أن یقابله بالمثل ، ولیس لدم المعتدی أیّ احترام ، وجاء فی المأثور : من بدأ فاعتدی علیه ، فلا قود له(9) .

ولا یجیز الإسلام السکوت أمام الاعتداء . ویحتّم مواجهته باللسان أو القلب فیما إذا تعذّرت المواجهة بالقوّة : من رأی عدوانا یعمل به ومنکرا یدعی إلیه فأنکره بقلبه ، فقد سلم وبرئ ، ومن أنکره بلسانه فقد أجر . ومن أنکره بالسیف لتکون کلمة اللّه العلیا ، فذلک الذی

أصاب سبیل الهدی(10) .

ص:359


1- البقرة : 229 .
2- الطلاق : 1 .
3- البقرة : 194 .
4- نفسها ، الآیة 190 .
5- النساء : 30 .
6- الأنعام : 119 .
7- « نهج البلاغة » الخطبة 122 .
8- نفسه ، الخطبة 153 .
9- « وسائل الشیعة » 19 : 22 .
10- نفسه 11 : 405 .

ولیس هناک من سبیل بقطع دابر الاعتداء إلاّ عقوبة المعتدی . وهذه العقوبة لا تردعه فحسب ، بل وترغم الآخرین أن لا یَقْفُوا أثره أیضا .

وکذلک فإنَّ أکبر خطر من الاعتداء لا یستبین إلاّ عندما یترک المعتدی وشأنه ، لیتشجّع علی تکرار عمله ، ویسلک الآخرون سبیله .

ویعتبر کلّ غمط لحقّ أحد اعتداءً ، سواء کان هذا الحقّ فردیّا ، أو اجتماعیّا ، أو دولیّا . ونقض الحقوق المعترف بها للشعوب انتهاک لحرمة الشعوب نفسها ، ویمکن أن یتجسّد هذا الحقّ فی أنواع مختلفة أبرزها : انتهاک حقّ السیادة ، والاستقلال ، ووحدة

الأرض للأقطار التی تتمتّع بهذه الحقوق .

ویمکن أن یتّخذ الاعتداء فی العلاقات الدولیّة أبعادا أوسع إذ یرافق کلّ حالة من حالاته خرق للأمن الدولی .

والاعتداء مضادّ للقیم ولا یقبل التأویل ، لأنَّ الهلع الناتج عنه یمکن أن یعمّ الشعوب الأُخری غیر الشعب الذی وقع ضحیّة الاعتداء ، ویمهّد الأرضیّة لاعتداءات أُخری ولتوسیع دائرة الهلع والقلق ، حتّی أ نَّه یأتی علی المعتدی نفسه ، فیقع ضحیّة له .

الاعتداء وتعریفه

علی الرغم ممّا جاء فی میثاق عصبة الأُمم الموافَق علیه من قبل مؤتمر السلام بباریس سنة 1919م أنَّ الحرب لیس لها صبغة قانونیّة ، فإنَّ نشوب الحرب العالمیّة الثانیة وما

أفرزته من نتائج أثبت أکثر من ذی قبل عجز المنظّمات الدولیّة ، وتضرّر السلم والأمن

الدولی مع ما کان من المواثیق والمعاهدات والحقوق التی أقرّتها الشعوب حیال الاعتداء . وعلی الرغم من أنَّ الجهود التی کانت تبذل لتعریف الاعتداء وخطره ، فإنَّ عصبة الأُمم

عجزت عن التوصّل إلی نتیجة واضحة وقاطعة فی هذا المجال .

فقد جوبه اعتداء ألمانیا علی بولندا فی الأوّل من أیلول سنة 1939م ، وهو الیوم الذی بدأت فیه الحرب العالمّة الثانیة ، بصمت عصبة الأُمم . وفی تلک السنة تعرّضت فنلّندا إلی اعتداء قام به الاتّحاد السوفیتی ، فعبّرت عصبة الأُمم عن موقفها لأوّل مرّة ، إذ استعانت

بصلاحیّاتها الواردة فی البند السادس عشر من میثاق العصبة ، فعلّقت عضویّة الاتّحاد

ص:360

السوفیتی فی عصبة الأُمم .

ولم ترغب عصبة الأُمم أو لم تستطع أن تجعل تعریفا معیّنا للاعتداء ملاکا لعملها ، لا فی هجوم ألمانیا علی بولندا الذی لزمت جانب الصمت حیاله ، ولا فی تدخّل الاتّحاد

السوفیتی فی شؤون فنلّندا الذی أثار حفیظتها بوصفه اعتداءً .

وفی مؤتمر موسکو سنة 1943م أعلنت القوی الثلاث الفاتحة أنَّ ألمانیا النازیّة معتدیة ، وأنَّ ضبّاط الجیش وأعضاء الحزب النازی مسؤولون عن جرائم الحرب ، والمذابح العامّة ، والدمار . وطالبت بتسلیم جناة الحرب إلی الأقطار التی ارتکبوا فیها جرائمهم ، وذلک من أجل محاکمتهم وتأدیبهم .

وفی مؤتمر 1945م أیّدت یالطا قرار القوی الثلاث الکبری الذی اتّخذته فی مؤتمر موسکو ، وأیّده أیضا مؤتمر سان فرنسیسکو سنة 1945م مؤکّدا علی تشکیل محکمة عسکریّة دولیّة لمحاکمة تلک الزمرة من جناة الحرب الذین لا یرتبطون بدولة خاصّة .

وبذلت الدول الغازیة جهودها فی جمیع تلک المراحل وما تلاها لکی تصوّر سیاسة النازیّین علی أ نّها سیاسة عدوانیّة بوصفها تمثّل خرقا للمعاهدات أو القانون الدولیّ ، ومن ثمّ تدینها بدون أن تقدّم تعریفا محدّدا للاعتداء .

والمشکلة القانونیّة أیضا قد عقّدت الأمر أکثر ، لأ نّه ما لم یکن هناک تعریف محدّد للاعتداء وحظر عقوبته ، فلا یتسنّی لعلماء القانون أن یعتبروا الحرب العدوانیّة جریمة .

وعلی الرغم من أنَّ أمیرکا ، والاتّحاد السوفیتی ، وبریطانیا ، وفرنسا قد صادقت علی میثاق المحکمة الدولیّة فی الثامن من آب سنة 1945م ، فی سبعة أقسام تشمل 30 مادّة

، إلاّ أ نّنا لا نجد تعریفا للاعتداء . وکذلک لا نجد تعریفا له فی میثاق المحکمة العسکریّة

الدولیّة للشرق الأقصی ، التی صادقت علیها القیادة العلیا لقوّات الحلفاء لمحاکمة مجرمی

الحرب الیابانیّین ، إذ لم یقدّم لنا المیثاق شیئا فی هذا المجال(1) . وأتمّت محکمة نورنبرغ ( 1945 - 1949م ) أعمالها بدون أن تقدّم تعریفا للاعتداء .

وعندما تمّ تدوین میثاق الأُمم المتّحدة ، فإنَّ کثیرا من الحکومات کانت تعتقد أنَّ المیثاق سیضمّ تعریفا محدّدا للاعتداء والمعتدی لا محالة . وکانت الحکومات المعارضة

ص: 361


1- « مفهوم الاعتداء فی القانون الدولیّ » مجلّة مرکز الدراسات الدولیّة العلیا ، آذار 1986م .

تقول

: إنَّه لا یمکن العثور علی عمل عدوانی لیس له سمة شرعیّة فی الظروف التی یتّخذ فیها

طابع الدفاع ، وحتّی الهجوم المسلّح فإنَّه قد ینشأ بسبب استفزازات لا یمکن معها النظر إلی ذلک الهجوم علی أ نَّه اعتداء ! کما لوحظ أنَّ ألمانیا بدأت الحرب العالمیّة الثانیة بذریعة الدفاع الشرعی ، وهاجمت البلدان المحایدة بحجّة ضرورة الحرب الشرعیّة .

وعلی الرغم من أنَّ میثاق عصبة الأُمم ، ومیثاق الأُمم المتّحدة لم یقدّما تعریفا محدّدا

للاعتداء والمعتدی ، إلاّ أنَّ فوارق تبدو بینهما فی مجال حقّ اللجوء إلی القوّة

، ممّا یدلّ علی الأهمیّة التی تحظی بها قضیّة الاعتداء .

فمیثاق عصبة الأُمم ( 1919م ) الشامل ستّ عشرة مادّة وقرارات تعلیقیّة ( 1921 - 1922م ) خوّل هذا الحقّ لأیّ عضو من أعضاء العصبة أن یقرّر فیما إذا حصل هذا الاعتداء أو لا ، وإذا کان قد حصل ، فإنَّه یبادر إلی علاجه بشرط أن لا یتضمّن

الاعتداء خرقا لمفاد الموادّ 12 ، 13 ، 15 من المیثاق . وهکذا نجد المیثاق قد منح أعضاءه نوعا من الحرّیّة لصدّ الاعتداء . بینما لم یعترف میثاق الأُمم المتّحدة بهذه الحرّیّة لأعضائه ، إذ هم مکلّفون بالعمل وفقا لقرارات مجلس الأمن فحسب إذا ما واجهتهم مثل هذه الحالات . وتنصّ المادّة الخامسة والعشرون والفصل السابع من المیثاق ، فیما یخصّ قرارات

مجلس الأمن ، علی أنَّ الأعضاء مکلّفون بالإجراءات التنفیذیّة المعیّنة لهم .

والفرق الآخر هو أنَّ میثاق العصبة لا یشیر من قریب أو بعید إلی حقّ استخدام القوّة للدفاع عن النفس ، إلاّ أ نَّه یجیز للحکومات عند نشوب الحرب العدوانیّة أن تتّخذ القرارات المناسبة حول وقوع الاعتداء وصدّه . ولم یقلّ الاهتمام بالأعمال العدوانیّة عن الاهتمام بالحرب ، بینما نحن نعلم أنَّ کثیرا ما یحصل الاعتداء دون أن تکون هناک عملیّات

حربیّة وهجوم عسکری .

أمّا میثاق الأُمم المتّحدة فإنَّه یجیز استخدام القوّة فی مقام الدفاع عن النفس ، فیقترب بذلک من قضیّة الاعتداء ، إلاّ أ نَّه یتعرّض للهجوم المسلّح دون أن یتحدّث عن الاعتداء . وتنصّ المادّة الحادیة والخمسون علی أنَّ العضو فی منظّمة الأُمم المتّحدة إذا تعرّض إلی هجوم مسلّح ، فإنَّ مقرّرات المیثاق لا تحول دون قیامه بحقّه الذاتی فی الدفاع عن نفسه ، سواء کان حقّا فردیّا أو جماعیّا إلی أن یقوم مجلس الأمن باتّخاذ الإجراءات اللازمة لحفظ

ص: 362

السلم والأمن الدولیّین . وعلی الأعضاء أن یوافوا مجلس الأمن بتقریر عاجل عن الإجراءات التی یتّخذونها فی ممارسة حقّ الدفاع عن أنفسهم .

وفی ضوء هذه المادّة ، فإنَّ استخدام القوّة للدفاع عن النفس مقصور علی الهجوم المسلّح ، غیر أ نّها حظرت - ضمنیّا - الهجوم المسلّح بوصفه دفاعا شرعیّا قبل أن یتحقّق

هجوم ما ، بذریعة الوقایة منه ، إلاّ أنَّ المشکلة الکبیرة هنا هی أنَّ زمن الهجوم المسلّح یعلن من قبل مجلس الأمن ، وربّما تقع أحداث کثیرة حتّی ذلک الوقت تعقّد المسألة الخاصّة بتحدید المبادر إلی الاعتداء ، ومن ثمَّ تعیین المعتدی .

وتزامنا مع تشکیل لجنة القانون الدولیّ من قبل الجمعیّة العامّة للأُمم المتّحدة ، وجهود تلک اللجنة لمناقشة القانون المقترح حول الجرائم المرتکبة ضدّ السلم والأمن

، کانت أزمة تشیکوسلوفاکیا فی سنة 1948م ، وحصار برلین من قبل الاتّحاد السوفیتی فی سنة 1948م ، وبدایة الحرب الکوریّة فی سنة 1950م ، کلّها لفتت الأنظار مرّة أُخری إلی أهمیّة الخوض فی مسألة الاعتداء وتحدید المعتدی . وقدّمت بعض الحکومات اقتراحاتها فی هذا المجال إلی الجمعیّة العامّة . وناقشت لجنة القانون الدولیّ مسألة الاعتداء أیضا فی سنة 1972م . وطرح اقتراح فی سنة 1952م یقضی بأن لا تبادر الجمعیّة العامّة إلی وضع تعریف للاعتداء ، لأنَّ وضع تعریف جامع له أمر متعذّر ، وعلیها أن تخوّل هذه المهمّة إلی الرکن الذی له صلاحیّة ذلک فی الأُمم المتّحدة لیضع تعریفا للاعتداء !

هذا الاقتراح ، فی الوقت الذی یجعل القانون الدولیّ غامضا ، فإنَّه یفتح الطریق أمام القرارات الاجتهادیّة والمتغیّرة والاعتباطیّة والمتأرجحة ، ویفسح المجال أمام المعتدی

لیسوّغ ممارساته العدوانیّة عبر طرق غیر قانونیّة بشکل غیر مبدئی ، وینجو من براثن

الرکن المسؤول فی منظّمة الأُمم المتّحدة .

إنَّ أحد الأسباب التی تجعل تعریف الاعتداء متعذّرا علی الرغم من الجهود المتواصلة والعاثرة أیضا فی مجال تقدیم تعریف صریح ورسمی للاعتداء ، هو اختلاف الرأی بین ممثّلی

الحکومات المؤیّدة ، إذ کان یحول دون الوصول إلی اتّفاق فی هذا المجال وذلک عند مناقشته

فی اللجان المختلفة .

إنَّ المسألة المهمّة فی تعریف الاعتداء هی أ نّنا إذا استثنینا الهجوم المسلّح ، فما هی

ص: 363

المجالات التی ینطبق علیها عنوان الاعتداء حتّی یستوعبها التعریف ؟ فمعارضة أمیرکا وبریطانیا علی الرغم من جهود اللجنة الخاصّة المؤلّفة من 19 عضوا لتعریف الاعتداء فی

سنة 1956م أدّت بالجمعیّة العامّة إلی أن تؤجّل مناقشة التعریف إلی السنة التالیة

، علی الرغم من الأحداث التی صعّدت من عملیّة الاعتداء ، کالاقتحام الذی قامت به قوّات الجیش الأحمر للمجر ، والهجوم المشترک الذی قامت به إسرائیل ، وإنجلترا ، وفرنسا ضدّ مصر .

وأرجأت هذه اللجنة - مرّة أُخری - مناقشة الموضوع واتّخاذ القرار بشأنه سنة 1959م إلی سنة 1962م . وعلی الرغم من أزمة المواجهة بین أمیرکا والاتّحاد السوفیتی فی تلک السنة ، فقد عقدت اللجنة اجتماعها ، وأرجأت مرّة أُخری اتّخاذ القرار بشأن تعریف

الاعتداء إلی سنة 1965م . ولم تصل إلی نتیجة فی تلک السنة ، فأرجأت الموضوع إلی سنة

1967م .

وفی ضوء القرار الموافَق علیه من قبل اللجنة الخاصّة المؤلّفة من 21 عضواسنة 1967م ، تشکّلت لجنة خاصّة قوامها 35 عضوا فی سنة 1968م . واقترح - آخر المطاف - ترک الخوض فی تعریف الاعتداء ! إلاّ أنَّ اللجنة واصلت أعمالها حتّی سنة 1969م . ولمّا

رأت أ نّها عاجزة عن التوصّل إلی نتیجة حاسمة ، صادقت الجمعیّة العامّة علی تشکیل لجنة

أُخری خاصّة . فعقدت هذه اللجنة اجتماعها سنة 1970م ، واستمرّت مناقشة الخطط والمشاریع المقترحة حتّی سنة 1971م . وتقرّر فی هذه اللجنة بعد تبادل الآراء أن تستمرّ

المناقشة فی سنة 1972م ، وصادقت الجمعیّة العامّة علی هذا القرار .

وعلی العادة ، فإنَّ اللجنة الخاصّة فشلت أیضا فی سنة 1972م ، وفی تلک السنة ، بسبب هزیمة أمیرکا فی حرب فیتنام ، نجد أنَّ شعار إزالة التوتّر ألقی ظلّه علی مناقشة تعریف الاعتداء ، وأخیرا بدأت اللجنة الخاصّة عملها من جدید سنة 1973م ، إلاّ أ نّها توصّلت

بالإجماع بعد مدّة من الجهود المبذولة إلی أنَّ عمل اللجنة ینبغی أن یبدأ من جدید فی أوائل سنة 1974م تحت عنوان « الهدف : إتمام المهمّة » .

ثمّة مشروع یحوم حول تعریف الاعتداء تمّت مناقشته فی آخر لجنة تشکّلت لهذا الغرض سنة 1974م . وعلی الرغم من طلب بعض الممثّلین الداعی إلی إصلاح القرار

ص: 364

الخاصّ بتعریف الاعتداء ، فإنَّ أکثریّة الأعضاء وافقوا علی مسوّدة القرار بناءً علی أنَّ

التعریف المذکور صارم إلی درجة أنَّ إجراء أیّ تغییر علیه یعرّض الإجماع إلی الخطر ، وأرسلوا القرار إلی الجمعیّة العامّة لإمضائه . فوافقت علیه الجمعیّة المذکورة بالإجماع فی الرابع عشر من کانون الأوّل سنة 1974م .

نصّ القرار الخاصّ بتعریف الاعتداء

تصدّرت القرار مقدّمة وجیزة عن الدور الذی یؤدّیه تعریف الاعتداء فی توطید السلم والأمن الدولیّین اللذین یمثّلان الأهداف الأساسیّة للأُمم المتّحدة . وتمّ التأکید فیها أیضا علی حلّ الخلافات بالطرق السلمیّة . وأُشیر إلی الظروف الحسّاسة المنبثقة عن وجود

الأسلحة المتنوّعة ذات القدرة التدمیریّة الهائلة . وورد فیها تأکید مجدّد علی مهمّة

الحکومات فی الامتناع عن استخدام القوّة ، وحرمان الشعوب من حقّها فی تقریر المصیر ، والحرّیّة ، والاستقلال . أو انتهاک سیادة الأراضی . وکذلک جاء التأکید علی الحکومات أن تتفادی القیام باحتلال عسکری لأراضی الغیر . وفیما یلی تعریف الاعتداء الذی وقع موقع

القبول :

المادّة الأولی : الاعتداء عبارة عن استخدام القوّة المسلّحة من قبل إحدی الدول ضدّ دولة أُخری ، وانتهاک سیادتها ووحدة أراضیها أو استقلالها السیاسی ، أو استخدام تلک

القوّة عبر طرق مغایرة لمیثاق الأُمم المتّحدة ، کما جاء فی هذا التعریف .

مذکّرة توضیحیّة : جاءت کلمة الدولة فی هذا التعریف لتشیر إلی :

أ - عدم الاهتمام بالمسائل الخاصّة بالاعتراف ، وهل تکون الدولة عضو فی الأُمم المتّحدة أو لا ؟

ب - شمول « مجموعة الدول » وذلک عندما یتطلّب المفهوم ذلک .

المادّة الثانیة : تعتبر مبادرة إحدی الدول إلی استخدام القوّة العسکریّة ، المناقض للمیثاق ، العلامة الأُولی للإجراء العدوانی ، علی الرغم من أنَّ مجلس الأمن یستطیع - فی

ص: 365

ضوء المیثاق - أن یستنتج أنَّ إحراز وقوع الاعتداء لا یمکن تسویغه بالنظر إلی الشروط الأُخری ذات العلاقة کقصور الإجراءات الصارمة المتّخذة أو نتائجها .

المادّة الثالثة : تتّخذ الإجراءات التالیة طابع العمل العدوانی وفقا لمفاد المادّة الثانیة ، وبدون الالتفات إلی إعلان الحرب أو أخذه بنظر الاعتبار :

أ - الهجوم المسلّح الذی تقوم به دولة ضدّ دولة أُخری ، أو أیّ احتلال عسکری ینشأ عن هذا الهجوم ، وإن کان مؤقّتا ، أو أیّ إلحاق لأرض تعود إلی دولة أُخری ، أو لقسم منها بالقوّة .

ب - قصف تقوم به القوّات المسلّحة لدولة ضدّ دولة أُخری ، باستخدام شتّی الأسلحة .

ت - محاصرة الموانئ أو السواحل التی تعود لإحدی الدول من قبل القوّات المسلّحة لدولة أُخری .

ث - هجوم تشنّه القوّات المسلّحة لإحدی الدول ضدّ القوّات البریّة ، والبحریّة ، والجویّة ، أو ضدّ الأساطیل الجویّة والبحریّة لدولة أُخری .

ج - استخدام إحدی الدول القوّات المسلّحة استخداما مناقضا للشروط المتّفق علیها مع دولة أُخری تستقرّ تلک القوّات علی أرضها ، أو استمرار وجود تلک القوّات علی هذه

الأرض بعد انتهاء المدّة المتّفق علیها .

ح - سماح إحدی الدول لدولة أُخری أن تستخدّم أراضیها للقیام بعمل عدوانی ضدّ دولة ثالثة .

خ - إرسال مجموعات قتالیّة ، أو قوّات فدائیّة ، أو عملاء مسلّحین من قبل إحدی الدول أو بواسطتها للقیام بعملیّات عسکریّة ضدّ دولة أُخری بنفس الصرامة التی مرّت فی

الإجراءات المتقدّمة ، أو تورّط الدولة المذکورة تورّطا ملحوظا فی تلک العملیّات

.

المادّة الرابعة : الإجراءات المارّ ذکرها لا تشمل جمیع الحالات . ویستطیع مجلس الأمن أن یقوم بإجراءات أُخری تعتبر إجراءات عدوانیّة حسب مفاد المیثاق .

ص: 366

المادّة الخامسة : 1 - أیّ مدّعیً مهما کانت طبیعته ، سیاسیّة ، أو اقتصادیّة ، أو عسکریّة ، أو غیر ذلک لا یمکن أن یکون مسوّغا للاعتداء .

2 - الحرب العدوانیّة جریمة ضدّ السلم الدولی . والاعتداء یستلزم تبعة دولیّة .

3 - أیّ احتلال للأرض ، أو أیّ مکسب ناتج عن الاعتداء لم ولن یعتبر قانونیّا .

المادّة السادسة : ینبغی فی هذا التعریف أن لا تفسّر أیّ نقطة بشکل یوسّع من نطاق المیثاق أو یحدّه ، کالمقرّرات المتعلّقة بالاستخدام القانونی للقوّة .

المادّة السابعة : یجب أن لا تسبّب أیّ نقطة فی هذا التعریف لا سیّما المادّة الثالثة ضررا بحقّ الشعوب ، وبخاصّة الشعوب الرازحة تحت نیر النظم الاستعماریّة والعنصریّة ، أو أیّ شکل من أشکال التسلّط الأجنبیّ ، تلک الشعوب التی حرمت بالعنف والقوّة من حقّها فی

تقریر مصیرها ، وحرّیّتها واستقلالها ، ذلک الحقّ المنبثق عن المیثاق . وقد أشار إلی ذلک الإعلان الخاصّ بمبادئ القانون الدولیّ الذی یحوم حول العلاقات الودّیّة والتعاون بین

الشعوب وفقا لمیثاق الأُمم المتّحدة . وکذلک لا تسبّب أیّ نقطة فیه ضررا بحقّ الشعوب

التی تناضل من أجل بلوغ تلک الأهداف ، وتحقیق المطلب ، والحصول علی دعم للمبادئ الواردة فی میثاق الأُمم المتّحدة حسب الإعلان المذکور .

المادّة الثامنة : المقرّرات المذکورة آنفا مترابطة بآصرة واحدة فی التفسیر والتطبیق ، وینبغی تفسیر کلّ واحد منها فی إطار المقرّرات الأُخری .

نظرة علی تعریف الاعتداء وتقویمه

ثمّة نقاط ضعف ملحوظة فی تعریف الاعتداء نشیر فیما یلی إلی شیء منها :

1 - إنَّ الشکل الظاهری للقرار الصادر بشأن تعریف الاعتداء ( 1974م ) ، کما یلاحظ ذلک من مقدّمته ، یفید أنَّ الحؤول دون الاعتداء بالمعنی الوارد فی القرار یمکن أن یکون باعثا علی استقرار الأمن ، ومانعا من بروز حروب عدوانیّة ، وهو ما یفیده الانطباع

ص: 367

العامّ عن میثاق الأُمم المتّحدة ؛ بینما نجد عوامل أُخری أیضا غیر الاعتداء یمکن أن یشکّل

کلّ واحد منها - بدوره - تهدیدا للأمن الدولی وتمهیدا لحروب عدوانیّة .

2 - تمّ التأکید فی المادّة الأولی من القرار علی أنَّ تعریف الاعتداء یتوکّأ علی استخدام

القوّة المسلّحة ، وهکذا جاء الاعتداء بمعنی الهجوم العسکری . والإجراءات الواردة فی

المادّة الثالثة کلّها رکّزت علی استخدام القوّة المسلّحة ما عدا الإجراء الأخیر منها . وهذا الإجراء الذی أُنیط تشخیصه إلی مجلس الأمن زاد من غموض التعریف وعدم ثباته . ولم یتطرّق هذا التعریف إلی الاعتداء الاقتصادی ، والثقافی ، والفکری .

3 - القرار الصادر حول تعریف الاعتداء ، کما یفیده البند العاشر من المقدّمة

، لا یعتبر الملاک الوحید لتحدید المعتدی ، بل یمکن أن یکون مفیدا بوصفه دلیلاً للتحدید

من قبل مجلس الأمن . وینصّ هذا البند علی أنَّ مسألة وقوع عمل عدوانی ینبغی أن تناقش

بالنظر إلی الظروف الخاصّة لکلّ حالة ، بینما نجد أنَّ هذا النصّ هبط بالقرار الخاصّ بتعریف الاعتداء من مستوی مبدأ قانونی إلی مستوی توصیة أخلاقیّة ، وجعل موضوع الاعتداء عرضة لتفسیرات وتأویلات متنوّعة .

وأیّد البند التاسع من المقدّمة هذا الموضوع أیضا بشکل آخر ، إذ جاء فیه أنَّ قبول هذا التعریف یمکن أن یکون له أثر وقائی رادع بالقوّة ، وکذلک أثر مفید فی حفظ مصالح من یقع ضحیّة للاعتداء .

ومفهوم هذا الکلام هو أنَّ التعریف لا یمکنه أن یترک هذه الآثار مباشرة ، بل یحتمل أن یکون مؤثّرا کدلیل فی الإجراءات اللاحقة لمجلس الأمن .

4 - إنَّ استخدام القوّة الذی یمثّل الأساس فی تعریف الاعتداء یصدق علی الأشکال المختلفة للقسر والقوّة ، وبالتغاضی عن مفهوم الاعتداء الذی أُشیر إلی مفهومه الشامل فی البند الثانی من هذا التقویم ، فإنَّ مفهوم اللجوء إلی القوّة الذی یعوّل علیه أیضا فی المیثاق والقرارات الأُخری یشمل القسر الاقتصادی والسیاسی ، والتدخّل السیاسی ، وخطط الإطاحة بالأنظمة الحاکمة ، ونهب الذخائر والمصادر الاقتصادیّة ، وأخذ الضرائب بأشکال متنوّعة أیضا .

5 - تدلّ دراسة التقاریر المتعلّقة بمناقشات الممثّلین فی اللجان الخاصّة لتعریف

ص: 368

الاعتداء

، لا سیّما اللجنة المشکّلة سنة 1974م علی أنَّ الموقّعین کانوا یعتزمون التوصّل إلی تعریف یصادق علیه بالإجماع ؛ ولا ریب أنَّ مثل هذا التعریف یمکن أن یضمّ مبادئ

عامّة یتّفق علیها المعتدی ، والشخص الذی یقع ضحیّة للاعتداء أیضا ، ولا یمکن أن تستعمل هذه المبادئ فی الخلافات المتعلّقة بالمسائل والقضایا الجزئیّة .

6 - لمّا لم ترد فی القرار إشارة إلی أنواع الأسلحة المستعملة ، ولم ترد فیه أیّ إشارة إلی أنواع الأسلحة التی یمکن أن تدمّر قسما من أرض ما دون اللجوء إلی هجوم تقوم به القوّات المسلّحة ، اللّهمّ إلاّ ما جاء فی البند الخامس من المقدّمة إذ تطرّق إلی الأسلحة ذات القدرة التدمیریّة الهائلة ، فإنَّ من الممکن أن یخطر علی البال أنَّ صدق الاعتداء مشوب بالغموض

فی حالة إطلاق الصواریخ بعیدة المدی مثلاً بدون هجوم القوّات المسلّحة ، بینما نجد أنَّ هذا التصوّر بعید عن الحقیقة ، ولا یقلّل من طابع الاعتداء الذی یتّسم به هذا اللون من

العملیّات العسکریّة .

7 - جاء فی البند ( ت ) من المادّة الثالثة أنَّ محاصرة الموانئ أو السواحل التی تعود

لإحدی الدول من قبل القوّات المسلّحة لدول أُخری ، تعدّ من حالات الاعتداء ، بینما نجد أنَّ قطع صلة البلدان المحصورة بالبحر بوضع مماثل ، لم یرد فی المادّة الثالثة . وهکذا نلمس فی القرار تمییزا لا سبیل إلی توجیهه .

8 - جاء فی البند ( ث ) من المادّة نفسها أنَّ الهجوم الذی تشنّه القوّات المسلّحة لإحدی الدول ضدّ القوّات البرّیّة ، والبحریّة ، والجویّة ، أو ضدّ الأساطیل الجویّة

والبحریّة لدولة أُخری یعتبر اعتداءً ، بینما نجد أنَّ هذا الاعتداء یمکن أن یتحقّق ضدّ أُسطول غیر عسکری لإحدی الدول ، أو أنَّ دولة ساحلیّة تبادر إلی القیام بعملیّات عسکریّة

، وذلک لصدّ الاسطول الأجنبی من المناطق الخاضعة لنفوذها ، أو للمحافظة علی میاهها الإقلیمیّة والحؤول دون تلویثها أو استثمارها بصورة غیر قانونیّة من قبل الدول الأُخری .

وفی ضوء مفاد هذا البند ، ینبغی أن لا نعتبر الحالة الأُولی اعتداءً ، أمّا الحالة الثانیة

فلنا أن نعتبرها کذلک !

9 - أُشیر فی البند الأخیر الخاصّ بالاعتداء غیر المباشر إلی إرسال مجموعات قتالیّة ، أو قوّات فدائیّة ، أو عملاء مسلّحین من قبل إحدی الدول أو بواسطتها للقیام بعملیّات

ص:369

عسکریّة ضدّ دولة أُخری . وأمّا الحالات الأُخری للاعتداء غیر المباشر کدعم المجموعات الداخلیّة المسلّحة للقیام بأعمال التخریب والإخلال بالأمن ، والمشارکة فی الاضطرابات

الداخلیّة بنحو لا یرافقه إرسال قوّة ، وکإرسال شخص للقیام بعملیّات اغتیال وتخریب

بشکل متکرّر أو لتدبیر المؤامرات السیاسیّة للإطاحة بأنظمة الحکم ، فلم یرد حولها شیء .

10 - إنَّ استعمال بعض العبارات فی التعریف نحو هذه العبارة : « إجراء ذو طبیعة عدوانیّة » الواردة فی القرار دون تفسیر واضح وصریح لطبیعة الاعتداء أحاط التعریف بنوع من الغموض . لأنَّ إثبات الطبیعة العدوانیّة للإجراءات المتّخذة أکثر صعوبة من إثبات أصل الإجراءات .

وکذلک هذه العبارة : « بالنظر إلی الشروط الأُخری ذات العلاقة کعدم بلوغ الإجراءات أو نتائجها المستوی المطلوب فی الصرامة » فإنَّها فتحت طرقا کثیرة للضغط علی الدولة التی وقعت ضحیّة للاعتداء ، وهی علی درجة من الغموض والعمومیّة بحیث إنَّ

الدولة المعتدیة فی أیّ اعتداء صارخ یمکن أن تسوّغ أعمالها العدوانیّة .

11 - إنَّ کثیرا من الإجراءات والعملیّات التی تتظاهر بنوایا خیریّة ، وتتحقّق من خلال المشارکة ، والدعم أو تقدیم المساعدات الاقتصادیّة ، والعسکریّة ، والثقافیّة من قبل الدول الکبیرة بمقاصد عدوانیّة تتمّ التغطیة علیها وتوجیهها بدهاء ، یمکن أن تکون

أخطر من العملیّات العسکریّة وأکثر منها ضررا بسبب ما تفرزه من نتائج . ولم یشر القرار

إلی ذلک إشارة ملحوظة . وعلی الرغم من أنَّ هذه العبارة : « بالنظر إلی الشروط الأُخری » قد أُدرجت بدل الاقتراح المطروح حول إضافة المقاصد العدوانیّة فی المادّة الثانیة

، إلاّ أ نّها عامّة إلی درجة أ نّها یمکن أن تضمّ الشروط المحیطة لتلک المقاصد .

12 - الموضوع الأهمّ فی القرار حول تعریف الاعتداء هو الآثار القانونیّة للاعتداء الملحوظة فی المادّة الخامسة من القرار . وقد جاء فی البند الثانی من المادّة الخامسة : « جریمة ضدّ السلم الدولی » و « یستلزم مسؤولیّة دولیّة » بوصفهما أثرین قانونیّین . إلاّ أنَّ الاعتداء لم یعتبر جریمة . وإنَّما اعتبرت الحرب العدوانیّة جریمة ضدّ السلم الدولیّ ؛ وقد تمّ الاکتفاء فی موضوع الاعتداء باستلزام المسؤولیّة الدولیّة . والأثر القانونی الثالث للاعتداء هو عدم رسمیّة السیطرة علی الأراضی بواسطة الاعتداء ، الوارد فی البند الثالث .

ص: 370

ومن البدیهی أنَّ الاعتداء إذا اعتبر جریمة ، فإنَّ مسبّبیه یتحمّلون مسؤولیّة جنائیّة - شاءوا أم أبوا - ویحاکمون بوصفهم مجرمی حرب .

وعندما کان النقاش قائما فی هذا المجال بین أعضاء اللجنة الخاصّة لتعریف الاعتداء ، کانت أمیرکا متورّطة فی حرب فیتنام التی أضرمت نارها . فإذا عدّ الاعتداء جریمة

، فإنَّه قد یفضی إلی محاکمة الأسری الأمیرکیّین فی فیتنام من قبل فیتنام الشمالیّة بتهمة أ نّهم مجرمو حرب .

وکانت أمیرکا ، وبریطانیا ، واسترالیا تعارض کلّ تعبیر یستلزم مسؤولیّة فردیّة ، وذلک بناءً علی أنَّ محکمة نورنبرغ قد أدانت الحرب العدوانیّة واعتبرتها جریمة فحسب ، بینما نجد فی المحاکم اللاحقة أنَّ احتلال النمسا وتشیکوسلوفاکیا الذی تمّ بدون مقاومة

، ولم تقع أیّ حرب ، کان عملاً عدوانیّا من منظار ألمانیا ، واعتبر مستلزما لمسؤولیّة جنائیّة فردیّة .

من جهة أُخری ، فإنَّ لجنة القانون الدولیّ جعلت الاعتداء والحرب موضوعین لمسؤولیّات مشترکة ، وذلک من خلال استعمال هذه العبارة ، وهی : « کلّ إجراء عدوانی » . وجاءت العبارة التالیة : « جریمة الاعتداء » فی معظم تقاریر هذه اللجنة

کثیرا .

وهذه الحالات تدلّ علی الظروف والمضایقات التی تمّ فیها تدوین التعریف بحیث إنَّه لم یؤخذ بنظر الاعتبار حتّی الانسجام مع الوثائق الأُخری للقانون الدولی ، وانطباقه مع ممارسات الحکومات .

13 - الحدّ المشترک بین ممارسة القوّة ( الاعتداء ) والدفاع المشترک نقطة أُخری تلاحظ فی القرار الخاصّ بتعریف الاعتداء من خلال استعمال عبارة : « الدفاع عن النفس » عاریة عن تفسیرها الصحیح .

ویمکن أن نقف علی أهمیّة هذه النقطة ، نظرا إلی هذه الحقیقة وهی أنَّ الدلیل الرئیس للدول التی تلجأ إلی القوّة وتنبری إلی الاعتداء - عادة - هو الدفاع عن النفس .

والحدّ المشترک بین الاعتداء والدفاع ، الذی ظهر فی هذا القرار ، ویسّر توجیه کلّ اعتداء بالدفاع عن النفس ، هو - فی الحقیقة - محبط لدور القرار .

ص:371

ولا ریب أنَّ للحکومات حقّا فی الدفاع عن نفسها أمام الهجوم المسلّح ، بید أ نّنا عندما ندرس الأشکال المختلفة والمعقّدة والدقیقة للتدخّل فی الشؤون الداخلیّة لسائر

البلدان ، فإن تحدید حالات الاعتداء والدفاع الشرعی یبدو عسیرا . وفی مثل هذه الحالات لو افترضنا أنَّ استعمال عبارة جامعة متعذّر ، فلابدّ من استعمال عبارة لا یمکن التعویل علیها لتصبّ فی مصلحة المعتدی وضرر من یقع ضحیّة الاعتداء ، وتستغلّها الدول الکبری لمصلحتها . وأدّی الاهتمام بهذه النقطة إلی أن تنصّ المادّة السادسة فی القرار علی أنَّ أیّ نقطة فی القرار الخاصّ بتعریف الاعتداء ینبغی أن لا تقدح بالمقرّرات المدرجة

فی المیثاق فی مجال الاستخدام القانونی للقوّة .

بید أنَّ هذه الحلول جمیعها عجزت عن أن تخرج التعریف من الغموض الذی بدّله إلی سیف ذی حدّین .

14 - فی الحالات التی تقوم فیها الدول المتسلّطة بممارسات تعسفیّة لحرمان الشعوب من حرّیّاتها واستقلالها وحقّها فی تقریر مصیرها ، فلابدّ من الاعتراف - شئنا أم أبینا - بحقّ هذه الشعوب المقهورة المظلومة فی النضال بجمیع الوسائل التی تحت تصرّفها . ولا

ینبغی هنا أن ننظر إلی استخدام القوّة علی أ نَّه اعتداء .

وعلی الرغم من أنَّ المادّة السابعة فی القرار قد أقرّت بحقّ الشعوب فی تقریر مصیرها من خلال عبارة طویلة مبهمة ، إلاّ أنَّ الدعم الذی ذکرته هذه المادّة للشعوب المقهورة

مشوب بالغموض . کما أنَّ الوسائل التی یمکن أن تستخدمها هذه الشعوب بنحو قانونی - فی ضوء هذا القرار - للنضال من أجل بلوغ الأهداف المذکورة فی المادّة السابعة غیر واضحة

تماما .

15 - لا یمکن التعویل علی القرار الصادر بشأن تعریف الاعتداء کالقرارات الأُخری المتّخذة من قبل الجمعیّة العامّة لمنظّمة الأُمم المتّحدة بوصفها مصادر للقانون الدولی . وکما قرّر المیثاق ، فإنَّ جمیع القرارات الصادرة من الجمعیّة العامّة لا تمثّل أکثر من توصیات مجرّدة إلاّ فی الحالات التی تتعلّق بمنظّمة الأُمم المتّحدة واعتمادها المالی . فهی تضمّ - فی الحقیقة - مجموعة من التوجیهات فی مجال تعامل البلدان المختلفة فیما بینها ، وتصلح للتطبیق عند التراضی .

ص: 372

ولا شکّ أنَّ ضروب الوفاق فی الجمعیّة العامّة بخاصّة إذا کانت صادرة عن نظم ذات قیم متنوّعة یمکن أن تهیّئ الأرضیّة لبلورة العرف ، ومن ثمّ لظهور قواعد جدیدة فی القانون

الدولیّ . ولکنَّ قرارات الجمعیّة العامّة - علی أیّ حال - لا تعتبر ملزمة ؛ لأنَّ العنصر الأصلی فی اتّخاذها طابع الإلزام هو موافقة الحکومات إذ یمکن أن لا توافق إحدی الحکومات علی تطبیق مفاد بعض القرارات ، حتّی لو کانت من القرارات الموافَق علیها بالإجماع .

2 - الظلم وتقبّله
اشارة

إنَّ العامل الثانی المهدّد للأمن هو الظلم وتقبّله ، إذ لا شکّ أنَّ الظروف المنبثقة عن هذا العامل تعرّض الأمن للخطر ، وتقلّل من احتمال إقرار الصلح إلی حدّ بعید ، وتجعل الحیاة

الدولیّة والعلاقات بین الشعوب کعلاقات الذئب والشاة . ولا یعنی السلم والأمن فی مثل هذه الظروف إلاّ افتراس الشیاه من قبل الذئاب .

ویری الإسلام أنَّ قطع دابر الظلم وتقبّله شرط جوهری لضمان الأمن الوطید . ویبشّر الشعوب بالأمن الذی لا تشوبه شوائب الظلم : « اَلَّذینَ امَنُوا وَلَمْ یَلْبِسُوا ایمَانَهُمْ بِظُلْمٍ اُولئِکَ لَهُمُ الاَْمْنُ » (1) .

إنَّ علاقة العلیّة بین قاطع دابر الظلم ، وإقرار الأمن عمیقة فی مجال الدراسة ، وتدلّ

علی خیبة الشعوب فی التوصّل إلی تعریف کامل وجامع للاعتداء .

وکما لاحظنا فی التقریر الذی عرض نبذة تاریخیّة عن تعریف الاعتداء من قبل الجمعیّة العامّة فی منظّمة الأُمم المتّحدة ، فإنَّ المشکلة الرئیسة فی هذا التعریف هی الخشیة من أن یتحوّل التعریف إلی أداة لتسویغ الممارسات العدوانیّة للقوی السلطویّة ، أو یتحوّل

إلی ذریعة لاستخدام القوّة وإذکاء الحروب العدوانیّة .

من هذا المنطلق ، فإنَّ زوایا من شبه الفجوة تلحظ فی جمیع المفاوضات التی تحوم حول تعریف الاعتداء . إذ إنَّ إجراءات عدوانیّة قائمة من جهة . ومن جهة أُخری لا تبدو

أ نّها صالحة لإدراجها فی تعریف الاعتداء .

ص: 373


1- ( ) الأنعام : 82 .

وقد لمّحنا إلی حالات من هذه الفجوة عند تقویمنا القرار الخاصّ بتعریف الاعتداء ، وینبغی أن نضیف هنا أنَّ هذا المأزق ناتج عمّا یدور فی خلد الذین دوّنوا هذا القرار من أنَّ الاعتداء وهو العامل الوحید الذی یهدّد الأمن الدولی ، قد أُقرّ بوصفه فرضیّة مسبقة . فی حین أنَّ هؤلاء کانوا یجدون أنفسهم عاجزین عن إدراج جمیع الحالات التی تهدّد الأمن فی

تعریف الاعتداء .

وترتبط الحالات المشار إلیها بصورة رئیسة بأحد العنوانین : الظلم أو تقبّله . وهکذا نجد أنفسنا بحاجة إلی تعریف آخر ، إلی جانب تعریف الاعتداء ، یعرّف الظلم فی شکلین : الظلم ، وتقبّله .

ویصحّ أن نقول : إنَّ کلّ اعتداء یحمل معه شیئا من الظلم ، لکن لیس کلّ ظلم اعتداءً ، فالأبعاد الواسعة للظلم تشمل جمیع الحالات التی یعجز تعریف الاعتداء عن استیعابها .

وللظلم أبعاد واسعة لا تتلخّص فی الهجوم العسکری أو الأشکال الأُخری للاعتداء . ولو توصّل العالم إلی تعریف جامع للظلم یشمل کافّة ضروب الظلم والانظلام ، ویبعد الظلم عن علاقات الشعوب ، ویزیل هذه الآفة التی تهدّد الأمن عن جمیع أبعاد الحیاة

، فإنَّه یمکن أن یطفح بالأمل فی استقرار الأمن المثالی ، ویجعله حقیقة ملموسة .

إنَّ التأکید الذی أولاه الإسلام فی مجال التحذیر من الظلم ، وتطرّقه إلی أشکاله المختلفة بوصفه مضادّا للقیم ، ومفتاحا للمشاکل والآفات التی تشلّ الحیاة البشریّة

، وحرمانه الأشخاص المتلوّثین به من التصدّی للمسؤولیّات الحسّاسة مکافحة له ، وأخذه

بنظر الاعتبار أشدّ التهدیدات والعقوبات ضدّ مرتکبیه ، کلّ ذلک یدلّ علی هذه الحقیقة ، وهی أنَّ بلوغ الأهداف والمیزات الجوهریّة للمجتمع والوصول إلی العلاقات المثالیّة من

منظار الإسلام لا یتیسّران إلاّ عندما یقطع دابر الظلم فی العلاقات الإنسانیّة .

وقد تحدّث القرآن عن الظلم بشکل مباشر وغیر مباشر فی عشر آیاته تقریبا . وفیه ما یربو علی 350 آیة تناولت هذا الموضوع بشکل مباشر وصریح .

ویهتمّ القرآن فی آیات عدیدة بأن یطلع الإنسان علی هذا السرّ ، وهو أنَّ لکلّ ظلم ردّ فعل یعود علی الظالم أو علی المظلوم أنفسهما « فَاُولئِکَ الَّذینَ خَسِرُوا اَ نْفُسَهُمْ بِمَا

ص:374

کَانُوا بِایَاتِنَا یَظْلِمُونَ » (1) . وأنَّ الإقرار بالظلم کالظلم کبیرة من الکبائر « لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ » (2) . وأنَّ طریق الظلم هو طریق الهلاک ، وأ نَّه یدمّر القیم والمثل البشریّة « وَ تِلْکَ الْقُری اَهْلَکْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا » (3) ، ویحرم الشعوب من ثمار مدنیّتها وحضارتها « فَتِلْکَ بُیُوتُهُمْ خَاوِیَةً بِمَا ظَلَمُوا » (4) ، ویوصد باب الرجوع بوجه الإنسان « یَوْمَ لاَ یَنْفَعُ الظَّالِمینَ مَعْذِرَتُهُمْ » (5) ، ولا شیء یمکن أن یملأ الفراغ الناتج عن الظلم « وَ لَوْ اَنَّ لِلَّذینَ ظَلَمُوا مَا فِی الاَْرْضِ جَمیعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَص فْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ یَوْمَ الْقِیمَةِ وَ بَدَا لَهُمْ مِنَ اللّه ِ مَا لَمْ یَکُونُوا یَحْتَسِبُونَ » (6) . وما کان اللّه لیظلم عباده ، بل العباد أنفسهم یمهّدون الأرضیّة للظواهر البغیضة وظلم أنفسهم

« فَمَا کَانَ اللّه ُ لِیَظْلِمَهُمْ وَلکِنْ کَانُوا اَ نْفُسَهُمْ یَظْلِمُونَ » (7) . وللمظلوم حقّ أن ینتفض بکلّ ما له من قدرة لإنقاذ نفسه من الظالم ومطالبته بحقّه « لاَ یُحِبُّ اللّه ُ الْجَهْرَ بِاص لسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ اِلاَّ مَنْ ظُلِمَ » (8) . وسیأتی علی الإنسان یوم لا یبقی فیه ظلم « فَاص لْیَوْمَ لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَیْٔا » (9) . واللّه منزّه عن کلّ ظلم « وَ مَا اللّه ُ یُریدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ » (10) . والمظلومیّة من وسائل الدفاع الشرعی « وَ لَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَاُولئِکَ مَا عَلَیْهِمْ مِنْ سَبیلٍ »(11) . والظالم لن یفلح أبدا « اِنَّهُ لاَ یُفْلِحُ الظَّالِمُونَ » (12) . والاعتداء علی الظالم لا یعدّ من حالات الاعتداء اللا مشروع « فَلاَ عُدْوَانَ اِلاَّ عَلَی

ص:375


1- الأعراف : 9 .
2- البقرة : 279 .
3- الکهف : 59 .
4- النمل : 52 .
5- غافر : 52 .
6- الزمر : 47 .
7- التوبة : 70 .
8- النساء : 148 .
9- یس : 54 .
10- غافر : 31 .
11- الشوری : 41 .
12- الأنعام : 135 .

الظَّالِمینَ » (1) . وعاقبة الظالمین أ نّهم یبقون منعزلین « وَمَا لِلظَّالِمینَ مِنْ اَ نْصَارٍ » (2) . وفی عاقبتهم عبرة ودرس « فَاص نْظُرْ کَیْفَ کَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمینَ » (3) . واللّه تعالی غیر غافل عمّا یعمل الظالمون ، « وَ لاَ تَحْسَبَنَّ اللّه َ غَافِلاً عَمَّا یَعْمَلُ الظَّالِمُونَ » (4) .

مفهوم الظلم من منظار الإسلام

إنَّ الظلم الذی جاء فی النصوص الإسلامیّة بوصفه ظاهرة مهمّة ومضادّة للقیم فی حیاة الإنسان ورد فی اللغة بمعنی الظلمة أو الحفر فی الأرض(5) .

ویقول ابن فارس فی مقاییس اللغة : إنَّ الظلم یطلق علی معنیین : أحدهما خلاف الضیاء والنور . والآخر وضع الشیء غیر موضعه تعدیّا (6) .

وللظلم فی المفهوم الإسلامی أبعاد واسعة تستوعب علاقة الإنسان باللّه ، وعلاقته بنفسه ، وعلاقته بالآخرین ، وعلاقة الشعوب بعضها ببعض أیضا .

وکلا المعنیین اللغویّین للظلم یصدق علی الحالات المذکورة . ومن هذا المنطلق یتّسم الظلم بمفهوم أوسع من الاعتداء ، ویشمل کلّ عمل یضیع حقّا بنحو من الأنحاء .

ویمثل الظلم والعدل وجهین فی موقفهما من الحقّ ، إذ متی کان ثمّة حقّ ، فرعایته عدل ، وخرقه ظلم .

إنَّ حرمان الشعوب من استیفاء حقوقها ظلم ، وجرّها إلی طریق یفضی إلی فقدانها مثلها وقیمها ضرب آخر من الظلم .

وعندما تستغلّ الدول الکبری والمقتدرة - لما تمتلکه من قدرات کبیرة - الثروات الموجودة فی العالم لتصبّ فی مصالحها القومیّة . فإنَّها ترتکب ظلما بحقّ الشعوب الأُخری

ص:376


1- البقرة : 193 .
2- المائدة : 72 .
3- القصص : 40 .
4- إبراهیم : 42 .
5- « مفردات القرآن » للراغب الأصفهانی ، ص 315 ، مادّة ظلم .
6- « مقاییس اللغة » 3 : 468 .

بصورة غیر مباشرة . والحرّیّة التی تجود بها علی القویّ فیما لا یُبقی للضعیف شیئا ینتفع به ، ظلم .

والعلم الذی یفتح طرقا متشعّبة تزید من حرمان الشعوب الضعیفة ظلم . والجهل الذی یفرض المظلومیّة علی الشعوب المستضعفة ظلم أیضا .

وما یبذل من جهد کبیر لنهب وسلب الثروات العامّة العائدة إلی عامّة الناس ، ظلم . وکذلک التواکل وإهمال الإنسان حقوقه ظلم أیضا . وفی جمیع تلک الحالات ومثیلاتها

، نری أنَّ الظلم ظلام وخبوّ لجذوة النور ووضع للشیء فی غیر موضعه .

دور الظلم فی خرق الأمن الدولی

ینبغی أن ترتکز العلاقات الاجتماعیّة بعامّة والعلاقات الدولیّة بخاصّة علی محور الحقّ والعلاقات العادلة کالترابط الداخلی فی کلّ جهاز ، بحیث یوضع کلّ شیء فی موضعه المناسب له ، وإلاّ فإنَّ المبادئ والضوابط الخاصّة التی تسود تلک العلاقات ستبعث علی

الاختلافات فیها شئنا أم أبینا ، والنتیجة الأخیرة لذلک حدوث الاصطکاک فی داخل الجهاز والاصطدام فی خارجه .

وعندما تحلّ المصالح محلّ الحقیقة ، وتنال الحلول المؤقّتة الاهتمام بدل العدالة الحقیقیّة ، وتسود المصالح الفئویّة الحقوق العامّة ، ویکون التمییز والإجحاف هما المحور ، فإنَّ الخلل فی العلاقات الإنسانیّة کالخلل داخل النظام الالکترونی المعقّد لا یمکن تفادیه . وبروز مثل هذا الخلل علی شکل اصطدام حادّ فی العلاقات یعرّض الأمن للخطر فی الوهلة الأُولی .

والأمن الحقیقی یعنی بقاء حقوق الإنسان مصونة من التعرّض مترافقا ذلک مع العدالة ، ولن یتیسّر أبدا بلوغ الأمن الإنسانی المنشود بغیر العدالة .

وظروف الحرب والاضطراب فی الماضی والحاضر ، والأزمات المهدّدة التی سلبت الحیاة الإنسانیّة أمنها هذا الیوم ، کلّ ذلک یعود - بصورة رئیسة - إلی الظلم والإجحاف

والتمییز البغیض الجائر .

وکما أنَّ العدالة الاجتماعیّة فی بلد من البلدان بالموازنة مع العدالة فی العلاقات العائلیّة

ص: 377

تتّسم بدقّة وتعقید وحجم أکبر ، فکذلک العدالة فی القیاس الدولی بالموازنة مع العدالة الاجتماعیّة أیضا ، فإنَّها تتّسم بعمق وحجم أکبر .

ولا بدّ للعالم فی الصولة الأُولی أن یتوفّر علی مفهوم صحیح للعدالة ، ویطبّق شیئا منها

فی المجتمع الدولی ، ویواصل مسیره حتّی تطهیر الحیاة الدولیّة من الظلم تطهیرا تامّا ، وذلک بغیة قطف ثمار الأمن . وفی هذا المسیر یحظی المجتمع الدولی بدرجة من الأمن متوائمة

مع کلّ مرحلة من مراحل العدالة التی ینالها .

إنَّ دراسة لمسیرة السیاسة العالمیّة علی الصعید الدولی توضّح لنا ضرورة سیادة العدالة أکثر فأکثر وتجعلها أقوی دلیلاً وبرهانا . وحسبنا دراسة النقاط الآتیة فی هذا المجال :

1 - عقم التعاون المتداول بین الدول الکبری ، ووقوع کثیر من المجتمعات والشعوب والأقطار ضحیّة للمنافسات القائمة ، وتخلخل الموازنات السیاسیّة علی الصعید الدولی ، وبروز أزمات حادّة فی شتّی أرجاء العالم .

2 - تنامی الوعی عند الشعوب المتحرّرة فی العالم الثالث ، لا سیّما شعوب البلدان المتخلّفة بعد خروجها من طوق القوی الاستعماریّة وأسرها ، ممّا صعّد من الدعوة إلی

العدالة بحجم لافت للنظر . وبالمستوی نفسه أیضا اکتسحت القوی الکبری الأوکار المحتملة

لدعاة العدالة .

3 - تضارب الاتّجاهات بدّد آمال المحرومین والشعوب الضعیفة کلّها ، وزاد ظمأ الشعوب إلی العدالة الأصیلة ، وضاعف انشدادها إلیها .

4 - إنَّ التقدّم التکنولوجی المتعاظم ، وبثّ الأفکار المادّیّة بشکل مکثّف ، والابتعاد

عن الفطرة والأواصر المعنویّة والقیم الأخلاقیّة ، کلّ ذلک قد أعمی العیون عن أن تنظر من وحی الإنصاف ، ووخز الضمیر الإنسانی ، وخلط الحقّ بالباطل ، وعرّض حقوق الأشخاص والشعوب إلی خطر أکبر .

5 - تفاقم المشاکل الجدیدة فی علاقات الشعوب ، والتوکّؤ أکثر علی الأفکار والمصالح القومیّة والقسر والقوّة والخداع تحت غطاء الدبلوماسیّة .

وعشرات النقاط الأُخری التی جرفت العالم نحو مأزق سیاسی وقانونی خطیر . وغزا الإنسان الفضاء فتعرّف علی کواکب أُخری ، ونشر الذعر فی العالم بواسطة الأسلحة النوویّة

ص: 378

التی صنعها بسبب تعاظم هلعه وخوفه ؛ إلاّ أ نَّه رضخ أمام شبح الظلم ، ففقد الأمن ثمنا لذلک(1) .

وکیف یمکن الدفاع عن الأمن أمام الأزمات فی ظروف خیّم فیها الظلم علی الأجواء فادلهمّت ؟ وهل یتسنّی لنا اتّخاذ قرار حاسم فی هذا المجال ؟

وإلی أیّ درجة یمکن أن یکون استخدام الدبلوماسیّة فی مثل هذه الظروف مقبولاً ومعوّلاً علیه ؟ وإلی أیّ مدی یستطیع أن یقرّ الأمن بدل الإنصاف والعدالة ؟

وقد تتوالی الأحداث الدولیّة کسرعة البرق إلی درجة نجد فیها أنَّ أکثر السیاسیّین حنکة یشعر بالعجز حیالها . وقد تحدث التطوّرات والأزمات والثورات تغییرات مباغتة فی

کلّ شیء ، وتخلخل المعادلات الدولیّة ، وتغیّر مجری التاریخ .

ویضعضع الظلم جمیع الرکائز والأرکان المعوّل علیها ، ویصادر الثقة ، ویستبدل الاضطراب والقنوط بالنشاطات الإیجابیّة والمصیریّة .

وفی ظلّ الأجواء التی یسودها الظلم فی عالم الیوم ، فإنَّ الحرب الباردة یمکن أن تجرف معها ضحایا کثیرین ؛ وقد أثارت الحرب الفیتنامیّة المؤسفة هذا السؤال فی أذهان

الکثیرین من أبناء العالم ، وهو : هل أنَّ الحرب الباردة مهمّة إلی درجة أ نّها تخلّف هذا العدد الغفیر من الضحایا ؟ ومن سیکون مستعدّا لمناصرة قضیّة سبّبت کلّ هذا العناء

والبؤس والنکبة ، وخلّفت الضحایا وراءها لدولة صغیرة ، وجعلتها طعمة لنار الدول

الکبری المضطرمة ؟ (2)

ولم یعد تبلور إطروحة التعایش السلمیّ متجسّدة فی سیاسة تخفیف التوتّر ناجعا فی مواجهة الأزمات الدولیّة المتزایدة ، وأوصد السیل الجارف للظلم جمیع الطرق بوجه البشریّة ، والشیء الذی لم یبق منه أثر فی مثل هذا المأزق هو الأمن . أجل ، فالظلم هو الباعث الأصلی علی حرمان العالم من نعمة الأمن . ولیس اعتباطیّا أن یولی الإسلام کلّ

هذا الاهتمام بالعدالة ، ویحذّر من الظلم والجور ، ذلک لأنَّ الأمن یتیسّر فی ظلّ العدالة .

ص: 379


1- « إدارة الأزمات الدولیّة » [ فارسی ] ص 92 - 93 .
2- « القوی العالمیّة فی القرن العشرین » [ فارسی ] ص 287 .
3 - التهدید والتخویف
اشارة

یعتبر التهدید والتخویف المصطلح علیهما بالإرهاب هذا الیوم من البواعث الرئیسة علی سلب الأمن دولیّا .

وقد سئل الفیزیائی الذرّی الدکتور ثلر ، الذی یطلقون علیه غالبا لقب : أب القنبلة الهیدروجینیّة ، عمّا سیؤول إلیه وضع الولایات المتّحدة الأمیرکیّة سنة 2000م . فأجاب

بعد تفکیر عمیق : سیأتی الفناء علی نصف الولایات المتّحدة الأمیرکیّة یومئذٍ(1) .

وهذه النبوءة فی الحقیقة انعکاس للفزع الذی نشرته أمیرکا فی أرجاء العالم ، وستحترق بناره فی آخر المطاف .

وقال الرئیس الأمیرکی مؤکّدا علی ضرورة تطبیق المشروع الخاصّ بحرب النجوم : هذا حلّ للخروج من المأزق الذرّی الذی أقلق البشریّة مدّة أربعة عقود(2) . ولنا أن نتساءل قائلین : ما هی الأسباب التی أدّت إلی أربعین سنة من القلق والاضطراب والشعور بالذعر

والفزع ؟ وهل أنَّ هذه الأسباب التی أفضت إلی هذا القلق العالمی کلّه یمکن أن تکون

وسائل لإقرار الأمن والشعور بالطمأنینة ؟

وانتقدت السوید ، بوصفها دولة أُوروبیّة محایدة ، هذا المشروع قائلة : یمکن أن یسفر هذا العمل عن إنتاج أسلحة جدیدة . واقترحت علی الدول المحایدة وغیر المنحازة إقرار

نظار الأقمار الصناعیّة من أجل رقابة الشؤون التسلیحیّة فی العالم(3) .

ومفهوم هذا الکلام هو أنَّ مشروع الدفاع الاستراتیجی الأمیرکی لیس أکثر من عامل مهدّد للجمیع ، بما فیها الدول المحایدة .

مفهوم التخویف والتهدید

یعتبر الإرهاب من المفردات الجدیدة التی تستخدم هذا الیوم فی العالم بوصفها أداة لقمع الأحرار من دعاة الاستقلال ، وإلغاء التبعیّة والحرمان ، والوقوف بوجه تحکّم القوی الکبری ، والانتفاضات الشعبیّة ضدّ دکتاتوریّة الأنظمة العمیلة ، وفی الوقت نفسه قناع

ص: 380


1- « الابتکار الأمیرکی للدفاع الاستراتیجی » أو « حرب النجوم » ص 2 .
2- نفسه ص 35 .
3- نفسه ص 102 .

للتغطیة علی أسالیب التهدید والذعر الذی افتعلته القوی الکبری لتمشیة سیاساتها السلطویّة والعدوانیّة فی العالم .

ویطلق الإرهاب هذا الیوم علی أعمال العنف التی تقوم بها الشعوب المظلومة المقهورة فی فلسطین أو لبنان أو الجمهوریّة الإسلامیّة الإیرانیّة ، مثلاً ، بغیة التحرّر من ربقة الاستعمار ، واستعادة حقوقها المضیّعة ، وذلک بعد یأسها من جمیع الأسالیب المثمرة الأُخری . فأعمال الرَّهان ، والقرصنة الجویّة ، والاغتیال من الأعمال التی یطلق علیها المتلاعبون فی السیاسة الدولیّة أعمالاً إرهابیّة . بینما نری أنَّ هؤلاء الآخرین من عملاء السیاسة الاستکباریّة هم السبّاقون إلی القیام بمثل هذه الأعمال ، وقد وقعوا فی الفخّ الذی نصبوه أنفسهم .

حدثت أوّل قرصنة جویّة فی العالم من قبل إسرائیل فی کانون الأوّل سنة 1945م . واتّخذ عملاء أمیرکا فی أرجاء العالم اختطاف الأشخاص واغتیالهم أُسلوبا لعملهم من أجل

بثّ الرعب علی صعید واسع . وکان الأمن والحرّیّة ضحیّتین للسیاسة العدوانیّة التی انتهجتها الدول الکبری لإخماد جذوة الحرکات التحرّریّة للشعوب ، وفرض الأنظمة العمیلة علیها .

ولا ریب أنَّ الدعایات العالمیّة المکثّفة التی تبثّ لتضخیم الأخطار الناتجة عن أعمال العنف التی تقوم بها الشعوب المحرومة والمکافحة من أجل الحرّیّة ، أُسلوب آخر لقمع

الحرکات وقطع دابر الحرکات المضادّة للاستکبار ، وفرض سیاسة الذلّ والخنوع ، وتوطید

رکائز التبعیّة والأسر .

إلاّ أنَّ الحقیقة التی تضیع فی غضون ذلک علی سبیل المواربة هی أنَّ جمیع هذه الأعمال التی یطلق علیها هذا الیوم عنوان : الأعمال الإرهابیّة بالقیاس إلی وسائل التهدید والإرعاب التی نشرتها الدول الکبری فی أرجاء العالم ، والتی مثّلت أعمال العنف التی تقوم بها الشعوب المکافحة للتحرّر أحد ردود فعلها ، هی کقطرة فی مقابل سیل جارف ، أو کصفیر الطلقة الناریّة بالقیاس إلی الانفجار المدوّی للقنابل الذرّیّة .

وعندما تبثّ الدول الکبری ، لا سیّما أمیرکا المستکبرة ، دعایاتها المکثّفة ضدّ الإرهاب ، فإنّها لا تشیر إلی جذوره أبدا . بینما تتحقّق مکافحة الإرهاب عبر اجتثاث

ص:381

أسبابه واکتساح ضروب الظلم والتحکّم کلّها ، ذلک لکی لا تخمد الصیحات والصرخات فی الحناجر ، ولا یلجأ المحرومون المکبّلون إلی العنف .

وماذا ننتظر عندما یسود جوّ الرعب فیسلب من المحرومین المعانین کلّ إمکانیّة لاستعادة الحقّ سلمیّا ، ویضیّق الحیاة علیهم بما رحبت ، ولا یترک لهم إلاّ التسلیم أو الکفاح حتّی الموت ؟ وهل اختارت الدول الکبری طریقا إلاّ العنف والتهدید والإرهاب لحفظ ما یسمّی بمصالحها القومیّة وتمشیة سیاساتها العدوانیّة ؟!

وینبغی التعرّف علی الأسباب التی تکمن وراء أسالیب التهدید والرعب وأعمال العنف التی تنظر إلیها بعض الشعوب علی أ نّها السبیل الوحید لخلاصها . کما ینبغی التوفّر

علی دراسة المصدر الذی سبّب للبشریّة الممتهنة والضمائر الجریحة کلّ هذه الخیبة والفشل

والخسران والانکسار والکآبة ممّا أدّی إلی بروز مثل هذه التضحیات وضروب البذل والإیثار .

ألیست أعمال العنف صرخة الشعوب المأسورة والمظلومة والمهضوم حقّها ؟ ألا تعتبر هذه الأعمال إعلانا للظلامة ضدّ السیاسات العدوانیّة ؟ ألیست تمثّل السبیل الوحید للنضال

من أجل تحرّر الشعوب والأقطار ؟

ویمکن تعریف التهدید والرعب کالآتی : کلّ عمل یزعزع الأمن ، ویمهّد الأرضیّة للانتهاک ، ویقیّد حقوق الإنسان الشرعیّة ، ویسلب الأمان والاطمئنان تحقیقا لأهداف

غیر إنسانیّة وسیرا باتّجاه الفساد .

وهو بهذا المعنی یمکن أن یتّخذ أشکالاً متنوّعة ، منها : إنتاج الأسلحة الذرّیّة الرهیبة ، ووضع الخطط الاستراتیجیّة الطائشة نحو خطّة حرب النجوم ، والأحلاف العسکریّة ، وإنشاء أنظمة قمعیّة وعمیلة ، ودعایات منظّمة وتهجّمیّة ، وإنشاء وکالات أنباء هادفة

تشوّه الحقائق ، وتوجّه الشعوب المنسلخة عن ذاتها فی عالم من الخیال والزیف والهلع نحو الأهداف المرسومة مسبقا باتّجاه مصالح الدول الکبری ، والغزو الثقافی الذی یذیب شخصیّة الإنسان فی ثقافة الشعوب الأُخری ، والأسالیب الاقتصادیّة الرهیبة ، ومنطق

القوّة والمکائد الدبلوماسیّة ، وأخیرا الهجوم العسکری العدوانی الصارخ ، ومئات الأشکال الأُخری التی تمارسها الدول الکبری فی أرجاء العالم هذا الیوم بشکل رسمیّ وغیر

ص: 382

رسمیّ

، علنی وسرّی ، مباشر وغیر مباشر .

إنَّ أهمّ عنصر فی تعریف التهدید والرعب ( الإرهاب ) هو سلب الأمن الذی یجعله خطرا علی البشریّة إلی مستوی یعدّ فیه أکبر جریمة ضدّها .

والنقطة الأُخری هی أنَّ المقاصد اللا إنسانیّة المعادیة للبشریّة هی التی تدفع رموز التهدید والرعب عادة إلی ارتکاب الجرائم ضدّ البشریّة .

وقد تتحقّق عملیّات التهدید والرعب فی بعض الحالات مقنّعة بقناع الإنسانیّة والدفاع عن الحقوق القومیّة وعشرات الذرائع الواهیة الأُخری التی یتشبّث بها المبادرون

ضدّ الأمن - عادة - لتسویغ جرائمهم ، ولا جرم أنَّ هدفهم وعملهم ممّا یمقته الضمیر

الإنسانی ولا ینسجم مع المطالب الجماهیریّة(1) .

نظرة الإسلام إلی التهدید والتخویف

قلنا فیما مضی إنَّ الإسلام ندّد بالتهدید والإرهاب ، فوفّر بذلک الأرضیّة لضمان الأمن ، حتّی أ نَّه أجاز للمظلوم أن یستخدم العنف عندما لا یلقی طریقا لإحقاق حقّه .

وفی ضوء الرؤیة الإسلامیّة فإنَّ عنف العمل لیس معیارا للتهدید المحظور والترعاب اللا شرعی ؛ ذلک لأنَّ أعمال العنف قد تکون للعقوبة ، أو لرفع التظلّم ، أو قد تمثّل نوعا من الدفاع الشرعی .

وذکر القرآن الکریم بصراحة أحد المجالات المهمّة لممارسة العنف الشرعی من قبل المظلوم الذی أوصد الطریق القانونی بوجهه . قال جلّ من قائل : « لاَ یُحِبُّ اللّه ُ الْجَهْرَ بِاص لسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ اِلاَّ مَنْ ظُلِمَ » (2) .

ویعتبر « إشهار السلاح » فی الفقه السیاسی ، بوصفه أحد الأعمال التی تحمل طابع التهدید والتخویف ، جریمة یستحقّ مرتکبهاالإعدام ، ویعامل بصرامة ، قال عزّ من قائل : « اِنَّمَا جَزَاؤُا الَّذینَ یُحَارِبُونَ اللّه َ وَرَسُولَهُ وَیَسْعَوْنَ فِی الاَْرْضِ فَسَادًا اَنْ یُقَتَّلُوا اَوْ یُصَلَّبُوا اَوْ تُقَطَّعَ اَیْدیهِمْ وَاَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ اَوْ یُنْفَوْا مِنَ الاَْرْضِ ذلِکَ لَهُمْ خِزْیٌ

ص: 383


1- مقالة بعنوان : « حول تعریف الإرهاب » بقلم الشیخ محمّد علی التسخیری فی مجلّة التوحید ، السنة الخامسة ، العدد 29 .
2- النساء : 148 .

فِی الدُّنْیَا وَلَهُمْ فِی الاْخِرَةِ عَذَابٌ عَظیمٌ » (1) .

فهذه الآیة التی حدّدت عقوبة الإعدام والإبعاد بالنسبة إلی المحارب ، ذکرت بصراحة موضوع الرعب والتهدید وهدفهما . ووعدت بعذاب أُخرویّ عظیم مضافا إلی العقوبات المترتّبة فی الدنیا .

ویرکّز القرآن علی معاقبة مسبّبی الخوف فی المجتمعات البشریّة إلی درجة أ نَّه لا یراهم مستحقّین للتمتّع بالأمن الذی ینصبون له العداء ، ویجیز مواجهتهم بالمثل ، ویقدّمهم إلی الناس علی أ نّهم أعداء الإنسانیّة ، ولا أمن لهم ، قال تعالی : « وَاَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَیْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّه ِ وَعَدُوَّکُمْ » (2) .

وقد أهدر الفقهاء دم الشخص الذی یهدّد شخصا آخر ، واعتبروا التعرّض لأمن الجار حتّی ولو بالنظرة مسوّغا للدفاع إلی حدّ الضرر وارتکاب القتل(3) .

ویری الإسلام أنَّ مواجهة التهدید والترعاب مهمّة عامّة ( واجب کفائی ) إذ ینبغی أن یقف الجمیع یدا واحدة فی مقارعة أسباب التهدید والترعاب ، ویدافعوا عن المظلوم ویکونوا للظالم خصما .

وکلمة الإمام علیّ علیه السلام المشهورة : کونوا للظالم خصما وللمظلوم عونا (4) . دلیل بیّن علی أهمیّة قشع غمائم التهدید عن المجتمع البشری . وجاءت کلمة الظالم والمظلوم فی هذا الکلام

بنحو مطلق . ومفهوم ذلک هو أنَّ الظالم حتّی لو کان مسلما ، والمظلوم أجنبیّا عن الإسلام ، فواجب المسلم هو الوقوف إلی جانب المظلوم .

وإخماد نار الفتنة هدف من أهداف الدفاع الشرعی فی الإسلام ، والفتنة - فی تفسیر من التفاسیر - هی التهدید والإرهاب . ویؤکّد القرآن علی ذلک فیقول : « قَاتِلُوهُمْ حَتّی لاَ تَکُونَ فِتْنَةٌ » (5) .

ص: 384


1- المائدة : 33 .
2- الأنفال : 60 .
3- « تحریر الوسیلة » 1 : 487 .
4- « نهج البلاغة » الکتاب رقم 47 .
5- البقرة : 193 .
4 - الاستکبار ( سیاسة التسلّط والاستغلال )
اشارة

أمّا السبب الرابع من الأسباب التی تهدّد الأمن فهو السیاسة الاستکباریّة أو الإمبریالیّة علی حدّ التعبیر الغربی . والإمبریالیّة سواء کانت بمعناها التقلیدی ( السیاسة التوسعیّة ) أو بالمفهوم المارکسی ( أعلی مرحلة من مراحل الرأسمالیّة ) أو فی ضوء التفسیر الرأسمالی ( ذی النزعة العسکریّة ) أو بالمعنی السیاسی الجدید ( اجتیاز الحدود القومیّة

باتّجاه حدود أوسع أو المحصّلة الأخیرة لظاهرة القدرة ) . أو بالمفهوم الاقتصادی الجدید

( الرأسمالیّة الحکومیّة الاحتکاریّة ) التی یمثّل الاستعمار القدیم والجدید ونهب الثروات فی العالم ، والتوجّه الاستکباری للدول الکبری سمات واضحة من سماتها ،فإنَّ لها خاصّیّة

مشترکة وبارزة جعلتها قابلة للمقارنة بالمفهوم الإسلامی للاستکبار . وتلک الخاصّیّة

المشترکة هی سیاسة التسلّط والاستغلال التی تعتبر أهمّ سبب یهدّد الأمن الداخلی للبلدان ، وکذلک هی فی المقیاس الدولی .

وتتّسم طبیعة الإمبریالیّة بنوعیها الغربی والشرقی بسمات أُخری ما عدا سیاسة التسلّط والاستغلال ، ویمکن أن تکون هذه السمات - بدورها - من الأسباب التی تهدّد الأمن الدولی ، وحتّی الأمن فی المقیاس الداخلی لبلدان العالم الثالث . وکذلک فإنَّ لطبیعة الاستکبار بالمعنی الوارد فی القاموس السیاسی فی الإسلام خصائص غیر عنصر التسلّط والاستغلال یمکن أن تهدّد حقوق الناس ومصالحهم وتسلب الأمن منهم .

ونحن هنا نتغاضی عن التطرّق إلی مواصفات الاستکبار فی المفهوم الإسلامی . والإمبریالیّة فی الفلسفة السیاسیّة الشرقیّة والغربیّة ، من خلال مفاهیمها وأشکالها

المتعدّدة ، ونری من الضروری أن نتوفّر علی دراسة لطبیعة التسلّط والاستکبار التی تمثّل

السمة المشترکة لهاتین المفردتین ، ودورهما فی سلب الأمن العامّ . وتمثّل سیاسة التسلّط

والاستغلال هذا الیوم المقوّم الأساس لمبادئ السیاسة الخارجیّة للدول الکبری . وهذا

المقوّم هو الذی یحدّد المحاور الأصلیّة للاستراتیجیّات الدولیّة .

وعلی الرغم من أنَّ استراتیجیّة الخوف من الذرّة فی المنافسة القائمة بین الدولتین الکبریین فی مجال التسلّح عبارة عن فنّ عدم الاصطدام المباشر بینهما ، أو فنّ ترجمة القوّة

ص: 385

باللغة الدبلوماسیّة ، أو فنّ الاستخدام الحکیم للسیاسة « عدم استخدام القوّة » (1) ، إلاّ أنَّ السیاسة التی تکشف عن وجهها البغیض القبیح بالأظفار والأسنان فی الأزمات والأحداث الدولیّة جمیعها هی سیاسة التسلّط والاستغلال الجدید . وهذه السیاسة هی التی دفعت هنری کیسنجر وزیر الخارجیّة السابق فی الولایات المتّحدة الأمیرکیّة أن یعلن

فی کتابه « آفاق السیاسة الخارجیّة » بصراحة قائلاً :

« علی الجمیع أن یعلموا مسبقا أنَّ الولایات المتّحدة الأمیرکیّة سوف لن تتردّد فی استخدام السلاح الذرّی فور بدء الصراع » (2) .

وقال واین برغر وزیر الدفاع السابق أیضا :

« إنَّ وجود نظام دفاعی استراتیجی ومؤثّر سوف یرغم العدوّ علی التریّث قبل المبادرة إلی الهجوم الذرّی » .

وعندما نتأمّل قلیلاً فی هذه التصریحات التی تنطلق من وحی القوّة والتسلّط ، فإنّنا سندرک الوقع الذی تترکه علی الرأی العامّ العالمی ومجری السیاسة والأمن الدولی .

إنَّ دراسة السیاسة العدوانیّة التی انتهجتها أمیرکا علی امتداد العقود التی تلت الحرب العالمیّة الثانیة ، لا سیّما فی کوریا ، وفیتنام ، وفلسطین ، وکذلک سیاستها فی الحرب المفروضة التی شنّها النظام العراقی ضدّ الجمهوریّة الإسلامیّة الإیرانیّة خلال العقد الأخیر . وکذلک دراسة السیاسة الخارجیّة للاتّحاد السوفیتی حیال بلدان أُوروبا الشرقیّة فی البعد

العسکری ، والسیاسی ، والاقتصادی ، وأُسلوبه فی استغلال النشاطات التی تقوم بها الأحزاب الشیوعیّة فی أقطار العالم المختلفة ، ومثالها حزب تودة فی إیران [ الحزب الشیوعی

الإیرانی ] (3) ، وأخیرا سیاساته العدوانیّة المتمثّلة فی الاجتیاح العسکری لتشیکوسلوفاکیا وأفغانستان وغیرهما ، کلّ ذلک دلیل واضح لا یقبل التردید علی سیاسة التسلّط والاستغلال الجدیدة للدولتین الکبریین فی الساحة الدولیّة .

والظلّ المشؤوم الذی ألقته الدول الکبری علی منظّمة الأُمم المتّحدة ، وتمتّعها بحقّ النقض ( الفیتو ) ، وسیاسة إحباط التوجّهات النضالیّة والحرکات التحرّریّة ، ومواجهة

ص:386


1- « الاستراتیجیّة الدولیّة » [ فارسی ] لجلال الدین فارسی ، ص 72 .
2- نفسه ص 98 .
3- « الطریق الأعوج » [ فارسی ] ، لإحسان طبری .

الثورات الأصیلة ، أدلّة واضحة أُخری ترشدنا إلی التعرّف علی جذور القلق والذعر

، وتعتبر العامل الأصلی الذی یهدّد الأمن الدولی ملخّصا فی السیاسة العدوانیّة للتسلّط

والاستغلال .

ومن هذا المنطلق ، عرّف الکثیرون الإمبریالیّة بهذه الصفة وحدها : نهب الثروات فی العالم ، والتسلّط السیاسی ، ومواصلة الاستعمار فی طابع السیطرة الاقتصادیّة ، واستغلال

الدول الرأسمالیّة المتطوّرة للشعوب الأسیویّة والإفریقیّة المتخلّفة(1) .

الإسلام وسیاسة التسلّط

نری فی ضوء الفلسفة السیاسیّة للإسلام أنَّ ظاهرة التسلّط ، والاستعمار ، والاستغلال تنبع من باطن الإنسان ، وما لم یکن فیه جنوح باطنیّ للتسلّط أو لقبول التسلّط ، فإنَّ هذه الظواهر لا تطرأ فی المجتمع البشری .

وفی تحلیله لأوّل انحراف بشری ، یعرض القرآن الکریم روح الاستکبار بوصفها الباعث الأصلی لذلک . قال تعالی : « وَ اِذْ قُلْنَا لِلْمَلئِکَةِ اسْجُدُوا لاِدَمَ فَسَجَدُوا اِلاَّ اِبْلیسَ اَبی وَ اسْتَکْبَرَ » (2) .

ویعرض الاستکبار أیضا بوصفه الباعث المهمّ علی مقاومة المنحرفین لدعوة الأنبیاء . قال جلّ من قائل : « اَفَکُلَّمَا جَاءَکُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوی اَ نْفُسُکُمُ اسْتَکْبَرْتُمْ » (3) .

والسبب الرئیس لإدانة المعارضین لدعوة الحقّ والآیات الإلهیّة هو الحسّ الاستکباری المهیمن علی عقولهم . قال جلَّ شأنه : « اَفَلَمْ تَکُنْ ایَاتی تُتْلی عَلَیْکُمْ فَاص سْتَکْبَرْتُمْ وَ کُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمینَ » (4) .

ویطلق القرآن علی القوی التی تجهد لمحق دعوة الأنبیاء صفة الاستکبار ، فقد قال عزَّ من قائل : « ثُمَّ اَرْسَلْنَا مُوسی وَ اَخَاهُ هرُونَ بِایَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبینٍ * اِلی فِرْعَوْنَ

ص: 387


1- « معجم العلوم السیاسیّة » [ فارسی ] لعلی آغا بخشی ، ص 125 .
2- البقرة : 36 .
3- نفسها ، الآیة 87 .
4- الجاثیة : 31 .

وَ مَلاَoئِهِ فَاص سْتَکْبَرُوا وَکَانُوا قَوْمًا عَالینَ » (1) . ومن منظور قرآنی فإنَّ المستکبرین هم السبب فی استضعاف الشرائح المظلومة دائما بسبب روح التسلّط التی یحملونها بین جوانحهم . قال تعالی : « وَ جَعَلَ اَهْلَهَا شِیَعًا یَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ » (2) .

وهم السبب فی ضلال المستضعفین ، والعقبة التی تحول دون وعیهم وتنامیهم ، والعائق الذی یقف بوجه حرکاتهم التحرّریّة . قال جلّ شأنه : « یَقُولُ الَّذینَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذینَ اسْتَکْبَرُوا لَوْلاَ اَ نْتُمْ لَکُنَّا مُؤْمِنینَ » (3) .

وفی تطبیقه لسیاسة التسلّط والاستغلال ، یُثبّط الاستکبار عزیمة المستضعفین ، ویقلّل سرعة حرکتهم التحرّریّة ، حتّی عن طریق إثارة الشکّ والنفاق أیضا . قال تعالی : « قَالَ الْمَلاَُ الَّذینَ اسْتَکْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذینَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ امَنَ مِنْهُمْ اَتَعْلَمُونَ اَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ » (4) .

إنَّ سیاسة التصفیة والتطهیر المتّبعة ضدّ القوی التحرّریّة الحرکیّة الواعیة التی تسعی لکشف هویّة المستکبرین وتبثّ الوعی بین المستضعفین ، وسیاسة فصل الناس عن قادتهم المخلصین ، هما من أکثر أسالیب الاستکبار مبدئیّة ، ویمثّلان رکیزة لمؤامرات المستکبرین

المعادیة للشعوب . ویحذّر القرآن من ذلک بذکر بعض الأمثلة والنماذج فی هذا المجال ، فقد قال عزَّ من قائل : « قَالَ الْمَلاَُ الَّذینَ اسْتَکْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّکَ یَا شُعَیْبُ وَالَّذینَ امَنُوا مَعَکَ مِنْ قَرْیَتِنَا اَوْ لَتَعُودُنَّ فی مِلَّتِنَا قَالَ اَوَ لَوْ کُنَّا کَارِهینَ » (5) .

ویؤکّد القرآن علی نقاط أُخری بعد الکشف عن هویّة الاستکبار :

1 - یخلص الاستکبار فی آخر المطاف إلی تیّار سلطویّ وقدرة طاغیة ، ویتطاول علی بقاع أکثر من الأرض متسلّطا علی هذه البقاع وأهلها بغیر حقّ . قال تعالی : « وَ اسْتَکْبَرَ هُوَ وَ جُنُودُهُ فِی الاَْرْضِ بِغَیْرِ الْحَقِّ وَ ظَنُّوا اَ نَّهُمْ اِلَیْنَا

ص: 388


1- المؤمنون : 45 - 46 .
2- القصص : 4 .
3- سبأ : 31 .
4- الأعراف : 75 .
5- نفسها ، الآیة 88 .

لاَ یُرْجَعُونَ » (1) .

2 - السیاسة التسلّطیّة تدفع المستکبرین إلی امتهان الناس ، وسلبهم هویّتهم الإنسانیّة وشخصیّتهم لکی یطوّعوهم للانضواء تحت نیرهم ، ویصنعوا منهم أُناسا عدیمی

الإرادة ، فاقدی الفکر والتشخیص . قال عظمت قدرته : « فَاص سْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَاَطَاعُوهُ

اِنَّهُمْ کَانُوا قَوْمًا فَاسِقینَ » (2) .

3 - لا یکشف الاستکبار عن وجهه أبدا . وتمارَس السیاسات الاستکباریّة دائما علی شکل مؤامرات شیطانیّة خفیّة بأقنعة خادعة . فالیقظة ، والتعامل الواعی ، والتعرّف علی المکاید المتنوّعة والمعقّدة للمستکبرین بغیة التخلّص من شراکهم ، کلّ أُولئک ضرورة لابدّ منها ، والغفلة فی کلّ مرحلة یمکن أن توصد طریق الخلاص ، أو تجعله أکثر تعقیدا علی

الأقلّ . بینما نجد أنَّ الیقظة والوعی والتعرّف الصحیح علی مکاید الاستکبار ، کلّ ذلک یمکن أن یکون مفیدا إلی درجة یجعل فیها مؤامرة المستکبرین وبالاً علیهم . قال جلّ من قائل : « اِسْتِکْبَارًا فِی الاَْرْضِ وَمَکْرَ السَّیِّئِ وَ لاَ یَحیقُ الْمَکْرُ السَّیِّئُ اِلاَّ بِاَهْلِهِ » (3) .

4 - یعتبر التاریخ شاهد صدق علی فشل الاستکبار المذلّ ، ودرسا للظفر بطرق الخلاص من السیاسات العدوانیّة للمستکبرین . وأنَّ دراسة سنن الحیاة الاجتماعیّة ووجود القوانین الإلهیّة المهیمنة علی التاریخ والمجتمع یمکن أن ینیرا طریق الحیاة القادمة

لکلّ جیل وفی کلّ عصر .

إنَّ الرؤیة التی یظفر بها المستکبرون عبر هذا الطریق تجعلهم یفکّرون بمآل هذا الطریق وعاقبته المخزیة ، وهم إذ یشعرون فی باطنهم بانجذاب نحو هذا الطریق ، ینبرون إلی إصلاح أنفسهم ، وتتخلّص الجماهیر من شراک الاستکبار أیضا من خلال هذا الوعی . قال

تعالی : « فَهَلْ یَنْظُرُونَ اِلاَّ سُنَّتَ الاَْوَّلینَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللّه ِ تَبْدیلاً وَ لَنْ تَجِدَ

لِسُنَّتِ اللّه ِ تَحْویلاً * اَوَ لَمْ یَسیرُوا فِی الاَْرْضِ فَیَنْظُرُوا کَیْفَ کَانَ عَاقِبَةُ الَّذینَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ کَانُوا اَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ مَا کَانَ اللّه ُ لِیُعْجِزَهُ مِنْ شَیْ ءٍ فِی السَّموَاتِ

ص:389


1- القصص : 39 .
2- الزخرف : 54 .
3- فاطر : 43 .

وَ لاَ فِی الاَْرْضِ اِنَّهُ کَانَ عَلیمًا قَدیرًا » (1) .

تدلّ دراسة الأُسلوب الذی ینتهجه الإسلام حیال الاستکبار علی أنَّ الأمن - فی ضوء الرؤیة الإسلامیّة - لا یستقرّ فی ربوع الأرض ما دامت الأجواء الظالمة هی السائدة

فی العالم ، وما دامت الجماهیر الغفیرة من سکّانه تحت سیطرة القوی الأجنبیّة محرومة من حقوقها الأوّلیّة ، ومن نیل الحرّیّة ، والاستقلال والسیادة علی مصیرها . والاستکبار - فی أشکاله کلّها - هو المصدر الأصلی للتوتّر والنزاع علی الصعید الدولی ، إذ یهدّد الأمن

باستمرار .

ص: 390


1- فاطر : 43 - 44 .

الفصل الثالث: مبادئ القانون الدولیّ فی الإسلام وقواعده

المبحث الأوّل : المبادئ والقواعد المعترف بها

فی ضوء مبدأ الاعتراف ، تتمتّع الشعوب فی ظروف السلم بحقوق ینبغی أن تنظّم فی مجموعة من المبادئ والقواعد القانونیّة فی العلاقات الدولیّة ، وتقع موقع التنفیذ . وفی هذا الحقل تؤکّد المادّة الثانیة من میثاق منظّمة الأُمم المتّحدة علی سیادة المبادئ الآتیة فی العلاقات الدولیّة :

1 - مساواة الدول الأعضاء فی منظّمة الأُمم المتّحدة .

2 - النیّة الحسنة فی العمل بالعهود التی أخذتها الدول الأعضاء علی عاتقها حسب المیثاق .

3 - حلّ الخلافات الدولیّة بصورة سلمیّة .

4 - عدم التهدید بالقوّة ، أو عدم استخدامها بأیّ شکل من الأشکال التی تتباین مع أهداف الأُمم المتّحدة .

5 - تشجیع الدول غیر الأعضاء علی تطبیق هذه المبادئ .

6 - دعم الإجراءات المتّخذة من قبل منظّمة الأُمم المتّحدة .

7 - عدم التدخّل فی الشؤون التی تختصّ بالصلاحیّات الوطنیّة للبلدان المختلفة .

وبدأت الجمعیّة العامّة فی منظّمة الأُمم المتّحدة سنة 1962م ، لأوّل مرّة ، مناقشة موضوع تحت عنوان : مبادئ القانون الدولیّ فی مجال العلاقات الودّیّة والتعاون بین شتّی

ص: 391

الأقطار وفقا لقرار الجمعیّة المتّخذ قبل سنة بشأن الأعمال القادمة فی حقل توسیع القانون الدولیّ وتدوینه تدوینا منظّما ، وآلت المناقشة إلی أن تصدر الجمعیّة العامّة فی جلستها

الخامسة والعشرین سنة 1970م وثیقة حول تلک المبادئ ، تضمّ مقدّمة وسبعة مبادئ هی کالآتی(1) :

1 - ینبغی للبلدان المختلفة فی علاقاتها الدولیّة أن تتفادی التهدید بالقوّة أو استخدام

القوّة ضدّ سیادة کلّ دولة أو استقلالها السیاسی ، أو استخدامها بأیّ شکل من الأشکال

التی تتنافی مع توجیهات الأُمم المتّحدة ( المبدأ الرابع فی المادّة الثانیة من المیثاق ) .

2 - وینبغی لها حلّ خلافاتها الدولیّة بالطرق السلمیّة شریطة أن لا یتعرّض السلم والأمن والعدالة الدولیّة للخطر ( المبدأ الثالث من المیثاق ) .

3 - وهذه البلدان مکلّفة وفقا لمیثاق الأُمم المتّحدة أن لا تتدخّل فی الشؤون الداخلیّة لأیّ بلد .

4 - وهی متساویة فی سیادتها علی أراضیها ( المبدأ الأوّل من المیثاق ) .

5 - وهی مکلّفة بالتعاون المتبادل فیما بینها وفقا للمیثاق ( مبدأ جدید ومماثل للمبدأ

السادس من مبادئ المیثاق ) .

6 - وهی متساویة فی الحقوق والحکم الذاتی ( مبدأ جدید ) .

7 - وعلیها العمل بالعهود التی قطعتها علی نفسها بنیّة حسنة وفقا لمیثاق الأُمم المتّحدة ( المبدأ الثانی من المیثاق ) .

وقد لخّص بعض المتخصّصین فی القانون الدولیّ المبادئ التی تسود العلاقات الدولیّة فی المبادئ الخمسة الآتیة ، وأطلقوا علیها اسم : المبادئ الدولیّة القانونیّة العامّة المتمیّزة(2) :

1 - استمراریّة الدول ( استمرار المسؤولیّات النابعة عن عهود الدول والتزاماتها )

.

2 - احترام الاستقلال الذی تتمتّع به البلدان المختلفة .

3 - تقدیم المعاهدة الدولیّة علی القانون الداخلی .

4 - الرجوع إلی المحاکم الداخلیّة قبل الرجوع إلی المحاکم الدولیّة .

ص: 392


1- « دلیل منظّمة الأُمم المتّحدة » ص 827 .
2- شارل روسو ، نقلاً عن « القانون الدولیّ العامّ » [ فارسی ] للدکتور ضیائی بیکدلی ، ص 143 .

5 - سیادة الدولة علی أراضیها .

وعلی الرغم من أنَّ علماء القانون اعتبروا المبادئ القانونیّة العامّة من المصادر المستقلّة والمباشرة للقانون الدولی ، إلاّ أ نّهم یعتقدون أنَّ نطاق تأثیرها وقابلیّتها للتطبیق أضعف بکثیر من المعاهدة ، ویرون رجحان القاعدة التعاقدیّة والعرفیّة عند تعارض المبادئ العامّة للقانون مع القواعد التعاقدیّة والعرفیّة .

وقد أکّد عالم القانون الفرنسی المعروف شارل روسو هذا الموضوع ، إذ یعتقد أنَّ القانون الخاصّ ناقض للقانون العامّ دائما (1) .

وفی ضوء ذلک ، حاولت منظّمة الأُمم المتّحدة أن تصبّ النتائج التی تمخّضت بها جلسات لجنة القانون الدولی بشأن مبادئ القانون الدولیّ ومقرّراته فی معاهدات واتّفاقیّات دولیّة یوقّع علیها الأعضاء . وهذا آخر حلّ أُقرّ فی مجال الأُسس التی ترتکز علیها مبادئ القانون الدولیّ ( القواعد العامّة للقانون الدولی ، المعاهدة والعرف ) .

المبحث الثانی : المبادئ المهیمنة علی قواعد القانون الدولیّ فی الإسلام

اشارة

من الضروری ، قبل القیام بدراسة قواعد القانون الدولیّ فی الإسلام ، أن نستعرض المبادئ المهیمنة علی هذه القواعد بشکل عامّ :

1 - مبدأ إضفاء الطابع التعاقدی علی القواعد القانونیّة فی الإسلام

إنَّ اتّخاذ القواعد القانونیّة طابع المعاهدة مبدأ مقبول فی النظام القانونی فی الإسلام . وحاول الإسلام أن یضفی الطابع التعاقدی علی قواعده القانونیّة عبر طریقین هما :

أ - إیمان الأشخاص والشعوب الذی یمثّل میثاقا مع اللّه نوعا ما .

ب - توقیع المعاهدات الثنائیّة أو المتعدّدة الجوانب علی أساس المبادئ القانونیّة المنبثقة عن الوحی .

ویمکن أن یکون اکتساب قواعد القانون الدولیّ طابع المعاهدة مفیدا وضروریّا لسببین :

ص: 393


1- شارل روسو ، نقلاً عن « القانون الدولیّ العامّ » [ فارسی ] للدکتور ضیائی بیکدلی ، ص 142 .

1 - الالتزامات النابعة من المعاهدة تلزم الأشخاص والشعوب بمراعاة القواعد التی وقّعوا علیها فی المعاهدات .

2 - عنصر الرضا والموافقة یفضی إلی تطبیق القواعد القانونیّة عن طیب خاطر مرتکز علی الحرّیّة ، ممّا یقلّل من مشقّة الإلزام الذی تنطوی علیه القواعد القانونیّة ویجعل تلک القواعد مقبولة أکثر .

وفی المنطق القانونی فی الإسلام یُدعی المیثاق مع اللّه : « إیمان » ، والمیثاق مع

الناس : « عقد » . وقد ترک الإسلام الباب مفتوحا لتوسیع نطاق المعاهدات من خلال

المباحات التی تشغل حیّزا کبیرا من الأحکام . وأنَّ مقارنة المقرّرات القسریّة فی حقلی

القانون الداخلی والقانون الدولیّ بالنطاق اللا محدود للحرّیّات القانونیّة الشامل للأحکام

المستحبّة ، والمکروهة ، والمباحة تدلّ علی المساحة الشاسعة التی تشغلها المعاهدات

والاتّفاقیّات فی الفقه والقانون الإسلامی .

ولا

ریب أنَّ مثل هذا النظام القانونی یوجد أرضیّة رحبة لممارسة الإنسان وحرّیاته ، ویسمح لإحداث تغییرات عامّة فی القواعد القانونیّة عبر المعاهدات بشرط أن لا تعدو الضوابط العامّة للقانون الإسلامی ، وتترسّخ الأُسس والقواعد القائمة علی حرّیّة الإنسان

فی القانون .

وسنقوم فی البحوث القادمة بدراسة أکثر تفصیلاً للدور الحاسم الذی تؤدّیه المعاهدة فی القانون الدولیّ فی الإسلام ، بید أنَّ الجدیر ذکره هنا هو أن الإسلام ، مع اتّکائه علی مبدأ تعاقدیّة القواعد القانونیّة یؤکّد أیضا علی أنَّ کثیرا من القواعد القانونیّة فی حیاة الإنسان متأصّلة فی فطرة الإنسان ، وأنَّ مبدأ الالتزام بالعهود فی اتّفاقیّاته ومعاهداته نابع من هذه القواعد الفطریّة . لأنَّ من البدیهی هو أ نّنا لا یمکن أن نعتبر مبدأ الالتزام فی الاتّفاقیّات والمعاهدات تعاقدیّا ، وإلاّ فإنّه سیتسلسل إلی ما لا نهایة ، أو یفضی إلی تثبیت شرعیّة

المعاهدة مع المعاهدة نفسها .

2 - مبدأ فطریّة القواعد الملزمة للقانون الدولی

یقوم أساس القواعد فی القانون الدولیّ فی الإسلام علی أنَّ القواعد القانونیّة الملزمة

ص: 394

فطریّة ، وأنَّ القواعد القانونیّة الوضعیّة ینبغی أن ترتکز علی القواعد القانونیّة الفطریّة .

وعلی الرغم من أنَّ النظام القانونی فی الإسلام ببعدیه : الداخلی ، والدولی یتوکّأ علی أساس سماوی ویستلهم وجوده من الوحی ، إلاّ أ نَّه دلیل علی فطرة الإنسان فی الحقیقة ، والأساس الجوهری للقانون من منظار الإسلام هو الفطرة .

ویطلق القرآن علی الدین الإسلامی ونظامه القانونی : دین الفطرة ، قال جلّ من قائل : « فَاَقِمْ وَجْهَکَ لِلدّینِ حَنیفًا فِطْرَتَ اللّه ِ الَّتی فَطَرَ النَّاسَ عَلَیْهَا لاَ تَبْدیلَ لِخَلْقِ اللّه ِ ذلِکَ الدّینُ الْقَیِّمُ وَلکِنَّ اَکْثَرَ النَّاسِ لاَ یَعْلَمُونَ » (1) .

نلاحظ فی هذه الآیة بوضوح أنَّ الدین الذی یمثّل مجموعة من العقائد والقوانین التی تنظّم سلوک الإنسان دین فطریّ منبثق عن رغبات الإنسان وحاجاته الفطریّة ، وأنَّ فطرة

الإنسان حقیقة ثابتة لا تقبل التغییر ، وأنَّ الدین القائم علی الفطرة حقیقة راسخة لا تقبل الطعن ، وهی الحقیقة التی جهلها أکثر الناس وهم لا یعلمون .

ولا تعنی فطریّة القواعد القانونیّة من منظار الإسلام أنَّ جمیع القواعد القانونیّة القائمة

علی الفطرة الثابتة دائمة لا تتغیّر ، بل تعنی أنَّ قسما من القواعد القانونیّة العامّة ، کالمعاهدات والعقود الملزمة ، فطریّ نابع من وعی الإنسان ، والقسم الآخر مرتکز علی

هذه القواعد الفطریّة ، وقد تبلور فی إطارها . والقسم الأوّل ثابت ، أمّا القسم الثانی فهو قابل للتغییر فی إطار المبادئ الثابتة . وهکذا فإنَّ النظام القانونی الثابت فی الإسلام یتضمّن متغیّرات فی باطنه .

ولا ریب أنَّ التبدّلات الناشئة عن الظروف الاقتصادیّة ، والسیاسیّة ، والاجتماعیّة علی أساس التطوّرات العلمیّة والتقنیّة تغیّر حیاة الإنسان شکلاً ، إلاّ أنَّ الفطرة تحتفظ بطبیعتها الإنسانیّة الثابتة دائما فی خضمّ هذه التبدّلات ، وفی جمیع المراحل والتقلّبات . ولا جرم أنَّ ما انبثق عن الطبیعة الإنسانیّة الثابتة یظلّ ثابتا کمبادئ وقواعد عامّة

، وأنَّ ما یرتبط بالجانب المتغیّر من حیاة الإنسان یتغیّر ، ویهیمن علی حیاته کقواعد متغیّرة

. بید أنَّ هذه القواعد المتغیّرة لا تخرج عن إطار المبادئ والقواعد العامّة الثابتة المرتکزة علی الفطرة الإنسانیّة أبدا ، ویبقی التنسیق بین هذین القسمین من القواعد القانونیّة المهیمنة علی

ص: 395


1- الروم : 30 .

حیاة الإنسان قائما کمبدأ ثابت فی نظام حیاة الإنسان(1) .

إنَّ بعض المبادئ کالسلم ، والعدالة ، والحرّیّة ، والکرامة الإنسانیّة ، والمعاهدة قواعد

منبثقة عن الفطرة ، ومهیمنة علی العلاقات الدولیّة ، وهی فوق تبدّلات الأشکال المتغیّرة

للحیاة والمجتمع الدولی ، وإنَّ مبادئ کالمساواة ، والتعاون ، والدبلوماسیّة ، والأمن ، وعدم التدخّل فی العلاقات الدولیّة یمکن أن تعرض فی إطار تلک المبادئ العامّة الثابتة

، وتتّخذ طابع المعاهدة ، وتتبلور علی شکل قواعد قانونیّة تسود العلاقات الدولیّة .

3 - العقلانیّة فی قواعد القانون الدولیّ فی الإسلام

الإنسان من منظار الإسلام کائن مفکّر فطریّا ، وقد شیّد حیاته علی أساس الحزم والتدبیر ، وعقله مهیمن علی أفکاره وحیاته ، بحیث إنَّ الإسلام لم یرتض له العقائد

الواهیة ، والحیاة التی لم ترتکز علی العقل ، بل اعتبرهما مرفوضتین .

هذا اللون من الالتقاء بین العقل والشرع یوضّح دور العقل فی تبیان أحقّیّة الشرع ، ودور الشرع فی تکمیل العقل . ویستوعب هذا الالتقاء المقدّس والارتباط العمیق جمیع القضایا الإنسانیّة . سواءً فی حقل الواجبات والمحرّمات التی یصطلح علیها الشارع عنوان : التقوی والفجور ، أو فی حقل الأحکام الجائزة وغیر الجائزة التی یسمّیها الشارع : الحقّ

والباطل . وأفضی هذا المبدأ فی القانون الإسلامی إلی الملازمة بین الشرع والعقل(2) .

وهکذا یمکننا أن نعتبر العقل أساسا للقانون الإسلامی ، وقواعد القانون الدولیّ فی الإسلام مبادئ قائمة علی العقل ، ومنبثقة عن المعادلات العقلانیّة .

والقواعد العامّة للقانون الدولی فی الإسلام منسجمة مع الدلیل العقلی والاستدلال المنطقی ، ومتوکّئة علی التجربة والوعی العقلانی للإنسان ، ودالّة علی منهج الحیاة لأُناس متفکّرین جعلوا أساس حیاتهم وتقدّمهم علی رکیزة المعطیات المنطقیّة والمبادئ العقلانیّة ، متوقّین من الأسالیب اللا عقلائیّة الباطلة .

وعلی الرغم من الجدال القدیم بین نظریّة القانون الطبیعی المتوکّئة علی مجموعة

ص:396


1- مقالة للأُستاذ العلاّمة الطباطبائی تحت عنوان : « القوانین الثابتة والمتغیّرة » ؛ کتاب « دراسات إسلامیّة » ص 169 ؛ وکتاب « الإسلام وحاجات العصر » للشهید مطهّری .
2- « أُصول المظفّر » مبحث المستقلاّت العقلیّة والأُصول العامّة للفقه المقارن ، ص 279 .

المبادئ والقواعد المرتبطة بالحیاة الاجتماعیّة التی لها جذور فی طبیعة الإنسان بوصفه کائنا

اجتماعیّا یتمتّع بالعقل ، وبین نظریّة القانون الوضعی بمعنی « مجموعة القواعد الاجتماعیّة

القابلة للتطبیق فی مجتمع معیّن خلال فترة محدّدة » علی صعید القانون الدولیّ ، فإنَّه قد استمرّ حتّی بلغ ذروته فی القرن العشرین ، وفی ضوء ما قاله أُوبنهایم أُستاذ القانون الدولیّ فی جامعة کمبرج ، فإنَّ الوضع فی العالم عندما یسفر عن زعزعة الحقوق المعنویّة ، فإنَّ

البلدان المختلفة تلجأ إلی قواعد فی علاقاتها یمکن أن تغنی القواعد العامّة للقانون بجدارة ، وتحیی القانون الطبیعی ( کما کان یقول غروتیوس أب القانون الدولیّ ) أو القانون الطبیعی

الجدید ذا المحتوی المرن ، أو القواعد النابعة من العقل(1) .

وقبل أن یذعن العالم للتوفیق بین نظریّة القانون الطبیعی والقانون الوضعی فی ضوء التجارب المرّة والممضّة الناتجة عن الأحداث المؤسفة للحربین العالمیّتین ، فإنَّ الفسلفة

القانونیّة فی الإسلام ، بارتکازها علی مبدأ الفطرة ، والعقل ، والعقد والمعاهدة قد مزجت القانون الفطریّ الثابت بالقانون المتغیّر إلی درجة أنَّ فصل أحدهما عن الآخر یعتبر بمنزلة إلغاء جانب من حیاة الإنسان ، ومن ثمّ إلغاء أحد القانونین .

إنَّ نظریّة « القواعد القانونیّة العامّة الثابتة ذات المتغیّرات » التی ألمحنا إلیها فیما تقدّم هی فی الحقیقة مفهوم تامّ للتوفیق المذکور آنفا .

ولمّا کان الإنسان معرّضا إلی التشویش فی تخطیط مثل هذه القواعد وتفصیلها ، فإنَّ الوحی بوصفه دلیلاً علی الفطرة والعقل یتکفّل بالکشف عن المجاهیل فی مجالهما الفسیح ، ویزیل الغموض فی تبیان القواعد العامّة الثابتة ذات المتغیّرات .

والذین یلغون تدخّل العنصر الثابت والجوهری فی القانون الدولیّ ویتوکّؤون علی الفلسفة الحسّیّة ( یکتفون بما یتحقّق عن طریق الحسّ ، متغاضین عن العلّة وخائضین فی الکیفیّة ) ویخالون العقائد المیتافیزیقیّة غیر صحیحة فی القانون(2) ، علیهم أن یتوفّروا علی دراسة تاریخ التطوّرات الحاصلة فی النظریّات القانونیّة مرّة أُخری لیلمسوا بوضوح دور

الثوابت فی إرساء القواعد الوضعیّة .

ص: 397


1- « القانون الدولیّ فی الإسلام » للدکتور خلیلیان ، ص 39 .
2- « المبادئ العامّة للقانون » [ فارسی ] للدکتور کاتوزیان ، ص 72 .

وکافّة علماء القانون الذین أقرّوا بمدرسة القانون الوضعی الجدید ، استهدوا بالقواعد العامّة الثابتة نوعا ما ، وأغنوا القواعد القانونیّة الوضعیّة بتلک الثوابت .

وعلی الرغم من أنَّ جورج سل یری أنَّ قواعد القانون الدولیّ نابعة من حقیقة اجتماعیّة دائما تتمثّل فی وجود المجموعات البشریّة وترابطها ، إلاّ أ نَّه یعتبر ترابط المجموعات قابلاً للتنظیم فی ضوء مبدأین ثابتین :

1 - مبدأ التعاون المتوکّئ علی التشابه النابع من الخصوصیّات المشترکة بین الجماعات البشریّة .

2 - مبدأ التعاون المتوکّئ علی عدم التشابه الناتج عن الاختلاف بین الجماعات البشریّة(1) .

والقانون الوضعی فی إطار القانون الدولیّ عبارة عن مجموعة القواعد التی تقرّرها البلدان والمواضیع الأُخری للقانون الدولی بناءً علی الضرورات الدولیّة ومتطلّبات الحیاة

فی المجتمع الدولی ، ویعتبر تطبیقها إلزامیّا (2) .

هل تتعرّض القواعد القانونیّة إلی تغییرات عامّة من خلال التغییر الطارئ علی الضرورات الدولیّة ومتطلّبات الحیاة فی المجتمع الدولی مع عدم الاحتفاظ بأیّ قاسم مشترک ؟ أو أنَّ مجموعة من القواسم المشترکة تبقی محفوظة کمبادئ عامّة ، وتظهر فی

أشکال جدیدة تحت أیّ ظرف کان ؟ ومن جهة أُخری ، هل أنَّ جمیع الضرورات والمتطلّبات والتطوّرات تصبّ فی مصلحة الإنسان ، فلابدّ أن تکون قوانین الحیاة تابعة

لتلک الظروف ؟ أو أنَّ القانون یغیّر الظروف لمصلحة الإنسان ؟

ومثلما نری فی القانون الخاصّ فی الإسلام وجود مجال واسع لتدوین القوانین الوضعیّة بغیة التخطیط لتطبیق القواعد العامّة ، وکذلک وجود مجال واسع للعناوین الثانویّة والمباحات إلی جانب القواعد العامّة للفقه ، فکذلک الأمر فی القانون العامّ والفقه السیاسی بخاصّة فی نطاق القانون الدولیّ ما عدا القواعد العامّة فیه ، إذ یمکن وضع قواعد جدیدة

للتخطیط وتمهید الأرضیّة لتطبیق القواعد العامّة ، علی أساس العناوین الثانویّة وفی نطاق

ص: 398


1- « القانون الدولیّ العام » [ فارسی ] للدکتور ضیاء بیگدلی ، ص 87 .
2- نفسه ص 80 .

المباحات أیضا .

کما أنَّ الإقرار بمبادئ ثابتة کالعدالة ، والسلم ، والأمن ، والحرّیّة من قبل بلدان العالم لا یعنی إلغاء قواعد القانون الدولیّ الوضعی بواسطة المواثیق الدولیّة .

إنَّ القواعد القانونیّة العامّة فی القانون الإسلامی التی یعبّر عنها بالقواعد الفقهیّة تتّسم

بالشمولیّة إلی درجة نجد أ نّها تصلح لشتّی الظروف والمتطلّبات بکلّ یسر ، ویمکن أن توجّه التطوّرات والظروف المتغیّرة لمصلحة الإنسان .

4 - شمولیّة القواعد القانونیّة

یطلق عنوان : القواعد القانونیّة علی الأحکام والتکالیف الخاصّة بالأشخاص فی نطاق الحکومة أو الخاصّة بأعضاء المجتمع الدولی فی نطاق العلاقات الدولیّة(1) . وهذا التعبیر مماثل لاصطلاح الحکم العامّ فی الفقه الإسلامی الذی یعنی الخطاب السماوی المتعلّق بأفعال

المکلّفین . کالواجب الذی یقع علی عاتق المدین حیال الدائن ، أو الذی یقع علی عاتق

الزوج بالنسبة إلی نفقة زوجته ؛ أو اشتراط الاختیار والقصد فی صحّة العقود وأمثالها .

ومن البدیهی أنَّ الأحکام العامّة فی الفقه ، سواء الأحکام التکلیفیّة أم الأحکام الوضعیّة ، تتّصف بالشمولیّة . وتنطبق علی جمیع الحالات التی تتحقّق فیها موضوعات

هذه الأحکام ومتعلّقاتها ، بید أنَّ کلّ حکم عامّ له موضوع ومتعلّق خاصّ یمکن أن ینطبق

علی مصادیق ذلک الموضوع أو المتعلّق فحسب کالحالات الثلاث المار ذکرها کأمثلة ، حیث إنَّ الأُولی تخصّ المدین ، والثانیة تخصّ الزوج ، والثالثة تخصّ العقد .

وهناک مجموعة من المبادئ العامّة فی الفقه الإسلامی ، ومن ثمّ فی الفقه السیاسی الإسلامی أوسع من الأحکام العامّة من حیث الشمولیّة . ویصطلح علیها : القواعد الفقهیّة .

والقاعدة الفقهیّة عبارة عن مبدأ عامّ له خاصّیة تتمثّل فی أنَّ موضوعه یمکن أن ینطبق علی أبواب الفقه المتنوّعة ضمن بیان أحد الأحکام العامّة ، کقاعدة نفی الضرر وقاعدة نفی السبیل ، وقاعدة الصحّة التی تصدق علی الأبواب المختلفة للحقوق الإسلامیّة

ص:399


1- « مقدّمة علی علم القانون » للدکتور کاتوزبان ، ص 31 .

کحقوق الأُسرة ، والحقوق المدنیّة ، والفقه السیاسی . وقد بذل الفقهاء جهودا مثمرة فی جمع

هذه القواعد وتمحیصها وتحقیقها وتنقیحها (1) ، وتعتبر هذه القواعد أکبر رصید للقانون الإسلامی ، وأهمّ باعث علی إثراء الفقه ، وانسجام النظام القانونی فی الإسلام مع الظروف

المتغیّرة والتطوّرات المستمرّة فی الحیاة البشریّة .

ویستهدی الفقیه بالقواعد الفقهیّة فی مواجهة التطوّرات التی لا مناص منها فی الحیاة الاجتماعیّة والسیاسیّة لحلّ المشاکل فی الحوادث الواقعة .

وکثیر من القواعد الفقهیّة لا تخصّ القانون الخاصّ والقانون الداخلی ، ویمکن أن تکون مجدیة فی حقل القانون الدولیّ ، وحاملة لرسالات قانونیّة إلی المجتمع الدولی .

ولا یعنی هذا الکلام أنَّ الإسلام یفتقد القانون الدولیّ بمفهوم الأحکام العامّة المعیّنة فی مجال القضایا الخاصّة بالمجتمع الدولی ، بل یعنی إبراز القدرة المنظّمة للقانون الإسلامی علی علاج المشاکل الناجمة عن التطوّرات التی لا مناص منها فی القانون الداخلی والقانون الدولیّ .

ویتولّی الفقه السیاسی فی الحقیقة مهمّة التحلیل القانونی للقضایا الدولیّة من وجهتین : الأُولی : عرض مجموعة الأحکام العامّة التی تخصّ القانون الدولیّ . الثانیة : طرح القواعد الفقهیّة العامّة التی توضّح الأبعاد المختلفة للقضایا القانونیّة المتعلّقة بالمجتمع الدولی بصورة عامّة ، وتمنح الفقیه قدرة کافیة لدراسة هذه القضایا واستنباط القاعدة

القانونیّة اللازمة فی هذا المجال .

المبحث الثالث : المبادئ العامّة لقواعد القانون الدولیّ فی الإسلام

اشارة

لا یکتفی الإسلام بالتوجیهات العامّة فی مجال قواعد القانون الدولیّ ، ولا یفوّض جمیع حقول القانون الدولیّ إلی العقل والتجربة البشریّة کسائر الحقول القانونیّة التی لا نصّ فیها ، وذلک لما یتمیّز به من مدرسة قانونیّة شاملة .

وعلی الرغم من أنَّ هذا القسم من الفقه السیاسی لم یدرس بمستوی المباحث الفقهیّة

ص: 400


1- ویمکن أن نذکر فی هذا المجال کتاب « عوائد الأیّام » للعلاّمة النراقی ؛ وکتاب « العناوین » لمیر فتّاح ؛ وکتاب « القواعد الفقهیّة » فی سبعة أجزاء للعلاّمة البجنوردیّ .

الأُخری حتّی یمکن استنتاج القواعد القانونیّة منه فی حقل العلاقات الدولیّة بصورة واضحة تماما ، إلاّ أ نَّه یمکن الحصول علی مجموعة من المبادئ العامّة والقواعد القانونیّة فی حقل القضایا المتعلّقة بالقانون الدولیّ من خلال دراسة الأحکام العامّة فی الفقه السیاسی

المطروحة فی حقل العلاقات الدولیّة ، وکذلک القواعد الفقهیّة العامّة التی نالت حظّها من البحث فی الفقه بصورة عامّة . وتلک المبادئ والقواعد لا تخلو من غموض فی بعض الجهات

أیضا بسبب جدّة الموضوع .

ونرجئ الخوض فی تحدید المبدأ الذی یتّخذ طابع الحکم العام ، ویعرض فی حقل القانون الدولیّ بشکل خاصّ ، وکذلک تحدید المبدأ الآخر الذی یستنبط من القواعد الفقهیّة

العامّة إلی بحوث قادمة حیث ستناقش ضمن المراجع الإسلامیّة لهذه المبادئ .

ومن الضروری هنا أن نستعرض قسما من قواعد القانون الدولیّ فی الإسلام بعامّة ، ثمّ نتناول بالدراسة أهمّ هذه القواعد .

1 - مبدأ السلم والتعایش .

2 - مبدأ الأمن .

3 - مبدأ المساواة والحقوق المتکافئة للشعوب .

4 - مبدأ إلغاء التسلّط والرضوخ للتسلّط .

5 - مبدأ استقلال الشعوب وحرّیّتها .

6 - مبدأ التعاون والمشارکة فی الشؤون الدولیّة .

7 - مبدأ دعم النضال التحرّری الذی ینشد الحقّ .

8 - مبدأ التفاهم .

9 - مبدأ الاعتزال والحیاد .

10 - مبدأ المقابلة بالمثل .

11 - مبدأ عدم التدخّل فی الشؤون التی تدخل فی نطاق الصلاحیّات الوطنیّة للأقطار المختلفة .

12 - مبدأ عدم التهدید بالقوّة وعدم استخدامها .

13 - مبدأ الموّدة والمحبّة .

ص: 401

14 - مبدأ وحدة المجتمع البشری .

15 - مبدأ قبول اللجوء .

16 - مبدأ إلغاء الفساد ، لا إلغاء الحرب .

17 - مبدأ إلزام الدول بقواعد القانون الداخلی .

18 - مبدأ التحکیم وحلّ الخلافات الدولیّة بطریق سلمی علی أساس العدالة والحقّ .

19 - مبدأ العقد .

20 - مبدأ الدبلوماسیّة .

ولا ریب أن بعض هذه المبادئ التی هی أوسع من القاعدة القانونیّة کمبدأ العدالة ، ومبدأ السلم ، تعتبر أساسا للقاعدة القانونیّة . بید أ نّا لمّا قصدنا عرض القواعد المتعلّقة بالقانون الدولیّ فی الفقه السیاسی الإسلامی ، فإنَّ دراسة هذه المبادئ والقواعد وإن کانت مفیدة فی تبیان النظام الدولی من منظار الإسلام ، إلاّ أنَّ ضیق نطاق البحث یتطّلب ، عند الخوض فی القواعد القانونیّة الخاصّة بالعلاقات الدولیّة ، الاکتفاء بدراسة المبادئ التی یمکننا ، من خلال الاستهداء بها ، أن نُکسب العلاقات الدولیّة نظاما قانونیّا .

وتستبین الضرورة من دراسة هذه القواعد ، والتعرّف علی ما عرضه الإسلام بصورة واضحة فی هذا المجال عندما نلتفت إلی النقطة الآتیة :

إنَّ أوّل حالة تلحظ فی العلاقات الدولیّة من منظار الإسلام هی حالة السلم . وفی المجالات التی لا تتّخذ الحرب فیها طابعا قانونیّا ، فإنَّ استمرار حالة السلم إلزامیّ . وقد أشرنا إلی هذا المبدأ فی المباحث الأُولی من القسم الرابع ، وسنتعرّض إلیه بالتفصیل أیضا عند حدیثنا عن قانون الحرب . کذلک فإنّا وقفنا علی هذه النقطة ضمن دراستنا لدار الصلح

آنفا ، وهی أنَّ استمرار السلم یتیسّر علی أساس المعاهدات الثنائیّة أو المعاهدات المتعدّدة

الجوانب . وهذا یدلّ علی أخذ الحالة السلمیّة بنظر الاعتبار فی العلاقات الدولیّة

، والأخذ بنظر الاعتبار - لا محالة - عرض القواعد التی هی موضع الحاجة فی ظروف السلم وتعایش الشعوب المسلمة وغیر المسلمة فی الأُسرة الدولیّة . وتصوّر البعض أنَّ السلم بین العالم

الإسلامی والعالم غیر الإسلامی یمکن توقّعه فقط فی الظروف الاستثنائیّة المتمثّلة بعجز

ص: 402

الحکومة والأُمّة الإسلامیّة ، أو فی حالة اندحار القوّات الإسلامیّة(1) . بینما نجد أنَّ الاندحار وحده لا یمهّد الأرضیّة لحالة السلم ، فالمندحرون المصطلح علیهم فی السنّة

: « العکارون »(2) ینبغی أن یهیّئوا أنفسهم للمشارکة فی الجهاد عند توفّر مستلزماته .

ولمّا کان المفروض فی مثل هذه الظروف هو الاستعداد لخوض الجهاد ، فإنَّ العجز وانعدام الظروف اللازمة للبدء فی الجهاد لا یمکن أن یعتبرا أرضیّة للسلم المطّرد

.

وعلی الرغم من أنَّ فتوی الأوزاعی ، الذی کان یعیش فی العصر الأموی ، تنصّ علی أنَّ لإمام المسلمین الصلح مع العدوّ بدفع غرامة سنویّة له عند شعوره بالعجز بسبب الحروب

الداخلیّة أو بسبب آخر(3) ، متزامنا ذلک مع الممارسات الخاطئة لبعض الملوک الأمویّین(4) فی معاهدة الصلح مع الروم الشرقیّین علی حساب دفع الغرامة السنویّة ، إلاّ أنَّ هذا لا یعنی أنَّ مخطّطا لحالة السلم المطّرد لم یؤخذ بنظر الاعتبار فی الفلسفة السیاسیّة والنظام القانونی فی الإسلام .

ولو قدّر أنَّ الأوزاعی أفتی لتسویغ الممارسات اللا إسلامیّة للأمویّین ، فلعلّه استغلّ

المبادئ الإسلامیّة المعروفة بغیة تسویغ السیاسة الأمویّة .

ونستعرض فیما یلی عددا من المبادئ بوصفها قواعد القانون الدولیّ ، وندرس إمکان قیام النظام الدولی المثالی علی أساس هذه المبادئ فی ضوء نظریّة السلم الدولی فی الإسلام ، ونرجئ الحدیث عن المبادئ المتعلّقة بالجهاد ، وقانون الحرب ، والدبلوماسیّة إلی أجزاء أُخری من هذه المجموعة ( الفقه السیاسی ) .

1 - مبدأ التفاهم الدولی - الاتّکاء علی القواسم المشترکة والمبادئ المقرّرة
اشارة

إذا کان الاختلاف موطّئا للعنف والحرب والقلق ، فلابدّ من الإذعان بأنَّ التفاهم یمکن أن یؤدّی دورا حاسما فی إقرار السلم والأمن . وصحیح أنَّ کثیرا من القضایا خارج

عن نطاق التفاهم ، وأنَّ سیاسة التسلّط لا تقبل التفاهم ، إلاّ أنَّ کثیرا من القضایا الدولیّة

ص:403


1- « الحرب والسلم فی الإسلام » ص 211 .
2- « شرح السیر الکبیر » 1 : 87 .
3- « الجهاد » للطبری ، ص 8 .
4- معاویة ، وعبد الملک بن مروان ( « الحرب والسلم فی الإسلام » ص 211 ) .

یمکن حلّها عبر التفاهم . ویمکن أن یشکّل التفاهم بین البلدان المعرّضة لانتهاک السیاسات

السلطویّة درعا واقیا أمام السیاسات بصورة غیر مباشرة .

ویقوم مبدأ التفاهم بدور واضح فی علاج المعضلات الفکریّة ، والتوصّل إلی وحدة الرأی والوفاق فی القضایا العلمیّة والفلسفیّة . ویتّسع نطاقه لیشمل القضایا السیاسیّة

والدولیّة أیضا . ویمکن الاستهداء به لحلّ الخلافات الدولیّة والمشاکل العویصة فی العالم ، لا بوصفه مبدأ عقلیّا أو أخلاقیّا ، بل بوصفه مبدأ قانونیّا .

وإنَّ إقرار مبدأ التفاهم فی المقیاس العالمی یساعد علی اکتساح الظلم وإزالة المشاکل ، وتوثیق الارتباط السلمی والودّی بین الشعوب .

ولا ریب أنَّ الخلافات الفکریّة بین الشعوب کاختلاف الثقافات الخاصّة هی فی الحقیقة قسم من مظاهر الحیاة البشریّة ودلیل علی وعی الناس ، ویمکن استبدال التعامل

المنطقی بها فی ضوء مبدأ التفاهم . وبذلک لا نحبط هذا التوجّه الذی لا مناص منه

، والذی یفضی عادة إلی التوتّر والحرب الباردة ، وممارسة الضغط والحرب أحیانا فحسب ، بل ونجعل منه باعثا علی توطید الأواصر الودّیّة بین الشعوب ، وتبادل الأفکار والحضارات

والثقافات ، ومفضیا إلی التنامی والرقی علی الصعید العالمی .

کما أنَّ وجود الأنظمة السیاسیّة والاجتماعیّة المتنوّعة التی غدت أمرا متأصّلاً فی الظروف الدولیّة المعاصرة ، وما ینجم عنها من اختلافات لم یعد عقبة حقیقیّة فی طریق

السلم والأمن الدولیّین بعد تطبیق مبدأ التفاهم ، وأنَّ الشعوب سوف تکون قادرة علی

علاج قضایاها السیاسیّة والاقتصادیّة والاجتماعیّة والثقافیّة عبر التفاهم المنطقی ، وتزیل کثیرا من العوامل الممهّدة للتعامل بأُسلوب العنف ، وممارسة الضغط ، واللجوء إلی القوّة . ولا شکّ أنَّ التفاهم علی الصعید الدولی هو الممهّد الرئیس للمفاوضات ولکلّ ضرب من ضروب التعامل السلمی والاحترام المتبادل والحرّیّة والاستقلال ، ویؤدّی دورا رئیسا فی المحافظة علی حقوق الإنسان ، وبلوغ جمیع الأهداف التی یرمی إلیها السلم . ومن هذا

المنطلق ، ما لم ینظر إلی مبدأ التفاهم کقاعدة قانونیّة إلزامیّة ، فلیس هناک ضمان لتحقیق الشعارات السلمیّة والأهداف العادلة الأُخری .

ولا یتیسّر کلّ تعاون بین الشعوب فی المجالات الثقافیّة والسیاسیّة والاقتصادیّة

ص:404

والاجتماعیّة ما لم یتحقّق التفاهم بینها . ویمکن أن یعتبر التعمیق المتزاید للتفاهم بمستوی مبدأ إلزامی وضروریّ لتوطید العدالة والحریّة والسلم والتعاون الأکثر بغیة التقدّم والتوسّع .

وینبغی القول مبدئیّا أ نَّه إذا کان هناک مبدأ إلزامی فی العلاقات الدولیّة یمکن اعتباره قاعدة قانونیّة ، فلا شکّ أنَّ افتراضه أوّلاً هو مبدأ التفاهم الذی ینبغی إضفاء طابع الإلزام علیه سلفا لیتسنّی قبول المبادئ الأُخری بوصفها قواعد قانونیّة .

وعلی الرغم من التأکید الکثیر علی التفاهم الوارد فی میثاق منظّمة الأُمم المتّحدة الذی یعتبر کالقانون الأساسی للشعوب ، إلاّ أ نّنا لا نستنبط من نصوصه شیئا غیر التوصیة

والتأکید علی أمر یفید فی مجال بلوغ الأهداف الأُخری للمیثاق .

مبدأ التفاهم قاعدة قانونیّة ومستقلّة

إنَّ التوضیح المتقدّم فی مجال ضرورة مبدأ التفاهم ودوره الحاسم یساعدنا علی التوصّل إلی النتائج الآتیة :

1 - إنَّ مبدأ التفاهم لیس ضروریّا لبلوغ بعض الأهداف کالتعاون الدولی ، والعدالة

، والسلم ، والأمن ، وتعمیق القانون الأساسی للشعوب واستقراره فحسب ، بل هو نفسه مبدأ مستقلّ تفرضه الطبیعة البشریّة والتفکیر الإنسانی .

والشعوب کافّة جزء من الإنسانیّة ، والإنسانیّة لا تستغنی عن التفکیر والتشخیص ولا تنفصل عنهما . وأنَّ تبادل ثمار التفکیر والتشخیص أمر لا مناص منه فی الحیاة البشریّة ، وتتطلّب طبیعة التفکیر وتبادل الأفکار تفاهما معیّنا . من هذا المنطلق یمکن القول : إنَّ التفاهم هو متطلّب الفطرة الإنسانیّة ، ولا ینبغی أن ننظر إلیه کوسیلة لبلوغ الأهداف البشریّة الأُخری . فهو ضرورة مستقلّة فی الحیاة الاجتماعیّة للإنسان بخاصّة علی الصعید الدولی .

2 - مبدأ التفاهم قاعدة قانونیّة ذات طابع إلزامی ، ذلک أ نَّه من أعرق القواعد العرفیّة فی الحیاة البشریّة ، وهو توأم الحیاة الاجتماعیّة للإنسان . ویمکن أن نلحظ الالتزام بهذا المبدأ فی جمیع أبعاد الحیاة البشریّة ، ونلمس آثاره ومعطیاته بوضوح فی کافّة ضروب

ص: 405

النجاح والتقدّم ، سواء علی صعید الحیاة الاجتماعیّة فی مجتمع من المجتمعات أو علی الصعید

الدولی .

ونشأ التفاهم دعامة للحیاة الجماعیّة ، لا فی حدود المعاهدة والاتّفاقیّة ، بل أعمق من

ذلک . ولو اعتبرنا العرف مصدرا أصیلاً للقانون الدولی ، فعلینا الإقرار بالقاعدة العرفیّة

لضرورة التفاهم بوصفها قاعدة قانونیّة فی المقیاس الدولی .

وتتلاقی الفطرة ، والعقل ، والعرف فی هذا المبدأ فتشکّل الأساس لقاعدة قانونیّة . وهذا هو ما أکّد علیه الإسلام بالضبط .

وتستدعی العلاقات الدولیّة تضامنا متصاعدا بین الشعوب . ولا یتیسّر توطید هذا التضامن إلاّ عبر التفاهم الملزم بوصفه قاعدة فی القانون الدولیّ . وما لم تُقبَل هذه القاعدة القانونیّة ، فسوف لن یتحقّق ما ننشده فی مجال التعاون الدولی ، والعدالة ، والسلم ، والأمن فی العلاقات بین الشعوب .

التفاهم مبدأ إلزامی فی الإسلام

نظرا إلی ضرورة التفاهم فی الحیاة البشریّة السلمیّة والعادلة ، ودوره الحاسم فی بلوغ جمیع الأهداف التی تتطلّع إلیها البشریّة فی الحیاة الجماعیّة ، فإنَّ القرآن بدأ من التفاهم فی العلاقات بین الشعوب ، وأمر النبیّ صلی الله علیه و آله أن یدعو الشعوب فی التفاهم علی الحدّ الأدنی من القواسم المشترکة التی یتّفق علیها الجمیع . وهو نفسه أُسوة وقدوة فی هذا المجال : « قُلْ یَا

اَهْلَ الْکِتَابِ تَعَالَوْا اِلی کَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَیْنَنَا وَبَیْنَکُمْ اَلاَّ نَعْبُدَ اِلاَّ اللّه َ » (1) .

وتمّ اختیار أهل الکتاب لقاسم مشترک یجمعهم مع أهل الإسلام علی صعید واسع ، والتفاهم حول ذلک قابل للتطبیق بوضوح . وهذا التفاهم الدائر حول قضیّة التوحید فی العبودیّة التی تتلخّص فی هذه العبارة ( العبودیّة للّه وحده ) له دور کبیر ونتائج جمّة وعمیقة للغایة . ویمکن أن یقرّ الوفاق ووحدة الرأی ، وفی الوقت نفسه یقضی علی کثیر من الانحرافات والسلبیّات ، ومن ثمّ ، یقضی علی الخلافات القائمة .

وقد عرض القرآن هذا المبدأ فی إطار الأمر بغیة البدء بحرکة عالمیّة . ولا ریب أنَّ

ص: 406


1- آل عمران : 64 .

تطبیق ذلک ، أی السعی لإقرار التفاهم کان فریضة إلهیّة علی النبیّ صلی الله علیه و آله ولیس توجیها أخلاقیّا . وما علیه إلاّ إیصال هذا النداء ، المتمثّل بالدعوة إلی التفاهم ، إلی أهل الکتاب .

والأُسلوب الذی انتهجه النبیّ صلی الله علیه و آله لتطبیق هذا الأمر السماوی یعکس لنا الأهمیّة التی تتّسم بها قاعدة التفاهم الملزمة فی القانون الدولیّ فی الإسلام .

دور التفاهم بین الشعوب وحدوده

علی الرغم من عدم الحاجة إلی توضیح مبدأ إمکان التفاهم فی الحیاة الجماعیّة ، لأنَّ الاهتمام بالموهبة الإلهیّة المتمثّلة بالتفکّر والإدراک من جهة ، والحقائق الواضحة الملموسة والتجارب الإنسانیّة الثمینة من جهة أُخری تغنینا فی هذا المجال عن التطرّق إلی إثبات مبدأ إمکان التفاهم ، إلاّ أنَّ الشیء المهمّ الجدیر بالبحث هو حجم الدور الذی یؤدّیه التفاهم

ونطاقه ، إذ إنَّ الاهتمام به یمکن أن یکون دلیلاً للشعوب فی توسیع العلاقات الدولیّة وبسط نطاق التعاون الدولی أکثر .

والملحوظ - عادةً - أنَّ المنازلات العملیّة تفضی إلی منازلات فکریّة ، وهنا یتطایر الشرر ؛ فإذا أقرّ التفاهم ، فإنَّ النور یُستَبدَل بذلک الشرر ، وإلاّ فالنار والموت یستتلیانه .

ویعتبر التلاقی الفکری أوّل مرحلة تمهّد الأرضیّة للتفاهم . ولا ریب أنَّ هذا التلاقی یبدأ من القواسم المشترکة ، وهو أوّل کلام یفرضه المنطق والمنهجیّة ، ویؤدّی إلی رأب

الصدع .

ویتحقّق التفاهم فی هذا النهج عبر عملین منطقیّین :

1 - تلمّس القواسم المشترکة والقضایا المتّفق علیها مهما کانت ضئیلة وتافهة ، لأنَّ هذه القواسم المشترکة والمبادئ المثبّتة والأُسس المتّفق علیها التی قد یطلق علیها : البدیهیّات والأوّلیّات فی لغة المناطقة تعتبر الحجر الأساس للتفاهم . ویؤدّی اتّساع

مساحة القواسم المشترکة والمبادئ المثبّتة دورا رئیسا فی تطویر التفاهم والتعاون ونجاحهما .

2 - الاستضاءة بالمبادئ المثبّتة المقبولة بغیة الوصول إلی تفاهم وتوافق أکثر ، ذلک أنَّ کلّ توافق یمکن أن یکون قاعدة للتوافق علی قضیّة أُخری . والاستمرار بهذه

ص: 407

الاستنتاجات یوسّع دائرة التفاهم أکثر فأکثر ، ویمهّد الطریق للتوصّل إلی تفاهم وتوافق أوسع وأکثر مبدئیّة ، وییسّر حلّ الخلافات علی نطاق واسع .

الدعوة بدایة التفاهم

یستثمر القرآن الکریم کلّ شیء بما فیه عقائد الآخرین ومبادءهم المقرّرة التی لا یرضاها الإسلام من أجل بلوغ التفاهم والتوافق وتحقیق هذه الإنجازات الباهرة

، ویعرض ذلک فی استراتیجیّة الدعوة بوصفه أُسلوبا منطقیّا ، ویؤکّد علی الذین تحمّلوا

عب ء الرسالة أن یستهدوا بهذا الأُسلوب أیضا . قال تعالی : « اُدْعُ اِلی سَبیلِ رَبِّکَ بِاص لْحِکْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جَادِلْهُمْ بِاص لَّتی هِیَ اَحْسَنُ » (1) .

القصد من الجدال هنا هو الاستدلال نوعا ما علی أساس معتقدات الطرف المقابل الذی یعنیه البحث والنقاش ، حتّی لو کان المستدلّ لا یؤمن بتلک المعتقدات والمبادئ .

وفی مجال العلاقات الخارجیّة والسیاسة الخارجیّة للإسلام ، فإنَّ الدعوة فریضة مستمرّة لا مناص منها . ومن هذا المنطلق یعتبر التفاهم مقبولاً من منظار الإسلام

ولا یقبل التردید بوصفه مبدأ شاملاً فی علاقات الشعوب .

حجم الدور الذی یؤدّیه التفاهم

لا یقتصر التفاهم علی القضایا الفکریّة ، فکلّ ضرب من ضروب التعاون فی المجالات الثقافیّة والسیاسیّة والاقتصادیّة لا یستغنی عن التفاهم أیضا . ودور التفاهم

مبدئیّا یتفوّق علی التعاون والاتّجاه الواحد فی العمل . فالأهداف المبدئیّة العالیة فی العلاقات الدولیّة ومستقبل البشریّة تحتاج إلی التفاهم . وکما تبلورت الوحدة والتضامن

علی صعید تشکیل المنظّمات الدولیّة والتعاون الحمیم بین شعوب العالم من خلال المنظّمات

الدولیّة فی ظلّ التفاهم ، فإنَّ الاتّحاد والتضامن بین الأقطار المختلفة علی الصعید القارّی ، ومن ثمّ وحدة الشعوب فی نظام دولی واحد تتیسّر بتوطید التفاهم وتوسیع رقعته .

واستطاع النبیّ صلی الله علیه و آله خلال مدّة وجیزة أن یوحّد القبائل العربیّة مع ما کانت علیه من

ص: 408


1- النحل : 125 .

التباغض والتضاغن والتنافر ، وما اتّسمت به من الغلظة والفظاظة ، بحیث إنَّ القوی المتفرعنة آنذاک لم تفکّر فی التسلّط علیها ، وذلک بالاتّکاء علی هذا المبدأ ، والإفادة من مبادئ التفاهم وأسالیبه الرصینة ، وتوسیع طرقه(1) . وتمکّن أن یجعل من تلک المجموعة

المشتّتة وغیر المنسجمة أُمّة منظّمة واحدة لم یشهد التاریخ مثیلاً لها .

تدلّ هذه التجربة الکبیرة علی أنَّ نظریّة الإسلام فی صنع الأُمّة العالمیّة الواحدة تتیسّر بالتوکّؤ علی قاعدة التفاهم وتوسیع الطرق المؤدّیة إلیه .

2 - مبدأ المشارکة والتعاون فی القضایا الدولیّة
اشارة

التعاون ظاهرة اجتماعیّة غیر مجهولة فی تاریخ البشریّة . وقد بدأت الأیّام الأُولی للحیاة الجماعیّة مترافقة مع التعاون . وتبلورت الحضارة الإنسانیّة علی مرّ القرون المتمادیة عبر التعاون . ولولا التعاون ما اتّخذت الحیاة الاجتماعیّة والنظام الدولی طابعا عملیّا . ونلاحظ أنَّ القضایا السیاسیّة ، والاقتصادیّة ، والاجتماعیّة ، والثقافیّة مترابطة إلی درجة نراها بحاجة ماسّة إلی العمل المشترک . ولا یتیسّر هذا العمل المشترک إلاّ عبر المشارکة

والتعاون الدولی .

وبلغت المشاکل الدولیّة حدّا یستعصی معه علاجها ما لم تتوفّر القوّة الناتجة عن مشارکة الشعوب وتعاونها . وکلّما استلهم التعاون الدولی وجوده من التفاهم بین

الشعوب ، فإنَّه یکون مؤثّرا فی توسیع مساحة التفاهم بنفس الدرجة .

وقد فتح القرآن الکریم مجالاً واسعا للمشارکة والتعاون ، وعرض ذلک بنمط إنسانی تامّ عند تأکیده علی مبدأ التعاون والمشارکة ، وهو مبدأ عقلائی مقبول عند المجتمعات

البشریّة ومنسجم مع منطق الحیاة ، وذلک من خلال تحدید محوره الأساس . قال عزّ من قائل : « وَتَعَاوَنُوا عَلَی الْبِرِّ وَالتَّقْوی وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَی الاِْثْمِ وَالْعُدْوَانِ » (2) .

هذا الضرب من عرض التعاون یفتح آفاقا جدیدة للتعاون من جهة ، ویحول دون استغلال هذه الطاقة البشریّة العظیمة الکامنة ، فی طریق الفساد والضیاع من جهة أُخری .

ص: 409


1- « التاریخ السیاسی فی الإسلام » 1 : 199 - 200 .
2- المائدة : 2 .

والتعاون یعنی المساعدة المتبادلة ، ویعبّر عنه باللغة الفارسیّة : ( همکاری ) أو ( همیاری ) . والمشارکة تعنی اشتراک جانبین فی أداء إحدی المهامّ . وفیما یلی نستعرض

مفهوم التعاون والمشارکة مشفوعا بالمثال :

إنَّ نجدة الشعب المظلوم والمکبّل ( سیاسیّا ) ، وإغاثة الشعب المحروم والفقیر المستغلّ

( اقتصادیّا ) فی تلبیة حاجاته الضروریّة عمل صالح ومحمود ، إلاّ أنَّ ما یطلق علیه هو الإعانة ، أی : المساعدة ذات الجانب الواحد ، وقد یتیسّر هذا العمل محفوفا بالمشاکل

والعقبات وبذل الجهد والوقت الکثیر .

أمّا لو قام ذلک الشعب المظلوم والمکبّل ، وهذا الشعب المحروم والفقیر المستغلّ بإغاثة الدولة التی ساعدته فی علاج مشاکلها وتذلیل عراقیلها ، وبذل کلّ منهما جهده لبلوغ الهدف المشترک المتمثّل بإنقاذها سیاسیّا واقتصادیّا من خلال استثمار الإمکانیّات المتاحة

لدی کلّ منهما ، فقد تحقّق التعاون والمشارکة ، وهکذا یتیسّر التعاون والمشارکة فی إنجاز المهمّة الواحدة . ونلاحظ فی هذا المثال أنَّ کلاًّ من الشعبین والدولة المعنیّة استخدما کلّ ما عندهما من طاقة وقوّة لبلوغ الاستقلال السیاسی والاکتفاء الذاتی اقتصادیّا . وبذل کلّ

منهما جهده لتحقیق الهدف المشترک نوعا ما . وفی هذا الضرب من التعاون والمشارکة یستطیع أحد الجانبین أن یکمّل عمل الجانب الآخر ، ویختصر الطریق ، ویبلغ کلّ منهما

هدفه المنشود بوقت أقصر .

ونلحظ فی التعاون والمشارکة أنَّ الطاقات تُعبّأ باتّجاه واحد تلقاء هدف واحد ، فیتحقّق بذلک التعاون اللازم . وتتصاعد قدرة العوامل المؤثّرة فی عمل من الأعمال

. أو جهاز من الأجهزة بشکل استثنائی یلفت النظر ، ویتضاءل تبدید الطاقات والفرص .

ونری فیهما أنَّ ظواهر من قبیل التأثیر والتأثّر تنسلخ من حالتها القسریّة الفظّة المفروضة ، وتنطفئ کثیر من السلبیّات .

المحور الأساس للتعاون والمشارکة

البرّ والتقوی کلمتان جامعتان استعملهما القرآن لتبیان المحاور الأساسیّة للتعاون والمشارکة . وتستوعب هاتان الکلمتان فی الحقیقة جمیع المثل والقیم الإسلامیّة . ومیزتهما

ص:410

تتجلّی فی سهولة تحدیدهما من قبل کلّ أحد مع ما هما علیه من شمول واتّساع .

فکلّ إنسان یستطیع أن یحدّدهما فی ضوء ما یؤمن به من مُثُل وقیم . ویتّخذ القیم المشترکة معیارا لمعرفتهما فی الحالات التی یطرأ فیها الخلاف .

« البرّ » هو العمل الصالح وکلّ عمل مثمر ومفید بنحو من الأنحاء للقائم به ولغیره فردا

أو مجتمعا . وتستوعب هذه الکلمة جمیع النشاطات والممارسات المفیدة التی تتحقّق علی

الصعید الاجتماعی والدولی فی الحقول الثقافیّة ، والسیاسیّة ، والاقتصادیّة ، والاجتماعیّة .

« والتقوی » هی کلّ نشاط فکریّ وعملیّ ینمّی الإنسان ویرفعه ویقرّبه من اللّه . وفی ضوء التعبیر القرآنی تستوعب التقوی جمیع النشاطات التی تفضی إلی تصعید الإنسان ، وعلوّ شخصیّته وسموّه علی صعید القیم والمثل وتحلّیه بالفضائل والکمالات المعنویّة

، ومن ثمّ ظفره بالقرب الإلهی . ویمکن أن یتجسّد التقوی علی الصعید الفردی والاجتماعی

والدولی .

ولا ریب أنَّ کلّ نشاط إنسانی مفید لا یخرج من نطاق هذین المفهومین . ونلحظ فی کلّ عمل وفکر وخطّة ونظام حالة تنسجم مع البرّ والتقوی ، أو حالة أُخری تتمثّل بالإثم

والعدوان . وینبغی أن یتحقّق التعاون والمشارکة علی أساس هذین المحورین .

إنَّ معرفة البرّ والتقوی وتقصّی الطرق المؤدّیة إلیهما رسالتان أساسیّتان للنظم التربویّة والتعلیمیّة فی العالم ، والإسلام بدوره بذل قصاری جهده فی هذا المجال

، وألزم کلّ مسلم بتمییز وجه البرّ والتقوی عن وجه الإثم والعدوان والتعاون فی هذا المجال من خلال

الجهد الدؤوب فی جمیع الأُمور .

وهذا هو التعلیم الذی اعتبره الإسلام أوجب من کلّ تعلیم آخر کالذی یتعلّق بالقراءة والکتابة والعلوم المختلفة .

قال الإمام الکاظم علیه السلام :

أولی العلم بک ما لا یصلح لک العمل إلاّ به ، وأوجب العلم علیک ما أنت مسؤول عن العمل به(1) .

ص: 411


1- « بحار الأنوار » 78 : 333 .
البرّ والتقوی فی المقیاس العالمی

العدالة ، والمساواة ، والسلم ، والأمن ، وتوسیع رقعة النشاط باتّجاه تنمیة الإنسان ورقیّه مصادیق بارزة فی المقیاس العالمی .

وتعتبر مکافحة التسلّط ، والاستغلال ، والعنصریّة ، وکلّ عمل لقطع دابر العدوان علی الصعید الدولی جهودا تصبّ باتّجاه التقوی وقرب الشعوب من اللّه .

وکلّ نشاط یستهدف إزالة الفقر ، والاهتمام بالمحرومین فی أرجاء العالم ، وتأمین الحقوق فی العلاقات الدولیّة بالتساوی ، والتنمیة الاقتصادیّة لتقدّم البشریّة تقدّما إیجابیّا وکلّیّا ، هو نشاط فی حقل البرّ والتقوی .

والمشارکة فی جمیع الأُمور ، وکذلک فی القضایا الدولیّة الأُخری التی تعود بالخیر والصلاح علی المجتمع البشری بنحو من الأنحاء ، وتساهم فی تنمیة الإنسان وتقدّمه

، وتؤدّی دورها فی علاج المشاکل الدولیّة ، والتعاون الحمیم بین البلدان المختلفة لتأمین

التضامن التامّ بین الشعوب أکثر فأکثر ، والتکاتف المتزاید للحکومات بغیة تقلیل حدّة

التوتّر فی العلاقات الدولیّة ، کلّ ذلک یعتبر تعاونا علی البرّ والتقوی فی ضوء المنطق

القرآنی . وکذلک التعاون والمشارکة فی أمر التربیة والتعلیم وتبادل المعلومات والتجارب فی القضایا الإنسانیّة والعلوم والفنون البشریّة المتطوّرة ، فإنّها تعتبر من أهمّ مصادیق التعاون علی البرّ والتقوی .

والتعاون لإزالة جمیع الآثار المتبقّیة من الاستعمار والتمییز العنصری ، والجهود الدولیّة المشترکة لإنهاء الحروب العدوانیّة والاحتلال الأجنبی بشکل عادل . کلّ أُولئک

یمثّل نوعا من التعاون علی البرّ والتقوی .

کما أنَّ المشارکة فی التنمیة الزراعیّة والصناعیّة وفی کلّ نشاط تجاری یعود بالنفع علی

البشریّة ، وعلی الشعوب المحرومة بخاصّة ، تعتبر تعاونا علی البرّ والتقوی .

وکذلک التعاون لمنع انتشار الأسلحة الذرّیّة ، والجهود المشترکة لإیقاف سباق التسلّح ، ووضع السلاح بشکل یقلّل من خطر الحرب ، کلّ ذلک یجسّد التعاون علی البرّ

والتقوی .

وبصورة عامّة ، فإنَّ المجالات الآتیة یمکن أن تمثّل مصادیق بارزة للتعاون علی البرّ

ص: 412

والتقوی

، وهذه المجالات هی : المشارکة فی السیطرة علی النظام الدولی للمعلومات الذرّیّة فی حقل العلوم الذرّیّة ، والتعاون الدولی لتأمین الأشغال المفیدة التی تلبّی حاجات الزخم السکّانی الهائل ، والتعاون فی أمر الإنتاج والتوزیع والاستهلاک الصحیح للمحاصیل الزراعیّة والصناعیّة علی الصعید الدولی ، والتعاون لبلوغ أفضل مستوی صحّی ممکن لجمیع الناس ، وتأمین الرفاه التامّ جسمیّا وروحیّا ومکافحة الأمراض ، والتعاون فی مجال التنمیة الاقتصادیّة عن طریق التسلیف بشروط تتناسب مع حقوق الإنسان ، والاستشارة والتعاون فی القضایا المتعلّقة بالنقد الدولی من أجل التنمیة الصحیحة والعادلة

للتجارة الدولیّة ، والمشارکة فی تیسیر وتوسیع مبادئ وفنون الملاحة الجویّة والتنقّلات

الجویّة لتأمین التنمیة المنظّمة والمضمونة للطیران المدنی الدولی فی أرجاء العالم واستثمار ذلک لأغراض سلمیّة وتوسیع المواصلات الجویّة وتسهیلات الملاحة الجویّة ، والتعاون فی تنظیم وتحسین المواصلات وتوسیع مجال التعاون الدولی من أجل استثمار المواصلات أکثر فی الحقول الثقافیّة ، والاجتماعیّة ، والاقتصادیّة ، والتعاون الدولی فی مجال الأنواء الجویّة ونظم التبادل السریع للمعلومات الجویّة ، والتعاون وتبادل المعلومات بین الأقطار المختلفة

فی الموضوعات الفنیّة المتعلّقة بالملاحة البحریّة والمواصلات البریّة ، ومئات المجالات

المعروفة والمجهولة للتعاون البنّاء والإیجابی والمفید .

التعاون والمشارکة مبدأ قانونی

إنَّ الأُسلوب القرآنی فی بیان الأحکام والمقرّرات القانونیّة معروف وواضح تماما . وفی جمیع الحالات التی یستخدم فیها القرآن الکریم کلمة « الأمر » أو « النهی » فإنّه فی مقام التشریع وتبیان القواعد القانونیّة والإلزامیّة لا محالة .

واعتبر علماء الأُصول « الأمر » دلیلاً علی الوجوب ، و « النهی » دلیلاً علی الحرمة . من هذا المنطلق ینبغی أن ننظر إلی مفاد الأوامر والنواهی القرآنیّة علی أ نَّه قانون وقاعدة قانونیّة إلزامیّة .

والتعبیر الذی اختاره القرآن فی تبیان حکم التعاون والمشارکة هو فی الحقیقة أجلی تعبیر لعرض قاعدة من القواعد الإلزامیّة . کما نجد أنَّ المقابلة بین الأمر بالتعاون علی البرّ

ص:413

والتقوی

، والنهی عن التعاون علی الإثم والعدوان یمکن أن تکون لافتة للنظر فی توضیح هذه القاعدة القانونیّة .

ومفاد قوله تعالی : « وَتَعَاوَنُوا عَلَی الْبِرِّ وَالتَّقْوی » دعوة إلزامیّة لجمیع أفراد المجتمع وشعوب العالم لتطبیق هذا المبدأ علی جمیع أصعدة الحیاة الإنسانیّة وأبعادها

المتنوّعة . کما أنَّ مفاد قوله تعالی : « وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَی الاِْثْمِ وَالْعُدْوَانِ » لیس إلاّ قانونا فی مجال حظر کلّ ضرب من ضروب المشارکة والتعاون فی الفساد والضیاع .

والتعاون علی البرّ والتقوی من الوجهة الفقهیّة مرّة یکون واجبا عینیّا ، وأُخری یکون واجبا کفائیّا . والقصد من الواجب العینی هو أنَّ التعاون یمثّل فریضة تستلزم

مسؤولیّة خاصّة بالنسبة إلی الفرد علی الصعید الاجتماعی ، والشعوب علی الصعید الدولی ، إذ ینبغی القیام بها شخصیّا مهما کانت الظروف . أمّا الواجب الکفائی ، فإنَّه یعنی وجود مسؤولیّة مشترکة تقع علی عاتق جمیع الأفراد فی المجتمع ، وجمیع الشعوب علی الصعید الدولی ، إذ علیهم القیام بها . وإذا ما قام بها بعض الأفراد أو الشعوب ، فإنّها تسقط عن الآخرین .

من هذا المنطلق ، فإنَّ الشعوب التی تتمتّع بقدرة أکبر وإمکانیّات أکثر ، تضطلع بمسؤولیّة أفضل فی أداء فریضة التعاون .

ومن جهة أُخری ، کلّ عمل ونشاط مفیدین من الوجهة الإنسانیّة والإسلامیّة وهما بمستوی الفریضة ، وکذلک کلّ جهد ینبغی تجسیده عملیّا حسب المسؤولیّات المنبثقة عن المعاهدات والاتّفاقیّات ، فإنّ التعاون والمشارکة فی القیام بذلک کلّه ، والتعاون فی تعزیزه وتعمیقه وبسطه ، مصداق لهذه القاعدة الإسلامیّة القانونیّة والإلزامیّة .

3 - مبدأ المساواة بین الحکومات فی استیفاء حقّ الحریّة ، والاستقلال ، والسیادة
اشارة

إذا کان العالم قد شهد نظاما دولیّا واحدا فی القرن التاسع عشر ، فالیوم یشهد نظامین دولیّین متنافسین ، والسلطة العامّة فیه للأقوی والأقدر ، ومحصّلة ذلک أنَّ نظامه هو النظام الأساس .

ص: 414

والسلطة المتفوّقة التی تمثّل حامیا للنظام الدولی تستخدم قدرتها دائما للحصول علی حصّة أکبر من المصالح الدولیّة . والدول المقتدرة الأُخری أیضا متحالفة مع هذه السلطة

المتفوّقة ، وقد اتّفقت کلّها علی تقسیم المصالح فیما بینها ، والجمیع راضون عن النظام القائم .

أمّا موقع الدول الضعیفة فی مثل هذا النظام الدولی وفلسفة وجودها فیتمثّلان فی أ نّها تهیّئ الغنائم للدول التی هی أعلی منها (1) ، والساخط هنا إمّا الدول الضعیفة أو الدول الحدیثة التی إذا ما دخلت فی الحلبة الدولیّة ، فإنَّها تجد المصالح الدولیّة مقسّمة من قبل . إلاّ أنَّ الوضع لا یبقی دائما علی حاله هکذا ، فقد تطرأ تطوّرات علی قیادة النظام الدولی ؛ وتندحر دولة ألمانیا المعارضة ، وتحلّ أمیرکا محلّ إنجلترا .

وما یبقی ثابتا فی هذه التطوّرات هو عدم المساواة بین الدول ، والتقسیمات القائمة تبعا

لحجم القدرة التی یتمتّع بها کلّ طرف من الأطراف .

وما میثاق الأُمم المتّحدة ، الذی یمثّل انعکاسا لظروف خاصّة طرأت إثر الانتصار الذی أحرزه مؤسّسو منظّمة الأُمم المتّحدة ، إلاّ استمرار لتلک السیاسة الدولیّة

. وأنَّ إطلاق المیثاق فی مجال السلم والأمن الدولیّین ، وقبول حقّ الفیتو للدول الخمس الکبری

، وطرح قضیّة البلدان غیر المستقلّة ، ونظام الوصایة الدولیّة ، کلّ ذلک یترجم لنا عدم المساواة بین الدول المختلفة من منظار النظام الدولی المعاصر .

إنَّ ما ذکرناه یتعلّق بالقانون والمقرّرات والمعاهدات الدولیّة التی أُعلن عنها رسمیّا ؛ أمّا من الوجهة العملیّة وسیر السیاسة الدولیّة فإنّ القضیّة أوضح من ذلک ، لأنَّ المعیار

الوحید فی ساحة السیاسة الدولیّة هو القدرة ، ولا مکان للمساواة بین الدول والحکومات

فی استیفاء حقّ الحرّیّة ، والاستقلال ، والسیادة .

ولا مجال أمام الدول الضعیفة إلاّ أن تنضوی تحت لواء الدول الکبری ، وتحتفظ لنفسها بما یسمّی بالمصالح الوطنیّة علی حساب حرّیّتها واستقلالها وانتهاک سیادتها ، أو تؤدّی دورا فی الألاعیب السیاسیّة مصحوبا بالذلّ والنفاق ، وذلک لکی تبقی بمأمن من شرّ الدول الکبری .

وتجربة الحرکات الانفصالیّة المتوالیة فی الشرق الأقصی وشرق آسیا ، والتبدّلات

ص: 415


1- « سیاسة العالم » ص 567 .

الجذریّة فی أُوروبا الشرقیّة ، والسیاسات العدوانیّة للدول الکبری فی الشرق الأوسط وأفریقیا وأحداث سیاسیّة أُخری کثیرة فی النصف الثانی من القرن المعاصر ، کلّ ذلک یدلّ

علی انعدام المساواة بین الدول .

ولو تجاوزنا ما حدث عملیّا ، فإنَّ القضیّة غامضة من الوجهة النظریّة تماما . ویری البعض من أهل الاختصاص أنَّ الدول غیر متساویة کالأفراد . ویظهر عدم التساوی فی درجات مختلفة تبعا للتمتّع بالقدرات ، والثروات ، والمساحة ، وعدد السکّان ، ولکن کما أنَّ للأفراد حقوقا متساویة علی الرغم من عدم التساوی الطبیعی والاقتصادی والاجتماعی ، فکذلک الدول فإنَّها متساویة أمام القانون الدولی علی الرغم من الفوارق

القائمة فیما بینها . وشخصیّة کلّ دولة - بغضّ النظر عن کیفیّة تکوینها والأسباب التی أدّت إلی نشوئها - تکفی لإحراز المساواة مع الدول الأُخری فی المجتمع الدولی وأمام المقرّرات

والقانون الدولیّ(1) .

تقوم هذه الفکرة علی أنَّ المساواة القانونیّة بین الدول والحکومات لا تستلزم المساواة الجوهریّة والحقیقیّة . بینما یری البعض الآخر أنَّ السیادة تستدعی المساواة

الحقیقیّة بین الدول ، ومن ثمّ المساواة فی استیفاء الحقوق الأساسیّة للدول والحکومات .

وفرّق البعض الآخر فی قضیّة المساواة بین الدول ، بین الحقوق المفروضة والحقوق التی هی فی طور الاستیفاء ، أی : أنَّ جمیع الدول فی المجتمع الدولی تتمتّع بالمساواة

القانونیّة ، إلاّ أ نّها غیر متساویة فی استیفاء هذا الحقّ والإفادة من المساواة

. والدول الضعیفة من حیث المساحة ، والسکّان ، والمصادر ، والقدرات لا تستطیع أن تفید من هذا

الحقّ کالدول الکبری علی الرغم من تمتّعها بالسیادة والاستقلال(2) .

هذا اللون من التفسیر للمساواة بین الدول أدّی إلی أن یکون هناک توجیه قانونی لممارسة السیاسة الاستعماریّة من قبل الدول الکبری فی حقّ الدول المستعمرة ، وأنَّ الدول التی لا تستطیع أن تنال حظّها من الحقوق المتساویة تعتبر غیر مستقلّة .

إنَّ تشبیه الشعب بالفرد فی إحراز حقّ المساواة دفع کثیرا من علماء القانون الغربیّین

ص: 416


1- « القانون الدولیّ فی الإسلام » [ فارسی ] لجلال الدین فارسی ، ص 107 - 108 .
2- نفسه ص 109 .

أن یستدلّوا علی المساواة بما یلی :

المساواة حقّ الإنسان ، فهی - إذَن - حقّ الدولة أیضا . ولو کان الناس متساوین تبعا للحقوق التی یتمتّعون بها ، فإنَّ الدول التی تتألّف من هؤلاء الناس تعتبر متساویة

أیضا (1) . ویقول ابنهایم : المساواة بین أعضاء الأُسرة الدولیّة فی مقابل القانون الدولیّ سمة ثابتة لا تتغیّر . وهی منبثقة عن شخصیّتهم الدولیّة(2) .

ونصّ میثاق عصبة الأُمم فی سنة 1919م علی أنَّ الدول متساویة أمام القانون ، والمساواة أمام القانون ترافقها المساواة فی المشارکة فی وضع المقرّرات المتعلّقة بمصالح عصبة الأُمم . ( المادّة الثالثة من المیثاق ) .

ونصّ میثاق الأُمم المتّحدة فی المادّة الأُولی والثانیة وکذلک فی موادّه الأُخری علی مبدأ المساواة فی السیادة لجمیع أعضاء منظّمة الأُمم المتّحدة .

وأکّد إعلان لجنة القانون الدولیّ فی مادّته الخامسة علی أنَّ من حقّ کلّ دولة أن تکون متساویة مع الدول الأُخری .

وتقول المادّة الأُولی من المیثاق الدولی للحقوق الاقتصادیّة ، والاجتماعیّة ، والثقافیّة :

تتمتّع جمیع الدول بحقّ الاستقلال . وفی ضوء هذا الحقّ ، تحدّد الشعوب أوضاعها وظروفها

بکلّ حرّیّة . وجاء هذا المبدأ أیضا فی المادّة الأُولی من المیثاق الدولی للحقوق المدنیّة

والسیاسیّة .

ومن المؤکّد أنَّ کلّ دولة تحصل علی حقوقها الذاتیّة بعد کسب الشرعیّة . ومن هذا المنطلق ینبغی القول :

إنَّ الدول المتبلورة من إرادة شعوبها الحرّة متساویة فی العلاقات الدولیّة ، إلاّ أنَّ

النقطة المهمّة هنا هی أنّ تفسیر المساواة بین الدول ینبغی أن یعرض بمفهوم منطقیّ ومعقول

ینسجم مع الحقائق المقبولة .

ومفهوم المساواة فی قالب قاعدة من القواعد القانونیّة فی المقیاس الدولی یعنی أنَّ کلّ دولة تنبثق عن الشعب ( من العناصر اللازمة ) لها حرّیّة الإرادة والرأی ، والاستقلال ،

ص: 417


1- « القانون الدولیّ فی الإسلام » [ فارسی ] لجلال الدین فارسی ، ص 114 .
2- نفسه ص 107 .

والسیادة

، واستیفاء الحقوق الأساسیّة المعترف بها للشعوب . ولیس لأیّ دولة مقتدرة أن تنتهک حرّیّة واستقلال وسیادة أیّ دولة أُخری ، وتحقّق لها مکسبا فی الساحة الدولیّة علی حساب حقوق تلک الدولة ، وتجعل لها حقّا أکثر فی التمتّع بالحرّیّة ، والاستقلال

، والسیادة .

وقد حظر القرآن الکریم فی هذا المجال کلّ تدخّل قسریّ لفرض العقیدة والرأی . فقال عزّ من قائل :

1 - « لاَ اِکْرَاهَ فِی الدّینِ قَدْ تَبَیَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَیِّ » (1) .

2 - « فَذَکِّرْ اِنَّمَا اَ نْتَ مُذَکِّرٌ * لَسْتَ عَلَیْهِمْ بِمُصَیْطِرٍ » (2) .

وجاء تفسیر « بِمُصَیْطِرٍ »(3) و « الْمُصَیْطِرُونَ » (4) الواردتین فی القرآن الکریم(5) بمعنی الرقیب والمتسلّط ، والمتعهّد للأعمال والأحوال . وتستعمل هذه الکلمة عادة فی حالة یجیز فیها الإنسان لنفسه مراقبة شخص آخر والتدخّل فی أُموره . ویطلق المسیطر فی اللغة

علی کتّاب السیر والتراجم ، ومن یتدخّل فی شؤون الآخرین ، فهو - فی الحقیقة - یری

لنفسه الحقّ فی مراقبتهم . وتعتبر هذه الحالة انتهاکا لحرّیّة الشعوب واستقلالها وحقّها فی السیادة .

3 - « وَ مَا اَ نْتَ عَلَیْهِمْ بِجَبَّارٍ » (6) .

تطلق کلمة « الجبّار » علی الحاکم الذی یفرض رأیه علی الشعب بالقسر والقوّة . واتّصاف الإنسان الذی یحکم شعبا من الشعوب بالتجبّر یعنی حرمان ذلک الشعب من الحرّیّة ، والاستقلال ، والسیادة .

4 - « یَاءَیُّهَا النَّاسُ اِنَّا خَلَقْنَاکُمْ مِنْ ذَکَرٍ وَ اُ نْثی وَ جَعَلْنَاکُمْ شُعُوبًا وَ قَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا اِنَّ اَکْرَمَکُمْ عِنْدَ اللّه ِ اَتْقیکُمْ » (7) .

ص: 418


1- البقرة : 256 .
2- الغاشیة : 21 - 22 .
3- نفسها ، الآیة 22 .
4- الطور : 37 .
5- تکتب کلمة المسیطر بالسین . ومتی وقع حرف السین قبل حرف الطاء ، فیمکن کتابتها بالصاد أیضا .
6- ق : 45 .
7- الحجرات : 13 .

تمّ التأکید فی هذه الآیة الکریمة علی المساواة بین الشعوب وإلغاء کلّ تمییز خارج عن نطاق التقوی . وأفضلیّة المتّقین لا تعنی التمییز ، بل تعنی تمتّعهم بالحقوق والمزایا القانونیّة ، ذلک لأنَّ القانون یرعی الحقّ والعدالة .

5 - ألغی القرآن الکریم کلّ ضرب من ضروب الإکراه فی الجنوح إلی عقیدة معیّنة مرکّزا علی الإرادة الحرّة والتصمیم المستقلّ . فقد قال عزّ من قائل : «وَلَوْ شَاءَ رَبُّکَ لاَمَنَ مَنْ فِی الاَْرْضِ کُلُّهُمْ جَمیعًا اَفَاَنْتَ تُکْرِهُ النَّاسَ حَتّی یَکُونُوا مُؤْمِنینَ » (1) .

إنَّ السبیل الوحید للنفوذ فی إرادة الشعوب هو « الْبَلاَغُ الْمُبینُ » (2) ، و «قول الحقّ » (3) ، و « عرض البیّنات » (4) ، والمنطق والاستدلال(5) .

المساواة بین الشعوب من منظور قرآنی

إنَّ الآیة الکریمة الآتیة جدیرة بالتعمّق والدراسة فی ما یخصّ حریّة الشعوب واستقلالها ، وسیادتها قال تعالی : « وَمَا جَعَلْنَاکَ عَلَیْهِمْ حَفیظًا وَمَا اَ نْتَ عَلَیْهِمْ بِوَکیلٍ » (6) .

وإذا تمعّنّا فی کلمة « حفیظ » التی تدلّ علی نوع من الوصایة من جهة ، وعلی عدم القدرة علی استیفاء الحقوق من جهة أُخری ، وکذلک إذا دقّقنا فی کلمة « وکیل » التی تعنی تحمّل المسؤولیّة أو استیفاء حقّ من الحقوق نیابة عن شخص آخر ، یستبین لنا أنَّ الآیة عضدت حرّیّة الشعوب واستقلالها وسیادتها نوعا ما . وما لم یتّخذ الشعب قراره بنفسه ،

ص:419


1- یونس : 99 .
2- النحل : 35 ؛ النور : 54 ؛ یس : 17 ؛ المائدة : 92 .
3- فی قوله تعالی : « وَقُلِ الْحَقُّ ... » - الکهف : 29 .
4- کما فی قوله تعالی : « هَآ اَ نْتُمْ هؤُلاَءِ حَاجَجْتُمْ فیمَا لَکُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فیمَا لَیْسَ لَکُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللّه ُ یَعْلَمُ وَاَ نْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ » - آل عمران : 66 .
5- کما فی قوله تعالی : « اُدْعُ اِلی سَبیلِ رَبِّکَ بِاص لْحِکْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جَادِلْهُمْ بِاص لَّتی هِیَ اَحْسَنُ اِنَّ رَبَّکَ هُوَ اَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبیلِهِ وَ هُوَ اَعْلَمُ بِاص لْمُهْتَدینَ » - النحل : 125 ؛ و : « وَ لاَ تُجَادِلُوآ اَهْلَ الْکِتَابِ اِلاَّ بِاص لَّتی هِیَ اَحْسَنُ اِلاَّ الَّذینَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَ قُولُوآ امَنَّا بِاص لَّذی اُ نْزِلَ اِلَیْنَا وَ اُ نْزِلَ اِلَیْکُمْ وَ اِلهُنَا وَ اِلهُکُمْ وَاحِدٌ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ » - العنکبوت : 46 .
6- الأنعام : 107 ؛ وقال تعالی أیضا : « وَ الَّذینَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ اَوْلِیَآءَ اللّه ُ حَفیظٌ عَلَیْهِمْ وَ مَآ اَ نْتَ عَلَیْهِمْ بِوَکیلٍ » - الشوری : 6 .

فلیس لشعب آخر أن یتّخذ قرارا ما بحقّه نیابة عنه أو کراع لمصالحه . واللّه تعالی أیضا

لم یخوّل هذا الحقّ لأحد .

المساواة بین الشعوب عند الإمام أمیر المؤمنین علیّ علیه السلام

أکّد نهج البلاغة علی مبدأ المساواة بین الناس بأشکال شتّی . منها ما جاء فی عهده علیه السلام

مخاطبا مالک الأشتر رضی الله عنه حول المجتمع : فإنّهم صنفان : إمّا أخ لک فی الدِّین أو نظیر لک فی الخلق(1) .

فالناس جمیعهم فی الخلق متساوون . وهذه المساواة تشکّل حجر الأساس للعلاقات بین الناس علی صعید العلاقات الاجتماعیّة والدولیّة ، ولیس لأیّ قدرة أن تصادر حرّیّة

واستقلال وسیادة شعب من الشعوب من خلال سحق هذا المبدأ .

وینبثق مبدأ المساواة بین الشعوب فی ضوء کلام الإمام علیّ علیه السلام من احترام الشخصیّة الإنسانیّة وکرامتها ، ومبدأ حرّیّة الشعوب فی تقریر مصیرها ، إلاّ أنَّ هذا الأمر لا یعنی إلغاء لمسؤولیّة الإنسان أمام اللّه . ومن هذا المنطلق ، ینبغی أن یفضی مبدأ الفطرة والمساواة بین الناس إلی أُخوّتهم وآصرتهم المعنویّة والاعتقادیّة ومسؤولیّتهم المشترکة .

4 - مبدأ عدم استخدام القوّة وإلغاء الاعتداء

جاء فی میثاق الأُمم المتّحدة(2) مبدأ عدم استخدام القوّة وإیقاف کلّ عمل عدائی مع الأعمال الأُخری الخارقة للسلم ( المادّة الأُولی ) ، وتفادی التهدید بالقوّة أو استخدامها

ضدّ السیادة أو الاستقلال السیاسی لکلّ بلد ، أو استعمال أیّ أُسلوب آخر یغایر أهداف

الأُمم المتّحدة ( المادّة الثانیة ) ، وکذلک ورد مفاد آخر من هذا المبدأ فی المادّتین الثالثة والثلاثین والرابعة والثلاثین من المیثاق ، فیما یعتبر القانون الأساسی للشعوب .

ویلاحظ التأکید علی هذا المبدأ قبل میثاق الأُمم المتّحدة

، وذلک فی الاتّفاقیّات

ص: 420


1- « نهج البلاغة » الرسالة 53 .
2- حول قبول المبادئ وإقرار الأسالیب التی تضمن عدم استخدام السلاح إلاّ للدفاع عن المصالح المشترکة ( من مقدّمة میثاق الأُمم المتّحدة ) . « القانون الدولیّ العامّ » [ فارسی ] للدکتور صفدری 3 : 89 و 112 ، و 242 .

والمعاهدات الدولیّة ، لا سیّما فی معاهدة « لو کارنو » سنة 1920م . ومعاهدة باریس أو بریان - کلوک سنة 1928م . کما اهتمّت بهذا المبدأ الجمعیّة العامّة لمنظّمة الأُمم المتّحدة التی بادرت سنة 1950م إلی نشر النتائج التی تمخّض بها عمل لجنة القانون الدولیّ فی حقل مبادئ القانون الدولیّ ، ونشرت نصّا یضمّ سبعة مبادئ(1) .

ویفرّق - عادة - بین مبدأ عدم استخدام القوّة ومبدأ إلغاء الاعتداء ، إذ یفسّر الأوّل بمعنی حظر الحرب ، والثانی بمعنی إدانة الاعتداء . وفی هذه الحالة لابدّ من اعتبار الدفاع الشرعی محظورا لاستلزامه الحرب ، بینما نجد أنَّ مصادرة حقّ الدفاع من أیّ شعب مظلوم

مرفوضة أساسا ، وهی تمثّل فی الحقیقة مصادرة حقّ الوجود والحقوق الأساسیّة الأُخری

للشعوب . وفی ضوء ذلک ، فإنَّ مبدأ عدم استخدام القوّة والتهدید الذی یفسّر بمعنی حظر الحرب لیس إلاّ إدانة الاعتداء وحظر الحرب بدون أن یکون هناک دفاع شرعی . ولا یمکن أبدا القبول بتفسیر ذلک علی أ نَّه حظر الحرب بشکل مطلق .

تقول المادّة الحادیة والخمسون من میثاق الأُمم المتّحدة :

« إذا تعرّض أحد الأعضاء فی منظّمة الأُمم المتّحدة إلی هجوم مسلّح ، فلیس لأیٍّ من مقرّرات المیثاق أن یمسّ الحقّ الذاتی للدفاع الشرعی عن النفس ، سواء کان فردیّا أو

جماعیّا ، إلی أن یتّخذ مجلس الأمن الإجراءات اللازمة لحفظ السلم والأمن الدولیّین . وعلی الأعضاء أن یوافوا مجلس الأمن بتقریر عاجل عن الإجراءات التی یتّخذونها فی ممارسة حقّ الدفاع الشرعی ».

وعلی الرغم من أنَّ هذه المادّة تکلّف الدولة المعتدی علیها أن تُطلع مجلس الأمن علی الإجراءات التی تتّخذها بشأن الدفاع الشرعی ، إلاّ أ نّها لا تصادر حقّها فی الدفاع الشرعی ، أی : شنّ الحرب من أجل الدفاع .

ومن هذا المنطلق ، ذکرنا فی هذا المبدأ کلا العنوانین لعلّنا نکون قد أشرنا إلی الفهم الخاطئ الناشئ من مبدأ عدم استخدام القوّة والتهدید ، ضمن التلمیح إلی ترادفهما

.

وقد فصّلنا الحدیث فی المباحث المتقدّمة عن مفهوم الاعتداء وموقف الإسلام منه خلال دراسة قضیّة الأمن الدولی ، فلا ضرورة للتکرار . غیر أنَّ التأکید ضروریّ علی أنَّ

ص: 421


1- « دلیل منظّمة الأُمم المتّحدة » ص 792 .

القرآن - بحظره الاعتداء -(1) جعل معیاره تخطّی المقرّرات والحدود المعیّنة(2) ، ولم یجوّزه حتّی فی مواجهة العدوّ المعتدی(3) .

5 - مبدأ دعم النضال العادل والحرکات التحرّریّة
اشارة

قلنا فی المباحث المتقدّمة : إنَّ السلم والأمن الدولیّین لهما قیمتهما فی المجتمع الدولی

عندما یقومان علی مبادئ العدل والإنصاف . لذلک لا یمکن أن نجعل حقّ المظلومین والمستضعفین فی النضال للتحرّر من رباق التسلّط ، ضحیّة للسلم والأمن بالنسبة إلی الأقویاء المتسلّطین .

ویستلزم العدل والإنصاف من الشعوب دعم النضال العادل والحرکات التحرّریّة للشعوب المأسورة المقهورة . حتّی لو عرّض هذا الدعم السلم والأمن المزیّفین إلی الخطر .

ومن المؤسف أنَّ الإطلاق غیر العادل فی مجال السلم والأمن یلاحظ فی میثاق الأُمم المتّحدة بوضوح ، فقد جاء فی المادّة الثالثة والثلاثین من المیثاق :

« علی کلّ طرف من الأطراف المتنازعة أن یبادر إلی الحلّ المناسب لکلّ خلاف یحتمل أن یشکّل استمراره خطرا علی السلم والأمن الدولیّین ، وذلک عبر التفاوض ، والوساطة ، وإبداء المرونة ، والتحکیم ، والتحقیق القضائی ، واللجوء إلی المؤسّسات أو الترتیبات الإقلیمیّة ، أو سائر الوسائل السلمیّة » .

« وسوف یطالب مجلس الأمن - عند الحاجة - تسویة خلافاته بالوسائل المذکورة عبر الخلاف » .

ومن البدیهی أنَّ الحلّ السلمی للخلافات بین الضعیف والقوی ، والمظلوم والظالم ، والمستضعف والمستکبر یصبّ فی مصلحة القوی . والظالم والمستکبر دائما .

عندما تکون القوی السلطویّة والاستکباریّة مستعدّة لحلّ الخلافات بشکل سلمی مع رعایة الاحترام المتبادل ، فلا نلمس أثرا للتسلّط والظلم والأسر .

إلاّ أنَّ المیثاق قد تخطّی الحدود فمهّد الأرضیّة لمعاقبة الشعوب المظلومة التی تمارس

ص: 422


1- « وَلاَ تَعْتَدُوآ » - البقرة : 190 .
2- « تِلْکَ حُدُودُ اللّه ِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا » - البقرة : 229 .
3- « وَلاَ یَجْرِمَنَّکُمْ شَنَانُ قَوْمٍ اَنْ صَدُّوکُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ اَنْ تَعْتَدُوا » - المائدة : 2 .

النضال ضدّ القوی الاستکباریّة المعتدیة لتحریر نفسها ، ذلک لأنَّ هذا النضال یمکن أن یعرّض السلم والأمن الدولیّین للخطر .

فقد جاء فی المادّة 34 من المیثاق ما یلی :

« یمکن لمجلس الأمن أن ینظر فی کلّ خلاف أو وضع قد یؤدّی إلی اصطدام دولی أو یثیر خلافا ، إذ یحدّد فیما إذا کان من المحتمل أن یسفر استمرار ذلک الخلاف أو الوضع

المذکور عن تهدید للسلم والأمن الدولیّین » . وذکر المیثاق الطرق المتنوّعة للعقوبة

بالتفصیل ، وذلک من المادّة السادسة والثلاثین حتّی المادّة الخمسین . ویلاحظ فی المادّة

الحادیة والخمسین فقط شیء من الاستثناء علی نحو الإشارة إلی الدفاع الشرعی .

وکذلک نری أنَّ المادّة الثالثة والسبعین من میثاق الأُمم المتّحدة وهی تخصّ الأراضی غیر المستقلّة ، وکذلک المادّة الخامسة والسبعین حتّی المادّة الخامسة والثمانین ، وهی تتعلّق بنظام الوصایة الدولیّة ، کلّها تتضمّن شیئا من امتهان الإنسان ، وقد فتحت الطریق لقمع النضال من أجل الاستقلال . ویمکن أن نلمس هذه الحقیقة المرّة بوضوح فی الحادثة التاریخیّة المتمثّلة بوصایة إنجلترا علی فلسطین وما آلت إلیه من تأسیس الدویلة الصهیونیّة

الغاصبة والمحتلّة ، وتشرید ملیونی فلسطینی مسلم ، ومئات المشاکل الأُخری التی انتابت

العالم الإسلامی(1) .

ویلاحظ فی التاریخ السیاسی للعالم أیضا نوعان من ردود الفعل حیال الحرکات التحرّریّة :

1 - ردّ فعل یترافق عادة مع تضامن الحکومات المستبدّة والمعتدیة من أجل قمع النضال العادل للشعوب المکبّلة والمظلومة . وقد تعرض القوی الاستکباریّة جانبا عن خلافاتها بغیة التفکیر بأُسلوب لمواجهة الحرکات التحرّریّة للشعوب المکبّلة ، التی تهدّد مصالحها الاستکباریّة . وتشکّل اتّحادا سیاسیّا قویّا لمواجهة التیّارات المطالبة بالاستقلال

وإلغاء التسلّط .

ویمکننا أن نذکر فی هذا الصدد أحلاف : شومون ، وفینا ، وباریس ، والاتّحاد المقدّس

ص: 423


1- « قصّة فلسطین » أو « صحیفة الاستعمار السوداء » ص 372 ؛ « إسرائیل الفاشیّة الجدیدة » ص 254 .

الذی کان قائما حتّی سنة 1826م(1) ، وکذلک المعاهدة المشترکة للأقطار الأمیرکیّة السبعة التی عقدت سنة 1932م لقمع الحرکات الثوریّة فی أمیرکا اللاتینیّة(2) .

وشوهد فی مسار السیاسة الدولیّة المعاصرة مرارا أنَّ الدول الکبری قد تواطأت سرّا لمواجهة الحرکات التی تهدّد مصالح الطرفین .

وما نشهده الیوم من مواقف حیال القضیّة الفلسطینیّة ، وفی مواجهة الصدی العالمی للثورة الإسلامیّة ، والسیاسات المنسّقة التی تمارس من قبل الدولتین العظمیین وعملائهما

لقمع هذه الحرکة العالمیّة بأشکال متنوّعة وتکالیف باهظة إلاّ نموذج حیّ لهذا اللون من ردّ الفعل اللا إنسانی حیال النضال العادل للشعوب والحرکات التحرّریّة لمستضعفی العالم .

2 - دعم النضال والحرکات التحرّریّة للشعوب المظلومة من قبل الشعوب المهتمّة بالتضامن والنضال المشترک فی سبیل أهدافها المشترکة وهی خلف الحدود السیاسیّة ، والجغرافیّة ، والعنصریّة ، وحتّی الفکریّة .

ویمکن أن تکون لهذا الدعم مسوّغاته المختلفة ، إلاّ أنَّ أهمّها هی الإنسانیّة ، ودعم المبادئ الإنسانیّة ، والسعی لتحقیق الأهداف البشریّة المشترکة ، ومن ثمّ دعم العدالة ، والسلم ، والأمن .

وإذا اعتبر السلم والأمن الدولی مبدأ ضروریّا فی الحیاة المشترکة للشعوب ، فینبغی دعم العوامل الممهّدة للسلم والأمن من قبل جمیع الشعوب . وإذا کان تکبیل الشعوب وظلمها یهدّدان السلم والأمن ، فعلی کافّة الشعوب أن تتآزر لقطع دابر الظلم والتسلّط .

وما یستنتج من هذین الکلامین هو أنَّ النضال العادل للشعوب المظلومة والحرکات التحرّریّة للشعوب المستضعفة حقّ مؤکّد لا یقبل السلب ، ودعم الشعوب المحرومة والرازحة تحت مطرقة الظلم فی استیفاء هذا الحقّ مسؤولیّة دولیّة . وما هدف هذه الإجراءات کلّها إلاّ حراسة السلم والأمن الدولی المرتکز علی العدالة .

یستبین من خلال هذا التوضیح أنَّ الدعم الدولی للشعوب المحرومة والمناضلة لا یمکن أن یبقی فی حدود التوصیة أو فی حدود الإعلان الإنسانی ، بل ینبغی أن ینظر إلیه کقاعدة

ص:424


1- « القانون الدولیّ فی الإسلام » [ فارسی ] لجلال الدین فارسی ، ص 169 - 185 .
2- « القانون الدولیّ العامّ » [ فارسی ] للدکتور صفدری 2 : 70 .

قانونیّة وقانون مُلزِم فی المقیاس الدولی .

ومن هذا المنطلق ، فإنَّ العقل والمنطق یستلزمان اعتبار الدعم الدولی للنضال العادل والحرکات التحرّریّة مبدأ لا مناص منه فی العلاقات الدولیّة ، ویتبلور علی شکل قاعدة فی القانون الدولیّ ، وینظر إلیه کجزء من القانون الأساسی للشعوب .

الإسلام ودعم النضال العادل

اهتمّ القرآن بقضیّة دعم النضال العادل والحرکات التحرّریّة فی مواضع متعدّدة . وأکّد علی ذلک بصورة متنوّعة :

1 - وعد اللّه الذین ینهضون لأخذ حقّهم بالنصر ، فقال جلّ شأنه :

أ - « اِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَ الَّذینَ امَنُوا فِی الْحَیوةِ الدُّنْیَا » (1) .

ب - « وَ اِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّکُمْ » (2) .

ج - « وَ یَنْصُرَکَ اللّه ُ نَصْرًا عَزیزًا » (3) .

د - « وَیَنْصُرْکُمْ عَلَیْهِمْ » (4) .

ه - « وَ لَیَنْصُرَنَّ اللّه ُ مَنْ یَنْصُرُهُ » (5) .

و - « ثُمَّ بُغِیَ عَلَیْهِ لَیَنْصُرَنَّهُ اللّه ُ » (6) .

2 - وأنحی باللائمة علی الذین لا یتناصرون لدعم النضال العادل والنشاط المحقّ ، فقال تبارک اسمه : « مَا لَکُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ » (7) .

3 - واعتبر الاستغاثة حقّا لکلّ مظلوم . ومن البدیهی أنَّ هذا یعنی بأنَّ المظلوم عندما

یستغیث ویستنجد ، فینبغی دعمه وإغاثته . قال عزّ من قائل :

ص:425


1- غافر : 51 .
2- الحشر : 11 .
3- الفتح : 3 .
4- التوبة : 14 .
5- الحجّ : 40 .
6- نفسها ، الآیة 60 .
7- الصافّات : 25 .

أ - « وَ لَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَاُولئِکَ مَا عَلَیْهِمْ مِنْ سَبیلٍ » (1) .

ب - « وَ ذَکَرُوا اللّه َ کَثیرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا » (2) .

ج - « وَ الَّذینَ اِذَا اَصَابَهُمُ الْبَغْیُ هُمْ یَنْتَصِرُونَ » (3) .

د - « لاَ یُحِبُّ اللّه ُ الْجَهْرَ بِاص لسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ اِلاَّ مَنْ ظُلِمَ » (4) .

4 - وفی بعض الحالات أیضا اعتبر دعم وإغاثة المظلومین والشعوب المستعبدة التی تستنجد وتستغیث فریضة ، فقال جلّ من قائل :

أ - « وَاِنِ اسْتَنْصَرُوکُمْ فِی الدّینِ فَعَلَیْکُمُ النَّصْرُ » (5) .

ب - « مَا لَکُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فی سَبیلِ اللّه ِ وَالْمُسْتَضْعَفینَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ » (6) .

دعم الموقف الحقّ والمظلوم من منظار السنّة

جاء التأکید فی الروایات الإسلامیّة علی التظلّم ، واعتبر حقّا طبیعیّا وإلهیّا لکلّ إنسان وکلّ شعب . وهذا المفهوم یستلزم ضرورة دعم الشخص الذی ینهض للتظلّم .

من جهة أُخری ، ورد دعم المظلوم الذی یکافح لإحقاق حقّه ، بوصفه من الأخلاق السیاسیّة للناس : کونا للظالم خصما وللمظلوم عونا (7) .

وتمّ التأکید فی بعض الروایات أیضا علی نجدة الناس المستغیثین تحت عنوان : إغاثة الملهوف . وترتّب علی ذلک آثار مادّیّة ومعنویّة جمّة(8) .

وجاء فی بعض الروایات أیضا أنَّ الامتناع عن دعم المظلوم المطالب بحقّه فی حکم الخروج من حدود الإسلام وکرامة الإیمان : من سمع منادیا ینادی یا للمسلمین ولم یجبه فلیس

ص:426


1- الشوری : 41 .
2- الشعراء : 227 .
3- الشوری : 39 .
4- النساء : 148 .
5- الأنفال : 72 .
6- النساء : 75 .
7- « نهج البلاغة » الرسالة 47 .
8- « أُصول الکافی » 2 : 159 ، 135 .

بمسلم(1) .

6 - مبدأ عدم التدخّل فی الشؤون الخاصّة بالشعوب الأُخری
اشارة

إنَّ مبدأ عدم التدخّل فی الشؤون المتعلّقة بالحکومات الأُخری نتیجة منطقیّة للاستقلال وسیادة الحکومات ، إلاّ أنَّ المشکلة الرئیسة لمبدأ عدم التدخّل تکمن فی تحدید العمل الذی یعتبر تدخّلاً ، والعمل الذی لا یعتبر کذلک .

وللتوفّر علی تمعّن أکثر فی هذه المشکلة ، ینبغی أن نری لماذا ینصّ میثاق الأُمم المتّحدة فی البند السابع من المادّة الثانیة علی أ نَّه « لا یجیز أیّ من المقرّرات المدرجة فی هذا المیثاق للأُمم المتّحدة أن تتدخّل فی الشؤون التی تدخل فی نطاق الصلاحیّات الداخلیّة

للبلدان المختلفة » . وفی أعقاب ذلک یستثنی حالة تتعلّق بتحدید التدخّل ، إذ یقول : بید أنَّ هذا المبدأ لا یمسّ القیام بالإجراءات القسریّة المذکورة فی الفصل السابع .

وتمّ فی الفصل السابع من المیثاق استعراض مسألة القیام بعمل ما عند تهدید السلم وخرقه ، وعند وقوع الاعتداء .

إنَّ التدخّل فی الشؤون الداخلیّة للأقطار المختلفة من أهمّ مباحث القانون الدولیّ ومن أکثر القضایا السیاسیّة المطروحة فی المنظّمات الدولیّة إثارة للضجیج . ونشیر فیما یلی إلی بعض الحالات فی هذا الصدد کمثال علی ذلک حتّی تستبین لنا دقّة المسألة وصعوبتها :

1 - المؤامرة أو الثورة التی تنشب فی بلد مجاور لبلد آخر ، ویعیش ذلک البلد اضطرابات وأوضاعا قلقة تسری عدواها إلی مجاوره فیُمنی بالأزمات السیاسیّة ، وأحیانا

التوتّر والتمرّد ضدّ نظام الحکم القائم فیه بحیث تتضعضع سیادته وتتعرّض إلی الخطر ، فهل تمّ خرق مبدأ عدم التدخّل فی مثل هذه الظروف أو لا ؟

2 - وفی هذا الافتراض متی استغلّت المجموعات السیاسیّة المناضلة أو المتمرّدة أحیانا فی الدولة ( أ ) أراضی الدولة المجاورة ( ب ) وإمکانیّاتها وشعبها ، وأفادت من الدولة ( ب ) کملجأ لها أو کمصدر لتأمین الأسلحة والعتاد والمیرة ، وقادت هجمات عسکریّة ضدّ الدولة ( أ ) من داخل الدولة المجاورة ( ب ) ، فهل للدولة ( أ ) الحقّ فی اتّهام الدولة ( ب )

ص: 427


1- « وسائل الشیعة » 18 : 590 .

بالتدخّل فی شؤونها الداخلیّة ، بالنظر إلی ما تقوم به الدولة ( ب ) من مهمّات حیال نشاطات أتباعها وأراضیها ؟ وکذلک فی الحالات التی تؤدّی فیها مثل هذه النشاطات السیاسیّة والعسکریّة فی داخل الدولة ( ب ) إلی ضررها وخسارتها ، فهل یمکنها أن تقدّم

شکواها ضدّ الدولة ( أ ) بسبب المسؤولیّة غیر المباشرة للدولة ( أ ) عن الحوادث الواقعة فی داخل الدولة ( ب ) ، وتتّهمها بالتدخّل غیر المباشر فی شؤونها الداخلیّة ؟

3 - إنَّ الثورات التی لا تتّسم بطابع قومی - عادة - تجتاز الحدود بسرعة ، وظهور الثورة وانتصارها فی الدولة ( أ ) یفضی إلی تطوّرات جدیدة فی الدولة المجاورة (

ب ) ، وهکذا یتأثّر شعب الدولة ( ب ) بالأفکار الثوریّة للدولة ( أ ) ، ففی مثل هذه الظروف ، هل یتسنّی للدولة ( ب ) أن تعتبر الثورة فی الدولة ( أ ) وما تبعها من تطوّر سیاسی

، تدخّلاً فی شؤونها الداخلیّة لما أحسّته من تهدید لسیادتها ؟

4 - وفی أجواء هذا الافتراض ، لو کان للدولة ( أ ) أنصار فی الدولة ( ب ) ، ومع وجود

المجالات الإعلامیّة المساعدة فی الدولة ( ب ) ، فإنَّ عملاء الدولة ( أ ) یقومون بحملات

دعائیّة استفزازیّة باتّجاه تطویر الأهداف الثوریّة للدولة ( أ ) . فهل تعتبر مثل هذه الأعمال تدخّلاً فی الشؤون الداخلیّة للدولة ( ب ) ؟

5 - الأقلّیّات التی تعیش فی الدولة ( ب ) بصورة رسمیّة وهی من أتباع الدولة ( أ

) ، لو تعرّضت إلی الأذی من قبل الدولة ( ب ) وحرمت من حقوقها المشروعة ، فهل أنَّ تدخّل الدولة ( أ ) فی هذا المجال یعتبر تدخّلاً فی الشؤون الداخلیّة للدولة ( ب ) ؟

أنواع التدخّل

ینبغی أن نتوفّر بادئ ذی بدء علی دراسة مفهوم التدخّل من أجل أن تستبین قضیّة التدخّل فی الشؤون الداخلیّة للبلدان الأُخری ، وکذلک الحالات التی مرّ ذکرها ، والتدخّل

قابل للدراسة من خلال الأشکال التالیة :

1 - تدخّل الدولة ( أ ) فی الشؤون المتعلّقة بسیادة الدولة ( ب ) ، بدون أن ترتبط تلک الشؤون بمعاهدة ثنائیّة أو بمعاهدات وقواعد تتعلّق بالقانون الدولیّ ، کتدخّل الدول

الکبری المتسلّطة فی شؤون الدول الخاضعة لهیمنتها ، فتطیح بنظام أو تأتی بنظام آخر ، أو

ص: 428

تفرض الخطوط الاقتصادیّة والثقافیّة التی ترتضیها .

2 - اعتداء تقوم به القوّات المسلّحة لدولة ضدّ دولة أُخری ، کما فی الهجوم العسکری الذی قام به النظام العراقی ضدّ الجمهوریّة الإسلامیّة الإیرانیّة .

3 - احتلال عسکری لدولة ما من قبل القوّات المسلّحة لدولة أُخری ، کما فی احتلال أفغانستان من قبل قوّات الجیش السوفیتی الأحمر .

4 - تنشیط المجموعات المعارضة فی دولة ما من قبل دولة أُخری من الوجهة السیاسیّة والاقتصادیّة کما فی التدخّل الذی تقوم به أمیرکا ضدّ الأقطار الثوریّة .

5 - التجهیز العسکری للقوّات المقاتلة فی دولة ما من قبل دولة أُخری کالذی تقوم به أمیرکا لدعم القوی المضادّة للثورة فی نیکاراغوا .

6 - التدخّل فی الشؤون السیاسیّة والاقتصادیّة والعسکریّة لدولة ما من قبل دولة أجنبیّة وفقا لمعاهدة موقّعة بینهما ، کما نجد فی الالتزامات التی تتعهّد بها الدول الأعضاء فی حلف الناتو .

7 - التدخّل فی الشؤون الداخلیّة لدولة ما من قبل دولة أجنبیّة فی ضوء المواثیق والمعاهدات الدولیّة ، والحقوق العامّة للشعوب ، کتدخّل بعض الأقطار فی السیاسة العنصریّة فی جنوب إفریقیا ، أو فی شؤون البلدان التی تنتهک حقوق الإنسان .

8 - دعم المجموعات المعارضة لنظام من الأنظمة السیاسیّة ، التی تعیش فی الخارج من قبل دولة أُخری کما فی الدعم السخی الذی تقدّمه أمیرکا لمعارضی الأقطار الثوریّة فی

الخارج .

9 - یخضع عدد من أتباع الدولة ( ب ) لإعداد خاصّ من قبل الدولة ( أ ) بغیة إحداث تطوّرات جدیدة فی دولتهم . وبعد بَرامج معیّنة ومدروسة ، وإنهاء دورات خاصّة ، یتوجّهون إلی الدولة ( ب ) للقیام بتمرّد ، أو مؤامرة ، أو ثورة أساسیّة ، ومثال ذلک : حزب توده فی إیران .

10 - تدخّل تقوم به دولة ثالثة فی خلافات ناشبة بین دولتین ، أو فی قضایا متعلّقة بدولتین متحاربتین . کما نجد ذلک فی التدخّل الذی قامت به البلدان الغربیّة وأمیرکا فی الحرب المفروضة التی شنّها النظام العراقی ضدّ الجمهوریّة الإسلامیّة .

ص: 429

11 - بیع الأسلحة لإحدی الدول المتحاربة ، أو حظر بیعها لدولة متحاربة أُخری . ومثال ذلک یتجلّی فی الفقرة السابقة .

12 - تهدید تقوم به دولة أجنبیّة ضدّ دولة أُخری .

13 - تدخّل تقوم به المنظّمات الدولیّة فی الشؤون المتعلّقة لبلد عضو فیها أو خارج عن عضویّتها .

14 - تدخّل من أجل استیفاء حقّ قانونی أو من أجل الحیلولة دون القیام بعمل غیر قانونی .

15 - التدخّل تحت عنوان المقابلة بالمثل .

16 - التدخّل بناءً علی طلب تتقدّم به دولة تعانی من اضطرابات أو مشاکل داخلیّة .

17 - طلب المساعدة والتدخّل من قبل أحد الطرفین المتنازعین .

18 - تدخّل دولة لدعم أتباعها أو مواطنیها الذین یلاقون الأذی فی دولة أُخری ، أو یحرمون من حقوقهم المشروعة فیها ، کتدخّل ترکیا فی قبرص .

میثاق الأُمم المتّحدة وقضیّة التدخّل

منع میثاق الأُمم المتّحدة فی البند السابع من المادّة الثانیة الدول الأعضاء عن التدخّل

فی الشؤون الداخلیّة التی تدخل فی نطاق الصلاحیّات الخاصّة للأقطار المختلفة ، وهذا یعنی عدم السماح للدول المختلفة بالتدخّل فی الشؤون الداخلیّة للدول الأُخری .

إلاّ أ نَّه - علی الرغم من ذلک - تلاحظ حالات فی میثاق الأُمم المتّحدة ، تمثّل انتهاکا

علنیّا لهذا المبدأ :

1 - تدخّل الأُمم المتّحدة فی إدارة البلدان التی لا زالت شعوبها غیر متمتّعة ( کما یصطلح علیها المیثاق ) بحکومة مستقلّة تماما . ( الفصل الحادی عشر من المیثاق

) .

2 - تدخّل الأُمم المتّحدة فی البلدان الخاضعة للوصایة الدولیّة ( الفصل الثانی عشر من المیثاق ) .

3 - الإجراءات التدخلیّة غیر العسکریّة لمجلس الأمن فی مجال تهدید السلم ، وخرقه ، وممارسة الاعتداء . ( الفصل السابع من المیثاق ) .

ص:430

4 - الإجراءات العسکریّة لمجلس الأمن ضدّ بلد یهدّد السلم والأمن ( المادّة 42 إلی المادّة 51 ) .

النطاق الخاصّ لنفوذ الحکومات

إنَّ المحور الأساس للبحث فی التدخّل فی الشؤون الخاصّة للحکومات یتمثّل فی تحدید الشؤون التی تدخل فی نطاق الصلاحیّات الخاصّة لأحدی الحکومات . والخلاف المثار حول حالات التدخّل المذکورة - التی سوّغ عدد من المتخصّصین فی القانون الدولیّ بعضها

واعتبرها مقبولة ، وأدانها عدد آخر منهم - یعود إلی أنَّ الفریق الأوّل لم یعتبر الحالات

المقبولة للتدخل من مصادیق الشؤون الخاصّة للشعوب ، بینما اعتبرها الفریق الثانی کذلک .

مثلاً

، عندما یدور الکلام حول تدخّل ترکیا فی شؤون الأتراک المقیمین فی قبرص أو الیونان ، فهل أنَّ هذا التدخّل منطقی وقابل للتوجیه ، أو لا ؟ ومحور البحث فی الحقیقة هو أنَّ حقوق الأتراک بوصفهم قوما أو عرقا تدخل فی نطاق الصلاحیّات الداخلیّة لدولة قبرص والیونان ، أو أنَّ حقوق إحدی الأقلّیّات جزء من الحقوق العامّة ، والشعوب تستطیع مثلاً أن تتدخّل فی الشؤون القومیّة والعرقیّة لرعایاها بسبب الأواصر القومیّة أو العرقیّة التی تربطها بها .

ویمکن فی هذا المجال أن نعرض حالات متعدّدة قابلة للنقاش من حیث دخولها فی النطاق الخاصّ بالشعوب علی الأقلّ ، ومنها :

1 - التدخّل لدعم حقوق الأقلّیّات المسحوقة من قبل إحدی الدول .

2 - التدخّل لدعم حقوق الإنسان فی الحالات التی یتمّ خرقها من قبل دولة ما .

3 - التدخّل لدعم الحرکات التحرّریّة .

4 - التبلیغ والنشاط الثقافی التی تقوم به دولة معیّنة فی دولة أُخری بغیة توجیه الإنسان ورفع مستواه .

5 - النشاط فی داخل البلدان المختلفة باتّجاه وحدة النوع الإنسانی .

6 - دعم الحرکات الإسلامیّة بسبب التضامن العقائدی .

ص:431

7 - التدخّل علی شکل تقدیم الدعم والمساعدة للطرف المتخاصم الذی تعرّض للظلم فاستنجد واستغاث .

8 - التدخّل للإغاثة فی الأهداف الإنسانیّة کتقدیم المساعدات الاقتصادیّة والعلمیّة

.

9 - التدخّل لقمع الاعتداء والمعتدی وقطع دابرهما .

النیّة الحسنة مؤشّر علی شرعیّة التدخّل

لا شکّ أنَّ تدخّل السیاسة الاستعماریّة فی الماضی ، وکذلک سیاسة التسلّط الاستعماری فی عصره الجدید یرتکزان علی أساس هذه المزاعم والذرائع ، وقد ارتأینا مناقشة هذه الفکرة من حیث اتّخاذها « طابع الشؤون الداخلیّة للبلدان ودخولها فی حقلها

الخاصّ » .

وکما تدلّ علیه کلمة الاستعمار التی تعنی طلب العمران فإنَّ جمیع السیاسات الاستعماریّة التی مارست نفوذها فی الشؤون الداخلیّة المختلفة للبلدان الضعیفة والصغیرة ، وسحقت استقلالها وحرّیّتها ، وأخیرا قامت بنهب مصادرها ومصالحها ، کانت تزعم منذ الیوم الأوّل أ نّها تقدّم دعمها ومساعدتها لأهداف إنسانیّة . والیوم نری أنَّ سیاسة التسلّط والاستکبار اتّخذت شعارات التنمیة الخادعة ذریعة لتعمیق نفوذها السیاسی والاقتصادی والثقافی أکثر فی أقطار العالم الثالث .

ولکن لمّا کان استغلال حقیقة ما لا یمثّل دلیلاً علی بطلانها أو خطأها ، فینبغی علینا أیضا أن نضع حدّا فاصلاً ومؤشّرا بیّنا بین ما نسمّیه : الحقوق العامّة والصلاحیّات العامّة والإنسانیّة ، وبین ما هو ذریعة للاستغلال یتشبّث به الاستعمار القدیم والجدید . وهذا الحدّ أو المؤشّر لیس إلاّ النیّة الحسنة . فدولة تتّخذ إجراءات معیّنة فی المجالات العشرة المذکورة

بنیّة حسنة ، یعتبر عملها وسلوکها إنسانیّا ، وناصحا کحدّ أدنی بالموازنة مع تدخّل

عدوانیّ للدول المستکبرة یرمی إلی الخداع والاستعمار والاستغلال .

ومع إحراز النیّة الحسنة ، یمکن التغاضی عن الأخطاء الطفیفة أیضا ، والعزوف عن المؤاخذة علیها ، بید أنَّ التدخّل بنیّة سیّئة وبهدف التسلّط والاستغلال لا یغتفر حتّی لو کان یصبّ فی مصلحة الدولة التی وقعت ضحیّة التدخّل .

ص: 432

الاعتراف بالنظم الحاکمة

إنَّ أوضح وأهمّ تدخّل فی الشؤون الداخلیّة للبلدان المختلفة یعتبر الیوم أکثر الأعمال السیاسیّة للدول الکبری شرعیّة وبساطة ، فالتدخّل لفرض وترسیخ قواعد النظم العمیلة وغیر الشعبیّة علی الشعوب ، وسحق مطالب الأکثریّة ، وإضفاء طابع الشرعیّة علی الحکومات المفروضة ، کلّ ذلک یعتبر من أکثر السیاسات التدخّلیّة تجنیّا وانتهاکا ، وهو الیوم جزء من سیاسات التسلّط والاستکبار .

إنَّ النظام الدولی المعاصر لا یهتمّ بإرادة الشعوب واستقلالها وسیادتها عندما یمنح هذه النظم العمیلة والمفروضة وغیر الشعبیّة شخصیّة حقوقیّة ، ویعتبر کلّ مساعدة لهذه

الشعوب الأسیرة والمستعبدة تدخّلاً فی الشؤون الداخلیّة للبلدان . ویطلق علی هذا الأُسلوب التدخّلی عرفا دولیّا ، والمبادئ المرتکزة علیه قانونا دولیّا .

ولا یتجسّد الاعتداء علی حقوق الشعوب فی الهجوم العسکری أو دعم المجموعات الفدائیّة المقاتلة فحسب ، إذ إنَّ سحق آمال الشعب وعدم احترام رأیه ، وفرض الأقلّیّة

علیه ، کلّ ذلک یعتبر من أفظع أسالیب التدخّل فی الشؤون الداخلیّة لذلک الشعب .

کما أنَّ کلّ مؤامرة للإطاحة بالحکومات الشعبیّة والثوریّة ، لعدم سیرها فی رکاب المتآمرین ، ولتضارب مصالحها ، إهانة کبیرة لحرّیّة الشعوب واستقلالها ، وتدخّل سافر فی شؤونها الخاصّة بها .

والشیء العُجاب هو أنَّ النظام الدولی المعاصر یعتبر دعم الحرکات التحرّریّة ، والنشاطات الثقافیّة لبثّ الدعوة الإسلامیّة وتعمیقها بین الشعوب الإسلامیّة المستضعفة

تدخّلاً . بید أنَّ تثبیت ودعم حکومات غاصبة محتلّة کإسرائیل ، وکذلک دعم حکومات عمیلة ومفروضة وقمعیّة کحکومة جنوب إفریقیة لا یعدّ تدخّلاً عنده !

التدخلّ من منظار الإسلام

یری الإسلام أنَّ السیاسة الاستکباریّة السلطویّة هی العامل الأساس للتدخّل العدوانی ، ولذلک یصرّ علی محق هذه السیاسة بوصفه السبیل الوحید لقطع دابر التدخّل فی الشؤون الداخلیّة للشعوب .

ص: 433

وقد تحدّثنا فی الماضی حدیثا وافیا عن هذا الموضوع فی مبحث الأمن الجماعی ، إلاّ أنَّ الجدیر ذکره هنا هو أنَّ الشعوب محرومة من حقوقها الأوّلیّة فی حقل التمتّع بالحرّیّة ، والاستقلال ، والسیادة علی مصیرها ما دامت خاضعة لنیر التسلّط الأجنبی . فالحدیث عن منع التدخّل عقیم لا جدوی فیه .

ونلاحظ أنَّ القرآن الکریم یلغی القسر بوصفه الخمیرة الجوهریّة للتدخّل ، قال عزّ من قائل : « لاَ اِکْرَاهَ فِی الدّینِ » (1) ، ویعتبر حبّ التسلّط مرفوضا بوصفه أساسا للتدخّل ، قال جلّ شأنه : « لَنْ یَجْعَلَ اللّه ُ لِلْکَافِرینَ عَلَی الْمُؤْمِنینَ سَبیلاً » (2) . ویحظر أیّ لون من ألوان السیطرة التی تسبّب قدحا فی الإرادة البشریّة ، قال تعالی : « لَسْتَ عَلَیْهِمْ بِمُصَیْطِرٍ » (3) ، وینهی عن التجبّر فی قوله : «وَ مَا اَ نْتَ عَلَیْهِمْ بِجَبَّارٍ » (4) ، ولا یرضی بصنع القرار بدل الآخرین : « وَمَا اَ نْتَ عَلَیْهِمْ بِوَکیلٍ » (5) ، ویرفض التدخّل فی الشؤون الخاصّة للآخرین بذریعة الحفاظ علیهم ، قال تبارک اسمه : « مَا اَنَا عَلَیْکُمْ بِحَفیظٍ » (6) .

وقال أمیر المؤمنین علیّ بن أبی طالب علیه السلام : وإنَّ العامّة لم تبایعنی لسلطان غالب ولا لعرض حاضر(7) .

ویعتبر الترهیب والترغیب ، والخوف والرجاء - عادة - وسائل تشکّل ضغطا علی الناس بشکل خفیّ ، وتستلزم شیئا من النفوذ والتدخّل فی إرادتهم الحرّة . ومن هذا المنطلق ، یلغی الإمام أمیر المؤمنین علیه السلام القدرة ( الخوف ) والمکافأة ( الطمع ) أداتین لقبول حکومته من قبل الناس ، ویؤکّد فی موضع آخر من نهج البلاغة فیقول : وبایعنی الناس غیر مستکرهین ولا مجبرین بل طائعین مخیّرین(8) .

ص:434


1- البقرة : 256 .
2- النساء : 141 .
3- الغاشیة : 22 .
4- ق : 45 .
5- الأنعام : 107 .
6- هود : 86 .
7- « نهج البلاغة » الرسالة الرابعة والخمسون .
8- نفسه ، الرسالة الأُولی .
الدعوة لیست تدخّلاً

یری القرآن أنَّ الدعوة حقّ الدین الحقیقی للحیاة مترافقة مع الوعی والرقیّ الإنسانی

. وقد أعطی الذین أدرکوا هذا الدین ، الحقّ فی دعوة الآخرین وجمیع الشعوب إلی ذلک الدین .

وما دامت تلک الدعوة مرتکزة علی الاستدلال والنصح والامتناع ، فإنَّ القرآن الکریم ینظر إلیها علی أ نّها أمر منطقیّ ومنسجم مع مبدأ الحرّیّة والاختیار ، ولا یعتبرها تدخّلاً فی الشؤون الخاصّة للآخرین . قال عزّ من قائل : « اُدْعُ اِلی سَبیلِ رَبِّکَ بِاص لْحِکْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جَادِلْهُمْ بِاص لَّتی هِیَ اَحْسَنُ » (1) .

ذلک لأنَّ التربیة والتعلیم حقّ لکلّ إنسان ، فیقبلهما ویربّی الآخرین ویعلّمهم أیضا

. وهذا العملان لا یعتبران تدخّلاً ما داما مصحوبین بالقبول الطوعی . کما أ نّهما لا یعتبران - مبدئیّا - من القضایا الخصوصیّة فی حیاة الفرد والمجتمع .

وینبغی أن یُهدَی الإنسان إلی الصراط السویّ فی الحیاة ، کما ینبغی أن یطلب العلم ، ویتمتّع بالوعی والتربیة ، وکلّ من کان قادرا فإنَّه یقدّم له العون فی هذا المجال .

دعم الحرکات التحرّریّة لیس تدخّلاً

کلّ إنسان ینبغی أن یعیش حرّا ومستقلاًّ ، ومن حقّ کلّ إنسان أن یتحرّر من تسلّط القوی المفروضة ونفوذها وأسرها ، ویتخلّص من الظلم . وکلّ دعم للحرکات التحرّریّة یعتبر نوعا من التعاون القیّم للتمتّع بالحقوق الإنسانیّة .

من هذا المنطلق ، لا یتسنّی لنا أن نعتبر دعم الحرکات التحرّریّة تدخّلاً فی الشؤون الداخلیّة للدولة الأُخری ، فالقضایا الإنسانیّة بخاصّة المتعلّقة بالواجبات البشریّة خارجة عن نطاق القضایا الخاصّة .

صدّ الاعتداء لیس تدخّلاً

یری الإسلام أن صدّ الاعتداء واجب عامّ ، وأنَّ دعم المظلوم فی التنازع جزء من

ص:435


1- النحل : 125 .

المسؤولیّات الإنسانیّة العامّة ، ذلک لأنَّ صدّ الاعتداء وقمع المعتدی هما بمثابة الدعم

والمؤازرة فی رفع الحاجات البشریّة بالنسبة إلی کلّ طرف من أطراف النزاع .

ولیس للطرفین المتنازعین أن یعترضا علی الدعم الذی تقدّمه دولة ثالثة لأیّ منهما فی مجال الصحّة ، والعلاج ، والحاجات الغذائیّة ، والتربیة والتعلیم ، وغیرها من الحاجات

الإنسانیّة الأُخری . وما صدّ الاعتداء وقمع المعتدی إلاّ من هذا القبیل . قال جلّ من قائل : « فَاِنْ بَغَتْ اِحْدیهُمَا عَلَی الاُْخْری فَقَاتِلُوا الَّتی تَبْغی حَتّی تَفیءَ اِلی اَمْرِ اللّه ِ » (1) .

7 - مبدأ المقابلة بالمثل
اشارة

یمکن أن نعتبر حقّ المقابلة بالمثل ردّ فعل منطقیّ ومنصف وعادل ، وذلک للأسباب الآتیة :

1 - المقابلة بالمثل عادلة ومنطقیّة لأ نّها تمثّل نوعا من عقوبة المعتدی .

2 - المقابلة بالمثل هی السبیل الوحید لقطع دابر الاعتداء .

3 - المقابلة بالمثل نوع من الدفاع الشرعی .

4 - المسؤولیّة المنبثقة عن المقابلة بالمثل تقع علی عاتق المبتدئ .

وعلی الرغم من أ نّنا یمکن أن نسجّل مؤاخذة علی بعض هذه الأسباب ، غیر أ نّها لا تنکر إجمالاً إذ إنَّ المقابلة بالمثل سلوک فی حدود العرف والعادة فی العلاقات الاجتماعیّة . وتنشأ مراعاة التناسب بین الجریمة والعقوبة فی الحقیقة من مبدأ المقابلة بالمثل .

وهذه القاعدة العرفیّة فی العلاقات بین الشعوب أعمق جذورا من دورها فی العلاقات الاجتماعیّة التی تسود مجتمعا ما ، ذلک لأنَّ القاعدة العرفیّة المتجسّدة فی المقابلة بالمثل تتّخذ فی کثیر من الحالات طابع العقوبات القانونیّة وتفقد صفتها کقاعدة عرفیّة ، ولکن لمّا

لم تکن هناک عقوبات محدّدة تحلّ محلّ هذه القاعدة فی العلاقات الدولیّة ، لذلک احتفظت هذه القاعدة باعتبارها فی المجتمع الدولی .

ویرتکز الدفاع الشرعی کحقّ معترف به علی أساس المقابلة بالمثل . من هذا المنطلق

ص:436


1- الحجرات : 9 .

فإنَّ سلب حقّ المقابلة بالمثل یعتبر إلغاءً لحقّ الدفاع الشرعی فی کثیر من الحالات .

مبدأ المقابلة بالمثل فی الإسلام

یلاحظ فی القرآن الکریم نوعان من التعامل مع مبدأ المقابلة بالمثل :

1 - المقابلة بالمثل فی الحقیقة أُسلوب مماثل یدفع المظلوم إلی القیام بعمل یعدّ الشروع

به ظلما ، ویظهر الظالم والمظلوم فیه علی حدّ سواء . قال تعالی : « وَلاَ یَجْرِمَنَّکُمْ شَنَانُ قَوْمٍ عَلی اَلاَّ تَعْدِلُوا اِعْدِلُوا هُوَ اَقْرَبُ لِلتَّقْوی » (1) .

فالمقابلة بالمثل فی هذا العرض القرآنی یعتبر نوعا من الظلم فی مواجهة الظلم ، وقد حظره القرآن الکریم ونهی عنه بکلّ صراحة .

ولا

شکّ أ نّنا لا یمکن أن نعتبر الظلم مقابلة بالمثل حیال العدالة . ولو أقررنا بالمقابلة

بالمثل أمام الظلم ، فلا محالة أنَّ مصداق المقابلة بالمثل فی هذه الحالة سیکون أُسلوبا جائرا . أمّا هذا الظلم فإنّه عادل لأ نَّه یمارس ضدّ الظلم أیضا .

2 - الاعتداء فی مواجهة الاعتداء هو فی الحقیقة نوع من الدفاع فی مقابل الظلم . ومع أنَّ المقابلة بالمثل فی مواجهة الاعتداء لیست أکثر من اعتداء کما یبدو ، غیر أ نّها لمّا کانت دفاعا شرعیّا ، فإنَّ نوعا من التماثل الظاهری یسودهما ، ویستبین فی آخر نظرة أنَّ

الاعتداء الذی یمارس بوصفه مقابلة بالمثل لا یعتبر ظلما واعتداءً غیر شرعی ، بل هو

أُسلوب لمحق الاعتداء . قال تعالی : « فَمَنِ اعْتَدی عَلَیْکُمْ فَاص عْتَدُوا عَلَیْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدی عَلَیْکُمْ» (2) .

ویمکننا أن نفهم الجمع بین الآیتین المذکورتین من خلال التمعّن فی مفهومهما ، ذلک لأنَّ الذی أُلغی فی الآیة الأُولی هو الظلم فی مقابل الظلم ، بید أنَّ المقابلة بالمثل لیست ظلما أبدا . ولو أُطلق علی الدفاع العادل فی مواجهة الظلم : مقابلة بالمثل ، فإنَّ التشابه بینهما صوریّ .

ویمکن أن نقول - من خلال هذا التوضیح - إنَّ القرآن الکریم قد أیّد مبدأ المقابلة بالمثل بوصفه أُسلوبا عادلاً فی مواجهة الظلم .

ص:437


1- المائدة : 8 ؛ وجاء أیضا : « وَلاَ یَجْرِمَنَّکُمْ شَنَانُ قَوْمٍ اَنْ صَدُّوکُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ اَنْ تَعْتَدُوا » - المائدة : 2 .
2- البقرة : 194 .

ونستطیع أن نلمس مفاد المقابلة بالمثل فی عقوبة القصاص أیضا ، ذلک لأنَّ القصاص قام علی أساس المقابلة بالمثل . وقوله تعالی : « فَاص عْتَدُوا عَلَیْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدی عَلَیْکُمْ » تتمّة للآیة الخاصّة بالقصاص : « وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدی عَلَیْکُمْ فَاص عْتَدُوا عَلَیْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدی عَلَیْکُمْ » .

وجاء فی آیة أُخری حول القصاص : « وَکَتَبْنَا عَلَیْهِمْ فیهَا اَنَّ النَّفْسَ بِاص لنَّفْسِ وَالْعَیْنَ بِاص لْعَیْنِ وَالاَْنْفَ بِاص لاَْنْفِ وَالاُْذُنَ بِاص لاُْذُنِ وَالسِّنَّ بِاص لسِّنِّ وَالْجُرُوحَ

قِصَاصٌ » (1) .

إنَّ المماثلة ومراعاة التساوی بین الاعتداء والدفاع ، حیث تمثّلان نوعا من العدالة تقومان علی أساس شرعیّة المقابلة بالمثل . وکلّ نوع من أنواع التخطّی لهذا الشرط سیؤدّی

إلی أن یکون ردّ الفعل فی مقابل الظلم مصداقا للظلم نفسه ، والمبدأ القرآنی « لاَ تَعْتَدُوا » (2) سیسود المقابلة بالمثل دائما

.

8 - مبدأ لزوم المعاهدات الدولیّة
اشارة

تعتبر المعاهدة من أقدم الأسالیب العرفیّة والقواعد القانونیّة لتنظیم العلاقات الاجتماعیّة . ولها حرمتها فی کافّة النظم القانونیّة فی العالم سواءً النظم المتوکّئة علی الوحی . أو علی المبادئ الوضعیّة .

وعلی الرغم من أنَّ مفردات من قبیل : المعاهدة ، والحلف ، والوفاق ، والعقد ، والعهد ، والاتّفاقیّة ، والمیثاق تبدو مترادفة من الوجهة اللغویّة ، إلاّ أ نّها تتغایر من الوجهة الاصطلاحیّة ، فالعقد یستعمل عادة فی العقود المعیّنة ، والمعاهدة فی العقود غیر المعیّنة(3) ، والحلف والاتّفاقیّة والمعاهدة ، والمیثاق تستعمل فی المعاهدات الدولیّة(4) ، والعهد یستعمل فی المفهوم الاقتصادی بالمعنی العامّ ، وبمعنی المعاملة .

ص: 438


1- المائدة : 45 .
2- البقرة : 190 .
3- «القانون المدنی» ( القواعد العامّة للعقود ) [ فارسی ] للدکتور کاتوزیان ، ص 13 ؛ « القانون المدنی » للدکتور إمامی 1 : 159 .
4- « المصطلحات القانونیّة » کلمة الحلف ، والعقد .

وکذلک تطلق مفردات من قبیل المقاولة ، والاتّفاق ، والعقد لتعنی عادة أنَّ وفاقا قد حصل بین طرفی العقد أو أطرافه لإجراء العقد(1) ، وینشأ الوفاق من التنسیق بین المطالب الحقیقیّة للأطراف المعنیّة .

تعریف العقد

عرّف الفقهاء العقد بأشکال متنوّعة :

1 - قول من المتعاقدین ، أو قول من أحدهما ، وفعل من الآخر رتّب الشارع الأثر المقصود علیه(2) .

2 - ارتباط الإیجاب بالقبول بنحو أثبت الشرع أثره فی موضوعه(3) .

3 - تعلّق کلام طرف العقد علی الطرف الآخر بشکل یظهر أثره فی موضوعه شرعا (4) .

نجد أنَّ هذه التعاریف التی جاء فیها العقد بالمعنی السببی وبمفهوم الوسیلة قد أخذت بعین الاعتبار إبراز إرادة الطرفین وسبب إیجاد الأثر الذی یهتمّ به طرفا العقد ، واعتبرت

العناصر الآتیة مؤثّرة فی تبلوره :

1 - اتّفاق الطرفین فی العقد وتراضیهما حول مفاد العقد وأثره .

2 - تعهّد الطرفین بالنسبة إلی مفاد العقد وأثره .

3 - الکلام أو السلوک الذی یظهر الاتّفاق والالتزام بواسطته .

4 - تأیید الشرع الذی یرتّب المفاد والآثار المتّفق علیها علی کلام الطرفین أو سلوکهما .

وعرّف علماء القانون العقد فی القانون المدنی کما یلی :

1 - اتّفاق الطرفین علی إیجاد الأثر القانونی عن طریق إیجاد الالتزام ، أو النقل ، أو

ص: 439


1- « الوسیط فی شرح القانون المدنی » للسمنهوری 1 : 136 .
2- « جواهر الکلام » 22 : 36 .
3- « الفقه الإسلامیّ وأدلّته » 4 : 81 .
4- ( ) نفسه .

التعدیل

، أو إنهائه(1) .

2 - العقد عبارة عن اتّفاق یستدعی الالتزام ویفرض حقّا علی أحد الأشخاص(2) .

3 - العقد نوع خاصّ من الاتّفاق یلتزم بموجبه أحد الأطراف أو عدد منهم بنقل المال ، أو القیام بعمل ما أو عدم القیام به فی مقابل الطرف الآخر أو الأطراف الأُخری(3) .

4 - توافق الإرادة بین شخصین أو أکثر ویتحقّق من أجل إیجاد الآثار القانونیّة(4) .

5 - العقد هو الاضطلاع بأمر قابل للتنفیذ فی القانون بشکل مباشر أو بالواسطة(5) .

وبالموازنة بین تعاریف الفقهاء وتعاریف علماء القانون تستبین لنا النقاط الآتیة التی تدلّ علی میزة تعاریف الفقهاء :

1 - العقد لیس توافقا لإرادة طرفیه فحسب ، بل هو عبارة عن رابطة خاصّة تثبت فی نطاق الفقه بواسطة الشرع ، ویتّخذ مفادها وآثارها طابعا شرعیّا ، أو أ نّها تصبح ذات

اعتبار فی حقل القانون الوضعی بواسطة الجهاز التشریعی .

2 - التوافق فی المصطلح القانونی أعمّ من العقد ، ذلک لأ نّه لیس کلّ توافق عقدا . فالتوافق علی تشکیل منظّمة أو نظام اجتماعی - مثلاً - لیس عقدا . ویطلق العقد عادة علی

التوافق الذی یأتی بعد تعارض بین مصلحتین ، وله بُعد مالیّ بصورة رئیسة . من هذا المنطلق نلاحظ أنَّ العقد فی القانون المدنی لا یطلق علی المعاهدات الدولیّة ، والتمثیل

السیاسی ، وقبول المسؤولیّات الحکومیّة ، وقبول التبنّی ، وأمثال ذلک (6) .

بینما نلاحظ فی ضوء التعریف الفقهی للعقد أنَّ الزواج یسمّی عقدا ، وکذلک إسلام الکافر یسمّی عقدا . ویطلق العقد علی المعاهدات الدولیّة وعلی کلّ التزام متبادل علی شکل معاهدة بین طرفین أو أکثر .

وأطلق الفقهاء عنوان العقد حتّی علی اتّفاقات من قبیل الودیعة ، والعاریة التی لیس

ص:440


1- إیجاد الالتزام مثل : البیع والاجارة ، والنقل مثل : الحوالة ، والتعدیل مثل : تأجیل الدین ، والإنهاء مثل : التطبیق والفسخ ( « الوسیط فی شرح القانون المدنی » 1 : 137 ؛ « الفقه الإسلامیّ وأدلّته » 4 : 81 ) .
2- « القانون المدنی » ( القواعد العامّة للعقود ) [ فارسی ] للدکتور کاتوزیان ، ص 19 .
3- نفسه ص 20 .
4- نفسه ص 24 .
5- نفسه ص 30 .
6- « الوسیط فی شرح القانون المدنی » 1 : 139 ؛ « القانون المدنی » ( القواعد العامّة للعقود ) ص 26 .

فیها أیّ تعهّد والتزام ، وهی تحمل مفهوم الإباحة فحسب . وذکروها تحت عنوان : العقود

الإذنیّة(1) .

3 - جاء العقد فی التعریف القانونی ملازما أو مرادفا للالتزام ، بینما هو لیس کذلک فی

التعریف الفقهی ، ویمکن أن یقرّ العقد حقّا بدل الالتزام ، أو یکون سببا فی إیجاد الملکیّة .

4 - الالتزام لا یعنی العقد ، بل هو ینشأ من العقد بمعنی الإیجاب والقبول ، بینما نجد فی ضوء التعریف القانونی أنَّ الالتزام ینشأ من التوافق .

5 - نلاحظ فی التعریف الفقهی اهتماما تامّا بالوسیلة التی ظهر التوافق والالتزام بسببها ، بینما لا نلاحظ فی التعریف القانونی أیّ إشارة إلی ذلک .

ومن البدیهی أنَّ لحجم التوافق والتعهّد ارتباطا تامّا بحجم الدلالة وکشف الوسیلة المؤدیّة إلی إظهار التوافق .

علی الرغم من أنَّ نظریّة العلاقات الشخصیّة تری أنَّ العقد ناتج عن إرادة الطرفین وحکم الإرادة والطلب الباطنی للمتعاقدین ، وتجعل الإرادة الحقیقیّة للطرفین ملاکا للعقد

علی أساس الفلسفة الفردیّة واللیبرالیّة . ومن خلال تأصیل الإرادة الباطنیّة لطرفی العقد ، فإنّها تری أنَّ عبارة العقد معتبرة من حیث إنّها کاشفة عن الإرادة الباطنیّة للمتعاقدین . وفی ضوء هذه النظریّة ، فإنَّ تفسیر العقد ینبغی أن یتحقّق علی أساس الأهداف الحقیقیّة

للمتعاقدین .

ومن جهة أُخری ، فإنَّ النظریّة القائلة باجتماعیّة العقد ، فیما تری أنَّ إلزامیّة العقد ناتجة عن ضرورة إقرار النظم فی الحیاة الاجتماعیّة ، تتوکّأ علی طبیعة الإعلان عن الإرادة بدل الإرادة الباطنیّة ، وتجعل التعبیر المادّی للعقد - أی : ألفاظه - ملاکا للعمل ، وتعتبر ألفاظ العقد تجلّیا للإرادة فی ظاهرها الاجتماعی(2) .

وفی الوقت الذی نری فیه أنَّ مفهوم العقود تابعة للقصود(3) مستتر وفقا للتعریف

الفقهی ، إلاّ أنَّ الملاک فی تشخیص القصد الحقیقی هو المفهوم العرفی للألفاظ والتعابیر

ص: 441


1- « منیة الطالب » تقریرات المرحوم النائینی ، بقلم الشیخ موسی الخوانساری ، ص 23 .
2- « الوسیط فی شرح القانون المدنی » 1 : 140 و 180 .
3- « عوائد الأیّام » ص 52 .

المستخدمة فی نصوص العقد . إنَّما یحلّل ویحرّم الکلام(1) .

6 - فی ضوء التعریف الفقهی ، فإنَّ الدلیل علی أنَّ آثار العقد تترتّب علیه لیس إلاّ

شرعیّته المکتسبة عن طریق الوحی والقانون الإلهی ، بینما نجد أنَّ التعریف القانونی

لا یشیر إلی هذه النقطة ، ویعتبر توافق الطرفین دلیلاً علی شرعیّة الآثار القانونیّة للعقد .

7 - بالنسبة إلی التعریف الفقهی ، فإنَّ طرفی العقد ینشآن أثر العقد ، أمّا التعریف

القانونی فإنَّه یجعل التعهّد ناشئا عن توافق المتعاقدین .

8 - فی ضوء المصطلح الفقهی ، فإنَّ کلّ عقد یعتبر عهدا مع اللّه . وتنبثق إلزامیّة العقد

عن هذا العنصر الإلهی ، بینما نجد فی التعریف القانونی أنَّ المصلحة وإرادة الطرفین أو النظم العامّ ومصلحة المجتمع هما الباعثان علی إلزامیّة العقد .

المعاهدة الدولیّة

تطلق المعاهدة الدولیّة علی العقد الذی یتألّف أطرافه من دولتین أو أکثر . وموضوعها القواعد العامّة للقانون الدولی أو المقرّرات المتعلّقة بالموضوعات الخاصّة فی العلاقات الدولیّة .

وعرّفت لجنة القانون الدولی فی المشروع المتعلّق بقانون المعاهدات المؤرّخ فی سنة 1962م المعاهدة کما یلی : کلّ توافق دولی مدوّن ومذکور فی سند أو سندین أو عدّة أسناد

ملحقة . وینعقد بین دولتین أو أکثر ویحوم حول عدد من موضوعات القانون الدولیّ ، والقانون الدولیّ یهیمن علیه . وقد أقرّته اللجنة بوصفه معاهدة دون الالتفات إلی اسمه

الخاصّ ( المعاهدة ، المیثاق ، البروتوکول ، الإعلان ، الاتّفاقیّة ، التبادل ، المذکّرة وغیرها من هذه الأسماء ) (2) .

ویمکن أن نعرّف المعاهدات الدولیّة کالآتی :

المعاهدة الدولیّة توافق یعقد بین موضوعات القانون الدولیّ أو أشخاصه وتترتّب علیه آثار قانونیّة .

ص:442


1- هذه الفقرة جزء من روایة . « جواهر الکلام » 22 : 217 .
2- « القانون الدولیّ العامّ » [ فارسی ] للدکتور ضیائی بیگدلی ، ص 97 .

وتبوّب المعاهدات الدولیّة من حیث الهدف ، وأُسلوب التطبیق ، وزمن الانعقاد ، وحدود النطاق التنفیذی . ویمکن تقسیم المعاهدات أیضا من حیث الطبیعة والشکل إلی ما

یلی :

1 - المعاهدات والمواثیق القانونیّة الشاملة للقواعد الأساسیّة ، وهی تعتبر فی حکم القوانین الدولیّة بحیث إنَّ مراعاتها لازمة لکلّ الحکومات سواء المتعاهدة منها أو غیر

المتعاهدة . وهدف هذا الضرب من المعاهدات هو تدوین القواعد العامّة وغیر المحدّدة

، مثل : میثاق عصبة الأُمم ، ومیثاق الأُمم المتّحدة ، ومعاهدة فینّا بشأن قانون المعاهدات .

2 - المعاهدات العرفیّة المعقودة بین حکومتین أو عدد من الحکومات المعیّنة ، حیث تواکب أهدافا خاصّة . وهذا النوع من المعاهدات واجب التطبیق ، وله اعتباره بالنسبة إلی الدول الموقّعة علیه فحسب ، والنطاق التنفیذی له محدود بوضع قانونیّ خاصّ (1) .

وتنجز المعاهدات الدولیّة عادة فی ظروف ومراسیم خاصّة ، وهی : مفاوضات الجهات المختصّة فی الأقطار المتعاهدة ، تدوین المعاهدة وتوقیعها ، المصادقة علیها

ومبادلتها ، ضبط المعاهدات الدولیّة ونشرها .

وتتألّف المعاهدات من حیث الشکل من مقدّمة ونصّ ، وتذکر فی المقدّمة أسماء الأقطار المتعاقدة أو رؤساء الأقطار المتعاهدة وممثّلیهم المفوّضین ، یتلو ذلک موضوع

المعاهدة ، والأسباب التی أدّت إلی انعقادها ، والأهداف التی یرمی إلیها الطرفان من وراء انعقادها . وتذکر فی النصّ موادّ مختلفة یتّفق علیها الطرفان . ویطلق علی الملحقات التی

تضاف إلی النصّ أحیانا عنوان البروتوکول الملحق والأسناد المرفقة(2) .

وتتمتّع المعاهدات الدولیّة بقدرة قانونیّة ، وتستوعب آثارها القانونیّة وفقا لموضوعها کافّة المناطق الخاضعة لنفوذ الأقطار الموقّعة . ویمکن أن تسری آثارها أیضا إلی قطر ثالث(3) .

وتتفاوت صلاحیّة المتعاهدین فی البلدان البسیطة والفیدرالیّة من منظار القانون الدولیّ . والجهة المسؤولة عن انعقاد المعاهدات الدولیّة من منظار القانون الأساسی للأقطار

ص: 443


1- « القانون الدولیّ العامّ » [ فارسی ] للدکتور ضیاء بیگدلی ، ص 100 .
2- « القانون الدولیّ العامّ » [ فارسی ] للدکتور محمّد صفدری 1 : 181 .
3- « القانون الدولیّ العام » [ فارسی ] للدکتور ضیائی بیگدلی ، ص 116 .

المختلفة أیضا هی السلطة التنفیذیّة حینا ، والسلطة التشریعیّة حینا آخر ، ومسؤول مشترک من السلطتین حینا ثالثا .

القیمة القانونیّة للمعاهدات

لا شکّ أنَّ مبدأ « قبول الالتزامات » أساس الحیاة الاجتماعیّة . ومتی اعتبرنا رکون الإنسان إلی الحیاة الاجتماعیّة انشدادا فطریّا لا إرادیّا ، فینبغی أن ننظر إلی « قبول الالتزامات » کمبدأ فطریّ لا مناص منه .

وهذا المبدأ الفطریّ هو الذی یتجلّی فی الحیاة الفردیّة علی شکل التزام ببرنامج ونظم وقیود فردیّة ، ویظهر متطبّعا بطابع قبول الحقائق العلمیّة البیّنة علی صعید الکون . أمّا علی صعید الإذعان والاعتراف بخالق الکون ، فإنَّه یظهر علی شکل إیمان والتزامات دینیّة

.

وکذلک فی الحیاة الاجتماعیّة فإنَّ الالتزام بالقانون واحترام المقرّرات الاجتماعیّة علی صعید العلاقات القائمة بین الناس ، والمشارکة فی المعاهدات الدولیّة والتمسّک بمثل هذه المقرّرات علی صعید العلاقات الدولیّة ، کلّ أُولئک من مظاهر مبدأ قبول الالتزامات .

ومن هذا المنطلق ینبغی أن نعتبر جذر « الجنوح إلی العهود » و « احترام العهود والوفاء بها » واحدا . ومن خلال الإقرار بفطریّة حسّ الجنوح إلی العهود ، نعتبر مبدأ

الوفاء بالعهد أیضا من عواطف الإنسان الفطریّة الراقیة .

وبالنظر إلی هذه المبادئ والجذور الفطریّة ، یمکن أن نقف علی قیمة العهود والمعاهدات ، وکذلک ضرورتهاالإنسانیّة والفطریّة فی أرجاء الحیاة الإنسانیّة ، وبخاصّة فی الحیاة الاجتماعیّة وفی المجتمع البشری الکبیر علی صعید العلاقات الدولیّة ، ولمّا کانت الحیاة الإنسانیّة الحقیقیّة والخاصّة لابدّ أن تقوم علی أساس المبادئ والمیول الفطریّة

ومتطلّبات الطبیعة الإنسانیّة الخاصّة ، وأنَّ الخلل فی هذه المبادئ والمیول مصحوب بالخلل فی الحیاة الإنسانیّة الخاصّة ، فلا محالة أنَّ الحیاة الدولیّة أیضا فی المجتمع البشری الکبیر لا یمکن أن تتحقّق بشکل لائق ومنسجم مع الفطرة والمیل الطبیعی فی الإنسان ما لم تقم

علی أساس العهود والمعاهدات الدولیّة .

وبالتغاضی عن الجذور الفطریّة لمبدأ « ضرورة قبول الالتزامات » فإنَّ دراسة

ص: 444

الظروف الحیاتیّة للشعوب والتطوّرات التی یمکن أن تعرّض المصالح وأحیانا کیان الشعوب إلی التبدّل فی الحیاة الدولیّة فی ظروف مختلفة ، توضّح الضرورة العقلیّة والمنطقیّة والحیاتیّة لقبول الالتزامات والمعاهدات الدولیّة جیّدا .

ومن الوضوح بمکان أنَّ استخدام القوّة لحفظ المصالح الوطنیّة والقومیّة والحصول علی المنافع المطلوبة متعذّر فی کلّ ظرف ، وإذا ما تغاضینا عن المشاکل الناجمة عن مبدأ تولّی السلطة وممارستها ، فلا یمکننا أن نتغافل عن هذه السنّة والحقیقة ، وهی أنَّ کلّ قدرة سیؤول أمرها إلی الاصطدام بقدرة أُخری ممّا یسفر عن محقها .

من هذا المنطلق ، یمکن أن تعتبر التوجّه إلی الالتزامات وقبول المعاهدات الدولیّة أفضل طریق لحفظ مصالح الشعوب وحقوقها ، وضرورة یستدعیها العقل والمنطق فی الحیاة الدولیّة .

یضاف إلی ذلک أنَّ السلم والتعایش من أقدس الأهداف البشریّة ، ولا ریب أ نّهما من المطالب الفکریّة والحیویّة التی لا تنکر . ولا یمکن العثور علی وسیلة أهمّ وأعمق وأکثر

تأثیرا من مبدأ قبول الالتزامات وانعقاد المعاهدات الدولیّة لإقرار السلم والتعایش وترسیخهما .

وتعتبر المعاهدات الدولیّة أفضل کافل لحقوق الشعوب ومصالحها ، وأقوی ضامن لاستقرار السلم وبقائه ، وأهمّ باعث علی التفاهم والوفاق فی حیاة المجتمع البشری الکبیر .

ومن البدیهی أنَّ السلم یمکن أن یبسط أجنحته علی علاقات الشعوب بشکل قانونیّ إلزامی عندما یتمکّن من قلوب الناس ومشاعرهم المعنویّة عبر العهود والأحلاف ، وینفذ

إلی الأعماق کسائر المسؤولیّات المعنویّة أو المبادئ الأخلاقیّة والمیول الفطریّة للشعوب . ویمکن القول بکلّ جرأة إنَّ البشریّة لن تری وجه السلم أبدا إلاّ أن تقیّد مطامعها وحبّها للجاه ومصلحیّتها فی إطار العهود والأحلاف .

المصدر القانونی الوحید

نجد فی البحوث القانونیّة عادة أنَّ أهل الاختصاص یناقشون مبدأ « العرف الدولی » و « القانون الوضعی » إلی جانب المعاهدات الدولیّة بوصفها المصادر الثلاثة للقانون

ص: 445

الدولی

.

ولعلّ لعلماء القانون أسبابا فی تکثیر المصادر القانونیّة ، إلاّ أنَّ الذی یمکننا أن نعتبره

أمرا مقطوعا به من خلال التعمّق فی طبیعة المبادئ المذکورة هو وحدة المصدر الذی یستقی

منه القانون الدولیّ ورجوع المبادئ المذکورة إلی مبدأ واحد . ولا یمکن أن یکون هذا المبدأ الأساس شیئا غیر العهد والمعاهدة .

وإذا رمنا مراعاة الدقّة فی تحرّی جذر العرف والآداب الدولیّة والعوامل التی أدّت إلی ظهور المبادئ الأساسیّة وشیوعها ، فسنجد أنَّ أوّل شکل للعرف والآداب المذکورة تجلّی

فی معاهدة محدودة تعهّد الأفراد أو الجماعات بمراعاتها ، ثمّ أذعنت مجموعات أُخری لمراعاتها بالتدریج نتیجة لاشتراک المصالح أو الحاجة التی شعرت بها حیال المعاهدة فی

علاقاتها . وفی ضوء هذا المبدأ وسّعت العهود والالتزامات المتعاقبة النطاق الخاصّ بنفوذ

المعاهدات المذکورة ، وأخیرا اتّخذت هذه المعاهدات طابع العرف والآداب الدولیّة

.

وینبغی الالتفات أیضا إلی هذه النقطة المتجسّدة فی السؤال الآتی : لماذا ألزمت الشعوب نفسها بمراعاة مبادئ ومتطلّبات العرف والآداب الدولیّة فی الساحة الدولیّة

؟

وهل هذا الإلزام قائم حتّی عند عدم مراعاة المبادئ المذکورة من قبل الحکومات الأُخری ؟ وما هی فلسفة مبدأ المقابلة بالمثل فی مثل هذه الحالات ؟

إنَّ الجواب علی هذه الأسئلة لیس إلاّ کون قبول القواعد المرتکزة علی العرف والآداب الدولیّة یسری إلی الشعوب الأُخری لا محالة بسبب تعهّد ضمنی والتزام بما التزم

به الأکثریّة . وتصبح لها قیمة واحترام مفروض کسائر المبادئ الأخلاقیّة وشؤون الحیاة

الاجتماعیّة الأُخری . بید أنَّ الجدیر ذکره أنَّ هذا القبول - مع بُعدیه الضمنی والقسری - لا یفقد طابعه التعاقدی ، ولا ینفصل عن بعده الالتزامی .

وفی المقارنة بین هذین المصدرین القانونیّین لتمییزهما ، صرّح بعض علماء القانون بما یلی لتوضیح أیّهما یحظی بأهمیّة أکبر فی القضایا الدولیّة :

علی الرغم من أنَّ العرف والآداب الدولیّة غیر مدوّنة ، إلاّ أ نّها تتمیّز علی المصادر

القانونیّة الأُخری بقدمها وعمومیّتها ؛ بینما نجد أنَّ المعاهدات مجرّدة من هذین العنصرین ، ولذلک لا یمکن اعتبارها ملزمة بنحو مطلق وعامّ .

ص: 446

ومن هذا المنطلق یفضّل عالم القانون الشهیر جورج سل ، وعالم القانون الأمیرکی البروفسور الوارز - وفقا لما تقدّم - العرف والآداب الدولیّة فی حلّ الخلافات الدولیّة .

وهناک عدد آخر من علماء القانون یعیرون أهمیّة أکبر للالتزامات المنبثقة عن المعاهدات ویقولون بسبقها ، وذلک لأ نّها مدوّنة وصریحة ویستبین فیها عنصر الإرادة والاختیار والاستقلال ، ویعتبرون تغییر العرف والآداب الدولیّة - حیث تحلّ المعاهدات

محلّه من الناحیة العملیّة بالتدریج - نابعا من ذلک المبدأ المذکور(1) .

وبالنظر إلی مبدأ اشتراک « العرف والآداب الدولیّة » و « المعاهدات » فی عنصر الالتزام ، وانبثاق الاثنین من هذا المبدأ الواحد ، ینبغی القول إنَّ الأسباب المبیّنة فی التقویم المتقدّم لتأیید کلّ من الرأیین المذکورین تفتقد القیمة القانونیّة ، وذلک لأنَّ إطلاق

الالتزامات المنبثقة عن العرف والآداب الدولیّة ، وتدوین المعاهدات وصراحتها ، والجذور التاریخیّة ، کلّها لا یمکن أن تمثّل معلما بارزا لرسم المراتب المتسلسلة والقیم

القانونیّة ، ونحن نستطیع أن نفترض ونرسم کلاًّ من المعالم الصوریّة المذکورة فی الجانب

الآخر کالمعاهدات العامّة التی توافق علیها عامّة الشعوب أو الالتزامات المدوّنة المنبثقة عن العرف والآداب الدولیّة المدوّنة .

وینبغی أن لا نغفل عن هذه القاعدة والمبدأ وهی : أنَّ العهود الملزمة یجب أن تنبثق عن الإرادة والاختیار والاستقلال التامّ . ومن هذا المنطلق ، یمکن أن نتصوّر تعارض العرف

والآداب الدولیّة مع المعاهدات عندما تکون الالتزامات المنبثقة عن العرف والآداب الدولیّة بالنسبة إلی الطرفین ، أو إلی طرف المعاهدة - المعارض - فاقدة لعنصر الإرادة

الحرّة ، وبعامّة مفروضة قسرا ، ومن الجدیر ذکره - فی ضوء هذا الافتراض - أنَّ العرف

والآداب الدولیّة سیفقدان قیمتهما القانونیّة بالنسبة إلی الدول المذکورة ، وأنَّ فرض کلّ نوع من الالتزام - حتّی لو کان متطبّعا بطابع العرف والآداب الدولیّة - یعتبر خرقا لحقّ الحرّیّة واستقلال الشعوب .

وعندما یصادق علی العُرف ، فإنَّ الالتزامات المناهضة له متعذّرة إلاّ عن طریق خرق الالتزام السابق ، وفی هذه الحالة فإنَّ افتراض التعارض بین الالتزامات المنبثقة عن

ص: 447


1- « القانون الدولیّ العامّ » للدکتور صفدری 1 : 162 - 164 .

العرف والآداب الدولیّة والالتزامات المنبثقة عن المعاهدة لا یمکن تصوّره ، والبحث فی مجال أولویّة الاثنین عقیم .

ومن العجیب أنَّ « آلوارز » رئیس مدرسة القانون الدولیّ الجدید یری أنَّ « خرق حرّیّة الشعوب واستقلالها » فی المجال المذکور آنفا حقّ شرعی لمنظّمة الأُمم المتّحدة ، ذلک لأ نَّه یعتقد أنَّ « بعض القرارات الصادرة عن منظّمة الأُمم المتّحدة ملزِمة لدول العالم ، ولو لم یعلن بعضها موافقته علی تلک القرارات بصراحة » (1) .

ویری الشخص المذکور أنَّ المبادئ القانونیّة العامّة التی تقرّ بها الدول المتحضّرة تهیمن علی إرادة الدول الأُخری ومصیرها . ویعرض المبادئ المذکورة ، التی تربو علی اثنی عشر مبدأ ، بوصفها مصادر للقانون الدولی الجدید ، وذلک بعد إلحاق عدد آخر من المبادئ !

دور حرّیّة الإرادة فی الآثار القانونیّة

إنَّ احترام حرّیّة الإرادة من أهمّ الأُسس فی الحیاة الإنسانیّة . ولا ریب أنَّ قیمة الحیاة سواء علی الصعید الفردی أو علی الصعید الاجتماعی الواسع تتّصل اتّصالاً وثیقا

بحجم الدور الذی یؤدّیه هذا المبدأ فی الظروف التی تسود حیاة الناس . وکلّ نوع من أنواع

المقرّرات والقوانین یخضع لهذا المبدأ والقانون الأساسی للحیاة الإنسانیّة ، ولیس هناک أیّ استثناء .

کما أنَّ قبول الالتزامات الذی أثبتنا ضرورته الفطریّة فی بدایة هذا البحث یمکن أن یحظی بالاحترام والقیمة القانونیّة والإنسانیّة بجمیع آثاره ودوره الکبیر ، وذلک بالاعتماد

علی حرّیّة الإرادة للطرفین المعنیّین فحسب .

وثمّة مبدأ منبوذ ومرفوض هو مبدأ « الفرض القسری » یقف فی مقابل مبدأ حرّیّة الإرادة . وتدین الفطرة الإنسانیّة ذلک المبدأ ولا تطیقه مهما کان شکله ومصدره .

ولذلک فإنَّ الآثار القانونیّة للالتزامات والمعاهدات التی تعتبر مُلزِمة ینبغی أن لا تعتبر مفروضة قسرا بعد أن علمنا أنَّ کلّ معاهدة قانونیّة صادرة عن إرادة حرّة

.

ص: 448


1- « القانون الدولیّ العامّ » للدکتور صفدری 1 : 165 .

ولقد تحدّثنا عن هذا الموضوع بالتفصیل فی المباحث المتقدّمة من هذه المجموعة ؛ والنتیجة التی ینبغی أن نخرج بها من هذه الدراسات فی البحث المرصود هی : أنَّ مبدأ حرّیّة

الإرادة ینبغی أن یحظی بالاعتراف وحده فی حقل العلاقات الدولیّة کما فی الحقول الأُخری

للحیاة الإنسانیّة ، وأنَّ مصادر القانون الدولیّ وکلّ ضرب من المقرّرات التی تستلزم

المسؤولیّة والالتزام تنبثق عن هذا المبدأ الإنسانی .

من هنا تتّخذ الالتزامات الطوعیّة طابع المصدر الأصلی والأساسی للقانون الدولی ، وتتّکئ العلاقات القانونیّة للأقطار المختلفة علی العناصر التی تتضمّن الالتزام الطوعی لتلک الأقطار ، وکلّ مبدأ آخر من قبیل العرف والآداب الدولیّة ، والقوانین الوضعیّة

، والقرارات الصادرة من المنظّمات الدولیّة أو القواعد القانونیّة المصادق علیها من قبل البلدان

المتحضّرة ، ومبادئ أُخری اعتبرها علماء القانون کمصادر للقانون الدولی الجدید ، فإنّها

متی کانت فاقدة للالتزام الطوعی ، فهی عدیمة الاعتبار والقیمة القانونیّة ؛ ذلک لأنَّ الفطرة الإنسانیّة تعتبر الإلزام مقبولاً إذا کان متّکئا علی مبدأ القبول الطوعی .

طبیعة المعاهدة وآثارها

والآن نستطیع أن ندرک بسهولة طبیعة المعاهدات - سواء فی إطار العلاقات الداخلیّة أو العلاقات الدولیّة - ونعرّفها کما یلی :

المعاهدة عبارة عن التزام طوعیّ یظهره طرفان أو أکثر بصورة رسمیّة لترک أمر أو أُمور ، أو القیام بها بنحو مطلق أو مشروط .

ولمّا کانت الالتزامات مصحوبة عادة باتّفاق مسبق ، وبمصلحة الأطراف المعنیّة فی المعاهدة ، لذلک یمکن أن نأخذ التوافق علی المصلحة المشترکة ، فی تعریف المعاهدة

، بوصفه « ضرورة المعاهدة » لا بوصفه « عنصرا دخیلاً فی طبیعة المعاهدة » .

ومن الوضوح بمکان أنَّ المعاهدة بالمفهوم المذکور لها لا تتأثّر بصراحة الالتزام أو ضمنیّته فیها ، ولا یستدعی ذلک تفاوتا فی طبیعتها ، کما جاء ذلک فی مقارنة العرف

والآداب الدولیّة بالمعاهدات ، وکذلک فإنَّ إطلاق المعاهدة أو اختصاصها بطرف واحد أو

عدد من الأطراف لن یؤثّر علی طبیعتها ، وإذا کانت مؤقّتة أو دائمیّة فلن تتأثّر أیضا .

ص: 449

وقصاری القول إنَّ أثر المعاهدة منوط - فی جمیع الحالات - بکمیّة ونوعیّة القیود التی أخذها المتعهّدون بنظر الاعتبار فی نصّ المعاهدة .

ومن الجدیر ذکره أنَّ الطریقة التی تنعقد فیها المعاهدات یمکن أن تتفاوت فی الحالات المختلفة والظروف المتنوّعة ، وأُمور من قبیل التنظیم التحریری لنصّ المعاهدة ، والتصریح التحریری للأشخاص أو الهیئة المسؤولة عن المعاهدة فی مقدّمتها ، والتوقیع ، أو تعدّد نسخها ، والمفاوضات المسبقة ، وأمثال ذلک کلّه یتّسم ببُعد رسمیّ غالبا

، وعدم وجود هذه الأشیاء لیس له تأثیر علی القیمة القانونیّة للمعاهدة فیما إذا کان أصلها انعقد

بصورة شرعیّة .

والقصد من آثار المعاهدة هو المسؤولیّات والإلزامات القانونیّة التی ستقع علی عاتق المتعاهدین بعد الفراغ من المراسیم القانونیّة للمعاهدة ، أو الحقوق المرعیّة للمتعاهدین علی أساس الشروط المذکورة فی نصّ المعاهدة . وجملة القول : إنَّ المتعاهدین غیر ملزمین أبدا فی الإفادة من القسم الثانی .

ومن البدیهی أنَّ للآثار المذکورة قیمة قانونیّة فیما یخصّ المتعاهدین والموقّعین علی المعاهدة فقط ، ولذلک تتّسم ببعد قانونی ، بید أنَّ الطابع القانونی لمثل هذه المعاهدات

لا یعنی أ نّها ملزمة للجمیع بما فیهم الدول التی لم توقّع علیها (1) .

ونلاحظ فی المعاهدات المعقودة بین دولتین أو أکثر أنَّ الآثار القانونیّة الملزِمة لها لا تشمل دولة أُخری غیر الدول المتعاهدة . والمعاهدات التی لا توقّع علیها دول أُخری

لیس لها أثر إلزامی علیها ، وأمّا الحقوق والآثار غیر الإلزامیّة فیمکن أن تؤخذ بنظر

الاعتبار فی المعاهدات للدول غیر المتعاهدة أیضا ، أو أنَّ للدول غیر المتعاهدة أن تتمتّع بمکاسبها لظروف خاصّة تمرّ بها المعاهدة .

ص:450


1- یعتقد عالم القانون الإنجلیزی ستارک أ نَّه إذا أُرید للمعاهدة أن تعتبر فی عداد المعاهدات القانونیّة ، ینبغی أن تحظی مقرّراتها بقبول جمیع الدول أو أغلبها ، وبخاصّة الدول الکبری . ومن المؤکّد أنَّ مثل هذه المعاهدة ستحظی بأهمّیّة تامّة . حتّی أنَّ الدول التی لم تقرّ بها عملیّا لن تستطیع أن تقوم بما من شأنه معارضتها . ومن البدیهی أنَّ إدانة هذه النظریّة جدیرة بالذکر بعد التوضیح المقدّم فی ما سبق من کلام .
قیمة المعاهدات من منظار الإسلام

تحمل کلمة العهد فی القانون الإسلامی معنی أوسع بالموازنة مع مفهوم المعاهدة فی القانون الوضعی . وقد یطلق العهد أحیانا علی التعهّد الذی یقدّمه الإنسان أمام ربّه ، وعلی التعهّدات الابتدائیّة بدون طرف مقابل . ویطلق العقد فی المصطلح الفقهیّ علی العهد

المؤکّد .

ونری الإسلام قد اعتبر الأطراف المعنیّة فی المعاهدات مسؤولة أمام اللّه من خلال تأکیده علی الوفاء بالمعاهدات والعقود . وسمّی ذلک عهد اللّه . قال تعالی : « وَ اَوْفُوا بِعَهْدِ اللّه ِ اِذَا عَاهَدْتُمْ » (1) ، وکذلک اعتبر نقض العهد نقضا لعهد اللّه ، قال سبحانه : « اَلَّذینَ یَنْقُضُونَ عَهْدَ اللّه ِ مِنْ بَعْدِ میثَاقِهِ » (2) .

وقد وعد اللّه بالوفاء بالعهد فی مقابل الوفاء بالعهود ، فقال تبارک اسمه : « وَ اَوْفُوا بِعَهْدی اُوفِ بِعَهْدِکُمْ » (3) .

إنَّ فلسفة الإسلام فی تأکیده علی لزوم الوفاء بالعهد تتمثّل فی تمهید الأرضیّة للتوافق علی التعایش السلمیّ والحیاة الوادعة لکی یعیش الناس مغمورین بالحرّیّة والسلم والأمن ، وتنظّم المبادئ والقواعد المهیمنة علی الحیاة المشترکة ، علی أساس التوافق

والإرادة المشترکة .

ویُعتبر الوفاء بالعهد من فرائض الإسلام وآیة من آیات التقوی والإیمان ، ومن أهمّ المبادئ فی العلاقات الاجتماعیّة والدولیّة فی الإسلام .

ویمکن الوقوف علی القیمة والأهمیّة القانونیّة الکبیرة للمعاهدات ، التی تعتبر من خصوصیّات القانون الإسلامی ، وذلک عبر دراسة النصوص الواردة فی تضاعیف المصادر الخاصّة بالقانون الإسلامی .

لاحظوا بدّقة قسما من هذه النصوص فیما یلی :

ص: 451


1- النحل : 91 .
2- البقرة : 27 ؛ الرعد : 25 ؛ مضافا إلی قوله تعالی : « اَلَّذینَ یُوفُونَ بِعَهْدِ اللّه ِ وَ لاَ یَنْقُضُونَ الْمیثَاقَ » - الرعد : 20 ، وقوله تعالی : « وَ اَوْفُوا بِاص لْعَهْدِ اِنَّ الْعَهْدَ کَانَ مَسْٔولاً » - الإسراء : 34 ، وقوله تعالی : «وَ کَانَ عَهْدُ اللّه ِ مَسْٔولاً » - الأحزاب : 15 .
3- البقرة : 40 .

1 - « یَاءَیُّهَا الَّذینَ امَنُوا اَوْفُوا بِاص لْعُقُودِ » (1) .

2 - « وَ اَوْفُوا بِعَهْدِ اللّه ِ اِذَا عَاهَدْتُمْ وَ لاَ تَنْقُضُوا الاَْیْمَانَ بَعْدَ تَوْکیدِهَا » (2) . والنقطة التی تسترعی الانتباه أکثر فی هذه الآیة هی أنَّ القرآن ذکر العهد بوصفه عهد اللّه ، وذکّر المتعاهدین بأنَّ العهد الذی یبرمونه ، کأ نّهم یبرمونه مع اللّه ، وعهد اللّه مسؤول ، « وَ کَانَ عَهْدُ اللّه ِ مَسْٔولاً » (3) .

3 - « وَ اَوْفُوا بِاص لْعَهْدِ اِنَّ الْعَهْدَ کَانَ مَسْٔولاً » (4) .

4 - « وَ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ اِذَا عَاهَدُوا » (5) .

5 - « اَلَّذینَ یُوفُونَ بِعَهْدِ اللّه ِ وَ لاَ یَنْقُضُونَ الْمیثَاقَ » (6) .

6 - « وَ الَّذینَ هُمْ لاَِمَانَاتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ رَاعُونَ » (7) .

نلاحظ أنَّ هذه الآیات تناولت أهمیّة المعاهدة ولزوم الوفاء بها من الوجهة القانونیّة ، وذهبت إلی أبعد من ذلک فاعتبرت الوفاء من علامات الإیمان .وکأنَّ الوفاء بالعهد ینبع من الإیمان ، وخیانة العهد تنبع من نقصه أو فقدانه . کما أنَّ دراسة بعض الآیات کالآیة 4 و 7 من سورة ( براءة ) تفیدنا أنَّ احترام العهد والوفاء به یتضامنان تضامنا تامّا مع التقوی ، والفصل بینهما یفضی إلی القضاء علی روح التقوی .

والروایات الإسلامیّة فی هذا المجال کثیرة . وجاء فی بعضها أنَّ ناکثی العهد موصوفون بالخروج عن الدین ، وفقدان الإیمان ؛ وأنَّ نکث العهد من الکبائر(8) .

المعاهدات الدولیّة فی الإسلام

لیس هناک من وسیلة أکثر فاعلیّة من المعاهدة فی التنظیم العادل للعلاقات الدولیّة ،

ص: 452


1- المائدة : 1 .
2- النحل : 91 .
3- الأحزاب : 15 .
4- الإسراء : 34 .
5- البقرة : 177 .
6- الرعد : 20 .
7- المؤمنون : 8 ؛ المعارج : 32 .
8- « وسائل الشیعة » 11 : 513 ؛ « سنن البیهقی » 9 : 231 ؛ « سنن أبی داود » 3 : 109 .

ولم

یقلّل الإسلام من أهمیّة المعاهدة وقیمتها فی العلاقات الدولیّة ، بل أکّد علی ضرورتها .

وحسبنا أن نستعرض بعض النصوص القرآنیّة فی هذا المجال :

1 - « اِلاَّ الَّذینَ یَصِلُونَ اِلی قَوْمٍ بَیْنَکُمْ وَبَیْنَهُمْ میثَاقٌ » (1) .

2 - « اِلاَّ الَّذینَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَکُمْ فَاص سْتَقیمُوا لَهُمْ » (2) .

3 - « فَاَتِمُّوا اِلَیْهِمْ عَهْدَهُمْ اِلی مُدَّتِهِمْ اِنَّ اللّه َ یُحِبُّ الْمُتَّقینَ » (3) .

ونلاحظ فی السیرة السیاسیّة للنبیّ صلی الله علیه و آله نماذج کثیرة من المعاهدات مع القبائل والحکومات المختلفة ، وهی تمثّل شرعیّة المعاهدات الدولیّة فی الإسلام . وکان صلی الله علیه و آله یؤکّد علی مبدأ تنظیم العلاقات العادلة بین القبائل علی أساس الحلف ، حتّی قبل بعثته الشریفة ، وکثیرا ما کان یقول : لقد شهدت دار عبد اللّه بن جدعان حلفا ما أحبّ أنَّ لی حمر النعم ، ولو أُدْعی به فی الإسلام لأجبت(4) .

وقد مهّد حلفه مع أهل یثرب الأرضیّة لهجرته وتأسیس أوّل حکومة إسلامیّة(5) ؛ ونلاحظ أنَّ معاهدة المدینة التی عقدت فی بدایة الهجرة ، ونظّمت قبائل الأوس والخزرج

ویهود المدینة کأطراف متحالفة ، هیّأت الأرضیّة لتبلور القوّة الإسلامیّة أمام أعداء

الإسلام(6) .

وتحالف النبیّ صلی الله علیه و آله مع کثیر من القبائل والحکومات المجاورة . وأعاد صلح الحدیبیّة الأمن إلی الحجاز ، وضاعف قدرة الإسلام الواسعة .

وکان النبیّ صلی الله علیه و آله یقول مرارا ، وهو فی طریق مکّة قبل التقائه قریشا ، وعقده صلح الحدیبیّة : لا

یسألونی خطّة یعظّمون فیها حرمات اللّه إلاّ أعطیتهم إیّاها (7) .

وکانت المعاهدات والأحلاف التی یعقدها النبیّ صلی الله علیه و آله مع القبائل ورؤساء الحکومات

ص: 453


1- النساء : 90 .
2- التوبة : 7 .
3- نفسها ، الآیة 4 .
4- « سیرة ابن هشام » 1 : 134 ؛ « البدایة والنهایة » 2 : 291 .
5- نفسه ( الأوّل ) .
6- نفسه ص 503 .
7- « سنن أبی داود » 3 : 113 .

المختلفة تدوَّن بأمره صلی الله علیه و آله إذ تحفظ هذه الوثائق ، ویطبّق مفادها (1) .

وکان النبیّ صلی الله علیه و آله یخبر المسلمین بالصلح الذی سیعقدونه مع الروم قبل أوانه : إنَّ الروم سیصالحکم صلحا أمنا (2) .

عهد الإمام أمیر المؤمنین علیه السلام

یمکننا أن نتعرّف علی منطق الإسلام فی مجال احترام الأحلاف ، والقیمة القانونیّة للمعاهدات ولزوم الوفاء بالعهود عبر مطالعة العهد المعروف للإمام أمیر المؤمنین علیه السلام بنحو صریح وواضح تماما .

وجاء فی هذا العهد الذی وجّهه إلی مالک الأشتر رضی الله عنه عامله علی مصر :

« وإن عقدت بینک وبین عدوّ لک عقدة أو ألبسته منک ذمّة فحط عهدک بالوفاء ، وارع ذمّتک بالأمانة ، واجعل نفسک جنّة دون ما أعطیت ، فإنَّه لیس من فرائض اللّه شیء الناس أشدّ علیه اجتماعا مع تفرّق أهوائهم وتشتّت آرائهم من تعظیم الوفاء بالعهود

.

فلا تغدرنّ بذمّتک ، ولا تخیسنّ بعهدک ، ولا تختلنّ عدوّک . فإنَّه لا یجترئ علی اللّه

إلاّ جاهل شقیّ ، وقد جعل اللّه عهده وذمّته أمنا أفضاه بین العباد برحمته ، وحریما یسکنون إلی منعته ، ویستفیضون إلی جواره ، فلا إدغال ولا مدالسة ولا خداع فیه .

ولا یدعونّک ضیق أمر لزمک فیه عهد اللّه إلی طلب انفساخه بغیر الحقّ . فإنَّ صبرک علی ضیق أمر ترجو انفراجه وفضل عاقبته خیر من غدر تخاف تبعته . وأن تحیط بک من اللّه فیه طِلبة لا تستقبل فیها دنیاک وآخرتک » (3) .

الدعوة إلی عقد الأحلاف السیاسیّة

یعتبر السلم والتعایش فی ضوء التفکیر السیاسی فی الإسلام من أهمّ المبادئ فی العلاقات الدولیّة . ولذلک أخذ القانون الإسلامی بنظر الاعتبار اغتنام الفرص المناسبة

لتعزیز الأحلاف التی تحوم حول السلم فی العلاقات الخارجیّة للمجتمع الإسلامی .

ص: 454


1- « مکاتیب الرسول » 2 : 20 ؛ « شرح السیر الکبیر » 4 : 60 .
2- « إرشاد الساری لشرح صحیح البخاری » 5 : 232 .
3- « نهج البلاغة » .

ولا یضفی الإسلام قیمة قانونیّة فذّة علی العقود والمعاهدات الدولیّة لتحقیق السلم وتوسیع نطاقه بین الشعوب ، والحؤول دون بروز العلاقات العدائیّة والاشتباکات الدمویّة

فحسب ، بل ویدعو الشعوب والمجموعات الأُخری لعقد الأحلاف السلمیّة ، ویوصی المجتمع الإسلامی أن یکون سبّاقا فی هذا المجال ، وأن لا یألو جهدا لإقرارها وتعزیز أُسسها وتوسیع نطاقها فی المجتمع البشری ، وأن یستهدی بإمکانیّاته لتحقیق هذا الهدف الإسلامی

والإنسانی . ونجد فی کثیر من الحالات أنَّ هذه التوصیة بلغت حدّ التکلیف والواجب الإلزامی ، واعتبر عقد معاهدات السلم من واجبات الحکومة الإسلامیّة المسؤولة والمؤهّلة . وورد تأکید أکثر علی هذا الواجب فی الحالات التی تبدی فیها الحکومات غیر

الإسلامیّة رغبتها فی عقد معاهدات السلم .

وفی ضوء هذه النظریّة « أصالة السلم فی العلاقات الدولیّة » یکلّف الإسلام المسؤولین القانونیّین للمجتمع الإسلامی أن یفتحوا صدورهم لقبول الاقتراحات المطروحة

حول عقد السلم ما دامت لا تتضارب مع الأهداف الأصیلة والفکریّة للإسلام .

ویتمثّل المنطق القرآنی فی هذا المجال بما یلی :

1 - « وَاِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاص جْنَحْ لَهَا وَتَوَکَّلْ عَلَی اللّه ِ » (1) .

إنَّ التعبیر القرآنی فی هذا المجال لافت للنظر ، لأ نّه یتضمّن تعلیما یتجسّد فی أنَّ السلم

والتعایش بین الناس مرغوبان ومحبوبان إلی درجة أنَّ الإنسان ینبغی أن یغرم بهما وینشدّ

إلیهما کما ینشدّ الطائر الصغیر إلی أُمّه التی یجد فی حجرها أمنه وراحته وملاذه

.

2 - « فَاِنِ اعْتَزَلُوکُمْ فَلَمْ یُقَاتِلُوکُمْ وَاَلْقَوْا اِلَیْکُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّه ُ لَکُمْ عَلَیْهِمْ سَبیلاً » (2) .

3 - « یَاءَیُّهَا الَّذینَ امَنُوا اِذَا ضَرَبْتُمْ فی سَبیلِ اللّه ِ فَتَبَیَّنُوا وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ اَلْقی اِلَیْکُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَیوةِ الدُّنْیَا فَعِنْدَ اللّه ِ مَغَانِمُ کَثیرَةٌ کَذلِکَ کُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللّه ُ عَلَیْکُمْ فَتَبَیَّنُوا اِنَّ اللّه َ کَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبیرًا » (3) .

ویمکن فی بعض الحالات أن یکون اقتراح عقد السلم غطاءً لأغراض عدائیّة یخبّئها

ص:455


1- الأنفال : 58 .
2- النساء : 90 .
3- نفسها ، الآیة 94 .

أعداء المسلمین ، إلاّ أنَّ المسلمین ما لم یتأکّدوا من الأغراض الخیانیّة للحکومات والمجموعات التی تتقدّم باقتراح عقد السلم ، فلیس لهم رفض ذلک الاقتراح .

إنَّ القرآن - ضمن توصیته بقبول الصلح - یطمئن المسلمین فی مثل هذه الحالات بأنَّ اللّه سیؤیّدهم فیما إذا انطوی المتعاهدون علی نیّات مشؤومة . قال جلّ من قائل : « وَاِنْ یُریدُوا اَنْ یَخْدَعُوکَ فَاِنَّ حَسْبَکَ اللّه ُ هُوَ الَّذی اَیَّدَکَ بِنَصْرِهِ وَبِاص لْمُؤْمِنینَ » (1) .

وبعد أن تعرّفنا علی المنطق القرآنی فی مجال الترحیب بالصلح والتعایش فی العلاقات الدولیّة ، ینبغی لنا أن نلتفت إلی فقرة من العهد الخالد للإمام أمیر المؤمنین علیه السلام وهی قوله :

« ولا تدفعنّ صلحا دعاک إلیه عدوّک للّه فیه رضیً . فإنَّ فی الصلح دعة لجنودک ، وراحة من همومک ، وأمنا لبلادک » (2) .

صراحة الأحلاف الدولیّة

من النقاط التی تحظی بأهمّیّة کبیرة فی الأحلاف والمعاهدات الدولیّة من منظور القانون الإسلامی هو مبدأ صراحة الأحلاف التی أکّد علیها الإسلام کثیرا .

ومن الجدیر ذکره أنَّ هذه الأهمّیّة تعود إلی غلق کلّ طریق من طرق الخداع واختلاق الأعذار والتذرّع بذرائع واهیة لخرق الأحلاف کما لا تتضرّر مصالح المتعاهدین ، ومن ثمّ أصل المعاهدة ونتائجها عبر هذا الطریق ، ولا تحتاج المعاهدات إلی تفسیر علی مرّ الزمن ، ولا یحدث أیّ إجحاف وتحریف فی المعاهدات .

ونواجه الیوم بحثا متشعّبا ذا فنون فی مباحث القانون الدولیّ الجدید ، إذ تطرّق أهل الاختصاص إلی کیفیّة تفسیره وصلاحیّته تحت عنوان تفسیر المعاهدات .

إلاّ أنَّ القانون الإسلامی أکّد علی تنظیم المعاهدات بشکل تحریری وصریح وواضح تماما لئلاّ تطرأ مثل هذه المشکلة فی المعاهدات الدولیّة ، ولکی یقطع العذر علی المتوسّلین

بمختلف الذرائع لتأویل المعاهدات ، وطالب المعنیّین بالابتعاد عن استعمال العبارات

الغامضة لکی لا یقع أیّ إشکال فی مرحلة التنفیذ .

ص: 456


1- الأنفال : 62 .
2- راجع کتاب « الإسلام والقانون الدولیّ » ص 89 - 99 للحصول علی توضیح أکثر .

وکان النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله یراعی هذا المبدأ بدقّة تامّة فی المعاهدات والأحلاف التی کان یعقدها مع شتّی التجمّعات . وکان یأمر کتّابه بتدوین المعاهدات بعد الفراغ من المفاوضات ؛ حتّی أنَّ أسماء الکتّاب کانت تدوّن فی ذیل المعاهدة(1) .

وعرض الإمام أمیر المؤمنین علیه السلام هذا المبدأ فی عهده إلی والیه علی مصر من خلال جملة موجزة غزیرة المعنی ، فقال : ... لا تعقد عقدا تجوز فیه العلل ولا تقولن علی لحن قول بعد التوکید والتوثقة (2) .

لمن الصلاحیّة فی عقد الأحلاف السیاسیّة ؟

تری القوانین الحدیثة أنَّ الصلاحیّة فی عقد المعاهدات الدولیّة والمصادقة علیها من شأن رؤساء الدول أو من ینوب عنهم . وهکذا فلیس لعامّة الشعب مثل هذا الحقّ

، وکذلک فإنَّ التجمّعات والفصائل التی لیس لها صفة رسمیّة محرومة من عقد معاهدات الصلح .

أمّا فی القانون الإسلامی فإنَّ مفهوما أوسع قد أُخذ بنظر الاعتبار للمعاهدات الدولیّة . واعترف القانون المذکور بالحقّ الشرعیّ والإنسانی المتمثّل بالتمتّع بالصلح للأفراد والجماعات الفاقدة للأجهزة الحکومیّة والصفة الرسمیّة . وفی ضوء هذا المبدأ فإنَّ الأقلّیّات

الدینیّة تستطیع أن تدخل فی مفاوضات مع المسؤولین المسلمین المختصّین ، من أجل عقد

المعاهدة ، ولها أن تبادر إلی المصادقة علیها من جانبها . ویجد هذا الموضوع تطبیقه العملی فی عقد الذمّة بشکل واسع(3) . وفی عقد « الأمان » و «

الاستئمان » فإنَّ المسلم العادی أیضا یستطیع أن یعقد معاهدة الحصانة السیاسیّة مع غیر المسلم(4) . وفی هذه الحالات جمیعها ، فإنَّ المسلمین والحکومة الإسلامیّة المؤهّلة قانونیّا مکلّفون بمراعاة هذه المعاهدات

وتنفیذها ، ولیس ثمّة فارق ومائز من منظار القیمة القانونیّة .

ص: 457


1- « شرح صحیح البخاری » للعینی 14 : 12 .
2- « نهج البلاغة » للشیخ محمّد عبده ، ص 536 .
3- راجع کتابنا « حقوق الأقلّیّة » .
4- نفسه .
رعایة الأحلاف

لم یوص القانون الإسلامی مجتمع المسلمین بالمبادرة إلی عقد الأحلاف الدولیّة فحسب ، بل وأناط بالمسلمین رعایتها ، وأکّد علیهم مراقبة تنفیذ موادّها بیقظة تامّة ، وطلب منهم أن لا ینفّذوها من جانب واحد ، وأن لا یغفلوا عن ردّ الفعل الذی قد یقوم به العدوّ .

کما نلاحظ ذلک فی الأمر القرآنی المتمثّل فی قوله تعالی : خذوا حذرکم ، وفی ضوئه فإنَّ المسلمین مکلّفون أن یستهدوا بإمکانیّاتهم لمراقبة المؤامرات ، والإجراءات المتّخذة ، والکیفیّة التی ینفّذ فیها المتعاهدون بنود الاتّفاقیّة ، وعندما یستبین لهم سوء نیّة من قبل أعدائهم ، فعلیهم المبادرة إلی المقابلة بالمثل .

یأمر الإمام أمیر المؤمنین علیه السلام مالک الأشتر بقوله فی هذا المجال : « ولا تدفعنّ صلحا دعاک إلیه عدوّک ... ولکن الحذر کلّ الحذر من عدوّک بعد صلحه ، فإنَّ العدوّ ربّما قارب لیتغفّل ، فخذ بالحزم ، واتّهم فی ذلک حسن الظنّ » (1) .

ومع أنَّ الإسلام یعتبر نقض العهد من الکبائر ، بید أنَّ المجتمع الإسلامی - کما جاء فی

هذا الأمر الأکید - یسعی جاهدا بکلّ ما أُوتی من قوّة وإمکانیّات لحفظ المعاهدات وتنفیذ

مفادها ، وینتظر من حلفائه وفاءهم لما تعهّدوا به . ومحصّلة ذلک أنَّ القانون الإسلامی

یعطی الحقّ للمسلمین الذین دیست حقوقهم بسبب نقض العهد من قبل الآخرین أن یبادروا إلی معاقبة الناکثین للعهد . ولا تعنی هذه المعاقبة أنَّ المسلمین یثأرون من أعدائهم عبر هذا الطریق ، بل تعنی أ نّهم ینهون هذا العمل اللا إنسانی المتمثّل بنکث العهد من خلال ردّ الفعل التأدیبی للناکثین الخونة ، ولیؤوب هؤلاء إلی تنفیذ عهودهم ، ولا

یستغلّوا الحسّ المتجسّد فی قبول المسؤولیّة عند المسلمین ، کما لا یستغلّوا منهجهم العلمی فی الوفاء

بالعهود .

یصدر القرآن الکریم تعلیماته فی هذا المجال فیقول : « فَقَاتِلُوا اَئِمَّةَ الْکُفْرِ اِنَّهُمْ لآَ

اَیْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ یَنْتَهُونَ » (2) .

ص:458


1- « نهج البلاغة » شرح الشیخ محمّد عبده ، ص 536 .
2- التوبة : 12 .

وفی آیة أُخری ، یلجأ إلی أُسلوب العنف لمعاقبة الناکثین فیقول : « اَلَّذینَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ یَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فی کُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ یَتَّقُونَ * فَاِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِی الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ یَذَّکَّرُونَ » (1) .

ویمکن أن تکون سیرة النبیّ صلی الله علیه و آله والعقوبة التی فرضها علی الیهود الناکثین فی المدینة مثالاً بارزا لتنفیذ هذا القانون .

ونقرأ فی التاریخ أنَّ یهود بنی القینقاع قد نفوا عن المدینة بسبب نکثهم العلنی لمیثاق الدفاع المشترک مرّات عدیدة . وکذلک یهود بنی النضیر فإنَّهم مُنوا بنفس مصیر إخوانهم

بعد أن استبان نکثهم للعهد . وعلی الرغم من المعاهدة المشترکة ،فإنّهم حاولوا اغتیال

النبیّ صلی الله علیه و آله فنکثوا بذلک عهدهم .

وأمّا یهود بنی قریظة فإنّهم ، عندما انکشف للملأ نکثهم للعهد فی أعسر الظروف التی عاشها المسلمون إذ کانوا محاصرین من قبل الأحزاب ، لقوا جزاء خیانتهم وفقا لتحکیم الصحابی الجلیل سعد بن معاذ ، حَکَمَهُم الذی اختاروه للنظر فی أمرهم(2) .

العقود الدائمیّة والمؤقّتة

إنَّ عقود الصلح والأحلاف والمواثیق الدولیّة التی تعقد بین المجتمع الإسلامی والمجتمعات غیر الإسلامیّة یمکن أن تنظّم علی شکلین : دائمی ، ومؤقّت .

فعقد الذمّة من عقود الصلح الدائمیّة ، ویحتفظ بصفته الإلزامیّة وقیمته القانونیّة إلاّ فی حالة نکث العهد أو إهماله من قبل الفریق المتعاهد .

وعقد الحصانة « الاستئمان » من العقود المؤقّتة . وعلی المستأمن أن یعلن عن استعداده لتوقیع عقد الذمّة مع الحکومة الإسلامیّة المؤهّلة ، وذلک لکی یتسنّی له أن یعیش فی نطاق الحکومة الإسلامیّة بنحو دائم .

وأمّا عقد « الهدنة » ، وهو من العقود الدولیّة الرسمیّة من منظور القانون الإسلامی ، فإنَّه ینبغی أن ینظّم بشکل مؤقّت کما یری کثیر من الفقهاء ذلک ، والمدّة المسموح بها فی

ص: 459


1- الأنفال : 56 - 57 .
2- انظر تفصیل هذه الحکایات التعلیمیّة الثلاث فی کتابنا : « الإسلام والتعایش السلمی » ( حماة السلم والتعایش ) .

العقد المذکور موضع خلاف بین الفقهاء ، بید أنَّ جمعا من الفقهاء حدّد مدّته بعشر سنوات کحدّ أعلی تبعا لعمل النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله مع مشرکی مکّة فی صلح الحدیبیّة ، إذ کانت مدّته عشر سنوات .

ونری جمعا آخر من الفقهاء جوّز أن تکون المدّة أکثر من عشر سنوات ، عندما تفرض المصلحة ذلک . وهناک عدد من الفقهاء یری أنَّ العقد المذکور دائمیّ وغیر مؤقّت .

إنَّ العقود المذکورة ، التی یمکن أن یؤدّی کلّ واحد منها دورا مهمّا فی تحقیق الصلح الإنسانی الکریم ، تستوعب حقوق الطرفین وأهدافهما السلمیّة وفی ضوء القانون العامّ

للعقود ، فإنَّ الخصوصیّات والمیزات المطلوبة بمقتضی الوفاق الحاصل ینبغی أن تندرج فی العقد بشکل واضح لا إبهام فیه مع الأخذ بنظر الاعتبار طبیعة الظروف التی یعیشها کلّ

واحد من العقود المذکورة . ویضطلع طرفا العقد بمسؤولیّة مشترکة تتمثّل فی تنفیذ مفاد

العقد والوفاء به .

هذا المبدأ الإسلامی المؤکّد لا یتعارض مع منهج التفکیر العالمی وفکرة وحدة العالم . وهی الهدف الأخیر للقانون الإسلامی ، بل هو وسیلة لتوسیع نطاق الدعوة الإسلامیّة

، ذلک لأنَّ الإسلام یدعو إلی بثّ عقائده ونشر دعوته عبر الطرق السلمیّة وفی ظروف تنعم

بالتعایش الودّی(1) . وبعبارة أُخری ، یضع الإسلام علی عاتق المجتمع الإسلامی مسؤولیّة المبادرة إلی اتّخاذ الإجراءات اللازمة عبر المعاهدات بغیة إقرار الأمن والصلح والتعایش ، وذلک فی مقابل الفوارق الفکریّة والجغرافیّة والعرقیّة . وتزامنا مع تطبیق هذا التعلیم ، ینیط الإسلام بالمجتمع الإسلامی مهمّة نشر العقیدة الإسلامیّة وتوسیع دائرتها ما امتدّت المساحة

التی یشغلها القانون الإسلامی مهیمنا علی المجتمع البشری طوعا أو کرها کفکر عالمیّ یجتاز

الحواجز والحدود الجغرافیّة والعرقیّة والفکریّة التی تفرّق بین أبناء الأُمّة الواحدة فی ظروف الصلح والسلم .

ومن الشیء العجاب أنَّ مؤلّف کتاب الحرب والسلم قد ارتکب بعض الأخطاء فی هذا المجال ، وکلامه الآتی مثال علی ذلک :

« لمّا کانت النظریّة العامّة للتشریع الإسلامی فی حقل العلاقات بین المسلمین

ص: 460


1- لمزید التوضیح ، انظر : « کتاب اسلام و حقوق ملل » ص 70 - 86 .

والکفّار غیر سلمیّة ( ! ) بل تحمل طابع الحرب ، فإنَّ مدّة المعاهدات بالذات مؤقّتة . ولمّا

کان الجهاد لا یتعطّل أکثر من عشر سنین نظریّا ، فإنَّ مرحلة المعاهدات تنقضی بالضرورة

فی نهایة هذه المدّة . وکأنَّ المدّة غیر منصوص علیها فی المعاهدة ... » !!

مبدأ الوفاء بالعهد واحترامه

نظرا إلی المدارک الصریحة المأثورة عن الکتاب والسنّة فی هذا المجال ، یعتبر هذا المبدأ

- بلا شکّ - من المعالم البارزة للتعالیم القانونیّة والأخلاقیّة فی الإسلام . وفی ضوء التعالیم المؤکّدة الواردة فی القرآن والسنّة ، فإنَّ المسلمین لا یلزمون أنفسهم بالوفاء لما جاء فی المعاهدات فحسب ، بل یرون أ نّهم مکلّفون برعایة الأحلاف والعهود . وفی کلمة النبیّ

الأکرم صلی الله علیه و آله المسلمون عند شروطهم إشارة لطیفة ورائعة جدّا إلی هذه النقطة القانونیّة والأخلاقیّة .

فسخ المعاهدات الدولیّة

فی ضوء ما تقدّم تظلّ الأحلاف والمعاهدات نافذة ولها حرمتها مهما تبدّل الحاکم أو السلطة الحاکمة وانقلبت الأوضاع والظروف ، ولیس للحاکم المتأخّر حقّ فی تبدیل أو إلغاء معاهدة کانت قد عقدت بین المجتمع الإسلامی وغیره من المجتمعات الأُخری بصورة قانونیّة . وینطبق هذا الأمر بالتساوی علی کلّ معاهدة سواء کانت دائمیّة أم مؤقّتة(1) .

ومن البدیهی أنَّ الحکومة القانونیّة للمسلمین تستطیع أن تتغاضی عن المعاهدة الرسمیّة وتعتبرها ملغاة فی حالة واحدة تتمثّل فی الشعور بخطر ماثل یهدّد المجتمع الإسلامی

من الطرف المقابل ، وفی عزم العدوّ علی اتّخاذ عقد الصلح درعا لتقویته واستعادة قدرته

القتالیّة أو استغلال النوایا الطیّبة للمسلمین فیعتزم نکث العهد وخیانة المسلمین أو انتهاک حقوقهم الشرعیّة .

وفی مثل هذا الموقف یوجّه القرآن مجتمع المسلمین قائلاً : « وَاِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ

ص: 461


1- « جواهر الکلام » 21 : 313 .

خِیَانَةً فَاص نْبِذْ اِلَیْهِمْ عَلی سَوَاءٍ اِنَّ اللّه َ لاَ یُحِبُّ الْخَائِنینَ » (1) .

وإذا ما قام المسلمون بفسخ العقد من جانب واحد ، فلابدّ أن تستدعی ظروفهم ذلک ، کأن ینوی المتعاهدون خیانة ملحوظة وثابتة تماما ، وأمّا إذا احتمل المسلمون خیانة المتعاهدین دون الاطمئنان إلی أدلّة ومستمسکات وثیقة ، فلیس فی هذا مسوّغ لفسخ العقد من قبل المسلمین وحدهم(2) .

وکذلک إذا اقتضت مصالح المسلمین إلغاء العقد أو کان عقد الصلح عدیم المنفعة أو خلافا للمصلحة بسبب تبدّل الظروف ، أو أنَّ تبدّلات قد طرأت علی زعامة المسلمین

، فلیس لأیّ جهة إسلامیّة مسؤولة فسخ العقود والأحلاف الدولیّة من جانب واحد .

وهذه میزة أُخری یتمیّز فیها القانون الإسلامی علی القانون الدولیّ الجدید ، ذلک لأ نّنا نلاحظ فی حالات عدیدة أنَّ فسخ العقود والمعاهدات الدولیّة من جانب واحد قد

أُجیز فی القانون الدولیّ (3) .

وفی الوقت الذی لا یسمح القانون الإسلامی للمسلمین بفسخ العقد من جانب واحد ، فإنَّه یجیز للطرف الآخر فی بعض العقود کعقد « الذمّة » ، وعقد الحصانة المؤقّتة

« الأمان » أن یعتبر العقد ملغیّا متی شاء مغادرة الأرض الإسلامیّة .

والتذکیر بهذه النقطة ضروریّ هنا وهی : إنَّ المعاهدات الدولیّة - حتّی لو عقدت بصورة قانونیّة - تعتبر مفسوخة من منظور القانون الإسلامی فی حالة واحدة وذلک عندما

تتعارض شروط الحلف مع الأهداف العالمیّة للإسلام . لذلک فکلّ معاهدة تشکّل عقبة فی

طریق تقدّم الفکر الإسلامی ، أو أ نّها خضعت لهذه الظروف بعد انعقادها بصورة قانونیّة ، تفقد قیمتها القانونیّة لا محالة ، وتعتبر ملغیّة من منظور المنطق العالمی للإسلام .

ذلک لأنَّ الإسلام یراعی حرّیّة الفکر والعقیدة ، وحرّیّة الدعوة الإسلامیّة ویحتفظ بهما لنفسه کحقّ شرعیّ ، ولا یسمح لأیّ باعث من البواعث بما فیها المعاهدات الدولیّة أن

یصادر هذا الحقّ الطبیعی ، ویری ذلک منافیا لحرّیّة الفکر والدین .

لذلک فکلّ معاهدة تفضی إلی مصادرة هذه الحرّیّة ، عند انعقادها أو فی الظروف التی

ص:462


1- الأنفال : 58 .
2- « جواهر الکلام » 21 : 294 .
3- « القانون الدولیّ العامّ » للدکتور صفدری 1 : 193 .

تلی ذلک تعتبر معاهدة مفروضة لا حرمة لها .

وتنبع فلسفة الجهاد الإسلامی من هذا اللون من التفکیر العالمی ، وما الکفاح المنقذ إلاّ لمواجهة العناصر التی ترید وضع العراقیل فی طریق الدعوة العالمیّة والتقدّم المنطقی

للفکر الإسلامی ، کما أنَّ معاهدات الصلح تستخدم بوصفها أسالیب سلمیّة لرفع العراقیل

والمشاکل الدولیّة فی الحقل المذکور .

الجهة الإسلامیّة المسؤولة عن عقد الأحلاف والمعاهدات

کان النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله صاحب الصلاحیّة فی عقد معاهدات « الذمّة » ، وکذلک الأحلاف التی کانت تعقد مع المشرکین بنحو مؤقّت لوقف الحرب ( المهادنة ) . وفی بعض

الحالات کان یخوّل الآخرین من الأُمراء والقادة المسلمین للقیام بهذه المهمّة .

وبعد وفاة النبیّ الأعظم صلی الله علیه و آله تولّی هذه المهمّة خلفاؤه وأوصیاؤه الذین ذکرهم بأسمائهم . ویعتقد الشیعة أنَّ هذه المهمّة من شأن أهل البیت علیهم السلام . وأُنیطت بالفقهاء الأتقیاء فی عصر الغیبة .

والنوع الآخر من المعاهدات الدولیّة المصطلح علیها فی الفقه الإسلامی : « الاستئمان » ذو بعد عامّ ، ویتّخذ طابعا رسمیّا ویکون ملزما للجمیع بتخویل من أیّ

مسلم کان .

أمّا الأحلاف التی تعقد بین الحکومات المتسلّطة علی الأقطار الإسلامیّة - دون أن تحرز الصلاحیّة المذکورة - والحکومات أو الجماعات غیر المسلمة فهی غیر ملزمة لهم بلا

شکّ ولیس لها قیمة تذکر من منظور القانون الإسلامی فی الحالات التی لیس فیها مصلحة للمسلمین(1) .

وأمّا فی حقل المعاهدات الدولیّة التی تستدعیها مصلحة إسلامیّة عاجلة ، أو فیها مصلحة للمجتمع الإسلامی فیمکن النظر إلی الإجراءات التی یتّخذها المؤمنون العدول عند فقدان الجهة المؤهّلة ( الفقیه الجامع للشرائط ) علی أ نّها نافذة کما یقتضیه قانون

الشؤون الحسبیّة .

ص: 463


1- « تحریر الوسیلة » 1 : 466 .

بید أنَّ الفقهاء اعتبروا الأحلاف التی یعقدها حکّام الجور معتبرة أیضا وملزمة لعامّة المسلمین ، وذلک فی مجال عقد الذمّة(1) .

العهود غیر القانونیّة

إنَّ جمیع العهود التی تهدّد استقلال الأُمّة والحکومة الإسلامیّة ، وتقدح فی السیادة الإسلامیّة بنحو من الأنحاء ، أو أنَّ شروطها مخالفة للأحکام والموازین الإسلامیّة

، أو أ نّها تحدّ من حرّیّة الدعوة الإسلامیّة ، وتخرق سیادة دار الإسلام ووحدة ترابها ، مرفوضة من منظور الإسلام ولیس لها أیّ شأن ؛ ولا تستطیع الحکومة الإسلامیّة أن تقوم بعقد معاهدة

فی هذه الحالات(2) .

أنواع العقود والمعاهدات الدولیّة فی الفقه السیاسی

تنقسم المعاهدات الدولیّة فی الفقه السیاسی إلی أقسام متنوّعة ، وهی کما یأتی :

أ - من حیث المدّة :

1 - المعاهدات الدائمیّة مثل : عقد الذمّة .

2 - المعاهدات المؤقّتة مثل : عقد المهادنة .

ب - من حیث المحتوی :

1 - معاهدة الاتّحاد والتضامن السیاسیّ مثل : معاهدة المدینة(3) .

2 - معاهدة الهدنة ووقف الحرب مثل : عقد الموادعة والمهادنة .

3 - معاهدة من أجل منح الأمن والأمان مثل : عقد الاستئمان .

4 - معاهدة بشروط مالیّة مثل : عقد الذمّة والمهادنة المشروطة .

5 - معاهدة عدم التعرّض مثل : معاهدة ایلة(4) .

ص: 464


1- « جواهر الکلام » 21 : 276 .
2- « حقوق الأقلّیّات » للمؤلّف ، ص 265 .
3- « سیرة ابن هشام » 1 : 503 .
4- « مکاتیب الرسول » 1 : 300 .

6 - معاهدة دفاعیّة من جانب واحد مثل : حلف نمرة(1) .

7 - معاهدة صلح وأمن جماعی مثل : صلح الحدیبیّة(2) .

8 - معاهدة دفاع مشترک مثل : حلف بنی ضمرة(3) .

ج - تقسیم المعاهدات الدولیّة من حیث الطرف المقابل فی المعاهدة :

1 - معاهدة مع أهل الکتاب مثل : عقد الذمّة .

2 - معاهدة مع المشرکین والکفّار ( غیر أهل الکتاب ) مثل : معاهدة الهدنة .

3 - معاهدة مع مختلف الأشخاص مثل : الاستئمان .

شرعیّة المعاهدات الدولیّة غیر المعیّنة

قسّم الفقهاء العقود فی القانون المدنی إلی عقود معیّنة ، وغیر معیّنة . والقصد من العقود المعیّنة العقود التی لها اسم وعنوان خاصّ فی الإسلام وتحکمها شروط معیّنة

. أمّا العقود غیر المعیّنة فتعنی وجوب الوفاء بالعهد فی کافّة العقود التی تتّسم بالطابع التعاقدی

عرفا ، ولا تخصّ ما جاء بعنوان محدّد فی الکتاب والسنّة وکتب الفقهاء .

وینطبق هذا التقسیم أیضا علی المعاهدات الدولیّة ، وذلک أنَّ معاهدات نحو : الذمّة ، والاستئمان ، والمحایدة ، والمهادنة ، والموادعة تلاحظ فی الفقه السیاسی تحت عنوان

وشروط خاصّة ، ویمکن أن نذکرها بوصفها معاهدات معیّنة .

القسم الثانی من المعاهدات عامّ ، ویمکن أن ینعقد وفقا للقواعد العامّة للعقود فی العلاقات الدولیّة ، وقد لا ینطبق علی عنوان المعاهدات المعیّنة وشروطها الخاصّة

.

ونری کثیرا من الفقهاء لم یحصروا المعاهدات فی العقود المعیّنة ، وبخاصّة أ نّهم اعتبروا القواعد العامّة للمعاهدات سائدة فی المعاهدات الدولیّة ، ویمکن أن نذکر من هؤلاء : الفقیه الکبیر الشیخ محمّد حسن النجفی مؤلّف الکتاب القیّم : جواهر الکلام(4) ، والعلاّمة

ص: 465


1- « مکاتیب الرسول » 1 : 356 .
2- « سنن أبی داود » 3 : 113 .
3- « مکاتیب الرسول » 1 : 385 .
4- « جواهر الکلام » ج 21 .

النراقی(1) ، والعلاّمة النائینی(2) . ومن فقهاء السنّة : أبو یوسف القاضی صاحب الخراج(3) ، وابن عربی فی أحکام القرآن(4) ، وابن همام فی فتح القدیر(5) ، وآخرین غیرهم(6) . فهؤلاء قد أیّدوا هذه النظریّة .

هل الصلح عقد معیّن ؟

عرض الفقهاء نظریّات مختلفة حول عقد الصلح ، فمنهم من قال : إنّه من العقود المعیّنة ، ومنهم من قال : إنّة یتّسم بطابع العقد المعیّن مفادا وعنوانا من حیث موضوعه ، مثلاً : تتّخذ المصالحة فی مقایضة السلع بالنقود حکم البیع ، وفی تبادل المنفعة حکم

الإجارة ، وفی وقف الحرب عنوان المهادنة ؛ کما یسمّون مهادنة الحدیبیّة صلح الحدیبیّة

. وهناک فریق من الفقهاء یری أیضا أنَّ الصلح عنوان عامّ للعقود غیر المعیّنة .

إنَّ الهدف من هذا البحث هو أ نّنا إذا اعتبرنا الصلح من العقود المعیّنة ، أو اعتبرناه

عنوانا عامّا لکافّة العقود غیر المعیّنة ، فإنَّ المعاهدات الدولیّة فی الإسلام تخرج عن نطاق بعض العقود المعیّنة ، ویمکن تنظیم العلاقات الدولیّة من خلال عقد الصلح فی کلّ موضوع

ومهما کانت الظروف والخصوصیّات .

یقول العلاّمة النائینی فی هذا المجال : الصلح عنوان مستقلّ ، ویکون المنشأ به هو التسالم علی أمر بین الطرفین . وقد یکون نتیجة التسالم هو تملیک العین بعوض أو بلا عوض ، أو تملیک المنفعة بعوض أو بلا عوض . لا أن یکون تابعا لأحد هذه العناوین الأربعة بأن

یکون إمّا بیعا أو هبة أو إجارة ، وذلک لأنَّ المناط فی الاستقلالیّة أو التبعیّة هو لحاظ المنشأبالعقد بالمدلول المطابقی لا الالتزامی ، فکون نتیجة الصلح أحد هذه الأُمور لا یوجب

إرجاعه إلیها ، بل لا شبهة أنَّ مدلوله المطابقی أنشأ التسالم علی أمر . فقد یکون هذا الذی

ص:466


1- « عوائد الأیّام » ص 2 .
2- « منیة الطالب » ص 104 .
3- « الخراج » ص 207 .
4- « أحکام القرآن » 2 : 882 .
5- « فتح القدیر » 4 : 494 .
6- « آثار الحرب فی الفقه الإسلامی » ص 355 .

تسالما علیه أحد هذه الأُمور ، وقد یکون إسقاطا لحقّ غیر قابل للبیع کما فی بعض الحقوق ، وقد یکون إسقاطا لحقّ الدعوة الذی قد لا یکون المدّعی به ثابتا فی الواقع(1) .

وفی ضوء هذه النظریّة نلاحظ أنَّ شروط العقود المعیّنة سوف لن تکون معتبرة فی الحالات التی لا ینسجم فیها مفاد الصلح مع مفاد أحد العقود المعیّنة .

وقد عرّف الفقهاء الصلح کما یلی : وهو عقد شرّع لقطع التجاذب ویصحّ مع الإقرار والإنکار(2) .

وفی ضوء هذا التعریف نری أنَّ الصلح یخصّ الحالات التی یکون فیها نزاع وخصومة ، إلاّ أنَّ جمعا من الفقهاء یعتبر هذا القید غیر ضروریّ بلحاظ إطلاق أدلّة الصلح

وعمومیّتها ، ویری أنَّ احتمال وقوع الخلاف والنزاع کاف فی مشروعیّة الصلح . وثمّة فقهاء کصاحب الجواهر(3) یرون أنَّ الصلح مشروع حتّی فی الحالات التی لا یحتمل فیها وقوع النزاع فی المستقبل متّکئین علی الأدلّة التالیّة :

1 - قوله تعالی : « فَلاَ جُنَاحَ عَلَیْهِمَا اَنْ یُصْلِحَا بَیْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَیْرٌ (4) .

2 - قوله تعالی : « فَاص تَّقُوا اللّه َ وَاَصْلِحُوا ذَاتَ بَیْنِکُمْ » (5) .

3 - قوله تعالی : « اِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ اِخْوَةٌ فَاَصْلِحُوا بَیْنَ اَخَوَیْکُمْ » (6) .

4 - قوله تعالی : « فَاِنْ فَاءَتْ فَاَصْلِحُوا بَیْنَهُمَا بِاص لْعَدْلِ » (7) .

5 - الحدیث النبویّ : الصلح جائز بین المسلمین إلاّ صلحا أحلّ حراما أو حرّم حلالاً (8) .

6 - روایة عن الإمام الصادق علیه السلام : فی الرجل یکون علیه الشیء فیصالح ، فقال : إذا کان

ص:467


1- « منیة المرید » ص 34 .
2- « جواهر الکلام » 26 : 211 .
3- نفسه .
4- النساء : 128 .
5- الأنفال : 1 .
6- الحجرات : 10 .
7- نفسها ، الآیة 9 .
8- « جواهر الکلام » 26 : 210 .

بطیبة نفس من صاحبه فلا بأس(1) .

فی ضوء ما تقدّم ، نری أن عقد الصلح عقد مستقلّ ، وهو کالعقود المعیّنة الأُخری ، ومن مصادیق قوله تعالی : « اَوْفُوا بِاص لْعُقُودِ » (2) فی لزوم الوفاء بالعهد(3) ، ویتّسم بالشرعیّة أیضا فی العلاقات الدولیّة .

بعبارة أوضح ، یمکن الاستضاءة بمعاهدة الصلح فی جمیع الحالات التی تخلو فیها المعاهدة مع الحکومات غیر المسلمة من شروط العقود المعیّنة کالذمّة ، والاستئمان

، والمهادنة ، والموادعة . وفی ضوء ذلک یتمّ الوفاق علی مجموعة من الشؤون الدولیّة

.

شرعیّة جمیع المعاهدات الدولیّة

یری جمع من الفقهاء أنَّ الصلح لیس من العقود المعیّنة(4) ، وفی ضوء هذا الرأی ، فإنَّ

عقد الصلح فی العلاقات الدولیّة ینبغی أن یضمّ الشروط الخاصّة التی تتناسب مع مفاده

ومورده . أی : أنَّ الصلح ینبغی أن یشتمل علی شروط معاهدة الذمّة فی الحالة التی یکون

التعامل فیها مع أهل الکتاب ، وعند التعامل مع غیر أهل الکتاب حین وقف الحرب ، یجب

أن یشتمل علی شروط عقد المهادنة .

بید أنَّ التمعّن فی مفاد أدلّة لزوم العقود - کما أشرنا سابقا - یدلّ علی شرعیّة کافّة العقود والوفاء بها . وفی ضوء هذه النظریّة ، فإنَّ الأصل فی کلّ عقد عرفی ذی إیجاب وقبول هو المشروعیّة واللزوم . وأهمّ مستند لهذه النظریّة هو قوله تعالی : « یَاءَیُّهَا الَّذینَ امَنُوا

اَوْفُوا بِاص لْعُقُودِ » (5) . وعلی الرغم من الاحتمالات الکثیرة المذکورة فی تفسیر معنی

العقد(6) ، غیر أنَّ فقهاء المسلمین فسّروه بالمعاهدة . وهناک ثلاث نظریّات معروضة لتبیان مفهوم الآیة ، وهی کما یلی :

ص:468


1- « جواهر الکلام » 26 : 210 .
2- المائدة : 1 .
3- « جواهر الکلام » 26 : 232 .
4- « إیضاح الفوائد » 2 : 104 ؛ « تذکرة الفقهاء » 2 : 177 .
5- المائدة : 1 .
6- نحو : أحلاف الجاهلیّة ، والأحکام الإلهیّة ، والعقد ، ومیثاق أهل الکتاب ، والأیمان والوصیّة ( یُنظَر : « عوائد الأیّام » ص 2 - 3 ) .

1 - القصد من العقود هو العقود التی کانت متداولة فی العصر الجاهلی ، وقد أیّد الإسلام جمیع هذه العقود من خلال هذه الآیة ، وألزم الناس بالوفاء بها ، إلاّ فی حالات

خاصّة أعلن الشارع فیها عدم مشروعیّتها بشکل واضح . وفی ضوء هذا التفسیر فإنَّ ( أل ) فی العقود هی ( أل ) العهدیّة .

2 - العقود هی کافّة المعاهدات التی أقرّ الدین شرعیّتها ، وقد عیّن حدودها وشروطها . وتدعی هذه العقود : العقود المعیّنة ، وقد جاءت عناوینها فی الفقه . ومفاد

الآیة فی ضوء هذا التفسیر کالقضیّة الخارجیّة فی الاصطلاح المنطقی ، عقود جاءت شرعیّتها فی الدین المقدّس واحدة بعد الأُخری ، وعمومیّة الآیة ناظرة إلی الحکم العامّ

ولزوم الوفاء بجمیع تلک العقود .

3 - مفهوم العقود کمفاد القضیّة الحقیقیّة فی الاصطلاح المنطقی یشمل کافّة العقود التی

تطلق علیها صفة العقد عرفا ، سواء کان إطلاق العقد بالنظر إلی العصر الجاهلی ، أو عصر النبیّ والمعصومین ، صلوات اللّه علیهم ، أو کلّ مرحلة وزمان .

وفی ضوء هذا التفسیر ، کلّ معاهدة تطلق علیها صفة العقد عرفا فی کلّ عصر تتّخذ طابعها الشرعیّ وفقا للآیة المذکورة ، ویلزم الوفاء بها إلاّ أن یرد نهی عنها لسبب خاصّ .

وقد رجّح أکثر الفقهاء هذه النظریّة ، ولم یعتبروا استعمال بعض الألفاظ الخاصّة ذا بال فی صحّة المعاهدات والعقود العرفیّة ولزومها . واعتبروا جمیع المعاهدات والعقود

العرفیّة ممّا یلزم الوفاء بها ، ما عدا القواعد العامّة للمعاهدات والعقود ، وذلک بالاعتماد علی أدلّة الصحّة واللزوم(1) .

9 - مبدأ التحکیم الحلّ السلمیّ للخلافات الدولیّة
اشارة

تعتبر العلاقات الدولیّة عرضة للخطر فی ظلّ الأجواء التی تسودها الخلافات أکثر من العلاقات الاجتماعیّة القائمة بین أعضاء المجتمع ؛ من هذا المنطلق ، فکلّ نظام قانونیّ دولیّ ینبغی أن یخطّط لحلّ موضوعیّ مناسب للخلافات القائمة والمحتملة .

ص: 469


1- « المکاسب » للشیخ الأنصاری ص 161 ( طبعة محشّاة ) ؛ « منیة الطالب » ص 62 ؛ « مصباح الفقاهة » 3 : 35 ؛ « جواهر الکلام » 22 : 220 فما یلیها ؛ « عوائد الأیّام » ص 4 - 6 .

فعدم وجود حلّ سلمیّ للخلافات الدولیّة ینتهی بحروب مدمّرة لا حدّ لها تهدّد الأمن الإقلیمی تارة ، والأمن الدولیّ تارة أُخری . وجاءت فی میثاق عصبة الأُمم ، ومیثاق الأُمم المتّحدة توصیّات بالحلّ السلمیّ للخلافات ، واستخدام الوسائل التی

لا تهدّد السلم والأمن الدولی والعدالة . وجاء فی المادّة 33 من المیثاق أنَّ علی الطرفین أو الأطراف المتنازعة أن تبادر - قبل کلّ شیء - إلی حلّ خلافاتها عبر التفاوض ، والوساطة ، والتساوم ، والتحکیم ، والتحقیق القضائی ، واللجوء إلی المؤسّسات أو الإجراءات

الإقلیمیّة ، أو سائر الوسائل السلمیّة التی تختارها .

وإلی جانب هاتین الوثیقتین الدولیّتین ، یمکننا أن نذکر معاهدة لاهای المؤرّخة سنة 1907م والمتعلّقة بالحلّ السلمی للخلافات الدولیّة ، وکذلک الإعلان الصادر عن الجمعیّة

العامّة للأُمم المتّحدة عام 1970م .

ولکن علی الرغم من جمیع هذه التوصیات والتأکیدات ، فإنّنا لا نلاحظ أنَّ أزمة وخلافا دولیّا قد تمّت تسویتهما بالطرق السلمیّة ، فلا نجد إلاّ استخدام القوّة

، والضغط ، والحلول العسکریّة من قبل القوی المتسلّطة وسائل لتسویة الخلافات الدولیّة بصورة مباشرة وغیر مباشرة .

أسباب الخلافات الدولیّة

یمکن أن نقسّم الخلافات الدولیّة إلی مجموعتین قانونیّتین وسیاسیّتین :

1 - الخلافات القانونیّة الناتجة عادة عن الاعتداء أو عن أُسلوب تفسیر المعاهدات ، أو خرق المقرّرات الدولیّة أو تعارضها ، أو الخسائر الناجمة عن خرق المعاهدات الدولیّة . وأفضل حلّ قانونیّ لهذا الضرب من الخلافات هو اختیار قضاة من قبل الطرفین أو الأطراف المتنازعة علی أساس الاحترام المتبادل وقبول الأحکام الصادرة عنهم .

وهذا الحلّ متیسّر عند موافقة البلدان المتنازعة فحسب . وقد جاء النصّ علی هذا المبدأ فی المادّة 38 من معاهدة لاهای المؤرّخة فی سنة 1907م ، وهذا اللون من التحکیم

ممکن عبر التحکیم الطوعیّ بشکل یتّفق فیه البلدان المتنازعان علی تخویل بلد ثالث لحلّ

خلافاتهما . وفی هذه الحالة ینبغی تحدید صلاحیّات المحکّمین ، وتدوین قانون المحاکمات

ص:470

أیضا

، ویمکن تسویة الخلافات القانونیّة عبر معاهدة تحکیم دائمیّة تتّخذ طابع منظّمة دولیّة .

وتمّت الموافقة علی میثاق عامّ للتحکیم من قبل عصبة الأُمم سنة 1928م ، وأُعید النظر فی هذا المیثاق من قبل الجمعیّة العامّة لمنظّمة الأُمم المتّحدة سنة 1949م

، ووقع موقع التنفیذ سنة 1950م(1) .

2 - الخلافات السیاسیّة الناجمة عن تعارض المصالح بین دولتین . وتطلق الصفة السیاسیّة عادة علی جمیع الخلافات التی تفتقر إلی حلّ قانونیّ . وتتمّ تسویة الخلافات

السیاسیّة بصورة رئیسة عبر المفاوضات ، والأسالیب الدبلوماسیّة ، والمساعی الحمیدة

( الوساطة الودّیّة ) ، والوساطة ، والتحقیق ، والمصالحة ، وتدخّل المنظّمات الدولیّة ( مجلس الأمن ) .

التحکیم فی النظام القانونی فی الإسلام

یتمتّع التحکیم - بوصفه قاعدة قانونیّة - بمکانة خاصّة ودور کبیر فی النظام القانونی فی الإسلام ، ویُستهدَی به کحلّ قضائی للخروج من المآزق القانونیّة وإزالة العقبات

المتأصّلة ، ومن ثمّ تسویة الخلافات فی حقل حقوق الأُسرة ، والنزاعات السیاسیّة فی

المجتمع ، والخلافات الدولیّة . ولیس التحکیم قاعدة قانونیّة تأسیسیّة فی الشریعة الإسلامیّة ، إذ کان سائدا منذ فجر التاریخ کقاعدة عرفیّة فی الیونان ، وروما القدیمة ، وعند أهل الجاهلیّة قبل الإسلام . وکانت القبائل والشعوب المختلفة تستعین به له لحلّ خلافاتها ، ونقل لنا التاریخ نموذجا من التحکیم یعود إلی 3100 قبل المیلاد تقریبا (2) .

والمفهوم البسیط للتحکیم یتمثّل فی اتّفاق طرفین أو أکثر علی إحالة نزاع قائم بینهم علی طرف ثالث للفصل فیه .

ویطلق التحاکم أو التحکیم فی الاصطلاح الفقهی علی الواقعة القانونیّة التی یقرّر فیها الطرفان المتنازعان إحالة القضیّة المتنازع فیها علی طرف ثالث للبتّ فیها . وبعبارة أُخری ،

ص: 471


1- « القانون الدولیّ العامّ » [ فارسی ] للدکتور ضیائی بیگدلی ، ص 359 .
2- « الحرب والسلم فی الإسلام » لمجید خدّوری ، ص 348 .

التحکیم هو فصل الخصومة وفضّ النزاع بالإرجاع إلی شخص آخر .

التحکیم حلّ قضائی أو سیاسی ؟

یری بعض الکتّاب أنَّ التحکیم حلّ سیاسیّ نوعاً ما ، وهو ذو بُعد سلمی غالبا ؛ أی : أ نّه یمثّل محاولة لدفع الطرفین المتنازعین إلی تلمّس حلّ لفضّ نزاعهما عبر المصالحة ، ولا یقصد منه استعادة حقّهما به ، وصدور حکم یقضی بأحقّیّة من له الحقّ(1) .

هذه النظریّة غیر صائبة بالنسبة إلی التحکیم فی النظم القانونیّة السابقة والمعاصرة ، وکذلک هی بالنسبة إلی التحکیم فی النظام القانونی فی الإسلام ؛ لأنَّ قرار التحکیم فی

الاصطلاح القانونی عبارة عن قرار یتّفق البلدان المتنازعان بموجبه علی تخویل بلد ثالث

لحلّ خلافاتهما (2) .

والفرق بین التحکیم بمعناه المطلق ، والتحکیم فی اصطلاح القانون الدولیّ فرق شکلیّ ظاهری ، فنری فی التحکیم ضرورة حصول توافق آخر حول کیفیّة التحقیق بین الطرفین مضافا إلی التوافق الحاصل بینهما . أمّا فی التحکیم الدولی فإنَّ توافق الطرفین یکفی

بالرجوع إلی محکمة دولیّة ، إذ إنَّ مقرّرات المحکمة الدولیّة قد دوّنت ونظّمت وصودق علیها من قبل وفقا لمعاهدة دولیّة(3) .

وجاء التحکیم فی الفقه الإسلامی أیضا بوصفه عملاً قضائیّا . وأجاب الفقهاء علی السؤال المطروح حول التحکیم فیما إذا کان عملاً قضائیّا أو هو من باب التوکیل ، أو کان عملاً قانونیّا أو سیاسیّا ، فقالوا بأ نّه عمل قضائی فی ضوء القرآن(4) والحدیث(5) وفتاوی الفقهاء . وورد الادّعاء بالإجماع علی ذلک فی کتاب السرائر وفقه القرآن ، وعدّه الشیخ

الطوسیّ فی کتاب المبسوط مقتضی المذهب الإمامیّ .

ص:472


1- « الحرب والسلم فی الإسلام » ص 348 .
2- « القانون الدولیّ العامّ » [ فارسی ] للدکتور ضیائی بیگدلی ، ص 357 .
3- « آثار الحرب فی الفقه الإسلامی » ص 765 .
4- فی قوله تعالی : « وَاِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَیْنِهِمَا فَاص بْعَثُوا حَکَمًا مِنْ اَهْلِهِ وَحَکَمًا مِنْ اَهْلِهَآ اِنْ یُریدَآ اِصْلاَحًا یُوَفِّقِ اللّه ُ بَیْنَهُمَآ اِنَّ اللّه َ کَانَ عَلیمًا خَبیرًا » - النساء : 35 .
5- انظر : « وسائل الشیعة » 15 : 92 .

وإذا کان التحکیم فی واقعة قانونیّة بمفهوم التوکیل ، فینبغی أن یکون الرأی الصادر مطابقا لمفاد الوکالة بدقّة . والصبغة القضائیّة للتحکیم تعود إلی أنَّ الطرفین المتنازعین ، وإن کانت لهما شخصیّتهما القانونیّة ، ولا یمکن إصدار حکم قسریّ بحقّهما ، بید أنَّ استمرار

الخلاف بمثابة امتناعهما عن قبوله . وفی هذه الحالة فإنَّ الإسلام یعتبر رأی الحکم نافذا (1) .

ونری فی القانون الداخلی مثل : قانون الأُسرة أنَّ الطرفین حتّی لو لم یقبلا بالتحکیم

، فإنَّ المحکمة تقرّ التحکیم لتسویة خلافاتهما (2) .

مجالات التحکیم
اشارة

جاء التحکیم فی النظام القانونی فی الإسلام ، سواء فی القانون الخاصّ ، أو العامّ أو القانون الدولیّ ، بوصفه واقعة قضائیّة لتسویة الخلافات . ممّا یدلّ علی اهتمام الإسلام

ونظرته الواسعة لإقرار السلم والأمن فی المیادین المتنوّعة للحیاة الاجتماعیّة .

ویمکن أن نستعرض دور التحکیم فی الفقه من خلال الأقسام الثلاثة الآتیة :

1 - التحکیم فی القانون الخاصّ

عندما تبرز أعراض التنافر وعدم الانسجام فی الحیاة العائلیّة ، ویُخشَی من أن تؤدّی الخلافات بین الزوجین إلی الطلاق ، یوصی الإسلام بالتحکیم لتسویة الخلاف ، وینظر إلیه

کقاعدة قانونیّة مُلزِمة . فقد قال جلَّ من قائل : « وَاِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَیْنِهِمَا فَاص بْعَثُوا حَکَمًا مِنْ اَهْلِهِ وَحَکَمًا مِنْ اَهْلِهَا اِنْ یُریدَا اِصْلاَحًا یُوَفِّقِ اللّه ُ بَیْنَهُمَا اِنَّ اللّه َ کَانَ عَلیمًا خَبیرًا » (3) .

هذا التعلیم القرآنی بوصفه قانونا عامّا فی حقل تطبیق قاعدة التحکیم فی قانون الأُسرة یقصد منه الجهاز القضائی ، لأنَّ المحکمة ینبغی أن تطبّق التحکیم فی المجالات الواردة فی الآیة وفقا لهذه القاعدة القانونیّة .

وقد تمسّک بهذه النظریّة فقهاء من أمثال الشهید الثانی فی کتاب المسالک والفاضل المقداد فی کتاب کنز العرفان ، والطبرسی فی تفسیر مجمع البیان تعویلاً علی عدد من

ص:473


1- « جواهر الکلام » 31 : 214 .
2- نفسه .
3- النساء : 35 .

الروایات المأثورة فی هذا المجال ، إلاّ أنَّ المحقّق فی کتاب النافع ، والصدوق ، وآخرین غیرهما قالوا بأنَّ الذی یتولّی تطبیق قاعدة التحکیم الزوجان أنفسهما ، وإذا امتنعا ، فإنَّ الحاکم یتولّی ذلک (1) .

والإمعان فی الآیة المتقدّمة یفید أنَّ قوله : « فَاص بْعَثُوا » بأُسلوب الخطاب . وقوله : « اِنْ یُریدَا » بأُسلوب الغیبة ، وکذلک استعمال الجمع فی الأوّل ، والتثنیة فی الثانی ، لیس إلاّ للفصل بین المخاطَبینِ ، یضاف إلی ذلک أنَّ الذی یتولّی تطبیق التحکیم هو الجهة التی تخشی افتراق الزوجین ، وهذه الجهة هی الزوجان أنفسهما . وعند غیاب القاضی الواجد للشرائط ، فإنَّ أشخاصا من أهل الإیمان والتقوی یحلّون محلّه لتطبیق ذلک (2) .

وفی ضوء هذا التفسیر ، لا یتسنّی لنا أن ننظر إلی التحکیم کواقعة شخصیّة ، وعقد توکیلی ، وقضیّة تتعلّق بالزوجین . ومحصّلة الصبغة القضائیّة للتحکیم تتمثّل فی أنَّ کلّ حکم إصلاحی یصدره الحکمان فی إطار الموازین الإسلامیّة سیکون نافذا علی الطرفین ، ولا یحتاج إلی قبولهما .

والروایات المأثورة فی هذا المجال (3) متباینة ، فقد أجاز بعضها للحکمین أن یصدرا حکمهما الصریح بافتراق الزوجین ، ویبادرا إلی طلاقهما ، بینما أناط بعضها الآخر هذا العمل باستئذان الزوج .

ویمکن قبول النظریّة الأُولی للأسباب التالیّة :

1 - مفاد التحکیم ، وإن کان عملاً قضائیّا ، إلاّ أ نَّه یستبطن التوکیل الضمنی أیضا . لذلک فإنَّ الحَکَم الموکّل عن الزوج یمکنه أن ینفّذ الرأی الصادر عن التحکیم عند الموافقة

علی الطلاق دون الحاجة إلی إذن الزوج . وقد نصّ علی ذلک ابن الجنید ، أحد فقهاء الشیعة

القدامی(4) .

2 - إذا قبل الحکمان بالتحکیم علی شرط تمتّعهما بصلاحیّات تامّة ، أو اشترطا صلاحیّة الإقدام علی الطلاق فی قبول التحکیم ، ففی ضوء المبدأ العامّ للعقود المتمثّل بقوله :

ص: 474


1- « جواهر الکلام » 31 : 211 .
2- نفسه ص 212 .
3- « وسائل الشیعة » 15 : 92 .
4- « جواهر الکلام » 31 : 216 .

المؤمنون عند شروطهم(1) ، وقوله تعالی : « یَاءَیُّهَا الَّذینَ امَنُوا اَوْفُوا بِاص لْعُقُودِ » (2) ، لیس هناک ما یمنع الحکم بالطلاق وتنفیذه من قبل الحکمین(3) . بید أنَّ الجدیر ذکره هنا هو

أنَّ هذین الدلیلین مقبولان عند موافقة الزوجین علی التحکیم . وإذا جری التحکیم من قبل محکمة صالحة بدون موافقة الزوجین ، فلا یمکن أن نعتبر تنفیذ الطلاق من قبل الحکمین

قانونیّا ، تعویلاً علی الدلیلین المذکورین ، لأنَّ قانون الشرع یقضی بأنَّ الطلاق من حقّ الزوج .

ومن الطبیعی أنَّ الدلیلین المذکورین متباینان من حیث إنَّ الرجوع إلی أدلّة لزوم الوفاء بالعقد من باب العقود المعیّنة فی ضوء الدلیل الأوّل ، أمّا فی ضوء الدلیل الثانی فهو من باب العقود غیر المعیّنة .

3 - یری بعض فقهاء السنّة فی ضوء إطلاق الآیة ، وبعض فقهاء الشیعة فی ضوء إطلاق الروایات ، أنَّ رأی الحکمین(4) فی إجراء الطلاق لا إشکال فیه(5) ، ووردت فی هذا المجال روایة صریحة عن الإمام أمیر المؤمنین علیه السلام حول عدم تمکین الزوج بالنسبة إلی رأی الحکمین فی الطلاق ، یقول فیها : حتّی تقرّ بمثل الذی أقرّت به(6) .

وفی الحالات التی یحدث فیها نزاع فی حقل القضایا المتعلّقة بالقانون المدنی ، فإنَّ لطرفی النزاع الرجوع إلی قاضی التحکیم . وهذا القاضی حَکَم یتّفق الطرفان علی العمل

بحکمه ، ویفوّضان تسویة خلافهما إلیه .

وورد الاتّفاق علی تحکیم شخص ثالث فی الروایات المأثورة عن أئمّة أهل البیت علیهم السلام (7) . وجاء فی بعضها : فاجعلوه بینکم فإنّی قد جعلته قاضیا فتحاکموا إلیه(8) . ممّا

ص: 475


1- « وسائل الشیعة » 13 : 325 .
2- المائدة : 1 .
3- « جواهر الکلام » 31 : 216 .
4- « وسائل الشیعة » 15 : 92 .
5- « جواهر الکلام » 31 : 217 ؛ « البحر المحیط » 3 : 344 ؛ « تفسیر القرطبی » 5 : 179 .
6- « وسائل الشیعة » 15 : 93 .
7- نفسه 18 : 5 .
8- نفسه ص 4 . جاء فی روایة عمر بن حنظلة کالآتی : فلیرضوا به حکما فإنّی قد جعلته علیکم حاکما . ومن الطبیعی أنَّ حمل هذه الروایات علی التحکیم ، فی ضوء المعنی العامّ للتحکیم .

یدلّ علی تأیید الإمام لقضاء الحکم .

ویختلف الفقهاء فی شروط القاضی ، فکثیر منهم لا یشترط فیه الاجتهاد ، کما فی باب النکاح إذ لا یُشتَرَط الاجتهاد والعدالة فی الحکمین .

ویمکن التعویل فی هذا المجال علی إطلاق الروایات المتعلّقة بالقاضی ، ویمکن کذلک عدم اشتراط الاجتهاد فی القاضی لجزئیّة المسائل المرتبطة بطرفی النزاع ، والتی هی موضع

التحکیم ، ذلک أنَّ الحاجة إلی الاجتهاد تتمثّل فی المجالات المرتبطة بالقضایا العامّة

والحکومة والرئاسة العامّة(1) .

ومتی کان النزاع بین مسلم وذمّی ، فلهما - عند توافقهما - عدم الرجوع إلی المراجع القضائیّة الرسمیّة للمسلمین ، واختیار شخص ما بوصفه قاضیا لتسویة نزاعهما ، والعمل بما یحکم به(2) .

2 - التحکیم فی القانون العامّ

لا ریب فی أنَّ شرعیّة الحکومة الإسلامیّة تعتبر من المسائل المتعلّقة بالقانون العامّ

والأساسی ، وکلّ قضیّة ترتبط بهذه الشرعیّة یمکن أن تکون فی إطار هذا الفرع القانونی .

فتمرّد معاویة علی شرعیّة خلافة الإمام أمیر المؤمنین علیه السلام التی کانت بنصّ صریح من النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله (3) ، وبیعة أهل الحلّ والعقد(4) ، ورضا الأکثریّة قضیّة سیاسیّة ترتبط بالقانون العامّ والأساسیّ للحکومة الإسلامیّة(5) .

وعلی الرغم من أنَّ معاویة وحده کان معارضا فی بادئ الأمر ، إذ کان یطالب الإمام علیه السلام أن یسلّمه قتلة عثمان فحسب ، بید أ نَّه تدرّج فی طلبه حتّی بلغ حدّا طرح فیه نفسه للخلافة . ولمّا شعر بالضعف والهزیمة أمام قوّات الإمام علیه السلام فی صفّین ، اقترح التحکیم بناءً علی ما أشار به عمرو بن العاص .

ص: 476


1- « جواهر الکلام » 31 : 214 .
2- « حقوق الأقلّیّات » للمؤلّف ، ص 19 .
3- « الغدیر » 1 : 11 .
4- « نهج البلاغة » الخطبة 238 ، والرسالة السادسة .
5- نفسه ، الرسالة الرابعة والخمسون .

ومع أنَّ أعراض التحایل والتآمر کانت بیّنة منذ البدایة ، وأنَّ الإمام علیه السلام کان یحذّر أصحابه منها باستمرار(1) ، إلاّ أنَّ مکیدة عمرو بن العاص قد سری مفعولها ، ووجدت لها وقعا فی جماعة من أصحاب الإمام ، فألحّت علی الإمام أن یقبل التحکیم .

ولم یجد الإمام مناصا من قبول التحکیم إرضاءً للناس ، وحؤولاً دون إراقة الدماء(2) . وعندما عارض المطالبون بالتحکیم أمر التحکیم نفسه ، دافع الإمام عن التحکیم بوصفه حلاًّ سلمیّا ، وذلک فی کلام له خطّأ فیه الحکمین لخروجهما عن شروط التحکیم ، فقال :

فلم آت - لا أبا لکم - بُجرا ، ولا ختلتکم عن أمرکم ، ولا لبسته علیکم . إنَّما اجتمع رأی ملأکم علی اختیار رجلین أخذنا علیهما أن لا یتعدّیا القرآن فتاها عنه ، وترکا الحقّ وهما یبصرانه . وکان الجور هواهما فمضیا علیه(3) .

3 - التحکیم فی القانون الدولیّ

عمل النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله بالتحکیم فی الخلافات الدولیّة بوصفه قاعدة من قواعد القانون الدولیّ . ففی الخلاف الذی نشب مع بنی قریظة ( إحدی الجماعات الیهودیّة الثلاث فی

المدینة ) ، کان التحکیم هو الأُسلوب الذی انتهجه لتسویة ذلک الخلاف . فاتّفق الطرفان

علی تحکیم شخص ثالث لفضّ النزاع .

فقد نقل لنا التاریخ أنَّ یهود بنی قریظة تحالفوا مع الأحزاب فی غزوة الخندق ( الأحزاب ) علی الرغم من الحلف الذی کانوا قد عقدوه مع الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله وتعهّدوا فیه بعدم التعرّض ، وعدم دعم أعداء الإسلام . غیر أ نّهم خطّطوا لمؤامرة خبیثة تستهدف

سقوط المدینة وتغلغل قوّات الأحزاب فیها .

وکان عملهم الخیانیّ هذا یفرض ردّ فعل مناسب یقوم به النبیّ الأکرم صلی الله علیه و آله لتأدیب الخونة ، إلاّ أ نَّه صلی الله علیه و آله فوّض حلّ هذه المسألة المهمّة جدّا إلی التحکیم ، وأناط تعیین الحَکَم

ببنی قریظة أنفسهم .

ص: 477


1- « نهج البلاغة » الخطبة 36 .
2- ولعلّ اللّه أن یصلح فی هذه الهدنة أمر هذه الأُمّة - نفسه ، الخطبة 125 .
3- نفسه ، الخطبة 127 .

وکان سعد بن معاذ حلیفا لیهود بنی قریظة فی الجاهلیّة ، ولذلک اختیر من قبلهم حکما ، وقرّر ذلک رسول اللّه صلی الله علیه و آله (1) فقال : ننزل علی حکم سعد بن معاذ(2) .

وعلی الرغم من أنَّ حُکم سعد بن معاذ لتسویة الخلاف بین النبیّ صلی الله علیه و آله وبین یهود بنی قریظة لم یکن سلمیّا ، إلاّ أ نَّه کان السبیل العادل الوحید لتسویة ذلک الخلاف

، وکان منسجما مع التوراة(3) والعدالة الإسلامیّة فی آن واحد .

منطق الخوارج

یطلق عنوان الخوارج علی الفئة التی تمرّدت علی الإمام أمیر المؤمنین علیه السلام (4) فقد أنکرت هذه الفئة شرعیّة التحکیم إلاّ فی الخلاف بین الزوجین ، وآخذت الإمام صلوات اللّه علیه لقبوله التحکیم ، وبلغت درجة من الحماقة والرعونة أ نّها کفّرته .

وکان الخوارج یعتقدون أنَّ الحکم للّه ، ولا یحکم فی دینه أحد غیره . ولمّا قبل الإمام

التحکیم ، فإنَّه - فی ضوء تفسیرهم - قبل حُکم الحکمین فی أمر الخلافة ، وهو أمر دینیّ . وهذا العمل مخالف للقرآن الکریم الذی قال بصراحة : « اِنِ الْحُکْمُ اِلاَّ للّه ِِ » (5) .

وفی ضوء تفسیرهم لهذه الآیة ، استغلّوا الشعار السیاسی المعروف : ( لا حکم إلاّ للّه ) ، وسیلة لمناوأة الإمام(6) .

وکان الإمام علیه السلام یجیبهم قائلاً : ویحکم إنّها کلمة حقّ یراد بها باطل . نعم إنّه لا حکم إلاّ للّه ، ولکن هؤلاء یقولون : لا إمرة إلاّ للّه ، وأ نَّه لابدّ للناس من أمیر برّ

، أو فاجر(7) .

واستدلّ لهم ابن عبّاس أیضا بالتحکیم الوارد فی القرآن الکریم لحلّ الخلاف بین الزوجین(8) ، وقال : أتسویة الخلاف بین المرأة وزوجها أهمّ أم تسویة الخلاف بین الأُمّة ،

ص: 478


1- « المغازی » للواقدی 2 : 501 ؛ « سیرة ابن هشام » 2 : 240 .
2- « الإرشاد » للشیخ المفید ، ص 50 .
3- « التوراة » الفصل 20 ، سفر التثنیة .
4- « الملل والنحل » للشهرستانی 1 : 156 .
5- الأنعام : 57 ؛ یوسف : 67 .
6- « الإمامة والسیاسة » 1 : 132 ؛ « شرح نهج البلاغة » لابن أبی الحدید 1 : 294 .
7- « نهج البلاغة » الخطبة 40 .
8- وهو قوله تعالی : « وَاِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَیْنِهِمَا فَاص بْعَثُوا حَکَمًا مِنْ اَهْلِهِ وَحَکَمًا مِنْ اَهْلِهَآ اِنْ یُریدَآ اِصْلاَحًا یُوَفِّقِ اللّه ُ بَیْنَهُمَآ اِنَّ اللّه َ کَانَ عَلیمًا خَبیرًا » - النساء : 35 .

وحقن دماء المسلمین(1) ؟

التحکیم عقد دولیّ

إنَّ التحکیم بوصفه توافقا علی تسویة الخلافات الدولیّة بواسطة محکّمین منتخبین ، وأُسلوب تحکیمیّ منتخب ، وکذلک بوصفه أُسلوب وساطة تقوم بها المنظّمات الدولیّة هو

عقد نوعا ما بین حکومتین أو أکثر ، أو هو میثاق دولیّ نوعا ما ، ویمکن فی ضوء القواعد

العامّة للعقود التوفّر علی شرعیّته من مبدأ تعمیم شرعیّة العقود ولزوم الوفاء بالعهد فی العقود المعیّنة وغیر المعیّنة ، کما عرضنا ذلک فی البحوث المتقدّمة .

ویمکن أن نعتبر هذه العقود مقبولة من حیث صحّتها ولزومها فی ضوء قوله تعالی : « اَوْفُوا بِاص لْعُقُودِ » (2) ، والأثر الوارد : المؤمنون عند شروطهم(3) ما دامت شروطها غیر متعارضة مع الموازین الإسلامیّة .

إنَّ الإشکال الوحید الملحوظ فی نظام التحکیم فی الإسلام ، بوصفه حلاًّ سلمیّا لإنهاء الخلافات الدولیّة هو أنَّ الحَکَم أو القاضی فی رأی کثیر من الفقهاء لیس بالضرورة أن

یکون مجتهدا ، إلاّ أنَّ التأکید قد ورد علی أنَّ یکون مسلما عادلاً ، لأنَّ غیر المسلم لا یمکن أن یحکم علی المسلم « لَنْ یَجْعَلَ اللّه ُ لِلْکَافِرینَ عَلَی الْمُؤْمِنینَ سَبیلاً » (4) ، وکذلک لا اعتبار لرأی الفاسق فی تسویة الخلاف وفضّ النزاع . ویمکن رفع الإشکال المتعلّق

بالعدالة ، لأنَّ الثقة التی یولیها طرفا النزاع بالقاضی تحلّ المشکلة . أمّا إسلام الحَکَم الذی یرتضیه الطرفان - علی أیّ حال - فلا مناص منه إذا کان أحد الطرفین مسلما ، ورضا المسلم بتحکیم غیر المسلم لا یعالج المشکلة ، لأنَّ الشرع قد حظر مثل هذا التحکیم بکلّ تأکید .

وعندما نلاحظ الروایات العدیدة التی تنهی نهیا أکیدأ عن الرجوع إلی محاکم

ص:479


1- « مستدرک الحاکم » 2 : 150 ؛ « أعلام الموقّعین » 1 : 213 .
2- المائدة : 1 .
3- « وسائل الشیعة » 13 : 235 .
4- النساء : 141 .

الطاغوت التی تدّعی الإسلام فی ظاهرها (1) ، وحتّی أ نّها تعتبر استرجاع الحقّ عبر هذه المحاکم غیر صحیح(2) ، فکیف یمکن - إذَن - فرض تحکیم القاضی غیر المسلم . أو فرض رأی الحکم غیر المسلم علی المسلم ؟

وحکم القرآن فی هذا المجال صریح إذ یقول : « یُریدُونَ اَنْ یَتَحَاکَمُوا اِلَی الطَّاغُوتِ وَقَدْ اُمِرُوا اَنْ یَکْفُرُوا بِهِ » (3) ، وجاء الطاغوت فی القاموس السیاسیّ

للقرآن بمعنی المنتهک ، وبمعنی الآلهة المزیّفة والحکّام المزیّفین ، وفی ضوء هذا التعریف نری أنَّ کلّ حَکَم غیر مسلم یُختار للتحکیم یعتبر طاغوتا تجب معصیته .

ویبدو من قول بعض فقهاء السنّة أنَّ رضا المسلمین بالتحکیم یکفی لشرعیّته ، وللحکومة الإسلامیّة إنهاء النزاع عبر تحکیم شخص ثالث فی القضایا المتعلّقة بالحرب أو

بنهایتها (4) .

ص: 480


1- « وسائل الشیعة » 19 : 210 .
2- نفسه 18 : 4 .
3- النساء : 60 .
4- « السِّیَر الکبیر » 1 : 4 و 363 .

مباحث مُلحقَة ومکمّلة

القسم الخامس: النزاعات المسلّحة ( الجهاد )

اشارة

ص:481

ص: 482

الفصل الأوّل: مبادئ عامّة

1 - جذور الحرب

یتسنّی لنا أن ندرس ونحلّل جذور العنف والنزاعات المسلّحة بین الشعوب والحکومات من زوایا متنوّعة . وبنظرة واحدة ، تُعدّ الحرب منشأً لجمیع الأحداث ، وممهّدا

لتغیّرات کبیرة ، فهی سبب فی القتل والدمار من جهة ، وسبب فی ظهور التمدّن والرقیّ من

جهة أُخری . وتقوم هذه النظرة علی مبدأ حتمیّة الحرب فی الظروف غیر المتکافئة ، وفی ظلّ غیاب المساواة ووجود الجَنَف والعَسف عن العدالة .

من هنا ، فإنّ دراسة لقانون الحرب وتاریخ الحروب الزاخر بالحوادث یمکن أن تکشف جذورها ، وتساعد الناس علی مسک عنانها . لذلک یتیسّر لنا أن نفسّر هذه النظریّة قائلین : إنّ الحرب هی جذر جمیع الحوادث التی وقعت ، لا التی یلزم أن تقع . بعبارة أُخری ، تبیان ما کان لا ما یکون بالضرورة(1) .

والحرب ، فی نظرة أُخری ، غریزة مودعة فی جبلّة الإنسان ، لأنّ کلّ إنسان یلجأ إلیها لتحصیل ما یفتقده ، فلها إذن جذر أخلاقیّ(2) .

وتقصّی البعض جذورها فی التحلیلات النفسانیّة ، ونسبها إلی النفوس الناقصة المؤوفة بوصفها نوعا من حبّ الاستعلاء والمغالبة . وفی هذا البَین یتتبّعها التحلیل النفسانیّ

ص: 483


1- انظر : کتابنا : « الفقه السیاسیّ » 5 : 17 ، طبع أمیر کبیر 1383 ه. ش .
2- نفسه ص 18 .

لفروید فی العامل الجنسیّ(1) .

وذهب جماعة أیضا إلی أنّ الحرب عامل مولّد للسیاسة کما أنّ السیاسة آلة الحکومة . وفی الحقیقة تبرز السلطة التی هی محور الحکومة والسیاسة فی قالب الحروب کی یبلغ طلاّب السلطة أهدافهم ، ویُلحَظ دائما أنّ فقدان توازن القوی مولّد للحرب ، وأنّ توازنها

یمکن أن یسدّ طریقها . ولا ریب أ نّنا یجب أن نأخذ بعین الاعتبار الأسباب المعیشیّة ودور الاقتصاد فی أعمال العنف وظاهرة الحرب . وأشارت المواثیق الدولیّة إلی ممهّدات وأسباب

متنوّعة تصبّ فی اتّجاه النظریّة المذکورة(2) .

ویمکن أن نلخّص جذور الحرب من منظار الإسلام فی العناوین الآتیة :

1 - الاختلاف فی الآراء النظریّة والأعمال(3) .

2 - الظلم والعدوان فی استثمار مواهب الحیاة(4) .

3 - الموازنة وفتح طریق التنامی والتکامل(5) .

4 - الدفاع عن الحقوق والکرامة .

2 - أساس السلم فی الإسلام

علی الرغم من أنّ عددا من فقهاء الإسلام أوجب الحرب للدفاع عن الحقّ ، مرّة فی السنة ، أو فی کلّ ثلاث سنین ، أو فی کلّ عشر سنین ، لکنّ الذی یستبین من التدقیق فی

آیات الجهاد وسائر المتون والموازین الشرعیّة هو أنّ الأمر بالجهاد فی هذه الحالة یشرع من أجل رفع الحذر والإعلان عن إزالة المانع من الدفاع . وما لم تتّخذ الحرب طابعا شرعیّا ، ولم تتحقّق مسوّغاتها ، فهی أمر غیر شرعیّ . وهذا هو رأی الأکثریّة من فقهاء الشیعة

ص:484


1- انظر : کتابنا : « الفقه السیاسیّ » 5 : 19 ، طبع أمیر کبیر 1383 ه.
2- نفسه ص 25 .
3- کما أشار القرآن الکریم فی قوله تعالی : « کَانَ النَّاسُ اُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّه ُ النَّبِیّینَ مُبَشِّرینَ وَمُنْذِرینَ وَاَ نْزَلَ مَعَهُمُ الْکِتَابَ بِاص لْحَقِّ لِیَحْکُمَ بَیْنَ النَّاسِ فیمَا اخْتَلَفُوا فیهِ وَمَا اخْتَلَفَ فیهِ اِلاَّ الَّذینَ اُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَیِّنَاتُ بَغْیًا بَیْنَهُمْ فَهَدَی اللّه ُ الَّذینَ امَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فیهِ مِنَ الْحَقِّ بِاِذْنِهِ وَاللّه ُ یَهْدی مَنْ یَشَآءُ اِلی صِرَاطٍ مُسْتَقیمٍ » - البقرة : 213 .
4- انظر : « المیزان فی تفسیر القرآن » 20 : 121 - 126 .
5- انظر : « فلسفة التاریخ » للشهید المطهّریّ ، ص 25 .

الإمامیّة

.

ویضاف إلی هذا ، أنّ القرآن الکریم وسائر المصادر الحقوقیّة الإسلامیّة تری السلم أمرا أوّلیّا وطبیعیّا فی العلاقات البشریّة . والخروج من هذا المبدأ والقاعدة العامّة یحتاج إلی مسوّغات عیّنتها النصوص الإسلامیّة تماما .

ویذهب الإسلام إلی أنّ الشعوب والحکومات غیر المعتدیة مصونة من کلّ تعرّض ، وحظر القرآن الکریم کلّ نوع من أنواع التعرّض لها (1) .

3 - شرعیّة الجهاد

أجاز الإسلام الجهاد فی الحالات الآتیة وأکّده من أجل تحقیق العدالة والتکامل البشریّ :

1 - الدفاع الشرعیّ لصدّ العُدوان .

2 - أداة لحمایة المستضعفین الذین لا قِبَل لهم بالدفاع ضدّ الاعتداءات .

3 - فتح طریق الحقّ والعدالة وحرّیّة الناس ورفع العقبات .

4 - مکافحة الاستبداد والاستعمار والاستکبار .

4 - قداسة الجهاد

للجهاد ، الذی هو توظیف جمیع القوی المادّیّة والمعنویّة فی سبیل اللّه لبلوغ هدفٍ ربّانیّ وکمال إنسانیّ ، قداسة وقیمة عالیة من جهتَین : الأُولی : کونه « فی سبیل اللّه » یمنحه صبغة إلهیّة . الثانیة : موضوعه یجعل له قیمة إلهیّة وإنسانیّة رفیعة . فالجهاد المالیّ ، والجهاد العلمیّ التعلیمیّ ، وجهاد التنمیة ، وجهاد التخطیط ، والجهاد العلمیّ البحثیّ ، والجهاد

لمکافحة الفقر ، والمرض ، والجهل ، وکذلک جهاد النفس وتزکیتها ، کلّ أُولئک له ذانک

العاملان من القداسة . ومتی کان هدف العملیّات العسکریّة الدفاع عن الحقّ وصدّ المعتدی

- رغم ما یبدو من اتّسامها بالعنف - فإنّها جائزة تکتسب صبغة القداسة من حیث کونها

ص: 485


1- انظر : « الفقه السیاسیّ » 5 : 39 - 56 .

فی سبیل اللّه ومن حیث القیمة السامیة للدفاع عن الحقّ(1) .

5 - الحرب أو الجهاد

استعمل النظام الحقوقیّ فی الإسلام کلمة « الجهاد » مکان « الحرب » . وعلی الرغم من أنّ کلمة « القتال » وردت فی مواطن من القرآن الکریم ، فإنّ کلمة « الجهاد » استُعملت

حیث لم یکن الهدف المقابلة بالمثل . وتلخّصت الحرب فی القتل والتخریب ، فی حین اتّسم

الجهاد بأبعاد إلهیّة إنسانیّة واسعة .

وللجهاد خصوصیّات ومزایا نُشیر منها إلی الحقّانیّة ، والتماسک العقیدیّ والمعنویّ للقوی والطاقات، والقیادة الصالحة الکفوءة ، ونِشدان العدالة ، والطاعة الواعیة المسؤولة ، والموت بعزّ وشموخ ، ورعایة الحدود والحقوق الإنسانیّة ، والتمسّک بالمبادئ المقبولة ، والتوعیة ، وبکلمةٍ واحدةٍ ، حبّ الفضیلة(2) .

6 - أسالیب التعامل مع العدوّ

إذا کان الأصل فی العلاقات الدولیّة ، فی النظام الحقوقیّ الإسلامیّ ، هو السلم والعلاقات الخارجیّة المتوکّئة علی سیاسة تسویة الخلافات بالطرق السلمیّة ، فإنّ

الطرق المرعیّة فی التعامل مع العدوّ تتضمّن تعقیدات تُفَسَّر فی ضوء مبادئه الخاصّة . ویُشار منها إلی الحالات التالیة : نفی تولّی العدوّ(3) ، نفی الرکون(4) ، نفی السبیل(5) ،

ص: 486


1- انظر : « الفقه السیاسیّ » 5 : 59 - 63 .
2- نفسه ص 64 - 69 .
3- کما فی قوله تعالی : « یَآءَیُّهَا الَّذینَ امَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْیَهُودَ وَالنَّصَاری اَوْلِیَآءَ بَعْضُهُمْ اَوْلِیَآءُ بَعْضٍ وَمَنْ یَتَوَلَّهُمْ مِنْکُمْ فَاِنَّهُ مِنْهُمْ اِنَّ اللّه َ لاَ یَهْدِی الْقَوْمَ الظَّالِمینَ » - المائدة : 51 ، وقوله تعالی : « اَلَّذینَ یَتَّخِذُونَ الْکَافِرینَ اَوْلِیَآءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنینَ اَیَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَاِنَّ الْعِزَّةَ للّه ِِ جَمیعًا » - النساء : 139 .
4- کما فی قوله تعالی : « وَ لاَ تَرْکَنُوآ اِلَی الَّذینَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّکُمُ النَّارُ وَ مَا لَکُمْ مِنْ دُونِ اللّه ِ مِنْ اَوْلِیَآءَ ثُمَّ لاَ تُنْصَرُونَ » - هود : 113 .
5- کما فی قوله تعالی : « اَلَّذینَ یَتَرَبَّصُونَ بِکُمْ فَاِنْ کَانَ لَکُمْ فَتْحٌ مِنَ اللّه ِ قَالُوآ اَلَمْ نَکُنْ مَعَکُمْ وَاِنْ کَانَ لِلْکَافِرینَ نَصیبٌ قَالُوآ اَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَیْکُمْ وَنَمْنَعْکُمْ مِنَ الْمُؤْمِنینَ فَاص للّه ُ یَحْکُمُ بَیْنَکُمْ یَوْمَ الْقِیمَةِ وَلَنْ یَجْعَلَ اللّه ُ لِلْکَافِرینَ عَلَی الْمُؤْمِنینَ سَبیلاً » - النساء : 141 .

التبرّی(1) ، الاستعلاء(2) .

ومن القواعد الأمریّة السائدة فی العلاقات بالعدوّ وفلسفتها التحذیر والوقایة من مؤامراته للتغلغل فی صفوف الأُمّة الإسلامیّة المتّحدة(3) .

7 - التأهّب للقتال وردّ الفعل السریع

یقوم مبدأ السلم فی الإسلام علی نفی العدوان ودفع المعتدی . وتحقیقا لهذه الخطّة أکّد القرآن الکریم التأهّب للقتال ، فقال : « وَاَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ »(4) . وأوصی بالقدرة علی ردّ الفعل السریع ، فقال : « وَاِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِیَانَةً فَاص نْبِذْ اِلَیْهِمْ »(5) . بید أنّ هذا لا یعنی تهدید الشعوب والحکومات بل یعنی - فی إطار الدفاع الشرعیّ - الوقایة من المقاصد العدوانیّة(6) .

8 - المرونة

تنصبّ النظرة العامّة فی قواعد الجهاد علی مبدأ السلم إلی جانب مبدأ «صدّ المعتدی» . ولذلک تتّسم الأسالیب بالمرونة دائما ، وتسیر التعدّیات باتّجاه السلم . وقوله تعالی : « وَاِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاص جْنَحْ لَهَا »(7) یحدّد الاتّجاه الأصلیّ فی الجهاد ، ویُیسّر المرونة فی جمیع الخطط القتالیّة .

ولا یعنی مبدأ المرونة فی النزاعات المسلّحة السذاجة والبساطة والوقوع فی فخّ مکائد العدوّ أبدا . ولهذا السبب یُمارَس إلی جانبه حقّ المقابلة بالمثل بوعی ویقظة دائما (8) .

ص: 487


1- کما فی قوله تعالی : « بَرَآءَةٌ مِنَ اللّه ِ وَرَسُولِهِ اِلَی الَّذینَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِکینَ » - التوبة : 1 .
2- « الإسلام یعلو ولا یُعلَی علیه » .
3- کما فی قوله تعالی : « وَاِنْ یَظْهَرُوا عَلَیْکُمْ لاَ یَرْقُبُوا فیکُمْ اِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً یُرْضُونَکُمْ بِاَفْوَاهِهِمْ وَتَاْبی قُلُوبُهُمْ وَاَکْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ » - التوبة : 8 ، انظر : المصدر السابق : 71 - 161 .
4- الأنفال : 60 .
5- نفسها ، الآیة 58 .
6- انظر : « الفقه السیاسیّ » 5 : 116 - 121 .
7- الأنفال : 61 .
8- انظر : « الفقه السیاسیّ » 5 : 124 .

9 - الجهاد آخر حلّ

الجهاد بجمیع ما یتمتّع به من قداسة وجوانب إلهیّة وإنسانیّة لا یتحدّد بقواعد خاصّة فحسب لما یستتبعه من خسائر فی الأنفس والأموال ، بل هو آخر حلّ فی النزاعات الدولیّة . فتقدّم الحلول السلمیّة والتحکیم وقبلهما لزوم الدعوة وإقرار جوّ التفاهم(1) ، کلّ أُولئک یدلّ علی أ نّه لیس أوّل حلّ ، بل هو آخر حلٍّ فی أُفق السلم من منظار الإسلام(2) .

ص: 488


1- انظر : « الفقه السیاسیّ » 5 : 180 .
2- نفسه ص 128 - 135 .

الفصل الثانی: القضایا الإنسانیّة فی الجهاد

1 - قیود الحرب

انتظمت قواعد قانون الحرب فی النظام الإسلامیّ بنحو تضیِّق فیه من أبعادٍ متنوّعة نطاق النزاعات وتوسّع طرق إلغاء الحرب . وقلّصت القیود المکانیّة فی أحکام الجهاد مجال

الحرب ، وبلغت بالعملیّات العسکریّة مبلغا تصل فیها الخسائر البشریّة إلی أدنی حدٍّ(1) . وکذلک القیود الزمانیّة ، ومنها : تحریم القتال فی أربعة أشهر من السنة ، وإیصال القتال

المأذون به إلی الحدّ الأدنی أیضا(2) . وتُعتبَر مجالات نزع السلاح فی تعالیم الجهاد ، عبر جعل المناطق الآمنة نموذجیّة ، من أروع قیود الحرب(3) .

ویتسنّی لنا أن نعدّ إزالة التوتّر وقطع دابر عوامل الفتنة والمؤامرات العدائیّة ، التی یؤکّدها القرآن الکریم(4) من عوامل إلغاء الحرب أیضا .

2 - القیود التسلیحیّة

إنّ معظم العنف فی الحرب ولید الأسلحة التی لا تتعارض مع کرامة الإنسان ومبادئ

ص: 489


1- انظر : « الفقه السیاسیّ » 5 : 138 - 156 .
2- نفسه ص 156 - 162 .
3- نفسه ص 164 - 168 .
4- انظر : البقرة : 193 - 217 .

العدالة فحسب ، بل تدلّ علی روح البطش والصفات الشرّیرة التی توسّع عادةً نطاق الحروب والقتل والدمار أکثر فأکثر . وفی قواعد الجهاد لا یُحظَر استخدام أسلحة الدمار

الشامل : الذرّیّة ، والجرثومیّة ، والکیمیاویّة فقط ، بل یتعیّن أن یکون السلاح ذکیّا ، وبنحوٍ یقلّ فیه الخطأ بمقدار خطأ الفکر . ویعود التزام المسلمین فی الحروب بأسلحة کالسیف ، وقوس النبل إلی أ نّها کانت ذکیّة ولا تطیش خارج فکر المقاتل ونظره(1) .

3 - التقیید فی استهداف العدوّ

تحظر القواعد المقیّدة للحرب - فیما یخصّ الإنسان - استهداف الأطفال ، والنساء ، والشیوخ الکبار ، والمرضی ، والعَجَزَة ، وعلماء الدین ، والفلاّحین ، وأرباب الصناعات ، والتجّار ، والمراسلین ، والمدنیّین الذین لم یشترکوا فی الحرب المسلّحة ، وتمنح الحصانة

لجمیع المدنیّین ، وتحدّد نطاق الحرب بالعسکریّین والمقاتلین من العدوّ(2) .

4 - حمایة جرحی الحرب

یجب حمایة جرحی الحرب من الجانبَین المتنازعَین ، وتکون لهم حصانة من کلّ تعرّض . ولا یُعتبَر قتلهم جریمةً فحسب ، بل تقرّر قواعد الجهاد تهیئة الإمکانیّات لهم من أجل مواصلة الحیاة وعلاجهم(3) .

5 - حمایة أسری الحرب

لأسری الحرب فی نظام الجهاد الإسلامیّ حقوق معیّنة معروفة تفوق الحقوق المقرّرة فی میثاق جنیف ، وسنستعرض هذه الحقوق کلاًّ علی حِدة فی المباحث القادمة .

6 - حظر الإفراط وتجاوز الحدّ

حظر القرآن الکریم حتّی فی الجهاد الدفاعیّ کلّ نوع من أنواع الإفراط والتهوّر

ص:490


1- انظر : « الفقه السیاسیّ » 5 : 168 - 174 .
2- نفسه ص 169 - 180 .
3- سنواصل حدیثنا عن هذا الموضوع فی المباحث القادمة .

وممارسة العنف فی غیر محلّه ، والذی یتخطّی عملیّات العدوّ . وحدّد أوامر الدفاع الشرعیّ بقوله : « وَلاَ تَعْتَدُوا »(1) ، وحال دون حدوث الهیجانات العنیفة غیر المناسبة بقوله : « وَلاَ یَجْرِمَنَّکُمْ »(2) .

ص:491


1- البقرة : 190 .
2- المائدة : 8 .

الفصل الثالث

أ - شرعیّة الجهاد

اشارة

تتبیّن شرعیّة العمل المسلّح والجهاد العسکریّ فی القرآن الکریم بوصفه المصدر الأصلیّ لقانون الحرب وقواعد الجهاد فی الإسلام من خلال الحالات الثلاث الآتیة أساسا :

1 - الجهاد الدفاعیّ

لم یجوّز القرآن الکریم ردّ الفعل العسکریّ أمام هجوم العدوّ بوصفه دفاعا شرعیّا فحسب ، بل دعا إلیه أیضا فقال : « وَقَاتِلُوا فی سَبیلِ اللّه ِ الَّذینَ یُقَاتِلُونَکُمْ »(1) . وعدّ ذلک حقّا ثابتا لضحایا العدوان . وأکّد الدفاع الشرعیّ فی أکثر من تسع حالات(2) . وأشار بعض النصوص کنصوص «نهج البلاغة» إلی المکاسب العدیدة الثمینة التی یمکن للشعب الشامخ أن یظفر بها عن طریق الجهاد الدفاعیّ(3) .

2 - الدعم العسکریّ للمستضعفین وضحایا العدوان

وصف القرآن الکریم ضحایا العدوان بالمستضعفین . وعدّ دعمهم نوعا من قمع المعتدی وضمانا للسلم الدائم . وعبّر عن عجبه المقرون بنوعٍ من الدعوة لسکوت الأُمّة

ص: 492


1- البقرة : 190 .
2- انظر : « الفقه السیاسیّ » 5 : 247 - 262 .
3- نفسه ص 262 - 281 ، و 319 - 333 ، و 353 - 356 .

الإسلامیّة بوصفها حارسة السلم والعدالة أمام المعتدین وضحایا العدوان الذین لا ملاذ لهم ، فقال : « وَمَا لَکُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فی سَبیلِ اللّه ِ وَالْمُسْتَضْعَفینَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ »(1) .

ولنا أن نصف واثقین هذا النوع من الجهاد بالهویّة الدفاعیّة ، وجعله فی عداد مصداق المقابلة بالمثل وقمع المعتدی .

3 - الجهاد التحرّریّ

سمّی القرآن الکریم أعداء الحرّیّة ورقیّ البشر وأُولی القوّة الذین یفرضون إرادتهم علی الشعوب من خلال الاستعلاء والتسلّط ، ویسیرون بمآربهم عبر الاعتداء علی حقوقها : مستکبرین(2) . ووصفهم بأ نّهم أئمّة الکفر(3) ، وأولیاء الشیطان(4) . وعدّ مواجهة الاستکبار جهادا تحرّریّا واجتثاثا للمؤامرات الاستکباریّة والفساد : « وَقَاتِلُوهُمْ حَتّی لاَ تَکُونَ فِتْنَةٌ »(5) .

ولا ریب أنّ هذا الضرب من الجهاد هو أیضا من مصادیق الدفاع الشرعیّ والجهاد الوقائیّ ، ویصبّ باتّجاه ضمان السلم الدائم .

4 - المرابطة

المرابطة التی تعنی حراسة الثغور والإرصاد واجب من الواجبات العامّة(6) . ولا

جَرَمَ أ نّها من أهمّ موارد الدفاع . ولا تشمل الثغور ( الحدود ) فحسب ، بل تعمّ جمیع المناطق غیر

ص: 493


1- النساء : 75 .
2- کما فی قوله تعالی : « وَ اِذَا تُتْلی عَلَیْهِ ایَاتُنَا وَلّی مُسْتَکْبِرًا » - لقمان : 7 ، وقوله تعالی : « قُلُوبُهُمْ مُنْکِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَکْبِرُونَ » - النحل : 22 ، وقوله تعالی : « قَدْ کَانَتْ ایَاتی تُتْلی عَلَیْکُمْ فَکُنْتُمْ عَلی اَعْقَابِکُمْ تَنْکِصُونَ * مُسْتَکْبِرینَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ » المؤمنون : 66 - 67 .
3- کما فی قوله تعالی : « وَاِنْ نَکَثُوآ اَیْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فی دینِکُمْ فَقَاتِلُوآ اَئِمَّةَ الْکُفْرِ اِنَّهُمْ لآَ اَیْمَانَ لَهُمْ » - التوبة : 12 .
4- کما فی قوله تعالی : « وَالَّذینَ کَفَرُوا یُقَاتِلُونَ فی سَبیلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوآ اَوْلِیَآءَ الشَّیْطَانِ » - النساء : 76 .
5- البقرة : 193 .
6- انظر : « جواهر الکلام » 22 : 38 .

الآمنة أیضا(1) .

ب - وجوب الجهاد

اشارة

ذهب الفقهاء إلی أنّ وجوب الجهاد من ضرورات الدین . وأوجبوا الجهاد الدفاعیّ والمرابطة علی الجمیع . واعتبروهما واجبا لا مناص منه فی حالتَین أُخریَین عند دعوة الإمام(2) ، إلاّ علی المستثنین من الجهاد ، وفیهم القاصرون ، والعُمی ، والمعاقون ، والمُقعَدون ، والمرضی الذین لا قدرة لهم علی حمل السلاح والاشتراک فی الجبهة ، والفقراء

العاجزون عن تأمین معاشهم وعوائلهم(3) . وعلی کلّ حال أکّدت مزیّة المجاهدین ومنزلتهم کثیرا حتّی عُدّت مساویة لمزیّة المتّقین(4) .

1 - الجهاد الدفاعیّ والجهاد الهجومیّ

یُدعی الجهاد عادةً فی حالته الثانیة ( دعم ضحایا العدوان ) والثالثة ( الجهاد التحرّریّ ) : الجهاد الهجومیّ أو الابتدائیّ . فیُقسم إلی قسمَین : دفاعیّ ، وهجومیّ(5) . لکن بالنظر إلی التوضیح المتقدّم حول الحالتَین الأخیرتَین یتبیّن أنّ هذین القسمَین هما أیضا من مصادیق الجهاد الدفاعیّ ومن موارد الدفاع الشرعیّ . والملاحظة الجدیرة بالاهتمام فی هذا

التقسیم هی أنّ النوع الأوّل والرابع لا یحتاجان إلی إذن الإمام ، أمّا الثانی والثالث فلا بدّ من إذنه للبدء فی الجهاد(6) .

2 - الجهاد والتدخّل فی شؤون الآخرین

لا یتعارض أیّ نوع من أنواع الجهاد مع مبدأ عدم التدخّل فی شؤون الحکومات

ص:494


1- انظر : « جواهر الکلام » 22 : 38 .
2- نفسه ص 323 .
3- نفسه 22 : 324 .
4- کما فی قوله تعالی : « فَضَّلَ اللّه ُ الْمُجَاهِدینَ بِاَمْوَالِهِمْ وَاَ نْفُسِهِمْ عَلَی الْقَاعِدینَ دَرَجَةً وَکُلاًّ وَعَدَ اللّه ُ الْحُسْنی وَفَضَّلَ اللّه ُ الْمُجَاهِدینَ عَلَی الْقَاعِدینَ اَجْرًا عَظیمًا » - النساء : 95 .
5- انظر : « الفقه السیاسیّ » 5 : 334 .
6- نفسه ص 336 - 339 .

والشعوب ، لأنّ هذا المبدأ یُقیَّد فی شکلَین : الأوّل : الشعوب والحکومات التی لا تبدأ بأعمال

عدوانیّة . الثانی : یکون موضوع التدخّل فی صلاحیّة الحکومة المدّعیة .

الجهاد فی الحالات الأُولی ، والثالثة ، والرابعة یرتبط بالقید الأوّل . والجهاد فی الحالة الثالثة یخرج من صلاحیّة الحکومة المستکبرة .

3 - معطَیات الجهاد البنّاءة

علاوة علی أنّ الجهاد هو من أجل صدّ العدوّ المعتدی وضمان السلم الدائم عبر قمع المعتدی ، فإنّ له معطیات بنّاءة یمکن أن نشیر فیما یأتی إلی بعضها بإیجاز :

القدرة الشعبیّة ، توطید البنی الدفاعیّة ، ضمان الأمن الوطنیّ ، تیئیس الأعداء ، حفظ السیادة والسیاسات ، توسیع البناء ، تأمین الاکتفاء الذاتیّ بواسطة الصناعات العسکریّة ، الرقیّ الثقافیّ ، والمعنویّ ، والشعبیّ ، إحیاء القیم الإسلامیّة ، بثّ روح الإیثار ، رفع الیأس ، فهذه من معطیات الجهاد وبرکاته ومکاسبه(1) .

ص: 495


1- انظر : « الفقه السیاسیّ » 5 : 369 - 401 .

الفصل الرابع: المبادئ التی تسود الجهاد

1 - صفات المجاهدین المقاتلین

إذا فکّر المجاهدون المقاتلون بالنصر العسکریّ فی میدان الجهاد ، فإنّ لهم صفات وخصائص تزید عملیّاتهم العسکریّة معنویّةً وقداسةً وروحا وفضیلةً ، وتقلّل عنف الحرب إلی أدنی حدٍّ ممکن ، ویصف القرآن الکریم هؤلاء المجاهدین بقوله :

« اَلَّذینَ اِنْ مَکَّنَّاهُمْ فِی الاَْرْضِ اَقَامُوا الصَّلوةَ وَ اتَوُا الزَّکوةَ وَ اَمَرُوا بِاص لْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْکَرِ » (1) . وقوله : « الَّذینَ یَشْرُونَ الْحَیوةَ الدُّنْیَا

بِاص لاْخِرَةِ (2) . وقوله : « ... لَمْ یَرْتَابُوا وَ جَاهَدُوا بِاَمْوَالِهِمْ وَ اَ نْفُسِهِمْ فی سَبیلِ اللّه ِ » (3) . وقوله : « اِنَّ اللّه َ اشْتَری مِنَ الْمُؤْمِنینَ اَنْفُسَهُمْ وَ اَمْوَالَهُمْ ... * اَلتَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاکِعُونَ السَّاجِدُونَ ... » (4) .

2 - الأحکام العامّة للجهاد

توفّر الفقهاء علی دراسة أحکام الجهاد تحت عناوین وموضوعات مختصّة اعتبارا من

ص:496


1- الحجّ : 41 .
2- النساء : 74 .
3- الحجرات : 15 .
4- التوبة : 111 ، 112 ، انظر : « الفقه السیاسیّ » 6 : 28 .

النزاع والحلول السلمیّة الوقائیّة حتّی نهایة الحرب وآثارها ، وبیّنوا قواعده متوالیةً فی

قسمَین : الأحکام الإلزامیّة ، والتوصیات المرجّحة . وأکّدوا المبادئ الآتیة فی جمیع هذه الأحکام بشکل صریح أو ضمنیّ :

أ - رعایة کرامة العدوّ حتّی فی الظروف التی لا یلتزم فیها الطرف الآخر بهذا المبدأ .

ب - الاجتناب من تحویل الدفاع إلی الاعتداء علی حریم العدوّ .

ج - المبادرة إلی المکاسب وصیانة التراث العلمیّ ، والثقافیّ ، والإنسانیّ .

د - استبدال الأُخوّة بالعنف ، والتعایش بالاعتداء .

ه - المطالبة بإنهاء الحرب .

و - استراتیجیّة السلم المسلّح .

ز - رعایة مبدأ الوقایة والردع فی جمیع مراحل العملیّات العدوانیّة .

ح - الإفادة من الحدّ الأدنی للمقابلة بالمثل .

3 - النصح مکان الکُره والحقد

إنّ عوامل مثل الدعوة(1) ، وتأجیل بدء الحرب(2) ، والإحسان إلی العدوّ(3) ، والدعاء لحفظ أرواح الأعداء(4) ، وعشرات القواعد الإنسانیّة فی الجهاد(5) ، کلّ أُولئک یشعرنا أنّ الإسلام یبدّل میدان الحرب الملیء بالکراهیة والحقد إلی میدان زاخر بالمحبّة والنصح

والإشفاق علی العدوّ ، قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : « إذا التقیتم فئةً فتلاقوا بالتسلیم والتصالح ، وإذا تفرّقتم فتفرّقوا بالاستغفار »(6) .

والدعاء الغزیر المعنی للإمام علیّ علیه السلام أثناء الحرب : « اللّهمّ احقن دماءنا ودماءهم

ص: 497


1- قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : « إذا لقیتم عدوّا فادعوهم إلی الإسلام » . ( انظر : « الأسیر » للأحمدی : 28 ) والنحل : 12 .
2- انظر : « الفقه السیاسیّ » 6 : 44 .
3- نفسه ص 46 .
4- « نهج البلاغة » الخطبة 206 .
5- انظر : « الفقه السیاسیّ » 6 : 52 - 57 .
6- انظر : « الکافی » 2 : 181 .

وأصلح ذات بیننا وبینهم »(1) ، وتأکیده لجنده حین خاطبهم قائلاً : « لا تقاتلوهم حتّی یبدأوکم »(2) برهانان صادقان علی روح النصح التی تسود النزاعات من منظار الإسلام .

4 - المعلومات الوقائیّة

الاستخبار وکسب المعلومات عن الخصوصیّات المادّیّة والمعنویّة للعدوّ ، والوقوف علی حجم قدرته ومقاومته ، کلّ أُولئک من المصادیق البارزة للإعداد المؤکّد فی قوله تعالی : « وَاَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ » (3) . کما ورد تأکید کثیر لحفظ المعلومات عن جواسیس العدوّ(4) . وتستطیع إدارة الحرب أن تمهّد الطریق للنصر بدون قتال من خلال کسب المعلومات ، والمحافظة علیها کما حدث فی فتح مکّة إذ هو مثال بارز فی تاریخ صدر

الإسلام للنصر بدون إراقة الدماء(5) .

5 - النظم والانضباط العسکریّ

النظم العامّ هو أحد المبادئ المتبنّاة فی الفقه . وذهب المحقِّق الثانی إلی أ نّه من الواجبات الکفائیّة(6) ، أمّا الشیخ الأنصاریّ فقد ذهب إلی أ نّه من الواجبات المطلقة غیر المشروطة(7) ، وأمّا الإمام الخمینیّ رضی الله عنه فإنّه عدّ الإخلال بالنظم العامّ من المحرّمات(8) . فالنظم العامّ یحظی بتأکید أکثر فی الجهاد لأهمّیّة العملیّات العسکریّة ، ولا بدّ أن تخضع جمیع العملیّات الفردیّة

والجماعیّة لنظمٍ وانضباطٍ ذکیّین ، فینخفض احتمال الخطأ فیها إلی حدّه الأدنی ، ولا یُترک مصیر الحرب للعواطف أو الأذواق الخاصّة أو التعصّبات العمیاء .

ص:498


1- « نهج البلاغة » الخطبة 206 .
2- نفسه ، الرسالة 121 .
3- الأنفال : 60 .
4- انظر : « الفقه السیاسیّ » 6 : 103 - 108 .
5- نفسه ص 108 .
6- انظر : « جامع المقاصد » للمحقّق الثانی 1 : 202 .
7- انظر : « المکاسب » للأنصاریّ 1 : 190 .
8- انظر : « المکاسب المحرّمة » 2 : 204 .

6 - قیادة الجهاد وإدارته

الإدارة والقیادة العسکریّة من شؤون الإمامة . وفی صدر الإسلام کان رسول اللّه صلی الله علیه و آلهوأمیر المؤمنین علیّ علیه السلام هما اللذین یختاران القادة ، وفوّض الإمام علیه السلام فی عهده إلی مالک الأشتر نصب القادة إلی مالک نفسه(1) . وتقدّم لنا الآیات والأحادیث المرتبطة بهذا الموضوع أکثر من خمسین صفة للقادة الصالحین . ونحن فصّلناها فی الجزء

السادس من کتابنا « الفقه السیاسی »(2) .

وأکّد النظام الحقوقیّ فی الإسلام کثیرا الضرورات والالتزامات الآتیة(3) :

أ - قطبیّة الحکمة .

ب - محوریّة العدالة .

ج - إلغاء التمییز ، والتوزیع العادل للصلاحیّات والمسؤولیّات .

د - المرکزیّة .

ه - هدایة القوّات ورفع مستوی وعیها .

و - رعایة مبدأ الشوری فی اتّخاذ القرارات .

ز - احترام آراء القوّات ومطالبها .

ح - الحزم المقرون بالإخلاص واجتناب الطموحات المفرطة .

ط - الأُخوّة فی العلاقات الإنسانیّة .

ی - تحکیم القیم والأُصولیّة .

ک - نفی السبیل والمحافظة علی رفعة الإسلام وشموخه .

ل - عشق الهدف والذوبان فی الأهداف الربّانیّة .

م - العطف والمحبّة .

ن - طلب المسؤولیّة وتقبّلها .

س - الأُسوة والاقتداء .

ص: 499


1- « نهج البلاغة » الخطبة 52 .
2- ص 119 - 126 .
3- انظر : « الفقه السیاسیّ » 6 : 131 - 146 .

7 - طاعة القوّات المقاتلة

فی ضوء مبدأ ولائیّة أمر القیادة ، تکون طاعة القوّات المقاتلة فی الجهاد من الواجبات القتالیّة المحتّمة ، بید أنّ رعایة الظروف العامّة للمقاتلین هی من وظائف القیادة أیضا . وقال الإمام أمیر المؤمنین علیه السلام لجنده حین أصرّوا علی أن یبدأوا القتال ولم یصبروا : « والرأی عندی مع الأناة فأرودوا ، ولا أکره لکم الإعداد »(1) . وقال فی إدارة الحرب حین ظنّوه بإهمال أُصول الحرب : « نهضتُ فیها وما بلغتُ العشرین وها أنا ذرّفتُ علی الستّین ولکن لا رأی لمن لا یُطاع»(2) .

8 - استغلال نقاط الضعف فی العدوّ

تتمخّض معرفة العدوّ التی أمر بها القرآن الکریم عن نتیجتَین مهمّتَین فی مصیر الحرب . الأُولی : إنّ الإمام علیه السلام قال فیها : « ردّوا الحجر من حیث جاء » . الأُخری : العلم بنقاط ضعف العدوّ کما قال الإمام علیه السلام لمن سأله : بأیّ شیء غلبتَ الأقران ؟ : « ما لقیتُ رجلاً إلاّ أعاننی علی نفسه »(3) .

9 - ردّ الفعل السریع

عندما یتحرّک العدوّ تحرّکات عسکریّة سرّیّة وبلا أمارة واضحة من أمارات الحرب ، ویعبّئ نفسه لهجوم مباغت سریع ، فإنّ إحباط هذا النوع من العملیّات بوصفه دفاعا شرعیّا یحتاج إلی ردّ فعل سریع أجازه القرآن الکریم کخطّة فی الدفاع الشرعیّ : « وَاِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِیَانَةً فَاص نْبِذْ اِلَیْهِمْ عَلی سَوَاءٍ » (4) ، وقوله : « عَلی سَوَاءٍ » إشارة إلی مبدأ المقابلة بالمثل ، ومسوّغ للدفاع الشرعیّ . ویشمل هذا الأمر الحالات التی یستغلّ فیها العدوّ حسن الظنّ والمرونة والترحیب بالصلح والمعاهدة ، ویفکّر بالخدیعة والخیانة .

ص: 500


1- « نهج البلاغة » الخطبة 43 .
2- نفسه ، الخطبة 27 .
3- نفسه ، الحکم ، رقم 318 .
4- الأنفال : 58 .

10 - جرائم الحرب

أشرنا فیما تقدّم إلی ( 48 ) حالةً من حالات العملیّات الحربیّة المحظورة . وإن کان بعض الفقهاء قد ذکرها تحت عنوان مکروهات الحرب والأعمال غیر المستحسنة التی یُفَضَّلُ ترکها فی الحرب ، لکنّ قسما مهمّا منها ذو حکم إلزامیّ ینوء بالمسؤولیّة . وهذه العملیّات

تستتبع ملاحقةً قضائیّة أیضا بوصفها جرائم حرب(1) . ومنها استخدام أسلحة الدمار الشامل ، الکیمیاویّة والجرثومیّة ، وممارسة الطرق الوحشیّة المنافیة للمروءة ، وحرب

المدن ، وقتل الأطفال والنساء والشیوخ والمدنیّین ، ونهب المناطق المحتلّة وسلبها ،

واستغلال أهالیها عسکریّا ، وحرق المزارع والأشجار ، وهدم الأبنیة غیر العسکریّة ، وقتل أسری الحرب ومجروحیها(2) .

11 - حظر الغارات اللیلیّة

جعل اللّه سبحانه اللیل لراحة الإنسان وجَمامه . وهذا الحقّ محفوظ للعدوّ أیضا . من هنا ، حظرت أحکام الجهاد الغارات اللیلیّة والسرقة ( الغیلة ) إلاّ إذا تطلّبت المقابلة بالمثل ذلک .

ویعدّ هذا العمل من العوامل المؤثّرة فی إلغاء الحرب وتقییده . ومن جهة أُخری ، فإنّ احتمال الخطأ وخرق القرارات فی العملیّات اللیلیّة أکثر منه فی العملیّات النهاریّة . وجرائم الحرب تکثر عادةً فی العملیّات اللیلیّة . ولذلک فإنّ الإحجام عن الغارات اللیلیّة یمکن أن یکون مؤثّرا فی تقلیص سلبیّات الحرب .

ص: 501


1- انظر : « الفقه السیاسیّ » 6 : 354 - 372 .
2- نفسه ص 227 - 232 .

الفصل الخامس: آثار الحرب

أ - أسری الحرب

1 - شرعیّة الأسر

إذا کان أسر العدوّ من أجل مآرب تجاریّة ولاستغلال الأسری ، فإنّ القرآن الکریم عدّ هذا الأمر أمرا مخالفا لشؤون الدِّین ورسالة الأنبیاء . قال تعالی : « مَا کَانَ لِنَبِیٍّ اَنْ یَکُونَ لَهُ اَسْری حَتّی یُثْخِنَ فِی الاَْرْضِ » (1) . وإذا کان لتعجیز العدوّ ، وإرغامه علی ترک القتال ، فإنّه لا جرم أمر مجاز مباح ویسیر فی اتّجاه الأهداف الإنسانیّة للجهاد .

2 - علم الإجرام والأسیر

الأسیر هو المقاتل الذی یقبض علیه الطرف الآخر فی الحرب . وربّما قتل عددا من قوّات الطرف المقابل أثناء الحرب لکن لا یُعامَل کقاتل أو کمشارک فی القتل أو کمُقدِم علی القتل . فتقتضی الإنسانیّة وحقوق الإنسان أن یُعامَل معاملة عادلة کمجرم مریض وإن کان

قاتلاً . وروح المروءة فی الحقیقة عامل من العوامل المخفّفة فی المعاملة المتبادلة مع أسری الحرب ، وأساس تمییز الأسری حتّی عمّن سواهم من المجرمین . ویضاف إلی ذلک أنّ المعاملة الحسنة مع الأسری یمکن أن تکون باعثا علی إخماد الأحقاد والأضغان وشرارة

ص:502


1- الأنفال : 67 ، وانظر : « کنز العرفان » للفاضل المقداد 1 : 364 .

الحرب

، وتربیتهم لیکونوا رجالاً متمسّکین بالسلم والتعایش السلمیّ بعد أن کانوا فی خدمة الحرب(1) .

3 - حقوق أسری الحرب

إنّ أوّل أمرٍ قرآنیّ بشأن أسری الحرب هو قوله تعالی : « فَشُدُّوا الْوَثَاقَ » (2) الذی یعنی المحافظة علیهم ومراقبتهم . ومفهومه یمکن أن یحول دون رجوعهم إلی جبهة العدوّ ،

وکذلک یعنی المحافظة علی شخص لیس له سلاح یدافع به عن نفسه فی المعرکة(3) . وفی هذا المضمار جاء فی السیرة النبویّة أ نّه صلی الله علیه و آله أمر بفکّ الأغلال عن أسری بدر(4) .

ویتبیّن أمره صلی الله علیه و آله فیهم بقوله : « استوصوا بهم خیرا »(5) ، وهو یدلّ علی کمال الإحسان إلی الأسری والرأفة بهم .

وکان الأسری فی عصر صدر الإسلام یُقسّمون بین المهاجرین والأنصار لیُضَیَّفوا فی دورهم کأعضاء أُسَرِهم ، وللنبیّ صلی الله علیه و آله أیضا سهم فیهم کان هو یراه لنفسه(6) .

وبشأن رفاهیّتهم ورد تأکید کثیر(7) بلغ مبلغا أُشیر فیه إلی رعایة درجاتهم وطبقاتهم أیضا . « أکرموا کریمَ قومٍ وإن خالفوکم »(8) . وصدر هذا الکلام عن أمیر المؤمنین علیه السلام حین تبیّن وجود شخصیّات محترمة بین أسری الفُرس . وحظی بتأیید المهاجرین والأنصار جمیعا (9) .

إنّ الأحکام الفقهیّة المرتبطة برعایة عواطف الأسری ومشاعرهم فی اختیار أسالیب التعامل معهم هی من أروع الأمثلة وأعجبها علی حقوق الأسری ، ومنها رعایة العلاقات

ص: 503


1- انظر : « الفقه السیاسیّ » 6 : 194 .
2- محمّد : 4 .
3- انظر : « تفسیر البحر المحیط » 8 : 74 .
4- انظر : « سنن البیهقیّ » 9 : 81 .
5- نفسه .
6- نفسه ص 89 .
7- انظر : « الفقه السیاسیّ » 6 : 199 .
8- نفسه ص 203 .
9- انظر : « مستدرک الوسائل » 2 : 487 .

العائلیّة وعلاقات المواطنة(1) .

ویجب نقل الأسری العاجزین عن الحرکة إلی الأماکن المختصّة بهم بواسطة نقل مناسبة . وإذا لم تتوفّر الواسطة المذکورة ، یُطلَقوا لیذهبوا أ نّی شاءوا . وصرّح الفقهاء بهذا الأمر(2) .

4 - جرحی الحرب

یتعیّن وضع الجرحی من الطرفَین المتنازعَین تحت العنایة الطبّیّة لعلاجهم . ویُحظَر إهمالهم حتّی لو لم یؤدّ جرحهم إلی موتهم .

ومن المعاملات غیر الإنسانیّة المؤثّرة إهمال الجرحی أو القیام بعملٍ یقرّب أجلهم . وبهذا الشأن أمر رسول اللّه صلی الله علیه و آله المسلمین فی إحدی الغزوات بقوله : « ألا لا تُجهزوا علی جریح »(3) . ونهاهم عن ترکهم حتّی یحین موتهم . وللأسری الجرحی فی الحقیقة حقّ المداواة والتمریض علاوة علی حقوق الأسر الأُخری .

5 - الإحسان إلی الأسری

عندما کان النبیّ صلی الله علیه و آله یکلّف أحد الصحابة بالمحافظة علی أسیر من الأسری والقیام بواجبه یوصیه قائلاً : « وأحسن إلیه »(4) . وشمول هذا التعلیم واتّساع مفهومه یفوق الحقوق المدوّنة فی المواثیق الدولیّة لأسری الحرب أضعافا مضاعفةً . کما أنّ « الإحسان » فی کلّ عصر وظرف یمکن أن یُتبادَر منه معنی ومصداق خاصّ . والأسیر ، فی هذه الرؤیة ، لیس إنسانا یستحقّ الرحمة والشفقة ، بل إنسانا یستحقّ کلّ نوع من أنواع الإکرام والإحسان . قال أمیر المؤمنین علیه السلام : « إطعام الأسیر والإحسان إلیه حقّ واجب وإن قتلته من الغد »(5) .

ص:504


1- انظر : « الفقه السیاسیّ » 6 : 203 .
2- نفسه ص 204 .
3- انظر : « الأموال » لأبی یوسف ، ص 65 .
4- انظر : « الفقه السیاسیّ » 6 : 197 .
5- « وسائل الشیعة » 11 : 69 .
6 - مصیر الأسری

بیّن القرآن الکریم بوضوح خیارَین لإطلاق الأسری . « فَاِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَ اِمَّا فِدَاءً » (1) . الأوّل : إطلاقهم من جانب واحد بلا قید ولا شرط . الثانی : أخذ الفدیة فی مقابل إطلاقهم ، إذ یمکن أن یتّخذ طابع تبادل الأسری بین الجانبَین أو الحصول علی امتیاز

من إطلاقهم .

وإذا اختار العدوّ خیارا آخر للأسری الذین عنده ، فإنّ مبدأ المقابلة بالمثل یمکن أن یکون أساسا لتعیین مصیرهم . ویقوم « الاسترقاق » الذی ذکره الفقهاء کخیار ثالث علی هذه القاعدة(2) .

7 - الأسری من القوم ( الأُرومیّین غیر الغرباء )

لا یحقّ للمقاتلین من القوم ( غیر الغرباء ) أن یستسلموا للعدوّ أو یطلبوا منه أسرهم إلاّ إذا کانوا جرحی . قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : « مَن استأسر مِن غیر جراحة مثقلة فلیس منّا »(3) . وقال أمیر المؤمنین علیه السلام أیضا : « مَن استأسر من غیر جراحة مثقلة فلا یفدی من بیت المال ولکن یُفدی من ماله إن أحبّ أهله »(4) .

ویدلّ تقریر النبیّ صلی الله علیه و آله لعمل مجموعتَین من المسلمین - إحداهما مجموعة الدعاة الذین اصطدموا بخیانة قبیلة هذیل ، فقاوم عدد منهم واستُشهد . والأُخری مجموعة استسلمت وأُسرت لتبقی حیّةً - علی جواز الاستسلام والاستئسار فی الحالات الضروریّة(5) . وأسری المسلمین إذا لم یُطلَقوا من جانب واحد ،فإنّ فدیتهم تُعطی من بیت المال للإسراع فی

إطلاقهم .

8 - دفن القتلی

جاء فی أحد الأوامر العسکریّة والإنسانیّة للنبیّ صلی الله علیه و آله ما مضمونه : « إیّاکم أن تدعوا

ص: 505


1- محمّد : 4 .
2- انظر : « الفقه السیاسیّ » 6 : 207 .
3- انظر : « وسائل الشیعة » 11 : 64 - 65 .
4- انظر : « وسائل الشیعة » 11 : 64 - 65 .
5- انظر : « السیرة النبویّة » لابن هشام 2 : 169 ؛ « فتح الباری » 6 : 124 .

جریحا حتّی یموت . ولا تلحقوا فارّا ، ولا تقتلوا أسیرا . ومَن جلس فی بیته وأغلق علیه بابه فلا تتعرّضوا له وأمنوه »(1) .

ولا شکّ أنّ هذه التأکیدات تشمل المرضی ودفن الموتی أیضا . ولمّا أُکّدت کرامة الإنسان بعد موته کما کانت فی حیاته ، وحظر الإسلام التمثیل بأجساد الأعداء ، یتسنّی لنا أن نستنتج من التعالیم الإنسانیّة للإسلام أنّ لأجساد الأعداء کرامتها البشریّة بدفنها دفنا مناسبا ، ویُحال دون التمثیل بها . « وَ جَعَلْنَا فی قُلُوبِ الَّذینَ اتَّبَعُوهُ رَاْفَةً وَ رَحْمَةً » (2) .

ونظرا إلی أنّ حمایة أسری الحرب وجرحاها بدأت فی أُوروبّا سنة 1921م وانتهت بتأسیس الصلیب الأحمر الدولیّ ، یمکننا أن نقف علی أهمّیّة القواعد الإنسانیّة فی الإسلام ، التی عرضها نبیّ الرحمة صلی الله علیه و آله قبل قرون ، وندرک جوهر الإسلام الذی نادی بحقوق الإنسان منذ الیوم الأوّل الذی أشرق فیه نوره .

ب - غنائم الحرب

1 - شرعیّة الغَُنم من العدوّ

کان حقّ الغَُنم کقاعدة عرفیّة مألوفة دائما ، وأیّده النظام الحقوقیّ فی الإسلام أیضا .

ویذکر الفقهاء اصطلاح غنائم الحرب مع اصطلاح دار الحرب عادةً(3) . وجاء فی روایة حفص عن الإمام الصادق علیه السلام : « إذا غزوا دار الحرب فغنموا غنیمةً »(4) . ومفهوم هذا الکلام یمکن أن یکون إذنا بالتصرّف فی أموال العدوّ وتملّکها . ذلک أنّ العدوّ بإقدامه علی الحرب یفقد احترامه وحقّه فی التملّک . وکذلک یزول بالحرب احترام حقّه فی الحیاة ، وتعود أمواله

إلی أصل المباحاة ، ویُؤذَن بالغَنم فی الحقیقة بوصفه حیازة المباحات(5) .

ولا ریب أنّ قید دار الحرب فی تعریف غنائم الحرب هو علی أساس أکثریّة الحروب

ص: 506


1- انظر : « الأموال » لأبی یوسف ، ص 65 .
2- الحدید : 27 .
3- « جواهر الکلام » 21 : 127 .
4- « وسائل الشیعة » 11 : 78 .
5- انظر : « الفقه السیاسیّ » 6 : 242 - 245 .

الواقعة فی أرض العدوّ . ویشمل حکم الغنائم أیضا أموال العدوّ فی دار الإسلام وفی جمیع البلاد التی هی جبهة حرب . کما قال بعض الفقهاء فی تعریف غنائم الحرب : هو ما أخذته الفئة المجاهدة بالقهر والغلبة والحرب وإیجاف الخیل والرکاب(1) . وذهب بعضهم کالمحقِّق الثانی إلی أ نّها تفوق هذا التعریف(2) . ومستندهم إطلاق الآیة الکریمة : « وَاعْلَمُوا اَ نَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَیْ ءٍ » (3) .

2 - الغَنم ( أخذ الغنیمة ) لیس هدفا للجهاد

إنّ من الوصایا المؤکّدة للنبیّ صلی الله علیه و آله فی الحروب : « مَن قاتل لتکون کلمة اللّه هی العلیا فهو فی سبیل اللّه »(4) . فالهدف من الجهاد هو المحافظة علی سیادة الإسلام أمام العدوّ المعتدی . والحرب التی تنشب من أجل الحصول علی الغنیمة لا تُحسب جهادا (5) . هذا فی الوقت الذی کان أکثر الحروب یتوخّی أهدافا مادّیّة ، وفتوحات أرضیّة وذخائر مادّیّة من

الطرف المقابل . وإلغاء الأهداف المادّیّة فی الجهاد یعنی أنّ القسم الأعظم من الحروب

لا یتحقّق ، وهذا بذاته یعدّ نوعا من التدبیر الوقائیّ للحرب .

3 - أنواع الغنائم

یجمع المقاتلون المسلمون الغنائم المنقولة ویحافظون علیها ویحوّلونها إلی بیت المال . ولذا کان بین الغنائم المنقولة أشیاء نفیسة تعود إلی رؤساء سائر البلدان ( الصفوة ) فإنّها تُعزَل عن بقیّة الأموال لخصوصیّتها وتکون فی تصرّف الإمام . أمّا النوع الآخر من الغنائم ، فهو الأموال غیر المنقولة التی تشمل الأراضی ، والأبنیة ، والمؤسّسات التی لا

یمکن نقلها . وتحدّث الفقهاء عن هذا النوع من الغنائم تحت عنوان الأراضی المفتوحة ، وذهبوا إلی أنّ

الأبنیة والمؤسّسات غیر القابلة للانتقال ملحقة بالأرض . وقسموا الأراضی قسمَین وهما :

ص: 507


1- انظر : « جواهر الکلام » 20 : 147 .
2- انظر : « جامع المقاصد » 3 : 400 .
3- الأنفال : 41 .
4- انظر : « سنن أبی داود » 3 : 21 .
5- « وَمَا کَانَ لِنَبِیٍّ اَنْ یَغُلَّ وَمَنْ یَغْلُلْ یَاْتِ بِمَا غَلَّ یَوْمَ الْقِیمَةِ » - آل عمران : 161 .

أراضی الصلح ، والأراضی المفتوحة عنوةً . وسنذکر بإیجاز حکم کلٍّ منها علی حِدة .

4 - الغنائم التی یحصل علیها العدوّ

أیخصّ تبدیل أموال العدوّ بفعل الحرب إلی المباحات الأوّلیّة القابلة للحیازة جبهة الإسلام ، أم أنّ هذه القاعدة تشمل الطرفَین المتنازعَین أیضا ؟ وعند تعمیم القاعدة ، یتعیّن أن نقول : الحرب من عوامل سلب الملکیّة أو أ نّها تنفی مبدأ احترام الملکیّة [ من جانب العدوّ فقط ] . وهذه القاعدة مؤثّرة بشأن الطرفین المتنازعَین بالتساوی .

وتصرّح روایة الحلبیّ عن الإمام الصادق علیه السلام بخصوص أموال المسلمین التی یغنمها العدوّ بما یأتی : « إذا کانوا أصابوا قبل أن یحرزوا متاع الرجل ( المسلم ) ردّ علیه . وإن کانوا أصابوه بعد ما حازوه فهو فیء للمسلمین فهو أحقّ بالقیمة(1) .

ویُستشفّ من هذا النصّ موضوعان مهمّان فی باب غنائم الحرب :

أ - المنازعة والقتال یستوجبان أن تکون أموال المسلمین مباحة للعدوّ أیضا ، وحیازتها جائزة .

ب - مال المسلمین الذی غنمه العدوّ وحازه یعود بعد استیلاء المقاتلین المسلمین إلی حالة المباحات الأوّلیّة وصالح للحیازة . ولهم أن یحوزوه غنیمةً(2) .

قوله : « فهو أحقّ بالقیمة » یشیر إلی أنّ المسلم الذی فقد ماله فی الحرب یمکنه أن یستردّه بعد دفع قیمته(3) .

5 - غنائم الحرب قبل التقسیم

یجوز التصرّف فی الغنائم قبل تقسیمها إلاّ إذا کانت من الأموال المعرّضة للتلف أو کانت داخلة فی الحالات التی یأذن بها الإمام أو الجهة المسؤولة ، فإنّها ممّا یُتصرَّف بها . ویمکن لنا أن نشبّه ملکیّة الغنائم قبل التقسیم بالوقف الخاصّ إذ یملکها الموقوف علیهم بعد

ص: 508


1- انظر : « وسائل الشیعة » 11 : 74 .
2- انظر : « الفقه السیاسیّ » 6 : 242 - 243 .
3- نفسه ص 246 .

إحراز سهمهم فحسب(1) ، لکنّ بعض الفقهاء یعتقد أنّ حکم الغنائم کحکم الأموال المحوزة التی تصلح للتملّک بمجرّد استیلاء الید والحیازة(2) .

ویری بعض الفقهاء أنّ تملّک الغنائم مشروط بانتقال الغنائم إلی دار الإسلام ، ولم یُجیزوا تملّکها ما دامت فی دار الحرب(3) .

6 - الغنیمة والفیء

ذهب کثیر من الفقهاء إلی أنّ الغنیمة والفیء مترادفان(4) ، وفرّق بعضهم بینهما فجعل الغنیمة خاصّةً بالأموال المحوزة فی الحرب ، والفیء خاصّا بالحصول علی الأموال بدون

حرب(5) . والفیء فی کلّ حال هو من الأموال الولائیّة المتعلّقة بالحکومة الإسلامیّة .

7 - تقسیم الغنائم المنقولة

لمّا حاز مقاتلو الإسلام جماعیّا أموال العدوّ ، فلا بدّ من تقسیمها بینهم . والخمس وحده یکون فی تصرّف الإمام والحکومة لیصرف فی موارده الخاصّة بحکم الآیة الکریمة : « وَاعْلَمُوا اَ نَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَیْ ءٍ فَاَنَّ للّه ِِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِی الْقُرْبی ... » (6) وتوکّأوا علی هذه القاعدة ، کلّما شارک المقاتل بنشاطٍ أوفر ، کالذی یجلب معه مرکبا أو سلاحا أکثر ، فإنّ له سهما أکبر . وجاء فی بعض الروایات : « إنّما تضرب السهام علی ما حوی العسکر »(7) . ویمکن أن یعنی قوله : « ما حوی العسکر » کلّ مَن شهد الجبهة . ویمکن أن یُفهم

منه صفة الغنائم ، التی تحدّد نطاق الغنائم بأموال العدوّ فی الجبهة .

وفی کلّ حال ، تستلم النساء اللائی یعملن فی الجبهة سهما عنوانه « الرضخ »

ص:509


1- انظر : « جواهر الکلام » 11 : 152 .
2- نفسه ص 151 .
3- نفسه .
4- انظر : « وسائل الشیعة » 11 : 58 ، 81 .
5- « مَآ اَفَآءَ اللّه ُ عَلی رَسُولِهِ مِنْ اَهْلِ الْقُری » - الحشر : 7 .
6- الأنفال : 41 . وقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : « لا نفل إلاّ بعد الخمس » ، انظر : سنن البیهقیّ 2 : 614 .
7- انظر : « وسائل الشیعة » 11 : 86 .

و « النفل » ، وهو ما صرّحت به السیرة النبویّة علی نبیّنا وآله أفضل الصلاة والسلام(1) .

وفی ضوء القاعدة القائلة : الغنیمة لمن شهد الواقعة ، یتعیّن أن یکون لجمیع الرجال والنساء الذین ساهموا فی العملیّات الجهادیّة بنحو من الأنحاء سهم من الغنائم ، ومقداره

رهین بحجم دور کلّ منهم فی القتال .

قال الإمام الصادق علیه السلام : « أهل الإسلام هم أبناء الإسلام أُسوِّی بینهم فی العطاء ، وفضائلهم بینهم وبین اللّه ... وهذا هو فعل رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی بدو أمره »(2) . وقال الإمام أمیر

المؤمنین علیّ علیه السلام أیضا : « واللّه لا أجد لبنی إسماعیل فی هذا الفیء فضلاً علی بنی إسحاق »(3) .

8 - أراضی الصلح

أراضی الصلح فی الفقه ذات معنیَین : الأوّل : الأراضی المفتوحة التی تُسَلَّم إلی الطرف المنازع بناءً علی معاهدة الصلح . الآخر : أراضی العدوّ التی تقع فی تصرّف الجیش الإسلامیّ بلا حرب(4) .

ولا شکّ أنّ الأراضی فی المعنی الأوّل تتعلّق بالطرف المنازع . أمّا فی المعنی الثانی فالمشهور هو أنّ الأراضی المفتوحة بلا حرب تُسلَّم إلی الطرف المنازع . بید أنّ رأی إمام المسلمین فی هذا التسلیم شرط أصلیّ أو صوریّ علی أیّ حال(5) . ویوجد اصطلاح ثالث بشأن أراضی الصلح وهو أنّ الفقهاء عادةً یطلقون أراضی الصلح علی جمیع أراضی الشعوب والحکومات التی تربطها بالحکومة الإسلامیّة معاهدة سلمیّة . ومنها أراضی الذمّة

التی یُطلَق علیها أراضی الصلح أیضا .

9 - الأراضی المفتوحة عنوةً

وهی الأراضی التی فتحها المقاتلون المسلمون فی الحرب بالقهر والغلبة . وإذا کانت عامرةً فهی لعامّة المسلمین مقاتلاً کان أم عادیّا بمنزلة الوقف العامّ . وإذا کانت مواتا فللعامّة حیازتها بإذن الإمام وإجازة الحکومة الإسلامیّة . وتسمّی الأراضی المفتوحة عنوةً فی

ص:510


1- انظر : « وسائل الشیعة » 11 : 86 .
2- انظر : « وسائل الشیعة » 11 : 86 .
3- انظر : « وسائل الشیعة » 11 : 86 .
4- انظر : « جواهر الکلام » 21 : 171 .
5- انظر : « مفتاح الکرامة » للطباطبائیّ 4 : 239 .

التعابیر الفقهیّة : فیء المسلمین(1) .

ولا تقع الأراضی المذکورة فی ملکیّة الفرد ، ولا تُباع ولا تُشتری . ولکلّ جیل من المسلمین استثمار منافعها مع حفظ أصل الأراضی . والأراضی المبیعة إذا کانت مفتوحة عنوةً

فالحکومة الإسلامیّة تعیدها إلی حالتها الأُولی ( الفیء ) . ولا خُمس علی الأراضی المفتوحة

عنوةً(2) . وعرض جمع من الفقهاء إمکان تسلیمها لأصحابها الأصلیّین ، وأوکلوا ذلک إلی رأی إمام المسلمین(3) . وتنطبق هذه النظریّة مع أُسس الفقه الشیعیّ بخصوص الصلاحیّات الحکومیّة التی یتمتّع بها الإمام وولیّ أمر المسلمین .

ج - نهایة الحرب

اشارة

یمکن دراسة نهایة الحرب فی ثلاث حالات ، لکلٍّ منها أهمّیّته وأحکامه الخاصّة .

الأولی : النصر

یُمنی الفاتحون عادةً بنوع من الاختلال النفسیّ والکِبْر والعظمة ، ویتسنّی أن نسمّی هذه الحالة : جنون الحرب . وهی یمکن أن تظهر عند المسلمین بشکل « نسیان اللّه » . من هنا یؤکّد القرآن الکریم أن : « اِذَا جَاءَ نَصْرُ اللّه ِ وَ الْفَتْحُ * وَ رَاَیْتَ النَّاسَ یَدْخُلُونَ فی دینِ اللّه ِ اَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّکَ وَاسْتَغْفِرْهُ ... » (4) .

ویکرّر القرآن أنّ النصر موهبة إلهیّة ، ونتیجة للإمدادات الغیبیّة ، وهو من عند اللّه . لذلک یدعو الفاتحین إلی التواضع والرؤیة الواقعیّة(5) . وقال علیّ علیه السلام : « إنّ هذا الأمر لم یکن

ص:511


1- انظر : « جواهر الکلام » 11 : 157 ؛ « وسائل الشیعة » 11 : باب الأنفال .
2- نفسه 21 : 157 - 169 .
3- انظر : « المبسوط » للسرخسیّ 10 : 15 .
4- النصر : 1 - 3 .
5- کما فی قوله تعالی : « وَلَقَدْ نَصَرَکُمُ اللّه ُ بِبَدْرٍ وَاَ نْتُمْ اَذِلَّةٌ فَاص تَّقُوا اللّه َ لَعَلَّکُمْ تَشْکُرُونَ » - آل عمران : 123 ، وقوله تعالی : « لَقَدْ نَصَرَکُمُ اللّه ُ فی مَوَاطِنَ کَثیرَةٍ وَیَوْمَ حُنَیْنٍ اِذْ اَعْجَبَتْکُمْ کَثْرَتُکُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْکُمْ شَیْٔا وَضَاقَتْ عَلَیْکُمُ الاَْرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّیْتُمْ مُدْبِرینَ » - التوبة : 25 ، وقوله تعالی : « وَلَقَدْ کُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِکَ فَصَبَرُوا عَلی مَا کُذِّبُوا وَاُوذُوا حَتّی اَتیهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِکَلِمَاتِ اللّه ِ وَلَقَدْ جَآءَکَ مِنْ نَبَاoئِ الْمُرْسَلینَ » - الأنعام : 34 ، وقوله تعالی : « یَآءَیُّهَا النَّبِیُّ حَسْبُکَ اللّه ُ وَمَنِ اتَّبَعَکَ مِنَ الْمُؤْمِنینَ » - الأنفال : 64 .

نصره وخذلانه بکثرة ولا قلّة وإنّما هو دین اللّه الذی أظهره »(1) .

وحین انتصر المسلمون فی المرحلة الابتدائیّة من حرب حُنین ، وأصابهم الغرور ، وهُزموا ، وصفهم القرآن الکریم قائلاً : « اِذْ اَعْجَبَتْکُمْ کَثْرَتُکُمْ »(2) . وقضیّة خالد بن الولید والموقف المُهین الذی اتّخذه الخلیفة الثانی منه ، وطلب أمیر المؤمنین علیّ علیه السلامإقامة الحدّ علی الرجل ، کلّ أُولئک مشهور فی التاریخ(3) . وکذلک سیرة النبیّ صلی الله علیه و آله مع المشرکین فی الفتح المبین لمکّة شاهد وأُسوة . ویُذعن المؤرّخون الغربیّون بأنّ جند الإسلام کانوا إذا فتحوا مدینةً من المدائن یترکون أهلها أحرارا علی ما کانوا علیه ، ولم یتعرّضوا لدینهم

وسائر قواعدهم المدنیّة والقضائیّة(4) .

الثانیة : الهزیمة

لا تنتهی الهزیمة فی الحرب بانهیار النُّظُم فحسب ، بل إنّ آثارها النفسیّة المدمّرة یمکن

أن تقتاد الشعوب إلی الاستضعاف سنین متمادیة ، ویتسنّی لنا أن نری مشهدا من هذه الآثار

فی معرکة أُحُد ، إذ ترک المسلمون ، إلاّ قلیلاً منهم ، نبیّهم الکریم صلی الله علیه و آله وحده(5) .

وتعزیز معنویّات الجنود المسلمین بعد الهزیمة العسکریّة أحد البرامج الجهادیّة الدقیقة التی اهتمّ الإسلام بها . والنصر والهزیمة فی الرؤیة الإسلامیّة اختباران إلهیّان یمکن أن تکون لهما نتیجة واحدة . وهی إعادة بناء النفس والعودة إلی الهویّة الإسلامیّة . وعلی المقاتلین

المنهزمین أن یتقصّوا أسباب هزیمتهم ، ویتلمّسوا نقاط ضعفهم ونقاط قوّة العدوّ ، ویتحرّوا

طرق إعادة البناء . بخاصّة ، علیهم أن یتأمّلوا فی سبب حرمانهم من النصر الإلهیّ والإمدادات الغیبیّة والوعود الربّانیّة . وفی هذه الرؤیة التوحیدیّة تستبین الحقائق کلّها ، وتتبیّن السبل إلی تدارک الماضی وتلافیه . ولهذا السبب کانت هزیمة حُنین وأُحُد ممهّدا

للانتصارات الباهرة فی الغزوات اللاحقة ، وسلّما لعروج جند الإسلام بعد إعادة تنظیمهم

ص: 512


1- « نهج البلاغة » الخطبة 26 .
2- التوبة : 25 .
3- انظر : « الفقه السیاسیّ » 6 : 312 - 313 .
4- انظر : « قصّة الحضارة » لویل دورانت .
5- انظر : « طبقات ابن سعد » 2 : 150 .

إلی قمم النصر .

الثالثة : المهادنة

الهدنة المتّفق علیها أفضل حالة لاقتران نهایة الحرب بالسلم والأمن . ویشمل تأکید الإسلام التعاقُد فی علاقات الشعوب والحکومات نهایةَ الحرب أیضا . ویتعیّن جهدَ المستطاع إنهاءُ الحرب فی أیّ مرحلةٍ کانت من خلال اتّفاقیّة یرضاها الجانبان المتحاربان .

وعلی الرغم من أنّ اتّفاقیّة وقف إطلاق النار یمکن أن تُعقَد بنحو مؤقّت بادئ الأمر ، بید أنّ توقّف الحرب فرصة یتیسّر فیها للجانبین المتنازعین أن یفکّرا بتثبیته ، ویستبدلون

به اتّفاقیّة عدم التعرّض أو اتّفاقیّة السلم الدائم .

ومهما کان ، فإنّ القرآن الکریم أکّد الوفاء بعقد الهدنة کثیرا . والآیات القرآنیّة مثل قوله تعالی : « فَاَتِمُّوا اِلَیْهِمْ عَهْدَهُمْ » (1) آیة علی حجم الوفاء الذی یولیه الإسلام لحالة الهدنة ، فی حین یحتفظ لنفسه بحقّ الدفاع دائما .

ولا جرم أنّ الهدنة فی أفضل حالة فی الظروف التی تنعدم فیها التمهیدات اللازمة للجهاد ، ویعجز العالم الإسلامیّ بسبب مشاکله الداخلیّة والخارجیّة عن مواجهة الأعداء

المنظّمین ذوی التجهیزات المتفوّقة . ودلّ تاریخ صدر الإسلام علی أ نّه کیف یمکن توطید

الإسلام ونشره فی کَنَف الهدنة . وإذا وازنّا معطیات السنین الأُولی من الهجرة التی تصرّمت بغزوات متکرّرة ، ومعطیات السنتین الأخیرتین من الحیاة المبارکة للنبیّ صلی الله علیه و آله ، اللتین أمضاهما فی الهدنة استنتجنا أنّ الإسلام یسعه فی الظروف السلمیّة المقرونة بالقوّة والاقتدار

أن یمتدّ وینتشر أکثر فأکثر .

ص:513


1- التوبة : 4 .

ص: 514

فهرس المحتویات

ص: 515

فهرس المحتویات

مقدِّمة الطبعة الثانیة··· 3

القسم الأوّل

نظرات فی¨ القانون الدولی¨

( 7 - 57 )

الفصل الأوّل : بحوث تمهیدیة

عرض الموضوع··· 9

تعریف القانون الدولی¨··· 10

موضوع القانون الدولی¨ّ العامّ··· 12

هدف القانون الدولی¨··· 13

علاقة القانون الدولی¨ّ بالعلوم الأُخری··· 15

مصادر القانون الدولی¨ّ العامّ··· 16

نظرة أُخری علی مصادر القانون الدولی¨ّ··· 18

الفصل الثانی¨ : نظرة نقدیّة علی القانون الدولی¨ّ المعاصر

ضرورة التوصّل إلی قانون دولی¨ّ عادل··· 21

ص:516

الأسالیب العسکریّة والسیاسیّة والقانونیّة الدولیّة··· 25

النظم القانونیّة الدولیّة ( النظام القائم )··· 26

الضعف النظری فی¨ النظام المعاصر للقانون الدولی¨ّ··· 29

الضعف العملی¨ّ فی¨ النظام القائم للقانون الدولی¨ّ··· 35

نظریّة الحکومة العالمیّة علی أساس القانون الدولی¨ّ الأساسی¨··· 39

تقویم نظریّة الحکومة العالمیّة الواحدة والقانون الدولی¨ّ الأساسی¨··· 45

الأُمَّة العالمیّة الواحدة ونظام الإمامة تجسید للإرادة الحرّة الواعیة للشعوب··· 47

الفصل الثالث : من النظرة الواقعیّة إلی الاتّجاه المثالی¨

المشروع الإسلامی ذو المراحل الثلاث··· 56

القسم الثانی¨

أساس القانون الدولی¨ّ فی¨ الإسلام

( 59 - 126 )

الفصل الاوّل : المبادئ العامّة للقانون الدولی¨ّ فی¨ الإسلام

عرض الموضوع وعنوان البحث··· 61

اختیار الاسم لهذا الفرع من القانون الإسلامیّ··· 63

أساس القانون الدولی¨ّ فی¨ الإسلام··· 64

موقع القانون الدولی¨ّ من النظام القانونی¨ فی¨ الإسلام··· 69

تعریف القانون الدولی¨ّ فی¨ الإسلام··· 72

الفصل الثانی¨

تأسیس القانون الدولی¨ّ فی¨ الإسلام وتدوینه··· 77

مراحل تأسیس القانون الدولی¨ّ فی¨ الإسلام وتدوینه··· 79

نشأة القواعد الخاصّة بالقانون الدولی¨ّ فی¨ الإسلام··· 81

ص: 517

تدوین الفقه··· 82

تدوین الفقه السیاسی¨··· 85

المرحلة الجدیدة فی¨ تدوین القانون الدولی¨ّ فی¨ الإسلام··· 87

الفصل الثالث

مصادر القانون الدولی¨ّ فی¨ الإسلام··· 90

1 - القرآن الکریم··· 90

2 - السنّة الشریفة··· 91

المصادر الأُخری للقانون الدولی¨ّ فی¨ الإسلام··· 92

1 - الإجماع··· 93

2 - العقل··· 93

3 - العرف··· 98

العلاقة بین العقل والعرف··· 100

4 - المعاهدة··· 101

5 - الأحکام الإلهیّة··· 102

الفصل الرابع

الضمانة التنفیذیّة فی¨ القانون الدولی¨ّ فی¨ الإسلام··· 105

الفصل الخامس

نظرة تاریخیّة علی العلاقات الدولیّة فی¨ الإسلام··· 110

1 - عصر النبی¨ّ الأعظم صلی الله علیه و آله··· 110

ألف - علاقات القبائل العربیّة··· 111

ب - علاقات الحکومات المتجاورة··· 113

ج - علاقات الإمبراطوریّتین الکبیرتین··· 114

د - علاقات النبی¨ّ صلی الله علیه و آله بالقبائل العربیّة··· 115

ص: 518

ه - علاقات النبی¨ّ صلی الله علیه و آله بالحکومات المجاورة··· 116

و - علاقات النبی¨ّ صلی الله علیه و آله بالإمبراطوریّتین الفارسیّة والرومانیّة··· 117

2 - العلاقات الدولیّة فی¨ الإسلام إبّان حکومة الخلفاء··· 117

3 - انحراف المسلمین علی صعید السیاسة الدولیّة··· 119

4 - العلاقات الدولیّة فی¨ عصر الإمبراطوریّة العثمانیّة··· 121

5 - العلاقات الدولیّة للعالم الإسلامی فی¨ العصر الحاضر··· 124

القسم الثالث

موضوع القانون الدولی¨ّ فی¨ الإسلام

(127 - 323 )

الفصل الأوّل : الدولة - الحکومة

المبحث الأوّل : الإسلام رسالة شاملة··· 129

المبحث الثانی¨ : الأرض للحیاة··· 130

المبحث الثالث : حرّیّة السکن أو الوطن الحرّ··· 133

المبحث الرابع : المجتمع السیاسی¨ للقبیلة··· 137

المبحث الخامس : المؤسّسات الحکومیّة فی¨ النظام القبلی¨··· 146

المبحث السادس : الجذور التاریخیّة لتأسیس الدولة والحکومة فی¨ الإسلام··· 148

المبحث السابع : المفهوم القانونی¨ للدولة··· 157

الفصل الثانی¨ : عناصر الدولة

المبحث الأوّل : الجماعة - الشعب - الأُمَّة··· 164

عناصر القومیّة··· 165

الأُمَّة شعب متکامل··· 178

عنصر الفکر والعقیدة··· 182

ص:519

عنصر الإیمان··· 184

رابطة أقوی من الوحدة القومیّة··· 186

نظرة أُخری علی دور العوامل المادّیّة··· 187

المواطنة علی أساس القومیّة··· 189

تقسیم الشعوب··· 192

المبحث الثانی¨ : الأرض - النطاق الجغرافی¨··· 196

أ - الأراضی¨ الخاصّة··· 196

ب - الأراضی¨ العامّة··· 196

ج - الأراضی¨ الحکومیّة··· 197

د - الأرض أو نطاق السیادة··· 197

العالم الإسلامی··· 201

الآثار القانونیّة للوطن الإسلامی ( دار الإسلام )··· 204

الجغرافیة السیاسیّة للعالم من منظار الإسلام··· 206

1 - دار الإسلام··· 206

دور الحکومة فی¨ مفهوم الوطن الإسلامی··· 217

نطاق الوطن الإسلامی··· 219

ملکیّة الأرض فی¨ الحکومة الإسلامیّة··· 219

1 - التملّک··· 220

2 - الوقف··· 220

3 - الوکالة العامّة··· 221

4 - الحقّ السیاسی¨··· 221

5 - المحمیّات··· 221

الأراضی¨ الأصلیّة ، والملحقة ، والأراضی¨ التی¨ تحت الوصایة ( المحمیّات )··· 221

قانون المرابطة··· 222

سکن المسلم··· 223

ص:520

مسؤولیّة المسلمین فی¨ البلد غیر الإسلامی··· 224

الهجرة إلی اللّه··· 225

الدولة الإسلامیّة موطن الأقلّیّات··· 226

المناطق المحرّمة··· 227

إذن الدخول للأجانب··· 228

2 - دار الحرب··· 230

المفهوم الفقهی لدار الحرب··· 232

نتیجة البحث··· 235

أحکام دار الحرب··· 236

3 - دار الذمّة··· 238

اللقیط فی¨ دار الذمّة··· 239

دار الإسلام بدون مسلم··· 241

تعاریف أُخری··· 244

دار الذمّة المستقلّة··· 245

نطاق دار الذمّة··· 246

4 - دار العهد··· 247

دار العهد من منظار السنّة··· 248

دار العهد عند الفقهاء··· 249

5 - دار الأمان··· 251

الشروط المقرّرة فی¨ عقد الأمان··· 252

نطاق دار الأمان··· 253

احترام دار الأمان··· 254

6 - دار الهدنة··· 255

قبول عقد الهدنة··· 256

اقتراح الهدنة··· 258

ص:521

1 - المهادنة باقتراح دار الکفر··· 258

2 - المهادنة باقتراح دار الإسلام··· 262

رأی فقهاء السنّة··· 263

7 - دار الحیاد ( الاعتزال )··· 264

کلمة الاعتزال فی¨ القرآن··· 264

1 - الاعتزال عن المناقشات العقیدیّة العقیمة··· 264

2 - الاعتزال عن المناقشات السیاسیّة··· 266

3 - مفهوم الحیاد فی¨ الحرب··· 267

سیاسة الحیاد وعدم الانحیاز··· 267

الإسلام والحیاد··· 269

حیاد دار الإسلام··· 271

الاعتزال والسیرة السیاسیّة للنبی¨ّ صلی الله علیه و آله··· 273

أقسام الحیاد··· 275

المسؤولیّات المنبثقة عن الحیاد··· 276

8 - دار الموادعة··· 277

9 - دار الصلح··· 278

هل الصلح عقد مستقلّ ؟··· 279

رأی الشیخ کاشف الغطاء··· 281

عقد الصلح فی¨ عهد الإمام علی¨ّ صلی الله علیه و آله··· 281

أراضی¨ الصلح··· 282

عصر الغیبة هو عصر هدنة··· 283

10 - دار الهجرة··· 283

أین دار الهجرة ؟··· 284

الرجوع من دار الهجرة··· 285

الهجرة والفتح··· 286

ص:522

11 - دار الاستضعاف··· 286

المواصفات العامّة لدار الاستضعاف··· 288

12 - دار البغی··· 290

الخروج علی أیّ حکومة إسلامیّة··· 291

1 - المنافقون ( المتآمرون )··· 292

2 - المفسدون ( المشاغبون )··· 293

3 - المبطلون ( المشاکسون الضالّون )··· 293

4 - حرکة مسلّحة··· 294

5 - المعارضون من دعاة الإصلاح··· 294

6 - أصحاب البدع والفتن··· 295

7 - المتمرّدون غیر المنظّمین··· 297

مواصفات البغاة··· 297

مواجهة البغاة··· 299

13 - دار الردّة··· 300

المبحث الثالث : السیادة··· 302

المبحث الرابع : الحکومة··· 303

الفصل الثالث : الاعتراف الرسمی بالحکومات ، والبلدان

المبحث الأوّل : الاعتراف الرسمی··· 304

المبحث الثانی¨ : النماذج المتنوّعة لانبثاق المجتمع السیاسی¨ الجدید··· 306

المبحث الثالث : دراسة المفهوم القانونی¨ للاعتراف··· 310

1 - النظریّة الإعلانیّة··· 310

2 - النظریّة التأسیسیّة··· 311

الفارق القانونی¨ بین النظریّتین··· 311

تقویم النظریّة التأسیسیّة··· 311

ص:523

تقویم النظریّة الإعلانیّة··· 313

المفهوم المعقول للاعتراف··· 314

هل الاعتراف عمل قانونی¨ أو سیاسی¨ ؟··· 315

المبحث الرابع : الاعتراف من منظار الإسلام··· 315

رأی الکتّاب المسلمین··· 318

آراء الفقهاء فی¨ الاعتراف··· 322

القسم الرابع

السلم ، أُسسه ومبادؤه

( 325 - 480 )

الفصل الأوّل : السلم والتعایش

المبحث الأوّل : السلم والرؤی المطروحة حوله··· 327

وجهات النظر المطروحة حول السلم··· 328

السلم من منظار منظّمة الأُمم المتّحدة··· 329

مجلس الأمن آخر أمل للسلم··· 330

النتائج المستقصاة من هذا البحث··· 331

البحث الثانی¨ : مفردات السلم فی¨ المعجم السیاسی¨ الإسلامی··· 332

السلم والفطرة··· 336

المبحث الثالث : أصالة السلم بوصفه قاعدة قانونیّة فی¨ الإسلام··· 337

الفصل الثانی¨ : الأمن

المبحث الأوّل : مبدأ الأمن··· 341

قیمة الأمن من منظار الإسلام··· 342

المبحث الثانی¨ : الأمن عمل جماعی··· 344

ص:524

المبحث الثالث : التدابیر والفرضیّات الخاصّة بالأمن فی¨ النظام الدولی¨ المعاصر··· 350

1 - الأمن القومی··· 350

2 - الأمن الجماعی··· 351

عجز الفرضیّات الخاصّة بالأمن الجماعی··· 351

عجز الفرضیّات الخاصّة بالمشروع··· 353

المبحث الرابع : إحیاء الفرضیّات الجدیدة المرتکزة علی القیم الإسلامیّة··· 355

انطلاق الأمن من باطن الإنسان··· 357

المبحث الخامس : العوامل التی¨ تهدّد الأمن··· 357

1 - الاعتداء ، عامل أساس یهدّد الأمن··· 358

الاعتداء وتعریفه··· 360

نصّ القرار الخاصّ بتعریف الاعتداء··· 365

نظرة علی تعریف الاعتداء وتقویمه··· 367

2 - الظلم وتقبّله··· 373

مفهوم الظلم من منظار الإسلام··· 376

دور الظلم فی¨ خرق الأمن الدولی¨··· 377

3 - التهدید والتخویف··· 380

مفهوم التخویف والتهدید··· 380

نظرة الإسلام إلی التهدید والتخویف··· 383

4 - الاستکبار ( سیاسة التسلّط والاستغلال )··· 385

الإسلام وسیاسة التسلّط··· 387

الفصل الثالث : مبادئ القانون الدولی¨ّ فی¨ الإسلام وقواعده

المبحث الأوّل : المبادئ والقواعد المعترف بها··· 391

المبحث الثانی¨ : المبادئ المهیمنة علی قواعد القانون الدولی¨ّ فی¨ الإسلام··· 393

1 - مبدأ إضفاء الطابع التعاقدی علی القواعد القانونیّة فی¨ الإسلام··· 393

ص:525

2 - مبدأ فطریّة القواعد الملزمة للقانون الدولی¨··· 394

3 - العقلانیّة فی¨ قواعد القانون الدولی¨ّ فی¨ الإسلام··· 396

4 - شمولیّة القواعد القانونیّة··· 399

المبحث الثالث : المبادئ العامّة لقواعد القانون الدولی¨ّ فی¨ الإسلام··· 400

1 - مبدأ التفاهم الدولی¨ - الاتّکاء علی القواسم المشترکة والمبادئ المقرّرة··· 403

مبدأ التفاهم قاعدة قانونیّة ومستقلّة··· 405

التفاهم مبدأ إلزامی فی¨ الإسلام··· 406

دور التفاهم بین الشعوب وحدوده··· 407

الدعوة بدایة التفاهم··· 408

حجم الدور الذی یؤدّیه التفاهم··· 408

2 - مبدأ المشارکة والتعاون فی¨ القضایا الدولیّة··· 409

المحور الأساس للتعاون والمشارکة··· 410

البرّ والتقوی فی¨ المقیاس العالمی··· 412

التعاون والمشارکة مبدأ قانونی¨··· 413

3 - مبدأ المساواة بین الحکومات فی¨ استیفاء حقّ الحریّة ، والاستقلال ، والسیادة··· 414

المساواة بین الشعوب من منظور قرآنی¨··· 419

المساواة بین الشعوب عند الإمام أمیر المؤمنین علی¨ّ علیه السلام··· 420

4 - مبدأ عدم استخدام القوّة وإلغاء الاعتداء··· 420

5 - مبدأ دعم النضال العادل والحرکات التحرّریّة··· 422

الإسلام ودعم النضال العادل··· 425

دعم الموقف الحقّ والمظلوم من منظار السنّة··· 426

6 - مبدأ عدم التدخّل فی¨ الشؤون الخاصّة بالشعوب الأُخری··· 427

أنواع التدخّل··· 428

میثاق الأُمم المتّحدة وقضیّة التدخّل··· 430

النطاق الخاصّ لنفوذ الحکومات··· 431

ص:526

النیّة الحسنة مؤشّر علی شرعیّة التدخّل··· 432

الاعتراف بالنظم الحاکمة··· 433

التدخلّ من منظار الإسلام··· 433

الدعوة لیست تدخّلاً··· 435

دعم الحرکات التحرّریّة لیس تدخّلاً··· 435

صدّ الاعتداء لیس تدخّلاً··· 435

7 - مبدأ المقابلة بالمثل··· 436

مبدأ المقابلة بالمثل فی¨ الإسلام··· 437

8 - مبدأ لزوم المعاهدات الدولیّة··· 438

تعریف العقد··· 439

المعاهدة الدولیّة··· 442

القیمة القانونیّة للمعاهدات··· 444

المصدر القانونی¨ الوحید··· 445

دور حرّیّة الإرادة فی¨ الآثار القانونیّة··· 448

طبیعة المعاهدة وآثارها··· 449

قیمة المعاهدات من منظار الإسلام··· 451

المعاهدات الدولیّة فی¨ الإسلام··· 452

عهد الإمام أمیر المؤمنین علیه السلام··· 454

الدعوة إلی عقد الأحلاف السیاسیّة··· 454

صراحة الأحلاف الدولیّة··· 456

لمن الصلاحیّة فی¨ عقد الأحلاف السیاسیّة ؟··· 457

رعایة الأحلاف··· 458

العقود الدائمیّة والمؤقّتة··· 459

مبدأ الوفاء بالعهد واحترامه··· 461

فسخ المعاهدات الدولیّة··· 461

ص:527

الجهة الإسلامیّة المسؤولة عن عقد الأحلاف والمعاهدات··· 463

العقود غیر القانونیّة··· 464

أنواع العقود والمعاهدات الدولیّة فی¨ الفقه السیاسی¨··· 464

شرعیّة المعاهدات الدولیّة غیر المعیّنة··· 465

هل الصلح عقد معیّن ؟··· 466

شرعیّة جمیع المعاهدات الدولیّة··· 468

9 - مبدأ التحکیم الحلّ السلمیّ للخلافات الدولیّة··· 469

أسباب الخلافات الدولیّة··· 470

التحکیم فی¨ النظام القانونی¨ فی¨ الإسلام··· 471

التحکیم حلّ قضائی¨ أو سیاسی¨ ؟··· 472

مجالات التحکیم··· 473

1 - التحکیم فی¨ القانون الخاصّ··· 473

2 - التحکیم فی¨ القانون العامّ··· 476

التحکیم فی¨ القانون الدولی¨ّ··· 477

منطق الخوارج··· 478

التحکیم عقد دولی¨ّ··· 479

القسم الخامس

النزاعات المسلّحة ( الجهاد )

( 481 - 513 )

الفصل الأوّل : مبادئ عامّة

1 - جذور الحرب··· 483

2 - أساس السلم فی¨ الإسلام··· 484

3 - شرعیّة الجهاد··· 485

ص:528

4 - قداسة الجهاد··· 485

5 - الحرب أو الجهاد··· 486

6 - أسالیب التعامل مع العدوّ··· 486

7 - التأهّب للقتال وردّ الفعل السریع··· 487

8 - المرونة··· 487

9 - الجهاد آخر حلّ··· 488

الفصل الثانی¨ : القضایا الإنسانیّة فی¨ الجهاد

1 - قیود الحرب··· 489

2 - القیود التسلیحیّة··· 489

3 - التقیید فی¨ استهداف العدوّ··· 490

4 - حمایة جرحی الحرب··· 490

5 - حمایة أسری الحرب··· 490

6 - حظر الإفراط وتجاوز الحدّ··· 490

الفصل الثالث : أ - شرعیّة الجهاد

1 - الجهاد الدفاعیّ··· 492

2 - الدعم العسکریّ للمستضعفین وضحایا العدوان··· 492

3 - الجهاد التحرّریّ··· 493

4 - المرابطة··· 493

ب - وجوب الجهاد

1 - الجهاد الدفاعیّ والجهاد الهجومیّ··· 494

2 - الجهاد والتدخّل فی¨ شؤون الآخرین··· 494

3 - معطیات الجهاد البنّاءة··· 495

ص:529

الفصل الرابع : المبادئ التی¨ تسود الجهاد

1 - صفات المجاهدین المقاتلین··· 496

2 - الأحکام العامّة للجهاد··· 496

3 - النصح مکان الکره والحقد··· 497

4 - المعلومات الوقائیّة··· 498

5 - النظم والانضباط العسکریّ··· 498

6 - قیادة الجهاد وإدارته··· 499

7 - طاعة القوّات المقاتلة··· 500

8 - استغلال نقاط الضعف فی¨ العدوّ··· 500

9 - ردّ الفعل السریع··· 500

10 - جرائم الحرب··· 501

11 - حظر الغارات اللیلیّة··· 501

الفصل الخامس : آثار الحرب

أ - أسری الحرب

1 - شرعیّة الأسر··· 502

2 - علم الإجرام والأسیر··· 502

3 - حقوق أسری الحرب··· 503

4 - جرحی الحرب··· 504

5 - الإحسان إلی الأسری··· 504

6 - مصیر الأسری··· 505

7 - الأسری من القوم ( الأُرومیّین غیر الغرباء )··· 505

8 - دفن القتلی··· 505

ص:530

ب - غنائم الحرب

1 - شرعیّة الغنم من العدوّ··· 506

2 - الغنم ( أخذ الغنیمة ) لیس هدفا للجهاد··· 507

3 - أنواع الغنائم··· 507

4 - الغنائم التی¨ یحصل علیها العدوّ··· 508

5 - غنائم الحرب قبل التقسیم··· 508

6 - الغنیمة والفی¨ء··· 509

7 - تقسیم الغنائم المنقولة··· 509

8 - أراضی¨ الصلح··· 510

9 - الأراضی¨ المفتوحة عنوة··· 510

ج - نهایة الحرب

الأُولی : النصر··· 511

الثانیة : الهزیمة··· 512

الثالثة : المهادنة··· 513

فهرس المحتویّات··· 515

ص:531

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.